وقد نجحت السياسة الفرنسية في إقناع إنكلترا وإيطاليا بتعضيد التحاق روسيا بالعصبة، وهذه الدول هي التي تسيطر على مجلس العصبة (بعد انسحاب اليابان وألمانيا) وجرت مفاوضات تمهيدية بين فرنسا ومعظم الدول المنضمة إلى العصبة لتوافق على قبول روسيا، واستطاعت أن تحقق الأصوات اللازمة لذلك، ويشترط لقبول الدولة المرشحة أن يؤيد قبولها ثلثا أصوات الجمعية العمومية وإليك ما ورد في ميثاق العصبة بخصوص ذلك.
(كل دولة، أو ملك مستقل (دومنيون) أو مستعمرة تحكم نفسها حرة لم يرد أسمها في الملحق (ملحق الدول المنضمة) تستطيع أن تغدو عضواً في العصبة إذا وافق على دخولها ثلثا الجمعية العمومية بشرط أن تقدم الضمانات اللازمة على إخلاص مقاصدها وعلى مراعاة تعهداتها الدولية، وأن تقبل القواعد التي تقررها العصبة بخصوص القوات والتسليحات العسكرية والبحرية والجوية) (المادة الأولى الفقرة الثانية).
(تتآلف الجمعية العمومية من ممثل أعضاء العصبة، وتجتمع في أوقات معينة أو في وقت آخر إذا اقتضت الظروف ذلك في مركز العصبة أو في محل آخر يختار لذلك، وتختص الجمعية بالنظر في كل مسألة تدخل في دائرة نشاط العصبة أو تتعلق بسلام العالم، ولا يجوز لأي عضو في العصبة أن يختار لتمثيله في الجمعية أكثر من ثلاثة مندوبين ولا يحق له اكثر من صوت) (المادة الرابعة)
وأما عن مجلس العصبة فقد ورد الميثاق ما يأتي: (يتكون المجلس من ممثلي الدول الكبرى المتحالفة والمشتركة، وكذلك من ممثلي أربعة أخر من أعضاء العصبة. وهؤلاء الأربعة تختارهم الجمعية حسب رغبتها وفي الوقت الذي تختاره لذلك. . . ويستطيع المجلس بموافقة أغلبية الجمعية أن يعين أعضاء آخرين من أعضاء العصبة يكون لهم كرسي دائم في المجلس، ويستطيع بنفس الطريقة أن يزيد في عدد أعضاء العصبة الذين تختارهم الجمعية للمثول في المجلس) (المادة الرابعة فقرة أولى وثانية)
أوردنا هذه النصوص لنبين الإجراءات اللازمة لالتحاق دولة ما بالعصبة، ثم لنبين أهمية الكرسي الدائم في المجلس، ذلك أن روسيا مرشحة للفوز بكرسي دائم في المجلس إلى جانب باقي الدول العظمى، وقد تمت الإجراءات الخاصة بترشيح روسيا في الجمعية العمومية، وحصلت روسيا على أكثر من ثلثي أصوات الجمعية، ولم يعارض في قبولها(64/13)
سوى ثلاث دول أو أربع هي سويسرا وهولندا والأرجنتين وبلجيكا، وعقب ذلك دعوة العصبة لروسيا للانضمام إليها وقبول روسيا لهذه الدعوة، وبذا تمت الإجراءات وغدت روسيا عضواً في عصبة الأمم، أو بعبارة أخرى في الهيئة التي شد ما خاصمتها وحملت عليها، ومما يلفت النظر أن هذه الإجراءات تجري وروسيا بعيدة عنها لا تحرك ساكناً ولا تصرح بشيء ولا تعلق صحفها بكلمة، ولتفينوف المشرف على الشئون الخارجية الروسية يقيم في أحد مصايف فرنسا الجنوبية. ذلك أن هذه الحركة كلها من صنع فرنسا وهي التي تحمل كل أعبائها وتسهر على تنفيذها، وقد جرت جميع المفاوضات بشأنها وراء الستار مما أدى إلى احتجاج بعض أعضاء العصبة، فقد حمل مستر دي فاليرا ممثل أيرلندة على هذه السرية، ونوه بما فيها من الشذوذ. ولكن كل شيء يسير مع ذلك وفقاً للبرنامج المرسوم.
ومن المعروف أن دخول تركيا في العصبة إنما هو نتيجة لدخول روسيا فيها. وقد كانت تركيا تحذو حذو حليفتها الكبيرة في موقفها إزاء العصبة وتنظر إليها بنفس نظرتها، وهي الآن تسير وراءها في سياستها الجديدة.
ولهذا التطور الذي انتهى بإقبال روسيا على عصبة الأمم واندماجها في زمرة الدول الغربية مغزى عظيم فيما يتعلق بمصاير روسيا البلشفية ذاتها، فقد كان شعار موسكو منذ ظفر البلشفية في سنة 1917، خصومة العالم (الرأسمالي) كله، والعمل على إضرام نار الثورة العالمية في سائر جنباته، ولم يقبل البلاشفة في ذلك أي مناقشة أو هوادة، وكانت الشيوعية تتقدم في غزو الدول الصناعية تقدماً حثيثاً، وتؤازرها موسكو بكل ما وسعت. ولكن البلشفية لم تستطع أن تعيش طويلاً بمثلها وغايتها المتطرفة ولم تلبث أن تأثرت بقطيعة العالم ومقاومته، اضطرت أخيراً أن تسلك مسلك الاعتدال سواء في سياستها الداخلية أو الخارجية. ورأى سادة موسكو أن موارد روسيا البلشفية وقواها المادية والمعنوية تتحطم تباعاً أمام ضربات الدول الغربية، وأن روسيا لا تستطيع الحياة إلى الأبد في ظل نظام يؤلب عليها العالم كله، ويحرمها من كل عطف وتعاون، فجنحوا إلى تغيير السياسة القديمة ومدوا يدهم إلى الدول الغربية، ولم تهمل الدول الغربية الانتفاع بهذه الفرصة فمدت يدها إلى روسيا وجذبتها إلى حضيرتها، فالآن نستطيع أن نقول أن البلشفية قد دخلت في دور(64/14)
انحلالها، وأنها تنزل شيئاً فشيئاً عن مثلها وغاياتها الثورية المتطرفة، وأن روسيا تعود شيئاً فشيئاً إلى حظيرة الماضي، في ظل نوع من اشتراكية الدولة لا يلبث أن يستقر أو يختفي مع الزمن.
وترى الدولة الغربية أن دخول روسيا في العصبة بقوتها كهيئة دولية ويزيد في هيبتها ونفوذها في سير السياسة الأوربية خصوصاً بعد أن غادرتها اليابان ثم ألمانيا. وقد يكون ذلك صحيحاً من الوجهة المحلية، لأن العصبة تتخلص بذلك من خصم قوي كان يشتد في مناوأتها، وتكسب نفوذاً جديداً في مسائل أوروبا الشرقية. ولكن العصبة لا تكسب كثيراً من الوجهة العامة، ذلك لأنها قد خسرت كثيراً من هيبتها ونفوذها خلال الأعوام الأخيرة، ونستطيع أن نقول إنها فقدت نهائياً ثقة العالم كعامل في توطيد السلم العالمي، وأداة من أدوات التفاهم الدولي والعدالة الدولية، وقد اختفت مثل العصبة القديمة بعد تخبط وفشل استمرا منذ قيامها، وبعد أن قدمت الأدلة العملية العديدة على أنها لا تستطيع العمل إلا في الدائرة التي ترسمها الدول المستعمرة المسيطرة على مجلسها وعلى إرادتها. على أنه تترتب على هذا التطور نتيجة هامة هي توطيد دعائم التوازن الأوربي وإقصاء شبح الحرب من أوروبا إلى حين. ذلك أن وقوف روسيا إلى جانب فرنسا ودول الاتفاق الصغير على نحو ما بينا القوى الجبهة الشرقية المعادية لألمانيا، ويحمل ألمانيا على التأمل والتريث، ويزيد من جهة أخرى في طمأنينة فرنسا، وفرنسا وألمانيا هما طرفا الخصومة الأوربية، وعلى موقفها وعلائقهما يتوقف السلام والحرب إلى حد كبير. وهذا التحالف بين فرنسا وروسيا يعود بنا إلى ما قبل الحرب، وهو نتيجة طبيعية للسياسة التقليدية التي سارت عليها روسيا وفرنسا منذ الحرب الفرنسية الألمانية في سنة 1870، وأثناء الحرب الكبرى.
محمد عبد الله عنان المحامي(64/15)
هذه المعركة المزمنة بين أدبين!
للأستاذ كرم ملحم كرم
إنها لمعركة مزمنة حقاً هذه المعركة بين الجديد والقديم. فهي معركة حامية لا تنطفئ لها نار ولا يخبو منها أوار. فالشباب والمشيب يتطاحنان. المتربع في القمة يصارع الواقف في ساحل الحياة، الضاحك للمستقبل، المتقلب في أحضان الربيع، الناعم باخضرار العيش، يقاتل من يحاذر الوقوع في اللجة. الهاتف بملء فيه (الغد لي) يغالب التمسك بأذيال الحياة لئلا يبتلعه الموت! ومعركة القديم والجديد بدأت منذ الأزل وسوف تتصل بالأبد. فأن هذا التطاحن بين الأمس وأبن اليوم حديث كل يوم. هذا التطاحن بين أبن الأمس الخائف على مكانته من التهشيم والتحطيم، وأبن اليوم الراغب في أن يشق لنفسه طريقاً إلى الشمس، القائل للقديم المزمن: (دعني أحتل مقعدك!.)، هذا التنافر أبن عصور ودهور، انبثق يوم انبثاق الكون، وسيرافق الكون في مراحله الطوال لا يزول منه إلا يوم يزول فالشباب يغيظه أن يطأطيء الرأس للمشيب، أن يعترف له أبداً بالسيادة، أن يقف حياله مكتوف اليدين، فيصبح به: (نلت نصيبك من دنياك فلا تحرمني نصيبي!. . .) فيأبى من أدركهم المشيب أن يتزحزحوا من أماكن استقروا فيها بعد جهد ومشقة. ويغضب الشباب وفي أعصابه جمر ونار فيثور وتنشب المعركة. ولا يسلم الفريقان من شظايا القدح والنقد والتعريض. الشيخ العتيق يسخر بثمار عقول الشباب. والرائع في مقتبل العمر يهز بيده المهند الصقيل مهدداً متواعداً، وتتساقط الضحايا في الميادين. ويقول القائلون: (المعركة بين القديم والجديد!. . .) ويخيل إلى بعضهم أن الأدب القديم هو ما جاد به الطاعنون في السن. وأن الأدب الجديد هو ما يتحفهم به كل ناضر العود. على حين أن بين ذوي الأنياب الصفر فئة لا يبلى لها طارف ولا تليد. فالجديد ما تنفث وتكتب وتنظم، كما أن بين الفتيان الأفراخ الزغب الحواصل، فريقاًلا يحسن الابتكار ولا التوليد، فانه لغارق في القديم إلى الأذنين، ويأبى أن يحارب كل من أسن وشاب وشاخ، وبات على قيد خطوة من يومه الأخير!
وهذه المعركة لا يصح القول عنها أنها بين أدب قديم وأدب جديد. إن هي إلا بين المشيب والشباب، بين قوم تمتعوا بأطايب جهرهم وأدركوا الشهرة الواسعة والصيت البعيد، وقوم(64/16)
يريدون قسمتهم من قرص الحلوى. فهم نهمون شرهون جائعون، يلتمسون الأكلة الشهية يتذوقها، مع، انهم في الخطوات الأولى من عهد الفطام.
ومثل هذا النظام ما خلا منه عهد. أما سمعنا جريراً يقول حين سئل في الأخطل: أدركته وله ناب واحد، ولو أدركته وله نابان لأكلني!
فالأخطل أكبر من جرير سناً. وقد تحكك به جرير ليدرك المنزلة العليا فأدركها، وهناك من شاء الإقتداء بجرير في التحكك بالطاعنتين في السن. نريد بشار بن برد الشاعر الفحل الضرير. فقد راش بسهامه جريراً. على أن جريراً لم يرد عليه. وكان يقول حين يبلغه طعن بشار: مالنا ولهذا الغلام الخامل الغر نرفع قدره!
فقيل لبشار: بم أساء إليك جرير؟ قال: لم تنلني منه إساءة. على أني وددت أن يهجوني. ولو فعل لكنت لأشعر شعراء العرب أجمعين!
وغاظ المعري أن يسمع: (هل غادر الشعراء من متردم؟.) فانشد قصيدة من عالي الشعر جاء فيها:
وإني وإن كنت الأخير زِمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائلُ
فالتطاحن بين القديم والجديد ليس ابن يومه. فكل يريد المقام الأول. والشجيرة يؤلمها أن تخيم عليها الشجرة فتسعى إلى امتصاصها كي تذبل وتجف. هي سنة تنازع البقاء. الشاب يدفع الشيخ إلى الهوة ليقوم مقامه، والقوي ينشب أظفاره في الضعيف لتخلو له الساحة. وقد يكون هذا الشيخ من أنصار التجديد. ولكن الشاب لم يطق ظلمه، فحفر له الحفرة ووقف يشهد مصرعه فيها.
إذاً من هم أنصار الأدب القديم؟
من هم المتمسكون به والداعون إليه؟
لا جدال في أن الأدب القديم ركن الأدب الجديد. فالأدب الجديد لم ينشأ عفواً، بل تسلق قواعد القديم وشيد عليها قواعده الخاصة يستند إليها ويحيا بها. فالأدب القديم أبوه، على أن الابن وأن يكن تغذى من أبيه فقد أظهر فيما شيد لنفسه من بنيان انه مستقل. فأن حجارة هيكله تختلف في حجمها ولونها وشكلها عن حجارة هيكل المتقدمين. بل هو خالفهم في البناء نفسه. فجعلوا هيكلهم مستطيلاً. فأبى إلا إن يشيد هيكله مستديراً، وبنوه عالي القباب(64/17)
فرفعه ناتئاً يشك في الأجواء. بدا هيكله في منظر خشن فتلألأ هيكله لطيف الشكل، مصقول الجدران ترتاح العين لرؤيته وينعم فيه النظر بلا ملال. والأدب الجديد ليس وليد عصر معروف، فكل عصر يحفل بالقديم والجديد، كل عصر يبرز فيه هيكلان يختلفان شكلا ولونا وذوقا. كل عصر يدين بهذين المذهبين ويقوم فيه من يناصر القديم ويظاهر الجديد. وليس نصير القديم من وقف على الأطلال فبكى واستبكى، فأن بعضهم يقف على الأطلال ويجود بالشائق الرضي. أما انشد داود عمون:
هاج أشواقي إلى الدمن ... طائرٌ غنى على فنن
وداود عمون شاعر ثوى منذ سنوات قلائل في مقره الأخير وقد جاء شعره في الدمن من أرق الشعر، فلا هو بالخشن المبتذل ولا الجاف الغليظ، فالعذوبة وافرة فيه، والقوة محكمة في دباجته العالية. وليس كل من تحدث عن الإبل والنوق بنصير القديم. فالمنخل اليشكري لم يكن من أنصار القديم حين قال:
وأحبها وتحبني ... ويحب ناقتها بعيري
لا، فأن في هذا الشعر لظرفا، وان فيه لإمعاناً في التوكيد على نحو ما جاء في قول أبي نؤاس:
إلا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر
إن فيه لرونقاً، فهو بعيد عن التكلف في سبكه ومعناه. وكل شعر جامع للرونق خال من التكلف والغلو الفحاش يطمئن إليه كل جيل، ويرضى عنه الأدب الجديد. فما هو الأدب القديم إذاً؟. . . الأدب القديم هو الحافل بغريب الكلام ووحشي الألفاظ، المثقل بالتقليد، الراكد في معناه ومبناه، فلا ابتكار ولا روعة ولا سهولة ولا ذوق، هو المنسوج على منوال خشن، الضخم الكلمات، الطنان الأجوف القائم على صناعة الألفاظ، المحشو تكلفاً وتعقيداً، البارد لفرط ما لاكته الألسن ومضغته الأفواه. الأدب القديم هو الأدب المطبوع بطابع عصر معلوم، جاءه من يبعثه حياً في عصر لم يخلق له، فإذاً نحن رأينا في شعر أمريء القيس شيئاً جديداً فهناك ما لا يصح قولاً في عصر غير عصر الشاعر الضليل، فقد قيل في زمن يجب إلا يتخطاه إلى زمن آخر، وقد تبدلت العادات وتبدل الناس، والجديد الجديد في شعر امرئ القيس تشابيهه واستعاراته. وهذه التشابيه والاستعارات ملك الشاعر لا(64/18)
يجوز لأحد أن يسطو عليها وإلا كان سارقاً. كان أشبه بالضاحك من نفسه ليخدعها وإنما يهين نفسه. فالابتكار في الأدب والاختراع في سائر الفنون. فمن أبتكر في أسلوب الإنشاء مذهباً جديداً بات هذا الأسلوب معروفاً باسمه، ومن جادت قريحته بتشبيه جديد لا يجوز لأي أديب بعده أن يأخذ عنه هذا التشبيه ويتبناه وهو ليس من تواليده، وإلا كان سالخاً ضعيف المخيلة، قاصر اليد. والأديب العربي لا يكون اليوم مبدعاً إذا أتحف الأدب بروايات أشبه بمقامات الهمذاني والحريري، فأن ذلك النسيج من ثمار عصر مضى، وهو مما تستحسن حياكته في أيام الانحطاط لإنهاض اللغة وإذاعة مفرداتها، فتلتقطها الأذهان وتستعين بها الأقلام، أما اليوم فأن أسلوب المقامات لا يحتسيه أبناء العصر ولا يستسيغونه، فقد تبدل أسلوب الإنشاء تبدلاً عظيماً، فمات السجع، ومات التقعر والتحذلق والانصراف إلى الألفاظ دون المعاني، وأضحى الأسلوب الساري كل واضح جلى قريب إلى الذهن والفهم. ولا فرق في هذا الواضح الجلي سواء أنتقل إلينا من الجاهلية أو صدر الإسلام، أو الأعصر العباسية، أو عصر الإنحطاط، أو عصر الانبعاث فأن أتشاء أبن المقفع لا يبلى في أي عهد، ومثله الجاحظ، وأبن الأثير، والأصبهاني، وأبن عبد ربه، وأبن خلدون، مع أن إنشاء أبن خلدون أخذ يتقادم عهده وفيه من التطويل ما فيه. واللغات كلها طافحة بأساليب الإنشاء. وأنها لتحوي من الأساليب الممتعة ما لا تقوى على محوه يد الدهر، ولا تؤثر فيه سنة بقاء الأنسب، فهي صامدة للصروف لا ترث منها القوى ولا ينصل لونها وهي صافية نقية كزرقة السماء. وهذه الأساليب يصح أن نطلق عليها أسم الأدب الجديد، وهي الخالدة، وهي مرجع الطلاب والأدباء، كساها منشئوها المعنى الجميل في المبنى السليم، فأضحت لا تنبو عنها الأذن ولا ينكرها أي جيل، وهو بها قرير ضنين.
وما يقال في النثر يقال في الشعر. فالشعر الناضج بالعصير الشهي لا يفنى، على حين أن الشعر اليابس لا تقوم له قائمة في سوى يومه ولو أنشد المتنبي، فأن شعر عمر بن أبي ربيعة، وجميل بثينة، وكثير عزة، وأبن الدمينة، وعباس أبن الأحنف، وأبن زريق، وأبي نؤاس، والشريف الرضي، والبهاء زهير، وأبن المعتز، وأبي الفراس، وشعراء الأندلس في معظمهم، مما أن يصح أن يقال اليوم وينشد، وتقتبس طريقته، ويهتدي بنوره، اللهم إذا تغاضينا عن بعض مناحي هذا الشعر اقتضاه روح العصر، وكثيراً ما يكون هذا الروح(64/19)
نائيا عن حضارة العصر الذي يلي.
فأن هؤلاء الشعراء جمع منظومهم الرقة والروعة والوضوح، وكل شعر يرتع في هذه الميزات لا يعرف الأنقاض، خصوصا وهو مستمد من العاطفة، والعاطفة لا تموت، فالقلوب تخفق أبدا بها. وكل شعر أوحت به العاطفة وعته الذاكرة، وردده اللسان، وأبتهج به الخاطر، وتناقلته الكتب والأفواه من عهد إلى عهد، وهو الشعر الذي يفرض مشيئته على الأيام والسنين.
وللشعراء الهجائين منزلة وشأن لدى الحفاظ والرواة. ويمكن القول أن شعرهم يقوم على العاطفة، أفلا تتبدل هذه العاطفة بما يتبدل به القلب؟. . ألا تخضع لسلطان الهوى؟. . . وشعر الهجاء يثيره الهوى. إذا فهو شعر عاطفي. ولهذا الشعر حظه من البقاء والخلود أن يكن جميلا وفريدا، على طراز ما أتحفنا به الحطيئة والأخطل والفرزدق وجرير وبشار ودعبل وأبن الرومي والمتنبي. فأن شعر الهجاء أقرب إلى الحفظ وأبقى أثرا. فالنفس وهي الأمارة بالسوء تميل إلى الهجاء وترتاح له أكثر منها إلى إحراق البخور وتقبيل الأذيال.
ولسنا ندعو بالخلود لكل شعر عاطفي، ولكننا نقول أن شعر العاطفة يملك ميزة الخلود أكثر من أي شعر آخر، ويأتي بعده شعر الوصف، على أن يكون بليغا رشيقا غير مسبوق إليه. ويقبل في الدرجة الثالثة شعر الحكمة إذا أفرط فيه قائله تبرأ منه الشعر.
ولا يكتب الخلود لشعر الحكمة إلا إذا قاله من أرغم الدهر على الإصغاء إلى إنشاده وأسمعت كلماته من به صمم، ومع أن المتنبي يسير في طليعة من صاغ هذا الشعر فلا يستطاع الجزم بأن حكمياته تستساغ في كل عصر، فهي من بنات عصرها. وقد ظهر خاتم ذلك العصر فيها. ومن المحال أن يحاول تقليدها أي عصر جديد. وكل من استهواه تقليدها فهو من طبقة المحافظين.
لا نكير في أن في هذا الشعر قوة ومناعة وحسن صياغة. ولكن صب الحكمة في الشعر ليس مما يشمله الأدب الجديد. فالأدب الجديد في الشعر عاطفة ووصف. وما جاوز العاطفة والوصف بليد. ويجوز أن تطفو الحكمة في بعض المواقف. الا أن الإغراق فيها يذهب برونق الشعر. ويرصف هذا الشعر فوق أكداس القديم.
ومن الواجب على الأدباء والمتأدبين الإكثار من مطالعة أبي تمام والمتنبي وأبي العلاء.(64/20)
ففي مطالعة هؤلاء الأئمة ما يساعد على اقتباس العصمة والقوة والفخامة. الا أن التشبه بهم يدل على العقم والعجز عن التوليد، يدل على الانغماس في التقليد، على الغرق في بحيرة ملأى منذ ألف عام. فمن خاض عبابها، أن يبلغ شاطئها الآخر وإذا بلغ هذا الشاطئ فأي فضل هو فضله وقد كان تابعا لا متبوعا، وقد وقف حيث وقف سواه؟. .
ولماذا الإقتداء بأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء في شعرهم الضخم الجانح إلى القديم أكثر منه إلى الجديد، وهناك عمر بن أبي ربيعه في قالبه الصحيح العذب الرسيل؟. . . فإن ابن أبي ربيعه أبن كل عصر، على حين أن المتنبي أبن عصر أو عصرين أو ثلاثة. فأن شعر زعيم الغزليين يقال وينشد ويردد اليوم وغدا وبعد غد، ويدغم فيما يقال اليوم وغدا وبعد غد كأنه منه وفيه. فلا يجفوه عصر ولا يعرض عنه أي عهد. بينما المتنبي لا يرحب بأسلوبه كل جيل، وأن يكن ثمة من اعترف به سيد الشعراء. وكيف تسمع عمر بن أبي ربيعة ينشدك أبياته:
تقول وليدتي لما رأتني ... طربت وكنت قد أقصرت حينا
أراك اليوم قد أحدثت أمراً ... هاج لك الهوى داء دفينا
وكنت زعمت أنك ذو عزاءٍ ... إذا ما شئت فارقت القرينا
بعينك هل رأيت لها رسولاً ... فساقك أم لقيت لها خدينا
فقلت شكا إلى أخ محب ... كبعض زماننا إذا تعلمينا
فقص على ما يلقى بهند ... يذكر بعض ما كنا نسينا
وذو القلب المحب وإن تعزى ... مشوق حين يلقى العاشقينا
كيف تسمع هذا الشعر ولا تحسبه من مواليد اليوم، بل من مواليد كل يوم، وهو الوضاء الصافي، الأنيق الرقيق؟. .
وهذا أبن الدمينة هلا أضعنا إليه في قوله:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد ... فقد زادني مسراك وجداً على وجد
أَإن هتفت ورقاء في رونق الضحى ... على فنن غض النبات من الرند
بكيت كما يبكي الحزين صبابة ... وذبت من الشوق المبرَح والصد
هلا أصغينا إلى هذا الشعر البهيالقشيب وهو يحدثنا بلغة اليوم وروح اليوم؟. . . .(64/21)
قيل كان العباس بن الأحنف إذا سمع هذا الشعر تترنح منه الأعطاف، وكاد لفرط إعجابه به ينصح برأسه العمود. فقد تعتقه أبن الدمينة بلا خمر.
وأبو فراس أي عصر لا يفتح له صدره وقصائده من بنات كل عصر:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر ... أما للهوى نهي عليك ولا أمر
وماذا تقول في شعر المنازي يوم فزع إلى الوادي الظليل هرباً من الحر.
نزلنا دوحة فحنا علينا ... حنوَ المرضعات على الفطيم
تروع حصاة حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظم
ألا يسير هذا الشعر في ركاب كل عصر؟.
والبهاء زهير؟. . . أتنسى البهاء زهيراً؟. . .
أنا من تسمع عنه وبَرى ... لا تكذب في غرامي خبرا
وماذا نطلب في الشعر إلا أن ينهج هذا النهج، إلا أن يصدر عن هذا المورد؟. ماذا نبغي منه إلا أن يبقى أبداً شهي المذاق، إذا رددناه في كل ثانية أطربنا ورجونا أن نستزاد منه، فلا يتنكر له زمن من الأزمان، ولا تشد دونه الأسماع كلما قام للأدب العربي كيان. فالأدب الجديد إذا هو المبتكر، الفريد، السائغ، الرائع الديباجة، الواضح الجلي، الذي يرضى عنه كل عصر، ويهضمه كل جيل، فلا يؤلم السميع بغريب الألفاظ، ولا بالنافر من المعني، ولا بالتكلف والتعقيد. والأدب القديم هو المثقل بالتقليد، المطبوع بطابع عصر خاص لا يعدوه، المنغمس في السجن في نثره، والمتوكئ على الألفاظ والتفلسف في شعره، العويص، الخشن، الوحشي الكلمات والمعاني، هو ما يحتاج إلى القاموس كلما خطر لك أن تجيل الأنظار ومثل هذا الأدب شؤم على اللغة والبيان، إلا أن المحافظين يستمرئونه، بينما أنصار التجديد يشنون عليه الغارة، وينادون إلى استئصاله وهو أدب راكد، والأدب الراكد لا يعيش! وقد طال التطاحن بين الأدبين، وسيطول كلما بقى في الأدب قديم وجديد. وعندنا أن الأدب الجدير بالحياة ما استوفى شروط البيان، وحفل بالمبتكر، وهز النفس، وأرغمك على قراءته والإصغاء إليه، هو ما أطربك كلما رويته ووقفت على بدائعه وآياته. هو ما رمى إلى أبعد مما يرمي إليه مقال في صحيفة سيارة بنشر اليوم ليطوي غداً. . .!
بيروت(64/22)
كرم ملحم كرم
صاحب جريدة (العاصفة)(64/23)
الشريف الإدريسي يضع اقدم خريطة جغرافية للدنيا
القديمة
للأستاذ محمد عبد الله ماضي
عضو بعثة تخليد ذكرى الإمام محمد عبده بألمانيا
1 - تمهيد:
إنني إذا تحدثت عن الخريطة الإدريسية فإنما أتحدث عن مجهود علمي خالد من مجهودات أحد أسلافنا الأمجاد، عن مبرة من مبرات رجل من رجالاتنا في التاريخ، ويدمن الأيادي البيضاء التي أسداها أحد علماء الإسلام وأبناء العرب إلى العلم والعالم يوم كانوا قادة المعرفة وحملة لوائها على وجه البسيطة، ويوم كان الشرق يملي كلمته على الغرب ويقوده إلى مسالك الحياة الحق على ضوء العلم، وفي سبيل الهدى والمعرفة. أتحدث عن اقدم خريطة عالمية جغرافية صادقة عرفها التاريخ ووصلت إلى أيدينا، وأقرب صورة عرفت في تلك العصور السالفة مطابقة لما وصل إليه العلم الحديث ولما نعلمه الآن علم اليقين، تلك هي (خريطة الشريف الإدريسي) التي أظهر في وضعها براعة علمية فائقة، وخلد لنفسه بها ذكرا طيبا حسنا بين العلماء الأمجاد سوف لا يزال يضوع شذاه وينتشر عبيره ما دام للعلم أهل يقدرونه، وما دام هناك من يعرف للعلماء حقوقهم.
ولم يكن كتابة (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) إلا شرحا لهذه الخريطة وتعليقا عليها، وهو كتاب ضخم يقع في جزئين كبيري الحجم، وإن كثيرا من علماء البحث في الشرق والغرب وفي مختلف العصور، قد بحثوا بحوثا مستفيضة في هذا الموضوع الشائق، ولقد كان آخر من عنى بذلك من علماء البحث الجديد الأستاذ (كونراد ميللر) أحد العلماء الألمان الإجلاء فانه أخرج الخريطة في ثوب قشيب، وطبعها طبعة ملونة سنة 1928 وكتب عنها الفصول الطوال، وعقد الموازنات بينها وبين الخرائط الجغرافية القديمة والحديثة، وأشاد بمنزلتها كأساس قوي متين، ومرجع منظور إليه بعين التجلة والاحترام من مراجع هذا العلم وأسسه.
2 - من هو الشريف الأدريسي؟(64/24)
الإدريسي هو الشريف أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن إدريسينتسب إلى بيت الأدارسة الذي حكم مدينة (مالقة) في النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي بعد سقوط خلافة قرطبة في بلاد الأندلس.
هذا البيت يمت بصلة القرابة إلى الأسرة الأدريسية التي حكمت في مراكش 135 سنة من 791 إلى 926 م.
وهاتان الأسرتان ترجعان معا في نسبهما إلى إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
إدريس هذا افلت من يد العباسيين بعد اشتراكه في ثورة العلويين عليهم في ولاية موسى الهادي، وفر من وجههم إلى بلاد الغرب سنة 784 م وهناك أسس مملكة الأدارسة التي ورثها أبناؤه من بعده. بعد أن بسط يده على تلك الجهة التي نزل بها، بعضها بموالاة سكانها له، والبعض الآخر بواسطة الحرب وبعد تحكيم السيف، وما زال الأدارسة هناك يدبرون ويحكمون حتى غلبهم الفاطميون على أمرهم وانتزعوا الملك من يدهم. صاحبنا الإدريسي ولد سنة 110 ببلاد المغرب في (تطوان) على إحدى الروايات أو في (سبتة) كما في الروايات الأخرى حيث هاجر والده وبعض أقاربه في نهاية القرن الحادي عشر، وأين أتم الإدريسي دراسته وتلقى دروسه؟ لم يذكر المؤرخون ذلك. ولكن الأمر كما قال الأستاذ (ميللر) ليس بعير، فان القارئ لوصفه الدقيق الوافي لمدينة (قرطبة) يستطيع أن يستنبط من ذلك أنها كانت مقر دراسته وموطن تخرجه نشأ هذا الرجل وقد حببت إليه الأسفار من صغره، فبدأ أسفاره وهو في السادسة عشرة، وسافر إلى البلدان الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، وتغلغل في شمال إفريقية، ودرس خصائص أهل هذه البلاد وعوائدهم. فوق هذا سافر إلى سواحل فرنسا في المحيط الأطلانطي، وإلى سواحل إنكلترا كما حدث في بعض كتاباته، وفي نهاية الأمر دعاه رجار (روجر الثاني النورماني) ملك صقلية إلى الرحلة إليه والنزول عنده في (بالرم) على الرحب والسعة والإقامة ببابه كأحد أفراد الحاشية معززا موفور الكرامة. رجاه ذلك الملك الجليل في هذا بعد أن وصل إلى مسامعه من هو الإدريسي، وبعد أن علم منزلة الأمير العلمية. قبل الإدريسي هذه الدعوة الكريمة وشد رحاله نحو صقلية ليأخذ منزلته في البلاط الملكي، وليحدث هناك الدوي(64/25)
الهائل في الأفق العلمي الذي مازلنا إلى الآن نسمع صداه، شجعه على القول هذه الدعوة رغبته في الفرار من وجه أعدائه وأعداء أسرته في البلاد العربية الذين بالغوا في اضطهاده وطلبه، وسعوا جهدهم في النكاية به. رحل الأمير إلى صقلية وأقام بها مدة حياته حتى قبض إلى رحمة ربه سنة 1166 م. وهكذا كان حظه حظ جده الأول إدريس. كلاهما أستخلص لنفسه الحياة من مخالب الموت، وفر من حظيرة الاضطهاد الضيقة الأنحاء إلى بحبوحة الملك الواسعة الأرجاء. كلاهما شاد بجده وعزمه دولة أدريسية، غير أن دولة جده انقضت وأخنى عليها الدهر، ودولته هو خالدة لا تنقضي. والأمر ليس بغريب. فهذا شأن دولة العلم نصيبها الخلود والبقاء بينما تقضى دولة الملك وتفنى. رحل هذا العالم الجديد والأمير النبيل إلى صقلية وقضى بقية أيامه هناك، قضاها في الأنتاج والعمل المثمر. لم يحدد المؤرخون الوقت الذي رحل فيه الإدريسي إلى صقلية تلبية لدعوة مليكها رجار (روجر الثاني) ولم يذكروا في أي سنة كان هذا. غير أننا نستطيع أن نأخذ برأي الأستاذ (كونراد ميللر) ونستنبط ذلك من الحوادث التاريخية المرتبطة بالموضوع، وعليه فلنا أن نفرض أن ذلك حدث قبل سنة 1138 م بقليل. فأننا نعلم في تلك السنة عقد (رجار الثاني) العزم على العمل لوضع خريطة جغرافية ووضع كتاب يشتمل على وصف أجزاء المعمورة المعروفة في ذلك الوقت. خذا الأمر الخطير الذي لعب الإدريسي فيه دور البطل.
3 - صقلية في ذلك العهد وحالة البلاط الملكي في الدم
كانت صقلية في ذلك العهد ملتقى العقول المفكرة، ومحط رحال العلماء يأتون إليها من كل فج عميق، وكانت بالرم العاصمة كعبة رجال العلم يسعون إليها من الشمال والجنوب لما عرف عن مليكها رجال الثاني النورماني من محبته للعلم وتقديره للعلماء واحترامه لهم من أي جنسية كانوا، والى أي ملة انتسبوا. فقد كان بلاطه بحق حرم العلم، من دخله من العلماء كان آمناً. هنا التقت الحضارة الإسلامية بالحضارة المسيحية، وتعرف فن الشرق المسلم إلى فن الغرب المسيحي فتآخيا وأخذا يعملان جنباً إلى جنب إخواناً متحابين لمصلحة العلم وفي سبيل خير العالم. هناك ورث النورمانيون حضارة العرب الذين حكموا الجزيرة 242 سنة من سنة 830 إلى 1072 م والذين ورثوا حضارة الروم من قبل. في ذلك الوقت كانت الحروب الصليبية قائمة على قدم وساق، فكان هذا سبباً لوفود كثير من(64/26)
رجال دول أوربا ودول العلم المختلفة إلى بالرم. هؤلاء الرجال الذين كانوا للكثير منهم شأن في بلادهم ومعرفة بأحوالهم السياسية والاجتماعية والجغرافية. كان ذلك الوقت هو العصر الذهبي للنورمانيين في صقلية الذي عمت فيه سيادتهم جميع أنحاء الجزيرة، والذي دخلت تحت سلطانهم في خلاله قسم من إيطاليا وشمال أفريقيا. كل هذه العوامل سهلت للإدريسي القيام بمهمته الكبيرة الشأن، ومكنته من أن يجمع إلى معارفه الخاصة وملاحظاته الشخصية التي أكتسبها بأسفاره الطويلة ورحلاته المتعددة، وأن يضم إليها ما جعله يضع خريطته العالمية ويكتب كتابه (نزهة المشتاق) عنها بوجه لم يسبق اليه، حتى كانت هذه الخريطة وذلك الكتاب مرجع المؤلفين الجغرافيين من بعده.
4 - مؤلفات الإدريسى في المدة التي قضاها في صقلية
لم يقتصر عمل الإدريسي في تلك المدة التي قضاها في بلاط الروم على وضع تلك الخريطة، ولكنه ألف غير ذلك أربعة كتب (1) كتاب نزهة المشتاق أو كتاب رجار الذي سبقت الإشارة إليه، والذي أختصر فيما بعدتحت هذا الاسم عينه، ولقد أطلعت على نسخة من هذا المختصر في مكتبة المعهد الشرقي بهامبورج مطبوعة بروما في سنة 1592 م ومكتوب على هامشها أن هذا الكتاب أول ما طبع باللغة العربية (2) كتاب الممالك والمسالك الذي لم يصلنا منه إلا بعض مقتبسات اقتبسها أبو الفدا عند كلامه على الجغرافية العربية. كذلك حدثنا عنه الشاعر أبن بشرون الأندلسي، وحدث أن الإدريسي ألف هذا الكتاب سنة 1161 لنجل رجار الثاني (فلهلم) الذي حكم من سنة 1154 إلى سنة 1166 م (3) كتاب روض الفرج، وهو كتاب جغرافي صغير اكتشفه أحد الباحثين من نحو ثلاثين سنة بمكتبة خاصة في (إستانبول) (4) كتاب يبحث في وسائل العلاج البسيطة. فوق هذا نقل الأستاذ (ميللر) عن المؤرخين أنه كان شاعرا وأنه لم يصلنا من شعره إلا بعض مقطوعات، ولكنني لم اعثر على شئ من هذه المقطوعات لأعرضه على قراء الرسالة.
5 - كيف فكر روجر الثاني في وضع هذه الخريطة وكيف
عهد إلى الإدريسي بذلك؟
عنى روجر الثاني عناية خاصة بالمسائل الجغرافية واخذ يشتغل بدراسة الكتب الجغرافية(64/27)
المختارة الموجودة في ذلك العهد، ولا سيما العربية منها، ولكنه لما لم يجد بعد البحث الطويل ما يطفئ غلته ويقضي به لبانته ويريح ضميره كباحث مجد، لما لم يجد جواباً واضحاً وحلاً موفقاً لما كان يجول بخاطرهم، المشكلات العلمية أخذ يستحضر رجال الخبرة الأجانب الذين وفدوا على مملكته من كل فج ويسألهم بواسطة المترجمين منفردين أو مجتمعين عن مواقع البلدان وحدودها، وعن كل ما يتعلق بها جغرافيا كلا بقدر ما تصل إليه معرفته، وقد كانوا كثيري العدد، فأن توافقت أجوبتهم ولم تتضارب أقوالهم اعتبر إجابتهم صحيحة وأعطاها قيمتها العلمية وقيدها وإلا ردها عليهم ولم يعتبرها، وبعد أكثر من خمس عشرة سنة قضاها بلا إنقطاع مع صاحبة الإدريسي في هذا العمل الخطير والبحث الشائق أستقر الرأي على تقييد ما وصلوا إليه ورسمه في خريطة عالمية كاملة تبين فيها مواقع البلدان والبحار والأنهار والجبال إلى غير ذلك كما وصل إليه البحث وانتهى إليه الاستقرار، فأعطيت القوس باريها، وعهد بهذه المهمة الكبيرة إلى الشريف الإدريسي الذي رسم أصل هذه الخريطة، ثمبعد هذا أراد الملك أن تحفر هذه الخريطة ثانية على لوح من الفضة، فأحضر الصناع المهرة الذين أتموا هذا العمل تحت رعاية الإدريسي ورقابته، وبعد أن جعل الملك مقدار أربعمائة ألف درهم من الفضة كما روى خليل الصفدي تحت تصرف الإدريسي لهذا الغرض اتخذ الإدريسي أقل من ثلث المقدار مائدة مستطيلة يبلغ طولها كما قدر الأستاذ (ميللر) ثلاثة أمتار ونصف متر وارتفاعها مترا ونصف متر تقريبا، ثم حفر عليها بواسطة الصناع المهرة كما قدمنا خريطة بغاية الدقة والإتقان وتمام الموافقة لتلك الخريطة التي رسمها قبل القيام بعملية الحفر، وكان الفراغ من هذا العمل الجليل الشأن في يناير سنة 1154 م. وكشرح لهذه الخريطة وتعليق عليها ألف الإدريسي كتابه نزهة المشتاق في إختراق الآفاق أو كتاب رجار الذي أشرنا أليه، وإنه لجدير بهذه التسمية بعد أن بذل هذا المليك الجليل تلك العناية الكبيرة، وقدم هذا السعي المحمود خدمة للعلم وحبا فيه، وقد كانت العناية بتآليف هذا الكتاب شبيهة بأختها في وضع الخريطة. فقد اختار رجار الثاني والإدريسي عدة من الرجال الذين بصح الاعتماد عليهم في مثل هذه العظائم وبعثوهم إلى جهات العالم المختلفة ليدرسوا احولا البلدان النائية ويدرسوا أهلها وعاداتهم وأحوالهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويدرسوا حاصلات البلاد وحيواناتها(64/28)
وكل ما تنتجه ويعيش فيها إلى غير هذا مما له أهمية جغرافية وما يتعلق ببعض نواحي علم طبقات الشعوب وعلم الاجتماع. أمرهم بان يدرسوا هذا ثم يضعوا تقريراتهم عنه، ولقد حمل هؤلاء الرسل إذنا من الملكالنورماني رجار الثاني ليحضروا معهم كل ما يعدونه غريبا في بابه ذا أهمية جغرافية خاصة من الأمور الخارقة للعادة في باب الطبيعة، بعد أن تم ذلك وعاد أفراد تلك البعثة الاستكشافية من الجهات التي أرسلوا إليها، وقدموا تقاريرهم أجتمع لدى الإدريسي ما مكنه من وضع كتابه نزهة المشتاق.
6 - كيف كانت صورة الأرض في نظر الإدريسي عند وضع
خريطة؟
ولا بد لنا قبل أن نتكلم عن شرح الخريطة وبيان بنائها أن نشرح الصورة الأرضية التي كان يعتقدها الإدريسي عند وضع خريطته. كان الرأي الشائع إلى أواخر العصر المتوسط أن الأرض مسطحة عائمة على وجه الماء. نعم لقد شك بعض علماء اليونان في ذلك وثار عليه أفراد آخرون بعدهم، ولكنه لم يزل رأي الأغلبية حتى نهاية ذلك الوقت. أما رأي الإدريسي يشاركه فيه علماء الجغرافيا الأخصائيون من العرب فقد كان غير ذلك، أعتقد الإدريسي أن الأرض مكورة على شكل بيضة يحيط بها الماء ويتعلق بها بواسطة قوة جاذبية طبيعية، فالماء يغمر نصفها وينحسر عن النصف الآخر مع كون هذا النصف الأخير المنحسر عنه الماء آخذاً شكلاً بيضاوياً منقسماً بواسطة خط الاستواء إلى قسمين متساويين: شمالي وجنوبي، المعمور منها الشمالي فقط. أما الجنوبي فهو خراب غير معمور لشدة الحرارة ولعدم وجود الماء، ولا يفوتنا أن ننبه إلى أن أبن رشد الطبيب والفيلسوف والفقيه المسلم (1126 - 1198) عارض الإدريسي في هذه النقطة، فلقد روى عنه أبن خلدون (732 - 808 هجرية) في مقدمته أنه ارتأى النصف الجنوبي من الكرة موافق للنصف الشمالي منها تمام الموافقة في الجو والطبيعة وأنه مأهول بالسكان مثله، وأن النقطة القريبة من خط الاستواء سواء كان شمالا أو جنوبا شديدة الحرارة، ثم تتدرج درجة الحرارة في الانخفاض بقدر بعد المنطقة عنه. ووافق ابن خلدون أبن رشد في اصل نظريته وأيدها بما ساق من الأدلة، إلا انه رأى أن النصف الجنوبي لا سكان فيه كما في(64/29)
الشمال، وعلل ذلك بأن معظم القسم الجنوبي الصالح لسكن مغمور بالماء.
يتبع
محمد عبد الله ماضي(64/30)
الصورة والتصور والتصوير
للأستاذ الحوماني
صاحب مجلة العروبة
هنالك في حيز الشعر صورة وتصور وتصوير , ولكل منها نصيب من الجمال في الحياة، ومناط الجمال في كل منها إنما هو الفن إذا صح إطلاق الفن وحده على الشعر كما سترى. فالصورة إحدى ظواهر الطبيعة وهي إما حقيقة أو خيال - والتصور مرور الفكر بهذه الحقائق يتصفح صورها - والتصوير إبراز هذه الصور إلى الخارج بشكل فني، فالتصور إذن هو العلاقة بين الصورة والتصوير وأداته الفكر فقط، وأما التصوير فأداته الفكر واللسان، والصورة يتعاقب عليها فنان: فن المبدع وفن المصور، ويقال للمصور مبدع إذا كانت الصورة من خلقه، وهو يتصفح الحقائق فينتزع منها صورة مركبة نسميها خيالا. فالخيال لا يخلو من رمز يشير لك إلى المبدع الأول مهما افتن الشاعر في صرفك عن لحظة. فالمرأة ظاهرة من ظواهر الفن الطبيعي، وتصويرها إحدى ظواهر الفن الصناعي. فجمال النفس فيها إنما هو جزء من روح مبدعها الأول، وجمال الشعر في تصويرها إنما هو من روح مبدعها الأخير.
والتصور الذي هو لحاظ الفكر صور الحقائق يختلف شدة وضعفا باختلاف الفكر الذي هو أداته، فتصور الشاعر جمال الفن في إحدى ظواهر الحياة إنما هو الإحاطة بدقائقها واكتناه السر الذي كانت له، والصورة الفنية إنما تتكون من جليل تحف به دقائق يمتاز بالوصول إليها شاعر الفن من غيره، ومناط الجمال في تصوير الشاعر وقوفه على دقائق لا يتبينها في الصورة الفنية سواه، ففي كل صورة فنية طبيعية كانت أم صناعية من معجزات الفن ما هو ظاهر وما هو خفي. فالشاعر يمتاز من غيره بتصور هذا الخفي ثم لا يكون فنانا حتى يصوره. فالرسام إنما يصور لك المرأة الجميلة حتى كأنك ترى شخصها، والشاعر إنما يصفها لك حتى كأنك تلمس روحها، إنما يصور ذلك ويصف هذا، وكلاهما شاغر فنان، بفضل ما يدركان من خفي ما أبدعه الفن في الصورة الجميلة فيصورانها. من ذلك نصل إلى أن الشاعر لا يفهمه كالشاعر وناقد الفن يجب أن يكون فنانا، ولا تنس أن الشاعر إنما يفهم الشاعر الذي هو دونه أو مساو له، وأما من حلق عليه فلا ينبغي له أن(64/31)
يمد بصره إلى أفقه وهو يحاول نقده حتى يكونه، على أن الشاعر لا يجب في النقد أن يكون فنانا، فرب شاعر غير فنان يستطيع بما أوتيه من فكر أوتى دقة التصوير أن ينقد الشاعر الفنان.
فالدكتور طه حسين يستطيع أن ينقد أمير الشعراء لا من حيث كونه شاعرا فقط، إذ هو في الفن دون أمير الشعراء، ولكنه في تذوق الفن قد يكون فوقه أو مساويا له، فليس الشعر مرادفا للفن ولا الفن مرادفا له. وقد يكون الشعر فنا كما فد يكون الفن شعرا. والشاعر الفنان يستطيع أن ينقد الشاعر فنانا وغير فنان، فكل من أبدع في التصوير كان في حيزه الإبداع في التصور، وقد يكون في حيز الإبداع في التصور الإبداع في التصوير، وإذا صح لنا أن نطلق على الشعر أنه تصوير الجمال في الحياة صح لنا أن نطلق عليه جمال التصوير، فحيث يكون تصوير الجمال يكون جمال التصوير، وقد يخامر السامع ريب في صحة الأول، وأن الشاعر قد يصور قبيحا في الحياة فلا يخرجه عن كونه شاعرا فيما صور، وجوابه سهل فيما إذا لحظنا ثبوت كون الجمال نسبيا في الحياة وانه لا قبح فيها، وإنما هو جميل كما مر بك في القول على الجمال.
وأما إذا اعتمدنا القول في أن الصور الفنية في الحياة ما هو حسن وما هو قبيح لزمنا القول في أن حد الشعر بجمال التصوير أصح، ولزمنا من جهة أخرى نفي الجمال المطلق عن الفن الطبيعي وهو مرآة الفن الصناعي، فلزم الفرق بين فن الطبيعة وفن الإنسان من حيث حده وتعريفه، وهما فن واحد، إلا أن يكون القبح في الصور الفنية عارضا بعد كونها والجمال ذاته فيها فيستقيم إذ ذاك تحديده الثاني. فالطبيعة لم تبدع غير جميل، وما يتراءى لنا قبيحا فلعارض حور مجراه الطبيعي في نفوسنا، أو لسر فيه خفي عنا إدراكه فعز علينا مناط الجمال فيه، وليس الجمال في الصورة أو التصوير مناطا للجمال في التصوير، ولا شئ من جمال التصوير أو قبحه يستلزم جمال الصورة أو قبحها، فأي جمال في صورة الأحدب يستلزمها جمال تصويرها في قول الشاعر:
قصرت أخادعه وغاب قذاله ... فكأنه مترقب أن يصفعا
أو انه قد ذاق أول صفعة ... وأحس ثانية لها فتجمعا
فاللازم إنما هو جمال التصوير فقط، وجمال التصوير يتحقق في نقل الصورة على أتم(64/32)
وجه وبأسلوب جميل، والصورة أعم من أن تكون في الخارج كصورة الأحدب التي مرت بكأو في النفس كما في قوله:
أعانقه والنفس بعد مشوقة ... أليه وهل بعد العناق تدان؟
وألثم فاه كي تزول حرارتي ... فيشتد ما ألقي من الهيمان
وما كان مقدار الذي بي من الجوى ... ليطفيه ما ترشف الشفتان
كأن فؤادي ليس يطفي غليله ... سوى أن ترى الروحان تمتزجان
فلم يكن الشاعر ليصف لك في هذا المشهد صورة العناق في الخارج، وإنما يريد أن يصور لك حالة نفسية تعتريه كما تعتري كل عاشق، وهي انفعال النفس بما تجده في قرب من تحب. وبلوغها حدا لا تشعر معه حتى تبلغ النهاية في ثورتها وهي امتزاج الروحين، ولم يكن ليطفئ ثورتها تلاصق الجسدين، ووضع الشفاه على الشفاه وهما طريقها إلى الغاية التي تصبو إليها. على أني لا أرضى عن الشاعر في إنكاره أن وراء العناق تدانيا، فالحب أسمى من أن تناله المادة وهو وليد الروح، ولعل دموع الحب عصارة هذه النفس المتألمة من وراء انفعالها به، فإذا كانت الروح مناط هذا الحب فأنى للجسم أن يطفأ ثورته بالتقبيل أو العناق، والصلة بين المتحابين إنما تتحقق في امتزاج روحيهما، فقد يتلاصقان ولما يزول هنالك بعد بين الروحين، وحجاب كثيف يحول دون امتزاجهما. أفلا يكون إذ ذاك تدان وراء العناق؟ على أن في البيت الأخير وجعله امتزاج الروحين مناط شفاء النفس دليلا على أنهإنما يقصد بقوله (وهل بعد العناق تدان) أن العناق أقصى ما يبلغه الحب في الصلة بين شخصي المتحابين لا أن مطلق التداني مرة وراء الحب قاصر على العناق إذ صرح فيما بعد أن هنالك امتزاجا في الأرواح، وهو أشد ارتباطا في الحب من العناق، وأبلغ تدانيا منه. إذا وصف الشاعر قبيحا فأبدع في تصويره، فقد صور لك جمال الفن فكان صادقا عليه إذ ذاك أنه مصور لجمال الحياة إذ الفن من الحياة، فتصويره تصوير لجمالها أو لناحية من نواحي الجمال فيها. فقد لا تجد أثرا للجمال في كوخ بال قذر يمرح فيه الفأر وتعلو جدره العناكب ويسود أفقه البق، وقد جلس في إحدى زواياه شيخ بالي الطمر وبين يديه سراج ضئيل يقاسي إلى جانبه آلام البؤس. وقد يبدو لك ذلك قبيحا وأنت تشرف عليه أو تلج إليه فتصفر الحياة في عينك ماثله بين جدره. ثم إذا صور لك رسام(64/33)
مفننٌ حرك منظره من نفسك بين روعة الفن وجمال التصوير ما يقف بك خاشع الطرف بين يدي الفن وجلاله، وهكذا تراك وأنت تقرؤه في قول الصافي:
أكافح البرد في سراج ... يكاد من ضعفه يموت
في غرفة كلها ثقوب ... أو شئت قل كلها بيوت
يسكن فيها بلا كراء ... فأرُ وبقَُ وعنكبوت
فمناط الشعر في ذلك إنما هو جمال التصوير، ولعل الخيال أوفى نصيبا من الحقيقة فيه. ففي قوله (يكاد يموت) و (كلها بيوت) و (بلا كراء) من جمال الفن ما لم تكد تعثر عليه فيما لو جردت الأبيات منها، ولم يكن ليستطيع الصافي أن يصور لك الجمال في البؤس لو لم يكن هو بائساً، ولعل أشعر الناس بالبؤس هو ألصقهم به وأقربهم نفسا منه. إذ البؤس إحدى ظواهر الحياة في الحي، والصورة الفنية إما أن تكون حقيقة محضة أو ملفقة من الحقيقة والخيال، فالأولى تتحقق في نقلها لك كما في الواقع حتى كأنك تراها حقيقة مجردة عن الخيال كما مر بك في تصوير الأحدب في قول أبن الرومي، والثانية نقلها لك وليدة خيال يوهمك وجودها في الخارج كقوله:
خلا يدك البيضاء ذمَُ وللندى ... على حافتيها مسرح ومقيل
حمت غصن المعروف أن يخطئ الجني ... وزهر الندى أن يعتريه ذبول
لم يشأ أن ينقل صورة الغصن أو صورة المعروف ولا صورة الزهر أو صورة الكرم، وإنما شاء أن ينقل لك صورة لفقها الخيال من كلتا الصورتين عن طريق الاستعارة ومن وراءها التشبيه المطوي كما يحققه علماء البيان.
بيروت
الحوماني(64/34)
3 - الشخصية
للأستاذ محمد عطية الأبراشي
المفتش بوزارة المعارف
العناصر الرئيسية التي تتكون منها الشخصية القوية:
تكلمنا فيما مضى عن الشخصية وماهيتها، وقلنا أنها قد توهب بالفطرة، وقد تكتسب بالتربية الحق، وبينا أن الناس يختلفون في شخصياتهم كما يختلفون في ذكائهم وميولهم الفطرية، وذكرنا من العناصر الرئيسية المكونة للشخصية القوية ثلاثة عناصر وهي: الجاذبية، والنشاط العقلي، والمشاركة الوجدانية. واليوم نتكلم عن العنصر الرابع وهو الشجاعة فنقول:
ربما كانت الشجاعة أهم عنصر من عناصر الشخصية القوية في أوقات الرخاء والشدة على السواء، ولكن ما الشجاعة؟ الشجاعة قوة بها يتمكن الإنسان من السيطرة على قواه مع ضبط نفسه وقت الخطر الذي يهدده، سواء أكان ذلك الخطر حقيقيا أو وهميا.
وكما أن الشجاعة فضيلة في الجندي والملاح فكذلك هي فضيلة في غيرهما من بني الإنسان وهي خير مقياس يقاس به الشخص في أوقات الشدة حيث يتطلب الثبات أو الأقدام. وبهذا المقياس يمكن وضع الشخص في مرتبته الخاصة بين الشجعان أو الجبناء وبين العظماء أو العاديين.
وقد قيل، وقيل حقا، أن الشجاعة تتوقف على القوة الجسمية والعصبية والعقلية والخلقية التي لدى الإنسان. وأن المدنية الحاضرة قد قللت من الشجاعة يبن الأفراد، فقد صرح أحد النظار السابقين لمدرسة (أيتون) الإنجليزية المشهورة بأنه رأى غلاما قد دخلت في عينه ذبابه، فحاولت أمه وأخواته الثلاث إخراجها بغير جدوى، ولم يكن الأمر بحاجة إلى أكثر من يتحمل الولد الألم دقيقة واحدة، ولكنه لم يتحمل الألم دقيقة - إن كانت هناك آلام. فأخذ في عربة إلى طبيب في مدينة تبعد خمسة أميال عن القرية. كل هذا من أجل شئ يسير كان في استطاعة أي فرد من الأسرة أن يقوم به بسهولة.
هذه حكاية عن شبان الأمس وأمهات الأمس بإنجلترا. أما اليوم(64/35)
فتجد الأمهات والآباء يغرسون الشجاعة، وخلق الرجولة في
نفوسأبنائهم من الصغر، ويعودونهم الصبر، وضبط النفس
وكتمان الشعور، وتحمل الألم من الطفولة الأولى. وبهذه
الوسيلة يبثون الشجاعة فيهم. ولا يظهر الخلق المتين ولا تبدو
الشخصية القوية إلا بهذا النوع من الشجاعة، وهو القدرة على
احتمال الآلام. وان من يستطيع أن يحتمل خمس دقائق اكثر
من غيره يمكنه أن يفوز بالنجاح والنصر، سواء أكان جنديا أم
قائدا، متعلماً أم معلماً، غنياً أم فقيراً. وبالشجاعة يظهر الفرق
الكبير بين الشخصية القوية والشخصية الضعيفة. والآن نريد
أن نبين مظاهر الشجاعة وأثرها في النجاح في العمل وفي
الحياة الاجتماعية فنقول: مظاهر الشجاعة:
أولاً: الشجاعة في ضبط النفس، وذلك بأن تقف موقفا طبيعيا بكل شجاعة عند مقابلة الرؤساء أو عند الظهور أمام مجتمع لإلقاء محاضرة أو الاشتراك في مناضرة، أو التعبير عن رأي، أو الدفاع عن مبدأ أو عقيدة، بحيث لا نرتعد أو نضطرب، ونظهر بأحسن مظهرفي حديثنا وإلقائنا ونبرهن بأعمالنا وآرائنا بكل لطف وأدب. وإذا لم يكن لدى الإنسان قدرة على إظهار مقدرته بالعمل وضبط النفس فقد تضيع منه الفرصة الذهبية التي قد لا تصادفه مرة أخرى. وكثيرا ما تضيع الفرصة من الشخص، ثم يندب سؤ حظه، ويشكو الظروف والمقادير، مع انه لم يكن في حاجة إلى أكثر من الشجاعة في انتهاز الفرصة حين سنوحها. ولا سبب يدعو الإنسان إلى الخوف من أبناء جنسه. وقد يكون الخوف مبنيا على وهم لا أساس له. وإذا وثق المتكلم من نفسه، وعرف ما يريد أن يقوله، وعرف كيف يعبر(64/36)
عن خواطره، وكيف يبرهن على نظريته بالعقل والمنطق، فأنه يستطيع أن يطمئن إلى نفسه، ويمسك بزمامها، ويقابل من يشاء، ويخاطب من يريد، ما دام متحليا بالأدب، واثقا من نفسه، وكان عقله مرتبا وأفكاره منطقية، بحيث لا يتسرع في ذكر شئ يدل على عقل مضطرب، أو روح قلق، ولا يتظاهر بما ليس فيه. وإذا وفقت مما تريد أن تقوله فهذا وحده كاف لأن تؤثر في نفوس سامعيك، وتنظر إليهم وتقابلهم بكل قلبك وجها لوجه، وتجعل قلبك وروحك في إثبات ما تريد أثباته، أو نفي ما تريد نفيه، فتتكلم بقلبك لا بلسانك. ولا شئ يبرهن على الشجاعة ويخضد شوكتهااكثر من الهلع؛ فحيثما وجد وجد الألم، والقلق النفسي، وتعب الضمير، واضطراب العقل، فتضطرب شخصية الإنسان. ولأن كان الخوف ثمنا ندفعه في سبيل المحافظة على الحياة فالإفراط فيه عيب من العيوب الإنسانية التي يجب تهذيبها، والتي تقضي بأن يفكر الإنسان في الشيء وفي نتائجه.
وبجانب المخاوف التي تلحق الشخص في حاضره، وتحيط به من وقت لآخر، مخاوف وهمية يتوهمها، ويتخيل حدوثها في المستقبل، فيقلق باله، ويضطرب فكره، وتضعف شخصيته. وكثيرا ما تكون هذه الأوهام المخيفة المبنية على غير أساس، وندر أن تقع. وكم إغتممنا لتوقع مصائب لم تحدث، ولن تحدث. وتكثر هذه المخاوف عادة لدى الشخصيات الضعيفة. أما ذوو الشخصيات القوية فلا يكثرون من الهموم من غير ما سبب، ولأقل سبب، بل يستقبلون الحياة كما هي، ويواجهونها بما فيها من مسرات وأحزان، وسعادة وشقاء على السواء، يبتسمون بهدؤ حتى في مواطن البكاء، ويصبرون في مواقف البأساء. هؤلاء جديرين بالنجاح في الحياة لشدة ثقتهم بالله.
والحياة مملوءة بالحوادث والمصائب، والعجائب والغرائب. ولا يستطيع الإنسان أن يعرف ما ينتظره في الغد من المقادير، وقد تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فيفاجأ الإنسان بأشياء ما كان ينتظرها، كمرض أو فقد مال أو خسارة. فبهذه وبكثير أمثالها من الحوادث تختبر رجولتنا، ويعرف معدن الرجولة فينا، وبالروح التي نقابل فيها هذه الحوادث تظهر شخصيتنا أو تستتر. ولا تظهر الرجال إلا عند الشدائد والمصاعب. وبما أن النجاح في الحياة ليس من السهل فيجب أن يتعلم الإنسان كيف يبتسم في الأيام المظلمة، كما يبتسم عند المسرات في أيام السعادة والهناءة. وينبغي أن يتعود الشجاعة والاحتفاظ بقواه عند الملمات(64/37)
حتى يكتسب إعجاب رفقائه وأحترامهم، ويثبت ثبات الطود في مهب الرياح. وليس من الشجاعة أن تكثر من شكوى الحياة والظروف والأيام، فشكوى سوء الحال لن تغير ما حدث، بل تذهب بنظرة العقل، وقوة القلب، وأن الفرق من الخذلان والهزيمة يؤدي إلى الهزيمة، وقوة الأمل في النجاح مع التشجيع والمثابرة تحفظ روح الإنسان وهمته، وتبعث فيه كثيراً من الرجاء في الفوز، وبخاصة إذا عمل بعقله وقلبه ويده، وأن الاعتراف بالنقص فضيلة، والعمل على علاجه شجاعة. فنحن في حاجة إلى الشجاعة التي بها نستطيع مواجهة المخاوف ومقابلتها بكل ثبات وصبر وتفكير حتى نتغلب على مصاعب الحياة، ونقلل من الخوف الذي يهدم الرجولة من أساسها، ويقتل الشخصية في مهدها.
وأن أعظم انتصار في الحياة هو الانتصار على النفس
بضبطها وكبح جماحها، والتغلب عليها. وليست الشجاعة في
أن تنتصر على سبع مفترس فحسب، ولكن الشجاعة في أن
تسيطر على نفسك التي بين جنبيك. وأرقى مظاهر الشجاعة
الصبر والتحمل عند القدرة. ثانياً: هناك مظهر آخر للشجاعة
يتبين في التغلب على الصعاب التي تعترض الإنسان في
الحياة، وإصلاح الأخطاء التي تمر بنا سواء أكانت الأخطاء
منسوبة إلينا أو منسوبة إلى غيرنا. وهناك كثير من المصاعب
التي يمكن التخلص منها بقليل من الشجاعة والحزم والثبات؛
وكثيراً ما يكون الجبن سبباً في الفشل وعدم النجاح في العمل.
وكما تكون الشجاعة في الأقدام على الشيء تكون في الأحجام
عند تحقيق التهلكة. ولا تقل الشجاعة في الأحجام والتريث(64/38)
حينئذ عن الشجاعة في الأقدام.
وممن كانوا مثلاً للشجاعة واقتحام المخاطر بين العرب خالد أبن الوليد: ومن أقواله: لقد لقيت كذا وكذا زحفا، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه طعنة أو رمية، ثم هاأنذا أموات على فراشي حتف أنفي، فلا نامت أعين الجبناء.
ثالثاً: تظهر الشجاعة في الإجابة وفي إبداء الرأي: ومن
الشجاعة أن يجيب الإنسان بكل أمانة وإخلاص عما يسأل،
وأن يبدي رأيه بكل صراحة، ويدافع عنه من غير تغيير
الحقائق، ومن غير اضطرار إلى الإنكار أو ذكر نصف
الحقيقة خوفاً من أن تظهر بنفسه الحقيقة كما هي، وإذا اعترفنا
بكل إخلاص أننا فعلنا كذا، ولم نسمع رواية كذا، أو لم نقرأ
كتاب كذا، أو أننا لا نحب فلاناً فقد يعجب المستمع العادي،
ولكننا لو ذكرنا السبب بطل العجب. وهذا أفضل من تشويه
الحقائق بالتغيير والزخرفة وتضليل الغير. وهناك أسئلة
شخصية تدل على تطفل السائل، وتدخله في شئون غيره، فمثل
هذه الأسئلة يجب أن تحارب برفضالإجابة عنها بكل أدب،
عقابا لذلك المتطفل؟
محمد عطية الأبراشي(64/39)
فصول مدرسية في الأدب الدرامي
7 - الرواية المسرحية في الفن والتاريخ
بقلم أحمد حسن الزيات
تحليل موجز لأشهر المآسي
مآسي كورني: سنا موضوعها حلم أغسطس على سنما،
وعفوة عنه وعن يائر المؤتمرين به، ومغزاها أنتصار العفو
على الأنتقام. وقد وقعت حوادثها في قصر أغسطس بروما
عام 23 قبل الميلاد. وأهم أشخاصها: أغسطس أول امبراطور
لروم، وسنا حفيد (بمبيه) وزعيم المؤتمرين بالأمبراطور،
ومكسيم زعيم ىخر من زعماء المؤامرة، أميلي بنت
طورانيوس قتيل أغسطس ظلماً، وأوفورب عتيق مكسيم.
الفصل الأول: تناجى اميل نفسها أولاً، ثم تصارح نجيتها
ثانياضص بعزمها على الأنتقنم من قاتل أبيها، ولا تجد آلة
لأنتقامها إلا سنا حبيبها. فتشترط عليه ألا تقبله زوجاً إلا إذا
أنتزع من الأمبراطور السلطان والحياة. فيجتهد سنا في تدبير
المؤامرة، ويعود اليها فينبئها باستعداد المؤتمرين للعمل في
الغد. ويفجاه المبرطور باستدعائه اليههو وشريكه مكسيم،
فترتعد مفاصلهم مخافة أن يكون أمر المؤامرة قد افتضح.(64/40)
الفصل الثاني: على أن جزعهم كان سابقاً لأوانهن فأن
الأمبراطور ما زال يجهل امرهم. وانما يريد أن يستشير
الزعيمين في نزوله عن الملك، فقد سئمه وزهد منه. فيشير
عليه مكسيم بترك العرش، ويتوسل اليه سنا بالأحتفاظ به. فان
الشعب لا يصلح امره ولا يهنأ إلا إذا كان له سيد. أما حكومة
الشعب فهي شر الحكومات. فينزل الأمبراطور على رأي سنا.
ما يضمر. فيعلن إليه سنا أن موت الطاغية هو مهر اميلي،
وفي نزوله عن الملك إخفاق هذا الأمل!
الفصل الثالث: يغار مكسيم من سنا لأنه يحب اميلي ايضاً، ويحاول إحباط زواجهما. ويغريه مولاه (أوفورب) لأن يفشي سر المؤامرة الىأغسطس. ويخز سنا ضميره ويشتد ألمه وندمه كلما دنا الوقت العصيب فيتردد. وتدخل عليه اميلي وهو في تلك الحال فتوقد صدره وتجمع أمره فيذهب، ولكن في نيته أن يقتل نفسه بعد أن يقتل المبراطور. الفصل الرابع: يبلغ أوفور خبر المؤامرة إلى أغسطس من قبل مكسيم، ويوهمه أن سيده القى بنفسه في نهر التبر كراهة للحياة بعد اقتراف جريمتين: جريمة التآمر وجريمة الوشاية. فيدهش الأمبراطور ويناجي نفسه بالأمر نجوى جميلة، ويقلب الرأي فيما يحسن أن يفعل، فتنصحه زوجه بالعفو فأنه أجدر بالقادر، ولكنه يخرج على غير رأي، وتخلفه اميلي على المسرح، ويدخل عليها مكسيبم يتضرع اليها أن تفر معه فتأبى إلا الوفاء لسنا. وتعرف من الواشي الخيانة فتحتقره، ويندم مكسيم على غطاعته مولاه فيعزم على قتله قبل أن يقتل هو. الفصل الخامس: يجمع الأمبراطور رأيه علىأن يمن بالعفو فيدعو إليه سنا ويذكره بنعمه عليه، وطول إحسانه إليه، ويعجب أن يكافئه على حسن صنيعه بقتله. فيحاول سنا أن ينكر، ولكن أغسطس يظهره على أنه يعلم سر المؤامرة. وتدخل حينئذ أميلي فتحمل(64/41)
تبعة المؤامرة وتعلن انها تثأر لأبيها. ويبرئها سنا ويقرر انه هو المسئول عن تدبيرها وحده. ويظهر مكسيم فيعترف بخيانته، وتتحرك في قلبأغسطس عواطف الكرم والأريحية فيعفو عنهم جميعاً، وهو يقول: أنا سيد نفسي كما انا سيد العالم! بوليكت
موضوعها استشهاد القديس بوليكت من اضطهاد الأمبراطور (ديس)، ومغزاها انتصار الأيمان على الحب. وقد وقعت حوادثها في ميليتين عاصمة أرمينية في قصر فيلكس عام 250 للميلاد، واهم أشخاصها فيلكس احد أعضاء مجلس الشيوخ الروماني وحاكم ارمينية، وبليكت أمير ارمني وزوج ابنة فبلكس، فارس روماني وحظى الأمبراطور، ونيارك أمير أرمني وصديق بوليكت، وبولين بنت فيليكس وزوجة بليكت.
الفصل الأول: اعتنق بليكت الدين المسيحي ولكنه لا يجرؤ على الخروج إلى المعمودية، فخافة أن يؤلم زوجته بولين. فقد رأت في النوم رؤيا مروعة اخافتها على حياة زوجها فمنعته من الخروج. ولكن صديقه نيارك يلح عليه فيذهب معه خفية. وفي غيبته تقص بولين على وصيفتها الحلم الذي ازعجها، وتعلن غليها انها أحبت سيفير وهيفي روما، ولكن أباها رفض أن يصادق على زواجه منها، ثم قدمت أرمينية مع أبيها وفي ظنها أن سيفير مات، فتزوجت من بليكت، وفي الليلة البارحة رات فيما يرى النائم أن سيفير منتصر وانه منتقم. ويدخل عليها ابوها فيخبرها بقدوم سيفير وبخطوته عند الأمبراطور، ويخشى أن يعزله من منصبه لترويجه ابنته من غيره، ويطلب إلى غبنته من غيره، ويطلب إلى ابنته أن تحسن أستقباله وتكفكف من غربه. الفصل الثاني: ينزل سيفير في قصر الحاكم، ويعلم بزواج بولين فيملكه الذهول والدهش ويريد أن يراها: فإذا ما لقيها تعترف له بأنها تزوجت من بوليكت نزولاً على حكم ابيها ولكنها احبته منذ تزوجته، وتطلب إلى سيفير الا يراها مرة أخرى وفاء لزوجها فيتركها بعد أن يتمنى لها الخير. ويعود بوليكت من المعمودية فلا يرتاب في حضور سيفير لثقته بزوجه، وتأتيه دعوة إلى حضور القربان الذي يقدمه الحاكم ابتهاجاً بانتصار سيفير، فيذهب إليه مع صديقه نيارك، وفي نيته أن يحطم الأصنام. الفصل الثالث: وبينما يعبث القلق والخوف بقلب بولين إذ تدخل عليها وصيفتها فتخبرها بأن نيارك وبليكت حطما الأوثان على ملأ من الشعب. ويستقل الغضب بفيلكس فيحكم على نيارك بعذاب الموت. ويعلن إلى ابنته أن بليكت إذا لم(64/42)
يرعو عن زيغه ويتعظ بمصير صاحبه حل به ما حل به، ثم يريدها على أن تعيده إلى حظيرة الوثنية، وإلا خشى أن يسخط الأمبراطور عليه إذا تساهل في امره. الفصل الرابع: تعلن إلى بوليكت زيارة بولين. فيخشى دموعها اكثر مما يخشى تهديد فيلكس، ويبعث في طلب سيفير. وفي غضون ذلك يعبر عن عواطفه الدينية بقطعة من الشعر الخالد وينبو على حنان زوجته. ثم يطلب لها الهداية، ويرجو سيفير أن يتزوج من بولين، فقد صمم على أن يموت في سبيل عقيدته، ولكن بولين تصرح انها لا تتزوج رجلاًكان سبباص في موت زوجها ولو غير عامد. فيقرر سيفير في نفسه أن يسعى في نجاة خصمه ليكون اهلا لحب بولين. الفصل الخامس: ولكن فيلكس يظن أن سيفير لا يطلب العفو عن خصمه إلا تدبيراً لمكيدة، فهو يخشى أن يرميه عند المبراطور بالتساهل والمحاباة. فيدعو إليه بليكت ويحاول أن يفتنه عن دينه، وتساعده بولين بدموعها فما يرجعان بطائل، ويمشي بليكت إلى الموت مشية الظافر، وتتبعه بولين ثم تعود إلى ابيها بعد أن شهدت زوجها يموت، فتوبخه على وحشيته وتعلن إليه أنها مسيحية، ويهدده كذلك سيفير على عدم أعتداده برأيه وقبوله لشفاعته، فيتنصر فيلكس ايضاص ويستعد للموت. ولكن سيفير يؤثر فيه هذا المشهد فيطلب اليه البقاء في منصبه، ويعده أن يمنع الأمبراطور عن اضطهاد المسيحيين.
مآسي حادثة من الحوادث التي أعقبت حرب طروادة وهي سبى أندروماك أرملة هيكطور في أيبريا. وقد وقعت حوادثها في بطرون من مدائن أيبريا في غرفة من قصر بيروس. واهم اشخاصهاأندروماك ارملة هيكطور وسيبية بيروس، وبيروس بن أخيل وملك ايبريا، وأوريست بن أغاممنونن وهرميون بنت هيلين وخطيبة بيروس، وبيلاد صديق أوريستالفصل الأول: بيروس يهوى أندروماك التي سباها بعد سقوط طروادة، وجلبها إلى أيبريا مع ولدها أستياناكس، ويهجر خطيبته هرميون بعد أن شغفها حبا. ويقدم أوريست عاشق هرميون إلى بيروس موفدا من الأغريق يطلب منه تسليم أستياناكس ليقتلوه، فأبى الملك تسليمه، وينبئ أندروماك بالخطر الذي يترصد ولدها، وياخذ على نفسه أن يحميه على شرط أن ترضى به زوجا. ولكن اندروماك ترفض إخلاصا لذكرى زوجها الأول، فيثور الغضب في وجه الملك ويخرج وهو يقول: أن الولد سيكفر عن احتقار الأم. الفصل الثاني: تتلقى هرميون المر من أبيها بالعودة مع الأغريق إذا أبى بيروس أن يسلم(64/43)
أستياناكس. فيرفض بيروس ولكن هرميون ترفض أن ترحل لأنها تغار من أندروماك. على انها تلين لألحاح أوريست خطيبها الأول، فيزهوه النصر. ولكن بيروس يحنق على أندروماك لإيبائها، فيعلن إلى أوريست انه يسلم أستياناكس ويتزوج من هرميون.
الفصل الثالث: يتحرق أوريست من اليأس، وتطفر هرميون من الفرح، وتتقطع أحشاء اندروماك من الحزن، وتتوسل إلى هرميون أن تنقذ ولدها، فتدفعها هذه بأحتقار، فتذهب إلى بيروس فتجثو بين يديه وتسأله ولدها، فيرضى أن يدفعه إليها إذل قبلت أن تنتظره عند الهيكل، وهناك أما أن تربح التاج، وأما أن تخسر الأبن، فتذهب أندروماك مشردة اللب إلى قبر هكتور تستشير روحه. الفصل الرابع: تستكين اندروماك أبتغاء حياة ولدها وترضى أن تتزوج بمبيد أسرتها على نية أن تنتحر بعد الزفاف، وترغب وصيفتها أن تموت هي أيضا، ولكنها تنصح لها أن تعيش لتنفع أستياناكس، ولتمكن له عند بيروس، ولتحدثه عن أبطال قومه. ويثور ثائر هرميون فتطلب من أوريست أن يقتل بيروس على أن تتزوجه من بعده، فيتردد طويلا ثم يطيع. الفصل الخامس: يذهب أوريست مع الأغريق إلى الهيكل فيقتل الملك ثم يعود، فيقص على هرميون مافعل، فتقابله بالأزدراء وتصفه بالخيانة، ويصيبها الخبال من الحزن واليأس فتطعن نفسها بالخنجر فوق جثة الملك، ويرى أوريست نفسه محاطا بالأشلاء والدماء، فيظل عقله ويفقد صوابه. ويسدل الستار على هذه الفجعة الأليمة.(64/44)
أنالي
موضوعها حادثة من تا بني أسرائيل وهي موت أتالي وتتويج جواس في القرن الرابع قبل المسيح. وذلك أن أتالي أن اتالي بنت آكاب، وأرملة جوارم ملك يهودا، ذبحت أبناء ولدها أوكزياس جميعا بعد موته ليخلو الطريق لها إلى العرش والسلطان، ولم تدر أن واحدا منهم أخطأه القدر، فأنجته (جوزابيت) عمته وزوج الكاهن الأكبر جواد، وربته هي وبعلها سرا في معبد أورشليم باسم الياسمين حتى جاء يومه فرفعاه على عرش أبيه. وأهم اشخاصها جواس ملك يهودا وأبن أوكزياس، وأتالي أرملة جورام وجدة جواس، وجواد كبير الكهنة، وجوزابيت عمة جواس وزوجة جواد، وزكريا بن جواد، وسالوميت اخت زكريا، وابنير ضابط الملك، وقد وقعت حوادثها في معبد أورشليم في دهليز مسكن الكاهن الأكبر. الفصل الأول: يظل أبنير قائد جيش أتالي مخلصا الدين لله. وفي يوم عيد العنصرة يبكر بالذهاب إلى الهيكل فيلقى هناك جواد، فيفضى إليه يمكنون صدره من الأسف على الماضي، والأسى على الحاضر، والأنكار لما اقترفت أتالي من ظلم، وأحدثت من بدع، ويبدى له ما يساوره من الخوف عليه من سطوتها وبغيها. فيهدئ الكاهن روعه ويجدد أمله، وبعده أن يبوح إليه بسر خطير في الساعة الثالثة من النهار. ثم يصرح لزوجته بانه سيعلن نسب جواس في ذلك اليوم نفسه. وتشدو القيان بتمجيد آلاء الله وإعلاء دينه. الفصل الثاني: تجئ أتالي إلى الهيكل فيغلق الكاهن دونها أبوابه، فتظل في الفناء مع أبنير وماتان، وتقص عليهما أنها رأت حلماً أزعجها وراعها: رأت أن أملها أيزابيل جاءتها في المنام منذرة بحلول كارثة فادحة. ثم ظهر لها بعد ذلك غلام طعنها بخنجرة في أحشائها طعنة قاضية. وما كان أشد عجبها ودهشها حين ترى في الهيكل شبيه الغلام الذي طعنها فينصح لها ماتان أن تقتله. ويشير عليها أبنير أن تدعوه وتسأله، فتأمر به وتستفهمه عن أمره. ولكنه لا يقول أكثر من أنه يحب الله ويبغض الأوثان وأهل الشر ثم يذهب. فيشتد قلقها وفرقها من هذا الجواب وتخرج. فيطهر الكاهن الأكبر الهيكل من أثرها النجس. ثم تجدو القيان بسعادة الأبرار وشقوة الفجار. الفصل الثالث: يفد ماتان من قبل أتالي على كبير الكهنة يطلب منه تسليم الغلام رهينة الصلح بين الملكة وبينه، فيطرده الكاهن طرداً قبيحاً فيذهب مهدداً،(64/45)
ويوقض شكوك أتالي فيه. فيشتد الخطر ويفدح الأمر. ولكن جواد يزداد بالله أيماناً وثقه، فيطمئن أمرأته ويتنبأ بسقوط أورشليم وقبيام الكنيسة المسيحية. ثم يأخذ في أسباب التتويج ويحرض اللاوبين على القتال دفاعاً عن الهيكل، وتنشد القيان أناشيد الخوف والرجاء. الفصل الرابع: يعلن الكاهن إلى جواز حقيقة مولده، ويبصره بحقه وواجبه، ويقدمه إلى اللاوبين ولياً لعهد داود، ويأخذ عليهم الأيمان أن يوازروه وينصروه. وما هي الا لحظة حتى يحمل اليه لاوي خبر محاصرة الهيكل بجنود أتالي. فتضطرب جوزابيت جزعاً على جواس، وينظم الكاهن صفوف المدافعين، وتنشد القيلن نشيد الغوث والمعونة من الله. الفصل الخامس: يدخل أبنير الهيكل المحصور سفيراً إلى الكاهن يحمل شروط أتالي الأخيرة وهي تسليم الياسمين، وتقديم الكنز المدفون في الهيكل، فيجيبه الكاهن: لتدخل الملكة فتأخذ ما تشاء بنفسها. ثم ينصب في أثناء ذلك عرشاً لجواس، وتدخل أتالي المكان المقدس يحف بها ثلة صغيرة من الحرس وهي تقول: أين الغلام وأين الكنز؟ فيريها الكاهن جواس على العرش، ويقول لها: هذا كل ما بقى من كنز داود!!! فتحتدم الملكة من الغيظ وتصيح: يا للخيانة!! يا للجند!! ولكن الجنود يأخذهم الفزع فيتمزقون شر ممزق، ويقبض اللاويون على الملكة ويسحبونها خارج الهيكل، ويذيقونها عذاب الموت بما كسبت، ويقول جواد لجواس في كلام طويل: (لا تنس يا ملك اليهود أن للملوك قاضياً جباراً، وللبرئ منتقماً عزيزاً ولليتيم أباً رحيماً.!!) يتنع الزياتحول 14 سبتمبر للأستاذ محمد محمود جلال دعوت الله الا أراه القاهرة في الرابع عشر من سبتمبر. وكنت مقيماً بين مزارعي وشواغلي إلى الثاني العشر منه، فجد لي عمل هام يقتضيني سفراً اليها قد يستغرق يومين أو ثلاثة. لست أكره الذكرى، بل أعمل لها، وعقيدتي أن ذكريات المحن كذكريات المنح في نتيجها. لانها تشحد العزائم وتبعد تكرار الأخطاء، وليست ذاكرتي بالضعيفة، وأنما تعذبني في الواقع بشدة أحساسها، ولكنهما خيل إلى أن أعصابي لا تحتمل شنهود العاصمة المحبوبة في ذلك اليوم!!! كبر على أن أشهد المدينة القاهرة الزاهرة التي عاش أهلها في طهارة الأستقرار وعزه، يعيشون منذ 14 سبتمبر سنة 1881 غارقين في رجس الأحتلال وذله. . . ما كدت أصل القلهرة مساء الثاني عشر من سبتمبر حتى أستعرضت برنامج عملي على أن أعجل منه ما أستطيع وأرجئ منه ما لا يضيره إرجاء. فلما أصبحت(64/46)
أسرعت إلى عملي وفرغت منه. في نحو العاشرة صباحاً، وذكرت على التو أن قطاراً يغادر القاهرة إلى بور سعيد في الحادية عشرة، وفي هذا زوال ما أخشى. وازمعت السفر لأعود بأسرتي من المصيف وقد قرب أفتتاح معاهد الدرس، وخيل ألي انيسأتلافى بسفري جواً خانقاً ويوماً من الدهر حانقاً!. . . سيتحقق إذن ما تمنيت على الله، فلا أكون بالقاهرة يوم تشرق شمس جاء أصلها على البلاد بمحنة المحن. فإذا جيش الأحتلال يدخل قلب البلاد، وإذا نائب عن الخديو يلازم الجيش!!. . . وهل شر من احتلال أجنبي يظله اضطراب لا يستقيم معه فكر، ولا يتسق وأياه منطق؟!!. الفكونت ولسلي يرفع لأنجلترا في مصر راية، وسلطان باشا يؤمن تلك الراية باسم الخديوي!. وأين عرابي واين الجيش؟ وفيم كانت الحرب؟ وأي فكرة تنطبع في ذهن البلاد لصورة هي التناقض بذاته فوق ما تحمل من عار؟. والله ما ابتلى شعب بمثل ما أبتلى به شعبنا في ميداني المادة والمعنى، ولولا أن الشعب كان قوياً بدينه وتقاليده، عظيماً بآثار المحن الغابرة في عزائمه، عزيزاص بكرامته، لنالت منه الأحداث أضعاف ما نالت، ولو حلت بغيره لأفنته. جلست في القطار أتسلى بالقراءة، واتفاقاً بدأت بكتاب صغير أشتريته من (كشك) ليفاداس بالمحطة - مؤلفة فرنسي - والكتاب عن حصار (باريس) سنة 1870. اخذتاقرأ وفي نفسي أني واجد في وطنية الفرنسيين الهائمين بعاصمتهم وبمجدهم، وفي كفاءة الألمان وحسن تنظيم جيوشهم خير عبرة وتسلية. ولقد اجاد المؤلف في المقدمة، وفي وصف الحالة العامة، ثم إذا به فجاة يتكلم عن باريس في 19 سبتمبر، فيصف الطوارئ، وحالة الرأي العام وصعوبة التموين، وضعف خطوط الدفاع!. إذن ما زلنا في شهر سبتمبر! ولا زالت هناك سلسلة من هموم في ثناياه إذا خلفتها في القاهرة ذكرتها عن باريس في محنة مماثلة! وفي المثل: يؤتى الحذر من مأمنه. ما عتمت أن تمثلت بالكلمة الخالدة التي أنتزعتها من فم الرجل الحزين سيدنا كعب بن مالك - خطاب عاهل غسان إليه، فقلت معه رضى الله عنه: (وهذا أيضاً من البلاء) يقول المسيو (سارسي) مؤلف (حصار باريس) بعيد اعلان الجمهورية: (وبينما يشتد ضغط الجيش البروسي وتتوالى انتصاراته وتكتمها الحكومة عن الشعب كنت كثيراً ما تسمع واحداً يقول لرفيقه: (إنهم لن يجرؤا على دخول باريس ما دمنا حصلنا عليها) أي ما دمنا أعلنا الجمهورية فلن يجرؤ البروسيون على فتح باريس). وهكذا تلهى الباريسيون(64/47)
بأعلان جمهوريتهم عن الغرض الأساسي وهو حماية باريس من هجوم الأعداء. أو لم نصب بهذا يوم أطلق سراح المرحوم سعد باشا زغلول وصحبه. ويوم ذهب اللورد ملنر يفاوض الوفد، ثم يومأعلن الدستور سنة 1924 ففترة ثورتنا وتشتت شملنا؟ كان لأحد أدباء باريس في ذلك العهد غرام بجمع المؤلفات الأدبية ذات الغلاف الأنيق. فأقتنى منها ما يعد ثروة ضخمة رتبها في منزل بجوار باريس. ثم صدق ما كانت تردده الصحف من أستحالة باريس على الهاجمين فمضى في تنسيق تراثه. ثم إذا به بين يوم ولياة يتحقق أن الصباح قد لا يشرق الا مغبراً بخيل العدو. أسرع بما أستطاع حمله، وأوى إلى أول فندق ثم أستراح الراحة الأبدية، فقد وجدوه ميتاً في بكور الصباح. وكان بذلك مشدود الحظ سعيداً. فلم يرسنا بك الأعداء في العاصمة الحبيبة. وإذن لست أول الناس في هذا الشعور الذي أقض مضجعي قبيل 14 سبتمبر ولو أني لم أحضى بنصيبه، فلعل الله يريني يوماً ميموناً بالخلاص. اغرق اهلباريس في تحية الحكومة الجديدة بقدر ما أسرفوا في الطعن على الأمبراطورية وما جرت من ويلات، حتى رسخ في ذهن الجمهور أن بروسيا لا تحارب فرنسا، ولكنها تحارب الأمبراطورية. وقد يعجب القارئ إذا علم أن الأمبراطورية التي باتت مثالاً للشقاء في أعين الفرنسيين هي النظام بذاته الذي تأيد بثمانية ملايين من أصوات الناخبين قبل ذلك بشهر. ولقد كان موقف نابليون الثلث شبيهاً بموقف عرابي باشا، ولعل الخير كل الخير كان في أن يموتا في ميدان القتال. ليست العبرة فيما ينفع أنه يرضى الناس بائ الأمر، وأنما العبرة في أن يكون نافعاً وكفى. ولا بد من تعويد النفس أحتمال الكروب في سبيل العقيدة، وثبات العزم على صحيح الرأي. الف الجنرال (تروشي) في عهد الأمبراطورية كتاباً نقد فيه حالة الجيش وخطوط الدفاع من الوجهة الفنية نقداً أغضب الأمبراطور ورجاله ذلك العهد حتى أضروه بسببه. فلما حوصرت باريس وبدا الضعف واضحاً في خطوط التحصين عادت بالشعب ذاكرته إلى الجنرال المؤلف والى كتابه، ووصل الرجل وكتابه إلى الذروة، ولكن الوقت لم يكن يسمح يومئذ بتنفيذ شئ مما أشار به. ولا بد لنا - لأحاطة أخلاقنا بسياج يقيها العثرات - أن نرجع البصر إلى خطوات الماضي، والى عظات من سبقونا من رجالات مصر - فذلك كفيل بحسن التوجيه. شئ من الثبات، وعود إلى أدابنا القومية، وتقاليدنا الشعبية، وشئ من(64/48)
الشجاعة الأدبية، لنقول للمخطئ أخطأت، وللمصيب أصبت. جعل الله لنا في الماضي عظة، وفي الحوادث عبرة. وجمع على الحق شتاتنا إنه كريم مجيب. محمد محمود جلالالمحامي
من اللزوميات:
من أبي العلاء
الى الشاعر التونسي محمد الحليوي
(أبا العلاء أحقاً أنت في دعة=من الخطوب وفي سلم من الكرب)
(الحيلوي)
أبا فلان! جزاك الله صالحة ... فان وصلك حبلي أطيبُ القُربَ
هذا جوابك - لكني أُسِرُّبه ... فاشحذ لتسمعنا أذنيك واقترب
(قد عشتُ رهن العمى والحبس) منقبضاً ... عن رفقة طبيعهم أعدي من الجرب
لم أعدُ أنى عددت القوم مذ نضحت ... حمقاً جلودهمو صنفاً من القرَبِ
وما يضير الورى أن بت مكتفياً ... من الطعام بمثل الصَّرْب والصَرَب
أغربت عند أناس من غباوتهم ... بأننى مِزْت عود النبع والغرَب
أمَّا الولاة، فقوم أنت تعرفهم! ... يُمنى مخالطُهم بالويل والحَرَب
كماسارب منهمو خوفاً وآمننى ... في السِّرْب أنى اتخذت الدار كالسَّرّب
فدع (أُلُمْبَكَ) أني لست أعرفه، ... من لي بذاك، وصحن الدار مضطرَبي
وما مررت بقصَّاص فأسمعني ... ألا وألفيتنى أمعنت في الهرب
فليس يعمر قلب بات يملؤه ... بالإفك يصدره عن قلبه الخرب
قد عشت ماعشت رهن الحبسين ومن ... يعاشر النس باع التمر بالكَرَب
فجاء يوماً أبو يحيى وفي يديه ... كأس مذاقتها أشهى من الضَّرَب
فأسكرتني بلا خمروجدَّبنا ... من شربها طرب ناهيك من طرب
واذ بعينىَ عادت وهي مبصرة ... واذ بذهنَى ذهن الحاذق الدَّرِب
نظرت حولي فأبصرت الأُلى سبقوا ... على غرار وإذ بالعُجم كالعرب
حتى إذا النفس ثابت بعد دهشتها ... لاحت مجرّدة من ثوبها التَّرب(64/49)
فراعنى انها المرآة منعكساً ... نور الحقيقة فيها غيرَ مضطرِب
أمانة حملتها النفس قد خفيت ... على البصائر لم تدرك من التَّرَب
ماكنت مدركها لو لم أمت أبداً ... أو كنت مبصرَها أو بالغاً أربى
ومن يمت مرة في الدهر واحدة ... نال الخلود فما يخشى من الكُرَب
من يصقل النفس يكشف عن حقيقتها ... ولست تكشفُها بالمنطق الذَّرِب
مصطفى العلوي
من الأدب الأندلسي
التوابع والزوابع
بقلم محمد فهمي عبد اللطيف
نشأ أبو عامر بن شهيد الاشجعي في الاندلس في قرطبة احدى مدن العلم والادب، وكان هذا الرجل اديبا مغموراً توغل في شعاب البلاغة وطرقها كما يقول ابن خاقان، وله في الادب مجالس معمورة يبث فيها تعاليمه وآراءه، ويالها من تعاليم قيمة، وآراء مبتكرة، ولكنه كان مبتلى بحقد جماعة من معاصريه قصروا عن شأوه فناصبوه الخصومة، فكان وهم كما يقول.
وبلّغت أقواما تجيش صدورهم ... علىّ وأنى منهم فارغ الصدر
أصاخوا الى قولي فأسمعت معجزاً ... وغاصوا على سرى فأعياهمو أمري
ولكنه لم يلبث أن ضاق صدره بهم، وشغله أمرهم، فاصلاهم ناراً حامية من التهكم المر والتعريض اللاذع، وتفنن في الانتقاص من قدرهم، والحط من شأنهم، وتحداهم بآرائه في النقد والبيان، وازدهى عليهم بقدرته في الشعر والنثر، وساق ذلك كله في قصة خيالية زعم أنها وقعت له في وادي الجن، وان حوادثها جرت بينه وبين شياطين الشعراء والأدباء - هذه القصة هي (التوابع والزوابع) موضوع بحثنا اليوم - وهي رسالة أدبية ممتعة تعد من خير ماخلف في تراثنا الأدبي قوة وجدة وطرافة. ولما كان في التوابع والزوابع شبه من رسالة الغفران، وكان عصر ابن شهيد مندرجاً في عصر المعري، رجح لدى الأدباء ان يكون احد الرجلين ضرب على غرار الآخر، وانساق مع تياره، فاهتموا ببحث الصلة بين الرسالتين، وتلمسوا فضل الأسبقية للسابق من الرجلين، وكان من رأى الدكتور احمد ضيف(64/50)
ان ابن شهيد هو الذي احتذى شيخ المعرة وحاكاه، واحتج لذلك بان شهرة ابي العلاء كانت ذائعة في الخافقين، وقد كان اهل الاندلس مولعين بتقليدالمشارقة في آدابهم وأفكارهم بل وفي كل شي؛ ولكن الدكتور زكي مبارك أمعن في البحث والتدقيق، ونظر الى المسألة من جانبين: الجانب الأول التاريخ الذيوضعت فيه التوابع والزوابع وقد استخلصه بالتقريب من قول صاحبها يخاطب جنية (من اخواننا من بلغ الامارة، وانتهى الى الوزارة). وقال: وفي هذا اشارة الى انه وضعها وهو كهل، اي بعد سنة اربعمائة واثنتي عشر للهجرة، واما الجانب الآخر. فهو التاريخ الذي كتبت فيه رسالة الغفران، وقد قال في تحقيقه: إن هذه الرسالة كانت جواباً على رسالة ابن القارح، فاذا علمنا بأن هذا الرجل وضع رسالته بعد أن نيّف على السبعين كما وقع في ثنايا كلامه، واذا علمنا بأنه ول سنة احدى وخمسين وثلثمائة، ثبت لدينا أن رسالة الغفران كتبت حوالي سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، أي بعد التوابع والزوابع بنحو عشر سنين، وعلى هذا صار من المرجح أن يكون أبو العلاء هو الذي قلّد ابن شهيد.!!
فالدكتور زكي مبارك قد أنصف ابن شهيد حقاً، واستطاع أن يثبت له فضل السبق على صاحبه، ولكنه لم يستطع ان يثبت تهمة التقليد التي رجحها على المعري، وهي تهمة كبيرة لو صحت لكان لها شأن كبير في الأدب، خصوصاً اذا طاوعنا الذين يقولون بأن (دانتي) و (ملتن) - أخذا عن المعري في (الكوميديا الآلهية) و (الفردوس المفقود) والواقع أنه ليس في الرسالتين مايدل على تقليد أو محاكاة؛ نعم إن بينهما شبها في بعض الوجوه، فكل منهما عبارة عن سياحة خيالية إلى عالم آخر، كما أن كل منهما عرضاً لكثير من المشاكل الادبية واللغوية، وزيادة على ذلك فقد اهتم كل من الرجلين بالتهكم بمعاصرين في رسالته؛ ولكن هذا كله تشابه في امور عامة تتوارد فيها الخواطر غالباً، وربما تكون من وقع الحافر كما يقولون. ولو أنك نظرت الى وجه الخلاف بين الرسالتين لرأيته اقوى وادل على تباعد الرجلين واستقلالهما في الفكر والغرض؛ فقد قصد المعري في سياحته الى الفردوس والجحيم في العالم الآخر؛ وذهب ابن شهيد الى وادي الجن في عالم الحياة؛ واختار المعري اشخاص قصته من الرواة والشعراء والملائكة، وارتضاهم ابن شهيد من الشياطين - شياطين الشعراء والأدباء، وعنى المعري بالتعرض لكثير من المسائل الفلسفية والدينية،(64/51)
ولم يتعد ابن شهيد القول في البيان والنقد والشعر، وكتب المعري رسالته باسلوب وحشي غريب فلا يستطيع القارئ ان يأتي عليها الا بشق النفس، وقوة الصبر، وبعد الاستعانة بمعاجم اللغة، وساق ابن شهيد قصته فياسلوب عذب رقيق يخلق اللذة في نفس القارئ، ويدفع به الى استيعابها بلا ملل او سآمة؛ ولقد اظهر المعري كثيراً من التباهي بحفظ الغريب والتمكن في قواعد النحو والتصريف، واطال ابن شهيدالقول في الغض من قيمة هذه الامور وتحقير الذين يجعلونها كل همهم؛ ثم بعد هذا كله لاتجد في احدى الرسالتين فكرة اشتملت عليها الأخرى، او رأياً اتفق لكل من الرجلين؛ فلكل منهما فضله في عمله، ولكل منهما شخصيته في رسالته؛ واظن في ذلك مايكفي لدفع تهمة الاخذ والتقليد، سواء اكانت في جانب ابن شهيد كما يقول الدكتور ضيف؛ ام ناحية المعري كما يريد الدكتور زكي مبارك. وحسبي بعد هذا ان افرغ معك للحديث عن التوابع والزوابع، وان استعرض امامك ما احتوته من الاراء والافكار؛ ويقيني انك ستجد فيها كثيرا من الابداع والامتاع، بل سترى شيئاً جديداً يثمره الفكر العربي، وستشهد لصاحبها بالدقة في الوصف، والقوة في التصوير، خصوصاً وصف احوال الشعراء السابقين، وتوصير ميولهم ونفسياتهم، وستعجبك منه روح خفيفة، ونفس مرحة طروب يلذّ لها أن تضحك فتجيد الضحك، ويهمها النادرة الحلوة فتوفق كثيرا الى الحلاوة النارة وبراعة النكتة
استهل ابن شهيد رسالته بمقدمةقصيرة اراد ان يبين فيها كيف وقعت له حوادثها، وكيف رحل الى وادي الجن فقال: (كنت في ايام الحداثة احن الى الاداب، واصبوا الى تأليف الكلام، فابتعت الدواوين، وجلست الى الاساتيذ، فنبض في عرق الفهم، ودر لي شريان العلم، ويسير المطالعة من الكتب يؤيدني، إذ صادف شن العلم مني طبقة، ولم أكن كالثلج تقتبس منه ناراً، ولا كالحمار، اسفاراً؛ وكان لي في اوائل صبوتي هوى اشتد له كلفي، ثم لحقني بعض ملل في اثناء ذلك الليل، فاتفق ان مات من كنت اهواه مدة ذلك الملال، فجزعت، واخذت في رثائه فقلت:
تولى الحمام بظبى الحدود ... وفاز الردى بالغزال الغرير
إلى ان انتهت الى الاعتذار من الملل الذي كان فقلت:
وكنت مللتك لاعن قلي ... ولا عن فساد ثوى في الضمير(64/52)
ثم ارتجع على القول، فاذا انا فارس بباب المجلس، على فرس ادهم قد اتكأ على رمحه، فصاح بي اجز يافتى الأنس، فقتل: لا وأبيك، للكلام احيان، وهذا شأن الانسان؛ فقال قل بعده:
كمثل ملال الفتى للنعيم ... اذا دام فيه وحال السرور
فأثبت اجازته، وقلت: بابي من انت؟ قال: (زهير بن نمير) من أشجع الجن، تصورت لك رغبة في اصطفائك؛ قلت: اهلاً بك ايها الوجه الوضاح، صادفت قلباً اليك مقلوباً، وهوى نحوك محبوباً، وتحادثنا، وتذاكرت معه اخبار الخطباء والشعراء، ومن كان يألفهممن التوابع والزوابع، وقلت له هل من حيلة في لقاء من اتفق منهم؟ قال حتى أستاذن شيخنا، وطار عني، ثم انصرف وقد اذن له فقالجل على متن الأدهم فسرنا عليه؛ وسار بنا كالطير يجتاب الجو فالجو، ويقطع الدوّ فالدو، حتى لمحت ارضاً لا كأرضنا؛ وشارفت جواً لا كجونا، متفرع الشجر، عطر الزهر، فقال: حللت ارض الجن ابا عامر، فبمن تريد ان تبدأ؛ قلت: الخطباء اولى بالتقديم، ولكني الى الشعراء اشوق. . .).
وابن شهيد كما ترى يحاول الايجاز في سرد الحوادث، ويود ان ينطلق على طبيعته في ايراد القول، ولكنه لم يوفق كثيراً في هذه المقدمة كما يود، وكما وفق في عرض الرسالة؛ فظهر على أسلوبه مسحة التكلف، ووقعت بعض جملة قلق نابية، كأنه كان يدفع بها إلى غير موضع، ويضعها حيث لا مستقر؛ فمثلاً في قوله: (ويسير المطالعة من الكتب يؤيدني، إذ صادف شن العلم منيطبقة، ولم أكن كالثلج تقتبس منه ناراً، ولا كالحمار يحمل اسفاراً) ثقل يحس به القارئ في اللسان وفي الذوق؛ وزيادة على ذلك فقد اضطرب الرجل في وضع الكلام، واختل به نهج القول. الا تراه يقول في بدء كلامه (كنت في ايام الحداثة احن الى الأداب. . .)، ويسير في الحديث على هذه الكينونة؛ كأنه رحل إلى وادي الجن غض الاهاب، نضر الشباب؛ مع أنه فيما بعد سيشكو الى احدى التوابع مافعلت الايام به!! وسيذكر لها ان من اخوانه من بلغ الامارة. وانتهى الى الوزارة! وفي هذا ما يفيد انه طعن في الكهولة على اقل تقدير ثم تجده يصف صاحبه (زهير بن نمير) بأنهمن اشجع الجن، وكان الاوفق بداهة ان يجعله في الادباء، ما دام القول في الادب والشعر وما دام الحديث عن الادباء والشعراء.(64/53)
ولكن هذه هنات هينات. على انها ترجع الى العرض، ولا تمس الجوهر في شيء، وقد تكون هي كل ما في الرسالة من المآخذ؛ ولقد سلك الرجل طريقه بعد ذلك على احسن ما يكون، يجد ويهزل، ويتهكم، ويضحك. ويعالج كثيراً من الآراء العميقة، والافكار القويمة، وهو في كل ذلك طريف خفيف؛ ملء قلمه الفصاحة والبيان، وملء تعابيره البلاغة والايجاز السليم؛ ولقد حدثنا بعد هذه المقدمة أنه لما نزل بوادي الجن، ورغب في البدء بلقاء الشعراء؛ طلب من صاحبه (زهير بن نمير) أن يقدمه الى عيينة بن نوفل شيطان امرئ القيس، فصاح به زهير: يا عيينة بن نوفل، أقسمت عليك بسقط اللوى فحومل ويوم دارة جلجل؛ الا عرضت لنا وسمعت من الانسي، وعرفتنا كيف اجازتك له - يقول ابن شهيد - فظهر لنا فارس على شقراء كأنها تلتهب، فقال حياك الله يا زهير وحيا صاحبك، أهذا هو وحق ابي؟ ثم قال أنشد، قلت: السيد اولى بالانشاد، فتطامح طرفه، واهتز عطفه، وضرب عنان الشقراء، ثم انشد: (سما لك شوق بعد ما كان اقصرا) حتى اكملها. ثم قال انشد، فهممت بالحيصة، ثم اشتدت قوى نفسي وأنشدت: (شجته مغان من سليمى وأدؤر) حتى انتهيت فيها الى قولي:
ومن قنة لا يدرك الطرف رأسها ... تزل بها ريح الصبا فتحدر
تكنفتها والليل قد جاش بحره ... وقد جعلت امواجه تتكسر
ومن نحت حصنٌ أبيض ذو شقائق ... وفي الكفّ من عسّالة الخط أسمر
هما صاحباي من لدن كنت يافعاً ... مقيلان من جدّ الفتى حين يعثر
(للكلام صلة)
محمد فهمي عبد اللطيف
مِن طرائف الشّعر
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
فجعت الأمة العراقية الكريمة منذ أسبوعين باستشهاد خمسة من طياريها البواسل، سقطت بهم الطيارة على مقربة من مطار الهنيدي، فرثاهم شاعر العراق الكبير بهذه القصيدة
(1)
خمسة طاروا من عيونالشباب ... فوق طيّارة كمثل العقُاب(64/54)
أخذت في الجوّ الرفيع تَعالى ... ثم خرّت من أوجها كالشهاب
إن ذاك الصعود في الجوّ منهم ... كان للجد والعُلا والغِلاب
صدمٌة في هبوطها أهلكتهم ... بعد أن حلّقت بمجرى السحاب
لا ترى بعدها على الأرض منهم ... غير أشلاءٍ أو دمِ مُنساب
انما أوقف المحرّكَ فيها ... سببٌ قاهرٌ من الأسباب
هلكوا في شرخ الشباب فيا للـ - رزء لّما عرا ويا للمصُاب
(2)
فتيةٌ طارت تبتغى المجدّ ذخراً ... ولأوطانها تخلّد ذكرا
فوق طيّارة بهم في الْـ ... جوّ هدّارةٍ فتشبه نسرا
كلما استذكرتُ الفجيعةَ أحسـ ... تُمن الحزن في فؤادي جمرا
ليس عندى ما أستقى منه شعرى ... غيرُ عين من الكآبة عَبْرى
أنا في الحزن أرسل الشعرَ دمعا ... ساخناً ثم أرسل الدمعَ شعرا
حسبُ مَن مات عند خدمته أو ... طانَه أَنه بها كان بَرّا
عاش مَن بَرَّ بالمواطن محمو ... داً فان فهو بالحمد أحرى
(3)
فتيةٌ صرعى فارقتها الحياة ... فبكتها الآباء والأمهات
وبكاها العراق حزنا عليها ... وبنوه ودجلةٌ والفرات
أينما أَلْتَفِتْ أشاهد شحوباً ... في وجوه عيونها خَضِلات
شّيعتها الى مقابر شتى ... عبراتٌ وراءها عبرات
إنما المجد لا يموت وان كا ... نَ ذووه لحادث قد ماتوا
أيها الشعب لا يثّبطك يأسٌ ... انما في الموت المُلِمّ حياة
أيها النسر ما دهاك وقد كنْ ... تَ اذا طرتَ لم يخنك الثبات
(4)
هي دنيا كثيرة الإمتاع ... وَدَّعوها ولات حين وداع
وهو المجد بالمساعي اقتنوه ... حبذا المجدُ يُقتنى بالمساعى(64/55)
قد أضعناهم خمسةً ليس فيهم ... مَن به رِعدةٌ فيها للضياع
مشهدٌ للحياةن والموت يُشجى ... ما به من تنازع وصِراع
لهف نفسي على شباب تردّوا ... فنعاهم إلىّ فيالصبح ناع
شاع ذاك النعىّ حول الفراتين ... فأثِقلْ به على الاسماع
جنحت للغروب شمسُ نهارى ... ثم منها لم يبق غيرُ شعاع
(5)
وقف الموت للأنام رصيدا ... كلّ يوم يريد منها شهيدا
شطّت الدار بالأحبة عنا ... وعسى مَن نأى به ان يُعيدا
فتيةٌ كادتها صروفُ الليالي ... والليالي من شأنها ان تكيدا
أنا لولا شيخوختي ثم دائى ... كل يوم نظمتُ فيهم قصيدا
حبذا الليل والنهار لو انا ... فيهما نستطيع ألاَّ نبيدا
فات مَن قد رأى السلامَ رغيبا ... أن يرى في الاخطار موتا حميدا
(6)
حلّ يودي بخمسةٍ أطهار ... قدرٌ نازلٌ من الاقدار
بنسور قد حلّقت قبل أن يؤ ... ذن ضوءٌ الصباح بالإسفار
خطرٌ كله الظلام ولكن ... لا تبالى النسور بالأخطار
ركبوها طيّارةً لم تخنهم ... في تمارينهم وفي التكرار
ما دهاها حتى هوتكشهاب ... خَرّ من جوّه بلا انذار
ثم دارت بهم على نفسها بالرَّ ... غم عن كل حيلة الطيّار
ثم كان الذي به جرت الأقـ ... دار من سقطةٍ لهم وبوار
(7)
كلّ يوم تُعطى الحياةُ ضحايا ... تبتغى إرضاَء بها للمنايا
إن هذا الجيل الذي نحن منه ... هو من هاتيك الضحايا بقايا
نَبتغى تخفيفَ الرزايا بلهوٍ ... نرتضيه فلا تخفّ الرزايا
لا أظن الحياةَ تَلقى سلاماً ... من بلايا وراءهنَّ بلايا(64/56)
ان مَن اعطانا العقولَ اذا ما ... شاء ان نردى يستردّ العطايا
والذي أنشأ البرايا من البوَ ... ر مُعيدٌ الى البوار البرايا
كِبَرٌ شفّنى فلم يبق عندى ... غير قلبٍ يئنّ تحت الحنايا
بغداد
جميل صدقي الزهاوي
في النقد الألماني
النقادة الكبير ليسنغ
حياته ومذهبه
(1781 - 1729)
للأستاذ خليل هنداوي
ما عرف الأدب ناقداً كليسنغ جباراً صحيح المقاييس، بليغ التاثير، لا يبني مذهبه على المدرسة القائمة في عصره، وانما يبني مدرسته الجديدة لترتكز عليها مدرسة للأدب جديدة، يوم لم يكن عند الجرمانيين أدب بارز. فحار الناقدون في تفهم هذا الناقد الذي افتتح ادب امة عظيمة بالنقد، وانما عهدهم ان يخلق الادب النقد كما يخلق الاديب الناقد.
نشأ ليسنغ ميالافي بدء عهده الى ادب الاوائل، وما كاد يتمكن من هذا الادب حتى تفت لعينيه افق جديد يريد استكشافه، يحث معاصريه على السعي معه حثيثاً ليكون لهم مثل حظه من هذا الاستكشاف، وما اصدق من قال: (كان الادب الالماني قبل ليسنغ مفازة يفتقر السائر المتخبط فيها إلى هادٍ، وهذا الهادي لم يكن إلا إياه) هذا الذي انار المسالك وهدى الادباء الى سبيل في الادب قويمة، يبدى لهم مكامن الابداع ومواطن الخطأ، واسس الادب الجديد على قواعد النقد، وصاغ الشعر مزيجاً من الفن والادب والفلسفة، فكانت نفسه في جميع حالاتها مصابة بطلب المعرفة، هذه المعرفة التي ظن انه لابدّ ملاقيها، فذهب وراءها في احناء الكتب والصحف، وتحرى عنها في مشاهد الوجود.
دخل في اول نشأته احد الاديرة يتلقى اللغات القديمة التي كانت لب برامج التعليم القديم، فأبدى من الذكاء والانتباه ما ترك اساتذته في دهشة منه، حتى قال عنه احدهم: (نحن لا(64/57)
نستطيع ان نقوم بواجب الشكر لهذا الطالب، فان الدروس التي كان رفاقه يستثقلونها كان يجدها لسولتها كالالهية، انه لجواد يبتغي علوفة مضاعفة). حتى اذا بلغ السابعة عشرة من عمره انكب على علم اللاهوت، ثم تتلمذ للحياة بعد ان انجز تتلمذه للكتب، تلك الكتب التي قال عنها في احدى رسالاته (إنها صنعت مني عالما عارفا ولم تصنع مني انسانا، سأبدا عاجلا بدرس اطواري) فترك علم اللاهوت وعمل على جميع روايته التمثيلية، وقد حثه قريب له اديب على الاختصاص بهذا الفن، الى هذه الحلبة، حتى ظن ان هذا الفتى لن ينصرف بعد اليوم عن الفن الروائي.
على ان الضعف ليبرز في هذه القطع التي عرضها، ويغلب على اسلوبها اللون الفرنسي الذي كان يصبغ جميع الاثار الالمانية، وكان مذهبه فيها نفس المذهب المدرسي الذي كان (راسين وكورني وموليير) يبتدعونه ويتبعونه. كأنه كان يؤمن بجمال هذا المذهب ويحمل نفسه على الأخذ به. ولكنه في بعض نظراته يشن الغارة على هذا المذهب، ويطلب الى معاصريه الا يكونوا مقلدين لأذواق غيرهم. وانما الأجدر بهم ان يتفهموا مذاهب غيرهم والا يكونوا مقلدين لها. ونهاهم عن التهافت على ادب امة واحدة كالامة الفرنسية، وهنالك اداب مهملة كأدبها جديرة بالدرس والتمحيص، وفي هذا الصدد قال كلمته المأثورة (اذا اراد الالمان ان يتبعوا مذهباً يلائم طبيعتهم وجبلتهم فليتبعوا الادب الانجليزي الذي هو ادنى لهم من الادب الفرنسي).
وقد اشار في اكثر من موضع الى هذه الروح التي شاء ان يغرسها في ادباء عصره. وهو الذي كتب في احدى رسالاته ينتقد المؤلف المسرحي (جوتشيد) ويؤاخذه لاسترساله الى الروح الفرنسية: (يطمع هذا الكتاب في ان يمثل دور المبدع في مسرحنا الجديد، ولكن ما هو هذا المسرح الجديد؟ انه مسرح نصف روحه فرنسية. . . ولعل صاحبنا لا يحفل بهذه الصفات ان لاءمت الروح الالمانية او لا؟ وهو لو انعم النظر في اثارنا القديمة لاوحت اليه ان الادب الانجليزي هو اكثر ملاءمة لروحنا، واننا نتوق الى التامل والتفكر اكثر مما يسمح به الادب الفرنسي لنفسه، وان الادب الذي تتمثل فيه الروعة والعظمة والظلمة هو اكبر سلطانا علينا من ادب الرقة واللوعة والحب، وان البساطة في الادب لتضنينا اكثر من حالاته المركبة المهوشة. . . يجب عليك ايها المؤلف ان تخط لك طريقا يحملك الى(64/58)
المسرح الانجليزي. . .)
وقد كان انقلابه فجأة الى هذا المذهب وهذا الادب موضع دهشة، اذ تبادر الى اذهان بعض النقاد ان شكسبير وجده هوالذي اثر في ليسنغ، على ان الاسباب الحقيقة التي ساقته الى هذا الادب كانت اعمق من ذلك. فليسنغ بعد ان درس حق الدرس اخلاق الشعب الالماني وجد ان الماساة الحماسية هي التي تبسط تأثيرها في النفوس. وان المأساة المجردة ينبغي لها ان تهبط درجة الى عالم الحقيقة، وان الكوميديا قد تكون ادنى الى الحقيقة، وهي التي تثير ما تثير من ضحك ومن بكاء.
وفي النهاية انغمس ليسنغ في التأليف المسرحي. فكان في اول امره يترسم اقدام من تاثر بهم من الاقدمين، وهو خلال ذلك لا يترك الجهاد الا استعداداً لجهاد آخر يفتقر الى عنف كثير وصبر كثير، والغاية التي يتطلبها من وراء ذلك عظيمة، لا الا لمثل هذا النوع من الجلاد، فهو يريد ان يخلق اسلوبا جديداً وتفكيراً جديداً، وما زال يدأب ويجهد حتى وفق الى سعيه بعض التوفيق، وضرب لعصره مثلا عاليا للرواية التي تمثل احسن تمثيل صفات قومه واخلاق قومه. وهو - وان لم يبلغ برواياته القمة التي لا تلين خياشيمها الا للعباقرة فقد كاد. . .
ثم طفق ليسنغ يكتب في احدى خلواته مقاطيع من الكتاب الذي خلد اسمه على الدهر في عالم النقد، كتاب] اللاوكون [الذي حشر فيه خلاصة نظراته في التأليف المسرحي. وفيه عالج الشعر وعُني بأسلوبه والوسائل التي ترمي الى إحيائه.
وما هو مذهب ليسنغ في الشعر؟
لقد كانت المدرسة الويسرانية تعتقد أن الشعر إن هو إلا تصوير صامت. والشاعر الألماني (فينجيلمن كان يرد أصول الفن مهما تنوعت فروعها إلى مثل عال واحد تنضوي تحته. وهذا المثل هو العظمة المتجلببة بالسكينة. . . وهذا المثل الأعلى مثله كالبحر العميق يبقى هادئاً مهما تقاذفته قواذف الريح. وحاله حال تصاوير اليونان فهي في أحدى ثوراتها وأهوائها الجامحة تظل مالكة لعظمتها ولنفسها، ومثل هذه الروح يمثلها تمثال (اللاوكون) بوجهه وأعضائه المتصلبة في ساهة الألم العنيف. وقد لام هذا الشاعر الألماني شاعر إيطاليا الكبير (فرجيل) لأنه وصف (اللاوكون) بصورة شعرية خالف فيها الصورة التي(64/59)
نحتها الحفار. إذ تركه في مقطوعته الشعرية يصيح من الألم صيحات منكرة، ولكن ليسنغ يجابه في كتابه نقد الشاعر الألماني، ويعتقد أن للشعر قواعده الخاصة، وللنحت قواعده الخاصة، ويرى أن في استطاعة الفن الشعري أن يمثل لنا الشيء حتى نحدق به من جوانبه. بينا أن الفن الثاني لا يمثل لنا من هذا الشيء إلا لحظة موقوتة هي كل شيء في هذا الشيء. وبينما نرى الرسم يخضع للهيئة الجامدة التي يتلبس بها نرى الشعر حرا طليقا يحيا بحركته واضطرابه واختلافه. وهكذا لبث هذا الكتاب أثراً ناطقاً للرجل، وقد ترك وراءه صدى بعيدا وتأثيرا ترامى في الأقطار. وهو كما قال فيه (جوته) شاعر الألمان يجب أن تكون فتى أيها الكتاب في أرواحنا وكفى بهذه الكلمات التي يرددها جوته شهادة.
وهكذا أراد ليسنغ أن يبني نقده على نظريات ثابتة لا يذهب بها الوهم. فاستمد قانون (أرسطو) يعمل به لتنظيف الأهواء. ومن هذا القانون قد استمد ليسنغ أكثر نظراته التقدية كأنما كان يحاول أن يقتل الحدة والجموح والطيش في الأدب ويترك إلى العقل سبيلاً ينفذ منه ليبقى مالكا على الأهواء في أعنف ثوراتها. وقد شاء ليسنغ أن يغزو حقل الأخلاق دأبه في كل حقل يغزوه، فكتب مقطوعات في الحكمة دلت على سمو نفسه. فهو يعتقد أن قيمة الرجل ليست بالفضيلة التي يحرزها، أو بالفضيلة التي ظن أنه يحوزها، ولكن قيمته تنحصر في الجهود التي يقوم بها في سبيل إحرازها، لأن المجد لا يتوقف على صفة الاحراز، ولكن على العمل للفضيلة التي يكثر به جنودها. ويعتز هو بانتصارها. ويقول أيضاًإذا الله قبض على الفضيلة الكاملة بيده اليمنى ووضع في يده اليسرى التوق الخالد - توق القلب - الى الفضيلة. مازجا معه انخداع الانسان؛ وقال لي: انتخب، فانني إذ ذاك آخذ بيده اليسرى بكل تواضع وأقول. أعطني ياإلهي. . . لأن الفضيلة الكاملة التي وضعتها في يمينك لم تصنع إلا من أجلك وقد ولَّدت عنده هذه الحكمة حكمة دينية أبداها في بعض مقاطيع صغيرة. حيث أبدى أن الوحي الإلهي ليس بواحد ولا بثابت ممتنع عن التغير. ولكنه يتنوع ويتقلب ويتقدم كالإنسانية نفسها. وقد أدرك ليسنغ الذروة العالية في روايته (الحكيم ناتان) اذ أعلن أن الحكيم الحقيقي هو الذي يتروض على الفضيلة ويخضع لأحكام العناية الإلهية الخالدة.
لقد فهم رجال الأدب بعض جوانب هذا الرجل العظيم، ولن تظهر عظمته واضحة إلا بعد(64/60)
أن يرجعوا الى البذور الفنية التي نثرها في طريقه، وهل كان (جوته) و (هير دار) إلا أول فنن من هذه الشجرة، أورق وأزهر وأثمر، ثم أتى أكله فكان نعم الأكل.
العلوم
بحث في تاريخ الانسان
بقلم نعيم علي راغب
دبلوم عال في الجغرافيا
إذا أردنا الكتابة أو البحث في تطور الإنسان على ممر الدهور والأيام، فانما نعني في الحقيقة تاريخ الانسان، تاريخ حياته وجهاده وكيف. . ومتى. . ومن أين أتى بشكله الطبيعي المألوف الذي نراه به اليوم. وكيف تكونت همده القوى العقلية والقدرة على التكلم والتفاهم.
من الواضح الجلي أننا إذا حاولنا الكتابة في هذه الحادثات التاريخية القديمة، يجب علينا أن نوجه أبحاثنا وننظر بعيداً الى عصر قديم جداً من العصور، يقع قبل التواريخ المدونة في الكتب بمراحل كبيرة جداً. ونجد لزاماً علينا في هذه الحالة أن نقص عليك أطيب القصص عن عصر لميوجد به رأي يفكر أو يد تسطر لنا ثمرات هذا التفكير.
ولقد خيل للعلماء أجمع استحالة تتبعهم وتفهمهم لما حدث في تلك الأحقاب السحيقة، ثم تسطير تلك الحوادث التي حدثت منذ آلاف السنين، لو لم تأت المصادفات ويساعد الحظ الحسن على كشف أستار الماضي الكثيفة. فانه في حوالي سنة 1825 قامت بعثة أيرية دنمركية بالبحث عما قد يكون مندثراً في أراضي بلادها من أيلحة أو حلي أو آنية قديمة، ثم وضعت كل ما وجد في متحف كوبنهاجن.
وفي سنة 1830 حينما ازدادت كمية المحفوظ به فكر مدير قسم الآثار س. ج. تومسون تقسيم المحفوظات الى أقسام ترتب حسب نوع المعدن المصنوعة منه. إلا أنه في ذلك الوقت أتته فكرة طارئة، كانت ذات أثر بين في سير التاريخ الانساني، وذلك أنه ساءل نفسه عما إذا كان من المحتمل أن تكون تلك المحفوظات عنده في المتحف كل منها يمثل عصراً خاصاً من عصور الانسانية، وجاءت الحوادث بعد ذلك لتحقق صدق حدسه الذي خمَّنه، فقد وجدت أشياء أخرى بطريق المصادفة لفريق منعمال البناء عند حفرهم آبار(64/61)
منازل كلها من مرافق الإنسان الذي عاش في العصور السالفة، وكان أقربها لسطح الأرض الحديدية والبروتزية فالحجرية.
فأخذ علماء الدنمرك حينذاك يعرفون أن الأرض نفسها سجل صامت ثابت يحفظ تاريخاً صحيحاً لأعمال وحياة الإنسان في العصور السالفة، ووجدوا ذلك صحيحاً في كل جهة من جهات بلادهم: في المقابر القديمة، في الآبار وفي شواطيء الأنهار مما يملي عليهم التاريخ الصحيح للانسان القديم.
من كل تلك الأشياء وصل تومسن الى نتيجة نهائية، هي أن تاريخ الإنسان القديم مقسم الى ثلاثة عصور: الحجري والبرنزي فالحديدي، وبذا كانت الدنمرك أحدث الجهات في التكوين جيولوجيا، هي أول مكان بحث التاريخ السحيق للانسان على هذا النمط العلمي الجديد.
حول العلماء الفرنسيون بعد ذلك طريق كتابتهم لتاريخ الإنسان وجاروا الدنمركيين في طريقتهم، ووجدوا مادة بحثهم الجديد في كهوف مقاطعة وبدأ ادوارد لابيت ومعاونوه البحث فيها حزالي عام 1860 فوجد أن معظمها كان مستعملاً قبل ذلك كمساكن أو مقابر في كل عصور التاريخ القديم، وكان من عدم اعتناء السكان الأقدمين بالنظافة وترك كهوفهم مملوءة بالبقايا والأدوات حظ حسن للتاريخ، وكان من تساقط المياه الملحية من سقوف الكهوف خير معوان وخير عامل على حفظ تلك البقايا الانسانية بعيدة عن الضياع أو التلف، وارتفع قاع الكعوف بالعوامل الطبيعية والجيولوجية، فحفظت الأرض بين ثناياها على ارتفاع ينيف على الثلاثين قدماً آثاراً عظيمة الشأن للحياة الانسانية من مدة طريلة من الزمن.
ولم يطل الزمنبعد ذلك حتى عرف الفرنسيون أن كهوف بلادهم تحفظ تاريخ الإنسان لمدة أقدم بكثير مما تحفظه مقابر اسكنديناوه أو قدماء المصريين. ولم تكن العصور الامسانية الثلاثة المعروفة لهم سوى عصور حديثة جداً إذا ما قيست بما تنم عليه آثار كهوف فرنسا، ومن بينها الهياكل العظيمة المتحجرة للحيوانات التي كانت تعيش في تلك العصور، كغزال الرنة، والضبع ودب الكهوف. ولقد قسم اللورد ايفبري العصر الحجري إلى قسمين: أسمي أحدهما العصر الحجري الحديث القريب من العصر البرنزي وهو ما وجدت آثاره(64/62)
في الدنمرك، وأسمي الآخر العصر الحجري
وكلما ازداد الفرنسيون تعمقاً في حفرياتهم ازدادوا يقيناً بصحة ترتيب تلك العصور المختلفة وبتغيرات عديدة قد حدثت للمناخ وقتذاك، وعرفوا أنه لم يكن هناك عصر حجري قديم واحد كما ظن السير ايفبري بل جملة عصور متتابعة متناهية في القدم يمتاز كل عصر منها بميزات مختلفة، أمكن انتزاعها من الآثار التي وجدوها. وزاد يقينهم في هذه النظرية تكرار وتماثل ترتيب الطبقات في كل الكهوف التي بحثوها. وقد وجد علماء الانجليز والألمان والطليان والاسبان بدورهم نفس الظواهر والترتيب الذي وجد في كهوف فرنسا.
وهكذا نرى أن الكهوف قد أمدتنا بالمعلومات والحقائق الخاصة بتاريخ الإنسان القديم، وأمكننا تسطير تاريخ دقيق لا عن المدة التي كشفت عنها حفائر الدنمرك فقط، بل عن مدة تتناهى في القدم عن تاريخ قدماء المصريين أو تاريخ بابل القديم. وإنك لتدهش حقاً إذ تعرف أن تلك الحفريات قد كشفت لنا عن ظاهرة ليست غريبة عن عصرنا، وهي مسألة الزي، أو المودة فقد ثبت منها أن مجرد وضع زي خاص لملبس أو زينة في بلد في تلك العصور كان كافياً لانتشاره في العالم القديم أجمع، ولذلك ترى أن أجدادك وأجدادنا الأقدمين كانوا مثلنا عبيداً للزي المتفشي في العصر. ولو أن زيهم كان أثبت قدماً وأطول بقاء من زينا الذي يتغير سريعاً بتغير الفصول والمناسبات.
لنر الآن إلى أي حد تعمق البحث في تاريخ الكهوف القديم. من الشكل رقم 1 يرى القاريء قطاعاً رأسياً في كهف مثلى كملت فيه الطبقات والعصور التي وصل العلماء إلى الكشف عنها. ومنه يمكنه أن يلاحظ أن العصور الثلاثة المعروفة (الحديدي والبرونزي والحجري) تقع في أحدث جهات الكهف كشفاً، ومن بعدها عصر سماه العلماء (لأن الحفريات التي دلت على وجوده عملت بالقرب من قرية , في فرنسا) يجيء بعده عصر سموه (نسبة الى كهف في مقاطعة الدردون) يتبعه عصر سمي (نسبة الى جهة بالقرب من ماسون بفرنسا) فعصر أطلق عليه إسم (نسبة إلى قرية في أعلى الجارون) وآخر هذه العصور عصر أطلق عليه إسم نسبة إلى الكهف في مقاطعة داردوني
وليس هناك أدنى شك في صحة ترتيب العصور السالفة الذكر، لأن الابحاث التي قام بها(64/63)
العلماء بعد ذلك لم تكشف لنا إلا عن تتابع صورة طبق الأصل لما قد بيناه في هذا المقال. إلا أننا نقف لحظة ونسائل أنفسنا ما هي فترة كل عصر من تلك العصور؟ ومتى بدأ كل عصر منها؟. . ومتى انتهى كل منها؟.
إن السنين المذكورة في شكلنا رقم 1 ما هي إلا عدد تقديري تقريبي غير ثابت تمام الثبوت، وربما كشف لنا العلماء حديثا ما يدفعنا إلى تغيير في هاته الأرقام. لكننا مع ذلك نعلم أن فترة الكهوف قد انتهت بانتهاء عصر الجليد. ولقد استطاع علماء السويد وعلى الأخص البارون دي جير أن يضعوا لنا تقديرا معقولا انتزعوه من آثار عصر الجليد وعرفنا منهم أن عصر الجليد قد بدأ في السويد من مدة 12000 سنة مضت تقريبا. ونحن إذا قدرنا أن حياة الإنسان في الكهوف قد انتهت من مدة 10000 سنة أو 8000 قبل الميلاد لأمكننا أن نقرر لأقدم عصر من عصور الكهوف تقديرا غير مبالغ فيه وهو 42000 سنة.
ولكي تعلم أيها القاريء أن أقدم عصر من عصور الكهوف هو أهم عصر في هذه العصور جميعا، يكفي أن نخبرك أنه بين طبقات الأرض في هذا العصر قد وجدت بقايا عظام متحجرة لعنصر من عناصر المخلوقات يختلف اختلافا عظيما جدا يبعده عن الصورة التي كان عليها أقدم الأجناس البشرية المعروفة. هذا النوع أو الجنس يعرف باسم انسان النيادرانتال ويمتاز هذا النوع بفرطحة الجمجمة وبروز عظام محاجر العين. كان رجاله ونساؤه ذوي قامات محدودبة يعتمدون كما تعتمد القردة على أيديهم في المشي.
وقد بدأ هذا النوع من أنواع الإنسان القديم يظهر واضحا جليا بآثاره ومخلفاته في أواخر أقدم عصر من العصور التي ذكرناها مستر يان.
ومن الآثار والمخلفات التي وجدت في الكهوف القديمة في جميع أنحاء العالم أمكن تتبع حياة الإنسان لمدة تنيف عن 40000 سنة في وقت كانت فيه أوروبا مسكونة بعنصر من العناصر الانسانية يختلف اختلافا بينا عن العنصر الذي نحن منه. عنصر أطلقنا عليه كما سلف وثبت أن أوربا كان سيكنها في العصر القديم الذي أطلقنا عليه اسم عنصر من الإنسان النياندرتال.
وبرغم أن الإنسان الذي وجدت آثاره كان فطريا أقرب في حياته الى الحيوانية فانه كان(64/64)
رجلا أو إنسانا بكل ما في جسمه من صفات وما في عقله من خواص وتفكير. وما دمنا نرمي الى الوصول لفجر الانسانية ومعرفة تاريخ النشأة البشرية فانه يجب علينا أن نتخذ لنا طريقا آخر يساعدنا على تفهم ما نريد ومعرفة ما نرمي اليه. هذا الطريق هو البحث في الأنهار والمجاري المائية. وإن البحث والتنقيب اللذين قام الناس بهما فيها، دلا على أن هناك آثارا ومخلفات قديمة تحفظها الأنهار والمجاري في قاعها وشواطئها ومدرجاتها، وكأنها تقدر مجهود الإنسان لحفظ كيانه، فعملت على حفظ آثاره وتخليد ذكره تنويهاً منها بعظمته وقوته. ولنا في مدرجات نهر التيمس اكبر دليل على ذلك. ولقد ساعدت عملية الردم والتكوين التي تقوم بها الأنهار بما تحمله من غرين وغيره اثناء طريقها على حفظ اثار الانسانية، حتى جاء بورشيه دي بيرث فوجد في بلده ابفيل صخورا نارية (كان الناس وقتذاك يعقتدون انها من مخلفات الصواعق) اعتقد انها من عمل الإنسان ووجد بها اثرا من فن الانسان، واعتقد ان الإنسان قد استعملها قديما كـ (بلطات) يقطع بها الاشجار وغيرها، او يدافع بها عن نفسه وقت الخطر. كذلك وجد في نفس الجهة عظاما متحجرة لحيوانات قديمة منقرضة، وهنا نظر اليه الناس كنظرتهم الى من بعقله مس من الشيطان، لأن العظام التي كشف عنها ترجع الى عصر وهو عصر اعتقدوا ان الإنسان لم يوجد فيه. فكيف بهذا الرجل يقول ان الصخور التي وجدها من قطع وتشكيل من لم يكن قد وجد بعد؟
يتبع
نعيم علي راغب
من الأدب التركي
المعلمة الصغيرة
ترجمة الآنسة الفاضلة (فتاة العرب)
ركبت عربة الترام ولم يكن فيها غير السائق الذي كان مغمضاً عينيه يستريح قليلاً من عناء أربع عشرة ساعة، أما بائع التذاكر فكان جالساُ في المكان المعد للسيدات يقرأ جريدته على ذلك الضوء الشاحب الهزيل الذي كان ينفذ من زجاج ذلك المصباح الأغبر، وليس يعلم إلا الله كم مرة أخرجها من جيبه وأعادها أليهوكأن دخولي إلى تلك العربة وهي آخر(64/65)
العربات في ذلك الوقت من تلك الليلة الشاتية نفخ فيها حياة بعد أن كاد يقتلها الإعياء، فقد من نومه وفتح عينيه المغمضتين، وأبعد بائع التذاكر الصحيفة عن وجهه وصعد بصره في كأنه يقول:
وهل بقي من راكب بعد أن مضى الهزيع الأول من هذا الليل الممطر؟. ثم قام الاثنان ونظرا إلى الخارج كأنهما يريدان أن يريا المطر الذي كان يسفع زجاج العربة بشدة، وعاد في الحال كل إلى مكانه لأن وقت الحركة لم يحن بعد، فأغمض السائق عينيه، ورفع بائع التذاكر جريدته إلى وجهه وأخذ يقرأ.
جلست وفي نفسي أن انتظاري سيطول، لقد كان منتظر العربة مؤلماً جداً، كانت أطرافها ملوثة بالطين، وكان زجاجها مستوراً بطبقة من مياه الأمطار التي كانت تسيل عليها، وكان نورها ضئيلاً، وهي واقفة تحت سيل الأمطار الذي لم ينقطع منذ ساعات وقفة حزن وملل تنتظر الوقت لتسير. كم كان مؤلماً منظر الخيل وهي تنتظر بفارغ الصبر العودة في تلك الساعة إلى اصطبلها الدافئ، ومنظر السائق الذي هد ّ التعب جسمه وغلبه النعاس فلا يكاد يرفع رأسه، ومنظر بائع التذاكر الذي كان يود النزوح ولو بخياله عن خط الترام الذي هو كل ما تراه عينه في كل يوم منذ الصباح حتى المساء، فهو يتلهى بالنظر إلى جريدته كلما سنحت له الفرصة. .
كنت وأنا أنظر إلى المياه التي كانت تسح من مظلتي التي ابتلت من المطر الغزير فتؤلف دوائر، أقول في نفسي: (أن هذه العربة التي كادت قطعها تنفصل عن بعضها لكثرة ما حملت من الناس لأراحتهم، وهذين الحيوانين اللذين أكل عليهما الدهر وشرب، وهذين الرجلين البائسين، وهذا الخط الحديدي الذي يفسح لنفسه الطريق بين الأوحال من (الجسر) حتى (جنبرلي طائش). كل هؤلاء مكلفون في هذا الليل المدلهم بحملي وحدي بأجرة لا تزيد على قرش واحد).
دق الجرس فجأة ففتح السائق عينيه ونهض يتمطى، ونظر آلي ما حوله حيران كأنه يعجب من وجود عمل يجب القيام به في ذلك الوقت من الليل لإتمام عمل النهار. ففرك يديه وسار. فتنح الباب فهجمت منه موجة هوائية باردة، ثم خرج وأغلقه خلفه وبقي وحده معرضاً لموجات الهواء التي كانت تلطم عربة الترام.(64/66)
انتفضت تلك العربة الكبيرة الثقيلة وتمطت واهتزت كأنها هي أيضاً كانت نائمة. وتحركت بحركة مزعجة، وأرسلت أصواتاً كأنها شكوى عميقة يثيرها اضطراب دائم، ثم سارت وهي تحمل مع اضطراب ألواحها الزجاجية جسمين مضطربين وهما بائع التذاكر وزبونها الوحيد.
تقدم بائع التذاكر من الراكب الوحيد وسلمه تذكرته وأستلم نقوده من غير ان ينبسا ببنت شفة، ثم عاد بائع التذاكر إلى جريدته يقرؤها، وعاد الراكب إلى ما أجتمع تحت مظلته من المياه ينظر أليها.
في تلك الأثناء كثر اهتزاز العربة. وأخرجت أصواتاً مزعجة كأن أسنان تلك العربة. ذلك المخلوق البطيء، تعض الخط الحديدي بشدة. مظهرة ألمها واستياءها، وصلنا إلى (سركه جي) فلم ير بائع التذاكر حاجة إلى وقوف العربة، وهي آخر العربات حركة، لوثوقه أنه لا يوجد راكب في مثل هذا الظلام البهيم، فصفر معلناً الحركة، ولكن السائق صاح قائلاً:
- راكب!
وقفت العربة فقلت في نفسي (شيء مؤلم! كم كنت مستريحاً وحدي!) ثم فتح الباب فما كدت أبصر الداخل حتى تغير رأيي، فقد كان الراكب الجديد فتاة شابة قد ابتلت ثيابها من المطر لأنه كان ينزل عليها فلا ترده عنها مظلتا الصغيرة، كانت صفراء الوجه من البرد، وكانت شفتاها متقلصتين وأسنانها مصطكة، وعليها ثوب أبيض فوقه معطف بني اللون لا يشك الناظر أليه في أن ذلك الشتاء لم يكن أول شتاء مر عليه. فجعلت بهذه الهيئة الفقيرة المؤلمة في الجهة المقابلة لي، وفي الحال مدت يدها الجامدة من البرد في قفازها الذي امتدت منه أطراف أصابعها والمحيط بأسلاك بيضاء، إلى جيب معطفها لتخرج منه حقيبة النقود، فأخرجت منديلاً أبيض ثم حقيبة تقادم عهدها وحال لونها لكثرة الاستعمال وتمزقت جوانبها، فأخذت تعالجها لتفتحها فلم تقدر كأن قفلها قد تعطل. فعالجتها المسكينة كثيراً، والحقيبة مصرة على ألا تنفتح، وبائع التذاكر واقف أمامها يهتز ذات اليمين وذات الشمال من حركة التزام وجريدته تحت إبطه، ينتظر النقود منها، لقد ملك النظر إلى الماء المتجمع أمامي من المظلة فرفعت رأسي أخذت أنظر أليها نظري إلى شيء جديد كانت هي على ما يظهر من حالها متألمة من عدم تمكنها من فتح الحقيبة بسرعة لأنها كانت تعالجها كمن يود(64/67)
كسرها، وأخيراً فتحت الحقيبة فأدخلت إصبعها فيها وأخذت تطوف يهما في جوانبها على ضوء العربة الضئيل.
لقد شعرت وأنا في مكان أن الحقيبة لا تحوى أشياء كثيرة يحتاج المرء معها إلى كثرة البحث والتنقيب. أدخلت يدها وهي في القفاز الممزق حتى غابت في الحقيبة وأخذت تبحث عن شيء صغير مختبئ هناك.
بعد بحث طويل بين أصابعها شيء صغير وهي تخرجه من الحقيبة فناولته إلى بائع التذاكر الذي لم يشأ أن يقطع لها التذكرة قبل أن يستلم النقود. . . . فتنفست الصعداء كأنها خرجت من مهمة صعبة وتمكنت من مقعدها كل التمكن. ثم رفعت عينها اللتين لم أستطع أن اعرف لونها تماماً.
لقد كانت تارة تنظر والعربة سائرة إلى قطع الجلود المتدلية من المسامير التي في سقف العربة، وآونة إلى المطر الذي يسمح من زاوية العربة، ثم إلى ما فوق رأسها لتعلم أين مكانها منه، وطوراً تقارب بين جفنيها وتتأمل في ضوء المصباح الضئيل، إلا أنها ضجرت من كل هذه الأشياء وسئمتها، فمسحت بظهر يدها زجاج العربة المبتل ونظرت إلى الشارع، لترى أقرب مكان نزولها أم لا يزال بعيداً؟ إلا أنها لم تر غير أشعة المصابيح الضئيلة التي تشع من الحوانيت القليلة في هذه الليلة الباردة فترقص أشعتها فوق الطين المتراكم في الشوارع.
وأخيراً نظرت إلى نظرة عجلي كأنني آخر ما يمكن أن يعرض على نظرها من الأشياء التي حولها. ولكنها وجدتني كبقية الأشياء التي استعرضتها أمام ناظريها ولم تجد فيها ما يوجب العناية، فاعترضت عني واستندت على مسند المقعد، ومدت رجليها وفيهما حذاءان عتيقان قد زر أحدهما وتمزقت عروة الثاني ولكنهما كانا جميلين، ووضعت إحدى رجليهما على الأخرى، ثم أصلحت قبعتها أسندت رأسها إلى ما خلفها وأخذت تنتظر.
هل كانت جميلة؟ لا أدري! ولكنها مع ذلك كانت مركبة من أعضاء صغيرة، حتى ليخيل للناظر إليها أن رجلاً من المولعين بالأشياء الدقيقة قد صاغها هذه الصياغة وركبها هذا التركيب، فهي مليحة بعينها الصغيرتين، وفمها الرقيق، وأنفها الدقيق، ووجهها المخروط، ولم يكن في ذلك الجسم المركب من تلك الاعضاء الصغيرة طويل غير قامتها، فقد كان(64/68)
طولها لا يتفق وصغر أعضائها، ولكنها مع ذلك لم تكن خالية من الملاحة. لقد كنت أشعر بشيء غريب لوجودي في تلك الليلة الشاتية في تلك العربة بجانب تلك الفتاة منفردين، كنت أشعر بلذة غامضة كالتي يتوهمها الإنسان عند قراءة شعر لا يفهم معناه. وفي تلك الأثناء رفعت رأسها بسرعة ومسحت زجاج النافذة ونظرت طويلاً نظرة تدل على ضجرها من التأخر. وكنا في ذلك الوقت نسير في محلة (جيفته حاووضلر) وكنت أقول في نفسي (أين تذهب هذه الفتاة في مثل هذا الوقت في مثل هذه الحالة الجوية؟). ثم ارتدت مسرعة عن النافذة، وانحنت قليلاً كأنها تريد أن تكلم بائع التذاكر الذي كان مغطياً وجهه بجريدته يغالب النوم ويغالبه، ولكنها لم تجرؤ أن تكلمه فنظرت إلى نظرة تدل دلالة واضحة على أنها تريد أن تسألني عن شيء، فنظرت إليها نظرة أسألها فيها عما تريد، إلا أنها بصورة من الصور لم تجد قدرة على الكلام فسكتت، ونهضت على رجليها ونظرت ثانية من النافذة، وفي هذه المرة ارتدت مصفرة فقلت لها:
- قالت بصوت رقيق يشبه جسمها الصغير بلهجة تدل على الحشمة والوقار:
- عفواً يا سيدي، فهل (الجسر) بعيد عنا؟
- فقلت:
- الجسر؟ أنتِ مخطئة أبتها الآنسة، إن هذه العربة تسير بنا إلى (آق سراي)
- فنظرت إلى وجهي نظرة جامدة كأنها لم تفهم شيئاً، وبعد أن وقفت مدة على هذه الصورة لا تجد في نفسها قوة على الاستيضاح قالت:
- إذن نحن الآن لا نسير نحو (الجسر)؟
- لفظت جملتها هذه بصورة تدل على فزع شديد علمت منه أنها ارتكبت خطأ، فداخلتني عليها شفقة وقلت:
- أنا آسف جداً يا آنسة، أنت تريدين الذهاب إلى (الجسر) إلا أنك ركبت عربة تسير عنه لا إليه، وقد أوقعك في هذا الخطأ ظلام الليل ودهشة المطر.
- كانت تسمع كلامي والبكاء يكاد يغلبها على عينها وتقول بصوت مسموع: لقد تاخرت كثيراً. ثم قالت بصوت يخالطه شيء من الأمل:
- إذن سأعود أدراجي من أول موقف.(64/69)
- لقد وصلنا إلى موقف (صالقم سكود) فقلت لها:
- إنك مضطرة إلى الرجوع راجلة، فهذه آخر عربة ولا أظن أنك تجدين عربة في هذا المطر.
- فلما سمعت ذلك اضطربت اضطراباً عظيماً، وفي ذلك الوقت استيقظ بائع التذاكر واقترب منا يشاركنا في الحديث، ثم قال مبرثاً نفسه من التبعة:
- لماذا لم تذكري لنا المحل الذي تريدين أن تذهبي اليه؟. فلم تجد تلك المسكينة حاجة إلى الجواب، فنظرت إلي نظرة حائرة تطلب بها المد والمعونة، وقالت:
- لطفاً يا إلهي، في مثل هذه الساعة، في مثل هذا المطر، وفي مثل هذه الأزقةالمظلمة الخالية كيف أستطيع السير وحدي؟.
- لم أجد حاجة لا تخاذ قرار بعد ذلك في هذا الشأن، فقلت لها
- أيتها الآنسة، هل لك أن تقبلي مرافقتي حتى الجسر؟.
- فنظرت إليه بدهشة وصاحت:
- كيف ذلك يا سيدي؟ كيف تعود لأجلي في هذا الهواء؟
- وكيف أستطيع أن أقبل هذه النصيحة؟. .
- على أنه لم يكن أحسن من هذا الحل، لأن السائق كان بفارغ الصبر ينتظر الحركة، وبائع التذاكر ينتظر أن نعطى نتيجة حاسمة فقلت لها مصراً:
- أنت لا تقدرين على العودة منفردة في مثل هذا الوقت، ومن هذا المكان، مع أني أتمكن من أن أركب عربة وأعود من الجسر، وذلك يسير علي.
- فنظرت إلي عند ذلك نظرة فاحصة، وبتلك النظرة علمت صفاء نيتي وصدق عزمي فأظهرت الاطمئنان وقبلت مرافقتي قائلة:
- سمعاً وطاعة يا سيدي، لقد أظهرت إنسانية نبيلة وعطفاً كريماً، وأنا أقبلها مع الشكر.
- فتح بائع التذاكر الباب ليشرح للسائق القصة، فنزلنا نحن من الباب الثاني، وتحركت العربة في الظلام كأنها خيال ذو عينين صفراويتين؛ كان المطر إذ ذاك إلا أنه كان متوالياً، ففتحت الفتاة مظلتها، فلما تأملتها وجدتها ممزقة الأطراف، وفتحت أنا أيضاً مظلتي وأخذنا نمشي متكاتفين بقدر ما تسمح لنا المظلتان. كانت في ذلك الظلام الدامس قي تلك الشوارع(64/70)
الخالية تشعر أنها محتاجة إلى الاقتراب مني بدافع غريب مجهول المصدر يدفعها إلى ذلك، وكنت أنا أشعر بلذة منشؤها حمايتي لفتاة في مثل هذا الوقت. على تلك الحال كنا نمشي صامتين لا نتكلم، وكانت توسع خطاها لئلا تضطرني إلى المشي البطيء.
- كنت وأنا في الترام في شك من جمال هذه الفتاة ذات القامة الهيفاء، ولكنها الانفي الظلام كانت تتراءى لي جميلة.
- إن هذه المصادفة غربية جداً، وأظن أن تلك الفتاة التي رأيتها لأول مرة في حياتي وبسطت عليها ظل حمايتي لو كانت غير جميلة لكانت اللذة التي أشعر بها الان ناقصةكنت أقول وأنا سائر بجانبها يا لجمال عينيها الصغيرتين.
(البقية في العدد القادم) نزيلة بعلبك (فتاة الفرات)
تاريخ العالم القديم
تأليف الأستاذ عبد الفتاح السرنجاوي
للأستاذ المؤلف شغف كبير بالتاريخ القديم، فهو ما ينفك يقلب صفحاته، ويطيل النظر في أدق موضوعاته، حتى صار لهذا العلم المحل الأول من اهتمامه في درسه وفي أوقات فراغه، ولقد قام بتدريسه سنين متوالية في المعاهد الدينية، وعرف ما يوافق طباع الطلاب منه، ووقف على الاسباب التي تحبب إليهم موضوعاته، أو التي تنفرهم منها. وكانت ثمرة هذه الخبرة هذا الكتاب الذي أحداثك عنه، وهو في طبعته الرابعة هذه على خير ما تصدر به الكتب دقة طبع وسلامة ذوق.
أما عن موضوعاته فهو وفق المنهج الاخير لوزارة المعارف والمعاهد الدينية، يشمل تاريخ قدماء المصريين والإغريق والرومان على أن أهم ما في الكتاب هو تلك الطريقة الفريدة التي أتبعها الأستاذ في كتابة التاريخ، فلقد نبذ تلك الطرق التي تقتصر على سرد المعلومات الجافة يقصد بها استيفاء المنهج المقرر، ونفذ بخبرته إلى صميم الموضوع، فأهتم بالحياة الاجتماعية ومظاهرها في تلك العصور القديمة، إلى جانب اهتمامه بتفاصيل المنهج، كل ذلك في عبارة طلية متينة، مما جعل كتابة جم الفائدة، خفيف المحمل، أضف إلى ذلك ما يحتوي عليه ذلك الكتاب الفذ من الصور والخرائط، وكلها موضوع لغرض إيضاحي في تدبير حصيف وترتيب محكم مما لا نجد مثيلاَ له في غيره من الكتب، ولاشك هذه خير(64/71)
طريقة تحبب الى الاطفال دراسة التاريخ والاستزادة منه.
لئن كان أثر المؤلف مرآة نفسه، فإن كتاب الاستاذ السرنجاوي خير شاهد على ذلك، فإنك تلمس فيه هدوء طبعه، وقوة منطقه وعذوبة روحه وسلامة لفظه، واني لأتقدم الى الاستاذ بالثناء على بذل من جهد، وبصادق التهنئة على ما صادف عمله من نجاح.
الخفيف
الرائد
في تاريخ الأدب العربي ونصوصه ومتن اللغة.
هذا كتاب جديد في تاريخ الأدب العربي أخرجه في هذه الايام صديقاي الفاضلان الاستاذ عبده زيادة عبده المدرس بمدرسة الخديوي اسماعيل الثانوية الملكية، والاستاذ محمد السيد عامر المدرس بمدرسة بنبا قادن الثانوية الملكية، وهو يتألف من جزأين أولهما في منهاج تاريخ الأدب الاخير للسنة الثالثة للمدارس الثانوية ومدارس المعلمين والمعلمات، وثانيهما في منهاج تاريخ الأدب الأخير للسنة الرابعة للمدارس الثانوية.
وقد ألف في منهاج الأدب للسنتين الثانويتين كتب غير كتاب الأستاذين، ولكنه جاء آخرها فتداركا به ما فاتها وامتاز عليها بأمور كثيرة، وقد قال الاستاذان في ذلك: (ولسنا ننكر أن للكتاب أنداداً، غير أن بعضها على قيمته جاوز المنهج الجديد فعاد كتاباُ للمتأدبين، لا لطلاب يتقدمون الى الامتحان في موضوع بعينه، وبعضها جاء مقصوراً على فن واحد من فنون كتابنا هذا، وبعضها علا أسلوبه ودقت إشاراته على الناشئين حتى ما يستطيعون في غير عناء أن يدركوا ما يريد.
وقد عنيا في هذا الكتاب أن يعالجا مسائل الأدب بذكر المقدمات في شيء من البسط ليخلصا الى مسائلة واضحة معقولة، وأن يحللا نصوصه الأدبية من جميع نواحيها لغة ومعنى وأعراباً وبلاغة الا أن يتركا لقدر التلاميذ بعض الأبيات والجمل ليحاولوا شرحها على مثال ما فعلاً ولا يهملوا مداركهم فتنشأ لا تبنى الا على مثال.
وقد سار الاستاذان على هذه الخطة القويمة التي خطاها بأنفسهما في كتابهما بما نعهده فيهما من علم واسع وانشاء مهذب وترتيب محكم، فيسرا لطلاب هاتين السنتين منهاجيهما الأدبي تيسيراً، وأصبحت طلبتهم منهما فيه سهلة المنال دانية القطوف، فنحمد للاستاذين ما بذلاه(64/72)
من جهد نقدره لهما، وتترك من أجله بعض أمور نخالفهما فيها وقد تابعا فيها غيرنا، ولكل وجهة هو موليها.
عبد المتعال الصعيدي
رواية ابنة الشمس
تأليف فرنسيس شفتشي
نالت هذه القصة التمثيلية جائزة وزارة المعارف العمومية في مباراة سنة 1932، ولقد قرأتها دون أن يكون لهذا الاعتبار تأثيراً في نفسي فألفيتها قصة ممتعة طريفة، جديرة بما نالت من حظوة واستحسان فلقد نجح المؤلف نجاحاً عظيماً في تصوير المجتمع المصري في عهد الملك رعمسيس الثاني، كهانة وسحراً وطباً وعرافة وسياسة، كما أنه قد نجح في تصوير بعض العواطف الإنسانية تصويراً بارعاً كالشفقة والحب والشك والطمع والحسد والاخلاص والخيانة وغيرها. كذلك أحسن المؤلف تصوير أشخاصه ففنه في هذه الناحية قوي. ولقد استمر على فطنته ويقظته في ما يتعلق بصفات أشخاصه حتى آخر القصة.
بيدي أني أرى في القصة بعض المآخذ. لابد لي اذا توخيت الإنصاف من مصارحة المؤلف الفاضل بها وأول هذه المآخذ أن عقدة القصة مبهمة. فقد حاولت أن انتخب من بين حوادثها حادثة أعتبرها الرئيسة فلم اوفق الى ذلك. فهنا بنت أنات تحب بنطاؤر. وهناك نيفرت تحب سينا. وهذا بعاكر قائد الطليعة يريد أن يكيد للملك. نعم إن هذه الحوادث لاتعدم رابطاً يربطها، غير أنها روابط سطحية وليست روابط البسط أو حل العقدة التي تتشعب منها القصة مما كاد يخلي القصة من التطور ويفقد القارئ الانتظار. فكل منظر يكاد يكون مستقلاً، هذا إلى أن المؤلف قد جعل خاتمة المأساة متوقفة على نصيب رمسيس في الحرب، وهذا معروف للقارئ، فكأن القارئ يعرف ما سيؤول اليه أمر العصاة ومدبري الثورة، وهذا ما يقضي على استمتاعه قبل نهاية القصة، ولو أن المؤلف علق انتهاء القصة على حادثة غير هذه لاحتفظ بروعتها حتى النهاية.
كذلك نجد في القصة عدة مواقف قوية، ولكن المؤلف أضعفها بفتور العبارة أحياناً وبسذاجة الحوار أحياناً أخرى، أو بارسال الحوادث على غير ما يتفق مع الموقف وما ينتظره القارئ في ذهنه. هذا الى أنه في بعض المواقف أورد حوادث ما كان يتصور وقوعها بمثل(64/73)
هاتيك السهولة كرجوع بنطاؤر عن فلسفته بتلك السرعة وانقياده الى بنت أنات كأنما كانا يتباحثان في موضوع تافه. وكتصريح بنطاؤر بحبه الى صديقه نبشت دون تردد أو تحفظ. وكسرعة انتقال وردة من الألم الشديد الى الهدوء لدنو لقاء الأميرة. . الخ. ولقد كان المؤلف يحاول تغطية هذه العيوب بحوار على لسان الأشخاص. ولكنه في رأيي كان يكشفها بذلك.
ولم يعجبني من المؤلف الجمع بين التأليف والتمثيل في كتابته فكان يشير كثيراً الى ما ينبغي أن يحدث على المسرح وأظن ذلك من عمل المدير الفني.
ولقد قدم لكتابه بتحليل ضاف إذا قرأته عرفت القصة كلها فلن تعجب بها إلا على المسرح.
ولكن هذه المآخذ على تنوعها لاتذهب ببهاء القصة، ولاتنقصها قدرها، ولاتضيع طرافتها، ورجائي الى المؤلف الفاضل أن يثابر على التأليف للمسرح، فعنده استعداد عظيم وملكة قوية تضمن له التبريز في هذا المضمار.
الخفيف(64/74)
العدد 65 - بتاريخ: 01 - 10 - 1934(/)
الأزمة والغلاء!
مضت أربعة اعوام، وريح الأزمة الاقتصادية العالمية تهب على مصر بقوة، تضاعفها وتذكيها الظروف المحلية، وملايين الزراع والفلاحين يرون جهودهم وآمالهم تذهب هباء، ومحاصيلهم تباع بأبخس الاثمان، والدين يرهقهم، والحاجة تنذرهم بشرالعواقب، وباقي الطبقات تشاطرهم هذا البؤس الاقتصادي. ولما كانت الحياة الاقتصادية كلها متصلة النواحي، وكان الإنتاج والاستهلاك مرتبطين أشد الارتباط، فقد اضطر الناس إلى الاقتصاد بحكم الضرورة والنزول على أحكام الأزمة؛ وكان في هبوط نفقات العيش بعض التنفس، ولا سيما للطبقات الفقيرة، ولكن الضيق لبث مع ذلك يرهق كل الطبقات.
وإذا كانت الأزمات الاقتصادية محنا شعبية عامة تعانيها جميع الطبقات، فإنها تغدو في كثير من الأحيان ميداناً لنشاط بعض المستغلين الذين لا ذمة لهم، والذين لا تزدهر ثرواتهم إلا في أيام المحنة والضيق. وكذلك وقع خلل الأزمة الأخيرة، فقد ظهر المستغلون في الميدان، فظهر المصطنع في حاجات العيش الضرورية، وهي التي تشتري من المزارع والفلاح بأبخس الأثمان، وصرخ الناس غير مرة، ولكن ماذا يجدي الصراخ والحكومة لا تعنى بأمر المستغلين والمضاربين؟
واشتدت وطأة الغلاء منذ أسابيع، وظهرت بنوع خاص في أثمان الخبز - قوت الشعب - واللحم، والزبد، وغيرها من ضرورات العيش، وضج الناس ولا سيما الطبقات الفقيرة من هذا العنت الذي لا تبرره ظروف الأزمة، ولا يتناسب مع نتائجها، واتجهوا ببصرهم إلى الحكومة لكي تتدخل لحمايتهم وإنقاذهم من شره المضاربين والمستغلين. خصوصاً وأن هذا الارتفاع الطارئ في أثمان الحبوب، وهو الذي ترتبت عليه هذه الموجة من الغلاء، لم يرتفع إلا بعد أن خرج معظم المحصول من يد المزارع والفلاح، فلن يفيد منه سوى القليل.
فماذا فعلت الحكومة؟ قررت أن تشتري ربع مليون أردب من القمح الأسترالي لتستدرك - على ما صرح به رئيس الوزراء - النقص في المحصول المحلي، ولتنذر بذلك الضاربين والمستغلين بأنها سوف تضرب على يدهم إذا لم يقفوا عند حد الاعتدال.
ومن حق الشعب أن يتطلع في مثل هذا المأزق إلى حكومته، والحكومات في جميع الأمم المتمدينة تضطلع بمهمة محاربة الغلاء المصطنع أو الحقيقي، وتسن لذلك القوانين الرادعة إذا اقتضى الأمر، وكثير من الحكومات والبلديات يتولى الإشراف على تموين الشعب،(65/1)
فيحدد وزن الخبز ونوعه وأثمانه، ويتخذ غير ذلك من الإجراءات الكفيلة بالضرب على أيدي المحتكرين والمستغلين؛ وإذا فليس علينا لوم إذا نحن تطلعنا إلى الحكومة لتتخذ ما يجب من الوسائل لحماية المستهلكين ومكافحة الغلاء، ولحفظ التوازن المعقول بين ما يجنيه المزارع من محصوله، وما يقتضيه التاجر من المستهلك ثمناً لوساطته. وليس من وسائل الحماية الناجعة أن تستورد الحكومة مقداراً محدوداً من القمح الأجنبي على نحو ما قررت، ولكن الوسيلة الأولى هي أن تخفض الرسوم الجمركية على الحبوب الأجنبية، وهى التي رفعت في وقت كانت فيه وفرة المحصول المحلي تبعث إلى هبوطالأثمان هبوطاً شديداً.
لتتخذ الحكومة هذه الخطوة وغيرها مما تراه ضرورياً لدرء كارثة جديدة تنذر ملايين الفقراء بالجوع، ولا يستفيد منها سوى قلة من المحتكرين والوسطاء، على أن هنالك عاملاً آخر لم يتوفر لدينا بعد، ذلك هو المقاومة الشعبية، فمن الواجب أن نعود أنفسنا هذه المقاومة التي لابد منها في مثل هذه الظروف. ولو أن الجمهور يعني بالحرص على حقوقه الشعبية، لكانت المقاومة الفردية والشعبية في مثل هذه الأحوال خير وسيلة للحماية. ولو عني كل فرد بأن يقتصد حيثما وجب الاقتصاد، وأن يحرم نفسه بعض الكماليات وقت الضرورة، وأن يجرب جميع الوسائل الممكنة لمقاومة طغيان المحتكر، وإنقاص منسوب الاستهلاك، لكانت حاجته إلى حماية الحكومة في مثل هذه الظروف اقل بكثير مما نشهد اليوم، إذ لا حول لجمهورنا ولا قوة إلا أن تنجده الحكومة، وإذا أجابته فإنها لا تستطيع أن تذهب معه دائما إلى حيث يريد
وهذا ظرف يستطيع الجمهور فيه أن يبدي إلى جانب ما يمكن أن تقوم به الحكومة شيئاً من المقاومة الفردية الحكيمة، فإذا استطاع أن يفعل فانه يبرهن على حيويته، وعلى أنه حريص على حقوقه، وأنه لا يذعن لنير المؤتمرين به من رهط المستغلين والمستفيدين الذين يعملون على سلبه دون أفة، ويبرهن أخيراً على أنه ليس عالة مطلقة على حكومته في جميع شئونه ومرافقه.(65/2)
عدو الديمقراطية
للأستاذ احمد أمين
لندع الديمقراطية السياسية، فلها نظرياتها ولها رجالها، ولها نزاعها الحار بين دعاتها وأعدائها.
ولنتكلم في الديمقراطية الاجتماعية وأعدائها - فاكبر مظاهر الديمقراطية الاجتماعية الاشتراك في مرافق الحياة من غير أن تتميز طبقة من طبقة، فإذا رأيت في القطار درجة أولى وثانية وثالثة فهذا مظهر أرستقراطي، وإذا رأيت ذلك في عربات الترام والسيارات العامة والسينما والتمثيل فهذا مظهر من مظاهر الأرستقراطية، وإذا رأيت أحياء يعنى فيها بالكنس والرش والنور وأحياء لا يعنى فيها هذه العناية. فهذا مظهر من مظاهر الأرستقراطية، وإذا رأيت في المآتم والأفراح كراسي ضخمة مذهبة، وأخرى عادية ساذجة، وقوما يستقبلهم آل الميت وال العرس بالحفاوة فيجلسونهم في الصدر، وآخرين يستقبلون في غير حفاوة فيجلسون في الذيل فهذا أيضاً مظهر من مظاهر الأرستقراطية - وإذا رأيت في قاعات المحاضرات أماكن حجزت لكبار المدعوين، وأخرى حقاً مشاعاً للدهماء. فهذا كذلك مظهر من مظاهر الأرستقراطية وإذا رأيت الحجاب على الأبواب يفتحونها لمن نزل من سيارة، ويغلقونها في وجه ذي الجلباب الأزرق. فذلك نوع من الأرستقراطية. وإذا رأيت مقهى إفرنجيا فيه فنجان القهوة بخمسة قروش أو تزيد. ومقهى بلديا فيه فنجان القهوة بخمسة مليمات أو تنقص، فهذا مظهر من مظاهر الأرستقراطية، ولا استرسل في ذلك، فلعلك - يا صاحبي - فهمت مظاهر الأرستقراطية والديمقراطية، وعلمت انك في كل خطوة تخطوها ترى هذه المظاهر في أشكالها المختلفة، وألوانها المتعددة.
وهناك دعاة يدعون إلى هذه الديمقراطية الاجتماعية، كما أن هناك دعاة يدعون إلى الديمقراطية السياسية، ولهم على ذلك حجج وبراهين.
ولكن لعل أعدى أعدا الديمقراطية واهم طعنة توجه إلى دعاتها، وأقوى حجة يتسلح بها دعاة الأرستقراطية شئ واحد هو (الوساخة) أو (القذارة) أو ما شئت فسمه. فاكثر تصرفات الأرستقراطيين وأشباههم، عذرهم فيها طلب النظافة والترفع عن الوساخة.(65/3)
قد يركب راكب الدرجة الأولى في القطار أو الترام أو السيارات طلبا للوجاهة وخشية أن يراه الناس بين جمهور الفقراء أو نحو ذلك نحو ذلك من أعذار كلها سخيفة، ولكن عذراً واحدا يصح أن يقام له وزن، وهو وساخة ركاب الدرجة الثالثة والخوف من أذاهم ومن عدواهم.
وقد يتطلب بعض الناس أغلى مطعم وأغلى مقهى حبا في الظهور ورغبة في الجاه، وطلبا لمخالطة العظماء، ولكن العذر الصحيح انه ينشد النظافة في هذا المطعم وهذا المقهى، ويفر من قذارة المطاعم الرخيصة والمقاهي الرخيصة.
فلوعني الناس بالنظافة، وكان من لبس لبس نظيفا، ومن فتح مطعما أو مقهى عنى بنظافته، وكان الفرق بين لبس الغنى والفقير ليس فرقا في الكيف، فالكل نظيف، وإنما هو فرق في النوع والكم، لانهارت الأرستقراطية الاجتماعية في كثير من نواحيها، ولما تقززت أوساط الناس وخيارهم من أن يخالطوا الفقراء في مأكلهم ومشربهم ومركبهم، ولسلحوا الديمقراطية بسلاح قوي متين، ولهذا ترى الأمم التي عنيت بالنظافة والتزمتما في صغيرها وكبيرها، وفي فقرها وغناها قد أفسحت الطريق أمام محبي المساواة ودعاة الديمقراطية. وتراهم وقد قضوا على اختلاف الدرجات في السيارات العامة، وقل منهم من يركب الدرجة الأولى في القطار، وقل من يتطلب أفخم مطعم وأغلى مقهى، علماً منهم بأن الكل نظيف والكل مريح، وأن الذين يركبون بجوارهم أو يجلسون بجانبهم لا يؤذونهم بمنظرهم ولا برائحتهم ولا بأي شيء فيهم، إنما تتميز هذه الطبقات بوضوح وجلاء، في مرافق الحياة الاجتماعية حيث تفشو القذارة.
إن عقلاء الناس يحتملون الديمقراطية الاجتماعية بل يعشقونها، ولكن إذا وصل الأمر إلى احتمال عدوى مرض، أو آلمت أنوفهم رائحة كريهة، أو آلم عيونهم منظر بغيض، سهل عليهم بيع الديمقراطية للأرستقراطية.
لو جرى الأمر على المعقول لكان المسلم من انظف الناس في العالم، فقد ربطت صلواته الخمس بالوضوء، وفرض عليه الاستحمام في أو قات، وكان أول باب من أبواب فقهه باب الطهارة.
واغتبط إذ اسمع وصف (ابن سعيد) لمسلمي الأندلس فيقول: (انهم أشد خلق الله اعتناء(65/4)
بنظافة ما يلبسون وما يفرشون، وغير ذلك مما يتعلق بهم، وفيهم من لا يكون عنده إلا ما يقوته يومه فيطويه صائماً، ويبتاع صابوناً يغسل به ثيابه، ولا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو العين عنها).
ويؤلمني اشد الأم ما ذكره أبن سعيد نفسه، وقد زار القاهرة، وركب منها حماراً إلى الفسطاط يقول (فأثار الحمار من الغبار الأسود ما أعمى عيني، ودنس ثيابي، وعانيت ما كرهت، وقلت:
لقيت بمصر اشد البوار ... ركوب الحمار وكحل الغبار
أِلمَ من منظر الفسطاط، وقال انه رأى شوارعها غير مستقيمة، ورأى حول أبوابها من التراب الأسود والأزبال ما يقبض نفس النظيف، ويغض طرف الظريف، ورأى البياعين يبيعون في مسجد عمرو، والناس يأكلون فيه، ورأى في زوايا المسجد العنكبوت، قد عظمة نسجه في السقوف والأركان والحيطان ورأى حيطانه مكتوباً عليها بالفحم والحمرة بخطوط قبيحة مختلفة من كتابة فقراء العامة الخ. . .
آلمني هذا الوصف لمصر، ولو زارها اليوم لما عثر بحماره، ولأقلته سيارة فخمة من باب زويلة إلى الفسطاط في أرض معبدة ممهدة، لا تثير غباراً ولا تدنس ثياباً، ولرأى مسجد عمرو نظيفاً، لا يأكل فيه أكل، ولا يكتب على حيطانه كاتب.
ولكن هل كان يعدل عن حكمه القاسي في مقارنته بين أهل مصر وأهل الأندلس في النظافة؟ ذلك ما أشك فيه كل الشك. لست ادري لمَ لمْ يلتفت الدعاة إلى هذا الأمر في الأمة، فيدعون ويلحون في الدعوة إلى النظافة، ويضعون الخطط الدقيقة لها، فأنها خير وسيلة للتقريب بين طبقات الأمة، فلا يأنف بعد مثقف أن يجلس مع غير المثقفين، ولا متعلم أن يجالس غير المتعلمين، وفي هذا الاختلاط نشر للثقافة، ودعوة للآداب العامة، وغلبة للعنصر المهذب.
يظن الناس أن النظافة غالية، وأنها مرتبطة بالغنى، وهذا خطأ بين، فكم من غني قذر، ومن فقير نظيف، والأمر يتوقف على تعويد النظافة أكثر مما يتوقف على المال، فليست النظافة أن تلبس أغلى اللباس، وأن تأكل أفخم الطعام، وانما النظافة أن تلبس نظيفاً ولو كان أحقر الثياب، وأن تأكل نظيفاً ولو أحقر الطعام.(65/5)
هذه بديهيات أولية، ولكنا مع الأسف مضطرون أن نقولها.
لعل الأمر في العلماء والأدباء على نحو ما بينا في الماديات، فالذي يفرق بين عالم أرستقراطي وعالم ديمقراطي، وأديب أرستقراطي وأديب ديمقراطي، هو نظافة آراء الأولين وأفكارهم وأسلوبهم، وعكس ذلك في الآخرين - ولو التزم كل العلماء والأدباء نظافة نظرياتهم، ونظافة كتابتهم مهما اختلفت في النوع والقيمة لانهارت الأرستقراطية العلمية والأدبية أيضاً، ولكان الكل سواء.
أحمد أمين(65/6)
كلمة وكليمة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
نحن من التنظير بين المدنيتين الأوربية والإسلامية، كأننا بازاء جوادين أحدهما مخلى له الطريق إلى غايته، والأخر يُضرب وجهُه مرةً ويصرف بالعوائق مرة؛ ومع ذلك يقابل بينهما في السابق! لو حكم الشرق أوربا لظهر جوادها حماراً
أربعة آلاف كلمة في الثرثرة، اقل من أربع كلمات في الحكمة
لا تغضب من حماقة امرأة تحبها، ولا تغضبي من حماقة رجل تحبينه، وإلا فأين تدسُ الحياةُ سُمها إلا في ألذ أطعمتها؟
يموت الحيُ شيئاً فشيئاً؛ وحين لا يبقى فيه ما يموت، يقال مات. . .
قضت الحياة أن يكون النصر لمن يحتمل الضربات لا لمن يضربها.
غلَبَ رجل على امرأة كانت تهواه وجعل يباهي بما صنع، فقلت له: يا هذا إن من السخرية أن تزعم انك تعبت في فتح باب مفتوح. . .
حق الإرادة؛ هي في الذكور مذ كرة، وفي الإناث مؤنثة؛ فعند ما يغلب سحر الحقيقة التي في الرجل على الحقيقة التي في المرأة تلتمس المرأة إرادتها لتعوذ بها فلا تجدها إلا صورة. . فإذا امتنعت كانت في صورة امتناع على استجابة، وإذا غضبت كانت في صورة غضب على رضى. ولهذا ما يكره بعضهن الحجاب فانه يذكرهن تأنيث الإرادة ويُبعدهن ويحذًِرهن؛ ويا شؤمَ من إذا نجت من ذلك الخطر نجت كارهة. .
هناك حب يسمو ولا يزال يسمو؛ إذ يكون المحبوب فيه مع المحب كالتًرجمان مع السائح؛ ذلك حب بعض الشعراء لبعض الأجسام المترجمة.
تكون الأمانيُّ مرةً كَسْبُ أفكارنا ومرة لصوصية أفكارنا!. . .
ينفُر الإنسان من الكلمة التي تحكمه، ولكنه في الحب لا يبحث إلا عن الكلمة التي تحكمه.
من خُلقَ بطلاً فل عجب أن توجِد له الأقدار دائماً من كل ما حوله مادة حرب، مائةٌ من مائةٌ في التوكل على الله تكون مائةً من مائة في النجاح؛ ولكن تسعة وتسعين من المائة في التوكل لا تكون إلا خيبة محققة.
هل أستطيع أيتها الجميلة السوداء أن أقول في وصف خديك انهما في حمرة الورد؟ فلماذا(65/7)
تغضبين إذا قلت انهما في التماع الزيتون الأسود. .؟ وأنت أيتها الحسناء المتكبرة السخيفة! لماذا تغضبين إذا رأيت في قلبك الزيتون ولم أر الورد؟
في بعض أحوال الحب، تكون العواطف المحبة لك في الباطن هي المعادية لك في الظاهر.
لا يسعد أحد بشعور غيره؛ وطبيعي أن يكون هذا هو الذي يجعل السعادة ممكنة في الناس؛ ولكن العجيب انه هو الذي يجعلها غير ممكنة، إذ لا يريد كل إنسان لنفسه إلا شعور غيره.
الناس يزاحمون في الدنيا لأجسامهم، فأما بؤس وأما سعادة، والحكماء والمحبون يزاحمون لأرواحهم، فأما بؤسان وأما سعادتان ما أظرفها كانت وابلغها حين قالت لي: ألا تنظر ثانياً فتفهم ثالثاً. .؟
يخيل إلى والله أن قلب المرأة امرأة معها؛ فأما أن تأخذها نكبتين أو معونتين.
فلسفتي أن الكبرياء على المتكبرين هو أعلى التواضع.
مصادفة التعس حظاً تحتاج في اتفاقها إلى مصادفة تجئ بها
تستطيع أن تقول في كل نابغة عظيم: انه أذكى البلداء. .
فان كذبك الناس لم يكذبك هو.
المودًَة القوية تتحمل العتاب والمحاسبة لتثبت أنها قوية
الحب يُخرج من نفسك شخصا غيرك، والبغض يخرج من هذا الشخص غيره. فتحب بنفسين وتبغض بثلاث.
إن رضى المحب قال في الحبيب احسن ما يعرف، وما لا يعرف؛ وان غضب قال فيه أسوأ ما يعرف، وما لا يعرف، وما لا يمكن أن يعرف
إذا رأيت كبراء قوم همُهم عيشهم؛ فاعلم أنها أمة مأكولة. فلو شهرت السيف الماضي لقاتل بروح مِلعقة. . ولو رعدت بالأسطول الجبار لصلصل كآنية المطبخ. . .
لم تعد التربية في كل أمة تربية للناس ولكن للمطامع؛ فما يكبر جيل إلا كبرت معه الحرب. . .
يراد من التجمل الصناعي حين تبالغ فيه المرأة أن يخف فيثقل؛ ويراد من الجمال الطبيعي أن يخف فيزداد خفة. . .
من النساء من إذا رايتها حسبت روحها زجاجة ملئت عطراً؛ ومنهن من إذا رايتها حسبت(65/8)
روحها ملئت زيت خروع. . .
أول فلسفة الشريعة في الزواج انه حصرُ المعاني البهيمية من كل رجل وامرأة في الرجل والمرأة بذاتيهما. فاخر فلسفة الشريعة في الزواج انه إذا عم وانتظم تراجعت بهيمية العالم فصغرت وصغرت حتى تكون كأنها في اثنين فقط. . .
إذا سألت السياسي الداهية فسكت عن الجواب فقد قال لك قولا
من لا يملك على الأرض شيئاً يملك على الأقل أن يفرح وان يحزن. . .
مات واصبح كأن لم يوجد، ومع ذلك فقد وجد، ومع ذلك فكأن لم يوجد. إن خرج من هذا التركيب المنطقي معنى يثبت في الفهم، كان للحياة في الفهم معنى ثابت. . .
أيا غاضباً من صر وف القضا ... بنفسك تَعْنُفُ لا بالقدَرْ
ويا ضارباً صخرةً بالعَصَا ... ضربت العصا أم ضربت الحجر؟
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(65/9)
صفحة من التاريخ
روح مصر
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
دع من شاء يتغنى بفرنسا وما في فرنسا، ودع من شاء يتغنى بإنجلترة وما في انجلترة؛ دع هؤلاء جميعا يعنفون مصر وما في مصر وينكرون ماضيها، فما نحن منهم في شئ. وليس في الأمر علينا من مضاضة إلا ألم الساعة نشعر به كلما وقعت أعيننا عفوا أو قصدا على كلمة لبعض هؤلاء؛ حتى إذا مرت الساعة لم يبق من اثر لكلمتهم إلا كما يبقى من اثر قول الولد العاق في نفوس أهله، فان الحب يغلب الكراهة، وسعة صدر الوالد لا يدوم معها الغل ولا تبقى عليها الحفيظة. ثم لن تكون إلا أعوام فتنضج العقول الفجة، ويتسع الأفق الضيق، ويغزر المحيط الضحل، فيعود هؤلاء جميعاً إلى تقديس مصر ومعرفة روحها، وإعطائها ما يجب لها من الإجلال.
وأما نحن فما بنا ولله الحمد غير مصر وحب مصر، والإعجاب بها والإشفاق عليها: نعجب بما فيها من جليل، ونشفق على ما بها من عليل أو ضعيف. ليس في القلب نحوها موضع لغير عاطفتي الحب والإشفاق. هذه كلمة نفرج بها عن النفس مما تحسه، إذ كثر في هذه الأيام حديث الزراية بمصر من قوم لا نجد في نفوسنا ميلاً إلا للدعاء لهم بالتوفيق إلى ما هو خير من ذلك واكرم.
ولنعد إلى الماضي نقلب فيه صفحة من صفحات تاريخ مصر، لنرى أن روحها كان أبداً روح الكريم الأبي، ولو علا تلك الصفحة صدا القدم، أو غشاء الوهم.
لا حاجة بنا إلى أن نعود إلى أيام الفراعنة، أو إلى أيام مجد الدول الإسلامية التي كان فيها لمصر ذلك الروح المتوثب القوي، بل نعود إلى أيام القرن الثامن عشر الذي يصفه بعض المؤرخين بالظلمة والانحطاط، ولم يتورعوا أن يتهموه بأقسى التهم وأشنعها، وتعدوا فيه الوصف الشنيع إلى السب المقذع حتى في التسمية، فلا يعرفونه إلا باسم (عصر المماليك) كأننا بهم يعيرون حكامه بأنهم كانوا في أول أمرهم يشترون بالمال. وأنا إذا عدنا إلى ذلك العصر لم نجدروح مصر خفيا، بل نراه واضحا مجلواً على عهده من الكرم والأباء: لئن كان حكام مصر الأسبقون يشترون فيأول حياتهم بالمال، فقد كانوا رجالأ طالما ذادوا عن(65/10)
حوض مصر، وحملوا ذمارها. ولقد كانوا يفاخرون بمصريتهم ويعتزون بها، ويسمون أنفسهم منتسبين إليها، فكانوا يعرفون أنفسهم باسم (الأمراء المصريون) وما أجدرنا نحن اليوم أن نسميهم بذلك الاسم ونتجنب تلك منذ أيام إبراهيم ورضوان، ومن جاء بعدهما مثل علي بك الكبير ومحمد بك أبى الذهب. وشهد أهل مصر في أيام هذين الحاكمين الضعيفين تغيرا في نظام الحكم ونمط السياسة، وأخذت شوكة الدولة تتجه نحو جوانب الناس تخزهم وتؤذيهم وتفسد عليهم أحوال حياتهم، وما كان عهدهم بشوكة الدولة أن تكون أداة أذى لهم. فان الأمراء المصريين كانوا منذ القدم إذا تشاحنوا كان تشاحنهم فيما بينهم، وإذا اعتدى بعضهم فإنما كان يعتدي على بعض، وإذا غصبوا مالا أو سفكوا دما فإنما كان الحزب الغالب منهم يغصب مال الحزب المغلوب، ويسفك المنتصرون منهم دماء اتباع الحزب المخذول. وقديما تشاحن الأحزاب على الحكم وتنافسوا على السلطة، وما كان بأهل مصر باس من ذلك، إذ كانوا في كل هذه الحركات بمعزل عن الأذى. دماؤهم محفوظة، وأموالهم محرمة، وأعراضهم مقدسة؛ وأما منذ تولى أمر الحكم إبراهيم ومراد، فقد تغيرت الحال، وخرقت الحدود، وإذا بجنود الدولة تعسف بالناس، وتنتهك حرماتهم، فلم يرضهم ذلك، بل احتجوا وشكوا، ثم تحركوا واضطربوا، وكان اضطرابهم ذلك، قبل أن يتحرك شعب فرنسا في ثورته الكبرى بنحو أربع سنوات.
قال صاحب (عجائب الآثار) في حوادث سنة مائتين وألف للهجرة: أي في سنة ألف وسبع مائة وخمسة التسمية الجائرة التي رددها من قبل أعداء مصر ظلماً منهم وعدوانا. فقد ألصقت بهم هذه التسمية منذ أطلقها عليهم فرنجة الحملة الفرنسية الذين جاءوا إلى مصر لينزعوها من أيديهم ويحلوا محلهم في حكم البلاد، فكانوا يحاولون في كل مناسبة أن يشهروا بهم ويحملوا عليهم، بغية أن يفسدوا عليهم قلوب أهل مصر. ولهذا حبب إليهم أن يسموهم باسم (المماليك) وان ينعتوهم بأشنع النعوت، ويتهموه بأبشع التهم.
أما نحن فما أحرانا أن ننظر لأنفسنا بأعين مجردة عن الهوى، وان ننظر إلى صفحة تاريخهم بغير حقد ولا كراهة، فما كانوا بأهل لذلك، وما كان حكمهم إلا كسائر حكم الدول التي تعاقبت على مصر في مختلف العصور. فلقد تعاقب في عهدهم حكم العدل والظلم، وأختلف في زمانهم زهو النصر، وذلة القهر - وأي عصر في التاريخ قد خلا من مثل هذا(65/11)
التقلب والاختلاف؟ وكان شعب مصر في مدتهم يزن الدولة، فيرى ما فيها من حسنة وسيئة، فإذا رأى الحسنة غالبة، غفره السيئة في سبيلها، وهو في ذلك مثل سائر الشعوب المتمدينة المستقرة، لا تستخفهالحوادث إلى العنف ضناً بالسلام والطمأنينة،
غير أن ذلك الشعب الوديع كان يرى أحيانا من الحكام من لا يستحق عطفه ولا إجلاله، فكان عند ذلك يرفض الاعتداء بإباء العازم على عدم الاستكانة. وما اكثر الآيات الدالة على هذا لمن أراد النظر لنفسه، ومن لم يتلق وحيه عن أساطير الكارهين الكاشحين.
ولي أمر الحكم في مصر في أواخر القرن الثامن عشر أميران من اضعف من ولي أمر الحكم فيها، وهما مراد وابراهيم. فكان حكمهما في مصر أشبه شئ بالمرض يعتري جسم الشاب الناشئ؛ وتهدم في أيامهما ما بناه أكابر الأمراء السالفين قبلهم وثمانين للميلاد ما يأتي:
(وفي صبيحة (يوم الجمعة) ثارت جماعة من أهالي الحسينية بسبب ما حصل في أمسه من حسين بك (تابع مراد بك) وحضروا إلى الجامع الأزهر ومعهم طبول. والتف عليهم جماعة من أوباش العامة والجعيدية، وبأيديهم نبابيت ومساوق، وذهبوا إلى الشيخ الدردير، فونسهم وساعدهم بالكلام وقال لهم: أنا معكم، فخرجوا من نواحي الجامع وقفلوا أبوابه، وصعد منهم طائفة على أعلى المنارات يصيحون ويضربون بالطبول، وانتشروا بالأسواق في حالة منكرة، وأغلقوا الحوانيت، وقال لهم الشيخ الدردير: (في غد نجمع أهالي الأطراف والحاران وبولاق مصر القديمة، واركب معهم وننهب بيوتهم كما ينهبون بيوتنا ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم) فلما كان بعد المغرب حضر سليم اغا مستحفظان، ومحمد كتخدا ارنؤد الجلفي كتخدا إبراهيم بك وجلسوا في الغورية، ثم ذهبوا إلى الشيخ الدردير وتكلموا معه، وخافوا من تضاعف الحالة، وقالوا للشيخ: (أ. كتب لنا قائمة بالمنهوبات ونأتي بها من محل ما تكون) واتفقوا على ذلك وقرأوا الفاتحة وانصرفوا، وركب الشيخ في صبحها إلى إبراهيمبك أرسل إلى حسين بك فأحضره بالمجلس وكلمه في ذلك. .) ولم يقف الأمر عند حدود القاهرة، بل اشترك أهل الأقاليم في ذلك، فلم تمض السنة نفسها حتى تحركت مدينة طنطا في أيام مولد وليها المشهور السيد البدوي، وكان الشيخ الدردير على راس الحركة هذه المرة أيضاً.(65/12)
قال صاحب تاريخ (عجائب الآثار):
(فذهبوا (أي أهل طنطا) إلى الشيخ الدردير، وكان هناك بقصد الزيارة، وشكوا إليه ما حل بهم، فأمر الشيخ بعض اتباعه بالذهاب إلى (الكاشف الظالم) فامتنع الجماعة من مخاطبة ذلك الكاشف، فركب الشيخ بنفسه وتبعه جماعة كثيرة من العامة، فلما وصل إلى خيمة كتخدا الكاشف دعاه فحضر إليه والشيخ راكب على بغلته، فكلمه ووبخه وقال له: (انتم ما تخافون من الله) ففي أثناء كلام الشيخ لكتخدا الكاشف هجم على الكتخدا رجل من عامة الناس وضربه بنبوت، فلما عاين خدامه ضرب سيدهم هجموا على العامة بنبابيتهم وعصيهم، وقبضوا على السيد احمد الضاني تابع الشيخ وضربوه عدة نبابيت، وهاجت الناس على بعضهم، ووقع النهب في الخيم وفي البلد، فنهبت عدة دكاكين، وأسرع الشيخ بالرجوع إلى محله. . . ثم حضر كاشف المنوفية وهو من جماعة إبراهيم بك الكبير وحضر إلى كاشف الغربية وأخذوا وحضر به إلى الشيخ، واخذوا بخاطره وصالحوه ونادوا بالأمان. . . ولما رجع الشيخ الدردير إلى منزله حضر إليه إبراهيم بك الوالي واخذ بخاطره أيضاً، وكذلك إبراهيم بك الكبير، وكتخدا الجاويشية.)
غير أن الحوادث السياسية التي وقعت في ذلك الوقت حالت دون استمرار سعى أهل مصر نحو إصلاح نظام الحكم بأنفسهم، وذلك أن السلطان أرسل عند ذلك جيشاً لمعاقبة المفسدين في زعمه. فانخدع أهل مصر وتركوا ما كانوا فيه من مسعى ظناً منهم أن السلطان كفيل لهم بإزالة المظالم وإصلاح الأمور. وبقى جيش السلطان في مصر قليلاً، ثم دعته الدواعي إلى مغادرة البلاد فعاد الأمر إلى ما كان عليه من عبث مراد واتباعه، وعاد الناس يفكرون في الدفاع عن أنفسهم والتحرك لإزالة العسف، وأضحت مصر والجو فيها مكفهر، والقلوب غير مستقرة، والشعب متحفز، وأهل الدولة في وجل وترقب.
قال صاحب (عجائب الآثار) في وصف هذه الأيام:
(وركب إبراهيم بك الكبير في ذلك اليوم وذهب إلى الشيخ البكري وعيد عليه، ثم إلى الشيخ العروسي، والشيخ الدردير، وصار يحكي لهم، وتصاغر في نفسه جداً، وأوصاهم على المحافظة وكف الرعية عن أمر يحدثونه أو قومة أو حركة في مثل هذا الوقت، فانه كان يخاف جداً.)(65/13)
ثم أراد الله مرة أخرى أن يحول دون تمام تلك النهضة، إذ لم تلبث البلاد أن شهدت طلائع الحملة الفرنسية، فكان في تلك الحملة المشئومة آخر قضاء على حركة مصر في القرن الثامن عشر.
أمن الحق أن يقول قائل مع هذا إن أهل مصر ظلوا منذ القدم على الاستكانة والخضوع للمظالم؟
محمد فريد أبو حديد(65/14)
حركات الشباب
خواصها وأثرها في بناء أوربا الجديد
للأستاذ محمد عبد الله عنان
من أهم الظواهر التي يمتاز بها المجتمع الأوربي الجديد، أن الشباب يقوم في بنائه وتوجيهه بأعظم قسط؛ وقد هلكت زهرة الشباب الأوربي القديم في الحرب، وخلفها شباب جديد حائر يتخبط في غمار المتاعب والأزمات العديدة التي خلفتها الحرب؛ ولكن الحركات والانقلابات السياسية العنيفة التي تمخض عنها العهد الجديد أفسحت للشباب مجالاً كبيراً للعمل، وأسبغت عليه كثيراً من النفوذ والسلطان، وخصته في بناء الدولة الجديدة والمجتمع الجديد بأعظم قسط. ويلاحظ أن هذا التطور قد بدأ في أواخر الحرب ذاتها؛ حيث قامت الثورة البلشفية في روسيا وحطمت صرح المجتمع القديم كله، ولبثت منذ قيامها تعمل بجد ومثابرة على خلق جيل جديد وشباب جديد يضطرم بالمبادئ والمثل الجديدة ويكون لها في المستقبل عماداً وسياجاً، ثم قامت الثورة الفاشستية في إيطاليا بعد نهاية الحرب بأعوام قلائل، وأدركت ما للشباب من أهمية في بناء المستقبل، فأقبلت عليه واجتهدت في حشده وتنظيمه وتدريبه، وطبعته بطابعها القوي فاصبح من طلائعها وجندها المخلصين؛ وأخيراً قامت الثورة الوطنية الاشتراكية في ألمانيا (الثورة الهتلرية) وكان قوامها منذ البداية ذلك الشباب البائس الذي دفعته خيبة الأمل إلى أحضان التطرف والى لواء أولئك الذين يعدونه بالعمل ورفاهة العيش في ظل دولة جديدة يكون الشباب فيها كل شيء؛ ويستأثر بكل شيء، وفي تركيا الكمالية يشغل الشباب في المجتمع التركي الجديد اعظم مكانة، ويعلق عليه زعماء الثورة الكمالية اعظم الآمال، وقد حذت الثورة التركية حذو الثورة البلشفية والثورة الفاشستية في حشد الشباب وتدريبه وطبعه بالمبادئ والمثل الجديدة، وفي معظم الأمم الأوربية الأخرى مثل إسبانيا وفرنسا وبولونيا يجتمع الشباب حول المثل الجديدة، ويحاول أن يشق طريقه إلى بناء دولة جديدة ومجتمع جديد يكون له فيهما ما يطمح إليه من السلطان والنفوذ. وحتى في إنكلترا التي عرف شعبها بالروية والاتزان إزاء الآراء والتطورات الجديدة يبدي الشباب الإنكليزي ميلاً كبيراً إلى التطور، ولا يأبى تأييد الشيوعية والفاشستية إلى حد ما.(65/15)
ونلاحظ أيضاً أن الشباب اشد ما يكون تطوراً ونفوذاً في بناء الدولة الجديدة والمجتمع الجديد في ظل حركات الطغيان، كالبلشفية والفاشستية والوطنية الاشتراكية الألمانية. ذلك أن هذه النظم الطاغية تقوم على القوة والعنف وتحتاج أولاً إلى السواعد الفتية توازنها وتحقق لها ما شاءت من ضروب العنف والإرهاب، فإذا ما استقرت بفضل هذه السواعد القوية والأذهان الملتهبة الطامحة، اضطرت أن تفسح لها مجال النشاط والعمل تحت إشرافها ووحيها، وان توليها من النفوذ والمكانة ما يحقق بعض أطماعها، على أنها لأتقنع بحشد الشباب الناضج المكتمل، لأنها لا تأمن تطوره وانقلابه، فتعمد إلى الشباب الفتى تبث إليه تعاليمها، وتدربه على أساليبها؛ ولا تفر الأحداث والأطفال، لأنها ترى فيهم أجيالاً متعاقبة من الشباب الذي ترى أن تخلد زعامتها على يده؛ ولذلك نراها تخضع نظم التعليم والتربية لصولتها، وتطارد حرية التفكير والرأي بكل ما وسعت من ضروب العنف والشدة حتى لا تفضح مثلها ووسائلها، وحتى لا يلقى الشباب الذي تستعبده وتذله لغاياتها من النور والضياء ما يهديه إلى الحقيقة ويدفعه إلى تحطيم ذلك النير الوحشي الذي تضعه في أعناقه. وتلجأ هذه الحكومات الطاغية دائما إلى حشد الشباب في جماعات شبه عسكرية، تحت أسماء وصفات مختلفة، وتعنى عناية خاصة بتنمية الميول العسكرية والرياضية في نفسه، لتعوده أولاً على الطاعة العمياء، ثم لتحكم قيادته وتوجيهه بواسطة رياسة متدرجة مباشرة؛ وقد استطاعت الفاشستية الإيطالية أن تحشد حولها بهذه الوسيلة ملايين الشباب والأحداث، وحذت حذوها الوطنية الاشتراكية في ألمانيا فجندت الملايين باسم فرق الهجوم والحرس الأسمر، وجيش العمل، والشباب الهتلري وغيرها. ويتخذ الطغيان، الوطنية والغايات القومية ستارا لهذه الحركات؛ وقد يحقق بالفعل كثيرا من الغايات القومية المحلية أو القريبة المدى، ولكنه يعمل دائما بروح حزبي عميق، ويؤثر المبادئ والغايات الحزبية على غيرها، ويخضع الدولة لسلطان الحزبية، كما فعلت الفاشستية في إيطاليا والهتلرية في ألمانيا.
وتثير حركات الشباب اليوم في أوربا كثيرا من الاهتمام، ولا سيما بعد أن أصبحت عماد انقلابات خطيرة في نظم القارة ومجتمعاتها القديمة، وأضحت عاملا قويا في حياة أوربا السياسية. هل توجد بين حركات الشباب في مختلف البلدان خواص مشتركة؟ وما هي هذه(65/16)
الخواص المميزة وما علاقتها بالتطور الاجتماعي والسياسي في كل بلد؟ وهل تحفز الشباب في جميع البلدان آمال وغايات مشتركة؟ هذه الأسئلة وما إليها تثير كثيرا من البحث والجدل. وقد ظهرت في الأعوام الأخيرة عدة كتب ومباحث هامة بأقلام جماعة من كبار الباحثين والساسة عن حركات الشباب الأوربية وخواصها وآثارها، ومن اشهر هذه الدراسات وأحدثها كتاب بقلم الكاتب الفرنسي ايليا ايرنبور عنوانه (اليوم الثاني من أيام الخلق) وفيه يدرس حركات الشباب في روسيا السوفيتية، ويستعرض خواصها وتطوراتها بطريقةروائية، وفي رأيه إن الشباب الروسي إنما هو شعب جديد، يفيض بمادة جديدة تستنفد اليوم في مرحلة التوطيد الاشتراكي، كل قواه بملء الحرية؛ وان الماركسية (الشيوعية) قد انسابت إلى دمه، واصبح يتذوق الأوضاع التي تقررها، وأنها قد أسبغت عليه بالأخص صفتين: الأولى عاطفة التضامن البشري الذي دعا إليه من قبل سولوسييف، وتولستوي، ودستويفسكي؛ والثانية هي الثقة التي لا حد لها بالعقل والمنطق وما يترتب عليهما من الطموح المستمر إلى النور، واستعمال القوة المفكرة، ونبذ الخرافات القديمة. ومن هذه الدراسات أيضاً كتاب الدكتور جريندل عن حركات الشباب الألماني وعنوانه: (رسالة الجيل الفتي) وقد ظهر قبل قيام الطغيان الهتلري في ألمانيا، ولكنه لا يزال مرجعا في موضوعه. ويصف الدكتور جريندل الشباب الألماني بأنه (وطني) يخاصم الشيوعية اشد الخصومة، وانه يطمح إلى إقامة (اشتراكية ألمانية) تضع حدا لمساوئ النظام الرأسمالي وتقضي على الشيوعية أتم قضاء، وتوفق بين مصالح جميع الطبقات والأفراد. ويمتاز الشباب الألماني بصفة خاصة، هي انه يعتبر نفسه ذا قيمة في نفسه، ولا يكتفي بان يعتبر ذخر المستقبل كما هو الشان في معظم الامم؛ فليس الشباب في نظره حالة نضوج ينتهي عملها بعد حين، ولكنها حالة نضوج تام تترك ورائها كل الأجيال السالفة والقادمة، وهي ذات قيمة في نفسها تتمتع بأعظم الخلال؛ وإذا كان الشباب يتكون في الأمم الأخرى على مثل الرجل الناضج، فانه يرى في ألمانيا أنه أتم نضوجاً وأوفر قيمة من الرجل الكامل. وليس أدل على ذلك من (حركة الشباب) الألمانية الشهيرة التي استطاعت أن تنشئ ثقافة شباب حق لها كل مميزاتها، ولها مثلها الأعلى الخاص؛ ومن المعروف أن الطموح الألماني إلى المثل الأعلى، الذي غدا منذ الفيلسوف (كانت) ظاهرة الحياة العقلية الألمانية،(65/17)
هو مصدر هذه النزعة التي تدفع الشباب الألماني إلى الأمام، فهو يتقدم في سبيله لا يقعده شيً من الاعتبارات العملية التي تسحق الرجل الناضج، وهو لا يعبأ بالمصاعب الخارجية، بل يتحرى الغايات البعيدة دون النظر إلى الحقائق، وهذا الطموح الحر إلى المثل الأعلى هو الذي خلق الشباب الألماني.
هذا عن الدراسة الخاصة لحركات الشباب، وقد صدرت كتب وبحوث عديدة عن الفاشستية وأثرها في تكوين الشباب الإيطالي. وهناك بحوث عامة عن حركات الشباب الأوربي، منها كتاب لرنيه دبوي والكساندر مرك عنوانه (أوربا الفتاة) وكتاب لارنوداندييه عنوانه (الثورة المحتومة) وكلها تدور حول تنظيم أوربا الجديد من الوجهتين السياسية والاجتماعية، وحول تطور المجتمع الأوربي القديم، وفشل الديمقراطية في حشد الشباب، وخصومة الشباب للنظم الرأسمالية والشيوعية معا. وسر هذه النزعة نحو النظم الاقتصادية القائمة، هو أن معظم شباب ما بعد الحرب من اسر فقيرة ومتوسطة؛ وهو يشعر بأنه ضحية إغراق النظم الرأسمالية في استثمار الطبقات العاملة، ويشهد من جهة أخرى أخطار الشيوعية ووسائلها المخربة، فهو يرغب عن النظامين، ويطمح إلى نوع من الاشتراكية المعتدلة؛ وأحياناً يرى مثله الأعلى في الفاشستية، وأحياناً في الاشتراكية الوطنية؛ غير أن الفاشستية والاشتراكية الوطنية لم تتمخضا بعد عن مثل هذا النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي ينشده الشباب. ومن الغريب أن هذه الحركات الطاغية قد استطاعت أن تستعبد هذا الشباب الطموح المتوثب وأحيانا بالوعود الخلابة، أحياناً بالمنح المتواضعة في ميدان الكسب والعمل، ولكنها تعمد بنوع خاص إلى كسبه بالملق، فتصوره دائما بأنه كل شي في حياة البلاد، وانه صاحب السلطان المطلق في شئونها، وتمنحه من اجل ذلك بعض المناصب الرئيسية، ثم تسيره من ورائها وفق مشيتها، مصوره إياه بأنه هو الذي يقود نفسه بنفسه، على يد زعمائه الشبان.
ومن الحق أن نقول إن هذه الحركات الطاغية - الفاشستية والوطنية الاشتراكية والكمالية - كان لها مع ذلك في تكوين الشباب من بعض النواحي الخلقية والقومية آثار حسنة، تدعو أحياناً إلى الإعجاب، فهي فضلا عن العناية بتكوينه من الوجهة الرياضية والعسكرية، والسهر بذلك على رعايته الجسمية والصحية، تعني عناية خاصة بصقل رجولته وتقوية(65/18)
خلاله ومبادئه الأخلاقية، وتعويده على الحياة الخشنة العملية، وتدريبه على احتمال المشاق، والاعتماد على النفس، فهي تنشئه من هذه الناحية نشأة إسبارطية حسنة؛ وأما من الوجهة القومية فان لها كل الفضل في جعله جنديا متحمسا من جنود الوطن، فهي تحشده باسم الوطن أولاً وتذكي في نفسه حب الوطن وكل ما يتصل به، تاريخه وماضيه، ومدينته، وربوعه، وخواصه، ثم تبعث إليه حب المثل القومية التي تجيش بها الزعامة السياسية وتدخره لتحقيقها، وتذكي في نفسه العزة القومية إلى أقصى حدودها؛ وتحميه من أخطار المبادئ الشيوعية والثورية الهدامة، أو بعبارة أخرى تتخذه درعا لحمايتها منها. ولا يستطيع منصف أن ينكر ما لهذه التربية الأخلاقية والقومية من المزايا البديعة. على أن هذه الحركات تذهب أحياناً إلى حدود بعيدة، وتركب متن الإغراق في تصوير العواطف والغايات القومية، ففي ألمانيا مثلا تبث الاشتراكية الوطنية في نفوس الشباب نزعة قومية مغرقة تذهب إلى حد الأحقاد الجنسية؛ وشعار الاشتراكية الوطنية (الهتلرية) في هذه الناحية أن الجنس الألماني هو خير الأجناس البشرية، وانه يتفوق عليها جميعا بمواهبه وخواصه، وتستتر الوطنية الاشتراكية وراء التفرقة بين الأجناس الآرية والسامية، وتعلم الشباب والشعب الألماني جميعا أن الجنس الآري (ويجب أن نقرا دائما الجنس الألماني) هو اجدر الأجناس بإنشاء المدنيات، وان الشعوب السامية والآسيوية كلها شعوب هدامة للحضارة يجب أن تستعبد وان تستغل لمصلحة المدنية الآرية والجنس الآري؛ وتنظر الشبيبة الألمانية اليوم إلى جميع أمم العالم من عل وتتوغل في الأحلام المغرقة، وكان من آثار هذه المبادئ المغرقة التي تبثها زعامة محدثة متطرفة لا تتمتع بشي من المواهب الممتازة أن وقعت تلك الحوادث والمناظر الدموية المثيرة في ألمانيا باسم خصومة السامية ومطاردة اليهودية؛ ومن الأسف أن هذه المبادئ المغرقة تهيمن اليوم على الثقافة الألمانية كلها. وقد شهدنا بأنفسنا آثار الفاشستية في إيطاليا واثار الثورة الكمالية في تركيا، فأما في إيطاليا فان الفاشستية تغذي العاطفة القومية بقوة، ولكن في نوع من الرزانة وحسن التوجيه. وقد تحمل الشبيبة الإيطالية بعيدا في كبريائها وأحلامها، بل تذهب أحياناً إلى حد التعصب والخشونة. ولكنها لم تذهب قط إلى تلك الحدود المغرقة التي انتهت إليها الوطنية الاشتراكية في ألمانيا. وتتجه الشبيبة الإيطالية اليوم ببصرها إلى ماضي إيطاليا المجيد،(65/19)
إلى مجد روما ومجد القياصرة، فتتصور بعث الدولة الرومانية بكثير من حدودها وأملاكها القديمة، وتتجه أيضا إلى إحياء الفضائل والخلال الرومانية القديمة؛ وهي اليوم افضل مما كانت عليه بكثير من حيث الأخلاق والهمم والثقافة. وأما في تركيا فان العاطفة القومية تبلغ بالشباب حد التعصب الأعمى، ومع أن الشبيبة التركية لا تتمتع بدرجة محترمة من التعليم والثقافة، فإنها مع ذلك شديدةالكبرياء والغطرسة تتصور أنها سيدة الشباب في العالم كله، وأنها على حداثة عهدها بالمدنية الأوربية وضالة ثقافتها تضارع أرقى شباب أوربا ذكاء وثقافة ومدنية، وليس هذا بغريب في بلد يدعي زعماؤه انه هو مهد الحضارات البشرية، وان لغته (أي التركية) هي اصل اللغات البشرية، ويحسبون أن ما اسبغ على تركيا الجمهورية في أعوامها القلائل من قشور المدنية الأوربية يكفي لوضعها إلى جانب اعظم الأمم رقيا وحضارة.
هذا وأما عن حركات الشباب في الأمم الإسلامية والعربية فلا نستطيع أن نبسط القول، ومن الأسف انه لم تنتظم في أممنا الإسلامية والعربية حركات منظمة قوية من الشبيبة. نعم قام الشباب في مصر وفي البلدان العربية بحركات متقطعة، واشتركوا في الحركات القومية، وكان لهم فيها يوم قيامها اكبر الأثر. ولكن هذا العمل القومي لم يكن منظما ولا مستمرا، ولم تدعمه من الناحية الأخرى تلك المزايا القومية والأخلاقية التي ننشدها. ومن الأسف أيضاً أن شباب الشرق يتأثر من آن لآخر بنزعات الشبيبة الأوربية، فيحاول أن يقلدها تقليدا أعمى. مثال ذلك ما أذيع من أن شباب بعض البلدان العربية يحاول أن يقتبس من مبادئ الحركة الهتلرية، مع أن الحركة الهتلرية هي من اشد الحركات الحديثة نزعة إلى الاستعمار، وابلغها عداوة للحرية، واشدها احتقارا للأمم الشرقية؛ فمن الواجب على شبابنا أن يسترشد في حركاته وأمانيه بالظروف المحلية والغايات القومية قبل كل شي، ومن الواجب أن يعمل ولكن في روية واستنارة؛ ومن الواجب أن يسترشد دائما بمحن الوطن وماضيه المجيد في تغذية العاطفة القومية، وأن يكون شعاره العمل الرزين المنظم في سبيل الأماني القومية.
محمد عبد الله عنان المحامي(65/20)
الناي السحرية
للأستاذ بشير الشريقي المحامي
حين قدم موزار (1756 - 1791) الناي السحرية للجمهور لم تلق ما تستحق من نجاح. ويقال إن مدير الجوقة الموسيقية لأول مرة ظهرت فيها الناي السحرية، وبعد أن هدأت عاصفة التهليل، تسلل إلى موزار وكان يشرف على الإخراج، وقبل يده، فربت موزار على رأسه، لنا أن نذهب من ذلك إلى أن المدير قد فهم ما عنته الموسيقى، وان موزار أدرك أن المدير قد فهمها. كلاهما لم يستطع وضعها في كلمات رواية غنائية وهي في الواقع لم تكن مثبتة في كلمات؛ وما كانت كلمات الرواية الغنائية لتحول دون إدراك المعاني الموسيقية لو لم يتساءل النظارة عن معاني تلك الكلمات. لقد نجحت الناي السحرية بعد موت موزار؛ وسبب هذا النجاح ولا شك أن النظارة لم يعودوا يتساءلون عن معاني كلمات الرواية وأدركوا شيئا من معاني الموسيقى.
كلمات الناي السحرية هي عناوين لموضوعات ضخمة، ونحن نمر خلالها بسرعة إلى موسيقى بابا كينو الواضحة، ولكنا سوف نضيع ذلك الوضوح إن نحن سعينا إليه عن طريق الكلمات أو نشدنا موضوع الرواية في هذه الكلمات. إن حوادث الرواية ليس لها ارتباط بالكلمات بعضها ببعض، كما أن منطق الرواية كله في الموسيقى التي تخلق عالما تقع فيه الحوادث عفوا، عالما تصدر فيه النغمة عن أختها أو تنعكس عنها كما تنعكس قوى الطبيعة أو أفكار الرجل؛ هذا العالم هو الكون كما يراه موزار، والرواية بكاملها هي إيضاح لأيمانه الخاص. وعلى هذا فهي بذاتها عمل ديني وان كانت سليمة مما نجده في الدين من مسائل مبهمة وورع جبان. لقد عاش موزار في هذا العالم أشبه ما يكون بملك همه أن يضحك، ولكن بلا أذى ولا حقد، همه أن يضحك من شقاء بني الإنسان، وشر المصائب ما يضحك. وكان يعطف حتى على الفجار (انهم أطفال خبثاء يمكن لمن عنده سر السحر أن يجعل منه أهل خير وصلاح) وفي الناي السحرية يعمل السحر، انه يعمل في الناي نفسها، وفي قيثار بابا كينو. عند موزار سر الموسيقى، وقد بلغ من جهل العالم بحكمته أن حسبه مجرد شحاذ يعزف بأنغامه في الشوارع؛ وبعد جيل اصبح الناس يذكرونه كلما ذكروا الأنغام، وأصبح الشعب ينظر إليه كما ينظر إلى سوسن الحقل؛ ولا تزال الناي السحرية(65/21)
إلى اليوم اكثر من رواية غنائية عادية ذات أنغام وأسلوب بسيط قديم، يمكنك أن تتمتع بها على كل حال إذا لم تقف إزائها موقف المتهيب؛ يمكنك أن تنعم بها كما تنعم (بهملت) تلك الرواية المشجية؛ وهي مثل (هملت) تحوي معاني دقيقة بعيدة، معاني لا تدركها أفهامنا. إن بابا كينو صورة مجازية؛ ولكنها من اعظم الصور في جميع روايات العالم؛ انه كل شخص كما كان (هملت)، وإذا كنا نملك مهارة معرفة أنفسنا وجد فيه كلا منافسه؛ وبكلمة أخرى انه ذلك العامل المستولي علينا والذي نحبه في أنفسنا ونحتقره في الآخرين؛ انه ذلك العامل الذي لا نعترف به للحظه، إلا وهو عامل الخوف والاعتزاز والكذب.
قدم موزار اغانيه لسارسترو وبابا كينو، حتى إذا أخذا في الغناء أحسسنا كانا نشاركهما غناءهما، وأي غناء؟! غناء ليس فوق مقدرة فهمنا ولا سرورنا؛ غناء الملاك الذي تعلم لساننا الأرضي وادخل عليه الإصلاح أقام بذلك سماء على الأرض؛ سماء لا تبعد عنا ولا تصعب علينا؛ سماء من غابة مقفرة نقدر فيها أن نضحك بقدر ما نقدر ان نغني؛ سماء تضحك فيها الملائكة منا وتضحك معنا؛ وفي هذا الفردوس الذي خلقه لنا موزار سرعان ما يتحول جلال الموسيقى إلى هزل، وسرعان ما تعود الموسيقى إلى جلالها، وهذا التبدل يظهر دائما طبيعيا. ذلك هو عقل موزار الذي رماه الشعب بالطيش لسبب واحد هو انه وقد أوجد في سمائه مكانا لكل شي لم يوجد مكانا لمجد سليمان المتبذل، أو للعنف والبشاعة والبلادة، لا يوجد في الفن أبداً ما هو اعمق أو اجمل من أصول موسيقى سارسترو. لقد بلغ من وضوح عقيدة موزار أنها تبدو وكأنها ليست بعقيدة وإنما هي مجرد بهاء، مثلها في ذلك مثل القديسين الحقيقيين الذين يبدو عليهم انهم ليسوا من أهل الصلاح بل من أهل الفتون.
وهنالك من الناس من لا يجد في جمال موزار فنا، وسبب ذلك أن جماله جمال حق. هم يحسبون انه احتال على هذا الجمال احتيالا؛ انهم ينشدون صرير الجهود، وينشدون الأنانية؛ لقد بلغ من نقاء جهوده ومن كثرتها أن حسبوها رخيصة لا ترضي إلا العوام.
يصعب علينا أن نشاهد الناي السحرية تمثل تمثيلا مرضيا على مسرح اليوم، ولكنا برغم ذلك سنسر ولا ريب من أي تمثيل لهذه الرواية التي حوت روح الموسيقى، والتي يمكن للمرء أن يرى منها كيف تكون الناي السحرية؛ لقد بلغ من رقة موسيقاها ورقة أنغامها أنها تقدر أن تجدد موسيقى هذه الأيام المسرحية الغريبة.(65/22)
يمكننا أن نصف تامينو وبانينا كما نصف احسن صور في مجمع فني، وان نتخذ كلا منهما مثالا لأبطال الروايات الغنائية وبطلاتها في كل عصر ومصر، بلى قد لا تنتسب ثيابهما لعالم الحقيقة أو الفن، وقد تعرض نماذج مصطنعة ومنمقة، ولكن الموسيقى تلطف من ذلك وتساعد كل شخص على أن يقوم بدوره احسن قيام. من الواضح أن موسيقى الناي السحرية تجلب السرور وتوافق أولئك الذين ينشدونها فإذا بهم كأنهم يقومون بعمل ديني اكثر مما لو كانوا يقومون بعمل مسرحي، وانك اكثر ما تشعر بذلك عند انسجام الأنغام حينما يتراءى لك أن ريح الفردوس تهب على جميع المغنين فيتمايلون لها تمايل الأزهار بالرغم من ثيابهم الكثيفة. ولكن الناي السحرية مفتقرة إلى عالم متجانس في النظر كما هو متجانس في السمع حتى تظهر بمظهر كامل مرض، ولهذا فنحن أحوج ما نكون لفترة إصلاح تتناول كل عاداتنا المسرحية؛ نضرب لذلك مثلا سارسترو، انه يعيش بين مناظر مصرية، على حين إن هذا العالم المصري لا يناسب الموسيقى وهو يعني لدينا أعاجيب القاعة المصرية، ولكن هنالك عالما مفردا يناسب الموسيقى كل المناسبة، عالما تستطيع أن تمر فيه من العبث إلى الجمال مرورا طبيعيا؛ وفيه تكاد تكون جميع الصور متناسبة وواضحة، ذلك العالم هو العالم الصيني كما عرفناه في الفن الصيني حيث يوجد في هذا الفن الخيال الروحي والهزل البهي؛ حيث يوجد في هذا الفن مزيج من طفولة وقداسة يوحي إلى العين ما تحويه موسيقى موزار إلى الأذن؛ وفي الفن الصيني فقط يقدر بابا كينو أن يكون قديسا: في ذلك العالم فقط تعيش روح موزار بضحكتها وحكمتها، وكأنها في بيتها؛ في هذا العالم تساوت الأزهار وجميع الحيوانات في الخطر مع جنس الإنسان، في هذا العالم يظهر الأفعى والثعبان وكأن كلا منهما مصنوع من ورق مقوى؛ في هذا العالم لا يظهر السحر انه مجرد تعاويذ؛ في هذا العالم يمكن للمرء أن يقع على مناظر طبيعية وصور جميلة؛ وفيه لا يكون سارسترو ساحرا مسرحيا بل كاهنا كنسيا.
في الحق إن الفن الصيني هو عالم الناي السحرية حيث تتدلى الأجراس الفضية من كل شجرة مزهرة، وتزدحم الحدائق بالبلابل الساحرة؛ هو عالم الحماسة والتأمل، حيث يجلس الحكيم في السرادق في ضوء القمر، ويبتسم ابتسام عاشق، وحيث يبتسم العشاق كالحكماء. . حيث يوحي كل شي للعين ما توحيه موسيقى موزار للأذن. وفي العالم الصيني يمكننا أن(65/23)
نتجنب كل تشدق في الغزل الشهواني اعتاد أن يلفظ به المسرح الحديث؛ كما يمكننا أن نخضع أنانية أوربا الثقيلة للشرق المنكر لذاته.
لقد تمرس موزار بالألم، ولكنه لم ينغمس في؛ انه يعني بجمال العالم اكثر مما يعنى بجمال نفسه؛ عنده أن الشر من عمل الشياطين الذين تقدر الموسيقى على طرد أرواحهم.
لقد كان موزار اورفيوس هذا العالم الذي يستطيع إن نحن أصغينا إليه أن يذلل الحيوانية الكامنة فينا جميعا؛ ومع ذلك فان أقصى وقاره ومنتهى سر جماله إنما هو في رحمته التي وسعت كل شي؛ وهو حين يترحم علينا أو على نفسه لا يأخذه البكاء، بليطلب إلينا أن نجفف دموعنا وان نكون من الصالحين، وان نصغي لنايه السحرية.
وهذا الحنان الذي ينبعث من أصواته خلال الناي السحرية يبعث في الناي السحرية جمالاً وهزة وعجبا، لا يمكن أن تبعثها أية عاطفة إنسانية. سارسترو ليس بساحر، إن هو إلا قسيس، لأن فيه حكمة الرحمة المحببة، ولأنه خصص مكانا في فردوسه لبابا كينو ابن الطبيعة يلهو فيه مع صاحبته بابا كينا. مرت ببابا كينو وهو في فردوس سارسترو الموحش لحظة فكر فيها أن يشنق نفسه، لأنه لم يجد من يشاطره الحب، ولكنه لا يكاد يضع حبل المشنقة على عنقه حتى تسمع في الموسيقى قهقهة تنبئك انه يتململ من حبل المشنقة؛ ولكن سرعان ما تقدم إليه بابا كيناوسرعان ما يعود إلى الفردوس انسه، ويأخذ الاثنان في غناء دورهما في نهاية الرواية.
نحن على يقين بان عدالة الناي السحرية قضت ببراءة ملكة الليل؛ والزنجي البشع وجميع معاونيه؛ لم يعاقب منهم احد؛ لقد شقوا لغير ما سبب؛ فجاءوا نادمين مستغفرين؛ وهكذا تنتصر الناي السحرية على شرورهم وشقاواتهم، فتدق الأجراس الفضية من كل شجرة؛ وتغني البلابل غناء يخلب الألباب، ويبتسم الحكماء والمحبون ابتسامة الأطفال، فتدخل ابتساماتهم دخولا طبيعيا في دين موزار المقدس؛ هذا الدين المهيب الذي تالف فيه الابتسام والعبوس، ولم يتنافرا تنافرهما على الأرض.
بشير الشريقي المحامي(65/24)
خيال الشاعر بين الطبع والصنعة
للأستاذ عبد العزيز البشري
لعل من الفضول أن يقول قائل: إن الشاعر يتكئ اكثر ما يتكئ في فنه على الخيال. أما العالم فوجهه كله إلى الحقائق مادية كانت أو معنوية، ذاتية كانت أو نسبية. نعم لقد يكون هذا من فضول الكلام إذا قرر لذاته. ولكنه يرتفع عن هذا الموضع إذا سيق لتوجيه بعض القضايا التي قد تدق على كثير أو على قليل من الإفهام. ولعل الموضوع الذي نعالجه اليوم من هذا الطراز.
وبعد، فإذا كان شعر الشاعر إنما يتكئ اكثر ما يتكئ على الخيال، فاعلم أن هذا الخيال مهما غلا، ومهما حلق وارتفع، ومهما استحدث واخترع، ومهما لون من الألوان وشكل من الأشكال - فانه مستمد في تصرفه جميعه من الحقائق الواقعة. مبتدئ لابد بها، منته لا مفر في الغاية أيليها. فمن الحقائق الواقعة مادته، وهي مستعارة في كل ما سَّوى وفي كل ما صوَّر وشكًّل ولوَّن.
وذلك بان الإنسان مهما رزق من شدة العقل وأوتي من قوة الخيال، لا يستطيع أن يتصور شيئاً لم يقع عليه حسه. وكيف له بهذا والحس وحده هو السبيل لا سبيل غيره إلى إدراك الإنسان، والى إدراك الحيوان. فدنيا الحيوان هي ما يحيط به ويشهده في مضطربة لا اكثر؛ ودنيا الإنسان في الواقع، هي ما يرى وما يسمع، وما يدرك من الحقائق بسائر الحواس الأخرى، وليس يعدو العلم من طريق القراءة حاستي السمع والبصر. بل إن هذا الإنسان نفسه لو قد كفَّ من أول مولده في محبس لما قدَّر أن دنياه شي غير ما هو فيه، وما يتصل من الأسباب بما هو فيه، ولقد يعمد ذهنه إلى التقصي، ولقد يتبسط في القياس، ولقد يذهب في إدراك ما لم يشهد إلى قريب أو إلى بعيد، ولكنه في النهاية لن يقع على جديد لا يتصل بمحيطه، ولا يرتبط بأسبابه.
لك الحق بعد هذا الكلام أن توجه هذا السؤال: إذا كان الخيال لا يمكن أن يعدو الواقع الذي يدركه الحس. فما الفرق بينه وبين الحقيقة؟ أو ما الفرق بين أخيلة الشعراء وبين حقائق العلماء؟
لقد توجه، بادئ الرأي، هذا السؤال، على انك لو فكرت وتدبرت لبان لك الفرق بينهما دون(65/25)
جهد في التفكير والتدبير: فالعالم إنما يطلب الحقيقة كما هي، سواء أكان ذلك بأخذها كما قررها مقرروها، أو باستظهارها، أو باستكشافها، أو نحو ذلك من وسائل إصابتها والتهدي إليها. أما الخيال فانه يعمد إلى الحقائق الواقعة فيتناولها بالتأليف والتلفيق، ويأخذها بالتشكيل والتلوين، حتى تستوي له منها صورة توائم في قوتها وروعتها وتناسقها حظ مسويها من قوة التخييل، وجودة الصنعة، ودقة الذوق، والعكس في العكس.
فقد بان لك أن الصورة المتخيلة مهما غلا فيها صاحبها واطرف، ومهماابعد بها عما طالعة الفكر، فإنها مشكلة من حقيقة واقعة، أو ملفقة من حقائق واقعة. ولست أصيب مثلاً لتوضيح هذا الكلام احسن مما أجراه أصحاب المنطق من التمثيل للممكن العقلي (المستحيل الوقوعي) بقيام جبل من الذهب، وتموج بحر من الزئبق. فذلك وان كان غير واقع بالفعل، إلا أنه مما يمكن إيقاعه في الذهن بالتلفيق والتشكيل: فالجبل موجود والذهب موجود. والبحر كائن والزئبق كائن. وكل سعى الخيال في تجلية مثل هذه الصورة هو استعارة هذا المعدن لذلك الجرم، فيكون جبل الذهب، ويكون بحر الزئبق.
كذلك تستطيع أن تفرق بين الشاعر والعالم، بأن الشاعر في الجملة، مُعطٍّ، أما العالم، في الجملة، فاخذ: الشاعر يبتكر ويستحدث بقلب الحقائق، والتلفيقبينهما، وإفراغها في غير صورها، وتلوينها بغير ألوانها. أما العالم فابلغ جهده في تلقي الحقائق. فإذا كان فيها استحداث أو ابتكار فبمجرد الانتفاع بما انكشف له فيها من الآثار، وما جلى عليه من مكنون الأسرار.
ولقد علمت أن الشاعر إنما يتكئ في فنه اكثر ما يتكئ على الخيال، حتى لقد ذهب اكثر النقدة إلى انه ليس شعراً ذلك الكلام الذي يجري في الحقائق المجردة، وان كان مقفى موزوناً. ولقد عرفت اثر الخيال في تلفيق الحقائق وتزييفها، وطبعها على غير صورها الواقعة. لهذا نفى الله تعالى أن يكون كتابة الحكيم شعراً، ونفى أن يكون رسوله الكريم شاعراً: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ). (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، إن هُوَ إلا ذِكرٌ وَقُرْءانٌ مُبينٌ) يرد جل مجده بهذا وبغيره دعوى الكفار من أن القران شعر، على معنى انه من تلفيق الخيال وتزييفه، كما رد دعواهم بأنه سحر، والسحر ما يواري حقائق الأشياء، ويجلوها على صور تتمثل للأوهام بخداع الأسماع والأبصار: (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ).(65/26)
(يخَيَّلُ إليْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعَى). إنما الكتاب كله حق وصدق ومنطق صحيح (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَميدٍ). (إِنْ هُوَ إلا ذِكْرٌ وَقُرْءانٌ مُبينٌ). وهذا هو الأليق بحجة الرسالة، وآيات الله المُعلِمة على طريق الهدى وعلى طريق الضلالة.
ومن البديه أن الشعراء لا يطلقون أخيلتهم في فنون المعاني لمجرد العبث بقلب الأوضاع، ومسخ الأشكال، والتلفيق بين الحقائق. إنما الغاية أن تجلو عليك هذه الأخيلة صوراً طريفة بديعة لهذا الذي أدركته من الواقع، أو تترجم لك عما يدق عن فهمك من معانيه ومغازيه، او تكمل لك وتبسط بين يديك ما ترى أن الطبيعة قد قصرت فيه وانقبضت دون حبكه وتسويته، ونحو هذا مما يرهف الحس، ويمتع النفس بمطالعة صورة من صور الجمال الفني في أي وضع من أوضاعه، وعلى أي شكل من أشكاله.
ولا شك في أن أبدع هذه الصور وأروعها، وأذكاها للحس، وأجملها موقعاً من النفس، هي أدقها حبكاً، واحكمها سبكاً، حتى إذا طالعتها التبست عليك بالحقيقة، أو إنها لتكاد. وهنا تتفاوت منازل الشعر بتفاوت الشعراء في قوة التخيل، ورهافة الحس، ودقة الصياغة، وبراعة الأداء.
وفي هذا المقام يجمل أن نوضح معنى لعله يحتاج عند الكثير إلى التوضيح. قال المتقدمون: إن أعذب الشعر أكذبه. وهذا كلام صحيح إذا اتجه على أن أعذب الشعر ما كان من نسج الأخيلة لا ما وقع على مجرد تقرير الحقائق الثابتة. ولكننا إذا تحولنا بالنظر إلى ناحية أخرى من نواحي هذا الموضوع لرأينا كذلك أن أعذب الشعر اصدقه: ولسنا نعني بالصدق هنا المطابقة للواقع، على تعريف أصحاب المنطق، وإنما نريد به الصدق في الترجمة عن شعور الشاعر. فأعذب الشعر في الواقع هو الذي ينفض عليك ما يعتلج في نفس الشاعر، وما يتمثل لحسه في إدراكه للأشياء.
ولا يذهب عنك أننا نحن سواد الناس تعرض لنا الأشياء فندركها، في الغالب، كما هي ماثلة لأعياننا أو لأذهاننا. وهذا الإدراك لا يتعدى ظاهر الصور، أما الشاعر، أعنى به من يستحق هذا الاسم، فله نظرة نافذة في مطاوي كثير من الأشياء، تسلكها دقة حسه، وهنا يتقدم خياله السري فيسوي منها صورة جميلة بارعة. فإذا واتته قدرة النظم، فاداها كما(65/27)
أدركها، وجلاها كما تمثلت له، خرجت على حظ من الإحسان والإجمال يوائم حظه من قوة الخيال، ودقة الذوق، وحسن الأداء.
والشعر الذي تتوافر له هذه الخلال هو الشعر الذي يروعك، ويصقل حسك، وقد يغمز كبدك، لان الشاعر قد رفعك به إلى نفسه، فأشهدك ما لم تكن تشهد، وكشف لك من دقائق الأشياء عما لم تكن ترى، وبعث عاطفتك فحلقت في عالم الروح كل محلق، وترقرقت في سرحات الجمال كل مترقرق.
وأعود فأقول لك: إن الصورة الشعرية، في هذه الحالة، وان كانت خيالاً في خيال، إلا أنها لقوة موقعها، ودقة صنعها تشبه عندك الصور الواقعة؛ بل لقد تلتبس عليك بالحقائق الثابتة. وكيف لا يكون لها في نفسك هذا الأثر، وهي نفسها قد تمثلت لأدراك الشاعر واضحة سوية، في غير تعسر ولا تعمل، فنفضها في الشعر عليك كما تراءت لذهنه، وتمثلت لحسه.
أرجو أن يكون قد صح عندك الآن إن أعذب الشعر، من هذه الناحية، اصدقه لا أكذبه.
الصناعة الشعرية
ولست أعني بالصناعة هنا إلا صناعة الخيال. فانه إذا كانت الصناعات البديعية، لفظية وغير لفظية، قد ساءت إلى الشعر العربي إساءة بالغة، فان الصنعة الخيالية لقد كانت في الإساءة اشد وابلغ. وتلك أن الشاعر أو من يتصدى لقرض الشعر، على العموم، لا يشعر شيئاً ولا ينفذ حسه إلى شيء. فيبعث خيالة من مجثمه، ويستكرهه استكراها على أن يصنع له صورة شعرية، فيمشى متعثراً هاهنا وهاهنا في الارتصاد لما عسى أن يسنح له من المعاني واقعة حيث وقعت. حتى إذا لاح له شبحها شكها ولو لم يتبين شخصها. ثم جعل يعالجها بالترويض والتذليل، ويضيف إليها ما ظنه من جنسها، أو ما حسبه مما يلابسها. ويطبع من هذه الامشاج صورة شعرية (والسلام)، صورة لا الشاعر أحسها من أول الأمر أو تذوقها، ولا من يقرؤه شعر بالألف لها، أو ذكا حسه بها.
وهذا الخيال المصنوع المتعمل المجهود به ليس من الشعر في كثير، وهذا على ارفق تعبير. بل انه لأشبه بصنعة النجار أو الحداد في بسائط المصنوعات. بل انه كثيراً ما تخرج الصورة الشعرية ملتوية شائهة، تخفي معارف وجهها على ناظمها فكيف بقارئيه؟(65/28)
وعلى عيني أن أقول إن شيئاً من هذا يقع في بعض ما نقرؤه من شعر هذه الأيام!.
ودعنا من الحديث الآن حتى نفرغ من شان القديم. وخبرني بعيشك أي شيء هذا الذي ساقه علماء البلاغة شاهداً على حسن التعليل!.
لو لم تكن نيةُ الجوزاء خِدمتَه ... لما رأيتَ عليها عِقد منتطق
وقول الآخر في هذا الباب أيضا. ً
لم تحكِ نائِلكَ السحابُ وإنِّما ... حُمَّت به فَصبِيها الرُّحضاءُ
اللهم افكان من السائغ في الذوق أو في الخيال أن نظرة الشاعر للجوزاء تحيط بها دقاق النجوم لم تلهمه إلا إنها إنما تمنطقت لتقوم على خدمة ممدوحه؟
وهل كان من السائغ أن نظرة ثاني الشاعرين في السحاب وهي تهمي، لم تشعره إلا أنها غارت من كرم ممدوحه لقصورها عن مجاراته، فأخذتها الحمى، فلم يكن ما تسح به إلا من عرقها!
اللهم اشهد أن هذا وهذا كلام بارد مليخ، وهذا وهذا من الخيال الفسل السخيف!.
وبعد، فهذه فسولة الكلام وسخفه إنما ترجع في قرض الشعر في الجملة، إلى أحد شيئين: إما لان الناظم لا طبع له ولا شاعرية فيه، فهو يتصيد الخيال تصيداً ويصنعه صنعاً، ليجئ بنحو ما يجئ به الشعراء، وأما للرغبة في شدة المبالغة، والإيفاء على الغاية من المديح ونحوه، فيسف الشاعر ويسخف، ويأتي بمثل هذا الهذيان الذي أتى به ذانك الشاعران. إلى أن طبيعة هذه الموضوعات ليس فيها مجال عريض لشعور صحيح، ولا لخيال واضح صريح: والحمد لله الذي عفى على كثير من هذا الأدب في العصر الذي نعيش فيه. والنظر، بعد هذا، كيف يقول زهير بن أبى سلمى في مدح هرم بن سنان ووصف كرمه، وكيف، على انه غلا في ذلك اشد الغلو، أتى لهذا الكرم بصورة قوية مسبوكة سائغة.
قد احدث المبتغون الخير من هرم ... والسالكون إلى أبوابه طرقاً
من يلق يوماً على علاته هرما ... يلق السماحة منه والندى خلقاً
وذلك لان يوماً ممدوحه كان جواداً حقاً، وانه هو تأثير بشدة جودهحقاً، وهو إلى هذا شاعر فحل، خصب الذهن سري الخيال، فلم يتعمل ولم يتعسف، بل لقد أنتضح شعره بالصورة التي جادت بها شاعر يته فجاءت، على إمعانها في الغلو، سائغة مسبوكة لا نشوز فيها على(65/29)
الأذواق. وهذا هو الفرق بين الخيال المطبوع، وبين الخيال المصنوع.
ولقد عرض ذكر الذوق في بعض هذا الحديث. وللذوق محله غير المنكور في الشعر وفي غير الشعر. ولقد كان ينبغي أن نفصل القول فيه بعض التفصيل لولا أن طال بنا الكلام. فلنرجئ هذا إلى مقال آخر.
عبد العزيز البشيري(65/30)
بين فن التاريخ وفن الحرب
خالد بن الوليد في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي
رئيس أركان حرب الجيش العراقي
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهاأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)
خالد بن الوليد
يعد خالد بن الوليد من اكبر قادة العرب في عهد الفتوح الأولى، وهو بلا منازع من أفذاذ الرجال الذين حالفهم النصر ووأيدهم الظفر في الممامع والحروب بلا استثناء.
ولم يذكر قط له التاريخ وقعة خسر فيها المعركة وهو قائدها، حتى في معركة موته التي وقعت في السنة الثانية للهجرة في شرقي الأردن بين الطفيلة والكرك، أنقذ خالد المسلمين ببطولته وإقدامه، برغم تفوق الأعداء الأكيد وموت الذين تولوا القيادة على التعاقب عملا بوصايا الرسول. وفي غزوة أُحد كان خالد يقود خيالة قريش فبقى في الميمنة يشاغل ربيئة المسلمين الموفدة لحماية الميسرة بالهجوم عليها من حين إلى آخر، ويراقب سير القتال بين المسلمين وقريش إلى أن رأى ربيئة المسلمين تركت موقعها وسارعت للاشتراك في الغنيمة. فهجم بخيالته ملتفا وراء المسلمين وقاطعا عليهم خط الرجعة، فقلب نصر المسلمين إلى انكسار انتهى إلى انهزام المسلمين وجرح الرسول.
قلنا من الوقائع التي اشترك فيها خالد بن الوليد في عهد إشراكه وإسلامه أن تلك الوقائع جميعا انتهت إلى النصر المبين.
ومما لا شك فيه أن خالدا من اقدر قواد العرب على القيادة. فجدير بالضباط أن يدرسوا حركاته إن في حروب الردة أو في فتح العراق أو فتح سوريه. ومن الواضح انهم سيطلعون على الأسس القويمة التي كان يسير عليها ويرون فيها تنفيذ مبادئ الحرب التي لا تزال مرعيه حتى يومنا هذا.
ولقد قال خالد قبل وفاته انه شهد مائه زحف أو زهاءها، وما في بدنه موضع شبر إلا وفيه(65/31)
ضربة أو طعنة. ولا نبالغ إذا قلنا انه خرج من تلك الزحوف بأجمعها غالبا منصورا.
1 - مصادر البحث:
من العسير جدا البحث في أخبار الفتوح الأولى بحثا يمكننا من الاطلاع على الخطط العسكرية والأسباب التي أدت إلى وضعها والنتائج التي أسفرت عنها الحركات. ذلك لان القصاصين أو مدوني السير والمغازي أو مؤرخي الفتوح ليسوا من أبناء الجيل الفاتح، فقد دونوا الأخبار بالسماع أو نقلاً بالإسناد. وقد نراهم غير متفقين في تدوينهم الأخبار على التاريخ والمكان اللذين وقعت فيهما المعركة، ولا على مقدار القوة التي اشتركت فيها، ومن المعارك ما لم يتفق المؤرخون على زمن وقوعها. والحقيقة أن التاريخ العسكري يثبت المعارك التي جرت قبل الميلاد بمقدماتها ونتائجها وتفاصيلها، وقد يستخرج منها الباحث الأسس الحربية دون عناء.
فالمعارك التي نشبت بين الجيش المكدوني بقيادة الاسكندر والجيش الفارسي في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد تم تدوينها بصورة اقرب إلى الصحة من الوقائع التي نحن بصددها.
أما المعارك التي جرت بين الجيوش الرومانية وجيوش الأقوام المهاجرة، والقتال الذي نشب بين القياصرة والقواد المطالبين بالعرش، فأخبارها مفصلة في كتب التاريخ إلى حد أن الباحث فيها لا يرى مشقة في استقصاء الحوادث.
فمعركة (كانية) التي نشبت سنة 216 قبل الميلاد بين الجيش القرطاجي بقيادة هنبال والجيش الروماني، كانت ولا تزال مثالا ينسج القادة العظام على منواله تعبئة الجيش في ميدان المعركة، وهي بلا منازع معركة نموذجية تتوق نفس كل قائد إلى تقليدها.
والسبب في تدوين أخبار هذه المعارك تدوينا صحيحا مع أنها نشبت قبل الفتوح العربية بعدة قرون، هو أن المؤخرين الذين اثبتوا أخبارها إما أنهم اشتركوا فيها فعلا، وأما انهم قادوها بأنفسهم، وأما انهم عاشوا في زمن وقوعها.
فالقائد زينوفون اليوناني الذي قاد العشرة الآلاف من بلاد بابل إلى اليونان راجعاً بهم إلى بلاده سجل حوادث تلك الرجعة في كتابه (الزحف) (اناباسيس وهذا الكتاب لا يزال مرجعا ثقة للباحثين العسكريين. وكذلك سجل يوليوس قيصر أخبار فتوحه في بلاد جرمانية(65/32)
في كتاب (الحروب الغالية).
أما المؤرخون العرب الأولون فلم يدونوا أخبار الغزوات النبوية وحروب الردة والفتوح التي تمت في النصف الأول من القرن الهجري إلا بعد انقضاء جيلين على اقل تقدير.
وأول من جمع الوثائق الباحثة في الغزوات والفتوح الأولى عروة بن الزبير المتوفى سنة 94 هجرية. فان عروة جمع تلك الوثائق في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان - أي بعد وفاة الرسول بستين سنة، ودونها دون إسناد. ويلى عروة في التدوين ابن اسحق المتوفى سنة 151 هجرية مقتبسا معلوماته من عروة. أما ابن هشام المؤرخ للسير النبوية فاستقى أخباره من ابن اسحق، مع انه توفي بعده بقرن ونصف قرن - أي سنة 312هـ. ويأتي بعده ابن سعد الواقدي الباحث في حروب الردة والمدون للمفتوح العربية في العراق وفي سورية، وتوفي سنة 230هـ، بعد أن عاش 62 سنة. ويليه المؤرخ المشهور الطبري وهو بلا منازع أول مؤرخ عربي اثبت الأخبار التاريخية بطريقة علمية. وتوفي سنة 310هـ بعد الفتوح العربية الأولى بقرنين ونصف قرن على اقل تقدير.
والحقيقة أن كتاب تاريخ الطبري هو العمدة في استقصاء أخبار الفتوح العربية وهو المرجع الأول والأخير. وهكذا يتضح لك أن رواة الفتوح أو مؤرخيها لم يشتركوا في وقائع الفتوح أو انهم لم يعاصروا أولئك الفاتحين، بل انهم دونوا أخبارها سماعا أو نقلا بعد مرور مدة غير يسيرة على الفتوح. وكان لزاما أن تأتى الأخبار ناقصة ومشوشة ومتناقضة. حتى أمسى الباحث فيها لا يهتدي إلى استنباط بعض الحقائق إلا بشق النفس. والذي يزيد البحث إشكالا كثرة الرواة الذين استند إليهم المؤرخون في تدوين الأخبار. وأنت تراهم يسخون برواية غثها ويبخلون بسميها.
وثمة تناقض بين أخبار الرواة المنتمين إلى الديوان الحجازي والرواة المنتمين إلى الديوان العراقي. وكذلك نجد تناقضا في الروايات التي ينقلها المضري والربيعي واليماني والقيسي، لان كلا من هؤلاء حاول أن ينسب مفخرة الوقعة إلى قبيلته وقد يكون غير مشترك فيها.
2 - دار الحركات
إن الساحة التي جرت فيها الحركات تمتد من سواحل البحر الأحمر في الحجاز وتنتهي في ارض الدهناء التي تفصل مقاطعة الحسا ومقاطعتي العارض والسدير، وهذه الساحة تتناول(65/33)
شمالي الحجاز وجبل شمر وبلاد نجد.
والأرض التي تتكون منها هذه الساحة صحراوية الوصف على العموم، والمياه فيها قليلة، والغابات لا اثر لها فيها، وتتخللها واحات نبتت فيها أشجار النخيل وبعض أشجار الفاكهة. وقد تكونت في المنخفضان التي تتصرف إليها مياه الأمطار بسهولة حيث تكثر الآبار الضحلة، وتقطع الوديان هذه الساحة، وتكاد تبدأ جميعا من هضبة نجد المرتفعة فتجري في جهات مختلفة، ويصب بعضها في البحر الأحمر والبعض الآخر في خليج فارس أو في جهة الربع الخالي. والوديان يابسة على العموم وهي ضيقة ووعرة عند اجتيازها المناطق الجبلية وعريضة سهلة عند مرورها بالبادية.
وينبت في بعض أنحائها شجر الأثل والشوك والطلح وغير ذلك من الأشجار التي تتحمل العطش، وعندما تنزل الأمطار تجري إليها المياه من كل جانب فتغطي الوديان سيول المياه الجارفة الجارية بسرعة، وتصب أما في البحر وأما في الانفدة الرملية.
والجبال في المنطقة التي جرت فيها الحركات قليلة. وهي لا تتعدى سلسلة طويق في نجد تمتد من الشمال إلى الجنوب في جبلين متوازيين، ويشرف الجبل الغربي على الانفدة الغربية بين نجد والحجاز. ويشرف الجبل الشرقي على رمال الدهناء الواقعة بين خليج فارس ونجد. والسلسلة جرداء، لا نبت فيها ولا ماء. وفي القسم الجنوبي من منطقة العارض يفصل وادي حنيفة هذين الجبلين أحدهما عن الآخر، فيجري أولا من الشمال إلى الجنوب بعد أن تصب فيه عدة شعب من الشرق والغرب، وفي جنوبي الرياض يغير مجراه إلى الجنوب الشرقي فيصب في رمال الاحقاف.
وما عدا سلسلة طويق نجد سلسلتين أخريين في منطقة جبل شمر وهما جبل اجا وجبل سلمى، وهما موازيان يفصل أحدهما عن الآخر وادي العش. ويمتد كلا الجبلين من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي. وجبل اجر باتصاله بالجبال المنفردة الواقعة في جنوب غربية يكون سلسلة طويلة تمتد إلى حرة خيبر في الحجاز.
والسلسلتان حجريتان ارتفاعهما من 50. إلى 180. متر. والجبال المتفرقة التي تتشعب من هاتين السلسلتين تحيط بها الكثبان الرملية. والبادية الواقعة بين الحجاز وسلسلة طويق متكونة من هضبة مرتفعة يتفاوت ارتفاعها من 100. متر إلى 150. متر، ويكتنفها بعض(65/34)
الروابي الحجرية المنفردة. وهذه الهضبة تنفصل عن هضبة جبل شمر بوادي الرمة الذي يبدأ من حرة خيبر، ويجري من الغرب إلى الشرق، وبعد ان يسقى بآبار منطقة القصيم الغنية يغير جهته إلى الشمال الشرقي إلى أن يصب في ارض السواد بجوار البصرة.
والوادي هنا اخطر الوديان الواقعة في دار الحركات، وهو يفتح خطوط الحركات بين الحجاز ونجد. وعندما تقطع الوديان وشعابها السلاسل الجبلية تكون العقبات المضائق والمنعطفات التي تنساب فيها الطرق.
والساحة مملوءة بالانفدة الرملية، والكثير منها يتجه من الشمال إلى الجنوب، أو من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقى، لذلك تعترض الوديان الطرق الممتدة من الغرب إلى الشرق.
ومن جملة العوارض التي تتصف بها دار الحركات الحرات، وهي الأراضي البركانية التي تكتنفها الحجارة الخامدة. وهذه الحرات واقعة إلى شرقي الحجاز، وأخطرها حرة خيبر الواقعة في شمالي المدينة مسافة بضع مراحل.
والبقاع الأهلة بالسكان في هذه الساحة هي الواحات في بطن الوديان أو في الأرض المنخفضة التي انصرفت إلى بطنها مياه الأمطار، وأخطرها واحة المدينة في وسط وادي الحمض، ثم واحة بريدة وعنيزة في وسط وادي الرمة. وواحات العارض الممتدة على طوار وادي حنيفة، ثم واحات السدير وواحة خبير وواحات جبل شمر.
وتمتد الطرق في الوديان للاستفادة من المياه المتراكمة فيها في زمن الأمطار من الآبار المحفورة على طوارها. وهذه الطرق تبدا من المدينة، ومنها ما يتجه شمالا، فبعد أن يمر بخيبر يمتد إلى وسط جبل شمر سالكا السفوح الجنوبية لسلسلة اجا، ومنها ما يتجه نحو الشمال الشرقي إلى أن يهبط إلى وادي الرمة فيسلكه حتى يصل إلى واحات نجد الغنية. ولا سبيل إلى السير على خارج الطرق لوعورة الأرض وندرة الماء فيها.
يتبع
طه الهاشمي(65/35)
2 - الشريف الإدريسي
يضع اقدم وأصح خريطة جغرافية للدنيا القديمة
للأستاذ محمد عبد الله ماضي
عضو بعثة تخليد الإمام محمد عبدة بألمانيا
7 - الإدريسي يضع خريطة بناء على نظريته السابقة.
وبناء على نظرية الإدريسي التي شرحناها وضع خريطته العالمية هذه، فهي تمثل القسم المعمور من الكرة الأرضية وهو القسم الشمالي منها كما قدمنا. هذا القسم يشمل القارات الثلاثة: أفريقية الشمالية في الجهة اليمنى العليا (الجنوب الغربي)، أوربا في الجهة اليمنى السفلى (الشمال الغربي) يفصل بينهما بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط)، واسيا في النصف الشرقي تشمل جميع الجهة اليسرى. وأمريكا طبعا لم تكن عرفت بعد، وكذلك هذا التقسيم إلى القارات الثلاث لم يكن معروفا لدى العرب على الإطلاق، وإنما كانوا يقسمون الكرة الأرضية إلى الأقاليم السبعة من الجنوب إلى الشمال، ثم كل إقليم إلى عشرة أقسام من الغرب إلى الشرق، وفوق هذا كانوا يقسمونها إلى الدول والممالك التي كانت معروفة في ذلك الوقت.
8 - الأقاليم السبعة وخطوط العرض.
والأقاليم السبعة كانت عند قدماء اليونان عبارة عن خطوط أفقية تبتدئ من خط الاستواء نحو الشمال وتحدد النقط التي تتم فيها زيادة النهار نصف ساعة على طوله في المنطقة السابقة من جهة الجنوب، ثم استعمل العرب الأقاليم وأرادوا منها المناطق التي تقع بين هذه الخطوط، وتلك المناطق لم تكن متساوية عندهم. أما الإدريسي فانه أراد من الأقاليم السبعة التي قسم خريطته إليها هذهالمناطق التي كانت معروفة عند العرب، ولكنها عنده متساوية المقدار إذا استثنينا الإقليم الأول الذي يمتد إلى درجة 23 شمال خط الاستواء؛ فالأقاليم الستة الباقية يشمل كل منها ست درجات من درجات العرض، وعليه فالإقليم الثاني من 24 - 29، والثالث من 30 - 35 والرابع من 36 - 41، والخامس من 42 - 47، والسادس من 48 - 53، والسابع من 54 - 59. ولما كانت نظرية الإدريسي إن(65/36)
المسكون من جهة الشمال هو لغاية درجة 63 فقط، لان المنطقة التي تقع بعد ذلك شديدة البرودة ومغمورة بالثلوج فهي غير صالحة للسكنى والعمران. لما كانت هذه نظريته أضاف إلى الإقليم السابع الذي ينتهي بدرجة 59 أربع درجات أخرى من جهة الشمال من 60 - 63 وبذلك يتم الجزء المعمور من الأرض. ومما يذكر للإدريسي بالإعجاب والفخر انه حاول بتقسيمه الأرض إلى الأقاليم السبعة إثبات درجات العرض وتحديدها، وانه افلح في محاولته هذه إلى حد بعيد يجعل علماء الاختصاص في الوقت الحديث يطأطئون الرأس له إعجابا وتقديرا. أبتدأ الإدريسي بإثبات درجات العرض من درجة 28 إلى درجة 63 على التوالي، والدرجات التي أثبتها توافق الدرجات الحقيقية تمام الموافقة في جميع البحار وفي معظم اليابسة حيث توفرت لديه الأسباب أمكنه إجراء المقاييس الصحيحة؛ وفي بعض جهات قليلة من اليابسة حيث لم تتم لديه الأسباب تختلف الدرجات التي أثبتها عن الدرجات الحقيقية اختلافا بسيطا. فمثلا وضع الإدريسي مدينة (كلمار) ببلاد السويد عند درجة 56 , 3 وهي تقع عند درجة 56 , 5، وجعل الدانيمرك ابتداء من 54 , 5 إلى 58 والصحيح أنها من درجة 54 إلى 57 , 5، وجعل إنكلترا من 52 - 58 بدلا من 50 - 58 , 5، وهذا طبعا فرق بسيط في جهات قليلة دعا إلى ارتكابه عدم توفر الأسباب كما تقدمنا، ولم تنقصه عناية الإدريسي ودقته. أضاف الإدريسي إلى القسم الشمالي من الكرة الأرضية جزءا بسيطا من القسم الجنوبي إلى درجة 16 جنوب خط الاستواء، هذا الجزء الذي تقع فيه منابع النيل، وبين عليه منابع النيل بشكل واضح يدل على مقدار براعته العلمية، ومد الساحل الشرقي لأفريقيا نحو الشرق وجعله حدا للمحيط الهندي من جهة الجنوب، وطبعا لم يلق هذا الجزء عناية الإدريسي لخلوه من السكان وعدم صلاحيته لذلك طبقا لنظريته التي شرحناها. كذلك لم يثبت الإدريسي درجات العرض إلى درجة 28 شمال خط الاستواء، وإنما اكتفى بوضع أرقام بجانب أسماء البلاد التي تقع في هذه المنطقة. ولما كانت هذه الأرقام لا تتطابق مع درجات العرض للبلاد الموضوعة بجوارها وإنما تختلف عنها اختلافا كبيرا فإننا نستطيع أن نفهم السر في أن العلامة الإدريسي لم يثبت هنا درجات العرض متوالية كما فعل بعد تلك المنطقة، بل اكتفى بوضع الأرقام التي وصلت إليه في مواضعها كما اخبر بها.(65/37)
9 - التقسيم الثاني (تقسيم كل من الأقاليم السبعة إلى عشرة
أقسام).
وبعد هذا قسم الإدريسي كلا من الأقاليم السبعة إلى عشرة أقسام متساوية من جهة الغرب إلى جهة الشرق، فالإقليم الأول يبتدئ من القسم الأول غربا إلى العاشر شرقا، والثاني من الحادي عشر إلى العشرين، وهكذا إلى الإقليم السابع الذي يبتدئ بالحادي والستين وينتهي بالسبعين. وعليه فأول الأقسام السبعين يوجد في الجهة العليا من الغرب، وآخرها في الجهة السفلى من الشرق. بحث الأستاذ (ميللر) هذا التقسيم الثاني فتبين له كما ذكر أن الإدريسي لم يرد به إثبات درجات الطول، وان الباحث لخريطته والقارئ لكتابه نزهة المشتاق لا يستطيع اخذ ذلك منهما، فضلا عن أن هذا التقسيم يختلف اختلافا كبيرا عن درجات الطول. لهذا أريد أنا هنا أن افرض أن الإدريسي اتخذ هذا التقسيم الثاني تسهيلا للقيام بالمهمة ورسم الخريطة لا غير.
10 - البحار السبعة.
وبعد هذا نريد أن نتكلم على البحار السبعة التي ضمنها الإدريسي خريطته، وهي شي آخر غير البحر المحيط أو بحر الظلمات الذي يحيط بالكرة الأرضية.
(1) البحر الشامي أو الرومي (البحر الأبيض المتوسط) الذي يتفرع من بحر الظلمات الغربي ويمتد نحو الشرق.
(2) خليج البندقية (بحر الادرياتيك).
(3) خليج النطاس (البحر الأسود) وهذان يتفرعان من بحر الروم.
(4) البحر القزويني أو بحر الخزر وهو بحر داخلي غير متصل بالمحيط الأعظم.
(5) بحر الهند (المحيط الهندي) وهو يحتوي على ثلثمائة جزيرة يستمد ماءه من بحر الظلمات الشرقي.
(6) البحر الفارسي.
(7) بحر السويس أو بحر القلزم (البحر الأحمر) وكل من هذين يتفرع من بحر الهند.
11 - الإدريسي يسير في وصفه للكرة الأرضية بناء على(65/38)
التقسيم الثاني.
هذه البحار السبعة تخترق الأقاليم السبعة بحسب مواقعها، ولقد وصفها الإدريسي وصفا مسهبا دقيقا ووصف جزرها والبلاد التي تقع عليها إلى غير ذلك في كتابه نزهة المشتاق عند كلامه على الأقاليم السبعين التي شرحناها في التقسيم الثاني. فانه اتخذ في طريقة وصفه للكرة الأرضية أن أبتدأ بوصف القسم الأول من الإقليم الأول متدرجا نحو الشرق إلى العاشر، ثم عاد إلى القسم الأول من الإقليم الثاني متدرجا إلى العشرين، وهكذا سار في طريقه إلى أن تم الكلام على القسم الأخير من الكرة وهو القسم السبعون، وعند كلامه عن كل قسم منها حدده وبين موقعه، وتكلم عن مدنه وجباله وبحاره وأنهاره وعن كل ما يحتويه من ماء ويابس، وعن الدول التي تشغله وعن سكانه وجنسياتهم وعاداتهم وعما يعيش فيه من حيوان وما ينبت فيه من نبات، مبينا كثيرا من خواص ذلك. طبيعية وطبية إلى آخر ما ضمنه نزهة المشتاق من الشرح المسهب والملاحظات الدقيقة.
12 - مصير المائدة الفضية واثر خريطة الإدريسي الذي
تركته في علم الجغرافيا ورسم الخرط.
شرحنا كيف وضع الإدريسي خريطته وكيف ألف شرحها، ولقد تم حفر المائدة الفضية ورسم الخريطة وتأليف الكتاب ونشرهما واختيار الأسماء لهما بأمر رجار الثاني في يناير سنة 1154 كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وبعد إتمام هذا العمل الجليل بستة أسابيع عاجلت المنية رجار الثاني، ولكن ولله الحمد بعد أن استراح ضميره ووصل إلى حل ما استعصى عليه السنين الطوال، وبعد أن قدم للعالم والعلم على يد الإدريسي خدمة من اجل الخدمات في التاريخ، ولعله يشوق القراء الآن أن يعلموا مصير المائدة الفضية وماذا فعل الله بها وان كان مصيرا يوجب الأسف ويثير العبرة، ففي سنة 116. ميلادية بعد وفاة رجار الثاني بست سنوات وفي عهد ابنه (فلهلم) هاجم الثوار القصر الملكي واقتحموه وكان أشنع أعمالهم التي لم تكن موجهة إلى الأسرة النورمانية فقط، وإنما قد ارتكبت - علم الثوار أو لم يعلموا - ضد العلم والعالم اجمع. كان أشنع هذه الأعمال انهم كسروا هذه المائدة واقتسموها فيما بينهم وما هي حقا إلا ثورة، والثورات لا عقل لها، تم هذا الجرم على(65/39)
مرأى ومسمع من الإدريسي الذي بذل مع مليكه من الجهد ما استغرق السنين الطوال وما كلفهما كثيرا من التضحيات، حتى ابرزا عملهما القيم للوجود، والذي كان يستطيع اكثر من غيره أن يقدر قيمة عمله العلمي والفني. لم يبق بعد هذا إلا خريطة الحائط وخريطة الكتاب الموزعة في السبعين قطعة التي هي أقسام الأقاليم السبعين كما ذكرنا. انتشرت هذه الخريطة فيما بعد اشد الانتشار وأعمه، وتركت أثرا واضحا في المؤلفات والخرائط الجغرافية التالية لهذا العصر في الشرق والغرب، وظلت مع شرحها مئات السنين المرجع الوحيد لعلماء الجغرافيا من العرب والافرنج، ومعينهم الذي يستمدون منه معلوماتهم. ولقد ذكر الأستاذ ميللر بعض أسماء المؤلفات التي يظهر فيها اثر خريطة الإدريسي وكتابه بوضوح عند أول نظرة، منها كتاب الجغرافيا لابن زيد المولود بغرناطة سنة 1214 والمتوفى بتونس سنة 1274 ومنها خرائط مارينو زانوتو التي وضعها (بطرس فيسكونتي في سنة 1318 - 1320م. والتي انتشرت في جميع أنحاء أوروبة. إلى آخر ما عدد من أسماء المؤلفين والمؤلفات التي قد يكون لنا أن نكتفي منها بما ذكرنا.
يتبع
محمد عبد الله ماضي(65/40)
في الأدب الدرامي
8 - الرواية المسرحية في الفن والتاريخ
بقلم احمد حسن الزيات
تحليل موجز لأشهر المآسي
(فدر موضوعها أسطورة من أساطير الإغريق في عهد الحروب الطروادية، وأهم أشخاصها تيزيه بن ايجيه ملك أثينا وفدر امرأة تيزيه وبنت مينوس، وهيبوليت بن تيزيه من انتيوب ملكة الامازون، واريسي أميرة من أميرات اثينا، وتيرامين مشير هيبوليت، واونون مرضعة فدر ونجيتها. وقد وقعت حوادثها في تريزين إحدى مدن (بيلوبونيز) وملخصها أن فدر امرأة تيزيه تبوح إلى مرضعتها (اونون) بهواها الدخيل وحبها المضمر لهيبوليت بن زوجها، ويستفيض الخبر في الناس فجأة أن تيزيه قتل في أثناء رحلته، فهتبل هذه الفرصة فدر، وتعلن إلى هيبوليت غرامها، فيقابل إعلانها بالدهش والإباء، ويظل مخلصا لحبيبته ايريس. ثم يعلمون أن الملك حي وانه قدم المدينة، فتياس فدر من هيبوليت، ويتسعر قلبها بالغيرة، ويمضها الندم ووخز الضمير. فتخجل من لقاء الملك وتفر من وجهه، وتظن ان هيبوليت سيفضي إلى أبيه بما كان منها فتترك اونون تؤلف المكيدة له، وتدبر الوقيعة به، فتهمه عند أبيه بمراودة سيدتها عن نفسها فيثور ثائر الملك فينفي ابنه، ويكله إلى غضب (نبتون). ويستيقظ ضمير فدر، فتنفجر باللعنة والعقوبة على مرضعتها الأثيمة، ويرجع تيرامين فيقص على الملك في أسلوب بليغ مؤثر جموح الجوادين بمركبة هيبوليت، وموته تلك الميتة الشنيعة. فيجزع الملك، وتقوم الأدلة على براءة ابنه مما اقترف به، فيتضاعف الحزن ويجل الخطب، فيذهب إلى فدر يسألها جلية الامر، فتعترف له بخيانتها، وقد كانت من قبل قد شربت سما فيفعل في جسمها، ولا تلبث أن تلفظ نفسها على المسرح.
مآسي فولتير
اشهر مآسي فولتير اثنتان وهما: (زيير) وميروب:
(زيير موضوعها ذكرى من ذكريات الحروب الصليبية، وقعت حادثتها لفتاة مسيحية(65/41)
أخذها أحد فرسان المسلمين في سبيه منذ طفولتها فرباها أراد أن يتزوج منها، ولكنها عرفت أباها وأخاها وهي على وشك الزفاف فأغرياها بالتنصر، وهذه المأساة مكتوبة على مثال عطيل لشكسبير. أما أهم أشخاصها فهم: اورسمان وهو سوداني من سكان أورشليم وخطيب زيير، ولوزينيان أحد أمراء أورشليم وابنته زيير وابنه نير ستان، وثلاثتهم من أسرى صلاح الدين، وشاتيليون فارس فرنسي، وفاطمة جارية من جواري السوداني، وقد وقعت هذه المأساة في أورشليم.
ففي الفصل الأول:
تبوح زيير لفاطمة بسر زواجها المقبل من السوداني. فتذكرها الجارية أنها مسيحية. وكان نيرستان قبل ذلك قد نال الأذن من مولاه اورسمان ان يذهب إلى فرنسا ليأتي بالفداء له ولعشرة من الأسرى. فيعود ويطلب من اوزسمان فك رقبة زيير وفاطمة وعشرة فرسان من الأسرى. فتفعل هذه الأريحية في نفس الأمير، فيمنحه مائة أسير ليس فيهم زيير ولا لوزينيان.
وفي الفصل الثاني:
تريد زيير أن تقضي نيرستان حق الشكر على مروءته وفضله، فتحمل اورسمان على إطلاق سراح لوزينيان. فيتحرر هذا، ولكنه يعرف ابنته زيير بصليب قد احتفظت به، وابنه نيرستان بأثر جرح فيه. ويأخذه المقيم المقعد من الهم والحزن حين يعلم أن ابنته مسلمة، ولكن زيير ترتمي في أحضان أبيها، وتعده أن تتنصر.
وفي الفصل الثالث:
يلقى نيرستان اخته، وينعى إليها لوزينيان أباها، ويحضها على أن تجعل باعتناق النصرانية. فتوافقه على ذلك، وتقسم له أنها لن تتزوج من اورسمان. ويأتي هذا بعد قليل يطلبها إلى المسجد ليعقد عليها، فتستمهله ريثما تدبر وسيلة للهرب.
وفي الفصل الرابع:
يمهلها اورسمان يوما للاستعداد للزواج. وفي غضون تلك المهلة يرسل نيرستان كتابا إلى أخته، يرشدها فيه إلى طريق الهرب، ويدلها على باب سري تنجو منه، فيقع هذا الكتاب(65/42)
في يد اورسمان، فيظن أن نيرستان يزاحمه في حب زيير وهو يحاول الفرار بها. فيعد الوسائل للقبض عليه.
الفصل الخامس:
وفي جنح الليل البهيم تتسلل زيير إلى المكان الذي دلها أخوها عليه، وتناديه فلا يجيبها غير اورسمان بطعنة نجلاء بخنجره، ويسحب نيرستان في المسرح إلى موضع الجثة، فيصيح الأخ المنكود: واأختاه!! فيعرف اورسمان خطأه، ويعتلج في صدره الندم واليأس فينتحر.
يأخذون على هذه القطعة فقدان اللون المحلي منها في دوري زيير واورسمان. فقد يخيل إلى من يسمع تلك العواطف التي اكناها وشرحاها انهما من المختلفين إلى أندية السمر الأوربي في القرن الثامن عشر، فضلا عن انه جعل ذلك الأمير الكريم الحليم الوديع ينتقل فجأة إلى جنون الغضب لرؤيته رسالة لم يتحقق ما فيها.
(ميروب موضوعها استيلاء ايجسط بن ملك مسينا على العرش، ومدارها على انتصار الحب. واهم أشخاصها:
ميروب أرملة كريسفونت ملك نسينا، وولدهما ايجسط، وبوليفونت قاتل الملك، ونرباس خادم كريسفونت الخ. وقد وقعت حوادث هذه المأساة في مسينا.
الفصل الأول:
قبل خمسة عشر عاما من ابتداء المأساة قتل كريسفونت هو وولدان من أولاده في ثورة. أما ايجسط ثالث بنيه فقد أنقذه من المذبحة نرباس خادم أبيه، ونجا به في بلد غريب، وكان القاتل هو بوليفونت؛ ةقد استطاع أن يكتم سر الجريمة خمس عشرة سنة، فيبدأ الفصل بتحريض إحدى الوصيفات ميروب على المطالبة بحقها في العرش، وهي تتربص قدوم ولدها الغائب، ولكن الشعب يصمم على انتخاب ملك، ويفاضل الآن بينهما وبين بوليفونت. ويوهم بوليفونت الشعب انه المنتقم للملك، فيفضلونه وينصبونه عليهم ملكا. ويريد هو أن يجعل تملكه شرعيا فيحاول الاقتران بميروب فترفض وتطالب بحق ولدها، فيرسل طغمة من السفاكين يبحثون عن ايجسط ليقتلوه.(65/43)
الفصل الثاني:
وفي أثناء ذلك يقدم إلى المدينة شاب فيتهم بقتل ايجسط ويساق إلى قصر الملك، وتسمع بأمره نيروب فتشفق أن يكون ابنها فترغب في ان تراه وتسأله هي بنفسها، فيجيب الفتى على أسئلتها في طهارة قلب وسلامة ضمير، فتأبى أن تحكم عليه. ومع ذلك تستفيض الإشاعة في الناس ان ايجسط قد قتل، وان قاتله هو ذلك الشاب الغريب. وأقوى الأدلة على حدوث القتل منه أن سلاح القتيل معه، فيستولي الهم واليأس على الملكة.
الفصل الثالث:
تعزم الملكة الرأي على الشاب، وتحرص على أن تقتله بيدها انتقاما لولدها وإطفاء لكبدها. وبينما هي ترفع يدها بالضربة القاضية عليه يقبل نرباس لحسن - الحظ في الوقت المناسب فيمنع الضربة، ويفشي لها سر هذا الغريب، ويخبرها ان القاتل الحقيقي لزوجها هو بوليفونت.
الفصل الرابع:
يدهش بوليفونت ان المتهم لا يزال حيا يرزق، ويرتاب في أمر هذا الغلام، ويرى ميروب مقبلة فيأمر حراسه أن يضربوا الساعة عنق هذا الغريب، فيضيق ذرع ميروب وتعييها الحيلة ويغلبها الجزع، فتصيح بالجند: ويحكم أيها البرابرة، كفوا انه ابني!
الفصل الخامس:
يقبل بوليفونت أن يبقى على الولد إذا رضيت أمه أن تكون له زوجة. ولا ترى الأم بداً من الخضوع لقاتل زوجها إبقاء على ولدها، ويذهب الناس جميعا إلى الهيكل ليحتفلوا بعقد الزواج، ويأخذ الناس فيما هم فيه، ويتقدم ايجسط إلى الهيكل يريد أن يقسم يمين الطاعة للملك، فيأخذ مدية القربان ويطعن بها بوليفونت طعنة نجلاء فيصرعه، ويهتف الشعب بعد تردد قليل لملكه وابن ملكه.
يأخذون على هذه القطعة الرائعة، بعد الإمكان في بعض الحوادث، فيسألون كيف يقتل بوليفونت الملك، ثم يسير سمعه بالناس خمسة عشر عاما بأنه المنتقم له؟ وكيف يتهم الفتى القادم إلى مسينا بقتل ايجسط وهو نفسه ايجسط؟ ولماذا تريد ميروب أن تقتل بيدها هذا(65/44)
الغلام؟! والجاذبية مع قوتها لم تسر نامية، فان الخطر الذي حاق بايجسط ساعة أن همت أمه بقتله في ختام الفصل الثالث أقوى من الخطر الذي يهدده في الحل.
وكان في النية أن نختار نماذج من مآسي شكسبير إلا أن ما اخترناه لغيره قد كثر حتى حبسنا طويلا عن الموضوع، فلنكتف بما شاع له في مصر من ملخص ومترجم، ولنأخذه فيما نحن بسبيله.
يتبع
(الزيات)(65/45)
2 - مصطفى كمال سيرة حياته
للكاتب الإنجليزي ارمسترونج
تلخيص وتعليق خنفي غالي
وفي ذلك الحين لم يكن يسمع في موناستير سوى صفير الرصاص ودوي المدافع، ولم يكن يرى فيها سوى جحافل الجيوش المتأهبة لمقاتلة اليونان الذين استولوا على كريد، وكان الجو يضطرب بإشاعة الحرب واقتراب ساعة الخطر على الإمبراطورية، وأخذت نسور أوربا تتأهب للانقضاض على الجثة محاولا كل منها أن يظفر بنصيب الأسد. أما في داخل الإمبراطورية فهناك فقر مدقع، وبؤس ملح، وحكم فاسد، واستبداد خانق، أضحت معه حياة الأتراك حلما مروعا وكابوسا ثقيلا، إذ سلب السلطان عبد الحميد الأتراك أمنهم وحريتهم، فنشر عيونه في كل مكان، وألقى بالأتراك في أعماق السجون. فعم الذعر وساد القلق كل الناس، ونادى الشبان بالإصلاح، واضطرمت النفوس بالثورة، ولا سيما في بلاد البلقان حيث يوجد مستودع البارود على وشك الاشتعال عاجلا أو آجلا وكان الشاب مصطفى قد هضم كل الأفكار الحديثة الشائعة في أوربا في ذلك الحين وتشبع بها فخالطت لحمه ودمه، فكان إذا تأمل حالة وطنه وما يقاسيه من ألوان العسف والإرهاق إلى مرجل قلبه ومني نفسه أن يكون على راس ثورة تقتلع الاستبداد من اساسه، ويكون هو بطلها البارز وسيدها المطاع، وهكذا تتجلى عظمة بطلنا في حساسية نفسه الكبيرة التي تأبى أن يطمئن له بال أو يهدئ له ضمير حتى يتحقق مثله الأعلى وغرضه الأسمى في الحياة.
وفي أيام العطلة كان يذهب إلى سالونيك لزيارة أمه، ولكنه كان ينأى جهد استطاعته عن الحياة المنزلية، وظل الصفاء بينهما حتى تزوجت، أنكر عليها الزواج ولم يرتح إليه وصارحها بهذا، فتشاجرا وحل بينهما بعض الجفاء.
وقد تعلم إبان إقامته في سالونيك مبادئ اللغة الفرنسية بمعونة الرهبان الدومنيكان، فتعرف إلى شاب يكبره قليلا يدعى فتحي كان حييا أنيس المحضر، وكانا يقران معا في شغف شديد أدب روسو وفولتير وبعض الكتاب الفرنسيين كما قرأ كتب استوارت مل وهبز في الاقتصاد، وكان بطلنا لا ينئ عن حث الطلبة على إنقاذ الوطن من استبداد الخليفة ومطامع الدول الأجنبية كما كان يكتب وينظم القصائد النارية متغنيا بجمال الحرية،(65/46)
وصاحبه التوفيق في مدرسة موناستير كما صاحبه من قبل في مدرسة سالونيكا، وكتب أساتذته عنه انه (شاب متقد الذكاء عسير النفس تستحيل مخالطته) وبعد أن أتم دراسته أرسل إلى المدرسة الحربية بالأستانة برتبة ملازم ثان، وهناك انغمس في حياة الإثم والفجور من لعب القمار ومخالطة النساء، ولم يعرف عنه انه احب إحداهن ذلك الحب الأفلاطوني النبيل، بل كان يقبل عليهن إقبال النحل على الزهرة يمتص رحيقها ويتركها ذاوية ذابلة، وقد انصرف فجأة عن هذه الحياة واقبل على عمله بجد ونشاط، ووفق فيه توفيقا بالغا يعزى قبل كل شي إلى تعويله على نفسه واعتماده على مجهوده، وقد جاز كل امتحاناته بتفوق باهر، ورقي إلى رتبة كبتن سنة 1905، وكان يمزج السياسة بعمله دائما، وقد ألفى نفسه في الاستانه بين ضباط صغار يقاربونه في السن ويضطرمون بالثورة على استبداد الخليفة وتدخل الدول الأجنبية. وكان أساتذتهم بالمدرسة يعطفون عليهم ويتغاضون عما يفعلون، ولكن لا يجرؤون على قيادتهم ومظاهرتهم.
وكان لهؤلاء الضباط بالمدرسة جمعية تدعى جمعية الوطن تلقي الخطب وتذيع النشرات مهاجمه فيها نظام الحكم وأخلاق الموظفين واستبداد الخليفة ورياء رجال الدين، بل لم يخل الدين نفسه من مطاعنها لحيلولته - كما كانوا يعتقدون - دون التقدم والارتقاء، فضلا عن فساد النظم المؤسسة عليه، وقد تعاهد أعضاؤها على تقويض حكومة الخليفة واستبدالها بحكومة دستورية، وإنقاذ الناس من كابوس رجال الدين، وتحرير المرأة من عبوديتها. والواقع أن تركيا في ذلك الحين كانت تحتضر، وما كانت الحياة لتعود إليها إلا إذا لقحت بدم نقي جديد، وقد انخرط الشاب مصطفى في سلك أعضائها، واخذ يكتب في نشرتها مقالات نارية وشعرا ملتهبا، ويلقى في اجتماعاتها خطبا لاذعة، ولكن السلطان عبد الحميد لم تكن لتخفى عليه خافيه، فعلم بأمر الجمعية من جواسيسه المنبثين في كل مكان، وجزع جزعا شديدا إذا رأى فيها نواة عمل سينتهي بثل عرشه. فخاطب أحد أعوانه المدعو إسماعيل حقي، وتحدث هذا بشأنها إلى ناظر المدرسة الحربية بالاستانة، فحرم الناظر عقد اجتماعاتها، ولكن لم يفت هذا في عضد أعضائها الثائرين، فاخذوا يعقدون اجتماعاتها في الخارج، وأضحت إحدى تلك الجمعيات السرية المنتشرة في الأستانة تعمل على هدم الظلم ومحو آثاره.(65/47)
وبعد أن جاز مصطفى الامتحان بمدرسة الأستانة أستأجر غرفة لتكون مكتبا للجمعية تطبع فيه نشراتها، وكان الأعضاء يجتمعون في منازل خاصة يأتون إليها خفية يترقبون، وقد ارتاح بطلنا إلى هذه الحياة لتأصل حب المغامرة في نفسه واستقراره في طبعه، واخذ يتعلم أساليب الجمعيات الثورية ونظمها، ولكن عيون عبد الحميد لم تال جهدا في مراقبة هذه الجمعية وتضييق الخناق عليها ليفاجئوا الأعضاء متلبسين بالجريمة، ولم يكن هذا بالعسير عليهم، إذ كان الأعضاء ينقصهم الدراية بأساليب هذه الجمعيات، وان لم تعوزهم الحماسة والشجاعة.
واستطاع أحد الجواسيس أن يتسلل إلى الجمعية ويتصل بها، وازدادت على توالي الأيام ثقة الأعضاء به واعتمادهم عليه، فتمت خديعته لهم وجازت حيلته عليهم؛ وبينما هميقسمون قسم الجمعية في يوم من الأيام إذا برجال البوليس السري يفاجئونهم ويقبضون عليهم، فزج مصطفى وسائر الأعضاء في السجن الأحمر بالاستانة، وكان بطلنا من بينهم مثار الريب والمخاوف، واعتبر في عداد الخطرين على النظم القائمة، فعزل عن زملائه في مكان قصي، وتراءى له المستقبل مظلما قاتما، إذ لو بدا لعبد الحميد انه نظير خطر عليه لاختفى من الحياة كما اختفى أمثاله من قبل كوميض البرق.
وقد راع الأم الحنون مصير ابنها، فأسرعت يحدوها الأمل والخوف لزيارته، فأبوا عليها ذلك ولم يسمحوا لها إلا بإرسال بعض النقود إليه، ومضت على حاله هذه أسابيع نقل بعدها إلى (زنزانة) ضيقة مظلمة قذرة لا ينفذ إليه فيها إلا قبس ضئيل من النور من كوة صغيرة، فاثر هذا السجن الموحش في نفسه ابلغ تأثير، وزاد خلقه غلظة ووحشية.
وفي يوم من الأيام اقتيد من غير إنذار إلى مكتب رجل من رجال العهد القديم ومن أنصار عبد الحميد المقربين هو إسماعيل حقي باشا، فاخذ الرجل يديم النظر في ملامحه، ثم قال له: (لقد أظهرت مقدرة فائقة وكفاءة ممتازة، وأمامك مستقبل باهر ينتظرك في خدمة صاحب الجلالة، ولكنك من جهة أخرى شنت نفسك ولوثت شرفك الحربي، فخالطت أسوأ الخلان، وأخذتم تقامرون وتشربون وتختلفون إلى الأمكنة الموبوءة، أشنع هذا واشد نكراً انك نكثت عهد الإخلاص لمليكك، فزججت بنفسك في موج السياسة، وظاهرت الدعاية الخائنة ضده، وحرضت زملائك على احتذاء مثالك، والاقتداء بك، ولكن جلالة الخليفة قد(65/48)
وسعتك رحمته وشملتك رعايته ومغفرته إذ رآك شابا احمق، لعلك قد انقدت لهواك من غير تبصر أو تقدير للعواقب، فاختارك للذهاب مع فرقة الفرسان إلى دمشق، ويتوقف مستقبلك على ما يعلم من مسلكك، ولكن عليك أن نتجنب هذا الحمق وتتوفر على أداء واجباتك الجندية، وخذ لنفسك الحذر فانك لن تحظى بفرصة أخرى)
وفي نفس الليلة رحل في سفينة إلى سوريا بدون أن يسمح له بروية أمه أو أصدقائه، وبلغ بيروت بعد سفر شاق، فامتطى جواده وعبر به جبال لبنان حتى انضم إلى الفرقة في دمشق فوجدها تتأهب للزحف على الدروز المقيمين بجنوب دمشق والذين كانوا دائمي الثورة على الدولة العلمية، وقد كانت هذه الغزوة أول تجربة لنشاطه ولكنها لم تكن ترضى الجندي النظاميإذ كانت بلاد الدروز عبارة عن جبال مجدبة تتقاطع مع وديان ضيقة عميقة لا ماء فيها ولا طريق معبد، وكان الدروز قوما أقوياء الشكيمة صعاب المراس دارسين كل شبر من ارضهم، ومضت الأيام بين الفريقين في كفاح غير مثمر، إذ لم يستطع الأتراك الظفر بأعدائهم، فاحرقوا قراهم ودمروا حقولهم وعادوا القهقرى إلى دمشق لهجوم فصل الشتاء ببرده القارس وجوه المكفهر المظلم، وهناك اخذ بطلنا الثائر يعد العدة لإنشاء فرع لجمعية الوطن، ولم تغير الأيام السود التي قضاها في سجن الأستانة منه شيئا، ولم تضعف نفسه القوية، ولم تلن قناته الصلبة، ولم ترد قلبه الكبير عن غرضه، إذ كان مصطفى ثائرا على كل شيء: على الدين والناس والنظم والتقاليد، ولم يكن لشيء ما في نفسه حرمة أو قداسة، ولكنه كان يجمع إلى حماسة الشباب حذر الشيوخ ونظرهم البعيد، وكان قد هجر الأدب لما وجده مدعاة للشك، مجلبة للتردد موجبا للخطأ لما بين الحكمة النظرية والحكمة العملية من تناقض، واقبل على درس أساليب الثورة ووسائلها، وقد وجد التربة صالحة للبذر. فصغار الضباط مضطرمون بالسخط، ورؤساؤهم يعطفون عليهم ويميلون إليهم، وقد وجد مصطفى من بينهم زميلاً قديما له، فاتخذ منه نصيرا ومعيناً له في عمله، وسرعان ما اشتد ساعد الجمعية وتكاثر عدد أعضائها، واخذ بطلنا يشعر بمكانته وخطره، ولكن سرعان ما فطن إلى خطئه وعاد إلى صوابه، فعلم أن أهل البلاد ليسوا متهيئين لقبول دعوته، وان كان ضباط الحامية التركية متأهبين لتلبيتها وإبرازها إلى حيز العمل.
وقد أرسل إليه أصدقاؤه يخبرونه بان البلقان هي مهد الفتن والقلاقل، وان عليه أن يسعى(65/49)
لنقله إلى سالونيك ليضمن نجاح حركته وانتشار دعوته، فاعتزم تنفيذ ما أشاروا به عليه، سواء أجابته الحكومة إلى طلبه أم أبته عليه، وكان صاحب شرطة يافا عضواً بجمعية الوطن، فاتفق معه على كتمان وجهته، وحصل على الجازة بضعة أيام رحل خلالها إلى يافا وأبدل اسمه واتخذ له لباساً مستعاراً، فاستطاع أن يعبر البحر منها إلى أثينا، ثم إلى سالونيك حيث ألفى السخط والقلق يساوران كل النفوس، وهناك اعتكف في منزل أمه، ووجد أن الجو صالحاً لإبلاغ رسالته، إذ كانت سالونيك قلب الحركة ومهد الثورة، فاخذ يتعرف بمعونة أمه وأخته إلى صغار الضباط من زملائه القدماء، وطلب نقله إلى سالونيك ليتسنى له الإشراف على تنفيذ خطته، ولكنه قبل أن يخطو خطوة أخرى صدرت من الأستانة الأوامر بالقبض عليه فعمل حكمدار سالونيك على خلاصه، فنبهه إلى الخطر المحدق به واخبره أن أمر القبض سينفذ بعد يومين، وعليه أن يتأهب للرحيل، فعاد مصطفى بطريق البحر إلى يافا وكانت أوامر القبض عليه قد سبقته اليها، ولكن لحسن طالعه قيض الله له كبير الشرطة في يافا، وكان عضوا بجمعية الوطن، مهد له سبيل الفرار إلى غزة، وأراد أن يحكم الحيلة لتجوز على حكومة الأستانة، فكتب إليها يطلب أن تزوده بتعليمات أوضح وأدق عن مصطفى كمال، ويقول إن ما وصل إليه منها فيه كثير من الخطأ، لان مصطفى كمال كان طوال المدة السابقة مقيما في غزة، ولم يبرحها إلى سالونيك، وصادق على مفيد لطفي الضابط بغزة.
وهنا تظهر حكمة بطلنا ونظره البعيد. فقد رأى انه لو وقع في يد عيون الخليفة مرة اخرى، لما رأى نور الحياة بعد ذلك لحظة واحدة، فاعتزل الحياة العامة زهاء عام، ليزيل ما أحاط به من ريب وشكوك، واقبل على عمله بجد ونشاط، حتى لفت أنظار رؤسائه إليه، فاعجبوا به واثنوا عليه قائلين. انه لا يعنى بغير واجبه، وهو يؤديه على اكمل وجه، وأتم شكل، فأحسنت به حكومة الأستانة الظن، ورجحت أن جواسيس سالونيك قد ظلموه باعتباره في عداد الخطرين، ولكن خيال سالونيك لم يبرح راس بطلنا، وأنى له ذلك وفيها نذير الثورة التي يريد مصطفى أن يكون بطلها الذي يشار إليه بالبنان، وبينما هو غارق في تفكيره وتدبيره إذا به يتسلم أمر النقل إلى سالونيك وهو يكاد أن يكون له من المكذبين.
يتبع(65/50)
حنفي غالي(65/51)
إلى النهر الغاضب
للأستاذ محمود الخفيف
غضبتَ فسهدتَ أجفانها ... وزاد هياجك أحزانها
وقد أنِستْك لطيف الأناة ... ضحوك الأسرة ّفتانها
جميل الوفاء شهى الصفاء ... عريق السماحة هتانها
وفاؤك عيد يعم البلاد ... ويغمر بالخير أركانها
تهز الحقول على جانبيك ... ويملأ فيضُك غدرانها
وتذكر مصرُ إذا ما خطرت ... وسال نضارُك، سودانها
فأنت لمصر وريد الحياة ... ولم تر غيرك شريانها
حليم عليك سماة الجلال ... تقابل بالبشر قربانها
وتلقى برفقك في المهرجان ... وجوه البلاد وأعيانها
تود الرياض على شاطئيك ... لو انك تسمع شكرانها
وتهفو الخمائل شوقا إليك ... فتنشر حولك أغضانها
تردد مصر أناشيدها ... وتبدأ باسمك ألحانها
ويطربها منك حلو الخرير ... فترهف للسمع آذانها
فتلقي إليها حديث القرون ... وتحفز للمجد غلمانها
وما نسيت مصر هذا الحديث ... ولا صرفت عنه تحنانها
تجهم وجهك بعد الصفاء ... وروع باسُك سكانها
لبست الجفاء على غرة ... فالم غدرك وجدانها
تركت الكنانة في غمرة ... يهدد سيلك بلدانها
كأنك جيش تخطى الحدود ... وانذر بالموت قطانها
تقيم السدود على ضفتيك ... وتحشد حولك فتيانها
تراقب موجك في حسرة ... تجدد للنفس أشجانها
ولم أر مثل جفاء القلوب ... تفيأت من قبل رضوانها
ولا كالإساءة من راحة ... تعود كفُّك إحسانها(65/52)
ترفق بمصر فقد نالها ... خطوب تزلزل بنيانها
توالت عليها عجاف السنين ... وأعمى التنابذُ رُعيانها
وذاق بنوها بأوطانهم ... صنوف العذاب وألوانها
ألم تر كيف دهاها الكساد ... وكاد يدمر عمرانها
وكيف توقف فيها النماء ... وأخرجت الأرض ديدانها
فأضحى فتاها كسير الجناح ... كئيب الملامح خزيانها
وجاس الغريب خلال الديار ... قوي المخالب يقظانها
ألم يكف يا نيل هذا الشقاء ... فجئت تضاعف خسرانها؟
تحيرت يا نيل ماذا دهاك ... وأوحى لنفسك طغيانها
اساءك من مصر هذا السكون ... فقمت تحرك شبانها؟
وأوغر صدرك يأسُ البلاد ... فجئت تجدد إيمانها؟
ورحت تكذب ظن الدخيل ... وتوقظ للجد أعوانها
تحركُ وحدك في أمة ... أذل التفرق وحدانها
بلوت بنفسك ماضي البلاد ... وأدركت بالأمس سلطانها
وكيف تناهي إليها النبوغ ... فراحت تعلم جيرانها
تَلَقى من الوغى شتى الفنون ... وترفع في الأرض ميزانها
تدب الحياة على جانبيها ... فتشعر بالعز ولدانها
على البر تحشد أجنادها ... وفي البحر تنصر ربانها
تذكرت (أحمس) يزجي الصفوف ... ويدعو إلى النصر فرسانها
و (رمسيس) يخطر في جنده ... فخور المواكب مزدانها
وانست في مصر عهد الرشاد ... قد شمل العدل أركانها
تَلَقَّى الرسالة في غبطة ... ولو كره الروم إعلانها
تسير إلى الحق منقادة ... إليه وتخلع بهتانها
وتمسي من الأمن في جنة ... وقد كرهت قبلُ حرمانها
أسفت لحاضرها المستكين ... وأنكرت يا نيل خذلانها(65/53)
كرهت هدوءك في أمة ... أطاعت إلى اللهو شيطانها
فجن جنونك يا ابن السماء ... وقمت تنبه وسنانها
ألا فلتقر فقد بايعتك ... وسوف تقدم برهانها
ستحذو مثالك في فعلها ... وتجعل عهدك قرانها
ستنفض عنها غبار القرون ... وتنزع يا نيل أكفانها
محمود الخفيف(65/54)
مدينة الأحرار
للأستاذ محمد محمود جلال
الله أكبر (يا جنيف) ... فوق الجمال (دم خفيفْ)
طُهِّرت كالجنات من ... لغو ومن هم مطيفْ
وخلوت للأحرار إلا ... من نسيم أو حفيفْ
يلقى الربيعَ بك المُش ... رَّد بعد إعنات الخريفْ
كم صنتِ عزة أنفس ... ووقيتها ورد الحتوفْ
فوقفت سداً مانعاً ... دون العواصف والصروفْ
فيك التقيت بنخبة ... هم عدة الشرق المنيفْ
وغنمت أمتع جلسة ... في (بارك لجْرَنجَ) الرفيفْ
يذر الفؤاد مردداً ... (الله أكبر ياجنيفْ)(65/55)
بين الشهرة والخلود
لأميل لدفيج
تلخيص محمد أمين حسونة
خطر يبالي ذات شتاء أن أمضى شطراً طويلاً منه في منطقة الألب لاستمتع بدفء الجبال، فكان مما استرعى اهتمامي في منطقة التيرول، تلك الكنيسة الفخمة التي اشتهرت منذ القرون الوسطى بأثرية ناقوسها وروعته، فلما مر بخاطري زيارته، صعدت إلى القبة لأشبع العين من فتنته، وهناك تملكتني الدهشة والعجب، إذ كانوا يعلقون صورة (شيللر) إلى جانب صورة القديسين الأبرار، كتذكار لمقطوعته الخالدة (نشيد الناقوس)!
فشللر الكاتب الملحد، عدو الكنيسة والكثلكة، يجعلون منه رمزاً للقداسة والخلود؟ ولكن لا عجب فقد تكون شهرته كشاعر مخلد لذكرى (الناقوس) هي التي حدت بهم إلى رفعه في مثل هذا الموضع الذي يرتكز عليه، وهكذا تكون الشهرة حامية للأغلاط. إننا نذكر جميعاً غلطة (كوك) المعروفة، وكيف دفعته إلى مصاف العظماء، وقذفت باسمه إلى أول قائمة المكتشفين الخالدين، ولو أن لعبته لم تكتشف إلا بعد مرور فترة طويلة!
إذن فالشهرة ليست بمعناها المعروف، هي (العظمة)، وقد لا تهدينا شهرة الرجل إلى تقدير مناحي عظمته في ثوبها الحقيقي، وإلا كان من حقنا أن نفاخر (بشارلي شابلن) عن (برجسون) وان نفضل (مستنجيت) على (مدام كوري). مع أننا كمؤرخين في عنقنا دين تجب تأديته للأجيال المقبلة، ذلك هو تصحيح الأخطاء التي تلابس أولئك الذين يستحوذون على الشهرة عن طريق المخادعة.
وقديماً ذكروا: ألا يجوز البتة إعلان كون الناس سعداء ما داموا أحياء! فإذا جاز لنا أن نحكم بان حياة الإنسان إن هي إلا رواية تمثل مشاهدها، ففي مكنة (فصل خامس) منها أن يطفئ أنوار فصول أربعة تقدمته، وفي ضوء هذه النظرية لا يمكننا الحكم على أعمال الرجال إلا بعد موتهم، ولا أن نخلع عليهم ثوب العظمة وهم أحياء، فمن المحتمل أن يأتي هذا الثوب فضفاضاً عليهم، أو يحدث في أواخر أيامهم ما يدفعهم إلى تشويه هذه الصفحات التي نكون قد ملائناها حمداً وثناء عليهم!
إن سرعة انتشار الأخبار تمكننا من معرفة أي رجل اشتهر في اقل من لمح البصر، فاسم(65/56)
(ليندبرج) - قاهر الجو - عرفه في ليلة واحدة خمسمائة مليون شخص من أقاصي منشوريا إلى جنوب استراليا؛ كذلك كان أمر (كوك) حين انتحل لنفسه اكتشاف القطب الشمالي، ولو أن خدعته اكتشفت فيما بعد، ولكن بعد فوات الفرصة، وبعد أن رسخ اسمه في قلب كل إنسان كمكتشف عظيم!
إن الآلة التي تخرج لنا العظماء اليوم غيرها قبل خمسين عاماً مضت، فليس الرجل العسكري هو الذي ينال إعجاب أبناء هذا الجيل، وليس من حقنا تدوين اسمه في ثبت العظماء، كما فعل الاسكندر وقيصر ونابليون، كلا! فالشعوب أصبحت لا تتهافت على معرفة اسم القائد المنتظر في الميدان، لكنهم يتساءلون عن الآلة الجهنمية التي أحرزت التغلب، وخفقت فوق ربوعها بنود النصر. وخذ اسم المارشال هيندنبرج مثلا، فلا يتطرق إلى أذهاننا أن شهرة اسمه راجعة إلى عظمته الحربية وحدها، بل لذلك الاعتقاد السائد في النفوس، وهو اعتباره (أباً للشعب). والإعجاب اليوم لا ينال الجيوش الظافرة في ساحات الوغى، اكثر مما ينال ذلك (الجندي المجهول) الجامع لرفات الانتصار والانكسار.
إن شهرة كبار القواد الذين خاضوا غمار الحرب العظمى، وكان النصر حليفهم في المعارك الكبرى، قد تضاءلت حتى كادت تتلاشى؛ كذلك مال بلسودسكي ومصطفى كمال وموسوليني، فسوف يصبح اسم كل منهم خرافة سائدة في أفواه الأجيال المقبلة.
ومن يحرز الشهرة إذن؟ إن رجال الألعاب الرياضية وأبطال الملاكمة ونجوم السينما هم وحدهم الذين يحرزون الشهرة دون غيرهم. أما الأولون فلأن الجماهير تساهم بقسط وافر في الشهرة التي يحرزونها عن طريق المراهنة في مبارياتهم؛ وأما نجوم السينما فيستولون على الشهرة بفضل الملابس الزاهية وإتقانهم الأدوار التي تتطلب المثل العليا في الحب والتضحية.
ولأنهم جميعاً يشغلون قلوب الجماهير ويستدرون عواطفهم في كل مناسبة، فملامحهم وصورهم وحياتهم الخاصة مطبوعة على صفحة كل قلب بفضل الصحافة المصورة التي تمهد لهم سبل الشهرة والدعاية فكاروزو مثلا اشتهر اكثر من غيره من المغنين السالفين بفضل اختراع (الفونوغراف) الذي خلد صوته.
إن مهمة المؤرخ دقيقة وعسيرة في هذا العصر فيجب ألا يعتمد على الشهرة وحدها في(65/57)
جعلها مقياساً للعظمة، وإني باعتباري مؤرخاً لا يحق لي مطلقاً أن اخدع نفسه وقرائي بجعل الشهرة عظمة. إني لا أجد اليوم موسيقياً بعد (مولر)، وأذكر (ليبرمان) في أول قائمة الفنانين العالميين، وأسائلنفسي وقرائي عن (كاتب القرن الحالي) الذي يحق له إحراز هذا اللقب النبيل، والذي له الفضل في تربية ملكة الذوق لجيلنا الحاضر فلا أجد (برنارد شو)، كما كان (فولتير) كاتب القرن الثامن عشر، نعم إن هناك كتاباً يفوقون (شو) سواء في قوة الابتكار أو سلاسة الأسلوب ومتانة التعبير، واذكر منهم: ابتمان، وهمسون، ومان، ودانزيو، وبيراندللو، ورولان، ولويس، ولكن (شو) قد اثر بآرائه ومداعباته واستحواذه على لب القارئ اكثر من سواه.
وإذا خطر لنا أن نتكلم عن السياسة حق لنا أن نعترف بأن رجالها قد احتضروا واختفوا من الأفق سراعا: ويلسن، ولينين، وكليمنصو. أما (لويد جورج) فشيخ رجال السياسة الحاليين وأكثرهم دهاء، و (موسولينى) أخطرهم وأصغرهم سناً، ولكن إذا تحدثنا عنه كسياسي، أيحق لنا أن ننعته بالعظمة؟ كلا! في الحكم للمستقبل. وموسوليني يؤدي الآن دوره على خشبه المسرح، وقد انصبت الأنوار فجأة عليه من كل جانب فاخفت (الرتوش والمكياج) التي تخفي شخصيته الحقيقية، وتظهره أمام الجماهير في ثوبه الخيالي معبودا للشعب؛ انه لا يزال في الفصل الثاني من الرواية التي تمهد القيام بدور البطل فيها، وليس لأحد أن يتكهن إذا كانت الستار سيسدل عن تصفيق واعجاب، او عن استهزاء وسخرية!
وإذا ذكرت سياسي الجيل الحاضر، فإني أتحدث عن (فينزيلوس) اليوناني و (ما زاريك) التشيكي: فالأول سياسي محنك ورجل داهية، والثاني حلم بني وطنه لعشرين عاماً، كما أن زعماء المضطهدين - لسان حال الشعوب المظلومة - قد أحرزوا الإعجاب بمبادئهم الاشتراكية السامية، وضربوا احسن الأمثال لأممهم في التضحية، وأخص بالذكر منهم: (مكسويني) محافظ كورك الذي ذهب ضحية إخلاصه لمبدئه، و (غاندي) نجم الهند - بل الشرق - الوحيد.
أما رجال العلم والصناعة فقد كان الجيل الماضي حافلا بالكثير من شخصياتهم البارزة. أما جيلنا الحاضر فمفتقر إلى طائفة كبيرة منهم، فانه لا يوجد اليوم علماء للآثار القديمة جديرين بإحراز هذا اللقب الذي استخلصه لنفسه شامبليون، ولا مؤرخون يستطيعون ارواء(65/58)
ظمأ المتعطشين إلى نظريات حديثة، ولا علماء في الاقتصاد والتشريع والفلك كعلماء القرن الماضي من الإنجليز أو الألمان.
إن عالمنا اليوم لا عمل له سوى الجمع بالنسبة للماضي، والتمهيد بالنسبة للمستقبل، ومع كل فهناك شخصيات برزت في بعض الصناعات التي كان العالم في اشد الافتقار إليها. فبركلند، وايد النرويجيان انتشلا شعوباً من المجاعات بإقدامهما على استخراج النتروجين من الهواء؛ و (هابر، وارنست، وارينوس) أول من أحدثوا نظريات جديدة بشان السوائل، كذلك (بور) الدنمركي و (بلانك) الألماني، والى جانبهما تأخذ (مدام كوري) مكانتها العلمية كامرأة واصلت البحث والدرس بعد موت بعلها بعشرين عاما.
أما علماء النفس فعلى رأسهم (فرويد) الذي أيقظت نظرياته الحديثة شعور ألوف المثقفين في العالم؛ ويجئ دور (اينشتين) شيخ علماء الحكمة الطبيعية الذي زحزحت نظرياته الرياضية الكثير من الاعتقادات العلمية التي كانت سائدة في أذهان علماء الأجيال الغابرة.
وهناك (مركوني) الإيطالي و (اركو)، والى جانبهما (اخوان رايت) و (فورد) والى جانبهم أبطال الصناعة الذين لهم الفضل في ابتكار اللاسلكي وبناء الجسور وحفر الترع وتشييد المنشآت الهندسية الحديثة كمحطات الكهرباء والخزانات والمصارف وناطحات السحاب.
ولكن أين هم هؤلاء الأبطال؟ من هم أساتذة الصناعة والفن اليوم؟ من يعرف منشئ جسر اليشون أو ارث الخامس أو خزان أسوان؟ من الصعب أن نعرف أسماء كل هؤلاء الأبطال، لان أعمال الشركات خيمت على جهود الأفراد، وجهود الأبطال قد اندمجت في أعمال الشركات. وعندما تنحدر الشمس إلى المغيب ونجد مكانها الأنوار الكهربائية المتلألئة، لمن نتوجه بالحمد على كل هذا؟ لمن الفضل في سر الاتصال بين الأمم بأسلاك التلغراف وفي نقل الرسم والصوت من مكان قصي فوق ثلوج سيبيريا إلى عبيد الكونغو مثلا؟ إن أحدا لم يستطع تذليل العلم وتسخيره في أغراض المجتمع وأفادته كما استطاع ذلك خالد الذكر (اديسون).
وهكذا نأتي في النهاية لنشيد بذكر اكبر عالم نظري إلى اعظم مخترع عملي، أولهما ألماني وهو عقل العالم الذي يميز به حقيقة الاشياء، وثانيهما أمريكي وهو عين العالم التي ترى بها الضوء، كلاهما نشأ فقيرا معدما، ليس مدينا لأحد ألا لعبقريته ونبوغه، هما (ايمانيس)(65/59)
الذي وهب الثقافة وحرية الفكر للعالم، و (بروميسثيس) الذي اختطف النور من الآلهة ليهديه إلى البشرية هما:
انيشتين واديسون.
محمد أمين حسون(65/60)
العلوم
2 - بحث في اصل الإنسان
بقلم نعيم علي راغب
دبلوم عال في الجغرافية
استمر (بوشيه) برغم كل معارضة قامت في وجهه، ولم يتطرق إليه خمول أو تهاون، فنشر في عام 1847 كتابا عن اكتشافاته قوبل بالاستنكار، ونظر إليه الناس نظرتهم إلى مجنون. وظل على هذا الحال حتى أتى بعض العلماء الإنجليز يساعدونه عام 1858 فاختبروا صخوره وفحصوا ما وجده من عظام متحجرة، وظلوا يجادلونه ويجادلهم حتى اعترفوا وجاهروا - بعد التثبت والاقتناع - أن هذه الصخور من عمل الإنسان وتشكيله. وهكذا ثبت أن الإنسان كان موجودا في وادي نهر السدم بفرنسا عندما كان المدرج الموجود الآن على ارتفاع 10. قدم مكونا مجرى النهر في ذلك الوقت حيث كانت تعيش أنواع غريبة من الحيوانات؛ وبذا يفتتح العالم أول باب لتاريخ حياة الإنسان في المدرجات.
وعندما عاد العلماء الإنجليز إلى بلادهم وجدوا في مدرجات نهر التيمس نفس الصخور النارية او وعظاما متحجرة تماثل تمام التماثل تلك العظام التي وجدت في نهر السدم. وبذلك بدأ باستخدام حفريات الأنهار لمعرفة تاريخ الإنسان القديم منذ مائة عام تقريبا، ولكنها لم تتحول إلى فن صحيح ذي قواعد إلا في السنوات الأخيرة.
سبق لنا أن تتبعنا تاريخ الإنسان القديم مما وجده الباحثون في الكهوف، وسنحاول الآن أن نرى ما قد تكشف لنا عنه هذه المدرجات. وفي الشكل (2) ترى مثلا عاليا لتتابع المدرجات، ومن الطبقات السطحية للمدرجات السفلى نجد شواهد الكهوف نفسها ونفس الأدوات الحجرية عينها، بل وهياكل أنواع الحيوانات البائدة والعنصر الإنساني الذي كان سائدا في ذلك الوقت. تأتى بعد ذلك مدرجات احدث من الأولى تكونت في عصور متتابعة هي: سولتريان واورجنتيان وماجدالينان وموستريان وهو العصر الذي يقع قبل عصر الجليد مباشرة، وبدا نصل إلى عصر غمرت فيه الثلوج القارة الأوربية، وفي هذه الفترة يقع عصر أطلق علية اسم اشيوليان ومن عصر الموستريان حتى الآن تقع فترة يبلغ(65/61)
طولها 4. ألف سنة. وليس هناك أدنى شك في انه كلما اتسع أفق العلم أمامنا وازدادت الأبحاث أمكننا تقسيم فترات ما قبل التاريخ إلى حلقات متتابعة - وفي هذه الفترة نجد أنواعا من فؤوس - صنعت من الصخر الناري، عليها اثر الصنع بل والاستعمال. وإذا أنعمنا النظر في المدرجات عدنا إلى البقايا القديمة للعصر المسمى شيليان وهو السابق المسمى اشيليان امتياز بزيادة دفء جوه عن جو العصر الجليدي. وفؤوس هذا العصر كبيرة نوعا ما عن فؤوس عصر الاشيليان. ونحن إذا قدرنا لها مدة ليسفيها مبالغة وهي 4. ألف سنة، فإننا نصل إلى فترة من فترات تطور الإنسان تبعد عنا بنحو 12. ألف سنة. ويأتي قبل عصر الشيليان عصر لا يسعنا لجهلنا به إلا أن نسميه ما قبل عصر الشيليان - وقد وجدت اثار تدل عليه على عمق 10. قدم في مدرجات نهر التيمس بإنجلترا، ومن هذه الفترة نصل إلى بدء عصر البلشتوسين
ولهذا العصر أهمية خاصة عند الباحث في تطور الانسان، اذ انه في فجر هذا العصر أخذت الحيوانات شكلها الحالي، وتطور الإنسان تطوره الأخير الذي جعل له من الخصائص ما يمتاز به اليوم من سائر المخلوقات. وبابتداء هذا العصر يمكن القول بان العالم الحي اخذ شكلا جديدا من مظاهر التطور الحديث، ولذلك فان علماء الحيوان يضعونه في المرتبة الأولى من فترة حديثة لتاريخ الإنسان أطلقوا عليها اسم كواترناري ولسنا نعرف متى بدأت هذه الفترة، ولو أن بعض العلماء قدر لها مليون سنة، إلا أننا لا نبالغ في التقدير إذا قلنا إن هذه الفترة بدأت من 200 ألف سنة.
ولحسن حظ التاريخ الحديث أن يصنع الإنسان الأول أدواته وأسلحته من الصخر الناري، لأنه قد مكننا من معرفة التاريخ وتتبع حركاته وأدواره حتى عصر البليستوسين بتتبع الآثار التي تركها لنا في أدواته وحاجاته. وقد وجد الباحثون القواعد التي قطعت وشكلت عليها الأدوات الصخرية، بل وجدوا عظاما من بقايا من قام بصنعها. إلا انه برغم الأبحاث المتتابعة لم يوجد إلا بقايا قردين ممن سكن أوربا في فترة البريشيليان: أحدهما سمي إنسان هيدلبرج، وكل ما وجد منه فكه الأسفل. وقد وجد في اسفل واد من أودية نهر الرين القديم مع عظام متحجرة من عظام نوع من الحيوان كان عائشا في أوربا في الفترة الأولى من عصر البليستوسين، وكان معاصراً لإنسان هيدلبرج. ولقد لوحظ أن الفك خشن كبير(65/62)
واصلب من أي فك لأي عنصر من العناصر المعروفة؛ أما نظام أسنانه فانه يماثل تمام التماثل نظام أسنان القردة، إلا أن الأنياب الحادة البارزة في قرد الانسترويد قد انخفضت واستوت هنا مع باقي أسنان الفك عند إنسان هيدلبرج.
وأما القرد الآخر الذي كشف عنه ومر ذكره بك، فقد عرفنا عنه معلومات تزيد كثيرا عما نعرفه عن إنسان هيدلبرج، كان يسكن أوربا في عصر ما قبل الشيليان - وقد وجدت بقايا من عظامه المتحجرة في جهة بلتداون بإنجلترا، ولذلك سمى باسمها إنسان بلتداون ولنا من البراهين القوية ما يثبت ان هذه الجهة اقدم بكثير من الجهة التي وجد بها فك إنسان هيدلبرج. ولذلك فإننا نرجح ان يكون الحلقة الإنسانية التي سبقت إنسان هيدلبرج بما فيها من تطور. ويرجع فضل الكشف عن هذا الإنسان إلى الأستاذ شارلس داوسون الذي كان محاميا في ليوس ثم تفرغ لدراسة جيولوجية منطقة حيث وجد هذا الإنسان.
في عام 1908 قبل أن يموت ذلك الأستاذ مأسوفا عليه ممن قدر قيمة شفه ممر على طريق جديد قد رصف بنوع من الصخور النارية التي لم يكن قد رآها من قبل، ولكنه كان يعرف إن هذا النوع كان يستعمله الإنسان القديم في صنع أسلحته وأدواته، ولذلك اخذ يستعلم عن مصدر ذلك الصخر حتى علم انه يستورد من منخفض في وسط مزرعة على حدود ولما كان يتردد كثيرا على هذه الجهة فانه عقد أواصر الصداقة مع عمالها، وبمساعدتهم حصل بعد سنوات قلائل على لوح سميك من العظم اشتبه في أن يكون جزءا من جمجمة إنسان قديم. ولكنه لم يتمكن من الحصول على باقي الجمجمة إلا حوالي سنة 1911.
ثم قام بعد ذلك هو والسير ارثر سميث وودوارد بالحفر في هذه المنطقة، فوجدا بقايا أخرى من هيكل الرجل الذي وجدت جمجمته، ووجدا أيضاً هياكل متحجرة لحيوانات قديمة بائدة، وبقايا أدوات وأسلحة غالبها ينتسب إلى عصر ما قبل شيليان - ومنها ما يمت إلى عصر اقدم من ذلك وهو عصر
وأمكن بعد ذلك معرفة حجم الجمجمة وشكلها، وتخيل شكل لها قبل التحلل والتكسير، ثم بواسطة صب عجينه من المصيص داخلها أمكن معرفة حجم وشكل المخ الذي كان يسير سكان العالم الأول خلال صعاب الحياة. وقد لوحظ أن حجم مخ البلتداون يرتفع عن المستوى المقدر للأجناس المنحطة من العناصر الإنسانية، إلا انه من جهة أخرى يبتعد كل(65/63)
البعد من مميزات الجنس الحديث.
أما تلافيف المخ فقد لوحظ أن هناك شبها كبيرا بينها وبين الإنسان بعكس إنسان النياندرتال الذي يشبه مخه مخ القرد. مع أن تكوين وجه إنسان البلتدون يقربه كثيرا من القردة.
وأما نصف الفك فهو عجيب حقا، لأنه قد وجد انه وتركيب السنان فيه يمتان إلى القردة تماما، وان شكل الأنياب عنده لا يختلف عن شكلها أبداً عند صغار القردة. وهذا الفك يشبه تمام الشبه فك الشمبانزي مع انه في إنسان هيدلبرج برغم كبر حجمه كبرا غير متناسب مع الإنسان الحديث، لا يختلف في شي كثير عن فك الإنسان العادي المعروف لدينا جميعا.
وبذلك نرى أن إنسان البلتدون يصل بنا إلى درجة أو عصر لم يكن قد تغير فيه شكل رأسه أو أسنانه عن شكلها عند القردة إلا قليلا، وبمعنى آخر أن التطور والارتقاء قد حدثا عنده في المخ وقوى التفكير، قبل أن يحدث في شكله العام وعلى الأخص شكل وجهه بفكه وأسنانه.
ونحن إذا خامرنا الظن أو الشك في نشأة النوع الإنساني، وجال بنا الحدس انه قد انحدر من عنصر أولي منحط يشبه القردة إن لم يكن منها بالذات، فانه يلزمنا أو يلزم من يقول بذلك البرهنة على صحة هذا الظن أو ذاك القول.
ولذلك نظن ظنا كافيا أن نقول تدليلا على صحة ذلك أن العلماء حينما كانوا يبحثون عن اصل الإنسان الجيولوجي قد وجدوا انه في منطقة بإنجلترا كان يعيش عنصر إنساني قديم جدا جمع في جسمه وعقله صنعة الإنسان المعروف، وفي وجهه وفكه شكل القردة وصنعتها.
وربما اعترض معترض علينا في ذلك بأنه ربما كان يسكن هذه المنطقة من إنجلترا نوع منحط من الإنسان وعنصر راق من القردة أو الشمبانزي، وان الجمجمة التي بنيت عليها الأبحاث، وجاءت هذه النظرية نتيجة لها، لم تكن جمجمة قرد واحد، بل مجموعة أو خليط من جمجمة إنسان وجمجمة قرد انحلتا واختلطا بعد التحلل!.
إلا لن ذلك الاعتراض يمكن الرد عليه بقولنا إن الأجزاء التي تجمعت وتكاملت أجزاؤها مكونة جمجمة كاملة تتكامل أجزاؤها تمام التكامل، وتتفق كلها في المقاييس المقدرة لها، كما أنها من نوع قد تحجر في وقت واحد، وهذا كله لا يمكن القول بأنه وليد المصادفة، وبذا(65/64)
يثبت أن الجمجمة هي لفرد واحد هو إنسان البلتداون. وقد بلغ اهتمام السير ارثر سميث وودوارد بهذا العنصر الإنساني الجديد الشبيه بالقردة مبلغا كبيرا حتى انه اعتبره عنصرا إنسانياً لم يكن معروفا قبل اكتشاف بقاياه في وأطلق عليه اسم الإنسان الأول أو
يتبع
نعيم علي راغب
دبلوم المعلمين العليا قسم الجغرافية(65/65)
القصص
من الأدب التركي
المعلمة الصغيرة
ترجمة الآنسة الفاضلة (فتاة الفرات)
تتمة ما نشر في العدد الماضي
لم تكلمني حتى وصلنا إلى (سركه جي) حيث موقف الترام هناك فقالت:
هنا كنت انتظر يا سيدي، وفي كل يوم كنت اركب الترام هنا، ولا ادري كيف أخطأت في هذه الليلة وركبت الترام الذاهب عن (الجسر) لا اليه؟ ولا ادري كيف لم انتبه لذلك؟ كان السبب كما قلت يا سيدي الظلام الحالك والمطر الكثير الذي ادهشني، لو تدري يا سيدي كم انتظرت هنا تحت سيول الأمطار معرضة للهواء الذي يعصف بشدة، وكم لقيت من الانتظار، لقد ظننت أن غشاء اسود قد ستر عيني، لا اقدر أن اصف لك اضطرابي حينما علمت منك أنها آخر عربة تسير في الليل، آه لقد تأخرت كثيرا. - لقد كانت كأنها في حمية عن الكلام ثم تركتها فذهبت فيه مذهبا بعيدا وقالت:
- غريب جدا أن المصادفات في بعض الأحيان تظهر للمرء عجائبها وغرائبها كأنها تسخر منه، لقد فاتني القطار أيضا في (مقرى كوى) لذلك تأخرت حتى ذلك الوقت لأني انتظرت هناك طويلا، ولم يكن يخطر لي على بال أنى هنا سأركب في آخر عربة تسير في الليل وفي غير الجهة التي اقصدها.
فسألتها:
- إذن أنت آتية من مقرى كوي؟
أخذت الكلفة ترتفع بيننا شيئا فشيئا لان وجودي بجانبها طول المسافة التي قطعناها أظهرها على حسن نيتي وجعل لي في قلب هذه الفتاة الشابة موقعا حسنا فأجابتني على سؤالي جواباً طويلا مفصلا، قالت:
اجل يا سيدي إني اذهب مرتين في الأسبوع إلى (مقرى كوي) لإعطاء درس خصوصي هناك لإحدى السيدات، اه يا سيدي! إن حياتي شقية جدا، محتم علي أن اشتغل من الصباح(65/66)
حتى المساء في جميع أنحاء هذا البلد الكبير، تصور المسافات التي اقطعها كل يوم: ذهبت اليوم صباحا إلى (طرابية) وعدت منها إلى (مقرى كوي) وأنت تعلم تباعد هذه المسافات وتنائي بعضها عن بعض. على هذه الصورة يجب أن اشتغل في أربعة أطراف البلد؛ فإذا كان الصيف احتملت كل ذلك، لان النهار طويل أتمكن فيه من تأدية دروسي من غير كبير مشقة ولا عناء، أما في الشتاء فالمشقة فوق الطاقة وخاصة في مثل هذه الأيام عند شدة النوء وكلب الشتاء، لقد غلبني اليوم البكاء اكثر من مرة، ولا أتذكر أني تأخرت مثل هذه الليلة، وما الذي أقوله الآن في البيت لوالدي؟
وهنا انقطعت عن الكلام ولم تجسر على إتمام جملتها، لأنها فجأة شعرت بخجل من سردها تاريخ حياتها، ولما لم تجد في نفسها القوة على إتمام كلامها غيرت مجرى الكلام وقالت وهي تنفض ذراعها المبتلة من المطر.
- لقد ابتلت ثيابي.
فقلت لها:
- إن مظلتك صغيرة فاطويها وخذي مظلتي فهي تحفظك من المطر.
ولكنها لم تقبل وقالت:
- أشكرك يا سيدي! لا أود أن تبتل ثيابك اكثر مما ابتلت، ألا يكفي ما تحملت حتى الآن من اجلي؟
أردت أن أعود بها إلى الحديث عن حياتها فقلت لها.
- إذن لك والد فقط يا آنسة؟
- نعم يا سيدي. ثم قالت:
- أضننا قد بلغنا الجسر؟
وسكتت كأنها لا تريد أن تبحث عن شيء أبدا، ولكنها لم تتمكن من ذلك لأنها كانت في حاجة إلى أن تتكلم عن نفسها وان تحدثني عن حياتها، اجل! بحاجة شديدة إلى ذلك، فقالت:
- فقدت والدتي منذ سنتين، ومنذ ذلك الوقت اضطررت إلى العمل الكثير. كانت والدتي في حياتها هي التي تشتغل لنا، فلما ماتت ورثت تلك الوظيفة عنها وانتقلت إلى بمرارتها والمها.(65/67)
هل لك والدة يا سيدي؟
فأشرت لها برأسي أن نعم، على أنها ما كانت تنتظر مني جواباً، لأن سؤالها هذاكان مقدمة لما تريد أن تحدثني به فقالت:
- إن اكبر تغيير يطرأ على حياة المرء يبتدي من تاريخ وفاة امه، لقد كنت حتى وفاتها اجهل الحياة وما فيها، كنت في مدرسة داخلية لا اعرف من الحياة إلا قدر ما يقع عليه نظري بين جدرانها السامقة، لا اعرف شيئا ولا اعرف أحدا ابدا، فلما توفيت والدتي واضطررت إلى ترك المدرسة والبقاء في البيت علمت أنني اجهل كل شي حتى أبى، أما الآن فقد عرفت الحياة جيدا، واختبرت أبناء آدم ظواهرهم وبواطنهم. لقد علمت كل ذلك، ولم يكد يمضي على دخولي في معترك الحياة اكثر من شهر. ولكن من المؤلم جدا أن يقف المرء على تلك الحقائق دفعة واحدة لان أعصابه تتزلزل بتلك الصدمة. لقد وصلنا إلى (الجسر) يا سيدي. أشكرك شكرا جزيلا، وهذه عربة هنا تقلني إلى البيت.
وهنا تهيأت لوداعي، ولكني رأيت أن المصادفات قد وقفتني على قصة حياة مؤلمة، فكنت أفكر في وسيلة أمد بها مرافقة تلك الفتاة حتى البيت، فقلت لها.
كلا أيتها الآنسة، إني سأرافقك حتى الجانب الآخر من (الجسر) لأني عدلت عن الرجوع إلى بيتي في مثل هذه الساعة وسأبيت بفندق هناك، فلم تعارضني بل اكتفت بتلك الإيضاحات وسرنا نقطع (الجسر) ونحن ساكتان.
كنا نمشي معا على أحد جانبي الطريق، وكنا نلاقي مشقة شديدة في إمساك مظلتينا بسبب ذلك الهواء الشديد البليل الذي كان يعصف من أحد جانبينا فيبلل ذلك الجانب. وفي تلك الأثناء أدارت نظرها فيما حولها وقالت:
- نعم إن بقاء الفتاة الشابة كل حياتها محرومة من عطف الوالدة وحنانها مصيبة ليست تضارعها مصيبة.
ثم استأنفت كلامها فقالت:
هل تدري يا سيدي ما الذي يقلق فكري اكثر من كل شي بعد هذا التأخر؟
كانت مضطربة تماما واضطرابها يزداد شيئا فشيئا، كانت تشعر أنها في حاجة إلى أن تقص على الرجل الذي لا تعرفه ولا يعرفها الناحية التي خفيت من نواحي حياتها.(65/68)
فسألها بسكون قائلا:
- ما هو أيتها الآنسة ذلك الذي يقلقك؟
قالت والدي!. ثم سكتت قليلا ثم قالت:
- أراني لا اقدر أن اصف لك والدي وصفا دقيقا، لا ادري كيف تنظر إلى فتاة تشكو إليك من والدها لأول مرة رأيتها فيها، ولكنك بمرافقتك لي حتى هذا المكان اثبت لي طيبة قلبك وصفاء نيتك، وانك بحسن تلك النية وبصفاء ذلك القلب ستدرك سلامة الأسباب التي ساقتني إلى تلك الشكاية، أليس كذلك يا سيدي؟.
كان الهواء يعصف بشدة، فلم نقدر أن نضبط مظلتينا ونقاوم الهواء الشديد فأغلقناهما وأخذنا نمشي غير مبالين بالمطر القليل الذي ينزل، بل خففنا السير لندرك وقتا كافيا للتكلم معا، وقد اقترب كلانا من الاخر، وكنا نسير متلاصقين بقلبينا وجسمينا كأننا قد تعارفنا منذ سنين لا منذ دقائق.
كانت هي في حاجة إلى أن تشكو إلى همومها، اجل! كانت في حاجة شديدة جدا إلى أن تنشر كل ما خفي من نواحي حياتها، وتبسطه أمام ذلك الرجل الذي ربما كان اجتماعها به مصادفة واتفاقا أول اجتماع وآخره، فقالت.
- اعلم يا سيدي أنى الليلة ككل ليلة ساجد والدي سكران طافحا، وحينما يراني يستقبلني بكلمات الشتم والتحقير، وفي بعض الأحيان. . . ولم تتم جملتها كأنها رأت أنها قد اعترفت لي بأكثر مما يجب، لذلك قطعت كلامها بسرعة وأتمت جملتها التي شرعت فيها بصورة أخرى، فقالت:
- لا أذكر أن والدي عمل يوما ما عملا مثمرا يعود عليه وعلينا بربح؛ كان في شبابه صاحب مقهى صغير في (بك اوغلى)، وكان يأتي بمغنيات في الشتاء إلى قهوته، وكانت والدتي إحدى أولئك المغنيات، اشتغلت عنده ثم تزوجها، وقد علمت هذه التفصيلات واحدة بعد أخرى مصادفة واتفاقا، ولا ادري كيف تم الاتفاق بين أبى وامي على الزواج الذي كنت ثمرته، ولكن ظهوري في الحياة كان سببا لأمراض كثيرة أصابت والدتي ومصائب أخرى اضطرتها إلى ترك العمل وأرغمت والدي على ترك المقهى. كانت والدتي موسيقية بارعة، فبعد أن تركت المسرح صارت معلمة تعطي النساء دروسا في الموسيقى؛ وأنا(65/69)
اعرف والدتي وهي معلمة فقط، لم تكن تملك دقيقة من دقائق حياتها، بل كلها كانت رهن التعب والشقاء والتعليم والكدح في سبيل القوت، حتى اضطرت إلى وضعي في مدرسة داخلية، اخرج منها في الأسبوع مرة إلى البيت، أقول (البيت) وأنت تدرك بثاقب فكرك ما هو هذا البيت. كنا نسكن في غرفتين في الطابق الرابع من بناء كبير عال. كنت إذا جئتهما في يوم عطلة أو في يوم جمعة وجدتهما بعيدين عن الحياة العائلية كل البعد، فاهرب منهما إلى المدرسة. وكيف يكون البيت إذا كان لا يطبخ فيه الطعام، ولا تغسل فيه ثياب، ولا يعمل فيه شي مما يعمل في البيوت؟ كانت والدتي تشتغل بلا انقطاع لتحصيل القوت، وكان والدي بلا انقطاع يشرب الخمر، فهذان المخلوقان وان كانا متقاربين جسما يعيشان تحت سقف واحد، فقد كانا متباعدين كل البعد معني، وكنت أنا في سرور لأنني بعيدة عنهما، حتى أنى لم اكن أجد لهما في قلبي مكانا. استدعتني يوما مديرة المدرسة إليها وأخبرتني بوفاة والدتي ثم قالت: (ان المرء تصيبه في حياته مصائب جمة، فيجب أن يتلقاها بكل ثبات وصبر)، لم أجد في ذلك الوقت وفاة والدتي مصيبة كبيرة كما قالت المديرة، ولكني أصبحت احب والدتي بعد وفاتها، آه لو تعلم كم احبها الآن. . . . كم احبها!
سكتت هنا قليلا، وقد شعرت أن صدرها يعلو وينخفض من حسرة كامنة في أعماق قلبها، ثم قالت:
- منذ ذاك الوقت أصبحت الحياة على أضيق من سم الخياط. أخرجني والدي من المدرسة، واخذ يسوقني من مكان إلى مكان. اجل! اخذ يسوق فتاة في السادسة عشر من عمرها، لا تعرف من الحياة إلا ما رأته من نافذة المدرسة، إلى الأماكن التي كانت والدتها تعطي دروسا فيها لتقوم مقام أمها في تحصيل اللقمة! منذ ذاك الحين انتقلت إلى وظيفة السعي وراء كسب القوت. وأنا الآن أسعى بكل قواي وأعطي دروسا، وكل يوم اقطع مسافات شاسعة متعبة، فمن (طرابية) إلى (مغري كوي)، ومن (اسكدار) إلى (بك اوغلي)، ولكني لا ادري لماذا اشتغل هذا الشغل؟ ولماذا اسعي كل هذا السعي؟. . انهم يقولون لي (اشتغلي) وأنا اصدع بالأمر!. .
كنا على وشك الوصول إلى آخر (الجسر) فتراءت لنا أضواء (غلطة)، فرأيت من الواجب أن أقول لتلك الفتاة المسكينة كلمتين اسليها بهما، فقلت لها:(65/70)
- لا تجزعي يا انسة، اصبري وتجلدي، فالصبر أقوى من يعتمد عليه المرء في طريق الحياة. فهزت رأسها الصغير وقالت:
- الصبر يا سيدي؟ إن الإنسان أوجد لنفسه كلمات خداعه يخدع نفسه بها ليتحمل مصائب الحياة. وازداد اضطرابها فقالت:
هل تعلم يا سيدي ماذا ينتظرني في البيت بعد كل هذه الأتعاب وهذه المشقات من الصباح حتى هذا الوقت المتأخر من الليل؟ إن والدي في مثل هذه الساعة يعود من الحانة يرسم في مشيته لام الف، فإذا دخل المنزل جلس في غرفته يتم ما فاته في الحانة انتظارا لي، وهو قد جعل لنفسه في البيت حانة صغيرة، فغرفته مملوءة بالزجاجات الفارغة والأقداح المكسورة والصحون القذرة، لو رأيت كل ذلك لدهشت، كثيرا ما سعيت لتكون غرفته نظيفة ولكني لم افلح، فعدلت عن ذلك الآن وصرفت همتي إلى ترتيب غرفتي الخاصة وتنظيفها، لله تلك الغرفة الصغيرة! انه صغيرة إلا أنني أجد فيها راحة كبيرة، انزوي فيها بعد عودتي من العمل ليلا وبعد أن اخذ قسطي من كلمات التحقير والشتم التي يستقبلني بها أبى إرضاء لنفسه وكسرا لحدته، هناك في غرفتي فقط افهم معنى الراحة وأفسح المجال لدموع عيني أن تسيل فأجد السعادة في ذلك البكاء، اغسل به قسما مما تراكم على قلبي من الهم والبؤس.
تقول المسكينة (فأجد السعادة)، حتى هذه الفتاة البائسة ترى أن في البكاء سعادة، وفي هذه اللحظة لو لم اخش أن ترتاب بي لأمسكت يدها وشددت عليها بكل قوتي مظهرا ما في قلبي من الرحمة لها والإشفاق عليها.
فقالت بعد صمت قصير:
- أنا على يقين أنني هذه الليلة لن اقدر على تهدئته، آه ليت شعري ما الذي سيكون لي منه؟
فقلت لها:
- ولكنك أيتها الآنسة تشتغلين لأجل والدك، أفلا يدرك تلك الحقيقة فيشكرك عليها؟
وقفت عن السير في الحال ورفعت وجهها إلى ونظرت في وجهي ولم تقل شيئا، إلا أنني أدركت في الحال مغزى نظرتها هذه وما تقصده منها، كانت تريد أن تقول بها لمخاطبها(65/71)
الذي يدعي انه خبير بالحياة (أنت غر قليل التجربة) ثم خطر ببالي خاطر فجائي فقلت لها:
- أيتها الآنسة: إذا كانت مرافقتي لك حتى البيت وإعطائي الإيضاحات اللازمة لوالدك يفيدانك شيئا فاسمحي لي أن أرافقك حتى منزلك. فرددت قليلا ثم فكرت مليا وقالت - واكثر ظنها أن ذهابي معها سيخلصها من تحقير أبيها ويقلل من حدته -: - نعم يا سيدي اقبل لطفك هذا.
ثم أضافت إلى جملتها هذه قائلة:
- لقد اثر البرد في جسمك فهل لك في قدح من الشاي أقدمه إليك إذا انتهينا إلى البيت؟
ارتفعت الكلفة بيننا وأصبحنا صديقين. كنا في ذلك الحين نتجه نحو (غلطه قوله سي) فقالت:
أتراني لو لم تكن معي كنت اجسر على المرور وحدي من هذه الاماكن؟ ثم وقفت فجأة أمام دار كبيرة وقالت (هنا)
دخلنا إلى صحن الدار المفروش بأحجار المرمر ثم أخذنا نصعد الدرج الحلزوني، لا ادري كم صعدنا، ولكني شعرت بدوار في رأسي وضعفت رجلاي عن حملي لأننا كلما انتهينا من طابق وقفنا قليلا نستعيد قوانا للصعود إلى الطابق الذي فوقه. وقفت أخيرا وأنا أتتنفس بقوة، فقالت ضاحكة: لم يبقى درج نصعده!
فدخلنا في دهليز صغير فيه ضوء ضئيل ووقفنا أمام باب، فنظرت إلى وجهي ولم تجسر أن تطرق الباب فطرقته بظهر يدي فلم يجبني أحد؛ طرقته مرة ثانية فسمعت صوتا يشبه صوت حيوان وحشي، ثم سمعت وقع أقدام تخطو رويدا رويدا خطوات غير منتظمة، وشعرت باقتراب أنفاسه منا، وأخيراً فتح لنا الباب وعاد من غير أن ينظر إلى ما ورائه وفي قلبه من الغضب والسخط عواطف يخشى بأسها.
دخلنا في ممر ضيق ووقفنا أمام غرفتين متقابلتين إحداهما مفتوحة فدخلناها وعلمنا أن الرجل لم يتبين أننا شخصان إلا بعد دخولنا غرفته، فنظر إلي متحيرا بعينيه المحمرتين من تأثير الكحول فقلت له: إن ابنتك اليوم قد وقعت في خطأ.
كان عند كل كلمة القيها عليه في شرح موقف الفتاة وحالها ترتسم على وجهه المغطى بسحابه من البلاهة منشأها ذلك الإدمان ابتسامة خفيفة وترتخي أعصابه وتنحل(65/72)
كنت وأنا اسرد له القصة، انظر إلى تلك السحنة البلهاء تارة، والى غرفته أخرى. كان غائر العينين بارز عظام الخدين قد رجل شعره بدهن اللوز ليلمع، وعلى وجهه مسحة شباب ميت قد أقامت ذلك الهرم المتصابي بقوة العلاج الذي كان يستعمله.
وكانت الغرفة قذرة ما تحويه هذه الكلمة من معنى، وكان كل ما فيها عبارة عن كراسي عتيقة مكسرة، ومنضدة صغيرة كمناضد المقاهي عليها مشمع اسود اللون، وزجاجات خمر ونبيذ فارغات، وصحون قذرة، ومصباح قد طار من زجاجة قطعة فجعل مكانها ورقة سيجارة وينشر ضياء ضئيلا كأنه أنين باك موجع، وفيها فراش إن صح أن يسمي مثله فراشا، حولت نظري المتألم عن كل هذه الأشياء وقلت له:
- لقد جئت بالآنسة إلى هنا وهاأنذا أسلمها إليك.
فلما سمع مني تلك الكلمة ظهر ما لم يكن في الحسبان: ذلك أن والد تلك الفتاة المسكينة السكير البغيض الذي أبتدأ حياته أجيرا في أماكن الريب في (غلطه) أمضى قسما منهما في مرقص أنشأه بنفسه، تقدم مني مشيرا إلى فتاته الطاهرة التي كانت تنتظر النتيجة، وقد تجلت عليه تماما إمارات البلة وقال:
- لقد ظهرت الحقيقة أيها السيد. . .
- ثم اقترب مني وقال وهو ينظر إلى نظرة مرتاب:
- يظهر أن الآنسة قد وقعت من نفسك. . .
فأدركت سوء نية ذلك الرجل. كم كانت يدي في تلك الدقيقة تود أن تصفع ذلك السكير! حولت نظري إلى ابنته فوجدت وجهها قد علاه الاحمرار، لأنها أدركت غاية والدها.
لله أنت أيتها المعلمة الصغيرة! أيتها المخلوقة التي تشتغلين من الصباح حتى المساء لإشباعوالدك، هل أنت حقا ابنة ذلك الرجل؟!
حولت وجهها عني فلم اشك أنها في تلك الدقيقة كانت تود لألمها من تلك المهانة التي لحقها في عصمتها وعفتها، والجرح الذي أصابها في كرامتها، أن تهرب من بين يدي وتذهب إلى حيث لا أراها فتبكي. . . وتبكي. . .
لم اجبه بشي ما، إن الرجل كان لا يزال ينظر إلى نظرة المرتاب، فأدركت أن من الواجب البعد عن ذلك المكان. وكأنه أدرك ما دار في خلدي، فعرض علي مستهزئا كأسا من(65/73)
(الكونياك) فقلت:
- شكرا. ليس لدي من الوقت ما يتسع لذلك.
وسرت نحو الباب، فظهرت من الفتاة حركة تدل على أنها تود أن تخرج معي حتى الباب تودعني. لكنها لم تجسر على ذلك في بادئ الأمر، ثم أقدمت عليه وسارت ورائي. بقى والدها في غرفته يضحك ضحكا عاليا كأنه يعلن به ما قاله أولا: (يظهر أن الآنسة وقعت من نفسك!!)
تبعتني الفتاة حتى باب الدار وقلت بصوت وتخنقه العبرات:
- سيدي. . .
ثم اضطربت ولم تستطع أن تتم جملتها.
حينذاك أخذت يدها وهي في القفاز بكلتا يدي، وشددت عليها مظهرا ألمي على تلك الزهرة الناضرة التي نبتت في ذلك المكان الملوث، وحكم عليها أن تعيش فيه عيشة حقارة ومهانة وقلت لها:
- أيتها الآنسة: اكرر لك جملتي السابقة وأقول. إن الصبر أقوى ما يعتمد عليه المرء في طريق الحياة. لا أظن أننا نلتقي مرة أخرى، ولكن كوني على ثقة أنني دائما سأتمنى لك من صميم قلبي السعادة والهناء.
فانحدرت من عينيهادمعتان كبيرتان وسالتا على خديها ثم استقرتا على صدرها، أعلنت بهما شكرها لي.
ففررت من ذلك المحل، وكنت وأنا انزل الدرج أقول في نفسي:
(لقد وعدتها أن أتمنى لها دائما السعادة، ولكن أين منها السعادة؟!).
لعمري لو رايتها حين يبدي الربيع نواره، وينثر على بسط الزبرجد أزهاره، على عربة من تلك العربات الضخمة، التي يركبها صائدات القلوب وسالبات الجيوب وهي متجهة نحو (شيشلي) حيث تموت الفضيلة، وتحيا الرذيلة، تسلم على أحبابها بابتسامات غريبة وإشارات مريبة، لم اعجب لذلك بعد الذي رأيت من حالها مع أبيها.
ما أتعس تلك الفتاة الصغيرة! إنها بين شقاء ين: شقاء الحاضر بابيها المختبل، وشقاء المستقبل بشرفها المبتذل.(65/74)
نزيلة بعلبك
فتاة الفرات(65/75)
العدد 66 - بتاريخ: 08 - 10 - 1934(/)
نهضتنا الاقتصادية
بمناسبة النمو العجيب في شركة مصر للغزل والنسيج
نهضتنا الاقتصادية هي وحدها الدليل الناهض على نضوج شعبنا المظلوم. لأنها نَسقَ من الضرورة والقدرة على النظام والثقة قائم بذاته لا يقوم على الهوى، ولا ينتظم على الطيش، ولا يصبر على الفساد، ولا يتقدم على العجز، ولا يبلغ شيئاً وراء الزعامة الرخوة. فبينما نجد النهضة السياسية تنتكس فترجع إلى الموت، والحالة الأخلاقية تنحل فتعود إلى المهانة، والحركة الأدبية تضطرب فتنقلب إلى الفوضى، وحمية الشباب تنكسر فترتد إلى الفتور، نجد هذا الركن القوي الذي يقوم على بنك مصر وشركاته يثبت أصله في الأرض، ويسمو فروعه في السماء، ويمسك هذا الوطن المنكود في مهب الأزمات ومضطرب الكوارث. واطراد النجاح في هذا العمل الشعبي الخالص مبعثه إخلاص القادة، وثقة الأمة، وضمان من الله يسميه الدين إيمانا، والخلق ثباتاً، والعلم كفاية، ونسميه نحن: طلعت حرب.
إن هذا اللحن الذي يتألف من صريف الأموال المصرية في (البنك)، وهدير البواخر المصرية في البحر، وأزيز الطوائر المصرية في الجو، ودوي المصانع المصرية في (المحلة)، لهو النشيد القومي القوي الذي يعلن استقلال البلاد، ويملأ مسامع الأجانب، وينبه مطامع الشعوب إلى أن هنا أمة حية لها ماض تستهديه، ووطن تستغله، وغرض تسعى إليه؛ وأن هذا التوسع المطمئن الحازم في شركة مصر للغزل والنسج في الوقت الذي تُتَّهم فيه كفاية البلد، وتطير الشائعات السود في جو السياسة، تصحيح للإفهام الأجنبية التي تحاول استنتاج الحقيقة المصرية من أخطاء جماعة.
كان نجاح شركات (بنك مصر) نجاحاً حقيقياً طبيعياً يطَّرد اطراد الزمن من غير بطئ ولا طفرة. ولكن نجاح هذه الشركة - شركة مصر للغزل والنسج - وهي كأخواتها مصرية الرجال والأموال والعمال والمادة، جاوز حدود الظن، وفات معاقد الأمل؛ فقد أنشئت منذ ثلاث سنوات وعدد أنوالها 448 نولاً فأصبح اليوم أربعة آلاف، وعدد مغازلها اثنا عشر ألف مغزل فبلغ هذا العام خمسين ألفاً، وعدد عمالها ستة آلاف فأصبح مع هذا التوسع ثمانية عشر ألفاً، وكانت مصانعها تنشأ بادئ الأمر على قدر الحاجة، فبسطها النجاح السريع، والفرص المواتية، والإدارة الرشيدة، حتى بلغت مساحة الأرض التي تقوم عليها اليوم مائة فدان؛ وكان عملها مقصوراً على غزل القطن المصري ونسجه، فصنعت الآن(66/1)
(الدوبارة، والفانلات، والجوارب، وبكر الخيط، والقطن الطبي). فأصبحت بهذا النمو العجيب في هذا الوقت القريب من أكبر المصانع العالمية.
عمل جسيم من أعمال الإدارة والفن، غزت به هذه الشركة ميادين الاقتصاد في البلاد، وفتحت الطرق الموصدة أمام الرءوس المصرية، والأيدي المصرية، لتفكر بنفسها، وتعمل لنفسها، وتنسج من القطن المصري الجميل، مجد الكنانة واستقلال النيل.
هذه هي الوطنية المثمرة بوسيلتها وغايتها. فأما ثمرة وسيلتها فتوظيف الأموال المصرية في أضمن مكان وأرج مورد، وتخفيف العطلة باستخدام هذا الجيش الكثيف من العمال وما يتبعه من مرشدين ومهندسين وكتبة، واستهلاك مقدار من القطن المصري قد يربو على خمسمائة ألف قنطار، ثم نشر الثقافة الآلية الحديثة في هذه الصناعة بمن ترسله من البعوث إلى أوربا، ومن تدربه من الأحداث في المصانع. وأما ثمرة غايتها فدفع هذا الاحتلال الاقتصادي الذي أفقر البلاد وأذل الشعب، وحبس أموالنا في بلادنا حتى لا تخرج ذهباً من أيدينا لترجع حديداً في أرجلنا، وإنماء العزة القومية بشعور المصري انه يلبس من زرعه ومن صنعه، وترفيه الحياة المصرية بكثرة الإنتاج ووفرة المكسب وتوزيع الثروة، ثم تمكين النفوذ المصري في الأسواق الشرقية والأقطار العربية، وذلك مجد ورثناه ثم حرمناه منذ طويل.
قَدَرت الأمة الرشيدة غاية هذه الشركة، وعقد آمالها بمستقبلها، وأخلدت بثقتها إلى رجالها، فلم تضن عليها بالعطف والمساهمة. وآية ذلك أنها أصدرت منذ ثلاثة شهور 17500 سند بثلاثمائة وخمسين ألف جنيه بفائدة 5 % فبينت كلها على رغم هذه الأزمة! وهاهي ذي تريد اليوم أن تطرح للاكتتاب العام خمسة وسبعين ألف سهم اقتضاها نمو المشروع، واتساع العمل، والتقدير الدقيق لحاجة البلاد، وضرورة التصدير، وضمان المستقبل. ولا ريب أن الأمة التي تئن أنين الأسير المُعاني من الاحتلال والاستغلال والامتيازات، لا تني عن تعضيد هذه الشركة وأخواتها بالأموال والآمال. بعد ما علمت بدلائل التجربة وشواهد الواقع أنها أنجح الوسائل وأقصر الطرق لإدراك الاستقلال الصحيح.(66/2)
أرملة حكومة. . .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
(أرملة الحكومة) فيما تواضعنا علينا بيننا وبين قرائنا هو الرجل العَزَب، يكون مُطِيقاً للزواج قادراً عليه ولا يتزوج؛ بل يركب رأسه في الحياة، ويذهب يُمَوِّهُ على نفسه كذبا وتدليساً، وينتحل لها المعاذيرَ الواهية، ويَمْتَلِق العللَ الباطلة، يحاول أن يُلْحق نفسه بمرتبة الرجل المتزوج من حيث يَحُطُّ الرجلَ المتزوجَ إلى مرتبته هو؛ ويضيف شؤَمه على النساء إلى هؤلاء النساء المسكينات، يزيدهن على نفسه شرَّ نفسه؛ ويرميهنّ بالسوء وهو السوءُ عليهن، ويَتَنَقَّصهُنّ ومنه جاء النقص، ويَعِيبهُنّ وهو أكبر العيب؛ لا يتذكر إلا الذي له، ولا يتناسى إلا الذي عليه، كأنما انقلبت أوضاع الدنيا، وتبدلت رسومُ الحياة، فزالت الرجولة بتبعاتها عن الرجل إلى المرأة، وانفصلت الأنوثة بحقوقها، فوجب أن تَحمل تلك ما كان يحمل هذا، فتُقْدِمَ ويَقَرَّ وادعاً، وتتعتب ويستريح، وتعاني الهمومَ السامية في الحياة الاجتماعية، ويعانَى المخنَّثُ ابتساماِته ودموَعه، متّكئا ًفي مجلسه النّسيميّ تحتَ جناح المِرْوحة. . . فأما المرأة فتشرِف على هَلَكَتِها، وتخاِطرُ بحاضرها ومستقبلها، وأما هو فيبقى من ثيابه في مثل الخِدْر الَمصُوِن. . .!
(أرملة الحكومة) هو ذلك الشاب الزائف المُبهْرَج، يُحْسبُ في الرجال كذبا وزوراً، إذ لا تكمل الرجولةُ بتكوينها حتى تكمل بمعاني تكوينها، وأخصّ هذه المعاني إنشاءُ الأسرة والقيامُ عليها، أيْ مغامرةُ الرجال في زمنه الاجتماعيّ ووجودِه القوميّ، فلا يعيش غريباً وهو معدود فيه؛ ولا طُفَيْليّا فيه وهو كالمنفيَّ منه، ولا يكونَ مَظْهراً لقوة الجنس القوي هاربةً هروب الجبن من حَمْل ضَعف الجنس الآخر المحتمي بها، ولا لمروءة العشير مُتَبرِّئةً تَبَرُّؤَ النذالة من مؤازرة العشير الآخر المحتاج إليها؛ ولا يرضى لنفسه أن يكون هو والذل يعملان في نساء أمته عملاً واحداً، وأن يصبح هو والكساد لا يأتي منهما إلا اثُرٌ متشابه، وأن يبيت هو والفناء في ظلمةٍ واحدة كظلمات القبر، تنتقل الأجداثَ إلى الدور، فتجعل البيت الذي كان يقتضيه الوطنُ أن يكون فيه أبٌ وأمٌ وأطفال - بيتاً خاوياً كأنما ثكل الأم والأطفال، وبقيت فيه البقية من هذا الرجلِ العَزَبِ الميت أكثرُ تاريخه. . .!
لقد رأيت بعينيّ أداةَ العزب وأثاثه المبعثر في بيته، كأنما يقصّ عليه كلُّ ذلك قصةّ شؤمه(66/3)
ووحدته، وكأنما يقول له الفَرْش والنَّجْدُ والطراز: (بعني يا رجل وردَّني إلى السوق؛ فأني هنالك أطمع أن يكون مصيري إلى أب وأم وأولاد، أجدُ بهم فرحةَ وجودي، وأصيب من معاشرتهم بعض ثوابي، وأبلى تحت أيديهم وأرجلهم فأكون قد عملت عملاً إنسانياً. أما عندك فأنت خشبة مع الخشب، وأنتِ خِرقة بين الخِرق. واسمع الكرسّي إنه يقول: أفّ. وأصغِ إلى فراشك انه يقول: تفّ. . .)
شهد العزبُ وربِّ الكعبة على نفسه أنه مُبْتَلىً بالعافية، مستعبدٌ بالحرية، مجنون بالعقل، مغلوب بالقوة، شقي بالسعادة. وشهدتْ الحياة عليه ورب البيت أنه في الرجولة قاطع طريق يقطع تاريخها ولا يؤِّمنُه، ويسرق لذاتها، ولا يكسبها، ويخرج على شَرْعِها ولا يدخل فيه، ويعصي واجباتها ولا ينقاد لها. وشهد الوطن - والله - عليه أنه مخلوق فارغ كالواغل على الدنيا؛ إن كان نعمةً بصلاحه، انتهتْ النعمةُ في نفسها لا تمتد؛ وأن كان بفساده مصيبةً امتدتْ في غيرها لا تنقطع. وأنه شحّاذ الحياة أحسن به الأجداد نسلاً باقياً، ولا يُحْسن هو بنسل يبقى، وأنه في بلاده كالأجنبي، مهبطة على منفعةٍ وعيشٍ لا غيرِهما، ثم يموت وجوُد الأجنبي بالنَّقْلةِ إلى وطنه، ويموت وجودُ العزب بالانتقال إلى ربه، فيستويان جميعاً في انقطاع الأثر الوطنيّ، ويتفقان جميعاً في انتهاب الحياة الوطنية، وأن كليهما خرج من الوطن أبْتر لا عَقِب له، ويذهبان معاً في لحج النسيان: أحدهما على باخرة، والآخر على النعش!
جاءني بالأمس (أرملة حكومة) وهو مهندس موظف. ومعنى الهندسة الدقة البالغة في الرقْم والخط والنقطة وما احتمل التدقيق؛ ثم الحذُر البالغ أن يختلّ شيء أو ينحرف، أو يتقاصر أو يطول، أو يزيد أو ينقص، أو يدخله السهو، أو يقع فيه الخطأ؛ إذ كان الحاضر في العمل الهندسيّ وإنما هو للعاقبة، وكان الخيال للحقيقة؛ وكان اُلخرْق هنا لا يقبل الرُّقعة. ومتى فَصلت الأرقام الهندسية من الورق إلى البناء مات الجمع والطرق والضرب والقسمة، ورجع الحساب حينئذ وهو حساب عقل المهندس؛ فأما عقل دقيق منتظم، أو عقل مأفون مختلّ.
بَيّد أن المهندس - على ما ظهر لي - قد خَلَتْ حياته من الهندسة. . . وانتهى فيها من التحريف المضحك - حتى فيما لا يخطئ الصغار فيه - إلى مثل التحريف الذي قالوا إنه(66/4)
وقع في الآية الكريمة (إياك نعبد وإياك نستعين). فقد رَوَوا أن إمام قرية من القرى في الزمن القديم كان يخطب أهل قريته ويصلي بهم في مسجدها، فنزل به ضيف من العلماء فقال له الخطيب: إن لي مسائل في الدين لم يتوجّه لي وجهُ الحق فيها، ولا أزال متحّير الرأي، وكنت من زمن أتمنى أن ألقى بها الأئمة فأريد أن أسألك عنها. قال العالم: سَلْ ما أحببت.
قال الخطيب: أشْكَلَ عليَّ في القرآن بعضُ مواضع، منها في سورة الحمد (إياك نعبد وإياك). . . أيّ شيء بعده. (تسعين، أو سبعين). . .؟ أشكَلَتْ عليَّ هذه فأنا أقرأها: تسعين. أخذاً بالاحتياط. . .!
كذلك مهندسنا فيما أشكل عليه من حسابه للحياة، فهو عَزَب أخذاً بالاحتياط. قال وهو يحاورني: -
كيف تُكَلّفني الزواج وتُكرِهني عليه، وتَعنِّفني على العزوبة وتعيبني بها؛ وإنما أنت كالذي يقول: دع الممكن وخذ المستحيل. إن استحالة الزواج هي جعلتْني عَزَباً، والعزوبة هي جعلتني فاسداً، وفي هذا الجو الفاسد من حياة الشباب إما أن تكسد الفتاة، وإما أن تتصل بها العَدْوَى. والعزب لا يأبى أن يقال فيه إنه للنساء طاعون أحمر أو هواء أصفر، فهو والله مع ذلك موت أسود وبلاء أزرق.
قلت: لقد هوَّلت عليّ؛ فما مستحيُلك ياهذا، ولِمَ استحال عليك ما أمكن غيرَك، وكيف بلغت مصر خمسة عشر مليوناً؟ أمِنْ غير آباء خُلِقوا، أم زُرِعوا زرعاً في أرض الحكومة؟ أسمع - ويحك - ألا يكون الرجال قد أقبلوا وتراجَعْت، وتجلدوا وتوَّجعْت، أو أقْدَموا وخنسْت، واسترجلوا وتأنَّثْت؟
قال: ليس شيء من هذا.
قلت: فان المسألة هي كيف ترى الفكرة، لا الفكرةُ نفسها، فما حملك على العزوبة وأنت موظف وظيفتك كذا وكذا ديناراً، وأنت مهندس يصدق عليك ما قالوه في الرجل المجدود: لو عَمِد إلى حَجرٍ لانفلق له عن رزق.
قال: أليس مستحيلاً ثُمّ مستحيلاً أن يجمع مثِلي يده على مائة جنيه يدفعها مهراً؛ وما طرقت - علم الله - بابا إلا استقبلوني بما معناه: هل أنت معجزة مالية، هل أنت مائة جنيه؟(66/5)
قلت: فان عملك في الحكومة يُغِلّ عليك في السنة مائة وثمانين ديناراً فِلمَ لا تعيش سنة واحدة بثمانين فتقع المعجزة؟
قال: (بكل أسف) لا يستطيع الرجل العزب أن يدخر أبداً؛ فهو في كل شيء مبدَّد ضائع متفرق.
قلت: فهذه شهادتك على نفسك بالسفه والخرق والتبذير؛ تنفق ما يكفي عدداً وتضيق بواحدة، وماذا يرتئي مثلك في الحياة؟ أعند نفسه وفي يقينه أن يتأبّد فيبقى عزباً فهو ينفق ما جمع في شهوات حياته، ويتوّسع فيها ضروباً وألواناً، ليكون وهو فرد كأنه وهو في إنفاقه جماعة، كل منهم في موضع رذيلة أو مكان لهو؛ وكأن منه رجالاً هو كاسبهم وعائلهم، ينفق على هذا في القهوة، وعلى هذا في الحانة، وعلى ذلك في الملاهي، وعلى الرابع في المواخير، وعلى الخامس في المستشفى. . .؟ إن كان هذا هو أصل الرأي عند العزب، فالعزب سفيه مجرم، وهو إنسان خرب من كل جهة إنسانية، وهو في الحقيقة ليس المتّسِعَ لنفقات خمسة، بل كأنه قاتل خمس من أبناء وطنه؛ إذ كان بهذا مطيقاً أن يكون أبا ينفق على أبنائه، لا سفيهاً ينفق على شياطينه.
فان كان قد بنى رأيه على أن يتعزّب مدة ثم يتأهل، فهذا أحرى أن يعينه على حسن التدبير، وهو مَضْراةٌ له على شهوة الجمع والادخار؛ إذ يكون عند نفسه كأنما يكدح لعياله وهو في سعة منهم بعدُ، وهم لا يزالون في صُلبه على الحال التي لا يسألونه فيها شيئاً إلا أخلاقاً طيبة وهمماً وعزائم يرثونها من دمه فتجيء معهم إلى الدنيا متى جاءوا.
إنما العزب أحد رجلين: رجلٍ قد خرج على وطنه وقومه وفضائلِ الإنسانية، قاعدته: جُرَّ الحبل ما انجرَّ لك. وهذا داعر فاسق، مبذر متلافٌ إن كان من المياسير؛ أو مُرِيب دنيء حقير النفس إن كان من غيرهم - ورجلٍ غير ذلك، فهو وثاق الضرورة إلى أن تُطْلِقَه الأسباب، ومن ثم فهو يعمل أبداً للأسباب التي تُطْلقه، ويعرف أنه وإن لم يكن آهلاً فلا تزال ذمته في حق زوجة سيعولها، وفي حقوق أطفال يأبوهم، وواجبات وطن يخدمه بإنشاء هذه الناحية الصغيرة من وجوده، والقيام على سياستها، والنهوض بأعبائها. فانظر ويحك أيّ الرجلين أنت؟
قال: فتريدني أن أقامر بتعب سنة وأنا بعد ذلك وما يُقْدِرُ لي، وقد أشتري بتعب سنة من(66/6)
العمر تعب العمر كلّهِ؟
قلت: فهذه هي خسّة الفرديّة ودناءتُها الوحشية في جنايتها على أهلها، وسوءِ أثرها في طباعهم وعزائمهم؛ فهي فرديّة تضرب فيهم العاطفةَ الاجتماعية ضرْب التلف، وتبتليهم بالخوف من التبعات حتى ليتوهم أحدهم أنه إن تزوج لم يدخل على امرأة، ولكن على معركة. وهي تصيبهم بالقسوة والغلظة؛ فما دام الواحد منهم واحداً لنفسه، فهو في تصريف حكم الأثرة، وفي قانون الفتنة بأهواء النفس ومنافعها؛ كأنما يعامله الناس رجلاً كلُّه مَعِدَة، أو هو فيهم قوة هضم ليس غير.
قال: ولكن الزواج عندنا حظّ مخبوء (لوتريّة) والنساء كأوراق السحب، منهن ورقة هي التوفيق والغنى بين آلاف هن الفقر والخيبة المحقّقة.
قلت: هل اعتدت أن تتكلم وأنت نائم؟ فلعلك الآن في نومة عقل، أولا فأنت الآن في غفلة عقل.
إن هذا المسكين الذي يمسح الأحذية ويشتري من تلك الأوراق لا يخلو منها - يعلم علماً أكثر من اليقين أن عيشه هو من مسح الأحذية لا من الأخيلة التي في هذه الأوراق؛ فهو لا يعتدّ بها في كبير أمرِ ولا صغيرِه، وما يُنزِلها في حساب رغيفه وثوبه إلا يوم يُخالطُ في عقله فيتنزّه أن يمسح أحذية الناس، ويرى أن عظيماً مثله لا يمسح إلا أحذية الملائكة. . .
أنت يا هذا مهندس، ولك بعض الشأن وبعض المنزلة، فَهَبْك ارتأيت أنه لا يحسن بك أو لا يَحْسُنُ لك إلا أن تتزوج بنت ملك من الملوك، فهذه وحدها هي عندك (النمرة الرابحة) وسائر النساء فقر وخيبة ما دام الأمر رأيك وهواك؛ غير أنك إذا عَرضْت لتلك (النمرة الرابحة) لم تعرفك هي إلا صعلوكاً في الصعاليك وأحمق بين الحمقى.
إن تلك الأوراق تُصْنع صنعتَها على أن تكون جملتُها خاسرة إلا عدداً قليلا منها؛ فإذا تعاطيتَ شراءها فأنت على هذا الأصل تأخذها، وبهذا الشرط تبذل فيها؛ وما تمتري أنت ولا غيرك أن القاعدة هاهنا هي الخيبة، وشذوذها هو الربح؛ وليس في الاحتمال غير ذلك؛ ومن ثمّ فقد بريء إليك الحظُّ إن لم يصبك شيءٌ منه، وأين هذا وأين النساء، وما منهن واحد إلا وفيها منفعة تكثر أو تقل، بل الرجال للنساء هم أوراق السحب في اعتبارات كثيرة، مادامت طبيعة اتصالهما تجعل المرأة هي في قوانين الرجل أكثر مما تجعل الرجلَ(66/7)
في قوانينها. وهل ضاعت امرأة إلا من غفلة رجل أو قسوته أو فسولته أو فجوره؟
قال المهندس: فإني أعلم الآن - وكنت أعلم - أن لا صلاح لي إلا بالزواج، وان طريقي إلى الزوجة هو كذلك طريقي إلى فضيلتي والى عقلي. وتالله ما شيءٌ أسوأ عند العزب ولا أكره إليه من بقائه عزباً غير أنه يكابر في المماراة كلما تحاقرت إليه نفسه، وكلما رأي أن له حالاً ينفرد بها في سخط الله وسخط الإنسانية. ولا مَكْذِبة، فقد والله أنفقتُ في رذائلي ما يجتمع منه مهر زوجةَ سريّة تشتطّ في المهر وتغلو في الطلب؛ ولكن كيف بي الآن وما جبَرني من قبلُ إصلاحٌ، ولا أعانني اقتصاد، ومن لي بفتاة من طبقتي بمهر لا أتحمل منه رهَقاً، ولا تتقاصر معه أموري، ولا تختل معيشتي؟
قلت: فإذا لم يحملك الحمار من القاهرة إلى الاسكندرية؛ فانه يحملك إلى قليوب أو طوخ. وفي النساء إسكندرية، وفيهن شبرا، وقليوب، وطوخ، وما قرب وبَعد؛ وما رخص وغلا.
قال: ولكن بلدي إسكندرية. . .
قلت: ولكنك لا تملك إلا حماراً. . . وللمرأة من كل طبقة سِعْرها في هذا الاجتماع الفاسد؛ ولو تعاون الناس وصلحوا وأدركوا الحقيقة كما هي، لَمَا رأينا الزواج من فقر المهور كأنما يركب سلحفاة يمشي بها. . . ونحن في عصر القطار والطيارة، وقد كان هذا الزواج على عهد أجدادنا في عصر الحمار والجمل - كأنه وحدة من السرعة في طيارة أو قطار.
حين يفسد الناس لا يكون الاعتبار فيهم إلا بالمال؛ إذ تنزل قيمتهم الإنسانية ويبقى المال وحده هو الصالح الذي لا تتغير قيمته. فإذا صلحوا كان الاعتبار فيهم بأخلاقهم ونفوسهم؛ إذ تنحطَّ قيمة المال في الاعتبار، فلا يغلب على الأخلاق ولا يسخرها. والى هذا أشار النبي (صلى الله عليه وسلم) في قوله لطالب الزواج: (التمس ولو خاتماً من حديد.) يريد بذلك نَفى المادَّية عن الزواج، وإحياء الروحية فيه، وإقرارَه في معانيه الاجتماعية الدقيقة. وكأنما يقول: إن كفاية الرجل في أشياء أن يكن منها المال فهو أقلها وآخرها، حتى إن الأخسّ الأقلّ فيه ليُجْزئ منه كخاتم الحديد؛ إذ الرجل هو الرجولة بعظمتها وجلالها وقوّتها وطباعها، ولن يُجْزِئ منه الأقلُّ ولا الأخسّ مع المال، وإن ملء الأرض ذهباً لا يُكَمّل للمرأةِ رجلاً ناقصاً؛ وهل تُتِمُّ الأسنان الذهبيةُ اللامعة يحملها الرجل الهرم في فمه شيئاً مما ذهب منه؟ وما عسى أن تصنعِ قُواطعُ الذهب الخالص وطواحُنه لهذا المسكين بعد أن نطق(66/8)
تحَاتُّ أسنانه العظميَّة وتناثُرُها أنه رجل حلَّ البَلى في عظامه. . .؟
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(66/9)
عصبة الأمم والأمم الشرقية
لمناسبة انضمام أفغانستان إليها
للأستاذ محمد عبد الله عنان
انتظمت في سلك عصبة الأمم دولة شرقية جديدة هي أفغانستان، وكان قبولها في العصبة بإجماع الآراء تقريباً، ولم يبق خارج العصبة من أمم الشرق الأدنى والأوسط بعد دخول تركيا وأفغانستان سوى مصر وسوريا والمملكة السعودية واليمن. ولعلائق الأمم الشرقية بعصبة الأمم وموقفها منها تاريخ خاص، يصح أن نستعرضه بهذه المناسبة. وقد بدأت هذه العلائق منذ مولد العصبة ذاتها، وكانت العصبة يومئذ إحدى نفثات ذلك الإنجيل الجديد الذي بشر به توماس ودرو ولسون أعظم ذهن هائم في التاريخ المعاصر، والذي انهارت مبادئه ووعوده في فرساي مهد تطبيقه. كان إنجيل الصلح بين الأمم المتحاربة على قواعد التسامح والعدالة، وإنجيل السلام والتفاهم، وإنجيل الحريات الدولية والاعتراف بحقوق الشعوب في تقرير مصايرها، فاستحال في فرساي، وفي نصوص معاهدة الصلح، إلى بركان من الشهوات القوية، ومزقت باسمه شعوب، وأرهقت أخرى، ومنحت الحرية لشعوب، وسلبت أخرى حرياتها، وفرضت عليها العبودية بأسماء وصور جديدة. وكان المفروض أن عصبة الأمم ستغدو عصبة دولية إنسانية تجمع الأمم على احترام السلام والمثل الإنسانية الخالدة، ولكنها جاءت منذ مولدها نفثة من تلك الروح التي أملت معاهد الصلح؛ روح الظفر والأثرة؛ وكان موقفها من الأمم الشرقية بالأخص مناقضاً لجميع العهود التي قطعت، والمبادئ التي قررت.
كانت اليابان والصين والهند وسيام والحجاز هي الأمم الشرقية التي وقعت على ميثاق عصبة الأمم ومعاهدة الصلح (وميثاق العصبة هو القسم الأول من المعاهدة) منذ وضعهما في يونيه سنة 1919، وبذلك غدت أعضاء في العصبة منذ إنشائها، وقد أبى الوفد الصيني أن يوقع معاهدة الصلح احتجاجاً على بعض نصوصها التي تمنح الانتداب لليابان على بعض الأراضي الصينية التي كانت بيد ألمانيا، ولكن الصين اعتبرت عضواً في العصبة لأنها وافقت على الميثاق. أما الحجاز فقد كانت يومئذ هي المملكة العربية الجديدة التي أنشأها الإنكليز للحسين بن علي، والتي انهارت قبل أعوام قلائل. وكانت فارس من الأمم(66/10)
التي دعيت إلى دخول العصبة منذ إنشائها، وقد انضمت إليها غير بعيد، وإما تركيا فقد كانت من أمم الأعداء، وكان مقضياً عليها بالتمزيق والإعدام، وكانت أفغانستان تخوض يومئذ حرب الحرية مع الإنكليز. وأما العراق وسوريا وفلسطين، فقد كانت من ضحايا الانتداب الذي ابتدع لتوزيع أسلاب الدولة العثمانية الذاهبة على الحلفاء. وكانت مصر ضحية الحماية الإنكليزية التي أعلنت عليها قسراً أيام الحرب، وكانت تضطرم بثورتها التحريرية التي انتهت بعد ذلك بعامين بإلغاء إنكلترا للحماية وإعلان استقلال مصر من الوجهة النظرية. والواقع أنه لم يكن للشرق في العصبة عند قيامها سوى صوت قوي واحد هو صوت اليابان. ولكن اليابان كانت من دول الحلفاء، وكان دخولها في العصبة لتأييد نفس المبادئ وتحقيق نفس الغايات التي تؤيد وتعمل على تحقيقها الدول الغربية، وكان لها نصيبها من أسلاب الحرب، ولم تكن في سياستها الاستعمارية أقل شرهاً من إنكلترا أو فرنسا. وأما الصين فقد كانت تتخبط في غمار الحرب الأهلية، وكان تمثيلها في العصبة على يد وحدة صغيرة فيها هي جمهورية كنتون الناشئة. وأما الهند فقد دخلت باعتبارها من الأملاك البريطانية لتشد إلى جانب استراليا وكندا وجنوب أفريقية أزر بريطانيا العظمى في سياستها ومشاريعها داخل العصبة. ودستور العصبة يجيز دخول الأملاك المستقلة والمستعمرات الحرة. وأما الحجاز فلم تكن لها يومئذ أية أهمية سياسية أو دولية، ولم يكن مثولها في مؤتمر الصلح، ودخولها في العصبة إلا ضرباً من المجاملة النظرية.
كانت عصبة الأمم منذ قيامها إذاً هيئة غربية في روحها وفي جوهرها، ولم تكن تمثل من الوجهة العملية شيئاً من المبادئ الرنانة التي أعلنها الرئيس ولسون في ختام الحروب، والتي أريد أن تكون قاعدة لعقد الصلح الحر بين الأمم المتحاربة وقيام عصبة حرة من الأمم تعمل على تخليد مبادئ الحرية والعدالة والوئام فيما بينها، ومع ذلك فقد بعثت مبادئ الرئيس ولسون المتعلقة بحريات الأمم ومصير الشعوب في بعض الأمم المغلوبة شيئاً من الأمل، وكان مفروضاً أن ذلك الهيكل الجديد الذي أقيم ليعاون في تطبيق هذه المبادئ الخالدة - أعني عصبة الأمم - سيكون بالفعل سنداً للأمم الشرقية في جهادها في سبيل الحرية والاستقلال، ولكن ذلك الأمل كان وهماً، وجاءت عصبة الأمم بالعكس لتقر من المبادئ والأساليب إزاء بعض الأمم الشرقية ما يخالف كل عدالة وكل حق وكل عهد(66/11)
مقطوع. ونذكر بهذه المناسبة أن الوفد المصري برئاسة المغفور له سعد زغلول باشا كان يوم وضع معاهد الصلح في باريس يعمل في سبيل القضية المصرية، وقد احتج عبثاً على نصوص معاهد الصلح التي تمس مصر، والتي تقر حماية إنكلترا المفروضة عليها رغم إرادتها؛ ونذكر أيضاً أن سعد باشا أرسل إلى الرئيس ولسون يرجوه باسم مبادئه مقابلة يبسط له فيها ظروف القضية المصرية، فلم يجبه الرئيس ولسون إلى هذا الرجاء. وكانت أول خطوة عملية اتخذتها عصبة الأمم لتأييد الاعتداء الواقع على الأمم العربية هو أنها أقرت نظام الانتداب الذي وضعه الحلفاء لتقسيم البلاد العربية وحكمها رغم العهود الصريحة التي قطعت خلال الحرب بمعاهدات ووثائق رسمية، فأقرت الانتداب على سوريا لفرنسا؛ وأقرت انتداب إنكلترا على فلسطين وشرق الأردن والعراق. وأقرت عهد بلفور وما ترتب عليه من إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين؛ ولم تحاول العصبة أن تتدخل يوم قسم الحلفاء تركيا إلى مناطق ودفعوا اليونان لاحتلال أزميرا والتوغل في قلب الأناضول؛ ولما وقع الخلاف بين تركيا وإنكلترا على مسألة الموصل واتفقنا على رفع الأمر إلى عصبة الأمم، كان موقف العصبة مريباً ظاهر التحيز؛ وكثيراً ما حاولت الأمم العربية أن تتقدم إلى العصبة بالشكوى من نظام الانتداب وما يرتكب في ظله من ضروب الجور والتعسف، فلم تفز منها بالإصغاء قط؛ ولم تكن لجنة الانتدابات الدائمة بالعصبة إلا سيف المستعمر الشرعي مصلتاً على رقاب الأمم الواقعة تحت الانتداب.
هكذا كان موقف عصبة الأمم الشرقية المغلوبة منذ البداية. وقد أثبتت العصبة خلال أعوامها الأربع عشرة أنها غير أهل لتحقيق شيء من المبادئ والمهام العظيمة، التي عهد إليها بالعمل على تحقيقها. وأسطع مثل لذلك موقفها إزاء مسألة تخفيض السلاح، وعجزها المطبق عن أن تحقق شيئاً في هذا السبيل، لأن تحقيقه لا يروق للدول المسيطرة على مجلس العصبة؛ وأسطع مثل لوقوع العصبة تحت نفوذ الدول القوية ووحي النزعة الاستعمارية، موقفها في مسألة منشوريا، التي ثارت منذ ثلاث أعوام بين اليابان والصين، وكلتاهما من أعضاء العصبة؛ فقد استغاثت الصين بالعصبة حين غزو اليابان لمنشوريا، فلبثت العصبة بين التردد والتمهل حتى تم استيلاء اليابان على منشوريا ولم تستطيع أن تتخذ أي إجراء حاسم تنوه فيه باعتداء اليابان على الأراضي الصينية، مع أنه قد نص في(66/12)
ميثاق العصبة على عدة عقوبات تأديبية واقتصادية يتقرر اتخاذها ضد الدولة المعتدية في مثل هذه الظروف. ولم ترض اليابان عن هذا التدخل رغم عقمه. فانسحبت من العصبة لتكون مطلقة اليدين في تنفيذ سياستها الاستعمارية. وقد كان فشل العصبة في مسألة منشوريا ذروة ضعفها وانحلال هيبتها، فعملت الدول الغربية التي تستتر في العمل وراء العصبة على تدارك هذا الضعف، بحمل روسيا السوفيتية على الالتحاق بعصبة الأمم، ولبت روسيا هذه الدعوة، والتحقت بالعصبة بعد أن كانت تخاصمها وتعتبرها من أدوات الاستعمار المستترة حسبما فصلنا في فصل سابق في (الرسالة). وأرادت الدول الغربية من جهة أخرى أن تقوي المظهر الشرقي لعصبة الأمم، فسعت لدى تركيا حتى التحقت بالعصبة، وكان التحاقها بها نتيجة مباشرة لانضمام روسيا إليها، لأن السياسة التركية الخارجية تسير مع السياسة البلشفية الخارجية جنباً إلى جنب، ولأن موقف الخصومة الذي اتخذته تركيا نحو العصبة من قبل لم يكن إلا مجاراة لسياسة حليفتها موسكو. ثم كان دخول أفغانستان أخيراً نتيجة أيضاً لنفس السياسة؛ وأفغانستان تتأثر بنصائح موسكو، وهي مدينة باستقلالها الأخير إلى معاونة موسكو ومؤازرتها، وهي تتأثر أيضاً بنصائح إنجلترا، وإنجلترا يهمها تقوية المظهر الشرقي لعصبة الأمم؛ ولذلك رأينا أغاخان مندوب الهند وأحد أبواق السياسة الإنكليزية يقول في خطابه الذي ألقاه لمناسبة انضمام أفغانستان: إن أخطار الطابع الغربي للعصبة كانت واضحة، وكانت دائما تغشى صبغتها العالمية، فدخول أفغانستان يقوي طابعها العالمي، ويزيدها قوة في القيام بمهمتها.
هذا ويجب ألا ننسى أن العراق أيضاً عضو في عصبة الأمم، وقد دخلت العصبة منذ نحو عامين، وكان دخولها نتيجة لعقد المعاهدة العراقية الإنكليزية التي نالت بها العراق استقلالها الذاتي (سنة 1930) وخروجها بذلك من ربقة الانتداب الذي كان مفروضاً عليها من قبل عصبة الأمم لمصلحة إنكلترا. ويجب ألا ننسى أن دخول العراق في العصبة كان مقروناً من جانب العصبة بمظاهرة تؤكد صبغة الغربية والاستعمارية معاً، فقد وضعت العصبة لقبول العراق شروطاً تلفت النظر بتحاملها وشدتها، ولاسيما فيما يتعلق بحماية الأقليات الدينية والجنسية، وحرية البعثات التبشيرية في القيام بأعمالها، وتقرير الحق لكل دولة أن تشكو العراق إلى العصبة إذا رأت أنها قصرت في تنفيذ تعهداتها.(66/13)
ولم تنضم المملكة السعودية (نجد والحجاز) بعد إلى عصبة الأمم، وليس في سياستها ما يدل على أنها تنوي أن تسعى إلى هذا الانضمام في القريب العاجل، غير أنه يلاحظ أن المملكة السعودية معترف بها من جميع الدول الكبرى التي تسيطر على مجلس العصبة، وأن علائقها بهذه الدول ولاسيما إنكلترا حسنة؛ وقد يكون في الحوادث الأخيرة التي انتهت بدخول تركيا وأفغانستان في العصبة ما يحمل المملكة السعودية على التفكير في السعي إلى الانضمام إلى العصبة، إما اليمن فليست لها سياسة خارجية منظمة معروفة، ومن الصعب أن يعرف موقفها في هذا الشأن، وإن كان المرجح أن الإمام لا يعلق على مثل هذا الانضمام أية أهمية. أما سوريا فهي لازالت ترزح تحت الانتداب الفرنسي، ومن المعروف أن السياسة الفرنسية تنوي متى استطاعت أن تعقد المعاهدة المنشودة مع سوريا، أن تحذو فيها حذو المعاهدة الإنكليزية العراقية من حيث العمل على التحاق سوريا بعصبة الأمم.
بقيت كلمة عن مصر وعن موقفها من العصبة، فأما عن حق مصر في الدخول في عصبة الأمم فليس عليه غبار من الوجهة الدولية، أولاً لأن مصر قد نالت استقلالها من الوجهة الدولية بتصريح فبراير سنة 1922، وهي طبقاً لهذا التصريح دولة مستقلة ذات سيادة، وثانياً لأنه لا يوجد في ميثاق العصبة ما يمنع دولة في ظروف مصر السياسية من الانضمام إليها، فالفقرة الثانية من المادة الأولى من الميثاق تنص على أنه يحق لكل (دولة أو ملك مستقبل (دومنيون) أو مستعمرة حرة في حكم نفسها أن تغدو عضواً في العصبة إذا وافق على انضمامها ثلثا أعضاء الجمعية العامة)، ومصر ليست ملكا مستقلا ولا مستعمرة، بل هي من حيث المركز الدولي دولة مستقلة ذات سيادة، وقد سلمت السياسة البريطانية لمصر بهذا الحق في مشروع المعاهدة المصرية الإنكليزية الذي وضع سنة 1929، فنص فيه في المادة الثالثة على ما يأتي (إن مصر رغبة منها في أن تصبح عضواً بجمعية الأمم، ستقدم طلباً للانضمام إلى تلك الجمعية، طبقاً للشروط التي تنص عليها المادة الأولى من عهد الجمعية، وتتعهد حكومة جلالة الملك البريطانية بتأييد هذا الطلب) ونص في مشروع المعاهدة المصرية الإنكليزية الذي وضع سنة 1930 على ما يأتي (بما أن مصر تنوى أن تكون عضواً في جمعية الأمم فان صاحب الجلالة البريطانية يعترف بحقها كدولة مستقلة ذات سيادة في أن تصبح عضواً في جمعية الأمم عندما تقوم بالشروط التي نص عليها في(66/14)
عهد الجمعية).
ولكن هل تفيد مصر من الانضمام إلى عصبة جنيف سواء في الحال أو الاستقبال؟ لسنا ممن يعتقد ذلك. إن تاريخ عصبة الأمم إزاء الأمم الشرقية والأمم الضعيفة حسبما بسطناه لا يدلي بأن العصبة تأخذ بمبادئ المساواة والعدالة الدولية بين مختلف الأمم؛ والعصبة سواء بنشأتها أو القوى المهيمنة عليها، أو الغايات التي تعمل لها، تنم عن روح غربية عميقة، وربما نمت أيضاً عن روح نصرانية كما ظهر من موقفها نحو العراق فيما اشترطته عليها ثمناً لانضمامها إليها. ولن يكون شأن المثول في العصبة في ظروفنا الحاضرة إلا كشأن التمثيل السياسية الذي يكبد مصر مئات الألوف دون أن تجني من ورائه مزايا عملية يعتد بها. وحتى لو سويت المسائل المعلقة بين مصر وإنكلترا وعقدت المعاهدة المصرية الإنكليزية المنشودة، وتأكد استقلال مصر من الناحية العملية، فأنا لا نجد ما يحمل مصر على السعي إلى الالتحاق بعصبة جنيف. ومن الخطأ أن يتصور البعض أن المثول في العصبة من مظاهر الاستقلال، فان بين أعضاء العصبة مستعمرات وأملاكاً مستقلة طبقاً لما ينص عليه ميثاقها.
لقد تمزق الحجاب أخيراً عن ذلك الرياء الدولي الذي استمر زهاء خمسة عشر عاماً، والذي لبث حيناً يحتضن الدعوى إلى السلام وتفاهم الأمم، ويعقد المواثيق للتحكيم وتحريم الحرب؛ وعادت أوربا القديمة إلى سياستها القومية القديمة، عمادها القوة والعنف، وغايتها افتراس الأمم الضعيفة؛ وما عصبة الأمم إلا عرين الأمم المفترسة قبل كل شيء، ولا خير لأمة ضعيفة أن تقر الذئاب على ريائها، ولا خير لها بالأخص في أن تندمج معها في صعيد واحد.
محمد عبد الله عنان المحامي(66/15)
4 - الشخصية
للأستاذ محمد عطية الابراشي المفتش بوزارة المعارف
العناصر الرئيسية التي تتكون منها الشخصية القوية: -
تكلمنا فيما مضى عن الجاذبية، والنشاط العقلي، والمشاركة الوجدانية، والشجاعة، من العناصر الرئيسية المكونة للشخصية القوية. والآن نتكلم عن بعض العناصر الأخرى المقوية للشخصية كالحكمة، والتفاؤل، والتواضع، ومظهر الإنسان وقوامه، وقوة البيان وأثرها في الشخصية فنقول.
الحكمة:
إن شخصية الإنسان لا تكون متينة إلا إذا زانتها الحكمة والعلم والحزم، ووضع الأشياء في مواضعها، وقدرها حق قدرها. والرجل الحكيم هو السديد الرأي، البعيد النظر، الحسن التقدير، الذي يعرف الحق فيتمسك به، ويفعل ما يجب أن يفعل، ويترك ما ينبغي أن يترك، ويقول ما يجب أن يقال، يرى الفرصة فينتهزها، ويشعر بالطريق المستقيم فيسلكه، يحس بنتيجة الشيء حتى قبل حدوثها، ويعامل غيره بما يحب أن يعامل به، ويحكم على غيره بما يود أن يحكم به عليه، يحب لأخيه ما يحب لنفسه. وإذا حكم على غيره كان حكمه بعيداً عن الأهواء والأغراض، تتمثل فيه النزاهة والعدالة. كل هذه الصفات نتيجة الحكمة وحسن التقدير. والحكمة صفة أساسية في تكوين الشخصية السامية. أما إذا انتفت الحكمة فان الإنسان يكون واهن الرأي، مضطرب البصيرة، سيئ الحظ، عاثر الجد، ضعيف الشخصية، يعجز عن تقدير الأشياء، ويفعل ما يجب ألا يفعل، ويهمل أموراً تجبُ العناية بها، ويهتم بأشياء لا قيمة لها، يحب ما ينبغي أن يكره، ويكره ما ينبغي أن يحب، فيصبح ضحية لوجداناته وأقواله وأفعاله، ويصير مكروهاً لدى من يعرفونه.
ومن الحكمة أن نجتهد في إرضاء الناس - وإن كان إرضاؤهم جميعاً غاية لا تدرك - من غير أن نضحي بمبدأ من مبادئنا، أو مظهر من مظاهر رجولتنا حتى نمتلك قلوبهم، وهذا دليل على وجود الشخصية القوية الجذابة.
وكثيراً ما تفسد الحكمة وتشوه بالفخر، أو التكبر، أو الحقد، أو الغيرة، أو الغش. فينبغي أن(66/16)
يهذب الإنسان نفسه، ويترك الفخر جانباً ولا يتكبر أو يحقد على غيره، ولا يغش أحداً أو يضله، حتى تكون علاقته بغيره حسنة وتكون شخصيته محبوبة لدى من يتصلون به أو يعرفونه.
التفاؤل:
من العناصر التي لا تقل أهمية في تكوين الشخصية الممدوحة: التفاؤل والتيمن والنظر إلى الأشياء بمنظر الفأل الحسن؛ ويمن الطالع، لا بمنظار التشاؤم والتطير، ذلك المنظار الأسود، منظار الشؤم والطِّيَرَة. فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يحب الفأل ويكره الطيرة. ولا نقصد بالتفاؤل أن نغمض أعيننا عن الحقائق نتائج الأمور، بل نقصد أن نعتاد في تفكيرنا النظر إلى الأشياء بعين الأمل والرحمة، لا بعين اليأس والقنوط، وننظر إليها في نور الأمل لا في ظلام اليأس، من الناحية المضيئة من الطريق، لا من الناحية المظلمة الحالكة. والمتفائل يرضى بالماضي خيره وشره ويثق بالمستقبل، ثم يؤدي الواجب ويترك النتيجة لله سبحانه وتعالى. وتعتبر هذه العادة العقلية - عادة التفاؤل - من الأمور الجوهرية في تقوية الشخصية. وكثيراً ما ينشأ التفاؤل عن نشاط الشخص وقوته العقلية والعصبية، وعن نوع الأفكار التي يسمح لها بالدخول إلى العقل، وإذا تعود الإنسان أن يزود نفسه بالأفكار الصحية السارة فانه لا يتجنب التشاؤم والحزن فحسب، بل قد يطل من نوافذ على الناحية السارة المضيئة من الحياة.
وينشأ التشاؤم عن ضعف النشاط وضعف القوة العصبية، وهو الرقابة العقلية في الإنسان؛ فيسمح لنفسه بأن تسبح في جو مظلم من الأوهام حتى يصبح عقله متلبداً بغيوم لا حقيقة لها، ودخان لا أصل له، هي الغيوم التطير ودخان التشاؤم. وإن ضبط النفس والنظر إلى الناحية السعيدة دائماً مما يزيل عن أولئك المتشائمين وهؤلاء المتطيرين هذه الهموم والأحزان التي تسيطر على نفوسهم. وإذا كان التفاؤل موقظاً للعقل، ومدعاة للنشاط وباعثاً على الإقدام، ومحرراً للإنسان، ومنشطاً لجميع قواه العقلية، فالتشاؤم سبب في الخمول والكسل وكثرة التردد والفشل والشقاء والضعف لا في التفكير فحسب، بل في الشخصية أيضاً.
فالشخصية الحية القوية ينبغي أن تتمسك بالتفاؤل، وتلتزم الناحية السارة، يقودها الأمل،(66/17)
ويحييها الرجاء. تفكر في النجاح أكثر من الخيبة، وفي التقدم أكثر من التأخر. وتميل إلى جانب الثقة أكثر من الميل إلى جانب التردد، وتثق بما تقول وما تفعل، ولديها كل علاج وهي منبع النشاط والقوة. قال (روبرت بروننج): (من الحكمة أن ترجح جانب الخير على جانب الشر، واللين على الشدة، والتعقل على الطيش، والأمل على اليأس، والنور على الظلام).
التواضع وعدم التصنع:
العنصر السادس من عناصر الشخصية التواضع وعدم التصنع، وذلك بأن يكون لدى الإنسان استعداد به يقدر نفسه ومركزه تقديراً يدل على التفكير والحكمة من غير تصنع أو تظاهر بما ليس فيه.
فإذا تصنع المرء وادعى صراحة أو ضمناً ما ليس فيه؛ كأن يقدر نفسه فوق قدرها ويعطيها أكثر من حقها، ويتعظم وما هو بالعظيم، ويَدّعى العلم وما هو بالعالم، والثروة وما هو بالثري، والقوة وما هو بالقوي - إذا ادعى شيئاً من هذه الأشياء فقد يتضح أمره لدى الناس، ويتبين جهله أو فقره أو ضعفه على عكس ما ادعى، فيعلمون كذبه، فيحتقرونه ويزدرونه، وينفرون منه ويتباعدون عنه، ويصبح ممقوتاً عندهم جميعاً.
وإن مدح الإنسان نفسه ثقيل لا يقبل، وإذا قبل فانه يجب أن يستند إلى حقائق. والأولى أن يترك الإنسان عمله ليدل عليه ويتحدث عنه، بدلاً من أن يتحدث هو عن نفسه. وإن كان المرء جديراً بالمدح فسرعان ما تظهر حقيقته، ويقدر الناس كفايته، ويزنون أعماله، ويعترفون بشخصيته ومقدرته. فالتواضع سبيل النجاح والرفعة، والتصنع سبيل الفشل والذلة.
وإننا وإن كنا ضد التصنع والتظاهر لا نمنع أن ننزل أنفسنا منزلتها ونعدها، وحدة من المجموع، لها ماله وعليها ما عليه، ونستحسن أن نترك للغير الحكم لنا أو علينا، وأن نتحلى بالتواضع في غير ضعف أو ذلة. فالتواضع أساس للشخصية المحبوبة الجذابة. وإننا نجتذب غيرنا بقدر ما يحبنا الغير. وإذا كانت الشخصية مظهراً لقوة النفس فهي عدوة الكذب والتضليل. فليس المهم في أن تَدَّعِى كذباً، ولكن المهم في أن تعمل حتى تثبت لنفسك العظمة إن كنت عظيماً.(66/18)
مظهر الإنسان وقوامه:
لمظهر الإنسان أثر في شخصيته، فالرجل الصحيح الجسم الحسن القامة، قد لا يحتاج في إظهار شخصيته والتأثير في غيره إلى ما يحتاجه الشخص النحيف الجسم، المشوه الخلقة؛ فبينما تجد الأول طبيعياً في معاملته لأنه لا يشعر بنقص خارجي يريد أن يكمله، إذ تجد الثاني محباً للتظاهر، متكلفاً في أقواله وأفعاله، متخذاً كل وسيلة يستطيع أن يظهر بها نفوذه، فيتظاهر بالعلم تارة، ويفخر بحسبه ونسبه تارة أخرى. وقد يتخذ أحياناً وسائل ثعبانية أو ثعلبية، ليظهر بها نفسه أمام من يبغي الظهور بينهم، فيلجأ إلى الوشاية حيناً، وإلى الملق حيناً آخر. وقد يضطر إلى التجمل في جسمه ولبسه، أو المداعبة في حديثه، كل ذلك ليكمل ما فيه من نقص جسمي.
فالإنسان حينما يحس بنقص من الناحية الجسمية مثلاً تراه يعمل على أن يسد هذا الفراغ، ويكمل ذلك النقص من الناحية العقلية أو الخلقية حتى يظهر شخصيته للملأ. فسقراط مثلاً شيخ الفلاسفة من اليونان، كان أفطس الأنف، غليظ الشفتين، جاحظ العينين، قبيح المنظر، ولكنه قد وصل بمواهبه العقلية والخلقية الأخرى إلى ذروة المجد. ويكفيه فخراً أنه أستاذ أفلاطون، وأنه أكبر فلاسفة اليونان. والجاحظ كان أديب العلماء، وعالم الأدباء، وما لقب بهذا اللقب الذي كان مبغضاً إليه إلا لأنه كان جاحظ العينين (بارِزهما)، دميم الخلقة، حتى قيل إن الخليفة المتوكل سمع بمنزلته من العلم والفهم، فاستقدمه إليه (بسر من رأى) ليؤدب ولده، فلما رآه استبشع منظره، وصرفه بعشرة آلاف درهم. ولكنه بجانب ذلك كان خفيف الروح، ذكي الفؤاد، واسع الاطلاع، وكان يعد دائرة معارف في الآداب والعلوم واللغة والتاريخ حتى أصبح لقبه - الذي كان يكرهه - دليلاً على التبحر في العلم والآداب، والتفوق في فنون البلاغة والبيان، سئل كيف حالك يا أبا عثمان؟ فقال: (حالي أن الوزير يتكلم برأيي، وينفذ أمري، ويواتر الخليفة الصلات إلىَّ. . .) والتاريخ حافل بكثير من العظماء المشوهة أجسامهم، السامية أرواحهم وعقولهم، فلا حاجة بنا إلى التطويل. وكل ما نريد أن نقوله هو أنه إذا نقص الإنسان من جهة حاول أن يكمل نفسه من جهة أخرى.
قوة البيان:(66/19)
إن قوة البيان، وفصاحة اللسان، وحسن المنطق والقدرة على التأثير في السامع مع رجاحة العقل، تكسب الإنسان شخصية وتجعل له منزلة بين سامعيه، ولذلك لما أُمر سيدنا موسى عليه السلام أن يذهب إلى فرعون، شكا موسى العي في القول، وطلب من الله أن يرسل معه أخاه هرون لفصحاته قائلاً: (وأخي هرون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني) يريد فرعون. وإننا لا نريد بالفصاحة والثرثرة والتشدق والتوعر في الكلام، كما لا نريد بها أن يزيد كلام الإنسان على عقله، بل نريد حسن التعبير عما في النفس، وقوة التأثير في المستمع، والتكلم من غير تهيب أو تخوف بحيث يكون الكلام حلواً رشيقاً، سهلاً عذباً مؤثراً. أما العيّ والحصر واللجلجة، والتمتمة والفأفأة وكثرة التردد في القول، والخجل في أثناء التكلم فتقلل من تأثير الشخص في سامعيه. وإن حُسْن التعبير عما في النفس شرط أساسي لقوة الشخصية، وهو يتطلب العلم بالشيء الذي نريد التكلم عنه؛ لأن أفكارنا إذا عرفت كان من السهل التعبير عنها. وكما يجب أن نعرف ما نريد أن نقول، وما نريد أن نفعل، كذلك يجب أن نحسن القول ونحسن العمل. وما أجمل الكلمة الصائبة في اللحظة المناسبة. وكما ينبغي حسن التكلم والخطاب، كذلك ينبغي حسن الإصغاء والاستماع للغير. وقد تكون لدينا الأفكار السامية ولكننا نحتاج إلى شجاعة في إظهارها حتى ينتفع بها غيرنا. . .
محمد عطية الابرشي(66/20)
بين فن التاريخ وفن الحرب
2 - خالد بن الوليد في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي رئيس أركان حرب الجيش العراقي
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)
خالد بن الوليد
3 - أسباب الحروب:
مات رسول الله والإسلام لم يتمكن من قلوب جميع العرب الساكنين في الجزيرة. وادعى بعض الرؤساء النبوة في آخر أيام الرسول، وارتد الكثير من العرب بعد وفاته.
والثابت أن الذين تمكن الإسلام من قلوبهم ولم يتزعزع إيمانهم هم المهاجرون والأنصار وقريش وثقيف والقبائل الساكنة بين المسجدين (المدينة ومكة) على ما يذكره الطبري.
ولم يكن تأثير الردة في القبائل على نمط واحد، بل كان الأثر يختلف باختلاف العوامل، وهي تتلخص فيما يلي: -
(أ) قرب المنطقة التي تسكنها القبيلة من المدينة أو بعدها.
(ب) علاقة القبيلة بالمدينة.
(ج) قرب عهد القبيلة بالإسلام أو بعده.
ولقد ناقش المستشرق الطلياني لئونه كايتاني هذه العوالم في كتابه (تاريخ الإسلام) فصنف العرب من حيث علاقتهم بحروب الردة إلى خمسة أصناف، فوضع في الصنف الأول القبائل التي أسلمت منذ مدة طويلة وخضعت لسلطة المدينة خضوعاً تاماً، وهي القبائل التي تسكن بالقرب من المدينة ومكة وفيما بينهما كجهينة ومزينة وبلي وأشجع وأسلم وهذيل وخزاعة وغيرها.
ووضع في الصنف الثاني القبائل التي تعاقدت مع الرسول واشتركت في المدة الأخيرة في حروبه وقد كان فيها على إسلامها أقلية مختلفة تنتهز الفرص للتملص من سلطة المدينة ومن هذه القبائل هوازن وعامر بن صعصعة وطي وسليم وخثعم.(66/21)
ووضع في الصنف الثالث القبائل الساكنة على حدود المملكة الإسلامية، فخضعت هذه القبائل سياسياً لسلطة المدينة، ودفعت الصدقات إلى الرسول، وفيها أكثرية تتحين الفرص للرجوع إلى حالتها القديمة. ومن أخطر هذه القبائل بنو أسد وبنو غطفان وبنو تميم الساكنون في مناطق نجد الغنية.
ووضع في الصنف الرابع القبائل التي لم تخضع لسلطة المدينة، بل اكتفت بإرسال الوفود إلى الرسول وتظاهرت بالخضوع له. فيها أقلية مسلمة ضئيلة تستند إلى قوة المسلمين في المدينة للاحتفاظ بمنزلتها. ومن أخطر هذه القبائل بنو حنيفة وعبد القيس وأزدعمان وأكثر قبائل حضر موت واليمن. أوفد الرسول إليها عمالاً ليمثلوا الإسلام، وليعلموا المسلمين أمور الدين.
أما القبائل التي وضعها في الصنف الخامس فهي القبائل التي لم تسلم وكانت نصرانية أو مشركة. وهي القبائل الساكنة في الشمال كبني كلب وبني تغلب وبني غسان وقضاعة وتنوخ وبني بكر. وبعض القبائل في حضر موت واليمن.
ولكني لا أجاري المؤرخ الطلياني في تصنيفه هذا؛ بل من الثابت أن تأثير الإسلام في القبائل العربية كان يختلف باختلاف العوامل التي ذكرناها قبلاً، والواقع أن الرسول لم يمت إلا وقد ظهرت حركة الردة في القبائل، فمنها من طلب إعفاءه من إعطاء الزكاة، ومنها من امتنع من إعطائها، ومنها من قدم رجلاً وأخر أخرى في ذلك فأمسك عن الصدقة، وأخيراً منها من ارتد وطرد عمال الرسول أو قتل المسلمين ومثل بهم.
وكان الرسول في حياته قد حرض عماله في اليمن على مقاتلة الأسود العنسي الذي ادعى النبوة واستولى على أكثر مقاطعات اليمن.
أما أبو بكر فرد الوفود التي أتت المدينة وطلبت منه أن يعفيها من إعطاء الزكاة، وقال كلمته المشهودة (والله لو منعوني عقال بعير لقاتلتهم عليه) ولما وردت الكتب من أمراء الرسول تنبأ أبو بكر بأن الناس ارتدوا عامة وخاصة وأنهم تبسطوا بالتمثيل فحاربهم.
4 - قوات الفريقين:
1 - أهل الرّدة: إذا استقصينا الأخبار التي رواها الرواة توصلنا إلى النتائج التالية:
(أولاً) لم ترتد القبائل الساكنة إلى شرقي مكة وغربها وجنوبها، بل ظلت على الحياد غير(66/22)
ميالة إلى أحد الفريقين، وهي قبائل كنانة وأزد وبجيلة وخثعم وعك وأشعر وحكم وغيرها.
(ثانياً) تأثر بحوادث الردة القبائل الساكنة إلى شمال شرقي مكة كهوازن وعامر بن صعصعة وجذيلة. أما بنو سليم فقد ارتد الكثير منهم، بيد أن هذه القبائل جميعاً لم تشهر سلاحها في وجه المسلمين.
(ثالثاً) أما قبائل طيء فأنها إلى أي جانب تميل ومع ذلك فان قسما قليلاً منها انضم إلى جيش طلحة الأسدي مدة قصيرة.
(رابعاً) وأما قبائل قضاعة الساكنة إلى شمالي المدينة فأنها شهرت سلاحها على المسلمين.
ومع ذلك لا يصح أن يقال إن هذه القبائل جميعاً ساعدت أهل الردة الذين ثاروا في وسط الجزيرة، بل إن بعضها ظل في منطقته إما على الحياد وإما متردداً لا يحرك ساكناً، وإما أنه طرد العمال الموفدين من المدينة في عهد الرسول.
لذلك لا يجوز اعتبار هذه القبائل من القبائل الساكنة في وسط الجزيرة التي حشدت رجالها وأغارت على ضواحي المدينة، أو أنها تأهبت لمنازلة جيش المسلمين.
أما القبائل التي اشتركت في حروب الردة فعلاً فأليك بيانها:
1) بنو فزارة وبنو غطفان الساكنون إلى شرقي المدينة على طريق نجد. فقد توافد رؤساء هذه القبائل إلى المدينة وطلبوا من أبي بكر أن يعفيهم من الزكاة. ولما لم يجب طلبهم رجعوا فجمعوا رجالهم وتأهبوا لمباغتة المدينة.
2) بنو أسد الساكنون على منتصف الطريق التي بين الحجاز ونجد إلى جنوبي جبل شمر. ويزعم الرواة أن طليحة بن خويلد الأسدي ادعى النبوة في حياة الرسول وجمع رجاله في السميراء.
ولما توفى الرسول وامتنعت القبائل من إيتاء الزكاة سعي إلى جمع القبائل حوله، واقترح عينية بن حصن الفزاري ترك المنازعات بين بني أسد وبني غطفان وعقد حلف بين بني فزارة وبني غطفان وبني أسد.
لبي بنو فزارة هذه الدعوة واتحدوا مع بني أسد، وكذلك البعض من بطون طيء أيضاً انضم إلى طليحة، حتى أن رئيس جديلة بن طي، ثمامة بن أوس، جمع خمسمائة رجل وانضم إلى بني أسد.(66/23)
3) بنو تميم الساكنون في نجد في منطقة القصيم.
وتتألف هذه القبيلة من عدة بطون. ولما بلغها نعى الرسول امتنع أكثر بطونها عن أداء الزكاة. وكان الاختلاف قد دب فيما بينها، ولما ظهرت سجاح من شمالي الجزيرة بجموعها من تغلب مدعية النبوة، ودخلت حتى بني تميم لأنها كانت تمت إليهم بنسب، التف حولها بعض من تميم. ويزعم الراوي سيف بن عمر أنها كلفت مالكا بالمسير معها نحو المدينة للهجوم على أبي بكر. وكان البعض من بطون بني تميم لم يرتد فالتجأ إليه المسلمون الهاربون من البطون الأخرى فقاتل سجاحا ومن معها من بني تميم ومنعها من التقدم نحو المدينة. والرواة يزعمون أنه انتصر عليها وعلى حلفائها من بني تميم وألجأها إلى مغادرة ديار بني تميم والذهاب إلى مسيلمة الكذاب.
(4) بنو حنيفة الساكنون في اليمامة. ادعى رئيس هذه القبيلة مسليمة النبوة فآمن بنبوته جميع بني حنيفة. ويظهر أن دعوة الإسلام لم تنتشر فيها وكان معظمها مشركا. فلما ادعى مسليمة النبوة آمنت بنبوته. وهي ولا ريب من أخطر القبائل التي اشتركت في حروب الردة وقاتلت المسلمين قتالاً عنيفا. وذاق المسلمون الأمرين في حروبها. ويزعم الراوي سيف بن عمر أن جيش بني حنيفة المحارب بلغ أربعين ألفاً.
ومن العسير معرفة قوات هذه القبائل التي اشتركت في المعارك، والواضح أن قبائل غطفان وفزارة التي حاولت مباغتة المدينة حتى اضطر أبو بكر إلى مقاتلتها كانت دون القبائل شأناً. ولعل القوات التي جهزتها لم تزد على آلفي رجل.
أما القوة التي استطاع طليحة أن يجهزها ويقاتل بها جيش المسلمين فكانت تربو على أربعة آلاف مقاتل، وانضم خمسمائة رجل من جديلة طيء وسبعمائة فارس بقيادة رئيس بني فزارة عيينة بن حصن.
أما بنو تميم فلو اتفقت بطونها وقابلت جيوش المسلمين لبلغت قوتها زهاء عشرة آلاف مقاتل، غير أنها لم تتفق فيما بينهما، بل حارب بعضها بعضاً، ولما وصل خالد بن الوليد بجيشه إلى ديار بني تميم كانت البطون قد تفرقت.
أما بنو حنيفة فكان جيشهم من أقوى الجيوش التي حاربت المسلمين، ومع أن سيفاً يزعم أن قوتهم بلغت أربعين ألفاً، بيد أننا لا نميل إلى اعتقاد صحة روايته، ولعل قوة جيش بني(66/24)
حنيفة لم تزيد على خمسة عشر ألف مقاتل.
والذي جعل الرواة يبالغون في تقدير جيش بني حنيفة هو وعورة المنطقة التي حارب فيها المسلمون، والحقيقة أن أرض اليمامة أرض وعرة فيها وديان وشعاب وجبال وعقبات وثنايا. والذي زاد في مناعة الأرض القرى المحصنة بالأسوار والحدائق المسورة بالأحجار المكدسة شأن الكثير من قرى العارض والسدير في بلاد نجد.
ب. المسلمون:
جهز الرسول جيش أسامة قبل وفاته بمدة قليلة وكان يقصد إيفاده إلى الشمال. واجتمع الجيش في الجرف في شمالي المدينة، ولما علم بمرض الرسول أجل حركته.
وبعد وفاته أوفده أبو بكر لينفذ الخطة التي رسمها له الرسول في حياته. ونصح بعض الصحابة أبا بكر أن يبقيه لكي يعتز به بعض الإسلام وأراد بعضهم تبديل قائده، بيد أن الخليفة لم يجب طلبهم، ولم يرض أن يبدل ما قرره الرسول. وليس لدينا معلومات موثوق بها عن قوة هذا الجيش، لأن المؤرخين القدماء جريا على عادتهم، بحثوا في قائده والأوامر الصادرة إليه، والغاية المتوخاة من إيفاده وغير ذلك ولم يذكروا مقدار قوته.
وإذا تأملنا في سبب إيفاده، ظهر لنا أن قوته يجب أن تكون كافية. وسبق أن جهز الرسول جيشين لهذه الغاية ذاتها وهما: جيش جعفر بن أبي طالب الذي قاتل الروم في البلقاء في وقعة موتة، وكانت قوته ثلاثة آلاف مقاتل، والجيش الذي قاده الرسول بنفسه ليغزو به تبوك، وقد بالغ المؤرخون في قوته، وزعموا أنه بلغ ثلاثين ألفا، أما جيش أسامة، فهو الجيش الثالث، ونعتمد أن قوته يجب ألا تقل عن خمسة آلاف.
وكان المهاجرون والأنصار نواة هذا الجيش. فالمهاجرون والأنصار عماد الجيش الإسلامي، وهم كالحرس الذي كان يؤلفه الملوك للاعتزاز به في تنفيذ خططهم، إصلاحية كانت أم حربية
واشترك هؤلاء في غزوات الرسول وحروبه من أولها إلى آخرها. وكانوا يؤثرون النبي على أنفسهم في جميع أعمالهم، فكان الإسلام متمكناً من قلوبهم، فلا غرو إذا رأينا الإسلام يقوم على سواعدهم بعد وفاة الرسول، ولعل عددهم كان يتفاوت بين الألف والخمسمائة وبين الألفين لما توفى النبي.(66/25)
وكان أكثرهم في جيش أسامة، ماعدا البعض منهم فانه بقي في المدينة مع أبي بكر، أو أوفد في حياة الرسول عاملاً أو معلماً أو مبشراً إلى الأقطار العربية النائية، أو جابياً أو معلماً إلى القبائل العربية القريبة.
ويلي المهاجرين والأنصار قريش التي أسلمت بعد فتح مكة وأبلت بلاءً حسناً في الإسلام بعد ذلك. أجل، إنها لبت الدعوة أخيراً وقسراً، إلا أنها اقتنعت أن عز الإسلام من عزها فناصرت الرسول في حياته من أعماق قلبها، حتى أن الرسول بعد فتح مكة رضى أن يظل البعض من قريش مشركاً حتى يفتح الله قلبه، ومع ذلك لم يحجم هذا البعض عن الجهاد معه في غزوة صفين أو في محاصرة الطائف.
ولعل القوة التي كانت قريش تستطيع أن تجهزها للقتال زادت على ألفي مقاتل على أقل تقدير.
ويلي قريشاً القبائل الساكنة بين الحرمين، مكة والمدينة، وهي التي ناصرت الرسول في دعوته. وقد اشترك بعضها في الغزوات، وجاهدت أخيراً في حروب الرسول. فقربت هذه الحروب بينها وبين المهاجرين والأنصار وربطتهما برباط متين. فلا مندوحة إذن من أن نرى أبا بكر يدعوها إلى الجهاد لما كان جيش أسامة بعيداً عن المدينة، فلبت دعوته راغبة مطيعة، وهذه القبائل هي: أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب وغيرها.
ولعل القوة المحاربة في هذه القبائل لم تزد على ثلاث آلاف.
وتليها قبيلة بني ثقيف الساكنة بين مكة والطائف وهي خير من أسلم من قبائل الحجاز. واشتهرت بشدة مراسها وصلابة عودها؛ وكانت تعتز بعاصمتها الطائف المسوَّرة. ولم ترتد ثقيف على ما سبق ذكره، بل بقيت متمسكة بالإسلام، وكانت قوتها المحاربة تقدر بأكثر من آلفي مقاتل.
هذه خلاصة القوات التي كان الخليفة يعتمد عليها في محاربته أهل الردة. وقد ظهر لك أنها كانت تبلغ عشرة آلاف متى تيسر جمعها. والواضح أن جيش أسامة بن زيد كان مؤلفاً من معظم المهاجرين والأنصار وبعض رجال القبائل. وذلك لما كان أسامة بعيداً عن المدينة إذ أخذت القبائل المرتدة الواقعة إلى شرقي المدينة تهددها.
ولعل من الفائدة أن نذكر بهذا الصدد مقدار القوات التي استطاع الرسول أن يجمعها في(66/26)
حروبه:
كانت قوة المسلمين في غزوة بدر لا تزيد على ثلاثمائة رجل؛ أما في غزوة أحد فكانت زهاء الألف، وفي غزوة الخندق بلغت ثلاثة آلاف. أما في فتح مكة إذ ظهرت سطوة الإسلام، وقويت شوكة المسلمين فكان جيش المسلمين عشرة آلاف، نواته المهاجرون والأنصار، وقوامه رجال القبائل الضاربة إلى شرقي المدينة وشمالها وجنوبها.
ويزعم الرواة أن جيش الرسول بلغ ثلاثين ألفاً في غزوة تبوك، كان عشرون ألفاً منه رجالاً وعشرة آلاف فرساناً. أجل إن الموقف العسكري كان ملائماً لمبادرة رجال القبائل إلى الالتفاف حول راية الإسلام للهجوم على بلاد الشام وهي المشهورة بخيراتها، وذلك يجعل جيش المسلمين يصل إلى حده الأقصى، إلا أننا لا نظن أنه بلغ القوة التي ذكرها الرواة، ولعلها بلغت أكثر من خمسة عشر ألفاً.
ولما امتنعت القبائل العربية عن أداء الزكاة وارتد البعض منها لم يكن في وسع الخليفة أن يجمع كل القوات التي يستطيع أن يعتمد عليها على ما سبق بيانه. لأن جيش أسامة كان في الشمال، وفيه نخبة الجنود المجاهدين. أما قريش وثقيف فكانتا بعيدتين عن دار الحركات، لذلك دعا أبو بكر القبائل الضاربة بين المدينة ومكة أولاً؛ ولما رجع جيش أسامة استنجد به. ثم أخذ رجال قريش وبعض ثقيف ينضمون إلى الحملات.
ومن الثابت أن قوة المسلمين كانت جد ضعيفة لما تأهب بنو غطفان وفزارة للهجوم على المدينة، ولعلها لم تجاوز بضع مئات.
(يتبع)
طه الهاشمي(66/27)
من مشاهداتي في أوربا:
معجزات طبيب
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
في بطن واد من وديان بلاد النمسا بين التلال والسهول المكسوة بالأشجار الباسقة والخضرة الضاربة، قرية صغيرة كانت قبل خمس سنوات مجهولة لا يطرقها طارق، ولا يذكر اسمها ذاكر. ولكنها أصبحت منذ سنة 1929 محط الرحال، ومهبط الآمال، تعرفها شعوب الأرض قاطبة، ويحج إليها المريض الأوربي إنجليزياً كان أو ألمانياً أو إيطالياً أو تركياً أو مجرياً كما يحج إليها مرضى القارات الأخرى أمريكا واستراليا وآسيا وأفريقيا، تلك هي قرية جالزباخ الصغيرة التي تبعد عن فينا أربع ساعات في القطار، وتعلو عن سطح البحر بنحو300 متر تقريباً.
عرفت تلك القرية منذ أنشأ فيها (فالنتين تسايلايس) رجل المعجزات والعجائب كما يسميه أفراد تلك الشعوب، مصحته العظيمة التي كلفته نحو الأربعين ألفاً من الجنيهات. وإذا كان تسايلايس استطاع بمهارته وقدرته ومخترعاته أن يعالج بالألكتروراديوم الأعمى فيبصر، والأخرس فينطق، والمقعد فيمشي، والأشل فيبرأ، وغير ذلك من المرضى فيشفون، فقد حق لتلك الشعوب أن تطلق عليه اسم الساحر أو طبيب المعجزات والعجائب.
ولقد مكنت لي الظروف صيف هذا العام أن أتعرف إلى الكثيرين في تلك المصحة من المرضى النازحين إليها من مختلف شعوب الأرض، بعضهم لعلاج العمى، وبعضهم لعلاج الشلل، وبعضهم لعلاج الربو، وهكذا من شتى المرضى بالعاهات المختلفة، ورأيت فيهم جميعاً روحاً غريبة هي روح الثقة بالشفاء على يدي هذا الرجل إن عاجلاً أو آجلاً، كل حسب شدة المرض عنده. وقد تحدثت هنالك إلى رجل نمساوي كان أعمى وأبصر، فعلمت منه أنه مستمر في العلاج بالألكتروراديوم لتحسين قوة نظره، وهو يتطوع أبداً لقيادة العميان وأخذهم في صف واحد ممسكاً كل واحد منه بقميص الآخر من الخلف في دخولهم إلى حجرة العلاج وخروجهم منها. كما أني تحدثت مع فتى إنجليزي، وآخر ألماني، كان كل منهما أشل لا يستطيع أن يحرك نصفه الأيسر، وبعد العلاج مرتين أو ثلاث مرات أصبح كل منهما قادراً على المشي بعرج بسيط، وكلاهما يأمل في الشفاء التام بعد تكرار(66/28)
العلاج مرة أخرى أو مرتين، وهناك فوق هؤلاء وهؤلاء عشرات من الشيوخ الذين يحجون إلى مصحة هذا الساحر لاسترجاع شبابهم واستعادة قوتهم. وقد قابلت هناك من المصريين عبد الرحمن فهمي بك السكرتير السابق للوفد المصري، وقد ذكر لي أنه كان يعالج عينيه مما يسمى بالذباب الطائر، وأنه قد برئ منه، وأن هذه سابع مرة يحج فيها إلى تلك المصحة لأنه يشعر بعد كل مرة أن الشباب والقوة يتدفقان في جسمه، وقد حدثني كثيراً عما رأى من معجزات تسايلايس، وكان مما ذكره أنه رأى اخرس علاجه هذا الرجل بطريقته الشاذة العجيبة حتى أنطقه. ورأيت هناك أيضاً من المصريين أحمد حجازي بك عضو مجلس النواب السابق وأسرته لأول مرة له، ليعالج نفسه من الربو، وليعالج كريمته التي عجز نطس الأطباء في أوربا عن شفائها، وهو وإن لم تطل مدة إقامته هناك إلا أنه ذكر لي أنه استفاد فائدة محسوسة من العلاج، وأنه لابد أن يعود في العام المقبل مع كريمته ليستأنف علاجها مدة حتى تشفى على اعتقاده نهائياً. أما أنا وصديقي الأستاذ علم الدين القوصي فقد جمعتنا ظروف المرض العصبي الذي عجز أطباء مصر عن علاجه، فقصدنا لأول مرة تلك المصحة حسب نصيحة الدكتور يوسف قابيل مأمور القنصلية المصرية بفينا، والذي نسجل له على صفحات الرسالة جزيل شكرنا على ما لقيناه منه من مساعدة ونصيحة. قصدناها فعالجنا الساحر النمساوي ثلاثة أسابيع بالألكتروراديوم، فأحس كل منا بالتحسن الكبير في صحته، وعدنا شاكرين الله سبحانه على اهتدائنا لهذا الطبيب.
وقد حصلت على إحصاء رسمي عن آلاف المرضى الذين عولجوا في تلك المصحة في خمس سنين من سنة 1929 إلى سنة 1933 فكان كالآتي.
سنة 1929: 10100مريض، سنة 1930: 16354مريضاً، سنة 1931: 10155مريضاً، سنة 1932: 12092مريضاً، سنة 1933: 7670مريضاً، وكان عدد المرضى في شهور سنة 1934 كالآتي.
يناير 364، فبراير 304، مارس 416، أبريل 602، مايو 604، يونيه 725، يوليه 883.
والذي يتتبع هذا الإحصاء يرى تناقصاً في العدد في سنتي 1933، 1934 ويرجع السر في ذلك إلى إقفال الحدود النمساوية الألمانية، فقد قررت حكومة ألمانية في يونيه سنة(66/29)
1933 على كل ألماني يرغب في اجتياز الحدود النمساوية أن يدفع ألف مارك، أي نحو 75 جنيهاً، فكان هذا سبباً في صد تيار الألمان الذي كان يتدفق قبل ذلك إلى جالزباخ، ويكفي للدلالة على ذلك أن تعلم أن عدد الأجانب الذين هبطوا تلك القرية أخذ في التناقص من 74 % من جميع المرضى في سنة 1929 إلى 55 % في سنة 1933 إلى 47 % فقط في شهور سنة 1934.
أما تسايلايس ومصحته وطريقته في العلاج فقد أثارت ضجة
عظيمة في الجرائد الأوربية عامة والنمساوية والألمانية خاصة
بين سنتي 1929، 1931، وقد اطلعت على بعض المقالات
التي نشرت في الجرائد الإنجليزية تحت عناوين مختلفة، منها
مقالة في (الديلي ميل) بتأريخ 17 12 1930 تحت عنوان
(عمليات بالآلة الكهربائية) أطرت فيها استخدام الكهرباء بدل
المشرط في العمليات الجراحية، ومقالة أخرى طويلة في
تحت عنوان (معجزات النمساوي صاحب العصى السحرية)
وغيرها مما لا يتسع المقام لتفصيله. وسنأتي فيما بعد على
طرف من أخبار انتصاره على أساتذة الطب في النمسا
وألمانيا، كما سنذكر شيئاً عن الطرق التي يستخدمها في
العلاج والأمراض التي يعالجها.
عبد الحميد فهمي مطر(66/30)
3 - الشريف الأدريسي يضع أقدم وأصح خريطة
جغرافية للدنيا القديمة
للأستاذ محمد عبد الله ماضي عضو بعثة تخليد ذكرى الإمام محمد
عبدة بألمانيا
تتمة
13 - الأستاذ كونراد ميللر يُعنى عناية خاصة بدرس خريطة
الإدريسي وطبعها طبعة ملونة لأول مرة.
لم تخف قيمة هذه الخريطة العلمية والفنية على علماء الجغرافيا المستشرقين، فالكثير منهم قد اشتغل بدراستها في مختلف العصور، وكلنهم شغلوا أنفسهم بنواحي خاصة منها، ولم يجر واحد منهم بحثا شاملا مستقصيا مع اعترافهم جميعا بمنزلتها وتقديرهم لها.
ومازالوا على طريقتهم هذه ولم يخرجوا عنها إلى أن أتى
الأستاذ كونراد ميللر فأجرى عن هذه الخريطة البحوث
المستفيضة وكتب عنها الفصول الطوال التي استغرقت أعداداً
كاملة من مجموعته العربية تلك المجموعة التي ضمنها
أبحاثه في الجغرافية العربية، ثم توج هذا العمل الجليل الذي
نشكره عليه ونقدره له بطبع الخريطة سنة 1928 لأول مرة
طبعة ملونة. أبرزها في تلك الحلة الفاخرة المتناسبة الأجزاء،
فدل على المدن بدوائر ملونة باللون المذهب، ورسم الأنهار
والبحيرات بلون أخضر فاتح، والجبال بألوان مختلفة أحمر(66/31)
وأصفر وبنفسجي إلى جانب بعضها، كل هذا فوق أرضية
فاتحة اللون تدع نفسها متميزة بوضوح عن لون البحار
المدلون عليه باللون الأزرق السماوي المموج بخطوط رفيعة
بيضاء، كما أنها تساعد على تحديد المسالك بعضا عن بعض
بسهولة. ولقد كتب أسماءها بحروف لاتينية مميزاً الأقاليم
السبعة بخطوط رفيعة حمراء وجعل طولها مترين وارتفاعها
متراً تقريباً. وبهذا تكون مساحتها 47 مساحتها الأصلية التي
قدمنا أنها كانت بطول ثلاثة أمتار ونصف متر، وارتفاع متر
ونصف متر تقريباً. وهذا وقد يظن أن المساحة الأصلية كانت
كبيرة بشكل زائد على اللزوم، ولكن سوف يتلاشى هذا الظن
إذا علمنا أنها تتضمن من أسماء المدن فقط التي كانت مائجة
بالعمران في ذلك العصر 2064 اسماً: (365) بأفريقيا،
(740) بأوربا، (959) بآسيا، ويوجد بين هذه الأسماء كل
أسماء المدن الشهيرة المهمة في ذلك الوقت.
قبل هذه الطبعة لم تكن الخريطة موجودة بشكل تام مشتبكة الأجزاء بعد فقدان الأصل للخريطة الحائطية، وإنما كانت موجودة في قطع متفرقة داخل كتاب نزهة المشتاق أو مستقلة بذاتها. ومجموع هذه القطع الموجودة إلى الآن منها يبلغ 255 قطعة كما ذكر الأستاذ ميللر، توجد بمكاتب باريس وأكسفورد وأستانبول وليبننجراد والقاهرة؛ وكانت هذه القطع من الأصل الذي طبع عنه الأستاذ ميللر تلك الطبعة التي بين أيدينا.(66/32)
وهناك خريطة أخرى تدعى الخريطة الإدريسية الصغيرة طبعها الأستاذ ميللر كذلك في مجموعته، وهي ليست لصاحبنا الإدريسي وإنما هي لابنه محمد وضعها سنة 1192، واسمها روض الفرج. ولقد وجدها بعض الباحثين كذلك في أستانبول في 73 قطعة، وإذا وازنا بينها وبين خريطة والده فأننا نجده قد أخذها صورة طبق الأصل عنها بشيء يسير من التغيير، ومع هذا فقد فاتته عناية والده في الرسم.
14 - خريطة الشريف الإدريسي اقدم خريطة عالمية يعرفها
التاريخ. موازنات بينها وبين بعض الخرائط وباق مميزاتها.
بقى أن نذكر مع الفخر والإعجاب أن الخريطة الإدريسية أقدم خريطة عالمية صحيحة كبيرة مفصلة وموضوعة بغاية الضبط والإتقان والوضوح عرفها التاريخ إلى الآن. نعم لقد وصل إلى أيدي علماء الجغرافيا خريطة من عهد قياصرة الروم لها من العمر ضعف ما للخريطة الأدريسية وهي خريطة (بويتنجر) التي وضعت في عام 365 بعد الميلاد، ولكنها ليست خريطة عالمية للدنيا القديمة كخريطة الإدريسي، وإنما هي خريطة لبيان طرق المواصلات فقط، فضلا عن أن المدن والمحطات التي ذكرتها أصبحت كلها أنقاضاً لا يعرف لها أثر، فالناظر إلى هذه الخريطة وإنما يستطيع أن يتصور موضعها بالتقريب. وإما خريطة الإدريسي فهي فوق كونها عالمية تمثل الدنيا القديمة، وبالرغم من أنها تبلغ من العمر نحو ثمانمائة سنة فكل المواضع التي ذكرتها يستطيع الباحث أن يعثر عليها ويتثبت منها إلى الآن، ومازال أغلبها يعرف بنفس الأسماء التي ذكرها الإدريسي إلى يومنا هذا. نحن لم نرث من العصر القديم خرائط جغرافية عالمية وإن كان قدماء اليونان قد وضعوا خرائط من هذا النوع مبنية على طريقة فلكية متقنة، وأشهرها خريطة الدنيا لبطليموس التي تزيد على خريطة الإدريسي بألف سنة في القدم، ولكنها ليست خريطة للدنيا بالمعنى الذي نعرفه ولا على منهج خريطة الإدريسي تبين الممالك ومواقعها إلى آخر ذلك، وإنما هي خريطة للدنيا بمعنى أنها تعطي نظرة عامة فقط في الدنيا القديمة وتبلغ مساحتها 35 سنتيمتراً في 52 سنتيمتراً. هذه الصورة التي أعطتها خريطة بطليموس ظلت معتبرة في بلاد الشرق والغرب إلى آخر العصر المتوسط. ولقد اخذ الإدريسي حدودها(66/33)
واستعان بها عند وضع خريطته، ولكن من حسن الحظ كما عبر الأستاذ ميللمر أن الإدريسي قطع النظر بالكلية عما احتوته خريطة بطليموس بعد الصورة والتحديدات العامة تنفيذا لأمر رجار الثاني، نقول من حسن الحظ لأن الأسماء التي ذكرها بطليموس في خريطته على كثرتها غير مطابقة للواقع بأكثر من 1 % مع التسامح في هذا النسبة، وكذلك درجات العرض والطول المثبتة في خريطة بطليموس تختلف عن الحقيقة بمئات من الأميال، لهذا كان من الحكمة والسداد قطع النظر عما أثبت في تلك الخريطة بالكلية، وكذلك فعل الإدريسي ووصل بمجوده المستقل إلى أن يعطينا صورة صحيحة مطابقة للعصر الذي عاش فيه بما لا ينتظر خيراً منه. الأمر الذي جعل لتقسيمات الممالك في الخريطة الإدريسية وللتقسيمات السياسية على الإطلاق قيمة علمية فائقة. نعم أظهر بطليموس مقدرة العالم الفلكي عند وضعه لخريطته في الوقت الذي أثبت فيه درجات العرض والطول بناء على حساباته العلمية المبنية على القواعد بمقدار لم يصل إليه الإدريسي، ولكن هذا لا يغنيه شيئاً بجانب عدم التحري للحقيقة. وعند الموازنة بين خريطته وبين خريطة الإدريسي نجد أن بطليموس اثبت خطوط العرض والطول معاً ولكنها تختلف عن الواقع بشكل غير مقبول. أما الإدريسي فأنه اثبت درجات العرض فقط ولكن بعد قياسات صحيحة، فهي مطابقة للحقيقة بمقدار يدعو المقدر للخريطة الإدريسية علمياً إلى أن ينظر إليها بعين الإكبار والإجلال. وأما خطوط الطول فقد ترك إثباتها الإدريسي عن قصد، إذ تبين له أن مقادير المقاييس التي وصلت إليه غير صحيحة، ولأنه لم يتيسر له بعد هذا إجراء قياسات أرضية لبيان درجات الطول وقياس الكرة السماوية، وإن كان في الاستطاعة فانه لا يعطي نتيجة مقطوعاً بها.
هناك خريطتان أخريان
(1) خريطة نسبة للدير الذي وجدت فيه بمدينة هانوفر من أعمال ألمانيا.
(2) خريطة التي وجدت بإحدى كنائس هرفورد بإنجلترا.
وهاتان الخريطتان بالرغم من أنهما وضعتا بعد الخريطة الإدريسية بمائة سنة فلم تكونا عملاً علمياً، وإنما كانتا عبارة عن تخطيطات زخرفية كما عبر الأستاذ ميللر، تمثلان شيئاً من العصور السابقة لعصرهما، غير محتويتين إلا على شيء يسير من الجغرافية(66/34)
المعاصرة لهما.
لعل القارئ يتساءل الآن عن مقياس الرسم للخريطة الأدريسية، وهنا أقول إن مقياس الرسم بالمعنى الحديث الذي نعرفه والذي بمساعدته يستطيع الإنسان أن يعرف مساحة جهة من الجهات بقياس مساحتها فوق الخريطة، مقياس الرسم بهذا المعنى لا نجده في خريطة الإدريسي، وهو طبعاً لم يوجد في جميع الخرائط القديمة، وإنما وجد بعد وضع خريطتنا بمئات السنين. على أن الإدريسي قد أشار إلى طريق الوصول إلى معرفة مثل هذا المقياس الحديث. الإدريسي ذكر درجات العرض وقدر الدرجة بخمسة وعشرين فرسخاً، والفرسخ بثلاثة أميال، وعليه فالدرجة 75 ميلاً، ولكن الذي لم يذكر قدره الإدريسي هو الميل، فان قدرنا الميل بما كان معروفا عند الروم وهو كيلو متر ونصف تكون الدرجة مقدرة عنده بـ 112. 5 كيلو متر، وبهذا يكون الإدريسي أعطانا مقياس الرسم لخريطته بشكل واضح.
في الختام أريد أن أذكر لحضرات القراء بعض المميزات التي تزيد في قيمة الخريطة الإدريسية، وقيمة شرحها نزهة المشتاق:
(1) تجنب الإدريسي ذكر الخرافات التي كانت شائعة في العصر المتوسط، والتي تورط في ذكرها غيره من المؤلفين. ولقد كان من حنكته أنه إذا ذكر شيئاً خارجا عن حدود العادة نسبة إلى ناقله، ثم أعقبه بكلمة احتياط كقوله: والقادر على كل شيء أعلم بما في هذا من الحقيقة. ولم يرسم ما كان شائعاً رسمه عند علماء الجغرافية مما يمثل الغرائب الخرافية، وطبعاً كان لتعاليم الإسلام الفضل الأكبر في هذا.
(2) انفردت خريطة الإدريسي بأنها هي الخريطة الوحيدة التي تعطينا صورة صحيحة عن البلاد الواقعة حول البحر القزويني وصحراء العجم في مدة من الزمن تبلغ نحو قرن، هذه المدة التي لولا خريطة الإدريسي لظلت حلقة مفقودة في تاريخ هذه البلاد.
(3) إن خريطة الإدريسي وحدها هي التي مثلت لنا دولة الإسلام العربية وهي في عصرها الذهبي، تلك الدولة التي كان حظها حظ المائدة الفضية التي علم خبرها والتي قضى عليها في وقت وجيز على يد التتار والمغول. فما لم تصل إليه يد جنكيز خان بالتدمير من المدن الغربية وحضارتها إلى عام 1219 ميلادية صعقته يد هولاكو التتري يوم ضرب العواصم الإسلامية، وترك جنوده يعيثون في بغداد فساداً في فبراير سنة 1258 سبعة أيام كاملة،(66/35)
قتلوا فيها أهلها، وخربوا عامرها، وحرقوا كتبها أو أغرقوها.
ومن هذا الوقت تغيرت العواصم، وتبدلت الأسماء وخلفت الدولة العربية دول المغول والأتراك، وأخذت الخرائط التي وضعت بعد ذلك وجهاً آخر جديداً. فالخريطة الإدريسية إذن هي آخر تمثال لدولة العرب الغابرة يلهمنا العظة ويحدثنا عن فتوحهم وعن مجدهم وفخارهم بأنصع عبارة وأجلى بيان.
وإنني في الختام أدع الحكم على قيمة هذا العمل العلمي الكبير، وعلى مجهودات الإدريسي ورجار المشكورة لرجل خبير درس الخريطة وشرحها (نزهة المشتاق) دراسة وافية، لرجل لم يجر في عروقه الدم العربي، ولا مجال لاتهامه بالتحيز في حكمه، ذلك هو الأستاذ (كونراد ميللر) إذ يقول في آخر بحث أجاره لشرح الخريطة ما معناه: (إن رجار الثاني والإدريسي بوضعهما لهذه الخريطة قد وضعا أهم حجر أساسي في تاريخ انتشار العلم الإنساني) واليكم عبارته بالنص الألماني:
, , ,
أما كلمتي أنا فأني أوجهها إلى ورثة الأمة العربية، وأخص شباب مصر الناهض وأبناءها البررة العاملين، أوجهها إلى هؤلاء جميعاً بعد أن نشرت بين أيدي القراء صحيفة ناصعة من صحائف أسلافنا الأمجاد، وبعد أن عرضت عليهم بعض ما يجعلنا نعتز بتاريخنا، ونفخر بماضينا، وأناشد هذا الشباب المصري ليجدَّ في العمل كل في ناحيته راجياً أن نوفق في مسعانا، ونربط حاضرنا بماضينا لنصل بوطننا العزيز بمشيئة الله وعونه إلى مكانه الذي أخذه فوق ذروة المجد، وعلى قمة العلياء تحت قيادة مليكنا المحبوب قائد النهضة وحامل لوائها في مصر والشرق.
محمد عبد الله ماضي(66/36)
لننشد الجمال!
للأديب حسين شوقي
في مقدور شبابنا اليوم ولاشك أن يتعلموا في مصر تعلماً صحيحاً بفضل الجهود التي بذلتها حكوماتنا في السنوات الأخيرة لاستجلاب الفنيين والأساتذة الأعلام من الخارج. . حتى زادت بفضل ذلك نسبة المتعلمين في مصر زيادة عظيمة، وهو أمر محمود بطبيعة الحال، ولكن. . . مما يؤسف له عدم اكتراث أولياء الأمور المسيطرين على تربية النشء بتنمية الذوق. . . أجل، الذوق أهمل أمره في مصر إهمالاً شائناً. . . إنهم يزوّدون الشباب بمختلف العلوم، ليدخلوا بها الحياة، ولكنهم لا يحببونهم في الحياة نفسها. . إنهم لا يرشدون الشباب إلى ما في الحياة من أسباب الجمال، مع أن الحياة الخالية من الجمال هي طعام خالٍ من الملح. . .
يجب أن يتذوق الناشئ ما في الطبيعة التي تحيط به من جمال رائع، لأنه كلما أنعم النظر فيها، وتذوق جمالها، ازداد عبادة للخالق تعالى وتقرباً منه، فاستقامت بذلك أخلاقه بلا حاجة إلى واعظ أو مرشد. . .
على طالب النبات قبل أن يدرس السماد الكيماوي الذي يزيد في إنتاج زهرة ما، أن يشم عبق هذه الزهرة، وأن يملأ ناظريه من ألوانها البهجة. .
كذلك على طالب علم الفلك المنهمك في تقدير عمر القمر، أن ينظر قبل هذا إلى جمال خيوط القمر الفضية وهي منعكسة على سطح الماء، أو على رمال الصحراء، وقد تلألأت كالماس النقيّ.
كذلك يجب أن يرشدوا النشء إلى ما في الطبيعة من تآلف رائع غريب في الألوان، سواء في الزهور أو في الحيوان. . حتى إذا كبر الطفل. . صار ذوقه سليماً، فلا يلبس مثلاً حذاء أبيض على رداء أسود. . .
كذلك ليتهم أرشدوا الأبناء إلى العناية بالطعام! يجب أن يتعوّدوا تنسيق المائدة بالأزاهير الناضرة، حتى يدخلوا الغبطة على قلوبهم. أليس لنا أسوة في آبائنا الأولين - المصريين القدماء - الذين كانوا يتناولون الطعام على أنغام الموسيقى الشجية. تلك العادة اللطيفة التي ورثها عنهم الأوربيون؟. .(66/37)
كذلك يجب اهتمام النشء برشاقة أجسامهم، فحذار ثم حذار من السمن الذي يشوه الشباب، فضلاً عن أنها مضرة بالصحة إذ تسبب مع الزمن أمراضاً كثيرة للجسم. .
ويا حبذا لو شجعوا ميول الشباب منذ الحداثة إلى الفنون الجميلة!. فإذا آنسوا مثلاً ميلاً في طفل إلى عادة التصفير لقّنوه الموسيقى. . وإذا رأوا في آخر حب إقتناء الصور علموه الرسم. .
اذكر بهذه المناسبة الواقعة المؤلمة الآتية التي حدثت منذ سنوات قليلة لأحد طلبة الطب الشرقيين في لوزان:
كان هذا الطالب يكشف على مريض تحت إرشاد أستاذه، فلم يرق للأستاذ طريقة نقر الطالب على بطن المريض، بل وجدها غليظة فقال له:
انقر على بطنه كأنك تلعب على البيانو. .
فأجاب الطالب: ولكني لا أعرف البيانو. .
- إذن أي فرع من الموسيقى تعرف؟.
- لم أتعلم الموسيقى بتاتاً!!.
- إذن كيف قضّيت شبابك؟.
فخجل الطالب ولم يعرف كيف يجيبه. .
كذلك علينا أن نوفر على النشء في المستقبل، مشاهدة بعض المناظر المؤلمة في مجتمعنا الحاضر. .
ويا لله مما في مجتمعنا من مضحكات!.
هذا مغرم بالمظهر. . يقتني سيارة فخمة تبهر الأنظار، بينما الدجاج يسرح في حجر داره. . وأثاثه ليس له طراز معروف، وإنما هو طراز (الشيخ أحمد) كالذي يفرش في المآتم والأفراح. .
وذاك يبني داراً فخمة، فلا يترك مكاناً لحديقة، إذ ماله ومال الأزهار والأشجار وهي لا تزيد على كونها حشائش في نظره تنبت بكثرة في أطيانه الواسعة؟. .
كرمة ابن هاني
حسين شوقي(66/38)
في الأدب الدرامي
9 - الرواية المسرحية في التاريخ والفن
بقلم أحمد حسن الزيات
الملهاة
تعريفها: الملهاة تمثل حادث منتزع من الحياة العامية يبعث اللهو ويثير الضحك. وموضوعها الجهة الوضيعة من طبائع الناس وعادات المجتمع ونقائص الحياة. أما جهة الإنسان الرفيعة ونكبات الدهر الفظيعة وجرائم الهوى السفيه فموضوع المأساة. ويخيل إليّ أن الفرق بين الملهاة والمأساة لا يزال غير واضح ولا محدد، فيحسن هنا أن نفصل القول فيه. فالملهاة تختلف عن المأساة في المبدأ والواسطة والغاية. فمبدأ المأساة حساسة الإنسان وشعوره، وواسطتها التأثير، وغايتها الرهبة من الهوى المضل، والرعب من الجرم الفظيع، والرغبة في الخلق الكريم. وأما الملهاة فمبدأها خباثة الإنسان وضعفه، وواسطتها السخرية والضحك، بأن تنظر إلى عيوب الناس نظرة الضاحك الساخر مادامت غير مؤلمة فتثير الرحمة، ولا محنقة فتثير البغض. ولا مخطرة فتثير الفزع. ثم تصور هذه النقائص بمهارة ودقة، وتستعين على تقوية هذه الصورة بالمفارقات والمفاجآت لتكون مثاراً للاستهزاء والضحك. ولا ريب انه كان أجدر بنا وأنفع لنا أن نقابل عيوب الناس بالرثاء الأخوي والنظر الفلسفي بدلاً من هذه الضحكة الهازئة، ولكنهم وجدوا أن أقرب الطرق وأنجع الوسائل أن يستخدموا فساد بعض الناس في إصلاح فساد الآخرين، كما تستخدم ذبابة الحجر من الماس في صقل الماس نفسه. وإصلاح العيوب بالعيوب هو غاية الملهاة. ومن الناس من يفرق بين الملهاة والمأساة بكيفة الأشخاص وكمية العواطف، فيقولون إن أشخاص المأساة من طبقة الخاصة، وأشخاص الملهاة من طبقة العامة، وإن درجة العواطف في الأولى قوية وفي الأخرى ضعيفة، وذلك فرق لا يميز ولا يوضح، لأن الآلهة والملوك قد يتخذون في بعض الأحيان أضاحيك كما ترى في رواية (امفتريون) لمولير، ولأن اليأس القاتل الذي استولى على بخيل موليير حينما فقد خزانة ماله، لا يقل في درجته وشدته عن يأس فيلوكتيت سوفوكليس حينما خطفوا منه سهام هرقل.(66/40)
إن النوازل الفادحة والمهالك الجائحة والعواطف الخارقة مرايا المأساة ودلائلها، ولكن المنافع الخاصة والأخلاق العامة والعيوب الشائعة كيان الملهاة وخصائصها، فالأولى صورة من التاريخ، والأخرى صورة من المجتمع، والرذيلة تدخل في باب الملهاة إلا وهي مضحكة محتقرة. فإذا كانت ممقوته مضرة دخلت في باب المأساة. فموليير جعل المنافق المحتال شخصاً مضحكا في (ترتوف)، وشكسبير جعله شخصاً محزناً في (جلوسستر)، وذلك بالطبع راجع إلى طبيعة النفاق والحب في الحالين.
سبب الضحك في الملهاة: سبب الضحك هو خطأ حقيقي أو
ادعائي لا ضرر منه ولا تبعة له. فنحن وإنما نضحك إذا
لحظنا بين الشيء وبين الواقع اختلافاً لا يكون فيه مضرة
لأحد.
فالرجل المفلس الذي يظن نفسه كفؤاً لأن يعلم الناس جمع الثروة، والشيخ المتهدم الفاني الذي يتصابى في مشيته، ويتظرف في لهجته، يبعثان على الضحك ويستوجبان السخرية، لأنهما يريان الأشياء على غير حقيقتها. والدمامة في ذاتها ليست مضحكة، وإنما تصبح كذلك إذا ظن الدميم نفسه جميلاً، أو رجا أن يظنه الناس كذلك. ولهذا السبب نفسه نضحك من اريجون بخيل موليير حين يطبق على خزانته ما يقوله له فالير عن ابنته، وكذلك نضحك من (مينالك) لابرويير حين أخذ نعله وهو يحسبه كتاب القداس، كما حدث لأحد إخواننا من المعلمين الكهول إذ وضع (دفتر التحضير) في شباك المرحاض بجانب قطعة بالية من قفة خوص. ولما قضى أمره سها فأخذ (البرش) بدل الدفتر، ودخل به الفصل فكركر التلاميذ في الضحك من هذا السهو الغريب.
على أن حدوث السهو أو الخطأ من إنسان لا يكفي في حدوث الضحك، بل لابد أن نلحظ ذلك الخطأ منه، وندرك التباين بين فكرته عن الشيء، وبين حقيقة ذلك الشيء نفسه. فإذا اتفق أن أحد الناس لم يفطن إلى هذا الخطأ لفتور ذهنه أو قلة علمه بقى جاداً لا يضحك ولا يبتسم. وذلك سبب ما نرى من أن الشيء يضحك بعض الناس ولا يضحك البعض الآخر. ولا يلزم أن يكون الخطأ المضحك حقيقياً، بل يكفي أن نراه نحن كذلك، أو يتظاهر(66/41)
المضحك بأنه غلط في شخص أو في شيء. والمازح إذا أراد أن يمزح فإنما يدعى الحماقة والسذاجة وهما مصدر السهو والخطأ. كذلك يجب ألا يكون لهذا الخطأ تبعة محزنة ولا نتيجة مشئومة كما ذكرت من قبل، وإلا أثار الرعب والإشفاق، بدل أن يثير الجذل والضحك. فميروب حين أخطأت في ولدها فظنته قاتلاً، وأرادت أن تقتله لم يضحكنا ما تفعل، وإنما ملأ قلوبنا رعباً وخشية؛ والمتكبرون لا يضحكون من أنفسهم إذا أخطأوا، لأنهم يجدون في هذا الخطأ جدعاً لكبرهم وإهانة لصلفهم فيتألمون.
ومنشأ الخطأ الذي يولد الضحك إما نقص في الخلق، وإما ضعف في الذكاء، وإما ظروف خارجة عن شخص المخطئ. والخطأ يستتبع في أكثر الأحوال أقوالاً وأفعالاً تخالف المرعي من العادة أو العرف أو القوانين أو الذوق؛ وتلك هي السمات التي تحدد لك أخلاق الملهاة. ففي ملهاة (المتوحش) لموليير تجد كل ما يقوله (ألسِسْت) ويفعله مناقضاً للعادة الجارية، لأنه فقد قوة الحكم على الأشياء، فبالغ في تقدير الفضيلة إلى حد أن يرى فيما أجازه العرض وأمضاه خطورة ليست فيه.
أنواع الملهاة: الملهاة ثلاثة أنواع: وهي الملهاة الإشكالية ' وتؤلف من الحوادث المضحكة الغربية المتشاكبة المعقدة التي تأخذ على المشاهد أنفاسه وتملك حواسه، حتى تنتهي بحل مرغوب غير متوقع. فالحوادث روحها وقوتها. أما وصف العادات، وتصوير الأخلاق، فهما في المحل الثاني منها، كملهاة المريض الواهم، والطائش، والحضري الشريف لمليير، والملهاة الاجتماعية وتؤلف من الهزؤ بخيال الناس وسخف المجتمع، وتصوير ما أحدثته العادات السيئة في الأخلاق من تشويه ومسخ، وذلك في طبقة خاصة وعصر معين. ويجب أن يكون كل شيء فيها مهيئاً ليظهر مع غيره عيباً من عيوب الاجتماع. فالحوادث تختار عن قصد لبلوغ هذه الغاية، والظروف ترتب بدقة لأحداث هذا الأثر، والفرد يكبر ويعظم حتى يتضمن الجنس بأسره، والحوار يجري على طريقة تبرز فكرة المؤلف واضحة في كل خطاب وجواب، كالمتحذلقات السخيفات لموليير، ونصف العالم، ومسألة النقود، والأب المبذر، لاسكندر دوماس الصغير. والملهاة الخلقية وهي تهاجم العيوب والنقائص المسيطرة على الأخلاق في كل زمان ومكان، ونزعتها إلى الإفادة والإمتاع أقوى منها إلى السخر والإضحاك. كالبخيل، وترتوف، والمتوحش لموليير. وهذا(66/42)
النوع أنفع الأنواع الثلاثة وأقواها وأصعبها. فأما أنه أنفع، فلأنه يرجع إلى مصادر العيوب وأصولها فيهاجمها في مبادئها ومناشئها؛ وأما أنه أقوى فلأنه يقدم إلى الناس المرآة فيخجلهم من صورهم ويضحكهم من أنفسهم، وأما أنه أصعب فلأنه يطلب من المؤلف دراسة عميقة للأخلاق، وبصيرة نافذة في الملاحظة، وخيالاً قوياً ليجمع شتات الملحوظات الكثيرة في نقطة واحدة.
هذه هي أنواع الملهاة الثلاثة، دون أن نعد منها تلك الأنواع التي تعتمد في الإضحاك على النكات اللفظية، أو على المواقف الخليعة المجونية، فإنها بضاعة الأذهان الكليلة، والأذواق السقيمة. ولها مع ذلك اسم غير هذا الاسم وموضع غير هذا الموضع. على أن هناك نوعاً رابعاً هو أسمى من تلك الأنواع وأقوى. ذلك هو الملهاة المختلطة التي تستوعبها جميعاً. فتجمع إلى هزل المواقف هزل الأخلاق والعادات، فترى فيها الأشخاص مدفوعين بضعف عقولهم، أو مرض قلوبهم إلى أن يقفوا مواقف مخزية تعرضهم إلى سخر المشاهدين واحتقارهم. . كالموقف الذي وقفه أرباجون بخيل موليير مع ولده حينما أقبلا يتعاملان بالربا دون أن يعرف أحدهما الآخر، فكانت مقابلة الأب المرابي والابن المبذر من سخريات الحياة وغرائب الأمور.
ماذا يجب في عمل الملهاة: إن الغرض الذي يتوخاه واضعو
القواعد للعمل الروائي هو التقريب بين الافتراض والحقيقة.
وأقوى الوسائل إلى هذا التقريب هي قاعدة الإمكانية. ولما كان
عمل الملهاة منتزعاً من العادة المألوفة، والأخلاق المعروفة،
والنكتة الحاضرة، كان بعده عن الحقيقة، ومخالفته للواقع أمراً
سهل الملاحظة صعب الاحتمال. لذلك وجب أن تراعى
القواعد في الملهاة مراعاة شديدة، وعلى الأخص وحدة العمل،
واستمرار الخلق، وسهولة الأسلوب، وبساطة التقعيد، وطبيعة(66/43)
الحوار، وصدق العاطفة. وقوة الفن في إخفاء الفن، بحيث
يكون كل ما يحدث ويقال على المسرح صورة ساذجة للمجتمع
حتى ينسى المشاهد أنه في مشهد من مشاهد التمثيل، لأن
الصورة إذا رسمتها يد عاجزة اتجه فكرك فيها بعد النظرة
الأولى إلى الرقعة والألوان والإطار. قبل أن يتجه إلى التدوير
والنتوء والبعد.
يتبع
(الزيات)(66/44)
بين فتاتين
فصل من رواية لم تنشر
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
أفاقت (خيرية) - في غرفتها - على صدر (سارة)، أو لعل الأصح والأقرب إلى الصواب أن نقول إنها استعادت سكينة نفسها فيما ترى العين، بعد أن اسلبت ملء حفنةٍ من الدموع روت بها زهور خديها النضيرين، وأصارت أرنبة أنفها كالجزرة. وفي قليل من البكاء شفاء للصدر وجلاء للبصر، وغنى عن المساحيق!
وأحست (سارة) بانتظام أنفاسها فضمتها إليها في رفق وحنان، فجاوبتها (خيرية) بضغطة خفيفة. وطاف برأسها وهي تفعل ذلك أن لو كان هذا صدر شاكر!؟! وتنهدت كالمتحسرة، وذهبت تتصور ساعديه القويين على خصرها يهصرانه، وثدييها يُعْصران على ثندوتيهما، وأنفساه على شعرها، وكلامه العذب في أذنها. فأخذها من هذا الخاطر مثل الدوران في رأسها، وأظلمت عيناها، وشعرت بمثل النار تندلع في أحشائها وترقي إلى صدرها ونحرها وتأخذ بكظمها، على حين كانت تحس بالبرد في قدميها.
وشدت (سارة) على خصرها في هذا اللحظة الحافة بالاحتمالات، فرفعت (خيرية) وجهها المضطرم ونظرت إلى صاحبتها بعين ثابتة الحملاق إلا أن عليها كالضباب فهي لا تبصر، وأقبلت على فمها تقبله - قبلة حارة طويلة عصرت فيها روحا ونسيت نفسها، وإذا (بسارة) تهتز وتنتفض وترسل راحتها تتحسسّ علواً وسفلاً، و (خيرية) كالسكرى: تضم، وتئن، وتبوس، وتمسح الخد بالخد، وعينها مغمضة، وأصابع يمناها تتقبض على لحم (سارة) والأخرى تعبث بشعرها وتتخلله وتشده، وهما في عناقهما تميلان يمنة ويسرة، وتقبلان إلى الأمام تارة، وتنثنيان إلى الخلف طوراً، وتزحف كل منهما إلى صاحبتها كأن بينهما متسعاً فتتزحزحان على الطارقة حتى تهاوتا فتحاجزتا، وصار صدراهما كالخضم المضطرب.
وقالت (سارة) بصوت يذوب من الرقة:
(أحسن؟)
فدانت (خيرية) بين جفونها وألقت إلى صاحبتها - بمؤخر عينها - نظرة فيها من الرضى والشكر والرجاء معانٍ، وكانت كلتاهما مضطجعة، فمدت (سارة) يدها وتناولت راحة(66/45)
(خيرية) وأطبقت عليها أصابعها - في صمت - وظلتا هكذا برهة، ثم شخصت (سارة) إلى السقف وقالت كأنما ترى من تخاطبه فيه (ليتك كنتِ أخاك!)
ثم ثنت إلى (خيرية) وجهاً ينضح بالبشر ويغري بالعبث والمصارحة، فرفعت (خيرية) حاجبيها وأمالت رأسها على الوسادة ثم ردت وجهها إلى سارة وقالت:
(إنك سعيدة يا سارة. . .)
فسألتها (سارة):
(وأنت؟. .)
قالت خيرية (موزعة. .)
- موزعة؟
- نعم!. . . وعسى أن أكون واهمة. . . ولكنه يخيل إليّ أحياناً أني أحب (عبدة) وهو لاشك يحبني. . . على طريقته. . . حباً صامتاً. . . أخرس. . . يحيرني. . . أعني يا سارة انه يحرك نفسي لحظة ثم يدعها فارغة لا أثر فيها له. . . ليس عنده كلام يقوله. . . ينظر إليّ كأنه يشتهي أن يأكلني بعظامي. . . فهو يخيفني ويفزعني، ويسحرني أيضاً ويجذبني حين يفتح عليّ عينه بهذه النظرة المنهومة، ولكنه يخيفني أكثر مما يسحرني. . . آه لو كان ينطق. . .! ولكنه لا يعرف الكلام. . . ولا المغازلة.
. . . جسمه ضخم ولسانه أبكم. . . فهو قوة مرعبة. . . لو كان يرق فينفي الخوف!
. . . لو كان يشعرني أن الحب يلينه أو يذيبه قليلاً!؟. . . ولكنه ليس مثل. . .)
وأمسكت، ونزعت يدها من يد سارة، وظلتا مفترقتين برهة وهما تفكران في الغزل! (خيرية) في بكم عبدة وفي خلو حبه من هذا العنصر الذي يلطف الوقدة، ويخفف الحدة، ويسلب العاطفة المشبوبة لذعها وكيها، ويجعل الحديث أحلى من التقبيل والعناق. أما (سارة) فقد فتح لها كلام (خيرية) باباً جديداً من التفكير أعانتها دراستها العلمية على ولوجه، فراحت تقول لنفسها إن الغزل ليس عبثاً ولا تكلفاً، وإن الرقة فيه واجبة وليست ضعفاً، وإن الطبيعة لا تزال تطلب التوازن وتسعى له وتحدثه، فلولا رقة الرجل القوي، في غزله، لأرعب المرأة حبُّه ولما احتملته، وهو حين يجثو أمامها ويريح خده على ساقها، أو يناجيها بهواه ويشكو إليها ضعفه عن احتماله، ويصف لها ضيق صدره بما يجن، وقلبه(66/46)
بما يجد، ويتذلل لها ويتوسل إليها، وإنما يفعل ذلك بغريزته ليعتدل الميزان، فيذهب عن المرأة الخوفُ من قوته، وتَشعر أن فيه موضع ضعف تستطيع أن تستغله وتقاوم به طغيان القوة، وعلى قدر ما يبدي الرجل من الرقة في موقف الغزل والمناجاة تحس المرأة أنها قوية وأنها كفء له، فتطمئن وتعتقد أنها نده، وإن كان في ظاهره أقوى، وتبادله حباً بحب غير مكرهة ولا محمولة على ذلك، ولا شاعرة بتفريط في كرامتها أو تضييع لشخصيتها أو محو لإرادتها. .
ولم يشعرا أن الصمت طال بينهما أو أن الحديث انقطع لما قالت (سارة) بعد ذلك:
(ولكنك تحبينه. .! لاشك في ذلك)
فقالت (خيرية) بلهجة المفكر لا المستفسر.
(هذا ظنك؟)
قالت (سارة):
(لقد كنت تفكرين فيه ونحن متعانقان)
فاعتدلت (خيرية) في جلستها، وواجهت (سارة) وقالت بلهجة حازمة:
(كلا. . أبداً)
فوضعت سارة يدها على كتف صاحبتها وقالت:
(تعالي. . تعالي. . اطرحي عن صدرك هذا العبء. . . لماذا لا تبادلينني حبي؟)
فسألتها خيرية وهي تضحك:
(أتحبينني؟)
(أتسألين؟)
(أعني كحمادة؟)
(لا أزعم ذلك ولكني أحببتك)
(من أجله؟ لأني أخته؟)
(لذاتك)
(صحيح؟)
(أتشكين؟)(66/47)
(لا أشك. . ولكني غيره. . أعني أني فتاة مثلك)
(وما دخل هذا؟ ما قيمته؟ ألم نكن نتعانق على حب قبل دقائق؟ قد يختلف الغرض من الحب أو نوع الإحساس به ولكنه يظل حباً)
(سارة!)
(نعم)
(لا أدري كيف أقول. . إني لم أعرف من هو إلا الليلة)
ودفنت وجهها في راحتيها فصاحت بها (سارة)
(أهو ذاك؟)
فرفعت (خيرية) رأسها كأنما تتحدى الدنيا والناس وقالت وهي تسوي شعرها وترد عن جبينها خصلة.
(نعم. وقد عرفت الآن)
فقالت (سارة) بإخلاص:
(يا حبيبتي هذا أسعد يوم في حياتي. أنا لأخيك. وأنت لأخي)
فقالت (خيرية) وهي تكاد تبكي:
(كيف يمكن؟ كيف يمكن؟ إنه لم يرني قبل اليوم إلا مرة واحدة!)
فسألتها (سارة) وهي تنظر إليها نظرة من يُحْيي ذكرى تمعن في الغمض:
(قبل اليوم؟ أتعنين. .؟)
قالت (نعم كنت خارجة من سمعان فعثرت. .)
فصاحت بها سارة وقد صح ظنها:
(هو أنت؟)
(أهو أنا؟ ماذا تعنين؟)
أعني أنك فتاته التي يحبها ويبحث عنها. . يا لسعادتي)
فتعلقت بها خيرية وأمطرتها وابلاً من الأسئلة، وسارة تضحك ولا تعرف كيف تجيب، وإذا بحمادة ينقر ويسأل قبل أن يسمع الأذن بالدخول.
(سارة! ما هذا الذي يقول عبدة؟)(66/48)
فوثبت الفتاتان ووقفتا مبهوتتين من المفاجأة، واحتاج حمادة أن يعيد سؤاله
(أهو صحيح؟)
فقالت (سارة) وهي تبتسم له وترف: (ماذايا روحي؟) فأذابته ابتسامتها وراح يتلعثم
. . . أ. . . أ. . .
فقالت سارة (تعال يا حبيبي. . . أم نخرج؟؟ أظنه آن لي أن أخرج. يكرهني يا روحي. . . فتعال احملني إلى سيارتك. . . وفيها. . . إلى بيتي)
فنسى حمادة ما أفضى به إليه عبدة. . .
إبراهيم عبد القادرة المازني(66/49)
من الأدب الأندلسي:
2 - التوابع والزوابع
بقلم محمد فهمي عبد اللطيف
دخل ابن شهيد وادي الجن، ورغب في البدء بلقاء الشعراء على ما بيَّنا في المقال السابق، وقد حدَّثنا الرجل أنه طلب من صاحّبه زهير بن نمير أن يقدمه أول ما يقدمه إلى تابع امرئ القيس، وإنما حق له هذا، أولاً: لأن امرئ القيس سابق في عمر الزمن، وحساب الأيام؛ وثانياً: لأن النقاد جميعاً على أنه أمير الشعراء في العصر القديم، وشيخهم الذي أوضح لهم الطريق، فهو مقدم بالطبع والوضع كما يقول المناطقة، ولم يرد ابن شهيد أن يخرج على ما قضت به الأيام، وما تواضع عليه النقاد، فأنزل الرجل منزلته المقررة، ووضعه في مكانته المعلومة، ولذا قدمه على نفسه في الإنشاد، ووصفه بتطامح الطرف، واهتزاز العطف، علامة الغرور والثقة، وأخذته الهيبة منه، فهم بالحيصة والهرب من أجازته، لولا أن شدَّ في قوى نفسه، وأنشده ما أنشد.
وعلى هذا النهج راح ابن شهيد يتحدث عن توابع الشعراء واحداً بعد واحد، ويقرر ما وقع له معهم، وما جرى بينه وبينهم من الإنشاد والمساجلة، وهو في أثناء ذلك يعرض بالتصور لأحوال الشعراء، ويهتم بوصف نفسياتهم وميولهم ويشير إلى ما اشتهر عنهم في أخلاقهم وسلوكهم وآرائهم، تارة بالتلميح، وطوراً بالتصريح، ومن حين لآخر تجده يجمل كلامه بالنادرة المستملحة، فيجعل القارئ يقبل عليه في سرور وائتناس، أستمع إليه وهو يحكى ما وقعه له مع (بغلة) من التوابع أقبلت تحكمه في شعرين لبغل وحمار أختلف فيهما الفريقان، فقال لها حتى أسمع، فقالت الشعر الأول لبغل من بغالنا وهو:
على كل صب من هواه دليل ... سقام على جد الهوى ونحول
ومازال هذا الحب داء مبرحا ... إذا ما اعترى بغلاً فليس يزول
بنفسي التي أما ملاحظ طرفها ... فسحرٍ، وأما خدها فأسيل!!
تعبت بما حملت من ثقل حبها ... وإني لبغل للثقال حمول!
وما نلت منها نائلاً غير أنها ... إذا هي بالت بلت حيث تبول
والآخر لدكين الحمار وهو:(66/50)
دهيت بهذا الحب منذ هويث ... وراثت إراداتي فلست أريث
كلفت بألفي منذ عشرين حجة ... يجول هواها في الحشا ويعيث
وغيرّ منها قلبها لي نميمةٌ ... نماها أحم الخصيتين خبيث
وما نلت منها محرماً غير أنها ... إذا هي راثت رثت حيث تروث
قال ابن شهيد: (فاستضحك زهير وتماسكت، وقلت للمنشدة ما هويث؟ قالت: هويث بلغة الحمير؛ قلت والله أن للروث لرائحة كريهة، ولقد كان أنف الناقة أجدر أن يحكم في الشعرين، فقالت فهمت عنك) ثم يتفكه ابن شهيد في القول اكثر فيقول (وقالت لي البغلة: أما تعرفني أبا عامر؟ قلت لو كان ثم علامة، فأماطت لثامها فإذا هي بلغة أبي عيسى، والخال على خدها فتباكينا طويلا! وقد أخذنا في ذكر أيامنا فقالت: ما أبقت الأيام منك؟ قلت ما ترين! قالت: شب عمرو عن الطوق! وما فعل الأحبة، قلت شب الغلمان، وشاخ الفتيان، وتنكرت الأخلاق ومن إخواننا من بلغ الأمارة، وانتهى إلى الوزارة؛ فتنفست الصعداء، وقالت؛ سقاهم الله سبل العهد، وان حالوا عن العهد، ونسوا أيام الود. .)
فالرجل كما ترى فكه ظريف، وفي رسالته كثير من الفكاهات النوادر، وكلها على غرار هذه الفكاهة ملاحة وخفة وطرافة، وإنما براعة الرجل تظهر أكثر في تصويره - كما قلنا - لأحوال الشعراء والكتاب، ووصف ميولهم، والتحدث عما جرى له معهم، ولعل من أعذب ماله في ذلك، وصفه لما جرى بينه وبين صاحب أبي نواس، ذلك الشاعر الذي قطع العمر في نشوة السكر، وشرك الخمر، واستطراده في الحديث عن (دير حنة) مقام هذا الشاعر وما أشتمل عليه من الرهبان والغزلان!! فقد أجاد الرجل في ذلك وأبدع؛ أنظر إليه وهو يصور ذلك فيقول (ثم قال لي زهير فمن تريد، قلت صاحب أبي نواس قال هو (بدير حنة) قد غلب عليه الخمر، فركضنا ساعة، وجزنا في ممرنا بقصر، فقلت لمن هذا القصر يا زهير؟ قال لطوق بن مالك أبي الطبع صاحب البحتري، فهل لك أن تراه؟ قلت: أجل، إنه من أساتيذي وقد كنت أنسيته، فصاح يا أبا الطبع، فخرج لنا فتى على فرس أشهب وبيده قناة، فقال له زهير: إنك موفق، قال لا، صاحبك أشمخ مارنا من ذلك لولا تنقصه!! قلت يا أبا الطبع إن الرجال لا تكال بالقفزان، وأنشدنا من شعرك فأنشد:
(ما على الركب من وقوف الركاب)(66/51)
حتى انتهى منها، ثم قال هات أنت شيئاً فأنشدته:
(هذه دار زينب والرباب)
حتى أتيت فيها إلى قولي:
فكأن النجوم بالليل جيش ... دخلت للكمون في جوف غابها
وكأن الصباح قانص طير ... قبضت كفه برجل غراب
فكأنما غشى وجه أبي الطبع قطعة من الليل، وكر راجعاً إلى الوراء دون أن يسلم، فصاح به زهير أأجزته؟ قال أجزته لا بورك فيك من زائر!!
قال ابن شهيد (ثم سرنا حتى انتهينا إلى (دير حنة) فضرب زهير الأدهم، فسار بنا في قنته، ففتق سمعي قرع النواقيس فقلت فصحت عن منزل أبي نواس ورب الكعبة، وسرنا نجتاب أدياراً وكنائس وحانات إلى دير عظيم تعبق روائحه، وتضوع نوافحه، فوقف زهير ببابه وصاح به: سلام على أهل (دير حنة) فأرقلت نحونا الرهبان مشدودة الزنانير، قد قبضت على العكاكيز، مبيضّة الحواجب واللحى! مكثيرين للتسبيح، عليهم هدى المسيح، فقالوا أهلا بك يا زهير من زائر، وصاحب أبي عامر، ما بغيتك؟ قال (حسن الدنان)، قالوا: إنه لفي شرك الخمر منذ أيام عشرة، وما نراكما منتفعين به، فقال وعليّ أنا ذلك، ونزلنا وقادني إلى بيت قد اصطفت دنانه، وعلفت غزلانه، وفي دير حنة شيخ طويل الوجه والسبلة، قد افترش أضغاث الزهر، واتكأ على زق خمر، وبيده طرجهارة وحواليه صبية كالظباء، فصاح به زهير: حباك الله أبا الإحْسان، فجاوب جواباً لا يعقل لغلبة الخمر عليه، فقال لي زهير: اقرع أذنيه بإحدى خمرياتك، فانه ربما تنبه لبعض ذلك، فصحت أنشد:
ولربّ حان قد شممت بديره ... خمر الصبا مزجت بصرف عصيره
في فتية جعلوا السرور شعارهم ... متصاغرين تخشعاً لكبيره!!
والقس مما شاء طول مقامنا ... يدعو بعود حولنا بزبوره
وترنم الناقوس عند صلاتهم ... ففتحت من عيني لرجع هديره
فصاح من حبائل نشوته. أأشجعي؟ قلت: أنا ذاك، فاستدعى ماء قراحا فشرب منه وغسل وجه فأفاق، واعتذر إليّ من حاله، فأدركتني مهابته، وأخذت في إجلاله لمكانه من العلم(66/52)
والشعر. .)
فهذه صورة دقيقة، تشتمل على حال أبي نواس كأنك تراه، وتمثل أمامك (دير حنة) بغزلانه ورهبانه تمثيلا رائعاً كله براعة وقوة، والواقع أن ابن شهيد لم يستمد هذه الصورة من خياله، ولكنه صورها من الواقع، ونقلها كما رأى وأبصر، فقد كان هذا الرجل ولوعاً بالتردد على كنائس النصارى في قرطبة لا يتحرج من المبيت فيها مع الرهبان، يرشف الكأس، ويبهج النفس، ومن ذلك (أنه بات ليلة بإحدى كنائس قرطبة، وقد فرشت بأضغاث آس، وعرشت بسرور وائتناس، وقرع النواقيس يبهج سمعه، وبرق الحميا يسرج لمعه، والقسّ قد برز في عبدة المسيح، متوشحاً بالزنانيير أبدع توشيح، قد هجروا الأفراح، واطرحوا النعم كل إطراح:
لا يعمدون إلى ماء بآنية ... إلا اغترافا من الغدران بالراح
وأقام بينهم يرشق حميا، كأنما يرشف من شفة لميا، وهي تنفح له بأطيب عرف، كلما رشف أعذب رشف، ثم ارتجل في وصف ذلك هذه الخمرية، التي قرع ببعضها سمع أبي نواس، فتنبه من حبائل نشوته، وصحا من سكرته!!
وابن شهيد يذكر أنه تقابل في طريقه بصاحب البحتري بعد أن قد أنسيه مع أنه من أساتيذه. ويذكر أنه أجازه فخذله حتى لقد هرب بخزي (وكر راجعاً إلى الوراء دون أن يسلم) وهذه شنشنة ابن شهيد مع كثير من الشعراء والكتاب، خصوصاً شعراء المشارقة وكتابهم، فهو يحدّث أنه التقى (بزبدة الحقب) تابع بديع الزمان، وبعد أن تمَّ التعارف بينمها، طلب منه ابن شهيد أن يجري على سمعه وصفه للماء، فتطاول زبدة بذلك الوصف، وقال إنه من العقم بحيث لا يبلغه أديب، ثم انطلق يقول، (أزرق كعين السنور، صاف كقضيب البلور، انتخب من الفرات، واستعمل بعد البيات، فكان كلسان الشعمة، في صفاء الدمعة) فعارضه ابن شهيد فقال (انظر يا سيدي كأنه عصير صباح، أو ذوب قمر لياح، ينصب من إنائه، انصباب الكوكب الدريّ من سمائه، كأنه خيط من غزل فلق، أو مخصرة ضربت من ورق، يرفع عنك فتردى، ويصدع به قلبك فتحيا) فلما سمع ذلك زبدة غار في الأرض، وهو مبهوت خجل!!
وقد حسب الدكتور زكي مبارك ذلك غروراً من ابن شهيد وعَذَره في هذا الغرور نظراً(66/53)
لنبوغه وعبقريته، والواقع أن الغرور صفة تكاد تكون ملازمة لكل أديب، وقد يكون ابن شهيد مغروراً في نفسه إلى أبعد حد، ولكن كلفة بالتفوق على الشعراء والكتاب لم يكن مبعثه الغرور، كما حسب الدكتور مبارك، فان الرجل كما قلنا كتب رسالته في جماعة من معاصريه، حطوا من قدره حسداً له، وغمطوه فضله حقداً عليه، فأراد أن يطلعهم على مكانته في الأدب، وأن يبين لهم قدرته حسداً له، وغمطوه فضله حقداً عليه، فأراد أن يطلعهم على مكانته في الأدب، وأن يبين لهم قدرته في الشعر والنثر، ولذلك فهو يحصر على الظهور أمامهم بالتفوق والتغلب، ليس في إجازة الشعراء والكتاب فحسب! بل إنه ليذكر أن التوابع والزوابع احتاروا في أمره، وشدهوا لقدرته في الشعر والنثر والخطابة، وأن أحدهم فتن ببيت من شعره فقام ينشده ويرقص، وأنه قرأ عليهم رسالته في وصف الحلواء فأعجبوا بها أيما إعجاب، وقالوا (إن لسجعك موضعاً من القلب، ومكاناً من النفس، وقد أعرته من حلاوة طبعك، وحلاوة لفظك، وطلاوة سوقك، ما أزال أفنه، ورفع غبنه، وقد بلغنا أنك لا تجاري في أبناء جنسك) وأظن في الجملة الأخيرة ما يكفي للفصل بيننا وبين الدكتور زكي مبارك.
على أن ابن شهيد لم يقف عند هذا الحد من التعالي وإظهار التفوق أمام معاصريه، بل راح يحط من قدرهم، ويتهكم بعلمهم وأدبهم فوصفهم ببلادة الطبع، فهم - كما يقول - ينحتون عن قلوب غليظة كقلوب البعران، إلى فطن حمئة، وأذهان صدئة لا منفذ لها في الرقة، ولا مدبّ في شعاع البيان، كل بضاعتهم من الأدب، كلمات من غريب اللغة، وبعض مسائل من النحو والصرف لا يفهمون منها إلا ما يفهم القرد اليماني في الرقص على الايقاع، والزمر على الألحان. . . قال ابن شهيد: (ومن خلق هذه العصابة أنهم إذا لمحتنا أبصارهم قابلونا بالملق، وهم منطوون على الحسد والحنق، فإذا جمعتنا المحافل، وضمتنا المجالس، نراهم إلينا مبصبصين، وإنما يتبين تقصير المقصر، وفضل السابق المبرز إذا اضطكت الركب، وازدحمت الحدق، واستعجل المقال.
(للكلام صلة)
محمد فهمي عبد اللطيف(66/54)
الغد المجهول
للأديب سيد قطب
يا ليتَ شعري، ما يُخِّبئهُ غدي ... إني أروحُ مع الظنونِ وأغتدي
وأُجيلُ باصِرَتي بها وبصيرتي ... أبغِي الهُدَى فيها، وما أنا مهتدِ
حتى إذ لاحَ اليقينُ خِلالَها ... أشفقتُ من وجه اليقين الأسود
وأشحْتُ عنه، ولو أَطقتُ دعوتُه ... وطرحتُ عنَّي حيرتي وتردُّدي
فكأنني الملاَّح تاه سفينةٌ ... ويخافٌ من شطٍّ مُخِيفٍ أجردِ
ماذا سيولَدٌ يومَ تٌولَدُ يا غدي؟ ... إني أحِسُّ بهولِ هذا المولد!
سيُصَرِّحُ الشكُّ الدفينُ بمهجتي ... فأبِيتُ فاقِدَ خَيِرِ ما ملكتْ يدي
ستروغُ من حولي عواطف لم تزلْ ... تُضْفيِ عليَّ بعطفها المتودد
ستَجِفُّ أزهارٌ يفوح عبيرُها ... حوِلي، وينفحُل بها الأرَجُ الندى
والمشعَلُ الهادي سيخبو ضوؤه ... ويَلُفُّني الليلُ البهيمُ بمفردي
ماذا تُخَلِّفُ يومَ تذهبُ يا غَدِي ... لاشيء بعد الفقدِ للمتفقِّدِ
ستخلِّفُ الأيامَ قاعاً صَفْصَفاً ... تذرو الرياحُ بها غُبارَ الْفَدْفدِ
لا مُرتجَى يُرْجى ولا أسفٌ على ... ماضٍ يضيعُ كأنه لم يُوجد
أبداً، ولا ذكرى تجدَّد ما انطوى ... حتى التألمُ لا يعودُ بمشْهَدِي!
ربَّاه إني قد سئمتُ ترُّددي ... فالآن فلتقدْم بهوِلك يا غدِي(66/55)
إلى طائر. . .
للأديب فايد العمروسي
إلى أي وادٍ ترسل الصوت يجتلى ... سرائر هذا الليل والليل ساهرٌ
وفي أي معنى تبعث اللحن صارخاً ... فتطويه في جوف السكون الدياجر
وقد غفلت عين الحياة وأسدلت ... على الكون من وهم الظنون ستائر
هتكتَ حجابَ الليل يا طير فاتَّئدْ ... ورفه، فقد هاجت بنفسي خواطر
هنالك أعشاش على دوح شاطئ ... يمازجها طيب من الروض عاطر
تداعبها الأهواء وهي عوازف ... وتهفو بها الأرواح وهي فواتر
هنالك أفراخ إذا ملت نحوها ... تثنت ومالت نحو فيك المناقر
فرُدْها، وخلِّ الليل عنك لشاعر ... يطوف بها سهران والفكر حائر
وفي أي واد في الظلام مقدس ... هتفت به يا طير والقلب ثائر
أذلك وادي الدهر يقضي شؤونه ... على الخلق والأقدار فيها سواهر
تطل على الأكوان في غفلاتها ... فتكشف عما خبأته السرائر
إلا حدِّث الأقدار يا طير وائتني ... بما حجبته في الغيوب المقادر
وأكبر ظني والظنون خواطر ... بأنك مثلي في المقادير حائر(66/56)
في النقد الألماني
صفحة من كتاب اللاوكون
طريقة التعبير عن الفن
للنقادة ليسنغ
للأستاذ خليل هنداوي
وهكذا بعد الملاحظة وجدنا أن الفن في العصور القديمة كان يتمتع بمقاييس أكثر اتساعاً، وكان بإمكانه أن يتناول جميع الأشياء الطبيعية المرئية التي يُعد الجمال فيها جزءاً صغيراً، فكانت الحقيقة وطريقة التعبير هما فيه المطلب الأول. وكما أن الطبيعة تضحي في كل لحظة بالجمال بناء على نظرات لها سامية، فكذلك الفنان نفسه ينبغي له أن يخضع للطبيعة برسمه الموضوع دون أن يطمع في أكثر من الظفر بالحقيقة والتعبير، فإذا انقادا له فقد أوتي القدرة بهما على أن يُحيل القبيح في الطبيعة جميلاً في الفن.
هبْ أننا نريد أن نتقبل بدون مجادلة - عمر لحظة واحدة - هذه الأفكار صالحة كانت أم سيئة، أفلا يبقى هنالك مجال فسيح لندرس سبب اضطرار الفنان إلى مراعاته مقياساً خاصاً في التعبير دون أن ينتخب الحالة التي يكون فيها الأثر المرسوم على أشد ثورته. ولكن مثل هذا الدرس سيكون رده سهلاً بدرس تلك اللحظة الواحدة التي تحدد أوضاعها الأوضاع الفنية. فإذا كان الفنان في الطبيعة المتقلبة دائماً لا يستطيع أن يلتقط منها إلا لحظة واحدة؛ وإذا كان المصور بعد ذلك لا يستطيع في هذه اللحظة نفسها أن يلتقط إلا جانباً واحداً من جوانبها، وإذا كانت آثار هذا الرسام إنما صُنعت لا ليمد إليها الناظر عينيه فحسبُ، ولكن ليتأمل فيها طويلاً، فان من الحق أن هذه اللحظة الواحدة قد انتخبها المصِّور ولم تكن مخصبة كثيراً. على أن المخصب حقاً هو ما يترك حقل المخيلة وسيعاً فسيحاً يجول فيه البصر كيف يشاء.
وبقدر ما نرى الأثر الفني عميقاً يحتوي جوه على خاطرات كثيرة نرى قدرته على توليد الأفكار، وبقدر ما نرى توليده الكثير للأفكار نتصور أننا نرى فيه أشياء وخواطر كثيرة.
في كل مظهر لعاطفة نرى ساعة احتدادها هي التي تنعم بهذا الامتياز وعملك على إبداء(66/57)
هذا التأثير المثير للعين هو أن تسلم بأجنحتك إلى المخيلة، فإذا لم يكن في استطاعة المخيلة أن تعلو فوق ما تريد لها صورة التعبير فهي ولابد هابطة إلى أوضاع دانية، ووراء هذه الأوضاع يُخشى عليها أن تتقيد (بإفراط في التعبير) فيقف بذلك مدى ارتفاعها وسموها. فإذا تنهد تمثال (اللاوكون) كان في استطاعة المخيلة أن تسمعه يصيح؛ ولكنه إذا صاح أصبحت المخيلة لا تستطيع أن تعلو درجة ولا أن تسقط درجة عما تفرضه الصورة، ولا تقدر أن تفرض جواً له أكثر احتمالاً وإن كان بنتيجته أكثر أعزاء. وإنما هي مضطرة إلى حالتين: فإما أن تسمعه ينوح وإما أن تراه يموت.
وبما أن هذه اللحظة الواحد قد اكتسبت بواسطة الفن خلوداً لا يتغير فلا يجب عليها أن تُعبر إذ ذاك عن شيء يعرض ويزول. فان كل الحوادث التي تحكم عليها بطبيعتها تبدو وتتوارى فجأة، والتي لا يمكن تمثيلها بحقيقتها إلا لحظة واحدة؛ هذه الحوادث مهما كانت طبيعتها إنما تمثل على قدر الخلود الذي وسمها به الفن منظراً غير طبيعي؛ كلما مددنا إليه أبصارنا ضعف تأثيره فينا حتى لا يبقى بعد ذلك من هذا التأثير وهذا المنظر إلا الملل والسأم.
أنظر إلى تمثال (ديموقريطس) الفيلسوف اليوناني الضاحك من جنون الإنسان، فإنه لا يضحك إلا للوهلة الأولى حين تراه، ثم يغدو الفيلسوف بليداً وضحكته تشنجاً ملتوياً، وكذلك الحال في الألم الشديد الذي يرافقه الصياح، فهو إما أن يهدأ، وإما أن يشوه وضع المتألم ويذهب بجماله، وإذا كان الإنسان الجلد القوي لا يقدر على مواصلة الصياح بصورة دائمة، فكذلك الأمر في الصورة التقليدية الفنية تحيل مواصلة الصياح فيها ضعفاً لا يأتيه إلا الأطفال في ساعات الألم. وهذا ما تحاشاه رسام (اللاوكون) في نفس اللحظة التي لا يضر الصياح فيها مظاهر الجمال، وفي نفس اللحظة التي تبيح له قواعد فنه أن يمثل الألم بدون الجمال.
قد أدرك الرسام (تيموماك) بين معاصريه الأقدمين مقاماً سامياً لحذقه التعبير عن الأهواء الجامحة. فللخلود صنع صورة (اجاكس الغاضب) وصورة (ميدي) الساحرة وهي تقتل أولادها. وبعد هذه الأوصاف التي جئنا بها نقول: قد اتضح أن الفنان قد وقف على تلك اللحظة التي ترك فيها الناظر سارحاً في تأملاته يدرك من معاني التمثال هذه القسوة العنيفة(66/58)
الملتهبة أكثر مما يرى. . . . فهو لم يأخذ (ميدي) في اللحظة التي قتل فيها أولادها، ولكنه رسمها قبل لحظات حين كانت تتنازعها عاطفتا الأمومة والغيرة. وإنما نحن نتنبأ نهاية المعركة، ونحن نضطرب إذا نراها في ثورة غضبها ونقمتها. ومخيلتنا قد تذهب في مسارب أبعد غوراً قبل أن يحملنا الرسام على النزول في مساريه في مثل هذه الساعة الهائلة. وبهذا وحده نرانا أمام هذا (البقاء) الذي يفرضه الفن لحيرة هذه الأم كمن أرتطم بشيء. إذ نريد أن يكون الوضع في الطبيعة كهذا الوضع، حيث لا تنتهي معركة الأهواء في النفس، وإذا قدر لها الانتهاء انتهت ناضجة حتى يستطيع الزمن وإدمان التأمل أن يضعفا الغضب ويخففا غرب الحدة، ويحققا انتصار عاطفة الأمومة. وحكمة هذا الرسام قد رفعته مقاماً عالياً، ووضعت مرتبته فوق مرتبة رسام غيره مجهول، إذ أراد هذا المجهول أن يرسم (ميدي) وكان غير فطن؛ فرسمها في ثورتها العنيفة، فأعطى هذه الثورة الحالية من صفة البقاء ما يتجاوز الحد الطبيعي، وهنالك شاعر نظر إلى هذه الصورة وقد انتقدها بعقل صائب، وناجى الصورة: (هل أنت ظمأى إلى الأبد لدماء أبنائك؟ هل هنالك ولد جديد وابنة جديدة، تجدين من أجلهما غضبك وتصبين سوط نقمتك؟ إلا فاذهبي إلى الشيطان وأنت بهذه الهيئة المرسومة).
والصورة الثانية صورة (اجاكس الغاضب) لم يمثله الرسام في غضبه العنيف حين كان يُقيد البهائم ويقتلها بدل الناس، وإنما رسم هذا الرجل بعد هذا العمل الوحشي وقد أنهكه التعب وغلب عليه الوجوم وهو يتأمل في عاقبة عمله. . هذه الصورة تمثل حقاً (اجاكس الغاضب) لأنها تمثله في سورة غضبه، ولكن لأنها مثلته بعد غضبه، ولأن الناظر يدرك بواطن هذا الغضب من وراء الوجوم الذي يراه مرتسما على وجهه، واليأس البادي على ملاحمه؛ ألا يرى الناس العاصفة إذا رأوا الخرائب التي دمرتها والجثث التي بعثرتها على التراب؟
(بيروت)
خليل هنداوي(66/59)
العلوم
3 - بحث في أصل الإنسان
بقلم نعيم علي راغب دبلوم عال في الجغرافية
مهارة الإنسان الأول:
لم يكن الإنسان الأول إنسان عقله وتركيبه فقط، بل كان إنساناً تميزه حقائق أخرى كثيرة عرفناها عنه. وإن الأدوات الحجرية التي وجدت عن ذلك الوقت الغابر لا تدل على مدى تفكيره فحسب، بل تدل على ميل للفن والمهارة في الصناعة. وقد وجد المستر داوسون قطعة مستطيلة من العظام المتحجرة شكلتها يد الإنسان القديم له بوظيفة صنعها من أجلها، وتشبه في شكلها شكل مضرب اللعبة المعروف (بالكريكيت) وحالة التحجر ودرجته تماثل تماماً ما وجد في أقدم عصور إنسان البلتداون. وعند فحص هذه القطعة العظيمة اكتشف أنها قد اقتطعت من عظمة فخذ نوع من أنواع الفيلة الضخمة البائدة التي تشبه الماموث كانت تعيش في إنجلترا في أوائل عصر البليستوسين؛ فإنسان البلتداون كان ذكياً ماهراً إلى حد ما، أو لدرجة أوصلته إلى أن يشكل من عظام فخذ هذه الفيلة أسلحة مشوهة الشكل، ومن العدل حينئذ أن نضيف إلى ذكائه ومهارته شجاعته وقدرته في الصيد والقنص.
سبق أن بينت أن إنسان الكهوف كان أسير التقاليد والأزياء. وكيف كان نوعٌ وشكل واحد من أنواع الأدوات أو الأسلحة أو غيرها يعم استعماله القارة كلها، وكيف أن بقاء الزي الواحد كان لمدة أطول بكثير مما هو عليه الآن.
وإذا نحن بعدنا إلى عصر الأودية فإننا نجد براهين أخرى على ما ذكرنا. حقيقة لا يمكننا معرفة وقت بدء استعمال هذه الآلات والأدوات الحجرية سواء في عصر الأشيلية والشيلية أو البريشيلية، إلا أنه يمكننا مع ذلك أن نقول واثقين كل الثقة أن المرأة كانت تحمل نفس الشعور والحواس النفسية التي تدفع أي امرأة في أي عصر من العصور إلى طريق العبودية للأزياء. وفي الوقت الحاضر بما فيه من وسائل مواصلات حديثة، يكفي الزي الواحد أسابيع قلائل كي ينتشر ويعم استعماله العالم أجمع، ولو أنه سريع الذهاب قليل البقاء أو الثبات، وهذا الأمر هو ميزة العصر الحالي، عصر السرعة والتقلب في كل(66/60)
شيء. بعكس القديم الذي نحن بصدده، والذي ذكرنا في فقرتنا السابقة أن انتشار الزي الواحد كان يلزمه وقت طويل، ولكنه عند ما ينتشر يستمر عشرات آلاف السنين دون أن يتغير.
قد استطعنا من الآثار والمخلفات التي وجدناها في المقابر والكهوف وسواها أن نتتبع تاريخ حياة الإنسان من نحو مائتي ألف سنة، وبذلك وصلنا إلى عصر من العصور سماه علماء الجيولوجيا عصر البليستوسين ولدينا من البراهين القوية ما يثبت أن الإنسان في هذا العصر قدُ وجد كامل التكوين جسما وعقلا، ولذلك نجد أنفسنا مضطرين لأن نرجع إلى ما قبل هذا العصر، إلى عصر أطلق عليه اسم عصر البليوسين وبذا نجد أن مخلفات العصر السابق ليست ذات أهمية لنا، ونجد ضروريا أن نبحث عن آثار أقدم. وقد وجد أن الأنهار الشمالية ومنها التيمس والرين والألب وغيرها تحفظ في قاعها وبين طبقات شواطئها من مخلفات العصر الذي نحن بصدده ما يجعلها تفوق في الأهمية أي متحف جيولوجي أو طبيعي.
كانت مصبات الأنهار الشمالية تصل إلى أقاصي القارة الأوربية وتصب في بحر الشمال. وكانت إنجلترا تتصل بباقي أوروبا عن طريق سهل فسيح جداً ممتد بينها وبين القارة. إلا أن هذا السهل قد ذهب ضحية عوامل الانخفاض في القشرة الأرضية فغمرته المياه ولم يبق منه إلا شريط مستطيل رفيع يمتد في شرق انجليا. وإنك لترانا مازلنا في بحثنا عن إنسان البليوسين نعتمد على مخلفات الأنهار وما تحفظه المجاري المائية بين طبقات قاعها أو كهوف سواحلها. وحقيق بي أن أذكر هنا عبارة حين قال: , وهذا معناه أن الأنهار تحفظ لنا بين ثناياها التاريخ الصحيح لقديم الزمان، وعلى العالم الجيولوجي أن يقرأن لنا هذا التاريخ ويفسر ما التبس منه وما غمض.
قلنا إن شرق انجيليا يكون جزءاً من سهل بحر الشمال البليوسيني، فإذا كان هناك إنسان قد عاش في أوربا وسكنها في ذلك العصر فلابد أن نجد آثاراً أو مخلفات تدل على سابق وجوده. وقد حدث أن المستر ريد موير بدأ يبحث في طبقات البليوسين في شرق انجيليا تلاحظ أنه على أعماق مخصوصة وجد قطعاً صخرية صماء دلَّته دلالة نقض فيها على إنُها من عمل الإنسان. وبعد سنوات عديدة أمكنه أن يكوّن مجموعة من هذه الصخور(66/61)
تختلف اختلافاً بيّناً في الشكل والنوع عما وجُد من مخلفات عصري البريشيليان والشيليان. ثم وجه بحثه وراء إنسان البليوسين فبحث في شواطئ سفولك ونورفولك، حيث تكشف الأمواج المتلاطمة عن طبقات الربوات العالية البليوسينية. وقد ساعده الحظ في العثور على صخور نارية دلت على عمل الإنسان وقدرته على التشكيل والابتكار. لكنه لم يعثر ولم يعثر غيره على هيكل متحجر من هياكل ذلك الإنسان الذي صنعها وشكلها في تلك الأزمنة السحيقة المتناهية القدم وهي عصر البليوسين.
وقبل أن نتقدم بعيداً عن ذلك نقف لحظة هنا لنقدر عمراً لهذا العصر. قال العلماء إن سمك طبقات البليوستوسين يبلغ 4000 قدم، وأن سمك طبقات البليوسين 5000 قدم. فإذا علمنا أنه يلزم لتراكم طبقات البليوستوسين (4000 قدم) 200 ألف سنة فانه من الممكن أن نقول إن طبقات البليوسين (5000 قدم) تحتاج إلى 250 ألف سنة أي ربع مليون سنة. وهذا ما يمكن أن نقدره عمراً لعصر البليوسين. وقد كانت أقدم جهة وجد فيها ريد موير مخلفاته الصخرية تقع في خمسي المسافة، فإذا اعترفنا بذلك وجب أن نعترف أنه من مدة تبلغ نحو 1. 300 ألف سنة كان يسكن العالم عنصر بشري كان له من الذكاء والمقدرة ما كشف له عن طريق عمل واستخدام الآلات والأسلحة.
ولم تكن صخور ريد موير التي وجدها في شرق انجيليا أقدم آثار لعصر البليوسين، لأن هناك جهة تعرف باسم لوحظ أن بها مناطق لا تجري فيها مجار مائية في العصر الحالي وإنما تدل الدلائل على أنه كانت توجد بها أنهار سريعة الجريان. وذلك من البقايا الرسوبية التي وجدت. في هذا الجهة بدأ بنيامين هاريسون بحثه في عام 1864 فوجد أدوات صخرية نحتتها يد الإنسان، وقد سميت هذه الصخور باسم ويعترف ريد موير أن هذه الصخور أقدم مما وجده في شرق انجيليا. وقد وجد مدير دار الآثار الملكية البلجيكية في أمثلة أخرى كثيرة لمحاولة الإنسان الأول تشكيل الصخور واستعمالها أدوات وأسلحة.
ولم يقتصر البحث على مخلفات الطبقات الجيولوجية لمناطق بحر الشمال البليوسينية، بل تعدها إلى كل أنحاء العالم. ففي هبترلاند وفي السهول الشمالية لأواسط آسيا دار البحث والتنقيب عن إنسان البليوسين.
ولعل الدكتور هنري فيرفيلن أوزبورن كان يتوقع العثور في آسيا على الحلقة المفقودة(66/62)
لسلسلة تطور الإنسان في مخلفات عصر البليوسين.
وبرغم الأبحاث المتوالية والجهود الجبارة التي قام بها العلماء في مختلف جهات العالم، لم يعثر إلا على بقايا فرد واحد من العنصر الذي عاش في عصر البليوسين، وجد في منطقة ترتفع عن مستوى سطح البحر بنحو 50 قدماً وتقع على الساحل الشرقي لنهر بنجوان في أواسط جاوة، وقد عثر عليه شاب هولندي طبيب ذهب إلى جاوة سنة 1891 واثقاً من عثوره على ما يدله على خطوات التطور الإنساني في هذه الجهة.
وكانت شواطئ نهر البنجوان غنية بالهياكل المتحجرة لحيوانات بائدة، ولذلك استرعت هذه الجهة نظر الطبيب الشاب فوجه بحثه إليها.
الحلقة المفقودة
وبعد بحث وحفر طويلين وجد هيكلاً لمخلوق غريب أطلق عليه اسم أي الإنسان القرد، إذ أنه قد ظن أنه وجد بقايا من يتكلم عنه الناس أجمع ولم يروه، ألا وهو الحلقة المفقودة بين القرد والإنسان.
وقد ظهر أن هذه الطبقة الأرضية التي وجدت بها بقايا هذا العنصر أو المخلوق لم تتكون إلا في أواخر عصر البليوسين، ولذلك يمكننا أن نقول أنه إذا كان هذا الإنسان القرد عاش هو وأخوته وأعمامه وأخواله وكل أفراد عائلته في جزيرة جاوة في العصر الذي تم فيه تكوين طبقات شرق انجيليا، فإنه يمكننا أن نقدر لعصره عمراً يتراوح بين 200 و300 ألف سنة.
بعد أن قدرنا هذا العمر لهذا المخلوق العجيب يجب علينا أن نبحث لنعرف نوع هذا المخلوق وأصله. فما الذي وجدناه منه؟
كل ما عندنا من آثار: غطاء الجمجمة، عظمة فخذ، ثلاث أسنان منها ضرس من أضراس العقل.
فلندرس هذه كلها، ولنر ما يمكن أن تكشف لنا عنه.
(يتبع)
نعيم علي راغب(66/63)
البريد الأدبي
ذكرى الفردوسي
تحتفل الحكومة الفارسية في هذه الأيام بذكرى الفردوسي الشاعر الفارسي الكبير بمناسبة مرور ألف عام على مولده. ولا يعرف تاريخ مولد الفردوسي بالتحقيق، ولكنه يوضع عادة بين سنة 935 وسنة 940م؛ وكانت وفاته نحو سنة 1020م. واسمه الحقيقي هو أبو القاسم منصور، وأما الفردوسي فهو اسمه المستعار. وأعظم آثاره قصة (الشاهنامة) الشهيرة، وضعها نظما، واستمد موضوعها وحوادثها من تاريخ فارس القديم. وترجمها بالعربية نثراً الفتح بن علي البنداري. وقد ترجمت الشاهنامة إلى بعض اللغات الأوربية كالإنجليزية والفرنسية والألمانية وظهرت منذ أوائل القرن الماضي. وظهرت الترجمة العربية مكملة محققة منذ عامين بعناية الدكتور عبد الوهاب عزام، أستاذ الفارسية بالجامعة المصرية.
وقد اهتمت الحكومة الفارسية بتنظيم هذا المهرجان الأدبي اهتماماً عظيما، ودعت معظم الحكومات والجامعات والهيئات العلمية لشهوده بصفة رسمية؛ وسينزل المندوبون الرسميون ضيوفاً على الحكومة الفارسية منذ دخولهم الحدود الفارسية؛ وتنظم الحفلات والزيارات الأولى ما بين الثالث والثامن من أكتوبر. ثم يفتتح جلالة الشاه الاحتفال الرسمي الكبير في الثاني عشر من أكتوبر في مدينة طوس حيث يرقد الشاعر العظيم، وسيكون الافتتاح برفع الستار عن أثر تذكاري أقيم تخليداً لذكراه.
وقد وفد على فارس مئات من العلماء والمستشرقين ممثلين لحكوماتهم وجامعاتهم؛ وانتدب لتمثيل مصر في هذا المهرجان العظيم الأستاذان عبد الوهاب عزام وعبد الحميد العبادي. وقد بلغ عدد المدعوين إلى حفلة ذكرى الفردوسي الألفية من أوربا وأمريكا 90 عالماً، ومن الشرق الإسلامي 24، وأعدت لهم الحكومة جميع مظاهر الضيافة والكرم، وسيعودون إلى بلادهم في 25 أكتوبر إذ تنتهي الاحتفالات القومية الفارسية.
وترجو الرسالة أن توافي قراءها بتفاصيل شائقة عن هذا المهرجان وعن الخطب التي ستلقى فيه.
ألمانيا تحتفل بذكرى الفردوسي
احتفل في برلين بذكرى مرور ألف سنة على مولد الفردوسي شاعر الأمة الفارسية(66/65)
بحضور بعض سفراء الدول الأجنبية وأساتذة الدراسات الشرقية من الألمان.
وقد تكلم المستشار وهلن باسم وزير المعارف فقال: إن الفردوسي قد أثبت القرابة الموجودة بين أوائل الفرس وأوائل الجرمان، وتكلم سفير فارس فقال إن الفرس سعداء فخورون لأن كلمة إيران التي تطلق على بلادهم معناها: وطن الشعوب الأرشية الآرية الأوربية.
اللغة الفارسية
يدور في محافل وزارة المعارف الإيرانية أن هناك فكرة ترمي إلى عقد مؤتمر لغوي فارسي بعد الاستئناس بآراء المستشرقين الموجودين في طهران لحضور حفلات الفردوسي. والغرض من هذا المؤتمر هو: الأصلح أن يستمر تقدم اللغة الفارسية في طريقها الحاضر مع إحياء المفردات القديمة، أم اقتباس طريقة مصطفى كمال في جعل اللغة التركية مجردة من الألفاظ العربية وسواها؟ ويؤيد الرأي الأول فريق الشباب. أما المعارضون فهم أكثرية الشعب الإيراني لاعتبارات دينية وتقليدية.
اللغة التركية
إن المؤتمر اللغوي التركي قرر أن يكون يوم 26 أغسطس من كل سنة، وهو اليوم الذي انعقد فيه المؤتمر الأول، عيداً قومياً للغة التركية في جميع أنحاء الوطن التركي، وكانت الجمعية قد احتفلت بهذا العيد في العام الماضي احتفالاً اقتصر على إقامة مأدبة رسمية في مركز الجمعية في أنقرة. أما في هذه السنة فان النية اتجهت إلى صبغ هذا الاحتفال بالصبغة القومية العامة، وفي اليوم المقرر يلقي أعضاء لجان حزب الشعب الخطب والمحاضرات بواسطة الراديو لتعميم فكرة استقلال اللغة القومية، وفي هذا اليوم تصدر الصحف التركية أعداداً خاصة تتناول فيها الموضوعات المتعلقة بمسألة اللغة القومية وتركيزها.
أول مؤلف في اللغة اليابانية عن الإسلام
نشر في طوكيو أخيراً كتاب جليل باللغة اليابانية اسمه (تطور الأمم الإسلامية) عنى بتأليفه ونشره الأستاذ أوقوباشي خدمة للإسلام، ويجمع هذا الكتاب بين دفتيه خمسمائة صفحة من الحجم الكبير زين معظمها بالصور الشمسية التي تمثل نواحي الحياة والعادات في بلاد(66/66)
الإسلام.
والكتاب يحوي كثيراً من المعلومات العامة عن الإسلام وأهله، وقد اعتنى مؤلفه بعالم الترك اعتناء عظيما فنشر فيه مقالات وفصولاً طويلة في تاريخ الترك والمدنية التركية، وأحصى الدول التي أنشأها الأتراك، وأعرب عن وحدة المدنية التركية بوضوح تام، ثم وضع الانقلاب التركي الأخير في مكان رفيع، وشرحه للأمة اليابانية شرحاً وافياً كما شرح أحوال الأتراك المقيمين في روسيا والصين، وأسهب في الكلام عن المسلمين عامة، وزين الكتاب بصور عظماء المسلمين من أتراك وغيرهم كما زينه بصور زعماء ايديل أورال وتركستان وقريم وقوقاز.
البحث عن أصل النوَر
سبق أن نشرنا بحثاً مستفيضاً عن النوَر (الغجر) وخواصهم، ومازالت آراء البحث الحديث متضاربة في أصل ذلك الشعب البدوي الجوال؛ وأكثر الباحثين على أنهم نزحوا في الزمن الغابر من الهند إلى الشرق الأوسط، ثم تسربوا بعد ذلك إلى مختلف الأقطار الأوربية. ومازالت منهم جموع عظيمة في المجر ورومانيا وبولونيا وتركيا وأسبانيا وغيرها. وتعني معظم الحكومات بتحضيرهم وتهيئة عوامل الاستقرار لهم لتجعلهم من الرعايا الخاضعين للقانون. ولكنها لم تنجح حتى اليوم في تحقيق هذه الغاية. وقد ألفت أخيراً لجنة علمية دولية لتقوم بالبحث عن أصل النوَر، وعن منشئهم الأول، في الهند ذاتها، وفي نفس المنطقة التي يظن أنها كانت موطنهم الأصلي، وهي منطقة تسمى (زجر بستي) وتقع بين نهري الكنج والسند. وتتألف هذه البعثة من عضو إنكليزي هو الأستاذ فرنك فيلو، وعضو أمريكي هو الأستاذ جاكوب كوركي، وعضو روماني هو الأستاذ لازوريكا وهو نورَي الأصل، وعضو بولوني؛ ويصحب البعثة الأستاذ فالني كانجا الروماني، وهو علامة في اللغة السنسيكرتية التي يظن أنها أصل اللهجات النورَية؛ وسيقوم ببحث الوثائق التي يمكن الحصول عليها من المعابد والأديار البوذية والبرهمية بمعاونة الحكومة الهندية، وقد يكون فيها ما يلقي الضياء على حياة النوَر الأصلية وهجرتهم من موطنهم فراراً من اضطهاد المغول أيام جنكيز خان وتيمورلنك؛ وستزور البعثة إقليم مالا بار حيث توجد طائفة تتكلم لغة فيها كثير من العبارات والألفاظ التي توجد في لهجات النور. وستنشر البعثة خلاصة مباحثها عن(66/67)
النور في كتاب لا ريب أنه سيثير عند ظهور كثيراً من الاهتمام.
سر الحياة
قرئت أخيراً أمام أكاديمية العلوم الفرنسية وثيقة غريبة أودعها بالأكاديمية نائب وعلامة اقتصادي يدعى فرنسيس لور في 5 سبتمبر سنة 1895، واشترط ألا تفتح ألا في 5 سبتمبر سنة 1934، وكثيراً ما تودع بالأكاديمية أمثال هذه الوثائق، وتحترم الأكاديمية رغبات مودعيها. وإليك نص هذه الوثيقة الغربية: (أعتقد أني قد استطعت وضع طريقة لإطالة الحياة. ولكني لما كنت مهندساً، فأني لا أعتقد بالنظريات إلا إذا تحققت بالعمل. ولهذا فأني أعلن اليوم أنني أريد أن أعيش حتى يوم 5 سبتمبر سنة 1934 على الأقل، وفي هذا التاريخ أكون قد بلغت سن التسعين، وهي سن أرجو أن أبلغها، إذا كنت مصيباً في طريقتي لإطالة الحياة). وقد توفي المسيو فرنسيس لور في شهر مايو الماضي، أعني قبل الميعاد الذي حدده لوفاته بأشهر قلائل فقط. ومعنى هذا انه بلغ أمنيته ومات معمراً في سن التسعين. ولكن الذي يؤسف له أنه لم يرفق تصريحه ببيان طريقته، وعلى أي حال فسواء أكان هذا العمر الطويل نتيجة نظام غذائي أم أية تحوطات صحية أخرى، فانه مما يدعو إلى الدهشة أن يؤكد هذا المعمر أنه سيعيش أربعين سنة ثم يعيشها حقاً. وقد أحيلت وثيقته إلى القسم الطبي بالأكاديمية لبحثها.(66/68)
القصص
مُقَطَّفَة
للأستاذ إبراهيم بك جلال وكيل محكمة أسيوط الأهلية
كنا في حاضرة صغيرة في صعيد مصر، يجري في سفحها النيل زاخراً فياضا، وينطلق بين أغوارها رعاة الماشية في إثر الكلأ، وتستقيم على أنجادها بواسق النخيل يسطع بريق الضحى من سعفها كالأسنة في متون القنا.
وكان في أقصى المدينة خليج صغير يأخذ من النيل، يجري فيه الماء غديراً رقيقاً، يفيض بركة ويمناً حول ربوة عالية فيها أكواخ بالية لقبيل من الناس، عدتهم بين العشرين والثلاثين، فيهم الشيخ والطفل، وبينهم حفنة دون العشرة أهل باس ونجدة. وتمتد أكواخهم في ذرى النجد كالحة الجدران، تنساب بين شعابها عنزات عجاف، وتنيخ بأفنائها الأباعر، وتسبح في أفقها أسراب الحمائم.
ولأهل ذاك القبيل حقل صغير فوق الربى العالية عزّ على القوم سقياه، فشقوا له في السفح ثلاثة (شواديف)، يستقي أدناها من ماء الخليج فيسقي الذي يليه، وذاك يحمل ما تعلل به من البلل إلى الثالث، وذلك يلقى سقياه إلى الحقل.
ويتناوب أهل النجد تلك الشواديف؛ فهم أبداً جاثمون تحت السعير المتقد من جمرة الصيف في أثمال كشفها البلى عن سواعد دونها الفولاذ، فيشتدون في ساريات الشواديف جذباً ودفعاً حتى يستوفي الحقل رياً، فيُفيئون إلى صفصافة في الحي بها ظل وارف.
وكنا في دهشة الحرب العظمى، فخيم حول المدينة طائفة من جنود بريطانية يحرسون شعاب الصحراء ومفاوزها من أشياع السيد السنوسي، فكنا نصطبح بفرسانهم دارعين يمشون إلى المصاف ثم يعرجون إلى المضارب.
وجاء فيض النيل غمراً كأحسن العهد بالوفاء، وجرى الماء كثيفاً في خليج أهل القبيل، فاندفع الغلمان يسبحون فيه، وتوافد النساء يرتعن ويلعبن.
وكان بالنجد عذراء فتية، لونها الخمر إذا صفا، وغرتها البدر، وخطرتها الظبي، وحدقها المها، تسري بين الربى في قميص قُدَّ من قُبل في غير إثم ولا حرج، وفي خصرها نطاق من نسيج قرمزي كبرزخ الحسن، يعلو بك صعداً إلى معاقد ما بين ثدييها حيث الفتنة(66/69)
نائمة، ثم يهوي بك إلى كثيب تنوء به ساقاها.
ونشأت (مقطَّفَة) في حمى اليتم، فكفلها أخواها تحت جناحيْ رحمة، وجمعا لها زخرف الثياب والعقود والأقراط، وجمَّلا قدميها بخفين فيهما كل طلىّ من صنع المدينة، وضربا لها خدراً كريماً بين الحمى، فإذا أقلها الخدر وربض أخواها ببابه بات عريناً دونه جبهة الأسد.
وكرّت مقطفة إلى مشرع الخليج وحولها أتراب من الغواني، فأشرق النجد أغواره ورباه، ونضت ثيابها عن قامة كالغصن، فغمرها مدلا بروعة حسنها، ونسج الأتراب من معاصمهن حولها شفقاً رقيقاً كالذي نراه عند مغيب الشمس، فكانت غرّتها تشرق بينهن ثم تغرب في دجى فرعها.
وقدمت فصيلة من جنود الإنجليز إلى الخليج أفراداً وجماعات حتى أكملوا المائة، فنزعوا نعالهم الغليظة، وبعثروا فوق الثرى قلانسهم ومناطقهم، ثم نضوا بقية الثياب وافترشوا أديم الأرض، يستقبلون النيل في فورته واندفاعه إلى الخليج، وكانوا بمعزل عن أهل الحي تحجبهم هضاب وشعاب.
وخرج من صفوفهم فتيان يسبحان في الماء، وظلا في مرح واستباق وتراش بالماء، حتى رنت في أفقهما أغاريد بنات الحي من أقصى الخليج، فهوى أحدهما إلى القاع يسترق الخطى ويسبح الهوينا، حتى كشف له عذاري النجد كالحلقة المفرغة حول (مقطفة).
فخلب لبه ما صاغ المشرق من الحسن، فهو كامن في أفنان النخيل، وطيف النسيم العليل، وصفاء الماء السلسبيل، وملاحة ذلك القد الأسيل.
وسرّح الإفرنجي حدق المأخوذ في دمية النجد وغانية الحي، وبهره وضح جبينها ودقة تكوينها، وسولت له الفتنة أن يستقي حميا ذلك الثغر المصفى.
ونم على الذئب حر أنفاسه فنفر الظباء في ذعر وفَرَق، وتخلفت مقطفة تجمع أشتات العقود والعصائب، وأسبلت قميصاً فضفاضاً يجري ماء الحسن من جيبه إلى ذيله، وهمت في إثر أترابها لولا أن لاحقها الإفرنجي فرأت بشراً من غير معدنها في قميص مندى يكاد يلوكها بماضغ عينيه، ويعتصر جموح غريزته الملحة، فمد يمينه إلى جيدها الغضّ، ولكنها انتثرت كما ينتثر العقد بدراً، وفرت إلى خدرها تملأ الحي رجعاً موجعاً والرجل يشتد في إثرها، وتعلقت فتاة الحي بدروة خدرها ولوحت لأهلها بالعصائب القرمزية فكانت نفير(66/70)
النجدة.
وأبطأ الفتى الجندي على رفاقه من الإنكليز، فحفوا في أثره وتسنموا ذرى النجد، فخرج عليهم من ظلال الصفصافة حفنة من الفتيان غضاباً للأعراض والأحساب الكريمة، يحملون ساريات الشواديف وفلولاً من أعجاز النخيل، وانهالت الساريات تدق الضلوع، وتفلق الهام، وتطهر باب الخدر بالدماء، واستعر لهب الملحمة واشتد أوارها، وصرع من عامة الجند نيف وثلاثون.
وجاء النذير إلى دار الشرطة بالمدينة، فقدموا إلى ضوامر الخيل، وطوقوا الحي سهله ونجاده، وحُمل الجرحى إلى مضاربهم، وسيق الفتيان إلى السجن مصفدين في الأغلال.
وحشر أهل المدينة في الدروب والمشارق يستعرضون تلك الفئة القليلة التي غلبت فئة كثيرة بأذن الله، فإذا هم بضعة نفر من البدو غرا محجلين، يمشون في سكينة وعزة ويقين، مشيئة آبائهم مفاتيح النصر إلى اليرموك والقادسية، حيث دكوا عروش الروم وفارس، وجاء على أعقابهم نساء النجد يبكون حماة الحريم ورفات المجد القديم، وفي طليعتهن مقطفة تندي النقاب، وتهتك الحجاب، وتندب الأهل والأصحاب. وعقد مجلس التحقيق فكان مستفيضاً، وطال أمده يومين كاملين.
وجاءت البينات من جنود الإنجليز تشهد جراحاتهم وما تركت الساريات بأضالعهم وسواعدهم وأعجازهم وهامهم، وأنف حماة النجد من الكذب، وراحوا يصورون للقاضي ما كانوا فيه من دعة وسكينة بين الأهل والولد، حتى وثب الجند بالعقائل يستحلون المحارم ويستبيحون الخدور، فقامت سواعدهم بغريزة الذود وسجية الدفاع المشروع.
وكشف للناس فرسان من الإنجليز يمشون في ركاب أمير الجيش إلى المحكمة، ودخل القائد مجلس التحقيق في عتاده وشارات حسن بلائه، فساور القوم قنوط ويأس وظنوا بالله الظنون، وظلوا واجمين بالباب محتسبين عند الله أكرم القرابين. ولهم معذرة، فان مصر كانت في أغلال عرفية لا خيار لها ولا سلطان.
واستنار القائد بدخائل التحقيق وأسراره فنهض إلى الوثائق يجمعها ويطوي سجلها ويحكم رتاجها، ثم عاد إلى مضاربه وبين يديه الجارمون من أهل النجد.
وهلل الفجر فغصت محاريب المساجد بأهل الدعاء، يرفعون العقائر ويعلنون السرائر،(66/71)
وتواري بعضهم بين الشعاب المفضية إلى المضارب يتسمعون دوى البنادق وزفرات الشهداء.
فكشف الناس في أفق الصبح قوافل من السيارات تنوء بالعتاد والمضارب وفيها أشباح يخفقون، وهي تطوي ما بين المضارب والمحطة.
وسارع الناس فرادى إلى الأفاريز فتبينوا بارقا من الرحمة، وتوسموا الخير كله في نواصي السيارات. فقد كان ركبها من الذين استباحوا حمى مقطفة وأهل نجدها، طوح بهم القائد إلى أطراف الديار.
وذخر القطار يمشي بهم في غير ذمة الله تشيعهم من ناحية القائد عين ناقمة متبرمة.
وأومأ أمير الجيش إلى سيارة موصدة فانفرجت عن فتيان النجد في أمن ودعة، واستمعوا حكم البراءة مهللين مكبرين، يلوحون بالعمائهم ويملؤون الأفق حمداً وثناء على مكارم القائد ونبله. وتقدمتهم إلى النجد مقطفة تلوي عصائبها القرمزية، وحولها حلقة مفرغة من بنات الحي يغنين نغم البيد، ويرتلن حلو الأغاردي.
إبراهيم جلال(66/72)
الكتب
ابنة الشمس
بقلم فرنسيس شفتشي
نشرت مجلة (الرسالة) الغراء في عددها الصادر بتاريخ 24 سبتمبر الماضي نقداً لحضرة الأديب الفاضل (الخفيف) عن روايتي ابنة الشمس. وإني لأتقدّم بمصافحته، راجياً أن يكون ذلك بدء التعارف بيني وبينه، وأرى لزاماً في عنقي أن أشير قبل كل شيء إلى روح النزاهة التي بدت في نقده، وعدم تأثره بأية عوامل في إصداره ذلك النقد، وهو ما أرجو أن يتقبّل عنه مني خالص الشكر، غير أني قد رأيت أن أدفع المآخذ التي أخذها حضرته عليّ بما يأتي:
قال حضرة الناقد المحترم: إن عقدة القصة مهمة، وإنني لم أوفق إلى انتخاب حادثة رئيسية، فهنا بنت أنات تحب بنطاؤر، وهنالك نيفرت تحب مينا، وهذا رئيس الكهان يشترك مع والي مصر في إثارة الشعب ضد الملك، وهذا يعاكر قائد الطليعة يريد أن يكيد للملك.
ولعل حضرة الناقد يوافقني على أن الرواية المسرحية لا يجب أن يكون قوامها حادثة واحدة، ولكن محور واحد تدور عليه الحوادث المختلفة، وإن قليلاً من الإمعان في روايتي يبين للقارئ بسهولة: إن ذلك المحور هو النزاع القائم بين الكهنة والعرش. وأن جميع حوادث الحب والثورات والمظاهر المختلفة، وإنما تشعبت من ذلك الأصل. كما يوضح له أنني لم أحل العقدة التي كان أساسها ذلك النزاع إلا في الفصل الرابع من الرواية، أي في الفصل الأخير.
وقبل ذلك كان لزاماً عليّ أن أحيط العقدة بغموض وإبهام كما يشير حضرة الناقد، حتى يكون المتفرج في شوق إلى معرفة الغاية التي أسير به إليها.
إن الكهنة يتآمرون على العرش، وهم بحاجة إلى شخص يكون آلة في أيديهم، وهذا الشخص يجب أن يكون حاقداً على الملك، وهو قائد طليعته. فيجب إذن إيجاد سبب لذلك الحقد. هذا السبب هو حبه الشديد لنيفرت، وعدم توفيقه في الوصول إليها بسبب أوامر الملك. هذا من جانب واحد، جانب الهجوم - إذا صح هذا التعبير - أما من الجانب الآخر(66/73)
- جانب الدفاع - فقد كان الملك غائباً عن دياره، وحلّت ابنته محله في إدارة شؤون البلاد، وقد اطلعت بواسطة حبيبها بنطاؤر على دسائس الكهنة. فتعاونا معاً على كشف الجريمة واتخاذ التدابير الكفيلة بانتصار رعمسيس.
وبسبب غياب رعمسيس وتنبه الكهنة إلى نفوذ ابنته كانت سياستهم موجهة ضدها، فاخترعوا لذلك قصة الدنس وما تفرع عن ذلك من الحوادث التي ليست في مجموعها إلا إطاراً زاهي اللون لذلك المحور الذي ذكرناه، وهو العامل السياسي، ولو خلت القصة من تلك الزخارف، فلا شك أنها تكون جافة لا يستسيغها القارئ ولا المتفرج، ولاسيما في التراجيديات الكبرى التي تتطلب جهداً وانتباهاً عظيمين. وبراعة المؤلف هي في حسن سبك هذه الحوادث وصبغها بصبغة الأهمية. وإعطائها اللون الذي يجعل لها في نظر المطلع عليها قوة الموضوع الأساسي وعظمته، وفي أن يشعره بأنها متصلة به اتصالاً وثيقاً. وهذا ما توخيته في روايتي. ولقد قال حضرة الناقد في موضع آخر من مقالة: إن كل منظر في الرواية يكاد يكون مستقلاً، فلعلي لا أكون مخطئاً إذا لفت نظر حضرته إلى أن القاعدة الفنية المعمول بها في معظم المآسي العالمية الكبرى هي التي أوحت إليّ السير على هذا النمط الذي أجده معقولاً، فان موضوع القصة يجب أن يقسم تقسيماً عادلاً بين الفصول، بحيث أن الحادثة أو جزء الرواية الذي يتناوله المؤلف في أحد الفصول يجب أن تكون جزئياته كاملة بحثي لا يسدل الستار على شيء أبتر والمتفرج فاغر فاه في انتظار شيء يشعر بلزومه. إن المتفرج يجب أن يشعر إزاء كل جزء من الرواية أنه إزاء رواية كاملة بجميع جزئياتها في دائرة جزء القصة المخصص لذلك الفصل، على أن يربط هذه الحوادث جميعاً بحوادث الفصل التالي للموضوع الأصلي، وهذا بالذات ما فعلته.
أما قول حضرة الناقد أنني جعلت خاتمة المأساة متوقفة على نصيب رعمسيس في الحرب وأن هذا معروف للقارئ. فليسمح لي بأن أقول لحضرته إن المعروف للقارئ عن انتصار رعمسيس لم يتطرق إلى ذهنه بواسطة روايتي إلا في النهاية، ومعرفة القارئ هذا الانتصار من كتب التاريخ لا يقلل من أهمية القصة، بل بالعكس يجعل لها قيمتها التاريخية من حيث أن المؤلف مطالب بالاحتفاظ بروح التاريخ وإثبات الحوادث الكبرى المعروفة. فما يعتبره الناقد عيباً من هذه الناحية هو حجتي في الدفاع عن الرواية. إن المؤلف لا يبالي(66/74)
معرفة الجمهور بحادث تاريخي معين وإنما هو يسير في عمله على حسب ما يقتضيه سياق القصة وحسن سبكها، ومهمة المؤلف هي في إيضاح تلك الحوادث المعروفة وتصويرها بدقة وإلباسها الثوب القشيب الذي يجعل الجمهور يتقبلها بغير عنت ولا نفور. فإذا نجح المؤلف في ذلك فلا شك أن الاستمتاع بالعمل الفني يكون كاملاً.
أما ما يأخذه عليّ حضرة الناقد من سذاجة الحوار في بعض الحوادث فان ذلك كان يتبع روح الأشخاص الذين كنت أتكلم بلسانهم.
أما ما يتعلق برجوع بنطاؤر عن فلسفته بسرعة وانقياد إلى بنت أنات، فأني أوافق الناقد على انهما لم يكونا بصدد موضوع تافه بل بصدد موضوع خطير للغاية، ولكن بنطاؤر كان مدفوعاً بعدة عوامل أظهرناها جميعاً بجلاء تام في سياق القصة، وخلاصتها أنه كان يحب بنت أبات حباً مبرحاً منذ عام، وأنه كان يخالف في قلبه جميع معتقدات الكهنة ويدين بما تدين به حبيبته، وأنه خاف عليها أن يتولى عقيدتها الطاهرة الفساد. هذا فضلاً عن قوة الحجة التي أدلت بها بنت أنات في حضرة الكاهن وثورتها عليه ولين عاطفة بنطاؤر ونفسه الشاعرية الحسّاسة. لقد اجتمع لديه كل ذلك في وقت واحد فسلّم السلاح. على أن ضميره عاد يؤنبه بعد ذلك فكاشف صديقه نبسشت بعد تردد قليل بما يكنه قلبه. ولا غرابة في ذلك فان بنطاؤر ونبسشت صديقان حميمان وكلاهما يعد نفسه أمين سر للآخر وموضع ثقته وملاذه.
وأما أنني جمعت بين التأليف والتمثيل بإشارتي إلى ما ينبغي حدوثه على المسرح فلا أظن في ذلك مايعيبني، ولاسيما أن هذه هي الطريقة المتبعة في كل المسرحيات الحديثة.
هذا ما وجب أن أدفع به المآخذ الموجهة إلى روايتي، فلعلي أكون قد وفقت في بياني، والله سبحانه وتعالى يهدينا جميعاً إلى ما فيه السداد.
فرنسيس شفتشي
همام
قرأت ما كتبه الأخ الأديب (م) عن قصة (همام) في (الرسالة) الغراء، وأشكره على حسن ظنه في تقريظه، وأدبه في نقده، وأرجو أن أكون أكثر إرضاءً له في المستقبل.(66/75)
وما أريد أن أعقب على شيء من كلمته إلا قوله: (تدور القصة حول محور واحد، ألا وهو حفلات الزواج في عاصمة الأحقاف) والواقع أنها تدور حول العادات السيئة بحضر موت وإصلاحها، ولم يرد وصف حفلة الزواج إلا عرضاً.
ولابد لي من التنبيه على أن البيت (لولا انتصاف الكأس الخ. .) ليس لصاحب القصة، بل هو لصديق له من كبار شعراء الأحقاف، ورد اسمه في القصة تنويهاً بفضله وأدبه.
علي أحمد باكثير(66/76)
العدد 67 - بتاريخ: 15 - 10 - 1934(/)
شوقي. . .! بمناسبة ذكراه الثانية
للأستاذ عبد العزيز البشرى
لقد خرج في هذه الدنيا شعراء ما أحسب أحداً منهم كان يستطيع إلا يكون شاعراً لقد تتصل الشاعرية بالطبع والجبلّة. وليس بملك المرء أن يخرج عن جبلته وطبعه. ولست أجد مثلاً اضربه لهذا الطراز من الشعراء أبلغ من أبي نؤاس في الغابرين واحمد شوقي في المحدثين واغلب اعتقادي أن الشاعر من هؤلاء حين ينزل عليه الشعر لا يقدر عليه على صرفه عنه أو حبس لسانه أو قلمه عن الجريان به إلا برياضة ومطاولة وجهد.
هؤلاء يطلبهم الشعر اكثر مما يرتصدون له، ويتجردون في إصابته.
وبحسبك أن تطالع دواوين شوقي - والحديث فيه اليوم - لتعلم انه لو كان رزق اعظم حظ من العزم والقوة والجبروت ما كان ليقوي على كتم شاعريته الفائضة الجياشة وهيهات للسد بالغا ما بلغ من المتانة والمناعة أن يكف النيل عن جريانه، وأن يكبح إذا طغى من طغيانه!. تقرا شعر شوقي فتتعاظمك هذه الكثرة الكثيرة من فاخر الشعر وبارع الصنعة ورائع البيان. أية قوة بدنية هذه التي احتملت كل هذا المجهود الفكري؟ وكيف تهيأ لهذا الرجل أن يعيش ما عاش!. . .
والواقع الذي لا يتداخله الشك إن شوقي لم يكن على حظ كبير من صحة البدن، بل لقد تستطيع أن تقول إنه كان رجلا مضعوفاً مختل الأعصاب من أول نشأته. فإذا طلبت السر في شأنه، فالسر كله في أنه لم يكن يجهد في قرض الشعر لأنه لا يكلفه ولا يتعمل كما قلت لك في طلبه ولا يرهف في ذاك حساً ولا يحد عصباً، إنما هو الينبوع ينبثق فيجرى الماء دفقاً ما يحتاج إلى متح ماتح.
نعم، لقد كانت تكاليف الحياة تقتضي شوقي كما تقتضي غيره أن يستفتح الشعر ويبعثه في مديح، أو رثاء تهنئه، أو في غير ذلك من الأسباب الخاصة أو العامة التي لا يرى بداً من القول فيها. على أنه لا يكاد يقبل على صناعة الشعر فيما طلبه، حتى تتحرك شاعريته، فتجرّه عما هو بسبيله جراً، وتملى عليه هي ما تشاء اكثر مما يملى عليها هو ما يريد ولست اطلب في هذا دليلا ابلغ من أن شوقي لم يمدح أحداً قدر ما مدح سمو الخديوي السابق. على أنه حين جرد تلك القصائد من ذلك المديح ليدخلها في ديوانه، ظلت سوية(67/1)
قوية رائعة بما فيها من رقيق غزل، أو من بارع وصف، ومن بالغ حكمة وجليل مثل، كأن لم تفقد شيئا، ولم يعوزها شيء!. .
إذن كان شوقي شاعراً مطبوعاً أتم طبع، سرياً أجزل السراء، موفقاً إلى أبعد غايات التوفيق. تصرف في فنون الشعر كلها فما ضعف قط في واحد منها، بل قل أن يتعلق بغباره في أي باب من أبواب القصيدة شاعر، اللهم خلا الهجاء، فلم يؤثر عنه فيه بيت واحد. ولعل ذلك يعود، كما قلت في (مرآته)، إلى لطف نفسه، وأنفته من أن يشهر الناس ويطلب معايبهم، أو لعله يعود إلى الخوف والورع من أن يزيد في ثورة خصومه به، لعله فطن إلى أن الزمان سيعفى على هذا الضرب الحقير من الشعر. وأما احسبه لو عالجه إلا موفياً فيه على الغاية والإحسان على أن الله تعالى كان الطف به من أن يدليه في هذا الهوان.
وإذا كان عجباً من كثير من الشعراء أن يكون حظهم من البراعة في فنون الشعر بدرجة سواء - فإن هذا من شوقي وأمثال شوقي غير عجيب. فالرجل، كما زعمت لك، لا يملك من شاعريته. اكثر مما تملكه شاعريته وما أن اجتمع لقول الشعر، ومضى يجيل الفكر ويطير الخيال، إلا ملكته تلك الشاعرية عن نفسه، وراحت تجوده بالهاتن الحنان من وحي القريض. فإن أصابت ما احتفل له، وإلا ففي فنون المعاني الآفاق العرائض. أرجوك أن تراجع شعر شوقي في كل ما يتورط فيه الشاعر، ولا ينبعث له من نفسه لو كان أمره كله إليه، لتزداد إيماناً بما أقول.
وأرجوك إلا تحسبي غالياً ولا متزايداً إذا زعمت لك إن شعر شوقي كان في بعض الأحيان، بل في كثير من الأحيان، يتخطى إدراكه العادي. أعني إنه لقد كان يصيب ألواناً من المعاني لو انك راجعته فيها غداة نظمها لاحتاج في فهمها إلى فكر وتدبير!.
ولقد وقع لي اكثر من مرة إن راجعته في بعض شعره أرى أنه قد مس فيه معنى رفيعاً جداً، ولكن اللفظ اقصر من أن يطوله بواضح البيان، وإني لأضمر ما المح، وأحياناً ما كان يلمح غيري، فإذا هو بادئ الرأي كقارئة متحير متردد، وإذا هو في فهم مرامي الكلام في حاجة إلى حبس والى استخبار! وأريد أقول لك أن هذا الرجل لقد كان يفاض عليه ساعة وحي الشعر ما لم يكن لفكره في الحساب. ولقد ذكرت هذا من بضعة أيام لنفر من الأدباء(67/2)
ممن كانت لهم صلة بشوقي، فأكد لي بعضهم أنه وقع له مثله هذا أمير الشعراء.
صنعة شوقي
وإذا كان هذا الشاعر صنعة، أو كان له في شعره ما بعد من عمله، فهو للمعنى أولاً، فإن واتى اللفظ ولأن ونصع واشرق، وإلا فلأم هذا اللفظ الهبل!.
لم يكن شوقي إذن يكلف بالديباجة، ولا يجهد في تسوية اللفظ وصقله، ولكنه مع هذا لقد يجيء بالعجب العاجب! بل لقد استحدث شوقي في العربية صيغاً أوفت على الغاية من حلاوة اللفظ، ومتانة النسج، وقوة الإشراق. وأحسب إن قوة المعاني هي التي أرادته على هذا ودفعته إليه دفعاً.
ولقد مما يعدّ على شوقي أنه يكثر من الغريب قي شعره، حتى لقد كان يُضطر هو إلى تذييل ما يفشى من قصائده في الصحف بالشرح والتفسير. ولا أحسب هذا سائغاً في العصر الذي نعيش فيه، بل أني لأزعم أن محصول شوقي من متن اللغة لم يكن يواتي هذا القدر الذي يشعره استكثاره من الغريب في قصيدة، فلقد كنت تسأله معنى الكلمة المفردة تكون قد خلت في بعض شعره، فإذا هو لا يدريه في بعض الأحايين. وإنني لأرجح أن الرجل يكن يعمد بهذا للتكثير بسعة العلم، ووفرة المحصول من اللغة، ولكن لأنه كان يصيب من دقائق المعاني ما لا يتيسر له أداؤه باللفظ الشائع، كما كان يطيل أحياناً كثيرة في القصائد إطالة يحتاج معها إلى الكد في التماس القوافي، فكان يضطر في هذا وفي هذا إلى التماس الألفاظ من القواميس ينزعها انتزاعاً.
التجديد والمجددون
وهنا احب أن أقول شيئاً يسيراً في التجديد والمجددين، وإنني اوجه هذا الكلام، بنوع خاص، إلى الناشئين من المتأدبين.
إذا كان من آيات الحياة في الكائنات تطورها، ونموها، وتجددها. فالأدب، ولاشك، من هذه الكائنات التي لا تكتب لها الحياة إلا على التطور والنمو والتجديد، وإلا كان ميتاً أو أشل على ايسر الحالين.
ولكنني احب أن الفت في هذا المقام، إلى مسالة قد تدق أفهام الكثير أو القليل. وتلك إن(67/3)
هناك فرقا بين التربية والتحديد، وبين المسخ والتغير. ولست أجد مثلاً أسوقه في هذا الباب خيراً من حياة الطفل وحياة النبات. كلاهما ينمو ويربو، وكلاهما يطول ويزكو، حتى يبلغ الحد المقسوم لكماله؛ وقد تتغير بعض معارفه، وقد تخول بعض أعراضه، ولكنه، في الغاية، هو لا شيء آخر، فحسن الوليد، هو حسن الطفل، هو حسن الفتى، وهو حسن الشاب، هو الكهل، وهو حسن الشيخ، وتلك الفسيلة الصغيرة هي هذه النخلة الباسقة، كل نما وربا بما دخل عليه من الغذاء، وما اختلف عليه من الشمس والهواء لقد أصاب كل منهما ما أصاب من أسباب التربية والإزكاء، فاحتجز منهما ما واءمه وما تعلقت به حاجته، ونفى عنه ما لا خير له فيه وما لا حاجة به إليه. ثم أساغ ما أمسك وهظمه، فاستحال دما يجري في عرقه، ويزيد في خلقه.
ولا شك في أن لأدبنا العربي عناصر، وله مقومات، وله شخصية بارزة معينة، فمن شاء فيه تجديدا - ومن الواجب الحتم على القادرين أن يجدوا - فليتقدم، ولكن من هذه السبيل.
ولا شك في أن لأدبنا العربي عناصر، وله مقومات، وله شخصية بارزة معينة، فمن شاء فيه تجديداً - ومن الواجب الحتم على القادرين أن يجددوا - فليتقدم، ولكن من هذه السبيل.
ولا تنسوا إن من أهم هذه المقومات، إن لم يكن أهمها جميعا، هو صحة العربية وتحري فصحها. فمن تهاون هذا وتجاوزه، فليس ما يصنع من الأدب في شيء أبداً. ومما يتصل بهذا المعنى ما لعلي لا أخطي إذا دعوته تقاليد العربية، فالعربية كسائر اللغات القوية تقاليد المأثورة على الزمان.
وهنالك مقومات آخران لهما خطرهما العظيم، إلا وهما التخييل والذوق العام. ولا أحسبك تنكر أن للامة ذوقها الخاص بها في كثير من أسباب الحياة، ولقد تشارك غيرها من الأمم في بعض هذا، ولقد تفارقها في بعض فراقا شديداً أو يسيراً.
أما التخييل فقد قلت لك في مقال مضى إن خيال المرء مهما حلق وعلا، ومهما أسرف وغلا، فهو لا يمكن إن يخرج عن كونه مجرد تلفيق من الحقائق المحسة الواقعة. وأنت بعد خبير بأن اصدق خيال وأروعه، وإن أحكم تشبيه واطبعه هو اشتقه الشاعر مما يحيط به وبقائه، ويقع لأسماعها ولأبصارهما جميعاً. وألا نبا عن السمع، ونشز على الطبع، ولو كان بالغاً غاية الغاية في بيئة أخرى.(67/4)
نعم، لقد يشهد الشاعر من مجال الطبيعة ما لم يشهد عامة قومه ولقد يظهر على كثير مما اتضحت به بلاغات آثمة البيان في الأمم الأخرى ولقد يتذوق هذا في لُغاهم، ويتأثر به إلى حد بعيد، ولقد يرى أن ينقل ما يطول من ذلك إلى معشره بإخراجه في لغتهم لينعّمهم ويلذذّهم ويرهف حسهم، ويفتق في أذهانهم، ويفسح في أدبهم بإدخال جديد عليه، وإضافة بديع من الآداب الأخرى إليه، فإن له من ذلك ما يجب، على أن يصوغه في صحيح لغته، ويطبعه على غرار أدبه، ويحتال على تسوية خلقه، حتى يصبح تام المشابه بما ألف قومه، حتى لا يحسوا فيه غربة، ولا يشعروا منه بوحشة، فإذا وفق الأديب إلى هذا وأجاده وأحكمه فهو المجدد التام.
شوقي أمام المجددين:
ولقد ضرب شوقي في الأرض كثيراً، ورأى من صور الطبيعة ومن بدائعها ما لم تتهيأ رؤيته لكثير. وقرأ في الفرنسية لأئمة البيان في الغرب ما لا يكاد يملكه الإحصاء. ولقد أساغ ما استعار، وجرى في أعراقه طلقاً، واستطاعت شاعريته الفخمة أن تجلو منه ما شاء أن يجلو عربياً خالصاً لا شك فيه. وهذه دواوينه تزخر بهذا البدع زخراً.
فاللهم إن كان التجديد ما ذكرنا فشوقي أمام المجددين في هذا العصر غير مدافع. أما إن كان التجديد هو المسخ، واستحداث صور شائهة، وستكراه ألوان من المعاني لا تمت ألينا بسبب، على صيغ لا هي بالعربية ولا هي بالأعجمية، فاللهم اشهد أن شوقي ليس مجدداً بل ليس شاعراً أبداً.
ولقد جال شوقي في كل غرض، وقصد كل قصد، وأصاب من كل معنى، وطال نفسه في اكثر قصيدة إلى ما لم يطله كثير من أنفاس الشعراء، فما ضعف ولا تخلخل ولا أسف، ولا فسلت أخليته، ولا شاهت معانيه، بل لقد يأتي أكثر ما يأتي بالجوهري الرائع من حر الكلام.
وليس شوقي يستدل على مكانة بالبيت أو البيتين في القصيدة، أو بالقصيدة والقصيدتين في الديوان، بل إذا طلبت عليه دليلاً فهذه دواوينه، شق منها ما تشاء، وقع منها على ما تريد لك المصادفة، فلن تصيب إلا ارفع الشعر وافخر الكلام.
وبعد، فلقد مات شوقي وإنحسمت جميع أسبابه من الدنيا، وفرغ من مودَّات الناس ومن(67/5)
عداواتهم، واصبح شعره حبساً على التاريخ، فمن كان يرى حقاً أن شوقي لم يبلغ هذه المنزلة، أو أنه لم يبلغ بعضها، أو أنه لم يكن شاعراً البتة، فهذا له رأيه، وعليه تبعته. ولا حيلة لنا ولا لغيرنا فيه. وأما من يقدر شوقي حق قدره، فينزله هذه المنزلة أو ما هو اقرب إليها، فمن واجب الذمة أن يشيد بقدره، ويدل على جلالة محله، لا قضاء لحق الأنصاف وحده، ولا أداء لشكر النعمة فحسب، فلقد كان شوقي نعمة عظمى اسبغها الله على أبناء العربية جميعاً، بل لاستدراج نشئ المتأدبين إلى استظهار شعره، وإنها لهم من أدبه، واتخاذه النموذج المحتذى إذا اجتمع أحدهم للبيان.
هذا واجب الذمة للحق وللبيان جميعاً، وخاصة بعد هذا التبلبل الذي لا احسب أن البيان العربي شهد مثله في أي عصر من عصور التاريخ. وحسبي هذا، فما احب أن اقذف بنفسي في هذه الحرب الناشبة من أنصار قديم وأصحاب جديد.
عبد العزيز البشري
من قول شوقي يصف تمثال نهضة مصر ويشير إلى المرحوم
المثال مختار:
تعالوا تروا كيف سوى الصفاة ... فتاة تلملم سربالها
دنت من أبي الهول مشى الرؤوم ... إلى مقعد هاج بلبالها
وقد جاب في سكرات الكرى ... عروض الليالي وأطوالها
وألقى على الرمل أرواقه ... وأرسى على الأرض أثقالها
يخال لأطراقه في الرمال ... سطيح العصور ورمالها
فقالت: تحرك فهم الجماد ... كأن الجماد وعى قالها
وما الفن إلا الضريح الجميل ... إذا خالط النفس أوحى لها
وما هي إلا جمال العقول ... إذا هي أولته اجمالها(67/6)
قصة زواج وفلسفة المهر
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال رسول عبد الملك: ويحك (يا أبا محمد) لكأن دمك والله من عدوك فهو يفور بك لتلج في العناد فتقتل، وكأني بك والله بين سبعين قد فغرا عليك؛ هذا عن يمينك وهذا عن يسارك، ما تفر من حتف إلا إلى حتف، ولا ترحمك الأنياب إلا بمخالبها.
ههنا هشام بن اسماعيل عامل أمير المؤمنين، أن دخلته الرحمة لك استوثق منك في الحديد، ورمى بك إلى دمشق؛ وهناك أمير المؤمنين، وما هو والله إلا أن يطعم لحمك السيف يعض بك عض الحية في أنيابها السم؛ وكأني بهذا الجنب مصروعاً لمضجعه، وبهذا الوجه مضرجاً بدمائه، وبهذه اللحية معفرة بترابها، وبهذا الرأس محتزاً في يد (أبي الزعيزعة) جلاد أمير المؤمنين، يلقيه من سيفه رمى الغض بالثمرة قد ثقلت عليه.
وأنت (يا سعيد) فقيه أهل المدينة وعالمها وزاهدها، وقد علم أمير المؤمنين أن عبد الله بن عمر قال فيك لأصحابه: (لو رأى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لسره) فإن لم تكرم عليك نفسك فليكرم على نفسك المسلمون؛ أنك ن هلكت رجع الفقه في جميع الأمصار إلى الموالي؛ فقيه مكة عطاء، وفقيه اليمن طاوس، وفقيه اليمامة يحيى بن أبي كثير، وفقيه البصرة الحسن، وفقيه الكوفة إبراهيم النخمي، وفقيه الشام مكحول، وفقيه خراسان عطاء الخراساني. وإنما يتحدث الناس إن المدينة من دون الأمصار قد حرسها الله بفقيهما القرشي العربي (أبي محمد سعيد ابن المسيب) كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد علم أهل الأرض إنك حججت نيفاً وثلاثين حجة، وما فاتتك التكبيرة الأولى في المسجد منذ أربعين سنة، وما قمت إلا في موضعك من الصف الأول، فلم تنظر قط إلى قفا رجل في الصلاة؛ ولا وجد الشيطان ما يعرض لك من قبله في صلاتك ولا قفار رجل؛ فالله الله يا أبا محمد، إني والله ما أغشك في النصيحة؛ ولا أخدعك عن الرأي، ولا انظر لك الأخير لنفسي؛ وإن عبد الملك ابن مروان من علمت؛ رجل قد عم الناس ترغيبه وترهيبه، فهو آخذك على ما تكره إن لم تخته أنت على ما يحب؛ وأنه والله يا أبا محمد، ما طلب إليك أمير المؤمنين الو أنت عنده الاعلى، ولا بعثني إليك إلا وكأنه يسعى بين يديك، رعاية لمنزلتك عنده وإكباراً لحقك عليه؛ وما أرسلني اخطب إليك ابنتك لولي عهده إلا وهو يبتذل(67/7)
نفسه إليك ابتذالا ليصل بك رحمة، ويوثق آصرته؛ وإن يكن الله قد أغناك ان تنتفع به وبملكه ورعا وزهادة فما احوج أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتفعوا بك عنده، وان يكونوا أصهار (الوليد) فيستدفعوا شراً ما به عنهم غنى ويجتلبوا خيرا ما بهم غنى عنه؛ ولست تدري ما يكون من مصادر الأمور ومواردها. وإنك والله إن لججت في عنادك أصرت إن تردني إليه خائبا، لتهيجن قرم سيوف الشام إلى هذه اللحوم ولحمك يومئذ من أطيبها ولأمير المؤمنين تارتان: لين وشدة وأنا إليك رسول الأولى، فلا تجعلني رسول الثانية. . .
وكان أبو محمد يسمع هذا الكلام وكأنة لا يخلص إلى نفسه إلا بعد أن تتساقط معانيه في الأرض، هيبة منه وفرقاً من أقدامها عليه؛ وقد لان رسول عبد الملك في دهائه حتى ظن عند نفسه أنه ساغ من الرجل مساغ الماء العذب في الحلق الظامئ، واشتد في وعيه حتى ما يشك أنه قد سقاه ماء حميماً فقطع أمعاءه والرجل في كل ذلك من فوقه كالسماء فوق الأرض، لو تحول الناس جميعا كناسين يثيرون من غبار هذه على تلك لما كان مرجع الغبار إلا عليهم، وبقيت السماء ضاحكة صافية تتلألأ.
وقلب الرسول نظره في وجه الشيخ، فإذا هو هو ليس فه معنى رغبة ولا رهبة، كأن لم يجعل له الأرض ذهباً تحت قدميه في حالة، ولم يملأ الجو سيوفاً على رأسه في الحالة الأخرى؛ وأيقن أنه من الشيخ كالصبي الغر قد رأى الطائر في أعلى الشجرة فطمع فيه فجاء من تحتها يناديه: أن انزل إلى حتى آخذك والعب بك. . .
وعد قليل تكلم أبو محمد فقال:
(يا هذا، أما سمعت، وأما أنت فقد رأيت، وقد روينا أن هذه الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فانظر ما جئتني أنت به، وقسه إلى هذه الدنيا كلها، فكم - رحمك الله - تكون قد قسمت لي من جناح البعوضة. . .؟ ولقد دعيت من قبل لي نيف وثلاثين ألفاً لأخذها فقلت: لا حاجة لي فيها ولا في بني مروان، حتى ألقى الله فيحكم بيني وبينهم. وهأنذا اليوم أدعى إلى أضعافها وإلى المزيد معها؛ أفأقبض يدي عن جمرة، ثم أمدها لأملأها جمراً؟ لا والله ما رغب عبد الملك لابنه في ابنتي، ولكنه رجل من سياسته إلصاق الحاجة بالناس ليجعلها مقادة لهم فيصرفهم بها؛ وقد أعجزه أن أبايعه، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى(67/8)
عن بيعتين، وما عبد الملك عندنا إلا باطل كابن الزبير، ولا ابن الزبير إلا باطل كعبد الملك، فانظر فإنك ما جئت لابنتي وابنه، ولكن جئت تخطبني أنا لبيعته. . .
قال الرسول: أيها الشيخ، دع عنك البيعة وحديثها، ولكن من عسى أن تجد لكريمتك خيراً من هذا الذي ساقه الله إليك؟ انك لراع وإنها لرعية وستسأل عنها، وما كان الظن بك أن تسئ رعيتها وتبخس حقها، وأن تعضلها وقد خطبها فارس بني مروان، ولن لم يكن فارسهم فهو ولي عهد المسلمين، وان لم يكن هذا ولا ذاك فهو الوليد بن أمير المؤمنين؛ وأدنى الثلاث أرفع الشرف فكيف بهن جميعاً، وهن جميعاً في الوليد.؟
قال الشيخ: أما إني مسؤول عن ابنتي، فما رغبت عن صاحبك إلا لأني مسؤول عن ابنتي. وقد علمت أنت إن الله يسألني عنها في يوم لعل أمير المؤمنين وابن أمير المؤمنين وألفافهما إلا يكونون فيه إلا وراء عبيدها وأوباشها دعها وفجارها. يخرجون من حساب هؤلاء إلى الحساب على السرقة والغضب، إلى حساب هؤلاء إلى حساب التفريط في حقوق المسلمين. ويخف يومئذ عبيدها وأوباشها ودعارها وفجارها في زحام الحشر، ويمشي أمير المؤمنين وابن أمير المؤمنين ومن اتصل بهما، وعليهم أمثال الجبال من أثقال الذنوب وحقوق العباد.
فهذا ما نظرت في حسن الرعاية لابنتي، لو لم أضن بها على أمير المؤمنين وابن أمير المؤمنين لأوبقت نفسي. لا والله ما بيني وبينكم عمل، وقد فرغت مما على الأرض فلا يمر السيف مني في لحم حي.
ولما كان غداة غد جلس الشيخ في حلقته في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للحديث والتأويل، فسأل رجل من عرض المجلس، فقل يا أبا محمد أن رجلا يلاحيني في صداق ابنته ويكلفني مالا أطيق. فما اكثر ما بلغ إليه صداق أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصداق بناته؟
قال الشيخ: روينا أن عمر رضي الله عنه كان ينهى عن المغالاة في الصداق ويقول: (ما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا زوج بناته بأكثر من أربعمائة درهم) ولو كانت المغالاة بمهور النساء مكرمة لسبق إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وروينا عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: (خير النساء أحسنهن وجوها وأرخصهن مهورا.)(67/9)
فصاح السائل: يرحمك الله يا أبا محمد، كيف يأتي أن تكون المرأة الحسناء رخيصة المهر، وحسنها هو يغليها على الناس؛ تكثر رغبتهم فيها فيتنافسون عليها؟
قال الشيخ: انظر كيف قلت. أهم يسامون في بهيمة لا تعقل، وليس لها من أمرها شيء إلا أنها بضاعة من مطامع صاحبها يغليها على مطامع الناس؟ إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم إن خير النساء من كانت على جمال وجهها، في أخلاق كجمال وجهها؛ وكان عقلها جمالاً ثالثاً؛ فهذا إن أصابت الرجل الكفء، يسرت عليه ثم يسرت؛ إذ تعتبر نفسها إنساناً يريد إنساناً لا متاعاً شارياً، فهذه لا يكون رخص القيمة في مهرها، إلا دليلاً على ارتفاع القيمة في عقلها ودينها؛ أما الحمقاء فجمالها يأبى إلا مضاعفة الثمن لحسنها، أي لحمقها؛ وهي بهذا المعنى من شرار النساء، وليست من خيارهن ولقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض نسائه على عشرة دراهم وأثاث البيت، وكان الأثاث: رحى يد، وجرة الماء ووسادة من أدم حشوها ليف. وأولم على بعض نسائه من شعير، وعلى أخرى بمدين من تمر ومدين سويق وما كان به صلى الله عليه وسلم الفقر ولكنه يشرع بسنته ليعلم الناس من عمله أن المرأة للرجل نفي لنفس لا متاع لشاربه والمتاع يقوم عند المرأة بما يكون منه؛ فمهرها الصحيح ليس هذا الذي تأخذه قبل ان تحمل إلى داره ولكنه الذي تجده منه بعد أن تحمل إلى داره؛ مهرها معاملتها، تأخذ منه يوماً فيوماً، فلا تزال بذلك عروساً على نفس رجلها ما دامت في معاشرته أما ذلك الصداق من الذهب والفضة فهو صداق العروس الداخلة على الجسم لا على النفس؛ أفلا تراه كالجسم يهلك ويبلى أفلا ترى هذه الغالية - إن لم تجد النفس - قد تكون عروس اليوم ومطلقة الغد؟!
وما الصداق في قليلة وكثيرة إلا كالإيماء إلى الرجولة وقدرتها، فهو إيماء ولكن الرجل قبل، ولكن الرجل قبل. إن كل امرئ يستطيع أن يحمل سيفاً والسيف إيماء إلى القوة غير انه ليس كل ذووي السيوف سواء وقد يحمل الجبان في كل يد سيفاً ويملك في داره مائة سيف؛ فهو إيماء ولكن البطل قبل، ولكن البطل قبل.
مائة سيف يمهر الجبان بها قوته الخائبة لا تغني قوته شيئاً ولكنها كالتدليس على من كان جباناً مثله ويوشك إن يكون المهر الغالي كالتدليس على الناس وعلى المرأة كي لا تعلم ولا يعلم الناس انه ثمن خيبتها؛ فلو عقلت المرأة لباهت النساء بيسر مهرها فإنها بذلك تكون قد(67/10)
تركت عقلها يعمل عمله، وكفت حماقتها أن تفسد عليه فصاح رجل في المجلس: أيها الشيخ، أفي هذا من دليل أو أثر؟
قال الشيخ: نعم؛ أما من كتاب الله فقد قال الله تعالى (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) فهي زوجة حين تجده هو لا حين تجد ماله وهي زوجه حين تتممه لا حين تنقصه؛ وحين تلائمه لا حين تختلف عليه: فمصلحة المرأة زوجة ما يجعلها من زوجها، فيكونان معاً كالنفس الواحدة، على ما ترى للعضو من جسمه، يريد من جسمه الحياة لا غيرها.
وأما من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روينا (إذا أتاكم مَنْ تَرضَوْن دِينَهُ وأمانته فزوجوه. إلاَّ تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير).
فقد اشترط الدين، على أن يكون مرضياً لا أي ذلك كان ثم اشترط الأمانة وهي مظهر الدين كله بجمع حسناته؛ وأيسرها أن يكون الرجل للمرأة أميناً وعلى حقوقها أميناً، وفي معاملتها أميناً، فلا يبخسها، ولا يعنتها، ولا يسيء إليها لأن كل ذلك ثلم في أمانته. فإن ردت المرأة من هذه حاله وصفته من اجل المهر - تقدم إليها بالمهر من ليست هذه حاله وصفته، فوقعت لفتنة، وفسدت المرأة بالرجل، وفسد هو بها، وفسد النسل بهما جميع، وأهمل من لا يملك وتعنست من لا تجد ويرجع المهر الذي هو سبب الزواج سبباً في منعه، ويتقارب النساء والرجال على رغم المهر والدين والأمانة؛ فيقع معنى الزواج ويبقى المعطل منه هو اللفظ والشرع.
هل علمت المرأة إنها لا تدخل بيت رجلها إلا لتجاهد فيه جهادها، وتبلو فيه بلاءها، وهل يقوم مال الدنيا بحقها فيما تعمل وما تجاهد؛ وهي أم الحياة ومنشئتها وحافظتها. فأين يكون موضع المال ومكان التفرقة في كثيره وقليله، والمال كله دون حقها؟.
ولن يتفاوت الناس بالمال تختلف درجاتهم به وتكون مراتبهم على مقداره، تكثر به مرة وتقل مرة - إلا إذا فسد الزمان، وبطلت قضية العقل، وتعطل موجب الشرع، وأصبحت السجايا تتحول، يملكها من يملك المال، ويخسرها من يخسره؛ فيكون الدين على النفوس كالدخيل المزاحم لموضعه، والمتدلى في غير حقه؛ وبهذا يرجع باطل الغي ديناً يتعامل الناس عليه، ودينُ الفقير بَهَرجْاً لا يروج عند أحد. وليس هذا من ديننا دينِ النفس والخلُق، وإن ألف بعير يٍقنوها الرجل خالصة عليه ثابتةً له لا تزيد في منزلة دينه قدر نملةٍ ولا ما(67/11)
دونها. والحجران: الذهب والفضة - قد يكون في هذه الدنيا أضوآ من شمسها وقمرها، ولكنها في نور النفس المؤمنة كحصاتين يأخُذها الرجل من تحت قدميه، ويذهب يزعم لك انهما في قدر الشمس والقمر.
وهلاك الناس إنما يُقضي بمحاولتهم أن يكونوا أناسًا بعيونهم وذنوبهم؛ فهذا هو الإنسان المدبرُ عن الله وعن نفسه وعن جنسه؛ لا يكون أبوه أباً في عطفه، ولا أمه أما في محبتها ولا ابنه ابنا في بره ولا زوجته زوجة في وفائها؛ وإنما يكونون له مهالك كما روينا عن رسول الله عليه وسلم (يأتي على يد زوجته وأبويه وولده، يعيرونه بالفقر وبالفقر، ويكلف مالا يطيق؛ فيدخل المداخل التي يذهب فيها دينه فيهلك).
وصاح المؤذن، فقطع الشيخ مجلسه وقام إلى الصلاة، ثم خرج إلى داره فتلقته ابنته وعلى وجهها مثل نوره، قالت يا أبت، كنت اتلو الساعة قوله تعالى: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنه). فما حسنة الدنيا؟ قال: يا بنية هي التي تصلح أن تذكر مع حسنة الآخرة، وما أراها للرجل إلا الزوجة الصالحة، ولا للمرأة. . .
وطرق الباب فذهب الشيخ يفتح، فإذا الطارق (أبو وداعة) وكان يجالسه ويأخذ عنه ويلزم حلقته، ولكنه فقده أياماً. فدخل فجلس. فقال الشيخ: (أين كنت؟)
قال: (توفيت أهلي فاشتغلت بها)
قال الشيخ: (هلا أخبرتنا فشهدناها؟) ثم أخذ يفيض في الكلام عن الدنيا والآخرة. وشعر أبو وداعة أن القبر ما يزال في قلبه حتى في مجلس الشيخ، فأراد أن يقوم؛ فقال (سعيد):
(هل استحدثت امرأة غيرها؟)
قال: (يرحمك الله، أين نحن من الدنيا اليوم، ومن يزوجني وما املك إلا درهمين أو ثلاثة؟)
قال الشيخ: (أنا. . . . . . . . . . . . . .)
أنا، أنا، أنا. . دوي الجو بهذه الكلمة في إذن طالب العلم الفقير، فحسب كأن الملائكة تنشد نشيداً في تسبيح الله يطن لحنه: (أنا، أنا، أنا. . .)
وخرجت الكلمة من فم الشيخ، ومن السماء لهذا المسكين في وقت واحد، وكأنها كلمة زوجته إحدى الحور العين.
فلما أفاق من غشية إذنه. . . قال: (وتفعل؟)(67/12)
قال (سعيد): (نعم) وفسر (نعم) بأحسن تفسيرها وابلغه، فحمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجه على ثلاثة دراهم (خمسة عشر قرشاً). ثلاثة دراهم مهر الزوجة التي أرسل يخطبها الخليفة العظيم لولي عهده بثقلها ذهباً لو شاءت.
وغشي الفرح هذه المرة عيني الرجل وإذنيه، فإذا هو يسمع نشيد الملائكة يطن لحنه:
(أنا، أنا، أنا. . .)
ولم يشعر انه على الأرض، فقام يطير، وليس يدري من فرحه ما يصنع، وكأنه في يوم جاءه من غير هذه الدنيا يتعرف إليه بهذا الصوت الذي لا يزال يطن في إذنيه: (أنا، أنا، أنا)
وصار إلى منزله وجعل يفكر ممن يأخذ، ممن يستدين؟ فظهرت له الأرض خلاء من الإنسان، وليس فيها إلا الرجل الواحد الذي يضطرب صوته في إذنيه: (أنا، أنا، أنا. .)
وصلى المغرب وكان صائماً، ثم قام فأسرج، فإذا سراجه الخافت الضئيل يسطع لعينيه سطوع القمر، وكأن في نوره وجه عروس تقول له: (أنا، أنا، أنا. . .)
وقدم عشاءه ليفطر، وكان خبزاً وزيتاً، فإذا الباب يقرع؛ قال: من هذا؟ قال الطارق: سعيد!. .
سعيد؟ سعيد؟ من سعيد؟ أهو أبو عثمان؛ أبو علي؛ أبو الحسن. فكر الرجل في كل من اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيَّب؛ إلا الذي قال له: (أنا. . .)
لم يخالجه إن يكون هو الطارق، فان هذا الأمام لم يطرق باب أحد قط، ولم ير منذ أربعين سنة إلا بين داره والمسجد.
ثم خرج إليه، فإذا به سعيد بن المسيب، فلم تأخذه عينه حتى رجع القبر فهبط فجأة بظلامه وأمواته في قلب المسكين وظن أن الشيخ قد بدا له، فندم، فجاءه للطلاق قبل أن يشيع الخبر، ويتعذر إصلاح الغلطة! فقال: (يا أبا محمد، لو. . لو. . لو - لو أرسلت إليَّ لأتيتك!)
قال الشيخ: (لأنت أحق أن تؤتى)
فما صكت الكلمة سمع المسكين حتى أبلس الوجود في نظره، وغشى الدنيا صمت كصمت الموت، وأحس كأن القبر يتمدد في قلبه بعروق الأرض كلها! ثم فاء لنفسه ونقدر أن ليس(67/13)
محل شيخه إلا أن يأمر، وليس محله هو إلا أن يطيع، وإن من الرجولة إلا يكون معرة على الرجولة، ثم نكس وتنكس، وقال بذلة ومسكنة: (ما تأمرني؟)
تفتحت السماء مرة ثالثة، وقال الشيخ: (انك كنت رجلاً عزباً، فتزوجت فكرهت إنً تبيت الليلة وحدك؛ وهذه امرأتك!)
وانحرف شيئاً، فإذا العروس قائمة خلفه مستترة به، ودفعها إلى الباب وسلم وانصرف.
وانبعث الوجود فجأة، وطن لحن الملائكة في إذن أبي وداعة: (أنا، أنا، أنا. . .)
دخلت العروس الباب وسقطت من الحياء، فتركها الرجل مكانها، واستوثق من بابه، ثم خطا إلى القصعة التي فيها الخبز والزيت، فوضعها في ظل السراج كي لا تراها؛ واغمض السراج عينه ونشر الظل. .
ثم صعد إلى السطح ورمى الجيران بحصيات؛ ليعلموا إنً له شأناً اعتراه، وإنً قد وجب حق الجار على الجار (وكانت هذه الحصيات يومئذ كأجراس التليفون اليوم) فجاءوه على سطوحهم وقلوا: ما شأنك؟.
قال: (ويحكمّ! زوجني سعيد بن المسيب ابنته اليوم، وقد جاء بها الليلة على غفلة.)
قالوا: وسعيد زوَّجك! أهو سعيد الذي زوَّجك! أزوَّجك سعيد؟.)
قال: (نعم)
قالوا: (وهي في الدار! أتقول إنها في الدار؟.)
قال: (نعم)
فانثال النساء عليه من هنا وههنا حتى امتلأت بهن الدار.
وغشيت الرجل غشية أخرى فحسب داره تتيه على قصر عبد الملك ابن مروان، وكأنما يسمعها تقول: (أنا، أنا، أنا. . . .)
قال أبو وداعة: (ثم دخلت بها، فإذا هي من اجمل الناس وأحفظهم لكتاب الله تعالى، وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرفهم بحق الزوج.)
قال: (ومكثت شهراً لا يأتيني سعيد ولا آتيه، فلما كان بعد الشهر أتيته وهو في حلقته فسلمت، فرد عليّ السلام، ولم يكلمني حتى تفرق الناس من المجلس وخلا وجهه، فنظر إليّ وقال:(67/14)
(ما حال ذلك الإنسان. . . . . . . . . . . .؟)
أما ذلك (الإنسان) فلم يعرف من الفرق بين قصر ولي العهد ابن أمير المؤمنين وبين حجرة أبي وداعة التي تسمى داراً. . .! إلا إن هناك مضاعفة الهم، وهنا مضاعفة الحب.
وما بين (هناك) إلى القبر مدة الحياة ستخفت الروح من نورٍ نورٍ، إلى إن تنطفئ في السماء من فضائلها.
وما بين (هنا) إلى القبر مدة الحياة - تسطع الروح بنور على نور، إلى أن تشتعل في السماء بفضائلها.
وما عند أمير المؤمنين لا يبقى، وما عند الله خير وابقى.
ولم يزل عبد الملك يحتال (لسعيد) ويرصد غوائله حتى وقعت به المحنة، فضربه عامله على المدينة خمسين سوطاً في يوم بارد، وصب عليه جرة ماء، وعرضه على السيف، وطاف به الأسواق عارياً في تبانٍ من الشعر، ومنع الناس أن يجالسوه أو يخاطبوه. وبهذه الوقاحة، وبهذه الرذيلة، وبهذه المخزاة قال عبد الملك بن مروان: (أنا. . . . . . . . . . . .؟)
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(67/15)
الترجمة في الأدب العربي وتراجم عظمائنا المحدثين
للأستاذ محمد عبد الله عنان
في العام الماضي فكر جماعة من الأساتذة والكتاب في إصدار مجموعة من التراجم القوية المحققة لعظماء مصر في العصر الحديث. وكانت الغاية من إصدار مثل هذه المجموعة علمية قومية قبل كل شئ؛ فليس في تراثنا التاريخي المعاصر مثل هذه السلسلة؛ وما زالت سير الكثيرين من عظمائنا مجهولة مغمورة، وما زال شبابنا المتعلم يتوق إلى استعراض هذه السير في بحوث محققة ممتعة تغري بالقراءة والدرس فلا يجدها. وسير العظماء زينة التاريخ القومي، والتاريخ القومي غذاء للشعور الوطني.
ولكن هذا المشروع العلمي الجليل لم يجز مع الأسف طور التفكير، وطوي كما طويت مشاريع مثله من قبل.
إن تراجم العظماء تشغل في آداب الأمم العظيمة وفي تاريخها أسمى مكانة، فأقطاب الأمراء والساسة والقادة والعلماء والشعراء والأدباء والفنانين، هؤلاء جميعاً يأخذون مكانهم في التاريخ القومي العام، ثم يأخذون مكانهم في تراجم خاصة، تذهب أحياناً إلى البحوث النقدية المستفيضة التي تشغل مجلدات بأسرها وتخصص للمراجعة العلمية والدراسة العليا؛ وتقتصر أحياناً على صور موجزة، ولكن قوية ممتعة تخصص لدرس الشباب وللقراءة العامة. ويخص هؤلاء العظماء بالدرس في كل عصر ووقت، ويحظون بمختلف البحوث والدراسات، وقد تصدر عن أحدهم عشرات التراجم والسير، ولكل مقامها العلمي والأدبي. أما نحن فكما أن النقص يعتور تاريخنا القومي، وكما أن هذا التاريخ لم يكتب بعد بما يجب من تحقيق وإفاضة، فكذلك يعتور النقص لدينا هذه الناحية الخاصة، أعنى ناحية التراجم والسير المفردة؛ وقلما حظيت آدابنا التاريخية بترجمة محققة وافية لعظيم من عظمائنا المحدثين.
على أن هذه الناحية الخاصة من الباحث التاريخية تشغل في الأدب العربي القديم مكانة هامة. وقد بدأت العناية بها في عصر مبكر جداً. فمنذ القرن الثاني للهجرة يعني الرواة والمؤرخون المسلمون بالسير والتراجم المفردة.
وقد لبثت تراجم العظماء الخاصة حتى أوائل القرن الثالث عشر الهجري تملأ فراغاً كبيراً(67/16)
في الآداب التاريخية العربية؛ ولم تقف الترجمة الخاصة عند نوع معين أو طائفة معينة من العظماء، بل تناولت رجال السيف والقلم، والملوك والوزراء، القادة والمفكرين، الكتاب والشعراء من كل ضرب؛ ومنها الموسوعات العامة، ومنها المجموعات الخاصة لطوائف معينة، ومنها التراجم والسير الفياضة، ومنها الموجزة. وفي الآداب العربية، ونهضت فيه الآداب الأخرى. غير أن هذا التراث الحافل يقف مع الأسف عند بدء تاريخنا الحديث، وينقطع سيره انقطاعاً تامًا، فلا نكاد نظفر في ذلك العصر بآثار قيمة في التراجم العامة أو الخاصة؛ وهذه ثغرة في آدابنا التاريخية لم نوفق إلى تداركها حتى اليوم.
ويجدر بنا أن نستعرض بهذه المناسبة طرفاً من تراث التراجم والسير الخاصة في الأدب العربي، لنذكر شبابنا المتعلم بما خص به هذا الفن في أدبنا من العناية والاهتمام، وما انتهى إليه من النضج والتقدم. وما نذكره هنا هو على سبيل التمثيل فقط، إذ يقتضي الإلمام بجميع آثار هذا الفن فصولا بأسرها. وفي مقدمة هذه الآثار السيرة النبوية الكريمة، وأشهرها وأنفسها سيرة أبن إسحاق التي دونت في منتصف القرن الثاني من الهجرة. وكتب ابن النديم كتاب الفهرست الشهير في أواخر القرن الرابع، وألم فيه بطائفة كبيرة من تراجم الفلاسفة والمفكرين والكتاب وآثارهم حتى عصره؛ ومنذ القرن الخامس يعظم ميدان هذا الفن ويتسع، وتوضع فيه الموسوعات الكبيرة؛ فنجد الخطيب البغدادي المتوفى في أواخر هذا القرن يستعرض في كتابه الضخم (تاريخ بغداد) مئات من تراجم العظماء والخاصة في جميع الدول الاسلامية؛ وفي القرن السابع وضع القاضي الأجل شمس الدين بن خلكان موسوعته العامة (وفيات الأعيان) في تراجم العظماء من كل ضرب. ولا ريب أن معجم ابن خلكان من أنفس آثار الترجمة العربية إن لم يكن أنفسها جميعاً. فهو موسوعة شاسعة تحتوي على أكثر من ثمانمائة ترجمة لأعلام الأمم الاسلامية، ومنها تراجم ضافية تملأ جميعاً بالتحقيق ودقة التصوير؛ وقد عني ابن خلكان عناية خاصة بتحقيق الأسماء والتواريخ، ونستطيع أن نقول إنه أول مؤرخ عربي جعل من الترجمة فناً حقيقياً، وما زال معجمه إلى عصرنا من أهم المراجع التاريخية وأنفسها. وبلغ فن الترجمة ذروة ازدهاره في القرنين الثامن والتاسع؛ وظهرت فيه الموسوعات الغنية الشاسعة، وخص كل عصر وكل قرن بأعيانه وأعلامه، ونستطيع أن نذكر من آثار هذا العصر، كتاب (أعيان العصر(67/17)
وأعوان النصر) لصلاح الدين الصفدي المتوفى سنة 764هـ، وهو موسوعة كبيرة في تراجم الأعلام المعاصرين لم يصلنا منها سوى بضع مجلدات. وللصفدي أيضاً كتاب (الوافي بالوفيات)، وهو موسوعة عامة في تراجم أعلام الأمم الإسلامية من سائر الطبقات والطوائف منذ الصحابة إلى عصره، ولم يصلنا منها أيضاً سوى بضعة مجلدات؛ وقد ذيل عليها مؤرخ مصر أبو المحاسن بن تغري بردي بكتاب الأعلام منذ منتصف القرن السابع إلى عصره أي إلى منتصف القرن التاسع. ولدينا منذ القرن الثامن سلسلة متصلة من معاجم الترجمة، يختص كل معجم منها بقرنه، وأولها كتاب (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) للحافظ بن حجر العسقلاني؛ ثم كتاب (الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع) لشمس الدين السخاوي، وهو من أنفس معاجم الترجمة وأقواها من الوجهة النقدية؛ ثم كتاب (الكواكب السائرة بمناقب أعيان المائة العاشرة) لنجم الدين الغزي العامري، ثم (خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر) للمحبي الحموي؛ ثم (سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر) لأبي الفضل المرادي. وقد ترجم لنا عبد الرحمن الجبرتي مؤرخ مصر في عهد الفتح الفرنسي طائفة كبيرة من أعيان مصر في القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر، وهو يصل بذلك سلسلة التراجم. وترجم لنا المغفور له العلامة علي باشا كثيراً من أعيان مصر في العصر الأخير في كتابه (الخطط التوفيقية)؛ ووضع المغفور له العلامة أحمد تيمور باشا عدة تراجم لبعض أعيان مصر في القرن الرابع عشر، وهي التي نشرتها (الرسالة) تباعاً في أعدادها الأخيرة.
هذا عن التراجم العامة. وأما عن الترجمة المفردة التي تقتصر على سيرة شخص معين، والترجمة الخاصة التي تعالج طائفة خاصة من الأعلام، فلدينا منها الكثير أيضاً، ونستطيع أن نمثل للترجمة المفردة بسيرة عمر بن عبد العزيز لمحمد بن عبد الحكم المتوفى في أوائل القرن الثالث؛ وسيرة المعز لدين الله لابن زولاق المصري المتوفى في أواخر القرن الرابع، وقد ضاعت ولم يصلنا منها سوى شذور قليلة؛ وسيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي من علماء القرن السادس، وتاريخ تيمورلنك المسمى (بعجائب المقدور) لابن عربشاه الدمشقي من علماء القرن الثامن؛ وترجمة المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون بقلمه؛ وترجمة الحافظ ابن حجر بقلم تلميذه السخاوي، وترجمة ابن الخطيب للمقرى، وغيرها.(67/18)
ولدينا الكثير أيضاً من تراجم الطوائف الخاصة كالفلاسفة والأدباء والقضاء والنحاة وغيرهم، مثل أخبار الحكماء للقفطي، وطبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، ويتيمة الدهر للثعالبي، ومعجم الأدباء لياقوت، وقضاة مصر لابن حجر، وكثير غيرها؛ هذا عدا كتب الطبقات الخاصة بتراجم فقهاء المذاهب المختلفة وهي كثيرة لا يتسع المقام لذكرها.
والخلاصة أن الأدب العربي غني بتراثه في فن الترجمة، وقلما تنافسه في ذلك آداب أخرى، إذا استثنينا العصر الحديث. ولكن هذا التراث الحافل يقف مع السف عند بدء تاريخنا الحديث؛ ولو لم يوهب لمصر مؤرخها البارع عبد الرحمن الجبرتي في القرن الثاني عشر (القرن الثامن عشر الميلادي) ويتحفنا بموسوعته النفيسة (عجائب التراجم والآثار) لضاعت إلى الأبد حقائق ومعالم كثيرة عن تاريخ مصر في هذا العصر؛ ولطمست سير الكثيرين من أعلامه. نعم إن الترجمة العربية لم تعرف الأسلوب النقدي، ومنهج التحقيق العلمي، لأنها ازدهرت في عصر كان التاريخ فيه أقرب إلى الرواية؛ ولكنها مع ذلك تتمتع فضلاً عن غزير مادتها بكثير من التحقيق التاريخي، وفي وسع المؤرخ الحديث أن يستخرج منها نفائس مادته؛ وقد كان الجبرتي خاتمة هذا الثبت الحافل من مؤرخين عنوا بتدوين الحوادث والتراجم المعاصرة، ولم يقع لتراثنا مثل هذا الأثر النفيس منذ الجبرتي أي منذ أوائل القرن التاسع عشر. وقد تقدمت المباحث لتاريخية في العصر الأخير تقدماً واضحاً، وبدئ بكتابة تاريخ مصر الحديث؛ ولكنا حتى في هذه الناحية العامة ما زلنا في مستهل جهودنا؛ ومما يبعث على أشد الأسف واللم أن نجد عناية الكتاب الغربيين بكتابة تاريخنا الحديث سواءً من الوجهة العامة أو من بعض الوجوه الخاصة أوفر من عنايتنا، وان نجد في مختلف اللغات الأوربية من الآثار المتعلقة بتاريخنا أكثر مما نجده في لغتنا العربية.
أما النواحي الخاصة في تاريخنا القومي، وأما سير عظمائنا، وهي التي أوحت إلينا بكتابة هذا الفصل. فما زالت مغمورة منسية. وأي نسيان، بل وأي نكران أشد من أن يبقى ذلك الثبت الحافل من عظمائنا ومفكرينا في لعصر الحديث دون ذكر محقق منظم؟ أليس مما يشين نهضتنا العلمية والأدبية أن يحرم رجال مثل عرابي والبارودي وعلي مبارك ومحمد عبده ومصطفى كامل وسعد زغلول وغيرهم من أبطال نهضتنا القومية من تراجم ضافية،(67/19)
نقدية محققة يقرأها الشباب والخلف؟ إن العظماء في الأمم المتمدينة يذكرون دائماً أثناء حياتهم بما يخلد ذكرهم بين مواطنيهم، فإذا توفي أحدهم صدرت غداة وفاته الفصول والكتب المحققة، هذا عدا ما يكون قد صدر منها أثناء حياته. أما نحن فننظر إلى التاريخ المعاصر نظرة الجمود والاستخفاف، ونكتفي يوم يذهب أحد عظمائنا بأن نشيعه إلى قبره ببعض المقالات والمراثي، ثم لا يلبث أن يغمره النسيان إلى جانب أسلافه! وهكذا يتكدس أمامنا ثبت عظمائنا فلا نتلقى من سيرهم وأعمالهم إلا صوراً مشوهة، بينما نعرف الكثير عن عظماء الأمم الأخرى، لأننا نجد في سيرهم كتباً محققة ممتعة تشوق قراءتها.
ولا ريب أن معظم التبعة في ذلك الإهمال المشين ترجع إلى نوع الثقافة التاريخية الذي نتلقاه في مدارسنا؛ فهذه الثقافة ما تزال قاصرة، بعيدة عن أن تذكى الشعور الوطني في نفوس النشء. والشعور بالكرامة القوية هو أول دافع للشباب والباحثين على استقصاء سير عظماء الوطن ثم على تحقيقها وتدوينها.
هذه كلمة أخرى نرسلها على صفحات (الرسالة) لننبه على إحدى مواطن الضعف في ثقافتنا وآدابنا التاريخية؛ ولنذكر بها إخواننا الذين فكروا منذ عام في وضع تراجم وافية محققة لعظماء مصر في العصر الحديث أن يعاودوا البحث في هذا المشروع العلمي الوطني الجليل، ولعلهم موفقون هذه المرة إلى تحقيقه وإخراجه؛ فيسدون بذلك ثغرة مشينة في تاريخنا القومي ويضعون سنة حسنة في آدابنا التاريخية، ويستحقون بذلك عرفان الجيل الحاضر والأجيال القادمة.
محمد عبد الله عنان المحامي(67/20)
بين فن التاريخ وفن الحرب
3 - خالد بن الوليد في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي
رئيس أركان حرب الجيش العراقي
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)
خالد بن الوليد
5 - أسلوب القتال:
من الخطأ القول بأن ليس للعرب أسلوب في القتال قبل الإسلام. فان من تتبع أخبارهم في الجاهلية اتضح له أن للقوم مبادئ يسيرون عليها في قتالهم، وكانت هذه المبادئ ملائمة لاستعمال سلاحهم ومنطبقة على البيئة التي يقاتلون فيها.
أجل، إن العرب لم تقاتل بالجموع التي يقاتل بها الفرس أو الروم الذين كانت جيوشهم كبيرة قد تربو على المائة ألف في بعض المعارك. وجيش بهذه القوة يحتاج إلى تنظيم لسوقه قبل المعركة وتعبئته فيها. فجيش بهذه القوة يحتاج إلى تنظيم لسوقه قبل المعركة وتعبئته فيها. فجيش أولئك الأعاجم كان ينقسم إلى راجلين وفرسان والى طاعنين وضاربين ورماة. وكانت الفيلة عند الفرس والعجلات الحربية عند الروم، تقوم مقام الأسلحة الثقيلة كالدبابات والمدافع الضخمة في يومنا هذا.
فنظام القتال عند اليونان كان مستنداً إلى (الفيلق) (الفلانكس) وهو وحدة تعبوية يبلغ متوسط قوتها (4000) مقاتل، يصطف الجنود فيها على ستة عشر صفاً طول كل صف (256) مقاتلاً. والجنود في (الفيلق) (الفلانكس) من المشاة مسلحون بالرمح والسيف والحربة والمغفر والدرع والترس. ويتكون من (الفيلق) القلب ويقف في الخط الثاني الذي يسبقه الخط الأول المؤلف من الرماة ويليه الخط الثالث. وتقف الخيالة في الميمة والميسرة لحماية الجانب.
ويتألف الجيش عادة من أربعة فيالق (فلانكسات) متى تيسرت القوة فيه. فتقف الفيالق(67/21)
(فلانكسات) متى تيسرت القوة فيه. فتقف (الفيالق) جنباً إلى جنب وبينها فاصلات صغيرة تتراوح بين عشرين وأربعين خطوة.
وكان هذا النظام لا يصلح للقتال إلا في الأرض السهلة المنبسطة، والمقدرة على الحركة فيه قليلة، ولا يستطيع تغيير الجبهة متى اقتضى الموقف ذلك، فضلاً عن أنه معرض للخسارة إذا أصيب برمي السهام.
أما نظام القتال عند الرومان فكان مستنداً إلى (اللجيون)، وهذا ينقسم إلى الكراديس ومجموعها عادة عشرة. وكانت الكراديس سابقاً تُعبأ على خطين كل خمسة منها في نسق وبينها فاصلة جهة كردوس، على أن تقف كراديس الخط الثاني وراء فاصلات الخط الأول.
ثم تطور هذا النظام في عهد يوليوس قيصر، فكان اللجيون يقف على ثلاثة خطوط: في الخط الأول أربعة كراديس، وفي كل من الخطين الباقين ثلاثة، وتبلغ قوة كل كردوس ألف مقاتل وتؤلف الكراديس القلب، ويقف أمامه الرماة الذين يرمون العدو بسهامهم أو بحرابهم قبل الاصطدام ثم ينسجون إلى المجنبات أما الخيانة فتحمى المجنبتين.
وكان نظام الكراديس يفوق نظام (الفيلق) (الفلانكس) في المقدرة على القتال والحركة والسير بسهولة، وكان في استطاعة الكراديس أن ينجد بعضها بعضاً.
والجانب في اللجيون قوى بخلاف جانب (الفيلق) (الفلانكس)، لأن كراديس الجانب متى غيرت ناصيتها استطاعت آن تقابل العدو الملتف حولها.
وسار الروم أو البيزنطيون في قتالهم على نظام الكراديس فأخبار الفتوح الأولى تدل على انهم كانوا يبعثون قواتهم كراديس ويحمون مجنبتهم باليمنة والميسرة. وكانت قوة الجيش تختلف باختلاف عدد اللجيونات وتقف على خط واحد، فأما آن تؤلف القلب تؤلف الخيالة وحدها الميمنة، وأما آن تؤلف القلب والميسرة والميمنة وتكون الخيالة على الجانبين.
وإذا كان عدد اللجيونات كثيرا يحتوي القلب عادة على أكثرها. وقد زادت قوة الخيالة على ما كانت عليه في زمن الرومان، لان الأقوام المتوحشة التي هاجرت من أسيا ودخلت أوربا باغتت رومية بجيوشها الخيالة الكبيرة، وجهزت الجنود لجيوش رومية زادت عدد الخيالة فيها واصبح للفارس شان خطير في القتال.(67/22)
ولا يختلف نظام القتال عند الفرس عن نظام القتال عند الروم إلا اختلافا يسيراً والجيش الفارسي ما يظهر كان منقسما إلى كتائب - والكتيبة تقتل الكردوس وتبلغ قوتها ألف مقاتل - وكان خط القتال فيه ينقسم إلى القلب والميمنة والميسرة، وكانت كتائب الخيالة تحمى الجانبين على ما هو شائع. وكانت الفيلة تتقدم في جبهة القتال وعلى ظهورها الجنود المسلحون بالحراب والقسى. والذي يلفت النظر انه كان للرماة شان خطير في الجيش الفارسي. ولعل المشاة كانوا جميعا مجهزين بالقسى وجد ماهرين في الرماية. ومن الأساليب التي كان الجيش الفارسي. يلجا إليها في حرج الموقف ربط الرجال بعضهم ببعض بالسلاسل لكي يثبتوا في محلهم مهما كلفهم الآمر.
فإزاء هذه الأنظمة الشائعة بين الدول الكبرى المجاورة لبلاد العرب، كان طبيعيا ان يسير الحرب على أسلوب معين في قتالهم ولم ينزو العرب في عقر دارهم في السنوات التي سبقت الفتوح فالرواة يروون هجوم الحبشة على بلاد اليمن، وتوغلهم فيها بعد انتصارهم على الجيش اليماني، ويشيرون إلى التجاء تابعة اليمن إلى أكاسرة فارس وطلب النجدة منهم. فخاض الجيش الفارسي عباب البحر على أسطوله، وأرست سفنه على شواطئ اليمن، وحارب الأحباش وانتصر عليهم وطرهم من اليمن.
والقصاصون ينقلون أخبار المناذرة والغساسنة في حروبهم ومساعدتهم لكسرى أو لقيصر في الحرب الطاحنة التي دارت رحاها بين الفرس والروم. وقد ورد في القرآن الكريم نتف من أخبارها أما مؤرخو الرومان فيد كرون انتصارا ملك تدمر إذنيه على الرومان واعتزاز زوجه
الزباء (زنوبيا) بالعاصمة تدمر.
فهذا الاحتكاك المستمر بين العرب والأمم المجاورة لهم والاشتراك في القتال مع الجيوش الأجنبية منجدين أو مستنجدين، والغارات المتوالية على أرض السواد في العراق أو ارض الشام كل أولئك حمل العرب على اقتباس بعض الأساليب الحربية الشائعة عند
الفرس والروم، لذلك لا يأخذنا العجب إذا سمعنا ان للمناذرة كتيبتين، أي كردوسين: الدوسر والشهباء، وان بكر بن وائل قاتلت الفرس في يوم ذي قار على تعبئه
ومن المبادئ الحربية التي كان العرب يتمسكون بها في قتالهم مبدأ المباغتة، والمقدرة على(67/23)
الحركة، والأمنية فالمباغتة من أخطر المبادئ التي كانوا يتوخون منها الفوز في جميع خططهم لذلك تدل أخبار أيامهم ووقائعهم في الردة على عنايتهم الزائدة بالاستطلاع فكانت العيون تسبق حركاتهم، فأما أن يباغتوا عدوهم بأخذه على غرة، أو أن يكمنوا له فيفاجئوه.
أما مبدأ المقدرة على الحركة فظاهر من سيرهم على ظهور خيلهم أو جمالهم خفقاً مسافات بعيدة بسرعة فائقة وأما عنايتهم بمبدأ الأمنية فمعلوم من إيفادهم الأرصاد والعيون، ووضع الخيالة في المجنبة في القتال، ومراقبة جاني العدو مراقبة مستمرة للهجوم عليه عند سنوح الفرصة.
ومن المحتمل إننا لا نرى في كتب التاريخ مثالا للحركة السريعة التي قام بها خالد بن الوليد حين أمره عمر بنجدة جيش سورية وهو يحارب في العراق فقطع ابن الوليد البادية بجيش يبلغ عدده آلاف مقاتل على ظهر الخيل والجمال، وابتدع وسيلة لضمان الماء اللازم لخيله، وذلك عمل يدل على نبوغ نادرة، وسنشير إلى ذلك عند البحث في فتح العراق.
وفي غزوة أحد كانت قوة المسلمين ألف رجل، تختلف منها ثلاثمائة رجل. وكانت قوة قريش ثلاثة آلاف رجل، فنظر الرسول في كثرة قوة العدو، فأخلى المدينة وأنسحب إلى شمالها جاعلاً جبل أحد خلفه، للاستفادة من مناعة ومن وضعه المشرف على ما حوله ولما لم يكن الجانب الأيسر مسنوداً بقوة، وضع فيه مفرزة رماة بقوة خمسين رجلا لحمايته. أما جيش قريش فرتب صفوفه للهجوم بعد ان وضع قوة الخيالة على مجنبته، وكانت تبلغ مائتي رجل، وقدم الرماة في الخط الأول.
وكان خالد على رأس خيالة قريش في الجانب الأول يراقب رماة المسلمين ويشاغلهم ويتحين الفرص للهجوم عليهم، لكي يقطع خط الرجعة على المسلمين. وفعلا استطاع ذلك لما سنحت الفرصة، فقلب فوز المسلمين إلى انكسار مروع. فهذا كله يثبت لنا إن للعرب أسلوبا في القتال، وان مبدأ الأمنية كنا من اخطر المبادئ التي ساروا عليها. وفي يوم ذي قار نرى بوضوح النظام الذي سار عليه العرب في قتالهم الفرس، وهو يؤيد ما ذهبنا إليه.
ولا يخفى ان معركة ذي قار وقعت بين غزوة بدر وغزوة أحد، فانتقم فيها العرب من الفرس، ونالوا ظفراً حاسما شجعهم على الاستهانة بقوة فارس، وساعدهم على غزو بلاد السواد غزواً متواصلاً، حتى آل الأمر إلى فتحهم تخوم العراق.(67/24)
ويروى لنا صاحب الأغاني أخبار ذلك اليوم بالتفصيل والواضح من ذلك ان العرب عبأوا صفوفاً وقسموها إلى كتائب، وجعلوا الطعن في الوراء ليحموه بقلبهم، وكان بمنزلة القاعدة التي يتمنون منها الجيوش في يومنا هذا وتوضع الخطط الحربية لحمايتها.
وأقاموا قوة في الميمنة من بني عجل، وقوة في الميسرة من بني شيبان. أما القلي فالفته قبائل بني بكر بن وائل. ومن الأساليب لبتي ساروا عليها انهم لم يقدموا الصفوف للقتال دفعة واحدة لكي لا تصيبها سهام الفرس فتفتك بها وكان الفرس على ما نعلم ماهرين في الرماية والحقيقة إن تقديم الصفوف بأجمعها في وقت واحد يجعلها عرضة للسهام دفعة واحدة بينما البدء بالحركة بكتيبة واحدة يجعل الصفوف الأخرى في مأمن من ضررها. وهذا من الأساليب التي كانت تراعى في هجوم الخيالة على المشاة، إذ تبدأ الحملة بخط منتشر ضعيف من الخيالة وتليها الخطوط المنظمة.
فالعرب على ما يظهر جلياً دخلت ميدان القتال بنظام لم يكن اقل شأنا من نظام الفرس. وكان منأمره أن هزومهم شر هزيمة، وطاردوهم إلى أرض السواد بعد أن غنموا أحمالهم وأثقالهم.
ولعل الطريقة التي سار عليها الرسول (ص) في غزوة بدر تدل على فكرة التعبئة عند العرب. كانت قوة المسلمين تبلغ ثلاثمائة مقاتل. بينهم خيال أو خيالان فقط، بينما كانت قوة قريش تربو على الألف وفيها مائة خيال.
وكان القصد من هذه الغزوة مباغتة قافلة قريش عند عودتها من الشام إلى مكة. ولما وصلت قوة المسلمين إلى مياه بدر علمت من الأسرى إن قريشاً أنجدت القافلة بقوة كبيرة كانت ثلاثة أضعاف قوة المسلمين. وكان لابد من الاصطدام، لأن انسحاب المسلمين دون القيام بعمل مما يؤثر في سطوة الإسلام ويشجع المنافقين على الشغب.
لذلك قرر الرسول إن يقاتل قريشاً بقوته الضعيفة على ان يزيد مناعتها بالتدابير التعبوية الموافقة. فاختار موضعاً يهيمن على معسكر قريش وقسم قوته إلى ثلاثة اقسام، وجعل لكل قسم قائداً، ورتب الأقسام بعضها بجانب بعض، وعبأها صفوفا كالبنيان المرصوص، وعرض الصفوف بنفسه فقدم المتأخر من الجنود وأخر المتقدم فأصبحت الصفوف متراصة. ومنع المسلمين من رمى السهام ومن التفاخر، وطلب منهم أن لا يتقدموا من(67/25)
ملهم، ولا يرموا إلا بعد أن تدنوا قريش منهم على مسافة قريبة. وكان يقصد بذلك أن تصيب السهام قوة قريش الفائقة فلا تتبعثر. وبفضل هذه الترتيبات انتصر المسلمون على قريش مع قلة عددهم وضآلة سلاحهم ولاشك في أن القتال بالكر والفر كان شائعا عند العرب ولعلهم كانوا يستعملونه كثيراً في غزواتهم لأخذ الثأر أو لجر مغنم. وكان يقع بين متقاتلين يبلغ عددهم العشرات ولا يجاوز المئات ولما كانوا يقاتلون بالجوع في أيامهم الشهيرة أو في مقاتلتهم الفرس أو الروم كانوا بلا ريب يعبئون قواتهم صفوفاً.
(يتبع)
طه الهاشمي(67/26)
لبيك! لبيك!. . .
للأستاذ كرم ملحم كرم
رأى أديب دمشقي فاضل أن يسألني ماذا اعني بقولي: (إن للتوراة والإنجيل والقرآن من الرواية اكبر نصيب)، وعلى أن أوضح للأديب الكريم ماذا أعني وإن يكن فيما أوردت في مقال (ما هو أدب اليوم؟. . .) بيان مسهب جليّ.
فقد تحدثت في أدب اليوم عن الرواية، وقلت أنها ركن الأدب في كل عصر وكل آن القصد منها فلا يعدو تغذية النفس بالمواعظ، والحث على الفضيلة، ومحاربة الفساد، وقد تخرج روايات كثيرة عن هذا الهدف، فينصرف قائلها أو واضعها إلى امتلاك سامعيه أو قرائه بحوادث رائعة مدهشة ترمى إلى التفكهة وقضاء الوقت،
والوقوف على غرائب لا وجود لها في أحيان كثيرة في غير مخيلات ناسجيها.
والرواية نوعان: منها التاريخية ومنها الخيالية. بل هي محبط واسع تشمل الحقائق والأكاذيب، تشمل الملموس المحسوس والخيالي المجهول. فمن حق الراوي أن يتفنن في سرد حكايته على ما شاء. له أن يستعين بالتاريخ وأن يسخر بالتاريخ. له أن يقدس الحقيقة وأن يعرض عنها.
فهو حرّ مطلق في أن يقول ما شاء. وما يقول رواية تختلف قيمتها باختلاف قدر قائلها وقوة تركيبها ومن تتناول من الأفراد. والكتب المقدسة تحمل روايات عديدة. ففي كل فصل من فصولها رواية، ولنبدأ بالتوراة. ففي سفر التكوين رواية، وفي تمرد الملائكة وسقوطهم إلى الجحيم رواية، وفي عصيان آدم وحواء مشيئة الله وأكلهما الثمرة المحرمة رواية، وفي حكاية إبراهيم وهاجر رواية، وفي موقف عيسو من أبيه اسحق رواية، وفي حب يعقوب لابنة خله رواية، وفي حكاية يوسف وأخوته رواية، وكم من حكاية وحكاية في التوراة. فالكتاب يجمع بين دفتيه حكايات العهد القديم في معظمها.
ولننتقل إلى الإنجيل. فالمسيح نفسه صارح سامعيه بأنه يخاطبهم بالأمثال لكي يفهموا. فحدثهم عن الابن الشاطر، وعن تجار الوزانات الخمس، وعن العاملين في الَكرْم الذين أقبلوا في أوقات متعددة ونقدم رب الكرم أجراً واحداً، وعن العذارى اللواتي يحملن زيتاً في مصابيحهن.(67/27)
وهناك حكايات لا نحصى ضربها المسيح مثلاً لتلاميذه وسامعيه.
والقرآن ما خلا من هذه الحكايات. خصوصاً الحكايات الواردة في التوراة.
من حكاية سفر التكوين، إلى حكاية سقوط الملائكة، إلى حكاية زكريا، إلى حكاية مريم بنت عمران وربك نفسه قال في سورة يوسف: (آنا أَنزَلناه قراناً عربياً لعلكم تَعقلُون. نَحْنُ نقص َعليكَ أَحسْن الَقصَص ِبما أَوحْينا ِإليْكَ هذا القُرآنَ وإن كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الغافِلينْ إذ قال يُوسُف لأبيهِ يا أَبت إني رأيتُ أَحدَ عَشَر كوْكباً والشَّمسَ والقمرَ رأيتهُم لي ساجدينْ) فان قول ربك: (نحن نقص عليك أحسن القصص) دليل ناطق على أن القرآن لا يخلو من الرواية.
ولماذا يخلو من الرواية؟. أتكون الرواية نقيصة؟. أليس من شانها تهذيب النفس ورد الخاطئين إلى الله اتعاظا بما سبق ونال الضالين من عقاب وقصاص كما أتفق لعاد وثمود؟. .
فلا غضاضة إذا على الكتب المقدسة، والقرآن منها، إذا حوت الروايات؛ وفي الروايات عظات بليغة. ولا حاجة لقول الأديب الدمشقي عن التوراة والإنجيل: (صاحب البيت أدرى بما فيه!. . .)، فلا مجال في بحثنا للطوائف والنيل من الأديان.
فالحديث حديث أدب، والطائفية في واد ونحن في واد، وكل قصدنا مما قلنا أن الرواية تتغلغل في أي مكان، في الكتب المقدسة وفي سواها. كل قصدنا أن نقول إن الرواية انبثقت بانبثاق الكون، وأنها أدب كل يوم. كل قصدنا أن نحث أدباء العرب على الاشتغال بالفن الروائي، فان آثار هذا الفن تكاد تمحى في الأدب العربي.
أما أن نكون رمينا إلى الحط من منزلة الكتب المقدسة، فذلك مما لا نفكر فيه ولا يحق لنا أن نفكر فيه، فنحن نحترم هذه الكتب، وكيف لا نحترمها والملاين من البشر تدين بتعاليمها، وتؤمن كل الأيمان بآياتها؟. .
والكتب المقدسة تطبع العقول على الخير، وتثقف النفوس وتقودها في الطريق السوي، وإذا
كان بعضنا يرتاب في أصلها وطريقة وضعها ورموزها فليس له أن يعلن هذا الارتياب لئلا.
يؤثر في عقول العامة ويخرج بها عن إيمانها وتقواها، ويثير في قلوبها الشكوك. فلولا(67/28)
الدين لعم الإنسانية البلاء، وتفاقمت الشرور، وتعاظمت الويلات، وأنغمس الناس في الرذيلة، وعاشوا لأهوائهم، وباتوا كالأنعام!.
فليطمئن الأديب الدمشقي إذا بالاً، نحترمه ونرغب في أن نصونه ممن يتاجرون به لو استطعنا إلى صونه منهم سبيلاً وما حديثنا عن الرواية في كتب الدين غير حديث اقتضاء
الأدب لا الطعن على الدين. والأديب الفاضل رأى بعينه، مما أوضحنا له، أن للرواية من أي كتاب ديني أكبر نصيب. فليهدأ روعة القلق، ولتسكن حدته، ولينظر مرة أخرى في مقالنا.
(ما هو أدب اليوم؟. .) فيثبت له أننا وضعنا الكتب الدينية على مسافة بعيدة جداً من روايات (فولتير) واعترافات (جان جاك روسو) وغراميات (لأمارتين). . .
وعهدنا بالأديب الدمشقي تكفيه الإشارة!
بيروت
كرم ملحم كرم
صاحب مجلة (العاصفة)
-(67/29)
من ذكريات الصبى
الذهاب إلى المدرسة
للأديب حسين شوقي
حينما أعيد على نفسي الآن بعض ذكريات صباي، أدهش من الشخصية المؤلمة التي كانت لي في ذلك العهد.
كنت مضرباً أولاً عن الذهاب إلى المدرسة، برغم تقدمي في السن، وقد بلغت الثامنة. . وكان والدي يحبني كثيراً، فلا يعارضني في رغبتي، برغم إلحاح أفراد أسرتي جميعاً، وبخاصة مريبتي العجوز، وكانت امرأة شركسية شديدة المراس، تفشل معها حيلي وتوسلاتي. . كانت هذه المربية مغرمة بالمشاكسة، فإذا لم تجد من تشاكسه، عمدت إلى ضرب القطط والكلاب وكنا جميعاً نتحمل هذه المربية المتعبة، لأنها قديمة العهد عندتا إذ كانت مربية لوالدتي قبل أن تكون مربية لنا.
وكان لا يروق هذه المربية أن تثير موضوع إرسالي إلى المدرسة إلا أثناء الطعام، فتنغص علي فكان والدي رحمه الله يثور عليها، وينحى عليها باللوم القارس فتسكت، ولكن تعود فتتمتم شتائم - بالتركية - تتناول الجميع. . فكنت من جانبي أنتهز هذه الفرصة للثأر منها، إذ أعيد بالعربية في صوت عال هذه الشتائم. . فيهيج عليها الجمع ويضطرونها إلى مغادرة الحجرة مغضبة ثائرة. .
ولكن لما تكررت منى هذه (الدسائس الشرقية) أفتضحأمري، وأخذت مريبتي تقابل دسائس بالدس لي، فألحت إلحاحاً شديداً في إرسالي إلى المدرسة حتى تمكنت من ذلك، للتخلص مني غالباً، لا حباً في العلم.
أدخلت مدرسة الأباء اليسوعيين (بالظاهر) بالقسم التحضيري الذي تديره الراهبات. . وكان بين مريبتي وبيني نضال كل يوم في الصباح، إذ كنت أحاول إلا أذهب إلى المدرسة، متعللاً بالمرض. ز ولكن مريبتي الخبيثة كانت تفهم حيلتي، فتقول: حسين. . إذا كنت مريضاً فابق بالمنزل، ولكن عليك أن تأخذ مسهلاً، فكانت بقولها هذا تضعني بين أمرين أحلاهما مرّ. . وكنت في النهاية أفضل المسهل لأن المدرسة كانت سجناً؛ إذ أغادر المنزل الساعة السابعة صباحاً (وكنا وقتئذ نقيم في المطرية)، ولا أعود إلا في الساعة(67/30)
السابعة مساءً، أي أن النهار كان يولد ويموت وأنا بعيد عنه وعن ضوء شعاعه البهيج. .
حقاً، ما أتعس حياة التلميذ.
كان الخادم المكلف بمرافقتي من المدرسة إلى المنزل يتأخر أحياناً لدى الخروج، فكنت أجهش بالبكاء مخافة أن أقضي ليلى أيضاً بالمدرسة. .
وكان لى رفيق بالمدرسة، مصري كذلك، يبكى مثلي إذا تأخر عنه خادمه، فيا لنا وقتئذ من جوقة ندابة
أما داخل المدرسة فكان الراهبات الطيبات لا يألون جهداً في تحبيب الحياة المدرسية ألينا، فكن يغمروننا بالهدايا، من ورق ملون وحاوى وغيرهما. . ولكن برغم هذا كله كنت أطمح إلى استرداد حريتي المفقودة، فما أبعد الفرق بين حياة تقضى بين جدران أربعة في وسط الغرباء وبين حياتي الأولى التي كنت أقضيها في رياض المطرية الغناء، متنقلا بين الخضرة والزهور.
إن الحرية لا تقدر في كل وقت وفي كل زمن؟
كم كان يرهقني في ذلك الوقت حفظ أشعار لافوتين؟
فكنت أبغض ذلك الشاعر المسكين، كما كنت اسخر منه، لأنه يجعل الحيوانات تتكلم شعراً. . من رأيي إلا يدرس لافوتين وأمثاله في مثل هذه السن التي لا يمكن فيها تقدير هذه النفائس الأدبية. .
ولكن ذهابي إلى تلك المدرسة لم يدم طويلاً، فقد فصلت منها لكثرة انقطاعي عنها، فجيء لي حينئذ - بفضل تعضيد والدي - بمدرسين في المنزل فكان هذا بداية عهد سعيد، لم يطل مع الأسف، إذا نفينا بعده بأشهر قليلة إلى أسبانيا
وأذكر من ذلك العهد أيضاً حادثاً يدل على مقدار حقد الطفل وعلى روح الانتقام الكامنة فيه، وذلك خلاف ما ينسب إليه من طهر وبراءة.
اشترى والدي وقتئذ سيارة (توربيدو) ذات أربعة مقاعد، وكنت أطمح إلى أن أقودها مثل أخي وهو يكبرني بسنوات قليلة؛ ولكن السائق رفض لصغر سني، فرفعت الآمر كعادتي إلى والدي فلم ينصفني على خلاف عادته، بل أعطى الحق للسائق إشفاقاً منه على حياتي. . فأقسمت أن أثار من السائق، وإليك كيف أتيحت لي الفرصة أن أحقق هذه الأمنية:(67/31)
كانت هناك في المطرية في ذلك الوقت حانة تديرها أجنبية فاسدة، يحذروننا منها. فاتفق ذات يوم أنني كنت عائداً في المساء من المحطة المطرية إلى المنزل - مشياً على الأقدام - فاعترض في الطريق جنديان بريطانيان يستفهمان عن عنوان تلك الحانة، فأعطيتهما من فوري عنوان منزل السائق! فكان ما قدرته، إذ عندما جاء السائق - إلى منزلنا - في صباح اليوم التالي، كعادته، كانت عينه اليمنى زرقاء اللون، فقد تشاجر مع الجنديين البريطانيين ذيادًا عن عرضه!.
حسين شوقي(67/32)
من ذكريات لبنان
النفوس المغلقة
للأستاذ أديب عباسي
نهضت في الصباح الباكر ودعوت حمالاً يحمل الحقائب إلى المحطة. وكنت قبلها قد هممت مرتين في صباحين متوالين أن أسافر، ولكنني كنت كل مرة أصل المحطة متأخراً عشر دقائق أو نحوها. وكنت بالطبع ألقى اللوم على أصحاب الفندق الذين يتعمدون التلكوء عن تنبيهي صباحاً حتى يستنزفوا البقية من دراهمي! والحقيقة التي لا مراء فيها أن أصحاب الفندق لم يهملوا تنبيهي في الوقت الذي سألتهم أن يفهموني فيه، ولكنها الرغبة الكامنة في هذا البلد الجميل - لبنان - كانت كل مرة تتغلب على الإرادة الشاغرة فتغمض العينين بعد انفتاح، وتضرب على الإذنين بعد انتباه، وتهوم للشعور فيغفو بعد صحو وبقيت بعد حضور.
وكنت بعد أن ابلغ المحطة وأحملق في القطار الذاهب في حنق مكذوب أعود أرضى نفساً وأوفر بشراً مما لو كنت لحقت بهذا القطار - قطار لبنان العجيب - ليحملني بين أنفاسه الفاسدة في أنفاقه المتعددة، وسيره المتخلع البطيء ويلفظني بعد مسيرة سبع ساعات على حال شر من الحال الذي خرج عليه يونان بعد ضيافة ثلاثة أيام قضاها في بطن الحوت في غير رحب ولا سعة.
وسمعت، وآنا لا أزال في الطريق، مناديا ينادي؛ يا أفندي، تفضل! وأدركت إنني آنا المقصود بهذا النداء. فاستدرت ونظرت وإذا شاب حسن البزة واقف بجانب سيارته البديعة وعينه إلي ويديه تشير إلى السيارة. ودنوت أساله في تلكوء متكلف ماذا يريد أجابني متلطفا: أوتوموبيل جميل. وخير لك أن تسير فيه من أن تيسر في القطار.
وبعد أن أستنزف بلاغته في صرفي عن السفر في القطار الجميل قال أنني لا آخذ إلا مثل ما آخذه من كل راكب. وذكر مبلغاً هو ضعف ما يؤخذ عادة أجراً على مثل هذه المسافة. وعندها أدركت أني البس سدارة، ومن هنا سيأتيني الخطر في هذه الصفقة، وبادرت أصلح الموقف على قدر ما يمكنني الإصلاح وقلت: لتعلم أن من غير العراقيين من يحب أن يلبس السدارة (وإخواننا العراقيين - سامحهم الله - يبعثون، حيثما حلوا، موجة من الطمع(67/33)
في نفوس الساقة والباعة. على أن السدارة من ناحية أخرى (حماية) وصاحبها لا يزرأ إلا في نقوده. وفيما عدا ذلك فهو من نفوس القوم حيث تشاء الكرامة ويسموا الأباء والعزة). وبعد مساومة قصيرة رضى صاحبنا بنصف القيمة التي ذكرها.
ووقف السيرة أمام فندق جميل من فنادق (عاليه). وبعد نفخة أو نفختين من بوق السيارة أقبل راكبان: رجل وامرأة يجري أمامها طفلان صغيران.
والرجل ربعة القامة، تخطى العقد الرابع من عمره، جامد الملامح، محني الظهر كأنه يحمل عبئاً ثقيلا. أما الفتاة ففي ربيع الحياة، في قامة هيفاء يخيل إليك أنها نحيلة وما هي بنحيلة؛ ضحوك المبسم في وجه صبوح، ونظرات تشع ذكاء، يكسر منها قليلاً خفر طبيعي ووداعة ملازمة.
وانطلقت بنا السيارة في بطء ملحوظ. فكأن سائقها الذكي فهم من تلفتنا ونظراتنا الشائعة أننا نودع عزيزاً ونشيع غالياً، فلا تحمد السرعة في هذه الحال.
وأطلت زوجة المزامل من نافذة السيارة، وأخذت تجيل الطرف في كل ما يمكنها من اتجاه. والتفت إليها زوجها ونصحها متراضياً بأن تكف عن النظر والالتفات، وإلا أصابها الدوار، ثم إذا كان لابد من النظر إلى الأمام فقط.
والتفتت إليه الفتاة وقالت في وداعة ظاهرة: لست أرى أمامي إلا الزفت؛ فهل تريد لي أن أغادر لبنان وليس ما بقع عليه ناظري إلا الزفت؟ إنني أحب أن أشبع النظر من لبنان، وأشبع الخاطر من فتنته قبل آن أغادر. فبادرها بقوله: ماذا في لبنان مما يفتنك ويتصباك، ويجعلك تعرضين نفسك لخطر الدوار المؤكد؟
عندما خاطبته في شيء من التبرم وكثير من الأغراء في استثارته إلى مشاركتها في متعتها وقالت:
الله! إلا ترى هذه الجبال كيف تهاوت صخورها عند الحضيض، وكيف شخصت برؤوسها الممدة كأنها أعسال رصت صفاً وراء صف؟ ثم إلا ترى إلى هذه الأخاديد، والوهاد كيف تقطعها تقطيعاً بديعاً فتجعل منها مثل ما تجعل الشوارع من المدينة؟ وإليك هذه الأشجار، منها الجبار يقف ثابتاً لا تلويه ريح ولا يثنيه إعصار تستكين إلى ظلها هذه الشجيرات الصغيرات كإنها الحجلان تفيء إلى جنح الأم وتلوذ بحنوها وتدنو قدر ما تدنو من قلبها(67/34)
الخفاق. إلا ترى في ذلك جمال أولاً جلالاً؟؟ وأي جمال وأية فتنة في هذه الجبال الجرداء الشامخة تقوم إلى جانبها هذه التلال الوطيئة في هذا الحقل من شجر الأرز، والسنديان يكلل رؤوسها، وكأن كل ربوة من رباها دوحة جبارة واحدة أغصانها جذوع هذه الأشجار وأوراقها أغصانها!! ثم هذه الغيوم ومنها الذي أسف إلى قعر الوادي وأختلط بأهله اختلاط الألفة، وجاورهم جواراً زالت معه الكلفة؛ ومنها الذي أبى إلا تصعيداً ومنافسة لأعلى هذه الجبال فيختم على رأسه إكليلاً من ذهب صباح مساء، ومن فضة فيما بين ذلك؛ ومنها الذي أبى إمعاناً في التحليق والتصعيد فوق ذلك، فجعلت من التيارات القوية ما يجعله النسر من ريش الطائر، وقد شد النسر عليه مخالبه وألهبه سعار الجوع؟ ثم هذا البحر المسجى من ورائنا، جاث عند ركبتي لبنان يبللها بزبده ويغسلها بموجه، ويهمس في إذنه أن خل مكانك، وتعال أبوئك الصدر بدل أن تكتفي مني بالزبد، والزبد دائماً يذهب جفاء. وقديمًا أغراء همس البحر السحري فتحرك وتناول خير ما أنبت، وبعث به جواري من الارزملء ضلوعها رجولة وقلوب كبيرة. . . أو نسيت الباروك وماءه القر النمير؟ أنسيت ينأبيع لبنان المثلجة وكيف كنا نتجرع ماءها قطرة قطرة لما كانت تفعل الجرع الكبيرة المتوالية في الأسنان؟ ثم هل نسيت البارحة وكيف أمطرتنا السماء وابلاً أتضطرنا أن نتعطف المعاطف كأننا من العام في شهر آذار؟ أمثل هذا يجتمع ويتيسر لغير لبنان من بقاع الدنيا؟ أوه! وماذا أقول في هذه المدن المنثورة المنورة، وقد ألهبتها في الليل مشاعل الكهرباء، فغدت نجوماً تومض على الأرض، وتتحدى السماء فتحار أيهما أجمل وأروع: تلك التي تحتك، أم هذه التي فوقك؟ وهذه البيوت المبثوثة هنا وهناك، لا هي بالقرى المتراصة ولا هي بالصوامع، المنعزلة، ترف عليها وحولها أغصان السنديان والصنوبر رفيفاً كأن يداً سحرية ترّوح عليها؛ وأخيراً هذه الحمائم البيضاء في عرض البحر تمد أجنحتها للريح تتلقى منه المدد، فتسير باسم الله مجراها ومرساها؟ أنسيت كل هذا لتسألني ماذا في لبنان من جمال وماذا أرى من فتنة؟ إلا يفتنك بالله هذا التعانق الشديد بين السماء والماء والغبراء، وهذه الألفة الفاتنة بين هذه العناصر حتى لكان هذا ما خلق إلا ليكمل ذاك، ولا ذاك إلا ليكمل هذا؟؟!
وبعد أن غمرت فتاتنا فتاها بهذا السيل الجارف من الأسئلة صمتت ترقب وتتأمل. وفتح(67/35)
صاحبنا فاه. . أو تدري بماذا أجاب عن كل ذلك؟ قد تحسبه أضاف لوناً آخر إلى هذه اللوحة التي رسمها خيال فتاتنا بهذه السرعة الطائرة؟ لا! إن شيئاً من لم يحدث، إذ لم يزد صاحبنا أن قال:
هذه الجبال قد رأيت مثلها وأعلى منها في البرازيل. والأشجار - كذلك - في البرازيل لفةّ منداحة تكاد لا تدع لأحد منفذاً. والبحر رأيت أضعافاً سعته في طريق إلى أمريكا. والمطر كثيراً أيضاً في تلك البلاد. والباروك يعد (حنفية) ماء بالنسبة إلى الأمزون.
عندما كدت أنشق غيظاً، وهممت والله أن أتناول شيئاً واطرحه في وجه هذا الجلف الغليظ القلب، الذي لا يرى إلا أن يقيس الجمال بالأميال، ويكيله بالمكيال. وحاولت الفتاة محاولات يائسة أن تنبه من هذا الصخر مكامن الإحساس بالجمال، فكانت - كما يقولون - كالصاروخ في واد، وكالنافخ في رماد.
وأدركت أخيراً من الفتاة ومن فتاها: هي شعلة من الذكاء والثقافة العالية، والإحساس العميق بالحياة، والتفطن إلى همس الجمال بله صوته. أما هذا الذي يجالسها فهو من هؤلاء الذين ذهبوا إلى أمريكا ورجعوا خلواً من كل شيء، إلا المال، فتقدموا بهذا الطعم المغري، فاصطادوا خير الفتيات جمالا ًوعلماً وذكاءً.
وصاحبنا هذا - مع الأسف الشديد - ليس بالمثال النادر في الشرق ولا الشاذ، وإلا ما كنا نعني به ونغثى على القارئ الكريم بعرض صورته البغيضة، إنما هو يمثل لنا طغمة من الناس في شرقنا كثيرة كثرة مفزعة حقا، لا تتفتح نفوسهم على جمال ولا تنبسط لفتنة ولا تنشط لمتعة من متع الفن. يعيش الواحد من هؤلاء في بقعة ركم الجمال فيها ركماً، ولكنه يحيا - آن صح انه يحيا - ويموت، وكان هذا الجمال لا يعنيه بحال من الأحوال، وكأن هذه المفاتن لأناس من غير طينته، وفي عالم غير عالمه، وقد يصيب بعضهم من ينبه فيهم مراكز الجمال، والتفطن إلى مواطن الملاحة فتتبدل النفوس غير النفوس وتنقلب حياتهم انقلاباً شديداً، وتتفسح أمامهم متع الحياة إنفساحاً يمتد مداه على قدر ما تكشف لهم من مفاتن الطبيعة ومجالي الجمال، إلا أن السواد الأعظم منهم يظلون على جهودهم ونضوب أنفسهم مهما حاولت أن تثير فيهم مكامن الإحساس بالجمال، وتذوق الفن. وإذا رايتهم يستملحون أو يستظرفون فإنما يفعلونها من طرف لسان ومجاراة، خشية أن يرموا بتبلد الإحساس وعقم(67/36)
العاطفة، ولسنا نعزو هذا إلى نقص طبيعي في الإحساس، ونضوب معين العاطفة في الشرقيين؛ إنما نعزوه متأكدين إلى نقص في التربية وتقصير في التوجيه. فمدارسنا قلما تعنى بتنبيه مواطن الإحساس بالجمال الصغار، وإذا فعلت ففي صورة سطحية ميكانيكية، وهو تقصير يدفع الشرقيون؛ اليوم ثمنه غالياً - يدفعون ثمنه ضعفاً في الوطنية، وجموداً عن التضحية. وهل ترجو خيراً ممن لا يرى في جبال بلاده ولا في سهولها، ولا في حزونها ولا في أنهارها، ولا في ينأ بيعها ولا في أشجارها، ولا في أطيارها، ولا في سمائها، ولا في مائها سحراً ولا فتنة يربطانه بها بعرى من الشوق والهيام لا تنفصم ولا نهى؟؟ هذا الأوربي إجمالاً، والإنكليزى على التخصيص، أنظر كيف ينقل ذكرى جباله وأنهاره، وقراه ودساكره، ووديانه وينأ بيعه ومدنه إلى أمريكا وأفريقيا وأستراليا وغيرها من قارات العالم؛ لم يستطيعوا أن ينقلوا هذه الأشياء العزيزة عليهم بالذات فتقلوا ذكراها المحبة، فظلت تربطهم بها رابطة من الشوق والهيام يؤكدها التذكير ويديمها النوى.
ولنعد إلى فتاتنا. فقد شاقني حقاً أن أتابع هذه الدراما الصغيرة إلى النهاية، أبت الفتاة إلا تطلعاً وإسرافاً في التطلع، برغم نصائح زوجها الغالية، فكأن حديثها السابق قد أذكى شعورها وفتح لها أفقاً أوسع للتفطن والاستشراف، وقد آلمني حقا ًأمر هذه الفتاة. فهي تشعر شعوراً عميقاً بهذا الجمال الغزير وتأبى إلا أن تشرك غيرها معها في هذا الشعور، وهي نزعة طبيعية ملحوظة في جميع الناس. فليس أحد يشعر بجمال الفن سواء أكان طبيعياً أم صناعياً. إلا يرغب أن يرى من يساهمه فيه الإحساس ويشاطره المتعة، ولعل المتع الفن هي المتع الوحيدة التي لا يحس بها ارهف الإحساس واحده، إلا إذا كان من يشاركه. فكان كثرة النازرين أو السامعين لآيات الفن، المرايا تتقابل خجول الصورة الأشباح وتزيد الصور.
ويئس صاحبنا من صرف الفتاة عما تريد من النظر التلفت، فراح يتلهى بالصغيرين ويناغيهما، وانتهى به الحديث معهما والمناغاة إلى صيغته بعينها جعلها لازمة حيثه وهي: يا بابا صباح الخير يا بابا وراح يرددها ويدهورها في حنجرته طوال الطريق. وخيل إلى أن الرجل لن يكف عن ترديدها ولو أمسى المساء، وضاقت به الزوجة الوديعة ذرعاً (وللصبر حد) وطلبت إليه متوسلة ان يكف عن الحديث، أو يغير هذه العبارة التي يوشك(67/37)
أن يتبرم بها الصغيرين! وصمت قليلاً. فحيل إلينا إننا قد ارتحنا بهذا القليل من الجرأة من هذه القدر المقرقرة. غير انه ما عتم حتى عاد وكان عشرين ضفدعاً تنق في حلقه! ولعله خشى إذ صمت أن نحسبه ذل وخنس. فضاعف الصخب وزاد الجلب. وقلت: ليتك يا فتاتي لم تحاولي إسكاته، فقد زدته ضرامًا على ضرماً. على انه لم يمض حتى فاجأه أحد الصغيرين بقي شديد ملا صدره واحد يسيل إلى اسفل، وهنا عبس الأب وانقطع عن المناغاة، واضطر أن يشتغل بإماطة ما علق بصدره من هذا السائل المبارك، وقلت في نفسي: عوفيت معدة يا صغيري؛ فقد أبرأت سقمنا، وجازيته جزاء وفاقا، وليت معدتك أوسع قليلاً فقد نحتاج إليها مرة أخرى.
وبلغت السيارة دمشق. وغادرتها وفي القلب ما فيه من غصة وألم بهذا الدهر الأهوج الذي يجمع بين الإنسان وشبه الإنسان.
أديب عباسي(67/38)
في الأدب الدرامي
10 - الرواية المسرحية في التاريخ والفن
بقلم احمد حسن الزيات
الملهاة في خلال القرون
أول ما نال الملهاة الإغريقية من العناية كان في صقلية. وكانت يومئذ مقصورة على تصوير العادات العامة دون تلميح إلى السياسة. وكان عميدها في هذا القطر أبيكارم (450ق م) فأما انتقلت إلى أثينا تقلب بها الزمن. فمر بها على أدوار ثلاثة: دور الملهاة القديمة، دور الملهاة الوسطى، ودور الملهاة الحديثة. فالقديمة تمتاز بكثرة النقد الشخصي الصريح، فتسمى الأشخاص وتعين الحوادث. وكانت تسمد موضوعاتها من الواقع اليومية. وتتمتع بالحرية المطلقة في مهاجمة العظماء. والوسطى ظلت كتلك تهاجم أشخاصاً معينين، ولكنها عفت عن ذكر أسمائهم، وأخذت تمثل أنماطاً من الناس وصوراً من الأخلاق، وأما الحديثة فلم تطلب الجاذبية والتشويق في الحوادث اليومية والأهاجي الشخصية، وإنما طلبتهما في تعقيد العمل الروائي، وتصوير الأخلاق العامة. واشهر من عالج الملهاة القديمة أرسطفان (450 - 387 ق. م) وقد كان معروفاً بصفاء الأسلوب، ومرارة الهزل، وشدة الوطنية. غير ان مناظره كانت خليعة فاحشة. أما الملهاة الوسطى والحديثة فلم يؤثر منهما غير قطع منثورة مشتتة، حتى سنة 1907م، فعثروا على ملهاة تكاد تكون كاملة، وهي ملهاة التحكيم لميناندر.
وكان للملهاة عند الرومان من العناية والحظ ما لم يكن للمأساة، فقد نبغ فيها كثير منهم أشهرهم (بلوت 227 - 183ق. م) وقد سار على نهج أبيكارم، إلا أنه عرف بسرعة العمل الروائي، ونشاط الحوار، دون تصوير للمادة، ولا تحقيق للخلق. ثم (تيرانس) (192 - 159ق. م)، وقد قلد منيناندر، في هزله بالحرارة والأناقة والأدب وتنويع الأخلاق والصدق في وصفها.
ثم هجرت الملهاة في القرون الوسطى، وخلفتها في الشهرة والذيوع الرواية الرمزية الخلقية والملهاة العامية والأحموقة فلم يدب فيها دبيب الحياة إلا في القرن السادس عشر. فعادت(67/39)
إلى الظهور في ثوب الملاهي الإغريقية والرومانية، غير أنها كانت مصبوغة باللون الحديث، مطبوعة بالطابع الفرنسي. ومازالت الملهاة تتردد بين الكساد والنفوق، وتترجح بين الهبوط والصعود، حتى جاءها موليير (1622 - 1673) فأقرها في نصابها، وشرع السبيل إلى كتابتها، وطبعها بطابع الملاحظة القومية والحرارة القلبية والذوق السليم. وقد عالج موليير أنواع الملهاة المختلفة بالنظم والنثر: فلهو غير الملاهي المجونية والاشكالية، ملاهي اجتماعية: كالمتحذلقات السخيفات، والنساء العوالم، والحضري الشريف؛ وملاه خلقية: كترتوف، دون جوان، والمتوحش، والبخيل.
كان موليير يتناول العيب أو الحمق وهو في عنفوانه، فيصور منه مناظر طبيعية صادقة، ثم ينتهي من هذا التصوير ببيان عواقبه الوبيلة على صاحبه وعلى المتصلين به فتصوير العيوب هو أكثر ما في ملاهي موليير. أما التعقيد الروائي فهو ضعيف، والحل في جملته يعوزه الإمكان والمنطق، إذ ليس نتيجة طبيعية لحوادث العمل. ثم ذهب موليير وأعقبه رنيار (1655 - 1709) فكتب طائفة من الملاهي الإشكالية كالمقامر والذاهل، ولكن أخلاق أشخاصه ليست محددة الرسوم، وإنما ملئها بالنكات المضحكة، حتى قال فيه (جوبير) (رنيار يهزل هزل الخدم، وموليير يمزح مزاح السادة) ومر القرن السابع عشر، ولم يشتهر في الملهاة غير هذين الكاتبين. ولما جاء القرن الثامن عشر ظهرت فيه طائفة من الملاهي الجيدة. كملهاة تركاريه أو المالي، الكاتب لساج (1698 - 1747) فضح بها حديثي النعمة من المثرين، وحلاق اشبيلية، وزواج الفيجارو لبومارئيه (1732 - 1799) وهما ملهاتان قويتان إلا أنهما لم تراعيا حقوق الأسرة. ثم المسارات الباطلة، والوصية، والتجربة، لمارسيفو (1688 - 1763) وهي ملاهي عني فيها كاتبها بتفصيل الدلال، وتحليل الحب، دون العناية بتصوير الأخلاق ووصف العادات. ثم أشتهرالقرن التاسع عشر بنخبه من الملاهي القيمة لطائفة من نوابغ الكتاب. كبيار (1769 - 1828)، وسكريب (1791 - 1861)، ولأبيش (1815 - 1888)، واوجيه (1820 - 1889)، وأسكندر دوماس الصغير (1824 - 1896)، وفيكتوريان ساردو (1831 - 1908). وقد كان النوع الغالب على هؤلاء الكتاب هو الملهاة الاجتماعية مشوبة بالمذهب الطبيعي، فقد أخذ أوجييه ودوماس يقللان فيها من تعقيد أسكريب وجاء هنري بيك (1837 - 1899)(67/40)
مؤلف (الغربان) فمحا التعقيد وتوخى بساطة العمل وسذاجة الأسلوب. ثم أنقلب المذهب الطبيعي من هؤلاء إلى مذهب المسرح الحر، وهو مذهب سطحي الفكرة خامد الحركة، يهزأ بالقواعد المسرحية، ولا بتقيد بالعمل الروائي، وغنما يكتفي بتكثير المناظر المضحكة، وتصريف الحوار في مختلف النكات المستطرفة الحديثة. ولم يدم هذا المذهب الخليع إلا قليلاً، ثم أودى به إسرافه وتهوره. وظلت الملهاة الاجتماعية أو الجدية أو المبكية تسير مع الزمن، وتتطور مع أهله ونظمه، حتى حلت محل الدراسة الابتداعية وأصبحت اليوم موضوع المسرح الحديث كما سنبينه عند الكلام في الدراسة.
تلك حال الملهاة في فرنسا. أما حالها في إيطاليا فقد ظلت خافتة الصوت ضعيفة الأثر قليلة النجاح حتى القرن الثامن عشر. فما كان يظهر منها قبل ذلك العهد إلا نوع غير مسطور، يرتجله الممثلون تبعاً لخطة مرسومة من قبل. فلما نبغ الكاتب (جولوديني) (1707 - 1793) وهو عند الإيطاليين كموليير عند الفرنسيين، أسس قواعد الملهاة ونهج سبيلها لبنى قومه: وأما في أسبانيا فملهاتها الوطنية كانت ملهاة المعطف والسيف وهي نوع من الرواية المنزلية، بطلها دعي من أدعياء الشجاعة الذين يسمونهم ماتامور (أي قاتل العرب) لأن الرجل من هؤلاء كان يملأ ماضغيه فخراً بكثرة ما قتل من العرب كذباً وادعاء وكانت عنايتهم في هذا النوع لتعقيد الحوادث أشد من عنايتهم بتصوير الأخلاق. وأشهر تلك الملاهي: الطاحون، وكلب البستاني، للوبي دي فيجا (1562 - 1635)؛ وساخراً أشبيلة، ونديم بطرس، لجبريل تلز؛ والحقيقة المريبة لرويز دالر كون (1639) وهي التي أستمد منها موليير أخلاق ملهاة (الكذب).
وأما في إنجلترا فلم بنبغ في الملهاة غير شكسبير (1564 - 1616) فقد كتب: (ثرثارات وندسون الفرحات)، وجعجعة ولا طحن وتيمون الخ، وهذا كل ما تجده من الملهاة الأصيلة في الأدب الإنجليزي.
أما غيره فقدا أكتفى باقتباس الملاهي الفرنسية أو تقليدها. وأما في ألمانيا فلم ينفق فيها غير الملهاة العامية في العاب (المرفع)، وهو نوع من التمثيل المضحك البذيء. أما الملهاة الأدبية فلم يؤثر عن الألمان منها إلا شيء قليل القيمة عديم الأثر، على رغم كوتزبيو وأمرمان، وبلوم، وبينديكس، وهكلندر من الفوز.(67/41)
تحليل موجز لأشهر ملاهي موليير
كانت الملهاة قبل موليير تعتمد على قوة المواقف بدلاً من تصوير العواطف، وعلى المضحكات الخيالية بدلاً من المضحكات الطبيعية، وعلى أسماء الأشخاص، وعلى العمل الخارق المستحيل بدلاً من العمل الواقعي الممكن. فكانت خليطاً مهما من الأسماء، ومكارم ساقطة من السماء، عفواً في موضع الانتقام، ومزيجاً غريباُ من التقاليد الإغريقية والرومانية والأسبانية والإيطالية. فجاء الملهاة الفنية الحقيقة لجميع العالم، ولذلك نكتفي بان نحلل بعض ملاهيه نموذجاً لبناء الملهاة، وتقسيم فصولها، وتدبير عملها، وتدريج جاذبيتها.
صورة لرجل طريم غالي في الصراحة والتشدد حتى كان موضع الهزء والسخرية، وهي من الملاهي الخلقية التي لا وجود للعمل الروائي فيها. أهم أشخاصها: ألست المتوحش، وهو خطيب سليمين، وفيلنت صديق ألست، وهو رجل لطيف المعاشر، إلا انه مفرط المزاح، وسليمين فتاة أرملة تسعى إلى الإعجاب من طريق الزهو والصلف، وأورنت حبيب آخر لسليمين، وليانت بنت عم سيليمن، وآكاست وكلتياندر مركيزان، وارسيونية صديقة سليمين. وقد وقعت حوادثها في باريس في قصر سليمين.
الفصل الأول:
السست وصديقه فيلنت في قصر سيلمين ينتظران خروجهما عليهما، وفي أثناء، ذلك يؤنب ألست صديقة فيلنت على أنه لقي رجلاً في عرض الشارع لا يكاد يعرفه، فبالغ تحيته وإكرامه. فهو يقول له: إن مثل هذا العمل لا يزكو بالحر ولا يتسع له العذر. فيلنت يجيبه في مداعبة ورفق: إن المرء مادام في الناس مقضى عليه أن يسايرهم بالمصانعة، وبعاشرهم بالموادعة، والحياة تحب التظرف، والعقل يكره التطرف. ولكن الست مسرف في بغض الناس فلا يستمع له، حتى أن له قضية منظورة في المحكمة لا يفكر فيها ولا يشغل باله بها إعتماداً على ظهور حقه، بل يتمنى أن يخسرها لتهيئ له أسباب السخط والحفيظة على ظلم الإنسان. على انه بالغرم من انقباضه واستحياشه يحب الفتاة أرملة تدعى سليمين، ولكنه يعترف بدلالها وخلاعتها، وبأسف لأنها تستقبل في بيتها كثيراُ من الخطاب والأحباب، وهو لذلك يريد أن يستطلع رأيها في الموضوع. ويدخل على الصديقين(67/42)
في الساعة أورنت - وهو خطيب آخر لسليمين مولع بقرض الشعر - فينتظر معهما. وهو أثناء ذلك يرجو منهما أن ينشدهما قصيدة من نظمه، فيستحسنهما فيلنت ويستهجنها ألست، ولكنه يمسك على ما في نفسه منها، ثم يلمح بما فيها من المآخذ، وينتهي به الأمر إلى التصريح بأنها سخيفة ركيكة، فيخرج الشاعر غضبان بتوعد. ويقول فيلنت لصديقه وهو يحاوره: هاك خصومة جديدة جلبتها على نفسك بإفراطك في الصدق وغلوك في الصراحة.
الفصل الثاني:
(بهو سليمين والغيبة). يلقى الست سليمين فيلومها على خلاعتها، ويريدها ان تصرح له بحقيقة حبها ورغبته قلبها، فينقطع عليها الحديث قدوم (آكاست) و (كليتاندر)، ثم (اليانت) و (فلينت) فيأخذون مجالسهم، ويخوضون في أعراض الناس، وتجيد سليمين وصف النفوس اللئيمة، فيعجبون بها ويصفقون لها ولكن الست ينكر ذلك منها، ولا يجرؤ على مجابهتها بالإنكار، فتنفجر مراجل غضبه على المراكيز لتصويبهم رأيها. فإذا ما تساير الغضب عن وجهه عاد إلى سليمين يسألها ان تعلن من اختارته من الخطاب، ولكن شرطياً يقتحم الباب فجأة ويدعوه إلى المحكمة للفصل في الخصومة التي بينه وبين أورنت.
الفصل الثالث:
(خبث الرياء وعبث الدلال) كذلك المركيزان آكاست وكليتاندر يريدام سليمين على أن تعلن من اختارته منهما، وتقبل (ارسيونيه) صديقة سليمين فيخرج المركيزان وتختلى الصديقتان فتتبادلان السباب في أسلوب المناصحة: تحكى أرسيونيه لسليمين في لهجة مرة ما يرميان به الناس في الأندية والمجامع من الخلاعة والتهتك؛ وتحكى سليمين لأرسيونية ما بتقوله الناس عليها من المراءاة بالحشمة وهي داعرة. ويدخل عليهما ألست فتخرج سليمين لتكتب رسالة وتتركه مع أرسيونيه فتنتهز هذه الفرصة لإيعاز صدر ألست على سليمين فتريه أنه مخدوع وأنها خادعة، وتعده أن تقيم له على خيانتها إياه الدليل.
الفصل الرابع:
(رسالة سليمين) يأتى فيلنت فيعلن أن الخصومة بين ألست وأورنت قد انتهت بالصلح، ويدخل من بعده ألست وهو ينتفض من الغضب، وفي يده كتاب غرام من سليمين إلى(67/43)
أورنت جاءته به أرسيونيه دليلاً على خيانة خطيبته فيقول: آه! لقد خاب الرجاء، وضاع الأمل، وظهرت الخديعة، وبان الغدر؟ فتترضاه سليمين بالدهاء، وتفثأ غضبه بالملاطفة، ويجري بينهما الحديث، ولكن خادمه يأتي مسرعاً إليه ينبهه إلى أن شرطياً جاء يقبض عليه في خصومة.
الفصل الخامس:
(المقاطعة) يخسر ألسست قضيته التي أهملها فينحى باللوم والسخط على فساد الحياة ولؤم الناس، ويعثر أكاست وكليتاندا على رسائل لسليمين فيقرآنها على ألسست ويستيقنون جميعاً بأنها تخونهم وتخدعهم وينصرف عنها المركيزان ويبقى ألسست مقيداً بسلاسل هواهها، فيعدها بالعفو عن ما سلف إذا رضيته زوجاً وعاشت معه في خلوة الريف، فترفض طلبه. فييأس المستوحش ويعتزل الناس وهو يقول:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متعزل
ملحوظات عن الرواية:
الفصل الأول أية من آيات الفن، فقد عرض فيه المؤلف في حوار قوي على لسان فيلنت وألسست أسماء الأشخاص الأصليين وأخلاقهم وذكر غضب ألسست وغرامه، وبرودة قلب فيلنت، وخلاعة سليمين، واخلاص اليانت، ورياء أرسيونيه الخ.
أما التعقيد فيؤخذ عليه ضعفه وبطؤه، إلا أن العمل كاف وبسط الأخلاق متدرج. والحل يعيبه بعض النقاد بالنقص من غير حق. فإن سيليمين جوزيت على خلاعتها وخبها بأن هجرها خطابها جميعاً. والسست أعتزل العالم، والمركيزان ذهبا يعرضان زهوهما الأجوف في مكان آخر، وفيلنت واليانت يستعدان لحفلة الزفاف.
يتبع
(الزيات)(67/44)
في المعلقات أيضا
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
. . . . . ولابد من المضي في تكميل رأينا في المعلقات أن نعود إلى الكلام على مذاهب علماء الأدب، قدمائهم ومحدثهم في تسميتهم، فان الذي يراه أبو جعفر النحاس ليس كما ذكرناه في (الرسالة) وذكره غيرنا قبلنا فتأثرنا به، إن هذه القصائد سميت باسم المعلقات من قول الملك (علقوا لنا هذه وأثبتوها في خزانتي) فيكون أبو جعفر على هذا مشاركا لغيره من القدماء في قدم هذه التسمية، ولا يخالفهم إلا في توجيههم لها بأنها مأخوذة من تعليقها على الكعبة. ويذهب علماء العربية الأوربيون بفضل الرأي الراجح ألان في هذه التسمية، أنها حديثة مصنوعة في عصر التدوين أو قبله بقليل، وأنا ننقل هنا كلام أبي جعفر في ذلك لنرى مذهبه حقيقة فيه.
قال في افتتاح شرحه للقصائد السبع: (الذي جرى عليه أمر أكثر أهل اللغة في تفسير غريب الشعر، إغفال لطيف ما فيه من النحو، فاختصرت غريب القصائد السبع المشهورة، وأتبعت ذلك ما فيها من النحو، ولم اكثر الشواهد ولا انساب، ليخف حفظ ذلك ان شاء الله تعالى).
وقال في آخر شرحه لها: (فهذه القصيدة آخر السبع المشهورات، واختلفوا في جمع القصائد السبع، فقيل العرب كان أكثرهم يجتمع بعكاظ ويتناشدون، فإذا استحسن الملك قصيدة قال: علقوها وأثبتوها في خزانتي. فأما قول من قال إنها علقت في الكعبة فلا يعرفه أحد من الرواة، وأصح ما قيل إن حمادا الراوية لما رأى زهد الناس في الشعر، جمع هذه السبع وحضهم عليها، وقال لهم هذه المشهورات، فسميت القصائد المشهورة لهذا).
فهذا صريح في أن أبا جعفر لا يرى في المعلقات أيضا رأي من يذهب إلى تسميتها بذلك مأخوذة من قول الملك (علقوا لنا هذه) وإن كان يراه ارجح من رأى من يرى ان تسميتها بذلك مأخوذة من تعليقهم لها بالكعبة، فكلا الرأيين عنده مبني على ان هذه القصائد كانت مجموعة قبل جمع حماد لها، فكانت معروفة عندهم بهذا الاسم (المعلقات) أو غيره إن كان لها اسم غيره، لأن جمعها هو الذي يجعل لها وجوداً خاصاً تحتاج أن تتميز فيه إلى اسم من الأسماء.(67/45)
وأبو جعفر ينكر جمع هذه القصائد قبل جمع حماد لها، فهو عنده هو الذي جمعها، لما رأى زهد الناس في الشعر، فجمعها لهم من الشعر القديم، وحضهم عليها، وهذا الرأي آخر عند أبي جعفر غير ذينك الرأيين، وقد رآه أصح ما قيل في هذه القصائد فهناك لقدمائنا إذن في هذه القصائد ثلاثة آراء لا رأيان، وأصح هذه الآراء الثلاثة عند أبى جعفر أن هذه القصائد لم يكن بعضها يمت إلى بعض قبل جمع حماد لها، بل كانت مغمورة في الشعر العربي الجاهلي مثل غيرها من القصائد الجأهلية، ولم تكن تمتاز عليها باسم يجمعها من اسم المعلقات أو غيره، فلما جمعها حماد للناس قال لهم هذه المشهورات، فسميت القصائد المشهورة لهذا، وهو الاسم الذي ذكرها به أبو جعفر في افتتاح شرحه لها وفي آخره أيضاً. ولا شك أن تحاشيه ذكرها باسم المعلقات كما يسميها غيره ويوجهه بأحد ذنيك التوجيهيين دليل على انه لا يرى صحة تلك التسمية مستحدثة مصنوعة بعد الإسلام، وبعد جمع حماد لها، وهذا هو الذي ننسبه ألان ألي علمائنا الأوربيين ليذهبوا بفضله، وينسى فيه فضل أبي جعفر رحمه الله.
هذا وقد رأيت فيما رجعت إليه قبل كتابة هذا المقال من شروح المعلقات، وقد تعلقت نفسي باستقصائها حتى يجئ بحثي وافياً فيها من تلك الناحية، رأيت ما يتفق مع رأيي في المعلقات في مقدمة الطبعة المنيرية لشرح الخطيب التبريزي على المعلقات العشر، إذ جاء فيها: (وذهب فريق إلى ان وجه تسميتها بالمعلقات علقوها بأذهان صغارهم وكبارهم ومرءوسيهم ورؤسائهم، وذلك لشدة اعتنائهم بها) وهذا قريب من رأيي في المعلقات، وهو من عجائب توارد الخواطر، ولكنه في تلك المقدمة هل يذهب من يرى هذا في المعلقات إلى أن تلك التسمية على توجيهه قديمة أو مصنوعة، والظاهر انه يراها قديمة، وهو خلاف ما نراه فيها على توجيهنا لها.
وقد جمعت هذه القصائد السبع بعد جمع حماد لها جمعاً آخر مع قصائد أخرى يبلغ جميعها تسعاً وأربعين قصيدة، قال عنها المفضل الضبي إنها عيون أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، وانفس شعر كل رجل منهم، وهي التي جمعها أبو زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي في كتابه جمهرة أشعار العرب.
ويخالف المفضل حماداً في أصحاب هذه القصائد السبع، فهم عند حماد: أمرؤ القيس،(67/46)
وطرفة، وزهير، وعمرو بن كلثوم، والحارث بن حلزة، ولبيد بن ربيعة. وهم عند المفضل: أمرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو بن كلثوم، وطرفة. وقد تبع المفضل في هذا أبا عبيدة، وقال عن الشعراء السبعة: (هؤلاء أصحاب السبع الطوال التي تسميها العرب السموط، فمن قال أن السبع لغيرهم فقد خالف ما اجمع عليه أهل العلم والمعرفة). ثم ذكر بعد هذا السبع المجمهرات، والسبع المنتقيات، والسبع المذهبات. والسبع المرائي، والسبع المشوبات، والسبع الملحمات.
وإذا كان المفضل يخالف حماداً في هذا فهو يوافقه في انه لم يرد فيما رواه أبو زيد القشرشي عنه تسمية هذه القصائد السبع بالمعلقات، ولم يذكر إلا أن العرب تسميها السموط، فإذا كان يعني الأقدمين فهي تسمية جاهلية، وإذا كان يعني العرب في عصره فهي تسميه إسلامية. وقد كانت العرب قبل الإسلام تطلق هذا اللفظ على غير هذه القصائد السبع، ومن ذلك ما رووا إن علقمة الفحل كان يأتي مكة فيعرض شعره على قريش، وكانت العرب تعرض شعره على قريش، وكانت العرب تعرض أشعارها عليهم، فما قبلوا منها كان مقبولا، وما ردوا كان مردودا، فاتاهم مرة فعرض عليهم قصيدته:
هل ما علمتَ وما استُودعت مكتومُ ... أم حبلُها إذ نأتْك اليومَ مصرومُ.
فقالوا: هذا سمط الدهر، ثم عاد إليهم في العام المقبل فأنشدهم قصيدته في مدح الحارث الغساني، وكان اسر أخاه شاساً فرحل إليه يطلبه:
طَحا بك قلب في الحسان طَروب ... بُعيْد الشباب عصر حان مشيبُ
فقالوا هاتان سمطا الدهر
ويمكننا بعد هذا أن نجزم بأن اسم السموط كان يطلق عند العرب على قصائد غير هذه القصائد السبع، ولا يدل ما ذكره المفضل على حصر هذه التسمية (السموط) في هذه القصائد السبع، وإنما معناه أنها كانت تسميتها السموط فيما كانت تسميه بذلك من قصائدها، فلا يدل ذلك على إنها كانت مجموعة متميزة عند العرب بهذا الاسم قبل جمع حماد لها، بل يتفق هذا أيضاً مع ما رجحه أبو جعفر النحاس من أن حماداً هو الذي جمعها، ولا يخالفه في شئ من المخالفة.
هذا وقد كانت وفاة حماد الراوية سنة 155 هـ، ووفاة المفضل الضبي سنة 168 هـ،(67/47)
ووفاة أبي زيد القرشي صاحب الجمهرة سنة 170هـ، فنستطيع مع هذا أن نحكم بان هذه القصائد السبع ما كانت تعرف باسم المعلقات إلى سنة 170هـ، وإنما كانت تسمى القصائد المشهورة آخذاً من قول حماد فيها بعد جمعها هذه القصائد المشهورة، وكان يقال السموط كما كان يقال لبعض قصائد أخرى، فلم يكن اسماً خاصاً بها، وقد سماها المفضل السبع الطوال فيما نقله أبو زيد في الجمهرة عنه.
وقد نقبنا في المقدمة التي ذكرها أبو زيد في جمهرته قبل القصائد السابقة التي أوردها فيها، فلم نجد فيها ما يمكن أن يؤخذ منه أن السبع الأولى كانت تسمى في عصره باسم المعلقات. وكان الواجب على طابعي الجمهرة أن يلاحظوا ذلك فلا يضعوها تحت اسم المعلقات، ولا يذكر قصيدة امرئ القيس (قفيناك) تحت اسم معلقة امرئ القيس، ولا قصيدة زهير (أمن أم أوفى دمنة لم تكلم) تحت اسم معلقة زهير، وهكذا في باقي السبع، وهو خطأ ضاهر، وتسمية لهذه القصائد بما لم يسمها به صاحبه الجمهرة، فان كان هذا في الأصل الذي طبعوا منه فهو خطأ من ناسخه قطعاً. ولعلنا نظفر بعد هذا بأول من سماها باسم المعلقات في الزمن الذي بين زيد القرشي وأبي جعفر النحاس وهو الذي أورد فيها ما نقلناه عنه من ذلك الخلاف.
عبد المتعال الصعيدي(67/48)
من طرائف الشعر
شوقيتان لم تنشرا
1 - قصيدة لم تتم للمرحوم شوقي بك في (سعد) والثورة
يا شبابُ اقتدوا بشيخ المعالي ... فالمعالي تَشَبُّهٌٌ وتحدي
هو لو لم يكن له من الفضل إلا ... هذه كان غايةَ الفضل عندي
قد تصدّى لنائبات حقوق ... غيرُ سهلٍ لمثلهن التصدّي
حزَنَتْه بلادُه وهي صَيْدٌ ... بين نابَيْ مُظّفَّر الناب وَرْد
أمَّةٌ من غرائب النصر نَشْوَى ... تَسلُبُ المُلْكَ مَنْ تشاء وتُسدى
أخْرَستْ أفصحَ القياصر سيفاً ... بأساطيلَ في الخصومة لُدِّ
جاءها سعد شاهرَ الحق يدعو ... سيفها المنتضَى لُخِطَّة رُشد
أعْزَلَ المنكبْين إلا من الحق ... ومن حجة كنَصْل الفِرِنْدِ
خاطبَ النارَ وهي في شَفَة المِدْ ... فع والسيفَ وهو في غير غمد
غَمْرةٌ يُشفق الضياغِمُ منها ... خاضها لم يَهَبْ عواقب وِرْد
فنَفوْا فانتفى فصادف حظاً ... حبذا الجِدُّ ان أعينَ بِجَدّ
وإذا مصرُ كاللبوءِةِ غَضْبى ... لابنِها تبذُل الدماء وتفدى
2 - قصيدة أخرى للمرحوم لم تتم في (موليير) الشاعر
الفرنسي
. . وأن (مُولْيير) نجمٌ لا أُفولَ له ... وان تغيِّب في الأحقاب واحتجبا
شريعة من بيان الغرب صافية ... وان يك الشرق أحياناً بها شربا
وآيةُ الأدب الروميّ في لغة ... لم تخل من سرها عجماً ولا عرباً
لو استطاع ذووها من عنايتهم ... بنشرها علّموها الجنَّ والشهبا
فاحفظ لسانك وأجهدْ في صيانته ... كما يصون الكريمُ العرضَ والحسبا
كأنما كانت الدنيا على يده ... يصورّ الناس عنها كلما كتبا
إذا مضى يعرض الأخلاق عارية ... أراك من كل نفس صورةُ عَجَبا(67/49)
يأتي النفوس فينضو عن طبائعها ... ستراً ويهتك عن أهوائها الحجبا
فربما ازددتَ علماً بالبخيل وإن ... نشأت تلقاه جَدَّاً أو تراه أبا
وقد يزيدك بالكذاب معرفةً ... وأنت تُضحى وتُمْسِى تسمع الكَذِبا
وقد يريك أخا الوجهْين منكشفاً ... وأنت تلقاه في الإخوان منتقبا
ومن جيد ما نشره المرحوم من الشوقيات قوله يعتب على بني وطنه اختلافهم وتنازعهم:
وأين الفوز لا مصر استقرت ... على حال ولا السودان داما
وأين ذهبتمو بالحق لما ... ركبتم في قضيته الظلاما
لقد صارت لكم حكماً وغماً ... وكان شعارها الموت الزؤاما
شببتم بينكم في القطر ناراً ... على محتله كانت سلاما
إذا ما راضها بالعقل قوم ... أجد لها هوى قوم ضراما
تراميتم فقال الناس قوم ... إلى الخذلان أمرهمو ترامى
وكانت مصر أول من أصبتم ... فلم تحص الجراح ولا الكلاما
إذا كان الرماة رماة سوء ... احلوا غير مرماها السهاما
وقال يوجه الخطاب إلى توت عنخ آمون عقب كشف قبره:
قل لي: أحين بدى الشرى ... لك هل جزعت على العرين؟
آنست ملكاً ليس بالشا ... كي السلاح ولا الحصين
البر مغلوب القنا ... والبحر مسلوب السفين
لما نظرت إلى الديا ... ر صدفت بالقلب الحزين
لم تلق حولك غير (كر ... تر) والنطاسيَّ المعين
أقبلت من حجب الجلا ... ل على قبيل معرضين
تاج الحضارة حين أشر ... ق لم يجدهم حافلين
والله يعلم لم يرو ... هـ من قرون أربعين(67/50)
حصن طارق
للأستاذ فخري أبو السعود
أقام على شط الجزيرة مفرداً ... ورانت عليه وحشة وسكون
على الصخرة الصماء يصخب دونه ... من اليم لج زاخرٌ ومُتُون
مُضِبٌّ، يجيش الشرق والغرب حوله ... صَمُوتٌ على كرِّ العصور مبين
به صَدْفَةٌ عَمَّا يَرَى في زمانه ... وفيه إلى ماضي الزمان حنين
تغيرتِ الدنيا، وبادَ قَبِيلُهُ ... وغيَّرَهُ دَهرٌ مضى وقُرُون
وقَطَّبَ لَمَّا أَنْكَرَ العَصْرَ حوله ... وسارت بما لا يشتهيه شؤون
وأَنْكَرَ خيلاً حوله وأعاجماً ... تقرُّ لهم تلك الرُّبى وتَدينُ
تَدِين لرئبالٍ بكل مفازةٍ ... له في أقاصي العالمين عَرين
تَعَطَّلَ مِن بَعد اعتصامٍ ومَنعة ... أسيرٌ بأيدي الغالِبين رَهين
وكان يصون القومَ فارتَدَّ أعزلاً ... وأصبحَ حتى النَّفْسَ ليس يَصون
إذا لم تكنِ همَّاتُ قومٍ حصونَهم ... تداعتْ وراسٍ دونهم وحصون
حَوَتْ منِ تلاد المجد صخرةُ طارقٍ ... على الدَّهر مالا يحتويه رَقينُ
تعالتْ بها، الله أكْبَرُ، مَرَّةً ... فمادتْ سهولٌ دونَها وحُزُون
وسالتْ شعابٌ بالصوارم والقنا ... وأُحرق خلف الفاتحين سفين
وقامتْ بأطرف الجزيرة دولةٌ ... وأزهَرَ عِرفانٌ وأشرق دين
جَلا أمسِ عنها آلهاً، وبَنُوهُمُ ... عَلَى الضَّفَّةِ الأخرى الغَدَاة قَطِين
فَمنْ لي بمن يُنبي الجدودَ بأَنَّنا ... وقد عزَّ عُبدانُ الجُدود نهون؟
وأَنَّا إذا اعْتَمْنَا رُسُوم عَلائهم ... تناهبتِ القلبَ الحسيرَ شجون
خشعتُ وعادتْني لدى حصن طارق ... همومي وابْتَلَّتْ لديه جفونُ
لشعبٍ يُسيغ الذلّ مٍن بَعد ماسَمَا ... له في الورى مُلك أشَمُّ مكِين
القاهرة
فخري أبو السعود(67/51)
الوحيد المريض
محمد خورشيد
سالَ ذَوْبُ الفؤاد في أَنَّاتِهْ ... وتَلاشى بُكاهُ في آهَاتِهْ
ساكِنُ الطّرفِ لا يرفُّ لهُ جَفنٌ ... ولا يعزفُ الضَّنَى عن أَذَاتِهُ
واجفُ الصدرِ، شاحب الوجه خُطَّت ... نفثاتُ الأسى على قسماتِه
كادت الروح تستحيل أريجاً ... تتملّى الجِنانُ من نَفَخاتِه
وظلامُ المنون مَدَّ رواقَيْهِ ... ليطوِى في الليلِ فجرَ حياتِه
وأبُوهُ المرور ضَمَّ إلى الصد ... ر فتاهُ ليفتديهِ بذاتِه
حابساً ما استطاع أنفاسَ صدرٍ ... شَبَّ جمرُ اللأواءِ في جَنَباته
ولو استطاعَ اسكت القلبَ حتى ... لا يَضِجَّ الصغيرُ من خفقاتِه
كلما أرسل ابنه زفراتٍ ... كاللظى خالَها صدى زفراته
كلما أسبل الدموعَ فتاهُ ... كالآلى تَشِفُّ عن حسراته
ظنَ وجهَ الفطيمِ أصبحَ مرآ ... ةً أرتهُ المدرارَ من عَبَرَاته
باتَ قلبي طيَّ الضلوعِ سجلاً ... لجَنَانِ الوحيدِ في نبضاته
أن هفا مسرعاً حكاه ابنُ جَنْبِي ... أو تأنَّي شاكلتُهُ في أنَاتِه
وضميري ناجَي الحبيبَ فأصغَى ... وهو رهنُ الضَّنَى إلى همساته
قد حُرمتُ السُّباتَ والدَّاء يقظ ... انُ يُوالي مُسَدِّداً رَمَياته
حارَ إذا عادنا الطبيبُ ولمَّا ... يدرِ أيَّا يَطبُّه بأدائه
أ (نزاراً) وقد ذَوتْ مُقلتاهُ ... أم أباهُ والرُّوح قُربَ لَهاتِه
أن سُقمَ الأبناءِ أقسَمَ إلا ... أَن يكونَ الآباء مرمى تِراتِه
يا رسولَ الردى أماناً فهذا ... قد عقدنا المُنى على بسماتِه
أن أردتَ الفداَء دونك روحي ... تلكَ عند الشبابِ أغلى هِباتَه
يَرِثُ التاجَ أولياء العُهودِ الصِّيدُ ... والمجدُ مُوقِعٌ نغماتِه
فاعفُ عنّي، وليَّ عهدي، لأني ... خِفتُ دهري فكنتُ من أقواتِه
لم أُورِّثكَ غيرَ شعرٍ شجىٍ ... سال ماءُ الفؤاد من أبياتِه(67/53)
أصبحَ البؤسُ تَوْأَمَ الشعرِ عندي ... يزدهيني بندبهِ وشَكاتهِ
إنّ وحيَ الأسى المروِّعِ يحبو الشاعِرَ ... الفذَّ مُجتَبى خَطَرَاتِه
القدس
محمد خورشيد(67/54)
توماس كارليل 1795 - 1881م
بقلم عبد الكريم الناصري
- 1 -
(العبقرية الحق، هي التي تعمل ولا تشبع، وتجد في الألم لذة، وفي الموت من أجل العمل حياة، ولا تحسب يوماً أنها وجدت ما تنشده وتصبو إليه!. .)
(العبقرية الحق، هي التي تخلق وتنشئ، وتنظر دائماً إلى الممكن والى المستقبل؛ هي باذرة بذور الخير والحب والطيبة والجمال في الوجود، والطامحة دائماً إلى ألحسن، والآخذة بالناس من الظلمات إلى النور، ومن العبودية إلى الحرية. ويخلد العبقري بقدر ما تترك رسالته من أثر على وجه البسيطة؛ فكلما كانت رسالة العبقري إنسانية، كالإعجاب بها شديداً والثناء عليها قوياً.)
ولد توماس كارليل في قرية (اكلفكان) - بأقليم أناندال - بجنوبي اسكوتلندة، في تشرين سنة 1795. وكان أبوه بنّاء، وهو الذي بنى البيت الذي ولد فيه ابنه؛ وكان صلب الرأي، ميَّالاً إلى الجد والعمل. أما أمُّه فكانت امرأة صالحة حنوناً طيبة القلب. أدخله والده - أول الأمر - في مدرسة القرية، فتلقى فيها مبادئ العلوم، ثم في مدرسة قرية (نان). ولما بلغ الثالثة عشرة من عمره دخل جامعة ادنبرج. وفي سنة 1814 عينّ مدرساً للرياضة بمدرسة أمان. وكان قد بلغ التاسعة عشرة من عمره. ولم تمض عليه ثلاث سنواتٍ حتى صار رئيس مدرسةٍ ببلدة (كركالدي).
وفي سنة 1818 ترك حرفة التعليم متبرماً بها، ساخطاً على المنتسبين إليها؛ وذهب إلى ادنبرج باحثاً عن عمل يعيش منه؛ ودرس هناك علم المعادن الذي أفاده فائدة كبيرة إذا اضطره إلى تعلم الألمانية (التي كانت من أسباب ظهوره ورفعته.) مع أنه كان يمقته مقتاً شديداً. وكان يتقن الفرنسية أيضاً ويترجم عنها مقالات علمية فيتكسب من ذلك. . .
- 2 -
. . . اجتمعت في كارليل صفات أبيه وأمه ورث عن أبيه صلابة الرأي، ومضاء العزم، وخصب الخيال، وقوة التصور؛ وورث عن أمه دماثة الخلق، وسلامة النية، وطيبة القلب،(67/55)
وكثرة الحنان، وخفة الظل.
وفيه أيضاً اجتمع فيه هدوء الإنكليزى ووطنيته الصادقة، واعتزاز الألمانى بقوميته، واعتداده بنفسه واستبداده برأيه، وفكاهة الفرنسي ومزاحه.
كان فيلسوفاً نابغة، ومؤرخاً مدققاً، وناقداً صائب الرأي قوي الحجة ساطع البرهان، وكاتباً بليغاً ساحر البيان، عجيب التصور للحقائق، مدهشاً في عرضها على قارئيه أو سامعيه واضحة جلية، وكان خياله يشبه النافورة التي يتدفق ماؤها فيسقي هياكل الأبطال القدامى العظيمة، ويحيلها إلى أناسي مثلنا يتحركون ويضطربونِ!. . .
كان في كتاباته جاداً وهازلاً، مكتئباً وضاحكاً، تلمح من خلال سطور كتاباته نفساً هادئةً، مؤمنةً، قنوعاً ولكن تجده أحياناً ليثاً كاسراً، غضوباً متمرداً. . . وكان متبرماً بالوظائف والحرف المقيدة لحريته، ولما ترك مهنة التعليم صاح محتداً ساخطاً: (لا طاقة لي بعد بهذه الحرفة الممقوتة!. . .).
وأرى أنه كان في آرائه وأقواله قومياً ومتعصباً أحياناً، , إنسانياً أحياناً أخرى. يتعصب حين يحدثك عن (كرومويل) أو عن فريديريك الكبير ملك بروسيا، فيغرق في مدحهما والإشادة بذكرهما، ويحملك على تصديق أقواله بسحر بيانه وقوة برهانه، لأن الأول إنكليزى، والثاني بروسي، وكان كارليل حريصاً على إرضاء البروسيين. ويقول الكاتب الناقد الإنكليزى ج. ك. تشسترتون: (لقد سلط كارليل تيار خياله القوي المتدفق على شخصية هي كالجمجمة جفافاً ويبوسة وصلابة (أي فرديريك)، وسكب عبقريته الخلاقة المبدعة ليخلق من أسفل وادنى وأوحش شخصية عرفها التاريخ إنساناً شهماً، كريماً عظيماً!.).
فهو إنساني حين يحدثك عن محمد صلى الله عليه وسلم والإسلام مثلاً، فيقول: (لقد أصبح من اكبر العار على أي فرد متمدن من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب وان محمداً خداع مزور؛ وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً بنحو مليون من الناس.) أو حين يقول: (ما محمد بالكاذب ولا الملفق، وإنما هو قطعة من الحياة قد تفطر عنها قلب الطبيعة، فإذا هي شهاب قد أضاء العالم أجمع). . .(67/56)
وقد قال (ريتشارد جازييت): (فلما كتب كارليل مقالته عن الإسلام ينافح فيها عن محمد ويناضل عن دينه، لم يبق هجاء أطلق يده في عرض محمد (ص) إلا قبضها مجذومة شلاء ولا فجاش ذلك الأديم الأملس، وتلك الصحيفة البيضاء بسهام السباب إلا وردت سهامه في نحره حتى راح شرف النبي في تلك الديار بفضل الفيلسوف الأكبر صحيح الأديم موفور الجانب. . .).
ومن هنا ترى أن الرجل كان يعتمد على ذكاءه وصفاء ذهنه، واستقامة منطقه القوي، وبلاغته وخياله أيضاً، في حمل الناس على اعتناق مذاهبه، والأخذ بآرائه، والإيمان بمعتقداته، وقد نجح في ذلك نجاحاً عظيماً وفاز فوزاً جباراً!. .
- 3 -
وقد أحب ذلك الفيلسوف فتاة جميلة تدعى (مرغريت جوردون)، وقد ابتدأ ذلك الحب حين صار رئيس المدرسة التي ذكرناها ببلدة كركالدي. ووصفها في كتابه (فلسفة الملابس). وكان كارليل (يعبد الجمال ويكبر ملكات العالم (أي نساء) ويقدسهن، ويرى لهن جلالاً إلهياُ!) ولكن حظه منهن (لم يكن إلا حظ اللمس من الخيال، والغليل من الآل!)
لقد كان حبه عنيفاً جداً لمارغريت، ولا تكاد تقرأ بضع صفحات - بل بضعة أسطر - من كتابه فلسفة الملابس حين يصفها، إلا وتؤمن انه لم يكن هوى أو حباً، بل لاعجاً محرقاً، بل هياماً جنونياً، ولكن العبقري المسكين أخفق في ذلك الحب ولم يتزوج من بلومين (كما يسميها في ذلك الكتاب) لتعرض أصدقائها. . .
أسمعه يقول باكياً. . . (فكن للفتى (أي كارليل) كأنهن من الهواء مخلوقات، ومن الضياء مصوغات، أرواح في أشباح، وأذهان في ألوان. . .
وكأنهن ملائكة تحمل كل منهن معراجاً يرتقي فيه العاشق إلى مقامات الأبرار في الجنان، فليت شعري هل قضى الله للفتى المنفرد (يعني نفسه) أن يظفر يوماً ما بإحدى هذه الملكات؟ بل أين منه ذلك، هيهات هيهات!!).
(أما والذي خلق الهوى وجعله جنة المحب وجحيمه، لئن قضى الله للفتى أن تهبط عليه واحدة من تلك الخيالات المليحة، فتتحول له جسماً حياً ملموساً، وحقيقة محسة، ثم تلحظه بنظرة انعطاف وتودد، وتقول له بعينيها: (لك الآن أن تحب وتحب!) إذن فأي بركان هائج(67/57)
يثور، وأي جحيم كان يجيش ويفور!!).
(وقد اشتعل مثل هذا الحريق يوماً ما في فؤاد الفتى المنفرد اشتعالاً بركانياً؛ وكيف يكون الأمر غير ذلك والفتى مزاج رقيق، وطبع سريع الهياج - فيه (كاربون) الحدة، و (فسفور) الشهوة، و (كبريت) الانفعال - تنتظر أدنى شرارة من لحاظ دعجاء المحاجر، قتالة الألحاظ، فتتأجج وتشتعل؛ وما شرار اللحظ في هذا العالم بالشيء المفقود؛ فليت شعري إذا هبطت عليه من آفاق العزة مليحة حسناء، فرمت (كبريته) بشرارة من لحظها ماذا يكون المآل؟!. . . . . .)
وأسمعه يخاطب فتاته المحبوبة: (وما هي إلا هنيهة حتى قرب إلى الغادة وقدم لها! يا رعاك الله أيتها الآنسة! أنك لتشرقين بين أترابك من الفتيات، وتبهرين صواحبك من الغانيات؛ كأنك الكوكب الدري هبط من السماء فتوسط طائفة من المصابيح والشموع! يا أشرف الفتيات! وسيدة النساء! يا سبيت الخامل المسكين فتهافت عليك بدناً وروحاً؛ وهو مع ذلك منكس الجيد في حضرتك، من فرط هيبتك خاشع الطرف، تعروه لذة أليمة وتعلوه حيرة لذيذة، أحقاً أصبح الفتى المسكين يشهد مجلسك ويجتلي نور طلعتك، وبهاء غرتك، وحقاً تشرق عليه أشعة لحاظك!؟ وحقاً يتكلم فتنصتين، ويقول فتسمعين، ويمزح فتضحكين، ويعظ فترقين، ويشكو فتتوجعين؟ وحقاً كان الحب متبادلاً، والغرام متداولاً، والعطف متقارضاً، والود متقايضاً، والقطبان يخفقان للالتصاق، ويرجفان للاعتناق،؟!! وقلب العاشق المسكين يجيش ويثور كالبحر يزخر ويعب في حضرة القمر!؟ حقاً كان كل ذلك).
البصرة
عبد الكريم الناصري(67/58)
العلوم
4 - بحث في أصل الإنسان
بقلم نعيم علي راغب دبلوم عال في الجغرافية
بدراسة الجمجمة التي وجدت في جزيرة جاوة، إحدى جزائر الهند الشرقية، وجد أنها تشبه جمجمة نوع من القردة، وهو المسمى جيبون وهذا القرد معروف أن نسبة مقاس جمجمته تتناسب تناسبا إطرادياً مع ارتفاعه وحجم جسمه. بمعنى أن مقاس كذا هو لقرد ارتفاعه كذا. . الخ.
فإذا نحن طبقنا هذه القاعدة على تلك الجمجمة التي وجدت خرجنا منها بنتيجة، هي إن ذلك المخلوق الذي تخلفت عنه هذه الجمجمة لابد وأن يكون في ارتفاع قامة الإنسان، على عكس قردة ذلك النوع المشار إليه فإنها لا تتعدى في القامة قامة ابن خمس سنوات من الأطفال.
وإذا لاحظنا أن سطح الجمجمة وعظام محاجر العين وشكلها تعين عدم وجدود جبهة لصاحب تلك الجمجمة، نجد لزاما علينا من ذلك ومن نتائج أبحاث العلماء أن نقول إن هذا الذي يمثل إنسان البليوسين كان عبارة عن قرد كبير، وتبين لنا بعد ذلك من قياس تلك الجمجمة أننا لم نكشف عن الإنسان القرد فحسب، بل كشفنا عن أحط درجة من درجات التطور الإنساني، وإذا كان للإنسان صفات تميزه ويختص بها عن سائر أنواع الحيوان، فإنما هي ذكاؤه وقابليته للتعلم، ثم حدة الشعور، وهذه كلها تأتي من المخ مصدر الشعور والوجدان.
وإن قصة تدرج الإنسان ما هي إلا تاريخ لتطور قواه العقلية. فعند ما كشف الأمر عن جمجمة إنسان النياندرتال عام 1875، قال بعض من العلماء إنها بجمجمة أشبه منها بجمجمة الإنسان. لماذا؟. لأنه لوحظ بها البروز الكبير الظاهر في محاجر العين، وهو ما تمتاز به أنواع الغوريلا، كذلك لاحظ أن غطاء الجمجمة الأعلى واطئ منخفض ومفرطح. لكن الكشف الذي تلا ذلك دلنا على المقدرة والقوة الفكرية عند هذا النوع من الإنسان، وهو إنسان النياتدرتال. وأنها قد تفوق كثيرا من الأجناس البشرية في القدرة والمهارة والدقة والجمال في صناعة الأدوات الصخرية النارية.(67/59)
ولم يجد الدكتور أي أثر في طبقة الأرض التي وجد بين ثناياها الإنسان القرد، وليس هناك ما قد يلقي لنا ضوءا على مقدار ذكاء هذا النوع وقدرته، إلا أنه يمكننا أن نتكهن بشيء من ذلك من حجم فراغ جمجمته التي استطاع الدكتور دبوا أن يصورها لنا.
فأما من جهة حجم المخ فإن الإنسان القرد أو إنسان جاوة (كما سنسميه) يقع تحت أسفل درجة من درجات المخ الإنساني. فالابورجونيز سكان استراليا يتراوح حجم مخ القرد فيهم من 1300 إلى 1400 سم مكعب، ولو أن هذه النسبة تقل في نسائهم فتصل إلى 1000 سم مكعب أو إلى 930 سم (كما يبالغ السير وليام تيرنر) ولكي نقول إن الرجل أو المرأة يفكر أو يستطيع التفكير يلزمه مخ لا يقل عن 950 سم مكعبا، ولكن أبحاث الدكتور ديبوا دلت على أن حجم مخ إنسان جاوة لم يتجاوز مقدار 900 سم مكعب. برغم أن الأستاذ ج. هـ. ماك جريجوري يرتفع به إلى 940 سم مكعبا. وهكذا نرى أن الإنسان المذكور لم يكن ليستطيع التفكير الصحيح كما نراه أو كما نعقله، إلا أنه قد اقترب وسار على عتبة باب الإنسان الحق بتفكيره وقوته العقلية.
وإذا قارنا إنسان جاوة بالغوريلا وجدنا أن حجم مخ الذكر من هذه القردة يبلغ في المتوسط 520 سم مكعبا، ولو أنه قد يرتفع إلى 650 سم مكعبا أو ينخفض إلى 470 سم مكعبا بينما نجده يرتفع إلى ستة أمثاله عن حجم مخ هذه القردة برغم التشابه العظيم بين شكل سقف جمجمة إنسان جاوة وقرد الجيبون.
إلا أن هذا النوع الإنساني وهو إنسان جاوة إذا قورن بالإنسان الأوروبي الحديث وجد بينهما فرق كبير جدا. إذ أن الأخير يزيد في حجم المخ على الأول بما لا يقل عن 560 سم مكعبا إذا ما قدرنا للأخير متوسطا قدره 1500 سم مكعب.
أما عن حجم مخ إنسان البليوسين فإنه يرتفع كثيرا عن مستوى أكبر أنواع القردة المعروفة، ويصل إلى أسفل درجات الإنسانية، ونصل إلى نفس النتيجة إذا ما قارنا ببين مخ إنسان جاوة والغوريلا، أو مخ امرأة الأبوجيز الأسترالية. وبفحص مخ قرد من القردة لوحظ أن الطبقة الظاهرية منه وهي التي تتصل بالقدرة على السمع والإبصار والحس كاملة التكوين، وأن الطبقة الظاهرية التي تليها وهي التي تتصل بالقدرة على الفهم والتذكر تكاد تكون معدومة التكوين، بينما نجد أنها في إنسان جاوة برغم تناسب أجزائها وأتساعها(67/60)
لا تصل إلى تلك التي تعيش على سطح الأرض في عصرنا هذا. ولذلك أمكننا بفضل اكتشاف الدكتور العلامة ديبوا أن نعرف الماهية التفكيرية والمقدرة العقلية التي كان يتمتع بها الجنس الذي عاش في عصر البليوسين.
ونحن لا يمكننا مع ذلك كله أن نقرر ما إذا كانت عندهم القدرة على التخاطب والكلام. إلا أنه قد أمكننا أن نعرف من تلافيف المخ عند الإنسان المعروف بإنسان جاوة مقدار ما كان له من استعداد لذلك، وما قد وجد عنده من عوامل تساعده عليه، ومن المحتمل أنه قد تكلم وتفاهم، ثم عبر عما يجول بخاطره بعبارات صوتية غير منتظمة تعبر عن رغبة أو شعور، ولكنها لم تكن لتعبر عن فهم. ويمكننا أن نقارن بين قدرتهم على الكلام وقدرتهم على صناعة الأدوات والمرافق بما نسمعه من لغات اليوم وما نراه بين أيدينا من مرافق وأدوات كادت أن تبلغ حد الكمال.
ونحن إذا اعتبرنا أن إنسان جاوة بالقوى العقلية التي سبق الكلام عنها وشرحناها في الفقرات السابقة، هو الحد الذي وصل إليه الإنسان في أواخر عصر البليوسين، وأن إنسان البلتدون هو مثل لما قد وصل إليه الإنسان في أوائل عصر البلستوسيين، لوجب علينا أن نعترف أن هناك فترة تقع بين العهدين يمكن أن نطلق عليها فترة التطور العقلي للإنسان القديم. لأننا نعرف أن حجم مخ إنسان البلتدون الذي وصل إلى 1400 سم مكعب يتناسب مع حجم مخ الإنسان الحديث، ويقترب به إلى الإنسانية الحق. بينما نجد أن إنسان جاوة بمخه الذي يمكننا أن نقدر حجمه بمقدار 940 سم مكعبا ينزل إلى أسفل الدرجات، ولا يصل إلى أحط نوع من الأنواع البشرية المعروفة، وأن تلافيف المخ في إنسان البلتدون، ولو أنها لا تصل إلى ما نراه من تلافيف مخ الأنواع المنحطة من الأنواع الحديثة، إلا أنها تفوق وترتفع كثيرا عن مستواها عند إنسان جاوة.
وإذا كنا قد أوضحنا في مقالاتنا السابقة مدى أهمية فحص العلماء لمخ الإنسان وما كشفه لهم حجمه من حيث تاريخ تطوره، فيجب إلا ننسى أهمية فحصهم لأسنانه وما كشفت عنه الحفريات. فإنه قد لوحظ أن أسنان القرد كانت أسنانا إنسانية لا تختلف في شيء عن أسنان الإنسان الحاضر إلا من حيث كبر الحجم. ولا بد لنا أن نذكر مما قد سبق ذكره، أن إنسان البلتدون قد تمتاز بأنياب حادة مدببة، لا تختلف في شيء عن أنياب القردة، بينما نجد(67/61)
أنها تصغر عند إنسان جاوة، وتتناسب مع باقي أسنان الفم كما هو الحال في إنسان هيدلبرج وجميع الأنواع الإنسانية الأخرى. فهل يمكننا القول أن أسنان الإنسان بعد أن تعدل شكلها في عصر البليوسين قد رجعت فزادت حجما في عصر البلستوسين، كي ننكمش بعد ذلك وتناسب باقي نظام أسنان الفم في النهاية؟. . وهذا ستجد له شرحا وافيا في مقال قادم. وفي الوقت نفسه لا يمكننا شرح كل هذه الغرائب إلا إذا اعتبرنا أن الإنسان القرد وإنسان الهوموهيدلبورجينز يمثل كل منها فرعا من أصل الشجرة التي نشأ وتطور منها الإنسان، والتي لم تكتشف من فروعها إلا أغصان قليلة محطمة. . .
يتبع
نعيم علي راغب
دبلوم المعلمين العليا قسم الجغرافيا(67/62)
البريد الأدبي
القصة في الأدب الصيني
تناولت مجلة الأخبار الأدبية (نوفيل لترير) في عددها الأخير ذكر كتاب صدر أخيراً في باريس بالفرنسية عن (القصة الصينية) بقلم كاتب صيني هو مسيو (أواتاي). والقصة الصينية حديثة النشأة؛ وكانت القصة حتى عصرنا تعتبر في الأوساط الأدبية الصينية ضربا من العبث؛ وكان التاريخ والشعر والفلسفة وحدها تعتبر خليقة بجهود العلماء وذوي الذوق الحسن. أما كتابة الحوادث والمغامرات الخيالية، فقد كانت تعتبر خفة لا تليق برزانة العلم والأدب، وكانت تترك لصغار الكتاب والمتأدبين. أما اليوم فان الأدب الصيني يقتفي أثر الآداب الغربية في تقدير القصة ويتجه إليها، ويخرج في ميدانها أثاراً شائقة جديرة بالاهتمام.
على أن ما أخرج الأدب الصيني في ميدان القصة في القرن الماضي ليس مما يخلق إغفاله والحط من شأنه. صحيح انه لم يصل في السعة والتنوع إلى ما وصل إليه القصص الغربي، ولكنا نستطيع أن نحصى منه مع ذلك كثيراً من الآثار الشائقة الجميلة. وقد ظهرت بعض هذه الآثار في أوربا مترجمة إلى الألمانية والفرنسية والإنكليزية، فاستطاع العالم الغربي أن يقف على صفوة الأدب القصصي الصيني. . .
ويقول مسيو (أواتاي) في مقدمته إن القصة الصينية ترجع في أصلها إلى الحكايات والأساطير الدينية. ففي العصور الغابرة كان الشعب يشهد ظواهر الطبيعة الخارقة فلا يستطيع أن يدرك كنها ويعتقد أنها فوق مقدرة البشر، ثم يحاول أن يفسرها ويفهمها في شروح وأقوال غدت أصل الأساطير الصينية، ومن ثم تجيء أهمية عنصر السحر في القصة الصينية. وقصص السحر هي اقدم واغرب ما في الأدب الصيني من عنصر القصص، ثم تجيء بعد ذلك القصة التاريخية أو التي تقوم على بعض حوادث التاريخ، ثم القصة العاطفية، ثم القصص الإباحى؛ وقد كان هذا النوع مما يطارد ويحرق، ولكن نجا منه الكثير.
ومن أحب القصص إلى الذوق الصيني، ذلك الذي يعالج (المعرفة) وتعرض فيه المعلومات والمعارف الغربية، في صور قوية واضحة من البيان والعبارات الرشيقة. وللقصص(67/63)
الساخرة مكانة أيضاً، ولكن معظمها سياسي، ويرمي إلى بث دعوة معينة. أما قصص المغامرات الشائقة والحب والبطولة فقد ظهرت حديثاً ولم تتقدم إلا في القرن التاسع عشر؛ ومنها آثار خطيرة فياضة بالمخاطرات والعجائب.
وقد كان هذا التراث كله مغموراً حتى هذا العصر، ولكن الجيل الفتى يقبل عليه اليوم ويستكشفه، ويتذوق ما فيه من كنوز الطرافة والخيال والجمال. بل لقد أنشئت في الجامعات الصينية دراسات للقصص القديم، وهو ما لم يكن يتصور منذ خمسين عاماً.
أزمة الأدب
يظهر أن أزمة القراءة والكتب أخذت تشغل الأذهان في جميع الأمم المتمدنة؛ فقد ضعفت حركة القراءة وركدت ريح الأدب والكتب في الأعوام الأخيرة بدرجة محسوسة. وكان للراديو والسينما أثر كبير في ذلك التطور. وقد رأت الحكومة الإيطالية أن تعالج هذه الأزمة بالدعوى إلى القراءة عن طريق الراديو وإثارة الاهتمام بالآداب الإيطالية القديمة. ونشرت إحدى الصحف الأدبية الفرنسية فصلاً في ذلك الموضوع نوهت فيه بانحلال الذوق الأدبي، وانشغال الهيئات العلمية والأدبية بتنظيم الحفلات وتوزيع الجوائز، وإغفال الحكومة لكل ما يذكى شغف القراءة ويصقل الذوق الأدبي، حتى إنها لم تفكر يوماً في أن تنشى (وزارة للآداب) تقوم بالإشراف على الحركة العقلية، مع أنها تقوم بالإشراف على إدارة الشرطة وإدارة الجمارك. وتخلى الحكومة عن هذه المهمة يحول دون القيام بأي حركة منظمة لتوجيه الحركة الأدبية، وإحياء الذوق الأدبي بعد أن تولاه الذبول والضعف. ويرى الكاتب أن تنظيم المكتبة من أنجع الوسائل لمعالجة هذا المشكل، ويقترح ان تعنى إدارة معرض باريس الكبير الذي سيقام في سنة 1937، بإنشاء مكتبة نموذجية يكون فيها من الطرافة وحسن الابتكار والتنسيق ما يذكى شغف القراءة ويبعث إلى الذوق الأدبي حياة جديدة.
حرارة الأزهار
نذكر أن العلامة الهندي جاجاديس بوز صاحب نظرية (حس النبات) زار القاهرة منذ بضعة أعوام، وعرض تجاربه العلمية النباتية على جمهرة العلماء والمثقفين؛ ورأى النظارة(67/64)
الذين شهدوا تجاربه كيف يرتجف النبات ويتأثر بمختلف العوامل، والآن يتقدم العلامة الفرنسي، بلار نجم، الذي قضى حياته في دراسة خواص النبات إلى أكاديمية العلوم الفرنسية بنتيجة مباحثه عن (حرارة الأزهار).
ويرى العلامة بلارنجم ان الأزهار كالإنسان والحيوان، يمكن ان تصاب بالحمى، وان حرارتها تختلف باختلاف درجة نموها وباختلاف الوقت. فمثلا يبدي معظم الأزهار حرارة اعلى من حرارة محيطها ببضع درجات، وتبلغ بعض الأزهار أقصى درجة حرارتها بين الساعة العاشرة والظهر. ولبعض الأزهار مثل النرجس واليقطين والهندباء أوقات تصاب فيها بالحمى، ويلاحظ مسيو بلارنجم أيضاً، أن الأزهار المذكورة في النباتات المزدوجة، أي التي تحمل أزهارها المذكرة وأزهارها المؤنثة كل على أعواد مختلفة، وفي النباتات الفردة، أي التي تحمل أزهارها مختلطة على نفس العود اكثر حرارة من الأزهار المؤنثة في نفس الشجرة. وهنالك أيضاً تختلف درجة الحرارة فيها باختلاف مواضعها؛ وغير ذلك من المشاهدات والحقائق المدهشة.
فلوبير والمسرح
لما وضع القصصي الفرنسي الكبير فلوبير قصته الشهيرة (مدام بوفاري) فكر أحد كتاب المسرح في اقتباسها وتقديمها للتمثيل، ونفذ فكرته بالفعل، وقدم الرواية إلى المسرح، وأرسل إلى فلوبير يستأذنه، فأبى بشدة أن يأذن له، وكان فلوبير قد عاف المسرح وحقد عليه، مذ فشلت قصته (الطالب) حين مثلت لأول مرة. واستمر فلوبير يعارض كل اقتراح بتمثيل (مدام بوفاري) حتى وفاته.
ولكن حدث بعد وفاته، أن ابنة أخيه ووارثته مدام جرول صرحت لأحد كتاب المسرح باقتباس بعض المناظر من مدام بوفاري لكي تمثل على المسرح، وكان ذلك سنة 1906. ولكن القطعة لم تشتهر يومئذ، ولم تلق نجاحا يلفت الأنظار.
ومنذ أشهر قلائل عادت (مدام بوفاري) تلفت أقطاب السينما، وانتهى الأمر باقتباسها للشاشة البيضاء، وتلحينها للسينما الناطقة. ولن تمضي اشهر أخرى حتى يستطيع المعجبون بأدب فلوبير يشهدوا اعظم قصصه، وقد أخرجت في ثوب مسرحي بعد كتابتها نحو تسعين عاماً.
ويقال أيضاً إن قصة فلوبير التاريخية (سلامبو) ستظهر قريباً على المسرح السينمائي، وان(67/65)
العمل يجري بالفعل لإخراجها في وقت قريب.
أمير شرقي شاعر
في البريد الإنجليزى الأخير إن صاحب السمو نظام حيدر آباد عميد الأمراء المستقلين في الهند، واعظم رجالات المسلمين فيها ينظم الشعر ويجيده. وعما قريب يصدر في الهند الجزء الأول من ديوان سموه، وفيه قصيدة مطولة في مولد المسيح.
المستشرق شخت
وصل إلى القاهرة الأستاذ شخت ليشغل كرسي أستاذ فقه اللغة واللغات السامية بكلية الآداب بالجامعة المصرية خلفا للأستاذ شادة الذي انتهى عقدة وعاد إلى جامعة همبرج.
والأستاذ شخت أحد تلاميذ المستشرق الكبير المرحوم برجستراسر وقد درس اللغة العربية بجامعة برسلاو وعين مدرساً في جامعة فريبرج فاستاذاً بجامعة كونسبرج، ثم وقع اختيار الجامعة المصرية عليه ليشغل كرسي اللغات السامية.
وقد طاف الأستاذ شخت بلاد الشرق في طلب المخطوطات المجهولة فتمكن من العثور على عشرات الكتب في تاريخ العلوم الإسلامية ونشرها بعد أن ترجم بعضها إلى اللغة الألمانية منها:
1 - رسالته في كتاب الحيل والمخارج للخصاف وقد حصل بها على دكتوراه من جامعة برسلاو في عام 1925.
2 - ترجمة وشرح كتاب الحيل في الفقه للقزويني والمقارنة بينه وبين الحيل الحنفية.
3 - المخارج للأمام محمد بن الحسن الحنفي.
4 - كتاب الشروط للطحاوي.
5 - كتاب جالينوس في الأسماء الطبية وقد اشترك مع الدكتور ماكس مايرهوف في ترجمته وشرحه وتقديمه.
6 - كتاب بالألمانية عنوانه: مجموعة متون إسلامية. وفي هذا الكتاب جمع كثيراً من تاريخ العلوم الإسلامية. مبتدئاً بالأحاديث النبوية ومنتهيا برسالة التوحيد للشيخ محمد عبدة.
7 - كتاب ملتقى الأبحر للشيخ إبراهيم الحلبي، وقد كان أصل هذا الكتاب عند المستشرق(67/66)
المرحوم برجستراسر ولم يتم شرحه وتقديمه.
8 - أخبار القضاة لوقع.
جورج دوهامل مرشح الأكاديمية
منذ أشهر خلا بالأكاديمية الفرنسية كرسي بوفاة صاحبه المسيو كاميل جوليان المؤرخ الكبير. وقد تقدم للحلول في كرسيه عدة من مشاهير العلماء مثل الأستاذ شارليتي مدير جامعة باريس، ومسيو ركولي المؤرخ، ومسيو ليون بيرار الكاتب الشهير، ولكن أحداً منهم لم يظفر بالعدد اللازم من الاصوات. وسيعاد الانتخاب مرة أخرى. وفي هذه المرة يطرح مع المتنافسين اسم جورج دوهامل الكاتب والروائي الشهير، وقد رشح نفسه للكرسي الخالي بصفة رسمية. وجورج دوهامل طبيب سابق حمله تيار الأدب وصرفه عن المهنة؛ واشتهر برقة خياله وسحر أسلوبه وبراعة نقده. ويمتاز أسلوبه بالأخص بنزعة إنسانية مؤثرة، وعطف عميق على المنكوبين في الحياة. وتدور معظم نظرياته وفلسفته حول الدفاع عن الإنسان، ورفعة الفرد والأخلاق.
بنت مدام كوري تتابع أعمال أمها
- قالت (البتي جورنال) أن ابنة مدام كوري مكتشفة الراديوم وزوجها سيذيعان قريباً الطريقة المطلوبة منذ عهد طويل لإيجاد الراديوم الاصطناعي.
وسيعلنان هذه الطريقة لمؤتمر من العلماء في لندن وكمبريدج بين اليوم الأول واليوم السادس من شهر أكتوبر.
أسبانيا ترشح شاعرا لجائزة نوبل
اقترحت جامعة سلامنكا الأسبانية على الحكومة ترشيح العالم الشاعر ميجل دي أونا مونو لجائزة نوبل للآداب في العام الحاضر. فقبلت الحكومة اقتراحها.(67/67)
النقد
أصدقائي الشعراء!
بقلم معاوية محمد نور
ظهرت في الشهور الأخيرة عدة دواوين شعرية، فأثارت كثيراً من اللغط في الصحف، وكثرت عنها الكتابة الرديئة والحسنة، وشاع الحديث بمناسبتها عن الشعر والأدب.
ولقد كان في نيتى إلا أتعرض لهذه الدواوين بخير أو شر، لأن نفوس الأدباء بمصر تضيق ذرعاً بالملاحظة والنقد، ولا تتسع الصدور لكلمة الحق، ويقل التسامح، وتغلق أبواب النظر وسعة الفكر ورحابة العطف الفكري. ولأن معظم من يكتب أو ينظم الشعر يعتقد أن الأدب نوع من الملكية الفردية يسوء صاحبها إلا تقول كلمة الإطراء عن بضاعته.
غير أن الحديث قد تشعب في الآونة الأخيرة في الصحف والمجلات الأدبية عن هذه الدواوين. ويسوء الناقد المخلص أن يرى أن معظم ما كتب في هذا الموضوع لا يوجه القارئ الراغب في الفهم، ولا يصلح الأذواق الأدبية ويوجهها وجه الصدق وطريق الصلاح الأدبي.
وسبب آخر كان ينأى بها عن الكتابة في هذا الموضوع، وهو إن صاحب (وراء الغمام) صديق عزيز علينا، اهدى إلينا ديوانه ليلة ظهوره، وكذلك فعل صاحب (الملاح التائه). وهما ولا شك ينتظران المديح والثناء من صديق يجلس معهما ويأنس صحبتهما. غير أن الموضوع في رأينا قد تعدى أخيراً هذين الأدبيين إلى ما هو اخطر وابعد شأناً؛ تعداه إلى الحديث عن طبيعة الشعر والكتابة، وان الأقلام قد خطرت في هذا الطريق بكلام نعد معظمه خطرا على الحركة الأدبية في مصر، وفهم الفنون الأدبية على الوجه الذي يفهم منها في الجيل الحاضر.
ولهذا رغبها في كتابة هذه الكلمة لا لنمدح أو نذم، ولكن لندلي برأي في الشعر كما نقرؤه ونفهمه، وكما ننتظر من الكتاب والقراء أن يقرأوه ويفهموه.
وأول ما يلاحظ على هاتين المجموعتين أن ديوان (وراء الغمام) يكاد ينحصر في الحب ومطالبه، وأن موضوعات (الملاح التائه) تكاد تنحصر في النظم عن مظاهر الطبيعة الكبرى كالبحر والليل، وان أكثر أخيلته وألفاظه هي عن النسائم والأمواج والشواطئ(67/68)
العامرة أو المهجورة، وما إليها من (الشعريات) التي تواضع العرف الدارج على أنها (الطبيعة). فأولهما إذن يمكن تسميته (بشاعر الحب) والثاني (بشاعر الطبيعة). فكيف يفهم صحابنا الأول الحب، وكيف يعي الثاني الطبيعة، والى أي شيء منها يلتفت ذهنه؟
والمفروض بالبداهة أن مثل هذا الشعر يكتب ليقرأه الرجل المصري أو العربي المثقف، الملم بشيء من حضارة هذا العصر وثقافته، الشاعر (بوعي) هذا الزمن الذي يعيش فيه، والذي تشغله مناظر وآراء ومسائل تثير شكوكه أو تبعثه على التفكير والتأمل والإنتاج الفني.
فلنتكلم عن الحب كموضوع شعري يتناوله أي شاعر عصري، يود أن يقرأه أي مخلوق حي شاعر في القرن العشرين، فليس ثمة شك في أن الحب كحاجة (فسيولوجية) هو كحاجة أي مخلوق حي إلى الأكل والنوم. وهو مظهر عادي تشترك جميع الإحياء فيه (ويمكن ان يقال ان النبات والجماد يعرفان الحب أيضاً والسلب والإيجاب من قوانين الكون بأجمعه) فلم يختص إذن بنظم الشعر والنشيد والأغاني؟
فإذا حدثني صديق أو عشير بأنه يحب امرأة بذاتها، وانه لا يطيق الابتعاد عنها، وأنها تثير لواعج أشجانه وأمراض نفسه، فقد يسمع مثل هذا الحديث ويحمل حينما أجلس إلى أي صديق هادئ فيحدثني عن متاعبه، وما يسمن من الآكال وما يستهجن، وعما يحب أو يكره من ألوان الثياب، ولكني لا أطيق كقارئ حي أن استمع إلى شعر لا يتعدى نفسه نغمة مثل ذكر هذه الأشياء الأولية، وإلا لكان كل فرد منا شاعراً، لان لكل فرد حاجاته وأذواقه وشؤونه التي تتعلق بالحب والآكل والنوم والمجيء والذهاب. فإنما هذه (أبجدية) كل إنسان.
أصدقائي!. . . إن هذا (الشيء) الذي نسميه شعرا والذي نود أن نقرأه نحن الأحياء العارفين لعالم الحبر والورق، هو خلاف (كلام الحسن) عن الأشياء العادية. إنه يتطلب وجود شاعر يأكل كبقية الناس ولا شك، ويحب مثلهم، ولكن نظره وأحاسيسه والتفاتات ذهنه وقفزات وعيه نحو هذه الأشياء العادية (غير عادي)؛ وهو شيء آخر خلاف ما يحس عامة الناس ويقفون عنده. ومن هنا كانت قيمة الشاعر الحق. أي انه (ولو أنني لا أود استعمال الكلمة ولكنها كبيرة الدلالة) فيلسوف. فالحب يصبح موضوعاً جديراً بالشعر كما(67/69)
تصبح أية حاجة إنسانية أخرى حينما يكشف لنا الشاعر معنى ونغماً وراء مظاهره المعروفة ومصاحباته العادية. وربما لا يقع من نفس القارئ هذا النغم وذلك المعنى، وقد يبدو سخيفا أو غير صادق، فالأمزجة تختلف، والثقافات تتباين وتفترق، ولكنه لا يخطئ في أن يبده أي قارئ محس بأن هنا شيئا جديراً بالالتفات والعناية.
أما الشاعر الذي يبدي ويعيد في الحديث عن ملذاته وآلامه وحسراته التي يثيرها شخص المحبوب أو ذكراه فحسب، (مهما اختلفت القافية وتعدد الإيقاع) لا يعد ان يكون إنسانا لم تتسع أنانيته إلى أكثر من حاجته البسيطة المتعارفة، وهو يشبه العليل الذي اكتشف لذة الخبر لأول مرة، أو الرجل الصحيح الذي حيل بينه وبين النوم، فيفرح الأول حينما يتناول وجبة فاخرة، ويتألم الثاني لذلك النوم الهنىء الذي طلقه الآن، وهذه ولا شك أشياء إنسانية عادية لا غبار عليها ولا نقد فيها، ولكن ليس فيها ما يبرر وضعها فناً يسترعي اهتمام القارئ الصحيح، وربما يصلح مثل هذا الشعر ويجمل عند أناس هم دون طبقة هذا (الكوكب الجديد) الذي اكتشف (قارة الأكل) أو (قارة المرأة) وثم وقف يسبح بحمدها.
والدكتور ناجي بعد كل هذا قد قرأ بعض قصائد (لورنس) (وت. س. ايليوث) واضربهما من الشعراء المحدثين والقدماء عن الحب، أولئك الشعراء الذين نراهم جاهدين يفتشون عن الله، ويبحثون في الجنس ونشوة العفاف الروحي، ثم يعود كل منهما (وحقيبة وعيه) ملأى بالأحاسيس المختلفة، والأفكار المريرة أو العذبة، ملاى بالثعأبين التي تبرق كاللؤلؤ، وبالسلام الذي تعقبه أشد فترات الحرب تمزيقاً للأجسام والأرواح، وبالذهول الذي تعقبه اشد فترات الحرب تمزيقاً للأجسام والأرواح، وبالذهول الذي يسموه إلى طبقات السماء، وبالسخر الذي (يرى القمر في أمسية حب أشبه ببالون يلعب به صغار الأطفال)، ثم يذكر أن المساء ينام كرجل عليل ينتظر مبضع الجراح، وبالاختصار (بمعنى) أو (لا معنى) عظيم أو (بتيار وعي) ربما يرى في أنامل الحبيب أقطاراً متسعة ولو أنها بادية التناقض، أو بأحاسيس متناقضة بعيدة، حالكة الظلمة، أو شديدة الوهج.
ونحن لا نريد من هذا الحديث أن يقلد أي أديب أحاسيس غريبة عن نفسه بعيدة عن مطارح فكره، ولكن كقراء مخلصين نطلب منه إذا لم يكن لديه ما يؤلم ويحير، ويسعد ويشقي الشاعر والمفكر والقارئ المعاصر، أن يريحنا ولا يكلف نفسه هذا الجهد. ففي(67/70)
الحياة من التفاهات اليومية، وفي اطراد هذه الحاجات التي نشعر بها في صباحنا ومسائنا ما يجعلها عسيرة الاحتمال، ويضاعف مشقة العيش، فليس بنا ثمة حاجة إلى أن نقرأها في عالم الحبر والورق.
والشاعر العصري - سواء في مصر أو في الصين - الذي لا تثيره تيارات الفكر المعاصر، واكتشافاته ومتاعبه، والذي ليس له وجدان يتغير ويتفاعل بما يسمع ويقرأ ويفكر ويشاهد من عيوب نظام حياتنا الحاضرة، أو نشوز في أنغام فكرنا المعاصر، أو ألوان تسترعي الاهتمام في نسيح الثوب الذي يلفنا، أو فراغ في إنسان بادي الامتلاء، أو أغنية في زاوية من زوايا بيتنا المعنوي، ليس له، بل لنا الحق في إلا نعده في عدد الشعراء المخلصين.
والظاهر أن شعراءنا يعيشون في أجسام محدودة الفكر والإحساس بحدود جسدها وغرفتها التي تسكن، وأن الأشياء منه أو هو لم يعرفها قط. إن نظرة واحدة حيث يتقاطع شارع عماد الدين بشارع فؤاد الأول مثلاً في أي مساء لحرية بأن تبعث في الفنان أحاسيس وأفكاراً تصلح لأن تكون قصيدة جيدة إذا كان له من الشعر نصيب.
والذي يبدو لي من قراءة هؤلاء الشعراء والحديث معهم أيضاً ان ليس في حياتهم الفكرية والشعورية أي شيء يشبه الصحاري العارية الجرداء، أو الظلمات الحالكة، أو البريق الخاطف، أو الحيرة الشاعرة، أو أي اشتغال جدي بناحية من نواحي حياتنا الراهنة، وان الشكوك والمذاهب والقيم الفكرية التي تحرك الفنان العصري في أوروبا إلى الثورة حيناً، والى السام حيناً آخر. أو إلى أي فلسفة أو (عدم فلسفة) يكتشفها الفنان المرهف الإحساس، الواسع العطف، القدير الفهم، وراء مظاهر الحياة اليومية من عمل ونوم، وأكل وحب، ومال وجنس، ما يجعله يقف وقفة قصيرة أو طويلة يحاسب نفسه ويحاسب العالم باجمعه، أو يجرؤ على حوار مع الطبيعة أو الأحياء أو ما رواءها، لم تدن منه أو هو لم يعرفها أبداً.
ليس الشعر أيها الأصدقاء بالمادة الكاملة الصنع التي يمكن أن نشتريها جميعاً من الحانوت. أو يمكن صنعها كما تصنع الثياب على هذا الطراز أو ذاك. إنما الشعر هو (تجربة حية) يحسها شخص حي، ويبصرها وجدان نير، وهي تجربة فردة لم تحصل ولم تر إلا كما(67/71)
حصلت وكما رآها ذلك الشخص الحي، ثم يحاول نقلها وإيصالها عن طريق الكلم والإيقاع - عل قدر مهارته - إلى أمثاله من الأحياء الشاعرين.
وشعر صديقنا ناجي ما زال نغماً واحداً بسيطاً لا يتعدى - بعد زخرفة النظم - إحساس رجل عادي حينما يرى وجهاً مشرقاً، أو جسماً جميلاً أو عملاً عظيماً. فيقف مشدوهاً ويقول: (ما احلى ذلك الوجه، وأي ألم أحس به لحرماني من ذلك الشكل البديع) إلى آخر الأحاسيس التي تحسها أي مادة تحس، وإنها لتبدو لي في بداءتها وطفولتها بما يسمى (رد الفعل) وليصدقني القارئ أن هذا هو كل ما يخرج به الإنسان من شعر ناجي بعد تجريده من صناعة (الكلم) ورنين القافية. أما الرنين (والكلام العالي) كما يسمونه، فقد افضل ان اسمع الأول من (الجازبند) والثاني من الخطابة، ولا اهرع للشعر لا سمع شيئاً من ذلك!
بقية المقال في العدد القادم(67/72)
الكتب
ابن سعود سياسته. حروبه. مطامعه
بقلم مصطفى الحفناوي
كتاب كبير يقع في نحو مائتين وخمسين صفحة من القطع الكبير، افتتحه مؤلفه بمقدمة بليغة عن بلاد العرب منذ عصورها القديمة حتى ظهور جلالة الملك عبد العزيز بن سعود، ثم تكلم عن والد الملك وعن البيئة التي نشأ فيها، واخذ يسرد بعد ذلك تاريخ ابن سعود، فشرح كيف استولى على الرياض، ثم كيف اصبح أمير نجد وأما الوهابيين، وتكلم عن حالة بلاد العرب، وظروفها قبيل الحرب العظمى، وموقف الإنكليز منها، وموقف الملك حسين من هذه الظروف وما لعبه من الأدوار، إلى أن أرانا ابن سعود مل الحجاز ونجد، ثم صوره لنا بطل بلاد العرب، وأخيراً اخذ يشرح لنا إصلاحاته ومقاصده إلى أن اختتم الكتاب بملحق عن الحرب الأخيرة بين الحجاز واليمن، وما آل إليها أمرها.
فأنت ترى أن الكتاب حافل بالمعلومات التي يتوق إليها من يميل إلى معرفة سيرة ابن سعود وبلاد العرب، والحقيقة أن حاجة مصر إلى هذه المعرفة حاجة شديدة، ولذلك كان اغتباطي بهذا الكتاب عظيما، ولقد وضع صاحب السعادة محمد علي علوية باشا مقدمة قيمة له، تحدث فيها عما شاهده في بلاد العرب أثناء سفره في مؤتمر الصلح، وإني أشاطر الباشا رأيه إذ يدعو مصر (أن يكون لها هناك صوت مسموع ومشورة نافذة، وان تتبوأ المركز الذي وضعتها فيه العناية الإلهية في الأقطار الشرقية، وفي مقدمتها مملكة العرب).
ولقد قرأت هذا الكتاب القيم النافع، فبرزت لي فيه بعض مظاهر، رأيت مع احترامي لآراء مؤلفه الفاضل، وتقديري لمجهوده أن أشير إليها أشارة وجيزة.
الكتاب شيق جذاب، لن تضعه حتى تتمه، ومن حسناته البارزة كثرة ما احتوى عليه من المعلومات، مضافا إلى ذلك حسن ترتيبها ومهارة سياقها، غير إنني آخذ على المؤلف موقفه في الغالب موقف من يكتفي بسرد الحوادث، ولعل هذا يفسر لي ما أشار إليه المؤلف في نزاهة وصراحة على غلاف الكتاب من أنه عن (وليمز وآرمستنج بتصرف) فان إعجابه بابن سعود أولاً، وبما كتبه هذان المؤلفان ثانياً، قد حفزه إلى وضع كتابه، فحماسته فيه ظاهرة، وتحيزه إلى الملك واضح، لذلك اكتفى كما ذكرت بسرد الحوادث، ولم أجده برغم(67/73)
استعداده وما يتجلى في عباراته من آثار ذكائه، يعلق عليها معللاً استحسانه إذا استحسن، أو استنكاره إذا استنكر، وأظن ذلك أمراً جوهرياً في صدد الكتابة عن بطل من الأبطال، فالمؤرخ في مثل هذه الحالة مطالب بان يشرح الحوادث شرحا علمياً، مفنداً اوجه الصواب أو الخطأ مع ذكر الأدلة العلمية والأمثلة التاريخية كلما أمكن ذلك، وبهذا تظهر شخصيته، ويصبح لكتابه إلى جانب ما يحوي من معلومات قيمته العلمية. كذلك ليسمح لي الأستاذ أن أعيب عليه هذا التحيز لابن سعود، فهو لا يرى في إلا بطلاً، فان إعانته الظروف ارجع الفضل إليه، أو اكتفى بقوله انه نصر من عند الله، وان اخطأ استخدام الظروف، أشاد بعبقريته ونفوذه. ومما لاحظته بنوع خاص ان المؤلف يحمل على الإنجليز حملات مباشرة مشيراً إلى أطماعهم ومظالمهم في عبارات سطحية أشبه بمقالات الجرائد، وكان خيراً له فيما اعتقد واجدى عليه، ان يوضح أطماعهم، ويترك للقارئ التعليق عليها، فالأبحاث العلمية يجب ان تطبع بطابع الهدوء والرزانة، ولن يعدم المؤلف القدير أن ينال من أعدائه بهدوئه ومهارته أضعاف ما يناله بحدته وضجيج عبارته.
على إن هذه المآخذ لن تغير من جوهر الكتاب، ولن تقلل من نجاح المؤلف النابه فيما قصد إليه، ولئن قدرت كتابه بما ترك في نفسي من أثر، فضلا عما احتوى عليه من شتى المعلومات، فأني اشهد أني استمتعت بقراءته واستفدت منه كثيراً، وإنى أدعو كل أديب إلى قراءته موقناً أني ادله على اثر نافع طريف.
الخفيف(67/74)
أصول التدريس الحديث
عن كتاب (التربية الممارسة) لشاريه
تعريف واقتباس سامي الدهان
يبحث هذا الكتاب في طريقة تدريس المواد المختلفة، وهو مطبوع طبعة جيدة في مطبعة الجدي بحلب، على ورق جيد، ويقع في نيف ومائتي صفحة من القطع المتوسط. تعرض مؤلفه لطرق تدريس الأخلاق، والقراءة، والخط، واللغة، والإملاء، والمحادثة، والإنشاء، والتاريخ، والجغرافيا، والتدبير المنزلي، وانك لا تكاد تقلب صفحاته حتى تشعر بمتانته ودقته، وتحس بما لمؤلفه من خبرة ومران وسعة اطلاع، ودقة بحث.
خذ لذلك مثلا: أصول تدريس الخط، فترى المؤلف قد ألم بجميع نواحي الموضوع، فهو يتكلم عن درس الخط وفائدته، ثم يتكلم عن الخط والصحة مشيراً إلى مساوئ الجلسة المعوجة، ومحاسن الجلسة المستقيمة، ثم يذكر كيفية تدريسه، والى فائدة النماذج الخطية. . . الخ.
من ذلك ترى مقدار اهتمامه بموضوعه. ولقد أعجبني بنوع خاص ما ذكره عن تدريس التاريخ فتساءل أولاً عن فائدة هذه المادة، ثم بين فوائدها الوطنية والاجتماعية والخلقية، وشرح أهمية التاريخ من وجهة الثقافة العقلية، وبين مقدار ما يجب أن يوزع منه في المناهج بحسب الفصول الدراسية، وأخيراً ذكر طريقتي تدرسيه. ولقد تبينت في بحثه الروح الفنية العلمية، التي تميز الراسخين في العلم من سواهم، لذلك اقرر أن الأديب الفاضل سامي الدهان قد احسن إلى اللغة العربية والناطقين بها بنقل هذا الكتاب إليها، واعتقد أن المدرسين سيجدون فيها فائدة عظيمة، فإنى وأن كنت اعتقد إن الطرق الخاصة بتدريس المواد تختلف في مملكة عنها في أخرى، بل وفي مدرسة عنها في مدرسة، فضلاً عما يطرأ من الظروف المحلية والمؤقتة، مما يجعل التمسك بطريقة خاصة أمراً مستحيلاً، أقول إني على الرغم من هذا اعتقد ان القواعد لابد منها، والمدرس الكفء جدير بان يستأنس بها وان يكيف ظروف على ضوئها، ولهذا احمد للمعرب مجهوده، واثنى على مقدرته في التعريب، ولا شك أنها نتيجة لصحة فهمه ما عرب وصدق ميله إليه.
الخفيف(67/75)
العدد 68 - بتاريخ: 22 - 10 - 1934(/)
في سبيل التحرير الاقتصادي
موسم السياحة
أقبل موسم السياحة. ولمصر موسم للسياحة مشهور في جميع أنحاء العالم، لا لأنها أغنى بقاع الأرض من الناحية الأثرية فقط، ولكن لأنها تتمتع أيضاً في الشتاء بجو بديع وطبيعة ساحرة. وفي جميع الأمم التي تشتهر بتراثها الأثري أو جمالها الطبيعي، يوجد موسم أو مواسم للسياحة؛ وتنظم هذه المواسم بحيث تغدو موارد ينتفع بها أهل القطر من الناحية المادية؛ بل توجد أمم وبقاع تعيش على السياحة كسويسرا مثلاً وبلاد التيرول، وساحل الريفييرا والبندقية وغيرها. وتعتبر السياحة في مصر أيضاً مورداً له قيمته وأهميته، وتبذل الحكومة لترويجه كثيراً من المال ومن وسائل الدعاية؛ ولكن هل استطاعت مصر أن تنظم موسم سياحتها على نحو يكفل مصالحها ومصالح أبنائها الذين يتصلون به كما تفعل جميع الأمم؟ وهل تجني مصر ويجني المصريون منه ما يحق لهم أن يجتنوه من المزايا المادية والمعنوية؟ الجواب معروف، وهو أن مغانم موسم السياحة المصري مازالت نهباً للأجانب، يستغلونها باسم مصر والمصريين، ولكن دون مصر والمصريين؛ وما تفيده الحكومة من أجور السكك الحديدية وتذاكر الآثار، وما يفيده بعض المصريين المتصلين بالموسم لا يعد شيئاً بالنسبة لما تحققه الفنادق ووكالات السياحة الأجنبية من الأرباح الوفيرة.
هذه حقيقة لا ريب فيها، ولكن هناك حقيقة أخرى هي أن تبعة هذه النتيجة المؤلمة تقع على عاتق مصر حكومة وشعباً. فالحكومة لم تفعل حتى اليوم شيئاً جدياً لتنظيم موسم السياحة على نحو تراعي فيه المصالح المصرية، ويوضع فيه حد معقول للاستغلال الأجنبي؛ والمصريون من جانبهم لا يفكرون في العمل على استثمار هذا الموسم الذي تهيئه لبلادهم مزاياها الأثرية والطبيعية. فمن المعروف مثلاً أن الفنادق تستأثر بأهم موارد الموسم، وأن هذه الفنادق كلها أجنبية؛ ولكن هل فكرنا نحن في إنشاء فنادق يستطيع أن يؤمها السياح؟ إن إنشاء الفنادق صناعة لها قيمتها وأهميتها ولاسيما في مراكز السياحة المشهورة؛ ففي سويسرا مثلاً تعتبر صناعة الفنادق من أهم الموارد القومية، وقد عرف الأجانب في مصر هذه الحقيقة بإنشاء الفنادق واحتكروا صناعتها، ولكن المعروف أنهم(68/1)
يذهبون في استغلالها إلى حدود مرهقة، حتى إن كثيراً من السياح الذين يفدون على مصر يضجون بالشكوى من غلاء الأجور والأثمان التي تفرض عليهم. وهذا بلا ريب عيب في موسم السياحة المصري له أثره السيئ في سير الموسم، وهو بلا ريب يصرف الكثيرين من متوسطي الحال عن القدوم إلى مصر والتمتع بآثارها وشتائها.
ونذكر أن الحكومة قدرت خطر هذه المسألة منذ أعوام وفكرت فعلاً في إنشاء فندق كبير فخم يقتضي من السياح أجوراً معتدلة، ولكن الفكرة ماتت في مهدها ككل فكرة يخشى منها على المصالح الأجنبية في مصر. وإذاً فليس لنا إلا أن نعتمد على الجهود الخاصة في غزو هذه الصناعة التي يحتكرها الأجانب في بلادنا، ويجنون منها الثروات الطائلة، وهي صناعة لا تقتضي فنوناً أو مواهب خارقة، ولا تقتضي سوى الإقدام وموهبة التنظيم وحسن الذوق؛ وهي ليست أجل خطراً من الشئون المالية الدقيقة التي استطعنا أن نغزوها وأن نبرع فيها على يد بنك مصر وشركاته القوية الميمونة. ولقد أتيح لهذه المؤسسة القومية العتيدة أن تبدأ بالفعل بغزو ميدان له صلة وثيقة بالسياحة وموسمها؛ فقد أنشأت شركة للمواصلات الجوية وأسطولاً جوياً يقوم اليوم بنصيبه في الموصلات المحلية؛ وأنشأت شركة للملاحة لها اليوم أسطول بحري لا يزال في مستهل حياته، ولكن يشق اليوم عباب البحر الأبيض، ويربط مصر بالقارة الأوربية؛ وإذا كنا ننبه اليوم على تقصيرنا في العمل على استثمار موسم سياحتنا والأخذ بنصيبنا في صناعة الفنادق المحلية، فإنما نتجه في تلافي هذا التقصير بادئ بدء إلى بنك مصر أيضاً، وإلى تلك العصبة الميمونة من زعمائنا الاقتصاديين الذين أتوا في الميدان الاقتصادي بالعجائب، فهم أحق الناس بأن يتولوا الزعامة في هذه الناحية أيضاً، فينشئوا لنا شركة مصرية حقيقية تقوم بإنشاء بضعة فنادق فخمة تشترك في استثمار موسم السياحة لحساب المصالح المصرية، وتفتح بذلك باب هذه الصناعة واسعاً أمام المصريين، فيقتدون بها في الإقدام والعمل؛ ولا ريب إن صناعة فنادق مصرية إذا أقيمت على أسس مستنيرة تلقى نصيبها الأوفر من النجاح، نظراً لقناعتها واعتدالها.
هذا وفي وسع المصريين أن يحققوا بغزو هذه الصناعة، فضلاً عن الأرباح المادية لبلادهم، مزايا أدبية جليلة عن طريق الاتصال بموسم السياحة؛ فالسياح من مختلف الأمم،(68/2)
لا يتصلون عند مقدمهم إلى هذه البلاد بكثير من المصريين المستنيرين، إذ يتلقفهم الأجانب والفنادق الأجنبية، ويأخذون معظم معلوماتهم عن مصر من الأجانب؛ وليست هذه المعلومات دائماً دقيقة ولا نزيهة. فإذا أتيح للمصريين أن يتصلوا بطبقات السياح عن غزو ميدان السياحة، فإنهم يستطيعون أن يقدموا لضيوفهم عن بلادهم كل المعلومات المطلوبة، وأن يذيعوا بذلك مآثرها ومحاسنها بين السياح من مختلف الأمم، فيكون لها بذلك حسن الذكرى في كثير من البلاد.
هذه كلمة أوحى بها إلينا إقبال موسم السياحة الذي يتجدد كل عام في مثل هذا الفصل؛ والذي ما يزال الأجانب يستأثرون بمغانمه باسم مصر؛ نرجو أن يكون لها بعض الصدى والأثر.
(ع)(68/3)
قُبحٌ جميل
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
دخل أحمد بن أيمن (كاتب ابن طولون) البصرة، فصنع له مسلم بن عمران التاجر المتأدب صنيعاً دعا إليه جماعة من وجوه التجار وأعيان الأدباء، فجاء ابنا صاحب الدعوة، وهما غلامان، فوقفا بين يدي أبيهما، وجعل ابن أيمن يطيل النظر إليهما، ويعجب من حسنهما وبزتهما وروائهما، حتى كأنما أُفرغا في الجمال وزينته إفراغاً، أو كأنما جاءا من شمس وقمر لا من أبوين من الناس، أو هما قد نبتا في مثل تهاويل الزهر من زينته التي تبدعهما الشمس، ويصقلها الفجر، ويتندى بها روح الماء العذب. وكان لا يصرف نظره عنها إلا رجع به النظر، كأن جمالهما لا ينتهي فما ينتهي الإعجاب به.
وجعل أبوهما يسارقه النظر مسارقة، ويبدو كالمتشاغل عنه، ليدع له أن يتوسم ويتأمل ما شاء، وأن يملأ عينيه مما أعجبه من لؤلؤتيه ومخايلهما. بيد أن الحسن الفاتن يأبى دائماً إلا أن يسمع من ناظره كلمة الإعجاب به، حتى لينطق المرء بهذه الكلمة أحياناً، وكأنها مأخوذة من لسانه أخذاً، وحتى ليحس أن غريزةً في داخله كلمها الحسن من كلامه فردت عليه من كلامها.
قال ابن أيمن: سبحان الله؛ ما رأيت كاليوم قطُ دميتين لا تُفتح الأعين على أجمل منهما؛ ولو نزلا من السماء وألبستهما الملائكة ثياباً من الجنة ما حسبتُ أن تصنع الملائكة أظرف ولا أحسن مما صنعت أمهما.
فالتفت إليه مسلم، وقال أحب أن تعوّذهما. فمد الرجل يده ومسح عليهما، وعوّذهما بالحديث المأثور، ودعا لهما، ثم قال: ما أراك إلا استجدْت الأم فحسُن نسلك، وجاء كاللؤلؤ يشبه بعضه بعضاً، صغاره من كباره؛ وما عليك ألا تكون تزوجت ابنة قيصر فأولدتها هذين، وأخرجتهما هي لك في صيغتها الملوكية من الحسن والأدب والرونق، وما أرى مثلهما يكونان في موضع إلا كان حولهما جلال المُلك ووقاره، مما يكون حولهما من نور تلك الأم.
فقال مسلم: وأنت على ذلك غير مصدّق إذا قلت لك إني لا أحب المرأة الجميلة التي تصف، وليس بي هوى إلا في امرأة دميمة هي بدمامتها أحبّ النساء إليّ، وأخفّهن إلى قلبي، وأصلحهن لي، ما أعدِل بها ابنة قيصر ولا ابنة كسرى.(68/4)
فبقى ابن أيمن كالمشدوه من غرابة ما يسمع، ثم ذكر أن من الناس من يأكل الطين ويستطيبه لفسادٍ في طبعه، فلا يحلو السكّر في فمه وإن كان مكرراً خالص الحلاوة. ورثى أشد الرثاء لأم الغلامين أن يكون هذا الرجل الجلف قد ضارها بتلك الدميمة أو تسرّى بها عليها. فقال وما يملك نفسه: أما والله لقد كفرتَ النعمة، وغدرتَ وجحدتَ وبالغتَ في الضُّر، وإن أم هذين الغلامين لامرأة فوق النساء، إذ لم يتبين في ولديها أثر من تغير طبعها وكدر نفسها، وقد كان يسعها العذر لو جعلتهما سخنةَ عين لك، وأخرجتهما للناس في مساوئك لا في محاسنك، وما أدرى كيف لا تندّ عليك، ولا كيف صلُحت بمقدار ما فسدتَ أنت، واستقامتْ بمقدار ما التويتَ، وعجيب والله شأنكما! إنها لتغلو في كرم الأصل والعقل والمروءة والخلق، كما تغلو أنت في البهيمية والنزق والغدر وسوء المكافأة.
قال مسلم: فهو والله ما قلتُ لك، وما أحب إلا امرأة دميمة قد ذهبتْ بي كل مذهب، وأنستني كل جميلة في النساء، ولئن أخذتُ أصفها لك لما جاءت الألفاظ من القُبح والشّوهة والدمامة؛ غير إنها مع ذلك لا تجئ إلا دالة على أجمل معاني المرأة عند رُجلها في الحظوة والرضا وجمال الطبع. وانظر كيف يلتئم أن تكون الزيادة في القبح هي زيادة الحسن وزيادة في الحب، وكيف يكون اللفظ الشائه، وما فيه لنفسي إلا المعنى الجميل، وإلا الحس الصادق بهذا المعنى، وإلا الاهتزاز والطرب لهذا الحس؟
قال ابن أيمن: والله إن أراك إلا شيطاناً من الشياطين، وقد عجّل الله لك من هذه الدميمة زوجتك التي كانت لك في الجحيم، لتجتمعا معاً على تعذيب تلك الحوراء الملائكية أم هذين الصغيرين، وما أدرى كيف يتصل ما بينكما بعد هذا الذي أدخلتَ من القبح والدمامة في معاشرتها ومعايشتها، وبعد أن جعلتها لا تنظر إليك إلا بنظرتها إلى تلك. أفبهيمةٌ هي لا تعقل، أم أنت رجل ساحر، أم فيك ما ليس في الناس، أم أنا لا أفقه شيئاً؟
فضحك مسلم وقال: إن لي خبراً عجيباً: كنت أنزل (الأُبُلّة) وأنا متعيّش فحملت منها تجارة إلى البصرة فربحت، ولم أزل أحمل من هذه إلا هذه فأربح ولا أخسر، حتى كثر مالي، ثم بدا لي أن أتسع في الآفاق البعيدة لأجمع التجارة من أطرافها، وأبسط يدي للمال حيث يكثر وحيث يقلّ، وكنت في ميْعة الشباب وغُلَوائه، وأول هجمة الفتوة على الدنيا، وقلتُ: إن في ذلك خلالاً؛ فأرى الأمم في بلادها ومعايشتها، وأتقلّب في التجارة، وأجمع المال والطرائف،(68/5)
وأفيد عظةً وعبرة، وأعلم علماً جديداً، ولعلني أصيب الزوجة التي أشتهيها وأصور لها في نفسي التصاوير، فإن أمري من أوله كان إلى علوّ فلا أريد إلا الغاية، ولا أرمي إلا للسَبَق، ولا أرضى أن أتخلف في جماعة الناس. وكأني لم أر في الأبلة ولا في البصرة امرأة بتلك التصاوير التي في نفسي، فتأخذها عيني، فتعجبني، فتصلح لي، فأتزوج بها. وطمعت أن استنزل نجماً من تلك الآفاق أحرزه في داري؛ فما زلت أرمي من بلد إلى بلد حتى دخلت (بلخ) من أجلّ مدن خراسان وأوسعها غلّة، تحمل غلّتها إلى جميع خراسان وإلى خوارزم؛ وفيها يومئذ كان عالمها وإمامها (أبو عبد الله البلخي) وكنا نعرف اسمه في البصرة؛ إذ كان قد نزلها في رحلته وأكثر الكتابة بها عن الرواة العلماء؛ فاستخفّتني إليه نزّية من شوقي إلى الوطن، كأن فيه بلدي وأهلي؛ فذهبت إلى حلْقته، وسمعته يفسر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سوداءُ ولود خيرٌ من حسناء لا تلد) فما كان الشيخ إلا في سحابة، وما كان كلامه إلا وحياً يوحى إليه. سمعت والله كلاماً لا عهد لي بمثله، وأنا من أول نشأتي أجلس إلى العلماء والأدباء وأداخلهم في فنون من المذاكرة، فما سمعت ولا قرأت مثل كلام البلخي، ولقد حفظته حتى ما تفوتني لفظة منه، وبقي هذا الكلام يعمل في نفسي عمله، ويدفعني إلى معانيه دفعاً حتى أتى عليّ ما سأحدّثك به. إن الكلمة في الذهن لتوجد الحادثة في الدنيا.
قال ابن أيمن: إطو خبرك إن شئت، ولكن اذكر لي كلام البلخي، فقد تعلّقت نفسي به.
قال سمعت أبا عبد الله يقول في تأويل ذلك الحديث: أما في لفظ الحديث فهو من معجزات بلاغة نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو من أعجب الأدب وأبرعه، ما علمت أحداً تنبه إليه؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لا يريد السوداء بخصوصها، ولكنه كنى بها عما تحت السواد، وما فوق السواد، وما هو إلى السواد من الصفات التي يتقبّحها الرجال في خلقة النساء وصورهن؛ فألطف التعبير ورقّ به، رفعاً لشأن النساء أن يصف امرأة منهن بالقبح والدمامة، وتنزيهاً لهذا الجنس الكريم، وتنزيهاً للسانه النبوي؛ كأنه صلى الله عليه وسلم يقول: إن ذِكر قبح المرأة هو في نفسه قبيح في الأدب، فإن المرأة أم أو في سبيل الأمومة؛ والجنة تحت أقدام الأمهات؛ فكيف تكون الجنة التي هي أحسن ما يُتخيّل في الحسن تحت قدمي امرأة، ثم يجوز أدباً أو عقلاً أن توصف هذه المرأة بالقبح.
أما إن الحديث كالنص على أن من كمال أدب الرجل إذا كان رجلاً ألا يصف امرأة بقبح(68/6)
الصورة البتة، وألا يجري في لسانه لفظ القبح وما في معناه، موصوفاً به هذا الجنس الذي منه أمه: أيودّ أحد أن يمزق وجه أمه بهذه الكلمة الجارحة؟
وقد كان العرب يفضلون لمعاني الدمامة في النساء ألفاظاً كثيرة؛ إذ كانوا لا يرفعون المرأة عن السائمة والماشية. أما أكمل الخلق صلى الله عليه وسلم، فما زال يوّصي بالنساء ويرفع شأنهن، حتى كان آخر ما وصى به ثلاث كلمات كان يتكلم بهن، إلى أن تلجلج لسانه وخفي كلامه؛ جعل يقول (الصلاة. . الصلاة. وما ملكت أيمانكم، لا تكلفوهم ما لا يطيقون؛ اللهَ اللهَ في النساء.)
قال الشيخ: كأن المرأة من حيث هي إنما هي صلاة تتعبد بها الفضائل، فوجبت رعايتها وتلقيها بحقها. وقد ذكرها بعد الرقيق، لأن الزواج بطبيعته نوع رق؛ ولكنه ختم بها وقد بدأ بالصلاة، لأن الزواج في حقيقته نوع عبادة.
قال الشيخ: ولو أن أماً كانت دميمة شوهاء في أعين الناس لكانت مع ذلك في عين أطفالها أجمل من ملكة على عرشها؛ ففي الدنيا من يصفها بالجمال صادقاً في حسه ولفظه، لم يكذب في أحدهما، فقد انتفى القبح إذن، وصار وصفها به في رأى العين تكذيباً لوصفها في رأى النفس، ولا أقل من أن يكون الوصفان قد تعارضا فلا جمال ولا دمامة.
قال الشيخ وأما في معنى الحديث، فهو صلى الله عليه وسلم يقرر للناس أن كرم المرأة بأمومتها، فإذا قيل: إن في صورتها قبحاً فالحسناء التي لا تلد أقبح منها في المعنى. وانظر أنت كيف يكون القبح الذي يقال إن الحسن أقبح منه. . .!
فمن أين تناولت الحديث رأيته دائراً على تقدير أن لا قبح في صورة المرأة، وإنها منزهة في لسان المؤمن أن توصف بهذا الوصف، فإن كلمات القبح والحسن لغة بهيمية تجعل حب المرأة حباً على طريقة البهائم، من حيث تفضلها طريقة البهائم بأن الحيوان على احتباسه في غرائزه وشهواته لا يتكذب في الغريزة ولا في الشهوة بتلوينهما ألواناً من خياله، ووضعهما مرة فوق الحد، ومرة دون الحد.
فأكبر الشأن هو للمرأة التي تجعل الإنسان كبيراً في إنسانيته، لا التي تجعله كبيراً في حيوانيته، فلو كانت هذه الثانية هي التي يصطلح الناس على وصفها بالجمال فهي القبيحة لا الجميلة، إذ يجب على المؤمن الصحيح الإيمان أن يعيش فيما يصلح به الناس، لا فيما(68/7)
يصطلح عليه الناس؛ فإن الخروج من الحدود الضيقة للألفاظ إلى الحقائق الشاملة هو الاستقامة بالحياة على طريقها المؤدي إلى نعيم الآخرة وثوابها.
وهناك ذاتان لكل مؤمن: إحداهما غائبة عنه، والأخرى حاضرة فيه، وهو إنما يصل من هذه إلى تلك، فلا ينبغي أن يحصر السيماوية الواسعة في هذه الترابية الضيقة. والقبح إنما هو لفظ ترابي يشار به إلى صورة وقع فيها من التشويه مثل معاني التراب. والصورة فانية زائلة، ولكن عملها باقٍ؛ فالنظر يجب أن يكون إلى العمل. فالعمل هو لا غيره الذي تتعاوره ألفاظ الحسن والقبح.
وبهذا الكمال بالنفس، وهذا الأدب، قد ينظر الرجل الفاضل من وجه زوجته الشوهاء الفاضلة، لا إلى الشوهاء، ولكن إلى الحور العين. إنهما في رأى العين رجل وامرأة في صورتين متنافرتين جمالاً وقبحاً؛ أما في الحقيقة والعمل وكمال الإيمان الروحي فهما إرادتان متحدتان تجذب إحداهما الأخرى جاذبية العشق وتلتقيان معاً في النفسين الواسعتين، المراد بهما الفضيلة وثواب الله والإنسانية؛ ولذلك اختار الإمام احمد بن حنبل عوراء على أختها، وكانت أختها جميلة، فسأل: من أعقلهما؟. فقيل: العوراء. فقال: زوجوني إياها. فكانت العوراء في رأي الإمام وإرادته هي ذات العينين الكحيلتين، لوفور عقله وكمال إيمانه.
قال أبو عبد الله: والحديث الشريف بعد كل هذا الذي حكيناه يدل على أن الحب متى كان إنسانياً جارياً على قواعد الإنسانية العامة، متسعاً لها غير محصور في الخصوص منها - كان بذلك علاجاً من أمراض الخيال في النفس، واستطاع الإنسان أن يجعل حبه يتناول الأشياء المختلفة، ويرد على نفسه من لذاتها، فإن لم يسعده شئ بخصوصه، وجد أشياء كثيرة تسعده بين السماء والأرض، وإن وقع في صورة امرأته ما لا يعدّ جمالاً، رأى الجمال في أشياء منها غير الصورة، وتعرّف إلى ما لا يخفى، فظهر له ما يخفى.
وليست العين وحدها هي التي تؤامر في أي الشيئين أجمل، بل هناك العقل والقلب، فجواب العين وحدها، إنما هو ثلث الحق. ومتى قيل (ثلث الحق) فضياع الثلثين يجعله في الأقل حقاً غير كامل.
فما نكرهه من وجه، قد يكون هو الذي نحبه من وجه آخر، إذا نحن تركنا الإرادة السليمة(68/8)
تعمل عملها الإنساني بالعقل القلب، وبأوسع النظرين دون أضيقهما (وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيرا.)
فوثب ابن الأيمن، وأقبل يدور في المجلس مما دخله من طرب الحديث ويقول: ما هذا إلا كلام الملائكة سمعناه منك ياْبن عمران. قال مسلم: فكيف بك لو سمعته من أبي عبد الله؛ إنه والله قد حبب إلي السوداء القبيحة والدميمة، ونظرت لنفسي بخير النظرين، وقلت: إن تزوجتُ يوماً فما أبالي جمالاً ولا قبحاً، إنما أريد الإنسانية كاملة مني ومنها ومن أولادنا، والمرأة في كل امرأة، ولكن ليس العقل في كل امرأة.
قال: ثم إني رجعت إلى البصرة، وآثرت السكنى بها، وتعالم الناس إقبالي، وعلمت أنه لا يحسن بي المقام بغير زوجة، ولم يكن بها أجلّ قدراً من جد هذين الغلامين. وكانت له بنت قد عضلها وتعرض بذلك لعداوة خطابها، فقلت: ما لهذه البنت بد من شأن، ولو لم تكن اكمل النساء وأجملهن ما ضن بها أبوها رجاوة أن يأتيه من هو أعلى، فحدثتني نفسي بلقائه فيها، فجئته على خلوة. . .
فقطع عليه ابن أيمن وقال: قد علمنا خبرها من منظر هذين الغلامين، وإنما نريد من خبر تلك الدميمة التي تعشّقتها.
قال: مهلاً فستنتهي القصة إليها. ثم إني قلت: يا عم، أنا فلان بن فلان التاجر. قال: ما خفي عني محلك ومحل أبيك. فقلت: جئتك خاطباً لابنتك. قال: والله ما بي عنك رغبة، ولقد خطبها إلي جماعة من وجوه البصرة وما أجبتهم، وإني لكارهٌ من إخراجها عن حضني إلى من يقوّمها تقويم العبيد. فقلت: قد رفعها الله عن هذا الموضع، وأنا أسألك أن تدخلني في عددك، وتخلطني بشملك. فقال: ولابد من هذا؟ قلت: لابد. فقال: أُغد عليّ برجالك.
فانصرفت منه إلى ملأ من التجار ذوي أخطار، فسألتهم الحضور في غدٍ. فقالوا: هذا رجل قد ردّ من هو أثرى منك، وإنك لَتُحرّكنا إلى سعى ضائع. قلت لابد من ركوبكم معي. فركبوا على ثقة من أنه سيردهم.
فصاح ابن أيمن، وقد كادت روحه تخرج: فذهبْت فزوجك بالجميلة الرائعة أم هذين، فما خبر تلك الدميمة.
قال مسلم: يا سيدي قد صبرتَ إلى الآن، أفلا تصبر على كلمات تنبئك من أين يبدأ خبر(68/9)
الدميمة، فإني ما عرفتها إلا في العرس.
قال: وغدونا عليه فأحسن الإجابة وزوجني، وأطعم القوم ونحر لهم، ثم قال: إن شئت أن تبيت بأهلك فافعل، فليس لها ما يُحتاج إلى التلوّم عليه وانتظاره.
فقلت: هذا يا سيدي ما أحبه. فلم يزل يحدثني بكل حسن حتى كانت المغرب، فصلاها بي، ثم سبّح وسبّحت، ودعا ودعوت، وبقي مقبلاً على دعائه وتسبيحه ما يلتفت لغير ذلك، فأمضّني - علم الله - كأنه يرى أن ابنته مقبلة مني على مصيبة، فهو يتضرع ويدعو. ثم كانت العتَمة فصلاها بي، وأخذ بيدي فأدخلني إلى دار قد فُرشت بأحسن فرش، وبها خدم وجوار في نهاية من النظافة. فما استقر بي الجلوس حتى نهض وقال: أستودعك الله، وقدّم الله لكما الخير وأحرز التوفيق.
واكتنفني عجائز من شمله، ليس فيهن شابة إلا من كانت في الستين. . . فنظرت فإذا وجوه كوجوه الموتى، وإذا أجسام بالية يتضام بعضها إلى بعض، كأنها أطلال زمن قد انقضّ بين يديّ.
فصاح ابن أيمن: وإن دميتك لعجوز أيضاً. . .؟ ما أراك ياْ ابن عمران إلا قتلت أم الغلامين. . .!
قال مسلم: ثم جَلَون ابنته عليّ وقد ملأْن عينيّ هرماً وموتاً وأخيلة شياطين وظلال قرود؛ فما كدت أستفيق لأرى زوجتي، حتى أسرعْن فأرخين الستور علينا؛ فحمدت الله لذهابهن، ونظرت.
وصاح ابن أيمن وقد أكله الغيظ: لقد أطلت علينا فستحكي لنا قصتك إلى الصباح، قد علمناها، فما خبر الدميمة الشوهاء؟.
قال مسلم: لم تكن الدميمة الشوهاء إلا العروس!
فزاغت أعين الجماعة، , اطرق ابن أيمن إطراقة من ورد عليه ما حيره. ولكن الرجل مضى يقول: ولما نظرتها لم أر إلا ما كنت حفظته عن أبي عبد الله البلخي، وقلت: هي نفسي جاءت بي إليها، وكأن كلام الشيخ إنما كان عملاً يعمل فيّ ويديرني ويصرّفني. وما أسرع ما قامت المسكينة فأكبّت على يدي وقالت:
(يا سيدي، إني سر من أسرار والدي، كتمه عن الناس وأفضى به إليك إذ رآك أهلاً لستره(68/10)
عليه، فلا تُخفِر ظنه فيك. ولو كان الذي يُطلب من الزوجة حسن صورتها دون حسن تدبيرها وعفافها لعظمت محنتي. وأرجو أن يكون معي منهما أكثر مما قصّر بي في حسن الصورة؛ وسأبلغ محبّتك في كل ما تأمرني. ولو أنت آذيتني لعدَدْتُ الأذى منك نعمة، فكيف إن وسعني كرمك وسترك؟ إنك لا تعامل الله بأفضل من أن تكون سبباً في سعادة بائسة مثلي. أفلا تحرص يا سيدي على أن تكون هذا السبب الشريف؟)
ثم إنها وثبت فجاءت بمال في كيس وقالت: يا سيدي، قد أحل الله لك معي ثلاث حرائر وما آثرْته من الإماء؛ وقد سوّغتك تزويج الثلاث وابتياع الجواري من مال هذا الكيس، فقد وقفته على شهواتك، ولست أطلب منك إلا ستري فقط.
قال احمد بن أيمن: فحلف لي التاجر: إنها ملكت قلبي ملكاً لا تصل إليه حسناء بحسنها، فقلت لها: إن جزاء ما قدمتِ ما تسمعينه مني (والله لأجعلنّك حظي من دنياي فيما يؤثره الرجل من المرأة، ولأضربن على نفسي الحجاب ما تنظر نفسي إلى أنثى غيرك أبداً) ثم أتممت سرورها فحدثتُها بما حفظته عن أبي عبد الله البلخي. فأيقنت والله يا أحمد أنها نزلت مني في أرفع منازلها، وجعلت تحسن وتحسن كالغصن الذي كان مجروداً ثم وخزته الخضرة من هنا ومن هنا.
وعاشرتُها فإذا هي أضبط النساء، وأحسنهن تدبيراً، وأشفقهن عليّ، وأحبهن لي؛ وإذا راحتي وطاعتي أول أمرها وآخره؛ وإذا عقلها وذكاؤها يظهران لي من جمال معانيها ما لا يزال يكثر ويكثر، فجعل القبح يقل ويقل، وزال القبح باعتيادي رؤيته، وبقيت المعاني على جمالها؛ وصارت لي هذه الزوجة هي المرأة وفوق المرأة.
ولما ولدت لي جاء ابنها رائع الصورة، فحدثتني أنها كانت لا تزال تتمنى على كرم الله وقدرته أن تتزوج وتلد أجمل الأولاد، ولم تدع ذلك من فكرها قط، وألف لها عقلها صورة أجمل غلام تتمثله وما برحت تتمثله. فإذا هي أيضاً كان لها شأن كشأني، وكان فكرها عملاً يعمل في نفسها، ويديرها ويصرّفها.
ورزقني الله منها هذين الابنين الرائعين لك؛ فانظر أي معجزتين من معجزات الإيمان.
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(68/11)
صفحة من التاريخ
ميدان القَبَق
بين السعد والنحس
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
صف لي ملاهي قوم من الأقوام أصف لك خلقهم ونصيبهم من الحياة - وإذا أخطأني حظ الإصابة مرة لم يكن الخطأ إلا مؤقتاً، ويكون تطاول الأيام كفيلاً بتحقيق ما أتوقع - وليس ذلك ناشئاً من أن الله قد وهبني ما لم يهب سواي من قدرة على التكهن أو التنبؤ، بل هي مجاري الأقدار تنساق في سبيل لا حيلة في الحيد عنها، ولا وسيلة إلى الانفلات منها. .
وقد علمت أن الرومان أقبلوا على ملاهٍ يقشعر بدن الإنسانية من تصور ما كان يجري فيها من فظائع. . وأيمن الحق ما كان لامرئ أن يتنبأ لشعب الرومان إلا بالانحدار والانحلال مادامت نفوسهم لا تهتز إلا بسفك الدماء، ولا ترتاح إلا إلى مناظر الوحشية. وقد رأيت ما تنم عليه آثار مدنية بومبي من هُوى إلى سحيق الدعارة، وما كان لك أن تتطلع في مستقبل ذلك الشعب إلا إلى نزول وهبوط، إذ إن النفوس لا تلهو إلا بما مرنت عليه واطمأنت إليه وسرى في عاداتها وتغلغل في حياتها. وللحياة القوية مطالب وتكاليف، إذا اعتادت النفوس القيام عليها صارت لذتها في مباشرتها. ودونك من الشعوب القوية ما يوضح ذلك أتم إيضاح، فذلك شعب الإنجليز ترى لذة شبانه وكهوله في ممارسة الرياضة بأنواعها، والجولان في البحر والبر والهواء، يجدون اللذة القصوى في مقارعة الأخطار ومقابلة العقبات. وإذا شئت مثلاً آخر فلا تعوزك المثل؛ فالشعوب القوية ولله الحمد كُثر في كل عصر، ولن ترى شعباً قوياً تنزو به الحياة وتثب به القوة إلا رأيت لذته في مثل مقارعة الخطوب ومنازلة قوى الطبيعة. ولقد كان لنا آباء - رحمهم الله - لم يكونوا من المتخلفين في ميدان الحياة. بل كانوا حماة عصرهم وسادة جيلهم. ولست أتردد في أن أسميهم بالآباء، على أنهم قد لا يكونون لي آباء. كما أنني لا أتردد في أن أسمي الفراعين آبائي، ولعلهم لم يكونوا من آبائي. فإنني لا تجري فيّ دماء الملوك. ولئن كان فيّ شئ منها فقد جهلته. فالملوك الأقدمون منذ خلدوا على صفحات التاريخ قد أصبحوا اليوم آباء لنا في أنهم كانوا(68/13)
الحفظة لمُثلنا العليا، والقوّام على آمالنا القومية. فهم آباؤنا في التراث القومي وإن بعدت بيننا علاقات النسب. لا، بل وإن اختلفت ألوان الدماء وتباينت مواطن الشعوب.
في جانب القاهرة المعزية من الشمال الشرقي حي اسمه الآن حي العباسية الشرقية، ومن ورائه من ناحية الجبل مساحة عظيمة مسطحة لا تكاد ترى فيها نشزاً. وقد اختطت في بعض جهات هذا المتسع في أيامنا الحاضرة مدافن حديثة شقت ما بينها الشوارع وأنشئت الحدائق، وهذا السهل يتصل إلى جنوب القاهرة فيما يلي قلعة الجبل لا تكاد ترى في كل هذه المسافة تلاً تعكر سهولة السطح، وهذه المساحة هي بعينها الميدان القديم الذي أنشأه أحد أجدادنا العظام الذين قدمت الإشارة إليهم، وهو الملك العظيم الظاهر بيبرس البندقداري؛ وكان اسم هذا الميدان الفسيح في تسمية العامة: (الميدان الأسود) أو ميدان السباق. وكان في تسمية الخاصة: (ميدان القَبَق).
أما القبق فهو آلة من آلات التمرين الحربي، وهو عبارة عن قرص كبير من الخشب يوضع فوق سارية عالية، ويوضع وراءه هدف يرمي إليه الجنود سهامهم؛ وكان الرمي بالقسي والسهام من أكبر وسائل الرياضة عند أهل ذلك العصر من سني القرن الثالث عشر الميلادي أو القرن السابع الهجري.
وكانت مصر حينئذ قلب الشرق الإسلامي وكنانته. إذ كانت بلاد ما بين النهرين قد أكلتها نيران التتار، وأصبحت دامية صريعة تئن تحت سنابك خيل أحفاد جنكيز خان. وكانت بلاد الشام لا تزال تعاني بقايا الفتح الأوربي الذي اعتراها في مدة الحروب الصليبية، وكانت أوربا لا تزال في أول أدوار النهضة بعد أمد العصور الوسطى، ولا تزال على عقليتها القديمة التي دفعتها إلى الحروب الصليبية تحاول ما استطاعت أن تبطش بدول الإسلام.
فكان على دولة مصر أن تحفظ مدنية الإسلام، وتراث العلم والنور من موجة التتار المخربة المدمرة من جانب الشرق، وأن تدفع عادية أوربا المحنقة الثائرة من جانب الغرب. ولهذا كان لا مفر من أن تكون مصر على رباط دائم، وفؤاد يقظ حديد.
وكان بيبرس ممثل الدفاع في القرن الثالث عشر الميلادي؛ حمل الراية مدة حكمه الطويل فكان بطلاً موفقاً مجدوداً.(68/14)
لم تكن أعوامه تخرج عن عام غزو في بلدة من بلاد الشام، أو عام موكب انتصار عقب فتح من الفتوح. وما كانت مواسم مصر على يديه إلا تلك المواسم النابضة بالحماسة، الجياشة بمعاني الرجولة والحياة القوية.
وكان ميدان القبق مشهد أكبر للمواسم وأحبها إلى الناس، سواء في ذلك العامة والخاصة. وها نحن أولاء نصف واحداً من تلك المواسم البيبرسية التي سادها السعد والتوفيق؛ فكان مبعث سرور للآلاف من الناس وآية مجد وجلال للدولة ورجالها.
كان ذلك في يوم شديد الحر في شهر رمضان؛ وكانت العادة أن ترش أرض الميدان الأسود بالماء قبل أن يبدأ فيه الاحتفال؛ فرأى السلطان الجليل (بيبرس) إن رش هذا الميدان الفسيح في مثل هذا اليوم القائظ وفي شهر الصيام فيه تكليف شاق على الناس. وأشفق أن ينالهم من ذلك أذى، فأمر أن يكف الناس عن الرش وأن يتحمل جنوده مشقة الاحتفال في القيظ بغير ترطيب الأرض بالماء.
وأبى الله أن يجزى مثل هذا العطف بغير جزائه. فكان من دلائل سعد السلطان ويمن أيامه أن ساقت الرياح غمامة في ذلك اليوم على غير عادة في مثل ذلك الوقت، فأمطرت الميدان حتى رطبت أرضه، ثم أقلعت. وما أتى وقت الاحتفال حتى رأى بيبرس وفرسانه ميداناً دهساً غير ملبد ولا زلق.
دخل السلطان العظيم على رأس قواته وجنوده، فكلف كبارهم بإظهار ما عندهم من البراعة في الرماية. ووقف الناس ألوفاً حولهم يعجبون بما يرون، وتثب قلوبهم سروراً بما يعجبون به، إذ رأوا حماتهم جديرين بما أولوهم من زعامة في الدفاع المجيد.
ثم ركب السلطان في قمة الصف، واصطف وراءه القواد والجنود بحسب المراتب المرسومة، وحمل كما يحمل إذ يكون في ميدان الحرب وحمل وراءه أتباعه كباراً وصغاراً، كأنما هم رجل واحد، ولهم إرادة واحدة. فإذا كر السلطان كانت الألوف وراءه كجزء منه، وإذا لف كانت الألوف من خلفه كأنما هي قطعة واحدة - وتعالت عند ذلك أصوات الإعجاب والحماسة، واختلطت بزفرات الدعاء والولاء، فلقد كان بيبرس العظيم مليكاً على الناس مسيطراً على الأفئدة.
وانتهى اليوم على ما ابتدأ به من السعد، ووزعت الهبات والصلات، وتتابعت العطايا(68/15)
والهدايا، ونال الناس من بر ذلك اليوم ما لم يفت طبقة من الطبقات، فقد قرت أعين الأمراء بالتكريم، وأثلجت صدور الفقراء بالعطاء.
وما كان مثل عصر (بيبرس) ليذهب بغير أثره، فقد أصبح الناس جميعاً ولا همة لهم إلا في تقديس أبطال الفرسان، ولا مسرة إلا ما تبعثه مناظر الكر والفر، وأصبح بفضل هذا الروح في مصر جيش من أبطال مازالوا مضرب الأمثال في النظام والشجاعة والمهارة، وأصبح الشعب وذهنه منصرف إلى ناحية حياة الرجولة والدفاع والنضال، لا يقبل على لهو إقباله على شهود أيام الاحتفال. قال المقريزي في وصف ذلك: (وصارت تلك الأمكنة لا تسع الناس وما بقى لأحد شغل إلا لعب الرمح ورمي النشاب).
غير إن ذلك الميدان لم يشهد السعد وحده، بل شهد بعض ساعات من النحس بعد أن تغير الزمان وتبدل الحال. ولم يكن في الإمكان أن يجود الزمان بالأفذاذ يتبع بعضهم بعضاً بغير انقطاع. وإلا فلم سمي الأفذاذ أفذاذاً؟
فحكم مصر في أواخر القرن الثالث عشر المسيحي سلطان آخر يمتاز عن بيبرس بأنه من سلالة ملكية، إذ كان أبوه سلطاناً قبله غير أنه لم يكن في مثل قوة بيبرس ولا في مثل توفيقه وسعده، وذلك هو السلطان الأشرف خليل بن قلاوون.
أراد يوماً أن يحتفل احتفالاً مجيداً كمن سبقه من السلاطين العظام، واختار ميدان القبق لذلك الاحتفال، وأراد أن يجعل ذلك الاحتفال على ما شاء له الملك الضخم والغنى الواسع وبيت العز الجليل. وكانت الخاتون الجليلة زوجة السلطان على وشك أن تضع ولداً. وكان أكبر أمل الملك العظيم أن تلد له غلاماً يكون وارثاً لملك جده وأبيه، وسبق السلطان الأقدار إلى إعداد العدة لاستقبال المولود السعيد المنتظر، وكان يرجى أن يكون يوم ذلك الاحتفال هو يوم الوضع الموعود.
ومهد الميدان ورشت جوانبه، وجهزت أدواته وآلاته، وزينت طرقه وحواشيه، وأقبل السلطان في موكبه الفخم وركابه المهيب. وابتدأ الاحتفال يباهي الأيام الماضية بجلاله وضخامته، غير شئ واحد كان غير ماثل فيه، وهو جلال بيبرس العظيم وتعلق قلوب الشعب والجنود به. وجرى كل شئ على سننه المعتاد غير أمر واحد، وهو سعد السلطان بيبرس العظيم وتوفيقه. فما هي إلا جولة حتى أغبر الجو وأظلمت السماء، وثارت عاصفة(68/16)
هوجاء يكاد الواقف فيها لا يرى جاره أو يستبين ما حوله. فتحول اليوم من احتفال وعيد إلى فوضى واختلال، وهدم في ساعة ما قضى السلطان في إعداده أياماً طوالاً وبذل في سبيله أموالاً طائلة. ثم وضعت الخاتون طفلها أنثى، ولم يتحقق أمل السلطان في وارث يحفظ الملك عقبه في بيته.
وهكذا تجري الأقدار في مسالكها الغامضة، وإنما يرى الناس منها الآثار التي تدهش لها الألباب وتعشى منها الأبصار، بغير أن يستطيعوا رؤية ما وراء ذلك من تدبير القضاء، فكان ذلك اليوم آخر ما شهده ميدان القبق من جليل الاحتفال. حقاً لقد عاد إليه بعض الملوك حيناً وأرجعوا إليه الحلبة، غير إن الروح لم يعد إليه، والروح سر عجيب لم تستطع البشرية أن تسمو إليه، فإنه يحل فلا تعرف أنه حل إلا من آثاره، ثم يذهب فلا تدرك ذلك إلا من آثار ذهابه، ولكنه غامض غموض المغيب المحجوب. ومن أعجب ما فيه أن السعد إنما يقبل مع إقباله، والنحس إنما يحل عند إدباره، وإنه إذا كان أدبر يوماً فلا جرم أنه يدبر لكي يعود في يوم آخر، ولو بعد حين.
محمد فريد أبو حديد(68/17)
القتل السياسي
جريمة مرسيليا المروعة
عرض تاريخي لظروفها وبواعثها
للأستاذ محمد عبد الله عنان
لم يشهد العالم منذ مقتل الأرشيدوق فرنز فردينند ولي عهد الإمبراطورية النمسوية في يونيه سنة 1914، جريمة سياسية أشد روعة وأبعد أثراً من تلك الجريمة التي وقعت في التاسع من هذا الشهر في مرسيليا، والتي ذهب ضحيتها المرحومان الملك اسكندر ملك يوجوسلافيا، ومسيو لوي بارتو وزير الخارجية الفرنسية. وقد كان مقتل الأرشيدوق فرنز فردينند فاتحة الأزمة الدولية الخطيرة التي انتهت بنشوب الحرب الكبرى، وكانت من أسبابها المباشرة. ومن المحقق إن جريمة مرسيليا ستحدث أثرها في شئون يوجوسلافيا الداخلية، وفي سير السياسة الأوربية بوجه عام؛ ومن الصعب أن نقدر منذ الآن مدى هذه الآثار، وإن كنا نشهد منذ الآن نذرها ومقدماتها.
كان الاغتيال وما زال على مر العصور وسيلة لتحقيق مآرب السياسة. وجريمة الأمس جريمة سياسية وقومية كما كانت جريمة سنة 1914. وقد شهدت أوربا في العصر الحديث طائفة حافلة من الجرائم السياسية الرنانة؛ وكان الملوك، والملوك الطغاة بنوع خاص هدف هذه الجرائم، ولم تكن هذه الجرائم شخصية، ولم تقع على الملوك أو الطغاة لمجرد أشخاصهم، ولكن لأنهم يمثلون في نظر الجناة نظاماً أو فكرة لا تتفق مع مثلهم القومية أو الديموقراطية. وكانت (النهليزم) الروسية أعظم مصادر الوحي للقتل السياسي خلال القرن التاسع عشر؛ وفي ظلها وبتدبيرها ارتكبت عدة جرائم رنانة على أشخاص القياصرة وأعوانهم من الطغاة؛ وذهب ضحية هذه الجرائم قيصران: اسكندر الثاني سنة 1881، واسكندر الثالث سنة 1885، وعدة من أكابر الحكام والساسة. ولما خبت ريح النهليزم في أواخر القرن الماضي خلفتها الدعوة اللاحكومية (الانارشي) في تنظيم الجريمة السياسية؛ وذهب ضحية هذه الدعوة عدة من الملوك والأكابر مثل كارنو رئيس الجمهورية الفرنسية، والإمبراطورة اليزابيث النمسوية، وماكفللي رئيس جمهورية الولايات المتحدة، ثم الملك(68/18)
أومبرتو ملك إيطاليا الذي قتل سنة 1900 بعد عدة محاولات دموية مروعة. ووقعت في الأعوام الأخيرة على الملوكية عدة محاولات جديدة دبرها اللاحكوميون أيضاً، كان منها الاعتداء الذي وقع على الفونسو الثالث عشر ملك أسبانيا السابق (سنة 1926)، والاعتداء الذي وقع على جلالة ملك إيطاليا (سنة 1928).
هذه أمثلة قليلة من ثبت القتل السياسي الحافل الذي شهدته أوربا في العصر الأخير. ولكن جريمة مرسيليا تختلف عما تقدم في ظروفها وبواعثها؛ فهي جريمة قومية عنصرية كما سنرى؛ وهي أثر بارز من آثار ذلك الصراع الجنسي الذي تضطرم به أمة ينقصها التناسق الجنسي، والتضامن القومي، وتمثل فيها اقليات قومية غير راضية عن مركزها ومصايرها؛ وهي كذلك أثر من آثار ذلك الطغيان الحديدي الذي تعيش في ظله يوجوسلافيا منذ ستة أعوام، والذي تشعر بوطأته الأقليات الساخطة بنوع خاص. والقاتل بتروس كاليمن كرواتي الأصل، ينتمي إلى الشعب الكرواتي، أو إلى تلك الأقلية القوية التي ترزح تحت حكم الأغلبية الصربية ولا تشعر نحوها إلا بعواطف الغيرة والسخط. وقد وقعت الجريمة المروعة في ظل هذه المعركة الجنسية المضطرمة، واندفع الجاني أو الجناة في طريقهم بوحي الفكرة الجنسية التي تسيطر على شعب يعتقد أنه مغبون مضطهد مسلوب الحقوق.
ويجب لكي نفهم ظروف الجريمة وبواعثها الحقيقية أن نعود بضعة أعوام إلى الوراء، ففي سنة 1928، وقع الفصل الأول من حوادث هذه المأساة في بلغراد في بهو الجمعية الوطنية (اسكوبشتينا) ذاتها، وكان ذلك في مساء 20 يونيه، وكانت المناقشة تدور حادة بين نواب الأكثرية من الصرب والسلوفين، ونواب الاقلية المعارضة، وهم نواب الشعب الكرواتي حول العلائق اليوجوسلافية الإيطالية وموقف الحكومة منها، وكانت المعارضة ممثلة في حزب الفلاحين الكرواتي ورئيسه استيفان رادتش زعيم كرواتيا الوطني، والحزب الديموقراطي المستقل وزعيمه بربتش فتش؛ فلم تلبث المناقشة أن تحولت إلى نوع من السباب والتراشق المقذع؛ وعندئذ نهض أحد نواب الحزب الراديكالي الصربي، وهو حزب الأغلبية أو حزب الحكومة، وأطلق الرصاص على مقاعد حزب الفلاحين فقتل من نوابه اثنان أحدهما بول رادتش قريب الزعيم رادتش وأحد أقطاب الحزب، وجرح ثلاثة آخرون منهم استيفان رادتش نفسه زعيم كرواتيا الوطني. ووقع على أثر هذه الجريمة المروعة(68/19)
اضطراب لا يوصف في بلغراد وفي كرواتيا، وأوقفت جلسات الجمعية الوطنية واستقالت الوزارة القائمة، واستمرت الأزمة الوزارية نحو شهرين. ثم كانت الطامة الكبرى بوفاة استيفان راديتش زعيم كرواتيا متأثراً من جراحه بعد ذلك بأسابيع قلائل؛ فشيعه مواطنوه إلى قبره في مظاهرات فخمة مؤثرة تجلت فيها البغضاء الجنسية التي يضطرم بها الكرواتيون نحو الصربيين ونحو حكومة بلغراد.
كان لهذه الفاجعة الوطنية أثر عظيم في إذكاء الأحقاد الجنسية في مملكة يوجوسلافيا الجديدة، وهي أحقاد تقوم على تراث التاريخ، وتنافر العناصر التي تتألف منها. ذلك أن مملكة الصرب القديمة المتواضعة استحالت عقب الحرب الكبرى إلى مملكة جديدة تسمى مملكة الصرب والسلوفين والكروات؛ تضم مملكة الصرب القديمة، وأمارة الجبل الأسود، وسلوفينا، وكرواتيا، ودلماسيا، والبوسنة والهرسك، وبعض أنواع أخرى من إمبراطورية النمسا والمجر القديمة. والشعب الصربي هو الكثرة بين هذه الأجناس المتنافرة، وهو صاحب الحكم والسيادة، وإليه تنتمي الأسرة الملكية ومعظم الوزراء والحكام والقادة. وكانت كرواتيا أو بلاد الكروات بين الولايات الجديدة أشدها مراساً وأعرقها قومية وتعصباً. وتشغل كرواتيا نحو خمس المملكة الجديدة وعاصمتها (زغرب) أو (أجرام) مدينة قديمة سكانها نحو ربع مليون وبها جامعة. والكروات شعب جبلي فلاح ساذج يبلغ زهاء ثلاثة ملايين من مجموع قدره ثلاثة عشر مليوناً. وكان الشعب الكرواتي قبل الفتح التركي في القرن الخامس عشر يتمتع باستقلاله في ظل مملكة بلقانية قوية، ثم غدت كرواتيا كما غدت صربيا والمجر ولاية عثمانية، وضمت منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى النمسا والمجر. ولم ينس هذا الشعب الجبلي الوعر استقلاله ونزعته القومية، فكان في ظل الإمبراطورية النمسوية يجيش بالأماني الوطنية، ويطمح إلى الاستقلال الذاتي؛ ولم يقف إلى جانب آل هبسبورج أثناء الحرب إلا طمعاً في تحقيق شئ من أمانيه القومية. واستمرت تحفزه مثل هذه الأماني في ظل يوجوسلافيا الجديدة؛ وكان بطل كرواتيا الوطني استيفان رادتش رئيس حزب الفلاحين أقوى الأحزاب الكرواتية وأشدها نفوذاً؛ وكان هذا الزعيم القومي الذي كونه مزيج من الثقافات الألمانية والفرنسية والروسية يسيطر ببيانه الساحر وخلاله القوية على مواطنيه ويقودهم حيثما شاء؛ وكان حزب الفلاحين حتى سنة 1925 جمهوري النزعة(68/20)
يطالب بالاستقلال الذاتي؛ وكانت كرواتيا تضطرم من حين لآخر بالقلاقل والمظاهرات القومية؛ فتخمدها حكومة بلغراد الصربية بمنتهى الشدة؛ وتذكى بذلك أحقاد الكروات الجنسية. وفي سنة 1925 أدرك الملك اسكندر خطر هذه الحركة على وحدة يوجوسلافيا؛ فاستدعى الزعيم رادتش وتفاهم معه؛ وعقد اتفاق بين الصرب والكروات يمنح به الكروات بعض الحقوق والمزايا القومية؛ فهدأت حركة الكروات الاستقلالية نوعاً وأبدى الشعب الكرواتي شيئاً من الولاء نحو العرش والحكومة؛ واحتل الكروات مقاعدهم في الجمعية الوطنية؛ واشتركوا في حكم البلاد؛ وكان لهم في الجمعية 85 كرسياً أي نحو ربع مجموع الكراسي. ولكن هذا التفاهم لم يلبث طويلاً؛ لأن الجبهة العسكرية المحافظة التي تحكم البلاد من وراء الملك اسكندر لم يرق لها هذا التسامح مع الأقلية؛ ورأى الكروات من جهة أخرى أنهم لم ينالوا بهذا التهاون كل ما يطمحون إليه من المزايا الاستقلالية؛ فعاد سوء التفاهم بين الفرقين مرة أخرى؛ واشتدت الخصومة بينهما منذ سنة 1928؛ ووقعت في كرواتيا قلاقل جديدة؛ واتخذت المعارضة الكرواتية في المجلس اتفاقات (نتونو) التي عقدت يومئذ بين يوجوسلافيا وإيطاليا بشأن الحدود مادة لحملات قوية على حكومة بلغراد والملك اسكندر؛ واستمرت هذه الحملات في شدتها حتى ضاقت حكومة بلغراد وضاقت الأكثرية الصربية البرلمانية بها ذرعاً؛ ووقعت بين الفريقين في الجمعية مناقشات ومناظر عاصفة انتهت في 20 يونيه سنة 1928 بوقوع تلك المذبحة البرلمانية الرائعة، وسفك دم الزعماء الكروات في نفس المجلس الذي دعوا إلى الاشتراك في أعماله، ومصرع استيفان رادتش زعيم كرواتيا القومي ومعبودها الوطني.
وهناك أدرك الملك اسكندر خطورة الموقف، وحاول مرة أخرى أن يعمل على تهدئة الأحقاد القومية التي أثارتها الجريمة، ولكنه لم يستطع فيما يظهر أن يغالب نفوذ العسكرية المسيطرة على الحكم؛ فلم تتخذ حكومة بلغراد في شأن النائب أو النواب القتلة إجراءات جدية تهدئ الشعور المضطرم؛ وكان موقفها في ذلك كموقفها يوم مقتل الارشيدوق فردينند من عطف على الجريمة ورفق بالجناة؛ وأخمدت حركات زغرب عاصمة كرواتيا ومظاهراتها بشدة، وساد حكم الإرهاب في كرواتيا، وطورد زعماؤها وأبناؤها أشد مطاردة؛ وأبدت حكومة بلغراد وعمالها الصربيون في معاملة الشعب المغلوب منتهى الخشونة(68/21)
والقسوة؛ فتوجست العناصر الأخرى شراً واشتدت الأحقاد القومية، وتعقدت الأزمة، وكادت يوجوسلافيا تنحدر إلى الحرب الأهلية؛ عندئذ لجأ الملك اسكندر إلى إجراء خطير حاسم؛ ففي 29 يناير سنة 1929 أعلن إلغاء الدستور والجمعية الوطنية، وأعلن نظام جديد يقبض الملك في ظله على كل السلطات، وتؤلف الحكومة من ستة عشر وزيراً، يُسألون أمام الملك شخصياً؛ وألغى تقسيم يوجوسلافيا القديم إلى ولايات عنصرية، وقسمت إلى تسع ولايات جديدة لكل ولاية حاكم مطلق؛ وغير اسمها من مملكة الصرب والسلوفين والكروات إلى مملكة يوجوسلافيا؛ وحل حزب الفلاحين الكرواتي، وقمعت كل حركة ومظاهرة عنصرية بمنتهى الشدة. وساد على يوجوسلافيا كلها حكم مطلق حديدي حتى اليوم. ولكن الملك اسكندر أبدى في اضطلاعه بمهام الحكم المطلق كثيراً من الحزم وبعد النظر؛ فاستقرت السكينة في البلاد، وخبت الأحقاد والنزعات القومية المحلية أمام البطش؛ ولكنها لبثت كالنار تحت الرماد تسري في صمت، وتتربص فرص الاشتعال. وكان من المستحيل إزاء هذه المشاكل العنصرية الخطيرة، وإزاء استئثار العنصر الصربي بالسيادة والحكم أن تحكم يوجوسلافيا بغير الحكم المطلق؛ ولم يكن في تقاليد العسكرية الصربية التي تحكم من وراء العرش، ولا في تقاليد أسرة كاراجورج فتش الجالسة عليه ما يؤيد النظم البرلمانية، أو يفسح لها أي مجال حقيقي.
وقد تولت أسرة كاراجورج فتش التي ينتمي إليها المرحوم الملك اسكندر بوسائل عنيفة أيضاً. وكان العرش قبلها لأسرة أوبرينوفتش يتولاه الملك اسكندر أوبرينوفتش حتى سنة 1903. وفي يونيه من هذا العام دبر الحزب العسكري بتحريض أسرة كاراجورج فتش مؤامرة كانت نتيجتها أن قال الملك اسكندر أوبرينوفتش وزوجته مدام دراجا ماشين التي أثار زواجه بها قبل ذلك بعامين ضجة كبيرة، في غرفة نومهما؛ وعلى أثر ذلك أعلن بطرس كاراجورج فتش، والد الملك اسكندر ملكاً؛ وعهد بمهام الحكم إلى الجناة الذين اشتركوا في مقتل سلفه، فدلل بذلك على إنه لم يكن بعيداً عن الجريمة. واستمر ملكاً حتى سنة 1921، وخاض غمار الحروب البلقانية والحرب الكبرى، وتولى ولده الملك اسكندر الحكم من بعده، وكان مولده سنة 1888، وكان أثناء حياة أبيه يتولى أخطر المهام العسكرية والسياسية، فأبدى حزماً ومقدرة في قيادة يوجوسلافيا الكبرى، ولكنه لم يوفق إلى حل(68/22)
المشاكل العنصرية، ولم يستطع كبح جماح العسكرية كما قدمنا، وشاء القدر أن يذهب ضحية الأحقاد العنصرية على ذلك النحو المؤسي.
هذه هي حقيقة البواعث والظروف التي أدت إلى مقتل الملك الراحل، فالأحقاد القومية هي التي سلحت القاتل كاليمن وزملاءه الكرواتيين، وهي التي دفعتهم إلى ارتكاب جريمتهم الفظيعة انتقاماً لمصرع زعماء كرواتيا الوطنيين، وانتقاماً لما تلاقيه من آلام الاضطهاد المنظم. ومن المحقق أن سيكون للحادث أخطر الآثار في مصاير يوجوسلافيا، وإن كان من المستحيل أن نتنبأ اليوم بما سيكون. وقد تكون ثمت وراء الجريمة عوامل تحرض أجنبية عرفت أن تستغل الأحقاد العنصرية وأن توجهها، ولكن الجريمة تبقى مع ذلك جريمة عنصرية، باعثها الانتقام القومي.
إن المسألة الكرواتية تعتبر بالنسبة ليوجوسلافيا كالمسألة الأرلندية بالنسبة لإنكلترا، وستبقى خطراً دائماً على الوحدة اليوجوسلافية، مادامت العسكرية الصربية تأخذ بسياسة السيادة العنصرية، ومادام الشعب الكرواتي يشعر بأنه لم يأخذ حقه من العدالة والمساواة والاشتراك في أعباء الحكم.
أما المرحوم مسيو لوي بارتو، فقد كان ضحية بريئة للجريمة، ولم يقصده الجناة بالذات، وسيكون لمقتله أثر عميق في شئون فرنسا الداخلية، وربما في سياستها الخارجية.
محمد عبد الله عنان المحامي(68/23)
ابن من يا فاجرة؟
للدكتور احمد زكي
وكيل كلية العلوم
كانت فاجرة لأنها ادعت ابنها الوليد لغير أبيه، وهي تعلم أنه لأبيه. وكان الرجل المتهم في عرضه، المقدوح في طهارته، رجلاً من ذوي الثراء، جمع من المال ما جمع في أيام صباه، من أعمال واسعة النطاق، وأشغال استغرقت كل زمانه فألهته عن ملذات الجسم ومتع الشباب. وبلغته الشيخوخة على حين غفلة، فأراد أن يدرك الفائت، وأن يلحق بالهارب، وأن يذكر نفسه، ويسترجع حسه، ويستجمع بقايا شبابه، فطلب الأنثى الشابة، فجاءته إناث كثيرات، فعلم أنهن لم يردنه، وإنما أردن ماله، وكان كلما أنس من بعضهن إلى الجناب الرفيق والصدر الحنون، وكان يهم بالخِطبة، هتف في نفسه الهاتف يقول: جناب عن قريب ينبو، وصدر لا يلبث أن يخون. وظل على هذه الحال زماناً، يحدوه أمله، وترده سنّه، وقام ثراؤه يتهم كل امرأة ولو أخلصته النية، ورضيت صادقة برعايته وحضانته وبتمريضه بكل ما فيها من أنوثة.
وفي أثناء ذلك اتصل بأحد المقربين إليه من مستخدميه، فشكا له الوحدة عرضاً، فذهب هذا المقرب إلى زوجته تلك الليلة يذكر لها الشكوى. وفي الصباح أتت الثري من الزوجة دعوةٌ على طعام، وتلت تلك الدعوة دعوات، في حضرة الزوج، وفي غير حضرة الزوج، وكثيراً ما حضرها الشباب من الصحاب، فامتلأت البطون، واحتر الدم بالرقص والشراب، وكثيراً ما نسى الشيخ وقاره في تلك الأجواء الزائطة، فنال من الزوجة المضيافة القبلة بعد القبلة، فأعطت عن سخاء، على أعين ضيوف اليوم الفرحين، وشهود الغد المحرجين.
فلما ولد المولود، وهم الشيخ بالتبريك، جاءه رسول القضاة يعلن اتهامه. وانعقدت المحكمة، وجاءها الشهود كأنما كانوا على موعد، فأثبتوا روحاته وجيئاته، وأثبتوا اختلاءه، وأثبت الزوج تغيبه ولم يبق على استقلال الطفل بكل تلك الثروة الواسعة من بعد أبيه إلا حكم المحكمة.
وفي اللحظة الأخيرة طلب الدفاع بحدة العلم، والالتجاء إلى المعمل عسى أن تكون عنده الشهادة التي لا تُرد، وفي الغد أو الذي يليه احتكموا عند أحد الأخصائيين المحلفين إلى(68/24)
قطعة زجاج، وبعض سوائل في أنابيب، ثم إلى المكرسكوب - جمادات كلها لا تكذب إذا كذب الإنسان. وبذلك، وبذلك وحده، نجا الشيخ من الشرَك، ونذر ما عاش أن يبتعد عن الآنسات ميلاً، وعن المتزوجات أميالاً.
ثم غلب التهمة الملحة في نفسه واقترن بأرملة، باعدت عنه الريب وحملت عنه أعباء الحياة.
أما همنا اليوم ففي تلك الأشهاد من الجماد. وقصة ذلك إن الدم الإنساني يتركب من كرات حمراء وأخرى بيضاء، يسْبحن في سائل يسمى المصل، عديم اللون أو هو كلون زلال البيض، يحتوي عدة مواد ذائبة فيه. وقد كشف العلماء في الكرات الحمراء عن مادتين تسمى أولاهما ألفاً والثانية باء. ووجدوا فوق هذا أن الكرات الحمراء للرجل (أو المرأة) قد تحتوي على المادة ألف وحدها، وقد تحتوي على المادة باء وحدها، وقد تحتوي على كليهما معاً، وقد تخلو منهما جميعاً. وبناء على ذلك قسموا الناس إلى مجموعات أربع: مجموعة ألِفية، ومجموعة بائية، ومجموعة ألفبائية، ومجموعة صفرية، نسبة إلى الصفر في قولك رجل صفر اليدين أي خاليهما. فأنا وأنت وكل أحد لابد واقعون في أحد هذه الأقسام. وتعرف المجموعة التي ينتسب إليها الفرد من تفاعلات تقع بين الدماء عند خلطها. فهب أني أنا من المجموعة الألفية ولا فخر، وهب أنك أنت من المجموعة البائية ولا حط من قدرك، فلو أنك أخذت شيئاً من دمي، وفصلت عنه مصله ومزجته بنقطة من دمك لتجمعت كراتك الحمراء وتزاحمت في هلع وارتياع، كقطيع النعاج داهمها الذئب، فاتخذت تحت المكرسكوب شكل عنقود العنب. وسبب هذا أن بدمي مادة معادية خصيمة لكراتك الحمراء، أو بالأحرى للمادة البائية التي بها. وعلى هذا تسمى مادتي هذه بالخصيمة البائية.
ولو أنك مزجت مصل دمك بدمي لتعنقدت كراتي الألفية كذلك، لأن بمصلك الخصيمة الألفية. فبدمي إذن المادة الألفية والخصيمة البائية، وبدمك أنت المادة البائية والخصيمة الألفية، والزوجان في دمك وفي دمي بالطبع على غاية المحبة والوفاق وإلا لتعنقدت كراتنا جميعاً وودعنا الحياة، لأن تلك الكرات لابد من نفاذها في الشعريات الدموية الرفيعة التي تصل ما بين الأوردة والشرايين وهناك دم ثالث نستعير لشرحه صديقي الأستاذ الزيات، فدم الأستاذ تجمع كراته الحمراء المادتين ألفاً وباء معاً، فلو أنك خلطت نقطة من مصلي(68/25)
بقطرة عزيزة من دمه لتعنقدت كراته، ولو أنك خلطت نقطة من مصلك بتل القطرة لتعنقدت كذلك، فصديقي الزيات من المجموعة الألفبائية. أما الدم الرابع فخالية كراته من كلتا المادتين فهي لا تتعنقد لا بمصلي ولا بمصلك.
وتابع العلماء دراسة دماء الناس في نواحي المعمورة تقصياً في البحث، وامتحنوا دماء الصغار والكبار، والأبناء والآباء لآلاف من الأسر ليتعرفوا العلاقة التي قد تكون بين الولد والأصلاب والأرحام التي انحدر منها، فوجدوا قوانين مطردة على مقتضاها ينسل الناسل. من ذلك أنهم وجدوا أن الطفل الألفي يتحتم أن يكون من أبوين أحدهما على الأقل ألفي. وأن الطفل البائي يتحتم أن يكون من أبوين أحدهما على الأقل بائي. وأن الأب أو الأم إن كان أحدهما ألفبائياً ورّث كلاً من بنيه ألفاً أو باء. فالرجل الألفبائي لا ينتج طفلاً صفرياً. كذلك إن كان الطفل ألفبائياً تحتم أن يكون قد ورث ألفاً من أحد أبويه وباءً من الآخر؛ ومثل هذا الطفل لا ينتج عن أب صفري.
وفي قضية الشيخ المثري التي فات ذكرها امتُحن دم الزوجة بأخذ قطرة دم من أنملها، وقسمت القطرة قطرتين، مزجت إحداهما بمصل الخصيمة الألفية فعنقدت كراتها، ومزجت الأخرى بمصل الخصيمة البائية فلم تتعنقد الكرات، فقُضي بأن الأم من الفصيلة الألفية. وامتُحن دم الوليد على هذا النحو فكان من الفصيلة البائية، فلزم على هذا أن يكون أباه بائياً أو ألفبائياً. فامتُحن الزوج فكان بائياً. وامتحن الشيخ فكان صفرياً، فنجا.
على إن امتحان الدم قد لا يؤدي إلى نتيجة حاسمة. فلو أن الشيخ كان بائياً أو بائياً ألفياً لجاز أن يكون الوليد من صلبه، ولجاز أيضاً ألا يكون. وقد حسب حاسب عدد الحالات التي يمكن فيها الجزم بوالد الطفل منسوبة إلى الحالات جميعها التي يحدث فيها اشتباه، فوجد أنها تبلغ الثلث.
وأريد أن أنبه أن المعمل قد يبرئ، ولكنه لا يستطيع وحده أن يتهم أحداً. فهب أن الولد كان بائياً، والأم ألفية، وكان زوجها ألفياً، وامتحن الشيخ فكان بائياً، فهل يقطع بأبوة الشيخ من أجل شهادة المكرسكوب وحدها؟ كلا. فكم من الرجال بائيون! ولم لا تكون الزوجة اتصلت بأحدهم؟ وإذن كان يتحتم على الاتهام إثبات ما كان بين الشيخ والمرأة في مسالك الحياة.
احمد زكي(68/26)
عصران في دار
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
هي أسرة واحدة تعيش تحت سقف واحد، ولكن عصور أفرادها متباعدة، وثقافاتهم متعددة متفاوتة، والحضارات التي يمثلونها لا تنفك تتصادم وتحترب في دارهم. وقد عرفت بعضهم في لبنان وبقيتهم في مصر، وكنت أتمشى يوماً قبل الغروب في طريق (ضهور الشوير)، والشوير (ضيعة) كما يسمونها، أو قرية في واد يشرف عليه الجبل، فهذا هو (الضهور) أو (الظهور)، فملت إلى مكان هناك يسمونه (قهوة الحاج ياس) وهي قائمة بين بساتين فاكهة وزهر، فلمحت في طريقي من ظننتها واحدة ممن عرفتهن هناك، فحثثت الخطى إليها، فإذا هي فتاة لا عهد لي بها، ولي بنظري قِصر، ولكني كنت مطفلاً، وكانت الشمس قد اصفرت وضعف ضوؤها، وكان الشجر يحجب وجهها عني - أعني الفتاة لا الشمس - فلي العذر إذا أخطأت. وعلى أنه خطأ لم يسؤ وقعه في نفسي. بهذا أعترف. وكانت جالسة ترسم فأغراني هذا بها، فدنوت منها على أطراف أصابعي، ثم وقفت أتأملها - من وراء ظهرها - وهي مقبلة على اللوح. فلما طال ذلك عليّ، وهي لا تلتفت وراءها، تنحنحت، فأدارت وجهها بسرعة وقالت: (أوه!) ولم يكن في وجهها لا ابتسام ولا دهشة، كأنما كان من المألوف عندها أن تسمع الناس يتنحنحون وراءها وهي ترسم!.
فقلت وقد أحسست أن الفتيات عسراً:
(هل أزعجتك؟)
فقالت وهي ماضية في رسمها وغير ناظرة إليّ:
(أزعجتني؟؟ هل سمعتك تقول إنك أزعجتني؟)
وكانت لهجتها واشية باحتقار يحول الأدب دون ظهوره على وجهها، أو لعل الأصح أن أقول في اللهجة تهكماً خفيفاً حملته على محمل الاحتقار، فحقدتها عليها - في سري - غير أني لم أظهر ذلك لها واكتفيت بأن أقول:
(هذا ما كنت أخشى - فالحمد لله!)
فمضت في تخطيطها على اللوح وقالت: (إذا كنت تريد أن تتكلم فاجلس). فكانت هذه صدمة ثانية. فتلجلجت قليلاً وقلت (أ. . . أ. . . أجلس؟) فقالت وهي مكبة على اللوح (آه.(68/28)
معذرة. . ثيابك بيضاء نظيفة، والأرض بليلة. . . مفهوم).
فاجترأت وقلت: (هل تريدين أن تدعيني إلى الجلوس؟.)
فقالت: (وماذا أصنع بك جالساً أو واقفاً؟ معذرة! إن غرورك هو الذي أجرى لساني بهذا الكلام)
فسألتها وأنا مبهوت: (غروري؟)
فقالت بلا اضطراب: (أعني غرور الرجال. . . وكنت تستطيع أن تدرك قصدي ولا تحوجني إلى الإيضاح)
وكنت في أثناء هذا الحوار لم أبرح مكاني وراءها، فتحولت حتى صرت أمامها وقلت وفي صوتي نبرة غضب مكظوم:
(هل تستطيعين أن تدعي أن بيني وبينك ثأراً قديماً؟)
فأدهشني أنها أجابت ببساطة ومن غير أن ترفع وجهها إليّ:
(ثأر؟ أوه لا!. ولكن ألا ترى أن أمثالك لا خير فيهم لمثلي)
فقلت: (معذرة فإني غير فاهم!.)
قالت: (بالطبع! ولست وحدك الذي لا يفهم. . . كلكم هكذا. . . لأنكم تفكرون بعقول معطلة. . . أعني أن أهواءكم تغلبكم وتدفع عقولكم في مجراها، وتمنعكم أن تفكروا في حاجات غيركم مثل تفكيركم في حاجاتكم. قد يبدو هذا القول غريباً من فتاة مصرية، لأن الفتاة في نظركم ليست سوى مطية. . . لا تستغرب هذه الصراحة، فلستم وحدكم كل من تعلموا وذهبوا إلى أوربا ورأوا بعيونهم وفكروا بعقولهم. . . ما علينا من هذا. . . نعم الفتاة ليست عندكم سوى مطية. . . لا تجادل من فضلك. . . لا تحاول أن تكذب. . . كلا. . . لا تقاطعني. . . إنك هنا لتتحكك بي. . . هذا واضح. . . بالطبع! دعني أتمم كلامي، لقد كنت أقول حين هممتَ بمقاطعتي إنكم معشر الرجال تعتقدون أن الفتاة مطية، وإنها لكذلك، ولكنها غير ذلك أيضاً. . . إعترف بصراحة. . . هل خطر لك مرة واحدة أن الفتاة أكثر من مطية؟!)
فخجلت لأني لم أكن أنتظر أن أسمع هذه المحاضرة، وأورثتني المفاجأة اضطراباً فقلت:
(ولكن هل من موجب لهذا الكلام؟؟ إنني. . .)(68/29)
فقاطعتني قائلة (نعم فإنك ما جئت إلى هنا إلا وفي أملك أن تقضي دقائق لذيذة مع فتاة ترجو أن تؤاتيك وأن تنيلك دقائق أخرى ألذ منها وأعذب)
فهممت أن أقاطعها ولكنها أومأت إليّ فسكت، واضطجعت هي على الكرسي وقالت:
(لا تكابر. . . واسمع مني، ولا تعجب إلا إذا كنت غبياً. . . لا مانع عندي البتة أن أمنحك الدقائق اللذيذة لو كنت تستحقها في نظري. . فإني أنا أيضاً أطلب لنفسي دقائق لذيذة وأشتهي أن أتمتع بحياتي وأفوز بنصيبي من لذات الدنيا، ولكن هناك لذائذ أخرى تعدل هذه وتستبد بالنفس وتغلبها على أهوائها الأخرى. . . هذا التصوير هو مهنة لأكل العيش إلى حد ما، ولكنه أيضاً فن يزاول لذاته وبغض النظر عن المنافع المادية. . إني حرة. . فقيرة، نعم، ولكني أجد الكفاية، وقد استطعت أن أتعلم أرقى تعليم تسمح به مواردي، والباقي أحصله باجتهادي. . درست التصوير في إنجلترا ثلاث سنوات بينما كنت مبعوثة إليها لأدرس شيئاً آخر، ولكني لا أتكسب به. نعم أبيع بعض صوري، ولكني استخدم ثمنها في إتقان فني. . في تجويد أداته. . لقد بعدت عن الموضوع جداً. . . على الأقل في نظرك. . ولكن هذا الشرح كان لازماً لأمثالك حتى يستطيع أن يجتنب إساءة الظن حين أسأله. . هل تستطيع أن تكون أنموذجاً لصورة؟)
فصحت (إيه؟ أنمو. . .)
قالت مقاطعة (نعم، أنموذج لصورة. . إن جسمك ليس معتدلاً، وقوامك. . . غير حسن. . وهذا ليس غزلاً مقلوباً من فضلك. . ولكن لو أمكن أن أرسمك وأنت عار. . ولكن بالطبع لا تستطيع. . . كلا. . . لا تستطيع. . . لا فائدة. . . خسارة. . . إن في ذهني صورة تصلح لها، ولكن الحياء الكاذب. . كلا. . لا فائدة)
فكدت أجن من جرأة هذه الفتاة، ثم تصورت نفسي واقفاً أمامها - على رجل واحدة!. وأنا كما خلقني الله فقهقهت، فصعّدت إليّ طرفها مستغربة مستفهمة، فلم أكتمها ما دار في نفسي وتمثل لخاطري، ثم تعارفنا.
وفي مصر رأيت أباها، وهو شيخ في السبعين من عمره، تخرج في دار العلوم وزاول التدريس حتى أقعده الكبر، ولكنه لا يزال على ارتفاع سنه نشيطاً. ومن شذوذه أنه لا يقنع بأن ينفى العامية من كلامه، بل يفرض الكلام بالفصحى حتى على الخدم.(68/30)
كنت معه يوماً، وكنا جالسين في حديقة البيت، فبصر بالخادم، فصاح به (ليس هكذا؟)
فانتفض الخادم ودار حول نفسه، وقال بلهجة الممتثل لقضاء الله فيه ولاستبداد هذا المجنون به:
(أفندم؟)
قال الشيخ: (ليس هكذا)
فعاد الخادم يسأل (أفندم؟)
فقال الشيخ مفسراً: (أقول ليس هكذا. ارفع رأسك وافتح صدرك. ألم أنهك أن تمشي متخلعاً؟)
فقال الخادم معترفاً: (أيوه يا أفندم؟)
فصاح به الشيخ: (قل نعم يا جاهل! أو بلى)
فاستغرب الخادم وسأل بلهجة المنكر: (بلى؟)
قال الشيخ (بلى)
فعاد الخادم يسأل (بلى؟)
قال: (نعم بلى! ماذا تظنني أقول؟)
قال الخادم: (بلى!)
قال الشيخ: (إذن قلها)
فحاول الخادم أن يعيدها ولكنه نسيها فجعل يقول: (أ. أ. بـ. بـ. . . وحك رأسه.
فأنكر الشيخ ضعف ذاكرته وقال: (نسيت بسرعة؟)
فتذكر الخادم وقال: (أ. . . بلى)
فعاد الشيخ يصيح: (مدهش! قل (لا) في هذا الموضع)
فظن المسكين أن عليه أن يردد كل ما يسمع فقال: (لا في هذا الموضع)
فضجر الشيخ وصاح: (ماذا كنت قبل أن تجئ إلى هنا؟ ببغاء؟)
فكرّ الخادم مسرعاً إلى الأولى استرضاء للشيخ وقال (أ. . . أ. . . بلى)
فيئس الشيخ وقال وهو ينظر إليّ (لا فائدة. . . لا فائدة!)
وحسب الخادم أن الكلام له فقال: (بلى.)(68/31)
فصاح الشيخ. (اذهب. . . اذهب. . . وارم نفسك في بئر.) فظن المسكين أنه يحسن به أن يقول شيئاً آخر فقال:
(لا في هذا الموضع)
هذه هي الأسرة - أو على الأصح، هذا هو الأب، وتلك فتاته، وهما يعيشان في بيت واحد تحت سقف واحد، ولا أدري أيشعران أم لا يشعران بما بينهما من مسافة الزمن التي تحسب بالقرون، ولكن الذي أدريه أنهما على تباعد عصريهما سعيدان. وقد ساعد على ذلك وأتاحه سعة أفق الفتاة وما تمتاز به الشيخوخة من الحلم والجنوح إلى التسامح، أو الضعف إذا شئت. . .
إبراهيم عبد القادر المازني(68/32)
نبتون
للأستاذ راشد رستم
في ناحية من نواحي الحديقة المنسقة الواسعة، أنشأوا بحيرة صغيرة صافية، وحول هذه البحيرة الساكنة قامت الأشجار عظيمة السيقان، كثيرة الأغصان - تباعدت في الأرض جذوعها، والتقت في السماء فروعها - دوحة خضراء، نادرة المثال في هذا النوع من التنسيق والجمال، اتخذت منها الأطيار الوديعة أراجيحها اللينة، وأقامت فيها أعشاشها الآمنة.
وفي وسط هذه البحيرة الصغيرة أقاموا تمثالاً كبيراً لأله البحر الأعظم: نبتون بن زحل. . .
أقاموه في هذا المكان الهادئ، واقفاً يحمل في يمناه صولجانه مثلث الأسنان، ويمد يسراه في اطمئنان مشيراً إلى الماء الخاضع في هدوء عند قدميه، وكأنه يقول: هذا ملكي، هذا عرشي!
أي نبتون! مزعزع ركن الثرى
ما كنا لنجهل ملكك، أو نسلبك عرشك.
رمز لظلمات ذلك الخيال المضطرب لما رآك أجدادنا المتقدمون؛ ولذلك الرعب الآخذ بنفوسهم لما تركوك إلى برهم؛ ولذلك التعدي، وقد جهلوه منك، عندما حاولت أن تصل إليهم بمدك؛ ولذلك الفشل، وقد تمنوه لك، لما عدت عنهم خائباً بجزرك.
على أنك لا تزال تطغى ولا ترحم، وستهشم ما تصل إليه يدك في غدك، كما كنت تفعل في أمسك، وإن كنت تحوي الدر، وتؤدي خيراً، فإنك لا تدري إن هذا خير وذاك در.
إن هذه البحيرة الصغيرة الهادئة لا تستحق من أهل السلام وأهل الجمال، أن تقوم أنت وسطها على جزيرة لا تكاد تفي بموطئ قدميك، تقوم فيها بثقيل هيئتك، وكالح وجهك وخشن شكلك. وهنالك في المحيط الواسع جزائر عظمى، خذها مسكناً وصقيلاً، فعندها تجد لخشونتك مجالاً، ولوحشيتك ميداناً، وهنالك حيث أهلها وسكانها أقرب طباعاً لما يرضيك، فتتخذهم أعواناً أو عبيداً أو خلقاً جديداً، تسخرهم فيما تشاء من إغراق وإغداق، وتراهم يرتاحون لجوارك ويحافظون على سلطانك، وهم يرون في عتوك وجبروتك حماهم الذي(68/33)
لولاه لكانوا في الأرض أغناماً لسباعها، أو أسلاباً لناسها.
أيْ نبتون!
تضيع بهجة هذا المكان، وتذهب وداعة هذه البحيرة، مادمت قائماً فيها برمزك هذا الخشن.
وكأني بصاحب المكان فظاً غليظ الفؤاد، إذ يجعل جباراً يداعب ضعيف الجناب! أي ضعف في الذوق! وأي خشونة في الطباع أشد من أن يقيم المنسق رمزاً للخشونة الواضحة، والقسوة المتجددة، في المكان الساكن، ذي الروح الوديعة، والجو الهادئ. . .
كأني بهذا المنسق، وقد أقامك بين هدوء المكان وبهجته، بل وقد حبسك في هذا القفص الرطب. كأني به يستهزئ من قوتك، ويستنزل من شأنك، فيقيم الرمز الثقيل في بحيرة صغيرة، تكاد تكون نقطة في بحرك.
أم أن هذا المنسق حكيم بصير! أراد تغليب صفاتك القاسية على ميزات المكان اللينة، فيقول للناس بذلك، وهم وقوف عند البحيرة المسكينة المستسلمة - يقول: أحقاً أيها الناس أرباب العواطف، أحقاً تشعرون بجمال هذا المكان ووداعته، وهاهو ذا تمثال طاغية يذكركم بأمواج كالجبال، وطباع كالبحار، ودخيلة لا أمان لها؟ أتظنون أن طائر الرحمة والرضا، يأوي إلى القلوب، وهو يرى رمز القسوة والحماقة قائماً ماثلاً؟
أتظنون أيها الفنانون أن في هذا العالم جمالاً صافياً خالياً؟ جمالاً للجمال. . .
لا أدري حقيقة ما يقصد صاحب المكان، ولكن خطأ يا سادة أن تقيموا هذا الرمز الخشن في هذه الطبيعة الناعمة. إن من جمال النفس أن تجمع بين الماء والخضرة (والتمثال) الحسن.
وإن الذي يأتي إلى هذا المكان الهادئ، لا يقيم قليلاً حتى يمسه تيار قاتم من روح هذا الجبار العتيق. يشعر وسط هذا النعيم الأخضر بلفحات من جحيم الحياة القاسية.
فيا حراس المكان وحفظة السلام، ويا أهل الجمال، أزيلوا هذا الرمز الخشن، وردوه إلى حيث تتناسق صفاته وقسوة الطبيعة فتكونون قد صنعتم جميلاً، وأرضيتم أهل الخيال وأهل الحقيقة.
(حديقة انطونيادس)
إسكندرية(68/34)
راشد رستم(68/35)
5 - الشخصية
للأستاذ محمد عطية الأبراشي
المفتش بوزارة المعارف
العناصر الرئيسية التي تتكون منها الشخصية القوية:
الثقة بالنفس والاعتماد عليها:
من العناصر الأساسية في تقوية الشخصية الثقة بالنفس أولاً، والاعتماد عليها ثانياً. ومتى وجدت الثقة بالنفس فمن السهل الاعتماد عليها في كل عمل ممكن من الأعمال، وفي التغلب على صعوبات الحياة. والسبب في كثرة الاعتماد على الغير أن الغريزة الاجتماعية قوية في الجنس البشري متأصلة فيه، وأننا اعتدنا التفكير الجمعي لا التفكير الاستقلالي. فينبغي أن نعود الأطفال الاعتماد على أنفسهم، والاستقلال في تفكيرهم من غير اتكال على أحد، حتى يستطيعوا في المستقبل أن يعيشوا معتمدين على أنفسهم. ولا نريد بذلك أن يعتزل الإنسان العالم وينقطع عن الناس، ويفكر في نفسه فحسب، فليس هذا من الإنسانية في شئ، بل إنهباعتزاله غيره يفقد كثيراً، ولا يربح إلا قليلاً. ولكننا نريد تعويد الأطفال الاستقلال الشخصي والقدرة على القيام بأعباء الحياة من غير اتكال على الغير في كل شئ، حتى يمكنهم أن يقوموا بواجبهم نحو أنفسهم ونحو المجتمع. والاعتماد على النفس يتطلب الثقة بالنفس، والدقة في العمل، والتحقق منه، حتى تكون أحكامنا صائبة، وأمورنا نافذة، وأقدامنا ثابتة. أما إذا انتفت الثقة بالنفس أو الدقة في العمل، أو التثبت منه، فالاعتماد على النفس حينئذ يكون عبثاً ومن قبيل الأحلام. والرجل الواثق بنفسه ثقة بعيدة عن الغرور والاستبداد، الواثق بقوله وفعله - يستطيع أن يقف وحده منادياً برأيه مبرهناً على سداده وصوابه. وليس من يستقل برأيه في أمر من الأمور يكون مخطئاً دائماً، بل قد يكون مصيباً في رأيه، وقد يسبق في آرائه المجتمع الذي يعيش فيه بعشرات السنين، كما هي الحال في المصلحين الذين يكونون غالباً في واد والمجتمع في واد آخر، لا يقدر رأيهم إلا بعد مماتهم. وبالمصلحين الذين يثقون بأنفسهم يحيا المجتمع. وإذا مدحنا الثقة بالنفس فلا نمدح الإفراط فيها؛ لأنه قد تكون علامة على الضعف لا على القوة، كما لا نمدح ضعف(68/36)
الثقة فإنه دليل على ضعف الشخصية.
المزاج:
من العناصر الهامة المؤثرة في الشخصية: المزاج؛ فالناس يختلفون في أمزجتهم كما يختلفون في شخصيتهم، فهذا متفائل، وذاك متشائم، هذا سريع التأثر، وذاك بليد لا يكاد يتأثر، هذا كثير التردد، وذاك كثير الإقدام. كل له مزاج خاص، وسلوك يختلف باختلاف ذلك المزاج. ولكن ما السبب في اختلاف هذه الأمزجة؟ وللإجابة على هذا السؤال يجب أن نذكر رأي العلماء قديماً وحديثاً، حتى تتضح لنا الأسباب التي من أجلها اختلفت الأمزجة فنقول:
إن العلماء قديماً حاولوا تقسيم الأمزجة إلى أربعة أقسام: دموي، وصفراوي، وبلغمي، وسوداوي. وبنوا هذا التقسيم على السوائل والإفرازات الجسمية. فالشخص الاجتماعي المتفائل الواثق بنفسه، الغيور على عمله، الصافي الذهن، الحاد الذاكرة، كانوا يعتبرونه كثير الدم، وبعبارة أخرى دموي المزاج. والشخص العنيد السريع الانفعال القوي الإرادة، كانوا يقولون إن لديه كمية زائدة من الصفراء، أو المِرة، ويدعونه صفراوي المزاج. والشخص الهادئ، الذي يغلب عليه الكسل، وتلوح عليه البلادة، الذي لا يبالي ولا يكترث كثيراً ولا يتأثر بسهولة، كانوا يحسبون أن عنده مقداراً زائداً من البلغم، ويسمونه بلغمياً.
أما الشخص الذي تنتابه الأحزان، وتلعب به الوساوس، وتتقاسمه الهموم والمخاوف من غير سبب ولأقل سبب، فكانوا يخالون أن لديه زيادة في المِرة السوداء أو الطحال، ويعدونه سوداوياً. وقد زاد بعضهم مزاجاً خامساً وهو المزاج العصبي الناشئ من وفرة السائل العصبي.
أما المحدثون من العلماء فيرون أن هذا التعليل قديم ولا قيمة له من الوجهة العلمية؛ لأنه مبني على الجهل بعلم وظائف الأعضاء، وعلى نقص في المباحث العلمية قديماً. وهم إن أنكروا هذا التعليل في اختلاف الأمزجة لا ينكرون اختلافها، ويسلمون بتعدد أنواعها، ويعتقدون أن هناك أسباباً أخرى لاختلاف الأمزجة كالوراثة، والبيئة، والغذاء، والمرض، وضعف الأعصاب، كما يعتقدون أن إفرازات الغدد لها أثر كبير في اختلاف الأمزجة؛ فمزاج الشخص يختلف باختلاف قوة إفراز الغدد أو ضعفه. فلهذه الإفرازات تأثير كبير في(68/37)
الجسم والعقل، وعنها وعن الأمر السابقة ينشأ الاختلاف في الأمزجة. فالمزاج في رأي المحدثين يتأثر بالمواد الكيميائية وإفرازات الغدد المختلفة التي يحملها الدم إلى المخ والعضلات، لا بوفرة الدم أو الصفراء أو البلغم أو السوداء كما يقول القدامى من العلماء. ومن هذه الغدد:
(1) الغدتان الخاصتان بالكليتين، ولمهما صلة بالانفعالات والعواطف؛ فإذا كان إفرازهما قوياً كان الشخص سهل التأثر، سريع الغضب، وإذا كان إفرازهما ضعيفاً كان حليماً بطئ التأثر قليل الغضب.
(2) والغدد النكفية. وهي غدد صغيرة أسفل العنق، ولها صلة بالذكاء؛ فإذا كانت قوية الإفراز كان الشخص ذكياً، وبالعكس. ويرى (مكُدوجُل) وهو حجة في علم النفس أن الضعف العقلي قد ينشأ عن قلة إفراز الغدد النكفية أو عن عدم وجودها.
(3) وغدة تفاحة آدم ولها صلة بنشاط الشخص ومثابرته على العمل، وبالتجربة رأى بعض الأطباء وعلماء وظائف الأعضاء أن للغد تأثيراً قوياً في الإنسان، وقالوا - ونرجو أن تثبت التجارب قولهم - إن العمليات الجراحية يمكن أن تنظم إفراز غدتي الكليتين، وتغيير سلوك الشخص وطباعه. وإذا ثبت أن للغد تأثيراً كبيراً في ذكاء الشخص ومزاجه فينبغي التفكير في معالجة الضعف العقلي، وحدة الطبع من الوجهتين الطبية والنفسية معاً.
ومجمل القول أن الشخصية القوية يجب أن تتحقق فيها العناصر الآتية:
(1) الجاذبية، (2) النشاط العقلي أو الذكاء، (3) المشاركة الوجدانية، (4) الشجاعة، (5) الحكمة، (6) التفاؤل، (7) التواضع وعدم التصنع، (8) حسن مظهر الإنسان وقوامه، (9) قوة البيان، (10) الثقة بالنفس والاعتماد عليها، (11) اعتدال المزاج.
وهناك صفات أخرى كثيرة لابد منها في الشخصية. سنتكلم عنها فيما بعد عند التكلم على أنواع الشخصية والصفات الكمالية لها. ولكن العناصر المذكورة هي الأساسية في تقوية الشخصية الضرورية للنجاح في الحياة.
يتبع
محمد عطية الأبراشي(68/38)
بين فن التاريخ وفن الحرب
4 - خالد بن الوليد في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي
رئيس أركان الجيش العراقي
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)
خالد بن الوليد
الحركات الأولية:
والواضح من أخبار الرواة أن مناوشات طفيفة وقعت قبل أن يتسلم خالد بن الوليد قيادة الجيش للقضاء على أهل الردة في بلاد نجد.
والظاهر أن الرواة لم يتفقوا على أخبار هذه المناوشات جرياً على عادتهم، والروايات المنتهية إلى سيف بن عمر وهو الراوي الذي يستند إليه الطبري في ذكر الكثير من أخباره تبحث في قتال عنيف وقع بين المسلمين وأهل الردة قبل أن يزحف خالد بجيشه إلى طليحة بن خويلد الأسدي في بزاخة. أما الأخبار التي يرويها الواقدي والبلاذري فتذكر قتالاً طفيفاً جرى في ذي القصة أو البقعاء بين مقدمة المسلمين وعبس وذبيان انتهى بهزيمة المرتدين بعد أن رأوا أن كوكب (القسم الأكبر) جيش المسلمين وصل لنجدة المقدمة، وإن قسماً من هذا الجيش طاردهم إلى ثنايا العوسجة، ولما لم يلحق بهم عاد إلى المعسكر.
ولم يتفق الرواة على هذا القتال أجرى قبل عودة جيش أسامة بن زيد أم بعد عودته من بلاد الشام.
ومن الأخبار ما تروي أن كبار الصحابة أشاروا على أبي بكر ألا يرسل جيش أسامة بعد أن وردت الأخبار بارتداد العرب، إلا أن أبا بكر لم يقدم على تغيير ما أمره الرسول به في حياته. والذي اتفق عليه الرواة أن جيش أسامة لم يغب عن المدينة أكثر من شهرين، وكان الجيش متجمعاً في الجرف في شمال المدينة لما توفى الرسول. ومع أن أكثر الرواة يزعم أن أخبار الارتداد في الشرق وفي الشمال وفي الجنوب الشرقي وردت قبل حركة جيش(68/40)
أسامة - وذلك ما جعل كبار الصحابة يشيرون على الخليفة بإبقاء الجيش ليعتز المسلمون به في محاربتهم أهل الردة - إلا أن الواقع لا يؤيد ذلك إذ لا يعقل أن يصل نعي النبي إلى بلاد عمان والبحرين فيرتد أهلهما ويصل ذلك النعي إلى المدينة وجيش أسامة قاعد لا يحرك ساكناً. وإذا كان الخليفة يريد أن ينفذ أوامر الرسول فلماذا يؤخر حركة هذا الجيش طول هذه المدة؟ وتدل الأنباء على أن أول من أنبأ بالارتداد عامل مكة وأعقبه عامل الطائف بالخبر، ثم ورد عمرو بن العاص إلى المدينة بخبر ارتداد أهل عمان والبحرين ونجد، وكان الرسول بعد حجة الوداع قد أوفده إلى عمان، فلما بلغه نعي النبي قفل راجعاً إلى المدينة وأخبر بوضوح أن الغرب ارتدت من دبا إلى المدينة، والمدة التي تصل فيها أخبار الوفاة إلى عمان ليست قصيرة، كما إن السفر من عمان إلى المدينة أيضاً يتطلب عدة أيام، لأن المسافة بين عمان والمدينة 1250 ميلاً (أعني مسيرة أكثر من عشرين يوماً على الذلول)
ومن الواضح أن كبار الصحابة لم يرتأوا إبقاء جيش أسامة بمجرد رؤيتهم قبائل فزارة وغطفان يرتدون، والأمر الذي لاشك فيه أن خبر امتناع بعض القبائل العربية القريبة من المدينة عن تأدية الزكاة وردت إلى المدينة قبل حركة جيش أسامة.
وإذا صح ادعاء الرواة بأن خبر ارتداد العرب في أقصى البلاد ورد إلى أبي بكر فأطلعه على حرج الموقف قبل سفر جيش أسامة، فيكون الخليفة قد جازف مجازفة خطيرة، بإيفاده الجيش شمالاً بينما كان الخطر يهدد المسلمين في عقر دارهم.
ومن الرواة من يزعم أن أبا بكر شرع في قتال أهل الردة بعد عودة جيش أسامة، ومنهم من يدعي أن قتال ذي القصة والربذة جرى قبل عودة الجيش.
أما نحن فنميل إلى الاعتقاد أن القتال وقع قبل عودة الجيش، إذ لا يعقل أن تتواطأ غطفان على الهجوم على المدينة، وتعلم بأن جيش أسامة مرابط في شمالها. بينما الروايات التي يستند إليها الواقدي والبلاذري تدل على أن قوة المسلمين كانت ضعيفة في ذلك القتال.
الشروع في العصيان:
أول من شرع في العصيان خارجة بن حصن الفزاري من رؤساء بني فزارة، إذ أنه أوقف جابي الزكاة في طريقه إلى المدينة وأخذ منه ما في يده على بني فزارة ورجع الجابي إلى(68/41)
أبي بكر.
أما القبائل التي ثارت وتظاهرت بالعداء فهي: بنو أسد وغطفان والبعض من بطون طئ، فاجتمع بنو أسد في سميراء، وعلى رأسهم طليحة بن خويلد، واجتمعت فزارة في جنوبي طيبة، واجتمعت عبس وذبيان في الربذة والتف حولهم جماعة من كنانة، ولما كثر عددهم لم تحملهم البلاد لأن المياه شحيحة والمرعى قليل فتفرقوا إلى فرقتين، فأقامت فرقه بالأبرق بالقرب من الربذة والأخرى في ذي القصة، وأمد طليحة فرقة ذي القصة بقوة من بني الأسد. والداعي إلى تفرقهم هو أن الوقت كان صيفاً، لأن الرسول توفى في شهر ربيع الأول للسنة الحادية عشرة من الهجرة. وهذا التاريخ يوافق شهر حزيران سنة 632 ميلادية. والمياه على ما نعلم تشح في الصيف، وكذلك المرعى تقل حينئذ. فبعثت غطفان وفداً إلى المدينة ليعرض على أبي بكر رغبتها في أن تقيم الصلاة وألا تأتي الزكاة، وكان عيينة بن حصن الفزاوي وأقرع بن حابس في الوفد.
فلم يلب أبو بكر طلبهم برغم إشارة بعض الصحابة عليه بالتساهل معهم إلى أن يعود جيش أسامة، إلا إنه في الوقت نفسه قدر خطورة الموقف لما عاد الوفد إلى أهله. وكان للوفد على ما يظهر مهمتان: عفو الزكاة، والإطلاع على قوة المسلمين في المدينة. وقد لاحظ أبو بكر ذلك، إذ لم يعد الوفد حتى جمع الصحابة وأطلعهم على حرج الموقف وكلفهم بحراسة المدينة ليلاً ونهاراً. فأقام رجالاً في الأبراج لمراقبة الطرق الممتدة إلى المدينة من جهة البادية ورتب قوة احتياطية في المسجد لتكون على استعداد للنجدة عند الحاجة، وحذر أهل المدينة بقوله (إنكم لا تدرون أليلاً تؤتون أم نهاراً وأدناهم منكم على بريد) يشير بذلك إلى قرب المسافة بين المدينة والقبائل المتحفزة للهجوم.
وقد يعجب الإنسان بصلابة أبي بكر في رفضه طلب الوفد بعد اطلاعه على أخبار عماله لدى القبائل وسماعه حديث عمرو بن العاص. وكانت جميعها تنبئ بارتداد العرب عامة أو خاصة ولا يوجد في المدينة سوى نفر قليل وجيش أسامة بعيد عنها.
ونظراً إلى ما ذكره الواقدي في كتاب الردة أن أبا بكر لم يكتف بالتدابير التي اتخذها في المدينة، بل طلب من القبائل العربية كأسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب أن تمده بالرجال فأسرعت إلى نجدته. فأخذ الناس يتوافدون إلى المدينة بسلاحهم، وأرسلت جهينة(68/42)
أربعمائة راكب.
وإذا صدقنا رواية سيف بن عمر التي نقلها الطبري، ظهر لنا أن ظن أبي بكر كان في محله، إذ لم تمض ثلاثة أيام على عودة الوفد حتى كان المرتدون قد غزوا المدينة ليلاً.
لابد أن الوفد بعد عودته أخبر القبائل المتحفزة للهجوم عن ضعف قوة المسلمين بالمدينة وشجعها على الهجوم وكانت من غطفان، وهي عبس وذبيان وفزارة على ما نعلم.
المواقع التي جرى القتال فيها:
وردت أسماء السميراء والربذة وطيبة والأبرق وذي القصة عند البحث في تجمع القبائل. ولا يوجد الآن من هذه الأسماء في الخرائط الحالية إلا السميراء. ولنا من الأخبار التي نستقيها من رواة العرب الأقدمين أن القبائل الساكنة في شرقي المدينة وعلى طرفي الطرق الذاهبة إلى العراق وخليج فارس هي بنو سليم وهي أقربها إلى المدينة في الشمال الشرقي، ثم يليها بنو كلاب إلى شمال بني سليم، ثم عبس وذبيان في شرقي حرة خيبر إلى الشمال.
أما قبائل طي فتسكن في جبليها أجأ وسلمى، وفي شرقي بني عبس وذبيان وفزارة من غطفان في وسط وادي الرمة وعلى جانبيه.
وتأتي بعدها قبائل بني أسد. وموقع سميراء على ما يظهر من الخريطة واقع إلى شمالي وادي الرمة، ويبدأ منه وادي السميراء الذي يصب في الوادي في جوار الحاجر.
الربذة:
يذكر ياقوت الحموي أن موقع الربذة على الطريق التي تصل موقع فيد بالمدينة. وفيد في حي طئ وهي قرية من قرى جبل شمر واقعة إلى شرقي جبل سلمى على الطريق التي تصل الكوفة بالمدينة ويمر بها طريق الحج، وهي بعيدة عن المدينة مسافة ست مراحل.
وتلتقي فيها عدة طرق من الجوف والعراق والمدينة وبريدة والرس.
والربذة على هذه الطريق، وهي تبعد عن المدينة أربعة وعشرين فرسخاً، وواقعة إلى شمالي شرقها، ولعل موقع حناكية الحالي هو موقع الربذة القديم أو قريب منه، لأن بعده عن المدينة زهاء ثمانين ميلاً. والفرسخ العربي طوله أربعة كيلومترات ونصف كيلومتر أو أربعة كيلومترات. والذي يجعلنا نميل إلى ذلك إن القوة لم تجتمع في الربذة بل في(68/43)
الأبارق، وكلمة أبارق إسم خاص لبعض المحلات تدل على أرض حجرية ورملية مختلطة.
وموقع الحناكية بالقرب من حدود حرة خيبر، والحرة على ما نعلم أرض بركانية خامدة وفيها محلات يتراكم الماء فيها. ومادامت القبائل مجتمعة فيها فلابد حينئذ من وجود الماء فيها. والحناكية واقعة في بطن وادي الحمض.
ذو القصة أو البقعاء:
والظاهر إن كلتيهما تدلان على موقع واحد في شرقي المدينة وقريب منها، وهو بلا شك على الطريق التي تمتد إلى المدينة في غربي الربذة أو في جنوبها، وهو أما الشقرة أو السابية.
والأخبار تدل على أن أبا بكر بعد أن هزم المرتدين في البقعاء طاردهم بخيله إلى ثنايا العوسجة بالقرب من الركبة، وهذا الموقع الأخير واد يصب في الرمة، ولعله وادي الركب الذي ينبع من حرة خيبر ويجري شمالا في شرق وثنايا العوسجة في المحل الضيق الذي يتسلق فيه الطريق صاعداً إلى رأس الوادي أو ينزل منحدراً منه.
أما موقع طيبة الذي اجتمع فيه غطفان وفزارة فلم نعثر عليه في معجم البلدان ولعله في شرقي الربذة أو في شماليه. أو إنه موقع طابة في سفح جبل سلمى الجنوبي في شمالي السميراء وهو من ديار غوث من طئ.
مباغتة المدينة:
لم يهجم المرتدون بكل قوتهم لأنهم أرادوا أن يكونوا خفافاً فتركوا قسماً منهم في يدي حسى بين ذي القصة والمدينة ليكون ردءاً لهم، واقتربوا ليلاً من المدينة ولم يباغتوها لأن العيون أخبرت المسلمين بدنوهم، فقاتلتهم الربايا الخارجية، وأسرع أبو بكر بمن في المسجد فأنجد الربيئات وهزم الهاجمين، ولم يكتف بذلك بل هاجمهم على الجمال التي تسقى الماء من الآبار لاسقاء مزارع المدينة، إلى أن نفرت الإبل من الجلود المنفوخة التي دهدهها الفارون من أعلى الروابي، فرجعت على أعقابها نافرة حتى دخلت المدينة.
والظاهر أن الهاجمين لم يكونوا في قوة كبيرة، ولا سيما بعد أن تركوا قسماً منهم في الخلف. ويظهر أنهم من بني عبس وذبيان. أما فزارة فبقيت في ذي القصة. وهكذا انقسمت(68/44)
القوة التي أرادت أن تهاجم المدينة إلى ثلاثة أقسام: قسم في ذي القصة وقسم في ذي حسى، والقسم الثالث أغار على المدينة. أما قوة المسلمين فلا شك في أنها كانت ضعيفة، ولعلها لم تزد على المائتين.
وتشجع المرتدون من فرار جمال المسلمين وظنوا بهم الوهن، وبعثوا إلى من بذي القصة بالخبر فلحقوا بهم.
يتبع
طه الهاشمي(68/45)
في الأدب الدرامي
11 - الرواية المسرحية في التاريخ والفن
بقلم احمد حسن الزيات
تحليل موجز لأشهر ملاهي موليير
(البخيل '
موضوعها وصف البخيل، وأهم أشخاصها أرباجون البخيل أبو كليانت وإيليز وعاشق مريان، وكليانت بن أرباجون وحبيب مريان، وإيليز بنت أرباجون وحبيبة فالير بن أنْسِلم، ومريان بنت أنسلم وحبيبة كليانت ومحبوبة أرباجون، وأنسلم أحد الأغنياء وأبو فالير ومريان، ومترجاك طباخ البخيل وسائقه، وفرسين امرأة محتالة، ولافيش خادم كليانت، وسيمون سمسار. وقد وقعت حوادثها في بيت أرباجون بباريس.
الفصل الأول: (كنز أرباجون ومشروع زواجه)
يتنكر فالير حبيب إيليز، ويقيمه البخيل وكيلاً على بيته، فيعلن إلى ابنته غرامه، ويشكو إليها بثه، فتعده بالزواج. ويدخل كليانت فيفضي إلى أخته بحبه لفتاة فقيرة شريفة تدعى مريان. ويشكو إليها عجزه عن مساعدتها لبخل أبيه، فهو يبحث عن مرابٍ يقترض منه ما يصلح به حالها. ثم يدخل أرباجون البخيل وهو يشاجر خادمه (لافيش) في عنف ويتهمه بالسرقة، فيقرره ويعزره ويبحث في جيبه ومطاوي ثوبه ثم يطرده، وهو لا يتحرج أن يعامل ولديه معاملة العدو، ويتهمهما بالتبذير. وحينما يريد الولدان أن ينبئاه بمشروع زواجيهما يفاجئهما هو بأنه عقد العزم على الزواج من مريان، وأنه فكر في مستقبل ولديه فخطب لكليانت أرملة غنية، ولإيليز أنسلم المثرى، لأنه قبل أن يتزوج منها من غير مهر تسوقه إليه. ثم هو لا يقبل جدلاً ولا يريد مشورة. ويدخل فالير فيتخذونه في الموضوع حكماً.
الفصل الثاني: (ربا أرباجون) يريد كليانت أن يقترض خمسة
عشر ألف فرنك فيجدها له السمسار سيمون بشروط فادحة(68/46)
وربح خمسة وعشرين في المائة. ويقبض منها كليانت اثني
عشر ألف فرنك عيناً، ثم يأخذ بباقيها مجموعة من الأثاث
البالي. على أن أغرب ما في المسألة أن السمسار يطلب هذا
القرض من أرباجون، فيقف الابن أمام الأب موقفاً غريباً
يتبادلان فيه ألفاظ التقريع على بخل أحدهما وتبذير الآخر، فلا
يخرجهما من هذا الموقف الحرج إلا دخول (فرسين) المحتالة
تعلن إلى أرباجون أن أم مريان قبلت أن تزوجه من ابنتها،
وهي تطلب منه مقداراً من المال يسيراً تستعين به على كسب
قضية لها في المحكمة، فيبادر إلى الخروج قائلاً: آه! إن أحد
الناس يدعوني. . .
الفصل الثالث: (إعداد المأدبة) دعا أرباجون أنسلم وابنته
مريان إلى العشاء. فهو يوزع العمل على خدمه: فيأمر كلود
أن تنظف البيت، ويحذرها أن تحك الأثاث بقوة مخافة أن
يبلى، ويخصص (براندافوان) (والامرلوش) للشراب،
وينهاهما أن يقدماه إلا إلى من به ظمأ شديد، ويوكل إيليز
بملاحظة المائدة، ويأمر الطاهي جاك أن يهيئ الطعام بثمن
زهيد. ولكن المترجاك يؤدي عمل الطاهي وعمل الحوذي(68/47)
معاً، فهو باعتباره الأول يطلب مالاً كثيراً، فيغضب أرباجون
ويرشده إلى صنع المآكل التي تصد النفس وتميت الشهوة،
ويرفض باعتباره الثاني أن يشد الخيل إلى العربة، لأن الجوع
قد أضناها والتعب قد أنهكها، ويلوم سيده على شحه القبيح
فينهال عليه البخيل ضرباً بهرواته.
الفصل الرابع: (سرقة الكنز) يعثر الخادم (لافيش) على كنز
سيده البخيل مدفوناً في الحديقة فيأتي به إلى كليانت. ويحاول
الابن أن يحول بين الأب وبين زواجه من مريان، فيرميها
عنده بالخلاعة والجفاء والغباوة، ويرتاب الأب في نصيحة
ابنه، فيتظاهر بأنه يريد أن يزوجه منها حتى يحمله على
الإقرار بحبه إياها؛ فتثور ثائرة البخيل، ويلوح له بالعصا،
ويحاول أن يصده عن حبها فيأبى كليانت فيخرجه الأب من
ميراثه ويلعنه، ثم يفتقد الكنز فلا يجده، فينسى مشروعاته
الجميلة، ويصيح بملء صوته: يا لي من اللص!! يا لي من
القاتل! يا لي من السفاك!. ثم يفزع إلى القضاء يريد أن يشنق
كل الناس، حتى إذا لم يجد كنزه شنق نفسه. وهذا الموقف من
أبدع مواقف الرواية.(68/48)
الفصل الخامس: (وجود الكنز): يحضر رجال الشرطة
فيسألون (الأسطا جاك) فيتهم الوكيل فالير. ويدخل الوكيل
فيشهر به أرباجون ويقول له: أريد أن تخبرني عن المكان
الذي خطفتها منه، فيظن فالير أنه يكلمه عن إيليز فيجيبه: إني
لم أخطفها، ولا تزال عندك في منزلك. ويستمر هذا الخطأ
بينهما طويلاً، ثم ينتهي بأن يبوح فالير بحبه إيليز، ويدخل
حينئذ أنسلم فيعرف ابنه فالير وابنته مريان، وقد فقدهما منذ
ست عشرة سنة. ثم يقترح أن يتزوج فالير من إيليز وكليانت
من مريان، فيقبل البخيل على شرط أن يردوا إليه كنزه، وألا
يغرم صداقاً إلى ولديه، وأن يفصلوا له ثوباً جديداً يوم
الزفاف. وتنتهي الملهاة بقول أرباجون: ولنذهب لنرى كنزي
العزيز! هذه الملهاة متقنة محكمة، فحركة العمل فيها سريعة
قوية، والأخلاق تبدو ظاهرة جلية، والحوار طبيعي حي يملك
الذهن ويسترعي الأسماع. ولكنهم يأخذون عليها أن الموضوع
محزن وان الحل ضعيف.
(النساء العالمات
موضوعها تحذلق النساء وتركهن تدبير البيت، واشتغالهن بالفلسفة والحساب والفلك. وأهم أشخاصها: كريزال وزوجته فيلامنت، وابنتاه ارماند وهنرييت، وأخوه أريست وأخته بيليز(68/49)
وخادمته مارتين، ثم كليتاندر حبيب هنرييت وتريسوتين أحد الأذكياء، فاديوس أحد العلماء. وقد وقعت حوادثها في منزل كريزال بباريس.
الفصل الأول:
هنرييت ترغب في الزواج من كليتاندر، ولكن أختها أرماند المتحذلقة تنصح لها أن ترفض هذا الزواج وتعكف على دراسة العلم فإن ذلك أخلق بالمرأة اللبقة الذكية، وتضرب لها المثل بأمها وخمولها في الأندية والمجامع لجهلها، فتتهمها هنرييت بالغيرة وتناقشها في الموضوع بحضرة كليتاندر، فيفصل في هذه المسألة بتصريحه أن الدكاترة من النساء لا يلائمن ذوقه، وأنه يفضل أن تكون المرأة مستنيرة فاهمة، لا متشدقة عالمة. هو إذن يختار هنرييت، ولكنه لا يجرؤ على مكاشفة أمها فيلامنت بحبه، لأنها مولعة بالمدعي تريسوتين، وهو يحتقره لادعائه وحذلقته. وتدخل بيليز فيستميلها إليه ويصارحها بأمره، فتظن أن هذا الحب لها لا لغيرها.
الفصل الثاني:
يأخذ على نفسه أريست أخو كريزال أن يخطب هنرييت لكليتاندر، فهو يقول لأخيه: إن كليتاندر فقير من المال ولكنه غني بالفضيلة. فيجيبه كريزال إلى طلبه، ثم يذهب إلى زوجته يقنعها به، وفي تلك الساعة تطرد فيلامنت خادمتها مارتين، لا لأنها كسرت وعاء أو سرقت إناء، ولكن لأنها أهانت النحو والقواعد. ويضعف كريزال أمام امرأته فيقر هذا الطرد، ولكنه يسخط كل السخط على حمق النساء العالمات، ويختصر شكواه في هذا البيت الجميل:
إنني أعيش بالحساء الجيد ... لا بالإنشاء البليغ!
فإذا ما كلمها في زواج هنرييت من كليتاندر تأبى الأباء كله، وتعلن إليه أنها ستزوجها من الشاعر الأديب تريسوتين. ويحرض أريست أخاه على المقاومة حتى يرفع عن كاهله نير هذا الظلم الفادح.
الفصل الثالث:
يقرأ تريسوتين للعالمات فيلامنت وأرمان وبيليز موشحاً وأهجية من نظم الأميرة (أوراني)(68/50)
فيملك عليهن حواسهن وأنفاسهن، إلا هنرييت فتظل فارغة البال من كل ذلك. لم يكتب هؤلاء المتحذلقات شيئاً، ولكنهن يردن أن يتعمقن في العلوم، وينشئن أكاديمية لهن كأكاديمية الرجال. ويقبل المتفيهق فاديوس فيصفه ترسوتين للنسوة بأنه أعلم الفرنسيين باللغة اليونانية، وأبرع الأدباء في صناعتي النظم والنثر. ويبادله المتحذلقات صنوف التحية وضروب التعظيم، ثم ينتقد فاديوس موشح الأميرة (أوراني)، دون أن يعلم أنه من نظم تريسوتين، فيتخاصم الرجلان ويتسابان بأفحش السباب. ويخرج فاديوس محنقاً يتحدى خصمه بقوله: (إني أدعوك لمساجلتي في النظم والنثر واللاتينية واليونانية). وتعزي فيلامنت صديقها تريسوتين عن هذه الفضيحة بأن تقدم إليه ابنتها هنرييت لتكون له زوجة، ويصر كريزال على أن يزوج ابنته من كليتاندر.
الفصل الرابع:
تتلهب فيلامنت من الغيظ، فتقسم أن تقطع زوجها عن عزمه، وتنفذ إرادتها على هنرييت، ويلقى إليهما تلك الساعة كتاب من فاديوس يتهم فيه تريسوتين بالنفاق والطمع في ثروة هنرييت، فلا يضعضع ذلك من عزم فيلامنت فتبعث في طلب المأذون (المسجل)؛ ولكن كريزال يصمم على رأيه فلا يتقهقر.
الفصل الخامس:
تسخر هنرييت من تريسوتين، وتريده على أن يرفض زواجها، وأبوها يرغى ويزبد موغر الصدر على أمها، ويقول إني أريد أن أعلمها كيف تعيش، ولقد أرجعت مارتين إلى الخدمة على الرغم منها. وتدخل حينئذ فيلامنت وفي أثرها المأذون وتريسوتين، ويصل الأمر في العقد إلى تسمية الزوج فتقول الأم: تريسوتين. ويقول الأب: كليتاندر. فتغضب فيلامنت وتنتصر الخادم مارتين لسيدها فلا تزداد السيدة إلا عتواً وإصراراً ويوشك كريزال أن يسلم الأمر إلى امرأته لولا أن يدخل أخوه أريست، فيخبرهم بالكذب أن أسرتهم قد أفلست لخسرانها قضية كبيرة. فلم يكد يسمع تريسوتين النبأ حتى يدير لهم ظهره ويخرج فيظهر نفاقه وأثرته، وينتهي الأمر بانتصار كريزال وتحقيق أمل كليتاندر.
يتبع(68/51)
(الزيات)(68/52)
إلى الفردوسي
أتينا محتفلين
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
(ذهب شاعر الفراتين ممثلاً للأدب العراقي في الاحتفال الألفي بالفردوسي، فألقى على قبر الشاعر الخالد هذه القصيدة الخالدة)
1
أنت في شعرٍ كان فتحاً مبينا ... واحدٌ من أولئك الخالدينا
بعد ألفٍ من السنين أتينا ... بك يا فردوسيّ محتفلينا
وإلى قبرك الذي فيه تغفو ... نحمل الورد الغضّ والياسمينا
ولو أن الإحداث ألفى مساغا ... جعل القوم حجّ قبرك دينا
لك في تأريخ الملوك كتابٌ ... يحمل الوحي والهدى واليقينا
قمت في نظمه ثلاثين عاما ... ثم لم تسأم طول تلك السنينا
حزت حينا تجلّةً واحتراما ... وتألمتَ للمصائب حينا
2
شاعرٌ أنت جامعٌ للمزايا ... خالدٌ لا تدنو إليك المنايا
أنت في دولة البيان بحقٍ ... ملكٌ ذو عرشٍ ونحن الرعايا
جاء ما قد نظمته من كتاب ... تحفةً فارسيةً للبرايا
ولقد أهديت الكتاب إلى مَن ... لم يكن ذا علم بقدر الهدايا
وألمّت بك الرزايا ولكن ... أنت ما كنت عابئاً بالرزايا
يا إمام القريض بعدك فينا ... نفد الشعر الجزل إلا بقايا
قد طلبنا التحرير للشعر حتى ... كثرت في الطلاب منا الضحايا
3
إن ما قد قصصته من حروب ... سوف يبقى تأثيره في القلوب
أنت شمسٌ لها البيان شعاعٌ ... لم تمل في طريقها للغروب(68/53)
ما لإلياذةَ التي حبّرتها ... يد هومير مثلُ ذا الأسلوب
تلك ليلٌ جهمٌ وهذا صباحٌ ... مسفرٌ ما بوجهه من شحوب
كنت تمشي إلى الأمام حثيثا ... بخطىً لم تخلق لغير الوثوب
يهتف اليوم الوافدون من الأقطار أفواجاً باسمك المحبوب
جلّ ما قد نظمته في مزايا ... الفارسيين عن جميع العيوب
4
أنت في شعرك البليغ إمام ... فسلام عليك ثم سلام
حبذا ما نظمتَه من كتاب ... أكبرته الشعوب والأقوام
أنت للشرق شاعرٌ عبقريٌّ ... تتغذى بقوله الأفهام
(لست أدري وليتني كنت أدري) ... أهو السحر أم هو الإلهام
كنت للناس كوكباً ذا بهاء ... أينما ألقى النورَ زال الظلام
في رياض الآداب غرسك يحكى ... شجراً من أثماره الآلام
حُلُماً كان ما أملتَ ولكن ... بعد ألفٍ قد صحّت الأحلام
5
أنت يا من بهرتَ بالشعر عيني ... شاعرُ المشرقين والمغربين
أنت لو تمسك الثريا بأيدٍ ... شعراءٌ، أمسكتَها باليدين
أنت مما تشعّه من ضياء ... يملأ العين، ثالث القمرين
ما كتاب الملوك إلا بلاغ ... من أبي قاسمٍ إلى المَلَوَين
كلما جئت منه أقرأ فصلا ... أسبلت عيني فوقه دمعتين
تحفةٌ من بلاغة وشعورٍ ... قد جَلَتْ ما بخاطري من رَيْن
جمعت بعد أن مضى ألف عامٍ ... بينه لُحمةُ القريض وبيني
6
إن ما ناله الردى من حياتك ... لم ينله للعجز من كلماتك
أنت في شعرك البليغ نبيّ ... وكتاب الملوك من معجزاتك(68/54)
لك فيه بلاغة أدهشتنا ... أي روحٍ نفختَ في أبياتك
كُلُ ما كنا قد نظمناه قبلاً ... نظرةٌ في الحياة من نظراتك
كل ما عندنا من النظم والنث ... ر قبسناه من سنا آياتك
كل ما قلناه في هذه الذك ... رى ثناءً عليك بعضُ صفاتك
قيل لي أنت في حفيرٍ ولكن ... لم أجد في الحفير غيرَ رفاتك
7
قصّرت في تقديرك الآباء ... فتلافت ما فاتها الأبناء
بعد ألفٍ من السنين أقامت ... لك نيروزاً أمةٌ شمّاء
لك يا حجة البلاغة شعرٌ ... عجزت عن تقليده الشعراء
بمصابيح شعرك ازدانت الأر ... ض كما ازدانت بالنجوم السماء
نمّقته يراعةٌ ذات حَوْلٍ ... وبه لوّحت يدٌ بيضاء
وإذا ضِيم الشاعر الحر يوماً ... في بلاد جلاه عنها الإباء
بعد آمالٍ كنّ فيك خيالاً ... فاجأتك الحقيقة السوداء
8
يا كتاب الملوك أنت كتابُ ... فيه للناس حكمةٌ وصواب
خلق الفردوسيّ منك خِضمّاً ... فاض يرغو كما يفيض العُباب
بك للشرق ما اهتدى الشرق فخرٌ ... بك للغرب ما ارتقى إعجاب
بك في أمةٍ قد ازدادت الأخ ... لاق طيبا وازدانت الآداب
معجزاتٌ وراءها معجزاتٌ ... آمنت إعجابا بها الألباب
إنما في الشعر الحقيقة أصلٌ ... والخيالات كلها أثواب
وإذا أنكر النبوغ على الشر ... ق فريقٌ فأنت أنت الجواب
9
الذي لم يقم به الغَزْنَويّ ... قام مستوفيا به البهلويّ
ملكٌ من أرقى الملوك عظيم ... لاسمه في سمع الزمان دويّ(68/55)
ملكٌ بالسياستين خبير ... وله فيهما الطريق السويّ
أخضع الأمة العظيمة بالحسنى فلله عطفه الأبويّ
وإذا قوة الإرادة جلّت ... جلّ فيهم تأثيرها المعنويّ
والذي لا يرى الحقيقة أعمى ... والذي ينكر الرشاد غويّ
إنما اليوم ليس يصلح للمُلْ ... ك على وجه الأرض إلا القويّ
10
إنك السيف في يد الأيام ... قد نضته للحرب أو للسلام
حاقناً للدماء بالمثل منها ... في صدام الأقوام بالأقوام
في يديك القويتين إذا الأمر ... دعا حقّ النقض والإبرام
وإذا ما بدأت يوما بأصلا ... حٍ جديد فالبدء للإتمام
حبذا إيرانٌ وعمرانُ إيرا ... نَ وما في بلادها من نظام
ولقد سرّني كما سرّ غيري ... ما بها من نزاهة الأحكام
زرتُ بالأمس الروضَ أمتِع عيني ... وإذا الورد فيه ذو أكمام
11
أهلُ إيرانَ والحديث شجون ... أمةٌ ما بها يليق السكون
شأنها في التاريخ أكبر شأنٍ ... حبذا في التاريخ تلك الشؤون
وعلى عين الشرق رانَ رقادٌ ... دونه في غير الرجاء المنون
ثم أنحى ينبّه الشرق منه ... مَلِكٌ حدُّ سيفه مسنون
إنه لما قام للمجد يدعو ... شخصت عن بعدٍ إليه العيون
طار بالشعب كله للثريا ... صاعداً لو يكون ما لا يكون
سيعود المجد القديم لإيرا ... نَ فتفضي إلى اليقين الظنون
12
أيها الشعر إنك ابن شعوري ... تغتذي من كآبتي وسروري
حاملاً ضحكة الذي عيشه كا ... ن رغيداً أو دمعةَ الموتور(68/56)
سالماً من ضعفٍ يريبك منه ... خالياً من زوائد وقشور
ليس شعراً ما ليس في شعورٌ ... لا يهيج الشعورَ غيرُ الشعور
وإذا الشعر لم تهزّك منه ... روعةٌ فهو جامدٌ كالقبور
إنما الشاعر الموفق يمشي ... من خلودٍ على رقاب الدهور
معجَبٌ بالهزار كل بني الأر ... ض وإن لم يكن سوى عصفور
جميل صدقي الزهاوي(68/57)
شوقي أيضاً
قطعة كتبها الأستاذ البشري صدراً لحديثه في الراديو عن ذكرى شوقي، ثم بدا له أن يرتجل.
سيداتي سادتي:
في مثل هذا اليوم من عامين مضيا أذّن مؤذن أن البلبل قد سكت بعد طول سجعه وتغريده، وأن الزهر قد ذبل بعد إشراقه وتوريده، وأن النجم قد هوى فلم يعد يتألق، وأن الغدير قد غاض وهيهات له بعد الآن أن يترقرق.
مات شوقي ولو كان شوقي كسائر الناس ما كان لموته جليل خطر. ولرب رجل يموت فلا يفرق المجموع بين موته وحياته. ولكن موت شوقي شيء آخر. . أرأيت إلى النهر إذا يبس وإلى المطر حين يحتبس؟ وارحمتا للسارين إذا لحق النجم الغروب، وقد تشعبت الطرق واختلفت رؤوس الدروب!
. لقد كان شوقي نعمة من النعم العامة التي تفضل الله بها على هذه البلاد، بل التي تفضل بها على أبناء العربية جمعاء. فموته من المصائب العامة التي يحس خطرها كل امرئ يقدر روعة الفكر، ويحتفل لأبهى صور الجمال.
ولو إن الله تعالى بعث الشعور في مظاهر هذه الطبيعة وأقدرها على النطق، لشارك في إحياء ذكرى شوقي البحر الخضم، والجبل الأشم، والفلك الدائر، والنجم المختلج الحائر، والعود إذا أورق، والزهر إذا نوّر وأشرق، ولاجتمعت لمأتمه كل سجوع من بنات الهديل، يقمن عليه المناحات بأحد النواح وأحر العويل. فلقد طالما أضحك وسرى، ولقد طالما أطرب وأشجى، ولكم جلا من صور الطبيعة فأجاد وأحكم، وأنطق الصخر في مرسخه لو كان الصخر يتكلم، ولكم لاغى الطير غادية ورائحه، ولكم لاعب الغزلان شاردة وسانحة، ولكم داعب الغصن حتى تثنى خصره، وغازل الزهر حتى تنفس بهواه أرجه وعطره!
شوقي لم يمت، ومثل شوقي لا يموت أبداً، بل إنه ليزداد حياة على طوال الأجيال. هذا شوقي حي أقوى الحياة في بيانه القوي، وسيظل هذا البيان المشرع العذب النمير ينهل منه بنو العروبة ما قدّرت للعربية في هذه الدنيا حياة.
سيداتي سادتي:
وافقت ليلة حديثي ذكرى وفاة أمير الشعراء. ولابد من أن أقول فيه كلاماً، ولكن كيف لي(68/58)
بهذا الكلام، وقد جئت الليلة إلى المحطة وأنا متداع متهدم من أثر المرض، هذا فضلاً عن أنني لا أذكر أنني كتبت في إنسان مثل ما كتبت في شوقي. فلقد جلوت له من ثماني سنوات (مرآة) عريضة في السياسة الأسبوعية، وحللت تاريخه وشخصيته وشاعريته في كتاب المفصل المقرر للسنين الأخيرة في التعليم الثانوي. وكتبت فيه هذه الأيام كلاماً كثيراً سينشر هذا الأسبوع في مجلة (الرسالة) بمناسبة هذه الذكرى أيضاً، فلم يبق لي مع هذه الأحوال طاقة بجديد فيه الآن، فأرجوكم أن تعذروني إذا حدثتكم بعد هذا بنبذ مما سبق به القول، أقتبسها من هنا ومن هنا، ولعلها تجلو شوقي على من لم يدرسه بعض الجلاء.
عبد العزيز البشري(68/59)
العلوم
5 - بحث في أصل الإنسان
بقلم نعيم علي راغب
دبلوم عال في الجغرافية
إذا قلنا إن الإنسان يمتاز من سائر الحيوان بقواه العقلية وقدرته على التفكير الحر فيجب ألا ننسى حينئذ أن من أهم مميزات الإنسان اعتدال قامته وعدم اعتماده على شئ عند المشي: لكنا مع ذلك لا نستطيع القول بأنه خلق كذلك، لأن صغار القردة تكون ذات جسم معتدل تحمل جسمها وكل عضلاته في صغرها على اتجاه عمودي، إلا أن أقدامها لا تساعدها على البقاء كذلك في سيرها، ولا يمكن لجسمها الاحتفاظ بتوازنه عليها، لأنها لا زالت تعد وتستعمل أداة للقبض، فانفرج ما بين أصابعها لهذا الغرض، بعكس الجنس الإنساني الذي تطورت حاملة قدميه، فصار في طاقته المشي عليهما وحدهما دون الاعتماد على يديه.
هناك أجزاء ثلاثة: وهي القدم وعظام الفخذ والسلسلة الفقرية، وقد كان في تطورها والتغيرات التي حدثت بها أكبر مساعد على اعتدال قامة الإنسان وقدرته على المشي وحده. ولذلك يمكننا أن نحكم على أي مخلوق بالدرجة التي وصل إليها مقترباً من الإنسانية أو مبتعداً عنها بمجرد فحص عظمة فخذ أو عظمة من عظامه المتحجرة.
كيف وقف إنسان جاوة
إذا نحن دققنا البحث في عظمة فخذ إنسان جاوة وهي الأثر الذي تركه، نجدها طويلة دقيقة إنسانية في كل شئ، تدلنا على إن ذلك الإنسان أو المخلوق الذي صارت هي بقيته الباقية، لابد وأنه كان يسير مستقيم الظهر يعرف الجري والقفز. . . حقيقة هنالك بعض اختلافات في تكوين وشكل هذه العظام المتحجرة إلا إن هذه الاختلافات لا تبعدها عن كونها إنسانية ولا تقربها بأي حال من الأحوال من شكل عظم فخذ القردة. وبرغم أوجه الشبه بين الإنسان القرد والقرد فإنه كان إنساناً. ومن شكل وطول عظمة الفخذ هذه يمكننا أن نصور إنسان جاوة بأنه كان نحيفاً تبلغ قامته 5 أقدام و9 بوصات وأنه كان معتدلها يمشي كما(68/60)
نمشي نحن الآن تماماً.
وهنا يمكننا أن نقول بكل ثقة إن الإنسان قد اكتسب هذا الاعتدال في القامة والمشي قبل نهاية عصر
البليوسين وإننا إذا أردنا البحث عن حاله قبل ذلك فإنه يجب علينا حينئذ أن نتوغل في عصر جيولوجي أقدم من ذلك بكثير ولكن قبل أن نتقدم بذلك يحسن بنا أن نذكرك بالحقيقة الهامة وهي إن الإنسان قد اكتسب قوامه المعتدل قبل اكتسابه قوامه الفكرية كإنسان، وإنه قد ظل مطبوعاً بطابع القردة في شكل الفك والجمجمة حتى نهاية عصر البليوسين، وبدء عصر البلستوسين.
وبواسطة تلك الآثار والمخلفات التي وجدناها في المقابر والكهوف ومدرجات الأنهار، أمكننا أن نتتبع تاريخ الإنسان إلى عصور سحيقة من عصور التاريخ متناهية في القدم. وعندما أردنا البحث في ذلك بدأنا البحث في بقايا العصور الحديثة، ومنها تعمقنا إلى ما هو أقدم منها، وطريقنا في ذلك سهلة للغاية، فإننا نبدأ بالعلومكي نصل إلى المجهول، وبالظاهر حتى نكشف عن الخفي، ولذلك فإنه بفضل تلك الأدوات والمخلفات الصخرية القديمة قد أمكننا أن نتتبع تاريخ الإنسان في عصر البلستوسين، ومنه تدرجنا إلى البليوسين.
جولة في عصر ذوات الثدي (العصر الثالث)
لذلك سوف نتعمق في أبحاثنا نحو عصر من العصور القديمة جداً، هو العصر الثالث أو الـ ولكن قبل أن نخوض في غمار ذلك البحث نجد لزاماً علينا نحو القارئ الكريم أن نعطيه فكرة عن ذلك العصر الذي ذكرناه.
لازلنا نذكر أننا قد أعطينا في مقال سابق تحت عنوان مقال اليوم مقياساً تقديرياً لعصور الكهف ومدرجات الأنهار وتتابع الطبقات وأعمارها في كل منهما، وسنجد أنفسنا مضطرين لأن نفعل ذلك في ذلك العصر الذي نحن بصدده الآن.
من الشكل (8) يمكنك أن ترى تتابع عصر البلسوسين لعصر البليوسين، وهذان العصران يفصلهما حد زمني له أهمية في هذا المجال لأنه عند تخطي عصر البليوسين للعصر الذي يتبعه نجد اختلافاً كبيراً في شكل الحيوانات الثدية الموجودة به، ولذلك فإن علماء الجيولوجيا يعتبرون عصر البلستوسين أول مجموعة من المجاميع التي تكون حلقات تاريخ(68/61)
الأرض وتاريخ الإنسان الذي سكنها، وقد وضع لهذه المجموعة اسم وهي تبدأ بعصر البلستوسين وتنتهي حينما تراجع الخط الجليدي إلى الدائرة القطبية.
أما الحلقة الثانية فقد بدأت (على قول العلماء) بعد ذلك بنحو عشرة أو اثني عشر ألف سنة، وفي إبانها أخذت الإنسانية تظهر بمظهرها الحديث، ويبدأ الإنسان بإعداد نفسه بصقل مواهبه وقواه الفكرية، ليغزو العالم ويسيطر على عرشه الذي قد أعده الله له.
أما عصر البليوسين وهو الذي يقع في الجانب الآخر من هذا الفاصل فهو الرابع والأخير لمجموعة تكون إحدى حلقات السلسلة التي تكلمنا عنها، وهذه المجموعة هي التي أطلق عليها العلماء اسم
وأما الحلقة الثالثة وهي عصر الميوسين فإنها تشمل مدة أطول من مدة عصر البليوسين. ولما كانت الطبقات التي تدل عليه وتحمل آثاره يبلغ سمكها 9000 قدم، بينما طبقات البليوسين لم تتجاوز 5000 قدم، وإذا كنا قد قدرنا عمراً لعصر البليوسين مقداره 250 ألف سنة بالنسبة إلى سمك طبقاته، فإننا لا نغالي إذا قدرنا لهذا العصر من العمر 450 ألف سنة.
وأما ثاني حلقات عصر الـ وهو الأوليجوسين فإنها تغمر عصراً أطول من سابقتها، وقد بلغ سمك طبقاتها 12 ألف قدم، ولذلك فإنه لا يسعنا أن نقدر لها عمراً أقل من 600 ألف سنة.
نصل بعد ذلك إلى أولى وأقدم حلقات هذا العصر وهي الأيوسين ونقدر لها عمراً 600 ألف سنة أخرى وذلك بالنسبة إلى سمك طبقاتها التي تساوي أو تقارب سمك الحلقة السابقة.
هذه هي الحلقات التي يتكون منها العصر المسمى وهي في الدرجة الأولى من الأهمية في تطور الإنسان. إذ إنها تشمل فجر نشوء الحيوانات آكلة الخضروات، وهي التي ترضع صغارها، وهي كلها من ذوات الرحم عدا أنواع قلائل يمكن استثناؤها. وفي فجر هذا العصر بدأت ذوات الثدي في تغيير شكلها وتكوينها تغيراً كبيراً، وتغلبت في تنازعها البقاء والصلاحية على باقي الحيوانات الزاحفة القديمة.
ولما كان الإنسان من ذوات الثدي، فإن من العبث أن ننتقل إلى عصر آخر أقدم من هذا لنبحث عن نشأة الإنسان، لأن العصر الذي يلي ذلك لا يشمل إلا كل زاحف. ومن الشكل(68/62)
(8) نرى أن العصر الثاني وهو الشامل لعصر ذوات الثدي يمتد لفترة طويلة جداً قد يبلغ مقدارها نحو 6 ملايين سنة كما يقول العلماء، وإني لا أريد أن يتبادر إلى ذهنك أنه عند الحد الفاصل بين العصرين قد حلت ذوات الثدي محل الزواحف دفعة واحدة، أو أن الأخيرة صارت من الأولى بتغيير سريع فجائي، لأن هذا التغير يلزمه وقت طويل مع بطء وتدرج، وقد وجد من حفائر العلماء في طبقات العصر الثاني آثار لزواحف كانت قد أخذت تتغير وتطور من شكلها وتكوينها كي تتناسب مع الوسط الذي كانت ستعيش فيه، وهو وسط ذوات الثدي ولتصير إحداها، وأن هذه الزواحف قد أخذت تتغير وتتشكل حتى نهاية هذا العصر واتسمت بسمات خاصة ميزتها في أوائل عصر الأيوسين.
ولست أرى أية ضرورة لأن أتعمق أكثر من هذا العصر الجيولوجي الأول حيث تظهر قوة التطور في الأسماك والحيوانات البحرية حتى أمكنها أن تغير من شكلها في أواخره وتستطيع العيش على البر كما تستطيع العيش في البحر فأطلق عليها اسم برمائية.
والآن وقد تكلمنا عن العصور الجيولوجية، وأعطيناك من المعلومات عنها ما فيه الكفاية، نعود بك إلى بحثنا الأصلي وهو أصل الإنسان.
عندما تتبعنا آثار الإنسان القديم في الطبقات الجيولوجية القديمة في شرقي أنجليا أمكننا الوصول والتعمق بأبحاثنا إلى ما نريد بواسطة ما قد وجدناه من آثاره وأدواته الصخرية المتحجرة إلى وسط عصر البليوسين، وقد توصلنا بعد ذلك إلى الكشف عن بقايا مخلوق آخر أسميناه إنسان جاوه واعتبرناه أنموذجاً للكائن الذي كان يسكن هاته الجزيرة في ذلك العصر. وعرفنا أنه كان شبيهاً بالقردة في شكل الجمجمة فقيراً إلى تلافيف المخ، قليل الإدراك والتفكير، لكننا مع ذلك عرفنا أنه كان إنساناً في مشيته واعتدال قامته.
ولذلك كان واضحاً جلياً أن يعمد العلماء إلى التعمق في بحثهم في عصر أقدم من ذلك العصر بكثير حين تطور الإنسان شكلاً وعقلاً من حال القردة. ومع أنه لم يوجد أي أثر لهذه الحلقة في التطور الإنساني في أي طبقة من طبقات الأرض، وذلك ما جعل العلماء في حيرة من أمرها، فقد وجد في الطبقات الأولى من عصر البليوسين ما ساعدهم على كشف سر هذا التطور والوصول إلى حلقتهم المفقودة.
يتبع(68/63)
نعيم علي راغب(68/64)
البريد الأدبي
مؤتمر الكتاب السوفييت
وسير الأدب الروسي الحديث
عقد أخيراً مؤتمر الكتاب السوفيتيين (الروسيين البلاشفة) في موسكو، فشهده زهاء ستمائة كاتب من مختلف الجمهوريات السوفيتية مثل: اليوكرين، والقوقاز، وبلاد الكرج، والتركمان، والغرغيز، ثم روسيا ذاتها؛ وهم يمثلون اثنتين وخمسين أمة مختلفة هي أمم الاتحاد السوفيتي، واثنتين وخمسين لغة وآداباً مختلفة؛ وشهده أيضاً جمهور كبير من كتاب الأمم الأخرى والصحفيين من مختلف البلدان؛ وألقى أعلام الأدب الروسي المعاصر مثل جوركي، وبوخارين، وإيفانوف، وبابل، وايرنبورج، واسكندر تولستوي، خطباً إضافية في وصف الروح الجديدة التي تسيطر على التفكير الروسي، وهي روح الحقيقة الاشتراكية.
وخطب في جمهور الشباب الذين شهدوا المؤتمر الكاتب الفنان أوليخا، فتساءل عن الجيل الروسي الجديد ما هو؟ وماذا يغلب في توجيهه، أهي للعاطفة أم للعقل؟ وهل هو حساس يفيض حناناً ودمعاً؟ وماذا يشعر نحو المجتمع الاشتراكي الذي خلقه ورعاه؟ وكان من المناظر الشائقة أن خطبت صبية سيبيرية في الرابعة عشرة من عمرها؛ فتحدثت عن أماني الشباب نحو الأدب، وطالبت الكتاب الروس بمضاعفة نشاطهم في إخراج الكتب التي يحتاج إليها الشباب، ثم نوهت بما يلاقي الأطفال من رعاية في روسيا، وبأنهم ينعمون بما لا ينعم به الأطفال في أي بلاد أخرى من بلاد العالم.
وقد ساد في المؤتمر على ما يصفه كاتب مشاهد، جو من الحرية والصراحة والإخلاص قلما يبدو في المؤتمرات العامة، وألقيت فيه الآراء المضمرة والظاهرة بحرية لم يحدها شئ، ولم يحجم الكتاب الضيوف عن إبداء آرائهم بمنتهى الصراحة؛ وتولى الرد عليهم أقطاب التفكير البلشفي مثل بوخارين وكارل رادك؛ وكان الجدل برغم احتدامه يطبعه كثير من الصراحة والولاء.
ونقول بهذه المناسبة إن الفن والآداب الروسية لم تتأثر بالموجة البلشفية الهدامة بل ازدهرت في عهد الحكم السوفيتي، وعنى البلاشفة دائماً برعايتها وتشجيعها. ذلك لأن أقطاب البلاشفة كانوا كتاباً وأدباء قبل كل شئ. والاشتراكية تقوم على توجيه الفكر وتغذيته(68/65)
بالأدب والفن؛ وفي روسيا الآن نهضة أدبية وفنية تضارع أعظم النهضات المماثلة في البلاد الأخرى. وبزغ فجر النهضة الأدبية الروسية المعاصرة منذ سنة 1919 بعد أن خمدت الحركة الأدبية مدى عامين كانت روسيا تضطرم فيهما بنار الثورة والحرب الأهلية. وظهرت الروايات والقصص الأولى المطبوعة بروح الاشتراكية سنة 1920؛ وبدأ الكتاب القدماء باتخاذ أساليب وصور جديدة تناسب الروح والأحوال الجديدة. وفي وسعك أن تتتبع مراحل البلشفية والمجتمع الجديد خلال الكتب. ففي المرحلة الأولى كانت المبادئ الثورية والاقتصادية الجديدة تطبع الأدب بطابع عميق؛ ولما تطورت البلشفية، وأبيحت الملكية الخاصة في حدود معينة، وظهر مجتمع (بورجوازي) جديد، ظهرت الميول (البورجوازية) مرة أخرى في الأدب الروسي ولكن بصورة مخففة. ونشبت هنا معركة بين الأدب الشيوعي المتطرف، والأدب المعتدل، وعاونت الحكومة دعاة التطرف في هذه المعركة؛ وسيطر الجناح الشيوعي على التوجيه الأدبي، وعاق بذلك تقدم الحركة الأدبية. ولكن مهمة الجناح الشيوعي الأدبية انتهت بتغلب السياسة الاقتصادية الجديدة. وفي أبريل سنة 1932 أعلنت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي حل جميع الجمعيات الأدبية، ومنها جماعة الحزب نفسه؛ وأعلنت إنشاء هيئة واحدة تضم كتاب الاتحاد السوفيتي جميعاً؛ واستمرت الهيئة الجديدة في طور الإنشاء مدى عامين؛ وهذا المؤتمر هو أول مؤتمراتها.
المناعة ضد الحمى الصفراء
اكتشاف طبي جليل
قدمت أخيراً إلى أكاديمية العلوم الفرنسية مذكرة باكتشاف طبي خطير هو مصل جديد لمقاومة الحمى الصفراء. والحمى الصفراء من الأمراض الوبائية التي تجتاح المناطق الحارة في أفريقية وأمريكا الجنوبية، وتحدث من لدغ البعوض الذي يحمل ميكروبها، وهو المعروف في اللغة العلمية وقد وفق إلى هذا الاكتشاف الجليل الدكتور ليجريه من أطباء معهد باستور في تونس، والدكتور سيلاردس الأمريكي، ومذ اكتشف البعوض الذي يحمل الميكروب كانت مقاومة الحمى الصفراء تجرى بواسطة إتلافه في المدن الاستوائية الكبرى مثل ريودي جانيرو وهافانا وثغور أفريقية الغربية، ولكنه كان في الداخل يعصف بالسكان(68/66)
شر عصف. فعكف العالمان المذكوران على إجراء البحث لاكتشاف مصل يفيد في المناعة ضد الميكروب ويقي الإنسان نهائياً شر هذا البعوض الفتاك، وتوصلا إلى اكتشافه عن طريق القرد والجرذ. ذلك أن ميكروب هذا البعوض لا تمكن رؤيته بالميكروسكوب؛ وهو شديد الفتك بالقردة، ولكنه لا يؤذي الجرذان إلا إذا كانت الإصابة في المخ، فعندئذ يتحول فعل الميكروب ويغدو شديد الفتك بها، وقد لقح العالمان المذكوران الجرذ في المخ بدم البعوض، ثم استخرجا (الفيروس) (الميكروب) من الجرذ ولقحا به القردة فلم يؤثر فيها. ومن هنا نشأت فكرة المصل الواقي، وقد لقي الدكتور ليجريه صعاباً كثيرة، ومنع من إجراء تجاربه في البشر في معهد باستور، ولكنه استطاع أن يجريها في ثلاثة من التونسيين تطوعوا لذلك، فجاءت النتائج العملية تؤيد اكتشافه. فانتقل إلى أفريقية الغربية، وفاوض السلطات في دكار حتى سمحت له بتلقيح ثلاثة آلاف أوربي بالمصل الجديد؛ وكانت النتيجة باهرة، لأن ألفين لم يحدث لهم شئ؛ وأصيب الألف الباقي بشيء من رد الفعل والحمى اليسيرة؛ وكانت مناعة الذين لقحوا تامة ضد البعوض المعدي؛ وتأيدت بذلك صحة الاكتشاف وخطورته، وقدم بذلك مذكرة إلى أكاديمية العلوم لتتوجه بصفة رسمية.
ويجري اللقاح المذكور على ثلاث دفعات بين كل منها عشرون يوماً، وتؤخذ مادته من ميكروب الجرذان الحي، ويمكن تجفيفه وتصديره إلى الجهات الحارة دون أن يفقد خواصه.
ولا ريب أن سيكون لهذا الاكتشاف أثر عظيم في مكافحة الحمى الصفراء وانقاذ الملايين من فتكها الذريع.
مؤرخ مسرحي
توفي في أوائل هذا الشهر أديب ومؤلف فرنسي كبير هو فيلكس جاف، أستاذ الآداب بالسوربون، وكان مولده في سنة 1874. وقد بدأ بتدريس النحو وفقه اللغة في السوربون؛ ولكنه شغف بالموسيقى والمسرح والفن؛ وعنى عناية خاصة بدرس تاريخ الفن والمسرح؛ وأصدر في سنة 1910 أول كتاب جامع عن (الدرامة)، وعنوانه (الدرامة في فرنسا) ثم أصدر كتاباً عن (المتناقضات في عصر لويس الرابع عشر) وشغل كرسي (تاريخ الأدب المسرحي) في كلية باريس أعوام طويلة، وكان حجة في كل ما يتعلق بهذا النوع من الأدب.(68/67)
ذكرى أناتول فرانسي
كان يوم 12 أكتوبر الجاري هو الذكرى العاشرة لوفاة كاتب فرنسا الأكبر أناتول فرنس. وبهذه المناسبة عنيت جمعية تخليد ذكرى أناتول فرانس التي يرأسها الكاتب الكبير جول رومان بوضع لوحة تذكارية في قرية بشيليري التي قضى فيها فرانس أعوامه العشرة الأخيرة، وتوفي في 12 أكتوبر سنة 1924، واحتفل بوضع هذه اللوحة في جمع حافل من أصدقاء الكاتب الكبير والمعجبين به. وهي خطوة من خطوات تزمع الجمعية اتخاذها لتخليد ذكراه.
قبر سيرانودي برجراك
للفرنسيين ولع شديد باكتشاف قبور عظمائهم التي طمست وغمرها النسيان، وفي فرنسا جمعيات أثرية كثيرة تعنى بالعمل في هذا السبيل. ومنذ أعوام قلائل استطاعت إحدى هذه الجمعيات أن تعثر بقبر الفيلسوف فولتير ورفاته تحت أقبية الكنيسة التي تذكر الرواية أنه دفن بها. ومنذ أشهر اكتشفت جمعية أخرى قبر الشاعر رونسار في بلدته التي دفن بها؛ وقد قرأنا أخيراً أن جماعة أثرية أخرى تعنى باكتشاف قبر (سيرانودي برجراك) وهو السيد الذي خلد روستان اسمه في روايته الشهيرة. والمعروف أن سيرانو حينما اشتد عليه المرض غادر باريس في سنة 1665 إلى بلدته الأصلية (سانوا) ومات هنالك، ولا يزال اسمه مسجلاً في دفتر الوفيات بكنيسة القرية المذكورة. وقد أجريت مباحث في السهل الذي يوصف بأنه دفن فيه في ظاهر القرية. واكتشف بالفعل هيكل عظمي ظن بادئ بدء أنه هيكل سيرانو، ولكن ظهر من فحصه أن عظامه دقيقة كأنما هي عظام امرأة أو فتى لم يكتمل أطوار النمو. ولكن الباحثين لم ييأسوا، ولازال البحث يجري لاكتشاف رفات سيرانو ذي الأنف الضخم.(68/68)
النقد
2 - أصدقائي الشعراء
هذا لا يؤدى
بقلم معاوية محمد نور
وعندي أن السر في أن شعر علي محمود طه المهندس قد نال شيئاً من التقدير والثناء مرجعه لإجادة الصنعة والصقل، ولو أن مواده هي الأخرى تافهة بدائية المعنى، غير صادقة، يعوزها الشعور الفردي القوي، والنظر الأصيل الواحد.
ثم لأن العرف الدارج والعقل الشعبي قد تعود أن يقرن الشعر بمظاهر الطبيعة المعروفة. . فيقول الناس عن ليلة مقمرة: أنها ليلة شعرية، أو عن روضة فيحاء: إنها تبعث على النشوة والسرور، وإنهما لكذلك. غير أن الشاعر الذي لا يتعدى في نغمه ووعيه الشعري سوى ترديد ما تواضع عليه الناس وأقروا به، إنما يدل على أن المحاكاة والتقليد والعرف الدارج هي أميز خواص فكره، وأخص ميادين لعبه الفكري.
وعلي محمود طه يكتب عن الطبيعة ويستوحي النهر والبحر والغدير والقمر والأشباح والرياض والشفق، ويفهم أن (الطبيعة) التي يجدر بأن تنظم شعراً هي الطبيعة في أضخم مظاهرها وأعظمها، وأوقعها في الحس، وأشدها رائحة، وأهولها منظراً؛ وهو لا يفهم هذا الفهم ويتجه إليه لأن مزاجه هكذا، ولكن لأن هذه الأشياء قد كثرت في الشعر وأصبحت معروفة معترفاً على أنها تصلح موضوعاً للشعر، ولو لم يحس الأديب تجاهها بأي شعور غريب أو نظر حديث.
وبديهي أن الشاعر المعاصر الذي لا يلتفت في عالم الطبيعة إلا إلى المظاهر التي التفت إليها خلافه من عهد آدم، يدل أولاً على أن تقدمه الذهني وقف هناك، وأن وعيه الفني لم يتطور؛ ففي الطبيعة خلاف البحر الذي يقف عنده القروي، وفي الطبيعة خلاف الشواطئ التي تقف عندها سفن البحارة، أشياء أخرى أدق وربما كانت ألصق بحياتنا وأجدر بالتفات الشاعر. فالحجر الصلد الذي يقف في طريقك، و (الشارع) الذي تصقله مصلحة التنظيم حيث يعمل جماعة المهندسين، والفأر الهارب من سفينة خربة، والذباب الذي يطن على(68/69)
جيفة عفنة، وقطعة الحديد التي أكلها الصدأ، والخشب الذي نأكل عليه، والزرع الذي نلبسه ثياباً، والعصفور الوحيد الذي ينتقل من بيت لآخر، والنمل، والنحل، وصوت الباخرة، وضجيج الترام، وخلافها من المظاهر التي نراها ونسمعها في غدوّنا ورواحنا هي أجزاء حية في الطبيعة، والالتفات إليها في وضع جديد أتى به نظام حياتنا الراهنة وحضارتنا المعاصرة، لأدلّ على فهم الطبيعة من آلاف القصائد عن البحر والشفق والنجوم!.
ويجب ألا يفهم من هذا أننا ننكر على الشاعر أن يعنى بمظاهر الطبيعة الكبرى البدائية الجميلة أو المتوحشة، ولكن هنا يقل الإبداع، ولا يسلم الشاعر من الإسفاف والتفاهة، إلا إذا كان عملاقاً عظيم النظر فريد الشاعرية؛ كما إننا لا ننكر الالتفات إلى (المظاهر الرومانتيكية) التي يولع بها المهندس، ولكن هذا الالتفات وهذه العناية (بالربيعيات) يسهل فيه الغش، وتندر به الإجادة والتفرد؛ وهو أقرب طريق يلجه الأديب القليل الحيلة، المقلد الأسلوب، الذي لا تميزه شارة، ولا يستشف في تكوينه إصالة نظر أو عمق تفكير.
وكثير من شعراء أوربا المعاصرين اقتربوا من الموضوعات الرومانتيكية بأسلوب جديد، فبدلاً من الحديث عن سحرها وخوفها وهولها، تراهم يحاولون تفسيرها والنظر إليها من خلال شعور وعقلية رأت وسمعت وقرأت ما يجعلها تنظر إلى هذا الجمال والهول والخوف من زوايا جديدة ليس فيها ذلك الجهل الناطق. فإن كل شئ لا يعرفه الإنسان يبدو له سراً تحار فيه الأذهان، ولو كان من أبسط البسائط!
فالقروي الذي يزور القاهرة لأول مرة ويشاهد (المصعد الكهربائي) لا يمكنه إلا أن يذكر الله والأسرار، وتتملكه الحيرة والعجب، فإذا حاول مثل هذا الرجل أن ينظم قصيدة عن (المصعد) فقد تروق لأمثاله الذين لا يعرفون الميكانيكيات (وقوانين الطبيعيات). ولكن القارئ المتحضر لا يستطيع قراءة قصيدة تنسب إلى هذا المصعد أهوال الجن وعمل الشياطين!
فالثقافة ووعي العصر الذي نعيش فيه لابد منهما لأي فنان يكتب ليقرأه الجيل الذي يعيش بينه، وذلك لأن الشاعر المصري المعاصر لا يعيش في (شبره) أو (ديوان حكومي)، ولكنه قبل ذلك إنسان حي يعيش في كل العالم، ويحس ببعض ما يدفع بالنفوس الآدمية إلى مناجاة النفس مثلاً في روسيا، أو الحركة والعمل في أسبانيا واليابان. والذي يستطيع أن يرى في(68/70)
شارع عماد الدين مثلاً وجوهاً وأجساماً وثياباً وآلات كاملة الصنعة مصقولة المظهر، يخبر مظهرها عن السكون والاطمئنان، غير إنها تفتح عوالم داخلية مروعة. وبالاختصار فإن الفنان الذي - لم يحس بقبس أو لمحة أو ناحية من (تيار وعي) كامل يمكنه من رؤية التشابه في أشياء، ومظاهر بادية الاختلاف، أو بالعناصر والقوى والفكر التي تذهب جميعاً لإخراج فكرة أو مظهر عادي مما نراه في حياتنا اليومية؛ ليس لديه تلك الملكة الشاعرة التي تستطيع أن تبني القصور من الرماد والهواء، أو تحلل السيارة الجيدة الصنع، الجميلة المظهر إلى عناصر حلم وغفوة إنسان وعصب حيوان، أو فقرات مادة سنجابية وجرح عامل فقير، ليس له ذلك الإحساس النافذ القدير على التكوين والتحليل، الذي يجبر القارئ على الإنصات له والاستماع لنغمه الشعري.
وإني لأعجب كيف يعجب أي قارئ له حظ من الثقافة ودقة الحس بكلام مثل هذا:
رب ليل مر أمضيناه ضماً وعناقا
وأدرنا من حديث الحب خمراً نتساقى
في طريق ضرب الزهر حواليه نطاقا
وتجلى البدر فيه، وصفا الجو وراقا
فإذا كان هنالك حب وضم وعناق، وزهر وبدر وجو رائق، فالإنسان العادي ليس به حاجة ليحس بنشوة آدمية حسية من غير أن ينظم له هذا الكلام شعراً. وإن أي أفريقي في أدغال أفريقيا، حينما يصفو الجو، وينمو الزهر، ويشرق البدر، ويحب امرأة يستطيع أن يقول هذا الكلام.
وعند علي محمود طه أيضاً شعور غير محمود بأنه شاعر، ذلك لأنه قد ضم كل الشعريات وأحصاها في ديوانه. فقصيدة ميلاد شاعر مثلاً كلها تمجيد لهذا الرجل الذي يحسب نفسه شاعراً، لأن لفظة الشعر والشاعر والزهور والألحان تكثر في كلامه.
والرجل الذي يستطيع أن يكتب - بعد معرفتنا الحاضرة وشعورنا المحدود الذي أتاحه لنا العلم والبحث العصري مثل هذه الأبيات الآتية، إنما أحسده لبساطته التي لا تحسد.
وتجلى الصدى الهتوف الساحر ... في محيط من الأشعة غامر
وسكون يبث في الكون روعاً ... وقفت عنده الليالي الدوائر (كذا)(68/71)
واستكان الوجود والتف الدهر ... وأصغت إلى صداه المقادر (كذا)
وقد يتورط محمود طه في غرامه (بالشعريات) برسمه صوراً مضحكة إذا لم تكن مستحيلة كقوله:
ماؤه ذوب خمرة وسنا شم ... س وريا ورد وألحان طائر
وعنده إذا لم يجعل هذا الماء ذوب خمر وسنا شمس وريا ورد وألحان طائر في آن واحد فهو ليس بشاعر. وأي منطق يستطيع أن يفهم شيئاً يكون سنا شمس محرقة، وريا ورد، ثم يكون في نفس الوقت صوت طائر؟!. اللهم إن هذا إلا خلط قبيح لا نرضاه لصديقنا الشاعر.
وليس أدل على فهم شاعرنا لطبيعة الشعر من قوله في رثاء شاعر:
وهو شعر صورت ألوانه ... بهجة الفجر وأحزان الشفق
ونشيد مثلت ألحانه ... همسات النجم في إذن الغسق.
وفي قصيدة (الله والشاعر) بساطة مؤلمة في أن يأمر أديب الأرض بأن:
مدى لعينيه الرحاب الفساح ... ورقرق الأضواء في جفنه
وأمسكي يا أرض عصف الرياح ... والراعد المغضب في أذنه
فهذا كلام لا يشرف أي طالب في مدرسة ثانوية، فضلاً عن شاعر عصري. والقصيدة ملآى بهذه الأشياء التي تواضع البسطاء على إنها الطبيعة التي لا طبيعة غيرها.
مر بنهر دافق سلسبيل ... تهفو القمارى حول شاديه
في ضفتيه باسقات النخيل ... ترعى الشياه تحتها غانيه
فإذا كان هذا النهر ملحاً مثلاً، وكانت هنالك ضفادع على حوافيه، وأحجار تدمي الأقدام بدلاً من النخيل، فليس هنالك طبيعة تجدر بالشاعر والشعر!:
حتى إذا شارف ظل الشجر ... في روضة غناء ريا الأديم
قد ضحكت للنور فيها الزهر ... وصفقت أوراقها للنسيم
فهذا الشاعر لا يكفيه أن تكون هنالك روضة غناء ريا الأديم ولكن لابد أن يضحك الزهر ويصفق النسيم لأول مرة!
أما المسائل الفكرية التي أثارها الشاعر في حواره مع الله فهي أول ما يقرأ الطالب في(68/72)
العلوم الدينية في باب القضاء والقدر. إن مسألة الإثم والشر لا يعالجها فنان عارف بمثل هذه البساطة
. وفي قصيدة (قيثارتي) مثل قوي لهذه النزعة نحو (الشعريات) التي حاولنا إيضاحها، وهذه هي أواخر الأبيات من غير تحوير ولا مبالغة، ولو أنها أشبه بالمبالغة والتحوير:
الغور والآكام. الشعر والإلهام. مودتي وذمامي - قديم هيامي. قلبي الدامي. دمعي إلهامي. حبيسة الأنغام.
إن مثل هذا الشعر ليوحي إلى القارئ الدقيق الحس كراهة الآكام والزهور والبحار والأنغام وما إليها لهذه النغمة المبتذلة الكثيرة التكرار، التي لا تحس معها بواقعة حال صحيحة، أو شعور نضر مباشر!
وإنما أتينا بهذه الاستشهادات لندل القارئ على إننا لا نتعسف، وإلا فإن الديوان كله يصح أن يستشهد به، فما يخرج من ألفاظه ومعانيه عن هذه الألفاظ والأمثلة والمعاني.
وقد كنا نظن أن أصدقاءنا من الجيل الجديد الذين يشتغلون بالشعر، يفهمون الشعر على حقيقته، وأنه ليس ألفاظاً ومبالغات عن عالم الطبيعة والزهر والحب وما إليه من الألفاظ والأخيلة التي يسهل على أي يد تحرك القلم أن تأتي بها.
أصدقائي الشعراء، أقولها لكم مخلصاً: إن هذا عبث قبيح بالكبار. وأقبح ما فيه أن يأتي من جيل جديد له دعوى كبيرة نسمع عنها في الصحف، وهو على هذا التخلف المعيب في فهم الفنون والحياة. ولو أننا رأينا الاتجاه صحيحاً، وأن الطريق الذي تسلكونه مهماً كانت النظرة زائغة والنغم غير منسجم لتساهلنا، وكانت معالجتنا للموضوع غير هذه، غير أن الطريق من أوله خاطئ، وأن الفهم من أساسه غير صحيح، وأن هذا الطريق لا يؤدي أبداً، وأن الشيء الذي نسميه شعراً هو خلاف هذا في جملته وتفصيله، فمن شاء منكم فليرجع إلى نفسه يحاسبها، وينظر من جديد، ويقرأ ما يقول خلافه من الشعراء الفحول، وخاصة المعاصرين في أوربا ليرى في أي طريق تسير الأقدام، وأي عوالم يكتشف الفنان المعاصر، وأي المسائل يبحث النقاد، وأي (وعي فني) يجدر بالفنان الحي الذي يعيش في عالم الأحياء الشاعرين.
معاوية نور(68/73)
القصص
الأم الثانية
للأستاذ محمد سعيد العريان
كم كان نجيب أفندي وفياً لزوجه براً بأسرته؛ إنه لم يكن يسمح لنفسه أن يقضي خارج البيت قليلاً من الوقت لغير عمل؛ فأيان تلتمسه لا تجده إلا في الديوان أو في البيت، وفي فترات قليلة كان يجلس إلى أصحابه في النادي يستمع إليهم ويستمعون إليه، ولكنه كان حريصاً كل الحرص على الموعد الذي حدده لعودته إلى حيث يجد في الأنس بزوجه وولديه ما لا يجد جزءاً منه في مكان آخر. لقد كان من طراز غير طراز هؤلاء الكثرة من الرجال الذين لا يعرفون البيت إلا كما يعرفون الفندق أو المطعم، ولا يفهمون من واجبات الأسرة إلا كما يفهم المدين ألح عليه دائنه، ولا من حقوق الزوجة إلا ما تلهمه الغريزة، ولا من بر الوالد أكثر مما يفهم مدير ملجأ اليتامى. .!
ولم يكن يعجب لشيء أو يرثي لأحد عجبه ورثاءه لهؤلاء الذين لا ينفكون يصرحون بالشكوى والألم من متاعب الزوجية وقيود الزواج؛ بل لقد كان يسيء الظن بهؤلاء الشاكين ويرميهم بالحمق وسوء التدبير في سياسة بيوتهم أكثر مما يرثى لهم ويعجب.
ولكن هذه السعادة التي كانت تشرق عليه بالبشر والإيناس، وتعمر صدره بالبهجة وحب الحياة - لم تلبث أن زالت؛ وتبدل البيت من أنسه وحشة، وتحولت ضحكات الفرح والمسرة فيه إلى همسات حزينة باكية، وخيم الظلام الموحش الرهيب. . لقد ماتت زوجه. .!
مَن لهذين الصغيرين يرعاهما ببره، ويسبغ عليهما من عطفه وحنانه ما يعوض عليهما بعض ما فقداه من بر الأم وحنانها؛ مَن لهذه الصغيرة (كريمة) يرتب شعرها ويغني لها في الصباح تلك الأغنية الجميلة التي كانت تدللها بها أمها وهي توقظها في رفق لتذهب مبكرة إلى المدرسة الإلزامية القريبة. ومَن للصغير (صلاح) وما تزال الأرض تجاذبه فما يمشي خطوات إلا معتمداً على الحائط، ثم يتم سيره حبواً على الأربع؛ ومن ذا يقطف من ثغره الزهرة الناظرة حين يبتسم، ويطبع على خده القبلة الناعمة حين يبكي؛ بل من ذا يجيبه حين يحرك شفتيه بالكلمة العزيزة التي لا يعرف غيرها: (أمي!) وقد ماتت أمه. ومن ذا(68/75)
يعوض على نجيب زوجه التي فقد بفقدها نضارة عيشه، وبهجة حياته، وأنس أليفه، وأم ولديه. .؟ إنه ما يزال يذكر ذلك الحديث القصير بينه وبين كريمته غداة حملوا أمها إلى حيث لا تراها، فتسأله:
- أبي، أين أمي؟
- أمك عند أبيها يا كريمة.
- لقد كنت أظنها عند الطبيب، وأين أبوها؟ إنني لا أعرف بيته
- أبوها هناك. في مكان بعيد لا تعرفينه ولا أريد أن تعرفيه.
- ولماذا لم تأخذني معها، لقد غابت كثيراً فمتى تعود؟!
وأخفى الرجل دمعة تنحدر على خده، وأطبق فمه أن تفلت منه زفرة محبوسة؛ وقام يستحث الخادم على إعداد الطعام. . لقد ترك هذا الحديث في نفس نجيب أثراً عميقاً كان عسيراً عليه أن ينساه، وكان أليماً أن يذكره؛ وكلما أحس أن ابنته توشك أن تعود إلى مثله أسرع يقص عليها حكاية مسلية، أو يروي نادرة مضحكة ليصرفها عن الحديث. .
وأنس الصغيران إلى أبيهما، ومرت يد الزمن رفيقة على رأسيهما فمحت منهما تلك الذكريات عن صاحبة الوجه الجميل التي كانا يدعوانها أمهما إلى قريب. ولكن هذا الزمن لم يستطع بأيامه ولياليه أن يمحو هذه الذكريات وذكريات أخرى عزيزة كان يحتفظ بها نجيب أثراً من ماضيه السعيد.
وكلما مرت الأيام أحس نجيب بالوحشة والفراغ من حوله، وعاد يستذكر الماضي بما فيه، ويقلب حوله عيناً حزينة لا تقع على أثر من آثار ذلك إلا عادت ملأى بالدموع. ومضت خمس سنين وهو يعيش في هذا البيت عزباً يرعى ولديه، ويقوم بأمرهما قيام الأم والأب، تعاونه خادم صغيرة على إعداد الطعام وتنظيف البيت وقضاء حاجات الصغيرين. .
وأتمت كريمة دراستها الأولية والتحقت بمدرسة ابتدائية قريبة من الحي، وأخوها يتأهب لأن يفارق معلم (الكتّاب) وعصاه إلى المدرسة، ونجيب ما يزال على عهده يشعر بالضيق من وحدته، ويتمنى لو يستطيع أن يظفر بزوج تعمر هذه الدار الموحشة، وتعيد إليها بهجة فقدتها منذ عهد طويل، بل تشرق بابتسامتها في وجهه العابث، وتمهد بيدها الناعمة فراشه الخشن، ولكنه. . . ولكنه يحب ولديه ويريد أن يؤثرهما بهذا الحب، وهو يرى أنه ليس(68/76)
في الوجود إلا أم واحدة لكل مخلوق وأب واحد وقد ماتت أمهما! وأنه ليخشى أن يفقدا في سبيل البحث لهما عن أم ثانية - أباهما الواحد؛ يخشى أن تستأثر به زوجه فلا يكون لهما أب ولا أم!
وتعرّف إلى صديق جديد، هو زميله في الديوان، وتوثقت عُرى الودّ بينهما فاطمأن كل منهما إلى صاحبه، وتعاهدا على الوفاء فكانا روحاً في جسدين، واتحدا عاطفة وإحساساً فصارا - كالشخص وخياله - يبتسمان ويقطبان في مرآة.
وعرف (إبراهيم) من حال صاحبه ما نعرف فنصح له أن يتزوج، وعرض عليه أخته زوجاً له وأماً لولديه. . . ومضى شهران زفّت بعدهما (زينب) إلى نجيب، فرأى من أدبها وإشراق طلعتها وحسن معاملتها لولديه - ما أعاد إليه بهجة الشباب. وكأنما تناول القدر مقصاً قطع به ذلك الجزء الباقي من صور الماضي القريب ليصل عهدين كلاهما له من السرور رونق ورواء.
وعاد إليه أنسه، واطمأنت نفسه، واستروح نسيم السعادة وتفيأ ظل الاستقرار، ومضت أشهر.
وقالت له زوجه: (البيت مدرسة الفتاة، فهلا احتجزنا كريمة عن مدرستها تعرف من شئون البيت ما عرفت من فنون العلم، وتجيد في الطهي ورفو الثياب ما تجيد من القراءة ومداعبة القلم؟)
وتريث نجيب قليلاً ثم سمع لكلام زوجه، وبقيت كريمة من اليوم التالي في البيت تستمع إلى دروس جديدة من فن تدبير المنزل، وعرفت كيف تدير الملعقة في القدر، وكيف تقشر البصل وكيف تغسل الأطباق وترتبها على المائدة في نظام جميل. وكانت تفرح حين تكلفها (أمها) إعداد شئ، أو تطلب إليها مرافقة الخادم إلى السوق لقضاء حاجة، ولم يكن يسوءها شئ أكثر مما تسوءها سرعة اتساخ ملابسها الزاهية؛ لأنها كانت تغسلها بنفسها. . وخرجت الخادم مرة فلم تعد؛ لأن زينب طردتها. وقالت لزوجها:
- إن هؤلاء الخادمات لا يحسنّ القيام بشيء غير طلب الأجر، وأكثرهن لا يعرف الأمانة ولا يشكر النعمة؛ فلا تتعجل في اختيار أخرى قد تكون شراً من سابقتها، وسأبحث على مهل عن خادم أمينة لا تضايقنا ما كانت تضايقنا تلك الفتاة الملعونة. . . وأسند عمل الخادم(68/77)
مؤقتاً إلى كريمة، ولكن هذا التوقيت لم يكن إلى نهاية. . .! فلم تعد تلك الفتاة الناضرة التي كانت، وانطفأ بريق عينيها، وذبل خداها، وعلت وجهها غبرة من الحزن كانت تواريه عن أبيها. . . وأخذت تعود إلى رأسها الصغير ذكريات بعيدة مشرقة، تبدو خلف ضباب البعد في فتنة الخيال - ذكريات عن أم أخرى رفيقة كانت دائماً تبتسم في وجهها، وكثيراً ما كانت تحتضنها إلى صدرها وتقبلها وتعنى بنظافتها وراحتها، فتصنع لها اللعب وتشاركها اللعب بها؛ وكانت إذا جاء المساء تروح تحدثها حديثاً عذباً، وتقص عليها حكايات لا تزال تذكر بعضها، فإذا جاء وقت النوم احتوتها بين ذراعيها، ثم لا تستيقظ في الصباح إلا على نغمات من صوتها النديّ الرقيق. أين ذهبت تلك الأم فلم تعد، ومن هذه الأخرى؟ لقد كانت أمها الأولى أرحب صدراً وأوسع عطفاً وأكثر حناناً.! وابتدأت الفتاة تتبرم بما تؤديه من عمل، وابتدأت زينب تشكوها إلى أبيها. وأول مرة سمعتها كريمة من بعيد تحدث أباها عنها ذهبت إلى غرفتها وجلست تبكي، فلم يسأل عنها أحد.
ويوماً عاد صلاح من المدرسة في الصباح، فقد طرده الضابط لقذارته، وانهالت عليه (أمه) توبخهوتشتمه، وتركته منزوياً في جانب من الردهة يبكي حتى عاد أبوه في الظهر. ورفعت إليه الشكوى من (ولده) وتجاهلت أشياء واختلقت أشياء. وغضب الوالد، وهم بالولد يخيفه برفع يده، ووقفت كريمة في الطريق: (أبي، ما هذا؟ إن أخي لم يفعل ذنباً، أمي هي التي تهمله!)
وسقطت يد الرجل بجانبه، لقد رأى كريمة في صورة أخرى، لكأنه لم يسمع صوتها منذ زمن طويل. هذا الصوت الذي تحدثه به لشد ما أثار في نفسه من ألم وأعاد إلى رأسه من ذكريات. ووازن بين صورتي ابنته أمس واليوم؛ صورتها أمس في طفولتها الجميلة وهي جالسة في حجره تعبث بشاربه وتربت بيدها على خده. لقد كانت مثل زهرة تفتحت في الربيع تتألق في حسن وتفوح بعطر - وصورتها اليوم! ماذا تلبس؟ إنها ثياب الخادم المطرودة. . . وحوّل وجهه إلى ناحية أخرى فأبصر ولده متجمعاً من خوف في زاوية المكان: صلاح. ووقف الولد يرتعد، وجذبه أبوه برفق، وطأطأ رأسه في ذلة، وانحدرت من عينيه دمعة: ولدي. وتهدج صوته فأمسك عن الكلام؛ وأحست زينب عاصفة توشك أن تنقضّ فانسحبت في هدوء.(68/78)
لم يتحدث نجيب مع زوجه في شأن العناية بولديه، فقد عرف معنى انسحابها، وأدرك أنها فهمت ما همّ أن يفعله. . . وعادت الحياة في البيت مطمئنة هادئة، فقد غيرت زينب سياستها في معاملة الولدين، ونسي نجيب ما كان، أو كاد.
وليلةً جلسوا على المائدة للعشاء، ومد صلاح يده يتناول قطعة من الفاكهة، فانجذب إليه غطاء المائدة فتلف نظامها وسقط بعض الأطباق على ملابسه وملابس أخته في جواره، وغضب أبوه ونظر إليه نظرة، وتوقفت زينب عن الأكل لحظة تقلب بصرها في نظرات ذات معنى بين الولد وأبيه، وتألم الولد فقام عن المائدة يدعي الشبع، ثم نهضوا جميعاً. ولم يطل بهم السهر تلك الليلة فصحب الرجل زوجه إلى النوم، وترك الولدين يهيئان فراش نومهما في غرفتهما. ولما سكن الصوت قالت زينب:
- نجيب! أرأيت ما فعل صلاح؟ لقد فقدت شهوتي للطعام حين رأيتك متألماً لما فعل، ألا ترى من الخير أن يأكلا وحدهما؟
- زينب! اسكتي. ونهض الرجل إلى الفراش ولكن لم يغمض له جفن، لقد تعاورته أفكار مظلمة، وأخذ يردد النظر بين حاضره وماضيه، لقد كان للأسرة معنى يحس وحدته في قلبه فأصبح لها في مرأى عينيه معنيان؛ في زوجه وولديه. ورجع أدراج الزمن يلاحق ذكريات عزيزة كاد يطمسها البعد الطويل؛ ثم أخذته إغفاءة الفجر، وخرجت له امرأته الأولى من فكره المضطرب وقلبه المتألم - طيفاً يعاتبه؛ وتخلت عنه حجة المعتذر؛ وأغضى حياءً من عنف تأنيب تينك العينين؛ ورأى ولديه يفران في رعب وفزع إلى حيث يلتمسان الأمان في صدر أمهما. وابتسم الطيف في رثاء وألم. . . واستيقظ، فارتدى ملابسه على عجل وخرج مبكراً إلى الديوان.
ووقف إبراهيم أفندي على سر صاحبه، وآلمه من أخته أن تكون على ما وصف زوجها قسوة وغلظة، ولم يخش على عشها أن ينهدم أكثر مما يخشى على ما بينه وبين صديقه من ود أن تنفصم عروته، وينحل وثاقه، ويعبث في عقدة الإخلاص منه إصبع الشيطان أو إصبع امرأة. . . ودبرا أمراً وافترقا على ميعاد.
في عصر ذلك اليوم دعا نجيب زوجه إلى نزهة، فركبا سيارة إلى بيت أخيها حيث استودعها نجيب إلى أن يعود. وأبدى إبراهيم لمقدمها شعور مرتاح وهو يخفي الغيظ في(68/79)
صدره، وتعلق بها أولاد أخيها يتجاذبون ثوبها في سرور ظاهر، واستقبلتها زوجه بقبلة وداد وعناق مشتاق؛ واستدارت بهم حلقة يتناولون من كل حديث طرفاً، ويتبادلون شتى ذكريات أمس وأنباء اليوم وآمال الغد:
منذ أشهر لم تطأ زينب عتبة هذه الدار؛ منذ فارقتها إلى بيت زوجها تعترك في رأسها أحلام، وتصطرع في نفسها عواطف، وتعبث بطمأنينتها رهبة، وتتحرك في دمها غريزة امرأة، ترى ماذا تحقق من أحلامها وما أخفق وماذا تسعى إليه بعد، وأي حاليها كانت خيراً: حالها الآن وقد أصبحت ربة بيت وصاحبة أمر وسلطان، أم حالها أمس في تلك الغرفة من بيت أخيها ريانة شبعانة كاسية، ثم حسبها مما وراء ذلك من سعادة العيش أحلام لا تولد إلا في الظلام فلا تعيش تحت الشمس؟
وانتهت تأملاتها وقد زحف الظلام ولم يعد نجيب؛ ترى أي جليل من الأمر تلكأ به وهو الوفي إذا وعد! وهتف نفسها إليه، وهتف باسمه الشوق، وتحدثت إليه المنى: متى يعود.؟ ومد الليل رواقه ولم يعد، وراحت تتناهبها الأفكار، وتنوشها الهواجس، وتعبث بلبها مختلف الخواطر، وذكرت موقفها من ولديه أمس وموقفه، وخشيت أن يكون به ألم من بعض ما فعلت يريد أن يعاقبها عليه. . .
وكأن لم يكن لها عهد بالأكل على مائدة أخيها فجلست تقلب بصرها في أنواع الطعام وفي وجوه الآكلين، لا تكاد تمد يدها أو تحرك فكيها. وقاموا عن المائدة، ثم أوشك الليل أن ينتصف ولما يعد نجيب. . . وغلبها الخوف والألم، وهمت أن تكاشف أخاها بما في نفسها فلم تفعل، وطوت صدرها على هم متكبر! وقام أخوها يتثاءب فدعاها إلى النوم هناك. . . في الغرفة التي ودعتها منذ أشهر يوم صحت من أحلامها تستقبل الحياة التي طالما تمثلتها وتخيلت أيامها ولياليها في كنف الزوج العزيز. . وسلخت ليلتها لم تنم على جنب واحد، وأقبل الصباح أقبح من ليل داج مخيف. ومضى يوم ويوم وأيام وهي تصبح وتمسي على حال واحدة، وأحست أنها ضيف مملول. وشعرت بالوحشة تكتنفها، واجتمعت عليها الأفكار السود، ولم تستبن في ظلام يومها ما يضمره لها الغد، وأيقنت بما هناك. . . أترى زوجها يقدم على ذلك وهو الذي كانت تعرف من حبه إياها أنه يشق عليه أن يفارقها لحظة، فهل يطيق أن يفارقها إلى الأبد؟ ولكنها لم تحرص على هذا الحب، لقد كانت تطمع أن يكون لها(68/80)
وحدها قلبه، وأن تستأثر بحبه من دون ولديه، ففقدت كل شئ ولم تظفر بشئ!!
وقال لها أخوها وقد جلسوا للطعام:
- لماذا لا تأكلين يا زينب؟ لعلك تخجلين أن تجلسي معنا على المائدة، فلا حرج أن تأكلي وحدك إن كان يحلو لك ذلك؛ وتستطيعين أن تطهي طعامك بيدك إذا أحببت ألا تأكلي من طعامنا. ونظر إلى زوجه ونظرت إليه. وسكتت زينب فلم تجب، ولم تأكل أيضاً، فقد ازدحمت في عينيها الدموع. وقامت عن المائدة فلم يلح عليها أن تجلس كما يلح على زوجه وأولاده حين يفرغون قبله من الطعام. أتراها ثقلت عليهم إلى حد أن يكرهوا أن تأكل معهم من طعام واحد؟ لقد هانت عليهم من قبل، حين أذنوا للخادم أن تسافر لزيارة أمها، وتركوها وحدها تؤدي عملها، فلم يساعدها أحد أو يشكر لها يداً، أي هوان!
وخلت إلى نفسها تبكي وتدفن الزفرات في صدرها، ثم تحصي الزمن وتقدر حساب الغد. لقد طال بها الانتظار ونجيب لما يعد. . ومرت بها من الماضي صورة فذكرت. . لكم كانت قاسية جبارة في معاملة كريمة وصلاح، ما أقبح الجريمة وما أعدل الجزاء! وانحدرت على خدها عبرة الندم. لقد كانت عمياء فأبصرت، واشتملها إحساس عميق بالرثاء والعطف؛ كيف لم تدرك من قبل سوء ما كانت تصنع؟ إنه ذنب الصغيرين، ستكفّر عنه حين تعود، ولكن. . . هل تعود؟
وتركت كبرياءها في الغرفة وخرجت تحدث أخاها:
- إبراهيم، ألم يقابلك نجيب؟
- بلى.
- انه لم يحضر!
- أعرف ذلك!
- وهل تعرف السبب؟
- السبب؟!
وتركها مطأطئة الرأس تبكي في حسرة وندم ومذلة، وراح يخفي علائم الظفر تبدو في أساريره؛ لقد أفلحت الخطة ونجح العلاج.
وحين عاد في المساء كانت زينب لا تزال تبكي. لقد غلت القدر وتوشك أن تنفجر؛(68/81)
واقترب منها فوضع يده على كتفها؛ ورفعت إليه عينين مخضّلتين بالدموع، واندفع في غير رفق يصب عليها جام غضبه، ويوجه إليها قارص اللوم وعنيف العتاب؛ وراحت تعتذر في كبرياء جريح، وراح يحملها تبعة ما يخشاه؛ يخشى أن يفقد صديقه أكثر مما يخشى أن تفقد زوجها. . . ثم ترك القدر في غليان.
والتقى الصديقان، وقص إبراهيم على صديقه ما سمع وما رأى. . . وجلست زينب تصارع اليأس بالإيمان، وتغالب الحزن بالأمل. ومر يومان ولم يعد إبراهيم إلى التحدث معها في شأن زوجها، ولم يعد نجيب. وغلبها الهم واليأس، واستسلمت للمقادير مؤمنة بأنها إنما تلقى جزاءها العادل. وجاء يوم الجمعة ثالثاً وعاد إبراهيم من الصلاة ومعه ضيف. لقد عاد نجيب بعد طول الغياب!
وجلسوا حول المائدة يتداعون إلى شهي الطعام، ويتبادلون بين اللقيمات كلمات قصيرة عذبة. ثم انفضوا عن المائدة يسمرون، إلا نجيباً وزينب؛ لقد ظلا صامتين، ولكن ضمائرهما كانت تتناجى في حديث خافت، وخواطرهما تفترق وتتلاقى.
وفي اليوم التالي حين عادت زينب إلى عشها المهجور كانت أسعد منها يوم قدمت إلى هذا البيت أول مرة عروساً متوجة بالزهر مودعة بالزغاريد. ورأت كريمة (أمها) فأسرعت تسلم عليها في لهفة وشوق، وعلى فمها ابتسامة، وفي نظراتها بشر وفرح وترحيب. وهرول إليها صلاح يتعلق بذراعها ويجذبها إلى الخلف كأنما يخشى أن تهجره ثانية إلى غير لقاء.
لقد استوحش الطفلان لغيبة زينب، فنسيا كل ما كان من قسوتها، لأن قلوب الصغار طاهرة بريئة، لا تمسك العداوة، ولا تذكر السيئة، ودنياها يومها المتجدد. وكأنما أحس الولدان إن المصيبة إن كانت في فقد الأم، فتمامها أن يفقدا شبه الأم!.
ورأت زينب في ترحيب الصغيرين معنى لم تحسه من قبل، وتحركت فيها الأمومة، وتزاحمت في رأسها إحساسات شتى: من الندم، ومن الحب، ومن التأثر بهذا الوفاء. وطفرت من عينيها قطرتان من الدمع تلهبان خديها بأقسى مما يلذع صدرها الندم. واقتربت منها كريمة وعلى شفتيها تساؤل مشفق:
- أمي، أنت تبكين؟ لا يا أمي، لا تبكي لا تبكي. ودفنت رأسها في صدر زينب مختنقة(68/82)
بالعبرات. ووقف صلاح على مقربة، وقد وضع إصبعه على فيه في حيرة ودهش مما يرى. وتحرك في قلب زينب حنين الحب، فمسحت بيدها في رفق وحنان على رأس (ابنتها) وتدانى فم من وجنتين. وأقسمت، وأشهدت ربها، لتكونن من اليوم لهذه الطفولة الوفية - أمهما الثانية.
محمد سعيد العريان(68/83)
العدد 69 - بتاريخ: 29 - 10 - 1934(/)
لجنة التأليف والترجمة والنشر
كيف نشأت فكرة هذه اللجنة؟
بمناسبة عيدها الفضي
بقلم الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم بالجامعة المصرية وعضو
اللجنة
لابد لمن يريد أن يفهم كيف نشأت لجنة التأليف والترجمة والنشر أن يرجع إذا أمكنه العمر، وأسعدته الذاكر، إلى حال مصر منذ عقدين، أي إلى عام 1914 حين تأسست اللجنة، لا، بل لابد له أن يرجع بذاكرته إلى عقد أو بعض عقد قبل ذلك، أيام كانت الكثرة من أعضاء اللجنة المؤسسين تتراوح أعمارهم بين الثالثة عشرة والسادسة عشرة، تلك السن الحساسة التي فيها يتصل اليافع بالحياة العامة لاول مرة، يتصل بها بقلبه اكثر من عقله، ويهتز عنيفا بحوادث قلما يفقه كنه أسبابها ومراميها. ففي تلك السنوات صاح أول صائح أسمع بالاستقلال، فسمعنا صوته خافتا في حجرات الفصول الابتدائية، أو سمعناه أكثر وضوحا وأعلى نبرة في حجرات الفصول الأولى من المدارس الثانوية، ثم شاء الله أن يذهب بصاحب الصوت ويؤثره بجواره، فكانت لانتقاله من الدار إلى الدار رنة جزع دوت في مصر والصعيد، وأنتجت ذلك المشهد الخالد الذي بدأ كالبحر الزاخر عند (لازوغلي)، ثم سال في شوارع القاهرة خاشعاً صامداً إلا صوتاً يوحد الله، فبلغ الصحراء وما زال في المنبع فيض، وأبت المدارس على الطلبة الخروج، فحطمت أبواب وفتحت قسرا نوافذ، ورأينا جبار المعارف يطل على المشهد الرهيب من وراء حجاب وهو لا يكاد يصدق عينيه
ذلك هو الحدث الأول الذي فتح للعيون الصغيرة أول كوة تطل منها على شيء يسمى وطنا، وعلى ناس فيه بائسين يسموني أهلا، وهو أول صدع في القلوب الصغيرة فتح فيها مدخلا لحب الخير ورعاية الغير، وقد كنا ربينا تربية من لون العصر الذي نعيش فيه، لا تعين على الأكثر إلا حب الذات، والاستعداد للرزق عن طريق المرتبات
وجاء من بعد ذلك هذا الحدث أحداث، ونحن نتماشى معها حدثاً حدثاً، وجاءت من بعد هذا(69/1)
على الشرق، أو على تركيا ممثلة الشرق نوازل، ونحن نتبعها نازلة نازلة، فكانت حرب البلقان وكانت حرب الطليان، وجرت الشائعات بالمزعجات، وتجهم المستقبل، فغلت تلك القلوب الطرية الشابة، فكانت جماعات، وكانت اجتماعات، وكانت مظاهر للإخلاص لا تكون إلا في عهد النبوة، وحوادث للتجرد من منافع النفس لا تكون إلا بوحي السماء، وكانت أراء، وكانت خطط للمستقبل اتسعت لها قلوبنا الكبيرة، واتسعت لها كذلك رؤوسنا الصغيرة، وضاقت بها ممكنات الحياة، وأخذ العود اللين يشتد، والبصر القاصر يمتد، والرأي الفطير يختمر، والخيال العالي يهبط من لازورد السماء سواد الأرض، حتى جاءت الحرب العظمى، فلم يكن بد في مصر من طلب النهضة من أوثق السبل وأقربها من مظاهر المسالمة والسلام، من طريق بث العلم بكل وسائل البث، ونشر الثقافة بكل أساليب النشر، فتألفت لجنة التأليف والترجمة والشر من نفس ذلك النفر الذي كوته الحوادث، وصهرته التجارب، وميزته الآلام
(كم ربحنا من الحلبة هذا العام يا فريد؟) و (كم خسرنا في الفول يا يوسف؟) تلك كانت بضاعة اللجنة الأولى، وذلك رأس مالها الذي كان، جمعته من قروش بقدر ما سمحت به أكياسهم الخفيفة منذ عشرين عاما، ولم يكن لها مقر إلا بيوت متواضعة هي منازل أعضائها. وارتأوا تأليف الكتب المدرسية والشعبية، وفاضوا بينها، ونزلوا بحكم الحاجة إلى المال إلى أقرب الصنفين مكسبا، فبدأوا بالمدرسية، رجاء أن ينفق من أرباحها على الكتب الشعبية، فكان أول كتاب أخرجته كتاب (مبادئ الكيمياء للمدارس الثانوية)
هذه هي اللجنة إلى حين إنتاجها أول نتاج لها، وهذه إشارة خفيفة إلى تاريخ نشأتها، وفي تتبع تفصيلات هذه النشأة تتبع لبعض تفاصيل النهضة المصرية في ذلك الأوان، فليس تاريخ اللجنة تاريخ أفراد، ولو كان كذلك لهان، وإنما هو فصل موجز من تاريخ هذا البلد، وقطعة صغيرة من نهضة هذه الأمة، ومرآة يرى الرائي فيها بعض آثار ذلك الزمان.
أحمد زكي(69/2)
رؤيا في السماء
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال أبو الخالد الأحوال الزاهد: لما ماتت امرأة شيخنا أبي ربيعة الفقيه الصوفي، ذهبت مع جماعة من الناس فشهدنا امرها؛ فلما فرغوا من دفنها وسوى عليها، قام شيخنا على قبرها وقال: يرحمك الله يا فلانة! الآن قد شفيت أنت ومرضت أنا، وعوفيت وابتليت، وتركتني ذاكرا وذهبت ناسيا، وكان للدنيا بك معنى، فستكون بعدك بلا معنى؛ وكانت حياتك لي نصف القوة، فعاد موتك لي نصف الضعف؛ وكنت أرى الهموم بمواساتك هموما في صورها المخففة، فستأتيني بعد اليوم في صورها المضاعفة؟ وكان وجودك معي حجابا بيني وبين مشقات كثيرة، فستخلص كل هذه المشاق إلى نفسي؛ وكانت الأيام تمر اكثر ما تمر في رقتك وحنانك، فستأتيني اكثر ما تأتي متجردة في قسوتها وغلظتها. أما أنا والله لم أرزأ منك في امرأة كالنساء، ولكني رزئت في المخلوقة الكريمة التي أحسست معها أن الخليقة كانت تتطلف بي من أجلها!
قال أبو الخالد: ثم استدمع الشيخ، فأخذت بيده ورجعنا إلى داره، وهو كان اعلم يما يعزى الناس بعضهم بعضا، واحفظ لما ورد في ذلك؛ غير أن الكلام ساعات تبطل فيها معانيه أو تضعف، إذ تكون النفس مستغرقة الهم في معنى واحد قد انحصرت فيه، إما من هول الموت، أو حب وقع فيه من الهول ظل الموت، أو رغبة وقع فيها ظل الحب، أو لجاجة وقع فيها ظل الرغبة. فكنت أحدثه واعزيه، وهو بعيد من حديثي وتعزيتي؛ حتى انتهينا إلى الدار فدخلنا وما فيها أحد؛ فنظر يمنة ويسرة، وقلب عينيه ههنا وههنا، وحوقل واسترجع، ثم قال: الآن ماتت الدار أيضا يا أبا خالد! إن البناء كأنما يحيا بروح المرأة التي تتحرك في داخله؛ وما دام هو الذي يحفظها للرجل، فهو في عين الرجل كالمطرف تلبسه فوق ثيابها من فوق جسمها: وانظر كم بين أن ترى عيناك ثوب امرأة في يد الدلال في السوق، وبين أن تراه عيناك يلبسها وتلبسه! ولكنك يا أبا خالد لا تفقه من هذا شيئا، فأنت رجل آليت لا تقرب النساء ولا يقربنك، ونجوت بنفسك منهن وانقطعت بها لله؛ وكأن كل نساء الأرض قد شاركن في ولادتك فحرمن عليك! وهذا مالا افهمه أنا إلا ألفاظا، كما لا تفهم أنت ما أجده الساعة إلا ألفاظا؛ وشتان بين قائل يتكلم من الطبع، وبين سامع يفهم(69/3)
بالتكلف.
فقلت له يا أبا ربيعة، وما يمنعك الآن وقد أطرحت أثقالك وانبتب أسبابك من النساء - أن تعيش خفيف الظهر، وتفرغ للنسك والعبادة، وتجعل قلبك كالسماء انقشع غيمها فسطعت فيها الشمس؛ فإنه يقال: إن المرأة ولو كانت صالحة قانتة - فهي في منزل الرجل العابد مدخل الشيطان اليه، ولو أن هذا العابد كان يسكن في حسناته لا في دار من الطوب والحجارة لكانت امرأته كوة يقتحم الشيطان منها. ولقد كان آدم في الجنة، وبينهما وبين الأرض سماوات وأفلاك، فما منع ذلك أن تتعلق روح الأرض بالشيطان، فيتعلق الشيطان بحواء، وتتعلق هي بآدم؛ ومكر الشيطان فصور لهما في صيغة مسئلة علمية، ومكرت حواء فوضعت فيها جاذبية اللحم والدم، فلم تعد مسئلة علم ومعرفة، بل مسئلة طبع ولجاجة. فأكَلا منها فَبدَتْ لهما سَوْءَاتُهُمَا. وهل اجتمع الرجل والمرأة من بعدها على الأرض إلا كانا من نصب الحياة وهمومها، وشهواتها ومطامعها، ومضارها ومعايبها - في معنى (بَدَتْ لهما سَوَْآتُهُمَا). . .؟
كلانا يا أبا ربيعة ممن لهم سير بالباطن في هذا الوجود غير السير بالظاهر، وممن لهم حركة بالفكر غير الحركة بالجسم؛ فقبيح بنا أن نتعلق أدنى متعلق بنواميس هذا الكون اللحمي الذي يسمى المرأة؛ فهو تدل وإسفاف منا. ولعلك تقول: (النسل وتكثير الآدمية.) فهذا إنما كتب على إنسان الجوارح والاعضاء، أما إنسان القلب فله معناه وحكم معناه؛ إذ يعيش بباطنه، فيعيش ظاهره في قوانين هذا الباطن، لا في قوانين ظاهر الناس. وإنه لشر كل ما نقلك إلى طبع أهل الجوارح وشهواتهم، فزين لك ما يزين لهم، وشغلك بما يشغلهم؛ فهذا عندنا - يرحمك الله - باب كأنه من أبواب المجون الذي ينقل الرجل إلى طبع الصبي.
فاطمس يا أخي على موضعها من قلبك، وألق النور على ظلها؛ فالنور في قلب العابد نور التحويل إن شاء، ونور الرؤية إن شاء، يرى به المادة كما يريد أن تكون لا كما تكون. وأنت قد كانت فيك امرأة، فحولها صلاة وأعمل بنورك عكس ما يعمل أهل الجوارح بظلامهم، فقد تكون في أحدهم الصلاة فيحولها امرأة. . .
قال أبو ربيعة: تالله أنه لرأي؛ والوحدة بعد الآن أروح لقلبي، وأجمع لهمي؛ وقد خلعني الله(69/4)
مما كنت فيه، وأخذ القبر امرأتي وشهواتي معا، فسأعيش ما بقي لي فيما بقي مني. وزوال شئ في النفس هو وجود شيء آخر. ولقد انتهيت بالمرأة ومعانيها وأيامها إلى القبر، فالبدء الآن من القبر ومعانيه وأيامه.
وتواثقا على أن يسيرا معا في (باطن) الوجود. . .! وأن يعيشا في عمر هو ساعة معدودة اللحظات، وحياة هي فكرة مرسومة مصورة. قال أبو خالد: ورأيت أن أبيت عنده وفاء بحق خدمته، ودفعا للوحشة أن تعاوده فتدخل على نفسه بأفكارها ووساوسها. وكان قد غمرنا تعب يومنا، وأعيا أبو ربيعة وخذلته القوة؛ فلما صلينا العشاء قلت: يا أبا ربيعة، أحب لك أن تنعس فتريح نفسك ليذهب ما بك، فإذا استجممت أيقظتك فقمنا سائر الليل.
فما هو إلا أن اضطجع حتى غلبه النعاس. وجلست أفكر في حاله وما كان عليه وما اجتهدت له من الرأي؛ وقلت في نفسي: لعلني أغريته بما لا قبل له به، وأشرت عليه بغير ما كان يحسن بمثله فأكون قد غششته. وخامرني الشك في حالي أنا أيضا، وجعلت أقابل بين الرجل متزوجا عابدا، وبين الرجل عابدا لم يتزوج؛ وأنظر في ارتياض أجدهما بنفسه وأهله وعياله، وارتياض الآخر بنفسه وحدها؛ وأخذت أذهب وأجئ من فكر إلى فكر، وقد هدأ كل شئ حولي كأن المكان قد نام، فلم ألبث حتى أخذتني عيني فنمت واستثقلت، كأنما شددت شداً بحبال من النوم لم يجئ من يقطعها.
ورأيت في نومي كأنها القيامة وقد بعث الناس وضاق بهم المحشر، وأنا في جملة الخلائق، وكأننا من الضغطة حب مبثوث بين حجري الرحى. هذا والموقف يغلي بنا غليان القدر بما فيها، وقد أشتد الكرب وجهدنا العطش، حتى ما منا ذو كبد إلا وكأن الجحيم تتنفس على كبده، فما هو العطش بل هو السعار واللهب يحتدم بهما الجوف ويتأجج.
فنحن كذلك إذا ولدان يتخللون الجمع الحاشد، عليهم مناديل من نور، وبأيديهم أباريق من فضة وأكواب من ذهب، يملئون هذه من هذه بسلسال برود عذب، رؤيته عطش مع العطش، حتى ليلتوي من رآه من الأم، ويتلعلع كأنما كوى به على أحشائه.
وجعل الولدان يسقون الواحد بعد الواحد ويتجاوزون من بينهما وهم كثرة من الناس، وكأنما يتخللون الجمع في البحث عن أناس بأعيانهم ينضحون غليل أكبادهم بما في تلك الأباريق من روح الجنة ومائها ونسيمها.(69/5)
ومر بي أحدهم، فمددت إليه يدي وقلت: (أسقني فقد يبست واحترقت من العطش!)
قال: (ومن أنت؟)
قلت: (أبو خالد الأحول الزاهد.)
قال: (آلك من أطفال المسلمين ولد افترطته صغيراً فاحتسبته عند الله؟)
قلت: (لا. . .)
قال: (ألك ولد كبر في طاعة الله؟)
قلت: (لا. .)
قال: (ألك ولد نالتك منه دعوة صالحة جزاء حقك عليه في إخراجه إلى الدنيا؟)
قلت: (لا. .)
قال: (ألك ولد من غير هؤلاء ولكنك تعبت في توميه، وقمت بحق الله فيه؟)
قلت: (يرحمك الله، إني كلما قلت (لا) أحسست (لا) هذه تمر على لساني كالمكواة الحامية. . .)
قال: (فنحن لا نسقي إلا إباءنا، تعبوا لنا في الدنيا، فاليوم نتعب لهم في الآخرة؛ وقدموا بين يديهم الطفولة، وإنما قدموا السنةً طاهرةً للدفاع عنهم في هذا الموقف الذي قامت فيه محكمة الحسنة والسيئة. وليس هنا بعد ألسنة الأنبياء أشد طلاقة من ألسنة الأطفال، فما للطفل معنى من معاني آثامكم يحتبس فيه لسانه أو يلجلج به)
قال أبو خالد: فجن جنوني، وجعلت أبحث في نفسي عن لفظة (ابن) فكأنما مسحت الكلمة من حفظي كما مسحت من وجودي؛ وذكرت صلاتي وصيامي وعبادتي، فما خطرت في قلبي حتى ضحك الوليد ضحكاً وجدت في معناه بكائي وندمي وخيبتي
وقال يا ويلك أما سمعت: (إن من الذنوب ذنوبا لا تكفرها الصلاة ولا الصيام، ويكفرها الغم بالعيال.) أتعرف من أنا يا أبا خالد؟
قلت: من أنت يرحمنا الله بك؟
قال: أنا ابن ذلك الرجل الفقير المعيل، الذي قال لشيخك إبراهيم بن أدهم العابد الزاهد: (طوبى لك فقد تفرغت للعبادة بالعزوبة.) فقال له إبراهيم: (لروعة تنالك بسبب العيال أفضل من جميع ما أنا فيه. . .). وقد جاهد أبي جهاد قلبه وعقله وبدنه، وحمل على نفسه(69/6)
من مقاساة الأهل والولد حملها الإنساني العظيم، وفكر لغير نفسه، وأغتم لغير نفسه، وعمل لغير نفسه، وآمن وصبر ووثق بولاية الله حين تزوج فقيراً، وبضمان الله حين أعقب فقيراً؛ فهو مجاهد في سبل كثيرة لا في سبيل واحدة كما يجاهد الغزاة؛ هؤلاء يستشهدون مرة واحدة، أما هو فيستشهد كل يوم مرة في همومه بنا، واليوم يرحمه الله بفضل رحمته إيانا في الدنيا. أما بلغك قول أبن المبارك وهو مع إخوانه في الغزو: (أتعلمون عملا أفضل مما نحن فيه؟ قالوا: ما نعلم ذلك. قال: أنا اعلم. قالوا فما هو؟ قال: رجل متعفف على فقره ذو عائلة قد قام من الليل، فنظر إلى صبيانه نياماً متكشفين، فسترهم وغطاهم بثوبه؛ فعمله أفضل مما نحن فيه. . .)
يخلع الأب المسكين ثوبه على صبيته ليدفئهم به ويتلقى بجلده البرد في الليل. إن هذا البرد - يا أبا خالد - تحفظه له الجنة هنا في حر هذا الموقف، كأنها مؤتمنة عليه إلى أن تؤديه. وإن ذلك الدفء الذي شمل أولاًده يا أبا خالد - هو هنا يقاتل جهنم ويدفعها عن هذا الأب المسكين. قال أبو خالد: ويهم الوليد أن يمضي ويدعني، فما أملك نفسي، فأمد يدي إلى الإبريق فأنشطه من يده، فإذا هو يتحول إلى عظم ضخم قد نشب في كفي وما يليها من أسلة الذراع فغابت فيه أصابعي، فلا أصابع لي ولا كف. وأبى الإبريق أن يسقيني وصار مثله بي، وتجسدت هذه الجريمة لتشهد علي، فأخذني الهول والفزع، وجاء إبريق من الهواء، فوقع في يد الوليد، فتركني ومضى
وقلت لنفسي: ويحك يا أبا خالد ما أراك إلا محاسبا على حسناتك كما يحاسب المذنبون على سيئاتهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله! وبلغتني الصيحة الرهيبة: أين أبو خالد الأحوال الزاهد العابد؟
قلت: هأنذا.
قيل: طاووس من طواويس الجنة قد حص ذيله فضاع أحسن ما فيه! أين ذيلك من أولاًدك وأين محاسنك فيهم، أخلقت لك المرأة لتتجنبها، وجعلت نسل أبويك لتتبرأ أنت من النسل؟
جئت من الحياة بأشياء ليس فيها حياة؛ فما صنعت للحياة نفسها إلا أن هربت منها وانهزمت عن ملاقتها، ثم أنت تأمل جائزة النصر على هزيمة. .!
عملت الفضيلة في نفسك ونشأتك ولكنها عقمت فلم تعمل بك. لك ألفً ألف ركعة وممثلها(69/7)
سجدات من النوافل، والخير منها كلها أن تكون قد خرجت من صلبك أعضاء تركع وتسجد. قتلت رجولتك، ووأدت فيها النسل، ولبثت طوال عمرك ولداً كبيراً لم تبلغ مرتبة الأب! فلئن أقمت الشريعة، لقد عطلت الحقيقة، ولئن. . . . . .
قال أبو خالد: ووقعت غنة النون الثانية في مسمعي من هول ما خفت مما بعدها كالنفخ في الصور؛ فطار نومي وقمت فزعا مشتت اللب، كمن فتح عينيه بعد غشيته فرأى نفسه في كفن قبر سد عليه. . .!
وما كدت أعي وأنظر حولي وقد برق الصبح في الدار حتى رأيت أبا ربيعة يتقلب كأنما دحرجته يد، ثم نهض مستطار القلب من فزعه وقال: أهلكتني يا أبا خالد، أهلكتني والله.
قلت ما بالك يرحمك الله!
قال. إني نمت على تلك النية التي عرفت: أن أجمع قلبي للعبادة، وأخلص من المرأة والولد، ومن المعاناة لهما في مرمة المعاش والتلفيق بين رغيف ورغيف، وأن أعفي نفسي من لأوائهم وضرائهم وبلائهم لأفرغ إلى الله وأقبل عليه وحده. وسألت الله أن يخير لي في نومي؛ فرأيت كأن السماء قد فتحت، وكأن ر جالا ينزلون ويسيرون في الهواء يتبع بعضهم بعضا، أجنحة وراء أجنحة؛ فكلما نزل واحد نظر إلي وقال لمن وراءه: هذا هو المشئوم!
فيقول الآخر: نعم هو المشئوم!
وينظر هذا الأخر إلي ثم يلتفت لمن وراءه ويقول له: هذا هو المشئوم!
فيقول الآخر: نعم هو المشئوم!
وما زالت (المشئوم، المشئوم) حتى مروا؛ لا يقولون غيرها ولا أسمع غيرها، وأنا في ذلك أخاف أن أسألهم، هيبةً من الشؤم، ورجاء أن يكون المشئوم إنساناً ورائي يبصرونه ولا أبصره. ثم مر بي آخرهم، وكان غلاماً. فقلت له: يا هذا، من هو المشئوم الذي تومئون إليه؟
قال: أنت!
فقلت: ولم ذاك؟
قال: كنا نرفع عملك في أعمال المجاهدين في سبيل الله، ثم ماتت امرأتك، وتحزنت على(69/8)
ما فاتك من القيام بحقها فرفعنا عملك درجة أخرى؛ ثم أمرنا الليلة أن نضع عملك مع الخالفين الذين فروا وجبنوا!. . . . . .
إن سموا الرجل بنفسه عن الزوجة والولد طيران إلى الأعلى. . . ولكنه طيران على أجنحة الشياطين!
طيران الرجل إلى فوهة البركان الذي في الأعلى. .!
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(69/9)
الشيخ علي يوسف
للأستاذ عبد العزيز البشري
في يوم 25 أكتوبر من سنة 1913والقلوب واجفة والأبصار زائغة ومصاير الأمور تتوائب للأوهام في صور مبهمة غامضة، تضطرب بين اليأس كله، وبيت الرجاء كله، والناس يتساءلون متهامسين من الخوف ومن الورع: ترى ماذا عسى أن يكون قسم مصر من هذه الحرب العامة، وماذا كتبت لها الأقدار في صفحتي الليل والنهار؟
في ذلك اليوم من تلك الأيام السوداء مات رجل ليس مثله في مصر كثير، رجل إذا أحبه ناس أشد الحب، فلأنه قوة كبيرةً في مصر. وإذا كرهه ناس أشد الكره، فلأنه قوة كبيرة في مصر، فالشيخ علي يوسف، على تفرق الأهواء فيه، كان قوة هائلة في هذه البلاد يحسب الناس جميعاً لها كل حساب
ولقد كنت من الذين أبغضوا علياً أبعد البغض، ثم كنت من الذين يحبونه أغلى الحب، ولا والله ما رأيته في حالي بغضي وحبي له إلا رجلاً عظيماً!
مات الشيخ علي يوسف في ذلك اليوم فما قامت الدنيا لموته كما كان ينبغي أن تقوم، ولا قعدت الدنيا لموته كما ينبغي أن تقعد؛ بل لقد شيع ودفن كما يشيع ويدفن أوساط الناس، وكأن الناس لم يشيعوا فيه مفخرة من مفاخر مصر، ولا أودعوا الضريح كنزاً من كنوزها الثمان!
لا أقول أنه الإهمال السئ، ولكن أقول أنه الظرف السيء، ولكن أقول أنه الظرف السيئ ولا أريد المزيد
والآن تسأل الشباب المثقفين المتعلمين عن الشيخ علي يوسف وكيف كان خطبة في البلاد من إحدى وعشرين سنة فقط؛ فترى أقلهم من لا يعرف عنه كثيراً، وترى أكثرهم م لا يعرف عنه كثيراً ولا قليلاً!
أهكذا، وبهذه السرعة السريعة، تختفي سير الرجال عندنا كما تختفي الصور إذا ساد الظلام، أو كما تختفي أشباح الرؤى ساعة الهبوب من المنام؟
وإنني لأضيف الوزر في هذا أيضاً على الظروف. والحمد لله الذي جعل لنا من هذه (الظروف) تكأة نعتمد عليها كلما غشيتنا غاشية من الإهمال، أو طاف بنا طائف من سيئ(69/10)
الأعمال!
ولقد قلد الشيخ علي منصب مشيخة السجادة الوفائية، فاستحق بهذا أن يسمى السيد علياً؛ وقلده الخليفة العثماني الرتبة الأولى من الصنف الثاني، فأستحق بذاك أن يدعى علي بك أو علي باشا يوسف؛ ولكنني لا أعبر عنه إلا بالشيخ علي يوسف. هذا الاسم الذي طالما رن في الآذان، وتجاوبت به الأصداء من كل مكان: الشيخ علي يوسف! الشيخ علي يوسف! وحسبه بهذا لقباً، بعد ما أعتز بنفسه حسباً، وكرم بالرسول الأعظم نسباً
كان الشيخ علي يوسف رجلاً عصامياً بأوفى معاني الكلمة. نجم في (بلصفورة) من بلاد مديرية جرجا، في أسرة إذا كرم أصلها فقد رقت حالها. ولا تنس أن المال هو كل شئ في هذا الزمان. وتعلم القراءة والكتابة في كتاب القرية، وحفظ القرآن الكريم. ثم انحدر إلى بني عدي من أعمال مديرية أسيوط. فطلب العلم هناك على الشيح حسن الهواري، ثم قدم الأزهر فطلب العلم فيه بضع سنين
وإلى هنا كانت حياة الشيخ علي حياة عادية بحتاً، فلم يزد خطبه على مجاور مغمور في ذلك الخضرم الزاخر بآلاف المجاورين.
وتستشرف نفس الفتى للأدب. والأدب في ذلك الوقت أن تقول شعراً مقفى موزوناً. فإذا أعوزك العروض، وعميت عليك أوزان الشعر، فحسبك أن يكون المصراع في طول المصراع. فإن زاد الكلم ففي تصغير الكتابة وتدقيق الحروف متسع للجميع وعلى شرط أن تتغزل. فتتغزل كلما طلبت مديحاً، وتتغزل كلما أردت رثاءً، وتتغزل كلما ابتغيت هجاء. وكانت هذه، وخاصة في البيئة الأزهرية أهم فنون الشعر إن لم تكن جميع فنون الشعر.
وعلى هذا قرض الشعر المجاور على يوسف فذهب له به بين المجاورين صيت وذكر
ولقد كان الأدب يحمد من المجاور عند أشياخه إلا أن يسرف فيه ويجرد له صدراً كبيراً من وقته، فإنهم كانوا يكرهون ذلك منه، لأنه في الواقع يشغله، بقدر ما، عن توفير الذهن على الدرس والاستذكار ويرون هذا منه آية على (عدم الفتوح) والعياذ بالله! وحسبة في العام قصيدة يمدح بها شيخة يوم يختم الكتاب، وقصيدة أو اثنتين يرثي بهما من يموت من علية العلماء(69/11)
وأسرف الشيخ علي في قرض الشعر، فمدح ورثى، وتغزّل (بالطبع) وهجا، حتى اتسق له من هذا النظم ما جمعه بعد في ديوان كامل، وبهذا أصبح مجاوراً ممتازاً وإن حق علية القول، وتراءى شبح الهول!
إذن أصبح مجاوراً ممتازاً بين المجاورين بالأدب، أو إن شئت قلت، لقد أدركته من الناحية الأزهرية حرفة الأدب
ولقد دعاه هذا إلى الاختلاف إلى مجالس الأدباء، ومساهرتهم ومسامرتهم والتروي عنهم، ثم إلى غشيان دور بعض العلية ممن كانوا يجلسون لأهل العلم والفضل والأدب، فيتحاضرون ويتذاكرون. وأقبل الشيخ على هذا الشأن بقدر ما أدبر عن الكد في دروس الأزهر. ثم جعل يرسل المقالات المنثورة في الصحف والمجلات التي كانت قائمة في ذلك الوقت، وكان يكتب أول الأمر على طراز الكاتبين في عصره: مقدمات طويلة تمهد بين يدي كل موضوع ولو لم تدع إليها حاجة الكلام، واحتفال للمحسنات البديعية تستكره استكراهاً، ولو استهلكت الغرض المطلوب
على أن من حسن حظ الشيخ علي أنه ابتدأ في معالجة الكتابة في الوقت الذي انبعثت فيه تلك النهضة البيانية الفاخرة، تلك النهضة التي نفخ ضرامها بالإرشاد والتنبيه السيد جمال الدين الأفغاني، وبالفعل من الإنشاء والتعليم والتأليف الشيخ حسين المرصفي، وللشيخ علي طبيعة، وفيه فطنة قوية، فجعل يدرّب قلمه ويروضه على إرسال البيان سهلاً جزلاً خالياً من الاعتساف، متطلقاً من تكاليف البديع
وفي هذا المقام يجدر بي أن أنبه إلى شيء جديد جدير بالانتباه: ذلك أن حسن البيان وجودة المقال لا ترجع في جميع الأحوال إلى تمكن الكاتب من ناصية اللغة، وتفقهه في أساليبها، وبصره بمواقع اللفظ منها، واستظهاره لصدر صالح من بلاغات بلغائها، إلى حسن ذوق ورهافة حس، بحيث يتهيأ له أن يصوغ فكرته أنور صياغة، ويصورها أبدع تصوير. بل إن ذلك ليرجع في بعض الأحوال، وهي أحوال نادرة جداً، إلى شدة نفس الكاتب وقوة روحه. فقد لا يكون الرجل وافر المحصول من متن اللغة، ولا هو على حظ كبير من استظهار عيون الكلام، ولا هو بالمعنى بتقصي منازع البلاغات، ومع هذا لقد يرتفع بالبيان إلى ما تتقطع دونه علائق الأقلام. ذلك لأن شدة نفسه، وجبروت فكرته. تأبى إلا أن تسطو(69/12)
بالكلام فتنتزع البيان انتزاعا. ولعل في بيان السيد جمال الدين الأفغاني، وهو غريب عن العربية، وقاسم بك أمين وهو شبه غريب عنها، أبين مثال على هذا الذي نقول. ولقد يعجب القارئ اشد العجب إذا زعمت له أن المرحوم حسين رشدي باشا، وكان رجلاً قل أن تطرد على لسانه ثلاث كلمات عربية متواليات، لقد كان أحياناً يرتفع بالعبارة إلى ما يتخاذل من دونه جهد أعيان البيان!
والآن أستطيع أن أزعم أن الشيخ علي يوسف، على أنه تعلم في الأزهر، وقرأ طرفاً من كتب الأدب، وأستظهر صدراً من مظاهر البلاغة في منظوم العربية ومنثورها - إلا أنه لم يكن مديناً في بيانه لشيء من هذا بقدر ما كان مديناً لشدة روحه وسطوة نفسه. وانك لتقرأ له المقال يخلبك ويروعك، وتشعر أن أحداً لم ينته في البيان منتهاه. ثم تقبل على صيغة تفتشها وتفرها، فلا تكاد تقع على شئ من هذا النظم الذي يتكلفه صدور الكتاب. وبهذا أنشأ الرجل لنفسه أسلوباً، أو على الصحيح لقد خط قلمه القوي نهجا من البلاغة غير ما تعاهد عليه الناس من منازع البلاغات
ولندع الآن بيان الشيخ علي وأثره، فلذلك موضع آخر من هذا الحديث. ونعود إلى تاريخ الرجل فنقول إنه ما كاد يستوي له ذلك القدر من الأدب حتى أنشأ مجلة دعاها (الآداب). وهي وإن لم تكن شيئاً يذكر بالقياس إلى المجلات التي كانت قائمة في ذلك العهد. وخاصة بعد إذ عفّى الزمن على مجلة روضة المدارس التي كان يقوم على تحريرها وإجالة الأقلام بروائع البيان فيها صدور العلماء والشعراء والكتاب
المؤيد
وإذا قلت (المؤيد) قلت شطر من تاريخ مصر محتفل بالأحداث العظام
راع أهل الرأي في مصر أن ليس لهذه الأمة، أعني للمسلمين وهم كثرتها الكثيرة. صفيحة تتحدث عنها وتدلى بحاجاتها. وتترجم عن أمانيها، وتذود عن حقوقها وكرامتها. وأن أمة ليس لها في هذا الزمان صحيفة، لهي أمة لا تحس لنفسها وجوداً. ولقد قوى الشعور بشدة الحاجة إلى صحيفة وطنية إسلامية بعد إذ صدر المقطّم صحيفة تظاهر الاحتلال الإنجليزي. وتروج للسياسة الإنجليزية في هذه البلاد، وتدفع في صدور الأماني القومية ما اعترضت تلك السياسة في يوم من الأيام. وهنا يتقدم الشيخ علي مع صاحب له يدعى(69/13)
الشيخ أحمد ماضي فينشئان جريدة المؤيد يومية سياسية وطنية إسلامية. ثم لا يلبث الشريكان أن يختلفا، ولا يخرج أحدهما عن الشركة إلا على مال، والمال في يد الشيخ علي أقل من القليل. وهنا تحركت أريحية بعض كبار المصريين فأدوا المال عن الشيخ إلى صاحبه. وهكذا خلص المؤيد للشيخ علي يوسف. وكان للمرحوم سعد باشا زغلول في هذا سعي مشكور
وأذكر أنه لما أتى رحمه الله، بمطبعة جديدة من طراز (الروتاتيف) وعقد لذلك حفلاً جامعاً في إدارة المؤيد خطب في الجمع فأتى في سيرة المؤيد على هذه الحادثة، ونوه بفضل سعد بك زغلول (المستشار بمحكمة الاستئناف) الذي أبى أن يسمع هذه الخطبة إلا واقفاً.
وجرى المؤيد طلقاً، والله يعلم كم عانى الشيخ علي في إخراجه فرداً لا مسعد له من معين أو من مال. الحق أن الرجل لقد جاهد في هذا جهاد الجبابرة، وعانى عناء لو صوره القلم على حقيقته لظنه الناس من إحدى القصص التي تمثلها أخيلة الكتاب. وهكذا لم يمض زمن طويل حتى جنى ثمرة الصبر العجيب (إنَّ الله مع الصَّابرين) صدق الله العظيم
مضى المؤيد يحرره الشيخ علي يوسف، ويرفده بالمقالات البارعة أعيان أهل الرأي والعلم والأدب في البلاد من أمثال المرحومين الشيخ محمد عبده، وسعد بك زغلول، وقاسم بك أمين، وفتحي بك زغلول، وحفني بك ناصف، وكثير غيرهم من أصحاب البيان. وكانوا يسرون أسماءهم في الأحاديث السياسية، بوجه خاص، فذلك مما لا تأذن به المناصب الحكومية بحال. وكذلك أضحى المؤيد مجالاً لأفحل الأقلام وأنضج الآراء. بل لقد أضحى المدرسة التي تخرج عليها من شهدوا الجيل الماضي من أعلام البيان ويسير المؤيد، ويذهب صيته لا في مصر ولا في العالم العربي فحسب، بل في العالم الإسلامي كله، فلقد أصبح لسانه المعبر أفصح تعبير عن حقيقة حاله، والمترجم أنصح ترجمة عن آلامه وآماله، ومتحدث أخبار المسلمين وراويها، ومتلقي أفكارهم في قواصي الأرض وأدانيها
لا يرحل الناسُ إلا نحو حجرته ... كالبيت يفضي إليه ملتقى السبُل
وحسبنا هذا القدر الآن في المؤيد وفي صاحب المؤيد. وسنعاود الحديث فيه إن شاء الله تعالى أن نوفيه بعض حقه إن لم نوفه كل حقه. رحمة الله عليه.
عبد العزيز البشري(69/14)
لا مؤاخذة
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
كنت أعرف رجلاً طيب القلب بلغت منه طيبه القلب مبلغاً عظيماً. فكان يحب الخير ولا يميل إلى الأذى ويعف عما في أيدي الناس، ويعطيهم مما في يديه أكثر مما كان ينبغي له، حتى أنه كان يحب أحياناً أن يولم لبعض أصدقائه وليمة فلا يجد ما يولم لهم به من المال في كفه، فيدفعه حرصه على إرضائهم إلى يؤذي نفسه في سبيل ذلك الرضا، فقد استدان مرة بضعة جنيهات من صديق له وأولم في اليوم التالي لبعض أصدقائه وليمة لذيذة، وأبى عليه كرمه أن يهمل صديقه الذي استدان منه فدعاه إلى الحضور، وكانت فكاهة الأصدقاء بنبأ الوليمة والدين الذي ركب صاحبها من ورائها سبباً في شحذ شهوة الطعام في الجمع حتى لم يبقوا على شئ من ذلك الطعام اللذيذ
غير أن هذا الرجل الطيب كان به عيب واحد لا أعرف فيه عيباً سواه، وهو أنه كان يعنى عناية عظيمة برأي الناس فيه، فلا يكاد يسمع من أحد مدحاً في نفسه حتى يثور طربه، ويهتز للمديح اهتزاز الغصن الرطب في الريح، وقد تدفعه الأريحية عند ذلك إلى الخروج عن طاقته في جزاء المادح؛ وأما إذا هو سمع أحداً يذمه ولو ذماً ضئيلاً، فإنه لا يتمالك نفسه من الغضب، وقد تكون غضباته مضرية هائجة، ولولا إنه من الثابتين المطمئنين إلى حكم القانون، لكان لا يرى شيئاً يغسل عنه معرفة معرة الذم، إلا أن يراق في سبيلها الدم. وقد عرفت أنه سمع أن بعض الناس يقعون فيه ويذمونه بأنه يأكل في بيته الثريد بأصابعه الخمس، وأنه ما يكاد يصل إلى بيته حتى ثيابه المحترمة، ويلبس لباساً ساذجاً مما يلبسه عامة الناس من طبقة الفقراء، فيضع على رأسه لبدة بيضاء من الصوف الخشن، ويلبس في رجله قبقاباً من الخشب الثقيل، ويلبس على جسمه جلباباً من القطن الرخيص، فما كاد يسمع ذلك القول حتى ثارت ثائرته، وجعل يصيح في الحاضرين بأعلى صوته واصفاً ما يلبس وما يأكل، مجتهداً أن يطلع الناس على حاله في بيته، وعلى ما هو عليه من تمتع بأقصى ما يتمتع به المتحضرون المتأنقون؛ ولعله قد لاحظ شيئاً من التردد بين سامعيه في تصديق أقواله، فجعل يزيد في التأكيد حتى بلغ الأمر منه أن جعل يقسم لهم جهد الأيمان، ولما أحس مع كل ذلك أن السامعين فيهم المعاند والمكابر، اتخذ خطه عمليه حازمه لبيان(69/16)
صدق قوله فقد حلف على الجميع وعزم أشد العزيمة أن يزوروه في منزله في صباح الغد ليقيموا عنده النهار أجمعه فيطلعوا على أسلوب حياته معاينة واختباراً. ثم ذهب من فوره إلى أقرب أصدقاء إليه، وأوثقهم مودة عنده وأملئهم جيباً. فاستدان منه ما يستعد به لحفلة الغد، ولم ينس أن يدعوه في المدعوين لشهود ما هو على نية إظهاره وإجلائه
ولكن لا يظنن أحد من القراء أنني أصف هذا الرجل لأنه ممن يستحق العناية الخاصة لميزة في شخصه، أو لمكانة له بين الناس. فإنما أنا أسوقه مثلا لقوم في مصر يريدون أن يقحموا البلاد في مثل ما تورط فيه صاحبنا هذا. فمثلاً قد تكرر ما قال القائلون من الدعوة لمصر في الخارج، وما صاح الصائحون من وجوب إظهار أهل الغرب على ما نحن عليه من رقي وتحضر، وهم لا يظنون على ذلك السعي بالمال مهما عظم مقداره، والحق أنني أعطف أشد العطف على وطنية هؤلاء وسلامة طويتهم. فمثلاً قد ذهب أحد المصريين إلى مؤتمر من المؤتمرات، وكان بطبيعة الحال لابساً بذلة من البذلات الرسمية الوجيهة، فمال عليه جاره وكان من ممثلي بعض دول الغرب فسأله عما هو صانع ببذلته بعد انصرافه من المؤتمر. وأغلب ظني أن ذلك الزميل الأوربي المحترم قد ظن في الممثل المصري أنه لا يكاد ينفلت من المؤتمر حتى يرمي بتلك البذلة فوق أقرب شجرة من شجر الجميز إذا بلغ الطريق المؤدية إلى عاصمة بلاده، وهو راكب جملاً قوياً يحمله في سفره، ثم يقف تحت تلك الشجرة ينتظر مرور أول وعل من وعول الجبل فيرميه بسهم من قوسه الشديدة، ويسلخ عنه جلده، وينشره في الشمس يوماً أو بعض يوم، ثم يلبسه بدل بذلته الرسمية. ثم يتابع سيره نحو العاصمة لمقابلة أولي الأمر فيها، وإبلاغهم نتيجة بحوث المؤتمر الذي كان يمثل بلاده فيه. لعل ذلك الزميل قد حسب هذا، ولا بد أن الممثل المصري قد تصور هذا الظن، ورأى فيه مساساً عظيما بكرامته وكرامة بلاده فغضب له، وجاء يشكوه لبني وطنه ليظهر لهم مقدار جهل الناس بحقيقتهم، وقد سمع هذا القول طائفة من الناس فغضبوا له غضباً شديداً، وجعلوا يطالبون بأن تبذل الحكومة من أموال الشعب بضع مئات من ألوف الجنيهات الذهبية لكي تنظم دعوة لاطلاع أهل الغرب على حقيقة أمر الشعب المصري
وأنني لا أرى مانعاً يمنع من بذل المال، ولا من القيام بدعوة في سبيل مصر، فكل شئ في خدمة مصر هين، وكل قصد الحياة هو خدمة مصر(69/17)
ولكني مع ذلك أحب أن تتجه الدعوة نحو قصد مخالف كل المخالفة لما يريد هؤلاء السادة أن يدعوا إليه. ولا يسعني إلا أن اعتذر لهم وللقراء عن هذه المخالفة التي قد تغضبهم متى وصفت لهم حقيقتها، ولا أجد شيئاً أقدر أن أعتذر إليهم إلا أن أقول لهم: (لا مؤاخذه)، فإن هذه الكلمة كلمة سحرية، وقد جربت أثرها في مختلف المواقف، فو الله ما خانني سحرها يوماً، ولا خذلني نصرها في ساعة من ساعات الشدة. فكم وطئت على أقدام في الترام وقت الزحام، فلما رأيت ثورة الذي وطئت قدمه أسرعت وتلفظت بذلك الطلسم، فإذا وجهه تشرق عليه ابتسامة عريضة، ويهز رأسه لي، كأنما هو يعتذر عما ظهر على وجهه من التجهم في أول الأمر. وكم أخطأت فلم ينجني من تبعة الخطأ إلا هذا اللفظ المبارك، وكم خرجت عن حدود اللياقة ونفذت إلى العفو الفسيح من مدخل هذا اللفظ البديع. فلا مؤاخذه أيها السادة إذا كنت أعتقد أن خير مصر ونفع الوطن في أن نبذل بضعة آلاف أو بضعة مئات من الآلاف من جنيهات الذهب، على أن يقوم جماعة من المخلصين لمصلحة هذه البلاد بدعوة في شعوب العالم أجمع، يعلون فيها من ذكر مصر، بأن يصفوا أهلها بالتوحش والغلظة، وينعتوهم بأقبح النعوت وأبشع الصفات - وحبذا يوم يعتقد فيه شعوب أوربا وأمريكا أن المصريين لا يلبسون إلا جلود النمور والأسود، ولا يعرفون من المساكن إلا الكهوف والأدغال، وأن لهم قسياً قوية وسهاماً مسمومة، وأنهم يقفون لأعدائهم تحت الصخور ووراء الجذوع، فيسددون إليهم سهاماً مسمية لا ينجو أحد من جراحها، وأن الذي يدخل بلادهم لا يلقى إلا مشقة، ولا يرتاح في حل ولا ترحال. وأن المصريين يأكلون لحم الحيوان بغير نضج، فإذا لم يجدوا من لحوم الحيوان شيئا اشبعوا الجوع بما يجدونه قريباً منهم من اللحم، ولو كان آدمياً؛ وأنهم حديد الأسنان، حمش السيقان، حرز العيون، قبيحوا الخلقة. أقول هذا (ولا مؤاخذه) فأت تلك الدعوى عندي آثر وأحب، وأثرها في ظني أبلغ في إجلال القوم لنا ومراعاتهم لحرمنا. فأن الناس على حضارتهم لم يزيدوا بعد على أنهم متوحشون، قد طلوا ظاهرهم بطلاء من الفضة أو الذهب، وأما باطنهم فلا يزال فيه الحيوان البري الذي يخشى القوة الوحشية خشية أعظم من تقديره لفضائل الفلسفة
وإنها لإهانة لا تعدلها إهانة أن يذهب نفر من أهل مصر ليعلفوا في ملأ الشعوب الأخرى أن شعب مصر يلبس الملابس المعتادة، لا جلود الحيوان، وأنه يأكل الخبز والطعام، لا(69/18)
لحوم البشر ولا المن والجراد. أما أنا فيمين الحق أنه لأحب إلي أن يذهب الناس عني قائلين إني متوحش، أو إني جاهل، أو أني غر، أو إنني من أكلة لحوم الإنسان، من أن أكلف نفسي أن أبين لهم إنني لست كما يزعمون. لا بل إنني أحسب أنه لو ظن الناس في مثل هذه الظنون لكان هذا مبعث فكاهة لنفسي أنعم بها وحدي وأنا أتأمل مقدار جهل هؤلاء الناس بي، وضلالهم في معرفة حقيقة أمري
ولعل أهل الغرب إذا فشت فيهم عقيدة أننا من لابسي الجلود وآكلي اللحوم النيئة، حملهم ذلك على بعض التحرز في معاملاتنا، وبعض الخشية من أنيابنا
ولا مؤاخذه.!. . .
محمد فريد أبو حديد(69/19)
بوانكاريه وبارتو
للأستاذ محمد عبد الله عنان
فقدت فرنسا في أسبوع واحد رجلين من أعظم رجالها، وسياسيين من أقدر ساستها وكاتبين من أكبر كتابها، هما مسيو لوي بارتو وزير خارجيتها، ومسيو رايمون بوانكاريه رئيس جمهوريتها الأسبق؛ فذهب مسيو بارتو ضحية بريئة في حادث مرسيليا المروع الذي اغتيل فيه الملك اسكندر ملك يوجوسلافيا، وتبعه مسيو بوانكاريه إلى القبر بعد أيام قلائل. وكان السياسي العظيم مريضا منذ حين، يستشفي في الرفييرا، ولكنه عاد إلى باريس منذ أشهر ممتعاً بالصحة والنشاط، ثم توفي فجأة، بينما كان يتابع الكتابة في مذكراته؛ فذهب بموته ركن من أعظم أركان السياسة الفرنسية المعاصرة. ولا يشغل بوانكاريه وبارتو مكانتهما الممتازة في عالم السياسة فقط، ولكنهما يشغلان مكانتهما الممتازة في عالم البيان والأدب أيضاً، ولكل منهما آثار أدبية تتبوأ المقام الأول بين تراث الأدب الفرنسي المعاصر
كان رايمون بوانكاريه فرنسياً عظيماً من غلاة الوطنية الفرنسية التي تذهب إلى حد التعصب؛ وكان يمثل مدرسة سياسية خاصة شعارها القومية المغرقة في كل شئ، ووسيلتها القوة والتفوق المادي قبل كل شئ؛ وكانت سياسته قبل الحرب وفي خلالها، ثم من بعدها، تمثل دائما روح العسكرية المحافظة، وروح الاستعمار الجشع، فكان بوانكاريه من أعظم بناة العسكرية الفرنسية، وكان من أعظم بناة الإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية.
وكان مولده في (بارلد يك) من أعمال اللورين في أغسطس سنة 1860، ودرس الحقوق في باريس؛ وبدأ حياته العملية في الصحافة، فتولى حيناً تحرير القسم القضائي لجريدة (لي فولتير) ثم عين موظفاً في وزارة الزراعة، ولكن جو الوظائف الحكومية لم يرقه، فاستقال لنحو عام من تعيينه؛ وكانت أحداث السياسة وتهزه وتستغرق اهتمامه، فخاض المعركة الانتخابية ودخل البرلمان لأول مرة في سنة 1887 نائباً عن مقاطعة الموز. ومن ذلك الحين بدأ نجمه السياسي في التألق؛ وامتهن المحاماة في باريس، فظهر فيها بمقدرته وساحر بيانه؛ وجدد انتخابه لمجلس النواب سنة 89، ثم في سنة 93. وفي هذا العام دخل الوزارة وزيراً للمعارف وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، ثم تولى وزارة المالية في العام التالي، ثم المعارف مرة أخرى سنة 95. وأستمر في مجلس النواب حتى سنة(69/20)
1903. ثم دخل مجلس الشيوخ. وتبوأ بوانكاريه مركزه في الزعامة السياسية؛ كما تبوأ مركزه في الزعامة الأدبية؛ وكان إلى جانب مقدرته السياسية كاتباً ممتازاً؛ يلفت الأنظار بروعة كتاباته السياسية والأدبية. وفي سنة 1906 تولى وزارة المالية مرة أخرى. وفي سنة 1909 توجت زعامته الأدبية بانتخابه عضواً في الأكاديمية الفرنسية. وفي يناير سنة 1912 ألف بوانكاريه وزارته الأولى خلفاً لوزارة كايو المستقيلة، وتولى إلى جانب الرياسة وزارة الخارجية. وهنا بدرت بوادر الأزمات الدولية التي مهدت إلى الحرب الكبرى، فأبدى بوانكاريه خلال هذه العواصف قوة ومقدرة، وظهرت قوة وسائله بالأخص في مسألة مراكش حيث استطاع أن يرغم السلطان على الاعتراف بالحماية الفرنسية، وظهرت ميول بوانكاريه العسكرية واضحة في عنايته بمسألة التسليحات، ومضاعفة قوى فرنسا البحرية. وفي سنة 1913 أنتخب بوانكاريه رئيسا للجمهورية الفرنسية خلفاً للرئيس فاليير؛ وأستدعى ارستيد بريان لرياسة الوزارة. وكانت أوربا تسير يومئذ إلى الأزمة الكبرى بخطى سريعة؛ وكان بوانكاريه يسهر على ثمار سياسته، وعلى المحالفات التي انتهت إليها. وفي يوليه سنة 1914 كان بوانكاريه إلى جانب نيقولا الثاني قيصر روسيا في بطرسبرج؛ وكانت بواعث هذه الزيارة ظاهرة واضحة، وهي تمكين التحالف الروسي الفرنسي ضد ألمانيا والنمسا والمجر، وتنظيم الخطط للمعركة القادمة
ولما عاد بوانكاريه إلى فرنسا كانت الأزمة قد وصلت ذروتها ولاح شبح الحرب جلياً في الأفق. وكتب بوانكاريه بهذه المناسبة إلى جورج الخامس ملك إنجلترا خطاباً أشتهر بقوة منطقه وبيانه. ثم كانت الحرب؛ فكان بوانكاريه رجل الموقف؛ وأبدى خلال هذه الأعوام العصيبة كثيراً من الحزم والقوة والبراعة في تدبير شؤون الحرب ومعالجة المشكلات الخطيرة التي كانت تثيرها، واستطاع أن يقف البرلمان عند حده وأن يحمي الجيش من نفوذه وأن يرد حملاته عن الحكومة، وأن يقضي على التنافس الحزبي وآثاره في سير الأمور. ولم يحجم في سنة 1917 عن استدعاء خصمه القديم جورج كليمنصو إلى تولي الحكم، فكان موفقاً في اختياره، وكان كليمنصو وزارة النصر النهائي
وهنا نقطة خطيرة يجب أن نشير إليها تلك هي موقف بوانكاريه الحقيقي إزاء الحرب الكبرى ومبلغ مسئوليته في العمل لأثارتها. وقد أثارت مسئولية الحرب منذ عقد الصلح(69/21)
كثيراً من البحث والجدل، وألقى عليها كثير من الضوء سواء من الوثائق الرسمية المختلفة التي نشرت، أو تصريحات أقطاب السياسية الأوربية الذين اتصلوا بمقدماتها. وقد ظهر منها جميعاً أن رايمون بوانكاريه يحمل في إثارة الحرب الكبرى أكبر التبعات وأنه كان مت العاملين لها قبل نشوبها بأعوام؛ وظهر بالأخص من الوثائق التي نشرها مسيو أزفولسكي سفير روسيا في باريس قبيل الحرب، أن بوانكاريه كان دائب العمل بالتفاهم مع القيصر على تنظيم الخطط لإذكاء الأزمة، وأن زيارته للقيصر في يوليه سنة 1914 لم تكن إلا لأحكام خطط العمل والدفاع في الحرب المنشودة. وهذه نقطة خطيرة تثقل كاهل بوانكاريه بلا ريب، ولم يوفق هو قط إلى دحضها رغم كل ما قال وكل ما كتب.
وانتهت رياسة بوانكاريه للجمهورية في سنة 1920، وخلفه مسيو دي شانل الذي لم تطل رياسته سوى أشهر؛ وعاد إلى مجلس الشيوخ، وإلى العمل في المحاماة والصحافة، وفي يناير سنة 1922، ألف بوانكاريه وزارته الثانية، وتولى وزارة الخارجية، وكان الجدل يشتد يومئذ بين فرنسا وألمانيا حول تنفيذ شروط معاهدة الصلح وأداء التعويضات المفروضة على ألمانيا؛ وكان بوانكاريه يرى منذ البداية أن تذل ألمانيا، وتسحق حتى النهاية، وكان من أشد خصوم الهدنة ووقف الحرب، وكان يرى مع فوش أنه يجب مطاردة الجيش الألماني حتى عاصمة بلاده، وجعل الرين حداً لألمانيا؛ فلما بدأت ألمانيا في التذمر من شروط الصلح، ومن أداء التعويضات، رأى بوانكاريه الفرصة سانحة للعمل، فقرر احتلال الروهر في أوائل سنة 1923 تنفيذاً للعقوبات التي نصت عليها المعاهدة في حالة التخلف عن التنفيذ، وكان هذا الأجراء من أشنع الأخطاء التي ارتكبتها السياسة الفرنسية؛ ولم يقف إلى جانب فرنسا فيه سوى بلجيكا؛ وانتهى إلى عكس المقصود منه إذ أثار في ألمانيا روح السخط والمقاومة، وفقدت فرنسا من جرائه كثيراً من العطف، وظهرت فيه بمظهر التحامل والتحرش؛ وفقد بوانكاريه أيضاً كثيراً من ثقة مواطنيه وتقديرهم؛ وظهر ذلك جلياً في انتخابات سنة 1924 حيث فاز فيها خصومه ومعارضوه واضطر إلى الاستقالة؛ وتتابعت من بعده عدة وزارات ضعيفة كانت تسحقها الأزمة المالية وأزمة الفرنك بنوع خاص. ولما تفاقم خطب الفرنك وكادت فرنسا تنكب بكارثة مالية شنيعة دعي الرجل القوي (بونكاريه) إلى الحكم مرة أخرى في يوليه سنة 1926، فلبى الدعوى؛ واستطاعت(69/22)
وزارته بما اتخذت من التدابير السريعة القوية أن تجتنب الكارثة وأن ترد إلى الفرنك ثباته، وأستمر بوانكاريه في الرياسة إلى سنة 1929، ثم استقال لأسباب صحية، وتفرغ إلى كتابة مذكراته التي بدأ بإخراجها قبل ذلك بأعوام تحت عنوان (في خدمة فرنسا) وفيها يبسط مراحل حياته السياسية، وما اضطلع به من الأزمات السياسية قبل الحرب وفي أثنائها، وما بذله من جهود لإحراز النصر. وكان بوانكاريه أثناء اعتزاله الحكم يكتب في الصحف فصولاً سياسية قوية، واشتهرت منها بالأخص سلسلة مقالات يكتبها تحت عنوان (الوعاء المتكسر)، وفيها يندد دائماً بسياسة الضعف نحو ألمانيا؛ وكما أن بوانكاريه كان يعرب في سياسته عن عميق تعصبه القومي، فكذلك تطبع كتاباته مثل هذه النزعة القومية العميقة، وهو ينحو في ذلك نحو مواطنه الكاتب اللوريني الأشهر موريس باريس الذي أشتهر بعنف حملاته على ألمانيا، وتحريضه على سحق العنصر الجرماني؛ ولبوانكاريه آثار أدبية وتاريخية أخرى، وله في المحاماة مواقف مشهورة، وقد وصل أثناء العمل بها إلى أرفع ما يطمح إليه محام، وأنتخب نقيباً للمحامين، ورفع بذلك إلى صف أعلام الفصاحة القضائية، كما رفع من قبل إلى ذروة المجد السياسي.
وقد لبثت السياسة الفرنسية مشربة بروح الأثرة والقومية العميقة، الذي عمل لإذكائه رجال مثل فوش وبوانكاريه وكليمنصو؛ ثم تطورت منذ سنة 1926، أي منذ اشتد ساعد الاشتراكيين والاشتراكيين الراديكاليين، وقويت الدعوة إلى السلام والتضامن الدولي، وتولى ارستيد بريان توجيه السياسة الخارجية الفرنسية، ولاح مدى حين أن التفاهم ممكن بين أعداء الأمس، وأن سلام العالم يمكن تحقيقه بالمواثيق والمعاهدات الصريحة، ولكن بريان توفى بعد أن ازور نجمه؛ ثم قامت الاشتراكية الوطنية في ألمانيا، وعادت موجة التطرف الهتلري توجه النذير إلى فرنسا؛ فعادت فرنسا إلى سياستها القومية المتطرفة، وظهر بوانكاريه لمواطنيه مرة أخرى بأنه في دعوته إلى هذه السياسة، أبعد نظراً من الوجهة العملية، من أولئك الذين ينشدون السلام بالتفاهم والحسنى.
وقد كان لوي بارتو من تلاميذ هذه المدرسة السياسية المغرقة في القومية، وكان مثل صديقه وزميله بوانكاريه يؤمن بسياسة القوة والتحالف العسكري. وكان مولده في بيارن من أعمال فرنسا الجنوبية سنة 1862، ودرس الحقوق أيضاً ثم انتظم في سلك المحاماة، تلك(69/23)
المهنة الخلابة التي يتخرج فيها معظم الساسة الفرنسيين. ودخل بارتو مجلس النواب لأول مرة في سنة 1889، ولم يلبث أن ظهر بقوة منطقه وبيانه. ودخل الوزارة لأول مرة سنة 1894، إلى جانب بوانكاريه وهو يومئذ في الثانية والثلاثين من عمره. وكانت يومئذ بدعة أن يتولى الوزارة فتيان أحداث مثل بارتو وبوانكاريه. ولكن النبوغ المتفتح كان يسود كل اعتبار آخر؛ واستمر بارتو بين النيابة والمحاماة، مدى حين. وتولى الوزارة بعد ذلك مراراً، في وزارة الأشغال والداخلية. ثم وزارة الحقانية منذ سنة 1909 في وزارة بريان، وأستمر في هذا المنصب أربعة أعوام. وفي سنة 1913 استدعي بارتو لرئاسة الوزارة، فاستمر مضطلعاً بأعبائها إلى ما قبيل الحرب الكبرى؛ واستطاع في هذه الفترة أن يحمل البرلمان على إصدار قانون الخدمة العسكرية الجديد الذي يمدها إلى ثلاثة أعوام؛ ثم تولى وزارة الأشغال مرة أخرى في سنة 1917، ثم وزارة الحقانية في وزارة بوانكاريه الثانية (سنة 1924). وعني بارتو بدرس حركة النقابات وأصدر عنها كتاباً جامعاً بعنوان العمل النقابي ' في عالم الأدب ظهوراً قوياً، واشتهر أسلوبه التحليلي؛ وكتب تراحم نقدية بديعة لميرابو خطيب الثورة الفرنسية ولامارتين وغيرهما وهي من أقيم كتب الترجمة لفرنسية، وكتب كتاباً عن غرام فكتور هوجو ' وهو من أرق ما كتب عن هذا الشاعر؛ وكتب رسالة عن فاجنر؛ وكتب غير ذلك من الكتب والرسائل مما يضيق المقام بذكره؛ وأنتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية منذ سنة 1924؛ وكان محاضراً ومحدثاً ساحراً، أشتهر بغزير ثقافته وقوة عارضته وتدفق بيانه.
ولما نشيت الحرب الكبرى دفع بارتو بابنه الوحيد إلى صفوف المدافع عن الوطن، فقتل في المعارك الأولى، وأصاب فؤاد الوالد الكسير جرح لم يندمل قط.
وغادر بارتو مجلس النواب إلى مجلس الشيوخ في سنة 1922 واستمر يخوض المعركة السياسية؛ ولكنه كان من فريق الساسة الهادئين الذين لا يظهرون كثيراً على مسرح المعارك الصاخبة، ثم تولى وزارة الخارجية منذ فبراير الماضي، وكانت منذ سنة 1927 وقفاً على ارستيد بريان حتى توفي سنة 1932؛ وتولاها من بعده بول بونكور. وكانت وفاة بريان نذيراً بتطور سياسة فرنسا الخارجية، وعودها إلى الخضوع لروح الأثرة والوطنية المغرقة؛ فلما تولاها بارتو كانت نظريات فوش وبوانكاريه قد غلبت في توجيهها(69/24)
مرة أخرى؛ وبارتو من أبناء هذه المدرسة كما قدمن. وجاء عنف الحركة الهتلرية في ألمانيا نذيراً جديداً لفرنسا بوجوب التحوط ومضاعفة الأهبات والمحالفات العسكرية. وقد أبدى بارتو في تنفيذ هذه السياسة نشاطاً وبراعة فائقين فطاف بالبلاد المحالفة لفرنسا مثل بولونيا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا ويوجوسلافيا ليحكم أواصر التحالف بينها وبين فرنسا، ولكي تحاط ألمانيا بسياج قوي من الأمم التي تقف وقت نشوب الحرب إلى جانب فرنسا. بيد أن أعظم ظفر استطاع بارتو أن يتوج به سياسته هو تقوية التفاهم الفرنسي الروسي واستئناف سياسة التحالف القديم بين روسيا وفرنسا، وإدخال روسيا في حظيرة عصبة الأمم وحظيرة الدول الغربية بعد أن لبثت بعيدة عنها زهاء ستة عشر عاما. وكانت هذه أول مرحلة في سياسة فرنسا الجديدة لتحقيق عزلة ألمانيا عن باقي الدول الأوربية؛ وكانت المرحلة الثانية هي توثيق أواصر التحالف بين يوجوسلافيا وفرنسا ثم حمل يوجوسلافيا على التقرب من إيطاليا، وأخيراً تحقيق التفاهم بين فرنسا وإيطاليا وتسوية المسائل المعلقة بيتهما وحملها بذلك على نبذ سياسة التفاهم مع ألمانيا بصورة نهائية. وكانت زيارة الملك اسكندر ملك يوجوسلافيا تحقيقاً لهذا البرنامج. ولكن وقعت فاجعة مرسيليا التي ذهب ضحيتها الملك اسكندر ومسيو بارتو؛ ولقيت السياسة الفرنسية بذلك صدمة قوية. بيد أنها صدمة مؤقتة، والظاهر أن فرنسا ستمضي في تنفيذ برنامجها السياسي، وأن مسيو لافال وزير الخارجية الجديد، سيستأنف العمل حيث وقف مسيو بارتو؛ وسيقوم مكانه بزيارة رومه، كما كان مقرراً من قبل. ولكن الموقف ما يزال غامضاً، ولا سيما إزاء وقوعه في يوجوسلافيا عقب وفاة الملك اسكندر من الحوادث والتطورات الخطيرة
تلك سيرة الرجلين اللذين فقدتهما فرنسا في أسبوع واحد. وقد فقدت فرنسا في الأعوام الثلاثة الأخيرة جل أقطاب زعمائها القدماء، مثل كليمنصو وفوش ودومير وبريان وبوانكاريه وبارتو؛ وطويت بذهابهم مرحلة أو مراحل من تاريخ فرنسا المعاصر، ولم يبق من أقطاب ساسة الجيل المنصرم سوى القلائل، مثل تاريدو الذي يمثل الكتلة القومية، وهريو الذي يمثل السياسة الاشتراكية. ولا ريب أن فرنسا ستشعر بفداحة هذه الخسارة خصوصاً في هذه الآونة العصيبة التي تقتضي كثيراً من العمل السياسي المستنير. بيد أن للسياسة الفرنسية تقاليد راسخة، وسوف يبرز إلى الميدان السياسي رهط من الساسة(69/25)
والزعماء الجدد ليملأوا ذلك الفراغ، وليقودوا الجمهورية الثالثة إلى نفس المثل والغايات التي عمل لها ساسة الجيل الراحل
محمد عبد الله العنان
المحامي(69/26)
في العيد الألفي لمولد الفردوسي
الشاهنامة
للدكتور عبد الوهاب عزام
ترجمة الكلمة التي ألقاها الأستاذ عزام بالفارسية على قبر
الشاعر في طوس
لست أريد أن أفصل الكلام في الشاهنامة أو بعض مباحثها الكثيرة. فأدباء إيران الكرام أعرف بذلك وأقدر عليه، ولكني أريد أن أتقدم إليكم بكلمة موجزة تبين عن مكانة الشاهنامة في آداب الأمم ولا سيما الأمم الشرقية:
قال بعض المؤلفين إن الشاهنامة إلياذة الشرق. وذلك التشبيه غير صحيح من بعض الوجوه، فأن الشاهنامة جديرة أن يكون لها بين أمم الشرق مكانة أرفع من مكانة الإلياذة بين أمم الغرب. ذلكم بأن الإلياذة قصة حروب وقعت في معترك ضيق من آسيا الصغرى بين اليونان والطرواديين. وهي زهاء ثمانية آلاف بيت، تستمر حوادثها ستة وخمسين يوماً. والشاهنامة تقص حادثات ميدانها ما بين الهند والصين إلى البحر المتوسط، وتشمل كل وعت الروايات من تاريخ الأمة الإيرانية وأساطيرها من أقدم عصورها إلى العهد الإسلامي، ويشترك في وقائعها التورانيون والعرب والروم والهند، ولا تحرم الصين من نصيب فيها. فكل أمم آسيا العظيمة وبعض أمم أوربا يتناولها موضوع هذا الكتاب العظيم. فقد أوعى الكتاب من التاريخ والأساطير ما هو جدير بعناية المؤرخ الناقد، مؤرخ السياسة أو مؤرخ الأدب والاجتماع
وصفت الشاهنامة نشوء الحضارة الإيرانية وتطورها، وقصت تاريخ الإيرانيين ملوكهم وأبطالهم وكبرائهم في القرون المتطاولة، وأبانت عما كان بينهم وبين الأمم المجاورة من عداء ومودة، وحرب وسلم. وصفت الجلاد الهائل المستمر بين إيران وتوران، ثم مثلت ما كان بين الأمتين من جوار ومودة في القرابة بين ملوك إيران وتوران، إذ جعلتهم جميعاً بني أفريدون، ثم وصلت هذه القرابة بمصاهرات عديدة: كتزوج سياوخسن بن كيكاوس جريرة بنت بيران أعظم قواد التورانين، ثم فرنكيس بنت أفراسياب أعظم ملوك توران،(69/27)
ومن سياوخسن وفرنكيس ولد كيخسرو حفيد كيكاوس وسبط أفراسياب. وكذلك نجد في العصور التاريخية تزوج أنوشر وأن بنت الخاقان
وأما العرب فقد أجمل الكتاب في أنبائهم ما كان بين الإيرانيين والسامين من حوادث في العصور المتطاولة، فجعل الضحاك عربياً، وقص وقائع كيكاوس وملك هاماوران (حمير) ووقائع أخرى بين الساسانيين والقبائل العربية. ثم ذكر طرفاً مما كان بين الأمتين من مودة وتعاون فيما كان من مصاهرة بينهما إذ تزوج بنو أفريدون الثلاثة سلم وتور وايرج ثلاث بنات لملك اليمن. وتزوج كيكاوس سوذابة بنت مهراب ملك كابل وهي عربية من نسل الضحاك، فولد رستم بطل الأبطال من أب إيراني وأم عربية. وأوضح من هذا ما كان بين الأمتين من مودة في العهد الساساني أعظم مظاهرها علاقة ملوك الحيرة بملوك فارس، وما كان للفرس من سلطان ومحبة بين العرب في البحرين واليمن
والروم ذكروا في أنباء الوقائع المتمادية التي كانت بين الساسانيين ودولة الروم الشرقية وفي قصة الاسكندر. ووصفت مودتهم في قرابة ملوك الروم أبناء سلم بن أفريدون، وفي تزوج كشتاسب بن لداسب من كتايون بنت ملك الروم، وتزوج كسرى برويز مريم بنت القيصر
والهند ذكروا في حوادث منها وقائع كابلستان وحوادث بهرام كور وتزوجه بنت ملك الهند. والصين تذكر في وقائع التورانيين وفي التجارة
فهذه المنظومة العجيبة التي تتناول حوادث قرون وأمم كثيرة، لا ينبغي أن تشبه بالإلياذة الضيقة الحدود؛ وينبغي أن تكون عناية الشرقيين بها أعظم من عناية الغربيين بالإلياذة
ولا ريب أن في الشاهنامة أساطير كثيرة، ولكن الأساطير في الأدب أروع من الحقائق. ثم لا ينكر دلالة الأساطير على تطور الأمم وعلى كثير من عاداتها وأخلاقها. فأن الأساطير وليدة خيال الأمة وأمانيها، لا يحدها الواقع ولا تضيقها الحقيقة
وكم في أساطير الشاهنامة في العهدين الأول والثاني - عهدي البيشداديين والكيانيين - من حقائق دينية واجتماعية وتاريخية ألبست ثوب الخيال وحرفت فيها الوقائع والأسماء
وللشاهنامة ميزة أخرى على الإلياذة، وملاحم أخرى كالمهابهاراته والرامايانا، بأنها كلها لشاعر واحد، إذا استثنينا ألف البيت التي نظمها الدقيقي. والفردوسي ناظمها شاعر تاريخي(69/28)
معروف لا يشك أحد في وجوده وانه ناظم هذه الملحمة الرائعة، على حين يكثر خلاف المؤرخين في الإلياذة وناظمها، وعلى حين أن المهابهاراتا والرمايانا نظم شعراء عديدين بعضهم مجهول
فالشاهنامه سجل تاريخ أمة وأساطيرها منذ أقدم عصورها، وهذا لا يعرف في منظومة أخرى
لم يكن الفردوسي مخترع هذا الحادثات بل كان مصورها، فقد نظم الرجل ما ادخرته الروايات، ولم يكن حراً في الذهاب مع خياله كيف يشاء. ودليل هذا في الكتب الأخرى ولا سيما كتاب الثعالبي (غرر أخبار ملوك الفرس وسيرهم) وهو أقرب الكتب إلى الشاهنامة، وقد عاصر الثعالبي الفردوسي وقدم كتابه للأمير نصر أخي السلطان محمود الغزنوي الذي قدمت إليه الشاهنامة
وهذا يزيد في قيمة الكتاب ويجعله مرآة تاريخ الأمة وأفكارها، لا صورة من خيال الشاعر وأوهامه. وهذا أيضا يزيد في قدر الفردوسي، فعسير جداً أن يذلل الشاعر هذه الأكداس من الحوادث للنظم السلس المتين، ويكلف نفسه السير في حزنها وسهلها، لا يتخير الأيسر والأسهل من موضوعات النظم
لو كانت الشاهنامة قصصا منثورة من روعة الشعر وموسيقى النظم، لكانت مع هذا جديرة بعناية الإيرانيين والأمم الشرقية، ثم عناية المؤرخين والباحثين في الأمم كلها. فكيف وقد أفرغت هذه القصص في صور شعرية رائعة، ونظم متين منسجم، يزيد المعنى جلالاً وروعة؟ كيف وهي جهد شاعر نابغة في أكثر من ثلاثين عاماً؟ لا تقتصر الشاهنامة على قصص الحادثات، ولكنها تصور الوقائع حتى يكاد القارئ يرى الفرسان في حومة الوغى، ويبصر النقع معقوداً في الآفاق، ويسمع صليل السيوف ووقع الأسنة، وصياح الأبطال وصهيل الخيل
وهذا الفردوسي وصاف الحروب لا يقصر في تصور عواطف الإنسان والإبانة عنها على لسان أبطال قصته، وهو ليس عاجزاً في قصص الحب كما ترى في قصة زال وروذابة، وقصة بيزن ومنيزه، وقصة كشتاسب وكتايون. وناهيك به رجل أخلاق لا يألو في الدعاء إلى الخير والنهي عن الشر. وهو بصير بأحداث الزمان يستخرج المواعظ من وقائع(69/29)
الكتاب، فلا يكاد يفتتح فصلاً أو يختمه إلا واعظاً بليغاً من غير الزمان
وإني أستشهد هنا أستاذاً من كبار المستشرقين درس الشاهنامة درساً بليغاً، هو الأستاذ نلدكه الألماني قال:
(إن الفردوسي شاعر مطبوع، يستولي على فكر القارئ، ويحيى القصة التافهة بإنطاق الممثلين أمامنا، بل كثيراً ما تضيع الحركات في جلال الأقوال. وهو يفصل الحادثات فيبين أحسن إبانة عن حادثة لم يكتب عنها في الأصل الذي نظم عنه أكثر من أنها وقعت، ويبيح لنفسه أن يخلق حادثات صغيرة ليتم الوصف. وهو يعرف كيف يحيي أبطاله، بل يخرج أحياناً البطل في صورة جديدة غير التي عرفته بها الروايات، وما أقدره على تبيان ما وراء أعمال الأبطال من أسباب وأفكار. والوصف النفساني رائع جداً، ونغمة البطولة تسمع في الكتاب كله، وعظمة الزمان القديم وأبهته، وفرحه وترحه وجلاده، مصورة في أسلوب معجب، حتى ليسمع الإنسان صليل السيوف وجلبة المآدب. هو لا يبلغ في التفاصيل مبلغ هومير، ولا يستطيع مثله أن يجعل حادثة في كلمات قليلة، ولكنه مع هذا يمضي قدماً إلى غايته حين يصف الوقائع، وإن يكن في الخطب والرسائل مكثاراً
مشاهد الحرب تستقبل القارئ في كل مكان، ولكن هناك ميادين للحب والعواطف الرقيقة، فهناك قصص للحب عظيمة كقصة زال وروذابه، وبيزن، ومنيزه. وهي أجمل أقسام الكتاب، والشاعر في هذا، بل في كتابه كله، يملك القارئ ببساطة الوصف. وعاطفة الأمومة والأبوة والقرابة واضحة في الكتاب كذلك، ولكن يصحبها التعطش للدماء ثأراً للأقارب، فقصة الانتقام لسيا وحسن مثلاً تملأ صفحات من الكتاب كثيرة جداً، وهذا الولع بالثأر يتمكن حتى نجد الرجل العاقل كودرذ يشرب دم أطيب الأعداء بيران. . . .
ويتجلى في الكتاب كذلك ندب حظوظ الإنسان في هذا العالم الحائل والاعتبار بغير الزمان) اهـ.
هذه الميزات الأدبية والتاريخية جعلت للشاهنامة مكانة علية في الأدب الفارسي منذ نظمت، فحاكها كثير من الشعراء بقصص متصلة بموضوعها، فنظمت ست قصص أبطالها من أسرة رستم وهي: كرشاسب نامه، وبطلها كرشاسب جد أسرة سام ابن نريمان. وسام نامه، وبطلها سام بن نريمان جد رستم. وجهانكير نامه، وبطلها جهانكير بن رستم. وفرامرز(69/30)
نامه، وبطلها فرامرز بن رستم. وبانو كشاسب نامه، وبطلتها بانو كشاسب بنت رستم وامرأة كيو بن كودرز. وبروز نامه، وبطلها بروز بن سهراب بن رستم. ونظمت بهمن نامه، وبطلها بهمن بن اسفنديار.
ثم نظمت بعد قصص أخرى كتيمور نامه التي نظمها الهاتفي، وشاهنامة القاسمي الكونابادي، وشاهية مجد الدين البابوي النسائي. ولا تزال محاكاة الشاهنامة مستمرة حتى العصر الحاضر
وقد حاكاها الترك أن صح ما يروى إن شاعراً في القرن العاشر الهجري من بروسه أسمه الفردوسي الطويل نظم شاهنامة طويلة جداً في 380 جزءاً، وأهداها للسلطان بايزيد الثاني، فأمر بانتخاب 80 جزءاً منها وإحراق الباقي، فغضب الشاعر وهجا السلطان وهجر بلاد الروم إلى خراسان حيث مات غماً
وأولع الناس بترجمة الشاهنامة إلى لغاتهم، فترجمت إلى عشر لغات. وكانت اللغة العربية أولى اللغات بترجمة الشاهنامة، لما بين الأدبين الفارسي والعربي من التقارب. ولذلك كانت العربية أسبق اللغات إلى إحراز هذه الترجمة. فقد أمر الملك المعظم بن الملك العادل الأيوبي الفتح بن علي البنداري الأصفهاني أن يترجم الشاهنامة إلى اللغة الغربية، فشرع في ترجمتها في جمادى الأولى سنة 620، وأتمها في شوال سنة 621. استطاع أن يترجم هذا الكتاب العظيم في ثمانية عشر شهراً، وهي همة علالية ومقدرة عظيمة من هذا الأديب الكبير. ونحن نعترف لإخواننا الإيرانيين بفضل إنشاء الشاهنامة وفضل ترجمتها إلى اللغة العربية.
ترجم البنداري الكتاب نثراً بلغة سهلة غير متكلفة، ونقل الحوادث مجردة من التفصيل والتصوير الشعري، فجاء الكتاب في نحو 18500 سطر، في كل سطر نحو عشر كلمات. وذلك نصف الشاهنامة.
ومعظم تصرف المترجم يرجع إلى ما يلي:
1 - حذف بعض الفصول الصغيرة كفصل تجريب أفريدون أولاده في قصة أفريدون، وقتل رستم الفيل الأبيض وذهابه إلى الجبل الأبيض في قصة منوجهر، ومقاتلة رستم وجنكس في قصة كامدس الكاشاني، ونصح زال ابنه رستماً في قصة اسفنديار الخ.(69/31)
2 - وحذف بعض الحوادث كما حذف ما وقع بين رستم والتركمان حينما ذهب لإحضار كيقباد من جبل ألبرز، وحذف ذهاب امرأة كيو إلى أبيها رستم حينما ذهب زوجها إلى توران باحثا عن كيخسرو.
3 - وحذف اكثر مقدمات الفصول التي يتكلم فيها الفردوسي عن نفسه أو يعظ، كما حذف مقدمة قصة سهراب ورستم التي يتكلم فيها الشاعر عن موت الشبان وحكمته؛ ومقدمة قصة سياوخسن التي يتكلم فيها الفردوسي عن الشعر والكلام البليغ.
4 - اختصار الرسائل والخطب والوصايا المطولة، واختصار الوصف في الحروب وآلات الحرب، ووصف الخيل والوحوش، ووصف المآدب الخ.
5 - وحذف مدائح السلطان محمود، وإثبات مدح الملك المعظم في بعض مواضعها.
6 - ويزيد روايات من كتب التاريخ كالطبري والمسعودي، كما روى قصة ملك الحضر في عهد سابور بن أردشير، ونقل ما كان بين هرمز ورعيته.
والمترجم في هذا أمين لا ينقل كلمة من كتاب آخر إلا نبه إليها إلخ. إلخ. وقد أصلحت بعض هذه العيوب على قدر الطاقة حينما نشرت الترجمة العربية.
لم ينقل المترجم إلى العربية جمال شعر الفردوسي، ولكن نقل حوادث الشاهنامة مختصرة فيسر لقارئ الغربية الإحاطة بموضوع الكتاب في وقت قصير. ولابد أن يكمل نقص هذه الترجمة بترجمة منظومة للكتاب كله أو لفصول منه.
ولهذه الترجمة العربية قيمة أخرى، فقد ترجمت في أوائل القرن السابع الهجري قبل أن يكثر الاختلاف بين نسخ الشاهنامة. وليس عندنا نسخة ترجع إلى ذلك القرن. فيمكن أن يستعان بهذه الترجمة في المقترنة بين نسخ الشاهنامة المختلفة وترجيح بعضها على بعض.
اهتمت الأمم الشرقية الإسلامية من بعد بترجمة الشاهنامة، فترجمت إلى التركية العثمانية، وإلى التركية الشرقية، وطبعت الترجمة الأخيرة في طشقند سنة 1326. وترجمت إلى اللغة الكجراتية وطبعت في بمباي (1897 - 1904)، وترجمت إلى اللغة الأردية كذلك.
وفي القرن التاسع عشر الميلادي عرف الأوربيون الشاهنامة واهتموا بها، فترجمها مول إلى الفرنسية وطبعت على نفقة الدولة في نصف قرن بين سنة 1830 إلى سنة 1877 وطبع معها الأصل الفارسي في ثمانية مجلدات ضخمة، وهي أعظم طبعة للشاهنامة عرفت(69/32)
في العالم كله.
وترجم اتكنسون إلى الإنكليزية رستم وسهراب، ثم الكتاب كله ترجمة مختصرة وطبعت في لندن سنة 1830، وترجم أرنولد سهراب ورستم أيضا. ثم ترجم ورنر وأخوه الكتاب كله نظماً وطبع سنة 1905 فما بعدها، وكذلك ترجم رجرس معظم الكتاب وطبع في لندن سنة 1907.
وترجم الكتاب إلى الألمانية نظما مرتين: ترجمة فون شاك وطبع في برلين سنة 1851 إلى سنة 1865، ثم ترجمه ركرت، وطبع في برلين من سنة 1890 - سنة 1895.
ومن قبلهما ترجم جرس خلاصة الكتاب إلى موت رستم، وطبعه في برلين سنة 1830.
وأوفى ترجمة للشاهنامة الترجمة الإيطالية، ترجمها بزي نظماً، وطبعها في تورينو 1886 - 1888 في ثمانية مجلدات.
وطبع الأوربيون الشاهنامة الفارسية نفسها مرارا، طبع الجزء الأول منها في كلكتا سنة 1811، وطبعها كلها تزنر مكن في كلكتا سنة 1829 وهذه الطبعة أصل لطبعات أخرى. وطبعها مول في باريس كما تقدم. وطبع ثلاثة أجزاء منها فون فولر في ليدن بين سنة 1877 وسنة 1884.
فهذا اهتمام الأوربيين بالشاهنامة وهم لا تربطهم بها وبقومها ما يربط الأمم الشرقية. وإنا لنرجو أن يزيد اهتمام الشرقيين بهذه المنظومة العظيمة حتى لا تخلو لغة من اللغات الشرقية من ترجمة كاملة منثورة ومنظومة.
ولعل هذا الاحتفال العظيم بذكرى شاعرنا النابغة الخالد، يكون فاتحة نهضة في الشرق توفي الشاهنامة حقها من العناية
وإن المندوبين المصريين ليسران ويفتخران بالمشاركة في هذا المهرجان، ويبلغان مشاركة الحكومة المصرية والأمة المصرية الاحتفال بالفردوسي الشاعر العظيم الذي تربطه بهم وأدباء الفرس عامة روابط أدبية وتاريخية لا تمحى على كر الأيام
عبد الوهاب عزام
الخميس(69/33)
20 جمادى الأول سنة 1353
30 أغسطس سنة 1934(69/34)
6 - الشخصية
للأستاذ محمد عطية الأبرشي
المفتش بوزارة المعارف
أنواع الشخصية
الشخصية نوعان:
عملية وفكرية، ولنتكلم عن كل منها بالتفاصيل فنقول:
(1) الشخصية العملية
كثيرا ما يسأل الإنسان: أيهما أفضل: الأمور النظرية أم العملية؟ وبعبارة أخرى أيهما أفضل: الأفكار أم الأعمال؟ وجوابنا على ذلك أننا لا نستطيع أن نفضل النظريات من العمليات، فنحن في حاجة إليهما معاً، وكل منهما متوقف على الآخر ومكمل له، لا ضده ونقيضه كما يظن البعض، والأفكار أمهات الأعمال، ومن الممكن اعتبارهما مظهرين لشيء واحد
وكما أن لكل أمر من الأمور ناحيتين: إحداهما نظرية والأخرى عملية، كذلك نقول إن للشخصية ناحتين: نظرية وعملية؛ فالرجل مثلاً قد يكون موضع الإعجاب لأفكاره وأعماله، ولو أن الأعمال في النهاية نتيجة الأفكار، ومع ذلك قد تغلب على الإنسان إحدى الناحيتين: النظرية أو العملية تبعاً لميوله وعاداته، فهذا قد يميل إلى الجهة العملية، وذلك قد يميل إلى الناحية الإدراكية فتنمي فيه بطريقة التعود هذه الناحية أو تلك.
ولاشك في أن الشخصية العملية التي تظهر بالعمل والتنفيذ أكثر أثراً وظهوراً في الحياة العملية من الشخصية الفلسفية البعيدة عن هذه الحياة، والأولى كممثل يقوم بتمثيل دوره عملياً على المسرح أمام الناس، والثانية كمن يقوم بتمثيل دوره في الخفاء أو وراء الستار بعيداً عن الأنظار، فأثر الأولى أكثر وضوحاً وظهوراً من أثر الثانية. وتتمثل الشخصية العملية في المصلحين وقادة العمل والمستكشفين الذين ترى آثارهم في أعمالهم التي قاموا بتحقيقها وتنفيذها خدمة للإنسانية. وتتمثل الثانية في الشعراء والفلاسفة والخياليين الذين يقومون بتصوير الأشياء ووصفها، فيسبحون تارة في عالم الحقيقة، وتارة في عالم الخيال؛(69/35)
ولا ينكر فضلهم أحد، ولكن أثرهم في هذا العالم المادي أقل ظهوراً؛ ففي اليوم الذي اجتاز فيه (بليريوت) القنال الإنجليزي بطيارته كانت الأفكار كلها وأحاديث الفخر والإعجاب موجه إليه، لا إلى العالم الذي فكر فيها عدة سنوات حتى أخترعها.
وإننا لا نقصد بذلك أن نقلل من قيمة العلماء أو المفكرين أو قادة الفكر، ولكننا نقصد الاعتراف بأن تأثير رجال الأعمال أظهر من تأثير رجال الفكر، وإننا نتأثر بالأعمال النبيلة أكثر من تأثرنا بالأفكار مهما كانت سديدة، ولا ننكر أن الفكر والوجدان ينتهيان بالعمل
ومنذ زمن ليس بالبعيد كانت التربية تفكر في العالم أكثر من العمل، فكان الإنسان إذا اختبر سئل عن (مقدار ما يعرفه) أما اليوم فقد تبدلت الحال وانعكس الأمر؛ فأصبحت التربية تعنى كل العناية بالعمل والأعمال، وأصبحت الأسئلة: (ماذا فعل الإنسان؟ وماذا يستطيع أن يفعل؟ وما مقدار ما يفعل؟) ولم تكن الجامعات فيما مضى لتعنى بالجانب العملي من الحياة، ولم تكن لتعمل على تربية رجال ليعملوا؛ بل كانت عنايتها موجهة إلى تكوين رجال مثقفين حباً في الثقافة، معلَّمين حباً في العلم، ليكونوا كزينة لها أينما وجدوا في الأسرة أو المجمع الديني أو في المجمع الأدبي. وكان الرجل الجامعي المثقف لا ينتظر منه أن يعمل شيئاً بيده، فكان كأداة من أدوات الزينة، وكان المجتمع يزدريه ويحتقره إذا حاول أن يعمل عملاً يدوياً. أما الأعمال اليدوية وأما الصناعات فكانت خاصة بالطبقة الفقيرة التي تدعى الطبقة العاملة. وكان يظن خطأ أن هذه الطبقة خلقت لتعمل، أما الطبقة الأخرى فخلقت لتفكر.
أما اليوم فقد أصبحت الفكرة السائدة أن التفكير غير مقصور على طبقة من الطبقات، وأن العمل لا تختص به طائفة دون أخرى، وصار التعليم عاماً بين الفقراء والأغنياء على السواء في الأمم المتمدينة، لا يمتاز به هؤلاء على أولئك، وجعل وسيلة لإعداد الجميع للقيام بواجبهم العلمي والعملي والأدبي في الحياة. وأصبحت الفرصة، فرصة العمل سانحة أمام الجميع من غير ما تفريق. فالعلم الآن في هذا العالم المادي لا يصلح في نظر الماديين - وما أكثرهم - لأن يكون غاية مستقلة. بل يجب أن يكون وسيلة للعمل. ولسنا في شك مطلقاً من أن العلم قوة، لا، بل أكبر قوة في يد الإنسان. وهو قوة اليوم كما كان قوة بالأمس. وسيكون قوة إلى الأبد، ولكننا في حاجة إلى العلم الذي يؤدي إلى العمل، العلم(69/36)
الذي يمكن تنفيذه والانتفاع به عملياً بتحويله إلى عمل؛ فالعلم بلا عمل لا خير فيه، مثله كمثل شجرة بغير ثمر. هذا هو المقياس الذي يقاس به العلم، ويحكم به على العلوم اليوم. ولا عجب؛ فبعد أن كان العلم يطلب للعلم، حباً في العلم ذاته، أصبحنا لا نفكر إلا في الماديات، نسأل عن مقدار ما يمكن أن يستفاد به عملياً في الحياة من تعلم هذا العلم أو هذه المادة، وأصبحت العلوم التي لا تؤدي إلى أكل الخبز، أو الخبز والزبدة، ينظر إليها نظرة تشكك في الإقبال عليها. ويكثر الإقبال على العلم أو المهنة بقدر ما يمكن أن تدره من المال في أقصر وقت. هذا هو مقياس الإقبال على العلم الآن، وهذا هو الرأي السائد بين الأكثرية من المربين والمتعلمين في الأمم المتمدينة. فالعالم أصبح تجارياً، والعلم كذلك أصبح ينظر إليه بنسبة ما يستطيع صاحبه أن يكتسبه بواسطته من وظيفة أو ثروة أو مركز أو نفوذ. ويكاد هذا العصر المادي يقضي أو قضى بالفعل إلى العالم الروحي، وعلى تعلم العلم حباً في العلم، والاشتغال بالفن حباً في الفن. وإننا لا نكره المادة، ولا ننادي بكره المادة أو احتقارها، ولكن يؤلمنا أن تسيطر المادة على كل شئ، حتى على أفكارنا وتعليمنا. ولا ننكر أن النجاح هو الحياة، وهو الفوز. وحبذا الأمر لو أمكننا أن ننجح النجاح المادي مع المحافظة على الروح العلمية الخالصة، فنجمع بين عالم المادة وعالم الروح.
فالحياة اليوم نزاع بين القديم والجديد، بين عالم الروح وبين عالم المادة، وهو نزاع لا نهاية له، ولكنه ليس نزاعً عدائيً، بل هو نزاع ودي تكميلي لا غرض منه سوى النجاح في الحياة
ولكن ما النجاح الذي نبغيه؟ وما الرقي الذي نريد الوصول إليه؟ هو نجاح الشعب ورقيه، روحياً ومادياً، قوةً ونفوذاً، علماً وعملاً، مبدأ وإنسانية. ولكن هل يمكن الجمع بين الروح والمادة في آن واحد؟ ولم لا؟ إن الإنسان يستطيع أن يكون روحياً إلى حد ما، ومادياً إلى حد ما، بحيث لا تتغلب الروح على المادة، ولا تسيطر المادة على الروح؛ فيأخذ من كل منهما نصيبه، ولا يعنى بناحية ويهمل الأخرى. والنجاح هو الفوز بعد الجد والتعب، التعب الجسمي والعقلي، سواء أكان ذلك النجاح في التأليف أو في نسج القطن وغزله، أو في بيعه وشرائه، أو في صنع السيارات أو الطيارات أو في كتابة الروايات. . إلخ
ومن الضروريات الأساسية للشخصية العملية العلم بالشيء الذي يراد القيام به، والرغبة في(69/37)
النجاح فيه ولا فائدة في العلم والرغبة إذا لم يصحبا بقوة تنفيذية معنوية أو حسية، داخلية أو خارجية تعمل على التنفيذ.
فكما أن السيارة لا تستطيع السير إلا إذا كانت معدة للسير تمام الإعداد. وكان بها المقدار الضروري من زيت الوقود، وكان الطريق معبداً صالحاً لسير السيارات، كذلك الإنسان لا يمكنه أن يقوم بعمل عظيم إلا إذا كان هناك علم به، ورغبة شديدة فيه، قوة دافعة تدفعه إلى القيام به، هي قوة الإرادة والعزيمة الثابتة
وطالما صادف الإنسان أشخاصاً لديهم الوسائل الضرورية للنجاح في العمل من علم وخبرة وذكاء وحسن تقدير، ولكنهم فقدوا صفه واحدة من أهم الصفات الضرورية للنجاح، تلك هي قوة العزيمة والتنفيذ، فلم ينجحوا في أعمالهم، لأنهم يميلون إلى كثرة النقد والتحليل والتشكك في كل شيء حتى في أنفسهم فيمنعهم ذلك الشك من رؤية فائدة الشيء فيترددون في الإقدام، ويرجعون إلى الوراء، فتضيع منهم فرصه النجاح، والفرصه إن أتت مرة قد لا تعود مرة أخرى. فالعزيمة الصادقة تعد سراً عظيماً من أسرار الشخصية العملية والنجاح في العمل.
محمد عطية الأبرشي(69/38)
من مشاهداتي في أوروبا
معجزات طبيب
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
يرى الداخل إلى مصحة تسايلابس حديقة جميلة زينت بالورود ونسقت بالزهور المختلفة الألوان، فإذا من انتهى من الحديقة ودخل من الباب العام للمصحة، وجد نفسه في ردهة فسيحة ذات جناحين كبيرين أحدهما للرجال والآخر للنساء قد صفت فيهما الآرائك، ونسقت أشجار الظل وأصص الأزهار المعروفة بالحدائق الشتوية التي لا تنفك عينك تقع عليها أبداً في بلاد النمسا الجميلة. ثم لا يلبث أن يرى أفواج المرضى يتدفقون عندما يقترب موعد العلاج: وهو منظر يذعر له من يراه لأول مرة، ويكاد يذوب قلبه حسرة على أولئك المساكين وخاصة منهم المشلولين والمقعدين الذين يجرون في العربات جر الأطفال الصغار لعدم قدرتهم على المشي والحركة. يأخذ كل مريض مكانه على تلك الأرائك. وفي يد كل تذكرة دخول ثمنها ثلاثة شلنات نمساوية أي نحو أحد عشر قرشاً مصرياً تبيح له الدخول مرة واحدة. وقبل ميعاد العلاج بعشر دقائق يفتح باب يوصل إلى ردهة فسيحة ثانية توجد بها أرائك أخرى ومشاجب تعلق عليها الملابس، وتقف سيدة تتسلم تذاكر الدخول وأخرى تأخذ بيد العميان إلى أماكنهم. وهنا يخلع الجميع ملابسهم العليا ليصير النصف العلوي لجسم كل منهم عرياناً. فإذا دقت الساعة النصف بعد السابعة أو العاشرة صباحاً، أو الثانية بعد الظهر، فتح باب حجرة العلاج على مصراعيه، ووقف به ساحر جالزباخ يستقبل مرضاه، وهو رجل مسن، ولكنه بدين الجسم طويل القامة قوي الساعد مفتول العضل حاد النظر طويل اللحية أحمر الوجه دائم الابتسام، يفيض البشر من عينيه الواسعتين البراقتين، يحيي مرضاه بابتسامة ساحرة، ويداعبهم بمختلف الدعابات، ويقف بجواره نجله الدكتور فرتز الذي درس الطب في ألمانيا ثم انقطع لمساعدة والده في تلك المصحة العظيمة. أما حجرة العلاج فهي حجرة فسيحة مربعة طولها 12 متراً وارتفاعها 7 أمتار، غطيت جدرانها بطلاء بنفسجي اللون، وأقيمت بجوار تلك الجدران عدة أفران كهربائية ذات أضواء مختلفة الألوان بعضها قوي جداً وبعضها ضعيف. فإذا دخل فوج المرضى تلك الحجرة تراصوا صفوفاً أمام آلة العلاج يتقدمهم الأطفال ويتلوهم المشلولون والعميان(69/39)
ويتبعهم باقي المرضى. أما الجدد فيجلسون على أرائك خلفية بعد أن يكونوا قد دونوا البيانات الخاصة بهم وبأمراضهم عند السكرتيرة التي تعرضها على الطبيب فيما بعد. تغلق أبواب الحجرة بعد ذلك فتصبح مظلمة إلا بصيصاً من نور ضئيل. ثم يبدأ الساحر بالعلاج: تسمع صوتاً يدوي في أرجاء الحجرة كأنه الرعد القاصف يصم الآذان، ويدخل الرعب في القلوب، فترتاع له أفئدة أولئك الذين كتب عليهم أن يلجو هذه الحجرة لأول مرة، ثم ترى شرراً كهربائياً بنفسجي اللون يتطاير من كرة معدنية كالبطيخة تتصل بأحد طرفي عصا يقبض عليها الساحر من الطرف الآخر، ثم يمسك بعنق كل مريض ويمر تلك الكرة مرات سريعة بالقرب من عموده الفقري من أعلى إلى أسفل، ويضعها أحياناً على الجزء الذي يشكو منه ألماً، ولا يستغرق ذلك كله أكثر من عشرين ثانية، ثم يتركه إلى غيره وهكذا حتى ينتهي منهم جميعاً في زمن لا يزيد على نصف ساعة، فإذا خرج المريض من قبضة يده القوية ومن تحت تلك العصا السحرية مر في أحد الأفران الكهربائية مروراً لا يستغرق بضع ثوان أيضاً بإرشاد إحدى المرشدات هنالك
والحق أقول إننا لأول مرة سمعت أنا وصديقي ذلك الصوت المزعج ورأينا ذلك الشرر الكهربائي البنفسجي الذي علمنا عنه فيما بعد أنه نتيجة تيار كهربائي عالي الضغط جداً إذ يبلغ 595 ألف فولت، أقول إننا عند ذلك ذعرنا وامتلأت قلوبنا رعباً، وكاد صديقي يترك الحجرة ويعود أدراجه من شدة الخوف، ولكني تملكت قواي وشجعته ونبهته إلى أولئك الأطفال والشيوخ الذين يتلقون ذلك الدش الكهربائي بلا خوف ولا وجل، واتضح لنا بعد التجربة أن فعل تلك الآلة في الجسم أخف كثيراً من صوتها المرعب في النفس حتى أن صاحبي بعد بضعة أيام أصبح لا يرهبها بل على العكس من ذلك كان يسعى ليكون في المقدمة، فكنت أذكره بقول الشاعر العربي:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
أما الكشف على المريض الجديد فلا يستغرق أكثر من دقيقة لأنه يسأله عن الداء وموضع شكواه، ثم يضع فوق ذلك الموضع أنبوبة زجاجية يمر بها تيار كهربائي ذو ألوان مختلفة، وكأني به يتعرف بذلك موضع الداء تماماً. ويدخل المرضى لتكرار ذلك العلاج بالأكتروراديوم ثلاث مرات يومياً. ثم إنه علاوة على ذلك العمل الأساسي يستعمل طرقا(69/40)
أخرى في العلاج، فإنه يأخذ بالمحقن من كل مريض كمية معينة من دمه في حجرة خاصة ويضعها في أنبوبة كتب عليها اسم المريض، ثم يمر فيها تيارات كهربائية لتقوية الدم، وفي اليوم التالي يعيدها بالمحقن إلى جسم المريض نفسه، وكأني به يتمثل بقول أبي نواس:
وداوني بالتي كانت هي الداء
وفي المصحة فوق ذلك حجرات أخرى لعلاج بعض الأمراض الخاصة كالربو مثلاً حيث يستنشق المريض بعض غازات معينة في أوقات تعين له. وهناك حجرة أخرى يدخلها المرضى بترتيب خاص حيث يحصر الجزء المريض من الجسم بين قرصين من المعدن تمر فيهما أشعة كهربائية قصيرة. وفي المصحة نحو ثلاثين موظفاً من رجال ونساء طبيبات وممرضات، ولهم جميعا في المصحة مسكنهم ومأكلهم ومشربهم
ولقد تقابلنا مع الدكتور فرتز وتحادثنا معه طويلاً باللغة الإنجليزية فكان مثال التواضع والأدب الجم، وعرفنا منه أنه تجرى عمليات في المصحة بوساطة التيار الكهربائي ذي الضغط العالي، وأنهم يعالجون الأمراض على اختلاف أنواعها كالشلل والعمى والربو والسكر والسل الرئوي وعرق النسا إلخ. ما عدا الحميات بأنواعها والصرع والجنون، وعلمنا منه أيضاً أنه يبحث بحثاً جديداً في استخدام الأشعة القصيرة في العلاج، وهو ينتظر فائدة كبيرة من وراء ذلك البحث. وأما والده زيليس نفسه فهو في الخامسة والستين من عمره وهو أقوى من أي شاب تراه، ويأمل أن يعيش مائة سنة أخرى بفعل الألكتروراديوم، وهو لم يتعلم في المدرسة ليكون طبيباً، وإنما كان أخصائياً في النبات، ولما غادر المدرسة هوى الكهرباء، وأخذ يدرسها ويجرب فعلها في الأمراض حتى انتهى إلى ذلك النجاح العظيم الذي صادفه باستخدام الضغط العالي الكهربائي، وأخذ الشعب النمساوي والألماني يقبل عليه وينتفع بعلمه وتجاربه حتى علا كعبه، فأخذ الأطباء في النمسا وألمانيا ومن ورائهم أطباء العالم يحملون عليه حملات شديدة وازدادت حملتهم عليه لما نبه ذكره وافتتح مصحته في سنتي 1929، 1930 فحاربوه بكل ما أوتوا من قوة واتهموه بأنه دجال وأنه عالة على الطب، وحرضوا عليه الحكومة، فقبضت عليه وقدمته للمحاكمة، فكان برغم ذلك رابط الجأش عظيم الثقة بنفسه وحصر دفاعه في الكلمات القصيرة الآتية قال: (أولئك الأطباء المدبلمون كثيراً ما يخطئون ويكون في خطئهم القتل(69/41)
لمرضاهم، ذلك القتل الذي لا يقام له وزن. أما أنا فيجيئني المريض بعد ييأس يأساً تاماً من شفائه على أيديهم فيبرأ من سقمه ويشفى من علته فيتركني شاكراً مسروراً، ولم يشك مريض واحد إلى أحد بأن طريقتي أوقعت به أي أذى. فهل هذه الحملة إذن إلا حملة حقد وحسد؟) فكان في ذلك الإقناع كل الإقناع للمحكمة فخرج منها منتصراً. ثم سار على نهجه فحاز ثقة الشعوب جميعاً. وفي نظرنا أن كل الخير للإنسانية جمعاء، ولهؤلاء الأطباء أن يتشجعوا وأن يضحوا بشيء من تعصبهم وغرورهم في سبيل الصالح العام، وأن يمدوا أيديهم إلى ساحر جالزباخ فيصافحوه معتذرين عما فرط منهم، وفي يقيننا أنه لن يمتنع عندئذ عن أن يبيح لهم بسره الغامض وأن يطلعهم على أعماله وتجاربه ومخترعاته، فتتكاتف الأيدي جميعاً وتتوافر على دراسة الأشعة القصيرة والألكتروراديوم. فيخطو العالم الخطوة الحاسمة نحو استخدامها بدلاً من المشرط، ونحو إحلالهما في العلاج محل الأدوية والعقاقير وفي هذا ما فيه من خير ونفع
عبد الحميد فهمي مطر(69/42)
بين فن التاريخ وفن الحرب
5 - خالد بن الوليد في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي رئيس أركان الجيش العراقي
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)
خالد بن الوليد
ويختلف الرواة في الحركة التي جرت، فالأخبار التي يستند إليها الواقدي والبلاذري لا تبحث في غارة المرتدين على المدينة، ولا تذكر موقع ذي حسي، وتذكر أن أبا بكر لما علم أن القبائل اجتمعت في ذي القصة بقصد الغارة قرر أن يقاتلها في عقر دارها غير مبال بقلة عدده، وقصد من ذلك إرهاب المرتدين وإلقاء الرعب في قلوب العرب، وجعلهم يعتقدون أن المسلمين أقوياء وأن ذهاب جيش أسامة يقلل من قوتهم، فتقدم أبو بكر على رأس المقدمة الراكبة نحو ذي القصة يعقبه الكوكب (القسم الأكبر).
وبالنظر إلى رواية سيف أن الجمال بعد أن نفرت براكبيها، ودخلت المدينة بات أبو بكر ليلته يتهيأ للهجوم، فبعد أن رتب قوته خرج مبكراً من المدينة وباغت عدوه فهزمه شر هزيمة. والذي يلوح لنا أن الروايات الأولى هي الأصح. وكانت قوة المقدمة تبلغ مائة رجل، وسارت يومها وعسكرت مساء بالقرب من أجمة، فباغتها العدو من مكمنه وألجأها إلى الفرار، فاحتمى أبو بكر بالأجمة منتظراً ورود الكوكب (القسم الأكبر) ولما نادى أحد المسلمين بوروده انهزم المرتدون، فطاردهم المسلمون إلى ثنايا العوسجة ثم قفلوا راجعين إلى ذي القصة
ويذكر الواقدي أن أبا بكر لم يخرج إلى ذي القصة إلا بعد عودة جيش أسامة إلى المدينة، غير أننا لا نميل إلى رأيه، لأن مجرى الأخبار يدل على أن قوة المسلمين كانت ضعيفة لما خرجت من المدينة قاصدة العدو. ويزعم سيف أن بني ذبيان وعبس بعد هزيمتهم هذه وثبوا على من فيهم من المسلمين فقتلوهم، وحلف أبو بكر ليقتلن من المشركين في كل قبيلة، وليقتلن من كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين. وكانت وقعة ذي القصة والبقعاء أول(69/43)
نصر للمسلمين على المرتدين، ومنها تظهر فراسة أبي بكر وصلابة عوده.
لا بد أن القارئ انتبه إلى فساد خطة القبائل في محاولتهم غزو المدينة، إذ بدلاً من أن يجتمعوا في محل واحد للهجوم على المدينة أو أن يقاوموا جيش المسلمين معاً اجتمعت كل قبيلة في حيها، فاجتمع بنو أسد في السميراء، وفزارة في طيبة، وجديلة وغوث في طيء في جبليهما، وذبيان وعبس اجتمعت فرقة منهما بالقرب من الربذة والأخرى في ذي القصة والبقعاء.
والداعي لتفرقهم على ما يظهر أن المياه في كل محل من تلك المحلات لم تكن كافية لإرواء جماعة كبيرة، وكان الكلأ قليلاً فضلاً عن صعوبة اجتماع كلمة القبائل على غاية واحدة.
وكان قبل ذلك حلف بين بني أسد وغطفان وطيء، بيد أن قتالاً وقع بين غطفان وبني أسد من جهة وطيء من جهة أخرى فأمست القبائل متخاصمة. وكذلك كلمة طيء لم تكن مجتمعة فمال إلى المرتدين فرقتان منها فقط، وهما جديلة وغوث. أما الفرق الأخرى فبقيت على إسلامها. وكانت القبائل في قيامها على المدينة يراقب بعضها بعضاً، ولا تريد أن تكون البادئة بالعداء، ذلك ما جعل كلا منها يبقى في حيه ويراقب عمل الآخر
وقد اختبر الصديق حالة القبائل وتأكد أن كلمتها لم تجتمع، لذلك لم يشأ أن يؤخر جيش أسامة عن سفره، واكتفى برجال المدينة والموالين من القبائل القريبة منها وقد أيدت الوقائع رأيه. وبعد انتصار أبي بكر على القبائل في البقعاء قفل راجعاً إلى المدينة، ولما شاع خبر انتصار المسلمين على أهل الردة في أول قتالهم أخذت الصدقات تأتي من الأطراف بعد أن تردد أهلها في إرسالها، فوردت صدقات عدي بن حاتم من طيء وصدقات أخرى
وبعد مدة قصيرة عاد جيش أسامة من الشمال، فقرت به أعين المسلمين فلم يمهل أبو بكر المرتدين بعد أن بلغه أن بني عبس وذبيان أوقعت بمن فيها من المسلمين ومثلت بهم، وبعد وقعة ذي القصة أراد أن يفني من في الأبرق فأراح جيش أسامة بضعة أيام وخرج بالقوة التي سار بها إلى ذي القصة بعد أن أنجدها بالناس من جيش أسامة وتوجه نحو الأبرق، وفيه الفرقة الثانية من بني عبس وذبيان وبني كلاب وغيرهم
وقد ناشده كبار الصابة بألا يعرض نفسه للخطر بقيادة الجيش بنفسه إلا أنه لم يجب طلبهم.(69/44)
فبعد أن عبأ جيشه باغت المرتدين في الأبرق فهزمهم شر هزيمة وانسحبت فلولهم إلى السميراء والتحقت ببني أسد، ولما رأى طليحة الخطر انسحب بجميع القوات التي التفت حوله إلى بزاخة
وأقام أبو بكر في الأبرق وكان يملكه بنو ذبيان، فأعطى مراعيهم لخيل المسلمين وحرم بطون ذبيان منها.
تولية خالد بن الوليد قيادة الجيش
تدل الأخبار على أن خالداً أشترك في قتال ذي القصة والأبرق مع المهاجرين، ولاما رجع أبو بكر إلى المدينة انسحبت قوة المسلمين إلى ذي القصة، وتولى قيادتها خالد بن الوليد
وتذكر الروايات التي تبدأ بسيف بن عمر أن أبا بكر لما وصل إلى المدينة جمع رجالا من القبائل المجاورة للمدينة وأرسلها إلى ذي القصة لتقوية جيش المسلمين. ثم عاد إلى ذي القصة لتقوية الجيش وقسمه إلى أحد عشر فرقة، وعين قائدا لكل منها فوجهها إلى مناطق المرتدين في جزيرة العرب لقتالهم والقضاء على حركة الردة
وهذه الرواية التي يرويها سيف يصعب تصديقها وذلك:
أولاً - لأن قوة المسلمين لم تكن في عدد يكفي لتقسيمها إلى أحد عشرة فرقة
ثانيا - إن إيفاد فرق البحرين وعمان ومهرة وحضرموت واليمن قبل قمع الفتنة في قلب جزيرة العرب مسئلة فيها نظر.
ويمر طريق البحرين وعمان ومهرة ببلاد بني حنيفة، وفيها مسيلمة ثائرا، وهو معتصم في بلاده الوعرة. والحقيقة أن قوة جيش المسلمين لم تجاوز بضعة آلاف على ما ذكرناه في بحث تقدير قوة الفريقين. فجيش أسامة لم يجاوز ستة آلاف، أما القوة التي جهزها لمقاتلة من اجتمع في ذي القصة فلم تتجاوز الألفين. فتقسيم هذه القوات جميعا إلى أحد عشر قسما مما يجعل كلا منها ضعيفا بحيث لا يستطيع القيام بالواجب المنوط به. بينما الأخبار تؤيد أن جيش خالد بن الوليد وحده كان يبلغ أربعة آلاف رجل، ثن إن هناك أخبارا تؤيد حبوط هجوم فرقة عكرمة بن أبي جهل، وكذلك هجوم فرقة شرحبيل بن حسنة على قوات مسيلمة وانسحابهما إلى الوراء والتحاقهما بفرقة خالد بن الوليد مما يجعلنا نميل إلى الاعتقاد أن أبا بكر فكر قبل كل شئ في القضاء على حركة الردة في وسط جزيرة العرب، وجمع لذلك ما(69/45)
في يده من القوات المتيسرة وناط قيادتها بخالد
قوة الجيش:
إن الرواة على عهدنا بهم لم يرووا لنا مقدار قوة المسلمين التي احتشدت بقيادة خالد بن الوليد في ذي القصة. والمصدر الوحيد الذي يذكر لنا قوة خالد هو أبو حبيش، إذ يروي لنا أنها كانت تبلغ أربعة آلاف مقاتل حركته إلى بزاخة
وكان الجيش على ما سبق بيانه مؤلفا من القوة التي جمعها أبو بكر من القبائل المجاورة للمدينة على جناح السرعة الهجوم على المرتدين في ذي القصة بعد تهديدهم للمدينة، ومن القسم الذي التحق به من جيش أسامة بعد عودته إلى المدينة قبل الهجوم على الأبرق. ومن الواضح أن البعض منة تخلف عن الالتحاق ليقضى مدة من الزمن بين أهله بعد أن غاب عنهم مدة شهرين في سفرة إلى الشمال
والذي يظهر من رواية سيف أن أبا بكر لما عاد إلى المدينة أرسل هذا القسم المتخلف أيضا إلى ذي القصة. وبعد التحاقه أصبح جيش خالد أربعه آلاف أو أكثر. وكانت قوة الأنصار وحدها تبلغ زهاء خمسمائة مقاتل. أجل، إن هذا العدد ضعيف بالنظر إلى المهمة الخطيرة المنوطة به. إلا أن تجانس القوة في هذا الجيش وصلابة المعتقد فيه، وتفرق كلمة القبائل المرتدة جعلته أهلا للعمل
منطقه الحركات:
يحد المنطقة التي جرت فيها الحركات من الشرق، الدهناء، وهي الساحة الرملية الممتدة من الشمال الغربي إلى الشرق الجنوبي في شرقي القصيم. وكانت الدهناء ولا تزال المفازة التي تفصل أرض السواد (أعني العراق) عن بلاد نجد. ويحدها من الشمال جبل شمر أعني بلاد طيء المرتفعة التي تمد جبالها على ما سبق من الشمال الشرقي. إلى الجنوب الغربي، وأخطرها جبلا سلمى في الجنوب وأجا في الشمال، وفيها وديان كثيرة أجلها شأناً وادي حائل، وهو يبدأ من بزاخة طيء بشعاب متعددة، ويفصل الجبلين أحدهما عن الآخر حيث تنصب فيه عدة شعاب من الشمال والجنوب وتغمرة بالمياه في موسم الأمطار. وقد شيدت على جانبيه القرى التي ترتوي بمياه الآبار المنصرفة إليها من الجبال. ولما كان(69/46)
جبل سلمى وجبل رمان يشرفان على وادي الرمة من الجهة الشمالية، فالشعاب التي تمر بالأطناف الجنوبية تنحدر جميعا إلى ذلك الوادي. وهذة الأطناف هي الحدود الفاصله بين حي بني أسد وحي فزاره من بني غطفان، وقريتا فيد وطابه لبني طيء وهما على الحدود
ويحد منطقة الحركات من الغرب حرة خيبر، ومن الجنوب الهضبة المشرفة على وادي الرمة من الجنوب، وفيها بنو سليم في الشمال وبنو عامر في الجنوب. وموقعا العمق في الغرب ورابية أبان الأبيض في الشرق في أرض بني سليم
والوادي أرض منخفضة بين هضبتين مرتفعتين تنصرف إليه جميع المياه التي تنزل عليهما في موسم الأمطار. وإذا حفرنا الآبار في بطنه على عمق بضعة أقدام نعثر فيها على ماء كثير. والطريق التي تصل المدينة ببلاد القصيم تمر بهذا الوادي. بالقرب من سابية، ثم بالشقرة فالربذة بالقرب من الحناكية فالمشقق فبئر الطرفة، فإلى جنوب أكمة الخيمة حيث يدخل أرض بني أسد، ويمر بعد ذلك بين الأبانين: أبان الأسود في الشمال، وأبان الأبيض في الجنوب. والأسود في أرض بني أسد إلى أن يمر بشمال الرس وهو بئر ماء لبني أسد، فيصل إلى القريتين في بلاد قصيم، أعني العنيزة في الجنوب وبريدة في الشمال وكلتاهما في حي بني تميم
ويسكن يسكن بنو أسد في الساحة الواسعة التي شمال الوادي من جنوبي فيد وأطابة غربي السميراء والظهران والسليلة.
وفي غربي النقرتين نقرة السلاسل ونقرة الخطوط وجبل سارة. وفي أرض بني أسد يقع موقع الغمر وهو في رابية مرتفعة تشرف على وادي الغمر الذي ينبع من سفح جبل الموشم الشمالي ويف في الكهفة. وبالقرب منه تقع بزاخة بني أسد. وهي الموقع الذي نشبت فيه المعركة بين جيش خالد وجيش طلحة.
والذي جعلنا نميل إلى العتقاد بأن موقع بزاخة في هذا المحل هو ما ذكره ياقوت الحموي في معجمه نقلا عن ابن الكلبي. أما الأصمعي فيروي أن بزاخة ماء لطيء. وفي جبل طيء موقع آخر يسمى بزاخة. وعلى ما يظهر لنا من مجرى الحركات أن القتال بين المسلمين وبين المرتدين لم بقع في أرض طيء، بل وقع في أرض بني أسد بالقرب من الغمر، ولا سيما أن خالداً بعد انتصاره على طليحة وجه سراياه في جهات مختلفة مطارداً(69/47)
فلول المنهزمين. وهذه السرايا قاتلت المنهزمين في جبل رمان وفي الأبانين. ولا يعقل أن المعركة نشبت في بزاخة طيء والمطاردون يطاردون المنهزمين إلى رمان والأبانين، بل من المعقول أن تنشب المعركة في جوار الغمر قيشرد المنهزمون إلى أنحاء مختلفة، فينهزم بنو فزارة إلى حيهم في جنوبي الرمان وغربيه، وبنو أسد إلى الأبانين وإلى ظفر في جوار كهفة وإلى النقرة - أعني إلى حدود الحي
وفي منتهى الشرق بلاد بني تميم والقصيم على الحدود بين بني أسد وبني تميم. وهي من أغنى البقاع الواقعة في نجد، وتحدها رمال الدهناء من الشرق، وفي غربها مراعى الحزن، وفي شرقها مراعى الصمان، وكلتا البقعتين من أخصب المراعي وهما لبني تميم. وبنو يربوع في الحزن إلى وادي حائل، والصمان إلى بني حنظلة، وماء الطريفة في شمالي البريدة لهم أيضاً. والبطاح في جنوبي الحزن وفيه قرية بريدة وموقع البعوضة والقعرة، وهو مشهور بجودة الكلأ وفيه دارت الدائرة على مالك بن نويرة رئيس بني يربوع
ولا تزال إحدى ضواحي البريدة تسمى بالبطاح، والقصبة تتألف من أربع ضواح، وهي جردة وجديدة وشمال وبطاح.
وموقع النباج في حي بني تميم وهو المحل الذي وصلت إليه سجاح برجالها فقاتلها بنو تميم وكسروها، وهو واقع في الحزن على طريق الكوفة بعد الفيد
يتبع
طه الهاشمي(69/48)
قصه لؤلؤة
للأديب حسين شوقي
ولدت في أعماق المحيط الهندي، وكنت أقيم هادئة مطمئنة في مقصورتي الصدفية، إلا أنني سئمت الحياة التي كنت اقضيها على نمط واحد، واشتقت إلى مشاهدة العالم الآخر القائم فوق سطح الماء الذي طالما حدثتنا عنة الأسماك في دهش وإعجاب، ولكن أخواتي من اللؤلؤ أشرن عليّ بالصبر، زاعمات أن الإنسان سوف ينزل إلى الأعماق لينتزعني من خلوتي، لأننا معشر اللؤلؤ - على زعمهن - ذوات قيمه نادرة عنده، وقد صدقن في زعمهن، إذ نزل إليها ذات يوم زنجي ليأخذني من صدفتي، إلا أن الحوت افترس المسكين، ثم حاول زنجي آخر بعد ذلك بقليل أن يفعل فعله سابقه، ولكنه لم يدركني، إذ كنت في عمق سحيق فمات مختنقاً. . بعد هذين الحادثين لم يبق لدى شك في قيمتي بعد هذين الحدثين لم يبق لدى شك في قيمتي عند الإنسان، وأنا خاملة الذكر في البحر، لذلك ازداد شوقي إلى المشاهدة هذا العالم. . . ثم أتى زنجي ثالث مجدود استطاع أن يرفعني إلى سطح الماء، وهذا سلمني إلى رجل أبيض أخذ ينظر إلى في شره بعد أن انزع عني بسكينة الحاد صدفتي المسكينة!
وأراد زنجي رابع أن يسرقني من الرجل الأبيض، ولكن الأبيض داهمه أثناء السرقة فضربه بالسوط ضرباً مبرحاً مزق جلدة وأسال دمه. . يالخيبة أملي لو كان هذا هو كل ما يشاهد في دنيا الإنسان!.
سافرت بعد ذلك إلى لندن على متن باخرة فخمه. . وهناك قامت فتاة حس ناء بصقلي في دقه وأناة. . وبعد أن أنهت من عملها رفعتني بإصبعها، وأخذت تتأملي طويلا ثم تنهدت من الأعماق. فخشيت عليها أن تفعل فعله الزنجي السارق، لأن جلدها ناعم لا يتحمل السوط. أما أنا فكان بودي أن أتعلق بجيدها البلوري أو أعلق بيدها الناعمة. . .
ثم أخذني جوهري فعرضني في زجاج دكانه. . وكان المارة ينظرون إلى في إعجاب وفضول، وذلك ما أدخل على نفسي الزهو. . والواقع أنني كنت جميلة حقاً بلوني الوردي الذابل، ولا سيما بعد عملية الصقل التي قامت بها تلك الفتاة الحسناء. وقد لاحظت أن أهالي لندن فضوليون إلى حد بعيد، وقد يصح مثل هذا الفضول من جانبي أنا مثلاً إذ(69/49)
قضيت حياتي سجينة في صدفة. . أما من جانب الإنجليز فهو أمر مستغرب، وهم قوم رحل أفاقون. . وكان صاحبي الجوهري في الغالب يهودياً، لان انفه كان مقوساً، ثم إنه كلما وضعني في يده المجعدة، ضغط علي في قسوة وشره حتى كنت أخشى على نفسي الهلاك. وقد باعني ذات يوم إلى سيدة متقدمة في السن بربح وافر على ما أظن، لأنه جعل يفرك يديه طويلاً عقب إتمام الصفقة، وكانت نية هذه السيدة أن تصنع مني خاتماً. إلا أن ولدها وهو طفل (عفريت) في السابعة من عمره ابتلعني ظنا منه أني قطعة من الحلوى. فغشي على السيدة من الحزن، أكان ذلك من أجل ولدها أم من أجلي؟ لا أعلم، ولكني أرجح الثانية على الأخص بعد حادث الزنجيين اللذين ماتا في سبيلي. . .
وقد تناول الطفل مسهلاً قوياً أعادني إلى الحياة والنور. . . ثم انتقلت إلى يد أخرى كلها مرتعشة مجعدة. .
رب! كيف نظم هذا الوجود؟ كيف يكون الجاه والغنى عند العجائز والدميمات فقط؟
ولكن من حسن حظي وقعت في النهاية في يد فتاة أمريكية حسناء مثرية جدا، أعطيت لها في شكل خاتم قدمه شاب خاطب، وكانت الفتاة سعيدة بي. . فكم من رحلات شيقة قمنا بها - نحن الثلاثة - على متن طيارتها الخاصة، إلا أنه اتضح للفتاة يوما أن هذا الشاب يخونها، وأنه لم يخطبها إلا طمعا منه في ثروتها، لذلك ثار ثائرها: فألقت بي في وجهه، وكان ذلك أمام الباب الخارجي للدار الواسعة، فتدحرجت حيث اختبأت في حفرة مظلمة بالحديقة أنتظر من ينقذني، وأرجو أن يكون ذلك على يد فتاة جميلة
حسين شوقي(69/50)
تعليقات القراء على الرسالة
إلى الأستاذ الرافعي
للأستاذ علي الطنطاوي
سيدي:
أعرني هذا القلم السحري الذي تكتب به. . . لأصف لك الشعور الذي خامرني وإخواني هنا، حين قرأنا فصلك الأخير: قصة زواج. . . فما أدري والله كيف أصفع لك
وقد والله قرأناه مثنى وثلاث ورباع، وقد والله قطعتا القراءة مرة وثانية وثالثة، لأننا لم نكن نملك نفوسنا أن تفلت من قيود المادة، وتنفذ من بين السطور إلى عالم أسمى وأوسع، تطير في أرجائه لتحلق بهذه البلاغة العلوية التي تسمو بتاليها وتسمو. . . حتى تدنو من حدود العالم الكامل - عالم القرآن - وتريه تحقيق ما قاله سعد (بطل المشرق): كأنها تنزيل من التنزيل!
وقد والله خرجنا منها وكأننا لم نعرف عبد الملك أمير المؤمنين، وسعيداً سيد التابعين، إلا الساعة. . . فإذا أنت قد نقلت الملك والجلال من ذاك إلى هذا، وإذا مقالة منك واحدة، تغلب عبد الملك على جيوشه وأمواله وملكه، ثم تجرده منها، ثم تعرضه جسداً هزيلاً؛ وتمنح سعيداً على فقره وتواضعه، أسمى العظمة والهيبة والجلال. . . حتى يقول هذا: (أنا. . .) فترددها ملائكة السماء. ويقول ذاك: (أنا. . .) فتستحي أن تعيدها شياطين الجحيم!
وأقسم لقد سمعت هذه القصة وقرأتها، وحفظتها، وحدثت بها. وانحدرت بين أذني ورأسي ولساني عشرين مرة، ثم كأني لم أسمع بها إلا الآن. . . وكأني كنت فيها في ليل مظلم، فطلعت على مقالتك شمساً ساطعة؛ عرفت معها كيف تكون حصيات الليل لآلئ النهار. . . فما بالك بمن لم يسمع باسم سعيد؟ وما بالك بمن لا يعرف في الدنيا أدباً، إلا الأدب الذي يسقط علينا من باريس أو لندن أو بوسي أيرس؛ ولا يدري من البلاغة إلا أنها التي تلوح بين سطورها رؤس البنادق، وأفواه المدافع، وأجنحة الطيارات؟
ومثل أولئك كثير، فقد عابوك بالغموض، ورموك بالإبهام، وادعوا أن كتبك لا تفهم، ومعانيك لا تساغ، فلما ظهر أن في الغرب شاعراً فحلاً مذهبه الغموض فنًا من فنون الأدب تتمحل له الأسباب وتتلمس له الدواعي! فما الذي سيئة الرافعي حسنة بول فاليري، إلا أن(69/51)
ذاك من فرنسا وهذا من مصر؟
أما إن هذا الإيمان بالغرب إذا انتقل من الشيوخ إلى الشبان لم يكن إلا كفراً بالشرق وإلحاداً بالعقائد الشرقية، وجهلاً باللغة الشرقية، وخروجاً من الجلدة الشرقية. . . وإن عندنا في دمشق ندوة أرادت أن تعيب مجمعنا الأدبي، فلم تجد أبلغ في العيب من قولها: إن المجمع ثقافته شرقية، بل لقد (ضبطتنا متلبسين بالجريمة)، وأشهدت علينا أننا كنا نحمل كتباً صفراء. وكان الذي نحمله (شرح المواقف للسيد). ومثل هؤلاء لا يقرأون الأدب العربي إلا إذا صيغ هذه الصياغة
وعندنا إن هذه القصة بكل ما قرأنا في العربية من قصص ما يزال أكثر أصحابها ينشدون أدباً فرنسياً أو إنجليزياً بحروف عربية
وعندنا أنك إذا استكثرت من هذا النوع غطيت على خيام أهل الجديد ودورهم المبنية من الطين والقش، بقصر شامخ من الصخر يثبت ما ثبت الدهر
وعندنا أن مائة قصة من مثل هذه القصة، تنشئ الأدب العربي إنشاء جديداً، وتخرج من الشيخ الهم الفاني، الذي ينتظر الموت شاباً قوياً بهياً، جاء يستأنف الحياة بحنكة الشيخوخة. وتجعل من الأدب العربي أدبين: أدب أربعة عشر قرناً، وأدب الرافعي
ولست والله أمدحك لأتملقك وأتزلف إليك، وما بي بحمد الله رذيلة التملق والتزان، وإني لأنقم منك أحياناً. إنك تبالغ في الدقة، وتمعن في السبك الفني لمعانيك وألفاظك، حتى ما أكاد أفهم عنك، وإننا لنحفظ جملك هذه الغامضة، ونتنادر بها، على حين أنك تعرف من نفسك القدرة على أسهل الكلام وأوضحه، , وإن شعرك لين سائغ عذب كالماء
ولكني أمدحك، وما أجدني صنعت شيئاً، لأنك في نفسي أكبر من ذاك، إنك واحد من عشرة هم كتاب العربية في كل عصورها، إنك لسان القرآن الناطق.
فاقبل تحياتي وإكباري وشكري، وأسألك أن تزيدنا من هذا النوع من الأدب، وأن تستكثر من هذه الفصول الاجتماعية، وأن تعلم أن مقالاتك في الزواج كان لها من الأثر ما لا يكون لقانون صارم من ورائه السجن والغرامة. وإننا نحمد الله على أن جعل في العربية مجلة صاحبها الزيات، ويكتب فيها الرافعي
علي الطنطاوي(69/52)
عضو المجمع الدبي بدمشق(69/53)
من شعر الشباب
لا تباهوا
للأستاذ فخري أبو السعود
مَنْ لُمْلكٍ بات مهضوم الحمى؟ ... وتراث بات نهب الناهبين؟
ولأرض نام عنها أهلها ... تاركيها بين أيدي الآخرين؟
وتخلى قادة عن أمرها ... فاستوى المائن منهم والأمين
خيرها يخطي شعبا قانعا ... ويصيب الدخلاء الطامعين
كل من هبوا على الأرض سعوا ... يبتغون الرفد فيها والمعين
كلهم من عسكر أو عزل ... جند إذلال عليها يخطرون
أمنوا فيها فكانوا حربها ... ومشوا في ظلها مستهزئين
من لشعب فترت همته ... للذي يجري عليه مستكين؟
يتسامى كل شعب للعلا ... وهو يشقى في حماه يهون
ورأى حرية القوم دنت ... موردا لكنهم لا يردون
قيد الحرص من الشعب الخطى ... فهو بالعيش وإن ذل ضنين
ولو اعتزوا بعزم لعنا ... لاعتزام الشعب كيد الكائدين
ولدانت لهم آمالهم ... إنما الآمال بالعزم تدين
لا يطل منا بفضل أحد ... لا يعز الفرد والجمع مهين
لا تساموا درجات بينكم ... كلكم للغاصب العادي قطين
لا تباهوا بمغان رفعت ... هي للسكن قبور وسجون
أو بألقاب علا زائفة ... تتغالون بها مفتتنين
أو بأثواب عليكم نمقت ... أنتم أسرى بها لو تعلمون
حيثما راح ابن مصر أو غدا ... فهو في الأسر وفي القيد رهين
حرروا أعناقكم ثم أفخروا ... بحطام أو بجاه تملكون
ما ارتقاء ندعيه بيننا ... ونهوض وعلوم وفنون
يالشعب بات عن حرية ... غافلا يلهيه سفساف الشؤون(69/54)
تندب الحاضر نفسي وترى ... فيه وجه الغد مربد الدجون
عصف العصر اصطخابا حولنا ... وتفانى آله مشتجرين
وعلينا آل مصر حجب ... من بقيات الليل والقرون
ليت شعري - إذ تعالى بينهم ... صيحة في كل يوم ورنين -
أأفاق القوم من نومهم؟ ... أم مشوا في نومهم مختبطين؟
نحن نحيا في خيال ورؤى ... نحن في كهف عن الدنيا كتين
نحن - والدنيا اجتهاد ووغى - ... نهب لذات ولهو ومجون
صاح بعض بهراء وأحتمى ... بعضنا بالصمت عجزا والسكون
كثر القول وما أغنى الحمى ... عن دعاوى اللاغطين القاعدين
إنما يطلب من أبنائه ... عملا ينسخ قول القائلين
فخري أبو السعود(69/55)
الحياة الغالية
للأديب سيد قطب
بالأمسِ كنتُ أعيشِ نضْو تَرَقُّبِ ... أزْجِي حَيَاتي كالأجيرِ المتعَبِ
أرنو إلى الإصباحِ، ثم تُمجُّهُ ... نفسي، وأنظرُ كارهاً للمغربِ
وأحسُّ بالقفزِ الجديبِ يلُّفني ... فأعيشُ في ظُلَمٍ كقبرِ الغيهبِ
وَلَو إنما اختصِرتَ حياتيَ لم أكنْ ... أدري بما نقصتُ، ولم أتَعتبِ
وإذا تشابهتِ الحياةُ أقفرتْ ... كُرهت، فلم يُشعَرْ بها أو تُطلَبِ
واليومَ آسفُ للدقائقِ تنطوِي ... من عمريَ الغالِي الثمينِ الطيِّب
واليومَ أرقبُها وأرقبُ خَطْوِها ... فأعيشُها مِثلَينِ بعد تَرقُّي
وهي العميقةُ كالخلودِ وإنما ... تمْضيِ حثيثاً في خُطا المتوثَّبِ
وأودُّ أن لو أبطأتْ وتلَّبثتْ ... في خَطْوِها لبْثَ الوئيد الُمكثِبِ
تغلو الدقائقُ في حياةٍ خصبةٍ ... وتهون أعوامٌ بعمرٍ مُجدب!
الحبُّ فاضَ على الحياةِ بخصبه ... وأجدَّ عُمراناً بكل مُخَرِّبِ
وأزاح أستارَ الدُّجى فتكشَّفَتْ ... ظلماتُه عن كل زاهٍ مُعجِب
وكذلك تَحْلَوْ لِي الحياةُ وتُجتلى ... وتعزُّ ساعاتُ الغرامِ المخصب(69/56)
يا ثغر. . .
أتأذن يا ثغر في قبلة؟ ... فديتك يا ثغر بالمهجتينْ
فدتك البحار بمرجانها ... وعوذت درّك من كل عين
أريدك يا ثغر بشاً ضحوكا ... ولو كان فيك خداع ومَيْن
فانك مغرٍ وحق الجمال ... تغر بفتنتك الحسنين
فبالورد قد لُفَّت الشفتان ... فأصبحتا فيك ريّانتين
فباللهِ تأذن في قبلة ... وإن كنتَ سمحاً ففي قبلتين
فكل نعيم بهذه الحياة ... يُنال على تَيْنِك الشفتين
حسين شوقي(69/57)
العلوم
فكرة النظام الشمسي الحديثة
تغلب النظام الكوبرنيكي على النظام البطليموسي
بقلم فرح رفيدي
من البدهيات التي لا تستلزم حيرة الإنسان كثيراً هي أنا نرى الشمس تدور لأن الأرض تدور، ولولا ذلك لما كان ليل ونهار، ولكانت الأرض أبداً نصفين ثابتين، نصفاً مظلماً قاتماً، ونصفاً مستنيراً أبداً بشمس ثابتة
وهذا الذي قد نعتبره أمراً بدهياً اليوم، كان بالأمس سبب الشقاق وموضوع الحوار، وقبلة أنظار الباحثين من الفلكيين وغير الفلكيين. ومنذ مئة وخمسين سنة فقط كان الحوار قائماً على منبر جامعة هارفرد بأمريكا في إذا ما كانت الأرض تدور أو لا تدور، وكان من برنامج الجامعة نفسها أن تدرس الفكرتين المتناقضتين في وقت واحد. وقبلها بوقت قصير كانت جامعة باريس تؤيد الفكرة القائلة بأن حركة الأرض حول الشمس فكرة مناسبة إلا أنها خاطئة. فحداثة هذه الفكرة تدل على أن الفكرة اليونانية عن نظامنا الكوني لم تزل من قلوب الناس بإعلان كوبرنيكس لفكرته الجديدة، بل ظلت الفكرتان تتحاربان في عقول الناس إلى أن تغلبت إحداهما على الأخرى. وكان الانتصار الذي أحرزته الفكرة الجديدة انتصاراً نهائياً للحقيقة، وموتاً أبدياً للفكرة الباطلة التي شغلت عقول الناس بتناقضها وكثرة تعقدها
قبل أن يبزغ نور الفكرة الحديثة بألفي سنة كان فيثاغورس اليوناني يعتقد بحركتي الأرض اليومية والسنوية، غير أن هذا الاعتقاد قد قضى عليه أرسطو، ورفضته الكنيسة لمنافاته للدين المسيحي في العصور الوسطى، فمات قبل أن ينشر أو ينتفع به أحد، والكنيسة لم تقف عند حد رفض الفكرة وتحريم الاعتقاد بها، بل تعدته إلى تضحية كل نفس جاهرت بمعتقدها الحر، فأحرقت جيوردانوبرونو سنة 1600 لاعتقاده بعوالم عديدة في الكون غير عالمنا، وقاسى غاليليو ألواناً من العذاب لتأييده ما أقره كوبرنيكس. وكوبرنيكس نفسه كان محجماً طول مدة حياته عن أن يجاهر بعقيدته خوفاً من الكنيسة ومن أن يهزأ بفكرته،(69/58)
ولم ينشر كتابه عن النظام الشمسي إلا بعد أن مات
أول شئ جعل كوبرنيكس يطرح النظام البطليموسي جانباً ويجاهر بنظامه الحديث هو صعوبة الأول وتعقده، وعدم مطابقة الحجج الكثيرة للظواهر المشاهدة في الكون، وذلك ما يفقده ميزة الجمال والبساطة الطبعية. وليس بالأمر الغريب الذي جعل الفونس العاشر ملك قشتالة يقول لما رأى النظام اليوناني كما شرح له. (لو استشارني الله يوم خلق هذا العالم لكان الكون أبسط وأجمل مما هو عليه الآن). وقد أصاب شيشرون الروماني بوصفه الكواكب بأنها لم تكن سهلة التعبير، إذ هي تارة متأخرة، وتارة متقدمة بين النجوم. وقد نراها في بعض الأوقات سريعة، وفي غيرها بطيئة، وأحياناً في المساء وأخرى في الصباح، فهي لا تبقى على حال واحدة أبداً. واليونان أنفسهم أقروا بفظاعة أفكارهم وعسر تحليلاتهم، ولم يقدروا أن يتصوروا كوناً طبيعياً من صنع الإله الأكبر وفيه هذه المتناقضات والصعوبات الجمة التي شاهدوها في حركات الكواكب السيارة. فكان عندهم الكون ظاهره وباطنه وما فيه من أجرام مختلفة الحجم متباينة الضوء مثالاً للتكامل والتلاؤم. فشكل الكون كان كروياً كشكل أجرامه التي تحدث بدورانها دوائر مستقيمة متعادلة. ولأن الدائرة كانت أتم الأشكال الهندسية تلاؤماً، والكون متلائم ومتسق مثلها، كانت صفة تابعة لحركات النجوم ومداراتها. على أن محاولاتهم هذه من تفسير الكون كنظام يسير لتطبيق قواعد هندسية سطحية، لا كنظام خاضع لنواميس طبعية أصلية، أفسدت عليهم الأمر وكانت سبباً في تعقيد الفكرة وإخراجها بصورة يصعب على العقل تصويرها أو إدراكها. فكانت النتيجة أن قام كوبرنيكس بفرض نظرة أسهل على الفهم وأقرب للمنطق من الفكرة القديمة. فجعل فكرته سهلة التعبير، بسيطة خالية من الدوائر أو شبه الدوائر الموجودة في النظام البطليموسي
في سنة 1507 آمن كوبرنيكس بدوران الأرض حول الشمس، وكاد يذيع ذلك لولا خوفه من أن يتهم بالهرطقة والكفر. وذلك لأن الكنيسة حينئذ كانت تدعي أن الإنسان مادام أعظم المخلوقات في الكون، وغاية ما أبدع الله على صورته، وأن كل مخلوق ما عداه وجد له وله وحده، وما دامت الأرض هي موضع ذلك المخلوق العظيم ومكان الجبلة الممتازة المنفوخ فيها من روح الإله، فهي بلا شك مركز الكون، ومحور دورانه، ومركز انعكاس(69/59)
أضوائه من مختلف الجهات حولها. وإن من أخذته أدنى ريبة في ذلك فقد أهان الإنسان وحط من مقامه الرفيع بين المخلوقات ونال من كرامة الإله وقوته وجبروته، لأنه هو والإنسان صورة واحدة
رأى كوبرنيكس أنه إذا كانت الأرض ثابتة فإن كل شيء ما عداها يتحرك. أي أن الكون من كواكبه السيارة وغير السيارة في حركة دائمة حول نقطة ثابتة في مركزه، ونقيض ذلك هو دورة الأرض وثبات ما حولها، وإذا قابلنا بين الفرضين وجدنا أن الظواهر الناتجة من الثاني هي كالنتائج الظاهرة من الأول، بل إن الفكرة الثانية، أي دورة الأرض، أسهل للعقل وأخف على الفكر من الفكرة الأولى. لذلك افترض كوبرنيكس دورة الأرض كشيء أقرب للحقيقة وأصدق للتعبير عن مظاهر الكون من فرض ثباتها ودورة الكون حولها. وقد رأى مما يبرر اعتقاده بدورة الأرض، أن للكواكب السيارة شذوذاً في حركتها، وأن اختلاف هذه الحركات يبين أن الكواكب تدور حول مركز غير الأرض. فبما أنها تارة قريبة وتارة بعيدة عن الأرض، ليست مركزاً لدوائر حركاتها
أكد لبطليموس ثبات الأرض اعتقاده لأن الدوران يهدمها ويفتتها فتتناثر في الفضاء قطعاً. فهاجم كوبرنيكس هذا بقوله: إن دورة الكون السريعة حول الأرض يجب بناء على ذلك أن تفتت الكون كله في الفضاء، ولو سلمنا بدورة الكون بدون تفتيت، أليس من نتيجته أن يتسع الكون ويتمادى في الاتساع حتى تبتعد أجزاؤه عن مركزه؟ وهذا الابتعاد عن المركز يزيد بسرعة الكون وقوة دورانه؟ وذلك لاتساع حلقته ولزوم دورتها في مدة أربع وعشرين ساعة؟ ثم إن قوة الدوران أن تدفع بأجزائه أكثر عن المركز فيتسع وتزيد بذلك سرعته التي تعود فتزيد بتوسيعه وهكذا إلى ما شاء الله. وعلى ذلك تصبح السرعة متناهية ويمتد الكون إلى ما لانهاية له؛ فإذا كان كذلك غير محدود الأطراف فالحركة ليست من صفاته لعدم وجود متسع في الفضاء لإتمامها، ثم لو كان الكون محدودا ومتحركا فماذا يكون وراء الجليد؟ فإذا كان لاشيء فهل يمكن أن يكون شئ محاطاً بلا شئ؟ هكذا احتار كوبرنيكس في أن يعتقد بكون محدود متحرك، أو بكون متحرك غير محدود. والتناقض جلي بين الفكرتين. لم يدر كوبرنيكس ما إذا كان الكون محدداً أم غير محدود، ولكنه كان متأكداً من حد الأرض وإحاطتها بسطح كروي، وقد عرف أن الاعتقاد بحركة شئ محدود أسهل من(69/60)
الاعتقاد بشيء متناه غير معروف الحدود. فالأرض إذن حقيقة تدور، ونتيجة هذه الدورة في هذه الحركة الظاهرية في السماء التي نشاهدها ليل نهار.
قبل أواخر القرن السادس عشر سمع بالفكرة الجديدة (ثيخو ميراهي)، ولاشتياقه لمعرفة صحتها اعتزم عمل زيج جديد دقيق لحركات الكواكب، فبنى مرصداً ذا قبة متحركة، وعمل ربعاً قطره 19 قدماً، وكرةً تمثل الكون قطرها خمسة أقدام، فحصل بذلك على أرصاد دقيقة جداً. على أنه لم يتم ما أراد تحقيقه إذ مات في سنة 1601
أتى بعد ميراهي رجل ألماني اسمه يوهنس كبلر، وكان هذا بعكس ثيخو تنقصه الموهبة الميكانيكية. ولكنه كان ذا مقدرة كبيرة في الاستنتاج والتمييز بين حالة وأخرى، وجمع الحقائق بعضها إلى بعض لتكون نتيجة حقيقية واحدة. فما كان منه إلا أن أخذ نتائج أرصاد ثيخو في الكواكب، وصار يتأملها ويبحث فيها ويقابلها، حتى توصل إلى ثلاث حقائق أساسية في بناء فكرة الكون الحديثة:
الأولى: توصل إليها كنتيجة لسبعة أرصاد للمريخ في موضع واحد، وهي أن الأرض تدور حول الشمس، ليس بشكل دائرة كما أعتقد اليونان، بل بشكل منحرف قليلاً عن الدائرة يسمى قطعاً ناقصاً والشمس تقع في إحدى بؤرتيه
الثانية: المستقيم الذي يصل الأرض بالشمس يقطع في الفضاء مساحات متساوية في أوقات متساوية.
الثالثة: نسبة مربع زمن دورتين لكوكبين هي كنسبة مكعب المسافتين من الشمس. أي إذا كانت مسافة الكوكب الأول من الشمس م1 ومسافة الكوكب الثاني م2، وكان زمن دورة الأول حول الشمس س، وزمن الثاني ص فهذه الحقيقة هي كالمعادلة م1 2: م1 2: س3: ص3. وقد دل نيوتون فيما بعد بمعادلات رياضية وبالمقابلة أن هذه الحقائق الثلاث تنطبق لا على الأرض وحدها، بل على كل كوكب من كواكب المجموعة الشمسية، وقد عرفت بقوانين كبلر نسبة لمكتشفها العظيم
في العصر الذي كان فيه كبلر يجرب أن يوحد أجرام النظام الشمسي بقوانين أساسية ثابتة، ويحكم ظواهر الكون لمسبباتها الطبيعية، كان بعيداً عنه وفي بلاد بعيدة، رجل إيطالي منهمك في صنع تلسكوب جديد لينظر به سطح القمر، وليرى قوانين كبلر تعمل عملها بين(69/61)
المشتري وأقماره. في سنة 1609 صنع غاليليو أول تلسكوب، وفي سنة 1610 استطاع أن يرى سطح القمر ويميز الأماكن المرتفعة من المنخفضة فيه، وأن يظهر حقيقة المجرة كمجموعة كبيرة من النجوم الصغيرة المتقاربة من بعضها، والتي ترى لكثرتها كأنها جسم واحد
في مساء ليلة من ليالي يناير سنة 1610 أحرز غاليليو أعظم نصر عرفه النظام الكوبرنيكي على النظام البطليموسي، إذ رأى حينئذ المشتري وحوله أقمار أربعة تحوم حوله. وهذا ما يؤيد أن الأرض ليست هي وحدها صاحبة الكون ومركزه، بل هناك أجرام أخرى لها ذات الميزة التي اختصها بها اليونان الأقدمون. واستطاع غاليليو بذلك أن يسقط أهم دعامات النظام البطليموسي الذي يقول: إن الأرض وهي - أهم الأجرام في السماء وأقدمها وموطن أرقى المخلوقات والمسرح الذي مثلت عليه مأساة المسيح ابن الله - لابد أن تكون مركز الكون ومحور دورانه
ومن جملة الأسباب التي كان يحتج بها أرسطو في تأييد النظام القديم، وهو أنه لو فرض دوران الأرض حول الشمس، فإن عطارد والزهرة يجب أن يظهرا بأوجهٍ كأوجه القمر، وبما أنا لا نرى شيئاً من ذلك فدورة الأرض حول الشمس فكرة فاسدة، ولكن غاليليو لم يجب على ذلك قبل أن رأى في تلسكوبه أوجه الكوكبين واختلافها بحسب موقعها من الأرض، وهكذا سقطت دعامة أخرى من دعامات النظام البطليموسي، ولم يبق لذلك النظام إلا أن ينهار من أسسه التي لم تقدر على احتمال ضغط التجارب الشديد
منذ تلك الاكتشافات كان غاليليو سبب ثورة عاصفة من النقد والبحث والشك في أوربا. وكان الناس يتساءلون فيما قد تكون حقيقة هذا الكون الذي خدعهم ظاهره مدة طويلة من الزمن؟ وماذا عسى أن يحدث من حط عظمة الأرض والإنسان والخالق من مكانها الأول؟ وما الذي تجيبه عليه الكنيسة والتوراة دحضاً لهذه المظاهر الجديدة وتطميناً للنفوس الحيرى المضطربة. ذلك ما زاد قلق الكنيسة والبابا على ضياع النفوس من حظيرتها، فهبت تناصر القديم بالتوراة والدين، وتشددت في تعاليمها ورفضت كل معتقد غريب عنها، وحاكمت من الشعب كل من عصى أمرها أو أهان قدرها. وكان غاليليو أول من صبت جام غضبها عليه، فصادرت كتبه وأرغمته مرات على رفض معتقده والتمسك بما تقول(69/62)
الكنيسة، وحوكم وعوقب من أجل ذلك. غير أن وقفة الكنيسة هذه لم تخفه ولم يهب سطوتها، وقد جرب إقناع مناوئيه ببراهين منطقية وعملية على فساد فكرتهم، حتى أنه كثيراً ما كان يناقضهم بحجج من التوراة، وكان يقول لرؤساء الدين عن عملهم هو تعليم الناس كيف يذهبون إلى السماء لا كيف تدور السماء. بيد أن الكنيسة لم تعر ذلك سمعاً، وأبت عليه أن يقارعها الحجة بالحجة خوفاً على هيبتها ووقارها أمام الشعب
وأخيرا في سنة 1616 التأم المجمع المقدس في روما، وقرر رفض حركة الأرض رفضاً باتاً من تعاليمها وعد الاعتقاد بها هرطقة وعصيانا. وبعد ذلك بسنة أصدر البابا بولس الخامس أمره لغاليليو بألا يعتقد ولا يعلم ولا يدافع عن فكرته الجديدة. ومن بعض أتباع البابا وأصدقاء غاليليو من نصح له أن يفرض ما يعتقد به عن حركة الأرض فرضاً بدون أن يجزم بحقيقته. غير أن غاليليو ظل يشتغل حتى سنة 1632 عندما أظهر كتابه وفيه الحوار بين رجلين عن النظامين البطليموسي والكوبرنيكي، فسمعت الكنيسة به ومنعت بيعه، وأوعزت إلى محكمة التفتيش جلبه لروما، وهناك حوكم وهدد بالتعذيب إن عاد وجاهر بإنكاره، وحكمت عليه المحكمة أن يتلو كل أسبوع أمامها مزامير التوبة السبعة لمدة ثلاث سنوات، ولولا أصدقاؤه الكثيرون في روما لذهب ضحية أفكاره الجريئة
لكن برغم كل ما فعلته الكنيسة من إرهاب وتشديد، وبرغم كل ما أصدره البابا من أوامر تحريم وتعذيب، فأن الحقيقة ظلت سائرة في طريقها إلى الأمام، وما كانت لتختفي مرة إلا لتظهر للملأ بصورة أوضح وأروع من الأولى. وبدأت فكرة النظام الحديثة تتحقق تدريجياً في عقول معتنيقها، وتكبر وتتسع حول أساس جديد متين. وما زرع البذرة الأولى كوبرنيكس ونمت حتى أتى كبلر وغاليليو بعده وزادا في نموها وتحكيم أصولها في النفوس. ثم جاء نيوتون وربط أجزاء النظام الجديد بقانون الجاذبية العام. وأثبت صحة الحقائق التي استلمها عن غاليليو وكبلر ببراهين رياضية دقيقة، وظلت الفكرة تنمو وتتسع، والنظام الشمسي يكبر باكتشاف سيارات جديدة فيه كأورانوس ونبتون، حتى اكتشف نهائياً بلوتو في سنة 1930 وهو أبعد الكواكب السيارة عن الشمس. وكان ذلك خاتمة النمو المطرد في فكرة النظام الشمسي الحديثة، الذي ابتدأ من كوبرنيكس وبقي نحواً من ثلاثة قرون.(69/63)
فرح رفيدي(69/64)
البريد الأدبي
في دار لجنة التأليف والترجمة والنشر
في مساء الخميس الماضي أقامت لجنة التأليف والترجمة والنشر في دارها مأدبة عشاء شرقية فخمة احتفالاً بمرور عشرين عاماً على إنشائها دعت إليها أعضاءها وأصدقاءها وصفوة من وجوه الأمة ورجال الصحافة، فتوافوا إليها في الساعة الثامنة، ثم تحلقوا حول الموائد الكريمة الشهية يتجاذبون ذكريات المودة ويتساقطون أعذب الأحاديث، ويتمتعون بشعور الرضا عن اطراد النجاح لهذا العمل النافع المخلص. فلما فرغوا من الطعام وقف صديقنا الأستاذ أحمد أمين رئيس اللجنة، فألقى كلمة قيمة شكر فيها الحاضرين وألم بتاريخ اللجنة وأطوارها إلمامه وافية واضحة سننشرها في العدد القادم، ثم عاد القوم إلى السمر بعد أن وقفوا على سر هذا المجهود الموفق، وأدركوا أن بقاءه ونماءه إنما يرجعان إلى تجانس الميول فيه، وإخلاص النية له، ونبالة القصد منه، وقوة الإيمان به. وكانت فرقة هاوية من أعضاء نادي الموسيقى تفصل بين الأحاديث الحين بعد الحين بألحانها الساحرة، فأضافت إلى جلال العلم، وجمال الأخوة، بهجة الفن ونشوة الطرب؛ ثم انقضى السمر بانقضاء الهزيع الأول من الليل، وانصرف القوم مبتهجين بجمال الحفلة، مغتبطين بنجاح اللجنة، مثنين على جهود الأعضاء.
أزمة المسرح
يجوز المسرح اليوم أزمة حقيقية، وينظر المتشائمون إلى مستقبله في كثير من الجزع. وقد عقد أخيراً في رومه مؤتمر دولي برعاية الأكاديمية الإيطالية لينظر في شؤون المسرح والدولة، وشهده جمع كبير من أقطاب الكتاب المسرحين في مختلف البلدان. وخطب السنيور لويجي بيراند للو المندوب الإيطالي، فنوه بأهمية المسرح في تنظيم الحياة الاجتماعية، وقال بأنه الأعراب الأسمى للفن، وإنه يستطيع وحده أن يثبت الظواهر الخالدة لعصر من العصور. وتحدث الكاتب المسرحي الأشهر موريس ميترلنك عن أزمة المسرح فأنكر خطورتها، وقال بأن المسرح يشبه طفلاً مريضاً منذ مولده، وقد لا يصل إلى اكتمال صحته قبل مرور ألفي عام، أي بعد أن يكون قد استنفد كل أمراضه، وكل آلام نموه. وإذن فأن الحمى التي يجتازها المسرح اليوم ليست إلا مظهراً من مظاهر هذا التطور الطويل(69/65)
الأمد. ثم أن هذا العارض يرجع في الغالب إلى عوامل خارجية لا علاقة لها بالمسرح ذاته.
وقد عنى المؤتمر عناية خاصة بشؤون المسرح الدرامي، وبحث عدداً من مسائله الهامة، مثل ظروف المسرح الدرامي الحالية وعلاقتها بظروف المناظر المسرحية الأخرى، وخصوصا السينما، وهندسة المسرح، والمسارح العامة والخاصة، وفن المناظر والزخرف، وأثر المناظر المسرحية في أخلاق الشعوب، وعلاقة المسرح بالدولة، وغيرها. وقد أثارت هذه المسألة الأخيرة في المؤتمر كثيراً من الجدل، لأن جميع الدول الأوربية تحاول اليوم أن تضع لها سياسة خاصة للمسرح، وتحاول أن تجعل منه أداة تعبر عن المثل القومية العليا. ومنها من تحاول بواسطة المسرح إحياء التقاليد القديمة، ومزج الأساليب الحديثة بأساطير الماضي. وقد بذلت بالفعل جهود لتحقيق هذه الغاية بصورة عملية، فأسست معاهد للثقافة المسرحية، ولا سيما في روسيا والنمسا. وفي ألمانيا يغدو المسرح أداة حكومية. وفي هذه الوصاية التي تحاول الحكومات أن تفرضها على المسرح خطر على استقلال الفن يجب اتقاؤه
وتثير المسألة المسرحية اليوم كثيراً من الجدل، ويذهب بعض المتشائمين إلى القول بأن المسرح يحتضر. ولكن كثيراً من أقطاب المسرح يرون مثل موريس ميترلنك في هذا التصوير مبالغة كبيرة. وقد قرأنا أخيراً في جريدة (الفيجارو) مقالاً بديعاً للكاتب المسرحي الكبير هنري برنشتين، يقول فيه إن أزمة المسرح نغمة قديمة ترجع إلى عهد ارستوفان ذاته، وإنها ما زالت تتجدد خلال العصور المختلفة؛ وفي رأيه أن أزمة المسرح اليوم محلية ترجع أولاً إلى أسباب اقتصادية، أساسها شدة التنافس في بناء المسارح منذ الحرب، وضغط الحكومة على المسرح، وإرهاقه بالضرائب الفادحة، وثانياً إلى ندرة الموهبة الدرامية، وصعوبة العمل الدرامي
وهل نحن في حاجة إلى أن نذكر أن صدى هذه الأزمة المسرحية يتردد في مصر منذ حين، وأنها تفاقمت حتى غدت خطراً حقيقياً على المسرح المصري، بل لا نبالغ إذا قلنا أن المسرح المصري لا وجود له الآن
إحياء الأقصوصة الطويلة (الحكاية)(69/66)
كتب الكاتب الكبير بول موران فصلاً ممتعاً عن الحكاية فلاحظ أنها تمزج بالقصة وحمل على القائلين بأن الأقصوصة الطويلة إنما هي قصة من النوع الطويل، ولكنها أقل منها حجماً. ويرى بول موران أن هناك فرقاً جوهرياً بين النوعين، فالأقصوصة الطويلة صغيرة الحجم حقاً، ولكنها تخالف القصة من حيث الجوهر؛ ذلك أن القصة العادية لا يحدها حجم، وقد تطول أو تقصر فلا يغير ذلك شيئاً من موضوعها، ولكن حجم الأقصوصة الطويلة يفرضه موضوعها ذاته. وفي وسعك أن تترك الكتابة في القصة إلى حين ثم تستأنفها دون حرج، ولكن الأقصوصة إذا تركت على هذا النحو تصدع بناؤها
ويجب ألا تمزج الأقصوصة بالتصوير الموجز وقيمتها قبل كل شئ في نوعها، فهي عمل معتنى به وليست عملاً سهلاً سريعاً؛ أما قيمة القصة فهي ما تخلعه عليها مواهب كاتبها، وتخضع الأقصوصة لقوانينها الخاصة، وهي لم تتغير منذ عهد الأحياء. وموضوعها دائماً هو أن تعزل شخصية أو عملاً، وأن تجرده من ملحقاته، وأن تخرجه من الحياة. أما القصة العادية (الطويلة) فتحملنا إلى أفق خلقي محض، ولهذا كان الإنكليزي قصصياً (روائياً) مجيداً، أما الفرنسي فأنه لبراعته في التحليل يجيد كتابة الأقصوصة.
وقد تستطيع أن تكتب قصة طويلة دون التزام الذوق الحسن، أو دون موهبة وعبقرية، ولكن الأقصوصة الحسنة لا يمكن أن تكتب إلا طبقاً لأصول الفن؛ فللكاتب الذي له مواهب فنية لا يستطيع مطلقاً أن يكتب أقصوصة ذات شأن.
بين الدوتشي وجبرائيل دانونزيو
يقيم دانونزيو شاعر إيطاليا الأكبر منذ أعوام في قصره في (فتوريالي) على مقربة من بحيرة لوجانو، وقد ذاعت في العهد الأخير إشاعات كثيرة عن علائقه مع زعيم إيطاليا السنيور موسوليني، حتى قيل بأن الشاعر معتقل في قصره في الواقع وأنه لا يسمح له بالانتقال منه أو استقبال أحد فيه إلا بإذن خاص، ولكن الظاهر أن هذه الإشاعات حديث خرافة، وأن الصداقة التي توثقت بين بطل فيومي (دانونزيو) والدوتشي (موسوليني) لم تزعزها الحوادث. وقد زار السنيور موسوليني أخيراً صديقه الشاعر الكبير في قصره في فتوريالي زيارة خاصة مجردة عن كل صبغة رسمية، واستقبله دانونزيو بغبطة وحماسة،(69/67)
وتعانق الرجلان عند اللقاء، وصاح دانونزيو بصديقه. (ها قد أتيت أخيراً)، وكانت آخر مرة زار فيها موسوليني صديقه، منذ عامين حينما كان يزور تورنيو وميلانو محتفلاً بذكرى الثورة الفاشستية. وقد وفد موسوليني على الشاعر عند الغروب وتناول معه العشاء، واستمر معه حتى منتصف الليل؛ ثم ودعه مرتحلا إلى مدينة كريمونا التي أعلن منها الزحف على رومه سنة 1922، وكانت مهد الثورة الفاشستية.
مدام جولييت آدم
بلغت مدام جولييت آدم الكاتبة الفرنسية الشهيرة عامها الثامن والتسعين في هذا الشهر، ومدام جولييت من أعظم كاتبات فرنسا المعاصرات، ولدت سنة 1836، وعاصرت أقطاب الأدب الفرنسي في عصر الجمهورية الثانية والإمبراطورية مثل هوجو، ولامارتين، وبلزاك، والفرددي فيني، وموسيه، وجورج ساند، وكوبيه، وموباسان، وذاعت شهرتها منذ سنة 1860؛ وكانت تتمتع من جراء جمالها الباهر، ومواهبها الأدبية الممتازة في المجتمع الفرنسي الرفيع بنفوذ عظيم، وظهرت لأول مرة بروايتها الشهيرة (قريتي) ثم كتبت من بعدها عدة قصص وكتب نقدية؛ وأنشأت (المجلة الجديدة) سنة 1877 فلقيت نجاحاً عظيماً وظهرت بمواهبها الصحفية. وتعيش مدام جولييت آدم منذ نحو خمسين عاماً في أحد الأديرة التاريخية، في قرية (جييف سير فييت)، وما زالت تستقبل هنالك كل يوم أحد كثيراً من أصدقائها العظماء، وما زالت على رغم تقدم سنها تعني بالشؤون السياسية والأدبية عناية كبيرة.
وقد كان زعيم الوطنية المصرية المغفور له مصطفى كامل باشا على اتصال بمدام جولييت آدم؛ وكانت بينهما رسائل منظمة، يبدو فيها عطف الكاتبة الشهيرة على القضية المصرية، ونشرت ترجمة بعض هذه الرسائل في ترجمة المرحوم مصطفى كامل(69/68)
القصص
مهداة إلى الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
العروس
للأستاذ محمد سعيد العريان
لم يرقها اليوم أن تجلس إلى المرآة جلستها الطويلة، فدلفت إلى النافذة تنوء بهم ثقيل على صدرها، واتكأت بمرفقها على حافة المقعد، ثم أزاحت السجف وجلست ترقب الطريق. وصك أذنيها غناء المغنيات في بيت جارتها كريهاً نابياً كأنما ينعى إليها الشباب. .!
لقد جاوزت (إحسان) العشرين وما تزال قعيدة الدار، تنتظر الخاطب المجهول يدق الباب ليطلب يدها. أتراها لم تكن أجمل من فلانة وفلانة وفلانة؟ بلى، وإنها لخير منهن؛ ولكنهن تزوجن جميعاً وانتهى بهن القدر إلى المستقبل الذي تحلم به كل فتاة، وهي وحدها ما تزال تنتظر. .!
وأخذ الزمن يتراجع، كما تطوى سبيبة الخيالة فإذا هي ما تزال بنت السادسة عشرة؛ تزدهيها فتنة الجمال، وتسيطر على نفسها كبرياء الغنى، وتعبث بها أهواء الأنوثة الباكرة؛ وإذا هي بين أترابها في المدرسة - كما كانت - معقد المنى، وجوى الخواطر، وملتقى نظرات الغبطة، لم يجتمع لواحدة من رفيقاتها يومئذ ما اجتمع لها ما تفخر به الفتاة؛ فلم تكن لتشاركهن الحديث إلا على كبرياء وأنفة؛ وحين يجري حديث الشبان بينهن في همسٍ موسيقي مطرب، كانت تمط شفتيها في سخرية عابثة، ثقةً بأنها الفتاة المرموقة المشتهاة، كأن على من دونها من الفتيات أن ينتظرن ريثما تختار هي فتاها المجدود، ثم تترك لهن من بعد حق الأمل في الزوج الذي يشتهين. . .!
وكان لها من نشأتها وجاه أبيها ما يفسح لها في الأمل، ويمد لها أسباب المنى العريضة. ولكن أباها قد مات! أفينقص من شرفها وجمالها وثرائها أن أباها قد مات. . فأين الخطاب يزدلفون إليها ويزدحمون ببابها في طلب الرضا والقبول؟
إنها لرهينة الدار منذ سنوات خمس؛ فلا تبصر الطريق - على رغم عصريتها - إلا من خصاص النافذة، ولا تفارق محبسها إلا في ظل أمها الأيم العجوز؛ فلم تكن تعرف من(69/69)
الشبان غير أبن عمها (فريد). لقد كان فيما ترى مثال الشاب الذي يداعب خيالها. لم يكن قد أتم دراسته العالية بعد، ولكنه أتم الرجولة؛ وكان على فقر من المال، ولكنه على غنى في النفس، وكمالٍ من الأدب والفضيلة. وكم كانت تعجب برجولته ونبله! ولكنها لم تكن تسمح لنفسها أن تمنحه أكثر من الإعجاب. آه لو كان على سعة من المال. . . لتمنت أن يكون زوجها الذي تقاسمه الحياة. . . من أين له أن يهيئ لها أسباب الرفاهية التي تشتهي. . .؟
لم تكن تدري أنها تحبه إلا يوم جاءها البشير أنه خطب لنفسه فلانة، فأغلقت من دونها الباب وجلست وحدها تبكي ما ساعفتها الدموع. ولم يكن يدري أنه يحبها إلا يوم زارها من بعد، فإذا في عينيها تساؤل وجواب، وعلى شفتيها ابتسامة ذابلة، ثم إذا هي تفر فتضرب الحجاب بينها وبينه، خشية أن يرى على وجنتيها علامة التأثر ترسمها الدموع. . .!
ولكم تمناها لنفسه وبات يرعى خيالها ليالي طويلة، ولكنه كان يزجر نفسه أن تؤمل الزواج من إحسان؛ وأين فقره وإقلاله من غنى إحسان. . .!
ومسحت الدموع عن وجنتيها، وقالت تعزي نفسها: (لقد تزوج فريد، فما أسفي على زواجه؟ إنني لجميلة، وإنني لغنية، وإن الشبان ليسرعون إلى ذوات الجمال والمال) وطافت برأسها أحلام، وزينت لها دنيا بهيجة من الخيال أفعمتها أنسا وسعادة؛ واستنامت إلى المنى، تصبح وتمسي حالمة بالخاطب المجهول
وتصرمت الأعوام عاماً بعد عام، وإحسان تعيش من أحلامها في رضا وقناعة؛ وحسبها من مسرات الشباب أنها توقظ كل يوم واحداً من شباب أحلامها تساقيه المنى وتبادله الحب، فإذا انتبهت من أحلامها السعيدة فإلى حين، كأنما هي من حبيبها على ميعاد
وأخذت زهرات الربيع تنتثر أوراقها داميةً على الشوك، لأن البستاني يحول أن تمتد إليها اليد التي تشعر أنها جميلة؛ ولكن بقيت على ثغر الزهر ابتسامته الناعمة، لأنه من أحلامه على رضا وقناعة
لشد ما كان يعجب شباب الناحية بإحسان! فما يحلو لهم سمر إلا الحديث عن جمالها وفتنتها، وما يطيب لهم مجلس إلا بذكر كمالها وشمائلها؛ ولكنها على ما حلت من نفوسهم أكرم منزلة - لم تبلغ أن تكون موضع الأمل عند واحد منهم أن تصير زوجته. لقد تقاصرت دونها المنى؛ من إبائها، وغناها، وحرص أهلها على التقاليد(69/70)
ومن أين لغير القليل من الشبان أن يرضى مطامع إحسان؛ من أين له (المعجزة المالية) ليؤدي لها المهر الذي ترضاه، وينفق في أكلاف العرس ما يرضي التقاليد؟
وطالت الأيام على العذراء الحالمة، وبدأت تمل وحدتها الفارغة، وأخذت تسئ الظن بجمالها وفتنتها. ولم تجد غير المرآة تبثها خواطرها، فتعودت الجلوس إليها الساعات كل يوم، تبادلها الرأي فيما تظهر به جميلة جذابة؛ لعلها أن تجد بالجمال المصنوع رجلها الذي تحلم به. . .
أفتستطيع المرآة أن تمنحها الزوج إن منحتها الجمال؟. .! واستيقظت من أحلامها حين توالت عليها الأنباء بأن صواحبها اللاتي كانت تسخر منهن وتزهى عليهن بمالها وجمالها - قد تزوجن واحدة بعد أخرى، واستقرت بهن الحياة في بيت الأمومة
وهذه صديقة أخرى تتزوج. لقد طالما هزئت إحسان من (خديجة) جارتها وزميلتها في المدرسة؛ وما أكثر ما كانت تركبها بالدعابة الثقيلة والنكات اللاذعة حتى تطفر من عينها دموع الذلة والانكسار! لم تكن خديجة في مثل جمال إحسان، ولا لها قليل من جاه أبيها أو ماله؛ ولكن، هاهي ذي تتزوج وتعزف لها الموسيقى، وإحسان ما تزال تنتظر. . .!
وانقطعت سبيبة الذكرى، فأفاقت إحسان من غفلتها، وراحت تمسح الدموع عن وجنتيها بأطراف السجف وتنظر الطريق وأخذ عينيها بريق الكرات الملونة مدلاة من حبالها، يتلاعب بها الهواء تلاعب اليأس والهم بنفسها؛ واضطربت في مرأى عينيها الرايات الخضر، اضطراب أوراق الشجر هبت عليها رياح الخريف. . .!
لقد كانت وحدها في البيت، فلم ترافق أمها إلى بيت خديجة لتزف إليها التهنئة. منذ أمس، حين زارتها صديقتها داعية، وهي لا تستقر على حال من لذع الغيرة وألم الحرمان! وقدرت - إن هي أجابت الدعوى - أنها ستكون بين المدعوات موضع السخرية والإشفاق؛ وما تحب أن يسخر منها أو يشفق عليها أحد. . .!
ومر من تحت النافذة فوج من الشباب يقصدون بيت العروس، وراحت إحسان تختبر فراستها، لعلها أن تعرف زوج صديقتها من بين هؤلاء. أفكانت تريد ذلك حقاً؛ أم هي تريد أن تعرف من بينهم رجل أحلامها الذي صحبته في الوهم سنوات. .؟
وزفرت زفرة خافتة، وراحت تحصي سنيها التي عمرتها على الأرض. يا ويلتا! اثنتان(69/71)
وعشرون سنة. . .! لقد تزوجت أمها في الثالثة عشرة، فلعل إحسان لو تزوجت في مثل سن أمها - كانت موشكة أن تصير جدة. . .! وركبها اليأس، واصطلحت عليها الأفكار السود، ولم تجد لنفسها طاقة بالوحدة بعد؛ فأزينت وأسرعت إلى بيت العروس تتفرج. . .
وهاجت أحزانها مظاهر الفرح، وبهرتها الأنوار البراقة، ولدغتها ثعابين الغيرة من عناقيد الزهر متعانقة متشابكة، ورنت في أذنيها ضحكات النساء كأن قلباً من الزجاج ينكسر. وانتظم النساء حلقات - على عادتهن - يتهامسن عابثات ضاحكات؛ فوقع في نفسها أنهن يتهامسن في شأنها، فانطوت على نفسها في زاوية من البهو تحاول إلا تتحدث إلى أحد، أو يتحدث إليها أحد. وخيل إليها أن التمنيات التي توجهها إليها صواحبها - سخرية وشماتة. . .
(العقبى لك.) ما أحراهن أن يترجمنها إلى اللغة الصريحة فيقلن: (الرحمة والرثاء لك أيتها العانس المسكينة. . .!) وأديرت - على برد الخريف - أكواب الشراب المثلوج، ووزعت الحلوى في العلب المذهبة الثمينة، وتزاحم النساء يتخاطفونها كأنما يقتضين الأجر على ما شرفن العروس بالحضور للتهنئة. . .! ورأت إحسان أنها لم تتفرج مما بها ولكنها زادت هما على هم، فأسرعت عائدة إلى الدار
ولم تنم المسكينة ليلتها، ولكن أخذتها إغفاءات متقطعة تتخللها الرؤى والأحلام. وعاد تفكيرها في الزواج بعض عملها اليومي، ولكنها لم تعد تفكر في الرجل - إذ تفكر في الزواج - أكثر مما تفكر مظاهر الاحتفال، وزينة العرس؛ وفيمن تدعو ليشاركها الفرح من نساء المدينة وشبان المدينة؛ كانت تفكر في الانتقام لكبريائها التي زعمتها ديست يوم عرس خديجة. سيكون احتفالاً خيراً من احتفالها، وسيزين البيت أروع مما أزين بيتها، وسيجتمع لها من سراة المدينة ووجهائها من لم يجتمع لعروس قبلها. ستحاول يومئذ أن تسعر الغيرة والحسد في قلوب كل صواحبها، أكثر مما كانت تسعرهما بكبريائها وتيهها عليهن وهي ما تزال صغيرة تطلب العلم معهن في المدرسة، أو تشاركهن اللعب في فناء الدار. . .!
كان العام قد استدار، وأخذت زهرات الربيع تتفتح ويضوع أريجها في الجو، ولكن قطرات من الندى كانت تبللها كدمعة الحزن في وجه عذراء مستحيية. . . ولكنها تبتسم؛ أكانت تصطنع الابتسام لتخفي عن الناظر بعض ما في صدرها من هم، أم كانت هذه دموع الفرح(69/72)
على وجنتيها. . .؟
وأطل الفتيات من النوافذ يتعرفن خطيب إحسان خارجاً من دارها في جماعة من أهله؛ ورأين بضعة من الرجال عليهم سيماء السراة من أهل الريف، في جلابيبهم الفضفاضة ومعاطفهم السود، يلوون ألسنتهم بالحديث في لهجة جديدة على أهل الحضر. وبينهم (أفندي) واحد يبدو من مظهره، ونظام لباسه أنه وإن عاش في المدينة طويلاً - ما يزال بعض أهله
وقالت فتاة لأختها: - (أهو هذا؟)
- (بل هو ذاك)
ولم يكن هذا ولا ذاك؛ ولكنه خرج بعد انفضاض الجمع، يتوكأ على نفسه من ثقل وبدانة حشو ثيابه الغالية، يلوك بين شدقيه لساناً يتفقد بقايا الطعام بين أضراسه، ولم يخف ميل طربوشه أثر الوشم في صدغه
وقالت فتاة:
- (إنه لهو؟)
فأجابتها صاحبتها بابتسامة
وبرق الماس في إصبعه، ورف الذهب من سلسلة ساعته، فقالت الفتاة:
(إنه لغني. . .!)
وكان الحفل الحاشد بعد أيام، فاجتمع فيه من مظاهر البذخ والغنى ما لم يتهيأ لسكان الحي أن يشهدوا مثله منذ أعوام؛ فأقيمت المقاصف، ووزعت الهدايا، ودقت الطبول، وعزفت الموسيقى، وتجاوبت ألحان المغنين والمغنيات بين فناء البيت وأعلاه، وتناثرت نجوم الكهرباء تنقل إلى الأرض بعض معاني السماء، وعبق أريج الزهر يحمل إلى أهل الحياة أنفاس أهل الجنة. . . وإحسان في مجلسها راضية ناعمة، تشرف من علٍ على الحفل وزينته فخوراً مزهوةً
لقد كانت فرحة الزواج عندها أن تشهد لنفسها مثل هذا الحفل، وقد شهدته على أكمل ما أبدعته في خيالها؛ وبلغت مأملها في الظهور على صواحبها بما يتقاصرون عنه من بذخ وإسراف. أما الزوج، أما الرجل الذي سترتبط إليه ويرتبط إليها فلا فكاك مدى الحياة، أما(69/73)
رجل أحلامها الذي أحبته زماناً من طول ما صحبها في الخيال - أما ذاك، فما عليها أن تظل نائمة تحلم ما دامت قد انتقمت لكبريائها الجريح
لم تفتش المسكينة عن الرجل الذي سعدت في الوهم بصبحته، وذاقت معه على البعد نعيم الحياة، وتنورت من فكرها فيه عالم الحب ودنيا الجمال. . . وراحت تفتش عما يرضي الناس ويطلق ألسنتهم بالإعجاب. . .
وباعت سعادة العمر؛ واشترت سعادة ليلة. . .!
محمد سعيد العريان(69/74)
الكتب
هبة الأيام فيما يتعلق بأبي تمام
تأليف الشيخ يوسف البديعي قاضي الموصل (1073هـ)
نشره وعلق عليه الأستاذ محمود مصطفى
أهدي إلى زميلي الأستاذ محمود مصطفى كتاب (هبة الأيام فيما يتعلق بأبي تمام) من تأليف الشيخ يوسف البديعي قاضي الموصل المتوفى سنة 1073هـ، وهو كتاب عثر عليه الأستاذ محمود مصطفى المدرس بكلية اللغة العربية من كليات الجامع الأزهر في محفوظات دار الكتب المصرية، فأعجبه منه جريه على طريقة القدماء في دراسة الأدب من التنقل بالقارئ من خبر مستطرف، إلى معنى مستظرف، وإلى فكاهة بارعة، إلى حكمة رائعة. فمدار الكلام عنده على أبي تمام، ولكنه إذا ذكر قوة حفظه عرض لكثير ممن عرفوه بهذه المنقبة، فروى من أخبارهم ما يروي صدى المتأدب؛ وإذا ذكر مدحه لأحمد بن أبي دؤاد مثلاً عرج على حياة هذا الممدوح، فجلاها للقارئ بما لا يترك في نفسه من حاجة؛ وإذا مر بمعنى له تناوله الشعراء سرد من أقوالهم فيه ما يشبع نهمة النهم من طلاب الأدب. وهكذا جرى في كتابه من أوله إلى أن فرغ منه، وهذا عمل يثير الإعجاب حقيقة من عالم في هذا القرن الحادي عشر من القرون الهجرية، وهو من القرون التي طغت العامية فيها على العربية، وأصبح العلماء لا يحسنون فيها التأليف بالعربية الفصيحة، فكيف بهذا النوع من التأليف في الأدب والموازنة والنقد؟ ومؤرخو الآداب العربية يكادون ينسون الشيخ يوسف البديعي وأدبه في وسط تلك الظلمة القادمة، التي غطت على الأدب العربي في تلك القرون المظلمة.
فكم أحسن الأستاذ محمود مصطفى بلفت الأذهان إلى أدب الشيخ يوسف البديعي، حتى لا تطغي عليه تلك الظلمة، ولا ينسى مؤرخو الآداب عمله في وقت لم يكن لغيره عمل يذكر فيه.
وكم أحسن في تعليقاته على هذا الكتاب إذ تابع مؤلفه في طريقته، فعرف قارئه بالرجال الذين عرض لذكرهم ولم يعرض للتعريف بهم، وشرح ما وقع فيه من أشعار أبي تمام(69/75)
وغيره، ولم يكن المؤلف يعني إلا بشرح القليل منها، لأنه لم يؤلف كتابه لذلك وإنما ألفه لتلك الأغراض السابقة.
وللأستاذ محمود مصطفى في شرحه طريقة تليق بوظيفته الجامعية، فهو يعني فيه بشرح المعاني الأصلية للكلمات وما خرجت إليه من مجاز أو كناية، ثم يستخرج من ذلك معنى البيت وينقده إذا رأى أبا تمام قد خرج به عن الجادة، فتكلف في الصنعة، أو ركب الشطط في مجازاته؛ وقد يجعل من نقده إطراءه إذا جمع موجبات الحسن في شعره، وهي كثيرة فيه، ولم يفته مع هذا أن ينقل من آراء الأقدمين الذين نظروا في شعر أبي تمام من الآمدي والجرجاني وغيرهما، ثم يعقب على ذلك برأيه فيوافقهم تارة فيما رأوه في شعره، ويخالفهم تارة أخرى فيه.
وقد جلونا بهذا كتاب هبة الأيام للقراء، وعرفناهم قيمة عمل الأستاذ محمود مصطفى فيه، وأدينا بذلك حقه علينا كأثر من أحسن الآثار الأدبية، وبقي لنا عليه أشياء أردنا للزمالة إلا نعرض لها، وأراد الأستاذ محمود إلا أن نطلق لقلمنا العنان مقرظين أو ناقدين، وإننا نكتفي عما عندنا بهذين النقدين
فالأستاذ محمود في قول أبي تمام:
وإذا مشت تركت بصدرك ضعف ما ... بحليها من كثرة الوسواس
يرى فيه استخداماً طريفاً حسنا، لأن أمثلته قليلة في العربية، والاستخدام عنده في أن الوسواس يطلق على صوت الحلي، وعلى حديث النفس بما لا خير فيه، وقد أراد المعنى الأول في كلمة الوسواس الظاهرة في البيت، وأراد الثاني في الموصوف المحذوف في قوله (ضعف ما)، ولا شك أن هذا ليس من الاستخدام في شيء، وليرجع الأستاذ إلى تعريف الاستخدام وأمثلته في كتب البلاغة، فسيرى أن هذا لا يشمله تعريفه، ولا يشابه أمثلته. وكذلك نخالف الأستاذ محموداً فيما صنعه في قول أبي تمام:
أزرين باْلمُرْدِ الغطارف بُدَّناً ... غيداً ألفتهمُ زماناً غيدا
إذ يريد أبو تمام أن يفضل الجميلات من النساء على أرباب الجمال من أولئك الغلمان الذين افتنن بهم الشعراء، وتغزلوا بجمالهم في عصره وقبل عصره، فلا يرضي هذا صاحبنا، ويقول إنه لم يؤلف أن يقال إن المرأة الجميلة تزري بالرجل الجميل، مع أن أبا تمام لم(69/76)
يعن في شعره هذا، وإنما عنى أولئك الغلمان الذين غطى التغزل بهم على التغزل بالنساء في ذلك العصر، ثم يختار الأستاذ أن يقال إن مراداً جمع مرداء، وإن غطاريف جمع غطريفة، وإن لم يرد ذلك في اللغة، فيكون خطأ من أبي تمام فيها، ولا أدري كيف نحمله هذا الخطأ، ومعناه على ما تعطيه ألفاظه في حدودها اللغوية واضح لا شيء فيه، ولله العصمة وحده.
عبد المتعال الصعيدي(69/77)
خلاصة تاريخ مصر الحديث
من الحملة الفرنسية إلى الوقت الحاضر
تأليف الأستاذ محمد الحسيني رخا
هذا الكتاب الصغير الذي يشمل منهاج السنة الرابعة الابتدائية، من وضع عالم كبير قضى سنوات طويلة في خدمة التعليم في أدق مناصبه من ناظر بالمدارس الأميرية إلى مفتش للآداب بالمعاهد الدينية، فلا عجب مع ذلك أن يكون كتابه هذا على ما هو عليه من الدقة العلمية، وحسن الترتيب. ولقد كان هذا الكتاب أحد الكتب الثلاثة التي فحصتها وزارة المعارف، ووافقت على صلاحيتها في المباراة التي أعلنت عنها في عام 1932 وتقدم للاشتراك فيها عدد كبير من المؤلفين.
وليست تقاس مهارة المؤلف هنا بما يحتوي عليه كتابه من المعلومات والوثائق كما هو الشأن في الكتب المطولة، وإنما تقاس مهارة المؤلف بمقدار نجاحه في تسهيل تلك المعلومات وصوغها في عبارات تناسب تلك السنة الدراسية، وربط أجزاء المنهاج بعضها ببعض بطريقة فنية تضمن تحقيق الغرض المنشود من تدريس التاريخ. ولقد وفق الأستاذ الفاضل مؤلف هذا الكتاب توفيقا يغبط عليه، فصاغه في صورة تحببه إلى الطلاب وتحبب إليهم موضوعه، كما أنه اهتم بحسن الطبع واختيار الورق فجاء كتابه متقناً من جميع نواحيه. وإني لأحمد لهذا المربي الفاضل جميل صنعه، وأقدم كتابه إلى طلاب السنة الرابعة الابتدائية مع مزيد الاغتباط
الخفيف(69/78)
الفاروق عمر بن الخطاب
بقلم دياب عثمان العرابي
المتخرج في دار العلوم
كان سروري عظيماً حين ألقي إلي هذا الكتاب، الذي خصصه مؤلفه الأستاذ دياب العرابي لدراسة حياة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لاتجاه أدبائنا إلى تاريخ عظمائنا يتخذون منه المثل العالي والقدوة الحسنة، والكتاب يقع في نحو مائتين وستين صفحة من القطع المتوسط
تكلم المؤلف الفاضل عن حياة عمر في الجاهلية، ذاكراً نسبه ووصفه ومنزلته في قومه، ثم تكلم عن دخوله في الإسلام، وعن حياته في عهد الرسول ومواقفه المشهورة إلى جانبه صلى الله عليه وسلم، ثم تكلم عن عمر يوم السقيفة ومبايعته لأبي بكر، إلى أن تم له أمر المسلمين فتكلم عن فتوحه وأعماله وإصلاحاته في الدواوين وموقفه من عماله وموقفه من بيت مال المسلمين، ثم شرح حادث مقتله وبين تحوطه للخلافة ووصايته قبل وفاته
وهو بلا شك بحث ممتع ينظم هذا الكتاب في سلك المؤلفات التي تملأ قراءتها القلوب غبطة والنفوس عظة، والتي تؤثر من الوجهة الخلقية تأثيراً قوياً في نفوس القراء صغارهم وكبارهم
بيد أني، على الرغم من سروري بتلاوة هذا الكتاب واستمتاعي بما جاء فيه من حوادث ومواقف رائعة، لا أقر الأستاذ المؤلف على بعض نقط فيه، كإسهابه في وصف الفتوح وتعرضه لتفاصيل جعلتني عندها أتسأل: هل يدور الكتاب حول تاريخ الدولة العربية أيام عمر، أم هو يدور حول دراسة عمر نفسه؟ ولو أن الأستاذ وجه اهتمامه الأكبر إلى بسط أخلاق عمر واتخذ من أعماله مع الاكتفاء بالإشارة إليها أمثلة لما يقول لكان كتابه أكثر لذة وأقرب إلى الغرض. على أنه في وضعه هذا وما احتوى عليه من حوادث ومواقف مشهورة من حياة عمر جدير بأن يحرص على قراءته والاستفادة منه كل أديب. والحقيقة أن المؤلف قد أتى فيه على طائفة من العبر القوية، والأخلاق العالية، والحوادث الشيقة مما يجعلك تنسى التأليف وطريقته، وتندمج اندماجاً تاماً في تلك الشخصية العظيمة التي يدور حولها الكلام، بحيث تفرغ من قراءتك وأنت تحس إحساساً شديداً بالغبطة والارتياح.(69/79)
الخفيف(69/80)
العدد 70 - بتاريخ: 05 - 11 - 1934(/)
يا هادي الطريق جُرت!!
ذلك هتاف الأمة الحيرى، يتجلجل في صدرها المكظوم كلما بهرتها الشدائد، وأجهدتها المفاوز وفدحتها الضحايا، ووقف بها اللغوب، ودارت ببصرها في معامي الفضاء فلا تتبين نسما لطريق ولا تتعرف وجهاً لغاية
يا هادي الطريق جرت!!
ذلك صراخ القافلة المكروبة، تخبط منذ طويل في مجاهل الأرض وخوادع السبل، وإدلاؤها الغواة يلتهمون زادها مع الوحش، ويتقسمون مالها مع المغير ويغتنمون ضلالها مع الحوادث حتى قطعوها عن ركب الإنسانية وتركوها في مطاوي التيه تنفق جهدها على غير طائل وتنشد قصدها من غير أمل
يا هادي الطريق جرت!!
ومن يستطيع اليوم أن يعَّرف هذا الهادي بالنداء، أو يخصصه بالوصف، أو يأخذه بالتبعة؟ لقد تعدد الهداة في هذه القافلة! واختلفت الشياطين بين هؤلاء الهداة فتنازعوا الزعامة وتجاذبوا الأزمة فأخرجنا هذا من مذهب إلى مذهب، وصرفنا ذاك من مطلب إلى مطلب، حتى إذا انكشفت عن عيوننا أغطية الغفلة وجدنا أنفسنا بعد الجهد الجاهد ندور حول الموقف الذي كنا فيه أو نرجع إلى الموضع الذي فصلنا عنه!
على هذه القيادة المتضاربة الأفينة رجعنا القهقري زهاء ثمانين سنة: رجعنا إلى العهد الذي كنا نهدهد الدستور فيه على هوى السلطان المطلق، وندرب القانون على مصارعة العرف الغالب، ونعلم الشعب الأجير معنى الأمة المالكة! وليتنا عدنا إلى ذلك العهد بأخلاقه ورجولته! فقد كنا على قلتنا أعزة، وعلى فاقتنا أعفه وعلى جهالتنا أعلم بالخير وأفهم لمعنى المجتمع. كنا نتواصى على الصبر، ونتعاون على البر، ونتهادى صنائع المعروف ونحفظ وحدة الأسرة بالحب، وسلطان الدولة بالطاعة، وحقوق الله بالورع، فما كان منا من يخون الأمانة، ويسرق الأمة، ويتكئ على النقيصة ويتحمل على الخبث ويتَّجر بالدين، ويتخذ عدو وطنه ولياً، ويعتقد خطة غاصبه شريعة!
ولكننا وا أسفاه بعد هبَّة مصطفى، ونهضة سعد، وجهاد خمسة عشر عاماً، تمكن فيها السلطان واستبحر العمران، وازدهر العلم، وتولد النبوغ، وتوحد الشعب، وتكون الرأي، نصاب بهذه النكسة الشديدة، فنعود ناقضين ما ابرم خاسرين ما غنم!!(70/1)
اللهم أن النيل لا يزال يفيض وإن الوادي لا يزال ينبت، وإن الشمس التي أنضجت أذهان الفراعين لا تزال تشع وإن الأيدي التي غرست أولى الحضارات على العدوتين لا تزال تعمل، فما بالنا اليوم يتقدم الناس ونتأخر، وتتحرر الشعوب الضعيفة ونحن لا نتحرر؟
دع عنك ما يقال من كلب الاحتلال، وفقد الاستقلال، وتجني الدول، فأن ذلك كله عرض من أعراض العلة الدخيلة الوبيلة وهي انحلال الخلق. في دهرنا الحديث داء جرثومته أننا عنينا بالتعليم قبل التربية، وبتعليم الابن، قبل تعليم البنت فكان لنا من ذلك الوضع المقلوب رجال يجرون في عنان مع علماء الغرب، بل وربما طالوهم في حذق اللغات وتلون المعرفة؛ ولكن كثيراً منهم يخلون من أخلاق الرجولة خلو البيت من الأم الصالحة والمدرسة من المربي القادر، فتخونهم الكفاية عند التطبيق، وتخذلهم الشجاعة عند العمل، ويفارقهم الضمير عند الواجب، فلا يبقى إلا الغرائز الحيوانية التي تثب على أموال الناس، وتعتدي على حقوق الشعب، وتستخدم السلطان العام في مساعدة الصديق ومكايدة العدو ومناوئة الخصم!. .
وليت غريزة الحياة بقيت فينا على حال الفطرة إذن لعلمنا ما تعلم النمل من قوِام العمل، وفهمنا ما تفهم النحل من نظام الجماعة، وسرنا على نور الله لا نعمة في ظلام ولا نسدر في غواية
إن بعض الأمم الإسلامية أقل منا عدداً، وأرق ثروة، وأضيق ثقافة، وأحدث مدنية ما في ذلك شك، ولكن غرائزها الأصيلة لم يزيفها ذل الرق السياسي، وخلائقها النبيلة لم يفسدها زور المدنية الوافدة، فتمردت على الضيم، وتعنّتت على الأحداث وقلَّمت الأظفار الناشبة في استقلالها، وقطعت الأيدي الطامعة في استغلالها، ومشى أبناؤها الأباة على هدى ماضيهم المشرق لا يستكينون لمشورة حليفة ولا يستنيمون لمعونة أجنبي ولا يستجيبون لوساوس الأطماع في مرافق الأمة ومناصب الدولة حتى انخزلت عنهم التهم وغفلت عنهم الفتن، واستوثق لهم الأمر أو كاد
ذلك يا قوم ما يهدى له منطق الطبع، وصوت التاريخ، وعبقرية الجنس، أما هذا الذي نحن عليه فلا يمكن أن يؤدي إلا إلى الذي نحن فيه. فتداركوا إفلاس المدرسة، وفشل السياسة، وفوضى الحكم، بأيقاظ الضمائر الغافلة واستخدام الكفاءات العاطلة، واستلهام هذا الشعب(70/2)
المجيد الذي عودته عناية الله أن يعوق ولا يضل، ويعذب ولا يذل، ويحارب ولا يستكين
احمد حسن الزيات
-
-(70/3)
لجنة التأليف الترجمة والنشر
نبذة تاريخية
للأستاذ احمد أمين رئيس اللجنة
في سنة 1913 كان في مدرسة المعلمين العليا بدرب الجماميز طائفة من الشباب تمتلئ نفوسهم غيرة على العالم الإسلامي، ويطيلون التفكير في وسائل إصلاحه والنهوض به، ألف بين أفرادها الشعور بالألم من موقف الشرق وخموله، والأيمان بوجوب العمل على تنبيهه والأخذ بيده ورفع مستواه؛ وقد نبتت هذه الفكرة عندهم على أثر حرب البلقان، ومطالعتهم في كتب تثير هذه المعاني في النفوس أمثال كتاب (طبائع الاستبداد) و (أم القرى) للكواكبي
فكانوا يجتمعون اجتماعات متعددة للبحث في وضع خطط لما ينوون القيام به من أعمال يجتمعون أحياناً في مدرسة وأحياناً في منزل وأحياناً في مسجد الجزيرة عقب تروضهم، وأحياناً يسافرون إلى بلد أحدهم في الإجازة وأحياناً يفرون من العمران ويجتمعون في الصحراء
وكانوا يتبادلون الرأي في مختلف الوسائل وينحون في ذلك مناحي مختلفة، فمنهم من كان يميل إلى التركيز كل الجهود في الإصلاح الديني ويرى أنه هو الوسيلة الوحيدة لرقى العالم الإسلامي، ومنهم من كانت تغلب عليه النزعة إلى الإصلاح الاجتماعي بأوسع معانيه - وكانت الآراء في ذلك تتشعب، وتذهب المناقشات بينهم كل مذهب
وهناك في (زاوية البقلي) في أحد اجتماعاتهم اعتزموا تكوين لجان منهم للقيام بأعمال مختلفة، إحداها (للتأليف والترجمة والنشر)، وهذا هو السبب في تسميتها (لجنة) لا جمعية ولا غيرها
وفي هذه الأثناء اتصلوا ببعض إخوانهم في مدرسة الحقوق فساهموهم هذه الأفكار وتطوعوا للعمل لها وبذل الجهد في تنفيذها؛ وكان من أظهر أفراد هذه الجماعة وأول الداعين إلى هذه الأفكار، وأشدهم حماسة ونشاطاً، الطلبة: محمد احمد الغمراوي، واحمد عبد السلام الكرداني، ومحمد عبد الواحد خلاف، واحمد زكي، وحسن مختار رسمي، ويوسف احمد الجندي، ومحمد فريد أبو حديد، ومحمد عبد الباري(70/4)
فلما تخرج أكثر هؤلاء من مدرستي المعلمين والحقوق سنة 1914 وسنة 1915 عقدوا النية على أن يتموا رجالاً ما بدءوا به طلبة واتصل بهم إذ ذاك بعض إخوانهم ممن يميلون ميلهم ويشعرون شعورهم، ومن هؤلاء: محمد كامل سليم، وأمين مرسي قنديل، وعبد الحميد العبادي، ومحمد بدران، وعبد الحميد فهمي، ومحمد صبري أبو علم، واحمد أمين
ليس المقام الآن مقام ما فكروا فيه من مشروعات أخرى وما عملوا فيها وما آلت إليه إنما المقام الآن للجنة التأليف؛ فقد أكثر هؤلاء الأعضاء من ذكر التأليف والترجمة والنشر، وأملوا أن تقوم جماعتهم بهذا العمل، وأن يتسع نطاقها فيكون لهم مكتبة ومطبعة، ومدرسة نموذجية، ومجلة وأن تكون لهم كتب في مختلف العلوم والفنون تناسب جمهور المتعلمين في جميع مراحل التعليم
وكان أول ما عملوا أن عهدوا إلى الأستاذين أحمد زكي واحمد عبد السلام الكرداني تأليف كتاب في الكيمياء للمدارس الثانوية، والى الأستاذ محمد احمد الغمراوي تأليف كتاب في الطبيعة والى الأستاذين محمد خلاف وعبد الحميد فهمي تأليف كتاب في الحساب، والى الأستاذين محمد كامل سليم ومحمد بدران تأليف كتاب في الجغرافيا. وقد نفذت كل المشروعات ما عدا الثانيمنها أملوا هذه الآمال وكونوا هذه اللجان، ووضعوا مشروع هذه الأعمال وليس لديهم مال يستعينون به على أغراضهم، ولكن كان لهم أمل قوي وعزيمة ثابتة وإخلاص نقي وحسبهم من هذا غنى
في هذا الحين بدأت اللجنة في عمل قانون لها وعهدت إلى الأستاذ حسن مختار رسمي بوضعه
واجتمع الأعضاء سنة 1915 بالمدرسة الإعدادية بالعباسية لأن كثيراً من أعضاء اللجنة كانوا مدرسين بها فقرءوا القانون وأدخلوا عليه بعض تعديلات وانتخبوا أعضاء مجلس الإدارة وبدأ الأعضاء يدفع كل منهم عشرة قروش في الشهر، ثم جعلت مالية اللجنة أسهماً كل منهم ثمنه جنيه وهذا بدء التكون المالي للجنة - ولم يكن يزيد عدد الأعضاء إذ ذاك على خمسة عشر عضواً
بدأت اللجنة عملها بأن وضع الأستاذان احمد زكي واحمد الكرداني كتابهما في الكيمياء في جزأين فعهد في قراءته ونقده للأستاذين محمد خلاف ومحمد الغمراوي وكان من اجمل(70/5)
المناظر اجتماعهم وعملهم؛ فقد استأجروا شقة خاصة في منزل أحدهم أعدها لهم أولهم وظلوا يجتمعون ليل نهار يقرءون وينقدون ويراجعون إلى أن يدركهم الملل فيناموا وقد بلغ منهم الجهد حتى إذا أتموه بعد عناء قدموه للطبع، ولم يكن في اللجنة ما يكفي للأنفاق عليه فاقترضت اللجنة من بعض الأعضاء ما يكفي لذلك
لم يكن في مال اللجنة ما يكفيأيضاًلاستئجار مكان خاص فكان مجلس الإدارة يجتمع في بيت أحد الأعضاء وأكثر ما كان ذلك في بيت عبد الحميد أفندي العبادي بالحلمية أو بيت محمد أفندي خلاف كذلك - وأحياناً يجتمعون في مقهى قلّ زواره - ولما أنشئت نقابة المعلمين أساتذتها اللجنة في أن تجتمع فيها فأذنت، وكانت الجمعية العمومية لها تنعقد في إحدى المدارس الأهلية كالإعدادية ووادي النيل
كذلك لم تكن تستطيع أن تستأجر مكاناً تخزن فيه كتبها فكان كل مؤلف يخزن كتابه في بيته ويبيع منه ما طلب ويعمل حسابه بنفسه ويقدمه للجنة
ثم اتفقت اللجنة مع مكتبة أن تودع فيها كل كتبها في نظير خصم اكبر على ما يباع - وكان أحد الأعضاء يتولى حساب اللجنة على طريقة ساذجة بسيطة. وقد كانت هذه الأعمال كلها مما يعرض اللجنة للضياع والانحلال لولا ما ملئ به أعضاؤها من صدق وإخلاص وثقة
أخذت اللجنة بعد ذلك تنمو تدريجياً فزاد أعضاؤها حتى بلغوا الآن بضعاً وسبعين، وزاد إنتاجها واتسع عملها وكثر مالها فاتخذت لها مركزاً، وكان أول ما فعلت ذلك إنها استأجرت مكاناً في شارع الأمير يوسف بالحلمية القديمة بثلاثة جنيهات شهرياً اتخذته مخزناً ومكاناً للأدارة، ثم انتقلت منه إلى مكان في شارع غيط العدة، ثم إلى مكان في شارع المبدولي، ثم في شارع الساحة، ثم في مكانها الحالي. ونظمت دفاترها واستخدم لها العمال ليقوموا بحسابها على الطراز الحديث
ومما يلاحظ إنها بدأت أول أمرها بالكتب المدرسية لرواجها، ولتكوين دعامة مالية، لها ثم توسعت بعد ذلك فلم تبال ما تطبع متى وثقت به من الناحية العلمية ولو كان الكتاب كتاب الخاصة كما فعلت في ترجمة كتاب الأخلاق لأرسطو، والبصريات كما يلاحظ أن اكثر أعضاؤها واوفرهم إنتاجاً كان من المعلمين، لأن طبيعة عملهم جعلتهم اكثر اتصالاً بالكتب،(70/6)
وميلاً إلى تأليفها أو ترجمتها
وقد ساعد اللجنة على رواج كتبها الثقة التي منحها الجمهور إياها مقابل ما تبذله من جد في التدقيق فيما تنشر، فليست تخرج كتاباً إلا بعد أن يمر على لجنة مختصة تنظر فيه بإمعان، وتقدم تقريراً عنه بصلاحيته، أو تقترح إدخال إصلاح عليه غير مبالية كثيراً برواج الكتاب أو عدم رواجه متى وثقت أن الكتاب يخدم العلم ويحقق غرضها، ويفيد ولو الخاصة
ومنذ أربعة أعوام سعت اللجنة لدى وزارة المعارف أن تمنحها مبلغاً من المال للاستعانة به على التأليف الكتب القيمة وترجمتها ونشرها. إذ كان هذا العمل من اهم الأعمال التي يصح أن تقوم بها وزارة المعارف
وكان لبعض أعضاء اللجنة السعي المشكور في أن مجلس النواب طلب من وزارة المعارف أن تمنح اللجنة مقداراً من المال لهذا الغرض. كما كان لبعضهم سعي مشكور آخر في إجابة وزارة المعارف له وألفت وزارة المعارف لجنة من الأستاذ سكرتير عام الوزارة، والأستاذ مصطفى عبد الرزاق، ورئيس اللجنة، للنظر في المال الذي تقرره الوزارة، وكيفية صرفه، والكتب التي ينفق عليها هذا المبلغ
وقد منحت الوزارة اللجنة ألف جنيه في ثلاثة أعوام متوالية أنفقت منها على طبع كتاب فتح العرب لمصر، والنجوم في مسالكها، والجزء الأول من السلوك للمقريزي، ولا تزال مستمرة في إخراج الكتب القيمة كلما تجمع لها شيء من المال فلوزارة المعارف الشكر على هذه الثقة كما للأعضاء الذين سعوا هذا السعي الشكر على ما سعوا
وأخيراً وبعد عشرين سنة من حياتها يحق للجنة أن تقف وقفة قصيرة تنظر في ماضيها وتستعرض تاريخها. وأظنها تغتبط لذلك - أولا - لأنها عاشت عشرين عاما في جو كثيرا ما تموت فيه مشروعات وليدة - وثانيا - لأنها عاشت عيشة طبيعية فتدرجت في أدوار الحياة على مهل ولم نطفر طفرة شيطانية. وتغتبط إذ تراها قد ضمت كثيرا من صفوة رجال العلم، وأخرجت للناس نحو الستين كتابا بين مؤلف ومترجم ومنشور، تسد كلها حاجات الثقافة في أطوار التعليم المختلفة - كما إنها تغتبط بثباتها في مركزها وحصرها نفسها في الدائرة التي رسمتها لنفسها من أول أمرها، فلم تتدخل في مجادلات دينية، ولم تغامر في نواح سياسية، أيمانا منها بان الثقافة ونشرها وسيلة من اكبر الوسائل لرقي(70/7)
الأمة، ومن اكبر عوامل الإسراع في نهضتها.
وتبتهج إذ تبتدئ مرحلة أخرى من مراحلها، بدايتها تكوين مطبعة مستقلة لها تساعدها على تحقيق غرضها فيزيد نتاجها، ويتضاعف مجهودها. وقد أسست - فعلا - المطبعة وبدأت من ثلاثة شهور تخرج الكتب التي ترى اللجنة نشرها، وهذا بلا شك يتطلب من اللجنة بذل مجهودا اكبر في التأليف والترجمة إذ تشعر - مع وجود المطبعة - بأن وراءها ما تعوله يصيح دائما بطلب الغذاء، وليس غذاؤه إلا ما نؤلف أو تترجم أو تنشر. وأظن أن في مكنة أعضائها ما يضمن لهذا الطفل الغذاء الكافي حتى التخمة
ولعل الذين فكروا في اللجنة أيام ولادتها سنة 1914 أو قبلها بقليل يغتبطون إذ يرون سنة 1934 أن كثيرا من الآمال أصبحت حقائق، وان الأماني تحولت إلى شجرة طيبة تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها، وانهم وقد جنوا ثمارها قد تجددت لهم أماني أخرى أوسع من الأولى وابعد مدى، لكنهم يشعرون أن الصبر إنما هو عند الصدمة الأولى، وانهم اليوم اكثر خبرة، واقدر بمالهم ورجالهم على تحقيق أغراضهم الجديدة، فهم لا يرتاحون إلا أن يروا كل مرحلة من مراحلهم يتضاعف إنتاجها - حقق الله آمالنا، ووفقنا في مستقبل أعمالنا أضعاف ما وفقنا في ماضينا، فقد عودنا أن يجازى الجد والإخلاص بالخير دائما.
احمد أمين(70/8)
قصة زواج
ذيل القصة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
ذهب الناس يميناً وشمالاً فيما كتبناه من خبر الإمام سعيد ابن المسيب وتزويجه ابنته من طالب علم فقير بعد إذ ضن بها أن تكون زوجاً لولي عهد أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؛ وقد جعلت قلوب بعض النساء العصريات المتعلمات تصيح وتولول. . . وحدثنا أديب ظريف أن إحداهن سألت عن عنوان عبد الملك بن مروان. . .
افتراها ستكتب إليه إنها تقبل الزواج من ولي عهده؟
على أن للقصة ذيلاً، فأن الطبيعة الآدمية لا عصر لها، بل هي طبيعة كل عصر. والفضيلة الإنسانية يبدأ تاريخها من الجنة، فهي هي لا تتجدد ولا تزال تلوح وتختفي؛ أما الرذيلة فأول تاريخها من الطبيعة نفسها، فهي هي لا تتغير ولا تزال تظهر وتستسر
لما زوّج الإمام ابنته من أبى وداعة وأخذها بنفسه إليه في يوم زواجها منه، ومشى بها في طريق حصاه عنده افضل من الدرّ وترابه اكرم من الذهب؛ طارت الحادثة في الناس واستفاض لهم قول كثير. (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون.) وقد قال جماعة منهم: تا لله لئن انقطع الوحي فأن في معانيه بقية ما تزال تنزل على بعض القلوب التي تشبه في عظمتها قلوب الأنبياء؛ وما هذه الحادثة على الدنيا إلا في معنى سورة من السور قد انشقت لها السماء ونزل بها جبريل يخفق على أفئدة المؤمنين خفقة إيمان.
(وأما الذين في قلوبهم مَرَضُ فزادتهم رِجساً إلى رِجِسِهمِ.) وقال أُناس منهم: أما والله لو تهيأ لأحدنا أن يكون لصاً يسرق أمير المؤمنين أو ابن أمير المؤمنين لركب رأسه في ذلك، ما يرده عن السرقة شئ؛ فكيف بمن تهيأ له الصهر والحسب، وجاءه الغنى يطرق بابه - ما باله يرد كل ذلك ويخزي ابنته برجل فقير تعيش في داره؛ بأسوأ حال وكيف تثقل همته وتبطؤ وتموت إذا كان الدرّ والجوهر والذهب والخلافة؛ ثم ينبعث ويمضي لا يتلكأ عزمه إذا كان العلم والفقر والدين والتقوى
وانتهى كلام الناس إلى الإمام العظيم فلم يجئه إلا من الظن خفياً خفياً، كأنما هي أقوال حسبها تقال عنه بعد خمسين وثلثمائة وألف سنة في زمننا هذا، حين يكون هو في معاني(70/9)
السماء، ويكون القائلون في معاني التراب النجس الذي نفضته على الشرق نعال الأوربيين. .!
قال الراوي: ولم يستطع أحد من الناس أن يواجه الإمام بشفة أو بنت شفة، لا مضيقاً عليه من قلبه ولا موسعاً، حتى كان يوم من أيام الجمعة، وقد مال الناس بعد الصلاة إلى حلقة الشيخ وتقصفوا بعضهم على بعض فغص بهم المسجد، وكان إمامنا يفسر قوله تعالى: (وما لَنا إلا نَتَوَكَّلَ على اللهِ وقد هدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ على ما آذَيْتمُونا. وعلى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتَوَكِّلون.)
قال الراوي: فكان فيما قاله الشيخ:
إذا هدى المرء سبيله كانت السبل الأخرى في الحياة أما عداء له، وأما معارضة، وإما رداً؛ فهو منها في الأذى، أو في معنى الأذى، أو عرضة للأذى. لقد وجد الطريق ولكنه أصاب العقبات أيضاً، وهذه حالة لا يمضي فيها الموفق إلى غايته إلا إذا أعانه الله بطبيعتين: أولاهما العزم الثابت، وهذا هو التوكل على الله؛ والأخرى اليقين المستبصر، وهذا هو الصبر على الأذى ومتى عزم الإنسان ذلك العزم، وأيقن ذلك اليقين - تحولت العقبات التي تصده عن غايته فآل معناها أن تكون زيادة في عزمه ويقينه، بعد أن وضعَّن ليكن نقصاً منهما فترجع العقبات بعد ذلك وأنها لوسائل تعين على الغاية، وبهذا يبسط المؤمن روحه على الطريق فما بدّ أن يغلب على الطريق وما فيها. وينظر إلى الدنيا بنور الله فلا يجد الدنيا شيئاً على سعتها وتناقضها إلا سبيله وما حول سبيله، فهو ماض قدماً لا يتراد ولا يفتر ولا يكل وهذه حقيقة العزم وحقيقة الصبر جميعاً
ومن ثم لا تكون الحياة لهذا المؤمن مهماً تقبلت واختلفت - إلا نفاذاً من طريق واحدة دون التخبط في الطرق الأخرى، ثم لا يكون العمر مهما طال إلا مدة صبر في رأي المؤمن. وعزيمة النفاذ وعزيمة الصبر هما الضوء الروحاني القوي الذي يكتسح ظلمات النفس مما يسميه الناس خمولاً ودعة وتهاوناً وغفلة وضجراً ونحوها
قال: ولكن كيف يعان المؤمن على هذه المعجزة النفسية؟ هنا يتبين أعجاز الآية الكريمة؛ فقد ذكر فيها التوكل ثلاث مرات وافتتحت به وختمت، والتوكل هو العزم الثابت كما أوضحنا. وذكرت في الآية بين ذلك هداية المرء سبيله؛ وهذه الإضافة (سبلنا) تعين إنها(70/10)
هداية الإنسان إلى سبيل نفسه؛ أي سبيله الباطني الذي هو مناط سعادته في الشعور بالسعادة ثم ذكر الصبر على أذى الناس والأذى لا يقع إلا في حيوانية الإنسان، ولا يؤثر إلا فيها. فكأن الآية مصرحة أن نجاح المؤمن ونفاذه في الحياة لا يكونان أول الأشياء وآخرها إلا بثلاث: العزم الثابت، ثم العزم الثابت، ثم العزم الثابت. وان الصبر ليس شيئاً يذكر، أو شيئاً يجدي، أن لم يكن صبراً على أذى الحيوانية في افظع وحشيتها؛ فالروح لا تؤذي الروح، ولكن الحيوان يؤذي الحيوان. وأن ما يقع من هذه الحيوانية فيسمى اعتداء من غيرك، ويسمى أذى لك، هو شيء ينبغي أن يجعله العزم فخراً لقوة الاحتمال فيك، كما جعله البطش فخراً للقدرة عند المعتدي
وبهذا يكون العزم قد فصل بين نفسك الروحية وبين شخصك الحيواني، ووهبك حقيقة الشعور، وصحح بمعاني روحيتك معاني حيوانيتك؛ وحينئذ ترى السعادة حق السعادة ما كان هداية لنفسك أو هداية بها، ولو انقلب في الشخص الحيواني منك أذى وألماً. ذلك صبر أولي العزم من الرسل
قال الراوي: وعند ذلك صاح رجل كان في المجلس دسه عامل الخليفة ليسأل الشيخ سؤالاً على ملأ الناس، يكون كالتشنيع عليه والتشهير به؛ وقد مكر العامل فأختاره شيخاً كبيراً اعقف، ليرحم الناس رقة عظمة وكبر سنه فلا يعرضون له بأذى، ثم ليكون صوته كأنه صوت الدهر من بعيد. قال الصائح: ذلك أيها الشيخ صبر أولي العزم من الرسل، أو صبر ابنتك على مكاره العيش مع أبي وداعة، لا يجد إلا رمقة يمسك بها الرمق عليها وقد كانت النعمة لها ممرضة، فدفعتها إليه زعمت - لتهلك به شخصها الحيواني، وتوكلت على الله وألقيت ابنتك في اليمّ. . .؟
فتربد وجه الشيخ واطرق هنيهات، ثم رفع رأسه وقال: أين المتكلم آنفاً؟ فأرتفع الصوت: هاأنذا. قال: ادن مني. فتقاعس الرجل كأنما تهيب ما فرط منه. فاستدناه الثانية؛ فقام يتخطى الناس حتى وقف بازائه ثم جلس؛ فقرأ الشيخ قوله تعالى: (وبرَزوا لله جميعاً، فقال الضعفاء للذين استكبروا: إنا كنَّا لكم تبعاً فهل أنتم مُغْنونَ عنّا من عذابِ اللهِ من شيء؟ قالوا: لو هدانا اللهُ لَهَديناكم سواء علينا أَجَزِعنا أم صَبرْنا مالنا من مَحيِص)
ثم قال: أيها الرجل، لا تسمعني بأذنك وحدها. أرأيتك لو سمعت خبراً ليس في نفسك اصل(70/11)
من معناه، أو ورد عليك الخبر ونفسك عنه في شغل قد أهمها، أفكنت تنشط له نشاطك للخبر احتفلت له نفسك أو أصاب هوى منك أو رأيته موضع اعتبار؟
قال: لا
قال الشيخ: فإذا سمعت بأذنك وحدها فإنما سمعت كلاماً يمر بأذنك مراً، وإذا أردت الكلام لنفسك سمعت بأذنك ونفسك معاً؟ قال: نعم
قال الشيخ: فكل ما لا تنفرد به حاسة واحدة، بل تشارك فيه الحواس كلها أو أكثرها - لا يكون إلا موضع اهتمام للنفس؟
قال: نعم
قال الشيخ: فمن هنا يكثر الفرح والحزن كلاهما إذا شاركت فيهما الحواس، فيأتي كل منهما كثيراً مهما قلّ، وتزيد كل حاسة في اللذة لذة وفي الألم ألماً، فتعمل النفس في ذلك أعمالاً تسحر بها فيكون الشيء لصاحبه غير ما هو للناس، كالصوت الباكي أو الضاحك في لسان طفلك، تسمعه أنت منه بكل حواسك فإذا أنت سمعت عينه من لسان رجل في الناس رأيته غير ذاك. أكذلك هو؟
قال: نعم
قال الشيخ: فيكون السرور بالغاً عجيباً أكثر ما هو بالغ، حين يجد المال والغنى في الإنسان أم حين يجد القوة النفسية وطبيعة المرح والرضى؟
قال: بل حين يجد في النفس
قال الشيخ: أرأيت الإنسان يكون سعيداً بما يتوهم الناس انه به غني سعيد، أم بشعوره هو وإن كان بعد فيما لا يتوهم الناس فيه الغنى والسعادة؟
قال: بل بشعوره
قال الشيخ: أفلا توجد في الدنيا أشياء من النفس تكون فوق الدنيا وفوق الشهوات والمطامع؛ كالطفل عند امه، كل ما تعلق به من شيء وزن به هو لا بغيره، وكان الاعتبار عليه لا على سواه، أتعرف أماً ترضى أن يذبح ابنها في حجرها لقاء أن يملأ حجرها ذهباً؟
قال: لا
قال الشيخ: فإذا كانت النفس تشعر اكثر مما ترى، أفيذهب ما تراه فيما تشعر به، ويكون(70/12)
شعورها هو وحده الذي يلبس ما حولها ويصوره ويصرفه؟
قال: نعم
قال الشيخ: أفتعرف أن لكل نفس قوية من هذا العالم الذي نعيش فيه عالماً آخر هو عالم أفكارها وإحساسها، وفيه وحده لذات إحساسها وأفكارها؟
قال: نعم
قال الشيخ: أفرأيت المرأة إذا صح حبها أو فرحها أو عزمها، أرأيتها تكون إلا في عالم أفكارها، أرأيت كل ما يتصل برغبتها حينئذ يكون إلا من أشياء قلبها لا من أشياء الدنيا، أرأيتها لا تعيش في هذه الحالة إلا بالمعاملة مع قلبها الذي لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يجمع المال ولا يريد إلا الشعور فقط؟
قال: نعم هو ذاك
قال الشيخ: أرأيت إذا كان الأيمان قد ولد ونشأ وترعرع في قلب المرأة، إلا يكون هو طفل قلبها؟
قال: نعم
قال الشيخ: أرأيت إذا كانت الخمر عند مد منها شيئاً عظيماً، وكانت ضرورة من ضرورات وجوده الضعيف المختل، فلا يستقيم وجوده ولا سفه وجوده إلا بها، أفيلزم من ذلك أن تكون الخمر من ضرورات صاحب الوجود القوىّ المنتظم؟
قال: لا
قال الشيخ: أفموقن أنت أن لابد من آخر لأيام الإنسان ولياليه في هذه الدنيا فينقطع به العيش؟
قال: نعم
قال الشيخ: أفيؤرخ الإنسان يومئذ بتاريخ معدته وما حولها، أم بتاريخ نفسه وما فيها؟
قال: بل بتاريخ نفسه
قال الشيخ: فإذا كنت صاحب حرب، وكنت بطلاً من الأبطال ومسعراً من المساعير، وأيقنت الموت في المعركة؛ أيكون الحقيقي عندك في هذه الساعة هو الموت ام الحياة؟
قال: بل الحياة عندئذ وهمٌ وباطل(70/13)
قال الشيخ: فتفر في تلك الساعة إلى الحياة ولذاتها في خيالك، أم تفر منها ومن لذاتها؟
قال: بل الفرار منها، فأن خيالها يكون خبالاً
قال الشيخ: ففي تلك الساعة التي هي عمر نفسك وعمل نفسك ورجاء نفسك؛ تستشعر اللذة في موتك بطلاً مذكوراً، أم تحس الكرب والمقت من ذلك؟
قال: بل استشعر اللذة
قال الشيخ: إذن فهي كبرياء الروح العظيمة على مادة التراب والطين في أي أشكالها ولو في الذهب
قال: هي تلك؟
قال الشيخ: إذن فبعض أشياء النفس تمحو في بعض الأحوال كل أشياء الدنيا، أو الأشياء الكثيرة من الدنيا
قال: نعم
قال الإمام: يرحمك الله. كذلك محي عندنا أمير المؤمنين وابن أمير المؤمنين ومحي المال والغنى، ولم يكن ذلك عندنا إلا سعادة. ومن رحمة الله أن كل من هدى سبيله بالدين أو الحكمة استطاع أن يصنع بنفسه لنفسه سعادتها في الدنيا، ولو لم يكن له إلا لقيمات؛ فأن السعة سعة الخلق لا المال، والفقر فقر الخلق لا العيش
قال الراوي: ثم أن الإمام العظيم التفت إلى الناس وقال: أما أنى - علم الله - ما زوجت ابنتي رجلاً اعرفه فقيراً أو غنياً بل اعرفه بطلاً من أبطال الحياة يملك أقوى أسلحته من الدين والفضيلة. وقد أيقنت حين زوجتها منه إنها ستعرف بفضيلة نفسها فضيلة نفسه، فيتجانس الطبع والطبع؛ ولا مهنأ لرجل وامرأة إلا أن يجانس طبعه طبعها، وقد علمت وعلم الناس أن ليس في مال الدنيا ما يشتري هذه المجانسة، وأنها لا تكون إلا هدية قلب لقلب يأتلفان ويتحابان
ثم قال الإمام: وأنا فقد دخلت على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ورأيتهن في دورهن يقاسين الحياة، ويعانين من الرزق ما شح دره فلا يجيء إلا كالقطرة بعد القطرة، وهن على ذلك، ما واحدة منهن إلا هي ملكة من ملكات الآدمية كلها وما فقرهن والله إلا كبرياء الجنة، نظرت إلى الأرض فقالت: لا. . .!(70/14)
يجاهدن مجاهدة كل شريف عظيم النفس، همه أن يكون الشرف أو لا يكون شيء؛ ويرى الغافل أن مثلهن في تعب الجهاد، ويعلمن من أنفسهن غير ما يرى ذلك المسكين - يعلمن أن ذلك التعب هو لذة النصر بعينها
كانت أنوثتهن أبداً صاعدة متسامية فوق موضعها بهذه القناعة وبهذه التقوى، ولا تزال متسامية صاعدة، على حين تنزل المطامع بأنوثة المرأة دون موضعها، ولا تزال أنوثتها تنحدر ما بقيت المرأة تطمع؛ ورُبَ ملكة جعلتها مطامع الحياة في الدرك الأسفل، وهي باسمها في الوهم الأعلى. . .!
وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: (اطلعت في الجنة فإذا اقل أهلها النساء، فقلت أين النساء؟ قال: شغلهن الأحمران: الذهب والزعفران.) أي الطمع في الغنى والعمل له، والميل إلى التبرج والحرص عليه
ونفس الأنثى ليست أنثى، ولكن شغلها بذلك التبرج وذلك الحرص وذلك الطمع - هو يخصصها بخصائص الجسد، ويعطيها من حكمه، وينزلها على أرادته؛ وهذه هي المزلة، فتهبط المرأة اكثر مما تعلو، وتضعف اكثر مما تقوى، وتفسد اكثر مما تصلح. أن نفس الأنثى أنثى لرجل واحد، لزوجها وحده
رأيت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقيرات مقتوراً عليهن الرزق، غير أن كلا منهن تعيش بمعاني قلبها المؤمن القوي، في دار صغيرة فرشتها الأرض. . . ولكنها من معاني ذلك القلب كأنها سماء صغيرة مختبئة بين أربعة جدران. أنهن لم يبتعدن عن الغنى إلا ليبعدن عن حماقة الدنيا التي لا تكون إلا في الغنى
أف أف! أتريدون أن أزوج ابنتي من ابن أمير المؤمنين فيخزيها الله على يدي، وادفعها إلى القصر وهو ذلك المكان الذي جمع كل أقذار النفس ودنس الأيام والليالي؛ أأزوجها رجلاً تعرف من فضيلة نفسها سقوط نفسه، فتكون زوجة جسمه ومطلقة روحه في وقت معاً؟ إلا كم من قصر هو في معناه مقبرة ليس فيها من هؤلاء الأغنياء رجالهم ونسائهم إلا جيف يبلى بعضها بعضاً!
قال الراوي: وضج الناس لحمامة صغيرة قد جنحت من الهواء فوقعت في حجر الشيخ لائذة من مخافة، وجعلت تدف بجناحيها وتضطرب من الفزع، ومر الصقر على أثرها وقد(70/15)
أهوى لها، غير أنه تمطر ورمق في الهواء إذ رأى الناس
وتناولها الإمام في يده وهي في رجفتها من زلزلة الهواء، وكانت العروس مسرولة قد غاب ساقاها في الريش، وعلى جسمها من الألوان نمنمة وتحبير، ولها روح العروس الشابة يهدونها إلى من تكره، ويزفونها على قاتلها الذي يسمى زوجها
وأدناها الشيخ من قلبه، ومسح عليها بيده، ونظر في الهواء نظرة. . . . وهو يقول: نجوتِ نجوتِ يا مسكينة!
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(70/16)
2 - الشيخ علي يوسف
للأستاذ عبد العزيز البشري
تتمة
ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، على انه كان إلى الطول. يظهر في مرأى العين نحيلاً هزيلاً، ولكنه كان مكتنز اللحم. مستطيل الوجه، واسع مساحة الجبهة، ازرق العينين، طويل الهدبين كثيراً ما ترى له في إطراقه، نظرة غريبة ساجية. ضيق الفم، على أن في شفتيه الحمراوين شيئاً من الغلظ. تعلوه صفرة ما احسبها من اثر مرض. وشعر لحيته الدقيقة المتسقة يميل إلى الشقرة. رفيق الصوت لينه إذا تحدث، فإذا رفع صوته ضمر بعض الضمور، وتسلخ بعض التسلخ، فلم يكن من تلك الأصوات التي تصلح للخطابة
وكان بعد رجلاً شديد العقل قوي النفس حديد العزم، وافر الشجاعة. لا تتعاظمه قوة خصم بالغة ما بلغت قوة ذلك الخصم وبأسه. وإذا تحداه متحد ركب رأسه في نضاله لا يبالي أين يقع المصير، وصح فيه قول الشاعر:
إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه ... ونكب عن ذكر العواقب جانباً
واذكر أنني مضيت إليه مرة في صحب لي من خلصانه، وسألناه أن يترفق بالمؤيد فلقد تظاهر عليه خصومه وألَّبوا الجمهرة عليه، واذكوا عليه حماسة الشباب في رأى له قد لا يحسن فهمه العامة، ولا يستريح إليه طموح الشباب. فأصغى إلينا واحسن الإصغاء، وترك كل واحد منا يقول ما عنده، حتى إذا انتهينا ونحن على الظن بأنه نازل عند رأينا، عادل إلى ما سألنا، فإذا هو يرتج في مجلسه ارتجاجه عنيفة ويقول في قوة وفي عزم حديد: (والله لا يعنيني أن يكون الناس جميعاً في صف واحد، وأنا والحق الذي اعتقده بازائهم في صف واحد)!. وتركناه ونحن نرى منحدر المؤيد بطغيان الخصومة يوماً بعد يوم!
ولقد كان الشيخ علي رحمة الله عليه، رجلاً متمكناً من نفسه حقاً، ولقد كان مما يشاع عنه، ولعل خصومه هم مبعث هذه الإشاعة، انه كان يقول: أنا لا أبالي أن اخسر هذا البلد، ففي إمكاني أن أعود فأكسبه بثلاث مقالات. .!
ولقد عاشرت الرجل ما عاشرته، واستمكن ما بيننا من الود والآلف إلى الحد. الذي يبعثني على الاعتقاد بأنه ما كان يخفي عني شيئاً حتى من نجوى نفسه في الأسباب العامة. وشهد(70/17)
الله ما سمعت منه قط هذا الكلام، ولا أية عبارة أخرى يمكن أن تؤدي معناه
ولكن مع هذا لقد كان هذا هو الواقع اعني الواقع من حاله لا من مقاله: فأنني لا اعرف رجلاً سياسياً عظيماً كان اقل الناس أنصاراً وأكثرهم خصوماً كما كان الشيخ علي يوسف وخصومه. على كثرتهم، لقد كانوا من جميع الطبقات، وكانوا من جميع الهيئات، وانهم ليحيطون به إحاطة الطوق من كل جانب، وكلهم عامل على إسقاطه، جاهد ما امتد به الجهد في هدم المؤيد، مذك عليه الأقلام والألسن من كل ناحية، تدمغه بتهمة الخيانة الوطنية فما دونها في غير هوادة ولا اشفاق، والمؤيد يتقلص بين أيدي القارئين ويتقلص حتى يظن انه قد تشرف على العفاء. ثم إذا الشيخ يتجمع، وإذا هو يشرع القلم شرع الرمح الرديني، وإذا هو يطعن الطعنة البكر ها هنا مرة وها هنا مرة، فلا يصيب إلا الكلى والمفاصل. وإذا هؤلاء الخصوم يتطايرون عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، وإذا المؤيد يرن في البلد رنينه، بعد ما تردد تأوهه وطال أنينه!
وقد عرفت أن الشيخ علي يوسف كان مبغضاً إلى الكثرة في البلاد. وان هذا البغض ليرجع في الأكثر إلى أسباب صناعية: منها المنافسات الصحفية، ومنها الغيرة من موضعه يومئذ من ولي الأمر، ومنها كان هنالك رجال أقوياء ببسطة الجاه وسعة الغنى، وفيهم كذلك من ذهب لهم في العلم والأدب صيت وذكر، كان هؤلاء لا يستريحون إلى سياسة القصر، ولربما ظاهروا المعتمد البريطاني أحياناً في عدائه للقصر. فهم بالضرورة، ينقمون من كل رجل توافيه للقصر، وخاصة إذا كان رجلاً كالشيخ علي يوسف جبار العقل جبار القلم
أرأيت كيف كان هذا الرجل محاطاً من جميع أقطاره بنطاق من العداوات المختلفة، بل التي يصطرع التناقض أحياناً بين أسباب بعضها وبين أسباب بعض؟. على أن إذكاء بغض الشباب والعامة للرجل من جهة، وبغض الخاصة له من جهة اخرى، إنما كان يسلكه له خصومه من أحد طريقي الضعف فيه، أن صح هذا التعبير. أولهما انه كان معتدلاً لا يرى العنف سبيلاً إلى استرداد حقوق البلاد؛ بل أن هذا العنف لقد يرديها في أخطار لم تكن لها في الحساب، وكان طوعاً لهذا يرى إلا يتحدث على الشئون العامة إلا الشيوخ الناضجون المجربون، وهذا وهذا، ولا شك مما لا يرضى الشباب المشتعل حماساً لحق الوطن. ولا تنسى أن العامة من وراء هؤلاء أما السبب الثاني فلصوقه بالقصر، وشدة(70/18)
توافيه له ومظاهرته له على الدوام، أظن أن هذا مقام لا تحمد فيه إطالة الكلام
مع هذا كله ففي يوم الجلي، يوم تحدث الأحداث القومية، ينفض الناس قلوبهم حتى يتساقط عنها كل ما علق بها من الحقد على الشيخ علي يوسف، ويتلعون أعناقهم نحو المؤيد، شاخصة أبصارهم، مرهفة آذانهم، معلقة في انتظار ما يقول الشيخ أنفاسهم. فإذا النمر الجبار يثب على فريسته من عدوان العادين وثبته فلا يزال يوسعها تمزيقاً بمخلبه، وضغماً بأنيبه حتى ما يدعها إلا (اعظماً وجلوداً)
نعم، لقد كان يقول الشيخ علي فيروي كل غلة، ويشفى كل علة،، ويعلو بسطوة قلمه حتى ما ينتهي منتهاه في ذاك أحد. والناس طراً لهذه النصرة بين مهلل وبين مكبر!. هذه كانت قدرة الشيخ القادرة وهذه كانت قوته العبقرية النادرة. وهذه مقالاته في أعقاب حادثة دنشواي ما برحت ترن في آذان من قرءوها إلى الآن
وأني لأذكر له حادثاً طريفاً في هذا الباب:
فشت الفاشية، لا أعادها الله بين المسلمين وإخوانهم الأقباط عقب مصرع المرحوم بطرس باشا غالي، وكان ذلك في سنة 1910 على ما اذكر، وعقد الأقباط مؤتمراً ملياً لهم في أسيوط، وأجابهم المسلمون بمؤتمر مثله في القاهرة وأفضوا برياسته إلى اكبر رجل في البلاد يومئذ وهو المرحوم مصطفى رياض باشا، واختار القائمون على هذا المؤتمر مثوى لاجتماعه ملعب مصر الجديدة، ومضى الناس أفواجاً في اليوم المشهود، واجتمع رجالات البلد لم يتخلف منهم إلا من انقطع به العذر. وتصدر الحفل رياض باشا. وتعاقب الخطباء كابراً بعد كابر. فأبلوا في المقال أيما بلاء وأبدعوا في الخطاب أيما إبداع
حتى إذا كانت النوبة على الشيخ علي أذكى بعض شبان الحزب الوطني في المحتشدين في بهو الملعب طائفة من الفتيان من طلبة الأزهر وتلاميذ المدارس، يسألون القوم إلا يصفقوا إذا خطب الشيخ ولا يظهروا أية إشارة تدل على الاستحسان. فوعدهم اكثر الناس بهذا وأصروا عليه مخلصين لما تنطوي صدورهم من حقد عليه ومن بغضاء
وينبعث الشيخ يخطب وهو كما قدمت لك غير خطيب. استغفر الله بل لقد انبعث يتلو مقالته في أوراق بين يديه، وأنت حق خبير بالفرق الهائل بين اثر التالي واثر الخطيب. وما أن مضى في تلاوته بضع دقائق حتى اخذ الناس عن نفوسهم، ونسوا ما عاهدوا أولئك(70/19)
الفتيان وعاهدوا أنفسهم عليه. فبروا من التصفيق اكفهم وشققوا بالصياح حناجرهم تشقيقاً، فكنت تسمع من هتافهم مثل الرعد القاصف، وترى من اضطرابهم وتموجهم فعل الريح بالأغصان في اليوم العاصف! وكان من أشدهم سعراً من كلام الرجل هم أولئك الفتية الذين كانوا يروضون الناس على إلا يلقوا خطابه إلا بالجمود والأعراض
وجهد بالرجل، فتعاور التلاوة عنه كل من أستاذنا إبراهيم بك الهلباوي والمرحوم احمد بك عبد اللطيف المحامي الأشهر، وأنت كذلك خبير بأثر خطبة يتلوها في الساعة غير منشئها، ما أرخى إليها من قبل نظراً. ومع هذا فما برحت تزداد الفورة ويشتد بالقوم الفتون!
ولقد اذكر انه بعد إذ فرغ من خطاب الشيخ وافقت في طريقي صديقاً لي من شبان الحزب الوطني وهو الآن من أعلام آهل الفضل الذين يتولون منصباً جليلاً في السلك القضائي. وكان مسرفاً غالياً في التشيع لمبادئ حزبه. مفرطاً في بغض الشيخ شديد الحمل عليه ورأيته يضرب كفاً بكف فسألته ما به؟ فأومأ إلى مكان الشيخ من منصة الخطابة وقال: (على حس الخطبة دي، يقعد ابن الـ. . . يخون في البلد ثلاث سنين)!
ولا زلت كلما لقيت صاحبي اذكره هذه الحكاية، فيضحك في غيظ لا ادري أن كان من تذكيري له بهذه القصة، أم انه ما تزال في صدره بقية من هذا الضغن القديم؟! الله اعلم!
ولقد عرفت أن الشيخ علي يوسف كان رجلاً مكافحاً، بل أن قلمه لم يكن يجود في شيء مثلما كان يجود في الكفاح ولم تكن سياسة الاحتلال في مصر تخشى سطوة قلم قدر ما تخشى قلم هذا الرجل، فأنه كان فوق كفايته البيانية، وما آتاه الله من شدة العارضة، والتمكن من نواصي جلائل المعاني، لا يهرول إذا هرول في الصغائر ولا يطعن إذا طعن إلا في الصميم
ولا احب أن أتجاوز هذا المعنى في الرجل قبل أن أدل على خلة من خلاله في كفاحه: ذلك بأنه كان يعتمد اضعف النقاط في خصمه فيتجمع لها، ثم يثب عليها بكل قوته، ولا يبرح يطعنه منها دراكاً حتى يدوخ رأسه ويذهله عن سائر أسلحته، إذا كانت له أسلحة أخرى تجهز بها لذلك النضال
وكان في كتابته سريعاً جداً، حتى لتحسبنه ويده تجول في القرطاس عازفاً على قانون لا مسطراً بيراع، وتراه كلما فرغ من وجه الرقعة من الاضمامة دفع بها إلى من يفضي بها(70/20)
إلى المطبعة. وهكذا حتى يأتي على غاية المقال، لا يتتعتع ولا يتحبس ولا يحتاج إلى مراجعة شيء مما اسلف، ومع هذا تجد المقال سوياً غاية في الحبك وتناسق الأطراف!
ومن العجب العاجب في أمره انه كثيراً ما كان يكتب والغرفة محتفلة بالزوار وأصحاب الحاجات، يرفعون أصواتهم بفنون الأحاديث والجدل بل لقد يأخذ معهم في بعض ما هم فيه وهو ماض لشأنه لا يشغله هذا عنه كثيراً ولا قليلاً!
الشيخ علي الصحفي
ولقد كان رحمه الله، صحفياً بأجمع معاني الكلمة، يكتب المقال الرئيسي كل يوم بيده ويراجع كل ما يدلي به إليه الكتاب من المقالات، ويفض البريد بنفسه، فما رآه كفؤا للنشر إذن في نشره وقد يحذف بعض المقال ويبقى على بعض، فإذا تهيأت الجريدة للطبع وراجعها المصححون تناولها فقرأها من أولها إلى آخرها يصحح ما عسى أن يكون قد فات القوم تصحيحه، ويتثبت من إلا يكون قد دس على الجريدة شيء مما يكره أو يكون قد سقط إليها في سر منه إعلان عن خمر أو غيره من المناكر
وكان على جلالة محله وكثرة المخبرين لديه، يطوف بنفسه كل يوم بأكثر الدواوين في تنسم الأخبار يستخرجها بلطف حيلته من النظار (الوزراء) أو من المستشارين الإنجليز فمن دونهم من عيون الموظفين
وهكذا استطاع الشيخ علي بكفايته وحد عزمه أن يجعل من المؤيد اعظم جريدة في مصر، برغم كل ما كان يعتريها من الكيد، بل اعظم جريدة في العالم العربي كله
من أخلاق الشيخ علي
وقبل أن اختم الحديث في الشيخ علي يوسف أرى لزاماً أن أشير إلى فضيلتين من فضائله البارزة بروزاً عظيماً: أولاهما انه كان خيراً مطبوعاً، ما رأيته سئل الخير قط يستطيعه إلا فعله مهما يكن فيه من عنت ومن إرهاق، وإنه ليفعل مغتبطاً رضياً هاشاً حتى ليكاد يلتمس السائلية الخير إلتماساً، وحتى ليكاد يصدق فيه قول الشاعر (كأنك تعطيه الذي أنت سائله). وإني لأعرف إنه كان يجرد صدراً من يومه في السعي لحاجات الناس ابتغاء رضوان الله، هذه واحدة. أما الثانية فشدة وفائه. ولقد عرفت صلة الرجل بالقصر، ومبلغ ضعفه له. ولقد(70/21)
يتغير ولي الأمر يومئذ على الرجل من صدقاته أو مِنْ من أسلفوا له يداً، فتتناهشهم الأقلام من كل جانب، اللهم إلا المؤيد، فأنه الذي لا يطلق مقالة السوء فيه أبداً وحسبك دليلاً في هذا الباب شدة توافيه للمرحومين الشيخ محمد عبده، وسعد باشا زغلول، ورياض باشا، وغيرهم فإن كان قد مس بعضهم كما مس رياض باشا عقب خطبته المشهورة، فلقد كان عذره واضحاً وأي وطني يطيق أن يسمع الإشادة بفظل المعتمد البريطاني على حساب كرامة أمير البلاد! على إنه فيما مسه لقد كان به أرفق الكاتبين
فإن زعمت بعد هذا أنه كانت في الرجل هنة أو كانت فيه هنات، فمن ذا الذي سلم على العيوب كلها، و (كفا المرء نبلاً أن تعد معايبه). وحسب الشيخ علي انه كان بمجموعة مزاياه ومواهبه مفخرة من مفاخر هذه البلاد التي لا يسخو بمثلها الزمان و (إن الزمان بمثله لبخيل)
رحمه الله رحمة واسعة، وعزانا عنه نخن القادرية قدره، أحسن العزاء
عبد العزيز البشري(70/22)
كيف كنت حلاقاً
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
هل وجهي وجه حلاق؟؟
هذا ما ظللت اسأل المرآة عنه أياماً بعد أن وقع لي ما سأقصه اليوم، والمرآة لا تجيب، وان كنت لا أظن عليها بالإلحاح وطول التحديق، أو لعلها أجابت وأبيت أنا أن اسمع أو اصدق. وقد كففت عن مشاورة المرايا وأسلمت أمري إلى الله وأمر وجهي إلى حسن أدب الذين يرونه وصحيح أني كنت - وما زلت أحياناً - احلق ذقني بيدي، لأني كنت في عنفوان الاضطرام السياسي أخاف أن يوقعني سوء الحظ في يد حلاق سياسي لا يشايعني على رأيي، فيذبحني ويروح يدعي أن قتلي كان خطأ لا عن عمد وسبق إصرار، ولكني بلوت من متاعب الحلاقة ما زهدني فيها فرددت نفسي على مكروهها ولم اعد أبالي ما عسى أن يصنع برقبتي الحلاقون السياسيون. وللذبح أهون من تهمة الجنون. أي نعم فقد شرعت مرة احلق ذقني ولكن حد الموسى كان كليلاً جداً، فجعلت احك به واكحت حتى صار وجهي - أو خدي - الأصفر كالطماطم الناضج ولم اعد احتمل هذا الألم، وفرغ ما في صدري من الهواء من طول النفخ ومن كثرة قولي (اووفففف) فطويت الموسى وقلت أن هذا سلخ لا حلاقة ولست بشاة ثم أني ما زلت حياً ولم اصنع قبيحاً استحق عليه أن اسلخ وجهي بيدي
وارتديت ثيابي ووضعت منديلاً على جانب وجهي الذي سلخته وخرجت التمس دكان حلاق - اقرب دكان - وسرت على بركة الله وفي أملي أن يظن من يراني أن أضراسي توجعني. واهتديت إلى دكان على كثب من البيت، ولكن الحلاق كان مشغولاً فقعدت انتظر وكفي على المنديل فوق خدي وفرغ الحلاق فدعاني فأسرعت إلى الكرسي ورفعت المنديل عن وجهي، وجاء بالفوطة ولف طرفها على عنقي ثم ارتد بغتة ووقف يتأملني وقد قطب وذوى ما بين عينيه فقلت:
(ماذا؟؟ قل ولا تخف!)
قال وهو يهز رأسه: (كلا. لاشيء!)
قلت ملحاً: (بل تكلم. . فأني مستعد للإصغاء. .)(70/23)
فتكلف الابتسام - اعني انه ابتسم بشفتيه دون عينيه - وراح يجمع أدوات الحلاقة ويعدها ويرصها، وكان في أثناء ذلك يخالسني النظر، فلم يبقى عندي ريب في أن الشك خالجه في صحة عقلي، وما احسبه رأى قبلي رجلاً يدخل عليه ونصف وجهه محلوق والنصف الآخر يطلب الموسى وكأنما حار، ماذا يضع بالنصف الحليق؟ أيجري عليه الموسى؟ أم يدعه ويعني بالنصف الثاني؟ فقد وضع عليه حد الموسى ثم رفعه ووقف متردداً فقلت لأستحثه:
(تفضل. تفضل. . أن هذاأيضاًيحتاج إلى الموسى) فألقى إلي نظرة سريعة واكب على العمل بلا كلام والحلاقون كما يعرف القراء ثرثارون ولكن منظر وجهي كان له وقع عميق في نفس هذا الرجل، فنشف ريقه وعصب لسانه وانقطع أيضا ولم يسؤني هذا ولكني فزعت إذ رأيت يده ترعش فجعلت. أدعو الله في سري أن يلطف بي ويرأف بعيالي ويرحم شبابي
واستجاب الله دعائي لأول مرة. . ولآخر مرة فيما اذكر. . وعلى انه من يدري؟ لعل الرحمة كانت أن يذبحني الحلاق - عفواً أو عمداً - فما تكون للمذبوح عناية بهذه الفروق
واتفق يوماً أني نزلت فندقاً وكان فيه غيري كثيرون كما لا حاجة بي أن أقول وبينهم أجنبي هرم له بنت جميلة وكان هذا الشيخ أحمق حاد الطبع، وبنته على خلافه لينة العريكة سلسة الطباع، ولو إنها كانت حمقاء مثله لشفع لها جمالها فكيف وهي تجمع إلى حسن الوجه دماثة الخلق ورقة الحاشية؟ وعرفتها لأني اصطدمت بها فأوسعتها اعتذاراً فلم يضق بي عفوها، وصرنا بعد ذلك كلما التقينا نتبادل التحية - بالرأس - وكنت ألقاها في اليوم الواحد خمسين مرة فلا ادري أيّنا الذي كان يتعقب صاحبه؟ وفي المرة التاسعة والأربعين من اليوم الأول استطعت أن افتح فمي وأحرك شفتي فقالت مستفسرة:
(نعم؟)
قلت: (لاشيء. اعني أني أردت أن أقول نهارك سعيد)
قالت: (آه! صحيح! نهارك سعيد!)
قلت: (أ. . أ. . الجو اليوم جميل. .)
قالت وهي تضحك بلا داع: (أ. . . نعم. . . جـ. . . جميل. . .)
قلت: (لا خوف من المطر) وعضضت لساني(70/24)
قالت - وكفت عن الضحك -: (مطر؟ في أغسطس؟ في الإسكندرية؟)
فاضطربت وقلت: (أ. . . اعني. . . اعني أن الجو جميل) فابتسمت ابتسامة خبيثة وقالت: (لقد قلت هذا من قبل. . .)
فحقدت عليها - في سري - وقلت: (صحيح! لقد نسيت! فيا للغباوة! لقد كنت أظنها جملة مبتكرة!)
ولو كنا بقينا خمس دقائق بعد ذلك لحلت عقدة لساني، فقد عاودتني الثقة بنفسي وأيقنت أن العقدة ستحل بعد أن نطقت بآخر كلمة، ولكن أباها - لعنة الله عليه -! آبى إلا أن يقبل في هذه اللحظة وكان وجهها إليه وظهري له فرأته قبلي وقالت:
(هذا أبي) وأشارت إليه
فدرت على عقبي بسرعة، ولم أكد ابصر وجهه حتى استولى عليّ الرعب، فهربت بلا كلام ولا استئذان ولم يكن ثم باب آخر في هذه الناحية اخرج منه ولم أجد أمامي غير (صالون حلاقة)، فدخلته وكان - كما شاء الحظ - خالياً. وشعرت أن بي حاجة إلى منعش بعد الذي أصابني من منظر هذا الشيخ الشرس فتناولت قطرات من (الكولونيا) وشممتها ومسحت بها وجهي وإذا بالرجل يصيح بي:
(ماذا تعني بهذا التلكؤ؟ لقد بعثت إليك منذ نصف ساعة لتوافيني في غرفتي وتحلق لي ذقني! عجل يا بليد!)
وكان من الواجب أن اذهل أو ابهت أو احتج ولكن كرهي له أيقظ حواسي جميعاً فقلت هذه فرصة سنحت للانتقام منه وأسرعت فقلت:
(حالاً. . حالاً. . كم رقم الغرفة من فضلك؟)
قال: (15. .)
ومضى عني فجمعت أدوات الحلاقة ووضعتها في حقيبة صغيرة رأيتها هناك في ركن وخرجت فإذا بالفتاة تدنو مني وتقول:
(ماذا تنوي أن تصنع؟)
فقلت: (احلق ذقن أبيك)
قالت: (حاذر. . . هذه مجازفة)(70/25)
قلت: (اعرف ذلك وأشكرك، ولكن إلا تثقين بي؟)
قالت: (انك لا تعرف أبي)
قلت: (ثقي انك أنت أيضا لن تعودي تعرفينه!)
قالت: (دع المزاح. . . لم اكن أظن انك طائش إلى هذا الحد)
قلت: (تعالي. . . وانظري)
وتركتها وقصدت إلى السلم وهي ورائي
ولم تكن الفتاة مبالغة حين حذرتني وأنذرتني، فان أباها شيء فظيع وقد اسمعني في خمس دقائق من ألفاظ التعنيف والشتم والقذف والطعن والقدح ما لم اكن أظن انه يوجد في لغات العالم مجتمعة بله في لغتنا العامية التي يعرف اقلها ويجهل اكثرها، ولكني أنا أيضا لم اكن مبالغاً حين أكدت للفتاة إنها لن تعرف أباها بعد أن افرغ من حلاقة ذقنه فقد أرقت نصف رطل على الأقل من دمه الثقيل، ولم أكد أضع الموسى على خده حتى صرخ وصاح بي:
(أنت جزار. . . لا حلاق)
فقلت: (عفواً سيدي أن حد الموسى لم يلمس جلدك)
قال: (لم يلمس جلدي! تقول لم يلمس جلدي يا أعمى! لقد قطع لحمي!)
فطمأنته، فنهرني وزجرني عن الكلام فأجريت الموسى وخرجت بقطعة ثانية من لحمه القديم وماذا اصنع إذا كان جلد وجهه عميق الأخاديد؟ أهذا ذنبي أم ذنبه؟ وقلت له:
(يحسن بك يا سيدي أن تجيء في كل صباح بأربع بيضات أو خمس فتكسرها وتصبها في وعاء وتمزجها بمسحوق الثلج - يعني بودرة الثلج - وتعجن هذا بذاك وتدهن به وجهك وتظل نصف ساعة لا تفتح فمك بكلام ما، ثم تغسل وجهك فإذا واظبت على ذلك شهراً كاملاً عادت إلى وجهك نعومته بأذن الله
فصاح بي (اخرس. أقول لك اخرس)
فقلت (طيب خرست) وواصلت انتقامي. وكنت قد بلغت عنقه فجعلت انظر إلى الفتاة نظرة لا تخفي دلالتها، نظرة طيها الحقد والتصميم على القتل عمداً ومع سبق الإصرار ورفعت يدي بالموسى نحو ذراع وهممت أن أهوى بها على رقبته وإذا بالفتاة تصرخ فارتددت مذهولاً ووثب هو عن الكرسي وذهب يعدو إليها وسألها (مالكِ؟) فلم تجبه وجعلت تشير(70/26)
إلى وتهيب بي ان (اخرج. اخرج. . .)
فهززت رأسي آسفاً فقد ذهبت الفرصة إلى حيث لا يمكن أن تعود فسألها هو:
(يخرج؟ يخرج كيف؟ ويدعني هكذا) وأشار إلى خده الآخر الذي لم يحلق فقالت:
(انه ليس بحلاق)
قال: (آيه؟ ليس بحلاق!)
ودار فالتفت إليّ فرآني اضحك فطار عقله وتحرك يريد أن يهجم عليّ فتذكرت ما يفعل الذين يقاتلون الثيران في أسبانيا فخطفت الفوطة ألقيتها على وجهه وفررت
وقالت لي الفتاة بعد ذلك:
(لم اكن اعلم انك شرير)
قلت (شرير؟؟)
قالت (نعم. . كدت تقتله وتقتل نفسك)
قلت (أينا كنت تبكين عليه؟)
قالت (لا تكن خبيثاً. . . انه أبي)
قلت (لا اصدق. . .)
قالت (من فضلك. . . لا تذكره بسوء أمامي)
قلت (اعترفي إذا انه. . .)
قالت (لو كنت اعتقد انك ستقتصر على جرح أو جرحين. . .)
قلت (وهل كنت تتوهمين أني يمكن أن اذبحه؟)
قالت (لقد خفت والله. . .)
قلت (يا بلهاء. . . لأجل عين تكرم ألف. . .)
وصرنا صديقين ولكن أباها لا يراني - إلى اليوم - إلا ارتد راجعاً، وحسناً يفعل
إبراهيم عبد القادر المازني(70/27)
نُذُرُ الحرب الجديدة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تشهد معظم العواصم الأوربية منذ اشهر فترة غير عادية من النشاط السياسي؛ وقد تحول هذا النشاط منذ مأساة مرسيليا التي ذهب ضحيتها الملك اسكندر ملك يوجوسلافيا ومسيو بارتو وزير الخارجية الفرنسية، إلى نوع من الحمى الدبلوماسية وتلوح اليوم في أفق السياسة الأوربية سحب كثيفة تثير الجزع في كثير من العواصم والأمم. ما الذي سيعقب مأساة مرسيليا من الحوادث والتطورات سواء في يوجوسلافيا ذاتها أم في أوربا بصفة عامة؟ وهل يكون السلم في خطر حقيقي؟ وهل نشهد اليوم مقدمات أزمة دولية مستعصية قد تفضي إلى نشوب الحرب؟ هذه الأسئلة الخطيرة تتردد اليوم في جميع دوائر السياسة العليا لا على إنها هواجس واحتمالات بعيدة الوقوع ولكن على إنها فوض حقيقية خطيرة يجب التحوط لها
وقد لوحظ بحق أن للجريمة السياسية شأناً كبيراً في إثارة هذه السحب التي تحلق اليوم في أفق السياسة الأوربية فمنذ اشهر قتل مسيو دوكا رئيس الوزارة الرومانية فترتبت على مقتله صعاب وأزمات ما زالت رومانيا تعاني من أثرها. وفي أواخر يوليه الماضي قتل الهير دولفوس رئيس الحكومة النمساوية في ظروف وحشية فأثار مقتله أزمة سياسية خطيرة لا في النمسا وحدها ولكن في أوربا الوسطى كلها وذهبت إيطاليا في إجراءاتها وتحوطاتها لصون استقلال النمسا من اعتداء ألمانيا وعمالها المأجورين إلى حشد الجنود على حدود النمسا الجنوبية، ولاح شبح الحرب واضحاً مدى حين. ثم كان مقتل الملك اسكندر ومسيو بارتو أخيرا في مرسيليا فبدت الأزمة الأوربية في أروع مظاهرها، وتجددت نذر الخطر وأحاديث الحرب ويخشى المتشائمون أن يكون التاريخ إنما يعيد نفسه وان تكون مأساة مرسيليا قرينة مأساة سيراجيفو ونظيرتها في الظروف والنتائج. والحقيقة أن مؤرخ الحرب الكبرى لا يسعه إلا أن يعتبر مأساة سيراجيفو من أهم العوامل - الظاهرة على الأقل - في إثارة الحرب فقد اتخذت إمبراطورية النمسا والمجر مقتل الأرشيدوق فرنزفردينند وقرينته في سيراجيفو في 28 يونيه سنة 1914 بيد طالب سربي سبباً لاعتبار حكومة سربيا مسئولة عن الجريمة مباشرة ومطالبتها في بلاغ نهائي بمطالب(70/28)
عدتها سربيا افتئاتاً على سيادتها وشدت ألمانيا أزر النمسا في موقفها ولكن روسيا تدخلت لتعضيد سربيا ضد النمسا باعتبارها حامية الشعوب السلافية. وكانت الأزمة الخطيرة التي أدت إلى وقوع الحرب بعد ذلك بأسابيع قلائل
وإذا لم يكن لجريمة مرسيليا مثل هذه النتائج السريعة الحاسمة فلا ريب إنها زادت الأزمة الأوربية تعقيداً وخطورة، وكانت عاملاً جديداً عميق الأثر في زعزعة السلام الأوربي. وإذا وقعت حرب جديدة في القريب العاجل، فان جريمة مرسيليا تكون بلا ريب بين عواملها الأولى. ومن المعروف أن السياسة الأوربية كلها تقوم اليوم على تهيئة أسباب الهجوم والدفاع في الحرب القادمة، وأنها تأخذ الطابع القديم الذي يوصف في لغة السياسة بالسلم المسلح أو السعي إلى صون السلام بالاستعداد للحرب دائماً. ومثل هذه السياسة تخضع دائماً لأزمات الساعة، لأنها تقوم على الأثرة والقومية المغرقة وليست تحدوها أية مُثل إنسانية أو دولية عامة. وقد وقعت جريمة مرسيليا في وقت تجتمع فيه أوربا في معسكراتها القديمة التي حالت آثار الحرب الكبرى مدى حين دون بعثها وتكونها. والدول التي تسيطر على مصاير السياسة الأوربية اليوم هي فرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا؛ وهي التي تتجاذبها في تكوين المعسكرات الهجومية والدفاعية وفرنسا اشدها سيطرة على الموقف ونفوذاً في تطوراته؛ ومقصد السياسة الفرنسية معروف هو العمل بكل الوسائل لعزل ألمانيا عن باقي الدول الأوربية حتى لا تقوى بالتحالف على مهاجمة فرنسا، وأحاطتها بسياج من الدول الخصيمة المتأثرة بالسياسة الفرنسية حتى تبقى دائماً في موقف الأحجام والضعف؛ وإذا وقعت حرب فان فرنسا تستطيع بمعاونة حلفائها أن تتغلب على ألمانيا. وقد سارت فرنسا في هذه السياسة إلى ما قبل جريمة مرسيليا شوطاً بعيداً، واستطاعت أن تجذب روسيا السوفيتية إلى معسكرها وان توثق سياسة التحالف الروسي الفرنسي القديم بعد أن لبثت روسيا مدى حين بعيدة عن حظيرة الدول الغربية وان تتوج هذا التحالف بالعمل على ضم روسيا إلى عصبة الأمم بعد أن لبثت تخاصمها منذ قيامها. وقد كانت السياسة الألمانية ما قبل الحرب تغالب التحالف الروسي الفرنسي بالتحالف الألماني النمساوي ولكن إمبراطورية النمسا والمجر القديمة قد ذهبت وقامت على أنقاضها دول تخاصم ألمانيا أو تتأثر بالسياسة الفرنسية. والسياسة الفرنسية هي التي خلقت كتلة التحالف الصغير في(70/29)
أوربا الوسطى من يوجوسلافيا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا، وهي التي توجهها في سياستها الأوربية. ولما قامت الحركة الهتلرية في ألمانيا وظهرت ألمانيا في صورة المهدد لفرنسا والمهدد للسلام الأوربي ضاعفت فرنسا جهودها في توثيق التحالف بينها وبين روسيا ودول التحالف الصغير خصوصاً بعد أن شعرت أن بولونيا قد أخذت تتحرر من نفوذها وتتجه نحو ألمانيا. وكان من أهم أغراضها أن تجذب يوجوسلافيا بصورة نهائية إلى جانب السياسة الفرنسية لأنها شعرت أن السياسة الألمانية قد أخذت تتجه نحو يوجوسلافيا وتحاول كسبها بوسائل شتى. ولكن فرنسا رأت من جهة أخرى أن هذا التحالف لا يحقق الغاية المنشودة إلا إذا آزرته إيطاليا. وبين إيطاليا ويوجوسلافيا خصومة قديمة فيجب أن تذلل قبل كل شيء
لهذا كانت رحلة مسيو بارتو إلى يوجوسلافيا وكانت رحلة الملك اسكندر إلى فرنسا وكان المقرر أن تكون مفاوضات الملك اسكندر مع الحكومة الفرنسية تمهيداً لمفاوضات فرنسية إيطالية تجرى في روما وتسوى فيها جميع المسائل والخصومات القائمة بين إيطاليا ويوجوسلافيا من جهة وبين فرنسا وإيطاليا من جهة أخرى وكان الأفق مناسباً لتحقيق هذا البرنامج، لأن إيطاليا كانت قد بدأت في الآونة الأخيرة تتباعد عن ألمانيا على آثر حوادث النمسا التي انتهت بمقتل الهير دلفوس وافتضاح نيات ألمانيا ومشاريعها نحو الاعتداء على النمسا؛ وتم الشطر الأول من هذا البرنامج بالمفاوضات التي وقعت في بلغراد بين فرنسا ويوجوسلافيا ولكن الشطر الآخر لم يتحقق لأن الملك اسكندر ما كاد يطأ ارض فرنسا حتى سقط قتيلاً برصاص الوطنيين الكرواتيين وسقط إلى جانبه مسيو بارتو؛ وأخرت هذه المأساة مشاريع السياسة الفرنسية؛ إلى حين؛ وأودت بمشاريع حكومة بلغراد وبعثت إلى أفق السياسة الأوربية ولا سيما أوربا الوسطى، ريباً وهواجس جديدة وأثارت صيحة الحرب مرة أخرى والواقع أن مقتل الملك اسكندر كان ضربة شديدة ليوجوسلافيا؛ وقد بينا في مقال سابق كيف أن تكوين يوجوسلافيا الجديدة من عناصر متنافرة خصيمة يعرض وحدتها للتمزق دائماً وكيف أن هذه الوحدة تقوم على أسس مصطنعة في ظل طغيان حديدي كان الملك اسكندر عماده وقائده، فالآن يحدق الخطر بهذه الوحدة المغصوبة وتقف حكومة بلغراد حائرة متوجسة من المستقبل القريب؛ وتقف إيطاليا أيضا مترددة تسبر غور(70/30)
الاحتمالات الجديدة. هل تستمر في الإصغاء إلى عرض السياسة الفرنسية فتهادن يوجوسلافيا وتحالفها وتدخل في حظيرة هذا التحالف الذي يجمع دول الاتفاق الصغير وروسيا إلى جانب فرنسا؟ ومما يزيد في تردد إيطاليا ما تحاوله ألمانيا لديها الآن من تحويلها عن ذلك الطريق، وإعلان استعدادها لضمان استقلال النمسا وتسوية المسائل الأخرى التي تهم إيطاليا بيد أن السنيور موسوليني يقف الآن وقفة المنتظر ليرى أولاً ما يمكن أن تحدثه آثار جريمة مرسيليا في شئون يوجوسلافيا الداخلية وهل يوجد ثمة ما يحمل على الاعتقاد بقرب تفكك هذه الكتلة السلافية الخطرة التي خلفتها معاهدة الصلح، والتي تنازع إيطاليا سيادتها في بحر الأدرياتيك وتهدد نفوذها في البلقان وأواسط أوربا وهل تقوم في يوجوسلافيا حركة انفصالية يقوم بها العنصر الكرواتي خصيم العنصر السربي الذي يستأثر بالسلطة في يوجوسلافيا ويضطهد العناصر الأخرى؟ فإذا آنس موسوليني شيئاً من هذه البوادر فقد يفضل أن يستبقي حريته في العمل؛ مدى حين وعندئذ تعمل إيطاليا من جانبها على تشجيع العناصر الانفصالية في يوجوسلافيا حتى يتم تفكك هذه الكتلة السلافية وتستطيع إيطاليا أن تتجه ببصرها نحو دلماتيا التي تطمح إلى امتلاكها، وعندئذ ينهار التحالف الصغير وأيضاً وينفتح أمامها مجال العمل في أوربا الوسطى على أن فرنسا تعمل من جهة أخرى بكل ما وسعت لتحقيق التفاهم والتحالف مع إيطاليا. وهي على أهبة لأن تضحي في هذا السبيل ببذل بعض المطالب التي تطمح إيطاليا إلى تحقيقها. وما تعرضه فرنسا على إيطاليا ينحصر فيما يأتي: (1) تعديل الحدود الطرابلسية من جهة تونس والتجاوز لإيطاليا عن بعض المناطق المتاخمة لبرقة (2) عدم مقاومة التوسع الإيطالي في طرابلس من جهة الجنوب في اتجاه بحيرة تشاد (3) عدم مقاومة مشاريع إيطاليا وأطماعها في الحبشة (4) تسوية مسألة الرعايا الإيطاليين في تونس ومنحهم بعض الحقوق والمزايا الخاصة؛ فهذه عروض ومزايا لا تستطيع إيطاليا أن تأبى قبولها خصوصاً إذا علمنا أن التوسع الاستعماري قد غدا من اعظم أهداف السياسة الفاشستية. وعلى أي حال فان برنامج السياسة الفرنسية لم يتغير بمقتل مسيو بارتو وقد أعلن مسيو لافال وزير الخارجية الجديد انه سيعمل لإتمام ما بدأ به سلفه؛ وسوف يقوم بزيارة روما كما كان مقرراً من قبل للمفاوضة في تحقيق البرنامج المرسوم(70/31)
هذه هي خلاصة العوامل التي تسيطر الآن على مجرى السياسة الأوربية. والظاهرة الجوهرية التي تبدو خلال ذلك كله هي اشتداد التنافس في أحياء المعسكرات الأوربية القديمة وإنشاء الكتل الهجومية الدفاعية التقليدية. لماذا؟ استعداداً لحرب تلوح في الأفق. وما زالت فرنسا هي المتفوقة في هذا الميدان ولكن ألمانيا تعمل أيضا، رغم عزلتها السياسية على إنشاء معسكرها وحشد حلفائها. وقد ظفرت أخيراً بكسب بولونيا وسلخها عن كتلة الدول المتأثرة بالسياسة الفرنسية وأحداث أول ثغرة بذلك في المعسكر الفرنسي ولم تعبأ ألمانيا بفداحة الثمن الذي دفعته لتحقيق هذه الغاية وهو التسليم بالممر البولوني الذي يشق أراضيها إلى البحر. ومازالت ألمانيا تتمتع بشئ من العطف في المجر ويوجوسلافيا لأنها تشتري محاصيل البلدين. ولكن ذلك لا يمكن أن يعوض عليها خسارتها الفادحة بفقد معاونة روسيا ومحالفتها؛ وقد كان إغضاب روسيا وفقدها من اعظم أخطاء ألمانيا الهتلرية خصوصاً وان روسيا لم تتحول عن ألمانيا إلا لكي تتفاهم وتتحالف مع فرنسا ألد واخطر خصومها وروسيا السوفيتية قوة لا يستهان بها
وقد يكون من المبالغة أن يقال أننا الآن على أبواب حرب قريبة ولكن ليس من المبالغة أن نقول أننا نشهد الآن نذر الحرب القادمة ومقدماتها. ومتى هذه الحرب؟ قد تقع بعد اشهر وربما بعد أسابيع إذا تطورت الحوادث في يوجوسلافيا فجأة وافلت زمام الموقف من يد حكومة بلغراد؛ وقد لا تقع إلا بعد عامين أو أعوام قلائل إذا بذلت جهود صادقة لاتقائها أو لتأخيرها. وعلى أي حال فليس مبالغة أن نقول أننا نشهد الآن من تطورات السياسة الأوربية أقربها أشبهها بتلك المرحلة التي تقدمت الحرب الكبرى وبلغت ذروة خطورتها في صيف سنة 1914. والواقع أن أسباب الأزمة الأوربية الكبرى تجتمع وتتفاقم منذ عامين؛ وأهمها بلا ريب لخفاق مشروع نزع السلاح، والفشل الذريع الذي لقيته عصبة الأمم في حل مختلف المشاكل الدولية؛ وانهيار سياسة التفاهم الدولي والتحكيم التي بلغت ذروتها بعقد ميثاق تحريم الحرب، ولم يلبث أن ظهر عقمها من الوجهة العملية ثم قيام الحركة الهتلرية في ألمانيا وما جنحت إليه من سبل العنف والوعيد، وما أثارته في فرنسا من هواجس ومخاوف جديدة. بيد أن هذه الأسباب كلها ترجع إلى اصل واحد، هو معاهدة الصلح (معاهدة فرساي) التي لم يراع في وضعها سوى تحقيق شهوات الظافرين واطماعهم، ولم(70/32)
يقصد بها إلى وضع أي سلام شريف دائم، ولكن أريد بها تحطيم قوى الأمم المغلوبة وتمزيق وحداتها القومية دون مراعاة الحدود الجغرافية ووحدة العناصر وتراث التاريخ، فجاءت كالبركان الصامت يضطرم في خفاء ولكن تسري ناره تحت الهشيم وغدت اعظم عامل في إثارة الأحقاد والأطماع القومية، وخلقت مشاكل الحدود والأقليات الشائكة في طول أوربا وعرضها ومهدت إلى هذه الأزمة الشاملة التي تهب ريحها اليوم على أوربا منذرة بشر العواقب وكما أن الأزمة الدولية الكبرى التي اجتمعت أسبابها قبيل الحرب قد لقيت نذير انفجارها في مأساة سيراجيفو، فكذلك تلقى الأزمة الدولية الحاضرة نذيراً خطراً في مأساة مرسيليا، وإذا كانت الحكومة النمسا الإمبراطورية قد رأت يومئذ أن تحمل الحكومة السربية تبعات هذه الجريمة الرائعة، وان ترتب عليها من المطالب الفادحة ما ثارت له روسيا وعجل بوقوع الكارثة، فكذلك ترى حكومة بلغراد أن تحمل الحكومة المجرية تبعة جريمة مرسيليا، إنها تأوي في أرضها عدداً كبيراً من اللاجئين الكرواتيين، وتتقدم إليها بمطالب ترى فيها افتئاتاً على سيادتها؛ وقد يكون ثمة فارق بين وقع الجريمتين في سير الأزمة الأوربية، ولكن الذي لا ريب فيه هو أن جريمة مرسيليا من اخطر العوامل في تفاقمها. فسلام أوربا وربما سلام العالم في خطر لا ريب فيه، وذا تركت الأمور في مجراها الحاضر ولبثت الأحقاد والأطماع القومية على حالها مطلقة العنان، وإذا لم تتضافر القوى النزيهة المخلصة لقضية السلام وتقف سداً منيعاً في وجه هذا التيار الخطر فسوف نشهد في القريب العاجل انفجار البركان المروع مرة أخرى.
محمد عبد الله عنان المحامي(70/33)
عودة. . .
بقلم جورج وغريس
(امرأة هجرها زوجها منذ امد بعيد فعاشت وحيدة مع طفلها إلى أن قضت نحبها، فذرفت عيني دمعاً التأمت قطراته في كلمات قرأها الزوج الهارب في العدد الحادي والستين من (الرسالة) ثم جاءني يسعى. . .)
في سكون الليل الرهيب طرق باب منزلي، فلما أن فتحته وجدت أمامي شخصاً لم أتبينه
قلت: من؟
قال: ألا تعرفني؟
قلت: معذرة. . فمن طبيعة الإنسان أن ينسى، ومن صفات الليل أن يسكب لوناً غير لونها
قال: صديق قديم
قلت: (مرحباً). . ثم أخذت بيده إلى غرفة الاستقبال وتحت ضوء المصباح رأيت أمامي رجلاً في الحلقة الرابعة من عمره، ترتسم الكآبة على وجهه الشاحب ويظهر عدم الاكتراث على لباسه غير المنتظم ورباط رقبته الذي يتدلى على قميصه كالخرقة البالية. . . قلبت بصري في زائري الكريم ولكنني لم اذكر تلك الصداقة القديمة التي كانت تربطني به، لذا أحسست في نفسي بشيء من الريبة والخوف. وقبل أن أقول شيئاً أو ابدي حركة اعتدل ضيفي في جلسته ثم قال:
- أماتت حقيقة. . .؟
قلت: من؟
قال: زوجتي
قلت: ماذا تعني؟ أنت اعلم بحالها، أما أنا فلا أدرك ما تقصد ولا ادري من أمرك شيئاً
قال: بل انك تدري كل شيء ولكنك تريد أن تجهلني وتجهل كل شيء وبالأمس أخرجت للناس صورتي مشوهة ممسوخة، أملاها عليك خيالك الحاقد وأعصابك الثائرة، فقد قرأت في (الرسالة). . . . . .
قلت منتفضاً: أأنت فلان. . .؟
قال: نعم(70/34)
قلت: معذرة. . . لقد غيرت الأيام من سحنتك وبدل الزمان من هيئتك، حتى أضحيت شخصاً غير الذي كنت اعرفه أتدري ما فعل الخريف في الشجرة المورقة الفينانة؟ أتعلم ما ينتابها من تساقط أوراقها وتراجع أغصانها وتقلص ظلالها. . .؟ أن ما يصيبها يا صديقي في تلك الآونة لأهون والله مم أصابك في خريف حياتك، ولئن كان لتلك الشجرة ربيع تستعيد فيه ما فاتها وتسترجع فيه أسباب الحياة، فهيهات أن تجد لنفسك ربيعاً يبدل من حالك بعد هذا الجدب الذي أصابها. وحسب الأيام منك الآن إنها ستقف عند الحد الذي وقفت عنده فلا هي بدافعة بك إلى الأمام لأن النمو من خصائص الطبائع الحية، ولا هي بقاذفة بك إلى الخلف لأنك في قرار الهوة. . . ولطالما مدت إليك حبال النجدة وقد فتلت من خيوط الرحمة والعطف والصفح والمروءة. ولكنك أبيت إلا أن تقطعها بأسنة الجمود والنكران والرياء والختل، فربطت مصيرين بمصيرك وقتلت نفسين وأسأت إلى نفسك
قال: مهلاً، فقد بدأتني قبل أن أبدأك، وأوغلت في القول وما تركت جارحة إلا وأرسلتها تنهش في نفسي واراني قد جئت لأغسل إهانة فأتبعتها بأخرى وأتيت لأرد سهماً فأصابتني منك سهام ولا ادري من سبب يجعلك مني في هذا الموقف العنيد سوى انك كنت تنظر بعين واحدة في قصتي وتسمع بأذن واحدة. وليس ببعيد على المرأة التي تدفع العالم بيدها الرقيقة دفعاً شديداً في غير رفق ولا هوادة أن تكون قد سكبت سمومها في نفسك فجعلت منك نصيراً لقضيتها، وهي إذ تكسبك إلى جانبها تدفعك في الواقع عن طريقها
لقد خلصت زوجتي من براثن أبيها ولكنها منذ اللحظة الأولى وهي تريد أن يصرع رأيها رأيي وان تقف رغبتها دون رغبتي، فإذا قلت قولاً أبدت نقيضه وإذا أديت فعلاً امتعضت منه، كأن الله قد جعل القبح من نصيبي في القول والفعل، أو كأنه وضع كل الجمال بين شفتيها وعلى أطراف أناملها ليكون غلافاً حسناً لكل ما تقوله أو تعمله. . . . . . أردت لها الحجاب فأعلنت السفور وأخذت عليها العناد فأنكرت عليّ هذا الحق وأحببت أن تكون كما أريد فشاءت أن تكون كما تحب. وكان لي صديق احبه واعزه ويزورني في منزلي وأتردد عليه في داره فوشت لي به وفي سورة الغضب كدت اقتله ولولا قرائن في براءته وحزم في تفكيري لكان هذا الصديق اليوم وديعة القبور وكنت أنا نزيل السجون. . . كان من اثر كل هذا أن أحسست بآمالي ترتطم بصخرة قاسية وشعرت بالأفق العريض تضيق دائرته(70/35)
شيئاً فشيئاً، حتى أوشك أن يجعل لي من هذه الحياة قفصاً لا حيلة لي في رد عائلته. . . فماذا كنت تريدني أن افعل يا صديقي وهذه الأسباب قد أجمعت علىّ أمرها فغلبتني على أمري. .؟ لقد وليت هارباً، ولكن ضميري ظل يضايقني باحتباسه حتى أفرجت عنه بكأس الخمر. . تلك الكأس التي أحرقت همومي أحرقتني، وأذابت ضميري وكبدي وسلبتني ولم تعطني. . . أليست تلك النار من الشعلة التي أسلمتها الشياطين ليد المرأة. .؟ انك تقدر المرأة لأنك غريب عنها ولكن اعلم يا صديقي إنها منذ القدم آلة فساد وعنصر تقلب، وأداة رياء، وكل ما في الحياة من شر إنما هو بسمة خادعة انفرجت عنها شفتا امرأة، وهذا المصير المحزن الذي انحدرت إلى أعماقه، إنما يرجع إلى تلك المرأة التي أحببتها فكرهت لي الحياة، وغمرتها بفضلي فرفعت رأسها كالحية الرقطاء. . . مرت الأيام كالأشباح الهزيلة، وأنا أهيم على وجهي إلى أن شاءت الأقدار أن تدفع إلى يدي صحيفة (الرسالة) فقرأت عن المرأة التي هجرها زوجها فماتت كظيمة الحزن دفينة الألم، وبقي طفلها على صدرها يبكي وينتحب ورأيت طرفاً من قصتي يختبئ بين سطور تلك القصة وما أن وصلت في القراءة إلى اسمك في ذيل المقال، حتى ذهب عني الشك وتذكرت جاري القديم وأخذت عليه اندفاعه في الكتابة دون تبصر أو روية. . . وها أنا قد سعيت إليك بعد أسابيع بعث الله لي فيها من تولي الدفاع عني، فقد قرأت بجوار قصتك ما كتبه الرافعي في (تربية لؤلؤية) وتابعت ما وصف به المرأة فيما تلا ذلك من أعداد فسررت أن رأيت المرأة تدفع دفعاً إلى المكان الخليق بها. . .
قلت: يشاء الجمود أن يجعل في نفسك طبيعة صخرية حتى أمام جلال الموت وتشاء تلك الطبيعة الصلدة أن تنبش قبور الراقدين في غير رحمة ولاشفقة، فزوجتك التي لفحت وجهي بأنفاسها المحترقة وهي تعاني عذاب الموت، والتي ظلت تردد اسمك إلى أن لفظت روحها تلك الزوجة المسكينة المنكودة يأبى عليها القدر القاسي أن تفوز منك وهي تحت أطباق الثرى إلا بوابل السخط واللعنة تصبه على جدث هامد لا يملك رد غائلة، ولا يقوى على دفع نازلة وهذا لعمري عداء ضاعت منه صفة الشرف. . . والمرأة مذ خلقت وهي تعاني شر هذا العداء لا لشيء سوى أن الرجل يميل بطبيعته إلى جنسه وتدفعه الأثرة إلى أن يسود نفسه ويعظم من شأنه ويحقر من أمر تلك المخلوقة التي جاءت تنازعه البقاء، فهو(70/36)
في عصوره الأولى كان يبعث بالمرأة طعاماً للآلهة وهو في الجاهلية كان يئد مولودته ولا يعترف لها بالحياة، وفي اليابان كان الرجل يدفع بابنته إلى أمكنة الفجور خرقة يمسح بها الرجال شهوتهم حتى تسد ديون أبيها وفي الصين كان الرجل إذا ما ولد له غلام ذكر يفرح ويتهلل أما إذا كان المولود أنثى قال مكتئباً: (لقد سقط حجر من سقف منزلي. . .)، حتى في عهود المدنية وفي مواطن الحضارة يدفع ظلم الرجل المرأة إلى ما يسمونه (الرقيق الأبيض) وهو اللطخة الدامية في الجبين الناصع وفي مصر وبلاد الشرق لا تفوز الزوجة غالباً من زوجها إلا بما تفوز به الخادم من سيدها. فهل رأيت حالة كريهة كالتي تعانيها المرأة منذ ولادتها حتى يحويها الرمس. . .؟ وأي الأمراض انفردت بها المرأة عن الرجل حتى استحقت منه هذا الجزاء. . .؟ أليست كل امرأة ابنة لرجل وزوجة لرجل وأما لرجل. . تأخذ الخلق عن أبيها وتهديه إلى زوجها وترضعه لطفلها. . .؟ فإذا فسدت المرأة أليس هذا الفساد أثراً من تهاون أبيها في تربتها. . .؟ وإذا ضلت المرأة أليس من بين الرجال من هم اشد منها ضلالاً واقبح رذيلة. . .؟ ولئن جاز للرجل أن يقول في كل ما ينتابه من مصائب: (فتش عن المرأة) إلا يجوز للمرأة أن تقول في كل ما يلحقها من أذى: (فتش عن الرجل). . .؟
واعجب العجب قولك أن الأستاذ الرافعي يدافع عنك فيما كتبه ويكتبه، وهذا لا يمكن أن يقع لأنه إنما يكتب عن عقيدته الخاصة في المرأة. ومهما فاض (السحاب الأحمر) بما توحيه إليه تلك العقيدة، ومهما جاء في كتاباته في (الرسالة) عن الحجاب والسفور فهو لا يوافقك على تلك اللطمة القاسية التي صفعت بها خد المرأة. والحجاب الذي ينادى الرافعي به في (تربية لؤلؤية) لا يمكنه أن يعيش طويلاً بعد تلك النظرة الساخرة التي ترسلها إليه مدنية القرن الحاضر، ولا ادري ولا أحد يدري ما ضر المرأة الفاضلة أن خرجت سافرة أو ما نفع المرأة الفاسقة أن قمدت متحجبة. .؟ وأي الرذيلتين اشد ضرراً، تلك التي تستتر خلف الجدار كالداء الذي يختبئ في قلب العليل لا يدركه ولا يتداركه، ام تلك التي تتكشف سافرة ويبين قبحها كالمرض الذي يظهر على صفحة الجسم، ما تلمحه العين حتى يلحقه العلاج. .؟
للمرأة عقل كما للرجل، وكذب من الصق بها العاطفة دون العقل، وألا ما حلقت في سماء(70/37)
العظمة أسماء جان دارك ومدام كوري وايمي جونسون. لما حكم النساء بجوار الرجال في اكبر الدول شأناً وارفعها مكاناً. فحرام أن يأخذ الرجل من كبريائه صدأ يغشى به عقل المرأة ليغرب خيالها عن ميدانه وكفى ما نعانيه لغيابها عنه من ركود في المجتمع، وشذوذ في العلائق، وخشونة في الحديث. وعقم في التفكير حتى أصبحنا أضحوكة الغرب إذ إننا نسخر من لهوه، ولا يأتي جدنا بجديد. . .
قال: يصعب على من تلدغه الحية أن يشعر نحوها بدافع من الرحمة أو العطف، وإذا صح لي أن أوافقك على بعض ما ذكرت عن المرأة فالسفور ابعد ما يكون عن تأييدي، وليكن لك فيه رأيك، ولكن دعني اكن على دين (الرسالة)
قلت: وما دين (الرسالة). . .؟
قال: الحجاب. . .
قلت: وكيف حكمت؟
قال: إلا تعلم أن مبدأ الصحيفة إنما يشتق من مبدأ كتابها، فعقيدتها هي عقيدتهم ورأيها هو رأيهم الذي ينادون به على صفحاتها. . .؟
قلت: هذا في السياسة أما في الأدب والاجتماع فمظهر النشاط فيهما هو تضارب الفكر واختلاف الرأي، والرسالة لا يمكن أن تنادي بالحجاب، ولكنها مع ذلك ميدان حر لأقلام الكتاب على اختلاف نزعاتهم. وإن كنت قد قرأت فيها للرافعي وصفه للحجاب انه (كالصدفة لا تحجب اللؤلؤة ولكن تربيها في الحجاب تربية لؤلؤية)، وقوله عن قاسم أمين انه (قد تكلف ما لا يحسن) فأغلب الظن انك لم تقرأ ما كتبه الزيات صاحب (الرسالة) عن المرأة والحجاب وهو يخالف الرافعي فيهما خلافاً بيناً؛ ففي العدد السابع من (الرسالة) تراه وهو يكتب عن شواهده (في العيد) يستنكر هذا الفتور الذي تقابل به أعيادنا في مصر والشرق، ويعزو ذلك إلى غيبة المرأة عن المجتمع وهو في ذلك يقول: (كرهنا الدور لاحتجاب المرأة، وهجرنا الأندية لغياب المرأة وسئمنا الملاهي لبعد المرأة وأصبحنا كالسمك في الماء أو الهباء في الهواء، نحيا حياة الهوام والتشرد، فلا نطمئن إلى مجلس ولا نستأنس لحديث) ولما أن همس الهامسون لما جاء في هذا المقال عاد الزيات في العدد التاسع إلى بسط رأيه ذاكراً أن (صلة الحجاب بالدين قد فرغ من توهينها العلماء من أمد(70/38)
طويل) وان مجتمعنا لغياب المرأة (اعرج لأنه يمشي على رجل واحدة، أشل لأنه يعمل بيد واحدة، بليد لأن حدة العواطف تنقصه، خشن لأن لطافة الأنوثة تعوزه) فهل بعد هذا تعتبر (الرسالة) نصيرة الحجاب. .؟ انك تريد أن تنتزع العطف على قضيتك من كلمات كتبها الرافعي وهي في الحقيقة لا تنفعك، وهو لو علم أن دعوته تصادف هوى في نفوس أمثالك لتحول عنها، وكان أول من ينادي بالسفور لم يحرك شفتيه بكلمة، وكان جوابه ناطقاً في عينين ساهمتين، ورأس يهتز باستخفاف، فتركته ينصرف وبه ما به من جمود وأويت إلى فراشي وبي عجب من نفس لو حادثتها حتى تشرق الشمس مرة ثم مرة فما هي بنازلة عما هي فيه من غروب وأفول.
إسكندرية
جورج وغريس(70/39)
خالد بن الوليد في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي رئيس أركان الجيش العراقي
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)
خال بن الوليد
نسبة القبائل: من المفيد أن نذكر نسبة القبائل وقرابة بعضها
لبعض. اكثر القبائل التي ارتدت عدنانية تنتسب إلى مضر
ماعدا قبيلة بني حنيفة فهي من ربيعة
والقبائل العدنانية تنسب إلى شعبين كبيرين وهما: مضر وربيعة
وشعب مضر ينقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية فالقسم الأول: قيس، ومنها غطفان وهوازن وسليم، والى غطفان تنسب فزارة وعبس وذبيان، وإلى هوازن تنسب ثقيف
والقسم الثاني قبيلة طابخة، واليها ينتسب بنو تميم، والقسم الثالث مدركة، واليها ينتسب بنو أسد، ومنها كنانة، واليها تنتسب قريش
أما شعب ربيعة فاشتهرت منه القبائل الآتية: عنترة وعبد قيس وبكر وتغلب وبنو حنيفة وينتسبون إلى بكر بن وائل
الموقف قبل الحركات:
التقت فلول غطفان بن فزارة وعبس وذبيان بطليحة بعد انهزامها في ذي القصة والربذة، واجتمعت مع بني أسد في بزاخة. وقد مال إليهم فرقتان من طيء وهما جديلة وغوث على ما ذكرناه سابقاً، ولم تترك هاتان الفرقتان حيهما، بل اجتمعتا في أكناف جبل سلمى، اعني بالقرب من موقع طابه في الجنوب الغربي من فيد
أما الباقي من بني طيء فظل على الحياد بسعي عدي بن حاتم.
وأما قبائل بني عامر بن صعصعة وهي في الشمال الشرقي من جبل شمر فكانت تراقب مجرى القتال، وتنتظر عاقبة المعركة لترى رأيها بعد ذلك(70/40)
أما بنو تميم فلم يوحدوا كلمتهم، بل كانوا منقسمين على بعضهم. وبينما كانت القبائل المرتدة على هذا النحو من تفرق الشمل واختلاف المقصد، كان خالد بن الوليد على رأس جيش متجانس صقلته الغزوات والحروب وحنكته التجارب، متأهباً للحركة عند أول أمر يصدره قائده
وكان هذا الجيش قليل العدد، غير إن كفاية قائده ضمنت له الفوز. وكلما أحرز فوزاً ازدادت قوته بانضمام المحايدين إليه، لأن الغلبة كانت تأتى لهم، وقد تم ذلك فعلاً. ويزعم بعض المؤرخين إن قوة جيش خالد كانت تبلغ ثلاثة آلاف مقاتل حين تقدم نحو طليحة. فلما تقدم نحو مسيلمة أصبحت عشرين ألفاً
الحركات:
يقول ابن حبيش نقلاً عن الواقدي إن جيش خالد بدأ بالحركات من ذي القصة في اليوم السابع والعشرين من الشهر، وهذا الشهر، أما جمادي الآخرة وأما رجب. لأن الرسول توفي في شهر ربيع الأول، وان جيش أسامة قضى في حملته شهرين، واجل حركته في الجرف مدة من الزمن، والمعلوم أن معظم قوة أسامة الفت جيش خالد فتكون المدة التي انقضت من وفاة الرسول إلى حين حركة خالد من ذي القصة ثلاثة اشهر على اقل تقدير
فزمن الحركة أما أن يقع في منتصف شهر سبتمبر وأما في منتصف شهر أكتوبر من سنة 632 ب. م
واستعرض أبو بكر جيش المسلمين في ذي القصة وخطب في رجاله وأبان لهم الطريقة المثلى التي يجب أن يسيروا عليها،
ولفت نظر خالد إلى خطورة الاستطلاع، واخذ الحيطة عند الهجوم على أهل اليمامة، وان يجرى الحركات على التعاقب، فلا يبدأ بحركة ما لم يظفر بالتي سبقتها وان يستعمل الرمح في مكافحة الرمح، والسيف في مكافحة السيف، ثم طلب منه مراعاة المهاجرين والأنصار والرفق بمن معه
وكانت قوة الجيش تتفاوت بين أربعة آلاف وخمسة آلاف، وكان عدد الأنصار منه يربى على الخمسمائة. وكانت قوة جيش طليحة في بزاخة تزيد على خمسة آلاف، ومعظمها من بني أسد والباقي من غطفان، وكان عيينة بن حصن على رأس هذا الباقي.(70/41)
وكانت فرقتنا جديلة وغوث من طيء في أكناف جبل سلمى متأهبتين للالتحاق بطليحة في بزاخة، وتبلغ قوتهما زهاء ألف مقاتل. وكان بنو تميم على ما نعلم مشغولاً بعضهم ببعض، فمنهم من التحق بسجاح ومنهم من خالفها. أما بنو حنيفة فكانوا في ديارهم باليمامة معتصمين بجبالهم ومعتزين بنبيهم مسيلمة يراقبون الحوادث في نجد
خطة خالد بن الوليد
إن الطريق الأقصر الذي ينتهي بجيش المسلمين إلى بزاخة هو الطريق الذي يخترق وادي الرمة. وبزاخة واقعة في المنطقة حيث تكون أحياء طيء وأسد قد قرب بعضها من بعض فكل حركة من ذي القصة على هذا الطريق الأقصر تشجع قبائل طيء على الالتحاق بطليحة في بزاخة. ومن عادة القبائل انه إذا لم يهدد الخطر حيها تواً تتركه وتسرع إلى نجدة الأحياء الأخرى متى أغار عليها الأعداء
كذلك درس خالد الموقف وقرر أن يسلك طريقاً يهدد به بلاد طيء، فأما أن يلجأ أهلها إلى الحياد وأما أن يستميلهم إلى جانبه، وإذا ما تقدم رأساً نحو بزاخة يكون قد ترك بلاد طيء إلى جانبه الأيمن وخاطر بالهجوم على بزاخة أما إذا ضمن حياد طئ أو استمالهم إلى جانبه فيكون قد هيأ أسباب الفوز على طليحة
والأخبار تدل على أن خالداً صارح أبا بكر بخطته هذه في ذي القصة فأقرها أبو بكر وسبق أن قال لخالد: (اعلم انك إذا قاتلت اسداً وغطفان فان رجالاً منهم معك ينتظرون النصر وإذا ما رأوه حليفك كانوا معك على عدوك)
ولكي يجعل العدو يقنع بأن المسلمين قاصدون بلاد طيء قبل بزاخة يقول ابن الكلبي إن أبا بكر أمر خالداً أن يصمد لطليحة وعيينة بن حصن وهما على بزاخة، واظهر أنه ملاق خالداً بمن معه من نحو خيبر مكيدة وقد أرعب مع خالد الناس، ولكنه أراد أن يبلغ ذلك العدو فيرعبه ثم رجع أبو بكر إلى المدينة
ثم هناك خبر آخر مفاده أن أبا بكر أمر خالداً أن يبدأ بطيء على الاكناف، ثم يكون وجهه إلى بزاخة ثم يثلث بالبطاح (بني تميم) واظهر انه خارج إلى خيبر منصب عليه منها حتى يلاقي خالداً بالأكناف، اكناف سلمى، فخرج خالد فازورعن بزاخة وجنح إلى أجأ واظهر انه خارج إلى خيبر ثم منصب على طيء(70/42)
فهذه الأخبار تريك الخطة بوضوح إن بلاد طيء جبلية وفيها سلستان وعرتان ممتدتان على موازاة خط الحركات بين المدينة وبلاد بني أسد، وسلسلة سلمى وجبل رمان في الجنوب، وسلسلة أجأ في الشمال. والأكناف الواردة في الجنوب المذكورة هي أكناف هذه الجبال. أما أهل البلاد فمنهم من تأهب لمعونة طليحة ومنهم من بقي في أرضه يتربص وكان اعظم رئيس في القسم الأخير عدى بن حاتم مع قبائل طيء ومن الأخبار ما يؤيد أن أبا بكر بعث عدياً إلى طيء قبل حركة خالد ليدركهم
والواضح أن خالداً بخطته هذه أراد أن يسهل خطة عدي بن حاتم وان إشاعة أبي بكر في الجيش مشيره نحو خيبر يقصد الحركة نحو بلاد طيء، مما يجعل القسم المتحفز لمعونة طليحة من طيء يرجع إلى أرضه للدفاع عنها أو للبقاء على الحياد مع الباقين من طيء
والحقيقة أنها خطة ناجحة تدل على بعد نظر خالد في قيادة الجيش. والخطة تجمع بين الناحية السياسية والناحية العسكرية. وكان عيينة بن حصن الفزاري رئيس بني فزارة كما سبق يسعى لإعادة الحلف الجاهلي بين بني أسد وبني غطفان وطئ محرضاً جماعته على ذلك بقوله (والله لئن نتبع نبياً من الحلفين احب إلينا من أن نتبع نبياً من قريش)
وإذا ما تم هذا الحلف يكون أمام المسلمين قوة كبيرة يصعب التغلب عليها وينحصر التدبير السياسي في إيفاد أحد رؤساء طيء البارزين لإقناع القبائل بأن يتركوا جانب طليحة ويميلوا إلى جانب المسلمين ولتسهيل هذه المهمة والقيام بحركة إغفال بالتظاهر بالهجوم على بلاد طيء
وكان التدبير العسكري يرمى إلى فصل طيء عن بني أسد وغطفان والهجوم بعد ذلك على قواتهم فتناولت الخطة إذن الأمور التالية: -
1 - القيام بحركة إغفال من المدينة في اتجاه خيبر بقصد إقناع طيء أن المسلمين متوجهون نحو بلادهم
2 - تقدم جيش خالد على الطريق الأقصر نحو بزاخة لتظل قوات طليحة في محلها حتى لا تساعد طيئاً
3 - ترك هدف بزاخة في منتصف الطريق والانعطاف نحو بلاد طيء لإرغام قبائل طيء على الالتحاق بالمسلمين قبل أن ينجدها طليحة(70/43)
4 - بعد الوثوق من التجاء (دخالة) طيء والاستفادة من
قواتهم، التقدم بجميع القوات نحو بزاخة لضرب جيش طليحة
الحركة:
وبعد عودة أبي بكر إلى المدينة وإشاعة خبر مسيره من المدينة بالباقي من المسلمين نحو خيبر نظم خالد قواته وجعل على كل قسم منها قائداً، وكان ثابت ابن قيس على الأنصار
وتحرك خالد من ذي القصة في منتصف شهر أيلول (سبتمبر) أو شهر تشرين الأول (أكتوبر) سنة622 ماراً بربذة ووادي الركبة ومنحدراً إلى وادي الرمة، وقبل أن يصل إلى منتصف الطريق مال إلى اليسار يريد بلاد طيء، ولقد نجحت حركة الإغفال التي أشاعها أبو بكر لأن طيئاً التي كانت تستهزئ بالخليفة وتكنيه بابن الفصيل صارت تخشى بأسه لما سمعت خبر تقدم جيشه نحوها، فأقنع عدي بن حاتم قبيلته وحذرها سوء العاقبة قائلاً لبني قومه: (لقد أتاكم قوم ليبيحن حريمكم). فطلبوا منه أن يؤخر تقدم جيش خالد حتى يسترجعوا من لحق بطليحة في بزاخة وهم جديلة وغوث وآخرون
وكانوا يعلمون انهم إذا خالفوا طليحة بينما بنو جديلة وبنو غوث في بزاخة يبقيهم عنده رهائن ويجبر طيئاً على الالتحاق به وكانت حجتهم عند طليحة طلب إخوانهم من بزاخة، لأن خالداً قادم نحوهم فهم يريدون أن يستنجدوا بهم للدفاع عن بلادهم قبل أن يصل جيش المسلمين
وخرج عدي إلى خالد ولاقاه في السح، فطلب منه أن يبقى فيها مدة قصيرة حتى يتخلى من في بزاخة عن طليحة ويعود إلى بلاده فوقف خالد في السح فتفرقت غوث من بزاخة وعادت إلى بلادها فأراد خالد أن يتقدم إلى الأنسر ليلجئ جديلة إلى ترك طليحة أيضاً بيد أن عدياً طلب منه أن يتريث حتى لا يفسد عليه ما دبره فعادت جديلة أيضاً إلى بلادها وهكذا تم لخالد ما أراده فانفصلت طيء تماماً عن المرتدين وجددت إسلامها وأمدت خالدا بألف مقاتل وهكذا طبق القسم الأول من الخطة
يتبع
طه الهاشمي(70/44)
من أدب الحزن
وفي. . . وناكر
بقلم يوسف جوهر عطية
وإذا أرسلت روحي في الماضي ذكرتك يا رفيقي، وكانت قد أذهلتني عنك الحياة وقسوتها والأيام واضطهادها وعاد بي الفكر إلى تلك الأشبار من صحراء (الأقصر) حيث استقرت عظامك من خمس سنين. . .
ما اكفرني بحق الصداقة يا صاحبي! ما اغلظ هذا القلب اللحمي وما أقساه! كيف نسيت حباً وثقناه وعهداً قطعناه!
كنا نسير في الحياة كل يده في يد صاحبه وكل صورته في قلب رفيقه مرسومة. فلما فارقت الحياة أنكرت يدي الودّ القديم، وران على قلبي صدأ النسيان، وابتلع ظلام نفسي ذكراك. . بعد أن كان مكانك عرش، القلب، وبعد أن كانت ملكك كل النفس، وبعد أن كنت ملجأ روحي القلقة، وملاذ فكري المكدود. .
سامحني يا رفيقي فإنني إنسان والإنسان قد جبل على الغدر وفطر على النكران. . لتكن إنسانيتي عذرى لديك. ولا تقس الوفاء بمقياس أهل السماء، فإنني بعد سجين في الجسد، مأسور الروح، عبد لنواميس الحياة. كن كما كنت كريماً متجاوزاً، رفيقاً. .
أنت أنت الوفي، وأنا أنا الناكر. .
وهيا يا رفيقي نعود فنصل الحديث، ونمحو الجفاء، فأنني لحديثك مشتاق، ولسمرك ظمآن. .
كنا لا نصبر على الفراق ساعات يا صاحبي. لكن ها هي ذي عجلة الزمن تدور دورتها الطاحنة، وتباعد خمس سنين بيني وبينك ولا أعود أرى وجهك بعد أناستوطنت أنت السماء وظللت أنا مغترباً في الدنيا. لقد استرحت في قبرك، وخلفتني أعيش وحدي في هذا القبر الكبير!
لماذا عجلت ذهابك يا رفيقي!. كنا قد تعاهدنا أن نقتسم معا شقوة الدنيا وأن نستقبل متكاتفين قسوة الحياة، وأن يتقي كل بأخيه غدر القدر!. لماذا مللت وتركت صاحبك يهيم وحده!! أأعياك حمل رداء الهموم وأنت في سن الفتوة وعمر العزيمة، فآثرت الفرار من هذه(70/46)
الدار؟!. .
لكن لا يا صاحبي. . سامحني. إني لعارف انك لست من الذين يجبنون ويفرون، وأن الله هو الذي اختارك واصطفاك. . هو الحزن القديم النائم تحت رماد الأيام تهب عليه ذكراك فتستيقظ جمراته، وتكوى قلبي من جديد، فيضل تفكيري ويطيش منطقي، وأتهمك بما أنت منه برئ!.
كيف حالك يا صاحبي؟!. .
اكبرت أم أنت فتى كما كنت!؟. هل بقيت لك بسمتك وبهاء طلعتك، أم شاخت بسمتك وشحب محياك؟! أم أن صور الأرض غير صور السماء وأنك هناك دائم الفتوة متجدد الشباب مسترسل السرور في كنف الله؟!.
كيف حالك؟!
أين أنت الآن؟ أين تقيم روحك؟ هل أنت معذب أم منعم؟ قلق أم مطمئن؟ هل روحك في سلام؟.
رجائي قوي انك في سلام. . فقد كنت باراً وقضيت أيامك كالزهرة النقية تلثمها في النهار أشعة الشمس وتباركها في الليل أنوار النجوم. . كنت جم الفضائل. عشت وديعاً كطير الأفنان. كنت مصباح البيت في الهدى، ونبراس الخلق الكريم
إني مطمئن عليك يا رفيقي، وعارف بحظوتك عند الله، وبمقامك في جوار الملائكة. . يهنيك نصيبك. يهنيك انك تخلصت من الدنيا قبل أن تدرك نفسك المطامع وتلوثها الشهوات، وتشوهها أمراض الأغراض، وتدفعها قوى الشر في مزالق الخطيئة. لقد نجوت، وخلفتني وحيداً في الحياة، في سوق النفاق، أكابد الخسائر وأتجر بقواي، وأنفق من فضائلي وأقامر بأيامي وأصارع حظي الشقي. .
يا صاحبي. . لقد كلت قدمي. تعبت، هرمت روحي وأنا في شرخ الشباب. . وها هي ذي آلامي ترهقني فأفر إلى الماضي، وأذكرك وهأنذا ألجأ إلى حنانك كما كنت أفعل وأنت في الحياة. . هيا نجدد العهد، ونسعى إلى اللقيا في عالم الوهم؛ حتى تجمعنا الحقيقة في الخلود، فنعود إلى العزف على قيثارة حبنا القديم، ونسترد ألحاننا الضائعة. . .
يوسف جوهر عطية(70/47)
في الأدب الدرامي
الرواية المسرحية
في التاريخ والفن
بقلم احمد حسن الزيات
المأساة العصرية أو الدرامية
كانت كلمة الدرام تطلق على جميع الأنواع التمثيلية، حتى خصصها المحدثون بنوع جديد عرفه قاموس المجمع العلمي الفرنسي بأنه (قطعة مسرحية نثرية أو نظمية تخلط المأساة بالملهاة، وتبرز الموضوع الجدي في المعرض الفكه، وتقبل كل نمط من الأشخاص والأخلاق واللهجات). وتكميلاً لهذا التعريف نضيف إليه كلمة قالها (هجل) وهي: (إنها نوع وسط غير مستقر، يعني بدقائق الحياة الداخلية ومشاكلها، وصور الحياة الخارجية ومناظرتها، وتتميز من المأساة الاتباعية البسيطة الساذجة بكثرة أشخاصها، وغرابة حوادثها، وتعدد مفاجآتها، وتعقيد العمل فيها إلى حد الارتباك والغموض). أما أرباب المذهب الابتداعي ومن قبلهم شكسبير فلم يكتفوا بتأليفها وتمثيلها، وإنما وضعوا لها القواعد وشرعوا لها المناهج، وقالوا إن الدرامة صورة صادقة مؤثرة للحقيقة بل هي الحياة نفسها: هي الهوى يعمل ويتكلم ويحكم ويفكر بصوت جهير أمام الجمهور السامع
إن المأساة لم ترد أن تتنزل عن أفق الأبطال والسراة والملوك، والملهاة قصرت نفسها على وصف عيوب الأوساط، أما الدرامة فهي أتم واعم واصح، لم تفضل فريقاً على فريق، ولم تؤثر طبقة على طبقة، فهي تسوى بين الملوك والسوقة، وتمزج البسمات بالعبرات، وتستمد التاريخ والقصص والحكايات والخرافات، لا تستثنى شيئاً ولا تحتقر شخصاً، ولا تحصر نفسها في ضيق القواعد والتقاليد، فموضوعها الإنسانية بأسرها. أما اليوم فقد اختلفت على هذا النوع الأسماء والتعاريف لتشعب مناحيه، وتعدد مذاهبه، واتساع مجاله، واختلاف أطواره. فكان يسمى أولاً: الرواية الجدية الهزلية - ثم المأساة الحضرية ثم المأساة الشعبية ثم الملهاة الجدية وهم يطلقون عليها الآن اسم الدرامة الحديثة، أو الدرامة فقط. ولا نجد ابلغ في الكشف عن حقيقة الدرامة مما كتبه عنها زعيمها وابن(70/49)
بجدتها فكتور هوجو في مقدمة (كرومويل) نستعين بتلخيصه لك على شرح هذا النوع الطريف الذي يعدونه الآن افضل الأنواع واكمل الأشكال للتمثيل فوق المسرح الحديث؛ لأنه باختياره الأشخاص من كل الطبقات، وتفضيله التأثير في الحواس على تحليل الشهوات كان اكثر أنواع المأساة ملاءمة للذوق الديمقراطي الغالب اليوم. قال هوجو ما محصله: النظارة أصناف ثلاثة: النساء والخاصة والعامة؛ فالعامة يطلبون من الرواية العمل أو الحادث، والخاصة يطلبون منها الخلق أو الدرس، والنساء يطلبن منها الشهوة والهوى. لأن العوام يبتغون من المسرح التهيج، والخواص يبتغون منه التفكر، والنساء يبتغين منه التأثر؛ وغرض هؤلاء جميعاً اللذة: فالعامة تريد لذة النظر، والخاصة تريد لذة العقل والمرأة تريد لذة القلب. ولكل منهم الحق فيما يبتغي ويريد ومن ثم كانت روايات هوجو ثلاثة أنواع مختلفة: أحدها عامي سوقي، والآخران شريفان رفيعان، وفي ثلاثتها حاجة المسرح وكفاية الناس. فللعوام المأساة العامية (الميلودرام) التي تصف لهم الفظائع، وللخواص الملهاة التي تصور لهم الأخلاق، وللنساء المأساة التي تحلل لهن الأهواء. وربما تدخل بعض هذه الأنواع في بعض، فقد يوجد في السوقة من يتذوق الجمال ويتطلب الكمال ويغرق في التخيل، وفي السراة من يطلب غير الأدب لطف الشعور، وفي النساء من تبتغي مع التأثر رياضة الذهن. فغرض الدرامة إذن هو تصوير الأخلاق بخلق الأشخاص وتمثيلهم على المسرح تبعاً لشروط الأشخاص لبيان أخلاقهم وتوضيحها، واستخراج الحياة الإنسانية من هذه الأخلاق والأهواء التي تتصادم وتتلاحم، فتنتج الوقائع الكبيرة والصغيرة، والحوادث المحزنة والمضحكة، التي تنطوي على لذة القلب يسميها الناس منفعة، وعلى عظة للعقل يسميها الحكماء حسن خلق. فبان من ذلك أن الدراسة تأخذ من المأساة تحليل الأهواء والشهوات، ومن الملهاة تصوير الأخلاق والعادات. فهي الشكل الثالث من أشكال الصناعة الأدبية، وهو أكبرها وأعمها، لأنه يشمل الشكلين الأولين فيمزجهما ويشرحهما. ولو لم يوجد شكسبير بين كورني وموليير فمد يسراه إلى الأول ويمناه إلى الثاني، لبقي كل منهما بعيداً عن الآخر فبوجوده التقت الملهاة بالمأساة التقاء الموجب بالسالب في الكهرباء، فحدث من التقائهما شرارة هي الدرامة
ثم مضى هوجو بعد ذلك في بيان حقيقة الدرامة من جهة الفلسفة التاريخية نحيلك عليه إذا(70/50)
شئت، ونكتفي نحن هنا بما أجملناه من كلامه
فالدرامة إذن كل نوع، وترتضى كل شكل، مادامت تضمن التأثير في المشاعر والخواطر والقلوب، وهي تسلك لهذه الغاية اسهل الطرق واقرب السبل. فلها في الطفولة المعذبة، والشيخوخة العاجزة، والزمانة المعدمة، والكرم في الأملاق والقحط واليأس، مواقف قوية التأثير شديدة الروعة؛ وفي المستشفيات والسجون والأحياء الفقيرة العاملة مسارح للرعب والرحمة، لها من البيان والتأثير ما يغنى المؤلف الذي يعرضها للأنظار والأفكار عن تكلف الأداء وتجشم البلاغة
إن المصائب المنزلية، والحوادث الاجتماعية، لا تدهشنا حقيقة كما تدهشنا مصائب الملوك ومخاطر الأبطال وحوادث القصور، ولكنها تؤثر فينا كل التأثير لاتصالها بنا واقترابها منا؛ وإذا كان افضل الأنواع أمتعها للجمهور، واشدها أثراً في الكثرة، فان الدرامة تفوق المأساة بهذه المزية، وتفضل الأنواع جميعاً بقوة الجاذبية، وإذن يكون كورني وراسين وفولتير قد جهلوا فن التأثير، وسهروا الليالي الطوال في البحث عنه في الطبقات العليا، والحوادث الكبرى، وهو منهم على طرف الثمام لو نظروا في الطبقة الدنيا وفكروا في الحياة العامة، ولو كان هؤلاء حقيقة قد جهلوا قوة الدرامة وسهولتها فما بال الإغريق واللاتين لم يتوسلوا بهذه الوسائل القريبة إلى التأثير والجاذبية؟ وما بال شكسبير وهو أمام الروائيين غير مدافع لم يختر موضوعاته من حياة الشعب، وفضل جرائم الملوك ونكباتهم على جرائم السوقة ونكبات العامة؟ الحق إن الإغريق كانوا يعلمون علم اليقين إن في الناس من كبابه الجد فألقاه في مراغة الذل والبؤس فأعسر بعد اليسر، وهان بعد العز، ولكنهم كانوا يجهلون أو ينسون أن الملوك هم أيضاً غرض لسهام القدر، وأن المرء مهما عظم قدره لا يعظم على النوائب ولا يكبر على الإحداث، وأن خطوب الدهر لا تخص بفتكها طبقة، دون طبقة فاستفادوا من المسرح هذا الدرس النافع والعظة البالغة، كذلك كانوا يعلمون أن في الناس المأفون والشهوان والخبيث والمجرم، ولكنهم كانوا يجهلون أن الملوك أيضاً فيهم الأفن والشهوة والخبث والأجرام، وان نتائجها فيهم افظع وافجع منها في السوقة، فاستنتجوا من المسرح أن الشعب مأخوذ بجرائر الملوك، فأخذوهم بالحزم وحسن السياسة، بله ما كان عليه الناس في الأزمان الخالية من تنزيه الملكية، وتقديس البطولة، وازدراء الشعب. فلما(70/51)
ابتذلت أفنية الملوك، وعلت كلمة الشعوب، وغلب نظام الديمقراطية، احتقر الناس مصائب الخاصة، ورأوا أن الأهواء والأرزاء تنصب فخاخها لكل الناس، وان الواقع فيها من أي طبقة ومن أي بيئة يصح أن يكون عبرة ونكالاً لغيره. حينئذ اخذ الكتاب يدرسون العامة، ويعلمون الجمهور بتحليل نفسه وتعليل جرمه، ويثقفون خلقه بتصوير نقصه ووصف عيبه، فيحاربون العيب بالخوف من السخر والخشية من الخجل، والجريمة بالفزع من وخز الضمير الذي يصحبها والقصاص الذي يعقبها، والهوى بوصف ما يجره من الآلام والمخاطر والمصائب، ووجدوا الحال تقتضي نوعا جديدا من الرواية يلائم حال الاجتماع ونظام الحكومة ورقي الفكر، فكانت الدرامة وليدة هذا الانقلاب وسداد هذا العوز
على أن التأثير والجاذبية لم يكونا يوماً ما من أغراض المسرح في الأمم المثقفة المستنيرة، وإنما كان التمثيل عندهم كالخطابة، يجذب ليهذب ويعلم، ويؤثر ليقرر ويفهم. وما التأثير إلا وسيلة من وسائله لا غاية من غاياته. فالدرامة التي لا تعلم ولا تهذب تكون من المأساة بمثابة المهزلة من الملهاة. ولا شك إن المهزلة تضحك الجمهور اكثر مما تضحكه ترتوف والمستوحش، والدرامة التي من هذا النوع تبكيه اكثر مما تبكيه (سنا) و (اتالي)، ولكنه إذا ظل مائة سنة يضحك ويبكي لهذه المناظر، فأية فائدة يستفيدها، واية فكرة يكتسبها ويستزيدها؟
فالدرامة القوية هي ما وضعت في قلب الرجل علل حوادثه وبواعث عمله، فتجعله شقياً بزلته، مشفياً على الخطر بغفلته؛ وهي لذلك تطلب مؤلفاً يكون ثاقب الفكر صادق النظر قوي الملاحظة خصب المخيلة عميق الإحساس بليغ الأسلوب جيد الاختيار؛ وموضوعاً يجمع بين التأثير والإفادة وبين الابتذال والصيانة وبين الغرابة والسذاجة، فلا يكون عقيماً ولا سقيماً ولا سوقياً ولا شعرياً ولا متكلفاً؛ وعملاً يكون سيره نشيط الحركة موزون التدرج محكم التعقيد بارع الحل؛ وعادات حضرية أو شعبية تكون مع موافقتها للحق غير ساقطة ولا جافية؛ ولهجة بسيطة تلائم الأشياء والأشخاص، فتكون صحيحة سهلة نقية ذكية شاعرة لا تعلو على الموضوع، ولا تسفل إلى درك التعمل والركاكة. وتلك مطالب أعيت أولى القرائح الكليلة، فانصرفوا إلى الجانب الأسهل منها، واخذوا يلتمسون التأثير في الجمهور بعرض الحوادث المنتزعة من الحياة العامة لتغنيهم بفظاعتها عن إجادة الكتابة وإجالة(70/52)
الفكر، ويبنون هذا الرأي السخيف على قاعدتين خاطئتين: أولاهما أن كل جذاب من القول والفعل صالح للمسرح، وأخراهما أن كل ما أشبه الطبيعة جميل، وكل تقليد صادق لها حسن. لا أنكر إن لا شئ يلوع القلب ويمزق الحشا مثل أن ترى بيتاً متهدماً تسكنه امرأة كريمة عدا عليها الفقر ومسها الضر وجاز بها الدهر حد اليأس والفاقة؛ وأنا زعيم لك بأنك تغرق الناس بالدمع، وتضرم الأنفاس بالحزن، إذا عرضت على العيون منظر هؤلاء الأطفال يتضاغون من الجوع ويطلبون إلى أبيهم المسكين كسرة من الخبز وهو لا يستطيع، ومثلث دموع تلك الأم ترى رضيعها يلفظ أنفاسه في حجرها من السغب وهي لا تملك له حياة ولا نفعاً، ولكن ارني ذلك الشعب الغليظ الكبد الذي يلهيه ويسليه مثل هذه المناظر؟ وأية فائدة تجدها في هذا المصاب الأليم العقيم الذي فجع هذه الأسرة وهي لم ترتكب خطأ ولم تقترف اثماً؟ آلمني، ولكن لتعلمني كيف احتاط لنفسي من الوقوع في مثل هذا الضرر والذي اشهده. مثل لي أسرة بائسة أوقعها بين مخالب البؤس والفاقة عيب أصيل في نفسها، وهوى دخيل في قلبها، فان الألم الذي يتالني من رؤية هذا المنظر يعوضني منه ذلك الدرس الذي أستفيده من شهود ما يجره الهوى التحكم والعيب المتأصل من الأذى والمضرة: استفيد ان الإنسان حر في اتقاء مثل هذا المصاب، وان أسبابه من العيب والهوى والغفلة والضعف لم تكن أدواء لازمة ولا محتومة، أما الحرق والغرق والزلزال والوباء وكل ما يصيب المرء من غير كسبه ولا اختياره فلا استفيد من رؤيته غير الألم العقيم والهم الخالص
ان فضل الكاتب وجمال المسرح هما في عرضهما ما نود ان نكونه لا ما نحب أن نتأثر به. ومهما يكن الشيء العامي المبتذل مؤثراً فلا بد ان يكون على المسرح أسمى وأروع مما أستطيع أن أراه واسمعه من شباك بيتي، فان بين الأشياء المؤثرة كذلك تفاوتاً وتفاضلاً وتخيراً. وليس في الحياة موضوع يصح ان يكون روائياً بنفسه إذا قلدته على علاته ونقلته بجميع صفاته؛ فقد تجد فيه من الطول والفضول والنقص والسخف ما يخجلك إذا حكيته، ويأفنك إذا مثلته ان مهارة الكاتب القصصي في ان يجعل الموضوع طريفاً لذيذاً ومهارة الكاتب الروائي في ان يبسطه ويزخرفه فيحذف منه البارد الغث ويضيف إليه ما يزيد في تأثيره وحدته وجدته وطرافته بحيث يكون شبه الحقيقة وهيئتها لا صورتها ولا نسختها(70/53)
والحال في الأعمال مثل الحال في الأقوال: فان الكاتب الذي يكتب كما يتكلم ليس بكاتب. إذ كل لغة من لغات الناس فيها الشريف الحر والرقيق الأنيق، كما إن فيها السوقي والحوشي والفج. والذوق وحده هو الذي يصفي العبارة من اللغو، وينقى الأسلوب من الغثاثة، كما يعزل الغربال الزوان والحصا من الحب الصحيح. ذلك ما نعقله ونقبله؛ أما نقل ما ترى وحكاية ما تسمع بما فيه من سماجة وفضول واقتضاب، على انه صورة الطبيعة ورسم الحقيقة، فتلك حجة يلجأ إليها الأدعياء ليدرأوا عن أنفسهم معرة الضعف في الاختيار والعىّ عن الابتكار والعجز عن التجديد والتوليد
بعد ما تقدم نستطيع ان نجمل القول في المأساة العصرية بذكر الفروق بينها وبين المأساة القديمة فنقول: إن الدرامة تجمع بين الجد والهزل والسرور والحزن والاحتشام والتبسط والضعة والرفعة، وتختار أشخاصها من كل طبقة وبيئة، وتقتبس موضوعها من حياة العامة او العصور الوسيطة أو العصر الحديث. أما المأساة فكلما علمت تزدري الموضوعات القومية والعصرية، وتختار موضوعاتها من الأساطير أو من التاريخ القديم، وتعنى على الخصوص بالعالم الداخلي من الإنسان، فتبحث عن أخلاقه وعواطفه واهوائه، فهي تضع على المسرح نفوساً بدل ان تضع اشخاصاً، ولا تعنى مطلقا بالرياش المسرحي ولا باللون المحلى، وتقصد كل القصد في تعقيد العمل الروائي؛ ولكن الدرامة لا تحفل إلا بالعالم الخارجي من المرء، والجزء المادي من المسرح، وتبالغ في رعاية الرياش والزخرف، وترجع التأثير في الحواس على التأثير في الذهن، وتحرص على أن تظهر الأشخاص في لباس الزمن الذي عاشوا فيه وتسمهم بعادات بنيه، وتؤثر تعقيد العمل وتحرج المواقف على وصف الأهواء وتصوير العواطف. ثم إن المأساة تخضع لقانون الوحدات الثلاث ولا تجيز نجوى النفس. ولذلك خلقت الأنجياء ليسارهم الأشخاص بما يفكرون؛ ولكن الدرامة تحلنت من سلطان الوحدات الثلاث فلم تبق إلا وحدة العمل، وأسرفت في إيراد النجوى على السنة الأشخاص الأصليين فياضة بالأسلوب الوجداني فقضت بذلك على الانجياء
يتبع
الزيات(70/54)
فقيد الأدب التونسي
أبو القاسم الشابي
ولد سنة 1909 وتوفي سنة 1934
ثكلت تونس، بل الأدب العربي عامة، أديباً عبقرياً فذاً كان منتظراً منه - لو امتدت حياته - ان يكون كوكباً لامعاً في سماء الأدب العربي الجديد، بل دعامة قوية ترتكز عليها المدرسة الحديثة للشعر العصري. ذلك هو الشاعر المبكى على شبابه أبو القاسم الشابي
ولد أبو القاسم الشابي عام 1909 في (مدينة توزر) عاصمة الواحات التونسية الجميلة بالجنوب، من إسرة ذات مجد، وكان أبوه الشيخ محمد بن أبي القاسم الشابي قاضياً شرعياً تنقل بوظيفته في مدن مختلفة. وهو من قبيلة كبيرة ذات تاريخ حافل تدعى الشابية
أما حياة الشاعر الفقيد فليس فيها من الحوادث ما بهم كثيراً لقصرها، فلم يتخط فجر شبابه الغض، ولم يطو الخمسة والعشرين عاماً بعد؛ إلا أن هذه الفترة الصغيرة في تاريخ نموه الفكري ذات خطر عظيم، ذلك أن المذهب الذي ذهب إليه في نظم أشعاره مذهب فذ لم يظهر منه في الشعر العربي إلا النادر
وليس في مراحل تعلمه التي قطعها بغاية الفوز والنجاح شئ غير عادي، فهو كأمثاله الكثيرين قد حفظ القرآن في طفولته، والتحق بجامع الزيتونة بتلقى علوم العربية على الأساليب القديمة من المتن والشرح والحاشية، وعلوم الشريعة الإسلامية كالفقه والأصول والتوحيد، إلى أن كان الامتحان النهائي فتخطاه عام 1926 ونال الشهادة المسماة بالتطويع
والتحق بعد ذلك بمدرسة الحقوق التونسية فاجتاز امتحاناتها وحصل على إجازة الحقوق، ثم لم يتركه مرض الصدر يتمم دراسته، فانقطع عن التعلم من ذلك الحين والتفت إلى معالجة هذا المرض العضال الذي معه يغاديه ويراوحه حتى ذهب في يوم 8 أكتوبر بحياته الغضة
لم يدرس أبو القاسم لغة أجنبية، ولم يكن له من الزمن ما يسع طول الدرس ومطالعة المترجمات، فقد كان أطباؤه ينهونه عن كد ذهنه والاشتغال بالأعمال الفكرية، وتلك لعمري آية عبقريته النادرة، ومعجزة نبوغه الفريد
كان جباراً متمرداً على القديم، وكان في الوقت ذاته رقيق الإحساس مشبوب العاطفة، لا يستمرئ المنازعات والمشاكسات، فكان من جراء ذلك تفاعل بينه وبين بيئته، تلمح آثاره(70/56)
واضحة في أشعاره
فقد كانت مطالعاته الأولى في الأدب العربي بالمهجر الأمريكي، فاستأسره أسلوب زعيم تلك المدرسة المرحوم جبران، وكانت أشعاره الأولى ذات نزعة جبرانية في الأسلوب. وكان يقول الشعر منظوما ومنثورا، ولكنه كان اعمق روحاً وابعد قراراً. وكانت موضوعاته في فلسفة البؤس والشقاء، والتبرم بالحياة ومتاعبها
على أننا إذا قلنا إن أبا القاسم قد تأثر بمدرسة جبران فلا بد لنا أن نتحفظ، فقد تزود - رحمه الله - من الأدب العربي القديم طائلة، مكنته من إخضاع التعابير الفصيحة لمعانيه الجديدة بما يميزه من غيره، ومما لم يكن من ظواهر تلك المدرسة التي تذهب أحياناً وراء حرية التعبير عن حوالج النفس مذاهب يخرجها عن سنن العربية وقواعدها الأولية
ثم إن شاعرنا كان مفتوناً بالآداب الغربية، يتهافت على قراءة كبار عباقرة الغرب الذين ترجمت أشعارهم وآدابهم ويدرسها بروية حتى تأثر بها وخالجت روحه، وربما تعجب قراؤه كثيرا حينما يعلمون انه لا يقرأ إلا اللغة العربية لجهله بغيرها
ويمكنك ان تدرك سعة اطلاعه على الأدب العربي القديم وأحاطته بجميع ما ترجم إلى العربية من نفائس الأدب الغربي، إذا اطلعت على مؤلفه الذي أخرجه منذ سنوات تحت عنوان (الخيال الشعري عند العرب) فمن مطالعة هذا الكتاب الذي هو عبارة عن دراسة مستفيضة على طريقة النقد العصرية للأدب العربي في جميع عصوره، ومقارنة للأدب الغربي في كثير من أعلامه تدرك مبلغ تفوقه ونبوغه
قلنا أن أبا القاسم كان ينزع في أوائل أمره نزعة تشاؤم وتبرم بالحياة، على ان سخطه هذا لا شئ فيه من الضعف والرخاوة، فهو يعاتب الدهر وكأنه ندّ له في كبرياء وجبروت ينمان عن حب الحياة في أعماق نفسه، حتى انه لم تدم شكواه طويلاً، فتجلت روح التمرد والقوة في قصائده الأخيرة التي منها (نشيد الجبار) وقد نشرت في أحد أعداد (يوليو) ومنها قصيدة (البعث) وستظهر في ديوانه، أودعها كل ما في نفسه من حب للحياة وتطلع إلى مثلها العليا في أسلوب رائع فريد
ولا نستطيع أن ننسى أن للصدمات التي اعترضته أثراً عميقاً في صهر نبوغه واستقلال فنه، كما انه قضى مدة أربعة اشهر في وحدة شعرية بديعة بين جبال (عين دراهم)(70/57)
وغاباتها، وهي من اجمل بلاد تونس منظراً وسحراً، فخرج بشعر طبيعي نادر
رحم الله أبا القاسم الشابي، وعوض الأدب العربي عنه خيراً
نموذج من شعر الفقيد
اصطدم أبو القاسم الشابي بشعور بيئته الراكدة، وضايقه المتزمتون الجامدون، فضاق الشاعر ذرعاً ونفس عن قلبه الحساس بهذه القصيدة الرائعة:
النبئ المجهول
أيها الشعب ليتني كنت حطا - يا، فأهوى على الجذوع بفأسى!
ليتني كنت كالسيول إذا سا - لت تهد القبور رمساً برمس. .
ليتني كنت كالرياح. . فأطوي ... كل ما يخنق الزهور بنحسي
ليتني كنت كالشتاء. . أغشى ... كل ما اذبل الخريف بقرسي
ليت لي العواصف ياشع - بي فألقى إليك ثورة نفسي. .
ليت لي قوة الأعاصير. . لكن ... أنت حي يقضي الحياة برمس. .
أنت روح غبية تكره النو - ر وتقضى الدهور في ليل ملس
أنت لا تدرك الحقائق ان ... طافت حواليك، دون مسّ وجس
في صباح الحياة ضمخت أكوا - بي وأترعتها بخمرة نفسي. .
ثم قدمتها إليك، فأهرق - ت رحيقي ودست يا شعب كأسي!
فتألمت. . ثم اسكت آلا - مي وكفكفت من شعوري وحسي
ثم نضدت من أزاهِير قلبي ... باقة لم يمسها أي إنس
ثم قدمتها إليك، فمزق - ت ورودى ودستها إي دوس
ثم البستني من الحزن ثوباً ... وبشوك الصخور توجت رأسي
. . ها أنا ذاهب إلى الغاب يا شع - بي لأقضى الحياة وحدى بيأسي
ها أنا ذاهب إلى الغاب علىّ ... في صميم الغابات ادفن نفسي. .
ثم أنساك ما استطعت فما أ - نت بأهل لخمرتي ولكأسي
سوف أتلو على الطيور أنا - شيدي وأفضى لها بأحزان نفسي(70/58)
فهي تدري معنى الحياة وتدرى ... أن مجد النفوس يقظة حس
ثم أقضي هناك في ظلمة اللي - ل وألقى إلى الوجود بيأسي
ثم تحت الصنوبر الناضر الحلو ... تخط السيول حفرة رمسي
وتظل الطيور تلغو على ق - بري ويشدو النسيم فوقى بهمس
وتظل الفصول تمشى حوالي ... كما كن في غضارة أمسي
أيها الشعب أنت طفل صغير ... لاعب بالتراب والليل مغسي
أنت في الكون قوة لم تسسها ... فكرة عبقرية ذات بأس
أنت في الكون قوة كبلتها ... ظلمات العصور من أمس أمس
والشقي الشقي من كان مثلى ... في حساسيتى ورقة نفسي
هكذا قال شاعر ناول الشع - ب رحيق الحياة في خير كأس
فأشاحوا عنها ومروا غضابا ... واستخفوا به وقالوا بيأس:
(قد اضاع الحياة في ملعب الجن (م -) فيا بؤسه اصيب بمس!)
(طالما خاطب العواصف في اللي - ل وناجى الأموات في كل رمس)
(طالما حدث الشياطين في ال - وادي وغني مع الياح بجرس)
(انه ساحر تعلمه السحر الشيا - طين كل مطلع شمس)
(ابعدوا الكافر الخبيث عن الهي - كل ان الخبيث منبع رجس)
(اطردوه ولا تصيخوا إليه ... فهو روح شريرة ذات نحس)
هكذا قال شاعر فيلسوف ... عاش في شعبه الغبى بتعس
جهل الناس روحه وأغاني - ها فساموا شعوره سوم بخس
فهو في مذهب الحياة نبي ... وهو في شعبه مصاب بمسّ!
هكذا قال ثم سار إلى الغا - ب ليحيى حياة شعر وقدس
وبعيداً هناك في معبد الغا - ب الذي لا يظله اى بؤس
في ظلال الصنوبر الحلو والزي - تون يقضى الحياة حرساً بحرس
في الصباح الجميل يشدو مع الطي - ر ويمشى في نشوة المتحسي
نافخاً نايه، حواليه تهتز (م) ... ورود الربيع من كل قنس(70/59)
شعره مرسل تداعبه الري - ح على منكبيه مثل الدمقس
والطيور الطراب تشدو حوالي - هـ وتلغو في السرو من كل جنس
وتراه عند الأصيل لدى الجد - ول يرنو للطائر المتحسى
أو يغنى بين الصنوبر أو ير - نو إلى سدفة الظلام الممسي
فإذا اقبل الظلام وأمست ... ظلمات الوجود في الكون تغسى
كان في كوخه الجميل مقيما ... يسأل الكون في خشوع وهمس:
عن مصب الحياة، أين مداه؟؟ ... وصميم الوجود، أيان يرسي؟؟
وعبير الورود في كل واد ... ونشيد الطيور حين تمسى. . .
وهزيم الرياح في كل فج. . . ... ورسوم الحياة من أمس أمس. .
وأغاني الرعاة، أين يواري ... ها سكون الدجى، وأيان تمسى؟. .
هكذا يصرف الحياة ويفنى ... حلقات السنين حرساً بخرس
يالها من معيشة، في صميم ال - غاب تضحى بين الطيور وتمسى!
يالها من معيشة، لم تشبها ... نفوس الورى بخبث ورجس!
يالها من معيشة، هي في الكو - ن حياة غربية ذات قدس. .
تونس
حسن سبالة(70/60)
على قبر الفردوسى
للدكتور عبد الوهاب عزام
أبا القاسم اسمع ثناء الوفود ... تنظّم فيك عقود الدرر
أبا القاسم اسمع نشيد الخلود ... يرتِّلُهُ فيك كلُّ البشر
أبا القاسم اسمع لسان الزمان ... بخلدك، وهو الضنين، أقرّ
فهذى اللغات وهذى السِّمات ... وهذى الوفود وتلك الزُّمَر
تترجم عن عرض واحد ... ويدركها في مداك الحصَر
تُطيف بقبرك صرح العلاء ... وباب الخلود ومثوى الظَفر
فيالك قبراً قريب المدى ... تظل العقول به في سفر
ويالك قبراً كعين البصي ... ر يحوي العوالم منها الصغَر
ويالك قبراً غدا طلسما ... وراءك كنز الخلود استتر
ويالك سطراً بقرآنه ... تضيق الحياة ويفنى العمر
ويالك بيتاً سما شِعره ... بمعنى الحياة ولفظ الحجر
وأحجاره كحروف الهجا ... ء كل المعاني بها تُسطر
إمامَ البيان وربَّ القريض ... وأصبرَ مَن للقريض صبر
وسبّاقَ حَلبته في الورىْ ... ورب الحجول بها والغُرر
وناظمَ عقد على نظمه ... تخر الدهور وما يندثر
نظمت الكتاب كتاب الملوك ... وما هو إلا سجلّ القَدَر
طويت الزمان وأحداثه ... بأوراق ونشرتَ العِبَر
فما جام جمشيد إلا كتابُ ... ك يجلو الأقاليم فيه البصر
فيالك من شاعر نابغ ... عظيم الحياة جليل الأثر
ويالك من شاعر رابح ... وكم شاعر في الورى قد خسر
ثلاثين عاماً نسجت القريض ... حليف الهموم أليف السهر
ثلاثين عاماً مضت للفناء ... بهن اشتريت خلود الدهَر
لقد صدّق الدهر ما قلتَ في ... كتاب الملوك بغيب النظر:(70/61)
بنا هاي أباد كردد خراب ... بحرّ ذُكاَء وصوب المطر
بي افكندم أز نظم كاخي يلند ... على الرياح والقطر ما إن يخرّ
مضى ملك محمود في الذاهبين ... وملكك في الدهر ما يندثر
رضاه شاه حسبك من ناصر ... لقدرك بعد للقرون قَدَر
يسيّر ذكرك في الخافقين ... مسير ذُكاء ومسرى القمر
طوينا البحار وشُمَّ الجبال ... وجُردَ القفار وأَيْكَ الشجر
يطير بنا الشوق ملء القلوب ... ويُحلي حديثك مُرَّ السفر
وفي مصر كنت نجيّ الكتاب ... بليغ العظات وحلو السمر
وها أنا في طوس يَدَيْ ... ك يبهر نفسي جلال بهر
فهبية ذكراك روع الفؤاد ... ومشهد حفلك يُخسى البصر
يضيق عليَّ مجال الكلام ... ويشرد عنيَ سِرْب الفكَر
ويذهب شعري ذهاب الحباب ... على لجة البحر حين زخر
هر تانكس كه دار دهش وراي ودين ... عليك الثناء الجميل نثر
وما شاعر أنا كفء المديح ... فأهدي إليك الثناء الأغر
ولكن سحابك أحيا المواتَ ... وما بالإدارة ينمو الزهر
خلدت على الدهر في الخالدين ... وخلَّدَ شعرك من قد غبر
ودوّى قريضك في الخافقين ... يغنّي البُداة به والحضر
وروحك فردوسه في السماء ... وقبرك فردوس من قد شعر
طوس
عبد الوهاب عزام(70/62)
البريد الأدبي
العيد الفضي
عزيزي الزيات
في افتتاحية العدد الماضي أسميتم العيد العشرين للجنة التأليف العيد الفضي. وإن جاز أن يكون في هذه التسمية متسع لاختلاف الآراء، فأني أرى الأولى تسمية بالعيد الصيني، وذلك جرياً على العادة القديمة في بعض الأمم، واتباعاً للمراسيم المألوفة عندهم في الأعراس. فقد اصطلحوا على أن يهدوا للعروسين في ذكرى العرس السنوية الأولى شيئاً مصنوعاً من الورق، وفي الذكرى الثانية شيئاً مصنوعاً من (البفتة)، وفي الثالثة شيئاً من الكتان، وفي الرابعة شيئاً من الحرير، ويتلو هذه الخشب فالحلوى فالزهر فالجلد فالقش فالقصدير فالعقيق، إلى آخر قائمة طويلة يعني باستظهارها من لا يزال يعني بتلك المراسيم ولاسيما التجار. ومن اشهر تلك الأعياد العيد العشرين ويهدى فيه الخزف الصيني، فالخامس والعشرين وتهدى فيه الفضة، فالثلاثون ويهدى فيه اللؤلؤ، فالأربعون وهديته الياقوت، فالخمسون وهو الذهبي، ثم الخامس والسبعون وهو الماسي؛ ومن بلغه فقد عمر دهراً طويلاً. ولاشك أن ربط هذه الأشياء بهذه الأزمان منشؤه في كل حالة خاصة غير واضح، ولكن نستطيع أن نقول على وجه التعميم انه يمت من قريب أو بعيد إلى ما كان يعتقد القدماء في المعادن والجواهر من يمن أو شؤم. حتى لتجدهم إلى اليوم يخصون الفصول والأيام، حتى والساعات بأحجار كريمة خاصة تدر على لابسها، أو الأرجح لا بستها، كل خير وبركة، فالزمرد حجر الربيع لخضرته، والياقوت الأحمر حجر الصيف لان لونه من النار، والياقوت الأزرق للخريف، والماس للشتاء ولونه من لون الثلج، يأخذ النور ويشع بالنور
احمد زكي
الأدب اليوجوسلافي في مختلف أطواره
كثر الحديث أخيراً عن يوجوسلافيا وأحولها لمناسبة مأساة مرسيليا التي ذهب ضحيتها الملك إسكندر. وكان للناحية الأدبية نصيب من تلك الأحاديث؛ فنشرت مجلة (الأخبار(70/63)
الأدبية) مقالاً ضافياً بقلم الكاتب السربي ايفو باربتش عن الأدب اليوجوسلافي في مختلف العصور نلخصه فيما يأتي:
ليوجوسلافيا حضارة قديمة وأدب قديم. وترجع آثار الأدب السربي والكرواتي والسلوفيني القديم إلى القرنين العاشر والحادي عشر؛ وظهرت في القرن الحادي عشر أول آثار باللغة السلافية القديمة بقلم كيريل وميتود رسولي الأدب السلافي، وبلغت الحضارة اليوجوسلافية ذروتها في عصر (نيماجنا)؛ وهرع إلى الأديرة القديمة كثير من شباب الأشراف والأمراء، يعيشون في تقشف، ويدرسون الآداب البيزنطية والنصرانية القديمة، ويترجمون آثارها الخالدة إلى السربية القديمة. وبعد الفتح التركي (سنة 1389) دخلت الآداب اليوجوسلافية في طور جديد، وسادة فيها مثل البطولة والعناصر الشعبية والغنائية، وبلغت ذروة هذه المرحلة في القرن التاسع عشر، ولفتت نظر الغرب بشاعريتها القوية المؤثرة التي تقص آلام شعب مهيض وتستوحي ماضيه المجيد، وتدعو إلى تحريره من نير الغاصب
وقامت إلى جانب هذه الحركات الأدبية العامة حركة أدبية محلية في البلقان وعلى ساحل البحر الأدرياتيك في القرنين الخامس عشر والسادس عشر تحت رعاية الحضارة البندقية. فكانت مدينة راجوزا مركزاً لحضارة سربية زاهرة، ونبغ بها عدة شعراء سربيين مثل منتشتش، ودرزتش، وجيورجتش. وبلغ شعر راجوزا غاية ازدهاره بالشاعر جوندلتش صاحب الأثر الشعري الخالد (عثمان)؛ وهي قصيدة قومية كبيرة، تضطرم وطنية، ويطبعها وحي الآداب الرومانية والنصرانية القديمة. وكان للدرامة والكوميدية والشعر الريفي نصيب كبير في هذه الحركة. وتردد صدى هذه النهضة الأدبية الزاهرة في كثير من المدن الساحلية الأخرى مثل زارا، وسبلاتو؛ ونبع بها عدد كبير من الشعراء والكتاب؛ كما ترددت في بلاد الكروات والسلوفين
على أن هذه المظاهر الأدبية كانت تنقصها الوحدة والتناسق حتى القرن التاسع عشر. وكان اعظم العاملين على تحقيق هذه الوحدة الكاتب الكبير فوك كرادجتش الذي لبث زهاء نصف قرن يناضل في سبيل وحدة اللغة الأدبية يؤازره جماعة من أنصاره وتلامذته، فكتب أجرومية اللغة الأدبية، وألف قاموساً، ووضع قواعد جديدة للإملاء. وكتب اوبرادفتش كتباً شعبية كثيرة يدلل بها على وحدة الأصل الذي تنتمي إليه العناصر السربية المختلفة، وكانت(70/64)
زغرب عاصمة كرواتيا مهداً خصيباً لهذه الحركة الفكرية الجديدة، وفيها ظهر لودفيت جاي وجمهرة من الكتاب الذين يعملون على تحقيق هذه الوحدة الأدبية
وكان ذلك بدء الأدب اليوجوسلافي الحديث، وقد بدأ هذا الأدب متأثراً بالطابع الساذج القديم، ولكن مشرباً بروح الأدب الغربي الحديث، وكان زعماء هذا العصر نيوجوخ أعظم شاعر يوجوسلافي وصاحب الديوان الشهير (غار الجبل) ومازورانتش الكرواتي، وبرشرن السلوفيني، ونستطيع أن نذكر من الشعراء المعاصرين دوتشتش، وشانتشتش، وراكتش، ونازور، وكيت. ونبغ أيضاً عدد من القصصيين متأثرين بالأدب الروسي والفرنسي، ومنهم ليوبيشا، ولازارفتش، وسرماك، وكوزاراك، ولكوفار، وكانكار
وامتاز عصر ما بعد الحرب باضطراب فكري عظيم؛ وأبدى الجيل الشاب ميلاً جديداً لمتابعة الغرب في نزعاته نحو الأدب والفن؛ وظهرت في حلبة الآداب اليوجوسلافية الفكر القومي والدولي والاشتراكية الجديدة، أو بعبارة أخرى كانت النزعة الثورية تطبع أدب هذه المرحلة، بيد أن هذه النزعة قد اختفت اليوم، وعاد الكتاب والشعراء يعملون في هدوء لإخراج الآثار الأدبية الباقية. ومن زعماء الحركة الأخيرة مشش ودراجان، وهما اللذان جمع حولهما الشباب، لمكافحة النزعة الواقعية التي مازال يدافع عنها أساتذة جامعة بلغراد. وثمة حركة أخرى ربما كانت أكثر رسوخا وهي حركة (التعبير) التي يتزعمها فنافر، ثم مانيولفتش الذي ترك الشعر ليكتب القصة والقطع المسرحية. ومن أقطاب حركة التعبير أيضاً راستكو، وكريانسكي، وهو قصصي شاب يبشر بمستقبل عظيم، وله تلاميذ ومقلدون كثيرون؛ وملادنوفتش الذي أثار بعنف دراماته كثيراً من النقد وبجدا نوفتش الناقد الكبير
على أن هناك عدداً من الكتاب الذين استطاعوا أن يحتفظوا برزانتهم بعيداً عن التأثر بأزمة ما بعد الحرب؛ ولهؤلاء آثار تمتزج فيها النزعة الواقعية بالطابع الإبداعي. وهنالك صفوة من الكتاب والنقدة يجمعهم (نادي القلم) ويكونون ما يمكن أن يسمى (أرستوقراطية أدبية).
وقد تأثرت الحركة الأدبية بالأزمة الاقتصادية الأخيرة، وأحجم كثير من دور النشر عن إخراج المؤلفات الجديدة. بيد إنها أزمة مؤقتة لا يلبث أن يتغلب عليها الجيل الشاب بنشاطه وحيويته الفتاة.(70/65)
عيد اللغة الألمانية
تحتفل الدوائر العلمية الأدبية في ألمانيا بمرور أربعمائة سنة على نشوء اللغة الألمانية الحديثة وترجمة الإنجيل إلى الألمانية. ولم تكن ألمانيا قبل أربعمائة عام تتمتع بلغة موحدة؛ وكانت اللغة اللاتينية ما تزال سائدة في الكنيسة والإدارات الحكومية، بل كان الشعب نفسه يجد في اللاتينية مثله الأعلى في الأدب والثقافة. ففي أوائل القرن السادس عشر ظهرت حركة الإصلاح الديني (البروتستانتية) على يد زعيمها مارتن لوتر، فكانت إيذاناً بقيام اللغة الألمانية الموحدة. وكان الشعب الألماني يتكلم عندئذ عدة لغات متقاربة ترجع كلها إلى أصل جرماني؛ فدرس لوتر هذه اللغات مع أصدقائه وتلامذته، واستخراج منها لغة عامة يتقارب الجميع في فهمها، واتخذ عمادها لغة ألمانيا الوسطى (سكسونية) التي ينتمي إليها، فأنشأ بذلك في الواقع لغة جديدة هي أصل اللغة الألمانية الحديثة، وكانت اكبر أداة في إذاعة هذه اللغة الموحدة ترجمة الإنجيل؛ ترجمه إليهالوتر، وعانى في هذه الترجمة صعابا لا تحصى. وقضى في إخراجها زهاء اثني عشر عاماً. وكان أثناء ذلك يلقي خطاباته ويخرج رسائله وكتبه باللغة الجديدة التي أختارها.
ولما ظهرت ترجمة الإنجيل الجديدة في سنة 1534 في فتمبرج، كان ظهورها ظفراً عظيماً في الكنيسة وفي الأسرة معاً، وكان فجر اللغة الألمانية الجديدة. وطبع إنجيل لوتر أربع عشرة مرة في كل مرة ثلاثة آلاف نسخة، وذاع في طول البلاد الألمانية وعرضها، وأقبل الشعب على قراءه وحفظه، وبدأت الشعوب الألمانية المختلفة تتبادل التفاهم والتعامل بالغة الموحدة. وإنجيل لوتر هو الأصل الأول الذي تقوم عليه اللغة الألمانية المعاصرة مع شيء من التغيير والتطور، ومازالت لغته مفهومة لجمهرة المثقفين والمتعلمين.
في الأكاديمية الفرنسية
نقص عدد الخالدين أعضاء الأكاديمية الفرنسية في هذا العام خمسة، فأصبحوا اليوم خمسة وثلاثين بدلاً من أربعين؛ فحلت مقاعد بريمون وكاميل جوليان والماريشال ليوتي ثم بارتو وبوانكارية بالوفاة تباعاً. ولم تشهد الأكاديمية الفرنسية منذ أمد بعيد مثل هذه الثغرة في كراسيها. والمعروف أن المرشح لكرسي جوليان هو جورج دوهامل، ولكن ينافسه ليون(70/66)
بيرار؛ وأما المرشح لكرسي بوانكارية فيقال انه سيكون مسيو دومرج الذي خلف مسيو بوانكارية في رياسة الجمهورية ثم في رياسة الحكومة
وكان انتظام بوانكارية في الأكاديمية في التاسع من ديسمبر سنة 1909 في الكرسي الذي خلا بوفاة أميل جبهار. واستقبله المؤرخ الكبير ارنست لافيس مدير الأكاديمية يومئذ بهذه الكلمات التي تعود فتتردد اليوم: (إن ذكاءك يجعلك على اتصال مع عمال الفكر جميعاً. فأنت ضوء من أضواء المحاماة، وأنت ضوء من أضواء البرلمان؛ وان الأكاديمية الفرنسية لتستقبلك باسطة الذراعين. ثم إن فيك قوة، وقد تغدو هائلة، يوم تعتقد أن السياسة تتطلب رجالها)(70/67)
القصص
ورقة النصيب
للأستاذ محمد سعيد العريان
جلس إسماعيل على المعقد الخشبي بجانب غرفته على السطح، يغني في حنين الواجد ولهفة المشتقات بعض أغنيات بلاده، ويتابع بعينه الشمس الغاربة منحدرة انحدارها اليومي، كأنها جمرة كبيرة تطفأ في النيل.
كان يعيش وحده في هذه الغرفة من منزل كبير في حي (بولاق) يشرف من بعد على النيل فكانت سلوته وانسه أن يجلس ببابها عصر كل يوم، من لدن عودته من المدرسة حتى يعم الظلام؛ ثم ينهض فيسرج مصباحه ويكب على مصوراته ودفاتره
وقد انحدر منذ عام واحد من بلدة في الصعيد الأدنى عقب حصوله على شهادة (الكفاءة) ليطلب العلم بمدرسة الفنون
كم كان مفتوناً بالقاهرة قبل أن يهبط إليها، ولوعاً بها أشد الولع. ولعله لم يمعن في الجد والدأب للحصول على الشهادة، إلا لأنه كان موعوداً أن يرسل إلى القاهرة إن جاز الامتحان!
فلما هبط إليها إذا هي تتضاءل وتتضاءل على الأيام، حتى لم تعد إلا هذا الحي العتيق الذي يسكنه، وهذه الطريق الملتوية التي يسلكها كل يوم بين مدرسة والبيت، وهذا السطح الذي يشرف منه على أطلال الحلم السعيد - أطلال القاهرة التي عرفها في الخيال، واستمتع فيها بلذة المنى ووهم الحب ودنيا الشباب!
وكم كان يتمنى أن يتيح له الحظ ليلةً سعيدة من تلك الليالي العابثة التي عاشها في القاهرة أول ما هبط إليها! ولكن. . . ولكن من أين له المال؟
انه ما يزال يذكر في لهفة وشوق الليالي السعيدة؛ وما يزال يذكر أيضاً في ألم وحسرة انه احتمل مما انفق في تلك الليلات ما لم تكن به طاقة، من ألم الجوع وذل الحرمان، وأبى أن يكتب لأبيه يومئذ انه فارغ اليد مما أسرف على نفسه
وقنع من أحلامه بهذه السكنى الهادئة، وبأن يعيش من الجنة في ظل حائطها الفينان. وعرف فيه بنات الدار شاباً جم الحياء، عفيف اللسان والنظر؛ فألفن الصعود إلى السطح(70/68)
في الأصيل يستمعن إلى ترجيع أغانيه في طرب ونشوة، ثم يتفرقن قبل أن يزحف الظلام وألف إسماعيل أن يراهن كل يوم، وان يبادلهن الحديث البريء في شؤون وفنون. . . وزال الحجاب بينهما على الأيام
وأطال إسماعيل الجلوس يومئذ حتى غابت الشمس، ولم تصعد واحدة. ترى ماذا منعهن الليلة، وقد اعتدن واعتاد منذ شهر أو يزيد - منذ سكن هذا الدار - أن يجالسهن جميعا أو أشتاتا، ساعةً أو بعض ساعة كل مساء؟. . . ومد الظلام رواقه على القاهرة، وعلى قلب المبعد اللهفان
ودخل غرفته فأشعل مصباحه وبسط دفتره، فإذا هو لا يكاد يرى، وإذا الكلمات والسطور تتلوى أمام عينيه، كما تشاهد فرقة زنجية راقصة. . .!
وطوى دفاتره وارتدى ثيابه وخرج إلى الطريق؛ كانت الليلة ليلة الجمعة، فلم يجد حرجا أن يقضيها في السينما. . ووقف ببابها متردداً وهو يحصي النقود في جيبه، وعيناه تتبعان المارة أزواجاً وجماعات، وهو وحده من بينهم لا يتأبط إلا همه! ليته كان يستطيع أن يدعو واحدة من صديقاته في الدار إلى نزهة، فيصحبها ذراعا إلى ذراع في الطريق كهؤلاء الذين يرى! ولكن من أين له، من أين له المال؟
كم يكفيه ليقضي ليلة سعيدة في صحبة فتاة؟ لقد عرف القاهرة الآن عرفاناً تاماً، فلا سبيل إلى أن يخدع سيشاهد معها السينما في شرفة ذات أستار، ويتعشيان معاً في مطعم فاخر، ثم يستقلان سيارة إلى الهرم، ويشتري لها كل ما تهفو نفسها إليه في الطريق، وبعدئذ. . وبعدئذ يعودان إلى الدار
وفرغ من حسبته وهو يبسط أصابعه ويطويها يحصي ما انفق، وعيناه تأخذان كل من يمر به. . جنيه، جنيه واحد سيمنحه سعادة ليلة! وسخر من نفسه حين انتهى إلى ذاك: من أين له الجنيه؟
ومر به غلام يبيع الجنيهات بالقروش؛ يبيع النصيب! ومد إسماعيل يده فأعطى البائع قرشاً، وتناول ورقة فطواها بعناية ووضعها في جيبه؛ كأنما هو يطوي الجنيه الذي سيصل بين يقظته وأحلامه. ثم عاد إلى البيت فلم يشهد السينما
لم يفكر في شيء من أمره تلك الليلة، فنام ملء عينه وملء بطنه! ورأى أباه في الرؤيا(70/69)
بجلبابه الأسود الفضفاض، وعمامته التي تكبس أذنيه وبعض وجهه؛ جالساً بين غرائر الفول على ظهر المركب المبحرة إلى الشمال، يحصي ربحه ونفقاته، وقد اغبرت لحيته وعلا التراب كتفيه. ونهض في الصباح فنسى كل ما كان من أمره. وصعدت إحدى صواحبه إلى السطح لبعض شأنها، فحياها وحيته وهو يبتسم، كأنه يخفي عنها مفاجئة سارة. وعادت الفتاة وعاد إسماعيل إلى شئونه
وأوقد النار وراح يهيئ الفول بيده على طريقة بلاده؛ سوف لا يتغذى في المدرسة هذا اليوم لأنه يوم عطلة، وفي فطوره الفول ما يغني عن الغداء، فلا تختل ميزانيته اليوم!
ومر يومان وراح يكشف عن بخته بين أوراق النصيب. . . وترقب الفتيات أن يسمعن غناءه فيصعدن إليه، ولكنه لم يعد، واستقل أول قطار إلى الصعيد. . .
مائة جنيه! يا للبخت! لم تكن أحلامه لترتفع إلى ذاك! إنها لثروة. وقسم النقود قسمين، واشترى حافظه ثمينة فوضع فيها بعض ما ربح، وخاط جيبه على الباقي. . . لقد دبر أمراً ليخدع أباه، حتى لا يحرمه المال كله!
وخرج الشيخ متولي من المسجد يداعب سبحته بيده ويتمم بالتسبيح والدعاء، وهو في هم لمقدم ولده من غير داعية. . . وقبل الفتى يد أبيه، وقال له وهو يبتسم:
- الحمد لله على سلامتك يا ابي، لقد كنت مشتاقا إليك!
- مشتاقاً إلي! وهل جئت من اجل ذلك؟ حسبتك رجلا إسماعيل!
- نعم. . . ولكن. . .
لكن الرجل يجب أن يكون على قوة احتمال وصبر، ولست ولدي إن لم تكن رجلاً
- بلى، وإنما قدمت لأمر. . .
- أي أمر؟
- لقد ربحت خمسين جنيهاً فرأيت أن أجعلها عندك!
- خمسين جنيهاً؟
- نعم!
وانبسطت أسارير الرجل، وداعبت شفتيه ابتسامة، واتسعت حدقتاه، وعاد يقول:
- ومن أين لك رأس المال؟ لم تخبرني من قبل انك في تجارة!(70/70)
- لقد ربحت ورقة نصيب!
- وي! ورقة نصيب؟ قمار؟ ميسر؟
واستوى عوده، وانكمشت يده واختلجت شفتاه، ثم قال:
- لا لا، ويحك! لا تجمعها في مالي، إنني رجل شريف، إن مالي من عرق جبيني فلا أريد أن يمحقه المال الحرام!
- أبي!
- اسكت! قم فردا إليهم، دعهم يفرقونها على أصحابها المساكين، من يد كم بائس اجتمعت القروش حتى عادت خمسين جنيهاً؟ إنهم يخدعون الجهال البائسين فيسلبونهم القروش القليلة التي يملكونها، ليوهموهم أنهم سيقاسمونهم بعض ما يجمعون؛ بعض ما يسرقون!
- وهل يمكن. . .
- يمكن أو لا يمكن، فلن أجعلها في مالي، إنا ملونة، قذرة، هل تعرف من أين اجتمعت؟
- لا أعرف
- المال الحلال يعرف دائماً مأتاه. . .
كان قلب الولد يضحك ووجهه عابس، ولم تنته المناقشة بينهما إلى حد؛ فقد تحرج الشيخ الورع أن يضم ربح (الميسر) إلى ماله، ولكنه لم يسأل نفسه عما سيفعل ولده بالمال
وعاد إسماعيل إلى القاهره، ولكنه لم يعد إلى داره إلا بعد ليال ثلاث. . وأطل الفتيات من خلف الباب يشهدن إسماعيل عائداً إلى الدار، يصعد الدرج في زهو وكبرياء، وعليه حله جديدة، وفي عينيه فتور ينبئ أنه قضى ليله سهران
وترامى إليهن غناؤه من فوق السطح أكثر حناناًوفتنة، كما بدا هو أكثر مرحاً ونشاطاً مما كان. وتبادل الفتيات النظر، ثم ولجن غرفهن وغلقن الأبواب
لم تحاول واحدة منهن أن تصعد إليه بمرأى صواحبها، فقد بدا لهن مما تغير من هيئته وحركاته كأنه شخص آخر غير إسماعيل الذي يعرفنه ويثقن بعفته وأدبه، وكأنما ألقى اليهن جميعاً معنى واحد، فخجلن أن يبدوا له، وإن أخذت كل واحدة منهن تؤمل أن تجد فرصة من غفلة رفيقاتها لتصعد إليه وحيدة
وسبقتهن (حكمت) إلى ذاك، ولكنها لم تظهر له أو لواحدة منهن أنها تعمدت أن تصعد(70/71)
واستقبلها إسماعيل ضاحكا، وهز يدها بلطف، وجلسا يتبادلان الحدب. ثم افترقا على ميعاد. . . ووجد الفتى تعبير رؤياه، وكان حلماً أشرق عليه الصبح، فأتمته اليقظة التي تصنع الأحلام
ولكنه لم يقنع بسعادة ليلة، وعاد يتعرف القاهرة من جديد، القاهرة التي فتنت قبل أن يراها، والتي ذاق فيها من ألم الحرمان أكثر مما ذاق من لذة الوهم؛ وراح ينتقم لشهوات نفسه التي قمعها على ألم وضيق عاما وبعض عام
ونفذت دراهمة
لم تجر سفينة الشيخ متولي مجراها كما كانت، فركدت ريحه، وأدبرت أيامه، وعادت الحياة تقتضيه مضاعفة الجهد وبذل الموفور
وجلس إسماعيل مع أبيه ذات يوم صائف بباب متجره، ومر بائع النصيب؛ وتحلب لعاب الفتى وطارت أمانيه إلى هناك؛ إلى القاهرة ولياليى القاهرة؛ وإلى حكمت وصواحب حكمت! ولكنه أفاق من حلمه إذ رأى ذراعه إلى ذراع أبيه. . .
والتفت فإذا الغلام واقف، وإذا أبوه يخرج من جيبه أوراقا يكشف بينها عن بخته، ثم يمزقها ويلقيها، وإذا هو يشتري غيرها فيطويها ويجعلها في جيبه، ليضم صدره على أمل جديد. . .! وتباله الفتى فنهض من مجلسه ليخفي ابتسامة ساخرة، وعلى طرف لسانه كلام. . .
لم يعد الشيخ متولي يسأل نفسه: من أين اجتمعت هذه الجنيهات التي يحاول أن يشتريها بالقروش! فلعله كان يعلم أنها اجتمعت من قروشه الكثيرة التي أداها هو إلى بائعة البخت، منذ تعلم أن يحاول شراء البخت بالمال. . . منذ ربح ولده. . .!
وضحك (إبليس) من الشيخ متولي وهو يمزق الأوراق ويشتري غيرها، وقال لشيطان وهو يعلمه:
(أنظر هذا الأبله؛ ما أرسلت إليه ابنه إلا برسالتي، فقد علقته الحبالة. حسب الإنسان الضعيف أن أربه الحرام مرة؛ فهذا أول عملي في طبيعته)
قال الشيطان الصغير (ثم بعد ذلك؟) قال المعلم (بعد ذلك - أيها الأبله - طبيعته. . .!)
محمد سعيد العريان(70/72)
الشاعر والوردة
في سنة 1257 ميلادية في إحدى قرى ألمانيا على ضفة نهر الرين، كان البارون أوتودي سيد المقاطعة مشهوراً بين قومه بثروته الطائلة وأحكامه القاسية
جمع هذا الرجل كل ما ملك من ذهب وجواهر ووضعها في صناديق مفتوحة في قاعة تحت الأرض، وكانت الشمس تدخل هذه القاعدة من ثغرة في نهايتها فتضيء بأشعتها هذه الجواهر الغالية
وكان البارون يجد تسلية لا تعد لها تسلية في السماح لمن يشاء أن يدخل تلك القاعة ويملأ جيوبه من المال بقدر ما يستطيع على ألا يستغرق في ذلك إلا مقدار ما تدق الساعة عشرة دقات، فإذا انتهت المدة ولم يخرج الرجل اعتبره سارقاً ما يحمله من جواهر وحكم علية بالرق مدة حياته. فكان يطمع في هذا المال كثيرون كل يوم، وكان عدد عبيد البارون يزداد بقدر عدد الذين طمعوافي ماله لأنه لم ينج من هذه الأحبولة أحد. وهذا ما كان البارون يتوقعه؛ ولم تخيب الأيام ظنه مرة واحدة
ففي ذات يوم مر على القصر هذا البارون شاعر مطبوع، وشاب مشهور بين قصور أمراء ألمانيا في ذلك الحين بجماله ورقة شعور ورخامة صوته ومهارته البالغة في الضرب على القيثاره. وكان يقضي حياته منتقلا بها من قصر إلى قصر
واتفق أن ابنة البارون ووحيدة دخلت في ذلك اليوم في عامها السادس عشر، فطلب إليه البارون أن يحي ليلة موسيقية تكريما لها
وقبل أن ينصف الشاعر طلب إليه البارون أن يدخل قاعة المال ويأخذ منها ما يشاء، على شرط أن يكون خارج القاعة قبل أن تنتهي المدة المقررة، وكأنه بهذا الطلب أن يستأثر بهذا الشاعر ويستعبده كغيره من الشبان
ولكن الشاعر أجاب: (وماذا افعل بمالك؟! لست في حاجة إليه، لأنني اشعر أن في نفسي من اللآلئ مالا تعد جواهرك الثمينة بجانبه شيئاً) ولكن البارون ألح عليه فأجاب طلبه
فلما كان الشاعر داخل القاعة أبصر من هذه الثغرة وردة انبهر من جمالها نظره وخفق لحسنها قلبه، فوثب وفوق المال المكدس واقتطف تلك الوردة وخرج مسرعاً قبل أن تنتهي المدة. فلما رأى البارون أول من خرج من القاعة دهش. وقال له (إن ما حملته من المال ملك لك) ولن البارون لم يجد شيئا مع الشاب سوى الوردة الجميلة. فقال له (أهذا كل ما(70/73)
أخذته من القاعة؟!) فقال الشاعر (إني لم أرى في مالك ما هو اجمل منها، بل ليس على الأرض ما هو اجمل منها. . . .)
ولم يكد ينتهي من حديثه حتى أقبلت الفتاة على والدها وحمرة الخجل تعلو وجنتيها. فلما رآها الشاعر دهش لجمالها الفاتن وقال متمماً حديثه مع والدها (. . . إلا هذه الفتاة) ثم طلب من البارون أن يسمح له بتقديم تلك الوردة هدية إلى ابنته. فقالت الفتاة لأبيها: (إنه يفضلني على هذه الوردة يا أبي، وقد فضلها على كل جواهرك؛ فليس على الأرض فارس أرق منه شعوراً ولا اشرف منه عاطفة، ولا اصدق شعراً، ولن أكون زوجة إلا له)
وهكذا اصبح هذا الشاعر الحق، وذلك الشاب النبيل، زوجاً لهذه الزهرة الحية الجميلة
(عن الإنجليزية)
كلية غردون
علي محمد احمد(70/74)
الكتب
في التربية
بحث في عوامل التربية غير المقصودة
تأليف الدكتور علي عبد الواحد وافي
قررت وزارة المعارف هذا الكتاب لطلبة دار العلوم، وهو يقع في نيف ومائتي صفحة من القطع الكبيرة.
وجد المؤلف الفاضل أن كتب التربية التي صدرت في مصر حتى الآن توجه القسط الأكبر من عنايتها إلى عوامل التربية المقصودة، أعني تلك العوامل التي تنحصر فيما يتخذ المربون من وسائل حيال الناشئين بقصد التأثير في جسومهم وعقولهم وأخلاقهم تأثيراً يعدهم للحياة المستقبلية، بينما تنصرف عناية المؤلفين عن تلك العوامل التي يسميها الدكتور الفاضل عوامل التربية غير المقصودة، والتي تؤثر تأثيراً قوياً في حياة الصغار دون تدخل من المربين، ومن تلك العوامل البيئتان الطبيعية والاجتماعية وما إليهما من طرق معيشة الأمة ومقدار حضارتها وأشكال نظمها وصنوف تقاليدها، مضافا إلى هذا تلك الأمور التي يقوم بها الطفل من تلقاء نفسه، ويكون لها اثر قوي في سلوكه ونشوئه، كالألعاب الحرة والأعمال التي يقوم بها الطفل مدفوعاً بغريزة المحاكاة والتقليد
ولقد خصص المؤلف كتابه هذا لدراسة طائفة من تلك العوامل وهي اللعب والتقليد والوراثة والبيئة الجغرافية والبيئة الاجتماعية
تكلم عن وظائف اللعب التربوية وما قيل فيها من نظريات، وناقش هذه النظريات مناقشة العالم المجرب في منطق مستقيم وترتيب حكيم، دون أن يغفل أي ناحية من نواحي الموضوع، ثم أورد ملخص هذه النظريات مبيناً وظيفة اللعبة الأساسية ووظائفه الثانوية، وبعد ذلك أتى على أقسام اللعب الإنساني وأوضح الفرق بين اللعب والعمل، وتكلم على تطور الألعاب وارتقائها، وختم موضوع اللعب بما عساه أن ينتفع به من المربي من اللعب في التعليم، وهو كما ترى فصل قوي شيق يستغرق أربعا وستين صفحة من الكتاب وانتقل بعد ذلك إلى التقليد، فتكلم عن التقليد في الصوت شارحاً الأصوات الوجدانية واللغة وأساس(70/75)
كل منهما عند الطفل، وشرح التقليد في الحركة مبيناً أنواعه ومراتبه وأساسه، إلى أن انتهى إلى بيان وظائف التقليد التربوية، كل ذلك في بسط ودقة وحسن ترتيب
أما الفصل الثالث وموضوعه الوراثة، ذلك الموضوع الدقيق فقد تناول المؤلف بما يتناسب مع خطره من الشرح والبسط، فحدثنا عن أنواع الوراثة وأسبابها وأهميتها وعلاقتها بالتربية، حديث الخبير الفطن. وفي الفصلين الأخيرين تكلم عن البيئيتين الجغرافية والاجتماعية العامة، ناهجاً في ذلك نهجه في الفصول الثلاثة السالفة
فهذا الكتاب كما ترى من موضوعه، أحد الكتب الهامة التي تعد من مظاهر هذا الدور العلمي الذي تجتازه مصر في عهدها الحالي، فإذا أضفت إلى موضوعه، تلك الروح القوية التي عرض بها، وذلك المجهود الذي يتجلى فيما حواه من شروح وتعليلات ومناقشات، وكلها وليدة عقل متزن ونتيجة إطلاع واسع ودراسة دقيقة، أمكنك أن تقدر قيمة هذا الكتاب العلمية فهو بحق أحد المؤلفات التي تقابل بالغبطة، والتي يحتاج إليها كل معلم، بل كل مثقف يهمه أن يقف على نواح من المعرفة تهمه في حياته العلمية وفي دراساته النظرية.
الخفيف
الألحان الضائعة
نظم حسن كامل الصيرفي
قرأت ديوان شاعرنا الشاب، فأحزنني لعمر الله هذا البكاء الذي لا ينقطع، وهذه الشكوى المريرة التي تعج بها قصائده، ورحت أتلمس سر تلك الكآبة الجازعة، فلم أهتد إلى شيء، فطويت الكتاب وأنا برم بهذه النزعة من شباب في مقتبل العمر، أجل، ربما كان الشاعر قد صادف في حياته ما أجرى دموعه، ولكن متى كانت رسالة الشعر النحيب والشكوى في غير سبب معروف وفي غير إيضاح من الشاعر عما ناله؟ على انه لو كشف عن سر بكائه لكان الواجب يقضي عليه يقتصد شكواه أو يعرضها في صورة غير تلك الصورة اليائسة المستسلمة
تفتح ديوان هذا الأديب الفاضل فتجده يصف نفسه بالضحية ويرمز لنفسه بالواحة المنسية، ثم يصور لك حياته في صور باكية يائسة، وذلك في عدة قصائد، (كالحي الدفين) و(70/76)
(واللحن الضائع) و (القلب المحطم) و (الشكوى الصامتة) و (جرح الألم) و (الصدى الخافت) و (جفاء الطبيعة). . . الخ
أما شعره في ذاته فلي عنه بعض ملاحظات أرى الرغبة في الإنصاف تقضي علي بسردها. أول ما ألاحظ عليه انه كثير الميل إلى المجازات والاستعارات الغريبة فيذكر في شعره كهوف الحياة، وقيثارة الحياة، وقبر الحياة، والفضاء الجمود، ولهيب الأنين، وجنان الخيال وعصير الشجون، وظلال الفتون. . الخ فضلا عن إتيانه بكثير من المعاني والأخيلة الغريبة فيتحدث عن الشمس مثلا عند الغروب بأنها:
تخفي الأسى خلف النخيل ... مثل ابتسامات العليل
ويقول:
نزل المساء برَجله ... وجرى الظلام بخيله
ويصف الفجر فيقول:
فإذا الجو غارق في اهتزاز ... كاهتزاز الأوتار دون (نشاز)
وخفوق لكنه باعتزاز
ويقول:
أعيش أشاطرهم بؤسهم ... وأملأ كأسي عصير الشجون
إلى غير ذلك من الصور والأخيلة الجزئية، فضلا عن الصور الكلية، وهي لا تقل عن هذه غرابة كقصيدة (الشاعر وموت عزرائيل) و (أغاني الربيع) وغيرها، وبهذه المناسبة أقول إن بعض شعراء الشباب قد استولت على أذهانهم فكرة غامضة هي فكرة الشعر الرمزي، يرددون هذه الكلمات دون أن يفهموا المقصود منها، وينظمون القصائد ويسوقونها مطلقة جامحة، وأي غضاضة في هذا، أليست من الشعر الرمزي؟! وهكذا يطلون الأعنة لأخيلتهم على غير هدى والى غير مقصد، ولا يخفي ما يجره هذا من الضرر على تفكيرهم ومثلهم وإني لا أخشى طغيان هذه الظاهرة واعدها من اكبر العقبات التي تقف في سبيل تقد الشعر العصري، ولا بد لشبابنا أن ينبذوا هذه الفكرة إذا أرادوا أن تنضج مدرستهم، وتبرز شخصياتهم وتحدد وجهاتهم.
والأديب الصيرفي فضلا عما تقد قليل العناية بقوافية وبلغته على وجه العموم، ولعله في(70/77)
ذلك أيضاً متأثراً بفكرة أخرى يرددها بعض أدبائنا وهي أن الألفاظ يجب تضحي في سبيل المعاني، فما دام المعنى جيداً فلا عبرة باللفظ الذي يؤديه! وليت شعري كيف يكون اللفظ سقيماً والمعنى سليماً؟ إن للشعراء ألفاظاً خاصة ودبياجة خاصة، وروحاً خاصة، لا في اللغة العربية فحسب، بل في غيرها من اللغات، ولو أمن بذلك شبابنا لأخذوا أنفسهم بما يصلح أذواقهم ويصفي عباراتهم فيتم لهم الجمع بين جمال الفكرة وجمال أدائها
هذه هي بعض ملاحظاتي عن ديوان الصيرفي في موضوعه، أما عن شكله فأراني مضطرا إلى أن أصارحه بأننا نود أن نخلص من أمثال تلك المقدمات التي يجتهد أدباؤنا في الحصول عليها من أصدقائهم، تلك المقدمات التي تحشد فيها عبارات الإطراء من غير تحفظ، إذ أن هذا الإطراءيأخذ السبيل على القارئ، ثم هو من جهة أخرى لما يتضمنه من المبالغة يجعل القارئ ينتظر من الديوان ما يتفق مع عبارات المديح حتى إذا جاءه لم يجد فيه ما يحقق رغبته، وفي هذا ما فيه من تقويض دعائم النقد والاستخفاف بعقول القراء.
واحب قبل أن اختم كلمتي أن أشير إلى بعض قصائد في هذا الديوان سما فيها الشاعر سمواً عظيماً، ولو جرى في شعره على مثلها لكان لنا أن ننتظر منه أحد شبابنا المتفوقين، وتلك القصائد هي: البسمات الساخرة، والشجرة العارية، وتحت ضوء القمر، ووحي الشعر، وموت البلبل، وأشباهها.
الخفيف
الإنشاء التعليمي
تأليف الأستاذين محمد شفيق معرف ومحمد عبد الغني الأشقر
يقع هذا الكتاب في مجلدين أنيقين، على ورق مصقول. ولعله الأول من هذه الكتب الكثيرة التي أخرجها مؤلفوها يقصدون بها إلى الصغار التلاميذ لينهضوا بإنشائهم إلى المستوى الذي يريدون، فقد سلك هؤلاء المؤلفون جميعاً طريقاً واحدة، لا احسبها مؤدية بهم إلى الغاية المقصودة على الوجه الاكمل، لانهم قنعوا بأن يقدموا لتلاميذهم طائفة من الموضوعات الجيدة ليتخذها هؤلاء نماذج فيما يسطرون، ونحن نرى في ذلك قلباً للأوضاع وعكسا للمنطق، وكأننا بهؤلاء المؤلفين قد أرادوا أن يقفزوا بالصغار إلى سطح الدار دون(70/78)
أن يمهدوا لهم درجا هيناً يمكنهم من الصعود
أما هذا الكتاب الذي نقدمه إلى القراء، والمدرسين خاصة، فقد فرض في الطفل طفولته المتعثرة العاجزة، فأخذ بيده أخذاً رفيقا متدرجا به من تكوين الجملة إلى بناء الموضوع، فلا يعترض طريقه نتوء يقعد به عن إتمامها.
ذلك مجهود موفق مشكور أملته خبرة بالتدريس لا تتفق للكثير.
ز. ن. م
دير الربان هرمزد
بقلم كوركيس حنا عواد
تناول هذا الكتاب بالبحث المستفيض أثرا قديما في العراق يقع قريبا من الموصل، وهو ذلك الدير الذي أشار إليه العنوان. وقد بسط المؤلف القول في هذا الدير بسطا صوره للقراء تصويرا شاملا دقيقا، فرسم لك الطريق التي تؤدي بك إلى مكان هذا الأثر، ثم وصف لك الدير نفسه بما فيه من رهبان. وهنا استطرد فقدم كلمة عن الرهبنة في الشرق وما تجري عليه من سنن ثم تناول حياة الربان هرمزد نفسه بالبحث.
واقل ما يشكر عليه مؤلف هذا الكتاب الفني الدقيق، ما تجشمه من عناء لكي يبرز هذا الأثر في ضوء الشمس ويضعه من قراء العربية تحت أبصارهم.
ز. ن. م(70/79)
العدد 71 - بتاريخ: 12 - 11 - 1934(/)
داء الوظيفة
قال وهو يقلب كفيه من الهم، ويعض على يديه من الغضب: سقط الوزير سقوط الورقة الجافة قبل أن يمضي القرار بالوظيفة، فهل رأيت مثل هذا الحظ المتخلف والقدر العابث؟. . .
فقلت له: هون عليك يا بني، ولا تسلط على نفسك أساك، إن معك الشباب القادر، والأمل الطموح، والثروة المساعدة، ودبلوم الزراعة التي تفتح لك كنوز الأرض، وتدر عليك أخلاف السماء، وفي القرية متسع لأمثالك ممن يحيون مواتها، ويجددون حياتها، ويفيضون على أهلها نعمة العلم، وخير المدنية، ونعيم الحضارة؛ فلِمَ لا تستأجر مزرعة في بعض دوائر الأمراء تجرب في استغلالها كفايتك وإرادتك وحظك؟ إنك إذا فعلت عصمت نفسك من رق الوظيفة، وخلقك من فتنة الحكومة، وعلمك من آلية العمل، ورزقك من تحديده بالمرتب، وقدرك من قياسه بالدرجة. فأجاب وفي عينيه سهوم العجب من هذا الرأي: مالي أدفع بنفسي في هذه المغامرة المجهولة، والوظيفة تضمن حاضري بالمرتب، وتؤمن مستقبلي بالمعاش؟ والقليل المتصل خير من الكثير المنقطع، والموضع المتطامن المتماسك، أصلح للقرار من الرفيع المترجح. . .
فقلت له: ذلك كلام لاكته الألسن حتى تفه، وتقبلته الآذان حتى سمج، ولقد كان له مساغه وبلاغه يوم كانت المدارس معامل لتخريج الكتبة والحسبة للحكومة؛ فأما اليوم وقد امتد أفق التعليم، واتسع نطاق المنهج، وانفسح مجال العمل، وتحققت الحرية للفرد، وتيسر الارتجال للشباب، وحان الحين ليسترد المصريون جماعات ووحداناً مرافق بلادهم وموارد أرزاقهم من الأجانب، فإن الإخلاد إلى المقاعد الأميرية إخلاد إلى العجز، واطمئنان إلى الهون، وانخزال عن تحرير الوطن.
قال: ولكن فريقاً من الشباب ارتجلوا بعض الأماني الاقتصادية الجماعية في التجارة والزراعة والملاهي، فوردوا عن خسارة وصدروا عن فشل. فقلت له: إن هؤلاء فاروا عن حرارة وفتية، وثاروا عن ريح عابرة، فاعتسفوا الأمر قبل أن يخبروه، وزاولوه دون أن يفرغوا له، واخطئوا تقدير المنافسة الأجنبية فأخطئهم التوفيق؛ ومالك تقيس أمرك بهذا المقياس المختل وأمامك المقاييس العليا تتواثب في عينيك من كل مكان؟ ألم تر إلى اليوناني أو الطلياني كيف يفد عليك من غير رأس مال، ولا شهادة جامعة، ولا توصية(71/1)
وزير، ولا تعضيد جمهور، ولا تحميس صحافة، فيحترف وضائع الحرف، ويحتمل مكاره الفوز، ويتفرع معالي الأمور في روية وصبر، حتى بلغ به نشاطه أن يدير عمارة المدينة، ويصرف تجارة القرية، وينثج زراعة العزبة، فيبيع عليك غلة أرضك، ويستعبدك بربا مالك، وأنت جالس جلسة الأجير على مكتبك الحقير، تكنس لنعليه الطرق، وتشق لعينيه الحدائق، وتكفل لمتاجره الأمن، وتدبر لمزارعه الماء، وتتقبل على ذلك كله دغل الصدر وقسوة اللسان وقحة النظر!
رأى صديقي الفتى أن لهجتي لا تلائم همه الغالب، ومنطقي لا يساير منطقه اليائس، فتولى عني غير راض ولا مقتنع، وتركني أحدث نفسي، وأقارن بين يومي وأمسي، فأجدني بين عملي المقيد الذي انصرفت عنه، وعملي الحر الذي انصرفت إليه، أشبه بالسجين المقيد يعمل برأي غيره، ولحساب غيره، فلا يتحرك ولا يسكن إلا بأمر، ولا يسير ولا يقف إلا في نظام، وهو يأكل حين لا يشتهي، وينام حين لا يريد، ويستيقظ حين لا يحب، وتتعطل ملكاته حتى يصبح كالإنسان الصناعي: قوة محركة وآلة، ثم يدركه لطف الله فتتفكك عنه السلاسل وتتفتح له الأبواب، فيجد عقله في النور، وخلقه في الطبيعة، وحريته في الجو، ووجوده في المجتمع! فينبت الريش الناسل، ويخفق الجناح المهيض، وتتكشف الآفاق الجديدة!
إن أولى الناس بالرثاء لأولئك الذين سلبوا جوهرة الحياة وحرية العيش، وعاشوا في ظلام الوجود مكبين على مكاتبهم، مغلولين عن الحركة، مكمومين عن الشكوى، يستقطرون الرزق من شق القلم، ولا يصيبون من أجورهم سداداً من عوز ولا غنى من فاقة.
يدخل الموظف الديوان وهو ابن عشرين، فيودع عاماً ويستقبل عاماً حتى يأخذ بِمُخَنَّق الستين وكأن لم يحدث في العالم شئ! يختلف الليل والنهار، وتتبدل الأحوال والأطوار، وهو على مكتبه الضيق في غرفته المظلمة، يعمل ساعة ويجتر أخرى، دون أن يشعر بدوران الفلك، أو يفطن إلى حركات العالم.
يدخل الديوان وهو طرير الشارب، أثيث الجمة، ريان من الشباب والقوة والأمل؛ ثم يودعه وهو مخدد الوجه، أشيب الشعر، متداعي الجسم، فقير من المنى والذكر والمال، لا يصلح إلا عموداً في مسجد، أو منضدة في قهوة. وربما أقصدته المنون لانقطاعه بغتة عما ألف(71/2)
من عادة شديدة، وحياة رتيبة، وأعمال واحدة، في ساعات لا تختلف ولا تتبدل.
أيها الموظفون! إن لابتغاء الرزق موارد غير هذا المورد الناضب، ولخدمة الأمة مواقف غير هذا الموقف الكاذب، فتجافوا بأنفسكم عن هذه المقاعد، فإنها مواطن الذل والملق، ومساكن الفقر والجهل، ومكامن الخمول والموت، واقرأوا على أبوابها ما كتبه (دانتي) على أحد أبواب الجحيم:
((قوضوا حصون آمالكم، وأضمروا اليأس من مآلكم، أيها الداخلون!))
احمد حسن الزيات(71/3)
بنت الباشا. . .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
كانت هذه المرأة وضاحة الوجه زهراء اللون كالقمر الطالع، تحسبها لجمالها قد غذتها الملائكة بنور النهار، وروتها من ضوء الكواكب.
وكانت بضَّة مقَسَّمةً أبدع التقسيم، يلتفُّ جسمها شيئاً على شئ التفافاً هندسياً بديعاً، يرتفع عن أجسام الغيد الحسان، أُفرِغَ فيها الجمال بقدر ما يمكن - إلى أجسام الدمى العبقرية التي أفرغ فيها الجمال والفن بقدر ما يستحيل.
وكانت باسمة أبداً كأول ما يتلألأ الفجر، حتى كأن دمها الغزلي الشاعر يصنع لثغر ابتسامتها، كما يصنع لخديها حمرتهما.
مالها جلست الآن تحت الليل مطرقة كاسفة ذابلة، تأخذها العين فما تشك أن هذا الوجه كان فيه منبع نور وغاض! وأن هذا الجسم الظمآن المعروق هو بقعة من الحياة أقيم فيها مأتم!
ما لهذه العين الكحيلة تذري الدمع وتسترسل في البكاء وتلِجُّ فيه، كأن الغادة المسكينة تبصر بين الدموع طريقاً تفضي منه نفسها إلى الحبيب الذي لم يعد في الدنيا؛ إلى وحيدها الذي أصبحت تراه ولا تلمسه، وتكلمه ولا يردُّ عليها؛ إلى طفلها الناعم الظريف الذي انتقل إلى القبر ولن يرجع، وتتملثه أبداً يريد أن يجئ إليها ولا يستطيع، وتتخيله أبداً يصيح في القبر يناديها: (يا أمي، يا أمي. .).
قلبها الحزين يقطع فيها ويمزق في كل لحظة؛ لأنه في كل لحظة يريد منها أن تضم الطفل إلى صدرها، ليستشعره القلب فيفرح ويتهنأ إذ يمس الحياة الصغيرة الخارجة منه. ولكن أين الطفل؟ أين حياة القلب الخارجة من القلب؟
لا طاقة للمسكينة أن تجيب قلبها إلى ما يطلب، ولا طاقة لقلبها أن يهدأ عما يطلب؛ فهو من الغيظ والقهر يحاول أن يفجر صدرها، ويريد أن يدق ضلوعها، ليخرج فيبحث بنفسه عن حبيبه!
مسكينة تترنح وتتلوى تحت ضربات مهلكة من قلبها، وضربات أخرى من خيالها، وقد باتت من هذه وتلك تعيش في مثل هذه اللحظة التي تكون في الذبيحة تحت السكين. ولكنها لحظة امتدت إلى يوم، ويوم امتد إلى شهر. يا ويلها من طول حياة لم تعد في آلامها(71/4)
وأوجاعها إلا طول مدة الذبح للمذبوح.
ولو كان للموت قطار يقف على محطة في الدنيا، ليحمل الأحباب إلى الأحباب، ويسافر من وجود إلى وجود، وكانت هذه الأم جالسة في تلك المحطة منتظرة تتربص، وقد ذهلت عن كل شئ، وتجردت من كل معاني الحياة، وجمدت جمود الانتقال إلى الموت - لما كانت إلا بهذه الهيئة في مجلسها الآن في شرفتها من قصرها؛ تُطل على الليل المظلم وعلى أحزانها. . .!
هي فلانة بنت فلان باشا وزوجة فلان بك. ترادفت النعم على أبيها فيما يطلب وما لا يطلب، وكأنما فرغ من اقتراحه على الزمان واكتفى من المال والجاه، فلم يعجبه الزمان فأخذ يقترح له ويصنع ما يقترح، ويزيده على رغمه نعماً تتوالى!
وكان قد تقدم إلى خطبة ابنته شاب مهذب، يملك من نفسه الشباب والهمة والعلم، ومن أسلافه العنصر الكريم والشرف الموروث، ومن أخلاقه وشمائله ما يكاثر به الرجال ويفاخر. بيد أنه لا يملك من عيشه إلا الكفاف والقلة، وأملاً بعيداً كالفجر وراء ليل لا بد من مصابرته إلى حين ينبثق النور.
وتقدم صاحبنا إلى الباشا فجاءه كالنجم عارياً؛ أي في أزهى نورانيته وأضوئها. وكان قد علق الفتاة وعلقته، فظن عند نفسه أن الحب هو مال الحب، وأن الرجولة هي مال الأنوثة، وأن القلوب تتعامل بالمسرات لا بالأموال؛ ونسي أنه يتقدم إلى رجل مالي جعلته حقارة الاجتماع رتبة، أو إلى رتبة مالية جعلتها حقارة الاجتماع رجلاً. . وأن كلمة (باشا) وأمثالها، إنما تخلفت عن ذلك المذهب القديم: مذهب الألوهية الكاذبة التي انتحلها فرعون وأمثاله، ليتعبدوا الناس منها بألفاظ قلوبهم المؤمنة؛ فإذا قيل (إله) كان جواب القلب: (عز وجل)، (سبحانه).
ولما ارتقى الناس عن عبادة الناس، تلطفت تلك الألوهية ونزلت إلى درجات إنسانية، لتتعبد الناس بألفاظ عقولهم الساذجة؛ فإن قيل (باشا) كان جواب العقل الصغير: (سعادتلو أفندم!)
نسي الشاب أنه (أفندي) سيتقدم إلى (باشا) وأعماه الحب عن فرق بينهما؛ وكان سامي النفس، فلم يدرك أن صغائر الأمم الصغيرة لا بد لها أن تنتحل السمو انتحالاً، وأن الشعب(71/5)
الذي لا يجد أعمالاً كبيرة يتمجد بها، هو الذي تخترع له الألفاظ الكبيرة ليتلهى بها؛ وأنه متى ضعف إدراك الأمة، لم يكن التفاوت بين الرجال بفضائل الرجولة ومعانيها، بل بموضع الرجولة من تلك الألفاظ؛ فإن قيل (باشا) فهذه الكلمة هي الاختراع الاجتماعي العظيم في أمم الألفاظ، ومعناها العلمي: قوة ألف فدان أو أكثر أو أقل؛ ويقابلها مثلاً في أمم الأعمال الكبيرة لفظ (الآلة البخارية) ومعناها العلمي قوة كذا وكذا حصاناً أو أقل أو أكثر!
نسي هذا الشاب أن (أمم الأكل والشرب) في هذا الشرق المسكين، لا تتم عظمتها إلا بأن تضع لأصحاب المال الكثير ألقاباً هي في الواقع أوصافٌ اجتماعية للمعدة التي تأكل الأكثر والأطيب والألذ، وتملك أسباب القدرة على الألذ والأطيب والأكثر.
وتقدم (الأفندي) يتودد إلى (الباشا) ما استطاع، ويتواضع وينكمش، ولا يألوه تمجيداً وتعظيماً؛ ولكن أين هو من الحقيقة. إنه لم يكن عند الباشا إلا أحمق؛ إذ لم يعرف أن تقدمه إلى ذلك العظيم كان أول معانيه أن كلمة (أفندي) تطاولت إلى كلمة (باشا) بالسبّ علناً. . .!
وانقبضوا عن (الأفندي) وأعرضوا عنه إعراضاً كان معناه الطرد؛ ثم جاء (البك) يخطب الفتاة.
و (بك) منبهة للاسم الخاطب، وشرف وقدر وثناء اجتماعي، وذكر شهير، وإرغام على التعظيم بقوة الكلمة، ودليل على الحرمات اللازمة للاسم لزوم السواد للعين، ولو لم يكن تحت (بِك) رجل، فإن تحتها على كل حال (بك). . .! وأنعم له الباشا، ووصل يده بيد ابنته فألبسها وألبسته، وأعلمها أبوها أنه قد فحص عن البك فإذا هو (بك) قوة مائتي فدان. . .! أما الأفندي فظهر من الفحص الهندسي الاجتماعي أنه (أفندي) قوة خمسة عشر جنيهاً في الشهر. .!
وخنس الأفندي وتراجع منخزلاً، وقد علم أن (الباشا) إنما زوج لقبه قبل أن يزوج ابنته، وأنه هو لن يملك مهر هذا اللقب إلا إذا ملك أن يبدل أسباب التاريخ الاجتماعي في الأمم الضعيفة، فينقل إلى العقل أو النفس ما جعلته (أمم الأكل والشرب) من حق المعدة، فلا يكون (باشا) إلا مخترع شرقي مفلس، أو أديب عظيم فقير، أو من جرى هذا المجرى في سمو المعنى لا في سمو المال.(71/6)
وقدمت مائتا الفدان مهرها (الطيني) العظيم بما تعبيره في اللغة الطينية: ثمن عشرين ثوراً، ومثلها جاموساً، ومثلها بغالاً وأحمرة، وفوقها مائة قنطار قطناً، ومائة أردب قمحاً، ثم ذرة، ثم شعيراً. والمجموع الطيني لذلك ألف جنيه، وعزي الباشا أنه مستطيع أن يقول للناس: إنها خمسة آلاف، اختزلتها الأزمة قبحها الله. . .!
ثم زفت (بنت الباشا) زفافاً طينياً بهذا المعنى أيضاً، كان تعبيره: أنه أنفق عليه ثمن ألف قنطار بصلاً، ومائة غرارة من السماد الكيماوي، كأنما فرش بها الطريق. . .!
وطفق الباشا يفاخر ويتمدح، ويتبذخ على الأفندي وأمثال الأفندي بالطين ومعاني الطين؛ فردت الأقدار كلامه عليه، وجعلت مرجعه في قلبه، وهيأت لبنت الباشا معيشة (طينية) بمعنى غير ذلك المعنى. . .
ومات الطفل؛ فردت هذه النكبة بنت الباشا إلى معاني انفرادها بنفسها قبل الزواج، وزادتها على انفرادها الحزن والألم؛ وألقت الأقدار بذلك في أيامها ولياليها التراب والطين.
ولج الحزن ببنت الباشا فجعلت لا ترى إلا القبر ولا تتمنى إلا القبر، تلحق فيه بولدها؛ فوضعت الأقدار من ذلك في روحها معنى الطين والتراب.
وأسقم الهم بنت الباشا وأذابها؛ فنقلت الأقدار إلى لحمها عمل الطين، في تحليله الأجسام وأذابتها تحت البلى
وكان وراء قصرها حِوَاء يأوي إليه قوم من (طين الناس) بنسائهم وعيالهم، وفيهم رجل (زبَّال) له ثلاثة أولاد، يراهم أعظم مفاخره وأجمل آثاره، ولا يزال يرفع صوته متمدحاً بهم، ويخترع لذلك أسبابً كثيرة لكي يسمعه جيرانه كل ليلة مفاخراً، مرة بأحمد، ومرة بحسن، ومرة بعلي. وأعجب أمره أنه يرى أولاده هؤلاء متممين في الطبيعة لأولاد (الباشوات). . . وهو يحبهم حب الحيوان المفترس لصغاره؛ يرى الأسد أشباله هم صنعة قوته، فلا يزال يحوطهم ويتممهم ويرعاهم، حتى أنه ليقاتل الوجود من أجلهم؛ إذ يشعر بالفطرة الصادقة أنه هو وجودهم، وأن الطبيعة وهبت له منهم مسرات قلبه، ذلك القلب الذي انحصرت مسراته في النسل وحده، فصار الشعور بالنسل عنده هو الحب إلى نهاية الحب. وكذلك الزبال الأسد.
ومن سخرية القدر أن زبالنا هذا لم يسكن الحِواء إلا في تلك الليلة التي جلست فيها بنت(71/7)
الباشا على ما وصفنا، وفي ضلوعها قلب يفتت من كبدها، ويمزق من أحشائها.
وبينما تناجي بنفسها وتعجب من سخرية الأقدار بالباشا والبك، وتستحمق أباها فيما أقدم عليه من نبذ كفئها لعجزه عن مهر باشا، وإيثار هذا المهر الطيني، وتباهيه به أمام الناس، واندرائه بالطعن على من ليس له لقب من ألقاب الطين - بينا كذلك إذا بالزبال، كانس التراب والطين يهتف في جوف الليل يتغنى:
يا لِيل، يا لِيل، يا لِيل ... ما تِنْجِلِي يا ليل
القلب أهُو راضِي ... لَكْ حَمدي يا ربي
مِنِ الهمومْ فاضِي ... افرحْ لي يا قلبي
يا دُوبْ كِدا يا دُوبْ ... زَيِّ الحَمامْ عَايِشْ
ما يِمْتِلِكْ غِيرْ تُوبْ ... طُولْ عمرُه فِيهْ نافِشْ. . .
يا لِيل، يا لِيل، يا لِيل ... ما تِنْجِلِي يا ليل
إن قلت أنا فَرْحَانْ ... دا مِينْ يِكَدِّبْنِي
وأكْتَرْ مِنِ السلطانْ ... فرحانْ أنا بابْنِي
بِينِ السيوف يا ناسْ ... لَمِ أنكَسَرْ سِيفي
وابْنِ الغِنَى مِحْتاسْ ... وأنا على كِيفي. . .
يا لِيل، يا لِيل، يا لِيل ... ما تِنْجِلِي يا ليل
وابنِ الغِنَى فِ هْمُومْ ... والخالي خالي البالْ
والفقْر ما بِيْدُومْ ... وتْدُومْ همومِ المالْ
يا طِيْر، يا طِيْر، يا طِيْر ... الحُرّ فُوْقِ اللُّوْمْ
والخِيْر، جميعِ الخِير ... لقْمَهْ، وعافْيَه، ونُوْمْ
يا لِيل، يا لِيل، يا لِيل ... ما تِنْجِلِي يا ليل
ولم تختر الأقدار إلا زبالاً ترسل في لسانه سخريتها بذلك الباشا وبنت ذلك الباشا. .!
وكسْرُ قلبٍ بكسرِ قلبٍ ... وحَطْمُ نَفْسٍ بحطْم نفسِ
ورُبَّ عِزٍّ تراه أمسى ... كُنَاسةً هُيِّئَتِ لِكَنْسِ. .!
(طنطا)(71/8)
مصطفى صادق الرافعي(71/9)
فردريش شيلر
بمناسبة احتفال ألمانيا بذكراه
للأستاذ محمد عبد الله عنان
منذ عامين احتفلت ألمانيا بذكرى شاعرها الأكبر (جيته) لمناسبة مرور قرن على وفاته؛ وتحتفل ألمانيا اليوم بذكرى شاعرها الثاني (شيلر) لمناسبة مرور مائة وخمسة وسبعين عاماً على مولده. وإذا كانت حياة الخالدين تمثل دائماً في الأذهان المستنيرة، فإن الاحتفاء بهذه الذكريات يضاعف الاهتمام بسيرتهم وآثارهم. ومن ثم فأنا نلتمس هذه المناسبة لنأتي على ترجمة الشاعر العظيم.
كانت حياة شيلر صفحة مؤثرة من ذلك الكفاح الذي يضطر إلى خوضه أصحاب المثل الأعلى حتى يفوزوا بمثلهم أو يزهقوا دونها؛ وقد أنفق حداثته وشبابه في خوض هذا الغمار، حتى إذا اكتملت له أسباب الفوز والطمأنينة، غادر هذه الحياة شاباً في إبان ظفره، وذروة خصبه، وروعة شاعريته؛ وكان مولده في العاشر من نوفمبر سنة 1759 في مدينة مارباخ الواقعة على نهر نكز في أسرة رقيقة الحال؛ وكان أبوه يوهان كاسبار جراحاً مساعداً في الجيش، استقر في مارباخ بعد عوده من الحرب وتزوج اليزابيث كودفايس، وهي ابنة صاحب فندق؛ فرزق منها أولاً بابنة تدعى اليزابيث؛ ثم كان مولد الشاعر، ثم ابنة أخرى تدعى لويزا. ونشأ الطفل فريدريش أو فرتز (شيلر) ضعيف البنية، كثير الحياء والوجل، وتلقى دروسه الأولى في مدرسة لورش، ثم انتقلت الأسرة إلى مدينة لودفجسبورج حيث نقل الأب، وكانت يومئذ مقام دوق فرتمبورج؛ وهنالك التحق شيلر (بالمدرسة اللاتينية)، وبدأ دارسة الأدب واللاتينية، وقرأ هوراس وأوفيد وفرجيل؛ وكان لأستاذه القس موزر أثر كبير في تكوينه. وفي سنة 1773 دخل شيلر (أكاديمية كارل) التي أسسها الدوق في شتوتجارت، ودرس الحقوق أولاً ثم الطب والتاريخ، وأظهر تفوقاً في اليونانية واللاتينية؛ بيد أنه لم يكن ميالاً إلى هذا النوع من الدراسة، وكان شغوفاً بالأدب، تهجس به في أوقات فراغه شاعرية قوية؛ وكان يكثر من قراءة هومير وفرجيل وكلوبشتوك شاعر ألمانيا في هذا العصر، وبتأثر تفكيره أيما تأثير. وفي ذلك الحين ظهرت قطعتان مسرحيتان قويتان هما: (أوجولينو) لجرستنبرج، و (جتزفون برلنخجن) لجيته؛(71/10)
فتأثر شيلر بقراءتهما واتجه ذهنه إلى المسرح؛ وكتب بعض القصائد والمناظر المسرحية الأولى، ولكنه مزقها، ثم بدأ بكتابة روايته المسرحية الأولى: (قطاع الطريق). وفي سنة 1779 أتم دراسته وحصل على إجازته، وسنحت له بهذه المناسبة أول فرصة لرؤية الشاعر العظيم الذي ملأ صيته ألمانيا يومئذ، ونعني (جيته)؛ فقد وفد مع دوق فيمار على شتوتجارت في فاتحة سنة 1780 ليشهدا احتفال الأكاديمية بتوزيع الإجازات. وكان شيلر يومئذ فتى في عشرينه، يحمل إجازة الطب والجراحة، ولكن هوى الشعر يحمله ويملأ جوانحه. وكان يتوق إلى التعرف بزعيم الشعر وإمامه؛ ولم يكن يحلم أنه سيغدو في أعوام قلائل قرينه وزميله الأوفى. ولم يهتم جيته في هذا اللقاء الأول بأمر الشاعر الحدث الذي لم يسمع به أحد بعد، ولكن نجم الشاعر الحدث كان على وشك البزوغ. ذلك أنه ما كاد يعين على أثر تخرجه طبيباً في حامية شتوتجارت بمرتب يسير، حتى عكف على إتمام درامته (قطاع الطريق)، ولكنه لم يلق ناشراً يقوم بطبعها، فاقترض نفقات الطبع من بعض أصدقائه وظهرت القصة سنة 1781 غفلاً من اسم مؤلفها؛ وهي قطعة مسرحية عنيفة تحمل طابع البداية، وفيها يصور شيلر كثيراً من عواصف حداثته. ومثلت (قطاع الطريق) عقب صدورها في شتوتجارت، ثم مثلت في العام التالي في مانهايم؛ وأحدث ظهورها وتمثيلها ضجة كبيرة. ولكن شيلر لم يؤخذ بهذا النجاح الجزئي. وكانت وظيفته العسكرية تثقل على نفسه، فاعتزم مغادرة شتوتجارت خفية إلى أفق أوسع، وفي أكتوبر سنة 1782 غادرها مع صديق موسيقي يدعى شترايشر إلى مدينة مانهايم. وكان يحمل معه مخطوط درامة جديدة هي (فيسكو) فعرضها على مدير مسرح يدعى (دالبرج) فأعجب بها ومثلت بنجاح، وكتب في الأشهر التالية (المؤامرة والحب) ومثلت أيضاً. وكلتاهما قرينة (قطاع الطريق) في طابعها العنيف وحماستها الساذجة. بيد أنه رأى المسرح لم يحقق أمله، ولم تسعفه موارد القطع التمثيلية، فاضطر أن يبحث للعيش عن وسيلة أخرى، ولكن في دائرة الأدب أيضاً، فأصدر مجلة أدبية نقدية اسمها (تاليا) وظهر العدد الأول منها في مارس 1785 وفيه قسم جديد من درامته الجديدة (دون كارلوس) ولكنها لم تستقبل بحماسة. وفي ذلك الحين جاء دوق فيمار إلى (دار مشتات) لزيارة صهره (اللاند جراف) وكان شيلر قد سمع كثيراً عن نبله ورفيع خلاله وتعضيده للآداب والفنون، فسار لرؤيته مزوداً ببعض(71/11)
خطابات التوصية، فاستقبله الدوق بعطف، وأذن له أن يتلو بين يديه الفصل الأول من (دون كارلوس) فاستحسنه وشجع المؤلف بكلمات طيبة، واستأذنه شيلر في أن يهديه قصته فأذن له، وأنعم عليه بلقب (مستشار) في خدمته، وهو لقب لم تكن له سوى قيمة أدبية واجتماعية.
وكان شيلر يومئذ فتى في الخامسة والعشرين يضطرم أملاً نحو العلياء والمجد؛ وكان يقضي حياة عاصفة في الدرس والتفكير والكتابة؛ وكان قلبه الكبير يخفق أحياناً للحب، ولكن في اعتدال ورزانة. ولم تحمل شيلر نحو النساء تلك النوبات الغرامية العاصفة التي كانت تملأ حياة جيته؛ ولكنه عرف الحب في تلك الفترة؛ وتعلق بادئ بدء بفتاة تدعى مرجريت شفان، وهي ابنة كتبي في مانهايم، وكانت فتاة ساحرة لعوباً خطرة الأهواء؛ وفكر شيلر في الاقتران بها ولكن أباها رفض في رقة وأدب لأنه لم يأنس في الشاعر بلا ريب مستقبلاً يحمل على الطمأنينة. ثم تعرف شيلر بعد ذلك على فتاة تدعى شارلوت دوستايم، وشغفت هي به حباً؛ ولكنها لم تلبث أن اقترنت بضابط يدعى (فون كالب)؛ وانتقلت معه إلى فيمار؛ واستحال حب الشاعر ومدام فون كالب بعد ذلك إلى صداقة حميمة استمرت مدى الحياة.
وأنفق شيلر في مانهايم زهاء عامين ونصف عام، وهو يشهد آماله تنهار تباعاً، وموارد العيش تضيق به. وأخيراً اعتزم أن يغادر مانهايم، وأن يهجر تلك المهنة التي لم تؤته قوته - مهنة القريض؛ وأن يلتمس العيش من مهنة أخرى مستبقياً للشعر أوقات فراغه؛ فغادر مانهايم بعد وداع ممزق لصديقه الحميم شترايشر؛ وقصد إلى قرية جوليس بالقرب من لايبزج حيث كان يقيم صديقه العزيز (كرنر) وكان كرنر ذهناً رفيعاً وقلباً كبيراً، ألفى فيه الشاعر مثل الصداقة الأعلى؛ فأقام إلى جانبه مدى حين في جوليس ثم في درسدن، وأتم في تلك الفترة قصته (دون كارلوس) (سنة 1786). وكان ظهورها طفراً حقيقياً للشاعر، وكانت في الواقع بداية مجده، وحداً فاصلاً بين ماضيه الغامر ومستقبله الباهر. وكانت مدينة فيمار يومئذ كعبة الشعر ومقام إمامة جيته، وفيها يجتمع حول الشاعر الأكبر جمهرة من الشعراء والأدباء مثل هردر، وفيلاند، وماير، ويظللهم دوق فيمار جميعاً برعايته؛ وكان شيلر يفكر منذ حين في السفر إلى فيمار ليجرب حظه في ذلك المحيط الأدبي الزاهر؛(71/12)
وكانت صديقته الحميمة مدام فون كالب تقيم هنالك منذ حين؛ وكان فيلاند يدعوه فوق ذلك للاشتراك معه في تحرير مجلته (مركور)؛ فقصد إلى فيمار في أغسطس سنة 1787، وقلبه مفعم بالآمال الكبيرة؛ فاستقبله الدوق بفتور، ولكن مدام فون كالوب استقبلته بعطف مؤثر؛ ورحب به فيلاند الشاعر أيما ترحيب، واشترك معه في تحرير مجلته؛ واشترك أيضاً في تحرير مجلة أخرى في (يينا) وترك مجلته الخاصة؛ واستمر يعاون فيلاند مدى عامين، ثم ترك التحرير معه، ولكنه لبث صديقه الحميم.
وفي سنة 1788، أقام شيلر حيناً في قرية (فولكشتات) الهادئة، وهنالك أتم قصته (الهائم)، وتاريخ (ثورة الأراضي السفلى) الذي بدأه من قبل
في ذلك الحين كان جيته في إيطاليا يطوف ربوعها؛ ثم عاد من رحلته في سبتمبر. وكان شيلر يرقب مقدمه ليراه ويتعرف به. وسنحت له هذه الفرصة؛ واجتمع بالشاعر الأكبر وصديقته مدام دي شتاين وهردر في منزل أسرة لنجفلد التي صاهرها شيلر فيما بعد. وهنالك رأى شيلر ذلك الرجل الذي بلغ ذرى المجد، والذي رآه من قبل لأول مرة في حفلة توزيع الإجازات عام تخرجه من المدرسة؛ وكان شيلر يعلق على هذه المقابلة آمالاً كبيرة؛ ولكن جيته استقبله بفتور ظاهر، ولم يكن قد لفت نظره إلى ذلك الحين. وكانت صدمة مؤلمة لشيلر؛ فكتب إلى صديقه كرنر يصف أثر هذا اللقاء في نفسه: (يلوح لي من كل الظروف أن الفكرة السامية لدي عن جيته لم يزعزعها هذا التعارف الشخصي، بيد أني أشك أننا نستطيع أن نتقارب بأي وجه. إن قسماً عظيماً مما يزال يشغلني، ومما زلت أؤمل قد انتهى وقته لديه، والواقع أن كل شخصه يميل إلى ناحية غير التي أميل إليها، وبين وجهات نظرنا اختلاف جوهري. وعلى أي حال فلسنا نستطيع أن نستخلص من هذه المقابلة شيئاً مؤكداً أو ثابتاً. وسوف يعلمنا الزمن ما تبقى). ولما عاد شيلر إلى فيمار من مقامه المنعزل لم يحاول كثيراً أن يرى جيته. بيد أن فتور جيته نحوه لم يدم طويلاً فقد رأى في قصيدته (آلهة اليونان) جمالاً يلفت النظر؛ ويعترف شيلر من جهة أخرى بأنه كان من ذلك الحين يخشى نقد جيته، وأنه كان متأثراً بتلك العاطفة حينما وضع قصيدته (الفنانون) وتأنق في صياغتها.
على أن الذي لا ريب فيه هو أن لقاء الشاعرين - جيته وشيلر - كان من أعظم حوادث(71/13)
حياتهما إن لم يكن أعظمها جميعاً. وسرعان ما تحول ذلك الفتور الذي أبداه الشاعر الأكبر نحو زميله الفتي إلى حب وإعجاب خالصين، ولم تمض أعوام قلائل حتى توثقت بينهما أواصر صداقة عميقة؛ ولم يمنع تنافسهما النبيل في آفاق الشعر أن تبقي هذه الصداقة إلى الأبد، مقرونة بالوفاء الخالص والإعجاب المتبادل، وأن تغدو صفحة خالدة في تاريخ التعاون الأدبي. كان شيلر رجل المثل العليا، وفيلسوفاً ذا آراء ونظريات خاصة في الحياة. ولكن جيته كان رجل الحقيقة، يعرض ما في الطبيعة ويصوره كما يراه؛ وكان شيلر شاعر (الدرامة) وكان جيته شاعر الخيال والفروسية؛ ولكن كلا منهما كان جندياً عظيماً لبناء الآداب الرفيعة وتحطيم الآداب المبتذلة؛ وكان كلاهما قائد عظيم لحركة (العاصفة والدفع) التي كانت ظاهرة التفكير والآداب الألمانية في أواخر القرن الثامن عشر، والتي كانت ترمي إلى تحطيم القديم وتجديد كل شئ؛ وكان لهذه الصداقة الحميمة، وهذا التعاون الأدبي الوثيق بين الشاعرين الكبيرين أثره في نفس جيته وفي نظمه، يبدو ظاهراً في (أغانيه) وفي قصة (هرمان ودروتيا)، وغيرهما مما أخرج في هذا العهد.
وفي سنة 189 عين شيلر أستاذاً للتاريخ بجامعة بينا بمعاونة صديقه وأستاذه جيته، وفي العام التالي اقترن بالآنسة لنجلفد التي تعرف بها وبأسرتها قبل ذلك بأشهر قلائل؛ وبذلك استقرت حياته، وعاش في نوع من الصفاء والرغد؛ وانكب في هذه الفترة على دراسة التاريخ؛ وألف كتابه عن (حرب الثلاثين) وأصدر مجلة أدبية فلسفية بعنوان (الساعات) كانت نموذجاً بديعاً للتفكير الرفيع، وفيها كان يكتب أئمة العصر: جيته، وهردر، وكانت، وفخته، وماير، وانجل، وجاكوبي، وغيرهم؛ وكان لها أثر عظيم في سير الثقافة الألمانية والتفكير الألماني في ذلك العصر. وكان شيلر من أنصار الثورة الفرنسية التي كانت تضطرم في ذلك الحين، وظهر ذلك العطف في كثير من كتاباته وقصائده حتى أن (المؤتمر الوطني) الفرنسي منحه لقب (مواطن فرنسي). وفي تلك الفترة أيضاً أخرج شيلر درامته القوية (فالنشتاين) (1799)، واستمر في تدريس التاريخ في يينا حتى سنة 1800، ثم استقال من منصبه، وعاد فاستقر في فيمار إلى جانب جيته؛ وهنالك أخرج عدة قطع جديدة: ماريا ستوارت؛ وعذراء أورليان وعروس مسيني فكان لصدورها جميعاً دوي عظيم؛ وكانت جميعاً من أبدع ما كتب.(71/14)
واستقر شيلر في فيمار نهائياً، ولم يغادرها إلا ليزور برلين زيارة قصيرة ليشرف هنالك على إخراج بعض قطعه. وكانت فيمار يومئذ كعبة الأدب الرفيع، يجتمع فيها حول إمامي الشعر، جيته وشيلر، صفوة من أقطاب الشعر والأدب؛ وكانت صداقة جيته وشيلر أبدع وأروع مظاهر هذا المجتمع الأدبي الباهر. وفي سنة 1804 كتب شيلر درامته (ولهلم تل) فكانت أعظم قصصه وأروعها. والمعروف أنه استقى موضوعها من صديقه جيته، وكان جيته قد زار سويسرا قبل ذلك بقليل ودرس هنالك تاريخ تل بطل سويسرا القومي، وزار الأمكنة التي تقول الأسطورة إنها كانت ميادين بطولته، لينتفع بذلك الدرس في قصة يعتزم كتابتها عن تل. ولكنه لما عاد إلى فيمار نبذ الفكرة، وأعطى مواد دراسته إلى شيلر لينتفع بها هو؛ فاستقى منها موضوع قصته (ولهلم تل) فجاءت أبدع ما كتب، وأثارت من جيته أيما إعجاب. بيد أنها كانت أيضاً آخر ما أخرج شيلر. ذلك أنه مرض في أوائل سنة 1805، ومرض أيضاً جيته في الوقت نفسه؛ واشتدت عليهما وطأة المرض، حتى صرح جيته بأنه يشعر بدنو أجله، وأن أحدهما لا بد ذاهب. ولكن الذي توفي هو شيلر. توفي في الثامن من شهر مايو، في الخامسة والأربعين فقط، فوقع موته في فيمار وقع الصاعقة، وارتدت ثوب الحداد مدى حين. وتلقى جيته نبأ الفاجعة وهو في فراش مرضه، فبعثت إلى نفسه أيما حزن، وسمع ليلاً وهي يبكي أحر بكاء. وكتب يومئذ إلى أحد أصدقائه مشيراً إلى فقد شيلر: (لقد فقدت نصف حياتي)، وغلب عليه الحزن حيناً فأضرب عن العمل والكتابة؛ والى ذلك يشير بقوله: (إن مذكراتي في هذه الفترة صحف بيضاء. والصحف البيضاء عنوان الفراغ في حياتي. ولم يك ثمة شئ يستهويني في تلك الأيام).
وهكذا مات شيلر في إبان مجده وذروة شاعريته، ولم ينعم بالحياة الناعمة المستقرة إلا ردحاً قليلاً؛ فكانت حياته كلها صفحة كفاح مستمر، بيد أنه خرج من هذا الكفاح ظافراً متسماً بميسم المجد والخلود. ولم يكن شيلر شاعراً مبدعاً فقط، ولكنه كان فيلسوفاً عظيماً، وفناناً كبيراً، ومؤرخاً بارعاً؛ وكان يؤمن بالثقافة كوسيلة لرفع الإنسانية إلى ذرى القوة والعظمة، ويرى أن الفن ليس ترفاً لذوي الفراغ والجدة. وليس لهواً يستمرئه الخامل، ولكنه قوة عظيمة ذات أغراض جدية وإن كانت وسائله شائقة سارة، وإن قرين الدين يعاون على تنظيم هذا العالم. وكان ذهناً ثائراً جريئاً جلداً يمجد بالحرية، ويمقت كل صنوف الاستعباد؛(71/15)
وكان قلباً رقيقاً يفيض حساً وإنسانية؛ خبيراً بأسرار الطبائع والنزعات البشرية؛ وكان مؤرخاً بارعاً ينفذ إلى أسرار التاريخ، ويستوعبها بقوة ودقة. وهذه النزعة التاريخية الناقدة تبدو في كثير من قطعه المسرحية. ولو مد في حياة شيلر، كما مد في حياة صديقه جيته، لظفرت منه الآداب الألمانية بأضعاف ما ظفرت؛ وكان على الأرجح ينازع جيته إمارته في الشعر الألماني، بيد أنه مع ذلك يتبوأ إلى جانبه المقام الأول في عالم المجد والخلود.
محمد عبد الله عنان المحامي(71/16)
7 - الشخصية
للأستاذ محمد عطية الابراشي المفتش بوزارة المعارف
وسائل تقوية الشخصية العملية:
قلنا فيما مضى إن الشخصية نوعان: عملية وفكرية، وذكرنا شيئاً عن الشخصية العملية، واليوم نتكلم عن الوسائل التي تقويها فنقول:
هناك وسائل لتقوية الشخصية العملية نذكر منها ما يأتي:
(1) تحديد الغرض ومعرفة الطريق الموصل:
إن تحديد الغرض في أي عمل من الأعمال مع معرفة السبيل الموصلة إلى ذلك الغرض من أهم الوسائل المشجعة للإنسان على الاجتهاد في العمل والسير فيه إلى النهاية من غير تردد. وبخاصة إذا صحب العمل بإرادة قوية، وثقة به. فمعرفة الغرض لها أثر كبير في نفوسنا، سواء أكان ذلك الغرض عادياً أم عظيماً. وإن نظرة واحدة إلى العالم تبين لنا أن لكل إنسان غرضاً يسعى ليدركه مهما اختلفت هذه الأغراض. ولكن المهم أن يكون الغرض محدوداً سامياً.
كلٌّ له غرض يسعى ليدركه ... والحر يعمل إدراك العلا غَرضا
فالصياد يقف على شاطئ البحر وعصاه في يده ينتظر بصبر عظيم وملاحظة دائمة، أملاً في اصطياد السمك وما فيه من لذة وإرضاء للنفس، وسائق السيارة يسير في طريقه مهما لاقى فيها من مطر أو ثلج أو ضباب أو غبار رغبة في الوصول إلى مكان معين، وقبطان الباخرة العظيمة في البحر الخضم يقود باخرته في طريق معينة نحو ميناء أو موان معينة في جهات خاصة. وهنا يتمثل تحديد الغرض، ومعرفة الطريق الصالحة، والتأكد منها والثقة بها. وإذا تمثلت هذه الأحوال العقلية في الشخصية الإنسانية كانت من أعظم القوى العملية في العالم. فينبغي أن يكون للشخص غرض معين من العمل يسعى ليدركه ويحققه بكل ما أوتي من عزيمة وقوة ومثابرة وثقة بالنفس؛ حتى ينتفع بقواه العقلية. قال (وردِسورث) شاعر الطبيعة من الإنجليز عن الأفراد الذين يسيرون في الحياة نحو أغراض معينة: (إن اجتهادهم ناشئ عن وازع نفسي ينير الطريق أماهم دائماً؛ فيقدرون(71/17)
جمال الطبيعة، ويعملون بما يعلمون، ويثابرون على التعلم).
وبعد الوصول إلى الغرض الأول أو المرحلة الأولى من الحياة يمكن التفكير في مرحلة أخرى وتحديدها والعمل للوصول إليها وهكذا إلى نهاية الحياة. قال عمر بن عبد العزيز: (إن لي نفساً تواقة لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتها تاقت إلى الجنة). وقيل: (ذو الهمة إن حط فنفسه تأبى إلا علواً، كالشعلة من النار يضربها صاحبها، وتأبى إلا ارتفاعاً).
(2) الرغبة في العمل:
بعد تحديد الغرض من العمل يجب أن تكون هناك رغبة فيه وميل إليه؛ لأن الرغبة:
ترفع من شأن العمل الذي تقوم به.
تؤدي إلى الإقدام والنشاط وهما القوة الطبيعية للشخصية، وتكون كوازع نفسي أو باعث داخلي يستنهض همتنا ويستحثنا على العناية بالعمل.
تمدنا بالقوة التنفيذية، والإرادة الحق الضرورية للوصول إلى أغراضنا.
فالرغبة هي الدافع الطبيعي للإنسان نحو العمل مهما لاقى في سبيل ذلك العمل من متاعب ومصاعب. والرغبة الحق هي تلك القوة الروحية التي توحي إلى الشخص للقيام بالشيء بهمة لا تعرف الكلل ولا تقف دونها أي عقبة. فإذا وجدت الرغبة ثم وجدت الإرادة، سهل الطريق مهما كان شاقاً، والحاجة تفتق الحيلة. فإذا رغبت في معرفة صناعة غزل القطن ونسجه كان الذهاب إلى معمل الغزل والنسج أحب الأشياء إليك، وأخذت تشعر بأنه يجب أن تعرف كل شئ يتعلق بالقطن وأنواعه، وأين يزرع، وكيف يزرع، وكيف تتقي آفاته السماوية، وما الأحوال الجوية التي يتطلبها، وكيف يجنى، وكيف يوضع في الغرائر، وكيف يخزن، وكيف يرسل إلى السفن، وكيف يحلج، وكيف يغزل، وكيف ينسج.
وكذلك القول في رغبة (ابراهام لنكولن) في تحرير العبيد يوم ذهب مع بعض العمال إلى السوق، فوجد جارية تباع وتشترى فتألم لبيع الإنسانية وشرائها الألم كله، فتمنى لو أعطي سلطة حتى يضرب على الاسترقاق بيد من حديد، فأعطي الفرصة بعد زهاء ثلاثين عاماً بانتخابه رئيساً لجمهورية الولايات المتحدة بأمريكا فكان من أوائل أعماله العمل على تحرير العبيد. وقد أدى ذلك إلى حرب داخلية، ولكن النصر كان أخيراً في جانبه، وبذلك(71/18)
يعتبر محرراً للعبيد، مدافعاً عن الإنسانية المظلومة.
وإن شدة الرغبة في الإصلاح الاجتماعي هي التي جعلت (شارلز ديكنز) أكبر كاتب ومصلح اجتماعيبإنجلترا في القرن التاسع عشر. وإن الرغبة في شراء أسهم قناة السويس بعد التأكد من فائدتها هي التي خلدت ذكرى (دزرائيلي) بين الإنجليز، وجعلته يعمل بكل ما أوتي من قوة على تنفيذ الشراء مع شدة ما لقي من معارضة في مجلس الأمة، ومن معارضة مدير مصرف إنجلترا، وإن الرغبة في أعمال الآلات هي التي جعلت (أديسون) أكبر مخترع في القرن العشرين، والأمثلة كثيرة لا حصر لها.
فبغير الرغبة لا يستطيع الإنسان أن يقوم بعمل عظيم في الحياة. فإذا أردت القيام بعمل من الأعمال - سواء أكان ذلك العمل دينياً، أم اجتماعياً، أم أدبياً، أم علمياً، أم فنياً، أم حربياً - فأوجد الرغبة الصادقة وهي كفيلة بالتنفيذ والنجاح في ذلك العمل.
والرغبة نوعان: مباشرة وغير مباشرة؛ فالمؤلف الذي يؤلف كتاباً، أو يكتب مقالة لصحيفة يومية، يجب أن يكون تأليفه وكتابته عن رغبة حقيقية إذا أراد أن يكون لعلمه قيمة علمية أو أدبية، فالرغبة في العمل هي الشرط الأساسي للتقدم والنجاح فيه. ولكن هل الرغبة وحدها تكفي للنجاح؟ الحق أنها لا تكفي، بل ينبغي أن يكون هناك بعض التشجيع الأدبي أو المادي؛ لأن المؤلف أو الكاتب قد لا يكتب حباً في الكتابة فحسب، بل قد يكتب ليعيش، أو ليحصل على ضروريات الحياة أو كمالياتها. فهو ينتظر تشجيعاً، ويجب أن يشجع بتقدير عمله وإعطائه ما يستحق وحينما توجد الرغبة المباشرة الطبيعية في العمل، ثم تصحب برغبة أخرى غير مباشرة كالربح المادي أو المركز الأدبي فإننا لا نتردد أن نقول: إن النشاط يتضاعف والاجتهاد يستمر والعمل يزداد حسناً، ودواعي النجاح تكون أقوى وأشد، لأن الرغبة متوفرة من كلتا الناحيتين المباشرة وغير المباشرة.
ولا ننكر أن المثل الأعلى هو أن نعمل حباً في العمل، ونؤدي الواجب رغبة في أداء الواجب، ونقوم بالشيء من غير أن ننتظر جزاءاً أو شكوراً، ولكن من حيث أن الإنسان إنسان فهو يفكر دائماً في النتيجة، وفيما يعود عليه من المنفعة والمكافأة على العمل، وهذه المكافأة نوع من التقدير يشجعه على العمل، ويدفعه إلى أدائه كما ينبغي وكما يجب أن يكون، وكلما كانت المكافأة قيمة زادت الرغبة فيها وكثر التلهف عليها والعمل على نيلها.(71/19)
ومعظم الأعمال التي نقوم بها يومياً من قبيل الأعمال التي نؤجر عليها. ويجب أن نصرح بأنه لولا الأجور والمرتبات التي يتقاضاها العمال والموظفون ما قام أحد منهم بعمل قيم.
ولا تكفي الرغبة غير المباشرة - كالرغبة في الأجر - للنجاح في العمل واكتساب شخصية قوية، بل لا بد أن تصحب برغبة طبعية وميل حقيقي نحو العمل نفسه، وإلا كان مكروهاً لدى النفس، تبغضه، وتنتظر بفارغ الصبر التخلص منه، كما هو حال العامل الذي لا يجد لذة في عمله، فيترقب انتهاء اليوم ومجيء ميعاد الانصراف بكل صبر، ونحن لا نبغي إلا عملاً مصحوباً بلذة ورغبة وسرور، حتى ننجح في ذلك العمل ونجيده ونجد شوقاً إلى العودة إليه، ونظهر فيه تفوقاً ومهارة. ومن الصعب أن تنبغ في عمل غير محبوب إليك.
يتبع
محمد عطية الابراشي(71/20)
ليلة في مضارب النَّوَر
للأستاذ عبد الحليم عباس
في سهول حوران التي ليس للأفق في فسيحها حد، وقف الليل يصغي لهذه الفتاة النورية تعبر عن شجو شعب لفظته الحياة، فلفظها وفي صدره غصة، وفي قلبه جرح لا يلتئم.
غنت ورقصت كالطير الذبيح.
وكانت أغانيها صدى لهذه الغربة الطويلة.
من بدء الخليقة زمّوا رحيلاً، يفتشون لهم عن وطن، كادوا يبلغون حد الأفق، ولما يجدوا مبتغاهم، كل شبر فيها ممتلك، وراء الأفق. . . وراء الأفق، عل لكم به داراً.
والتمعت الكواكب، فكأنها قلوب تجف، أو عيون تذرف فاطَّلعت إليها، وكأنما ادّكرت أوطاناً مجهولة، وأحباباً خلفتهم عند مطلع الشمس، فاندفعت تغني ما أنقل معناه، وكان غناؤها في هذه النوبة بالغاً في أساه، مشجياً في تعابيره، يحمل في ثناياه ريح الكبد المحروق. قالت:
(إيه يا ليل الشجن، ليت جوانبك الفسيحة تطوى، وآفاقك المترامية تتضام على نفسها، فإذا هي في مدى النظر دار وأيكة، نجلس فيها مع الحبيب، لا يفزعنا النوى ولا تطوح بنا المقادير.
إيه يا ليل الشجى: ظننا الغربة يوماً وليلة، وما علمناها العمر كله، فمتى تكون الرجعة، ومتى نلتقي والأحبة.
إيه يا ليالي، خلفناهم شباباً فبعد عشرين عاماً كيف آضت لممهم السود المعطرة، وشفاهم الريانة بخمر الحياة؟ كيف أضحت وجناتهم الناعمة؟ هل جعدها النوى وغضنتها السنون؟ وقاماتهم المنتصبة كالغصن الرطيب، أظنها انحنت تحت ثقل العمر والشجون. . . ليتني صخرة صماء مشدودة إلى هاتيك الربوع التي أحببت فيها حبيباً لم يغدر ولكن غدرت بنا الحياة.
إيه فتاتي! أوصيك ألا تلقي السمع لكلمات الحب تند عن أفواه الشباب الجملية، ما برح مكتوب على شعبك النوري جوب الأرض، وذرع هذه الفلوات. فموت القلب بالخلو من الحب، أخفُّ من احتراقه في جحيم الذكريات.
أغمضي عينيك عن الهوى، عن النعمة الكبرى، فلو كنا أهلاً لها، لبرئنا على غير هذه(71/21)
الشاكلة. . .).
إلى هنا وكأنما طغت موجة الحزن في نفسها، وكأنما فتحت لها الأنشودة عالماً من الذكريات الشجية فجلست مجهودة لاغبة.
وكنا في مضاربهم أربعة، كلنا يفهم الحياة إلى غير الوجه الذي يفهمها عليه الآخر، فمنا من يطلب فيها اللذة، ومنا من لا يبالي بلذتها وألمها، ومنا من لا يرى فيها متسعاً للذة، ومنها من يجدف عليها في الصباح، ويهزأ بها عند المساء، وفي الليل يدب إلى لذائذها يعصرها حتى لا يدع فيها بقية؛ ونحن وإن اختلفنا فيها كثيراً نلتقي على شعور بعينه، وهو الحس بألم الغير، والرثاء لآلام الناس.
فكان من هذا أن هزنا شعور طيب، هو مواساة هؤلاء المناكيد فكففنا عن طلب الغناء. وساجلهم الحديث منا فتى لبق. قال وهو يوجه كلامه إلى هذه التي غنت وجلست هامدة، كأنما ذابت روحها مع أغانيها:
- ألك أخوة يا عزيزتي؟
- نعم، ثلاثة، واحد دفنته في الصين، وأخر واريته في طيبة، والثالث على قيد الحياة.
- كلنا سنموت، فكيف رأيت هذه الديار؟
- هي دياركم أنتم، أما دارنا، فهذا البيت الممزق، وظهر هذا البهيم.
قال وهو يحبُّ أن يمزج الجد بالدُّعابة ليخفف هذا الألم الطافح ويستل هذا الحزن المستعصي:
- ليست الأرض ملكاً لأحد، أما سمعت قول الأديب الأكبر، أهون عليّ أن أتصور الإنسان ملكاً للجبال، ولا أتصور الجبل ملكه. ملكه كيف؟ أيستطيع أن يحمله؟
- لا أفهم ما تعني.
- ستفهمين، أجمل ما على أديم الأرض هذه الزهور الناجمة تميس بقاماتها، وأجمل ما فيها هذا العطر يفوح، فهل يملك عطر الزهرة؟ هل تُحجب وجنة السماء عن أعين الرائين؟ أبهج ما في الحياة ملك الجميع، وما بقي فأقوات وفضلات يشترك الإنسان فيها مع أدنى المخلوقات.
- صحيحٌ هذا، ولكن هذه أشياء ليس لنا منها أدنى فائدة، أنأكل الكواكب؟ أم نقتات بهذا(71/22)
الذي تنشره الزهرة؟
فبهت صاحبنا
فنبهناه إلى غلطته، والى أن هذه التي يخاطبها أضيق عقلاً وأسف إدراكاً من أن تفهم مجالي الفن الرفيع.
فلم ييأس، وعاد يفهمها، ويأتي باللفظ القريب إلى عقليتها، يقول: إنها لا تقيت، ولكن فيها شيئاً أثمن من القوت، وهل خلق الإنسان لملء بطنه فحسب. . . هل أحببت؟
فكأنها خجلت من هذا السؤال الثائر، فرمت برأسها إلى الأرض، فعاد يلح عليها بالإجابة.
- نعم، أحببت، والنَور شعب لا يخجل من المصارحة بمثل هذه الأحاديث.
- وهل في الحب لذة؟
- نعم يا أفندي.
- أيهما أكبر لذة، الحب أم القوت؟
- الحب يا أفندي. . .
- إذن في الدنيا أشياء كثيرة أثمن من القوت، أفهمتِ؟
- نعم.
- وهذه الأشياء يتساوى فيها الغني والفقير، والأمير والحقير، بل إن حظ الصعاليك ليربو في بعض الأحايين على حظوظ ذوي الجاه العريض والمنازل الرفيعة.
فصمتت، وكأنها تفكر وتزور حديثاً، وبعد حين قالت: والغربة، هل يستقيم معها نعيم؟ أنظر هانحن أولاء نقيم هنا بعضاً من أشهر الصيف، فإذا جاء الشتاء بقره، اضطررنا إلى النزوح كارهين، فنحن نقضي العمر كله رحيلاً، ولو شئت لقلت حنيناً، نحن إلى هذه المرابع، وغدا نحن إلى غيرها إذا أنسنا بها، وهكذا نقضي العمر بالذكريات الموجعة، والحنين الذي يُقطع نياط القلوب.
قال: اسمعي، ليس على ظهر هذا السهل - سهل حوران - الممتد شمالاً حتى أذيال الشام، المنفسح غرباً إلى سفوح هذه الجبال التي شاقها منظر سماء عجلون، فنهضت إليها بغابات الصنوبر، وملتف أشجار السنديان والبلوط، لتقبل وجنتها. . . وليتك ترينها في الصباح، والضباب يلفها في مثل غلائل العروس وهي تجاهد بنسيمها المنعش، ونداها العطر لترى(71/23)
السماء، فتمزق الردن تارة، وتشقق البنائق أخرى، وهي في كل ذلك آية في السحر والجمال والجلال. . أقول ليس على هذا السهل أخلد حياة، وأكبر فؤاداً وإحساساً من صديقكم شاعر الواد.
- أعرفتِه؟
- نعم، فهو يزورنا في غالب لياليه، ويبقى حتى مطلع الفجر. .
- هذا الشاعر الضائع يا فتاتي، هو في هذا السهل أضيع منكم غربة، يذيب كبده في لحنه، وتسيل روحه على قوافيه. . . ولا من يسمع.
- كيف!؟ إنه لا يحضر إلا ومعه لفيف من صحبه وخلطائه فكيف يكون غريباً في دياره وبين أحبابه؟
- هو غريب وحيد، يأتيكم ليأتنس بكم، هو غريب لأنه لا يجد صدى لروحه، وليست تقاس الغربة ببعد الشقة والنأي عن الوطن، وإنما تقاس بما بين الأرواح والأرواح من تفاوت وتقارب، كم من ضجيعين على مهاد واحد بينهما من البعد ما بين ذاك النجم وهذا الوتد.
فهزت النورية رأسها فعل الحائر الذي لم يفهم.
وكنا ضقنا بصاحبنا ذرعاً، وأسمعناه من قوارص اللوم والاستخفاف بفلسفته التي جاء يلقيها في مضارب النَوَر شيئاً كثيراً، وكأنه تعب. . فلم يعمل في هذه المرة على إفهامها. . . فقلنا له متندرين مالك؟ عد إلى وصول قولتك، وشرح فلسفتك.
قال: أطلتم اللوم، لقد نلنا مبتغانا، أما كان عزمنا أن نذهب بشيء من ألم هذه الفتاة، فها هي الابتسامة تسيل على شفتها، وشفاه عدة من قومها، قلنا: غلطت يا أستاذ، فما هي ابتسامة الصفو، وإنما هي ابتسامة الاستخفاف بك، والهزء من أقوالك.
- ليكن، فما يضيرني أن أكون ساعة موضع سخرية النَّور. .
وطلعت علينا الشرطة، فخفقت قلوبهم، فراحوا يلملمون أنفسهم، ويلقون علينا نظرات الرجاء أن نكفيهم شر هذا البلاء فكنا عند حسن ظنهم.
وقمنا إلى السيارة، ولما تبوأنا مقاعدنا جاءت النورية وهمست في أذن صاحبها:
- أيوجد مثلنا أناس يذوقون حر سياط الجنود الغلاظ الأكبد؟ وهل يساوينا أحد في هذه(71/24)
النعمة؟
- نعم يا فتاتي، ليست هي على ظهوركم بأشد نكاية وألماً وأثقل وطأة منها على ظهور الأحرار.
- ومن هم الأحرار؟؟
لا أدري، أخشى سياطهم إن تفوهت، وتلمس جنبه كأنما أحس بألمها، هم، هم صفـ. . . . وة رجال الو. . . طن، في كل أمة، سلي عنهم مصر. . .! وضاع الصوت في لجب هذه الرعناء.
شرق الأردن
عبد الحليم عباس(71/25)
حول مقال الشخصية
جاء في العدد (68) من مجلة الرسالة الغراء في مقال الأستاذ محمد عطية الأبراشي عن الشخصية بعض الأخطاء من الوجهة العلمية:
فقد قال الأستاذ:
(2) (والغدد النكفية وهي غدد صغيرة اسفل العنق ولها صلة بالذكاء، فإذا كانت قوية الإفراز كان الشخص ذكياً وبالعكس.)
ومن المعلوم أن الغدد النكفية هي الغدد التي بجوار الأذن وليست بأسفل العنق، وتسمى بالإنجليزية وليس لها أي دخل في الذكاء، بل كل إفرازها يصب في الفم بواسطة قناة يقرب طولها من الثلاثة سنتيمترات، ووظيفة إفراز هاتين الغدتين كما دلت كل التجارب هي تحويل النشويات إلى (ملتوز) ولها وظيفة ثانية هي المساعدة على ازدراد الطعام وتليينه وليس لها غير هاتين الوظيفتين.
أما قوله بأنها غدد صغيرة في أسفل العنق فأضنه قد أراد الـ وهذه الغدد أيضاً ليس لها تأثير كما هو ثابت على الذكاء بل تأثيرها على (الكلسيوم) الموجود بالدم ومن ثم على العظام نفسها، ولهذه الغدد وظيفة أخرى خاصة بالأعصاب، إذ لو قطعت هذه الغدد لأصبح تأثر العضلات سريعاً ولاشتدت قوة انقباضها، وليس لها غير ذلك كما ثبت بالتجارب وقد يكون لها، لكن العلم لم يقل كلمته بعد
وقد سمى حضرته الـ بغدة تفاحة آدم، وأضن أن من المستحسن إطلاق الاسم العربي المتداول وهو الغدة الدرقية فهو أسهل وأقصر
محمد رضوان بكلية الطب(71/26)
بين فن التاريخ وفن الحرب
7 - خالد بن الوليد في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي رئيس أركان الجيش العراقي
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهاأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)
خالد بن الوليد.
معركة بزاخة:
يقول ابن الكلبي إن بزاخة ماء لبني أسد، ولم يوضح لنا ياقوت هذا المحل في معجمه، والذي يلوح لنا أنه في جنوبي فيد في وادي الغمير على الطريق الذي يصل فيد بالبريدة. فالأرض فيه سهلة وهي صالحة للقتال.
ولعل المعركة وقعت في نهاية أيلول (سبتمبر) أو في نهاية تشرين الأول (أكتوبر) إذ مضى على حركة خالد من ذي القصة ما يقارب الخمسة عشر يوماً، وبعد أن أمن خالد جانب طيواستنجد بهم تقدم رأساً نحو بزاخة يريد طليحة.
وتقدمت أمامه قوة استطلاع بقيادة عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم، وتدل الأخبار على أن المرتدين باغتوا هذه القوة وقتلوا قائديها، وكانا من فرسان المسلمين المشهورين، وكان جيش طليحة متأهباً للقتال يقود بني أسد سلمة أخو طليحة، ويقود فزارة عيينة ابن حصن ومعه سبعمائة فارس من فزارة.
ومن الروايات ما يدل على أن خالداً وقف بالغمير قبل شروعه في القتال، وإن كانت الرواية التي يرويها الطبري نقلاً عن سيف لا تذكر ذلك بوضوح، وخلاصة الرواية أن أحد المسلمين أخذ رجلاً من بني أسد فأتى به خالداً، وكان الرجل عالماً بأمر طليحة فسأله خالد عما يعلمه عن طليحة.
وموقع الغمير رابية تشرف على مياه بزاخة واسمه في الخريطة جبل الغمير ومنه ينصب وادي الغمير.
ولعل خالداً أرسل قوة الاستطلاع من هذا الموقع ليستكشف قوة العدو وموضعه وجيش(71/27)
المسلمين في موضع مسيطر. ولعل عكاشة وثابتاً قتلا لما كانا يقومان بالاستطلاع فقتلتهما الطليعة التي أوفدها طليحة بقيادة أخيه سلمة فنصب كميناً لقوة الاستطلاع وباغتها، ولما اطلع المسلمون على مقتل عكاشة وثابت هالهم الأمر.
ومن الروايات ما يشير إلى أن خالداً لم يزور عن طريقه كما تقدم من ذي القصة إلى بزاخة إلا بعد ما رأى الجزع المستولي على أصحابه عند مقتل عكاشة وثابت فمال بهم إلى حي طيء وقال لهم: (هل لكم إلى أن أميل بكم إلى حي من أحياء العرب كثير عددهم كثير شوكتهم. . . الخ).
ولعل هذه الروايات ذكرت لتسويغ ازورار جيش خالد عن طريقه نحو بلاد طيء على ما أثبتناه فيما تقدم، إذ لا يعقل أن يصيب المسلمين الجزع بمجرد أن يقتل منهم فارسان، والروايات ذاتها تذكر قتل عكاشة وثابت بيد طليحة وأخيه سلمة بمعنى أن القتال وقع بالقرب من بزاخة فيكون من الصعب أن يدير خالد ظهره ويترك عدوه ويتوجه نحو بلاد طيء بينما كان أهلها مترددين.
والواضح من هذه الروايات أن خالداً قدر سير الموقف قبل مسيره من ذي القصة.
القتال
رتب خالد جيشه في خط القتال وجعل الأنصار والمهاجرين في الميسرة ورجال القبائل في الميمنة، ولعل أهل طيء كانوا في القلب مع بعض القبائل.
أما جيش طليحة فكان عيينة بن حصن مع سبعمائة فارس من فزارة في الصف الأول، وكان طليحة بن خويلد في القلب يشرف على القتال، وفي أطرافه أربعون فتى من بني أسد استماتوا في الدفاع عنه. وكانت راية بني أسد حمراء رآها المسلمون من بعيد.
وتدل الأخبار على أن القتال بدئ بهجوم الفريقين أحدهما على الآخر، فكان عيينة بن حصن يقود الفرسان، أما حبال وسلمة أخوا طليحة فكانا يقوم المجنبتين من جيش الأعداء.
ويذكر الواقدي نقلاً عن رجل من هوزان حضر قتال بزاخة أن المسلمين فازوا بالمعركة بفضل البطولة التي أبداها خالد بن الوليد.
ويقول الراوي أن ميمنة المسلمين ارتدت على أعقابها لما هاجمها الأعداء فأثر ذلك في الميسرة فانسحبت بدورها، فتدارك الأمر خالد بحملته على الأعداء وندائه يا أنصار الله!(71/28)
الله! فحمس هذا النداء المتراجعين وكروا على الأعداء ملتفين حول خالد فتقاتل الفريقان بالسيوف، فترجل خالد عن ظهر جواده وحارب راجلاً، ولما رأى أصحابه أن الخطر محدق به التمسوا منه أن يترك خط القتال ويقف في الوراء ويقود الجيش إلا أنه امتنع عن ذلك. وفي رواية أخرى للكلبي أن المسلمين لما تراجعوا أتى رجل من طيء خالداً وكلفه بالاعتصام بجبلي سلمى وأجأ، إلا أن خالداً رد طلبه قائلاً إنه يعتصم بالله.
وبقي طليحة في القلب إلى قتل فتيانه جميعاً فانسحب إلى الوراء والتف بكسائه يتحين الفرص. ولما ضاقت الدنيا بعيينة بن حصن سأل طليحة هل جاء الوحي وهذا يقول له لا فيرجع يقاتل، وفي الكرة الثالثة قال طليحة لعيينة إن الوحي يقول له: (إن لك رحى كرحاه وحديثاً لا تنساه) فتأكد عيينة أن الدائرة تدور عليه، فنادى يا بني فزارة انصرفوا فهذا والله كذاب. فانصرفوا وانهزم الناس.
أما طليحة فأعد فرسه وهيأ بعيراً لامرأته فوثب على فرسه وحمل امرأته ثم نجا بها، ولما سأله قومه ماذا يأمر، قال (من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت وينجو بأهله فليفعل).
ووقع عيينة أسيراً بيد خالد فكبله بالحديد وأرسله مخفوراً إلى المدينة.
وكان المرتدون تركوا عيالهم خلفهم في محل أمين لكي لا يسبيهم المسلمون، لأن العرف كان يقضي في ذلك الزمان بسبي النساء واتخاذهن إماء، ولم تنته المعركة حتى عاد الكثير من بني أسد وفزارة إلى خالد وجددوا إسلامهم خشية على الذراري.
واغتنم المسلمون غنائم كثيرة في معسكر الأعداء من جمال وحمير وسلاح وغير ذلك. لم يكتف خالد بهذه الغنائم بل أوفد السرايا إلى جهات مختلفة لمطاردة المنهزمين والتقت لهم في جبل رمان في جنوب جبل سلمى وفي الأبانين على جانبي وادي الرمة وهما رابيتا أبان الأسود في شمالي الوادي وأبان الأبيض في جنوبه وأسرت كثيرين منهم وصادرت خيلهم وسلاحهم.
ولما نشب القتال بين المسلمين والمتردين في بزاخة كان بنو عامر بن صعصعة على الحدود يراقبون مجرى القتال وينتظرون العاقبة.
وبعد أن انتهى خالد من أمر بني أسد وفزارة عرج على حي طيء ومكث بين أكناف سلمى وأجأ، ولعله أراد بذلك أن يقرب من حي بني عامر وينهي أمرهم. هذه القبائل كانت في(71/29)
الأرض الواقعة إلى شمال شرقي بلاد طيء بين الدهناء وجبل شمر.
فأوفد بنو عامر وغطفان وفودهم إليه وجددوا إسلامهم. يبدو أن خالداً لم يكتف بذلك بلفرض عليهم جانباً كبيراً من السلاح جزاء ترددهم كما أنه جمع سلاحاًمن بني أسد أيضاً.
وكان للسلاح شأن كبير في هذه الحروب، وكان المسلمون بحاجة إليه لجهزوا به الجيوش، وسبق أن أغنياء الصحابة في عهد الرسول كانوا يجهزون المقاتلين للغزوات.
واحتفظ خالد بهذا السلاح ووزعه بعد ذلك على رجال القبائل الذين أسرعوا إلى الانضمام إلى جيشه كما وثقوا بالنصر.
القتال في ظفر:
تدل الأخبار على أن خالداً لم يمهل الشاردين بل إنه لما علم أن أم زمل سلمى جمعتهم حولها في ظفر وشجعتهم على المقاومة توجه فوراً نحوها فقاتلها قتالاً شديداً وهي واقفة على جمل أمها أم قرفة تحمسهم على القتال، وقد اجتمع على الجمل جمع من فرسان المسلمين فعقروه وقتلوها وقتل حول جملها كما تذكر الرواية مائة رجل. وكان قيام أم زمل وتشجيعها للناس على قتال المسلمين طلباً للثأر.
المطاردة:
ورب منتقد يعتب على خالد إهماله المطاردة بعد انتصاره في بزاخة إذ كان في وسعه أن يطارد الأعداء ولا يمهلهم للمقاومة مرة أخرى، إلا أن العتاب ليس في محله، لأن القتال في البادية مع القبائل لا يشبه القتال في الحواضر، فالقبائل بعد أن تغلب تنهزم إلى جهات مختلفة بعد أن تترك حيها وتلجأ إلى الأحياء القريبة وتستنجد بها ولا تقصد هدفاً ترمي إليه. وكان خالد مضطراً إلى البقاء في بزاخة ليقبل إسلام المرتدين ويعاقب من مثل بالمسلمين منهم عملاً بوصايا أبي بكر.
وكان خالد قبل ذلك أوفد السرايا إلى أنحاء مختلفة ليقضي على المتشردين فقاتلهم في جبل رمان على حدود طيء، وقاتلهم في الأبانين على حدود بني سلم، وقاتلهم في النقرة على حدود بني تميم فكل ذلك يدل على أن خالداً استثمر نصر بزاخة ولم يمهل المنهزمين بل طاردهم بكل شدة.(71/30)
يقع موقع ظفر كما يذكر ياقوت الحموي بالقرب من حوأب، وهذا على الطريق بين البصرة والمدينة. كانت عائشة قد تشاءمت من نباح كلابه لما رحلت من المدينة إلى البصرة للاشتراك في وقعة الجمل. ولعل موقع ظفر يبعد عن بزاخة مسافة مرحلتين وهو إلى شرقي كهفه. فالفلول الشاردة من بزاخة التجأت إليه، وكانت أم زمل تحرضهم على الاجتماع فيه لمقابلة خالد. فالمسافة بين بزاخة وظفر يجب أن تكون بعيدة بدرجة أنها تساعد الفلول على الاجتماع مرة أخرى للقتال.
تقدم مسير خالد نحو البطاح لقتال بني تميم
البطاح: - لا نعلم بالضبط المدة التي قضاها خالد في حي بني أسد بعد أن انتصر على طليحة في بزاخة. والمؤكد أن خالداً استثمر فوز بزاخة فقام بمطاردة فلول الجيش المنهزم، ولما سمع أن بعض الفلول اجتمع في ظفر تحت راية أم زمل تقدم بجيشه إليهم وهزمهم شر هزيمة كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدم.
والظاهر من ذلك أن خالداً قضى أكثر من شهر في حي بني أسد على أقل تقدير، ولما استتب له الأمر في نجد وتأكد معونة طيء ودان له بنو عامر وبنو صعصعةانتهز الفرصة ليتقدم نحو بني تميم.
وكان بنو تميم من أقوى القبائل العربية لكثرة عددها وخصب أرضها وشدة بأسها. وتنقسم هذه القبيلة إلى أربعة أقسام:
القسم الأول - الرباب وهم من شعب ضبة وعبد مناف.
القسم الثاني - عوف والأبناء ومقاعس وبطون وهم من شعب سعد بن زيد مناة.
القسم الثالث - يهدي وخضم وهم من شعب بن عمرو.
القسم الرابع - حنظلة ويربوع وهم من شعب بني مالك.
وكان الزبرقان بن بدر يترأس رباب وعوفاً والأبناء، وقيس ابن عاصم يترأس مقاعس والبطون، وصفوان بن صفوان يترأس بطن يهدي، وسيرة بن عمرو يترأس بطن خضم، ووكيع بن مالك يترأس بني حنظلة، أما مالك بن نويرة فيترأس بني يربوع وهم فرقة من بني حنظلة.
وكان بنو يربوع يسكنون أرض الحزن غربي الدهناء، أما بنو حنظلة فيسكون الدهناء(71/31)
والصمان، وأرض الصمان في شرقي الدهناء، والحزن والصمان كلاهما ذو مراع خصب يضرب بها المثل.
وكان من حسن حظ المسلمين أن هذه الشعب والبطون لم تكن متصافية فيما بينها، ويظهر أن الخصومة كانت متأصلة فيها من قبل الإسلام. فصفوان وسبرة متفقان، أما قيس بن عاصم فخصم للزبرقان.
وكان الزبرقان وصفوان يميلان إلى المسلمين وينتظران المعونة منهم ليتفوقا على خصومهما. أما قيس بن عاصم فكان متردداً. وأما وكيع بن مالك ومالك بن نويرة فتظاهرا بالعداء للمسلمين، وكان العداء متأصلاً في نفوس الرؤساء لدرجة أن البطون والشعب كانت تتقاتل.
ولما ظهرت سجاح اشتد هذا العداء، وادعت سجاح النبوة في بني تغلب في أرض الجزيرة بين دجلة والفرات، وهي ترتبط ببني يربوع برابطة القرابة، فجمعت حولها جموعاً من بني تغلب وبني نمر وبني أياد وبني شيبان، وتقدمت بهم إلى بلاد بني تميم، ويدل مجرى الوقائع على أنها ادعت النبوة قبل وفاة الرسول.
ماذا كانت تقصد سجاح بمسيرها جنوباً نحو بلاد تميم؟ هل أرادت أن تمهد السبل لتأسيس مملكة بين العراق ونجد تضم فيها قبائل بني تغلب والبعض من بطون بكر وبني تميم؟ أو أنها أرادت الهجوم على المدينة كما يروي سيف بن عمر؟ ثم هل شرعت في المسير قبل وفاة الرسول أو إن وفاته شجعتها على المسير؟ هذه أسئلة تصعب الإجابة عنها بصورة جازمة. والذي يلوح لنا أنها لم تكن تقصد لا هذا ولا ذاك، ولعلها برزت بالكهانة وأحسنت السجع فالتف حولها الناس، وأرادت أن تستغل نفوذها فسارت برجالها، وكلما مشت كثر أتباعها حتى أدى بها المسير إلى الدخول في أرض بني تميم. ومع ذلك فمن المحقق أنها بدخولها ديار بني تميم أرادت أن تستفيد من القرابة التي تربطها بهم. وهذه القرابة غير واضحة، ومن الرواة من يزعم أنها تميمية من بني يربوع وأخوالها من بني تغلب، ومنهم من يدعي أنها تغلبية وبنو يربوع أخوالها. والواضح من أخبار الرواة أنها دخلت بلاد بني تميم بعد وفاة الرسول. وكان دخولها مما زاد الشحناء بين رؤساء بني تميم فأراد كل منهم أن يستغلها لمصلحته، والغريب في أمر بني تميم أنهم لم يخضعوا لرئيس واحد أسوة(71/32)
بالقبائل الأخرى، فكان لبني أسد رئيس ولبني حنيفة رئيس ولغطفان رئيس وهلم جرا.
يتبع
طه الهاشمي(71/33)
في الأدب الدرامي
13 - الرواية المسرحية في التاريخ والفن
بقلم أحمد حسن الزيات
الدرامة في خلال القرون
كان لهذا النوع أوائل في أدب الإغريق واللاتين ظهرت في أشكال مختلفة وأسماء متعددة، وظلت محافظة على وجودها أثناء العصور الوسيطة وبعد عصر النهضة في ثوب الرواية الجدية الهزلية، ولكن الدرامة بمعناها الحديث لم تعرف إلا في القرن الثامن عشر حين كتب (لاشوسيه) مدرسة الأمهات، و (ديدرو) رواية الابن الطبيعي، و (سيدين) رواية الفيلسوف بغير علمه، و (بومارشيه) رواية الأم المجرمة، و (فولتير) روايتي نانين والطفل المبذر. وقد كان هؤلاء المؤلفون يقتبسون موضوعات رواياتهم من الحياة الحضرية والمعيشة المنزلية، ويملئونها بالحساسة المتصنعة والآراء الفلسفية والحكم الخلقية في لهجة تارة تكون بكائية وتارة تكون خطابية. على أن هذه الدرامة لم تلبث أن نزلت إلى مكان المأساة العامية (الميلودراما)، وهي درامة تسير بالموسيقى وتفيض بالضربات المسرحية العنيفة، والمواقف الشديدة المخيفة، والعمل الروائي المعقد، وتدين بنجاحها إلى إثارة الشعور وإهاجة الوجدان. ثم أدرك الدرامة الخمول وأخلقها الترك فامحت من المسارح حوالي سنة 1830 حتى جاء أرباب المذهب الابتداعي فنفخوا فيه من روحهم وبعثوها إلى الحياة في شكل جديد، واختاروها ميداناً للمعركة الحاسمة بينهم وبين رجال المذهب الاتباعي، فرفع هوجو لواءها وشرع منهاجها في مقدمة كرومويل سنة 1827 وجعل ميزتها الظاهرة امتزاج الجد والترفع بالهزل والمجون على نحو ما تجد في روايات شكسبير. ثم أخذ هذا المذهب الحديث يتحلل من قواعد المذهب القديم، ولا سيما قانون الوحدات الثلاث كما ترى ذلك ظاهراً في روايات الزعيم كرناني وكرمويل وماريون دلوزم وروي بلاس وبيرجراف الخ. على أن سهم الابتداعيين قد طاش، وأملهم في إصلاح المسرح قد كذب. فقد تجد في روايات هوجو درراً من الشعر الرصين، وغرراً من المقطوعات البليغة، وصوراً من المواقف التي تسترق الشعور وتملك القلب، ولكنك تجد(71/34)
بجانب ذلك البناء الواهن والإحالة القبيحة والعمل المرتبك والتاريخ المشوه، فضلاً عن أنه أحل الطباق والمقابلة محل النظر والملاحظة، وملأ المسرح بالأنماط الغريبة من الناس كقاطع الطريق الشهم (هرناني)، والخادم الوزير (روي بلاس)؛ ولم يجد في طبقة السراة إلا أنماطاً ممقوتين أو مجرمين، أما الطبقة السفلى فهي عنده مستودع العواطف الكريمة والأخلاق القويمة. ثم إن الدرامة الابتداعية خلت خلو الميلودراما من دروس العواطف وتحليل الأخلاق، وتعدت حدود المنطق في سير العمل، وسترت كل ذلك بسيل من الحوادث الخارقة، والمسائل المعقدة، والمفاجآت المدهشة، وما يتخلل ذلك من المبارزة والقتل والتسميم والخطف والتعرف. لذلك لم يصطبر الناس على هذه الدرامة طويلاً فملوها وأغفلوها، وحلت محلها في المسارح والقلوب في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر الملهاة الاجتماعية، أو الملهاة الحديثة، أو الملهاة المبكية، أو الدرامة الواقعية. وهي في الحقيقة طور من أطوار الدرامة التي بدأها (ديدرو) ورفع سَمْكها اسكندر دوماس الصغير، وأميل أوجييه وفيكتوريان سادرو. تستمد من الدرامة التاريخية عناصر الجد، ومن ملهاة (اسكريب) فن التعقيد، ومن قصة بلزاك درس العادات وتحليل الأخلاق، وتدور موضوعاتها على بحث المسائل المتعلقة بالمال والأسرة، وما ينجم من صراع الطبقات، وصدام الجماعات؛ وتعني على الأخص بوصف العادات والسعي في تهذيبها وإصلاحها. وكان لاسكندر دوماس الفضل في تطبيق المذهب الواقعي على هذه الملهاة أو الدرامة بتأليفه ذات الكاميليا وهي درامة جريئة الفكرة، طريفة البحث، جديدة الشكل، أحدثت في المسرح انقلاباً خطيراً كان له أثره ونتيجته حتى اليوم. لأن المؤلف كان أول من زين المسرح بالأثاث الجديد وأظهر الأشخاص في اللباس العصري، ومثل البيئة الحاضرة في شكلها الحقيقي، فهو خلق الملهاة الحديثة كما خلق من قبلها الملهاة العلمية وهي مبنية على نظرية سماها المسرح النافع ملخصها أن الكاتب المسرحي يجب أن يبادر إلى حل المشاكل الاجتماعية على المسرح وإلا كان مضحكاً مهرجاً. يجب أن يعرض على الناس ما يشغلهم من مشاكل الأسرة، ويثقلهم من أحوال المجتمع، ثم يناقش هذه المسائل، ويحل هذه المشاكل بتغليب الخير على الشر، وإقرار الحب في النفوس مقر المال.
وظل المسرح اليوم في فرنسا جارياً على سننه المشروع في منتصف القرن التاسع عشر(71/35)
في شئ من البساطة والسهولة. وأشهر الملاهي الدرامية في العهد الأخير ما كتبه الأستاذ جول لمتر إما تحليلاً للعواطف (كالثائرة) و (الغفران)، وإما زراية على ذميم العادات (كالنائب ليفو). وكذلك الأستاذ هنري لافادان عني بدارسة المجتمع الفرنسي الحديث، وعرض لما ينجم عن المنافسة بين طبقاته من المشاكل المعضلة والمسائل العويصة في رواية (أمير أُوريك). ثم المنطقي الجبار بول هرفيو فقد عالج المشاكل الاجتماعية التي تتولد من الزواج والطلاق، ونحا في بحثها منحى اسكندر دوماس الصغير في رواياته العلمية ولكنه كان أكثر منه بساطة وأشد جفاء. كتب ذلك في ملاهيه المشهورة، وهي التيه والكلبتان (الكماشة) وقانون الرجل وأعرف نفسك - وشوط القبس ولا تزال هذه الرواية إلي اليوم أبلغ روائعه وواسطة بدائعه. ثم الأستاذ (بريو) مؤلف القباء الأحمر والأستاذ فرنسوا كوريل مؤلف الدمية الجديدة، ونشوة الحكيم والأستاذ (الفريد كابو) مؤلف الحظ والطير الجريح، والأستاذ (هنري برنستين) مؤلف السارق، والسر، وشمشون. ولا نريد أن نسترسل في ذكر أسماء الكتاب المعاصرين، فأكثرهم لا يزالون يؤلفون ويرزقون. وإنما ذكرنا منهم من سبق لنقول لك أن ما ألفوه قد يطلق عليه أحياناً اسم الدرامة، وأحياناً اسم الملهاة الدرامية أو الجدية، والاسم الثاني أدق لما ذكرناه من الفرق بين النوعين.
هذا مجمل ما أتى على الدرامة من الأطوار في فرنسا. أما في أسبانيا فالمسرح قومي محض، ولد في الكنيسة وظل على صفته الأمية حتى جاء عصر النهضة، فجنح بعض الكتاب إلى بناء المسرح الأسباني على الطراز الإغريقي، ولكن ذوق الجمهور أحالهم عن ذلك القصد وصرفهم عن محاكاة المأساة الاتباعية فسخروا من قانون الوحدات الثلاث، وجمعوا في الرواية الواحدة بين الحوادث المضحكة والمواقف المفزعة، وبين سراة الطبقة العليا وصعاليك الطبقة الدنيا. ثم كانوا يعقدون العمل ويفخمون الأسلوب، حتى سرت من روحهم نفحة إلى كوريني وكان الشرف محور مآسيهم، وموضوع حوادثهم، ومكان قوانينه الصارمة منها مكان القدر من مآسي الإغريق. على هذه القواعد والصفات كتب نابغتهم الخالد لوب دي فيجا (1562 - 1635) مآسيه، وهي لا تقل عن ألفي مأساة، يدخل منها في باب الدرامة الروايات التاريخية (ككشف العالم الجديد) وروايات (سان سَكْرِ مَنْت)(71/36)
كوراث السماء. وقد تميز هذا الكاتب بالخيال الخصب، والقريحة المتقدة، والتنوع البديع، والقدرة المعجزة على تصوير الأخلاق، ولا سيما أخلاق النساء. وكان همه أن يعرض الحوادث دون أن يشرح أسبابها، ويمثل الحياة الحقيقية دون أن يطرز أثوابها. ثم يليه في النبوغ والأثر (كالدرون دي لاباركا) (1600 - 1680) وقد بقي من دراماته اثنتان وسبعون درامة أشهرها (الحياة حلم) و (كرامة المولى). وأما في إنجلترا فقد ولد مسرحها في الكنيسة أثناء العصور الوسيطة كما كان الأمر في فرنسا وأسبانيا، وكذلك لم يقو تقليد الكتاب والشعراء لآداب المهمة على الحيلولة بين الدرامة الحديثة وبين الانتشار والتقدم. ففي القرن السادس عشر جاء (مارلو) فهز النفوس وحرك المشاعر بمآسيه (أدوار الثاني) و (يهودي مالطة) و (موت الدكتور فوست وحياته). ولكن شكسبير ظهر فأخفت ذكره ووضع قدره. وكان القدماء من أرباب المذهب الاتباعي يذكرون شكسبير بالسوء، ويتناولونه بالنقد حتى لقبه فولتير: (بالمتوحش السكران). أما أرباب المذهب الابتداعي فيرونه مثال الفن الروائي، ورسول الشعر التمثيلي. وقد سردنا لك فيما سبق طائفة من مآسيه في بعضها ما يشبه الدرامة، ولكن دراماته الحقيقية هي: صاع بصاع، تاجر البندقية؛ وقطعه المقتبسة من تاريخ إنجلترا، كالملك حنا، وريشارد الثاني، وهنري الرابع، وهنري الخامس، وريشارد الثالث، ودرامات شكسبيرعلى الجملة ضعيفة البناء، بعيدة الأمكان، متكلفة الأسلوب. وقد أراد أن يمثل فيها مناحي الإنسانية كلها، فجمع بين العظيم الرفيع والعامي الخليع والمضحك الماجن، وجعل العواطف الرقيقة الوادعة بجانب الأهواء العنيفة الفاجعة، ولم يقنع بتمثيل الحوادث مجردة، بل حرص على أن يصور الأهواء والعواطف التي صدرت عنها وتولدت منها.
وأما في ألمانيا فليسنج (1729 - 1781) هو خالق مسرحها القومي: وقف بين مواطنيه وبين المأساة القديمة، فحال بينهم وبين تقليدها، ودعا الناس قبل الابتداعيين إلى الأخذ عن شكسبير، والى وضع الأساس لبناء المأساة العصرية. وأشهر مآسيه (منا دبر نهلم) و (ناتان الحكيم) و (أمليا جالوثي). أما جيته فقد جمع بين الذهن القديم والعبقرية الحديثة، وقد ظهر ذلك جلياً في دراماته، وأشهرها (جوتْر دِيرْ ليشِنْجِنْ) و (تركاتو تاسو) و (إِجْمُنْت) و (فوست). فأما (جوتر) فهي صورة قوية - وإن تكن غير جلية - لألمانيا في أواخر(71/37)
العصور الوسيطة. وموضوعها أن السيد جوتر لا يعترف لأحد بالسلطان غير الإمبراطور، فهو يشعل الثورة في رؤوس الفلاحين، ويقودهم لمحاربة النبلاء والكهنة، ثم ينتهي أمره بالأسر والسجن في قاع مظلم بقية حياته. وأما درامته فوست فهي مجده وخلوده تجدها غامضة في جملتها ولكنها رائعة في تفصيلها. موضوعها أن الدكتور فوست تبرمه الحياة ويعنته الوجود ويكربه فراغ نفسه فيتعاطى السحر، ولكن اليأس يحتوشه فيدفع به إلى الانتحار. وبينما هو متردد بين الحياة والموت إذ يفجأه قرع الأجراس المؤذنة بدنو عيد الفصح فيذكره بقيامة المسيح ويأفكه عن عزمه المشئوم، إلا أن الشك يعاوده، فيدفعه إلى محالفة الشيطان فيبيعه نفسه على أن يمتعه بزهرة الحياة ونعيم الدنيا. فيؤتيه الشيطان من كل شئ إلا السعادة، فيشرف على الموت، إلا أن ماري تدركه فتنجيه.
وعلى طريقة جوت كتب صديقه شيلر دراماته الرائعة كدرامة اللصوص، ودون كارلوس، ووليام تل. وأنبه الكتاب الروائيين في ألمانيا اليوم هو (جيرار هوبتمان).
ومن فحول الدرامة في العصر الحديث الكاتب النرويجي (جوهان إِبْسِنْ) (1828 - 1906) وكان ينزع في مآسيه الدرامية نزعة فلسفية اجتماعية، فهي من الدرامات العلمية أو الرمزية، وقد سما فيها بقوة الفرد وهمته إلى أبعد غاية وأرفع منزلة حتى لو ناقض ذلك الدين والتقاليد. أشهر دراماته بيت العروس والأرواح والكنار الوحشي.
يتبع
(الزيات)(71/38)
من مشكلات الحياة
قصة فتاة
تلقينا هذه الكلمات من فتاة سورية فلخصناها وعرضناها على القراء كما شاءت. وسننشر في موضوعها ما نراه أحجى بالنشر وأدنى إلى الغرض.
كثيرات هن اللواتي يغبطنني على حياتي، ويتمنين لو أتاح لهن الحظ حياة مثلها. يرون في كما يرى بقية الناس شابة جميلة، أربح من وراء مهنتي مبلغاً يدني حياتي من الرفاهية، وماذا أبتغي من الحياة بعد؟. . .
ولكن آه! لشد ما أعاني من الألم في إخفاء حقيقة نفسي، وظهوري أمام الناس بهذا الوجه الباسم، والعينين الممتلئتين نشاطاً واغتباطاً وبهجة. حقاً إن أشقى الناس ذلك الذي ينزل إلى قرارة نفسه، وهناك في أعماقها يدفن ما يعاني من ألم ممض وشقاء ملازم - وهكذا الأيام تمر، والسنون تكر، وآلامي مدفونة لا أستطيع الجهر بها حتى لأقرب الناس إليّ، لأنهم هم مسببوها ومصعبوها من حيث يشعرون أو لا يشعرون. . .
ولدت في أحضان الترف والنعيم، وربيت في حجر الدلال والرفاهية، محاطة بالحب، مغمورة بالإعزاز، ولكن ما كدت أتجاوز العاشرة من العمر حتى أصيب والدي بنكبة مالية زعزعت كياننا وقلبت كل شئ رأساً على عقب. كنت صغيرة حينذاك، ومن كانت في هذه السن لا تهتم إلا بالمرح واللعب، ولكن الأمر كان معي على النقيض، بدأت أشعر بفداحة المصاب وأتألم بقلبي الصغير ألماً هادئاً ساكناً، ولما كنت بكر والديّ، وكنت محور أمال أبي لما يرى من جدي واجتهادي في المدرسة، كان يؤثرني بعطفه ويخصني بمحبته. كان لا يرى بداً من تعليمي والإنفاق علي. وفي الرابعة عشر من عمري أرسلني إلى مدرسة ليلية أجنبية بعد أن نلت الشهادة الابتدائية بتفوق عظيم، ولقد مضى على هذه الحادثة ما مضى وأنا أتصورها بنت الساعة. وأودعني ذلك الوالد الحنون المدرسة، وأوصى بي الرئيسة والأخوات خيراً. وبعد ثلاثة أيام زارني قبل سفره ليستفهم عما إذا كنت في حاجة إلى شئ؟ وأعلمني بعزمه على السفر، وزودني بنصائحه الغالية، فاغرورقت عيناي بالدموع، وتكلفت الابتسام لأخفي ألمي لهذا الفراق الذي كان أول عهدي به، فضمني إلى صدره وغمر رأسي بقبلاته ثم بكى، وكأنه أبصر بعيني بصيرته ما ينتظرني من ألم(71/39)
وشقاء.
قضيت حياة المدرسة، وبدأت حياة العمل لأرفه عن هذا الوالد الحنون بعض ما يعانيه في إعالة أمي وأخواتي، مغتبطة في قرارة نفسي بأنني أستطيع أن أكافئه بعض المكافأة. ولكن جمالي وثقافتي وسيرتي الحسنة بين أترابي كانت تستثير الناس لطلب يدي؛ وما من شاب من الطبقة الراقية في تعليمها أو في ثروتها إلا تمنى أن أكون له، ولكن كان الجواب دائماً سلباً، ولما كان قلبي لم يتفتح لحب بعد، كنت لا أعير هذه المسائل شيئاً من الاهتمام، وكنت أعتقد أن كل فتاة تقدم على الزواج مجنونة ولا أريد أكونها.
قاوم أبي تلك النكبات التي كانت تهاجمه بصبر وثبات، ولكنها أخيراً خرجت عن طوقه فأصيب بالشلل، وهاهو الآن ليس بالميت فينسى ولا بالحي فيرجى. وخلف لي أعباء ثقالاً لا قبل لمن كانت في سني باحتمالها، وشعرت بخطورة المسئولية الملقاة على عاتقي، فكنت أقضي نهاري في العمل على الآلة الكاتبة وأعود في المساء باشة هاشة ضناً بوالدتي عن أن أحملها هماً فوق هم، وبأخواتي اللواتي ينتظرن من عودتي الملاطفة والحلوى عن أن أخيب أملهن. المستقبل قاتم لا ألمح فيه قبساً من أمل، والغد مجهول لا أعلم ماذا يحمل بين طياته، ولا أدري ماذا يكون المصير.
طالِبو الزواج يريدونني بإلحاح، وأمي ترفض بدعوى أن ليس بينهم من يستحق يدي، فكل شاب لا يخلو من عيب، وهي تريد ملاكاً لملاكها، إذاً فلننتظر ولننتظر، ولكن الانتظار طال. وفهمت، ولكن في وقت متأخر أنها محاولات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. فشقيقاتي الصغيرات تزوجن، ووالدتي لم تبد في أمرهن تلك الملاحظات التي عودتنيها، واثنتان منهن أصبحا أُمَّين، وأنا أنظر بعيني والألم يصهر نفسي والأباء يعقد لساني عن الإفصاح بما يخالجني. هي تريد إبقائي عذراء أشتغل وأشتغل حتى الموت لأعولها مع بقية أطفالها. ولو أنها أفصحت لي عن غايتها لكتبت لها صكاً على نفسي أنني سأظل أشتغل إلى أن يكبر أطفالها!! هي تحبني، لا أشك في ذلك، ولكن هذا لأنني أبذل في إسعادهم قلبي ومستقبلي وسعادتي!!
لقد ضقت ذرعاً بهذه الحياة ولم يبق في قوس الصبر منزع، خلقت أنثى وحرمت ما ينعم به مثيلاتي ويسعدن، واشتغلت كالذكور وحرمت الحرية التي يتمتع بها الذكور!!(71/40)
لذلك عولت عليّ أن أطرح هذه الصفحة الموجزة أمام قراء (الرسالة) وقارئاتها علني أجد بينهم من يرشدني برأي ينقذني من هذه الحيرة.
(. . .)(71/41)
من تراثنا العلمي
فضائل مصر لابن زولاق
وصف وتلخيص لنسخة مخطوطة
للأستاذ علي الطنطاوي
قال مؤرخ مصر الأستاذ عنان في كتابه مصر الإسلامية إن لابن زولاق كتاباً يسمى فضائل مصر، وقد يسمى أخبار مصر، وإن بعض المؤرخين نقلوا عنه وقد رأيت نسخة من هذا الكتاب في المكتبة العربية العامرة في دمشق أطلعني عليها صديقي الأديب الأستاذ أحمد عبيد وهاك وصفها:
مخطوط يقع في (63) من القطع المتوسط، في كل صفحة (25) سطراً، وهو مكتوب بخط قريب من النسخ، وليس فيه ما يدل على تاريخ نسخه، وإنما يوجد في آخره هذه العبارة:
(طالعت هذا الكتاب المسمى بفضايل مصر وصفاتها للشيخ ابن ذولاق الليثي رحمة الله عليه وعلى كاتب هذه الحروف ومالك هذا الكتاب الحاج إبراهيم الشكوري الطرابلسي والمسلمين. تحريراً بأواخر شهر ذي الحجة في سنة 1115 ألف ومائة وخمسة عشر)
أما صفحة العنوان ففيها اسم الكتاب:
(كتاب فضايل مصر وصفاتها لابن ذولاق الليثي رحمه الله آمين) وفيها أسماء الذين ملكوا الكتاب، بعضها ظاهر، وبعضها غير ظاهر، وهي مكتوبة متباينة:
السيد هاشم باكييكج.
الحمد الله. ملكه أفقر الورى أحمد الرشيدي الشافعي الأزهري.
فقير عفو ربه الغني عمر العمري.
الفقير محمد العمري سنة 209.
الفقير محمد سعدي العمري.
وجاء في أول الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين على القوم الكافرين. الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
1 - قال أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن الحسين بن الحسن ابن علي بن خالد - راشد بن(71/42)
عبيد الله سليمان بن ذولاق الليثي:
هذا كتاب جمعت فيه من جملة من أخبار مصر وفضايلها وصفتها، اختصرته من كتابي الكبير في (تاريخ مصر وأخبارها) ولم أذكر في هذا الكتاب إسناد الخبر ليقرب على من أراده، وبالله التوفيق.
فأول ما أبتدئ من ذلك، أن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، ذكر مصر في ثمانية وعشرين وصفاً في القرآن (وعدد الآيات التي فيها ذكر مصر، أو فيها إيماء إليها، وذكر ما قاله العلماء فيها)
2 - باب ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
ستفتح عليكم بعدي مصر، فاستوصوا بقبطها خيراً، فإن لهم ذمة ورحماً. (وسرد كثيراً من الأحاديث التي تدل على فضل مصر وأهلها، ولكنه أوردها مجردة من الأسانيد، ولم يذكر درجتها ومخرجيها).
3 - ذكر دعاء الأنبياء عليهم السلام لمصر.
4 - ذكر وصايا العلماء لمصر ودعاؤهم لها:
قال سعيد بن أبي هلال: اسم مصر في الكتب السالفة أم البلاد. وقال عبد الله بن عمرو: أهل مصر أكرم الأعاجم، وأسمحهم يداً، وأفضلهم عنصراً، وأقربهم رحماً بالعرب عامة، وبقريش خاصة (وذكر مثل ذلك عن آخرين).
5 - ذكر من ولد بمصر من الأنبياء، ومن كان بها منهم.
6 - من كان فيها من الصديقين والصديقات:
(ذكر مؤمن آل فرعون وآسية امرأة فرعون، وأم إسحاق ومريم ابنة عمران، وماشطة بنت فرعون، وأن إبراهيم تسري بهاجر أم إسماعيل، وتزوج يوسف بنت صاحب عين شمس. وذكر مارية القبطية الخ. . . .)
7 - وأن مصر بلد الحكمة والعلم ومنها خرج الحكماء الذين عمروا الدنيا بكلامهم وحكمتهم وتدبيرهم، فمنهم ذو القرنين وهو الإسكندر (وذكر القرية التي هو منها وذكره في القرآن وأنه به سميت الإسكندرية، وأنه بنى إسكندرية أخرى ببلاد الخزر وثالثة ببلاد الروم الخ. .) ومن مصر جماعة الحكماء، هرمس وهو المثلث بالنعمة، نبي وحكيم وملك (وعد فيمن(71/43)
خرج منها طائفة كبيرة من الفلاسفة والحكماء ثم قال) فهؤلاء حكماء الأرض وعلماؤها الذين ورثوا الحكم، من مصر خرجوا، وبها ولدوا الخ، وكانت مصر يسير إليها في الزمن الأول طلبة العلم الخ. وبمصر من العلوم التي عمرت بها الدنيا علم الطب اليوناني الخ. .
8 - ذكر من ملك مصر من الطوفان إلى أن فتحت بالإسلام:
ملك مصر ثلاثة وخمسون ملكاً، أولهم مصر بن نيصر بن حام بن نوح. وآخرهم هرقل الرومي وكسرى الفارسي، منهم أربعة وثلاثون فرعوناً، ممن طغى وتكبر وادعى الآلهية، ومنهم من عمر أربعمائة سنة وأقل وأكثر، ولم يكن أعتى ولا أشد من فرعون موسى، ولم يكن من أولاد الملوك، وإنما أخذ مصر بحيلة (وذكر هذه الحيلة، ثم جاء بأخبار طويلة عنه وعن بختنصر، ولم يسم إلا قليلاً من سائر الفراعين).
9 - ذكر من ملك مصر في الإسلام من الولاة منذ فتحها عمرو بن العاص في سنة عشرين من الهجرة إلى سلخ شعبان سنة اثنين وستين وثلاثمائة (واثني عشر).
أولهم عمرو بن العاص وآخرهم جوهر، منهم أربعة عشر من بني هاشم، وعشرة من قريش، واثنان من الأنصار، وسبعة وثلاثون من سائر العرب، واثنان وأربعون من الموالي، إلى أن دخلها المعز لدين الله أبو تميم - بن إسماعيل المنصور بن محمد القائم ابن عبد المهدي، وصارت مصر دار خلافة بعد أن كانت دار إمارة، وقد عملت في ذلك كتاباً.
10 - ذكر من دخل مصر من الخلفاء قبل المعز (عد فيمن دخل منهم ابن الزبير في الجيش الذي فتح المغرب أيام عثمان، ومعاوية بلغ إلى عين شمس ولم يدخلها، ومروان بن الحكم وابنه عبد الملك وعمر بن عبد العزيز الخ. . .).
11 - ذكر علماء الخراج بمصر، وذكر قضاتها:
ولي بمصر من عمال الخراج منذ فتحها المسلمون إلى سنة اثنين وسبعين وثلاثمائة، واحد وعشرون، منهم من جمع لهم الحرب والخراج، ومنهم من انفرد بالخراج (وعدّ طائفة منهم ثم قال:) وقد شرحت ذكرهم في التاريخ.
وأما قضاتها منذ فتحها إلى سنة اثنين وسبعين وثلاثمائة فهم واحد وستون قاضياً، أولهم قيس بن أبي العاص وآخرهم علي بن النعمان، فمنهم من أقام خمساً وعشرين سنة مثل بكار بن قتيبة، ومنهم من بلغ عشرين سنة أو أقل من ذلك، وأقل من وليها يحيى بن أكثم،(71/44)
ولي ثلاثة أيام والمأمون بمصر، ثم صرفه وسيره معه إلى الثغر.
12 - ذكر من دخل مصر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن توفي بها منهم.
13 - ذكر من كان بمصر من عيون العلماء والرواة وطبقاتهم: يزيد بن أبي حبيب، وعمر بن الحارث، والليث ابن سعد والمفضل بن فضالة، وعبد الله بن وهب، وأشهب بن عبد العزيز الخ. . . وسكن بمصر محمد بن إدريس الشافعي الخ. . وكان بمصر جماعة بعد هؤلاء: أيوب بن سليمان الفارضي، ويوسف بن يحيى البويطي، وأحمد بن صالح، وإسماعيل بن يحيى الُمزَني الخ. . . وكل هؤلاء مُفْتٍ، ومنهم من يفتي في علوم، وقد سارت مؤلفاتهم.
وكان بمصر من المحدثين المسندين: حرملة بن يحيى وعيسى بن حماد ويونس بن عبد الأعلى الخ. . والحسن بن علي بن زولاق جد أبي، وجماعة سوى هؤلاء. . وكان بعد هؤلاء جماعة منهم محمد ابن زمان وإسماعيل بن داود الخ. . .
وكان بمصر من الفراض المؤلفين: أيوب بن سليمان والحسن ابن محمد الخ. . وكان بمصر من عيون حفاظ الحديث محمد بن أحمد بن عبد الحميد الخ. .
وكان بمصر من رواة الحديث والأخبار والفقه: سعيد بن عفير وسعيد بن أبي مريم الخ. . وبعد هؤلاء الحسن بن علي بن زولاق جد أبي، ويحيى بن عثمان الخ. . وبعد هؤلاء علي بن حسن بن قديد الخ. .
وكان بمصر من عيون النحويين عبد الملك بن هشام، ومحمود النحوي الخ. . .
وكان بمصر من عيون الشعراء الخ. . ونصيب وجميل وبها توفي. والأخوص وابن قيس الرقيات وأبو نؤاس الخ. . وجعفر ابن حدار ويوسف بن المغيرة والحسن بن عبد السلام وإسماعيل ابن أبي هاشم ومحمد بن الحسن الخ. .
وكان بمصر من المتكلمين حفص المقري وإسماعيل بن يحيى الخ.
وكان بمصر من النساب هانئ بن المنذر ومحمد بن أحمد الحداد الخ.
وكان بها من الزهاد وأصحاب الوعاظ سليمان بن. . . (وعد جماعة).
14 - ذكر عيون أشراف مصر ومن دخلها من آل أبي طالب وأول من دخل منهم:(71/45)
قال: كانت مصر دار تشيع منذ أيام محمد بن أبي بكر، وهرب من مصر جماعة من شيعته - عند دخول مروان بن الحكم إليها وما صنعه بأصحاب مسجد الأقدام - وكان أهل مصر لا يؤولون في فتاويهم إلا بما يرد جواب جعفر الصادق رضي الله عنه.
وسافر إلى مصر جماعة من العلوية، وكان أول علوي دخل مصر علي بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ودخل يدعو إلى بيعة أبيه وعمه، فسعى به إلى حميد بن قحطبة أمير مصر، فراسله سراً إشفاقاً عليه الخ. . وتوفي علي بن محمد بريف مصر الخ. . ثم دخلها إسحاق بن جعفر بن محمد الخ. . ومعه زوجته نفيسة بنت زيد وتوفيت بمصر فأراد حملها إلى المدينة فسأله أهل مصر دفنها بمصر، واتخذوا قبرها مشهداً وهو باق إلى اليوم معروف. ثم دخلها محمد بن جعفر الخ. . وكلثوم صاحبة القبر المشهور ابنته (وذكر سائر من دخلها منهم وأخبارهم ووفاتهم في فصل طويل).
15 - ذكر من حدّث بمصر من ولد أبي طالب (عدّ أسماء جماعة منهم ثم قال) ولو شرعت في شرحهم لخرج الكتاب عن فنه.
16 - ذكر من عدّل بمصر من العلويين وقبل القضاة شهادتهم.
17 - ذكر من كان بمصر من وجوه العباسيين.
18 - ذكر التشيع بمصر والبيوتات المتشيعة:
قال يزيد بن أبي حبيب فقيه مصر: أقلبت أهل مصر عن التشيع إلا جماعة: يعني بيت بني لهيعة وبني نباته، وكان أهل مصر يكتبون بمسائلهم إلى جعفر الصادق رضي الله عنه ولا يعدلون عن فتياه، ولما قدم عليهم إسحاق بن جعفر حفوا به كالكعبة، ولما توفيت زوجته نفيسة الخ. .
وأما البيوتات المعروفة بمصر بالتشيع المكشوف قديماً فمنها: عبيد الله بن لهيعة وعباس بن لهيعة، وكان الليث بن سعد فقيه مصر لما أحرقت دار عبيد الله بن لهيعة أرسل إليه الليث بألف دينار وقال استعن بهذه واعفنا من فضائل علي بن أبي طالب، فأخذها عبيد الله وأنفذ إليه حديثاً من فضائل علي ليغيظ به الليث!.
ومنها بيت الحَسَنِ بن علي بن زولاق جد أبي. بيت علم ونسك وفقه ورواية، وإنما احتمل له التشيع له لفقهه وإتقانه وتفقهه في الرواية، وكان مقبول الشهادة منذ سنة عشرين(71/46)
ومائتين إلى أن توفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وكان عليه قولاً لا يملي حديثاً أو يبتدئ بفضائل علي رضي الله عنه.
وكان بعده ابنه الحسين جدي، وابن ابنه إبراهيم والدي رحمه الله. ومنهم. . (وعد طائفة منهم).
19 - ذكر من كان بمصر من عيون الفرسان.
20 - ومصر فرضة الدنيا. . وكذلك ساحلها بالقلزم ينقل إلى الحرمين والى جدة والى عمان والى الهند والى الصين وصنعاء وعدن والسند وجزائر البحر.
ومن جهة دمياط والغرما، فرضة بلد الروم وأقاصي الإفرنجة وقبرص وسائر سواحل الشام إلى حدود العراق.
ومن جهة الإسكندرية فرضة أقربطش وصقلية وبلد الروم والمغرب وبلد البربر والحبشة والحجاز واليمن.
وأما ما فيها من ثغور الرباط، فمن ذلك رباط البرلس ورباط رشيد ورباط الإسكندرية ورباط ذات الحمام الخ. . وما ينضاف إلى هذه الثغور وجهاتها الخ.
وكانت برقة وطرابلس من ثغور مصر إلى أن خرجت منها في سنة ثلاثمائة فأضيفت إلى رباط المغرب.
21 - وأما المساجد الشريفة (فعد منها كثيراً ثم قال) وبمصر مساجد الصحابة سوى ما ذكرناه. . . عدتها مائتين ثلاثة وثمانين مسجداً (؟) كانوا يبنونها بالآجر الأحمر ويبنون منازلهم باللبن وأكثرها باق إلى اليوم. منها. . (وعد طائفة منها، ثم قال) هذه مساجد الخطط التي بناها أصحاب رسول الله (ص) سوى ما حدث بعدهم وبعد استقرار الخطط الخ. . وبالقرافة ونواحيها مساجد منها: مسجد الإجابة، ومسجد الكرب، وبها دار الأبرار.
22 - وبمصر من البقاع الشريفة:
(عد ما شاء ثم قال:) ولولا أني اشترطت الاختصاروأن أذكر عيون كل من الأخبار لأطلت كتابي هذا.
للبحث بقية
علي الطنطاوي(71/47)
من الأدب الأندلسي:
3 - التوابع والزوابع
بقلم محمد فهمي عبد اللطيف
رأينا في المقال السابق كيف راح ابن شهيد يتهكم بالأدباء الذين غمطوه فضله حقداً عليه، وحطوا من قدره حسداً له، وقد أبدى ابن شهيد - وهو بسبيل الكلام على أدب هؤلاء الأدباء - كثيراً من الآراء في النقد والبيان هي أهم وأقوى ما اشتملت عليه التوابع والزوابع، بل هي أهم وأقوى ما لابن شهيد من الآثار الأدبية، حتى من شعره على عذوبته، ومن نثره على ملاحته، فنحن بلا خلاف لا نعتقده الناقد الأول بين النقاد الأقدمين في الأدب العربي، ولكنا بلا خلاف لا نعتبره الشاعر الأول، ولا الكاتب الأول. ولما كانت هذه الآراء قد جاءت متناثرة في الرسالة، رأينا من الخير أن نجمع شتاتها وأن ننظمها في سمط واحد، حتى نتبين منها مذهب الرجل في النقد واضحاً جلياً. وإذا كانت هذه الآراء شابها شئ من حقد ابن شهيد وضغنه على معاصريه، إلا أنها آراء صحيحة ثابتة، تزداد على طول الزمن صحة وثبوتاً. وهذه الآراء في مجموعها تنقسم إلى شقين، شق يرجع إلى شخصية الأديب، وآخر يختص بالآثار الأدبية، وإنما نعنى بشخصية الأديب مواهبه العقلية واستعداده الفطري، وسعة معارفه، وهذه ناحية قد أبدع في بحثها ابن شهيد أيما إبداع، وله فيها آراء قوية لن يسبقه إليها ناقد فيما نعلم؛ فقد حاول أن يستخدم العلم والفلسفة في دراسة الشخصيات وتفهم الملكات الأدبية في الشخص، ومقدار استعداده وطبعه، والطبع - عند ابن شهيد - هو أهم ركن في شخصية الأديب، بل هو المرجع الذي يرجع إليه سر البلاغة. فمن كلامه: (إن البيان هبة إلهية لا علاقة لها بالنحو والصرف، واللغة والغريب، وإن الاختلافإلى الأساتيذ، والتوفر على الدرس والبحث في بطون الكتب، كل هذا لا يجدي ولا ينفع إذا لم تكن ثمة فطرة سمحة، ونفس مجلوة وطبيعة مواتية. وقد روي في ذلك أنه التقى في وادي الجن بشيطان أنف الناقة (وهو على علاته زي علم، وزنبيل فهم، وكنف رواية) فأراد ابن شهيد أن يناوشه في اللغة والنحو، وطلب منه أن يطارحه كتاب الخليل وشرح ابن درستويه، فقال الشيطان: أنا أبو البيان، وقد علمنيه المؤدبون، قال ابن شهيد (ليس هو من شأنهم، وإنما هو من تعليم الله حيث يقول: الرحمن علم القرآن. خلق الإنسان(71/49)
علمه البيان) وإنما أنت كمغن وسط، لا يحسن فيطرب، ولا يسئ فيلحى، وليس من شعر يفسر، ولا أرض تكسر، حتى يكون نفسك من نفسك، وقليبك من قلبك، وحتى نتناول الوضيع فترفعه، والرفيع فتضعه، والقبيح فتحسنه).
وقد بحث ابن شهيد في مقدار الطبع وتركيبه في النفوس، وأثره في صور الكلام وتفويق المعاني، وذهب في البحث مذهباً فلسفياً فقال: (مقدار طبع الإنسان إنما يكون على مقدار تركيب نفسه مع جسمه، فمن كانت نفسه مستولية على جسمه من أصل تركيبه، كان مطبوعاً روحانياً يطلع صور الكلام والمعاني في أجمل هيآتها، وأروق لباساتها، ومن كان جسمه مستولياً على نفسه من أصل تركيبه، كان ما يطلع من الصور ناقصاً عن الدرجة الأولى في التمام والكمال) ومن رأي ابن شهيد أن للأعضاء الظاهرة تأثيراً على الملكات الباطنة، فتجده يقول في جماعة من أدباء قرطبة (إنهم يدركون بالطبيعة، ويقصرون بالآلة، وتقصيرهم بالآلة هو من طريق العلل الداخلة من فساد الآلة القابلة الروحانية والخادمة لآلات الفهم، والباعثة لرقيق الدم في الشريان إلى القلب، وزيادة غلظ أعصاب الدماغ ونقصانها عن المقدار الطبيعي ما يعين على ذلك بالحس وطريق الفراسة من فساد الآلات الظاهرة كفرطحة الرأس وتسفيطه، ونتوء القمحدوة، والتواء الشدق، وخزر العين، وغلظ الأنف، وانزواء الأرنبة).
وهذا المذهب قريب الشبه من مذهب النقاد الفرنسيين في القرن التاسع عشر الذين استخدموا القوانين العلمية في النقد الأدبي ودراسة الشخصيات، وهو أشد قرباً من مذهب الناقد المشهور (سانت بوف). فقد كان هذا الباحث يعمل على تطبيق علم التشريح، وعلمي - الفسيولوجيا والبسكولوجيا - على تراجم الشعراء والكتاب، وكان يتعمق في بحث النفسيات، ويهتم بالعرض كما يهتم بالجوهر، ويبحث عن شكل صاحب الترجمة الظاهرة، من الطول أو القصر، والنحول أو البدانة، والقبح أو الجمال، ليستطيع أن يدرك مقدار استعداده ومواهبه، وما عنده من صفاء الروح وقوة الطبع. ولكن ابن شهيد كما ترى له فضل السبق إلى تقرير هذه الآراء، ولقد أصاب ابن شهيد في كل ما قرره، ووفق في شرحه وتعليله، فلا جرم أن الطبع هو سر البلاغة، ومبعث الصفاء وحسن الرونق في صور الكلام، وأن علوم اللغة والنحو والتصريف لا تجدي مع القلوب الغليظة، ولا تخدم(71/50)
في الفطن الحمثة، وإنما يسمو الكلام ويرتفع بقدر سمو طبع قائله، وشرف نفسه وصفاء روحه؛ وليس معنى هذا أن ابن شهيد يطلق الكلام في الحط من قيمة علوم اللغة والغريب، أو ينكر فائدتها في تكوين شخصية الأديب، بل إنه يقر بفضلها ويعترف بفائدتها كعامل مساعد على نمو الطبع وتقوية الروح، إلا أنه يرى أن استعمال الغريب واستخدام النحو مما يحتاج إلى الدقة والبراعة، فليس من الفصاحة أن تخرج العبارة في أي وضع نحوي، أو تجري غريب اللغة على أي وجه كان، ولكن الفصاحة أن تختار أملح النحو وأفصح الغريب، بمعنى أن تكون العبارة على الوضع النحوي الذي يتفق والمعنى البياني، وبمعنى أن تكون الكلمات الغريبة في وضعها اللائق، ومكانها المناسب، فإن بين الألفاظ قرابة يجب أن تراعى في الوضع. وقد جلا ابن شهيد هذه النظرية الدقيقة في حكاية رواها عما كان يقع بينه وبين تلاميذه فقال: (جلس إلي يوماً يوسف الإسرائيلي، وكان أفهم تلميذ مر بي وأنا أوصي رجلاً عزيزاً علي من أهل قرطبة، وأقول له إن للحروف أنساباً وقرابات تبدو في الكلام، فإذا جاوز النسيبُ النسيبَ، ومازج القريبُ القريب، طابت الألفة، وحسنت الصحبة، وإذا ركبت صور الكلام من تلك حسنت المناظر، وطابت المخابر. أفهمت. قال: إي والله، قلت وللعربية إذا طلبت، وللفصاحة إذا التمست، قوانين من الكلام من طلب بها أدرك، ومن نكب عنها قصر. أفهمت؟ قال: نعم، قلت وكما تختار مليح النحو وفصيح الغريب وتهرب من قبيحه، قال: أجل، قلت: أتفهم شيئاً من عيون كلام القائل:
لعمرك أني يوم بانوا فلم أمت ... خفاتاً على آثارهم لصبور
غداة التقينا إذ رميت بنظرة ... ونحن على متن الطريق نسير
ففاضت دموع العين حتى كأنها ... لناظرها غصن يراح مطير
فقال: إي والله، وقعت (خفاتاً) موقعاً لذيذاً، ووضعت (رميت) و (متن الطريق) موضعاً مليحاً، وسرى (غصن يراح مطير) مسرى لطيفاً، فقلت له أرجو أنك تنسمت شيئاً من نسيم الفهم، فأغد علي بشيء تصنعه. وكان ذلك اليهودي ساكتاً يعي ما أقول، فغدا ذلك القرطبي فأنشدني:
حلفت برب مكة والجبال ... لقد وزنت لروسي الحبال
في أبيات تشبهه، وجاء اليهودي فأنشدني:(71/51)
أيمم ركبانهم منعجا ... وقد ضمنوا قلبك الهودجا
واستمر إلى آخر القصيدة فأتى بكل حسن. فقال لي ذلك القرطبي شعر اليهودي أحسن من شعري، قلت: ولا بأس بفهمك إذا عرفت هذا، ولم يزل يتدرب باختلافه إلى حتى ندى تربه، وطلع عشبه، ثم تفتح زهره، وضاع عبقه. .).
والظاهر أن مسألة استعمال الغريب واختيار الألفاظ كانت من المسائل التي شغلت أذهان النقاد في عصر ابن شهيد وقبله، فقد عالج هذه الناحية أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين، وكان من رأيه (أن تخيّر الألفاظ، وإبدال بعضها من بعض من أحسن نعوت الكلام وأزين صفاته، فإن أمكن مع ذلك منظوماً من حروف سهلة المخارج كان أحسن له، وأدعى للقلوب إليه. . . فينبغي أن تجعل كلامك مشتبهاً أوله بآخره، ومطابقاً هاديه لعجزه، ولا تتخالف أطرافه، ولا تتنافر أطراره، فتكون الكلمة منه موضوعة مع أختها، ومقرونة بلفقها، فإن تنافر الألفاظ من أكبر عيوب الكلام) والظاهر أن العسكري قد تابع غيره في هذا الكلام، فقد روي عن أبي أحمد. . أنه قال: (كنت أنا وجماعة من أحداث بغداد ممن يتعاطى الأدب، نختلف إلى مدرك نتعلم منه الشعر. . فقال لنا إذا وضعتم الكلمة بلفقها كنتم شعراء) وقد يطول بنا القول، لو أخذنا نتقصى أقوال النقاد في هذه الناحية، وإنما آثرنا كلام العسكري لأنه في مجموعه قريب الشبه بكلام ابن شهيد، فقد قال بتآخي الكلمات، وتخير الألفاظ، ومراعاة الحروف، وهذا هو معنى قول ابن شهيد: (إن للحروف أنساباً وقرابات تبدو في الكلام، فإذا جاور النسيبُ النسيبَ، ومازج القريب القريب، طابت الألفة، وحسنت الصحبة) إلا أن كلام ابن شهيد أدق وأعم، كما إنه يمتاز بالقول في اختبار الوضع النحوي للكلام مما سمها ملاحة النحو، وهذا ما لا يسبقه إليه أحد من النقاد، فحبذا لو درج الأدباء في أساليبهم من هذه الجهة على النهج الذي أوضحه ابن شهيد فإنهم يخدمون أساليبهم، ويخدمون لغتهم بإحياء كلمات اللغة المهجورة التي تصلح للاستعمال والتداول.
بقيت ناحية في كلام ابن شهيد السابق، وهي قوله بتأثير الأعضاء الظاهرة على الملكات الباطنة، فهذا كلام صادق إلى حد، بمعنى أنه لا يطرد في كل الشخصيات، فليس من الإنصاف أن نتخذه مقياساً للنبوغ، أو قاعدة نبني عليها الحكم على الآثار الأدبية، وليس أدل على هذا من إخفاق ابن شهيد نفسه حينما أراد أن يسوق الشواهد لإثبات هذا الرأي،(71/52)
فقد اضطر أن يفضل سهل بن هرون على الجاحظ، واستباح لنفسه أن يرمي الجاحظ بالغفلة وسقوط الهمة، والنقص في أدوات الكتابة، ثم راح يشرح ويدلل على هذا النقص فقال: (وربما أنكر قولنا في شرط جميع أدوات الكتابة، فقيل: وأي أداة نقصت الجاحظ؟ فنقول: أول أدوات الكتابة العقل، ولا يكون كاتب غير عاقل، وقد نجد عالماً غير عاقل وجدلياً غير حصيف، وفقيهاً غير حليم، وقد وجدنا من ينسب العقل إلى سهل أكثر ممن ينسبه إلى الجاحظ. . . ولو شاهد الجاحظ سهلاً يخادع الرشيد ملكاً ويدبر له حرباً، ويعاني له إطفاء جمرة فتنة، ناهضاً في ذلك كله بعقله وتجربة علمه، لرأى أن تلك السياسة غير تسطير المقال، في صفة غراميل البغال، وغير الكلام في الجرذان، وبنات وردان، ولعلم أن بين المعلم والكاتب فرقاً).
وهذا كلام قد تعثر ابن شهيد في إيراده، فلا تجده ينهض من جهة إلا ليسقط من جهة أخرى، فالجاحظ أكتب كتاب العربية غير مدافع، وابن شهيد يقول إنه لا يوجد كاتب غير عاقل، فكيف إذن يرميه بالغفلة وقلة العقل، وكيف يقدم عليه سهلاً لبراعته في مخادعة الرشيد، وسياسة الأمور، وهذه ناحية لا تقتضي من العقل أكثر مما يقتضيه القول في صفة غراميل البغال، وبنات وردان؛ فإن براعة الكاتب إنما تظهر فيما تفه من الأمور. وهيهات أن تخرج العربية خدناً للجاحظ في هذه الناحية. . .
(للبحث بقية)
محمد فهمي عبد اللطيف(71/53)
من شعر الشباب
من القلب
(مهداة إلى صاحب الملاح التائه)
قلبيَ الخفّاق أضْنَاهُ الحنينْ ... وَبَرَتْه الذكريات القاتلَهْ
وهو في ذكراه مُلْتَاعٌ حَزِينْ ... يَتَعَزَّى بالأماني الخاتلهْ
ضَجَّ في أنحائه الحبُّ الحَبِيسْ ... وسرى في الكُرَةَ الكبرى صَدَاهْ
إنْ هَفَتْ للحبِّ أطماح النفوسْ ... (فالحياة الحب والحب الحياه)
يا حبيبي هزّني الشوق إليكْ ... هزّةَ الغصنِ بيومٍ عاصفِ
أنا أجْنَى منكَ يا روحي عليك ... شَدَّ ما أشقى بحبي الجارفِ
ذاك روحي ماثلٌ بين يديكْ ... فاشف جُرحاً من جِرَاحات الهوى
أنا روح ذائبٌ بين راحتيكْ ... ذاب شوقاً من تباريح الجَوَى
يا حبيبي أنا في الدنيا خيالْ ... أتراءى كالشعاع الشاحبِ
مُسْتَطار بين خَبْوٍ واشتعالْ ... أتعزّى بالخيال الكاذبِ
أنا من دنيا المُنَى مبتئسُ ... لا أرى في الكون نُعْمَى أرتجيها
هل جَنَى الأقوام ما قد غرسوا؟ ... إنها دنيا تُسَجِّي عاشقيها!!
يا عزاء النفس، يا لحن الأسى ... يا دموع القلب: يا شعري تَدَفَّقْ
لحنُكَ الباكي بأنَّاتي ائْتَسَي ... فأذِبْ قلبي وبالروح ترفَّقْ
يا مَرَاح الحب يا مهد الغرامِ ... يا هَتُون الدمع: يا قلبي الجرحْ
هذه الدنيا كأطياف المنامِ ... لَفَظَتْ (موسى) وضاقت (بالمسيحْ)
في سكون الليل تَبْدُو غرفتي ... كشراعٍ رَفَّ في اللُّجِّ البعيدْ
مَلّ طيف الحُب فيها وحدَتي ... فشدا يُسمعني لحنَ الخلودْ
أنا فيها ساهم مُنْفَرِدُ ... أسْتَشِفُّ الكون من عليائها
أنا في روض غرامي غَرِدُ ... أتلقّى الوحي من أرجائها
عجباً للناس، ساَمُوني العذابا ... وأَرَادُوني على ما لم أَطقْ
كيف اختار (الثعابين) صحابا ... أَوَليس الغدر في الناس خُلُقْ؟!(71/54)
مَنْ له روحُ كروح الشاعر ... فَنِيَتْ في خدمة الناس جميعاً
إن همُ أَنُّوا لِظُلْمٍ جائرِ ... صَهَرَ القلبَ وأَذْرَاهُ دُمُوعاً
مَنْ رأى الشاعر يُعْنَى بشئونهْ ... من رآهُ مُطْرِقاً في أمْرِهِ؟؟
إنما الشاعر آسٍ - في سكونهْ ... لجراحاتِ الورى في شعرِهِ
إسكندرية
عبد الرحمن عثمان علي(71/55)
حب الشكور
إِنْ لمْ أَحُبَّكِ لِلسَّنَا وَالنُّورِ ... ولحُسْنِ وجهٍ في الحياةِ نَضِيرِ
وَلِسِحْرِ رُوحِكِ حينَ يختلسُ النُّهى ... مِنِّي فأتْبَعُهُ إتِّبَاعَ سَحِير
وَلِمَا تَضَمَّنَتِ الْجَمَالَ فَأَفْصَحَتْ ... بِكِ مِنْهُ ساحرةٌ منَ التَّعْبيرِ
وَلِمَا ابتدعْتِ وما مَنَحْتِ منَ الهَوَى ... للكوْنِ، أو أحْيَيْتِ مِنْ مَقْبُورِ
إنْ لمْ أَحُبَّكِ حُبَّ مفتونِ، ولاَ ... حُبَّ الأَسِيرِ، إذنْ فحبَّ شكورِ!
حُبَّ الَّذِي أحْيَيْتِ فيهِ حياتَهُ ... مِمَّا لَدَيْكِ مِنَ الحَيَا المَذْخُورِ
ووهبْتِهِ مِلْكَ الحياةِ، وطالما ... قَدْ عاشَهَا كالعاملِ المأجورِ
ومنحتِهِ ماضِيهِ بَعْدَ ضَياعِهِ ... وأعَذْتِ قَابِلَهُ منَ المَحْظُورِ
حُبَّ الَّذِي أَشْرَقْتِ في وِجدانه ... فجلوتِ كلَّ مُحجَّبِ مستورِ
وَنَفَخْتِ في عَزَمَاتِهِ فتوَهَّجَتْ ... وَسَمَتْ لكلِّ مُمَنَّعٍ وخطيرِ
أوْ فلأُحبَّكِ حبَّ من ألهمتِهِ ... شعراً، يضئ سناهُ كلَّ شعورِ
شعراً جمعتُ من الحياةِ زهورَهُ ... ومنَ الجمالِ نفحتُه بعبيرِ
ومِنَ الضياءِ وهبتُهُ آمالَهُ ... ومِنَ النَّدَى عِلماً كوجْهِ غرِيرِ!
وبعثتُهُ وحْيَ الحياةِ وَفَنَّهَا ... تجلوه ضمنَ جمالِها المأثور
أفَلاَ أحبكِ؟ إنهُ لفريضةٌ ... حبُّ الشَّكُورِ لواهبٍ مَشْكُورِ
سيد قطب(71/56)
عاصفة في قلب
عَييتُ بالقَلْبِ واسْتَنْكَرْتُ أَحْلامي ... وَنُوءتُ بالعُمْرِ واسْتَثْقَلْتُ أيَّامي
حَطَّمْتُها أَمْسِ آمالاً مُذَهَّبَةً ... كانَتْ تُهَدْهِدُ أَحْزاني وأسْقامي
حطَّمْتُها وهي في شَرْخِ الصّبا مَللاً ... ما لِلْمُنَى وفُؤَادي الموجَعِ الدامي
ما لي وَلِلْحُلُمِ الرفَّافِ يُسْعِدُني ... في عالَم مائج بِالشرِّ ظَلاَّم
ما قيمةُ العَيْشِ لا تَلْقَى بِساحَتِهِ ... من المُنى غيرَ أشباحٍ وَأَوْهامِ؟!
كَفَرْتُ بالحُلْمِ ما هامَ الغُفاةُ به ... فَلَسْتُ في هَذِهِ الدُنيا بِنَوَّامِ
أَأَقْطَعُ العُمْرَ كيْ أَحْظَى بِلَذَّتِهِ ... وهمانَ تِرْبَ خيالاتٍ وأَحْلاَمِ
لَدَمْعَةٌ وأنا مُسْتَيْقِظٌ أَرِقٌ ... أَحَبُّ مِنْ حُلُمٍ كالزَّهرِ بَسَّامِ
أَصْبَحْتُ بعدَ الرُّؤى في مَهْمَهٍ حَلِكٍ ... من الحقائقِ داجٍ جِدّ مِظْلاَمِ
حيرانَ أَخْبِطُ كالمجنونِ مُرْتَقِباً ... نوراً يَفِيضُ فَيَمْحُو كلّ إظْلاَمِ
أسيرُ والدُّجْيَةُ النَّكْرَاء غاشِيَةٌ ... تزدادُ ما زِدْتُ في سَيْرِي وإقْدَامي
حتى رَجعتُ - وقد أَخْفَقْتُ في طَلَبي - ... مِنَ الشُّكوكِ بِبَحْرٍ مُزْبِدٍ طامِ
هي الحقيقةُ ما تَدْنو مَوَدَّتها ... ولو وَقَفْتُ عَلَيْها كلَّ أَعْوامي
وأنتَ يا خافِقاً في كَهْفِهِ صَخِباً ... حَتَّامَ تُمْعِنُ في شَجْوِي وإِيلامي
أَأَنْتَ مَعْبَدُ شَكٍ لاَ ثَنى قَلِقاً ... أمْ أَنْتَ يا خافِقي نَاقُوسُ آلام
هذي الحَقائقُ تَنأَى عَنك هارِبَةً ... وَأَنْتَ ما زِلْتَ في شَوْقٍ وتَهْيَام
تَفَرَّقَ الناسُ فِيها كلَّ ناحِيَةٍ ... فكَم ترى مِنْ (مَعَرِّيٍ) و (خَيَّامِ)
مِنْ عَهْدِ (سُقْرَاطَ) لمْ تَبْرَحْ مُحَجَّبَةً ... طخياء، شتّانَ بَيْنَ النُّسْكِ والجامِ
ما رَوْضَةٌ بَرَزَتْ لِلْعيْنِ سَافِرَةً ... إِذْ جَادَها سَحَراً دَمْعُ النَّدى الهامي
تَهيجُ في الصبِّ نارَ الُحبِّ خابيةً ... وتملأ النَّفْسَ مِنْ وَحْيٍ وَإِلهامِ
ترى الطيورَ على الأَفْنانِ حالِمَةً ... سَكْرَى تَلَهَّى بأَلْحَانٍ وَأَنْغامِ
وَالنَّحْلُ يَرْقُصُ حَوْلَ الزَّهرِ مُنْتَشِياً ... صَبَّاً وَلُوعاً بِتَقْبِيلٍ وَتَضْمَامِ
هَبَّتْ على بِشْرِهَا هَوْجَاءُ عاصِفَةٌ ... فَخَيَّمَ البُؤس فيها بعدَ إِنْعامِ
لا طائرٌ ناغِمٌ في الرَّوضِ مُرْتَنحٌ ... فَوْقَ الغصونِ ولا نحْلٌ بِحَوَّامِ
كالقَلْبِ هَبَّتْ رِيَاحُ الشَّكِّ تَلْفَحُهُ ... فَقَطَّعَ العُمْرَ في عَزْمٍ وإحْجَامِ(71/57)
أهكذَا الكَوْنُ أحْلامٌ مُلَفَّقَةٌ ... قَرَّتْ حَقائِقُها في صَدْرِ كَتَّامِ
تلقى أخا اللُّبِّ في بَيْدَائِهِ دَهِشاً ... حيرانَ يُدْلجُ في رَيْبٍ وَإبْهامِ
دمشق
أمجد الطرابلسي(71/58)
كما أراك
يا شُعلةً مِنْ جُنُونِ ... وَصُورَةً لِلْمُجُونِ
وَهَيْكلاً لِلأَمَانِي ... وَمَعْبَداً لِلْفُتُونِ
قَدَّسْتُ فِيكِ شُعَاعاً ... يَرِفُّ فَوْقَ الجَبِينِ
مُنَغَّماً سَرْمَدِيّاً ... سَكَبْتِهِ في حَنِينِ
تَلألأَ الكَوْنُ مِنْهُ ... وَشَامَهُ النَّاسُ دُوني
وَتِلْكَ كأسُ الأَمَانِي ... أَتْرَعْتُها مِنْ شُجُونِي
وَأَنْتِ نَبْعُ قَرِيضِي ... وَفِتْنَةٌ لِعُيُونِي
وَصُورَةٌ فِي خَيَالِي ... وبَارِقٌ فِي دُجُونِي
وَلَمْحَةٌ مِنْ ضِيَاءٍ ... مَسْكُوبَةٌ بجُفُونِي
وَخَطْرَةٌ بِضَمِيرِي ... وَنَغْمَةٌ فِي سُكُونِي
عَبَدْتُهَا فِي عُلاَهَا ... وَإِنْ شَجَانِي حَنِينِي
وَأَنْتِ وحْيٌ خفوقٌ ... بَدَا بِأُفُقِ الفُنُونِ
في هَيكلِ الحُبِّ شِعْرِي ... وَقَّعْتُهُ مِنْ أَنِينِي
يا شُعلةً مِنْ جُنُونٍ ... وَصُورَةٌ لِلْمُجُونِ
حسن محمد محمود(71/59)
في الأدب الإنجليزي
شارلس مورجان ومناحي التطور في القصة الحديثة
بقلم محمد أمين حسونه
- 1 -
إن ظهور رواية شارلس مورجان (صورة في مرآة) ونفاد طبعتها في بضعة أيام، من شأنه أن يوجه أنظارنا إلى كاتب قصصي برز فجأة بين المؤلفين العصريين، وامتاز بعبقرية فذة تجلت في سطور هذه الرواية كما تجلت في روايته الأخرى (النافورة) التي هتف لها النقدة ورفعوها إلى الصف الأول بين الروايات التي ظهرت عقب الحرب الكبرى.
فبينما يحدثنا المؤلف عن هذا النوع الجديد من التصوف (حياة التأمل - الذي يحيط بفصول روايته كهالة من القداسة، ويحلق بنا في الأجواء التي تخلد فيها أرواح وآرسطو وأفلاطون وديكارت، إذ نراه في فصل آخر ينزل بنا إلى التحدث عن علاقة الأجساد بالشهوة، أي يعود بنا آدميين تحكمنا غريزة الجنس وتطغى على ميولنا وعواطفنا، فيصف في صراحة مخيفة التبشير باللذة الجنسية وأثرها في العلاقات الجنسية وصفاً هو أشد وقعاً من الفن الذي ابتدعه الروائي الإباحي د. هـ. لورانس.
كان القصصيون إلى العصر الفكتوري يهتمون كثيراً بصنع قوالب لشخصيات شاذة ثم يصبون ماء الحياة فيها ويحملون القارئ على أن تعلق هذه الشخصيات بذاكرته، وكثيراً ما كانوا يملئون صفحات مملة باردة يصفون فيها نشأة أبطالهم وعوائدهم وطباعهم ونظرتهم إلى الحياة والدين والأخلاق، ثم تنتهي الرواية بترجيح كفة الخير على الشر. وكان اهتمام الروائيين في عصر الملك إدوارد موجهاً إلى تسجيل الحركات والدوافع والفضائل، وكانوا يلقنون البطل أقوالاً يعرب بها عن عقائدهم وأفكارهم ونزعاتهم ودروساً وعظات أخلاقية، أما الفن الروائي الحديث فيختلف عن هذا كله وينحو منحى جديداً، فقد جعل كتابه من أهم مظاهره تقريب الحياة إلى ذهن القارئ بأن يشعر كأنه يعيش في نفس البيئة والجو، كما يهتمون بتسجيل حركات شخصيات رواياتهم وخواطرهم ومشاعرهم والخفية ورسم أطياف أحلامهم وذرات تفكيرهم وارتباطها بنشاط العقل وإبراز العبقريات المدفونة وتقديسها،(71/60)
فالرواية الحديثة حوض بلوري تسبح فيه الرغبات والآمال، والأفراح والأتراح، وتشف من جوانبه الهواجس والأحلام. . . .
ونحن نشعر لأول وهلة بعد مطالعتنا لقصص شارلس مورجان بهذه الصفات جميعاً، وبقوة جذابة في الأسلوب وفي اللهجة، قوة هادئة منظمة تسيطر على الأعصاب وتبدو من خلالها صفات المؤلف التي لا تمت مطلقاً لا إلى الواقعية ولا إلى التحليلية، بل إلى تجارب ثمينة وإرادة حديدية وفن إبداعي لم يسبقه إليه أحد.
بدأ شارلس مورجان حياته في البحرية الإنجليزية وعمره سبعة عشر عاماً فطاف ببلاد وموان مختلفة، وقد تولد ميله إلى الأدب بتأثير حادث خفي. ولما زار أكسفورد للمرة الأولى راقته حياة الطلبة ودفعته رغبته في إتمام تعليمه وتعلقه وشغفه بالأدب إلى أن يؤثر الالتحاق بالجامعة على الاندماج إلى الأبد في سلك البحرية. غير أن شبوب الحرب العالمية حال دون أن يحقق رغبته فاضطر أن يعود ثانية إلى العسكرية واشترك في الدفاع عن أنفرس إلى أن سقطت في يد الألمان فوقع في الأسر وأرسل إلى إحدى المعتقلات العسكرية في هولندا ثم أفرج عنه عقب الهدنة وعاد إلى إنجلترا ليلتحق ثانية بجامعة أكسفورد.
كانت أول أعماله الأدبية روايته الأولى (غرفة البنادق) في عام 1919 وقد تحدث فيها طويلاً عن حياة البحرية، غير أنها قوبلت من جانب الصحف والنقدة بقلة الاكتراث لعدم ذيوع اسم مؤلفها، وفي عام 1925 أصدر روايته الثانية (اسمي لا عَدّ له) فكان نصيبها نصيب روايته الأولى.
أحس مورجان بدبيب الفشل يتطرق إلى نفسه، وانصرف إلى الوحدة والمطالعة وخاصة في كتب الفلسفة والتصوف، وفي عام 1932 ظهر في الجو الأدبي للمرة الثانية بروايتين: الأولى (صورة في مرآة)، والثانية (النافورة) يصفهما كلير اليان انجيل الناقد الفرنسي: (بأنهما ثمرة مجهود طويل دقيق، أشرفت عليه إرادة جبارة تدل على نضوج في الرأي وقوة في التفكير) ويقول عنه محرر (النوفيل ليترير) في معرض نقده لفن شارلس مورجان: (بأن أهم مميزات عبقريته تحفظه في التعبير، ولا يمكن مطلقاً اتهامه بالبرود والجفاء لأن الانفعالات المكبوتة قد لا تخلو من الإحساس، ولهذا فأشخاص قصصه يشعرون ويتألمون ولكنهم يتهامسون دون رفع أصواتهم).(71/61)
يمتاز أسلوب مورجان بفصاحة في التعبير، وربما كانت روايته (النافورة) مشوبة بشيء من الإسهاب في الوصف، ويمكن أن يقال أيضاً بأن الوضع في روايته الأخرى (صورة في مرآة) غير متناسق في مجموعه، غير أن بعض نكات المؤلف الطريفة تعطينا شيئاً من الطلاقة إلى جانب عبوس الموضوع. وقد جاءنا المؤلف بأشباح هم أبسط تكويناً من أبطاله، يعيشون فوق سطح الموضوع لا في قاعه؛ مثال هذا: وصفه في القسم الأول من (النافورة) حياة الضباط الإنجليز في المعتقلات الهولندية، والآنسة فولاتون العانس في رواية (صورة في مرآة) وجعلها تلقي الكلام على عواهنه في شئ من المزاح الخطر. ومع ذلك فالمعاني التي يأتي بها المؤلف ترتكز على تلك الصراحة التي يصور بها نفسية أبطاله، وهو لا يكاد يشرح مسألة هامة حتى يترك المجال رحباً لاثنين أو ثلاثة من أبطاله، فيختفي وراء شخصياتهم ليلقنهم آراءه وأفكاره.
في رواية (صورة في مرآة) يصف لنا حياة رسام شاب يدعى نيجل فرويز يقابل مصادفة صديقة له كان يحبها منذ سنوات، فحين يلتقي بها بعد هذه الغيبة الطويلة ينبعث الماضي من قلبه فجأة كعالم كان يجهله. حاول أن يهبها حبة فأخفق، لأن صورتها الأولى التي كان يهيم بعبادتها قد تغيرت بمرور الزمن، وكانت أيضاً على وشك أن تتزوج من غيره، فتترك عريسها وتتعلق بالرسام الشاب وتمنحه قوة حبها السابق، على حين أنه يشفق عليها فقط لأنه يعطف على ذكرى الماضي ويقدسه.
وتعتبر روايته الثانية (النافورة) رداً على هذه النظرية، فموضوعها هو التفاهم الفكري بين رجل وامرأة، والتفاهم الروحي بين رجل ورجل هما في القصة أخصام، ولكن الخصب الفكري والتوافق في ذلك الأفق العالي من الثقافة يمحو الخصومة ويسمو بهما إلى مراتب الآلهة.
بطلها لويس اليسون شاب لا يزال في مقتبل العمر، ولكن لفرط تعمقه في الفلسفة والتفكير يبدو أكبر سناً من حقيقته. وعندما يتكلم بروية يضطر غيره إلى الإصغاء؛ هو مغرم بالتاريخ لا يدرسه لنفسه ولكن للفلسفة في التاريخ، يدرس تطور العقل الإنساني المشترك في العصور المتعاقبة ويتابع ناحية جلية منه، وهي أن هناك عقلاً واحداً من أقدم عصور التاريخ إلى اليوم، وسواء أكان هذا العقل عقل أفلاطون أو ديكارت أو نيوتن فإنه العقل(71/62)
الإنساني يحاول أن يخترق الحجب وأن يمزق قناع الغيب.
فشارلس مورجان يطبق النظرية الفلسفية الحديثة القائمة على توحيد العقل الإنساني ويطبق أثر تصوفه في أخلاق أفراد قصته، فيقول على لسان أحدهم حين يتلو صلاته في تقوى وخشوع: (عندما كنت طفلاً أخذ الله بيدي، ولما كبرت هربت منه، وعندما احتجت إلى الراحة والسلام بحثت عنه وطفت المدينة بمصباح، ثم غمرتني المذلة وانحنيت إلى الأرض أبحث عنه في الأوكار وتحت صفحات الأزهار، ولكن لم أجد سلاماً ولا راحة، وصرت كطفل أو كعالم كبير ضل طريقه فلم أعد أعلم عمن أبحث، فرميت مصباحي ومفاتيحي وبكيت، ورأيت فجأة نوره يملأ قلبي، وعدت إلى المدينة فإذا النور لا يزال حيث هو، وإذا بي أمرح في سجن نفسي بينما الدنيا تتابع الطرق على بابي، ربي أعطني يدك عندما تدعوني إليك).
- 2 -
نراه يصف الأسرى في المعتقلات الهولندية فيسهب في تسجيل حركاتهم وخواطرهم، عندما يتألم الطيار الذي اعتاد الجو فلا يستطيع الصبر على الأسر، يقول للويس اليسون المفكر الغارق في فلسفته: أتعلم أني حين أطير أصل إلى لحظات ينكشف لي فيها الغيب وأرى ما لا تراه العيون كما ترى أنت بالطبع حين تخلو إلى نفسك والى أفكارك، ثم أعود إلى الأرض. . . أعود آدمياً مع الأسف كما تعود أنت بعد خلوتك لتختلط بنا وتتكلم معنا.
وعندما يتقابل لويس اليسون مع جولي ناروتز - وهي سيدة شابة إنجليزية متزوجة من ألماني لا تحبه - يعرف أنها كانت تلميذته القديمة وهو في لندن فتأخذ الذكريات تتفتح في قلبه شيئاً فشيئاً كما تتفتح الزهرة في أشعة الشمس وتحاوره قائلة:
- أستاذي. . . كيف تراني الآن؟ هل تغيرت؟
فيجيبها وهو شارد في تأملاته:
- معاذ الله. . لقد صرت كشبح جميل قام من هذه البحيرة.
فتلذعه بقولها:
- إذاً وداعاً للحم والدم!
تتحول صداقة لويس وجولي إلى حب، هو في نظرهما وسيلة للبحث عن توازن يتغلب(71/63)
على تقلبات الدهر، أو كما يصفه المؤلف نفسه: (عندما يتم امتزاج الرجل بالمرأة وهما في أشد أدوار النشوة ويحاولان أن يعبرا جسر الجسد إلى وحدة الروح، فإنهما لا بد واصلان إلى سخرية ما بعدها سخرية، ومهما أحاطا الحب من خيال وحرارة وإيمان وابتغاء الخلود بالذرية، فإن الإحساس الجسدي يظل كما هو، جسمان منفصلان كطائرين يحاولان التلاقي خلال (لوح) من زجاج!).
والخلاصةأن بطلي هذين النزاعيين النفسيين متشابهان كل التشابه، ينجل فريوز في السابعة عشرة من عمره، ولويس اليسون في الثلاثين، ولكن كليهما يبدو أكبر سناً من حقيقته، فنضجت في الحياة تجاربهما. وصورة الرسام الفنان تتشابه تماماً وصورة الضابط الشاب، فإنهما يمتازان بعمق الإرادة وانحصار قوة التفكير المحاط بتكتم يخضع المحيط بهما، ولوعة الذكرى التي تعذب ينجل وشعوره بالألم من مجرد مرور طيف كلير بمخيلته، وهو نفسه شعور اليسون عندما يلتقي بتلميذته جولي ويحبها. وقد يمتاز اليسون عن زميله بأنه رجل كثير التفكير، يسبح في آفاق عالية، فعندما يؤخذ إلى الأسر يفرح كالطفل ويقول، بأنه سوف يخلو إلى مطالعاته وتأملاته.
فحياة التأمل ما هي في نظره إلا التاج لآمال الرجال الذين فجعوا وهم في زهرة العمر.
أما كلير وجولي فإنهما تختلفان نوعاً، فبطلة (صورة في مرآة) بطيئة في فهم جموح عاطفة الطفل المعجب بها والذي يحبها حباً نادر المثال. لذا نراها مبتعدة عنه بل تكاد تكون سلبية، على حين أن جولي ضحية تنازع لعوامل مرتبكة، وهي لذلك كثيرة الاضطراب مبلبلة الفكر، وقد تجنب المؤلف أن يثير بشأنها مسألة الجنسيات، فهي إنجليزية ولكنها متزوجة من ألماني يدعى فون ناروتز، وشخصية هذا الضابط غريبة حقاً في الرواية، فالمؤلف يظهره أمامنا وقد عاد من الحرب مشوهاً مريضاً بالربو، يقاسي نوبات حادة من الألم، يقول عنه (إنه ترك مرتبة التفكير وصعد إلى أعلى من هذا واستقر، فها هو يعود إلى داره بآلامه التي لا تطاق، فيحاول أن يصبر كإله جبار).
ولكن البارون - رب القصر - وهو رجل موفور الصحة، لا يكتم رأيه العملي حيال فون ناروتز فيقول: (إن العالم كمزرعة لا يجب أن يتسامح المرء في الضعيف فها وإلا قل الإنتاج وحل الخراب، فالضعيف المريض يجب أن يمحى).(71/64)
يسمع ناروتز منه هذا ويحاول أن يصبر على الألم ولا يشكو فيقول في إحدى محادثاته: حقاً إن الرجل القوي يتحكم لدرجة ما في الموت والحياة.
وهو قد جاء إلى القصر بآلامه وانتصر على الموت لأنه يحب زوجته جولي حباً عميقاً خالصاً ولأجلها يريد أن يعيش.
ولكنه يعلم بعد هذا أن العلاقة التي تربطه بزوجته أصبحت علاقة المريض بالممرض فهي تخونه مع لويس لأنها محرومة منه، ولو طالبها بالوفاء له وهي شابة ناضجة الأنوثة ملتهبة العاطفة لكان هذا فوق طاقة البشر، فيقذف بنفسه في غمرة من المثل الأعلى اليائس، وأخيراً يصل إلى حالة انفصال تام عن الحياة وحالة هدوء واستسلام وتجلد أمام الآلام ويأخذ الجبار في الموت فلا يلبث قليلاً حتى تختفي شخصيته.
وقد قصد المؤلف بإظهاره أن يطلعنا على صورة من صور النساك الحديثين الذين يعتبرون أن الحرب ما هي إلا تكفير ديني لخطايا البشرية، ولو كانت شخصية فون ناروتز غير هذا من الخلق لأصبح الموضوع تافهاً، ولكن إظهاره بهذه الصورة يدل تماماً على طريقة رسم المؤلف لشخصياته.
جميع أبطال شارلس مورجان مثقفون لا يعيشون إلا بأرواحهم، وبالرغم من تحليله النفسي الدقيق فإن لا يسرف مطلقاً في وصف (تيار الضمير) كما هو الحال في أكثر المؤلفات الإنجليزية الحديثة.
فأشخاص مورجان يحكمون عقولهم ويدرس بعضهم أخلاق بعض، وهم ذوو إرادة قوية، ولا يمكن للغريزة أن تحكمهم حتى في أعمالهم، يسلكون طريقهم الطبيعي، ويقفون أحياناً يائسين بعد تردد، وهم لا يعملون عملاً متفقاً عليه ولا يتحركون كالآلة، بل تبدو من خلال شخصياتهم الإرادة القوية والشعور باحترام أنفسهم، وبرغم الحوادث والكوارث التي تنتابهم تراهم محتفظين بنزاهتهم الأدبية وباستقلالهم في الرأي والحكم.
فشارلس مورجان يعد أيضاً من هذه الناحية من المؤلفين الإرشاديين، وهو يوجه قراءه إلى مثل عال واضح محدود. وفي الوقت الذي يتلمس في التأليف الروائي الإنجليزي سبلاً للوصول إلى نوع جديد، نرى مورجان يسلك طريقاً مبتكراً، وهو يشبه في فنه (برنسيس دي كليف) وغيرها من القصص التي يجمع أبطالها بين الشهوة والاتزان فيفخرون بتحمل(71/65)
آلامهم باحثين عن الراحة في شعورهم بالإخلاص للمثل الأعلى.
وخير ما أختم به هذه الدراسة المقتضبة أن أردد ما قاله الناقد الروائي لملحق التيمس الأدبي:
(إن الذي تطربهم الشهرة والذين يعترفون بقوة الإلهام ويقدرون أيضاً نعمة إظهار الأخلاق على حقيقتها وتحديد العواطف البشرية ورسمها، والذين يميلون بفطرتهم إلى آداب النثر الفني الإنجليزي وعظمته يستطيعون أن يجدوا كما وجدنا هذه الآثار الرائعة في روايات شارلس مورجان).
محمد أمين حسونه(71/66)
العلوم
6 - بحث في أصل الإنسان
بقلم نعيم علي راغب دبلوم عال في الجغرافية
من تلك الفكوك المتحجرة التي وجدناها عرفنا أنه قد عاش في الغابات الاستوائية في أوائل عصر البليوسين نوع من القردة الكبيرة، وأنه قد كان لنوع من أنواع الغوريلا أو الشمبانزي أو أورانج يورنيو وسومطره كبير الحجم يمت إلى الإنسان بالشبه من وجوه مختلفة. وأننا نعرف أن أصناف القردة التي تسمى والتي يمثلها قرد الأورانج والسيامي كانت موجودة، وأنه كانت هناك كذلك أنواع أخرى تختلف كثيراً عما نراه في نظيراتها اليوم، إلا أنها كانت من أصل واحد. ولذلك فإن من الممكن القول أن ذلك النوع الذي تفرع وتطور من الإنسان كان موجوداً في أوائل عصر البليوسين.
ونحن إذ تقدمنا في بحثنا إلى عصر الميوسين فإنه لا يمكننا أن نجد فيه أي أثر إنساني. وليس في استطاعة من يعرف أن بحثنا لم يكن إلا قصير المدى ولمدة وجيزة وأن هناك معلومات قيمة جيولوجية لم يكشف عنها بعد، إلا أن يقول إن الإنسان لم يوجد في عصر الميوسين بشكله الذي نعرفه به. وليس هناك أي شك في أن أواخر ووسط عصر الميوسين كانت فترة تطور كبيرة مدهشة في عالم القردة، دليلنا على ذلك ما قد كشف بين ثنايا طبقات ذلك العصر من متحجرات وبقايا مما لا يقل عن عشرة أنواع من أنواع القردة الكبيرة التي فاق حجمها حجم الإنسان. وكانوا عمالقة إذا ما قورنوا بما قد سبقهم من الأنواع الكبيرة. ولما كان الإنسان عملاقاً أولياً بالنسبة لباقي المخلوقات وكانت هذه الحيوانات وأحجامها أمام فكرنا، فإنه لا يسع الإنسان إلا أن يشك في أن الإنسان قد تفرع في ذلك الوقت عن فرع منها.
أما معلوماتنا عن القردة فقد بنيناها على ما قد وجدناه من بقايا فكوكها وحطام أسنانها. يقول عنها بعض العلماء أنها بقايا نوع من القردة الكبيرة كان متجهاً نحو التطور الإنساني، ولكن لا يمكننا الحكم بذلك من مجرد بقايا لفك أو بضع أسنان، لأنه قد سبق لنا أن مظهر الفك وشكله لا يدلان على نوع صاحبه كما عرفنا في إنسان البلتدون. ولكن البرهان الحقيقي الذي يمكننا أن ننتزع منه الحقائق الثابتة هو الجمجمة وعظمة الفخذ والقدم، وهذا ما لم(71/67)
يوفق إليه أحد حتى الآن.
لكننا مع ذلك يمكننا القول حدساً بأن قردة الميوسين برغم اختلافها في الشكل والتكوين عن نظيراتها في العصر الحالي لا تختلف عنها في شئ آخر، وقد وجدت آثار لصغار القردة التي يمثلها نوع الجيبون وتمتاز أسنانها بصغرها، مختلفة في ذلك عن باقي الحيوانات التي كانت منتشرة في غابات الملايو. وإننا لا نشك لحظة في القول بأنه إذا كان هناك عالم حيواني قد نزل الأرض من كوكب آخر منذ 700 ألف سنة لوجد كل الأجناس موجودة بها ما عدا الإنسان، وهذا معناه أن الإنسان كما نعرفه الآن لم يوجد قبل تلك الفترة، ولكن هل كان الإنسان الأول موجوداً في ذلك الوقت؟ أو هل كان أصل الإنسان الذي تفرع عنه موجوداً في ذلك الوقت؟. . لا يسعنا إذا نظرنا إلى كمال جسم الإنسان وتمامه قبل نهاية عصر البليوسين إلا أن نقول أن الإنسان في تطوره أو تفرعه عن شجرة الأجناس (كما سنطلق عليها الآن) قد بعد أن يكون قرداً أو عن نوع القردة من بدء عصر الميوسين على أقل تقدير، وهذا ما احتاج إلى ملايين السنين، وربما كان ذلك قبل ذاك الوقت حيث عصر الأوليجوسين.
ولنجل اليوم جولة أخرى حيث يقودنا الماضي السحيق الذي يبعد عنا بما لا يقل عن نصف مليون سنة إلى عصر مبكر من عصر الأوليجوسين حينما كانت الغابات تغطي شمال أفريقيا ومنطقة الصحراء الكبرى والسودان، وحينما كان يغمرها نهر عظيم فياض كان يفيض في الشمال والجنوب مكوناً دلتا عظيمة كانت مكان دلتا النيل الحالية، وتظهر آثارها في الفيوم على شكل ربوات عالية من الطباشير، غنية بحفرياتها التي تمثل نوع الحيوان الذي كان يسكن شمال أفريقيا في النصف الأول من عصر الأوليجوسين، ولذلك نوجه بحثنا إليها.
في سنة 1910 كشف بها عن اكتشافات هامة هي أسنان وحطام أفكاك ثلاث أنواع غريبة من الأنواع الأولى البائدة. وكان أشد ما أدهشنا في تلك الأسنان أنها صغيرة الحجم، وأن تلك الأنواع صغيرة الحجم لا يتجاوز حجمها حجم القرد الأمريكي المعروف باسم ونسبة حجم جسمها إلى جسم الجيبون توازي نسبة حجم ذلك إلى حجم القردة الكبيرة. إلا أنه قد كشف أن أحدها وهو الذي أطلق عليه يمت بصلات تقربه جداً إلى النوع المعروف باسم(71/68)
الجيبون. وإنا نشك في أن هذا النوع الذي ذكرناه قد يكون أصل قردة الأوليجوسين والميوسين والأنواع التي يطلق عليها اسم الجيبون.
وقد وجد الباحثون هيكل قردين آخرين: الأول صغير الحجم (وقد وجدا بالقرب من الفيوم) يظن أنه قد تفرع عن أصل قردة الجيبون وقردة الدنيا القديمة. وفي هذا النوع الذي وجدوه نلتمس القرابة والتشابه المحسوس مع قردة الأيوسين. أما الهيكل الثاني فإنه لقرد صغير يظن أنه من حلقات تطور القردة الأولى.
وإن منطقة الفيوم هذه قد أعطتنا فكرة عن قردة الدنيا القديمة وتطورها في عصر الوليجوسين، وهذه الفكرة تكفينا لنعرف أننا نتقرب في بحثنا ونتعمق في عصر من الدرجة الأولى لتطور أنواع القردة إلى عصرنا هذا الذي تختلف فيه أنواع القردة الأولى، ولو أن كليهما من عنصر واحد وتركيب واحد.
وقد أمكننا من بحثنا في صخور الأوليجوسين أن نعرف ونرى بوضوح تام أنه لم يوجد في ذلك العصر أي نوع من الأنواع الإنسانية أو القردة، بل وجد أصل كل تلك الأجناس العظيمة.
ولم نكن نريد أن نتعمق أكثر من هذا في بحثنا ونصل فيه إلى عصر سحيق متناه في القدم يمثله العصر المعروف باسم عصر الأيوسين، إلا أننا علمنا أن العلامة الكبير الأستاذ ف. وود جونز وهو من عباقرة هذا العصر يصرح بأنه يؤيد أصحاب النظرية التي تقول إن الإنسان قد تفرع من شجرة الأجناس وابتعد عن باقيها من عصر الأيوسين حينما أخذت ذوات الثدي تعدل من شكلها ويتخذ كل منها له صفات ومميزات تميزه من غيره.
لذلك نقول إنه قد وجد في طبقات عصر الأيوسين وبخاصة في الولايات المتحدة وفرنسا متحجرات لأنواع كثيرة جداً من ذوات الثدي البائدة وكلها صغيرة الحجم. وقد وجد ضمنها نوع يشابه القردة التي أطلق عليها اسم وهذا النوع قد باد ولم يبق ما يماثله الآن سوى نوع واحد يعيش في غابات الملايو سريع الحركة براق العينين واسعهما لا يظهر إلا بالليل ويطلق عليه اسم
ويعتقد الأستاذ وود جونز أننا في بحثنا هذا سوف نجد حتماً سلسلة متتابعة من الهياكل المتحجرة التي تثبت لنا أن أصل الإنسان يرجع إلى سلف من أسلاف هذا النوع وبذلك(71/69)
يعطي للإنسان وأصله عمراً يقدر بنحو مليونين أو ثلاثة ملايين سنة.
يتبع
نعيم علي راغب.(71/70)
البريد الأدبي
تاريخ عام للآداب
عني بكتابة التاريخ العام من نواحيه السياسية والحربية كثير من المؤرخين في مختلف العصور؛ وكان المؤرخون المسلمون في طليعة من تناولوا تاريخ الإنسانية على هذا النحو. وصدرت في العصر الحديث موسوعات تاريخية عديدة تعالج التاريخ عصوراً أو أمماً، ولبعضها قيمة علمية ونقدية رفيعة. ولكن تاريخ التفكير الإنساني لم ينل مثل هذه العناية، وقلما عولج على هذا النحو؛ ويندر أن يضطلع باحث واحد بمثل هذه المهمة الفادحة المتعددة النواحي؛ بيد أن هذا هو ما يضطلع به اليوم الكاتب العلامة الإيطالي جاكو مو برامبوليني؛ فهو يشتغل منذ أعوام بوضع تاريخ عام للآداب والمعروف أن إيطاليا تجيش اليوم بنهضة علمية وأدبية كبيرة، وقد عنيت الحكومة الإيطالية بالإشراف على إصدار موسوعة (دائرة معارف) إيطالية هي اليوم من أحدث وأقيم الموسوعات؛ وهي تشجع الحركة الفكرية بمختلف الوسائل، والسينور برامبوليني علامة واسع الثقافة، وكاتب وافر الخصب؛ ولم يرعه أن يضطلع وحده بكتابة تاريخ عام للتفكير الإنساني، وقد استطاع أن يصدر حتى اليوم جزأين من تلك الموسوعة الشاسعة؛ ولكنهما يدلان على ما بذل مؤلفهما من الجهد المستفيض، وما يمتاز به بحثه من الرسوخ والدقة. ويتناول الجزء الأول الذي تربي صفحاته على الألف، تاريخ التفكير في المشرق وفي العصور الغابرة؛ فالأدب الصيني وشعراؤه وفلاسفته، والأدب الياباني، والأدب الهندي وتراثه الفلسفي القديم، والأدب العربي في مختلف نواحيه، سواء في الجزيرة أو مصر أو أفريقية أو أسبانيا وصقلية، ثم الأدب الفارسي منذ سيروس إلى عصرنا، والأدب التركي، والأدب التتاري: هذه كلها يعالجها الأستاذ برامبوليني في الجزء الأول من موسوعته بأسلوب بديع فائق؛ ثم يعالج إلى جانبها آداب العصور الغابرة التي تغذت منها الآداب الأوربية، مثل الأدب الفرعوني، والأدب الآشوري، والأدب الإسرائيلي، والآداب اليونانية والرومانية بكل ما وسعت من ألوان الشعر والفن والجمال.
ويصل الأستاذ برامبوليني في الجزء الثاني من موسوعته في استعراض تاريخ التفكير الإنساني حتى العصور الوسطى، وذلك بعد أن يستعرض الآداب النصرانية الأولى في(71/71)
المشرق والمغرب، ويعرض مراحل هذه العصور الغامضة في وضوح ودقة؛ ويخصص عدة فصول قيمة للأدب البيزنطي، والأدب العبري في العصور الوسطى، ثم يتبسط في الكلام على الأدب اللاتيني فيخصه بنحو مائة وخمسين صفحة من الألف التي يضمها هذا الجزء؛ ومما يلفت النظر في هذا الجزء بنوع خاص أن المؤلف يفيض في تاريخ الآداب الجرمانية والسكسونية الشمالية القديمة التي قلما يعنى الباحثون بأمرها. وقد عني الأستاذ برامبوليني فوق ذلك بأن يزين موسوعته بطائفة عظيمة من الصور والنقوش الهامة تزيد في رونقها وطلاوتها.
وكان لصدور هذه الموسوعة الأدبية الشاسعة وقع عظيم في الدوائر العلمية الإيطالية والأجنبية، خصوصاُ وأن مؤلفها ما يزال شاباً معدوداً من الكتاب الشبان، ومع ذلك فقد أبدى في إخراج مؤلفه سعة في البحث والتحقيق قلما يضطلع بها الشيوخ؛ وتعتبر الدوائر العلمية أن هذه الموسوعة من أقيم ما ظهر حتى الآن في تاريخ الآداب العام، وترجو أن يوفق مؤلفها إلى إتمامها حتى عصرنا، لتغدو مرجعاً بديعاً لمراحل التفكير الإنساني.
كتاب عن حياة العذراء
صدر أخيراً كتاب للكاتبة الإنكليزية ماري بوردن عن حياة السيدة مريم العذراء بعنوان (ماري النصرانية)، فأثار ظهوره ضجة كبيرة في دوائر الأدب. ذلك لأن الكاتبة تعالج حياة العذراء من ناحية إنسانية ومنزلية محضة، وتعرض بأسلوب مؤثر قصة حبها الأموي؛ وتدلل الكاتبة على معرفة دقيقة بفلسطين والحياة اليهودية، ومواطن المسيح، وحياته الأولى؛ وتصور لنا (ماري) (السيدة مريم) هائمة بحب ولدها متعلقة به، جزعة على انفصاله، مرتابة في صحة رسالته إلى ما قبل الخاتمة المفجعة. وتقول لنا إنها استندت في تصوير هذه الحياة المؤثرة إلى الكتب المقدسة، وبخاصة إلى العهدين القديم والجديد، والى أقوال السيد المسيح، والى كتب الصلاة العبرية والتلمود وغيرها، ثم إلى بعض الكتب التاريخية التي تلقي ضياء على هذا العصر؛ ثم تقول لنا إنها اضطرت منذ البداية أن تخوض ذلك الجدل الخالد الذي يتعلق بأسرة المسيح، والذي لبث مدى قرون يثير بين أحبار الكنيسة أشد الخصومات.
وكتاب السيدة ماري بوردن يعتبر في معنى من المعاني قريناً لكتاب المؤرخ الفرنسي(71/72)
(رينان) عن حياة المسيح؛ فقد أثار كتاب رينان يوم ظهوره ضجة عظيمة، ونال من الدوائر العلمية أعظم تقدير، لأنه مؤلفه استطاع أن يتبسط بجرأة وقوة في شرح الجانب الإنساني من حياة المسيح؛ وهذا ما فعلته ماري بوردن في بسط حياة العذراء.
هنري بوردو يدافع عن فيوليت نوزيير
حكم القضاء الفرنسي أخيراً بالإعدام على فيوليت نوزيير، وهي الفتاة التي قتلت أباها وشرعت في قتل أمها بالسم لكي ترث مالهما، فاستقبل الرأي العام هذا الحكم بالرضى، ولكن هنري بوردو الكاتب الكبير وعضو الأكاديمية الفرنسية - وهو محام قديم - حمل على هذا الحكم، وأنشأ في دفاع فيوليت نوزيير فصلاً بديعاً قال إنه يصور دفاعه كمحام عن هذه الفتاة القاتلة لو أنه دعي للدفاع عنها. ومما جاء في هذا الفصل: (لقد كان فيما مضى في هذه القاعة شخص كانت تغلبه الرحمة؛ وقد حمل هذا الشخص وألقي به واختفى في مكان لا نعرفه، في بعض زوايا هذا القصر - قصر العدالة، ولقد كان يحمل الشقاء الإنساني مهما بلغ، وكان يدعو إليه كل بائس وكل مذنب، ويعاونهم على حمل مصائبهم أو جرائمهم. ولكن فيوليت نوزيير لم تعرفه، ولم يرشدها إليه إنسان؛ وقد حرمت من كل شئ حتى من وجود الإله.
أتجرءون الآن إذاً أيها السادة المحلفون أن تنزعوا منها الحياة؟ إن الحياة هي كل ما تبقى لها، أتجرءون على نسيان أولئك الذين خلقوا هذا الوحش ورعوه؟ أتجرءون أن تنتزعوه من أصوله، ومن محيطه، ومن شركائه، فتحكموا بالإعدام على هذه الطفلة التي لم تجاوز التاسعة عشرة، والتي اتهمت بأشنع الجرائم؟ ارجعوا إذاً إلى منازلكم، وتأملوا أولادكم، واسألوا أنفسكم ماذا عسى يصيروا إليه إذا رفعتم عنهم رقابتكم وحبكم، وإذا حرمتموهم من الشفقة الإنسانية، وإذا حرمتموهم من معرفة الله. . .).
رسائل جديدة لشاتوبريان
عرضت أخيراً للبيع ضمن مجموعة ثمينة من الكتب والمخطوطات النادرة، عدة رسائل خطية لشاتوبريان الكاتب الفرنسي الأشهر، وهي الرسائل التي كتبها إلى مدام كوستين، بين سنتي 1804 و1806، أثناء رحلته في المشرق، ثم سنتي 1821 و1823؛ وقد بيعت هذه(71/73)
الرسائل، وعددها ثلاثون بمبلغ 5465 فرنكاً (أو ما يساوي نحو ثمانين جنيهاً)؛ ولكنها بيعت متفرقة كل رسالة على حدتها، وبلغ ثمن واحدة منها فقط 1025 فرنكاً (نحو 15 جنيهاً)، وهي عبارة عن ثلاث صفحات، يحمل فيها شاتوبريان على الكنيسة ورجال الدين، ويخاطب صديقته بما يأتي: (أأنت إذن حزينة جداً؟ ولماذا؟ ألأن عصافيرك قد ماتت؟ ومن ذا الذي لا يموت؟ أم لأن بلابلي قد طارت؟ إنك تعلمين أن كل شئ يطير، وفي مقدمة الأشياء الطائرة أيام حياتنا) ومن هذه الرسائل رسالة فيها ثلاث كلمات فقط وهي (إلى الغد أيتها المتذمرة!)، وقد بيعت وحدها بمبلغ 210 فرنكات.
جائزة نوبل
لبثت جوائز نوبل الطبية مدى حين وقفاً على العلماء الألمان والنمسويين؛ لكنها منحت هذا العام (سنة 1934) إلى ثلاثة من العلماء الأمريكيين هم الأساتذة: جورج نيوت، ووليم مورفي من أساتذة جامعة بوسطن، وهوبل من أساتذة جامعة روشستر، وذلك لاكتشافاتهم الخاصة بعلاج أمراض الكبد في أحوال فقر الدم، وهي اكتشافات كان لها أعظم شأن في تقدم الطب والعلاج في هذه الناحية، وقيمة الجائزة التي خصتهم 162. 608 كروناً سويدياً، أو ما يساوي نحو تسعة آلاف جنيه، وزعت بينهم بالتساوي.
من الرسالة إلى الوادي
ترجو الرسالة من زميلتها الوادي أن تعتقد أن ما نشر هنا عن لجنة التأليف والترجمة والنشر إنما كان بموافقة الأستاذين الكاتبين (ليكثر الذين يعلمون من أمر لجنتنا ما نحب أن يعلم) كما تمنت هي.(71/74)
القصص
منذ أحد عشر عاماً في سان مالو
للكاتب الشهير بانيت استراتي ?
ترجمة علي كامل
في اليوم الخامس عشر من أغسطس الماضي كان قد مضى خمسة عشر عاماً على نشر قصتي الأولى (كيرا كيرالينا) في مجلة (أوروبا).
لقد كنت في ذلك الوقت رجلاً سعيداً. فقد كانت صحتي أولاً خيراً مما هي اليوم، ولم أكن أحمل هذه المشاغل التي تسحقني سحقاً. كذلك كنت أشعر بالسعادة لأنني كنت قد انتهيت من كتابة قصتي (كيرا) وأنا أشتغل مصوراً فوتوغرافياً متنقلاً أنعم بالحرية والمرح. وكنت أعتقد أنني قد (فتحت ثقباً في السماء) كما يقولون في رومانيا. وأخيراً كنت سعيداً لأنه كان لي صديقة صغيرة من الألزاس أرادت عن طيبة خاطر أن تشاركني مصيري كمصور فوتوغرافي متنقل وليس هذا بالأمر اليسير.
كان الشهر شهر يوليو عندما اتخذت أولاً طريق بانيول دولورن، وقد تسلحت بجهاز فوتوغرافي جديد وجميل تجاورني رفيقتي الباسلة. على أنني لم أقم إلا مدة قصيرة في هذه البلدة المتعبة للأعصاب حيث شراب السدر الرائع، والغابة الممتدة الأطراف، ولم يكن شراب السدر هو السبب في قصر مدة إقامتي، بل السبب هو تلك الغابة التي بها، ذلك أن صديقتي كانت تحبها حباً جماً. وا أسفاه! لقد كانت تحبها على الخصوص حين تسبب لها الآلة الفوتوغرافية الضيق والعصبية فتخلق تلك المشاجرات المحبوبة التي هي فتنة الحياة البوهيمية وبهجتها. ولكي تسري عن نفسها كانت تختفي في الغابة حيث كان من العسير علي أن أجدها حتى بعد مسير كيلومترات وساعات من الصياح. ذلك الصياح الذي كان يبح صوتي ثلاثة أيام. وعندما يهبط الليل كانت رفيقتي تؤدي لي من الخدمات وهي نادمة مفعمة بالحب لي أكثر من أي وقت آخر، وذلك مما كان يغمرني بالسعادة والنعيم.
وبعد أسبوع قلت لنفسي: ماذا يهم! يحب أن أذهب لأجرب آلتي في أماكن عارية مكشوفة يمكن فيها رؤية رفيقتي من بعيد عندما ترغمها الضرورة على الهرب من أجل تهدئة(71/75)
خاطرها.
وانتقلنا فعلاً إلى بونتورسن ثم إلى جبل سان ميشيل. ولما كنت قد رحت ربحاً عظيماً في بانيول دولورن اعتزمت سكنى الجبل نفسه برغم ارتفاع أجره، وعلى الامتناع عن العمل مدة يومين، زرنا خلالها آثار المكان التاريخية، وأكلنا (عجة الأم بولارد) وتأملنا ملياً في مد البحر وجزره أثناء النهار والليل. وبعد هذين اليومين حملت آلتي وابتدأت أصور الإنجليز الذين يريدون أن يحتفظوا بصور تذكارية لمرورهم بجبل سان ميشيل.
ففي اليوم الأول كان كل شئ على خير ما يرام، فصورت عشر صور في مقابل مائة فرنك. وفي اليوم الثاني انتابت فتاتي أزمة عصبية فتركتني بقسوة وحيداً ابتداء من الظهر، فكنت مضطراً إلى أسرع في عملي دون احتياط كي أستطيع إنجازه، على أنني لم أحاول أن أغضب، بل كنت أتابع بنظراتي من قمة الجبل وجه صديقتي الرقيقة التي كانت تهدئ من حسرتها بالتطلع إلى الأماكن الرملية العارية في ذلك الإقليم الرائع.
كنت أقول لنفسي:
- آه! ليس لك هنا غابة تختفين فيها. إنك مرغمة على أن تحومي حول ناظري كسمكة في إناء زجاجي.
وكنت أفكر أيضاً في شراء منظار مقرب لأرى من بعيد ما الذي تفعله امرأة غضبى وهي وحيدة في صحراء واسعة.
ولكن في اليوم الرابع من وصولنا عندما غضبت صديقتي للمرة الثانية وابتعدت عن الجبل إلى أبعد مما تبصره عيناي لفت نظري راهب كان يهتم بسعادتي المنزلية إلى الرمل المتحرك المشهور به ذلك الإقليم، والذي تتعرض لخطره فتاتي إذا داومت على نزهاتها الخالية من التبصر حول الجبل أثناء المد والجزر.
لقد ملأني هذا التحذير رعباً وفزعاً، ففي اليوم الثاني تركت الجبل وذهبنا إلى سان مالو حيث لا توجد لا غابة ولا رمل متحرك، بل ساحل عظيم أو بالحري ساحلان أو ثلاثة تمتد من بارانيه إلى دينار، وتجمع من الناس أغربهم طباعاً، فهناك ينتقل المرء من مكان إلى آخر لأتفه الأسباب، فليس هناك غرض يدفعه إلى هذا التنقل إلا إفهام الذين يبقون في أماكنهم أن من يغادر بلده بعد ثلاثة أيام فإنما يكون ذلك لأنه غني يسعى وراء التغير(71/76)
والتجول.
ونزلنا في فندق صغير في باراميه، وحاولنا أن نجرب حظنا على ساحل البحر، ولكننا لم نصادف نجاحاً، فقد كان هناك كثير من المصورين وقليل من الزبائن، ولم أستطع طول هذه الأيام أن أحصل على نفقات الغرفة والطعام التي كانت باهظة. وأكثر من ذلك أنه كان يمر تحت المنزل تماماً ترام كأنه فيل ميكانيكي هائل، فكان يهز المدينة بأجمعها هزاً مرعباً كلما تحركت أطنان الحديد المخيفة المركب منها. وكنت أعود في المساء يقتلني التعب والإعياء من حمل آلتي الثقيلة على كتفي من أول ساحل البحر حتى منتهاه، وكنت أستيقظ مبكراً لكي أقتنص زبوناً من بين المستحمين المبكرين، فكانت حاجتي إلى النوم تسحقني سحقاً عندما ألقي بجسمي في السرير بعد العشاء. على أنه لم يكن هناك سبيل إلى النوم قبل الساعة الواحدة صباحاً حين تقف حركات ذلك الجسم البشع الثائر.
وعندما انتهى الأسبوع الأول من إقامتنا انتقلنا إلى الطرف الآخر من المدينة نبحث عن الهدوء تحت أسوارها العالية. على أننا لم نجد مسكناً معتدل الثمن، فاضطررنا أن نقنع بغرفة ممتلئة بالأثاث المتراكم فوق بعضه بدون نظام، وكنا ندفع أجرها عشرة فرنكات كل ليلة، نعم كل ليلة لا كل يوم، فقد كان لزاماً علينا ألا ندخلها إلا في المساء وأن نخرج منها في الساعة التاسعة صباحاً على الأكثر. وكان محرماً علينا أن نستخدم باب الغرفة لأن في ذلك إزعاج لأصحاب الدار، فكنا ندخل إلى الغرفة ونخرج منها من نافذة تطل على الفناء.
وانتظرت ما سوف تكون عليه صديقتي في حالاتها المختلفة، وكنت أنظر والحسرة تمزق قلبي إلى سور المدينة الشاهق. ذلك السور الذي سوف لا تتأخر رفيقتي عن اختياره مكانا تختفي فيه انتقاماً مني. والذي كانت تتحطم في أسفله جماجم كثير من الناس الذي كانوا يتنزهون فوق سطوحه العالية. ولقد بلغ مني العجب مبلغاً كبيراً إذ لم يحدث شئ مما كنت أتوقع. فقد كانت رفيقتي دائمة السرور والابتسام، وكانت تجد مجالاً واسعاً للسخرية والهزء في غرابة أطوار صاحب الدار الذي سمح بتأجير آخر غرفة (معدة للإيجار) لديه على أن يدخل المستأجر إليها ويخرج منها من النافذة!
ولكي أثير حب استطلاع فتاتي التي كانت تعجب بقصص المهربين؟ قلت:
- إنه يبدو لي تماماً أن هذه المدينة كانت موطناً لقرصان البحر القدماء.(71/77)
فارتعدت صديقتي عندما تذكرت أننا نعيش تحت سقف أحد أحفاد القرصان وقالت:
- هل يؤذي الناس أولئك الرجال؟
فأجبتها:
- إنهم لا يؤذون النساء ولا المصورين المتنقلين، وقضيت أسبوعاً في العمل متمتعاً بالهدوء. إنني لم أكن أربح كثيراً ولكن سعادتي في ذلك الوقت كانت في التصعلك مع رفيقتي المحبوبة دون أن يقع بيننا نزاع. لقد كنت مغموراً بالنعيم طوال ذلك الأسبوع، وكنت أعتبر نفسي مديناً بهذا النعيم إلى صاحب الدار حفيد القرصان.
نعم لقد كان يبعث السرور إلى قلب صديقتي عندما كان يرغمنا على تسلق النافذة في الساعة العاشرة مساء، ثم يدخل من باب المطبخ ليطلب الإيجار اليومي لغرفته، ثم يغادر الغرفة بمجرد حصوله على العشر فرنكات. ولكن في هذه اللحظة القصيرة كان جسمه الضخم يحرمنا من المتر المكعب الوحيد الذي سمحت لنا به الأربعة (دواليب) التي كانت تملأ غرفتنا الصغيرة، وكانت رفيقتي تقول وهي غارقة في الضحك كمجنونة بعد أن غيرت رأيها في حفيد القرصان:
- ماذا يكون حالنا لو شرع حفيد القرصان يقص علينا ذات ليلة أعمال أجداده. إننا سوف نموت بالاختناق!
وهكذا كنا نظل حتى منتصف الليل في الضحك والتنادر ولكن لكل شئ نهاية. ففي ذات ليلة بعد أن أدخل حفيد القرصان كتفيه بصعوبة ماداً ذراعه ليتناول نقوده نظر إلى فتاتي بعينين مفترستين وقال:
- إنك تضحكين كثيراً أيها السيدة!
كانت هذه العبارة القصيرة هي كل ما قاله، ثم خرج، ولكنها كانت كافية لأن يسود السكون التام في غرفتي.
قالت صديقتي وهي تنظر إلى باب الغرفة وقد انتابه شحوب شديد:
- إذن ليس مسموحاً للمرء أن يضحك في سان مالو، بينما يرغم على الدخول في داره من النافذة كي ينام في سرير أشبه بتابوت ميت مدفون تحت أربعة دواليب؟
لقد كان لها حق فيما تقول. وكذلك كان لحفيد القرصان. ولم يبق إلا أنا الذي رأيت واجباً(71/78)
على أن أستسلم كالعادة مرة أخرى وأرضى بألا يكون لي كلمة في منزلي.
ولقد بذلت جهدي في أن أحصر الضرر، فوعدت صاحبتي أن ننتقل من الغرفة سريعاً. ولسوء حظي هبت عاصفة على البلدة في اليوم التالي لتلك الحادثة فامتنعت علي الوسيلة الوحيدة لكسب قوتي، إذ أن الرياح التي كانت تبعث السرور إلى نفوس المستحمين كانت تهدد آلتي في كل لحظة بالانقلاب، ولكي أقاوم ساعتين على ساحل البحر من أجل التقاط اثنتي عشرة صورة، كان لا بد لي أن أحمل من الصبر ما لا يمكن أن أتطلبه من فتاتي. فقد كانت فتاة رشيقة برغم أنها خياطة بسيطة. وكانت تحب أن تكون نظيفة وقوراً حسنة الهندام، فلم تكن تستطيع العمل معي، لأن الرياح كانت تعبث بشعرها وتضرب رداءها (الفوال) بقطع الملح فتغطيه ببقع صفراء، ذلك أن عملها كمساعدة لي تغسل الصور وتجففها وتسلمها إلى أصحابها، كان هذا العمل يدفعها إلى البحث على ساحل البحر وفي الفنادق. لذا لم تقم لي بمساعدة ما، وتركتني وحيداً أقوم بكل مراحل الحرفة التي نعيش منها.
قالت لي:
- تصور مركزي عندما أكون أقذر النساء البوهيميات. ليس لي هنا ما أفعله. سأذهب لأبحث عن عمل. . . في الخياطة أو غيرها. فإذا وجدت فاعلم يقيناً أنني لن أعود مطلقاً!
تركتني عند الظهر وكان في جيبها الصغير خمسة فرنكات، ولم تكن قد تناولت بعد طعام الغداء، فجلست على شاطئ البحر محطم القوى وعدتي على ذراعي، أنظر إليها وهي تغيب عن عيني، وقد ملكها الألم وأوشكت أن تنفجر بالبكاء. ولقد كان مظهرها يحمل حقاً كل معاني الطهر والصفاء مما أفعم قلبي بالحزن والحسرة من أجل هذه المرأة الصغيرة الجميلة.
ولم أتناول أنا أيضاً طعام الغداء، فقد تراكمت علي الحسرات وكانت كل ثروتي عشرين فرنكاً، أي عبارة عن أجر ليلتين عند حفيد القرصان.
وبعد أن أعدت أدوات عملي خرجت أجوب المدينة. وكانت الريح تدوي دون انقطاع، فكنت أسائل نفسي: ما الذي يؤول إليه حالي إذا لم أوفق إلى جمع الثلاثين فرنكاً التي هي أقل ما يمكن أن أحتاج إليه يومياً. وكنت أعرف تماماً أن صديقتي لا يمكن أن تنفذ كل(71/79)
تهديداتها لأنها كانت مثلي تبغض العمل أثناء النهار، ومع كل ذلك فإن منظرها وهي تتركني بقي ماثلاً أمامي، وكان يمزق قلبي تمزيقاً. وكان حبي لواجهات المحلات التجارية يحبسني أحياناً بطريقة آلية، على أنني كنت أتطلع إلى الواجهات دون أن أرى شيئاً، لأن فكري كان يتابع صورة فتاتي التي ظهرت لي وكأنها قد انتزعت منها كل فتنة، فبدا لي الشعر مهملاً، والرداء مرقعاً، والوجه مستسلماً يائساً.
وفكرت ثانية في مصيري. ذلك المصير الذي دفعت ثمنه غالياً لأشعر يوماً بشمس الحرية تدفئني، ومثلت أمامي مرة واحدة فكرة بعثت الشرر في عيني. فقد وجدت نفسي أمام منضدة مكتبة. وفي الوسط أمام عين الناظر، رأيت مجلة (أوروبا) وكان غلافها الأصفر محاطاً بغطاء أخضر، ولم يكن مكتوباً عليه غير الموضوعين الأولين من موضوعات المجلة وهما:
جوركي البلقاني بقلم: رومان رولان
كيرا كيرالينا بقلم: بانيت استراتي
شعرت بأن ساقي قد خارت قواهما، ودخلت في المكتبة وأنا أكاد لا أستطيع السير، ورأسي يطن طنيناً كأن بداخله بحراً هائجاً، واشتريت المجلة وضممتها إلى قلبي المضطرب، وذهبت كالمجنون إلى شرفة مقهى كبير وطلبت نوعاً من الشراب، وسجائر فاخرة، وقرأت ثم قرأت مقال (جوركي البلقاني) وأنا أذرف الدموع الحارة الصادقة على عبارات ذلك الرجل الذي كان مقاله هذا ضربة حديدية صارمة غيرت مجرى حياتي ومصيري. وبعد ذلك أرسلت رسالة تلغرافية إلى الناشر. وفي ظهر اليوم التالي وصلني بالتلغراف الأربعمائة وعشرون فرنكاً وهي حقوق تأليف قصة (كيرا) التي احتوت على اثنتين وأربعين صفحة من مجلة (أوروبا) نشرت في الخامس عشر من شهري أغسطس وسبتمبر عام 1923.
وفي الليلة التي تلت هذا الحادث العظيم في حياتي كنت مريضاً لما انتابني من النعيم والسعادة فلم أنم مطلقاً، وأطبقت ذراعي في صمت، ناسياً رفيقتي التي لم تكن تفهم شيئاً لا حالتي ولا (جوركي البلقاني) وساءلت قلبي وهو خير أصدقائي وأكبر أعدائي قائلاً:
إلى أين نحن ذاهبون؟ إلى أين نحن ذاهبون؟(71/80)
لم نذهب إلى أي مكان. . ولقد صدق رومان رولان حين قال لي يوماً من الأيام:
(إن الإنسان في هذا العالم لا يحدث في عمله أو حياته تغييراً كبيراً).(71/81)
العدد 72 - بتاريخ: 19 - 11 - 1934(/)
عهد زاهر!
نشرت الصحف أخيراً بعض إحصاءات عن التعليم في مصر؛ ومنها يستفاد أن التقدم مضطرد في عدد المدارس وعدد الطلبة، ولكن ذلك يلفت النظر بنوع خاص ما ورد فيها عن حالة التعليم الأولى؛ وذلك أن المكاتب والمدارس المخصصة لهذا النوع من التعليم لا يتجاوز عددها في مختلف أنحاء القطر ألفين ومائة، فيما نحو 850 ألف تلميذ وتلميذة. ومعنى ذلك أن الذين يتلقون التعليم الأولي في هذه البلاد لا تزيد نسبتهم على خمسة في المائة من مجموع السكان؛ فإذا علمنا أن باقي المتعلمين على اختلاف طبقاتهم لا يتجاوز عددهم أيضاً نحو أربعة أو خمسة في المائة، استطعنا أن نقدر إلى أي مدى ما زالت الأمية تفتك بعقول الشعب المصري.
لقد اعتدنا في العهد الأخير أن نسمع نغمة ما تزال تتردد في كل
فرصة، لمناسبة وغير مناسبة، هي أن مصر تجتاز في ميدان التعليم
والثقافة والآداب عهداً زاهراً لم تبلغه من قبل في أي مرحلة من
مراحل تاريخها، وأنها تظفر لأول مرة في تاريخها بجامعة مدنية
كبرى وجامعة دينية، ومجمع علمي، وطائفة كبيرة من المعاهد
والمدارس الفنية، والجماعات العلمية المختلفة. ولقد بولغ في ترديد هذه
النغمة، وإذاعة هذه الدعوة، حتى كادت تطمس الحقائق، وحتى كدنا
نؤمن بهذا التمويه، وننسى ما يعتور سير التربية والتعليم في هذه البلاد
من ضروب النقص والضعف والفساد.
نعم، لقد زاد عدد المدارس والطلبة زيادة كبيرة، والتعليم يتقدم من حيث العدد بلا ريب، ولكن هل يتقدم التعليم من حيث النوع؛ وهل ارتفع لدينا مقياس التربية والثقافة عما كان عليه منذ جيل؟ لقد كان التعليم قبل الحرب آلياً يخرج لحكومة تسيطر عليها إرادة المستعمر عمالاً خاضعين لا رأي عندهم ولا شخصية لهم؛ وما يزال التعليم يصطبغ في عصرنا بهذه الصبغة الخطرة، صبغة العقم وفقدان الشخصية؛ وشأن المتعلمين شأنهم بالأمس في التطلع(72/1)
إلى الوظائف حتى بلغ تهافتهم عليه حداً يدعو إلى الرثاء؛ وهم في الحياة حيارى لا عزم لهم، لأنهم لم يتلقوا من صنوف التعليم ما يسلحهم بمثل هذا العزم، أو يمدهم بتلك الشخصية التي تصمد لمصاعب الحياة العملية ومتاعبها، وتستغل معارفها ومواهبها استغلالاً صالحاً منظماً.
وفي مصر جامعة مدنية كبرى، وجامعة دينية كبرى لها ماض مجيد؛ ولكن هل نتمتع حقاً بالتعليم الجامعي؟ وهل استطعنا أن نخلق فيهما تلك البيئة العلمية الرفيعة، وتلك الحرية الفكرية، وذلك الاستقلال في البحث، وهي أسمى المزايا الجامعية؟ إن الجامعة عندنا اسم على غير مسمى؛ وليست في الواقع أكثر من مدرسة عادية، تخضع لكل ما تمليه أهواء الذين يرون في الاستعباد الفكري وسيلة ناجعة لتدعيم الاستعباد السياسي.
ولدينا حقاً مجمع علمي للغة العربية، ولكن هل يثير ذكر هذا المجمع وظروف تكوينه غير الابتسام؟ وهل نذكر قصة إنشائه إلا على أنها لون من ألوان ذلك الطلاء الخلاب الذي يعتمد على الأسماء دون المسميات.
ولدينا جماعات علمية ذات أسماء ضخمة، ولكنها أجنبية في روحها وغايتها، وهي قلما تعني بأعمال علمية خطيرة، ولا تعني إلا بإذاعة ما يوحي إليها به من الدعايات.
وفي كل عام ننفق عشرات الألوف على بعثات الطلبة خارج القطر؛ ولدينا الآن من خريجي هذه البعثات ألوف من خيرة الشباب المثقف المتخصص قي مختلف العلوم والفنون؛ ولكن هل استطعنا أن نستغني بهم عن أولئك الأجانب الذين ينبثون في كل فروع الحكومة، ويستأثرون بأرفع المناصب بحجة أنهم خبراء وفنيون؟
الواقع أن هذه النهضة العلمية تقوم على كثير من العوامل المصطنعة والمظاهر الخلابة، وينقصها كثير من المزايا الحقيقية؛ فهي أشد ما تكون ضعفاً من الناحية الوطنية، وما زالت خاضعة لكثير من المؤثرات الأجنبية التي لا تتفق في كثير من الأحيان مع الغايات القومية؛ وهي مازالت من الناحية العملية قاصرة عن أن تجعل من الشباب المتعلم عمالاً نافعين لأنفسهم وللوطن. ومن الأسف أن المظاهر هي في كثير من الأحيان كل ما يعنى به، وأن الأسماء الرنانة هي كل ما يهم ذكره وتعداده. وقد ذهبنا بعيداً عن التشبث بهذه المظاهر والتهويل من شأنها، وغفلنا عن معالجة أوجه النقص الحقيقية. ويكفي لأدراك هذه(72/2)
الحقيقة أن نذكر أن البلاد بعد هذه الجهود كلها ما زالت تتخبط في ظلام الأمية، وأن مصر بعد عشرة أعوام من تنفيذ مشروع التعليم الإلزامي لم تستطع أن تنقذ من الأمية المطبقة أكثر من أربعة أو خمسة في المائة من بينها.
لقد آن الوقت الذي يجب أن نستعرض فيه مظاهر حياتنا على حقيقتها، وأن نقدر أوجه الخير والنفع فيها قدرها الصحيح؛ فليس من العار أن نعترف بأننا في منتصف الطريق أو مستهله؛ ولكن الخطر أن نزعم أننا حققنا ما لم نحقق، ومن الخطر على بنائنا القومي أن نؤمن بما ليس منطبقاً على حقيقتنا ولا هو حتى من مظاهر نهضتنا.
(ع)(72/3)
قصيدة مترجمة
احذري!
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
ترجمنا عن الشيطان قصيدة (لحوم البحر). وهذه ترجمة عن أحد الملائكة؛ رآني جالساً تحت الليل وقد أجمعت أن أضع كلمةً الشرقية فيما تحاذره أو تتوجس منه الشر؛ فتخايل الملك بأضوائه من الضوء، وسنح لي بوحه، وبث في من سره الإلهي؛ فجعلت أنظر في قلبي إلى فجرٍ عن هذا الشعر ينبع كلمةً كلمة، ويشرق معنىً معنىً، ويستطير جملةً جملة، حتى اجتمعت القصيدة وكأنما سافرت في حلم من الأحلام فجئت بها.
وأنطلق ذلك الملك وتركها في يدي لغةً من طهارته للمرأة الشرقية في ملائكيتها.
احذري!
احذري أيتها الشرقية وبالغي في الحذر، واجعلي أخص طباعك الحذر وحده.
احذري تمدن أوربا أن يجعل فضيلتك ثوباً يوسع ويضيق؛ فلبس الفضيلة على ذلك هو لبسها وخلعها. . . .
احذري فنهم الاجتماعي الخبيث الذي يفرض على النساء في مجالس الرجال أن تؤدي أجسامهن ضريبة الفن. . . .
احذري تلك الأنوثة الاجتماعية الظريفة. إنها انتهاء المرأة بغاية الظرف والرقة إلى. . . . إلى الفضيحة.
احذري تلك النسائية الغزلية. إنها في جملتها ترخيص اجتماعي للحرة أن. . . . أن تشارك البغي في نصف عملها.
أيتها الشرقية احذري احذري!
احذري التمدن الذي اخترع لقتل لقب الزوجة المقدس، لقب (المرأة الثانية). . . .
واخترع لقتل لقب العذراء المقدس، لقب (نصف عذراء). . . .
واخترع لقتل دينية معاني المرأة، كلمة (الأدب المكشوف). . . .
وانتهى إلى اختراع السرعة في الحب. . . . فاكتفى الرجل بزوجة ساعة. . . .
وإلى اختراع استقلال المرأة، فجاء بالذي اسمه (الأب) من الشارع، لتلقي بالذي اسمه(72/4)
(الابن) إلى الشارع. . . .
أيتها الشرقية! احذري احذري!
احذري وأنت النجم الذي أضاء منذ النبوة، أن تقلدي الشمعة التي أضاءت منذ قليل.
أن المرأة الشرقية هي استمرار متصل لآداب دينها الإنساني العظيم.
هي دائماً شديدة الحفاظ حارسة لحوزتها؛ فان قانون حياتها دائماً هو قانون الأمومة المقدس.
هي الطهر والعفة، هي الوفاء والأنفة، هي الصبر والعزيمة، هي كل فضائل الأم.
فما هو طريقها الجديد في الحياة الفاضلة، إلا طريقها القديم بعينه؟
أيتها الشرقية! احذري احذري!
احذري ويحك تقليد الأوربية التي تعيش في دنيا أعصابها محكومة بقانون أحلامها. . . .
لم تعد أنوثتها حالة طبيعية نفسية فقط بل حالةً عقليةً أيضاً تشك وتجادل. . . .
أنوثة تفلسفت فرأت الزواج نصف الكلمة فقط. . . . والأم نصف المرأة فقط. . . .
ويا ويل المرأة حين تنفجر أنوثتها بالمبالغة العقلية فتنفجر بالدواهي على الفضيلة. . . .
إنها بذلك حرة مساوية للرجل، ولكنها بذلك ليست الأنثى المحدودة بفضيلتها. . . .
أيتها الشرقية! احذري احذري!
احذري خجل الأوربية المترجلة من الإقرار بأنوثتها. أن خجل الأنثى من أنها أنثى يجعل فضيلتها تخجل منها. . . . إنه يسقط حياءها ويكسو معانيها رجولةً غير طبيعية. إن هذه الأنثى المترجلة تنظر إلى الرجل نظرة رجل إلى أنثى. . . . والمرأة تعلو بالزواج درجة إنسانية، ولكن هذه المكذوبة تنحط درجةً إنسانيةً بالزواج.
أيتها الشرقية! احذري احذري!
احذري تهوس الأوربية في طلب المساواة بالرجل. لقد ساوته بالذهاب إلى الحلاق، ولكن الحلاق لم يجد في وجهها اللحية. . . .
إنها خلقت لتحبيب الدنيا إلى الرجل، فكانت بمساواتها مادة تبغيض.
العجيب أن سر الحياة يأبى أبداً أن تتساوى المرأة بالرجل إلا إذا خسرته.
والأعجب أنها حين تخضع، يرفعها هذا السر ذاته عن المساواة بالرجل إلى السيادة عليه.
أيتها الشرقية! احذري احذري!(72/5)
احذري أن تخسري الطباع التي هي الأليق بأم أنجبت الأنبياء في الشرق.
أم عليها طابع النفس الجميلة، تنشر في كل موضع جو نفسها العالية.
فلو صارت الحياة غيماً ورعداً وبرقاً، لكانت هي فيها الشمس الطالعة.
ولو صارت الحياة قيظاً وحروراً واختناقاً، لكانت هي فيها النسيم يتخطر.
أم لا تبالي إلا أخلاق البطولة وعزائمها، لأن جداتها ولدن الأبطال.
أيتها الشرقية؛ احذري احذري.
احذري هؤلاء الشبان المتمدنين بأكثر من التمدن. . . .
يبالغ الخبيث في زينته، وما يدري أن زينته معلنة أنه إنسان من الظاهر. . . .
ويبالغ في عرض رجولته على الفتيات، يحاول إيقاظ المرأة الراقدة في العذراء المسكينة.
ليس لامرأة فاضلة إلا رجلها الواحد؛ فالرجال جميعاً هم مصائبها إلا واحداً.
وإذا هي خالطت الرجال، فالطبيعي أنها تخالط شهوات، ويجب أن تحذر وتبالغ.
أيتها الشرقية! احذري احذري!
احذري فان في كل امرأة طبائع شريفة متهورة؛ وفي الرجال طبائع خسيسة متهورة.
وحقيقة الحجاب أنه الفصل بين الشرف فيه الميل إلى النزول وبين الخسة فيها الميل إلى الصعود.
فيك طبائع الحب والحنان، والإيثار، والإخلاص كلما كبرت.
طبائع خطرة، إن عملت في غير موضعها. . . . جاءت بعكس ما تعمله في موضعها.
فيها كل الشرف ما لم تنخدع، فإذا انخدعت فليس فيها إلا كل العار. أيتها الشرقية! احذري احذري!
احذري كلمةً شيطانيةً تسمعينها في قيمة الجمال أو قيمة الأنوثة.
وافهميها أنت هكذا: واجبات الأنوثة وواجبات الجمال.
بكلمةٍ الإحساس فاسداً، وبكلمة يكون شريفاً.
ولا يتسقط الرجل امرأةً إلا في كلماتٍ مزينةٍ مثلها. . . . .
يجب أن تتسلح المرأة مع نظراتها، بنظرة غضب ونظرة احتقار.
أيتها الشرقية! احذري احذري!(72/6)
احذري أن تخدعي عن نفسك. إن المرأة أشد افتقاراً إلى الشرف منها إلى الحياة.
إن الكلمة الخادعة إذ تقال لك، هي أخت الكلمة التي تقال ساعة إنفاذ الحكم للمحكوم عليه بالشنق. . . .
يغترونك بكلمات الحب والزواج والمال، كما يقال للصاعد إلى الشناقة: ماذا تشتهي؟ ماذا تريد؟ الحب؟ الزواج؟ المال؟ هذه صلاة الثعلب حين يتظاهر بالتقوى أمام الدجاجة.
الحب؟ الزواج؟ المال؟ يا لحم الدجاجة! بعض كلمات الثعلب هي أنياب الثعلب. . . . .
أيتها الشرقية! احذري احذري!
احذري السقوط. إن سقوط المرأة لهوله وشدته ثلاث مصائب في مصيبة:
سقوطها هي، وسقوط من أوجدوها، وسقوط من توجدهم.
نوائب الأسرة كلها قد يسترها البيت إلا عار المرأة. فَيَدُ العار تقلب الحيطان كما تقلب اليد الثوب فتجعل ما لا يرى هو ما يرى.
والعار حكم ينفذه المجتمع كله، فهو نفي من الاحترام الإنساني.
أيتها الشرقية! احذري احذري!
لو كان العار في بئر عميقة لقلبها الشيطان مئذنةً ووقف يؤذن عليها.
يفرح اللعين بفضيحة المرأة خاصة كما يفرح أب غني بمولود جديد في بيته. . . .
واللص، والقاتل، والسكير، والفاسق، كل هؤلاء على ظاهر الإنسانية كالحر والبرد.
أما المرأة حين تسقط، فهذه من تحت الإنسانية هي الزلزلة.
ليس أفظع من الزلزلة المرتجة تشق الأرض إلا عار المرأة حين يشق الأسرة.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(72/7)
محمد بك المويلحي
للأستاذ عبد العزيز البشري
قبل أن أتحدث عن هذا الرجل الذي يجب أن يتحدث عنه مدونو تاريخ الأدب العربي في العصر الحديث - قبل هذا أحب أن أقول في هذا الباب شيئاً عاماً. ذلك بأننا اعتدنا أن نغفل الكلام في سيرة من عاصرناهم، ورأيناهم ولابسناهم، إلا يكون القول من جنس هذه المراثي التي تضفي فيها حلل الثناء، ويكال فيها المديح في العادة، بغير حساب. ولقد يكون هذا الثناء حقاً أو قريباً من الحق، بحيث لا يؤذي التاريخ في كثير ولا قليل، ولكنه لا يمكن أن يجلو على الأجيال المستقبلة شيئاً من حقيقة الرجل، لأن الكاتبين في هذه الحالة لا يعنون ببسط حياة الرجل، وظواهر خلاله، والعوامل البارزة في تكوينه، ومطبوع عادته، ولو ما يتصل منها بالأسباب العامة. وذلك من أيسر الأمور لأنهم عرفوه بالمشاهدة، واستيقنوه بالملابسة وطول الاختيار. وهذا ولا شك مما يهيئ للقادمين دراسته وتحليله دراسة إن لم تنته إلى أصدق النتائج، فهي أدنى إلى الصدق من غيرها على كل حال.
وليس يذهب عن القارئ إن إهمال المعاصرين، على هذا النحو، لابد مفضٍ إلى إحدى الحالين: إما إلى إدراج كثيرين من رجال الآداب والفنون في مطاوي النسيان، أو التحيف من أقدارهم بقدر كثير أو قليل؛ وإما إلى تجليتهم، إذا تراخى الزمان في غير صورهم، ونحلهم صفاتٍ وخلالاً لم تكن لهم، بحكم العنعنة في رواية الأخبار، والاتكاء في تحليل نفس الرجل على ما صدر عنه من آثار. وكثيراً ما يضل الباحث المستنتج في هذا أبعد الضلال. هذا إلى ما في معاناة مثل تلك البحوث من إضاعة للوقت، ونفقة من الجهد، وتجشم للعناء.
وأغلب الظن في هذه الإغفال من المعاصرين لمن عاصروهم من رجال الفنون والآداب يرجع إلى أن الرجل العظيم قل أن يراه معاصروه بالعين التي يراه بها الخالفون، فهو في الغالب إذا استحق منهم ترديد ذكره والهتاف باسمه، وتدوين سيرته، فقل أن يعني أحد يتقصى عادته، والتسلل إلى مداخله، وعرض ما يلابس الأسباب العامة من سائر أموره، أو لأنهم لا يعنون بهذا لأنه حاضر لمعاصريه قريب منهم. فهو في حكم المبذول الذي ينال منه من شاء أن ينال. ولا شك أن في هذا ضرباً من الغفلة عن أن الحاضر سيغيب على(72/8)
الزمن، وأن المبذول سينقبض، وأن ما في متناول اليد اليوم ستتقطع من دونه غداً علائق الآمال!
ولقد يسكت النقدة عن تقصي ذلك عمداً، والتلبث بتحليل الرجل، ورد العوامل في تكوينه إلى مناجمها حتى ينطوي الزمن عليه وعلى أهله، وعلى أشياعه وخصومه من معاصريه، حتى يتهيأ الجو للبحث والتحقيق، لا رغبة ولا رهبة فيه، فيكون البحث أنور وأصفى، ونخرج النتائج أدق وأوفى.
وهذا مذهب في الرأي له أثره وله خطره، بالرغم من أنه يفوت على المؤرخ المدقق من عناصر الحكم ما قد يسيء في بعض الأحيان إلى حكمه، فإذا هو طلبها تصحيحاً لبحثه، فلن ينالها إذا نالها صادقة إلا بعد أن يتجشم في سبيلها عرق القربة كما يقولون!
على أنني في هذا لا أذهب إلى القول بنشر المعايب، واستضهار المكاره، حتى لا يثير المدون ثائرة الأهل والصحاب والأنصار، إنما أريد أن يجلو المعاصر، من غير ذلك، كل ماله خطر في تكوين الرجل، فإذا هناك مغامز لا ينبغي إغفالها في تجليته وتحليله، فليسجلها على أن يكتمها حتى يجليها لوقتها، أو يجليها من بعده من الأعقاب.
وعلى أي حال فان إغفال هذه الأمور التي نحسبها في غالب الأحيان من التوافه، كثيراً ما يخلو بحق التاريخ، ويفضي إلى الجهل بالجم من حقائق الأشياء. ولست أجد في هذا الباب مثلاً أيسر ولا أدنى إلى الحس من أننا، لولا مهبط البعثة العلمية التي صحبت الحملة الفرنسية في سنة 1798، ما اهتدينا بسهولة أو ما اهتدينا أبداً إلى أزياء جدودنا وسمتهم من قرن وثلث قرن من الزمان، فكيف بمن هم أعلى من هذا وأبعد في مذهب التاريخ؟
ولو قد عني أهل كل عصر بأن يحفظوا لخلفهم نماذج من ثيابهم، وآلاتهم في سائر حوائجهم، وفعل هؤلاء مثل فعلهم لظلت سلسلة الأزياء واضحةً على وجه الزمان.
ولعل من الخير أن أنبه في هذا المقام إلى أن محاولة كشف الرجل من آثاره المحفوظة لا تجدي كثيراً في الإبانة عن خلاله ومداخل عيشه، حتى مظاهرها. بل إنها لكثيراً ما تكون من وسائل الضلة في إثبات التاريخ. ولست أسوق لهذا أكثر من مثلين اثنين: ذلك بأنك لو اتكأت في طلب خلال الجاحظ على مجرد آثاره لخرج لك منها أنه كان أزهد الناس في المال، وأنه لو سقط ليده لكان أجود به من الريح المرسلة. فإن أحداً لم ينع الشح ولم يذم(72/9)
الأشحاء كما نعى الجاحظ وكما ذم: وإن أحداً لم يؤلف كتاباً في (البخلاء) أبلغ فيهم إيجاعاً، وأشد لهذه الخلة وأصحابها إقذاعاً، كما صنع الجاحظ. ومع هذا لقد كان هو نفسه من أشد المبخلين الذين أوفوا على الغاية من الجشع، والحمل على المروءة أحياناً في طلب المال. وإنك لو التمست مثل هذا في أبي الفرج لخرج لك من آثاره أنه كان أجمل الناس سمتاً، وأنظفهم بدناً وثوباً، وأشدهم أخذاً للنفس بأدق آداب السلوك في طعامه وشرابه، وغير ذلك من أسبابه. ولكن الواقع أنه كان من أشد الناس شرهاً، وأقبحهم مؤاكلة، وأقذرهم خلقاً وثوباً، حتى ليصح في بعض خلته قول الشاعر:
وسخ الثوب والعمامة والبِرْ ... ذَونِ والوجهِ والقفا والغلام!
ولولا أن معاصري هذا وهذا أثبتوا لكل منهما ما أثبتوا لزلت فيهما الأقلام، وضلت الأوهام!
بعد هذا آخذ في حديث أستاذي ورئيسي وصديقي العالم الفيلسوف، الأديب، والكاتب، الناقد، السيد محمد بك المويلحي رحمة الله عليه.
من أكثر من ثلاثين سنة خلت، ولما أزل بعد في أيام الفتوة، وفي صدر طلب العلم في الأزهر، صدرت في مصر جريدة أسبوعية سياسية أدبية باسم (مصباح الشرق) في أربع صفحات دون صفحات الجرائد التي تصدر الآن مساحة، ولون ورقها يضرب إلى الحمرة. ويقوم بتحريرها إبراهيم بك المويلحي وابنه السيد محمد المويلحي. وكانت عامة الصحف الأسبوعية قد وصلت في ذلك العهد من المهانة والفسولة والإسفاف وتفاهة الموضوعات إلى أبعد الحدود.
مصباح الشرق
لقد كان هذا (مصباح الشرق) شيئاً طريفاً حقاً، لقد كان أبلغ من طريف، فإنه لأعجوبة حقاً، لقد كان هذا (مصباح الشرق) أبلغ من أعجوبة، إنه لشيء يكاد يتصل بحكم الخوارق في تلك الأيام! بلاغة بليغة، ولفظ جزل متخير، وديباجة مشرقة، وصيغ مونقة، ونسج متلاحم، وأسلوب ليس وراءه في هذا الذي يدعونه السهل الممتنع.
أدب بارع، علم وفلسفة، وبحوث رائعة في سياسة الأمم وفي أخلاق وعلوم الاجتماع، منها المبتكر المنشأ، ومنها المترجم من مختلف الُّلغى في عبارة عربية بليغة سلسة ناصحة(72/10)
واضحة لا تستروح منها أي ريح للاستعجام. وهل رأيت قط ترجمات السابقين في عصر بني العباس؟
مذهب طريف في النقد، نقد الأشخاص، لا عهد للأدب العربي به من قديم الزمان؛ بل لعله لا عهد له به من أول الزمان! لم تكد تطالع الناس هذه الصحيفة الدقيقة الجرم مرتين أو ثلاثاً حتى أصبحت من بعض شغل الخاصة في هذه البلاد!
لا يدخل الأصيل في يوم الخميس من كل أسبوع إلا وقد زاغت أبصار، وتكرشت جباه، وتقلصت شفاه، وتداركت أنفاس، ووجفت قلوب. هل رأيت انفلات الطائر بعد طول الاحتباس؟ كذلك كان يترقب الخاصة مشرق (المصباح) وسرعان ما تخطفه اليد الراجفة فتشقه، وسرعان ما يشيع البصر كله في مساحة النقد كلها، لا يستقر على موضوع خاص، ولا يتحيز في حديث معين. بل أنه لينساح على الصفحة كلها انسياحاً ليدرك قبل رد الطرف أشك المويلحي اسم صاحبه فيمن شك أم أرسله في جملة الطلقاء؟ حتى إذا اطمأن الرجل إلى أنه قد كتبت له السلامة لجمعته، ألقى الصحيفة بين يديه، وجعل يطامن من نفسه، ويبسط في خلفه ما تقبض، ويفرخ من روعه ما تحبس.
وإذا كان هذا شأن من لم تصب منهم أقلام المويلحيين، فاحكم أنت، عصمنا الله وإياك، كيف كانت حال من تنال منهم هذه الأقلام؟
على أنه مما ينبغي أن يذكر هنا، أن (المصباح) لم يكن يعرض قط لأعراض من يتولاهم بالنقد، ولا يتدسس إلى مكارههم، أو يتتبع عوراتهم، بل لا يتناول من أمورهم إلا ما كان يعرضونه هم من ذات أنفسهم، أو ما يدلون هم عليه بآثارهم وظاهر أعمالهم، فلقد كان (المصباح) أجل من ذاك موضعاً وآنف كرامة. .
وأنه ليستحدث لوناً طريفاً من النقد لا عهد لأدب مصر به، بل لا عهد به للأمم العربية جمعاء. وهذا النوع من النقد يقوم، في الجملة، على التماس الجانب الضعيف في أثر الرجل، فيعرضه بالقلم في صورة (كاريكاتورية) يزيد في تشويهها ما يتوافى لذهنه الدقيق من ألوان التشبيه، وما يحضره من فنون الاستشهاد والتمثيل، ولا يبرح يمط الموضوع في هذه الناحية بالتوليد وطلب المناسبات القريبة، والملابسات الدانية، تسندها النكتة البارعة، ويسعفها التندر البديع، حتى ينتهي إلى ما لا ينتهي إليه أحد من الناقدين!(72/11)
ولقد كان هذا من (مصباح الشرق) الأصل الثابت لهذا اللون من النقد، أعني النقد (الكاريكاتوري) في مصر. كما كانت صحيفة المويليحيين (أبو زيد) أول ما عرف، فيما أعرف أنا، من التصوير (الكاريكاتوري) في هذه البلاد. ولعلي ألمع إلى هذه الصحيفة في بعض هذا الكلام.
لم ينته خطب (مصباح الشرق) إلى هذا الموضع فحسب؛ بل لقد كان، على أنه صحيفة لا تظهر في جميع الأسبوع إلا مرة واحدة، يروي من جلائل الأخبار في الأسباب العامة ما لا تبلغه الصحف اليومية، على شدة ارتصادها لمثل ذلك، وإذكاء عيونها الكثيرة في طلبه وتقصيه، فكانت أمهات الصحف اليومية لا تتحرج في كثير من الأحيان من نشر مهام الأخبار نقلاً عن (مصباح الشرق) الأسبوعية مضافة إليها معزوة لها. وفضل (المصباح) في هذا السبق العجيب إنما كان لجلالة محل إبراهيم بك المويلحي عند أولى الأمر كلهم، وخفة روحه، ولطف مدخله، وسعة حياته، حتى ليستخرج منهم بهذا ما لا يخرجون عنه لغيره من رواة الأخبار.
ولا أحب أن أجوز هذا الموضع من الكلام قبل أن أقول إن (المصباح) أول من جلا للناس براعة الجاحظ وعبقرية ابن الرومي بما كان يختاره لهما من بدائع المنثور وروائع المنظوم قبل أن تقع العيون من آثارهما على كتاب أو ديوان، وأول من عالج النقد الأدبي لما تنتضح به قرائح الشعراء، وأعني به ذلك النقد الرفيع الغالي، الذي جمع بين أساليب النقد في أزكى عصور العربية، وبين طرائقه التي اختطها نقدة الغربيين في هذا الزمان.
وعلى الجملة، فلقد فتح (المصباح) في الأدب العربي فتحاً جديداً، وأمسى (مصباحا) حقاً يهتدي المتأدبون بسناه إذا أرسلوا القول أو اجتمعوا لنظم الكلام. وبهذا وهذا أصبح (مصباح الشرق) أفخر مدرسة لطلب الأدب الرفيع الجزل الطريف في هذه البلاد. ومما ينبغي أن يذكر في هذا المقام أن جماعة الشعراء لقد تعاظمتهم سطوة (المصباح) في باب النقد فحسبوا له كل حساب، ويا ويل من لا يتحرى من الشعراء البارزين ما لا يبلغه الجهد كله من التدقيق والتجويد والإحسان.
وإني لا أكتفي اليوم من حديث السيد محمد المويلحي بهذا القدر على نية العودة إليه في القريب إن شاء الله.(72/12)
عبد العزيز البشري(72/13)
صحف مطوية من التاريخ الإسلامي
العرب في غاليس وسويسره
للأستاذ محمد عبد الله عنان
منذ عامين كشفت المباحث الأثرية في وادي اللوار بفرنسا على مقربة من مدينة تور، عن عظام بشرية، وسيوف ودروع قيل إنها عربية؛ ورأى فريق من الباحثين الأثريين أن هذه الآثار هي على الأرجح من مخلفات الموقعة العظيمة التي نشبت بين العرب والفرنج في سهول نهر اللوار منذ ألف ومائتي عام (732م)، وارتد فيها العرب أمام جيوش كارل مارتل زعيم الفرنج بعد أن قتل قائدهم عبد الرحمن الغافقي، وأن اكتشافها يلقي ضياء جديداً على حقيقة المكان الذي نشبت فيه الموقعة، والذي مازال مثار خلاف بين المؤرخين.
وتلك الموقعة الشهيرة هي التي تسميها الرواية الإسلامية بموقعة بلاط الشهداء أو موقعة البلاط، لكثرة من استشهد فيها من عظماء المسلمين وقادتهم، وتعرف في الرواية الفرنجية بموقعة تور أوبواتييه لأنها وقعت في السهول التي تمتدد بينهما؛ وتضع الرواية الإسلامية تاريخها في رمضان سنة 114 من الهجرة، متفقة بذلك مع الرواية النصرانية التي تضع تاريخها في أكتوبر سنة 732م. وقد كانت هاتيك السهول التي تمتد بين تور وبواتييه وتشرف على ضفاف اللوار هي أقصى ما بلغه العرب في فتوحاتهم في قلب فرنسا؛ وقد عبر العرب جبال البرنيه لأول مرة عقب افتتاحهم لأسبانيا، وغزوا سبتمانيا (أو لانجدوك) سنة 94هـ (713م) واستولوا على مدينة قرقشونة وثغر أربونة؛ ثم توالى عبورهم بعد ذلك لجبال البرنيه وتوالت غزواتهم في غالة أو غاليس (جنوب فرنسا)، في سبتمانيا وفي أكوتين، ثم في وادي الرون شمالاً حتى بورجونيه؛ وأنشأوا من فتوحاتهم في غاليس ولاية سميت بالثغر أو الرباط وعاصمتها أربونة؛ ولما ارتدوا أمام الفرنج في بلاط الشهداء، احتفظوا مدى حين بفتوحاتهم في غاليس؛ واستمر لظى الحرب يضطرم بينهم وبين الفرنج في تلك الأنحاء مدى ربع قرن، والفرنج يستردون مدنهم وأراضيهم تباعاً من أيدي الغزاة، حتى انتهوا أخيراً بالاستيلاء على أربونة آخر معقل إسلامي في غاليس سنة 759م.
وكان ذلك خاتمة الفتوحات الإسلامية المستقرة في فرنسا، ولكنه لم يكن خاتمة الغزوات الإسلامية أو خاتمة النفوذ الإسلامي في تلك الأنحاء. ذلك أن المسلمين عادوا فنفذوا إلى(72/14)
الجنوب فرنسا، ثم إلى بييمون وسويسره، وغلبوا على كثير من المواقع والأراضي في تلك الأنحاء أحقاباً طويلة، ولكنهم كانوا في تلك المرحلة جماعات مستقلة مغامرة تعمل لحساب نفسها أكثر مما تعمل لحساب الحكومات التي تنتمي إليها، وكانوا مستعمرين أكثر منهم غزاة؛ وتلك صفحة من تاريخ النضال بين الشرق والغرب والإسلام والنصرانية قلما تعنى بذكرها الرواية الإسلامية، وإن كانت الرواية النصرانية تشير إلى الكثير من وقائعها وتفاصيلها. وسنعنى في هذا الفصل بسرد حوادث هذه الصفحة الغريبة المجهولة، وبما كان للاستعمار الإسلامي في تلك الأنحاء من الخواص والآثار. كانت أول غزوة إسلامية لفرنسا بعد قيام الدولة الأموية في الأندلس، في عصر أمير الأندلس هشام بن عبد الرحمن الأموي، ففي سنة 793م دعا هشام إلى الجهاد، وأرسل إلى فرنسا جيشاً بقيادة وزيره عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث، فعبر البرنيه، وزحف على أربونة، فلما لم يستطع افتتاحها، ارتد إلى قرقشونه؛ وكان شارلمان (أو كارل الأكبر) ملك الفرنج يشتغل يومئذ بمحاربة خصومه على ضفاف الدانوب بعيداً عن فرنسا؛ فتأهب أمير أكوتين لرد العرب، وأوفد لمحاربتهم جيشاً بقيادة الكونت دي تولوز، فالتقى الفريقان في مكان يسمى (فيل دني) بين أربونة وقرقشونه، ونشبت بينهما موقعة غير حاسمة ارتد على أثرها العرب إلى الجنوب مثقلين بالغنائم. وتشير الرواية العربية إلى تلك الغزوة وتقول أن المسلمين استولوا خلالها على أربونه، ولكن الروايات الفرنجية المعاصرة لا تذكر شيئاً عن هذا الفتح.
وفي سنة 806م هاجمت شرذمة قوية من البحارة العرب جزيرة كورسيكا؛ فبعث ببين بن شارلمان ملك إيطاليا أسطولاً لقتالهم، ولكنهم هزموه وقتلوا قائده، وحصلوا كثيراً من الغنائم، ولم يمض عامان حتى عاد البحارة العرب إلى غزو شواطئ كورسكيا وسردانية. ثم توالت غزواتهم إليها بعد ذلك؛ وكانت شواطئ فرنسا الجنوبية عرضة أيضاً لمثل هذه الغزوات البحرية الناهبة، وكان قوام هذه الغزوات عصابات قوية مغامرة من مسلمي الأندلس وأفريقية تجوس خلال هذه المياه في سفن خاصة وتثخن في هذه الشواطئ، وتعود مثقلة بالغنائم؛ وكان البحارة المسلمون كالبحارة النورمانيين، رعب هذه الشواطئ، وكانت أخبار غزواتهم تدوي في جنوب فرنسا، وتعنى الروايات الفرنسية المعاصرة، ولاسيما الروايات الكنسية بتدوين أخبار هذه الغزوات، وتبالغ في تصوير عصفها ووقعها، وتقول(72/15)
لنا إن البحارة العرب ذهبوا في جرأتهم إلى حد التجول في مياه الاطلنطيق ومهاجمة شواطئ فرنسا الغربية، وإن سفينة عربية كبيرة اجتازت في ذلك الحين مياه الاطلنطيق حتى مصب نهراللوار.
وفي سنة 838م خرج أسطول عربي من ثغر طراكونه (تراجونا) ومياه البليار، ورسى في مياه بروفانس، وهاجم ثغر مرسيليا وما حوله من المواقع والأراضي، وأثخن فيها، وحمل كثيراً من الغنائم والسبى. وكان على عرش فرنسا يومئذ لويس (لي ديبونير) بن شارلمان، وكان ملكاً عاجزاً ضعيفاً، فلما توفي في سنة 840م، اضطربت أحوال المملكة، وضعفت الثغور، فانتهز البحارة العرب تلك الفرصة، وغزوا بروفانس عند مصب نهر الرون، وهاجموا مدينة آرل، وخربوا معاهدها. ثم توالت غزواتهم بعد ذلك في تلك المياه، وهاجموا مراراً مرسيليا وآرل. وفي سنة 850، في عهد عبد الرحمن بن الحكم أمير الأندلس، عبر المسلمون جبال البرنيه مرة أخرى بقيادة موسى حاكم سرقسطة وغزوا سبتمانيا، وأثخنوا في نواحيها، واضطر شارل (الأصلع) ملك فرنسا أن يعقد الصلح معهم؛ ومن المرجح أن هذه الغزوة كانت ذات صفة رسمية، وأن حكومة قرطبة هي التي نظمتها أو أوحت بتنظيمها. وفي سنة869، هاجمت شراذم من البحارة العرب بروفانس مرة أخرى، واستولت على جزيرة كامارج الواقعة في مصب الرون، وأسرت أسقف آرل الذي كان يقيم فيها، وعادت مثقلة بالغنائم والأسرى.
- 2 -
ولقد أذكى نجاح هذه الغزوات المتوالية في نفوس المغامرين والمجاهدين من مسلمي الأندلس وأفريقية حب التوغل في هاتيك الأنحاء ورغبة استعمارها والاستقرار فيها. وكانت أحوال غاليس (جنوب فرنسا) قد اضطربت يومئذ، وغاب سيد من سادة تلك الأنحاء يدعى بوسون على ولايتي دوفينه وبروفانس وتلقب بملك آرل، وقام يناوئه بعض منافسيه، ونشبت بينه وبينهم حروب أهلية (نحو سنة 890). ففي تلك الآونة رست سفينة عربية صغيرة عليها عشرون بحاراً من المسلمين في خليج جريمو أو خليج سان تروبيه، ونزلوا إلى الشاطئ، ولجأوا إلى غابة كثيفة تظللها الجبال، ثم هاجموا بعض الضياع القريبة وفتكوا بسكانها. ولما رأوا منعة معقلهم سواء من جهة البر أم البحر، عولوا على الاستقرار(72/16)
فيه، ودعوا إخوانهم من الثغور الإسلامية القريبة إلى القدوم؛ وأرسلوا في طلب العون والتأييد من حكومتي الأندلس وأفريقية؛ فوفد عليهم كثير من المغامرين البواسل، ولم تمض أعوام قلائل حتى استقروا في ذلك المكان وأنشأوا له سلسلة من المعاقل والحصون أمنعها وأشهرها حصن تطلق عليه الرواية الفرنجية المعاصرة اسم (فراكسنتم) والمظنون أنه هو المكان الذي تقوم عليه اليوم قرية (جارد فرينيه) - الواقعة في سفح جبال الألب، وما زالت ثمة آثار تدل على قيام معاقل قديمة في ذلك المكان. ولما كثر جمعهم واشتد ساعدهم، أخذوا في الإغارة على الأنحاء المجاورة، وأصبحوا قوة يخشى بأسها؛ وسعى إليهم بعض الأمراء والسادة المتنافسين يستظهرون بهم بعضهم على بعض، فلبوا الدعوة، وانتزعوا من بعض السادة أراضيهم، وأعلنوا أنفسهم سادة في الأنحاء المغلوبة؛ وبثوا الذعر والروع في جنوب بروفانس حتى وصفهم كاتب معاصر (بأن واحداً منهم يهزم ألفاً واثنين يهزمان ألفين).
وكانت هذه أول خطوة في استعمار العرب لجنوب فرنسا. وفي خاتمة القرن التاسع اتخذ المستعمرون خطوة أخرى. فتقدموا نحو جبال الألب غرباً وشمالاً. وكانت مملكة آرل قد ضعفت واضمحلت، وخلف بوسون ولده لويس، ولكنه ذهب إلى إيطاليا ليحارب إلى جانب حلفائه، فهزم هنالك وأسر، وتركت مملكته بلا دفاع؛ وساد الانحلال والفوضى في غاليس كلها. فانتهز المسلمون تلك الفرصة، واخترقوا مفاوز دوفينه، وعبروا (مون سنى) أهم ممرات الألب الفرنسية، واستولوا على دير نوفاليس الشهير الواقع في وادي (سيس) على حدود بييمون، وفر الأحبار في مختلف الأنحاء (سنة 906م) وأغار المسلمون على القرى والضياع المجاورة ونهبوها وفتكوا بأهلها، وأسر بعضهم وأخذوا إلى (تورينو) (بإيطاليا) وسجنوا في ديرها، ولكنهم استطاعوا أن يحطموا أغلالهم، وأضرموا النار في الدير وفي المدينة، وفروا عائدين إلى زملائهم؛ واشتد بأس العرب في تلك الأنحاء، واحتلوا معظم ممرات الألب، فسيطروا بذلك على طرق المواصلة بين فرنسا وإيطاليا؛ ثم انحدروا من آكام الألب إلى سهول بييمون، وأغاروا على بعض مناطقها.
وفي سنة 908 نزلت سرية قوية من البحارة العرب في شاطئ بروفانس على مقربة من (إيج مورت) ونهبت دير بسالمودي. وكانت الأديار والكنائس يومئذ مطمح أنظار الغزاة لما(72/17)
كانت تغص به من الذخائر والأموال. وانتشر العرب بعد ذلك في جميع الأنحاء المجاورة، واجتاحوا كل ما في طريقهم من البسائط؛ وهاجموا مرسيليا وهدموا كنيستها، وغزوا ايكس، وسبوا النساء وتزوجوا بهن ليكثر نسلهم ويقووا به، وانضم إليهم كثير من النصارى المغامرين من أهل هذه الأنحاء؛ وهجر السادة والأغنياء حصونهم وقصورهم والتجئوا إلى الداخل خشية القتل أو الأسر، وأغلق العرب طريق الألب إلى إيطاليا. وكان يمر بها كل عام ألوف من الحاج الذين يقصدون إلى رومة، واقتضوا منهم الضرائب الفادحة ليسمحوا لهم بالمرور.
- 3 -
ثم أتخذ العرب خطوة جديدة في سبيل التقدم إلى أواسط أوربا، فدفعوا غزواتهم إلى بيمون ومونفراتوا. وتقول لنا الرواية الكنسية المعاصرة إنهم وصلوا في أوائل القرن العاشر إلى حدود ليجوريا على شواطئ خليج جنوه؛ ويروي ليوتبراند وهو كاتب معاصر أن العرب غزوا سنة 906 مدينة (آكي) من أعمال مونفراتو الشهيرة بحماماتها (وهي على مقربة من تورينو)، ثم غزوها ثانية سنة 935 بقيادة زعيم يدعى (ساجيتوس) ولكنهم هزموا ومزقوا؛ وفي هذا الوقت أيضاً، نزلت شرذمة قوية من البحارة الأفريقيين بساحل جنوه، وقتلت عدداً كبيراً من أهلها، وأسرت جموعاً كثيرة من النساء والأطفال. وفي سنة 939 غزا العرب منطقة (فاليه) في جنوب سويسرا، ونهبوا دير (أجون) الشهير، وغزوا في الوقت نفسه منطقة (تارانتيز) من أعمال سافوا الوسطى، ثم اتخذوا منطقة (فاليه) قاعدة للأغارة على الأراضي المجاورة في سويسرا وإيطاليا ونفذوا منها إلى أواسط سويسرا ثم إلى (جريزون) في شرق سويسرا، ونهبوا دير ديزنتي أشهر وأغنى الأديار السويسرية، ونهبوا طائفة أخرى من الأديار والكنائس الغنية. وفي بعض الروايات أيضاً أن العرب وصلوا في غزواتهم إلى بحيرة جنيف، وجازوا إلى مفاوز جورا الواقعة في شمالها. وكانت سويسره يومئذ من أقاليم مملكة بورجونيه، وملكتها يومئذ (الملكة برت) الوصية على ولدها الطفل كونراد، فارتدت حين اقتراب العرب إلى حصن ناء في جهة نيوشاتل.
وفي سنة 940 غزا العرب فريجوس، وكانت يومئذ من أكبر وأمنع ثغور فرنسا الجنوبية؛ وغزوا أيضاً ثغر الطولون، ففر السكان إلى الجبال، وعاث العرب في تلك الأنحاء،(72/18)
وخربوا المدن والحصون، وأحرقوا الأديار والكنائس.
ولما اشتدت وطأة العرب في جنوب فرنسا وبلغ السخط من غزواتهم وعيثهم ذروته، اعتزم سادة الجنوب وعلى رأسهم هوج ملك بروفانس أن يبذلوا كل ما في وسعهم لسحق ذلك العدة المزعج؛ ورأى هوج أن يبدأبافتتاح حصن فراكسنيه (فراكسنتم) الذي يمنع به العرب ويتخذونه قاعدة تأمين مواصلاتهم مع أسبانيا وأفريقية، وقاعدة للإغارة على الداخل، وكتب إلى صهره إمبراطور قسطنطينية يطلب منها أسطولاً من قاذفات النار اليونانية حتى يستطيع مهاجمة العرب من البر والبحر معاً. فلبي نداءه، وفي سنة 943 رسا أسطول بيزنطي في مياه نروبيه، وزحف هوج في نفس الوقت بجيشه على فراكسنيه؛ وهوجم العرب من البر والبحر بمنتهى الشدة وأحرقت سفنهم؛ ونفذ هوج إلى الحصن بعد قتال رائع، وفر العرب إلى الآكام والربى، وكاد يسحق سلطانهم في تلك الأنحاء. ولكن حدث عندئذ أن علم هوج أن خصمه ومنافسه بيرانجيه قد عاد إلى إيطاليا لينازعه في انتزاع عرشها، فصرف هوج الأسطول، واضطر أن يعقد الصلح مع العرب بشرط أن يبقوا في رؤوس الألب وممراته وأن يغلقوا الطريق إلى إيطاليا في وجه خصمه؛ وبذلك استعاد العرب قلاعهم وسيادتهم في جنوب بروفانس.
واحتل العرب آكام الألب وممراتها، وفرضوا الضرائب الفادحة على المسافرين، واستطاعوا بسيطرتهم على ممر سان برنار الكبير الموصل بين سويسره وإيطاليا وغيره من الممرات والمعاقل الجبلية، أن يجتاحوا الأنحاء المجاورة، وأن يبثوا فيها الذعر والروع واستقرت منهم جموع كبيرة في السهول والضباع القريبة من معاقلهم، وتزوجوا النساء الأسيرات، وزرعوا الأرض، واكتفى أمراء هذه النواحي بأن يحصلوا منهم بعض الضرائب.
ونفذ العرب أيضاً إلى منطقة نيس أجدى ولايات مملكة آرل
الجنوبية، واجتحاوا شاطئ ليجوريا كله (جنوه)؛ بل يظهر أن
سرية منهم استقرت في نيس ذاتها، وما زال في نيس إلى
اليوم حي يعرف بحي العرب وأخيراً نفذ العرب إلى قلب(72/19)
ولاية دوفينه وغزوا مدينة جرينوبل واحتلوها مدى حين،
واحتلوا واديها الخصيب، (جريزيفودان) الذي يجري فيه نهر
الازير فرع الرون، وفر أسقف جرينوبل وزملاؤه إلى الشمال
حاملين لرفات قديسهم. للبحث بقية
محمد عبد الله عنان المحامي(72/20)
8 - الشخصية
للأستاذ محمد عطية الابراشي
المفتش في وزارة المعارف
(3) الشعور بالواجب:
من الوسائل التي تساعد على التنفيذ، وعلى تقوية الشخصية العملية، تلك الصفة الحية وهي الشعور بالواجب، وإجابة نداء الضمير؛ فالإنسان حينما يشعر بوازع نفسي بأنه يجب عليه أن يفعل كذا، أو بأنه يجب عليه ألا يفعل كذا، فان هذا الشعور وحده يرمي إلى مغزى خلقي، ويستدعي نشاطاً عقلياً لفعل الشيء أو محاربته، فهو بمثابة مؤثر داخلي يؤثر فيه تأثيراً قوياً. وإن إجابة هذا المؤثر أو الباعث النفسي خير كفيل لاستنهاض الهمة، ومضاعفة العزيمة. قال (إمرسون) إن الإنسان إذا استحثه الواجب لأن يقوم بعملٍ ما، قام به) وليس الشعور بالواجب أو تلبية نداء الضمير، أو الصوت الداخلي، مقصوراً على طبقة دون الأخرى، ولا على جيل من الأجيال، ولا سن من الأسنان.
وإذا تذكرنا أن الشعور بالواجب يتضمن حكم النفس وضبطها، أمكننا أن ندرك العلاقة بين شخصية وبين الشعور بالواجب وإجابة الداعي النفسي؛ ففي كل أمر من أمور الحياة نجد أن هدوء البال، وراحة الضمير، والاطمئنان، والجمال - ثمرة من ثمرات الطاعة، ومراعاة القوانين العلمية والفنية.
وإننا إذا بحثنا في تاريخ العظماء والأدباء والفنانين، وجدنا أن ذوي الشخصيات الخالدة (في التاريخ) كانوا من ذوي الضمائر الحية الحساسة، الذين يجيبون نداء الضمير، ويصغون إلى صوت الله فيهتدون بهديه، وكانوا يحسون بالواجب فيقومون به، ويعملون على تنفيذه. وكثيراً ما يكون الضمير الحي والشعور بالواجب سبباً في إنقاذ الإنسان من صروف الحياة، ومن السقوط إلى الهاوية فلا يكون فريسة للنفس الشريرة. فكل إنسان تفتح أمامه السبل المختلفة، ولكن الروح الطاهرة لا تفكر إلا في الطرق الشريفة السامية، أما الروح الدنيئة فلا تنظر إلا إلى الطرق الدنيئة، ومعظم الناس يسلكون طريقاً وسطاً. وإن الشعور بالواجب، وحب الفضيلة، والتمسك بالخير تكسب الشخص قوة وروعة ووقاراً،(72/21)
وتبعث في نفسه الحياة، وتقوده إلى الطريق السوي، وتعوده الصبر والمثابرة، وتقوي الإرادة، وهي التربة الصالحة التي فيها تنمو وتثمر الشخصية القوية الغنية.
(4) قوة الوازع الديني:
إننا في البحث في الشخصية الإنسانية لا يمكننا أن ننسى الدين وأثره، والوازع الديني وقوة تأثيره في حياة الإنسان، فكثيراً ما يواجه الإنسان بأزمات وشدائد لا قبل له بها، ولولا الثقة بالله والإيمان به لجزع، وتملكه اليأس، واستولت عليه الهموم من كل جانب. ولكن الوازع الديني هو الذي ينتشله من وهدة القنوط، ويبعث في نفسه، ويحييه من يأسه، وينير الطريق أمامه بعد أن كان مظلماً، ويهديه بعد الضلال، ويسليه عند الشدة. فالعنصر الوجداني قوي في العقيدة الدينية، وهو يستحث الشخص في أداء الواجب، وإرضاء الضمير، والصبر، والمثابرة، ويوحي إليه بفعل الخير واجتناب الشر، ويدعوه إلى الحركة والعمل في الحياة، ويرشده، فيعمل الإنسان العمل وكله أمل وثقة بالله، يؤدي واجبه ويترك النتيجة لله، لا يفكر في الماضي؛ لأنه قد فات. وينظر في الحاضر، ويترك المستقبل لله يفعل ما يشاء. وبهذه الوسيلة يهدأ باله، ويطمئن خاطره، وتقوى شخصيته، ويكون سعيداً في الحياة. والإنسان عادة يطمئن إلى رجال الدين والمتدينين الذين يثقون بالله تمام الثقة، ويفعلون ما يفعلون ابتغاء مرضاة الله. أما الرجل الذي لا دين له فلا ضمير له، ولا يمكنك أن تطمئن إليه.
ومعظم المصلحين في العالم كان الوازع لهم في الإصلاح دينياً، أمثال الأنبياء والخلفاء والأئمة من المسلمين، وهليل والرباني (عقيبة) من الإسرائيليين، ومارتن لوثر، وكارليل، ورسكن من المسيحيين. فالوازع الديني هو الذي أمدهم بثروة في العقل، وقوة في الروح، وعظمة في الخلق، فأثروا في جيلهم، وفي الأجيال التي أتت من بعدهم. ولسنا اليوم في حاجة إلى رجال يقومون بالواجب فحسب، ولكننا في حاجة إلى رجال يمكنهم أن يحثوا غيرهم على القيام به.
الخلاصة:
وصفوة القول أننا في الشخصية العملية نحتاج إلى ما يأتي:
1 - أن يكون لنا غرض معين في الحياة، نعمل للوصول إليه بحيث نعتمد على أنفسنا ولا(72/22)
نكون صدى الأصوات غيرنا فنكرر ما يقولون ونفعل ما يفعلون، ولا نتأثر بهؤلاء المترددين الذين لا يعرفون لهم غرضاً في الحياة، ولا يثبتون على حال، ولا نشغل أنفسنا بكثير من المشروعات التي لا يمكن تنفيذها، بل بمشروع واحد في وقت واحد، ثم نعمل على إجادته وتنفيذه، ثم الابتداء بغيره وهكذا.
2 - أن يكون لدينا حب شديد لأعمالنا، ورغبة كبيرة في تكملتها، ونعمل على أن لا نفقد تلك الرغبة في تهذيبها ومضاعفتها.
3 - الشعور بالواجب والقيام به في الحال على أكمل وجه، فلا نؤخر عمل اليوم إلى الغد، ولا نفكر فيما سنحصل عليه من الجزاء عند القيام بالعمل، بل نجعل الجزاء أمراً ثانوياً، ونؤدي العمل لا لشيء إلا لأنه يجب أن يؤدى، ونثق بغيرنا كما نثق بأنفسنا، ولا نهزأ بالمثل العليا التي يتخذها سوانا.
4 - قوة الوازع الديني مع التمسك بالدين، بحيث لا نفكر في الماضي، ونعمل على انتفاع بالحاضر، ونقوم بواجبنا كما ينبغي، ونترك المستقبل لله. وبهذه الوسيلة نستريح وتستريح نفوسنا.
(تم البحث)
محمد عطية الابراشي(72/23)
كيف ولماذا سافرت إلى أوربا؟
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
منذ بضع سنوات - أربع أو مائة، لا أدري! - استقر عزمي على القضاء الصيف في لبنان، فجمعت ما عندي من الثياب القديمة، وحشوت بها حقيبة، وقلت أقضي أياماً في الإسكندرية ثم أبحرت منها إلى بيروت. وهناك - في الإسكندرية، لا بيروت - لم أدع شركة ملاحة إلا دخلت مكتبها واستفسرت من رجالها عن البواخر، حتى الذاهبة إلى الهند، ومواعيد وصولها ورحيلها. وكنت أخرج من كل مكتب بحزمة من الأوراق، فيها صور مغرية وأسعار منفرة. فاتفق يوماً أن لج وكيل (شركة سيتمار) في تزين السفر على الباخرة (اسبيريا) إلى إيطاليا، وكان الوقت ظهراً، وأنا جوعان، فدار رأسي، ووهن عزمي، وكدت أنقذه ثمن التذكرة، ولكني تذكرت أن (الجواز) يحتاج إلى (تأشيرات) فاعتذرت به وانصرفت. وعدت إلى فندق (بوريفاج) في أقصى (الرمل) وكنت مقيماً به، وأسرعت إلى مائدتي فجلست إليها، وكنت مهموماً مكروباً موزع النفس، بين لبنان والباخرة (اسبيريا) - أي والله! كأنما كنت سأقضي الصيف كله على ظهرها! - فناديت الخادم وطلبت من النبيذ عسى أن يذهب عني الفتور،
وملأت الكأس، وتناولتها، ورفعتها إلى فمي، فسمعت من ورائي صوتاً رخيماً يقول: (المازني - هذا - حشرة!).
فارتدت يدي عن فمي، وهي ترعش، وسالت عليها قطرات من النبيذ، ومضى الصوت الحلو يفري أديمي: (حشرة حقيرة - يجب سحقها بالأقدام.)
فتلفت مذعوراً وقد خيل إلي أن العيون كلها صارت علي، وتمنيت لو أن إدارة الفندق تحرم الكلام على الطعام، أو تجيء بموسيقى تغرق في أنغامها العالية القوية هذه الأصوات الحلوة! ولكن الكلام لم يكن محظوراً، ولا موسيقى هناك، فسمعت مكرها: (سكير لا يفيق، ومعربد لا يرعوي).
فقلت في سري (يا خبر اسود؟! أنا سكير لا أفيق؟؟ أنا عربيد؟؟) ودهشت، ولو أن رجلاً كان يزعمني كذلك لما حفلت نفسي ماذا يقول عني، ولكنها فتاة - فتاة على التحقيق. . صوتها وحده دليل على ذلك - تذكرني بلهجة المحنق، كأنما كنت قد قتلت أباها، - قاتله(72/24)
الله على أي حال! - وكان الخادم قد وضع أمامي شبوطةً مغرية، ولكن نفسي انصرفت عنها وزهدت فيها، فاضطجعت وأنا أعجب للذين يؤاكلون هذه الفتاة لماذا لا يتكلمون؟؟ وما لهم لا يغيرون هذا الموضوع.
(رجل مستهتر، لا يبالي ماذا يقول عن نفسه، ويظن لسخافته أن هذا من الظرف) فلم أعد أطيق هذا الطعن، واشتهيت أن أكتم أنفاسها بالفوطة، ولكني طويتها - أعني الفوطة - ووضعتها على المائدة وهممت بالقيام، فسمعتها تقول:
(على كل حال ماذا ننتظر؟ إن (اسبيريا) تسافر بعد غد، وإذا لماذا لم نشتر التذاكر غدا تأخرنا وفاتتنا. . .). وتسللت، كاللص، ولكن بعد أن خالستها النظر ورأيت وجهها، من غير أن تراني، وكانت مع الأسف جميلة. فزاد عجبي، فان الحسن ري ولين، وهذه الفتاة تحمل لي في جوفها بركاناً فائراً بالسخط والنقمة وكل ما ينافي معاني الجمال. فقرضت أضراسي وأقسمت لأسفارن على هذه الأسبيريا لأرى آخر هذه الحكاية.
وأقبل الليل، وكنت أتمشى في حديقة الفندق، وحدي، كما لا أحتاج أن أقول، وكنت لا أزال أحدث نفسي بما سمعت من أوصاف، وكان صدري كالخضم المضطرب، وكان الخدم يروحون ويجيئون في أرجاء الحديقة تلبية لنداء المنادين أو تصفيق المصفقين، وكان الأطفال يجرون هنا وههنا، وأنا ذاهل عن هؤلاء وأولئك جميعاً بالحجارة التي صكت سمعي على الطعام، فكنت أخطو خطوات، وأقف وأقول لنفسي: (حشرة. . .!).
فقال صوت (أفندم؟). قلت - غير عابئ به أو جاعل بالي إليه - (حشرة حقيرة. . تستحق السحق بالأقدام) واستأنفت السير، أو الخطو، وتركت الخادم - فقد كان أحد الخدم - يسخط ويلعن، أو لا يدري هل يضحك أو يغضب.
وإني لفي ذهولي هذا، وإذا بصرخة خافتة، فالتفت مسرعاً إلى مصدرها، فبصرت بفتاة حانية على غصن مريجٍ علق به ثوبها، فوثبت إليها وعنتها على تخليص الثوب، ولكن بعد أن تخرق.
وقلت وأنا أنفض التراب عن كفي وأشير إلى الثقوب الظاهرة في ثوبها:
(ليس هذا ذنبي. . إنه ذنب البستاني المهمل الذي يربي هذه الألفاف ليزين بها الطريق ولا يعني بتقليمها. . . .).(72/25)
فقالت: (على العكس. . . إني شاكرة لك نجدتك، ولولاك لصار الثوب في يدي هلاهيل. . . فأنا مدينة لك. . .)
فرفعت عيني إليها فإذا بها هي التي سلقتني على المائدة بلسانها وحرمتني لذة الطعام وأنا جائع أتضور، فارتددت عنها مقدار خطوة وندت عن صدري آهه مخنوقة:
فقالت وهي تدنو مني: (ماذا بك؟) ورأتني أتكلف الابتسام فقالت: (بالدور. . . أنت مرة وأنا مرة)
فقلت: (لا شيء. . . لا شيء. . .)
فألحت (ولكن ماذا بك؟)
قلت: (أوه. . . لاشيء، لم أكن أحسب أنك أنت. . .)
فقالت مستغربة (ولكن بالطبع أنا أنا. . .)
قلت: (طبعاً. طبعاً. إني سخيف)
قالت: (هل تعرفني؟)
قلت: (أعرفك؟ الجواب نعم ولا)
قالت: (كيف يمكن هذا؟ ماذا تعرف عني؟)
قلت: (أقل مما تعرفين عني)
قالت: (لا مؤاخذة، ولكني لا أعرف عنك شيئاً)
قلت: (صحيح!؟)
قالت: (بالطبع صحيح! إني لم أرك إلا الساعة)
فتشهدت وأنحط عن صدري حجر، وقلت: (الحمد لله!، يا ما أكرمك يا رب!)
فقالت: (ولكن لماذا تتكلم هكذا؟ لست أفهم شيئاً. . .)
قلت: (أحسن)
قالت: (هل معنى هذا أنك تخشى أن أعرفك؟)
قلت: (جداً جداً جداً!)
فضحكت وقالت: (هل أنت مجرم هارب؟)
قلت: (شر من مجرم، بودي لو أستطيع الهرب ولكن إلى أين؟ كلا. لست مجرماً ولكني(72/26)
حشرة!)
فصاحت: (إيه؟ حشرة!)
قلت: (أي نعم. حشرة حقيرة. . .)
فوضعت راحتها البضة على كتفي وقالت: (لا تتكلم هكذا! هل أنت مريض؟)
قلت: (نعم. نعم. نعم.)
قالت: (مسكين! ماذا بك؟)
قلت: (أذني. . . أذني. . . آه من أذني) والمصيبة أني كنت أبتسم، فقد راقني هذا الموقف على الرغم مما أجن من الحقد على الفتاة، فأقبلت علي، وجعلت تهون من أمر أذني وتشير علي بأن أضع فيها قطرة أو قطرتين من (الجليسيرين) وأن أبلع قرصاً من (الأسبيرين) فشكرتها افترقنا.
وفي صباح اليوم التالي مررت (بقلم الجوازات) وبدار (القنصلية الإيطالية)، ثم استخرت الله وذهبت إلى مكتب (شركة سيتمار)، وطلبت تذكرة على الباخرة (اسبيريا) وإذا بالفتاة تقول لي:
(وأنت أيضاً مسافر عليها؟)
قلت: (نعم. هل هناك بأس؟)
فضحكت وقالت: (كيف أذنك اليوم؟)
قلت: (أذني؟ آه! صحيح! تطن)
قالت: (يظهر إنها شفيت. . .)
فهممت بأن أقول شيئاً ولكن الرجل سألني عن أسمي، ولم أكن أتوقع هذا، فهبط قلبي إلى حذائي، ونظرت من الفتاة إلى الرجل، ومن الرجل إلى الفتاة وقلت:
(إسمي؟ ولكن هل هذا ضروري؟)
فقال: (لا. . . ولكن يحسن. . . إن أسماء الركاب تكتب وتوزع على الباخرة)
وكنت قد أنقدته قبل ذلك ثمن التذكرة فلولا هذا لعدلت فقلت:
(إسمي؟ إسمي؟ أظنه إبراهيم. . نعم. . . إبراهيم عبده)
وقالت الفتاة ونحن خارجان:(72/27)
(هل هذا أسمك الحقيقي؟)
قلت: (هل تعرفين إسمي الحقيقي؟)
قالت: (لا. . . إذن هذا اسم مستعار؟ معذرة إذا كنت أتطفل. . .)
قلت: (لا. لا. . . ليس اسماً مستعاراً. . . أنه اسمي من الآن فصاعداً)
فهزت رأسها وقالت وهي تبتسم: (ليس لي حق، هذا فضول لا يغتفر. . . سامحني)
فقلت: بلهجة الجد الصارم (أسامحك؟ كلا! أبداً. . . أبداً. . .)
فتعجبت، ولها العذر وقالت: (هل أسأت إليك بشيء؟ إني آسفة!)
قلت: (أسأت؟ أسأت فقط؟ لقد قتلتني يا فتاتي!)
قالت: وهي تدير وجهها لترى وجهي
(أتمزح أم تتكلم جاداً؟)
فواجهتها وقلت: (هل تعرفين أني أمزح؟؟ كلا! أعني نعم. قتلتني. . . طعنتي هنا) (وأشرت إلى موضع القلب)
فضحكت وقالت: (بهذه السرعة؟! إنك حساس جداً)
قلت: (نعم. جداً. فاتقي أن تدوسيني بقدميك. . .)
قالت: (ولكن لماذا أدوسك بقدمي؟ لست أفهم كلامك. . .)
قلت: (لأني حشرة. . .)
قالت: (أوه! لا تقل هذا. . لماذا تشتم نفسك هكذا؟)
قلت: (نعم حشرة، وحشرة حقيرة أيضاً. . .)
قالت: (أوه! إنك تضجري بهذا ار. . .)
قلت: (وسكير عربيد. . . .)
فوقفت في الطريق وصاحت
(أهو أنت؟)
فقلت - مقلداً -: (بالطبع أنا. أنا.!)
قالت: (وسمعتني؟)
قلت: (كل كلمة. . . خرقت أذني كالمسار المحمي)(72/28)
قالت: (إني آسفة. . . جداً. . . وأعتذر)
قلت: (آسفة؟ هممم. وأنا أنفلق! لا يأس. هيا بنا. . .)
قالت: (لقد تعمدت ذلك. . .)
فصحت بها: (إيه؟ كان هذا كله إلى الآن تمثيلاً؟)
قالت: (نعم قلت ما قلت عمداً. . . عرفتك من وجهك ومن. . . لا مؤاخذة. . . من رجلك. . ولكنك تؤثر الوحدة ولا تبالي الناس وتتقي أن تكلمهم، بل تهرب منهم، فماذا أصنع غير ذلك؟)
قلت: (كنت تستطيعين أن تمدحيني مثلاً فأسر. . . أم هذا حرام؟)
قالت: (والآن ألا تعفو عني؟)
قلت: عفونا يا ستي! بعد أن غرمنا ثمن تذكرة إلى أوربا بلا داع!
قالت: (إيه؟)
قلت: (نعم. كنت مسافراً إلى لبنان، فلما سمعت منك بعض الحقائق. . .)
فاحتجت: (لا تقل الحقائق. . .)
(أردت أن أعرف البقية. . . فقد أوصانا سقراط أن نعرف أنفسنا)
فوضعت كفها على فمي.
فلم أقبلها - أعني كفها - ولكني عضضتها عضة مغيظ، ولم أبال صراخها في الطريق.
إبراهيم عبد القادر المازني(72/29)
من تراثنا العلمي
2 - فضائل مصر لابن زولاق
وصف وتلخيص لنسخة مخطوطة
للأستاذ علي الطنطاوي
تتمة
باب: إن المأمون قارن مصر بالعراق
1 - صفة مصر وخبرها:
قال: كان سعيد بن عفير بحضرة المأمون وهو بمصر فسمعه يقول لعن الله فرعون حين يقول: أليس لي ملك مصر. فلولا رأى العراق! فقال: يا أمير المؤمنين، لا تقل هذا فان الله عز وجل يقول: ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون. فما ظن أمير المؤمنين بشيء دمره الله هذه بقيته (ثم وصف مصر وأنهارها وقناطرها وأرزاقها وخلجانها السبعة وما كان من خبرها، وخبر الخليج الإسلامي الذي حفر في زمان عمر).
ذكر كور مصر، وما في كل كورةمن أصناف البر والأواني والفواكه والسلاح والطعام والشراب وجميع ما ينتفع به الناس. (وذكرها كورة كورة، وذكر ما فيها في فصل طويل، وأحال في مواضع منه على تاريخه. وقال وهو يتكلم عن إسكندرية) وقد شرحت ذلك مستفيضاً في كتابي التاريخ الكبير في أخبار الإسكندرية.
(إلى أن قال): وذكرت الحكماء أن عجائب الدنيا ثلاثون أعجوبة منها عشرون بمصر والعشرة في سائر الدنيا: مسجد دمشق، وكنيسة الرها، وقنطرة سخا، وقصر غمدان، وكنيسة رومية، وصنم الزيتون بصقلية، وحجر العواري، وإيوان كسرى، وبيت الريح ب. . .؟ وكنيسة بعلبك.
وبمصر من العجائب ما يغني عن هذا ويربو عليه (؟) فمن عجائبها: مدينة منف وقد ذكرناها، ومن ذلك عين شمس وهي هيكل الشمس، وبها قدت زليخا علي يوسف القميص، وبها العمودان اللذان لم ير أعجب مهما ولا من أبنائها وهما محمولان على وجه الأرض بغير أساس طولهما في السماء خمسون ذراعاً إلى الخ. . ومن عجائب مصر البرايق بأخيم(72/30)
وسمنود وفيها الصور أمثال الفرسان والرجاله الخ. . (وذكر لها خبراً طويلاً) ومن عجائب مصر أمر الهرمين الكبيرين الخ.
3 - ذكر النيل وأموره.
4 - وصف مصر وتمثيلها:
(ذكر وصف عمرو بن العاص ووصف غيره من ولاة مصر. وتكلم عن خراج مصر وكيف كان يصرف كلاماً طويلاً ذكر فيه مقدار الخرج في زمن الفراعنة الأولين وفي أيام يوسف ومصارفه، وذكر أن عمر بن العاص جباها عام الفتح عشرة آلاف ألف دينار، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر بن الخطاب يعجزه ويقول جباها الروم عشرين ألف ألف دينار، فلما كان العام المقبل جباها عمر أثنى عشر ألف ألف دينار، فلما وليها عبد الله بن سعيد بن أبي سريح لعثمان جباها أربعة وعشرين ألف ألف. فقال عثمان لعمرو وكان عنده في المدينة: درت بعدك اللقحة يا أبا عبد الله. فقال: أضررتم بالفصيل.
ثم أنحط الخراج إلى ما دون ثلاثة آلاف ألف. إلا في أيام هشام، ثم قصر إلى سنة 254، فلما وليها أحمد بن طولون استقصى العمارة وبالغ فيها فجباها أربعة وعشرين ألف ألف الخ).
5 - ذكر مقبرة مصر وفضائلها وذكر مقطمها.
6 - ذكر ما تختص به مصر دون غيرها من الملبوس والمركوب والمأكول والمشروب (في فصل طويل).
7 - في أسماء الشهور القبطية (وما كانوا يصنعون في كل واحد منها).
هذه أبواب الكتاب وفصوله، وفي كتاب أشياء رواها المؤلف على علاتها ولم يسلك فيها سبيل التحقيق، كالذي جاء به عند الكلام على المواضع المشرفة في مصر، وعجائب مصر، وخبر الأهرام. وفيه أشياء نافعة وجليلة. ولكي نزيد القارئ بياناً نقدم إليه هذه النبذة مما ورد في الكتاب نموذجاً لأسلوبه:
قال: (ذكر ما في مصر من ثغور الرباط والمساجد الشريفة وما فيها من شركة شرف الحرمين وسائر الدنيا. فأما مشاركتها للحرمين وأعمالها - (؟) ولما أمكن الواردين إليها من كل فج عميق المقام بها يوماً لنفاد أزوادهم وأنهم يمتارون من ميرة مصر. وقال بعض(72/31)
المتكلمين: لو أن رجلاً عابداً ترك التصوف وأقبل على العبادة وأن آخر قام له بكفايته وسائر مئونته من كسوة وطعام وشراب لكان شريكه فيما يعمله وأن له أوفر أجرة، وكذلك مصر منزلتها من الحرمين. ومن فضايلها أن الذي بنى الكعبة رجل من قبط يكنى أبا قدم. ومصر فرضة الدنيا ويحمل من حيزها إلى سواحلها وكذلك ساحلها بالقلزم ينقل إلى الحرمين وإلى جدة وإلى عمان وإلى الهند وإلى الصين وصنعاء وعدن والشحر والسند وجزاير البحر، ومن جهة تبنيس ودمياط والغرما فرضة بلدة الروم وأقاصى الفرنحة وقبرص وسائر سواحل الشام والثغور إلى حدود العراق، ومن جهة الإسكندرية فرضة اقريطش وصقلية وبلد الروم والمغرب كله إلى طنجة والسوس ومغرب الشمس، ومن جهة الصعيد فرضة بلد المغرب وبلد البربرو - (؟) والحبشة والحجاز واليمن. وأما ما فيها من ثغور الرباط فمن ذلك: رباط البرلس، ورباط رشيد، ورباط الإسكندرية، ورباط ذات الحمام، ورباط البحيرة، ورباط أخنا، ورباط دمياط، ورباط شطا، ورباط ننفس (؟) ورباط الاستوم، ورباط الفرما، ورباط النفار، ورباط الفرادة، ورباط العريش، ورباط الشحربين وما ينضاف إلى هذه الثغور وجهاتها، ورباط الحيرس من جهة الحبشة والحة (؟) وما يقرب منهم (كذا) ورباط أسوان على النوبة، ورباط الواحات على البربر والسودان ورباط قوص. وقد روينا في أول هذا الكتاب قول الرسول عليه السلام: إن مصر خير أجناد الأرض. فقال له أبو بكر: ولم يا رسول الله؟ قال لأنهم وأزواجهم وأبناؤهم في رباط إلى يوم القيامة وكانت برقة وطرابلس من ثغور مصر إلى أن خرجت في سنة ثلاثمائة فأضيفت إلى رباط المغرب. وأما المساجد الشريفة والمشاهد العظيمة فان بمصر مساجد هي مشاهد والعمل فيها منه في غيرها سوى الحرمين، فمن ذلك مسجد سليمان عليه السلام في الإسكندرية، ومسجد يوسف عليه السلام بمنف، ومسجده بطرا، ومسجده بوادي المقطم. وللخضر مسجدان منها مسجده بالإسكندرية، ومسجده بلبوهة في أسفل الأرض، ومسجد ذي القرنين بالإسكندرية عند النحات. ومنها مسجد الأقدام وهم قوم من أهل المقام قتلوا على موالاة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومسجد عقبة ابن عامر الجهني بسوق وردان، ومسجد مسلمة بن مخلد بسوق وردان، ومسجد الزمام بني على رأس محمد بن أي بكر بناة علامة زمام وجعله مشهداً ورأسه في موضع المنارة، ومسجد - (؟) بني(72/32)
على رأس زيد بن علي بن الحسين بن (- علي) أبي طالب أنفذه هشام بن عبد الملك إلى مصر نصب على هذا المنبر ووقف عنده - (؟) فسرقه أهل مصر. ودفنوه في هذا الموضع، ومسجد درب الكند الذي الزقاق فيه قبر الحسين بن زيد بن حسن بن علي بن أبي طالب أرسله أبو جعفر المنصور بن العباس إلى الأمصار فأخذه أهل مصر فدفنوه في هذا الموضع واتخذوه مسجداً. وبمصر مساجد الصحابة سوى ما ذكرنا الخ).
هذا وليس على الكتاب تعليقات للقراء إلا تعليقة واحدة على أسماء الشهور القبطية قال كاتبها: (قوله أشهر الأعجمية القبطية المراد هذه الشهر على الأبراج الفلكية الاثني عشر برج، لأن كل برج من هذه الأبراج سموه باسمه في لغتهم فأول الأبراج وهو الحمل سموه توت، وثانيه الثور سموه بابه، وثالثه جوزا سموه هتور، ورابعه سرطان سموه كيهك، الخامس أسد سموه طوبا، والسادس السنبلة سموه امشير، 7 ميزان سموه برمهات، 8 الثامن عقرب سموه برمودة، 9 قوس سموه بينس، العاشر الجدي سموه بؤنه، الحادي عشر دلو سموه آبيب 12 حوت سموه مسري).
وكأن هذا الفصل الأخير (مطلب في أسماء الشهور القبطية) ملحق بالكتاب وإن جاء قبله بجملة فيها معنى الختام قال: وقالوا في مصر كلاما محفوظاً: طينها عجب، ونيلها ذهب، ورجالها قصب، ونسائها رطب، وهي لمن غلب. وقالوا في الكوفة: اقرأ الناس للقرآن لا يجاوز تراقيهم. وقالوا في أهل البصرة نعم وردن معاً وصدرن شتاً. وقالوا في أهل الشام أطوع الناس لمخلوق وأعصاهم لخالق وأجرئهم على أمر لا يدرون ما هو. وقالوا في أهل الحجاز: أجرأهم على فتنة وأعجزهم عنها. وقالوا في أهل الموصل كناسة بين قريتين. وقالوا في أهل واسط منزل بين كنيفين. وذكروا الحديث المسند: (إن مصر يساق إليها أوائل الناس أعماراً). والبلدان فيها الطوال الأعمار وفيها القصار. إن طول الأعمار في سر وحمير، وجو اليمامة ووادي فرغانه. وقد جعل لمصر نصيب من ذلك في طوال الأعمار بمربوط وقرا بالحفار. وقد ذكرنا لمصر من الفضائل ما أغنى وكفى، ووصفنا الحكماء الذين كانوا بها وأنها معدن الحكمة التي انتشرت في أيدي الناس، يوجد في الدنيا بلد زينه أهله زينة مصر في أبنيتها ونهرها وإتقان أمرها وبالله التوفيق.
وإن في الكتاب كثيراً من العبارات المضطربة. وفيه كلمات ليست بالواضحة وإن فيه(72/33)
كثيراً من الأخبار التي لم تصح، ترد غالباً عندما يتكلم عن تاريخ مصر القديم. كقوله:
(ذكر من كان بمصر من عيون الفرسان والشدة: عوج ابن عنق قتله موسى عليه السلام وجره الناس على النيل فمروا عليه شهراً، قال: وكان طول سرير عوج بن عنق ثمانمائة ذراع وعرضه أربعمائة ذراع، وكانت عصاة (هكذا) موسى عشرة أذرع، وضربه موسى فأصاب كعبه فخر على نيل مصر فحسره الناس فمشوا على صلبه وأضلاعه سنة وقيل شهراً الخ).
وقوله:
(ومن الفراعنة الذين جربوا الدنيا وغلبوا على مصر بختنصر وهو من قرية من قرى بابل يقال لها نفد، ودخل مصر في ستمائة ألف فارس وراجل، راكباً على أسد ورد، متقلداً سيفاً طوله عشرة أشبار وعرضه شبر، أخضر النصل كالسلق، يتحدر منه شبه ماء السدر، وغمد من ذهب مرصع بالجواهر والياقوت الأحمر مكتوب عليه:
وأنت إن لم ترجُ أو تتقي ... كالميت محمولاً على نعشه
لا تنحس السر فتصلى به ... فقلَّ من يسلم من نحسه
وأَخْمَد السر فان هجمته ... وأحذرلأعدائك من حبسه
للبحر أقراش لها صولة ... فأحذر لأعدائك من قرشه
إذا طغى بالكلى شحم الكلى ... أدخل رأس الكبش في كرشه
وناطح الكبش له ساعة ... يأخذهالناطحمن كبشه
وكم نجىّ من يدي أعدائه (كذا) ... وميت مات على فرشه
من يفتح القفل بمفتاحه ... نجا من التهمة في فشه
ونابش الموتىله ساعة ... يأخذهإبليس من نبشه
لله في قدرته خاتم ... تجري المقادير على نقشه
وهذا ختام المخطوط:
(وهذا جملة ما أودعناه هذا الكتاب باختصار بغير إسناد ولم أثبت فيه شيئاً إلا وقد رويته واختصرته ليقرب على من أراد وبالله التوفيق، ولو لم يكن لمصر فضل إلا أن العزيز عليه السلام إمامها. والوزير أيده الله ملكها وعاملها ومدبرها لكان فضلاً عظيماً وبالله(72/34)
أستعين. تم الكتاب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه).
دمشق
علي الطنطاوي(72/35)
بين فن التاريخ وفن الحرب
8 - خالد بن الوليد
في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي (رئيس أركان الجيش العراقي)
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه
ضربة أو طعنة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير!
فلا نامت أعين الجبناء) خالد بن الوليد
والغريب في ذلك أن الفرق كانت تعيش مستقلاً بعضها عن بعض، وكانت تتقاتل بخلاف فرق القبائل الأخرى. ولعل الداعي إلى ذلك أنها كانت حسيمة لا يمكن لرئيس واحد السيطرة عليها، وأنها في بلاد جعلتها بمأمن من غزوات القبائل الأخرى فلم تر الفرق والبطون حاجة إلى الوحدة.
ويظهر أن مالك بن نويرة استطاع أن يستميل سجاحاً إلى جابنه لقرابته منه، وأراد أن يستغلها لمصلحته فيضرب بها الفرق المخالفة له ويرأس بني تميم بالقوة، أما هي فكانت تريد أن تستفيد منه للهجوم على المدينة. ومال وكيع بن مالك رئيس بني حنظلة إلى جانبه. وهكذا مالت شعب بني مالك إلى جانب سجاح.
وكانت الشحناء قبل ذلك شديدة بين رؤساء بني تميم كما نعلم. ولما ورد خبر وفاة الرسول عليهم أرسل بعضهم الصدقات إلى المدينة، وانتظر بعضهم ما يصنع البعض الآخر. ويروى أن قيس بن عاصم رئيس مقاعس والبطون قال (وا ويلنا من ابن العكللية - يريد به الزبرقان - والله لقد مزقني فما أدري ما أصنع، لئن أنا تابعت أبا بكر وأتيته بالصدقة لينحرنها في بني سعد فيسودني فيهم، ولئن نحرتها في بني سعد ليأتين بها أبا بكر فيسودني عنده) فعزم قيس على توزيع الصدقات على مقاعس والبطون ففعل، وعزم الزبرقان على الوفاء بإرسال الصدقات إلى المدينة. وكانت النتيجة أن نشب القتال بين عوف والأبناء من جهة والبطون من جهة أخرى، وبين الرباب من جهةً ومقاعس من جهة أخرى. وبين(72/36)
خضم وحنظلة وبين بهدي ويربوع.
ولما وصلت سجاح إلى الحزن أرض بني يربوع واتفقت مع مالك بن نويرة والتحق بها وكيع بن مالك شرع مالك ينفذ خطته ليرأس بني تميم، فبدأ بقتال الرباب وعوف والأبناء، فلم يظفر بهم بل دارت الدائرة عليه وعلى سجاح، فوقع وكيع أسيراً بيد الرباب. وأرادت سجاح أن تجرب حظها مع بهدي وخضم من شعب بني عمر فكان نصيبها الخيبة أيضاً. فلما لم تظفر بطائل تركت مالكاً وانسحبت برجالها من بلاد بني تميم وسارت إلى اليمامة.
هذا هو الموقف حين كان خالد يجول ويصول في بلاد بني أسد ولم يكن يجهله، لذلك لم يكد ينتهي من أمر بني أسد حتى تراه قد انتهز الفرصة وأمر جيشه بالمسير إلى أرض بني تميم دون أن ينتظر أمراً من الخليفة، وهكذا نراه يستعمل إبداعه ويسير جيشه نحو البطاح برغم مخالفة الأنصار له مدعين أن عهد الخليفة إليهم أن يقيموا بعد فراعهم من بزاخة إلى أن يكتب إليهم. إلا إن خالداً تقدم نحو البطاح قائلاً لهم إنه هو الأمير وإليه تنتهي الأخبار وإن لم يأته أمر الخليفة، فانه لا يريد أن يضيع الفرصة ما دام مالك بن نويرة بحياله. وشعب بني تميم نافرة منه. لذلك لم يتردد خالد في الذهاب إليه من دون الأنصار.
والواقع أن مالك بن نويرة بقى وحيداً بين بني تميم، لأن صفوان بن صفوان كان قد أرسل الصدقات إلى المدينة وكذلك الزبرقان، أما قيس بن عاصم فكان عليه، وكذلك وكيع بن مالك لما سمع بانتصارات خالد أرسل صدقات بني حنظلة إليه. فبقى مالك حائراً ماذا يعمل، وكان بالبطاح مع رجاله من بني يربوع، والبطاح أرض دون الحزن، وهي ذات مراتع خصبة وفيها مياه كثيرة، فالقصيبة والبريدة من مواقعها.
وندم الأنصار على تخلفهم لأنهم خشوا أن تصيب المسلمين مصيبة فيلاموا عليها، فأوفدوا رسولاً إلى خالد يطلبون منه الإقامة إلى أن يلحقوا به، فأقام خالد حتى لحقوا به فسار إلى البطاح. والروايات غير متفقة في أمر مالك بن نويرة. ومن الروايات ما تزعم أن مالكاً قاتل المسلمين برجاله من بني يربوع فقتل في القتال. ومنها ما يزعم أنه لما تأكد من الخيبة فرق رجاله وأمرهم بألا يقاتلوا المسلمين ورجع إلى منزله، ولما قدم خالد البطاح بث أربع سرايا إلى جهات مختلفة، فرجعت السرية التي كان يقودها أبو قتادة الأنصاري بمالك والبعض من رجاله.(72/37)
ومن الروايات ما تزعم أن مالكاً حارب السرايا التي أوفدها خالد فقتل، ومنها ما تزعم أنه وقع أسيراً في القتال فأمر خالد بضرب رقبته مع الأسرى الآخرين، والبعض الآخر من الروايات تذكر أن خالداً أراد قتل الأسرى بما فيهم مالك، إلا أن أبا قتادة شهد أنهم أذنوا وقاموا وصلوا، فلما اختلفوا فيهم أمر خالد أن يحبسوا، وكانت الليلة شديدة البرد، فأمر خالد منادياً فنادى أن أدفئوا أسراكم، وكانت كلمة الدفء في لغة كنانة تعني القتل، فقتلهم الخفراء وقتل ضرار بن الأزور مالكاً.
وكان قتل مالك على هذه الصورة، وتزوج خالد بامرأته ليلى بعد قتله بمدة قصيرة. وهذا مما جعل عمر ينقم على خالد فطلب من أبي بكر أن يعاقبه على فعلته هذه، فاضطر الخليفة إلى استقدام خالد إلى المدينة وطلب الإيضاحات منه، فلما اقتنع أن خالداً لم يقصد قتل مالك أعاده إلى جيش المسلمين وكلفه بالمسير إلى اليمامة ليقاتل مسيلمة الكذاب.
الحركات في اليمامة
من الصعب التثبت من المدة التي قضاها خالد بن الوليد في البطاح حتى نعلم الوقت الذي تقدم بجيشه نحو اليمامة لمقاتلة بني حنيفة. فيكاد أكثر المؤرخين من العرب يتفق على أن القتال في اليمامة وقع في أوائل السنة الثانية عشرة الهجرية. أما أبو بشر الدولابي واليعقوبي فيزعمان أن القتال وقع في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة.
فمبدأ السنة الثانية عشرة الهجرية يوافق شهر آذار (أبريل) سنة 633 ميلادية. والذي نعلمه إن خالداً توجهه من ذي القصة نحو بزاخة في منتصف شهر أيلوم (سبتمبر) أو شهر تشرين الأول (أكتوبر)
وقضى خالد في حركته نحو بزاخة أكثر من عشرين يوماً يترقب أخبار طيء. وبعد انتصاره على جيش طليحة بن خويلد مكث في بني أسد مدة غير قصيرة ليقبل إسلام المرتدين ويجمع منهم السلاح. أضف إلى ذلك قتاله في ظفر، وانتظاره مجيء رؤساء بني عامر.
ويدعي مؤرخون أن مالكاً بن نويرة قتل خطأ في ليلة شديدة البرودة. وعلى ما في كتاب الطبري رواية عن سيف ابن عمر أن الأسرى من بني يربوع حبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء. والليالي الشديدة البرد في البادية تقع في أشد شهري الشتاء برداً وهما كانون(72/38)
الأول (ديسمبر) وكانون الثاني (يناير). إذن وقع القتل بين أواخر كانون الأول وأوائل كانون الثاني فتكون حادثة البعوضة وقعت بين شهري شوال وذي القعدة في السنة الحادية عشرة الهجرية.
يقيناً أن خالداً قضى مدة غير قصيرة في البطاح، وقضى وقتاً في ذهابه إلى المدينة ملبياً دعوة الخليفة. ولما عاد منها لم يحرك جيشه نحو اليمامة بمجرد وصوله إلى المعسكر، بل أنتظر مدة لورود النجدة التي أمد بها الخليفة جيش المسلمين. فيظهر من كل ذلك أن الحركة من البطاح نحو اليمامة وقعت في أوائل السنة الثانية عشرة الهجرية - أي في ربيع سنة 633 ميلادية، في شهر آذار أو شهر نيسان (مايو).
ومن رواية رواها أبو هريرة نستدل على أن سلمة بنت عمير الحنفي كان يشجع بني حنيفة على المقاومة بعد معركة عقرباء فينادي قائلاً: (يا بني حنيفة قاتلوا عن أحسابكم ولا تصالحوا على شيء، فأن الحصن حصين وقد حضر الشتاء). ومعنى ذلك أن الحركات في اليمامة جرت في صيف الثالثة عشرة الهجرية - أي بدأت حوالي شهر مايو لسنة 633ميلادية.
منطقة الحركات
اليمامة مؤلفة من مقاطعتي العارض والخرج الحاليتين، ومقاطعة الخرج من أخصب مقاطعات نجد، فالماء مبذول فيها وهو على عمق بضعة مترات تحت الأرض. ولما كانت أرضاً منخفضة تنصرف إليها مياه الأمطار من الجبال والهضاب التي تحيط بها، ومدينة اليمامة - العاصمة القديمة - واقعة فيها.
ويدعي كثير من الجغرافيين بأن أرض اليمامة القديمة هي مقاطعة الخرج الحالية. وهذه المقاطعة واقعة في جنوب شرقي العارض، ويحدها من الشرق وادي حنيفة، وعلى أحدها شعبه اليمنى بنيت مدينة اليمامة. ولا تزال مقاطعة الخرج من أكثر المقاطعات النجدية نفوساً وفيها مراعي خصبة وبساتين نخل كثيرة،
ويحد المنطقة التي جرت فيها الحركات من الشرق هضبة العرمة، وهي الهضبة المرتفعة المشرفة على الدهناء، ومن الغرب الأنفدة الموازية لسلسلة طويق، ومن الشمال مقاطعة القصين. والمنطقة جبلية تعد من أوعر مناطق نجد من حيث الوديان والمضايق والروابى(72/39)
والآكام.
وتمدد جبال طويق في وسط المنطقة من الشمال إلى الجنوب وهي حجرية كلسية جرداء متموجة، تتألف من سلسلتين متوازيتين، وسفوحها الغربية منحدرة، أما سفوحها الشرقية فقليلة الانحدار. ويبلغ ارتفاعها زهاء ستمائة قدم على الهضبة الغربية. وتمتد الجبال من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، وتنكسر في الوسط وتغير اتجاهها إلى الجنوب فالجنوب الغربي فتنتهي إلى وادي الدواسر. وفي المحل الذي تنكسر فيه تجري الوديان من الشرق إلى الغرب وتصب في وادي حنيفة. وهذه الوديان ضيقة وعرة في محل الانكسار حيث ترتفع سفوحها الشمالية والجنوبية بانحدار شديد.
وتنصرف مياه الأمطار التي تهطل على الجبال إلى الشرق والغرب في الوديان والشعب؛ فمنها ما يصب في وادي حنيفة، ومنها ما يكون وادي الخفس وشعيب العتشى حيث تنصرف مياهها إلى الدهناء. ومنها ما يصب في مقاطعة الوشم ويسقي منخفضاتها ويكون واحتها الخصبة. والشعيب الذي يكون وادي الخفس ينبع من جنوب ثادق ويجري نحو الجنوب إلى الحريملة ومنها يتوجه شرقاً. وهذا الشعيب ووادي حنيفة يقسمان الجبال إلى سلسلتين: الغربية منهما مرتفعة ووعرة وهي طويق، أما الشرقية فمنخفضة ولطيفة الانحدار وهي روابي العارض في الشمال وجبل صلبوخ في الوسط والجبيل في الجنوب. وأما وادي حنيفة (وهو أعظم وادي في هذه المنطقة) فقد سميت القبائل الساكنة على جانبيه باسمه. وصدره في الأرض الفاصلة بين العارض من جهة، والمحمل السدير من جهة أخرى ويبدأ الوادي في ثنية اليمامة في شرقي خشم الحيسية، ويتكون من عدة شعب تجري من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال. فيستمد الوادي ماءه منها فيجري من الغرب إلى الشرق. وفي جوار عقرباء، حيث نشبت المعركة الفاصلة بين جيش خالد وبين جيش مسيلمة، يغير الوادي اتجاهه فيجري من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي في وادٍ يضيق في بعض المحلات ويعرض في البعض الأخر، وهو شديد الوعورة في الشمال وسهل المجرى في الجنوب. وعلى حافتي الوادي شيدت القرى والمدائن، حيث استقيت المياه المنصرفة إليه، وزرعت البساتين حولها. والوادي في هذا القسم يتغذى بعدة شعاب ينصب أكثرها فيه من السفوح الغربية.(72/40)
وفي محل انكسار سلسلة طويق تصب فيه عدة وديان بحيث إنها تغير اتجاهه في جوار السليمية واليمامة فيتوجه نحو الشرق فالجنوب الشرقي إلى أن ينتهي في رمال الربع الخالي.
وكان من وصايا أبي بكر إلى خالد بن الوليد أن يأخذ الحيطة عند الهجوم على أهل اليمامة. وكان الخليفة محقاً في هذه الوصية، لأن أهل اليمامة سكان القرى المبنية في الوديان الضيقة، وعلى سفوح الجبال الوعرة، بنو دورهم بالحجارة، وسوروا قراهم بالجدران وأنشأوا الحدائق بالقرب من قراهم، وزرعوا فيها النخيل والأشجار وأحاطوها بالحجارة ليمنعوا المارة من دخولها أو ليعتصموا بها عند الحاجة.
فأهل اليمامة إذن لا يشبهون أهل البادية في القتال، فهم معتصمون في جبالهم المنيعة، ومعتزون بقراهم المتينة، وحدائقهم المستحكمة ولا تزال آثار هذه القرى ظاهرة في تلك الأنحاء. وهذه القرى كثيرة ومنتشرة على طوار وادي حنيفة، وفي مقاطعة الخرج، وفي الوديان والمنخفضات والواحات.
يتبع
طه الهاشمي(72/41)
في الأدب الدرامي
14 - الرواية المسرحية
في التاريخ والفن
بقلم أحمد حسن الزيات
تحليل موجز لرواية هرناني
هرناني
درامة شعرية في خمسة فصول نظمها هوجو سنة 1830 ومثلت أول مرة في (الكوميدي فرنسيز) يوم 25 فبراير سنة 1830 فكان تمثيلها معركة شعواء بين الاتباعيين والابتداعيين تبودلت فيها اللعنات واللكمات بين الفريقين. وكان أنصار المذهب الجديد قد وزعوا قبل يوم التمثيل (تذاكر) مجانية على طلاب المدارس وتلاميذ المصانع، فملأوا مشهد المسرح قبل بدء التمثيل بثماني ساعات. ثم أبتدأ التمثيل على المسرح، والعراك الصاخب في المشهد حتى أستدل الستار الأخير على فوز الابتداعيين وفشل الاتباعيين.
أهم أشخاص هذه الرواية: هرناني، وهو نبيل إسباني أتخذ اللصوصية وقطع الطريق وسيلة لأخذ ثأر أبيه المشنوق في جريمة سياسية؛ ودون كرلوس ملك إسبانيا، وهو الذي قتل أبا هرناني؛ ودون روي جوميز دوق سلفا؛ ودونا سول بنت أخيه التي يريد أن يتزوج منها. وقد وقعت حوادثها في سرقوسة، ثم في قصر سلفا ثم في أكس لاشابل، ثم في سراقوسة ثانية.
ففي الفصل الأول:
يعيش هرناني في الجبال مع ذؤبان الأنس، يقطع الطريق ويغير على البلاد؛ وهو يحب (دونا سول) وتحبه، ويغالبه على هذا الحب (دون كرلوس) ملك إسبانيا والشيخ روى جوميز عم الفتاة، ويقع هرناني في خطر داهم فينجو منه بفضل الملك.
وفي الفصل الثاني:
يقابل هرناني الملك في بيت دونا سول، وقد أقبل في حرسه يخطفها، فيملك حياته وموته.(72/42)
ولكنه يبقى عليه ويخرج، فيجد البيت محصوراً بالجند الملكي فينجو بنفسه بعد لأي.
وفي الفصل الثالث:
يحكم الملك بالقتل على هناني ويجعل لمن يأتي برأسه جعالة مالية، فتذعن دونا سول لأحكام القدر وتستسلم لإرادة عمها فترضها أن تتزوج منه. وفي الساعة التي يتأهبون فيها للذهاب إلى الهيكل لعقد الزواج يدخل هرناني القصر في زي حاج يطلب الحماية والجوار من ربه. فإذا ما رأى حبيبته في زينة العروس يظن إنها نكثت عهده، ونسيت وعده، فتهون عليه الحياة ويعلن عن نفسه طالباً القبض عليه. ولكن واجب الضيافة لصاحب القصر يقوم دون ذلك. وليس جوميز ممن ينقض الذمام ويخيس بالذمة. على أنه يفجأ الحبيبين وهما يتساقيان الهوى ويتصارحان بالحب، فسيقتله الغضب وترعده الغيرة، ويدخل الحاجب عليه في تلك الحال ويعلن إليه قدوم الملك، فقد جاءه يطلب منه تسليم المجرم المحكوم عليه إذ علم إنه لائذ بقصره. فتتنازع الدوق عوامل الشرف والغضب والانتقام، وتتراءى له صور آبائه المعلقة على حوائط القصر تتحرك أمام عينيه تذكرة له وتبصرة، فيغلب الشرف ويخبئ هرناني في مخبأ سري أمين. ويدخل الملك فيعاتب الدوق على أن يجير عليه، ويطلب منه المجرم. فيجيبه جوميز في إباء وشمم أنه يؤثر الموت على أن يسلم جاره. فيغتصب الملك دونا سول ويخرج انتقاماً من عمها وثأراً لنفسه. ويخلو الدوق بهرناني فيرد إليه حياته وحريته بشرط أن يساعده على غسل هذه الإهانة عنه بدم الملك، فيجيبه هرناني إلى ذلك ويضع حياته في يده ضماناً بوعده، فيقسم أن يقتل نفسه متى نفخ الدوق في هذا البوق الذي يعطيه إياه.
وفي الفصل الرابع:
يسافر الملك في أثناء ذلك إلى أكس لاشابل يروض لنفسه الأمور ويهيئ الأسباب لفوزه في الترشيح لإمبراطورية ألمانيا، ويأتمر الدوق وهرناني بالملك، ويتوافى المؤتمرون في حندس الليل إلى إبقاء الكاتدرائية على مقربة من ضريح شارلمان. ويقف دون كرلوس على سر المؤامرة فيجيء إلى مكانها يريد أن يفجأ المجرمون وهم جلوس على الجريمة ويظل مختبئاً ينظر وتهب عليه في تلك الساعة نفحة من قبر شارلمان وهو الذي يريد أن(72/43)
يخلفه على مجده وسلطانه، فتوحي إليه بتلك النجوى المشهورة التي تبلغ ستين ومائة بيت من عيون الشعر وغرره، ويدخل الملك ضريح العاهل فيتسنى له أن يسمع ما يقرره المؤتمرون فيعرف أن هرناني قد أنتخب بالقرعة ليقتله. ويدوي في تلك اللحظة صوت المدفع فجأةً فيعلن انتخاب دون كرلوس عاهلاً لألمانيا، فيخرج حين إذن من مكمنه ويدهم المتآمرين فيملأ قلوبهم رعباً ودهشة، ويريدون الفرار فيجدون المكان محصوراً بالجند، ويتقدم هرناني فيكشف للملك عن نفسه ويذكره بجنايته على أبيه. ويكون لهرناني ودونا سول والملك موقفاً رائع تتجلى فيه عواطف الحب والتضحية والشهامة، وينتهي بأن يعفو الملك عن جميع المتآمرين ويتخلى عن دونا سول لهرناني فيستعبد قلبه بهذه الأريحية. ويصبح اللص الشريف صادق الولاء مخلص القلب لشرلكان وهو الاسم الجديد للعاهل الجديد.
وفي الفصل الخامس:
لم تحل هذه النهاية في صدر الدوق جوميز. فلا هو رحض أهانته ولا هو نال حبيبته، فيأبى عليه طبعه أن يسعد غيره بشقوته، فيدع الزواج يتم والعرس يقام والعاشقين ينعمان معاً بنعمة الحب ولذة القرب، ولكنهما يسمعان نفخة بوق على بعد! ثم يدنو الصوت فإذا هو الشيخ جوميز يستنجز هرناني وعده بأن يقتل نفسه عند نفخة البوق، فيتوسل العروسان إليه بالرجاء والدعاء والدموع فلا يزداد إلا إصراراً وعناداً. ويظلم اليأس في عيني الزوجين البائسين فيخرج هرناني من منطقته قارورة من السم، فتأخذها منه دونا سول وتجرع نصفها وتقدم إلى زوجها الباقي فيشربه، فيخر الحبيبان صريعين تحت قدمي الدوق، ويهجم عليه هو أيضاً الندم ووخز الضمير فينتحر على جثتيهما الهامدتين.
ويؤخذ على هذه الدرامة أن العمل الروائي فيها خيالي محض، ينقصه الصدق والطبيعة، وأن تحليل أخلاقها سطحي غير عميق، وأن كثيراً من مواقفها غريب غير ممكن. وتجد هذا العيب أوضح ما يكون في الحل، فإن الدوق جوميز الذي ظل طوال الرواية شهماً كريماً لا يسوغ في العقل أن يكون في أخرها جامد الشعور زمن المروءة كما ظهر.
تتمة(72/44)
في الملهاة العامية
الملهاة العامية وهي ملهاة عرضها الإضحاك والإلهاء بتصوير العيوب المضحكة تصويراً يتعدى حدود الأدب والحشمة والذوق والإمكانية. فهي تقوم على الإحالة والبذاءة، كما تقوم الملهاة على السخر والأضاحيك.
والرأي بين الناس مختلف في بقاء هذا النوع في أمة راقية وحكومة منظمة ومسرح مهذب. فالذين يدافعون عن الملهاة العامية يقولون أن الناس يرفهون في صدورهم بشهودها، وأن الأذواق ليست واحدة في تقدير اللهو الرفيع، وأن العكوف على الجد الخالص واللهو الجدي يتعب الذهن ويكد القريحة، وأن الجمهور يجب أن تطلق له الحرية في اختيار ما يلهيه ويسليه.
ونحن لا نكر مطلقاً على الملهاة العامية أنها تلهي الجمهور وتسر الناس، بل نعترف بأن الرومان كانوا يهجرون مسرح (تيرانس) ويحتشدون عن المصارعين والمهرجين، ولا ننكر كذلك أن القليل من الناس هم الذين يدركون معنى الحق والجمال والخير، فيلذهم إدراكهم ويمتعهم فهمه، وأن دهاء الشعب وسواده لا يلهيهم إلا المحال الفاحش والبذيء المقذع، وأن من الأذهان ما يعتريه الكلال من الجد فلا يشحذ إلا بالمزاح الخالي من الذوق والفكر، ولكنك سلطان هذا النوع على الشعب هو مصدر الخطر فيه ومنشأ الضرر منه. فإن من يحبه ويميل إليه يكره غيره ويصد عنه. وانصراف الشعب عما يغذي عقله بالحكمة وذوقه بالجمال ووجدانه بالفضيلة، إلى ما يملأ عينه بالفحش وقلبه بالرجس ولسانه بالبذاء، مؤد إلى الوهن والانحلال والعدم. ذلك إلى أن اللهو الفارغ تستسهله النفس وتفضله. وإذا أسترسل المرء فيه خمدت نفسه بترك الفكر، كما يخمد جسمه بترك العمل. أما قولهم أن الملهاة العامية لا تضر ما دامت تسر، فذلك مثل قولهم: أن نوع الغذاء لا يهمك ما دام يلذك.
أن هذه الملهاة خلقت لرعاع الشعب وغوغائه فلتبق لهم والتحى بينهم، بشرط أن تظل على شكلها العامي الخشن في أدب وحشمة، فتقوم في الأسواق والأعياد والموالد تحت الخيام والمضارب، حتى لا تجذب إليها إلا خشاش الناس ممن تعود أنفه النتن فلا يشمه، ومرن لسانه على الهجر فلا يهمه. أما رفعها يفحشها ورجسها إلى المسارح الراقية وتمويهها(72/45)
بالرقص والموسيقى، وتزيينها بالزخرف المناظر والأزياء، فذلك تذهيب لحافة الكأس المسمومة يشربها الشعب فتقتل فيه عناصر الخير وعواطف الفضيلة!
المأساة العامية
المأساة العامية درامة تتألف من الحوادث الفاجعة، والمواقف المروعة، والهزل الجريء، وتستعين بالرقص والموسيقى. وقد علق بها اسم (الميلودرام) في منصف القرن الثامن عشر، وأشتهر بتأليفها من الكتاب الفرنسيين (جيلبير دبكسير يكور) و (دوكانج) و (دينيري). ولكن ما كتبوه عافه النقد لتبذله وتسفله. يمتاز هذا النوع بأثره القوي وعمله العنيف. فموضوعه إما أن يكون طاغية غشوماً يرتطم في مراغة العيب والفحش، أو رئيس طغمة من قطاع الطرق يطارد فتاة طاهرة عفيفة فاضلة، أو خائناً يخب في ظلال ويوضع في الغي، أو حبيباً باسلاً يقع حبيبه في قفص الأشرار فيغالب الأخطار ويصارع الفجار حتى يرد مكرهم ويدفع شرهم، أو غبياً يعقد العمل بغباوته ويحرج الموقف بساخفته. ثم تتدخل العناية الإلهية بعد هذه التقلبات الشديدة، والمشاكل العديدة، فتأخذ للبريء من المجرم وتقتص للفضيلة من الرذيلة. وعملها شديد العنف قوي الأثر، يضحي بالإمكانية في سبيل الضربات المسرحية والمفاجآت القوية، وتعتمد على الخناجر والسموم والحرائق في الأخذ بكظم النفوس وإثارة الرعب في القلوب. أما موسيقاها فتعبير عن المواقف والعواطف، وتتقدم دخول الأشخاص، ورقصها قد يكون تعبيراً عن معنى وتمثيلاً لفكرة وقد يكون إمتاعاً وتسلية يتخلل حوادث الرواية. وأما أسلوبها فمزيج من البهرج الخالد والعامية المبتذلة، مما يلائم هذه الأفكار التي تشرحها، والعواطف التي تصفها. وماذا تجدي الأساليب الفخمة، والتراكيب المونقة، في جمهور لا يريد أن يتأثر إلا بالزياط والعياط، ولا يتسلى إلا بالصراع والقراع، ولا يعرف إلا أن يقول في نهاية الفصل الخامس وهو مجذوب بالحادث مكروب للبطل: آه! رباه لقد نجا!! على أن مال هذا النوع إلى الفناء، فأن الشعب كلما رقت عواطفه وتهذب حسه، ودق شعوره، آثر الصدق والإمكان، وقدر الفن والبيان، وعاف الصخب والهذر والعنف، ولذلك تجد الدرامة تحتل في كل مكان محل الميلودرام.
(يتبع)(72/46)
الزيات(72/47)
الممهدون للاكتشاف والاختراع
بقلم الأستاذ قدوري حافظ طوقان
نشوء العلم وارتقاؤه
يأخذ الإنسان ما عمله غيره وسلفه ويزيد عليه، يبدأ من حيث انتهى سلفه ويدخل تحسيناً عليه، ثم يسعى للزيادة على ذلك. بينما يأخذ الحيوان ما عمله سلفه ويبدأ حيث أبتدأ (سلفه) وينتهي به دون زيادة. هذا فرق مهم بين الإنسان والحيوان، وهذه ميزة اختصه الله بها، ولولاها لما كان هناك تقدم أو حضارة. وعلى هذا ليست المدنية وما نراه من مظاهر العمران إلا مجموع مجهودات قام بها الأفراد في سبيل ترقية المجتمع من نواحيه المتعددة. وإذا قيل أن جاوس، وفير، اخترعا التليفون، فليس معنى ذلك أن لهما كل الفضل في إيجاده، وأنهما توصلا إليه بدون الاستعانة بما عمله غيرهما، بل إن لبحوث الذين سبقوهما فضلاً كبيراً عليهما، فلولا ليساج العالم السويسري الذي ظهر في القرن الثامن عشر للميلاد، ولولا سومرنج الألماني الذي قام بعمل التلغراف بواسطة التيارات الكهربائية من بطارية وبواسطة الماء لإعطاء الإشرات، ولولا أمبير الذي نقل في سنة 1820 الأشرات بواسطة التيارات الكهربائية في عدة إبر مغناطيسية، أقول لولا كل هؤلاء وغيرهم لما استطاع جاوس وفير أن يفكرا في التلفون وأن يتوصلا إلى استعمال المغناطيس الكهربائي، حتى أصبح للتلغراف قيمة عملية يمكن الاستفادة منها.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أن للتحسينات الجمة التي أدخلها العلماء ستهيل وكوك ومورس وستون، الفضل الأكبر في تعميم استعماله وجعله سهل التناول، وها نحن أولاً نرى العلماء يدخلون عليه تحسينات أخرى ويتفننون في صنعه.
وليست نظرية النسبية بأكملها من نتاج طريحة العالم الشهير البرت انشتين، وقليلون جداً الذين يعرفون أن لمجهودات وبحوث لورانتز العالم الهولاندي وغيره من علماء الرياضة والطبيعة فضلاً عليها، فلولاهم ولولا كتاباتهم وبحوثهم وتمهيداتهم لما استطاع انشتين أن يخرج النسبية بشكلها الذي نعرفه الآن.
فليست الاختراعات والاكتشافات إذن إلا نتيجة مجهودات جبارة قام بها أفراد مختلفون اشتغلوا في ميادين العلوم والفنون، وهي لم تظهر بشكلها العملي المفيد إلا بعد تمهيدات(72/48)
عديدة وإدخال تحسينات جمة قام بها العلماء في عصور مختلفة، ولا يزال القراء يذكرون المقال الشيق الذي نشر في العدد 62 من مجلة الرسالة بقلم الأستاذ محمود مختار في موضوع (التلفزة في عهدها الأول) وقد جاء فيه أن العالم الإنكليزي (جون بيرد) طلع في سنة 1926 بجهازه الأول في عالم التلفزة وقد عرضه على المجمع الملكي في لندن ونقل صوراً بأجسام بسيطة موضوعة في غرفة مجاورة، وكانت الصور كثيرة الاهتزاز عديمة الوضوح. وقد شغل هذا الجهاز الأدمغة الكبيرة، فقام غير واحد وأخذ فكرة العالم المذكور وعمل على تحسينها وإنماءها حتى وصل الاختراع إلى ما وصل إليه من الإتقان. ولا يزال العلماء يدخلون عليه في كل يوم تحسيناً، ولا يزالون يفكرون في الوسائل التي تجعله سهل التناول في استطاعة الكثيرين اقتناءه والاستفادة منه.
قد يظن القارئ أن ميزة الأخذ عن الغير والزيادة عليه تتجلى في الفرد دون الأمم. هذا الظن في غير محله، إذ ظهر وثبت أن الحضارات المختلفة تجري أيضاً على هذه النظرية: نظرية الأخذ عن السلف والغير والزيادة على ذلك. فالحضارة الرومانية استعانت بحضارات الأمم التي سبقتها واستفادت منها فوائد عديدة عادت على الرومان بالتقدم، كذلك استعان العرب والمسلمون بغيرهم من الأمم فأخذوا عن اليونان والرومان والهنود والفرس، وبعد أن ادخلوا على ما أخذوه الإصلاح والتغير، زادوا عليه زيادات جعلت الكثيرين من منصفي الغرب يعترفون بعبقرية العقل العربي وبقوته على الإنتاج، وبخدماته الجليّفي رفع مستوى المدنية والإنسانية. وحينما انتبهت أوربا من غفلتها وبدأ فيها عصر النهضة العلمية استعانت بنتاج العقل العربي وإسلامي في ميادين العلوم المختلفة والفنون المتنوعة. فالحضارة الأوربية في صميمها ترتكز على الحضارة العربية والإسلامية وهي لم تستطع أن تتقدم تقدمها العجيب إلا بفضل العرب. قال سارطون أن العرب كانوا أعظم معلمين في العالم في القرون الوسطى. واعترف غير واحد بأن العرب قدموا خدمات جليلة في كثير من فروع المعرفة. وقال ويدمان: إن علماء العرب أخذوا بعض النظريات عن اليونان وطبقوها، وقد بذلوا الجهد في تحسينها وإنمائها حتى سلموها للعصور الحديثة واعترف سيديو بأن العرب أساتذة أوربا في جميع الأشياء. . .
ولنرجع الآن إلى مقالنا فنقول: لقد ظهر في العرب علماء عديدون ابتكروا واكتشفوا(72/49)
واخترعوا في ميادين العلوم والفنون. وقد وجد فيهم من استطاع أن يمهد ببحوثه وتجاربه لبعض اكتشافات واختراعات هي من خطورة الشأن على جانب عظيم، ولولاها لم استطاع علماء الفرنجة أن يقطعوا شوطاً بعيداً في التقدم والرقي.
التكامل والتفاضل:
علم التكامل والتفاضل من العلوم الرياضية العالية التي لها اتصال وثيق في الاختراع والاكتشاف، والتي سهلت كثيراً من المسائل العويصة. هذا الفرع من الرياضيات حديث الوجود فقد اكتشفه واكتشف قوانينه الأولية نيوتن وليبنتز في أواخر القرن السابع عشر للميلاد، وهو لم يزدهر ازدهاره الحالي إلا بعد زيادات هامة قام بها العلماء فيما بعد. ويظن كثيرون، بل يعتقد بعض الرياضيين، أن العلماء الذين سبقوا نيوتن لم يمهدوا له ولم يضعوا فيه شيئاً جديراً بالاعتبار هذا خطأ إذ ثبت لدى البحث والتنقيب أن ثابت بن قرة من الذين مهدوا لهذا العلم، ومن الذين حلوا مسائل في إيجاد المساحات والحجوم بطرق تنم نوعاً ما على طريقة التكامل المتبعة الآن. ويعترف سمث بذلك وبأن ثابت بن قرة هو الذي أوجد حجم الجسم المتولد من دوران القطع المكافئ حول محوره، وأن العلماء الذين أتوا بعده اهتدوا بنور طرقه في إيجاد المساحات والحجوم.
دوران الأرض:
مما لا ريب فيه أن كوبرنيكس وغاليلو بلغا شأواً بعيداً في العلم وفتحا فيه أبواباً كانت مغلقة، وأماطا اللثام عن حقائق كانت غامضة، ودقائق كانت غير معروفة، ولهما الفضل الأكبر في تثبيت فكرة دوران الأرض، ولكن كل هذا لا يمنعنا من القول بأنهما سبقا إلى فكرة دوران الأرض، وأن السافلين لذلك بعض من علماء اليونان والعرب؛ فقد كان فيثاغورس يعلم تلاميذه على طريقة حركة الأرض، وكان هذا قبل المسيح بخمسمائة سنة، ثم أتى بعده بطليموس ورمى بهذه الفكرة عرض الحائط وقال بسكون الأرض ودوران الشمس حولها؛ واشتهرت هذه النظرية كثيراً وأخذها الكثيرون من علماء اليونان والعرب، وعجب بعض العلماء الفرنجة من قبول البيروني لهذه النظرية ومن أخذ الفارابي وابن سينا بها. ولقد وجد في العرب من لم يأخذ برأي بطليموس ومن قال بدوران الأرض حول(72/50)
الشمس. جاء في (المواقف) للعلامة عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الذي ظهر في القرن الثامن للهجرة ما يلي (. . . الحركة اليومية (ويعني حركة الشمس) لا توجد، إنما تتخيل بسبب حركة الأرض، إذ يتبدل الوضع من الفلك دون أجزاء الأرض، فيظن أن الأرض ساكنة والمتحرك هو الفلك، بل ليس ثمة فلك أطلس، وذلك كراكب السفينة فانه يرى السفينة ساكنة مع حركتها حيث لا يتبدل وضع أجزائها منه، وكذلك يرى القمر سائراً إلى الغيم حيث يسير الغيم إليه. وهذا كله من غلط الحس. .)
من هنا يتبين أن عضد الدين سبق كوبرنيكس في القول بفكرة دوران الأرض ومهد السبل لكوبرنيكس وغاليلو للتوسع في هذه الفكرة ولاستعمال المعادلات والأرقام في ذلك.
الرقاص:
لقد ثبت لدى بعض علماء الفرنجة أن العرب سبقوا غاليلو في اختراع الرقاص وفي استعماله في الساعات الدقاقة. جاء في تاريخ العرب لسيديو ما يلي (وكذا ابن يونس المقتفي في سيره أبا الوفاء البوزجاني ألف في رصد خانته بجبل المقطم الزيج الحاكمي واختراع الربع ذا الثقب وبندول الساعة الدقاقة. . .)
واعترف سارطون وسدويك بأن العرب استعملوا الرقاص لقياس الزمن، وفوق ذلك عرف العرب شيئاً عن القوانين التي تسيطر عليه. قال سمث العالم الأمريكي الشهير (ومع أن قانون الرقاص هو من وضع غاليلو إلا أن كمال الدين بن يونس لاحظه وسبقه في معرفة شيء عنه. وكان الفلكيون يستعملون البندول لحساب الفترات الزمنية أثناء الرصد. .) فهم بذلك مهدوا السبيل لغاليلو لاستنباط كل القوانين التي تسود الرقاص، إذ استطاع أن يجد أن مدة الذبذبة تتوقف على طول البندول وقيمة عجلة التثاقل وأن يضع في ذلك في قالب رياضي بديع، ومن هذا الوضع توسعت دائرة استعماله وجنى الفوائد الجليلة منه.
اللوغارتمات:
ثابت لدينا أن نابيير هو الذي أخترع أساس اللوغارتمات وأنه أول من عمل الجداول لذلك، ولا يمكن أن تجد اثنين يختلفان فيه. وقد كنت اعتقد أن هذا البحث من الرياضيات لم يمهد له أحد، وأن الرياضيين الذين سبقوا نابيير لم يصلوا في بحوثهم إلى معرفة شيء عنه،(72/51)
وأن هذا الفرع بقى مجهولاً إلى أن جاء نابيير وفكر في إيجاد طرق لتسهيل أعمال الضرب والقسمة فوفق إلى اختراع اللوغارتمات. هذا ما كنت أعتقده، وهذا ما لا يزال يعتقده الكثير من علماء الرياضة والتاريخ؛ ولكن لدى قراءتي لبعض الكتب القديمة التي تتعلق بالرياضيات، ولدى تصفحي لكتاب يبحث في تراجم بعض علماء الفلك والرياضيات وجدت أن ابن حمزة المغربي الذي ظهر في القرن الحادي عشر للميلاد استعمل في بعض بحوثه عن المتواليات الهندسية طرقاً تقرب من اللوغارتمات، إذ لو استعمل مع المتوالية الهندسية سلسلة عديدة تبدأ بالصفر واتخذ الحدود في هذه أساساً لنظائرها في جدول المتواليات الهندسية لكان اكتشف اللوغارتمات التي أوجدها نابيير بعده بأربع وعشرين سنة.
والحقيقة التي أود الإدلاء بها أنه ما دار بخلدي أني سأقرأ بحوثاًكهذه لعالم عربي كابن حمزة تمهد السبل لاختراع اللوغارتمات وتكون الخطوة الأولى في وضع أساسه.
الجاذبية:
تقرن كلمة الجاذبية باسم اسحق نيوتن العالم الإنكليزي الشهير، فهو الذي وضع قوانين الحركة والجاذبية في قالب لم يسبق إليه، إذ استعمل فيها الأرقام والمعادلات. ولكن هذا لا يعني أن نيوتن لم يسبق إلى فكرة الجذب والجاذبية فقد قال في ذلك بعض علماء اليونان والعرب، فاعترف سارطون بأن للعرب بحوثاً في الجاذبية وأن الخازن وثابت بن قرة وموسى بن شاكر وغيرهم قالوا بالجاذبية ووضعوا بعض قوانينها. قال ثابت بن قرة (إن المدرة تعود إلى السفل لأن بينها وبين كلية الأرض مشابهة في كل الأعراض، أعني البرودة والكثافة، والشيء ينجذب إلى أعظم منه) وقد شرح محمد بن عمر الرازي هذه العبارة في أواخر القرن السادس للهجرة، فقال (إنا إذا رمينا المدرة إلى فوق فإنها ترجع إلى أسفل، فعلمنا أن فيها قوة تقتضي الحصول في السفل، حتى إنا لما رميناها إلى فوق أعادتها تلك القوة إلى أسفل. .)
أليس في هذا تمهيد لفكرة الجاذبية؟ أليست مباحث محمد بن موسى في حركة الأجرام السماوية وخواص الجذب سابقة لبحوث نيوتن، وهي الخطى الممهدة للتوسع في قانون الجاذبية؟ ألا ترى معي أن اكتشاف أبي الوفاء البوزجاني، الذي ظهر في القرن العاشر(72/52)