بعده أرسطو ورؤساء الكنيسة في العصور الوسطى.
وفي القرن الرابع قبل الميلاد قام المعلم الأول أرسطو، الذي تلقى على أفلاطون فيلسوف ذلك العصر، وجمع ورتب التعاليم اليونانية بعد أن حللها وناقشها مع تلاميذه، وقاسها بمقياس العقل والمنطق، وعزا الحوادث والتغيرات في النجوم إلى مسبباتها الظاهرة، وخلّف للملأ خلاصة التعاليم اليونانية منقحة بفلسفته المنطقية، فأكبر العالم هذه العظمة فيه، فمال على كتبه ومؤلفاته يدرسها، فوجدها غاية المنطق، وسداد الرأي، وقوة الدليل، فاقتنع وآمن بها إيماناً ذهب بالشك في صحتها من قلبه
لم يكتف أرسطو بأن جعل الأرض ثابتة، بل تصور النظام الكوني كله مؤلفاً من كريات مستديرة الشكل في أحجام مختلفة والواحدة في جوف الأخرى؛ وعلى هذه الكرات جعل الأجرام السماوية تدور حول الأرض.
وقد حسب النجوم الثوابت كلها على أبعاد متساوية من الأرض، لذلك جعلها على سطح كرة واحدة، وقد علل اختلاف الأضواء المنبعثة من بعض السيارات باختلاف بعدها عن الأرض. ولما زادت العناية بمراقبة النجوم، ودقت ملاحظاتهم لها، تبينوا اختلافات كثيرة في حركاتها، لم يقدروا على تعليلها بكرة واحدة، فزادوا عليها كرات، وقالوا إن هذه الحركة الظاهرة ما هي إلا مجموع حركات دائرية على كرات مختلفة، وزاد أرسطو على هذه الكرات اثنتين وعشرين كُرة، كانت سبباً في تعقيد النظام اليوناني بدلاً من تسهيله.
الاسم الأكبر الذي كثيراً ما نصادفه في كتابات اليونان القديمة في علوم الهيئة وبين مؤلفات العصور الوسطى، وفي الكتب العربية المنقولة عن اليونانية هو بطليموس مؤلف كتاب الماجسطي الذي ترجمه إلى العربية الحجاج بن يوسف بن مطر سنة 786م. وكان لهذا الكتاب المقام الأول بعد أرسطو لمدة أربعة عشر قرناً.
عاش بطليموس من سنة 100 إلى سنة 170 ب. م. وكان مولده على أيام الإمبراطور هدريان، وكان مقيماً طول مدته في الإسكندرية، وهو معدود من أشهر رياضي ذلك العصر. وكتابه الماجسطي يحوي كثيراً من العلوم الرياضية والجغرافية عن أبحاثه في علمي الهيئة والنجوم. وقد وافق هبارخس في تراكز الأجرام السماوية ودورانها حول الكرة الأرضية، ونزع فكرة الكرات فكرة أرسطو، وأدخل نظام الدوائر الصغيرة وهو النظام(55/77)
الذي عرف باسمه من بعده، وهو أن الكواكب تدور في دوائر مراكزها تدور في دوائر أكبر منها حول الأرض.
بهذه الفكرة تمكن بطليموس من تعليل حركات الكواكب السيارة في السماء ذهاباً وإياباً، ومن تعليل ثباتها مدة من الزمن عند تغييرها من ذهاب إلى إياب وبالعكس. فقد قال إن حركة الذهاب والإياب مسببة عن كون حركة الكوكب في جهة عمودية لاتجاه خط النظر وثبات الكوكب مسبب عن كون حركة الكوكب في اتجاه واحد مع خط النظر، وذلك كما يلاحظ في حركة اقتراب أو ابتعاد الكوكب عن الأرض، إذ يعجز الإنسان عن إدراك الحركة فيظن صاحبها ثابتاً.
وأما انحراف السيارات عن دائرة البروج أو فلل الشمس فهو ناتج عن ميلان سطوح الدوائر الصغيرة عن سطح الدائرة الكبيرة.
وهذا النظام الكوني نظام بطليموس وهبارخس، وان كان مرتكزاً على جعل الأرض ثابتة بالنسبة إلى عوالم النجوم حولها فان الأرصادات الدقيقة للحركات الظاهرية لم تذهب قط سدى، وهي من الأهمية بمكان في تقدم علم الهيئة الحديث. والحقيقة في فكرة النظام البطليموسي أنها لم تبتدئ مع بطليموس، فأول من عرض هذه الفكرة كان ابولونيوس في القرن الثالث قبل الميلاد، فقبلها هبارخس في القرن الثاني قبل الميلاد، ولما أتى بطليموس في القرن الثاني بعد الميلاد، توسع فيها وزاد عليها وشرحها شرحاً وافياً في كتابه الماجسطي، وظلت أساس معتقد الناس والكنيسة في النظام الكوني أربعة عشر قرناً.
فرح رفيدي(55/78)
القصص
الهيكل العظمي
للشاعر الفيلسوف رابندرانات طاغور
في الغرفة المجاورة لحجرة نومنا - نحن الأطفال - كان هناك هيكل عظمي معلقاً، يجلجل في الليل حين يداعب النسيم عظامه، أما في النهار فقد كنا نحركه بأنفسنا، وكان يدرس لنا علم العظام طالب بمدرسة طب كامبل، ذلك لأن مَن حولنا وطدوا العزم على أن يجعلوا منا أساتذة مبرّزين في كل المواد، ومهما كان نجاحنا فلم نكن لنخبر به أحداً ممن يعرفنا، كما كنا نخفي ذلك عمن لا يمت إلينا بصلة.
مرت سنون اختفى في أثنائها الهيكل من الحجرة، كما محيت بقايا علم الأستولوجيا من ذاكرتنا، ولم تترك وراءها أثرا، وفي يوم من الأيام كان منزلنا في هرج يموج بالضيوف، وقدّر لي أن أقضي الليلة في الحجرة القديمة، وعبثاً كنت أحاولإغراء الكرى ليطرق جفوني؛ وبينما أنا أتقلب في مضجعي سمعت كل ساعات الليل تدق دقة واحدة إثر أخرى في المعبد المجاور لي، وبعد عدة دقائق انطفأ المصباح الموضوع في ركن الحجرة، بعد أن ظل شعاعه الخفَّاق يضطرب، فأسلمني الظلام إلى تذكر بعض أحباء فقدناهم، وتأملت خفوت الشعاع في محيط من الديجور القاتم، ومن ثم قارنت بينه وبين خروج الروح من أجسامنا البشرية الضئيلة وهالني الشبه العظيم بينهما.
وقد جعلني تداعي الأفكار أفكر في الهيكل العظمي، وبينا أنا أرسم في خيالي صورة للجسد البشري الذي كان يكسو هاتيك العظام النخرة، خيّل إليّ إني أسمع وقع أقدام تجوس خلال الحجرة وحول الفراش وتتلمس الجدران، وأحسست إني أسمع أنفاس المتجول المضطربة، وكأنما أعياه البحث فمضى يذرع الغرفة جيئة وذهوباً، وخدعت نفسي بأن ما أسمع ليس إلاّ من قبيل الوهم، وما صوره لي إلا الأرق الطويل، وتشتت العقل، ومحاكاة اضطراب أعصابي حاكي لوقع الأقدام؛ ومع ذلك فقد عرتني قشعريرة سرت في جسدي، ولكي أتخلص من هذا الوهم هتفت صارخاً: (مَن هنا؟) وإذا بالساري يقف حذاء فراشي ويقول: (إنه أنا، لقد جئت أفتش عن هيكلي الذي بارحته). فرأيت من الجبن أن أتخاذل أمام مخلوق صوّره وهمي، وجسَّمه خيالي؛ فأمسكت جيداً بالوسادة وقلت: إنه عمل جميل في هذا الوقت(55/79)
المتأخر من الليل! ما جدوى هذا الهيكل لك الآن؟ وإذا بالصوت يصدر من الكلة نفسها ويقول: يا له من سؤال عجيب! إن في هذا الهيكل عظاماً كانت سياجاً يقي قلبي الفتى الذي لم يجاوز السادسة والعشرين، أفلا يحق لي أن أراه مرة أخرى؟. فقلت له: (لا شك في ذلك، إنها رغبة سامية محترمة، فلتبحث عنه ما شئت، ودعني أنعم بالكرى قليلا!)
فقال الصوت: (أظنك هنا منفرداً، حسن، إني لأغتنم هذه النهزة لأجلس برهة معك، نتجاذب فيها الحديث، وتلك سجيّتي، فقيماً كنت أجلس إلى الرجال نتحادث، ولكن في الخمسة والثلاثين عاماً الأخيرة، أبدلت ذلك بأنيني مع الرياح الداوية عند قبور الأموات، وهاأنذا أتكلم مع فرد من بني البشر لأول مرة منذ مماتي).
وأحسست أن شخصاً يجلس قرب كلة سريري، فأذعنت الواقع وأجبت: (إن هذا في الحقيقة لشيء جميل جدا، وهيا بنا نتكلم في شيء طريف) فقال الصوت: (إن أجمل شيء أتذكره هو تاريخ حياتي، فدعني أقصه عليك)
وحينذاك دقت الساعة دقتين فانطلق محدثاً وقال:
(عندما كنت في ميعة العمر في دنياكم، كنت أخشى شيئاً واحداً كما أخشى الموت، ألا وهو زوجي، وكانت احساساتي أشبه باحساسات سمكة علقت بالشص، إذ كنت أحسبني هذه السمكة، وقد نزعت من ذلك الهدوء الذي شعرت به في منزل الصبا. لقد مات زوجي عقب زواجي بشهرين ولم يكن حزنهم على وفاته أكثر من حزنهم على حظي التعس، أما أبوه فقد نظر إلى وجهي ذات يوم وقال لزوجه: ألا ترين في عينها نذير الشؤم؟
ثم قال الصوت: (أمنصت أنت لقصتي: آمل أن تكون قد أعجبتك!)
فقلت: (لقد أخذت على جماع مشاعري وإن مبدأها ليشوق المرء إلى نهايتها.)
(ثم عاد الصوت يقول: دعني أتمها، لقد عدْت إلى منزل والدي، والسرور يملأ نفسي، واستنكر الناس هذا مني، ولكني كنت أعرف جيداً إني على قسط وفير من الجمال، ألا ترى ذلك؟)
(فقلت: لا شك في ذلك، ولكن يجب أن تتذكري إني لم أرك أبداً.)
فصاح الصوت: (عجباً لك! ألم ترني مطلقاً! إذن فما هذا الهيكل العظمي، ها ها، لا بأس عليك، لقد كنت أمزح معك وهل في مقدوري أن أعرفك كيف كان في هاتين الحفرتين(55/80)
الغائرتين عينان يشع منهما السحر، وألاّ تشابه بين الشفتين الياقوتيتين اللتين كانتا تفتران عن ابتسامة فتانة وبين تلك الأسنان القاتمة التي تعودت أن تراها، وإني كلما حاولت أن أصور لك ما كنت عليه من جمال عبقري، وحسن وبهاء ورقة، ابتسمت طربا كما أشعر بشيء من الحزن والغضب، وإن أشهر أطباء عصري لم يكن يخطر على بالهم أن عظامي ستكون يوماً وسيلة لتفهيم دروس الاستولوجي، أتعرف طبيباً شاباً - كما أعرف - قارن بيني وبين زهرة (الشامباك) وما دار بخلده أن هذا الهيكل المحطم لفتاة كانت هي زهرة الجمال، وكلما سرت شعرت بأني قطعة من الماس المتلألئ ألقيت في جوف الثرى، وأن كل حركة مني تثير عاصفة من الإعجاب، وكم أمضيت الساعات الطوال أتأمل هاتين اليدين اللتين تمناهما كثير من الشبان المتيمين، ولكن هذا الهيكل الجامد، لا يستطيع أن يحرك شعورك نحوي، ولست أملك وسيلة أدحض بها هذا الافتراء الذي يوحيه إليك هيكلي، ولذلك أشعر بمقت للرجال، وهاأنذا أطرد الكرى عن مقلتيك بوصفي لك شفتي الورديتين.)
فصحت قائلاً: (أقسم لك بجسدك، أنك لو كنت محتفظة به حتى الآن لما كان للاستولوجي أثر في ذاكرتي، ولكان الذي يملؤها هو صورة الحب القوي العاصف يلوح لي في غياهب الليل، ولست أذكر لك أكثر من ذلك.)
فتابع الصوت كلامه قائلاً: (لم تكن لي فتاة شقيقة، أما أخي الوحيد فقد وطد العزم على ألاَّ يتزوج، وكنت أقضي الوقت منفردة في الحديقة أتفيأ ظلال الأشجار المتهدلة، وأسبح في بحر الخيال. فأتصور العالم كله يعبد جمالي، وأن النجوم الزهر تسكر من حسن طلعتي، وأن الرياح تدوي إعجاباً بي، والعشب المخضر يضطرب ثملاً حين أخطر فوقه، وكنت أحسب شباب العالم كلهم كالأعشاب التي أطؤها بقدمي، ولكن قلبي لأمر ما كان ينطوي على شيء من الألم، وكان لأخي صديق اسمه (شيكار) أتم دراسته بكلية الطب وأصبح طبيب العائلة، وكنت أرقبه عن كثب من خلال الأستار، أما أخي فقد كان رجلاً شاذاً اعتزل الناس، وأوى إلى ركن مظلم، وإذ كان (شيكار) صديقه الوحيد فقد أبيح لي أن ألقاه، وكنت إذا مضيت إلى الحديقة مساء، تخيلت كل عشبها (شيكارا) آخر. أمنصت أنت إلي؟ فيم تفكر الآن؟)(55/81)
فقلت (أفكر فيما لو كنت (شيكارا) هذا!)
فقال الصوت: (تمهل قليلاً، وأنصت للقصة كاملة، ففي يوم ممطر، أصابتني الحمى، وجاء الطبيب يعودني، وكانت هذه أول مرة ألقاه فيها، وكنت أتكئ على حافة النافذة حتى تصبغ حمرة الشفق المودع وجنتي، وحين جاء الطبيب تأمل في وجهي ملياً فقلدته، وتأملت في نفسي فخيل إلى أن وجهي وردة حمراء، قد ألقيت على وسادة بيضاء، فسأل الطبيب أخي أن يجس النبض، ولم أر طبيباً أجبن منه، حتى أن أصابعه كانت تضطرب ولا تستقر حين أقبل يتلمس معصمي، وفي النهاية سجل حرارة الحمى التي انتابتني، أما أنا فقد قدرت خفقان قلبه، أعندك شك في ذلك؟)
فقلت: (كلا. كلا، إن خفقات الفؤاد لتحكي قصته!!)
فقال الصوت: (بعد أن أبللت من مرضي المنهك، ألفيت كل أحبابي قد رغبوا عني، وأخيراً أصبح الطبيب يعود مريضاً فحسب، وكنت في هذه الأمسيات أرتدي ثوباً أبيض، وقد تدلت عليه ضفائر شعري المحلاة بزهور الياسمين الأبيض، ومن ثم أتخذ مقعدي المعتاد تحت أفنان الأشجار ومرآتي في يدي، وربما تظن أن رؤية الشخص لصورته وجماله في المرآة تجعله ملولاً. ولكن الواقع غير ذلك، لأني لم أكن أرى نفسي بعيني رأسي، لقد كنت شخصين في جسد واحد، فكنت أنظر لنفسي بعين الطبيب، وشعرت بجنون الحب، ولكن برغم هذا الدلال الذي أسرفت فيه قد كانت آهة حبيسة تتردد في صدري وتئن كما تئن رياح الليل، ولم أكن في ذلك الحين وحيدة، بل كنت حين أسير أتطلع بعين كئيبة إلى أصابع قدمي وأعجب ماذا تكون حالة الطبيب لو أنه شاهدني الآن، أما في الظهيرة، حين تتوسط ذكاء كبد السماء، ولا يسمع صوت هنا أو هناك إلا صيحة حدأة لا تلبث أن تتلاشى، فقد كان يمر خلف سور حديقتنا بائع الصقور ينادي (صقور زجاجية للبيع) وحينذاك أبسط على العشب خرقة بيضاء أجلس عليها وأعتمد رأسي بكفي، ويدي الأخرى تعبث بالحشائش، وكنت أتخيل أن هناك من يرقبني في مجلسي هذا ويعجب بي، ويود لو أنه طبع قبلة على أطراف أصابعي الوردية. . ولكن كيف أتم لك قصتي، وفي استطاعتي أن أسامرك حتى الصباح ولكن ذلك يبغضها لك. . . . إذن دعني أظل في قصتي، أما الطبيب فحين مارس صناعته جيداً استأجر غرفة في الدور الأرضي بمنزلنا وجعلها عيادة(55/82)
للمرضى، وكنت أتسلى بسؤالي إياه عن الأدوية والسموم والمقدار الذي يميت من هذا الدواء أو ذاك، ولكن هذه الأحاديث أخذت طوراً آخر، فقد جعلتني أتأمل في فكرة الموت، وكان الحب والموت شاغلي تفكيري وحياتي
مضى على ذلك ردح من الزمن، لاحظت فيه على الطبيب تشتت الذاكرة، وخيل إلي أنه يحتفظ في صدره بسر يخجل أن يحدثني عنه، وفي ذات ليلة جاء مرتدياً كثيراً من الملابس واستعار مركبة أخي، وهنا ثارت الدهشة في نفسي، ومضيت استفسره عن كل شيء، وبعد أن تجاذبت معه الحديث سألته: ألك أن تخبرني يا (دادا) عن وجهة الطبيب هذه الليلة وقد استعار مركبتك؟. . . . فأجابني أخي في صوت أجش (إلى الموت) فصحت به (أخبرني حقيقة أين هو ذاهب). . فقال في شيء من الصراحة (مضى ليتزوج) فتعالت ضحكاتي طويلاً وقلت: أحقاً ما تقول؟
وعرفت حينذاك أن العروس وريثة ثرّية، ستنفح الطبيب مبلغاً كبيراً من المال، ولكن لماذا كان يخدعني طيلة الوقت بإخفائه ذلك عني، وهل توسلت إليه ألا يتزوج حتى لا يحطم قلبي؟ ولكن تلك سجية الرجال طبعوا عليها فتصديقهم ضرب من البلاهة، لقد عرفت في حياتي كلها رجلاً واحداً، ولكنه سرعان ما اختفى وتفقدته فلم أجده.
وبعد أن أتم الطبيب عمله وعاد الينا، وتهيأ للعمل سألته ضاحكة: لقد أحسنت يا دكتور، أعزمت على الزواج هذه الليلة؟ ولم يُفقده سروري ابتسامة محياه فحسب، بل أثاره ذلك فسألته: (ولمَ لم توقد الثريات ولم تعزف الموسيقى؟)
فأجابني في تنهد: (وهل تحسبين في الزواج سعادة أو لذة؟)
فانفجرت ضاحكة وقلت: لا، لا، لن يكون ذلك، وهل هناك عرس لم توقد فيه المصابيح ولم تعزف الموسيقى؟
وظللت أزعج أخي حتى أصدر أمره بإحضار جماعة الموسيقى، وكنت أبتسم طيلة الوقت، وأتحدث عن العروس وحياتها، وما سأفعله حين تأتي المنزل. وسألته: خبرني يا دكتور هل ستظل تجس النبض؟ ثم انفجرت ضاحكة؛ وتم عقد الزواج في ساعة متأخرة من الليل، وقبل ابتدائه كان أخي والطبيب قد جلسا إلى خوان صغير يشربان كأساً من الخمر، ولما هتك القمر أسداف الظلام، سألت الطبيب: (أنسيت عروسك وقد حان الوقت؟) ومضيت إلى(55/83)
صيدليته أتلمس فيها قليلاً من مسحوق وضعته في كوبته حين كان مشغولاً عنها. وإذ ذاك رفعها إلى فمه وتجرّعها دفعة واحدة، ثم صوّب إلى نظرة اخترقت شغاف قلبي وقال: الآن سأذهب إلى حيث لا عودة لي أو مآب.
ولما صمتت الموسيقى للراحة، مضيت إلى غرفتي وارتديت ثياب عرسي الحريرية الموشاة بالذهب، وأخذت جواهري كلها ووضعت شارة العرس الحمراء على مفرقي، ومن ثم هيأت فراشي تحت شجرة في الحديقة.
وكانت ليلة جميلة ناعمة، ورياح الشمال الهادئة تقبّل ما تمر عليه فتحمل الطمأنينة إلى القلوب، وقد فاح في أرجاء الحديقة عطر الياسمين الشذى، وبينما الموسيقى آخذة في الهدوء شيئاً فشيئاً، كان وجه القمر يلتحف حجب السحاب المغبر القاتم، وبدأت أغيب عن الدنيا رويداً رويدا، وأفقد شعوري، وأغلقت عيني مبتسمة، وتذكرت مجيء الناس ومشاهدتهم إياي هنا، ولكن وا أسفاه على الملابس الحريرية المذهبة؛ وحين استيقظت على صوت لغط حولي، ألفيت ثلاثة شبان يدرسون علم العظام على هيكلي، فجاشت في نفسي الآلام وأخذت زهرات الشباب تتفتح عن أكمامها، وإذا بالأستاذ يشير بعصاه إلى عظامي مسمياً إياها بأسمائها العلمية، ولكن أترى أثراً لهذه الابتسامة الأخيرة، وهل أعجبتك القصة؟ فقلت يالها من قصة رائعة!
وفي هذه اللحظة زنت أول صيحة وقلت: (أأنت هنا؟) فلم يجيبني سوى الصدى، وحينذاك كانت أشعة الصباح قد نفذت إلى الحجرة.
حسن محمد محمود(55/84)
العدد 56 - بتاريخ: 30 - 07 - 1934(/)
بين السياسة والأدب أيضاً
أشارت (الرسالة) في عددها الماضي إلى كلمة أسف وعتاب مُر كتبتها إحدى الزميلات الدمشقيات لمناسبة وفاة شيخ العروبة المغفور له احمد زكي باشا، تشكو فيها من طغيان السياسة على الأدب في مصر، وتنعى علينا تقصيرنا في حق العظماء الراحلين من أدبائنا ومفكرينا، وتلاحظ أن العلامة الراحل لم يشيع إلى مقره الأخير بما يجب لعلمه وأدبه وخدماته للإسلام والعرب، من التجلة والاهتمام؛ هذا بينما تغمر ذكرى بعض الراحلين من رجال السياسة بمظاهر الإجلال الشامل، وتفرد لها في الصحف عشرات الفصول الرنانة، ويحتفى بها أيما احتفاء.
ونعود فنعقب على ما كتبته الرسالة بأن ملاحظة الزميلة الدمشقية جديرة بكثير من التأمل، وفيما تنعيه علينا كثير من الحق. فنحن نشعر منذ أعوام طويلة بطغيان الاعتبارات السياسية على كثير من مظاهر حياتنا العامة والخاصة، ونشعر بما تجنيه هذه الاعتبارات على كرامة التفكير والأدب. وقد ظهر هذا الأثر في مواطن ما زالت تثير في نفوسنا كثيراً من الأسى والألم. ففي مثل هذا الوقت منذ عامين، توفي شاعر مصر الكبير المغفور له حافظ إبراهيم، فكان حقاً لعظمته وعبقريته أن يكون جنازه حادثاً قومياً عظيماً تشترك فيه الأمة كلها شعباً وحكومة؛ ولكن حافظاً شيع إلى قبره في حشد متواضع من الأصدقاء والمعجبين، وحالت الاعتبارات السياسية دون أن يسبغ على جنازه أية صفة رسمية أو قومية، ولم يقم لذكراه أي حفل تأبين لائق. وكان لهذا الإغفال المؤلم صداه يومئذ، فألفت لجنة من بعض الكبراء والأدباء أصدقاء حافظ لتستدرك هذا التقصير المعيب في حقه، ولتقوم بما يجب لتخليد ذكراه؛ ولكن هذه اللجنة لم توفق للأسف إلى القيام في هذا السبيل بعمل يذكر؛ ولم تبد دوائر الأدب من جانبها أي اهتمام بحافظ وتراثه، ولا زالت ذكرى الشاعر العظيم نسياً منسياً.
وثمة حادث آخر ظهر فيه طغيان هذا التيار السيئ، هو أنه لما أرادت الحكومة أن تكرم ذكرى أمير الشعراء المغفور له احمد شوقي بك في حفل رسمي دعت إليه ممثلي الأقطار العربية الشقيقة، لم تفكر في زميله وقرينه حافظ؛ ولو أنها أرادت أن تكرم ذكرى الشعر للشعر والأدب للأدب ولم تبد مثل هذه التفرقة بين رجلين اشتركا في حمل زعامة الشعر العربي زهاء ربع قرن، وساهما في مجد مصر الأدبي بقسطين متعادلين لكان عملها جديراً(56/1)
بكل تقدير. ولكن ظروف هذا الحفل كلها كانت تنم عن تغلب هذه الاعتبارات الخاصة في إقامته وفي تنظيمه؛ وهي ظروف واعتبارات شعر بها ولاحظها وأسف لها جميع إخواننا مندوبي الأقطار العربية الذين شهدوا هذا الاحتفال.
وبعد فهل نسي أحد قصة مثّال مصر العظيم مختار وما جنته الاعتبارات السياسية على شخصه وفنه أثناء حياته ثم بعد وفاته؟ لقد قضى مختار معذباً منسياً مهضوم الحقوق، لا تحفل الحكومة بأمره، ولا تذكر أن له فناً وآثاراً رفعت اسم مصر عالياً؛ وحذت الهيئات العلمية والأدبية حذو الحكومة في تناسي مختار وفنه وذكراه.
وهذا الروح المعيب يكاد يتغلغل في جميع الهيئات المصرية، رسمية، وغير رسمية. وفي كل يوم ترتكب في ظله وتحت تأثيره تصرفات يأباها العلم والأدب، وتأباها اللياقة والذوق السليم. وكثيراً ما تجني هذه التصرفات على العلم والأدب، وحقوق العلماء والأدباء. والأمثلة عديدة معروفة لا يتسع المقام لذكرها، والتبعة في ذلك لا تقع على الهيئات الرسمية أو الحزبية وحدها وإنما تقع أيضاً على الهيئات العلمية والأدبية نفسها، وعلى العلماء والأدباء أنفسهم. أما تبعة الهيئات، والهيئات الرسمية بنوع خاص، ففي إنها تمزج بين السياسة والأدب عن عمد وتدبير، وتخضع الأدب والعلم لمؤثرات السياسة وهواها؛ هذا مع إن التفكير والأدب تراث قومي عام، بل هما تراث إنساني يرتفع فوق جميع الاعتبارات والمؤثرات الحزبية والمذهبية. ومن واجب الحكومات والهيئات المستنيرة أن تقدر هذا المبدأ وأن تحترمه دائماً. وإنما تبعة الهيئات العلمية والأدبية والعلماء والأدباء، ففي أنهم بجمودهم وتقصيرهم يشجعون على تلك التصرفات المغرضة المعيبة، وأحياناً يساهمون في ارتكابها متأثرين بنفس تلك الاعتبارات التي يجب عليهم أن يحاربوها بكل قواهم.
لقد جنت هذه الاعتبارات والمؤثرات على تفكيرنا وأخلاقنا وأصابت حركتنا الأدبية بكثير من ضروب الفساد والشر، وكانت هيئاتنا الرسمية والعامة دائماً في ذلك قدوة لا تحمد. وما زلنا منذ أعوام نعاني هذا الإفساد ونستكين له. أفلم يحن الوقت إذاً لكي نحارب هذا التيار الخطر ونعمل على إقناع حكومتنا وهيئاتنا العامة بأن الحركة الأدبية يجب أن تحرر من تلك المؤثرات والاعتبارات الخاصة، وإن التراث الفكري والأدبي يجب أن ينظر إليه لذاته، وإن من حق المفكرين والأدباء أن ينالوا دائماً، أثناء حياتهم وبعد مماتهم، من رعاية(56/2)
حكومتهم وأمتهم ما هو جدير بأقدارهم العلمية والأدبية قبل كل شئ؟
(ا. ع)(56/3)
نجار ونجار
للأستاذ احمد أمين
استأجر دكاناً أمام منزلنا الأسطى حسن النجار.
وهو شاب في نحو الثلاثين من عمره، مهزول الجسم، أصفر الوجه، ينتعل نعلاً بالية، ويلبس ثياباً رثة، وعلى رأسه طربوش أسفله أسود، وأعلاه أحمر، وقد دفعه إلى الوراء ليظهر (قصته) من شعره، فرّعها فروعاً ورفعها إلى السماء لتناطح السحاب.
ينظر إليك بعين منتفخة كأنه قريب العهد - دائماً - بنوم طويل ثقيل، ويمشي متطرحاً كأن في رأسه - دائماً - فضلة خُمار، وعلى وجهه غبرة كأن الماء لم يمسه أبداً، أقوى شئ فيه لسانه في السباب، وصوته في النزاع.
ليس لفتح دكانه أو إغلاقه موعد ولا لعمله وراحته وقت محدد، يحلو له أحياناً أن يغلقه في الصباح ويفتحه في الظهر إذا بدأ الناس يقيلون، وأحياناً يسره أن يتركه مغلقاً طوال النهار ويفتحه ليلاً حيث يبدأ الناس في النوم، فيضئ مصباحه ويخرج عدده وأدواته في الشارع، ويأخذ في نجارته ما حلا له ذلك، فحيناً إلى الفجر، وحيناً إلى الصباح، تحاول أن تصده عن ذلك وتنصحه فيظهر الطاعة ثم يستمر في خطته؛ وأحياناً تنقلب دكانه في الليل حلبة الكميت، يتنادمون ويتشاربون حتى إذا تمشت الخمر في مفاصلهم، ودبت في عظامهم، ذهبت بهم كل مذهب، وأخذت منهم كل مأخذ. فتغنوا أحياناً، فوقع الغناء في نفوسهم أحسن موقع، وصاحوا جميعاً بصوت واحد: آه! ممدودة ما طاوعتهم أنفاسهم - وأحياناً يعدلون عن الغناء إلى تبادل النكات، ويعقبون كل نكتة بضحكة عالية تسر نفوسهم وتخرق آذان جيرانهم.
وإذا فتح الدكان نهاراً فمعرض غريب، لا لجودة المصنوعات ولا دقة المعروضات، ولكن لأصحاب الحاجات قد أتوا يطالبون بإنجاز أعمالهم، والشكوى من تأخير طلباتهم، ثم يصل الأمر في أغلب الأحيان إلى تدخل البوليس، وأحياناً يكون ما هو أدهى وأمر، إذ يكون قد سلم إليه صاحب حاجة دولابه أو كرسيه لإصلاحه فلم يجد دولابه ولا كرسيه، لأن الأسطى حسن اضطرته الحاجة الملحة فباعه وأضاع ثمنه.
وهكذا أصبح شارعنا بحمد الله معرضاً في النهار للسباب والمشاكل والخصومات(56/4)
والبوليس، ومنتدى جميلاً ليلاً لأهل السماح الملاح، إلى الصباح.
وأخيراً عدت من عملي يوماً فرأيت الزحام شديداً على دكان الأسطى حسن، وإذا جلبة وضوضاء، وصياح يملأ الآذان؛ وإذا المنادي ينادي لبيع عدد النجارة وأدواتها:
منشار في حالة جيدة!
عشرة قروش - أحد عشر - إثنا عشر
ألاوونا - ألادو - ألاتريه
وهكذا حتى تم بيع كل ما في الدكان وفاءاً لكرائها خمسة شهور تأخرت على الأسطى حسن. وكان شعوري إذ ذاك مزيجاً من غبطة وألم، وحزن وفرح فقد آلمتني خاتمته، وأفرحني ما منيت به نفسي بعد ذلك من نوم هادئ سعيد.
ودعوت ربي جاهداً ألا يرغب في الدكان مستأجراً بعد، فإن كان ولابد فكواء أو عطار، لا نجار ولا بائع فراخ ولا مبيض نحاس، وقصرت شكواي على الله بعد أن جربت البوليس فوجدته لا يأبه لهذه السفاسف وليس له من الزمن، ما يلفته لهذه الصغائر.
ولكن أبى القدر أن يستجيب دعوتي - وكأن الدكان وقف على سكنى النجارين - فقد سكنها أيضاً هذه المرة نجار، ولكنه من صنف آخر - هو نجار رومي، لم أشعر بسكناه إلا بعد شهر، لأنه لم يكن في عمله شئ غير عادي، فهو يفتح دكانه وقت العمل ويغلقها عند الغروب، وينجر فتندمج أصوات دقاته ونجارته في أصوات البائعين وحركات المارين وأصوات السيارات.
دعوته يوماً لإصلاح دولاب، فإذا شاب يشترك مع الأسطى حسن في سنه، ويختلف عنه في كل شئ آخر، جميل الهندام وإن لم يكن ثمينه، صفف شعره في أناقة ولمعان بينما اعتنى الأسطى حسن (بقصته) فقط - عمل عمله في هدوء وإتقان، وكأنه يحترم نفسه ويحترم عمله، ويقدر نوع معيشته وما يلزم لها، فطلب ضعف ما كان يطلبه زميله فدفعته راضياً.
له في جوارنا ستة أشهر أو تزيد لم أسمع صوته، ولم أسمع شاكياً من تأخر موعد أو تصرف سيئ. ولم يقلق راحتي كما أقلقها من كان قبله، فهو وإن لم يكن كواء أو عطاراً كالذي رجوت فليس شراً منهما، وتبين بعد أن الأمر ليس نوع الصناعة، وإنما هو نوع(56/5)
الصانع.
ونزلت بيتاً في ضاحية من ضواحي الإسكندرية، فرأيت (فيلا) جميلة على شاطئ البحر، لا يسكن مثلها - عادة - إلا من ورمت جيوبهم، وانتفخت محافظهم، راديو، وبيانو، وما شئت من أسباب النعيم ورفاهة العيش؛ ولكن لفت نظري رجل يلبس قباء، ويحزم وسطه بحزام، وعليه جاكتة بسيطة نظيفة، قد أرخى لحيته، ودفع طربوشه إلى الوراء، يحمل أقمشة على كتفه يكاد ينوء بحملها، وهو من الصنف اليهودي الذي نراه يجول في الشارع كل يوم يبيع (الدمور) و (الزفير) و (الباتستا). حيرني أمر هذه (الفيلا) بجمالها ونظافتها، وأمر هذا الرجل، يخرج صباحاً يحمل سلعته على كتفه وقد هزلت؛ أمستأجر هذا الرجل حجرة صغيرة في البيت، أم قريب فقير لأصحابه عطفوا عليه وآووه واحتملوا منه أن يعيش بينهم وينزل في مسكنهم؟ وفي الحق كان هذا لغزاً شغلني شرحه، وأعياني حله؛ ثم هدتني المصادفة البحتة إلى اكتشاف الأمر وافتضاح السر: هو رب البيت! وهو عميد الأسرة، وليس فيها إلا زوجه وأولاده، ولكن كلهم يعمل، وكلهم يكسب: هذه خياطة، وإحدى بناتها معلمة بيانو، وهذا ابنه كهربائي، وهذا الآخر يعمل في مصلحة التلغراف، وكل كاسب يعطي ما كسب لأبيه، ويجمعون من ذلك ما يجمعه موظف وسط أو فوق الوسط، ثم هم جميعاً يعلمون كيف يعيشون، وكيف ينعمون بالعيش بأقل مصرف، ويعلمون ما ينفقون وما يدخرون.
قارنت بين هذا الرجل ورجل مصري آخر كان يجول أمام بيتنا أيضاً، يحمل سلعة كسلعة اليهودي، وينادي على (حرير المحلة)، وتصورته وبؤسه، وتصورت أسرته وبؤسها، وكيف يتحد العملان، وتتباين المعيشتان.
ثم نسمع الشكوى الحارة من العمال العاطلين، والمتعلمين العاطلين، ونسمع من يرجع العلة إلى تفشي الأمية حيناً، وإلى نوع الدراسة حيناً، وإلى غير ذلك من أسباب، وليس في نظري سبب أهم من نقص الأخلاق؛ ولست أعني أخلاق العمل، من معرفة طرق الكسب، وإجادة العمل، وحسن العرض، وعدم الأنفة من مزاولة الحرفة مهما حقرت، وضبط الدخل والخرج، وفوق ذلك كله العلم بفن الحياة.
احمد أمين(56/6)
القبلة الأولى. .!
هي البريد الذي حمل عني رسالة حبك، والإخلاص لك، فأداها في أمانة وطهر. .
هي الوحي الذي هبط بالألفة، وارتفع بالكلفة. .
هي الرسول الذي بلّغك ذوب عاطفتي في صدق وفطانة. .
هي طابع الوفاء ختمتُ به على يغرك الزاهي الجميل. .
هي اعتراف بالمحبة أبرقتُ به إلى قلبك من أخصر طريق. .
هي تذكار الصفاء سجّلته على لطف شفتيك. .
هي برهان الولاء استخلصته من سحر عينيك. .
هي التصريح الصامت لما يكنه القلب من لوعة وهيام. .
هي الضغطة الرفيقة التي تذكي في النفس الحب والغرام. .
هي السلسبيل الصافي الذي يندّى لها المدنف الولهان. .
هي النسمة الوادعة اللينة التي تطيف بالنفوس فتنتعش. .
هي الأرج الذاكي الذي تمتلئ به الصدور فتنشرح. .
هي الرحيق المختوم، والوردة النضرة، والزهرة المتفتحة. .
هي الجمال كله. يعلن عن نفسه في خفوت وهمس يزيدانه روعة ورهبة. ويملآنه إجلالاً وهيبة. .
كمال الدين حسين
مدرس(56/8)
أحلام في الشارع
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
على عتبة (البنك) نام الغلام وأخته يفترشان الرخام البارد، ويلتحفان جواً رخامياً في برده وصلابته على جسميهما.
الطفل متكبكب في ثوبه كأنه جسم قُطّع وركمت أعضاؤه بعضها على بعض، وسجّيت بثوب ورمي الرأس من فوقها فمال على خده.
والفتاة كأنها من الهزال رسم مخطط لامرأة، بدأها المصور ثم أغفلها إذ لم تعجبه. كتب الفقر عليها للأعين ما يكتب الذبول على الزهرة: أنها صارت قشاً. . .
نائمة في صورة ميتة، أو كميتة في صورة نائمة؛ وقد انسكب ضوء القمر على وجهها وبقي وجه أخيها في الظل؛ كأن في السماء ملكاً وجه إليها المصباح وحدها إذ عرف أن الطفل ليس في وجهه علامة همّ، وأن في وجهها هي كل همها وهم أخيها.
من أجل أنها أنثى قد خلقت لتلد، خلق لها قلب يحمل الهموم ويلدها ويربيها.
من أجل أنها أعدت للأمومة، تتألم دائماً في الحياة آلاماً فيها معنى انفجار الدم.
من أجل أنها هي التي تزيد الوجود، يزيد هذا الوجود دائماً في أحزانها.
وإذا كانت بطبيعتها تقاسي الألم لا يطاق حين تلد فرحها، فكيف بها في الحزن. . .!
وكان رأس الطفل إلى صدر أخته وقد نام مطمئناً إلى هذا الوجود النسويّ الذي لابد منه لكل طفل مثله مادام الطفل إذا خرج من بطن أمه خرج إلى الدنيا وإلى صدرها معاً.
ونامت هي ورأسها مرسلة على أخيها كيد الأم على طفلها. يا إلهي! نامت ويدها مستيقظة!
أهما طفلان؟ أم كلاهما تمثال للإنسانية التي شقيت بالسعداء فعوّضها الله من رحمته ألا تجد شقياً مثلها إلا تضاعفت سعادتها به؟
تمثالان يصوران كيف يسري قلب أحد الحبيبين في الجسم الآخر فيجعل له وجوداً فوق الدنيا، لا تصل الدنيا إليه بفقرها وغناها، ولا سعادتها وشقائها، لأنه وجود الحب لا وجود العمر؛ وجود سحري ليس فيه معنى للكلمات فلا فرق بين المال والتراب، والأمير والصعلوك؛ إذ اللغة هناك إحساس الدم، وإذ المعنى ليس في أشياء المادة ولكن في أشياء الإرادة.(56/9)
وهل تحيا الألفاظ مع الموت، فيكون بعده للمال معنى وللتراب معنى؟. . . هي كذلك في الحب الذي يفعل شبيهاً بما يفعله الموت في نقله الحياة إلى عالم آخر، بيد أن أحد العالَمين وراء الدنيا، والآخر وراء النفس.
تحت يد الأخت الممدودة ينام الطفل المسكين، ومن شعوره بهذه اليد خفّ ثقل الدنيا على قلبه.
لم يبال أن نبذه العالم كله، مادام يجد في أخته عالم قلبه الصغير. وكأنه فرخ من فراخ الطير في عشه المعلق، وقد جمع لحمه الغض الأحمر تحت جناح أمه، فأحس أهنأ السعادة حين ضيّق في نفسه الكون العظيم وجعله وجوداً من الريش.
وكذلك يسعد كل من يملك قوة تغيير الحقائق وتبديلها، وفي هذا تفعل الطفولة في نشأة عمرها ما لا تفعل بعضه معجزات الفلسفة العليا في جملة أعمار الفلاسفة.
وما صنع الذين جنّوا بالذهب، ولا الذين فتنوا بالسلطة، ولا الذين هلكوا بالحب، ولا الذين تحطموا بالشهوات - إلا أنهم حاولوا عبثاً أن يرْشوا رحمة الله لتعطيهم في الذهب والسلطة والحب والشهوات ما نوّلته هذا الطفل المسكين النائم في أشعة الكواكب تحت ذراع كوكب روحه الأرضي.
ألا إن أعظم الملوك لن يستطيع بكل ملكه أن يشتري الطريقة الهنيئة التي ينبض بها الساعة قلب هذا الطفل.
وقفت أشهد الطفلين وأنا مستيقن أن حولهما ملائكة تصعد وملائكة تنزل، وقلت هذا موضع من مواضع الرحمة، فإن الله مع المنكسرة قلوبهم، ولعلي أن أتعرض لنفحة من نفحاتها، ولعل ملكاً كريماً يقول: وهذا بائس آخر. فيرفّني بجناحه رفّة ما أحوج نفسي إليها، تجد بها في الأرض لمسة من ذلك النور المتلألئ فوق الشمس والقمر.
وظهر لي بناء (البنك) في ظلمة الليل من مرأى الغلامين - أسود كالحاً، كأنه سجن أقفل على شيطان يمسكه إلى الصبح، ثم يفتح له لينطلق معمّراً، أي مخرباً. . . أو هو جسم جبار كفر بالله وبالإنسانية ولم يؤمن إلا بنفسه وحظوظ نفسه فمسخه الله بناءً، وأحاطه من هذا الظلام الأسود بمعاني آثامه وكفره.
يا عجباً! بطنان جائعان في أطمار بالية يبيتان على الطّوى والهمّ، ثم لا يكون وسادهما إلا(56/10)
عتبة البنك! ترى من الذي لعن (البنك) بهذه اللعنة الحية؟ ومن الذي وضع هذين القلبين الفارغين موضعهما ذلك ليثبت للناس أن ليس البنك خزائن حديدية يملؤها الذهب، ولكنه خزائن قلبية يملؤها الحب. .؟
وقفت أرى الطفلين رؤية فكر ورؤية شعر معاً، فإذا الفكر والشعر يمتدان بيني وبين أحلامهما، ودخلت في نفسين مضّهما الهم واشتد عليهما الفقر، وما من شئ في الحياة إلا كادّهما وعاسرهما؛ ونمت نومتي الشعرية. . .
قال الطفل لأخته: هلمي فلنذهب من هنا فنقف على باب (السيما) نتفرج مما بنا، فنرى أولاد الأغنياء الذين لهم أب وأم.
انظري هاهم أولاء يُرى عليهم أثر الغنى، وتعرف فيهم روح النعمة؛ وقد شبعوا. . . إنهم يلبسون لحماً على عظامهم، أما نحن فنلبس على عظامنا جلداً كجلد الحذاء؛ إنهم أولاد أهليهم، أما نحن فأولاد الأرض؛ هم أطفال، ونحن حطب إنساني يابس؛ يعيشون في الحياة ثم يموتون، أما نحن فعيشنا هو سكرات الموت، إلى أن نموت؛ لهم عيش وموت، ولنا الموت مكرراً.
ويلي على ذلك الطفل الأبيض السمين، الحسن البزّة، الأنيق الشارة، ذاك الذي يأكل الحلوى أكل لص قد سرق طعاماً فأسرع يحدر في جوفه ما سرق؛ هو الغنى الذي جعله يبتلع بهذه الشراهة كأنما يشرب ما يأكل، أو له حلق غير الحلوق، ونحن - إذا أكلنا - نغصّ بالخبز لا أُدْمَ معه، وإذا ارتفعنا عن هذه الحالة لم نجد إلا البشيع من الطعام وأصبناه عِفناً أو فاسداً لا يسوغ في الحلق، فإذا انخفضنا فليس إلا ما نتقمم من قشور الأرض ومن حُتات الخبز كالدواب والكلاب؛ وإن لم نجد ومسّنا العُدم وقفنا نتحيّن طعام قوم في دار أو نُزُل فنراهم يأكلون فنأكل معهم بأعيننا، ولا نطمع أن نستطعمهم وإلا أطعمونا ضرباً فنكون قد جئناهم بألم واحد فردّونا بألمين، ونفقد بالضرب ما كان يمسك رمقنا من الاحتمال والصبر.
هؤلاء الأطفال يتضورون شهوة كلما أكلوا فيعودوا ليأكلوا، ونحن نتضور جوعاً ولا نأكل، لنعود فنجوع ولا نأكل، وهم بين سمع أهليهم وبصرهم؛ ما من أنّة إلا وقعت في قلب، وما من كلمة إلا وجدت إجابة؛ ونحن بين سمع الشوارع وبصرها، أنين ضائع، ودموع غير مرحومة!(56/11)
آه لو كبرت فصرت رجلاً طويلاً عريضاً! أتدرين ماذا أصنع؟
- ماذا تصنع يا احمد؟
- إنني أخنق بيديّ كل هؤلاء الأطفال!
- سَوأة لك يا احمد، كل طفل من هؤلاء له أم مثل أمنا التي ماتت، وله أخت مثلي؛ فما عسى ينزل بي لو ثكلتك إذا خنقك رجل طويل عريض؟
- لا، لا أخنقهم؛ بل سأرضيهم من نفسي؛ أنا أريد أن أصير رجلاً مثل (المدير) الذي رأيناه في سيارته اليوم على حال من السطوة تعلن أنه مدير. . . أتدرين ماذا أصنع؟
- ماذا تصنع يا احمد؟
- أرأيت عربة الإسعاف التي جاءت عند الظهر فانقلبت نعشاً للرجل الهرم المحطم الذي أغمي عليه في الطريق.؟ سمعتهم يقولون: إن المدير هو الذي أمر باتخاذ هذه العربة، ولكنه رجل غُفل لم يتعلم من الحياة مثلنا، ولم تحكِمه تجارب الدنيا فالذي يموت بالفجاءة أو غيرها لا يحييه المدير ولا غير المدير، والذي يقع في الطريق يجد من الناس من يبتدرونه لنجدته وإسعافه بقلوب إنسانية رحيمة، لا بقلب سواق عربة ينتظر المصيبة على إنها رزق وعيش.
إن عربات الإسعاف هذه يجب أن يكون فيها أكل. . ويجب أن تحمل أمثالنا من الطرق والشوارع إلى البيوت والمدارس؛ وإن لم يكن للطفل أم تطعمه وتؤويه فلتصنع له أم.
كل شئ أراه لا أراه إلا على الغلط، كأن الدنيا منقلبة أو مدبرة أدبارها، وما قطّ رأيت الأمور في بلادنا جارية على مجاريها؛ فهؤلاء الحكام لا ينبغي أن يكونوا إلا من أولاد صالحي الفقراء، ليحكموا بقانون الفقر والرحمة، لا بقانون الغنى والقسوة، وليتقحموا الأمور العظيمة المشتبهة بنفوس عظيمة صريحة قد نبتت على صلابة وبأس، وخلق ودين ورحمة؛ فإنه لا ينهزم في معركة الحوادث إلا روح النعمة في أهل النعمة، وأخلاق اللين في أهل اللين؛ وبهؤلاء لم يبرح الشرق من هزيمة سياسية في كل حادثة سياسية.
إن للحكم لحماً ودماً هو لحم الحاكم ودمه؛ فإن كان صلباً خشناً فيه روح الأرض وروح السماء فذاك، وإلا قتل اللين والترف الحكم والحاكم جميعاً. وهؤلاء الحكام من أولاد الأغنياء لا يكون لهم هم إلا أن يرفعوا من شأن أنفسهم، إذ السلطة درجة فوق الغنى، ومن(56/12)
نال هذه استشرف لتلك، فإذا جمعوهما كان منهما الخلق الظالم الذي يصور لهم الاعتداء قوة وسطوة وعلوّاً، من حيث عدموا الخلق الرحيم الذي يصور لهم هذه القوة ضعفاً وجبناً ونذالة. إن أحدهم إذا حكم وتسلط أراد أن يضرب، ثم لم تكن ضربته الأولى إلا في المبدأ الاجتماعي للأمة، أو في الأصل الأدبي للإنسانية. ويحرصون على ما به تمامهم، أي على السلطة، أي على الحكم؛ فيحملهم ذلك على أن يتكلفوا للحرص أخلاقه، وأن يجمعوا في أنفسهم أسبابه؛ من المداراة والمصانعة والمهاونة، نازلاً فنازلاً إلى درك بعيد، فينشرون أسوأ الأخلاق بقوة القانون ماداموا هم القوة.
- وماذا تريد أن يصنع أولاد الأغنياء يا احمد؟
- أما أولاد الأغنياء فيجب أن يباشروا الصناعة والتجارة ليجدوا عملاً شريفاً يصيبون منه رزقهم بأيديهم لا بأيدي آبائهم، فإنه والله لولا العمى الاجتماعي لما كان فرق بين ابن أمير متبطّل في أملاك أبيه من القصور والضياع وابن فقير متبطل في أملاك المجلس البلدي من الأزقة والشوارع. . .
وابن الأمير إذا كان نجاراً أو حداداً أصلح السوق والشارع بأخلاقه الطيبة اللينة، وتعففه وكرمه، فيتعلم سواد الناس منه الأمانة والصدق، إذ هو لا يكذب ولا يسرق مادام فوق الاضطرار، ولا كذلك ابن الفقير الذي يضطره العيش أن يكون تاجراً أو صانعاً فتكون حرفته التجارة، وهي السرقة، أو الصناعة وهي الغش، ويكون في الناس أكثر عمره مادة كذب وإثم ولصوصية.
آه لو صرت مديراً! أتدرين ماذا أصنع؟
- ماذا تصنع يا احمد؟
- أعمد إلى الأغنياء فأردهم بالقوة إلى الإنسانية، وأحملهم عليها حملاً، وأصلح فيهم صفاتها التي أفسدها الترف واللين والنعمة، ثم أصلح ما أخل به الفقر من صفات الإنسانية بالفقراء، وأحملهم على ذلك حملاً، فيستوي هؤلاء وهؤلاء، ويتقاربون على أصل في الدم إن لم يلده آباؤهم ولده القانون. ألا إن سقوط أمتنا هذه لم يأت إلا من تعادي الصفات الإنسانية في أفرادها، فتقطّع ما بينهم، فهم أعداء في وطنهم، وإن كان اسمهم أهل وطنهم.
ومتى أحكمت الصفات الإنسانية في الأمة كلها ودانى بعضها بعضاً - صار قانون كل فرد(56/13)
كلمتين، لا كلمة واحدة كما هو الآن. القانون الآن (حقي) ونحن نريد أن يكون (حقي وواجبي) وما أهلك الفقراء بالأغنياء، ولا الأغنياء بالفقراء ولا المحكومين بالحكام إلا قانون الكلمة الواحدة.
أنا احمد المدير. . . لست المدير بما في نفس احمد، ولا بمعدته وبطنه، ولا بما يريد احمد لنفسه وأولاده. . . كلا، أنا عمل اجتماعي منظم يحكم أعمال الناس بالعدل، أنا خلق ثابت يوجه أخلاقهم بالقوة، أنا الحياة الأم مع الحياة الأطفال الأخوة في هذا البيت الذي يسمى الوطن، أنا الرحمة، عندي الجنة ولكن عندي جهنم أيضاً مادام في الناس من يعصي، أنا بكل ذلك لست احمد، لكني الإصلاح.
هأنذا قد صرت مديراً أعسّ في الطريق بالليل وأتفقد الناس ونوائبهم.
من أرى؟ هذا طفل وأخته نائمان على عتبة البنك في حياة كأهدامهما المرقعة، في دنيا تمزقت عليهما، قم يا بني، لا تُرَع إنما أنا كأبيك، تقول اسمك احمد، واسم أختك أمينة؟
تقول: إنك ما نمت من الجوع، ولكن مضمضت عينك بشعاع النوم؟
يا ولديّ المسكينين بأي ذنب من ذنوبكما دقتكما الأيام دقاً وطحنتكما طحناً، وبأي فضيلة من الفضائل يكون ابن فلان باشا وبنت فلان باشا في هذا العيش اللين يختاران منه ويتأنقان فيه، ما الذي ضر الوطن منكما فتموتا، وما الذي نفع الوطن منهما فيعيشا؟
إن كنت يا بني لا تملك لنفسك الانتصار من هذه الظليمة فأنا أملكها لك، وإنما أنا المظلوم إلى أن تنتصر، وإنما أنا الضعيف إلى أن آخذ لك الحق.
إليّ بابن فلان باشا وبنت فلان باشا.
يا هذا عليك أخاك احمد ولتكن به حفياً، ويا هذه عليك أختك الآنسة أمينة. . .
أتأبيان، أنفرةً من الإنسانية، وتمرداً على الفضيلة، أحقاً بلا واجب، دائماً قانون الكلمة الواحدة!؟ خلقتما أبيضين سخرية من القدر وأنتما في النفس أحبوشة الزنج ومناكيد العبيد.
ورفع احمد يده. . . .
وكان الشرطي الذي يقوم على هذا الشارع، وإليه حراسة البنك قد توسنهما ودخلته الريبة، فانتهى إليهما في تلك اللحظة وقبل أن تنزل يد سعادة المدير بالصفعة على وجه ابن الباشا وبنت الباشا كان هذا الشرطي قد ركله برجله فوثب قائماً واجتذب أخته وانطلقا عَدْو الخيل(56/14)
منم ألهوب السوط.
وتمجدت الفضيلة كعادتها. .!. . أن مسكيناً حلم بها. .
مصطفى صادق الرافعي(56/15)
أدب الرواة المسلمين
فن في الأدب العربي يحتفظ بقيمته وجدته
للأستاذ محمد عبد الله عنان
فن من فنون الأدب العربي لم تذهب الأيام بجدته؛ ولا يزال تراثه رغم كر الزمن يحتفظ بقيمته الفنية فضلاً عن قيمته التاريخية؛ ذلك هو فن السياحة والمشاهدة. ففي الأدب الغربي، القديم والحديث، تتبوأ كتب السياحة والمشاهدة مكانة رفيعة، سواء كانت لمكتشف يرود مجاهل القارات ثم يسجل اكتشافاته، أو لكاتب يجوب البلاد بقصد الدرس والمشاهدة ويدون ملاحظاته ومشاعره. وقد كانت كتب السياحة قبل قرنين أو ثلاثة تعتبر دائماً بالنسبة للمجتمعات التي كتبت لها كتب استكشاف تلقي أضواء جديدة على أحوال المجتمعات التي كتبت عنها؛ فلما تقدمت المواصلات وتقاربت الشعوب، وكثر تعارفها، وتوثقت بينها الصلات العلمية والأدبية، لم يبق للسائح المتجول ما يكتشفه من أحوال الشعوب المتمدنة أو التي تأخذ بقسط من الحضارة، إلا ما يمليه عليه الدرس الخاص لأحوال هذه الشعوب، وأصبحت كتب الاستكشاف وقفاً على رواد المجاهل والعلماء الذين يجوبون معهم مجاهل البحار أو اليابسة ليكشفوا جديداً من الآثار أو الأنواع. وكتب الفريق الأول يغلب عليها الطابع الأدبي، وأما كتب الرواد الفنيين فيغلب عليها الطابع العلمي.
وقد عرف الأدب العربي فن السياحة والمشاهدة في عصر مبكر جداً. فمنذ القرن الثالث نرى الجغرافيين العرب يطوفون أرجاء العالم المعروف يومئذ للوقوف على أحوال البلدان والأقاليم المختلفة وخواصها ويدونون مشاهداتهم في كتب لا زالت حجة عصرها. ومن أعظم هؤلاء الجغرافيين الرحل، اليعقوبي الذي طاف العالم الإسلامي من السند إلى الأندلس وتجول في جميع بلاد فارس والجزيرة ومصر والمغرب والأندلس في النصف الأخير من القرن الثالث الهجري، ووضع كتابه الجامع (البلدان)، والمسعودي المؤرخ والجغرافي الذي طاف أنحاء العالم الإسلامي شرقاً حتى الهند والصين وجزائر الهند الشرقية، واخترق المحيط الهندي حتى شواطئ أفريقية الشرقية وجزيرة مدغشقر، وشهد عجائب هذه الآفاق، ودونها في كتبه ولاسيما مروج الذهب والتنبيه والإشراف، وذلك في أوائل القرن الرابع الهجري. بيد أننا لا نريد أن نتحدث هنا عن هؤلاء العلماء(56/16)
والجغرافيين، وإنما نتحدث بالأخص عن طائفة من الرحل والمكتشفين المسلمين الذين تصور آثارهم أحوال البلاد والمجتمعات التي شهدوها، وتعتبر من الوجهة الفنية آثاراً وصفية اجتماعية قبل أن تعتبر آثاراً جغرافية. ولدينا في الواقع ثبت حافل من أولئك الرواد المشغوفين بالسياحة ودراسة أحوال الأمم، ولدينا كثير من آثارهم التي ما زالت تعتبر رغم قدمها نماذج حسنة لهذا النوع من الأدب المفيد الشائق معاً. وما نذكره منهم ومن آثارهم في هذا الفصل، نذكره على سبيل التمثيل، لا على سبيل الحصر؛ وإنما نلاحظ أن الذين عرفوا منهم وعرفت آثارهم هم أقلية صغيرة بالنسبة إلى أولئك الذين لم تصل إلينا آثارهم أو التي انتهت آثارهم إلينا، ولكنها ما زالت مخطوطات منسية في ظلمات المكاتب العامة والخاصة.
ومن أقدم أولئك الرواد الوصفيين الذين انتهت آثارهم إلينا أبو القاسم محمد بن حوقل البغدادي الذي أنفق نحو ثلاثين عاماً في الطواف بالأمم الإسلامية من بغداد إلى الأندلس، يدرس أحوالها وخواصها وأحوال شعوبها ومجتمعاتها، وذلك في النصف الأول من القرن الرابع الهجري (القرن العاشر الميلادي). وقد دون ابن حوقل رحلته ومشاهداته في كتاب أسماه (المسالك والممالك)، وهو أثر يجمع بين الناحية الجغرافية والناحية الوصفية. بيد أنه يعنى بالمشاهدات الوصفية عناية خاصة، وفيه يدون ابن حوقل خلال أخبار رحلته أحوال الأمم التي مر بها وما شاهده فيها من المناظر والمعاهد والآثار والخواص التي تستحق الذكر. وقد مرّ ابن حوقل خلال رحلته بمصر، في أواخر الدولة الأخشيدية، وخصص لمشاهداته فيها فصلاً طويلاً يصف فيه مصر الفسطاط ومعاهدها والنيل ومجراه، وكثيراً من أحوال المجتمع المصري يومئذ. وأسلوبه يجمع بين الطابعين العلمي والأدبي. ولدينا في القرن السادس رحالتان شهيران أحدهما يجوب العالم المعروف يومئذ من المشرق إلى المغرب، والآخر يجوبه من المغرب إلى المشرق، والأول هو أبو الحسن علي بن أبي بكر المعروف بالسائح الهروي، نسبة إلى هراة بلدة أسرته. وقد ولع أبو الحسن بالأسفار منذ حداثته، وخرج من الموصل مسقط رأسه يجوب أنحاء العالم لغير قصد سوى التفرج والاستكشاف، وذلك نحو سنة 568هـ (1173م)، وأنفق زهاء ربع قرن في رحلته، فطاف أرجاء الشام وفلسطين ومصر، وقبرص وغرب الأناضول وزار قسطنطينية(56/17)
عاصمة الدولة البيزنطية، واخترق البحر الأبيض وتجول في جزائره حتى صقلية؛ ولم يترك، على قول ابن خلكان (براً ولا بحراً ولا سهلاً ولا جبلاً من الأماكن التي يمكن قصدها ورؤيتها إلا رآه، ولم يصل إلى موضع إلا كتب خطه في حائطه). واشتهر ذلك في الآفاق كلها، وهو الوحيد الذي تلقبه الرواية الإسلامية (بالسائح) وأسره الفرنج والقرصان مراراً، وضاعت كتبه ومذكراته، كما يخبرنا بذلك كتابه الذي انتهى إلينا، وهو سفر صغير عنوانه (الإشارات إلى معرفة الزيارات) وفيه يقص باختصار سير رحلته، وما شاهده من الأماكن والمعاهد، دون وصف ولا إسهاب. وفي أواخر القرن السادس استقر أبو الحسن في حلب بعد طول التجوال، ونال حظوة لدى أميرها وتوفي سنة 611هـ (1214م) ودفن بتربة أعدها لنفسه، وكتب عليها حسب وصيته ومن إنشائه تلك الكلمات المؤثرة: (هذه تربة العبد الغريب الوحيد علي بن أبي بكر الهروي، عاش غريباً، ومات وحيداً، لا صديقاً يرثيه، ولا خليلاً يبكيه، ولا أهطل يزورونه، ولا إخوان يقصدونه، ولا ولد يطلبه، ولا زوجة تندبه؛ آنس الله وحدته، ورحم غربته).
وأما الثاني فهو أبو الحسين محمد بن احمد بن جبير الأندلسي. رحل من الأندلس شرقاً إلى أفريقية ومصر والشام والحجاز. وكان رحالة بطبيعته قوي الملاحظة والوصف. رحل من غرناطة إلى المشرق ثلاث مرات، الأولى سنة 578هـ والثانية سنة 585هـ، والثالثة في أواخر القرن السادس، وقطع البحر الأبيض مراراً، وطاف بمعظم جزائره وثغوره الجنوبية والشرقية، وتجول في بلاد مصر والشام والحجاز، وقاسى في أثناء تجواله كثيراً من الشدائد، وأشرف مراراً على الهلاك في البحر، واستقر أخيراً بالإسكندرية وتوفي بها سنة 614هـ (1217م) ودون أخبار رحلاته في سفر كبير ممتع يسميه (تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار). وفيه يدون مشاهداته في الأمم والبلاد التي زارها؛ ويقص حوادث أسفاره مفصلة بالتواريخ في نوع من (المذكرات)؛ وهو أثر شائق الأسلوب والوصف يعتبر نموذجاً بديعاً لأدب الرواد.
ونستطيع أن نذكر من الرواد المسلمين في هذا العصر أيضاً، عبد اللطيف البغدادي الطبيب العلامة الذي وفد على مصر في أواخر القرن السادس الهجري، وطاف بعد ذلك فلسطين والشام وبلاد الروم الأناضول يدرس أحوالها ومجتمعاتها. وقد دون عبد اللطيف مشاهداته(56/18)
في مصر في كتاب كبير لم يصل إلينا، ولكن وصلت إلينا منه عدة فصول اختارها عبد اللطيف وسماها كتاب (الإفادة والاعتبار) وهي فصول قوية بديعة عن أحوال مصر وخواصها الطبيعية والاجتماعية، يغلب عليها الأسلوب العلمي الذي يمتاز به مؤلفها.
على أن أعظم الرواد المسلمين هو أبو عبد الله محمد ابن عبد الله الطنجي الشهير بابن بطوطة. ولم يكن ابن بطوطة رحالة عظيماً فقط يجوب أنحاء العالم المعروف يومئذ، بل كان أيضاً مكتشفاً عظيماً يقصد إلى مجاهل البر والبحر. وكتابه (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) وهو المعروف برحلة ابن بطوطة أجمل وأنفس أثر عربي في هذا النوع من الأدب. وقد خرج ابن بطوطة من طنجة مسقط رأسه في سنة 725هـ (1325م) يجوب أقطار العالم، واخترق بلاد المغرب ومصر والشام وبلاد العرب وبلاد الروم وقسطنطينية، وفارس وخراسان وتركستان والهند وسيلان والصين وجزائر الهند الشرقية؛ واخترق في عوده قلب أفريقية من السودان إلى بلاد النيجر؛ ووقف على كثير من مجاهل بعض الأقطار والأمم التي لم تكن معروفة يومئذ تمام المعرفة؛ ووصل إلى أعالي نهر النيجر وإلى تمبكتو وسكوتو قبل أن يصل إليها الرواد الأوربيون ويكتشفها الرحالة الإنجليزي منجوبارك بعد ذلك بنحو ثلاثة قرون. وسلخ في رحلاته نحو ربع قرن؛ وترك لنا عن أسفاره واكتشافاته ومشاهداته ذلك الأثر الذي يعتبر بحق من أبدع آثار السياحة والاكتشاف.
وقد لبث أدب الرواد متصلاً في العربية حتى العصر الحديث؛ فنجد المقري مؤرخ الأندلس - مثلاً - يصف لنا فاتحة (نفح الطيب) رحلته البحرية من المغرب إلى المشرق في أسلوب رائع؛ ونجد العلامة الصوفي عبد الغني النابلسي يجوب بلاد الشام ومصر والحجاز، وذلك سنة 1105هـ (1694م)، ويترك لنا عن أسفاره ومشاهداته أثراً نفيساً هو كتاب (الحقيقة والمجاز) الذي تحتفظ دار الكتب بنسخة خطية منه.
ومما تقدم نرى أن أدب السياحة قد بدأ في العربية في عصر مبكر، واستمر على كر العصور. وكثيراً ما قيل إن تراث الأدب العربي أضحى قديماً لا يساير العصر، وأن فنونه قد عفت، وأنه ليس في تعداد فنونه ومناحيه كالأدب الغربي. ولكنا نستطيع أن نقول هنا على الأقل، إن الأدب العربي قد سبق الأدب الغربي في فن السياحة والمشاهدة بعصور(56/19)
طويلة؛ وهذا مترتب بالطبع على إن الرواد المسلمين كانوا أسبق من الرواد الغربيين إلى التجوال في أنحاء العالم المعروف يومئذ، وإلى ارتياد الكثير من الأنحاء المجهولة. والواقع أن أول رحالة غربي كبير ارتاد أنحاء المشرق وآسيا هو الرحالة الإيطالي مركو بولو؛ وكانت رحلته إلى المشرق في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر؛ هذا بينما يرجع نشاط الرواد المسلمين إلى القرنين الثاني والثالث من الهجرة (القرنين الثامن والتاسع من الميلاد). وأقدم أثر غربي قيم في السياحة هو أثر مركو بولو الذي يصف فيه أحوال الأقطار الأسيوية ولاسيما الشرق الأقصى. وقد كان أول أثر استطاع الغرب أن يقف فيه على عظمة الشرق يومئذ وبذخه وبهائه وروعة حضارته. ولكن الأمم الإسلامية كانت تعرف أقصى الأمم الشرقية ومعظم الأمم الغربية على يد جغرافييها وروادها قبل ذلك بقرون.
على أنه مما يؤسف له أن أدب السياحة في العربية قد انحط في العصر الأخير، كما انحط كثير من فنونها، وأضحى نوعاً من المشاهدات الطائرة تكرر في كل فرصة وفي كل أثر جديد، وتكتب بالأسلوب الصحفي الركيك، وتقف عند الأخبار والمشاهدات السطحية، كوصف السفينة والبحر والشوارع والفنادق والملاهي، بأساليب وعبارات مملة؛ وقلما يعنى السائح المتفرج بالمشاهدات والدراسات العلمية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، ومن الأسف أننا لا نستطيع أن نجد بين كتب السياحة التي أخرجت في العصر الأخير كثيراً من الآثار التي تمتاز بقيمتها الأدبية والفنية.
محمد عبد الله عنان المحامي(56/20)
حول اقتراح
نقابة للأدباء للشبان
بقلم حنفي غالي
قرأت المقال الشيق الممتع الذي نشرته مجلة الرسالة الغراء لذلك الأديب الكبير مقترحاً فيه تأليف نقابة للأدباء الشبان، تجمع شملهم، وتوحد كلمتهم، ويكون لهم منها قوة ترد عنهم هجمات المعتدين، ودرع يقيهم طعنات الطاعنين؛ فراقني منه ميل خالص للعدل، ورغبة صادقة في الإنصاف، فأحببت أن أقول في هذا الموضوع كلمة صريحة لوجه الحق، غير متأثر من جانبي الشبان أو الشيوخ برغبة أو رهبة.
وكم كنت أود أن يتجه اقتراح الأديب اتجاهاً غير اتجاهه، ويرمي إلى غاية غير غايته، فيدعو إلى تكوين جماعات من الشباب تلتف كل منها حول شيخ أو أكثر من شيوخ الأدب، تفيده وتستفيد منه؛ تفيده بإعلاء ذكره وإظهار فضله وإعانته في عمله، ونستفيد منه بالاستماع لنصائحه والتشرب بروحه والتأدب بأدبه؛ ويكون هذا خيراً من تأليف نقابة تغري بالمصارعة وتغري بالمناجزة، وأليق برجال يجتمعون قاطبة حول عرش الفن، ويتعبدون له ويتقدمون بقرابينهم إليه، لا فارق فيهم بين شاب وشيخ، وخامل ونابه، ومغمور ومشهور. نعم كنت أصبو إلى تلك الأمنية وأتحرق شوقاً إليها؛ ولكنني الآن قد انصرفت عنها وزهدت فيها، فقد هممت بالعمل على تحقيقها وإنفاذها في العام الماضي إجابة لرغبة شيخ من شيوخ الأدب محبب إليّ، عزيز عليّ، فوجدت السبيل إلى ذلك شائكاً وعراً بسبب المعركة التي احتدمت حينئذ بين الأدباء الشبان والشيوخ والتي لا زال جرحها وقتالها يسقطون حتى اليوم، فرغبت في الوقف على أسبابها، وتعرف من أوقد شعلتها الأولى، أهم الشيخ أم الشباب! واستطعت باتصالي بهؤلاء وأولئك أن أستشف روح كل منهما، وأستكنه خبيئة نفسه؛ فعلمت علم اليقين أن التبعة في ذلك إنما يقع أكثرها على الشيوخ، لأنني وجدت في الأدباء الشباب كرماً وتضحية وإن كان فيهم غرور. أما الشيوخ فلست أغالي إذا وصفتهم بعنت الحزازة وصلف الأستاذية - كما يقول الأستاذ صاحب الرسالة - بل بالخروج عن طور الحكمة والرزانة المعروفة عنهم، أو المفروضة فيهم على الأقل؛ ولله ما أعجب تقلبات الأيام! فقد كان هؤلاء الشيوخ بعينهم ينعون على رجال(56/21)
المدرسة القديمة واستبدادهم وتخطيهم الرقاب بشهرتهم، واستغنائهم عن الإخلاص والصدق ويفخرون بأن مذهبهم الجديد إنما يقوم على أساس من الحجج الناصعة، والبراهين الدامغة؛ ولا يبغي سوى الحرية والحق، وما زالوا يعملون المعاول في المذهب القديم حتى أحالوه صعيداً جرزاً، ولكن ما كادوا ينتصرون ويفرح الشباب بهذا الانتصار وتفيض نفوسهم غبطة وابتهاج له، حتى تبدلت نفوسهم، وتجهمت قلوبهم، وأصبحوا للشباب ألد الأعداء، بعد أن كانوا أخلص الأصدقاء، وأخذوا يضعون اللجم في الأفواه والأصفاد حول الأعضاد، والعقبات في سبيل النفوس الناشئة السائرة على الدرب، وبذلك مثل شيوخ الأدب في مصر وفي القرن العشرين المأساة المبكية المضحكة التي مثلها من قبلهم رجال الثورة الفرنسية حين ثاروا على استبداد البوربون، فقوضوا صرحه، ثم أقاموا مكانه استبداد نابليون، أليس كذلك؟!
رحم الله المدرسة القديمة وطيب ثرى رجالها الأبرار! لقد قال الأستاذ الدكتور طه حسين عن أحدهم وهو المغفور حفنى بك ناصف (كنا نستعينه على أن نكون خيراً منه، وكان يعيننا على ذلك راضياً به مبتسماً له راغباً فيه). فأين هذه العلاقة الأبوية العطوفة من علاقة الإذلال والاستعباد التي يريد شيوخ الأدب أن تكون بينهم وبين الشباب؟ هم يخيرون أدباء الشباب بين أمرين أحلاهما مر، أما أن يندمجوا في أشخاصهم ويفنوا فيهم ويسبحوا لهم بكرة وأصيلا وغدواً ورواحاً، وإلا فالويل والثبور لهم أن حدثتهم نفسهم بإبداء رأي حر في كتاب شيخ أو قصيدة، أو يتربصون بهم حتى إذا وقعوا في أيديهم فرائس أثخنوهم طعناً فما يبقون فيهم ذماء من حياة؛ فالموقف الأول مفسد للنفوس مميت للضمائر، والموقف الثاني مثبط للهمم مضعف للعزائم، وكلاهما لا يرضى الكرامة ولا العدل، وما كان للشباب وهم الذين طالما غسلوا بدمائهم الزكية طريق الحرية أن يقبلوا الابتعاد في الأدب بعد أن أبوه في السياسة.
ولست أرى مبرراً لهذا الموقف الشاذ الغريب من الشيوخ فالمألوف أن الأدباء يختلفون في الرأي ويختصمون في الفن فماذا يخيفهم من نقد الشباب لآثارهم؟ إلا أن الأمر لا يخلو من أحد اثنين: أما أن إنتاج الفني قوي لا مغمز فيه فلا يعقل أن النقد يغض من قدره وينقص من قيمته، أو أنه ضعيف فيكون من حق الفن ألا يدخل في حرمة المقدس. أما دعوى(56/22)
الشيوخ بأنهم وحدهم حراس الفن وأمناء هيكله فهي دعوى مرفوضة شكلاً وموضوعاً، مرفوضة شكلاً لسخافتها الظاهرة وبعدها عن الجد بعد ما بين الأرض والسماء، وهي مرفوضة موضوعاً لأن وسائل النقد هي الذوق والإطلاع وهما متوفران لكثير من أدباء الشباب.
والحق أن من شيوخ الأدب من هو مقدور فوق قدره، ولعل هذا سر فزعه من النقد وجزعه من كل يد تمتد إلى آثاره ولو كانت عاجزة ضعيفة.
على أنني لست أخلي أدباء الشباب من كل تبعة، ففيهم غرور يحمل بعضهم على النزول إلى ميادين لم يعدوا لها العدة ولم يتخذوا الأهبة، ولكن أي ضير على الشيوخ لو قابلوا نزوات الشباب بابتسام الأب البار الحنون الذي يغفر ويتجاوز عن كثير؟
ولقد نشأ عن هذا الموقف الشاذ بين الشيوخ والشبان أن غشى الحياة الأدبية في مصر غشاء من الحقد والرياء في النقد فلا يكاد يظهر مؤلف أدبي حتى يرفعه الأنصار إلى السماء، ويهبط به الخصوم إلى الغبراء بغير حق، فانظر ماذا فعل شيوخ الأدب بديواني الشاعرين المهندس وناجي؛ أوليس فيهما ما يستحق الإعجاب والتقدير؟ بلى، وإني لأترك الكلام هنا للأستاذ المنصف صاحب الرسالة إذ قال: إن ما فيهما من مساوئ هو من ضئال العيوب التي تختفي في بهر الجمال وروعة الصنعة، فالحكم في حياتنا الأدبية الآن للهوى والغرض لا للعقل والعدل، فما علاج هذه الحالة. إنني وإن كنت أرى في تأليف نقابة لأدباء الشباب ما يغري بالصراع والنضال، ولكنني أؤيد الاقتراح كل تأييد على أن يكون الشباب على حسن الظن بهم تسامحاً ونبلاً، فلا يكونوا البادئين بصبغ العيون بلون الدماء - كما يقول الأديب الكبير - فإذا بغى من الشيوخ باغٍ أو عدا عادٍ فليقف منه الشباب موقف المدافع في سبيل إعلاء كلمة الحق، وإقرار العدل في نصابه، ورد الأمور إلى مجراها الطبيعي.
فالنقابة بما تبثه من روح التعاون بين الشباب، وبما تخلقه من قوة الاتحاد في الغاية والغرض، ستزيل كل العقبات المصطنعة من طريقهم، وتبدد هذه السحب التي تراكمت في سماء حياتنا الأدبية، وحبذا لو امتد نشاطها فشمل جميع الأقطار العربية، وضمت بين أعضاءها أدبائها الشبان، فيكونون رسل محبة وسفراء خير.(56/23)
ولكن النقابة لن تكون جديرة بالتقدير والاحترام، إلا إذا كان وجه الفن قبلتها وغايتها، والإخلاص له قائدها ورائدها، فلا يتقارض أعضاؤها المديح والثناء الزائف، بل يتبادلون النصح والإرشاد الصادق، فإذا مارست سفينة الشباب في هذا السبيل القويم والصراط المستقيم، فلاشك أنها بالغة غايتها منتهية إلى بر السلامة محوطة برعاية الله ملكوءة بعنايته.
قد أمن الله مجراها وأبدلها ... بحسن عاقبة من سوء منقلب
حنفي غالي(56/24)
حقائق
1 - الأثينيون القدامى والفرنسيون الحديثون يبذون غيرهم من الأمم في شغفهم بجمال الحياة ومباهجها. كما يبذونهم كذلك في رقة الأخلاق وظرف الشمائل.
2 - يقول المثل (لا ألفة بين اللصوص) ومعنى ذلك أن الشر يهدم الصداقة.
3 - إن دراسة الشعر والفصاحة الموسيقى والتصوير وغير ذلك من الفنون الجميلة تبث في الناس روح الدماثة والرقة والإيناس.
4 - إن لتداعي الأفكار تأثيراً عظيماً جداً على العقل والأخلاق، فنرى إن اشغال الذوق توجه العقل إلى مواطن الجمال والسمو. وترد عنه أسباب الضعة والفساد، ذلك إنها تبحث على حب الأولى. والنفور من الثانية بقوة التداعي والترابط.
5 - كما إن الموسيقى تطرب السمع. والألوان البهيجة تفتن العين. كذلك بدائع الذوق تهذب العقل لذلك نرى أن الموسيقي يؤلمه اختلال الألحان. والفنان يزعجه اضطراب الألوان، والذوق الرقيق تؤذيه شراسة الأخلاق وغلظة الطباع.
ترجمة عامر عبد الوهاب عامر(56/25)
الموت والخلود
للأستاذ زكي نجيب محمود
أما أحدهما فكان يحب الحياة ويخشى الموت، وأما الآخر ففيلسوف يستصغر شأنها وينفذ ببصره وراء ظواهرها الزائلة إلى حيث الحقيقة الخالدة. جمعت بينهما الأيام على مائدة واحدة فدار بينهما الحديث وتشعبت أطرافه، وما لبث الحوار بينهما طويلاً حتى مس موضع التناقض بينهما. . .
تراسيماكوس - لله ما أعجب الموت! لا يكاد يمس الحي بأطرافه الباردة، حتى تنقلب تلك القوة المفكرة المدبرة الفعالة إلى جمود الصخر، يلقى بها في جوف القبر الصامت، وكأنها بعض تربته، أفتستطيع يا صديقي أن تحدثني حديثاً جلياً واضحاً لا يغمض ولا يلتوي عن قصة هذا الموت العجيب؟ ماذا عساي أن أكون بعد هذا القضاء المحتوم؟
فيلاليش - ستكون كل شئ ولن تكون شيئاً
تراسيماكوس - لم أكن والله أتوقع منك حين طرحت السؤال، إلا عبارة كهذه مبهمة مرنة، أسرفت في المرونة والإبهام حتى وسعت كل معنى، فلم أظفر مما أريد بشىء، وماذا عسى أن أفيد من جواب يتنافر الصدر فيه مع العجز، ويتناقض شطره الأول مع شطره الثاني، فيزيد المشكلة تعقيداً على تعقيد ولا يوضح منها شيئاً؟ ولكنها الفلسفة العقيمة تأبى إلا أن تعلو بنفسها فوق مستوى الإفهام فتربك العبارة إرباكاً وتغلقها إغلاقاً، كأنما أريد لها أن تقتصر على قائليها، وكان خليقاً بها إن أرادت أن تمكن لنفسها من العقول، أن تلتمس سبيلاً طيعاً ذلولاً، لا وعراً ولا شائكاً، فيروده الرائدون جميعاً.
فيلاليش - عفواً صديقي، فما قصدت إلى التناقض عمداً بل اضطررت إليه اضطراراً، فهذه اللغة التي تواضع الناس على اصطناعها في التفاهم، لم تنشأ أول أمرها إلا لكي تكون أداة للتعبير عما يقع تحت الحس من أشياء، فلما درج الإنسان صاعداً في سلم الرقي، وبدأت تدور في رأسه خلجات من الفكر المجرد ثم أراد أن يبرزها في ثوب من اللفظ، لم تسعفه إلا هذه اللغة، التي إنما خلقت للمحسوسات، والتزم أن يجرى في قوالبها المحدودة تلك الآراء المطلقة التي لا تعرف الحدود، فلم يكن بد من هذا التناقض والاضطراب، فأنا إن فكرت في مصيرك بعد الموت، فلست أعنى بجسدك وما يطرأ عليه، بل يسبح الفكر في(56/26)
حقيقتك التي تكمن وراء هذا الستار من اللحم والعظم في جوهرك مجرداً عن قوالب المادة، وما أضيق اللغة عن هذا النطاق الفسيح!
تراسيماكوس - ويحك! أو تريد أن تجعل مني رجلين، فرجل من مادة في إهاب من الجلد، ورجل مجرد خبئ وراء الأستار تراه أنت من دون صاحبه؟
فيلاليش - وأي غرابة فيما أزعم يا صديقي؟ أفتظن أن هذه الأجسام والأجساد التي تنبث في أنحاء الكون، والتي تدركها بواسطة الحواس، هي كل شئ؟ اللهم إن صح هذا لكان الإنسان كتلة من اللحم والشحم والعظام، وقل على أفكاره ومشاعره وشتى مظاهره حيوية العفاء، لأنها لا تسلك إليك سبيلاً من عين أو أنف أو أذن!! لا، لكل شئ حقيقة كامنة وراء ظاهره، ما في ذلك شك ولا ريب، فإن أدركك الموت يا أخي أفنى منك هذا الفرد الذي يحاورني الآن، هذا الشخص المعين الذي أراه وأسمعه، ماذا أقول؟ هذا التراسيماكوس، فلن يكون بعد الموت شيئاً مذكوراً، ستنحل مادته وستسلك ذراتها سبلاً شتى، فطائفة إلى شجرة تدخل في تركيبها، وطائفة إلى حيوان، وثالثة إلى صخرة تلقى في طاق الكوخ لتصد عن ساكنيه الهواء كما يقول شاكسبير، ولكن ليست هذه الشخصية إلا ظاهرة فانية مع الموت، ولها بطانة باقية إلى الأبد، ليست إلا قالباً صيغت فيه حقيقتك الخالدة. فالفرد منك ظاهرة مادية عارضة محصورة في أطواق الزمان والمكان، فلها بدء وخاتمة، وهي تشغل حيزاً من الفراغ، فأما سرك وجوهرك، أما الحقيقة التي اندست في مادتك فلا تعرف زماناً ولا مكاناً، فهي في الكون منذ الأزل، أرادت أن تثبت وجود نفسها، فتجسدت في الكائنات التي ترى، فهي لا تختلف في شخصك عنها في شخصي، أو في شخص هذا الطائر الذي تراه يخفق بين أطباق الهواء. . . فإن أدركت المنية سيفنى منك الفرد، وستخلد الحقيقة ممثلة في سائر الأحياء، لعلك الآن قد آمنت بما زعمته لك من أنك لن تكون بعد الموت شيئاً، وستكون كل شئ؟
تراسيماكوس - ولكن خلودي في أشخاص آخرين لا يساوي عندي جناح بعوضة، مادمت لن أحيا بشخصي هذا، فإن كان تراسيماكوس الذي يطارحك الحديث الآن، سيفنيه الموت، فسحقاً للحقيقة، إذ ليس لي في خلودها غناء.
فيلاليش - مهلاً! هب أنك خيرت في أن تعيش بعد الموت بشخصيتك التي تتشبث بها(56/27)
على شرط واحد، وهو أن تسلب منك تلك الشخصية شهوراً ثلاثة فحسب، ثم ترد إليك إلى الأبد، فماذا أنت قائل؟
تراسيماكوس - لا أتردد في القبول فرحاً راضياً.
فيلاليش - ولكنك تعلم أنا لو سلبناك الوعي والشعور حيناً من الدهر، ثم بعثنا فيك اليقظة والحياة، فلن تدرك كم لبثت في غيبتك إلا أن يقص عليك نبؤها بعد البعث. فهؤلاء أصحاب الكهف أووا إلى كهفهم فضرب الله على آذانهم عدة سنين، ثم بعثهم، فقال قائل منهم كم لبثتم؟ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم؛ مع أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعا. فإن كنت كهؤلاء ستفقد إدراك الزمن، فما ضرك لو أطلنا أمد الرقاد المفروض إلى آلاف ثلاثة من السنين؟
تراسيماكوس - لا شئ، أحسبك مصيباً فيما تقول!
فيلاليش - وإذا فرضنا أن تلك الآلاف الثلاثة قد تعاقبت عليك في رقدتك، وأن أحداً لن يوقظك بعدها، أفتظن أن في ذلك وبالاً عليك؟ اللهم لا! فإن كانت عشرات قليلة من السنين قد عودتك الحياة وربطتك بها ربطاً وثيقاً، يعز عليك كثيراً أن تنفصم عراه، أليس أجدر بذلك الأمد المديد أن يعودك الموت ويوثق بينك وبينه الصلات؟ وأحسب أنك لو ظفرت بمن يبعثك ويرد إليك وعيك المفقود، لن ترضى عندئذ أن تطرح حالاً لابستك طول ذلك العهد الطويل، وسيزيد في اطمئنانك حينذاك علمك أن هذه القوة السحرية العجيبة التي تحببك في الحياة الآن، ستظل تنشر من الأحياء ملايين وملايين لا تنفك متعاقبة إلى الأبد.
تراسيماكوس - ما أبرعك في الحوار، وما أروعك في سحر المنطق وطلاوة الحديث!! إني لأكاد أستخف بشخصي وأستصغر حياتي، التي طالما أحببتها وحرصت عليها أشد الحرص ولكن هيهات، فلن أنخدع بهذا الإغراء، وما زلت أريد بعد هذا كله أن أحيا بهذه الشخصية نفسها.
فيلاليش - يا رعاك الله! كأنما بلغت شخصيتك من الكمال شأواً بعيداً، بحيث يعز ضريبها على الدهر، وكأنك عاجز الخيال لا تستطيع أن تتصور حالاً خيراً وأسمى؟ عجباً! ألا تريد أن تستبدل بنفسك الناقصة المحدودة نفساً أسمى مرتبة وأبقى خلوداً؟
تراسيماكوس - ولكنني يا صديقي لست أملك في ذلك اختياراً، فشخصي بالغاً ما بلغ من(56/28)
نقص وتحديد، هو نفسي، وهو عندي أعز ما في الوجود، لا أعدل به شيئاً، ولا أرجو إلا أن يمتد الأجل بهذه الذات التي ترى صورتها وتسمع صوتها، ولا يعنيني في كثير أو قليل تلك الحياة الخالدة التي تظل باقية في الكائنات الأخرى، والتي تحاول بكل ما وسعك من دليل أن تقيم الحجة على أنها حياتي أنا، فلست أرى خيراً في حياة لا أحس بنفسي أنها حياتي.
فيلاليش - لست وحدك يا صاح تريد أن تبقى، فكل كائن دبت فيه الحياة يريد البقاء، وحسبك هذا دليلاً قوياً على أن هذه الرغبة الشاملة التي تنطق فيك بهذا الرجاء، إنها ليست صيحة الفرد منك، ولكنها نزعة الوجود بأسره، إنها قوة عارمة تنشد البقاء ولا عبرة عندها بالأفراد مادامت تحقق بقاءها المنشود، فرغبة البقاء، أو إرادة الحياة، وقد التمست لنفسها الوجود والخلود، وجسدت نفسها في أفراد الكائنات، وألقت في أنفسهم وهماً بأنهم غايات مقصودة لذاتها، لكي يحرصوا على الحياة ويكونوا وسيلة صالحة لبقائها، والواقع أنهم ليسوا إلا أداة تستغلها تلك الإرادة، وسواء لديها أفنى هذا الفرد المعين أم امتد به الأجل، مادامت تجد من غيره ما يضمن بقاءها. . . حسبك يا أخي أن تعلم أنك أداة لتلك الإرادة الشاملة، وأنك صورة من صورها، وإنك لست غاية مستغلة قصدت لذاتها، وإن الحياة لن تخسر بفقدك شيئاً، بل لعلك تجني من ذلك خيراً كثيراً، لأنها كانت سجينة في قيود فرديتك، مثقلة بمادة جسدك، ثم انطلقت إلى حيث لا قيود ولا حدود! حسبك هذا لتعلم أن قصة الموت صبيانية تافهة، فليس جديراً بالخوف والإشفاق، وليست حياة الفرد خليقة بهذا التقدير العجيب، ولكم يبعثني على السخرية إنسان يتمسك بحياته ويتشبث بها، ويشفق من الموت ويخشاه، كأنه وحده الكائن الحي الذي نيط به بقاء الحياة.
تراسيماكوس - ليس لعمري أبعث على السخرية من هذا الهراء، ولولا رغبتي في السمر واللهو، لما استمعت إليك لحظة واحدة.
زكي نجيب محمود(56/29)
خواطر المصيف
الماء والسماء
بقلم محمد قدوري لطفي ليسانسييه في الآداب
كلاهما أحب الزرقة فآثرها لنفسه لوناً، وكلاهما آثر الرهبة فاتخذها لنفسه وصفاً، وكلاهما يمتد فلا يبلغ البصر منتهاه، ويسرح فلا يعرف الطرف مداه، قد حجب كل منهما الذي وراءه، ولم يبد كل منهما غير صفحته، لا تمل السماء النظر إلى البحر، ولا يمل البحر التطلع إلى السماء، صفحتان متشابهتان، ووجهان متقابلان، قد يبسم كل منهما لصاحبه فيصفو أديم السماء وتنبسط أسارير البحر، ويكتنف ما بينهما هدوء يشرح الصدور وترتاح له النفوس، وقد يدل كل منهما على صاحبه، ويمكر كل منهما بمقابله، فيعلو وجه السماء سحاب خفيف، أو يسدل عليها نقاب منه شفاف، وترتسم على وجه البحر تقطيبة من الموج، لا يلبث معها أن يهدأ فتزول، وقد يتجهم كل منهما لصاحبه، ويتجنى كل منهما على الآخر، فتسدل السماء على وجهها حجاباً من السماء أدكن اللون، لا يشف عن شئ ولا ينم على شئ، ويثور البحر في عنف، ويحتد في غضب، فيرغى ماؤه ويزبد موجه، ويشتكي من لطماته شاطئه، وقد تستسلم السماء إلى البكاء، فترمي البحر برذاذ من الدمع أو بوابل من المطر، وقد يزأر البحر فترعد السماء، ويزهو بياض الموج فيشتد من البرق اللمعان.
سبحان الذي جعل بينهما هذا الفضاء مجالاً للطير ومسرحاً لكل ذات جناح، وتعالى الذي جعل بينهما هذا الهواء حياة للكون، ومطلباً لكل ذي روح، ثم شاء ألا تتقطع بينهما الأسباب وألا تبعد بينهما الوسائل، فتقاربا على بعد، وتدانيا على تناء، أضاءت السماء بنور الشمس، فأرسلت على الماء من شعاعها فضة لا تذوب، وتحلت السماء بضوء القمر، فأهدت إلى الماء صورته، ورسمت على سطح البحر ظله، وتجملت السماء بوشى النجوم، فبعثت إلى البحر منه ببريق، ويا عجباً لوفاء تلك السماء لهذا الماء، ما يكاد ينقضي النهار وتعتزم الشمس المغيب، حتى توصيها إلا ما قصدت الماء في طريقها إلى الغروب، وأبلغته سراً من الأسرار لا يلبث وجه الشمس أن يحمرّ له احمراراً ينبئ عن السر، ويفصح عن مدلول الكلام، ويا عجباً لهذه السماء تضحك من أهل الأرض، فتخيل إليهم أنها تلاقي الماء عند الأفق، وتحسب أهل الأرض لها عذّلاً، فتوهمهم أنها طوقت الماء بجناحها، وأرخت(56/30)
على صفحته طرفاً من ذيلها، وتمكر بأهل الأرض، فكلما قربوا من الأفق ابتعد عنهم، وكلما علو عنه اتسع أمامهم مداه، ويا عجباً لهذه السماء حين تدل على الماء، وحين تتجنى على البحر، فتغري به الشمس أن ألفحيه بشواظ من نارك تنفذ منه إلى الصميم، وارميه بسهام من شعاعك تخترق منه الفؤاد، فما تكاد الشمس تأمر بأمر السماء، حتى يضيق البحر بوهج الأشعة وألم السهام، فتذوب حشاشته، وتتبخر عزيمته، وما تكاد السماء تحس حر أنفاسه، وتشعر بلافح زفراته، حتى تسيل من الأسى دموعها، وتتقرح من البكاء مقلتاها، لله شأنها!! تريد أن تلعب بالنار فلا يمسها سوء ولا يلحق بها أذى.
ويأبى البر أن يترك الأمر خالصاً بين السماء وبين الماء، فيود أن يكون له معهما شأن أي شأن، ويجب أن يكون له من كل نصيب وافر، فيلجأ البر إلى أهله يغريهم بالبحر، وويل للبحر يومئذ من الإنسان، ويسلطهم على السماء، ويا للسماء يومئذ من أهل الأرض، أما البحر فقد قدروا عليه، وهزئوا به، فركبوا متنه، ومخروا بالسفن عبابه، وجرءوا عليه فغاصوا بالعلم إلى قاعه، لم يخفهم منه موت، ولم يرهبهم فيه وحش، أقاموا فوقه الجسور، وشيدوا عليه السدود، فقطعوه ولم تبتل لهم قدم، وعبروه ولم يخلعوا لهم ثوباً. وهكذا قرب البحر من الإنسان فاستخف به، وتكشف البحر للإنسان فلم يخش ما فيه، ولو قد كان بعيداً لما استخف به أحد، ولو قد كان غامضاً لما اطمأن إليه إنسان، ففي الغموض سر رهيب، وفي عسر المنال رغبة في النوال.
ولم يكف هذا الإنسان أن يلزم الجد مع الماء، وأن يتخذ منه معيناً على الحياة، وطريقاً إلى الممالك والديار، وإنما أراد أن يمرح مع البحر، وأن يلهو بالشاطئ، فاتخذته الغيد مسرحاً يخطرن فيه، وميداناً يصلن في أرجائه، سلاحهن الجمال، وعدتهن الرشاقة، واتخذه الرجال معرضاً يرون في ما لم يكن من قبل إلى رؤيته سبيل، ويشاهدون فيه ما ليس يوجد عند غيره، واخذه هؤلاء وهؤلاء ملهى وملعباً ومصطافاً، فلم يبق للبحر من هيبته إلا اتساع مداه وتراكم لججه، ولم يعد للبحر من رهبته إلا خواطر المتأمل فيه، الناظر إليه حين يخيم عليه الظلام، وتضن عليه السماء بنورها.
أما السماء فلم يبلغ منها أهل الأرض ما بلغوا من الماء، وإنما تنافسوا في العلو إليها، وتسابقوا في الارتفاع إلى ذراها، فحالت الطبيعة بينهم وبينها، وأوقفتهم عند حد من الفضاء(56/31)
محدود، لا يكاد المرء يعدوه حتى يضطر إلى الهبوط أو يورد نفسه موارد الهلاك، فتعلق الناس بالريح ولم يبلغوا عنان السماء، ووقفوا منها على الأبواب ولم يبلغوا منها الصميم، وقديماً تمنى فرعون لو أنه بلغ عنان السماء، وقال: (يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السموات فأطّلع إلى إله موسى) فهلك عنه سلطانه وصد عن السبيل. وهكذا بعدت السماء عن أهل الأرض فعزت عليهم وخارت دونها قواهم، وأسرفت في النأي عن الناس، فما زالت وراءها أسرار هيهات للمرء أن يكشف عنها، وما زال فيها من الأفلاك والأجرام ما ليس يعرفه الناس إلا أماني، وقد كان أهل الأرض يفرحون لرؤية السحاب، ويستبشرون بنزول المطر، ويضحكون لبكاء السماء، فما زالوا يرون فيها مصدر الخير وسر الطبيعة وينبوع الحياة، وما زال الناس يلتمسون ضوء النهار من السماء، ويفتقدون فيها ضياء البدر أو سناء النجوم حين يخيم الظلام، فحفظوا للسماء قدسيتها، وقدروا لها هيبتها، وعرفوا الجن في الأرض، وقالوا الملائكة في السماء.
والناس يوقنون أن الله معهم أينما حلوا، موجود أينما وجدوا، وقد كائن في كل زمان، وهو كائن في كل مكان، ولكن شاءت قدسية السماء ألا تلهج الألسن بالدعاء حتى ترفع إليها الأكف وتتطلع نحوها الأبصار.
الإسكندرية
محمد قدري لطفي(56/32)
من الفصول التي يجب أن تقرأ مراراً
العاطفة في الأدب
لغوستاف لانسون الأستاذ بكلية الآداب في باريس
ترجمة الأستاذ محمد روحي فيصل
- 1 -
تعوق العقل عن التأمل والتفكير أمور شتى وعلل مختلفة، أهمها في نظرنا هذا الاعتقاد السائد أن نشاط الذهن يخمد العاطفة المشبوبة، ويقتل النزوة الحية، ويحبس القلب الخفاق، فلا أماني ترف، ولا أحلام تطيف، ولا ذكرى تلوح، ولا هوىً يبوح، وإنما العقل كله قد نأى عن ركدة الخمود، واستيقظ من نوم الجمود، رأى في أثر رأى، وخاطر يتلوه خاطر، ومقدمة تسوق إلى نتيجة، وتحليل يسلم إلى استنباط! إنه ليحسن بالأديب المبين أن يخنق صوت الفكر ويطمس معالمه، ثم لا ينطق سوى قلبه، ولا يترجم عن غير لبه. إذن لخلت لغته من ألوان الزينة المصطنعة، وصفا أسلوبه من أصباغ البهرجة الزائفة، ثم تراءت النفس على سجيتها الموهوبة من خلال السطور، وبرزت نقية رائعة من بين سواد المداد. .!!
هذه دعوى - على جمالها وروعتها - عاثرة خاسرة، ووجه الخطل فيها أن القلب لا يستغني عن العقل ولا يستطيع أن ينكره في حال من الأحوال. فإن قوى النفس متحدة مشتبكة، يتصل بعضها ببعض، وتتداخل إحداها في جارتها الأخرى، ويندس الضعيف منها في القوي، والكامن في البارز، والوديع في المتمرد. وإنما القلب الكبير تراه عند من له عقل كبير، والطلعة البصير يفطن إلى ألطف ما يضطرب في الفؤاد من الميول والنزعات، ويشعر بأدق العواطف وأهدأ الأحاسيس، وعلى قدر ما يكون العقل من الثراء والخصب، أو الفقر والجدب، يكون القلب عظيماً رفيعاً، أو وضيعاً خسيساً!! هؤلاء القديسون الصالحون ورجال البر والإحسان، هم أصحاب عقول نيرة تناهض عقول العباقرة والمفكرين، وقد يكون فيهم سذج غافلون فما يعني هذا أنهم حيوانات هائمة سائمة، وإن كانت محبة الله وبر عباده استجابة روحانية لنوازع القلب ومطالب الشعور، فإن تأسيس(56/33)
المدارس والأندية وبناء المستشفيات والملاجئ صورة من صور النطق المنظم، ومظهر من مظاهر الرأي والتدبير.
- 2 -
يستبد الهوى المبرح، ويجور الألم البالغ، ويطغى الهيجان الثائر، فتختبط النفس وتهتاج الأعصاب ويغلي الدم، ثم تنطلق من شفاه العاني همسة محزونة، أو صرخة يائسة، أو قولة قوية جليلة، تجري خالدة على وجه الدهر، وتذهب في الناس مثلاً سائراً وحكمة مضروبة! أما النقد الحديث فما يحفل بهذا النوع من الكلام البليغ الجامع، ولا يمنحه التعظيم والإجلال مثلما تمنحه الأمم والأجيال، وإنما يراه من عمل الراوي المؤرخ الذي سرده لزملائه المعاصرين ولمن يليهم إلى يومنا هذا، ويستنكر نسبته إلى القائل الحساس، والمؤرخ - بخلاف الصحافي - يملي على الحادث رأيه ومذهبه، ويسرد الرواية على نحوه وأسلوبه، ويسكب الكلم في قالبه ومثاله.
ويغضب الرجل فيحول باطنه، ويختل ظاهره، ويضطرب إحساسه، ثم تستبين طبيعته الصامتة كما خلقها الله، وكونتها الوراثة، ووجهتها البيئة!! يقذف الكلمة من فيه فإذا هي كالسيف مضاءً ونقاوة، وإذا هي جماع فطرته النائمة، وعادته الراسخة، وغريزته الكامنة. .!!
لغة القلب آهة أو أنة، أو نداء أو عويل، ولكنه يكف عن التوجع والحنين حين تجتاحه موجة من الحب القوي أو الألم المميت، وقد قيل أن الهوى يعمي ويصم! فمن يفرق بين القلب والعقل ثم يروز الأول ويهمل الثاني، لزمه الإيجاز في البيان، والاقتضاب في الكلام، ذلك بأن المبين إذ يسمي شكواه ويدل على بلواه، إنما يعلن كل ما يكنه فؤاده من الخلجات، ويذكر كل ما يحز نفسه من اللواعج، ثم لا يرى شيئاً يتخذه مادة للكتابة ومفتاحاً للتحدث والإفاضة! تمثل محباً ملأ الحب جوانحه، وتغلغل في حناياه وأحشائه، واختلط بلحمه ودمه، شاء أن يصور هيامه المستفيض في إسهاب وتفصيل، فلتجدنه أحرص الناس على الإيجاز في التصوير، وأقلهم تبسطاً في الحديث، فما يكاد يسجل هذه الجملة المألوفة المبتذلة: (إني أحبك) حتى يعيد لفظها ويكرر معناها. سطران لا غير يخطهما المحب، ثم يرمي القلم في انكماش ووجوم!!(56/34)
ونلاحظ أن النفس الراضية المطمئنة قد تلتوي على الكاتب، وتجهده عند الإعراب والتبيين، وتستهلك ملكاته النابهة، وأدواته القوية. أما الميول المصطدمة والأهواء المتعاكسة، فهي تظهر في يسر وسهولة، ولا تستلزم عبقرية عالية أو مبيناً كبيراً. ويرجع هذا إلى أن النفس الراضية المطمئنة، لا تتطلع لغير حاضرها ولا ترغب إلا في هدوئها وراحتها، وهي إنما تنطوي على مشاعر حلوة صافية لا سبيل إلى الخلوص إليها بلفظ أو كلام، وحسبها من ذاتها أن تستمتع بما تحس، وتتملى ما تشعر، وتذوق ما تحلم! ولكن الميول والأهواء إذ ترتطم وتتعاكس تثير ألف خاطرة ولاعجة، من ندامة على الماضي وأمل في المستقبل، وخوف من المصير، وكلها هواجس يفطن لها الكاتب الصغير، بله الألمعي القدير، ثم يبرزها مخطوطة واضحة على الطرس. . .
مظهر الألم صوت ملجلج، ووجه أغبر، ورعشة باليد، ودمعة في المحجر. فالإعراب عنه بلفظ قريب لا لبس فيه ولا غموض إنما يحتاج إلى عقل خصب يتأمل وجه الألم الذي يتحسسه ويدرك قيمته وأثره، ويعرف أين يتحد مع غيره من العواطف، ومتى يختلف ثم يعرضه تاماً صحيحاً غير منقوص ولا مشوه، وكلما كان التأمل العقلي كثيفاً نافذاً كان الألم أكثر وضوحاً وأبهر لوناً وأدق تعبيراً.
تلكم صفحات الألم الباكي فاقرأوها بإمعان، وفتشوا فيها عن القلب المنفطر، وتبينوا النفس المعذبة، ألستم توافقوننا على أن الأديب إنما اتخذ العقل مبضعاً يشق مطاوي القلب، ويسبر غور الضلوع، وينفذ إلى حقيقة البكاء ومصدر اللوعة؟!
ولقد حفظ التاريخ القديم فيما حفظ في ذاكرته الواعية رسائل طريفة انحدرت إلينا كاملة من شيشرون ومدام سيفينيه، وهي رسائل تفيض بالشكوى وتتنزى يأساً وألماً، كشف فيها الخطيب الروماني عن الحب الأبوي حين ماتت ابنته وذهبت إلى حيث لا رجعة لها، وأبانت المركيزة الفرنسية كيف تتوجع الأم الرؤوم حين تزوج ابنتها في الديار النائية والغربة الطويلة! وإن الآباء والأمهات ليبكون أبداً أولادهم وبناتهم عند الموت ووقت الفراق، ولكنهم لا يستطيعون وصف ما تكابد مهجهم من هموم وأشجان، وليس الذنب في ذلك ذنب قلوبهم المترعة المفعمة، وإنما هو ذنب عقولهم القاحلة، وألسنتهم البكيئة، وأقلامهم الجامدة.(56/35)
والطريف في هذا الباب ما يزعمه هيجو من أن الشاعر مصلح عظيم ونبي كريم، أرسله الله لقومه هادياً إلى مواطن الحرية والجمال والحب؛ وقد دفع هيجو إلى هذا الرأي الأرستقراطي غروره المسلكي، وحماسه الوطني، وتطرفه المعهود، وخياله الواثب. والحق أن الشاعر رجل مثلي ومثلك، يرى ما نرى ويشعر بما نشعر، وإنما يمتاز بنوع من الامتياز لا ينهض به إلا صف المصلحين ولا يرفعه إلى مقام الأنبياء - يمتاز من غيره من الناس بهذا العقل الحاجي المسجل الذي يقدر على الإبانة عما يرى ويشعر، ويعرف كيف يصور ما يتجاذبه من المنازع والأهواء.
فالتأمل الذهني كما ترى ضرورة من ضرورات البيان، فلا تظهر الخلجة النفسية على النحو الذي قذفتها الفطرة ودفعها التطور واكتنفتها الحياة، إلا بالمراقبة الباطنية العميقة. والممعود إنما ينبغي أن يكون على شئ من العلم بمواقع الأعضاء حتى يصف للطبيب المرض الذي ينتابه والداء الذي ينهشه، ولكن الطفل إذ يتألم لا يفقه ألمه ولا يعلنه إلا في إبهام: يصرخ ويبكي، وهذا كل ما عنده من وسائل الإعلان وأدوات الإفصاح!!
إن الأدباء المحدثين ممن نقرأ لهم ونستمع لأحاديثهم في الصباح وفي المساء، يلتزمون البساطة في اللفظ وفي المعنى، ثم ينحدرون إلى النفس المتأخرة الابتدائية التي لم يصقلها العلم ولم تهذبها المدنية، فينتزعون منها الشعور الفطير والعاطفة الساذجة، وهم موقنون أن الإخلاص في الأدب أو الصدق في التعبير لا يكون إلا حيث يكون الطفل الصغير أو الجاهل الأمي موضوع الحديث ومدار البيان، ولست أعرف انحرافاً عن الحق وخللاً في المنطق يشبه ذاك الانحراف وهذا الخلل، فإن الثقافة العلمية لن تفسد النفس والشعور، ولن تمنعهما عن البوح والظهور.
وقد كان المؤلفون اليونان يستصرخون أبطال رواياتهم، ويستدرون عبرتهم، ويتعمدون إيلامهم، وكانوا يسهبون في وصف الألم، ويذكرون بواعثه ونتائجه، ويتغلغلون إلى كنهه وحقيقته. فهم فنانون حقاً يلتمسون مواطن الجمال المنسجم، وينشرون مواضع الحقيقة الفنية، أصحاء الذوق أقوياء الحواس، يجمعون إلى تبدل اللون وتقلص العضلات واختلال الحركات تدفق الألم الداخلي، وأفاعيله النفسية، وأثره في الرءوس والقلوب. وقد ترسم شكسبير خطاهم ونهج سبيلهم، فكان يصور أوضاع الجسد ثم ينفذ إلى الألم ذاته، ويربط(56/36)
بين اضطراب الحواس اللدنة، وهيجان النفس الباطنة.
وتحسب الآن إننا كشفنا عن الصلة المتينة بين القلب والعقل، ونبهنا إلى خطر التفريق بينهما، وإلى قلة الإبداع والإنتاج عند إمحال التأمل والتفكير، فإن كثيراً من الناس ليحسون أقوى الإحساس، ويشعرون بأشد الشعور، ولكنهم لا يعبرون عن إحساسهم وشعورهم، لأنهم ضعاف العقول ضئال التفكير، وأغلب الظن أن المبين لو راض عقله وصقل ذهنه بالتأمل الدائب الملح لوفق في رسالته أحسن التوفيق، ومضى إلى غايته كما يرجو ويرجو له النقاد والباحثون.
- 3 -
مادام الأديب أداة تطوير واعية مرهفة تلتقط ما يتساقط عليها من أشعة الوجود وألوان الطبيعة، وصور الحياة، فلن يحس بالفراغ يملأ ذاته ولا بالوحشة تحف نفسه وكيانه، وهو أبداً يرقب جيشان عاطفته، ويرصد خفوق قلبه. ثم يستمتع بهواه وشعوره، والاستمتاع هنا معناه إيقاف الحياة قبل أن تطوى، والإحساس بها إحساساً (مضاعفاً) قوياً. وفي النفس نزوات مبهمة خافتة، يبصرها الأديب الصناع ثم ينشرها عارية واضحة تكاد من فرط ظهورها تطفر لعين الرائي المشاهد.
ويعتقد الأستاذ إميل فاجيه أن التكلف في البيان أشر ما يبلى به الأديب الفنان من العلل والأدواء، وهذا حق لا ريب فيه، وإنما الريب في قول من قال إن مراقبة النفس تقتضي التصنع، وتؤدي إلى التكلف، لأنها إنما تقتل الطبع الموهوب والهمة الفتية، والقوة الدافقة. والحق إن المراقبة إذا كانت منظمة متصلة توسع إطار الإحساس، وتوضح بداءة الشعور، وتنهض بالقريحة الخابية الهامدة. . . فلقد تستكين العاطفة ويخمد أوارها، وتهدأ حدتها ويبرد لهبها، وليس هذا ما نسميه النضوب والإمحال، وإنما هو أثر من آثار الإعياء والنصب الشديد، كأنما العاطفة المكدودة تنام في جو مظلم ساكن، وكأنما القريحة المتعبة تقف عن الشعور فترة غافلة من الزمان! وفي هذه الحال لقد يأخذ الأديب نفسه بوصف منظر أو تبيان خلجة فيقف مكتوف اليدين متلبد الحس، جامد القلم.
فالمراقبة إنما توقظ العاطفة النائمة أو هي تهيجها كلما غفت، ومن العجب أن تكون سبيلاً إلى التكلف المرذول والتصنع الممقوت، وعهدنا بكبار الشعراء أمثال لافونتين ولامارتين(56/37)
أنهم على هيامهم بالتنقيح والمطالعة والتأمل، كانوا أطلق الشعراء لساناً، وأرقهم بياناً وأسلسهم لفظاً.
ومن الأدباء من لا يستوحي نفسه، ولا يترجم عن طبعه، وإنما يستقي من ذاكرته ومحفوظاته وقراءته، وهؤلاء يكتبون في غير جدوى ولا طائل، والمعروف المتداول أنهم يأتون غالباً بتشابيه مستعارة، وكنايات معادة، وصور مبتذلة لا تعبر عن (شخصية) ولا تنم عن جديد مبتدع. وإنما الرجوع إلى الطبع دون الذاكرة الحافظة هو مصدر الأدب الخالد والابتكار القويم، وليس من شك في أن التكلف يضمحل ويتزايل أثره، كلما رجع الفنان إلى نفسه وعول على طبعه واستقى من عبقريته. ولقد يجمل بالمبين أن يتناول ما تمده القريحة في الوهلة الأولى واللمحة الخفيفة، وألا يصطنع شعوراً لا يتردد في أطواء نفسه بل يأخذ ما جادت به العاطفة من غير جهد ولا عناء!!
وكلمة (أنا) ما يشتق منها قد تكون سبباً مباشراً من أسباب التكلف البياني، لأنها تتصف بالشمول وتجمع الشتات كأنما هي عنوان النفس ورمز العاطفة، والسبيل الذي ينبغي أن يسلكه الأدب الرفيع هو أن يحمل كل لفظ من ألفاظ اللغة جزءاً من النفس وقسماً من العاطفة، أما (أنا) فما ينبغي أن تكون إلا عيناً تتفجر منها الأفكار والمعاني، وتصدر عنها الأساليب واللغات، وتصب فيها فروع الكلام وأغراض البيان.
فإذا كان في هذا عسر ومشقة، فإن الرياضة والمران حقيقان بأن يذللا كل شئ، وكما يخلق اللاعب المرتاض لجسده الحواجز ليجتازها، والجبال ليتسلقها، والوديان ليهبط إليها، كذلك ليخلق المبين لنفسه طرائق ملتوية لممارسها، مهما تكن تلك الطرائق وهمية خيالية، مادامت الغاية محمودة تبرر الواسطة ثم تخضعها بالتجربة والعادة.
كانت العصور السالفة تقدم للمبين مواد التفكير الصحيح، وأسباب العاطفة الحية، وأدوات الكتابة الخالدة. وكانت الظروف والأحوال تنشئ المرء إنشاء جميلاً قوياً، وتعده لحياة شديدة فيها من الجد والنشاط، ومن الإبداع والإنتاج ما يزري بحياتنا الحاضرة الراكدة، ويستخف بعيشنا اللاهي الهازل. .!!
كان الطالب إذا نال الشهادة وخرج من المعهد لا يرى بضاعته من العلم إلا قليلة موجزة، ولا يعتقد في نفسه إلا القصور والجهل، فما يزال يقرأ في الكتب والأسفار، ويتلقى عمن(56/38)
هو أكبر منه سناً وأوسع تجربة، حتى يريش ويهرم، فهو أبداً في دراسة دائبة، واختبار متصل. ولم يكن مقياس النبوغ سعة القراءة والرواية، وإنما هو الفهم السليم والنظرة الصائبة. وكانت الآداب على اختلافها دروباً متشعبة تنحدر كلها به إلى النفس الإنسانية يطالع منها ما يطالع ثم يجمع المتشابه ويفرز المتشابك، ويستعمل النابه ويعنى بالضعيف الخامل. أما القصة فما كانت تتلى للتسلي والمفاكهة أو لتزجية الوقت والفراغ، وهي التي قد تبلغ عشرات المجلدات مخطوطة ومطبوعة، وتلاقي من الرواج والذيوع ما يستدعي الدهشة والإكبار! هذا إلى تراجم المؤرخين، وتأملات الحكماء، ومواعظ الزهاد والخطباء، مما يوقظ العاطفة والشعور ويربي ملكة الانتباه والتفكير. وفي حضرة المرأة والطفل الناشئ كانت تثار في غير تحرج ولا تقية أعوص مسائل الدين والأخلاق والسياسة والاقتصاد. وكان العرف الديني والاعتراف الكهنوتي، وحب الفضيلة يقلق المؤمن، ويقض مضجعه، ويضطره إلى مراقبة نفسه وإلى التعبير الدقيق عن خطراته ونياته.
ومن ثم كانت النساء اللواتي لم يتعلمن سوى الأدعية والصلوات، وكان الشبان الذين لم يفقهوا غير المبارزة والرقص - كان هؤلاء جميعاً يعبرون عن مرادهم تعبيراً حسناً، ويفكرون تفكيراً صحيحاً، فكانت الكتابة عندهم كالمحادثة والحوار، يمنحونهما الجهد والأناة، ويقصدونهما بقلوبهم وعقولهم مجتمعة متساندة.
أما اليوم فالذاكرة الحافظة هي غاية الغايات، يكدسون فيها ضروب العلوم والفنون على مدى ضيق من الزمن كما يكدسون في المركب أصناف البضائع على غير نظام ولا تؤدة لتقلها إلى المرفأ سالمة لا أكثر ولا أقل. والمرفأ هنا هو الفحص الذي ينتهي عنده الدرس، وينسى الطالب بعده ما اكتسب من العلوم. ذلك بأنه تعلم منفعلاً لا فاعلاً، تعلم كما تدور الآلة من غير وعي ولا تفهم، فالبرامج واسعة، والوقت قصير، والتمثيل منعدم، والهضم سيئ.
وجملة القول أن التربية الحديثة، لا تتلاءم مع شرائط الصحة العقلية، ولا تهيئ العاطفة للفن والكتابة. ومادام الخروج على البيئة مستحيلاً، فإن تهذيب الشعور وتنمية التفكير مطلبان جليلان ينبغي العناية بأمرهما والنهوض بهما.
حمص (سوريا)(56/39)
محمد روحي فيصل(56/40)
10 - أعيان القرن الرابع عشر
للعلامة المغفور له احمد باشا تيمور
الشيخ حسن الطويل المالكي
الأمام العلامة، شيخ الشيوخ، وأستاذ الأستاذين، وأحد من تفرد في مصر بالبراعة في المعقول والمنقول، وأتقن العلوم العديدة مع الزهد الصحيح والورع وعلو النفس، والتأدب بآداب الشرع والتمسك بالكمالات.
وهو حسن الطويل بن احمد الطويل بن علي، ولد بمنية شهالة إحدى قرى المنوفية، حوالي سنة 1250 كما سمعته من تلميذه الخاص العلامة الشيخ احمد أبي خطوة. وذكر الشيخ بشير الظافر في كتابه اليواقيت الثمينة في أعيان مذهب عالم المدينة، أنه ولد سنة 1256، وتربى بهذه القرية فقرأ القرآن الكريم وحفظه بها، ثم انتقل إلى طندتا وهو صغير، فاشتغل بتجويد القرآن وحفظ المتون بالمسجد الأحمدي نحو سنتين أو ثلاث، ثم حضر للقاهرة واشتغل بطلب العلم بالجامع الأزهر، فقرأ على شيوخ العصر، مثل الشيخ محمد عليش المالكي في الفقه والحساب وغيرهما، وعلى الشيخ حسن العدوي الحمزاوي، والشيخ إبراهيم السقاء، والشيخ محمد الأشموني، والشيخ محمد الأنبابي، والشيخ احمد شرف الدين المرصفي، فظهرت عليه النجابة، وابتدأ في حضور السعد، وكان من دأبه في أول أمره معاكسة المشايخ في الدروس بكثرة الأسئلة والمناقشات، حتى حدث ما اضطره إلى الانقطاع عن الأزهر، وسبب ذلك أن أبناء العمد وأقاربهم طلبوا للدخول في الجندية بقانون وضع لذلك أمر به سعيد باشا والي مصر، ولما كان المترجم من أقارب بعض مشايخ قريته طلب معهم.
تجنيده بأمر سعيد باشا
وجند مع جند فصار واحداً منهم، إلا إنه لم يسلك مسلك أكثرهم في التفريط في الفروض، فكان يواظب على الصلوات والأوراد، وكان الوالي يكره من الجند من يصلي، وحدث أن المترجم جاءه من شيخه الشيخ احمد شرف الدين المرصفي كتاب فيه استغاثة يأمره بتلاوتها عقب كل صلاة، رجاء أن تفرج كربه وتخلصه من الجندية، فوقع الكتاب في(56/41)
أيديهم، وعدوه لذلك مذنباً، وكان عقاب المذنبين عندهم إهمال تعليمهم الفنون العسكرية وتشغيلهم في السكك الحديدية وما أشبهها من الأعمال الشاقة، فكان المترجم يشتغل بهذه الأعمال بهمة زائدة تأديباً لنفسه، لأنه ظن ما وقع له عقاباً على جراءته على مشايخه، وكان سعيد باشا يلقب المطيعين من الجند بالفراعنة، والعاصين المذنبين بالنماردة، فغضب مرة على النماردة وأمر بطردهم من الجيش، فخرجوا منه إلا أنهم بقوا تابعين له، وهم ما كانوا يسمونهم بالعساكر الأمدادية، وخرج المترجم معهم، فأقام بقريته مدة، وكان قبل ذلك يجتمع على الشيخ خالد أحد مشايخ الطريق فرأى أن يسافر إليه فسافر إلى بلدته المسماة بالسريرية من أعمال المنية أي منية ابن الخصيب ولزمه بعض أشهر عكف فيها على الاشتغال بالعلم والطريق.
فراره
ثم طلب إلى الجندية مرة ثانية فذهب إليه أبوه ليحضره وأراد الشيخ خالد منعه فلم يرض هو بل عاد مع أبيه إلى قريته فوجدهم أهملوا طلبه، فحمد الله وأراد والده إبقاءه معه في القرية خوفاً من أن يعود إلى الصعيد، فضاق المترجم بهذا الأمر وخرج من غير علم أبيه من القرية وهو لا يملك شيئاً، فمشى على قدميه يبيت في كل بلدة تصادفه حتى وصل إلى القاهرة، ودخلها من جهة باب الحديد فاشترى بما معه شيئاً أكله، وذهب إلى الأزهر فصادف الشيخ محمد السقاري في طريقه، فلما رأى المترجم أسرع إليه وهش له، وأخبره أنه يطلبه من مدة. ثم أنزله بداره وحلف أن يبقى بها شهراً لا يتكلف شيئاً من عنده، وكان مراد السقاري نظم قصيدة يمدح بها أحد الأمراء، فنظمها له وأخذ عليها أربعين ديناراً جائزة. ولما انقضى الشهر حفّ الله المترجم بعنايته، فطلبه الشيخ حسن العدوي لتصحيح البخاري، وكان شرع في طبعه فانتفع بأجر التصحيح. ثم طلب إلى ديوان الجهادية لتصحيح ما يطبع به، فقابل هناك احمد عبيد بك رئيس الترجمة، وامتحنه فأعجب به، وكاد يطير فرحاً وقال هذا جوهرة خفيت عنا، واستخدمه في الحال للتصحيح بهذا الديوان، وسعى له حتى محوا اسمه من الجيش حتى لا يعاد طلبه.
ثقافة شاملة(56/42)
وكان المترجم في هذه المدة عاد لطلب العلم والاشتغال به، مع القيام بالتصحيح بالديوان، حتى شهد له شيوخه بالتأهل للتدريس فدرّس بالأزهر، وكان أول درس قرأه في شوال سنة 1283. وابتدأ فيه بالقراءة في الأزهرية. ولم يقتصر رحمه الله على العلوم المتداولة بالأزهر، بل بحث ونقب، واجتمع بالشيخ محمد أكرم الأفغاني فتلقى عنه العلوم الحكمية، وبرع فيها، وتلقى عن تلميذه خلاصة الحساب لبهاء الدين العاملي، ونظر في الهندسة والجبر وسائر العلوم الرياضية، وقرأ التاريخ قراءة إمعان وتدبر، وطالع كتب اللغة والأدب، ونظم الشعر السهل، وكتب الترسل البديع، وكان لا يسمع عن أحد يعرف علماً إلا ويسعى إليه، ويتلقاه عنه كائناً من كان، حتى صار نسيج وحده، وقريع دهره، في سائر العلوم مع بعد النظر في السياسة، وسعة العقل، وسلامة العقيدة، وشدة الإنكار على البدع والمستحدثات في الدين.
مشاهير تلاميذه
وقد قرأ عليه في الأزهر كثيرون من علمائه المشهورين، فكان الشيخ الأجل احمد أبو خطوة، والشيخ محمد عبده، والسيد احمد الشريف، وإبراهيم بك اللقاني، والشيخ محمد راضي البوليني، ممن قرأ عليه في الطبقة الأولى من تلاميذه. ثم قرأت عليه طبقة ثانية منها الشيخ عبد الرحمن فوده، والشيخ محمد الغريني، والشيخ عبد الرحمن قرّاعه، وقرأ عليه أيضاً الشيخ محمد بخيت، والشيخ داغر، والشيخ محمد المغربي، والشيخ احمد الزرقاني، وغيرهم ممن لا يحصون، واختص به الشيخ احمد أبو خطوة، والشيخ راضي البوليني، والشيخ عبد الرحمن فوده، والشيخ عبد الرحمن قراعه، فكانوا يقرأون عليه في داره دروساً غير الدروس الأزهرية، وصحبوه ولازموه فانتفعوا به في دينهم وأخلاقهم فوق انتفاعهم بعلمه.
ثم نقل إلى نظارة المعارف وعيّن للتفتيش فيها، ولما مات الشيخ زين المرصفي مفتشها الأول سنة 1300، وأقيم بدله الشيخ حمزة فتح الله المفتش الثاني جعل المترجم مفتشاً ثانياً. ثم نقل مدرساً بمدرسة دار العلوم، فعم الانتفاع به، وتخرج عليه أحسن من نراهم الآن من الأساتذة المتخرجين في هذه المدرسة كالشيخ الفاضل حسن منصور، والشيخ محمد المهدي،(56/43)
والشيخ محمد الخضري، والشيخ عبد الوهاب النجار وغيرهم من أفاضل الوقت.
وفاته
وبقي في هذه المدرسة إلى سنة 1317، وكانوا شرعوا في الامتحان قبل الإجازة المدرسية كالعادة، فلما كانت ليلة السبت 17 صفر سهر كعادته. ثم ذهب لداره معافى ليس به شئ، واستيقظ فتوضأ وصلى الصبح. ثم طلب الإفطار والقهوة، وأخذته غفوة كان فيها القضاء المحتوم، فلم تشرق شمس ذلك اليوم إلا والنعاة ينعونه والمؤذنون يؤذنون على المآذن كالعادة في موت كبار العلماء، وأمّ داره شيخ الأزهر الشريف الشيخ عبد الرحمن الشربيني، والشيخ محمد عبده المفتي، وجميع العلماء والفضلاء، وكبار نظارة المعارف، وتلاميذه من الأزهر ودار العلوم، وشيعت جنازته تشييعاً سنياً، فصلوا عليه في الأزهر ودفنوه بمقابر المجاورين رحمه الله وغفر له عدد حسناته. ومن غريب المصادفات أنه زارني قبل وفاته بيومين في ليلة مقمرة، فجلسنا في صحن الدار نلعب الشطرنج، وكان مولعاً به مع قلة إجادته فيه، فقال لي عندما أراد الذهاب نحن الآن في الامتحان، وقد قربت الإجازة، وصدري ضيق في هذه الأيام من الناس، ونفسي تجنح للعزلة، فهل تعرف لي مكاناً أقضي فيه بعض أيام بعيداً عنهم؟ فقلت يا سيدي إذا انتهى الامتحان فالأوفق أن نسافر معاً إلى ضيعتنا التي بقويسنا فنخلوا فيها بكتاب نقرؤه، فقال نعم الرأي هذا، وسأستصحب معي ولدي حسناً ليشترك معنا في القراءة. ثم لم يمض يومان حتى نقله الله إلى جواره ويسّر له العزلة، ولكن في دار قراره، فأصبت فيه مصيبة لم أصبها في بعيد ولا قريب، لما كان له عليّ من الفضل ولو لم يكن له عليّ سوى تصحيح العقيدة وتأديبي بآداب الحنيفية السمحاء لكفى.
الأستاذ يرشد
أما سبب اجتماعي به وقراءتي عليه، فإني كنت خرجت من المدارس بعد تلقي ما يتلقى بها من العلوم المعروفة وأنا في سن العشرين، وقد علق بالعقيدة شئ من آثار التربية بهذه المدارس إلا إني كنت مولعاً من الصغر بالإسلام ومحاسنه، والمطالعة في السيرة النبوية، ومناقب الأصحاب والخلفاء الراشدين، فكان ينشرح صدري لأشياء، وينقبض من أشياء(56/44)
تعرض لي فيها شبهات. ثم كنت أعرض ما يظهر لي من مكارم الشريعة ومقاصدها على ما عليه الناس من البدع والمحدثات التي تمسكوا بها، وجعلوها من الأصول الدينية، فأجد التناقض والتصادم، فصرت أتردد على كثير من كبار علماء الأزهر وغيرهم، لعلي أجد عندهم مفرجاً فأراهم أحرص من العامة على هذه الخزعبلات، حتى كدت أحكم بأنها من الدين، وأن الأمر دائر بين شيئين، فأما أن يكون الدين دين خرافات وخزعبلات تنفر منها الطباع السليمة، وأما أن يكون ما نراه حقاً، ولكن يمنعنا من قبوله إلحاد تأصل في النفس. حتى أرشدني بعض الأصحاب للمترجم، فأخذت في السؤال عنه من أهل العلم، فكانوا ينفرونني منه حتى بالغ بعضهم عامله الله بما يستحق ورماه بالزندقة، فقلت إذا كنت لم أجد طلِبتي عند من تسمونهم بالصلاح والورع، فلعلي أصيبها عند الزنادقة. ثم سعيت في الاجتماع به، وسألته القراءة عليه، والاهتداء بهديه، فقرأت عليه العلوم العربية والمنطق، وأعدت عليه الصرف بتوسع وعلوم البلاغة. ثم قرأت طرفاً من الحكمة في شرح الدواني على هياكل النور للسهروردي، وشرح رسالة الزوراء وغير ذلك. ولما رآني مجدّاً في التحصيل، قرر لي درساً ثانياً بعد العشاء كنا نقرأ فيه كتب الأدب ونحوها، وأنا في كل هذه المدة استوضح منه ما أشكل عليّ فيحله لي، فكان اجتماعي به ومصاحبتي إياه من أكبر نعم الله عليّ في ديني، وكثيراً ما كان يغضب مني ويؤنبني إذا رأى مني تهاوناً في الصلاة.
وكان من عاداته الخروج إلى الريف كل خميس ترويحاً للنفس فكان يذهب إلى الأميرية من ضواحي القاهرة عند تلميذه الشيخعبد الرحمن فودة فيقضي عنده الخميس والجمعة ويعود يوم السبت فلما عرفته صار يذهب للأميرية بعض الأخمسة ويسافر في بعضها إلى ضيعتنا التي بقويسنا أو إلى حلوان حينما نسكن بها شتاء، فكنت أقضي معه هذين اليومين في مطالعة واشتغال حتى في حالة المشي والتنزه كنت أحمل الكتاب معي وأسمعه فيه فيقرر لي المسائل ونحن سائران.
كان متصوفاً
وكان رحمه سنيّ العقيدة، صوفيّ المشرب، لا يحيد عن الشرع قيد إصبع، آخذاً بمذهب الإمام ابن تيمية في مسألة الاستغاثة بالقبور والاستشفاء بالموتى، منكراً على المبتدعة أشد(56/45)
إنكار، آية من آيات الله في معرفة التفسير وحل مشكلات الكتاب المبين، متضلعاً من الحديث، متحصناً بالشريعة في كل علم يقرؤه من كلام أو حكمة أو تصوف أو رياضيات أو طبيعيات، وخص باستحضار الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في الاستشهاد بها على حل المشكلات الدينية، فكان أمره في ذلك عجباً وشأنه فيه مستغرباً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. ومع انحراف علماء الأزهر عنه لإنكاره عليهم بدعهم وما درجوا عليه، فإنهم كانوا مقرين بفضله، وكثيراً ما كانوا يحتاجون إليه في معرفة أسرار الشريعة، وحل مشكلاتها والرد على الطاعنين عليها من أرباب النحل الأخرى أو المرتدين.
أخلاقه ومساعيه
أما أخلاقه فزهد غريب، وعلو نفس عن الدنايا، وبعد عن الرياء، وتواضع مع كل إنسان، وسذاجة في المطعم والملبس والمسكن، لا ينفق على نفسه من مرتبه إلا القليل ويتصدق بالباقي في الخفاء؛ فلما مات قام الصراخ في دور كثيرة يسكنها فقراء وأرامل، كان يعولهم في كل شهر بما فضل من نفقته، وما علم بهم أحد حتى من أقرب الناس إليه وأخصهم به إلا بعد موته.
وكان كثير الاشتغال بأمور المسلمين، دائم الهموم لما أصابهم من التأخر في مشارق الأرض ومغاربها، منتظراً فرجاً يأتيهم، ولطفاً من الله يحفهم، فتقوم فيهم دولة شعارها الدين، تقوى على جمع شملهم؛ ولذلك لما قام المهدي بالسودان وانتصر انتصاراته المشهورة واستولى على البلاد السودانية، أحسن المترجم فيه الظن وقام بنصرته بقلبه ولسانه، حتى اضطر الإنكليز أن يسيروا وراءه عيناً يخبرهم بحركاته وسكناته، وكاد يقع فيما لا تحمد عقباه لولا أن سلمه الله.
ولمداومة اشتغاله بالإقراء وتربية النفوس لم يؤلف تأليفاً، غير أن نظارة المعارف لما كلفت كل مدرس بجمع ما يلقيه من الدروس، وكان يدرس التفسير بمدرسة دار العلوم، شرع بجمع ذلك في كتاب سماه (عنوان البيان) لم يطبع منه غير المقدمة سنة 1316، أي قبل وفاته بسنة.
احمد تيمور(56/46)
المعلقات
رأي جديد فيها
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
اختلف علماؤنا قديماً وحديثاً في سبب تسمية تلك القصائد التي جمعها حماد الراوية باسم المعلقات، وكان حماد أول من جمعها في أواخر عصر بني أمية وأوائل عصر بني العباس، وذلك أنه رأى زهد الناس في الشعر فجمع لهم هذه القصائد السبع وقال هذه هي المشهورات، فسميت القصائد المشهورة، ويراد بالشعر الذي زهد الناس على عهد حماد فيه الشعر الجاهلي القديم، وإلا فإن سوق الشعر كانت رائجة في عهد حماد، وكان الشعراء المحدثون في ذلك العهد لا يحصون من كثرة، وقد ابتدأوا يخرجون على الشعر القديم ويزهدون فيه ويخرجون مذاهبه وأساليبه، وكان أول من فعل ذلك بشار بن برد الذي يعد في رأس الشعراء المحدثين، وكان من أصدقاء حماد المقربين، فدعا هذا حماداً إلى محاولة إحياء ذلك الشعر المهجور، وترغيب الناس في حفظه وروايته، فجمع هذه القصائد لهم، ولعلها كانت أول ما جمع من هذا الشعر.
ويؤخذ من نص الرواية السابقة في جمع حماد لها تعرف بهذا الاسم (المعلقات) وإنها كانت تسمى عقب جمعه لها بالقصائد المشهورة، أخذاً من قوله بعد انتهائه من جمعها (هذه هي المشهورات) ولو كانت تسمى قبل جمعه لها باسم المعلقات لقال بدل هذا بعد انتهائه من جمعها (هذه هي المعلقات) فسماها باسمها المعروف، ولم يعدل عنه إلى ما ذكره في تمييزها، فعدوله إلى ذلك دليل على إنها لم تكن تعرف باسم المعلقات، بل إن عنايته بجمعها وما عمله في ذلك من أقوى الأدلة على إنها لم تكن تعرف بهذا الاسم، لأنها لو كانت تعرف قبل حماد به لكان لها اسم يجمعها، وكانت مجموعة بالفعل فيه، ولم يكن هناك من حاجة إلى جمع حماد لها.
فإذا أردنا أن نعرف كيف حدث هذا الاسم (المعلقات) لها بعد جمعها، فلننظر ما جرى للناس معها بعد جمع حماد لها، فلقد أخذوا يعنون بحفظها وشرحها، ثم شغفوا بذلك الحفظ والشرح واتخذوها متناً شعرياً مثل المتون التي دونت في العلوم بعد جمعها، وشغف الناس بحفظها وتعليق الشروح عليها، ولكن هذه القصائد كانت أسبق جمعاً من هذه المتون، حتى(56/48)
أتى عليها زمن وهي منفردة بعناية الناس بتعليقها حفظاً وشرحاً، فشاع لها بين الناس هذا الاسم الجديد (المعلقات) ونسوا به اسمها القديم (القصائد المشهورة) ثم مضوا على ذلك إلى أن جاء من العلماء من عني بفهم هذا الاسم الجديد لها، ومعرفة سر إطلاقه عليها، ففرض له تلك الفروض الخاطئة التي سنبين فيما بعد خطأها.
ولاشك أن اللغة تسوغ اشتقاق هذا الاسم (المعلقات) لتلك القصائد مما عني به الناس بعد جمعها من حفظها وشرحها، فإن الحفظ تعليق لما يحفظ بمحل حفظه، والشرح تعليق على ما يكون هو شرحاً له، ولا تزال الشروح التي توضع على المتون ونحوها تسمى شروحاً وتعليقات، وقد جاء في القاموس والأساس أنه يقال فلان علق علم أي يحبه ويتبعه، وعلق شر كذلك، فهذه المعلقات معلقات مما حدث للناس بعد جمعها من حبهم لها، وتتبعهم إياها بما كانوا يتتبعونها به من حفظها وشرحها، وهي معلقات بمعنى محفوظات أو مشروحات، وقد خصت بهذا الاسم لأنها كانت أول ما عني بجمعه وتدوينه وحفظه وشرحه من الشعر.
فهذا إن لم يكن هو الذي وقع في حدوث هذا الاسم (المعلقات) لتلك القصائد بعد جمعها، فهو فرض قريب يرتاح إليه العقل في بيان وجه تسميتها بذلك، وهذا شأن كل الفروض العلمية التي يراد منها تقريب فهم بعض المسائل العلمية من المعقول، إذ تستعصي عليها، ولا يمكنها بيقين معرفة سرها، وهو خير من تلك الأمور الخاطئة التي يذكرها من يذهب إلى أن تلك القصائد كانت تسمى قبل جمعها باسم المعلقات، ولا يذكرها على أنها فروض يهون الخاطئون فيها، بل على أنها أمور وقعت وكانت سبباً في تلك التسمية.
قالوا إن الشعراء في الجاهلية كانوا يقصدون أسواق العرب التي كانوا يقيمونها كل سنة بجوار مكة فيتناشدون الأشعار، وكان ينصب للشاعر فيها ربوة فيصعد إليها، وتحدق به العيون، وتشرئب إليه الأعناق، فينشد قريضه عليهم حتى يأتي على آخره، فلا يقاطعه أحد ولا يستوقفه، فإذا ما أحكم القول، وبلغ من الفصاحة ما وقع اتفاقهم على حسنه وإجادته كتبوه بحروف الذهب على نفيس الديباج وعلقوه على الكعبة المشرفة، تنويهاً بشأن صاحبه، وتخليداً لذكره.
وممن قال بهذا أو نحوه في سبب تسمية تلك القصائد بالمعلقات احمد بن عبد ربه القرطبي صاحب العقد الفريد، وابن خلدون، وابن رشيق. قال ابن عبد ربه: (وقد بلغ من كلف(56/49)
العرب بالشعر وتفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد تخيرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلقتها بأستار الكعبة فمنه يقال مذهبة امرئ القيس، ومذهبة زهير، والمذهبات سبع يقال لها المعلقات).
وقال ابن خلدون بعد كلام له في ذلك (حتى انتهوا إلى المباهاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام، موضع حجهم، وبيت أبيهم إبراهيم كما فعل امرؤ القيس، وطرفة بن العبد، وعلقمة بن عبدة، والأعشى، وغيرهم من أصحاب المعلقات السبع).
وقال ابن رشيق (وكانت المعلقات تسمى المذهبات، وذلك أنها اختيرت من سائر الشعر القديم، فكتبت في القباطي بماء الذهب، وعلقت على الكعبة، فلذلك يقال مذهبة فلان إذا كانت أجود شعره، ذكر ذلك غير واحد من العلماء).
وكان أبو جعفر النحاس المتوفي سنة 338هـ يخالف صاحب العقد ومن تابعه على هذا المذهب في علة تلك التسمية، وكان أبو جعفر معاصراً لابن عبد ربه وهو من علماء المشرق، أما ابن عبد ربه فمن علماء الأندلس والمغرب، وقد ساح في بلاد الشرق وسمع من علمائه، ثم رجع إلى بلاده.
وقد قال أبو جعفر في هذا من شرحه على تلك المعلقات (واختلفوا في جمع القصائد السبع، وقيل إن العرب كانوا يجتمعون بعكاظ فيتناشدون الأشعار، فإذا استحسن الملك قصيدة قال علقوا لنا هذه، وأثبتوها في خزانتي، وأما قول من قال إنها علقت بالكعبة فلا يعرفه أحد من الرواة).
ولم يذكر أبو جعفر من هو هذا الملك الذي كان يأمر بتعليق هذه القصائد في خزانته، وقد رجح بعضهم أنه النعمان بن المنذر لأنه هو الذي كان يعنى من ملوك المناذرة بجمع أشعار العرب، وكان عنده ديوان مكتوب جمع فيه أشعار الفحول، وقد صار ذلك الديوان أو ما بقي منه إلى بني مروان على ما رواه أبو عبد الله محمد بن سلام الجمحي في كتابه طبقات الشعراء الجاهليين والإسلاميين.
ويستند أبو جعفر في رأيه هذا على ما قيل أن حماداً الراوية لما رأى زهد الناس في الشعر جمع لهم هذه القصائد السبع، وقال هذه هي المشهورات، ويؤخذ من ذلك كله أن تسميتها بالمعلقات عند أبي جعفر يرجع إلى قول الملك علقوا لنا هذه، لا إلى أنها علقت في الكعبة،(56/50)
ولست أدري على أي شئ يستند أبو جعفر فيما ذكر عن حماد في جمع هذه القصائد، وهو كما قلنا ينقض تسميتها بالمعلقات قبل جمعه لها، سواء كان ذلك للوجه الذي ذكره أم كان للوجه الذي ذكره غيره.
ولاشك أن عصر النعمان بن المنذر أحدث من عصر كثير من أصحاب المعلقات، مثل امرئ القيس وطرفة وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة، فلا يصح أن يكون هو الذي كان يعلق قصائدهم بخزانته، بعد إنشادهم لها بسوق عكاظ، ويكادون يجمعون على إن تلك القصائد كان ينشدها أصحابها فيه، أحدث بكثير من عهد هؤلاء الذين ذكرناهم من أصحاب المعلقات، فقد أقيمت تلك السوق بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة، وهو العام الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بقيت إلى ما بعد الإسلام حتى سنة تسع وعشرين ومائة، وفي عهد إنشائها كان جيل امرئ القيس وطرفة وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة قد انقرض، أو كاد ينقرض، وإنا نستطيع أن نجزم بأن هذه القصائد السبع لم تقل في سوق عكاظ، ولا في غيره من الأسواق العربية التي كانت معاصرة له، وقد ذكروا لها أسباباً معروفة قيلت من أجلها، وأمكنة غير سوق عكاظ أنشدت فيها، وذكروا لبعضها ملوكاً غير النعمان قيلت أمامه، ولسنا في حاجة لتفصيل هذا كله لشهرته.
عبد المتعال الصعيدي(56/51)
من شعر الشباب
السحاب
مُزْجِي الشتاءِ بخيله وبرجْلِهِ ... والمنذرُ الدنيا بوشْك إيابِهِ
يَشْجُوك من ماشٍ على لَممِ الرُّبَى ... طَرَّاقِ أَجْوازِ المدى جوَّابه
تسعى جنودُ البرد تحت جناحه ... والريح والإعصار حول ركابه
حيث انتحى أَرخى مسائح دَجِنْه ... وتجلَّلَ الآفاقَ جَوْن حجابه
ورمى على شمس الضحى بمسوحه ... وطوى محياها دُجى جلبابه
ليس الربيع بمانعٍ رَجَعَاتِهِ ... رغم الربيع ورغم وَفْرِ شبابه
فإذا دنا انقبض الفؤاد تطيُّرَا ... بقدومه من بعد طول غيابه
وأثار في النفس القنوط وأشفقتْ ... من ثِقْلِ خطوته ومن إِلبابه
فإذا سرى بردُ القِلال مخالطاً ... أجزاَءه وانسلَّ في أعصابه
أوْهَى عُرَاهُ وفَتَّ في أوصاله ... فانصبَّ ملَء السهل في تسكابه
فَجَرَتْ عيون الأرض بعد جفافها ... وروى نبات الأرض من أكوابه
في كل غابٍ دَاغِنٍ أو غَيْضَةٍ ... غَدِقَتْ غَوَاديهِ وأفرغ ما به
وبكل قاع مُمرعٍ ويفاعةٍ ... توقيعُ وكَّافِ النَّدَى صبَّابه
وبكل منحدرٍ تدفُقَ مَشْرَعٍ ... ينساب في إزباده وحبابه
لم يُلْفِ شيئاً ثم يشكو جَدْبَهُ ... ظمآنَ إلاَّ لَجَّ في إخصابه
حتى إذا أفنى غزيرَ شؤونه ... همْياً وأَنْفَدَ كلَّ ما بِوِطَابِه
وسخا على الوادي الينيعِ بروحه ... وعلى ثناياه وبين شعابه
وَلَّى وغادر بعده أَسلابه ... تزهو بقاع الأرض في أسلابه
تتمايد الأَعواد في أندائه ... طرباً وتَغْدَقُ في نَقِيِّ رُضابه
فأعجبْ لأسودَ ذي يدٍ بيضاء لا ... ينفكُّ يُسبغ من شهيِّ رغابه
جهم المحيا لا يُرام لقاؤه ... والجودُ والبركاتُ ملءُ إهابه
عَبَسَتْ لغُدْوته الرياضُ فإن مضى ... هشَّتْ لفيض يديه بَعد ذهابه
وترقرقت في كل روض قُضْبُهُ ... مُخْضَلَّةً رَيَّاً بِبَرْدِ شرابه(56/52)
وتألَّقت حُمْرُ الزُّهور وصفرها ... حَلْياً ووَشْياً في اخضرار ثيابه
وسَرَى النسيم مُجَمِّعاً أين انتهى ... من زهره الزاهي شَذِىً مَلابه
كمبردج
فخري أبو السعود(56/53)
حيرة
إن روحي في الفضا حيرى تحوم ... مثل طير ضل عن سرب الطيور
واشتهى الشمس فأخفتها الغيوم ... واشتهى الريح فظنت بالمسير
فانثنى تهلو جناحيه الهموم ... ودعا يشكو ويبكي في دعاه
إن روحي ترتقي هذا الفضاء ... وهو ليل مظلم رطب فسيح
فيحيط القدس قلبي بالهناء ... وأحس الشك في صدري يصيح
وظلام الجو للشك وعاء ... وانفساح الأفْق للروح صلاه
هذه شتى انفعالات النفوس ... كرياح البحر تأتي عاصفات
جافلات في عَرا قلبي تجوس ... دون وعي منه بل دون التفات
أي وعي عند تهتان الكؤوس ... للذي استعبدت الراح هواه؟
ما أرى جرماً ولا قبحاً بدا ... لم يكن يغمر نفسي بعضه
أو جمالاً أو حناناً أو هدى ... لم يكن يعمر نفسي فيضه
سكن العيش فؤادي والرّدى ... وفؤادي بهما يقضي مناه!
عقد الكون بنفسي الاتصال ... فكأن الكون مني قطعةٌ
وجرى الدهر عليه كخيال ... هو مما في جفاني صورةٌ
ما احتياجي للمطايا والرحال! ... إنني للدهر والكون نواه!
الظلام الوحش حولي لا يريد ... عن محيا الحق إلقاء النقاب
فهو يغريني به كي أستزيد ... ثم يمهيه أمامي كالسراب
ليتني ألقى غشاء من حديد ... دامج الليل على عيني رماه!
لست أخشى الحق بل أخشى الوجود ... وأخاف الزهر يبكي للنسيم
وأخاف البحر هدّار الوعيد ... وأخاف الطير يشدو كاليتيم
وأخاف الغصن يذوي كالشهيد ... وتلاشيه المنايا في صباه
إنني أخشى بنفسي الانفراد ... ثم أخشى الناس أن تجمع بي
كم يصيح الدمع في ليل الفؤاد ... كهزيم عاصف مضطرب!
إنما الحيرة في فهم المراد ... مثل داء يجهل الطب دواه
أنا من شئ إلى شئ أفر ... حول نفسي مثل مخمور أدور(56/54)
عقرب وسط لهيب مستعر ... لا يرى فيه سبيلاً للعبور!!
كُتب الهم على لوح القدر ... يوم حار الفهم في الفهم في معنى الحياة
هتفت عيناي بي تشتكيان ... قسوة الظلمة: خوفاً وعمى
وهما من كل نور تخشيان ... ما يوارى: حَرَقاً أو عَدَما
الحياة النور والنور الأمان ... والظلام الخوف والخوف الحياة!
انظرا هذا شعاع الحق لاح ... كشهاب يرتقي عرش السماء
كلما جثناه عن قرب أشاح ... فهو كالشمس التي تطوي الفضاء
يتبع الطفل خطاها في الصباح ... علها تقرب. . . ما جدوى خطاه؟
يا شعاع الحق في ماذا الفرار ... أترى لقياك تعمى بضرى؟
أنت للقلب ملاذ ومنار ... فأَنِر قلبي وأطفئ نظري
إن يكن لابد من حمل الستار ... لن تضئ العين للقلب عماه
باريس
حسن عارف(56/55)
رسالة
رسالة كفتيت المسك عاطرةُ ... بكل ما يشتهيه القلب من وطرِ
ما إن تناولتُها حتى أحاط بها ... قلبي ولم يكُ يدري سرها نظري
ورفً في جنباتِ الصدر مبتهجاً ... كالطير عادت إليه الأُمُ بالثمر
وبثَّها الدم في الأحشاء فانتعشت ... كالزهرِ جاد رُباه هاطل المطر
مُنى الفؤاد الذي انضمت جوانحه ... على لهيب من الآلام مستعر
أهفو إليك وما أندى على كبدي ... من أن أناديك في الآصال والبُكَر
دعني أُذِعْ بعض ما تخفيه جانحتي ... ففي الجوانح حب ثائر الشرر
وأصطفيك بشعر أنت مُلهِمهُ ... عفّ عن اللغو والإسفاف والهذر
فمنك أنهل شعري ثم أبعثه ... إليك عقداً بديع النظم والدُّرِر
أوْلا فإن حيائي منك يمنعني ... من أن أبوح بحب عنك مستتر
فريد عين شوكه(56/56)
زهرة
زهرة في الروض تزهو ... في ثياب المترفين
جلست تستقبل الصب ... ح على العرش المكين
أُهديت من كل زهر ... عاطر أنفسُه
وحباها الله خدَّاً ... ناعماً ملمسُه
فهي ريحان وور ... د وهي ريا الياسمين
وهي من مسك وكل الزه ... ر من ماء وطين
زينت زنداً جميلاً ... بسوار الزَّرِد
تعسل الخدين منها ... بمياه البَرَدِ
بَسَمت للشمس لما ... سطعت فوق الخميله
وبدت في الروض تزهو ... مثل حسناء جميله
فاسلمي يا زهرة الوا ... دي من الأيدي العوادي
وانبذي الماء على الأرْ ... ض إلى ماء الغوادي
محمد مصطفى حموده(56/57)
بمناسبة ذكراه الثانية
حافظ بك إبراهيم الشاعر الوفي لمصر
بقلم السيد احمد العجان
حافظ شاعر النيل متعدد النواحي في الدراسات، متشعب المباحث في التناول، والتحليل الدقيق إنما يكشف كل ناحية ويبين كل مبحث، وليس الإلمام بعبقريته ونبوغه وشاعريته وخياله مما تأتي عليه هذه العجالة، ولكنا سنقتصر على ناحية واحدة هي وفاؤه للنيل وأهله، وكيف كان هذا الوفاء دفيناً في نفسه، مستقراً في جنانه العامر، يتحرك به لسانه في كل مناسبة، ويجري به قلمه كلما عنت فرصة.
والذي نلاحظه في شعر حافظ هو ما يحملنا على اليقين بصدق وفائه وإخلاصه، ومحبته لمصر وأهلها؛ فهو إذا انتقد كان لاذع النقد قويه، يظهر المثالب، ويعدد المساوئ، ويود لو نتخلص منها، ونحيد عنها. وقد يكون في النقد اللاذع المرّ شكاً في الوفاء والإخلاص لو أنه ضن بالنصيحة وبخل بالإرشاد. ولكن حافظاً حين يهزه الألم من حالة مصر حتى ليود الخلاص من الدنيا، والفرار من الحياة، وحين يسخط شديد السخط عليهم؛ لم يكن لكراهته لهم، وبغضه إياهم، وإنما لأنه يرجو لهم الخير الشامل الغامر، والرقي الدائم السديد، يحدثنا حافظ عن ذلك بأجلى عبارة وأوضح أسلوب.
أنا لولا أن لي من أمتي ... خاذلاً؛ ما بت أشكو النوبا
أمة قد فتّ في ساعدها ... بغضها الأهل، وحب الغربا
تعشق الألقاب في غير العلا ... وتفدّي بالنفوس الرتبا
وهي والأحداث تستهدفها ... تعشق اللهو وتهوى الطربا
لا تبالي لعب القوم بها ... أم بها صرف الليالي لعبا
ومما يقوي لدينا الأدلة على وفاء حافظ للنيل، وحبه لهذا الشعب أنه لم يكن يقنع بالتحدث عن الغرض الواحد عدة مرات بهذا الأسلوب العالي الرصين، كالذي نراه في وصفه للحالة الداخلية وموقف بعضنا من بعض، وموقف الصحافة منا ومن الوزارة، ثم موقفنا من دار المندوب البريطاني، وبيانه أن طريق الرقي هي العلم، وأنه الوسيلة في النجاح والظفر، وهو من وراء ذلك يضع أمله قوياً في الشباب، ويكثر من ندائه لهم، ولا يزال يستنهض(56/58)
الهمم ويضرب المثل باليابان كما سنوضح ذلك من شعره.
إن إخلاص المخلص لا يؤدي ثمرته إذا لم تتوفر فيه عناصر ثلاثة: نقد قوي اللهجة للمثالب حتى يحس المنتقد ضعفه، ويقف على عيوبه؛ فيجتنب الغرور ويقترب من الفضيلة، ونصح سديد الفكرة تظهر فيه سبل الخير ويبين منه طريق الهدى؛ كي يسلكه المنصوح له دون عثار أو ضلالة؛ وأمل في الله والشعب كبير رجاء التوفيق وابتغاء الإصلاح.
وهذه العناصر الثلاثة قد ظهرت بوضوح في شعر حافظ، وكان لكل منها مظاهره العدة، وأثوابه المتنوعة. وسنتناول كل منها على حدة:
1 - نقده: في الشعر السابق وصف حافظ ما نحن عليه من
كراهة الأهل وحب الغرباء، وأننا كرماء لضيوفنا، نهوى
الألقاب في غير العلا، ونعشق الرتب. ويحدثنا عن حالتنا
النفسية بلغة سليمة مستقيمة فنحن:
ألفنا الخمول ويا ليتنا ... ألفنا الخمول ولم نكذب
تضيع الحقيقة ما بيننا ... ويَصْلى البريء مع المذنب
ويهضم فينا الإمام الحكيم ... ويكرم فينا الجهول الغبي
ونراه يحدثنا عما هو واقع بيننا من الفخر بالمال الموروث أو بالرتب، ثم تأخذه حمية الغضب. فيقول إنما الفخر بالعلم والاختراع، وبالفضل والأدب:
وهل في مصر مفخرة ... سوى الألقاب والرتب
وذي إرث يكاثرنا ... بمال غير مكتسب
فقل للفاخرين أما ... لهذا الفخر من سبب
أروني بينكم رجلاً ... ركيناً واضع الحسب
أروني نصف مخترع ... أروني ربع محتسب
أروني نادياً حفلاً ... بأهل الفضل والأدب
وماذا في مدارسكم ... من التعليم والكتب(56/59)
وماذا في مساجدكم ... من التبيان والخطب
وماذا في صحائفكم ... سوى التمويه والكذب
ولقد عاب علينا اعتبارنا للمظاهر، وانخداعنا بالملابس:
إن قومي تروقهم جدة الثو ... ب ولا يعشقون غير الرواء
قيمة المرء عندهم بين ثوب ... باهر لونه وبين حذاء
وضعف الرجولة داء كمين في بعض المصريين كشف عنه حافظ، وأبان طوائف الناس بين مهلل من المهللين لا يعرف له غرضاً، وبين ساع إلى دار المندوب البريطاني، أو متردد على أبواب الحكام.
فهذا يلوذ بقصر الأمير ... ويدعو إلى ظله الأرحب
وهذا يلوذ بقصر السفير ... ويطنب في ورده الأعذب
وهذا يصيح مع الصائحين ... على غير قصد ولا مأرب
وداء آخر أشد فتكاً، وأقوى بطشاً، وهو الصحف التي تطن طنين الذباب، وما هي إلا حصائد ألسن تجر إلى الويلات وأنها أيبست ما بيننا في الأخذ والرد، فصحف ترى رأي المندوب البريطاني، وأخرى تعد هذا جرماً وإثماً كبيراً، والوزارة من وراء ذلك في رغد ونعيم.
وصحف تطن طنين الذباب ... وأخرى تشن على الأقرب
وماذا في صحائفكم ... سوى التمويه والكذب
حصائد ألسن جرت ... إلى الويلات والحرب
وأرى الصحائف أيبست ... ما بيننا أخذاً وردَّا
هذا يرى رأي العميد=وذا يعد عليه عدَّا
وأرى الوزارة تجتني ... من مر هذا العيش شهدا
ومصابنا الذي يفوق كل مصاب، وداؤنا الذي يعلو على كل داء، وهو تزلفنا لدار المندوب البريطاني وهو البعيد عنا لغة، وجنساً، وديناً، والأجنبي عنا مهبطاً وميلاداً، والذي لا نلتقي وإياه إلا في وادي بؤسنا ودار نعيمه، والذي لا تجمعنا وإياه آلام ولا آمال. وحافظ يبرئ المندوب من كل ذنب، ويخليه من الملام فسبيله أن يستبد، أما نحن فشأننا أن نستعد.(56/60)
وقالوا دخيل عليه العفاء ... ونعم الدخيل على مذهبي
رآنا نياماً ولما نفق ... فشمر للسعي والمكسب
وماذا عليه إذا فاتنا ... ونحن على العيش لم ندأب
أنا لا ألوم المستشار ... إذا تعلل أو تصدى
فسبيله أن يستبد ... وشأننا أن نستعدا
2 - نصحه وإرشاده: ولكن حافظاً لم تفل من عزيمته هذه
العيوب، ولم تثن همته تلك المثالب، ولم تقعد به هذه المخازي
عن إسداء النصيحة وحث الهمم، وضرب اليابان مثلاً، وجعلها
قبلة.
فهبوا من مراقدكم ... فإن الوقت من ذهب
فهذي أمة اليابان ... جازت دارة الشهب
فهامت بالعلا شغفاً ... وهمنا بابنة العنب
أيجمل من بعد هذا وذاك ... بأن نستكين وأن نجمدا
وها أمة الصفر قد مهدت ... لنا النهج فاستبقوا الموردا
ثم نراه لا يرسل النصيحة خلواً من كل سند، بل يشفعها بتلقين عظمة الآباء، والإيحاء بعزة الماضي، وجد التاريخ، ويرى أن الزمان قلب، والفلك دوار، وأنه لا علينا أن نهزم اليوم إذا كنا نتوثب للغد، وأن نبتلي في الحاضر كي نتأهب للمستقبل.
فدنياك يا نيل لا تجزعن ... إذا اليوم ولى فراقب غدا
فلا ييؤسنك قول العداة ... وإن كان قيلاً كحز المدى
أتودع فيك كنوز العلوم ... ويمشي لك الغرب مسترفدا
ويقضي عليك قضاة الضلال ... طوال الليالي بأن ترقدا
ونراه لا ينسى هذا التلقين والإيحاء والاعتداد بالماضي في كل مناسبة وفرصة كما في وداعه لصديقيه محمد بك بدر، واحمد بدر عند سفرهما إلى بلاد الإنجليز.
سيرا أيا بدري سماء العلا ... واستقبلا التم ولا تأفلا(56/61)
سيرا إلى مهد العلوم التي ... كانت لنا ثم ازدهاها البلى
وخبرا الغرب وأبناءه ... بأننا نحن الرجال الأولى
لئن غدا الدهر بنا مدبراً ... لابد للمدبر أن يقبلا
ويختم حافظ نصيحته بالوسيلة الأولى للنجاح والظفر، والتغلب على الصعاب ألا وهي العلم، ويرى أن إنشاء الكتاتيب لا يغني عن العلم الصحيح، وأن ألف كتاب لا تعدل مدرسة عالية، أو جامعة منظمة تضم بين جنبيها رجالاً أكفاء يتعهدون الناس بالتعليم، والمداواة، والسهر على الأمن والأرواح، والقضاء فيهم، والإشراف على موارد المياه وتصريفها، ورصد الأفلاك والكواكب، والبحث عن بقايا القدماء، ومخلفات الآباء بالحفر والتنقيب.
ذر الكتاتيب منشيها بلا عدد ... ذر الرماد بعين الحاذق الأرب
فأنشأوا ألف كتاب وقد علموا ... أن المصابيح لا تغني عن الشهب
هبو الأجير أو الحراث قد بلغا ... حد الكتابة في صحف وفي كتب
من المداوي إذا ما علة عرضت؟ ... من المدافع عن عرض وعن نشب؟
ومن يروض مياه النيل إن جمحت ... وأنذرت مصر بالويلات والحرب؟
ومن يوكل بالقسطاس بينكم؟ ... حتى يرى الحق ذا حول وذا غلب
ومن يميط ستار الجهل إن طمست ... معالم القصد بين الشك والريب
فمالكم أيها الأقوام جامعة ... ألا بجامعة موصولة الحسب
3 - رجاؤه في تحقيق هذه الآمال: ثم إن حافظاً - رحمه الله
- كان عامر الفؤاد بالرجاء في الإصلاح، قوي الإيمان
بالتوفيق، يود لو هيأ الله لمصر صلاحاً وللنيل سعادة. وقد
وضع أمله بين يدي الشباب ونابتة العصر، ولا غرو فالشباب
أقوى من يحمل الأمانة، ويؤدي الرسالة تحت إرشاد الشيوخ،
وموعظة الكهول.
يا مصر هل بعد هذا اليأس متسع ... يجري الرجاء به في كل مضطرب(56/62)
لا نحن موتى ولا الأحياء تشبهنا ... كأننا فيك لم نشهد ولم نغب
نبكي على بلد سال النضار به ... للوافدين وأهلوه على سغب
متى نراه وقد باتت خزائنه ... كنزاً من العلم لا كنزاً من الذهب
ثم هو في ندائه للشباب يضع آلام الوطن بين يديه، يثير عواطفهم لحبه والإخلاص له، بأسلوب أخاذ بمجامع القلب والنفس جميعاً.
وهو رحمه الله حين يأمل الخير للنيل وواديه، ويرجو له أن تحقق آماله وأمانيه، وألا تحلو موارده إلا للمخلصين من بنيه؛ تهيج به الآلام، وتحرك كوامن غيظه ودفين حيرته.
متى أرى النيل لا تحلو موارده ... لغير مرتهب لله مرتقب
فقد غدت مصر في حال إذا ذكرت ... جادت جفوني لها باللؤلؤ الرطب
كأنني عند ذكري ما ألم بها ... قرم تردد بين الموت والهرب
هذا حافظ الشاعر الوفي لأهله ووطنه، والمخلص لشعبه وأمته، مر عامان على وفاته، دون أن يذكره شعبه أو يحيي ذكراه؛ لولا أدبه الخالد الذي يأبى الركود ويعشق الحياة.
قد أضاعوك غير أن الذي أظ ... هرت من عبقرية لا يضيع
فرحمه الله وجزاه بإخلاصه، وعوضه عن نكران شعبه حياة أدبه.
السيد احمد العجان(56/63)
من الأدب الهندي
محمد إقبال
للدكتور عبد الوهاب عزام
قدمت في الرسالة نبذاً من كتاب إقبال الذي سماه (أسرار خودى) فعرف القارئ رأي الشاعر فيما سماه (الذاتية) ورأى كيف ضرب مثلاً من الطائر الظمآن وقطعة الماس، ومن الفحم والماس.
وفي هذا المقال يرى القارئ كلمتين من الكتاب نفسه: الأولى قصة الشيخ والبرهمن، ونهر الكنج وجبل هماله، والثانية (الوقت سيف). وإذا رأى القارئ غموضاً في بعض الجمل فمرجع هذا أن كثيراً من المعاني والعبارات غير مألوف في العربية، وأن الشاعر الكبير يعرض آراء من فلسفته الخاصة، لم تذلل لها اللغة التي كتب بها. وهو يشكو في كلامه عن الوقت من أن الألفاظ تضيق بالمعاني التي يحسها.
وكان أهون عليّ أن أكتب في موضوعات أخرى هي أقرب إلى القراء، لولا أني أود أن أبين جهد الطاقة عن جوانب مجهولة من أدبنا الشرقي، ولاسيما فلسفة شاعر الإسلام الأكبر محمد إقبال.
ويرى القارئ أني أحاول بالسجع تدارك بعض ما فات من الوزن والقافية.
- 1 -
(قصة الشيخ، البرهمن، وحديث كنكا وهماله في بيان أن حياة الأمة تستمر بالمحافظة على سننها).
كان في بنارس برهمند من الكبراء، غواص في بحر الحياة والفناء. ملك زمام الحكمة، وشحذ في الطلب والهمة، متوقد الذهن، يتحرى الدقائق، ويحلق فوق الثريا في طلب الحقائق. أوغل في لوح الجو كالعنقاء، واضطربت الشمس والقمر في شعلة فكره الوضاء. مُني زماناً بالحرمان والحسرة، لم تصب كأسه قطرة من الحكمة، وألقى شبكته في رياض المعرفة، فلم تر طائر المعنى عين الشبكة، وأدمى مخالب الفكر المجهود، ولم يحل عقدة الوجود، نطقت بعجزه آهاته، وصورت حيرة قلبه قسماته.(56/64)
ذهب يوماً إلى شيخ عظيم، ذي قلب سليم، فأصغى الشيخ لحديثه حتى عرف مكنون صدره، ثم قال: أيها الطائف في الأفلاك! اتخذ في الأرض مثواك. اغتربت عن المرج والصحراء فجاز فكرك آفاق السماء. يا طاوي السماء اسكن إلى الأرض قليلاً، ودع حقائق النجوم حيناً. لا أقول لك اهجر أصنامك، أنت كافر فكن جديراً بزنارك، يا أميناً على التهذيب القديم، لا تحقر دين آبائك الأولين. فإن في الألفة حياة الأمة، والكفر كذلك من أسباب الألفة. أنت ناقص حتى في الكفر، فلست أهلاً للطواف في حرم القلب. لقد بعدنا عن جادة التسليم، بعدت عن آذر وبعدت عن إبراهيم. قيسنا ليس هائماً بالمحمل، وهو في جنون العشق لم يكمل، ما جدوى الخيال الذي يطوي السماء، إن كان شمع الذاتية إلى انطفاء.
قال نهر الكنج يوماً لجبل همالة وهو يجري في سفحه: أيها المتوج بالبرد من فجر الخليقة، والمتخذ زناراً من الأنهار الجارية. جعلك الله نجيّ السماء، ولكن حرمك التبختر في العراء، ما غناء هذا الوقار والرسوخ والرفعة، وقد سلبت رجلك الحياة والحركة؟ الحياة سعي دائم كالموج، وجوده من الاضطراب المتصل.
فلما سمع الجبل تعيير النهر، أرسل أنفاسه بحراً من نار وقال: يا من اتخذت صفحته مرآتي، وأكننت مئات من مثله في صدري إن هذا التبختر زينة الفناء، من ذهب عن نفسه فقد حرم البقاء، قد غفلت عن مقامك، وفخرت بهلاكك، ياوليد الفلك الرفيع، خير منك الساحل الوضيع، جعلت نفسك قربان المحيط، ونثرت جوهر روحك لقاطع الطريق، كن ورداً في بستانك، خلت القرون وأنا في طينتي ثابت القدم، وتحسبني إلى الغاية لم أتقدم، كلا قد عظمت حتى بلغت السماء، واستراحت على سفحي الجوزاء، وقد ضل وجودك في البحر الخضم، وصارت ذروتي مسجد الأنجم، عيني بأسرار الفلك بصيرة، وأذني بطيرانه خبيرة، احترقت بنار السعي الدائم، فجمعت في صدري الجواهر (في صدري حجارة وفي الحجارة نار، ليس للماء سبيل إلى هذه النار) إن كنت قطرة فلا ترق نفسك بيدك، وجاهد اللجة وحارب اليم لحياتك، كن جوهراً لألاء، يزيد جيد الحسناء ضياء، أو اسمُ بنفسك وأسرع التسيار، وكن سحاباً يرمي البروق ومطر البحار، ليستجدي البحر إحسانك، ويشكو ضيقه بإنعامك، ويرى نفسه أقل من موجة لديك، ويطرح نفسه أمام قدميك.(56/65)
- 2 -
أتبع الشاعر الفصل السابق بفصل عنوانه (نصيحة أمير نجاة النقشبندي المعروف ببابا الصحراوي، التي كتبها لمسلمي الهند).
وهو فصل ممتع بلغ فيه الكاتب من سمو الشعر، وعظمة النفس مبلغه. ثم أتبعه بكلمة عنوانها (الوقت سيف) وهذه ترجمتها: -
سقى الله ثرى الشافعي، كما استقى الناس من فيضه، لقد اقتطف فكره كوكباً من السماء، حين سما الوقت سيفاً ذا مضاء، ماذا أقول في سر هذا السيف الذي يفيض بالحياة ماؤه؟ إن صاحبه فوق الخوف والرجاء، ويده أنصع من يد الكليم البيضاء، يلين الحجر لضربته، وييبس البحر لهيبته، كان هذا السيف في يد موسى فعلا أمره على التدبير، شق صدر البحر القلزم، فانقلب براً ذلك العيلم، وكان في كف حيدر فاتح خيبر، ذلك السيف العظيم الأثر.
إن البصير يرى دوران السماء، ويدرك تقلب الليل والنهار في الفضاء، أنظر يا أسير الأمس والغد، تر في قلبك عالماً لا يحد، زرعت بذور الظلام في طينتك، وتوهمت الوقت خطاً بجهلك، ثم قست طول الزمان بمعيار الليل والنهار، واتخذت هذا الخيط زناراً، فملت إلى الأصنام واتخذت الباطل متجراً، كنت كيمياء فانقلبت قبضة طين، وولدت الحق ثم صرت الباطل المهين.
إن تكن مسلماً فتحرر من هذا الزنار، وكن شمعاً في محافل الأحرار. لقد جهلت أصل الزمان فجهلت الحياة الخالدة، يا أسيراً في الليل والنهار مثواه، تعرف رمز الوقت من (لي مع الله) كل شئ من سير الوقت ظاهر، والحياة سر من أسرار الوقت الباهر، ليس الوقت من دوران الشمس العلية، هو أبديّ وهي ليست أبدية، الوقت هو السرور والغم، والعيد والمأتم، وهو سر الضياء، في القمر وذُكاء، قد بسطت الوقت كالمكان، ثم فرقت بين الأمس والغد في الحسبان، يا من جفلت كالشذى من بستانك، وبنيت سجنك بيدك! إن وقتنا الذي لا أول له ولا آخر، ينبت من بستان الضمير الناضر، الحياة من الدهر والدهر من الحياة، وقد قال الرسول لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله.
استمع نكتة تضيء كالدر، لتعرف فرق ما بين العبد والحر: العبد ضال في الليل والنهار،(56/66)
والزمان في قلب الحر ضال. العبد ينسج من الأيام كفنه، ويخيط الليل والنهار على نفسه، والحر يخلع نفسه من الطين، ثم ينسج على الزمان عزمه المتين. العبد طائر في شبكة الصباح والمساء، حرمت روحه لذة السبح في الهواء، وصدر الحر الهمام، قفس لطائر الأيام، فطرة العبد تحصيل الحاصل، وخواطره تكرار قاتل، مقامه من الخمود واحد، وصوته بالليل والنهار راكد. والحر كل حين خلاق، يسكب وتره نغمة مجددة في الآفاق، فطرته لا تحتمل التكرار، وليس طريقه حلقة البركار، العبد في سلاسل من أيامه، والقضاء والقدر وِرد لسانه. وهمة الحر مشيرة على القضاء، تصور يده الحادثات كما تشاء، الماضي والآتي ماثلان لديه، والآجل عاجل بين يديه.
هذا كلام برئ من الصوت والصدى، يأبى على الإدراك أبداً. أقول ولفظي من المعنى يخجل، ومعناي من ذلك اللفظ أجلّ، يموت المعنى الحي في هذه الحروف الجامدة، وتخمد ناره بأنفاسك الباردة. إن في القلب نكتة الغيبة والحضور، وإن في القلب رمز الأيام والمرور، مِزهر الوقت ذو نغمة صامتة، فغص في قلبك لتدرك أسراره الخافتة.
نضّر الله عهداً كان سيف الزمان، حليف أيدينا على الحدثان، فبذرنا الدين في أرض القلوب، ورفعنا الحجاب عن وجه الحق المحجوب، وحلت عقدة الدنيا أناملنا، ونضر وجه الأرض سجودنا، وشربنا الصهباء من دنّ الحق، ثم سرنا بنشوة الحق بين الخلق، يا من أترعت كأسه الخمر المعتقة، وأذابت كأسه الصهباء المحرقة، وملأه الكبر والغرور والأثرة، فعيّرنا بالفقر والمتربة. لقد كانت كأسنا كذلك، زينة المحافل، يوم كنا وصدرنا بالقلب آهل، وثار من غبار أقدامنا عصر جديد، ينجلي بكل أمل بعيد ورويت مزرعة الحق بدمائنا، وسعد عُبّاد الحق ببلائنا، ودوّي العالم بتكبيرنا، وعمرت كعباتٌ من ترابنا. وأنزل الحق كلمة (اقرأ) فينا، ثم قسم رزقه بأيدينا. فإن يكن ذهب منا الخاتم والتاج، فلا تحقر ذلك الفقير المحتاج. إن نكن بزعمك مفسدين، وبالأفكار العتيقة مغرمين. فنحن لا نزال الأحرار أنصار التوحيد، قوامين على العالمين والله شهيد.
فرغنا من غم اليوم والغد، وحالفنا الله الأحد، فنحن في قلب الحق سر مكنون، ونحن ورثة محمد وموسى وهارون، لا يزال نورنا في الشمس والقمر مصوناً، ولا يزال سحابنا بالبرق مشحوناً.(56/67)
إن ذات المسلم مرآة الحق، وإن وجود المسلم من آيات الحق.
عبد الوهاب عزام(56/68)
العلوم
أصل الأرض وماهية تكوينها
بقلم نعيم علي راغب
اختلفت الآراء وتضاربت، ثم كثر الحدس والتخمين في أصل الأرض من قديم الزمان، واستمر الحال كذلك إلى أن جاء القرن التاسع عشر يحمل معه مخترعات جليلة الشأن، عظيمة الفائدة، نخص منها بالذكر المنظار المقرب أو التلسكوب، ثم آلات تحليل الطيف الضوئي، فأمكن تكوين رأي لا يزال حتى الآن غير محكم عن أصل تكوين الأرض.
وخلاصة المأخوذ به حتى الآن هو أن الأرض التي نعيش عليها جزء من المجموعة الشمسية التي تترب من عدة أجرام سماوية تتوسطها الشمس، وهي ثمانية كواكب سيارة مرتبة حسب قربها من الشمس: (عطارد. الزهرة. الأرض. المريخ. المشتري. زحل. أورانوس. نبتون). كذلك من 635 كوكباً صغيراً سياراً بين المريخ والمشتري، وكذلك التوابع وهي أجرام سماوية صغيرة تدور حول الكواكب السيارة (كالقمر بالنسبة للأرض)؛ هذا غير عدد لا يحصى من أجرام سماوية صغيرة اسمها الشهب تدور على غير هدى.
ونحن إذا رجعنا الآن إلى تكوين الأرض من هذه المجموعة، وجدنا أن الآراء متفقة على إنها كانت قبل انفصالها عبارة عن كتلة واحدة متماسكة، ثم انفصلت إلى أجزاء صغيرة كانت الأرض أحدها. وإليك بيان ذلك:
كانت المجموعة الشمسية في البداية سديماً، (وهو جسم يرى بالعين المجردة كأنه سحابة بيضاء، ولكنه في الحقيقة جسم غازي شديد الحرارة جداً، له مركز أشد صلابة ولمعاناً من باقي جسمه، وهو بيضاوي الشكل)، انخفضت درجة حرارته بعامل من العوامل فانفصلت أطرافه على شكل حلقات دائرية، واستمرت بعد عملية الانفصال تدور حوله في نفس الاتجاه الذي كان يدور فيه، فتكونت من هذه الحلقات الكواكب السيارة، وكان أولها في التكوين أبعدها عن الشمس، وهو نبتون الواقع على طرف المجموعة الشمسية؛ وكان آخرها أقربها إليها وهو عطارد. وتعرف هذه النظرية بالنظرية السديمية وهي النظرية التي قال بها العالم الفرنسي الشهير في أواخر القرن الثامن عشر.
حار العلماء في تفسير منشأ حرارة السديم ولم يتمكنوا من إيجاد تحليل معقول يستسيغه(56/69)
العقل فسكتوا على مضض حتى تقدم سير نورمان لوكيار بنظرية الشهب وخلاصتها أن النيازك العديدة التي تسبح في الفضاء إذا ما تقاربت نشأ عن اتحادها واحتكاكها درجة حرارة تبدأ قليلة المقدار لكنها تزداد كلما ازداد مقدار تقاربها من بعضها بفعل الجاذبية نحو المركز، وهكذا إلى أن تصل إلى حد تتحول معه النيازك إلى مادة غازية ثم يأتي وقت بعد ذلك تزيد في الحرارة المتشععة من الشهب عن الحرارة الناشئة من الاحتكاك فتتكاثف هذه الغازات ثانية. وتأخذ درجة حرارة السديم في الانخفاض تبعاً لذلك. وتكون أبعد الأماكن عن المركز أولاها في هذه العملية. ومن هنا نعلم أن أبعد السيارات عن مركز المجموعة أقدمها في التكوين كما سبق ذكره.
استمرت النظرية السديمية مأخوذاً بها طول القرن التاسع عشر غير أنه كان فيها بعض نقط غامضة احتاجت إلى إيضاح كثير: من ذلك مثلاً إن هذه النيازك التي قيل إنها تكون السديم صغيرة الحجم إلى حد كبير تسير في الفضاء على غير هدى وبسرعة عظيمة. ومن الصعوبة أن نتصور القوة الجبارة التي سببت اتحادها بعضها ببعض. وبغير هذه القوة لا يمكن بأي حال من الأحوال تفسير النظرية السديمية. ومن الاعتراضات الأخرى التي قامت في وجه هذه النظرية حقيقة جغرافية ثابتة، وهي إن توابع كل من أورانوس ونبتون تدور حولهما من الشرق إلى الغرب على عكس باقي أجزاء المجموعة الشمسية.
وقد تقدم في القرن العشرين بعض علماء الإنجليز والأمريكان بنظرية عن أصل تكوين الأرض تعرف بنظرية المد خلاصتها أن تكون الكواكب السيارة وقيرها من المجموعة الشمسية قد نشأ عن اقتراب نجم كبير من سديم الشمس في أوقات مختلفة. فنشأ عن اقترابه أن جذب إليه جزءاً من كتلة السديم انفصل منه بقوة هذه الجاذبية.
ولا تختلف النظرية الأخيرة وهي نظرية المد عن النظرية السديمية في شئ إلا في تعليل انفصال الحلقات المكونة للمجموعة الشمسية عن جسم السديم الاصلي.
وهناك اختلاف بيّن بين قولنا هذا وبين من يقول إن الأرض أصلها جزء من الشمس لأن القول الأخير غير صحيح إذ أن الأرض والشمس جزءان من سديم واحد أو كتلة واحدة وليست جزءاً من كل بالنسبة للثانية.
باطن الأرض:(56/70)
كانت الأرض كما قلنا جزءاً من السديم الشمسي وكانت حرارتها في البداية شديدة جداً ثم انخفضت وأخذت في القلة تدريجاً بفعل الإشعاع فبردت قشرتها الظاهرية شيئاً فشيئاً حتى وصلت لحالة الصلابة، ثم تجعدت هذه القشرة تبعاً لبرودة الأجزاء الباطنية وأخذت في التقلص فتكونت فيها منخفضات ملأتها الأبخرة المتكاثفة (الماء) وأخذت معالم الحياة تظهر شيئاً فشيئاً وكان آخر هذه المعالم هو الإنسان. إلا أن باطن الأرض ظل مرتفع الحرارة. تدل على ذلك ظواهر طبيعية عديدة:
1 - تزيد درجة الحرارة بمعدل درجة واحدة فهرنهيت لكل عمق مقداره 56 قدماً.
2 - سخونة المياه التي تخرج من الينابيع الساخنة. وقد وجد أن درجة حرارة الماء الخارج من نافورات أيسلندة 261 ف.
3 - خروج المواد المنصهرة من البراكين.
ولقد أثارت الظاهرة الأولى اهتمام العلماء وكانت سبباً في
اختلافات كثيرة وقعت بينهم في القرن التاسع عشر، لأنه إذا
كانت زيادة درجة واحدة فهرنهيت لكل 56 قدماً بعد الخمسين
قدماً الأولى صحيحاً واستمرت هذه الزيادة باطراد لوجب أن
تكون حرارة الباطن 1500 درجة حرارة مئوية على عمق
28 ميلاً أو على عمق 1141 من نصف قطر الأرض. وهذه
الدرجة تذوب عندها أشد العناصر صلابة. فوجب على هذه
الحال أن يكون سمك القشرة الأرضية الصغرى غايته 28
ميلاً وفيما يلي ذلك يكون الباطن منصهراً.
غير أنه ثبت في القرن الحالي أن باطن الأرض صلب، وأن الأرض تتكون من طبقتين متميزتين عن بعضهما:(56/71)
الأولى: طبقة سطحية تتكون من صخور قليلة الكثافة يطلق عليها اسم
الثانية: طبقة معدنية عظيمة الكثافة تسمى
وأن الطبقة السطحية تحتوي بالقرب من الظاهرات على جيوب مملوءة بالمواد المنصهرة، وهي ما تعرف بالحمم ومنها تفيض البراكين عند ثورانها. وهناك أدلة تثبت أن باطن الأرض أصلب منها:
(1) كلما تعمقنا في باطن الأرض زاد الضغط بنسبة العمق الذي نصل إليه، ومعنى ذلك أن الطبقات على عمق 100 متر مثلاً تقع تحت ضغط يساوي عمود الهواء وثقل الطبقات التي تعلوها. ولذا فإن المواد التي توجد على هذا العمق تحتاج إلى درجة حرارة اكثر بكثير من الدرجة التي تنصهر عندها نفس المواد إذا ما وجدت على سطح الأرض.
(2) لما كانت كثافة الأرض 6ر5 وكثافة السطح الخارجي 5ر2 وجب أن تكون كثافة الباطن أعلى من ذلك بكثير حتى يكون الناتج 6ر5.
(3) تزيد سرعة الموجة الزلزالية عند مرورها في باطن الأرض عنها على السطح، فقد لوحظ أنه بينما تسير الموجة بسرعة 86ر1 ميلاً في الثانية على السطح، فإنها تسير بسرعة 05ر5 أميال في الثانية في باطن الأرض.
(4) لو كان باطن الأرض سائلاً لوجب أن يتأثر بالمد والجزر، فيظهر ارتفاع في القشرة الأرضية من جهة المد، وانخفاض في الجهة الأخرى.
(5) قد ثبت أن النشاط الراديومي محصور في دائرة ضيقة غاية قطرها 45 ميلاً من السطح الخارجي. ولو كانت الصخور التي دون هذا العمق، تحتوي على راديوم لازدادت كمية النشاط الراديومي. ولما كانت المواد الحديدية التركيب من المواد القليلة الخالية من هذا النشاط. يثبت لنا من ذلك أن باطن الأرض يتكون من مادة حديدية عظيمة الكثافة، وهذا يتفق مع النظرية الشهبية التي قال بها السير نورمان لوكيار. كما يتفق مع الحقيقة الثابتة في النقطة الثالثة.
انتهينا الآن من ماهية باطن الأرض، وسنبحث في مقال آخر في ظواهر حرارة باطن الأرض، فنتكلم عن البراكين وظواهرها وأسبابها. ثم نبين التضارب الحادث في تعريفها جغرافياً، والتغليط العلمي في شرح ظواهرها وأسبابها.(56/72)
نعيم علي راغب
دبلوم المعلمين العليا قسم الجغرافيا(56/73)
القصص
من التاريخ
ذكرى زينب
بقلم مهدي الجم الطرابلسي
أقبلت عليه متهادية، تحمل أذيالها الجواري السود، وجلست قربه وقالت بصوتها العذب: عمْ صباحاً أيها الأمير. فقال: عمي صباحاً أيتها الأميرة. قالت: ما لي أراك طويل التأمل، عميق التفكير، مؤرق الليل، محزون النهار؟ قال: آه يا زينب! كيف لا يأرق العربي ويموت أرقاً، ويحزن وذوب حزناً، إذا استُلب الكرامة، وفقد الحرية؟؟
حنانيك يا زينب! إني أكاد أموت هماً وكمدا! إني أريد أن استقل استقلالاً تاماً! إني أريد أن أملك زمام المشرق والمغرب!
إلى متى أنا خاضع للروم؟ إني أخاف هؤلاء اللئام يا زينب، وأرهب غدرهم، فهم لا يرعون ذمة، ولا يوفون عهداً، ولا يصدقون قولاً. إني أشفق أن يمر بنا حين نذل فيه، ونساق للهوان والصغار سوق الإبل!
إن الحرية يا زينب لا تنال بمعاهدة ولا مفاوضة، بل تنال بالدم، والدم وحده. ونحن لا جيش لنا ولا عدة، فمن اين نأتي بالدم؟ أبالشجاعة وحدها؟
أفديك يا زينب! اهدني بنور وجهك المشرق، وحبك إياي، وإخلاصك لي سبل الحرية!
فقالت حييت أيها الأمير! هيئ جيشك، وحالف سابور ذا الأكتاف ملك الفرس، ولأسِر معك نحارب الروم ولا نرجع إلا ظافرين أو مقتولين. فلَلموت في سبيل الحرية خير ما يتصف به العربي!!
عاد أمير تدمر بعد أيام وقال لزينب: لقد سار ملك الروم بجيش جرار على سابور ملك الفرس، وخفت أن يظفر به، فصالحته من بعد ما اتفقت مع سابور عليه. إلا أن الفرس هزموا جمع الروم، وأسروا مليكهم، فأشفقت كثيراً أن يسير سابور إلينا يطلب الوِتر، وما أحسبه إلا قاضياً علينا القضاء الأخير!
ولقد أرسلت إليه رسول الاعتذار، وكتاب الوفاء، وإعلان السلام، وهدية المحبة(56/74)
والإخلاص، فعتا اللئيم عتواً كبيراً، فأهان الرسول، ومزق الكتاب، ورفض السلام، ورمى بالهدية، وتهددني أمام الوفد الذي أرسلته إليه، ثم طرده من مجلسه، وأخشى أن يحقق وعيده! فهبت زينب تقول: الساعة يلتئم المجلس الحربي، والساعة يعلن الحرب على العِلج، والعداء على لئيم العجم. . .
وفي تلك الساعة التأم المجلس الحربي التدمري، وبدا من القادة أنهم يترددون في إعلان الحرب، لأنهم يعلمون أن سابور ملك عظيم، تتصدع له الجبال خشية. وإنهم لفي ترددهم إذا زينب تبدو على المنبر متلثمة، ثم تخطب خطاباً بليغاً، تحرك به العواطف، وتلهب القلوب، وتهيج النفوس، وتهتف قائلة: العربي لا يرضى بالذل والهوان، وإنما يرضى بهما الفرس والرومان، فهو للعز يموت، وهما للذل يحيان.
وبعد أيام تكون الجيوش العربية في طريقها إلى الفرس، يتقدمها أمير تدمر (أذينة) وأميرة تدمر (زينب) الزبّاء.
تلاقى الجمعان، وكانت جولتان، ثم انهزم الفرس، وسبى أذينة من قصور سابور الحور والولدان، وأسر الأحرار والعبدان.
وأتي بسابور ترهقه ذلة، ووجهه قترة، فاعتذر واسترحم، وذل واستكان، ودفع الجزية عن يدٍ صاغراً، وأضحت تدمر جنة البادية بما نقل إليها من بلاد فارس.
امتلأت نفس أذينة بنشوة الانتصار، فعلم أن بعض الروم عصوا ملكهم وثاروا عليه، فسار إليهم ورد عصيانهم إياه طاعة، وثورتهم عليه استكانة، وعاد مع زينب إلى قاعدته بين هتاف ودعاء، وما انقضت أيام حتى أتى وفد ملك الروم (جاليانوس) يرأسه الأمير (سولفا)، ومثل بين يدي الملك العربي والملكة وشكرهما باسم الملك والإمبراطورية الرومانية، وقدم إليهما ولاءها وصداقتها. انفتحت أمام أذينة مدارج الآمال، وأمِل السيادة التامة، والحكم المطلق، فكتب إلى جاليان يسأله إياهما وأشياء أخرى تضر بملكه، فحنق ملك الروم وغضب وأرسل قائده (أورل) بجيش ليحرق تدمر ويخربها، ويزيل هذه العقبة الكأداء من طريق مطامعه في الشرق. فانتهز الفرصة سابور فزحف بجيشه إلى حاضرة البادية يريد الانتقام، وكان في حمص ابن أخٍ لأذينة يلقب بالمعنيّ، وكان يحسد عمه، ويريد سريره، فلما رأى تألب الأمتين عليه قال حان حينه. اقتله وألبس تاجه، وأرث عرشه.(56/75)
فأما سابور فهزمته زينب بشجاعتها وبسالتها. وأما الروم فلم يبدأوا الحرب بعد. وأما المعني فاستأذن أذينة، ودخل عليه بوفد من أتباعه وأنصاره، فلما اشتد الهجير، وهدأ القصر، اغتاله وأعلن نفسه ملكاً على تدمر.
هاجت زينب هياجاً شديداً، وهتفت بقوادها المخلصين إلى الانتقام، وأهابت بشعبها إلى الثورة، وسارت بالجيوش إلى حمص، ثم حاربت المعني حروباً كثيرة، وصاولته بنفسها، وأخيراً أسرته، وحكمت عليه وعلى من ساعده ولاذ به بالصلب والفصد، وقالت هذا أقل ما يعاقب به خائن الوطن، وهكذا استأثرت بسرير تدمر وحدها، وما أجدر زينب بسرير تدمر، وما أليق زينب لأعظم من مثله.
كانت ميّ جميلة رائعة الجمال، حسناء بارعة الحسن، وكانت مي وفية كريمة شجاعة صبوراً، وكيف لا تكون كذلك وهي الابنة البكر لزينب ملكة العرب؟
وكان سولفا رئيس الوفد أميراً جميلاً فتاناً كريماً، اعتلقته مي اعتلاقاً شديداً، وشغفت به كثيراً، ولم يكن ما يضمر لها من الحب بأقل ما تضمر له، ولطالما اجتمعا وتشاكيا الهوى والجوى. إلا أن سولفا فارقها إلى روما ليفي عهد الرسالة، ومي تعذبت لفراقه كثيراً؛ وحنت إليه حنيناً، وبكت حتى كادت تتلف. وعلمت أمها بأمرها فعذرتها في نفسها، لأنها تعرف الحب ودلائله وأفعاله، وجنونه وفنونه. إلا أن الذي آلمها أن الروم أعداؤها وسيحاربونها، وما سولفا إلا رجل من رجالهم، بل قائد من قوادهم، فإذا خان وطنه في سبيل حبه استصغرته ولم ترض أن تصهر إليه، وإن لم يخن فابنتها مائتة غراماً ما في ذلك شك.
ولقد أقبلت عليها ذات يوم فقالت لها: أي مي! أي ابنتي العزيزة! لقد وكلت إليك ملك تدمر إلى حين، لما أعهد من حزمك ودرايتك، وأما أنا فذاهبة لأحارب الروم وأموت، أو أملك ما بين المشرق والمغرب. فتوكلت مي راضية مسرورة. إلا أنها بكت لفراق أمها كثيراً، وتجلدت لفراق سولفا وتصبرت فما ازدادت إلا حزناً ولوعة.
انقضى شهر، ثم أتى البشير يعلن انتصار مليكته على الروم، وإنها أسرت كثيراً من قادة الجيش وضباطه، فأمرت مي بسوق الأسرى إلى تدمر، وفي تدمر أطلّت عليهم من الطاق، فرأت بينهم الأمير سولفا، ففرحت كثيراً واندفعت إليهم، وحيتهم، ودعتهم إلى قصرها،(56/76)
وأكرمتهم كثيراً، لأن سولفا بينهم، لا لأنهم قادة، ولا لأنهم من الروم. وهؤلاء أعجبوا بها وبحنكتها وأخلاقها كثيراً، وأول من أعجب بها سولفا. وبعد حينٍ أقبلت زينب فارسة كمياً، فزغردت النساء، وهزجت الأطفال، وغردت طيور الأماني. وما انتهت إلى قصرها حتى سرّحت الأسرى، فأعظم الناس كرم خلقها، وهتف العرب والروم وكثير من الفرس: مرحى زينب الزباء! مرحى ملكة العرب!
لم تقنع زينب باستقلالها التام، بل أرسلت جيشاً فغزا ساحل البحر الأبيض الآسيوي كله، وأعدت جيشاً آخر لغزو النيل، وفتح مصر، فجعلت تدمر ملكية عظيمة يخشى بأسها القياصرة والأكاسرة. وملك الفرس الجديد (بهزاد) عقد معها معاهدة ليجعل منها ملاذاً وحمىً، وخطب مياً من زينب، فأقبلت هذه على ابنتها، وقالت بشراك يخطبك بهزاد ملك الفرس، فاعترفت لها مي بحبها سولفا وغرامها به. ولكن زينب تريد أن تزوجها ببهزاد لتأمن شره، فقد يكون له شر. فدعت سولفا إليها وقالت. أهكذا أيها الأمير تسيء إلى من أحسن إليك؟ قال ما كان لي ذلك أيتها المليكة المعظمة! قالت نمي إليّ أنك جاسوس لقائدك (أورل). قال اسمحي لي أيتها المليكة أن أقول لك، إن مثلي أرفع من أن يكون جاسوساً. إني لا أخفي أني صديق (أورل)، وصديق ملكي، وصديق الروم كلهم، كما أني أعترف أني صديق مخلص إليك، وإلى ابنتك. فوجمت زينب وقالت أيها الأمير! لقد وجدتك قائداً شجاعاً، ووطنياً مخلصاً، وصديقاً لي أميناً. وسأجعلك القائد الثاني للجيش الذي سأسيّره إلى مصر، فحارب وعد إليّ ظافراً منتصراً. فقال سأكون إياه، وكان إياه.
إلا أن مياً خافت أن يُقتل في هذه الحرب. وعلمت أن أمها لم ترسله إلا لتنجو منه.
وبعد شهور أقبل فارس يقول. إن الجيش العربي قد انتصر، وعاد إلى المعسكر غانماً، غير أن أمراً أحزن الجيش كله، هو أن الأمير سولفا الذي ناضل كثيراً، وكان سبب النصر والفوز الأكبر، اختفى بغتة.
ما وصل الخبر إلى مي حتى صاحت قائلة: آه إنها حيلة مدبرة! إن سولفا قد قتل. ثم انزوت في حجرتها، وأنشأت تبكي وتنتحب. ولبثت على حالها أياماً، لا تأكل ولا تتكلم، حتى وهنت ووقعت في سرير المرض. فعالجها الطبيب فشفيت، إلا أن وجهها الناضر الزاهي أضحى شاحباً حائلاً، لا رونق فيه ولا حياة.(56/77)
أقبل رسول بعد ذلك يقول إن الأمير سولفا حي، وهو يحارب المصريين بعيداً عن المعسكر. فطار لب مي فرحاً، وكادت تهوي على يدي الرسول تلثمهما شكراً، لكنها خلعت عليه خلعة، ووصلته بالمال والحلي.
عاد القائد العربي (زبدا) بعد أيام يرافقه الأمير سولفا فاستأذنا على زينب، ومثلا بين يديها فقال (زبدا) أيتها الملكة المعظمة، إن الأمير سولفا بطل يجب أن يفتخر بمثله، فهو هو الذي هزم المصريين، وجعل العلم العربي يخفق على ربوع النيل.
ما زال الروم يسألون زينب أن تعترف بسلطانهم عليها، وأن تدفع لهم جزية الانتداب، وما زالت زينب على شممها وإبائها، لا تعترف لهم بشيء. وأرسل إليها أورل ذات مرة يقول، تعترفين بسلطاننا عليك، وتدفعين الجزية، أو أحاربك وأخلعك، وأصلبك، وأسبي ابنتك، وأتوّج على سريرك زيد بن المعنيّ. فثارت زينب ثورتها، وغضبت غضبتها، وجمعت المجلس. وقالت إلى الحرب أيها الأبطال، إلى الانتقام أيها الرجال! إن تدمر العربية لا تستكين أبداً لتطاول الروم أو البربر. . .
وهكذا اضطرمت الحرب، ورحل الروم المقيمون في تدمر إلى وطنهم، بينهم الأمير سولفا. ولاقت زينب جيش الروم ورأت أن زيد بن المعني تحت لوائهم، فقالت الويل له من عاقبة كعاقبة أبيه، وحاربت وناضلت كثيراً، وشجعت القادة، وتقدمتهم إلى الموت.
غلب الروم، وانهزم جمعهم، فتبعتهم زينب تريد التنكيل بهم والقضاء عليهم، فما أحست إلا وفرسان جيشها في مستنقعات (العُوَيق) يغالبون الموت والموت يغالبهم، وما أحست إلا والروم قد طوق المشاة من جيشها، وأعمل فيهم السيوف، فجزعت كثيراً، وخطبت في سائر جنودها الخطب الحماسية، فما أفادت، وما زالت عددها تنفد، وعددها يقل حتى أوشكت على الهلاك فاستنجدت ملك الفرس قال مي ابنتك وأعنيك. فما رأت بداً من التراجع فتراجعت ودخلت تدمر محزونة مكتئبة، وأغلقت الأسوار.
بينما كانت زينب تحارب الروم جوار (إنطاكية) كانت مي ابنتها ترسل إليها العدد، وتدير أمر المملكة، وأقبل عليها ذات يوم رسول وقال لقد وجدنا الأمير سولفا يا سيدتي قتيلاً في سهول حماه. فقالت في نفسها إذن أهلك معه. وأمرت خادماً لها أن يأتيها بثعبان تتعلم إمساكه. ففعل. فخلت الثعبان وقربت الناب القاتل من الثدي الزاهي وهتفت قائلة: نفسي(56/78)
فداء الأمير سولفا، وما كاد الناب يغرز في الثدي حتى هتفت وقالت: لا لا. نفسي فداء الوطن. ورمت الثعبان من النافذة. وإنها لتفعل إذا رسول بالباب يقول سيدتي هذه خوذة الأمير سولفا يرسلها إليك وهو جريح نعالجه وسيشفى عن قريب، فقالت: وا فرحتاه! ووصلت الرسول بما يستحقه.
حاصر أورل بجيشه تدمر، وطال الحصار فملّ، ونفدت مؤن المدينة، وتضاغى الناس جوعاً، فجمعت زينب المجلس الحربي، فلقيها القادة باكين، فقالت لم البكاء أيها الأبطال؟ إما الموت، وأما الحياة!
وصعدت ابنتها مي المنبر وقالت إن حفيدة السميْدع مياً لتضحي بنفسها فداء الوطن.
أخرج بكم أيها الأبطال، من السرداب الخفي الذي يصل تدمر بنهر الفرات. ثم أسير إلى ملك الفرس وأعلن له قبول خطبته إياي، ثم نرجع بجيش وعدةٍ من عنده، فنكرّ على الروم، ونمزقهم شر ممزق!
فأكبرت زينب إخلاص ابنتها، وتفاديها وتضحية حبها في سبيل الواجب، وأكبر القواد إخلاص أميرتهم وشجاعتها.
في تلك الساعة قال زيد بن المعني لأورل قائد الروم: إن بين الفرات يا سيدي وبين المدينة سرداباً خفياً، ترسل منه زينب رسولها إلى بهزاد، ليمدها بالرجال والزاد، قال إذن الليلة تمسكون الرسول، وتفتحون الأبواب، وتدخلون المدينة، وتدكون القصر دكاً دكاً وتثلون العرش ثلاً ثلاً!
وما غشي الليل واختلط، حتى كانت مي متقلدة حمائل سيفها تتقدم القواد في السرداب، وتشجعهم. وما أطلت حتى كان زيد يطوقها بجنده، فأهابت به قائلة الويل لك أيها الخائن، وأقامت تحارب وتناضل ما تقدر أن تفعل، وودت لو تقتل ولا تؤسر، إلا أن أورل أقبل بجيشه فأسرها، وفتح المدينة، وأسر زينب، لكن لم يثل العرش ثلاً، وإنما توّج على سرير تدمر زيد الخائن.
سيقت زينب وابنتها والقواد إلى منزل الذل والهوان، وحكم أورل على زينب بالصلب، وفي الساعة التي كادوا ينفذون بها الحكم، كان قائد جميل روماني يدفع الجموع بمنكبيه، ويهب بالجلاد قائلاً: رويدك أيها العِلج. ويتقدم إلى أورل، ويركع عند قدميه، ويقول: أنا(56/79)
صديقك سولفا أناشدك الصداقة التي بيننا أن تعفو عن زينب! إنها بطلة يا سيدي! إنها لم تحاربك إلا دفاعاً عن حريتها واستقلالها وكرامتها، فلا تلطخ جبين الدولة الرومانية الناصع بقتل البطلات اللائى يضحين أنفسهن في سبيل الحرية والكرامة والاستقلال!! فصرخت زينب قائلة: لا، لا، الموت أعذب لي من الحياة بعد الآن! إن العربية لا تعرف الحياة إلا بالعز، ولن تعرفها إلا به أبداً!!
عفا أورل عن زينب وابنتها وأمر بنقلهما معظمتين إلى قصره. وتقدم الأمير سولفا يوماً من مي يخطبها فقالت: أنا لا أخفي عليك أيها الأمير أني أحبك كثيراً، ولكن لا أقدر أن ألبّي طلبك إلا حين أبعث؛ وأنا اليوم ميتة! إن العربيات اللائى دوخن الفرس والروم، وخفقت رايات نصرهن في لبنان وربوع النيل، لا يرضين التزوج بالروم، ولا يعرفن الحياة والحب إلا مع العز والكرامة والحرية.
حماه
مهدي الجم الطرابلسي
النقد(56/80)
شخصية أبي شادي في ديوانه (الينبوع)
بقلم الأديب حسن كامل الصيرفي
يمر صدى المطرب أمام جهاز (الراديو) فيطوف في الأثير بين رياح عاصفة ونسمة هادئة، ويمتزج في ضجيج الحياة وجلبتها ويغرق في صمت البوادي والقفار، حتى يتلقاه جهاز الاستلام فإذا الصوت ناطق بشخصية صاحبه. . كذلك يمر ذهن الشاعر بمحيط الحياة، يسمو إلى الأفلاك فلا يسمع منه أهل الأرض إلا همسات ونجوى يستشعرون فيها حناناً وراحة، ويهبط منها إلى صخب الحياة فيحاول أن يلطف من حدة ذلك الصخب بأنغام قيثارته، ولكن جمود الحياة يستثيره فيترك القيثارة لحظات تراه فيها صاخباً ثائراً متململاً، وهو بين سموه عن الحياة وبين اندماجه فيها محتفظ بشخصيته.
وهناك شعراء يفقدون شخصياتهم في جولاتهم الواحد منهم كالمهرج عليه رقع ليس بين ألوانها وحدة وتناسب. فالاحتفاظ بالشخصية يرجع إلى مؤهلات الشاعر الفنية، فالأول يطوف ويقف ويحلق ويهبط، وهو ينظر إلى العالم كما ينظر المصور إلى اللوحة التي يخط عليها بريشته عارفاً حدودها. أما الآخرون فيسيرون في طريقهم على غير هدى لم يرسموا لأنفسهم غاية.
وبمقدار احتفاظ الشاعر بشخصيته تكون قوته أو ضعفه، فلننظر إذاً في ديوان (الينبوع) ولنبحث عن شخصية أبي شادي، وعن مدى ظهورها أو تلاشيها. ولقد قرأت هذا الديوان فما كانت شخصية ناظمه تنأى عني أو تنمحي من أمامي قد يفقد الشاعر في أثناء حلمه الجميل ذاته ولكنه لن يغيب عن قارئه إذا استطاع أن يمزج روحه بآثاره.
فأبو شادي الذي أعرفه في حياة الناس شعلة فانية يريد أن يجمع العالم في يده فيحيله قطعة فنية في أقصر وقت كما تحيل النظرة الفاتنة دنيا العاشق لحظة قصيرة العمر مسرعة الخطى يتعجل اقتناص ما وراءها، هو نفسه أبو شادي الذي عرفته في حياة الشعر شعلة فانية يشقيها التسامي ويفنيها الكد.
فلأبي شادي شخصية واحدة تظهر دائماً وإن تنوعت ثيابها وتشكلت، فهو محب للحياة متصوف في حبه عالمي الروح، يريد الحياة خالصة سامية، يريدها قطعة فنية، فهو يحاول تهذيبها، أو هو يحاول تلوينها بألوان من السعادة تختلف فتبدو للناس عجباً، وتجتمع عنده(56/81)
في قرارة نفسه، فلا يراها إلا وحدة متماسكة الأطراف متساوقة لا تناقض فيها، ويراها طريقاً إلى غايته وسبيلاً إلى أداء فكرته، وأنه ليشعر بحيرته بين كل هذا، ولكنها حيرة الشاعر أمام ربط معاني قصيدته حتى يلم بها فإذا هي آية تؤلف بين أبياتها وحدة تامة فيقول:
عييت من قلقي فيما وجدت له ... وفي المعاني لكوني أو لأحلامي
أسائل الدهر عنها وهو مضطرب ... مثلي، وأصحب كالمبهوت أعوامي
وأنتحي عن وجودي شبه منعدم ... في الصمت، والصمت آمالي وآلامي
في حيرة وكأني عالمٌ يئست ... منه الحياة فعافت روحي الدامي
أبكي وأضحك في نفسي فإن بها ... من التناقض إيساري وإعدامي
ما بين ضدين قد عاشت وليس لها ... من شاغل غير معنى عيشها السامي
تصدّرت لهموم الناس تسعدهم ... وعوقبت بين أحبابٍ وأخصام
ولقد ظلت غايته، وهي نشدان المثل الأعلى، تتبعه كظله حتى أكسبته هذه الشخصية: شخصية الصوفي العالمي؛ فهو أمام الجمال المغري صوفيّ يحوّل الشهوة الصاخبة في أعماق جسده فناً يملأ روحه ويغمرها، ولا يرى في ذلك الجمال إلا روح الوجود وروح الفن كما في قصيدته (العيون المتكلمة).
ولقد جاهر الكثيرون ممن نقدوا أبا شادي بأن في قصيدته (الينبوع) التي يقول فيها:
أيها الينبوع كم ساع إليك ... يدعي بغضاً كما أهوى لديك
كل ما يرجوه موقوف عليك ... فإذا الانعام منك وإليك!
أنت سحر غامضٌ للعالم ... أنت ينبوع الرجاء الدائم
أنت موسيقى الخلود الباسم ... أنت ومض للشريد الهائم!
أيها الينبوع يا رمز الأبد ... يا شعاع الله في طيف الجسد
كم معانٍ فيك كادت لا تحدّ ... وعزاءٍ عن حياة تفتقد!
دعوةً صريحة إلى الشهوة، وأن ليس فيها نظرة صوفية، ذلك أن فيها تقديساً للجسد، وتقديس الجسد ليس من معاني الصوفية عندهم. فهل يرى هؤلاء أن الشهوة حقيرة للدرجة التي لا تسمح للشاعر بأن يتناولها في فنه مع أنها الدافع الأول إلى خلق مواهب الفنانين،(56/82)
وليست العبقريات إلا شهوة تجمعت في عدسة عين صوفية فتطهرت واستحالت سمواً. ومن منا ينكر أن هناك مثّالين عبدوا تماثيلهم وفتنوا بها بعد أن كانت فتنتهم وقفاً على المثال، وهل عيب عليهم تصويرهم جسد امرأة عارية تحمل معنى من معاني القداسة يراها المثّال ويراها كل من مسته يد الفن وإن خفيت على بعض الناس.
إن الفنان عندما يتكلم عن الأجساد أو يصفها لا تكون لديه إلا فكرة واحدة هي تقديس الجمال، وهذا هو ما عناه الدكتور أبو شادي في قصائده عن الجمال والحب، وما عبر عنه بقوله:
عبثي هو الفن الجميل، وروحه ... روح السمو وإن يعدّ ضلالا
يعيش أبو شادي في بيئة ظالمة جاحدة، تحيط به خصومات وأحقاد وأعداء مناوئون، وقصيدته (المهزلة) التي صور فيها هذه البيئة تصويراً بديعاً سكب فيه من شعوره ما يتدفق حاراً، من أقوى الشعر الاجتماعي العاطفي. وفيها يقول:
ويلي من الدهر! يبكيني ويبتسم ... ولا يرد عوادي جَوْرِهِ السقمُ
قد عدَّ شر ذنوبي ما يفيض به ... قلبي إلى الناس من حب ويزدحم
ويلي من الدهر! ويلي! مَن أقرَّ له ... هذا العتوّ؟ وهل في الحب متهمُ
أطلّ دمعي وماء العين مضطرم ... وهاج وجدي وسخط القلب محتدمُ
أنا الذي في شكاتي يزأر الشمم ... وفي بكائي وناري يهزم الألمُ
سخرت من بيئتي لما برمت بها ... ونُحت لكن نواحي كله كرم
لست الذي إن تغالي في محبته ... فساءه الدهر عمراً ناله الندم
وهو إذ يصور لنا البيئة المصرية - وكم له من صور عنها! منها الحزينة الهادئة والصارخة الملتهبة والمتهكمة اللاذعة! - وينغمس في مناقشات ومجادلات لا يفقد شخصيته البارزة، تلك الشخصية الصوفية الزاهدة فيقول:
وعشتُ في وحدتي الموفورَ في شرفي ... أبكي وأضحك والأحداث تلتطمُ
ولقد جمع ديوان (الينبوع) صوراً شتى لصوفية أبي شادي الغالبة عليه منها هذه الأبيات من قصيدة (غليون الشاعر)
أشعل الغليون من نا ... ري وحيداً في الظلام(56/83)
ناظراً نحو سماء ... في ضرام كضرامي
حبأتها غير لمعٍ ... في نجوم كابتسامي
حرقة الدنيا أطلت ... من ثقوب في الغمام
كل ما فيها جميل ... هو قلب في اضطرام
وكأن الخالق الفن ... ان يشقى بالتسامي
وهذه الأبيات من قصيدة (وداع الشاطئ في الإسكندرية) هي لوعة الفنان العازف بين الصخور الصمّاء:
إيه يا قلب تأمل ... هذه دنيا الصراعِ
يبدع الفنان لكن ... هو كالنور المشاعِ
خاسر مهما تفانى ... في وفاءٍ وابتداعِ
وفي قصيدته (عيش الألوهة) صفحة 63 نزوع قوي إلى التغلغل في أعماق كل ألوان الجمال، ليعيش في لبه وصميمه عيشة الألوهة، بعيداً عن أذى الحياة في حلم من أحلام الجنة. ولقد تلعب ريشته وترقص، فترسم لنا أخيلة لتلك السعادة التي يحكم بها في هدوئه وتصوفه
فأبو شادي ذلك الإنسان الدائم الحركة، الموزع الجهود، المختلف الصور، المتناقض السبل، رجل يحمل في طياته شخصية واحدة تظهر في شعره دائماً أتم الظهور، وفي قصيدته (بعد الكفاح) التي يتكلم فيها عن القطن المكدس بعد جنيه، فيعطينا منه فكرة، هي تلك الفكرة التي تشغل باله، والتي تشرق وتغرب فيها شخصيته، فيقول:
هذي بقايا القطن ترقد في الثرى ... كجنود حرب بعد طول كفاحِ
صرعى مجندلة، ولكن بعدما ... ضحت بأجمل نورها الوضاحِ
حتى النبات يرى الضحية واجباً ... ومُنىً فليس يضنُّ بالأرواحِ
هذه الشخصية التي تجلت لي في مطالعة (الينبوع) شخصية أبا شادي التي تلابس شعره هي بنفسها التي طالعتني وتجلت لي يوم قرأت دواوينه السابقة، وهي هي بنفسها التي يعيش بها بين الناس، فليس من الحق أن ننكر على شعرائنا ثبات شخصياتهم في شعرهم إلا إذا دققنا واندمجنا في روح الشاعر.(56/84)
حسن كامل الصيرفي(56/85)
العدد 57 - بتاريخ: 06 - 08 - 1934(/)
حول باخرتنا (النيل)
بيننا وبين الأجانب
لمصر ماض بحري مجيد يرجع إلى عهد الفراعنة، وكان لمصر
أساطيل حربية وتجارية تشق عباب البحر الأبيض، ليس عهدنا بها
بأبعد من قرن، ولو لم تتألب أوربا النصرانية على مصر المسلمة في
نافارين، ولو لم تصب مصر بعد ذلك بما أصيبت به من المحن
السياسية التي هدت من إرادتها وحرياتها، لكان لها اليوم أسطول
يحمي ثغورها، وكانت لها سفن تجوب البحار وتأخذ بنصيبها من
حركة النقل والتجارة. فلما أتيح لمصر الناهضة أخيرا أن تبدأ بغزو
الميدان الاقتصادي، اتجهت الأماني والجهود إلى إحياء الملاحة
التجارية المصرية؛ ووفق بنك مصر - امتن واعز صروحنا
الاقتصادية - إلى وضع الدعامة الأولى في سبيل تحقيق هذه الأمنية،
فاقتنى باخرتين كبيرتين هما (زمزم) و (النيل)؛ وأدت (زمزم) في
موسم الحج الماضي للحجيج من مختلف الأمم الإسلامية اجل
الخدمات؛ وخصصت (النيل) لقطع البحر الأبيض والسفر بين
الإسكندرية ومرسيليا، وقامت إلى اليوم بأربع رحلات موفقة، وأثارت
بحسن استعدادها وفخامتها ودقة نظامها، واعتدال أجورها إعجاب كل
من شهدها أو سافر على ظهرها من المصريين والأجانب؛ واغتبط
المصريون أيما اغتباط إذا أصبحوا يستطيعون السفر على ظهر باخرة
مصرية فخمة، تسيرها وتستثمرها أموال ومصالح مصرية، ويشعرون
أثناء السفر عليها انهم بين أهلهم وذويهم.(57/1)
بدأت مصر إذن بغزو ميدان اقتصادي جديد كان حتى اليوم وقفا على الأجانب، هو ميدان الملاحة البحرية؛ ومن قبل غزت مصر - خلال الأعوام الإثني عشر الأخيرة على يد بنك مصر وشركاته - مختلف الميادين والأعمال الاقتصادية والصناعية؛ ونمت هذه المؤسسات وازهرت، تحفها عناية الله، وإخلاص القائمين بأمرها وعطف الأمة كلها، حتى غدت ركنا هاما في حياة البلاد الاقتصادية التي كانت من قبل كلها غنما للمصالح والأيدي الأجنبية؛ وبثت هذه الحركة المباركة في الأمة روح الاهتمام بالمشاريع الاقتصادية والثقة فيها؛ وأخذت المصالح الأجنبية التي غصت بنجاحها تنظر إلى المستقبل بعين الخوف والجزع؛ وتلتمس لمحاربتها مختلف الوسائل والدعوات. وآخر ما أذيع عن جهودها في هذا السبيل موقفها من شركة الملاحة المصرية، ومن باخرتها (النيل)، فقد عرف إن بعض الجهات تبث ضد (النيل) دعوة سيئة، وتحث الأجانب على مقاطعتها، وتشترك بعض وكالات السياحة في هذه الخصومة فت
فتأبى نشر (النيل) في قوائمها، وتأبى التعريف عنها وعن أجورها أو مواعيدها؛ وهذه خصومة غربية في الواقع؛ أولاًلأن شركة الملاحة المصرية تدخل ميدان المنافسة المشروعة عزلاء من كل حماية خاصة، ولا تعتمد إلى على جهودها ومؤازرة شركتهم وباخرتهم؛ وثالثاً لأن هذه الدعوة في ذاتها غير صحيحة، إذ الواقع إن النيل من أفخم بواخر البحر الأبيض وأحسنها استعداداً، هذا فضلاً عن اعتدال أجورها ومصرية جوها ومحيطها.
على ان هذا التحرش من جانب المصالح الأجنبية بالجهود المصرية المشروعة لا يمكن ان يضر هذه الجهود، وإنما يرتد أثره بالعكس إلى المصالح الأجنبية ذاتها. فقد طال عهد مصر بعسف هذه المصالح التي تحيها الامتيازات الأجنبية الباغية؛ وقد عرفت مصر التي تطمح إلى استكمال حرياتها السياسية إن التحرير الاقتصادي دعامة قوية في هذا السبيل؛ وعرفت المصالح الأجنبية إن هذه الامتيازات التي تتمسك دائما بسلطانها وحمايتها لا يمكن أن تحقق لها ما تريد من عطف الشعب الذي تعمل بينه، لأن عطف الشعوب لا يكسب بالقوة والعنف، وعرفت من جهة أخرى إن هذا العطف ينثال على كل مشروع مصري خطير، ورأت أخيراً أن مصر تغزو الميدان الاقتصادي الذي احتكرته عصراً، بقوة ونجاح؛ فهذه(57/2)
العوامل كلها تجعل المستقبل مظلما في وجه المصالح الأجنبية، وتحملها على أن تقف أمثال هذه المواقف التي لا تعرب عن فطنة ولا كياسة من مصالح بلد ما زالت تستغل كرمه ورعايته وضعفه.
إن في هذا الموقف وأمثاله لعبرة جديدة لمصر والمصريين. وفي وسع مصر دائما - في مثل هذه الظروف على الأقل - ان تقابل هذه الخصومة بمثلها؛ فالمصريون الذين يسافرون على البواخر الأجنبية ألوف وألوف؛ ولن تتاثر شركة الملاحة المصرية و (النيل) بهذه الدعاية الوضعية؛ ولكن الشركات الأجنبية يمكن أن تتكبد خسائر فادحة يوم يقاطعها المصريون بحق، ويؤثرون عليها (النيل) وغيرها من البواخر التي نرجو أن تقتنيها مصر في أمد غير بعيد.
فلتسر شركة الملاحة المصرية، ولتسر كل شركاتنا المصرية في طريقها محفوفة بالرعاية القومية الشاملة، فان هذا العدوان لن يضيرها في شيء، ولكنه بالعكس يكسبها عطفاً جديداً، ويمدها بروح جديد لمتابعة العمل المجيد الذي تقوم به في سبيل مصر.
(ع)(57/3)
في اللهب ولا تحترق
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
أفي الممكن هذا؟
لعوب حسنة الدل، مفاكهة مداعبة، تحي ليلها راقصة مغنية؛ حتى إذا اعتدل الليل ليمضي، وانتبه الفجر ليقبل - أنكفات إلى دارها فنضت وشيها، وخرجت من زينتها، وخلعت روحا ولبست روحا، وقالت: اللهم إليك، ولبيك اللهم لبيك. ثم ذهبت فتوضأت وأفاضت النور عليها، وقامت بين يدي ربها تصلي. . .!
هي حسناء فاتنة، لو سطع نور القمر من شيء في الأرض لسطع من وجهها. وما تراها في يوم إلا ظهرت لك احسن مما كانت، حتى لتظن إن الشمس تزيد وجهها في كل نهار شعاعة ساحرة، وان كل فجر يترك لها في الصبح بريقا ونضرة من قطرات الندى.
وتحسب أن لها دما يطعم فيها يطعم أنوار الكواكب، ويشرب فيما يشرب نسمات الليل.
وإذا كانت في وشيها وتطاريفها وأصباغها وحلاها لم تجدها امرأة، ولكن جمرة في صورة امرأة؛ فلها نور وبصيص ولهب، وفيها طبيعة الإحراق. . . أن الذي وضع على كل جمال ساحر في الطبيعة خاتم رهبة - وضع على جمالها خاتم قرص الشمس فإذا رأيتها بتلك الزينة في رقصها وتثنيها - قلت: هذه روضة مفتنة اشتهت أن تكون امرأةفكانت، وهذا الرقص هو فن النسيم على أعضائها.
وهي متى نفذت إلى البقعة المجدبة من نفسك أنشأت في نفسك الربيع ساعة أو بعض ساعة.
وتنسجم أنغام الموسيقى في رشاقتها نغمة إلى حركة؛ لأن جسمها الفاتن الجميل هو نفسه أنغام صامتة تسمع وترى في وقت معا وتنسكب روحها الظريفة بين الرقص والموسيقى، لتخرج لك بظرفها صراحة الفن من إبهامين كلأهما يعاون الآخر.
وهي في رقصها إنما تفسر بحركات أعضائها أشواق الحياة وأفراحها وأحزانها، وتزيد في لغة الطبيعة لغة جسم امرأة.
وكان الليل والنهار في قلبها، فهي تبعث للقلوب ما شاءت ضوءاً وظلمة.
وهي إلى القصر، غير انك إذا تأملت جمالها وتمامها حسبتها طالت لساعتها.(57/4)
والى النحافة، غير انك تنظر فإذا هي رابية كان بعضها كان مختبئا في بعض.
ويخيل إليك أحياناً في فن من فنون رقصها ان جسمها يتثاءب برعشة من الطرب، فإذا جسمك يهتز بجواب هذه الرعشة لا يملك إلا أن يتثاءب. . .
ويجن رقصها أحياناً، ولكن لتحقق بجنون الحركة أن العقل الموسيقي يصرف كل أعضاء جسمها.
ومهما يكن طيش الفن في تأودها ولفتتها ونظرتها وابتسامها وضحكها - ففي وجهها دائما علامة وقار عابسة تقول للناس: أفهموني.
ولما رأيتها شهد قلبي لها بان على وجهها من نور الجمال نور الوضوء؛ وإنها متحرزة ممتنعة في حصن من قلبها المؤمن، يبسط الأمن والسلامة على ظاهرها؛ وان لها عيناً عذراء لا تحاول التعبير، لا سؤالاً ولا جواباً ولا اعتراضا بينهما؛ وان قوة جمالها تستظهر بقوة نفسها، فيكون ما في جمالها شيئا غير ما في النساء - شيئاً عبقرياً بالغ القوة، يكف الدواعي ويحسم الخواطر، ويرغم الإعجاب إن يكون ذهولاً وحيرة، ويكره الحب أن يرجع مهابة واحتشاماً.
والرواية كلها في باطنها تظهر على ضوء من مصباح قلبها، وما وجهها إلا الشاشة البيضاء لهذه (السيما)، وهل يكون على الوجه إلا أخيلة القلب أو الفكر؟
وعندي أن المرأة إذا كان لها رأي ديني ترجع إليه، وكان أمرها مجتمعاً في هذا الرأي، وكانت أخلاقها محشودة لها، متحفلة به - فتلك هي الياقوتة التي ترمي في اللهب ولا تحترق، وتظل مع كل تجربة على أول مجاهديها، إذ يكون لها في طبيعة تركيبها الياقوتي ما تهزم به طبيعة التركيب الناري.
وليس من امرأةإلا وقد خلق الله لها طبيعة ياقوتية، هي فطرتها الدينية التي فيها؛ إن بقيت لها هذه بقيت معها تلك، ولكنها حين تنخلع من هذه الفطرة تخذلها الفطرة والطبيعة معاً، فيجعل الله عقابها في عملها، ويكلها إلى نفسها؛ فإذا هي مقبلها أغلاطها ومساوئها بطرق عقلية ان كانت عالمة، وبطرق مفضوحة إن كانت جاهلة. وما بد أن تستسر بطباع إما فاسدة وإما فيها قوة الاستحالة إلى الفساد؛ ويرجع ضميرها الخالي محاولاً أنئ من ظاهرها، بعد ان كان ظاهرها هو يمتلئ من ضميرها؛ وتصبح المرأة بعد ذلك في حكم أسباب(57/5)
حياتها، مصرفة بهذه الأسباب، خاضعة لما يصرفها؛ ويذهب الدين وينزل في مكانه الشيطان؛ ويزول الاستقرار ويحل في محله الاضطراب؛ وتنطفئ الأشعة التي كانت تذيب الغيوم وتمنعها أن تتراكم، فإذا الغيوم ملتف بعضها على بعض؛ وتخذل القوة السامية التي كانت تنصر المرأة على ضعفها فتنصرها بذلك على أقوى الرجال، فإذا المرأة من الضعف إلى تهافت، تغلبها الكلمة الرقيقة، وتغترها الحيلة الواهنة، وتوافق انخداعها كل رغبة مزينة، ويستذلها طمعها قبل أن يستذلها الطامع فيها. ولتكن بعد ذلك من هي كائنة أصلا وحسبا وتهذيبا وعقلا وأدبا وعلما وفلسفة، فلو إنها امرأةمن (الإسمنت المسلح) لتفتتت بالطبيعة التي في داخلها، ما دامت الطبيعة متوجهة إلى الهدم بعد ان فقدت ما كان يمسكها أن تهدم وان تنهدم.
لقد رق الدين في نسائنا ورجالنا. فهل كانت علامة ذلك إلا أن كلمة (حرام، وحلال) قد تحولت عند أكثرهم وأكثرهن إلى (لائق، وغير لائق) ثم نزلت عند كثير من الشبان والفتيات إلى (معاقب عليه قانوناً، ومباح قانوناً. . .) ثم انحطت آخراً عند السواد والدهماء إلى (ممكن، وغير ممكن. . .).
قالت الياقوتة، أعني الراقصة:
- أخذت أبي من عهد الطفولة بالصلاة، واثبت في نفسي ان الصلاة لا تصح بالأعضاء ان لم يكن الفكر نفسه طاهرا يصلي لله مع الجسم، فان كانت الصلاة بالجسم وحده لم يزدد المرء من روح الصلاة إلا بعدا. وقر هذا في نفسي وأعتدته، إذ كنت أتعبد على مذهب الأمام الشافعي (رض)، فأصحح الفكر، واستحضر النية في قلبي، وانحصر بكلي في هذا الجزء الطاهر قبل أن أقول: (الله اكبر)؛ وبذلك أصبح فكري قادراً على أن يخلع الدنيا متى شاء ويلبسها، وان يخرج منها ثم يعود إليها؛ ونشأت فيه القوة المصممة التي تجعله قادرا على أن يتصرف بي عما يفسد روح الصلاة في نفسي، وهي سر الدين وعماده.
ويا لها حكمة أن فرض الله علينا هذه الصلوات بين ساعات وساعات، لتبقى الروح أبداً إما متصلة أو مهيأ لتتصل. ولن يعجز اضعف الناس مع روح الدين أن يملك نفسه بضع ساعات، متى هو اقر اليقين في نفسه، انه متوجه بعدها إلى ربه، فخاف أن يقف بين يديه مخطئا أو إثماً؛ ثم هو إذا ملك نفسه إلى هذه الفريضة ذكر أن بعدها الفريضة الأخرى،(57/6)
وإنها بضع ساعات كذلك، فلا يزال من عزيمة النفس وطهارتها في عمر على صيغة واحدة لا يتبدل ولا يتغير، كأنه بجملته - مهما طال - عمل بضع ساعات. قالت الياقوتة: ورأيت أبي يصلي، وكذلك رأيت امي، فلا تكاد تلم بي فكرة آثمة إلا انتصابا أمامي فاكره أن استلئم إليها فأكون الفاسدة وهما الصالحان، واللئيمة وهما الكريمان؛ فدمي نفسه ببركة الدين يحرسني كما ترى.
قلت: فهذا الرقص. . .؟
قالت: نعم، انه قضى علي أن أكون راقصة، وان التمس العيش من اسهل ثلاث طرق، والينها وأبعدها عن الفساد، وان كان الفساد ظاهرها. أريد: الرقص، أو الخدمة في بيت، أو العمل في السوق. وأنا مطيقة لحريتي في الأولى، ولكني لن املكها في الأخيرتين ما دام علي هذا الميسم من الحسن؛ وكم من امرأةمتحجبة وهي عارية الروح، وكم من سافرة وروحها متحجبة. ان كنت لا تعلم هذا فاعلمه، وليس السؤال ما سالت، بل يجب ان يكون وضعه هكذا: هل ما ترى هو في ثيابي فقط، أو هو في ثيابي ونفسي؟
ها أنت ذا تغلغل نظرتك في عيني إلى المعاني البعيدة، فهل ترى عيني راقصة؟
قلت: لا والله، ما ارى عيني راقصة، ولكن عيني مجاهد في سبيل الله. . .! فاستضحكت وقالت: بل قل: عيني مجاهد يهزم كل يوم شيطانا أو شياطين.
إني لأرقص وأغني، ولكن أتدري ما الذي يحرزني من العاقبة، ويحميني من وباء هذا الجمهور المريض النفس؟ فاعلم أني لا اشعر بالجمهور، ولا بروح المسرح، إلا كما اشعر بروح المقبرة والمشيعين إليها؛ فهيهات بعد ذلك هيهات! ومن هذا لا أحس بقلوبهم ولا بشهواتهم، وما أنا بينهم إلا كالتي تؤدي عملا فنيا على ملأ من الأساتذة الممتحنين، والنظارة يحكمون لها أو عليها؛ فهي في فكرة الامتحان، وهم لأنفسهم فيما شاءوا. . .
ولست أنكر أن أكثرهم، بل جميعهم يخطئ في طريقة تناوله السيال الكهربائي المنبعث من نفسي، ولكن لا علي، فهذا السيال نفسه ينبعث مثله من الزهر، ومن القمر والكواكب، ومن كل امرأةجميلة تمشي في الطريق، ومن كل جميل في الطبيعة، وحتى من الأمكنة والبقاع إذا كان لإنسان فيها ذكريات قديمة، أو نبهت ببعض معانيها بعض معانيه.
قالت الياقوتة: فإنما كما ترى؛ اضطرب وجوها من الاضطراب في جذب الناس ودفعهم(57/7)
معا. وإذا سلمت المرأة من أن يغلبها الطمع على فكرها سلمت من أن يغلبها الرجل على فضيلتها. وفي النساء حواس مغناطيسية كاشفة منبهة خلقت فيهن كالوقاية الطبيعية، لتسلم بها المرأة من أن تخطر عفتها لغرض، أو تغرر بنفسها لإنسان؛ فانك لتكلم المرأة، وتزين لها ما تزين، وهي شاعرة بما في نفسك، وكأنها ترى ما في قلبك ينشأ ويتدرج تحت عينيها، وكأنه في وعاء من الزجاج الرقيق الصافي تحمله على كفك ويفضح، لا في قلب من لحم ودم تخفيه بين جنبيك فيطوي ويكتم.
وليس يبطل هداية هذه الحاسة في المرأة إلا طمعها المادي في المال والمتاع والزينة؛ فان هذا الطمع هو القوة التي يغلب بها الرجل المرأة، فبنفسها غلبها: وإذا تبذل طمع امرأةفي رجل فهي مومس، وان كانت عذراء في خدرها.
ويا عجبا! إن وجود الطبيعة في النفس غير الشعور بها؛ فليس يشعر المرأة بتمام طبيعتها النسائية إلا الزينة والمتاع وما به المتاع والزينة. فكان الحكمة قد وقتها وعرضتها في وقت معا، لتكون هي الواقعة أو المخطرة لنفسها، فبعملها تجزي، ومن عملها ما تضحك وتبكي. قالت الياقوتة: ولذا أخذت نفسي إلا اطمع في شيء من أشياء الناس، وسخوت عن كل ما في أيديهم؛ فما يتكرمون علي إلا بهلاكي، وحسبي أن يبقى لعيني قلبي ضوؤهما المبصر.
وأنا اعتمد على شهامة الرجل، فان لم أجدها علمت أني بازاء حيوان إنساني، فأتحذروه حذري من مصيبة مقبلة. وإذا جاءني وقح خلق الله وجهه الحسن مسبة له، أو خلقه هو مسبة لوجهه القبيح، ذكرت أني بعد ساعة أو ساعات أقوم إلى الصلاة، فلا يزداد مني إلا بعد وان كان بازائي، فاغلط له واتسخط، واظهر الغضب واصفعه صفعتي.
قلت: وما صفعتك؟
قالت: إنها صفعة لا تضرب الوجه ولكن تخجله.
قلت: وما هي؟
قالت الياقوتة: هي هذه الكلمة: أما تعرف يا سيدي أني أصلي وأقول (الله اكبر) فهل أنت اكبر. . .؟ أأقيم لك البرهان على صغارك وحقارتك، أأنادي الشرطي. . .؟!
تختنق بالرقص وتنتعش بالصلاة، وفي كل يوم تختنق وتنتعش. ولكني لا أزال أقول:
أفي الممكن هذا؟(57/8)
أفي المترادت شرعاً! رقصت وصلت. . .؟
مصطفى صادق الرافعي(57/9)
أزمة الكتاب ومصير الكتب
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كان القرن التاسع عشر عصر الآلات والاختراعات الصناعية، فحلت الآلة مكان اليد العاملة في معظم الصناعات، وحرم ملايين العمال من العمل اليدوي، وساد البؤس في الطبقات العاملة، واستمر هذا التطور طول النصف الأخير من القرن الماضي حتى استقرت الصناعة أخيراً على قواعدها الجديدة، وحل العمل النفي والآلي مكان العمل اليدوي.
واليوم نشهد انقلابا عظيما آخر في مصير الإنتاج العقلي؛ فقد كان (الكاتب) حتى أوائل هذا القرن أهم وانفس غذاء علي للطبقات المثقفة، وكانت قراءة الكتب المختارة أسمى وأمتع وسائل التربية والتهذيب والرياضية العقلية، ولكن التطورات العلمية والأدبية والاجتماعية التي حدثت منذ الحرب الكبرى كان لها اثر كبير في تطور الذوق الأدبي أو بعبارة أخرى في قيمة الكتب وفي مركز القراءة وميول القراء. وليس من ريب في أن الكتاب قد فقد اليوم كثيرا من سحره وقيمته المادية والاجتماعية، وقل الإقبال كثيرا على اقتنائه وقراءته، ولكن ذلك لا يعني أن منسوب القراءة قد هبط، فالقراءة بالعكس قد كسبت من هذا التطور بصفة عامة، وزاد منسوبها بلا ريب تبعا لازدياد نسبة المتعلمين في مختلف الأمم؛ وإذا كان الذوق الأدبي قد تطور وخسر الكتاب القيم كثيرا من قرائه، فان أولئك القراء تحولوا إلى ألوان جديدة من الأدب الحفيف والى قراءة الصحف والمجلات. والواقع أن الصحافة أول وأقوى العوامل الجديدة التي آثرت في مركز الكتاب ومدى انتشاره. ففي ربع القرن الأخير تقدمت الصحافة تقدماً عظيماً، وغزت كل ميادين التفكير والعلوم والفنون، ولم تبق دوريات خبرية فقط؛ ومعظم الصحف اليومية السياسية، في جميع الأمم، تخصص للأدب والنقد والعلوم والفنون والمسرح والاقتصاد والمالية والرياضة صحفا خاصة حافلة بمختلف البحوث والشذور القيمة، هذا عدا القصة الصغيرة اليومية، وعدا الرواية المسلسلة، وعدا الصور الكثيرة؛ ثم هنالك المجلات الأدبية والعلمية، الأسبوعية والشهرية، وقد بلغت مدى عظيما من التقدم والذيوع، وأضحت مسرحا لأعظم الاقلام، ومعرضا لمختلف البحوث وأهمها. وتمتاز المجلة على الكتاب بتنوع مادتها، فهي تجمع بين الفصول الأدبية والعلمية(57/10)
والسياسية، والقصة والمسرح والأزياء، ويكاد كل عدد منها يكون كتابا مستقلا بذاته، وهي دائما متنوعة متجددة ترضي مختلف القراء والأذواق بأكثر مما يرضي الكتاب الموحد الفكرة والموضوع، والصحافة الأدبية هي بلا ريب اشد خصوم الكتاب ومنافسيه، واشدها تأثيراً في مركزه ومدى انتشاره لأنها تبدو في بعض ألوان من الكتاب، وتأخذ بالسهل الموجز منها، حتى انك لترى أحياناً موضوعات وبحوثا خطيرة تشغل في الكتاب مجلدا أو مجلدات تلخصها المجلة في فصل لا يتجاوز عدة صفحات، وربما كان ملخصها مؤلف الكتاب ذاته؛ هذا إلى ما تتوخاه المجلة من اختيار الموضوعات الشائقة والأساليب السهلة التي تغري كثيراً من القراء على تفضليها على الكتاب.
هذه المنافسة الأدبية القوية كانت وما تزال شديدة الوطأة على الكتاب، ولم يكن في وسع الكتاب أن ينافسها، لأنها تجري طبقا للعوامل النفسية وطبقا لتطور الظروف الاجتماعية؛ أضف إلى ذلك المسالة الاقتصادية اعني مسالة الثمن، فالصحف والمجلات تعرض بضاعتها الأدبية على الجمهور بأثمان بخسة يستطيع إن يؤديها الملايين، معتمدة في ذلك على كثرة انتشارها وما تجنيه من أجور الإعلانات. ولكن الكتاب القيم لم يستطع حتى اليوم وليس في الإمكان ان ينزل إلى هذا المستوى. نعم حاول كثير من المؤلفين والناشرين أن يسايروا هذا التطور في الذوق الأدبي، فعمدوا إلى إخراج الكتب السهلة الموجزة، والى معالجة الموضوعات العلمية الخطيرة في أساليب خفيفة عادية مما يعرف اليوم بتبسيط العلوم، وهي طرية تعالج بها اليوم اخطر واعقد الموضوعات العلمية في الصحف والمجلات، وان كانت لا تؤديها دائما بما يجب من الدقة والتحقيق، وكذلك عمد كثير من المؤلفين والناشرين إلى إخراج الموضوعات الخطيرة العلمية والسياسية والاجتماعية وغيرها في ملخصات صغيرة، وفي فصول متناثرة، أو إلى جمع القطع المختارة في كتاب وأحد ليكون له بذلك ما للمجلة أو الصحيفة من التنوع، وعمدوا فوق ذلك إلى إخراج هذه الكتب في طبقات شعبية رخيصة لتكون في متناول جميع الطبقات، ومن المعروف أيضاً أن كثيراً من كتاب القصص العالميين يخرجون اليوم كتبهم في طبعات شعبية عديدة، ويتحرون اختيار القصص والحوادث المثيرة والشائقة، وكثير منهم يفضل كتابة القصص الشرطية، وقطع السينما لأنها تدر عليهم أرباحا حسنة. والخلاصة ان الكتاب اضطر تحت(57/11)
ضغط هذه المنافسة الشديدة التي شرحناها أن يتطور نوعا وان يساير الذوق الأدبي والظروف الاجتماعية الجديدة. ولكنه مع ذلك لا يزال بعيداً عن أن يسترد مركزه أو يقاوم هذا التيار الجارف الذي يهدد مركزه وقيمته وتقاليده وقد غدت السينما والراديو من اشد خصوم الكتاب، ففي السينما تلخص أو تمسخ أمهات القصص حتى يمكن إخراجها في صور تلائم الجمهور، ولا يقع الجمهور منها إلا على الجانب القصصي، ولا يلمس شيئا من قيمتها الأدبية أو الفنية الهامة، وتذاع فيه ملخصات عن معظم المباحث والموضوعات الخطيرة التي تعني بها الحركة الفكرية، ومزيته في انه ينقل ذلك كله للسامع وهو جالس في مكانه الوثير في المقهى أو المنزل، لا يكلفه عناء القراءة، وخطره على الكتاب والحركة الفكرية في أن الإذاعة الموجزة السهلة تمسخ معظم الموضوعات العلمية والأدبية التي تتناولها، وتصرف بذلك ملايين السامعين عن قراءتها وتتبعها في مصادرها القيمة.
وفي ظل الطغيان السياسي الذي يسود اليوم بعض الأمم المتمدنة تواجه الحركة الفكرية ويواجه الكتاب اشد المخاطر والأزمات، ففي بلاد كإيطاليا وألمانيا وتركيا وبولونيا وروسيا تسودها النظم (الدكتاتورية)، وتخمد الحريات السياسية والفكرية، تصطبغ الثقافة والتفكير بنفس الألوان التي يفرضها الطغيان وتقتضيها مصلحته وغاياته السياسية؛ وحيثما تنعدم حرية الفكر، تخبو حركة التأليف الحر وتغدو الصحافة والمفكرون والكتاب طوعاً أو كرها جنود النظام القائم، ويطارد المفكرون الأحرار، وتطارد كتبهم بلا رافة؛ وفي ظل هذه الأنظمة الطاغية، التي يزعم فيها الطغاة وأعوانهم انهم يعبرون عن رغبات الشعب وأماله وتفكيره، يختفي الإنتاج الفكري القيم ويتحول إلى نوع من الأدب الذليل الخاضع، يشيد جله بالطغاة ونظمهم ومبادئهم وأعمالهم. وقد شهدنا من مناظر هذا الاضطهاد الفكري في العهد الأخير ألوانا شنيعة في ألمانيا، في ظل الطغيان الهتلري، حيث طورد جميع المفكرين والكتاب الذين لم يسايروا الطغيان الجديد ولم يرتضوا فظائعه، ففر منهم من فر خارج ألمانيا، وقتل من قتل، واعتقل من اعتقل؛ وشرد كثير من أقطاب الأدب الألماني المعاصر، وحظرعلى دور النشر الألمانية أن تتعاقد معهم أو تنشر لهم شيئا، ومنعت كتبهم من التدأول، واحرقت كتب كثيرة في أوائل عهد النازي في شوارع برلين على نحو ما كان يجري في العصور الوسطى على يد محاكم التحقيق؛ والخلاصة إن الإنتاج الأدبي في(57/12)
ألمانيا قد أصيب في عهد الطغيان الهتلري بضربة مميتة، وأضحت الثقافة الألمانية والأدب الألماني الحاضر والصحافة الألمانية الحاضرة صورة متماثلة مملة للمبادئ والنظريات والآراء التي يفرضها الطغيان السياسي يمر الإنتاج الأدبي دائما بهذا الدور، ويصاب التأليف بمثل هذا العقم والتماثل ويواجه الكتاب اشد المحن.
وهنالك أخيرا روح العصر؛ فعصرنا عصر سرعة ورياضة، والسرعة تدفع كل الناس بلا هوادة، وشغف الرياضة يستغرق اهتمام الشباب وفراغه؛ فلا يجد من الوقت أو الرغبة ما يحمله على التماس القراءة، ولا سيما القراءة الرزينة الهادئة. وإذا أتيحت للشباب فرصة القراءة اليوم فماذا يقرأ؟ الكتب أو المجلات الخفيفة، المبتذلة غالبا، لأنه لا يقرأ وإنما يقرأ للهو فقط، ولا يريد أن يبذل جهودا عقلية في استيعاب كتب الثقافة الرفيعة، وهذه الروح السيئة بلا ريب، من أقوى العوامل في صرف أنظار الشباب عن الكتاب.
وهل نحن بحاجة للقول بان جميع ما قدمنا من العوامل والظروف ينطبق على سير الحركة الفكرية والإنتاج الأدبي في مصر كل الانطباق؟ إن الكتاب يواجه في مصر نفس الأزمة الخطيرة التي يواجهها في جميع الأمم المتمدنة؛ وقد صرفت الصحافة والمجلات الأدبية والقصصية ولا سيما المجلات الخفيفة والماجنة أنظار الشباب عن القراءة الرزينة المفيدة؛ وافسد الأدب المبتذل، ولا سيما الأدب الجنسي ذوق الشباب وعقليته، فأنحط مستوى تفكيره وتقديره؛ وأضحى الكتاب القيم لا يجد بكل أسف بين الشباب كثيرا من الأنصار. أضف إلى ذلك ظرف مصر الخاص وهو انتشار الأمية فيها، وضعف نسبة المتعلمين إلى حد لا يزال يزري بكرامتها، ولولا إن الشعوب التي تتكلم العربية التي نكتب بها في مصر تبلغ زهاء سبعين مليوناً، لكان خطب الإنتاج الأدبية العربي مضاعفاً؛ ومع ذلك فالمعروف أن الكتب العربية القيمة تواجه اشد الأزمات، وان الكتاب الذي لا يطبع منه سوى ألفي أو ثلاثة آلاف نسخة يمكث أعواماً طويلة قبل أن تنفذ نسخه بين السبعين مليوناً من الشعوب التي تتكلم العربية والخلاصة أن الكتب تواجه اشد أزمة عرفتها في العصر الحديث. وقد تتفاقم هذه الأزمة، ويزداد ذيوعه كساداً، ولكن الكتاب لا يمكن مع ذلك أن يختفي أو يموت. ذلك أن الكتاب قد ولد مع المدنية الإنسانية، ولبث مدى العصور اقدس متنفس للذهن البشري، وما دام الذهن البشري ينتج ويعبر عما يجول فيه، فلا بد من التجائه إلى الكتاب،(57/13)
وقد مر الإنتاج الفكري ومرت الكتب خلال العصور المظلمة بمحن شديدة، ولاذت بالاختفاء أيام الغزوات البربرية في عهد الهون والوندال، ولبثت في الأمم الأوربية مدى قرون تقبع في ظلمات الاديرة، ولم تجد متنفساً وملاذاً إلا في الدول الإسلامية، في ظل المدنية الإسلامية الزاهرة؛ واستمرت محاكم التحقيق (التفتيش) عصورا تجد في مطاردة التفكير الإنساني وفي مصادرة الكتب وحرقها؛ ولكن هذه الخطوب والمحن كلها لم تخمد جذوة التفكير الإنساني، ولم تقض على حياة الكتاب؛ وخرج الكتاب ظافرا من هذه المحن، وجاءت المطبعة في فجر العصر الحديث فاستطاع بعونها أن يغمر العالم؛ ولم تقو عصور الطغيان ونظمه على مغالبة الذهن البشري؛ فإذا كان الكتاب يجوز اليوم أزمة فكرية اجتماعية، نظرا لتطور الحياة والاختراعات العلمية، فتلك أزمة مؤقتة، سوف يتاح للكتاب أن يتغلب عليها متى استطاع أن يهيئ نفسه للسير مع الظروف الجديدة في ألوان لا تغض من قدره ورفيع مكانيه.
محمد عبد الله عنان المحامي(57/14)
إبراهيم بك مرزوق ومحمد سعيد بك
بقلم الأستاذ محمود خيرت
نقلت الرسالة في عددها الرابع والخمسين ما دونه المغفور له تيمور باشا من حياة المرحوم إبراهيم بك مرزوق وانه كان شاعرا مجيدا نظم كثيرا من المقطوعات والقصائد. ولكنه مع توسع في ذكر مولده ونشأته وأدوار تقلبه في مناصب الحكومة أوجز كثيرا في حياته الأدبية مقتصرا على ان المرحوم محمد بك سعيد هو الذي جمع ديوانه ونشره في سنة 1387هـ، فلم يتعرض إلى شيء من شعره ليعيطنا صورة ريانة من تلك الحياة.
وقد كنت أود لو أن بين يدي ديوان هذا الشاعر الذي لم اهتد إليه في المكاتب، فاسد هذا الفراغ، ومع ذلك فانه لا يزال عالقا في ذهني منه هذان البيتان:
لم يُرضِني الهجرُ حتى ... عُمر الحبيب تقضى
والأرض ضمَّتهُ قبْلي ... يا ليتني كنت أرضا (أرضى)
وقد لا يكون هذا القدر القليل كافيا للحكم على هذا الشاعر من حيث ميوله المختلفة في مجموعها وعلاقتها بالبيئة التي عاش فيها، ولكنه على كل حال شاهد صدق على ما كانت عليه نفسه من الرقة وكان عليه أسلوبه من الفخامة والحلاوة والسهولة، فهذان البيتان مع انهما من المجزوء تضمنا قصة بحالها يجول فيها الحب وجناته والهجر وأناته، والموت وأظفاره، والدمع وانهاره، وهو بين الحبيب الذاهب، واليأس الغالب، يعود باللائمة على نفسه التي لم تقنع بالهجر وتجد لذاتها فيه، حتى ضمته الأرض قبل أن تضمنه حنيا قلبه الشجي المحترق، وهو مع كل هذا لا يفوته الحكم الصناعة فيخرج لنا جناسا لا نحس عنده جهدا ولا تكلفاً ولا مللاً، يجمع بين الندم على عدم الرضى، والحسرة على فوز الأرض بالحبيب من دونه.
على أن الذي هداني إلى هذا الديوان وأنا فتى هو نفس المرحوم محمد سعيد بك الذي عنى بجمعه ونشره، فقد كان كثيرا التردد على المرحوم جدي، (وكان صديق أبيه)، وكان من تردده علينا أن حبب إلى نفسي قرض الشعر في ذلك العهد.
ولقد كان محمد سعيد بك واسع الاطلاع غزير المادة فياضا مجيدا. اذكر انه زارنا مرة فوجد معي قريبا جميل الطلعة، فمال علي هامساً في إذن ي ما اسمه؟ قلت مصطفى، وعند(57/15)
ذلك انفرد بنفسه في ركن من الغرفة، حتى إذا مضت أربع دقائق اقبل علي يقول بصوت خافت: اسمع، ثم أنشدني هذا البيت:
وأعطشني وجدي إلى رشف ريقه ... لفرط صبابتي فمذ قال مُصْ طَفَى
ومن شعره رحمه الله في سيدة رثاها:
أيها المغرور بالدنيا اعتبر ... فبوعظ كم ينادى الزمن
بينما الإنسان في الدنيا إذا ... قائلٌ هذا فلان يدفن
ها هنا درة خدر فارقت ... قصرها الزاهي وهذا المسكن
أنشد الرضوان في تاريخها ... رحمة الله عليها جلشنُ
وجمل عجز البيت الأخير يعطيك تاريخ السنة التي توفيت فيها تلك السيدة، وإذا علما ان محاولة الحصول على التاريخ عند قرض الشعر من الأمور المعقدة التي لا يمكن فيها الجمع بين التاريخ وحلاوة الشعر أدركنا من هذا الشعر مقدرة هذا الشاعر الكبرى في تذليل هذه الصعوبة، فان إرسال الرحمة في هذه الصيغة التي ألفها الناس وذكر اسم المرثية والحصول مع ذلك على التاريخ المطلوب في شعر من بحر الرمل حلو الألفاظ والمعنى كاف للتدلي على مكانته. ولق بل من مقدرة محمد بك سعيد انه نظم مرة قصيدة من عشرين بيتا كان كل صدر وكل عجز منها تاريخاً، وقد سمعت ذلك من جدي رحمه الله، وكان وقتئذ وكيلا للمطبعة الأميرية، ولعل هذه القصيدة منشورة بالوقائع الرسمية التي كانت تنشر وقتئذ له وللمرحوم الليثي وغيرهما من الشعراء.
وقد روى لي محمد سعيد بك رحمه الله انه هو الذي وضع القطعة الغنائية المشهورة التي مطلعها:
بستان جمالك من حسنه ... أبهى وأجمل م البستان
على خلاف ما شاع بعد وفاته من أنها للمرحوم إسماعيل باشا صبري هؤلاء الناس الموفقون في الأدب والشعر قد لا يعلم الناس عن كثير منهم شيئاً، وهكذا يذهبون وتذهب معهم آثارهم. روي لي المرحوم السيد مصطفى لطفي المنفلوطي ان كتبة محكمة الإسكندرية الشرعية كان رئيسهم (الباشكاتب) في وقت ما رجلا نسيت اسمه خفيف الروح جيد الشعر، ولكنه كان مولعا بالشراب. وقد صادفه مرة أحد أصدقائه وهو يحتسي في(57/16)
حانوت خمار فطلب إليه أن يسايره حيث هو ذاهب (وكان لا يزال في القنينة نحو ثلثها) فأبى قائلاً وبلسانه التواء من اثر السكر.
مضى بها ما مضى من عَقل شاربها ... وفي الزجاجة باقٍ يطلب الباقي
ولا أدري إذا كان هذا البيت من مقولة أو قديم، ولكنه على كل حال دليل على سرعة ارتجاله أو سرعة خاطره.
ومما يدل على ظرف هذا الرجل أن حضرة القاضي رئيس المحكمة كان معتاداً أن يقبل الموظفون (وهو معهم) يده عند كل صباح. ولكنه بلغه مرة انه مدمن على الخمر، وانه يعترض في الطرقات الفتيات المتجرات بالهوى، فغضب عليه وأسرف في تعنيفه حتى إذا ضاقت نفسه خرج من صمته صائحا ليكن ما بلغ فضيلتك عن صحيحا فمالك وسلوكي في غير أوقات عملي. وعند ذلك جن جنون الشيخ وصرخ فيه ان اخرج من هنا. أنت طالق. أنت طالق. أنت طالق. . .!
وفي صباح اليوم التالي لم يره الشيخ مع باقي الكتبة فتذكر ما كان من أمره معه بالأمس، وأرسل في طلبه، ولكنه أبى أن يحضر فذهب إليه بنفسه، وعند ذلك أسرع صاحبنا فغطى وجهه بطرف ثوبه. . . وفي هذه الحركة من حسن الإشارة ما فيها بعد صدور ذلك اليمين. . .
رحمهم الله جميعاً
محمود خيرت
بقلم قضايا وزارة المالية(57/17)
في ربوع جوته وفرتر
من الرسالة
فرنكفورت - صباح الأحد 8 يونيو سنة 1924
. . . الأسرة التي أقيم فيها مؤلفة من أرملة وأولادها: بنتين وصبيا أصلهم من الريف، من وتسلار حيث كان جوته موظفاً، وحيث عرف شرلوت واحبها، وكتب الأم فرتر - نزحوا إلى فرنكفورت طلبا للعيش، وسأقص عليك الآن قصة كبرى الابنتين، ويبلغ عمرها أربعة وعشرين عاما -
عرف قلبها الحب وهي في السادسة عشرة حينما كانت في وتسلار، وأحاطت بحبها ظروف قاسية اضطرته ان يتزوج من سواها، فلم تطق البقاء في وتسلار فرحلت إلى فرنكفورت تبحث عن وظيفة. . . وتبعها شاب من مواطنيها كان يحبها ولا يجرؤ على التصريح لها بحبه. تبعها ليدرس بالجامعة، واصطحبا وتكتم الحب ثلاث سنوات قضي اثنتين منها في ميدان القتال، فلما انتهت الحرب عاد إلى فرنكفروت ليتم دراسته، وعادت علاقة فلتر بحبيبته تيا
باح لها بحبه وطلب يدها، وظنت هي أنها تحبه فأجابته بالقبول، وتمت الخطبة، ومرت سنتان وهو يستعجل الزواج فتؤجله محتجة بغلاء الأثاث وهبوط قيمة المارك في ذلك الحين، فلما زاد إلحاحاً صارحته برغبتها في فسخ الخطبة، لأنها لا تستطيع أن تجد معه السعادة التي تنشدها، فهي مادية وهو خيالي، هي تحب الرقص ولا تفهم الموسيقى، وهو يحب الموسيقى ولا يعلم الرقص، فكانت بينهما القطعية.
وهنا انقل إليك أيها الصديق قطعا من رسائله التي كتبها بدموعه بل بدماء قلبه، والتي أطلعتني الأم عليها ذات مساء وتركتها لدي ليلة لأقرأها.
يقول فلتر في خطابه الأول: (مهجور! أنا مهجور! وما أطول الليل على مهجور مثلي في هذه المدينة الكبيرة! لو كنت في قرية صغيرة لخرجت إلى الجبال والغابات أشكو إليها حبي وأحدثها عن بؤسي، ولكني في هذه المدينة الكبيرة إذا خرجت لا أجد إلا السكارى وهم عائدون آخر الليل إلى مساكنهم، والنساء الخليعات وهن يتسكعن في زوايا الطرق وعلى مقاعد المتنزهات) وعلم أن (تيا) أخذت ترفض تسلم كتبه، فكتب إلى أمها يقول:(57/18)
(قول لتيا إنني ساكون من نفسي شخصا آخر كما تحب هي أن أكون. قولي لها إنني تقدمت في دروس الرقص وأصبحت غيري بالأمس. قولي لها تسمح لي بان أراها مرة واحدة، وسوف لا أحداثها عن حبي ولا اذكر لها شيئاً عن الماضي. قولي لي ترحمني فإني بدونها لا يمكنني أن أعيش. اسأليها عن ذنبي لديها، فان كان لي ذنب غير شدة حبي فسأكفر عنه بدمي وحياتي).
وكتب في ثالث: (في مثل الغد ولدت، ولقد تعودت منذ خمس سنوات أن أتناول هديتي من المحبوبة (تيا) قبلة وعهدا على حبنا، قولي لها إنني انتظر هديتها غدا، وان تسمح بالعودة إلى مثل ما كنا. سأحضر بنفسي إليكم وكلي امل، فاستحلفكم إلا تصدموني في كل آمالي).
وعلمت انه لما حضر رفضت تيا أن تقابله فأرغمتها أمها على ذلك، فأساءت لقاءه، فكتب إلى أمها: (قولي لها تجربني شهرا وأحدا، وسولا لا أحدثها عن حبي، غدا تبدأ حفلات بيتهوفن السنوية. ذكريها إنها لما سمعتها لأول مرة، وكانت معي بكت. . . وفي تلك الليلة حدثتها لأول مرة عن حبي. . . لقد اشتركت لها ولي، وسأمر بكم غدا لأرافقها).
ولما بلغه إنها تخطب إلى آخر كتب إلى أمها:
(أني آمل وآمل ولا أستطيع أن أيأس قبل أن يضع القسيس على رأسها إكليل الزواج من غيري، أمل لأن حبي لها لا يفنى، ولأني بدون هذا الشعور لا أستطيع أن أحيا).
وكانت آخر رسائله هذه الكلمات: (سوف تتزوج من غيري! أن هذا يطن في رأسي طنين حلم مروع، وما كنت لأتصور حدوثه يوما من الأيام، وهل هناك أحد في العالم يستطيع أن ينيلها من السعادة ما أستطيع؟. قولي لها أني أتمنى لها الهناء من صميم فؤادي، وان الشيء الوحيد الذي أحذره أن تذكرني يوما من الأيام بالأسف حين لا ينفع الأسف. . . وداعاً إلى الأبد!. . .).
وفي الشهر القادم موعد حفلة زفافها إلى خطيبها الجديد، دميم الخلقة، قصير، أعرج، ولكنه غني، فلقد كان أيام هبوط قيمة المارك يضارب - مع اليهود - على إسقاط عملة بلاده فأثرى وقد سمعتها أمس فقط تقولانها تأسف على فلتر، فصرخت أمها في وجهها تقول (ألم يكن ذلك من قبل؟.) فقلت لهما إنني أتعهد بأن أرده إليهم لأنه معي في الجامعة. فقالت الأم (هذا مستحيل، انك لا تعرفه، أن كبرياءه جرحت بلا شفقة، فلا يمكن أن يعود، انك لا(57/19)
تعرفه) - والحق يا صديقي انك لو رأيته لما رأيت إلا الكبرياء والعظمة، هو ليس بالجميل. . . طويل القامة كبير الوجه، واسع العينين، تحيط بهما هالة سوداء، بوجهه خطوط كثيرة وتجعدات عميقة، يتكلم بصوت خافت يكاد لا يسمع مع كبر جسمه، واظهر ما يتجلى عليه الكبرياء والتكتم، وقد سألته يوما عما ينوي عمله بعد حصوله على الدكتوراه فقال: انه سوف يرحل إلى أمريكا الجنوبية ليعيش هناك، فقلت له إلا يعز عليك مفارقة أهلك ووطنك؟ فأجاب (لا. ليس هنا أحد يهمه أمري).(57/20)
البغاء
بقلم حبيب المعوشي
لقد كثرت في هذه الأيام الأقاويل وتباينت الآراء في البغاء ومنعه من البلاد، وأقصاء البغايا الأجنبيات عنه عملا بقانون يسن لهذا الغرض. فمن مؤيدين لهذا القانون، ومن معارضين له، ولكل فريق فيما يدعيه حججه وبراهينه. فالذاهبون إلى تحريم البغاء مدنيا يقولون انه آفة الاجتماع ومصدر الفاحشة ومجلبة البوائق، وانه لحائل الكبير دون الزواج وتكوين الأسر، وانه العقبة القائمة في وجه كثرة المواليد إلى غير ذلك من الأدلة.
والقائلون مدنياً بإباحته يؤيدون دعواهم بأنه السور الذي يصون الكثير من شرف المحصنات، والحاجز الذي يخفف - أن لم يقف - الأعداء على شرف العذارى وأعراض الأسر. أما أنا فلست أريد بهذا المقال أن أؤيد رأيا أو أخالف آخر، ولكنني إجابة لطلب بعض الإخوان من الأدباء رأيت أن انشر بإيجاز ما اعرفه من هذا القبيل وما قيل بهذا الشان في العصور الخالية وما كان للبغايا لدى مختلف الأمم من المنزلة والمقام.
كانت البغايا في العهد القديم من بواعث الحمية في الرجال. فكن ينبهن فيهم الحماس البدني والنشاط العقلي ويحملنهم على الدفاع والجهاد والتضحية، والتفاني في سبيل الوطن والعقيدة. ففي حرب شعواء شهرت على قورونتية قامت البغايا في اليونان يشجعن الرجال ليذودوا عن الحمى، فهب الرجال هبة واحدة وخرجوا بحشدهم زمرا وكتائب لمواجهة العدو مستبسلين مستميتين بفضل حض البغايا وأغرائهن. ولم تقف البغايا عند هذا بل قمن وجذذن شعورهن - وكان الشعر في ذلك العهد انفس حلى النساء واجمل أزيائهن - وقدمنها قربانا للزهرة آلهة الجمال كي تساعد الإغريقيين على أعدائهم وتهبهم الفوز والظفر، وبفضل ما أبدينه من ضروب التضحية والحض والتنشيط واستفزاز الهمم انتصر الإغريقيون انتصاراً عظيماً، وعزوا أهم أسباب فوزهم للبغايا، فاكبروا عملهن واعلوا قدرهن - ومثل هذا كان يجري أيضاً في كثير من البلاد الأخرى بحيث خصهن رجال تلك العصور الخالية بالمكان الأول في الاجتماع وقالوا أن التمدين لا يقوم إلا بهن ولا يزداد انتشارا إلى بمعاونتهن، وقد شبههن بعض الكتاب الأقدمين بأريج ذكى يعطر الجو ويولي مستنشقيه الاغتباط ويحرك فيهم الهمة والجرأة والإقدام.(57/21)
وظل فيهن على هذا حتى ظهر الدين المسيحي فحرمت النصرانية البغاء تحريما مطلقا وجعلت من أهم أسس الكمال في الدين قهر الجسد وكبح الشهوات البدنية، ومنذ العهد الذي انتشرت فيه هذه تعاليم أخذ نجم البغايا في الأفول، وبدأ مجدهن في الزوال، فأرمت كنيسة المسيح بنبذهن من الاجتماع، فأقصين من المجالس، واضطهدن وحقرن، حتى غدون أحط من سقط المتاع وعند ما كانت الأوبئة كالطاعون والهواء الأصفر تتفشى في العالم أو تصيب الأمم نكبات ومجاعات كان الناس ينفون البغايا من البلاد ويرهقونهن بألوان العذاب ويذيقونهن شر الميتات ظنا منهم انهم بما يفعلون يلطفون غضب السماء.
ففي بعض البلاد كان الزواج محرما على البغايا، وفي بعضها كانت البغايا يعزلن في الحظائر شأن المواشي، وفي عهد البابا بولس الرابع أي في القرن السادس عشر كان الشبان الأشراف في إيطاليا يعدون التغاضي عن حرق منازل العهر عارا وفضيحة.
وفي مدينة تولوز في فرنسا كانت البغي التي تجرؤ على اجتياز عتبة أحد الأديرة تعد جانية فيقبض عليها وتلقى في السجن، ثم تساق للمحاكمة فيحكم عليها بأقسى عقوبة.
وفي مدينة بوكير من أعمال فرنسا أيضاً كان يفرض في كل عام على البغايا الجري عاريات في أحد الميادين إلى أن تنقطع أنفاسهن وتسكت دقات قلوبهن، وفي مدينة مانطو في إيطاليا كانوا يوجبون على البغي شراء ما تلمسه من الأشياء لدى مرورها في الأسواق بحجة إنها دنسته بلمسها ولوثته بيدها النجسة الذليلة وأفسدت تجارته على صاحبه. وفي هذه المدينة أيضاً كان يحتم على البغايا تعليق الجلاجل في أعناقهم عندما يطفن في المدينة أسوة بالمصابين بداء الجذام تنبيهاً للمارة كي يبتعدوا وتحذيرا لهم من العدوى.
هذا قليل من كثير مما كان يجري على البغايا في القرون الوسطى، ولكن عندما أخذ التمدين الحديث يتمشى في أنحاء العالم قل اضطهاد البغايا وأبيح لهن مخالطة الناس والظهور في المجتمعات والأندية والمجالس، بل عد البعض وجودهن من عوامل النهوض والارتقاء، وللبلوغ بالتمدين إلى أرقى درجات الكمال. السن هن اللواتي يبتدعن التأنق في المعيشة، ويطلقن الأزياء البديعة في العالم، ويروجن أسواق الحلي الغالية، والملابس الأنيقة، والمنسوجات الناعمة، والمطارف الثمنية، والمفروشات الفاخرة؟ أو لسن هن اللواتي يخرجن من خزائن الشيوخ الأشحاء ما اكتنزوه من تحف، وكدسوه من نفائس،(57/22)
وخبأوه من أموال، فيغدقنها على الأسواق وينتفع بها المجموع الإنساني.
هذه هي الكلمة التي توخيت نشرها في هذا الباب لعل فيها فائدة، ومنها يرى ان البت في تحريم البغاء أو إباحته يسلتزم كثيرا من التروي والتفكير لمعرفة أيهما افضل وأصلح للبلاد، ولا نخال حكومتنا وهي لم تزل مترددة في سن قانون التحريم إلا مواصلة الفحص والتمحيص حتى تهتدي إلى الأصوب والأنفع فتقره.
وبهذه المناسبة اذكر ما قاله ديموستين كبير خطباء أثينا، من ثلاثة وعشرين قرنا ونيفا - في النساء والبغايا وما يبتغيه الرجال منهن وهذا تعريبه:
(نحن الرجال، بحاجة إلى ضروب ثلاثة من النساء: المرأة الرشيدة المثقفة لنشغل بها العقل ونلهي بها النفس والمرأة البارعة في الجمال لنرضي بها الحواس ونسكن ثورات الجسد.
والمرأة الصالحة الحكيمة لتلد لنا البنين وتدبر لنا المنازل). وقد رأى أن وجود البغايا في البلاد ضروري لاستفزاز همم الرجال إبان الحروب لأن المحصنات قد يحجمن عن ذلك كيلا يعرضن أزواجهن وفلذات أكبادهن إلى الهلاك.
وقال أحد علماء الفرنسيين وكتابهم في البغاء وفي الدفاع عن البغايا ما معناه:
(ينحى الناس باللائمة على البغي التي تبيع جسدها وينبذونها ويصمونها بالعار، ويمطرونها وابلا من السب والثلب، على حين ان الكثيرين منهم يببعون عقولهم وأفكارهم وضمائرهم، فإذا كان العقل في حكم الناس افضل من الجسد وأسمى منه منزلة، فلماذا يحجم عن نبذ ممتهنيه ويغضي عن تعيير بائعيه، بينا ان بيعه اجلب للعار والثلب والاستنكاف من بيع الجسد.؟
ثم لماذا نرانا نجل من الرجال العظام والعلماء الأعلام من باعوا فكرهم وحريتهم وأباحوا عقولهم لقاء الدرهم. أليس هؤلاء ادعى للاحتقار والازدراء والنبذ من البغي التي تبيع جسدها وهو المادة الدنيئة الحقيرة الخاضعة للعقل ودونه قيمة ومقاماً.؟
اجل، ولكن بينا الناس يتخطبون في الخطأ والغواية ويعمهون في كثير من الضلال، وشر الضلال احتقار المرأة البائعة جسدها وإجلال الرجل الذي يسلم للعار عقله وفكره وضميره وحريته الوطنية والأدبية.
فلا مراء أن في هذا الكلام حقائق يحسن النظر فيها وتعاليم يجدر بالعاقلين والنابهين التسليم(57/23)
بصحتها والاستفادة منها - سدد الله خطواتنا وهدانا سواء السبيل.
حبيب المعوشي(57/24)
مخترع الرقاص منجم مصري
للأستاذ قدري حافظ طوقان
يعتقد كثيرون أن الرقاص (بندول الساعة) من مخترعات العالم الإيطالي الشهير غاليلو (1564 - 1642م)، وان هذا العالم أول من استطاع ان يستعمله ويستفيد منه. وهؤلاء الكثيرون يستغربون إذا قيل لهم أن هذا غير صحيح، وان الفضل في اختراعه يعود إلى عالم مسلم عربي، عاش في مصر ونشأ على ضفاف النيل، وقد سبق غيره في استعماله في الساعات الدقاقة، وبذلك يكون غاليلو مسبوقا بهذا الاختراع بستة قرون. أقول انهم يستغربون وأزيد على ذلك وأقول انهم قد يستهزئون، ولكن ما كان لنا أن نجرؤ فننسب هذا الاختراع الجلي إلى العرب لولا اعترافات المنصفين من علماء الإفرنج، فإذا تصفحت كتاب تاريخ العرب للعالم الفرنسي المنصف سيديو تجد نصا صريحا بأسبقية العرب في اختراع الرقاص: (. . . وكذا ابن يونس المقتفي في سيره أبا الوفاء ألف في رصد خانته بجبل المقطم الزيج الحاكمي، واخترع الربع ذا الثقب، وبندول الساعة الدقاقة). وكذلك يقول (تايلر و (سدويك ان العرب استعملوا الرقاص لقياس الزمن.
من هنا يستنتج أن سبقوا غاليلو في اختراع الرقاص وفي استعماله في الساعات الدقاقة. أنا لا أقول أن العرب وضعوا القوانين التي تسيطر على البندول، ولا أقول انهم وضعوا ذلك بقالب رياضي على الشكل الذي نعرفه الان، ولكني أقول انهم سبقوا غاليلو في اختراع الرقاص وفي استعماله، وفي إيجاد علاقته بالزمن؛ وفوق ذلك كان لديهم فكرة عن قانون الرقاص (قانون مدة الذبذبة). يقول سمث العالم الأمريكي في كتابه تاريخ الرياضيات في ص 973 من الجزء الثاني ما يلي: (ومع أن قانون الرقاص هو من وضع غاليلو إلا أن كمال الدين بن يونس لاحظه وسبقه ففي معرفة شيء عنه، وكان الفلكيون يستعملون البندول لحساب الفترات الزمنية أثناء الرصد. . .).
يظهر مما مر أن العرب عرفوا شيئا عن القوانين التي تسيطر عليه، ثم جاء من بعدهم غاليلو، وبعد تجارب عديدة استطاع أن يستنبط قوانينه، إذ وجد ان مدة الذبذبة تتوقف على طول البندول وقيمة عجلة التثاقل، ووضع ذلك بشكل رياضي بديع وسع دائرة استعماله وجني الفوائد الجليلة منه.(57/25)
وأخشى أن يختلط الأمر على القارئ فيظن ان كمال الدين بن يونس هو نفسه ابن يونس الذي ذكره سيديو، مع أن هذا خلاف الواقع، فكمال الدين بن يونس كان (علامة زمانه، وواحد أوانه، وسيد الحكماء، قد أتقن الحكمة، وتميز في سائر العلوم). ولد في الموصل سنة 1156م، وتوفى بها سنة 1242م، وتلقى العلم في بغداد في المدرسة النظامية. كان ذا اطلاع واسع على العلوم الشرعية، وتعين مدرسا في الموصل، قرأ الطب والفلسفة (ويعرف من فنون الرياضة من اقليدس، والهيئة والمخروطات والمتوسطات والمجسطى وأنواع الحساب المفتوح منه والجبر والمقابلة والارثماطيقي بطريق الخطائين، والموسيقى والمساحة، معرفة لا يشاركه فيها غيره إلا في ظواهر هذه العلوم دون دقائقها والوقوف على حقائقها، واستخرج في علم الأوفاق طرقا لم يهتد إليها أحد. . .).
ولنرجع الآن إلى ابن يونس المصري، فهو مخترع الرقاص، واسمه أبو سعيد عبد الرحمن بن احمد بن يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري. كان من مشاهير الرياضيين والفلكيين الذين ظهروا بعد البتاني وأبي الوفاء البوزجاني، ويعده سارطون من فحول علماء القرن الحادي عشر للميلاد، وقد يكون اعظم فلكي ظهر في مصر، ولد فيها وتوفى بها سنة 339هـ - 1009م. ويقول بعض معاصريه انه كان ذا طباع شاذة، يضع رداءه فوق عمامته، إذا ركب ضحك الناس منه لسوء حاله وشذوذ لباسه، (وكان له مع هذه الهيئة إصابة بديعة غريبة في النجامة لا يشاركه فيها غيره، وكان متفننا في علوم كثيرة، وكان يضرب على العود على جهة المتأدب). وهو سليل بيت اشتهر بالعلم، فأبوه عبد الرحمن بن يونس كان محدث مصر ومؤرخها، وأحد العلماء المشهورين فيها، وجده يونس بن عبد الأعلى صاحب الأمام الشافعي، ومن المتخصصين بعلم النجوم. وقد عرف الخلفاء الفاطميون قدر ابن يونس وقدروا علمه ونبوغه، فاجزلوا له العطاء وشجعوه على متابعة بحوثه في الهيئة والرياضيات، وقد بنوا له مرصدا على جبل المقطم قرب الفسطاط، وجهزوه بكل ما يلزم من الآلات والأدوات، وأمره العزيز الفاطمي أبو الحاكم أن يصنع زيجاً، فبدأ به في أواخر القرن العاشر للميلاد، وأتمه في عهد الحاكم ولد العزيز، وسماه (الزيج الحاكمي). ويقول عنه ابن خلكان (وهو زيج كبير رأيته في أربعة مجلدات، ولم أر في الازياج على كثرتها أطول منه). ويعترف سيديو بقيمة هذا الزيج فيقول: إن هذا الزيج(57/26)
كان يقوم مقام المجسطي والرسائل التي ألفها علماء بغداد سابقا. ويقول سوتر الشهير في دائرة المعارف الإسلامية: (ومن المؤسف حقا انه لم يصل إلينا كاملا، وقد نشر وترجم (كوسان) بعض فصول هذا الزيج التي فيها أرصاد الفلكيين القدماء، وأرصاد ابن يونس نفسه عن الخسوف والكسوف واقتران الكواكب). وكان قصده من هذا الزيج أن يتحقق من أرصاد الذين تقدموا وأقوالهم في الثوابت الفلكية، وان يكمل ما فاتهم، وان يضع ذلك في مجلد كبير جامع (يدل على أن صاحبه كان اعلم الناس بالحساب والتسيير). وابن يونس هو الذي رصد كسوف الشمس وخسوف القمر في القاهرة حوالي سنة 1978م، واثبت منها تزايد حركة القمر، وحسب ميل دائر البروج، فجاء حسابه اقرب ما عرف إلى أن أتقنت آلات الرصد الحديثة.
وأصلح ابن يونس زيج يحيى بن أبي منصور، وعلى هذا الإصلاح كان تعويل أهل مصر في تقويم الكواكب في القرن الخامس للهجرة.
وبرع ابن يونس في المثلثات وأجاد فيها، وبحوثه فيها فاقت بحوث كثيرين من العلماء، وكانت معتبرة عند الرياضيين، ولها قيمتها الكبيرة في تقديم علم المثلثات. وقد حل أعمالا صعبة في المثلثات الكروية واستعان في حلها بالمسقط العمودي للكرة السماوية على كل من المستوى الأفقي ومستوى الزوال. وهو أول من استطاع ان يتوصل إلى إيجاد القانون الآتي في المثلثات الكروية:
1 1
جتاس جتاص=_ جتا (س + ص) +__ (س - ص)
22
وكان لهذا القانون قيمة كبرى عند علماء الفلك قبل اكتشاف اللوغارتمات، إذ يمكن بواسطته تحويل عمليات الضرب إلى عمليات جمع، وفي هذا بعض التسهيل لحلول كثير من المسائل الطويلة المعقدة. وفي زمن ابن يونس استعملت الخطوط المماسة في مساحة المثلثات. ويقول سيديو: (ولبث ابن يونس يستعمل في سنة 979 إلى سنة 1008م إضلالاً أي خطوطا مماسة، وإظلال تمام حسب بها جداول عنده تعرف بالجداول الستينية، واخترع حساب الأقواس التي تسهل قوانين التقويم وتريح من كثرة استخراج الجذور المربعة. . .)(57/27)
وهو الذي اخترع الربع ذا الثقب، وبندول الساعة الدقاقة، وفوق ذلك فوق كان ينظم الشعر نأتي على بعض منه للتنويع، فمن قوله في الغزل:
أحَملُ نشر الريح عند هبوبه ... رسالة مشتاق لوجه حبيبه
بنفسي من تحيا النفوس بقربه ... ومن طابت الدنيا به وبطيبه
لعمري لقد عطلت كأسي بعده ... وغيبتها عني لطول مغيبه
وجدّد وجدي طائف منه في الكرى ... سرى موهناً في خفَية من رقيبه
نابلس
قدري حافظ طوقان(57/28)
ذكرى أدبائنا
بقلم محمد محمد مكين
كتب الدكتور زكي مبارك في البلاغ ينصح أصدقاء شيخ العروبة بجمع ما تناثر من مقالاته وبحوثه وضمها في كتاب، وخشي في نهاية الأمر أن يلحق بشيخ العروبة ما لحق حافظا وإسماعيل صبري من إهمال ونسيان. وكتب الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني مقالاً أرسله من لبنان يذكر فيه انه خجلان لأن إخواننا السوريين يخلدون ذكرى الأمام الشيخ محمد عبدة ونحن نهمله. وكتب الأستاذ احمد حسن الزيات في الرسالة كلمة بكى فيها حظ الأدب والأديب وما يلاقيان من جحود وإنكار. وكتب الأستاذ محمود الشرقاوي كلمة بمجلة الأسبوع عن المنسيين (من الأدباء) قال في ختامها انه يجب على كل أديب ان يعد نفسه كالذبيح ثم يموت مدحورا لا ينال حتى كلمة الذكر.
فهل يا ترى نستخلص من تلك المقالات إننا استيقظنا وتلمسنا تلك الظاهرة المعيبة - ظاهرة عقوق الأدباء وجحود العباقرة. . .؟ أخشى أن تكون اليقظة يقظة الموت.
نعم مات حافظ فلم نوفه حقه ولم نقم بالواجب نحوه، ووالله إن أبناء العروبة في أمريكا لخير منا ألف مرة، فقد قاموا بواجبهم نحو حافظ وشوقي خير قيام.
ومات من قبله الأديب محمد السباعي وذهب كأنه لم يخلق، وكأنه لم يخلق آثاراً أدبية لو كانت أمة غير مصر لصعدت بها إلى الأوج.
وانتقل إلى جوار ربه المرحوم احمد باشا تيمور، وفضله على الأدب والعلم غير منكور، فماذا قدمناه لإحياء ذكراه؟
ورحل المرحوم إسماعيل صبري عن هذه الدار، وما زال شعره متفرقا لم يجمع في ديوان.
تمضي الأعوام فنحي المنفلوطي بطعنات داميات، ونرمي خير الدين يكن بالمروق، ونتهم جبران بالسخف. ثم ننسى البارودي، وصروف، وجورجي زيدان، وحفني ناصف. ولولا وفاء أبناء دار العلوم لذهب شعر عبد المطلب هباءً منثوراً.
اذكر من سنين قليلة أن أدباء مصر أرادوا الاحتفال بذكرى ابن خلدون فتقاعست همهم، وقام أدباء المغرب على ما اذكر بذلك العمل الجليل. واذكر انهم يتحدثون عن الاحتفال بذكرى المتنبي والمعري. فهل تراهم يفلحون؟(57/29)
ها هو ذا عام 1934 عام حافل بالذكريات. فيه مناسبات كثيرة لإحياء ذكرى أدبائنا وعلمائنا. ففي هذا العام كانت مناسبة صالحة لذكرى قاسم امين، ولكنها ضاعت بكل أسف فلم نفعل أكثر من كتابة مقالات تافهات نشرتها الصحف وذهبت بذهاب الأمس. على إن في ذلك عبرة، هي إن دعوته لما تثمر الثمر الطيب، وإلا لعرفت المرأة المصرية قدر محررها فقامت بواجب غفل عنه الرجل.
أقول أن عام 1934 عام حافل بالمناسبات، ففيه يكون قد مضى خمسة عشر عاما على وفاة جفني ناصف، ويكون قد مضى عشر سنين على وفاة المنفلوطي.
وفي أغسطس القادم يكون قد مضى عشرون عاما على وفاة جورجي زيدان. وفي ديسمبر القادم يكون قد مضى ثلاثون عاما على وفاة أمير الشعراء محمود سامي البارودي.
وفي هذا العام يكون قد مضى حولان على وفاة حافظ وما يزال (يقتضي أصدقاءه المخلص حفلة التأبين وتأليف الكتاب).
فماذا نعد لهذه المناسبات؟ أندعها تمر فنضع رؤوسنا في الرعام ونرمي بأنفسها في وهدة الذل والصغار، أم ننهز هذه الفرصة ولا ندعها تفلت من أيدينا؟
لست ادري ماذا تفعل جماعاتنا الأدبية على كثرتها حتى تهمل ذلك الواجب المقدس؟ أحق عليها ما كتب بمجلة كل شيء في عددها الأخير من إن جماعاتنا الأدبية تقوم على صرح واه لأنها ترمي إلى أغراض تلعب فيها الحزازات الحزبية والمآرب الشخصية الدور الأول!! وانه ينقصها روح التعاون والقدرة على كبح جماح العواطف الشخصية في سبيل الفكرة التي تعمل من اجلها الجماعة. . . إلى جماعة الأدب العربي، وجماع أبولو، والى أعضاء لجنة التأليف والترجمة والنشر أتوجه بالرجاء أن يعالجوا ذلك النقص المعيب، فهم خير من يعهد إليهم ذلك الأمر.
وأخيراً اذكر الأدباء قاطبة بان يفوا لأسلافهم حتى يفي لهم إخلافهم. وإلا كان مصيرهم مصير من سبقهم: جحود وإنكار ونسيان.
طنطا
محمد محمد مكين(57/30)
جولة بين أطلال بومبي
للأديب حسين شوقي
كانت بومبي المدينة التي يقصدها سراة روما وعظماؤها للمتعة واللهو، لما توافر فيها من أسباب ذلك، كما يقصد اليوم المترفون من الغربيين ساحل الرفييرا الساحر. . .
وقد يرى المتجول بين أطلال بومبي آثار الطريق التي كانت تصل روما - حاضرة الدولة الرومانية العظيمة - ببومبي. . .
وبومبي اليوم تبعد كيلو مترات قليلة عن البحر، أما في زمانها الغابر فقد كانت تشرف على البحر، كما كانت ترسى في مينائها يخوت أقيال الرومان الأنيقة.
وبومبي التي لم يزد عدد سكانها على خمسة وعشرين ألف نسمة، كان فيها من المسارح والحانات والحمامات العامة وأماكن المصارعة ما يجذب النفس ويستهوي الفؤاد. . .
وكل ذلك باق أكثره على رغم الزلزالين الكبيرين اللذين منيت بهما بومبي من عشرين قرنا خلت. . .
وما اجمل الدور التي شيدها سراة روما في بومبي ليخلوا إليها في أوقات فراغهم للهو اللعب، وقد حليت أرضها وسماؤها بالفسيفساء الملون الرائع، وبالصور الزيتية الجميلة، المنقولة عن الاساطير، وقد شيد أكثر هذه الدور على طراز خليط من الطرازين الروماني والإغريقي. . . لأن الرومان اعجبوا بالحضارة اليونانية، فنقلوا منها إلى بلادهم فنونها، وآدابها، وديانتها. .! وقد بلغ إعجاب القيصر نيرون بالإغريق انه تعلم لغتهم فأتقنها، وكان يشجيه أن يغني بها، وقد وهب صوتاً رخيماً. . .
وقد شيدت هذه الدور على النظام الآتي: باب ضخم على الشارع، يلج منه الزائر إلى دهليز ضيق يوصل إلى فناء فسيح ليس له سقف، سوى سماء نابولي الصافية الزرقاء، وقد زين هذا الفناء بالأزهار النادرة، كما حلى بالتماثيل المرمرية الجملية التي تمثل الآلهة، وبعض هذه التماثيل لا يزال قائما في مكانه وبعضه هدمته الزلازل، والبعض الآخر نقل إلى متحف نابولي. . .
وفي وسط هذا الفناء تقوم نافورة من المرمر، يتفجر منها الماء عذبا سلسالا. . .
وحول جنبات هذا الفناء بنيت حجر الدار، وقد بلغت عناية القوم بأولادهم انهم أنشئوا لهم(57/32)
حجرا خاصة زينوا جدرانها بالصور الزيتية الفكاهية التي تلائم مزاج الأطفال. . .
كما أن بومبي كانت لها معابد فخمة صدعتها الزلازل فأودت بمعظم عمدانها الكورنتية الأنيقة. . . وقد شيدها القوم زلفى للآلهة حتى يغمضوا أعينهم عما يقترفونه من كبار الآثام الخلقية بين جدران هذه المدينة المتهتكة. . .
كذلك الآلهة المصرية ايزيس، التي ذاع صيتها في العالم القديم وعظم شأنها، لها معبد خاص في بومبي، وقد عبدها الرومان في صورة سيدة رومانية!
وقد شاهدت تمثالها في متحف نابولي. . .
وهناك حي للمتبذلات كن يقبلن من أهل المرح وعودهم بان يدفعوا شيئا. . . وشاهدت في إحدى الحجرات اسما منقوشا على الحائط يتعهد صاحبه بان يدفع الإتاوة في الزيارة المقبلة!
وشوارع بومبي مرصوفة مرصعة بالحجر، وقد وضعوا في مفترقاتها أحجاراً بعلو الأرصفة، ليعبر عنها المارة من الشعب في الأيام الممطرة، أما المترفون فكانوا يسيرون في عربات محمولة على أكتاف عبيدهم. . .
ولكن يلوح لي أن أهالي بومبي قد بالغوا في الاستهتار واقتراف الرذائل، حتى اغضبوا الآلهة عليهم برغم ما شيدوه لهم (رشوة) من معابد، فسلطوا على المدينة جارها الرهيب بركان فيزوف فزلزل أرجاءها، وأخذ يرميها بشواظ من النار السائلة والدخان الكبريتي الخانق، حتى تصدعت قصورها ودورها، وهلك معظم أهلها، وقد رأيت على عتبة إحدى تلك الدور أسرة قد أدركتها القارعة وهي على أهبة الفرار فتحجرت جثثها، وكانوا في فرارهم يحملون حليهم، ففنوا وبقيت هذه الحلي إلى اليوم معروضة في متحف نابولي، شاهدة على حرص الإنسان حتى وهو ملاق حتفه!
أي بومبي! أيتها المدينة الساحرة كنت هوة الأخلاق وبؤرة الرذيلة، فضربتك الآلهة، فأصبحت اليوم مثلا خالدا على الدهر جزاء فجورك، وما انبث في كل شق من شقوقك من دعارة وفساد. . .
أي بومبي! أيتها المدينة الفاتنة، لقد كان ما حل بك من عقاب عدلا، حتى لتجزع الطير من ان تحوم بين أسوارك رهبة وذعرا، على رغم مضى عشرين قرنا على نكبتك!(57/33)
أي بومبي! أيتها المدينة الخالدة! لا تجزعي على ما أصابك فالدنيا دول، فكم من مدن كانت اعظم منك شأنا، وارفع بنيانا اندثرت كان لم تكن، حتى أن بعضها تلاشى فلا يعرف الآن مكانه. . .!
حسين شوقي(57/34)
أدب الزراعة
للأستاذ محمد محمود جلال
ما زلنا نحس حنينا إلى الأدب، ولو أقصتنا ظروف الحياة عن بيئاته ومجامعه، ويهفو بألبابنا شوق ملح إلى كتبه ورسائله برغم الفارق الظاهر، والحجاب الذي تكاد تسدله شواغل الحياة في الزراعة والمال والاقتصاد. فنتلمس في أجوائنا جهد الطاقة نسيمه المنعش، وهو للروح حاجة كحاجة الزرع للماء.
والأدب في عرفي روح كل كيان، ولا ينقبض بفضله عن أي عمل أو مهنة، وإنما يتلون ويختلف باختلاف الأعمال والبيئات. وهو عنوان الحياة والذوق - فلا يعرض نفسه إلا لراغب الاجتلاء. وعندي انه شيء من التفهم، وحسن النظر يجده المرء ماثلا. ويجد غذاءه دافقا بغير من.
وها هي ذي رحمه الله تقرب البعيد، وتعوض من طرف ما يخال ضنا من طرف آخر. فتبسط لنا يده جل شأنه - فيما تبسط - من صحيفة الحقل قصائد عامرة الأبيات، شجية النغمات. وفي أمثال أخواتنا الفلاحين وإشاراتهم واستعاراتهم قطع من المنثور المليء بالمعاني الدقيقة القيمة، ولكن بالأسلوب الذي يتفق والنشأة، ويتسق مع البيئة.
رافقت مرة أحد مفتشي الجمعية الزراعية متعهدا حقلا للقطن من الزراعة الخاصة، سائرين خلف ناظر الزراعة، نطوف باحثين كل منا بقدر علمه، وعنينا جميعا بالتحقق من خلو الحقل من الآفات. ثم من النبات الغريب، وتدرجنا إلى حالة الزرع ودرجة العناية به. ثم إلى البذرة وانتقائها، والناظر في كل ذلك فخور بنتائج اشرافه، ينتظر الحكم في ثقة وثبات.
ظننا حين هنأناه بحسن عمله، أننا فرغنا وليس لنا إلا أن نعود أدراجنا!! وإذا بالناظر يغير السير، ويتجه إلى أقصى الجهة الشرقية في خطوات متئدة، وفي معان من التوسل للاقتداء به. ثم نظر نظرة هادئة إلى أسفل، أعقبها بإحدى أبعد مدى إلى الغرب، وقال يخاطب المفتش: (أرجو أن تنظر لترى النبات في خطوط لا تشكو عوجا؟ ثم انظر في أي ناحية، إلا تجد النبات في مستوى وأحد في الارتفاع؟
أليس هذا الحقل قصيدة إذن؟ أليست خطوط القطن مفصولا بينها (بالمساقي) المقاطعة لها - أبياتاً من الشعر من صدر وعجز؟(57/35)
ثم أليس في نغمة الناظر على سذاجتها شاعرية؟
أي والله! ولقد روحت عني هذه الملاحظة كثيرا من العناء، وسرى في جسمي ما يسري عندما اخرج من عملي مكدود الذهن، كليل الخاطر، فاقرأ قصيدة للمتنبي أو مقطوعة لشوقي بك رحمهما الله!
على أني بين مشاغل المادة من مرور وفحص وإرشاد، وبين متعة الأدب الذي خبرت فذكرت، لم أزل بين القطن، ولم اعد الحقل وفيه ريان، وذكرت قول شوقي بك في (باريس):
إن كنتِ للشهوات رياً فالعلى ... شهواتهن مُروَيات فيك
ولطالما عز القطن وعز معه زارعوه، فلم تكن تسمع بيننا إلا تنويها بذكره، وتدليلا لاسمه، ففاز من أدب الزراعة بأقشب الأثواب، وأجذب الأسماء والاشارات، فدعى (بذي العين البيضاء) وسمى (أبا الذهب).
حتى إذا دهمت الأزمة، وحلت الكارثة، في سنة 1931 بتدهور اسعاره، لم يبخل عليه أدب الزراعة (بذي القلب الأسود) فإذا تساءلت دهشا أو أنكرت عدم الوفاء لمن سبقت على الفلاح نعمه!! قيل لك: أو ليس بذوره سوداء حقا؟ أو ليست تقع من (اللوزة) في الصميم؟.
تقول هذا مجاج النحل تمدحه ... وان ذممت فقل قيء الزنابير
ألم ترى إلى حقل القطن في أواسط شهر أكتوبر، وقد كادت تجف سوقه وقد اشتد سواد لونها، ودنت قطوفها بيضاء تحلى عاطله وتلين من وحشة جفافه. أليست الأولى أشبه بالليل، جاءته الثانية نجوما ذات لألاء تخفف من قساوة ظلمائه، منتشرة بين أعاليه وأسافله وأواسطه هدى للساري.
فإذا حان القطاف، وانتشر في الحقل الصغار يجمعون ثمار عمل طويل الأمد، عوضوا من شدة السوق وآذاها طراوة القطوف لينة طيعة في بياض ناصع خلال سواد قاتم.
يمزج الوصل بالصدود وياما ... أعذب الوصل من خلال الصدود!
فإذا انتهى اليوم وقاربت الشمس المغيب، ففي آخر الحقل (الموازين القسط) منصوبة للعاملين، تحدد نتائج أعمالهم. وتحدد لكل ما يستحق من جزاء، ويؤجر الإنسان بقدر عمله. ولقد يمر الصبي وما جمع بأكثر من يد. فهذا ينظر إلى خلو الطقن من طين الأرض، وذاك(57/36)
يحقق خلوه من الرطوبة (عب الندى)، وآخر ينظر في النظافة عموما، كما يفعل جمهرة الأدباء وصفوة النقاد حين يطالعهم بديوانه شاعر، أو ينشر كتابه ناثر، فكل وذوقه، وكل وما يستسيغ من المعاني، فيرهفون أقلامهم بما يعن لكل منهم، وكل يؤدي أمانته.
بل ان اليوم الواحد في موسم (الجني) ليمثل رواية كاملة للدنيا. فمن جد للسعي، إلى تشعب للعمل، إلى تنافس فيه، إلى اختلاف في النظر والمذاهب، إلى وضع لنظريات الحياة، فينما فريق يجمع بكلتا يديه ما تصلان إليه ايا كان نوعه، إلى فريق ينتقي ويدقق عن يقين بماله ونتائج سعيه، فالأولون يفرحون بالكم، والآخرون يدخرون النوع والدرجة شفيعا إذا نقصت الموازين. في نهاية اليوم ما يشبه تصفية الحياة، والنظر في صحيفتها، فمن مقل مجيد، إلى مكثر مسيء، إلى سابق بالخيرات.
ثم ما هي إلا لحظات حتى لا ترى للازدحام أثراً، وينصرف كل بما افاد، ويتفرق الجمع إلى مختلف الجهات، وتمر أيام قليلة فتجعل من تلك البقاع التي تشبه المناجم الغنية، أحطاباً سمراء مهجورة، ثم تحيلها الأيام هشيما تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدرا.
محمد محمود جلال(57/37)
الرسالة
للأديب احمد علي المكي
كان صدور (الرسالة) فتحا جديدا في الأدب العربي، وخطوة كبيرة في ميدان العلوم والفنون، وهي الآن في شكلها الحاضر تعد آية في غزارة موادها، وحسن طبعها، وأنيق رسمها، وسحر مقالاتها، وبديع منظرها، ومنظر غلافها الرائع.
وإذا أنعمنا النظر إليها من حيث مركزها الأدبي في الوقت الحاضر، نجدها - مع قرب صدورها - قد أصبحت في طليعة المجلات العربية الأدبية، وكونت لنفسها مركزا ساميا، بين كثير من أخواتها التي مع قدمها لا تزال سائرة متطلعة إلى مثل هذه الدرجة العالية والمنزلة الرفيعة.
وصدورها في (مصر) العربية - التي لها الحق في ان تفتخر وتزهى على بقية الأقطار العربية بكثرة مجلاتها المتنوعة، ووفرة جرائدها المختلفة - لم يكن حاجزا دون انتشار صداها في عموم البلاد العربية وأبنائها، ولم يمنعهم وجود البون الشاسع، والحواجز الطبيعية الجغرافية، وتفرقهم في مختلف الأقطار، من أن يجعلوها (منبرا) عاما لنشر ثمار قرائحهم الوقادة، وعصارة أفكارهم الثاقبة، ونتائج تجاربهم الأدبية والعلمية، وآرائهم القيمة العالية، واقتباساتهم الطريفة الظريفة، من الثقافة العربية لملائمة للذوق العربي الشرقي.
خذ أي عدد من أعدادها الثمينة فلن تجده إلا عنوانا للرابطة الأدبية العربية الوثيقة. فهذه المقالة لكاتب مصري بليغ، وتلك قصيدة منشأة أو مترجمة عن الإنجليزية أو الفرنسية لشاعر في سوريا أو العراق أو الموصل، من غير أن تتعصب لطائفة مخصوصة - شأن كثيرة من المجلات - أو تقديم كاتب وطني على غيره، أو التشدق بالنعرة الوطنية.
هذه الظاهرة الجليلة التي امتازت بها هذه المجلة الغراء تحملنا على أن نسميها بحق: مجلة العالم الأدبي العربي - ولا تتجاوز سياج الحقيقة والواقع، إذا سميت بهذا الاسم أو اتخذته شعارا لها.
وهذه الميزة الواضحة السامية، هي التي ألجأتني وحفزتني إلى كتابة هذه الأسطر، مع إظهار الأسف الزائد إذ لم تقع عيني وأنا أراجع الفهرس للسنة الأولى، وأتتبع إعداد السنة الثانية على اسم كاتب حجازي يكون قد اشترك مع إخوانه وزملائه المعاصرين في الأدب،(57/38)
على صفحات هذه الصحيفة الغراء، ليساهمهم في هذه النهضة العلمية الفكرية المباركة، وليتعرف إليهم، ويعرفهم بنفسه، وإلا يكون بعيدا عنهم، إذ هو اقرب الناس إلى هذه المجلة الراقية علاقة ورابطة، وأحوجهم إلى الاشتراك في مثل هذه الخدمات الأدبية الجليلة، وباشتراكنا معهم يمكننا أن نؤمل من مديرها المفضال الأستاذ الزيات، إذا أراد أن يشيد بذكر أبناء الرافدين والنهرين إلا ينسى (الحرمين) كذلك.
مكة المكرمة
أحمد علي(57/39)
مهمة الناقد
بقلم نظمي خليل
شغلت الصحف في الأيام الأخيرة ببعض الدواوين الشعرية وانبرى النقاد والكتاب لهذه الدواوين بالعرض والتحليل. وهذا أمر مألوف، فقد اصطلح الناس على أن يتناولوا كل اثر فني جديد يعرضون له تارة في شيء من التقدير والإعجاب، وتارة في شيء من التحقير والسخط، وحجة كل ناقد أو مستوعب لهذا العمل الفني انه يراه كذلك، وان ذوقه الأدبي يوحي له بهذا.
ولست أريد اليوم أن اسلك هذا الطريق أو أتناول ديوانا من هذه الدواوين بالعرض أو النقد. ولكني أريد أن أتساءل في هدوء ما فائدة النقد وما مهمة الناقد؟
لا ارغب من طرح هذا السؤال أن أثير ضجة في ميدان النقد، أو أن أحط من شأن النقاد، ولكني أتساءل مخلصا ما الفائدة الحقيقة التي تعود على الفن من نقد النقاد وتحليلهم؟
لقد انحط فن النقد عندنا حتى صرنا نرى الناقد لا يعدو أحد رجلين: رجل يكيل المدح في كرم وسخاء، وآخر يرمي بالشتائم والهجاء اللاذع المؤلم في غير تحرج ولا استحياء، وليس هذا عمل الناقد الفنان، فما كان النقد في يوم من الأيام مدحا أو هجاء، ولن تكون مهمة الناقد في يوم من الأيام أن يقف من الأثر الفني موقف من يقول انه حسن أو انه قبيح، ولكن الناقد الفنان هو الذي يستوعب ويقف على هذا الخلق الفني سواء في الأدب أو النحت أو التصوير أو الموسيقى، ويقول لماذا هو حسن وأين موضع القبح فيه.
ويجب عليه إلا يبني حكمه هذا على ذوقه الشخصي، فلو اعتمد النقد على الذوق فقط لنالته الفوضى وعمه الفساد. ولكن النقد لابد له من قواعد وأصول تقوم بجانب هذا التحكم الفردي فتخفف من غلوائه وتوقفه عند حده. ولست اذهب إلى ما ذهب إليه تين المؤرخ الفرنسي من أن زماناً معيناً ومكاناً معيناً وجواً معيناً تنتج أدباً خاصاً. فأنا لا أريد أن احشر النقد في زمرة العلوم، ولكني أرى انه لا يمكن أن يكون فنا خالصا يقوم على الذوق، أو علما محضا مرجعه القواعد والأصول.
أعود بعد هذا الاستطراد إلى سؤالي السابق الذي طرحت، والذي شغلني كثيرا ولا سيما في هذه الأيام، إذ لا يكاد ينقضي يوم حتى اقرأ في صحيفة أو أكثر من صحيفة بحثوا(57/40)
مستفيضة تارة عن ديوان (وراء الغمام) وتارة عن ديوان (الملاح التائه) وهكذا، أتساءل في شيء كثير من الإخلاص ما الفائدة الحقيقية التي عادة على أصحاب هذه الدواوين، ولست اعني بأصحاب الدواوين أشخاصهم ولكني اعني ملكة الإنتاج وقوة الإبداع فيهم.
هل استفاد هؤلاء الشعراء من تلك البحوث المستفيضة؟ هل زادت ثروتهم الفنية؟ هل نجد في آثارهم المستقبلة أثراً لهذه البحوث؟ ليس من شأني أن أتجعل الزمن فاحكم على آثار هذه البحوث ومواضيع النقد التي كتبت وتكتب حول هذه الدواوين. ولكني اعرض لكاتب من كبار كتابنا الذين ظهروا حديثا وهو الأستاذ (توفيق الحكيم) لم يكن هذا الكاتب معروفا لدى القراء قبل عام، ولكنه استطاع ان يتبوأ مكانة سامية بين كبار كتابنا في اقل من أسبوع، إذ ما كاد يذيع باكورة آثاره الفنية الرائعة (أهل الكهف) حتى ذاع صيته وعرف في كل مكان. وهنا ألقى السؤال (هل كانت شهرة الأستاذ توفيق الحكيم آتية من جانب النقاد الذين تناولوا روايته أو قصته التمثيلية في إعجاب وتقدير شديدين؟ أم من تلك المسرحية نفسها وما فيها من فن صاحبها وقدرته على تفهم أصول القصة والمحاورة؟.)
أني لا أتردد في الإجابة على هذا السؤال معلنا رأيي في صراحة أن شهرة توفيق الحكيم استمدت غذاءها من روح فضل أساتذة النقد عليه، فقد شادوا بفضله، ووقفوا الناس على فنان كان أمره مجهولا من الكثيرين.
ولكني أسال ما الذي عاد على فن الأستاذ الحكيم من هذا التهليل والتكبير. قد يكون أساتذة النقد أفادوا الأستاذ كمؤلف يريد أن يتعرف للجمهور ويتحدث عنه الناس ويقبلوا على شراء كتبه. وقد يكون أساتذة النقد أفادوا القراء بما استكشفوه في نتاج توفيق الحكيم من فن رائع وعبقرية كامنة. فأقبل القراء على مؤلفاته متزاحمين مدفوعين على قراءتها بما كتبه هؤلاء الأساتذة عنها. ربما كان في هذا الكلام الصواب كله أو بعضه، فكلنا يعرف أن القراء إنما يقرأون بالتأثير كما يتمغطس بعض المعادن من بعض.
فإذا قرأ القارئ كتابا واعجب به أخذ يبدي هذا الإعجاب لمن حوله فيثير فيهم الرغبة القوية لقراءة هذا الكتاب. وهو لا يقنع بهذا ولا يهدأ حتى يقبل أصدقاؤه على هذا الكتاب، وق يكون الأمر على عكس ذلك، فقد يقرأ قارئ كتابا فيضيق به ويسخط على صاحبه ثم هو لا يبقى على هذا السخط في نفسه بل يخلق المناسبات لإعلانه في المجالس وفي الأندية(57/41)
والمجتمعات، ثم هو لا يرتاح ولا يستقر حتى يجد من يشاركه هذا السخط والضيق بالعاطفة والشعور سواء أكانت هذه العاطفة جميلة أو غير جميلة. وسواء كان هذا الشعور في جانب صاحب الكتاب أو عليه.
وقد يكتب أحد أساتذة النقد مقالا يتناول فيه كتابا من الكتب بالبحث والتحليل فيستهوى هذا المقال لب قارئ من القراء - وقد يستهوى كثيرين - فيعلن هذا القارئ آراء هذا الناقد في ذلك الكتاب بين أصدقائه وإخوانه وتكون النتيجة أن يتزاحم هؤلاء الأصدقاء على قراءة هذا الكتاب مدفوعين بما سمعوا أو قرأوا عن هذا الكتاب. فيقرأونه وهم تحت تأثير هذا المقال. وأني أسوق إلى القارئ مثالاً على هذا.
كنت منذ أربعة أعوام اكره الشاعر (تنيسون) وأضيق به كلما هممت أن اقرأ شيئا من شعره. كان هذا منذ أربعة أعوام لم اكن قرأت قبلها نقدا أو تحليلا لشعر هذا الشاعر. قضيت على ذلك عامين وأنا اكرهه، بل كنت اقرأ كل من يذكر اسمه أمامي أو يعجب به، حتى كان لي مع الأستاذ (سكيف) أستاذ الدراما وشكسبير بكلية الآداب نقاش شديد حول هذه الكراهية الغربية. فأخذ الأستاذ يبسط لي جمال شعر ذلك الشاعر، ثم كان ان قرأت كتابه الصغير وهو ثلاث محاضرات كتبها مستوعبا بعض قصائده مقدرا فنه. فأخذ رأيي يتغير وأقبلت على قراءة شعر ذلك الشاعر في حب وتقدير عظيمين.
وأني اقف اليوم من الشاعر بروننج ما وقفته بالأمس من الشاعر تنيسون، ولست ادري أوفق إلى أستاذ كذلك الأستاذ أو إلى كتاب كذلك الكتاب يحبب إلى قراءة شعر هذا الشاعر، أو أني سأقبل عليه من نفسي أو أظل على انصرافي عنه بقية أيامي. أعود إلى سؤالي الأول (هل استفاد الأستاذ توفيق الحكيم شيئا من هذه الضجة الكبرى التي آثارها بمؤلفاته الثمينة. أني أرى أن الفائدة الفنية معدومة، ولكني مع ذلك لا أتجاهل فائدة النقاد للقراء وللمؤلف. للقراء كمرشد يأخذهم إلى مواطن الحسن الفني، وينبههم إلى مواضع الضعف ومواطن القبح، وللمؤلف كإعلان عن كتابه وكإشادة بفنه السامي.
ليس في هذا الكلام تعسف ولا مغالاة. وإني أرجو كل من يرى أو يخيل إليه انه يرى أن في هذا إجحافاً بحقوق النقاد إلا يثور ويحنق، بل أرجو منه أن يهدأ ويخلو إلى نفسه يسائلها هل غير الأستاذ توفيق الحكيم شيئا في فنه نزولا على رأي أو تنفيذا لنقد، هل(57/42)
تفتحت طبيعته عن أشياء كانت أثراً للنقد أو نتيجة لنصائح النقاد. هل زادت ملكة الإنتاج وقويت عنده بعد نشر هذه البحوث وكتابة هذه المقالات. كلا.
أرجو كل من يرى في هذا تطاولاً على النقد والنقاد إلا يحنق ويسخط بل يهدأ ويخلوا إلى نفسه يسائلها ما الفائدة التي عادت على فن شكسبير من مئات الكتب التي كتبت عنه. لقد كتب عن شكسبير ما لم يكتب عن أي إنسان آخر. وانك لترى اختلافاً كبيراً فيما كتب عنه. فمن النقاد من تناول حياة شكسبير الأولى ومنهم من تحدث عن شكسبير شاعر الإنسانية، وشكسبير الممثل، وشكسبير المؤلف المسرحي، وشكسبير المصور المبدع، وشكسبير الفنان وهكذا.
هناك مئات الكتب عن شكسبير وهناك عشرات الكتب كتبت في غرض واحد مثل شكسبير (المؤلف المسرحي) ولكنك لن تجد رأيين يتفقان، ولن تعثر على كاتبين قد سلكا مسلكا وأحدا في بحثهما، ثم أرجو أن تسأل نفسك هذا السؤال: (ما بال أولئك النقاد يصلون لياليهم بأنهارهم صامدين للبحث صابرين على الشدائد في هذه البحوث الطويلة المستفيضة؟ ستقول انهم يريدون أن يحلوا الغاز شكسبير ويشرحوه حتى يعرف الناس من هو شكسبير. ستقول انهم يريدون أن يحللوا مسرحيات شكسبير ويطبقوها على الحياة الواقعية التي نحياها كل يوم. يريدون أن يبرزوا مواهب شكسبير الفنية ودقة فهمه للطبيعة الإنسانية وما فيها من شتى العواطف والأهواء من حب وبغض وحقد وغيرة وحيرة ويأس وأمل وخيبة وخيانة وغدر. انهم يريدون أن يكشفوا عن اثر الطبيعة في فن شكسبير واثر الحياة الطبيعة في شعره.
انهم يريدون هذا وغير هذا، ولكن هل وفقوا إلى شيء من هذا الجواب. لا. لم يوفقوا إلى إزاحة الستار عن سر تلك العبقرية الشاذة وعن ذلك الفن الخالد. لقد كتب كثيرون عن مآسي كتب برادلي كتابه (المأساة عند شكسبير) وهو احسن ما كتب في هذا النوع: حلل في أبطال مآسيه الكبرى عطيل وهاملت والملك لير وماكبث. وكتب كثيرون غير برادلي عن فن شكسبير الدرامي أو التمثيلي. ولكن هل استطاع كاتب من مئات الكتاب ان يكشف الستار عن سر هذه العبقرية وجلالها؟ هل افلح كاتب من مئات الكتاب أن يقدم لنا صورة واضحة لنفسية هاملت الحائر وطبيعته العميقة وفلسفته الغامضة؟ هل استطاع كاتب أن(57/43)
يحدد لنا غرض شكسبير من مأساته الخالدة (الملك لير) وهل استطاع علم وظائف الأعضاء وعلم النفس الحديث أن يفسرا ظواهر الجنون في الملك لير وهاملت، وغرائز الغدر والخيانة في (ياجو)، والشعور بالغيرة في عطيل، ومطامع الإنسان في ماكبث؟ بل هل استطاع كاتب أو وصاف بارع أن يصف لنا شكسبير شاعر الطبيعة الفذ في كوميدياته: (كما تحبها). (وحلم ليلة في منتصف الصيف)، (والعاصفة) لا. لا. لقد اجهد مئات الكتاب أفكارهم في شرح رجل وأحد وفي تفهم نفسية فرد فلم يفلحوا. بل تشعبت بهم البحوث وتباعدت آراؤهم وتضاربت.
فعلام كان كل هذا الإجهاد والنصب؟ وعلام كان كل الاهتمام؟ لم يأت هذا الإجهاد بثمرة، ولم تكن لاهتمامهم نتيجة، فقد فشلوا جميعا وعجزوا عن تفهم روح الشاعر نفسه، عجزوا عن أدراك سر عبقريته.
فيا ليت شكسبير الذي أبدع كل هذا المسرحيات وجاء بهذه المعجزات الفنية في الشعر أراح أولئك النقاد وأراحنا نحن القراء، فكتب موجزا صغيرا لمآسيه وكوميدياته يشرح فيه فكرته وأغراضه، ولكن شكسبير معجزة الدهر قد أبى أن يقف الناس على أسرار فنه، ومن يدري؟ ربما لم يعرف هو نفسه من أمر فنه شيئا فمات وبقى لغزا لن يحل. فإذا القينا نفس السؤال (هل استفاد فن شكسبير من هؤلاء النقاد الذين يعدون بالمئات؟ كان الجواب بالنفي طبعاً، لأن شكسبير لم يعض حتى يرى هؤلاء النقاد، واغلب الظن انه لم يعن بأمر هؤلاء النقاد ولم يأبه بمعاصريه الذين تناولوا مؤلفاته بالنقد سواء المعجبون المشجعون أو الناقمون الحاقدون. فان شكسبير لم يكتب ليعجب النقاد أو يسخطهم، بل اغلب الظن انه لم يفكر في إغضابهم أو إعجابهم، وهذا شأن الفنان الحر الطليق لا يفكر إلا في نفسه وفي نفه ولا يأبه إلا لرأيه ولا يخلص إلا لفنه.
ولكني مع ذلك لا أنكر إن هذه المئات من الكتب التي كتبت عن شكسبير قد أعانت وستعين كل دارس لشكسبير؛ ستعينه بقدر ما وصل إليه هذا الكاتب من تفهم لروح شكسبير ووقوف على أسرار عظمته الفنية. أقول أعانت القارئ وستعينه، ولكنها لن تقفه على مواطن الإعجاز في شكسبير الأصيل، فلن يعرف قارئ هذه الكتب موطن الإعجاب بهاملت والغرض الأساسي الذي كتبت من اجله، وسيظل البطل هاملت حيرة الألباب والعقول ما(57/44)
بقى في العالم إنسان مفكر.
فإذا كان هذا أمر النقاد والشراح من الفنانين العظام، ففيم إذن تنحصر مهتمهم؟ هل لهم رسالة يؤدونها كالكتاب؟ في رأيي أن الناقد عالة على الكاتب، أرى أن الناقد شخصية ثانوية تعيش على غيرها؛ فلولا الكاتب لما وجد الناقد، ولولا الخلق والابتكار والإنتاج لما وجد النقد ولما سمعنا صياح النقاد الذي يصم الآذان. فلولا شخص وأحد كشكسبير لما وجد مئات النقاد الذين وان كانوا قد أرشدونا إلى بعض مواطن الحسن والإعجاز في فن شكسبير، إلا أني أرى أن هذه المهمة وإن كانت عظيمة الفائدة في ذاتها، اقل من أن تكون مهمة مئات من الرجل قد استمدوا حياتهم الفنية ووجودهم الأدبي من عبقرية فرد وأحد هو شكسبير.
نظمي خليل
بكالوريوس آداب(57/45)
جواب عن سؤال
الإلياذة والأوذيسة
. . . أشرتم في كتابكم (تاريخ الأدب العربي) إشارة موجزة إلى ديواني الإلياذة والاوذيسة. فهل تتفضلون وانتم. . . بكلمة في الرسالة عن موضوعي هذين الديوانين. . .
(سنغافورة) م. ع. خ
الإلياذة والاوذيسة منظومتان يونانيتان نسبتا إلى هوميروس، واستفاضتا في الشعوب والأجيال تحملان اثر العبقرية الإغريقية، وترددان صدى الحرب الطروادية، وتمدان الآداب العالمية بالغذاء والقوة. موضوع الإلياذة غضب اخيل، وهو حادث بسيط من حوادث حرب طروادة وقع في السنة العاشرة من حصارها، واستغرق وأحدا وخمسين يوما، تبتدئ بشجار اخيل وأغاممنون وتنتهي بقتل هكطور. وتنقسم هذه الملحمة إلى أربعة وعشرين نشيدا تمثلت فيها صور الحياة اليونانية بأساطيرها وعاداتها وآدابها جلية رائعة مؤثرة. وأهم أبطالها من الإغريق أغاممنون ملك أرجوس ومسينا وأمير الجيش، ومينيلاس أخو اغاممنون وملك اسبارطة، واخيل ملك الفذيوتيد، وبتروكل صديق اخيل، ونسطور ملك بيلوس، وأوليس ملك اتيكا؛ ومن الطرواديين هكطور وفاريس ابنا فريام ملك طروادة، واينوس حمو فريام الخ. وللآلهة في الإلياذة شأن خطير واثر كبير: فزحل ومنيرقفا مع الإغريق، وابولون والمريخ مع الطراوديين. فهم يدبرون القتال، ويحمون الأبطال، ويتقارعون فيما بينهم انتصارا لطائفة على أخرى. وملخصها أن أبولون سلط الوباء على معسكر الإغريق، فاعمل فيهم منجله انتقاما منهم على سبيهم بنت كاهنة كريريس. ثم جل الخطب بوقوع الخلاف بين اغاممنون واخيل من اجل سبيه نفسها الأول على الثاني فاستأثر بها دونه من غير حق. ولما عجز اخيل الباسل عن الأخذ لنفسه من امير الجيش اعتزال الحرب وهو يكاد ينشق من الغيظ والحنق، فرجحت كفة الطرواديين باعتزاله، وحالفهم النصر منذ استراحوا من قتاله. ودارت الدائرة على الإغريق فجرح ديوميد وأوليس، وأخذ هكطور يحرق أسطولهم وأحدق بهم الخطر من كل جانب. فلما رأى ذلك بتروكل استعار سلاح اخيل وصمد إلى العدو فأجلاه عن موقفه. إلا أن أبولون أسعف الطرواديين فتصدى للبطل فاسقط خوذته ونزع درعه، حتى امكن هكطور ان يضربه(57/46)
الضربة القاضية. وجاء نعى بتروكل إلى صديقه اخيل فسارع إلى الخنادق، وما كادت العيون تأخذه حتى وقع الرعب في قلوب الطرواديين، وسرت الحمية في نفوس الإغريق. فاستخلصوا جثة بتروكل، وشق على اخيل أن يطل دم صديقه، فصالح الزعماء وأزمع قيادة الجيش. وأرسل أمه إلى فلكان اله النار تأتيه منه بسلاح ولامة. فلما تسربل بالحديد خاص المعركة فأوقع بالطرواديين وقذف بهم في نهر الاجزنت، والتقى بهكطور فحمل عليه وقتله، ثم شده إلى مركبته وطاف به مسحوبا على وجهه حول جدران طروادة على مشهد من أسرته الضارعة الحزينة. ثم احتفل بعد ذلك بجنازة بتروكل؛ واوحى اله من الآلهة إلى فريام أبي هكطور ان يذهب إلى اخيل يسأله جثة ولده؟ فذهب الشيخ يسترحم البطل المنتصر، ويتوسل إليه بذكرى أبيه حتى رق له ورد إليه أشلاء القتيل.
أما موضوع الاوذيسة فهو مخاطر أو ليس بعد سقوط طروادة ورجوعه إلى اتيكا بعد أن عوقته عن هذه الأوبة أقدار الإلهة المعادين عشر سنين. وتنقسم هذه الملحمة إلى أربعة وعشرين نشيدا أيضاً، وقعت حوادثها في خلال أربعين يوما، وهي دون الإلياذة في الأسلوب والقوة والجاذبية، حتى كان هذا الاختلاف الشديد دليلا من أدلة الأستاذين الناقدين فيكو الإيطالي، وولف الفرنسي، على أن هاتين الملحمتين ليستا من صنع مؤلف وأحد. وملخصها أن أوليس لدى عودته من حصار طروادة حل عليه غضب نبتون اله البحر فأضله بين جزره وسواحله؛ وطال نزوحه عن وطنه حتى ندبه أهله وبكاه قومه، وحتى جرؤ الطغاة من الأمراء على أن يستبيحوا ذماره ويهلكوا ماله، ويكرهوا بنيلوب زوجه، على أن تختار أحدهم لها بعلا. وغضب تليماك ابن أوليس على حداثة سنه لانتهاك حرمته، وإنتهاب ثروته، وابتذال فنائه؛ فخرج في البحث عن أبيه عند رفاقه من أبطال طروادة، ائتماراً بمشورة الآلهة منيرفا. فذهب إلى نسطور في بيلوس، والى منيلاس في اسبارطة، فقص كل منهما عليه ما كابداه في أوبتهما من الأهوال، ونعيا إليه بتروكل واخيل واغاممنون واجاكس؛ اما أوليس فانهما لا يعلمان شيئا عن مصيره.
وكان أوليس في ذلك الحين أسيراً في جزيرة (اوجيجي) عند الحورية جاليبسو، فظفر بالنجاة على ظهر طوف، ولكن عاصفة هوجاء هبت عليه فقذفت به في ساحل جزيرة (الفياسين) على حالة بين الحياة والموت؛ فاقتاده أهلها إلى ملكهم السينوس، فقص عليه(57/47)
أوليس ما عاناه من الشدائد منذ غادر طروادة، فاعجب الملك بشهامته وفصاحته، واعد له سفينة أقلته إلى اتيكا، فلما وطئت قدمه أرضه تنكر في زي سائل، ونزل عند الشيخ (اوميه) حارس قطعانه؛ واتفق أن رجع تليماك إلى وطنه في ذلك الحين فلقى أباه وعرفه، وأخذ يديران الحيلة معا لهلاك أولئك الأمراء المعتدين بمعونة الخدم المخلصين. وكانت بنيلوب طوال هذه السنين قد نجحت في مماطلة هؤلاء الخطاب الملحفين بان علقت قبولها الخطبة على فراغها من الثوب الذي كانت تنسجه، وهيهات أن تفرغ منه، لأنها كانت تظل النهار كله تنسج فيه، حتى إذا جاء الليل نقضت ما نسجته. فلما طال الزمن وانقطع الرجاء من أوبة الغريب، وكلت الحيلة، وأهلك الخطابة الزرع والضرع، أوشكت ان تذعن لولا أن دخل أوليس متنكرا إلى قصره وفتك بأعدائه، وتعرف إلى زوجه الوفية بنيلوب، وجده الشيخ لابرت، وأخذ يجمع أهبته لمقاومة أهل المقتولين، إلا أن منيرفا حلت في شخص منطور صديق أوليس ومشير تليماك، فضمنت بحكمتها لمملكة اتيكا السلام الدائم والرخاء العميم.
(الزيات)(57/48)
11 - أعيان القرن الرابع عشر
للعلامة المغفور له احمد باشا تيمور
الشيخ علي الليثي
سيد الندماء
ولد سنة 1236، كما تحققه من بعض أفراد أسرته، كان في ابتداء أمره مقيما بمسجد الأمام الليث، وكان ينزل إلى الأزهر لطلب العلم، ويعود للمبيت هناك، وكان كريما على فقره. ثم ورد على مصر الشيخ السنوسي الكبير قاصدا الحج، فاتصل به، وأخذ عنه الطريق وحج معه، ولما عاد إلى مصر لم يفارقه. بل سافر معه إلى جغبوب، وأقام هناك مدة لم يفتأ فيها يطلب العلم ويستفيد. ثم فارقه وعاد لمصر، واتصل بأم عباس باشا الوالي فجعلته شيخا على مجلس دلائل الخيرات عندها. ثم اتصل أيضاً بالأمير احمد باشا رفعت بن إبراهيم باشا الكبير. فاعتقد فيه، واطلعه على خزانة كتب عنده، فاطلع على ما فيها واستفاد منها. وبسبب سفره إلى جهة المغرب اتهموه بمعرفة الزايرجة والاوفاق، فلما تولى سعيد باشا على مصر، أمر ضابط مصر عبده باشا بجمع من يأكلون أموال الناس بالباطل بهذه الخزعبلات، ونفيهم إلى السودان، فسيق المترجم معهم لما علق به من هذه التهمة، فبقى في السودان إلى أن عفى عنه وعاد لمصر.
ولما تولى إسماعيل باشا على مصر، تلالا نجم المترجم، وبدا سعده، فاتصل به، وقربه هو والشيخ عليا أبا النصر، وجعلهما نديمين له كنديمي جذيمة، وصار لا يصبر عنهما في مجالس انسه، فكانا إذا حضرا تلك المجالس أزاحًا الكلفة وتبسطا معه في القول والتندير، فكانت لهما في ذلك من النوادر ما يملأ الأسفار. وقد بلغ من شغفه بهما ان خصص لهما قاعة بديوانه يجلسان بها كأنهما من المستخدمين فيه. وحدث مرة أن أمر بكتابة ألواح على باب كل قاعة في الديوان، ليعرف من بها، كقلم التشريفات، وقلم التحريرات ونحوها، وسألهما العالم عم يكتبه على قاعتهما، فقال المترجم اكتب عليها: إنما نطعمكم لوجه الله. وبسبب تقرب المترجم من الخديوي قصده الناس في الشفاعات عند الكبراء، ونفع الله به خلقا كثيرا، جزاه الله عز مسعاه خير جزاء.(57/49)
ثم لما عزل الخديو، وتولى ولده محمد توفيق باشا، شغف أيضاً بالمترجم واحله محله من القبول. حتى كانت الفتنة العرابية وسفر الخديوي إلى الإسكندرية، فانضم المترجم إلى العرابيين اضطرارا أو اختيارا، فلما عاد بعد الفتنة لم يؤاخذه، وصفح عنه، وقابله المترجم بقصيدة مطلعها.
كل حالٍ لضده يتحوّل ... فالزم الصبر إذ عليه المعوّل
تبرأ فيها من الفتنة، وأبان عذره في الانضمام إلى العرابيين، فإنه كان إذا سافر إليه كل أسبوعين، ركب من هنا سفينة بحلوان، فانه كان إذا سافر إليه كل أسبوعين، ركب من هنا سفينة بخارية وذهب بها إلى ضيعة المترجم التي بشرق اطفيح، فيقيم عنده يوما ويتغدى فيها، وهو شيء لا يفعله مع غيره. ولهذا السبب اعتنى المترجم بتلك الضيعة، فغرس فيها البساتين والكروم، وبنى قصرا صغيرا لنزول الخديو، وحرمه وحاشيته، ولم يزل هذا شأنه معه حتى مات الخديوي، فلم يكن له حظ مع ولده عباس باشا، كما كان مع أبيه وجده، فجعل أكثر إقامته بتلك الضيعة، يشتغل باستغلالها ومطالعة كتبه، فإذا حضر لمصر نزل بداره التي بجهة باب اللوق، فيقيم بها أياما. ثم يعود، ولم يزل كذلك حتى اعتلت صحته وطال مرضه اشهرا، حتى توفاه الله إلى رحمته في يوم السبت 10 شعبان سنة 1313 عن سن عالية، وقد شبع من الأيام وشبعت منه، ونال من العز والجاه إلى مماته ما لم ينله غيره.
وكان رحمه اله أية في حسن المجالسة، محببا إلى القلوب، أديبا شاعرا، حاضر الجواب، فكه الحديث، إذا عرفه إنسان تعلق به، وكره مفارقته، مع انه كان دميم الصورة، اطلس، ليس في وجهه إلا شارب خفيف، وشعرات على ذقنه. ولما حضر لمصر السلطان برغش ملك زنجبار، فلازمه مدة مقامه بالقاهرة، واعجب السلطان به إعجابا شديدا. ثم لما عاد لبلاده. صار يتعهده بالرسائل والهدايا من العنبر ونحوه كل سنة، فيهدي هو بها أخصاءه وأصحابه وكذلك ما كان ينتج ببساتينه من غرائب الفاكهة، وأصناف الأعناب النادرة، كان موقوفا جميعه على الهدايا لا يبيع منه شيئاً. واقتنى خزانة كتب نفسية اجتمعت لها بالإهداء والشراء، والاستنساخ وغالي فيها، وبذل الأثمان العالية، فجلبت له من الأفاق وعرفه نجار الكتب والوراقون فحصوه بكل نفيس منها. ثم لما مات اقتسمها ورثته، وبقيت إلى الآن(57/50)
محبوسة تحت أيديهم لا ينتفع بها.
وكان أدباء مصر وفضلاؤها يقصدونه في تلك الضيعة، فينزلهم على الرحب والسعة، ويقيمون عنده الأيام والأشهر، وهو مقبل عليهم بكرم خلقه ولطائفه، ومحاضراته المستحسنة، وقد يقيم الإنسان عنده شهرا أو أكثر، وهو يؤنسه كل يوم بحديث جديد لا يعيده. وبالجملة فقل أن يوجد مثله، أو يجتمع لإنسان ما اجتمع له، مع الورع والتقوى خصوصا في أواخر أيامه رحمه الله رحمة واسعة(57/51)
الشيخ محمد شهاب الدين
المصريّ الشاعر
شريف النسب اشتغل أولا بالقبانة، ثم دخل المحكمة الشرعية تلميذا للتعلم، ومال للأديب، ونظم الشعر، وداخل الأعيان حتى اتصل بعباس باشا والي مصر، وتقرب إليه ومدحه بالقصائد فاحبه وقربه حتى صار كبير جلسائه وندمائه، وجعل له في كل قصر من قصوره حجرة يبيت فيها الليلتين والثلاث إذا كلبه للمجالسة والمنادمة، وأفاض عليه من نعمه، وقبل شفاعته حتى صار له بذلك جاه طويل عريض، وله معه نوادر غريبة، منها ان المترجم كان جالسا في حجرته مرة في أحد القصور، ومعه بعض جلساء الوالي ينتظرون الإذن بالدخول إليه، فقال في عرض كلامه، يقولون إن البغلة لا تحمل، أفلا يكون ذلك بسبب رطوبات أو ما أشبهما تعيق حملها؟ أفلا يكون ذلك بسبب رطوبات أو ما أشبهها تعيق حملها؟ وعند افندينا أطباء كثيرون، فلو انه اطال الله بقاءه أمر بعضهم بالبحث في سبب هذه العلة وأزالتها، فلست اشك في أنها تحمل بعد ذلك. وأسرع بعض العيون، فبلغ عباسا باشا كلامه، فجاءه بعد هنيهة أحد رجال القصر يقول له: يا أستاذ يقول لك أفندينا أننا سنأمر الأطباء بما اشرت، ولكن إذا لم تحمل البغلة ماذا يكون؟ فبهت القوم لنقل المجلس بهذه السرعة إلا المترجم، فانه وقف قال: بلغ أفندينا ان عبده شهابا له كذبتان كل سنة أيام البذنجان، هذه إحداهما.
وكان رحمه الله رقيق المزاج، أنيس المحضر، لا يمل جليسه من نوادره، وتلعق بعلم الموسيقى فبرع فيه، وأخذه عنه كثيرون وجمع فيه كتابا سماه سفينة الملك. وله ديوان شعر طبع بمصر، وكانت وفاته سنة 1274.
الشيخ محمد أبو الفتح الحنفي
مفتي الإسكندرية
ولد في أوائل القرن الثالث عشر، وطلب العلم بالأزهر على الشيخ الصاوي وغيره من شيوخ الوقت، ثم انتقل لرشيد وتزوج بها بنت السيد عباسي من مشهوري رشيد. وكان ملازماً للشيخ محمد البنا الكبير، فلما انتقل الشيخ إلى إسكندرية انتقل المترجم معه وبقى(57/52)
بها وانتخب أميناً لفتواها، وكان مفتيها إذا ذاك الشيخ الدويري، ثم لما مات الدويري تولى البناء الإفتاء فنقل المترجم لمنصب آخر، ولما مات البناء تولى هو إفتاء الثغر وبقى به إلى ان مات. وكان له شغف زائد بجمع الكتب واقتناء نفاسئها، حتى اجتمعت له خزانة نفيسة بيعت بعد موته بثمن بخس. وكان رأى بناته وزوجته إبقاءها فلم يرض ولده، فذهبت وتفرقت بعد ما عانى أبوه ما عانى في شرائها واستنساخها. وكان له ولع أيضاً بجمع الساعات فجمع منها نوادر وطرفا بيعت بعد موته أيضاً، ولم يترك شيئا من الحطام سوى دار بإسكندرية كان يسكنها في أواخر أيامه وكانت وفاته يوم الاثنين سادس شهر صفر سنة 1294 ودفن يوم الثلاثاء، ورثاه الشيخ عبد الرحمن الأبياري قاضي إسكندرية بقصيدة مطلعها:
أهذي سيوف الدهر جرّدها الدهر ... أما السنة الشهباء جفّ بها الزهر
ومن مؤلفاته كتاب تبويب الأشباه والنظائر لأن نجيم، وشرع في كتاب آخر في الفقه لم يكمله، وكانت له يد طولي في علم الميقات، وهو جد صاحبنا العالم الفاضل الشيخ حسن منصور لامه.
احمد تيمور(57/53)
في الأدب العربي
أبو العتاهية
بقلم عبد الحليم عباس
لا اعرف. ما هو هذا الشيء الذي يجذبني إلى قراءة هذا الشاعر، ومعاودة هذا القراءة الفينة بعد الفينة.
فليست جودة شعره هي كل شيء، فهناك من يفوقه طلاوة لفظ، وصحة أداءه، وسمواً في الشاعرية.
لا لأنه يعيد لنا صورة حقبة رائعة للمجد العربي، والحضارة العربية، التي نما في أحضانها وتقلب في أعطافها، والتي تغذي فينا هذه العزة القومية، التي نشعر أنها مثلومة، كلما رأينا الوطن نهباً مقسما مهيض الجناح. . . هناك غيره من الشعراء، يمثلون أروع الحقب، وأزهى الأزمنة للفتح الإسلامية ثم نحن لا نستطيب احاديثهم، ولا نستملح سيرهم بهذا المقدار. . . ولعل السبب يعود إلى هذه العواطف والفكر، التي يبعثا فيك هذا الشاعر، والى هذا التركيب النفساني، الذي يبعث فيك صدى متضارب النغمات، ومزيجاً من العواطف فيها السخرية المشوبة بالعطف، وفيها الضحكة العالية، تنطلق لتقطعها عواطف الرثاء والرحمة. . . وليس هذا بالقليل، وآية متعة أسر للنفس، واخصب للفكر، من أن تفخر وترثى وتتفكه وتعبث. ثم تستعبر لتعود فتضحك ملء أشداقك. إنها الحياة مصغرة في سيرة شاعر ما أحراها منا بدراسة مستفيضة.
نسب أبي العتاهية وعصره
قوام النقد في العصر الحديث
النقد الحديث يقول أن العبقري ثمرة عصره، غذتها هذه الأصلاب، وهذه البطون تتلقفها، وهي تنسل من الاجيال، وتتمشى ببطء إلى زمنها المقدور وميقاتها المحثم، فللبحث في خصائص العباقرة، يجب أن تتناول قبل كل شيء البحث في أزمانهم، وتحليل هذه العوامل التي تتضافر على خلقهم. ثم مقياس إبداعهم الفني، وما يتركون من آثار، بمقاييس الجمال والفن المتواضع عليها في أزمانهم. . .(57/54)
ولا مشاحة في أن هذه النظرية ارتفعت بالنقد إلى حيث أصبح مأمون الجانب من عبث الأهواء، وتقلب الميول، وألقت ضياء على هذه الدياجير التي كانت تعتور الباحث، وتتكاءد المنقب؛ بيد إنها من وجهة ثانية جادت على العبقري، ولم تحسب لهذا السر يودع في نفسه حسابا في أبحاثها، فليس الزمن، وليست قوانين الوراثة، هي كل شيء في إيجاد العبقري وتكوين رسالته. وإنما هو سر غامض مستعص حله كغيره من هذه الأسرار التي تحيط بهذا العالم الأكبر والأصغر، والتي يحاول العقل جهده إماطة اللثام عنها، ثم لا يجد غنيمة بعد الكد إلا سلامة القفول. . . وإلا فأي شيء هذا الذي يخلق الاثنين من صلب وأحد، وفي زمن بعينه، ثم تتسامى نفس أحدهما وتفتح أفكاره، فإذا هو يغذي الإنسانية بزاد المعرفة، ويتسامى بها، ويزيد في ذخيرة الخلود. وأما الثاني فيعيش خاملا مغمورا ويندس في سواد الناس. . . فقمين بنا أن نحسب لهذا حسابا في أبحاثنا. . . ثم نحسب لهذا المزاج والتركيب النفسي في الشاعر، وهو اثر من آثار هذه الهبة ألقته القوة المجهولة، في نفس الفنان وركبت أعصابه على مثال خاص، ليتلو رسالته ويهتف بلحنه على نغمة مرقومة ونحو خاص: حسابا عله لا يقل أهمية عن عوامل الزمن وقوانين الوراثة. . .
وما أحرانا ونحن نبحث بحثا مقتضبا عن الشاعر - أبي العتاهية - أن نغفل - ولو إلى حين - عوامل العصر والوراثة لنتكلم عن مزاجه، وحسبنا أن نعلم عن العصر والأصل. . . أن أبا العتاهية تحدر من أصل وضيع، ومن الموثوق انه اشتغل ببيع الفخار، ورافق المخنثين. أما الزمن فيكفينا أن نعلم انه من هذه الأزمان التي كان تنكر كل فضيلة، والتي يطلق عليها كلمة المتشائمة والتي كانت لاشك، والإغراق في المجون اظهر مميزاتها.
مزاج أبي العتاهية
وأول ما يطالعك من مزاج أبي العتاهية هذا التناقص، وهذا الاضطراب، فيما يأخذ ويدع، وفيما ينهج من سبل.
فلقد تجاذبت نفسه طرفي النقيض، وكان يرى الدنيا ويلابس الوجود على هدى نزعتين بينهما من الاختلاف ما بين النقيض ونقيضه. . . فهو آونة مندفع بتيار اللذة مستغرق بهذا المجون، الذي وصل بعصره حد الشناعة، وطورا تتقمصه أرواح الزهاد، فيلبس المسوح ويهجر اللذائذ، وتتملكه تملكا عنيفا فكرة الخوف من الموت. فإذا هذه الدنيا باطل، وإذا هو(57/55)
موف من الصلاح على الغاية. . . حتى ليحار فيه أهل عصره، وقد تصل بهم الحيرة إلى حد أن يحيلوا أمره إلى العبث، ويرموه بالتدجيل، والحق أن ليس في هذا عبث ولا تدجيل، وان الأمر صادر عن عقيدة خالصة طهور، وهذا التناقض قريب المرد إذا رحنا نستوضح خافيه على ضياء مزاحه، حتى لنرى أن قد تقاربت هذه المتناقضات، فإذا هي تنبع من عين واحدة. . .
فأبو العتاهية - لم يكن مستقيم المزاج وإنما هو مضطربة، وقد طغى فيه الجانب العاطفي، ولم تتح له نشأة صالحة، ولا بيئة هادئة، تخفف من حدة هذا الاضطراب، وتأخذ بزمام هذه العاطفة إلى حيث يتمكلها العقل، ويفرض عليها سلطانه، وقد بلغ من طغيان هذه العاطفة أن أصبح الشاعر عرضة لانفعالات مخيفة مستهجنة في عرف العقل، والعاطفة الصحيحة، كان يتخذ - مثلا - لباسه من قوصرتين يدخل رأسه في إحداهما. ويدخل رجليه في الأخرى، كل ذلك زهادة في الدنيا وكرها لنعيمها، ولكن أية سخرية تتملكن إذا رأيته يلقيهما بعد حين ليتخير على المنى، ويجري مع الغواية، وليسيم سرح اللهو، على أن ينفض يده كرة أخرى من نعيم الدنيا، ويجلس حجاماً لأبناء الفقراء، يبتغي المثوبة، ويطلب الباقيات الصالحات، ثم تكون آخر أمنياته. وقدمه في حياض الموت أن يسمع غناء مخارق.
كل ذلك جائز في عرف هذا المزاج المضطرب وليس بمستغرب منه، وإنما المستغرب ان يمشي وفاق نظام معين، وخطة مقررة. . . وإذا عرفنا هذا من أبي العتاهية، فقد عرفناه ظاهرا وباطنا، وأصبح سيرنا معه مأمون الغرابة. وأصبح لهذه الخطرات المستغربة علتها الأصيلة المعروفة المنبع والمورد. وأصبحنا نرقب منه في كل أمر شذوذا وانحرافا إلى ضده. فإذا رأيناه مثلا ينعى على الناس حرصهم ويقول:
تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذلَّ الحرص أعناق الرجال
ارتقبنا منه ان يكون نادرة في الحرص.
وإذا نهض ليرى الناس صغارة دنياهم وحقارة بدرهم وأموالهم.
إن مال المرء ليس له ... منه إلا حظه الحسن
كل حي عند ميتته ... حظه من ماله الكفن
عرفنا انه أعجوبة الزمن، ونادرة العصر، في البخل والتقتير. . . عاتبه صديق له على(57/56)
هذا البخل المنقطع النظير وقال له: أن الناس يزعمون انك من شدة بخلك، وفرط تكالبك على حطام الدنيا لا تأكل اللحم - أو الأصح تشتريه - إلا في العيدين، فتأوه أبو العتاهية وقال: والله لقد ظلموني. وأني قد اشتريت لحما وتوابل في يوم عاشوراء.
على أننا نرى هذا البخل في حاجة إلى كلمة خاصة، فلقد كان من المنتظر أن يهب أبو العتاهية ولو مرة ليتلف هذا المال ويبذره جريا مع هذا المزاج، ولكنه لم يفعل هذا ولا جال بنفسه: وعلة هذا تعود إلى أمرين، أولهما انه نشأ في صميم الفقر، وذاق غصته، وعرف ان المادة هي كل شيء في قيم الرجال.
ما الناس إلا للكثير الما ... ل أو ما دام في سلطانه
وكان سيئ الظن بالناس، يخشى عادية الفقر، ويخشى ان طاح به غدر الزمان ألا يجد أخاً معينا.
أنت ما استغنيت عن صا ... حبك الدهر أخوه
فإذا احتجت إليه ... ساعة مجك فوه
والسبب الثاني، انه أرضى مزاجه الغريب، بمناضة الناس وشدة حرصه وتكالبه، فكلما عن له ان يتلف ماله ذكر سوء المنقلب. فيندفع غلوا في التقتير.
وابو العتاهية سوداوي المزاج من نوع خاص يميل إلى ما يميلون إليه، ولكن أعصابه ما كانت لتقوى على السير على منهاجهم. فهو يتبرم بالناس وينشد الوحدة.
برمت بالناس وأخلاقهم ... وصرت أستأنس بالوحدة
ولكنه لا يقوى على وحشة الوحدة. فيعود ليندفع بشدة في صخب الاجتماع، فهو ضعيف الأعصاب من جهة، ومضطربها من جهة ثانية، واصدق مظهر يدل على ضعف أعصابه ما كان من أمره في شأن الدين. فقد زعم أهل عصره انه كان زنديقا، وقد انتابه الشك في أمر العقائد، وجاراهم في هذه النظرة رجال النقد الحديث، ولكنهم لم يبينوا لنا مدى هذه الحيرة في أمر الدين، ومقدار هذا الشك. فهو قد شك وحار، ولكنه شك الطفل وحيرته، تروعه الأشباح وتتملك وعيه الهواجس، فلا يجد بدا من الاستسلام فيروح يتعلق بالدين تعلق الخائف. ويستسلم إلى خرافاته استسلام العجائز.
إلهي لا تعذبني فإني ... مقرُّ بالذي قد كان مني(57/57)
فمالي حيلة إلا رجائي ... لعفوك إن عفوت وحسن ظني
وانظر إليه لتتحقق صدق هذه النظرة وهو يناجي الموت، فما كان ليقف عنده وقفة المعري يسأله ويستوحيه عن أسراره وغوامضه، وإنما هي وقفة الخائف الرعديد، تلجمه روعة الموقف وتأخذ عليه الدهشة مسارب الفكر، فإذا كل ما يهجس بخاطره ويدور بخلده، خشوع عميق، ووصف مقتضب للموت يلوذ بعده، إلى إظهار التوبة والضراعة.
كلنا في غفلة والموت يغدو ويروح لبنى الدنيا من الدنيا غبوق وصبوح رحن في الوشن وأصبحهن عليهم المسوح نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح ويزيد في رخاوة هذه الأعصاب واضطرابها أن أبا العتاهية لم ينل حظا وافيا من الثقافة، وكان أيضاً ضعيف الخبرة بالدنيا لم يمر عليه من التجارب، ما يصقل هذه العاطفة المستوفزة.
ولمعترض ان يقول: كيف يكون ضعيف الخبرة، قليل التجربة من طفحت بأمثاله كتب الأدب وأسفاره. فهو قد نظم أرجوزة فحسب، أودعها مئات بل آلاف الأمثال والحكم الرائعة، وصحيح هذا، بيد أن هذه الأمثال ونحن نقلبها ونعيد تلاوتها، لا نجدها تدل على علم مستفيض وخبرة واسعة، فكلها في معنى وأحد، وان تجاوزته فإلى معان متشابهة مطروقة، فهو يرى أن الدنيا ما برح مقدورا عليها الفناء، فخير زاد للمرء التقي، أو السمعة الحسنة، ومن يقل غير هذا؟
حسبك مما تبتغيه القوت ... ما أكثر القوت لمن يموت
هي المقادير قلمني أو فذر ... إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر
كأن كل نعيم أنت ذائقه ... من لذة العيش يحكى لمعة الآل
وهكذا دواليك من العبر الرخيصة القريبة المتناول، والتي لا تحتاج إلى سعة في العلم ولا سمو في التفكير كالتي تجري على لسان المتنبي مثلاً: وإنما نحتاج إلى هذا اللسان الذرب، والشاعرية السمحة. ومن أولى بها من هذا الذي كان يتناول الشعر من كمه كما يقول الأصمعي، ولعل هذا هو السبب الذي يعود إليه كثرة السقط في شعره.
شرقي الأردن
عبد الحليم عباس(57/58)
أغنية النيل
للشاعر الحضرمي على احمد باكثير
يا جسر إسماعيلْ ... بُورِكْتَ من جسرِ
أنت سِوَار النيلْ ... رُصِّع بالدُّرِّ!
حلا بهِ وازدَانْ ... مِعصمُهُ الناعمْ
كأنَّهُ وسنانْ ... بالأملِ الحاِلمْ!
بين المصابيحِ ... في نورها الفاِترْ
تُوحِى بما توحى ... للمهُلْهَم الشاعرْ
من نجمةٍ وسنى ... لنجمة وسنى
قد كسرت جفنا ... فأغربت حُسنا!
مَنْ عَلَّم النُّورا ... فلسفةَ الكسرِ؟
أَستَلْهَمَ اُلحورا ... دقائق السِّحْر؟!
مَنْ عَلَّم النُّورا ... ترنيقةَ الطّرفِ؟
أَستلهم الحورا ... صناعة اَلحنْفِ؟!
في شطِّهِ قامّتْ ... بواسقُ النَّخل
عرائس هامَتْ ... بالمَيْسِ والدلِّ
برَزْنَ ممشوقاتْ ... ورافعات الهامْ
يُحسَبْنَ - منسوقات - ... علامَ الاِسْتفْهِام!
والقمر المحزون ... مبتسم النغَّرِ
يبكى لمن يبكون ... من عَنَت الدهر
يسامر العاشق ... ويسعد الولهان
ويسعف الغارق ... في لجج الأحزان
وساخراً يبسمْ ... بَسْمَةَ فُولْتيرِ
من هالك ينعمْ ... بعيشِ مغرورِ
سخريَّة تعلمْ ... بواعث الّسخرِ(57/60)
من عاَلمٍ يحلمْ ... وقَدَرٍ يجرى!
يطوف بالأرض ... في سِحْنة الناقم
لسُنَّةٍ تَقْضىَ ... فراقَها الدائم
منعكس نورُه ... في صفحة الماء
راقصة حُورهُ ... بلحن لألاء!
كأنه أحلامْ ... أحلام حسناَء
لا تعرف الالأم ... تعصف أهواَء!
والنَّسَمُ الهامِسْ ... في إذن الليلِ
يَبُلُّ ما لامَسْ ... بطَرَفِ الذيلِ
يمسُّ - في رفق - ... جسمك مبتلاّ
كصالحٍ يَرقى ... بالذكر معتلاّ!!
والزورق الناعِسْ ... يغفو على الماءِ
كالبائس اليائس ... في وسِطْ نعماءِ!
يرتّل الشِّعرَا ... مجدافه اللاغبْ
يشيّع العمرا ... ويندب الصاحبْ
يجري فيرعاه ... - في ألمٍ - بالى
يهيجُ مسراه ... ذكرى الهوى الخالى!
غنّى به الملاّحْ ... أغنيّة اُلحبّ!
يكرّر التَّصداحْ ... بالنَّغم العذب
يمدّها: يا ليل! ... يا ليل! يا عيني!
مناديا بالويل ... من ألم البين
يجري على نهرِ ... سِماؤه العطفُ
يهفو على مصرِ ... وشَدَّ ما يهفو!!
يمشي على هَوْنَ ... مشىَ الطواويسِ
من عهد فرعونِ ... موسى ورمسيس(57/61)
يطوي لها البُعدا ... شهراً على شهرٍ
من خلف (اوغندا) ... في لَهفٍ يجري!
يخترق السودانْ ... لأختهِ مِصْرِ
قطُران معدودان ... ألدهرَ كالقُطر!
حتى إذا وافى ... من بعد ما أعيي
طوّف تطوافا ... بكعبة الدنيا!
وراح ينصبُّ. . . ... للبحر في اطمئنانْ
كما قضى الصّبُّ ... بعد اللّقا جذلانْ!!
ما جشّم النَّهرا ... تلك المشقّاتِ؟
علَّ بها سِرَّا ... من أجله ياتى
أراحِمٌ يسقى ... جُرْد صحاريها؟
أم عاشقٌ يبغي ... لثم عذاريها؟!
فَقَطْرَةٌ منهُ ... برشفها غَادَهْ
لاهيةٌ عنهُ ... تكفلُ إسعادْه!!
أوّاه! هل نجهلْ ... ما عرف الماءُ؟
في عزِّها تقُتَلْ ... ونحن أحياء!!
يا مصر نفديكِ ... نحنُ بنى يعربْ!
آمالنا فيكِ ... كالشمس لاتغرب!!
مَنْ ذا يواسيكِ ... إن لم نكنْ نحنُ!
لَحْنُ أمانيكِ ... لكلّنا لَحْنُ!!
جزيرة العُرب ... مصُر لها أُمُّ
عقيدةُ الربّ ... تجمع والجِذْمُ
ليس لها عنها ... صرفق ولا تحويل
معدودة منها ... ما دام يجري النيل!
(فؤاد) يحميها ... مليكها العادِلْ(57/62)
من طامع فيها ... مخادعٍ خاتِلْ
وراءه الشَّعبْ ... نَسلُ الفراعينِ
تحفزه العُرب ... وعِزَّة الدين
مَلْكٌ به باهَتْ ... ممالك الدنيا
بفضله نالتْ ... رتُبتَها العُلْيا
قَلَّدَها نالتْ ... رُبّتَها العُليْا
جدَّدّ أو ردَّا ... جلالها الخاِلدْ
في عهده الميمون ... ارتقت (الفُصْحى)
إذ كان كالمأمون ... لم يأُلها نُصحا
(جامعة) الآداب ... و (الدار) و (الأزهرْ)
تهَّيُ الطلاب ... للحادث الأكبر!
يختصُّ بالإعظام ... وخِالصِ الُحبِّ
جامعةَ الإسلام ... ووحدَةَ العُرْبِ
عاشَ و (فاروقا) ... لبَيْضة الإسلام
كلأهما يُوقَى ... من نُوَب الأيام
للوحدة الحقَّ! ... للوحدة العظمى!
مُبلَغةِ الشرق ... مكانه الأسمى
يا مصر نفديك! ... نحن بنى يعربْ
آمالنا فيك ... كالشمس لا تغرب!
مَنْ ذا يواسيكِ ... إن لم نكنِ نحنُ؟
لَحْنُ أمانيكِ ... لكلّنا لَحْنُ!!
علي أحمد باكثير(57/63)
يا طبيب
// لا تقل يا طبيب إنك ماضٍ ... بشحوبي ولوعتي وذبولي
حبذا الضعف والهزال دواءً ... لفؤاد المشَرِدَّ المتبولِ
إيه يا لحظة الوداع، لقد جُرْ - تِ على المدنَفِ الطريد العليلِ
قبلاتٌ مسكوبةٌ في سكونٍ ... وعناقٌ في ضجَّةٍ وعويلِ
ودموعٌ ممزوجةٌ بدمٍ يجري من القلب، مستفيضِ الهطولِ
وزفيرٌ يكاد يحرق أحشاء المُعَنَّى ... من وَقْدهِ والغليلِ
وذراعٌ هوتْ تعانق خصراً ... صِيغَ من تربة الضنى والنحول
ويَدٌ في يَدٍ تُسِرَّانِ أشياَء ... بِضغطٍ مُحَبَّبٍ وذهولِ
وعيونٌ تَقُصُّ بالنظر الفَاِترِ ... أقصوصةَ الغرامِ الجميلِ
وتَنُصُّ الآمال تاجاً من السِحْرِ ... على مفرق الزمان الجهولِ!
حين سار القطار طَارَ صوابي ... وتمايلتُ في ذهولٍ طويلِ. . .
وطَغَتْ عِلَّتى. وجُنَّ جُنونى ... ووَهَتْ قُوَّتى. وضلَّ سبيلي!
لا تقل يا طبيبُ إنك ماضٍ ... بشحوبي ولوعتي وذبولي
ثغرُها يا طبيبُ طِبِّى فَعَجِّلْ ... بِبَواكِير رِيِقِهِ المعسولِ!
مختار الوكيل(57/64)
في الأدب الإنجليزي
ديكنز وولز
بقلم رشدي ميخائيل السيسي
فترات تقصر أحياناً، وأحياناً تطول وتطول، ليس يعنيني أن اعرف أهي من صفاء الذهن وراحة البال، أم ضجر طارئ وملال، اعكف فيها على القراءة والاطلاع، فأذهب إذا ذاك إلى دنيا غير هذه الدنيا، ويغمرني إحساس غير ما يغمرها من إحساس، وسأخفق أن حاولت أن اظفر بتعليل لهذا العكوف: أتدفعني إليه رغبة الأعراض عن حقائق الحياة خشية الاصطدام بها، أم يغريني به نزوع إلى تفهم هذه الحقائق ونشدان هذا الفهم فيما ضمته صفحات الكتب من عصارة الأذهان؟
لن اظفر بجواب قاطع، ولا يعنيني أن اظفر به، إنما أؤكد انه ليس احب إلى نفسي في مثل هذه الفترات من أن أتناول بيدي أثراً من آثار (ديكنز) معبود الإنجليز ومهبط وحيهم بعد شكسبير، وان اذهب معه في سلسلة من الرحلات نغشى في خلالها رياضا من الأمل الواسع العريض فنستنشق العبير ونتفيأ الظلال، ثم نروح تائهين في صحارى من الشقاء، فنكتوي بلافح الحر وقاسي الهجير، ثم لا نحرم في هذا المدى الترامي من الشقاء القاحل ان نلمح واحة الرجاء من بعيد فنتسابق إليها نتقي وهج الحر ولفح الهجير، ولكنا لا نأمن بين الحين والحين على أقدامنا وجسومنا ان تدميها أشواك من إلياس والخيبة، ثم لا نلبث ان نرتفع على أجنحة الخيال إلى سماء من السعادة والثراء.
وديكنز في هذه الأثناء لا يفتأ يحدثني في لهجة تلين وترق حتى لكأنها حفيف الأشجار وموسيقى الالهة، ثم تعلو وتشتد حتى لكأنها دوى العواصف وقصف الرعود، يروح يحدثني عن القناعة وعن البؤس والبائسين، ويحدثني أيضاً عن التمرد وعن الظلم والظالمين، وكأنه يسكب على جراحات التمرد من نفسي بلسما من القناعة والرضا، ولكنه لا ينى بعد ذلك ان يمزق بيده ما عالج من جراحات في قسوة الحقيقة وعنف الواقع، بينما هو يتحدث إلى في لهجة يفعمها الألم والغضب عن استبداد الغني بالفقير، وعن افتراس القوي للضعيف، ويهيب بي وبقارئيه جميعا في فكر عنيف وفي لفظ ملتهب شديد: ان ارحموا البائسين ودافعوا عن المظلومين!! ذلك هو ديكنز الكاتب الإنجليزي الكبير الذي يملأ عين(57/65)
القارئ بالدموع وفمه بالضحكات في الفترة الواحدة! والذي يمزج الجد بالهزل، ويخلط الحكمة بالدعابة، ويسوقها جميعا في كتاباته طعمة سائغة فيها تنوع وجدة، وفيها قوة وحق وجمال.
وقد يعلم القارئ إن ديكنز مات عن ثورة كبيرة تبلغ عشرات الألوف، فهو إذن قد ذاق حياة الترف والثراء وتنعم بها، وهو لهذا لم يعجز عن تصوير هذا الضرب من المعيشة تصوير فنان خبير، ولكنك إذ تقرأه وهو يقص تاريخ طفولته الحزينة القاتمة وما لاقاه أبانها من صدمات متتالية ومن متاعب جمة مع شظف العيش والحرمان، لابد ستأخذك رعدة عنيفة من فرط التألم لهذه الطفولة المعذبة الشهيدة، وستعلم السر آنئذ في قدرة ديكنز على التعبير عن الأم البائسين وشقاء الفقراء والمعوزين تعبيرا رائعا مفعما بالحياة.
وليس يخلو مؤلف لديكنز من آهات متوجعة، ومن صرخات حزينة، ومن دموع ملتهبة، يسكبها في غير حرص أو تقتير على مذبح الإنسانية المضطهدة المعذبة، إلا انه لم يكن في كتاباته ناقما عنيفا إلى الحد الذي يثير الفقراء على الأغنياء ويدفعهم إلى إلحاق الأذى بهم، بل كل ما كان يرمي إليه أن يهز النخوة ويلين القلوب ويستدر منها العطف والرحمة والإيثار. . .
ولد ديكنز عام 1812 وعاش ثمانية وخمسين عاما قاسى في العقدين الأول والثاني منها ما قاسى لفقر والديه المدقع ولزجهما في السجن وفاء لديونهما، ولكنه بدأ يرقى سلم المجد منذ استهل العقد الثالث. . . واشتغل في أوائل شبابه بالصحافة فكان مخبرا لبعض الصحف، ثم مندوبا برلمانيا فمحررا، فكان بحكم عمله هذا مضطرا إلى ان يزج بنفسه في كل بيئة، وان يختلط بكل طبقة ويعاشر كل طائفة من الناس، فاكتسب خبرة وافية بمختلفة الشخصيات ومختلف النفسيات بعد دراستها دراسة وافية، فأفاد كل الفائدة بهذه الخبرة، إذ تيسير له ان يوفق إلى أبعد حد في تصويره للشخصيات المختلفة التي تناولها في قصصه ورواياته.
ويشبه ديكنز من هذه الناحية بعض الشبه (ولز) الكاتب الإنجليزي المعاصر الذي اشتغل بالصحافة فأصبح لا يكف عن التعرض لمشاكل العالم الاجتماعية الراهنة والاجتهاد في معالجتها وفرض الحلول المختلفة لها في أسلوب رائع مفيد، بيد أنه على الرغم من هذا لن يكون الخلود من نصيب كتبه، لأن قيمتها موقوفها على الجيل الذي عاش فيه، وان طال(57/66)
اجلها فلن تتعدى الجيل الذي يليه، إذ سيجد العالم المتطور إذ ذاك إن كل ما جاء بها من نظريات ومبادئ قد تحقق جميعه أو جله، واقتصرت أهميتها على الناحية التاريخية دون غيرها، ذلك (لان النزعة الصحفية في الكاتب إنما تعمل لفنائه لا لخلوده، وهذا الفناء هو في الواقع تضحية الكاتب بنفسه في سبيل جيله) على حد قول بعض كتابنا الاجتماعيين.
وإذا صدق هذا الرأي عند تطبيقه على (ولز) الذي لم يكترث لغير علاج المشاكل الاجتماعية فهو لا يصدق إذا أرسلناه على إطلاقه، وخاصة إذا أردنا تطبيقه على ديكنز.
صحيح أن ديكنز قد كتب معظم قصصه الرائعة للصحف إذ ذاك، ولكنها ستظل خالدة على مدى العصور، خلود ما فيها من قوة ومن حق ومن جمال، ولأنها انتزعت من صور الإنسانية انتزاعا، فملأتها عواطف هذه الإنسانية التي لن تتغير، اجل، وستظل خالدة لأنها صورة من الفن الخالد رسمتها ريشة أديب فنان سيعيش تراثه على مدى العصور، وليست موضوعا اجتماعيا يتغير ويختلف وفقا للحوادث والظروف، ويزداد مقدار ما فيه من الصحة أو يقل تبعا لقدرة كاتبه على وضع الفروض والاحتمالات الصحيحة والاستطراد منها إلى تقرير نتائج يثبت المستقبل القريب أو البعيد صحتها، فولز إذن ليس كاتبا اجتماعيا فحسب، ولكنه كاتب ثاقب البصر بعيد النظر، صادق الفراسة، سليم المنطق والاستدلال. أما ديكنز فأديب فنان ينقل إلينا أحاديث الطبيعة والإنسانية وعواطفها، ويعبر عنها جميعاً اصدق تعبير وأجمله، وهو في مهمته السامية لا يختلف بأي حال عن المصور المبدع أو الشاعر المطبوع. في الحق انه يكفيك أن تقرأ أي كتاب لديكنز حتى تصل إلى هذه النتيجة الصحيحة عنه دون لأي دون إجهاد.
والأديب إذا تناول أي موضوع من المواضيع التاريخية أو الاجتماعية - أو حتى الاقتصادية الجافة - وجعله مادة لكتابته تراه لا يفتأ يرويه بدماء قلبه الحية ويغذيه، ولا يفتأ يسبغ عليه من روحه ونفسه وشتى عواطفه واحساساته، حتى يبعث في الحياة بكل معانيها وصفاتها، ويكفينا إذا أردنا تطبيق هذا القول على ديكنز ومخلفاته الأدبية ان نستعرض كتابه أو بتعبير أدق طرفته الفنية الرائعة (قصة عن مدينتين) فتؤمن بصحته كل الإيمان، نعم! فبالرغم من ان موضوع هذه القصة تاريخي جاف وهو تاريخ الثورة الفرنسية، وبالرغم من انه تاريخ دموي مروع تقشعر منه الأبدان، وأنه غير حديث العهد بنا، فإننا مع(57/67)
هذا لا نكاد نقرؤه حتى نحس في أعماقنا أن هذه القصة في جوهرها إنما قد كتبت لنا وبيننا، والتعليل المعقول لهذا أن الكاتب قد استمدها من وحي الإنسانية الخالدة غير المتغيرة - الإنسانية التي تؤلف بين جميع المشاعر وشتى الاحساسات - وانه قد استلهمها من معنى الحياة غير الزائلة، التي هي حق للجميع دون استثناء، والتي قد ترك أمر فهمها وإدراكها لهذا (الجميع) كل حسب اجتهاده ومدى تفكيره.
بيد أن هذا لن يكون حال كل اجتماعي مهما علا كعبه ونبه أمره، لأنه إنما يعالج المشاكل الراهنة في عصره التي لابد أن تقتصر أهميتها على العصر الذي كتبت فيه، وهو قد يفرض لها حلولا مختلفة يصدق بعضها أو معظمها كما هو الحال مع ولز في كتابه الذي نشره قبل الحرب الكبرى وقدر فيه احتمالات صدقت فرأسته فيها، حتى لقد اعتبرها البعض من قبيل النبوءات، ولكن بالرغم من صدقها فلن يقدر لها الخلود بأي حال كأي (تراث أدبي فني) من مخلفات ديكنز العظيم.
رشدي ميخائيل السيسي(57/68)
العلوم
فكرة النظام الشمسي عند الكنيسة في العصور الوسطى
بقلم فرح رفيدي
ما هب صرح مدنية روما ينهر بقدوم البرابرة الأوربيين من الشمال حتى انتشرت الديانة المسيحية انتشارا سريعا، وصادفت في قلب الشعب التعس تربة خصبة تنمو فيها، لإفتتانه بوعودها الجميلة، ولأنها واسطة انتقال من حياة ملأى بالمصائب والعذاب إلى حياة السعادة والهناء. فتأسس من معتنقي هذه الديانة الجديدة جماعات أخوية تحت رعاية أحدهم يرشدهم إلى الحياة القويمة، أو يلقنهم دروسا في الحصول على الحياة الأخرى. ومن هذه الجماعات أو رؤسائها تكونت طبقة الاكليروس، وفي يدها أمور الشعب الدينية والمدنية. وكان نظام هذا الاكليروس أشبه بنظام دائرة التامين على الحياة: تتاجر بالنفوس؛ فكان الإنسان يعطى ماله وأرضه ودينه، وحتى عقله للكنيسة، لكي يؤمّن حياته بعد الموت. فان راعى قوانينها أعطى تلك الحياة في الجنة، وان خالفها حرمته من الكنيسة وكان نصيبه جهنم بعد الموت.
لكن الكنيسة لم تنشأ فقط بعقائدها الدينية، ولم يكن الكتاب المقدس دعامتها الوحيدة في بناء صرح نفوذها وتحكمها في الشعب؛ بل كان هناك مع الديانة المسيحية المدنية اليونانية، وهير ثروة كبيرة وتركة ثمينة خلقها الأقدمون، فلم تقدر على إهمالها وطرحها جانبا والاكتفاء بتعاليم المسيح وحدها. ويرجع السبب في هذا إلى إن اثر المدنية اليونانية في قلوب الناس لم يذهب باعتناقهم الديانة الجديدة، وليس من السهل أن يذهب تأثير قرون طوال بقيام نزعة جديدة، وفي أمد قصير؛ دعك مما كان لأرسطو وكتاباته من التأثير الجسيم في العقلية اليونانية أولا وفي الكنيسة ثانيا.
قد نرى هنا الكنيسة بازاء الدين المسيحي والمدنية اليونانية تكاد تقع في مأزق حرج من احتمال تناقض العلم القديم بالدين المقتبس الجديد، وقد ينتج عن رأينا هذا السؤال: كيف تمكنت الكنيسة إذنمن التوفيق بين الاثنين؟ أو كيف قدرت أن تستمسك في تلك النقطة الحرجة؟ الجواب على ذلك هو أن الدين المسيحي والمدنية اليونانية لم يتناقضا قط، وكيف يتناقضان والأول خرج من تأثير الثاني؟ فمثلا لم تكن هناك فكرة واحدة أساسية في أصل الكون عند اليونان، حتى تناقض قصة الخليقة في كتاب التكوين، وأساطير اليونان القديمة(57/69)
تحتوي على قصص كثيرة مختلفة في أصل الكون؛ فليس من الغريب إذن أن تقتبس شعوب أوربا المتنصرة في ذلك الحين فكرة التوراة عن بدء العالم، وان تطرح خرافاتها القديمة جانبا. فالديانة المسيحية أتت موافقة للتعاليم اليونانية.
فاستمرت الآراء والمعتقدات اليونانية في النظام الشمسي وحركته آراء ومعتقدات للناس في العصور الوسطى. ولم يحدث هناك أي تغيير جديد أو انقلاب أساسي في النظام اليوناني القديم، إلا ما زيد عليه بسبب الدين المسيحي، من إدخال فكرتي الجنة والنار فيه. وذلك ظهر بالنظام الذي تصوره الشاعر الإيطالي دانتي في منتصف القرن الثالث عشر:
تصور دانتي الأرض ثابتة في وسط الأفلاك السبعة، ووراء الفلك السابع أي فلك زحل تصور منطقة البروج مكان النجوم الثوابت، وفوق منطقة البروج ما يسميه بسماء السماوات أو عليين ووضع جهنم في وسط الأرض، وفوق الأرض تحت الأفلاك قسمه إلى طبقات مختلفة العلو، الأولى طبقة الماء من حيث تنزل الأمطار، والثانية طبقة المطهر حيث يطهر غير الواقعين في الخطيئة المميتة، وأخيراً طبقة الجنة الأرضية، وتقع ما بين فلك القمر والمطهر.
هذا النظام دليل بين على مقدار توافق العلم والدين، وامتزاج الاثنين معا بصورة يصعب فيها تميز الواحد من الآخر. ولان دانتي شاعر خيالي يتصور نظاما شمسيا يدلن على عدم سير العلم حينئذ في الطريق الذي يضمن له التقدم الصديد أو الانقلاب إلى ما هو صحيح وغير ذلك، فقد كان الاعتقاد الشديد بان منقطة البروج لها تأثير في جسم الإنسان. فالإثنتا عشر برجا كل وأحد منها له تأثير خاص على عضو خاص في جسم الإنسان، فمنها ما يؤثر على الرأس، ومنها ما يؤثر على القلب، ومنها ما يؤثر على الأطراف وباقي الأعضاء. وقد تخيلوا أيضاً إن بعض الكرات التي تدور عليها السيارات تختلف بحسب نظام خاص في العدد والموسيقى، وان هذه الكرات تحدث في دورانها نغمات متلائمة، لا يحظى بسماعها إلا أناس مخصصون. وهذه النغمات هي ما يسمونه بموسيقى الأفلاك تصعد لتمجيد الله الجالس فوق الأفلاك في سماء السماوات.
وأما لماذا لم يتقدم العلم في العصور الوسطى، فذلك ليس لتناقض العلم والدين، وعدم مقدرة الشعب والكنيسة على التوفيق بينهما، كما قال الدكتور سارطن بل لأن الديانة المسيحية(57/70)
زادت تأثير المدنية اليونانية على الشعب تأثيرا جسيما، حتى لم يكن عنده شك في صحتها وضرورة الاستسلام إليها. من الأمور الظاهرة أن بعض العلوم اليونانية، بصورتها كما تلقاها أهل العصور الوسطى، لم تكن قابلة للتطور الاساسي، وخصوصاً في علمي الهيئة والنجوم، وذلك لأن الأساس المبني عليه علم الهيئة مثلا كان خطأ محضا. فنظام اليونان الشمسي مهما آتى أهل العصور الوسطى بالبراهين والحجج الدامغة، ومهما زادوا عليه من تفاصيل وشروح، لم يكونوا ليزدادوا إلا تعمقا في الخطأ وبعدا عن الصواب. وبعظم تأثير الكنيسة وارسطو معا على عقول الشعب كثر الاختلاف والتناقض في الآراء والتعابير العلمية والدينية، فعم الغموض وتولد الشك في قلوب الناس في كثير من المعتقدات السائدة. إلا إن الأرض ظلت ثابتة بين يدي الإله أطلس مدى أربعة عشر قرنا إلى أن آتى كوبرنيسك في أواخر القرن الخامس عشر، وحركها من بين يديه. وذلك لأنه رأى الاعتقاد بدوران الأرض حول الشمس اسهل من الاعتقاد بان الكون بجلاله وعظمته وعدد شموسه يدور حول ذرة صغيرة في الفضاء تدعى أرضا.
فرح رفيدي(57/71)
مظاهر الحرارة الباطنة للأرض
بقلم نعيم علي راغب
دبلوم عال في الجغرافية
إذا كان هناك شك وتضارب في الآراء الجغرافية عن ماهية باطن الأرض وحالته التي هو عليها، سائلا كان آم صلبا، فانه ليس هناك أدني شك في ان هذا الباطن حار، تدل على حرارته مظاهر ثابتة منها:
1 - المناجم والحفر العميقة: من المعلوم أن هواءها اشد حرارة من هواء السطح الخارجي، وكلما زاد العمق ارتفعت درجة الحرارة تبعا لذلك. ففي منجم بالقرب من الذي عمقه 2445 قدما ترتفع درجة الحرارة إلى 94ف يقابلها في الخارج 50ف، كذلك شأن الحفر العميقة، فان الماء يخرج منها في درجة حرارة مرتفعة، وبالقرب من باريس بئر عمقها 1798 قدما يخرج الماء منها في درجة 81. 5 فهرنهايت.
2 - ينابيع الحارة: وتلك ظاهرة تكاد تكون: عامة في العالم اجمع، وعلى الأخص في المناطق البركانية، ومن أمثلة ذلك تلك الينابيع التي توجد في مدينة وكرلسباد، وشمال غربي اسبانيا، إذ يخرج الماء منها في درجات حرارة عالية 158 ف و167 ف و192 ف على التوالي حسب الترتيب السابق.
3 - النافورات: وهي عبارة عن ينابيع ساخنة توجد عادة في المناطق البركانية، وتمتاز من الينابيع السالفة في رقم 2 بارتفاع درجة حرارة الماء الخارج منها، إذ قد تبلغ 261ف كذلك بقوة اندفاعه منها إلى علو كبير قد يزيد على 200 قدم ويطلق عليها بعض الجغرافيين أحياناً اسم البراكين المائية.
ويحسن بنا في هذا المقام أن نعرف النافورات وأسباب ثورانها فنقول: - إنها عبارة عن عيون تتصل بباطن الأرض بواسطة قصبة على شكل أنبوبة يتراوح قطرها كثرة وقلة تبعا للنافورة نفسها (في النافورة الكبرى بجزيرة الجليد يبلغ قطر النافورة 8 أقدام ويحيط بها شبه حوض قطره يبلغ 56 قدما وارتفاعه 15 قدما).
ولتفسير أسباب النافورات يجب أن نذكر حقيقة جغرافية وطبيعية وهي أن الماء يغلي عند درجة 212 فهرنهايت أو 100 مئوي تحت ضغط يعادل الضغط الجوي، لذلك إذا زاد(57/72)
الضغط وجب أن ترتفع درجة الغليان، وعلى هذا فان الماء الذي يوجد في أسفل قصبة النافورة قد تزيد درجة حرارته على درجة الغليان ولكنه لا يغلي عندها لوجوده تحت ضغط عمود الماء الذي يعلوه، إلا أن ارتفاع درجة الحرارة يسبب تمدد الماء ويرفعه إلى مستوى أعلى من المستوى الذي كان عليه في قصبة النافورة، وهذا يسبب تمدد الماء السطحي فيفيض على جوانب الحوض، ولما كان الضغط قد قل بذلك على الماء الموجود في أسفل القصبة فانه يتمكن من الغليان ويتحول جزء كبير منه إلى بخار يدفع طبقات الماء التي تعلوه، ويسمع لمحاولته الخروج إلى السطح العلوي أصوات شديدة كأصوات الفرقعة، وعلى قدر قوة البخر يكون ارتفاع الماء المندفع.
وتوجد النافورات في مناطق ثلاث من العالم هي: -
1 - أيسلندا: ويوجد بها ما ينيف على 100 نافورة تزدحم منطقة بركانية صغيرة المساحة لا تزيد على ميلين مربعين.
2 - منطقة يلوستون في الولايات المتحدة وتقع في الغرب منها وفيها بضع مئات من العيون، منها ما يزيد حجما وقوة على النافورات العظمى بأيسلندا واشهرها نافورة دقيقة في مواعيد تفجرها حتى لتكاد تضبط عليها ساعتك، إذ إنها تقذف كل مدة تتراوح بين 60 و80 دقيقة نحو عنان السماء عمودا من الدخان الأبيض إلى ارتفاع 150 قدما مكونا منظرا من اجمل المناظر الطبيعية.
3 - في نيوزلندا: توجد الجزيرة الشمالية التي تشتهر نافوراتها بعظم مقدار السليكات التي تخرج ذائبة في مائها والتي ترسب حولها وتكون مدرجات كانت إلى ما قبل سنة 1886 مجموعة من اجمل المناظر الطبيعية في العالم حتى حدث أن ثار بركان في نفس السنة هدم الجانب الأكبر منها.
4 - البراكين: وهي المظهر الرابع لمظاهر الحرارة الباطنة للأرض ومن أهمها ان لم يكن أهمها، ولذا سنترك الكلام عليها إلى مقال آخر يتسع للكلام عنها بالتفصيل اللائق بخطر موضوعها.
نعيم علي راغب
دبلوم المعلمين العليا قسم الجغرافية(57/73)
القصص
من الأدب التركي
فتاة الصحراء
رآها اليوم مرة في صحراء فلسطين فاحبها وتزوجها، ونقلها من تلك الصحراء المقفرة الهادئة، من وطنها العزيز إلى وطنه استنبول، إلى ضوضاء المدن وجلبتها.
عاش الزوج سنين طويلة في البلاد النائية، في الأماكن البعيدة عن وطنه، ثم عاد ومعه كنز حبه، تلك الفتاة التي تشبه زهرة ذابلة، والتي نشأت وترعرعت في الصحراء بجانب نخلة عارية وفوق رمال حارة، عاد بها إلى استنبول تلك البلدة العظيمة التي تجمع أصنافاً من الناس وأنواع من البشر، وتعج بمن فيها من السكان. أراد أن يجد لها في استنبول العظيمة مكانا تعيش فيه هانئة لا تذبل فتنصل ولا تجف فتسقط.
كان متوسط الحال، فهو لا يستطيع أن يقدم إليها في بلد كاستنبول حياة صحراوية، فلابد له ان يجد لها في أقاصي البلدة مكانا هادئا منزويا.
لم يتركا مكانا في أستا بنول ولا محلة إلا بحثا فيها عن دار فلم يجدا ما يوافقهما، وبالأحرى لم تجد الزوجة ما يلائمها وما يلائم روحها الصحراوية، وكانت تظنانها إذا بحثت كثيرا في أنحاء البلدة العظيمة وجدت منزلا في روح الصحراء.
كلما زارا دارا كان ينظر الزوج بطرف عينه إلى زوجته ليرى في عينيها الصافيتين ما ينطبع فيهما من انقباض أو انشراح، إلا إنها كانت بعيدة الغور لا يظهر في عينيها ما يجول في قلبها. وكان زوجها أيضاً يود من صميم فؤاده أن يجد مكاناً ترى فيه فتاة الصحراء ولو شيئاً صغيراً يذكرها بالصحراء وطنها العزيز.
وفي يوم من الأيام نهضا صباحاً ليذهبا إلى دار قيل لهما إنها موافقة لرغائبهما وهي في محلة (السلطان أيوب) فذهبا إليها وتسلقا الهضبة التي قامت عليها تلك المحلة حتى بلغا الدار المقصودة، كانت الزوجة كعادتها لا تبدي اعتراضاً أبداً، بل كانت تمشي بجانبه كآلة صماء، وقد تعبت من البحث عن الدار التي تريدها في تلك البلدة التي لم تر أولها ولم تعرف آخرها.
كانت الدار صغيرة مشرفة على البحر فيها غرفتان وبهو وحديقة صغيرة، وكانت فتاة(57/75)
الصحراء تنظر إلى كل ذلك بفتور وملل فإذا بشيء يعلق به نظرها، لقد لمعت أمام عينيها شمس الصحراء: هناك في الحديقة الصغيرة شجرة نخل، نعمانها صغيرة هزيلة، ولكنها كانت كافية لأن تمثل لها وطنها العزيز. لقد أثر منظر تلك الشجرة في فتاة الصحراء تأثيراً عظيماً، وأعطى روحها حرارة شمس لطيفة أجرت الدم الذي جمد في عروقها منذ فارقت صحراءها، وفتحت تلك الشجرة الطريق بين عينيها وبين الصحراء النائية عنها: فرأت أباها وأمها واخوتها، وعلى قيد غلوة منهم رأت جملها الذي يغمض عينيه السوداوين الكبيرتين أمام الشمس وهو يمد عنقه إلى الأمام.
لقد جاءتها هذه الشجرة بالصحراء، الصحراء العزيزة عليها، وبكل شيء قد تركته هناك، وألقته في أحضانها فكأنها بجانبه تلامسه ويلامسها.
نظرت إلى زوجها بعينين يلمع فيهما بريق السعادة لأول مرة بعد عدة شهور، كانت تلك النظرة تفيد معنى: إنني وجدت مبتغاي، وإني هنا، هنا فقط أستطيع أن أعيش بجانب هذه النخلة الصغيرة.
لقد حلت تلك الدار المشرفة على مياه الخليج من قلب المرأة محلاً رفيعاً، فأحبتها بعد زوجها، بقدر حياتها، بقدر وطنها. نزلا في الدار وعاشا فيها سنة طويلة.
كانت تعيش هنا بعيدة عن الناس لا تخرج لزيارة أحد كائناً من كأن، بعيدة عن الحياة الغريبة، عن الوجوه الغريبة، في تلك البلدة الغريبة.
لقد زارتها جاراتها يوماً، فلما رأينها لا تبتدئ معهن خطاباً ولا ترد عليهن جواباً إلا بنظراتها الفاترة الحزينة التي تطلب بها الرحمة والشفقة، ذهبن في الحديث عنها مذاهب شتى كل واحدة ترى فيها رأيا، فلما علمن أن بينها وبينهن حاجزاً من الاختلاف في اللغة يمنعها من الاتصال بهن تألمن لها أشد الألم، ثم أخذت تلك الرحمة تستحيل إلى سخرية واستهزاء.
إن أهل المدن فطروا على أن يعدوا أهل الصحراء دونهم في كل شيء، وهكذا كان شأن نساء تلك المحلة، كن يستهزئن بالمرأة المسكينة، وكن يضحكن منها ويقهقهن، لأنها لا تفهم ما يقلنه من الكلمات فيها، وكن يجدن في ذلك لذة عظيمة كما يجد الأولاد القساة لذة في تعذيب الحيوان الذي لا حول له ولا قوة، فشعرت فتاة الصحراء بذكائها الفطري أنهن كن(57/76)
يضحكن منها، فنفرت منهم ولم تعد تقابلهن.
لقد نسى نساء الحي وجود فتاة الصحراء بينهن، عدا عجوز دردبيس كانت تتردد على نساء الحي فتقص عليهن أحاديثها وجدالها مع كنتها، وتقلق راحتهن بتلك الأحاديث التي لا تعرف الانتهاء، حتى مللنها وسئمن ثرثرتها، فكانت تتردد على فتاة الصحراء فتجلس أمامها وتبدأ حديثها باسم الله وتبقى مدة طويلة تتكلم وتتكلم، ثم تختم القصة بدموع ترسلها من عينيها وتغادر البيت وهي تقول للمرأة التي لم تفهم منها غير دموعها: (إلى الملتقى يا بنيتي لقد أزعجتك بثرثرتي، شرفينا).
كانت العجوز لا تني عن زيارة فتاة الصحراء، وأخيرا شعرت إنها وحدها التي كانت تتكلم طيلة هذه الأيام، فقالت لفتاة الصحراء: ما لك لا تتكلمين يا ابنتاه؟ أبكماء أنت أم ماذا؟
فلما رأت فتاة الصحراء لم تجبها إلا بابتسامة مبهمة ولم تقل إلا برأسها نهضت وغادرت المكان على إلا تعود إليه مرة أخرى.
لم يبق من يطرق باب الدار الصغيرة، ولم يبق من يوقظ شمس الصحراء النائمة هنا من أحلامها، إلا إنها أحياناً كانت تنزل عند إرادة زوجها ورغبته وتذهب معه إلى النزهة، ولكنها كانت تعود إلى بيتها وهي مريضة قلباً لا جسماً، لقد كانت تشبه طائراً صغيراً فارق عشه ليطير، فوهى جناحاه ووقع على الأرض.
إنها لا تكون سعيدة إلا إذا كانت في منزلها منفردة بنفسها أمام شجرة النخل مستغرقة في رؤياها، وفي ذلك الحين فقط تظهر الشمس لعينيها؛ إنها حين تجلس تلك الجلسة، في تلك الساحة التي يبدو لها منها وجه السماء، والتي تشبه في نظرها قصرا من القصور تنسى ذلك الدور الأخير من أدوار حياتها، وتعود بخيالها في غفلة لذيذة إلى تلك البحار الرملية التي تجري فيها بقوة هائلة س يول أشعة شمس بلادها فتغمرها غمرا، وتملأ أرجاءها ونواحيها.
إنها في ذلك الحين حين تجلس إلى تلك النخلة التي تشبهها في محبة الوطن، وتشاركها الأسف والحزن، وترتسم على شفتيها ابتسامة حزن يائسة، لوقوعها بعيدة عن وطنها وعن شمس وطنها وعن سماء وطنها، تجمع تلك الهضاب والتلال التي أمامها بعضها إلى بعض، حتى يغيب عن نظرها ذلك البحر الذي أمامها، وترى أشعة الشمس تغمر تلك الصحراء،(57/77)
وتبصر ألوف النخيل المنتشرة فيها يسلم بعضها على بعض من بعيد بأغصانها الخضراء العالية الرءوس فإذا رسمت في خيالها هذه الصورة الجميلة، وأتقنت صنعها كل الإتقان، وأعطتها من حسن تمثيلها حياة حقيقية، خيل إليها إن آباها وأمها واخوتها وجملها ذا العينين الواسعتين السوداوين أمامها وتحت نظرها، فخفق قلبها لهم، وحاولت أن تهجم عليهم مسلمة معانقة.
وربما ذهبت بعض الأحيان في النهار إلى الحديقة ووضعت حصيرا تحت النخلة التي لا ترد أغصانها عنها أشعة الشمس واضطجعت عليها، ورفعت عينيها إلى السماء، وسافرت بفكرها إلى أقصى حدود الخيال.
كانت ترى قطع السحب تمشي في السماء على غير انتظام، فهي إذن أما ذاهبة نحو قومها، أو آتية من عندهم؛ فالسحب إذن قد رأت قومها أو سترأهم، فكانت تبتسم لهؤلاء السائحات وتسألهن: ألم يجئنها بسلام من قومها وصحرائها؟ أو تسألهن أن يتركن لها في أجنحتهن مكانا صغيرا يسع خبرا عنها لقومها وأهلها.
في أعقاب خريف السنة التي قضتها في تلك الدار رأت الطيور تطير أسرابا أسراباً في السماء، فاهتمت لذلك وسألت زوجها عنها فقال لها: (إنها ذاهبة إلى بعيد! إلى البلاد الحارة). فقالت في نفسها إنها ستمر إذنبوطنها العزيز. فكانت تضطجع تحت نخلتها وتغني بصوت حزين أناشيد قومها وألحانهم الشجية، مضمنة ذلك شوقها الشديد، متوهمة إن تلك الطيور ستقفل راجعة إليها تحمل إليها أجوبة تلك الألحان والأشواق.
جاء الشتاء بخيله ورجله، وأصبحت فتاة الصحراء لا تقدر على الجلوس تحت نخلتها، والتمتع بظلها، وشم رائحتها، فأخذها من اليأس ما زاد في الأم نفسها، وأصبحت تقعد بجانب نافذتها ساعات فراغها من عمل المنزل غارقة في بحر من الألأم والأفكار، فما يدري ما الذي كان يشغل خيالها ويقلق بالها في ذلك الحين، أمنظر النخلة التي كانت تخشى عليها من البرد القارس، والهواء العاصف؟ أم انتظار الطيور تقبل عليها من ناحية من نواحي السماء المستورة بالغيوم، تنقل إليها أخبار أهلها ووطنها؟
كانت فتاة الصحراء كلما مضى يوم من الشتاء هزلت وضعفت، وأخذ نور عينيها يخبو تدريجا. فلم يخف ذلك على زوجها، فقال لها: (ما بك؟ أراك تخفين عني شيئا يمضك(57/78)
ويؤلم، لقد سئمت الوحدة وتشوقت لرؤية أهلك وصحرائك) كانت تنكر ذلك، ولكنها كانت شوق زائد إلى رؤيتهم، إنها اشتاقت إلى الصحراء، إلى شمسها، إلى جوها الصافي، إلى نخيلها، إلى والديها واخواتها، إلى جملها، اجل! أشتقات إلى كل هؤلاء، ولكنها كانت كالأطفال تنكر شوقها وتصر على الانكار، ومع هذا كانت تدير وجهها تحت تمثال صحرائها، إلا وهو نخلتها وتنظر إليها بحزن عميق.
اقبل الربيع:
علمت ذلك من زوجها فابتهجت وفرحت: جاء الربيع، كانت تظن انه إذا جاء الربيع. أتاها بتذكار جميل من أهلها ومن قومها، ولكن هيهات، جاءها الربيع بالمصيبة الكبرى: ستباع الدار، وهما مضطران إلى النزوح عنها إلى غيرها.
الدار يبيعها صاحبها: ستفارق إذنفتاة الصحراء حلمها الجميل، ستفارق النخلة، خطر لها خاطر فجائي وهو أن تأخذ معها شجرتها إلى الدار التي ستسكنها، ذكرت لزوجها رأيها فوافقها على ذلك، وقرراً أن يأخذا معهما النخلة سلوتها الوحيدة.
رحلا إلى دار صغيرة مظلمة في حي فقير مظلم فصنعا للشجيرة محلا أمام النافذة ووضعاها فيه وربطاها إلى حديد النافذة.
لقد قنعت فتاة الصحراء بهذه الدار الصغيرة المظلمة، ما كانت ترى في هذه الدر السماء الصافية، ولا الشمس المشرقة، ولا القمر الزاهي، ولا النجوم الزاهرة، ولا الدور الشاهقة، لكنها كانت ترى نخلتها المحبوبة فيسكن قلبها لرؤيتها، فحياتها منوطة بها. تجلس دائما بقرب النافذة واضعة رأسها على يدها، وتنظر إلى رفيقة وطنها بقلب أضناه الشوق وبرحت به الذكرى. ولكن النخلة كانت تذوى كطفل أخذ غصبا من حضن أمه، وفتاة الصحراء تذبل بذبولها كشجيرة انتزعت من مغرسها، فاستحكم الذبول في الاثنتين، فكان يظن الناظر إليهما أن سراج حياتيهما ينطفئ تدريجا.
نهضت يوما من فراشها وذهبت كعادتها إلى نخلتها، ولكنها تراجعت إلى الوراء دهشة، ماذا ترى؟ رأت نخلتها العزيز رفيقتها ومؤنستها قد انكسرت من وسطها حيث الرباط، وسقط رأسها إلى الأرض، فهدت تلك المصيبة من قوة الفتاة، فجلست بجانبها وذرفت دموعا غزيرة خرجت من أعماق قلبها المحطم لفراق الوطن والأهل.(57/79)
عاد زوجها مساء فألفاها على تلك الحالة باكية حزينة. فسألها قائلا: (ما بك؟ أعلميني أسباب حزنك وكدرك، ما الذي يبكيك؟) فاعترفت لأول مرة قائلة: (لنذهب! لنذهب إلى هناك!) وأشارت بيدها إلى بعيد، إلى ديار أهلها وقومها.
عادت الطيور ولم تأتها بخبر من أهلها، ولكن ما الذي يهمها من ذلك ألان، إنها ذاهبة بنفسها إلى الصحراء، إلى الوطن الذي طالما فكرت فيه أضناها بعدها عنه، وذرفت لذلك دموعا غزيرة. . . لقد ذهبا إلى الصحراء ومضى على ذهابهما زمن طويل. . . فليت شعري، أفتاة الصحراء لا تزال تجلس تحت ظل أشجار النخيل، تغني أناشيدها القومية فرحة مسرورة بالوطن العزيز الذي كانت ترى بجانبه جمال الآستانة قبحا، وماءها ملحا، وهواءها رديئا، وجوها وبيئا، وشمسها قاتمة، ونجومها مغمضة نائمة، أم هي نائمة نوما أبديا تحت أطباق الثرى، وحيدة منفردة وظلال أشجاب النخيل تبكي عليها؟
(حلب)
فتاة الفرات(57/80)
من المسرح الغنائي
1 - سافو
لأوجييه أميل
ترجمة الأستاذ محمود خيرت
مقدمة
ليس الفونس دوديه بمجهول من المشتغلين بالأدب الفرنسي وهو ذلك الكاتب الوجداني الرشيق الأسلوب، السليم الذوق، البارع في وصف الحقيقة، فهو المنبع الصافي، والسهل الممتنع، يأخذك خلال ما يكتب، ويسحرك بيان ما يصور، فلا يلبث أن يشد أعصابك شدا، ويجري دموعك سيولاً، ويلهب مشاعرك إلهابا وأنت ذاهل تشارك بالرغم منك أشخاص قصصه ما يوزعه عليهم من مختلف العواطف المضطربة المتباينة.
وسافو إحدى آياته الكبرى التي جمع فيها بين الشهوة الثائرة، وعاطفة الأمومة الطاهرة، ظهرت في سنة 1884 وهو في الرابعة والأربعين من عمره (لأنه ولد سنة 1840) وقد امتلأ تجربة وخبرة، وشبع شهرة وصيتا، فكانت من القصص الخالدة، حتى إن قطعة سافو التمثيلية الغنائية (أوبرا) التي أخذت عنها دائما متجددة الشباب تمثل في فرنسا إلى الان، وفي مصر بدار الأوبرا الملكية كل موسم تقريبا. وهذه القطعة هي التي غنينا بنقلها (للرسالة) إلى لغتنا العربية الكريمة.
واسم سافو على ما يظهر غير فرنسي، لأنه اسم امرأةإغريقية اشتهرت ما بين القرن السادس والسابع قبل الميلاد بشعرها، كما اشتهرت بخلاعتها واستهتارها، حتى إنها لما ملك اليأس عليها كل سبيل ألقت بنفسها من أعلى صخرة (لوكاد) في اليم.
ولقد وضع برادييه المثال الفرنسي الشهير في سنتي 1848 و1852 تمثالين أولهما من البرونز والثاني من المرمر كأنا محل إعجاب الناس، حتى إن كثيراً منهم حصلوا على نسخ منهما، وقد سماهما باسمها. ولا يمكن أن يكون أراد بهما تخليد تلك القصة الشهيرة التي لم تظهر كما قدما إلا في سنة 1884 لأن أول هذين التمثالين تم ودوديه في الثامنة من عمره، وظهر ثانيهما قبل نشر قصته بنحو اثنتين وثلاثين سنة. ومن هذا يتضح أن برادييه(57/81)
إنما وضع التمثالين المذكورين تخليدا لذكرى تلك الإغريقية.
وإذا علمنا ان دوديه رجل (شأن كل كاتب) واسع الاطلاع مفروض وقوفه على تاريخ تلك الإغريقية وظروف حياتها، وكذلك علمه بآمر هذين التمثالين جزمنا بأنه ما تب تلك القصة إلا وهو متأثر بهذين الظرفين لقيام وجه الشبه بين هذه المرأة وبين سافو ربيبة قلمه من حيث الحب والخلاعة والاستهتار. ولأن قصته والقطعة الغنائية المأخوذة عنها تناولتا ذكر التمثال المرمري الذي أشرنا إليه.
على ان من العجيب ما لحظناه من انه جعل فتاة قصته مصرية، وان واضع القطعة التمثيلية المنقولة عنها جعلها أندلسية؟
أما الناقل فقد يكون التبس عليه الأمر بين هذه المصرية وبين راقصة أخرى أندلسية جاء ذكرها أيضاً في نفس القصة. ولكن دوديه أكد وصف سافو بالمصرية في أكثر من موضع منها، فلابد إذن أن واضع تلك القطعة تعمد جعلها أندلسية، لأن سافو كما وصفها دوديه امرأةفطرت على الحب العنيف المتقعد، وهي أيضاً كثيرة الأهواء لا تستقر عند حبيب وأحد، ولا تطيب حياتها إلا بالتنقل من حب إلى حب، وكلها صفات تتوافر كثيرا في الأسبانيات، حتى أن بروسبير ميريميه اضطر إلى اختيار (كرمن) في قصته البديعة من بينهن.
ودوديه الكاتب القدير لا يفوته ذلك أيضاً، ولكنه قصد إلى تمصير سافو قصدا، وقد خصها بالإجادة في رقص (البطن) فإذا كان هذا ما أراده فقد التوى عليه قصده، لأن مثل هذا النوع من الرقص ليس من عادات الباريسيات، وقد أراد بقصته وصف تلك العادات، ولأنه كان عليه ما دام هذا قصده إلا يسمى فتاته سافو، لأن سافو الإغريقية لا تعرف مثل هذا الرقص، ولان المصرية لا تتسمى بهذا الاسم.
وعلى كل حال فقد رأى إلا يجعل الخاتمة واحدة في سافو التاريخ وسافو القصة، فغلب هذه على اليأس الذي ذهب بحياة أختها، وأحياها الحياة الكبرى حياة الأم التي تحطم قلبها وتتطهر من أقذار الآثم لتنصرف إلى تربية طفلها. فكان فيما اختار عظيما رائعا، وهو ينزل على حكم الطبيعة، ويساير غريزة التكوين البشري.
محمود خيرت(57/82)
الرواية
الفصل الأول
(بهو ينتهي إلى مصنع المثال كاوودال. يموج البهو بالمقنعين والعذارى المقنعات، لأن الليلة راقصة، وأما المصنع فتدوي فيه نغمات الآلات الوترية، وسافو (واسمها المستعار فني) ترقص وتغني، والمجتمعون يصيحون من النشوة والطرب. وأخيراً يظهر في البهو كاوودال ولا بودري مقنعين)
كاوودال - انظروا آيها الشبان كيف أصبح الشيوخ أكثر فتوة منكم!
لابودري - إني راحل يا أستاذي
كاوودال - طبعا لأن المجلس لم يعجبك
لابودري - كلا، ولكني لا أستطيع البقاء فوق هذا
كاوودال - بل قل إن هذه الراقصة ذات العيون السود لم تفتنك، إن رشاقة هذه الأندلسية لا تدع عقلا لعاقل، وهي تجتمع دائما هنا بأصحابها، فلم لا تشاركهم هذا الانس؟ (يغني)
يا غضون الشباب
الجميع - يا غضون الشباب
فني (سافو) - إن عذْب القُبل=هان فيه العذاب
وسواد المقل ... طاب فيه الجنون
الجميع - يا شباب الغصون
لابودري - مهما كان من الأمر فآني سأرحل
كاوودال - يا عدوّ الملاح
الجميع - ما علينا جناح=فانتظر للصباح
كاوودال - ما أغربك آيها الفتى. تفر من هذا الأنس وتزعم انك شاب
لابودري - وكأني بك في سن العشرين
كاوودال - مع إني في الستين (ثم يخاطب حنا) وأنت لم لا ترقص يا حنا؟ كنت أظنك في مجلي هذا السرور أكثر نشاطا ومرحا(57/83)
حنا - إنني ما رقصت عمري
كاوودال - ولكن الرقص ينفض عنك تراب القرية. تشجع
لابودري - العبرة بالخطوة الأولى. هيا
كاوودال - ألا تعرف هؤلاء الفتيات الجميلات؟
حنا - لا يا سيدي.
كاوودال - وكيف تراهن
حنا - رائعات
كاوودال - إلا أقدمك إليهن
حنا - أشكرك واعتذر، فقد أكون محل سخريتهن
السيدات - ها ها ها (ضحكات)
لابوردي - (وكأنه يكلم نفسه) ولم؟ ما ابسط هذا الفتى!
كاوودال - تعال معي
حنا - دعني بالله (يمتنع فينصرف كاوودال ومن معه إلى المصنع)
كإنني في حلم. هذه هي السعادة التي يتغنون بها!
(هنا يسمع ضجيج المجتمعين في المصنع وهم يغنون):
نماذجُ المصنَعْ ... سافو لها تاجُ
جبينها يسطعْ ... كالتّبرِ وهَّاج
سُبحان من أبدع ... جماَلها سافو
ماذا اسمع؟ كل شيء في هذا المصنع يشد أعصابي. فأين أنا من قريتي كنز السكون والنور؟ ومن خمائلها يحمل النسيم ارجها فيعطر الأرجاء. لقد كنت في المساء أجوب غاباتها النضرة فتهزني الأحلام، وهواؤها العليل يشدو ومن خلال أوراقها فأنسى قسوة الشتاء. قريتي التي تفيض بالأمل والحب ما أبعدها ألان عني!
(يسمع هرج في المصنع وضحك طويل ثم يخرج بعضهم يتعقب فني)
أحدهم - قلة يا فني
فني - اخسأ(57/84)
هو - (الذي يتعقبها) قبلة واحدة صدقة عن هذا الحسن. . .
فني - تظهرون الغرامَ لي=في ابتسام مُغرّر
خِدعٌة ليس ينطلي ... سبكها في نواظري
إنكم تصدعونني ... أنكم تخدَعونني
(تفلت منهم وتسأل كاوودال)
من هذا الفتى الجميل (مشيرة إلى حنا)
كاوودال - لا اعرفه
فني - ولم لا أساله آنا؟
كاوودال - شأنك معه (يبتعد ضاحكا)
فني - (تقترب من حنا) ما اسمك يا صاحبي؟
حنا - حنا جوسين
فني - قروي؟
حنا - نعم
فني - وهل أنت مصور؟
حنا - لا يا سيدتي (مطرقا)
فني - أحسنت. ولكن لم أنت مطرق؟ وماذا رابك مني؟
حنا - بالله لا تسخري مني يا سيدتي
فني - آنا؟ انك بالعكس سحرتني وان كنت غير مصور (يسمع صوت كاوودال ولا بودري يناديان)
الطعام. . . الطعام
فني - (في إذنحنا) إلى الملتقى يا حنا
كاوودال - هيا يا أخواني
الجميع - (داخل المصنع) الغداء! الغداء!
إن لذة الأنام ... في تذوق الطعام
الغذاء! الغذاء!(57/85)
كاوودال - (من الداخل) سافو!
(يحأول حنا الدخول فتمنع مضطربة)
فني - لا تدخل يا حنا. تعال معي
حنا - ولكن. . .
فني - تعال. تعال
حنا - (يخضع) غلبتني مقلتاها=فسبيل قدماها
عقل فني فيك تاها ... سهم عينيك رماها
حنا - يا لهيبي!
فني - يا حبيبي!
(يذهبان بينما المصنع في هرج وانس)
(يتبع)(57/86)
العدد 58 - بتاريخ: 13 - 08 - 1934(/)
ذكرياتنا القومية
تعاودنا في كل عام بعض الذكريات الأليمة التي يغص بها تاريخنا الحديث؛ وفي الأمم المغلوبة التي سلبت أعز ما تزهو به الأمم، أعني حرياتها القومية، تنسخ الذكريات الأليمة كل ماعداها من ذكريات الفخار والمجد؛ وإذا أتيح لها يوماً أن تحتفل بإحدى هاته الذكريات المجيدة، فان محنتها الحاضرة تكدر دائماً صفاء شعورها القومي، وتذهب بكل ما يمكن أن تأنس به من كبرياء وغبطة وفخار.
وقد مرت بنا منذ أسابيع قلائل بعض هذه الذكريات السود في تاريخنا: حوادث الإسكندرية المشئومة في 11 يونيه؛ وضرب الأسطول الإنجليزى للإسكندرية في 11 يوليه؛ وستحل بعد أسابيع قلائل ثالثة الذكريات المفجعة، أعني تمام احتلال الإنجليز لمصر في 15 سبتمبر؛ ومنذ عامين كان قد انقضى على ضياع الحريات القومية وقيام الاحتلال الأجنبي في مصر خمسون عاما. فكيف نستقبل هذه الذكريات المؤسية في تاريخنا القومي؟ وماذا نفيد منها من عظات وعبر؟
الواقع أننا لا ننسى هذه الذكريات التي تعاودنا كل عام، وينبهنا إليها دائماً استمرار المحنة واستمرار الاعتداء على حقوقنا وحرياتنا. وقد تكون الذكرى وحدها فضيلة. ولكن الذكرى المجردة لا تكفي دائما للإفادة من عبر الحوادث وتغذية الشعور القومي وإذكاء الهمم للنضال في سبيل استرداد الحقوق المسلوبة. وما الخير في أن نستقبل هذه الذكريات كل عام بعدة فصول ومقالات في الصحف تكاد تتفق دائماً في ألفاظها ومعانيها: بكاء على الماضي، ورثاء للاستقلال الذاهب، واستنكار للاعتداء الواقع، وتنديد بنكث المعتدي، وتشهير بأساليب الاستعمار؟ هذا ما نقرأ دائماً في صحفنا في هذه المناسبات، وهذا كل ما نفعل لاستقبال ذكرى الحوادث والخطوب التي ذهبت بحرياتنا واستقلالنا. وهذا حسن بلا ريب؛ ولكنه لا يكفي لتحقيق الغاية القومية التي يعلق تحقيقها عليه.
وليس هنا مقام تفصيل ما يجب أن تعمله أمة كأمتنا في مثل هذه المناسبات. ولكن الجهاد السلمي لإحياء الشعور القومي، وإعداد الأمم للنضال في سبيل استرداد حقوقها متعدد الوسائل والصور. وترديد النواح والعبارات المؤثرة لا يفيد شيئاً في سبيل استقلال الأمم؛ وإنما يفيد أن تثير دعوة مقنعة لبيان حقك، وأن تتخذ هذه المناسبات لتنظيم جهود سلمية جديدة، سياسية أو اقتصادية في سبيل الكفاح القومي؛ وأن تعقد الاجتماعات والمحافل(58/1)
السلمية، وأن تنظم الاحتجاجات بالقول والفعل، وأن تلقى رسالة المستقبل إلى الشباب بطريقة عملية؛ ويحسن أن يدوي صدى احتجاجك في الخارج، في جميع أنحاء العالم، فقضايا الأمم المغلوبة دائماً بحاجة إلى التعريف، وقد يلقى التعريف أحياناً شيئاً من التأييد أو العطف في ثنية الضمير الدولي. ومن جهة أخرى فان هذه المناسبات يمكن أن تتخذ ذريعة حسنة للقيام ببعض الأعمال والمشاريع الوطنية النافعة، فتكون دائماً رمزاً عملياً لإذكاء الشعور القومي.
ونود بهذه المناسبة أن نشير إلى نقطة أخرى جديرة بالتأمل، ذلك أننا نشهد في مصر احتفال بعض الأمم الغربية بأعيادها القومية؛ ومن هذه الأمم من تسيطر بقوة الغصب والاستعمار مع شعوب عربية وإسلامية شقيقة، وتسومها أمر ضروب الاضطهاد والذلة، ففي مثل هذه المناسبات نجد بكل أسف صحفنا ومجلاتنا تشيد بأعياد هذه الأمم المستعمرة وتشاركها في الاحتفاء والابتهاج. خذ مثلا عيد 14 يوليه الفرنسي الذي يزف إلينا دائماً بأنه عيد الحرية والإخاء الإنساني، وتأمل كيف تفيض صحفنا كل عام في الإشادة به وبآثار الحوادث التي ارتبطت به في تحطيم صروح الظلم والاستبداد، وكيف يشترك كثير من شبابنا الأغرار في الحفلات التي تقام لهذه المناسبة، وكيف ينسى هؤلاء وهؤلاء أن هذه الأمة التي تتغنى بنشيد الحرية والإخاء والمساواة، هي نفس الأمة التي تفرض نير الذلة والاستعباد على ملايين المسلمين، وتعصف سياستها الاستعمارية الحديدية بدينهم ولغتهم وكل تراثهم القومي؛ هذا بينما يقضي الواجب الوطني وواجب التضامن الإسلامى أن نقف دائماً من هذه المناسبات موقفا سلبيا، بل أن نذكّر هذه الأمم الاستعمارية بما في دعواها من تناقض، وبأن الأمم المغلوبة لا يمكن أن تؤمن بنداء الحرية، وهي ترى أن أولئك المنادين به هم نفس الجناة على حرياتها واستقلالها.
إن تقدير الذكريات القومية، وتنوع الاحتفاء بها، وحسن الاستفادة منها، من شواهد اليقظة القومية؛ وإن المتغلب المستعمر لا يفوته أبداً أن يلاحظ هذه المواقف في حياة الأمم المغلوبة لأنها في نظره مقياس للشعور القومي؛ وهو أشد ما يخشى هذا الشعور وأحرص ما يكون على محاربته وإخماده، وإن كثيراً من الخطط والوسائل التي يدبرها الغالب لتثبيت نيره أو مصانعة فريسته يتوقف على مبلغ ما يأنسه فيها من قوة الشعور القومي أو ضعفه، ومن(58/2)
الأسف أننا نجوز مرحلة فتر فيها الشعور القومي، وفترت فيها قوة المقاومة؛ فلنعمل بكل ما وسع الجهاد المشروع لإذكاء هذا الشعور، ولنلتمس دائما لإذكائه ذكريات المحن القومية، فالمحنة تشحذ همم الأمم الحية، والشعور القومي لا يكفي في تغذيته أن تردد الفصول الفاترة المتماثلة كل عام، والحريات لا تغنمها إلا شعوب فياضة الوطنية، فياضة الشعور بكرامتها.
(ع)
-(58/3)
حول الحر
للأستاذ أحمد أمين
اشتد الحر وشغل الناس بالتفكير فيه، وبطرق التغلب عليه، وبالتأفف منه، فهذا يدبر المال للإقامة في مصيف فيوفق ويرحل، وهذا لا يواتيه المال فيقيم على مضض، وهذا نزاع عائلي بين ميزة الاصطياف في أوربا والاصطياف في الإسكندرية، وهذا غني أفلس يأتي عليه الحر فيذكره بأيام هنية قضاها في أجود المصايف وأنزه الأماكن، فتجتمع عليه لذعة الحر ولذعة الذكرى - وهذا بائع المرطبات والمبردات يسأل الله أن يزيد في الحر حتى يكثر بيعه، ويزيد ربحه؛ وهذا يرقب درجة الحرارة من حين لآخر ليعلم أتحسن الجو أم ساء، وهو يتبع المقياس في رضاه وسخطه، وهذا يقرأ نشرات مصلحة الطبيعيات ليقارن بين القاهرة والإسكندرية، والقاهرة وبور سعيد، فإن كان في الإسكندرية رثى لمن في القاهرة، وإن كان في القاهرة حسد من كان في الإسكندرية؛ وإن كان في أسيوط عزى نفسه بقلة الرطوبة وجفاف الهواء؛ ومن كان في مصر كلها حمد الله على أنه ليس في أمريكا حيث يختنق الناس - وهذه شغلها التفكير في المقارنة بين حمام ستانلي وسيدي بشر: أيهما أكثر ناساً، وأنظف مرتاداً، وأحسن للعرض وأمتع للنفس. وهذا يرتقب غروب الشمس التي تكويه بنارها، ليخرج إلى الجزر والأنهار والمقاهي المفتوحة والملاهي في الجو الطلق، فينتقم في ليله من نهاره - وهذا وهذا وهذه وتلك مما لا يعدو ولا يستقصى؛ ولكن لابد من ناحية أخرى أُنسيتُها، فهاذ كاتب وشاعر شغله الحر من ناحية أخرى فهو يريد تشبيهاً جميلاً للحر أو تعبيراً بليغا، فيقول: هذا الجو أحرّ من الرمضاء، وأحرّ من دمع الصب، وأحر من قلب العاشق، ومن فؤاد الثاكل؛ ثم لا تعجبه هذه كلها فيريد تشبيهاً مخترعاً، أو عبارة مبتكرة، أو استعارة بديعة، فيسبح في الخيال، وينسى الحر، وهي حيلة لطيفة للتخلص منه!!
أما أنا فقد ضايقني الحر، وحرت بين مصر والاسكندرية، تؤلمني الأولى بحرها القاسي، وتؤلمني الثانية برطوبتها الثقيلة، ووددت أن لو كان لي من المال ما يمكنني من أن أطير صباحاً فأقضي النهار في الإسكندرية، وأطير مساء فأقضي الليل في القاهرة وأخيراً رأيت أن أهرب من الحر حيناً بالتفكير في الكتابة فيه، وقلت إنها فرصة جميلة أن أكتب في(58/4)
الحر، فان خرج المقال قيماً ممتلئاً حرارة وقوة ربحت ربح المحسن في عمله - وليس لي كبير أمل في ذلك - وإن خرج المقال بارداً أكون قد أحسنت إلى الناس فرفهت عليهم، وانتقمت من الحر، وأعنتهم عليه؛ وأية فرصة للكاتب خير من هذه؟ يَحسن إذا أحسن، ويحسن إذا أساء؛ وللإنصاف لابد أن أعلن أني لست مبتكراً لهذا المعنى، إنما سرقته من نادرة لها اتصال بالحر، فقد أنشَدَ بعضهم بيتاً من الشعر، فقال سامعه: إن هذا البيت لو طرح في نار المتنبي لأطفأها، ويريد ببيت المتنبي قوله:
ففي فؤادِ المحب نارُ جَوىً ... أحرُّ نار الجحيم أبرَدُها
فكذلك أدرت أن أثأر لنفسي وللناس من حر هذا العام بكتابة مقالة تطفئه، وأخشى ما أخشاه أن تخرج فاترة، لا بالحارّة فتعجب، ولا بالباردة فتطفئ.
أول ما خطر لي في الحر أني الآن لابس ثوباً خفيفاً أبيض، واسعاً فضفاضا، مكشوف الرأس، عاري القدمين، جالس في حديقة، أشجار عن يميني، وأشجار عن يساري، وحوض زهر أمامي، وقد رشت الأرض من حولي، وبجانبي إناء مما يحفظ فيه الماء مثلوجاً، لا أدري ما اسمه بالعربية، وأخشى أن أقول (ترمس) فينقدني علماء اللغة؛ وكل شيء حولي يرطب الجو ويلطفه ويعدّله، وأنا مع هذا كله برم بالحر، ضيق الصدر، مغيظ محنق، أتلمس أقل سبب، لأعلن الغضب - وعلى البعد مني أصوات ترتفع بالنداء، هذه تحمل قفصاً مملوءاً بالفراخ، وهذا يجر عربة ملئت بأصناف الخضر، وهذا ثالث يحمل على رأسه سفطاً كبيراً قد ملئ بالتين أو العنب، وهو سائر طول نهاره في هذا القيظ ينادي، لا يعبأ بشمس ولا حر، ولا يضجر كما أضجر، ولا يألم كما آلم، ولا يفكر في الحر كما أفكر - أليس في الأرض عدل؟ أليس الشقاء قد أكسبه مناعة وقوة؟
أو ليست الرفاهية والمدنية والنعيم قد حرمتني الجلد والاحتمال؟
إنه ليسعد بما أشقى به، إنه ليسعد بشربة ماء من كوز من حنفية، ويسعد بالارتماء في ظل بيت في الشارع بعد أن أعياه التعب وأضناه السير، ويسعد بقريش يكسبه ليشتري به خبزاً جافاً يأكله فينعم به - إن كانت السعادة في اللذة والطمأنينة وهدوء البال فمما لاشك فيه أن هناك مجالاً للتفكير العميق (أينا أسعد) وتباً للعيش الناعم، والمدنية المعقدة، والرفاهية المترفة، التي أرهفت حواسنا وإحساساتنا، وأفقدنا الصبر واحتمال المكاره، وجعلتنا نفر من(58/5)
نعيم إلى نعيم أدق منه نظن فيه السعادة، وما السعادة إلا في العيش البسيط والمران على الجلد، واحتمال ألوان الحياة وصنوف التعب، وأقلها الحر والبرد، إن تحتمل الحر فلا حر، وان تحتمل البرد فلا برد، وان تعتدْ بساطة العيش تكره نفاق المدنية، وان السعادة لخيرُ ما يحقق مذهب (آينشتين) في النسبية، فكل شيء في الحياة من لذة وألم نسبي، وليست اللذة والألم يعتمدان على الشيء الخارجي فحسب، بل هما نتيجة تفاعل بين الشيء الخارجي والنفس، ويختلف هذا التفاعل اختلافاً كبيراً باختلاف النفوس، فليس الألم من الحر والبرد يعتمد على درجة الحرارة وحدها، بل إن صلح الترمومتر أن يكون مقياساً لحرارة الجو، فلا يصلح ان يكون مقياساً لألم النفس من الحر، وليس لهذه الحال ترمومتر مشترك يتساوى فيه الناس، إنما لكل إنسان في الألم من الحر والبرد ترمومتره الخاص، ولذلك ترى من يموت من الحر، ومن يموت من الضحك على الحر - ومن الغريب أن يتوجه كل الناس بكل مجهودهم للتخلص من الحر بالاصطياف وسكنى الشواطئ والمراوح والمرطبات، ولا يبذلون أي جهد في الناحية الأخرى وهي الناحية النفسية بترويضها وتمرينها على الاحتمال، وتعويدها الصلابة، وهذا في نظري ليس أقل شأناً ولا أصغر قيمة من العلاج الأول.
وخطر لي أن علماء الجريمة يذكرون أن هناك أنواعاً من الأجرام تكثر في الصيف كالأجرام الجنسي، وأنواعاً تكثر في الشتاء كأجرام السلب والنهب، فقلت لعل ذلك أيضاً في الأدب، فالأدباء يهيج بعضهم على بعض صيفاً أكثر مما يهيجون شتاء، ويهيجون في القاهرة أكثر مما يهيجون في الاسكندرية، إن شئت مصداق ذلك فانظر ما كان بين من يسمونهم أدباء الشيوخ وأدباء الشباب، وانظر ما كان بين أدباء الشيوخ بعضهم وبعض، وأدباء الشباب بعضهم وبعض، أليس هذا كله فعل الحر؟
أو ليس من كان في الإسكندرية على شاطئ البحر كان يعجب من فعل الحر في أدباء القاهرة؟ - ولئن كان الحر يؤاخَذ على ما جنى من تعريض العلاقات بين بعض الأدباء لخطر، فانه يشكر على أنه استطاع أن يستخرج من الأدباء قطعاً فنية بديعة أكملت أبواب الأدب، فان القدماء قد عدوا من أبوابه باب الهجاء كما عدوا باب المديح - كما أنه يشكر إذ لم يسلط ناره الحامية على الأدباء طويلاً فقد حوَّل، عدسته إلى غيرهم ليتنازعوا فنجا(58/6)
الأدباء، من ثورته، وهدأت عواطفهم وتصافت نفوسهم.
وأخيراً خطري لي محمدة جليلة للحر القائظ، والبرد القارس وقلت إن هذه المحمدة تفوق كل ما كان للحر والبرد من سوء ولولاها لما تقدمت الإنسانية، ولما رقى النوع البشري هذا الرقي، ولظل هائماً على وجهه كالوحوش، ذلك أن الشمس بنارها اللافحة، والحر بشدته اللاذعة، والبرد بحدُته القاسية، وأمطار المنهمرة، وببرَده وثلوجه، والطبيعة العنيفة - بعواصفها ورياحها - كل ذلك هو الذي ألجأ الإنسان قديماً إلى أن يبحث له عن ملجأ يأوى إليه من الحر والبرد، فسكن الكهوف نشأته الأولى وظل يرتقي في ضروب من الارتقاء حتى أسس البيت، وأسس الاسرة، وكونت الأسر القبائل والمدن وكونت هذه القبائل الأمم، ثم تعاونت الأمم على ترقية النوع الإنساني فلولا الحر والبرد ما أظن أن قد كان بيت، ولولا البيت ما كانت أسرة، ولولا الأسر ما كانت أمم - أليس الحر والبرد إذن كانا أفعل في ترقية النوع الإنساني من كل مظاهر الحياة وظواهر الكون؟ فإذا قلنا إن تقدم النوع البشري مدين في تقدمه لرداءة الجو، وشدة الحر والبرد، لم نُبْعِد.
خطر لي كل هذا حينما حاولت أن أكتب في الحر فبدأ الضجر يقل، والألم يحتمل، والنفس تهدأ، والعاصفة تسكن والاحتمال يقوى - فهل هذا مستمر؟ سأجرب.
على كل حال قد هزئت بالحر ونسيته - ولو إلى حين - بكتابة مقال فيه.
احمد أمين(58/7)
قصة أب
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
حدثني المسكين فيما حدَّث وهو يصف ما نزل به قال:
رأيت الناس قد أنعم الله عليهم أن يكونوا آباءً فَنَسأ بالولد في آثارهم، ومدَّ بالنسل في وجودهم، وزاد منه في أرواحهم أرواحاً، وضم به إلى قلوبهم قلوباً، وملأ أعينهم من ذلك بما تَقّر به قُرّةَ عَين كانت لم تجد ثم وَجدت، فهم بهؤلاء الأطفال يملكون القوة التي ترجعهم أطفالاً مثلهم في كل ما يسرهم، فيكبر الفرح في أنفسهم وإن كان في ذات نفسه ضئيلاً صغيراً، ويعظم الأمل في أشيائهم وإن كان هو عن شيء حقير لا يُؤبْه له؛ وتلك حقيقة من حقائق السعادة لا أسمى ولا أعظم منها إلا الحقيقة الأخرى، وهي القوة التي يتحول بها الكون في قلب الوالدين إلى كنز من الحب والرحمة وجمال العاطفة، بسحر من ابتسامة طفل أو طفلة، أو بكلمة منهما أو حركة، على حين لا يتحول مثل ذلك ولا قريباً منه بمال الدنيا ولا يملك الدنيا.
رأيت الناس قد أنعم الله عليهم أن يكونوا آباءً، ولكنه ابتلاني بأن أكون أباً، وأخرج لي من أفراح قلبي أحزانَ قلبي!
ولقد كنت كرجل ملك داراً يستمتع بها، فتمنى أن يشرع في جانب منها غرفةُ يُزخرفها، فلما تم له ذلك وبلغ المقْترح إنهدمت الدار، وبقيت الغرفة قائمة!
عَمْرَك الله، أيشعر هذا الرجل في نكبته بالغرفة أم بالدار؟
وهل تراه زاد أو نقص؟ ويا ليتهما بيت وغرفة من بيت؛ فان الحجارة تحيا بالبناء إذا ماتت بالهدم، ولكن من ذا يحي الزوجة ماتت بعد أن وضعت بِكرَها الأول والآخر:
إنها طفلة وِلدتُ وكأنما أٌخرجت من تحت الردم إذ وُلدت تحت ماضٍ من الحياة منهدم. وهل فرقٌ بين هذا وبين أن تكون أمها قد ولدتها في الصحراء ثم أكرهت أن تدعها وحدها في ذلك القفر تصرخ وتبكي! فالمسكينة على الحالين منقطعة أولَ ما انقطعت من حنان الأم ورحمتها.
طفلة وُلدت صارخة، لا صرخة الحياة، ولكن صرخة النوْح والندب على أمها.
صرخة حزينة معناها: ضعوني مع أمي ولو في القبر!(58/8)
صرخة ترتعد كأن المسكينة شعرت أن الدنيا خالية من الصدر الذي يُدفئها!
صرخة تترد في ضراعة كأنها جملة مركبة من هذه الكلمات: (يا رب ارحمني من الحياة بلا أم!).
قال المسكين هو يبكي امرأته:
ولما ضَرَبها المخاض ضاعفت قوتها من شعورها أنها ستكون بعد قليل مضاعفة، وستكون روحين لا روحاً واحدة، وتلد لي الحياة والحبَّ والإلهى معاً، وتأتي لقلبي بمثل طفولته الأولى التي يستحيل ان تأتي الرجلَ إلا من زوجه. كل ذلك ضاعف قواها ساعة وشدّ منها، ولكن ما أسرع ما تبينتْ أنه الموت إذُ عضَّلتْ وعسر خروج مولودها وجاءها اِلجراحّى بمبضعة، وكأنما رأته ذابحاً لا طبيباً فجعلت تعبر بعينها إذ لم تملك في آلامها القاتلة غير لغة هاتين العينين.
كانت بنظرة تبكي عليّ وعلى بؤسي، وبأخرى تبكي على بؤس مولودها وشقائه؛ وبنظرة تودعني، وبأخرى تدعو الله لي جزاء ما أحسنت إليها؛ وبنظرة تتوجع لنفسها، وبأخرى تتألم من أنها تراني أكاد اجن.
نظرات نظرات.
يا إلهي! لقد خيل إليّ أن ملك الموت واقف بين عشرين مرآة تحيط به، فأنا أراه موتاً متعدداً لأموتاً واحداً. وكل نظرة عينْي زوجتي إليّ كانت منها هي نظرةً، وكانت عندي أنا مرآة الروح للروح.
ولكنها لم تنس أنها تموت لوضع مولودها، وإن هذه الآلام الدموية الذابحة هي الوسيلة لأن تترك لي بقية حية منها؛ فيا للرحمة والحنان والحب! لقد ابتسمت لي وهي تموت، وهي تلد، وهي تذبح!
ليست رحمة المرأة المحبة خيالاً إلا إذا كانت حرارة الشمس التي تحي الدنيا خيالاً أيضاً؛ إن هذا القلب النسوي المستقر فوق أحشاء تحمل الجنين صابرة راضية فرحة بآلامها، وتغذوه وتقاسمه حياة نفسها - هذا القلب يحمل الحب أيضاً صابراً راضياً فرحاً بآلامه، ويغذوه ويقاسمه حياة نفسه. وللرحمة الإلهية أدلة كثيرة تدل الإنسان عليها دلالاتٍ مختلفة؛ فالشمس تدل عليها بالضوء الذي تَطعمه الحياة، والهواء يدل عليها بالضوء الذي تتنفسه(58/9)
الحياة، والماء يدل عليها بالضوء الذي تشربه الحياة، وهكذا إلى أن يأتي في الآخر قلب المرأة فيدل على رحمة الله بالحب الذي تقوم به الحياة.
ابتسامة الحب غالبت زفراتِ الموت التي تعتلج من تحتها حتى غلبتها، وأعادت الحياة لحظة إلى وجه زوجتي لأراها آخر ما أراها في صورة المُحبة، فكان كل جمال نفسها منتشراً على ذلك الوجه، وظهرت فيه روحها وعواطفها تودعني وداعاً حزيناً متبسما يتكلم؛ يتكلم بعجزه عن الكلام.
ابتسامة لا ريب أن فيها أشياء ليست من جمال هذه الدنيا ولا من حقائقها؛ فكأنما التمعت بأشعة من الخلد ترفّ رفيفها على وجه الحبيب ليظهر ساعة الموت أن حبه أقوى من الموت.
قال المسكين: ونثر الطبيب ذا بطِنها فكانت طفلة، وما كانت زوجتي تقترح أن يكون الجنين غيرها، بل كانت مستيقنة أنها تضعها أنثى، وصنعت لها ثيابها، ووشتها بزينة الأنوثة، وعرضت أسماءَ البنات فاخترت اسمها أيضاً، وكنت أكره ذلك منها وأريد ولداً لابنتا، فكانت تغايظني بعملها وإصرارها غيظ دعابة لا غيظ جفاء.
ومضت لا تذكر إلا بنتها مدة الحمل، ولا تتكلم إلا عن بنتها، وقد كانت أعجب لذلك، فلما قضى الله فيها قضاءه علمت أن ذلك أمر من أمر الروح، فكان الإلهام فيها أنها على باب قبرها وأنها لن ترى طفلتها ولن تعيش لها، فعاشت أيام الحمل مع ذكراها، تضم ثيابها إلى صدرها، وتحملها على يدها، وتناغيها وتقبّلها، وتأخذها من الوهم وتردّها اليه. وكذلك نعمت المسكينة بالمسكينة!
لكِ الله يا معجزة الرحمة؟، يا نفس الأم!
ولما قيل: ماتت - جعل يكلمني المتكلم ولا أعقل، فان الكلمة التي تأتي بالمصيبة المتوقَّعة طال ارتقابها - لا تأتي بمعان لغوية كغيرها من الكلام، بل بأسلحة تضرب في النفس وفي العقل، وتُثْخنُها جراحا وفتكا.
وجعلني موتها كأني ميت يحمل نفسه، ما حوله إلا المشّيعون، وأحسست كأن قوة أخذت بإحدى رجليّ فوضعتها في الآخرة، وتركت الثانية في الدنيا، ولحقني من الجزع ما الله عالم به، ووجدت أحرق الوجد، وبكيت أحر البكاء؛ وجعلتْ أفكاري تنحدر من رأسي إلى(58/10)
حلقي فأختنق بها، ثم لا يُنفّس عني إلا الدمع، كأن أعضائي اختلّت مما ضغطني من الحزن فأنا أتنفس برئتّي وعينّي.
بموتها شعرت بها، ولعله من أجله ذلك لا يشعر الإنسان بلذة الحب كاملةً إلا في آلام الحب وحدها، وكانت في حياتها تضع من روحها في سروري، وهذا هو سرّ المرأة المحبوبة، يجد مُحبُّها في كل سرور لمحات روحانية، وكذلك فعلت بعد موتها، فجعلت روحها في أحزاني؛ ولولا أن روحها في أحزاني لقتلتْني المصيبة.
وكنت أدلف وراء النعش وقد بطل في نفسي الشعور بالدنيا، وكان الناس يمشون حولي بما فيهم من الحياة، وكانوا ذاهبين إلى المقبرة على أنهم سائرون كما يذهبون إلى كل مكان، أما أنا فكنت أمشي بما فيّ من الحب منكسراً منخذلاً متضعضعاً، لأني وحدي سائر وراء مالاُ يلحق.
وثقل الناس على قلبي، ورجع كل أمرهم عندي إلي العيب والنقيصة، إذ كان لي عقل طارئ من الحالة التي أنا فيها ليس مثُله لأحدٍ منهم، وكنت وحدي المصاب يبينهم، فكنت وحدي بينهم العاقل.
أنا أمشي لأنتهى إلى آخر مصيبتي، وهم يمشون لينتهوا إلى آخر الطريق؛ وشتّانَ ما نحن وشتان!
ولما رأيت قبرها ابتدرت عيناي تنظران بالدموع لا بالنظر، ورأيت التراب كأنه غيوم ملوَّنة بألوان السحب السوداء تتهيأ في سمائها تحت الظلام لتخفي كوكباً من الكواكب؛ وظهر لي القبر كأنه فم الأرض يخاطب الإنسان بحزم صارم، يخاطب الفقير والغني، والضعيف والقوي، والملوك والصعاليك: (إن كل قوة تُنزع هنا).
قال المسكين: وكما يجد الإنسان في أيام المطر رائحة النسيم المبتلّ بالماء كنت أستروح في رجعتي إلى الدار رائحة نسيم مبتلّ بالدموع، وحضرت المأتم وعزّاني الناس فكنت فيهم كالمأسور بينهم لا أتمنى إلا أن يَدَعوني فأنجوَ على وجهي، ولا أرى إلا أنهم يجرّعونني الوجودَ غُصصاً كما تجرعت الفقدَ غصة غُصة، إلا أن تفرقوا مع سواد الليل، فانكفأت إلى الدار فإذا كل شيء قد تغير ولمسه الموت لمسة، وإذا الدار نفسها كالعين المقروحة من آثار البكاء، مآثَمّ إلا ليطالعني بأن مسراتي قد ماتت!(58/11)
ولاح الصبح ليعنّي الساهرتين صبحاً فاتراً تبينتُ فيه الخجل كأنه يقول: (لم أطلع لك)، فانسللتُ من البيت، وذهبت أمشي في دنيا هي الكآبة المضيئة، سِخرت الأقدار منها بإظهارها في هذا الضوء مظهرَ وجه العجوز المتصابية في زينة لا تزيدها إلا قبحاً!
ومضيت على وجهي لا غاية لي، أضرب في كل جهة كأنما أريد أن أهرب من نفسي! وما خطر لي قط أني في يوم جديد، بل كنت عند نفسي لا أزال في أمس، وتغير عندي الزمان والمكان؛ فأحدهما ساعة موت لا تترك ما فيها، والآخر قبر ميّتة لا يرد ما فيه.
آه من الوقت الذي ينتهي فيه الموجود ليعذبنا بالتذكر أِنه كان موجوداً!
قال المسكين: ثم أعادتني قدماي إلى البيت لأرى طفلتي - وما كنت رأيتها - ولقد كانت ولادتها أولَ الحياة لها، وأول الحياة لي أيضاً، إذ لولاها لانتحرت غيرَ شكً.
يا ويلتا! لم تلتق عيني بعين الطفلة حتى انفجرت تبكي، أتبكين لي يا ابنتي أم عليّ؟
أهذا بكاؤك أيتها المسكينة، أم هو صوت قلبك اليتيم؟
أصوتكِ أنتِ، أم هي روح أمكِ تصرخ ترثى لي وتتوجع لفرط ما قاسيت!
يا ابنتي، إنما أنت الحقيقة الصغيرة التي خرجتْ لي من كل تلك الخيالات الشعرية الجميلة - خيالات الأيام السعيدة التي مرّت! يُخلَق المواليد من اللحم والدم، وأراكِ أنتِ يا مسكينة، خلقتِ من اللحم والدم والدموع!
بقَّية حياةٍ ماتت! فهل معنى ذلك إلا أنكِ بقية موتٍ يحيا؟
مسكينة، مسكينة، لو أن نواميس العالم متغيرة لشيء لتغير من أجل بؤسك فردّت لك الأم، ولكنها لم تتغير، وما بكاؤنا وآلامنا وتعاستنا إلا تراث الحياة في أجسامنا الأرضية؛ كل ذلك طبيعة، ولكن بقعة أنظف من بقعة، وأراكِ يا بنتي كالبيت الذي هُدِم أوَل ما بنى يملؤه ترابه!
لن تتغير النواميس، فلن تجدي عطف الأم، ولكن لن يتغير قلبي أيضاً، فلن تحرمي عطف الأب.
وإذا صبر الناس على الحياة فمن أجلكِ يا مسكينة! من أجل ضعفك وانقطاعك سأعاني الصبر لك، وأعاني الصبر لي، وأعاني الصبر من أمك، سأصبر على الصبر نفسه!
يا ابنتي، يا ابنتي، لماذا وضعتك الأقدار من هذه الحياة في الناحية التي ليس فيها إلا قبر(58/12)
مظلم مقفل على أمكِ، وأب مسكين مقفل على آلامه؟!
قال المسكين: وهكذا كتبتُ من أهل البؤس والهم، فلم أتزوج إلا لتصنع لي حبيبتي دموعي، ثم لم تمت إلا بعد ان تركت لي حبيبةً أخرى ستظل زمناً طويلا تصنع لي دموعي.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(58/13)
مجهولو الأبطال
ابنا النقيب
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
أرأيت التاريخ اتسع يوماً لذكر الألوف المؤلفة ممن سيروا حوادث الدهر، ودفعوا تيارات الزمان نحو مستقرها؟ قد يذكر التاريخ عظيما أو بعض عظماء، وهؤلاء قد يكونون من قادة الحرب وزعماء أرباب السيف، وقد يكونون من أهل السياسة وأصحاب الدهاء والكياسة، الذين تألفوا الناس وحركوا الأحزاب، وقد يكونون من أهل القلم، لا بل قد يكونون من أصحاب العلم الذي أضاءوا للناس سبلهم في الحياة. ولكن كم يكون هؤلاء الذين يذكرهم التاريخ؟ أيكونون بضع مئات في كل عصر؟ أم لعلهم يبلغون بضعة ألوف؟ وأين يقع هؤلاء من ذلك التيار الأتيَّ الذي تزدحم به الأيام والليالي من الناس؟
قد يزعم زاعم أن الأفذاذ كانوا أبداً قليلي العدد، وأن التاريخ لا يذكر إلا هؤلاء الأفذاذ. وذلك زعم أكِل الحكم فيه لكل من وقعت عينه على هذه الكلمات، فإني لا أخال فيهم الكثيرين ممن بلغت بهم الأنانية إلى تطلع لذكر التاريخ والخلود في صحائفه. فإذا كان أكثرنا لا يطمع في ذكر التاريخ والخلود فيه، أأيأ] أيأينبتيسنبتيمسبتيسننيستبيسبينبتيسنبتيسبسأيكون ذلك مُخَذلاً لنا عن القيام بما يجب علينا؟ إن من الناس من يعطي المسكين أمام أعين الناس. حتى يشتهر بينهم بالأفضال والاحسان، وإن منهم من يرفع رأسه بكلمة الحق، وهو على مسمع من قوم يطمع أن يقولوا عنه إنه حر أبي كريم النفس، وإن منهم من تدفعه الحمية وهو على مرأى من الناس إلى أن يخوض الأخطار في سبيل المكارم، لتكون له بذلك ذكرى بينهم وحسن أحدوثة. وهذا الحق لا بأس على الناس ان يأتوه، فان الخير لا يضره أن يكون من ورائه منفعة لمن يقدمه. غير أن تلك المرتبة في المحل الثاني من المكارم، وأما المحل الأول فقد سبق إليه من يواسي في الخفاء، وهو لا يطمع في شكر من يواسيه، ولا يتطلع إلى إعجاب من حوله من الناس، ومن يصدع بالحق لا يبتغي من وراء ذلك إلا أن يقوم بواجبه أمام نفسه، ومن يصنع الخير للناس لا ليجازوه بالاجلال، ولا ليفوز منهم بالإعجاب. بل لأنه يطيع طبيعته في ذلك وينطل على سجيته. ومن ثم كان الأولى بشكر الإنسانية من يقوم على المكرمات،(58/14)
ويمضي في الخير، وهو في غمار الناس لا يستشرفه أحد من الناس، ولا يشرئب هو بعنقه إليهم. فإذا نحن رضينا بذلك كان انتدابنا إلى أداء الواجب من تلقاء أنفسنا غاية ما يحرص عليه أماثلنا، ولم يكن إعجاب الناس ولا ثناؤهم بما يطمع فيه الكرام أو تطمع فيه الكرام أو تطمح إليه النفوس العالية.
ولقد كان في مصر في مختلف العصور جماعات كثيرة، بلغت من سمو النفس أنها أدت واجبها، ولم تعبأ بأن يتخلف عنها في التاريخ ذكر. ومضى التاريخ بذكرياته وأسمائه، فلم يذكر من هؤلاء إلا النزر اليسير. ونحن اليوم موردون ذكر اثنين من هؤلاء أبى الله إلا أن يحفظ لنا اسميهما لتكون تلك آية دالة على أن فيمن مضى جماعات لا عد لأفرادها أدوا واجبهم، ومضوا في ثنايا ضباب الماضي، ولم يعبأوا بأن يلتفتوا التفاتة واحدة إلى الناس يطلبون منهم شكراً ولا ثناء. وتلك هي مكارم الأخلاق ومروءة الحياة.
كان في مصر جماعة الأمراء المصريين الذين يظلمهم التاريخ بأن يطلق عليهم اسم (المماليك)، وكانوا يسمون أنفسهم الأمراء المصريين. ومهما يكن من محامدهم أو مساوئهم، فقد كانوا معتزين في كل الأحوال بمصريتهم يحبون هذه البلاد كأعظم ما يحب الرجل بلاده.
وكان من هؤلاء الأمراء من استقل بمصر استقلالاً تاماً وأحاط ذلك الاستقلال بسياج من قوة قلبه وحماسة نفسه. ثم عدت على ذلك الاستقلال العوادي فآثر أن يبذل دمه قبل أن يبصر صرحه ينهار، وقضى قتيلاً في دفاعه كما يموت الأسد وهو يدفع عن عرينه. وكان أحد هؤلاء أمير مصر الأشهر على بك بلوط قبن المعروف بعلي الكبير. وقد كان في أيام هذا الأمير كثيرون من الأفاضل الأمجاد، منهم أخوان من نسل هاشمي حسيني: أحدهما اسمه السيد علي بن موسى الحسيني الأزهري المصري، والآخر اسمه بدر الدين الحسيني المصري. ويعرف كل منهما بابن النقيب، لأنهما من سلالة بيت كان منه نقباء في بيت المقدس. وكانا عالمين، نالا من العلم أقصى ما ينال من زمانهما. وبلغا من ذلك مرتبة التدريس، فكان أكبرهما (على) يدرس في المشهد الحسيني التفسير والفقه والحديث، وتبعه أخوه الأصغر بعد موته في إملاء الحديث في المشهد الحسيني نفسه. وكانا مع ذلك كاتبين مبرزين، فكان السيد على يتبع في النثر طريقة طريفة (لا يتكلف السجع، وإذا سئل من(58/15)
مسئلة كتب عليها الجواب أحسن من الروض جاده الغمام).
غير أن هذين الأخوين لم تقنع نفساهما بما بلغتا من مرتبة العلم، إذ رأيا أن دونهما واجبا عاما يجب عليهما أن يضطلعا به، وذلك أنهما رأيا الحياة العامة محتاجة إلى كثير من التقويم والتهذيب، فكان الأخ الأكبر يخرج في دروسه عن التلقين المجرد (إلى الرد العنيف على أرباب الأموال والأكابر وملوك الزمان) حتى انه اضطر للهجرة في سبيل الحق من مصر إلى بلاد السلطنة العثمانية، ثم اضطر مرة أخرى إلى أن يهاجر إلى مصر هارباً من حكومة السلطان لأنه لم يرضها ولم ترضه.
وكان الأمراء يعرفون له إخلاصه، ويقدرون له صراحته في الحق، فان الأمير محمد بك أبا الذهب الذي آل إليه الأمر بعد علي بك الكبير سأله مرة على سبيل المباسطة فقال له: (كيف رأيت أهل اسلامبول؟) فقال له: (لم يبق باسلامبول ولا بمصر خير) فلم يغضب الأمير من شدة رده، بل قضى ديونه وأعانه بما يتصدق به على الفقراء.
وكان السيد على فارساً شهما (لا يخلوا (اصطلبه) من الخيل، ويضمرها ويعتني بأحوالها، ويرغب في شرائها لمعرفته بالفروسية في رمي السهام واستعمال السلاح واللعب بالرماح وغير ذلك) فكان مقصد اللاجئين من الناس، وموئل المظلومين من العامة، ومكان الإجلال من أهل الحكم، يقضون ما يأتي فيه شافعا، ويخشون نقده ويكرمون نصحه. ثم مات السيد علي وتبعه أخوه الأصغر السيد بدر الدين. فسار على منهج أخيه من (التردد إلى الأعيان والأمراء، والسعي في حوائج الناس، والتصدي لأهل جهته وخطته في دعاويهم، وفصل خصوماتهم وضلحهم، والذب عنهم، ومدافعة المعتدي عليهم، ولو من الأمراء والحكام)، وصارت له مكانة كبرى في البلاد وعند الأمراء) يخشون جانبه وصولته) ثم ذهبت أيام هؤلاء الأمراء المصريين وهبطت على مصر كارثة الأجنبي، إذ دخل الفرنسيون مصر، فدمروا وهدموا وغيروا، وأبوا إلا أن تكون مصر على مثل خطتهم ومدنيتهم. فغضب كرام المصريين لذلك، ورأوا في تلك المحاولة قضاء على شخصيتهم وازدراء لمدنيتهم الموروثة التليدة. فانتهزوا الفرصة وثاروا على الفرنسيين، وكان السيد بدر الدين من زعما الثوار. (فجمع جموعه من أهل الحسينية والجهات البرانية، وانتبذ لمحاربة الفرنج ومقاتلهم وبذل جهده في ذلك) غير أن الثورة لم تنجح كما هو معروف، فخرج السيد بدر الدين من مصر(58/16)
منذ رآها غير صالحة لمقامه فيها. وأي مقام للحر الكريم المجاهد في بلاد الضيم وبلاد الله واسعة يستطيع أن يهاجر فيها؟ واتبعه غضب الفرنسيين في داخل البلاد وفي خارجها، وانتقموا منه بهدم ما ترك في مصر من أبنية، وسلب ما خلف فيها من أموال، غير أنه لم يبال شيء من ذلك، ولم يكن مثل بدر الدين ليعبأ بما يصيبه في المال من خسارة، ومازال في خارج مصر يجاهد مع المجاهدين حتى عاد النصر كما أنه لم يضعف في أيام المحنة من الخيبة والخذلان، ولما عاد إلى مصر استأنف السعي في خير المجموع وهو قرير العين بما نال من توفيق، وكان مما يزيد قلبه اطمئناناً وسلاماً أن يذكر ما أصابه من الألم في جهاده.
ولم يكن ابنا النقيب سوى درتين من عقد أبطال سمى التاريخ بعضهم ونسى البعض، ورحم الله من سمى ومن لم يسم. لقد طوى الماضي في بطون الثرى ألوف الألوف من الأجداد، وقد يكون منا من يتهم هؤلاء الجدود ببعض التهم، وجدير بنا أن نفكر مرتين قبل أن نجرؤ على ذلك الاتهام.
لقد كان من الماضين من هم أقوى منا مروءة في حياتهم وجهادهم وسعيهم إلى الخير، منذ كانوا يؤدون أمانتهم غير طامعين في أن يعرف الأحفاد عنهم ما صنعوا. وحري بنا أن نتسامى إلى مثل هذا الكرم فنسعى إلى أداء الأمانة، ونحن في ستر الخفاء لا يطلع علينا إلا الله، ولا ترقبنا بعد الله سوى عين الضمير.
محمد فريد أبو حديد(58/17)
شعب شرير
النور
نشأتهم وخواصهم وفنونهم
النور (الغجر) جنس غريب من البدو الرحل، مشتت في سائر أنحاء العالم، في أوربا وغرب آسيا وشمال افريقية وأمريكا وأستراليا، ويقدر تعداده بنحو تسعمائة ألف نسمة، منهم في المجر وحدها نحو 280 ألفاً، وفي رومانيا نحو 250 ألفاً، وفي تركيا نحو مائة ألف، وباقيهم مشتت في سائر الأنحاء. ويقول بعض علماء اللغة أن كلمة ومثيلاتها في الأوربية، ومعناها النور، مشتقة في الأصل من كلمة أعني مصر، ويستدل البعض بذلك على أن النور ربما نزحوا من مصر إلى أوربا في غابر العصور. بيد أن أصلهم غامض جداً، وكل ما يمكن أن يقال في ذلك أن النور يظهروا في أوربا، وبالأخص في بلاد البلقان، منذ القرن الرابع عشر، ثم انتشروا في جميع البلدان الأوربية حتى سواحل البلطيق وانكلترا، وعرفوا بالبداوة وعدم الاستقرار، يتنقلون دائماً ويقيمون في الحقول والغابات في خيام يحملونها، ويسافرون على الخيل والعربات المقفلة، ويزاولون الحرف المريبة كالسحر والتنجيم؛ وعرفواً أيضاً بكثير من الخلال السيئة وبانحلال الأخلاق والأقدام على ارتكاب الجرائم.
ولما اشتد عيثهم في أواخر القرن السادس عشر، قررت فرنسا ومعظم دول أوربا نفيهم وعقاب المخالفين بالإعدام، فطوردوا في كل مكان وعذبوا وأحرق منهم كثيرون لأنهم (نور) فقط. وفي القرن السابع اشتهروا بخطف الأطفال، وهبت عليهم من أجل ذلك ريح جديدة من المطاردة، وكانوا في كثير من البلاد ولاسيما رومانيا وألمانيا يعتبرون رقيقاً يحل بيعهم وشراؤهم. ولكنهم من القرن الثامن عشر، أخذوا يتقدمون في اكتساب الحقوق العامة، ومنحوا الحرية في المجر، واهتمت بأمرهم الإمبراطورة ماريا تيريزيا، وأمرت بتعليمهم الزراعة، وتحسنت أحوالهم وأطوارهم نوعا. وفي القرن التاسع عشر اعترفت بهم معظم البلدان كرعايا، ومنحوا الحقوق والحريات السياسية. وفي سنة 1906 عقد النور ومن يهتم بأمرهم مؤتمراً في صوفيا عاصمة بلغاريا، وطالبوا بالاعتراف لهم بكافة الحقوق التي تمنح لباقي الرعايا وعرفت النور منذ عصور بإتقان بعض الحرف مثل صنع الحلي والأواني(58/18)
النحاسية الدقيقة، وأجراس الكنائس، والنجارة، وصنع السلاسل، والحفر أحياناً، واشتهروا بالاتجار في الخيل؛ بيد أنهم اشتهروا بالأخص بالبراعة في الموسيقى، وهي موسيقى خاصة بهم، وذهب بعض النقدة الموسيقيين في تقدير الموسيقى النورية إلى حد بعيد، حتى قال الموسيقي المجري الكبير (لسزت) إن الموسيقى المجرية ترجع إلى أصل نوري. كذلك برع النور في الغناء والرقص، واشتهر نساؤهم بالتنجيم وقراءة الكف والورق، ولنساء النور جمال شرقي خلاب، ولكن تغلب عليهم الرثاثة، ولهن ولع بالثياب والحلي، ويغلب عليهن الانحلال الخلقي.
وليس النور دين خاص بهم، ولكنهم يعتنقون في الغالب دين البلد الذي يحلون به، وتغلب عليهم التقاليد الوثنية والخرافات، كذلك ليس للنور لغة خاصة معروفة، ولكنهم يتكلمون لهجات عديدة، وقد دل البحث على أن هذه اللهجات ترجع إلى بعض اللهجات الهندية، حتى اعتقد البعض أنهم نزحوا أصلا من الهند.
هذا وقد قرأنا عن النور وخواصهم وأخلاقهم وفنونهم بحثاً ممتعاً للكاتب المجري الكبير يوليوس كودلاني، رأينا أن ننقله لقراء (الرسالة) فيما يلي، وحديث الكاتب يتعلق على الأخص بالنور المجريين، وهم كما رأينا أكبر كتلة من النور في العالم. قال الكاتب:
لبث النور المجريون حتى أحدث العصور يقاومون كل محاولة لتمدينهم، وقد كانوا كأبناء جنسهم في البلاد الأخرى يعيشون في جماعات بدوية متنقلة لا ترتبط برباط المواصلة، ولم ينتهوا إلا في أيامنا إلى البدء بالاستقرار ومزاولة الأعمال المنظمة. ويوجد في المجر نوعان من النور: (نور الكولومبار)، (ونور الفلاج) وكلاهما يرجع إلى أصل آرى كباقي النور ولكن توجد بينهما فروق ظاهرة في طرق الحياة وفي اللغة والأخلاق، وكذلك في القوام والمحيا، وبينما يميل الكولومبار إلى الرباعة والغلظة، إذا بالفلاج غالباً ممشوق القد، وسيم المحيا. ولنور الكولومبار لدى الفلاحين سمعة سيئة، ويشعر الفلاحون نحوهم ببغض مقرون بالخوف، فإذا ما نزلوا بجوار قرية ما بذل الفلاحون كل ما استطاعوا للتخلص منهم، واتخذوا كل تحوط للمحافظة على دجاجهم ومواشيهم وثيابهم.
ويشتغل نور الكولومبار بصنع الآنية وأقمشة الخيام وبعض أعمال الحدادة. ويزاول نساؤهم السحر ولهن فيه براعة، ويتبعن في مزاولته كثيراً من الرسوم الوثنية التي اختفت من بين(58/19)
الشعوب المتمدنة، وهن يتنبأن بالمستقبل ويكشفن الأوراق، ولهن براعة مدهشة في الوقوف على عواطف الرجال وغرائزهم، ويعربن في نبوءاتهم عن الأماني الخفية، والشهوات المكتومة؛ ويلجأن إلى الرسوم الرمزية، ويكتشفن ما يجول في صدور قصادهن من الرغبات والشهوات. وقد بثت الحياة الخشنة المضطربة، والعزلة الدنيوية، والحرمان المستمر، في نفوس هاته القبائل ميلاً إلى تحقيق الغاية دون عنف وبوسائل ملتوية؛ فهؤلاء النور يكذبون ببراعة، ولهم فصاحة مقنعة، ومثابرة مدهشة. ولو أردنا أن ندرس من الوجهة النفسية أساليبهم وتأثيرهم الغريب، شبه الروحي، الذي يبثونه في نفوس ذوي الغرائز المضطربة لانتهينا إلى نتائج في منتهى الأهمية. وهم الشعب الوحيد الذي استطاع أن يحتفظ في قلب أوربا، وفي قلب المجتمعات المتمدنة بالحياة البدوية التي تذكرنا بحياة الهنود الحمر في أمريكا الجنوبية أو الزنوج في التي تذكرنا بحياة الهنود الحمر في أمريكا الجنوبية أو الزنوج في أفريقية. ذلك أنهم معرضون دائماً لنزعات الطبيعة، ولهم علاقات دائمة مع قواها، فهم يحملون بذلك إلى كل ما يقرب من الحيوان والغريزة.
والنور لا يملكون شيئاً، ولذا فهم لا يحترمون الملكية؛ فإذا استطاعوا الاستيلاء على شيء استولوا عليه بأي الوسائل، وحياتهم العائلية منظمة على قاعدة الشيوع، وأن لا ملكية يعترف بها ونور (الفلاج) أظرف وأفضل خلالاً من نور الكولومبار؛ وهم يشتغلون عادة بصنع الآلات الخشبية بمهارة، ويطوفون القرى لبيعها، ويبدون في جميع الأسواق مثقلين بالسلع. ويرتدون ثياباً وأزياء غير تلك التي يرتديها زملاؤهم، ويسكنون غالباً في السهل، عند أطراف القرى، في بيوت من الطوب الأخضر، ويعنون بتربية الماشية. وفي أقاليم المجر الغربية ينشئون نوعاً من القرى المنعزلة بجوار الغابات، ويعلب أطفالهم عراة بين الأعشاب والماء. ولهاته القبائل قضاة منها يختصون بالفصل في المنازعات الصغيرة؛ ولا يعيشون عيشة العائلة إلا حيثما اكتسبوا نوعاً من الملك كقطعة أرض أو منزل قروي. ولهم ولع بالخيل واقتنائها بأي الأثمان.
وأهل القرى لا يبدون لنور (الفلاج) من البغض ما يبدونه لنور الكولومبار. وهم يعاملونهم بكبرياء واحتقار ولكن بنوع من العطف؛ ولا يخشون منهم على متاعهم وأموالهم بمثل ما يخشون من زملائهم؛ ويكثرون من التصدق عليهم، ويعهدون اليهم بصنع الأشياء الخشبية.(58/20)
وعلى ذلك فإذا كان النوري الفلاجي لا يمكن أن يعتبر عضواً في المجتمع، أو إنساناً متمدناً، فانه في طريقه ليصير كذلك. وهو منذ الآن ينزل عن بعض العادات التي كان يتمسك بها دائماً فيقص شعره ويرتدي السراويل، ويعتاد العمل، ويرغب في اقتناء الملك شيئاً فشيئاً؛ وهذا بلا ريب أساس قوي للتطور.
وأخلاق النوري نتيجة محتومة لنوع حياته، فهو لا يملك أرضاً ولا بيتاً؛ وما يملك من المؤن والأدوات وغيرها ليس له في الواقع، بل هو ملك الجماعة كلها؛ وهو لا يشعر بشعور الأسرة ولا يقدر معناها، ولما كان لا يرث ولا يورث، فسواء لديه أكان ولده منه أم من آخر. وكذلك المرأة النورية لا تختص برجل واحد كنساء الشعوب المتمدنة، فهي مخلوق همجي، لا تنكر غرائزها، ولا تستطيع أن تكبح جماحها، والطفل النوري يعيش مع أسرته في نفس الخيمة أو الكوخ، ويشهد عن قرب حياتها التناسلية، فإذا شب اتجهت شهواته الجنسية الأولى إلى الأسرة، فيعاشر الأخ أخته، والولد أمه، والأب ابنته، وتجري هذه المعاشرة دون ذرة من الحرج أو الندم. ولا حاجة للقول بأنه لا وفاء بين الأزواج، فهم كاثوليك ويذهبون إلى الكنسية في الحفلات الكبرى، ولكن مبادئهم الأخلاقية ليست نصرانية في شيء، بل هم غالباً صرعى غرائزهم الوحشية.
وقد اهتم الارشيدوق يوسف (1833 - 1905) بأمر النور وأبدى نحوهم عطفاً، وبعث ذلك إلى الاهتمام بشأنهم، وكان هذا الأمير العظيم الذي يعشق حياة البداوة والبساطة، ينفق كل أوقات فراغه بين النور، ويدرس حياتهم، ويتذوق رقصهم وأغانيهم وأمثالهم وأطوارهم وخلالهم، وقد حاول أن يعودهم الحياة المنظمة، وأن يجمعهم في مكان مستقر، ولكنه لم ينجح كثيراً في محاولته، ثم عكف الباحثون على جمع الأغاني والأمثال النورية وترجمتها، ولكن هذا الاهتمام فتر فيما بعد، ولما كان النور اليوم في طريق التحضر والاندماج في المجتمع المتمدن، فقد يعود هذا الاهتمام بعد فوات الوقت، وبذا تضيع معالم جنسية ونفسية إلى الأبد. بيد أنه قد يكون ثمة أسر أو قبائل مازالت تحتفظ بخلالها الوثنية، وبأساطيرها، وقصصها، وأغانيها ورقصاتها، وتلك يمكن تخليدها بواسطة السينما أو (الجراموفون).
وقد قلنا إن إبعاد النور عن المجتمع المتمدن، واضطهادهم المستمر، وحياتهم البدوية، تحملهم على الريبة والوجل والعنت وانتهاز الفرصة وسرعة التأثر، وهم لا يهتمون بِغَدِهم،(58/21)
ويحتملون شقاء الحاضر بجلدِ الشريد، كالأطفال أو الشعوب الهمجية. وهذه الصفات ذاتها تمثل في فنهم، فرقصاتهم عاصفة مضطرمة الروي، فياضة بالغزل، ونصوص أغانيهم فياضة بالرموز الغرامية، والكلمات الضخمة، والإخلاص الساذج، وألحانهم محزنة منكسرة، روى مطبق، وغزل مطلق، وفسق خالص يلهب أعصابهم، وهذا ما يشحذ مشاعرهم بنوع خاص، ويعاونهم على التمكن من روح الموسيقى والقوافي الأجانب تحدث فيهم نفس الأثر؛ فالنوري الروماني ينشد الأغاني الرومانية، والنوري السربي ينشد الأغاني السربية، والنوري السلافي ينشد الأغاني السلافية، ويجمعون في كل مكان عناصر الموسيقى الخاصة بالشعب الذي يعيشون بين ظهرانيه؛ والنوري المجري، هو الوحيد الذي لا تتأثر موسيقاه بخواص الموسيقى الريفية المجرية، وذلك لأسباب خاصة به وبظروفه ذلك أن الموسيقيين من النور المجريين هم أشراف النور، فهم يرتفعون فوق مستوى جنسهم، وفي أحيان كثيرة نراهم وقد نسوا لغتهم الأصلية، وغيروا كل ظروف حياتهم. وفي القرى يتحول النوري من حرفته العادية إلى الموسيقى، وفي يوم الأحد وأيام الحفلات أو السوق يحمل آلاته الموسيقية، القيثارة أو المزمار أو غيرهما، ويذهب مع بعض زملائه إلى مجالي النزهة، ولموسيقاه ضجيج مروع، وصخب يصمهم، ولا تشترك مع موسيقى الحضر إلا في الروي، ويتحول النور إلى احتراف الموسيقى شيئاً فشيئاً، ويهجرون صنع الأواني والسلع الخشبية والآجر، ويجتمع بعضهم فيؤلفون فرقة (أوركستر) ويتجولون يوم السوق من قرية إلى قرية، ويلاحظ أيضاً أنهم أخذوا يستبدلون ثيابهم النورية بثياب الحضر، وبين النور المجريين كثيرون ممن درسوا في معهد الموسيقى الأعلى (الكونسر فتوار)، ومنهم من درس الموسيقى نظرياً وعلمياً، ومنهم فانون يعجب بفنهم العالم كله، فهم حقاً من أمراء الموسيقى، لهم مقامهم في المجر وفي الخارج؛ وممن قدر موسيقاهم وأعجب بها أساتذة عظام مثل هيبرمان وكيبورا ولسزت.
وقد كان من المستطاع أن نحمل النور المجريين على درس الموسيقى الريفية الأصلية، كإخوانهم نور رومانيا أو سلوفينا أو روسيا؛ فالنور يتلقون ببراعة مدهشة كل فن وكل روي، وتلك أعظم خواصهم؛ والنوري يغتبط جد الاغتباط إذا ألفى مستمعاً يستطيع أن يرشده وأن يعلمه الأسلوب الحق؛ وعندئذ يدرك معنى الموسيقى الريفية وينفذ إلى روحها،(58/22)
ويترك تلك الألحان الصاخبة التي يملأ بها أغانيه. ولسنا ممن يجاري بعض المتشائمين من نقدتنا الموسيقيين في قولهم بوجوب القضاء على الموسيقى النورية؛ فإن لديهم خواص عجيبة ترجع إلى مقدرتهم على التشبه والاقتباس.
هذا وقد استطاع النور في إسبانيا وإنكلترا وبسارابيا واليوكرين أن ينشئوا ثقافة موسيقية خاصة. وأغاني النور الأوكرانيين ورقصاتهم ذائعة معروفة في كل مكان. أما النور المجريون فلا يعرضون علينا فنهم قط، حتى ليقال أن ليس لهم فن. ولكنهم في الواقع ينشدون أغانيهم فيما بينهم، ويرقصون رقصاتهم، ويتلون أمثالهم وقصصهم. وهم يعيشون في عزلة مطبقة حتى أن البحث عن خواصهم الجنسية والفنية ليصطدم بأكبر الصعاب. ولديهم وسيلة أخرى للدفاع هي لغتهم التي هي مزيج من العناصر السلافية والرومانية وغيرها. وهم يضمرون البغض والريبة للأجانب لما فرض عليهم من الحياة الوضيعة التي تكاد تنحط إلى المستوى الحيواني، وشأنهم في ذلك شأن القبائل الهندية التي غزاها الأوربيون. والنوري يقدر ما بينه وبين الغير من الفروق، ويعرف أن الغير لا يعتبره إنساناً بالمعنى الصحيح؛ ولا يجد سوى الموسيقى للتعبير عن نفسه ومقدرته؛ فإذا سنحت له فرصة العزف، فانه يملأ موسيقاه وألحانه بكل ما يشعر به من الشهوات وألوان البغض والغضب، والحنان، والثورات، والاحتقار، والفرح، واليأس؛ ويبقى النوري في ذلك المجتمع المتمدن الرأسمالي، النصراني، الذي يرغمه على الاستقرار والاعتراف بالملكية، والتنصير، والخضوع للقوانين بين الغابات والسهول الوحشة - يبقى دائماً وثنياً، جامع العاطفة، مخلوق الغريزة، ويلجأ إلى الموسيقى لبث مقاومته وشكواه؛ ولو نبذ النوري أساطيره وسحره، ونسى لغته، وترك قصصه وأناشيده ورقصه، فانه يبقى مع ذلك نورياً بالموسيقى.
ولن تمضي أعوام أخرى حتى يغمر النور ذلك البحر الإنساني الذي يحيط بهم؛ ولن تمضي أجيال قليلة حتى يغدو النور كالزراع، وينسون كل خوصاهم وتقاليدهم؛ ولن يبقى من الفن النوري سوى قليل من الأغاني والقصص، ذلك الفن الذي هو أعجب الفنون الشعبية وأكثرها طرافة؛ وعندئذ لن نجد سوى بعض الفنانين الذين ينحدرون من أصل نوري، يتجولون هنا وهنالك في بعض المدن؛ بقية شعب كبير كان يجوب السهول والغابات،(58/23)
يزاول السحر والكهانة، ويخاطب الأرواح، ذليل عزيز مع ذلك لأنه حر. وتلك خسارة فادحة للنور وللوثنية والقصص والحرية. . . بيد أنه يستحيل علينا أن ننقذ النور في ذلك المجتمع الذي يناقضهم في كل شيء.(58/24)
بين توفيق الحكيم وأهل الكهف
بقلم شهدي عطية الشافعي
قرأت لتوفيق أهل الكهف فيمن قرأ. وأحببتها حباً فوق حب الناس لها. ولكن ناحية منها لم ترضني، وليس ذلك بجريرة للمؤلف آخذها عليه. ولكنه شعور نفسي تملكني.
منظر
في إحدى جنان الخلد. ثلاثة رجال متكئون على الأرائك وأمامهم أبارين وأكواب من ذهب وفضة، والأطيار من حولهم تشدو مرنوش: (متأملاً حوله) - يا لله! ما أبدع هذا وما أجمله! مشلينيا أيها الكسول. إلا تستيقظ لتستمتع بهذا الجمال.
مشلينيا: (يفرك عينه) أهذا أنت يا مرنوش! أين نحن؟ لسنا في الكهف.
مرنوش: (في حدة) الكهف؟ تباً لك! لا تذكرني به، لقد كان كابوساً مخيفاً.
مشلينيا: لعنة الله عليه ما أشامه. . . وهذه الثلثمائة عام التي لبثناها فيه.! وملك آخر مسيحي مكان دقيانوس الوثني. . . وبريسكا غير بريسكا. كيف كان كل هذا؟
يميخا: (مستيقظاً) حمداً لك يا خالق السموات والأرض. اللهم إنا نمجدك ونؤمن بعيسى نبيك.
مرنوش: (مأخوذاً) يمليخا؟ كيف أنت؟
يمليخا: (في خشوع) ألا تحسان فيضاً من النور الإلهي يخترق شغاف القلب. كأني على قيد ذراع من الله. يا لروعة هذا!
مرنوش: (في عجب) إنك لتبدو جميلاً يا يمليخا. أنّى لك هذا الثور المزركش وذلك الوجه الصبوح؟
مشلينيا: (في دهش) ولكنك لم تر ثيابنا يا مرنوش. إنها موشاة بالذهب. مَن أتانا بها (ناهضاً) مرنوش يا للعجب!
لقد شف جسمي حتى لأرى ما بداخله! مرنوش! مرنوش. لقدَ خف ثقلي حتى لاحسبني طيراً ذا جناحين!
مرنوش: مشلينيا، ماهذا؟ لقد صدقت. ألا تذكر استكراش بطني وانتفاخ رجليّ. لقد ذهب كل هذا (بتحسن وجهه) لله ما أنعم وجهي وما أرقه!(58/25)
مشلينيا: وأنت يا يمليخا (لا يجيب ولكنه يذهب بعيداً) يمليخا! أتاركنا؟ إلى أين؟
يمليخا: إلى حيث قطمير كلبي.
مرنوش: (ضاحكا) أليس لك في هذا الجمال سلوى عن قطمير؟
يمليخا: (مبتئساً) قطمير. عزيز قطمير. حارس غنمي ورفيق طريقي وصاحبي في السراء والضراء (متهللا فجأة) يا لله! هاهو ذا مقبلاً. انه يهز ذيله فرحا.
مشلينيا: (عابثاً) أهذا قطمير كلبك؟ أين هذا ذو الشحم واللحم من قطمير الضاوي البطن البارز الأضلاع؟
يمليخا: (في سرور) إنه قطمير بعينه. إنني مستطيع أن أتبينه من كلاب الأرض جميعاً. تعالت قدرتك يا إلهي. لقد أنلتني بغيتي وجمعتني بكلبي!! سبحانك اللهم نسبح بحمدك!
مرنوش: (متجهاً بنظره) وما يدريك لعله امرأة. (بعد برهة) إنه يضع قرصاً أحمر فوق رأسه ويشد عنقه بمنديل.
يمليخا: انه اسرع في خطاه نحونا.
مرنوش: لعلع ذلك لحاجة له. إنني أرى تقاطيع وجهه جيداً. إنه رجل يا مشلينيا. يا لغرابة لباسه. إنه يشد عنقه بحبل ملون لا بمنديل.
توفيق الحكيم: (بلباس إفرنجي وفوق رأسه طربوش متبينا القوم) ميشلينا! مرنوش! يمليخا!. وقطمير أيضاً هنا! يا لحسن حظي. كيف أنتم؟ لقد كنت أتوق لرؤيتكم.
(أهل الكهف يتلاومون ويتأملون توفيقاً في خوف غير قليل)
يمليخا: (متشجعاً) ومن عساك تكون؟ ومن أنباك بأسمائنا؟
توفيق: ألا تعرفونني؟ لكنني أعرفكم حق المعرفة، وأحفظ وجوهكم كأني عشت بينكم ألف عام. أنا توفيق الحكيم.
مشلينيا: ماذا يقول؟
يمليخا: (هاماً) انه يخبر عن صناعته. فهو حكيم.
مرنوش: (في اضطراب) ولكن ليس بنا من مرض يا سيدي.
توفيق: لا. لا. إنه اسمي. توفيق الحكيم. لقد قرأت سيرتكم وتحدثت عنها في قصة حوت فن باريس وفلسفة أثينا وحكمة الروم.(58/26)
يمليخا: (في همس) إنه يذكر الروم.
مرنوش: (في ذكاء) آه. لقد فهمت يا سيدي. لعلك - رأيتنا إذ بعثنا من كهفنا بعد نومنا الطويل.
توفيق: لا، لا، ليس هذا. إني قرأت عنكم وامتزجت روحي بروحكم، ولكنني لم أركم قط رؤيا العين.
مشلينيا: ولكن أنى لك بمعرفة وجوهنا؟
توفيق: (في دلال) إنه الفن يا سيدي. يسمو بالمرء حتى ليرى ما تختلج به نفوس القوم، وما تضطرب به أفئدة البشر، إنه الفن الذي يصل الماضي بالحاضر. لقد ترجمت عما في نفوسكم واستكشفت خباياها بعد موتكم بعشرات القرون. أفيعجزني الآن أن أتعرف إلى وجوهكم؟
مرنوش: (هامساً في خوف) لعل به مسّاً من الشيطان!
يمليخا: (معترضاً كالهامس) لعله قديس وهبه الله قبساً من نوره فقرأ ما في نفوس البشر.
مرنوش: (في همس) لقد عرفنا وعرف أسماءنا، برغم انه لم يرنا قط.
مشلينيا: بل ويزعم أنه استطلع ما في نفوسنا.
توفيق: (عابثاً) نعم. ألست أنت مرنوش (مشيراً إليه). ألم يكن لك زوج تحبها. وبنيت بها في الخفاء فأنجبت لك غلاماً، ثم نجوت بنفسك إلى الكهف خوفاً من دقيانوس وشروره!!
يمليخا: (هامساً) ألم أقل لكما أنه قديس؟ (في صوت عال) صدقت أيها القديس.
توفيق: (متمماً حديثه) ولولا زوجك هذه يا مشلينيا لما كنت مسيحياً، ولمت وثنياً، ونقمت على المسيح والمسيحيين. أنت يا ساعد دقيانوس الأيمن في مذابحه قبل زواجك. . . فإذا ما افتقدت زوجك وغلامك انقلبت ساخطاً على السماء والأرض (ومت مجرداً من كل شيء عارياً كما ظهرت، فلا أفكار ولا عواطف ولا عقائد).
مرنوش: أتعنيني أنا؟ (هامسا إلى زميله) لقد حسبت به مساً من الشيطان، ولكني واثق الآن أنه الشيطان نفسه.
ولعله كان يسكن هذا الكهف المظلم المشئوم الذي لبثنا فيه حقبة من الدهر. ولابد أنه تحسس أخبارنا ونحن في ظلمة لنتبين من أمره شيئاً.(58/27)
(ثم يتوجه بكلامه إلى توفيق في صوت عميق حار) لا يا سيدي لد عشت مسيحياً، ومت كما عشت، ولقد أرتني زوجي الطريق إلى الله فأحببته بكل جارحة، وما عبأت بدقيانوس ولا بمكاني عنده.
مشلينيا: (هامساً) لنمتحنه! فلعل ما يدريه عني خير مما عرفه عنك (في صوت مرتفع) وماذا عندك لي يا. . يا. . معذرة يا سيدي الفاضل.
توفيق: (متردداً) مشلينيا الذي أحب بريسكا وأحبته، بل عبدته، حتى لقد اعتنقت المسيحية من أجله، ورضيت بدين عشيقها عن دين آبائها بديلا.
مشلينيا: (محاولات كتمان غضبه) تا لله لقد أخطأت. إنها أرادت لنفسها هذا الدين وآمنت به قبل أن تدري عن مسيحيتي شيئاً. لقد كان دين الحب، وكانت تعاليمه البساطة عينها والنبل نفسه، فآمنت بريسكا الطاهرة الساذجة، وكان إيمانها قوياً.
ألا تذكر يا مرنوش كيف كانت تمزج قبلاتها لي بالصلاة لله شاكرة له أن هداها سواء السبيل، وأن أرشدها إلى نوره الحق؟ أو تذكر عند هروبنا تحت جنح الليل، وقد كشفوا أمرنا كيف كانت مطمئنة واثقة أن الله سينجي عباده المخلصين؟ وكيف أخذت على نفسها عهداً أن تصلي وتصلي لعل الله ينجينا.؟
يمليخا: (هامس في ذعر) إن هذا الرجل لا يعجبني! ماذا يقفه ببابنا؟ ما أقبح عينيه! انه ليشع منها ذكاء خبيث!
مشلينيا: ألم تحسبه قديساً؟
يمليخا: لقد نسيت أن الشياطين تتخذ أحياناً ثوب القديسين.
توفيق: (محاولات التقرب بعد ما أحس منهم نفوراً) ويمليخا. . . . الراعي الذي آمن في اخلاص، وأحب الله في قوة.
ورضى قرير العين أن يترك غنمه ليرشدكم إلى الكهف تلجئون إليه.؟
مرنوش: ولماذا جعلته من بيننا وحده المؤمن؟
توفيق: (بين التردد والأحجام) لم يكن له أهل (وكان قلبه خليّا، فلا يضيره أن يمنح قلبه لله).
مرنوش: (هامساً لزميليه) ألا تشمان في عبارته رائحة الخبث والسخرية المخبوءة؟(58/28)
مشلينيا: (في ضجر) لقد صدقناك يا سيدي. ولكن ما دفع بك إلينا؟
توفيق: لقد اتصلت روحي - روح الفنان بروحكم، ولم تستطع الأجيال أن تفصل بيننا، فبعثت قصتكم بعثاً جديداً إلى القرن العشرين.
مرنوش: (في تهكم خفيف) أكنا في حاجة إلى هذا البعث.؟
توفيق: (في غيظ) أتنكرون فضلي؟. لقد أصبح القوم ولا حديث لهم إلا أهل الكهف. ولقد أخرجتكم إلى الناس في ثوب من الفن أنيق، أتقنت في الصياغة، وأجدت فيه الانسجام، وسخرت له كل ما قرأت من فلسفة اليونان، وفلسفة القرن العشرين؟!!
مرنوش: ولكنك مسختنا وأنكرت علينا إيماننا ومسيحيتنا التي كانت كل شيء لنا.
مشلينيا: ولقد أهنت بريسكا الطاهرة الجميلة.
يمليخا: (في سأم وضيق) سيدي القديس! لعل في جوارنا أهل كهف آخرين. فلتبحث عنهم. أما نحن فلسنا من ذكرت.!!
شهدي عطية الشافعي
بكالوريوس آداب(58/29)
مصر تنسى شاعرها حافظ إبراهيم
للأستاذ كرم ملحم كرم
تألم صاح (الرسالة) المصرية لحظ الأدباء المنكود. وأوجعه أن يسير حافظ إبراهيم إلى مثواه الأخير بين حفنة من رجال الفضل والأدب، وألا يمشي وراء نعش أحمد زكي باشا رجل العلم والهدى غير نفر معدود، على حين أن السياسيين إذا ماتوا اندفعت وراءهم الأمة بأسرها على في شبه مظاهرة، وأبدت عليهم من الأسف واللوعة مالا تفكر أن تبديه حيال أي أديب.
ومما زاد في إيلام صاحب (الرسالة) أن القوم في مصر تناسوا أدب حافظ إبراهيم، وبات الرجل لديهم أشبه بأبي نواس في مجونه، فهم إذا ذكروه تحدثوا عن نوادره لاعن أدبه، كأنما شاعر البائسين أضحى من الهازلين، كأنما أضحى جحا في مداعباته مع أن حافظاً خالد في شعره ونثره، فقد أبقى من المنظوم والمنثور ما يحق للغة العربية، وخصوصاً لمصر، أن تفاخر به. فان حافظاً شاعر الوطنية وشاعر الأدب البائس. وقد أحيا في قصائده كما أحيا شوقي والمطران، عهداً للأدب مشرقاً في مصر، فأعادوا على ضفاف النيل عهد الفرزدق والأخطل وجرير على ضفاف بردي.
ومصر مدينة لحافظ بشيء من هذه النهضة الوطنية البادية فيها. أما هز النفوس بقصائده في ضرورة إنقاذ مصر من الطغيان الأجنبي؟ أما أظهر استبداد المحتلين وجورهم وسعيهم لي إذلال مصر؟. . .
لقد ترددت قصائد حافظ تحت سماء وادي النيل كأنها أنفاس بوق يدعو المصريين إلى الجهاد والاستشهاد، ومع كل هذه الغيرة الملتهبة على مصر من حافظ، لم يجد حافظ من المصريين أي وفاء، فما اعترفوا له بمكرمة ولا بمأثرة في غير بطون الكتب والصحف والمجلات. أما عامتهم، ولاننسى خاصتهم، فما فكروا في أن يقيموا لشاعرهم ضريحاً. ولقد ضل الوفد اللبناني طريقه إلى هذا الضريح وهو يحمل إليه إكليلاً مضفوراً من فلذة أكباد اللبنانيين الذين يجاهدون في سبيل أدبهم، الأدب العربي، ويقدرونه قدره، والذين لا ينسون لحافظ أقواله فيهم وحبه لهم وإعجابه بهم مع أن من واجب مصر ألا تجحد فضل شاعرها عليها، من واجبها أن تقيم له ضريحاً يليق به، من واجبها أن تذكره كشاعر قبل أن تذكره(58/30)
كما جن، فالمجون في حافظ لا يغلب على الشعر.
وكنا نعتقد أن صداقة حافظ لمحمد محمود باشا ستدفع به إلى تخليد ذكرى الشاعر بإنشاء ضريح فحم يضم رفات فقيد الأدب. ومما حملنا على هذا الاعتقاد ما يتمتع به محمد محمود باشا من ثروة، ولقد أخلص حافظ إبراهيم للرجل، ولقي من عنت حكومة إسماعيل صدقي باشا ما لقي لأجل إخلاصه لمحمد باشا محمود وصداقته له، أيكون هذا جزاءه منه؟. . .
أيضن الرجل المصري العظيم الثروة بقليل من المال في سبيل تشييد ضريح يرد فيه جثمان حافظ بأمان؟. . .
من حق صاحب (الرسالة) أن يتألم، وإننا لنشاطره ألمه ونأسف على مصير الأدب والأدباء في البلاد العربية. فالأديب لا يجد من ينصفه، لا في حياته ولا في مماته. فان قيمته لدى الناس لا تزيد على ما يملك في جيبه من المال. فإذا كان ذا ثروة وجد من يحفل به ويشيعه إلى مرقده الأخير. أما إذا خانته الثروة فلا صديقه يتأثر لفقده ولا بنو قومه. فالمال هو كل شيء في هذه الحياة.
ولو لم يمت شوقي عن ثروة ضخمة لكان نصيبه من بني قومه نصيب حافظ، وربما كان دون نصيب حافظ. وربما كان دون نصيب حافظ. إلا أن ثروة شوقي شفعت له في حياته ومماته، فساعدته على التربع في عرش أمارة الشعر، وحلمت الناس على الإطناب فيه، وهي هي التي دفعت الحكومة المصرية إلى إقامة ذلك المهرجان العظيم لرثاء شوقي والاحتفال بذكراه.
نعم، هي المآرب السياسية وصلات القربى التي مالت بإسماعيل صدقي باشا إلى إقامة ذلك المهرجان نكاية في الوفديين والأحرار الدستوريين الذين أخلص لهم حافظ، وتودد إليهم في أيامه الأخيرة إلا أن الوفديين والأحرار الدستوريين هم الفئة الكبرى في مصر فكيف تناسوا حافظاً ولم يحتفلوا بتخليد ذكراه، ولو لأجل النكاية كما اختلفت حكومة إسماعيل صدقي بتخليد ذكرى شوقي؟.
إن حافظاً ليس في حاجة إلى ضريح خاص يقام له ليخلد، ولا بحاجة إلى مهرجان أدبي تقال فيه قصائد الرثاء ليمس الرجل ذا قدر في عالم الأدب، فان آثاره تكفي لتخليده، وتلك المظاهر الزائلة ليست ذات شأن في مقام حافظ الأدبي، بل هي عديمة الشأن، إلا أن(58/31)
الفضل يجب أن يعلن، والوفاء واجب على من طوق حافظ جيدهم بجميله، وعلى كل ذي مروءة وحمية إلا يصدف عن هذا الواجب المفروض.
لسنا نجهل أن حكومة إسماعيل صدقي ماتت، ولكن الوفديين والأحرار الدستوريين لم يموتوا، وما فاتهم بالأمس يجب إلا يفوتهم اليوم، وعلى مصر بأجمعها ألا تنسى بنيها ذوى الأدمغة النيرة فيها، وتلك النشرة الخاصة التي أذاعتها جريدة (السياسة) لإحياء ذكرى حافظ لا تكفي، فمن الواجب الدعوة إلى المهرجان، من الواجب تشييد الضريح، وإن مجلة (الرسالة) لا تخطئ إذا خصصت أحد أعدادها بحافظ، فتدعو أدباء الأقطار العربية جمعاء إلى إعلان كلمتهم في الشاعر المبدع الموهوب، فان نشرة كهذه يذهب لها صدى بعيد، وتحمل كل ذي شمم على الاهتمام بشاعر كل عيبه أنه رغب في توطيد دعائم الأدب في وادي النيل وفي الإشادة بوطنه، وفي لفت أنظار سائر البلاد العربية إلى ذلك الأدب الريان المورق في خمائل مصر.
وإن تكن (الرسالة) تطمع في المساواة بين حافظ وشوقي فلتخصص نشرة من نشراتها بحافظ ونشرة أخرى بشوقي، فذلك إليها، على أن تثبت الدعوة إلى مهرجان حافظ وإلى بناء ضريحه، وبهذه الهمة تخدم الأدب وبنيه خدمة لم تسبقها إليها صحيفة عربية، ويكفي أن تعظ المصريين بتذكيرهم بواجبهم حيال علم من أعلامهم خفق في ميدان الوطنية والأدب، فان هذا التذكير لابد منه لأجل مصر قبل الجميع، لئلا تتحقق كلمة المتنبي وحافظ فيها:
فما أنت يا مصر دار الأدي ... ب ولا أنت بالبلد الطيب
نحن نتألم لنصيب حافظ من بني قومه كما يتألم صاحب (الرسالة) الأستاذ الزيات. وإنا لعلى اعتقاد تام أنه لن يغفل عما نبدي من رأي. وحرام وألف حرام أن يطرح حافظ جانباً كالمنبوذين من الناس، وأن يقصد الغريب عن مصر إلى ضريحه يحج إليه فلا يجد من يهديه إلى هذا الضريح، وقد تناسب مصر واجبها حيال شاعرها، فما جادت ببضعة دنانير تحفظ بها بقاياه!
بيروت
كرم ملحم كرم صاحب مجلة العاصفة(58/32)
والرسالة نرجو أن توفق إلى رأي الأستاذ(58/33)
حول مقال
نجار ونجار
بقلم محمد السيد محمد المويلحي
تشاء سخرية القدر اللاذعة أن تحملني قسراً، وأن تضطرني اضطراراً، وأن تخرج قلمي عما اعتاده نحو أساتذته من الإشادة بنتاجهم والفخر بأدبهم الذي يضفي علينا ألواناً من الثقافة الحق التي هي جماع ما في الأدب من رقة ودقة وجمال. . .
أقول: تشاء هذه السخرية المرة أن تحملني على نقد مقال لصاحب فجر الإسلام، وضحى الإسلام، بل صاحب الثقافة الناتئة في شمم المجد، السامقة في سماء الخلود. . . لِزَلَّةٍ زّلهَا، وكبوة كباها، ولا أحب أن أكون قاسياً شديداً فأقول: (إنها زلَّة وطنية، وكبوة قومُّية) سوف تكون سلاحاً ماضياً، وحجة دامغة في يد أعدائنا الذين يتصيدون هفواتنا، وأخطاءنا، والذين يستغلون عيوبنا الصغيرة الناشئة من جهل بعضنا، لتكون سيفاً يشهرونه في وجوهنا كلما هممنا أن نطلب العزة، وأن ننشد الكرامة، وأن ندَّعي الكفاية. .
إنما أحب أن أكون هادئاً ومرشداً إلى حقيقة ربما تجاهلها الأستاذ ليرفه عن قرائه، ويضحكهم بذكر عيوب إخوانهم وأبناء وطنهم، وليهرب في الوقت نفسه من عناء البحث المضني والتفكير المرهق، الذي لا يتفق مع هذا الحر.
وهذه الحقيقة: هي أن ضيوفنا الأجانب الذين يمتصون دماءنا، ويسلبون أموالنا، بمختلف الطرق وشتى الأساليب. . . يؤلمهم جداً، ويخيفهم جداً، أن يروا تلك النهضة المباركة التي قام بها المصريون، وتلك المزاحمة التي أوشكت أن تغلغل في كل شيء بعْد أن كان أغلب المهن المُزَاحَم فيها وقفاً على الأجانب دون غيرهم. لذلك تراهم يسرفون في اتهامهم وفي محاربتهم لجهودنا، بل تراهم يقاومون كل عمل مثمر لنا أشد المقاومة وأخسها وأبعدها عن الشرف والكرامة. . . فكيف بهم، وهم يرون أستاذاً جليلاً، وعالماً رزيناً، يعتقد المصريون فيه كل الخير، ويؤمنون بوطنيته أعمق الايمان، كيف بهم، وهم يرون الأستاذ يتطوع للدفاع عنهم بطعن شخصية مصرية بلُغة تبعث على احتقراها وتشويهها. ثم ينبري لتمجيد نفر منهم، وتكريم شخصيته بأسلوب يطفح إعجاباً، ويشجع على لئم يد صاحبها التي تعمل بسكون وهدوء، والتي لا تقلق راحة الأستاذ، بل تدفعه إلى النوم، لأنه لا يحس بها ولا(58/34)
بحاملها. .
أكبر الظن أن الأستاذ نال منا أكثر مما ناله الأجانب، وحقَّر فئة منا لم تحقرها الأجانب، لأنها مشتركة معها في عيبها وكيف لا يكون قد نال منا وحقرنا وهو يصف بقلمه الخصب المطاوع شخصية شاب مصري يمتهن النجارة. ويعمل في حانوت أمام منزل الأستاذ الذي كان يراقبه عن كثب، ولا ينصرف عنه إلا ليصف (قُصتَه ُ) الكبيرة الخارجة من طربوشه صاعدة إلى السماء. . وإلا تلك الملابس القذرة الممزقة التي تعلو جسمه. . وإلا تلك الحفلات التي كان يقيمها (ليلا) في حانوته ليشرب وإخوانه بنت الحان. . وإلا تلك الأشياء التي إن يأخذها المسكين ليرممها فيبيعها، فيأتي أصحابها ويلتحم الجميع في معركة حامية لا يعيرها البوليس أدنى اهتمام لأنه كما يقول أستاذنا: لا يهتم بهذه السفاسف. . وإلا تلك الضجة الهائلة التي كان يحدثها عندما يشتغل ليلا والناس نيام. . فيأمره الأستاذ بالكف عنها رحمة بالجيرة فلا يصدع بما يؤمر. . وإلا هذا الحجز الذي وقع عليه. .
أفرأى الناس. . وبخاصة القاصّين منهم كيف أن الأستاذ قد بذَّهم في ابتكار شخصية مصرية ليطعنها كل هذه المطاعن؟.
فتارة يرميها بالقذارة والعربدة والكذب، وطوراً يرميها بالنصب والعمل على إقلاق راحة الناس؟؟
هب يا سيدي الأستاذ أن هذه الشخصية المصرية حقيقية.
فهل يجوز أن تذكرها في مجلة نبيلة واسعة الانتشار في مشارق الأرض ومغاربها.؟ على أنني أستميح عذر الأستاذ وحلمه فأقول:
إنني أشك كثيراً في هذه الشخصية المسكينة. . . فكلنا يعلم أن زمن (القُصة) قد انمحى. . وكلنا يعلم أن قذارة الملبس، وتمزيقه لا تكون لنصاب يبيع أدوات الناس وأثاثهم. بل كلنا لم يشاهد نجاراً واحداً يغلق حانوته نهاراً، ويفتحه ليلا ليشرب ويعربد ثم يقوم فيشتغل!! أين البوليس الذي يقوم بالحراسة والمحافظة على راحة الناس، وبخاصة في الأحياء الراقية التي يقطنها الأستاذ؟؟
هل كان يترك الأسطى حسن يعربد، ويشرب، ويدق، ويشرق، ويتركك ترجوه وتستعطفه دون أن يعبر هذا أدنى اهتمام أم كان كما تقول في حديثك عنه (لا يهتم لهذه السفاسف).؟؟(58/35)
وإذا كان النصب والاحتيال، والسكر والعربدة، وإقلاق راحة الناس سفاسف، فما هي الكبائر. .؟؟
أعترف أن الحر يؤثر في نشاط العقول حتى الكبيرة منها، وأعترف أيضاً أن جو ضاحية الأستاذ قد ظلم الأسطى حسن المصري أفحش الظلم، وأشاد بفضل الأسطى (الرومي) كل الإشادة، حتى أن الأستاذ لفرط إعجابه به لم يسمع شقه ودقه. لأنه يشق، ويدق في حرير لا في خشب!! وإلا لما قال ما معناه. .
(. . . وحلَّ محل الأسطى حسن شاب رومي يماثله سناً ومهنة. ويختلف عنه نظافة وأدباً وإتقاناً وصدقاً. . حتى أنني لم أحسن به إلا بعد ستة شهور. لأنه يفتح حانوته نهاراً، ويغلقه قبيل الغروب. . وأذكر أنني استدعيته مرة ليصلح دولاباً فطلب ضعف ما كان يطلبه الأسطى حسن فأعطيته ما طلب لوثوقي من وفائه، وصدق ميعاده. .)
يالله. . . وكيف لا يكون وفياً صادق الوعد، وقد أعطيته ضعف ما كان يأخذه المسكين حسن الذي لو جرؤ وطلب هذا الضعف لرميته بالجشع والطمع. .
لعلي في هذا الكلمة قد أرضيت الحقيقة التي تكلمت عنها في كلمتي السابقة بالوادي الأغر، والتي قلت فيها.
(أنني لا أحب إلا الحق، ولا أكتب إلا له، وله وحده: لا فرق عندي بين شيخ وشاب، ومشهور ومقبور).
ولعل الأستاذ يعتقد أنني لم أكتب هذه الكلمة إلا لأني أحب أن أقرأ لصاحب فجر الإسلام وضحاه شيئاً غير هذا الأدب الذي يبعث الأجانب على احتقارنا.
ولعلي أيضاً لم أغضب أستاذنا فيتقبل كلمتي بقبول حسن، ويحملها محملاً خالياً من الغرض، بريئاً من اللؤم. فإنها لا ترمى إلا إلى تمجيد أمة فتية تتوثب نحو الكمال والنور.
(الرسالة) نعتقد ويعتقد معنا الكاتب الفاضل أن الأستاذ الجليل احمد أمين لم يرد بما كتب تحقير العامل المصري ولا إيثار الأجنبي عليه، وإنما أراد إيقاظه وإصلاحه من طريق المقارنة والمثل. وإخفاء العيوب خوف الشماتة مظنة لعدم الشعور بها، ومن حق الناقد الاجتماعي أن يجسم بعض العيوب لتتمثل في الإحساس الضعيف، وتبرز أمام العين الكليلة. ولأن نسمع عيوبنا من أساتذتنا نقداً ونصيحة، خير من أن نسمعها من خصومنا سباً(58/36)
ونقيصة!(58/37)
نسبة شعر
قرأت في مقال (إبراهيم بك مرزوق) المنشور في العدد السابع والخمسين من الرسالة بقلم الأستاذ محمود خيرت فيما روي عن المرحوم المنفلوطي هذا البيت:
مضى بها ما مضى من عقل شاربها ... وفي الزجاجة باقٍ يطلب الباقي
أورده في قصة حكاها عن رجل قال إنه كان رئيساً (باشكاتب) لكتبة محكمة إسكندرية الشرعية؛ ثم قال الراوي: (ولا أدري إذا كان هذا البيت من مقولة أو قديم).
والبيت قديم من قصيدة لعبد الله بن العباس الربيعي يقول فيها:
ومستطيلٍ على الصهباء باكَرَها ... في فتيةٍ باصطباح الراح حُذّاقٍ
يمضى بها من عقل شاربها ... وفي الزجاجة باقِ يطلب الباقي
فكل شيء رآه خالُه قدحاً ... وكل شخص رآه ظنه الساقي
والذي نسبتْ إليه القصة لم يكن رئيساً للكتبة، ولكنه كان أحدهم، واسمه الشيخ احمد، وكان مليح النادرة معروفا بالنكتة، سمعت عنه مضحكات كثيرة، منها انه كان ذات يوم نازلا من المحكمة فالتقى برجل صاعد يطلب مقابلة الرئيس، فسأله الرجل:
يا شيخ احمد هل الرئيس فوق؟. قال هو فوق ولكن أعضاءه نزلتْ. . ومنها أن عمى المرحوم الأستاذ الشيخ عبد الرحمن الرافعي، وكان نقيباً لمحكمة إسكندرية، سئل في ميراث يراد معرفة ما يُفرض منه لكل وارث، وكان الشيخ احمد هذا يكتب عنه الفتاوي، فكلفه المفتي أن يعمل ما يسمونه (شبّاكا) وهو رسم ذو بيوت يُذكر فيه الورثة أصولا وفروعا وفريضة كل منهم، ولما كان الغد سأله: يا شيخ احمد هل عملت (الشباك)؟ فقال يا سي الشيخ: ما ليش (طاقة).
أما النادرة التي رواها الأستاذ خيرت وحكاها له المنفلوطي فليست بصحيحة على ذلك الوجه البتة، إذ لا يعقل أن عالما فاضلا رئيساً لمحكمة شرعية يقول لرجل: أنت طالق.
والذي روُي لي أن أحد الموظفين مع الشيخ احمد قاطعة مع طريقته فطلقه ثلاثاً، وجاء الباقون يسعون في الصلح بينهما وأخذوا المعتدِي إلى المعتدَي عليه ترضيةً له، فلما دخلوا (بالمطلق) على الشيخ احمد فعل بجبته ما تفعل المطلقة بملاءتها إذا استترت ممن لا تحلُّ له. . فضحك الجميع وشاعت النادرة، ولعل الشيخ احمد نظر فيها إلى نادرة قريبة منها رواها صاحب الأغاني في كتابه والله أعلم.(58/38)
مصطفى صادق الرافعي(58/39)
فصول مدرسية في الأدب الدرامي
1 - الرواية المسرحية في التاريخ والفن
بقلم أحمد حسن الزيات
الرواية تمثل طائفة من الناس لحادث متحقق أو متخيل لا يخرج عن حدود الحقيقة أو الإمكان. فكونها تمثيلاً يخرج الملحمة لأنها حكاية صرفة، والرواية مدارها على التطبيق والعمل، فليس لمؤلفها وجود في المسرح ولا حضور في الذهن، وإنما يرى المشاهد ويسمع الأشخاص يعملون بعينه وأذنه.
وكون الحادث متحققاً أو متخيلاً يفيد أن الحقيقة التاريخية ليست شرطاً في الرواية، فيستطيع الكاتب أن يكملها بالزيادة ويجملها بالمبالغة كما فعل كوريني في (بوليكت)، أو يختلق الحادث وحده اختلاقاً كما فعل في (السيد)، أو يخترع الحادث والأشخاص اختراعاً كما فعل فولتير في (زيير).
وقولنا (لا يخرج عن حدود الحقيقة أو الإمكان) احتراس من إدخال الخوارق في الرواية، لأن قانونها الأساسي أن تكون صورة للحياة البشرية ما استطاعت. ولن تستطيع أن تتصور الحياة أو تقلدها إلا بتوخي الحوادث الحقيقية الواقعة أو الممكنة.
وشرط الإمكانية يوجب على الكاتب أن يقف عند حدود الممكن المعقول في الموضوعات المتخيلة، وأن يضحي بالواقع أحياناً إذا بعد احتماله لشذوذه وغرابته في الموضوعات المتحققة. على أن من الجائز استعمال الخوارق قليلاً في الرواية إذا كان الكاتب قادراً والمخرج المسرحي ماهراً كما وقع في رواية (فيلوكتيت) لسوفوكليس، ورواية (أتالي) لراسين؛ ومحل ذلك حين يراد تقوية الشعور وإثارة العاطفة وتحريك الهوى في شخص من أشخاص الرواية، بإبراز هواجس فكره ووساوس نفسه في صورة مشخصة مجسمة، كما صنع شكسبير بشبح (هملت) وساحرات (ماكبث). وليس من الضروري أن يهبط الآلهة والأشباح والهواتف على منصة المسرح، بل يجوز أن يحدث ذلك في ظاهرة ثم يخبر به شخص من الأشخاص، كما حدث مثلاً في حلم أتالي وبولين، وفي موت هيبولييت وأوديب.
منشأ الرواية وتأثيرها(58/40)
كان منشأ هذا النوع من الأدب تلك اللذة التي يبعثها في نفوسنا ويفيضها على حواسنا تقليدنا لطبيعة الإنسان وعمله.
فتمثيل الطبيعة الناطقة والصامتة والأحجار والألوان والألحان إنما يلذنا منه ذلك التقليد الذي أجاده الفنان وأحكمه. قال أرسطو طاليس في كتاب (الشعر): (إن الإنسان مقلد بطبعه، وأشد ما يطربه ويعجبه من الفنون إنما هو التقليد). وليس من شك في أن التقليد في الرواية أكمل صنعاً وأقوى ظهوراً منه في غيرها من سائر الفنون. لأن التقليد فيها لا يقف عند الأشكال الخارجية للإنسان كالنحت والتصوير، وإنما يتغلغل في باطنه، فيصور نوازع نفسه وخواطر فكره ودواعي عمله. أضف إلى ذلك تلك الحاجة الملحة التي تدفع الإنسان إلى السبوح في أجواء الخيال فراراً من وحدة العيش وضيق الحياة وثقل الحقيقة وجد الإنسان تلك اللذة وقضاء هذه الحاجة في التمثيل المسرحي، فسرَّه أن يخرج من نفسه، ويقلد أبناء جنسه، ممثلاً لعينه ذلك المثل الأعلى الذي طالما رسمه في خياله، وتمنى أن يعيش على مثاله. ظهر ذلك أولاً عند الإغريق في أعياد باخوس إله الخمر، إذ تقدم (إبيجين) من أهل (سسيون فمثل ذلك الآلة على المسرح، وقطع مابين الأناشيد بحكاية بعض الحوادث الحماسية، فاستغل (يسبيس) ذلك الابتكار، وجاء (أسخيلوس أبو المأساة، فأضاف إلى الممثل الأول ممثلاً آخر، فخلق الحوار ثم اخترع الوجه الكاذب، والثوب الضافي والحذاء العالي واستعمل الألفاظ الجزلة، والتراكيب الفخمة، واختصر الأناشيد التي سميت بعد ذلك (خورس)، فضعف شأنها في الموضوع.
على هذا النحو نشأت المأساة، وهي أحد فرعي الرواية كما ستعلم بعد. أما فرعها الآخر وهو الملهاة فمنشؤه ذلك التهريج الذي كان يستبيحه الشعب الإغريقي لنفسه في مواكب باخوس وهو يجول جولان الفرح في قرى (أتيكا). ومن ذلك يعلم أن الرواية منذ خلقها الإغريق تنقسم إلى قسمين مستقلين: هما المأساة والملهاة أو التراجيدية والكوميدية كما سيجيئك تفصيله بعد قليل.
أما تأثير الرواية أو المسرح فلا جدال في قوته وخطره، فالحكاية مهما قويت في التعبير وبالغت في التأثير لا تبلغ شأو الرواية في ذلك، إذ القصص الحكائي لا يخاطب إلا المخيلة، وهي تختلف في الناس ضعفًا وقوة، فلا يكون تأثرها إلا بمقدار، أما القصص(58/41)
الروائي فيخاطب الخيال والحس، ويملأ البصر والسمع، فيكون فعله أقوى وأثره أشد، أرأيتك إذا قرأت أو سمعت حادثة قتل مثلا، فهل يبلغ أثرها منك مهما عظم واشتد ما يبلغه ذلك الأثر الذي يستولي على نفسك وحسك حين تسمع استغاثة المذبوح، وترى انسكاب الدم المسفوح؟ لذلك كان حقاً على الكتاب أن يتوسلوا بهذه الوسيلة الناجعة إلى إقرار الخير في النفوس، واقتلاع الشر من الرءوس، وتغذية القلوب المريضة بالعواطف النبيلة بتصوير مُثلها العليا كما في المأساة، أو إلى إصلاح الفاسد وتقويم المعوج من العادات والأخلاق باتخاذ أهلها مضحكة للناس كما في الملهاة. أما تلك القطع الداعرة التي يلفقها ضعاف الكتاب، ويمثلها صغار الفرق، تمليقاً للشهوة وتصيُّداً للمال، فهي من عمل الزور وتجارة المحظور وإذاعة الفاحشة، وهي لا تجد مكانها إلا في الشعوب البهيمية الجافية التي لم يثقفها علم ولم تهذبها حضارة، فواجب النقد الأدبي يعن مهاجمة هذا الخطر، فان ضرره لا ينال الخلق وحده، وإنما ينال الأدب والذوق والفن جميعاً.
العمل الروائي
العمل الروائي هو الفعل الذي يجري على المسرح من قيام وقعود وحركة وسكون. وبعبارة أدق هو العراك الناشب بين الوسائل والحوائل التي تتنازع حادثا من الحوادث، فالأولى تعمل لوقوعه، والأخرى تعمل لمنع أو إنتاج ضده.
فمن هذا التعريف نستنتج أن العمل لابد أن يكون مريباً غير مؤكد، ثم لا يزال في عماية من الشك وغيابه من الظن حتى آخر الرواية، لأن عقدة العمل إذا لم يكن لها إلا محل واحد يدل عليه المنطق، ويتنبأ به المشاهد، فقد المداورة، وهي تحول ذهن الشاهد من الضد إلى الضد تبعاً لتصرف الأشخاص وتقلب الظروف، فتارة يقدر النتيجة على نحو معين، وتارة يقدرها على نحو آخر، وهكذا دواليك حتى ينتهي العمل، وربما انتهى على غير ما فكر وقدر. فالتباس العمل هو الذي يوجد هذه المداورة ويفرض كثيراً من الحلول، ويف المشاهد بين الخوف والرجاء، وعلى ذلك كله يقوم أساس التشويق والجاذبية، ولكن ماذا عسى يصنع الكاتب لو كان للعمل حلان ممكنان فسبقه ذكاء المشاهدين إليهما، ووقف قبل النهاية عليهما؟ أو لو كانت روايته على ما يريد الفن، ولكنها مثلت غير مرة، فعرف الناس كيف تتعقد وكيف تتحلل، إلا يكون معنى ذلك أن إبهام العمل لا يفيد المشاهد ولا يجذبه إلا أول(58/42)
مرة؟ وجواب ذلك أن تذليل هذه العقبة ليس في طوق الكتاب ولا هو من واجبه، وإنما هو عمل الممثل وأخص واجباته. وهل يكون الوهم المسرحي بالغاً كماله إلا إذا أنساك ما تعلم وشغل فكرك بما ترى؟
كذلك نستنتج من التعريف أن الحوادث المتعارضة كلما كانت مسافة الخلف بينها بعيدة، ومناقضة بعضها لبعض شديدة، كان شأنها أهم وجاذبيتها أقوى، وذلك حق لا جدال فيه، فان حوادث العمل إذا تتابعت طائفة منها مفرطة في الحزن، وأخرى مفرطة في السرور، كان حلها أمتع وألذ مما لو سارت ضعيفة في جهة وقوية في أخرى، أضرب لك مثلا برواية بُوليُكت لكورني: لو أن كورني جعل (بولين) مشغوفة الفؤاد بحب زوجها لكانت المشكلة أعقد وأصعب، وموقف بولين أقسى وأرهب، ولكن كورني جعلها عاشقة (لسفير) ففضل جاذبية الإعجاب على جاذبية الإرهاب، وأطاع عبقريته في هذه القطعة فحرك الدهش وسكّن الفجيعة.
وليس تعاقب الحزن والسرور والخوف والرجاء من خواص المأساة، وإنما يكون في الملهاة أيضاً، فان جاذبيتها لا تتم إلا بشيئين: أولهما أن تجعل المشاهد يتمنى أن يؤول أمر الأضحوكة إلى السخرية والاحتقار، ثانيهما أن تولد في نفسه القلق والفضول والرغبة في أن يرى هذه الأمنية كيف تتحقق. ففي رواية البخيل يدور في نفس المشاهد هذا السؤال: أيتزوج البخيل من مريان أم يتخلى عنها لابنه؟ وفي رواية ترتوف أو الشيخ متلوف تترد على خاطره هذه المشكلة: أيفتضح أمر ترتوف عند أُرجون ويبوء باللعنة والخزى أم يتمتع بثمرة حبه وخبثه؟ على أن الحزن في الملهاة يجب ألا يتعدى أشخاص الرواية إلى جمهرة المشاهدينفان ذلك ميزة المأساة. ومن حق النظارة عليك أن تسرهم على حساب أشخاصك فتضحكهم من بكائهم وتسعدهم بشقائهم. وسيمر بك تفصيل ما أجمله التعريف من صفات العمل وتحليله فنجتزئ الآن بذلك.
يتبع
(الزيات)(58/43)
بمناسبة الفيضان المبارك
النيل
للأديب حسين شوقي
عند ما انتهى المصريون من تشييد معبد الكرنك الفخم، تكريماً للإله (آمون)، دعا (آمون) الآلهة الآخرين إلى اجتماع خاص ليختاروا أحسن هدية تقدم لبني مصر مكافأة لهم على عملهم، ولا سيما أن المصريين ما برحوا يبنون مثل هذه المعابد الشاهقة لآلتهم من آن الآخر. . . فاقترح (هوروس) الإله الشاب أن تقدم إلى فرعون آلة سينما لتسليته هو وأولاده في ليالي الشتاء العابسة، ولكن الإله (سوكر) وكان شيوعي النزعة اعترض على هذا الاقتراح قائلاً: إن الشعب المصري هو الذي أُرهق في بناء المعبد، فالهدية يجب أن تكون له لا لفرعون، فثار بعضهم على اعتراض (سوكر) وكاد المجلس ينقلب إلى عراك بين شيوعيين وفرعونيين، إلا أن (أنوبيس) - آله الموتى - صاح فيهم بصوته المزعج: أنصتوا إليّ لقد وجدت ضالتكم، أقيموا للمصريين جبلاً الذهب بجوار طيبة أو منفيس فانهم يعبون هذا المعدن في حياتهم، ويستصحبونه معهم في قبورهم بعد مماتهم. ولكن (حوتيب) آله الحكمة اعترض على هذا فقال: إن وجود الذهب بمثل هذه الكثرة في مصر يعلّم أهلها الجشع والكسل. . ثم هنالك الأجانب الذين يرهقون البلاد وهي فقيرة، فما بالك إذا عرفوا وجود مثل هذا الكنز؟ إن هؤلاء القوم لا حدّ لطمعهم، تصوّر انهم أنشئوا بوارج في السموات ليستولوا بها على عالمنا العلوي بعد ما انتهوا من الاستيلاء على الأرض؟
ثم رأى إله ثالث غرس غابات في مصر حتى تخف حرارة الجو في الصيف، ولكن (ست) وكان إلها أنانياً صاح: هل جننت حتى ترى مثل هذا الرأي؟ إلا تدري أن الجو إذا رطب صارت هياكلنا رماداً في سنين قليلة.؟
ثم نهض (آمون) الإله الأكبر الذي لازم السكوت طول الحديث وقال: أبنائي الأعزاء لا تتبعوا أنفسكم، ولا تجهدوا قرائكحم، لقد وجدت ما تنشدون وعرفت أحسن هدية تقدم لمصر ولشعبها الوفي، سأعطيها حياة هنيئة سعيدة، سأعطيها نهراً عظيما ينتفع به الحاكم والمحكوم، الإنسان والحيوان على السواء. سأعطيها وادياً خصباً. . سأعطيها النيل. .
فوافق الآلهة بإجماع الآراء على هذا الرأي المفيد، ثم استمر (آمون) قائلاً: وسندعو الآلهة(58/44)
الأجانب إلى الاحتفال بهذا الحادث الجليل، ثم جلس (هوروس) الإله الشاب الذي كان يقوم بأعمال السكرتارية في المجلس، بناء على إشارة من الرئيس، إلى آلته الكاتبة فكتب الدعوات على وجه السرعة، ثم ناولها إلى (آمون) فمهرها بخاتمه، ثم أعطيت إلى (أبس) الإله الطائر فحملها في منقاره وطار بها إلى الأقطار الأجنبية. . بعد ذلك أخذوا يبحثون عن المكان الذي يبدأ منه النهر فرأى أحدهم أن تكون بدايته أسوان، ولكن الحكيم (حوتيب) اعترض مرة أخرى قائلاً: إن مصر سوف يزيد عدد سكانها مع الزمن، فيحسن لذلك أن نعطي لها فسحة. . وبعد البحث اختيرت إحدى بحيرات بلاد (البونت) المقدسة لارتفاعها، ولتكون تحت إشراف الآلهة ورعايتها. . ثم جاء يوم الاحتفال وكان يومًا فريداً في التاريخ، شرب فيه الآلهةكثيراً من نبيذ قبرص اللذيذ الذي جاء به (دينوزيس) إلهِ الخمر الإغريقي هدية (لآمون)، كما أن (إيزيس) الآلهة الساحرة قامت بألعات سحرية مدهشة سرّ لها الناظرون، منها أنها قطعت بالسكين رأس دجاجة، ثم أشارت بعصاها إلى ذلك الرأس فعاد فالتحم بالجسد. وقد أعجب بهذا المنظر، بصفة خاصة، (بعل) إله آشور الكبير فأخذ يضحك ملء شدقيه. . ثم قصد الجميع إلى جبل قائم بجوار البحيرة، فأشار (آمون) إليه بيده وأخذ ينادي أرواح الماء بصوت عظيم يشبه الرعد، فتفجرت المياه نقية عذبة من الصخور. . في جلال وروعة. . وكان (بنتاؤر) الشاعر، البشري الوحيد الذي دعا إلى الحفلة، ليخلد على قيثارته ذلك اليوم المهيب، ولكنه أرتج عليه من هيبة المنظر وظل صامتها لحظة، وقد أخضلت عيناه بالدمع، ولم تحل عقدة لسانه إلا بعد أن شرب جرعة من ماء النيل، فأنشد: (سلامٌ عليك أيها النيل! يا من يتفجر من الصخر حياة ويسراً! إنك حينما تهبط تخضّر الأرض، كما أن عيدان القمح تنحني لك إجلالاً، وتقدم لك بذورها قرباناً. . إنك تخلق للصانع العمل، وللأرض الغبطة. كما أن كل معدة تسر لمقدمك، كذلك يهتز كل منكب من شدة الفرح. . دم أيها النيل حياة لمصر ويسراً للمصريين!)
فصاح الحاضرون: آمين! آمين!
حسين شوقي(58/45)
12 - أعيان القرن الرابع عشر
للعلامة المغفور له احمد باشا تيمور
الشيخ أحمد مفتاح
العالم الشاعر الناثر، أحمد بن مفتاح بن هرون بن أبي النُّعاس ينتهي نسبه إلى عُمار بضّم العين المهملة وتخفيف الميم، أحد العرب النازلين من الصفراء إلى أرض مصر حوالي القرن العاشر، وبين أبي النعاس وعُمار جدان أو ثلاثة، ولما ورد عمار مصر قطن بإقليم منية ابن الخصيب في صعيد مصر، وقامت بين عرب تلك الجهة منازعة أدت إلى مقاتلة، كان لجّد المترجم أبي النعاس اليد الطولي فيها، ويقال إنه حضر بعض الوقائع بدون سلاح، ولقوّته أمسك جحشاً صغيراً من رجليه وضرب به حتى مات الجحش.
وقطن هرون الجدّ الأدنى للمترجم في بلدة على الشاطئ الغربي للنيل بإقليم المنية تابعة لبني مزار، أنشأها حسن بن عبد العزيز أحد أجداد المترجم من جهة والدته، وهي بلدة صغيرة اشتهرت بين العامة باسم أبي عجيز محرفاً عن أبي عزيز، يعنون به حسن بن عبد العزيز مؤسسها، على عاداتهم في تكنية الرجل باسم أبيه، وما زال هرون المذكور بها حتى ولد له مفتاح أبو المترجم سنة 1229، وكان في هذه البلدة رجل اسمه علي أبو محمد، من أقارب والدة المترجم، جعلته الحكومة شيخ المشايخ، وهو لقب كان يطلق إذ ذاك على من يحكم عدّة بلاد، وكان جائزاً في معاملته فاعتدى على أناس من أهل البلد بالضرب حتى أشرفوا على الهلاك فاضطر بعض أهلها إلى الشكوى للمدير مستعينين بعلي افنيدي الشريعي والد حسن باشا الشريعي، وبعد اللتيا والتي ساعدوهم على الانفصال فانفصلوا واختطوا بلدة أخرى شمالي أبي عزيز سنة 1264 سموها نزلة عمرو، وانتقل إليها هرون بولده أبي المترجم، وبني بها دارًا كبيرة، وبقي بها حتى مات بعد أن أسن، وكان سديد الرأي يُرجع إليه في المشكلات.
ثم سكن في هذه البلدة بعده ولده مفتاح، وتزوج بها وأعقب جميع وأولاده، وحج سنة 1304 فأرخ حجه ولده المترجم بقوله:
حَجَّ مفتاحٌ أبي معتمرا
سنة 1304(58/46)
ومات سنة 1308، وكان طويلاً خفيف اللحية، وقد وخطبها الشيب، وكان اشتغاله بالزراعة دون غيرها، ويتحرى الحلال في كسبه، ويقول الحق ولو على نفسه، وتعلم القراءة والكتابة في الكبر ولم يجدهما، ولما وصل ينعيه إلى ولده المترجم بالقاهرة رثاه على البديهة بقوله:
قضى والدي بالرغم مني وليتني ... سبقت لأمر ساورتني غوائله
لقد عاش دهراً لم يشبه بريبة ... حياة سخيّ فاض بالقوم نائله
وقام بعبء الدين والفضل صادقا ... وما المرء إلا دينه وفضائله
عليه سلام كلما غاب كوكب ... وسالت من الجفن القريح هو أمله
وكانت ولادة المترجم ليلة السبت الرابع من شعبان سنة 1274 ونشأ بالبلدة المذكورة في حياطة والده، وابتدأ القراءة على الشيخ جاد المولى، فقرأ عليه القرآن وبعض المتون، ومكث بعدها نحو ثلاث سنوات، ثم حضر إلى القاهرة سنة 1289 لطلب العلم بالجامع الأزهر، وتلقى عن شيوخ وقته، فقرأ النحو على الشيخ محمد الشعبوني المغربي، والشيخ عرفة سالم السفطي، والشيخ عبد الله الفيومي، والشيخ محمد البحيري، والشيخ سالم البولاقي، والشيخ محمد الانبابي؛ والفقه الحنفي على الشيخ عبد الرحمن السويسي، والشيخ صالح قرقوش، وحضر بعض دروس الأستاذ الكبير الشيخ محمد العباسي المهدي شيخ الجامع الأزهر، ومفتي مصر إذ ذاك؛ والبيان على الشيخ عرفة، والشيخ علي الجنائني، والشيخ محمد البحيري؛ وآداب البحث على الشيخ محمد البحيري المذكور، والمنطق على الشيخ محمد عبدة، والشيخ أحمد أبي خطوة، والشيخ سالم البولاقي، والشيخ محمد البحيري، والعروض على الشيخ محمد موسى البجيرمي.
وفي أثناء مجاورته بينما كان مسافراً من بلدته إلى القاهرة في سفينة كبيرة أيام زيادة النيل، نزل يغتسل على سكان السفينة مع جماعة فانحدر مع الماء في وسط النيل، وتبعه أحد المغتسلين لإنجاده، فما زال سابحاً حتى كلت سواعده وكاد يغرق، ثم نجا وخرج على الشاطئ الغربي للنيل وأرسل إليه من بالسفينة زورقا وصل به اليه، وسافر مرة من القاهرة عائداً إلى بلدته في سفينة، فتشاحن مع ربانها تشاحناً أدى إلى إخراجه منها، فخرج إلى بلدة يقال لها الرّقة بإقليم بني سويف، لا يملك شروي نقير، سوى كتاب مخطوط رهنه في أجرة(58/47)
القطار لبلدته، وله نوادر كثيرة أمثال ذلك من المشي على القدمين بعيدة، والمبيت على الطوى في كل غدوة وروحة بين القاهرة وبلدته.
وبعد أن قضى سبع سنوات بالأزهر مجداً في طلب العلم ومباحثة الشيوخ، عاد إلى بلدته ومكث بها نحو سنتين مشتغلاً بحفظ الشعر ونظمه، ولم يكن له بالأزهر كبير عناية به لانصرافه إلى تحصيل العلوم، ثم حضر إلى القاهرة، ودخل مدرسة دار العلوم سنة 1298 فأعاد بها معظم العلوم العربية مع الجزء الأول من تاريخ ابن خلدون المشهور بالمقدمة على الشيخ حسين المرصفي، ثم خلفه في تدريس اللغة العربية شيخنا الشيخ حسن الطويل فتلقى عنه بعض المثل السائر، ورسالة ابن زيدون الهجوية، والزوراء للجلال الدوّاني في الحكمة، وانتفع به كثيراً، وقال فيه وفي الأستاذ المرصفي:
دار العلوم شكت فراق أبي الهدى ... المرصفي الحبر أو حد ذا الزَمنْ
فأجبتها حَسن المعارف بعده ... لا تجزعي إن الحسين أخو الحسن
وتلقى التفسير والحديث بالمدرسة عن الشيخ احمد شرف الدين المرصفّي، والفقه الحنفي عن الشيخ حسونة النواوي، والعلوم الطبيعية والرياضية على أساتذة آخرين بالمدرسة، ثم خرج منها بعد أن نال الشهادة الدالة على براعته سنة 1302، فقال بعد مفارقته المدرسة مضّمناً:
دار العلوم نثرتِ نظم أحبة ... كانوا بدوراً في سماء علاك
حتى بَلى عهدي بهم وتغيروا ... يا دار غّيرك البلى ومحاك
واشتغل بعد خروجه من المدرسة بالكتابة في صحف الأخبار كالأعلام والقاهرة، وبالتدريس لبعض أناس منهم السيد توفيق البكري، ولما اتصل به حسّن له خلع العمامة والجبة وإبدالهما بالملابس الإفرنجية، والطربوش، ثم فارقه واستُخدم كاتباً بمحكمة بني سويف الأهلية نحو عشرة أشهر، ثم انفصل وورد القاهرة فكتب في المؤيد أياماً قليلة، ثم امتحن للدخول بمدرسة دار العلوم مدرساً للإنشاء فحاز قصب السبق وعاد للعمامة والجبة، وأقام بها تسع سنين انتفع فيها الطلبة وتخرّج عليه كثيرون ممن يحسنون الكتابة الآن. ثم نقلوه بعد ذلك مدرساً للنحو بالمدارس الابتدائية في الأقاليم، فحطوا من درجته إلا أنهم أبقوا له مرتبه، وكان أخيراً بمدرسة بني سويف ومرض بها فأحيل على المعاش واختار السكنى(58/48)
بالقاهرة، وابتغى مكاناً يعتزل فيه الخلق ويشتغل بالمطالعة وإتمام بعض تآليفه، فاختار مصر الجديدة واكترى بها داراً صغيرة أقام فيها بمفرده مع خادم مسنّ كان يقضي له حاجاته من السوق، ويقوم بتنظيف المكان، وكان الشيخ مريضاً بمرض يعرف عند الأطباء بتصلّب الشرايين وهو لا يعلم بأمره ولا يهتمّ بنفسه، حتى اشتد عليه أخيراً وهو يظنه ضيفاً مرتحلاً، ثم تركه الخادم وعاد لبلده، فبقي وحيداً بالدار حتى أدركه أجله المحتوم فجأة والأبواب مغلقة عليه، وبقى أياماً لا يعلم به أحد، حتى ظهرت رائحته للجيران فأخبروا رجال الشرطة فحضروا وكسروا الأقفال فألفوه مائلاً في سريره وجزء من كتاب الأغاني ملقى بجانبه، وكان ذلك يوم الأحد 28 محرم سنة 1329، وقرر الطبيب أنه مضى على وفاته ثلاثة عشر يوماً، فنقلوه ودفنوه تغمده الله برحمته.
ولم يكن اشتغاله بالعلوم على السواء، بل كان جلّ اعتنائه بمتن اللغة والشعر والنثر، فحفظ من اللغة مقداراً وافياً من الغريب وغيره، وكلف بتصحيح شرح القاموس عند طبعه برّمته المرة الثانية. وكان اشتغاله بالشعر في الأزهر قليلا كما قدمنا، ولم يبرع فيه إلا عند دخوله دار العلوم طالبا، وقد أرّخ أو إجادته فيه بقوله:
أقول الشعر عن فكر سليم 1298
ونظم بعد ذلك القصائد المتينة والمقطّعات الثمينة، وكان ينهج فيها منهج العرب لكثرة نظره في دواوينها واقتناء الكثير منها استنساخاً أو نسخاً بيده، ولو تم له الخيال الشعري كما تمت له الديباجة وجزالة الألفاظ لكان أشعر أهل زمانه بلا منازع. ولما عاد الأمير محمود سامي باشا أشعر شعراء العصر من منفاه بسيلان، وكان بعيد العبد بشعراء مصر ومن حدث منهم لم يعجبه إلا شعر المترجم في رصانة البناء وسلامة التراكيب. وأما نثره فتوأم شعره في الأسلوب العربي، وكان مولعاً بالتضمين فيه من شطر عربي أو مثل سائر، لا تكاد تخلو قطعة منه من ذلك.
وقد ترك من التآليف (رفع اللثام عن أسماء الضرغام) جمع فيه ما ينيف على خمسمائة اسم للأسد، طبع بمصر؛ و (مفتاح الأفكار في النثر المختار) جمع فيه مختار النثر من رسائل وخطب من الجاهلية إلى هذا العصر، وهو كتاب جليل الفائدة، طبع بمصر أيضاً؛ و (مفتاح الأفكار في الشعر المختار) جمع به مختار الشعر من الجاهلية إلى عصرنا هذا، لم(58/49)
يطبع ولم نطلع عليه؛ وله ديوان حماسة من الشعر العرب استدرك به على أبي تمّام مافاته؛ و (مفتاح الإنشاء) لم يكمله، وأخذ في أواخر أيامه في جمع شعره ونثره وترتيبه في ديوان، ولا أدري ما فعل الدهر به.
وكان رحمه الله غريب الأطوار، سريع الغضب سريع الرضا، مع صفاء الباطن، له شذوذ في أخلاقه يتحمله من عرفه وعاشره، أسمر اللون، أسود اللحية والشاربين كبيرهما، أميل إلى الطول، له هزة وتبخير في مشيته لمرض كان أصابه في ظهره ورجليه. ولما انتقل إلى مدارس الأقاليم صار يحضر إلى القاهرة في فترات فينزل عندنا ويجتمع به إخوانه وأصدقاؤه في ليال كنا نحييها بالمطارحات الأدبية وإنشاد الأشعار.
ومات لم يعقب غير بنتين زوجهما في حياته، رحمه الله.
الشيخ أحمد وهبي
كان طالب علم فقير ثم تزوج بإحدى الموسرات فحسنت حاله وفتح له حانوت طرابيش بالغورية جعلها مجتمع الأدباء والشعراء ولم ينجح في التجارة فتركها وأخذه الشيخ مصطفى سلامة النجاري معه في الوقائع المصرية وجعل محرّراً ثانياً بها ثم فصل وتقلبت به الأحوال فاتصل بأسرة المويلحيّ ثم بالشيخ علي أبي النصر شاعر الخديوي إسماعيل باشا فسعى له في الاستخدام بنظارة المعارف فلم يوّفق.
احمد تيمور
(الرسالة) بهذه الترجمة انتهى ما كتبه العلامة الجليل المرحوم أحمد باشا تيمور من تراجم علماء القرن الرابع عشر وأدبائه، وسيدرك القراء ولا ريب حزاز من الأسف على انقطاع هذه السلسلة الفريدة في روحها اللطيف، وأسلوبها العذب، ومعرضها المشرق، وصدقها الأخاذ، وطابعها الجميل. فهل لشيخ من شيوخ الأدب اجتمعت له مزايا الفقيد من فهم العصر، وملابسة الأشخاص، وتذوق التاريخ، وتوخى الايجاز، وصراحة اللهجة، يصل ما انقطع من هذه السلسلة؟ ومَنْ أحق بهذه الخدمة الجليلة للأدب والعلم والوطن من الأستاذ عبد الوهاب النجار؟(58/50)
في تاريخ الأدب
رأي جديد في المعلقات
نقد وتعقيب
بقلم محمد طه الحاجري
كتب الأستاذ الفاضل الشيخ عبد المتعال الصعيدي فصلاً في (الرسالة) جعل عنوانه: (المعلقات. رأي جديد فيها)، وقد والله فتننى هذا العنوان أيما فتنة، واستوقفني عن قراءة المقال برهة، وأسلمني إلى طائفة من الخواطر غير قليلة. فقد طال عهدنا بالطريف من الآراء في تاريخ الأدب، واشتدت حاجتنا إلى إعادة النظر وتقليب الفكر في تراثنا الأدبي، واستشفاف الحقيقة المستكنة في ثنايا النصوص المختلفة، والتأويلات الكثيرة، ولا سيما فيما يتعلق بالعصر الجاهلي، وقد وقفنا منه في مجهل لا يتبين الباحث فيه إلا لمحات خاطفة، وأثارات ضئيلة، يكتفنها الغموض ويحيط بها الإبهام وتلعب بها الأوهام. . . وما نشك في أن المعلقات صورة صحيحة من ذلك العصر، مهما كان أمرها، ومهما اختلفت فيها مذاهب الباحثين وآراؤهم. فكل رأي جديد فيها جدير أن تلتفت إليه القلوب. وتصغي إليه العقول، ويتلقاه المتأدبون بالبشر والترحيب، إذ الجديد وحده هو الذي ينتظر منه أن يبدد الظلمات ويزيل الشبهات، ويفسر المشكلات. وليس الأستاذ الصعيدي ممن يتهم بأن له مع المستشرقين علاقة هوى، فيميل ميلهم، ويفسد الأدب والتاريخ بآرائهم! فجديده لابد أن يكون الجديد الخالص لا يشوبه شوب من تقليد. وهو رجل محافظ بطبعه، فيما يظن الناس، فجديده خالص لوجه العلم والحقيقة، لا عن رغبة في الخلاف وهيام بالتجديد.
حدثتني بهذا الحديث نفسي، وأنا واقف عند حد العنوان، ولكني كنت أنتقل في مدارج الغبطة والفخر والسرور، حتى أقبلت على المقال ألتهمه التهاماً، فإذا بي لا أحس شيئاً مما خيله لي المقام، وزينته لي الأوهام، ثم اتهمت مشاعري فعدت إلى المقال أقرؤه جملة جملة وكلمة كلمة. فإذا بي أر تكس على عقبي، وأحس في نفسي ما يحسه الطاعم لقاء طعام سئمته نفسه، ومجه حسه، وبرمت به معدته من كثرة ما تقلب فيها.
أما هذا الرأي (الجديد) فليس رأيا في المعلقات من حيث هي صورة للجاهلية، نلمح فيها(58/51)
صفاتها، ونقرأ فيها خلائقها وعاداتها، وليس بحثاً فيها من حيث وثاقة رواتها، أو الوضع في أبياتها، ولكنه رأى في سبب وتسميتها، ثم ما يحتاج من توجيه وتعضيد، وإنحاء على الآراء الأخرى بالمحاجة والمجادلة ثم التوهين، وهذا بحث جليل لا يضع من قيمته جزئية موضوعه، مادام متمشياً مع الأسلوب العلمي، قائماً على أصول البحث الصارمة.
يقول الأستاذ في سبب التسمية: (فهذه المعلقات معلقات مما حدث للناس بعد جمعها من حبهم لها وتتبعهم إياها بما كانوا يتتبعونها به من حفظها وشرحها، وهي معلقات بمعنى محفوظات أو مشروحات، وقد خصت بهذا الاسم لأنها كانت أول ما عنى بجمعه وتدوينه وحفظه وشرحه من الشعر).
فهو يذكر هنا سببين متداخلين: الحب والتتبع، ثم التتبع بالحفظ والشرح، وما أدري فيهم هذه المعاظلة؟. أما كان الأدنى إلى الاستقامة أن يقتصر على السبب الأول، ويكون ما بعده مرتباً عليه، راجعاً إليه ناتجاً منه، فيكون سبيل التسمية هو هذه الدرجة الرفيعة التي قدرها الناس لهذه القصائد، فتعلقوا بها، وأولها حبهم وإعجابهم، وما يمليه عليهم الحب والإعجاب من القيام عليها بالاستظهار والشرح، أما التعليق بمعنى كتابة الشرح على المتن فما نسحبه مما كان يسوغ في عرف اللغة حينذاك.
هذا هو الجديد فيما يزعم الأستاذ، ولوددت والله لو كان جديداً حقاً، فنرفع به رءوسنا تيهاً وفخراً، ولكنه رأي مقرر، يدرسه طلاب المعلقات فيما يدرسون من الآراء فيها منذ أصبح لدراسة المعلقات في مصر سبيل علمي معبد، وأسلوب جامعي ثابت، فليس الجديد في حقيقة الأمر إلا اعتبار هذا الرأي جديداً اليوم.
وإذا كان لابد من ثبت لما ندعيه من قدم هذا الرأي وإمعانه في الشيوع بين جمهرة العلماء، فها هو العلامة المستشرق الجليل نولدكه وهمك به من علامة ذائع الصيت، يقول في الفصل الذي كتبه عن المعلقات في دائرة المعارف البريطانية، وهي أدنى ما يقصد إليه الباحثون:
(إن قصة القول بأن هذه القصائد كتبت بالذهب ترجع إلى تسميتها بالقصائد المذهبات، وهي تسمية مجازية للدلالة على عظم أمرها، وكذلك يجب أن نؤول تسميتها بالمعلقات على هذا الأساس نفسه، فمن المحتمل جداً أن تعنى هذه التسمية أن هذه القصائد قد سمت إلى(58/52)
درجة خاصة مجيدة، وأن هناك اشتقاقاً آخر من المادة نفسها، وهو كلمة (علق)، ومعناها الشيء النفيس) فمدار القول هو الاعتبار المجازي في فهم الكلمة وإغفال المعنى الحرفي لها. فأين هي الجدة التي يسندها الأستاذ إلى رأيه؟.
وأما قوله إن المعلقات هي أول ما عنى بجمعه وتدوينه وحفظه بدعوى لا نحسب إلا أن علم الأستاذ وفضله ينوءان بها، وأيا كان الأمر، فان تعيين الأولية في هذا العصر البعيد أمر ليس من السهولة بحيث يلقى في كلمة في درج الكلام، بل لابد من النص الواضح أو الاستنتاج القاطع.
وبعد أن انتهى الأستاذ من عرض هذا الرأي وتوجيهه عمد إلى ما يخالفه من الآراء عرضاً ومناقشة، وقد اكتفى من هذا برأيين: الأول رأي ابن عبد ربه وابن خلدون وابن رشيق، والثاني رأي أبي جعفر النحاس المصري، وكان المنتظر أن يعرض إلى غير هذين الرأيين من آراء المحدثين، فقد جعل مستهل مقاله أن العلماء قد اختلفوا قديماً وحديثاً في سبب تسمية هذه القصائد، فالقارئ معذور إذا ظن أن الأستاذ يعرف مذهب المحدثين إلى التفسير المجازي، ثم أغضى عنه تمهيداً لوصف رأيه بالجدة والابتكار، وإلا فأين ما خالف فيه المحدثون عن رأي المتقدمين؟ ولكنا لا نقول بهذا، فليس مذهبنا في النقد أن ندخل إلى الضمائر ونحاسب على النيات، ولا نقول هنا إلا أن أول واجب يفرضه العلم على الباحث المؤرخ هو التقصي في طلب النصوص ومعرفة الآراء، والتثبت في وصف الرأي، والعصمة لله وحده.
أما أول الرأيين فيقول إن المعلقات كتبت بالذهب، وعلقت على أستار الكعبة، وكأن الأستاذ رأي هذا الرأي بين البطلان ظاهر الاستحالة، فاكتفى بعرض أقوال القائلين به وأغفل مناقشته ونقضه.
وأما الرأي الآخر فينكر دعوى تعليق المعلقات على أستار الكعبة، ويذهب إلى أن الملك كان إذا استحسن قصيدة مما كان ينشد في سوق عكاظ قال علقوا لنا هذه وأثبتوها في خزانتي فانظر ماذا يصنع النقد في هذا الكلام؟ يقول أبو جعفر (الملك) مطلقاً من غير تعيين، فيأبى الأستاذ إلا أن يفترض أن هذا الملك هو النعمان بن المنذر، ثم يبني على هذا الافتراض الذي افترضه هو اعتراضه موجهاً إلى أبي جعفر، فيقول إن عصر النعمان(58/53)
أحدث من عصر كثير من أصحاب المعلقات فلا يصح أن يكون هو الذي كان يعلق قصائدهم بخزانته بعد إنشادهم لها بسوق عكاظ واستحسانه إنشادها، وهذا ولا ريب سبيل ملتو، وتحكم في النقد غير محمود، وتحريف للكلم عن مواضعه، وتخصيص للعام بدون مخصص.
ويتوارد العلامة نولدكه والأستاذ الصعيدي في نقد عبارة النحاس عند هذه النقطة، أما الأستاذ الصعيدي فقد ذهب إلى ما رأينا من التحكم والبناء على الفرض، وأما نولدكه فيقول إن من الصعب احتمال أن ملكاً عربياً كان يشهد سوق عكاظ. ويؤلمنا والله أن يكون هذا العلامة الأعجمي أكثر توفيقاً، وأهدى إلى الجادة في فهم الكلام وتخريج النصوص.
ثم ينتقل الأستاذ إلى وجه آخر من وجوه النقد، فيقول إن سوق عكاظ التي أجمعوا على أن تلك القصائد كانت تلقى فيها أحدث بكثير من عهد أصحاب المعلقات، لأنها أقيمت بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة، ولوددنا والله دلنا الأستاذ على مصدر هذا القول، فلسنا نذكر أن ياقوتاً تعرض في معجمه إلى تاريخ إنشائها، والذي نحسبه أن عهد هذه السوق أقدم مما ذكر الأستاذ، ففي سيرة ابن هشام أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، شهد حرب الفجار وعمره أربع عشرة سنة، ويذكرون في سببها أن قريشاً حين بلغها مقتل عروة الرحال، كانت في عكاظ، وفيها قامت الحرب، وسميت باسمها، وقال ابن الزبعري في مدح العنابس:
وفي يوم عكاظ منعوا الناس من الظلم.
بل إنهم ليذكرون فجاراً آخر قامت وعمر الرسول صلوات الله عليه عشرة أعوام، ويذكرون في سببها أن أحد الغفاريين كان له مجلس في سوق عكاظ يفتخر فيه، ويزعم أنه أعز العرب فوثب عليه رجل فضربه بالسيف على ركبته.
وأوضح من هذا في الدلالة على قيام هذه السوق قبل التاريخ الذي حدده له الأستاذ ما جاء في أخبار عبد شمس بن عبد مناف أن زوجته عبلة بنت عبيد كانت قبله تحت رجل من بني جشم ابن بكر فبعثها بأنحاء سمن تبيعها له بعكاظ، فباعت السمن وراحلتين كان عليهما وشربت بثمنها الخمر. . الخ القصة، وهي مذكورة في الجزء الأول من الأغاني في أخبار عمر بن أبي ربيعة، وهي تدلنا دلالة قاطعة على قيام سوق عكاظ في عهد عبد شمس،(58/54)
وأين عبد شمس مما ذكره الأستاذ؟ فكيف يصح مع هذا أن يكون عام 586 تاريخياً لبدء قيامها؟
والأمر بعد هذه النصوص كلها بعيد الاحتمال بالنسبة للأمة العربية، وهي أمة تجارية منذ أقدم عصورها، وقد جعلت من أسواقها نطاقا يحيط بالجزيرة، ونظمت قيامها تنظيماً يتفق مع سير التجارة، وكانت عكاظ حلقة من هذه السلسلة. فكيف يسوغ القول بأن إنشاءها كان في هذا العهد المتأخر؟ ولكن لعل الأستاذ قد اعتمد على نص صريح قوي يضعف ما قدمنا من النصوص، ويهدما ما رأينا من منطق الأمور.
وبعد، فلا يحسبن القارئ أننا ندافع بهذا القول عن رأي أبي جعفر النحاس، فلسنا، ولله الحمد، من القائلين بالتفسير الحرفي لكلمة المعلقات، وما نبغي من كل ما أسلفنا إلا أن نقر الأمور في نصابها، فلا نغمض في الإقرار بالحقوق لأصحابها، وأن نصطنع الإنصاف يفي نقد ما نراه جديراً به، فلا نتجنى على الشيء مالا يحتمل، ولا نستعصم إلا بالقاطع من الأدلة والصحيح من الحجج. ونرجو أن نكون قد وقفنا على الجادة في هذا النقد فلم يستزلنا الهوى ولم يخطئنا التوفيق.
محمد طه الحاجري بكلية الآداب(58/55)
مِن طرائف الشِعر
نادرة
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
ما أنتِ إلا نادرة ... في كل فنّ ساحره
للسمع أنتِ متُعةٌ ... ومُتعةٌ للباصره
أنتِ لشعبٍ كُسِرَتْ ... منه القلوب جابره
أميرةَ الفنّ على ال ... إيداع أنتِ قادره
أنتِ جديرة بح ... قٍ أن تكوني الآمره
وأنتِ عبقرية ... من أكبر العباقره
معجزة بالغة ... من معجزات القاهره
بين أغانيكِ ووج ... هكِ الجميل أصره
ليلتنا من بيضاء مِنْ ... خير الليالي الساهره
حسُبكٍ أن الناس حو ... لَ الرافدَين شاكره
أما الأغاني فهي ... من قلب رقيق صادره
في جوّها الأرواح من ... أفراحهنّ طائره
بما بعينيكِ من ... السحر القلوبُ شاعره
رفقاً فإنا لا نطي ... ق النظرات القاهره
ما حيلة الضعيف تل ... قاء السيوف الباتره
ليس له من حُجَّة ... غير الدموع الطافره
تعطي القلوبُ جِزيةَ ال_غرام وهي صاغره
من الجمال ليس تش ... بع العيونُ الناظره
الغادة الحسناء تش ... به النجومَ الحاسره
أنحن فوق أرضنا ... أم في السماء الزاهره؟
لو كان يحيا الَميْتُ أح ... يته الأغاني الساحره
فحبذا الفن وح ... بذا أغاني (نادره)(58/56)
نحن بحفل جامع ... للنخبة المؤازره
كأنما عاد الربيع ... ناثراً أزاهره
يا عندليب الروض غرّ ... د للوجوه الناضره
أميرةَ الفن تحيّ ... تي إليك عاطره
كوني لشيخ قد صبا ... إلى الجمال عاذره
لا تحسبي الشيوخَ أم ... ثالَ الرسوم الدائرة
كل امرئ يتبع في ... أمياله عناصره
وهل إذا النفس صبت ... في الشيخ فهي وازره؟
وقد يعود لي الصبا ... وعهدُه في الذاكره
أبكي إذا ذكرته ... على سنيه الغابره
إن لم أُجلَّ الفن فَلْ ... تَدرْ عليَّ الدائره
وَلْنَتَمَلَّ قبل أن ... نردي الحياةَ الحاضره
إن الحياة كلها ... إلى الحتوف صائره
ولْنكسِب الدنيا وربّ ... ي غافرٌ في الآخره
هذا غناء فيه آ ... ثار النبوغ ظاهره
أجدتِ يا نادرتي ... أوّلَهُ وآخره
أشيم ناراً سِعُرت ... وأنتِ أنت الساعره
والناس في حرب الهوى ... مدحورةٌ وداحره
يا زهرتي حيّتْكِ أن ... داء الربيع الماطره
تحذّري تحذّري ... من الزهور الغائره
هذا الهتاف المستطي ... ر كله لنادره
غنَّتْ فكانت فتنة ... في النغمات الثائره
وردّدت فهيجت ... فينا الشجون الحادرة
تجسّ نبضَ العود أح ... ياناً بأيدٍ ماهره
فيصرخ العودُ كطف ... لٍ دغدغته الخافره(58/57)
العودُ شاعرٌ بها ... وهي به لشاعره
غنّى لحرّيتنا ال ... حبيبة المهاجره
كنا بها في حقبة ... من الشعوب الظافره
قضت على آمالنا ... يدُ الزمان الغادره
هوت بنا ساعةَ أد ... لجنا الجدودُ العاثره
ماكان هذا في مظن ... ة النفوس الثائره
وربما دار الزما ... نُ معُلِناً بشائره
فخوّل الشعبّ حقو ... قَ الأمم المجاوره
بغداد
جميل صدقي الزهاوي(58/58)
ثمالة كأس
للأستاذ فخري أبو السعود
بقية أيام تَقَضَّى كثيرها ... بنعماَء أو بأساَء والعيش قُلَّبُ
غدوتُ أقضِّيها بأرضِ عَلقْتهاَ ... وطاب بها لي مستراد ومذهب
وطاب اجتلاء الحسن بين شعابها ... أشرِّق فيها تارة وأغرِّب
تَبَسَّمُ أحياناً فيعذب بِشْرُها ... ولستُ بِخاَشً سُخْطَهَا إذ تُقَطَّب
بها مُسَتجَمُّ للجسوم ومتعة ... وَرِىُّ وللنفس الشجية مهرب
إذا ما سقاها الغيث صفىَّ أديمها ... ونقَّى ثراها حيثما يتصبب
قرفَّ بها عشب وشفَّ بها صفاً ... وماد بها غصن ندىُّ مُرَطَّبُ
وفاح بها عطر ورقَّت نسائم ... وتاه على البلور قاعٌ ومَشْعَب
فكم ثَمَّ من حُسن نثير منظَّم ... وشِعْرٍ إلِهيّ هنالك يُكتب
على هَامهَا حيناً وفي وهَدَاتِها ... أُصَعَّدُ في جنح الدجى وأُصَوِّبُ
وفي نشوة الآصال أو يقظة الضحى ... وعند شروق الشمس أو حين تغرب
فكم ليلة قد جَمَّدَ البردُ ماَءها ... بأحشائها أقبلت لا أتهيَّب
وقد عَوتِ الأرواحُ فيها وأطفأتْ ... مصابيحها لم يَبْد ثمَّتَ كوكب
وكم مَشْرِقٍ بادرته في طلوعه ... ومازال ماء المزن في الغصن يضرب
وقد عظَّ أهلوها وَأقبلتُ مِثْلَ مَنْ ... له عند قرص الشمس في الأفقْ مأرب
يُنَقِّطُنى غصُن بُمنْهَلَّ قَطْرِهِ ... ويعبق من حولي نسيمُ ويلعب
صَحَابي هاتيك الشِّعابُ أَلِفْنَني ... ويعرفه خطوى حيثما رُحْتُ أدأَب
لقد آذنتْ بالبين صُحبتنا سوى ... ثمالة كأس عن قليل ستنضب
أُبَا كِرُها صَفْواً وأَعْلّمُ موقنا ... بأن ثَّماَلَ الكأس أشْهَى وَأطيَبُ
سأذكرها يوماً فَأَحْمَدُ عَهْدَها ... وأَهفُو إليها مستهامًاَ وأَطرب
فخري أبو السعود(58/59)
العودة إلى الريف
بقلم فريد عين شوكة
أمل على رغم الزمانِ يوافى ... يا طالما ضنّ الزمانُ الجافي
لج الحنين بمقلتيّ إلى القرى ... مأ وى صبايَ ومُنتدَى إلا في
يا نفسُ فاستبقى الزمانَ إلى غد ... فغدٌ قرارُك بعد طول طواف
إسكندرية يا عروس الشرق من ... ماضي العصور وغابر الأسلاف
ومُنى الشباب وُبغية الفتيات في ... الصيف الحرور ومتعة المصطاف
مهماَ حبتْكِ يد الرشاقةَ حليها ... ولبستِ أبراد الجمال الضافي
وبهرتِ شبان البلاد وشيبها ... برُوائك المتوقرق الرّفاف
فالريف أزين من حِماك حرائراً ... وأحبُّ لي من هذه الأطياف
خطرت عليه يد الإله فأبدعت ... ما شاء من وشىٍ ومن أفواف
وصفت أصائله وطاب نسيمه ... كنسيم جنات النعيم الصافي
وسعى إليه وران فوق ربوعه ... سحرٌ عن العين الكليلة خاف
سحر تحيرت النُّهي في كنهه ... فسمتْ به عن رائع الأوصاف
يا ريفُ شاهَ جمالك السحريّ من ... سيل الخطوب الماِحق المِتلاف
وعدتْ عليك يد المدائن فاجتنت ... ما فيك من ثمر وطيبِ قطافِ
وازدانَ مغناها بماِ لك فاغتدت ... فتانة الأحشاء والأطراف
حتى استطال الفقر فيك وصوَّحتْ ... دنياك من تحفٍ ومن ألطاف
وتكبكب الفلاحُ في أزماته ... وغدا بمصر ضحية الإسراف
وأمضّه الفقر العضوض فحاله ... ما بين مسغبةٍ وبين كِفافِ
وبنوه - يا لبنيه! - من غول الضنى ... زهرٌ ذوىَ من حُرقة وجفاف
إن ضجّ بالشكوى فما من مُسعد ... أو ضاق بالبلوى فما من واف
آذانهم صمّاء عما يشتكى ... وعيونهم عما دهاه غوافِ
لكنهم متدافعون عليه كالطير ... الصِدىّ على النمير الشافي
يجبون من دمه العزيز نقودهم ... لتضيع في سرفَ وفي إتلاف(58/60)
يا شِقوةَ الفلاح في مصرَ التي ... لولاهُ لم تك غير بعض فَيافَ
إسكندرية كم رثيتكِ إذ رأي ... تكٍ للأجانب سهلة الأكناف
سيلُ الأجانب فيك كم ألقى على ... عيني المضيئةِ حالك الاسداف
يلقوْن منك التبر في جوف الثرى ... واللؤلؤ المشفوف في الأصدافِ
ويرون فيك النُّعميات وليتهم ... جازوك غير الكفر والإجحاف
صِيغَ الأجانبُ في ربوع الشرق من ... فرط الجحود وقلة الأنصاف!
غَفراً (منوفُ) إذا هجرتكِ حقبة=وحُرمت روعةَ حسنك الشفاف
سأزيح عن قلبي تباريح النوى ... وأحُطُّ عبء البعد عن أكتافي
فريد عين شوكة(58/61)
رسالتان فلسفيتان
بين فولتير وروسو
للأستاذ خليل هنداوي
طوَّح بليسبونة زلزال روَّع النفوس وذهب بكثير الضحايا، فواع فولتير - وهو رسول العطف - أن تعمد العناية الإلهية إلى مثل هذه الوسائل في أعلاه الشر، فهاجم ربوع القائلين بنظرية الخير الشامل، وأين هو الخير؟ ونظم هذه المقطوعة يرثى بها من نكبهم الزلزال، ويتخذ منه برهاناً يؤيده في جحوده العناية الإلهية، ويرى أن الوجود مبنيُّ على الشر والعذاب. وأجابه رو سو على مقطوعته برسالة فلسفية عميقة ينكر عليه هذا الإسراف في التشاؤم، وهذا الاستسلام الأعمى لسلطان العاطفة، ويظهر فلسفة الرضا عن الوجود وعن أنظمته برغم ما يشيع في بعضها من فساد، ويعتقد أن هذا الكون هو خير ما أبدعته فكرة المبدع (إذ ليس في الإمكان أبدع مما كان).
وهذه هي المقطوعة:
(أيها الأموات التعساء! أيتها الأرض الخاشعة!
أنتم يا من قذفتكم قواذف لا معنى لوقعها).
وأنتم أيها الفلاسفة الذين تصيحون في الأرض (ليس على الأرض إلا الخير).
تعالوا معي واهرعوا إلى هذه الخرائب الدامية، هذه البقايا الهاوية، انظروا الرماد الحائل، وهؤلاء النساء والأطفال يتهاوى بعضهم على بعض مهشمي الأعضاء تحت الحجارة، وهناك ألوف الضحايا التهمتها الأرض.
وجوه دامية، وقلوب خافقة، وأشلاء ممزقة.
قد ماتوا! ولم يدركهم مسعف.
ماتوا! وهم ينظرون إلى الموت
أتقولون أيها الفلاسفة،
وأنتم تسمعون أنينهم وترونهم وهم يحتضرون:
(إن هذا إلا صنع الشرائع الخالدة، وإن إلهاً حراً في مشيئته شاء لهم ذلك).
أتقولون: إن الآلة قد انتقم لنفسه منهم لأنهم كانوا آثمين، وما كان تقتليهم إلا جزاء آثامهم.(58/62)
فأية جريمة أم أي رجس فعل هؤلاء الأطفال الذين لقوا مصارعهم على صدر أمهاتهم؟
ليسبونة التي أمست لاشيء، أكانت أكثر رذائل من (لوندرة) ومن (باريس) الغارقة في بحر من الملذات. ليسبونة هوت في الهاوية. وباريس لا تزال ترقص.
إن بعض المشاهدين يتأملون في مصيبة إخوانكم وهم يتحرون عن أسباب العاصفة بهدوء وسلام.
ولكنهم حين يشعرون بضربات الحظ الأعمى تنصب عليهم، يتحرك في نفوسهم معنى الإنسانية، ويبكون مثلنا على مصارعهم.
آمنوا إني صادق الشكوى واللوعة!
وأن مظالم الحظ شائعة في كل مكان. .
ذروني أشْكُ!
كل شيء في العالم يئن، بعضه يفني بعضاً!.
وكل شيء يولد للهموم والأذى.
وأنتم - هنا - تجعلون من شقاء كل موجود سعادة مطلقة، فأية سعادة أسندوها إليك أيها الإنسان الذي يكتنفه الموت والضعف والشقاء. . .؟
أنتم تصيحون هاتفين (ليس على سطحها إلا الخير!)
الوجود يكذبكبكم، وقلوبكم تدحض أراءكم!
وهذه عناصر المادة، حيوانها وإنسانها وجمادها، كلٌ في نزاع مستمر!. . .
يجب أن تقولوا معي (ليس على سطحها إلا الشر)
إن سر الوجود لا يزال مجهولاً. . .
فهل يصدر هذا الشر عن مصدر صاحب الخير نفسه؟ ولكن يكف يُدرك الفكر أن رباً يزجي إلى أبنائه الخير الذي يرتضيه لهم، هو بذاته يصب عليهم سوط عذابه؟ أية عين تستطيع أن تتبين في هذه الأغوار العميقة؟. لا يمكن أن يكون مصدر الشر كله من الوجود.
والشر لن يرسله أحد غير الله، لأنه هو سيد الوجود وهو الكائن في كل موجود.
يالها من حقائق مؤلمة!. .(58/63)
وياله من مزيج لعناصر متباينة!. . .)
وهذه هي الرسالة التي كتبها رو سو جواباً على هذه المقطوعة: (اسمح لي أيها العزيز بأن أشكو إليك من هذه العقيدة، إذ كنت أرتقب منك ما هو خير وأهدى لهذه الإنسانية التي تريد منك أن تنفس عنها. أنت تلوم (بوب) و (ليبنتز) لأنهما خففا عن الإنسانية عذابها بإعلانهما (أن لاشيء عليا إلا الخير) ورحت ترينا شقاءنا وتهدينا إلى تعسنا، تدفعك إلى هذا عاطفتك الهوجاء؛ وبدلاً من أن تكون رسول تعزية لي لم تعمل إلا على إثارة حزني. قد يقال إنك تخشى أنني لا أرى مبلغ شقائي في هذا الوجود، وأنك إذا تركتني أسيء الظن بالكون تخفف عني شقائي.
قال لي (بوب وليبنتز): صبراً أيها الإنسان فان الألم شيء ضروري في الطبيعة والوجود، فان الموجد الخالد الحسن الذي يحكم هذا العالم ودّ أن يعصمك فيه عن كثير من الأنظمة المطلقة، فانتخب نظامًا هو أصلح الأنظمة وأقلها شراً وأكثرها خيراً، فلماذا المكابرة؟ لنقل هذه الكلمة وان كانت قاسية: (إذا لم يصنع إله الكون خيراً مما صنع، فلأنه لا يقد على أن يصنع خيراً منه) وأنت ماذا تقول لي في قصيدتك؟ تقول: تألم إلى الأبد أيها الشقي، فإذا كان - ثمت - خالق أوجد فهو قادر بدون شك على أن يزحزح عنك آلامك ويطلق نفسك من قيودها. ولكن لا ترج من آلامك أن تتزحزح، لأن من المحال أن تعرف لماذا وجدت إذا لم توجد للألم والموت.
إنني لأراني أتحرى عن أسباب الشقاء الأدبي في الإنسان الحر الكامل والإنسان الفاسد. وأما الشقاء المادي فإذا صح ما أشعر به فان بين المادة الحساسة والمادة الجامدة الميتة نزاعاً مستمراً، فهذا الشقاء وجوده محتم في كل جزء يتصل به الإنسان. وإذ ذاك يصبح سؤالنا (لماذا لم يخلق الإنسان سعيداً) لغواً لا معنى له. وإنما يسأل (لماذا وجد الإنسان)؟
وأقول: إن كل مصائبنا - ما عدا الموت - إنما نوطن لها بأسباب تتقدمها، وجل مصائبنا المادية تجنيها علينا أيدينا، عد إلى موضوع قصيدتك نفسها، وهب أن الطبيعة لم ترفع هنالك عشرين ألف منزل بطبقات مختلفات، وأن سكان هذه المنازل قد توزعوا فرقاً فرقاً في مساكن حقيرة، أفليست النكبة تكون أهون شراً إذا كان لا مفرَّ من النكبة؟
ولكن يتسنى لنا العودة إلى المذهب الذي ضربته، فلا غنى لنا حال تجريبه وامتحانه عن(58/64)
أن نميز الألم الخاص الذي لا ينفي وجوده فيلسوف من الألم العام الذي ينفي وجود التفاؤل. ولا ينبغي هنالك أن يسأل أحدنا الآخر: أذقت ألماً أنت أم لم تذق؟ وأنا ينبغي أن نفهم إذا كان الوجود بني على أساس الخير، أو إذا كانت آلامنا فيه محتمة لا محيص عنها؟
وهكذا أرى قولنا (مجموع الكل هو خير) أدنى إلى الحقيقة من قولنا (كل شيء هو خير) وإذ ذاك لا سبيل لأحد أن يأتي ببراهين لأثبات شيء أو لدافع شيء. لأن هذه البراهين تتعلق رأساً بمعرفة عمارة الكون والاطلاع على غاية خالقها، وهذه المعرفة يبعد على العقل البشري أن يُلم بها، والقواعد الصحيحة لمذهب التفاؤل لا تستمد من متاع المادة ولا من ميكانيكية العالم، ولكنها تُستَمد بواسطة العقل من كمالات الله التي يدبر بها كل شيء.
إذا عدتَ بهذه الأسئلة المتباينة إلى مصدرها الشامل رأيتها كلها تعود إلى مسألة وجود الله، فإذا ثبت وجود الله فلابدَّ أن يكون كاملا، وإذا كان كاملا فلابد أن يكون عاقلا وقديراً وعادلاً، وإذا كان عادلاً وقديراً فكل شيء مبني على خير وصلاح، وإذا كان عادلاً وقديراً فروحي هي خالدة، وإذا كانت روحي خالدة فان ثلاثين عاماً من عمري لا توازي شيئاً عندي، وربما كانت ضرورية لإنقاذ الكون. فإذا ما سلمتَ لي بالقضية الأولى فلم تتزعزع هذه النتائج التي وقفها عليها، وإذا لم تسلم بها وكان نصيبها منك الجحود فان كل مجادلة في توابعها تذهب عبثاً.
بيروت
خليل هنداوي(58/65)
العلوم
بلوتو
السيار التاسع
للأستاذ مصطفى محمود حافظ
في العدد (56) من مجلة الرسالة مقال ذكر به أن الكواكب السيارة ثمانية، وأنها - مرتبة حسب قربها من الشمس - (عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ، المشتري، زحل، أورانوس، نبتون). وقد كان هذا القول صحيحاً حتى شهر مارس سنة 1930، فكان مدار (نبتون) يحدد نهاية المجموعة الشمسية التي تنتمي إليها كرتنا الأرضية، ثم اتسعت هذه المجموعة باكتشاف سيار تاسع هو (بلوتو) وإلى القارئ قصة هذا الكشف.
الفرق بين النجم والسيار:
في المقال المشار إليه سابقاً نظريتان من النظريات التي وضعت في تفسير كيفية تكوين السيارات حول الشمس، ولعل أقرب هاتين النظريتين إلى الصحة هي أحدثهما، وهي نظرية المد التي يؤيدها الآن كثير من العلماء تأييداً رياضياً، منهم العالم الإنجليزي المشهور (سير جيمز جينز)، فشمسنا الحالية ومعها كل ما انفصل منها على شكل كواكب وذرات متحطمة وإشعاع كانت في الماضي السحيق تكون نجماً هائلاً، اقترب منه نجم ثان - ربما كان أكبر منه - فجذب إليه جزءاً من الأول على شكل السيجار ومن هذا السيجار انفصلت الكواكب السيارة. ولعل ترتيب السيارات بحجومها الحالية يؤيد هذه النظرية، فأضخمها في الوسط وأصغرها في الطرفين. وهذه المجموعة الشمسية تسبح كلها في الفضاء تفصلها ملايين ملايين الأميال عن أقرب نجم إليها. فإذا نظر الإنسان وهو على الأرض إلى القبة السماوي رأى بعينه المجردة آلافا من هذه النجوم، وقد يكون الوقت ملائماً لأن يرى سياراً أو أكثر. ويمكنه أن يميز السيار عن النجم بشدة لمعانه وعدم تألقه وتغييره لمكانه النسبي بين النجوم الثوابت على مر الشهور والأعوام (ومن هنا نشأت تسميته بالسيار أو التائه) وكذلك يميز السيار بظهوره على شكل قرص صغير في عدسة التلسكوب، على حين أن النجوم لا يمكن أن تظهر أكثر من نقطة، ولكن ذلك لا يساعدنا(58/66)
دائما على الكشف عن السيارات، فعطارد لا يبعد عن أمه الشمس إلا قليلا، فتصعب رؤيته بالعين المجردة إلا في البقعة المنبسطة قبيل شروق الشمس أو بعيد غروبها، وأورانوس ونبتون لا تراهما العين المجردة لبعدهما عن الشمس والأرض بعداً يجعل الزاوية التي يحدثها قطر كل منهما عند العين لا تمكنها من الرؤية، وهذا هو السبب في عدم معرفة العرب القدماء لها قبل اختراع التلسكوب.
وكلما ابتعد السيار عن الشمس صعب كشفه وتمييزه عن النجوم، وقد كشف (هر شل) عن اورانوس (أب زحل آله الزرع) عفواً في سنة 1781 هو يوجه منظاره إلى جزء من السماء، وقد ظنه في أول الأمر (مُذَنبا) وكشف (جال) عن نبتون (آله البحر) في سنة 1846 بعد بحوث (ليفرييه) الرياضية.
البحث عن سيار تائه:
وفي أوائل القرن الحالي كان الأستاذ (برسيفال لول) يقول بوجوب وجود سيار آخر تابع لمجموعتنا الشمسية أبعد من نبتون، وقد جاء هذا القول نتيجة لبحوثه الرياضية في مدارات السيارات المعروفة في ذلك الوقت، وعدم اتفاق المدار الرياضي مع المدار المشاهد. فانطلق الفلكيون هواة ومحترفين يبحثون عن ذلك السيار التائه، ولعل لولا التعاون الدائم بين فروع المعرفة العام في الوصول إلى الحق لما تمكن أحد إلى الآن من الكشف عن هذا السيار، فان محاول الكشف عنه كان عليه أن ينظر إلى جزء من السماء في وقت معين من كل ليلة ويطيل النظر إلى آلاف النقط اللوامع التي يراها، ويحاول أن يجد أيها يغير موضعه على مر الليالي، وبذلك يميز السيار عن النجم الثابت، فهذه النجوم (الثوابت) وإن كانت في حركة مستمرة إلا أن بعدها السحيق يخفي عنها هذه الحركة ولا يظهرها إلى على مر الأجيال الطويلة، وذلك كما يلاحظه الإنسان أن القطار السريع البعيد يدب دبيبا.
وعملية ملاحظة حركة السيارات هذه عملية شاقة تحتاج إلى صبر كثيرة ودقة وأمانة في التقدير، فان إطالة النظر إلى عدسة التلسكوب تثقب شبكية العين وتجعلها ترى ما ليس له وجود، ولكن تضافر نواحي المعرفة للوصل إلى الحق هو الذي مكن العلماء من الوصول إلى السيار التاسع، وذلك باستخدام الكمرا في تصوير السماء بدلا من الملاحظة والتخطيط، فأغلب تلسكوبات العالم الآن مجهزة بآلات فوتوغرافية تمكن الفلكي من تصوير أي جزء(58/67)
من السماء بكل دقة وأمانة، كما أنها تزيد من قدرته على الملاحظة، فالجسم الضعيف النور قد لا يؤثر في العين باستمرار النظر إلى موضعه، ولكنه يؤثر في اللوح الحساس باستمرار تعريضه إليه عدة ساعات، وأحياناً عدة ليال، وذلك بادرة التلسكوب إدارة تعادل حركة الأرض، فيصبح اللوح دائماً في مواجهة الجزء المارد تصويره.
الكشف عن بلوتو:
قلنا إن الأستاذ (برسيفال لول) كان قد تنبأ في أوائل القرن الحالي بوجود تابع تاسع لمجموعتنا الشمسية، وقد تكمن فلكيو مرصد (لول) في (أريزونا) من الكشف عن هذا السيار، وبذلك أصبحت التوابع المعروفة لشمسنا تسعة إذا استثنينا مئات التوابع الصغرى التي تقع بين مداري المريخ والمشتري، والتي قد تكون بقايا سيار منفجر أو متحطم ابتدأ البحث عن هذا السيار الجديد بأن عرضت الألواح الفوتوغرافية إلى أجزاء السماء المشتبه فيها مدة من الزمن تكفي لانطباع أثار كل ما في السماء على الألواح، وتكررت هذه العملية في الليالي المتتالية، ثم امتحنت الألواح المختلفة فلوحظ أن جميع النقط اللامعة لم تغير مواضعها بالنسبة لبعضها البعض، إلا نقطة واحدة جعلت تسبح بين مواضع النجوم الثابتة، فكانت هي السيار المنشود مادامت جميع السيارات المعروفة بعيدة عن الموضع المصور، وبهذه الطريقة تم الكشف عن السيار التاسع، فان الفلكي الشاب مستر (كليد تمباو) لاحظ بامتحان لوحين أخذا في 2 مارس سنة 1930، 5 مارس سنة 1930 أن نقطة لامعة قد غيرت موضعها تغييراً محسوساً.
وبذلك يكون هو أول من كشف عن (التائه) التائه. وكان بعده عن الأرض في ذلك الوقت 4000 مليون ميل، أي أن الضوء المنعكس عن سطحه يصل إلى الأرض بعد خمس ساعات ونصف ساعة من وقت انعكاسه، وقد سمى بلوتو (آله العالم السفلي)، وهو الاسم الذي أطلقته عليه فتاة كان سنها 11 عاماً تدعى (فينيتا). وهي ابنة أخي الأستاذ (مادن) أستاذ العلوم في كلية (ايتون) ولا يعرف الآن كل شيء عن هذا السيار، وذلك لبعد المسافة التي تفصلنا عنه، ولكن مداره حول الشمس قد عرف بدارسة الألواح الفوتوغرافية التي يظهر فيها من وقت لآخر، ويعتقد أنه يعادل الأرض حجماً، ولكنه أكبر منها كتلة، فمادته أكثر كثافة من مادة الأرض.(58/68)
ولا يمكن أن يقال الآن إن بلوتو يحدد نهاية مجموعتنا الشمسية، فقد تفسر دراسة الخرائط السماوية عن وجود سيار آخر فتتسع مجموعتنا الشمسية، ولكن ذلك قليل الاحتمال لأن قوة جاذبية الشمس لهذه السيارات تضعف مع البعد، فتقل قدرتها على الإمساك بالسيار وجعله يدور حولها.
مصطفى محمود حافظ
مدرس بمدرسة امبابة للمعلمين(58/69)
القصَص
من صور الريف - قصة واقعية
الشقراء المجنونة. . .!!
بقلم محمود البكري
. . . فتاة مثقفة على خلق عظيم، تناولت من التعليم حظاً غير قليل وفيها شيء من الجمال: عينان ساجيتان، شعر يشبه أن يكون خيوطاً من ذهب. . . ثم نفس شاعرة متمردة تحس الجمال وتتذوق الأدب. . كانت (فتحية) صورة نادرة في الفتيات: امتزج فيها سمو الروح بجمال الصورة، تعلمت في وقرأت جوت ولا مارتين ودوي موسيه. فظمئت روحها إلى حب عنيف، وعرفت (سامي) فوجدت عنده رياً لروحها الصادى، فأنست إليه وهام بها، وكان حب بينهما، حب جبار قوي كأنه الإعصار لا تسيره المنافع ولا تغيره المطامع ولا توهنه أحداث الحياة، وهو فوق هذا نبيل بصورة لا تقع في الوهم، طاهر بشكل لا يتعلق به ظن.
. . . وكانا يقضيان حياة فيها حظ من الشعر والخيال: يتقابلان في الحدائق فيجلسان على العشب الندي، ويخلوان إلى نفسيهما فيأخذان في فتون من الحديث والأدب، حتى يتقدم الليل فيفترقان إلى عود. . . وكانا يتفقان على الإعجاب بالأدب الفرنسي، وينفقان في القراءة وقتاً غير قليل، ويستطيل كل منهما على صاحبها أحياناً في رقة ورفق ودعابة.
ومضى على هذا الحب سنوات ثلاث. ثم أحيط أبوها بخبره، وكان صارماً قاسياً شديد القسوة، عنيداً مسرفاً في العناد، فاستعدي فتحية فجأة. .
. . . وكان يوم الوداع ثقيل الظل سريع الخطو. . . وجاء القطار! فجاشت الدموع في صدر فتحية، ولكنها تجلدت ونهنهت عينها، وأخذت نفسها بصمت عميق، وإن كانت روحها تكتم ثورة صاخبة تضطرم في عينيها الحالمتين في ذهول واستغراق. . وكانت تخرج منديلها الأزرق الصغير من حين إلى حين فتلقط به دمعة أو دمعتين. . ثم تحرك القطار وغاب في أحشاء الطريق. فاهتدت الدموع الضالة إلى عين فتحية وغلبتها على أمرها، فاستسلمت للغريزة، وأرسلت عينيها في حرارة وغزارة وذلة وصمت. . .!!(58/70)
وخطبها إلى أبيها رجل كبير من أعيان الريف أوتى بسطة من المال، إلا أن بضاعته من الثقافة والعلم مزجاة، وكان يكبرها بثلاثين سنة أو تزيد!. . . مانعت وتمردت. وثار بينها وبين أبيها نقاش قصير ولكنه حاد. أيهما أشد إسرافاً في الجريمة؟ أهو لأنه يريد أن يقضي على سعادة ابنته؟! أم هي لأنها تخالف أباها في أن تتزوج رجلا لا تفهمه، وليس بينهما صلة من عاطفة أو سن أو ثقافة، وكان جدال عنيف في شيء لا يحتمل الجدال ولا يستدعي الحجة. لأنه بين لا لبس فيه ولا غموض، ولأن حق حرية اختيار الزوج لا يسخط الله ويرضى الناس، يقره العل ولا يرى القانون بأساً في أن يسمح به، ولكن الحق مهما يكن، ينكره ويلتوي به المكابرون، والمكابرون لا حيلة فيهم ولا دواء لهم. والوالد يحتال حيناً ويتطلف، ويقسو حيناً آخر ويهدد، والفتاة على كل حال تتمرد وتثور. . .!
. . . وأخيراً استقرت ثورتها وانتهت إلى مثل ما تنتهي إليه ثورات النساء في منازلنا: استسلام مغلوب.
. . . وأخيراً!! تبددت في مهب الظلم آمال، وتحطمت على شعاب العناد أحلام، وضاعت في غمرة الطمع أماني. . .
. . . وأخيراً. . . زفت فتحية التي تعلمت في إلى الرجل الذي اختير لها وأكرهت عليه إكراهاً. . .
أغدق عليها مالا وحلياً وثياباً، فلم تبهرها هذه المظاهر، ولم تكسر من حدة نفارها ولم ترد جماحها. . . كانت تبكي في اتصال ومرارة.!
وكان حب سامي لما يزل يستبد بها فينسيها في النهار الراحة والقرار، وفي الليل المنام. . . كانت تغفو أحياناً قليلة، ثم تفيق صارخة مضطربة روعتها الأشباح، وطاردتها أرواح الذكريات في إلحاح وقسوة، فراحت حياتها خليطاً مشوشاً من الصور المرعبة، كانت تحبه حبا طاغيا عنيفاً جعل حياتها في البعد عنه سلسلة طويلة متصلة من الشقاء.
حاولت جهدها أن تنسى: فكانت تخرج إلى الحقول، وتقرأ كثيراً، ولكنها كانت تفر من عذاب إلى عذاب.
وكان زوجها سخيف العقل ضعيف الرأي ضيق النظر؛ وعنده أن المرأة لم تخلق إلا لتكون ماء أو شيئاً يشبه الماء يطفئ به الرجل جذوة الحيوانية. . . فأما أن تتعلم أو تقرأ أتكتب(58/71)
أو تحب، فكل ذلك حياد عن القصد وجور عن السبيل، وخروج عن العرف، وانتقاض على التقاليد.
كانت الهوة بينه وبين فتحية عميقة سحيقة لا حد لها ولا غاية ولا قرار: انصرفت هي إلى حبها وذكرياتها وكتبها فاستغرقتها واستأثرت بها، فلم تجعل لشيء آخر في قلبا مستقراً ولا مقاماً.
وتولى هو إلى مزارعه وماله عن كل شيء عداها، وكان حقير النفس فقير العاطفة مجدب الشعور، لا يضطرب في نفسه إحساس ولا تعرف العواطف إلى قلبه سبيلا: كل أيامه بعد أعماله أكل ونوم. . . يمر النهار فلا يكاد يتحدث إلى زوجه بأكثر من كلمات آلية معدودة، وإن تحدث ففي شئون مزارعه وماشيته حديثاً تافهاً ضئيلا لا يدل على معنى، وإن كان يدفع السأم ويرد إلى الضجر القاتل.
ضاقت فتحية بهذه الصور المتشابهة من العيش، وأسقمها هذا اللون من الحياة المضطردة الباردة، فاندفع السأم واليأس إلى نفسها اندفاعا قويا.
وضاعت في تيه الذكريات والظلم هذه المخلوقة الشقية التي تستقبل الصباح بالدموع وتودع النهار بالدموع. . . فزعت إلى الكتب تقرؤها إذا كان وجه النهار إلى الضحى، فإذا أقبل العصر خرجت إلى الحقول مطرقة ذليلة لا تحدث إنساناً ولا تستمع إلى إنسان فتقضي وقتاً ما، ثم تأخذ طريقها الصامت إلى المنزل فتخلوا إلى نفسها في غرفتها، ثم تخرج صور سامي فتتحدث إليها وتسكب أمامها الدمع كأنها عابد في المحراب. . .!
. . . وظهر زوجها على صور سامي ورسائله، فثارت نفسه وارتد وحشاً ضاريا عاتياً ديس عرينه وأبيح حرمه واستحل حماه، وبدت في خلقه صورة جديدة، الغيرة الصارخة العنيفة. فمسخت تصرفاته كلها وصبغت حياته بلون قاتم ظالم مستبد.
العرض والشرف في الريف شيئان يهون معهما كل شيء. . .! ومضى الوحش يفكر في انتقام هائل مروع بعيد الأثر: فكر في قتلها وفي طلاقها: ولكن هذه الصور لم ترض شعوره المحنق، ولم ترو نفسه الصادية إلى الدم، لأن في كل هذا موتاً سريعاً مريحاً، ولكنه يريدها أن تموت على مهل في نزع طويل بطيء واستقرت نفسه الحائرة أخيراً على تجربة بدأها حالاً، فعمد إلى كتبها وأوراقها فجعلها وقوداً للنار، ثم أخذها هي بالقسوة وسوء(58/72)
الحساب: يضربها إذا كان النهار، ويهجرها إذا كان الليل، وهو فوق هذا يكلفها من أعمال المنزل مالا طاقة لها به. . .
ومضى السجان الجبار في تجربته والضحية البريئة تذبل على مهل. تمادت بها الآلام فأغرت بها اليأس، وردها اليأس إلى لون من الحسرة ملح، عميق يسوقها إلى الجنون سوقا متداركا سريعاً.!
وكل هذا قصته على أختي عن صديقتها زوج جارنا الغني.
ولأيام خلت كنت أجلس في حديقتي في ظل شجرة هرمة إلى جانب الساقية التي تنوح أبداً. . . سمعت صرخات متصلة ومتقطعة، وكلها ثائرة ومجنونة، وسمعت كلمات مبهمة مختلطة. . . صمتّ وصمتت الساقية وحسبت دموعها، ومالت الغصون على الغدير هامسة (إذن أفلحت التجربة وجنت الشقراء!!) واستأنفت الساقية نواحها. . . وأرسلت دموعها. . . على الشقراء المجنونة. . .!!
(قلوصنا)
محمود البكري القلوصناوي(58/73)
من المسرح الغنائي
2 - سافو
لأوجييه اميل
ترجمة الأستاذ محمود خيرت
الفصل الثاني
(منزل حنا جوسين بباريس وبه حنا ووالده سيزار ثم أمه ديفون وإيرين ابنة عمه)
حنا - إنك تتعب نفسك يا أبي.
سيزار - صه. صه.
حنا - (متأملا صورة فوق الحائط) ما أجمل منزلنا وهو يتحكّم في السهل، وتمتد كرومه نحو الأفق. وما أحلى ما ألمح أمي عند الباب فيتضاعف اجتهادي. ولكن أين هي؟
سيزار - في الدير يا ولدي عند ابنة عمك إيرين.
حنا - وهل تعود إيرين معكما؟
سيزار - نعم لنتسلّى بها في غيبتك.
حنا - حسناً تفعلان يا أبي.
(تدخل ديفون وإيرين)
ديفون - آه يا ولدي ما هذه المدينة. ما أكثر مبانيها، وما أكثر الحركة فيها. إن طرقاتها تموج بالعربات والناس، فأين هي بجلَبَتها من قريتنا الهادئة. آه يا ولدي المسكين!
سيزار - قضى الأمر فلا محل للتبرّم الآن.
ديفون - ولكن هل نسيت إيرين يا حنا؟
حنا - حقيقة كيف أنت يا ابنة عمي؟
ديفون - وكيف تراها الآن؟ أليست صَبُوحةً كالنهار، جملية جمال المِلكات. ولقد ضمّك صدري من الصغر (لزوجها) يجب أن نرحل يا سيزار فهيئ نفسك، بينما ألقي نظر إلى غرف الدار (لولدها وهي خارجة مع سيزار) ضمّها يا حنا (يخرجان).
حنا - ما كان أسعدني بهما، فأنا أغبطك يا إيرين لأنك ستكونين معهما بقريتنا، هبة الشمس(58/74)
وموطن الأمل والحب.
إيرين - ولعلك تذكر أيام كنا نقصد إلى الغابة فوق حمارنا بلا تشبيه بينما أجراسه تُجلجل تحت عنقه وهو ينهب بنا الأرض.
حنا - نعم يا إيرين وأذكر أيضاً ساعة كنت أضع يدي في يدك وأنا معتزٌ بك مباهٍ بحسنك.
إيرين - كنا نقلد اليهود عند فرارهم من مصر وأنا أسميك يوسف وأنت تدعوني مريم. هل نسيت؟
حنا - لا. لم أنس.
إيرين - وكنا بعدئذ نفر إلى المنزل كأنما يطاردنا هيرود العاتي الذي أسرف في دم الأبرياء، وأذكر أيضاً اغتباطنا عند عودتنا ونحن نسمع صياح الإوز يحمله إلينا النسيم.
حنا - وإن إيرين عندما كنت تقترب من الدار كانت تسرع فتضمني.
إيرين - ما كان عليّ وقتئذ من حرج.
حنا - والآن؟
إيرين - آه. . .
حنا - إذن لا تغضبين لو أنني ضممتك.
إيرين - كما كنا نفعل فيما مضى؟
حنا - نعم كما كنا في ذلك العهد (يضمها ويقبلها في جبينها)
(يدخل سيزار وديفون وفي يديها مصباح وقد رأياهما)
ديفون - (هامسة في أذن زوجها) أرأيت يا سيزار؟
سيزار - رأيت.
ديفون - في رعاية الله يا ولدي.
حنا - دعيني أصحبك يا أميِّ.
ديفون - (تمنعه) مكانك. فهذا المكتب أولى بك. إن العمل في هذه المدينة الواسعة هو الذي يدفع عنك خطرها.
سيزار - صدقت يا ديفون.
ديفون - الوداع يا حنا. ثم احتفظ بها المصباح القديم. فقد كنت على ضوئه أهيئ لك(58/75)
الثياب، وأنظر إلى وجهك من خلل الأستار وأنت طفل في المهد.
إلى الملتقى يا ولدي.
حنا - (متألماً) أمي. . .؟
سيزار - (لديفون وهي متأثرة) ديفون!
ديفون - ثم عليك يا ولدي بالدرس. واجعل نصب عينيك أن تكون رجلاً. والله يرعاك.
حنا - (باكياً) ما أكرمك يا أماه.
ديفون - (متأثرة جداً) تشجّع يا ولدي.
سيزار - (متأثراً مثلها) حنا. . .
ديفون - أراك على وشك البكاء أنت أيضاً.
إيرين - ولكن ألا تشعر بالوحدة هنا.
حنا - يجب يا إيرين. . .
سيزار - إلى المتلقى يا ولدي.
حنا - إلى الملتقى يا أبي. إلى الملتقى يا أمي. إلى الملتقى (يخرجون ولا يبقى إلا حنا ثم فني)
هاهم رحلوا وها أنا في وحدتي. ولكن كيف تطيب حياتي هنا بعد أن ذهبت لذة لقياهم، وبعد أن عشت معهم تحت سماء ذلك المنزل. لقد أصبحت فريداً في باريس تدوي بضوضائها من حولي كما تدوي العاصفة من حول السفينة. آه لم لا يحين الفراق إلا في الساعة التي يحلو عندها الحب؟ لقد دلوا الألم على طريق قلبي. وعرّفوا الدموع مكان أجفاني. . .
(تدخل فني ببطء بحيث لا يشعر بها)
فني - بيبى.
حنا - (يلتفت) أنتِ. . .؟
فني - نعم أنا. أظننت أن كل شيء انتهى. إنني ممن ليس لحبهن مدى. وإذا كنت قد انقطعت عنك فلأنني علمت بمقدم أهلك. ولكن قل لي: من تكون تلك الفتاة الصغيرة التي كانت معهم؟ أختك. هِه؟ (ثم تضحك).(58/76)
حنا - بل ابنة عمي.
فني - (ببرود) إنها لطيفة حقاً. . . إنني أخذت أرقبهم حتى رحلوا فأسرعت إليك.
حنا - لقد أعدّت لي أمي هذا المنزل لأنصرف فيه إلى درسي.
فني - إذن أذهب حتى لا أضيع وقتك.
حنا - ولم؟. أما كنت أشتغل من قبل وأنت إلى جانبي.
فني - على أنني سأكون عاقلة وحكيمة يا حنا (يقع نظرها على تمثال لها من المرمر) ولكن كيف حصلت على هذا التمثال؟
حنا - إنه لسافو التي صورها كاوودال. إلا تعرفينها.
فني - سافو!. . . أسمع يا حنا إنني أمقت أولئك الفنانين فلا تذكرهم لي فكم أساؤا إلي.
حنا - ولكن الفن جميل يشرح النفس ويرسل السرور إلى المتٌّقد. الجميل هو تلك النفس التي يرفعها الحب فوق مستوى النفوس فتدرك أن السعادة لا تكون إلا حيث تأتلف القلوب
(يحاول هنا حنا أن يقبلها فتشير إلى مكتبه)
عد إلى عملك يا بيبى.
حنا - لا بأس من لحظة.
فني - إذا كنت تحبي فانصرف إلى درسك.
(يعود إلى عمله متظاهراً بالمطالعة وهي يراقبها وكأنها تناجي نفسها)
يا مَن تملّكني هوا ... هُ وقد سرى بمفاصلي
خُذلي أماناً من لِحَا ... ظِكَ إنهنَّ قو اتلي
حنا - آه يا فني ليتك تنشدينني دائماً شعر هذا الحب
أنِعشي مسمَعي وغني ... قصة الغرامْ
واعلَمي يا مناي أني ... فيك مُستهامْ
كلما هجتٍ مسمَعي ... لا أرى خاطرِي مَعي
فارحمي المُتيّم
فني - هل تُرى حلَّ قلبهُ=صادق الهيامْ
هل تُرى حلَّ قلبهُ ... صادق الهيامْ(58/77)
أم تُرى أنَ حُبَّهُ ... مالهُ دَوامْ
ربّما خاب مَطْمِعي ... وانطوى فيه مصرعَي
فالرحيل أسلَمْ
(تحاول الذهاب فيمنعها)
حنا - أنت مِلْكِي لا مَرَد
فني - لستُ ملكاً لأحَدْ
حنا - آه ما كنتُ أظنْ
فني - إن تُرِدني فليكنْ
حُّبنا ملكُ الأبَدْ
حنا - أنا يا فنيّ فقيرْ
فني - في الهوى كل الِغنَى
إنما البؤسُ يصيرْ ... في حِمى الحبِّ هَنا
حنا - مستحيلٌ. مستحيلْ
فني - ليس في الحُب مُحالْ
أنا في البيت أزيلْ ... عنكَ أسباب الَملاَلْ
كلما أبصرتني ... أتثني زِدتَ جِد
فاجتهد لا تثني ... ولنكن ملك الأبدْ
حنا - دعي شفتي تَغتنمْ قبلةً=من الوجنتين لأحيا بها
فقد صار حسنك لي قبلةً ... يصلي غرامي بمحرابها
فني - ودعني لصدرك أنسى به=عذاباً بقلبي وحظاً قسا
فيالتهم علِموا ما بهِ ... وما جرّعوني كؤوس الأسى
معاً - نعمنا على غفلةِ من رقيبْ=وتمَّ المرامْ
كذاك الحياةُ فليستْ تطيبْ ... بغير الغرام
(قبل وعناق)
الفصل الثالث(58/78)
المنظر الأول
(في مطعم (نعيم البطون) بحديقة مدينة أفريسي في يوم أحد)
(فني في نافذة تطل على الحديقة وحنا من خلفها)
فني - ما أطيب الحب تغمره مثل هذه الشمس، ألا نخرج يا حنا؟
حنا - نعم نخرج (محاولا ضمها)
فني - ألا تخشى أن يرانا الناس.
حنا - بعد سنة. . . ونحن هنا، ما أسرع مر الأ يام.
آه كم ملكت مشاعري يا فني؟
فني - ولكنك مع هذا لم تصبح كلك لي. إني أود أن تكون لي وحدي. وألا تشوب سماءً هذا الحب غيومُ حياتي الأولى.
حنا - ألم نقطع شهى الحياة في هذه المروج الساحرة؟
فني - وأنا أرقب عودتك عند كل مساءٍ.
حنا - فإذا ما عدت هزّتنا أحلام القُبَلِ وأناشيد الحب والأغصان خفاقة نشوى بتغريد الطيور (يجذبها إليه) آه يا فني؟
فني - ليس هكذا. دع ليس ساعدك ليشعر الناس أنك إلى جانبي.
حنا - (يفعل ما طلبت)
فني - نعم هكذا. هلم الآن.
حنا - (يغني).
أضاءتَ حياتي فيوضُ السّنا ... فليلي نهار
وأطْربني بنشيد المُنى ... لسان الهزاز
فني - وطوّق خصري حبيب الهنا=وحسني إزار
أنا مِعْصُم الحسن يزهو أنا ... وأنت السوار
(يختفيان حيث يؤم الحديقة لا بودري وبعض فتيان وفتيات وكذلك كاوودال حيث تقع عينه على المطعم فيشير إليهم)(58/79)
كاوودال - من هنا. من هنا.
لا بودري - حقاً إنه مكان بديع.
كاوودال - (مشيراً إلى اسم المطعم)، ثم انظر إلى هذا العنوان.
لا بودري - لقد صدق والله. إن الطعام في الواقع نعيم البطون (يقترب الباقون لاغطين فرحين)
(يتبع)
محمود خيرت(58/80)
2 - سيوة
باني سيوة
إذا تسامحت كثيراً يمكنني أن أقول إن سيوة في مبانيها ومنازلها وصوامعها تعادل في تفصيلها وشكلها أحقر قرية من قرى وادي النيل. فالمنازل في تلك الواحة تبنى بقطع من الملح والطين بغير نظام في البناء أو حفر لوضع الأساس في الأرض، بل إن البنّاء و (أسميه بناء على سبيل المجاز) إذا أراد أن يبنى منزلاً فانه يضع قطعة من الحبل يحدد بها أربع حوائط المنزل، ثم يبني بعد ذلك فوق سطح الأرض بقطع من الملح والطين بارتفاع متراً آخر وينتظر أسبوعاً ثانياً ثم يكمل البناء لسقف المنزل. وفي العادة أن الحجرات في سيوة لا يزيد ارتفاع سقفها على مترين ونصف متر أو ثلاثة أمتار، والحوائط يكون سمكها في نهاية ارتفاعها أقل كثيراً منه وهي قريبة من سطح الأرض، وتتكون الأسقف بعد ذلك من خشب النخيل، وطريقة ذلك أن يشقوا بالطول خشب بعض النخلات المتينة ثم يضعوا أنصاف النخيل فوق الحوائط ويسمونها (قناطر) ثم يضعون فوقها ألواحاً يقطعونها من النخيل أيضاً ثم يغطون هذه الألواح بالطين.
ولبعد الواحة وصعوبة المواصلات إليها لا يمكن للسكان أن يحصلوا على أخشاب ليصنعوا منها أبوابًا ونوافذ المنازل، ولذا فنوافذ المنازل الصغيرة، لا يزيد اتساع إحداها على نصف متر مربع، ويصنعون النافذة نفسها من خشب صناديق البنزين التي تحملها سيارات النقل معها، ولذا فالنافذة الصغيرة تعمل من أربعة مصاريع رغم صغير حجمها، وتتكون المنازل عادة من طابقين، وبعض الأغنياء يقيمون أمام منازلهم مظلات يجلسون تحت وقت الحر الشديد، لأنه من الصعب أن يتعرض إنسان لحرارة الشمس في سيوة مدة الصيف، إذ تصل درجة الحرارة فيها إلى 48 سنتجراد، وتمتاز سيوة بدروبها الضيقة وحواريها المتعرجة المتلوية، حتى ارتبك مأمور البلدة كيف يضع أحد مصابيح الإنارة في إحدى الجهات لأنه وجد أن المصباح لن ينير إلا الموضع الذي هو فيه لكثيرة الالتواء والانحناء، ولأن المنازل متنافرة غير منسجمة الوضع.
وعدا ذلك فان جزءاً من القرية وهو الجزء الغربي مبني على صخرة ترتفع تدريجياً عن باقي القرية، ولذا تجد منزلين متقاربين يرتفع أحدهما عما يجاوره بما يقرب من ثمانية(58/81)
أمتار.
ومن الظواهر الواضحة في سيوة أن الزائر لها يرى وهو في وسط سوق صخرة مرتفعة تشرف على ميدان السوق وقد علتها منازل من الملح والطين ونزعت سقوفها وتهدمت جدرانها، وظهرت بشكل بشع مخيف، وليست تلك المنازل إلا سيوة القديمة هجرها أهلها من فوق الجبل بأمر الحكومة من زمن غير بعيد وأقطعتهم أراضي في سفح الجبل وفي الأرض الواطئة المجاورة له فبنوا منزلهم الحالية.
وكان الأهالي يقطنون فوق الجبل في تلك المنازل المتلاصقة، وقد أحاطوا منازلهم بسور مرتفع يضم القرية كلها، وفتحوا في ذلك السور فتحات صغيرة كفتحات الحصون الكبيرة التي تعملها الجيوش لرؤية العدو ولإطلاق النار منها، ووصل ارتفاع هذا السور في بعض الجهات إلى نحو خمسين متراً، وصنعوا في ذلك السور عدة أبواب ضخمة من خشب النخيل كانت تقفل أثناء الليل حينما يأوى سكان الواحة إلى منازلهم.
وقد سألت عن الغرض من سكنى السيويين في الماضي في مثل هذا الحصن فوق الجبل، فعلمت أنهم إنما فعلوا ذلك حفظاً لأنفسهم من هجوم أعراب الصحراء الغربية، إذ أنهم كانوا يحضرون بالليل لنهب سيوة وسبلها.
وبدأت منازل سيوة القديمة فوق الجبل متجاورة كالمعتاد في كل القرى، ولكن لما زاد عدد سكان الواحة بنوا منازل أخرى فوق المنازل القديمة حتى لا يخرجوا على السور الخارجي الذي هو حصن لهم، ولذا فبدلا من أن تسع رقعة الواحة كلما ازداد سكانها بدأت ترتفع أبنيتها وهي في نفس المساحة الضيقة التي ابتدأت فيها. وهكذا استمر الحال وبمرور الزمن ازدحمت الأبنية فوق بعضها، وضاقت أزقتها وشوارعها وتعرجت منافذها حتى أصبحت أشبه شيء بخلية النحل، بل وصل الأمر ببعض المنازل أن أصبحت وهي داخل السور أكثر ارتفاعا من السور نفسه وأصبحت الشوارع لاتسع رجلين يسيران متجاورين فيها، وأظلمت جميع أنحاء القرية من ارتفاع المنازل وضيق المنافذ التي توصل الضوء إلى فتحاتهم الصغيرة التي كانوا يفتحونها على أنها نوافذ، وأصبح السائر فيها يحتاج في الواقع إلى مصباح يحمله معه أثناء النهار لينير له الطريق. على أن الذي يقف فوق تلك المنازل يرى أمامه الواحة بحقولها الخضراء وحدائقها اليانعة بأشجار الزيتون والليمون، ونخيلها(58/82)
الهادئ الساكن، فيأخذه هذا المنظر الجذاب، ويرجع بذاكرته إلى تلك المواقف البهيجة التي أكثر عمر الخيام من وصفها في رباعياته.
وطبيعي أن الحرارة تكون شديدة في منازل القرية، لأن الشمس شديدة التأثير بينما التهوية تكاد تكون معدومة.
وفي وسط القرية في مكان متسع قليلاً بين هذه المنازل المرتفعة المظلمة توجد بئر منحوتة في الصخور بها ماء عذب، لأن في أسفل الصخر عين ماء تتغذى تلك البئر، وأيضاً تغذى بئرين صغيرتين مجاورتين للبئر السالفة. عند قاعدة هذا الجبل بنى الأهالي منازلهم الحديثة بعد أن تركوا تلك القرية التي كانت مزدحمة بهم وهم الآن آمنون من الهجوم، بل إن هذه الفكرة لا تتطرق إلى مخيلتهم، فالحكومة مسيطرة على الصحراء بإعرابها وقبائلها جميعاً، وقد فضل كثير من السكان أن يبنوا منازلهم وسط حدائقهم وحقولهم في ناحيتي السبوخا والمنشية، وللأغنياء منهم منازل للشتاء حيث يرجون الدفء وسط القرية، ومنازل للصيف وسط الحدائق المتسعة يقضون فيها فصل الصيف حينما تشتد حرارة الشمس وتصبح غير محتملة، وتمتاز منازل المشايخ والأغنياء بطلاء جزء منها بالجير الأبيض من الخارج، ولذا فانهم يغضبون إذا حاول أحد الفقراء أن يطلي منزله بالجير تشبهاً بهم، بل إن معظم الفقراء لا يفكرون في ذلك تلافياً لغضب مشايخهم عليهم، وبهذه المناسبة فان كل الأضرحة للأتقياء منهم تمتاز بطلائها بالجير إكباراً لشأنها وشأن أصحابها. وهذا الدهان يكون عادة من تبرعات يدفعها السكان تبركاً بصاحب الضريح.
توجد بسيوة ثلاثة أسواق كبيرة لبيع البلح والزيتون تسمى بالمساطيح، والمسطاح مكان متسع تكتنفه حائط يبلغ ارتفاعها مترين، وهذه الحوائط تخالف في بنائها حوائط المنازل، إذ أنهم رغبة منهم في توفير العمل صنعوها من جريد النخيل، ثم أحاطوا الجريد من الوجهين بقطع من الملح والطين، فإذا جف الطين تماسك بسعف الجريد وهي في الحقيقة فكرة قديمة للخرسانة المسلحة ورغبة منهم في الإقلال من سمك الحائط، وضعوا الجريد رأسياً وهو يعادل أسياخ الصلب في الخرسانة. وأحد هذه المساطيح للسكان الغربيين من الواحة، والثاني للسكان الشرقيين، والثالث هو أكبرهم وأعمهم لجميع سكان الواحة. ويقطن رجل سوداني أو كفري (نسبة إلى واحة الكفرة) منزلاً صغيراً عند مدخل المسطاح ليحرس(58/83)
بلح الناس وزيتونهم طول العام نظير هبات يعطونها إياه من الشعير والبلح والزيت، ويحضر الأعراب عادة في فصل الخريف من وادي النيل ومن الصحراء ليشتروا البلح من سيوة، ثم ينقلونه على الجمال لوادي النيل حيث يباع في الأسواق بثمن معتدل وحول هذه المساطيح أقام بعض الأعراب الذين يتاجرون بالبلح حظائر لجمالهم ومنازل لهم، وفي فصل الخريف ترى مئات من هؤلاء الأعراب بأرديتهم البيضاء يجوبون أنحاء المساطيح بين أكوام البلح ذات الألوان المختلفة من أحمر إلى أصفر إلى داكن بين الحمرة والسود يساومون أصحابها في أثمانها على حين تنتظر جمالهم خارج المساطيح مجلجلة بأصواتها كأنما تنادي أصحابها في الداخل، وتزيد الحركة ببعض العبيد وهم يحملون البلح المشتري مكبوساً داخل (مقاطف) كبيرة من الخوص ليحملوه على الجمال. وما أجمل منظر الناقة تحمل حملها وتسير وسط السوق تشق طريقها بين الناس كأنها باخرة تشق طريقها في الماء، أضف إلى ذلك صهيل خيول الأعراب ونهيق الحمير ونباح الكلاب، منظر يدل على أن في البلد حركة كبيرة، ولا شك فان البلح والزيتون هما عماد الثروة في واحة سيوة.
ويقضي العرف بين الناس بالسماح لكل من يشاء أن يأكل ما شاء من البلح في المساطيح من غير مقابل، غير أنه ممنوع أن يأخذ معه شيئاً خارج المسطاح، ولذا ينتهز الشحاذون من الأعراب فرصة هذا الموسم ويدخلون المساطيح سائلين أصحاب البلح أكلة منه ليفوزوا بالشبع.
وبيع (العجوة) شائع في السوق أكثر من غيره، وبعض الناس يبيعونها من غير (نوى)؛ وفي عرض البلح للبيع بهذه الطريقة خطورة كبيرة: فالذباب يملأ المساطيح، والناس يطأون البلح بأقدام قذرة، ويعبئونه بأيد لا يفكر أصحابها في نظافتها. ولو أن العناية تصل إلى تنظيم طريقة البيع لكان في ذلك أمان وطمأنينة لمن يأكلونه.
(يتبع)
كابتن(58/84)
العدد 59 - بتاريخ: 20 - 08 - 1934(/)
صراع بين ثقافتين
فتنة الثقافة الأجنبية
ظاهرة في تفكيرنا وأدبنا تحمل على جد الأسف، هي أن الشؤون والنواحي القومية ما تزال مهملة منسية، في حين أن الشؤون والنواحي الأجنبية تلقى بيننا دائماً كثيراً من العناية والاهتمام.
وتلك ظاهرة قديمة في تاريخنا الحديث، ترجع إلى سبب معروف، هو سيادة النزعة الأجنبية في برامج التعليم التي تفرض على مصر منذ نصف قرن، والتي يلحظ فيها دائماً إقصاء عناصر الثقافة القومية أو إضعافها حتى لا تكون عاملاً في تغذية الشعور القومي وإذكائه؛ وإذكاء الشعور القومي شر ما يخشى المستعمر من أمة مغلوبة تطمح إلىاسترداد حريتها
وقد رجونا خيراً يوم قيل لنا إن برامج التعليم سوف تحرر من أصفادها القديمة ويعنى فيها بكل ما يرفع شأن الثقافة القومية، وتتخذ فيها لغة البلاد وتاريخها ومسائلها وشئونها مكانها اللائق؛ ولكن سرعان ما خاب هذا الأمل، وإن كانت اللغة العربية قد استردت في العهد الأخير شيئاً من حقها المسلوب؛ وما زالت النزعة الأجنبية تبث اليوم في برامجنا وثقافتنا كما كانت تبث بالأمس، ولم تتغير الغاية وإن تغيرت الوسائل.
ومازالت هده النزعة الأجنبية تتجلى في تفكيرنا وأدبنا بشكل واضح. ففي بضعة الأعوام الأخيرة مثلاً صدرت بالعربية كتب عن الدكتور مازاريك رئيس جمهورية تشيكوسلوفاكيا، والسنيور موسوليني، والغازي مصطفى كمال، وجيته شاعر ألمانيا الأكبر، وأخيراً عن الهر أدولف هتلر؛ وصدر بالعربية أيضاً كتابان عن باريس وكتاب عن لندن. فهذه كلها كتب عربية أخرجتها أقلام مصرية في موضوعات أجنبية في بضعة أعوام فقط. هذا إلى ما تنشره صحفنا ومجلاتنا من فصول ومباحث لا نهاية لها عن الموضوعات والشخصيات، وما يغرق فيه بعض أدبائنا الناشئين من الكتابة عن الكتاب الغربيين والأدب الغربي مما يسمونه بميسم الطرافة والتجديد.
وهذا حسن في ذاته لو أن مثل هذه العناية بالموضوعات الأجنبية يبذل لتناول الموضوعات الأجنبية والمسائل القومية. ولكن ماذا أخرجنا من الكتب والرسائل عن عظمائنا؟ وماذا(59/1)
نشرت أو تنشر عنهم صحفنا ومجلاتنا؟ لقد أصدرنا كتباً عن مازاريك وموسوليني ومصطفى كمال وجيته وهتلر، ولكن لم نصدر في تلك الفترة كتاباً واحداً عن أحد عظمائنا الذين يحفل بهم تاريخنا الحديث مثل عرابي، والبارودي، ومحمد عبده، وعلي مبارك، وقاسم أمين، وصبري، وسعد زغلول، وحافظ، وشوقي، وغيرهم ممن يغمطون إلى اليوم حقهم من الناحية الأدبية، ولا يفكر أحد من كتابنا في أن يعني بدراستهم وترجمتهم بما يجب من إفاضة وتحقيق.
نعم إن الأدب لا وطن له، والتفكير تراث الإنسانية كلها، والقلم حر له أن يجول أنى شاء؛ ولكن هذه الفتنة الغربية التي تأخذ علينا سبل التفكير في تراثنا القومي جديرة بكثير من التأمل والاهتمام؛ ففي الأمم الحرة التي يزدهر تفكيرها وأدبها في ظل الاستقلال والحرية، تأخذ جميع ألوان التفكير والأدب، قومية كانت أو خارجية مكانها من النهضة الأدبية العامة. ومع ذلك فإن التراث القومي يحتفظ دائماً بالمقام الأول، ويعتبر دائماً أقوى وأنفس غذاء للشعور القومي. فإذا كانت هذه الأمم التي يحتفظ فيها الشعور القومي بكل قوته واضطرامه تقدر دائماً فعل التراث والذكريات القومية في تغذية هذا الشعور وتكوينه، فأولى بالأمم المغلوبة التي يعمل فيها الغالب الأجنبي على محاربة الشعور القومي وإضعافه أن تجعل تراثها وذكرياتها نصب عينها دائماً، وأن تتخذها عدة وذخراً لتغذية هذا الشعور وإذكائه. ولما كان التفكير والأدب خير أداة لتحقيق هذه الغاية، فإن الواجب
الوطني يقضي على كتابنا أن يرعوا هذه الناحية وأن يجعلوا لها أوفر نصيب من عنايتهم، وأن يؤثروها دائماً بدرسهم
واهتمامهم.
إن الآداب القومية التي نضجت وازدهرت في كل النواحي والفنون لا غبار عليها إذا عنيت بالنواحي والشؤون الأجنبية ما شاءت وما وسعت، فهي بذلك تكسب دائماً ثروات جديدة، ولكن حيثما كانت الآداب القومية فقيرة كآدابنا، وحيثما كان التاريخ القومي منسياً مغموطاً، وحيثما كانت برامج التعليم والتربية عرضة لأهواء المستعمر ينفث فيها من وحيه الخطر، ويعمل دائماً على محاربة عناصرها القومية، يجب على قادة الفكر أن يتداركوا هذا النقص بأقلامهم وتفكيرهم، وأن يقاوموا هذا الخطر، فيقدموا دائماً إلى الشباب الذي يحرم(59/2)
في معاهد الدرس من الإلمام الشامل بعناصر الثقافة القومية، كل ما يقوم الشعور الوطني ويصقله ويغذيه؛ ويجب على الأدباء الناشئين أن يفكروا طويلاً في اختيار الطريق المنشود قبل أن يحملهم تيار هذه الفتنة الأجنبية المضللة من عالم الآداب القومية إلى فوضى موضوعات وشئون لسنا في كبير حاجة إليها.
يجب علينا قبل أن نقرأ عن مازاريك وموسوليني وهتلر، وقبل أن نشيد بذكرهم في كتب خاصة، أن نقرأ عن أبطالنا وعظمائنا الذين يغمرهم النسيان والجحود، وأن ندرسهم ونكتب عنهم؛ فذلك دليل الأدب القوي المستنير، وذلك دليل الوطنية الرفيعة، والشعور القومي الحي.
(ع)(59/3)
عرش الورد
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
كانت جَلوة العروس كأنها تصنيف من حلم، توافت عليه أخيلة السعادة فأبدعت إبداعها فيه، حتى إذا اتسق وتم، نقلته السعادة إلى الحياة في يوم من أيامها الفردة التي لا يتفق منها في العمر الطويل إلا العدد القليل، لتحقق للحي وجود حياته بسحرها وجمالها، وتعطيه فيما ينسى ما لا ينسى.
خرج الحلم السعيد من تحت النوم إلى اليقظة، وبرز من الخيال إلى العين، وتمثل قصيدة بارعة جعلت كل ما في المكان يحيا حياة الشعر؛ فالأنوار نساء، والنساء أنوار، والأزهار أنوار ونساء، والموسيقى بين ذلك تتم من كل شيء معناه، والمكان وما فيه، وزن في وزن، ونغم في نغم، وسحر في سحر.
ورأيت كأنما سحرت قطعة من سماء الليل، فيها دارة القمر، وفيها نثرة من النجوم الزهر، فنزلت فحلت في الدار، يتوضحن وتأتلقن من الجمال والشعاع، وفي حسن كل منهن مادة فجر طالع، فكن نساء الجلوة وعروسها.
ورأيت كأنما سحر الربيع، فاجتمع في عرش أخضر، قد رصع بالورد الأحمر، وأقيم في صدر البهو ليكون منصة للعروس، وقد نسقت الأزهار في سمائه وحواشيه على نظمين: منهما مفصل ترى فيه بين الزهرتين من اللون الواحد زهرة تخالف لونهما؛ ومنهما مكرس بعضه فوق بعض، من لون متشابه أو متقارب، فبدا كأنه عش طائر من طيور الجنة أبدع في نسجه وترصيعه بأشجار سقي الكوثر أغصانها.
وقامت في أرض العرش تحت أقدام العروسين ربوتان من أفانين الزهر المختلفة ألوانه، يحملها خمل من ناعم النسيج الأخضر على غصونه اللدن تتهافت من رقتها ونعومتها.
وعقد فوق هذا العرش تاج كبير من الورد النادر كأنما نزع عن مفرق ملك الزمن الربيعي، وتنظر إليه يسطع في النور بجماله الساحر سطوعاً يخيل إليك أن أشعة من الشمس التي ربت هذا الورد لا تزال عالقة به، تراه يزدهي جلالاً كأنما أدرك أنه في موضعه رمز مملكة إنسانية جديدة تألفت من عروسين كريمين. ولاح لي مراراً أن هذا التاج يضحك ويستحي ويتدلل، كأنما عرف أنه وحده بين هذه الوجوه الحسان يمثل وجه الورد.(59/4)
ونص على العرش كرسيان يتوهج لون الذهب فوقهما، ويكسوهما طراز أخضر تلمع نضارته بشراً، حتى لتحسب أنه هو أيضاً قد نالته من هذه القلوب الفرحة لمسة من فرحها الحي.
وتدلت على العرش قلائد المصابيح كأنها لؤلؤ تخلق في السماء لا في البحر، فجاء من النور لا من الدر؛ وجاء نوراً من خاصته أنه متى استضاء في جو العروس أضاء الجو والقلوب جميعاً.
وأتى العروسان إلى عرش الورد، فجلسا جلسة كوكبين حدودهما النور والصفاء؛ وأقبلت العذارى يتخطرن في الحرير الأبيض كأنه من نور الصبح، ثم وقفن حافات حول العرش، حاملات في أيديهن طاقات من الزنبق، تراها عطرة بيضاء ناضرة حييّة، كأنها عذارى مع عذارى، وكأنما يحملن في أيديهن من هذا الزنبق الغض معاني قلوبهن الطاهرة؛ هذه القلوب التي كانت مع المصابيح مصابيح أخرى فيها نورها الضاحك.
وأقتعدت درج العرش تحت ربوتي الزهر ودون أقدام العروسين - طفلة صغيرة كالزهرة البيضاء تحمل طفولتها، فكانت من العرش كله كالماسة المدلاة من واسطة العقد وجعلت بوجهها للزهر كله تماماً وجمالاً، حتى ليظهر من دونها كأنه غضبان منزو لا يريد أن يرى.
وكان ينبعث من عينيها فيما حولها تيار من أحلام الطفولة جعل المكان بمن فيه كأن له روح طفل بغتته مسرة جديدة.
وكانت جالسة جلسة شعر تمثل الحياة الهنيئة المبتكرة لساعتها ليس لها ماضٍ في دنيانا.
ولو أن مبدعاً أفتتن في صنع تمثال للنية الطاهرة، وجيء به في مكانها، وأخذت هي في مكانه لتشابها وتشاكل الأمر.
وكان وجودها على العرش دعوة للملائكة أن تحضر الزفاف وتباركه.
وكانت بصغرها الظريف الجميل تعطي لكل شيء تماماً، فيرى أكبر مما هو، وأكثر مما هو في حقيقته. كانت النقطة التي أستعلنت في مركز الدائرة، ظهورها على صغرها هو ظهور الأحكام والوزن والانسجام في المحيط كله.
لا يكون السرور دائماً إلا جديداً على النفس، ولا سرور للنفس إلا من جديد على حالة من(59/5)
أحوالها؛ فلو لم يكن في كل دينار قوة جديدة غير التي في مثله لما سر بالمال أحد، ولا كان له الخطر الذي هو له؛ ولو لم يكن لكل طعام جوع يورده جديداً على المعدة لما هنأ ولا مرأ؛ ولو لم يكن الليل بعد نهار، والنهار بعد ليل، والفصول كلها نقيضاً على نقيضه، وشيئاً مختلفاً على شيء مختلف - لما كان في السماء والأرض جمال، ولا منظر جمال، ولا إحساس بهما؛ والطبيعة التي لا تفلح في جعلك معها طفلاً تكون جديداً على نفسك - لن تفلح في جعلك مسروراً بها، لتكون هي جديدة عليك.
وعرش الورد كان جديداً عند نفسي على نفسي، وفي عاطفتي على عاطفتي، ومن أيامي على أيامي؛ نزل صباح يومه في قلبي بروح الشمس، وجاء مساء ليلته لقلبي بروح القمر؛ وكنت عنده كالسماء أتلألأ بأفكار كما تتلألأ بنجومها؛ وقد جعلني أمتد بسروري في هذه الطبيعة كلها، إذ قدرت على أن أعيش يوماً في نفسي؛ ورأيت وأنا في نفسي أن الفرح هو سر الطبيعة كلها، وأن كل ما خلق الله جمال في جمال، فأنه تعالى نور السموات والأرض، وما يجيء الظلام مع نوره، ولا يجيء الشر مع أفراح الطبيعة إلا من محاولة الفكر الإنساني خلق أوهامه في الحياة، وإخراجه النفس من طبائعها، حتى أصبح الإنسان كأنما يعيش بنفس يحاول أن يصنعها صناعة، فلا يصنع إلا أن يزيغ بالنفس التي فطرها الله.
يا عجباً! ينفر الإنسان من كلمات الاستعباد، والضعة، والذلة، والبؤس، والهم، وأمثالها، وينكرها ويردها، وهو مع ذلك لا يبحث لنفسه في الحياة إلا عن معانيها.
إن يوماً كيوم عرش الورد لا يكون من أربع وعشرين ساعة، بل من أربعة وعشرين فرحاً، لأنه من الأيام التي تجعل الوقت يتقدم في القلب لا في الزمن، ويكون بالعواطف لا بالساعات، ويتواتر على النفس بجديدها لا بقديمها.
كان الشباب في موكب نصره، وكانت الحياة في ساعة صلح مع القلوب، حتى اللغة نفسها لم تكن تلقي كلماتها إلا ممتلئة بالطرب والضحك والسعادة، آتية من هذه المعاني دون غيرها، مصورة على الوجوه إحساسها ونوازعها؛ وكل ذلك سحر عرش الورد؛ تلك الحديقة الساحرة المسحورة التي كانت النسمات تأتي من الجو ترفرف حولها متحيرة كأنما تتساءل: أهذه حديقة خلقت بطيور إنسانية؛ أم هي شجرة ورد هبطت من الجنة بمن يتفيأن ظلها ويتنسمن شذاها من الحور؛ أم ذاك منبع وردي عطري نوراني لحياة هذه الملكة(59/6)
الجالسة على العرش؟
يا نسمات الليل الصافية صفاء الخير، أسأل الله أن تنبع هذه الحياة المقبلة في جمالها وأثرها وبركتها من مثل الورد المبهج، والعطر المنعش، والضوء المحي؛ فإن هذه العروس المعتلية عرش الورد:
هي ابنتي.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(59/7)
شخصية نسوية أندلسية
1 - صبح أو صبيحة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
حظية خليفة، أم خليفة؛ سيدة مطلقة الرأي، تولي وتعزل الوزراء والقادة؛ وتدير شئون السلام والحرب، حسناء يغنم جمالها ملكاً، ويأسر خليفة، ويسيطر على قصر وحكومة؛ صاحبة السلطان المطلق في دولة من أعظم دول الإسلام؛ نصرانية نافارية مع ذلك؛ تلك هي صبح أو صبيحة أو (اورور) قرينة الحكم المستنصر بالله الأموي خليفة الأندلس، وأم ولده هشام المؤيد بالله يقدم إلينا التاريخ الإسلامي أمثلة كثيرة لنساء أجنبيات من الرقيق أو الأسرى، سطعن في قصور الخلفاء والسلاطين، وتمتعن بالسلطان والنفوذ؛ ولكنه لا يقدم إلينا كثيراً من لمواطن التي تستأثر فيها أجنبية نصرانية بالسلطان والحكم المطلق في دولة إسلامية قوية، وتسهر على مصاير هذه الدولة بذكاء وعزم، وتقودها لخير الإسلام والخلافة. والواقع أننا لا نستطيع أن نجد لذلك مثلاً أسطع من مثل صبح أو (اورور)، تلك الفرنجية الحسناء التي لبثت زهاء عشرين عاماً تسيطر بسحرها ونفوذها على خلافة قرطبة، وتقوم بتدبير شئونها في السلام والحرب مع أعظم رجالات الأندلس. ولم تك صبح سوى إحدى كواكب هذا الثبت الحافل من النساء الفرنجيات اللائي يقدمهن إلينا تاريخ الأندلس منذ الفتح، واللائي يتركن أثرهن في سير الحوادث أحياناً. ونستطيع ان نذكر منهن (ايلونا) القوطية أرملة ردوريك (لذريق) ملك القوط عند الفتح، وهي التي يسميها العرب (بأم عاصم)، فقد تزوجها عبد العزيز بن موسى بن نصير أول حاكم للأندلس بعد الفتح، وكان نفوذها ووحيها السيء من الأسباب التي أدت إلى مقتل عبد العزيز بن موسى (سنة 95 هـ)؛ ومنهن لامبيجيا الفرنجية الحسناء ابنة اودو أمير اكوتين، تزوجها عثمان بن أبي نسعة الذي تسميه الرواية الفرنجية (منوزا) أو (مونز)، وكان حاكماً للولايات الشمالية (البرنيه)، وتحالف مع أبيها الدوق اودو، وأخذ يدبر الخروج على حكومة الأندلس والاستقلال بولايته؛ ولكن عبد الرحمن الغافقي أمير الأندلس يومئذ وقف على مشروعه وأرسل لقتاله جيشا قوياً لبث يطارده في الجبال حتى أخذ وقتل وأسرت زوجته الأميرة الحسناء لامبيجيا وأرسلت إلى بلاط دمشق (سنة 113 هـ)؛(59/8)
ومنهن ماريا الأسبانية النصرانية زوج الأمير محمد بن محمد ووالدة عبد الرحمن الناصر أعظم خلفاء الإسلام في الأندلس ويسميها العرب (مزنة)؛ ومنهن أخيراً (ثريا) النصرانية زوج السلطان أبي الحسن النصري ملك غرناطة، وهي فتاة أسبانية وأبنة قائد شهير، أخذت أسيرة في بعض المعارك التي وقعت بين المسلمين والنصارى وألحقت وصيفة بقصر الحمراء، فأحبها السلطان أبو الحسن وتزوجها؛ وكان لنفوذها ودسائسها أثر كبير في إضرام نار الحرب الأهلية في غرناطة وفي سير الحوادث التي أدت إلى ذهاب دولة الإسلام في الأندلس.
ظهرت صبح في بلاط قرطبة في أوائل عهد الحكم المستنصر بالله (350 - 366هـ) (961 - 976م). ولسنا نعرف كثيراً عن نشأتها وحياتها الأولى؛ وكل ما تقدمه إلينا الرواية الإسلامية في ذلك هو أن (صبحاً) كانت جارية بشكنسية أي نافارية؛ ولا تذكر الرواية إن كانت قد استرقت بالأسر في بعض المواقع بين المسلمين والنصارى، أم كانت رقيقا بالملك والتداول؛ ولكنها تصفها بالجارية والحظية. وصبح أو صبيحة ترجمة لكلمة (اورورا) ومعناها الفجر أو الصبح الباكر، وهو الاسم النصراني الذي كانت تحمله صبح فيما يظهر. وكانت صبح فتاة رائعة الحسن والخلال فشغف بها الحكم، وأغدق عليها حبه وعطفه وسماها بجعفر، ولم تلبث أن استأثرت لديه بكل نفوذ ورأى. وكان الحكم حينما تولى الملك بعد وفاة أبيه عبد الرحمن الناصر قد بلغ السابعة والأربعين من عمره، ولم يكن رزق ولد بعد؛ وكان يتوق إلى ولد يرث الملك من بعده؛ فحققت أمنيته على يد صبح، ورزق منها بولد سماه عبد الرحمن سنة 352هـ (962م) وفرح بمولده أيما فرح، وسمت لديه مكانة صبح؛ ثم ولدت له بعد ذلك بثلاثة أعوام ولدا آخر سماه هشاماً (سنة 354هـ)، ولكن الحكم رزئ بعدئذ بقليل بوفاة ولده عبد الرحمن فاشتد حزنه عليه، وعقد كل آماله على ولده هشام؛ ولبثت صبح تستأثر في البلاد والحكومة بكل نفوذ وسلطان. بيد أنها كانت وافرة الذكاء والحزم، بارعة في تدبير الشؤون، مخلصة لسيدها تعاونه في تدبير مهام الحكم بذكاء وبصيرة، وتسهر معه على سلامة الدولة والعرش. ولم تك صبح يومئذ جارية أو حظية فقط، بل كانت ملكة حقيقية. ولا تشير الرواية الإسلامية إلى أنها غدت زوجة حرة للحكم المستنصر بعد أن كانت جارية وحظية؛ ولكن هنالك ما يدل على أن صبحا كانت(59/9)
تتمتع في البلاط والحكومة بمركز الملكة الشرعية، فالرواية الإسلامية تنعتها بالسيدة صبح أم المؤيد، وتصفها التواريخ الأفرنجية (بالسلطانة صبح). بيد أن هنالك ما يقطع مع ذلك بأنها بقيت من الوجهة الشرعية جارية و (أم ولد) فقط. وتصفها الرواية الإسلامية بعد موت الحكم بأنها (أم ولد)، وهو في الشريعة وصف الجارية التي حملت من سيدها وأصبحت أماً لولده.
وعلى أي حال فقد كانت صبح تحتل مكان الملكة الشرعية، وتتمتع في البلاط والحكومة بنفوذ لا حد له؛ وكان الحكم يثق بإخلاصها وحزمها ويستمع لرأيها في معظم الشؤون؛ وكانت كلمتها هي العليا في تعيين الوزراء ورجال البطانة. وكان كبير الوزراء، الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي يجتهد في خدمتها وإرضائها، ويستأثر لديها ولدى الحكم بنفوذ كبير. واستمرت الحال حيناً على ذلك حتى دخلت في الميدان شخصية جديدة قدر لها أن تضطلع فيما بعد بأعظم قسط في توجيه مصاير الأندلس. تلك هي شخصية فتى مغمور يدعى محمد بن عبد الله بن أبي عامر المعافري؛ أصله من الجزيرة الخضراء من قرية طرش، ووفد على قرطبة حدثاً ودرس في معاهدها درساً مستفيضاً، وبرع في الآداب والشريعة. وكان طموحاً مضطرم النفس والعزم، رفيع المواهب والخلال، وكان في نحو السابعة والعشرين من عمره حينما أراد الحكم أن يعين مشرفاً لإدارة أملاك ولده عبد الرحمن، ورشحه الحاجب المصحفي في من رشح لتولي هذا المنصب. وأعجبت صبح بذكائه وحسن روائه وظرف شمائله فاخترته دون غيره، وعين بمرتب قدره خمسة عشر ديناراً في الشهر، وذلك في أوائل سنة 356هـ (967م). ولما توفي عبد الرحمن عين مشرفاً لأملاك أخيه هشام. وتقدم بسرعة في وظائف الدولة فأضيف إليه النظر إلى الخزانة العامة، ثم عين للنظر على خطة المواريث، فقاضياً لكورة إشبيلية، ثم عينه الحكم مديراً للشرطة، وفي أواخر أيامه عينه ناظراً على الحشم (ناظراً للخاص).
ويرجع الفضل في تقدم محمد بن أبي عامر بتلك السرعة إلى مواهبه وكفاياته الباهرة، ولكنه يرجع بالأخص إلى عطف صبح عليه وحمايتها له. وقد انتهى هذا العطف غير بعيد إلى النتيجة الطبيعية. كانت صبح امرأة حسناء لا تزال في زهرة شبابها، ولا يزال قلبها يضطرم حباً وجوى، وكان سيدها الحكم قد أشرف على الستين وهدمه الإعياء والمرض؛(59/10)
أما ابن أبي عامر فقد كان فتى في نضرة الشباب، وسيم المحيى، حسن القد والتكوين، ساحر الخلال، وكان يفتن من جهة أخرى في خدمة صبح وإرضائها ولا ينفك يغمرها بنفيس الهدايا والتحف، حتى لقد أهداها ذات مرة قصراً صغيراً من الفضة بديع الصنع والزخرف لم ير مثله من قبل بين تحف القصر وذخائره، وشهده أهل قرطبة حين حمله من دار ابن أبي عامر إلى القصر، فكان منظراً يخلب الألباب ولبثوا يتحدثون بشأنه حيناً. فكانت هذه العناية تقع من قلب صبح أحسن موقع وتزيدها عطفاً على ابن أبي عامر وشغفاً به. وكان الحكم يشهد هذا السحر الذي ينفثه ابن أبي عامر إلى حظيته وإلى نساء قصره جميعاً ويعجب له؛ ويروى أنه قال يوماً لبعض ثقاته: (ما الذي استلطف به هذا الفتى حرمنا حتى ملك قلوبهن مع اجتماع زخرف الدنيا عندهن، حتى صرن لا يصفن إلا
هداياه، ولا يرضين إلا ما أتاه؛ إنه لساحر عليم أو خادم لبيب. وإني خائف على ما بيده)، ولم تلبث علائق صبح ابن أبي عامر أن ذاعت وغدت حديث أهل قرطبة؛ ولم يك ريب في أنها استحالت غير بعيد إلى علائق غرامية. وربما ارتاب الحكم في طبيعة هذه العلائق، وثاب له رأي في نكبة ابن أبي عامر؛ وسعى لديه بعض خصومه واتهموه بأنه يبدد الأموال العامة التي عين للنظر عليها في شراء التحف والأنفاق على أصدقائه؛ فأمره الحكم أن يقدم حساب الخزانة العامة ليتحقق من سلامتها؛ وكان بالخزانة عجز لجأ ابن أبي عامر في تداركه وسده إلى صديقه الوزير ابن جدير فأغاثه؛ وتقدم إلى الحكم سليم العهدة برئ الذمة؛ فزالت شكوكه، وتوطدت ثقته فيه، واستمر ابن أبي عامر متمتعاً بنفوذه، ينتدب لعظيم المهام والشئون؛ وهو خلال ذلك كله يحرص على عطف صبح ويستزيد منه، ويصانع الحاجب جعفر ويجتهد في إرضائه وكسب ثقته، ويخلق حوله حزباً من الصحب والأنصار بسحر خلاله، ووافر بذله ومروءته وبارع وسائله وأساليبه.
وكانت أعظم أمنية للحكم في آخر أيامه أن يضمن البيعة من بعد وفاته لولده أبي الوليد هشام، وهو يومئذ غلام في نحو العاشرة من عمره؛ وكانت أمه صبح تشاطره هذه الأمنية؛ وكان أشد ما يخشاه الحكم أن ينتزع الملك من بعده أخوه المغيرة بن عبد الرحمن الناصر؛ فرأى تفادياً من ذلك أن يعلن بيعة ولده أثناء حياته ويضع رجال الدولة والأمة أمام الأمر الواقع. نفذ هذا المشروع في جمادي الآخر سنة 365هـ (فبراير سنة 976 م) وعقدت(59/11)
البيعة لهشام في حفل جامع بالقصر، وأعلن الحكم أنه يقلد ولده الخلافة من بعده، وأخذت البيعة من الحاضرين ودعي له في الخطبة على المنابر ونقش أسمه في السكة، وأنفذت الكتب إلى النواحي لأخذها من الأكابر والأعيان، وتولى تنظيم البيعة والشهادة محمد بن أبي عامر، وهو يومئذ مدير الشرطة وناظر المواريث، وميسور الكاتب مولى صبح، واطمأن الحكم بذلك على مصير ملكه ومستقبل ولده نوعاً. ولكنه لم يعش بعد ذلك سوى بضعة أشهر؛ وكان المرض يشتد عليه منذ حين، ثم أصابه الشلل، وتوفي في الثالث من صفر سنة 366 (أول أكتوبر سنة 976م).
ولما توفي الحكم المستنصر بالله كانت مقاليد السلطة مجتمعة في أيدي ثلاثة: هم صبح أم هشام، والحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، ومحمد بن أبي عامر، وكان قد أضيف إليه النظر على الحشم (نظر الخاص). ولم يكن يعترض على بيعة هشام سوى صقالبة القصر، وكانوا زهاء ألف، ولهم نفوذ عظيم؛ وكان رأيهم أن تؤخذ البيعة للمغيرة بن الناصر أخي الحكم؛ ولكن الحاجب جعفر وقف على مشروعهم في الحال، واستدعى القواد والجند الذين يثق بإخلاصهم تحوطا للطوارى، واتفقت الكلمة على توليت هشام، وقتل المغيرة؛ ولم تمض ثلاثة أيام على وفاة الحكم حتى بويع ولده هشام ولقب المؤيد بالله، وتولى الحاجب جعفر ابن أبي عامر تنظيم البيعة، وتولى ابن أبي عامر في نفس الوقت تدبير مقتل المغيرة بن الناصر، فنفذ إليه الجند ليلة البيعة وقتلوه؛ ومنحت السيدة صبح الوصاية على ولدها، وكان في نحو الثانية عشرة من عمره؛ وتم بذلك مشروع الحكم المستنصر، ومشروع الثلاثة ذوي السلطان من بعده. وكان طبيعياً أن تحرص صبح على تولية ولدها لتحكم باسمه؛ وكان طبيعياً أن يؤازر ابن أبي عامر صاحبته والمحسنة إليه ليستمر بواسطتها محتفظاً بنفوذه، وليستطيع أن يحقق على يدها ومن طريق تغلبها على ولدها ما يضطرم به من الأطماع الخفية، أما الحاجب جعفر فكان له مثل ذلك الباعث في تولية هشام، إذ كان يخشى أن يتولى الملك رجل قوي كالمغيرة فيفقد نفوذه وسلطانه. وهكذا جمعت البواعث والغايات المشتركة بين الثلاثة، ولكن هذا التحالف الذي أملته الضرورة المؤقتة لم يكن طبيعياً، ولا سيما بين الحاجب جعفر ومنافسه القوي محمد بن أبي عامر، وكانت العلائق بين صبح ابن أبي عامر تزداد كل يوم تمكناً ووثوقاً، وكان ابن أبي عامر يرى عندئذ في(59/12)
صبح ملاذ حمايته ورعايته لدى الحكم، وكان وجود الحكم يحد يومئذ كثيراً من أطماعه ومشاريعه، ولكنه مذ توفي الحكم، وأضحت جميع السلطة الشرعية مجتمعة في يد صبح بوصايتها على أبنها هشام، أخذ يتأهب للعمل في طريق آخر، ويرى في خليلته صبح أداة صالحة هينة يستطيع أن يخضعها لإرادته، ويسخرها لمعاونته، وكانت صبح من جانبها تغدق كل عطفها وثقتها على هذا الرجل الذي سحرها بخلاله وقوة نفسه وباهر كفاياته، وتضع كل آمالها فيه لحماية العرش الذي يشغله ولدها الفتي. فلم تمض بضعة أيام على تولية هشام، حتى رفع ابن أبي عامر من خطة الشرطة إلى رتبة الوزارة، في نفس الوقت الذي أقر فيه هشام حاجب أبيه جعفر المصحفي حاجباً له، وهكذا أشرك ابن أبي عامر في تولي السلطة المباشرة مع المصحفي، ولم يعترض أحد من رجال القصر أو الحكومة على ذلك الاختيار سوى الحاجب جعفر، فقد كان يرى في هذا التعيين انتقاصاً لسلطته ونكراناً لجميله، بعد أن حمل أعباء السلطة كلها دهراً، وكان يرى في ابن أبي عامر بالأخص منافساً يخشى بأسه، ويرتاب في أطماعه ونياته ومن ذلك اليوم أضطرم بين الرجلين صراع عنيف صامت لم يك ثمة شك في نتيجته.
(للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان المحامي(59/13)
الحرمان
للأستاذ علي الطنطاوي
كتب الأديب المكي الغيور السيد أحمد علي، في الرسالة السابعة والخمسين: (يظهر الأسف الزائد إذ لم تقع عينه - وهو يراجع
الفهرس للسنة الأولى، ويتتبع أعداد الثانية، على أسم كاتب حجازي، يكون قد اشترك مع إخوانه وزملائه المعاصرين في الأدب، على صفحات هذه الصحيفة الغراء. . . ويؤمل من مديرها المفضال الأستاذ الزيات، إذا أراد، أن يشيد بذكر أبناء الرافدين والنهرين، ألا ينسى الحرمين، كذلك)
فأحببنا أن نلحق بكلمته هذه الكلمة:
ألم يشد أستاذنا الزيات بذكر الحرمين يا سيد أحمد علي؟ فما هو إذن عدد الهجرة الممتاز، وما هي تلك المقالات الإسلامية العربية؟
أما إن الرسالة إذا نظرت إلى أمر، فإنما تنظر إليه نظرة سامية فيها حكمة وفيها جلال، ولا يعنيها من (الحرمين) أخبار دائرة الصحة، ورسوم الحج، ولكن يعنيها حياة محمد (ص) وظهور الإسلام، وعظمة الفتوح، وجلال حكومة الراشدين؛ ولا يهمها من (النيربين) تنظيم الميزانية، ومناقشات المجلس البلدي، ولكن يهمها تاريخ بني أمية، وسعة الفتوح، وعز العروبة؛ ولا تحفل من (الرافدين) بقرارات الغرفة التجارية، وأخبار الجند، ولكن تحفل بحضارة الإسلام، ومجد المنصور والمأمون، ونهضة العلوم والفنون.
وتحفل بعد هذا كله، بالصورة المشرقة الوضاءة، صورة هذا الماضي الجليل، حين تظهر في صفحة الأمل الجميل، ذلك لأنها (تصور مظاهر العبقرية للأمة العربية) ولأنها ليست جريدة يومية أخبارية.
فهل تراها بعد. لم تشد بذكر الحرمين؟
وهل نسي أستاذنا الزيات الحرمين يا سيد أحمد علي؟ وهل يستطيع مسلم واحد على وجه الأرض أن ينسى الحرمين، وهو يستقبل الحرم خمس مرات كل يوم؟
يستقبله إذا سمع المؤذن يشق سكون الليل، بهذا النداء العلوي الجليل: (حي على الفلاح، لا إله إلا الله) فينهض من فراشه، يستأنف الحياة والليل يولي ساكناً خاشعاً، والنهار يقبل(59/14)
مشرقاً زاهياً، والأطيار تتلو بلغة الطير سورة الحمد والشكر، فيتوضأ، ويحس في نفسه السمو والجلال - ذلك السمو الذي حالت الحضارة الغربية. . . بيننا وبينه، فقطعنا مذ لبسناها أجمل مراحل الحياة نياماً، وغفلنا عن داعي السماء، حين ينبعث في تلك الساعة هاتفاً بالنفوس المؤمنة الطاهرة: ألا من مستغفر فاغفر له؟ ألا من داع فأستجيب له؟ ألا من سائل فأعطيه؟
يتوضأ، ثم يستقبل (الحرم) وينسى كل شيء إلا (الحرم)، ثم يخشى أن يشغله الحرم عن الصلاة، والصلاة انقطاع الدنيا الفانية، واتصال بجلال الله الباقي، فيرفع يديه ويقول: الله أكبر، ويدخل في الصلاة فينسى كل شيء، إلا الله الذي يقوم بين يديه.
ويستقبله إذا زال النهار، وقامت الدنيا على قدم وساق، تدعو أبناءها وعبادها، إلى ما أعدت لهم من اللهو واللعب، فاستبقوا إليه، واقتتلوا عليه. . . معرضاً عن نداء الدنيا، مجيباً داعي الله، فيقوم بين يدي رب العالمين، مولياً وجهه شطر المسجد الحرام، تاركاً وراء ظهره الدنيا وما فيها!
ويستقبله إذا أخذت نفسه حظها من طعامها وشرابها وراحتها وقنعت من الدنيا بما نالت منها - وما الدنيا إلا ما يملأ بطناً، ويكسو جسماً، ويريح نفساً. . . يستقبله حامداً شاكراً.
(الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، (يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم) إياك نعبد وإياك نستعين (لا نعبد غيرك، ولا نخشى سواك، ولا نرجو النفع إلا منك، ولا نخاف الضر ممن دونك. أنت الضار وأنت النافع، وأنت المعطي، وأنت المانع؛ لا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا يجير عليك من نبي ولا ولي، ولا يشفع عندك إلا بأذنك ملك ولا رسول)
ويستقبله إذا أطفئ المصباح الأعظم، وغطى الليل بسواده الفاحم على بهاء الدنيا وجمال الأصيل، فلا تشغله الرياض والجنان، ولا الورود والثمار، عن واد غير ذي زرع، عند بيت الله المحرم.
ويستقبله إذا عم الظلام ونام الكون، وأقبل على الفراش يسلم روحه إلى خالقها. لا يدري أتعود أم تبقى في عالم الخلود، فيكون (الحرم) آخر ما يقبل عليه ويذكره من هذه الدنيا.
فهل ينسى مسلم (الحرمين). أو هل ينساهما أستاذنا الزيات وهو الذي يذكر الناس؟!(59/15)
أولم تر يا سيد أحمد علي كاتباً حجازياً في الرسالة؟ أين أنت يا سيدي؟ وأي شيء يكون كتاب الرسالة إذا لم يكونوا مسلمين عرباً حجازيين؟ أهم روم؟ أهم يونان؟ أهم فينيقيون؟ أهم فرس؟
أليس أهل مصر وأهل العراق وأهل الشام من أبناء الحجاز اللذين خرجوا من الجزيرة تحت راية محمد، ففتحوا العالم واستقروا فيه؟ أليس عمرو وجيشه من أهل الحجاز؟ أليس سعد وجنده من أهل الحجاز؟ أليس أبو عبيدة وخالد وأصحابهما من أهل الحجاز؟ أليس بنو أمية حجازيين؟ أليس بنو العباس حجازيين؟
كأني بك تريد أن تقول: هاك كتاب الرسالة السابعة والخمسين: إن مختار الوكيل مصري، وطوقان فلسطيني، وعباسي أردني، وفتاة الفرات عراقية، وباكثير حضرمي. ولكن لا. ليس في قاموسنا مصري ولا شامي! ولكن فيه مسلم، وفيه عربي.
وأي مسلم لا يرى الحجاز وطنه الأول من جهة النسب ومن جهة الدين؟
وأي عربي (كائناً ما كان دينه) لا يرى الجزيرة محتده وأصله، ومحمداً سيد العرب فخره؟
وهل ينسى مكة مسلم يتلو قول الله:
(لتنذر أم القرى وما حولها)
(والتين والزيتون، وطور سينين، وهذا البلد الأمين)
(لا أقسم بهذا البلد، وأنت حل بهذا البلد)
(وليطوفوا بالبيت العتيق)
(جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس)
(رب أجعل هذا البلد آمناً وأجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام)
(ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم)
ويتلو قول رسول الله (ص) حين فارق مكة مهاجراً:
(إني لأعلم أنك أحب البلاد إليّ، وأنك أحب أرض الله إلى الله، ولولا أن المشركين أخرجوني منك ما خرجت)
ومن ينسى مكة وفيها تاريخ أشرف أمة. وهي أشرف مدينة: لم تدن مذ خلقها الله لملك أجنبي عنها، ولم يؤد أهلها أتاوة لأحد، كانت تحج إليها ملوك حمير وكندة ولخم وغسان،(59/16)
فيدينون للحمس من قريش، ويرون تعظيمهم والإقتداء بآثارهم فرضاً مفروضاً، وشرفاً لهم عظيماً، وكان أهلها آمنين، يغزون الناس ولا يغزون، ويسبون ولا يسبون:
أبوا دين الملوك فهم لقاح ... إذا هيجوا إلى حرب أجابوا
وكان أهلها في جاهليتهم حلفاء متآلفين، ومتمسكين بكثير من شريعة إبراهيم عليه السلام، ولم يكونوا كالأعراب الأجلاف، ولا كمن لا يوقره دين، ولا يزينه أدب، وكانوا يختنون أولادهم، ويحجون البيت، ويقيمون المناسك،
وكانوا يتزوجون أي القبائل شاءوا، ولا شرط عليهم في ذلك، ولا يزوجون أحداً حتى يشرطوا عليه بان يكون متحمساً لدينهم، يرون أنه لا يحل لهم ولا يجوز لشرفهم حتى يدين لهم
وكان العرب منذ الجاهلية يحجون البيت، ويعتمرون ويطوفون. فإذا أرادوا الانصراف أخذ رجل منهم حجراً من حجارة الحرم، يتذكرها به ويجله. . .
هذا ولك الحق يا سيدي الأديب، في أن تأسف إذ لم تر لواحد من سكان بلدك بحثاً أو مقالة في الرسالة، ولكنما هم الملومون يا سيدي لا الرسالة. وما أحسب الرسالة تنشأ (لتسجل ظواهر التجديد في الأدب العربي، وتكون ديوان العرب المشترك) ثم تسد بابها في وجه قوم هم خلاصة العرب، وبنو خلاصتها، فانشروا فيها يا سيدي، ونقرأ لكم، ونستفد منكم، ونشكركم. وعليك يا سيدي الأخ الأديب السلام ورحمة الله.
دمشق
علي الطنطاوي(59/17)
قرطبة
نبذة تاريخية عنها
كانت قرطبة تعد من المدن العالمية المهمة، وكانت أعظم مدن الأندلس جميعاً، سواء بأبنيتها الجميلة الفخمة، أم بدور كتبها الكثيرة الواسعة، أم بحدائقها وبساتينها البديعة. وقد أتخذها عبد الرحمن الداخل عاصمة له، وشيد فيها القصور والحدائق والأبنية والمساجد، ولا سيما الجامع المعروف (بجامع قرطبة) وظلت عاصمة للأندلس حتى زمن عبد الرحمن الناصر، ثامن ملوك بني أمية هناك، إذ أنشأ على مقربة منها مدينة الزهراء المشهورة، وجعلها عاصمة له بدلاً منها، وفي عهد الحكم المستنصر ازدهرت البلاد ازدهاراً عظيماً، وكثرت دور الكتب والمدارس، وانتشرت العلوم والآداب بين طبقات الأمة، وكان لقرطبة النصيب الأوفر من عنايته، حتى لقد عين أخاه الأمير عبد العزيز مديراً لإحدى مكاتب (دور كتب) تلك المدينة العظيمة، ثم جاء هشام الثاني، فعجز عن إدارة المملكة، وتدخل أرباب المصالح والمطامع في أمورها، وكانت النتيجة انفصال الأقاليم واستقلالها، ومن جملتها (قرطبة) إذ استقلت سنة 421هـ - 1029م، واستولى عليها (أبو الحزم بن محمد بن جهور)، وأسس الدولة الجهورية فيها (422هـ - 1030م)، ولما مات (435هـ - 1043م) تولى الأمر بعده أبنه (أبو الوليد محمد بن جهور)، ثم توفى وخلفه ابنه عبد الملك بن محمد، فكرهته الرعية لسوء معاملته لهم، ثم خلعوه، وأخرجوه من قرطبة (461هـ) متحدين مع جيش محمد بن عباد. وبسقوطه انقرضت دولة بني جهور، ومنذ ذلك الوقت بدأت قرطبة في التأخر، وفي سنة 1236م استولى عليها الإفرنج، وطردوا أهلها، واتخذوها حصناً على حدود مملكتهم، وهي الآن من المدن الصغيرة، ويبلغ عدد نفوسها (80000) نسمة. . .
معيشة أهلها وصنائعهم
أما في تلك العصور الزاهرة فكان عدد نفوسها يربو على المليون، وكلهم يعيشون في خفض من العيش ورفاهية وسعادة، ومما ساعدهم على تلك الرفاهية إتقانهم لفنون وصنائع كثيرة، وزيادة نسبة المتعلمين والمثقفين بينهم، كما كان الحال في باقي المدن الأندلسية المتوسطة والكبيرة، فاشتهرت غرناطة بجودة حريرها وطليطلة بتفننها في صنع الأسلحة،(59/18)
وقونقة بجوخها الأخضر والأزرق، وقرطبة بصناعة السروج ودباغة الجلود الخ. . وكان في قرطبة مصانع كثيرة مختلفة، تصدر أنواع السلع الأخرى إلى المدن الأندلسية، وإلى خارج البلاد أيضاً. .
العلم والأدب
نقل صاحب نفح الطيب عن ابن سعيد (مؤلف الحلة المذهبة في مملكة قرطبة): (أن عرب قرطبة كانوا يتفاخرون بثلاث: بأصالة
البيت، وبالجندية، وبالعلم. قال: وهي أكثر بلاد الأندلس كتباً، وأشد الناس اعتناء بخزائن الكتب، صار ذلك عندهم من آلات التعين والرياسة، حتى أن الرئيس منهم الذي لا تكون له معرفة، يحتفل أن تكون في بيته خزانة كتب، ويحتفظ فيها، ليس إلا لأن يقول: عندي خزانة كتب، والكتاب الفلاني ليس عند غيره، والكتاب الذي هو بخط فلان قد حصله وظفر به. . .)
وكان فيها مكاتب كثيرة كبيرة، تحوي أثمن الكتب وأجلها وأفضلها، ولهذا فاق القرطبيون غيرهم من أهل الأندلس والأقطار الأخرى، بكثرة علمائهم وأدبائهم، وبشدة إقبالهم على التعليم والتثقف، وعلى حبهم للعلماء والأدباء، واحترامهم لهم، ولصناعة العلم والأدب.
وكان للحكم الثاني في قرطبة مكتبة، فيها ستمائة ألف كتاب لها أربعة وأربعون فهرساً، في كل فهرس 20 ورقة لأسماء الدواوين فقط!!. ويقول جستاف لوبون - بهذه المناسبة - إن شارل الحكيم الذي تولي أمر فرنسا بعد خلافة الحكم بأربعمائة سنة (1364م) بذل جهده في أن يجمع أكبر عدد ممكن من الكتب للمكتبة الأهلية بباريس - حين أسسها - ولكنه لم يستطع أن يجمع أكثر من تسعمائة مجلد ثلثها دينية!. . .
وكانت الكتب تردها من بغداد ودمشق وخراسان والأستانة، وكان فيها 80 مدرسة جامعة، يقصدها طلاب العلم الراقي والأدب الرفيع من أنحاء العالم المختلفة، ومنهم البابا سلفستر الثاني، وكان قد ذهب إلى أشبيلية فدرس فيها زمناً، ثم إلى قرطبة، وذلك قبل أن يصبح بابا (999م)، وكان يسمى قبلاً الراهب جربرت، وممن تخرجوا في جامعات قرطبة، بطرس فنرابل وقسيس كولوني، وكذلك (شانجة) ملك ليون، وغيرهم كثيرون من الأوربيين الذين نذهب اليوم إلى جامعاتهم التي حلت محل الجامعات العربية، والله يغير(59/19)
ولا يتغير، والله على كل شيء قدير!. . .
وكان في قرطبة علماء وأدباء وفضلاء كثيرون، نذكر منهم (أبو بكر يحيى سعدون الأزدي القرطبي) الملقب (بصائن الدين) وهو أحد الأئمة المتأخرين في القراءات وعلوم القرآن والحديث والنحو واللغة الخ. . ولد بقرطبة (486هـ) ومات بالموصل (567هـ). وأبو الوليد عبد الله بن محمد يوسف المعروف (بابن الفرضي) وكان فقيهاً عالماً من مؤلفاته (تاريخ علماء الأندلس) و (حسن في المختلف والمؤتلف) و (في أخبار شعراء الأندلس)، وقد ولد سنة 351هـ. وقتله البربر يوم فتح قرطبة سنة 403هـ ابن زيدون ولد سنة 394هـ. ومات بأشبيلية سنة 463هـ.
وأحمد بن محمد بن البر، من موالي بني أمية، له كتاب في الفقهاء بقرطبة، ومات في السجن ليلتين بقيتا من رمضان. ومنهم (أحمد بن محمد بن موسى) له مؤلفات كثيرة في أخبار الأندلس، توفي في 12 رجب سنة 344هـ. وولد في (10) ذي الحجة سنة 274.
و (خالد بن سعيد القرطبي) أحد أئمة الأندلس، مات فجأة في سنة 352هـ في الستين من عمره، وحسن بن الوليد بن نصر وابن الدباغ الأزدي، وغيرهم. وغيرهم. . .
خطط قرطبة
تقع قرطبة على الشاطئ الغربي من نهر الوادي الكبير، وبينها وبين البحر خمسة أيام، وذكر ياقوت الحموي في معجمه أنها كانت (أعظم مدينة في الأندلس، وليس لها في المغرب شبيه في كثرة الأهل وسعة الرقعة، ويقال إنها كأحد جانبي بغداد، وان لم تكن كذلك فهي قريبة منها، وهي حصينة بسور من حجارة، ولها بابان مشرعان في نفس السور إلى طريق الوادي من الرصافة - والرصافة مساكن أعالي البلد متصلة بأسفله من ربضها وأبنيتها، مشتبكة محيطة من شرقيها وشماليها وغربيها وجنوبيها، فهو إلى واديها، وعليه الرصيف المعروف بالأسواق والبيوع ومساكن العامة يربضها. . .)
وكان طول قرطبة أربعة وعشرين ميلاً، وعرضها ستة أميال (وكان عدد اربضها 21ربضاً، في كل ربض من المساجد والأسواق ما يقوم بأهله، ولا يحتاجون إلى غيره، وكان بخارج قرطبة ثلاث آلاف قرية في كل واحدة منها منبر وفقيه.)
وكان فيها (200000) بيت و (600) مسجد و (50) مستشفى و (900) حمام سوقي،(59/20)
فضلاً عن الثمانين مدرسة التي ذكرنا، وكان فيها قنطرة طولها 800 ذراع وارتفاعها 60 ذراعاً وعرضها 20 ذراعاً، وفيها ثماني عشرة حنية، وتسعة عشر برجاً.
وقد تنافس الخلفاء والأمويون في تعمير هذه المدينة وتزينها وتجميلها، فبنى عبد الرحمن الداخل (القصر الكبير) وجعله مقراً له، وشيد المنصور بن أبي عامر قصر الزهراء سنة 360 على نهر الوادي الكبير، وأنتقل إليه سنة (370هـ) وبنى باقي الملوك والوزراء والعظماء قصوراً كثيرة نذكر منها (الحائر)، الروضة، المعشوق، المبارك، التاج، السرور الخ. .
ولكن أعظم بنايات قرطبة، بل الأندلس كلها، المسجد الجامع، الذي شيده عبد الرحمن الداخل، وكان في الأصل كنيسة فأعجبه موقعها فأخذها من النصارى مقابل أموال وأراض كثيرة.
جامع قرطبة
والواقع أن هذا المسجد آية من آيات الفن العربي، ودليل قاطع على علو كعب العرب في النقش والبناء، وبرهان ساطع على سمو الذوق العربي، والمقدرة الفنية العربية. ولم يكن يضاهيه من المساجد والقصور في ذلك العصر سوى الجامع الأموي بدمشق، وليس من السهل وصف عظمة جامع قرطبة وتصويره للقارئ وصفاً وتصويراً صادقين، بل ليس من السهل على القارئ أن يدرك عظمته إذا ما نظر إلى عدة صور فوتوغرافية عنه، ومع ذلك فنحن باذلون جهدنا في أن نعطيك فكرة عامة عنه:
فطول المسجد 600 قدم وعرضه 250 قدماً وارتفاعه 20 متراً، وفي عرضه الأيمن 38 صحناً، والأيسر 29 صحناً، وفيه 1293 عموداً من الرخام، تيجانها منقوشة بمختلف النقوش الرائعة. (وفيه من جهة الجنوب 19 باباً مبطنة بصفائح من النحاس المتوج (نحاس المدافع)، وأوسطها مرصع بصفائح من الذهب، وبأعلاه ثلاث كرات ذهبية فوقها رمانة من العسجد)
أما الباب العمومي - وهو باب المنارة - فهو من النحاس أيضاً، عرضه 8 م وارتفاعه 20 م، وفي الزاوية القبلية من لمسجد تقوم منارته العظيمة، وهي مربعة الشكل، وطول كل ضلع منها 12 م وارتفاعها 13 م، وتتحلى بتفاحات فضية وذهبية، محيط كل منها نصف(59/21)
متر أو أكثر بقليل. ويقول صاحب (رحلة في الأندلس): أنها خمس طبقات في كل طبقة عدد كبير من الأجراس.
وكانت قبة المسجد مشيدة على 365 عموداً من المرمر، والمحراب والمقصورة من أجمل ما في المسجد، ففي تلك المقصورة كان الخلفاء يصلون (وهي بناء مرتفع مربع مزين بنقوش جصية بديعة جداً، وعليها كتابات قرآنية وأحاديث نبوية) وأما المحراب ففسيح واسع، ويتكون سقفه من قطعة رخامية واحدة وفيه كتابات كوفية قرآنية، وكان فيه المصحف العثماني الشريف، وقد نقله عبد المؤمن بن علي إلى مراكش عند استيلاء الموحدين على الأندلس سنة 552 هـ.
وفي المسجد (4700) قنديل من الذهب الإبريز، واحد منها في المحراب، وكان يصرف عليها سنويا (24000) رطل زيتاً و (120) رطلاً من العنبر والعود القاقلي. . .
قال الأستاذ سديو: (وكانت هذه المدينة تصبح مضيئة، وحاراتها مطيبة، بما يلقى فيها من الزهور، مع استعمال الألحان المطربة في المتنزهات والميادين العامة. .)
هذا بعض من كل، وقليل من كثير، عن حالة قرطبة في تلك العصور التي بلغت العظمة العربية فيها الحد الأقصى من الرفعة والسمو، والتي خلد فيها أبطال العرب أسماءهم في أنصع صفحات التاريخ، ورفعوا أمتهم إلى المكانة اللائقة بها.
البصرة
عبد الكريم وعبد الصمد الناصري(59/22)
شلفون بعد نصف عام!. . .
بقلم منير الجم الطرابلسي
رحم الله هذا الموسيقي الراحل، فقد عاش طريداً شريداً، غريباً في وطنه، منبوذاً من أهله ومن الناس، ومازال مع الخطوب في صراع حتى فجئته كارثة دهماء أجهزت على حياته المنكودة، فكان ضحية غالية على مذبح الفن لم يدر أحد من أمرها شيئاً!
عاش في دنياه مجهولاً، وجاهد في سبيل الفن مغبوناً، ولقي حتفه باليأس والبؤس، ثم لجأ إلى بارئه يشكو مكر الإنسان، وختل
الصديق، وجور الدهر!
وقعت الواقعة، ونزلت النازلة، وأنهار صرح (كوكب الشرق) في بيروت، فكانت نكبة نكباء، وجبت لهولها الأفئدة، وهلعت القلوب، والناس حول الضحايا في مأتم يبكون، هذا يرثي لأباه، وذاك يبكي أخاه، وآخر يذرف الدمع على صديقه مدراراً. إلا
هذه الضحية المجللة بروعة الفن، كانت في عزلة عن اهتمام الجمع، فأنهم جهلوها أو تجاهلوها، ونسوا ماضيها وحاضرها، وما أسرع الناس في نسيان الماضي، وجحد الفضل، ونكران الجميل!
ولكن لم تخل الأرض من أخبار بررة قاموا بواجب التأبين في محفل الوليد، وشاركتهم بعض صحف حرة في نشر الترجمة، وتعديد المناقب والمزايا، فكانت تعزية للراحل الكريم في الأولى والآخرة؛ ثم أسدل الستار على ذكراه، فلم يفطن إليه محفل أو ناد، حتى ولا تلاميذه، وما ذلك إلا لأنه كان بائساً معدماً، أبي النفس، عالي الهمة، كارهاً للشهرة والظهور، شانه في ذلك شأن عظماء الفن، يصهرون نفوسهم الزكية في مثلهم العليا، ثم يتلاشون في سكون وهدوء!
كان موسيقياً نابغاً فياض العواطف والشعور، وكان أديباً كبيراً مملوء بنفس سامية تأبى أن تذل، جاهد في مصر زمناً ينشر علينا من أريج (روضة بلابله) الغناء ما يسر النفس، وينعش القلب، حيث المبتكر الساحر، والجديد السائغ في الموسيقى والأدب؛ ثم ناهضه الحساد فرحل إلى دمشق عله يخفف اللوعة فيها والأسى، فكان نصيبه الصد والفشل والإخفاق! فلما ضاقت الأرض عليه بما رحبت سعى إلى عاصمة لبنان، وكأنه كان على(59/23)
موعد من منيته، فداهمته أشنع ميتة يموتها إنسان، فلا حول ولا قوة إلا بالله!
مات ولما يتمم جهاده الشريف، ولم يجن ثمار أدبه وفنه، وأبى حظه العاثر أن يكون موفقاً في حبه وإخلاصه، بل في حياته ومماته، فقد كان يعلم ذلك كل العلم، ويتأكده كل التأكيد، فألف قطعته الخالدة (الألم) رمزاً لذاته، وشعاراً لبؤسه، وعزفها على مسمعنا يوم كنا لديه في عاصمة الأمويين، فسحرنا بأنغامها الشجية، وغمرنا في ذهول من الحزن عميق، نرثي لحاله ونتألم، ولا غرو فحياته سلسلة آلام مبرحة، ختمت بفاجعة مروعة، قضت على آماله الجسام، وذهبت بنبوغه الرائع.
أما ورثاء نوابغ الفن علينا واجب، وذكر الفقيد البائس أوجب، فقد أديته قسطي على قدر المستطاع، كما أرجو أن يذكره كل مخلص غيور، ففي ذمة الله والتاريخ فقيدنا الكريم، وفناننا المجهول!
حماه
منير الجم الطرابلسي(59/24)
العامل الاقتصادي في الأدب
للآنسة فكرية زكي دبلوم في التربية والآداب
أريد أن أعالج موضوع الأدب من الوجهة الاقتصادية، لأن كثيراً من الأدباء يمنعهم الحياء من التبسيط في شرح ذلك، مع أن هذا الموضوع جدير بالبحث والنظر، لأن هناك صلة تصل المؤلف بالقراء، فالمؤلف لا يكتب إلا لقرائه، سواء في الجيل الحاضر أو في الأجيال الآتية، ولم يخلق بعد المؤلف الذي يكتب لنفسه. وإذا رجعنا بالبصر قليلاً وجدنا أن كثيراً من أمهات الكتب القديمة التي ننعم بها لم يكتبها مؤلفوها إلا تحت رعاية عظيم أو تشجيع كبير، مما لا نتبسط في شرحه وبيانه، غير أن هذه الكتب لم تكن فتحاً في الأدب.
فالأدب الصحيح الذي يصور الحياة في صورها الصادقة لا يولد في كنف عظيم أو رعاية كبير، لأنه إذ ذاك لا يصدر عن نفس حرة طليقة من قيود المادة، لذلك لم تولد أمهات الكتب في الأدب الحديث إلا مع وجود القراء، وإذا أردت دليلاً على ذلك فإن لويس الرابع عشر أغدق المال على رجال العلوم والفنون إغداقاً ليس له نظير ولا ضريب، ثم لم ينبغ في عصره كاتب ولا فنان، لأن يد الإحسان كانت تعقل أفواههم، فلا يقولون إلا ما يرضيه، ولا يعملون إلا ما يحسن لديه ويجمل في ناظريه، ولم أجد كاتباً فصل ذلك في وضوح وجلاء إلا (بكل) كتابه الممتع تاريخ الحضارة في إنجلترا.
والكاتب مهما قنع بالقليل يجب أن يعيش قبل كل شيء، فإذا كانت رعاية الكبراء تحول دون الإنتاج البكر في الأدب، بله عدمها
الآن، فليس هناك وسيلة للأدب والأديب غير القراء. ولذلك نتساءل: هل يوجد الآن بيننا جيل القراء الذين يقبلون على قراءة
الكتب القيمة فيساهموا في أحياء الأدب؟. أم نحن نعيش في عصر لم يخلق فيه القراء بعد؟ ولا يمكننا أن نعلل ذلك بفقر القراء، أو غلاء الكتب، لأن ثمن أكبر كتاب لأشهر مؤلف لا يتجاوز ثمن تذكرة من تذاكر دور السينما.
وإذا قال مكابر بأننا تعيش في ذلك العصر فأننا نطالبه بالدليل على ذلك، أين هي الكتب التي طبعت مراراً؟ لا أعلم كتاباً طبع للمرة العاشرة، بله الثالثة أو الرابعة، وتكرار الطبع دليل على رواج الكتب وانتشار الأدب. إذن ففي أي عصر نعيش؟ أنعيش في ذلك العصر(59/25)
الذي باع فيه ملتون روايته الخالدة (الفردوس المفقود) بعشرة جنيهات؟ أم في العصر الذي كان يعيش فيه جنسون موحد اللغة الإنجليزية فلا يجد قوت يومه؟ أستغفر الله بل نحن نعيش في عصر الانتقال، في عصر تتكون فيه أجيال القراء، (فالرسالة) تطالعك كل أسبوع، والجرائد اليومية تطالعك كل صباح، وهي تؤدي عملاً نافعاً لا يفطن إليه كثير منا، فهي تخلق جيل القراء المقبل الذي سيساهم في رواج الأدب، ومتى وجد هذا الجيل فلا شك في تطور الأدب تطوراً آخر غير ما نراه الآن.
وإني أرى بعين المستقبل أديباً كبيراً يقول لنا كما قال ماكولي عن أدباء عصره: (إنهم ينعمون بالثراء ومباهج الحياة، بينما أشباههم ونظراؤهم من سبعين عاماً كانوا يتضورون جوعاً.) غير أني أدعو الله أن تكون هذه الفترة في تاريخ أدبنا أقل من سبعين سنة، فأنها وإن كانت قليلة في أعمار الأمم طويلة في حياة الأفراد.
فكرية زكي(59/26)
إبراهيم بك مرزوق وشعره
بقلم صلاح الدين الوداعي
قرأت في العدد السابع والخمسين من الرسالة ما كتبه الأستاذ محمود خيرت عن الشاعر المصري إبراهيم بك مرزوق تعقيباً
على كلمة المغفور له أحمد باشا تيمور التي لم يلم فيها بنواحي حياته الأدبية إلماماً وافياً، فوجدته في مستهل كلمته يقول انه كان يود لو أن بين يديه ديوان هذا الشاعر ليسد الفراغ الذي تركه تيمور باشا، ويسرني أن أحمل هذا الواجب الأدبي عنه، فقد أتيح لي أن أقرأ نسخة مخطوطة من هذا الديوان، سأنقل هنا شيئاً منها يعطينا صورة لحياة هذا الشاعر ومقدرته الأدبية.
أسلوبه في الشعر:
أما غزله فهو من الملاحة بمكان، قال رحمه الله:
أشجتكَ شمس ملاحةٍ ... في غيهب الليل استنارتْ
أم بدر حسنٍ طالع ... من حسنه الأقمار غارت
نَظرت له عين المها ... فتعجبتْ منها وحارت
مَن منصفي من أعين ... في حكمها في القلب جارت
يا جنة نيرانها ... في قلب عاشقها استعارت
ما ضرها لما نأت ... لو أنها زارت
يا شمس حسن بالحجا ... ب السندسي عني توارت
غصن القوام عليه ك ... ل قلوب أهل العشق طارت
ودوائر الأحزان من ... أطواقها بالصب دارت
وركائب الأشواق بال ... قلب الأسير إليك سارت
وقال أيضاً من قصيدة:
ما احتيالي قد صير الصد عاده ... ليته حين أسقم الصب عاده
ما احتيالي وكل من هام وجداً ... سلب الحب لبه ورشاده
بين كأس الهوى وكأس الحميا ... قدرٌ غالبٌ له وإراده(59/27)
فهو في حالتيه حيران ألقى ... بيد الذل والهوان قياده
ومن قصائده أيضاً هذه الخمرية البديعة:
هيا اسقياني ثلاثاً واشربا قدحاً ... يا ساقيّ فزند اللهو قد قدحا
وأحييا دولة القصف التي دثرت ... وخليا الزهد للوعاظ والنصحا
وبادرا فرص اللذات واجتنبا ... من لام في رشف كاسات الطلا ولحا
فقد خلعت عذارى غير معتذر ... ورحت أرفل في برد الصبا مرحا
وقلت للرشد مالي فيك من أرب ... فارحل وقمت بثوب الغيّ متّشحا
وفيها يقول بالتورية:
فعاطياني وعين النجم شاهدة ... شمساً يقصّر عن أوصافها الفصحا
لو أن عائبها قد ذاق لذتها ... ما كان عاب لها كأساً ولا (قدحًا)
وعلى ذكر التورية هنا أقول إنه كان ولوعاً بها مجيداً لها، فمن ذلك قوله في الرثاء:
يا راحلاً فيه ذقنا ... ما كانا منه احترزنا
كم قد حوينا هموما ... لما رحلت (وحزنا)
ومن محاسن اقتباساته قوله:
ومليح له سلاسل شعر ... وقلوب الورى بهن أسارى
كلما جال طرفه ترك النا ... س سكارى وما هُم بسكارى
وقوله أيضاً:
قد كنت سليماً لا تدري ... ماَ حلو الوصل من الهجر
فأطعت النفس وشهوتها=إن الإنسان لفي خسر
وللشاعر في التخميس والتشطير مقدرة عظمى تشهد له بالتمكن في النظم مع سمو الخيال، واتساق المعنى، وقد نظم في ذلك مقطوعات كثيرة لفحول الشعراء فخمس أغلب القصائد والمقاطيع المتداولة على ألسنة أهل الأدب للمتنبي، والكمال ابن النبيه، وتقي الدين السروجي، والمعري وغيرهم، وكلها في غاية الطرافة والحكمة، ولولا طولها وكثرتها لأوردت هنا طرفً منها لإثبات كفاية هذا الشاعر النادر، وأنا لذلك أكتفي بذكر تشطيره للبيتين المنسوبين إلى إبليس - على سبيل المثال - قال:(59/28)
(وحمراء قبل المزج صفراء بعده) ... كوجنة خود راعها لثم سارق
إذا صبّها في عسجدي مخضب ... (بدت بين ثوبي نرجس وشقائق)
(حكت وجنة المعشوق صرفاً فسلطوا) ... على نهبها الألحاظ من كل وامق
وصاغ حباب الماء في حال صبه ... (عليها مزاجاً فاكتست لون عاشق)
وعلى قلة الوصف والتشبيه في شعره بلغ حد الإجادة والإبداع، فمن ذلك وصفه لمنشية النزهة بإسكندرية:
بإسكندرية للصفا منشية ... غراء واضحة البها غناء
سطعت شموس الحسن في أرجائها ... وبدوره فلها سنىً وسناء
حيث ألتفتّ رأيت أبهى روضة ... (سال النظار بها وقام الماء)
وقال في (فسقية) يتصاعد منها الماء
لله بل للحسن ماءٌ أحكمت ... فسقية تصعيده فتقطَّرا
فجرى لجيناً أو مذاب الدر أو ... سيّار بّللور سما فتقنطرا
ومن قصائده في الفخر والحماسة هذه القصيدة:
قامت تساجلني العلا جدودي ... حتى تحقق فيّ رأي جدودي
واستنجدت فينا شمائل ماجد ... واستنجزت شيم الوفاء عهودي
وتغبّ في ذم الخمود مليحة ... لتشب ناري غير وشك خمود
وبمسمع مني تقول لمن دنت ... منها أهذي حالة المجدود
أيُردّ عما يبتغيه وعزمُه ... ماض وطالعه بسعد سعود
أولم يكن من لم تغر طلابه ... يوماً عليه لفضله والجود
أو ليس من بهر الكواكب رفعةً ... بعلوّ صائب رأيه المعهود - الخ
وفي الديوان غير ذلك من المدائح والتهاني والمراثي والتعازي وباقي الفنون الأدبية من القصائد الشيء الكثير، وكلها مليئة بالمحاسن والغرر - ولا سبيل إلى استقصائها هنا لكثرتها وتشعب أغراضها.
أسلوبه في النثر
وقد عثرت للشاعر على هذه الرسالة الفريدة، المسماة (برحلة الكرامة) التي كتبها إلى سعادة(59/29)
خيري باشا مهردار، واقتصرت
على بعض فقرات منها خشية الإطالة، وهي التي ضمنت وصف رحلته إلى الخرطوم، قال رحمه الله:
(أهدى إلى نسيم الصبا، الحاملة لرياض الربا، ووفود النسيم، المتحملة بالتكريم والتعظيم، ورسل الأصائل، المتضوعة بنشر الخمائل، وما يزري بنور الرياض، وتغازل المقل المراض، أرق من الدموع، في الربوع، وألعب من الراح، بالعقول والأرواح، وأشهى من الأمان، في الزمان، ووفاء الأخوان، وألذ من عناق أهل الاشتياق، بعد الفراق، وأعذب من الرحيق، على الريق، وأحلى من الإقبال، ببلوغ الآمال، وأحب من الأتحاف، بالأسعاف، وأهنأ من الورود، على حياض الوعود، وأشفى من الوصال، وأوفى من طيف الخيال. . . ولكني حيث تنقلت في البلاد، وهمت في كل واد، من أقطار السودان، القاصي منها والدان، واعتسفت طرقها، وشسوعة أسواقها، حيثما ذكره الأستاذ في الوقائع، وجنيته من ثمرها اليانع، التزمت أن أذكر بوجه الاختصار، ما يتذكر به ألو الأبصار، وعسى أن تنفق عنده بضاعتي المزجاة، وأفوز ببركة دعائه بطريق النجاة، فأقول معتمداً على الله، وما توفيقي إلا بالله. . . (قد اقتعدنا غوارب الأقتاد، وجبنا الصخور والأوتاد مسئدين في المهامة والقفار، مستندين إلى أعواد الأكوار، مصطحبين ما يفت في عضد الإصطبار، ويقلب قلب القرار على النار، إلى أن وصلنا إلى بندر الخرطوم، فكانت المحفوفة بالقذى، المحروسة بالأذى، لأنها القرية الظالم أهلها، المستحيل مثلها، بسبب هوائها الوخيم، ووبائها المستديم، فكنت تراها أقذر من بيت الدجاج، وأهون من تبالة على الحجاج، لما بها من الحشرات، المجهولة الأسماء والصفات، التي ليس منها خلاص، ولا للجروح قصاص، لتواردها من الست الجهات، إلى شن الغارات، ويكاد المقيم بها وقت القيظ، يتميز من الغيظ، ويستغيث بالسعير، في أوقات الزمهرير، فهي بين رياح متخالفة، وزعازع متوالفة، وظلل من الضباب، كأول يوم الحساب.)
بلاد لاسمين من رعاها ... ولا حسن بأهليها اليسار
إذا لبس الدروع ليوم بؤس ... فأحسن ما لبست لها الفرار
قلت مما اتفق لي نظمه في بلاد السودان وأهلها من جملة أبيات هذا البيت:(59/30)
قوم تخيلتهم جاناً لرؤيتهم ... وقلت أن خديوينا سليمان
فلو مكثت غير بعيد، واجتلبت خيل المعتصم والوليد، واستعديت بذي القرنين، واستنجدت من وراء الصدفين. ونشرت أبا مسلم الخراساني، وخرجت في رايات السفياني، وبعثت بالرياح السوافي، ورميت بثالثة الأثافي، ورصدت الكواكب، وميزت بين المغلوب والغالب، وزحفت في جنود صفين، وقاتلت إلى يوم الدين، لما كنت ظفرت على حشراتها بالفتوح، ولو عمرت عمر نوح، فأنا كنا في مصادمة الأمطار، ومزاحمة الأقدار. . . . .)
وبعد، فهذه صورة من أسلوب الشاعر المجيد إبراهيم بك مرزوق المصري في الشعر والنثر، أعرضها على قراء الرسالة علها تجد من أدبائنا من يولي أمثال هذا الشاعر المجيد، ما يستحق من ذكر وتخليد
القاهرة
صلاح الدين الوداعي(59/31)
الحركة الفكرية لشباب العرب
خبا بريق الثقافة العربية بعد أن بلغت أوجها في القرون الوسطى عقب غارة التتار على البلاد العربية.
وقد قال جوستاف لوبون: (إن الكلام على الشعب العربي وتاريخه وتألقه وعظمة مدنيته لهو كلام عن شعب كان أكثر من أضاف إلى ميراث المدنية وزاد في ثروة الإنسانية العامة
والمدنية العربية آخر هدية قدمها الشرق إلى الغرب وأكبر مدنيات الشرق أهمية، لأنها نتاج كثير منها، وقد تركت في محيط العلم آثاراً لا تمحى)
حتى إذاكان القرن الثامن عشر وهو عهد تقسيم الإمبراطورية العربية التي طبقت كل البلاد العربية وآسيا الصغرى والعجم والهندستان ومصر وشمال أفريقية وكل أسبانيا تقريباً، عانت الثقافة العربية عهداً طويلاً من الجمود بله القهقري.
فقد غلت سيادة الأجانب ملكات الذكاء التي أوتيها العرب، وقتلت حبهم الشديد للمعرفة، وأضعفت قوتهم المبدعة، حتى إذا كان عام 1906 قامت نخبة تسعى إلى إحياء الفكرة العربية وتجديد ثقافتها القديمة. فكانت هذه الحركة الذهنية، هي على أشد ما تكون من المضاء في سوريا، القبس الأول الذي سطع منه عهد الإحياء العربي الجديد، مما كان له دوي في باقي البلاد العربية وصدى عميق في نفوس الشعب الراسف في الجهالة والجمود.
ولقد واجهت هذه اليقظة الذهنية الحركة السياسية التي يقوم بها فتيان الأتراك من أجل (تتريك) كل العناصر غير التركية في إمبراطوريتهم، فكان من أثر هذه السياسة انبثاق وطنية الشبيبة العربية، وبذلك نشأت وطنيتان متعارضتان: العربية والتركية، يقود كلاً منهما شباب الشعبين المثقفون، فنجم عن هذا التعارض بينهما حركة عنيفة أدت إلى تكوين جمعيات تطالب ببعض الحقوق والإصلاح وعلى رأسها شباب الضباط والطلبة الذين تلقوا علومهم في القسطنطينية مما جعل الجامعات مركزاً لوحدة الشباب وألفته.
وصارت وعود الإصلاح التي وعدها الترك لتحسين حال العرب ومن بينها إدخال اللغة العربية في مدارس الأقاليم هباء، فلم يتورع الأتراك عن استعمال كل وسيلة للضغط ومقاومة هذه الكتلة العربية المفكرة مما ألجأ معظمها إلى النزوح إلى مصر التي غدت مثابة للثقافة العربية.
ولقد كان من جراء هذا الخطر الأجنبي توثيق عرى الاتحاد بين شباب العرب الذين(59/32)
استشهد منهم طائفة كبيرة على مشانق الأتراك في سبيل المسألة العربية ومثلهم الأعلى
ولم يكن لدى هذه الشبيبة إلى حين قيام الحرب العالمية إلا بعض المدارس الحكومية تلقن العلوم باللغة التركية وغير المدارس الأولية الخاصة لتتلقى فيها لغتها وآدابها. وأما العلوم العالية فلم يكن هناك سبيل إليها إلا القسطنطينية أو أوربا أو الأزهر
ولما كانت الدراسة العالية غير ميسورة إذن إلا للموسرين، والحكومة التركية لا تكترث لمصير الشباب العربي أضطر هؤلاء بمواردهم الخاصة إلى الخروج من هوة الجهل التي ألقوا فيها عمداً حتى يسلس قيادهم ويسهل إخضاعهم، إذ كانت سياسة الأتراك نحو العرب تركهم ضلالاً في ظلام الجهل
وفي خلال سني الحرب العصيبة قاد الشباب العربي حركة العصيان ضد المستعمر وانحازوا إلى الحلفاء الذين وعدوهم باستقلال البلاد بعد النصر، فهجر شباب الضباط والطلبة كلياتهم واستبدلوا بأقلامهم وكتبهم البنادق لإنقاذ ثقافتهم ونصرة حقهم بالمهج والدماء
ولشد ما كانت دهشة العرب بعد الحرب! أملوا من الحلفاء استقلال بلادهم بالوعود المأخوذة فإذا بهم يقسمونها إلى سوريا وفلسطين والعراق، لتكون تحت انتداب إنجلترا وفرنسا، دون أن يكون لرغبات العرب ومصالحهم حساب، وإذا بالعرب يقاسون بعد الحرب كما قاسوا قبلها عنت الحكم الأجنبي وظلمه، وكان لهذا التقسيم السياسي أوخم العواقب في تكوين العقلية العربية للجيل العربي بعد الحرب، فإن الطرق التعليمية المختلطة التي تمارس في هذه البلاد ترمي إلى تطورات متنافرة وعقليات متعارضة لتكسر من حدة الثقافة العربية والوحدة الوطنية مما عانت منه البلاد كثيراً ولاسيما سوريا
ثم كان من توزيع التعليم بين مدارس الحكومة الرسمية والمدارس الأجنبية الخاصة، كمدارس الفرير، والفرنسيسكان والجزويت، والاتحاد الإسرائيلي، والمدارس الأمريكية، وجميعها لا تخضع لأية رقابة، ومن تباين الطرق التعليمية المختلفة فيها، والتنافس القوي الأعمى بينها، شر النتائج مما لم يكن يقع غبنه وغرمه إلا على الشباب العربي وحده، فأفسدت الاتجاهات المختلفة والأهواء المتباينة والمؤثرات المتعددة روح الشباب، وباعدت بين بعضهم وبعض فأصبحوا كأنهم غرباء لا يجمع بينهم تفاهم ولا تناسق، فتردوا بذلك في عذاب أدبي مروع، وفوضى فكرية فظيعة، وجهلوا أو لم يعرفوا إلا لماماً أدبهم الوطني(59/33)
وتاريخ أسلافهم الباهر
وإن الشبيبة التي لا تتغذى ثقافتها الوطنية بالإعجاب بالماضي والزهو بالأسلاف، لا يمكن أن تتعاون وتعمل في سبيل رفعة الوطن فلقد لاحظنا أن طلبة مدارس الإرساليات مثلاً وجلهم من المسيحيين قد خلوا تماماً من الوطنية وحل مكانها التعصب الديني، وهذه حالة نفسية تساعدهم على قبول الاستعمار الأجنبي وتباعد بينهم وبين إخوانهم المسلمين.
على أن من الحوادث السعيدة والجديرة بالذكر أن نخبة من مفكري المسيحيين قد ألقوا منذ سنين نير الرق الأدبي، وبرئوا من الريبة التي خامرت النفوس ومدوا يد المودة إلى إخوانهم المسلمين.
أما تنظيم المدارس الحكومية فقد تم وفقاً للنظام الإنجليزي في فلسطين والعراق، والنظام الفرنسي في سوريا، دون أن يتفق مع حاجات البلاد.
وقد أنشأت هذه الحالة مسألة غاية في الدقة والخطورة، وهي مسألة توحيد التعليم القائم على الثقافة الوطنية، وتحقيق هذه السياسة التعليمية هو الوسيلة الوحيدة السريعة لإنضاج ذكاء الشباب العربي وتحقيق الوحدة مهما كان وسطها أو دينها. فتوحيد التعليم ينتج وحدة الفهم والتفكير والإرادة، وهي العوامل الثلاثة الأساسية اللازمة لتخلق في الشباب قوة التعاون على توحيد الجهود وإنهاض البلاد مادياً وأدبياً.
ولقد اشتدت الضرورة إلى وحدة التعليم بازدياد عدد الشباب المتعطش للدراسة، فإن عدد المقبلين على التعليم ازداد عقب الحرب كثيراً من الذكور والإناث على السواء. ومع ذلك فإن المدارس الرسمية أضيق من أن تسع الطلاب، مع أنه ليس للبلاد العربية مصروفات حربية، وميزانيتها تسمح بفتح مدارس جديدة وعلى الأخص في القرى كما تسمح بتحسين المدارس الحالية على وجه السرعة، وفي نظرنا أن هذا الواجب هو من أول الواجبات الملقاة على عاتق الحلفاء. فلماذا أهمل؟
ومن جهة أخرى، فإن المتعلمين يعانون الآن أزمة شديدة في جميع البلاد العربية لما يصادفونها من العقبات في المهن الحرة، إذ لا يجدون بعد سنين طويلة من الدراسة الطويلة الشاقة في أوربا أو في الوطن ما يحتاجونه من عوامل الكمال بعد أن سدت في وجوههم كل طرق الحياة أو ألقيت فيها العراقيل، دون أن تفكر أية حكومة في معونتهم وتمهيد(59/34)
الطريق لإنماء معارفهم وجني ثمار عملهم، بل أنهم أبعدوا عمداً عن وظائف الدولة وجميع الأعمال المتصلة بها تقريباً إذ يشغلها طبعاً رجال الانتداب، فرنسيون وإنجليز، وكل ذنبهم أنهم تنكروا لنظام الانتداب ففرت منهم معظم وظائف الإدارة في بلادهم، وحرموا من مورد عدل مشروع.
وهاكم مثلاً لتوضيح ما تقدم: إن بمجلس النواب كثيرين أميين، على حين أن البلاد تزخر بالمتعلمين الذين لا يبغون إلا أن يخدموا بلادهم بمعارفهم، وتفسير هذا الأمر أن حكومة الانتداب ترغب في توطيد مركزها بسهولة.
أما الوظائف القليلة التي شغلوها بعد لأي فلا تتناسب مع مستوى تعليمهم، والحاجة هي التي أرغمتهم على قبول وظائف أبعدتهم تماماً عما تخصصوا له، ولطالما خضعوا لرؤساء من رجال الانتداب لا يحملون أية درجة جامعية
وكذلك كانوا في ميادين الحياة الأخرى، تميز الأجانب عليهم وارتفعوا على أكتافهم بفضل سلطات الاحتلال
ولا ينبغي أن ننسى أن بالبلاد العربية أراضي شاسعة ما تزال بكراً كان يمكن أن تقوم بها مشروعات زراعية وصناعية فتشغل كل هذه الطبقة العاطلة
ولقد كان لهذه الأزمة الفكرية أثر نفسي سيئ في الشباب فألقوا نفوسهم دون وعي في أكثر الدراسات قدرة على تأمين مكسب متواضع سريع مما أدى إلى وقف النضوج الذهني وقتل الطموح
وأحس الجميع بهذه الأدوار المادية والفوضى الذهنية المنتشرة فإذا أضفنا إلى هذه الحالة المعنوية ما يعانيه الشباب من الإذلال والامتهان المستمرين فهمنا بجلاء سبب جنوحه عن غرضه الأصلي بالنسبة له ولبلاده واندفاعه بحرارة وحماسة نحو السياسة لكفاح الاستعمار الأجنبي الذي سبب كل هذه الأدواء، وهو لم يكن قد أدرك إلا بعد سنين طويلة أن حاله تزداد سوءاً، وأن بلاده تشرف على الهلاك، وأن الضرر لابد أن يقتلع من أساسه لكنه إزاء الصعوبات الحاضرة والانقلابات الاجتماعية المتوالية ظل مغلولاً محروماً من كل وسائل الكفاح فالحاضر يفلت منه إذ لا يعاونه نظام البلاد الاقتصادي والسياسي، والمستقبل لا يمثل له إلا نذيراً من الإبهام والقلق المخيف(59/35)
ولطالما شل المستعمرون المتعاقبون على البلاد الحركة الفكرية فيها فقاست منهم الأمرين
واليوم قد نهضت هذه الحركة برغم كل القيود، وأحس الشباب الذي يقاسي شر هذه الأدواء هذه الحاجة وترسم ذلك المثل، فهبت ريح من الوطنية الحارة تقوض كل الحواجز الزائفة التي وضعتها القوى الأجنبية، وتدعم أواصر هذا الشباب الذي وحد بينه التاريخ والعادات واللغة
وإن هذه الوطنية لتتغلغل اليوم بقوة في الطبقات الدنيا من هذا الشعب الذي قوته ذكريات ضحايا الحكم التركي ونظام الانتداب ودفعته لإنقاذ ثقافته وحريته
وقد بدت في هذه الأيام نفسية عجيبة في روح هذا الشعب، هي التعطش لتعليم الأبناء حتى يصبحوا قادرين على نيل الاستقلال وتتجه الحركة الفكرية بالشباب العربي نحو إحياء مجد أورشليم وبغداد القديم من الوجهة الذهنية والسياسية، وستستعين في ثقافتها بكل العوامل الضرورية لارتقائها روحياً وسياسياً.
(آسيا الفتاة)
أ. الجابري(59/36)
فصول مدرسية في الأدب الدرامي
الرواية المسرحية في التاريخ والفن
بقلم أحمد حسن الزيات
صفات العمل
من صفات العمل الأساسية الوحدة، والسرعة، وتوجيه الأثر إلى الذهن
فوحدة العمل هي اتحاد الأجزاء المختلفة التي يتركب منها العمل الروائي على إيجاد حادث واحد أو منعه. ولا يتحقق ذلك إلا بحصر الاهتمام كله في بطل الرواية، وجعل هذا البطل في خطر واحد لا يختلف من ابتداء التمثيل إلى انتهائه. لأن الخطر إذا زال انتهى العمل، والبطل إذا وقع في خطر غير الأول ابتدأ بوقوعه في عمل آخر. على أن العمل قد يكون مركباً متشعباً تملؤه التغيرات وتعوقه المفاجآت ولا يؤثر شيء من ذلك في وحدته. إذ يكفي أن تكون هذه التفصيلات وتلك الاعتراضات مسوقة إلى غرض واحد، موصلة إلى نتيجة واحدة. وقد يتسامحون أحياناً في تطبيق شرط الوحدة، فيكتفون في تحققه بأن يتحد الخلق الفعال في الرواية، فيجيزون أن تتنوع المواقف وتتعدد الحوادث ما دامت تدور كلها حول خلق واحد تحلله وتفصله
الوحدات الثلاث
ولقد كان القدماء من أشياع المذهب الأتباعي في فرنسا أثناء القرن السبع عشر يشترطون في العمل غير هذه الوحدةوحدتين أخريين: هما وحدة المكان، ووحدة الزمان، ويسمون ذلك قانون الوحدات الثلاث، وظلوا يطبقونه في غير لين ولا هوادة حتى ظهر المذهب الأبتداعي في صدر القرن التاسع عشر فهاجم هذا القانون فيما هاجم من قوانين القدماء. وكان من أثر هذا النضال العنيف بين أنصار المذهبين أن تجوز الأدباء في تطبيقه، وأغضوا النظر قليلا عن تحقيقه، فذهب ما يشينه من تكلف وتعسف، وبقي ما يزينه من دقة وتحديد. فماذا كانوا يريدون بوحدتي المكان والزمان؟ كانوا يريدون بوحدة المكان أن يفرض وقوع العمل كله في مكان واحد لا يتعداه، فإذا وقع في مدينة أو معسكر أو طابق بيت ظل ذلك المنظر واحداً في كل فصل من فصول الرواية من بدأ التمثيل وختامه. وإن(59/37)
اقتضى الحال أن يعمل أحد الأشخاص عملاً يحتاج إلى نقلة أو رحلة عمله خارج المسرح ثم نبأ به المشاهدين في وقته المناسب. وكانوا يريدون بوحدة الزمان ألا يستغرق العمل الروائي أكثر من أربعة وعشرين أو ست وثلاثين ساعة. وكان أرسططاليس يحتم ألا يتجاوز هذا الزمن دورة الشمس. وعلتهم في اشتراط هذه الوحدات الثلاث مجاراة السلف من الإغريق في سلوك هذه الطريقة، والمحافظة على الإمكانية بمقاربة الحقيقة؛ فإن الذوق السليم يقتضي أن ما يمثل في ثلاث ساعات أو أربع يكون قد حدث حقيقة أو فرضا في زمن يسير ومكان واحد. ولكن المحدثين يقولون لماذا تستطيع المخيلة أن تتصور الحادث لذي أتت عليه القرون حاضراً، ولا تستطيع أن تتعقب الحادث من مكان إلى آخر؟ وإذا قبلت مخيلاتنا أن يمثل لها في ساعة أو ساعتين ما لا يحصل إلا في يوم وليلة، فكيف ترفض أن يمتد العمل إلى ما وراء ذلك؟
الواقع أن الكتاب يتوسعون في هذه القاعدة حتى القدماء منهم ما داموا محتفظين بالإمكانية ووحدة الجاذبية. وقد أصبح اليوم تغيير المكان وتطويل الزمان من الأمور الميسورة على المسرح الحديث، فعالجوا الأول بإرخاء الستار هنيهة ريثما ينتقل الممثلون إلى مكان آخر - والستار ميزة لم تكن لمسرح القدماء من قبل - وعالجوا الثاني بتقسيم الرواية إلى فصول يفرضون مرور الزمن الذي يريدونه في الفترات القصيرة التي تتخللها. على أن هذا الزمن وإن يكن غير محدود لا ينبغي أن يطول حتى يخرج عن حدود الإمكان، فلا يجوز مثلاً أن يكون البطل صغيراً في الفصل الأول ثم يدركه المشيب في الفصل الأخير.
أما السرعة فيجب أن يكون العمل في الرواية أسرع منه في الملحمة، لأن الملحمة مسرحها الطبيعة، ومرماها ذهن القارئ، فهي تحتمل من التطويل والتفصيل والاستطراد والوصف ما لا تحتمله الرواية لضيق مسرحها وقرب مداها. فهي لابد أن تبدأ في عنفوان العمل وعلى مقربة من الحل، لأن طبيعتها من قوة الحركة وشدة الاندفاع، وما تحدثه في نفس المشاهد من شدة القلق وقوة الانجذاب، تأبى الإسراف في خلق الظروف وابتكار الوسائل، فلا تسيغها إلا بقدر الحاجة الملزمة. فالرواية ولا سيما المأساة، سيل يقطع السدود ويقتحم الحواجز، ولكن الملحمة نهر فياض ينحدر هادئاً طليقاً إلى مصبه، فيطول مجراه بكثرة منعطفاته وتعدد محانيه. وإذا امتازت الملحمة بالتنوع والغزارة والفخامة، امتازت المأساة(59/38)
بالسرعة والتأثير والحرارة.
بقيت الصفة الثالثة وهي توجيه الأثر إلى الذهن لا إلى الحواس، لأن المسرح إذا غلب التأثير في الجسم على التأثير في الفكر كان أقرب إلى الملعب وهو مظهر العجائب البدنية من الحيوان المروض والإنسان الممرن، وكان جزاءه أن يفقد سلطانه ومكانه في قليل من الزمن. وعلة ذلك أن التأثير المادي محدود متشابه، فلا يلبث الناس أن ترى أعينهم مداه وتتعود آذانهم صداه، ويدركوا أن ما قرع أسماعهم أول مرة من أصوات الألم المروعة، وأنات الاحتضار الموجعة، إنما هو صوت واحد متكرر الأثر، ويؤول الأمر بالمشاهدين والمؤلفين حتماً إلى أن يفقدوا التأثر منه والتأثير به لتشابه موضوعاته وتكرر مؤثراته. من أجل ذلك لا ترى على المسرح تفاصيل الحوادث المرعبة كالقتل مثلاً، بل يفرض حدوثها في ظاهره ثم تلقى إلى المشاهد على لسان شخص من أشخاص الرواية. ومسرح الإغريق نموذج المسارح في هذه السبيل. أما المسرح الروماني فقد دعاه غلظ الطبع وجفاء الشعور إلى أن يسمع النظارة أنين مصارعي الثيران وهم في سياق الموت، ويريهم دماء الضحايا وأشلاء القتلى مبعثرة على أرضه، فتأخر الفن الروائي عند الرومان من جراء ذلك كثيراً.
يتبع
(الزيات)(59/39)
في الأدب العربي
كثير عزة
مدى التطور في شعره، خلقه وخلقه، شيعي وشاعر الأمويين،
عشقه
بقلم عبد الحليم عباسي
يعجبك في الأدب العربي القديم ظاهرة جديرة بالبحث العميق، وهي شيوع هذا الأدب الغنائي، فالشعر الجاهلي الذي وصل إلينا لا يتعدى هذا النوع في الأعم، فهو غنائي في لفظه، وفي موضوعه، بينا تجده في الأمم ذوات الأدب لم يسم إلى هذا الضرب إلا بعد قيام الدولة وازدهار النهضة. . . فالشعر اليوناني لم يصل إلى هذه المرتبة إلا بعد أن اشتد أمرهم وعظم سلطانهم، فأخذوا يقيمون المستعمرات على شواطئ البحرين، وكذلك الشأن في الأمم الأخرى، فهو عند الرومان مثلاً لم تقع عليه قرائح الشعراء إلا بعد قيام الدولة ببضعة قرون، وهو في الأمم الأوربية الحاضرة كذلك قد ساوق النهضات وقيام الدول. ويجيء على الضد من ذلك في الأدب العربي، فقد نهض وما برح العرب يهيمون في أوديتهم القاحلة، لا يلم شعثهم بأس الدولة، ولا يحكم أمرهم شرف الملك؛ ولعل البحث في علة هذا يعود إلى ضرورة البحث في خصائص الخيالين: الآري والسامي، وإلى تفهم المزاج العربي الأصيل، مما نرجئه إلى وقت يكون أكثر ملاءمة من هذا الوقت الذي نخصصه للبحث عن كثير، وحسبنا هنا نشير إلى ذلك، وأن نشير إلى أن من هذا الشعر الغنائي ما يتصل بكل نفس، ويخلد على وجه الدهر، وهو الشعر الذي ينبعث من نفس الشاعر، لا يبتغي من ورائه غرضاً، وإنما يقوله إرضاء لرغبة الجمال والفن في نفسه، ومنه الغزل والحنين، وهو شائع في الأدب العربي شيوعاً كبيراً، استطاع معه أن يلون خيالهم، وأساليب تفكيرهم، وأن يجعل الرقة في الحديث والحوار، والبكاء على الدمن من أظهر صفات العرب. . ومن هؤلاء الشعراء الذين زادوا في ذخيرة الأدب الوجداني كثير بن أبي جمعة.
مدى التطور في شعره(59/40)
كانت الحقبة التي أعقبت عاصفة الفتح الإسلامي المجتاحة، والتي دوخت بلاد فارس، وأدخلت في حوزة المسلمين كثيراً من الأيالات الرومية، حقبة فيها شيء من الهدوء والاستقرار على الأقل - في الأطراف النائية عن مقر الملك الأموي، وكان من ذلك، ومن هذا الرخاء الذي اخذ يمتد بما هيأ له الفتح الإسلامي من فيء يفيض عن الحاجة، أضف إلى هدا ما اقتضته سياسة الملك من ضرورة مشايعة الشعر والأخذ بناصره أن نهض الشعر، وأزدهر سلطانه، وقامت له مدارس كثيرة من أشهرها هذه المدرسة التي لم يقتصر التطور على تغيير أسلوبها اللفظي، وإنما تناول مع القالب الشعري الفكرة، وكثير أقرب إلى هذه المدرسة منه إلى أية مدرسة أخرى. . .
وقد غايرت هذه المدرسة الأنماط الشعرية المتواضع عليها من القديم، فقد أنشأت القصائد يقصد بها النسيب فحسب، ويقصد بها موضوعات غير هذه المعروفة قديماً من الهجو والمدح والاستجداء.
وكثير وأن يكن من هذه المدرسة إلا أن العوامل والمؤثرات التي أثرت في نفوس أصحابها لم تكن عميقة الأثر في نفسه، فقد مدح وهجا، وكل ذلك بلفظ شيق سمح صقلته الحضارة الإسلامية التي بدأت تتفتح، وباعدت بينه وبين وعورة الأسلوب الجاهلي، وليس لذلك من تعليل غير أن النفسية العربية لم تتطور بعد التطور كله، ولم يحن لهذا التمازج الهين مع الثقافات والأمم الذي أخذ يظهر، أن يبدو عنيفاً. . كما أن كثيراً لم يك له هذا الحسب الباذخ والغناء الفاضح، الذي للعرجي وابن أبي ربيعة، فالزمن يقسره على المدح ويضطره إلى الهجاء، ليأخذ الجوائز والهبات، ويستفيد من موالاة هذه العصبيات التي أراد القابضون على مقاليد الأمر انبعاثها حية، ليطرد لهم الملك. . بعد أن جاهد الإسلام في إخفائها زمناً طويلاً. . .
ولكنه إذ يمدح يجانب بعض الشيء هذا المثل الذي يحتذيه شعراء العرب، وهو النمط الجاهلي. . فهو يضيف إلى رقته شيئاً من هذه الصور الوضاءة، التي بعثتها عيشة الهدوء والاستقرار.
إذا ما أراد الغزو لم تثن همه ... حصان عليها عقد در يزينها
نهته فلما لم تر النهي نافعاً ... بكت فبكى مما شجاها قطينها(59/41)
وهو يجيد بصفة خاصة مدح الملوك إجادة منقطعة النظير، حازت إعجاب معاصريه حتى كانوا يرون من أبرز صفاته القدرة على ذلك. فلا غرو بعد هذا إن كان أثراً عند ملوك بني أمية يعلمون أبناءهم شعره:
خلقه وخلقه
عن الوقاصي قالت: رأيت كثيراً فمن حدثك أنه يزيد على ثلاثة أشبار فقد كذب، وقد تشاجر هو والشاعر الحزين، فقام كثير وحمل على الحزين ولكزه، فحمله الحزين في يده مثل الكرة، ورمى به الأرض. . وهو إلى ذلك دميم أحمر، أما أخلاقه فكان شديد التيه والكبر، كثير العجب بنفسه، تقع من ذلك على نوادر مضحكة. فمن ذلك أن بعضاً من فتيان قريش كانوا يتحدثون على مسمع منه، بأن كثيراً من تيهه لا يلتفت إلى ورائه، ثم يتبعونه بمن يسحب رداءه فلا يلتفت أبداً، وقد عرف عنه أنه أحمق وفيه غفلة، ولسنا نشك في ذلك، ولكننا نشك في عامة هذه الروايات التي تقص علينا نوادر حمقه، والتي توصله من الغفلة والانتكاس في العقل حداً يصعب تصوره، في مثل من هو مثله في قوة شاعريته. . فمن ذلك أنه قال لعمته مرة: أتدرين من أنا؟ فقالت: نعم، أنت فلان بن فلان، فقال: لا، وإنما أنا يونس بن متي!. . . وقال لأصحابه وهو في مأدبة الموت: سترونني بعد أربعين ليلة طالعاً على فرس عتيق من شعاب هذا الوادي. . وقد كان له إلى ذلك آراء في الرجعة والتناسخ، وهذه من العوامل التي جنت عليه في عامة هذه الروايات، فما عرف الناس منه هذا حتى راحوا يختلقون ويضيفون إليه شتى الروايات التي تؤيد مزاعمهم انتقاما من تيهه وكبره، ثم يتعاقب الزمن، فتصبح هذه المزاعم حقائق ثابتة يتناولها الكتاب دون ما نظر ولا تمحيص، وليس لدينا ما يقوي هذا الشك في صدق هذه الروايات، غير ما نلمحه في سيرة كثير من أنه كان محاطاً بزمرة حبب إليها التندر والفكاهة، ومن أولى بهما من هذا القزم الذاهب بنفسه. . من ذلك أن أبا هاشم عبد الله محمد بن علي وضع عليه من يأتيه بأخباره، فكان يلقاه فيحدثه بما كان منه في خلال يومه، وكثير يعجب من هذا، حتى جاءه يوماً بكلام جرى بينه وبين آخر، وقال له: لقد جرى منك اليوم كيت وكيت. . . فقال كثير: أشهد أنك رسول الله. . .
فمن هنا نرى مبلغ ولوع الناس بالعبث به حتى كانوا يرصدون له بمن كان يأتيهم بأنبائه،(59/42)
لا يسقط منها حرفاً. .
وزاد في الطين بلة أنه كان دعي النسب إلى قريش، وأكثر الرواة يلحقونه بخزاعة، ولكنه يأبى إلا أن يكون من كنانة قريش، ويأبى إلا أن يدل بهذا النسب المختلق على القرشيين أنفسهم، وإذا عوتب في ذلك وأعوزته الحجة قال: لديع النسب في قريش خير من صريحه في غيرها من القبائل. ومن هنا ندرك مبلغ ما انطوت عليه نفسه من حماقة، وما ركب فيه من تبجح وإدعاء.
على أننا إذا شككنا في كثرة هذه الروايات التي تمثل حمقه وغفلته، فلا نشك في انه كان دميماً إلى حد البشاعة، وكان تيهاً بنفسه، وهذا ما يكفي لصد لناس عنه واستثقالهم لظله.
شيعي وشاعر الدولة
من المعروف عن كثير أنه كان متشيعاً مغالياً في التشيع، وكان ملوك بني أمية يعلمون ذلك، ولكنهم يحسنون مع هذا وفادته، بل يذهبون إلى أبعد من هذا في إكرامه، فينعتونه بشاعر الدولة، وتعلل الروايات الإسلامية هذا بلطف مدخل كثير وجلاله في أعين الخلفاء، وهي قولة ليس فيها سداد منطق ولا عمق بحث. . فأين لطف المدخل عند هذا البغيض الروح؟ وأين هذا الجلال عند من لا يزيد طوله على ثلاثة أشبار ومن هو دعي النسب في قريش؟. . ولا سيما إذا علمنا بأن صدر الدولة الأموية لم يكن يتسع للشيعة، فكم أخذتهم بأساليب العنف والقوة، وكم صرعت من جلة الناس، وما حوادث زياد بن سمية وتنقيبه عنهم تحت كل حجر ببعيدة المدى، بل هذا الحجاج في العراق، يقتفي آثارهم ويأخذهم هبراً بالسيف وبعجاً بالرماح.
إذن فلا بد من أن يكون في الأمر شيء غير هذا الجلال المزعوم، ولطف المدخل الموهوم، مكن لكثير من أن يحتمله الأمويون، وأن يستحلفه الخلفاء بمجالسهم بعلي؛ إذا ما أرادوا أن يصدقهم بخبر دون أن يروا في ذلك غضاضة.
ولنبحث بإيجاز في طبيعة هذا التشيع الذي كان يعتنقه كثير فلعل فيه العلة، وما نخال إلا ذلك. . .
نشأت الشيعية فكرة بسيطة، تتلخص في أن علياً وأحفاده أحق بالخلافة من كل من عداهم، ثم أخذت تتطور هذه الفكرة حتى اصبح الشيعيون في هذه لفترة التي نكتب عنها فرقاً(59/43)
متباينة لا يستهان بها. . .
وأشهر هذه الفرق فرقتا الزيدية والأمامية، ومن هذه الأخيرة تتشعب فرق متعددة يختلفون في أشخاص الأئمة، منها هذه التي تنتظر خروج محمد بن الحنفية. وقد كان من أتباعها شاعرنا كثير، فهو يمدح هذا الأمام وينعت أحفاد علي بالأنبياء الصغار، وليس في طبيعة هذا التشيع ما يضير الأمويين إذ هو لا يتعرض للقضية الكبرى وهي قضية الملك والخلافة، وأن أحفاد علي أحق به من آل مروان، فقد ألهته هذه الأمور أو ألهى بها نفسه - لا ندري - عن القضية الأساسية الكبرى كما أسلفنا.
اقر الله عيني إذ دعاني ... أمين الله يلطفُ بالسؤال
وأثنى في هواي عليّ خيراً ... ويسأل عن بني وكيف حالي
هو المهدي خبرناه حق ... أخو الأحبار في الحقب الخوالي
وسبط لا تراه العين حتى ... يقود الخيل يقدمها اللواء
تَغَيَّب لا يرى عنهم زماناً ... برضوى عنده عسل وماء
فهل ترى في هذا النوع من التشيع ضيراً على الأمويين؟ بل نزعم أكثر من هذا وهو أن الأمويون ما كانوا ليروا حرجاً في أن يشيع هذا النوع، ليمدوا أسباب الخلف بين فرق الشيعة من جهة، وليلهوهم من جهة ثانية، وما عليهم أن قعدت بهم هممهم، ينتظرون هذا الذي يقود الخيل يقدمها اللواء.
فلا جرم أن لم يأبهوا لتشيع كثير، وما عليهم وهو يجيد مدح الملوك، وقد تغلغل حب القرشيين في صميمه، يحب من والاهم، ويعادي من عاداهم، أن اتخذوه شاعرهم يقدمونه ويروون شعره، وهو بعد الشاعر البعيد الصيت، المستفيض الشهرة.
عشقه
يشك بعض الرواة، في أن كثير كان صادق العشق لعزة، ويدللون على ذلك بروايات نرى فيها اثر الاختلاف والتكلف، فمن ذلك أن كثير تبع مرة بثينة وقال لها متغزلاً:
رمتني على عمد بثينة بعدما ... تولى شبابي وارجحن شبابها
فالتفت فرأى وراءه عزة فاستدرك وقال:
ولكنما ترمين نفساً مريضة ... لعزة منها صفوها ولبابها(59/44)
وهكذا دواليك من هذه المزاعم التي يلحظ فيها الإنسان أثر الصنعة، ولا نعرف من أين غلب على الرواة هذا الظن، لعلهم ظنوه قلد جميلاً في غزله، دون أن يعرف قلبه هذا الحب المبرح. . والذي نعتقده ونحن ندرس شعره الذي تركه في عزة، فنرى اللوعة وبرح الهوى ووقدة العاطفة، أنه أحب عزة حباً قوياً جارفاً كما يقولون، وكان من أثر هذا الحب أن زفر بهذا الشعر الذي يحمل نجيع القلب، وذوب العاطفة؛ وهاك ما قاله فيها لما أخرجت إلى مصر، ولك أن تحكم:
وقال خليلي مالها إذ لقيتها ... غداة السنا فيها عليك وجوم
فقلت له إن المودة بيننا ... على غير فحش والصفا قديم
وإني وإن أعرضت عنها تجلداً ... على العهد فيما بيننا لمقيم
وإن زماناً فرق الدهر بيننا ... وبينكم في صرفه لمشوم
ولكن أنى لهذا الحب أن يدوم وقد فترت دواعيه. فمن الرواة من يشك في أن كثير رأى عزة واجتمع بها، والذي صح عندنا أنه رآها، ولكن في مرات معدودة، وأنها لم تكن تبادله الحب قوياً كحب بثينة لجميل بن معمر، فمن هنا مال لغيرها وقصد القصائد في أم الحويرث، وأخرى أسمها ظلامة، والمرء إذ يطالع شعره في هاتين، يراه بارد العاطفة ركيك الصنعة.
تقطع من ظلامة الوصل أجمع ... أخيراً على أن لم يك الوصل ينفع
وقس هذا بهذين البيتين يقولهما في عزة:
واجمع هجراناً لأسماء إن دنت ... بها الدار لا من زهده في وصالها
فإن شطحت يوماً بكيت وإن دنت ... تذللت واستكثرتها باعتزالها
وأخيراً فشعره في عزة هو الذي زاد في ذخيرة الأدب الوجداني، ومحال أن يكون مجرد صياغة وصناعة.
عمان
عبد الحليم عباسي(59/45)
من طرائف الشعر
إلى شبان المسلمين
للشاعر الحاج محمد الهراوي
قل للشباب المسلمين تحيةً ... من سلم ثبت إيمانه
ويزيده في الله حُسنَ عقيدة ... ما جَّره الإلحادُ من خسرانه
الغربُ مجلبة الخسار جميعهِ ... والشرقُ مفتتنٌ به عن شَانه
متودَدٌ، والغربُ لم يأبه له ... لا في مودته ولا شناَنه
ماذا من الغربيِّ في إحسانه ... والشر غلاَّ بٌ على إحسانه
ما زال يرمي الشرقَ من نيرانه ... حتى تردَّى في لظَى نيرانه
في كل يوم معقدٌ لِلجَانه ... والمشكلاتُ تئزُّ تحت لجانه
لو أخلص الغربيُّ في نيَّاته ... ما ثَارت النيرانُ من بركانه
ما باله، والعدل من ألحانه ... تبكي العدالةُ في صدَى ألحانه
لو يحفظُ الشرقيُّ طابعَ قومه ... لم يطوِهِ الغربيُّ في سلطانه
أو كان يزهدُ في الحياةِ لعزِّه ... ما هان بعد العزِّ في أوطانه
أو كان متبعاً لآي كتابه ... لَمضَي، وهذا الدهرُ طوعَ بنانه
لكن سَبَتْهُ حضارةُ غربيةٌ ... ألقى إلى مضمارِها بعنانه
أين الغزاةُ الفاتحون وأين ما ... فتحت سيوفُ الله من بُلدانه
أين السراةُ الخيِّرون وأين ما ... شادوا لدينِ اللِه من بُنيانه
أين البيوتُ العامراتُ بأهلها ... سل كلَّ بيتٍ دالَ من سكانه
والأزهرُ المعمورُ أين مكانُه؟ ... سل عنه: أين، وأنت فوقَ مكانه
فرِحوا وهم يبنون كلياته ... فليفرحوا بالطوب تحت دهانه
من يوم أن نقلوه عن جُدرانه ... قد طار سر الله عن جدرانه
فأسأل عن الأحياءِ من علمائه ... والفتيةِ الأطهار من شبانه
المتَّقينَ اللَه حقَّ تقُاتِه ... الحافظِين لدينِهم وكياَنه
العالِميِن بشرعة وكتَابِه ... العامِلين بروحه وبَيَانه(59/46)
خرجوا وحتى الزي لم يبقوا لَه ... ظِلاَّ لجبته ولا قفطانه
مولاي يا ملكَ البلادِ وذخرَها ... وملاذَ هذا الدينِ عند هوانه
مصرٌ بأزهرها القديمِ كما بدا ... بالطابع الموروث منذ زمانه
فأعِدْ إليه عهدَه وأستَبْقِهِ ... تدفعْ به الإلحادَ في عُدوانه
أدعو شبابَ الشرق من أجناسه ... وعلى اختلاف الشرق في أديانه
أدعو لجامعةٍ تضمُّ شَتاتَهُ ... من صينِهِ الأقصى إلى تطوانه
إن لم يكن في الدين جامعة له ... كبرى، ففي آلامه ولسانِهِ
ما بالُنا والغربُ غربٌ دائماً ... في ظِلَّهِ نمضي وتحت ضمانه
فخذوا سبيل الدين فَهْوَ كفيلكم ... ليردَّ سيلَ الغرب عن طُغيانه
والدين للدّنيا وللأخرى معاً ... وسعادة الدارَيْنِ في قرآنِهِ(59/47)
أهذه الأرض؟
للأستاذ فخري أبو السعود
مَنْ غَازَلَ الرَّوْضَ حتى اْفتَرَّ جَذلاناً ... وكان منقبضاً بالأمس غضبانا؟
ونضَّرَ الزرعَ فاخضرتْ لفائفه ... وأنبث في الأرض آكاماً ووديانا
وأخرج الزهر من أقصى منَاَبِتِهِ ... فرصَّعَ العُشْبَ أشكالاً وألوانا
وصاح بالريح حتى قرَّ ثائرُها ... إلاَّ نسيماً بِعَرْفِ الزَّهر مَلآنا
وكفكفَ الغيثَ فانجابتْ عوارضُه ... وكان لا يَأْتَلي هَطْلاً وتهتانا
وقَشَّعَ السُّحْبَ عن أُفْقِ السَّما فَبَدَا ... طَلْقاً وَأطلعَ وجهَ الشمس ضَحْياَنا
وَرَدَّ غائلَ بَرْدٍ كاد يُهلكنا ... عاتٍ وأَرسلَ دفئاً منه أَحيانا
أَهذه الأَرضُ ما زالت كما عُهِدَتْ ... أَمْ بَدَّلَتْها جنودٌ من سليمانا؟
قد ظلَّ ملتحفاً بالدَّجْنِ محتجباً ... حُسْنُ الطبيعة طولَ العامِ وسنانا
حتى انجلى فبدا من طول لهفتنا ... إليه آخَذَ بالألباب عُريانا
وللطبيعة حُسْنٌ حيثما سفرتْ ... في الشرق والغرب ساَب أينما بانا
ليست أَقَلَّ بأَرْض الثلج فِتْنَتُهُ ... منها بِوَادٍ يغذِّي النَّخْلَ والبانا
وَدِدْتُ لَّما تمَشَّي في الجزيرة لو ... يُتاح لي حماها الخُلْدُ أزمانا
عَلِّي أَعُبُّ مَلِياً مِن منَاَهِلهِ ... ويفتدي القلبُ من رَيَّاهُ رَيَّانا
ذَرَعْتُها من جنوب الأرض مبتغياً ... شمالها ممعنًا في السير إِمعانا
والشمس ترمي شُواظاً من أَشعتها ... آناً وَيَفْتَرُ عنِّي وَقْدُها آنا
مُقَلْقَلَ الشخص تعلو بي غَوَارِبُها ... حيناً وتهبط بي الأغوارُ أحيانا
تبدو على الأفق الآطامُ مائلةً ... خلف المزارع أسراباً وأُحْدَانا
وَقَدْ عَلَتْ بينها الأبراجُ راسيةً ... طَوَتْ بموضعها دهراً وحِدْثانا
إذا هَبَطْتُ قراها أو مدَائنَها ... رأيت خيراً وإثراَء وعمرانا
ماجت بمن دَرَ جُوافيها ومن ركبوا ... كالنمل تَعْمُرُ أَلْوَاذاً وكثبانا
وإن أَوَيْتُ لأَحضان الطبيعة لمْ ... أُلاَقِ أَحْنى على الأبناء أَحضانا
أَهْدَتْ إِليَّ وفوداً من نسائمها ... تترى وظلاَّ من الأغصان فينانا(59/48)
قدأَ مَّنَ العدلُ قُطَّاناً وَسَابِلةً ... بها وظَلَّلَ أَجوازاً وبلدانا
وَفاََء للحق شعبٌ في منَاَكِبِها ... عَلى الإباءِ لوَجْهِ الحقّ قد دانا
فخري أبو السعود(59/49)
زفرة
للأستاذ محمد خورشيد
ذِكّرُوني كيفَ أبتَسِمُ ... قد طوى عهدَ الهَنا الألمُ
وشؤوني باتَ زاخرها ... بدَمِ ابنِ الجنبِ يلَتطِمُ
وربيعي للخريفِ حَبَا ... وشَبابي اغتاله الهرَمُ
أشتكي همي فيشمت بي ... زمنٌ أنوارُه ظُلَمُ
أنا في ليلِ الشقا همدت ... جذوتي وأجتاحني السَّحَمُ
لم يَشأ ليلي السُّرَى فغَفا ... وطلبتُ الفجرَ أَعتصِمُ
فذوى في مهده أملي ... حين زلَّت بالُمنى القَدَمُ
فحياتي - والأسى قدرٌ - ... صفحاتٌ كلُّهُنَّ دَمُ
حسبوني بينَ مَن وُجِدُوا ... ووجودي - لو دَرَوا - عَدَمُ
زفرةٌ كالجمرِ لاذِعةٌ ... سَلَّها من صدريَ القلمُ
القدس
محمد خورشيد
أستاذ الأدب العربي بالرشيدية الثانوية(59/50)
خبيئة نفسي
للأديب سيد قطب
خبيئةَ نفسي، قد غفا الكونُ فأسفُرِي ... وكوني سميري، بعد إذ نامَ سُمَّرِي
سها الدهرُ والأقدارُ رنَّقَها الكرى ... وهوَّم في جوفِ الدُجَى روحُ خيرِِّ
يُطيف على العانين بالعطفِ والرضا ... ويغمرُ بالإغفاءِ رأسَ المفكرِ
وينتظم الدنيا هدوءاً كأنها ... عوالمُ في وادي المنى لم تُصوَّرِ
فلا صوتَ إلا خفقةٌ من جوانحٍ ... كما خفقتْ للضوءِ عينُ المصوِّر
ولمَ يبقَ من هذي الحياةِ وأهلهِا ... سوى طيفِها السَّاري بوادي التذكرِ
خبيئة نفسي من عهود سحيقةٍ ... ومن جوف آباد مضت قبل مولدي!
أمسّكِ في أغوار نفسي ولا أرى ... محيَّاكِ إلا كالخيال المشرد
علمتُكِ حتى أنتِ مِنّيَ بُضْعةُ ... جهلتك حتى أنت في غير مشهدِ!
ويا لطالما أخلفتِ لي كلَّ موعدٍ ... ويا لطالما ألقاكِ في غير موعدِ!
عجبتُ فكمْ مِنْ نفرةٍ تنفرينِها ... على فرطِ ما تبديه من توددِ!
حديثُكِ من نفسي قريبٌ وإنما ... إخالُكِ في وادٍ من التِّيهِ سرمدِ
خبيئةَ نفسي، ما ترى أنت؟ إنني ... أريدك في جوٍّ من الضوءِ مَعلَمِ
أعنصرُكِ الأيمانِ والطهرُ أصلُه ... وإلا إلى الكفرانِ والرجسِ مُنْتَمِ
وفي أيِّ وادٍ أنت تسرينَ خلسةً ... ومن أي عهدٍ في الجهالات منهمِ
وكم فيكِ من نصرٍوكم من هزيمةٍ ... تجاورتا في حشدكِ المتزَحِّمِ
وكم فيكِ من يأسٍ وكم فيكِ مأمل ... وكم مِنْ تردٍّ أو وثوبِ تقحُّمِ
وكم فيك من حبٍّ وكم فيكِ بغضةٌ ... ومن رشدِ إلهامٍ إلى خبطِ مظلمِ
خبيئةَ نفسي في ثناياكِ معرضٌ ... لما لقيتهُ الأرضُ في الجولانِ
وفيك من الآباد سرٌّ وروعةٌ ... وفيكِ صراعات بكل زمانِ
وفيك التقى الإنسان من عهد خلقِهِ ... وفيكِ التقى الروحيُّ والحيواني
وإنكِ طلُّسْمُ الحياة جميعها ... وصورتها الصغرى بكل مكان
أبيني إذن عن ذلك العالم الذي ... تضمَّنتِهِ من صورةٍ ومعانِ(59/51)
أبيني أطالعْ في ثناياكِ ما مضى ... وما هو آتٍ من رؤى وأمانِ
سيد قطب(59/52)
2 - بين الشك والأيمان
بيرون
للأستاذ خليل هنداوي
تسمع قلبه يخفق، وتصغي إلى ضميره يهتف، فتعرف أن الشك قد فتح في قلبه الذي يريد ألا يحس شيئاً جراحات لم تفقده الحياة ولا يرجى له منه شفاء. (وباطلاً ترتسم الابتسامات على شفتيه، وباطلاً يتحرى الطرب عن سبيل ينفذ منه إليه في الليالي التي يثور فيها قلقه)، ويشبه نفسه بذلك الإكليل الغض ظاهره، الذاوي باطنه، وإزاء هذا الشقاء قد نراه ينتفض كالجبار فيقول بلهجة صارمة (ليقل عني من رآني حاني الجبين ومن أورثه قلق نفسي ضعفاً)
إن الشاعر لا يعاند في احتمال الشقاء، ولكنه يريد أن يقابله وهو قوي لا ذليل مستكين، يريد أن يصبر عليه كما يصبر الرجل عند البلاء، يريد أن يموت كالسراج الذي لا ينطفئ حتى يشيع ما حوله بشعلة ساطعة يختم بها حياته، ولكن هذه الانتفاضات المؤقتة سرعان من تتلاشى ليبدو وراءها (بيرون) نفسه.
يقول هارولد (إن آلامنا العاصفة تترك وراءها أثراً بعد ذهابها: قليل من شيء يسقط على ذلك القلب فيهزه إلى الأبد وقد يكون هذا الشيء نغمة شائعة، أو رنة موسيقية، أو ذكرى ليلة من ليالي الصيف، أو ربيع بهي، أو زهرة أو ريح، أو البحر الذي يفتح على حين فجأة جراحاتنا)
وراء هذه الخاطرات يكمن بيرون الذي يصف نفسه ونفوس كثيرين مثله، فهو سئم من الماضي القاتم، وهو شاك من الحاضر الظالم، ويائس ناقم من الغد القادم. تقرا في أسارير وجهه المتجعد هذه الآيات التي كانت كل همه في الحياة.
وروح بيرون هل ارتاحت إلى شقائها أو غلب عليها أمل في غد هو أزهى من الحاضر؟ وإنما يهمها من ذلك الغد أن تجتمع فيه إلى أحبابها وأصدقائها.
(وما عسى يحول إليه هؤلاء الأحباب المختفون؟ وهل نراهم بعد أن تواروا في الثرى؟ ألا يبقى منهم شيء غير الأسماء المنسية؟)
وقف بيرون على قبر صديق له مات في مقتبل عمره وقال: (هل يمكنني أن أومن أنك(59/53)
أمسيت لا شيء وأنت حي مقيم في ذاكرتي. أجل! إنني أعلم بأننا سنجتمع معاً. وهذا الوهم سيملأ فراغ قلبي)
وهكذا نجده لا يذكر المستقبل إلا مصحوباً بوهم أو بحلم، ولكنه وهم خلقته له الحاجة، فهو لو لم يرغب في لقاء من مات من أترابه لما خلق هذا الوهم.
وبيرون هو الذي يهتف: (أصدقائي يتهاوون على الثرى من كل جنس، وأنا سأرسو على الأرض كشجرة منفردة قبل أن يغشاه ذبول. يستطيع الرجال الآخرون أن يلوذوا بأهليهم وأنا لا ملجأ لي إلا عواطفي التي لا تريني في حاضري وفي غدي إلا الرضا الأناني ببقائي حياً بعدهم، إنني لشقي!)
وقد يبلغ به اليأس مبلغاً أشد وأقوى فيقول (أيها الإنسان! ترفع عينيك إلى السماء وأنت لاصق بالأرض، ألا يكفيك أن تعرف من أنت؟ وهل كان الوجود منحة ثمينة تنعم بها مرة ثانية بعد هذه؟ وترغب في التوجه إلى مكان لا أدريه، جل ما تطلبه أن تستعجل الفرار من هذه الأرض، والفناء في السماء)
وفي حالة يأس كتب بيرون هذه الفقرة (الموت! وا أسفاه! ذهاب دائماً! فإلى أين يذهبون! وإلى أين يذهبون؟ أسأحول إلى العدم الذي كنت فيه قبل حياتي وشقائي الحي؟)
وهذه الفقرة الثانية (الحياة تحلق بين عالمين: كالنجمة المعلقة في حاشية الأفق يكتنفها عالماً الظلمة والنور. إن أوقيانوس الزمن الخالد يمشي ويجرف معه (حبباً خفيفاً). الحبب القديم يتلاشى والحبب الحديث يتألف منفصلاً من زبد العصور. وخلال ذلك ترى بقايا هذه الممالك تجرفها أمواجه الهاربة)
ولكن هذه الثورة النفسية يتخللها شيء من الهدوء. أو قل هدوء الخضوع للقدر المجهول الذي يعمل دون أن يرى. فيخلق الشاعر من هذا الرضا شيئاً يبعثه على الرجاء فيناجي الموت قائلاً: (أيها الموت القاسي، قد ملكت مني كل ما تستطيع أن تأخذه: سلبتني أمي، ثم صديقي، والآن نزعت مني أسمى من صديق، ولكنني أنحني بوقار أمام الله) وإذا بهذا الوقار ينمو في نفس الشاعر ويوقظ فيه الأيمان القديم ويحني فيه حنيناً إلى السماء، فيأسف على القيود التي تحول بينه وبين الصعود إلى السماء التي تدعوه إليها بنظراتها الخلابة، وإذا بشعره تبدو على ديباجته مسحة روحانية صوفية.(59/54)
قال الكونت (غامبا): لأول مرة فتحت حديثاً دينياً مع الشاعر بيرون في نزهة لنا قضيناها على ظهور الجياد بين غابات الصنوبر، فكانت تلك العزلة باعثة على التأملات. فقال: والنهار مشرق الصفاء (كيف يشك الإنسان في وجود الله على الأرض إذا رفع عينيه إلى السماء وخفضهما على الأرض، ثم أنحدر بهما إلى نفسه، أفي استطاعتنا أن نشك في أن هنالك شيئاً هو أسمى وأبقى من التراب الذي نشأنا منه؟.) وهو الذي كتب قبيل وفاته: (يخيل إلي إن الإنسان إذا تأمل في أعمال الروح لا يستطيع أن يجد شكاً في خلودها، إنني شئت أن أشك، ولكن التأمل أبدى لي خطئي. أما هل حالتنا الثانية تشبه حالتنا الحاضرة؟ فهذا سؤال آخر. أما أن الروح هي خالدة، فهذا شان ثابت عندي ثبات فناء الجسد.) ولكن بيرون الذي يؤمن بالحياة الثانية نراه لا يؤمن بها على المثل الذي جاءت به الكتب الإلهية، فهو يجعل من الجنة مستقراً للجميع، ولا يود أن يحشر في النار أحداً. ويقول في هذا الموضوع: (إن كل بعث جسدي هو غريب منكر لا يقبل به العقل إلا إذا كان المراد منه إنزال العقاب. ولكن كل عقاب غايته الانتقام من المذنب لا تهذيبه فهو عقاب سيء غير أدبي. والأهواء الإنسانية هي التي بدلت - كما يتبادر إلى الظن - المذاهب الإلهية. والخلاصة إنه سر عظيم.) وتراه يطلب إلى الدين أن يحقق ما أبت الفلسفة أن تميط عنه اللثام: (ما هي الحقيقة؟ ومن هو الذي يملك دليلها؟ الفلسفة؟ كلا: لأنها تنفي كثيراً من الأشياء! الدين؟ بلى. ولكن أي دين؟ أما قد حان للإله أن يحيي إيماننا فيرسل إلينا نبياً جديداً.)
وهكذا تتوزع بيرون نوازع مختلفة، منها ما يدنيه إلى الجحود بعد أن تجهد نفسه في التنقيب والتفكر، فلا تصل إلى شيء. ومنها ما يصرفه إلى الإيمان بعد أن تكل عزيمته، ويأخذ منه الإعياء كل مأخذ. فآيته منها الآية الشاكة الجاحدة، ومنها الآية المؤمنة الزاهدة، هو كالعصفور الذي يود أن يحلق فيحلق في الأجواء حتى يبلغ الاوج الذي يستطيع، ثم يهبط ويرضى بهبوطه لأن ارتفاعه لم يغنه شيئاً.
وكيف انتهى بيرون؟ وهو الذي كان يرجو الموت فلا يلقاه. ويكرهه أشد الكراهية إذا تمثل في الانتحار، أراد موتاً شريفاً في ساحة الأبطال، فيمم أرض اليونان حيث دعاه داعي تحرير الإنسان من الإنسان، فوجد نفسه يحيط بها القلق ويغلب عليها الاضطراب. وهناك(59/55)
وهو في السادسة والثلاثين من عمره نظم مقطوعة ودع بها الشباب والحياة، وهو في أزهى ريعان الشباب والحياة، فلم يتمن إلا قبر الجندي البطل. فناجى نفسه قائلاً: (إذا فقدت من الحياة أعذب شيء، فمن أجبرك على احتمال هذه الأعباء الثقيلة؟ هي هنالك ساحة الشرف، فأذهبي واختاري مضجعاً عظيماً، اذهبي وتخيري موطناً يهدأ فيه رمادك ثم استريحي) وفي اليوم الموعود طار النبأ بأن (الرجل العظيم قد مات)
وقد أفرد النقادة الفرنسي (تين) في كتابه (تاريخ الأدب الإنجليزي) صفحات مختارة، تناول فيها الشاعر (بيرون) ووصف بحذق ودراية (مرض العصر) الذي فشا بين الأدباء، فأسقط كواكبهم، وصرع عظمائهم.
يقول تين: (وهكذا عاش ومات هذا الرجل العظيم التعس، فكان فريسة سمينة لم يعلق بمثلها مرض العصر، ومن حولها يتساقط الآخرون ضحايا. . . . . البعض انطفأ غارقاً في الذهول والنشوة، والبعض قتله السرور والغناء. أما هؤلاء فقد آل أمرهم إلى الجنون والانتحار، وأولئك غلب على أمرهم العجز والداء. وكلهم عاشوا ناقمين حانقين متألمين، وأشدهم عزماً من استطاع أن يحتمل جرحه حتى صار كهلاً، وأكثرهم هناء من تألم كما يتألم الغير، يحرص على جراحه وهي بريئة. قد ملأ أنينهم العصر كله ونحن وقوف حيلهم نصغي إلى قلوبنا التي تردد هتافهم همسا، ونحن كئيبون مثلهم، تسيطر علينا الثورة، فالديمقراطية قد فتحت مطامعنا دون أن ترويها، والفلسفة أضرمت رغائبنا دون أن ترضيها. فرجل الشعب يشكو وضاعته. والشاك من شكه!
وإنما هذا الرجل - كالرجل الشاك مصاب بسويداء حلت في قلبه قبل أوانها. . . . فتراه يستسلم بعواطفه للشعراء الذين يقولون باستحالة السعادة، وفساد بناء المجتمع وسقوط الإنسان
لا رجاء في شفاء هذا الداء. لأنه داء لا تقوى على محوه عوامل السرور ولا الدين ولا أي شيء. . . وطويلاً سيشعر الناس بأن عواطفهم ترتعش لأنين شعرائهم العظماء. وطويلاً سينقمون على قدر يفتح لأهوائهم فضاء بدون حدود، ولن يقدر لهم الشفاء حتى يحطموها. . . أن ذريتنا مصابة كالسابقين بهذا المرض نفسه. . إننا ذاهبون إلى الحقيقة لا إلى السكون، كل ما نستطيع أن نعالجه في هذه اللحظة هو عقلنا. . . إذ ليس لنا ما نؤخذ به(59/56)
عواطفنا، إن لنا الحق بأن نتفهم آمال غيرنا التي ليس لنا مثلها، وأن نهيئ لمن يأتي بعدنا سعادة لن نتمتع نحن بها، وستكون لهم أرواح صافية المعدن عند ما ينشئون في محيط صافي المعدن.
ولكن أين يكمن مورد هذا الصفاء؟ إن مورده العلم وحده، فإن في استخدام العلم وفي أدراك الأشياء، فناً وأدباً وسياسة وشريعة جديدة، وإنما واجبنا اليوم أن نتحرى هذه الأشياء)
(بيروت)
خليل هنداوي(59/57)
العلوم
فكرة النظام الشمسي عند العرب
بقلم فرح رفيدي
امتدت الممالك العربية في أيام الدولة العباسية، والكنيسة حينئذ في أول عهد نفوذها، وما قويت شوكة الخلافة في بغداد، حتى هدأت الزوابع السياسية التي كانت شديدة في أيام بني أمية، وانصرف هم الخلفاء إلى نقل العلوم اليونانية والزيادة عليها. وأقول كما قلت في أمر الكنيسة، إن العرب تلقنوا هذه العلوم، وخصوصاً علمي الهيئة والنجوم من اليونان، لكنهم شرحوها شرحاً أقرب للحقيقة مما شرحته الكنيسة. والسبب في ذلك واضح، لأن الكنيسة كان غرضها الأكبر من تفسير العلوم اليونانية المحافظة على مقامها وتعاليمها لدى الشعب، فأبقت العلوم لديها مختلطة بالدين أو جزءا منه. لكن العرب لم يختلط عندهم العلم بالدين اختلاطه عند الكنيسة، فكان ما نقلوه وزادوا عليه هو لأسباب علمية بحتة، وأيضا لم يكن عندهم هيئة خاصة كمحكمة التفتيش تحاسب الفرد على اعتقاده ودينه.
لكنا إذا سلمنا بكل هذا، فلماذا لم يحدث الانقلاب العلمي في أيام العرب؟ أي لماذا لم يتوصل العرب إلى حل رمز هذا الكون الجليل بطريقة تبين اعوجاج النظام اليوناني؟ نذكر لذلك سببين:
لما ابتدأ العالم العربي في نقل العلوم كان ذلك فقط في أيام المأمون في أوائل القرن التاسع للميلاد، أي في بداية العصر العباسي الثاني، ونعلم إنه قبل القضاء على الخلافة العباسية في القرن الثالث عشر للميلاد قامت دول شتى في كل أنحاء البلاد فعمت الفوضى وكثرت القلاقل والحروب، فلم يستتب السلام في أيام بني العباس إلا مدة قصيرة جداً. أي أن الوقت لم يكن كافياً للعرب ليقوموا بانقلاب أو تجديد في العلوم اليونانية، فإذا قابلنا مثلاً المدى الذي تطورت فيه حضارة اليونان بالمدة التي قام فيها العرب بنهضتهم العلمية وجدنا الفرق كبيراً. فلو اقتصرنا ببدء حضارة اليونان من عصر تاليس وبيتاغوراس فقط في القرن السادس قبل الميلاد، إلى عهد بطليموس وبوكليد في القرن الثاني بعد الميلاد لوجدنا المدة تقرب من الثمانية قرون. أما عند العرب، فيمكن أن يقال إن ترجمة العلوم اليونانية ابتدأت فقط من العصر العباسي الثاني، أي في ابتداء القرن الثالث للهجرة، وبقيت حتى أواخر(59/58)
القرن الخامس للهجرة وهي مدة لا تزيد على الثلاثة قرون. فإذا كان اليونان بعظمة نبوغهم، وباعتبار أن قسماً كبيراً من مدنيتهم مرتكز على المدنية المصرية القديمة، لم ينتجوا ما أنتجوه في أقل من ثمانية قرون، فكيف يقدر العرب أو غيرهم، أن يستوعبوا ما أبدعه اليونان من تعاليم طبيعية وفلسفية وغيرها في مدة لا تتجاوز ثلاثة قرون؟ خصوصاً والعرب كانوا حينئذ أمة جديدة على الحضارة، لم تتعود ما أعتاده اليونان قبلا.
زد على ذلك أنه لو لم يعتن العرب بعلوم اللغة والدين والتوسع فيهما توسعاً زائداً، في عهد بني أمية وما بعده وصرفوا اهتمامهم الكافي لبعض العلوم اليونانية، لكان العرب عندئذ أولى بأن يقوموا بحركة علمية جديدة.
لم يكن علماء العرب في ذلك الوقت راضين عن النظام اليوناني أو محبذين له. فإنه عندما بدأ العرب ترجمة العلوم اليونانية، ورأوا فكرة اليونان في المجموعة الشمسية، وما هي عليه من التعقيد والتناقض وعدم تلاؤم أجزائها ببعضها داخلهم الشك في صحتها وارتابوا في كثير من أقسامها. وجعل هذا الشك منهم عيوناً دقيقة الملاحظة، حريصة في التنقيب، لا تدع شيئاً مهما كان حقيراً دون بحث أو تفسير. ولم يتركوا سبباً إلا فحصوه وشرحوه ووازنوه مع غيره من الأسباب، وقابلوه مع ما تأتى لها من نتائج أرصادها، فأنقصوا من النظام اليوناني أشياء، وزادوا عليه أشياء، واعتمدوا في كل شروحهم وتعليلاتهم على ما يستسيغه العقل ويقبله المنطق محاولين بذلك اتباع طريق غير طريق بطليموس وشرح نظام جديد ربما تصوروه ولكن لم يدون.
قام حينئذ من العرب ابن رشد وابن طفيل وتلميذه البتروغي في القرن الخامس للهجرة، وانتقدوا كتاب الماجسطي حتى أنهم لعدم اكتفائهم بتفسير النظام البطليموسي أتوا بأفكار مبتكرة في حركات الكواكب السيارة، وألفوا نظاماً جديداً يقال له خلاف النظام اليوناني، فأنكروا وجود الدوائر الصغيرة وبذلك عللوا حركة الكواكب من الغرب إلى الشرق وبالعكس تعليلاً مخالفاً لكتاب الماجسطي، ومنهم من اعتقد أن الكواكب لم تبعد مسافة واحدة ثابتة عن دائرة البروج بل هي في أبعد مختلفة، إذ هذا هو السبب في اختلاف شدة الضوء المنبعث منها.
ومن المشهورين في تطور النظام الشمسي من العرب الخوارزمي سنة220 هـ. وهو(59/59)
صاحب الأرصاد المختلفة والمرتبة بنظام خاص يقال له الزيج
والفرغاني سنة 225هـ. وله قياسات في أبعاد وأقطار الكواكب الخمسة، وكتابه (كتاب في الحركات السماوية وعلم جوامع النجوم) ترجمه أكثر من واحد إلى اللغة اللاتينية.
وثابت بن قرة (سنة 235هـ) ويعد اكبر المشتغلين في العلوم الهندسية من العرب، أصلح ترجمة إسحق بن حنين لكتاب أقليدس، ووضع عدة شروح عن النظام اليوناني، محاولاً فيها كلها ابتكار نظريات جديدة، وشروح سهلة لدرس النظام البطليموسي، وله أرصاد مختلفة في قياس بعد الشمس وتحديد السنة الشمسية، وقد أضاف فلكاً تاسعاً إلى النظام القديم وراء فلك النجوم الثوابت، وكان أول من وصف الكرات المتراكزة من العرب.
البتاني سنة 270هـ. وهو الذي اشتهر بدقة أرصاده من أيام هبارخس إلى كوبرنيكس، حتى فاق الخوارزمي بدقة ملاحظاته في الكواكب السيارة. وكان من منتقدي بطليموس وقد وجد ميل دائرة البروج عن دائرة خط الاستواء 35َ 23ْ وهو رقم مطابق لقيمة الميل الحديث، وعمل ملاحظات دقيقة عن القمر واختلاف حركاته، وعن أوقات الخسوف والكسوف. وهذا ما قاله عنه ابن خلكان. (له الأعمال العجيبة، والأرصاد المتقنة، وأول من أبتدأ بالرصد سنة 264هـ، وله من التصانيف: الزيج، وكتاب معرفة مطالع البروج، وشرح أربع مقالات بطليموس، وأصلح قيمة مبادرة الاعتدالين، وقيمة ميل دائرة البروج على دائرة خط الاستواء).
الزدكلي سنة 460هـ. اشتهر بصنع أدوات الرصد وخصوصاً الأداة المسماة بالصفيحة وهي لقياس أبعاد وأقطار الكواكب السيارة. كتب شرحاً ترجم على أيام الملك الفونسو ملك وقد أخذ عنه وعن البتاني كوبرنيكس في تعليل نظريته الجديدة
ولعل أشهر التجارب العملية التي قام بها العرب أيام المأمون
هو قياس الدرجة من خط نصف النهار، بواسطة ثلاثة أخوة
يقال لهم بنو موسى، وبطريقة غير التي عمل بها اليونان
الأقدمون ذهبوا إلى موضع في سهل سنجار في العراق، فذهب
بعضهم شمالاً والبعض جنوباً حتى رأوا في الشمال النجمة(59/60)
القطبية ترتفع درجة وفي الجنوب تهبط درجة. ثم قاسوا
المسافتين ووجدوا الوسط بينهما، ولكنهم أتخذوا الرقم الأكبر
منهما وهو 32 56 ميلاً
وغير هؤلاء الذين ذكرناهم، قام أناس كثيرون من العرب أتوا بأبحاث جليلة مختلفة في شكل النظام الشمسي، وتعليقات شديدة النقد على النظام اليوناني لا يسعنا ذكرها الآن.
قد يبدو النظام اليوناني للبعض بسيطاً بالصورة التي شرحناها، ولكنه في الحقيقة معقد وغاية في الصعوبة، وفيه كثير من المتناقضات لعدم ثبوته على أساس راسخ، والذي زاد في المسألة تعقيداً هو نظرهم للظواهر كما ترى لا كما يستسهلها العقل البشري.
فتعقد النظام اليوناني وتناقضه، من كثرة ما زيد عليه من الكرات والدوائر الصغيرة، ولد الشك في قلوب الكثيرين من العرب. وهذا الشك هو الذي حرضهم على البحث والتدقيق في ملاحظاتهم، وعلى التأمل في نتائج أرصاداتهم في الكون، وربما يمكن أن تكون أسباب التناقض وعلل النقائص ومسببات الحركات الشاذة والمختلفة التي لاحظوها ولاحظها اليونان من قبلهم. لكن هذا الشك الذي نرى في كثير من شروحهم ومؤلفاتهم لم يتخذ طريقاً محسوساً معيناً يمكن معه أن نسميه انقلاباً علمياً كالذي قام به كوبرنيكس وكبلر وغاليلو فيما بعد.
ومع أن العرب لم يتوصلوا إلى اكتشاف جديد في ميزة هذا الكون العجيب، وتعليل ظاهراته تعليلاً صحيحاً، فإن دقة ملاحظاتهم وحسن ترتيب نتائج أبحاثهم، جعلتهم يفوقون الإغريق ويبذونهم في أشياء كثيرة. فقد مهدت السبيل لاكتشافات مقبلة، وجعلت فكرة النظام اليوناني سهلة التغيير قابلة للانقلاب إلى الفكرة الصحيحة، حتى لم يكن بينهم وبينها إلا مسافة قصيرة جداً بدليل أن كوبرنيكس مبتدع الفكرة الجديدة لم يتوصل إلى ما توصل إليه إلا بعد مراجعة كتب العرب، وقد عاش بعد ما انطفأ نور العلم في الشرق بمدة غير طويلة
فرح رفيدي(59/61)
القصص
رجل. . . وامرأة
بقلم محمد سعيد العريان
- 1 -
جلس شوكت أفندي كاظم في حجرة الانتظار في مدرسة. . . يجيل طرفه في قطع الأثاث المبعثرة، وينقل النظر بين السقف والأرض والحيطان. لم يتغير شيء فيها عما رآه لآخر مرة منذ سنوات أربع؛ هذا النضد الصغير في زاوية الحجرة كأنه قطعة من أرض المكان فلم يتزحزح عن موضعه؛ وهذه الأريكة الكبيرة طالما تمدد عليها ولوى ذراعيه تحت رأسه وسبح في أحلام اليقظان؛ وهذه الصور على الحيطان تطل منها الوجوه الصغيرة، في أساريرها مرح الطفولة، وفي عينيها بريق الأمل - إنها في موضعها حيث صففها بيديه قبل سنين، ولكنها زادت أخرى، لاشك أنها صور الفرق التي أتمت دراستها بالمدرسة منذ نقل منها. . . ودفعه حنين وشوق فنهض يتأمل صور تلاميذه الذين عاش بينهم شطرا من حياته في منزلة الأب الثاني، ثم فارقهم وفارقوه منذ سنين بعيدة فوجاً بعد فوج إلى حيث لا يدري من فجاج الحياة. ما أسرع ما تمر السنون! أيهم الآن يذكره كما يذكرهم؟ لعل منهم صاحب المنصب الرفيع والجاه العريض وهو ما يزال حيث تركوه في منصبه وجاهه!. . . ووقف لدى صورة من عديد الصور المعلقة، ولم ينتقل عنها ولم يخفض بصره؛ لقد طافت برأسه ذكريات من الماضي، ذكريات حية ما يزال قلبه بدمها ينزف. وحدق في الصورة طويلاً تحديق العانس في المرآة تنعى الشباب وتتهم الزمن. . . منذ ثمان سنوات حين دعي ليجلس بين تلاميذه في هذه الصورة كان شخصاً آخر غير الشخص الذي يعيش اليوم، لقد كان يومئذ يعيش في واد من الأحلام: أحلام الشباب والمرأة والحب. أين هو اليوم مما كان؟ أما الشباب فقد أنهكته أحداث الزمن، وأما الحب فقد دفنه هناك ولفه في أكفان اليأس، وأما هي. . .
ودخل الضابط يحيه بصوت غليظ، في يده عصا ومن وراءه غلام. وأندفع عادل شوكت إلى أبيه حين رآه باسطاً ذراعيه، فلم يخشى عصا الضابط ولا صوته البغيض؛ وضم(59/62)
الرجل ولده إلى صدره ومال عليه يقبله في ظمأ وشوق؛ وطأطأ الولد رأسه يعبث بأزرار معطف أبيه ويداعب سلسلته؛ وسبح أبوه في ذكريات ينشرها ويطويها:
لقد كان يحبها أعنف الحب وأرقه، ولم يكن يتمنى غير أن يظفر بها زوجاً يصفيها الحب ويخلص لها الوداد؛ وقد ظفر بها ونالها، فأين هو اليوم من سعادة الحياة؟! لقد أفلتها فلم يبق بين يديه من تلك المنى الساحرة غير لمحة ضئيلة يراها في عيني هذا الغلام.
وعاد إلى الماضي يسترجع ساعاته ولياليه، ويحصي على الزمن سيئاته وأياديه: لقد عرفها فتاة في إحدى الحدائق العامة مع أخيها الصغير فعطفه عليها دل متواضع وكبرياء تبتسم، وأحبها منذ ذلك اليوم وراح يعيش في وهم الأماني. . . واستطاع أن يلفتها إليه وأن يجعلها تهتم بأمره؛ ومدت إليه خيط الرجاء فتعلق، ومضت الأيام تقرب بينهما وتدني نفساً إلى نفس حتى أشعرتهما أنها كل شيء في حياته، وأنه كل شيء في حياتها. وشاركته سعادة الأمل، وأخذ يعد العدة للأمر العظيم يوم تكون زوجه، وأخذت تسابق الأيام فمنحته من ودها على غفلة الأهل أشياء في إباء الراغب ورغبة المتأبي؛ ولم تكن أيام الوصال على وتيرة؛ فيوماً دلال، ويوماً عتاب، ويوماً يتنبه الرقيب من حيث يريد وتريد. . . وهكذا راح الزمن يذكي في صدريهما لواعج الشوق، ويضرم لهيب الوجد - أربع سنين متوالية بين لهفة وشوق وأمل؛ ثم زفت إليه. لقد شعر يومئذ أن الدهر أتم عليه نعمته وأسبغ عارفته، ولكنه أعطاها مقادته من اليوم الأول، ولم يتلقها إلا بتقديس وعبادة، وظل بعدها في العبادة والتقديس!. وإنها لتحب السيطرة والسلطان، بعض ما في دمها من طباع الشركس؛ وإن فيه لطراوة وليناً من ضعف العاشق الذليل؛ فأخذت تملي عليه أرادتها وهو كالكرة في يد الصبي. ولم تجد فيه رجل أحلامها الذي قدرت أن يكون، فراحت تنتقص من سلطانه وهي تتمنى أن يعاصيها ويتمرد على إرادتها فتشعر به زوجاً له مثل سيطرة الرجال. وكانت كلما راحت تستثير فيه نخوة الرجل استخذى لها وتلاشت إرادته؛ لقد كان يجيد الغزل وحديث الحب، ولكنه لم يكن يعرف كيف يملي أرادته، ويلوح للحب بالبغض؛ وكان يعرف كيف ينزل عند رغبتها حين تريد، ولا يستطيع أن يكون رجلا حين يريد. . .
- 2 -
ورأت كل حاجاتها لديه مقضية؛ ووجدت نفسها الآمرة الناهية في هذه المملكة الصغيرة،(59/63)
حتى الرجل الذي كانت تخشى سلطانه وتهواه كان أطوع لها من بنانها. وراحت تبالغ في مطالبها، لا تقف عند حد ولا تنتهي إلى غاية. وحين جاء الصيف رغبت أن يسافرا إلى الإسكندرية فلم يجد في نفسه قوة على العصيان وهو يعلم أن أكلاف الاصطياف هناك فوق ما يتحمل مرتبه الضئيل. . وقضيا في المصيف شهرين استمتعت فيهما زوجة بكل ما اشتهت من حرية وانطلاق، وكان لهما في نفسه لذع ومرارة. وأخذ الحب الذي كانت تحسه لزوجها من قبل يتلاشى رويداً رويداً؛ لأنها بدأت تعنى بأشياء أخرى؛ وصار همها من دنياها ثوباً جديداً تختال به على صوحباتها، أو ليلة ساهرة فيها متاع القلب والنظر، أو سفرة إلى هنا أو هناك تجتلي من مشاهدها أنساً وبهجة. ولم يكن يضن عليها بشيء. . ونسيت تدبير البيت وشئون الزوج؛ فكانت تقضي نهارها زائرة أو طائفة بالبيوت التجارية والحدائق ودور اللهو، وأخذت تنفلت من قيود المرأة المتزوجة قليلاً قليلاً، حتى اطمأنت إلى حريتها كاملة في الغدو والرواح، وفي السهر أيضاً؛ وتاقت لأن تبسط إرادتها إلى ما وراء جدران البيت مؤمنة بجمالها وسلطانها على القلوب!. . وألف شوكت أن يعود إلى البيت في النهار وأول الليل فلا يجد هناك غير الخادم تخلع عنه ملابسه وتهيئ له الطعام، ولم يكن ليسوءه ذلك كثيراً، فحسبه من الزوج الحبيبة أن تكون سعيدة هانئة، وأن يستيقظ في الصباح على نغمات من صوتها الندي الرقيق، وأن يمسي ووجهها آخر ما يراه من الدنيا اليقظة. ولكن الكرة ما زالت تتدحرج ويخاف أن تبعد عن منال يمينه. .!
وعاد ليلة متعباً مكدوداً يلتمس الراحة في البيت، ودق الباب فلم يجب أحد، وعاود الدق فلم يسمع غير الصدى يرن ثم يتلاشى في مثل ضحكة ساخرة من فم امرأة. . . ترى أين ذهبت الخادم، وأين زوجة الآن؟ لقد تعودت الغياب عن البيت كأنما لا يعنيها منه إلا أن تأكل وتنام! أليس له عليها مثل حق الأزواج؛ فما لها لا تدرك عليها واجباً ولا تعترف له بحق؟. . وأخذ يذرع الطريق غادياً رائحاً ويداه خلفه ورأسه إلى الأرض، يمد بصره بين حين وحين يرقب الطريق. . ورأى زوجه مقبلة في سرب من رفيقاتها تهتز أعطافهن في فتنة مغرية، ويجاهرن بالحديث عابثات ضاحكات. ورأته زوجه فقالت: (أنت هنا؟) ولم تزد، وسبقته تفتح الباب وأنصرف صواحبها. ولما اطمأن بهما المكان قال لها:
- (لقد ضايقني الانتظار يا إلهام، أين الخادم؟). قالت:(59/64)
- (الخادم؟ لقد سافرت لترى أباها. ألم أنبئك؟)
قال وقد رسم الاستياء خطين على جبينه:
- (وهلا قدرت أن أعود مبكراً فتكوني في انتظاري ولا تتركيني بالباب؟!)
ومالت عليه فطوقته بذراعها ويدها تعبث بشعره وعيناها تبرقان، وقالت تداعبه في لين وتكسر: (ليتك لا تغضب يا شوكت، أنا احبك!) ثم كانت قبلة نسى معها الغضب والعتاب. . .
وتتابعت أيامها من بعد بين غضب ورضى، وأدركت إلهام أن زوجها يحاول أن يعود رجلاً وأن يبسط عليها سلطانه، ولكن بعد أن عرفت من أين تناله وكيف تسلبه أرادته. . . ومر عام، وصار شوكت أباً. هذا ولده عادل.
ودق الجرس في فناء المدرسة، فأنفلت الغلام من بين يدي أبيه كما فرت سعادته من قبل. .!
أين هي الآن؟ أنه مازال يحبها أعنف الحب وأرقه، ولكنه قد فارقها إلى الأبد! وآلمته الذكرى، فأخرج علبة من جيبه فأشعل دخينة، واعتمد بذراعه على حافة المقعد، وأسند برأسه إلى راحته، وزفر زفرة، وتلوت ثعابين الدخان صاعدة، وراح يتابع الذكرى الأليمة:
لقد كافأته زوجه على حبه ووفاءه وطاعته - بالسخر والتمرد والعصيان! ليته استطاع أن يكون معها أصلب قناة وأغلب إرادة، فلعله كان أحب إليها صلباً غلاباً صاحب إرادة وعنفوان. . .!
إنه كان يحبها حباً بعيد الأمل، ليس له حدود تحصره في دائرة الممكن، ولا حرية تطلقه وراء المستحيل؛ فلما ظفر بها ظل الطريق إلى السعادة، وراح يلتمس قلبها فهوى على قدميها. .!
وحين أراد أن يهيئ لها سعادة الرضى في جواره لم يعرف كيف يجعل إرادته تسبق إرادتها فيما تشتهي فيمنحها ما تشاء قبل أن تدعوه إليه آمرة مطاعة. . .!
ولو إن الحجاب بينهما فيما بين الخطبة والزفاف لم يكن في حراسة التقاليد، لتفاهم قلباهما على الود الكريم، ووضع الأساس لحيات الغد على غير جرف هار من الوهم والخيال. . .!(59/65)
لم يكن يومئذ يدري أن المرأة تعشق الرجل المتسلط الذي يغلبها ويفوقها، بقدر ما تحتقر الرجل الذي يترامى على قدميها في ضعف وهوان، ولو كان ضعف المحب وهوان العاشق. . .!
لقد عاشرته خمس سنين كانت معه في البيت كضيف على ميعاد، وكان حظ صواحبها منها أكثر من حظه! وربما قضى الساعات في البيت وحيداً، وهي هناك تنتقل زائرة من بيت إلى بيت، فلم تكن تعرف دارها إلا يوماً واحداً في الأسبوع، هو يوم الاستقبال. . . ولقد كان في البيت مرة وسمع بأذنيه أي الشئون يتحدث فيها النساء: حديث الأزواج، وشح الأزواج، وغفلة الأزواج، ثم الأزياء والملاهي ولا شيء غير ذلك!. . بل لعله رأى بعينيه ماذا يصنعن يوم الاستقبال. لقد نقم على كثيرات من صاحبات زوجه، وعاب عليهن سوء الأدب وقلة الاحتشام، ولكنه لم يجرؤ حتى فيما بينه وبين نفسه أن يسيء الظن بأخلاق زوجه، ولم يجرؤ أن يحدثها عما رأى وسمع؛ خشية أن تلومه على استراق الحديث والنظر. .!. . آه لو كان يدري يومئذ أنها واحدة من هؤلاء حين تكون بعيدة عنه، فلعله كان حينئذ يستطيع أن يردها إلى الصواب!
- 3 -
وطالت غفلته عن حديث الناس بسلوك زوجه، حتى حين مرض بالإسكندرية صيف عام واشتدت به العلة، وأمره الطبيب أن يعود إلى بلده، فأبت زوجه أن تعود قبل أن ينصرم الصيف، وتركته يخلفها وحدها هناك على الشاطئ في حراسة الشيطان، تداعب أمواجاً في البحر وأمواجاً في البر، لقد كان لها يومئذ رغبات نسيت في سبيلها وفاء الزوجة وبر الأم، فلم تعد إلا بعد شهر!
لم تهنأ إلهام بالحياة في بلد زوجها على ما فيه من جمال وفتنة، وحالت بعد عودتها امرأة أخرى؛ فلم تعد تهتم باسترضاء زوجها، تمحو غضبه بابتسامة الخداع وبهرج الكلم، ومزقت القناع عن وجه عابس، وكشفت صدرها عن ألم وضيق بحياتها في كنف الزوج الحبيب، وراح شوكت يستميلها فلا تزداد إلا نفوراً، ويتحبب إليها فلا تبدي غير البغض والكبرياء. . . وآلمه ما تغير من أخلاقها، وراح يحاسب نفسه على ما قد يكون أساء به إليها، ويحصي ما قصر في حقها وما اقترف، فلا يبدو له إلا صفحات كلها حب ووفاء(59/66)
وتضحية. وأخفق فيما سعى إليه ولكنه لم ييأس.
وترامت إليه الأخبار بما يتحدث الناس من شأنها؛ وكان آخر من عرف. . . يا للهول! وأفاق من وهم الحب. لقد مد لها أسباب الغواية وتركها تتدحرج حتى استقرت في أعماق الهاوية وجذبته معها!
واستعاد رجولته، ولكن بعد أن فقد من يأتمر بأمره، وفارقها في صمت، عيوفاً أبياً، ولكنه خلف قلبه هناك. . . تحت وسادتها وبين الحشايا!
وكان له ما أراد، ونقل من البلد الذي دفن فيه الشباب والحب والأمل، ينشد العزاء والسلوان بعيداً بعيداً؛ وقد أقسم ألا يكون له من بعدها زوج.
وهاهو ذا يعود بعد سنوات ليأخذ ولده يعيش في حضانته، بعيداً عن عار الخطيئة - عن المرأة التي كرهت أن يكون ولدها معها فيعلن للأصدقاء بوجوده أنها أم. . .!
وصلصل الجرس وما يزال شوكت غريقاً يجاهد موجات الذكرى الأليمة في يأس؛ يأس المحب الوفي جوزي بحبه ووفائه غدراً وخيانة!
وحياه زميله الأستاذ مختار وهو يصيح: (أهلاً، شوكت، متى حضرت؟)
وهز يده بقوة، وربت على كتفه بحنان ثم أردف:
- (إن صديقنا (أحمد) لموفق، فقد كان يذكرك اليوم ويتمنى أن تحضر زفافه، وقد حضرت.)
قال شوكت: (زفافه؟ وماذا تراني أصنع له في زفافه؟)
ودهش مختار أن يتحدث شوكت كذلك وأجابه: (لا أحسبك نسيت ما كان بينكما من ود؛ أفليس من حقه عليك أن تهنئه أن ظفر بالفتاة التي يهواها، وأنك لتعرف أين كان أمله!)
وابتسم شوكت في ألم، وقطب جبينه، واسترجع كل ماضيه الأليم في لمحة، وقال لصديقه ساخراً: (وهل تراه ظفر بشيء يستحق التهنئة، أم تراني أعزيه. . .!)
وتولى عن صاحبه وهو ممسك بيد ولده، والأرض تجاذبه إلى الخلف - إلى حيث يرى المرأة التي أحبها فخانته. ولكنه عرف كيف يكون رجلاً، وكيف يقمع في صدره ذلك الحب الذليل الذي نزل به إلى الهوان والعار. ومضى في طريقه إلى البلد الثاني وكأن ما كان يدوس بقدميه قلبه الدامي فيحس وخزاً أليما فوق ما تخزه الذكرى وتؤلمه.(59/67)
ومضت الأيام تسدل بينه وبين الماضي حجاب النسيان، وهو يغالب هواه ويصارع نفسه، حتى برأ من دائه. وأخذت ذكريات الماضي تتضاءل في رأسه حتى أوشكت أن تتلاشى، وانقشعت عن عينيه غشاوة العاطفة التي كانت تغلبه على عقله وتزين له أن يبيع بالحب كرامة الرجل.
وانقضت سنوات ثلاث، ثم رأى نفسه وجها لوجه أمام المرأة التي كان يحبها أرق الحب فعاد يبغضها أعنف البغض، ويبغض من أجلها النساء جميعاً. لقد أخفقت فيما سعت إليه، فلم تظفر بالسعادة التي انطلقت وراء أوهامها وحطمت في سبيلها عش الزوجية، وحالت الثمرة التي كانت تشتهي حلاوتها مرة كريهة المذاق حين عرفت منزلتها الحقيقية من نفوس المعجبين بها والمزدلفين إليها من الرجال، لقد انفضوا عنها جميعاً بعد أن ملوها، وراح كل منهم يلتمس لحظات سعيدة في غرام جديد أبي، يذوق فيه سعادة الظفر بالمغيب المجهول. . وتنكرت لها الحياة فعادت إلى الماضي تستلهمه، فإذا هي ما تزال تحب شوكت. . . وذكرت في النهاية الرجل الذي كان يحبها، والذي كان يبيع من أجلها كل شيء، فجاءت تسعى إليه معترفة تائبة. هيهات! لقد أضلها السراب طويلاً، فلما همت أن تعود إلى المناخ كان الركب قد تحرك، فلم تدرك غير الغبار يقذي عينيها وتتكاءدها عقبات الطريق!
وأغلق الرجل دونها بابه، ووقفت بينه وبينها الذكريات المؤلمة عن ماضيها وماضيه. لم تؤثر فيه دموع الندم، ولم يعطفه عليها ما ناشدته الحب القديم، فقد علمته من قبل كيف يكون بليد العاطفة، فبقى معها بليد العاطفة، وعلمته ألا يؤمن بالحب، فأثبت لها أنه لا يؤمن بالحب، وعلمته ألا يثق بوعود امرأة، فأكد لها أنه أبداً لن يثق بوعود امرأة.
وحين عادت المسكينة امرأة ذات قلب. . . . عاد المسكين رجلاً بلا قلب!.
محمد سعيد العريان(59/68)
3 - سافو
لأوجييه اميل
ترجمة الأستاذ محمود خيرت
كاوودال - (ينادي) هي. هي
لابودري - يا صاحب المطعم
الجميع - أنت يا رجل
(يظهر صاحب المطعم)
كاوودال - أسرع فلقد قتلنا الظمأ
صاحب المطعم - أهلاً اهلاً بأسيادي (وكأنه يعرف كاوودال)
سيدي كاوودال. . . ما أطيب هذه الفرصة تفضلوا.
فأجلسوا عند هذه البراميل أو تحت هذه الشجرة الظليلة
كاوودال - نبيذك الطيب أولاً!
لابودري - الأبيض؟
كاوودال - أصبت
صاحب المطعم - كما تشاؤون. والطعام!
كاوودال - عند المساء متى عدنا، ولكن ماذا عندك منه
صاحب المطعم - كل ما تشتهون
كاوودال - شواء مثلاً؟
صاحب المطعم - نعم. وفرختان!
لابودري - حسناً
صاحب المطعم - وضلع
كاوودال - لا بأس
صاحب المطعم - ثم. . .
الجميع - هذا يكفي
كاوودال - (منشداً) ولكن أيها الشيطان(59/69)
لابودري - إذا أهملت في الألوان
آخر - والمزات
ثان - والسلطات
ثالث - وحذار أن تنسى كذا البصطرمة
رابع - معها وإلا فالجزاء
صاحب المطعم - (الصرمة)
(ضحك عام)
صاحب المطعم - (منادياً) نبيذ أبيض حالاً (ينظف الموائد ويرتب المقاعد حيث يجلسون، وعندئذ يظهر الخدم حاملين قناني الشراب والكؤوس)
كاوودال - ليحيى النبيذ=ليحيى الشراب
الجميع - ليحيى النبيذ=ليحيى الشراب
كاوودال - شراب النبيذ=شراب لذيذ
يرد الشاب=لصرعى الخضاب
الجميع - ليحيى النبيذ=ليحيى الشراب
كاوودال - ألا فأشربوا=ولا تحسبوا
لهم حساب=فهذا الصواب
الجميع - ليحيى النبيذ=ليحيى الشراب
صاحب المطعم - ليحيى الصنم
الجميع - لتحيى الصرم
(ضحك عام)
(يظهر حنا)
كاوودال - (وقد لمحه) حنا؟
حنا - (يقترب ويحيي بقبعته) نعم أنا
كاوودال - ما أجمل هذه الصدفة
لابودري - كيف أنت يا حنا. أنت مقيم هنا(59/70)
حنا - بل هناك (مشيراً) لأني أميل للغابات أتفيء ظلها وأملئ عيني منها. نعم أن الحياة
بالقرب منها خير من حياة المدن حيث السكون والنسيم العليل
كاوودال - وهل لازلت مع سافو؟
حنا - سافو؟ من هي سافو
لابودري - فني. نموذج المصنع
حنا - (مفكراً) إذا هي سافو (متردداً ثم يتكلم) لا. إنني تركتها.
كاوودال - تركتها؟ إنها فتاة حسناء. ولكنها مع ذلك. . .
حنا - ولكنها ماذا؟
كاوودال -. . . لا شيء
حنا - لاشيء؟ ولكنك قلت إنها. . .
كاوودال - فتاة لا وفاء لها. نعم إنها تحفة من تحف الحسن. ولكن حبها مشوب بالآلام. على أن من يقع في شركها يصعب عليه أن يسلوها.
لابودري - لقد صدقك كاوودال يا حنا
كاوودال - ومع ذلك فدليلي قصتها مع ذلك الحفار الفنان
لابودري - فرومان
كاوودال - بعينه. فلقد دفعته إلى تزوير زج بسببه في السجن. على أني لا أزال أذكر يوم أخذوه إليه وهي تودعه بأطراف أناملها وتقول له تشجع يا بيبي فعما قريب تخرج ونعود إلى سيرة حبنا
حنا - (لنفسه وهو مفكك) أنها تناديني بمثل هذا أيضاً
كاوودال - ما لك يا صديقي؟
حنا - الحقيقة أني كذبتكم. فأنا من سنة أتلوث بصحبة هذه الفاجرة. ولقد استسلمت لمكذوب حبها، ومعسول كذبها حتى أبحتها قلبي ومشاعري لأني كنت أجهل أمرها ولكني الآن أقسم لكم أن كل ما بينها وبيني قد أنقطع وانتهى
(تظهر فني من بعد)
آه. . .(59/71)
كاوودال - (يلمحها) سافو
سافو - (وحنا يفر منها) حنا
حنا - دعيني (ثم يختفي)
سافو - (في نفسها) نمو عنده علي (لهم بحدة) الآن وقد فر بسعيكم فلن أخشاكم أيها الأنذال
كاوودال - (يسكن ثورتها) هوني عليك يا سافو. اسمعي
لابودري - عودي إلى رشدك ولا تحتدي
فني - لقد أكلكم الحسد على حبه الذي أسعدني وغير سبيل حياتي فصورتموني له في أشنع صور الرذيلة حتى ألتوى وفر مني. إنكم غلاظ قساة (للابودري) وأنت أيها المنافق طالما أسهرت جفني وأجريت دمعي. ولا زال صدرك طافحاً بالحقد على صفوي فحطمت قلبي الذي أصلحه هذا الفتى، وهكذا لم أخطئ في حسباني إذ علمتم فوشيتم فأنتقمتم. فأنا الآن إذا كنت أتعلق بأذيال الحياة فلكي ألعنكم واستنزل غضب الأقدار عليكم.
الجميع - (بغضب) سافو (يتجاذبونها كأنهم يحاولون جرها معهم)
فني - دعوني فما عادت تطيب بعد ذلك نفسي للحب. لقد أصبحت أمقتكم جميعاً أيها الاخساء
(تهجم علي لابودري فيضحك ويضحكون)
(يتبع)
محمود خيرت(59/72)
سيوة
تجارة سيوة
يجاور مسطاح البلح الكبير مقام سيدي سليمان، وهو عبارة عن بناء بسيط يحتوي على مقبرة، إلا أن له مكاناً محترماً في قلوب سكان سيوة، ويحيط بهذا المقام بعض قبور أخرى يقال أنها للمقربين إليه من أتباعه، ويعلو المقام سعف نخيل معلقة في نهايته قطع من أقمشة مختلفة الألوان؛ ويلاصق هذا المقام مسجد جلالة الملك فؤاد الأول، وبدأ في بناء هذا المسجد في عهد الخديو السابق عباس باشا، حتى وصل ارتفاعه أربعة أمتار، غير أن العمل وقف فيه لقلة المال وكثرة التكاليف، ثم تم بناؤه في عهد صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول في سنتي1928و1929، وأصبح مسجداً يضارع مساجد القاهرة الكبيرة في كبر حجمه وروعة بناءه. ولقد تحريت عن السبب الذي حدا بالخديو السابق أن يفكر في بناء مسجد كبير كهذا في واحة منعزلة مثل سيوة على الرغم من صعوبة المواصلات وقلة وسائل العمل في الوقت السابق، فروى لي أنه كان يقصد ببنائه أن يكون جامعة إسلامية في الصحراء الغربية، يؤمها السنوسيون وغيرهم لتكون لهم بمثابة الأزهر في وادي النيل، وأنه كان يتصور أن مثل هذه الجامعة تمكن له في قلوب السنوسيين فيفيدوه في الصحراء وقت الحاجة. وعدا هذا المسجد الكبير توجد مساجد أخرى مقامة على نظام المنازل السيوية من الملح والطين، والسقوف من خشب النخيل، ولها مآذن غريبة الشكل، أشبه بمداخن المعامل، وسمك حائطها من أسفل حوالي مترين، ثم يقل سمكها تدريجياً كلما أرتفع بناؤها حتى يصل في النهاية إلى ثلث متر تقريباً
وكان أئمة هذه المساجد يدرسون في الوقت الماضي القرآن للصبيان على طريقة عتيقة غير مألوفة، وهي أن يحفظوهم القرآن من غير أن يعرفوا القراءة والكتابة، ولكن مصلحة الحدود أنشأت مدرسة أولية بسيوة تتبع في تدريسها منهاج وزارة المعارف العمومية، ويؤمها أولاد السكان؛ غير أن الإقبال عليها غير كثير برغم كل تسهيل يقدم للأولاد، وتتساهل المدرسة فلا تطلب من الطلبة إلا أن يلبسوا جلباباً نظيفاً وطاقية نظيفة، على أن معظم الأطفال يحضرون حفاة من غير أحذية، ومع كل ذلك فالرجل يفضل أن يشغل ابنه في الحقل أو الحديقة على أن يعلمه أبسط المبادئ من القراءة والكتابة والحساب، ووصل(59/73)
الأمر بعناية الحكومة بهؤلاء الناس أن أرسلت أثنين منهم للجامع الأزهر ليتلقوا فيه العلوم الدينية على أحسن الأساتذة، غير أنهما بعد بضع سنين كرها الإقامة في القاهرة ودفعهما الحنين إلى سيوة فعادا إليها ولم يحصلا من العلم إلا قليلا
تتكون السوق في سيوة من بضعة حوانيت متجاورة تبيع كل ما يحتاجه السكان من مختلف الأصناف، وأثمان جميع الحوانيت واحدة، ولذا فلا يهم الشاري أن يشتري من هذا أو من ذاك ما دام الثمن واحداً، وإذا دخلت حانوتاً من هذه الحوانيت خيل إليك لأول وهلة إنك في مخزن بضائع إذ ترى فيه عدة رفوف من خشب قديم وميزان وبعض الأكياس (والمقاطف) فيها دقيق وعدس وفول وسكر، وفي ركن من أركان الحانوت بضعة أثواب من البفتة، ومعلق بسقف الحانوت بضعة مناديل للرجال وللنساء ذات ألوان متنافرة غريبة. وترى في ركن ثان من الحانوت بضع صفائح بها زيت الزيتون وأبسطة من الصوف تنسجها نساء العرب بأيديهن ويبعنها للتجار. ويربح بعض التجار كثيراً من حوانيتهم وبخاصة من بيع البلح وزيت الزيتون، على أن النقود المتداولة في سيوة هي النقود المصرية بجميع أنواعها، ولم أر بها عملة أخرى كما هو الحال في السلوم، إذ إنني رأيت فيها العملة التركية القديمة وبعض النقود الإيطالية متداولة في أيدي التجار والأهالي، وقد أعتاد الأهالي أن يرهنوا حدائقهم وحقولهم لبعض التجار نظير أرباح باهظة، حتى أن بعض التجار يتمادى في الجشع فيطلب من المدين أن يسدد دينه بلحاً وزيتوناً، ولكنه ينص في شروط الرهن على أن يكون سعر البلح والزيتون نصف سعره المعتاد في السوق، وبذلك يكون التاجر قد ضاعف مبلغه الذي أقرضه للمدين زيادة على الأرباح التي ينالها عن مبلغه الذي دفعه للمدين، وفي ظروف كثيرة يقبل المدين كل تلك الشروط الباهظة لحاجته للمال. وقل أن يرى المرء امرأة أمام حانوت من حوانيت البلد، والعادة أن تمر زوجة التاجر أو أمه ببضاعتها على المنازل ليشتري أصحابها ما يشاءون، وما تشتريه النساء عادة. يكون الكحل والحناء وبعض حلي من الفضة: كالدمالج، والأقراط الكبيرة الحجم التي تتدلى أطرافها من الأذن حتى تصل كتفي المرأة أو الفتاة. ثم إنهن لا يلبسن العقود الملونة من حبات متلاصقة كما هو الحال في المدن. بل إنهن يلبسن أطواقاً من الفضة حول أعناقهن بأن يدخلن رؤوسهن فيها. ولذا فهي تباع كثيراً لدى التجار، وأيضاً فإنهن يشترين أحذية(59/74)
من جلد أحمر رقيق، وملاءات يلتففن بها وقت خروجهن، وهي من قماش قطني ذات خطوط زرقاء تجاورها خطوط رمادية، وهذه الملاءات يحضرها لسيوة أحد التجار المصريين، إذ أن لعمه مصنعاً خاصاً ببلده بمديرية الجيزة، ويشترين أيضاً بعض الأصباغ الخضراء والحمراء والزرقاء، لصبغ سعف النخيل الذي يصنعن منه (مراجين) وسلات وغيرها
وكثيراً ما تبيع زوجات التجار الأحجية والتعاويذ الفضية التي عليها آيات من القرآن الكريم. وقد لاحظت أن النساء لا يحاولن أن يغيرن ملبسهن بأحسن منه، وكلهن في ذلك سواء. وليس في السوق سوى قصابين يبيعان عادة لحم الجمال للأهالي والعرب، ولكنهما مكلفان ببيع لحم الضأن ثلاثة أيام في الأسبوع هي الأحد والثلاثاء والجمعة، وهذا طبعاً ليتمكن الموظفون الحكوميون من أكل لحم الضان. ولذلك لا يذبح القصاب إلا كبشاً واحداً يكفي الموظفين، لأنهم يشترون في الأيام الثلاثة اللحم الذي يكفيهم كل أسبوع.
وأهم ما يشتريه الأهالي من التجار الشاي والسكر فهما عماد الحياة والعمل لدى السيويين والعرب، ولا يمكن أن يستغني عنهما منزل قط، ولاحظت أن إقبال السيويين على شرب القهوة قليل جداً بل يمكن القول بأنه معدوم، وحدث أن أحتاج خادمي بناً لعمل قهوة فبحث في حوانيت الواحة كلها فلم يجد.
يحيك السيويات ملابسهن وملابس أزواجهن وأولادهن بإتقان ودقة، وبعضهن يطرزن ملابسهن بخيوط حريرية مختلفة الألوان، غير أنه يخالف ما ألفناه في القاهرة، وبعض السيويات يغزلن الصوف وينسجنه ويصنعن منه جبباً للرجال يلبسونها وقت الشتاء القارس، وهذه الجبب وأن كانت رديئة المنظر إلا أنها تساعد الرجال على تحمل برودة الشتاء على كل حال.
على أن للسيويين والسيويات طباعاً نراها نحن شاذة لا تتمشى مع ما ألفناه من عادات وأخلاق، وسنأتي على سرد تلك العادات تباعاً إن شاء الله.
كابتن(59/75)
الكتب
كلمة إلى الشبان الطلبة على ذكر كتاب
مرشد المتعلم
ترجمة الأستاذ محمد أحمد الغمراوي
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
كثيراً ما هممت أن اكتب في أمر من أمور التعليم إلى الرسالة الغراء، عالماً أن صدرها الرحب يتسع لذلك البحث لما فيه من مساس بناحية حيوية من نشاطنا، غير أني كنت كلما هممت بذلك قعدت بي معان صدتني عن عزيمتي. فأنني معلم بي ما بصاحب الفن من حب لفنه وانصراف بقلبه إليه. غير أن التعليم مرتزقي، وسبيل الأرزاق غير حبيب، فما يكاد الرجل ينصرف من مضطرب عيشه حتى يود أن يتناسى ما اعتراه في ذلك المضطرب، فتراه يقبل على كل حديث غير حديث فنه، ويحب الخوض فيما يبعد به عن ذكر صناعته. ومع ذلك قد رأيتني أقرأ كتاباً أهداه إلي صديق كريم قد ترجمه عن الإنجليزية إلى العربية، وهو الأستاذ محمد أحمد الغمراوي، فبدأت قراءته لأنه كتاب صديق، ثم رأيتني أسير في قراءته مقبلاً عليه لما فيه، واضمحلت صورة الصديق شيئاً فشيئاً من ثنايا السطور حتى صرت بعد لا أجدها، وصرت أعاود الكتاب لنفسه، وأطلب صحبته وحديثه لما أجده فيه من فائدة ولذة ونشاط.
ذلك الكتاب سفر قيم. أقل ما أصفه به للشبان أن قراءته ضرورة لازمة لهم إذا شاءوا أن يخرجوا من دراستهم على أكبر قسط من الفائدة من وراء جهدهم وعملهم. وإذا كنت أخاطب الشبان بذلك فأني أفعل ذلك لعلمي بأنهم أحوج الناس إلى قراءة مثله، ولكن ليس معنى هذا أن من هم من طبقة أعلى من الشبان سناً قد بعدوا عن أن يجدوا في قراءته فائدة، أو استغنوا عن أن ينتفعوا بما فيه من بحوث طريفة فأني أقول غير مجامل ولا مبالغ أنني قد خرجت من قراءة ذلك الكتاب وقد علمت كثيراً مما كنت أجهل، واستوضحت كثيراً مما كان غامضاً مبهماً عندي، وغيرت كثيراً مما كنت متجهاً إليه، قانعاً به. وفضل ذلك الكتاب لمن يقرؤه من الكبار أنه يوحي إليهم معاني جديدة بما يأتي به، مما قد يكون معلوماً(59/76)
لهم، فيرى القارئ المعاني تهم في نفسه وهو يقرأ كأنما تلك القراءة تثيرها وتوقدها.
قلت أن الطالب الشاب لا غنى له عن قراءة ذلك الكتاب، وذلك لأنني أعرف أن الطالب الشاب في حياته اليومية يسير سيراً غير مهتد. فلا هو يجد من يهديه ولا هو إذا وجد من يهديه بآخذ عنه نظاماً تاماً شاملاً يستطيع أن يهتدي به في كل جهوده وأعماله على اختلافها. فالطالب يقرأ، ولكنه وهو يفعل ذلك يتجه إلى حيث تدفعه المصادفة أو المثل، وقد يكون موفقاً في طريقته كما أنه قد لا يكون موفقاً، ولكنه على أي حال لا يكون في اتجاهه مرتكناً على أساس قوي علمي. ولا أظن أن بين المعلمين أو أساتذة الجامعة من يجد فرصة في وقت درسه يستطيع أن يرشد الطالب فيها إلى خير الطرق التي يسلكها في دراسته، فإن الوقت مخصص كله لمادة الدروس بطبيعة الحال. ولقد كان من أشد الأمور إيلاماً لنفسي أن أرى في بعض الأحيان بعض تلاميذي وهم ينكبون على دراستهم انكباباً غير موفق إذ يتبعون في ذلك طريقة تجعلهم كمن يحاول السباحة في وجه التيار، فلا هو موفر جهده، ولا هو سالك سبيله. وكنت إذ أرى ذلك أحاول جهدي أن أرشد بمقدار علمي، ولكني كنت لا أستطيع أن أبسط المعنى بسطاً تاماً يستقر في النفس استقرارا متمكناً، ويحيط بالمصاعب من جميع أطرافها. فكنت أتمنى لو أتيح لهؤلاء المساكين كتاب يستطيعون أن يجدوا فيه الهداية.
وما كنت أجد تلك الطلبة حتى أتحف الصديق الغمراوي قراء العربية بكتابه.
يبدأ ذلك الكتاب بمقدمة ككل كتاب في مثل موضوعه، يهيأ فيها المؤلف عقل الطالب إلى أن يدخل على عمله بذهن مفتوح وعقل فاحص يقظ، وهذا هو الفصل الأول وعنوانه (تولى المرء أمر نفسه) ثم يلقي عليه في الفصل الثاني خطة العمل ويسميها (خطة الغزو) يبين له كيف يقسم وقته للمذاكرة والدراسة، وما مقدار الوقت الذي يجب عليه أن يجعله لتلك المذاكرة، وطريقة تقسيم ذلك الوقت على مختلف المواد، وأي المواد يبدأ بمذاكرتها، وأيها يؤجله في ترتيب المذاكرة، ثم يبين للطالب أي الطرق أصلح في توزيع لوقت على الدروس: هل الإصلاح أن يجعل لكل مادة قسطاً صغيراً كل يوم، أو أن يجعل قسطاً أطول من ذلك بين حين وحين، وهو في كل ذلك يستضيء بنور التجارب العلمية الثابتة.
وأسلوبه في ذلك البيان أسلوب حي بديع، فهو يقول مثلاً، (ومن الخطر الكبير في استعمال(59/77)
جدول المذاكرة الجمود. أن من الصعب أن نفرغ من عملنا في كل مادة في اللحظة التي يحل فيها وقت مادة أخرى، وقد يخطر لنا تخلصاً من هذه الصعوبة أن نفرد كل ليلة في نهاية المذاكرة حصة صغيرة، قل خمس عشرة أو عشرين دقيقة نجعلها كزمن احتياطي ننهي فيه أي شيء صغير قد نكون اضطررنا إلى إغفاله في أية حصة عادية من حصص المذاكرة، لكن هذه الخطة محفوفة بالمخاطر.) وهكذا يسير بالطالب حتى يستقر معه على خير الخطط وأوثقها.
ومن خير ما جاء في هذا الفصل ما كتبه على التعب وماهيته في المذاكرة، وطرق التغلب عليه أو تقليل ضرره.
وفي الفصل الثالث بحث طريف في (تصريف الذاكرة) وطرق الحفظ، ويليه في الفصل الرابع بحث آخر في مثل طرافته في (طبيعة الدراسة والتفكير) والفصل الخامس بيان (طريقة المذاكرة) وهو بحث عملي لا يستغني عنه الطالب، وقد أفاض فيه المؤلف إفاضة أحاطت بالموضوع من أطرافه
وأجد نفسي ضنيناً بأن أترك باباً من أبواب الكتاب لا أكتب عنه كلمة، بل أجد نفسي ميالاً إلى أن انقل إلى القارئ منه نموذجاً لعله يعرف أي قول فيه وبأي أسلوب، غير أني أعود إلى نفسي فأذكر أنني إنما أنوه بكتاب رأيت فائدته، على صفحات مجلة قد لا تتسع لكل ما أريد ذكره من ذلك. ولكن لابد أن أنوه بالفصل الثامن الذي يعالج فيه المؤلف (الإصغاء وأخذ المذكرات) فإن هذا الفصل يسد حاجة ماسة عند طلبة المدارس ولا سيما طلبة الجامعة والمدارس العليا
وقد أضاف المعرب فصلاً بعد الفصل العاشر ألحقه بالفصل السابع وجعل موضوعه (كتب المراجعة في اللغة العربية). والحق أن هذا الفصل بحث عميق في تراثنا اللغوي والعلمي، وفق فيه المعرب كل التوفيق، وأصاب في أضافته كل الإصابة، وقد تناول فيه أمهات المراجع العربية بالوصف والتحليل فكان فصله دليلاً يرجع إليه من شاء المراجعة في تلك الأمهات ليهتدي إلى أيها شاء.
فأزف إلى الأستاذ المعرب إعجابي الذي لا حد له بذلك الكتاب وأرجو أن ينتفع به أبناؤنا في جهادهم العلمي، وأوصي من يطلع على كلمتي هذه من الأخوان أن يصفوه لمن حولهم(59/78)
من الأبناء، ففيه خير عون لهم ونعم الهادي.
محمد فريد أبو حديد
جولة في ربوع الشرق الأدنى
للدكتور عبد الوهاب عزام
سمعت بسياحات الأستاذ محمد ثابت، فأعجبت به واغتبطت، أن كان من المصريين سياح يجوب الآفاق إلى أقصى الأرض ليرى ويصف، ويقص على أمته من أنباء الأمم الأخرى. ولم يتح لي أن اطلع على ما كتبه هذا الرحالة المصري إلا الأسبوع الماضي، إذ اطلعت على كتابه (جولة في ربوع الشرق الأدنى) وقرأت ما كتبه عن العراق وإيران، فإذا الرحالة الهمام يعوزه العلم والتثبت في مواضع كثيرة، وأنا أربأ به أن يكون كبعض سائحي الأمريكان؛ يقدم واحدهم إلى القاهرة فيرى في ساعات قليلة الأهرام والأزهر والقلعة ومسجد السلطان حسن، وخان الخليلي، ويرى في الشوارع أناساً لا يعرف وجوههم ولا يفهم لغتهم، ولا يفقه عاداتهم ثم ينقلب إلى أهله فيكتب أو يحدث عما يضطرب في رأسه من خوفو باني الأزهر، وجوهر الصقلي مشيد الأهرام، والسلطان حسن مؤسس القاهرة وهلم جرا!! ثم يتحدث عن أخلاق المصريين وتأثير تاريخهم وجوهم في هذه الأخلاق
إنما يراد بالرحلات المشاهدة، والعلم عن عيان، وبحث بعض الأمور في مواطنها وإفادة علم جديد، أو إبطال وهم قديم، أو التثبت من رواية شائعة. وأما أن يطوف الإنسان بالبلاد مسرعاً كراكب القطار يخيل إليه أن الأرض والجبال والشجر سائرة وأن السيارة التي تجري إلى جانبه واقفة فذلك قلب الحقائق أو تشويهها، وتلك سبيل علمها شر، وجهلها شر.
وأحسب رحالتنا أعتمد في بعض ما كتب على كتاب من الأدلة الأوربية، وبهذا يفسر كثير من الغلط والتحريف في الأسماء، وتاريخ الحادثات الإسلامية بالتاريخ الميلادي، ونحن معشر المسلمين، يكذب علينا كتاب أوربا ويفترون على ديننا وتاريخنا وأخلاقنا، ويسيئون بنا الظن إساءة تقلب حسناتنا سيئات. فينبغي للسائح المسلم ألا يشركهم في ضلالاتهم، فيكتب كل ما يسمع غير متثبت، ولكن الرحالة المصري المسلم لم يتوق الغلط والغلوا مع نية حسنة وقصد سليم. وأصل البلية أن الأمم الإسلامية قد تقطعت بينها الأسباب، وجهل(59/79)
بعضها بعضاً إلا ما يقرءون في كتب الأوربيين، فصار المصري إذا رحل إلى العراق وإيران وتحدث عن أخلاق أهليها ومذاهبهم، فإنما يقص عن بلاد مجهولة لم يعرف ماضيها ولا حاضرها، على قرب ما بين الأمم الإسلامية وكثرة ما بينها من أواصر، وسهولة تفهم أحوالها ودرس تاريخها.
وفيما يلي نماذج من الأغلاط التي وقع فيها المؤلف:
من الغلط في بديهيات التاريخ الإسلامي قوله أن الحسن بن علي رضي الله عنه فر من العراق وقتل، وإن الحسين قتلته جنود معاوية، وقوله إن بلاد الفرس فتحها المسلمون في ستين عاماً، وجعله معاوية بن أبي سفيان فر من خالد بن الوليد في قيادة الفتوح أيام عمر، وقوله عن خلافة عثمان بن عفان (ثم جاء عثمان وقتل عاجلاً) كأنه لم يل الخلافة إحدى عشرة سنة، وقوله في أثناء الكلام عن الحجاج: (وكان زياد في البصرة) كأن زياداً والحجاج وليا العراق في وقت واحد، وبين موت زياد وولاية الحجاج زهاء عشرين سنة، وقوله أن خالد بن الوليد صلى في جامع همذان، وقوله إن الفرس رأوا في العباسيين أعداءهم فحاربوهم بالتشيع، وهذه كما يرى القارئ أغلاط كنا نربأ بالأستاذ أن يقع فيها.
ومن التحريفات كتابته مدينة هيرات بالياء. ونصر الدين شاه بدل ناصر الدين بالألف. وجبل الفند، ودمافند. وكرفان سراي بالفاء بدل الواو في الكلمات الثلاث. وقصر جولستان بالواو بعد الجيم. وهذا تحريف النقل من الكتابة الإفرنجية وأشنع من هذا أنه قال عن الإيرانيين اللذين سافروا معه إلى مشهد إنهم كانوا يصيحون بين الحين والحين: (لا هم سل إلى مهمد آلي مهماد) فهل عرف الرحالة المدقق أن هذه الكلمة التي سمعها هي (اللهم صل على محمد وآل محمد) فإن كان قد عرفها فلماذا لم يفسرها بالكتابة الصحيحة، وإن كان لم يعرفها فلماذا لم يسأل عنها؟ وأفضع من هذا كله قوله عن إخواننا شيعة إيران أنهم يفضلون مشهداً على مكة. وكيف يعقل أن أمة مسلمة شديدة الغيرة على دينها تعتقد أن الحج إلى مكة فرض وقاعدة من قواعد الإسلام - كيف يعقل أن هذه الأمة ترى زيارة مشهد أفضل من الحج إلى مكة؟ ربما بالغ عامة الإيرانيين في تعظيم مشهد وغيرها من المزارات الشريفة كما يبالغ عامة المصريين في تعظيم مسجد سيدنا الحسين والسيدة زينب والسيد البدوي وإبراهيم الدسوقي، ولكن عمل العامة لا تفسر به عقائد الأمة. وهذه كتب الشيعة بين أيدينا(59/80)
تنطق بخلاف ما زعم الكاتب، ولست أنسى غضب إخواننا شيعة العراق من قول بعض أساتذتنا: إن الشيعة الأمامية يتبرءون من الشيخين، ولست أنسى عتب أحد علمائهم في بغداد، ولا عتب السيد الحجة محمد الحسين آل كاشف الغطاء حينما شرفنا بزيارته في النجف فقال: لماذا تكتبون عنا ولا تقرءون كتبنا. لقد كان عتاب الأخ للأخ يود ألا يكون بينهما من الغلط ما يكدر صفو الأخوة الإسلامية، وقد اعتذرنا للسيد يومئذ واعترفنا بتقصيرنا في الاطلاع على كتب أئمة الشيعة. وأنا اعتذر هنا مرة أخرى عن الرحالة محمد ثابت واثقاً بحسن نيته، وإن كان حسن النية لا يعد عذراً كافياً لمن لم يتحر الحق في كلامه.
وفي الكتاب أغلاط أخرى، أرجو أن يتوقى أمثالها في رحلاته المقبلة.
وإنني لراج أن يتم التعارف بين الأمم الإسلامية، حتى لا يكتب بعضها عن بعض إلا عن علم وروية، وتثبت وإنصاف، والله ولي التوفيق.
عبد الوهاب عزام
التجديد في الأدب الإنجليزي الحديث
تأليف الأستاذ سلامة موسى
للأستاذ سلامة موسى في خدمة الأدب العربي المعاصر همة تذكر فتشكر، فهو ما ينفك يتحف جمهور المثقفين بأبحاثه الطريفة على صفحات مجلته الغراء وغيرها من الصحف ومن آثاره الأدبية الأخيرة كتابه هذا عن التجديد في الأدب الإنجليزي ويقع في نحو مائة صفحة من القطع الكبير. شرح الأستاذ الحركة الفكرية في العصر الفيكتوري، ثم تكلم عن بعض المذاهب الأدبية في ذلك العصر، وذكر بعض الأجانب وأثرهم في الأدب الإنجليزي. كذلك ذكر اثنين غيرهما وجارى ماكس نورداو في تسميتهما المنحطين وهما: والتر باتر وأوسكار وايلد، ولخص مذهبهما في أنه ينحصر في الدعوة إلى الجمال بلا اعتبار للأخلاق أو العرف،
ثم ترجم الأستاذ لبعض أعلام الأدب الإنجليزي مثل كبلنج وهو في رأيه شاعر الاستعمار، وبرناردشو ودارون وولز وجالزورثي وغيرهما، ولقد تعرض لمذاهبهم وفلسفتهم في دقة(59/81)
ومهارة. ولقد يبدو موضوع الكتاب غريباً عند من لم يكن له إلمام بالأدب الإنجليزي، والحقيقة أنه نافع لكل مثقف فهو يدرس حركة فكرية، والحركات الفكرية وثيقة الصلة بالحياة، ومن ثم فأنت تقرأ في هذا الكتاب ملخص الحياة الاجتماعية في إنجلترا منذ عام 1830، بيد أن الأستاذ المؤلف يغالي في بعض آراءه مغالاة تنتهي بأحكام لا يمكننا أن نمر عليها دون أن نعارض الأستاذ فيها، وخصوصاً لصدورها من أديب نابه كالأستاذ سلامة موسى. فهو ينعت العصر الفيكتوري ما بين 1830 و1900م بأنه عصر خمول في الأخلاق والأدب، مع انه من أرقى عصور الأدب الإنجليزي وأحفلها بالحركات والاتجاهات الأدبية الجديدة، بلغت فيه المدرسة الرومانتيكية غاية نموها وتطورها، وتعددت فيه مذاهب الكتاب وأتسع الأدب في نواح عديدة كالقصة والشعر والتاريخ وأدب المقالات وغيرها. يتجلى ذلك في شعر الشعراء اللذين افتتحوا هذا العهد ولم تمهلهم المنية كشلي وبيرون وفي شعر غيرهم ممن عاشوا بعدهم كورد ثورث وتنسن، كما يتجلى في قصص سكوت العديدة وقصص شارلز دكينز العظيم وثكري ومن ذهب مذهبهم أو خالفهم من القصصيين، كما يتجلى في كتابات ماكولي وكارلي ورسكن وغير هؤلاء وهؤلاء ممن ارتفعوا بآدابهم إلى درجات المجد، وما التجديد الذي يشير الأستاذ إلى ظهوره في عام 1900 إلا ثمرة من ثمار العصر الفكتوري الناهض، وأنك لتلمس أسبابه في حركات ذلك العصر وترى هذه الأسباب واضحة في كتاب الأستاذ نفسه مما يتفق مع وصفه هذا العصر بالجمود. لذلك لا أستطيع أن أشايع الأستاذ في قوله إن الأدب الإنجليزي قد أتجه طول مدة القرن التاسع عشر نحو الصياغة اللفظية دون التفكير و (الاقتحام)، هذا مع احترامي لآراء الأستاذ الفاضل ومزيد إعجابي بطريقته في عرض آرائه وثقافته الواسعة، فهو كما يتجلى وفي كتابه هذا وفي سواه من مؤلفاته العديدة يعتبر بحق مثالاً للأديب العصري المثقف
محمود الخفيف(59/82)
العدد 60 - بتاريخ: 27 - 08 - 1934(/)
من فضائل الأزمة
المصري يكتشف بلاده
من صفات الأزمات الاقتصادية أنها تعلم الناس الاقتصاد. وتحملهم على الاعتدال في كثير من مواطن الإسراف والتطرف، وقد دهمتنا الأزمة الاقتصادية منذ أربعة أعوام، فقضت على كل أسباب الرخاء والسعة، وألقت على ذوي البذخ والترف دروساً قاسية؛ ولكنها علمتنا من فضائل الاقتصاد ما لم نكن نعلم، وفتحت عيوننا إلى أمور كثيرة كانت دعة الرخاء تحملنا على إغفالها، وبثت إلى الأعصاب المضطرمة كثيراً من عوامل الهدوء، وإلى النفوس الجامحة كثيراً من عوامل الاعتدال.
وكان الاصطياف من الأمور التي كشفت لنا الأزمة بعض أسرارها؛ ففي أعوام الرخاء والسعة، كان المصريون في كل صيف يهرعون ألوفاً إلى عواصم أوربا ومصايفها، وينفقون مئات الألوف في فنادقها ومنتدياتها وملاهيها، ثم يعودون وقد استنفد التجوال الممتع كل ما في جيوبهم؛ وكان ما ينفقه المصريون كل عام في الاصطياف خارج القطر يبلغ زهاء المليونين، تذهب كلها إلى يد الأجانب. فلما حلت الأزمة، وذهبت بالدخل الفياض، قبع كثير من المترفين السابقين الذين كانت تجذبهم (موائد) دوفيل وبيارتز ومونت كارلو في دورهم، وذكر كثيرون أن هنالك مصايف مصرية يمكن انتجاعها، ولا تكلفهم ركوب البحار وإنفاق المئات والألوف، وذكر كثيرون أيضاً أن هنالك مصايف شرقية قريبة لا بأس بها.
كان للأزمة فضل هذا الاكتشاف. فبالأزمة وحدها اكتشف المصريون بلادهم، وعرفوا بعد فوات كثير من الوقت أن إنفاق الملايين خارج القطر على هذا النحو سفه لا يغتفر، وانهم يستطيعون بقليل من المال أن ينتجعوا الراحة والعافية في مصايف بلادهم كالإسكندرية وبور سعيد ورأس البر؛ وكان لما بذلته مصلحة السكك الحديدية لتسهيل الاصطياف أحسن الأثر، فقد شعر الناس أخيراً أن الاصطياف ليس ترفاً، وليس وقفاً على الأغنياء، ولكنه ضرورة صحية، وأنه في متناول جميع الطبقات.
وأتجه كثير من المصريين، ممن شاءوا الاصطياف خارج القطر، إلى مصايف البلاد الشرقية القريبة التي لا تجشمهم كبير نفقة، فأموا فلسطين والشام ولبنان، واستطاعوا أن(60/1)
يتصلوا عن قرب بإخوانهم في تلك البلاد الشقيقة، وأن يعملوا على توثيق الروابط المشتركة بينها وبين مصر، وكان ذلك من فضائل الأزمة أيضاً.
نذكر إنه لما وقعت كارثة النقد في فرنسا سنة 1925، وهبط الفرنك إلى نحو نصف قيمته، بادرت الصحف الفرنسية إلى نصح الشعب الفرنسي بأن يقلل من شراء العملة الأجنبية جهد الاستطاعة، وأهابت بالفرنسيين الذين اعتادوا السفر والسياحة أن يبقوا داخل فرنسا حتى لا تبدد ثروات البلاد وقت المحنة النقدية في بلاد أجنبية، وأهابت بهم بالأخص أن يحاولوا أن يكتشفوا فرنسا أولاً، فيجدوا فيها من بدائع الطبيعة وساحر النره، وتنوع المناظر في البر والبحر، ما يخفف من شغفهم بارتياد مواطن السياحة والنزهة الأجنبية. فاستمع الفرنسيون إلى هذا النداء القومي، وكانت فرصة اكتشفوا فيها بلادهم على نحو ما قالت صحفهم يومئذ، واقتصدت فرنسا يومئذ مئات الملايين، وازداد الفرنسي شغفاً بالتجوال في بلاده، وتفضيلها على غيرها في قضاء فترات العطلة والراحة.
ولما وقعت الأزمة الاقتصادية الحالية، واضطربت أحوال النقد في كثير من البلاد الأوربية، وضعت ألمانيا والنمسا والمجر ويوجوسلافيا وغيرها قيوداً شديدة على شراء العملة الأجنبية لتحول دون تسرب أموالها إلى الخارج، ولتمنع مواطنيها جهد الاستطاعة من السفر خارج بلادهم وإنفاق أموالهم في بلاد أخرى. ووضعت دول أخرى قيوداً شديدة على شراء المنتوجات والحاصلات الأجنبية، واشترطت أن يكون الدفع بعملتها أو من منتوجاتها، وكان للقيود الأولى أثرها في ركود موسم السياحة المصري، وكان للثانية أثرها في كساد سوق صادراتنا.
ولكننا في مصر نغفل هذه الاعتبارات دائماً، ومال المصري مباح أبداً، وعرض للتبديد خارج القطر حتى في أحرج الأزمات؛ ولم توفق الحكومة المصرية حتى اليوم إلى أن تضع لها أية سياسة أو تقاليد ثابتة في مثل هذه الشئون؛ فهي لم تفكر مطلقاً في اتخاذ أية إجراءات للمحافظة على أموال المصريين الذين لا يحملهم أي وازع على حفظها، وللحد من حريات ذلك النفر الذي ما زال في كل صيف يحمل الأموال التي يعتصرها من عرق الفلاح إلى (موائد) العواصم والمصايف الأوربية، وإلى مراقصها وفتياتها.
يقولون إن لمصر موسم سياحة، وإنها تغنم من ذلك الموسم مالاً لا بأس به؛ فلماذا لا ينفق(60/2)
المصريون مثل هذا المال في مواطن السياحة الأوربية. والحقيقة أن مصر تظلم بهذا القول أيما ظلم، ففي مصر موسم سياحة حقاً، ولكن معظم الغنم في هذا الموسم لا يعود إلى مصر والمصريين، وإنما يعود إلى الأجانب: إلى شركات السياحة الأجنبية، وإلى شركة الفنادق الأجنبية؛ وما بضع عشرات الألوف التي تعود على خزينة الحكومة من أجور السكك الحديدية وتذاكر الآثار، ثم على بعض المصريين المتصلين بهذا الموسم، إلا فضلات ما يجنيه الأجانب باسمنا.
لقد بدأ المصري يكتشف بلاده، وعلمته الأزمة شيئاً من الاقتصاد والاعتدال؛ فهل سيعتبر بهذا الدرس دائماً، ويذكره أيضاً أيام الرخاء، فيظن قدر الاستطاعة بماله أن ينفق في غير بلاده؟ أم هو درس الساعة فقط، يزول أثره بزوال الظرف الذي ألقاه؟
وعلى أي حال فإنه يبقى للأزمة فضل التذكرة وفضل العبرة.
(ع)(60/3)
الشخصية
للأستاذ أحمد أمين
أعجب ما في الإنسان شخصيته، وقد تنوعت الشخصيات بعدد ما على ظهر الأرض من إنسان؛ فترى الشبه الكبير بين الحجر والحجر، ويصعب عليك أن ترى بينهما فرقاً، وترى المطبعة تخرج آلافاً من الكتب تتشابه وتتماثل، ولا تميز بين أحدها والآخر؛ وترى الشبه الكبير بين الوردة والوردة في رائحتها ولونها وكل شيء فيها؛ وترى الحيوانات من فصيلة واحدة تتشابه وتتقارب حتى ليلتبس عليك بعضها ببعض - أما الإنسان والإنسان فلا، حتى ليكاد يكون كل إنسان فصيلة وحدها - فإن كان علماء (الأثنولوجيا) استطاعوا أن يقسموا الإنسان إلى أنواع، وأن يضعوا لكل نوع خصائصه ومميزاته، فذلك عمل تقريبي محض؛ أما إن أرادوا الدقة التامة فلابد لهم أن يضعوا كل فرد في قائمة وحده، له مميزاته الخاصة في جسمه وعقله، وروحه وخلقه؛ فإذا أردنا أن نحصي الشخصيات في هذا العالم فعلينا أن نحصي عدد الناس فنضع ما يساويه من عدد الشخصيات - وكانت اللغة عاجزة كل العجز عن أن تضع لكل شخصية اسماً خاصاً، فاكتفت في الجسم بأن تقول: طويل أو قصير، وسمين أو نحيف، وأبيض أو أسمر؛ مع أن كل كلمة من هذه تحتها أنواع لا عداد لها، فهناك آلاف من أنواع الطول، وآلاف من أنواع القصر، وآلاف من الألوان؛ ولكنها عجزت فقاربت، ولو حاولت أن تضع اسماً خاصاً لكل نوع من أنواع العيون وحدها، على اختلافها في الألوان واختلافها في النظرات، واختلافها في السّحر، واختلافها في السعة والضيق لوضعت في ذلك معجماً خاصاً، وهيهات أن يغنيها.
وعجز علماء الجمال فاكتفوا بقولهم جميل وقبيح، مع أن هناك آلافاً من درجات الجمال، وآلافاً من درجات القبح، بل إنك لا تستطيع أن تنزل إنسانين في منزلة واحدة من الجمال والقبح، فلما أعياهم الأمر قنعوا بقبيح وجميل، واكتفوا بالإجمال عن التفصيل.
وعجز علماء الأخلاق فوقفوا في ذلك مثل موقف إخوانهم علماء الجمال، فقسموا الأعمال إلى خير وشر، وقسموا الصفات إلى فضيلة ورذيلة، وسموا الإنسان خيّراً أو شريراً، وهيهات أن يكون ذلك مقنعاً، فالخير والشر يتنوع بتنوع الأفراد، ولو كان للأخلاق ميزان دقيق لاحتاج إلى سنج بعدد ما في العالم من إنسان.(60/4)
الحق أن علماء كل علم عجزوا عجزاً تاماً عن يجاروا الشخصيات في كل مناحيها، وأن يسيروا وراء تحديدها تفصيلاً، ووجدوا العمر لا يتسع لهذا ولا لبعضه، فعنوا بوجوه الشبه أكثر مما عنوا بوجوه الخلاف، وعنوا بالموافقات أكثر مما عنوا بالفروق، وفضلوا أن يضعوا مسميات شاملة وإن شملها الخطأ، وأن يضعوا قواعد عامة وإن عمها الغموض والإبهام، وقالوا ليس في الإمكان أبدع مما كان.
هذه الشخصية لكل فرد هي التي ميزته عن غيره من الأفراد، وجعلتني أنا أنا، وأنت أنت، وهو هو، ولولا هذه الشخصية لكان أنا وأنت وهو شيئاً واحداً - هذه الشخصية هي مجموع صفاتك الجسمية والعقلية والخلقية والروحية، تتكون من شكلك ونظراتك ونبراتك وطريقة حديثك، ودرجة صوتك من الحسن أو القبح، وإيمائك وإشارتك كما تتكون من عقليتك وكيفية قبولك للأشياء، وحكمك عليها ومقدار ثقافتك - كما تتكون من تصرفاتك وموقفك نحو المال ودرجة حبك له؛ وعلى الجملة كل علاقتك بالحياة، وكل علاقة الحياة بك - وإذ كان الناس مختلفين في هذا كله اختلافاً يسيراً أو كثيراً كانت الشخصيات كذلك مختلفة، وبين بعضها وبعض وجود شبه في بعض الأشياء، ووجود خلاف في بعضها، وكانت بعض الشخصيات تتجاذب وتتحاب، وبعضها تتباغض وتتنافر - وفي الواقع إن معنى أحبك أو أبغضك، وأعرفك أو أنكرك، أن شخصيتي تحب شخصيتك أو تكرهها، وتعرفها أو تنكرها وصَدَق الحديث (الأزواج جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) وليس معنى حب الشخصية لشخصية أخرى أن الشخصيتين من جنس واحد، وإن ميولهما متقاربة، بل إن ذلك يرجع إلى قانون أكثر تعقيداً مما نظن، فقد يتحاب الشخصان لأن ميلهما العلمي في اتجاه واحد، أو ميلهما إلى كيف من الكيوف متحد، وقد يتحاب الشخصان لأنهما مختلفان ويكمل نقص أحدهما الآخر، كما يحب أحياناً كثيرُ الكلام قليلَ الكلام، وكما يحب الساكن الهادئ المتحفظُ المَرِحَ النشيطَ المتحرك، وكما تتعاشق الكهربائية السالبة والموجبة - على كل حال ليس قانون تجاذب الشخصيات وتنافرها قانوناً بسيطاً سهلاً يمكن الفصل فيه بكلمة.
هذه الشخصيات الإنسانية تختلف قوة وضعفاً واختلافاً أكثر مما بين الآلات الميكانيكية والمصابيح الكهربائية، فهذه شخصية عاجزة ضعيفة ذليلة، لا يكاد يتبينها الإنسان إلا(60/5)
بعسر، ولا يكاد يراها إلا بمنظار، ولا يكاد يحسها إلا بمجهود، هي (كاللمبة) قوتها شمعة واحدة، بل هي فوق ذلك مغبشة لكي تضعف قوتها، هي من جنس ما يستعمل في حجر النوم، نور كلا نور ووجود كعدم، لا تتعب نظر النائم لأنه لا يشعر لها بوجود، ولا تستهلك مقداراً يذكر من التيار لأنها كامنة الحياة، مسكينة في فعلها وانفعالها، ضعيفة في تأثيرها وتأثرها، وهذه شخصية أخرى قوتها ألف شمعة أو ألفان أو ما شئت من قوة، تضئ فتملأ البيت نوراً، بل هي أكبر من أن تضاء في بيت إنما تضاء في شارع كبير أو ساحة عامة، إذا وضعت في بيت أقلقت راحة أهله بقوتها، وأعشت الناظر بضوئها، وعُد وضعها غير ملائم لجوها، وكان مثل ذلك مثل من وضع (فناراً) في بيت، أو أشعل أكبر وابور جاز ليصنع عليه فنجان قهوة - وبين اللمبة الأولى الضعيفة الخافتة، والثانية القوية الباهرة درجات لا تحصى، فكذلك الشخصيات، بل أكثر من ذلك - ولكن هناك فروقاً بين الشخصيات واللمبات، أهمها أن اللمبة الكهربائية لا يمكنك أن تنقلها من قوة إلى قوة، فاللمبة التي قوتها شمعة واحدة هي كذلك أبداً، والتي قوتها مائة أو مائتان هي كذلك أبداً، وكلما تستطيع أن تفعله أن تنظف اللمبة وتجلوها حتى لا يضعف غبش من قوتها، ولا يقلل غبار من ضوئها - أما الشخصية الإنسانية فقابلة للتحول، بل هي قابلة للطفرة صعوداً وهبوطاً، علواً وانحطاطاً - فبينا هي خاملة ضعيفة إذ اتصل بها تيار قوي أشعلها وقواها حتى كأنها خلقت خلقاً آخر، وكأنه لا اتصال بين يومها وأمسها، هي اليوم مخلوق قوي فعال يلقي أشعته إلى أبعد مدى، وكانت بالأمس لا يؤبه بها، ولا يحس بضوئها - كذلك ترى شخصيات أخرى يخبو ضوءها، فإذا هي مظلمة بعد نور، وضعيفة بعد قوة، ليس لها من حاضرها إلا ماضيها - وكذلك شاء الله، يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويخلق الإنسان في أحسن تقويم، ثم يرده أسفل سافلين - وتأريخ الإنسان مملوء بالأمثال، فكم من نابغ بعد خمول، وخامل بعد نبوغ، وميت في الحياة الأدبية والاجتماعية حي، وحي مات، وهكذا شخصيات الناس في مد وجزر دائماً.
وهذا التغير المستمر في الشخصيات هو الذي أبقى على أمل المصلحين في إصلاح الناس، وباعد بينهم وبين اليأس.
وكل شيء يواجه الإنسان في حياته يؤثر في شخصيته أثراً صالحاً أو سيئاً فالغنى بعد(60/6)
الفقر، والفقر بعد الغنى، واليأس بعد الأمل، والأمل بعد اليأس، وما يعتريه من شدائد وكوارث، وما يبذله في صراع الحوادث، وما يلاقيه من رخاء ونعيم، وما يبعثه ذلك من هدوء واطمئنان - كل هذا وأمثاله له أثر في تكوين الشخصية يختلف ضعفاً وقوة؛ وأهم غرض للتربية الصحيحة في نظري أن تجعل ممن تربيهم شخصيات هي أقوى ما يمكن أن يكون الأشخاص من حيث استعدادهم وأهليتهم، فأنجح مرب هو الذي يستطيع أن يصل بطلبته إلى أقصى ما في استعدادهم من رقى، ويبلغ بشخصياتهم إلى آخر حدودها الممكنة - ولكن بجانب هذا التأثير العادي اليومي تحدث حوادث بارزة في تاريخ الإنسان وخاصة العظماء يكون لها الأثر البالغ والتغير الخطير - وهذه الحوادث يصعب ضبطها وتعليلها وحصرها - فقد تنقلب شخصيات الأفراد فجأة على أثر عقيدة دينية تملأ نفوسهم حماسة وقوة وعظمة كما رأينا في فعل الإسلام في رجاله أمثال عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد، فلولا الإسلام ما كانت لهم هذه الشخصيات البارزة، ولكانت عظمتهم محدودة محصورة، ولو سبقوا زمنهم بسنين لماتوا كأمثالهم من عظماء الجاهلية، وقد يكون بروز الشخصية وظهور النبوغ في الإنسان على أثر مقابلته عظيماً، فيحس بعدها كأن عود ثقاب أشعل في نفسه فألهبها، وأضاء ما بين جوانبه وحفزه للعمل، وهون عليه الأخطار، بل قد تكون العظمة نتيجة لشيء أتفه من ذلك، فقد يقرأ جملة في كتاب، أو يسمع عبارة من خطيب، فكأنها كانت مفتاح عظمته، وكاشف حيرته، بل قد تكون العظمة لم تأت من شيء خارجي بل أتت من تفكير الشخص في نفسه وتحليلها وتبين موقفها في العالم، وموقف العالم منها، وتساؤله لها ما رسالتها في العالم وكيف تؤديها - فإذا هو يشعر بعد طول التفكير كأن قبساً من نور إلهي ألهب نفسه، وأضاء العالم أمامه، فهو يسير على هدى، ويؤدي رسالته كما بُلّغ، إلى كثير من أمثال هذا مما لا يستطاع حصره.
ويظهر أن النفوس إذا نضجت تلمست الوسائل المختلفة لبروزها، وظهور عظمتها، والصوفية يقولون: (صاحب الخصوصية لا بد أن يظهر يوماً ما) ولكن كم في العالم من شخصيات كامنة لو هيئ لها عود الثقاب لاشتعلت، ولو أتيح لها القبس لأنارت، وكم من بذرة صالحة قوية لم تجد تربتها اللائقة بها، فغلبتها على الحياة بذرة فاسدة، وكم من زهرة بدأت تتفتح فأصابتها ريح هوجاء عصفت بها - وعمل المصلحين والشخصيات القوية في(60/7)
كل أمة أن يستكشفوا هذه الكوامن فيقدموا لها الغذاء ويتعهدوها بالنماء.
أحمد أمين(60/8)
الإنسانية العليا
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، طويل السكت، لا يتكلم في غير حاجة، ليس بالجافي ولا المَهين، يعظّم النعمة وإن دقت لا يذم منها شيئاً، ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، فإذا تُعُدّيَ الحق لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، وكان خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول، من نظره إلى السماء، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، ولا يطوى عن أحد من الناس بشْرَه، قد وسع الناس بسطُهُ وخُلقُه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق سواء، يحسن الحسنَ ويقويه، ويقبّح القبيح ويوهيه، معتدل الأمر غير مختلف، وكان أشد الناس حياء، لا يثبت بصره في وجه أحد، له نور يعلوه، كأن الشمس تجري في وجهه، لا يؤيس راجيه، ولا يخيب فيه، ومن سأله حاجة لم يردّه إلا بها أو بميسور من القول، أجود الناس بالخير.
صلى الله وسلم على صاحب هذه الصفات التي لا يجد الكمال الإنساني مذهباً عنها، ولا عن شيء منها، ولا يجد النقص البشري مساغاً إليها، ولا إلى شيء منها، ففيها المعنى التام للإنسانية، كما أن فيها المعنى التام للحق، ومن اجتماع هذين يكون فيها المعنى التام للإيمان.
هي صفات إنسانها العظيم، وقد اجتمعت له لتأخذ عنه الحياة إنسانيتها العالية، فهي بذلك من براهين نبوته ورسالته.
ولو جمعت كل أوصافه صلى الله عليه وسلم، ونظمتها بعضها إلى بعض، واعتبرتها بأسرارها العلمية - لرأيت منها كوناً معنوياً دقيقاً قائماً بهذا الإنسان الأعظم، كما يقوم هذا الكون الكبير بسننه وأصول الحكمة فيه، ولأيقنت أن هذا النبي الكريم إن هو إلا معجم نفسي حي ألفته الحكمة الإلهية بعلم من علمها، وقوة من قوتها، لتتخرج به الأمة التي تبدع العالم إبداعاً جديداً، وتنشئه النشأة المحفوظة له في أطوار كماله.
ولن ترى في الإنسانية أسمى من اجتماع هذه الصفات بعضها إلى بعض، وإني لأكاد كلما تأملتها أحسب هذا السمو قضاء وقدراً بإنسان على الإنسانية كلها. وهي دليل على أنه(60/9)
الإنسان الذي خلق للدنيا لا لنفسه، فهو لا ينمو بما يكون له على الناس من الحق، ولكن بما يكون للناس عليه من الواجبات، كأنما هو حقيقة كونية تعيش عيشها، فما تكون في الوجود إلا لتقرر وجودها هي، ولا تنتهي حين تنتهي بذاتها إلا لتبدأ معانيها في غيرها، فهو صلى الله عليه وسلم إنسان غُرِسَ في التاريخ غرساً ليكون حداً لزمن وأولاً لزمن بعده، وما كانت حياته تلك إلا طريقة غرسه، وهو أبداً قائم في مكانه الاجتماعي، إذ كان الزمن كلما تقدم زاد في إثباته. وقد أصبح في الدنيا كأنه جهة من الجهات لا إنسان من الناس، فلن يتغير أو يمحى إلا إذا تغير أو مُحي المشرق والمغرب.
ونحن حين نقرأ تلك الصفات وما فاضت به كتب الشمائل من أمثالها - لا نقرؤها أوصافاً ولا حلية، بل نراها صفحة إلهية مصنفة أبدع تصنيف وأدقه، ومن وراء تأليفها تفسير طويل لا يتهدّى الفكر البشري لأحسن منه ولا أصح ولا أكمل، فقد اجتمعت تلك الصفات في إنسانها اجتماع الأجزاء في المسألة الرياضية لا ينبغي أن تزيد أو تنقص، إذ كان في مجموعها ما وجد له مجموعها.
ويكاد الارتباط بين أجزاء هذه المسألة يكون هو بعينه صورة للارتباط بين أجزاء تلك الصفات الشريفة، فان كل جزء منها موضوع وضعاً لا يتم الكل إلا به، حتى لا موضع فيها لقلةٍ أو كثرة، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أدبني ربي فأحسن تأديبي) وأنت إذا دققت في هذا الحديث أدركت من معناته أن هناك طبيعة أخلاقية مفردة تجري على قانونها الذي وضعه الله لها وأحكمها به.
وأعجب ما يدهشنا من مجموع صفاته صلى الله عليه وسلم - أن فيها دليلاً بيناً على أنه مخلوق خلقة متميزة بنفسها كخلقة القلب الإنساني، نظامه حياته وحياته نظامه، وكأنما اعترته حالة نفسية كالتي تعتري القلب في استشعار الخطر فتخرجه من طبيعته إلى أقوى منها، فلا يزال يمد أعضاء الجسم بمدد لا ينفد - من القوة والصبر يجعل الحياة فيها على أضعافها كأنها حياة كانت مخبوءة وظهرت بغتة؛ وفي هذه الحالة تتجه غرائز النفس كلها إلى جهة واحدة كأنها مقدرة بميزان، مضبوطة بقياس؛ فترجع على تناقضها واختلافها متعاونة يؤازر بعضها بعضاً، وكان قانونها الطبيعي أن تتجاذب وتتساقط وتفسر الواحدة منها عمل الأخرى، فيجيء بها الشيء وضده معاً: كالصدق والكذب، والطمع والقناعة،(60/10)
والشهوات الثائرة والخمود الساكن، إلى آخر ما تعد من هذه الغرائز؛ ولكنها في استشعار الخطر تكون كالأشباه لا كالأضداد، فيشد بعضها بعضاً، ويتمم النقيض منها نقيضه، وتجري كلها في قانون واحد: هو الدفاع بأجزائها عن مجموعها؛ فترى النازع منها وإنه لمستقر في أشد من القيد، وكأن فيه غير طبيعته.
وهل ينبئك مجموع صفاته صلى الله عليه وسلم إلا أنه يعيش معيشة القلب إذا اختلف ما حوله وفجأته بغتات الوجود فتجاوز أن يكون منبعاً للحياة إلى أن يكون حافظاً للحياة في منبعها. وتلك الحالة - كما مر بك - تجعل وجود الإنسان هو وجود إرادته وعقله، لا وجود شهواته وغرائزه؛ وبذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، فهو مدة حياته في وجود إرادته لا غيرها، حتى ليس عليه سبيل لغميزة أو لائمة، كأنه خُلق تشدّه نية مستيقظة قد نبهها ما ينبه النفس من الغرر والخطر. ولعل هذا الشعور في نفسه صلى الله عليه وسلم هو التفسير لقوله: (نيةُ المؤمنِ خيرٌ من عمله) إلى أحاديث كثيرة مما يجري في معنى هذه الكلمة الجامعة؛ يريد بها: أن نية المؤمن لا تنطوي إلا على الخير الكامل، فهو ما دامت نيته على صلاحها، وسرُّه على إخلاصه - لا يعد اليسير من الشر يسيراً، ولا يرى الكثير من الخير كثيراً؛ فالأصل القائم في تلك النية المؤمنة ألاّ يبدأ الشر كي لا يوجد، وألاّ ينتهي الخير كي لا يفنى؛ فالمؤمن من ذلك على الخير والكمال أبداً، في حين أن عمله بطبيعته الإنسانية يتناول الخير والشر جميعاً، ثم لا يكونون إلا عملاً إنسانياً على نقص واضطراب والتواء.
وقد لا يستطيع المؤمن أن يأتي الخير في بعض أحواله، ولكنه يستطيع دائماً أن ينويه ويرغب فيه ويعزم عليه ليحقق ضميره الطيب في كل ما يهم به، ويحصر أفكاره في قانون نيته المؤمنة. وهذا هو الأساس في علم الأخلاق، لا أساس من دونه.
والنية من بعد هي حارس العمل، فكل إنسان يستطيع أن يذعن وأن يأبى، ومن ثم تكون هذه النية رداً ومدافعة من ناحية، واستجابة ومطاوعة من الناحية الأخرى؛ فهي على الحقيقة متى صلحت كانت استقلالاً تاماً للإرادة. وكانت مع ذلك ضبطاً لهذه الإرادة على حال واحدة هي التي ينتظم بها قانون المبدأ السامي.
ثم إنه لا ضابط لصحة العمل واستقامته إلا النية الصحيحة المستقيمة؛ فالتزوير والتلبيس(60/11)
كلاهما سهل ميسور في الأعمال، ولكنهما مستحيلان في النية إذا خلصت.
وهي كذلك ضابط للفضائل توجه القلوب على اختلافها وتفاوتها اتجاهاً واحداً لا يختلف، فيكون طريق ما بين الإنسان والانسان، من ناحية الطريق ما بين الإنسان وبين الله.
وأشواق الروح بطبيعتها لا تنتهي، فيعارضها الجسم بجعل حاجاته غير منتهية، يحاول أن يطمس بهذه على تلك، وأن يغلّب الحيوانية على الروحانية، فإذا كانت النية مستيقظة كفّتْه وأماتت أكثر نزعاته، ووضعت لكل حاجة حداً ونهاية؛ وبذلك ترجع النية إلى أن تكون قوة في النفس يخرج بها الإنسان عن كثير مما يحدُّه من جسمه، ليخرج بذلك عن كثير مما يحده من معاني الأرض.
وهي بعد هذا كله تحمل الإنسان أن ينظر إلى واجبه كأنه رقيب حي في قلبه، لا يرائيه ولا يجامله، ولا يخدع من تأويل، ولا يُغر بفلسفة ولا تزيين، ولا يُسكته ما تسول النفس، ولا يزال دائماً يقول للإنسان في قلبه: إن الخطأ أكبر الخطأ أن تنظّم الحياة من حولك الفوضى في قلبك.
وجملة القول في معاني النية أنها قوة تجعل باطن الجسم متساوقاً مع ظاهره، فتتعاون الغرائز المختلفة في النفس تعاوناً سهلاً طبيعياً مطرداً، كما تتعاون أعضاء الجسم على اختلافها في اطراد وسهولة وطبيعة.
وكل صفات النبي صلى الله عليه وسلم - مما ذكرناه وما لم نذكره - متى اعتبرت بذلك الأصل الذي بيّناه انتظمها جميعاً، فجاء بعضها تماماً على بعض في نسق رياضي عجيب، وظهرت حكمة كل منها واضحة مكشوفة، ورأيتها في مجموعها تصف لك عمراً هندسياً دقيقاً قد بلغ الغاية من الكمال والروعة والدقة، لا يُعَدُّ جزءٌ منه جزءاً، بل كله أجزاؤه، وأجزاؤه كله؛ كالوضع الهندسي؛ إما أن يكون بكله، وإما ألا تكون فيه الهندسة كلها.
وليس مجموع تلك الصفات في معناه إلا صنعة الإنسان صنعة جديدة تخرجه موجوداً من ذات نفسه، وتكسر القالب الأرضي الذي صب فيه وتفرغه في مثل قالب الكون، فإذا هو غير هذا الإنسان الضيق المنحصر في جسمه ودواعي جسمه، فلا تخضعه المادة، ولا يؤتى من سوء نظره لنفسه، ولا تغرّه الدنيا، ولا يمسكه الزمان؛ إذ كانت هذه هي صفات المستعبَدِ بأهوائه لا الحر فيها، والخاضع بنفسه لا المستقل بها، والمقبور في إنسانيته لا(60/12)
الحي فوق إنسانيته. ومثل هذا المستعبد الخاضع المقبور لا وجود له إلا في حكم حواسه، فعمله ما يعيش به لا ما يعيش من أجله؛ ويتصل بكل شيء اتصالاًُ مبتوراً ينتهي في هوى من أهواء الحيوان الذي فيه.
ومن المقابلة العجيبة أن يكون في الإنسان الاجتماعي حيوان تقابله الحكمة في الحيوان الأليف بإنسان؛ وحكمهما واحد ومنطقهما لا يختلف. فلو أنك سألت حيوان الأعصاب عن صاحبه الإنسان لقال لك: هو غلّتي ومزرعتي. ولو سألت كلباً عن حبّه صاحبه ومبلغ هذا الحب في نفسه لما زاد في جوابه على أنه يحبه حبّ اللقمة والعظمة. . .
ومتى كان الإنسان في حكم حواسه لم تعد الأشياء عنده كما هي في نفسها بمعانيها الطبيعية المحدودة، وانقلبت كما هي في وهمه بمعان متفاوتة مضطربة، فلا يشعر المرء بائتلاف الوجود وتعاونه، ولكن باختلافه وتناقضه، فمن ثم لا تكون أسباب اللذة إلا من أسباب الألم، ويدخل في كل حب بغض، وفي كل رغبة طمع، وفي كل خير شر، وفي كل صريح خبئ، وهلم جراً؛ إذ لابد من هذا كله متى غلب الفاني على الباقي، ولابد من كل هذا في تمثيل رواية الحواس الخادعة التي أساسها التغّير والتقلّب، حتى لكأن النفس إنما تعيش بها في ظاهر من الحياة لا في الحياة نفسها.
وهذا الخداع جاعل كل شيء من أشياء النفس لا يبدأ إلا لينتهي، ثم لا ينتهي إلا ليبدأ؛ فما تزال هذه النفس طامعة فيما لا تناله، ولا يزال من ذلك مصدر لآلامها الحسية؛ ثم إذا هي نالت منالها سئمت، فلا يزال من ذلك مصدر آخر لآلامها المعنوية. ولن يجئ الصحيح من غير الصحيح، فالكون كله ليس إلا كذباً في النفس الكاذبة بحواسّها.
ولذا كان أخص أوصافه صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى خروجه من سلطان نفسه، فلا يغضب لها، ولا يطلقها من الدنيا فيما تذمه أو تمدحه، ولا يحب فيها، ولا يبغض من أجلها، ولا يهاونها، ولا يستلين لها في مأكل ولا ملبس، ولا يأخذها إلا من ناحية الإيمان بالله والإيمان بالإنسانية؛ فأفراحها أحزانها، وآمالها أشواقها، وأملاكها أعمالها، وحسابها في طبيعتها، وحوادثها من العقل لا من الحواس، وعظمتها إثبات ذاتها في غيرها، لا إثبات غيرها في ذاتها؛ وغايتها في الباقي لا الزائل، وفي الخالد لا الفاني. وما دام الحاضر متحركاً فهو طارئ عابر أو شكُ أمورِ الدنيا زوالاً، والعمل له على مقداره في قلة لبثه(60/13)
وهوان أمره، والاهتمام أبداً بما وراءه لا به.
فأول النفس النية العاملة لآخرتها، وآخر النفس ما تؤدى إليه أعمال هذه النية؛ فليس في إنسان الدنيا إلا إنسان العالم الآخر؛ وبهذا يقدّر صمته وكلامه، وحركته وسكونه، وما يأتي وما يدع، وما يحب وما يكره؛ إذ كل شيء منه على الاعتبار إنما هو صورة الحقيقة العاملة فيه.
وجماع الأمر ألا يكون مستقبل الإنسان علامة استهزاء بجانب ماضيه، ولا علامة استفهام، ولا علامة إنكار.
وتدل صفات النبي صلى الله عليه وسلم باجتماعها وتساوقها على حقيقة عظمى لم يتنبه إليها أحد؛ وهي أن جميع خصائصه النفسية مرهفة متيقظة، وهذا مما يندر وقوعه وإمكانه؛ فان الرجل من الناس ليكون حياً بالحياة، ولكن جوانب كثيرة من نفسه قد طاح بها الموت، أو هي مريضة، وذلك أول الموت؛ أو غافلة، وذلك شبه الموت. أما الحيّ العظيم فهو الذي يحيا بأكثر خصائص نفسه، وأما الحي الأعظم فهو الذي يحيا بجميع خصائصها، تملؤه الحياة فيملأ الحياة، ويتمدد السر فيه ليريه حقائق الأشياء، ويهديه ويدلّه، فيكون بنفسه رؤية للناس وهداية ودلالة؛ ومثل هذا يعظم ثم يعظم حتى ليرى الفرق بينه وبين غيره كالفرق بين نور لبس اللحم والدم، وبين تراب لبس الدم واللحم.
وذلك لا يكاد يتفق إلا في مراتب أعلاها الامتياز في النبوة، ثم النبوة؛ ثم تنزل إلى الامتياز في الحكمة، ثم تهبط إلى عبقرية الشعر. فأكبر الشعراء قاطبة كالنبي في معناه إلا أنه نبي صغير، وإلا أنه في حدود قلبه.
وهذه القوى الثلاث هي التي أبدعتها الحكمة الإلهية لتحويل الحياة والسموّ بها؛ فالشاعر يستوحي الجمال إذا تألّه الجمال في قلبه، والحكيم يستوحي الحقيقة إذا تألّهت في نفسه، والنبي يستوحي الألوهية نفسها.
(كان صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان) ولكنها أحزان النبوّة تكسو الحياة فرح النفس الكبيرة، وهو فرح كله حزن وتأمل، وفكرة وخشوع، وطهر وفضيلة. وما فرح أعظم الشعراء بطرب الوجود وجمال الموجودات إلا شيء قليل من حزن النبي.
(وكان دائم الفكرة ليست له راحة) إذ هو مكلّف أن يصنع الإنسان الجديد وينقح الآدمية(60/14)
فيه. وفكرة النبي هي معيشته بنفسه مع الحقائق العليا، إذ لا يرى أكثرها تعيش في الناس. وهي الفردية واستقلالها وسموّها لأنها إطاقة النفس الكبيرة لوحدتها، بخلاف الأنفس الضعيفة التي لا نطيقها، فدأبها أبداً أن تبحث عما تستعبد له، أو تنسى ذاتها فيه، أو تستريح إليه من ذاتها. ومتى كانت النفس فارغة كان تفكيرها مضاعفة لفراغها، فهي تفر منه إلى ما يلهيها عنه. ولكن العظيم يعيش في امتلاء نفسه، وعالمه الداخلي تسميه اللغة أحياناً: الفكرة، وتسميه أحياناً: الصمت.
(وكان صلى الله عليه وسلم طويل السكت لا يتكلم في غير حاجة) ومن الصمت أنواع، فنوع يكون طريقة من طرق الفهم بين المرء وبين أسرار ما يحيط به؛ ونوع يغشى الإنسان العظيم ليكون علامة على رهبة السر الذي في نفسه العظيمة، ونوع ثالث يكون في صاحبه طريقة من طرق الحكم على صمت الناس وكلامهم، ونوع رابع هو كالفصل بين أعمال الجسد وبين الروح في ساعة أعمالها؛ ونوع خامس يكون صمتاً على دويٍّ تحته يشبه نوماً ساكناً على أحلام جميلة تتحرك.
على هذا النمط يجب أن تفسر كل أوصافه صلى الله عليه وسلم؛ فهي بمجموعها طابع إلهي على حياته الشريفة يثبت للدنيا بكل براهين العلم والفلسفة أنه الإنسان الأفضل، وأنه الأقدر، وأنه الأقوى.
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(60/15)
بضع كلمات
خير زمام لمطية الشجاعة الحلم
لا تستقل أمة نفوس أفرادها غير مستقلة
لا يخرج أبو الهول من صمته حتى نتكلم
الحياة كأس تحلو وتمر، ثم تتحطم
لا تنهر السائل فقد ينهرك غداً
العفاف كالمعدة يشبع ويجوع، فإذا لم يجد ما اعتاده من طعام الزوجية الطيب انصرف إلى غيره من خبيث الطعام
المرأة شيطان جميل
السكير يملأ في آخر أيامه قواريره عقاقير
ما رأيت أستاذاً يعلمني الحلم خيراً من زوجتي وأولادي
شباب التاريخ يتجلى في آثاره القديمة
الطبيعة الجميلة ليست ملكي ولكنها ملك عينيّ، فلم لا أتمتع بها؟
الأولاد مصابيح البيت
المرأة كالطفل، نفر منه فيتبعنا، ونتبعه فيفر
أعمى البصيرة أعمى مرتين
المخدرات كالمرابي، ولكنها تتقاضى ربحها من صحتك
محمود خيرت(60/16)
شخصية نسوية أندلسية
صبح أو صبيحة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تتمة
تولى محمد بن أبي عامر مقاليد الحكم مع الحاجب جعفر بمعونة صبح وتدبيرها كما بينا، وبدأ الصراع بين الرجلين على الاستئثار بالسلطة. وكان أبن أبي عامر هو القوى بلا ريب، سواء بمواهبه وقوة نفسه أم بمؤازرة صبح له. ولم تكن هذه المؤازرة ترجع فقط إلى ذلك الحب القديم الذي تضطرم به جوانح صبح نحو ذلك الرجل القوي، ولكنها كانت ترجع أيضاً إلى ثقة صبح في مقدرته وبراعته، وفي أنه هو الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يحمي ملك ولدها الفتى، وأن يوطد السلام والأمن في المملكة. فكان ابن أبي عامر في الواقع هو السيد المطلق، وكانت صبح تفوض إليه كل سلطة وكل أمر، فكان يدير الشئون كلها بمهارة تثير إعجاب خصومه وأصدقائه على السواء.
وكان الأمير الفتى، هشام المؤيد بالله، ميالاً بطبعه وسنه إلى اللهو والدعة، ولم يكن له شيء من تلك الخلال الرفيعة التي تهيئ الأمراء للاضطلاع بمهام الملك، فكان يلزم القصر والحدائق، ويقضي كل أوقاته في اللهو واللعب بين الخصيان وآلات الطرب. وكان أبن أبي عامر يشجع هذا الميول السيئة في نفس الأمير ويراها ملائمة لمقاصده؛ ومذ ولى هشام، حجر عليه أبن أبي عامر؛ ولم يسمح لأحد غيره برؤيته أو مخاطبته، وكان يحمل صبحاً بدهائه وقوة عزمه على أن تخلق الأعذار لحجب ولدها، حتى غدا هشام شبه معتقل أو سجين في قصره لا يعرف شيئاً من العالم الخارجي إلا ما يسمح له من ضروب اللهو واللعب. وفي ذلك يقول لنا مؤرخ أندلسي: (حجر المنصور بن أبي عامر على هشام المؤيد بحيث لم يره أحد مذ ولى الحجابة. وربما أركبه بعض سنين وجعل عليه برنساً فلا يعرف، وإذا سافر وكل من يفعل به ذلك). ويروي كوندي أن سيداً فارسياً يدعى سابور كان من أمناء القصر أيام الحكم، جاء من ماردة إلى قرطبة يوم البيعة لهشام ليؤدي يمين الطاعة، وحاول رؤية الأمير فلم يستطع. وفي الفرص النادرة التي كان يسمح فيها للأمير بالخروج(60/17)
كان ابن أبي عامر يتخذ أشد التحوطات، فيحيط موكب الأمير حين يخترق شوارع قرطبة بصفوف كثيفة من الجند تمنع الشعب من رؤيته أو الاقتراب منه. وكان الحجر على هشام عماد ذلك الانقلاب العظيم الذي اعتزم ابن أبي عامر أن يحدثه في نظم الدولة لتمكين سلطانه وطغيانه وجمع سلطات الخلافة كلها في يده.
ولا يتسع المقام للإفاضة في شرح الوسائل والإجراءات المتعاقبة التي تذرع بها ابن أبي عامر لتحقيق مشروعه؛ ولكنا نقول فقط إنه سار إلى غايته بسرعة مدهشة، ولجأ في تحقيقها إلى أشد الوسائل؛ واستطاع بعزمه وصرامته وبراعته أن يستحق كل عقبة، وأن يروع كل منافس ومناوئ. وفي ذلك يقول لنا ابن خلدون: (ثم تجرد (أي ابن أبي عامر) لرؤساء الدولة ممن عانده وزاحمه، فمال عليهم، وحطهم عن مراتبهم، وقتل بعضهم ببعض، كل ذلك عن أمر هشام وخطه وتوقيعه حتى استأصل شأفتهم ومزق جموعهم). وكان أشد ما يخشى منافسة الحاجب جعفر، ودسائس الخصيان الصقالبة بالقصر؛ فبدأ بالتخلص من الصقالبة وحمل جعفر على نكبتهم وتشريدهم، فقتل منهم عدد كبير واعتقل الباقون أو شردوا؛ ولبث بعد ذلك حيناً يتربص بجعفر، ويحرض صبحاً عليه، وينوه كلما سنحت الفرص بقصوره وسوء تدبيره، ثم اعتقله أخيراً وأودعه السجن حتى مات؛ وجدّ بعد ذلك في مطاردة كل من يخشى بأسه من بني أمية أو غيرهم من زعماء القبائل، وسحق كل من يصلح للولاية والرآسة. وفي ذلك يقول ناقم منه:
أبنى أمية أين أقمار الدجى ... منكم وأين نجومها والكوكب
غابت أسود منكم عن غابها ... فلذاك حاز الملك هذا الثعلب
وعمد ابن أبي عامر إلى الجيش فنظمه من جديد ليؤكد عونه وإخلاصه، وأبعد عنه كل العناصر المريبة، وملأه بصفوف جديدة من البربر والمرتزقة؛ وفي سنة ثمان وستين وثلاثمائة أنشأ مدينة جديدة في ضاحية قرطبة على ضفة الوادي الكبير وسماها بالزاهرة، ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحة والدواوين؛ وأنشأ له حرساً خاصاً من البربر والصقالبة؛ واتخذ سمة الملك، وتسمى بالحاجب المنصور، ونفذت الكتب والأوامر باسمه، وأمر بالدعاء له على المنابر، ونقش اسمه في السكة؛ وتم بذلك استئثاره بجميع السلطات والرسوم، ولم يبق من الخلافة الأموية سوى الاسم.(60/18)
ماذا كان موقف صبح إزاء ذلك الانقلاب؟ لقد كانت أكبر عون لابن أبي عامر على إحداثه؛ وكان حبها المضطرم لذلك الرجل الذي ملك عليها كل مشاعرها وعقلها يدفعها دائماً إلى مؤازرته والإذعان لرأيه ووحيه؛ وكان إعجابها الشديد بمقدرته وتوفيقه يضاعف ثقتها به، ويعميها دائماً عن إدراك الغاية الخطرة التي يسعى إلى تحقيقها؛ هذا إذا لم نفترض أن تلك الفرنجية المضطرمة الجوانع كانت تذهب في حبها إلى حد الائتمار بولدها وتضحية حقوقه ومصالحه. والظاهر أن علائقها بابن أبي عامر، أو المنصور كما نسميه فيما بعد، انتهت بالخروج عن كل تحفظ، وغدت فضيحة قصر ذائعة، شهر بها مجتمع قرطبة وتناولها بلاذع التعليق والهجو؛ وظهرت في ذلك الحين قصائد وأناشيد شعبية كثيرة، في التشهير بحجر المنصور على هشام، وعلائقه بصبح. فمن ذلك ما قيل على لسان هشام في الشكوى من الحجر عليه:
أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قل ممتنعاً عليه؟
وتملك باسمه الدنيا جميعاً ... وما من ذاك شيء في يديه؟
ومن ذلك ما قيل في هشام وأمه صبح؛ وقاضيه ابن السليم:
اقترب الوعد وحان الهلاك ... وكل ما تحذره قد أتاك
خليفة يلعب في مكتب ... وأمه حبلى وقاض. . .
وهذه المقطوعات اللاذعة وأمثالها تعبر عن روح العصر، وتدل على ما كان يثيره موقف صبح وسمعتها من الحملات المرة. وتتفق الرواية الإسلامية في الإشارة إلى هذه العلائق الغرامية بين صبح والمنصور، وإن كانت تؤثر التحفظ والاحتشام؛ ولم نجد ما يعارضها سوى كلمة لكاتب مغربي يدافع فيها عن المنصور ويدفع عن صبح تهمة شغفها به، ويرمي أولئك الشعراء بالتحامل والكذب.
ولم يخمد جذوة هوى صبح زواج صاحبها المنصور، بل كان موقفها من هذا الزواج دليلاً جديداً على إخلاصها ووفائها، وكانت زوج المنصور أسماء ابنة غالب مولى الحكم وصاحب (مدينة سالم)، وهي فتاة بارعة الجمال والخلال؛ زفت إلى المنصور سنة 376، في حفلات كانت مضرب الأمثال في البذخ والبهاء؛ ونظم الاحتفال في قصر الخليفة ذاته بإشراف الخليفة، وبعبارة أخرى بإشراف أمه صبح؛ وأغدقت صبح على العروس رائع(60/19)
الهدايا والتحف؛ وكان زواجاً سعيداً موفقاً لبث مدى الحياة وإن كان غالب قد خرج بعد ذلك بأعوام قلائل على صهره المنصور، ووقعت بينهما حرب هزم فيها غالب وقتل.
لبث المنصور زهاء عشرين عاماً يقبض بيديه القويتين على مصاير الأندلس، ويسير من ظفر إلى ظفر، ويثخن في ممالك أسبانيا النصرانية؛ ولم تبلغ أسبانيا المسلمة ما بلغته في عهد المنصور من القوة والسؤدد، ولم تبلغ أسبانيا النصرانية ما بلغته في عهده من التمزق والضعف؛ وقد غزا المنصور زهاء خمسين غزوة، وجاز إلى أمنع وأنأى معاقل أسبانيا النصرانية، ومع ذلك لم يشغله تعاقب الغزو عن مهام السلام؛ فكانت الأندلس في عهده تتمتع بفيض من الرخاء والأمن؛ ووطد أيضاً سلطة حكومة قرطبة في المغرب الأقصى، وكان قد فُتح في عهد الحكم المستنصر؛ ولكن المنصور كان يفرض على الأندلس حكماً من الطغيان المطبق، وكانت وسائله العنيفة الصارمة، الدموية في أحيان كثيرة، تذكى من حوله أوار البغض والتربص؛ وكان اجتراؤه بالأخص على مقام الخلافة واستلاب سلطاتها، والحجر على صاحبها الشرعي، تقدمه دائماً إلى الشعب في ثوب الطاغية المغتصب، فكان الشعب يعجب به ولا يحبه. على أن المنصور كان يسير دائماً في طريقه، معتمداً على قوته ووسائله، لا يحفل برأي الزعماء أو الشعب؛ فلما استتب له كل أمر، واجتمعت في يده كل السلطات ثاب له رأي في الاستئثار بما بقى من رسوم الملك ومظاهره، فبدأ بالتخلي عن لقب الحاجب، وخلعه على ولده عبد الملك، وهو فتى في الثامنة عشرة؛ وتسمى بالمنصور فقط؛ ثم أصدر أمره بأن يخص دون سائر أهل الدولة بلقب (السيادة) في المخاطبات، وتسمى عندئذ (بالملك الكريم) وكانت هذه دلائل واضحة على حقيقة الغاية التي يعمل لها المنصور ويرجو أن ينتهي إليها، وهي أن ينسخ الخلافة الأموية حكماً كما نسخ سلطانها فعلاً، وأن ينشئ دولة عامرية تتمتع بمراسيم الملك والخلافة.
ولم تك ثمة معارضة يخشى بأسها المنصور؛ وكان هشام المؤيد قد أشرف على الثلاثين من عمره، ولكنه لبث خاملاً ضعيف العزم والإرادة، لا تسنده أية قوة؛ وقد سحق المنصور كل زعامة وكل قوة خصيمة، وجمع حوله الجيش. ولكن كانت ثمة قوة لم يحسب المنصور حسابها: تلك هي صبح أو (أورور) صاحبته القديمة، وعونه السابق في الوصول إلى ذرى الحكم، وفي الحجر على الخليفة واستغلال ضعفه. ثارت صبح لما تبينته من نيات(60/20)
المنصور وغايته، وكانت صبح يومئذ في نحو الخمسين من عمرها، وقد تضرم ذلك الحب الذي شغفها بالمنصور دهراً، وأضحت تبغض ذلك الرجل الذي سلب ولدها كل سلطة؛ وأخذت تبث في نفس ولدها هشام مثل هذه العاطفة، وتدفعه بكل ما وسعت إلى مناوأة المنصور ومنازعته واسترداد سلطانه، وتولى مقاليد الحكم بنفسه؛ وأذاعت بواسطة أعوانها من الناقمين على المنصور دعوة شديدة، واتهمته بأنه يسجن الخليفة الشرعي ويحكم رغم إرادته ويغتصب سلطته. ولم تقف عند هذا الحد، بل فكرت في القيام بمحاولة عملية لمقاومة المنصور وإسقاطه، ففاوضت زيرى بن عطية حاكم المغرب الأقصى من قبل المنصور وأرسلت إليه الأموال سراً ليحشد الجند وليتأهب للعبور إلى الأندلس؛ وكان زيرى بن عطية أقوى زعماء المغرب، وكان مخلصاً لبني أمية يقوم بدعوتهم ويؤيدها، فلبى دعوة صبح، وأخذ يشهر بالمنصور وسياسته وحجره على الخليفة. ولكن المنصور فطن إلى المؤامرة قبل نضجها فبادر برؤية هشام المؤيد سراً، وتفاهم معه، وانتهى بأن أخذ منه تفويضاً كتابياً جديداً بالحكم؛ ونقل الأموال من القصر إلى الزاهرة حتى لا تمتد إليها يد خصومه. ثم تحول إلى زيرى بن عطية فعزله من منصبه وقطع رواتبه؛ فرد زيرى بأن محا اسمه من الخطبة وطرد عماله بالمغرب، وتأهب للحرب. وبعث المنصور إلى المغرب الأقصى جيشاً ضخماً بقيادة مولاه واضح فهزمه زيرى وارتد إلى طنجة؛ واستمرت الحرب حيناً بين الفريقين، وسار المنصور بنفسه إلى الجزيرة الخضراء وبعث إلى المغرب جيشاً كثيفاً بقيادة ولده عبد الملك، ونشبت بين الفريقين معارك شديدة هزم في نهايتها زيرى ومزق جيشه وفر إلى الصحراء الداخلية (388هـ - 997م).
وهكذا فشلت صبح في محاولتها، ولم يسفر ذلك الصراع المتأخر إلا عن توطيد سلطان المنصور وسحق البقية الباقية من خصومه ومعارضيه. ولم تك صبح في الواقع أهلاً لمقاومة ذلك الرجل القوي، خصوصاً بعد أن مكن له في كل شيء، ولم يكن الخليفة الأموي سوى شبح فقط. ونستطيع أن نقول إن الدولة الأموية بالأندلس قد انتهت فعلاً بانتهاء عهد الحكم المستنصر، ولم يكن استمرارها صورة على يد هشام المؤيد، أيام المنصور، ثم تجددها بعد ذلك على يد الزعماء الثائرين من بني أمية، إلا مرحلة السقوط النهائي. ولما أيقنت صبح أن المقاومة عبث، وأنه لا منقذ لولدها من ذلك النير الحديدي، لجأت إلى(60/21)
السكينة والعزلة؛ فلا نسمع عنها بعد ذلك في تأريخ الأندلس؛ ولا نعرف تأريخ وفاتها بالتحقيق؛ ولا نعرف إن كانت وفاتها قبل وفاة المنصور (سنة 393هـ - 1002م) أو بعدها، وكل ما تقوله الرواية الإسلامية في ذلك إن وفاتها كانت أيام ولدها هشام. والظاهر أنها توفيت قبيل وفاة المنصور حوالي سنة 390هـ، لأننا لا نعثر باسمها بعد ذلك في حوادث الأندلس. وقد أورد صاحب يتيمة الدهر للشاعر الأندلسي أبي عمر بن محمد بن دراج القسطلي قصيدة يرثى فيها صبحاً (أم هشام المؤيد بالله) نقتطف منها ما يأتي:
هل الملك يملك ريب المنو - ن أم العز يصرف صرف القضاء
ألم تر كيف استباحت يدا - هـ حريم الملوك وعلق النساء
هو الرزء أودى بعزم الملو - ك مصاباً وأودى بحسن العزاء
وحاشا لرزئك أن يقتضيه ... عويل الرجال ولدم النساء
لبيض أياديك في الصالحا ... ت تمسك وجه الضحى بالضياء
فتلك مآثرها في التقى ... وبذل اللهى ما بها من خفاء
جزاك بأعمالك الزاكيا ... ت خير المجازين خير الجزاء
ولقيت من ضنك ذاك الضريح ... نسيم النعيم وطيب الثواء
(تم البحث)
محمد عبد الله عنان المحامي(60/22)
في السعادة
للورد افبري من كتابه (فائدة الحياة)
ترجمة الأستاذ بشير الشريقي
لا تسير الرفاهية مع السعادة دائماً، وإن كثيراً من الناس بؤساء وإن كانوا يملكون في الظاهر كل ما من شأنه أن يجعلهم سعداء.
يمكن أن تقدم الطبيعة إلى أحب عشاقها الغنى والقوة والشهرة والحياة الطويلة، ولكنها لا تستطيع أن تجعله سعيداً. إذ يجب أن يعتمد في ذلك على نفسه.
إذا لم تكن عناصر السعادة موجودة في نفس الرجل فإن كل ما في العالم من جمال ومشاهد وملذات ومبهجات لن تستطيع أن تهبها له.
أكثر ما تتوقف عليه السعادة إنما هو ضبط الرجل لأفكاره وقيادته لها متجنباً ما هو مؤلم، مستعيداً أجمل الذكريات.
يقول (شوبنهور) - يرى أحدهم العالم قاحلاً مظلماً حقيراً، ويراه الآخر غنياً مبهجاً مملوءاً بالمعاني.
السعادة شيء يحتاج إلى المران كالعزف بالناي.
إذا سرنا على الصراط المستقيم وصلنا إلى ما تصبوا إليه نفوسنا ولكن حذار أن نبحث عن هذا الصراط باهتمام شديد.
يقول (فرانكلن) - اتبع السرور يتبعك.
لا تفكر كثيراً في نفسك، أنك لست الوحيد في هذا العالم،
يقول (راسين) - لا تفتش عن اللهو، ولكن كن مستعداً دائماً أن تلهو.
إنه من الصعب أن تجعل الحياة تعاقب لذائذ،
يقول (تشفورت) - إن أضيع يوم في حياتنا هو اليوم الذي لا نضحك فيه.
إذا كان اليوم مظلماً فأضئه.
يقول أحد القساوسة - إن البشاشة هي تسعة أعشار المسيحية.
يحتاج النزاع إلى شخصين فلا تكن أنت أحدهما.
لا تدع الشمس تغرب على غضبك.(60/23)
إن أنت فكرت في نفسك كنت تعساً، وإن أنت فكرت في غيرك كنت سعيداً.
يتذمر بعض الناس دائماً، ولكنهم مساكين لم يدركوا أنه لو قدر لهم فولدوا في جنات عدن لوجدوا هنالك أشياء كثيرة يتشكون منها ويتذمرون.
الغبطة مقوٍ أخلاقي عظيم، وكما أن الشمس تفتح الأزهار وتنضج الأثمار، كذلك الغبطة.
الشعور بالحرية والحياة يبعث فينا كل بذور الوجود.
ما دام الإنسان محافظاً على بشاشته فهو محافظ على قوته وشبابه.
يظن بعض الناس أن السرور دليل عدم التفكير وهذا خطأ، إذ ليس من علاقة ضرورية بينهما.
لا نستطيع أن نمنع آلام هذه الحياة عنا، ولكننا - إذا أردنا - نستطيع أن نسمو فوقها؛ ولذلك يجب أن نعلق على جدران غرفة ذكرياتنا صوراً جميلة ضاحكة. وكما يلأم الزمن الجراح يشفي الزمن الأحزان.
يقول (كوكريتوس) يخاف بعض الرجال في النور بقدر ما يخاف الأطفال في الظلام.
إن العقل المثقف، ولا أعني بالمثقف عقل الفيلسوف، بل كل عقل فتحت له منابع المعرفة فعرف كيف يمرن قواه، سيجد في كل ما يحيط به منابع للسرور والتسلية لا ينضب معينها؛ سيجد في بدائع الفن غبطة، وفي جمال المرأة راحة، وفي خيال الشعراء وحوادث التأريخ سلوة، وفي عقائد الناس تفكهة.
الطبيعة نعمة لمن لا يكفر النعمة.
لا الغنى ولا الجاه بضامنين لك السعادة.
قد تكون غنياً وعظيماً وقوياً من غير الحب والإحسان والاطمئنان، ولكنك لن تكون سعيداً.
لقد اتفق أحكم الحكماء على أن السعادة لا يمكن أن تشترى بالمال ولا أن تنال بالقوة.
يقول (هريو) لسيمونيدس: لقد أغرت مفاخر الأمارة وعظمة الملوك ورفاهيتهم السواد الأعظم من الناس؛ أنا لا أعجب من ذلك، لأن الناس كما يظهر لي يحكمون على بعضهم بمجرد الظواهر فقط؛ إنني أؤكد لك باسيمونيدس أن الملوك يملكون أقل نصيب من (المسرات العظيمة)، وأعظم سهم من (البلايا العظيمة).
لا ينبغي أن نخاف الموت، فالموت كما يقول (باسكال) هو المصيبة الوحيدة التي لا نشعر(60/24)
بها.
ما دمنا كائنين فما ثمة موت. وإذا جاء الأجل فما ثمة وجود.
يجب ألا ننشد السعادة في الخارج بل في نفوسنا، في عقولنا.
الجنة فيك، فإن أنت لم تستطع أن تكون سعيداً على الأرض فكيف تنتظر أن تكون سعيداً في السماء؟
يقول (سقراط): (خير الرجال من يسعى لضبط نفسه، وأسعدهم من يشعر بأنه ضابط لها).
خذ الغبطة إلى بيتك
واسمح لها أن تنمو ودارها.
إنها ستخفف من آلامك وأحمالك
وتغني لك وأنت تجاهد في حراثة أرضك.
إنه لعمل عادي أن تكون مسروراً.
(شرقي الأردن)
بشير الشريقي المحامي(60/25)
حول كتاب (هتلر)
قضية طريفة أمام القضاء الباريسي
نعرف أن للهر أدولف هتلر رئيس الحكومة الألمانية الحالية، وزعيم الحزب الوطني الاشتراكي الألماني، كتاباً كتبه أيام المحنة، وقت أن كان زعيم جماعة صغيرة وحزب ناشئ، وكان وقتئذ معتقلاً في إحدى القلاع يقضي حكماً صدر عليه لاشتراكه في مؤامرة دبرت في ميونيخ لقلب الحكومة. ولم يكن لهذا الكتاب الذي صدر في سنة 1925 بعنوان جهادي أهمية سياسية أو أدبية، وفيه يقص هتلر سيرة حياته، ويعرض برنامج حزبه، وآراءه السياسية في أسلوب عادي لا يمتاز بشيء إلا بما يتخلله من المبادئ، والآراء المتطرفة. فلما تطورت الحوادث، وغدا هتلر زعيم أعظم الأحزاب الألمانية، واستولى على مقاليد الحكم، اتجهت الأنظار إلى كتابه، وتخاطفته الملايين، وطبع مراراً عدة، وترجم إلى عدة لغات، واتخذ أهمية جديدة يسبغها عليه مركز مؤلفه وما انتهى إليه من السلطان والنفوذ.
وقد رأى أحد الناشرين الباريسيين أن يخرج الكتاب باللغة الفرنسية لما للكتاب من خطر في نظر الجمهور الفرنسي بعد أن غدا مؤلفه أعظم خصم لفرنسا، فأرسل إلى شركة فرانز أيهر الألمانية التي فوضت جميع حقوق النشر يستأذنها في الترجمة، فأجابت بالرفض المطلق. والظاهر أن ذلك يرجع إلى أسباب سياسية أكثر مما يرجع إلى أسباب مالية، لأن الهر هتلر لم يشأ أن يطّلع الشعب الفرنسي على ما كتبه، وفيه كثير مما لا يدعو إلى الطمأنينة. ولكن الناشر الباريسي لم يعبأ بهذا الرفض؛ وأخرج لكتاب (جهادي) ترجمة فرنسية بديعة كاملة بقلم ثلاثة من الكتاب المعروفين. فبادرت شركة فرانز أيهر الألمانية إلى رفع الأمر إلى القضاء الفرنسي، واستصدرت أمراً بالحجز على النسخ المطبوعة لدى الناشر الباريسي، ورفعت عليه دعوى تطلب مصادرة النسخ المحجوزة، والحكم عليه بغرامة قدرها ألف فرنك عن كل نسخة، والحكم عليه فوق ذلك بتعويض مالي كبير.
وكانت نظرية الشركة الألمانية أمام المحكمة أن نشر الترجمة دون إذن يعتبر اعتداء واختلاساً، وقانون سنة 1793 الفرنسي الذي يحمي الملكية الأدبية يعتبر ذلك (تزويراً) تترتب عليه جميع حقوق التعويض والمصادرة.(60/26)
ولكن الناشر الباريسي أجاب على لسان محامييه الأستاذين جاييه وفيليب لامور أن هذه الحالة لا يشملها قانون سنة 1793. ذلك أنه لا يمكن أن نشبه كتاب هتلر بكتاب عادي أو رواية لمؤلف عادي؛ والواقع أن كتاب (جهادي) إنما هو كتاب عمومي لرجل من الرجال العموميين، ورؤساء الحكومات الذين تغدو كتاباتهم ملكاً للجميع على نحو ما يغدو تصريح وزاري أو خطبة عرش؛ فلكل إنسان الحق، بل ومن واجب كل إنسان يهمه الاطلاع على الشئون العامة أن يعرفها وأن يقرأها. هذا إلى أن العقد الذي تزعم الشركة الألمانية أنها حصلت بمقتضاه على حقوق النشر لا يوجد ولم يقدم، وليس لديها غير تصريح شفوي من (الزعيم) هتلر. ورفع الدعوى بهذه الصورة باطل، وكان واجباً على هر هتلر، إذا شاء أن يحمي حقوقه أن يتقدم بنفسه، وعلى أساس الاعتبارات السياسية التي هي جوهر القضية؛ ولكنه لم يكن لديه من الشجاعة أو الصراحة ما يحمله على اتباع هذا الطريق، ولهذا آثر أن يتقدم بواسطة شركة للنشر وعلى أساس الاعتبارات التجارية.
وقد أثارت هذه القضية اهتماماً كبيراً في الدوائر القضائية والأدبية، ولا تزال منظورة أمام محكمة السين التجارية، رهن صدور الحكم فيها. على أنه يرجح منذ الآن أن يأخذ القضاء الفرنسي بنظرية الناشر الباريسي في اعتبار كتابات الرجال العموميين وأقوالهم ملكاً مباحاً يسوغ لكل إنسان أن يحصل عليه وأن يذيعه.(60/27)
صورة من صدر الإسلام
عبد الله بن مسعود
بقلم محمد طه الحاجري
أخذ الناس في مكة يحسّون شيئاً جديداً يداخل روح الحياة عندهم، وينشر ظلالاً خفيفة من حولهم، ويبعث في أنفسهم شعوراً شديد الغموض لا يتبينون كنهه ولا يتحققون أمره، شأن الجماهير في فجر الأحداث الخطيرة. وكأن لهم من وراء الحواس الظاهرة حساً باطناً لا يستند إليها فيما يدرك، ولا يدرك إلا المعنى العام الذي لا يحدد. وكان الجو في تلك المدينة المقدسة يزخر بشتى التيارات، ويموج بلمحات النبوة ونفحات السماء، كما يموج الأثير بأمواج الكهرباء: تحمل في أطوائها معاني القوة دون مظاهرها، وتخفى في أثنائها الصوت المجلجل، والضوء الساطع، كامنة كمون الروح، خفية خفاء القدر، حتى تتاح لها الظروف المواتية، والحالات الملائمة، فتجهر وتستعلن وتؤدي رسالتها. . . وكذلك كان الأمر في الأيام الأولى للبعثة: تنزل الملائكة وتصعد، ويترادف الوحي ويمتد، ويزخر الجو بنفثات الرسالة، والناس مستمرون في شأنهم، لا يحسون شيئاً إلا حفيفاً لا يعبئون به، ولمحات خفيفة لا ينظرون إليها، حتى تصادف قلباً أعد لها، و (جهازاً) صالحاً لقبولها، فتجهر وتستعلن وتؤدي رسالتها. . .
وفي يوم من هذه الأيام، خرج الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، ومعه صاحبه وصفيه أبو بكر، وأخذا يسيران في ظاهر مكة، على نجوة من العيون، وأمنة من الأسماع. يتناجيان نجوى المودة الصادقة، ويتحدثان حديث العقل المتزن، وقد أقبل الرسول على صاحبه ليجد عنده راحة نفسه، وطمأنينة قلبه، لقاء ما ألقى عليه ربه. وبيناهما كذلك لقيا شاباً في نحو العشرين، ضئيل الجسم، ضعيف المنة، آدم البشرة، تلمع عيناه ذكاء وعزيمة وصفاء سريرة يرعى قطيعاً من الغنم، هو ذا عبد الله أبن أم عبد الهذلي، مولى أخوال الرسول من بني زهرة، يرعى غنماً لأبن أبي معيط أحد السادة المتجبرين من بني أمية. فوقفا عليه واستسقياه بعض اللبن فسقاهما، حتى إذا ما فرغا من شرابهما أقبل بدوره عليهما، وأخذ يسائل الرسول عما سمع بعض الناس يهمسون به، من كلام بدع تتضاءل أمامه كل صنوف الكلام، وأمر جديد يتنزل عليه من السماء، يدعو إلى عبادة الله وحده ونبذ الأصنام.(60/28)
فهش له الرسول ومسح على رأسه، وجعل يقرأ عليه، وإن صوته ليتجاوب بين قلبه وعقله، وجعلت كلمات التنزيل تتنزل على نفسه، كما تتنزل قطرات الماء على حلق يتحرق ظمأ، حتى شرح الله صدره للإسلام. ومضى الرسول وصاحبه، رضى النفس مغتبط الضمير. وخلفا عبد الله وقد ملكته نشوة هذا الأمر، وقد جعلت كلمات الرسول يتردد صداها بين سمعه وقلبه، وهو يحسب أنه قد ظفر بسعادة الأبد. وما يزال كذلك حتى يقبل الليل، فينطلق إلى دار الأرقم، يلفي الرسول وصحبه يتذاكرون آيات التنزيل، ويضرعون إلى الله أن يسدد خطاهم ويمكن لهم دينهم.
أي رجل هذا؟ شاب يافع محروم من أسباب القوة ووسائل المنعة، ليس له عشيرة يلجأ إليها، ولا عصبة يعتمد عليها. ضعيف في ذاته الجسمية، قضيف العظام مترهل العضلات مجرد من وسائل الحياة المادية، يعتمل نفسه لأشراف مكة في الخدمة ورعى الغنم، لقاء ما يحفظ عليه روحه ويمسك عليه الرمق. ثم لا يعبأ بعد هذا أن يخرج عليهم، وهو يعلم مقدار حميتهم لدينهم، وتعصبهم لأنفسهم، ولا يأبه لما لابد أن يصيبه في هذا السبيل من تصرم وسائله، واستهداف حياته في تعرضه لعداء سادته وهم من هم: سدنة البيت الحرام، والقوام على ميراث إسماعيل عليه السلام، والخيرة المتخيرة من أبناء العرب، وأصحاب الحول والطول في كل أنحاء الجزيرة.
ولكن عبد الله كان يملك من أسباب السماء بقدر ما حرم من وسائل الأرض. كان قوي النفس، متين الخلق، بقدر ما كان هزيل القوام ضعيف الجسد. كان يشعر بالسؤدد الروحي يوجهه ويملي عليه، وإن كان يضطرب في أسمال الخدمة وأهدام الحاجة. فلم تكن الضرورات المادية لتخضع روحه أو تغلب ضميره، وما كان للخوف أن يغشي بصيرته فيخلد إلى الأرض. وكذلك أنطلق مع روحه فاعتنق الإسلام وأخلص له، وأحب محمداً إلى غاية ما يبلغه الحب الروحي، فاصطفاه الرسول ليكون تابعه الأمين، وخادمه الذي ليس من دونه حجاب، فكان يرى وكأنه واحد من آل بيته، مما كان يركن إليه ويطمئن له ويتلطف معه ويحسن عشرته، فأخلص للرسول الإخلاص كله، ووصل حبه له إلى قرارة قلبه، حتى صار جزءاً من حياته، بل لقد اصطبغت حياته كلها به، وتأثر به في مخبره ومظهره، فكان أقرب الناس له سمتاً، وأدناهم إليه دلاً، وأشبههم به في سكينته ووقاره.(60/29)
مضت الأيام والإسلام نجوى الضمائر، وحديث القلوب، وهمس الشفاه. والقرآن لا يعدو بيت الرسول ودار الأرقم وأطراف مكة القاصية. ثم جاء أمر ربك فأتيح للخافية أن تظهر، وللسر أن يستعلن، وللدعوة أن تأخذ سبيلها في وضح النهار؛ واجتمع ذلك النفر من المسلمين يتدبرون الأمر، وكانوا يعرفون موضع الإحساس الدقيق في نفس العربي، وموطن التأثر البليغ من قلبه: إنما هي تلك الحاسة البيانية المرهفة التي أمسكت بقياده، وسيطرت على حياته؛ وجاء القرآن وافياً بها متحكماً فيها؛ فكان من الطبيعي أن يكون سبيل الدعوة. فقالوا من لقريش يسمعها هذا الكلام؟ فانبرى عبد الله يقول: أنا لها. وهو يعلم مقدار ما يستتبعه هذا من الأذى، ولا عاصم له من قوم ولا عشيرة. فراجعوه في هذا الأمر، وبصروه بعاقبته، وذكروه ضعفه ووحدته؛ فأبى أن يفوته هذا الشرف، أو أن يرده عنه اعتبار لا قيمة له في ميزان المجد. فاعتصم بإيمانه القوي، ويقينه الثابت أن لا إله إلا الله، فلا نافع ولا ضار إلا الله، وأن لو اجتمعت الجن والإنس على أن ينالوه بشيء ما استطاعوه إلا بقضاء الله وقدره، وأحبب به أذى في سبيل الله وإعلاء كلمته. ثم تخير غداة الغد حين تكون قريش مجتمعة في أفناء الحرم حول الكعبة، يدبرون أمورهم، ويتحدثون عن أموالهم، ويتكهنون بمقادير أرباحهم ويتراهنون على ما يدور بخواطرهم، وتذهب إليه مطامعهم وتراوحهم به مخاوفهم. فلما كان موعده أقبل إلى البيت الحرام، واستقبل الكعبة بوجهه، وأخذ يتلو من كتاب الله:
(بسم الله الرحمن الرحيم، الرحمن علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان، الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان، والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان).
أي صوت رهيب دوى في أرجاء الحرم، فالتفتت إليه أسماعهم، ودهشت له قلوبهم، واستطارت منه ألبابهم، وأذهلهم عماهم فيه من حجاج ولجاج في تجارتهم وحياة أموالهم؟! فانصرفوا إليه يقولون: ما شأن ابن أم عبد وماذا يقول؟ فلما علموا أنه يتلو بعض ما جاء به محمد أقبلوا عليه يضربونه في وجهه ويدفعونه في صدره، ما شاءت لهم الحمية ونخوة الجاهلية، حتى نالوا منه وتركوا آثار الدم في وجهه. ثم عاد إلى أصحابه وهو يقول: (ما كان أعداء الله قط أهون على منهم الآن، ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غداً) فقالوا له: حسبك.(60/30)
وتم لهم ما شاءوا.
استشرف عبد الله إذن لعواصف النكير والاستهزاء، واستهدف لسهام التنكيل والاعتداء. إن كان في بيت الرسول فهناك جيرانه: أبو لهب وعقبة بن أبي معيط والحكم بن العاص وعدي بن حمراء الثقفي يترصدون له وينالون منه. وإن كان في السوق فما شاءت جماهير قريش من أذى وتجهم وسخرية، وإن كان في المسجد، وقد جلس إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في المستضعفين من أصحابه فكذاك؛ وما يفتأ القوم يمرون بهم، فيتغامزون عليهم ويسخرون منهم، ويقول بعضهم لبعض: (أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا، ولو كان خيراً ما سبقونا إليه).
وهكذا مضت الأيام بعبد الله، وما يزيده هذا إلا صفاء في نفسه، وصلابة في يقينه، واستشراقاً لهدى الله جل شأنه، وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، وصنعت منه هذه الخطوب ما تصنع حرارة الأرض وضغطها من الماس وكرائم الأحجار، فأصبح كالماسة الصافية صلابة وإشعاعاً.
فلما اعتدل ميزان الأمور، وتمت كلمة ربك الحسنى على المسلمين، وأصبحت القوة في جانب الحق، وأصبح الإسلام في يثرب صاحب الكلمة، كان عبد الله سيفاً قاطعاً ونجماً ساطعاً، فشهد المشاهد كلها مع رسول الله، لم يقعد به ضعفه. ولم يخلفه هزال جسمه، إذ كان قوي القلب ثابت الإيمان. وكانت بصيرته في الدين قوية الإشعاع دائمة السطوع، حتى لقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بالتمسك بعهده، وشهد له كبار الصحابة كعلي وحذيفة، ومكانهما من هذا الأمر ما نعلم، وكان من العلم بالقرآن في المكان المرموق: ما من سورة في القرآن أو آية من سورة إلا وهو يعلم سبب نزولها، ومكان مجيء الوحي بها، لا ينكر عليه ذلك منكر. ولقد كان إيمانه يتلألأ في قراءته كما كان يتألق في جبينه؛ حتى كان يحبب إلى رسول الله أحياناً أن يسمع القرآن منه. فقال له مرة: اقرأ عليّ سورة النساء. قال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأ عليه حتى بلغ قوله تعالى مخاطباً رسوله: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً، يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً) فبلغ التأثر من الرسول مبلغه، وفاضت عيناه بالدموع.(60/31)
وحين نذكر فصاحة منطقه، وخلوص لسانه، لا ننسى أنه هذلي الأصل، مع عرق فيه يمت إلى زهرة؛ ثم هو مع هذا قرشي المولد والمربى؛ فلا غرو أن كان جيد الأداء حسن القراءة، بعد أن اجتمعت له مقومات لسانه ونصاعة إيمانه.
انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى، فانتقلت الدعوة إلى الشمال، تكافح بالسيف ولاة فارس وعمال الروم، فما كان أسرع عبد الله إلى الجهاد في سبيل الله، وقد مكن له فقهه وبصره وورعه أن يتولى أمر الأنفال، فكان لا يفتأ فيما بين هذا يعلم القرآن، ولا يترك فرصة دون أن ينتهزها لتفهيمه والتبصير به، وإنه لجالس ذات مرة في حمص وقد جيء إليه بسبائك من الفضة، فجعل يذيبها، وإنها لتتلون ألواناً، فرأى في ذلك صورة بينة للمهل الذي جاء به القرآن، فالتفت إلى أصحابه يقول لهم: أتدرون ما المهل؟ هذا أشبه شيء به. لله أنت يا ابن مسعود! ما كان أبصرك بكتاب الله وأحرصك عليه!
ثم بعثه عمر إلى أهل الكوفة معلماً حين بعث عماراً عليهم أميراً، وكتب إليهم هذه العبارة التي تدل دلالة واضحة على قيمة ابن مسعود في نظر أصدق الصحابة بصراً، وأنفذهم رأياً، وأعرفهم بقيم الرجال: (إني بعثت عمار بن ياسر أميراً، وعبد الله ابن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أهل بدر، فاقتدوا بهما، وأطيعوا واسمعوا قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي) وكفى بهذه الجملة الأخيرة شاهداً بمكانة الرجل.
فلبث فيها ما لبث قيما على بيت المال، قائماً بتعليم القرآن وبث تعاليم الإسلام، وحديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان فوق هذا يضرب بخلقه وورعه خير الأمثال، حتى كان أصحابه يقولون: (ما رأينا رجلاً أحسن خلقاً، ولا أرفق تعليماً، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعاً من ابن مسعود). فكون فيها مدرسة تحبه وتتعصب له، فلما كان عثمان وأخذ يقلب بين الولاة والعمال، بعث إلى ابن مسعود يستقدمه إليه، فجزع أصحابه أيما جزع، واستشعروا أثر النازلة، إذ يوشك أستاذهم الذي وهبهم قلبه وألهمهم حبه أن يفارقهم، فاجتمعوا إليه يرجونه أن يقيم بينهم، وله عليهم أن يمنعوه مما عسى أن يصل إليه من مكروه، ولكن عبد الله ما كان ليعبأ بالمكروه يصيب شخصه، فما أهونه في ذات نفسه لقاء الخير يصيب أمته، ولكنه كان يرمي ببصره إلى ما وراء الشخوص الماثلة أمامه، فيرى(60/32)
بوادر شر تتربص بالأمة الدوائر، ودلائل فتنة توشك أن تنقض. وما كان له أن يفتح بعصيانه ثغرة في بناء المسلمين، فصرف القوم عنه وهو يقول: (إن له على حق الطاعة، وأنه ستكون أمور وفتن، فلا أحب أن أكون أول من فتحها) فمضوا عنه وهم يشدون على قلوبهم، ثم أخذ أهبته وسار إلى المدينة.
وقد لبث فيها وإن الفتن لتموج بالناس من حوله وهو قارّ ساكن، يسأل الله العصمة وإطفاء الثائرة، ولا يكاد يلفته شيء إلا كتاب الله الذي تلقاه عن رسول الله، فهو موضع عزته، ومناط كرامته.
ولم يطل به العهد حتى اصطفاه الله لجواره، رضي الله عنه.
محمد طه الحاجري
بكلية الآداب(60/33)
القضاء عند قدماء المصريين
بقلم حامد أسعد محمد عاشور
قبل أن نطرق هذا الموضوع يجب أن ألفت نظر القارئ إلى أن مصر كانت على درجة عظيمة من الرقي والحضارة، وأن العدالة كانت مستتبة الأركان موطدة الدعائم؛ وأن النظم الديمقراطية التي يدعي الأوربيون اليوم أنها من بنات أفكارهم أو مما ورثوه عن الإغريق والرومان، لم تكن إلا وليدة النظريات السياسية الفرعونية في عصور سحيقة؛ وأن الحريات المدنية والسياسية وحماية الملكية الفردية التي يباهي بها القرن العشرون بعد الميلاد، عُرفت في مصر وتوطدت أركانها في القرن العشرين قبل الميلاد تحت حكم ملوك مصر وفراعينها العظام.
كذلك قبل أن أبدأ الكلام أرى لزاماً عليّ أن أذكر أنني استقيت معلومات هذا المقال من مصادر تأريخ مصر المعروفة من كتابة على جدران القبور والمعابد إلى ما كتب في أوراق البردي، ثم من محاضرات أستاذي الدكتور زكي عبد المتعال في كلية الحقوق، ثم من كتاب (وصف مصر) الذي وضعته الحملة الفرنسية بعد رجوعها من مصر.
يرجع أصل سكان البلاد إلى بعض العناصر الآسيوية التي غزت مصر من الشرق، ثم امتزجت بعناصر أخرى من السود آتية من الجنوب.
أما تكوُّن الإقليم فهناك رأيان فيه: الأول يقول إن البلاد كانت تتكون من قبائل اتحدت فكونت مدناً، ثم اتحدت هذه فكونت أقاليم ومقاطعات، ثم تكونت مصر العليا مستقلة عن مصر السفلى إلى أن وحد سكوربيون ملك نخعة (مصر الوسطى) قسمي الإمبراطورية، ومن بعده جاء مينا فأتم ما بدأه سلفه.
أما الرأي الثاني فيقول: إن مصر لم تمر بهذا التطور التدريجي بل أنها من يوم أن دبت الحياة فيها وهي أمة موحدة، ويستند أصحاب هذا الرأي الأخير إلى أن نهر النيل هو منبع الثروة الوحيد في البلاد، فلا يمكن إلا أن توحد جهود السكان في سبيل الغرض المشترك وهو حب البقاء، والدفاع عن أموالهم ومورد رزقهم؛ هذا إلى أن الوثائق وأوراق البردي لم تذكر أن البلاد مرت بالدور التطوري السابق ذكره.
ولما تكون الإقليم وجدت الأسرات. ففي عهد الأسرتين الأولى والثانية كان الحكم مطلقاً،(60/34)
فكان المُلكُ قائماً على الحق الإلهي. وبذا كان الملك ممثلاً للسلطتين الزمنية والدينية، فكان يصدر القوانين بنفسه وبمساعدة كتبة خصوصيين.
وفي عهد الأسرة الثالثة كان الملِكُ مصدر جميع السلطات، يستعملها بمساعدة موظفيه المدنيين لا الدينيين، وكان خاضعاً للقوانين التي يصدرها وتسري على شعبه، وبذا كان الحكم مطلقاً مشبعاً بروح العدالة والإنصاف، فالجميع متساوون في الحقوق لا فرق بين أمير وحقير أو غني وفقير، وكانت الدولة إذ ذاك زمنية لا دينية أي لم يكن للكهنة نفوذ كبير فيها.
وفي عهد الأسرة الرابعة أصبحت الدولة دينية، وأصبح الملك ممثلاً لرع وهاتور الإلهين، وقدمت الديانة الملكية على الإدارة الحكومية، والكهنة على الموظفين، وكانت هناك إدارات حكومية كثيرة، منها (إدارة الري ومياه النيل، وإدارة الحربية، وإدارة الإحصاء والضرائب، وإدارة المالية، وإدارة العقائد والتموين.) وكل هذه الإدارات كانت تحت إشراف مجلس العشرة الملكي، وهو يقابل مجلس الوزراء الآن، وكان الوزير الأكبر هو الذي يرأس هذا المجلس.
هذه نظرة عامة عن اختصاصات السلطة التنفيذية، أما فيما يتعلق بالتشريع والقضاء - وهو موضوع هذا المقال - فإن القوانين عرفت ودونت في مجموعات عندما اخترعت الكتابة في القرن الخمسين قبل الميلاد، فوضع (نحوت) إله القانون مجموعته القانونية في سنة 4241 قبل الميلاد.
وقد شملت هذه المجموعة الالتزامات والأموال وجميع العقود الأخرى، والزواج والطلاق. وكان مما نص عليه في هذا الشأن أن الزواج يتم بعقد مدني بطريق الشراء، ثم يجري بعد ذلك احتفال ديني. أما العلاقة المالية بين الزوجين فكان يتفق عليها في مشارطة الزواج على أحد بأمور ثلاثة: (1) فصل مال كل من الزوجين عن الآخر فيكون للزوجة في هذه الحالة حق التصرف في مالها بدون إذن الزوج (2) تخصيص جزء من مال الزوجة لمساعدة الزوج على المعيشة العائلية، ويكون للزوج في هذه الحالة حق الانتفاع بأموال الزوجة وعليه ردها عند الانفصال (3) اشتراك الزوجين في بعض الأموال أو جميعها. وكان للنساء امتيازات كثيرة عللها المؤرخ ديودور الصقلي باحترام المصريين للآلهة(60/35)
إيزيس.
أما الطلاق فقد أجازه الشارع الفرعوني كما أباح للمرأة أن تتزوج، بشرط أن يكون لها الحق في فسخ الزواج كما كان لها حق الرهن العام على أموال زوجها ضماناً لعدم تعرضها لخطر الطلاق منه.
ويترتب على البيع الصحيح (باليمين والشهود) التزام البائع بتعهدين: الأول وموضوعه تسليم سندات الملكية - والثاني وموضوعه ضمان كل تعرض للمشتري. وينقسم عقد البيع إلى عقدين أحدهما اتفاقي والآخر عيني وبه تسلم العين المبيعة.
وقد أخذت سائر العقود الأخرى صورة عقد البيع، حتى أن الوصية كان يكتب لها عقد اتفاقي بين الموصي والموصى له بشرط ألا يتم استلام الأخير للوصية إلا بعد وفاة الموصي وتسلم الوارث العقد العيني من باقي الورثة.
ولما تشتت مجموعة نحوت جاء بو خوريس مؤسس الأسرة الرابعة والعشرين وجمع شتاتها وعدلها في مجموعة نظم بها جميع المعاملات المدنية والأحوال الشخصية في مجموعة قوانين سميت باسمه كما سماها اليونانيون بمجموعة العقود.
ولما جاء أحمس أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين أصدر مجموعته المسماة باسمه. ثم جاء من بعده الملك نفريت فأعاد العمل بمجموعة بو خوريس بعد أن نقحها، واستمر العمل بها حتى نهاية العهد الفرعوني. ثم طبقت على المصريين فقط في العهد الإغريقي حتى جاء الرومان فمنحوا ممتلكاتهم الرعوية الرومانية في عهد الإمبراطور كراكلا، وبذا طبقت في مصر القوانين الرومانية.
هذه نظرة عامة عن تطور التشريع في عهد قدماء المصريين حتى الفتح الروماني، والآن نستعرض نظام المحاكم واختصاصاتها وسلطة القضاء في الدولة.
كانت سلطة القضاء العليا في يد الملك يباشرها إما بنفسه أو بواسطة موظفين مدنيين أو دينيين تبعاً لازدياد نفوذ الكهنة في الدولة. وفي حالة ازدياد نفوذ رجال الدين (كما كانت الحال في عهد الأسرة العشرين) كان يجري العمل على استفتاء الإله آمون في القضايا الجنائية والمدنية، فكان يقدم المتهم أمام تمثال الإله فيقر بذنبه، وإذا أنكر أعيد إلى السجن، وفي حالة تعدد المتهمين كان الإله يشير بيده إلى السارق مثلاً قائلاً هذا هو السارق، فإذا(60/36)
أنكر أعيد إلى السجن حيث يلاقي أشد أنواع العذاب، إذ لا يمكن تكذيب الإله، ثم يعاد إليه فيقر بذنبه ويؤمن التمثال على كلامه، ومن ثم يقدم إلى المحكمة بعد أن يقسم اليمين الآتية:
(أقسم بآمون والملك أن أقول حقاً، ولئن كذبت فلأعودن إلى السجن ولأسلمن إلى الحراس) ثم تأخذ المحكمة بأقواله وتحكم عليه.
وكان القضاة يقسمون يميناً أمام الملك بعد تعيينهم يتعهدون فيها بعدم طاعته إلا فيما يوافق العدالة. وكان يرجع إليه كثيراً عند تعذر الحكم في بعض القضايا الهامة.
أما المحاكم فكانت على أنواع كثيرة: محاكم جزئية بالقرى والمدن، ومحاكم ابتدائية في عواصم الأقاليم، ومحكمة استئناف عالٍ بعاصمة الدولة، ثم محاكم عسكرية للجند، ومحاكم عائلية تفصل في المسائل المتعلقة بالأسرة، ثم محكمة للأموات يقوم الكهنة بتكوينها ومحاكمة كل ميت أمامها، فإن كان سيئ السيرة قضت بحرمانه من الدفن.
أما المحاكم الجزئية فكان يرأسها حكام المدن، وقد أعطي لرئيس مقدري الضرائب اختصاص الفصل في المنازعات التي تقوم بين دافعي الضرائب والمقدرين.
أما المحاكم الابتدائية فكان يرأسها حاكم الإقليم وأعضاؤها الأعيان، وكانت مختصة بالفصل في المنازعات المدنية فقط، وترفع أمامها عريضة دعوى وجميع الإجراءات أمامها كتابية.
أما المحكمة العليا فقد كان يرأسها رئيس أسرار الملك وأعضاؤها كتمة الأسرار. وكان الملك يقوم بالقضاء فيها بنفسه، وعلى الأخص في القضايا الجنائية.
وكانت هذه المحاكم ترجع في اختصاصها إلى الإدارة القضائية وهي تشبه وزارة الحقانية الآن.
وقد وجدت وظيفة النائب العام في عهد الأسرة الثانية عشرة، وكان يسمى إذ ذاك (لسان الملك) ولكن كان له بجانب سلطته القضائية، وظيفة أخرى يقوم بها بصفته مدير شئون السراي الملكية وكبير الأمناء، وكان له وكلاء في الأقاليم يباشرون الدعوى العامة أمام المحاكم الجنائية.
وفي عهد الأسرة التاسعة عشرة قسم القضاء إلى مدني وجنائي منفصلاً كل منهما عن الآخر، وكان للجميع حق رفع الدعوى المباشرة الجنائية.
هذا فيما يتعلق بالقضاء الجنائي العادي أي الذي يتعلق بأفراد الشعب، أما القضاء الجنائي(60/37)
غير العادي الذي يتعلق بشخص الملك أو الدولة، فقد كان موكولا إلى محكمة خاصة تشكل من أثنى عشر قاضياً بعضهم من رجال الجيش، وكان النائب العمومي هو الذي يختارهم بناء على أمر من الملك ذاته، فتتكون المحكمة وبمجرد انعقادها تنقسم إلى هيئتين تفحص كل منهما الدعوى على حدة، ثم تجتمعان، وكانت محاضرها مختصرة وسرية، فكانت تصدر الأحكام دون نشر الأسباب، وبالرغم من أن النائب العمومي هو الذي يختار هؤلاء القضاة فقد كان لا يتدخل مطلقاً في عملهم حتى أن اسمه كان يأتي بعد أسمائهم وقبل أسماء كتاب الجلسة.
هذا ما كانت عليه حال القضاء في عهد قدماء المصريين، ومنها يرى القارئ أنها كانت على درجة عظيمة من الثبات والاستقرار، وأن العدالة كانت مستتبة الأركان قوية الدعائم. وقد ظلت كذلك حتى انتهى العهد الفرعوني السعيد، ودخل الإغريق البلاد فأفسدوا نظمها، وقد كان للبطالسة شأن كبير في طرد العدل من البلاد، إذ أدخلوا امتيازات أعطوها للإغريق دون المصريين في القضاء وفي الضرائب، فكان على المصري الغُرم ولهم الغنم، ومما يدل على صحة ما قلت تقسيم المحاكم في عهدهم إلى إغريقية ومصرية، وكانت الإجراءات أمام الثانية معقدة تتبع شكل القانون الضيق دون التوسع فيه، بعكس المحاكم الإغريقية التي كانت طبقاً لقواعد العدالة والإنصاف والقانون الطبيعي. وكان نظام المحاماة معروفاً في المحاكم الإغريقية بعكس المصرية حيث كان الخصوم ملزمين بالدفاع عن أنفسهم كما كانت تقدم الوثائق والمستندات أمام المحاكم المصرية، فإذا لم تكن كافية مُزقت علانية في الجلسة.
حامد أسعد محمد عاشور(60/38)
فصول مدرسية في الأدب الدرامي
3 - الرواية المسرحية في التاريخ والفن
بقلم أحمد حسن الزيات
أجزاء العمل
العمل الروائي كالعمل الحكائي يتألف من العرض والتعقيد والحل.
فالعرض فكرة عامة مجملة عن العمل الروائي يتقدم بها الكاتب في الفصل الأول، ليهيئ الأذهان إلى الحادث، ويشوق النفوس إلى المتأخر، ويعرف الظروف والأمكنة والأشخاص إلى المشاهد. وهو في الرواية أصعب منه في الملحمة، لأن أداءه لا بد أن يكون بالعمل، ولأن الأشخاص وهم مشغولون بأعمالهم الحاضرة وأحوالهم القائمة، ملزمون بتقديمه إلى المشاهدين في معرض حديثهم الخاص دون أن يظهر عليهم أنهم يريدون ذلك. فالطبيعة إذن هي الصفة الجوهرية للعرض. وهناك صفة أخرى لا تقل عنها خطورة، وهي أن يكون العرض وسطاً بين الغموض والوضوح: فيكون واضحاً بقدر ما يدلك على أدوار الأشخاص الأساسيين، ويضع يديك على الخيوط التي سيحيك العمل منها عقدته؛ وغامضاً بقدر ما يخفى عنك الحل ويدخر لك سرور المفاجأة.
ولقد كان عرض المأساة في الفن القديم بائن الطول، قوي الفعل، شديد الأثر؛ ولا تزال عروض اسخيلوس وسوفوكليس مضرب الأمثال في ذلك. فأصبح في الفن الحديث سريع الحركة، ضعيف التأثير، ولكنه أدق وأبلغ. إذ من القواعد الأولية المقررة في فن المسرح أن تتدرج الجاذبية في أجزاء الرواية، فتبدو ضعيفة في العرض، ثم تنمو على التدريج رويداً رويداً حتى تبلغ الغاية في النهاية. فإذا ما بدت قوية في صدرها فأسالت العيون من الرحمة، وخلعت القلوب من الرعب، كان من الصعب على الكاتب أن يُدرج المواقف الروائية ويرتبها في الفصول. لذلك تجد كتاب العصر لا يضعون الجاذبية في العرض، وإنما يكتفون بالتهيئة لها والدلالة عليها.
إن العرض يسهل بناؤه ويخف أداؤه كلما اشتهر موضوع الرواية أو كان مما ألفه الناس في اجتماعهم، وعرفوه من طباعهم. ولذلك كان في الملهاة أسهل منه في المأساة، لأن العمل(60/39)
فيها قريب العلاقة محدود الفكر، لا يخرج في معظم الأحوال عن دائرة الجماعة أو الأسرة. والمآرب والأخلاق، والعادات والأهواء، في هذه الدائرة معروفة مألوفة، توضحها كلمة وينبئ عنها منظر. ومع ذلك فلبعض الملاهي عروض بلغت حد الإعجاز من الفن كعرض ترتوف، والمريض المتوهم، والنساء العوالم لموليير.
والتعقيد هو الجزء الذي تشتبك فيه الظروف والوقائع والمنافع والمنازع والأخلاق في اعتراضها طريق البطل، فينشأ عن اشتباكها الشك والتطلع والقلق وفروغ الصبر وبذلك تقوى الجاذبية. وأفضل التعقيدات وأجدرها بالفن ما نشأت فيه العوائق من أخلاق الأشخاص وأهوائهم، لا مما يصدر عن غير طبيعتهم ولا إرادتهم، كالأخطاء القهرية، والحوادث الخارجية. ولا بد أن يسر التعقيد على سنن الطبيعة حتى يسهل على المشاهد أن يتصور وقوع الحوادث كما يراها. ولحوادث الطبيعة كما تعلم نتيجة وعلاقة وتسلسل، فينبغي إذن أن يكون التعقيد سلسلة من الحوادث بينها من التواصل والتفرع ما بين الحلق.
لم يكن للتعقيد في المآسي القديمة ماله اليوم من شأن وخطر. فقد قسم أرسططاليس الموضوع تقسيماً كمياً إلى أربعة أقسام. وهي المقدمة والوقائع والنتيجة والخورس. (والقسم الأخير قد حذف اليوم)، ثم تكلم عن التعقيد دون أن يُعنى به، وقسم الموضوع إلى بسيط وهو ما كان العمل فيه مستمراً متحداً ينتهي من غير انقلاب ولا تعرف، ومركب أو معقد وهو ما اشتمل على هذين الموقفين أحدهما أو كليهما. فالقاعدة التي وضعها أرسططاليس للنوعين جميعاً هي أن تستمر سلسلة الحوادث متصلة، وألا يكون تسلسلها تعاقبياً، بل يتوالد بعضها من بعض على غير ما يترقب المشاهد حتى تنتهي إلى الحل. والحق أن أرسططاليس لم يكن محتاجاً إلى غير هذا مادام كل ما يبغيه هو حادثاً يبعث في القلوب الرعب والرحمة. فهو لا يشغل باله إلا بالحل، أما التأثير الداخلي للموضوع فذلك مالا يحفل به كثيراً. فأنت ترى أن المسرح الإغريقي كان يعتبر الموضوع الذي يتمخض عن الفاجعة الأليمة المحزنة بسيطاً. وما كانت تلك البساطة في الواقع إلا فراغاً في عمل عقيم بطبعه، وكيف يكون في مثل هذا الموضوع الساذج محل لتناقض الأخلاق وتصادم الأهواء، وأسباب حوادثه خارجة عن إرادة الأشخاص أو سابقة للعمل الروائي نفسه؟ ففي رواية أوديب الملك ماذا ترى؟ ترى كل شيء قد وقع قبل ابتداء العمل. (فلبُّوس) قد قتل،(60/40)
وأوديب قد تزوج من (يوكاست)، فلم يبق إذن بين البطل وبين الشقاء إلا أن يعلم أنه زانٍ بأمه قاتل لأبيه، فرويداً تنكشف الحجب وتنجل الحوادث، ويستيقن أوديب أنه نفذ إرادة الآلهة فيعاقب نفسه. تلك هي رائعة الأدب الإغريقي وكل ما فيها انكشف عن جريمتين وقعتا قبل عملها، فكان ذلك الكشف الرهيب الأليم كافياً لشغل المسرح وملئه. فكيف استطاع الإغريق إذن أن يشغلوا خمسة فصول بحادث محتوم لا حيلة للأشخاص فيه ولا منجى لهم منه؟ كانوا يمثلون على التتابع مآسي كثيرة في يوم واحد، وكان الخورس يقتل جزءاً من الزمن، وما بقي من الفراغ كانوا يملأونه بالشكاوي والوعظ والوصف والإنشاد والمجادلات في الفلسفة والسياسة.
تلك حال التعقيد الروائي في الفن الإغريقي، وهو كما ترى ضئيل الخطر قليل الأثر، لا يقوى الجاذبية ولا يزيد التشويق، وإنما كان سبيلهم إلى ذلك هو التعرف وحده، وكان شعراؤهم يؤثرونه ويرونه أنجع الوسائل لإيقاظ المسرح وإحياء الرواية. ولولاه لما كان لمعظم روائعهم الفنية شأن يذكر كأوديب وإيفجيني وفيلوكتيت.
أما التعقيد في الفن الحديث فهو جسم الرواية وروح العمل، وكان سبب ما أحله تلك المكانة هو امتداد نواحيه، وتشعب أطرافه، وحرية وجهه، فقد تخلص من ربقة القضاء والقدر والكهانة، وأصبح مظهراً للعواطف المؤثرة المنتجة، وصدى لأصوات الحياة الصاخبة المزعجة، وصورة للبيئة الحاضرة المعقدة؛ وصارت جاذبية المسرح معقودة بما يحدثه اصطدام الأهواء واضطرام النفوس وتباين الأخلاق وتعارض الأطماع من خير أو شر، وأخذ الحب والبغض والانتقام والطمع والغيرة تحل من حياة الإنسان محل الأقدار والحظوظ، وتعقد العمل بتفاوت الشعور وتنازع النفس واختلاف الهوى وثورة العاطفة فبعث في المسرح الحديث حركة شديدة وروحاً قوية كان القدماء يجهلونها كل الجهل، لأن مسرحهم كان يقوم على حكم الضرورة، ومسرحنا يقوم الآن على نظام الطبيعة، والضرورة عامل قاهر، ومتسلط مستبد، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه. أما الطبيعة فلها مبادئ وقوانين تُصدر عنها وتسير عليها، فكل حادث لعلة، وكل غاية لأصل، حتى في اضطراب الأهواء وفوضى الميول تجد نظاماً خفياً لا تستطيع أن تقلبه دون أن تصرخ الطبيعة في نفسك بأنك خرقت قانونها وانتهكت حماها، لذلك كان بناء المأساة الحديثة من أدق الأمور(60/41)
وأشقها على الكاتب: فالحوادث تتدرج في الصعوبة بحكمة، والجاذبية تتوزع في الأجزاء بدقة، والعمل يتسلسل بعضه من بعض في حدود الطبيعة سواء أكان منتزعاً من جوهر الموضوع أم من خلق الأشخاص. ولو شاء ربك أن يبعث الآن أرسططاليس فرأى كيف نسجت العقدة في أمثال بُلْيُكْتَ وألزِيرَ لملكه الدهش وأخذه العجب، ولاعترف أن هناك فناً آخر أسمى وأبلغ من فن أوربيدس وسوفوكليس يدور العمل فيه على الأخلاق والعادات، لا على الضرورة والخرافات.
بقى الحل وهو الجزء الذي تنتهي به الرواية وتتحلل فيه العقدة بزوال الخطر أو قضاء الوطر أو تذليل العقبة أو حلول الكارثة. وبراعة الحل أن يدبر دون أن يظهر. فتدبيره يكون بوضع العمل على طريقة تجعل اللاحق ناتجاً عن السابق. فإن بين الحوادث المتوالدة والحوادث المتعاقبة بوناً بعيداً كما قال ارسططاليس، وبذلك يكون الحل طبيعياً منطقياً متفقاً مع أخلاق الأشخاص وأعمالهم؛ وعدم ظهوره هو أن يكون فجائياً ولا سيما إذا كان ساراً، لأن الجاذبية إنما تقوى بتعاقب الرجاء والخوف على قلب المشاهد، ولا مصدر لهذا التعاقب إلا الشك، فإذا علم من قبل أن الحل سيكون ساراً انتفى سبب الرجاء والخوف، وسكن بانتفائه محرك الجاذبية. حتى في الموضوعات المعروفة يجب أن يخفى الحل. وخفاؤه إنما يرجع إلى براعة الكاتب في سوقه العمل على وجه ينسى المشاهد ما يعلمه من قبل. وتلك هي قوة الوهم وعبقرية الفن، ولولاهما لما رأينا ذوي الحساسة من المشاهدين يبكون للمأساة الواحدة عشرين مرة.
إن معنى فجائية الحل هو انتقاله طفرة من حالة مبهمة إلى حالة واضحة. وتقريب ذلك أن حظ الأشخاص في سياق العمل أشبه بسفينة تناوشتها الأمواج واصطلحت عليها العواصف - وتلك هي العقدة - فأما أن تغرق وإما أن تبلغ الساحل - وذلك هو الحل -
ثم إن الحل قد ينتهي إما بالتعرف إذا تعقد العمل على أساس الجهل والتناكر، ثم تحلل بجلاء الموقف وتعارف الأشخاص؛ وإما بالانقلاب إذا حدث تغيير فجائي فقلب حال البطل من نعيم إلى بؤس أو من بؤس إلى نعيم، وفي الحالة الأولى يسمى الحل محزناً وفي الحالة الأخرى يسمى ساراً. وكان أرسططاليس يفضل الحل المحزن ويقول بإبعاد الفضيلة المطلقة والرذيلة المطلقة من المسرح، ليكون لأشخاص الرواية نصيب من كلتيهما(60/42)
بارتكابهم جرائم عن غير عمد فيعاقبون عليها جميعاً في النهاية. أما سقراط وأفلاطون فرأيهما على خلاف رأيه: يريان أن المأساة لا بد أن تتفق مع القوانين فتقف البريء على المسرح إزاء المجرم ثم تحكم للأول على الثاني. وعلى الجملة فالحل عند القدماء كان يعوزه اجتماع التأثير والمغزى وهما قوامه وكماله، لأن الحوادث التي تؤدي إلى الحل كانت خارجة عن إرادة البطل صادرة عن سواه، والشقي إذا أشقته أخطاء غيره لا يكون مثلاً، وإذا أشقته أخطاء نفسه لا يستحق عطفاً. أما الحل في الفن الحديث فمن السهل اجتماع هاتين الخلتين فيه، لأن الرجل إذا أضله الهوى وأعماه الغي فتردى في هوة الشقاء وهو طيب القلب نبيل النفس، كان مثلاً قوي التأثير شديد الروعة جليل المغزى، يشعر قلبك الخوف دون أن يفزعك بالبلاء، ويثير في نفسك الرحمة دون أن يثيرك على القضاء. وليس الكاتب في حاجة إلى أن يغمس يد أشخاصه في الجرائم ليهز النفوس ويبكي العيون، فانه يجد لهم في صميم أفئدتهم العدو الكاشح، والطاغية المستبد، والسياف القاسي، وإذن يكون عذابهم ومصابهم من طريق الهوى المضل أبلغ مثلاً وأقوى أثراً وأفظع صورة. وفي ذلك يتجلى فضل الطريقة الحديثة على القديمة في الحل المحزن. أما فضلها عليها في الحل السار فهو أظهر وأكبر، لأن هوى النفس مقروناً بسلامة القلب لا يقابل على المسرح بما تقابل به الدناءة الغريزية والشر الصادر عن روية من الزراية والمقت. وإذن يستطيع الكاتب أن يجد للبطل الذي أضله هواه مخرجاً من شقوته ومخلصاً من ورطته، وهو جازم بوقوع هذا الحل السار من نفوس المشاهدين موقع الرضا والمسرة، لأنهم طالما ابتأسوا لبؤسه، وشقيت نفوسهم لشقاء نفسه.
ويجمل بنا قبل أن نفرغ من الحل أن ننبه الكتاب إلى عيب أصلي من عيوبه وهو الطول.
ومنشأ ذلك العيب سوء توزيع العمل على خمسة فصول، فيجعلون الفصل الأول للعرض، والثلاثة التالية للتعقيد، والخامس للحل. وطبيعة ذلك التقسيم تقضي بأن يبلغ الخطر أقصى درجته ومنتهى قوته في الفصل الرابع. فإذا جاء الفصل الخامس وجد الكاتب نفسه مضطراً أن يحل العقدة ببطء وتدرج ليملأه، فيطول بذلك الحل ويفتر، والجاذبية إذا انتهت في الزيادة بدأت في النقص، أو هي كالنار تغذى بالوقود فإذا ما سكت عنها انطفأت. فينبغي الإسراع فيه على شرط ألا تضر السرعة بالإمكانية، ولا الإمكانية بالشك. أما حل الملهاة(60/43)
فهو بحكم العادة كشف خديعة وإزالة غرور وفضيحة خبث وقطيعة سخرية. ويغلب أن يكون الحب محور التعقيد الهزلي فينحل بالزواج. وهو يشارك حل المأساة في ترتبه على ما قبله وانتزاعه من نفس الموضوع وتولده من تسلسل الحوادث. ويختص دونه بعدم المفاجأة، فقد يزداد هزله كلما وضح أمره. وفي المأساة يخدع المشاهدون، أما في الملهاة فيخدع الأشخاص.
(يتبع)
(الزيات)(60/44)
من الشعر المنثور
موعظة الحكيم
للأستاذ خليل هنداوي
وسمعته وقد جمع إليه تلاميذه في الساحة يودعهم ويشجعهم، وقد لمعت بوارق الأمل في وجوههم، وكأنما كل واحد منهم رسم على صفحة وجهه ما يوارى له الغد.
قال لهم: يا أبنائي، إنكم داخلون في أقطار تعرفونها وتجهلونها، وحاملون إليهم ما يعرفونه ويجهلونه، فابذلوا تعاليمكم في سبيل الحياة، لأن من يعمل للحياة تضمه الحياة إلى صدرها. لا تكونوا كأولئك الحكماء الدجالين الذين يسخرون من جهل الناس وما عرف جهلهم إلا أنفسهم، يقولون للناس: هلموا الينا، إننا أتيناكم بالحياة، وما يحملون إلا الموت. لتعط ألسنتكم من خزائن قلوبكم، وليخرس اللسان إذا أراد القلب ألا ينطق.
الكلمات المنثورة - من غير صدق اعتقاد - تمضي كما تمضي الأصداء، وتنقش في الصدور، كما تنقش على الرمال السطور!
أريد أن أسمع كلماتكم في عزلتي، وأريد أن ترسخ على وجوه الجبال وصفحات البحار. ولن تقدروا على تخليدها إلا إذا اعتقدتم بخلودها.
اذهبوا كما تذهب السوافي من البحر مبشرة بنعمة البحر. لا تمدحوا عذوبتها قبل أن تذكروا ملوحته. البحر يوزع الحياة على الأرض، ويُعطي بلا نفاد، لأن لذة حياته لم يقفها على الأخذ دون العطاء.
تذهب السافية من البحر لتعود إلى البحر نقية طاهرة لامعة تؤوب كما ذهبت. لأن الأرض لا تقابل يد الطاهر إلا بجسدها الطاهر، ولا تقابل الرجس إلا بالطهر.
اذهبوا أنتم وعودوا إليّ أنقياء طاهرين كما تذهبون طاهرين، أما الطاهر فلن يعود إلا طاهراً كالسافية النقية تذهب حبلى بأسرار البحر، وتعود حبلى بأسرار الأرض! وأما الدنس فانه لن يعود إليّ كالسافية التي خبثت نفسها فعرجت على بطون الرمال تتهادى فيها ولا تنفع الحقول. فهي إلى موت لا حياة بعده، وهي موطن لا ترتقب فيه ساقية ثانية تحملها إلى مستقرها.
كونوا كالسافية الأولى، تذهب مرنمة على أجنحة الغيوم، وتعود كرّارة ثرثارة بين تعاريج(60/45)
الجبال والوديان.
الماء لا يحيا إلا إذا كان يغني، وإذا سكن هديره فهو آسن قد فقد الحياة.
الماء يغني في صدر البحر والجداول والأنهار، ولا يسكت إلا في الغدران الراكدة، وأية حياة في هذه الغدران؟ غنوا إذاً، وليكن غناؤكم في سبيل الحياة كما يغني كل حي من أجلها. وعلموا الناس أن يبتسموا لأن غاية الحياة هي أسمى من أن توجدنا لنشقى ونتألم، ومتى علمتموهم أغنية الرجاء هان عليكم تعليمهم غريها من الأغاني:
ما أكفرك أيها الإنسان!
كل شيء يضحك للحياة إلا أنت
(بيروت)
خليل هنداوي(60/46)
13 - أعيان القرن الرابع عشر
أحمد باشا تيمور
بقلم حسن عبد الوهاب
والده المرحوم إسماعيل باشا بن محمد كاشف تيمور بن إسماعيل، تقلب في الوظائف الكبيرة إلى أن كان رئيساً للديوان الخديوي في عهد المغفور له إسماعيل باشا.
جده محمد كاشف تيمور كان ضابطاً في جيش محمد علي وساعده على إبادة دولة المماليك وترقى حتى كان والياً على الحجاز وتوفي سنة 1262 هـ (1847م)
مولده
ولد في 22 شعبان سنة 1288 هـ 1871م وقد تلقى دروسه الأولية على مدرسين خصوصيين، ثم تلقى اللغة العربية على المرحوم العلامة الشيخ رضوان محمد العالم الشهير في علمي القراءات والرسم
ودرس اللغة الفرنسية بمدرسة كليبر وعلى الأستاذ عبيد بك حتى نبغ فيها مع نبوغه في اللغتين التركية والفارسية.
وتلقى علم المنطق وعلوماً أخرى على الأستاذ الكبير الشيخ حسن الطويل، ثم تلقى علم اللغة على اللغوي الثقة الشنقيطي الكبير، فحضر عليه شرح المعلقات وغيره، فكان يذهب إليه الفقيد في منزله ويتلقى الدرس عليه وهو جالس، فكان حينما يشعر بألم ويبدل رجلاً بأخرى يقول له لا تتألم يا أحمد فقد كنا نقطع بالراحلة شهوراً وراء البحث والاستقصاء عن مسألة علمية.
وظل مثابراً على الدرس ومجالسة العلماء والأخذ عنهم حتى أصبح الحجة في اللغة بعد الشنقيطي في عصره والوحيد بعده.
ناديه بسراي درب السعادة
يرى السائر الآن في شارع درب سعادة بجوار مسجد آسنبغا فضاء كبيراً هو سراي تيمور، وقد كانت منتدى يؤمه شيوخ الأدب واللغة في القاهرة للبحث والمناقشة في المواد العلمية والأدبية، أمثال المرحومين الشيخ أحمد مفتاح والعلامة الشيخ طاهر الجزائري الحجة الثقة(60/47)
في المؤلفات العربية، والمرحوم الشيخ محمد عبده، ويحيى أفندي الأفغاني وأصدقاؤه الأجلاء السيد رافع والسيد محمد الببلاوي والشيخ حسن منصور والشيخ محمد شاكر أطال الله بقاءهم، وغيرهم كثيرون ممن يضيق المقام عن سرد أسمائهم، وقصارى القول أن تلك الدار كانت كعبة العلماء والأدباء في مصر والأقطار العربية، وما كتبه في الصحف والمجلات من مباحث علمية وتنقيب عن حضارة العرب بأسلوب شيق وتمحيص للحقائق أكبر دليل على ماله من أدب ونظر سديد فيما يعانيه من الأبحاث. وقد جمع خزانة كتب هي مفخرة مصر بل والشرق.
الخزانة التيمورية
بدأ في تكوين خزانته سنة 1319هـ (1901م) وقد كان لديه نواة صغيرة لها من جمعه أيضاً، وظل طوال تلك السنين ينقب عن النوادر من المخطوطات القيمة ويشتريها بأغلى الأثمان حتى اجتمعت لديه نوادر يندر وجود مثلها في خزائن أخرى، بل انفردت بتحف كثيرة.
ويبلغ عدد كتبها 15000 كتاب في نحو 20000 مجلد غالبها خط، جميعها مجلدة تجليداً متقناً، واستنسخ في عهده الأخير مجموعة صالحة من مكاتب أوروبا بالفوتوغرافيا. وبها القليل من المؤلفات الفرنسية والإنجليزية مما له علاقة بحضارة العرب أو تاريخ مصر ونشرات المجمع العلمي الفرنسي.
وتمتاز هذه المكتبة بوفرة كتبها الخطية وخاصة في التاريخ واللغة، ولعل القارئ يعجب إذا أكدت له أن هذا العدد من الكتب قد اطلع عليه رحمه الله وعلق عليه ملاحظات له ما بين وفاة مؤلف، أو بيان ذيول وضعت على الكتاب، أو الإشارة إلى قوة المؤلف والاعتماد عليه في النقل. هذا ما يتعلق بالكتب المطبوعة.
أما الكتب الخطية وهي أكبر قسم فيها، فقد استنفدت منه مجهوداً لا يقدر عليه أشخاص. ومن يطلع على جميع الكتب الخطية يجدها مبتدأة بترجمة المؤلف ومنمرة، ثم فهارس بالتراجم الواردة فيه، والموضوعات المهمة، وآخر بأسماء البلدان والأماكن. وبيان الكتب الواردة فيه، ومن حبه للعلم ومساعدته على نشره لم يبخل على من أراد طبع بعض هذه الكتب بالترخيص له بطبع فهارسه، وهذا مشاهد في كتاب الطالع السعيد للأدفوي المطبوع(60/48)
سنة 1914 فانه محلى بالفهارس التي أشرت إليها، وكما حصل أخيراً من إعطائه مفتاح الخزانة، وهو مجموعة الفهارس التي وضعها لكتاب الخزانة للبغدادي إلى المطبعة السلفية لدرجها في الطبعة الجديدة، وفعلاً طبعتها، وأمثال هذا كثير.
ومن اللطيف في هذه المكتبة تدقيقه رحمه الله في انتقاء كتبها، فإذا اطلع مطلع على نسختين من كتاب فلا بد وأن يكون هناك فرق بينهما، وكأن تكون هذه كتبت في عصر المؤلف أو قرئت عليه، والأخرى طبعة بمصر أو أوربا أو الهند.
أما المجاميع الخطية فقد وضع لها فهارس بمشتملاتها، وكل هذا المجهود بخطه.
وكثيراً ما أعار المكاتب والمستشرقين أو استنسخ لهم لحسابه هدية منه، كما أنه أعار دار الكتب الملكية بعض نفائس خزانته لتصوير نسخ منها مثل الأجزاء التي كانت تنقصها من كتاب عيون التواريخ لابن شاكر الكتبي، وما لديه منه بخط المؤلف. وأخيراً أعارها الجزأين الأول والسابع من كتاب الضوء اللامع للسخاوي، وتاريخ ابن الفرات الذي استنسخه من فينا بالفوتوغرافيا، وسمح للدار بتصوير الفهارس التي وضعها لكل جزء في أوله، وعدد أجزائه سبعة عشر جزءاً.
أما النفائس التي امتازت بها المكتبة فكثيرة ولا تسعها تلك العجالة، ومن مميزات تلك المكتبة النادرة وجود تواقيع مئات من أكابر العلماء في القرن السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر الهجري، وقد حصرها جميعها، وبعد وفاته رحمه الله أهديت مكتبته إلى دار الكتب المصرية، فأفردت لها مكاناً خاصاً بها.
مقالاته ومؤلفاته
كان رحمه الله دقيقاً في البحث والتمحيص، وقد نشر مقالات كثيرة في المؤيد والضياء والمقتطف والمقطم والأهرام والهلال والهندسة والزهراء والهداية الاسلامية، وكلها في حضارة العرب وتحقيقات تاريخية.
فمن مقالاته الممتعة (الخلافة والسلطنة) نشرت في المقطم سنة 1922 ومنها (المهندسون الإسلاميون) نشرت تباعاً في السنة الثانية 1922 والثالثة 1923 من مجلة الهندسة، وأيضاً خص تلك المجلة بفصول قيمة من كتابه (التصوير عند العرب) نشر منها (التصوير على الجدران) في العدد الأول والعدد الثاني من السنة الثامنة يناير وفبراير سنة(60/49)
1928 (التماثيل المتحركة والمصوتة) في العددين 3و4 مارس وأبريل سنة 1928 - وسبق أن نشر بمجلة الهلال الغراء مقالات عن التصوير عند العرب.
وقد انفردت مجلة الزهراء بنشر قسم كبير من مقالاته نذكر منها: بئر الثنيتين - حول تصحيح القاموس - شعر يزيد - دار ابن لقمان بالمنصورة - انتشار المذاهب الأربعة - الكرات العربية الأرضية والفلكية - الكتابات الدقيقة، غرائب أخرى في الكتابة - لقب الطواشي - الطربوش وتاريخه - وصف ساعة المدرسة المستنصرية - المشتهى وتحقيق موضعه بالروضة.
ومن مقالاته التي كان يوافينا بها أخيراً (الآثار النبوية) خص بها مجلة الهداية الإسلامية ونشر منها تسع مقالات في الأعداد محرم، وربيع ثاني، وجمادى الأولى، وجمادى الآخرة، ورجب وشعبان، ورمضان، وشوال، وذي القعدة سنة 1348 وظهر المقال العاشر في عدد الحجة بعد وفاته رحمه الله، تكلم فيه عن الآثار النبوية في الأقطار الإسلامية بإسهاب لم يسبق، وتحقيق وتمحيص نادر، وباقي هذا البحث معد للنشر أيضاً.
وكلها مباحث تدل على سعة الاطلاع والتعمق في البحث، بل هي خلاصة معلوماته وعصارة أفكاره، وآثار تنقيبه في خلال السنين الماضية.
والحق أنها رسائل فريدة وليست بمقالات، وذلك لغزارة مادتها ودقة مباحثها التي لم تطرق من قبل.
مؤلفاته
هذه المؤلفات قسمان: ما نشر وما لم ينشر. أما ما نشر فهو:
1 - تصحيح لسان العرب نشر القسم الأول منه سنة 1334هـ.
2 - القسم الثاني من تصحيح لسان العرب نشر سنة 1343هـ.
3 - تصحيح القاموس طبع سنة 1343هـ.
4 - نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الأربعة وانتشارها طبعت سنة 1344.
5 - قبر الإمام السيوطي وتحقيق موضعه مزين بالصور طبع سنة 1346.
6 - اليزيدية ومنشأ نحلتهم طبع سنة 1347.
7 - تاريخ العلم العثماني مزين بالصور. طبع سنة 1347(60/50)
أما مؤلفاته التي لم تطبع فهي:
1 - الأمثال العامية: وقد رأيتها بعيني تملأ مجلدات كبيرة وكلها معدة للطبع صرف في جمعها زهرة شبابه، حتى أنه رغم جمعها بنفسه أعد جوائز لمن يأتي بمثل لم يدونه.
2 - التصوير عند العرب: اطلعت على قسم كبير منه وجميعه معد للنشر، ومن يطلع على ما نشر منه في مجلة الهندسة يعلم مقدار حاجتنا إلى مثل هذا المؤلف بعد أن رأينا ما ظهر من مؤلفات الغرب في هذا الباب وجلها اقتصر على ما عثر عليه من التصوير الفارسي وكلها لا تسمن ولا تغني من جوع بجانب هذا السفر القيم العديم المثال.
3 - معجم تيمور في العامية المصرية: وهو بمثابة إصلاح للأخطاء الدخيلة على العربية فيذكر الكلمة وأصلها الصحيح، وبيان التحريف الذي طرأ عليها ومنشأه. وقد اطلعت على قسم كبير منه فإذا هو مجهود مضن لا يستطيع المضي فيه إلا من أوتي بسطة في العلم مثل تيمور رحمه الله، وقد نشر منه قطعاً في مجلة المجمع العلمي بدمشق، ونقلت البلاغ الغراء قطعتين منه في العددين المؤرخين 25 و 26 مايو سنة 1926.
4 - السفن الإسلامية وأسماؤها.
5 - شرح التبرّي من معرّة المعرّي.
وهو كتاب لطيف جمع فيه أسماء الكلب بمناسبة ما قرأه في ترجمة الإمام أبي العلاء المعري من أنه دخل على أبي القاسم المرتضى فعثر برجل فقال من هذا الكلب فقال له أبو العلاء الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً.
6 - ولديه أيضاً مجموعة كبيرة من الوفيات منذ العصر الذي يلي العلامة الجبرتي إلى عصرنا هذا، ويكاد يكون منفرداً بها أيضاً.
هذا قليل من كثير، ولديه أشياء لم يطلع عليها أحد ومقالات لم أشر إليها في عجالتي هذه.
أعماله ومآثره
كان عضواً في مجلس الشيوخ منذ تكوينه حتى أوائل دورة العام الذي توفى فيه واستقال لانحراف صحته.
وكان عضواً بلجنة حفظ الآثار العربية. والمجمع العلمي العربي بدمشق. والمجلس الأعلى لدار الكتب الملكية، ومن مؤسسي جمعية الشبان المسلمين وجمعية الهداية الإسلامية، ومن(60/51)
مؤسسي جمعية نشر الكتب العلمية، وفي سنة 1924 أهدى إلى المجمع العلمي بدمشق مجموعة من الموازين (الصنج) الزجاجية مع قسم كبير من الكتب.
وأهدى إلى دار الآثار العربية خنجراً مرصعاً بالأحجار الكريمة وسيفاً كان لجده تيمور كاشف وأهدى إلى جمعية الشبان المسلمين كتباً قيمة وأيضاً منح جمعية الهداية الإسلامية في شهر أبريل سنة 1930 120 كتاباً.
ولو لم يكن من مآثره إلا مكتبته النادرة لكفى.
أخلاقه
كان رحمه الله مثلاً عالياً في الأخلاق. حلو المعاشرة هادئاً حليماً، على دين متين ولهجة صادقة، وسمت حسن، وعقل وافر ووقار، محباً للخير لا يصل إلى الشر مطلقاً.
وقد كان محسناً متواضعاً لا يحب الظهور ولا المباهاة، وانظر إلى تواضعه الملموس في مقدمة كتابه تصحيح لسان العرب وهو أكبر كتاب في اللغة حيث يقول:
(ولسنا في ذلك بمدعين عصمة أو متبجحين بفضل)
وما أجمل تواضعه حينما يصف لنا مقالاته (التصوير على الجدران) و (التماثيل المتحركة) بأنهما من رسالة التصوير عند العرب، يمين الله أن المقال الواحد منهما حري بأن يكون رسالة وافية فما بالك بكتاب ضخم يصفه لنا برسالة.
وكان مثلاً عالياً في التقوى والغيرة على الإسلام والمحافظة على العوائد القومية.
خاتمته
لقد كانت حياته حافلة بجلائل الأعمال قضى معظمها في البحث والتنقيب والذود عن الإسلام، وجمع نفائس الكتب، حتى نكب بوفاة نجله المرحوم محمد بك تيمور في أوائل سنة 1921 فكانت صدمة قوية لم يقو على كفاحها، فأثرت في صحته، ومن ذلك الحين أصبح يميل إلى العزلة.
ومع أن مصيبته بفقد نجله هذا من أكبر المصائب فإنها لم تنته عن المثابرة على الكتابة والبحث، غير أن نوبات المرض كانت تنتابه بين آونة وأخرى، وخاصة في أعوامه الأخيرة وهو لم يرحم نفسه ولم يشفق عليها.(60/52)
وفاته
في الساعة الرابعة من صبيحة يوم السبت 27 ذي القعدة سنة 1348 - 26 أبريل سنة 1930 انتقل إلى رحمة الله تعالى فانطوى ذلك العلم الخفاق، واندك ذلك الركن الركين، وكان لنعيه رنة حزن وأسف جزعت لها القلوب وفاضت بالبكاء العيون إنا لله وإنا إليه راجعون. ودفن وقت الغروب بمقبرة عائلته المجاورة لقبر سيدنا الإمام الشافعي، رحمه الله وطيب ثرى تربته.
حسن عبد الوهاب(60/53)
في المعلقات أيضاً
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
. . . وكنت عازماً على العودة إليها بتكملة رأيي فيها، وأقول رأيي وإن حاول بعضهم أن يجعله رأي عالم أوربي سبقني إليه فلا يكون لي جديد فيه، وقد اشتغلت بالكتابة في العلم والدين والأدب والتاريخ من نحو خمس عشرة سنة، ولى في ذلك بفضل الله آراء كثيرة جديدة خالصة جِدتها لي، ولم يحاول أحد في رأي منها ماحوول في رأيي الجديد في المعلقات، اللهم إلا ما كان من الأستاذ الجليل أنطون الجميل فيما كان بيني وبين الأستاذ زكي مبارك في نقد تسمية العصر الأدبي قبل الإسلام باسم العصر الجاهلي، لأنها تسمية دينية لا أدبية، وكان بيننا في ذلك جدال فيمن هو صاحب ذلك الرأي مني ومنه، فذكر الأستاذ الجميل أن هذا الرأي ليس لي ولا له وفلاناً مسبوق به، فأما أنا فذهبت إليه فلم أجد عنده في ذلك شيئاً فاكتفيت بذلك منه، وأما الأستاذ زكي فإنه سكت على ذلك، وهو من عادته ألا يسكت عن شيء، وألا يرضى بالهزيمة وهو منهزم، ولعله رضى من ذلك بما رضيت به إحدى المرأتين اللتين تنازعتا في ولد عند سليمان عليه السلام.
وكذلك هذا الرأي الذي أذهب إليه في المعلقات ليس هو رأي الأستاذ نولدكه، ولا رأي الأستاذ كليمان هيار، وإنما هو توجيه جديد لتسمية هذه القصائد باسم المعلقات أصح من توجيههما لها، فإني أرى أن المعلقات اسم مفعول مشتق من التعليق بمعنى الحفظ أو الشرح أو الحب والتتبع كما قال الشاعر:
علقتها عرضاً وعلقت رجلا ... غيري وعلق أخرى ذلك الرجل
وكما يقولون فلان علق علم أي يحبه ويتبعه، وعلق شر كذلك.
وأما الأستاذ نولدكه فيحاول أن يحمل اسم المعلقات معنى علق، وهو الشيء النفيس فتعني هذه التسمية عنده أن هذه القصائد قد سمت إلى درجة خاصة مجيدة، وهي محاولة خاطئة، لأن العلق بمعنى الشيء النفيس صفة مشبهة لا يشتق منها اسم مفعول هكذا (معلقات)، وإنما يشتق اسم المفعول من المصادر وما في معناها، ولم يقل أحد إن اسم المعلق يطلق على الشيء النفيس، وإنما الذي يطلق عليه اسم العلق فقط فاخذ أحدهما من الآخر خبط وخلط.(60/54)
وأما الأستاذ كليمان هيار فيرى أن المعلقات جمع معلقة بمعنى القلادة بدليل أنهم يسمونها أيضاً السموط بمعنى العقود أو القلائد وهو أيضاً توجيه خاطئ لأن كلمة معلقة تطلق على التميمة وعلى المرأة المعلقة وهي التي ليست بذات زوج ولا مطلقة وعلى غير ذلك من أمور كثيرة وهي أشهر في المرأة المعلقة من التميمة والقلادة وغيرهما من كل ما يعلق ولو كانوا يريدون هذا المعنى في تسمية هذه القصائد بالمعلقات لسموها باسم القلائد كما سموها باسم السموط حتى يكون هذا الاسم نصاً في ذلك المعنى ولا يحتمل معنى التميمة أو غيرها مما يصح أن يطلق عليه اسم المعلقات. وقد جاء في الأساس أنه يقال أعلقت المصحف جعلت له علاقة يعلق بها واشتقاق اسم المعلقات لهذه القصائد من نحو هذا أجدر من اشتقاقها من المعلقة بمعنى القلادة. وقد ذكر بعض شيوخ الأدب ما يقرب من هذا في سبب تسمية تلك القصائد باسم المعلقات فقال إن العرب لم تكن تكتب في دفاف ولم تكتب قبل القرآن كتاباً مدففاً، وإنما كانوا يكتبون في رقاع مستطيلة من الحرير أو الجلد أو الكاغد يوصل بعضها ببعض ثم تطوى على عود أو خشبة وتعلق في جدار الرواق أو الخيمة بعيدة عن الأرض حرصاً عليها من قرض فأرة أو عث أو نحو ذلك من دواب الأرض، وذلك تأويل قوله تعالى (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب) إذ يظهر أن السجل ومعناه الصحيفة أو الكاتب الذي كان يعلق الكتب أو يطويها لعله كان يستعمل مثل هذا العود في طي الكتاب وتعليقه.
فهذا هو رأيي في المعلقات مع رأيي الأستاذين نولدكه وكليمان هيار وهذه ميزته عليهما ولا أقول الفرق بينهما، لأنه من الوضوح بحيث كان يغني ذلك الناقد عن نقده، ويغنيني عن هذا الرد عليه إلى ما هو أنفع عندي منه. ولا أثقل على نفسي من أن يقول ناقد رأيي إنني أغفلت مناقشة ونقض رأي القائلين بأن هذه القصائد سميت بالمعلقات لأنها كانت تكتب بالذهب وتعلق بأستار الكعبة فيلجئني إلى أن أعيد له ما ذكرته في نقض هذا الرأي عن أبي جعفر النحاس من أنه لا يعرفه أحد من الرواة، فكيف أكون مع هذا قد أغفلت مناقشته ونقضه.
ولا أثقل على نفسي من أن يذكر ناقد رأيي أن أبا جعفر النحاس أطلق الملك الذي كان يأمر بتعليق هذه القصائد في خزانته إطلاقا وأني أنا الذي حملته على النعمان بن المنذر ليتأتى(60/55)
لي نقض رأي أبي جعفر فيلجئني إلى أن أعيد له ما قلت من أن أبا جعفر لم يذكر من هو هذا الملك الذي كان يأمر بتعليق هذه القصائد في خزائنه وأن بعض علماء الأدب هو الذي رجح أنه النعمان بن المنذر، فلم أكن أنا الذي حملته عليه ليتأتى لي بذلك نقض رأيه، ثم إني لم أكتف بهذا في نقض رأيه بل ذكرت ما ينقضه، ولو كان ذلك الملك ملكاً آخر قبل النعمان بن المنذر وأشرت إلى الأسباب المعروفة التي قيلت المعلقات من أجلها والى الأمكنة التي قيلت فيها وهي أمكنة غير تلك الأسواق التي يقول أبو جعفر وغيره أنها كانت تقال فيها.
ولا أثقل على نفسي من أن لا يطلع ناقد رأيي على النص الذي أخذت منه أن سوق عكاظ أنشئ بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة. ثم يطلع على نصوص أخرى قد تخالف ذلك فيمضي فيها إلى أن يعود فيسألني عن النص الذي اعتمدت عليه في أمر قيام تلك السوق بعد عام الفيل، فيلجئني إلى أن أدله في ذلك على كتاب المتداول مشهور هو كتاب (الوسيط) للأستاذين الفاضلين الشيخ أحمد الإسكندري، والشيخ مصطفى عناني، وإني أذكر لناقد رأيي نصاً أقدم مما ذكره من النصوص التي ذكرها في إثبات قدم سوق عكاظ.
قالوا في تفسير المثل المشهور (الحديث ذو شجون) إنه يضرب في الحديث يتذكر به غيره، أي ذو طرق يتصل بعضها ببعض ويؤدي بعضها إلى بعض، والواحد شجن قاله ضبة بن أد ابن طابخة بن إلياس بن مضر، وقد نفرت إبل له فطلبها أبناء (سعد وسعيد) فوجدها سعد فردها، ومضى سعيد فلقيه الحارث بن كعب فأخذ منه برديه وقتله واختفى خبره على أبيه إلى أن وافى عكاظ فرأى بردي سعيد على الحارث فسأله عنهما فأخبره بأنه رآهما على غلام فطلبهما منه فأبى فقتله بسيفه، فقال له ضبة: أعطينيه أنظر إليه فإني أظنه صارماً، فأعطاه له فهزه في يده وقال: (الحديث ذو شجون)، ثم قتله به، فقيل له يا ضبة: أفي الشهر الحرام؟! فقال: (سبق السيف العذل) فذهب أيضاً مثلاً.
ولا شك أن عصر ضبة أقدم بكثير من عصر عبد شمس بن عبد مناف، ولكنها نصوص قد تحمل على الاشتباه وان ذاكرها يريد سوقاً أخرى غير سوق عكاظ فاشتبهت عليه لشهرتها، وهكذا يغطي كل مشهور على كل شيء سواه، فيبقى النص الذي يعين قيام سوق عكاظ بعد عام الفيل غير قابل للتأويل ويقدم على غيره من النصوص الأخرى لأنه نص سيق لبيان(60/56)
تأريخ بدء هذه السوق ونهايتها، وتلك نصوص في حكايات أخرى ذكرت هذه السوق عرضاً فيها، فيمكن حملها على الاشتباه كما ذكرنا.
وإذا أراد ناقد رأيي بحثاً في وثاقة رواية هذه القصائد وأمثالها فيمكنه أن يجد ذلك في بحث صحة أشعار امرئ القيس من كتابنا (زعامة الشعر الجاهلي) فلعله يقتنع بأنّا قد نحسن هذا النوع من البحث، وأراني بعد هذا قد أطلت، ومنعني الأستاذ الحاجري من العود في هذا المقال إلى تكملة رأيي في المعلقات فليكفه هذا منى وليتركني في سبيلي وجزاه الله خيراً.
عبد المتعال الصعيدي(60/57)
من طرائف الشعر
على الشاطئ
للأستاذ محمود خيرت
أنظر الشاطئ البهيَّ الرّواء ... ضاحكاً كالخميلة الغنَّاء
كل غصنٍ به تمثَّلَ قَدّاً ... أنبتَتْ وَردَه خدُودُ الضباء
فاتناتٍ وقد خَطرن سَكارى ... برحيقٍ من الرِّضى والصَّفاء
سافراتٍ وكيف يحتبس الحُس ... ن وقد كان من فيوض السَّماء
عارياتٍ كأنما قد تسترْ ... نَ عليه بحُلَّةٍ من رياء
باسماتٍ والابتسامةُ تحيي ... في قرار النفوس ميْت الرّجاء
فتَرَى أعيُنَ الشباب عليه ... نَّ خفافاً من كل قاصٍ وَنَاء
وتراهنَّ آمِناتٍ بمنأى ... عَن تَجَنٍّ أو نُفرَةٍ أو جَفاء
قد تأكّدْنَ أنَّها نظراتٌ ... أرسلَتها العيون بالإطراء
والغواني يهزُّهنَّ كما قد ... قال شوقي العظيم سحر الثناء
وانظر البحر هل ترى لمداهُ ... آخراً. رائعاً كرحب الفضاء
وهو حيٌّ له نصيبٌ من الحِ ... س وحالاتُ فتنةٍ والتِواء
فإذا مسَّه النَّسيم عليلاً ... كان مثل الصحيفة الزَّرقاء
وتراه كأنما الرّعدُ يَدوي ... حول أمواجه من الأنواء
قام يُزجي مياهَه صاعداتٍ ... نحو أقدامهنَّ في إغراء
فتواثَبْنَ كالعرائس لكن ... كنَّ فيه عرائساً من ضياء
وتناثرْن كالدُّمى سابحاتٍ ... في انحرافٍ عن سطحه واستواء
هادياتٍٍ لقاعِه غائصاتٍ ... ثم يظهرْن عند سطح الماء
ثم يأخُذْن في التَّراشُق بالما ... ء رشاشاً وهنَّ في ضوضاء
هكذا ينعَمُ الملاح على الشَّا ... طئ حتى يرفّ ظلُّ المساء
(الإسكندرية)(60/58)
محمود خيرت
بقسم قضايا المالية(60/59)
ليلة الأهرام. . .
مَوثِقُ الحبِّ الذي صِحْنا به ... شَهِدَ الأهرامُ والبدرُ عليهِ
شقَّ كلٌّ صدرَهُ عن قلبه ... ومضى يبعثُ بالعهدِ إليهِ
ومَضَتْ أعيُنُنَا تروي الغَرَامْ ... وتَبُثُّ الوَجدَ وحياً خالدا
رَفرَفَ الأمنُ عليها والسلام ... وضياءُ البدرِ يسري هاجداً
آهِ من فرصةِ لثمٍ وعِناقْ ... لم تُتَح إلاَّ لِسكَّان الجِنان
اختلسناها، وعُدنا في احتراق ... نَحقُرُ الدنيا، ونُزرِي بالزمان. .!
ثغريَ الصديانُ كم لاذَ بثغركْ ... يرشفُ النورَ الذي رَفَّ وحام
وذراعي كم هوتْ تعطف خَصْرِكْ ... والهوى الصادقُ في الأعْيُنِ نام.!
لا تقولي ما مضى فاتَ، فما ... يَطَّبِينِي غيرُ ماضي الذكريات
أنا أهواك جَبينَاً وفَماً ... وضياءً شاع في كلِّ الجهات
قُلتِ لي، والبدرُ للأهرامِ يرنو، ... وأنا في سَكرَةٍ مِمَّا أرَى:
(أتُرَى أحبَبْتَنِي أم أنت تحنو ... مُشفِقاً، أم ذاكَ حُلمٌ في الكرى؟)
قلت: (أهواكِ ولا أهوى سواكِ) ... ثم لاذَ الثغرُ ضمآناً بِثَغْرِكْ
وطعِمْتُ الحُبَّ حلوى في لَمَاكِ ... وشربتُ الضوء من جاماتَ سِحْرِكْ!
ثم قثمنَا، وانحدرنا في الطريق ... مِثلَ مخمورَيْنِ لَجّا في الغبوق
ضَمَّ صدرانا من الوجدِ حريق ... وثوى في ثغرها حُلْوُ الرحيق!
مختار الوكيل(60/60)
في الريف
للشاعر محمود غنيم
عشقوا الجمال الزائف المجلوبا ... وعشقتُ فيكَ جمالك الموهوبا
قدست فيك من الطبيعة سرها ... أنعم بشمسك مشرقاً وغروبا
ولقد نزلتك فادكرت طفولتي ... وتمائمي. طوبى لعهدك طوبى
زعموك مرعى للنبات. وليتهم ... زعموك مرعى للعقول خصيبا
فهي القرائح أنت مصدر وحيها ... كم بت تلهم شاعراً وخطيبا
حييتُ فيك الثابتين عقائداً ... والطاهرين سرائراً وقلوبا
والذاهبات إلى الحقول حواسراً ... يمشي العفاف أمامهن رقيبا
سلبت عذاراك الزهور جمالها ... فبكت تريد جمالها المسلوبا
كست الطبيعة وجه أرضك سندساً ... وحبت نسيمك إذ تضوع طيبا
بسط تظللها الغصون فأينما ... يممت خلت سرادقاً منصوبا
وحنت على الماء الجذوع كأنها ... أم تضم وليدها المحبوبا
وبدا النخيل غصونه فيروزج ... يحملن من صافي العقيق حبوبا
أرأيت عملاقاً عليه مظلة ... أو مارداً ملء القلوب مهوبا؟
يا رب ساقية لغير صبابة ... أنَّت وأجرت دمعها مسكوبا
وحمامة سمع الفؤاد هتافها ... فحسبته بين الضلوع مجيبا
والغيد تغمس في الغدير جرارها ... فيظل يضحك ملء فيه طروبا
سربان من بط وبيض خرّد ... يتباريان سباحة ووثوبا
وترى الجداول في الأصيل كأنها ... من فضة فيها النضار أذيبا
يا بدر أنت ابن القرى وأراك في ... ليل الحواضر إن طلعت غريبا
نشر السكون على القرى أعلامه ... فتكاد تسمع للفؤاد وجيبا
بدت الحياة هناك في ريعانها ... ولو أنها سارت تدب دبيبا
ولقد ينام القوم ملء العين في ... زمن يقض مضاجعاً وجنوبا
وهي السعادة كم أوت كوخاً وكم ... هجرت أشم من القصور رحيبا(60/61)
قالوا الحضارة قلت أسفر وجهها ... وبدت محاسنها فكن عيوبا
ما ضر أهل الريف ألا يحفلوا ... بالطب أو لا يعرفوا (الميكروبا)
ضمنت سلامتهم سهولة عيشهم ... وصفا هواؤهمو فكان طبيبا
رضعوا رحيق السائمات ومادروا ... غير النمير وغيره مشروبا
وسرى شعاع الشمس في أبدانهم ... فجرى بأوجههم دماً مشبوبا
شمس القرى كست الوجوه نضارة ... أرأيت وجهاً في القرى مخضوبا؟
سر في الحقول تر الرياضة عندهم ... فناً. وخطاً عندنا مكتوبا
أكبرت في القروي صحة عزمه ... وحسبته في صبره أيوبا
ورأيت طيب النفس فيه سجية ... ووداده سهل المنال قريبا
فيه ترى الخلق الصريح ولا ترى ... ضحك النواجذ بالخديعة شيبا
أنا لا أقول: تشينه أميَّة ... كن خيِّراً لا كاتباً وحسيبا
كم ضل من أهل الحواضر قارئ ... فاغتال أعراضاً وشق جيوبا
في الريف فتيان تسيل جباههم ... عرقاً فيصبح لؤلؤاً مثقوبا
لا فتية مرد بأيد بضة ... في كل يوم يلبسون قشيبا
بذلوا لمصر فوق ما في وسعهم ... ورضوا بما دون الكفاف نصيبا
محمود غنيم(60/62)
العلوم
البراكين
بقلم نعيم علي راغب
دبلوم عال في الجغرافيا
هي ظاهرة من أهم الظواهر التي تدل على حرارة الأرض الباطنية. وأنه لمن المدهش حقاً أن نجد حتى الآن وبين مدرسي الجغرافية من يخطئ في تعريف هذه الظاهرة، ولذلك سأبدأ بحثي بتعريف البركان ووصف أجزائه بالتفصيل، ثم أختتمه ببيان الغلطات الشائعة في تعريف البركان ووصفه:
البركان عبارة عن شق يصل باطن الأرض بظاهرها، فهو بمثابة قصبة تخرج عن طريقها المواد المنصهرة من باطن الأرض إلى سطحها إذا كان البركان ثائراً. فإذا ما همد لسبب ما وخمدت ثورته سدت القصبة إما بتجمد المواد المنصهرة فيها، أو تجمع المواد المفتتة بها.
أجزاء البركان
يتكون البركان عادة من أقسام ثلاثة هي: -
1 - القصبة واسطة الاتصال بين باطن الأرض وسطحها. تخرج منها المواد المنصهرة ومقذوفات البركان وهذه القصبة تظل مفتوحة ما دام البركان مستمراً في ثورانه حتى إذا ما سكنت ثورته أو خمدت تجمدت فيها المواد الذائبة وتراكمت في الفتحة الصخور والأحجار فتنسد.
2 - الحوض تجويف يقع في نهاية القصبة البركانية يختلف في اتساعه تبعاً لقوة ثوران البركان. ففي البراكين الصغيرة يصغر مقدار قطر الحوض كما في بركان كوتابكس وفزياما.
3 - المخروط عبارة عن تراكم المقذوفات على جوانب الفتحة أو القصبة. والمخاريط على أنواع فهي إما لابية كمخروط بركان ترابية كما في بركان (الواقع على الساحل الغربي لجمهورية بيرو) أو أن يكون المخروط جامعاً بين النوعين وهذا شائع الوجود. وقد تتجمد المواد المنصهرة هنا بين الطبقات الترابية والحجرية وتكون عروقاً صلبة يطلق(60/63)
عليها اسم السدود أما ارتفاع المخروط البركاني فيختلف باختلاف قوة البركان وقد يبلغ ارتفاعاً كبيراً: فمخروط فيزوف يبلغ ارتفاعه 4000 قدم واتنا11000 وكوتابكس18876.
ثوران البركان
إذا ما ثار البركان جمع الشياطين معه ليقوموا سوياً بعملية الهدم والتخريب فيقذف من فوهته بالحمم ويلقي في الجو بالصخور مكوناً سيلاً من مواد منصهرة مخربة ينحدر على المدن والقرى القريبة ليدمرها. ينحدر إليها ببطء حقيقة ولكنه ينحدر بلا تردد.
ويسمع للبركان الهائج دمدمة تصم الآذان وينتشر مع الثوران دخان يعمي العيون، فتذبل الأزاهير وتتحطم الأشجار، وتعود الأماكن التي كانت كالجنان جحيماً ثارت فيه الشياطين، ويغدو الجو الذي كان عطراً بالأريج خانقاً لا يحتمله الصدر ولا مجال للتنفس فيه.
ويغلب أن يحدث الثوران البركاني بعد مقدمات تسبقه بدقائق معدودات لوحظ منها: -
أ - ارتفاع صوت كصوت الرعد يرتفع منقطعاً لكنه لا يلبث حتى يزداد شدة فتصحبه هزات أرضية شديدة تتعاقب بسرعة كبيرة.
ب - انخفاض مستوى الماء في الآبار المجاورة وذلك ناشئ من تسرب المياه في الشقوق الحادثة في باطن الأرض.
ولو أنه قد يثور البركان دون إنذار سابق كما حدث في بركان فيزوف عام 1853 ميلادية. ويجب أن لا نظن أن البركان إذا ثار اندفعت منه المواد المنصهرة دفعة واحدة فهذا غير حقيقي لأن للمقذوفات البركانية ترتيباً يقرب من الترتيب التالي حين الثوران:
1 - يبدأ الثوران البركاني بخروج الأبخرة والغازات قاذفة معها أثناء خروجها أتربة كثيرة وفتات الصخور التي كان قد سبق أن تجمدت في فوهة البركان. ويعلو في الجو إلى ارتفاعات عظيمة بخار الماء المتصاعد وما معه من الغازات الأخرى (بلغ ارتفاعه في بركان كركاتو 17 ميلاً) وعلى أثر ارتفاع الأبخرة المائية إلى هذه الارتفاعات العظيمة تتكاثف وتنهمر على شكل أمطار غزيرة تمتزج بالأتربة الكثيرة فتكون أنهاراً طينية
2 - يتلو ذلك الأتربة والأحجار المفتتة التي تندفع على أثر البخار والغازات وتنشأ عن انفجار الصمامات البركانية والتصدع الناشئ في الجوانب الداخلية للمخروط بفعل الاضطرابات البركانية وقد ميزوا بين أنواع مقذوفات الدور الثاني بالنسبة للحجم فهناك(60/64)
أ - التراب البركاني وهو عبارة عن فتات رفيع يتراوح حجمه بين حبة الرمل والدقيق.
ب - القنابل البركانية وهي عبارة عن كتل حجرية مستديرة أو بيضاوية أصلها صخر منصهر قذفها البركان وهي في حالة السيولة فتجمدت واستدارت أثناء وجودها في الهواء وتكون مسامية غالباً.
جـ - وهي كتل لابية الأصل تخرج من البركان جامدة.
3 - يأتي بعد ذلك خروج المواد المنصهرة وهي ما يطلق عليها اسم اللابة من القصبة المركزية أو من الفتحات الجانبية. وهي آخر ما يقذفه البركان، وبخروجها يتعين هدوء الاضطرابات البركانية. وهذه تخرج في درجة حرارة عالية ثم تبرد تدريجاً بتعرضها للجو الخارجي، ويقتم لونها إذا ما بردت كما أنها عندما تتجمد تصير كثيرة الثقوب.
وتختلف سرعة سير المادة اللابية باختلاف درجة سيولتها وانصهارها كذلك تبعاً لانحدار الأرض ولذلك تكون سرعتها في المبدأ كبيرة نسبياً تقل تدريجاً كلما بعدت عن فوهة البركان. وقد يحدث أن تحتفظ هذه الأنهار المكونة من المادة اللابية بسيولتها لمسافات طويلة فمثلاً في سنة 1783م ثار بركان في جزيرة الجليد خرجت منه مقادير عظيمة من المواد المنصهرة ملأت مجاري الأنهار والبحيرات والفتحات المجاورة لمكان البركان لمسافات كبيرة فبلغ امتدادها في إحدى هذه الجهات 28 ميلاً وفي الأخرى 50 ميلاً وارتفاعها 100 قدم وعرضها 15 ميلاً. وليتصور القارئ الكريم معي بعد ذلك مجرى بهذه المقاييس مكوناً من مواد منصهرة تشع حرارة وتصعد أبخرة وغازات خانقة.
ومما يدل على عظم مساحة الأراضي التي كانت تغمرها المواد اللابية المنصهرة ما هو مشاهد الآن من وجود مساحات كبيرة على الأرض، طبيعة تكوينها لابية تكسوها مادة لابية إلى أعماق كبيرة خرجت من باطن الأرض في عصور جيولوجية حديثة. أشهرها هضبة الدكن وكولومبيا والحبشة.
ويميز عند ذكر كلمة بركان بين ستة أنواع للبراكين.
1 - البراكين الثائرة وهي دائمة الثوران كسترامبولي، ومتقطعة الثوران كفيزوف.
2 - البراكين الساكنة وهي التي تهدأ لمدة من الزمن ثم لا تلبث أن تثور فتهدم ما يقوم بجانبها من مدن أو مساكن كما حدث في فيزوف سنة 69م.(60/65)
3 - البراكين المتآكلة أو ما يطلق عليها اسم نسبة إلى بركان بهذا الاسم سكن وأثرت عليه عوامل التعرف فتآكل مخروطه ولم يبق منه إلا فتحة تخرج منها الغازات.
4 - البراكين الهامدة أو المائية وهي ما ينعدم فيها كل أثر للثوران ولا يبقى منها إلا المخاريط على شكل تلول كتلك التي وجدت قرب أسوان ومثل براكين أوفيرون في هضبة وسط فرنسا.
5 - البراكين الطينية وهي نوع تخرج منه كميات كبيرة من الماء مختلطة بالأتربة فيسيل الوحل على الجانبين مكوناً أنهاراً طينية، وتوجد هذه الظاهرة في كثير من المناطق البركانية وتعين آخر مظهر للثوران البركاني مثل براكين صقلية ونيوزلند وباكو وجنوب بلوخستان.
6 - البراكين المائية. وفيها لا يخرج سوى الماء كما في الينابيع الحارة والنافورات.
أسباب البراكين
سبق لي القول في العدد 53 من هذه المجلة الغراء الصادر بتأريخ 9 يوليو الماضي، أن القشرة الظاهرة للأرض عرضة لعامل الانكماش بفعل انخفاض حرارة الباطن وانكماش الجزء الداخلي فتلتوي القشرة الظاهرية لكي تتلبس على الباطن الذي نقص حجمه. وقد يكون الالتواء الحادث من الانكماش في بعض الجهات أكثر منه في جهات أخرى، ولذلك فإنه حيث ينظم الالتواء تنكسر الطبقات الأرضية، وتشقق مكونة مناطق ضعف في القشرة الأرضية
ولما كانت مناطق البراكين في توزيعها على العالم تتبع هذه المناطق الضعيفة فإننا لا نشك لحظة في أن السبب الرئيسي لحدوث البراكين هو تكوين هذه الشقوق أو العيوب التي تستفيد من وجودها المقذوفات البركانية والمواد المنصهرة، فتندفع خلالها، وتخرج منها إلى السطح الخارجي.
على أن هذا السبب يحتاج لبعض التفسير، فهناك قوة البركان القاذفة، وتكرار الثوران بين كل آونة وأخرى، وهذان يمكن تفسيرهما بوجود الشقوق البركانية مجاورة للمساحة المائية العظيمة، ولذلك فإن الماء المتسرب إلى الباطن يتحول إلى بخار بتأثير الحرارة، يجتمع مع الغازات الأخرى التي في الباطن، ويكوّن منها قوة دافعة عظيمة تقذف بالمواد المنصهرة(60/66)
وغيرها إلى السطح.
هذا وهناك من يرى أن المادة المنصهرة التي تخرج في نهاية الثوران مصدرها (جيوب) في أسفل القشرة الظاهرة، وتوجد هذه بكثرة في الجهات المرتفعة حيث يكون الضغط قليلاً.
غلطات شائعة
لا زلت حتى الآن، وأنا أكتب هذا المقال، أذكر كيف كنا نحفظ تعريف البركان بأنه (جبل يخرج ناراً ودخاناً) ولعلي لا أكون مبالغاً إذا قلت إن هناك اليوم من لا يعرف إلا هذا التعريف للبركان.
البركان ليس جبلاً. وقد جاء في تعريفي الأول للبركان، أنه فتحة أو شق في ظاهر الأرض يوصل بينه وبين الباطن، وليس الشكل المخروطي الذي هو حقيقة شبيه بالتل أو الجبل إلا المقذوفات والأتربة التي قذفها البركان، فتساقطت وانحدرت حول الفتحة البركانية مكونة هذا الشكل المخروطي.
وليس البركان جبل نار. إذ أن ذلك الذي يراه الناس فيحسبونه ناراً ليس إلا خطأ أو خداعاً نظرياً لأن انعكاس لون باطن البركان المتوهج على الغازات المتصاعدة يوحي إلى الناظر أن المتصاعد نار. ويجب أن نعرف أن هناك بين النار والتوهج فرقاً عظيماً فقد تكون قطعة من الحديد تتوهج احمراراً من الحرارة ولكن لا يصلح أن نطلق عليها اسم نار.
وهناك من يقول بأن البركان يخرج دخاناً وليس هذا القول صحيحاً، لأن ذلك الذي يطلق عليه اسم الدخان ما هو في الحقيقة إلا بخار الماء المتصاعد من باطن الأرض بفعل حرارتها عند ثوران البركان. كذلك لا يشترط في ثوران البركان أن يحدث الانفجار من أعلى المخروط أو بمعنى آخر أن تكون الفوهة في أعلى المخروط، لأنه يحدث كثيراً أن تكون الفتحة جانبية وأن يكون للبركان الواحد أكثر من فوهة واحدة.
ويحسن بي الآن قد انتهيت من الكلام على البراكين أن أذكر ظاهرة طبيعية تقترن بثورانها، وهي الاهتزاز الذي يحدث في المنطقة المحيطة بالبركان الثائر، وهذه يطلق عليها اسم الزلزال البركاني، وهذا النوع من الزلزال ولو أنه محلي إلا أنه عنيف، وقد يحدث تلفاً وأضراراً عظيمة كما حدث في زلزال جزيرة (في خليج نابلي) سنة 1388 الذي أهلك ألفي نسمة.(60/67)
نعيم علي راغب
دبلوم المعلمين العليا قسم الجغرافيا(60/68)
القصص
القابلة
للأستاذ محمود خيرت
تقيم تلك القابلة مدام دوبوا في ركن عند ملتقى شارع سان لازاك وشارع روشفوكولد حيث كتبت اسمها على باب منزلها بخط كبير.
وهذا المنزل أو تلك (العيادة) التي لا تقتصر في اريس على مساعدة الحاملات عند وضعهن. . . لا تجرؤ الفقيرات على الدنوّ منها، لأن مدام دوبوا تشتطّ في الأجر فلا تستقبل فيها إلا طبقة السيدات الغنية التي ترى في الحمل عبثاً ثقيلاً.
وفي ذات يوم نزلت من العربة أمام تلك الدار فتاة رشيقة ثم صعدت إلى الطابق الثاني. وبعد أن استقبلتها الخادمة وأدخلتها عند سيدتها أخذت هذه تطيل النظر فيها كأنها تستطلع أمرها، لأن الزائرة كانت مع حسنها وصباها يشق جبينها من وقت لآخر خط ينم عن تفكيرها وتكتّمها حالتها.
على أن القابلة لم يخْفَ عليها من أول نظرة أن هذه الفتاة حامل، ولكنها مع ذلك تجاهلت أمرها، وسألتها عن سبب زيارتها وقد عادت إليها حالتها العصبية السالفة:
(لقد اقتضى مجيئي إليك كثيراً من الشجاعة يا سيدتي لأنني لم يعد في وسعي الأحجام بعد ذلك الصبر الطويل الذي غلبني. بل إنني لا أدري كيف قدرت على كتمان أمري إلى الآن. لذلك قصدتك وأنا أرجو السلامة على يديك فما أنا بذات بعل ولا أنا مخطوبة، حتى إنني لأخشى أن يفتضح أمري فيلحقني العار ويلحق بأهلي)
وعند ذلك عادت القابلة تسألها: لماذا لم توحي لأمك بذلك فلعلها كانت تهيئ لك أسباب السفر إلى مكان قصي تضعين فيه حملك. ولكنها كانت يتيمة من أمها، وما كانت لتجد شجاعة على مكاشفة أبيها بأمرها وإن كان يحبها ويُعزّها خشية أن تنغص حياته وتكدر صفوه.
وقد علمت منها القابلة أن عشيقها مات قبل أن تشعر بهذا الحمل الذي مضى عليه أربعة شهور، فلامتها على إهمالها شأن نفسها إلى تلك اللحظة قائلة إنها لو كانت قصدتها قبل ذلك فربما كانت وُفّقت إلى الأخذ بيدها. أما بعد هذه المدة الطويلة. . .(60/69)
وعند ذلك سقطت الفتاة باكية عند قدميها تستصرخها وتتوسل إليها صائحة: أنقذيني يا سيدتي فإنك قديرة على ذلك. على أنني ما قصدتك إلا بعد أن هدتني إليك إحدى صاحباتي.
أما القابلة فتجاهلت تلك الصاحبة قائلة إنها ما أقدمت مرة على عمل ممقوت كهذا، فأخذت الفتاة تنوح وتستعطفها وتنشد مروءتها إن لم يكن إكراماً لتلك الصاحبة فشفقةً بها، ثم قالت إنني لن أبخل بما تطلبين، وأقسم لك أيضاً أنني لا أخرج من هنا إلا صمّاء فلن يعرف أحد شيئاً من أمرك وأمري.
ولقد هدّأت هذه الأقوال من روع القابلة سيما بعد أن اطمأنت على أجرها، ولذلك قالت لها إني أعرف هنا جرّاحاً شهيراً في وسعه أن يخلصك من هذا الحمل بغير عناء ما دمت تدفعين له ما يطلب، ولكنه لا يقبل أقل من ثلاثة آلاف فرنك. فلما قبلت المسكينة أوصتها بالعودة إليها في صباح اليوم التالي.
وفي الموعد وقفت عربة الدكتور تيسو عند باب منزل خلوي كان يعدّه لعملياته الجراحية المحرمة. وكان قد علم من القابلة بأمر هذه الفتاة وأنها جاءت كما أوصتها، وناولته الأجر الذي اتفقت معها عليه. وعند ذلك سألها ما إذا كانت قد عرفت من هي أو من هم أهلها، فقالت له إنها لم تشأ أن تذكر لها شيئاً من ذلك، ولكنها سلمتها خطاباً أوصتها أن لا تفضه إلا إذا كتب لها أن تموت لا قدر الله.
وعند ذلك هز الطبيب كتفيه ثم قصد إلى معمله قائلاً، إذهبي أنت فخدريها بينما أغسل أنا يدي وأعقم سلاحي.
وبعد لحظة كان الطبيب بغرفة العملية، والفتاة نائمة عارية إلا أن وجهها كان مختفياً تحت حجاب المخدر.
وعند ذلك شرع في عمله بغير شفقة على هذا الشباب المنطرح أمامه، ولكنه فوجئ بمضاعفاتأخطأ حسابها، وقطع القطن تتساقط من يديه فوق الأرض وقد صبغها الدم بينما القابلة تراقب تأثير المخدّر في ضربات القلب، وكان قد مضى على بدء العملية عشرون دقيقة. غير أنه صاح فجأة: ما هذا؟ لقد ثقبت الجدار. فصرخت شريكته، إذن هلكنا.
ولقد اضطر الطبيب إلى اتباع آخر وسيلة كانت أمله الأخير فأخذ يقتطع من لحم الفتاة، والغضب والاضطراب باديان على وجهه ولكن القابلة صاحت فجأة صيحة مزعجة: لقد(60/70)
وقف قلبها. ماذا تعمل الآن. وكيف ندفع عنا شر هذه الخاتمة المشئومة. ثم أخذت تستر جسم الفتاة بغير أن تنزع عن وجهها ذلك القناع.
أما هو فبعد أن غسل يديه كما يغسل القاتل يديه من دم قتيله صاح: كيف حصل هذا؟ وما عسى أن نفعل بعد ذلك؟ لقد قضى الآن علي وعلى اسمي وشهرتي، وابنتي التي تعلم أنني رجل شريف ماذا يكون الآن حكمها عليّ؟ ثم تحقيق النيابة ثم محكمة الجنايات. . اسمعي يا دوبو: قولي إذا سئلت أنها لم تكن حاملاً وأنها. . ولكن القابلة أفهمته أنه لن يصدّقها أحد ثم ذكرته بأهلها الذين قد لا يسكتون أيضاً. وعند ذلك تضاعف يأسه وتذكر ذلك الخطاب الذي نوهت له به فطلبه منها لعله يهتدي منه إلى مكان أهل الفتاة، وربما إذا غمرهم بالمال اكتفوا ووقفوا عن الشكوى.
ولكن ما كادت تقع عيناه عليه وأصابعه ترتجف وعرقه يتصبب حتى صرخ صرخة دوت لها الغرفة ثم أسرع فنزع ذلك القناع، فإذا بتلك الفتاة ليزا ابنته!
ولا تسل بعد ذلك عما حلّ به فقد أخذ يلطم خديه ويدق صدره ويدفع رأسه دفعاً شديداً في الحائط كمن جُنّ. وأخيراً جحظت عيناه فأخذ مبضعاً قريباً منه وغيبه في صدره حيث سقط ميتاً بعد أن جر ابنته إلى جانبه عند سقوطه.
محمود خيرت(60/71)
سحر المرأة
بقلم محمد عبد الحميد
وأنت يا أمين ألا تتزوج؟
أنا؟ لا. لن. . .
بهذا الرد القاطع أجابني (أمين) يوم سألته وكنا في رفقة من الزملاء، نقطع الوقت بالحديث، وأغلب ما يدور حديث الشباب حول المرأة.
كان ذلك في أوائل سنة 1930، وكان (أمين) معاوناً في وزارة الأوقاف، مات والده قبل أن يبدأ مرحلة الدراسة الثانوية، وهو ما يزال صبياً لم تثقله الحياة بهمّ أو تصبه بكارثة، فشاء أو شاءت له الظروف أن يختصر طريق التعليم، فلم يكد يقطع شهوراً في مدرسة مشتهر الزراعية، حتى لحقت أمه بأبيه.
قضى أمين زهرة حياته محروماً من عطف أبيه وحنان أمه، لم تكد تتفتح نفسه، ويلمع بريق الحياة في عينيه، حتى ألفى نفسه وحيداً، لا تضمه إلى صدرها أم، ولا يتولاه بالإرشاد أب. لم ينسكب في نفسه هذا النور الذي تشعه عيون الأمهات حناناً ورحمة، وخرج إلى الحياة بقلب صلب لم تصهره قبلات الأم الحارة البريئة، ونفس جافة لم ترفقها شفقة الوالد ورعايته. كذلك أخوته الثلاثة قطعت الحياة بينهم وبينه، فلم يلمس حنان الأخوة، ذهب أولهم في بعثة إلى أوروبا لدراسة الطب، والتحق الثاني والثالث قبل وفاة أبيهما بوظائف الحكومة، وعاش كل منهما مع زوجته في منزل وحده.
وكذلك عاش أمين وحيداً أكسبه جفاف حياته خشونة لم تكن تروق في أعين الذين يحتكون به، فكان صريحاً جافاً، لا يفكر في أحد من الناس، ولا يفكر في الاتصال به أحد من الناس.
غير أنه كان يضم في كيانه قلباً حياً نائماً لم يتح له أن يثور، فرقت بيننا ظروف العمل، فنقل إلى مأمورية الأوقاف في طنطا، وهناك ولأول مرة بعد وفاة والديه اتصل برجل من أهله. فقد كان له في هذه المدينة (خال) لم يتصل به منذ صباه. زار منزل خاله، فرحب به أهل الدار: خاله وزوجته وابنه وابنته (زينب)، وهي عذراء، أتمت السادسة عشرة من عمرها.(60/72)
مضت الأيام وتوالت الشهور دون أن يعنى كثيراً بزيارة أقاربه حتى أحسّ يوماً بالمرض يسري في جسمه، وإذا هي الحمى، وإذا هو مضطر أن يستريح كما أشار عليه الطبيب، ولكن أين يجد الراحة وهو (أعزب) ليس في منزله من يعنى به أو يهتم بأمره، وهو مضني لا يكاد يستطيع الوقوف على قدميه. إذن لتكن دار خاله ملجأه اليوم في مرضه، لعله يجد فيها بعض الراحة مما يعاني.
لقيه أهله في عطف، وأحاطوه بقلوبهم، ووقفت إلى جوار سريره (زينب) لا تكاد تخرج من بين شفتيه كلمة حتى تسعفه بما يبغي، وتقوم له بما يحتاج، وما تكاد الساعة تدق حتى تسرع إلى الدواء تسكب له منه بالقدر الذي أشار به الطبيب، وهي ما تفتأ بين الحين والحين، تضع يدها على جبينه تجس بها حرارته. كانت تقضي النهار إلى جواره، وتقطع الليل أو أغلبه حول سريره، ما يكاد يلمع ضوء الفجر حتى تهب إليه تسأله في كلمات رقيقة عذبة، ألم يشعر بتحسن؟ ألا يزال يمقت ماء الشعير؟ أتستطيع أن تحضر له مقداراً يغذي جسمه وتستريح به معدته؟ وهي إلى جانب هذا لا تنقطع كلما صحا من نومه المتقطع تعمل على راحته وتسعى جهدها لتغتصب الابتسامة من بين شفتيه اغتصاباً، واشتدت به العلة يوماً فارتفعت درجة حرارته، وأغمض عينيه، ووقف حوله أهله يبتهلون إلى الله من أجله، حتى إذا كان الليل وهدأت الحياة، واستسلم الجميع للنوم، أفاق أمين قليلاً وارتفع جفن عينه المغمض فإذا هو يواجه (زينب) إلى جواره تنظر إليه بعين قد التهبت من البكاء.
ماذا؟ هل تبكين؟ ثم انهمرت من عينه دمعة لعلها أول دمعة تفيض بها عينه منذ وفاة والدته.
توالت الأيام وزال عن (أمين) ما كان قد أقعده فعاد إلى عمله يستعيد مع الأيام الطويلة بعض الذي فقده.
لم يكن يعيش مع أقاربه في مدينة واحدة، بل كان يعمل في (منطقة) من مناطق الأوقاف القريبة من طنطا فلم يكد يقطع اليوم الأول في مقر عمله حتى أحس في أعماق نفسه شعوراً قوياً يدفعه إلى العودة.
إنه يحن إلى طنطا، بل هو يحن إلى منزل أهله. طغى على قلبه شعور قوي لم يكن يدركه(60/73)
قبل اليوم يدفعه إلى العودة.
إلى أين؟ إلى منزل أقاربك. ولكن لماذا؟ لقد شفيت ولم تعد لي بالعودة حاجة، وأنا لم أقض بعيداً عنهم يوماً كاملاً؟ لقد كانت هناك حاجة قوية تدفعه، وشعور جبار يغريه.
نام ليلته الأولى بعد تفكير طويل لم يكد يتبينها واضحة جلية، فإذا هو يقطع الليل في أحلام متقطعة رأى فيها أشباحاً بيضاء رقيقة تدور حوله، فلما حاول أن يتعرفها لم تتمثل له غير (زينب).
زينب العذراء الحلوة الفاتنة، زينب الجميلة الساحرة، هذه عيونها تلمع بفتنة الحياة، وهذا قوامها البديع، وهذه يدها الرقيقة تمتد إليه في دلال ولين، وهذا صوتها العذب يتدافع إلى أذنيه حلواً سائغاً.
هب من نومه مع الصباح الباكر فألفى السماء ساكنة صافية وهذه الأشجار لا تزال تلمع بقطرات الندى، والقرية ساكنة إلا من أصوات أفراد قلائل يصل إليه وقع أقدامهم وهم في طريقهم إلى المسجد يؤدون فريضة الصباح، غير أنه يشعر بوحشة ويحس بالهم والحاجة. . .
لا بد أن يكتب إلى خاله يشكره على عنايته به في مرضه، فإذا هو يختتم خطابه في حرارة لم يكن يحسها قبل اليوم، وإذا هو يحاول أن يختص زينب بتحية يقنع نفسه أنها ستدركها رغم أنها صادرة للجميع.
لقد أحب أمين.! أمين الجامد الصلب قد تفجر قلبه فإذا اللهب يكاد يحرقه، وإذا العاصفة التي ثارت في أعماقه تكاد تسحقه، فإذا هو يعود إلى منزل أقاربه، وإذا هذه الزيارة تتكرر في الاسبوع الواحد مرات، وإذا هو لا يصمد لهذه الثورة المجتاحة.
لقد نفذت العاطفة الحارة إلى قلبه فألهبته وصهر العطف نفسه فإذا هو يرى في الحياة ألواناً جديدة، هو يهواها ويفني نفسه في سبيلها. لقد لمسته المرأة بالعصا السحرية فانبثق النور في أعماقه، فإذا هو مفتون.
كانت الأيام قد توالت، وكنا على وشك أن نختتم عام 1932 فإذا أنا أتسلم منه كتاباً لم يزد فيه على كلمات:
عزيزي محمد:(60/74)
لقد أدركت سر الحياة لأول مرة، في عيني المرأة، سأتزوج.
أخوك. أمين
لقيته بالأمس فإذا هو كالعصفور يكاد يطير. ينطلق في حديثه فإذا هو ينساب في رقة وعذوبة، وينقطع عنه، فإذا ابتسامة مشرقة تنشر على صفحة وجهه نوراً لامعاً جذاباً.
أتذكر يا أمين يوم سألتك عن الزواج، فأجبت في لهجة الواثق أنك لن تتزوج؟ لا يصديقي. لقد كانت الحياة إذ ذاك قاحلة جدباء. هيا هيا نشتري معاً (تربية الطفل) لزوجتي تقطع به الوقت، وتخفف به عن نفسها عبء الحمل، ونشتري لعبة مما أعده للمستقبل لابنتي المرتقبة (كامليا)
محمد عبد الحميد(60/75)
4 - سافو
لأوجييه اميل
ترجمة الأستاذ محمود خيرت
المنظر الثاني
(غرفة بدار حنا بها دولاب ومائدة فوقها شمعة موقدة وحنا وحده ينزع من الدولاب ملابسه بيدين مرتجفتين ويضعها في حقيبة)
حنا - (كارهاً الحياة) نعم أفر من وجه هذه المدينة فلعلي لا أعود أشعر بآلامها وأقصد إلى قريتي فلعل نسميها ينسيني مرارة هذا الحلم.
(يعثر في الدولاب على علبة من صنع اليابان فيتأملها)
علبتها. والحفيظة على ذكرياتها. لم تعيدين لخاطري أيتها العلبة صورة ذلك الماضي القذر (تظهر فنى)
فنى - (جازعة وهي تراه يستعد للرحيل) حنا. لا ترحل.
حنا - قضى الأمر
فنى - لقد كذبوا عليك حسداً. ثم كيف أصغيت إليهم وكيف صدقتهم.
حنا - سافو. (متعمداً لكي تفهم أنه يعلم ما تخفي من أمرها) يا لها من خيانة. أنت التي أبحتك قلبي، واتخذتك معبودي تقدمين على خيانتي. أهكذا في وسع امرأة أن تعبث بنفس هادئة مطمئنة وأن تحطم قلباً لم ينغمس في إثم. ليتك تشعرين بما أشعر به الآن من مرير الألم. ولكني أرحل فلعلي في وحدتي أنسى وأنا أستنزل غضب الله ولعنته عليك. لقد بلغ من جهلي أن أكرمتك واتخذتك امرأتي، حتى انكشف لعيني ماضيك الذي سترته عني. وبلغ من نفاقك أن أعميتني فتمكن سلطانك من إيماني، ولكن الحمد لله فقد نضب الآن معين حبي ووقف من دونك شبح كراهيتي ومقتي. فعودي إلى ما كنت سافو الخليلة العاهرة الفاجرة.
فنى - (وقد صدعها الألم والفضيحة) هب كل ما سمعت صحيحاً أفنسيتَ أن المصادفة هي التي جمعتني بك. ثم ألم تقم هذه المصادفة سداً بين سافو الغابرة وفنى الحاضرة. أقسم لك(60/76)
أن سافو ماتت من يوم أن عرفت فنى.
حنا - كما أقسمت لغيري
فنى أنا ما أحببت سواك يا حنا
حنا - تكذبين
فنى - (مضعضعة) بل إني لصادقة وإني لأعبدك.
حنا - إذن لم احتفظت بهذه العلبة؟
فنى - (مفكرة) أو علمت بها؟
حنا - (مشيراً إلى الدولاب) إنها لا تزال هنا. أنظري
فنى - ولكنها لا تحوي شيئاً. . .
حنا - أبداً؟ (يتناول العلبة بين يديه ليفتحها)
فنى - (بصوت خائر خافت) ما هذا الجنون
حنا - إنها تحوي الشواهد الناطقة بفجورك
فنى - مهما جرعتني من القسوة فما زلت أحبك
حنا - (بخشونة) أين مفتاحها؟
فنى - لا أدري
حنا - (مهتاجاً يعالج فتحها بالقوة) سأعرف كيف أحتال على فتحها.
فنى - (تحاول منعه ويكون قد فتحها) ولكنك تعالج النار بالنار.
حنا - ها قد أفلحت. أنظري. إنها هنا مكدسة منكمشة خشية أن يفوح نتن عارها.
فنى - أحرقها إن شئت فهي لك.
حنا - لي أنا يا سافو. . .
فنى - لم أعد سافو يا حنا (تتناول بيد مرتجفة بعض رسائل سقطت على الأرض) نعم أحرقها أو فمزقها لتصدق أنني أصبحت لك وحدك (بلطف) بالله لا تجر خلف شكوكك ودع ما أقاسي يتصاعد في دخانها. إنها ما كانت غير سحب بعيدة فلا تحجب الآن بها سماء طهارتي.
حنا - (ببطء وألم) كنت أود أن أقف على ما فيها.(60/77)
فنى - إذن أنت تريد أن يصل الهم إلى قرار نفسي (تقترب وإحدى يديها إلى ظهرها حيث تمسح بيدها اليمنى خده كما كانت مع كاوودال)
حنا - (منفجراً) إنك بهذه الحركة تعيدين إلى ذهني صورة ما اعتدته مع سيدك كاوودال.
(تأخذ بحالة عصبية لفافة وتشعلها)
وعلى هذه الصورة أيضاً كنت تدخنين لفافاتك معهم. إنك لا زلت تكلمينني بلغة المصنع وأسلوب العاهرات حتى كأني بين عشاقك أسمعهم وأراهم.
فنى - (تلقي اللفافة بغضب وتفركها بقدمها) ما أقساك.
حنا - كل هذه الرسائل على ما بها من صفرة القدم وتأثير الزمن. . .
فنى - (تقطع حديثه) دعني أنا أشعل النار فيها.
حنا - بعد أن أتبين ما بها (يقرأ إحداها): (ليتك يا سافو تعلمين كم أحرقت من دمي لأجري الحياة في المرمر الذي نعم بتصوير جسمك الغض. . .)
فنى - (معترضة) بالله عليك (تخطفها وتحرقها)
حنا - (يتناول كتاباً آخر) إنه شعر هذه المرة.
سافو لقد ذقت الهوى ... من مقلتيك فذقت أنسا
لكن بُعدك شفني ... وجنى علي فكيف أنسى
(متأثراً) ماذا فعلت معهم حتى تركتهم على هذه الحال.
فنى - (حزينة) ليتني أدري.
حنا - (يقرأ رسالة أخرى ورقها وردي اللون): أنا بانتظارك الليلة في دار التمثيل (تطرق فنى خجلاً. أما هو فيحرقها ولكنه يحس كأن سهماً مسموماً أصابه حين يقع بصره على تخطيط يصورها عارية)
وهذا الرسم؟ إذن كانوا يصورونك عارية (ثم يقرأ ما هو مكتوب تحته): (حبيبتي سافو. . .)
فنى (متحببة إليه) إنني ما استبقيته إلا لشهرة مصوره.
حنا - (يلقيه إليها) احتفظي به.
فنى - (ترده إليه) بل احرقه واحرق كل ما بقى معه (بحزن) كفى يا حنا وارحم ألمي(60/78)
(يشتد حزنها) وليتك تعلم كيف نشأت، فلقد كنت وأنا طفلة على ما يُروى زهرة القرية أمرح في الطرقات وقد تيتمت من أمي وربما أيضاً من أبي، وما كان يعود إلا آخر الليل يترنّح من السُكر، وكان شديد القسوة معي حتى إذا ما بلغت سن الخامسة عشرة، وأنا أجمل فتيات الناحية فررت إلى هذا المصنع. أما أولئك الفنانون فانتهزوا فرصة احتياجي وبؤسي فعبثوا بطهارتي، ولكنهم مع ذلك لم يهتدوا إلى طريق قلبي ولا تركوا في نفسي من الأثر غير الحقد واللعنة، فهذا القلب ما كان لهم يوماً ما فحطّمه إن شئت فانه لك.
حنا - وما هذه الرزمة المخبأة.
فنى - (تصرخ متألمة) لا إلا هذه يا حنا.
حنا - وما الفرق بينها وبين أخواتها.
فنى - حنا. دعني أحرقها. أتوسل إليك.
حنا - إنك تحيرينني.
فنى - قلت لك دعها (تحاول اختطافها فيتغلب عليها) إذن ليكن ما يكون.
حنا - (متهكماً) طابع السجن! (ينظر إلى الإمضاء) فرومان! فرومان المزور؟
فنى - بل فرومان القدير. أما التزوير فما يعيبه، وما دفعه إليه غير فقره.
حنا - (باحتقار) إنه مجرم.
فنى - (متلطفة به) بيبي.
حنا - (يستيقظ غضباً) هذه الكلمة كنت تداعبين بها أيضاً ذلك اللص.
فنى - ليكن، ولكن مالك به وأنا لك.
(يتبع)
محمود خيرت(60/79)
الكتب
صلاح الدين الأيوبي
لمؤلفه الأستاذ محمد فريد أبو حديد
بقلم عبد الحميد حفني الشواربي
لجنة التأليف والترجمة والنشر، هي بلا ريب في مقدمة الجمعيات العلمية الحديثة، التي ساهمت - إلى حد كبير - في النهوض العلمي والإنتاج الفكري في الشرق العربي، الذي يقاسي فوق فقره المادي من أثر الاستعمار الأوروبي فقراً أشد فتكاً وأبعد خطراً، هو غزو اللغات الأجنبية له، فقامت هذه اللجنة في جهد الجبابرة، تنشر وتترجم وتؤلف بلسان عربي في مناح مختلفة في الفلسفة والعلوم والآداب والاجتماع.
والذي يحز في قلوبنا وينال من إحساسنا القومي، أن تنهض هذه الجمعية على أكتاف أفرادها، دون أن نمكن لها من مال الدولة أو الأمة بالقدر الكافي، أو ما يوازي على الأقل ما حصلت عليه الجمعيات العلمية الأجنبية مع ما فيها من مكمن الخطر التبشيري وما تحمله من نزعات الشر والكراهية لمصر والمصريين.
هذه الجمعيات قد منحت من أملاك الدولة، في الصميم من قلب المدينة وخير بقاعها، فضلاً عما تمدها به حكوماتها وشعوبها، بينما ترى مركز لجنة التأليف والترجمة والنشر، في ركن متواضع من أركان بيت ضج بالسكان، أو المرضى من الناس في شارع الساحة. هذا فضلاً عن حرمانها من امتيازات لو منحتها لدرت من أنواع الثقافات أفضلها وأعظمها قدراً.
وأذكر أن المرحوم ثروت باشا قد أشار إلى وجوب إصدار سلسلة معارف عامة تعين على ثقافة الشعب، فكانت هذه اللجنة هي أول من لبى أمنية وزير مصر الكبير.
وكان أستاذنا النابه (محمد فريد أبو حديد) أول من وقع اختيار اللجنة لرسالته كسلسلة معارف عامة في صلاح الدين الأيوبي. والمؤلف غني عن التعريف لولا ما تأخذنا به أصول التحليل والنقد. فهو أستاذ تخرج في المعلمين العليا، وفي مدرسة الحقوق المصرية، وتقلب في مناصب عدة في التعليم الثانوي، على أن هذه العناوين ليست كل شيء في(60/80)
الرجل، فإن كثيرين قطعوا مراحل التعليم منفعلين لا فاعلين، ومروا بها مر امتحانات متأثرين لا مؤثرين، ولكن هذا الرجل وقد عاشرته عن كثب - تجد فيه الابن المصري البار الذي كلف نفسه حمل رسالة النهضة من وجهتين: أخلاقية وعلمية - ليؤديها إلى الناس في نفس كبيرة وجسم ضئيل.
وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
أنظر إليه وهو يلقي عليك هذا السؤال في مؤلفه صلاح الدين ما الحياة؟ فانك لتستشف من جوابه على هذا السؤال ناحية أبية من نواحي النفس المصرية النادرة، أو قليلة العدد على الأقل، التي يغتبط بوجودها، بل ويفتقر إليها المجتمع المصري، وهاك جوابه: (أليست تلك الأنفاس التي تتردد في تلك الفترة المحتومة ما بين واجب البلاد وواجب الموت؟ ألا إنها فترة مملة مسئمة إذا لم يكن بها ما يهز النفوس).
ثم هاك كتابه وقد تناول بالبحث الشيق بطلاً من أبطال العالم الإسلامي تقف فيه على خير عصر من عصور التاريخ عانى من غشاوة الجهل والتعصب التي اكتنفت أوروبا في القرون الوسطى. وترى كذلك كيف تكون السياسة الحكيمة يمليها رجل الشرق فترتفع الحواجز وطلاسم الحياة التي بيننا وبين أية أمة بالغة ما بلغت من العظمة والسلطان، اسمعه يقول في تقدير صلاح الدين (والناس إذا تولى أمرهم عظيم تساموا إلى مستوى عظمته فأتوا بالعجب) وهاكم رجل الساعة مصطفى كمال مصداق لما ذهب إليه المؤلف الجليل. والكتاب في جملته وتفصيله حافز للهمم دافع للعزم الصادق في نفوس شباب طغت به مدنيات الاستعمار حتى ماع، وبهره سراب خلّب حتى هوى واستسلم إلا من عصم ربك، فبعث فينا من يعاني النظر في أمراضنا والبحث في وسائل علاجها.
ولولا مغالاة المؤلف في أسلوبه العلمي وتوخيه البحث على نمط مدرسي وهو يكتب للشعب، لكان مؤلفه قد بلغ الغاية وأوفى حتى انتهى إلى درجة الكمال. ولكم نشكره على جهده وما بذل في وسط كوسطنا المصري يعاني ذكرى مؤلمة لمجدنا السالف، ومحنة راهنة بسبب فقرنا العلمي.
قليوب البلد
عبد الحميد حفني الشواربي(60/81)
يوم 11 يوليو سنة 1882
للدكتور محمود النشوي
استقبلت صباح اليوم وهو ينبلج عن عامل البريد يزدلف نحوي ويحمل بين أعطافه هدية ثمينة، بل منة خالدة من الأمير الأكبر (عمر باشا طوسون) تلك هي كتابه الذي طوق به جيد مصر وأسماه (يوم 11 يوليه سنة 1882) ولم أكد أتصفحه حتى ذكرت الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية مشرع الترجمة ومبتكرها في الأمة العربية وإبان فجر المدنية الإسلامية. ثم انتقلت بي الذاكرة إلى أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور وجالت في خيالي صورته وهو يهيب بالإمام مالك رضوان الله عليه أن يؤلف الموطأ فيأبى، ثم يرضى متأثراً بإلحاح المنصور. ثم يرسم له خطة التأليف حتى يقول إمام دار الهجرة لقد علمني المنصور التأليف.
ثم تذكرت الرشيد ومجالسه الأدبية وشعره الرقيق. وانتقل بي الخيال إلى المأمون وحدبه على العلماء وعلى العلم. وتفرده بكثير من مسائله ثم ذكرت قابوس بن وشكمير وشعره العالي الرصين، وعضد الدولة بن بويه، وسيف الدولة الحمداني، وأبا فراس بن عمه. وتلك الحلقة من الأدباء والشعراء والمؤلفين التي كانت تحف بهؤلاء الملوك والأمراء فتستمد منهم ومن مشاركتهم في الشعر والعلم روحاً تبعثها للأمة قوة ونهوضاً. ذكرت ذلك كله، وعهداً ساهم فيه الأمراءوالملوك في العلم. فكان عصر العلم وكان عصر النهوض. وعلمت أن مؤلفات الأمير هي تباشير الصباح، وبواكير النهضة العلمية في مصر وفي غير مصر.
. . وإنك لتواجهك الوطنية المخلصة في كل حرف من حروف كتاب الأمير الجليل حتى في اسم الكتاب، وفي مقدمته.
فاسم الكتاب يذكر باليوم المشؤوم. يوم الاحتلال. ومقدمته لا أصفها. بل أذكر فقرات من أولها. وأدعها توحي للقارئ بالغيرة على الوطن. وبالتفاني في حب مصر. فاستمع للأمير الجليل حين يقول.
(يقبل علينا شهر يولية في كل سنة فيذكرنا باليوم الأسود يوم 11 يوليه ذلك اليوم الذي(60/82)
داست فيه إنكلترا المعاهدات الدولية وتعلقت بأوهى الأسباب. وضربت مدينة الإسكندرية فاقترفت بذلك سبة الاعتداء على أمة لم يكن بينها وبينها إلا السلام واجترحت إثم التهجم على بلاد لم تناوئها الحرب. ولم تبادئها بالعدوان والخصام). ثم نراه يرسل زفرة الأسى محيياً أبطال مصر وضحايا يوم 11 يوليه فيقول (فحيا الله أولئك الأبطال الذين راحوا ضحية الدفاع عن الأوطان، وتغمدهم برحمته ورضوانه)
وكذلك ترى حدب الأمير على مصر يحدو به أن يذكر شهادة الأعداء ببطولة مصر فيحدثنا عن الماجور تلك أنه دهش من بطولة جنود مصر حتى وثب إلى حافة السفينة ورفع يده قائلاً: لقد أجدت العمل أيها الجندي المصري.
ثم يروى عن الأميرال سيمون قائد الأسطول إذ يقول في تقرير يرفعه إلى سكرتير الأميرالية (ولقد قاتل المصريون قتال الأبطال بأقدام ثابتة). ثم يختم أميرنا الجليل شهادة الأعداء لأبطال مصر بالأسف على الشهداء، وعلى الوطن فيقول (رحمهم الله وعزانا وعزى هذا الوطن الأسيف) ذلك قل من كثر. وغيض من فيض من الوطنية في كتاب الأمير.
وإن في الكتاب من وراء ذلك لضبطاً ونقلاً عن مصادر لا تلين قناتها لغير الأمير حين يعتمد دار المحفوظات المصرية، وحين ينقل عن تقرير القائد الأمريكي (جون دريتش) الذي قدمه لحكومته، ثم نرى الأمير ينقل عن الإثبات، فيروى عن ابن عبد الحكم مما ذكره في كتابه (فتوح مصر)، وعن خليل شاهين الظاهري مما سطره في كتابه (كشف الممالك)، وعن صاحب الخطط التوفيقية، وغير هاتيك المراجع التي ذكرها الأمير وذكر صفحاتها، فأرانا كيف يكون الضبط، وكيف يكون البحث العلمي الدقيق. فلتهنأ الأمة بأميرها.
وليهنأ العلم بمؤلفات الأمير.
محمود النشوى
دكتور في الآداب(60/83)
العدد 61 - بتاريخ: 03 - 09 - 1934(/)
الأخلاق والتشريع
إذا كان الصيف موسم التنزه والاستحمام وجوب الشواطئ، فهو أيضاً موسم التحدث عن الأخلاق. ففي كل صيف يتجدد لدينا حديث الأخلاق وانحلالها، وما تجنيه عليها مناظر الاستحمام والعري المثيرة؛ وقد بلغت هذه المناظر على شواطئ الإسكندرية فيما يظهر حداً مزعجاً من التبذل والتهتك، وأثارت عاصفة شديدة من الاحتجاج والسخط، وارتفعت الصيحة بوجوب وضع حد لهذه الإباحة الخطرة؛ فاهتمت الحكومة وتدخلت إدارة الأمن العام، ووضعت قيوداً جديدة على الاستحمام والنزه البحرية والركوب أو الجلوس بملابس البحر، تحقق في نظرها مستوى معيناً من الحشمة والحياء والصون
وثار أيضاً حديث الأفلام والمناظر السينمائية المنافية للحياء، وانتهى إلينا صدى تلك الحملات القوية التي تنظم في أمريكا، وتنظمها الكنيسة بالأخص لمحاربة هذه الأفلام والمناظر المثيرة المفسدة لأخلاق النشىء والشباب؛ وقيل بحق إننا في مصر أشد حاجة إلى مقاومة هذا الخطر الأخلاقي؛ فاهتمت لذلك لجنة الرقابة الأدبية، واقترحت على وزارة الداخلية أن تشدد الرقابة على الأفلام المصورة الواردة من الخارج، فأقرت الاقتراح وستعمل لتنفيذه.
وهكذا كلما ارتفعت الشكوى من خطر على الدين أو الأخلاق، اتجهت الأنظار إلى الحكومة، وطلب إليها العمل لمقاومة هذا الخطر. والحكومة في مصر هي حامية الدين والأخلاق. والحكومة في جميع الأمم المتمدنة تضطلع بمثل هذه المهمة وتحمل مثل هذه التبعة؛ ولكنها لا تنفرد بتأدية هذا الواجب، وإنما تقوم به إلى جانب القوى المعنوية والاجتماعية الأخرى، وتمد إليها يد العون متى احتاجت. أما في مصر فالمفروض أن الحكومة تقوم في هذا السبيل بكل شيء، وتحمل كل تبعة، وعليها وحدها يقع عبء التقويم والإصلاح
وليس هنا مقام التحدث عن أسباب هذه الظاهرة، وإن كان وجودها طبيعياً في بلد تقبض حكومته على جميع السلطات، وتسيطر على جميع الحريات والقوى المادية والاجتماعية؛ ولكنا نتساءل فقط: هل يكفي تدخل الحكومة لدرء الشر، أو بعبارة أخرى هل يعتبر التشريع وسيلة ناجمة لتقويم الأخلاق؟ لقد اعترض بعض النقدة حينما فرضت الحكومة تلك القيود الجديدة على ملابس البحر والنزه البحرية، وقالوا إن الأخلاق لا تقوم بالتشريع، وإن(61/1)
تيار الفساد أقوى من أن تحده مثل هذه القيود. وربما كان ذلك حقاً في ذاته؛ فالتشريع وحده لا يكفي لقمع الفساد وتقويم الأخلاق، بل يجب أن تتضافر معه جميع القوى والعناصر التهذيبية الأخرى، في البيت والأسرة والمدرسة والمجتمع، ولكن التشريع لابد منه في بلد تسيطر الحكومة فيه على كل شيء: على التعليم والتربية، وتكوين التفكير والأخلاق؛ وتنظيم المجتمع، والتشريع أول وأهم خطوة في بلد لم يستكمل نضجه في التهذيب والثقافة، وفي بلد تغزوه أسفل عناصر المدنية الغربية؛ وفي مجتمع لا يفهم التمدن إلا بأنه اقتباس للخلال والأزياء الغربية الخليعة، والانحدار إلى مهاوي التهتك، وإهدار قواعد الحياء والحشمة، والانغماس في شر ما تنغمس فيه العناصر الأجنبية الوضيعة.
وحيثما يسري الفساد إلى مجتمع ضاع فيه وازع التربية والحياء والأخلاق، وجب أن يمثل وازع التشريع والإكراه، ونريد هنا التشريع الحكيم النزيه المبني على دراسة عميقة وتمحيص مستنير. نعم إن التشريع لا يحدث أثره سراعاً، ولكنه يذلل الطريق دائماً للغاية المثلى، وفي جميع الأمم الغربية يتخذ التشريع وسيلة لحماية الأخلاق وتقويمها؛ ففي إنكلترا قوانين لحماية الأحداث من خطر ارتياد المقاهي والملاهي منفردين ولحماية أخلاقهم في المصنع؛ وقد لجأت الفاشية في إيطاليا إلى التشريع لمعالجة الفساد الأخلاقي الذي بثته فوضى ما بعد الحرب إلى كل طبقات المجتمع، فأصدرت قوانين عديدة لمحاربة الخلاعة والتهتك ومطاردة الملاهي المبتذلة، وتناول التشريع أزياء المرأة فحتم أن تكون ذات طول معين؛ ورُدت المرأة الإيطالية بقوة التشريع إلى الأسرة والمنزل، وحملت على تقديس الزواج والأمومة، واحتقار الإمعان في التبرج واللهو الخليع؛ وحذت الوطنية الاشتراكية في ألمانيا حذو الفاشية في ذلك، فلجأت إلى التشريع في مطاردة الفساد الأخلاقي والملاهي المبتذلة، وأُغلقت مئات الحانات والمنتديات المريبة في برلين وغيرها، ورُدت المرأة الألمانية إلى حظيرة الأسرة، وبوعد بينها وبين العمل الخارجي جهد الاستطاعة، إلى غير ذلك من الوسائل والإجراءات التي أريد منها صون الأخلاق بعد ما وصلت إلى أبعد حدود الانحلال، ورفع مستوى الحياء والحشمة بعد أن هبط إلى الدرك الأسفل.
وفي تركيا الكمالية، كان التشريع وسيلة التحرير والتمدن، فلما طغى سيل الفساد الأخلاقي في مجتمع لم ينضج بعد لمثل هذا الإغراق والتطرف، عادت حكومة أنقرة فلجأت إلى(61/2)
التشريع أيضاً لكبح جماح ما أطلقت عنانه بادئ بدء، وحماية النشء والشباب من الاندفاع في حريات لم يألفوها، وكانت وبالاً على أخلاقهم ونفوسهم.
والخلاصة أننا لا نعترض على التشريع في ذاته كوسيلة لحماية الأخلاق والآداب؛ فلنا في ذلك أسوة بكثير من الأمم الغربية ذات الأخلاق والمدنية؛ وما دمنا نخضع لمثل هذه الظروف والنظم، فلا مناص من الالتجاء في الإصلاح إلى وسائل الإكراه؛ ولكن الذي نعترض عليه حقاً هو أن هذه القوانين التي توضع لمعالجة هذه الشئون ليست دائماً على جانب كبير من الحكمة والاتزان، ولا تقوم دائماً على نزاهة القصد والغاية؛ وإنما توضع في الغالب لتهدئة بعض الحملات المزعجة، ومعالجة بعض الحالات المؤقتة، والتماس شيء من المديح والرضى.
(ع)(61/3)
تربية لؤلؤية
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
كتبتْ إليّ سيدة فاضلة بما هذه ترجمتهُ منقولاً إلى أسلوبي وطريقتي:
. . . أما بعد فهذا الذي كنا ظننا وظنت، فاقرأ الفصل الذي انتزعته لك من مجلة. . . وستعرف منه وتنكر، وترى فيه النهار مبصراً والليل أعمى. . . وتجد فتاةَ اليوم على ما وقع بها من الظِنّة، وكثر فيها من أقوال السوء - لا تَشْمس على الريبة ولا تريد أن تنتفي منها، بل هي تعمل لتحقيقها، وتبغي مع تحقيقها أن يتعالم الناس ذلك منها، وتريد مع هذين أن يطلقوا لها ما شاءت، ويسوّغوها مقارفة الإثم، ويُقِرُّوها على منكراتها.
أمَا إنه إذا كانت أمهاتنا الجاهلات هنّ أمسنا الذاهب بلا فائدة، فإن فتياتنا المتعلمات هن يومنا الضائع بلا فائدة، غير أن الجاهلة لم تكن تَكْسَد ومعها الفضيلة، فأصبحت المتعلمة لم تكد تَنْفُق ومعها الرذيلة، ولَتَاجرٌ أمّيّ طاهر الاسم تتحرك سوقُه وتحيا، خير من تاجر متعلم نجس الاسم قد ماتت سوقه وخمدت، فما نتنفّس من درهم ولا دينار.
لقد احتذينا على مثال المرأة الأوربية، فلما أحكَمَتْه المتعلمات مناكن بين الشرق والغرب كالسَّبِخَةِ النشّاشة من الأرض، طرف لها بالفلاة وطرف بالبحر؛ فهي رمل في ماء في ملح، لا تُخْلُص لفساد ولا صحة، فاعتبر هذه وهذه فستجدهما بحكاية واحدة، أصلاً وطبق الأصل.
وقرأت الفصل الذي أومأت إليه السيدة وكان في كتابها فإذا هو لكاتبة تزعم (أنها ممن رفعن علم الجهاد لحرية المرأة) وإذا في أوله: (كتبت آنسة أديبة في عدد سابق من. . . الأغر تقول: (أجل، لنفتش عن هذا الرجل كما يفتشون هم عن المرأة، فإن أخطأناهم أزواجاً فلن نخطئهم أصدقاء. . .) وكتب بعد هذا أديب فاضل، كما كتبت آنسة فاضلة ينحيلن (كذا) هذا المنحى ويطرقان نفس السبيل (كذا) التي اختطتها الآنسة الجريئة في غير حق، الثائرة في نزق. ثم قالت بعد ذلك: (قرأت مقال الآنسة الثائرة في حيوية صارحة. . . . فجزعت لأن قاسم أمين عندما رفع علم الجهاد من أجل حرية المرأة، وولى الدين يكن عندما جاهر بعده في سبيل السفور، وهدى شعراوي عندما رفعت صوتها عالياً تطالب بحرية المرأة - ما ظنت وما ظن واحد من هذين الرجلين أن ثورة المرأة ستتطور(61/4)
إلى حد أن تقف آنسة مهذبة تكشف عن رأسها تبكي وتستبكي سواها معها من أجل الزواج. . .)
وأنا فلست أدري والله ممَّ تعجب هذه الكاتبة وإني لأعجب من عجبها وأراها كالتي تكتب عبثاً وهزلاً وهويني مُظهرة الجد والقصد والغضب. أئن أطلق للنساء أن يثرن كما تقول الكاتبة، وجاهد فلان وفلان في هذه الثورة فأخذت مأخذها، فانطلقت لشأنها، فأوغلت في حريتها، فامتد بها أمدها شوطاً بعد شوط - ثم جاء خُلُقٌ من أخلاق المرأة يسفر سفوره ويرفع الحجاب عن طبيعته ثائراً هو أيضاً في غير مداراة ولا حذق ولا كياسة يريد أن يقتحم طريقه ويسلك سبيله، ثم وقف على رغمه في الطريق منكسراً مما به من اللهفة والوثبة يتوجع، يتنهد، يتلذّع بهذه المعاني وهذه الكلمات - أئن وقع ذلك جاءت كاتبة من كاتبات السفور تقول للمرأة: جرى عليك وكنتِ حرة، وتزعزعت وكنت طاهرة. أفلا تقول لها: سفرت أخلاقك إذ كنت سافرة بارزة، وضاع حياؤك إذ كنتُ مُخلاة مهملة، وغلوت إذ كنت في المبالغة من البدء. أفلا تقول لها: لقد تلطفت فجئت بالمعنى المجازي لكلمة (العُرى) ولقد أبدعت فكنت امرأة ظريفة اجتماعية مخيلة للشعر والفن، وحققت أن واجب الظريفة الجميلة إعطاءُ الفن غذاءً من، ومن ومن لحمها. . . .
نعم إن قاسم أمين - رحمه الله - لم يكن يظن. . ولكن أما كان ينبغي أن يظن أن بعض الصواب في الخطأ لا يجعل الخطأ صواباً؟ بل هو أحرى أن يلبسه على الناس فيُشبهه عليهم بالحق وما هو به، ويجعلهم يسكنون إليه ويأمنون جانبه فينتهي بهم يوماً إلى أن ينتسف خطؤه صوابه، ويغطي باطله على حقه، ثم تستطرق إليه عوامل لم تكن فيه من قبل، ولا كانت تجد إليه السبيل وهو خطأ محض، فتمد له في الغي مداً. ثم تنتهي هي أيضاً إلى نهايتها، وتؤول إلى حقائقها؛ فإذا كل ذلك قد داخل بعضه بعضاً، وإذا الشر لا يقف عندما كان عليه، وإذا البلاء ليس في نوع واحد بل أنواع.
ما يرتاب أحد في نية قاسم أمين، ولا نزعم أن له حفِيّة سوء أو مُضمَر شر فيما دعا إليه من تلك الدعوة، ولكني أنا أرتاب في كفايته لما كان أخذ نفسه به، وأراه قد تكلّف مالا يُحسن، وذهب يقول في تأويل القرآن وهو لا ينفذ إلى حقائقه ولا يستبطن أسرار عربيّته، وكان مناظروه في عصره قوماً ضعفاء فاستعلاهم بضعفهم لا بقوته، وكانت كلمة الحجاب(61/5)
قد انتفخت في ذهنه بعد أن أفرغت معانيها الدقيقة، فأخذها ممتلئة وجاء بها فارغة، وقال للنساء غَيّرن وبدّلن؛ فلما أطعنه وبدّلن وغيّرن، وجاء الزمن بما يفسر الكلمة من حقائقه وتصاريفه لا من خيالات المتخيّل أو المتشيّع - إذا معنى التغيير والتبديل هو ما رأيتَ، وإذا الحجاب الأول على ضلاله كان نصف الشر، وإذا المرأة التي ربحت الشارع هي التي خسرت الزوج! وإذا تلك الدعوة لم تكن نفياً للحجاب عن المرأة، ولكن نفياً للمرأة ذاتِها وراء حدود الأسرة كأنها مجرمة عوقبت على فساد سياستها؛ وهي في بيتها، ولكنها مع ذلك منفية من مستقبلها.
كانوا يحتجون لنفي الحجاب بالفلاّحات في سفورهن؛ وغفلوا أقبح الغفلة عن السبب الطبيعي في ذلك، وهو أن السفور إنما عمّهنّ من كونهن لسن في المنزلة الاجتماعية أكثر من بهائم إنسانية مؤنثة. ومثل هذا السفور لا يكون على طبيعته تلك إلا في اجتماع طبيعي فطري أساسه الخلط في الأعمال لا التمييز بينها، والاشتراك في شيء واحد، هو كسب القوت لا الانفراد بما فوق ذلك من أشياء النفس.
ولست أرى هذه اللجاجة، أو (الحيوية الصارخة) التي ثارت بفتياتنا - إلا تمرداً من طبيعتهن على الأحوال الظالمة المتصرفة بها؛ ويحسبنه توسعاً من الطبيعة في الحرية، وطلباً للعالم كله بعد الشارع، وللحقوق كلها بعد نبذ الحجاب؛ وهو في الحقيقة ليس إلا ثورة الطبيعة النسوية على خيبتها مما أصابت من الحرية والشارع والعالم والحقوق، ورغبة منها في أن تُحدّ بحدودها ويُؤخذ منها العالم كله بما فيه، وتُعطَى البيت وحده بما فيه.
إذا أنت كشفت جذور الشجرة لتطلقها بزعمك من حجابها وتخرجها إلى النور والحرية فإنما أعطيتها النور، ولكن معه الضعف؛ والحرية، ومعها الانتقاض؛ وتكون قد أخرجتها من حجابها ومن طبيعتها معاً؛ فخذها بعد ذلك خشباً لا ثمراً، ومنظرَ شجرة لا شجرة! لقد أعطيتها من علمك لا من حياتها، وجهلت أنها من أطباق الثرى في قانون حياتها، لا في قانون حجابها. أفليست كذلك جذور الشجرة الإنسانية؟
كل ما يتغير يسهل تغييره على من شاء، ولكن النتائج الآتية من التغيير لا تكون إلا حتماً مقضياً كما يُقضى فلن يسهل تبديلها، ولا تحويلها ولا رَدّها أن تقع. وقد أخطأ جماعة السفور، بل أنا أقول: إنهم جاءونا بالجاهلية الثانية، وإنهم طبّو للمرأة المسلمة كذلك الطبّ(61/6)
الذي أساسه الرائحة الذكية في البخور. . .!
وما هو الحجاب إلا حفظ روحانية المرأة للمرأة، وإغلاءُ سعرها في الاجتماع، وصونُها من التبذل الممقوت لضبطها في حدود كحدود الربح من هذا القانون الصارم؛ قانون العَرض والطلب والارتفاعُ بها أن تكون سلعة بائرة ينادَى عليها في مدارج الطرق والأسواق: العيون الكحيله، الخدود الوردية، الشفاه الياقوتية، الثغور اللؤلؤية، الأعطاف المرتجّة، اليهود الـ. . الـ. . أو ليس فتياتنا قد انتهين من الكساد بعد نبذُ الحجاب إلى هذه الغاية، وأصبحن إن لم ينادين على أنفسهن بمثل هذا فإنهن لا يظهرن في الطرق إلا لتنادى أجسامُهن بمثل هذا؟ وهذه التي كتبت اليوم تطلبهم مخادنين إن أخطأتهم أزواجاً، وتفتّش عليهم تفتيشاً بين الزوجات والأمهات والأخوات! هل تريد إلا أن تثب درجة أخرى في مخزيات هذا التطور، فتمشي في الطريق مشي الأنثى من البهائم طموحاً مطروقة، تذهب عيناها هنا وههنا تلتمس من يخطو إليها الخطوة المقابلة. . .
ما هو الحجاب الشرعي إلا أن يكون تربية عملية على طريقة استحكام العادة لأسمى طباع المرأة واختصها الرحمة؛ هذه الصفة النادرة التي يقوم الاجتماع الإنساني على نزعها والمنازعة فيها ما دامت سنة الحياة نزاعَ البقاء، فيكون البيت اجتماعاً خاصاً مسالماً للفرد تحفظ المرأة به منزلتها، وتؤدي فيه عملها، وتكون مغرساً للإنسانية وغارسة لصفاتها معاً.
لقد رأينا مواليد الحيوان تولّد كلها: إما ساعية كاسبة لوقتها، وإما محتاجة إلى الحضانة وقتاً قليلاً لا يلبث أن ينقضي فتكدح لعيشها؛ إذ كانت غاية الحيوان هي الوجود في ذاته لا في نوعه، وكان بذلك في الأسفل لا في الأعلى. غير أن طفل المرأة يكون في بطنها جنيناً تسعة أشهر؛ ثم يولد ليكون معها جنيناً في صفاتها وأخلاقها ورحمتها أضعاف ذلك سنة بكل شهر. فهل الحجاب إلا قصرُ هذه المرأة على عملها لتجويده وإتقانه وإخراجه كاملاً ما استطاعت؛ وهل قصرها في حجابها إلا تربية طبيعية لرحمتها وصبرها، ثم تربية بعد ذلك لمن حولها برحمتها وصبرها؟
أعرف معلمة ذات ولد، تترك ابنها في أيدي الخدم بعد وصاة علمية سيكولوجية. . وتمضي ذاهبة عن يمين الصباح ويمضي زوجها عن شماله. . وقد رأيت هذا الطفل مرة فرأيته شيئاً جديداً غير الأطفال، له سمة روحانية غير سماتهم، كأنما يقول لي إنه ليس لي أب(61/7)
وأم، ولكن أب رقم (1)، وأب رقم (2). .
وقد كنت كتبت كلمة عن الحجاب الإسلامي قلت فيها: (ما كان الحجاب مضروباً على المرأة نفسها، بل على حدود من الأخلاق أن تجاوز مقدارها أو يخالطها السوء أو يتدسس إليها؛ فكل ما أدى إلى هذه الغاية فهو الحجاب، وليس يؤدّي شيء إلا أن تكون المرأة امرأة في دائرة بيتها، ثم إنساناً فقط فيما وراء هذه الدائرة إلى آخر حدود المعاني.)
وهذا هو الرأي الذي لم ينتبه إليه أحد، فليس الحجاب إلا كالرمز لما وراءه من أخلاقه ومعانيه وروحه الدينية المعبديّة وهو كالصدفة لا تحجب اللؤلؤة ولكن تربيتها في الحجاب تربية لؤلؤية؛ فوراء الحجاب الشرعي الصحيح معاني التوازن والاستقرار والهدوء والإضطراد وأخلاق هذه المعاني وروحها الديني القوي الذي ينشئ عجيبة الأخلاق الإنسانية كلها؛ أي صبر المرأة وإيثارها. وعلى هذين تقوم قوة الدافعة، وهذه القوة هي تمام الأخلاق الأدبية كلها، وهي سر المرأة الكاملة؛ فلن تجد الأخلاق على أتمها وأحسنها وأقواها إلا في المرأة ذات الدين والصبر والمدافعة. إنها فيها تشبه أخلاق نبي من الأنبياء.
وقد مُحق الدين والصبر، وتراخت قوة المدافعة في أكثر الفتيات المتعلمات، فابتلين من ذلك بالضجر والملل، وتشويه النفس؛ ووقع فيهن معنى كمعنى العفن في الثمرة الناضجة؛ وجهلن بالعلم حتى طبيعتهن فما منهن من عرفت أن طبيعتها سلبية في ذاتها، وأنه لا يشدّها ويقيمها إلا الصفات السلبية، وملاكها الصبر فروعه وأصوله، وجمالها الحياء والعفة، ورمزها وحارسها والمعين عليها هو الحجاب وحده. إنه إن لم يكن في المرأة هذا فليست المرأة إلا بهذا.
وما تخطئ المرأة في شيء خطأها في محاولة تبديل طبيعتها وجعلها إيجابية، وانتحالها صفات الإيجاب، وتمردها على صفات السلب كما يقع لعهدنا، فإن هذا لن يتم للمرأة، ولن يكون منه إلا أن تعتبر هذه المرأة نقائض أخلاقها من أخلاقها كما نرى في أوربا، وفي الشرق من أثر أوربا. فمن هذا تلقى الفتاة حياءها وتبذؤ وتفحش، إن لم يكن بالألفاظ والمعاني جميعاً فبالمعاني وحدها، وإن لم يكن بهذه ولا بتلك فبالفكر في هذه وتلك؛ وكانت الاستجابة لهذا مافشا من الروايات الساقطة والمجلات العارية؛ فإن هذه وهذه ليست شيئاً إلا أن تكون علم الفكر الساقط.(61/8)
وعادت الفتاة من ذلك لا تبتغي إلا أن تكون امرأة رواية؛ إما فوق الحياة، وإما في حقائق جميلة تختارها اختياراً وتفرضها فرضاً على القدر! وتنسى الحمقاء أنها أحد الطرفين، وليست الطرفين جميعاً، فتحاول أن تقرر للحياة الجديدة تأويلاً جديداً لمعاني الشرف والكرامة والعرض والنسب وما إليها؛ فانسلخت من كل شيء، ثم لما أعجزها أن تنسلخ من غريزة الأنوثة طاشت طيشها الأخير فانسلخت من إنسانية الغريزة
أما إن غلطة الرجل في المرأة لا تكون إلا من غلطة المرأة في نفسها، وهي قد أعطيت في طبيعتها كل معاني حجابها؛ فإحساسها محتجب مختبئ أبداً كأنه في أتب وملاءة وبرقع وأفكارها طويلة الحذر لا تبرحها كأنها الحارث الثابت في موضعه القائم بسلاحه على حفظ هذا الجسم الجميل؛ وطول التأمل موكل بها كأن عمله مصاحبة وحدتها لتخفيفها على نفسها والترفيه منها؛ والدنيا حول المرأة بمذاهب أقدارها، ولكن لها دنيا في داخلها هي قلبها تذهب الأقدار فيه مذاهب أخرى؛ وضغطة الحياة طبيعته فيها حتى لا يساورها هم من الهموم إلا صار كأنه من عادتها والتي تمزقها الحياة كلما ولدت لا تكون الحياة إلا رحيمة بها إذا ضغطتها.
فخروج المرأة من حجابها خروج من صفاتها، فهو إضعاف لها، وتضرية للرجال بها، وماذا تجدي عادة الحذر إذا أفسدتها عادة الاسترسال والاندفاع، فيكون حذراً ليكون إغفالاً، ثم يكون إغفالاً ليعهد الزلة والغلطة؛ ومتى رجع غلطةً فهذا أول السقوط ومبدأ الانقلاب والتحوّل. وليس الفرق بين امرأة نفور من الريبة، شموسٍ لا تطالع الرجال ولا تُطمعهم؛ وبين امرأة قرور على الريبة، هلوكٍ فاجرة - إلا حجاب الحذر أسدل على واحدة، وانكشف عن أخرى.
وإذا قرتْ المرأة في فضائلها فإنما هي في حجابها ودينها، وإنما ذلك الحجاب ضابط حريتها الصحيحة، باعتبارها امرأة غير الرجل؛ فهو مسمى بالحجاب لاتصاله بالحرية وضبه لها، ولكن الضعفاء الذين يعرفون ظاهراً من الرأي لا يدركون مذهبه، ولا يحققون ما ينتهي إليه، وينفذون في حكمهم على الظاهر لا على البصيرة - هؤلاء لا يعرفون معنى الحجاب إلا في القماش والكساء والأبنية، كأن حجاب الأخلاق النسوية شيء يصنعه الحائك والباني والمستعبد، ولا تصنعه الشريعة والأدب والحياة الاجتماعية، فهم كما ترى حين(61/9)
يأتون بنصف العلم يأتون بنصف الجهل.
لم يخلق الله المرأة قوة عقل فتكون قوة إنجاب، ولكنه أبدعها قوة عاطفة لتكون قوة سلب؛ فهي بخصائصها والرجل بخصائصه؛ والسلب بطبيعته متحجب صابر هادئ منتظر، ولكنه بذلك قانون طبيعي تتم به الطبيعة.
وينبغي أن يكون العلم قوة لصفات المرأة لا ضعفاً، وزيادة لا نقصاً؛ فما يحتاج العالم إذا خرج صوتها في مشاكله أن يكون كصوت الرجل صيحة في معركة، بل تحتاج هذه المشاكل صوتاً رقيقاً مؤثراً محبوباً مجمعاً على طاعته كصوت الأم في بيتها.
أيتها الفتاة، إن صدق الحياة تحت مظاهرها لا في مظاهرها التي تكذب أكثر مما تصدق؛ فساعدي الطبيعة واحجبي أخلاقك عن الرجل، لتعمل هذه الطبيعة فيه بقوتين دافعتين منها ومنك، فيسرع انقلابه إليك وبحث عنك؛ وقد يجد الفاسق فاسقات وبغايا، ولكن الرجل الصحيح الرجولة لن يجد غيرك.
وإنما سفورك وسفور أخلاقك إفساد لتدبير الطبيعة، وتمكين للرجل نفسه أن يُرجف بك الظن ويسيء فيك الرأي، وعقابك على ذلك ما أنت فيه من الكساد والبوار؛ عقاب الطبيعة لمستقبلك بالحرمان، وعقاب أفكارك لنفسك بالألم.
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(61/10)
في الأفق الدولي
حديث الحرب
للأستاذ محمد عبد الله عنان
في الآونة الأخيرة كثر الحديث عن الحرب المقبلة، وعن أسبابها المحتملة، وعن مواطن نشوبها والدول التي قد تشترك فيها. وكلما أظلم أفق السياسة الأوربية، وتفاقمت مشكلة من المشاكل، تكرر حديث الحرب، وازداد المتشائمون تمسكاً باعتقادهم في قرب نشوبها. ومنذ أشهر نشهد في جو السياسة الأوربية ما ينذر فعلاً باضطراب العلاقات الدولية وتوترها؛ فمن محالفات سياسية وعسكرية تعقد بين مختلف الدول، ومن اعتمادات مالية ضخمة تقررها معظم الدول لتعزيز قواتها واستكمال أهباتها الحربية، ومن تصريحات سياسية هنا وهناك تحمل على التشاؤم والجزع. ولقد كشفت الأزمة النمسوية التي وقعت منذ أسابيع قلائل من جراء الثورة التي أضرمها دعاة التحريض الألماني لقلب النظام في النمسا والتمهيد لإعلان انظمامها إلى ألمانيا عن مبلغ توتر أعصاب الدول العظمى، وعما يجثم في ثنية المشكلة النمسوية من خطر على السلام الأوربي؛ ولم تحجم إيطاليا في هذا الظرف الدقيق عن حشد جنودها على حدود النمسا الجنوبية استعداداً للطوارئ. فإذا ذكرنا أن الحرب الكبرى أضرمت شرارتها الأولى في تلك المهاد، أي في إمبراطورية النمسا والمجر القديمة، استطعنا أن نقدر طرفاً من العوامل التي تملى بحديث الحرب ونبؤاتها.
على أننا مع تقديرنا لخطر هذه الظواهر المزعجة في سير الحوادث الأوربية، نخشى أن يكون خطر الحرب جاثماً في جهة أخرى غير أوربا القديمة؛ ففي الشرق الأقصى تقع حوادث ذات مغزى خطير؛ وهذا التلاحم المستمر بين اليابان وروسيا يبطن من الخطر على السلام أكثر مما يدلي به ظاهر الحوادث. ولنلاحظ أولاً أن هناك خصومة تاريخية خالدة بين اليابان وروسيا منذ الحرب الروسية اليابانية في سنة1904؛ وأن بينهما منافسة قديمة مستمرة مدارها التنازع على النفوذ في الصين واقتسام المصالح الصينية؛ وهما يلتقيان في الصين في مناطق ومراكز في منتهى الأهمية. وفي الأنباء الأخيرة أن حادثاً جديداً قد وقع في منشوريا، وزاد في تحرج العلائق بين البلدين. ذلك أن سلطات منشوكيو (منشوريا) قد قبضت على عدد كبير من الموظفين الروس في الخط الحديدي الشرقي،(61/11)
وأنها تتحرش بممثلي روسيا القنصليين. وحكومة منشوكيو كما نعلم هي التي أنشأتها اليابان في منشوريا بعد افتتاحها، وهي التي تسيرها كما شاءت. وليس هذا التصادم هو الأول من نوعه، فقد تكرر مراراً في الفترة الأخيرة، ومصدره دائماً هو النزاع على الخط الحديدي الشرقي. ولكي نعرف أهمية هذا الخط الذي يجمع بين الدولتين المتنافستين، نقول إنه يخترق منشوريا من غربها مبتدئاً من مدينة منشولي، ثم يسير نحو الجنوب الشرقي في قلب منشوريا حتى يتصل بخط (أسوري) الذي يمتد إلى ثغر فلاديفوستك على شاطئ المحيط الهادي. ومنه يمتد فرع إلى الجنوب من هربين ويتصل بخط منشوريا الجنوبي. وقد أنشئ هذا الخط في أوائل القرن الماضي بالاتفاق مع حكومة الصين الإمبراطورية بأموال روسية وفرنسية، وتحملت روسيا أكبر قسط في نفقاته، واشتركت الحكومة الصينية فيه بقسط ضئيل؛ وبع الحرب ادعت حكومة منشوريا بتحريض اليابان على الخط حقوقاً؛ ثم ظهرت اليابان في الميدان واحتلت القسم الشرقي من الخط بحجة حماية مصالحها وحماية الخط من العصابات؛ ولما افتتحت اليابان منشوريا منذ نحو عامين أصبحت تسيطر على الخط الشرقي كله. وكان النزاع قد اشتد بين الروسيا واليابان على شئون هذا الخط الحديدي في سنة 1929، ووقعت بين قواتهما بعض المعارك الدموية، وخشي يومئذ أن تقع بينهما الحرب. ولكنهما انتهيا بالاتفاق والتفاهم على شئون الخط ونظامه في مؤتمر عقد بينهما في سنة 1930.
ومنذ افتتحت اليابان منشوريا وسيطرت على شئونها، شعرت روسيا أن مصالحها في هذه المنطقة من الشرق الأقصى أضحت مهددة، وأضحى التلاحم مستمراً بينهما. ولروسيا في الخط الحديدي الشرقي مصالح حيوية جداً. لأنه يتصل بخط سيبيريا الكبير، ويقصر أمد المسافة إلى فلاديفوستك، وهو الآن تحت رحمة اليابان. ثم إن حلول اليابان في منشوريا واقترابها بذلك من منطقة النفوذ الروسي في منغوليا، يهدد الروس في هذه المنطقة، ويحول دون التوسع الروسي؛ ولا تخفي السياسة اليابانية مذ وطدت أقدامها في منشوريا أنها تعمل على سحق النفوذ الروسي في تلك الأنحاء؛ ولا تخفي حكومة موسكو من جانبها أنها تحرض على مصالحها ونفوذها في الشرق الأقصى كل الحرص، وأنها دائماً على أهبة لحمياتها بالقوة المادية؛ وروسيا تحتفظ منذ أعوام بقوات كبيرة في منطقة شيتا على مقربة(61/12)
من الحدود المنشورية؛ وهي تحيط بمنشوريا من الشرق والشمال والغرب، واليابان تحتفظ في منشوريا بقوات كبيرة وتحتل الخط الحديدي الشرقي كله، وتثبر في وجه موظفي الخط الروس كل الصعاب الممكنة وتعتقلهم من آن لآخر بتهم مختلفة على نحو ما حدث أخيراً. وقد احتجت حكومة موسكو لدى الحكومة اليابانية احتجاجاً شديداً، وطالبت بالإفراج عن رعاياها المعتقلين، ونوهت في مذكراتها بروح العداء الذي تبديه بعض المقامات اليابانية نحو روسيا، وحملت اليابان كل تبعة فيما يترتب على هذه السياسة من العواقب الخطيرة.
ومما يلفت النظر أنه في نفس الوقت الذي يتفاقم فيه النزاع بين اليابان وروسيا إلى هذا الحد، تذاع أنباء عن عقد معاهدة أو تحالف بين اليابان وبريطانيا العظمى. ولهذا الحادث إذا صح مغزى دولي خطير، ذلك أن المنافسة الصناعية والتجارية بين اليابان وإنكلترا بلغت في العهد الأخير مدى بعيداً، واستطاعت اليابان أن تنفذ بتجارتها إلى جميع الأسواق التي تسيطر عليها التجارة البريطانية، وأثارت بذلك في وجه التجارة البريطانية صعوبات فادحة. واستعملت بريطانيا كل نفوذها وسلطانها المادي لمحاربة هذا الخطر؛ فإذا صح أن التفاهم قد عاد بين البلدين، وأنهما سيؤكدان أن هذا التفاهم بمعاهدة سياسية تجارية، أو أنهما قد عقدا بالفعل مثل هذه المعاهدة، فمعنى ذلك أن نوعاً من التوازن الدولي يقوم في الشرق الأقصى، وأن اليابان قد استطاعت بعد عزلتها منذ نحو عامين على أثر حوادث منشوريا وانسحابها من عصبة الأمم، أن تجد حليفة قوية تؤازر سياستها في الشرق الأقصى ضد روسيا. والمعروف أن بريطانيا العظمى هي ألد خصوم روسيا البلشفية، وأشدهم مقاومة لسياستها، وأنها مثل اليابان تخشى دائماً من تقدم نفوذها ودعواتها الثورية في الصين، وتخشى بالأخص من دسائسها في الهند؛ على أن مثل هذا التحالف سيحمل روسيا بالطبع على التماس المعونة من جهة أخرى، والظاهر أن أمريكا هي الدولة التي يمكن أن تميل إلى محالفة روسيا على مقاومة التوسع الياباني؛ والمنافسة شديدة بين أمريكا واليابان على سيادة المحيط الهادي، وقد ظهرت خصومة أمريكا لليابان في العهد الأخير حينما احتجت غير مرة ضد توسعها في الصين وأنذرتها بسوء عواقب هذه السياسة، وظهر تصميم اليابان على تحدي أمريكا وغيرها من دول الغرب حينما أعلنت أنها ستعتبر الصين منذ الآن فصاعداً ميداناً للتوسع الياباني وحده، وأنها ستقاوم كل مجهود تبذله الدول الغربية(61/13)
لاكتساب نفوذ جديد في الصين. وعلى ذلك فقد نشهد في القريب العاجل قيام هذا التوازن الخطر في الشرق الأقصى بين الدول ذات الشأن، وقد تتفاقم الحوادث بسرعة، ويضطر البلاشفة أخيراً إلى خوض حرب ما زالوا منذ بعيد يحاولون اجتنابها.
هذا ونرى مثل هذه السحب القاتمة يحلق أفق القارة الأوربية. وصحافة أوربا كلها تفيض اليوم بحديث الحرب، بعد أن كانت منذ أعوام قلائل تفيض بحديث السلام والتعاون الدولي. وقد توارت عصبة الأمم من الميدان وغاضت كل الآمال التي علقت على جهودها في تعزيز السلم؛ ولا يحجم الساسة المسئولون اليوم عن التحدث بوقوع الحرب؛ وأقرب شاهد على ذلك ما صرح به السنيور موسوليني في خطاب ألقاه أخيراً على أثر انتهاء الجيش الإيطالي من تمارينه السنوية، من (إن الشعب الإيطالي يجب أن يكون شعباً عسكرياً لأن بقاء الأمم رهين بقوتها، ومن أنه إذا لم يكن أحد في أوربا يرغب في الحرب، فإن نذير الحرب يرى مع ذلك ظاهراً في الأفق، ومن المحتمل أن تنشب الحرب في أية لحظة، فعلى إيطاليا أن تستعد لحرب اليوم لا حرب الغد؛ ولقد نشأت في أواخر شهر يوليو (يريد حوادث النمسا) حالة تشبه الحالة التي كانت عليها أوربا قبل نشوب الحرب الكبرى، فلبت إيطاليا في الحال دعوة الخطر وأرسلت جنودها إلى الحدود، وقضت بذلك على الأزمة). والسنيور موسوليني سياسي عملي، وقد كانت تلميحاته إلى الحرب تثير منذ أعوام في أوربا كلها عواصف من النقد القارص. ذلك أن أوربا كانت ما تزال يومئذ غارقة في أحلام السلام؛ وكانت الآمال معلقة على مواثيق السلام والتحكيم التي سادت الأفق الدولي حيناً، وظن المتفائلون أنها ستقضي على كثير من أسباب الاحتكاك بين الأمم؛ ولكن الأمم الأوربية تشعر اليوم أنها تعيش في جو من التشاؤم والجزع؛ وقد توالت في العامين الأخيرين أحداث سياسية خطيرة، كقيام الوطنية الاشتراكية في ألمانيا وعملها لأحياء الروح العسكري القديم، وتفاقم المشكلة النمساوية من جراء تهديد ألمانيا بالقضاء على استقلال النمسا، ونشاط السياسة الفرنسية لجمع أمم أوربا الشرقية والوسطى حولها بمعاهدات سياسية وعسكرية، وتفاهم فرنسا مع روسيا واهتمامها بمضاعفة تحوطاتها وأهباتها العسكرية رداً على نشاط ألمانيا العسكري، واهتمام إنكلترا بزيادة تسليحاتها البحرية والجوية، وتصريح المستر بلدوين زعيم حزب المحافظين الإنكليز بأن حدود إنكلترا تمتد(61/14)
حتى نهر الراين؛ فهذه كلها أحداث وتطورات ترجع بأوربا إلى عهد ما قبل الحرب، وتثير في أفقها سحباً قاتمة، وتجعلها تشعر بأن تصريحات كالتي يلقيها السنيور موسوليني إنما تعبر عن الحقيقة والواقع.
والخلاصة أن خطر الحرب يجثم في الشرق والغرب معاً. والدول العظمى تعمل كلها لمضاعفة تسليحاتها وأهباتها. ولكن متى تقع الحرب، وفي أي ساحة، ومن أي جانب؟ هذه أسئلة تستحيل الإجابة عنها الآن. وكل ما يمكن قوله أن ما نراه اليوم من توتر أعصاب أوربا يجعل خطر الحرب محتمل الوقوع لأي بادرة أو احتكاك يحدوه التحرش أو سوء القصد، كما دلت عليه تطورات المسألة النمساوية، فلو لم تبادر ألمانيا بوقف تحريضاتهم الثورية وتعديل خطتاه نحو النمسا، ولو دفعت ألمانيا الجرأة إلى حد إرسال الخوارج النمساويين الذين تجندهم في أرضها إلى النمسا، لبادرت إطاليا باختراق الحدود النمساوية، ولتحركت في الحال دول الوفاق الصغير، ووقعت مصادمات يخشى أن تثير حرباً عالمية أخرى. وقد تقع الحرب نتيجة للنزاع الألماني الفرنسي أو الإيطالي الفرنسي، أو نتيجة لما بين إطاليا ويوجوسلافيا من التنافس؛ وقد تقع في الشرق الأقصى بين روسيا واليابان؛ وقد تكون ساحتها الأولى في النمسا أو في ألبانيا أو على حدود الرين. تلك احتمالات تبررها الحوادث والتطورات الجارية، ولكنها لا تخرج عن حد الاحتمالات.
لسنا من المغرقين في التفاؤل أو التشاؤم، ولكنا لا نستطيع أن نؤمن بقول مستر لويد جورج أن الحرب لا يمكن أن تقع قبل عشرة أعوام.
محمد عبد الله عنان
المحامي(61/15)
ما هو أدب اليوم؟. . .
للأستاذ كرم ملحم كرم
أدب اليوم رواية وقصة،
فالمنشئون من أي طبقة كانوا لا يعتمدون في معظم مؤلفاتهم على غير الحكاية والرواية، فالفن القصصي هو السائد. وأكثر الأدب بلغوا القمة في إخلاصهم لهذا الفن. ولا بدع، فالرواية محك الأدب. المنشئ البليغ يظهر فيها، والكاتب الركيك السمج يفضح نفسه إذا توكأ عليها.
أكابر الأدب في العالم لجئوا إلى القصة يذيبون فيها بلاغتهم وقوة بيانهم. فما أحجم عنها (فولتير) ولا (جان جاك روسو) ولا (لامارتين) ولا (ألفرد ده موسيه) ولا (فكتور هوجو) ولا (فرنسوا كوبيه) ولا (تولستوي) ولا (أد جار والاس) ولا (كونان دويل)، فكلهم مال إلى القصة يعالجها.
وإذا لم تكن رواية (غرازبيلا) أو رواية (رافائيل) أسمى من شعر لامارتين فهما لا تقلان سمواً عن هذا الشعر. وإذا لم تكن رواية (البائسون) لفكتور هوجو أرفع من منظومة فلقد عادلت هذا المنظوم، ونفحت الشاعر بشهرة فوق شهرته، وزادت في تخليده، وحملت عشاق الأدب الروائي على التحدث عنها في العالم أجمع. فإن شهرة (البائسون) شهرة عالمية لا يجهلها ناد أدبي. وما يقال فيها يقال في (غرازبيلا) و (رافائيل) للامارتين، وفي اعترافات جان جاك روسو. أليست اعترافات جان جاك روسو حكاية من الحكايات وفيها يحدث الرجل عن نفسه؟. . .
نعم لقد تربع جان جاك روسو في (عقده الاجتماعي) في ذروة الفلسفة، على أن (اعترافاته) رفعت من مقامه كأديب، وباتت خالدة كمؤلفه الفلسفي، فمن شاء الوقوف على حياة الرجل فليس له إلا أن يقلب (الاعترافات) فيدرك من هو جان جاك روسو.
و (أناتول فرانس) استاذ الأدب في مطلع القرن العشرين مدين بشهرته لروايته، ومثله بلزاك، وأميل زولا، وموريس بارس، ومارسيل بريفو، وهنري بوردو، ورينه بازان، وبول بورجيه، فإن اعظم أدباء فرنسا لا تقوم شهرتهم على سوى الروايات التي أنشأوها، ومثلهم أدباء إنكلترا وروسيا. فالقصة إذا أساس الأدب العالمي.(61/16)
والدين نفسه يقوم على الروايات. فما هو كتاب التوراة، وما هو كتاب الإنجيل، وما هو القرآن؟ أليس للرواية من هذه الكتب الدينية أكبر نصيب؟
وإن تكن التوراة أقدم كتاب تتداوله الأيدي ويتسنى للجميع الاطلاع عليه، جاز لنا القول أنه أول كتاب عرفه العالم مشيد الأركان على القصة. فهو يبدأ بقصة وينتهي بقصة. والكتب الخالدة في معظمها - إذا استثنينا كتب الفلسفة والعلم - كتب قصصية سواء صبت نظماً أو نثراً.
ولا شأن اليوم في المؤلفات الأدبية لسوى المؤلفات القصصية، وهذه الكتب التي تتمتع بالجوائز الضخمة، ولا سيما جائزة (نوبل)، لا تخرج في سوادها الأعظم عن النطاق الروائي.
ولقد جاء الأدب العربي في عهده الأول بما يعجز عنه الغرب من قصص وروايات. فما هي (كليلة ودمنة)، وما هي (ألف ليلة وليلة)، وما هو (عنتر)، بل ما هي (الأغاني)، وما هو (المستطرف)، وما هو (العقد الفريد)، وما هي (نهاية الأرب)؟. . . كلها روايات وقصص: وإن لم تكن كليلة ودمنة غير عربية المولد فهي لم تخلد في سوى النص العربي. وباستطاعة لغة الضاد أن تتبناها، خصوصاً ولها عليها باستبقائها يد بيضاء وما يقال في كليلة ودمنة يقال في ألف ليلة وليلة. فالأدب العربي احتضن ألف ليلة وليلة وتعهدها بالبقاء. ويمكن الإدعاء أنها عربية الوجه واللسان. أما رواية (عنتر) فقد روى أنها من سبك الأصمعي. والأصمعي - ألف رحمة الله عليه - خير من لفق وأختلق، وروى وتحدث، وسرد وأبتكر وأخترع. ولقد أتى بالعجائب وهو في تلك الصحراء الكاوية اللاذعة. فبهر العيون وملك اللباب بغزارة علمه وفرط ذكائه وعذوبة حديثه وفيضان بحره. فانه ليتدفق كالسيل في الحديث عن الأعراب وعشقهم وغرامهم. ويروي حكاياتهم بدقة وإبداع، فيسحر سميعه وجليسه، ويستدر رفد الملوك والعظماء، ويجود بالمعجزات فيقصر عنه المتطاول والمقلد واللاحق، كأن سر الرواية في الأدب العربي القديم لم يفتح على غير الأصمعي.
ولو ظهرت كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة في هذا العهد لكان الأدب العربي سيداً في الفن الروائي، حتى وإن يكن ثمة من يزعم أن الكتابين ليسا من مبتكرات الأدب العربي، فليس من أدب غير الأدب الشرقي يسبح في هذا الخيال الرحيب الخصيب.(61/17)
ولا ننسى أن أداء القصة وسياقها في كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة يختلفان كل الاختلاف عن مثلهما في روايات اليوم. فهما جديدان مبتكران لقوة المخيلة فيهما اليد الطولي. ومن المحال أن يوفق فيهما ويهتدي إليهما من لم يكن يحلق في الأفلاك.
واختلافهما عن روايات اليوم يحببانهما إلى عشاق الروايات ويفسحان لهما المقام الأول في الأدب العالمي، ولكن أين من يقوى على توفير ذلك النسيج؟
ربما جهل الأدب العربي يوم طلعت في سمائه (كليلة ودمنة) و (ألف ليلة وليلة) قيمة هذين السفرين. ربما أعرض عنهما وشغف بمقامات الهمذاني والحريري - ومقامات الهمذاني والحريري فن روائي خاص - على أنه اليوم يدرك شأنهما ولا يتنكر لهما بل يفاخر بهما وإن يكن استمدهما من بلاد الهند وفارس كما ذاع وشاع
لقد كان الأدب اليوناني يحفل بهذه الأقاصيص البارزة في كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة. ومن هذا الأدب نهل (لافونتين) في أقاصيصه الفرنسية ذات الشعر الطليق. على أن ثمة من يقول، ويثبت ما يقول، أن (لافونتين) سمع بكليلة ودمنة فاقتبس منها وصاغ تلك الأقاصيص الواقفة في طولها عند الفتر، وإن تجاوزته فإلى الشبر، الملأي بالمغزى الرائع والإرشاد البليغ، فاستعان بالحيوانات على تأذيب الملوك شأن أبن المقفع في كليلة ودمنة. ومما يدل على اقتباس (لافونتين) من كليلة ودمنة أن بين أبن المقفع ولافونتين نحواً من ألف سنة، وأين كان الأدب الفرنسي يوم كان الأدب العربي زاهراً رياناً يناطح السماء؟. .
قد نسمع ممن نحدثه عن كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة أنهما شيء قديم. غير أن هذا القديم لا تخلق جدته. فهو أبداً جديد. وعشاق الروايات وقد ملوا طراز اليوم، وبعضه يشبه بعضاً، يميلون إلى الجديد. وروايات ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة مما يجوز أن نسميه جديداً، وإن تكن انبثقت منذ ألف عام.
ولا نكير في أن ثمة خرافات وأساطير، على أن الخرافات والأساطير إذا عرضت على الناس في غناء مزخرف براق وكانت دسمة طيبة أزدردها الناس وهضمتها المعد. وخرافات ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة كالفاتنة الحسناء، وكل ما يعاب على ألف ليلة وليلة المجهولة الأم والأب أنها ركيكة ضعيفة في قالبها، ولو أتفق لها من يصوغها في بيان ابن المقفع لنافست كليلة ودمنة في متانة تعبيرها وصحة مبناها.(61/18)
ومما نستدل به على أن كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة يثيران ضجة بعيدة الصوت في الأدب العربي، لو برزوا اليوم إلى النور، ويتربعان في القمة العليا من الفن الروائي، ما يلقيان من غزو الروائيين الأجانب. فكل يوم يرزحان تحت غارة جديدة. وليست رواية (حديقة على العاصي) للكاتب الفرنسي المشرق الديباجة (موريس بارس) غير قبس من ألف ليلة وليلة. وما رواية (الأتلانتيد) لبيير بنوا غير صفحة من صفحات ألف ليلة وليلة. فكأنها مستوحى أدباء الفرنج يسلبونها أطايبها المباحة دون أن يقف في سبيلهم من يقول لهم: ماذا تفعلون؟.
ومع كل احترامنا للتوراة وتقديرنا لها نجرؤ على أن نقارن بينها وبين ألف ليلة وليلة مقارنة صادقة لا ترمي مطلقاً إلى الحط من قدر الكتاب الكريم. إن هي إلا مقارنة أدب بأدب. وكل ما نريد إثباته أن ألف ليلة وليلة أضحت لدى كتاب الغرب أشبه بالتوراة. فكما يغيرون على التوراة يستوحونها يغيرون على ما جادت به علينا شهرزاد الملسانة، أو الثرثارة، التي لا تسكت عن الكلام المباح إلا حين يطلع الصباح.
ولا تقف غارة كتاب الغرب عند ألف ليلة وليلة، بل هم يشنون أبداً الغارة علينا ويستأثرون بكنوزنا ونحن عنهم في غفلة، فلا نراهم إلا يشدون الرحال إلى هذا الشرق، هذا الشرق الحافل بكل غريب، الطافح بالأسرار، المنبثقة منه الأديان، المتصاعدة من معابده روائح البخور تنفثها المجامر الحمراء هذا الشرق القديم في حضارته وهياكله وآلهته، المثقل بالرموز والأشباح والعفاريت، المخيمة عليه حسرات داود وحكمة سليمان، هذا الشرق الراسخة فيه المساجد العالية القباب، والمآذن الناطحة السحاب، والمستوردة فيه المرأة وراء ألف حجاب وحجاب. هذا الشرق مهد الناقة والبعير، المتهادية فيه العمائم والقلانس والطرابيش، المكردسة فيه الذكريات أطباقاً فوق أطباق، من عهد الفراعنة، إلى عهد العبرانيين، إلى عهد الآشوريين، إلى عهد الفرس، إلى عهد العرب، إلى عهد الأتراك.
وعلينا ألا ننسى الصليبيين أموا هذه الديار. ومنذ أقبلوا والغارات علينا تتلو الغارات في الميادين كلها، في السياسة والأدب، فمن غزو إلى استعمار.!
ومن غزاتنا في أدبنا (بيير بنوا) القصصي الفرنسي فهو يفكر اليوم في وضع رواية فصولها جماعة الصليبيين وتدور حوادثها عليهم. فهم أبطالها وسادتها وحجر الزاوية فيها،(61/19)
ولبيير بنوا أن يقول في الصليبيين ما شاء. فالقول ذو سعة، مخيلة الكاتب قد تأتيه بالمبتكر، ولكن هل عوّدنا بيير بنوا الابتكار؟. . .
كل ما رأينا من بيير بنوا لا يزيد على كونه مقتبساً، وهذا الاقتباس لا غبار عليه لو عرف الكاتب كيف يتلاعب به ويمنحه من قوة الخيال والجمال ما يرفع من شأنه ويزيد في قدره، أما أن يكتفي بالاقتباس دون أن يضيف إليه الابتكار المورق السمين فأي عمل أتاه؟. . .
وبيير بنوا ليس من المبتكرين في إنشائه ولا حوادث روايته فهو من الطبقة الوسطى في الروائيين، وفي طبقة دون الوسطى في المنشئين، حتى وإن يكن يكتب باللغة الفرنسية. فليس كل ما يكتب باللغة الفرنسية وبسائر اللغات الحية بليغاً عالي الديباجة باقياً على ممر الأيام. فكل لغة حافلة بالمبتذل السخيف. كل لغة يتلاشى منها معظم ما يكتب الكاتبون وينشر الناشرون. ولا يخلد من ثمار القرائح غير جزء من عشرة آلاف جزء. وإذا بقي شيء من مواليد (بيير بنوا) الأدبية، فلا ريب بأن روايته (ربة قصر لبنان) - وقد استمدها من لبنان - ليست بذلك الجزء الباقي، فهي تحت رحمة الفتاء، وربما استطعنا أن ننعاها منذ الآن.
قد تبقى منه رواية (الاتلانتيد)، على أن رواية (الاتلانتيد) من سرقاته لا يمكن من مبتكراته. وكل تفننه فيها أنه انتقل بها إلى أفريقيا، إلى الصحراء، إلى تلك الديار القاحلة العجراء. وماذا يقال عنه فيها؟. . . يقال إنه صاحب (الاتلانتيد) ليس غير. وقد يجوز لك أن تقرأ (الاتلانتيد) كما يجوز ألا تقرأها. فإذا قرأتها خرجت منها صفر اليدين. وإذا وقفت عن قراءتها ربحت الوقت إن يكن الوقت عزيزاً عليك. وقد تسأل: كيف بلغت رواية (الاتلانتيد) هذه الشهرة العالمية؟. . . وجوابنا أن المؤلف أجاد بث الدعوة لروايته، فذاع لها الصوت العاطر في الأندية الأدبية جمعاء قبل أن تقف هذه الأندية على مضمونها. وشاق الذين طالعوها من الغربيين تلك الصبغة الشرقية فيها. وجاءت دور السيمياء ترفع من مكانتها. والحق يقال إن (الاتلانتيد) نجحت في عالم السيمياء أكثر منها في عالم الأدب.
واليوم و (بيير بنوا) يفكر في وضع روايته الصليبية سوف نرى أي وحي هبط عليه. أيدرك التوفيق أم لا يوفق، ونحن نرتاب في توفيقه لمعرفتنا شأنه الأدب ي. غير أننا لا نستطيع الإنكار أن الرجل من الغزاة الفاتحين. فهو يقبل علينا ينتزع منا موضوعاته(61/20)
الروائية ونحن نشاهد ما عندنا من كنوز ولا نكلف أنفسنا نبشها وإبرازها إلى النور. فالرواية في الأدب العربي الجديد لا تزال في المهد، مع أن الأعصر العباسية حفلت بها وراحت تفاخر العالم بثمارها اليانعة الشهية، ولا يبرح العالم يتذوق هذه الثمار وسيتذوقها ما دام الأدب وضاء الجبين.
وليت أدباء اللغة العربية يدركون اليوم شأن القصة، فتعالجها أقلامهم بما يعيد إلى الأدب العربي مكانته الأولى وعزه القديم. فالرواية حجر الزاوية في كل أدب، وفي كل نهضة، وفي كل دين!
بيروت
كرم ملحم كرم
صاحب جريدة (العاصفة)(61/21)
لا تحزني. . .
بقلم جورج وغريس
لا تحزني يا سيدتي. فهكذا شاء القدر أن يدفع بك إلى محيط هذا العالم ذرة مضطربة من ذراته التي لا تستكين ولا تهدأ. كلما حضرني أمرك أيتها السيدة، شعرت بالألم يحز في قلبي، وأحسست بالحياة كلمة غامضة في سجل مبهم، ورأيت السعادة كذبة هائلة انحدرت من شفاء الأبالسة إلى آذان هذه الأجيال التعسة الحالمة. .
لا تحزني أيتها السيدة الكريمة، كفكفي دمعك لأنك لست بمستطيعة أن تغطي الأفق الوسيع بكفك الصغير، ولست بقادرة أن تحولي دون الريح وهبوبها، أو النهر وجريانه. .
قبل أن تغرب شمس اليوم رافعة بأشطانها أوزار العالم وأوحاله لتقدمها إلى صاحب العرش الأعلى. . . . جاءني طفلك الصغير، وكأن أحزان العالم قد وسعها قلبه الغض وهو يلهث من التعب، وأخذ يبكي ويقول لي في كلمات يقطعها البكاء: (تعال لتخفف عن أمي. . . إنها حزينة من الصباح. . . إنها طريحة الفراش. . . باكية ومنتحبة. . . وكلما سألتها السبب قالت: إن أباك لم يعد. . . فمن يكون أبي؟ ومتى يعود. .؟ إنني لا أفهم ما تقوله أمي. .)
فيا رحمة الله أدركيني. . . بأي لسان ينطق هذا الطفل. .؟ أتستطيع ملائكة الرحمة أن تظل واجمة ساكنة؟ أتظنين يا سيدتي أن الرياح حملت فيما تحمل تلك الكلمات التي نطق بها هذا الصبي البريء. . .؟ كلا بل إنها ستبقى خالدة في نفسي ما بقيت. . . وستظل حائمة في فضاء هذا العالم لتصرخ في آذان الجيل بعد الجيل أن الإنسانية ما وجدت إلا لتشقى، وأنه ما من أرض إلا وزرعت فيها التعاسة، وما من حاصد فيها إلا وهو للبؤس ربيب. . .
من يقول لطفلك أيتها السيدة الحزينة إن أباه هو الشر الذي ولد الخير، والحبة النتنة التي أنبتت الزرع الجميل، والحشرة القذرة التي انبثق منها الشهد، والريح الخبيثة التي خلفت النسمة الطيبة، والغيم الحالك الذي بعث ببهجة الأرض، وهو اليد التي دفعت به إلى الحياة. ثم تراجعت متخفية كاليد السارقة التي تأخذ غادرة ولا تعترف بعطاه. . . .
من يقول لطفلك يا سيدتي إنه ما من وليد من أمثاله إلا وله أب يرعاه بعنايته. أما هو فيتيم وإن كان أبوه حياً يرزق، ولكنه يشاء اليتم لابنه ويريد العقم لنفسه، وليس وا أسفاه في(61/22)
قوانين الأرض ما يرد تلك المشيئة أو يمنع تلك الإرادة، وليس وا أسفاه في نتاج الإنسانية بعد جهاد القرون ما يخفت أنين الطفل وهو يسائل الحقيقة (من يكون أبى. . . .؟)
يا سيدتي الحزينة - خففي عن نفسك فما أردت أن أثير أشجانك. . . دعي الماضي يمر أمامك كالأطياف السريعة. . . ماذا يؤلمك وماذا يبكيك، وأنت ربيبة الألم ووليدة البكاء؟. . . لقد كنت فتاة في منزل أبيك تقاسين من غلظته، وتعانين من زوجته، وتشكين فراق أمك المطرودة البعيدة. . . وكما خرج موسى من أرض مصر، خرجت أنت من سجن أبيك إلى دار زوجك، ولكنك لم تجدي في صحرائه مَنّاً ولا سلوى. . فمسكينة أنت أيتها السيدة. . لقد رضعتِ الشقاء. والشقاء ما زال في أحضانك رضيعاً يترعرع. . . ورشفت الكأس وثمالته أشد مرارة. . .
مسكينة أنت أيتها السيدة. بل مسكينة كل امرأة تعيش في كنف زوجها الغاصب، لأنها لا تستطيع أن تلامس أطراف السعادة ولو كانت الجنة تحت قدميها. . . غريب أمر الرجل في هذه الحياة، خلق الله له المرأة ليأتنس بها فخلق هو لها الوحشة، وجعل الله له القوة ليحمي ضعفها فنازلها بقوته. . . ومنذ انحدر آدم إلى هذه الأرض والفضيلة والرذيلة تعتركان، أما الحق فمخبوء أبداً. . .
لا تحزني يا سيدتي لأن الحزن لا يقدم من شأنك ولا يؤخر، فإنما أنت مخلوق ضعيف أسلمته يد الأقدار إلى قبضة عاتية. . . وما دامت المرأة في دولة الرجال، فسوف لا تعيش إلا ذليلة مسكينة. . . لأنهم يصنعون الشرائع ويحتكمون إلى أنفسهم ثم يحكمون. . .
لا زلت أذكر يا سيدتي اليوم الذي أتيت فيه إلى جوارنا، وكان زوجك يتعهد هذا الوكر برعايته، يبادلك الوفاء ويقاسمك السعادة، ولكنه كان متكلفاً في هذا العناء فقبل أن يرى طفلك النور. انسل كاللص السارق ليعيش في الظلام. . . ومنذ ذلك الحين إلى الآن وزوجك مقبور في حفرة الأحياء، لا يتلمس النور ولا يتسقط الماء. . .
ما أغرب هذه الطبيعة البشرية وما أعجب أمرها. . . إذا أصابها التقلب والتلون نسيت ما فعله يومها في أمسها، وبَعُد خيرها عن شرها، وتنكر حاضرها لماضيها. . . فإذا بصاحبها إنسان لا يستأنس، وإن كان الحيوان قد بدأ ينسى ما في أحط غرائزه من غدر وفتك وبطش. . .(61/23)
قومي يا سيدتي ورفهي عن نفسك فلكل بداية نهاية، ولابد لحقك أن ينتصر اليوم أو غداً. لأن الألم الذي تعاني لم يحترق بمثل ناره قلب من قبل، والدمع الذي ينهمر من عينيك الغائرتين على وجهك الشاحب لم تدانه في حرارته ما سكبته عيون الشقاء منذ ولادته. . .
للمريض آلام وللفقير آلام، للمتعب آلام وللضعيف آلام، للغريب آلام وللطريد آلام. . . وآلامك أنت أيتها الشقية المظلومة تسمو على كل ألم. فيجب أن تسمو نفسك بقدر سموها.
ويجب أن ترفعي رأسك فوق الطوفان الذي يغمرك، وليكن مثلك في ذلك مثل الحادي وراء الإبل يقطع الفيافي على قدميه، وقد أمضه التعب وأضناه الجوع وعضه الفقر، وهو يغنى أنشودة الحياة والحب والفرح. . .
في بكائك المتواصل (قولي ما يقوله الفلاحون عن غيث السماء: هذا المطر كله حنطة). . .
في ظلامك الدامس تطلعي إلى الخيوط الرفيعة البيضاء التي تتراءى لك من وراء الأفق، وارفعي نحوها بصرك. . .
قومي يا سيدتي. ولا تجعلي للألم سلطاناً على نفسك. فقد فعلت بك العلة فعلها. . وارحمي طفلك الذي هوى على صدرك ليمزج أنات قلبه بدقات قلبك. . قومي يا سيدتي وهات يدك. . .
قلت هذا بجوار سريرها. . ثم مددت يدي إلى يدها. فإذا بها باردة!. . .
يا لشقاء نفسي!. لقد كنت بكلماتي الأخيرة أخاطب الأرواح الحائمة حولي. . في استطاعة المرء أن يذكر كل ما يجول بخاطره، ولكنه ليس في استطاعته أن يقول كل ما يبدو لناظره.
أيها الرجل. . . لقد ماتت تلك المرأة!
إسكندرية
جورج وغريس(61/24)
الأزمة كما يراها الاقتصاديون
بقلم عبد العزيز عبد الكريم
كانت الشعوب القديمة تشكو من القحط والجماعات. قال الله تعالى في كتابه العزيز في سورة يوسف: (وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي أن كنتم للرؤيا تعبرون). هذا ما رآه ملك مصر في منامه، فلم يعرف أحد تأويل رؤياه، وكان يوسف حينئذ في السجن، فاستدعاه الملك واستفتاه في أمر الرؤيا، ففسر يوسف المنام قائلاً له: إنه سيمر عليكم سبع سنين خصبة، فازرعوا فيها واخزنوا ما زرعتم وهو في سنابله إلا قليلاً مما تأكلون، ثم يعقبها سبع سنين مجدبة، تأكلون فيها مما ادخرتم.
وقد تطورت الآن وسائل المعيشة وأحوالها، وتبدلت طرق الكفاح في سبيل العيش، وارتقت الزراعة والصناعة والتجارة؛ فنشأت بازاء هذا التبدل مشاكل جديدة، وظهرت معضلات خطيرة. وأشد ما نعانيه الآن من النظام الاقتصادي الحالي هو الأزمة التي انتابت العالم بأسره؛ وقد خلقت للعالم مشاكل عديدة لا تنجل ولا تزول إلا بالسلاح.
الأزمة هي اضطراب فجائي في التوازن الاقتصادي؛ ولها أعراض وعلامات تشابه أعراض الأمراض التي تصيب الإنسان، فبعض الأزمات يقتصر على بلد واحد، وبعضها وبائي ينتقل في أنحاء العالم كمرض الكوليرا.
عرف الاقتصاديون بعد طول البحث أن ظواهر الأزمة وأعراضها هي في كل الأزمات تقريباً. وأول ما يشير إلى نشوء الأزمات تناوبها؛ فقد رؤى أنها تتبع بعضها بعضاً في القرن التاسع عشر بنظام منتظم عجيب، فبين كل أزمة وأخرى مدة تبلغ عشر سنوات أو اثنتي عشرة سنة، نصفها يمثل حالة صعود والنصف الآخر يمثل حالة هبوط، ويظهر ذلك في تقلبات الأسعار والأجور، وأسعار الفوائد.
ومن ظواهر الأزمة وبائيتها، ففي بادئ الأمر يزيد الإنتاج في إحدى الصناعات أو ينقص، ويتنقل هذا الاضطراب من صناعة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر.
هناك ثلاث علامات خاصة تسبق الأزمة، وتعلن قرب حلولها:
(1) ارتفاع في الأسعار يدل على نشاط الاستهلاك، ووفرة الأموال المتداولة وسهولة(61/25)
الإقراض.
(2) ارتفاع في قيمة الضمانات القابلة للتحويل وخصوصاً الأسهم والسندات، ويدل ذلك على تقدم المشروعات التجارية وزيادة الإنتاج، وزيادة الحصص في رؤوس الأموال.
(3) ارتفاع في الأجور يشير إلى نشاط سوق العمل، وزيادة الطلب للعمال.
غير أنه بعد وقت ما، تتغير الحال وتنقلب حالة الصعود إلى حالة هبوط، ونجد أمامنا:
(1) تدهوراً في الأسعار: يدل على عجز الاستهلاك، وندرة الأموال المتداولة وصعوبة الأقراض.
(2) تدهوراً في قيمة الضمانات: يدل على تدهور الأرباح والحصص، وفشل المشروعات الكبرى الخطيرة، وسقوط يرافقه ارتفاع في سعر الخصم والقطع.
(3) تدهوراً في الأجور: يدل على شلل الإنتاج، ووقف طلب العمال، والأشارف على الوقوع في خطر العطلة والعاطلين.
والأزمات التي وقعت في القرن التاسع عشر تواريخها كما يلي:
1815
1857
1890
1827
1866
1900
1836
1873
1847
1882
وقد لاحظ جيفونز من هذه التواريخ أن الأزمات والت بعضها في خلال فترات ومسافات منتظمة تبلغ كل واحدة منها عشر سنوات تقريباً. وقد ظن أن الأزمات يرجع سببها إلى ظاهرة فلكية لا سلطان لأحد عليها. ولكن القرن العشرين قد دحض نظريته هذه، فإن أول(61/26)
أزمة وقعت فيه كانت في عام 1907
اهتم الاقتصاديون بالبحث عن أسباب الأزمات، وأخذوا يبحثون عن علة توالي الأزمات وتناوبها، فاهتدوا أخيراً إلى الأسباب الآتية:
(1) وفرة الإنتاج - لا تنشأ وفرة الإنتاج إلا عن تقدم الصناعة الكبرى. فمن البديهي أن البضائع المعروضة في السوق سوف تزيد يوماً ما على حاجة الاستهلاك، ويصبح من العسير تصريف شيء ما من هذه المقادير؛ فينتج عن ذلك تدهور عام في الأسعار، ولكي يتجنب الصناع البيع مع الخسارة يحصلون على الأموال من المصارف، أو يبيعون الأسهم، فينشأ عن ذلك ارتفاع في الفوائد، وتدهور في قيمة الأسهم، حتى يصبح المال نادراً، وذلك راجع إلى زيادة السلع المعروضة. وسرعان ما يصبح هؤلاء الصناع في حال من الإفلاس والضنك يرثى لها.
وها قد رأينا كيف يسبق الإنتاج الاستهلاك، وكيف يقف الإنتاج عن السير عند حد معين، وكيف يسير الاستهلاك حتى يلحق الإنتاج، فيسبقه بدوره؛ وهذا السبق لا بد منه. فظاهر لنا في هذه الحال علة تناوب الأزمات: وكل أزمة يعقبها وقت تعوض فيه الصناعة خسارتها، وتنتعش حالتها، ويتجدد إنتاجها ليسد مطالب الأفراد الحديثة.
(2) قلة الاستهلاك - ويذهب بعض الاقتصاديين إلى أن الأزمات هي في الغالب راجعة إلى زيادة الإنتاج الناشئة عن شراهة أصحاب رؤوس الأموال الذين يحاولون استرداد ما فقدوه من الأرباح عن طريق الكمية؛ ولكن السبب الأساسي هو عدم كفاية ثروة أغلب المستهلكين - وأغلبهم من طبقة عمال اليومية - لابتياع ما أنتجوه وما صنعوه بأيديهم، فزيادة الحاجة إلى الصناع لتوسيع الإنتاج وزيادته، وزيادة عمال الأجور، وعدم القدرة على تسديد أجورهم، تؤدي إلى اضطراب التوازن في وقت من الأوقات. ويزيد الاضطراب وتشتد الأزمات حتى يحين الوقت الذي يقضي فيه على نظام الرأسمالية. فهذا النظام مقضي عليه بالفناء بسبب النتائج التي أدى إليها.
(3) زيادة الرأسمالية - اتفق الاقتصاديون على أن زيادة الرأسمالية أخطر من زيادة الإنتاج في إحداث الأزمات. إن المصانع الكبرى يلزمها ترتيب حركة دولاب العمل بتجهيز الآلات، والمناجم، والعربات، والسفن وغير ذلك. وإذا كان المصنع على أهبة(61/27)
الاستعداد للعمل، فقد يرسل غلالاً لا حصر لها إلى السوق. وليس في الإمكان وقف هذه الحركة متى رغبنا، لأن رأس المال ثابت لا يمكن سحبه بأي حال من الأحوال. تتدهور الأسعار تبعاً لذلك، وتفلس أكثر المشروعات، أو تستسلم للأمر، حتى تتصرف الزيادة بزيادة الاستهلاك نظراً لتدهور الأسعار.
والاقتصاديون يعتبرون أن قلة الإنتاج ليست سبباً من أسباب الأزمات أو ظاهرة من ظواهرها: فلماذا؟ ألا يضطرب الميزان الاقتصادي بقلة الإنتاج كما يضطرب بزيادته؟ بالرغم مما تحدثه قلة الإنتاج من البؤس والفناء والموت، وبالرغم من القحط والمجاعات التي سجلتها الحوادث المخيفة والشهيرة في تاريخ الشعوب كلها؛ فإن الاقتصاديين لم يجمعوا الآراء على أن القحط والمجاعات نوع من أنواع الأزمات، إذ ليس من خواصها التناوب، ولا ارتفاع الأسعار قبلها، ولا هبوطها بعدها.
أما علاج الأزمة: فيقف على نوع الأسباب التي أدت إليها. فإذا اعتقدنا أن السبب هو زيادة الإنتاج، وجب علينا أن نعمل على تحديد ذلك الإنتاج، فيمكننا توحيد الشركات وتضامنها، وتنظيم إنتاجها لنتمكن من منع زيادة الأسعار المطردة وهبوطها أيضاً؛ ويمكننا إيجاد حركة تعاون بين الشركات لتنظيم حركة الإنتاج تبعاً للحاجات لا تبعاً للأرباح.
ولو اعتبرنا أن سبب الأزمة هو أن طبقة العمال ليس لديها من الثروة ما يعينها على زيادة الاستهلاك كلما زاد الإنتاج، كان من الضروري أن نبحث عن نظام يضمن للعامل نجاح كل ما ينتجه.
وإذا نظرنا إلى زيادة الرأسمالية، وجب أن نلجأ إلى المصارف إذ هي أكبر عضد لمساعدة الشركات وإمدادها بالأموال. قد تتدخل المصارف، إما برفع سعر القطع لديون الآجال المحدودة، إذا رأت أن سرعة التداول تزداد إلى درجة مقلقة، وإما بإنقاذ البيوت الكبيرة الوشيكة السقوط والضياع، إذا كان لسقوطها الأثر الفعال في إحداث الاضطراب وشل الحركة التجارية.
والأزمة الناشئة عن زيادة الرأسمالية تزداد وتشتد وطأتها بسبب الذعر والتشاؤم الاقتصادي. والتنبؤ بالأزمة يزيد الخطر ويعوقنا عن العمل على تلافيها، فما أجدرنا ألا نعتقد ذلك، فالخوف من الشر يولد الشر، والتفاؤل بالخبر يجلب الخير.(61/28)
إسكندرية
عبد العزيز عبد الكريم(61/29)
فصول مدرسية في الأدب الدرامي
4 - الرواية المسرحية
في التأريخ والفن
بقلم أحمد حسن الزيات
أجزاء أخرى للعمل
ذلك هو التقسيم الأساسي للعمل، وهناك تقسيم آخر أغفله اليونان واستعمله الرومان، وهو تقسيم العمل إلى فصول، والفصول إلى مناظر. فالفصول هي مراحل العمل أو درجاته، تفصل بين كل درجة وأخرى فترة تسمى استراحة، والمناظر أجزاء الفصل المختلفة، وتحدد بدخول ممثل أو خروجه. ولعلك لا تكتفي بالتعريف في شرح هذه الكلمات، فدونك شيئاً من التفصيل:
الفصل: لم يعرف الإغريق كما قلت تقسيم الرواية إلى فصول، وإنما كانوا يعرفون شيئاً يشبه ذلك في تمثيل ثلاث مآس في موضوع واحد، كل مأساة لها كيان مستقل عن الأخرى. أما اللاتين فقد قسموها إلى فصول حصرها هوراس في خمسة لا تزيد ولا تنقص. ففي الأول يعرض العمل، وفي الثاني يبسط، وفي الثالث يُعقد، وفي الرابع يهيأ حله، وفي الخامس يحل. ولكن جعل هذا التقسيم قاعدة مطلقة لا يخلو من ضرر. وإلا فماذا يصنعون في موضوع يعرض في منظر ويحل بكلمة؟ أيترك وهو طريف مؤثر صالح للتمثيل، أم يملأ بالتطويل والحشو حتى يكمل؟ وما حكمهم على مأساة أو ملهاة محكمة النسج لا تبدأ عقدتها إلا في الفصل الثالث، ثم يخصص لحلها الفصل الخامس؟ إن التعقيد هو جسم العمل وروحه كما علمت، فينبغي أن ينزل من الرواية في أوسع محل، بل يجب أن يكون كالتيه، مدخله العرض ومخرجه الحل. وأمهر الكتاب وأقدرهم من عجل بالتعقيد ثم طوله ما استطاع محكماً لقوته، متدرجاً في عقدته.
الحق أن جريان العرف بتقسيم الرواية إلى خمسة فصول ليس قائماً على أساس متين فيفرض، ولا هو خالياً من الفائدة الفنية فيرفض، إنما المرجع في ذلك كله إلى طبيعة الموضوع، فإذا كان قوياً غنياً يستطيع أن يملأ خمسة الفصول كان ذلك التقسيم أدعى إلى(61/30)
انفساح العمل وتقوية الجاذبية وتحليل الأخلاق واطراد الحوادث من غير ضغط ولا اصطدام ولا مباغتة. وأما إذا كان بسيطاً لا يحتمل البسط ولا يقبل التطويل فخير لك أن تغلب حكم الطبيعة على حكم العرف فتتصرف في التقسيم تصرفاً يلائم الموضوع ويتفق مع الإمكانية ويعصمك من الحشو والتكلف. على هذا الرأي يسير الكتاب اليوم فتجد الروايات تتردد بين فصل واحد وخمسة. على أن الشرط الأساسي هو الدقة في هذا التقسيم حتى يحسن توزيع العمل، ويمكن تدرج الجاذبية في الفصول والمناظر بحيث يكون العمل كالساعة: فالحوار يرصد الثواني، والمناظر ترصد الدقائق، والفصول ترصد الساعات، لأنك إذا أرحت العمل في منظرين متعاقبين فترت الحركة وخمد الأثر. اقرأ رواية ترتوف لموليير - وهي منقولة إلى العربية - وراقب فيها سير العمل وتدرجه وتقسيمه تجسدها في كل ذلك المثل الأعلى تجسدها في كل ذلك المثل الأعلى. علام يدور العمل في هذه القطعة الخالدة؟ يدور إما على هتك الحجاب عن نفاق ترتوف وخبه، وإما على استيلائه على بيت أرجون وثروته، وحرمانه ابنه، وزواجه من ابنته. فماذا صنع موليير في الفصل الأول؟ عرض على أنظارنا صورة المنزل الداخلية، وأرانا سلطان ترتوف المنافق على أرجون الساذج وأمه العجوز، وأطلعنا على سوء رأي الباقين من الأسرة في هذا اللئيم. أعلن كل ذلك في المنظر الأول فاشتبكت المعركة وابتدأ العمل بقوة. وفي الفصل الثاني حمل أرجون على الإقرار بطاعته العمياء لترتوف، وترتوف قد قطع ما بينه وبين بنيه وزوجه، وأفسد ما كان صالحاً من نفسه، وجعله يعلن أن ترتوف سيكون زوج ابنته، وابنته تحب فالير، ولكنها لك تجرؤ على عصيانه. ومن ثم نشبت المعركة المضحكة بين العاشقين. وفي الفصل الثالث كاد داميس بن أرجون يفضح أمر ترتوف، وأوشك العمل أن يشارف الحل لولا براعة المنافق وسذاجة أرجون، فاستحكمت العقدة وقوبت الجاذبية بعزم أرجون على معاقبة بنيه بالخروج عن ماله كله لترتوف. وجاء الفصل الرابع فانكشف سر ترتوف وانجلى أمره لأرجون فهم بطرده، إلا أنه عارضه بعقد الهبة، وهدده بوثائق تتهمه وتجرحه، فاضطرب البيت ونال من أهله الهمم والجزع. وفي الفصل الخامس زاد الاضطراب، واشتد القلق حتى حانت ساعة الانقلاب فعرف الملك خيانة الماكر فقبض عليه وعفا عن أرجون. فأنت ترى أن العمل قسم بدقة، وأن الجاذبية وزعت بحكمة، وأن(61/31)
الموضوع كان كافياً لتغذية الفصول فبرئت القطعة من الاستطراد واللغو
الاستراحة:
هي فترة بين فصل وآخر من فصول الرواية يقف أثناءها التمثيل وينقطع انتباه المشاهد، أما العمل الروائي فلابد من فرض استمراره خارج المسرح مجاراة للطبيعة والواقع، ومحافظة على شرط الإمكانية. فهي راحة للمشاهد وضرورة للمسرح، ولكن الممثل يجب أن يشتغل فيها، وإن كان في الواقع يستنشي هو أيضاً نسيم الراحة في ظاهر المسرح (الكواليس). ولا مناص للكاتب من أن يراعي ذلك وهو يُكوّن هيكل الرواية ويقسم العمل على الفصول. فلا يجوز مثلاً أن يحرك العمل عندما وقف في الفصل الأول. بل يفرض أن العمل قد قطع في أثناء الاستراحة مرحلة طويلة أو قصيرة على حسب الظروف، فحكمه في ذلك حكم مهندس البناء يرسم في تخطيطه الأماكن الفارغة والمشغولة ولكل منها نصيب من عنايته وتقديره. وبعد، فإن الاستراحة عظيمة النفع جليلة الخطر. وحسبك أنها أجل مزايا المسرح الحديث، اهتدى إليها فخفق بها مبدأ الإمكانية، ووثق بها عقدة الجاذبية. أما الإغريق فما كانوا يقفون التمثيل، وإنما كانوا يشغلون ما بين الفصول بالقيان (الخورس) وكان يساعدهم على اتباع هذا النظام اشتراط وحدثي الزمان والمكان. فلما تحلل المحدثون من سلطان هاتين الوحدتين وأجازوا لأنفسهم الخروج عن مداهما لم يكن بد من هذه الاستراحة يسدون بها خلل التمثيل، ويتقون بها ملل التطويل، ويفرقون ما بين الحوادث والواقع. وأظن في هذا الكلام شيئاً من الغموض فإليك توضيحه:
لا شك أن في الطبيعة كثيراً من الأشياء لا يمكن أن تمثل على المسرح، ولا أن تغفل في الرواية، فإذا أسأنا تمثيلها أضعف الوهم المسرحي، وإذا أغفلنا ذكرها شوهت العمل الروائي. فلا مخرج لنا إذن من هذه الحيرة إلا الاستراحة، نفرض حدوثها في خلالها، ثم نكتفي بعد ذلك بذكرها. كذلك لا يخلو العمل المسرحي غالباً من تطويل لازم وتفصيل واجب يملان المشاهد ويَفُتّان في طبعه، وهو يأبى إلا أن يظل مشغول القلب متمتع الحواس بتأثير لذيذ قوي، فنستطيع إذن أن نوفق بين شعور المشاهد وحقيقة الواقع، بأن نعرض على المسرح ما يلذ ويؤثر، ونبقى للاستراحة ما يمل وينفر.
بقى أن الكاتب بفضل الاستراحة يستطيع أن يحقق مبدأ الإمكانية الزمنية بفرضه حدوث(61/32)
أشياء لو مثلت على حقيقتها لاقتضت من الزمن ما لا تتسع له مدة التمثيل
المناظر: المناظر هي أجزاء الفصل المختلفة كما علمت، وتحدد بدخول شخص أو خروجه، وليس لها عدد معين. ولكن لها قاعدة عامة، وهي ألا يبقى المسرح خالياً من ممثل حرصاً على الوهم واستبقاء للخديعة واستدامة للأثر. فإذا اضطر الممثلون جميعاً إلى تركه ليخلفهم عليه آخرون، وجب إما أن يوجهوا الخطاب إليهم، وإما أن يعلنوا دخولهم عليهم، حتى لا يدخل المسرح أحد أو يخرج منه دون أن يُعلن المشاهدون بسبب دخوله، أو يكونوا قد علموه من قبل حصوله. أما أن يخرج ممثلو المنظر السابق ويدخل ممثلو اللاحق من غير مخالسة النظر ولا مبادلة الكلام فذلك إخلال بشرط الإمكانية
الأشخاص: يشترط في أشخاص الرواية أن تكون صفاتهم وعاداتهم (محلية) تلائم الزمان والمكان اللذين يعيشون فيهما، (مناسبة) تتفق مع عمرهم وجنسهم وطبقتهم، (ممكنة) لا نناقض التأريخ ولا التقاليد ولا الأساطير، (ثابتة) تلازم الشخص من بدء العمل إلى انتهائه، (متنوعة) لا تتشابه في شخصين، بل يختلف كل شخص عن الآخر في صفته وعادته، جارية مع العرف، فلا تكون شاذة ولا غريبة كوصف اللص بالكرامة، وقاطع الطريق بالشهامة، والسفاح بالنبل. وتلك نقيصة من نقائص المسرح الحديث.
أداء العمل
يحدث العمل في نفس الممثل فيؤديه بالعبارة مستعيناً بالإشارة. والعبارة تكون حواراً وقد تكون نجوى نفس. وبحث هذه الكلمات الأربع يحتاج إلى شيء غير قليل من الأناة والعناية
العبارة: الأسلوب الروائي هو أسلوب الحديث النبيل المونق. فشرطه أن يكون طبيعياً لا تفسده الصناعة والتعمل، حياً لا تخمده الغثاثة والتبذل، بسيطاً لا تعقده الروية والتأمل، ملائماً تتناسب لهجته مع نشأة المتكلم وتربيته وطبيعته وعادته وموقفه. ولن يتسنى للكاتب أن يحقق هذه الشروط إلا إذا نسى نفسه وفنى في أشخاصه، فيطرح المقاطع الوجدانية والمحسنات البديعية والتشابيه الغريبة من كل ما ينم على الدرس والبحث والتحذلق. اللهم إلا المأساة بنوعيها فأنها تقتضي الأسلوب الرائع، واللفظ المختار، واللهجة المؤثرة، لعلاقتها بالوجدان وصلتها بالعواطف. والبيان كان وما زال شرك العقول وسحر القلوب. وأكثر المآسي لم يضمن لها الخلود إلا روعة الأسلوب وبلاغة الأداء. ولقد أخطأ بعض الروائيين(61/33)
القصد فغلَّبوا جانب الحركات والإشارة، على جانب الكلمات والعبارة، فوجهوا التأثير للعيون لا للقلوب، وهيأوا الرواية للتمثيل لا للقراءة. وفاتهم أن العمل المسرحي مؤلف من الكلام والحركات. فلا الممثل متكلم لا غير كالمحدث، ولا هو متحرك لا غير كالخيال الشمسي، وإنما الكمال أن يُعنى بالطريقين جميعاً، فما كان من العمل قوياً مادياً علمياً أدته الحركة، وما كان منه جليلاً دقيقاً عميقاً كآثار العادات وصور الأخلاق وتباين العواطف وتضارب الأهواء وتعارض المنافع شرحته العبارة. فظواهر الغيرة والاشمئزاز والغضب تستطيع الحركات والملامح أن تؤديها واضحة جلية، ولكن تحليل القلب البشري وهو سر الجمال في أدوار ديدون واريان وفدر وهرميون لا يضطلع به إلا البيان المعجز. وهل يعلق بذهنك من القطعة الفنية بعد تمثيلها غير مواقفها الشعرية القوية التي أوحاها اليراع فانتقشت في لوحة ذهنك؟
إن العمل الروائي يتجه إلى العين أو إلى القلب تبعاً لطبيعته وملاءمته للبلاغة أو التصوير، ولكن الأثر الذي يحدثه في النفس عن طريق الأذن أهدأ وأبطأ ولكنه أبقى وأعمق، أما ما يحدثه فيها عن طريق العين فهو قوي فجائي سريع، ولكنه قريب الغور قليل البقاء، لأن الأذن إنما تنقل الفكرة وهي نامية ولود، والعين إنما تنقل الإحساسة وهي جدباء عقيم. ذلك إلى أن القطعة إذا قامت على الحركات فحياتها ومماتها رهن بقوة المسرح وقدرة الممثل. ولك فيما تشهده على المسارح المصرية من روائع الفن الغربية دليل قائم على صحة ما نذهب إليه، فإن بعض المتعسفين من أدعياء الكتابة ينقلونها نقلاً لفظياً، فيهدمون فيها ركن البلاغة وهو عمادها الأقوى، فتثير الضحك وهي فاجعة، وتستوجب الهزء وهي رائعة!!
ولا يقعن في بالك أنا نريد أن نضع من قدر الحركات أو ننكر أثرها في الفن، فإن ذلك ليس في حسابنا ولا هو مفهوم من كلامنا، وإنما نريد أن يوفي الكلام حقه من العناية أيضاً حتى تقوم الرواية على قدميها فلا تسير عرجاء ولا شوهاء
بقي علينا أن نعرض لمسألة دقيقة خلقتها فوضى الأدب في مصر، ودعوى كل أديب حق التشريع لهذه اللغة الأسيفة، وانصراف القادرين من الكتاب عن الأدب المسرحي انصرافهم عن كل جليل مثمر. تلك هي لغة الرواية! فقد يزعم بعض الكاتبين أن لغة المسرح(61/34)
المصري يجب أن تكون العامية تثبيتاً للون المحلي وتحقيقاً لشرط الإمكانية. وكل ما يمكن أن يقولوه تأييداً لمذهبهم إن العامية لغة الأشخاص التي سايرتهم في كل سن، ولابستهم في كل ظرف، فعبرت عن خلجات نفوسهم ونبضات قلوبهم، وأنها حملت خلاصة تجاربهم وثمرات قرائحهم من لطيف الكنايات وبديع الأمثال وبليغ الحكم، وأنها مرآة لبيئتهم انعكست عليها صور حياتهم ومظاهر معيشتهم، وأنها أكمل دلالة وأسهل إبانة عن التصورات الجديدة التي تخرج من أعماق النفس أو تدخل في ثنايا الحوار. ذلك كلام وجيه لا غبار عليه ولا نكير فيه، وما يسوغ في رأينا أن ننقصه وقد قررناه من قبل. ولكن ليقولوا لنا متى طبق قانون الإمكانية بنصه على اللغة والأسلوب؟ إن الناس في كل زمان وفي كل مكان لا يتكلمون في الواقع كما يجعلونهم يتكلمون على المسرح. وهذه جميع المآسي ومعظم الملاهي قديمها وحديثها مكتوبة بالشعر الرصين، ذي اللفظ المنضد والأسلوب الفخم، فهل يزعمون أن أشخاصها كانوا في الحقيقة يتحاورون بالشعر ويتجادلون بالمجاز؟ أم يزعمون أن لغة راسين وشكسبير وهوجو وجوت وهي نموذج البلاغة للكتاب، وموضوع الدراسة للشباب، كانت لغة الشعب الذي كانوا يمثلونه أو يمثلون له؟ وإذا جاز لهم أن يجعلوا الفرنسيين والإنجليز يتكلمون على المسرح المصري بلسان عربي، فلم لا يجوز لنا كذلك أن نجعل خاصة المصريين بل عامتهم أيضاً يتكلمون بلهجة عربية فصحى، وهي أقرب إلى هؤلاء منها إلى أولئك؟ ليفرضوا أن العامية لغة أجنبية ننقلها إلى لغتنا العربية، وليغضوا على تلك القذاة الضئيلة ابتغاء رقي اللغة ونهضة الأدب وتعليم الشعب. إن الفن الحقيقي أبدى خالد، ومن المحال أن تخلده لغة جيل واحد، ولهجة قطر واحد، لأن العامية تتغير من جيل إلى جيل، وتختلف في قطر عنها في قطر. ونحن لا نريد أدباً مصرياً فحسب، وإنما نريد أدباً عربياً يمثل حضارة مصر وثقافة المصريين، وينقلهما إلى الأقطار النائية، والأجيال الآتية
على أن أحداً من الناس لم يقل بأن المسرح لابد أن يعرض الحقيقة جرداء عارية، بل المعروف أن من واجبه أن يحسنها بالخيال ويزينها بالكذب، وفي ذلك التحسين والتزيين سحره وجاذبيته، والمشاهد ذاهب إليه وفي نفسه أنه سيخدع، وهو راض بهذه الخديعة ما دام فيها لذته وفائدته، ومن قواعد المسرح أن الصدق يتوخى فيما يؤثر في الذهن والنفس(61/35)
من الأفكار والعواطف، أما ما يؤثر في السمع والبصر فلا بأس فيه من الكذب؛ فشكل الأسلوب من النظم والنثر والعامي والفصيح كشكل المسرح من المناظر والستائر والأضواء والأصباغ، تعرف الآذان والعيون أنه صناعي مختلق، ولكن الأذهان والنفوس لابد أن تتأثر لما يقع في الإمكان من المواقف والعواطف والأخلاق والعادات
إن المسرح مهبط البيان ومورد البلاغة وطريق النفوس إلى الجمال والخير والحق، فليس من غايته التأثير واللهو، وإنما يعمد إليهما تخفيفاً لثقل الحكمة عن النفوس كما يساغ الدواء الشديد المرارة بالسكر أو العسل. فإذا لم يخرج المشاهد من المسرح وهو أوفر علماً وأرجح حلماً وأحسن حالاً من قبل أن يدخل فقد أخطأ المسرح غرضه وضل طريقه. ولعمري كيف يستطيع أن يرفع النفوس في مراقي الكمال، إذا لم يترفع هو عن حقارة الحياة العامية، ويصور للناس المُثل العليا من الجمال والفضيلة فيرتفع الشعب إلى سمائه، بدل أن يسف هو إلى حضيضه ودهمائه؟ وعافني نشدتك الله من احتجاجك على بنجاح الرواية الفلانية وهي مكتوبة باللغة العامية، فإن نجاح الرواية لا يقدر بما تستدره من المال والدموع، وإنما تقدر بما يبقى في نفسك منها بعد أن يسكن الممثل وينسدل الستار
إن الضوء الباهر يبقى أثره في العين ملياً بعد اختفائه، والنغم الجميل يرن صداه في الأذن طويلاً بعد فنائه، وكذلك الفن الساحر يستولي على نفسك وحسك حيناً بعد انتهائه. فهل تجد الأمر في هذه الروايات كذلك؟ أم الحقيقة المخجلة أن أكثر هذه القطع تسود في ليلتين وتمثل في ليلة، ثم تذرو أوراقها عواصف البلى والعدم؟!
يتبع
(الزيات)(61/36)
مثل أوربي لعرفان الجميل!
منزلي هو منزلك
(قصة مقتبسة عن تمثل آراء هؤلاء الأوربيين الذين يعيشون بيننا، ويأكلون خبزنا ثم يجزوننا عن الكرم لؤماً وعن المعروف نكراناً)
- الشرق، آه على الشرق!
همست الفتاة بهذه الكلمات، وقد رأت رودلف فالنتينو في رواية الشيخ.
وكان بير ازناي المدرس في تجهيز فالاندر قد طوّحت به الحاجة مرّة إلى مصر فكان معلماً في المدرسة العلمانية الفرنسية في (النزهة؟) ولبث فيها عشر سنين. ثم عاد إلى فرنسا منذ عشرة أشهر، وليس في جيبه شروى نقير، ولم يربح إلا حكايات وتجارب حملها معه من الشرق، فلما سمع مقالة الفتاة اغتنم الفرصة فقال:
- الشرق يا سيدتي؟ هل تحبين أن أقصّ عليك حادثة وقعت لي فيه، إنها مأساة هازلة عن الصداقة العربية. كان في مدرستي الفرنسية عشرون معلماً أوربياً ومعلم واحد عربي، عربي قحّ، ذو وجه أسمر مستطيل، يلبس القفطان والجبة الواسعة، ويبدلهما كل يوم بلون جديد. وهو مدرس للغة القرآن - الإجبارية في مصر - ومعرّض دوماً لاحتقار الأساتذة الأوربيين الذين يرون أنفسهم أرفع منه، فلا يتنزلون لمصاحبته.
أما أنا فكنت أحييه التحية المعتادة لا أبالي بسخط زملائي ودهشتهم، ولا بدهشته هو المسكين الذي ما كان يجرؤ على رد تحيتي إلا بابتسامة عريضة، ونظرات ملؤها العطف والاحترام، ولا تمتد صحبتنا إلى أكثر من هذا، لأنه لا يعرف كلمة من الفرنسية، ولأنني أجهل العربية إلا المائة كلمة التي لابد منها للسير في الشارع مثل عندك هنا عربجي اسمع فين شارع فؤاد.
ثم شاء القدر أن تلتقي مرّة في شارع فؤاد صباح يوم من ديسمبر حار ملتهب كأنه الظهيرة من أغسطس في فرنسا، وكان معه ابن عم له أقل عروبة منه، له إلمام بالإنكليزية، إلا أننا لم نكن نتفاهم إلا بصعوبة، وكان علينا أن نفترق، ولكن رغبتي في تعرف الحياة الشرقية وضجري من الوحدة أبقياني معهما. والفضل في بقائي لابن عمه هذا. . وللغة الإنكليزية (وأي إنكليزية؟.) ولم تكن إلا أيام حتى كنا أصدقاء.(61/37)
كان طيب القلب، بسيطاً محبباً، ولكن فيه شيئاً من العنجهية والجفاء، وكنا نذهب كل خميس وكل أحد إلى النزهة جميعاً: أنا وهو وابن عمه، فنزور معاهد النزهة ومتاحفها في عربة أو سيراً على الأقدام.
وكان ابن العم كثيراً ما يتخلف عن الموعد، هرباً من مهمته الشاقة في الترجمة بيننا، فنبقى وحيدين، وتصوري موقفنا إذن: نسير جنباً إلى جنب ونحن ساكتان، نتبادل النظرات في ابتسامة ساخرة حزينة! ونسلم على المارة، وكنت قد تعلمت التحية العربية، وهي الإشارة باليد إلى الجبهة والشفة والصدر، رمزاً إلى أن الصداقة تشغل العقل بالتفكير، واللسان بالنطق، والقلب بالعاطفة، وكان صاحبي يتعلم بالفرنسية، ولكنه كان يحفظ مقطعاً واحداً في كل ساعة بعد أن أردده عليه مرات ويعيده علي محرفاً، فأشكره بابتسامة.
وكنا إذا بلغنا مسجداً ودخل هو وقفت أنا على الباب أستشعر الزهو بأنني رومي لا كالأورام، وأنني صديق الشيخ، وأنني تشرفت بالوقوف في عتبة قبور الصالحين.
وكان مساء السبت، وكنت في المدرسة، فدنا مني أحد الطلاب وأعطاني رسالة من الشيخ، مكتوبة بالفرنسية باللغة التي يحسنها طالب صغير، ففتحتها فإذا فيها:
(يا صديقي الغربي العالم الفاضل، تفضل بالمجيء غداً إلى داري الحقيرة، لنتناول الغداء معاً، واعلم أن منزلي هو منزلك. . .)
منزله منزلي! ولكن من الظهر إلى الساعة الرابعة، وطعامه طعامي، وكنت وا أسفاه مضطراً إلى الإجابة، لأن أي رفض مني يكسر هذا القلب الطيب، ولا أنسى ما حييت تلك الأكلة المنحوسة وهي التي يسمونها (الملوخية)، ولا أنسى كيف يأكلون من غير صحاف ولا شوكات، إنما يغمسون خبزهم جميعاً في صحفة واحدة، وكان على أن آكل بأصابعي هذه الدجاجات المحمرة التي أكرمني بها، وجعل نصيبي منها اثنتين، وقد ذهبت من الدعوة رأساً إلى الفراش، فلبثت ثلاثة أيام مريضاً!
ورأيت في هذه الزيارة عقيلة الشيخ سافرة، لأن المعلم كالقس ليس كالرجال، ولا ضرورة للتحجب دونه (هكذا. . .)
وتوثقت صداقتي مع الشيخ، فعرفني بالقاهرة وحياتها، ولم يكن غنياً، غير أنه لم يمكني من فتح كيسي مرة واحدة حينما أكون معه، بل يكون السابق إلى دفع الحساب المطلوب، كنا(61/38)
نزور الأهرام، ونجول في القاهرة وهي أشبه بعشرين مدينة مجتمعة منها بمدينة واحدة، بل هي عالم لا بد لرؤيته من ثلاثة أشهر. أما أنا فقد لبثت فيها مع الشيخ مدة قصيرة وإن أنس ذكراها لا أنس وقوف القطار بنا يوماً في المحطة، ورؤيتنا قريب الشيخ ينتظرنا ومعه البلح والبرتقال والموز المصري الصغير وغير ذلك مما لا أدري من أين أتى به، وما كنا نتحدث إلا بالابتسامات والجمل المقطعة والإشارات، كأن صداقتنا صداقة صامتة تتكلم فيها القلوب لا الأسنة، ولما اعتزمت العودة إلى فرنسا، في منتصف تموز، ودعني على المحطة وألقى عليّ نظرة كلها حب وعطف، وقال لي: إلى الملتقى! ولا تنس أن منزلي هو منزلك. ثم اختفى بين الجموع وإنساني البحر الواسع، وشواطئ الوطن المحبوب كل ما عداهما.
فقالت الفتاة:
- أهذا هو الشرق؟ يا ضياع أحلامي!
فهز الأستاذ كتفيه، وعاد يقول بصوت خافت: وبعد أمد من رجوعي عينت مدرساً في مدرسة ماجيدي الثانوية في الألب، فلبثت فيها مدة، وتزوجت فيها، وكنت جد مشغول بأمور المدرسة، حتى أنه لم يكن في وقتي ساعة واحدة خالية، وإذا أنا ذات يوم أفاجأ بكتاب عليه خط رديء، وطابع من طوابع (النزهة)! فإذا هو من الشيخ، وإذا هو يخبرني بمجيئه مع امرأته وولديه ليقضي عندنا عدة أشهر، كأنما جاء يتقاضاني بدل ما أحسن إلي، وتصوروا وقع هذه المفاجأة على امرأتي التي أغمي عليها من شدة الدهشة، ولم أر أبداً من الانغماس في هذه المهزلة، ولا سيما وأنهم أبحروا دون انتظار جوابي.
نزلت إلى مرسيليا أنتظرهم، فوجدت شيخاً غريباً في سراويل متهدلة وطربوش، ومعه امرأة ضخمة، على رأسها منديل أسود والى جانبها بنت صغيرة. واتفق أن تفتحت أبواب السماء يومئذ فهطل المطر غزيراً، حتى شعرنا أن السماء قد هبطت على الأرض فدخلنا مقهى قريباً، ولكن البنت ارتاعت منه، فملأت الدنيا بكاء ولم تشأ السكوت، وأخيراً أزفت ساعة القطار فركبناه إلى ماجيدي، والناس يرمقونني يحسبون أني أنقل إلى البلد (سركا) غريباً. وبلغنا المنزل، فكان استقبال زوجتي بارداً، وجاءت ساعة الطعام، فلم تألف أيديهم الأكل بالشوكات والصحاف، وانتشروا بعد الطعام في قاعة الأكل وفي الغرف المجاورة، وبكى الطفل بكاء شديداً، فبكت زوجتي أيضاً، ووقعت أنا في حيرة بينهما، فلعنت الشرق(61/39)
ومن شاد بذكره.
ولما كانت صبيحة الغد سمعت وأنا نائم أصواتاً غريبة تمتزج بأحلامي، فصحوت فإذا بزوجتي ترقص أمام السرير، وتغني وتصيح: لقد سافروا يا بيير، لقد سافروا!. .
ونظرت فإذا الشيخ قد ترك لي بطاقة صغيرة، فيها جملة واحدة عربية، حملتها إلى من يترجمها لي، فإذا فيها: - وداعاً! لقد علمت الآن أن منزلك ليس منزلي.
دمشق:
(ذو الطاءين)(61/40)
ناحية خفية من نواحي السودان
القعب
مصحة ومصيف جميل
بقلم أبو القاسم محمد بدري
القعب واحة مشرفة بين صحراء محرقة، يشتد بها الحر ويعنف فيها القر، تكاد تصعب فيها السكنى وتستحيل الإقامة، لولا أن الله وهب لنا تلك الواحة البهيجة، والروضة النضرة، فتوقت إليها السكنى وطيبت بها الإقامة وحببت فيها الحياة.
ليس القعب واحداً في عدّه، ولا شاسعاً في بعده فهو عدة واحات متقاربة الأطراف مختلفة الأسماء، متحدة المنفعة والدواء، سُميت بالقعب في مجموعها، ولكن لكل قعب منها اسم خاص به، كقعب اللقية وهو أشهر، والسواني، وأبو نمل، وما إليها، مما يبلغ العشرة أو ينيف عدّاً.
يشغل القعب جزءاً كبيراً في الجزء الغربي من مديرية دنقلا، ويبعد عن النيل بضع ساعات، ويسافر إليه بالمطايا نظراً لقلة السيارات في هذه المدينة، ولكنها ستعم في المستقبل القريب كل أنحائها ولا سيما بعد أن انتظم طريق المواصلات بالسيارات بين مديريتي دنقلا وحلفا. ولا يفوتنا أن مشقة السفر هذه لا تمنع الوصول إليه على متون الإبل بأجرة زهيدة وزمن وجيز، وخصوصاً إذا توجه المسافر إليه من مدينتي دنقلا وأرجو، أو من إحدى القرى المنتثرة بينهما على طول الطريق، ويبتدئ موسمه عادة في آخر فصل الصيف في الزمن الذي يقرب أو يتم فيه نضج البلح الذي له - على ما يزعم البعض - أثر كبير في الشفاء وصحة البدن، ويصنع منه شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، منه ما هو سائغ الطعم لونه أصفر مشرب بحمرة، حلو لذيذ لا يسكر، يسمى (الشربوت) ومنه ما هو مُر المذاق حائل اللون يسكر في الغالب، ويطلق عليه (الدكاي) وكلا النوعين مفيد للصحة، محدد للنشاط، مقو للبدن.
والقعب بلدة طيبة المناخ غنية خصبة الثرى وافرة النعيم، يؤمها البدو صيفاً ويرحلون عنها شتاء ينتجعون الكلأ والماء، ويطلبون الغنى والثراء من أكف المرضى وأيدي السائحين(61/41)
الذين يفدون إلى القعب زرافات ووحداناً من أقصى جهات السودان وبعض البلدان الأخرى. يقاضونهم أجراً على عملهم ومسكنهم، ويمنحونهم فيضاً من نعمهم. وفضلهم، على أن هاته الأجور وتلك المنح لا يأخذونها من جراء الكراء وتملق النزلاء وحب الاستجداء، كلا، ففطرة البدوي الصميم تأبى عليه أن يتطلب الغنى والجاه من سبل كهذه، لولا أن حاجات العيش الملحة ومطالبه الكثيرة ترغمه على أن يتقبلها كارهاً طائعاً إذ لا سبيل لعيشه بدونها؛ وهو لسمو نفسه وكرم يحتده لا يقبلها إلا بعد أن يرهق بدنه في هناء ضيفه وخدمة نزيله لما رُكّب فيه من طباع الكرم والنجدة والمروءة، وبعد أن يقدم له قرى فاخراً وهدايا جميلة من حمر النعم، وطيب الغنم، ومشتهى الأزاذ، وهي كل ما تصل إليه يد ذلك البائس الكريم، والبدوي إلى ذلك لطيف المعشر بسام الثغر، سريع البدار إلى لقاء الزوار، يستقبلهم بطلاقة ويحييهم يبشر، ويستدبرهم بكرم غيب وطيب ذكر، تلمح في وجهه سمات السذاجة المشوبة بالجهل، وآيات الوداعة الممزوجة بالأنفة والإخلاص مع بساطة عيش وهدوء نفس، وصبر جميل على معاناة النوائب والشدائد.
وهؤلاء البدو لا يختلفون - عادة - عن باقي العرب في أساليب العيش والسكنى وطرق التفكير والتدبير في شئون الحياة، فعيشهم تغلب عليه البساطة، يعتمدون في غذائهم على الألبان واللحوم وبعض التمر والحبوب، أما مسكنهم فحقير متواضع، مصنوع من القش والوبر وخشب النخيل، إلا أنه مع تواضعه وحقارته نظيف الحجرات بارد الظل والنسيم، بديع الشكل. ويعتمد البدو كثيراً في جلب قوتهم على الاحتطاب، وهو أهم موارد رزقهم لفقر بلادهم المجدبة التي لا تصلح أن تكون إقليماً زراعياً مع خصوبتها لندرة الأمطار وصعوبة الري.
وأرض القعب رملية ناصعة تصمد طوراً حتى تكون نجداً، وتهبط آخر حتى تنحدر إلى وهد أو سهل فسيح تنتشر فيه هنا وهناك كثبان الرمل المتقاودة، وقد قامت فوقها أشجار النخيل الباسقة حانية أغصانها الخضراء المورقة فوق سفح الوادي وحول حافة الينبوع، ومن بينها تتدلى أقناء البلح موشاة بصفرة الذهب وحمرة العقيق، فيتكون من ذلك منظر طبيعي جميل تتجلى فيه الطبيعة بأجلى معانيها وأروع صورها الفاتنة الساحرة. هناك تحت ظلال النخيل وفوق الرمال وحوالي الينبوع، حيث تخلد النفس إلى الراحة وتنعم بالهناء(61/42)
والصفاء، تحسن المتعة وتطيب المسرة ويلذ الأنس، بل هنالك وحده يصفو العيش، وتسعد الحياة ويحلو المقام. .
وكأني بك وقد جلست عند الأصيل فوق ربوة عالية تسرح الناظر وتمتع الخاطر بمشهد الغزالة عند الغروب، وهي تستل أشعتها الشاحبة من أحضان الوادي الكئيب بعد أن زفت إليه تحية الوداع، وبعدما ألقت عليه نظرة ساجية تفيض بالألم الممض والحزن العميق. أو نهضت من فارشك مبكراً فألفيت الشمس تهبط من خدرها باسمة مشرقة تشيع الحرارة وتنشر الضياء، وتبعث الحياة في جوف ذلك المهمة القفر، وبين جوانب الطبيعة الصامتة، فيستيقظ الطير من سباته الطويل ويصدح بأغاريد الصباح بنغمة سحرية أخاذة وصوت عذب حنون. وهنالك حول الينبوع النمير وبين مدارج السبل ترى فتيات البدو السذج في ثياب فضفاضة وقد بدون سافرات الوجه في صورة مليحة تسحر اللب وتستهوي القلب، لم تعبث بها يد الحضارة الفاسدة، ولما تنل منها مظاهر التجمل الخادع والتكلف المزري الشائن، خرجن يردن الماء وبأيديهن الجرار وهن ينشدن نشيداً يدوياً ساذجاً في لفظه حلواً في معناه، فتمتزج تلك الأغاريد العذبة بهاته الأناشيد السحرية فتتولد منها نغمة قوية مشجية هي كل ما في تلك الطبيعة الجافة الغليظة من موسيقى رائعة، وصوت رخيم. في المساء، وما أسعد سويعات المساء في ليالي القمر البيضاء، إنها والله داعية أنس ومسرح لبانة، ومذادهم، ومعهد سرور. وما أجمل تلك السويعات التي تنفقها في السمر مع بدوي ساذج وديع، يجلس معك ويسمع منك، ويتحدث إليك بأحاديث ممتعة خالية من الحقد والحسد والنميمة. أو تلك التي ترتاد فيها مواطن الرقص في سبيل لذة بريئة، ووراء متعة طاهرة، حيث ترى الفتيان يصفقون والفتيات يغردن، والكل يقف في حركة مستديرة ومن بينهم الراقصة النحريرة، ترقص على توقيع الدف ونغمات العزف، وتتمايل في حركات ريفية واهتزازات بدوية تستلهمها من فن الطبيعة، وتستوحيها من جمال الطبيعة، ولكنها مع سذاجتها وبساطتها بديعة، لأنها صدرت عنها عفو الخواطر، وبدرت منها دون تكلف في الظاهر، وقد يستمر هذا الأنس حتى مغيب القمر ومطلع السحر، وفي النهار تشغل الوقت في عملية الدفن، وماذا عسى أن تكون عملية الدفن هذه؟ وهل هي نوع من أنواع التسلية أو وسيلة من وسائل المعالجة، أو ضرب من ضروب الرياضة؟ وهل اتخذت المعالجة(61/43)
بالقبر طريقة للحياة؟ وليس بعجيب أن تنشأ من القبر الحياة كما قد يطغى على الحياة القبر.
إن عملية الدفن هذه ضرورية للقعب ضرورة (الحمام) للمصيف و (الدفء) للمشتى. ولا أعدو الحقيقة إن قلت إن قلت إن أثرها في جلب المنفعة ودفع الداء أبعد من ذلك وأسمى: فهي بمثابة العلاج الناجع والدواء الوحيد لشتى الأمراض التي استعصى علاجها بالعقاقير والأدوية المختلفة. وكم من مريض لصب جلده من الهزال، وارتهكت مفاصله من الإعياء، وطحطته العلل والسقام، وكان إلى الموت أقرب منه إلى الحياة، جاء إلى القعب ومكث به قليلاً فاستحال هزاله سمناً وضعفه قوة، وتجددت فيه قوى الحياة المضمحلة، وانتعش فيه روح الأمل البائد. وأنواع الأدواء التي يمكن علاجها في القعب عديدة، منها ما هو عضال يصعب علاجه، وما هو وسط يخشى استفحاله، وما هو يسير يسهل استئصاله. وهي في الغالب كل أنواع الأمراض العصبية والروماتزم (داء المفاصل) وبعض العلل الباطنية المزمنة، والشلل بنوعيه الجزئي والعام. . الخ. ومهما يكن من شيء، فعلاجها أمر موكول إلى التجربة والاستقصاء أكثر منه إلى شيء آخر. على أنه قد يشفى منها الكثيرون بعد ما يقطع الأمل في شفائهم. ولا يزال الأطباء في حيرة من أمر القعب لم يهتدوا حتى الآن إلى معرفة حقيقته معرفة تامة تستند إلى البحث العلمي الصحيح، وقد اكتفوا من ذلك بالإشارة إلى جودة هوائه وصحو سمائه، وأثرهما الحسن في نفوس المرضى، وإسداء النصح لمن يستشيرهم في الذهاب إليه من ذوي العاهات والأمراض. وللناس أقوال متضاربة وإشاعات عديدة يتناقلونها ويروونها عن القعب. فمنهم من يذهب في القول إلى أن مصدر قوته السحرية هذه إنما هي عذوبة الماء، ويزعم أناس أنها جودة الهواء، ويجزم فريق آخر أنها أكل الأزاذ والشواء. وعلى كل حال فحقيقة القعب لا تزال غامضة حتى يستجليها البحث والاستقصاء، ويتولى ذلك نخبة من شبيبتنا المثقفة تحت إشراف الحكومة وبتعضيد الشعب. وبالمناسبة ألفت نظر الجميع إلى وجوب العناية والاهتمام بشأن القعب، وذلك طبعاً بتوفير كل معدات الراحة والرفاهية، وتشييد المساكن الفخمة، وتنظيم طرق المواصلات حتى يسهل السفر إليه والإقامة فيه، فيكثر بذلك عدد المصطافين والمرضى، وحينئذ نحصل على مورد لا بأس به من موارد الرزق نصلح به أحوال البلاد خصوصاً هذه المديرية البائسة في مثل هذه الأزمة الطاحنة(61/44)
ولعلك تشتاق إلى معرفة طريقة الدفن، ولشرحها نقول في إيجاز: تشق الأرض على شكل أخدود أو حفرة أو قبر أو كما شئت فسمه، ثم ينصب حول هذا القبر المزعوم سياج من أعواد النخيل يسقف ويغطى من الجوانب بأغطية كثيفة تحجب أشعة الشمس عنه، ويكون في شكله أشبه شيء بالتابوت، ويترك حتى يبرد أديمه، ثم يأتى بالشخص المراد دفنه، وبعد أن يجرد من جميع ثيابه يضطجع ويهال عليه التراب ويدفن كل جسده ما عدا رأسه ووجهه، ويستمر على هذه الحال بضع دقائق يضيق خلالها نفسه، وتسري في جسمه حرارة خفيفة في بدء الأمر تأخذ في الاشتداد كلما طال مكثه، ويشرع في إخراجه متى بدت عليه مظاهر التعب والضيق. والمدة المحددة لدفنه تستغرق ما بين عشر دقائق وخمس عشرة دقيقة. وبعد خروجه من ذلك القبر يكون مغبر الصورة معفر الوجه والبدن ملبداً بالتراب الممزوج بالعرق في شكل يثير منك الضحك والعجب وبعد الانتهاء من الحمام يشعر بخفة في بدنه وسرور يغشى نفسه، ويلتهم بعد ذلك طعامه بشهية ونهم عجيبين، وتكرر هذه العملية مرة أو مرتين أو مرتين في اليوم على حسب استطاعة المرء ورغبته، وهي تفيد - على الوجه الأصح - جميع لأمراض العصبية والروماتزم والفالج، ولعل مفعول هذه الحرارة المكتسبة من الدفن يقرب في الغالب - على ما أظن - من مفعول الحمام الشمسي في معالجة هذه الأمراض. ويبتدئ زمنه المناسب من الساعة الثامنة صباحاً والساعة الخامسة في المساء في الزمن الذي تلائم فيه الحرارة الجسم. والدفن ضروري للمرضى. أما ما عداهم فعلى سبيل التسلية والرياضة، ومع ذلك فمنفعته لا يستهان بها في الفتك بالأمراض عند بدئها وإزالة الضعف والنحافة وتقوية العضلات والبدن.
كلية غردون (سودان)
أبو القاسم محمد بدري(61/45)
مصطفى كمال
سيرة حياته
للكاتب الإنجليزي آرمسترونج
تلخيص وتعليق حنفي غالي
هنالك في الجي العثماني بسالونيك في بيت حقير متهدم، قائم فوق أحد التلال في ظل حصن عتيق، رأى الطفل مصطفى نور الحياة عام 1881، في عصر كانت الإمبراطورية العثمانية تعالج سكرات الموت من جراثيم الأمراض الخلقية والاجتماعية التي تنخر فيها، وتكاد تلفظ النفس الأخير، لولا أن قضت السياسة الأوربية في ذلك الحين أن يبقى (الرجل المريض) ليذود الدب الروسي عن حياته، ويحول دون امتداد طغيانه حتى يوافيه أجله المحتوم. فكأن العناية الإلهية قد أرسلت الطفل العظيم في هذا العصر لتبصره بموطن الداء، وتهيئه لتأدية رسالته لإنقاذ أمته.
كان أبوه علي ريزا رجلاً مغموراً نزح من ألبانيا إلى سالونيك طلباً للعيش وسعياً وراء القوت، فابتسم له الأمل فيها نوعاً ما، واشتغل كاتباً بإدارة الدين العثماني، ولم يكن مرتبه الضئيل ليقوم بمطالب أسرته، فزاول تجارة تعينه على الحياة.
أما أمه زبيدة فكانت كسائر النساء العثمانيات، قعيدة البيت لا ترى نور الشمس إلا من قوته، ولا تغادره إلا في رفقة أحد محارمها لتعود ذويها أو جيرانها الأقربين، فظلت في ظلام دامس من الجهل بشئون العالم الخارجي لا تلم حتى بمبادئ القراءة والكتابة، ولكنها كانت ربة أسرة بحق تعرف كيف تدبر أمورها بحزم، وتسوسها بنظر بعيد، في مزاجها شيء من الحدة، وفي محياها سيماء النبل والسيادة. يمتزج في عروقها الدم الألباني بالدم المقدوني، وكانت أقرب إلى الرجولة في بنيانها، مديدة القامة، قوية الصحة، وقد آثرت الحياة بجوار الريف الذي أحبته ونشأت في أحضانه، فظل لها خلق أهله من إيمان عميق ووطنية صادقة، واستمساك بالقديم، وعقل رجيح صائب الحكم في مسائل الحياة الأولية، وكانت ككل امرأة عثمانية تهب نفسها، وتصفي ودها لزوجها وأطفالها الثلاثة الذين توفى أحدهم في طفولته، ولم يبق سوى مصطفى وأخته مكبولا.(61/46)
كان مصطفى هزيلاً نحيلاً، وكان طفلاً في سنه، كهلاً في خلقه. فلست ترى فيه جذل الأطفال ومرحهم. بل وقار الرجال ورزانتهم، وكان عصي النفس عسير القياد، كثير التمرد على أوامر والدته، فإذا همت بتأديبه ثار واهتاج، وكان قليل المخالطة للداته من الأطفال مستقلاً بنفسه عنهم، اعتزل أبوه منصبه فأراد أن يعلمه الاتجار ليساعده ويعينه، ولكن أمه أرادت أن تفقهه في دينه، فأرسل إلى مكتب ليتعلم مبادئ القراءة والكتابة ويستظهر القرآن. ثم إلى مدرسة شمس أفندي حيث بدت بواكير نبوغه.
وفي ذلك الحين فجعت الأسرة بموت عائلها، فأضحت في فقر مدقع، وبؤس ملح، فلجأت زبيدة إلى أخيها فأوى إليها وعطف عليها، واحتضن مصطفى وأخرجه من المدرسة وأبقاه معه، وناط به رعي الماشية وإطعامها، ومال الفتى إلى هذا اللون من الحياة واطمئن إليه، إذ كسب منه قوة في بنيته ومتانة في صحته، ولم تزده الأيام إلا حباً له وشغفاً به، وإباء لكل ما يرمي إلى انتزاعه منه، ولكن الأم الحكيمة لم تنزل على هوى الفتى الغرير، فأغرت أختاً لها بالإنفاق على تعليمه وكان لها ذلك. ألحق فتانا مرغماً بإحدى مدارس سالونيك، فألفى البون شاسعاً بين حياته الأولى الحرة الطليقة، وبين حياته الجديدة السجينة المقيدة، فأضحى دائم الثورة كثير التبرم بنظام الدرس، ولكنه ظن كما كان شديد الإعجاب بنفسه، كثير التفاخر على أقرانه، قليل المخالطة لهم حتى في ألعابهم المدرسية، فإذا هموا بمضايقته والتحرش به، ناضلهم بشدة، وردهم على أعقابهم مدحورين، فاشتد بغضهم له ونفورهم منه وإنكارهم لكبريائه، حتى اشتبكوا في شجار معه وشكوه إلى أحد المدرسين فصفعه صفعة أطارت صوابه، ففر من المدرسة وعاد إلى ذراعي أمه، وعبثاً حاولت أن تعيده إليها رغم توسلها بالترغيب حيناً وبالإرهاب أحياناً، فاقترح خاله إرساله إلى المدرسة الحربية بسالونيك، لأن التعليم فيها لا يكلفهم من النفقات كثيراً ولا قليلاً، وهي تحت رعاية السلطان عبد الحميد، فإذا ظهر تفوق الفتى ارتفع إلى مرتبة ضابط، وإلا التحق جندياً بالحرس السلطاني. فمستقبله على أي حال واضح مأمون. وما كانت الأم لترضى بهذا أو تميل إليه، إذ كانت تريده فقيهاً على غرارها في التقى والورع، ولكن فتانا الثائر نال منه الاقتراح كل منال، وأخذ منه كل مأخذ، فما كانت نفسه الطموح لتقنع بما تريده الأم. بل هو يريد أن يرتدي حلة الجندية التي يرتديها تربة أحمد ابن أحد جيرانهم، ويخطر بها غادياً(61/47)
رائحاً في زهو وإعجاب، ويمني نفسه بأن يكون ضابطاً يصدر أوامره فيتلقاها مرءوسوه بالإذعان والخضوع، ولم يطل بفتانا الانتظار بل عول على نفسه في تحقيق غايته. فلجأ إلى ضابط متقاعد من معارف أبيه، ورجاه أن يكون ولي أمره لدى المدرسة المذكورة. ثم تقد م للامتحان فجازه، والتحق بها دون أن تعلم أمه من الأمر شيئاً، وهكذا أرادت الأم شيئاً وأراد الله شيئاً آخر، فكانت إرادته جلت قدرته أرحم بالفتى وبأمته من الأم الورعة الزاهدة، وفي المدرسة وجد الفرصة التي هيأتها له الأقدار في عالمها المحجوب، فبرزت مواهبه رائعة في الرياضة وسائر العلوم الحربية، أما خلقه فظل كما هو، بل زاد مزاجه حدة وطبعه تمرداً، يثور لأقل نقد يوجه إليه، أو لوم يلقى عليه، وكان يحب دائماً أن يكون قبلة الأنظار ومدار الحديث، ولم يكن أبغض إليه من أن يرى نفسه خاملاً ذاهباً في غمرة الإهمال، إذ كان شديد الشعور بشخصيته، قوي الإحساس بارتفاعها عن أقرانه، حتى كان يرد من حاول الاتصال به منهم قائلاً (أنا لا أريد أن أكون واحداً من أمثالكم) ويمضي في سبيله قدماً لا يلوي على شيء، كذلك كان لرغبته الملحة في التفوق والتبريز، شديد الحسد لكل من بذه منهم، ولعلك تعجب حين تعلم أن هذا الفتى الجافي الخلق الفظ الطباع يلعب الغرام برأسه، فيرى دائماً يخطر في أبهى ملابسه وأزهاها، مداعباً للفتيات مغازلاً لهن، محاولاً الاستيلاء على قلوبهن، ولكن لم العجب؟ أو ليست هي الطبيعة تأبى إلا أن تبرز العظيم في جميع أدوار حياته نمطاً شاذاً؟
ومهما يكن من أمر فتانا فقد نبغ نبوغاً لفت نظر أحد أساتذته وأسمه مصطفى، فأختاره مشرفاً على إحدى الفرق الصغرى ووكل إليه إلقاء بعض الدروس، ولتشابه الاسمين ميز الأستاذ تلميذه بإضافة اسم كمال، فأصبح يعرف منذ ذلك الحين باسم مصطفى كمال، وقد تخرج في المدرسة في سن السابعة عشرة. ثم أرسل إلى المدرسة الحربية العليا بموناستير
(يتبع)
حنفي غالي(61/48)
مشهد ومكة
بقلم الأستاذ أمين الخولي
المدرس بكلية الآداب
سارت الرسالة في عددها التاسع والخمسين، بكلمة ناقدة للأستاذ عبد الوهاب عزام، عن كتاب (جولة في ربوع الشرق الأدنى) للرحالة محمد ثابت، وقد عناني من هذه الكلمة تفضيع الأستاذ عزام خطأ الرحالة في قوله عن شيعة إيران: إنهم يفضلون مشهداً على مكة فنشطت لكتابة هذه الكلمة لا إنصافاً للناقد والمنقود، فهذا شيء قد يكون عند غيري حسابه، إنما عنيت بذلك لثلاث: إحداهن حب الحقيقة، وإنها لحقيقة أن تبتغى لذاتها، ويجمل إلى الناس تصحيح وخالفها تطوعاً. وثانيتهن: أن في هذا الحديث عن تفضيل الشيعة مشهداً على مكة مثلاً شيقاً طريفاً للباحث النفسي عن فرق ما بين العقيدة والفكرة، وصلة ما بين العقل بمنطقه، والاعتقاد بسلطانه. كما أن أمثال هذه الحقائق النفسية هي الأصول القوية لتفسير التأريخ تفسيراً صحيحاً صادقاً. والثالثة: أننا حين نعمل جادين، وندعو محبين الوحدة الإسلامية، وتقريب ما بين الشعوب الإسلامية على تنائي ديارها، واختلاف أنظارها، يجب أن نعرف الحقائق على ما قد يكون بها من قسوة أو شدة، إذ لا غناء في إنكارها، ولا خير لنا في تناسيها أو نسيانها.
قال الأستاذ الناقد (وأفظع من هذا كله قوله عن إخواننا شيعة إيران، إنهم يفضلون مشهداً على مكة، وكيف يعقل أن أمة مسلمة شديدة الغيرة على دينها تعتقد أن الحج إلى مكة فرض، وقاعدة من قواعد الإسلام، كيف يعقل أن هذه الأمة ترى زيارة مشهد افضل من الحج إلى مكة؟. ربما بالغ عامة الإيرانيين في تعظيم مشهد وغيرها من المزارات الشريفة، كما يبالغ عامة المصريين في تعظيم مسجد سيدنا الحسين، والسيدة زينب، والسيد البدوي، وإبراهيم الدسوقي: ولكن عمل العامة لا تفسر به عقائد الأمة. وهذه كتب الشيعة بين أيدينا تنطق بخلاف ما زعم الكاتب) (ص1399 عدد 59 من الرسالة).
والأستاذ عزام خير من يعرف أن القياس قليل الجدوى وضائع الأثر في مثل هذا المقام. فما لا يعقل وما يعقل قد يُعتقد ويهرب معتقده من الحوار فيه أو الجدال حوله، بل يهرب من طلب النفس تفسيره؛ على أن الأستاذ لو أنصف لذكر من كتب الشيعة التي بين أيدينا(61/49)
شيئاً بعينه يفند هذا الزعم، أو يحتسبه على العامة، فيرد عليهم بدعتهم، كما ترد على عامة المصريين بدعمهم في تعظيم المشاهد المصرية والقبور، ولكنه لم يفعل فلم يرح القارئ.
وكيف يكون الأمر إذا كانت كتب الشيعة تقرر هذا التفضيل المكاني بقسوة وعنف؛ وتجعل مكة وبيتها الحرام ذنباً متواضعاً ذليلاً مهيناً غير مستنكف ولا مستكبر لكربلاء، وإلا هوى الله بها في نار جهنم!!. وهذا عالم فارسي شيعي من المحدثين قد أشرب روح العصر واعتداله أو تساهله إن شئت، وهو مع ذلك ينقل عن قديم كتبهم هذا التفضيل؛ بل يعد المروى فيه متواتراً عندهم!! ذلك العالم هو الشيخ أحمد بن عبد الله الكوزه كناني، صاحب روضة الأمثال في تفسير آيات التمثيل بالقرآن الكريم، وكتابه مطبوع في فارس ومنه نسخة في دار الكتب المصرية.
عقد الشيخ فصلاً (في فضيلة أرض مكة وفضائل بيت الله.) الخ ص187. واستطرد في خلاله بفصل عنوانه (في أن أرض كربلاء أفضل من الكعبة) ص 188 وفيه يقول ما نصه: -
(أقول قد ورد في أخبارنا الخاصة أن أرض كربلاء أفضل من الكعبة مثل ما في البحار عن. . . عن أبي عبد الله. . . قال إن أرض الكعبة قالت منْ مثلي: قد بني بيت الله على ظهري، يأتيني الناس من كل فج عميق، وجعلت حرم الله وأمنه؛ فأوحى الله إليها أن كفي وقري، ما فضل ما فضلت به فيما أعطيت أرض كربلاء إلا بمنزلة الإبرة غرست في البحر، فحملت من ماء البحر، ولولا تربة كربلاء ما فضلتك، ولولا ما تضمنته أرض كربلاء ما خلقتك ولا خلقت البيت الذي افتخرت به، فقري واستقري، وكوني ذنباً متواضعاً ذليلاً مهيناً، غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء، وإلا سخت بك وهويت بك في نار جهنم) إلى مرويات أخرى في هذا المعنى آخرها قول الرسول عليه السلام (يقير ابني في أرض يقال لها كربلاء هي البقعة التي كان عليها قبة الإسلام التي نجى الله عليها المؤمنين الذين آمنوا مع نوح في الطوفان)، ونختم هذا الفصل بقوله (والأخبار في هذه المعاني في خصوص كربلاء متواترة من أرادها فعليه المجلد الثاني والعشرون المسمى بمزار البحار).
فليس الأمر من مبالغة العامة، ولا من عمل العامة الذي لا تفسر به عقائد الأمة ولا نكر على الرحالة، ولا فظاعة فيما أخبر به.(61/50)
أنا لا أقول بصحة هذه المرويات بل تواترها، وليس يعنيني في شيء مطلقاً أن يستمسك إخواننا الشيعة بها؛ بل أحب ألا يكون لذلك أثر حتى تتضاءل الفروق بين المسلمين، ويهون التقارب، لكن ما لا نحبه قد يواجهنا صارخاً به الواقع.
واكتفى بهذه الكلمة قائلاً مع الأستاذ عزام في ختام كلمتي: إنني لراج أن يتم التعارف بين الأمم الإسلامية، حتى لا يكتب بعضها عن بعض إلا عن علم وروية، وتثبت وانصاف، والله ولي التوفيق.
أمين الخولي(61/51)
اليابان تلقي على الشرق درساً
للأستاذ محمد مختار المحامي
جاء في الصحف اليومية منذ عهد قريب أن مصانع اليابان أخرجت سيارات زهيدة الثمن في طاقة كل شخص أن يقتنيها وهي تريد أن تغمر بها أسواق العالم، وقد كان لهذا الخبر رجة عنيفة في جميع الدول، فقد أوقعها في حيرة شديدة إزاء هذا التيار الجارف الصادر من أقصى الشرق.
منذ نصف قرن تقريباً استيقظت اليابان من أحلامها، وبخطوات العمالقة اقتحمت الهوة التي تفصلها عن الحضارة الغربية الحديثة فتركت وراءها قروناً غطت فيها في سبات عميق، ورفعت الحجاب عن أعين الشرق ونبهته إلى الحقيقة التي غابت عنه، وأظهرته على باطل ما يلقي إليه المستعمرون من أن الشرق يعيش في الماضي، وأن من المحال إحياءه وجعله يسير في طريق التقدم لأن وجهه دائماً إلى الخلف، وقد قبلنا هذا الاتهام وآمنا به، وفعل فينا فعل التنويم المغناطيسي إلى أن أتت اليابان ففكت طلاسم هذا السحر، وكنا قد نسينا أن نشأة الفلسفة والعلم والآداب وكل أديان العالم لم تكن إلا في الشرق، فكيف تتهم أراضيه بالعقم وعقوله بالخمود، وهي التي قد حملت مشاعل الحضارة وقت أن كان الغرب يتخبط في الظلام؟
لقد دهش العالم أيما دهشة حين حطمت اليابان الحواجز التي كانت تحجزها عن العالم بين يوم وليلة، ثم خرجت منتصرة أيما انتصار، فقد فعلت ذلك في وقت قصير كالوقت الذي تغير فيه الثياب، لا الوقت الذي توضع فيه أسس حضارة جديدة، وقد أظهرت أصدق مظاهر قوة الخصب والقدرة على العيش في هذه الحياة الجديدة، فقيل إن هذا الانقلاب ليس إلا مسخة من مسخ التاريخ، أو فقاعة كفقاقيع الصابون كاملة في استدارتها ولونها، جوفاء في قلبها ومادتها. ولكن اليابان أثبتت أن تطورها لم يكن لحظة دهشة قصيرة، أو فرصة من فرص مد الزمن وجزره.
الحقيقة أن اليابان قديمة وحديثة في آن واحد، فهي لم تترك تراث الشرق القديم وثقافته التي تدفع الإنسان إلى البحث عن القوة والسعادة الحق في أصل نفسه والتي توحي إليه برباطة الجأش عند مواجهة الخسائر والأخطار، وبالتضحية التي لا تحسب حساباً للكسب(61/52)
وبتحدي الموت. فاليابان زهرة من أزهار اللوتس تنمو بسهولة ورشاقة محافظة على الأعماق التي منها نمت، ومع ذلك فقد تسلقت اليابان إلى آخر ما وصل إليه الغرب وصارت تعج فيها الحضارة الحديثة بكل مسئولياتها.
إذن الحياة والقوة كائنتان في الشرق، ولكنهما كامنتان تغطيهما قشرة ميتة يجب أن تزول، لأن الاحتماء بالميت موت، واحتمال أخطار الحياة حياة.
ولا يظن أحد أن اليابان قد وصلت إلى ما وصلت إليه بالتقليد، لأننا لا نستطيع تقليد الحياة والقوة لأمد طويل، بل إن التقليد مصدر من مصادر الضعف، فهو يعوق طبيعة الأمة الحقيقية، لأنه كالباس هيكل عظمي لإنسان ما، إهاب إنسان آخر.
لقد استمدت اليابان غذاءها من الغرب، ولكنها لم تستمد منه حيويتها، بل احتفظت بروحها، وهذه هي المعجزة التي بهرت أعين العالم، فقد علمت عن حق ويقين أنه لا يمكن قبول المدنية الغربية على علاتها، تلك المدنية التي لم تحل بعد أعظم مشاكل الوجود كالتنازع بين الفرد والدولة، وبين العمل ورأس المال، وبين الرجل والمرأة، والتنازع بين شره الكسب المادي والحياة الروحية للإنسان، وبين أطماع الأمم المنظمة والمثل العليا للإنسانية، تلك المدنية التي تتغنى بالحرية، ثم تأتي بأقسى ضروب العبودية، تلك المدنية التي يفقد الإنسان تحت تأثير سحرها كل ثقة في المثل العليا التي جعلته من قديم الزمن إنساناً.
والحق يقال إن النفس الشرقية بما انطوت عليه من قوة روحية وحب للبساطة واعتراف بالواجبات الاجتماعية عليها أن تحكم العقل الشرقي إذا أرادت أن تشق طريقاً وسط هذه المعمعة الغربية، وعليها ألا تلقي وراء ظهرها تراث الأجيال الماضية كما تلقي الملابس البالية، إذ أن هذا التراث في دمها وفي نخاع عظمها وفي تكوين لحمها، وفي ألياف مخها، وهو يكيف دون أن تشعر ودون أن تريد كل ما تضع عليه يديها بتكييفه الخاص.
ومن تراث الماضي وغذاء الحاضر المستمد من الغرب عليها أن تخرج خلقاً جديداً لا مجرد تكرار، ولتكن لنا من اليابان عبرة
إنّا لنصغي إلى ما يقوله الغربيون من أن مدنية الشرق ليست إلا فلسفة لاهوت، فإن الأصم يرى في اللعب على (البيانو) حركات أصابع مجردة عن نغم الموسيقى، وهم لا يعرفون إننا قد بنينا تقاليدنا على أساس من الحقائق التي تدخل الطمأنينة والسلوة في قلب الإنسان،(61/53)
والتي تجعل وجدانه دائم اليقظة والحياة.
لقد واجهت الشمس المشرقة العالم فكانت الأولى في الشرق في هذا السبيل، ولقد أشعلت الأمل في فؤاد الشرق فحق عليه أن يقدم لها الثناء، ومن يدري فقد يكون هذا بشيراً بأن يعم النور الخالد هذا المكان الذي بزغت فيه شمس الآدمية لأول مرة.
محمد مختار المحامي(61/54)
ليلى العفيفة
للمرحوم الأستاذ محمد عبد المطلب
. . . لعل أسمى مراتب العظمة الإنسانية في الحياة الدنيا هي تلك الكلمة الصغيرة التي تفني الأجيال وهي باقية، وتتقلب الأزمنة وهي ثابتة، وتخفت الكواكب والأقمار وهي متلألئة متوهجة، والتي اسميها؛ ويسميها الناس معي (. . الخلود. .)!!
نعم. . إن أعظم ما في الحياة الدنيا وأبقى ما فيها من خير هو الخلود من غير شك. . وإذا قلنا إن الخلود هو أمتع ما في الحياة من جمال وروعة، فلأننا نريد أن نقول أيضاً إنه صعب المنال عسر الإدراك. لا يتشرى إلا بأعز ما في النفس البشرية، وأغلى ما فيها. . وهي الحياة. . فمن ضحى بحياته، أو كان على استعداد لتضحيتها في سبيل سعادة غيره ورفاهيته ورفع الظلم عنه نال الخلود لأنه أناله لغيره، أو حاول أن ينيله إياه - إن قصر أجله عن إتمام ذلك -
ومن ضحى بوقته وراحته في سبيل تثقيف الغير وتعليمهم، وتهذيبهم ونشر نور العلم بينهم. لن يفنى وإن فني جسمه، ولن يُنسى وإن اختفى شخصه، ورجع إلى الأرض التي منها نشأ وعليها تربى.
فالحياة والذكرى ليستا وقفاً على الجسوم الحية المتحركة. . وإنما هي رهينة تلك الأعمال الجليلة التي أداها أصحابها، وعلى تلك الخدمات الصادقة التي بذلوا في سبيلها راحتهم وشبابهم، والتي لن تفنى حتى يفني الفناء، ولن تزول حتى تتبدل الأرض غير الأرض والسموات.
فكم من حي لا تعرفه إلا نفسه، وكم من ميت بلى عظمه وفني جسمه، ومع كل فهو يملأ القلوب بحبه، ويملأ الدنيا بذكره واسمه.
ومن هؤلاء الخالدين المرحوم الأستاذ (محمد عبد المطلب) الذي تعرفون عنه أكثر مما أعرف، وتقدرون أعماله الجليلة كما أقدر، وتؤمنون بعبقريته الفذة كما أؤمن، وتعترفون بشاعريته الخصبة السامية كما أعترف، وتفخرون بدرره اللامعة - التي حلى بها جيد العربية - كما أفخر.
لهذا فإني أعتقد أنكم تودون أن تقرءوا له شيئاً لتمتعوا أنفسكم بسحر هذا الشاعر البدوي(61/55)
الذي سيدهشكم الآن بأسلوبه الحضري الرقيق، وبتفكيره المصري الذي نعجز عنه ونحن فيه.
وقبل أن أعرض للأستاذ المرحوم شيئاً أود أن أقول: إنه كان من أسبق الشعراء إلى تأليف الروايات، فله في دار الكتب من عشرين سنة مضت روايتا (المهلهل) و (امرئ القيس) وله أيضاً عدة روايات وضعها للمدرسة السعيدية وقت أن كان مدرساً بها:
وكأن المرحوم شعر بحاجة المسرح المصري إلى روايات عربية سليمة التفكير رقيقة التعبير، فوضع له في سنة 1909 رواية (ليلى العفيفة)، ولكن حظ المسرح التعس حال دون ذلك لأن الأستاذ لكثرة أعماله في مدرستي دار العلوم والقضاء الشرعي لم يستطع إتمام القصة، وحاول في أواخر أيامه أن يتمها ولكن الموت القاسي عاجله، فحرمنا من تراث أدبي نافع. على أننا سنعرض الجزء الذي كُتِب من (ليلى العفيفة) بنت لكيز، وهي التي حاربها الزمن على يد أبيها بضع سنوات، فأذاقها مُرّ الحياة وشقاء العيش، وذل الأسر. . . ولكن الله جلت قدرته أنالها سعادتها مضاعفة، ورد عليها فتى قلبها وبطل أحلامها جزاء وفائها وإخلاصها. . .
ولعل القارئ يدهش من هذا ويعجب، إذ كيف يحارب رجل ابنته ويذيقها الألم الممض، ويمنع عنها سعادتها ورفاهيتها. والمعروف أن الآباء يتسابقون إلى جلب السعادة لبناتهن؟!
ولعله لا يدهش ولا يعجب عندما أقول له: حقاً إن الآباء يفعلون هذا وأكثر من هذا، ولكنهم في مسألة واحدة، بل وفي لحظة واحدة يهدمون حياة بناتهن، ويسقونهن كأس الموت مترعة، ويقاومون شعورهن، ويتجاهلون إحساسهن، ويدفعونهن إلى الهاوية باسم المحافظة عليهن. فترى الرجل منهم عندما يعلم أن ابنته تهوى إنساناً وتحبه، وتود من صميمها أن يكون رجلها. تراه في هذه اللحظة قد تنمر وركب رأسه الأخرق، ووقف بينها وبين من تحب رافضاً زواجهما، آبياً جمعهما؛ بل يزوجها ممن يحب هو ويريد، محتجاً بأنه أعرف منها بمصلحتها! فتكون الطامة، وتكون النهاية السوداء في أغلب الأحايين!.
وهذا ما حصل فعلاً مع ليلى بنت لكيز فإنها كانت مخطوبة لابن عمها البراق، وكان الحب يجمعهما برباطه المقدس. فرأى لكيز بعقله الأخرق، وحماقته المجنونة أن يفسد هذه الخطبة، وأن يقبل خطبة عمرو بن ذي صهبان لابنته طمعاً في ماله وشجاعته!. . فأنظر(61/56)
إليه وقد زاره أحد بني كليب لينهاه عما فعل حرصاً على البراق ورحمة بابنته التي تحبه وتهواه:
كليب: ما لأبي ليلى حزيناً مطرقاً؟
لكيز:
أرقني شغل بليلى أرقا ... جمّع من همي ما تفرقا
عمرو بن ذي صهبان لما حققا ... أن لها في الحسن جدا صدقا
وفي المعالي غاية لن تلحقا ... بادر في خطبتها مستبقا
كليب:
رام ابن ذي صهبان صعب المرتقى ... إن سمع البراق أو تحققا
بأن عمراً باب ليلى طرقا ... أرعد كالليث لنا وأبرقا
وطبق الأرض علينا طبقا
لكيز:
ولكن عمراً بالأيادي سبقا ... قلدنا نعماءه وطوقا
يجود كالغيث علينا غدقا ... إذا بنا صرف الليالي أحدقا
كليب:
لكنه ليس من البراق ... أحق بالطاهرة النطاق
نقية الأعراض والأعراق ... وهو فتى الجيش لدى التلاقي
وما لبكر غيره من واق ... إذ تأخذ الخطوب بالخناق
وتلعب الأرواح بالتراقي ... في يوم هول مظلم الآفاق
حتى إذا يئس كليب هدده بقوله:
إياك يا ابن العم أن تجيبا ... فإن فيه اللوم والتأنيبا
وإن ليلى - إن تكن أريبا - ... تأبى سوى ابن عمها خطيبا
وهو وان كان لها حبيباً ... فما أتت نكراً ولا عجيبا
فلا يزال السيد الأريبا ... في قومها والبطل المهيبا
يكفيهم البأساء والكروبا(61/57)
فيغضب لكيز من قول كليب ويستأسد قائلاً:
ويحك! هل ليلى ترد أمري ... برد هذا وقبول عمرو؟
رضيتُ عمراً أن يكون صهري ... ما حجتي في رده؟ ما عذري؟
أليس في منعيه عين الغدر ... ولو أبى البراق إلا هجري؟
فليجر في قطيعتي ما يجري
وقد أنصف كليب كل الإنصاف حينما ذكره بأنه غدر بابن أخيه فقال له:
يا أبا ليلى كفى. فالحقوق. أنكرتها. ذلك الغدر
وأحاديث الجفا. والعقوق. كررتها. حلوها مر
غضب البراق. مر لا يطاق. وله العذر
ولكن أترى لكيزاً يأبه لهذا ويهتم به؟ كلا وإنما يمعن في قسوته، ويسترسل في شدته، ويأبى إلا تنفيذ ما رآه. ولو كان ما رآه هو الخطل بعينه، فاسمع إلى ابنته ليلى وقد عرفت من أمرها ما عرفته: فأخذت تشكو إلى الله ظلم أبيها، وتعدد مناقب ابن عمها، وتبثه لواعج غرامها. ثم تعرج على خطيبها المكروه فتتمنى من الله أن يقبض روحها قبل أن تزف إليه، فتواسيها صديقتها سلمى فلا تستمع إليها، ولا تزداد إلا أنيناً، وإلا حسرة على بعاد براقها.
ليلى:
رب! كم تبلو وتمتحن ... إن قلبي شفه الحزن
كلما قلت انجلت محن ... عاودتني بعدها محن
سلمى:
هل أتى عن ركبنا نبأ ... محزن، من بعد ما ظعنوا؟
ليلى:
لا، ولكني أرى جللاً ... عاجلاً يسعى به الزمن
يا ابن عمي إن لي كبداً ... قد يراها بعدك الشجن
إنما البراق خير فتى ... فيه بنت العم تفتتن
صده عني أبي سفها ... وأبي في رأيه أفنن
وأتى عمرو ليخطبني ... فأذلتهم له المنن(61/58)
ليت شعري ما الذي خبأت ... لي من أحداثها اليمن
ليتني يوم أزف له ... يحتويني قبله الكفن
سلمى:
إن في الأيام معتبراً ... والليالي بيعها غبن
اصبري ليلى! ولا تهني ... إن عزم الحر لا يهن
ليلى:
ارحمي يا سلم والهة ... غلقت من قلبها الرهن
وارحمي البراق فهو بنا ... قد جفا أجفانه الوسن
وكما قلنا من قبل أن أرواح العاشقين متجاوبة تشعر بشعور واحد، وتحس بإحساس واحد وفي وقت واحد. فإننا نستطيع أن نقول هنا إن براق أحس ما أحسته ليلى، وشكا مما شكت منه، فقال لصديقه عقيل:
براق:
يا عقيلا، يا عقيلا، ... ما ترى الليل طويلا؟
ما لنجم الليل لا يبغي عن الأفق أفولا؟
عقيل:
طال ليلى وهو أولى ... بعد ليلى أن يطولا
براق:
بالأسى قد عيل صبري
عقيل:
أي نعم، صبرك عيلا
يا ابن روحان رويدا ... واصبر الصبر الجميلا
براق:
إن يحل دوني فإني ... عن هواها لن أحولا
يرتضى مثل ابن ذي صهبان من ليلى حليلا
إن ليلى يا عقيل ... لا ترى مني بديلا(61/59)
ظلموني ظلموها ... أغضبوا السيف الصقيلا
أنا إن لم أسق عمي ... بالردى كأساً وبيلا. . .
فيخاف عقيل من هذا التهديد ويخشى عاقبته. . ويشفق للكيز أن يقتله ابن أخيه فيقول لصديقه بخبث:
عقيل:
أوَ ترضى يُتْمَ ليلى؟
فيستفيق براق حينما يسمع اسم ليلى، وتأخذه عليها الشفقة والرحمة، ويخاف كرهاً إن هو نفذ تهديده. . فيكرر صديقه الخبيث قوله:
عقيل:
أوَ ترضى يُتْمَ ليلى؟
براق:
لا ولا، حسبي ذهولا
قطع السيف يميناً ... تترك العم قتيلا
والفتى من كان للأهل ... ين مسماحاً وصولا
غير أن براق يرى أن من المستحيل عليه معاشرة أهله، وقد حطموا قلبه وفتتوا كبده فيقول:
غير أني لا أرى عن ... أرضكم إلا الرحيلا
يا لقومي للنوى زم ... وا عن الحي الحمولا
والى البحرين في ... صبح غد، حثوا الرعيلا
حتى إذا كان الصباح رحل براق إلى اليمامة ليأسو جرحه، وينسى ما هو فيه من عذاب وألم. فهل ترى الأقدار ساعدته؟ أم أنها كانت تعد له من مخبآتها ما أثار شجونه واستفز رجولته وألهب حميته وهو العربي الصميم؟
نعم إن الأقدار حاربته وعذبته، فإنه ما كاد يستقر في اليمامة حتى علم أن قومه في حرب ضروس مع طيئ وخزاعة. فماذا يعمل؟ أيذهب ويحارب معهم حتى ينتصروا وهم هم الذين عذبوه ومزقوا قلبه. .؟ أم يتركهم لأعدائهم يسومونهم سوء العذاب يذبحون أبناءهم(61/60)
ويستحيون نساءهم؟ إنه إن فعل هذا فقد لحقه العار وركبه الذل، وناهيك بعار العرب وذلهم، على أنه مع هذا وذاك لم ينس أن يتهكم ويعتد بقوته فيقول:
أتاني أن قومي جد فيهم ... من الحدثين شر مستطير
أناخت بينهم حرب عوان ... ضروس للردى فيها زئير
وما أدري أيذكرني لكيز ... إذا استعرت وطار لها زفير؟
وهل هو بابن ذي صهبان يغني ... إذا عميت على القوم الأمور؟
وما إن ينتهي براق من قوله حتى يخبره خادمه بضيوف يطلبونه، وسنرى الآن من أخلاق براق ما يدهشنا، وما يثير إعجابنا.
الضيوف:
نزلنا بأبي نصر ... سلام يا أبا نصر
دعوناك إلى أمر ... فهل تصغي إلى الأمر؟
بنو عمك قد جاروا ... ومدوا سبب الشر
وقد خانوك من قبل ... بمحض البغي والغدر
فخالفنا وأيدنا علي ... هم واسع في النصر
نحالفك على منشئ ... ت في بر وفي بحر
براق:
ذروني لست أترك آل قومي ... وأرحل عن فنائي أو أسير
بهم ذلي إذا ما كنت فيهم ... ولكن لي بهم شرف خطير
أأنزل بينهم إن كان يسر ... وأرحل إن ألم بهم عسير؟
وفي أثر هذا القول الذي خيب ظن القوم يخرجون وهم يتميزون غيظاً ويحترقون ألماً. بل وفي إثره أيضاً يعلم براق بموت أخيه وانكسار قومه، وأسر أغلبهم وفيهم (ليلى) فيطير عقله، وينخلع قلبه، ويسافر تواً إلى قومه ويجمع شملهم وينظم عقدهم. ويشاء الله أن ينتصر انتصاراً حاسماً وأن يشتت أعداءه، ويمزقهم شر ممزق ثم يرجع بحبيبته ليلى ليستأنفا سعادتهما وحبهما، وهو يقول:
يا ليل قومك عنك قد نكلوا ... يا خجلتي يا بئس ما فعلوا(61/61)
أفأسلموك وأمعنوا هرباً ... وتخطفتهم دونك السبل؟
أم كانت الجلى فما ثبتوا ... وعن الحريم لهولها ذهلوا؟
أهلوك لا ميل ولا كُشُف ... عند اللقاء، إذا هم نزلوا
إن يخذلوك فرب معترك ... عميت به النجدات والحيل
هذه عجالة رأينا من الخير للأدب أن ننشرها للناس لتكون ذكرى طيبة للأستاذ الخالد، ولتكون نواة صالحة، وقدوة حسنة لمن يود أن يكتب الشعر العربي الرصين للمسرح المصري. رحم الله الفقيد وأسكنه مساكن الشهداء والصالحين.
محمد السيد المويلحي(61/62)
من طرائف الشعر
وحي المصيف
ليلة البدر
للشاعر الوجداني أحمد رامي
غبرت أعدّ ليالِي العُمُر ... وأرتقب البدر حتى ظهرْ
وفي القلب أمّنية للقاء ... وفي النفس عاطفة للسمرْ
أسوق إليك حديث الشجون ... وأشكو إليك صروف القدر
وأرسل شعري على مِزهري ... فأسمع منك حنين الوتر
تعالَيْ إلى زورق سابح ... نشقُ عليه عُبَاَب النَّهَرْ
ونبصر بدرَ الدجى زاهياً ... يرصّع أعطافه بالبِدَر
وفي الشاطئين حسان المغاني ... تجلّت لأعيننا كالصوَر
سجا الليل إلا اصطفاق الشراع ... وأبلس إلاّ حفيف الشجر
بقلبي شكاةٌ تكتمتها ... وقد كتم القلب حتى صبر
توالى المغيب وكان الغروب ... وعيني على الموعد المنتظر
ظللت أودع شمس النهار ... وأستقبل الليل بين الذّكر
خلا الكون إلا نجىّ الفؤاد ... تناغى مع الموج لمَّا هدر
هنا البحر أقبل آذيُّه ... هنا النيل طالَعه وانحدرْ
تلاقى الغريبان بَعد النوى ... وضِنّى الذي ارتجى ما ظهر(61/63)
تعالي
له أيضاً
تعالي نسعد الروح الحزينا ... فقد قرّت نواة الوجد فينا
حرمت هوى ترضين إلفاً ... وعزّ عليّ من أهوى خدينا
كلانا ناشد قلباً حنوناً ... وكلّ يحتوي القلب الحنونا
تعالي كفكفي الدمع السخينا ... فكم أرسلت بالدمع الجفونا
عرفتِ الحزن في فجر الليالي ... وذقت من الأسى فيه فنونا
وملت عن الهوى ونأيت عنه ... فذكرنا اللقاء وما نسينا
بكيت مودة وبكيتُ شجواً=ومن يبك العهود يكن أمينا
فواسيني ترى قلبي حنوناً ... وباكيني ترى دمعي هتونا
أحمد رامي(61/64)
من الأدب الغربي
الضجر
للشاعر الإنجليزي هنري لنجفلو
ترجمة محمد متولي بدر
يا قَدَما من سُرى الليالي ... ورحلة العمر والسنين
أدمتكِ أحجارها ففاضت ... فجاجها بالدم الثخين
تجرين بالعبء - والأماني ... تفرُّ - موصولةُ الأنين
ها أنا أوشكت أن أوافي ... لبيتك الهادئ الأمين
هناك ننسى الذي رعانا ... ومضَّنا، في حمى السكون
لشدَّ ما أرهقت فؤادي ... يا قدمي رحلةُ السنين!
ويا يداً، لا أراكِ إلا ... كثيرة الوثب والنضال
آناً مليكاً ومستبداً ... وتارة موطئ النعال
الجود يُعْليكِ بالعطايا ... والفقر يدنيك بالسؤال
أنا الذي خضت مستميتاً ... معترك العيش بالمقال
يا طالما رحتِ في شقاء ... تَشكيَن من كثرة الأمالي
كم أنا يا عدتي حزين ال ... فؤاد من دائكِ العضال!
وأنت يا قلب يا صغيري ... يا دائم الخفق والوجيب
أراكَ تهتاج بين هذي ال ... ضلوع كالثار الغضوب
كأنما أنت - والأماني ... بعيدة - ملتَ للغروب
يا عجباً! هل رماك رامٍ ... غير أمانيك بالخطوب؟
نار كنار الغضى وجمر ... متقد ثائر الشبوب
الآن فاهدأ فسوف نرضى ... وتنطفي شعلة اللهيب
وأنت يا روح، يا حياتي ... يا هبة الرب والسماء
هبطتَ من عالم خفي ... أنقى وأصفى من الضياء(61/65)
يا روح، هذي سحائب العم ... ر كالأواذيَّ في الفضاء
تُمْعُن في سيرها وراحت ... تنتهب النور في ظَمَاء
يا لي من العمر! كيف ولَّى ... وانحدرت شمسه ورائي؟!
يا لي من الموت! كيف حانت ... واقتربت ساعة اللقاء؟!
محمد متولي بدر(61/66)
العلوم
بعض الأسماك الغريبة بالبحر الأحمر
للدكتور كرسلاندا
مدير محطة الأحياء البحرية بالغردقة
لم تمض بضع سنوات قليلة على إنشاء الجامعة المصرية حتى فطنت إلى أهمية البحر الأحمر من الوجهة البيلجية. فأقامت على شاطئه الغربي محطة الأحياء البحرية بالغردقة لمساعدة البحاث من العلماء على دراسة هذا البحر واستنباط أسراره. وهنالك في هذه المحطة يمكننا أن نشاهد دون ما عناء تلك الحيوانات الغريبة التي تختلف كثيراً عن حيوانات البحار الشمالية والبحر الأبيض المتوسط، والتي لم يرها حية إلا نفر قليل من العلماء تكلفوا في سبيل ذلك من المال والعناء الشيء الكثير.
ويكفي أن تجرف قاع البحر - قريباً من مرسى المحطة حيث تغزر الحشائش - بجرافة صغيرة كي تحصل على نحو من ثلاثين نوعاً من الأسماك الصغيرة، أغلبها غريب في شكله وعاداته. ومن هذه الأسماك فرس البحر والأسماك الأنبوبية الفم ولا يبدو فرس البحر لأول وهلة من الأسماك، لولا زعانفه الصغيرة. وقد فقد زعنفته الذنبية فليس يفيد الذنب في العوم، وإنما يلتف حول الحشائش التي يعيش بينها فرس البحر فيمسك بها. أما الأسماك الأنبوبية الفم فبرغم جسمها العضوي الشكل الكثير الحراشيف، فهي أشبه بالأسماك العادية من فرس البحر ويمكننا أن نرى جلياً حلقة الاتصال بينها وبين فرس البحر. فهنالك واحدة من الأسماك الأولى ذات ذنب قابض قد فقد زعنفته، فإذا أخذت هذه السمكة وثنيت رأسها بزاوية قائمة ونفخت بطنها حصلت على فرس البحر. . كل هذه الأسماك تشابه الحشائش البحرية في لونها، وتحمل نقطاً حمراء قاتمة أو سمراء تشبه تماماً صدأ الحشائش التي تعيش بينها.
وتبلغ مشابهة الأسماك للحشائش أقصاها في نوع ماصة الفم
فهذا النوع يبلغ في الطول ثمانية سنتيمترات، ومع ذلك تصعب رؤيته جداً بين الحشائش التي يعيش بينها، حتى خارج الماء. ويخيل لناظر الصورة أن هذه السمكة سهلة الرؤية(61/67)
لشكلها الغريب، ولكن جسمها الرقيق ذا اللون الأخضر وزعانفها الصدرية العريضة والنقط السوداء المنتشرة عليها، كلها تكسبها شكلاً يحول كثيراً دون رؤيتها الحشائش خارج الماء. فكم تتعذر رؤيتها في مكانها الطبيعي؟
وهناك جنس آخر لا يمُتّ إلى الأسماك الأنبوبية الفم بصلة يعرف بالأمفسيل يشبه الأولى في فمها الأنبوبي الماص، وتغطي جسمه حراشيف كبيرة ملتصق بعضها ببعض، تكسب السمكة صلابة في الحركة - وجسم أسماك هذا الجنس مفرطح رقيق صلب، فهو أشبه شيء بحد السكين، ولا ينتهي بالذنب كالمعتاد، فقد تحول هذا من مكانه الأصلي وتقدم قليلاً نحو الجهة البطنية. وستدل من زعانفها الصغيرة على بطء حركتها - ولا يمكننا أن نتكهن كيف يعيش هذا السمك الغريب، إذ يصعب الحصول عليه حياً أو على الأقل في حالة جيدة، وذلك بالرغم من صلابة حراشيفه التي هي بالنسبة إلى حجمه أقوى من درع التمساح. والمفروض كما وصف بولانجيه في كتابه (المربي المائي) أن هذه الأسماك تتغذى على الحيوانات المائية الدقيقة تمتصها بفمها الأنبوبي.
وتعطينا الأسماك الأنبوبية الفم مثلاً من الأمثلة النادرة بين الأسماك، إذ يحتفظ السمك ببيضه حتى يفقس، وبيرقاته حتى تتطور وتصبح قادرة على الأخذ بأسباب الحياة. والذكر وحده هو الذي يرعى النسل، فله كيس بطني تضع الأنثى ببيضها وتثبته ببعض على شكل كرة، تمسكها بفمها فتسد فتحته حتى ليستحيل الغذاء، والغريب أنها مع ذلك تتنفس - ومن طبيعة الأسماك الكبيرة أن تأكل الصغيرة، سواء أكانت من نوعها أم لا. وهنا نرى جلياً ظهور غريزة تخالف تماماً الطبيعة العامة للأسماك، وهي تشبه في ذلك غريزة بعض الأقراش الكبيرة يقال إنها تأوي صغارها في فمها - ولا يمكننا أن نقول إن مثل هذه الأسماك يمكنها أن تتعرف صغارها، فإن عقل الحيوانات لم يصل إلى الدرجة الدنيا التي يمكنه معها تمييز صغارها إلا في ملايين السنين بعد أن بلغت الأسماك نهاية تطورها المخي.
وعائلة السكوربينويد كلها أسماك قبيحة المنظر، لها أشواك حادة في كل مكان يمكن أن يظهر فيه الشوك. وكلها ضارة إذا أمسكت، وبعضها خطر يهدد الحياة. إذ أن للأشواك غدداً سامة - ومن أفراد هذه العائلة أسماك صغيرة تعيش بين الحشائش المائية أيضاً، ونحصل(61/68)
عليها بالجرافة. وهذه أدنأ أفراد العائلة وأقلها تخصصاً. فنشأت من ناحية أسماك منتفخة كثيرة التجاعيد والنتوءات (شكل3) هي أقبح المخلوقات، يبدو التمساح بجانبها حيواناً جميلاً وديعاً. وقد بلغت هذه الأسماك حد مشلبهة الصخور المرجانية في شكلها ولونها حتى لتكاد تستحيل رؤيتها في موضعها الطبيعي إذا وطئها إنسان عاري القدم أو بحذاء رقيق أصابه ألم مبرح قد ينتهي بالموت، وهيغير منتشرة هنا، وأن كان يوجد منها نوعان. وشيء واحد نحمده لها، ذلك أنها تلوذ بالفرار إذا أوجست خيفة أو لمحت إنساناً يسير على الشعاب، فإذا هرعت سهل رؤيتها لوضوح زعانفها الصفراء الفاقعة، في أحد النوعين، وخطوط عريضة بيضاء في ذنب النوع الآخر، فيها تحذير من شرها.
وذهب التطور من الناحية الأخرى إلى سمكة تعرف هنا بالجنّخ - (شكل4) - وهي وأن شابه جسمها جسم الأسماك العادية ملاسة، إلا أن لها رأساً مجعداً كبقية أفراد عائلتها. والزعانف في هذه السمكة تأخذ شكلاً غريباً، إذ تطول أشعتها كثيراً وتصير أشبه شيء بريش الطيور، وليست كزميلاتها تهاب أعداءها، وتحاول التخفي بمشابهة الصخور والأعشاب، بل تبدو جلية واضحة بألوانها الزاهية الجميلة. فجسمها مخطط أسمر وأشهب، بينما ريشها الطويل ملون بالأحمر والأسمر والأبيض. وتكثر الجنانخ (جمع جنخ) هنا - وقد اعتدت أن أزور صخرة مرجانية قريبة من المحطة لأتمتع بمشاهدة المرجان اللين النامي عليها ولألاحظ النجوم الريشية تخرج من جحورها، وتنشر ريشها ساعة الأصيل. وقتئذ يخرج الجنخ من مضجعه ويعوم بتؤدة وهوادة، حتى إذا وصلت إلى هذه الصخرة، دفعت برأسها إلى أسفل، ونشرت أجنحتها الكبيرة أفقياً، ورفعت زعنفتها الذنبية، وهي كالزعانف الظهرية الخلفية والشسرجية رقيقة شفافة تصعب رؤيتها في الماء. وتمكث هكذا طويلاً دون حراك، ولا تزال الغاية من عملها هذا سراً خفياً
البحر الأبيض المتوسط بحر النور والألوان، ولكن الخبيرين بأحيائه يشدههم كثيراً زهاء الألوان في أسماك البحر الأحمر عندما يزورون الغردقة - لا يقتصر ذلك على الأسماك الدقيقة، التي تسبح كالفراش بين الشعاب المرجانية، أو التي يحاور بعضها بعضاً في الكهوف بين المرجان - بل يتعداها إلى الأسماك الغذائية الكبيرة. وقد يظن من ليس لهم خبرة إلا بأسماك المنطقة المعتدلة، أن الصور التي نشرها روبل سنة 1829 لم تكن إلا(61/69)
محاولة ضعيفة لتصوير ألوان هذه الأسماك، وأن فيها قدراً من المغالاة غير يسير، إذ ما كان في استطاعة الطباعة في ذلك العصر أكثر من ذلك. والحقيقة إن روبل لم يغال مطلقاً، بل أن معظم الصور جاءت كأدق ما يكن عمله الآن بالطرق الحديثة، فقد يجتمع في بعض الأحيان الأحمر والأخضر والأزرق والأصفر إلى غير ذلك جنباً إلى جنب في خطوط أو بقع، دون أن يختلط أحدهما بالآخر وأحياناً تمتزج هذه الألوان الواحد بالآخر في أجمل صورة. وأخرى قرمزية لا يداخلها لون آخر، غير أن لها بريقاً فضياً يكسبها جمالاً لا نجده في أي سمكة فارقت الحياة، مهما بلغت من الجمال في حياتها.
كيرس كرملانر
مدير محطة الأحياء البحرية بالغردقة(61/70)
القصص
أقصوصة من الأدب المجري
الأنشودة
بقلم الكاتب المجري يوليس كرودي
(إن ينفق المرء وقته في الليل، تحت نافذة، ومن وراء حجاب، ولا يعمل شيئاً إلا أن يفكر في امرأة، أمر حاوله بلا ريب كل إنسان في هذه الحياة). والحق أنه من السخف أن تجد رجلاً رزيناً يسير في الطريق نهاراً رافع الرأس، يحمل من وقت إلى آخر، إذا ما جاء الليل على ارتكاب الحماقة تحت تأثير الجوي والأفكار التي تحملها الخفافيش؛ فيذهب ليلاً ويتربص تحت نافذة، بينما لا يشعر إنسان بأمره، وليس لعمله أي معنى، إذ ربما كانت السيدة المنشودة تحلم في مثل هذا الوقت بأوراق (اليانصيب، أو تحلم برجل آخر؛ أو يعمد إلى تلاوة نظم بوشكين تحت الأشجار، بينما لا يصغي إليه إنسان سوى الليل. . . والله شهيد على إنه ليس ثمة حياة أكثر خزياً وإثماً من حياة رجل عاشق!)
دونت هذه الأسطر فيما مضى حين كنت أعتقد من الضروري أن أسطر على الورق بعض مشاعري، في مذكرة عتيقة ذات غلاف أحمر، وقد مرّ على ذلك زمن طويل، وكنت يومئذ في العشرين؛ وكنت ألاحظ كثيراً من الأشياء المختلفة التي لا أتنازل اليوم بالالتفات إليها. وكنت أحب السياحة في العربة من مدينة إلى أخرى، فكنت أحفظ أسماء نسيت أصحابها، وأدون في مذكرتي بكل عناية ما أقف عليه في الفنادق العتيقة، محطات أسفاري؛ ففي فندق (الوردة البيضاء) كانت هناك آنسة خادمة تدعى فالي، وكانت تتعلم الفرنسية خفية؛ وسمعت صاحب حانة ليلية في الطريق الأعظم يتحدث عن الإمبراطور فرانز يوسف، ويقول أنه مرّ وهو فتى من هذا الطريق في عربة تجرها أربعة جياد؛ وفي بلدة صغيرة تحف بشوارعها الأشجار وتتدلى أغصانها ذابلة، وتأتي إليها أصوات الأجراس خافتة من وراء التل كأنما تأتي إليها من أجراس البلدة المجاورة، كانت هِرَرة هزيلات تجوب طرقاتها يوم الخميس المقدس، وثمة رجل في فناء داره يشمر عن ساعديه ويحتسى النبيذ الأحمر ويقرأ في جريدة عتيقة، وهو كئيب كأنه متسول ترك هنالك جيش الإمبراطور؛(61/71)
وترى فوق التل أطلال كنيسة متهدمة تنعى حظها، وعن بعد مجرى نهر يترقرق بين القصب القصير؛ ففي تلك البلدة كنت أطوف ذات مساء، غريباً لا يعرفني أحد، لأن سائقي احتسى من الشراب أكثر مما يجب، وأبى قطعاً أن يواصل السير في ذلك الحلك الذي يغمر كل شيء.
والحق أني لست أذكر بعد اسم تلك البلدة، ولابد أنها تقع في ناحية من شمال المجر، فقد كان لها قنطرة مغطاة ودار بلدية ذات تماثيل للقديسين. وكان المطعم يسمى (الفندق الأرجواني) فذهبت أتمشى وحيداً غريباً، لأن سائقي أبى إلا أن يتسلل هذا المساء إلى مكان معين، وأذكر أني اخترقت حديقة صغيرة؛ وكان ثمة في المقهى الصغير محصلة تقرأ جريدة مصورة وهي تعتمد رأسها بيديها اللتين تغوصان في شعرها المتهدل ووراء باب مدهون باللون الأبيض يبدو فناء صغير يجلس فيه بعض الموظفين في صديريات سود وهم يدخنون (السيكار) إلى جانب الكؤوس الصغيرة؛ وكنت تسمع عن بعد شخصاً لعله طالب ينفخ في مزمار، ويغني تلك الأنشودة التي أولها: (إذا ما ابتعدت يا حبيبي) فقلت لنفسي: أجل توجد هنا أيضاً قلوب، وتوجد عواطف. . . وكان ذلك المساء ربيع، وربما كان الطالب المذكور قد رسب في الامتحان
وكانت الحديقة تمتد جانباً في قفر مطبق، يذكرك بقفر فناء المحكوم عليهم، ولابد أنها تكون في العصر منتجع الشيوخ، والضباط أو ذوي المعاشات، يفكرون في موتاهم أو في خليلاتهن القديمات؛ وكانت أشجار الصنوبر التي ترتفع فوق كل مقعد هزيلة محزنة كأنها حياة تصرمت وانطفأت في غمار السل؛ وكان يعمر هذه المقاعد أحذية عتيقة وسترات خرجت عن الثرى، وفوق الحصى الصغير الذي يغطي الممشى، ترسم العصى الباهتة التي ربما كانت في شبابها أيادي مظلات، خطوطاً ذاهلة
جلست على مقعد، وأخذت أفكر في شتى الأمور المحزنة: في نساء البلدة المسكينات اللاتي يرتدين أثواباً شديدة الحفيف ويبكين أكثر مما يضحكن، وفي الرجال الحزانى الذين يتجملون توقعاً لرؤية الأميرة الحسناء، ولن تأتي الأميرة قط، وفي المحادثات العقيمة التي تدور حول المائدة المقفرة أو في السرير المضني لمعرفة من هو أغنى إنسان في البلدة؟ وفي الشهر القادم ستأتي فرقة تمثيلية إلى (الفندق الأرجواني). . . وكثيراً ما يعرف(61/72)
الأزواج أن لزوجاتهن عاشقاً!
آه، تباً لحياة البلدة الصغيرة من حياة محزنة ذات رائحة كرائحة كسرات الخبز؛ وفيها يضج المرء بالضحك، ولكنه لا يستطيع أن يتناول فيها عشاءه. رباه، إن النساء هنا لا يتكلفن العناية بالنظافة، إذ يستوي ذلك عند الرجال.
شعرت أنني جد تعس، إذ قضى على أن أضيع وقتي في تلك النزهة الحقيرة المحزنة في البلدة الصغيرة، بدلاً من أن أجلس في مقهى فخم في مسكولك أو كأساً أو بودابست.
وكانت نغمات المزمار قد انقطعت حيناً، ولكنها عادت فدوت في الحديقة ذاتها. وإذن فقد كان الموسيقي الفتى موجوداً هنالك؛ وكان يقوم في ركن المكان إلى جانب الحاجز منزل عتيق له نوافذ صغيرة جداً، حتى لا يتسنى لغير رأس امرأة رشيق جداً وهزيل جداً أن يبرز منها
وكانت النجوم مزورة لا تسطع في ذلك المساء المظلم، وربما لم تك ثمة نجوم فوق تلك البلدة الموحشة. وكان هنالك مصباح زيتي ينشر ضوءه، ويتأمل ذات اليمين وذات الشمال وجلاً كأنما يخشى أن يقيم رجال المطافئ احتفالهم في تلك الليلة، وعلى بعد تقوم منازل ضيقة، لا يعمل ساكنوها بلا ريب شيئاً طول حياتهم إلا أن يقتصدوا وأن يبكوا، ولا يفكر نساؤها منذ العشرين في شيء سوى غسل الثياب
وكان صاحب المزمار يعزف أنشودة محزنة تحت الأشجار، ولا ريب أنه كان يقصد بعزفه ما وراء الحاجز، وربما كانت لأنشودته صبغة غرامية، وربما كان مؤلفها الشاعر المتوفى يحيى فيها القمر أو الصبية ذات العينين البراقتين؟ بيد أنني لم آنس فيها شيئاً غير الذلة والمرارة والفقر، والسلوة الوحيدة لفتى مسكين من القرية. . . رباه، وكنت قد عرفت يومئذ خادمات فرنسيات
وأخذت الموسيقى تنحدر إلى الأنين شيئاً فشيئاً، وكانت الأنشودة تضرع تضرع السائل، إلى سيدة لا تريد - وربما كانت أيضاً حمقاء آثمة - أن تصغي من فوق الحاجز إلى اعتراف فتى، لعله في ظروف أفضل كان يصلح أن يكون فارساً في ملعب، أو حاجباً في حانة ليلية في بودابست يلقى على الغانيات أجوبة ساخرة. . . كان المزمار يئن كالهرة المريضة، وكأنك ترى وجهاً شاحباً لفتى تعس لا يملك من المال ما يمكنه من التلهي بلعبة(61/73)
(الخشب) (لعبة مجربة قومية)، وكان البؤس المؤلم الساحق والثياب الخلقة، والمستقبل الذي ينذر بما هو أشنع، كلها تبكي في الأنشودة، ذلك المستقبل الذي ربما استجابت فيه السيدة الخفية إلى التضرع، وأتت للفتى البائس بعدة أولاد لا خير فيهم
نهضت من مكاني وسرت لأبحث عن ذلك الفتى الذي يعزف بمزماره بين الأدغال
وقد كان حدثاً ذا محيا حزين بائس، وربما كان كاتب مسجل في البلدة؛ وكان مكشوف الرأس، وشعره الأشقر كث منفوش قائم كالمسامير
فقلت له بمنتهى الخشونة: عد إلى منزلك، ولا تسمم هواء هذه الحديقة؛ ألا تشعر بالخزي إذ تذل نفسك على هذا النحو من أجل امرأة؟
ثم هرولت فأيقظت سائقي من سباته؛ وفي الليلة نفسها غادرت البلدة الصغيرة، التي شعرت فيها بمثل ذلك الأسى من جراء عازف سخيف.(61/74)
5 - سافو
لأوجييه اميل
ترجمة الأستاذ محمود خيرت
حنا - لنر الآن ماذا أكتب إليك: (لا أنسى عطفك على بزيارتي يا فني) ولكن متى كان ذلك (يقرأ) إبريل من هذه السنة. . إذن فقد أقدمت على زيارته وأنت معي. . .
فني - شفقة به وحياتك عندي
حنا - (يقرأ): (وإني أفكر الآن في أمر ولدنا. .) ولك منه ولد؟
فني - نعم. فماذا تريد الآن
حنا - ها. ها. ما أكبر فخرك بهذه البذرة التي نبتت في السجن!
فني - (صارخة شامخة في غضبها) لا تزد على ذلك حرفاً
حنا - وما أجمل طفلاً أبوه فرومان وأمه سافو!
فني - لا تسبه فهو ولدي
حنا - (وقد غلبته صرخة الأمومة) حسناً
فني - (بصوت مخنوق) قضى الأمر بيننا، فعد إلى أهلك لعلك تسعد إلى جانبهم
حنا - يا لك من قذرة!
فني - يا لأمك وابنة عمك من حواصير!
حنا - ماذا؟ (يهم بضربها فتحتقره هازة كتفيها)
فني - حقيقة إنك نذل. أخرج الآن من هنا.
حنا - على هذا عزمت (يأخذ حقيبته وعند ما يصل إلى الباب يلقي الخطاب في وجهها ثم يختفي فتتناوله وتضعه فوق المائدة وهي تبكي وتنشد)
فني - ظلموني وأسرفوا=حين نّموا وأرجفوا
كم تخيّلت أنه ... ذو شعورٍ فيعطف
فإذا الطبع واحدٌٌ ... دبّ فيه التعسف
وإذا من بذكرِه ... كنت في الحب أهتف
حانثٌ في يمينه ... واعدٌٌ وهو مخلف(61/75)
قُضى الأمر لم يعد ... لي من الناس مُنصفُ
الفصل الرابع
(في أفينون منزل أسرة جوسين إلى اليمين، وله حديقة بئرها في الجهة اليسرى، وعلى بعد نهر الرون. والأشخاص حنا ووالداه وإيرين ثم سافو وهم عدا سافو على المائدة حيارى لحزن جنا، وعندئذ تشير ديفون إشارة فيخلو المكان إلا منها ومن ولدها.)
ديفون - مالك يا حنا؟
حنا - أمي!
ديفون - (تمسح رأسه بكفها) مم تشكو يا ولدي؟
حنا - لا أدري!
ديفون - لا تكذبي. أحدث لك حادث هناك؟
حنا - كلا. يا أمي
ديفون - إذن لم تعجلت العودة حتى كأنك فررت إلينا فراراً؟.
حنا - لا، لا شيء يا أمي
ديفون - لعل امرأة خدعتك أو حباً غير موفق صادفك؟.
لا تخف عن أمك شيئاً يا حنا. إنك لا تجهل مالك في فؤادها من الحب.
حنا - أمي. ما أخطأت ولكني شفيت
ديفون - أصدقني يا حنا
حنا - كانت يا أماه ثورة ولكني نسيتها، فهل أستحق بعد ذلك صفحك عني؟.
ديفون - وماذا فعلت مما يستوجب صفحي يا ولدي؟
حنا - آه ليتك يا أماه تنزلين إلى أعماق نفسي؟
ديفون - إن حنو الأمهات يخترق الحجب فتتكشف لهن الأحزان والدموع
حنا - ليقاسمن أبنائهن إياها
ديفون - نعم يا بني حتى تغسلها قبلاتهن. تشجع يا حنا وإذا عادت إليك همومك فأستحلفك ألا تكتمها عني
حنا - سأفعل يا أماه ودعيني أضمك(61/76)
ديفون - نعم. نعم تعال فادفن همك عند صدري (يضمها)
حنا - الآن خف حمل ألمي. وهدأت ثورتي. وربما أخطأ الحزن بعد ذلك طريق قلبي ما دمت إلى جانبي
ديفون - إذن أدعك لأزف إلى أبيك هذه البشرى، فإنه يطرب إذا رأى نور السكينة يتلألأ في عينيك
حنا - نعم أسرعي إليه يا أمي (تخرج أمه)
إيرين - (مقبلة على حنا) ماذا يحزنك يا أبن عمي؟
حنا - لست السبب على كل حال يا إيرين
إيرين - ألست صديقتك. أنسيت مريم ويوسف؟. إنني ساعة الأسى أندفع إلى صدر صديق تذيب حرارته همي ويطرد حديثه وحشي
(يدخل سيزار)
سيزار - (مسرعاً إليه) حنا
حنا - (مندفعاً إليه) أبي
سيزار - (لإيرين) اذهبي أنت لديفون
إيرين - ولم لا لأبقى؟
سيزار - قلت لك اذهبي
إيرين - كأنك غاضب عليّ؟
سيزار - لا. ولكن دعينا الآن (تخرج حزينة) (لولده) آه يا ولدي المسكين. إنها هنا. . .
حنا - (مضطرباً) هنا؟ أو عادت؟
سيزار - نعم وتلح في أن تراك!
حنا - سافو؟
سيزار - نعم هي يا ولدي. أحسبتني عميت عن أمركما وأنت تكتمه عنا. ولكن تشجع عند مقابلتها يا حنا
حنا - سأكون عند نصيحتك يا أبي، ولقد كنت من برهة أنتفض وأتلوى. أما الآن فسأستقبلها بقلب ثابت. نعم نعم يا أبي (سيزار يخرج وتتقدم سافو بخطى بطيئة وهي تنظر(61/77)
حولها حتى إذا وقع بصرها عليه أسرعت نحوه ثم وقفت فجأة)
سافو - (بعد سكوت طويل) لا تعتب على إذ عدت وما ودعتك الوداع الأخير. وقد كنت وأنا بعيدة عنك أشعر بألم خفي يعذني. أما الآن وقد رأيتك فقد ذهب ألمي.
حنا - إنني لا أحمل لك في نفسي غلاً
سافو - (والألم يرجها) ماذا؟ آه لو تعلم كم بكيت وكم هدني الجهد حتى لا ادري كيف أنني لم أزل من بين الأحياء (بدهشة) أتراني تغيرت؟
حنا - وهل تقيميين دائماً هناك؟
سافو - وأين تريد أن أقيم، وهناك تلك الذكريات التي أحيا عندها باللم. وكثيراً ما كنت على أثر البكاء تقتلني وحدتي فأضطر إلى العمل لأتسلى. وكم من مرة كنت أستيقظ عند الصباح باسمة فأرتدي ثوبي الأبيض وأصلح شعري على ما كنت تحب، ثم ألزم نافذتي إلى مغرب الشمس، وأنا أتسمع خطواتك وأتلمس عودتك، حتى إذا يئست أغلقها واستسلمت لحزني.
(يتبع)
محمود خيرت(61/78)
الكتب
ما قل ودل
بقلم أحمد الصاوي محمد
جزءان في نحو 580 صفحة طبع دار الكتب
عنوان هذا الكتاب هو نفس العنوان الذي يتخذه مؤلفه منذ أعوام عنواناً لما يكتب كل صباح في جريدة الأهرام الغراء، وما يحتويه الكتاب هو مجموعة مختارة من هذه القطع التي غدت تقرن باسم كاتبها.
ولمؤلف ما قل ودل طابع خاص يسبغه على مقالاته؛ فهو يتناول من مادة الحياة اليومية مسائل الساعة، ما بين اجتماعية وأدبية واقتصادية، ويعالجها بايجاز ولكن بوضوح؛ ويميل بنوع خاص إلى تناول المسائل الاجتماعية وعلاقات الجنسين ومسائل الزواج والأسرة، ويبسط فيها آراءه المحدثة وتعليقاته، ولكنك تأنس دائماً فيما يكتب حرارة الإخلاص، وحسن المقصد ومحاولة الإصلاح.
وعندنا أن عنصر الفن يتغلب عند الأستاذ الصاوي على عنصر الكتابة، فهو يكاد يرسم أكثر مما يكتب؛ ومقالاته تبدو كأنها صور سريعة لما يتناول، ويخيل إليك في كثير من الأحيان أنك تتأمل فيما يكتب صورة رمزية ناطقة لما يجول في ذهنه. وأسلوبه بسيط واضح ينم عن خفة روح ودعابة مستملحة في كثير من الأحيان، وهو لذلك لا يتكلف اختيار اللفظ أو إجادة البيان، لأنه يتجه دائماً في خطابه إلى الرجل (المتوسط)، والى الشباب اليافع؛ ولا يهمه أن يمزج من مقتضيات البساطة والسلاسة في عرض ما يريد لمن يريد. وهذا أسلوب له أنصاره ومؤيدوه؛ ولكن له معارضوه أيضاً، ممن لا يسيغون مثول الألفاظ العامية إلى جانب الألفاظ العربية بمثل هذه الحرية وهذا الإسراف؛ وقد يسيغون وجود اللفظ أو العبارة العامية لضرورة محلية لا يؤديها البيان الفصيح؛ ولكن كثرة الألفاظ العامية مما يذهب دائماً بقوة الأسلوب وروائه، وإن كانت تكسبه في بعض الأحيان لوناً من الخفة والدعابة.
ولسنا بحاجة بعد ذلك إلى أن نقدم الكتاب ومؤلفه، ففيما يكتبه الأستاذ الصاوي كل صباح(61/79)
في الأهرام الغراء خير تقدمة، ولكن الذي نريد أن نهنئ الأستاذ الصاوي عليه حقاً، هو توفيقه في حل مشكلة النشر والتوزيع بطريقة يغبط عليها، فما زال الكتاب في مصر يعانون متاعب هذه المشكلة؛ وليس في مصر ناشرون يعتمد على فطنتهم وأمانتهم وحسن تقديرهم؛ وما زالت معظم جهود المؤلفين نهياً لتجار الكتب. وقد وفق الأستاذ الصاوي إلى تجنب طغيان هؤلاء السادة، واستطاع في شجاعة ولباقة أن يتجه إلى قرائه رأساً وأن يقدم إليهم كتابه بطريق الاشتراك؛ واستطاع أن يخرج لهم كتابه في جزءين كبيرين، وفي أتقن طبع وأجوده، محلى بالصور الرمزية الممتعة؛ وذلك كله بثمن لا يتجاوز عشرة قروش للجزءين!
وإنا لنرجو أن يكون في هذا المجهود الموفق عبرة للناشرين فيحد من جشعهم وطغيانهم؛ وأن يكون فيه درس يستفيد منه الكتاب والمؤلفون.
كما نرجو لمؤلف (ما قل ودل) ما هو جدير بأدبه وفنه من تشجيع وتقدير.(61/80)
المهاتما غاندي
حياته وجهاده
للأستاذ فتحي رضوان المحامي
أثارت شخصية غاندي وحياته ومبادئه الروحية، وأساليبه السياسية في الأعوام الأخيرة كثيراً من الاهتمام في جميع أنحاء العالم؛ وكان غاندي منذ سنة 1920 أعظم شبح يروع السياسة البريطانية في الهند، وكان لذلك الرجل الذي يضطرم جسمه النحيل بقوة روحية هائلة في الأعوام الأخيرة مواقف اهتزت لها السياسة البريطانية، واضطرت أن تنحني أمامها، أشهرها موقف سنة 1930 حينما أعلن العصيان المدني الأكبر، وأشهر دعوة عدم التعاون، واضطرمت الهند من أقصاها إلى أقصاها بدعوته، واضطرت حكومة الهند إلى اتخاذ أشد الإجراءات الدموية لسحق الثورة، واضطرت الحكومة البريطانية أن تصرح على لسان اللورد ايروين حاكم الهند أنها ترمي إلى السير بالمسألة الهندية إلى منح الهند استقلالها الذاتي، وأنها تعقد لبحثها مؤتمراً خاصاً هو الذي عرف بمؤتمر المائدة المستديرة، والذي استدعى غاندي من أعماق سجنه إلى شهوده، بعد أن التزمت حكومة الهند بوقف الإجراءات الاستثنائية، وإعادة النظر في ضريبة الملح؛ ومن مواقف غاندي المشهورة أيضاً، موقف منذ عامين في مسألة المنبوذين حينما أعلن أن يصوم حتى الموت ما لم تعدل الحكومة البريطانية موقفها نحو المنبوذين؛ ولبث غاندي في صيامه حتى أشرف على الموت، واضطرت الحكومة البريطانية في آخر لحظة أن تنزل عند وجهة نظره نحو المنبوذين اتقاء لموته، وما يجره ذلك الموت في الهند من العواقب الخطيرة.
هذه الحياة العظيمة الفياضة بمواطن الكفاح القومي المضطرم، ومواطن القوة الروحية الهائلة، يتناولها الأستاذ فتحي رضوان في سفر كبير تربى صفحاته على الثلاثمائة. وقد سبق أن نشر الأستاذ فتحي رضوان عن غاندي عدة فصول قيمة في بعض الصحف اليومية، ولكنه يقدم الينا الآن دراسة كاملة متصلة عن حياة هذا البطل القومي الممتاز. فأعوام غاندي الأولى، ثم مراحل الدراسة في الهند وفي انكلترا، ومرحلة الحياة العملية الأولى في المحاماة، ونزوح غاندي إلى جنوب أفريقية. حيث هاله ما رأى من اضطهاد مواطنيه وجهاده في سبيل إنصافهم، وبث الدعوة الأولى إلى عدم التعاون، وظفره في هذا(61/81)
الكفاح؛ ثم استئناف العمل في الهند، ونمو الدعوة إلى عدم التعاون، وحياة السجن والمحاكمات المختلفة، ومراحل الكفاح القومي المختلفة حتى سنة 1930 - هذه كلها يفصلها الأستاذ فتحي رضوان في إفاضة وترتيب ووضوح - ونلاحظ فقط أن المؤلف فاته أن يشرح أدوار المسألة الهندية، وما اتخذته السياسة البريطانية نحوها في الأعوام العشرة الأخيرة، وأعمال لجنة الإصلاح الدستوري وما يتعلق بها. فهذه كلها مسائل هامة يجب أن يستوعبها كتاب بوضع عن غاندي؛ ونلاحظ أيضاً أنه لم يتناول مراحل الكفاح التي خاضها غاندي في الأعوام الثلاثة الأخيرة، وقد كان حرياً به أن يتناولها.
وفي حياة غاندي عبر قومية عميقة يجب أن يستعرضها شباب الأمم الشرقية المغلوبة. ومن واجب الشباب المصري أن يدرس هذه الحياة الفياضة بمواطن الكفاح القومي. وبين الهند ومصر محنة مشتركة، وعدو مشترك. فيجدر بشبابنا المثقف أن يقرأ حياة المهاتما غاندي. وأن يدرس ما فيها من أسرار العظمة ومقومات البطولة القومية.
(ع)(61/82)
العدد 62 - بتاريخ: 10 - 09 - 1934(/)
حقائق التاريخ لا يمكن أن يطمسها التشريع
صفد القلم، وصفدت حرية الرأي والفكر في مصر، في الأعوام الأخيرة، بأغلال وقيود شتى لم نعرفها حتى في أشد أيام الاحتلال؛ والتمس المشرع لصوغ هذه الأغلال والقيود مختلف المعاذير في مختلف الفرص؛ فتارة يقال لنا إنه يشرع لحماية النظم الأساسية للدولة من الدعوات والمبادئ الثورية، أو لحماية الحكومة والهيئات العامة من مطاعن خصومها السياسيين؛ وتارة يقال لنا إن سيل الأدب الملحد أو الماجن يكاد يطغى على الدين والأخلاق، فهو يشرع لحماية الدين والأخلاق؛ وكان التشريع يجري في هذه الحدود إلى ما قبل بضعة أعوام؛ وكنا نعتقد أن المشرع قد وصل في مختلف القوانين التي أصدرها إلى ذروة الشدة والتحوط لما يريد تحقيقه من الغايات السياسية والاجتماعية، وإنه لم تبق للقلم والرأي حريات حقيقية يستطيع أن يحد منها بعد؛ ولكن صدرت في الأعوام الثلاثة الأخيرة عدة قوانين جديدة للقضاء على ما بقى من مظاهر حرية الرأي والقلم، أولها قانون الصحافة المعروف، وثانيها قانون تحريم نشر الأخبار الجنائية والقضائية والإدارية إلا في حدود معينة، وثالثها قانون تعديل العقوبات الخاصة بجرائم النشر والسب والقذف، ودفعها إلى حدود لم يسمع بها من قبل، وأخيراً، في هذه الآونة، يقال لنا أن المشرع ينشط من جديد لفرض أغلال وأصفاد جديدة لا
على الصحافة وحدها، بل على ناحية أخرى هي عرض التاريخ أيضاً.
إذاً لم تنته حلقات هذه السلسلة المدهشة من قوانين وأحكام فريدة في شذوذها وشدتها، بل يراد أن تكمل بما يرى المشرع أنه نقص في حلقاتها حتى يكمل سحق البقية الباقية من هذه المظاهر الضئيلة التي يستطيع القلم المصفد أن يبدو فيها خلال هذه الخطوب التي تغمره؛ ويراد فوق ذلك أن يتناول التشريع الجديد ناحية علمية أدبية محضة كان المشرع يحوم حولها من قبل بطرق ونصوص غير مباشرة؛ ولكنه يزمع اليوم أن يتناولها صراحة وبطريقة مباشرة؛ فيفرض قيوداً خاصة على كتابة التاريخ، ويعاقب أولئك الذين يسمحون لأنفسهم بحرية العرض أو النقد في تدوين حوادث التاريخ أو تراجم أشخاصه.
ليس هنا موضع التحدث عن هذه القوانين من الناحية الدستورية أو السياسية فقد قتلتها الصحافة السياسية من هذه الناحية بحثاً ومناقشة؛ ولكنا نريد فقط أن نتحدث عن أثر هذا التشريع المنشود في سير الحركة الأدبية والمباحث التاريخية.(62/1)
لا ريب أن هذا الحجر الجديد على عرض الحقائق التاريخية سيثير صعاباً علمية جمة، وسيكون ضربة شديدة لحرية البحث ونزاهته؛ بيد أنه لن يحقق الغاية التي يعقد عليه تحقيقها؛ وقد أشير إلى طرف من الأسباب التي تتخذ حجة لتبرير هذا الحجر، فقيل إنه قد ظهرت في العهد الأخير كتب ومباحث تاريخية بها مطاعن ومثالب في حق بعض الأمراء السالفين ورؤساء الحكومات الأجنبية الحاليين، واتخذ العرض التاريخي شعاراً لهذا التجريح؛ وأنه يجب أن يوضع حد لذلك. وجوابنا أن حقائق التاريخ لا تتجزأ، والمؤرخ المحقق لا يمكن أن يتقيد في سرد هذه الحقائق إلا بالمراجع والأسانيد والوثائق، ولا يمكن أن يخضع لغير ضميره ومقتضيات الحق والنزاهة. وحياة الذاهبين من الزعماء والقادة ملك التاريخ، لا سلطان لإنسان عليها غير سلطان العلم؛ فالتوسل بالتشريع إلى طمس الحقائق التاريخية تدخل غير مسوغ في حرية العلم والبحث، وتجن على الحقيقة لا يخلق بعصرنا عصر العلم والحقيقة والنور.
والحجر على حرية البحث والكتابة على هذا النحو يلقى سحباً من الشك على قيمة الكتب والمباحث التي تصدر في ظله حتى ولو كانت جديرة بالتقدير؛ ومن المستحيل أن تنقلب المثالب إلى مناقب بقوة التشريع؛ والعلم ليس له اليوم حدود ولا وطن، فإذا استطاع المشرع أن يصفد الأقلام في مصر، فليس في وسعه أن يصفدها في أي أرض أخرى؛ وأرض الله واسعة. والتاريخ يكتب بكل اللغات الحية؛ وهذه اللغات تقرأ في مصر، كما تقرأ في غيرها. هذا إلى أن ما لدينا اليوم من الكتب والمباحث في الميادين والموضوعات التي يراد حمايتها بقوة القانون يلقى عليها ضياء لا يمكن أن تطمسه أية قوة أو بطش.
كان لويس الخامس عشر يعتبر حتى عصرنا أشنع مثل للملكية الظالمة الباغية المسرفة؛ وكانت النشرات القاذفة تنثال عليه إبان حياته من أقلام قاسية لاذعة كقلم فولتير؛ فكان الباستيل مأوى القاذفين؛ ولكن هل استطاع الباستيل وكل ضروب البطش والمطاردة الأخرى أن تخمد الصيحات المنبعثة أو تطمس الحقائق الثابتة في هذه الحياة الفياضة بالإثم والبغي؟ ومع ذلك فقد وجد في أيامنا من كتاب التاريخ من يذهب في سيرة هذا الملك رأياً آخر، ويقول إن التاريخ قد ظلمه، وأنه كان في أخطائه ومثالبه دون ما يصوره بكثير.
وكانت لوكريزيا بورجيا ابنة البابا إسكندر السادس تعتبر حتى عصرنا أشنع مثل للأميرة(62/2)
الفاجرة التي تضطرم بأوضع الأهواء والشهوات، وتنحط إلى أسفل درك من الرذيلة والأثم، فجاء أخيراً مؤرخ بارع هو العلامة فونك برنتانو، وأصدر كتاباً عن حياة هذه الأميرة، وفيه يصورها لنا امرأة عفيفة فاضلة، ويدفع عنها كل الجنايات والآثام التي نسبت إليه. وكان الباستيل يعتبر حتى عصرنا أروع سجون التاريخ فجاء فونك برنتانو أيضاً يقول إن الحياة فيه كانت ناعمة، وكانت تنتظم بين جدرانه القاتمة جميع مجالي اللهو والأنس والترف.
والخلاصة أن التاريخ ملك البحث الحر وملك الزمن، فاتركوه يجر مجراه الحر؛ وثقوا أن من المحال أن يحول التشريع دون ظهور الحقائق غير المرغوب في ظهورها؛ فللتاريخ مسمع جاد يصل إلى ما وراء الجدر، وبصيرة ثاقبة تنفذ إلى أعمق الظلمات. وإنما تطلب الحماية للحقيقة لا لغيرها.
(مؤرخ)(62/3)
سيدنا
للأستاذ أحمد أمين
كان لسيدنا الشيخ سيد عبد الرحمن كتاب في حي وطني في قسم الخليفة، أسلمني له أبي وأنا في السادسة من عمري.
كان هذا الكتاب بيتاً من بيوت الوقف، يتكون من طابقين، طابق أرضي فيه حجرتان أحدهما سبيل لسقي الماء كان قد هجر عندما ذهبت إليه، والأخرى لسيدنا ينام فيها أحياناً، وفي الطابق العلوي حجرتان كذلك، إحداهما لأولاد الكتاب يقرءون فيها، والأخرى لسيدنا أيضاً، وبين الحجرتين (فسحة) في أحد أركانها زير ماء لا تعرف لونه مما توالى عليه من أحداث الزمان، وعليه غطاء من خشب، قد كسر ولم يهتم أحد بإصلاحه، وعلى الغطاء كوز صفيح قد شد بحبل في مسمار في الحائط، حتى لا يذهب به الأولاد من مكان إلى مكان، وخشية أن يقع الكوز في أسفل الزير، فإذا كان مربوطاً ووقع استطعنا أن نشده بالحبل، والماء إن تلوث بوقوع الحبل فيه، فهو أقل ضرراً من مد اليد عارية وغوصها لاستخراجه.
وأدوات الكتابة: حصير فرش على البلاط، يبلى أحياناً فتتناثر عيدانه، ومع ذلك يبقى إلى أنيحنن الله على سيدنا فيشتري حصيراً جديداً، وصندوق من صناديق السكر أو الجاز وضع في زاوية من زوايا الحجرة، نضع فيه ألواحنا - وهذه الألواح أكثرها صفيح، تسود أحيانا ويذهب طلاؤها حتى لا نتبين الكتابة منه - وكيف يبين أسود من أسود؟ وأقلها خشب قد طلي بدهان أبيض، وله إطار لون بلون بني، وذلك خاص بأولاد الذوات وأشباههم.
هذا كل ما بالكتاب من أدوات، ومعاذ الله أن أنسى شيئاً أهم من ذلك كله، وهو مجموعة عصى من جريد النخل، تختلف طولاً وقصراً، أما القصيرة فيستعملها سيدنا لمن يسمع عليه اللوح أو (الماضي) فيخطئ فتدركه هذه العصا، وأما الطويلة فعندما يرى سيدنا طفلاً في آخر الحجرة لا يهتز وقت قراءته أو يتهاون في حفظه، فما يشعر إلا والعصا الطويلة نزلت عليه وصحبها من سيدنا (اهتز يا ولد) - وقد كان لهذه العصا ما طال منها وما قصر، أثر في نفوسنا لا ينكر، فكثيراً ما رعبنا لأن خيالنا صور لنا أن سيدنا يريد أن(62/4)
يهوي علينا بعصاه، وفي الواقع لم يكن شيء من ذلك، وإنما هو الرعب ملك نفوسنا، ويحصل هذا أحياناً حتى في البيت، فننسى أننا خرجنا من الكتاب، وأننا بين أهلينا، فنرتجف بغتة لحركة تشبه حركة سيدنا في الكتاب.
وإلى جانب هذه العصى (فلقة) وهي عصى غليظة من خشب متين قد ثقب في وسطها ثقبان يبعد ما بينهما نحو شبر، وركب في هذين الثقبين سير من جلد أو نحوه، فإذا شكا الولد أبوه أو غضب عليه سيدنا أدخل رجليه في هذا السير ولواه عليهما، وأمسك بطرفي الفلقة ولدان كبيران شديدان من أولاد الكتاب، فلم تستطع الرجلان حركة، وانهال عليه سيدنا ضرباً بالعصا والولد يصيح (في عرضك يا سيدنا) (حرمت) (أتوب)! ولست أنسى مرة أفرط فيها سيدنا فشق عقبي وسال منه الدم؛ وكان عزائي الوحيد أني مكثت بعيداً عن سيدنا نحو أسبوعين.
وهذا كل ما كان في الكتاب من (موبيليات).
كان سيدنا يحفظ القرآن حفظاً جيداً، ويكتب كتابة عاجزة، وهذا كل ما له من ثقافة، كان يطوف في الصباح على البيوت يقرأ فيها ما تيسر من القرآن، ويخرج من بيت إلى بيت حتى يتم دورته، وكان موظفاً في مسجد يؤذن فيه، فإذا حان وقت الظهر أو العصر خرج من الكتاب للآذان والصلاة - وفي غيابه صباحاً أو ظهراً أو عصراً يتركنا لعريف يقوم مقامه، ولكن كان العريف ولله الحمد أهون علينا من سيدنا. فكنا نتنفس الصعداء إذا خرج، ونصاب بالرعشة إذا حضر. وكان برنامج الكتاب ينحصر في كلمة هي (تحفيظ القرآن) فيبتدئ بتعليم حروف الهجاء على طريقة غريبة، فأول درس كان هو (أألف) وهي كلمة حفظتها ولم أفهمها إلا وأنا طالب في مدرسة القضاء. إذ فهمت أننا لو تهجينا كلمة ألف لكانت ألفاً ولاماً وفاءً، وما أدري ما السر في هذا البدء على هذا الوضع - حتى إذا عرف الولد شيئاً من القراءة والكتابة بدأ بكتابة جزأ من القرآن في اللوح يحفظه كل يوم وهو في أثناء ذلك (يثبت الماضي) ويمضي النهار كله في هذا الباب، فلا إملاء ولا حساب، ولا يعرف سيدنا شيئاً من ذلك، ولا نستريح من هذا العمل إلا وقت الغداء
فإذا حان الظهر جمع (سيدنا) من كل ولد مليمين أو ثلاثة أو خمسة ثم بعث بولد كبير فأتى له بماجورين مملوءين، أحدهما فيه قليل من فول نابت وكثير من مرق، والآخر مملوء(62/5)
مخللاً بمائه وخله، وتحلق الأولاد حلقة، وأخرج كل رغيفه، وكان قد أحضره معه في الصباح تحت إبطه، وضربوا بأيديهم في الماجورين وأكلوا هنيئاً مريئاً - وقد رحمني الله من تمثيل هذا الفصل إذ كان بيتنا بجوار الكتاب أستطيع أن آكل فيه وأعود - وبين هؤلاء المريض والقذر ومن تلوثت يداه بالحبر.
لا تعجبن من هالك كيف توى ... بل فاعجبن من سالم كيف نجا
كان (سيدنا) غريب الأطوار عرف في الحي باسم الشيخ سيد المجذوب، يلبس المرقع من الثياب فلم أره يوماً لبس (مركوباً) جديداً ولا عمة نظيفة ولا قباء ولا عباءة جديدين، فكأنه كان يتحرى القديم من كل شيء ويشتريه، كان يتزهد في أكله ولبسه وحديثه، ويهزأ بالناس ولا يعيرهم التفاتاً. فهو يمشي مسرعاً مشياً يشبه الجري، ويأكل في الشارع وهو على هذه الحال، وإذا ناداه منادٍ لا يلتفت إليه، فكان بذلك يلفت أنظار الناس والأطفال، ويعجب منه بعضهم، ويتبرك به بعضهم، وكان في المجالس العامة غريباً ينتحي ناحية وحده ويفر من الناس ويستوحش منهم، وفي مجالسه الخاصة واعياً أنيساً لطيفاً.
لم أره يقرأ في كتاب، وما أظنه كان يعرف ذلك، ولكني مع هذا اذكر له حادثة حيرتني حقاً - فقد خرجت من كتابه، وأتممت التعليم في مدرسة ابتدائية، ثم قطعت مرحلة بعدها في التعليم - ثم ذهبت إلى مدرسة القضاء ومكثت فيها نحو أربع سنوات، ثم لقيت سيدنا في الطريق فسلمت عليه في احترام وإجلال اعترافاً بفضله عليّ في أول مراحل التعليم، ولكني أطوي بين جنبي إدلالاً بنفسي عليه، فأين هو الآن مني؟
لقد درست طبيعة وكيمياء، ودرست رياضة نظرية واسعة من حساب مثلثات وتوافيق وتراتيب ولوغارتمات، ودرست علوماً دينية مختلفة الأشكال والأنواع، وعلوماً مدنية من تاريخ وأصول قوانين ونظام إدارة وما إلى ذلك - فأين سيدنا من هذا كله فهو لا حظ له من علم إلا أن يحفظ القرآن، ولكن ما أدهشني حقاً أنه أخذ يسألني عن حالي وجرى من ذلك إلى الإدلاء برأيه في العالم وفلسفة الكون عن طريق صوفي، فإذا أنا أسير معه ملتذاً من حديثه معجباً بقوله إعجاباً يفوق ما كنت أضمره لأساتذتي في المدارس العالية، وإذا أنا أذهب معه حيث يذهب وأجلس معه حيث يجلس حتى أتم حديثه الممتع اللذيذ في ساعتين أو أكثر، ولوددت أنه طال أكثر مما كان - لست أذكر الآن حديثه وقوله، ولا أذكر ماذا(62/6)
كانت نظراته في الحياة، ولكني أذكر لذة حديثه وفائدة درسه.
ثم راحت أيام وجاءت أيام، وإذا لي ولد، وإذا بي أرسله إلى (روضة الأطفال)، وإذا مكان الكتاب ذي السبيل والحصر، بناء فسيح ذو حديقة غناء، وتخت وأدوات شتى، ومكان العصي و (الفلقة)، بيانو وآلات موسيقية، ومكان مواجير الفول والمخلل، لبن وبسكوت في الساعة العاشرة، وأكل نظيف يشرف عليه الطبيب في الظهر ومكان برنامج كتابنا الذي ليس فيه إلا حفظ القرآن برنامج دقيق مفصل محدود بالساعة والدقيقة فيه غناء وفيه لعب، وفيه مبادئ القراءة، وفيه ما شئت من تنوع واختلاف، ومكان سيدنا الشيخ سيد عبد الرحمن آنساتنا العزيزات.
وأتى ابني يوماً يقول أن (أبلة) فلانة علمتهم اليوم درساً جديداً، قالت هذه (ستي) أ، وهذه (ستي) ب، وستي ألا شيء عليها، وستي ب من تحتها نقطة، فقلت أين هذا مما كنا نتعلمه من أألف، بابا ليف، بوبا واو بي با يه).
ورأيته ينشد أناشيد (سمير الأطفال) ونحوها فقلت أين أنت من أبيك وقد كان ينشد في العصر قبل الذهاب إلى البيت الأناشيد الدينية.
ورأيته يزكم فيجلس في البيت ثم يذهب إلى المدرسة فتأبى عليه إلا أن يأتي بشهادة طبيب بأنه برئ ولم يكن مرضه معدياً، فقلت لحا الله زماناً لم نكن نعرف فيه طبيباً، وكان حولنا في الكتاب مرضى لا يعرفون أن الزكام مرض، وكان أصحاءهم ومرضاهم يشربون من زير واحد بكوز واحد.
ورأيته في سنه لا يحفظ شيئا، وكنت أنا في سنه أحفظ جزءا كبيراً من القرآن.
ورأيته يعرف من الأشغال اليدوية والرسم والتلوين ما لا أعرفه إلى اليوم.
ورأيته ورأيته؛ ورأيتني ورأيتني
أخشى أن نكون في كلا الحالين مفرطين ومفرطين، وأن نكون في (كتابنا) قد غلونا وفي (رياض أطفالنا) قد غلونا
أخشى أن يكون الكتاب قسا وأسرف في القسوة، ورياض الأطفال ماعت وأسرفت في الميوعة، أخشى أن نكون في كتابنا قد وضعنا أمام الطفل كل العقبات فلم يستطع أن يجتازها إلا القليل، ونحينا في (رياض الأطفال) كل العقبات فاجتازوها جميعاً، ولكنهم(62/7)
خرجوا لا يعرفون كيف يجتازون عقبة عرضت، ولا يصبرون على شدة ألمت، ولا يتحملون مشقات العلم ومعانات الدرس، ولا يعالجون ما يعن من مصاعب الحياة - وآية ذلك أن الجيل السابق - مع كثرة من تخلف - كانوا أصبر على الدرس وأحمل للمكاره والمشاق، وأن الجيل الحاضر أنعم وأظرف وألبق، ولكنهم لا يصبرون على مكروه حتى العلم.
أحمد أمين(62/8)
قصيدة مترجمة
لحوم البحر. . .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
لكأنما والله قد تمدد على سيف البحر في إسكندرية شيطانٌ ماردٌ من شياطين ما بين الرجل والمرأة. يخدع الناس عن جهنم بتبريد معانيها. . وقد امتلأ به الزمان والمكان؛ فهو يرعش ذلك الرمل بذلك الهواء رعشة أعصاب حية؛ ويرسل في الجو نفخاتٍ من جرأة الخمر في شاربها ثار فعربد، ويطلع الشمس للأعين في منظر حسناء عريانة ألقت ثيابها وحيائها معاً؛ ويرخي الليل ليغطي به المخازي التي خجل النهار أن تكون فيه.
ولعمري إن لم يكن هو هذا المارد فما أحسبه إلا الشيطان الخبيث الذي ابتدع فكرة عرض الآثام مكشوفة في أجسامها تحت عين التقي والفاجر لتعمل عملها في الطباع والأخلاق؛ فسول للنساء والرجال أن ذلك الشاطئ علاج الملل من الحر والتعب حتى إذا اجتمعوا فتقاربوا، فتشابكوا، سول لهم الأخرى أن الشاطئ هو كذلك علاج الملل من الفضيلة والدين.
ولئن لم يكن اللعينان فهو الرجيم الثالث، ذلك الذي تألى أن يفسد الآداب الإنسانية كلها لفساد خلقٍ واحد، هو حياء المرأة؛ فبدأ يكشفها للرجال من وجهها ولكنه استمر يكشف. وكانت تظنه نزع حجابها فإذا هو أول عريها. . وزادت المرأة، ولكن بما زاد فجور الرجال، ونقصت ولكن بما نقص فضائلهم، وتغيرت الدنيا وفسدت الطباع. فإذا تلك المرأة ممن يقرونها على تبذلها بين رجلين لا ثالث لهما: رجل فجر ورجل تخنث. .
هناك فكرة من شريعة الطبيعة هي عقل البحر في هؤلاء الناس، وعقل هؤلاء الناس في البحر؛ إذا أنت اعترضتها فتبينتها فتعقبتها، رأيتها بلاغة من بلاغة الشيطان في تزيينه وتطويه، وأصبت فكره مستقراً فيها استقرار المعنى في عبارته، آخذاً بمداخلها ومخارجها. وما كان الشيطان عيياً ولا غبياً، بل هو أذكى شعراء الكون في خياله، وأبلغهم في فطنته، وأدقهم في منطقه، وأقدرهم على الفتنة والسحر. وبتمامه في هذا كله كان شيطاناً لم تسعه الجنة إذ ليس فيها النار، ولم ترضه الرحمة إذ ليس معها الغضب، ولم يعجبه الخضوع الملائكي إذ ليس فيه الكبرياء، ولم يخلص إلى الحقيقة إذ لا تحمل الحقيقة شعر أحلامه.(62/9)
وما أتى الشيطان أحداً، ولا وسوس في قلب، ولا سول لنفس، ولا أغوى من يغويه إلا بأسلوب شعري ملتبس دقيق، يجعل المرء يعتقد أن أطراح العقل ساعة هو عقل الساعة، ويفسد برهانه مهما كان قوياً إذ يرتد به من النفس إلى أخيلة لا تقبل البراهين، ويقطع حجته مهما كانت دامغة، إذ يعترضها بنزعة من النزعات توجهها كيف دار بها الدم لا كيف دار بها المنطق.
فكرة من شريعة الطبيعة ظاهرها لبعض الأمر من الشمس والهواء والبحر وما لا أدري، وباطنها لبعض الأمر من فن الشيطان وبلاغته وشعره وما لا أدري، وما كانت الشرائع الآلهية والوضعية إلا لإقرار العقل في شريعة الطبيعة كي تكون إنسانية لإنسانها كما هي حيوانية لحيوانها، وليجد الإنسان ما يحفظ به نفسه من نفسه التي هي دائماً فوضى، ولا غاية لها لولا ذلك العقل إلا أن تكون دائماً فوضى. .
وبالشرائع والآداب استطاع الإنسان أن يضع لكلمة الطبيعة النافذة عليه، وأن يرى في هذه الطبيعة أثر جوابه؛ فكلمتها هي: أيها الإنسان أنت خاضع لي بالحيواني فيك؛ وكلمته هو: أيتها الطبيعة وأنت لي خاضعة بالإلهي فيّ.
والآن سأقرأ لك القصيدة الفنية التي نظمها الشيطان على رمل الشاطئ في إسكندرية؛ وقد نقلتها أترجمها فصلاً بعد فصل عن تلك الأجسام عارية وكاسية، وعن معانيها مكشوفة ومغطاة، وعن طباعها بريئة ومتهمة، حتى اتسقت الترجمة على ما ترى
قال الشيطان:
ألا إن البهيمية والعقلية في هذا الإنسان؛ مجموعهما شيطانية. . .
ألا وإنه ما من شيء جميل أو عظيم إلا وفيه معنى السخرية به.
هنا تتعرى المرأة من ثوبها، فتتعرى من فضيلتها.
هنا يخلع الرجل ثوبه، ثم يعود إليهفيلبس فيه الأدب الذي خلعه.
رؤية الرجل لحم المرأة المحرمة نظر بالعين والعاطفة.
يرمي ببصره الجائع كما ينظر الصقر إلى لحم الصيد.
ونظر المرأة لحم الرجل رؤية فكر فقط. . .
تحول بصرها أو تخفضه، وهي من قلبها تنظر.(62/10)
يا لحوم البحر! سلخك من ثيابك جزار. .
يا لحوم البحر! سلخك جزار من ثيابك.
جزار لا يذبح بألم ولكن بلذة. .
ولا يحز بسكين ولكن بالعاطفة.
ولا يميت الحي إلا موتاً أدبياً. .
إلى الهيجاء يا أبطال معركة الرجال والنساء.
فهنا تلتحم نواميس الطبيعة ونواميس الأخلاق.
للطبيعة أسلحة العري، والمخالطة، والنظر، والأنس، والتضاحك، ونزوع المعنى إلى المعنى. .
وللأخلاق المهزومة سلاح من الدين قد صدئ، وسلاح من الحياء مكسور.
يا لحوم البحر! سلخك من ثيابك جزار. .
الشاطئ كبير كبير، يسع الآلاف والآلاف.
ولكنه للرجل والمرأة صغير صغير، حتى لا يكون إلا خلوة. . .
وتقضي الفتاة سنتها تتعلم، ثم تأتي هنا تتذكر جهلها وتعرف ما هو. .
وتمضي المرأة عامها كريمة، ثم تجيء لتجد هنا مادة اللؤم الطبيعي. . .
لو كانت حجاجة صوامة، للعنتها الكعبة لوجودها في (استانلي).
الفتاة ترى في الرجال العريانين أشباح أحلامها، وهذا معنى من السقوط.
والمرأة تسارقهم النظر تنويعاً لرجلها الواحد، وهذا معنى من المواخير. . .
أين تكون النية الصالحة لفتاة أو امرأة بين رجال عريانين؟
يا لحوم البحر! سلخك من ثيابك جزار. . .
هناك التربية، وهنا إعلان الإغفال والطيش.
وهناك الدين، وهنا أسباب الإغراء والزلل.
وتكلف الأخلاق، وهنا طبيعة الحرية منها.
والعزيمة بالقهر يوماً بعد يوم، وهنا إفسادها بالترخص يوماً بعد يوم.
والبحر يعلم اللائي والذين يسبحون فيه كيف يغرقون في البر. .(62/11)
لو درى هؤلاء وهؤلاء معرة اغتسالهم معاً في البحر، لاغتسلوا من البحر.
فقطرة الماء التي نجستها الشهوات قد انسكبت في دمائهم.
وذرة الرمل النجسة في الشاطئ ستكبر حتى تصير بيتاً نجساً لأب وأم. .
يا لحوم البحر! سلخك من ثيابك جزار. .
يجيئون للشمس التي تقوى بها صفات الجسم،
ليجد كل من الجنسين شمسه التي تضعف بها صفات القلب.
يجيئون للهواء الذي تتجدد به عناصر الدم،
ليجدوا الهواء الآخر الذي تفسد به معاني الدم.
يجيئون للبحر الذي يأخذون منه القوة والعافية،
ليأخذوا عنه أيضاً شريعته الطبيعية: سمكة تطارد سمكة. .
ويقولون ليس على المصيف حرج.
أي لأنه أعمى الأدب، وليس على الأعمى حرج.
يا لحوم البحر! سلخك من ثيابك جزار. .
المدارس، والمساجد، والبيع، والكنائس، ووزارة الداخلية، هذه كلها لن تهزم الشاطئ.
فأمواج النفس البشرية كأمواج البحر الصاخب، تنهزم أبداً لترجع أبداً؛ لا يهزم الشاطئ إلا ذلك (الجامع الأزهر)، لو لم يكن قد مسخ مدرسة. فصرخة واحدة من قلب الأزهر القديم، تجعل هدير البحر كأنه تسبيح، وترد الأمواج نقية بيضاء، كأنها عمائم العلماء.
وتأتي إلى البحر بأعمدة الأزهر للفصل بين الرجال والنساء، ولكني أرى زمناً قد نقل حتى إلى المدارس روح (الكازينو). .
يا لحوم البحر! سلخك من ثيابك جزار. . .!
هنا على رغم الآداب، مملكة للصيف والقيظ، سلطانها الجسم المؤنث العاري.
أجسام تعرض مفاتنها عرض البضائع، فالشاطئ حانوت للزواج.!
وأجسام تعرض أوضاعها كأنها في غرفة نومها لا في الشاطئ. . .
وأجسام جالسة لغيرها تحيط بها معانيها ملتمسة معانيه، فالشاطئ سوق للرقيق. .
وأجسام خفرة جالسة للشمس والهواء، فالشاطئ كدار الكفر لمن أكره.(62/12)
وأجسام عليلة تقتحمها الأعين فتزدريها، لأنها جعلت الشاطئ مستشفى. . .!
وأجسام خليعة أضافت من استانلي وأخواتها إلى منارة إسكندرية، ومكتبة إسكندرية، مزبلة إسكندرية. . .
كان جدال المسلمين في السفور فأصبح الآن في العري.
فإذا تطور، فماذا بقي من تقليد أوربا إلا الجدال في شرعية جمع المرأة بين الزوج وشبه الزوج.؟
انتهى ما استطعت ترجمته، بعد الرجوع في مواضع من القصيدة إلى بعض القواميس الحية. .، إلى بعض شبان الشاطئ.
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(62/13)
حول ذكرى الشاعرين
(شوقي وحافظ)
كتب كثير من الأساتذة الغير، يأسفون على إهمال حافظ، ويتألمون على أن كتاباً لم يصدر عنه. ولم يذكر واحداً منهم، أن المكتبة العربية في دمشق، قد أخرجت كتاباً في ذكرى الشاعرين في (750) صفحة كبيرة. فيه (12) مقالة عن حافظ لطائفة من أكبر كتاب مصر والشام كالرافعي والمازني وطه حسين وهيكل والبشري والمغربي و (16) قصيدة في حافظ لطائفة من كبار الشعراء كشوقي (رحمه الله) والزهاوي ومطران والعقاد ومحرم والبزم والهراوي وجبري، وأكثر من ألف بيت من شعر حافظ الذي لم ينشر في ديوانه، ومثل هذا عن شوقي، وخمس مقالات في المقارنة بينهما للزيات وطه حسين والمازني ومطران وسعيد الأفغاني.
أفليس من الحق أن ينوه بهذا العمل، وأن يشكر لدمشق؟
دمشق
متأدب(62/14)
أعظم حادث في حياة روسو:
روسو ومدام دي فرنس
للأستاذ محمد عبد الله عنان
صدر أخيراً في باريس كتاب عنوانه (مدام دي فرنس) وهو عنوان لا يثير لأول وهلة كبير اهتمام؛ ولكنا متى علمنا أن صاحبة هذا الاسم هي المرأة التي كان لها أكبر أثر في حياة جان جاك روسو الكاتب والفيلسوف الأشهر، وأنها إذا لم تكن معروفة شهيرة لذاتها فان روسو يخلدها في آثاره، ويفرد لها في (اعترافاته) أو ترجمة حياته أكبر مكانة، استطعنا أن نقدر أهمية بحث يتناول هذا الجانب من حياة روسو، وما كان له من عظيم أثر في تكوين تفكيره وفلسفته.
نلمس أثر المرأة في حياة كثير من عظماء الرجال، وتمتاز هذه الشخصيات النسوية في أغلب الأحيان بخلال قوية بارزة تمكن لها في النفوذ والتأثير؛ ولكن مدام دي فرنس تبدو لنا في صورتها وخلالها شخصية عادية، لا تخلق في ذاتها لأن توحي بشيء من مقومات العظمة أو البطولة؛ وكان مثولها في حياة روسو أيام كان فتى مغموراً شريداً لا قيمة له في مجتمع وطنه وعصره. على أن هذه الصلة طبعت نفس روسو وروحه بأعمق طابع، وأثرت في عواطفه وتفكيره أعظم تأثير، وأثارت من قلمه عن مدام دي فرنس وعن صلاته بها تلك الصحف المؤثرة البديعة التي نعتقد إنها أجمل ما في (الاعترافات).
كانت لروسو مع مدام دي فرنس قصة من أغرب القصص وأجملها، قصة (أم) وولد، ومربية وتلميذ، وحامية ومحسوب، وأخيراً قصة عاشق ومعشوق، وصاحب وخليلة؛ وكان اتصاله بها سنة 1728 وهو حدث في نحو السادسة عشرة من عمره؛ ففي ذلك الحين فر روسو من جنيف مسقط رأسه، وغادر أسرته بعد أن التحق حين كان صبياً بمكتب محام ولم يأنس ميلاً للعمل فيه، ثم بحانوت حفار لم يطق خشونته وسوء معاملته؛ وسافر على غير هدى إلى بلدة كفنيون من أعمال سافوا، وقصد قسيسها المسيو دي بونفير وكانت بينه وبين أسرته صداقة، فأرسله بتوصية منه إلى سيدة خيرة محسنة هي مدام دي فرنس، لكي تعاونه على البحث عن عمل يعيش منه.
وكانت مدام دي فرنس تقيم يومئذ في بلدة (أنسي)؛ فقصد إليها الفتى جان جاك، وقلبه يتردد(62/15)
بين الخيبة والأمل. ويقول لنا روسو إنه لما وصل إلى (أنسي) فكر في وسيلة مؤثرة يكسب بها عطف مدام دي فرنس، فكتب إليها خطاباً منمقاً ضمنه كل ما وسع من الكلمات والعبارات البليغة، ووضع معه خطاب المسيو دي بونفير. ثم ذهب إلى منزلها فلم يجدها هنالك، وقيل له إنها سارت تواً إلى الكنيسة على مقربة من المنزل، فهرول في أثرها ولحق بها وناداها. ثم يقول؛ (وإني لأذكر هذه البقعة بلا ريب. وكثيراً ما بللتها بعد بدموعي وغمرتها بقبلاتي. وإني لأود أن أسور هذه البقعة السعيدة بقضيب من الذهب، وأود أن ألتمس لها إجلال العالم. ومن يقدس آثار إنقاذ الإنسان فعليه أن لا يقربها إلا راكعاً). وشد ما كانت دهشة روسو حينما رأى مدام دي فرنس لأول مرة، وكان يتصورها عانساً مظلمة المحيى شديدة الورع، وما كانت المحسنة التي يختارها القس دي بونفير لتكون في نظره غير ذلك. ولكنه رأى بالعكس محيا يفيض بالسحر، وعينين زرقاوين نجلاوين تفيضان بالرقة، وبشرة ناصعة باهرة. فاستقبلته باسمة وتناولت الخطابين وقرأتهما. ثم طلبت إليه برفق أن ينتظرها في المنزل حتى تعود من القداس.
وهنا يحدثنا روسو طويلاً عن مدام دي فرنس؛ فهي لويزا لينور دي فرنس، سليلة أسرة نبيلة من لوزان؛ تزوجت صغيرة بالمسيو دي فرنس؛ وكان الزواج عقيماً، ولم يكن سعيداً؛ فعافت حياة الأسرة؛ وانتهزت فرصة وجود الملك فكتور أمدية (ملك سافوا) ذات يوم في أفيان، فغادرت أسرتها ووطنها واستغاثت به، فمنحها حمايته ورعايته ورتب لها نفقة حسنة. ثم ذاع بعد ذلك إنه يهواها، فأبعدها إلى (أنسي)، وهناك نبذت مذهبها البروتستانتي واعتنقت الكثلكة إرضاء لمليكها وكان كاثوليكياً متعصباً. وكان قد مضى عليها ستة أعوام في أنسي يوم وفد عليها روسو؛ وكانت يومئذ في الثامنة والعشرين من عمرها. وكانت حسناء (جمالها من ذلك النوع الباقي الذي يبدو في المحيى أكثر مما يبدو في التقاسيم، هذا إلى أن جمالها كان ما يزال في ذروته الأولى؛ وكانت ذات هيئة ناعمة جذابة، ونظرة ساحرة، وبسمة ملائكية. وكانت صغيرة القد، أميل إلى القصر، عبلة نوعاً ولكن دون قبح، بيد أنه لم يك أجمل منها رأساً، ولا أجمل صدراً ويدين ومعصمين).
وقد تلقت مدام دي فرنس تربية مضطربة متنوعة ترجع إلى أنها فقدت أمها عند مولدها، فتعلمت شيئاً من مربيتها، وشيئاً من والدها، وشيئاً من أساتذتها، وكثيراً من عشاقها. وتلقت(62/16)
بالأخص عن والدها قشوراً من الطب والسمياء، وكان للأفاقين من الأطباء والسميائين نفوذ كبير عليها، فكانت تقلدهم في عمل المركبات والأدوية، وتبدد في ذلك ذكاءها وسحرها اللذين كانا يخلقان بأرفع المجتمعات. بيد أنها لبثت خلال هذه الغمار محتفظة بطيبة قلبها، ورقة شمائلها، وبشرها وصراحتها، وحبها للبائس والمسكين، وكان جديراً بذكائها ورفيع خلالها أن تشغل مكانة غير التي وجدت فيها، وأن تؤدي عملاً أجل من ذلك الذي كانت تؤديه.
ولقي روسو مدام دي فرنس (فغزت لبه وحازت ثقته من أول مقابلة وأول كلمة وأول نظرة). ولا يستطيع روسو أن يدرك كنه هذه العاطفة العميقة التي بثتها إليه مدام دي فرنس منذ الساعة الأولى، ويتساءل إذا كانت هذه العاطفة حباً، فكيف اقترنت منذ البداية بسلام القلب، والسكينة، والبشر، والثقة؟ وكيف أنه وهو في حضرة امرأة رفيعة رائعة الحسن، يتوقف عليها مصيرمستقبله في معنى من المعاني، استطاع أن يشعر بمنتهى الحرية والطمأنينة، ولم يخالجه أي اضطراب أو وجل؟ هذا وهو الحدث الحيي الذي لا يعرف شيئاً عن العالم.
وسألته عن أحواله ورغباته، فقص عليها قصته، وبعد أن فكرت ملياً في أمره ولم تجد له حلاً موافقاً، اقترح أحد ضيوف المنزل على مضيفته أن يسافر الفتى الشريد إلى تورينو ليلتحق هنالك بمعهد لتخريج الكهنة، وفيه يلقى العون المادي والروحي، فوافقت مدام دي فرنس لأنها لم تجد حلاً آخر، وساعدت روسو ببعض المال، فسافر إلى تورينو بعد أن أقام لديها بضعة أيام أسرته فيها بساحر خلالها وبثت إليه شعوراً خالداً بالمحبة والعرفان؛ وهنالك قدم أوراق التوصية التي يحملها. وكان المعهد معهد تبشير للكثلكة، فلم يمض حين حتى حمل روسو على تغيير مذهبه البروتستانتي واعتناق الكثلكة، ثم أخرج على أثر ذلك من المعهد ونفح بمكافأة صغيرة فلبث حيناً يتجول في المدينة، وينتقل من مسكن إلى آخر، وهو شريد لا يدري ماذا يصنع، حتى ألقى به القدر إلى خدمة سيدة نبيلة تدعى الكونتة دي فرتشلي. وكانت أرمل متقدمة السن ولا ولد لها، وكانت أديبة قارئة، فكان روسو يكتب ما تمليه عليه من القطع والخطابات؛ ولكنها لم تلبث طويلاً حتى مرضت ثم توفيت؛ وغادر روسو المنزل آسفاً شريداً؛ حتى سنحت له فرصة أخرى، فألحق بتوصية من بعض(62/17)
الأصدقاء بخدمة الكونت دي جوفون أحد رجال البطانة، وتعرف عندئذ بالأب دي جوفون أحد أعضاء هذه الأسرة، وتلقى عليه دروساً في اللاتينية والأدب القديم، ولبث في عمله الجديد أشهراً أخرى، ثم أقيل منه فخرج خالي الوفاض مهموم النفس وكره البقاء في تورينو، وأعتزم العودة إلى أنسي وإلى مدام دي فرنس.
فغادر تورينو على قدميه، ووصل إلى أنسي بعد رحلة شاقة، وقصد إلى منزل المحسنة إليه؛ وآنس في الحال منها ذلك العطف القديم، فارتمى على قدميها وهو يلثم يدها فرحاً، وفاض قلبه سعادة إذ علم أنها أعدت له غرفة بالمنزل وأنه سيقيم إلى جانبها باستمرار. وهنا يفيض روسو في وصف عواطفه نحو هذه السيدة البارة الساحرة، فيقول إن علائقهما لم تثر منذ الساعة الأولى أية كلفة، فكانت تسمية (ولدها الصغير) ويسميها (أمه) وأن هذه التسمية كانت أصدق معبر عن بساطة هذه العلائق وسذاجتها، وبالأخص عن تجاذب قلبيهما، وأن الشهوة الجنسية كانت بعيدة عن ذهنه، ولكنه كان سعيداً إذ وجد (أماً) فتية حسناء تغمره مداعباتها وقبلاتها - أجل قبلاتها - سحراً، وإنه كان يشعر إلى جانبها ولدى نظراتها وأحاديثها بمتعة خالدة لا يستطيع أن يدرك كنهها، يقول روسو: (كان يأخذني سحر المقام معها، ورغبتي المضطرمة في أن أقضي حياتي إلى جانبها، فكنت أرى فيها دائماً، أكانت غائبة أم حاضرة، أماً رؤوماً، وأختاً محبوبة، وصديقاً ممتعاً، ليس غير؛ وكانت صورتها التي لا تفارق قلبي قط لا تفسح مجالاً لأية صورة أخرى، فلم أك أرى في العالم امرأة سواها، وكانت عذوبة المشاعر التي تبثها إلي تمنع حواسي من أن تنتبه إلى مشاعر أخرى، وتحميني منها ومن جنسها كله، وبعبارة أخرى كنت عفيفاً لأني أحببتها، فتأمل هذه النتائج التي لا أكاد أحسن عرضها، وقل لي من ذا الذي يستطيع أن يصف طبيعة شغفي بها. . .)
البقية في العدد القادم
محمد عبد الله عنان المحامي(62/18)
من المدنية الإسلامية
الأرقام الهندية شرقية لا غربية
الأستاذ محمد عبد السلام البرغوثي
ثلاثة عوامل أساسية دفعت الإنسانية من حظيرة الهمجية التي رتعت فيها أجيالاً إلى مستوى المدنية الذي تتبوأ في يومها هذا. ولا تزال هذه العوامل دعائم مدنية الإنسان الثابتة وهي
(1) التقاليد الاجتماعية المتوارثة جيلاً بعد جيل، وقد انتهت هذه التقاليد بالعقائد الدينية الراسخة التي حولت وجه البشرية شطر المثل العليا.
(2) اللغة التي تطورت إلى آداب رفيعة سمت بالإنسان إلى مدارك الحياة العليا.
(3) العلم الذي توج بانتصارات باهرة سلمت للإنسان مقاليد الحياة.
ولقد كان هذا الشرق مهبط وحي الأديان الحنيفة التي خلصت البشر من ديجور الجهل وأنارت لهم سبل الحياة القويمة. وقدم هذا الشرق للعالم الحروف الهجائية فكانت واسطة تخليد آدابه الرفيعة واكتشافاته المجدية في مجاهل الحياة، ومفتاح ثقافة متماسكة مسرعة الخطى نحو الكمال. ومن قرائح أبناء هذا الشرق أخرج الله للعالم الدعامة الثالثة لصرح مدنيتهم هي - ألف باء الحساب - أسس العلم الحديث، فتم بذلك للإنسان ثلاث وسائل فعالة تتحد وتأتلف لتدفع به في سبيل القوة نحو غاية سامية قدرها الله.
لقد بلغت الحضارة الإغريقية شأواً بعيداً من السمو، ووضعت العقلية الإغريقية قواعد المدنية الأساسية، وخطت للبشرية معالم مدنيتها فكانت مبرزة في كل مضمار إلا في الحساب والجبر لعوزها الأرقام وهي اللبنات الأساسية في بناء هذا العلم.
ولو لم تزد الحضارة الإسلامية على تراث الإغريق سوى تلافيها هذا النقص الذي كان يعتريها لكفاها مأثرة وفخراً.
حوالي سنة 156هـ وفد إلى بغداد تاجر هندي يحمل مقالة في الرياضيات وأخرى في الهيئة. فكانت الأولى أول رسالة رياضية ترجمت إلى العربية ترجمها إبراهيم الفزاري بأمر من الخليفة. وكانت هذه المقالة على ما هو شائع ومتعارف تحوي الأرقام التسعة والعمليات الحسابية الأساسية. ولهذا كان للحساب عند العرب اسمان: (الهندي) وهو ما كان(62/19)
على الطريقة الرقمية الهندية، والأرتماطيقي وهو ما نسج على أسلوب الإغريق الخالي من استعمال الأرقام.
لعل أول إشارة إلى أصل هذه الأرقام، العالم سفيروس سيبوخت أحد أعلام مدرسة نيسابور على ما يظن في القرن السابع الميلادي، فقد جاء في كتاب له مؤرخ سنة 662م عن براعة أهل الهند في العلم ما يأتي: -
(. . ولا يتسع المقام لشرح ما كان للهند من حذق للفلك وبراعة في الاختراعات التي تفوق براعة الإغريق والبابليين. ونخص بالذكر طرق حسابهم للمقادير والكميات وتفوق كل وصف، وصفوة القول في هذا الصدد أن هذا الإحصاء والتقدير يتمان باستعمال علامات تسع). (فعلى من يعتقد من الإغريق أنهم قد بلغوا نهاية القصد في العلم أن يفقه ذلك ويدرك أن من الأمم غير الإغريق من ضرب في العلم بسهم وافر). أهـ
وعلى هذا كان الاعتقاد السائد في العالم العربي وفي أوربا طيلة القرون الوسطى أن الأرقام من أصل هندي. وقد نشر العلامة الفرنسي ووبوك في المجلة الآسيوية التي تصدر في باريس عام 1863 بحثاً مستفيضاً عن تاريخ الأرقام مرجعاً إياها إلى الأصل الهندي، فكانت كلمته فصل الخطاب في ذلك العهد.
وفي مستهل القرن الحالي أثيرت ضجة حول هذا الموضوع كان فرسان حلبتها وحاملوا لوائها ثلاثة من علماء الغرب الأعلام، أولهم كيس الأمريكي البحاثة في علوم الهند، والثاني كارادفو الفرنسي الحجة في تاريخ المدنية الفارسية، وثالثهم نيقولاوس بهنوف الروسي وهو ضليع في اشتقاق اللغة. وقد شك هؤلاء في صلة الهند بالأرقام، وقدم الأخيران فرضاً جديداً لتاريخ الأرقام.
نشر الأستاذ كيس عدة مقالات عام 1907 في المجلة الآسيوية في البنغال عن تاريخ الرياضيات في الهند. وكتب دفو بحثاً في مجلة سنة 1917 عن أصل الصفر. أما بهنوف فقد أخرج مؤلفين عام 1908 أولهما (استقلال الثقافة الأوربية في العلوم الرياضية) وقد ترجم إلى الألمانية عام 1918 وثانيهما (تاريخ الأرقام)
تصدى الأستاذ كيس في تحرياته إلى سبع عشرة لوحة نحاسية بها مخطوطات هندية يرجع تاريخها إلى ما قبل القرن العاشر الميلادي وتحوي أساس استعمال القيمة المنزلية للأرقام و(62/20)
الأرقام، وأثبت أنها جميعها مزيفة إلا واحدة مؤرخة سنة 867 م. أما أقدم مخطوطة هندية تحوي الأرقام العشرة فترجع إلى سنة 1050.
على هذا الأساس رفض كيس قول المؤرخين السابقين الذين ذهبوا إلى أن الأرقام كانت معروفة لدى الهنود منذ القرن الثالث للميلاد. ورد على من زعم بأن الفلكي الهندي وعاش في القرن السادس الميلادي هو مخترع الأرقام زعمه عليه.
كان ووبوك قد عرض في أبحاثه عن تاريخ الرياضيات إلى مخطوطات عربية جاءت على ذكر بعض مسائل حسابية كطريقة تحقيق عمليات الضرب والقسمة بإسقاط التسعات، ونعتها بالطريقة الهندسية. ولما خيل إليهأن هذه الأعمال حسابية بحتة ولا صلة للهندسة بها، قرر أن الكلمة مصحفة عن (هندية). أما كيس فقد استطاع أن يثبت أن شرح هذه الطرق الحسابية ممكن هندسياً وأنه كان فعلاً معروفاً لدى العرب. وعدا ذلك فقد تحرى جميع المراجع العربية التي عثر عليها فوجد أن معظم هذه المراجع لم يبحث فعلاً عن العمليات الحسابية بالطريقة المعروفة برغم أن عناوينها تشير إلى ذلك. فمن هذه المؤلفات وأقدمها مؤلف الخوارزمي الذي عثر على ترجمة لاتينية له عنوانها وليس فيها ما يشير إلى استعمال الأرقام غير هذا الاسم.
وقد عثر كيس على مخطوطات هندية جاء فيها نظام للأعداد التسعة دون الصفر يخالف النظام الآخر الذي وجد وفيه الصفر فرجح أن النظام الأخير جاء الهند من البلدان المجاورة في أزمنة متأخرة.
ومما قوى عزيمة كيس على إنكار نسبة الأرقام للهند أن الأعداد تكتب من اليمين، أما الكتابة الهندية فمن اليسار.
أما العالم الفرنسي دفو فقد كان أشد جرأة في رفض فضل الهند على الأرقام إذ قال إن مؤلفي العرب جروا في تسميتهم الأرقام الهندية على ما جاء في حادث الفلكي الهندي الذي وفد إلى بغداد في عهد المنصور وهي حكاية يراها هو أنها مدسوسة من علماء النساطرة والسريان نكاية في الإغريق الذين كانوا يتوخون التنقيص من فضل مدنيتهم، وإشارة سبوخت إلى ذلك واضحة في روايته التي مر ذكرها. وقد تناقض رواة هذه الحكاية في تاريخها: فالبيروني في مؤلفه (تحقيق ما للهند من مقولة) المطبوع بلندن سنة 1887 (ص(62/21)
208) يسند هذه الحكاية إلى عام154 هـ ويشاركه في ذلك المسعودي في كتابه (مروج الذهب). أما القفطي صاحب طبقات الأطباء (ص177 طبع مصر) فيسندها إلى عام 156 هـ نقلاً الزيج الكبير لأبن الآدي. والمظنون أن البيروني المتوفى سنة 1038 م أخذ روايته عن المسعودي المتوفى سنة 943 م دون تحقيق لها، ونستدل على ذلك من اقتضابه هذه الرواية وعدم شرحها أو تمحيصها على خلاف ما عهد عنه من الإطناب والتمحيص في أخباره الأخرى عن أهل الهند.
ويجري دفو في حكمه على روايات المؤلفين العرب على طرفي نقيض من ووبوك إذ يرى أن كلمة (هندي) مصحفة عن هندسي في كتب الرياضيات العربية. ولقد برع العرب حقاً في تحقيق الأعمال الجبرية والحسابية هندسياً.
والعالم الروسي بهنوف بحث القضية من وجهة لغوية وذلك اختصاصه. وله في اشتقاق اللغة سبق. فلم يرتح إلى نسبة الأرقام إلى الأصل الهندي. ويذهب إلى أن مبدأ استعمال القيمة المنزلية للأرقام كان أولاً في (العداد إذ يقول إن بعض هذه العدادات كان يتكون من صفوف في كل صف حبات عشر كل واحدة تخالف الأخرى شكلاً وترمز إلى رقم من الأرقام العشرة الأساسية، وأن الأعمال الحسابية كانت ممكنة باستعمال هذه العدادات. ثم قلدت هذه الرموز كتابة فجاءت الأرقام على الصورة المعروفة. ويعتقد إن قدماء الإغريق واليونان استعملوا هذه العدادات بالرغم من عدم قيام أي حجة أو دليل يدعم مقولته.
إذا صح ما ذهب إليهبهنوف من أن الأرقام تطورت من العداد فمن المتعذر نسبتها للهند، لأن الهنود القدماء لم يثبت استعمالهم للعداد، وقد أخذ العرب هذه الآلة عن الفرس، وفي تسميتهم إياه (بالتخت) الدليل القاطع على ذلك.
لقد شهد الأستاذ كاجوري المؤلف المعروف في تاريخ الرياضيات بأمانة كيس في البحث وتوخي الدقة العلمية وعدم التحيز والمغالاة، والحقائق التي توصل إليها تضعف النظرية الهندية ولكنها لا تنقصها من الأساس.
أما العالم الفرنسي فقد ركب متن الشطط ومرق من أمانة العلم إلى خسة التعصب والأثرة. فقد ذهب إلى أن الأرقام من تراث المدنية الإغريقية انتقلت إلى الشرق عن طريق الثقافة الإغريقية فيما بين النهرين على العهد الفارسي، وأخذها العرب عن الفرس. بينما نقل(62/22)
الرومان هذه الأرقام إلى أوروبا، ولهذا تباينت هذه الأرقام شكلاً عند مختلف الأمم. وليس من باعث على هذا الاعتقاد الواهن إلا ما وقر في نفوس علماء الغرب من إعلاء شأن الثقافة الإغريقية ونعتها بما لا تستحقه من صفات، والحط من قدر الشرق واستهجان مدنيته. ولقد طمس هذا التعصب الخسيس مآثر المدنية الإسلامية إذ رماها بالتقليد والتقيد واللبس بينما قصر الابتكار والسمو والوضوح على مدنية الإغريق.
ومما لا ريب فيه أن الأرقام تداولتها أمم الشرق في العهد الإسلامي أجيالاً قبل أن تعرفها أمم الغرب، وعن العرب أخذتها أوروبا، ولا تزال تسميها بالأرقام العربية. فإن كان تداولها في القرن العاشر الميلادي على ما يقرر كيس فلا بدع أن هذه الأرقام نشأت في طرف من أطراف الإمبراطورية الإسلامية الشاسعة، ثم عمت هذه الإمبراطورية قبل أنم تعرفها أمم الفرنجة.
وللمستقبل أن يلقي شعاعاً على ما غمض من تاريخ هذه الأرقام ويردها إلى منبتها الذي فيه نشأت. وليس لعالم غربي أن يستأثر بهذه المبرة الشرقية في غفلة من الشرق وعجز عن التمتع بحقوقه كاملة غير منقوصة وويل من العلم لمن ينتهك حرمة العلم! هذا وفي فصل آخر سنأتي على انتقال الأرقام إلى أوربا.
محمد عبد السلام البرغوثي
مدير مدرسة حيفا الثانوية(62/23)
الشخصية
للأستاذ محمد عطية الأبراشي المدرس بكلية الآداب بالجامعة المصرية
مقدمة:
إذا تقدم أحد أقاربك من الشبان لوظيفة من الوظائف، ثم سئلت عما تعرفه عنه بالتفصيل، فقد تجيب بأنه: شاب أمين نزيه، صادق في قوله، كريم الخلق، حسن السلوك، سليم القلب طاهر السريرة، كثير التفاؤل، قليل التشاؤم. يقول ما يعتقد، ويعتقد ما يقول، هذا من الوجهة الخلقية. أما من الوجهة العقلية فهو: ذكي، حاضر البديهة، حسن البصيرة، صافي الذهن، صادق الحس؛ وأما من الناحية الاجتماعية فهو محب للتعاون، عدو للأثرة، يشارك الناس في مسراتهم، ويواسيهم في أحزانهم، يوقر الكبير، ويعطف على الصغير. مطيع للرئيس، وفيّ للنظير؛ وأما من الناحية الجسمية. فهو قوي الجسم، معتدل القامة، حسن الهيئة، جميل الذوق؛ وأما من الوجهتين العلمية والعملية فهو مثل في النشاط وأداء الواجب، واسع الإطلاع، غزير المادة. . . . . . وما إليها من الصفات المختلفة التي يتصل بها ذلك المثل الأعلى من الشباب
فمجموع هذه الصفات هو عبارة عن شخصيته العليا بصورة واضحة مفصلة. وقد أثبت علم النفس التطبيقي أن الشخصية شرط أساسي للنجاح في الحياة، وأن المؤهلات العلمية وحدها لا تكفي للنجاح، بل يجب أن تصحب بالشخصية القوية. فكثيرون من الأطباء والمدرسين والمحامين وغيرهم قد فشلوا في حياتهم العملية لضعف شخصياتهم مع كفايتهم من الوجهة العلمية.
ولكن ما تلك الشخصية التي طالما سمعنا الناس ولا نزال نسمعهم يتكلمون عنها، ولا ندري من أمرها شيئاً؟ وإجابة عن هذا السؤال نقول:
تعريف الشخصية
ليس من السهل أن نحدد الشخصية ونعرفها تعريفاً علمياً جامعاً مانعاً؛ فهي كالكهرباء والمغناطيسية والجارس (الراديو) لا تعرف إلا بآثارها. ولكن هذا كله لا يمنعنا أن نحاول البحث عن سرها وتعريفها ولو تعريفاً تقريبياً فنقول:(62/24)
(1) الشخصية هي مجموع الصفات والمزايا الذاتية التي يمتاز بها الشخص من غيره. أو هي:
(2) مجموعة الصفات العقلية والخلقية والجسمية والإرادية التي يتوج بها الإنسان. أو هي:
(3) مجموعة الفروق التي تميز الشخص من غيره.
والحق أن هذه التعريفات كلها تقريبية، وأن الشخصية لا يمكن تحليلها إلى عناصرها الأولية تحليلاً محساً، ولكنها تبدو لنا في مقدار ما عند الشخص من الاستقلال الفكري، وحضور البديهة، وسرعة الخاطر، وقوة الروح، وهي كالحب والكره اللذين لا يمكن تعليليهما عادة، فقد تحب شخصاً أو تبغضه لمجرد رؤيته بدون معرفة سابقة، وقد لا يمكنك إبداء السبب. وكل ما تستطيع أن تذكره هو أن تقول: إني أحبه أو لا أحبه. أما السبب فلا يمكن تعليله لأنه أمر معنوي وسر خفي يتعلق بشخصية ذلك الرجل. وقد يكون الشعور بالحب أو البغض ناشئاً عن صفات أو عيوب خاصة في الشخص الذي تعرفه وتقابله من حين لآخر، فنحن نحب فلاناً مثلاً لأنه مخلص كريم شجاع متفائل، يواسي الفقير ويساعد البائس. ونكره فلاناً لأنه لا يعرف الإخلاص، والإخلاص لا يعرفه، يتمثل فيه البخل، والجبن، والتشاؤم، والقسوة والغلظة، لا يحن إلى مسكين ولا يتألم لحزين. وفي مثل تلك الأحوال نعرف إلى حد ما سبب المحبة أو الكراهة، ولكن ليس ذلك بسهل دائماً؛ فقد نحب الشخص في أول لحظة نقابله فيها، وقد نبغضه لأول وهلة قبل أن نعرف شيئاً عنه، نحبه لمظاهره أو نكرهه لهذه المظاهر، ولا يمكننا أن نوضح الأسباب التي جذبتنا إليه، أو التي نفرتنا منه. والسبب الجوهري هو أن شخصيته محبوبة أو مكروهة.
هل الشخصية هبة طبعية أو صفة مكتسبة؟
والجواب أن الشخصية توهب بالفطرة، وقد تكتسب بالتربية الحق، ولكن الطيعية أقوى من المكتسبة. ولو كانت الشخصية هبة طبيعية فحسب لكنا ضحايا الظروف، وما كان للتربية أي أثر في تكوين العظماء من رجال الدين والعلم والأدب والفن. ولكن أثرها لا ينكر في تكوين الشخصية والعظمة في نفوس العظماء. وهنا نسأل هل قامت التربية وقام المربون حقيقة بواجبهم نحو تربية الشخصية؟ هل قاموا بواجبهم وقد أصبحنا نفكر فيما فكر فيه غيرنا، ونتكلم بما قاله سوانا، ونفعل مثل من سبقنا؟ إننا أصبحنا مقلدين في أفكارنا وأقوالنا(62/25)
وأفعالنا، مهملين أنفسنا وشخصياتنا، لأن التربية تربية إتكالية، لا تعرف معنى الثقة بالنفس والاعتماد على النفس في التفكير والقول والعمل. وقد نادى كبار المربين وبخاصة (السر برسي نن) المربي الإنجليزي الكبير بأن الغرض من التربية هو تربية الشخصية المستقلة، ولكن كتب التربية في واد، والمدارس في واد آخر. فبينما نقول: يجب أن يربى الفرد تربية كاملة من كل الوجوه، جسماً وعقلاً وخلقاً واجتماعاً، نجد أن الفرد مهمل إهمالاً تاماً من جميع الوجوه، وأن شخصيته تطبع بالطابع المدرسي، وتصب في قالب خاص، فتفقد مظاهرها الطبيعية. كل ذلك حباً في النظام، ولسنا ننكر أن النظام يجب أن يكون سائداً، بل إننا ننادي بالنظام، ونقول دائماً: النظام هو الحياة، ولكننا نعترض على الطريقة التي يسود ذلك النظام، تلك الطريقة التي تقتل شخصية الطفل وتضعف مواهبه، ونريد طريقة أخرى بها يستتب النظام من غير إضرار بعقلية الطفل أو وجدانه أو إرادته أو جسمه أو شخصيته، وليست هذه الطريقة بسهلة، لأنها تتطلب مشاركة في الوجدان، وفهماً لكل فرد من حيث الذكاء والميول والبيئة والظروف. . وما ذلك بالأمر الهين، فنحن لا نفكر إلا في المظاهر، والنظام الشكلي، والسكون العسكري. مهما ضحينا في سبيل هذه الأشياء من الضحايا. وإذا تحققت الثقة بين المعلم والمتعلم؛ ووجدت الصلة الروحية بينهما فمن المحال أن تكون هناك صعوبة في نظام أو غيره، ولن تضحي شخصية الفرد أو الأفراد بعد.
الاختلاف في الشخصية
كما أن الناس يختلفون في الذكاء والميول الفطرية كذلك يختلفون في الشخصية؛ فبينما تجد هذا قوي الشخصية قد تجد ذاك خاملاً ضعيف الشخصية، وكما أن الشخصية تختلف باختلاف الأفراد كذلك تختلف باختلاف الشعوب؛ ففي الشخصية الألمانية تتمثل الروح العسكرية، والطاعة العمياء، والاتكال على الحكومة في كثير من الأشياء. وفي الشخصية الإنجليزية تبدو الثقة بالنفس، واحترام الذات، وتقدير الحرية الشخصية والاستماتة في سبيلها. وفي الشخصية الأمريكية تظهر الروح العامة أو (الديموقراطية)، وعدم الاكتراث للتقاليد، لأن أمريكا كأمة حديثة لا تقاليد لها. وفي الشخصية الفرنسية تتغلب العاطفة على التفكير، والنظريات على الأعمال. وتكثر الآمال، والميل إلى الخيال، وحب الظهور؛ فكل فرنسي يريد أن يكون ضابطاً إذا تقدم للحرب. ولا ندري من أين يؤتى بالجنود إذا كان(62/26)
الجميع ضباطاً، وإذا كانوا ضباطاً فإنهم لا يفكرون في الجنود ولا يحتفظون بهم خوفاً من أن يقل احترامهم. والمثل يقال في العلاقة بين المدرسين والتلاميذ، فأولئك في واد، وهؤلاء في واد آخر، والصلة بين هؤلاء وأولئك لا تتجاوز صلة الحجرة الدراسية تزول بمغادرتها وتتجدد بالعودة إليها.
والشخصية صفة نسبية وقوة سرية توجد في كل شخص إلى حد ما، وتختلف في نوعها وقوتها باختلاف الأشخاص. وقد تكون بارزة واضحة في بعض الأفراد يشعر بها الإنسان في الحال، وقد تكون كامنة خفية في البعض الآخر.
وليست الشخصية مقصورة على جنس دون آخر. ولا على طبقة دون طبقة أخرى، فكما تكون بين المتعلمين تكون بين غيرهم، وكما تكون بين المدنيين تكون بين القرويين. وكما تكون بين الرجال تكون بين النساء، وكما تكون بين الأغنياء تكون بين الفقراء، ولكلٍ تفكيره وتقاليده وطرقه ومعيشته الخاصة. والعاديون من الناس قد يكونون في ضنك من العيش، ولكن لهم شخصية خاصة، فهم يستطيعون أن يتحدثوا عن الحوادث المحلية، ويذكروا حقائق قومية، بروح قوية لا تنقص عن روح الكبار من القوم وقد يمتازون عنهم لأنهم لا يرددون ما يقرؤون من أفكار غيرهم، ولكنهم يصلون إلى هذه الحقائق بتفكيرهم الخاص.
(يتبع)
محمد عطية الأبراشي(62/27)
صورة
بغير عنوان!
للأستاذ علي الطنطاوي
(هذه صورة من صور الحياة، أعرضها على علاتها في الرسالة، ليلحق عليها من شاء
من القراء شرحاً وحاشية وتعليقاً.)
ذهبت أمس إلى الحلاق، وتخيرت آخر ساعة من النهار كي يخلو لي المكان، ولا تغروني نظرة. . فوجدت عنده شاباً، وكرهت أن أدخل فأنظره، وأنا أكره الناس للانتظار، فهممت بالرجوع. ولكن الحلاق أومأ إلي أن أدخل، لن يلبث حتى يقوم فقد أوشك أن ينتهي. فدخلت
وكان الشاب قد انتهى حقاً، وكان قذاله وعذاره وسالفته مقصوصة، وكانت جمته مرجله مصففة، وكان وجهه كالمرآة الصقيلة ما فيه (والحمد لله) أثر من لحية أو شاربين! فما باله لا يزال قاعداً على الكرسي؟ وماذا ترى الحلاق صانعاً به بعد؟ ثم اطمأننت وقلت: قد انتهى وإنه لقائم. وقعدت أرقبه فلم يرعني إلا الحلاق يقبل على شعره فينفشه نفشاً وهو ساكت لا ينكر عليه. فقلت: لعله قد بدا له، فأحب أن يقصر من هذا الشعر، ولن يطول أمد هذا التقصير، وإني منتظر.
وتنظرت والحلاق ماضٍ في عمله، حتى إذا تم النفش غدا على رأس صاحبنا شجرة ذات فروع. . . فعجبت كيف كان هذا الشعر كله مصففاً مستقراً، ورثيت له إذ يحمل على رأسه أبد الدهر هذا الحمل الثقيل، وأعجبني منه أن يزمع الخلاص منه.
ولكنه لم يقصه كما قدرت أن يفعل، بل أشار إلى الحلاق فعمد إلى هنات سوداء لا والله ما عرفتها من قبل وسنّى سنّى! فأدخلها النار حتى احمرت ثم أدناها منه، فأشفقت أن يصيبه منها أذى، ثم فكرت فقلت: لعله مريض يكتوي، وقديماً قالت العرب: آخر الدواء الكي. ونظرت فإذا هو يقبض على شعره بإحدى هناته تلك، ويديره عليها، ثم يستلها منه استلالاً، ثم يفعل مثل ذلك وأنا أعجب، حتى انتهى فإذا صاحبنا قد عاد جعد الشعر، وقد كان سبطا، فقلت: إنا لله! رجل أصله من البربر فهو يحب أن يتشبه بأصله، والتمست له المعاذير.
وحسبته قد انتهى وظننت أنه قائم، ولكنه لم يقم بل أشار إلى الحلاق. فضمّخ رأسه بماء (كلونية) وأقبل فسرحه تسريحاً، وعاد فمسحه بدهن استخرجه من حق صغير، فصار(62/28)
لرأسه وميض ولمعان، فقلت الحمد لله قد انتهى، ونزعت عني طربوشي، ثم أعدته إلى رأسي حين لم يقم. ولبثت أنتظر، وجاء الحلاق بكمهٍ فوضع فيها رأسه وشدها من حوله شداً، فقلت مصدع متألم فهو يخفف من صداعه.
ثم أخذ الحلاق الملقاط، وعمد إلى حاجبيه، فجعل ينتش منهما نتشاً وأنا أرثي له، وألح عليه بالنظر، علّ عينيه تقع على عيني، فأبذل له عوني ونصرتي، فإن هذا الحلاق لا يكاد يرحمه فلا يبصرني. ثم أدركت الحلاق رحمة فعفا عنه وأبقى عليه، فنظرت فإذا حاجباه خطان كأنما خطا بقلم؛ فقلت سبحان الله أي فتاة تعطى مثل هذين الحاجبين ثم لا تنزل راضية عن سنين من عمرها.
وفتح الحلاق خريطة فاستخرج منها كبة، أخذ منها خيطاً لفه بين أصابعه وجعل في وسطه فرجة تضيق وتتسع كلما شدها أو أرخاها، وأمر هذا الخيط على وجهه يتمعر ويخيل إلي أنه يقاسي ألماً شديداً، ثم كف عنه. فلا والله ما ترك في جبينه زغبة إلا واجتثها هذا الخيط.
فقلت: قد انتهى، ولم يبق في وجهه ما يذهب به، إلا أن يكون أنفه، فيكون كباغي الجمال بجدع الأنف، ولكن سرعان ما خاب ظني في أنه انتهى. ورأيت الحلاق يدلك وجهه دلكاً ويقرصه قرصاً، فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، قد جن الرجل. . وإلا فماذا يكون هذا القرص من الحلاق، ثم كف فنظرت في وجه الشاب فإذا عليه حمرة الخجل، وأنعمت النظر والتفكير فعلمت أنها حمرة الصحة والحياة، أو حمرة الدلك والقرص، فهممت أن أقوم إليهفألتزمه وأهنئه على هذا الاختراع: يصيب الناس الصحة بالغذاء وبالرياضة ويصيبها هو بالدلك وبالقرص، ثم تخاذلت ورحت أنظر مشدوهاً إلى الحلاق وهو يصبغ وجهه بالأبيض والأحمر، ورأيتني لا أطيق احتمال هذا منه وأنا أكره من النساء أن يفعلنه، وعجبت كيف لا ينكره هو؟ وكيف لا يغضبه أن يعامل كامرأة.
ولكنه لم ينكر شيئاً، بل أشار إلى الحلاق، فجاء بإصبع حمراء فمس بها شفتيه كما تفعل فتيات السينما سواء بسواء، فلم أستطع المكث بعد هذا وقمت فجلت في السوق جولة. ثم عدت لما فارق الكرسي.
وما أدري بعد كيف أصفه؟ أأبدأ من رأسه أم من رجليه؟ أما رأسه فقد عرفت أي شيء(62/29)
هو! أما صدره وظهره فبادٍ أعلاهما، وأما ذراعاه فمكشوفان. . . ولو أنت عرضته على الناس بزينته تلك ما عرفوا أرجل هو أم امرأة
أما (بنطلونه) فأبيض رقيق يبدو ما تحته واضحاً إلا شبراً تستره سراويلات قصار.
ثم كانت الطامة الكبرى وأقترب مني الشاب يسلم عليّ ويزعم أنني أعرفه.
- أنا أعرفك؟ كلا. أراك مخطئاً.
- أوه؟ كيف؟ أنا تلميذك منذ كذا سنين في مدرسة كذا، وأنا الآن معلم في المدرسة التي فيها ابنك.
- أنت معلم؟!
وندت مني صرخة تعجب ولم أجب.
دمشق
(علي الطنطاوي)(62/30)
فصول مدرسية في الأدب الدرامي
5 - الرواية المسرحية في التاريخ والفن
بقلم أحمد حسن الزيات
أداء العمل - الحركات
هي أحد لساني العمل. ومصاحبتها للكلام في إبانة الفكرة طبيعة في الناس منشأها ضعف العبارة وعجز اللغة عن تصوير ما يجول في النفس من خواطر ومشاعر. لذلك تجد حركات الجسم وملامح الوجه تشتد وتحتد كلما أصاب اللسان عي أو لكنة. ومن ثم كانت الشعوب ذات الخيال القوي والإحساس الشديد أكثر الأمم حركة وأشدها لهجة. والمرء إذا ما التاث عليه القول لنقص طبيعي في منطقة أو لضعفه في اللغة التي يعبر بها، اعتمد على هذه الدلالات المنظورة فمرنها وقواها كما ترى في الأخرس والبادئ في تعلم لغة جديدة. وأشد ما تكون الحركات قوة وظهوراً حين تثور النفس وتضطرم العواطف، فتتفجر من اللسان والجوارح والملامح. لذلك كانت الحركات عنصراً من العمل الروائي، وجزءاً من الفن الخطابي، لشدة انفعالاتهما وكثرة مفاجآتهما وازدحامهما عادة بالمواقف الثائرة أو الساخرة. على أن الحركات قد تقوم بنفسها مقام الكلام كما ترى في الخيال الشمسي والخيال الظلي والرقص التمثيلي مثلاً. وليس من شأننا أن نتعرض لهذه الأبحاث فلها فن آخر، وإنما حملنا على ذكر الحركات ذيادنا عن حق البلاغة في العمل الروائي والمسرحي، وقد مر شيء من ذلك عند الكلام عن العبارة، وربما عدنا إليهعند بحثنا في الدرامة.
الحوار: الحوار هو مطارحة الحديث بين شخصين أو ثلاثة على الأكثر، أما الرابع فقلما يكون له شأن في الحديث أو خطر. ومن الصعب أن تشركه فيه ما لم يكن دوره أن يظل صامتاً أثناء الحديث، أو يؤيد بعض المتحدثين بكلمات قليلة. وشرطه أن يكون جيد المناقلة، سديد المساجلة، حسن التقطيع، مطابقاً لموقف المتكلم وخلقه، متغير اللهجة والجرس تبعاً لمقتضى الحال، سريع الجواب قصير الخطاب، فلا يشبه دفاع المحامي ولا خطبة الخطيب، لأن ذلك يزهق روح الجاذبية ويبعث السأم في النفس. وأجدر الأساليب به أسلوب الطباق والمقابلة(62/31)
نجوى النفس. نجوى النفس هو حديث الممثل مع نفسه بصوت مسموع، ومحله حين تضطرب حال الشخص، فيغلبه الجزع ويفترسه الشك، فينفجر بالكلام الجهير معلناَ عن ضميره مصرحا بسره، ولو لم يكن هناك من يسمعه. وقد غالى رجال المذهب الإبتداعي في استعمال نجوى النفس، قاصدين بذلك إلى حذف الأنجياء وهم أشخاص كان كتاب الإغريق ومقلدوهم من القدماء يضعونهم في الرواية لا لشيء غير أن يسر إليهم البطل ما يفكر ويقدر بدل أن يتحدث إلى نفسه. ولكن الأبتداعيين بإسرافهم في النجوى، وإسهابهم فيها لم يبرئوها من النقص والإملال. فلهوجو مثلاً في رواية هرناني نجوى ألقاها (دون كارلوس) على قبر شرلمان بلغت ستين ومائة بيت! وجمال النجوى أن تكون قصيرة إلا إذا كان اضطراب الشخص قوياً فلا بأس أن تطول قليلاً.
أنواع الرواية
موضوع الفن الروائي هو حياة الناس بأسرها. فهو يصور المضحك والمبكي من الحوادث، ويصف الخامل والنابه من الناس. فإذا كان العمل الذي يمثله جدياً، والأشخاص الذين يصورهم من الطراز الأول والطبقة العالية سمي مأساة. وإذا كان العمل هزلياً منتزعاً من حياة العامة مصوراً لعيوبهم سمى ملهات. أما إذا جمع بين الجد والهزل، أو أقتصر على الجد ولكن أشخاصه من طبقة العامة والسوقة، فتلك هي المأساة الحديثة أو الدرامة. وكل ذلك يؤدى عن طريق الإلقاء، فإذا أدي عن طريق الموسيقى والغناء، كانت الغنائية وفروعها. وسنتناول كل نوع من هذه الأنواع بالشرح والتفصيل والتحليل، إلا الغنائية فسنلم بها إلماما على قدر صلتها الواهية بالأدب والبيان.
المأساة.
تعريفها: المأساة هي تمثيل عمل عظيم يبعث في النفوس الرعب والرحمة والإعجاب. وليس من الحتم أن تسفك الدماء وتنثر الأشلاء فوق المسرح لتحدث تلك الآثار، بل يكفي أن يكون العمل جليلاً والشخص نبيلاً، والهوى المتحكم رفيعاً، حتى ينشأ ذلك الحزن الرهيب الذي يجدر بالمأساة. ومعنى ذلك أن يكون العمل خطيراً كإرجاع ملك مغصوب، أو إخضاع هوى مستحكم؛ وأن يكون الأشخاص من ذوي التيجان وطلاب العروش، لأن(62/32)
وجيعة النفس لمصاب الملوك أشد من وجيعتها لمصاب السوقة؛ وأن يكون الموضوع مقتبساً من الماضي ليكسب العمل جلال القدم؛ وأن يكون الهوى المحرك للرواية هو الطمع أو الانتقام أو الحب.
هكذا كانت المأساة بعد كوزني: أرستقراطية العمل والأشخاص والأسلوب والغرض. وقد درج الناس دهوراً يوجبون أن تكون نهايتها فاجعة محزنة، أخذاً برأي أرسططاليس كما علمت، ولكن هذا الرأي جانبه المنطق وخالفه الواقع فأصبح غير واجب ولا محتوم، لأن العمل قد يثير الإعجاب ويبعث الرهبة والرحمة، ثم ينتهي مع ذلك بالسرور والغبطة.
غرض المأساة: فغرض المأساة إذن هو إصلاح النفوس بإثارة الرهبة من الجرم الفاضح، والرحمة للفضل المعذب، والإعجاب بالصنع الجميل. وطريقها إلى ذلك أن تمثل لنا أمثالنا وهم يصارعون الخطر ويكابدون المصيبة، على شرط أن يكون هذا الخطر مما يفزعنا، وتلك لمصيبة مما يروعنا، وأن يكون هذا التمثيل مصبوغاً بلون الحقيقة حتى يخدع أبصارنا ويملك بصائرنا، فنتأثر التأثير الذي نحبه
على أنك تسألني ما لذة المرء في شهوده نوائب الناس وسماعه أنين غيره؟ يقول ارسططاليس إن مصدر هذه اللذة هو إتقان التقليد، ويقول (لكريس) إن مصدرها شعور الإنسان بالنجاء والأمن من مصائب يصلاها غيره وهو بعيد عنها، كلذة الجالس على شاطئ البحر يبصر في عرضه سفينة تصارع الموج وتكافح الخطر وهو رخي البال هادئ السر. ويؤخذ من خطاب الشاعر الهندي طاغور الذي ألقاه في مسرح الأزبكية حين مر بمصر أن مصدر هذه اللذة تمثيل الحقيقة. (لأن الحقيقة من حيث هي، جمال لا يعد له جمال. ألست ترى إلى صورة المرأة العجوز أبدعها فنان ماهر؟ إنك تنظر إلى الصورة فتقر بجمالها، ولكن العجوز التي فيها ليست على شيء من الجمال، وإنما جمال الصورة أنها تمثل هذه المرأة على حقيقتها)
ونحن لا ننكر أن المرء يروقه أن يفزع من الخطر وهو بعيد، ويلذه أن يألم المصاب غيره وهو آمن، وأن تفكيره في سلامته من هذه الأرزاء وبراءته من تلك الأدواء سبب من أسباب سروره حين يشهد مأساة على المسرح، ولكن السبب الذي يبعث فينا تلك اللذة الغريبة من رؤية الألم وسماع الأنين غير هذا كله. فإن الأطفال وهم لا يفكرون هذا التفكير(62/33)
يلذ لهم أن يستشعروا الرعب والرحمة من سماع الحكايات المروعة المؤثرة. يظهر أن منشأ هذه اللذة فينا عند مشاهدة المنظر الفاجع هو ميلنا الغريزي إلى تمرين قوانا الجسمية والنفسية، وما يحدثه ذلك الميل في نفوسنا من قوة الشعور بحيويتنا وعقليتنا وحساستنا وقدرتنا على العمل والتصرف. وما الأمن الذي نشعر به عند شهود هذه الفجيعة إلا شرط ضروري لإحداث منظرها تلك اللذة لا مسبب لها. وذلك التمرين الطبيعي هو علة ما نجد في الطفل من شرهٍ إلى سماع الخوارق التي ترعبه، والحوادث التي ترهبه. وهو كذلك سبب ما نرى من سعي العامة والسوقة إلى الساحة التي كان يشنق فيها المجرمون أيام كان الشنق علنياً، وهو السبب أيضاً في ميل الأمم الغليظة أو القوية إلى صراع الثيران وأناشيد الحماسة، وميل الأمم الرقيقة أو الضعيفة إلى تمثيل العواطف وقصائد الغزل.
أما السبب في جعل الجاذبية المزدوجة من الرعب والرحمة أساس المأساة وروحها، فهو ما لهاتين العاطفتين دون سائر العواطف من التدرج مع الحادث، والترقي مع الخطر، والأخذ بمجامع القلب شيئاً فشيئاً إلى أن يبلغا الغاية عند انتهاء العمل. أما عواطف الحماس والفرح مثلاً فإنها تنشأ بقوة ثم تضمحل بسرعة.
موضوع المأساة: يقع الرجل في التهلكة والبؤس لأسباب خارجة عنه؛ أو صادرة منه. فالأولى تنشأ من حظه وموقفه وواجباته وعلاقاته، ومن صروف الحياة وأحكام الآلهة، وأفاعيل الطبيعة وأضاليل الناس. وأفجع هذه الأسباب وأوجعها ما دهمت البائس من مأمنه، وأتته ممن لا يتوقع منهم إلا الخير والنفع. والأخرى تنشأ من ضعفه وغفلته وميوله وأهوائه ورذائله، وقد تأتيه أحياناً من فضائله. وأسباب الهوى المقرون بطيبة القلب وسلامة النية، هي أقوى الأسباب تأثيراً وأكثرها خصوبة وأروعها حكمة. ومن هذا الفرق بين الأسباب الداخلية والخارجية نشأ للمأساة مذهبان: مذهب القدماء أو مذهب القضاء والقدر، ومذهب المحدثين أو مذهب النفس والهوى.
مذهب القدماء: فأما مذهب القدماء أو الإغريق بتعبير أصح فيعزو مصائب الأشخاص دائماً إلى سبب خارج عن إرادتهم، حتى لو اتفق أن حدث لهم ما يكرهون بسبب غفلتهم أو ضعفهم أو ميلهم كأوديب وهيكوب مثلاً حرص الكاتب على أن يخلق لهذه الأسباب أسباباً أولى كمشيئة القدر وغضب الآلهة. ولقد انتقل مذهب الإغريق إلى من خلفهم من كتاب(62/34)
العالم باقتباس رواياتهم أو موضوعات تاريخهم، واستعان المقلدون من كتاب الفرنج بالوهم المسرحي على تمثيل العادات والعبارات، فظهرت مقتبسات ميروب وأوديب وإيفجيني وأورست لراسين وفولتير على المسرح الفرنسي، أقوى وأروع وأبدع مما ظهرت به لوربيذس وسوفوكليس على مسرح أثينا.
والذي حمل الإغريق ومن لف لفهم على الأخذ بمذهب القضاء والقدر في الرواية أنه أشد تأثيراً وأقوى فجيعة. فإنك لا تجد أبعث للرعب وأدعى إلى الرحمة من رجل يعميه القدر فتسيره قوة غير قوته، وتسخره مشيئة غير مشيئته، وتعبث به إرادة متحكمة غير إرادته، ثم تراه يجهد عبثاً في الفرار من جريمة تراصده، أو النجاء من مصيبة تطارده. وذلك هو مذهب الرواقيين الذي لخصه (سنيكا) في هذه الجملة:
(إن القدر يقود ذوي الإرادة ولكنه يجر فاقديها) ذلك فضلاً عن موافقه هذا المذهب لمسرحهم وعبادتهم وسياستهم وعادتهم مما لا نجد داعياً لشرحه وتفصيله.
مذهب المحدثين: على أن القدماء كان لهم بجانب مذهب القدر الذي أملاه عليهم الدين والتاريخ والإقليم مذهب آخر هو مذهب النفس والهوى، ولكنهم أغفلوه إما لضعف تأثير وإما لعدم انطباقه على نظام مسرحهم في سعته وشكله ووسيلته، حتى جاء المحدثون وأولهم كرني أبو المأساة الحديثة، فأخذوا به وساروا عليه، وجعلوا المأساة صورة لمصائب الرجل الخاضع لهواه، لا لمصائب الرجل الطائع لحظه؛ وأصبح الرجل الحر الذي يخضع لإله عادل يسمح بالشر ولا يأمر به، ويتعرض لأرزاء الدهر بسبب أهوائه وأهواء غيره، موضوع المأساة الحديثة وينبوع الأثر المروع الموجع الذي يأخذ بأذهاننا ووجداننا. ومزايا هذا المذهب هو أنه أخصب إنتاجاً لاستمداده من ينابيع القلب البشري الفياضة، وأتم شمولاً لتحليله الإنسان في كل زمان ومكان دون الاقتصار على شعب معين وتاريخ معين؛ وهو مع ذلك أبلغ حكمة وأتم ملائمة للمسرح الحديث، وأروع جمالاً في التمثيل العصري. ولولا الخوف من أن يسأم القارئ من تفصيل قد لا يعنيه لأفضت في شرح هذه المزايا واحدة فواحدة، ولكن فيما ذكرته غناء للقارئ المستفيد. وأما عمل المأساة وصفاته كالإمكانية، والوحدة والجاذبية والتأثير والمغزى، وأجزاؤه الأساسية كالعرض والتعقيد والحل وما إلى ذلك من الانقلاب والتعرف والأسلوب، فقد سبق القول فيه.(62/35)
يتبع
(الزيات)(62/36)
بمناسبة عيد موزار
تكريم النوابغ
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
في الوقت الذي وصل فيه العدد الأخير من الرسالة إلى أيدي القراء كان سكان مدينة سالزبرج خاصة والنمساويون عامة. قد انتهوا من عيدهم الذي يقيمونه سنوياً ذكرى للموسيقار النابغة الذي لم يطل عمره أكثر من ستة وثلاثين عاماً بذّ فيها جميع معاصريه الموسيقيين وأحدث في الموسيقى الغربية حدثاً عظيماً لا يمحوه الزمان. ولد هذا النابغة في 27من يناير سنة 1756 في مدينة مدينة الحدائق والجمال، ونشأ وترعرع في حضن والده ليوبولد الذي كان موسيقاراً في خدمة الكنيسة في تلك المدينة، وقد ظهر ميله إلى الموسيقى ولما يبلغ الثالثة من عمره، وبدأ في سن الرابعة يعزف بعض القطع الصغيرة وفي سن السادسة رحل مع والده إلى ألمانيا فحاز عزفه إعجاب الملوك والأمراء حتى الإمبراطور فرنسوا الأول أجلسه بجواره وسماه (الساحر الصغير) كما أن البرنسيس ماري انتوانت التي صارت فيما بعد ملكة فرنسا رفعته بين ذراعيها لشدة إعجابها به، فقال لها الطفل عندئذ: (حقاً إنك لطيفة وعندما أكبر سأتزوج منك) وفي سن السابعة بدأ يعزف على الكمان والأركون في رحلاته مع والده كما بدأ يؤلف بعض قطع صغيرة. وفي أبريل من سنة 1764 زار مع والده إنجلترا. فكان إعجاب الأسرة المالكة به كبيراً، وقد أملى على الملكة قطعة موسيقية من تأليفه، كما أنه أهدى إلى المتحف البريطاني مقطوعة (الله ملجأنا) ولما بلغ الحادية عشرة ألف أول أوبرا له أسماها بناء على إشارة الإمبراطور جوزيف الثاني قالت عنها لجنة الفحص (إنه عمل لا يضارع) ومن ذلك الوقت أخذ يظهر حقد الموسيقيين عليه وهبوا يدسون له الدسائس في قصر الإمبراطور، فكان ذلك سبباً في البؤس والفاقة الذين لازماه طول حياته تقريبا. غير أن هذا لم يمنعه من إبلاغ رسالته وإخراج تأليفه العظيمة أثناء جولاته في إيطالياوغيرها من بلاد أوربا
وفي يوليه 1769 أي عندما كانت سنه ثلاثة عشر عاماً تقريباً منحته أكاديمية بولونيا لقب (مؤلف) مع أن القانون يحرم منح هذا اللقب لمن هو أصغر من عشرين عاماً. ولقد كان عجباً أن يخرج هذا الصبي النمساوي المولد والنشأة واللغة في26 ديسمبر سنة 1769 ولما(62/37)
يبلغ الرابعة عشر من عمره أوبرا باللغة الإيطالية في ميلانو أسماها أحرزت نجاحاً منقطع النظير، ومنذ ذلك الحين اعتبر هذا الفتى سيد الموسيقى وزعيمها. وفي سنة 1773 وبعد أن عاد إلى مسقط رأسه أخرج أوبرا بمناسبة زواج البرنس فرديناند فاقت كل ما أخرجه قبل ذلك حتى قال عنه أكابر الموسيقيين (إن هذا الصبي سيجعلنا نسياً منسياً) وزاد حسدهم له وحقدهم عليه كما زادت دسائسهم عليه في قصر الإمبراطور. وبالرغم مما كان يلاقي بسبب ذلك كله من ويلات، وما كان يعاني من ضيق وضنك، فإنه أستمر في إتمام رسالته بما كان ينفثه في الموسيقى من سحر، حتى اعترف له الجميع بأنه أدخل عليها تعديلات وتحسينات غيرت من طبيعتها. وكان أشد الحاقدين عليه في حياته ولما توفي في يوم 5 من ديسمبر سنة 1791مات معتقداً أن هذا الرجل هو الذي دس له السم في الدسم كما كان يعتقد الكثيرون، فراح بذلك ضحية نبوغه وعبقريته. ولكن النمساويون الذين يقدرون الفضل لذويه إن كان فاتهم أن يواسوه في حياته، فلم يفتهم أن يكرموه بعد وفاته فلقد رأيت له تمثالين عظيمين رفع أحدهما بين القصر الإمبراطوري ودار الأوبرا في فينا يحف به تلاميذه بآلاتهم الموسيقية ورفع الثاني في أفخم ميدان في مدينة وهم فوق ذلك يقيمون لذكراه في هذه المدينة عيداً سنوياً في شهر أغسطس من كل عام حيث يهرع إليه أكابر الموسيقيين والممثلين من فيّنا وغيرها من بلاد النمسا لإقامة الحفلات وتمثيل مختلف الروايات، فتراها غاصة بالجماهير من مختلف الشعوب بين إنجليز وأمريكيين وغيرهم. وقد بدأ عيد هذا العام يوم 28 يوليه وانتهى يوم 2 سبتمبر وكان لي حظ مشاهدة كثير من مظاهره في تلك المدينة الجميلة. وقد مثلت هذا العام في هذا العيد بعض الروايات المشهورة مثل , ست مرات كما أعيد تمثيل كثير من الروايات الأخرى في ال وفي مدينة مسرح اسمه لا يعرف له قط نظير في العالم وقد حضرت فيه تمثيل رواية يرفع الستار فترى أمامك دمى لا يزيد طول الواحدة على ثلاثين سنتمتراً تتحرك أمامك على المسرح وتتكلم وتمثل أدوارها بغاية الدقة والإتقان تسطع عليها أنوار قوية زاهية مختلفة الألوان. ولقد كنت دهشاً طوال مدة التمثيل لحركات تلك الدمى العجيبة وللمناظر الرائعة التي كانت تسحر الأنظار وتأخذ بمجاميع القلوب. فلعل أحد علمائنا يفسر لنا حركة تلك الدمى على المسرح.(62/38)
وبعد فلا يسعنا إلا أن أعلق أمنيتي العظيمة في أن يحل الوقت الذي يكرم فيه الشعب المصري نابغيه كما يكرم الأوربيون عامة والنمساويون خاصة نابغتهم العظيم موزار
عبد الحميد فهمي مطر(62/39)
من الأدب الإغريقي
الشاعر الصائم
بقلم بسام كرد علي
لقد أطبق شفتيه ولم يرد - بعد أن قضى الأيام الطوال ينشد أهل أثينا شعره الرائع العذب - أن يظل مثابراً على ما بدأ به، فألقى نفسه في داره والتزم حياة العزلة، وانقطع ذلك الصوت الذي كان يغذي جميع سكان أثينا، وسكنت تلك العواطف الثائرة وخليق بها ألا تسكن، وتشرق بأنوار الجمال لكل من يريد الجمال
فدخل عليه هوبول وكان من أصدقائه الملازمين، فوجده مستلقياً على فراشه النابي، وصاح به هوبول وقتئذ:
يا قيثارة الأرض! ويا عندليب السماء. هل حبست صوتك انتقاماً منا نحن أهل الأرض الذين أصمت آذاننا كلمات الحسد، وأعمت عيوننا ترهات النعيم، وشغلت عقولنا سفاسف الملذات، فلم يبقى منا إلا هذه الأجسام المركبة من عظم الكبر ولحم الفرائس، ودم نجس كالخمر المسكوبة في مجلس الدعارة.
فقام هايكلوس من مكانه وحمل جسمه المنهوك وحاول إخراج جملة قصيرة من صدره المتهدم قال: إني لا أزال أرى في نومي ويقظتي ملائكة أبولو تحاسب أهل أثينا عما حفظته من أشعار هوميروس، وعما تعي من كلم زيوفراست، وهيراقليط، وسقراط، فلا تجد غيرك يا هوبول، وتصرخ في أعلى السماوات بصوت موحش مهول لقد نسى أولئك الطاغون أشعار اليونان وكلمها، وتركوا عبادة آلهتها، فدعهم يا هايكلوس في ظلمات الجهل يعمهون.
دعهم فقد عبدوا البطون والقدود، وأضحوا قوقعات نجسة تدنس الأرض بسائلها اللزج، ما أشدهم طغياناً وفجراً، إنهم نسوك يا هايكلوس فثابر على صومك ولا تعد تنشدهم شيئاً، وإن الثلاثين يوماً التي انصرمت على انقطاعك لا تكفي، بل ثابر على صمتك فهؤلاء قوم قد نسوا ماضيهم وحاضرهم، وعليك أن ترحم نفسك. لأني أرى أن كل كلمة من أشعارك الباهرة قد سلبت خلية من جسمك الغض.
إني يا هوبول رأيت الملائكة تخاطبني غضبى: (سنترك المدينة طمعاً للشياطين،(62/40)
وسنحرسك فقط بعنايتنا)
(وكان هوبول جاثياً على ركبتيه بجانب الشاعر هايكلوس مصغياً لما يفسر له من أقوال الملائكة) فوخزه هايكلوس وأشار إليهليرى المدينة، فأبصر الشياطين تمرح في أسواقها وقد خيمت عليها السحب الربداء، وأعقبها قصف الرعود الصاخبة، فصرخ الأهلون. . . وجزعوا، وهرعوا إلى الجبال والآكام ومنهم من فر واختفى في الغابات. . . ومنهم من رضى بالاستسلام للشياطين، فلم يستطع هوبول أن يبقى صامتاً ساكتاً، فألقى نفسه من النافذة، وركض نحو القوم صائحاً:
ألم أذكركم بصوم هايكلوس، ألم أبين لكم غضب الآلهة لعدم انقيادكم لصوت الحق.
إنكم لم تعوا الحكم المرسلة على ألسنة شعرائكم، ولم تعبئوا بما صاغ لكم خطباؤكم من الأقوال المأثورة.
إن هايكلوس قد بلغ به الإعياء حد النزع، وأضحى لا يستطيع مقاومة مرضه الممض، وإن جوبيتر يرثي لحالكم الأسيفة بعد أن فقدتم كل ما في الحياة من معنى، وأصبحتم في حياة لا روح فيها، فإن أثينا بعد اليوم ستقفر من الفن، ستقفر من مواهبها السماوية، ستقفر من بلابلها الغريدة. لم يعد يخرج بين ظهرانيكم شعراء وحكماء يفنون أجسامكم لتغذيتكم، وينشرون الرائحة لتعطيركم، ويصوغون الحكمة لإرشادكم.
وما زال هوبول يجول في أحياء المدينة ويقص ما سمع من هايكلوس عن جوبيتر وأبولو والملائكة، حتى فزع القوم، فانتدبوا من يذهب إلى هايكلوس ويرجو وساطته بينهم وبين الآلهة، لئلا تستمر الشياطين في تمردها، فانتدبوا أشخاصاً من كل طبقة وتوافدوا مستجدين أشعاره صائحين: لقد أيقنا بحكمة الحكماء، وآمنا بحاجاتنا لأمثالكم الرفقاء. . . .
فخرج هايكلوس من داره وأخذ ينشد دعاءً يعيد لأثينا حياتها الأولى. . . . .
بسام كرد علي(62/41)
رد على نقد
مكة ومشهد
للدكتور عبد الوهاب عزام
قرأت وأنا على أهبة السفر كلمة في الرسالة لأخي الأستاذ أمين الخولي عنوانها (مشهد ومكة) فلم أجد بين مشاغل السفر فراغاً لإجابته ومناقشته، وعزمت أول الأمر أن أترك كلمته حتى تتهيأ لي المناقشة فيها، ثم بدا لي أن أكتب كلمة كعجالة الراكب، أو لهنة الضيف، يروي بها الأستاذ بعض ظمئه للحقيقة (وإنها لحقيقة أن تبتغي لذاتها).
أترك كلام الأستاذ عن (فرق ما بين العقيدة والفكرة وصلة العقل بمنطقه، والاعتقاد بسلطانه) فهذه فلسفة لم أتهيأ لفهمها، وأعمد إلى الموضوع:
أخذت على الرحالة محمد ثابت في مآخذ أخرى تاريخية ولغوية قوله إن الشيعة يفضلون مشهد على مكة، فقلت: (وأفظع من هذا كله قوله عن إخواننا شيعة إيران أنهم يفضلون مشهداً على مكة، وكيف يعقل أن أمة مسلمة شديدة الغيرة على دينها تعتقد أن الحج إلى مكة فرض، وقاعدة من قواعد الإسلام كيف يعقل أن هذه الأمة ترى زيارة مشهد أفضل من الحج إلى مكة الخ)، ففقه المسألة أن الشيعة يعتقدون أن الحج قاعدة من قواعد الإسلام، ولا يرون زيارة مشهد كذلك، خلافاً لما رواه محمد ثابت.
فهل استطاع الأستاذ أن ينقض هذه الدعوى بما روى من حديث هذا (الكوزة كناني) الذي تسلح به للجدال ولم يستطع إخفاء فرحه به؟
قلت: (ربما بالغ عامة الإيرانيين في تعظيم مشهد وغيرها من المزارات الشريفة كما يبالغ عامة المصريين في تعظيم مسجد سيدنا الحسين والسيدة زينب والسيد البدوي وإبراهيم الدسوقي، ولكن عمل العامة لا تقاس به عقائد الأمة. وهذه كتب الشيعة بين أيدينا تنطق بخلاف ما زعم الكاتب) فطالبني الأستاذ متحدياً بأن أذكر له من كتب الشيعة التي بين أيدينا شيئاً بعينه ليرتاح القارئ.
ثم قال: (وكيف يكون الأمر إذا كانت كتب الشيعة تقرر هذا التفصيل المكاني بقسوة وعنف إلخ) وساق ما نقله من كتاب الكوزة كناني. وظاهر أن دليل الأستاذ الخولي لا يفي بدعواه، فقد ادعى أن كتب الشيعة تقرر هذا التفضيل ثم لم يرجع إلى كتب الشيعة ولم يتحر أقوال(62/42)
أئمتهم، ولكنه اكتفى برواية في كتاب فرد لمؤلف لا يعرف عنه الأستاذ إلا أن له كتاباً مطبوعاً منه نسخة في دار الكتب. فلو فرضنا أن كتب الشيعة الأخرى تؤيد رواية الكوزة كناني لكان الأستاذ مجازفاً في الاستشهاد بكتب الشيعة قبل الإطلاع عليها
أنا لا أطيل على القارئ بنقل نصوص من كتب أئمة الشيعة، ولكن أعرض عليه خلاصة قراءتي:
في كتب الشيعة روايات في تفضيل كربلاء على مكة، وفيها روايات يؤخذ منها تفضيل مكة على غيرها مثل هذا الحديث المروي عن جعفر الصادق في كتاب (وسائل الشيعة إلى أحكام الشريعة) (ما خلق الله خلقاً أكثر من الملائكة، وأنه لينزل كل يوم سبعون ألف ملك، فيأتون البيت المعمور فيطوفون به، فإذا هم طافوا به نزلوا فطافوا بالكعبة، فإذا طافوا بها أتوا قبر النبي عليه الصلاة والسلام، فسلموا عليه، ثم أتوا قبر أمير المؤمنين فسلموا عليه، ثم أتوا قبر الحسين فسلموا عليه، ثم عرجوا، فينزل مثلهم أبداً إلى يوم القيامة.)
وفي كتب الشيعة أيضاً روايات عن فضل زيارة الحسين والرضا، ولكن خلاصة الروايات كلها، وفقه النصوص الكثيرة أن الحج والعمرة الواجبين لا تعدلها زيارة أحد، وأن زيارة الحسين قد تعدل عمرة أو حجة أو أكثر من ذلك من الحج والعمرة المندوبين بعد أداء حجة الإسلام المفروضة. وفي (وسائل الشيعة): قلت لأبي عبد الله (جعفر الصادق): ما تقول في زيارة قبر الحسين، فإنه بلغنا عن بعضكم أنه قال: تعدل حجة وعمرة، فقال: ما أصعب هذا الحديث. ما تعدل هذا كله، ولكن زوروه ولا تجفوه، فإنه سيد شباب أهل الجنة. . الخ.
فهذه خلاصة قراءتي في كتب الثقات، وذلك تصديق ما قلته في مقالي السابق، وفي صدر هذا المقال.
وقد ختم الأستاذ الخولي مقاله بعد أن أثبت عليّ الخطأ بقوله: (واكتفى بهذه الكلمة، قائلاً مع الأستاذ عزام في ختام كلمتي: وإنني لراج أن يتم التعارف بين الأمم الإسلامية، حتى لا يكتب بعضها عن بعض إلا عن علم وروية، وتثبت وإنصاف، والله ولي التوفيق.)
وإعادة كلمتي هنا تعريض معناه أن محمد ثابت كان ثبتاً فيما كتب، وأنني أنا غير المتثبت. ولعل الأستاذ قد عرف الآن أينا ينقصه التثبت، على أن من فاته التثبت وهو يصف أمة مسلمة بما هو حري بها وبدينها خير ممن فاته التثبت في الإدعاء على بعض المسلمين أنهم(62/43)
يفضلون زيارة كربلاء على الحج، وهو قاعدة من قواعد الإسلام عند المسلمين كافة.
عبد الوهاب عزام(62/44)
فجيعة الحياة
(أبي)
للأستاذ محمد محمود جلال
يا أبعد الناس عن لغو وإيذاء ... جوزيت بالخلد عن هَمٍّ وعن داء
مضت حياتك ركناً يستظل به ... سُغْب العُفاة ويؤوى البائس النائي
فكنت آية خير، في حمايتها ... دفع الخطوب بحزم دون ضوضاء
وإذ يمينك بالإحسان في شُغُل ... تمد يسراك ستراً عيب أَعداء
عف اللسان كثير العفو في أدب ... كم طوح الخصم في وعظ وإطراء
تغار للحق والدنيا على ملق ... وتصرع الظلم والدنيا بإملاء
حتى أتى القدر الغلاب عن أجل ... على الصبابة بين السين والراء
فهز نعيك في الدنيا مكارمها ... وقوِّضت من حياتي كل سراء
في غربة فجعتني قبل موعدة ... وهونت بعد رزئي فيك أرزائي
التوبة
يا حبيبتي هَدَأ الحب ... فَما يُجْدِي التَّمنِّي
واستَرَحْنَا من غرامٍ ... وعذابٍ وتجنِّي
واْنَتَهَيْنَا لِسُكُونٍ ... هاتِفِ الصَّمْتِ يُغَنَّي
وفَرَغْنَاَ من أمانٍ ... قَرَّبَتْ بالأمْسِ حَيْنيِ
يا حَبيبي هَدَأ الحبُّ ... بقَلْبي وَضُلوعِي
وتراءى الكَوْن ليْلاً=في سُكونٍ وخشوع
وَطُيُوُر الرَّوْض غَنَّتْ ... في الضُّحَى لحنَ الربيعِ
أقْفَر القَلْبُ مِنَ الحبَّ ... فَما جَدْوَى دُمُوعِي؟
كان هَذا اُلحبُّ لحناً ... مِنْ لُحُونِ الأبَدِيَّهْ
كان هَذَا الحبُّ إشعا ... ع الأماني القدُسيَّه
كان رَوْضاً من جمالٍ ... وزهورٍ ذهَبِيهْ(62/45)
وَهْوَ طيْفُ الله في الأرْ ... ضِ وَلِي أسْنَى عطيَّهْ
يا حَبِيبي كمْ تغنَّيْ ... ناَ بألحان الإلهْ
وَشَدَوْنَا فَوْقَ ناي ال ... حبِّ أصْدَاَء نداهْ
وَتَذوَّقْنَا مداماً ... من سُلافَاتِ الشَّفاه
وَهتفْنا في حَنِينٍ: ... إنَّماَ اُلحبّ الحياه!
حسن محمد محمود(62/46)
على هامش اللزوميات
إلى المعري
// لعل موتاً يريح الجسم من نصب ... إن العناء بهذا العيش مقترنُ
(المعري)
للشاعر التونسي محمد الحليوي
أبا العلاء، أحقّاً أنتَ في دَعةٍ ... من الُخطوب، وفي سِلمْ منَ الكُرب
هل في رُقاَدِك في بيتٍ تُقيم به ... على الغضاضة، ما أغْنَى عن النَّصب
وهل طريق الرّدى زهراءُ مونقَةٌ ... أم حفَّها الله بالوْيلات والحَرَب
وكيف كأسُ الرَّدى هل في ثمالتها ... خَمْرٌ، وهل شربها أشهى منَ الضَّرَب
وما رأيتَ وراء القَبْر من عمهٍ ... حارت عقُول الورى في سِره العَجَبِ
أبا العلاءِ، لقد حاولتَ مُجْتهداً ... فكَّ الرُّموز، وكشفَ السرَّ عن كَثَبِ
فما رأيتَ سوى طخياَء حالكةٍ ... وكنتَ تنظر خلف الباب من ثقب
واليومَ ها أنتَ لا بابٌ ولا حجبٌ ... فقل لنا مَا وراَء الباب والُحُجبِ
ما علة الكون. . . ما سرُّ الوجود، وما ... في هذه الأرض من صدقٍ ومن كذب
ما غايةُ الحيّ من دنيا يُقيم بها ... وما يُراد بها من عَيْشه اللَّجب
والموتُ ما هو. . . هل جسر نمرُّ به ... أم هُوَّ غايتنا من كلَّ ذا التَّعب!
هيَ الحقيقة تحكي ربةً ملكتْ ... عرش الأُلْمبِ على الأرْباَبِ والرسُلِ
وجرّبتْ سحرَهاَ في الأرْض فافتَتَنَتْ ... به الخليقةُ من فَسْلٍ ومن بَطل
خلفَ النّقاب بَدَتْ هَيْفَاَء ساحرةً ... تبادل الصبَّ أفناناً من الغزل
أهلُ الصَّبابة في الأشواقِ ما برحوا ... يَسْتَشْهدون ولا يحظَوْنَ بالقبَل
كم من قتيلٍ قَضى في حُبَّ ربّته ... وكم رماه الهوى بالحادث الَجلَلِ
لكنَّ رَّبتَهُ ظْمأى إلى دمه ... لا ترْتَوي الدهرَ من علٍ ومن نَهل
أبا العلاءِ، لقد راعتك نَضْرَتها ... فهمتَ مفتتناً في حبّها الأزلي
وعشتَ رهنَ العمى والحبس في شظفٍ ... تنهى لها كلَّ ما تأتيه من عمل(62/47)
وقد مضيتَ وما أدْخلتَ هيكلَها ... ولا أحَلَّتْكَ يوماً قنةَ الجبل
وكَيْفَ! وهي التي في الدهر ما رفعتْ ... عنها النّقاب، ولم تُسْفرْ إلى رجل
كلٌّ مشوقٌ وكلٌ آملٌ ظفراً ... بوصل لَيْلَى، وكلٌّ خائبُ الأمل
يا ليتَ شِعْرِيَ هل تُخفي غلالتُها ... ملاحةً، أم حِمَى ليلى على دَخَل
أبا العلاء، وهل أجدَتْك موجدةٌ ... على الحياةِ وتجديفٌ على القدر
الكونُ ما زال مثل العَهْدِ مشكلةً ... وسرهُُ مُضمَرٌ في مُغْمَرِ العُصُر
والدهر يمشي. . فلا شكْواك تُوقفه ... ولا سبابك يثنيه عن الوطن
يمشي لِطِيِته والحيّ يتبعه ... يأتي على الكُرْه أو يأتي على قدَر
رحاهُ لا تنتهي في الدّهر ضجّتْها ... ولا تدورُ الرَّحى إلاّ على البشر
وما عَلِمْنا على التحقيق من خَبرٍ ... سوى القُصور على الإتيان بالخبَر
نمشي على الدَّرب في جَهْلٍ وفي عمةٍ ... والليل في حلك والدَّربُ في خطر
ما تطلعُ الشمس مصباحاً لترشدَنا ... كلا، ولكنّها رمْز على الَحَقر
والبدرُ يضحك في عليائه أبداً ... وكيف لا. . وهو يَلْقانا على سَخَر
وذا الفضاءُ كتابٌ نُصْبَ أعيُننا ... يُتْلَى فيلْقي علينا خالد العِبَر
يقول في كلِّ سطر من صحائفه: ... (أفٍ لكم ما لكم في الكَوْن من خطر)
ما أنتمُ في قضاء الله من أحدٍ ... سوى هباء على الأكَوْان منتَثَر
سَوْأي لكم يا هباءٌ هل ضجيجكُمُ ... ولعنةُ الأرض تثني الدَّهر عنْ سفر!
(تونس)
محمد الحليوي(62/48)
في تاريخ الأدب المصري
أيدمر المحيوي
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
1
في عصر الدولة الأيوبية، حينما كانت مصر زعيمة العالم الإسلامي ترفرف رايتها عليه، وتقف في وجه المغيرين من الصليبين وتصد هجماتهم، وتدفع عن بيت المقدس وتذود عن حياضه، وتحمي مدينة الشرق وتحوطها بسياج من المناعة والقوة، وحينما كانت مصر تقف أمام أوربا مجتمعة، يريد الأوربيون أن ينالوا منها منالاً، فتأبى مصر أن ينكسر عودها أو تلين قناتها، في ذلك العصر المليء بأسباب القوة، المفعم بالعظمة المصرية والمجد المصري، عاش الشاعر أيدمر المحيوي، وربى في أرض مصر، وفوق ثراها المخصب الندي، وهو في أصله ينتسب إلى الترك، وإن كنا نجهل ما يتعلق بأسرته وآله، ويظهر أن التاريخ يجهل كذلك أسرته، ولا يذكر إلا أنه كان مملوكاً للأمير محي الدين محمد بن محمد بن سعيد، ثم أعتقه وأصبح حراً، غير أنك إذا ذهبت تبحث عن السنة التي ولد فيها شاعرنا بله الشهر واليوم، فإنك غير مهتد إلى شيء، اللهم إلا أنه نشأ في عصر الدولة الأيوبية في منتصف القرن السابع الهجري، نستنبط ذلك استنباطاً من قصائده التي مدح بها بعض سلاطين تلك الدولة، وإذا أنت سألت التاريخ عن تربيته وتعليمه فإنك سوف تجد غموضاً وإبهاماً لا تستبين خلالهما إلا ما قد ينم عنه شعره من أنه درس اللغة، واطلع على كثير من شعر الشعراء السابقين والمعاصرين، فتثقف به وتأثره، وعارضه أحياناً كما فعل ذلك مع ابن المعتز وابن النبيه ومسلم بن الوليد والمتنبي - وإلا ما قد يكون قد تثقف به من علوم اللغة العربية على يد ولي نعمته محي الدين الذي نسب إليه والذي ظل أيدمر حافظاً لنعمته عليه يذكرها، ويمدح سيده بغرر القصائد والموشحات.
2
ليس لنا اليوم إلا أن نحدثك عن شعره الذي بين أيدينا، وقبل أن نصفه لك أو نحدثك عنه حديثاً مسهباً، يحسن بنا أن نخبرك أن ما سوف نتحدث عنه ليس بكل شعره، بل هو مختار(62/49)
منه أبقته لنا الأيام، ولسنا ندري إن كنا سنعثر على كل شعره أو أن الزمن بذلك ضنين؟
أول مميزات شعر شاعرنا طول نفسه، فقصائده أغلبها طويلة، وقد يبلغ بها الطول إلى أن تقارب المائتين، وذلك إن دل فإنما يدل على تمكن في اللغة، واطلاع واسع يهيئه لأن يطيل كما يشاء حق يوفي ما بنفسه ويستوفيه. ثانيها الرقة وجمال الأسلوب مع متانته، فلست تحس بالتنافر أو نبو الألفاظ أو أن تركيباً قلق في موضعه غير مستقر، أو إنك تجد عسراً في فهمه، أو تحتاج إلى وقوف طويل حتى تستبين معناه، فهو سلس سهل، يسبق معناه إلى قلبك قبل أن يسبق لفظه إلى سمعك، وإنك لتجد نفسك مسوقاً إلى قراءته متى بدأت أول القصيدة لطلاوته وعذوبته، وهو يذكرنا بالبحتري حينما نجذ الألفاظ منقادة متخيرة، مع السهولة والعذوبة. ولا يذهبن بك الوهم إلى أنه لم يستعمل ألفاظاً غريبة في شعره، فإنه قد استعمل منها طائفة صالحة، غير أنه كان حكيماً في استخدامها، حصيفاً في استعمالها، لا يكثر منها ولا يضعها في غير موضعها. ثالثها استعمال بعض المحسنات البديعية من غير إكثار منها ولا تكلف، بل إنها تجيء سلسة سهلة، لا تذهب برواء القصيدة، ولا تضيع من بهجتها، ولقد استخدم في شعره التورية والجمع والجناس، وحسن التعليل، والطباق، والاقتباس، فهو يقول:
في جوده السفاح أم في عزمه المنصور، أم في غيبه المأمون
ويقول:
قضت لك الشيمتان: العدل والكرم ... أن تخضع الأمتان العرب والعجم
وشرف الدين والدنيا بدولتك ال ... غراء، والأشرفان العلم والعلم
ويقول:
ملك إذا امتدت يداه إلى العدا ... يوم الوغى تتقاصر الأعمار
ويقول:
هو الناهب الأرواح والواهب اللهى ... وباني العلا والناسك المتورع
ويقول واصفاً حماماً أحمر العين والرجل:
وأليف غصن لا يفارقه ... صب الفؤاد به متيمه
يدعو بصوت أستبين به ... معنى الحنين، ولست أفهمه(62/50)
فيميل بي طرباً تمايله ... ويهزني شوقاً ترنمه
يبدي أسى الباكي ورقته ... في نوحه، والدمع يكتمه
نحر الأسى إنسان مقلته ... فجرى فخضب رجله دمه
ويقول من موشح:
أنت يا موسى رجائي آنساً
نار جدواه فوافي قابساً
رحت في حضرة قداس دائساً
في طوى السؤدد، فأخلع نعلكا ... وادعه يأت بكبرى يوشع
وكان أكثر ما أتى به من شعره حسن التعليل، على أن كل المحسنات التي أتى بها قليلة، فهو غير مغرم بها، ولا ملزم نفسه كغيره السير على منهاجها.
3
شعر المحيوي ينضوي تحت لواء واحد وفن واحد من فنون الشعر الغنائي، هو المدح، فهو الغرض الأول في شعره، يقصد إليهقصداً ويلم بغيره عرضاً من غير قصد، يبدأ به قصيدة المدح أو يختم به الموشح، وكان ما أتى به عرضاً يدخل في الوصف أو في الغزل، ولنقف وقفات قصيرة لدى كل غرض من هذه الأغراض التي طرقها واصفين ودارسين.
أول ما نلمسه في شعره المدحي أنه قد خلا من الغزل في أوله حينما يمدح سلطاناً من سلاطين الدولة الأيوبية، بينما هو يبدؤه بالغزل عندما يمدح ولي نعمته محي الدين بن سعيد أو غيره من الوزراء، فأي شيء تستطيع استنباطه من تلك الملاحظة؟ وعلى أي شيء تدل؟ لقد قلبنا الأمر على وجوهه، ثم خرجنا بنتيجة قد تكون قريبة من الصواب: تلك هي أن هؤلاء السلاطين لم تكن عنايتهم موجهة للغواني والحب والغرام حتى يأسرهم الحديث عن الحب ويسترعي انتباههم، وإنما كان كل همهم موجهاً إلى الحرب والقتال، وقهر الأعداء، ورد العادين من المغيرين على دولتهم، فقد كانوا كما قال أيدمر في أحدهم:
متفرغ للمجد، لا هو من دد ... يلهيه عن كرم ولا منه دد
البيض من صنع القيون لدى الوغى ... يطربنه، لا البيض مما يولد
والأسمر الخطار يبهج نفسه ... ويسرها لا الأسمر المتأود(62/51)
وإذا كانت عنايتهم متجهة نحو ميادين الحروب فماله يشغل نفسه بشيء لا يملك عليهم نفوسهم، ولا يأسرها؛ حقاً لقد كانت لهم مواطن لهو ولذة، ولكنها لذة العظمة وأبهة الملك
كذلك يسترعي نظرك في شعره كثرة مدحه لسلاطين هذا العصر بذبهم عن حياض الدين وحياطته بسياج من العزة والمهابة فهو يقول للملك الصالح:
ملك يلوذ الدين منه بمعقل ... أشب، سطاه سوره والخندق
فالدين بعد تفرق متجمع ... والكفر بعد تجمع متفرق
ويقول له:
فأسلم لدين قد هديت إليه من ... لا يهتدي، وجمعت ما لا يجمع
وحميت حوذته، فأصبح وهو في ... أيام دولتك الأعز الأمنع
ويقول للملك الكامل:
فالله يشهد أن دين محمد ... بمحمد، وله الخليفة تشهد
ويقول له:
لولاه كان الدين سرحاً ما له ... راع، وزنداً ما عليه سوار
وذلك نتيجة طبيعية لهذا العصر الذي صبغ بالصبغة الدينية وكان القتال يدور فبه باسم الدين، فليكن الشعر كذلك مصبوغاً بهذه الصبغة، مثنياً على السلاطين لأنهم خدموا الدين وقاموا على صيانته.
تلمس في شعره المدحي كذلك قوة ملوك مصر في هذا العصر حتى لكثيراً ما يسميهم ملوك الملوك وكثيراً ما تسمعه يقول لهم:
من ألقت الدنيا مقالد أمرها ... بيديه وهو بها أحق وأليق
ذو صورة تنبيك عنه أنه ... ملك الملوك الحق حين يحقق
إلى أن قال:
فجلست حيث جلست منه تزينه ... شرفاً فطاف بك الملوك وأحدقوا
كل يغض من المهابة طرفه ... فتراه، وهو لغير فكر يطرق
هيهات جزت مدى الملوك إلى مدى ... رجم الظنون إليهلا يتطرق
ويقول:(62/52)
منح رآك الله أهلاً أن تقل ... دها فقلدك الذي تتقلد
ذكرت مفاخرها الملوك وخير ما ... ذكرته منها أنها لك أعبد
ذكراك فيهم سجدة مسنونة ... فلذا متى تذكر لديهم يسجدوا
فإذا هم نظروا إليك فأعين ... حسرى، وأفئدة تقوم وتقعد
ملك الملوك وخير من عقدت له الت ... يجان في قدم الزمان وتعقد
وإذا علمت أن ملوك مصر في ذلك الحين كانوا حقاً زعماء الملوك في العالم، وكانوا أكبر رؤوس تطأطأ لها هام الملوك، وتنخلع من هولها قلوب الأعداء؛ وإذا أنت علمت أن مصر في تلك الأزمان كانت أكبر مملكة في الشرق والغرب، وأقوى دولة يقصدها الأوربيون بجموعهم، فلا ينالون منها إلا ما ناله الوعل من الصخرة، وإذا أنت علمت أن الجيش المصري هو الذي حمى الشرق وحفظه من الأجنبي الذي يريد أن يتحكم فيه وإذا أنت علمت أن الإسلام وحرية الأديان كانت تسهر عليهما مصر وملوك مصر، ويحيطونهما بسياج الحفظ والمناعة، إذا أنت علمت كل ذلك أيقنت أن هذا الذي مدح به هؤلاء الملوك لم يكن بالكذب ولا المغالي فيه، وأمامك كتب التاريخ فاقرأها تعد مؤمناً بصدق ما قاله في قوة مصر وملوك مصر.
شعر شاعرنا المدحي يعطيك صورة عن بعض نواحي الحياة المصرية في ذلك الحين، فهو يحدثك عن النزاع الذي كان قائماً بين المصريين والصليبين حينما وجه هؤلاء تيار حروبهم إلى مصر نفسها قلب العالم الإسلامي؛ فأغاروا على دمياط، ولكنهم فشلوا أيما فشل، واستطاع المصريون أن يخلصوا دمياط من حوزتهم ويرجعوهم بخفي حنين، وهو يحدثك عن هذه الجموع الكثيرة التي كانت أوربا تمد بها الجيش المحارب لدمياط، والذي يريد الغلبة عليها، قال أيدمر:
أيام قال الشرك بغياً للهدى ... دمياط لي، ولك الغداة الموعد
وأتى بما ملأ البسيطة كثرة ... والله ربك هادم ما شيدوا
جيش إذا مسحت يداه بقعة ... جف المياه بها، وذاب الجامد
كالسيل إلا أنه لا ينقضي ... والليل إلا أنه يتوقد
وأتى بك الإسلام وحدك موقناً ... أن سوف تهزم جمعهم وتبدد(62/53)
حتى إذا التقيا طلعت عليهما ... بالنصر تشقى من تشاء وتسعد
فرددت شخص الشرك، وهو مسربل ... خزياً، ودين الله وهو مؤيد
حكمت بأسك فيهم: فمكلم ... ومجدل، ومشرد، ومصفد
كما يحدثك عن هذا النزاع الذي كان قائماً حول جلق (دمشق) أتبقى في حوزة المصريين، أم يحكمها غير المصريين، وكانت الغلبة غالباً في جانب المصريين، وهو حين يحدثك عن هذا الفتح يشعرك بما في نفوس المصريين من حب لأن تبقى دمشق ضمن حدود مملكتهم، وأن يخفق عليها علم الإمبراطورية المصرية. حتى إنه حينما كان يأتي البشير بفتح دمشق يزين المصريون دورهم، ويرفعون الأعلام على شرف الجدران تخفق كما تخفق قلوبهم بالفرح والسرور، واستمع إليهيقول:
قد قلت إذ جاء بالفتح البشير به ... الله أكبر هذا غاية الأمل
ترنح الدهر، واهتزت معاطفه ... وراح يسحب ذيل التيه والجذل
والأرض قد أخذت للناس زخرفها ... وازينت، فهي في حلي وفي حلل
مسرة في قلوب الناس قد ظهرت ... حتى على شرف الجدران والقلل. إلخ
وهو يؤمن بأن دمشق سوف تنال الخير والسعادة، وسوف تصبح في دعة وأمن ما دامت ضمن المملكة المصرية:
فليهن جلق أنها قد أصبحت ... في مستقر الملك، لا تتحول
وأنا الضمين بأن سيسلي جلقاً ... عما مضى من غمرها ما يقبل
ونختم حديثنا عن مدحه بتلك القطعة الصغيرة لتكون نموذجاً لبقية مدحه، قال يمدح الملك الكامل:
الله جارك، والورى أنصار ... فانهض، ونل بهما الذي تختار
خضعت لهيبتك الأقارب والعدا ... وجرت بوفق مرادك الأقدار
ملك إذا امتدت يداه إلى الظبا ... يوم الوغى تتقاصر الأعمار
من وجهة قمر ينير، وسخطه ... قدر يبير، وحدسه إبصار
وإذا القلوب تطايرت في موطن ... نزلت عليه سكينة ووقار
ملك له من باسه وغنائه ... حصن أشم، وجحفل جرار(62/54)
ملك يميل إلى المكارم لا الدمى ... وتهزه العلياء لا الأوتار
ملك تهيم به بنات قلوبنا ... حباً وتعشق مجده الأشعار
لولاه كان الدين سرحاً ما له ... راع، وزنداً ما عليه سوار
فأنت تحس حقاً بأنك تقرا أسلوب البحتري وتحس جماله وعذوبته، مدحه لغير الملوك يبدأ بالغزل، وهو وإن لم يكن مقصوداً لذاته لا بأس بجماله وعذوبته، حتى لتتمنى حين تقرأ غزله أن لو كانت القصيدة كلها غزلية، وإن كنا نؤكد أنه في غزله مقلد آخذ معاني من سبقه من الشعراء، واستمع إليهيقول من موشح:
قال لي العاذل لما نظرا
من غدا قلبي به مشتهرا:
أكذا تعشق؟ ماذا بشراً؟
حاش لله؟ أراه ملكاً ... مثل ذا فاعشق، وإلا فدع
هز عطف الغصن من قامته
مطلعاً للشمس من طلعته
ثم نادى البدر في ليلته:
أيها البدر تغيب ويحكا ... ما احتياج الناس للبدر معي؟!
فأنت لا شك تحس بالعذوبة في ألفاظه وإن كان الكثير من معانيه مقتبساً، وكم كان بودنا لو أطال الحديث في الغزل أو لو قصد إليهقصداً وظل يروي لنا عاطفتنا الظامئة إلى غزله.
البقية في العدد القدم
أحمد أحمد بدوي(62/55)
بمناسبة الذكرى الأولى للملك فيصل
فقيد الأمة العربية
للشاعر القروي
لَحيُّ برغم القبر فليخسإِ الردى ... وقد سلم الغازي فلا يهنأ العدا
ولو كل موتٍ يضمنُ الخلدَ سارعت ... إليه ملوك الأرض مثنىً وموَحْدا
ولو كل حظٍ حظُ غازي من العلى ... تفاءلَ بالدنيا مُهِلُّ فأنشدا
بنيتَ له الُملكَ الذي هو أهله ... وأَطرفتَ ما هارون بالأمس أتلدا
فمكَّنت أساساً وزخرفت قبةً ... وذهَّبت آفاقاً وأطلعت فرقدا
ورمَّمت في بغداد عرشاً مهدماً ... وخلَّفت في الأكباد عرشاً مؤبدا
وما أنت إلا السيف أعقَبَ خنجراً ... بلوناهُ في الجُلَّى فكانَ المهندا
لدن أدَّب الجبَّار بالصفعةِ التي=تداول أسماعَ النجوم لها صدى
وصبَّ على رأس السفير صواعقاً ... نزلن على أكبادنا البرد والندى
رآه وقد ظلَّ الهدى فانتضى له ... يداً قدحت من عينيه النور فاهتدى
يمينَ شريفٍ تقِعد الطود قائماً ... ولو شاءت اليسرى أقامته مُقعدا
أذابت قلوبَ الخائنين وفوَّرت ... دما في عروق الإنجليز تجمدا
لَيِرْض عليك الله يا سبط أحمد ... فإنك قد أرضيت جدك أحمدا
شفيت بهذا الموقف الحر نفسه ... وزحزحت عن صدر العروبة جلمدا
وكم غضبٍ أدنى من الحلم للتقى ... وأهدى إلى المجد الرفيع من الهدى
وما شأن ملكٍ سامه العبد ذلة ... وأبرق صعلوك عليه وأرعدا.!
وكم تاج ملك صار نِيراً لربه! ... وكم صولجان عاد في العنق مِقْوَدا.!
أيزعم ذو القرنين أنك عبده=ومثلك من يلقى السلاطين أعبدا
تعَّودِ منا أن نغضَّ على القذا ... فعَّودته نسيانَ ما قد تعودا
ليعلمْ عبيد التاج أنك سيد ... تزيد به التيجان مجداً وسُؤددا
وأن قريشاً أعظم الخلق هيبة ... وأكرم أخلاقاً وأشرف محتدا
تخرّ منيعات الجبال مهابة ... لبيت على رَمل الحجاز تشيدا(62/56)
زكى أصله قبل النبي محمد ... فكيف وقد أزكى النبيَّ محمدا
بتمكينه عهد من الله خالد ... على الدهر ما كرّ الجديدان جُددا
تشيب الثريا قبل إنذار شيبه ... ويوشك خدُّ الشمس أن يتجعدا
أفيصل أني مرسل فيك شُرَّداً ... يثبن إليك اللانهاية غُرَّدا
أكلِّفها نَوْحا فتمضي شواديا ... أوَابِيَ أن ترثيك حياً مخلدا
كأن حروف الخط أعواد جنة ... على كل فرع بلبلٌ للعلى شدا
وقلَّدتُ منها كلَّ شطرٍ مهندا ... يظل على هام العدا مجردا
إذا قرَع الراوي به سمعَ خائنٍ ... تذوَّقَ طعمَ الموت شعراً مُردَّدا
وحسب القوافي أنها فيك ألهِمت ... لأغدو بها رب البيان المسوَّدا
فقد يهب الحق الغرابَ فصاحة ... وقد يُخرِسُ البُطلُ الهزارَ المغردا
سبيلُكَ لم تسلكه إلا منورا ... وسهمكَ لم ترسله إلا مسدَّدا
وكنت لأشتات البلاد موحدا ... كما كنت في الدين الحنيف موحدا
وكنت لأجل المجد بالمال زاهداً ... وكنت لأجل العرب بالمجد أزهدا
وكم خضت لاستقلال شعبك لجة ... وكم جبت آفاقاً وكم جزت فدفدا
بعيد المنى لم تُلقِ مِرساةَ مطمحٍ ... إلى المجد إلا سامك المجد أبعدا
مشيت له تستبطئ البرق مركباً ... وأدركته تستوطئ النجم مقعدا
أرِحْ كبِداً حَمَّلتها كلَّ فادح ... من الهم يعي الشُّم لو كنَّ أكبدا
طَعامٌ على مضٍ وشربٌ على قذى ... ومشيٌ على جمرٍ ونومٌ على مُدى
تصبرَّتَ حتى الصبرُ كاليأسِ قاتل ... وحتى ذممنا في الخطوب التجلدا
صعدت جبال الألب تنشُد راحة ... وعدت كأن الألب في القلب صعَّدا
كلاكِل هّمٍ لو أنيخت (بيذبلٍ) ... لعاد (يزوفاً) يقذف الجمر والردى
خيانةُ أحلافٍ وإخلافُ ساسةٍ ... وغدر الذي أكرمَته فتمردا
مشَوا بك بين الجيش والتاجِ موكباً ... أعدَّت له نَظَّارةُ الخلد مِرصدا
فلم يرَ أهلُ الأرضِ أروعَ مشهدا ... ولم تَرعينُ الغيبِ أفظعَ مشهدا
يمدون للتسليم في لندنٍ يدا ... ويخفون للتسليح في نينوى يدا(62/57)
وقالوا مليك العرب في الغرب مكرَمٌ ... فقلت إذن باتَ المليكُ مهددا
نصحتك لا تمدد إلى أبرص يدا ... ولو مطرت كفاه درا وعسجدا
لأمرٍ يلقيك الفرنجيُّ باسماً ... فزد حذراً ما زاد ذئب تودُّدا
تراه صحيح الود وهو سقيمه ... كما تُكْسِبُ الحمَّى الخدود تورُّدا
حفيدَ رسول الله يا غوث أمة ... إذا استنجدت لم تلق غيرك منجدا
بكل لسان رتلت لك آية ... وكل جنان شيدت لك معبدا
أذبت عليها حبة القلب ساهراً=فسافر بحبات القلوب مزودا
الشاعر القروي
من العصبة الأندلسية(62/58)
رسول الوحدة العربية!
للشاعر الحضرمي علي أحمد با كثير
يا أبا غازي! وما فينا سوى ... مُستطار يمزج الدمع بْدم
يا أبا غاري وما فينا فتِيً ... (عربيٌّ دمعُه) إلا انسجم
يا أبا غازي وما فينا فتِيً ... ما براه - يوم ودّعتَ - الألم
ليت شعري، سامعٌ أسئلتي ... أنت؟ أم في مسمع الموت صمم؟
فيم ودّعَت علي أجراحها ... أمة العرب ولَّما تلتئم؟
فيم غادرت بني قحطان في ... مِرْجل يغلي. ونار تحتدم؟
أولم تشرع لها وحدتها؟ ... لو تلبث بها حتى تتم!
لم تجب قولي. . بلى! هذا صدى ... رنَّ في أعماق قلبي كالنَغَم:
مُكرهٌ. . لو كان أمري بيدي ... لم أمت إلاّ وقد فقنا الأمم
ورأيتُ العرب في وحدتها ... كشعاع النور يجري في الظُّلم!
همُّها أن تُصلح العالَم، في ... يدها السيف، وفي الأخرى القلم!
هذه (الخُلد)! وما أبغي بها ... وبنو الضاد ببؤس وضَرَم؟
وأرى (الحوض) فأوّاه متى ... ترد العرب ينابيع الحِكَم؟!
وأرى (الحُور) فلا يُنسِيْنَ ما ... لفتاة العُرب عندي من ذِمم
ربّ لا نقض لما أبرمته ... فارزق العُرب هُمَاماً ذَا شَممْ
بدوي الطبع والخلقِ معاً ... حَضَريّ العِلم، غربيّ الهِمم
طابُع (الوحدة) في تاموره ... بعد توحيدك مرقوم بدم!!
يخرج البدو فيبْني منهمُ ... ثكنَ الجيش كأمثال الهَرَم
يجعل (العرفان) كبرى آيهِ ... ويرى (القوة) في الدنيا الحكم
ذلكم (فيصلٌ) فابكوه وقد ... غاب عنكم شخصه، والرُّوحِ لم
من إذا ما عزَمَ الأمرَ مضى ... وإذا ما أبصر الرأي عزَم
وإذا ما قدمٌ زلّت به ... قام يمشي - غيرَ وانٍ - بقدم!
وإذا ما وقف الدهرُ مضى ... وإذا ما عبس الدهرُ ابتسم!(62/59)
يا مليكاً هاشمياً ما له ... غير توحيد شعوب العرب هم
يختم النومُ عليه جفنَه ... فيراه في تهاويل الحُلُم!
بِسَناهُ كنت في (سوريةٍ) ... مَلِكاً في عرش (أقمار الحكم)
وبه في (ميسلون) استُشْهدت ... مُهَجٌ لو لم تقمها لم تَقم
وبه اخترتَ - على كرهِكه - ... عرش (بغداد) ولم تأنف ولَم.
واثقاً أنك تشفِي داءه ... بطريق الحرب أو طرق السَّلَم
فيصلٌ يَفْسَح للخطب إذا ... جاءه لا ينثني، لا يصطدمْ
فإذا الخطب الذي قد أمه ... قد تولّى خلفه كالمنهزم!
فيصلٌ لا يعرف اليأس، ولا ... يرهب الموت، ولا يخشى الغُمم
فيصل العامل يمتدُّ لَه ... أمل النهضة ما امتدّ الألم
فيصل يعمل ما يعمله ... صامتاً في غير عيٍ أو سَأم
يسهر الليل تناجيه المنى ... من رعى آمال شَعْب لم ينم
هذه (يعرب) ضلَّت سيرها ... فهي حيرى تترامى في ظُلِم
بعضها يعثر بالبعض؛ وقد ... غرب الطالع، والليل ادْلَهَمْ
وفم (الغرب) - وأخفى شخصه - ... جاهداً ينفخ في النار الضرم
أيها الآوي إلى فردوسهّ! ... طالما أسهرتَ عينيك فنَم!
لا تخف شراً على العرب، فقد ... لَقِنَتْ مبدأك الحُرَّ الأشم
وسرى فيها، فلن يهضمها ... طامع أجنبُ، أو طاغٍ صَنَم
ولقد خلّفت فيهم (غازياً) ... علَماً يهديهمُ بعد عَلَم
لم يمت من عاش (غازي) بعده ... يرفع الملك، وللشَّعث يُلم
قم تهّيأ للقاء (المصطفى) ... جدّك المبعوث فينا بالِحكم
فسيدنيك إليه فرِحاً ... بمساعيك كباراً والخِدَم
وألق (آل البيت) وأرتع بينهم ... في كروم الخلد أمثال النَّجُمْ!
علي أحمد با كثير(62/60)
بين الشك والإيمان
الشاعر الإنجليزي بيرون
(1788 - 1824)
للأستاذ خليل هنداوي
روح هائمة ونفس معذبة طغى عليها الشك في جميع أدوارها، فارتعشت واضطربت وجدفت، وما تجديفها إلا صدى تلك الحرقة الملتهبة في قلب الشاعر الذي يريد أن يزيح ذلك الغطاء عن الحقيقة المحتجبة.
قضى الشاعر طفولته الأولى حراً لا تقرعه عصا الأبوة، لأنه نشأ تحت رعاية أم كثيرة الإشفاق عليه، دخل المدرسة وشيطان الشعر والفن أخذ يوسوس له ويقويه وهو لما يلبس أردية الشباب، فأنفق أيامه يزجي الفراغ متسلياً بالنظم لاهياً بالطرب. وفي هذا العمر الزاهي تسرب إليهالشك ودعاه زهوه إلى الجحود، فجحد باليوم الآخر وحطم قيود التقاليد. ولكن سرعان ما أعياه التفكر في حقائق الوجود وكم أعيت من قبله؛ فتعب من نفسه وهو الرقيق النفس، وتعب من الناس وهو ذو الروح الشاعر.
هجر وطنه وفي خلال هذه الهجرة بدأ ينظم مقطوعته الخالدة (طواف شيلد هارولد)
ومن هو هارولد؟ (هارولد عرفه الناس شر من جاور الناس، يعيش مستقلاً عنهم مزهواً بيأسه، يعرف كيف يتلمس الحياة في زوايا نفسه. كذلك الكلداني الذي أرسل عينيه في النجوم، وما زال يحدق فيها حتى أسكن نجومها المضيئة كائنات مثلها مضيئة، فإذا استطاع أن يرقى بنفسه في هذا الأوج كان سعيداً، ولكن الطين الذي جبل منه يثقل عليه، وتراه - وهو الراغب في النور الساطع - يبتغي أن يهدم السد الذي يحول بيننا وبين السماء، تلك السماء التي تتفتح لنا في أعاليها عوالم مضيئة. وأنه لهائم في منازل بني الإنسان يغلب عليه القلق ويزعجه التعب؛ مظلم النفس كثير الهم كاسف اللون كالصقر المهيض الجناح لا يجد له وطناً إلا الفضاء الفسيح، فيأخذه هيمان يسلبه عقله، فهو يريد إنقاذه منه، فيهيج ويدأب كالطائر الذي يقرع قضبان قفصه فيصبغ كساءه بدمائه، ونفسه السجينة المضطرمة(62/61)
أخذت ترتشف هذه الدماء، دماء قلبه. . .)
فأي فتى يتوارى وراء هذه الأبيات؟ هل هو غير الشاعر؟ وكل من قدر له أن يتذوق ما وراءها من يأس ومرارة يحس أن الشاعر لا يستطيع أن يخرج عن نفسه، لأنه يستمد كل عوامل نظمه من نفسه، فلندعه يخلق الأشخاص ويولد الأبطال. فلن ترى وراء هؤلاء كلهم ناطقاً غير الشاعر، ولا قانطاً غير الشاعر، فهو ذلك الفتى النبيل الذي غامر في ملذاته حتى عاده السأم، والسأم داء يقتل في المسرات كما يقتل في الأشجان، فتراه يهجر عالم الإنسان كالمسحور (هائماً وراء أحلام مظلمة، يخنقه السرور ويهفو إلى الشقاء والحزن لأنه يجد فيهما مروحاً عن نفسه، مغادراً وطنه، حاملاً معه إلى المواطن التي وطئها - وهي الأنس ومرابع النزهة - فكرته التي تسعى وراءه كأنها شيطان لاحق به).
عرج على الأندلس ونزل في (أثينا) مدينة الفلسفة، وهنالك استفزته هذه المشاهد التي تحمل طياتها التراث الفكري الذي استلمه الحاضر من الغابر. وهذه المشاهد هي التي أوحت إلى (رينان) صلاته الخالدة، وفجرت في قلب (شاتوبريان)
ينابيع العاطفة والتصور. هنالك وقف (بيرون) إزاء هذه الآلهة المتناثرة على الحضيض، فسخر من الإله الموجود والإله المفقود.
يا أبن يوم واحد! انهض وأدن مني. . . .
أنظر إلى هذا المكان. . . هو وطن شعب، ومأوى آلهة تبعثرت هياكلهم.
الآلهة نفسها تتلاشى، ولكل شريعة أجلها. . .!
بالأمس ساد (جوبيتر) واليوم يسود (محمد) والعصور الآتية ستتخذ لها من مذاهب القوم مذهباً حتى يجيء عصر يجد فيه الإنسان أن ما يضرمه من بخور ويهدره من أضاحي يذهب عبثاً!
أيها الولد الحقير! يا قذفة الشك والموت! يا من يتوكأ رجاؤه على أقدام من قصب. . . .!)
وقف الشاعر إزاء (البريتون) وتحت قبته المنقوبة فرحب بالعدم وجعل عصره خير عصر لنا وغده خير غد لنا. فقال: (هاهنا قبة العقل، هاهنا مأوى النفس. كل ما كتبه القديسون والسفسطائيون والعقلاء، أقادر على أن يعمر هذا الجوب المنعزل؟ ألا إن الراحة تنتظرنا على شواطئ (الأشيرون). هنالك لا يكره الذي شبع من الحياة على أن يستوي على هذه(62/62)
المأدبة المملة، ولكن السكون يعد ذلك المرقد الذي يحمل للجالس عليه السبات الأبدي).
ولكن بيرون لم يكن بذلك الجاحد الذي استراح ضميره وأراح، فالحيرة لا تزال تغشاه، والتردد لا يزال يطغى عليه كأنما اتسع قلبه لنوازع يأكل بعضها بعضاً، ويدمر بعضها بعضاً، شأن الذي يركبه الشك، ويتوارى عنه اليقين. وإنما يتميز بيرون من غيره من شعراء الشك بثورة دامية في نفسه يقدم وقودها من قلبه ليحرق بها قلبه، وهو قلب قتله الظمأ إلى اللانهاية، هذا الظمأ الذي عجزت عن إطفائه سواقي الأرض.
قال (لاميني) لزملائه يوماً: أتعرفون ماذا جعل الإنسان أشقى الكائنات؟ هذا لأن له قدماً وضعها في العالم المتناهي، وأخرى في العالم اللامتناهي، وهذه هي حالة بيرون.
ولكن وجه الغرابة في ثورة بيرون أنها اضطرمت في صدره ولما يبلغ الثامنة عشرة، وحق لمثل هذه الثورات أن تثور على مهل لأنها تأخذ غذائها من العاطفة لا من العقل. وقد طغى اليأس عليه وهو مازال في ميعة الشباب ولكن قلبه يخفق ويخفق معلناً (أن الشباب ولى، وأن الحياة بليت، وأن الرجاء نفسه قد أسدل على وجهه حجاباً.)
جاز بيرون بأحد القبور فقال: (يا أحلام طفولتي! كم حسرة تتصاعد مني عليك. أنا لا أستطيع أن أنساك، لأنني أجد ما حولي ظلمات متراكماً بعضها على بعض، لا شيء أعز على قلبي منك يا شعاع الماضي.)
وكتب وهو في فينوس (إنني سأنفق شبابي حتى ينفد، وبعدئذ أقول: عمي مساء أيتها الحياة، فقد عشت وكنت مسروراً.)
ولكن يا له من سرور! وهو القائل (أتيقظ في كل صباح وبي يأس وسآمة من كل شيء حتى من الذي يبطن سهدي بالسرور.)
مم يشكو الشاعر؟ وما هي الأسباب التي أورثت قلبه هذه السآمة وهو ممن لم تعوزهم أسباب الهناء، ولا ممن نزلت بهم حوادث الدهر، وهذه المواطن التي جابها في سياحته تشفي البائسين وتداوي أصحاب الهموم، ميدان الهوى أمامه رحب الفناء، ومجال الحرية والمجد والبراعة واسع الفسحة، فأية سعادة يطلبها، ويلح في تناولها، ويشقي نفسه في تتبعها، وأين يجب أن يتحرى عنها إذا لم يجدها هنالك؟
قد علل بعض النقاد أسباب هذه المظاهر بإفعام نفسه بالسرور الذي يخلق السأم، ولا عجب(62/63)
إذا قتل السرور الكثير صاحبه كما يقتل الحزن صاحبه، ولنسمع الشاعر نفسه يعلل هذه السآمة قائلاً:
(وا أسفاه! عواطفنا الفتية تذوب ضائعة، حيث لا تنتج إلا قفراً فارغاً، ولا ينبت منها إلا أشواك مؤذية. . . ونبات بقدر ما يروق للعين منظره، يؤذي القلب ويؤلمه. وأشجار يقطر منها السم القاتل، هذه الأشجار التي تولد تحت أقدام الأهواء.
أيها الحب! لست أنت من سكان هذا الوجود! أيها الساروفيم الذي لا يرى، نحن نؤمن بك. أنت شريعة أصحاب القلوب المنكسرة فيها، هم الشهداء، ولكن العين لا تراك، ولن تراك بحقيقتك.
الحب هو هذيان، وهو جنون الشباب، لكن علاجه أمر من عذابه، وعند ما نرى تلك الجواذب تتلاشى الواحدة بعد الثانية من أصنامنا الغرامية، وعندما نرى تلك الروعة التي كانت تتمثلها مخيلتنا في حالة التسامي قد زالت، فسرعان ما يذهب هذا الانجذاب عنا، وبعد أن زرعنا الريح لم نحصد إلا العاصفة.
يأتينا الذبول ونحن في فجر العمر. . . نشقى ونسأم ونسعى إلى الغاية، والغاية تمعن في الفرار. . . وظمئونا لا ينقع غلته شيء. . . وفي اللحظة الأخيرة، ونحن على حافة القبر يعودنا خيال جميل هو خيال السعادة التي تحرينا عنها في مطالع الحياة، ولكنه زاد متخلفاً، وجاد بالوصل حين لا ينفع الوصل، فنذوق الشقاء مرتين. . .
الحب والطمع والبخل، كل هؤلاء سيء، ما هي إلا شهب واحدة تجيء باسم واحد. والموت وحده هو الدخان القاتم الذي يطفئ نارها.)
ما أدنى هذه العواطف من القلب، لأنها ما خرجت من قلب إلا لتدخل في قلب. . . ولكن بيرون المظلم قلبه ما وجد على الأرض إلا الظلام؛ وما أبصر إلا خيال السعادة مولياً أمامه، فقيد الحقيقة - التي هي حقيقة الدهر - بهذا الخيال. وهو الشاعر قبل أن يكون فيلسوفاً. ولكن هل كل جمال مآله الزوال؟ أكل حب يستقي من نبعة واحدة، فهنالك أنواع كثيرة لجمال يزول وجمال يبقى، وحب يتلاشى وحب يحيا، فبأي نوع قيد الشاعر سعادته؟
هاهو حائر كيف يقضي أعوامه هنا؟ وكيف يستقبل ذلك العالم الهامد؟ يأتيه الضجر فيبدع أشخاصاً وأبطالاً تغلي فيهم نزعة الضجر لأنهم يستمدون عواطفهم من عاطفته.(62/64)
فهذا (ما نفرود) يملك عليه السأم، سأله الجني: ماذا تتمنى؟ فأجابه: النسيان، نسيان نفسي.
وهذا هارولد كان يدعى: (الفتى السائم من الوجود) وهذا (جيور) كان لا يجد أقفر من صحراء القلب الفارغ.
وأخيراً آل به هذا الشك إلى جحود كل شيء، فخلا قلبه من الحب وفرغ من الأمل. واستحالت كل هذه الصفات النبيلة إلى كره للبشر، وهل في استطاعة من كرههم وأوسعهم ذماً أن يبدلوا ظلمة قلبه نوراً إذا لم يكن النور ابن قلبه؟
لنصغ إليه وهو يحدثنا عن الناس (هل أعود إليهم كرة ثانية أتحرى عما يرجوه قلب هادئ في هذه المواطن التي يغلب فيها إنهاك أصحابها في المنكرات، وحيث الضحكات ترتفع عبثاً لتخفي حقيقة القلب. هذه الابتسامة هي تؤلف أخدوداً لدمعة طافرة ستنسكب).
لم يستطع أن يحمل نفسه فطار بها في الآفاق يسليها بالوحدة فطابت له حياة منعزلة تقصيه عن الناس في مواطن آهلة بالجيال التي يدعوها أصدقاءه، منتحياً عن قوانين وحكومات أقسم ليكرهنها حتى يقضي نحبه.
وكان هذا الألم قد أكسبه قوة ومناعة (أما الجمل فإنه يحني ظهره تحت الحمل يمشي ساكتاً، والذئب يموت ساكتاً، ونحن الأولى تسمو جبلتنا على جبلتهم، لنتعلم أن نتألم مثلهم)
ويقول بلسان أحد أبطال روايته (إنني شبيه بهذه الريح المشتعلة التي لا تسكن إلا الصحراء، ولا تهب لوافحها إلا على الرمال. . الأسد وحده أتخذه لنفسي مثلاً) وبمثل هذا الكبرياء حلى بيرون أبطال رواياته، وجعلهم ناقمين ثائرين غير راضين عن الوجود، فأتعب نفسه كثيراً وأتعبهم كثيراً. فإذا كان القعود عن الشيء يعد عجزاً فإن التحليق فوق حدود الإمكان ما هو إلا ضرب من ضروب العجز، وأن يرفض الإنسان الوجود رفضاً باتاً بحجة نقصه، وأن يهرب منه ومن أصحابه بداعي هذه الحجة هما من نقائص النفس التي تستر عجزها وترددها وراء هذا التهور الفارغ.
هذا هو الوجود؛ إن وجدت فيه الجميل فاملكه، وإن وجدت القبيح فحسنه وأصلحه، وإياك أن تعف عن الأول بسبب الثاني، لأن قوانين الحياة قاسية تسحق من يحاول أن يسحقها. هكذا أرادت أن تكون، وهكذا تريد أن تمشي.
وفي النهاية لا تجدي هذه الكبرياء شاعرنا شيئاً، فهو تعس يود أن يعترف بتعسه لنه لا(62/65)
يستطيع أن يمشي كالجمل ساكتاً أو يموت كالذئب صامتاً. فيقول:
(ما أشد تعسي؛ أيامي أمست تجري على وتيرة واحدة، وليالي اقضيها بالسهاد، لا أخالط المجتمع البشري إلا قليلاً، إذا جاءني أحد منه لذت بالفرار. . إنها لحال مؤلمة لا ينقذني منها إلا الجنون)
كل هذه الأهواء الصاخبة، والأنات المتصاعدة يرسلها الشاعر وراء محبوبته، الحقيقة. . ولكن أين يجدها؟
(بيروت)
خليل هنداوي(62/66)
العلوم
1 - التلفزة في عهدها الأول
للأستاذ محمود مختار
بكلية العلوم
مقدمة:
ليس لعالم اللاسلكي حد ينتهي عنده. فهو يأتينا كل يوم بمعجزات لم تخطر على قلب بشر. فما كاد وليده بالأمس يكبر ويترعرع ويلعب دوراً جدياً في الحياة يملأ الدنيا بهجة وسروراً بما ينشر من موسيقى شجية وأحاديث عذبة ومسامرات طريفة، أقول ما كاد هذا الوليد يكبر حتى قال الإنسان الطماع (لو أن لي أن أرى ذلك الذي يشجيني بتلك الموسيقى، ويبعث إلي بأحاديثه. لو أن لي أن يكشف عن بصري كما كشف عن سمعي. إذاً لكنت إنساناً آخر). وسرعان ما وصلت هذه الأحلام إلى العقل البشري الجبار حتى يقوم لفوره يقول (ليس في الوجود معنى لكلمة مستحيل) فلم تكن كلمته محض هراء وهو الذي لا يلقي الكلام جزافاً.
ففي سنة 1926طلع علينا العالم الإنجليزي الكبير جون بيرد بجهازه الأول في عالم التلفزة وعرضه بالمعهد الملكي في لندن ونقل به صوراً لأجسام بسيطة كانت موضوعة بغرفة مجاورة. وبالرغم مما كانت عليه الصورة المتلفزة من صغر واهتزاز وعدم وضوح، كانت فكرة جبارة جريئة شغلت العالم بعدها وملأت الرؤوس فقام الكثير يعمل على تحسينها وإنمائها فلم يمض عليها بضعة أشهر حتى قامت مصلحة التلفونات والتلغرافات الأمريكية بعرض هائل لتلفزة بعض الجسام ما بين واشنجتون ونيويورك، وقد كان من بين من اشترك في هذا العرض ما لا يقل عن ألف مهندس كهربائي.
تخطى الوليد دور المهد بعد سنوات ثلاث تحت رعاية مخترعه الأول الذي تمكن من إذاعته مع أخيه الأكبر بنجاح تام من محطة للإذاعة اللاسلكية في لندن على موجتين مختلفتين كما استقبلهما بجهازين منفصلين أيضاً.
ولأترك الآن النقطة التاريخية في الموضوع لأنتقل إلى شرح جهازي بيرد للإرسال والاستقبال كل على حدة. ويلاحظ أن التلفزة يقصد بها إرسال الصور الثابتة أو الأجسام(62/67)
المتحركة على حد سواء كما يمكن أن تنقل بواسطة أسلاك أو بدونها.
وتأخذ عملية الإرسال ثلاث خطوات. نبدأ أولاها بتقسيم الجسم المتلفز إلى مساحات صغيرة، وثانيتها بتحويل الأضواء المنعكسة من هذه المساحات إلى دفعات كهربائية، وثالثتها بتكبير هذه الدفعات وإذاعتها على التعاقب بواسطة أسلاك أو بالأثير إلى جهاز الاستلام.
وللاستلام خطوات ثلاث أيضاً هي بنفسها خطوات الإرسال مأخوذة في الاتجاه العكسي. فتبدأ باستقبال هذه الدفعات الكهربائية من الأثير وتكبيرها ثم تحويلها إلى دفعات ضوئية، ثم أخيراً جمعها وإعادة تركيبها لتخرج صورة الجسم المتلفز.
ولأبدأ ببحث كل من هذه الخطوات على حدة متدرجاً من أبسط الأجهزة إلى ما تطور منها.
جهاز الإرسال
فلتحليل الجسم المتلفز - ولنفرضه الصورة أ1 أ2 ي2 ي1
شكل (1) - يستعمل القرص المثقب ويكون عادة من معدن
خيف كالألمونيوم ويبلغ قطر دائرته حوالي 40 سنتيمتراً
ويحوي قرب حافته المستديرة ثلاثين ثقباً صغيراً مربعاً تقع
على منحن على شكل لفة مفردة من حلزون صغير الزاوية
كما هو مبين بالشكل، ويوضع الجسم المراد تلفزته خلف هذا
القرص كمايوضع أمامه ضوء قوي من قوس كهربائي.
ويكون موضعي الجسم والضوء بحيث أن الخط الواصل
بينهما يكون متعامداً على مستوى القرص وماراً بأحد ثقوبه.
ويدار هذا القرص بسرعة منتظمة قدرها 12 12 دورة في(62/68)
الثانية بواسطة محرك كهربائي مركب على محوره.
ولنفرض الآن أن القرص في موضع بحيث أن شعاع أضوء المر من المربع (1) يقع على النقطة (11) على الجسم فيضيئها، وتعكسه هذه بقوة تتناسب مع قدرتها على العكس، فإن كانت قاتمة كانت نسبة الانعكاس صغيرة، أو ناصعة كانت نسبتها كبيرة. فإذا تحرك القرص في اتجاه بحيث يحمل معه المربع (أ) إلى أعلى تحرك تبعاً له شعاع الضوء الساقط على الجسم إلى أعلى فيضيء على التعاقب نقطاً من الجسم تقع على خط رأسي حتى إذا ما انتهى عند حافة الجسم العليا عند (أ 2) بدأ شعاع آخر يخرج من المربع ب ويقع على الجسم من أسفل عند (ب1) الملاصقة للنقطة (أ1) وهذا هو الغرض من وضع ثقوب القرص على لفة من حلزون حتى يكون كل ثقب مزاحاً عن سابقه بقليل بحيث يرمي شعاع الضوء الخارج منه على نقط ملاصقة لنقط الثقب الذي قبله.
فإذا ما أتم القرص دورة كاملة شاهدنا ظهور الضوء أولاً عند (أ1) ثم سيره إلى (أ2) ثم اختفاءه وظهوره ثانياً عند (ب1) وسيره إلى (ب2) ثم اختفاءه وظهوره عند (جـ1) وسيره إلى (جـ2) وهكذا حتى (ي2) وبذلك تكون كل نقط الجسم قد أضيئت على التعاقب، ويمكن أن نشبه حركة النقطة المضيئة على الجسم بحركة العين عندما تقرأ كتاباً كتبت أسطره في اتجاه من أسفل إلى أعلى.
وعند ما يأخذ القرص سرعته العادية (12 12 دورة في
الثانية) لا يمكن للعين أن تتبع حركة هذه النقطة المضيئة على
الجسم بالتفصيل، ولا حتى هذه الخطوط الرأسية المتلاصقة
المتتابعة. بل سيخيل إليها أن الجسم كله مضاء إضاءة واحدة
منتظمة من مصدر واحد مستمر.
ويوضع عادة بين الجسم والقرص عدسة لامة تعمل على جمع الأشعة الخارجة من الثقب على نقطة واحدة من نقط الجسم كما يغطي مصدر الضوء حتى لا يتسرب منه ضوء إلى(62/69)
الجسم بطريق غير طريق الثقب.
وقد وجد أن هذه الطريقة تستلزم مصدراً ضوئياً قوياً إذ أن الجزء الساقط منه على الجسم صغير، وهذا يسبب قلة استضاءة الجسم. هذا فضلاً عن أن هذه الطريقة تستلزم أيضاً وضع الجسم المتلفز في ظلام حالك لا يتسرب إليه أي ضوء خارجي وذلك مما يمنع تلفزة أجسام موضوعة في ضوء النهار. فنقحت هذه الطريقة بإضاءة الجسم ذاته من مصدر الضوء ثم وضع عدسة أمامه لتكون له صورة تقع على حافة القرص المثقب. بحيث لا يمكن أن تغطي أكثر من ثقب واحد في أي موضع من مواضع القرص كما هو مبين بشكل (2) ففي أي موضع من مواضع القرص ينفذ من ثقب واحد منه شعاع ضوئي تتناسب شدته وشدة استضاءة نقطة الصور الباعثة له. وبحركة دوران القرص يسير كل ثقب على الصور على التعاقب في اتجاه رأسي من أسفل إلى أعلى حتى إذا ما خرج من حافة الصورة العليا بدأ الثقب الثاني له يظهر في أسفل الصورة ليمسح من الصورة خطاً رأسياً آخر يلاصق الأول وهكذا حتى إذا ما أتم القرص دورة كاملة أرسلت من ثقوبه على التعاقب أشعة تمثل في شدتها وضعفها شدة استضاءة نقط الصورة كلها.
وفي السنوات الأخيرة استبدل هذا القرص المثقب بعجلة على شكل الطبلة تتثبت على حافتها الخارجية مرايا مستوية صغيرة بعدد ثقوب القرص تميل كل منها بزاوية صغيرة جداً على سالفتها شكل (3) فتعكس الضوء الساقط عليها من المصدر على نقطة واحدة من نقط الجسم بمساعدة عدسة لامة وبدوران العجلة تمسح أشعة الضوء المنعكسة من المرايا المتعاقبة الجسم المتلفز بطريقة تشبه تمام الشبه الطريقة الأولى للقرص
كذلك استعمل لنفس القرص حلزون المرايا وهو شكل ثان لطبلة المرايا. وميزة أجهزة المرايا هذه أنها لا تشغل فراغاً كبيراً.
وبأي طريقة من الطرق السالفة لتحليل الجسم المتلفز إلى نقط
صغيرة نجد أن كل عملية التحليل لا تستغرق سوى 1 من 12
12 جزءاً من الثانية كما أسلفت. ومعنى هذا أنه يرسل للجسم
12 12 صورة في الثانية الواحدة. فأن كان متحركاً اختلفت(62/70)
كل صورة عن سابقتها اختلافاً طفيفاً بحيث أنه عند عرضها
في جهاز الاستقبال بنفس السرعة 12 12 صورة في الثانية
تظهر للرائي حركة الجسم كما هي الحال في ظهور حركته
بواسطة آلة السينما مثلاً.
هذه الأشعة المنعكسة من الجسم المتلفز في حالة القرص الأولى أو المارة من ثقوب القرص في حالة طريقة القرص الثانية أو المنعكسة من المرايا في جهاز طبلة المرايا أو حلزون المرايا. كل هذه الأشعة تتحد في خاصية واحدة كما أسلفت، وهي أن كلاً منها تمثل في تغيراتها من حيث الشدة والضعف اختلاف نقط الجسم المتعاقبة من حيث الضوء والظلام. وعند هذه تنتهي الخطوة الأولى من خطوات الإرسال.
هذه الأشعة الضوئية المتعاقبة التي حصلنا عليها. نريد الآن أن نحولها إلى دفعات كهربائية تختلف شدة وضعفاً تبعاً لاختلاف شدة هذه الأشعة. وهذه هي الخطوة الثانية من خطوات الإرسال.
العين الكهربائية أو ما نسميها علمياً بالخلية الكهرضوئية هي المحور الأساسي والجزء المهم في جهاز عرض السينما الناطقة. ولها أنواع كثيرة منها ما هو مبين بشكل (4). وهي عبارة عن انتفاخ زجاجي مفرغ من الهواء أو به غاز مخلخل وتحوي قطبين بداخلها، أحدهما يبطن الزجاج من الداخل ويسمى الكاثود ويكون عادة من معدن البوتاسيوم، أو الصوديوم، أو الربيديوم أو السيزيوم. والقطب الآخر وهو الأنود، ويكون عادة على شكل سلك رفيع في وسط الانتفاخ. ويوصل الأنود هذا بالطرف الموجب من جهد كهربائي عال يتراوح بين100 و150 فولتاً، ويوصل الكاثود بطرفه السالب. ولهذا الكاثود خاصية غريبة، وهي أنه إذا ما سقط عليه ضوء انبعثت منه ألكترونات واتجهت نحو الأنود، وتسبب تياراً في دائرته تتناسب قوته مع شدة الضوء الواقع على الكاثود.
فإذا ما سلطنا الأشعة الضوئية المتعاقبة التي حصلنا عليها سابقاً من تحليل الجسم على كاثود هذه الخلية سببت تيارات كهربائية في دائرة الخلية تتغير تبعاً لاختلاف نقط الجسم(62/71)
المتلفز بالنسبة للضوء والظلام، وتكون هذه التيارات عادة ضعيفة جداً، أي إنها لا تتعدى بضعة ميكروأمبيرات (الميكرو أمبير يساوي واحداً من مليون من الأمبير). لذلك كان من الواجب تكبيرها قبل إرسالها، وهذه هي ثالثة خطوات الإرسال.
أما كيفية تكبيرها وإرسالها فهذا موضوع آخر يختلف تمام الاختلاف في بحثه عن موضوع اليوم. وهو موضوع قائم بذاته يتطلب دراسة وافية لعلم الصمامات. فكل ما يهمنا الآن هو أن نعلم أن هذه التيارات الكهربائية المتغيرة المارة في دائرة الخلية الكهرضوئية تؤخذ إلى هذا الجهاز المكبر ومنه إلى جهاز الإذاعة حيث تذاع في الأثير بنفس الطريقة التي تذاع بها الأمواج اللاسلكية. ومن ثم إلى جهاز الاستقبال وموعدي به الرسالة القادمة.
محمود المختار(62/72)
الضيف. . .
بقلم الأستاذ محمد سعيد العريان
ود توفيق لو يهجر المدينة وأهلها ويقطع صلته بالناس فترة من الزمان، فإنه ليجد لذة ويحس أنسا أن يفارق هذه الصور التي يطالعها وتطالعه كل صباح ومساء، لقد أطافت به نوبة من الضيق والملل حتى لا يلقى أهله إلا بوجه عابس وطلعة متجهمة، ودق حسه حتى أصبح سريع التأثر قريب الانفعال. وكان في إجازة طويلة، والجو حار يهيج الأعصاب ويثير النفس ويبعث على السأم؛ وإنه ليعيش بين أهله ولكنه يشعر بالوحشة والانفراد فلا طاقة له على البقاء في البيت ساعة من نهار، ولا يجد في القهوة ما يسلي نفسه ويشغل فراغه؛ وقد هجره أصدقاؤه جميعاً إلى المصايف أو إلى بلادهم وخلفوه ونفسه يصارع الهم والوهم والوحدة والألم. .!
وتصورت في خياله القرية التي مس ترابها جلده منذ ربع قرن، والتي لا يذكر - لبعد العهد - متى هاجروا منها إلى المدينة، ولمه. . . لاشك أنه سيجد هناك من جدة العيش وطرافته ما يحمل عن صدره أثقال الهموم، ويهدي إلى نفسه الموحشة بعض الأنس والهدوء والدعة.
وتراقصت أمام عينيه صور جذابة من حياة القرية ويسر الحياة فيها بعيداً عن أسر التقاليد وتكاليف الحضر؛ وحضرته ذكريات حلوة من زياراته القليلة لأخته في القرية، فذكر مجالسه مع شبانها على حافة الساقية تحت شجرة التوت الغليظة تساقط عليه ثمراً شهياً، ورياضاته في جلبابه الفضفاض تحت المعطف الأبيض على شاطئ الترعة وبين الحقول، يتملى بجمال القرويات غاديات رائحات من الترعة وإليها أسراباً يجررن الذيول، ويحملن الجرار على رؤوسهن، ويهمسن بالغناء الساحر تسيل في نبراته الرقة والعذوبة والحنين. وذكر مجالس الأنس والسمر في الليلة المقمرة على مصطبة الدار، وحديث القرويين ينتقل في لذة وسحر بعيداً عن التزويق والإدعاء الفاخر. . . وزهته مظاهر التبجيل والاحترام التي تحوطه هناك.
وفي اليوم التالي كان القطار يغذ السير بتوفيق إلى القرية، وقد أشعل بين إصبعيه دخينة وسبح في أحلام لذيذة بهدوء القرية وسحر بناتها. . .(62/73)
وتلقته أخته بالترحيب والعناق، وجلست إليهقليلاً تحدثه ويحدثها، ثم تركته لتهيئ له الطعام بيدها، طعام القرية الشهي الدسم اللذيذ. وتوافد عليه عارفوه وشبان أسرته يحيونه ويتجاذبون وإياه أطراف الحديث يقطعون بين فتراته بالتحية المكررة والسؤال عن الصحة والأحوال. . .
وخرج معهم في العصر يطوف بأزقة القرية يتعرف إلى الوجوه والأبنية. واخترق سبلاً وعرة بين الحفر وكومات السماد، وبيوت متواضعة متقاربة كأنما تدانت للعناق. وانتهى به المطاف في دار له بها عهد، لأن صاحبها من ذوي قرابته، واجتمع لفيف من شبان القرية وشيوخها يبعثون التاريخ، ويتناولون شتى الذكريات، ويخوضون في كل حديث، ويتبادلون أنباء القرية وحوادثها، وأنباء السياسة أيضاً، وإن لهم في السياسة أحاديث لا تخلو من حكمة وبعد نظر.
وأعجب توفيق بحديثهم كما تعجب بحديث الطفل، فأنصت إليهفي لذة وأنس، كما يستمع السائح المؤرخ إلى خرافيات دليله الجاهل عن سر أبي الهول وأطياف وادي الملوك.!
وأديرت فناجين القهوة وانعقدت في جو الغرفة سحائب الدخان، واشتد الحر وأسال العرق على الجباه؛ وشعر توفيق أنه يكاد يختنق وأن أعصابه تخونه، وهم بالانصراف ولكنهم ألحوا عليه أن يجلس فجلس، وأخذوا في حديث الشياطين والجن، فراح كل واحد منهم يحدث بما سمع وما رأى! وتفننت عبقرية الجهل في اختراع القصص المروعة والروايات الغريبة، وطفقوا يعددون الشياطين بأسمائها وحوادثها وضحاياها. . . وأشار (الشيخ) بيده فأنصتوا ومالوا برؤوسهم إليهوقد أخذ يرقص شاربه وترتجف شفتاه في انفعال عصبي، وشرع يقص على الحاضرين قصة العفريت الذي كان يتسور عليه البيت وهو شاب ليالي متتابعة، فيقاسمه طعامه وشرابه وفراشه أيضاً فلا ينصرف إلا مع آذان الفجر، والزنجية الحسناء التي كانت تصحبه ليالي فتحتل موضعه من الفراش، وتضطره أن يقضي الليلة معقودة يداه خلف ظهره ورأسه بين ركبتيه إلى حائط الدار، ثم لا يفارقه العفريت وصاحبته قبل الصباح إلا بنفحة من دراهم، أو عصوين من نار تلهبان ظهره، جزاء رضاه أو سخطه على ما يصنعان. .!
وكان حديثاً غريباً على الضيف فحاول أن يتفلسف وينكر ويعلل، ولكنهم أنكروا منه ذاك،(62/74)
وطلبوا إليهالتسليم أو يتعرض لغضب الشياطين وأذاهم، وكانت أعصابه مهيئة للتسليم فسكت، واستمروا يتحدثون. وأحس رعدة خفيفة تتمشى في جسده فسحب رجليه في هدوء فدفنهما في أطراف ثيابه، وجمع يديه في حجره ومال إلى المحدث يستمع إليه هادئاً منصتاً في شبه إيمان. لقد حطمت هذه الليلة الصاخبة أعصابه، وهاجت وساوس نفسه المريضة.
وانتهت السهرة ولكن صاحبنا ظل جامداً في مكانه لم يهم بالقيام حتى دعوه، فنهض كسلاً متراخياً يكاد يسقط من إعياء.
وشيعوه إلى دار أخته، وهو سارٍ بينهم يتعثر في أوهامه. . ووجد أهل البيت نياماً فلم يبق ساهراً إلا مصباح ضئيل موقد في الردهة يرقص لهبه على عزيف الهواء وكان يعلم أنهم أعدوا له غرفة في الطبقة الثانية فصعد في السلم بطيئاً متثاقلاً يتلفت بين الخطا والمصباح في يمينه، ودفع باب الغرفة بيسراه فسمع صوتاً يشبه أنين المستصرخ، فأدار ظهره في فزع ليرى من هناك ولكنه لم يجد شيئاً، وعاد يدفع الباب فسمع حشرجة خشنة، ثم سمع ضحكة بشرية ناعمة. .!
ووقف في وسط الغرفة يقلب بصره بين زواياها في رعب وفزع، وكانت به رغبة في التدخين، ولكنه لم يجرؤ أن يذهب إلى الغرفة الثانية - حيث أودع حقيبته - ليستحضر بعض التبغ. وخلع نعليه وهو جالس على حافة السرير ويداه ترتعشان، وتتجاوب في أذنه أصوات غريبة تفزعه وتسلبه الطمأنينة. ودفن نفسه في الفراش، واستلقى على ظهره وقلبه يدق دقات عنيفة، وكأن يداً غليظة تقبض على عنقه، وأشباحاً خفية تطيف به.
وكان يعلم أنه ليس فوق السطح غير أكداس من الحطب والوقود، ولكنه أحس دبيب أقدام، وسمع أصوات غريبة هامسة ليست من صوت البشر! أتراه أغضب الشياطين فأرسلوا إليهعفريتاً ينتقم منه؟
وضاقت أنفاسه، واضطرب فكره، واشتد ضغط الوهم على صدره، وهم أن يصرخ ويستنصر، ولكن صوته احتبس ولم يتحرك لسانه. وشبه له أنه يرى شبحاً من الضباب في شكل غير إنساني - وإن كان يمشي على رجلين - ينسل من النافذة مع ضوء القمر، ويشير إليهبالصمت في إنذار وتهديد!. . وسحب الغطاء يخفي عينيه في حركة آلية، ولكنه أحس شيئاً بارداً يلمس أطراف قدميه، فاستوى جالساً وأفلتت منه صرخة مكتومة. وتوارت(62/75)
الأشباح فلم يعد يبصر شيئاً، ولكن همهمة غير مفهومة، ودبيباً وهمساً وأصواتاً غريبة كانت تصك أذنه من بعيد. واستلقى ثانية على الفراش وهو يحدق في الحائط الذي أمامه تحديق الخائف المذعور، فقد أبصر ظلاً أسود مطبوعاً عليه يحرك رأسه ويشير بيديه كأنه يتحدث إلى شخص بعيد. وود توفيق أن ينظر إلى ما وراء ليرى المشار إليه، ولكنه خاف؛ واستمر الهمس والدبيب يرنان في أذنيه، وتتراقص الرؤى والأشباح أمام عينيه، فلم ينم ليلته؛ وفي الصباح مع أول خيط من ضوء النهار كان جالساً في فراشه يصفق بيديه في عنف يستدعي الخادم، ودخلت أخته تحييه، فراعها ما رأت في وجنتيه من صفرة الخوف وإعياء السهر، وقالت له:
(توفيق ماذا بك؟)
- (لا شيء، ولكني مسافر اليوم فأعدي لي ركوبة إلى المحطة)
- (مسافر؟ ولكنك عرفتني أمس أنك قد تمكث لدينا شهراً، فلماذا غيرت رأيك؟)
- (لاشيء، لاشيء، قلت لك لاشيء. إن حقيبتي في الغرفة الثانية!.)
وآلمتها لهجته فمطت شفتيها آسفة وخرجت تنفذ ما أمر به، ثم عادت تسأله:
- (حدثني يا توفيق، هل تألمت من شيء هنا؟)
- (لا، ولكني لم أخبر أمي أمس أني مسافر، فأخشى أن يقلقها غيابي أو يألمها.)
- (ليتك لم تحضر يا توفيق!) وانصرفت لبعض شأنها.)
وحين تناول توفيق حقيبته من حيث وضعها أمس أفلتت منها ورقة فظنها سقطت منه ودسها في جيبه قبل أن يقرأها.
ولما جلس في القطار وضع يده في جيبه ليخرج شيئاً فعثر بالورقة، ونشرها بين أصابعه يقرؤها. . . وضحك توفيق وشاع في وجهه السرور حين عرف ما هناك؛ لقد كانت أخته تربي له ماعزة ولوداً، فكتبت له هذه الورقة أمس تخبره أن في ضيافة ماعزته فوق السطح جدياً فلا يفزعه دبيبهما ريثما ترد الجدي إلى صاحبه في الصباح. . .
لقد خاف توفيق وفزع ليلته لأنه كان يظن أنه وحده ضيف البيت. . .!
محمد سعيد العريان(62/76)
6 سافو
لأوجيبه اميل
ترجمة الأستاذ محمود خيرت
حنا - إن الشتاء قارس هناك فلم لا تقصدين إلى باريس؟
سافو - وماذا أعمل فيها وأنت بعيد عني. ثم إنني ما عدت أجد في الوسط الذي كنت قديماً فيه غير أسباب الأسى والهم. ولقد امتلأت يدي منك فحسبتها امتلأت من حب كتب له الدوام، وما لبثت امرأتك أكثر من سنة. عد يا حنا فتعود تلك الأيام من جديد، وتعود السعادة فتملأ جوانب قلبك وقلبي. تعال معي وسأكون كما تريد محبة طائعة، وسأفتح لك صدري وأنزلك في عيني. تعال إنك لازلت تحبني. رق لحالي فليس غيرك يروي ظمئي وينسيني همي
حنا - لا يا فتى لم يعد هذا في طوقي
سافو - ولمه؟
حنا - لأنني لا أريد!
سافو - وآلامي وعذابي؟
حنا - وماضيك؟ (مبكتاً)
سافو - (وقد ملكها اليأس) الذنب فيه على الأيام. ومع ذلك ألم يمت؟
حنا - بل هو حي يحول دون كل أمل في الحياة معك بغير عذاب ودون كل أمل في الحب بغير ريبة وعار. على أنني سأرحل
سافو - قل إنهم هيأوك للزواج وأنت تسخر من دموعي وتلتذ على حساب ألمي. لقد حطمت قلبي ونثرت البقية الباقية من رجائي
حنا - (بشدة) ماذا؟
سافو - سامحني فما عاد لي أمل واحد هو أنت.
حنا - وهو وا أسفاه أمل ضائع!
سافو - إنني أحييك يا حنا. أحبك ولن أجد سواك يملأ فراغ قلبي. رق لحالي. إرحمني، إنني أجثو عند قدميك(62/77)
حنا - (وهي تحاول وقد تزعزع صوابه) فني!
(هنا يدخل سيزار وديفون فجأة)
سيزار - كفى يا ولدي وتعال
حنا - آه يا أبي. . .
سافو - لا. لن أصبر على بعده (تتعلق به وأبوه يجتذبه فتدفعها أمه)
ديفون - (لها) دعيه واذهبي من هنا
سافو - ولكن من أنت؟
ديفون - أنا أمه
سافو - آه سامحيني فما كنت أعلم يا سيدتي
(تمد ساعديها نحو حنا وأبوه يجره وهو يلتفت إليها وهي تبكي) ها أنا ذاهبة يا حنا
ديفون - (لا تستطيع أن تنظرها وهي على هذه الحال) آه يا مسكينة(62/78)
الفصل الخامس
(الفصل شتاء والمنزل في أفري ويظهر منه غرفة لها باب به
مربعات)
(من الزجاج يطل على الفضاء وقد كساه الثلج)
سافو - (حزينة مفكرة ثم تنشد)
حال عهد الهوى ... بعدما تبسمْ
فهو حلٌم حوى ... يَقظة الألم
وكؤوس المُنى ... في سنا القبلْ
جرعتني العنا ... من يد الملل
واستبدَّت معي ... قسوة القدَرْ
فجرت أدمعي ... تشبه المطر
ها حبيبي هجَرْ ... إِنَّ هجرَهْ
مثل وخز الإبَرْ ... ما أمرَّهْ
ليته أنصفا ... قبلما رحَلْ
يا فؤادي كفى ... أخطأ الأملْ
(بعد سكوت)
سافُ هنّي فأكرمي ... ساعة الواجب
إنَّه مهجتي. دَمي ... طفلِيَ الغائب
قم فقّبله يا فَمِي ... قبلة التائِب
علً طُهَر السّنينْ ... الذي ما عَرفْ
أين قلبي. يزين ... قلبه بالشرف
فإلى الواِجبْ ... عقَّنِي الصاحِبْ
حنا - (يدخل فجأة) فني؟
فني - (ذاهلة) أنت؟(62/79)
حنا - نعم فلقد خانني جلدي ولم أقو على البعد
فني - وعدت
حنا - ساءتك إذن عودتي؟
فني - ولكنني سأرحل يا حنا فأولى لك أن تنسى
حنا - (فاقداً صبره) نعم ترحلين. ولكن إلى غير صدري
فني - قسماً بك لا
حنا - إنني حطمت من أجلك قلبي وأهلي وأعزائي ومزرعتنا والغابة والنهر وكل ما هو عزيز عليّ. وكذلك أمي التي كانت في منتصف الطريق تستبقيني وتبكي. وبعد هذا كله ترحلين وتطلبين إلي أن أنسى. اذهبي إذن. اذهبي ولا تطيلي ساعة عذابي.
سافو - (منتبهة) لازلت تحبني. إذن أبقى وأعبدك يا حنا (يتعانقان ويلبثان هكذا برهة)
ولكن ما لوجهك مصفراً يا بيبي
سافو - ماذا قلت. إن هذه الكلمة تعيد إلى ذهني تلك الذكريات الأليمة
حنا - (باكية) هكذا طاب لك أن تعذبني من جديد.
فهل لهذا عدت إلى من كنت تلتمس قبلة العفو عند شفتيك.
سافو - لقد أخطأت يا فني فاحملي ذلك على جنوني
(يذهب فيرتمي فوق مقعد وقد خارت قواه)
سافو - لا بأس عليك فإن شفتيك تختلجان وعينيك تصهرهما الحمى
حنا - خانتني قواي وما نمت إلى الآن
سافو - إذن نم يا حبيبي
حنا - ولكن إلى جانبك
سافو - بل عند صدري
حنا - (ينام ورأسه عند صدرها) آه لو تعلمين كم أحبك
سافو - إنس تكن سعيداً
حنا - نعم إن السعادة في النسيان (ينام)
سافو - ولكن كيف نسيت. خير لي أن أرحل من الآن(62/80)
(تتخلص منه وتسند رأسه فوق وسادة)
حنا - (حالماً) زوجتي. . .
سافو - (تضطرب وتنحني عليه) هل أستيقظ؟ لا.
(تبتعد رويداً نحو الباب وهي تنشد بصوت خافت)
ساعة الرحيل - ساعة العذاب - شتت فكري
أيها الجميل - أقصر العتاب - واجبي عذري
يا لها ليال - عهدها النضير - مر كالفجر
هكذا الجمال - عمره قصير - فهو كالزهر
أيه يا دموع - أنت المتاع - بعده فاجري
أسعفي الضلوع - ساعة الوداع - من لظى الجمر
(وأخيراً تودعه بأطراف أصابعها ثم تختفي)
(تمت الرواية)
محمود خيرت
بقلم قضايا المالية(62/81)
بعض الكتب الجديدة
فيصل ملك العرب
حياته. أثر فاجعته. أربعينه
بقلم عبد الجبار الرجبي
وضع هذا الكتاب الصغير أحد أدباء دير الزور الأفاضل. وقد حلاه بكثير من الصور وأهداه إلى جلالة الملك غازي. وفي هذا الكتاب تجد كثيراً من المعلومات الشيقة النافعة عن المغفور له صاحب الجلالة الملك فيصل عاهل العرب العظيم وعن أثر فاجعته في العالم العربي. والعالم الأوربي. كما تجد فيه كثيراً من نصوص برقيات التعازي، وقصائد الرثاء. وبالجملة ترى في هذا الكتيب على صغره ما يعجبك من هذا الحديث العطر حديث تلك الحياة الحافلة بجلائل الأعمال، وما أجدر شبابنا وشبان العالم العربي أن يقرأوا سيرة هذا العظيم الراحل في تبصر واعتبار.
الخفيف(62/82)
إبراهيم في الميدان
تأليف الأستاذ حبيب جاماتي
عنيت بنشره إدارة الهلال بمصر
يقع هذا الكتاب في نيف ومائتي صفحة من القطع الكبير وهو مجموعة أقاصيص تاريخية تدور حول معارك البطل المصري العظيم إبراهيم باشا، وقد أصدره الهلال هدية لقرائه هذا العام، ولاشك في أن الهلال قد أحسن صنعاً باختياره هذا، فهي مجموعة أقاصيص تجمع بين اللذة والفائدة، ولصاحبها الفاضل قدم راسخة في فن الأقصوصة، ولقد أضاف بكتابه هذا إلى ذلك الفن الناشئ ثروة يعتد بها، ومن أقاصيصه التي راقتني بنوع خاص، الأخذ بالثأر، وخرساء البادية، والضريح الخاوي، والحقيقة أن كل ما يكتبه الأستاذ جاماتي في باب القصص جدير بالعناية والاهتمام.
رواد الشعر الحديث في مصر
تأليف مختار الوكيل
كتاب صغير يقع في نحو ثمانين صفحة افتتحه مؤلفه الفاضل بكلمة رشيدة في النقد الأدبي وشروطه وما يجب على الناقد، ثم بكلمة أخرى في الشعر وأغراضه ومظاهره في المدرستين القديمة والحديثة، وبعد ذلك ترجم لهؤلاء الشعراء الذين سماهم رواد الشعر الحديث في مصر وهم بحسب ترتيبه الأساتذة خليل مطران، وعبد الرحمن شكري، وأحمد زكي أبو شادي، وعباس محمود العقاد. ولقد أعجبني دقة المؤلف الشاب ونزاهته في بحثه، وحسن ذوقه في النقد، كما راقتني فطنته في تعرف مواضع الجمال أو القبح في شعر هؤلاء الشعراء، مما يجعل بحثه متفقاً تمام الاتفاق مع ما جاء في مقدمة كتابه من شروط النقد، ومما يجعل هذه الرسالة على صغرها جديرة بالقراءة في تمهل وإمعان.
الخفيف(62/83)
العدد 63 - بتاريخ: 17 - 09 - 1934(/)
على ذكر إعانة الكبتن كرسويل(63/1)
تشجيع التأليف
أذاعت الصحف نبأ هذه الهبات السخية التي أغدقتها وزارتا المعارف والأوقاف على الكبتن كرسويل المحاضر المنتدب بالجامعة المصرية في الآثار الإسلامية، وقد بلغ مجموع هذه الهبات بضعة آلاف جنيه، دفعت إليه معاونة له على إخراج مؤلف يضعه بالإنكليزية عن العمارة الإسلامية في مختلف العصور؛ وقد أخرج منه إلى الآن الجزء الأول من أربعة أجزاء، ويتعهد الأستاذ كرسويل مقابل هذا السخاء الحاتمي الذي شملته به الحكومة المصرية أن يسمح لوزارة المعارف بترجمة مؤلفه إلى العربية، وأن (يهدى إليها) خمسين نسخة من كتابه.
وتشجيع المباحث العلمية والتاريخية على هذا النحو أمر مستحب لذاته. ولنترك البحث فيما إذا كانت جهود الأستاذ كرسويل ومباحثه جديرة بمثل هذا التشجيع. ذلك أننا نحمد المبدأ لذاته ونؤيده بكل قوانا؛ بيد أنا نود أن نلاحظ أنه لم يسبق لوزارة المعارف أو وزارة الأوقاف أن أبدت مثل هذا العطف أو أسبغت مثل هذه الرعاية على أحد من المصريين الذين يشتغلون بهذه المباحث أو غيرها، مما يجدر تقديره وتشجيعه؛ ولم تضع وزارة المعارف أو الجامعة المصرية وغيرهما من الهيئات العلمية الرسمية لنفسها أي تقاليد في هذا الشأن بالنسبة للعلماء المصريين وإن كان من تقاليدها أن تشجع العلماء الأجانب لأي مناسبة.
ربما قيل في ذلك إن المباحث العلمية والتاريخية لم تبلغ في مصر مستواها المنشود من التقدم والنضوج، وأن جهود العلماء المصريين لم تظهر بعد بمظهر يجدر بالتقدير والتشجيع. ولكنا نبادر فنقول إن هذا الاعتراض لم يبق له محل بعد، وإنه يرجع إلى نوع من التحامل القديم الذي نألفه دائماً في حكومات يطبعها الأجنبي بوحيه وتأثيره، والذي يتخذ مظهره في انتقاص الجهود القومية والاغضاء عن تقديرها وتشجيعها حتى لا تنمو وتزدهر وتكون قوة معنوية في الأمة. ومن التحامل أن ننكر أنه يوجد بين العلماء والباحثين المصريين عدة ممن ينافسون الكبتن كرسويل ومن هم في مستواه من العلماء الأجانب، على الأقل في ميدان المباحث الإسلامية؛ وإنه إذا كانت جهودهم مغمورة غير ظاهرة، فذلك لأنهم يعملون في جو من العزلة واليأس، ولا يأنسون لدى حكومتنا أو لدى هيئاتنا العلمية أي عطف أو تشجيع. وإذا سلمنا جدلاً بأن علماءنا وباحثينا لم يبلغوا بعد من(63/2)
العلم والكفاية ما يبلغه أمثال صاحب كتاب العمارة الإسلامية، فانه ليس من الحكمة أو العدل أن يتركوا حيث هم؛ وأن تضن عليهم حكومتهم بالعطف والتشجيع؛ وإنما السبيل إلى شحذ هممهم ومواهبهم وإبراز جهودهم في المستوى اللائق، هو أن تشملهم حكومتهم بشيء من ذينك العطف والبذل اللذين تغدقهما على العلماء الأجانب. خذ مثلا مسألة المباحث الأثرية التي كانت إلى ما قبل أعوام فقط وقفاً على العلماء الأجانب. فقد لبث المصريون نحو قرن محرومين من التنقيب عن آثارهم في نفس بلادهم وأرضهم؛ وكانت البعثات الأجنبية والعلماء الأجانب. يستأثرون بهذه المباحث في أرضنا بفكرة أنهم دون غيرهم يستطيعون إجراءها. ومع أن معظم آثارنا الفرعونية قد تسربت إلى الخارج، وغصت بها المتاحف الأجنبية في مختلف أنحاء العالم، فأن حكومتنا لم تكن تضن عليهم بكل صنوف التشجيع المادي والمعنوي. فلما أن قررت الجامعة المصرية إجراء بعض الحفريات على يد بعض أساتذتها من المصريين، ولما بذل للمصريين ما كان يبذل لزملائهم الأجانب من العون والتشجيع، ظهرت كفاية المصريين ناصعة في الكشف عن آثار بلادهم واستقرائها، وظهر خطأ النظرية القديمة الجائرة التي كانت تنكر على المصريين كل كفاية لتقصيهم عما هو من صميم حقوقهم وميادينهم لكي يتسع المجال للأجانب.
لقد ظهرت في العهد الأخير طائفة قيمة من التآليف والمباحث الإسلامية، والآثار الأدبية الرفيعة، ولقيت كثيراً من التقدير بين العلماء الأجانب؛ فماذا كان نصيبها من التشجيع الرسمي في مصر؟ كل ما يطمح إليه المؤلف الذي أنفق كل ذكائه ووقته وماله على إخراج مؤلفه، هو أن تتفضل عليه وزارة المعارف بتقرير كتابه لمكتبات مدارسها وشراء بضع عشرات نسخ منه، وذلك بعد أن تفحصه لجنة فنية تقره وتوصي به، وهذا كل ما يعرفه المؤلفون المصريون من تشجيع وزارة المعارف، ولا يحظى بهذه المؤازرة الضئيلة سوى القليلين منهم. أما أن تشمل وزارة المعارف برعايتها مجهودا علميا أو أدبيا معينا قبل أن يتم إخراجه، وتبذل لصاحبه شيئا من العون المادي على نحو ما فعلت مع الكبتن كرسويل، الذي استطاع بمجرد الطلب أن يحمل ولاة الأمر على بذل هذه الآلاف المؤلفة له قبل أن يتم مؤلفه أو يخرج منه سوى الجزء الأول فقط، - فهذا أمر لم نسمع به قط، ولا نعتقد أنه تقرر بعد بالنسبة للمصريين في تقاليد وزارة المعارف.(63/3)
على أننا نرجو أن يكون في الضجة التي أحدثها تصرف وزارة المعارف ووزارة الأوقاف في هذه المسألة، والأثر المؤلم الذي تركته في أذهان المصريين جميعا، ما يلفت نظر ولاة الأمر في وزارة المعارف وفي غيرها من الهيئات الحكومية المتصلة بالشئون العلمية والأدبية، إلى التفرقة الجائرة بين المصريين والأجانب في نفس الميدان الواحد، وإيثار الأجانب على المصريين بالعطف والتشجيع.
لا بأس أن تشجعوا العلماء الأجانب بأموال المصريين، وإن كان هذا التشجيع لا يصادف أهله في معظم الأحيان، ولكن الحكمة والعدالة وحسن الذوق تقضي كلها بأن يبذل للعلماء والكتاب المصريين من أموال المصريين أضعاف ما يبذل لزملائهم الأجانب حتى لا تبقى جهودهم ضحية الانتقاص والنسيان والنكران.
(ع)(63/4)
س. ا. ع
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
هؤلاء ثلاثة من الأدباء تجمعهم صفة العزوبة، ويحبون المرأة حباً خائفا يقدِّم رجلاً ويؤخر أخرى؛ فلا يُقْبل إلا أدبر، ولا يعزم إلا انحل عزمه. بلغوا الرجولة وكأن ليست فيهم؛ وتمر بهم الحياة مرورها بالتماثيل المنصوبة، لا هذه قد وُلد لها ولا أولئك؛ وما برحوا يجاهدون ليحتملوا معاني وجودهم، لا ليطلبوا سعادة وجودهم، ويُمَخْرِقون في شعوذة الحياة بالنهار على الليل وبالليل على النهار، يحاولون أن يجدوا كالناس أياماً وليالي، إذ لا يعرفون لأنفسهم من العزوبة إلا نهاراً واحداً نصفه أسود مقفر مظلم.
فأما (س) فرجل (كشيخ المسجد) يكاد يرى حصير المسجد حيث وطئت قدماه من الأرض. . . . ذو دين وتقوى ما يزال بهما ينقبض وينكمش ويتزايل حتى يرجع طفلاً في الثلاثين من عمره. . . . وهو حائر بائر لا يتجه لشيء من أمر المرأة وقد فقد منها ما يحل وما يحرم، ولا جرأة لنفسه عليه فلا جرأة له على الموبقات، ولا يزين له الشيطان ورطة منها إلا أملس منه، فان له ثلاثة أبواب مفتوحة للهرب؛ إذ يخشى الله، ويتوقى على نفسه، ويستحي من ضميره.
وأما (أ) فرجل معزابة، ولكنه كالإسفنجة امتلأت حتى ليس فيها خلاء لقطرة، ثم عُصرت حتى ليس فيها بلال من قطرة؛ وقد بلغ ما في نفسه وقضى نهمته حتى اشتفى مما أراد؛ ثم قلب الثوب. . . فإذا له داخلة ناعمة من الخز والديباج، وإذا هو (الرجل الصالح) العفيف الدخلة ما تنطلق له نفس إلى مأتم، ولا يعرف الشيطان كيف يتسبب لصلحه ومراجعته الود. . .
وأما (ع) فهو كالأعرج؛ إذا مشى إلى الخير أو الشر مشى بطيئا برجل واحدة، ولكنه يمشي. . . وهو (ملك الشوارع) لا يزال فيها مقبلاً مدبراً طرفا من النهار وزُلفا من الليل؛ فإذا لم يكن في الشارع نساء ظن الشارع قد هرب من المدينة وخرج من طاعته. ولهذه الشوارع أسماء عنده غير أسمائها التي يتعارفها الناس ويستدلون بها. فقد يكون اسم الشارع مثلاً (على الحكيم) ويسميه هو (شارع ماري). . . ويكون اسم الآخر (شارع كتشنر) فيسميه (شارع الطويلة). . . ودرب اسمه (درب الملاح) واسمه عنده (درب المليحة). . .(63/5)
وهلم جراً ومسخاً. وإذا أراد صاحبنا هذا أن يسخر من الشيطان دخل المسجد فصلى، وإذا أراد الشيطان أن يسخر منه دحرجه في الشوارع. . .
وافيت هؤلاء الثلاثة مجتمعين يتدارسون مقالة (تربية لؤلؤية) يناقشونها بثلاثة عقول، ويفتشونها بست عيون؛ فأجمعوا على أن المرأة السافرة التي نبذت (حجاب طبيعتها) على ما بينته في تلك المقالة - إن هي إلا امرأة مجهولة عند طالبي الزواج بقدر ما بالغت أن تكون معروفة، وأنها ابتعدت من حقيقتها الصحيحة قدر ما اقتربت من خيالها الفاسد، وأتقنت الغلط ليصدقها فيه الرجل فلم يكذبها فيه إلا الرجل، وجعلت أحسن معانيها ما ظهرت به فارغة من أحسن معانيها. . . . .
وأردت أن أعرف كيف تنتصف الطبيعة من الرجل العزب للمرأة التي أهملها أو تركها مهملة. . . . وأين تبلغ ضرباتها في عيشه، وكيف يكون أثرها في نفسه، وكيف تكون المرأة في خائنة الأعين؛ فتسرحت مع أصحابنا في الكلام فنا بعد فن، وأزلت حذارهم الذي يحذرون حتى أفضوا إليّ بفلسفة عقولهم وصدورهم في هذه المعاني.
قال (س): حسبي والله من الآلام وآلام معها - شعوري بحرماني المرأة؛ فهو بلاء منعني القرار، وسلبني السكينة؛ وكأنه شعور بمثل الوحدة التي يعاقب السجين بها مصروفا عن الحياة مصروفة عنه الحياة؛ تجعله جدران سجنه يتمنى لو كان حجرا فيها فينجو من عذاب إنسانيته الذليلة المجرمة المخلى بينها وبينه توسعه مما يكره؛ شعور بالوحدة والعزلة حتى مع الناس وبين الأهل، فما فيّ إلا عواطف خُرس لا تستجيب لأحد ولا يجاوبها أحد في (ذلك المعنى).
وتمام الذلة أن يجد العزب نفسه أبداً مكرهاً على الحديث عن آلامه بكل من يخالطه أو يجلس إليه، كأنه يحمل مصيبة لا ينفس منها إلا كلامه عنها. وهذا هو السر في أنك لا تجد عزباً إلا عرفته ثرثاراً لا تزال في لسانه مقالة عن معنى أو رجل أو امرأة، وأصبته كالذباب لا يطير عن موضع إلا ليقع على موضع.
ومع جهد الحرمان جهد شر منه في المقاومة وكف النفس، فذلك تعب يهلك به الآدمي إذ لا يدعه يتقار على حالة - من الضجر - فيما تنازعه الطبيعة إليه، وهو كالمزع في أعصابه يحسها تشد لتقطع، ودائما تشد لتقطع.(63/6)
وقد رهقني من ذلك الضنى النسوي ما عيل به صبري وضعف له احتمالي؛ فما أراني يوماً على حمام من النفس، ولا ارتياح من الطبع؛ وكيف وفي القلب مادة همه، وفي النفس علة انقباضها، وفي الفكر أسباب مشغلته؟ وقد أوقدت سورة الشباب نارها على الدم، تلتعج في الأحشاء؛ وتطير في الرأس، وتصبغ الدنيا بلون دخانها، وفي كل يوم يتخلف منها رماد هو هذا السواد الذي ران على قلبي.
وما حال رجل عذابه أنه رجل، وذله أنه رجل؟ يلبس ثيابه الإنسانية على مثل الوحش في سلاسله وأغلاله، ويحمل عقلاً تسبه الغريزة كل يوم، وتراه من العقول الزيوف لا أثر للفضيلة فيه؛ إذ هو مجنون بالمرأة جنون الفكرة الثابتة، فما يخلو إلى نفسه ساعة أو بعض ساعة إلا أخذته الغريزة مجترحاً جريمة فكر. . .
وفي دون هذا ينكر المرء عقله؛ وأي عقل تراه في رجل عزب يقع في خياله أنه متزوج، وأنه يأوي إلى (فلانة) وأنها قائمة على إصلاح شأنه ونظام بيته، وأنه من أجلها كان عزوفاً عن الفحشاء بعيداً من المنكر، وفاءً لها، وحفظاً لعهد الله فيها وقد دلهته بفنونها التي يبتدعها فكره؛ وهي ساعة تؤاكله على الخوان، وساعة تضاحكه، ومرةً تعابثه، وتارة تجافيه، وفي كل ذلك هو ناعم بها، يحدثها في نفسه، ويسمر معها، ويتصنع لها وتتصنع له؛ ويعاتبها أحياناً في رقة، وأحياناً في جفاء وغلظة؛ وقد ضربها ذات مرة. .؟
ألا إن المرأة عندي هي هذا الجنون الذي يرجع بي إلى عشرة آلاف سنة من تاريخ الدنيا، فيرمي بي في كهف أو غابة رجلاً عارياً متوحشاً متأبداً ليس من الحيوان ولا من الإنس، أحجار وأشجار، وهو حجر له نمو الشجر.
لقد توزعت المرأة عقلي فهو متفرق عليها وهي متفرقة فيه، لا أستطيع والله أن أتصورها كاملة، بل هي في خيالي أجزاء لا يجمعها كل؛ هي ابتسامة، هي نظرة، هي ضحكة، هي أغنية، هي جسم، هي شيء هي هي هي. أكل تلك المعاني هي المرأة التي يعرفها الناس، أم أنا لي امرأة وحدي؟
وإني على ذلك لأتخوف الزواج وأتحاماه؛ إذ أرى الشارع قد فضح النساء وكشفهن؛ فما يريني منهن إلا امرأة تزهي بثيابها وصنعة جمالها، أو امرأة كالهاربة من فضائلها؛ والبيت إنما يطلب الزوجة الفاضلة الصناع، تخيط ثوبها بيدها فتباهي بصنعته قبل أن تباهي(63/7)
بلبسه، وتزهى بأثر وجهها في، لا بأثر المساحيق في وجهها. وإن مكابدة العفة، ومصارعة الشيطان، وتوهج القلب بناره الحامية، وإلمام الطيرة الجنونية بالعقل - كل ذلك ومثله معه أهون من مكابدة زوجة فاسدة العلم أو فاسدة الجهل، أُبتلى منها في صديق العمر بعدو العمر.
إن أثر الشارع في المرأة هو سوء الظن بها، فهي تحسب نفسها معلنة فيه أنوثتها وجمالها وزينتها، ونحن نراها معلنة فيه سوء أدب وفساد خلق وانحطاط غريزة. ومن كان فاسقاً أساء الظن بكل الفتيات، ووجد السبيل من واحدة إلى قول يقوله في الأخرى؛ ومن كان عفيفاً سمع من الفاسق فوجد من ذلك متعلقاً يتعلق به، وقياساً يقيس عليه؛ والفتنة لا تصيب اللذين ظلموا خاصة.
آه لو استطعت أن أوقظ امرأة من نساء أحلامي. .!
وقال (أ): لقد كانت معاني المرأة في ذهني صوراً بديعة من الشعر تستخفني إليها العاطفة، ولا يزال منها في قلبي لكل يوم نازية تنزو. وكانت المرأة بذلك حديث أحلامي ونجي وساوسي، وكنت عفيف البنطلون؛ ولكن النساء أيقظنني من الحلم، وفجعنني فيه بالحقيقة، ووضعن يدي على ما تحت ملمس الحية. ولو حدثتك بجملة أخبارهن، وما مارست منهن لتكرهت وتسخطت، ولأيقنت أن كلمة تحرير المرأة إنما كانت خطأ مطبعياً، وصوابها: تجرير المرأة. . فهؤلاء النساء أو كثرتهن - لم يذلن الحجاب إلا لتخرج واحدة مما تجهل إلى ما تريد أن تعرف، وتخرج الأخرى مما تعرف إلى أكثر مما تعرفه، وتخرج بعضهن من إنسانة إلى بهيمة.
لقد عرفت فيمن عرفت منهن الخفيفة الطياشة، والحمقاء المتساقطة، والفاحشة ذات الريبة؛ وكل أولئك كان تحريرهن أي تجريرهن - تقليداً للمرأة الأوربية؛ تهالكن على رذائلها دون فضائلها، واشتد حرصهن على خيالها الروائي دون حقيقتها العلمية، ومن مصائبنا نحن الشرقيين أننا لا نأخذ الرذائل كما هي، بل نزيد عليها ضعفنا فإذا هي رذائل مضاعفة.
كان الحلم الجميل في الحجاب وحده، وهو كان يسعر أنفاسي ويستطير قلبي، ويرغمني مع ذلك على الاعتقاد أن ههنا علامة التكرم ورمز الأدب وشارة العفة، وأن هذه المحصنة المخدرة عذراء أو امرأة لم تلق الحجاب عليها إلا إيذاناً بأنها في قانون عاطفة الأمومة لا(63/8)
غيرها؛ فهي تحت الحجاب لأنه رمز الأمانة لمستقبلها، ورمز الفصل بين ما يحسن وما لا يحسن، ولأن وراءه صفاء روحها الذي تخشى أن يكدر، وثبات كيانها الذي تخشى أن يزعزع.
قال حكيم لأولئك الذين يستميلون النساء بأنواع الحلي وصنوف الزينة والكسوة الحسنة: (ياهؤلاء، إنكم إنما تعلمونهن محبة الأغنياء لا محبة الأزواج) وأحكم من هذا قول ذلك الرجل الإلهي الصارم عمر بن الخطاب: (اضربوهن بالعرى.) فقد عرف من ألف وثلثمائة سنة أن تحرير المرأة هو تجريرها، وإنها لا تخرج لمصلحة أكثر مما تخرج لإظهار زينتها. فلو منعت الثياب الجميلة حبستها طبيعتها في بيتها. فماذا تقول الشوارع لو نطقت؟ إنها تقول: يا هؤلاء، إنما تعلمونهن معرفة الكثير لا معرفة الواحد. . .!
لقد والله أنكرت أكثر ماقرأت، وسمعت من محاسنهن وفضائلهن وحيائهن. ولقد كان الحجاب معنى لصعوبة المرأة واعتزازها، فصار الشارع معنى لسهولتها ورخصها؛ وكان مع تحقق الصعوبة أو توهمها أخلاق وطباع في الرجل، فصار مع توهم السهولة أو تحققها أخلاق وطباع أخرى على العكس من تلك مازالت تنمى وتتحول حتى ألجأت القانون أخيراً أن يترقى بمن لمس المرأة في الطريق من (الجنحة) إلى (الجناية). وتخنث الشبان والرجال ضروباً من التخنث بهذا الاختلاط وهذا الابتذال، وتحللت فيهم طباع الغيرة، فكان هذا سريعاً في تغيير نظرتهم إلى النساء، وسريعاً في إفساد اعتقادهم، وفي نقض احترامهم، فأقبلوا بالجسم على المرأة وأعرضوا عنها بالقلب، وأخذوها بمعنى الأنوثة وتركوها بمعنى الأمومة؛ ومن هذا قل طلاب الزواج، وكثر رواد الخنا.
ولقد جاءت إلى مصر كاتبة إنكليزية وأقامت أشهراً تخالط النساء المتحجبات وتدرس معاني الحجاب، فلما رجعت إلى بلادها كتبت مقالاً عنوانه (سؤال أحمله من الشرق إلى المرأة الغربية) قالت في آخره: (إذا كانت هذه الحرية التي كسبناها أخيراً، وهذا التنافس الجنسي، وتجريد الجنسين من الحجب المشوقة الباعثة التي أقامتها الطبيعة بينهما - إذا كان هذا سيصبح كل أثره أن يتولى الرجال عن النساء، وأن يزول من القلوب كل ما يحرك فيها أوتار الحب الزوجي فما الذي نكون قد ربحناه؟ لقد والله تضطرنا هذه الحال إلى تغيير خططنا، بل قد نستقر طوعا وراء الحجاب الشرقي، لنتعلم من جديد فن الحب(63/9)
الحقيقي.).
وقال (ع): لست فيلسوفا، ولكن في يدي حقائق من علم الحياة لا تأتي الفلسفة بمثلها، وكتابي الذي أقرأ فيه هو الشارع. فأعلم أن العزاب من الرجال يتعلم بعضهم من بعض، وهم كاللصوص لا يجتمع هؤلاء ولا هؤلاء إلا على رذيلة أو جريمة. وحياة اللص معناها وجود السرقة، وحياة العزب معناها وجود البغاء والفسق.
ومن حكم الطبيعة على الجنسين أن الفاسق يباهي باظهار فسقه قدر ما تخاف الفاسقة من ظهور أمرها؛ وهذه إشارة من الطبيعة إلى أن المرأة مسكينة مظلومة. فما ابتذال الحجاب، ولا استهتاك النساء إلا جواب على انتشار العزوبة في الرجال، وكيف يتحول الماء ثلجاً لولا الضغط نازلاً فنازلاً إلى مادون الصفر؟ فهذا الثلج ماء يعتذر من تحوله وانقلابه بعذر طبيعي قاهر له قوة الضرورة الملجئة، وكذلك المرأة المذالة أو الطامحة أو المتبذلة أو المتهتكة - ما صفاتهن إلا توكيد لأعذارهن. وكان على الحكومة أن تضرب العزوبة ضربة قانون صارم، فالعزب وإن كان رجلاً حراً في نفسه، ولكن رجولته تفرض للأنوثة حقها فيه، فمتى جحد هذا الحق واستكبر عليه رجع حاله مع المرأة إلى مثل شأن الغريم مع غريمه؛ ليس للفصل فيه إلا الدولة وأحكامها وقوتها التنفيذية.
وإذا أطلقت الحرية فصاروا كلهم أو أكثرهم أعزاباً فماذا يكون إلا أن تمحي الدولة، وتسقط الأمة، وتتلاشى الفضائل؟ فالعزوبة من هذا جريمة بنفسها، ولا ينبغي أن تتربص بها الحكومة حتى تعم، بل يجب اعتبارها باعتبار الجرائم من حيث هي، ويجب تفسير كلمة (العزب) في اللغة بمثل هذا المعنى: إنها شخصية مذكرة ساخطة متمردة على حقوق مختلفة للمرأة والنسل والأمة والوطن.
وما ساء رأى العزاب في النساء والفتيات إلا من كونهم بطبيعة حياتهم المضطربة لا يعرفون المرأة إلا في أسوإ أحوالها وأقبح صفاتها، وهم وحدهم جعلوها كذلك.
إن لهم وجودا محزنا يستمتعون فيه ولكنهم يَهلكون ويُهلكون به. هم والله أساتذة الدروس السافلة في كل أمة، وهم والله بغاة من الرجال في حكم البغايا من النساء، يجرون جميعا مجرى واحدا. ومن هي البغي في الأكثر إلا امرأة فاجرة لا زوج لها؟ ومن هو العزب في الأكثر إلا رجل فاسق لا زوجة له؟ على أن مع المرأة عذر ضعفها أو حاجتها. ولكن ما(63/10)
عذر الرجل؟
ماذا تفيد الدولة أو الأمة من هذا العزب الذي اعتاد فوضى الحياة، وسيرها على غير نظامها، وتحققها على أسخف ما فيها من الخيال والحقيقة؛ وأي عزب يجد الاستقرار أو تجتمع له أسباب الحياة الفاضلة، وهو فقد تلك الروح التي تتمم روحه وتنقحها وتمسكها في دائرتها الاجتماعية على واجباتها وحقوقها، وتجيئه بالأرواح الصغيرة التي تشعره التبعة والسيادة معاً، وتمتد به ويمتد بها في تاريخ الوطن.
كيف يعتبر مثل هذا موجوداً اجتماعياً صحيحاً وهو حي مختل في وجود مستعار، يقضي الليل هارباً من حياة النهار، ويقضي النهار نافراً من حياة الليل؛ فيقضي عمره كله هارباً من الحياة، وكأنه لا يعيش بروحه كاملة، بل ببعضها، بل بالممكن من بعضها. .!
أية أسرة شريفة تقبل أن يساكنها رجل عزب، وأية خادم عفيفة تطمئن أن تخدم رجلاً عزباً؟ هذه هي لعنة الشرف والعفة لهؤلاء الأعزاب من الرجال!
قال الراوي: وهنا إنتفض (س) و (أ) وحاولا أن يقبضا على هذه اللعنة ويرداها إلى حلق (ع). ثم سألني ثلاثتهم أن أسقطها من المقال، بيد أني رأيت أن خيراً من حذفها أن تكون اللعنة لأعزاب الرجال إلا (س) و (أ) و (ع). . .
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(63/11)
أعظم حادث في حياة روسو:
2 - روسو ومدام دي فرنس
للأستاذ محمد عبد الله عنان
والحقيقة أن مدام دي فرنس نفثت في جان جاك ضرباً غريباً من السحر والجوى، لا هو بالحب الجنسي الخالص، ولا هو بالحب البنوي الخالص، ولا هو بالصداقة الحميمة، بل كان مزيجاً من ذلك كله، يقترن بنوع من عبادة الجمال والسحر، وعاطفة عميقة من العرفان وشكر الصنيعة. وسنرى أن له إلى جانب هذه الناحية الأفلاطونية ناحية أخرى. وعلى أي حال فقد كان لهذا السحر الذي بثته مدام دي فرنس في جان جاك أعظم أثر في تكوين عواطفه وفلسفته في الجمال والحب والمرأة، وكان مستقى خياله ومشاعره في بضعة الأعوام التالية التي اكتمل فيها شبابه، وتفتحت أمامه عوالم الحياة. وفي ظلال هذه السعادة أقام جان جاك معززاً مكرماً يقضي أوقات فراغه في القراءة ودرس الموسيقى والأحلام اللذيذة، والسمر مع مدام دي فرنس. وكان يشعر أن السعادة قد بلغت ذروتها، وأنها لذلك لن تدوم، ويرتجف فرقا كلما تصور يوم البعاد وانقضاء هذا العهد الأمثل.
وأقام روسو على هذا النحو زهاء عام وبعضه، ثم رأت مدام دي فرنس أن ترسله إلى ليون لقضاء بعض المهام، فسافر إليها، ولم يغب سوى أيام قلائل. ولكنه لما عاد إلى أنسى لم يجد (أمه) وموئل سعادته، ولم يستطع أن يعلم شيئاً عن غيابها سوى أنها سافرت إلى باريس مع خادمها كلود آنيه، فلم ير سبيلا سوى الانتظار، وأقام وحده بالمنزل يتنسم أخبارها وموعد عودها، وهو يدرس الموسيقى ويؤلف الأناشيد. وهنا يقص علينا روسو عدة حوادث غرامية تافهة وقعت له خلال هذه الفترة. وكانت معرفته بالموسيقى سبباً في اتصاله ببعض الهواة. ولما طالت غيبة مدام دي فرنس، سافر إلى جنيف، ثم إلى نيوشاتل، وهناك استقر حيناً يكسب عيشه بتدريس الموسيقى، ولكن شبح مدام دي فرنس كان يساوره أبداً، وكان العود إليها أبداً أعز أمانيه، فلم تمض عليه بضعة أشهر في هذا التجوال حتى عاد إلى سافوا وكانت مدام دي فرنس، قد غادرت يومئذ أنسى إلى شامبرى واستقرت هناك. فسافر إليها وتحققت أمنيته بالمقام إلى جانبها كرة أخرى، واستطاع بنفوذها أن يحصل على وظيفة في ديوان مسح الأراضي في تلك الناحية نفسها، فكانت سعادة(63/12)
مزدوجة، وكان الهدوء والسكينة والاستقرار، وكان ذلك سنة 1732.
وهنا فقط يكتشف روسو حقيقة مرة غابت عنه طيلة هذه الأعوام الثلاثة؛ تلك هي علاقة مدام دي فرنس بخادمها وأمينها كلود آنيه؛ فقد عرف روسو فجأة أن الخادم ينعم بحب سيدته؛ وعرف ذلك من مدام دي فرنس ذاتها، ففي ذات يوم ثارت بين السيدة وخادمها مناقشة عاصفة وجهت إليه خلالها بعض الألفاظ الجارحة؛ فهرول كلود آنيه خفية إلى زجاجة من (اللادونوم) فابتلع ما فيها لكي يزهق نفسه، ثم أوى إلى غرفته ينتظر حشرجة الموت؛ ورأت سيدته وخليلته الزجاجة الفارغة فأدركت الأمر، وهرولت صارخة إلى غرفته، ونادت روسو واعترفت له بكل شيء ورجت منه العون؛ فعاونها على إسعافه، ونجا الخادم المحبوب. ودهش روسو لغبائه إذ خفيت عليه هذه الحقيقة من قبل. ولكنه لم يشعر نحو كلود آنيه بشيء من الحقد، برغم أنه يسلبه معبودة قلبه، لأنه يحرص على سعادتها وهنائها. .
ولبث روسو مدى الأعوام التالية إلى جانب مدام دي فرنس، ولم يفارقها إلا في فترات قليلة ولأسباب طارئة. كانت شامبرى موطنه ومستقره، وكانت مدام دي فرنس أمه وأسرته وكل شيء في الوجود بالنسبة إليه. وكانت الحياة عندئذ هادئة منظمة، وقد أخذ روسو يشعر بشيء من الثقة بنفسه وبمستقبله؛ وكان يوزع وقته بين عمله، ودرس الموسيقى، ومدام دي فرنس. وكانت ثمة سعادة أخرى لم يكن يتوقعها روسو، ترفرف عليه في ذلك المقام الرغد، بل كان ثمة حادث لعله أعظم مفاجأة في حياة روسو. ذلك أن علاقته الساذجة الأفلاطونية مع مدام دي فرنس تحولت فجأة إلى علاقة حب عملي. ولذلك التحول قصة غريبة يرويها لنا روسو في عدة صفحات ساحرة مؤثرة. فقد كان روسو يعطي دروساً في الموسيقى لبعض أكابر السيدات في شامبرى، وكانت علائقه النسوية تزداد يوما عن يوم؛ وكان بين أولئك السيدات، سيدة تدعى الكونتة دي منتون كان روسو يعلم ابنتها الغناء؛ وكانت سيدة مضطرمة الأهواء تحب الدسائس الغرامية، وبينها وبين مدام دي فرنس صلة ومنافسات نسوية. فلما اتصلت بجان جاك وقدرت ذكاءه ومقدرته على الكتابة الساخرة ونظم الأناشيد والأغاني، فكرت في استهوائه والانتفاع بمقدرته، واستقبلته بعطف وإكرام، وشعرت مدام دي فرنس بذلك، ففكرت في إنقاذ روسو من شراكها وشراك غيرها من النسوة اللائي(63/13)
يحطن به. والتمست لذلك أغرب وسيلة يمكن تصورها. فاختلت بروسو ذات يوم، وأفهمته أنها لم تر وسيلة لانقاذه من أخطار الشباب سوى أن تقدم نفسها إليه، وأن تفتدي بجسمها كل ما يهدده من الأخطار، وأنها تمهله ثمانية أيام للتفكير والعزم. ويقول لنا روسو إنه دهش لهذه المفاجأة أيما دهشة، وإنه لم يكن يتوقع قط هذا المصير لعلائقه مع المحسنة اليه؛ بيد أنه يقول لنا إن ذهنه لم يكن بعيداً عن تصور هذه السعادة؛ فقد كان يضطرم جوى نحو النساء؛ ولم يكن قد لامس إحداهن بعد؛ وإن مدام دي فرنس وإن كانت تكبره بنحو عشر سنين، كانت ما تزال فتية فتانة وافرة الأنوثة والسحر، ولم يثره أنها كانت خليلة غيره، وأنها بذلك توزع متاعها على أكثر من رجل، فقد كانت هذه الشركة مؤلمة حقا، ولكنها لم تغير ذرة من عواطفه نحوها.
ويحاول روسو أن يحلل عواطفه نحو مدام دي فرنس مرة أخرى. لقد كان يحبها حقاً، بل كان يهيم بها حباً؛ ولكن ذلك الهيام كان أقوى من أن يحمله على الرغبة في وصالها. وقد أنفق هذه الأيام الثمانية في اضطراب ذهني لا يمكن تصوره، وكأنها كانت قروناً ثمانية، ولكنه كان يبغى المزيد منها. ثم جاء اليوم المروع أخيراً؛ فهرول روسو إليها، وصرح بالقبول والأذعان؛ وبر في الحال بوعده. ويصف لنا روسو ذلك اللقاء المدهش في تلك العبارات القوية المؤثرة: (لقد توج قلبي كل نذوري دون أن أرغب في المكافأة. بيد أني حصلت عليها، وألفيت نفسي لأول مرة، بين ذراعي إمراة - وامرأة أعبدها. فهل كنت سعيداً؟ كلا! ولقد تذوقت السرور، ولكن شعوراً قاهراً من الحزن كان يسمم سحره؛ وكنت أشعر أني أرتكب عشرة محرم؛ ولقد بللت صدرها بدموعي مرتين أو ثلاث مرات، بينما كنت أضمها إليّ في شغف وهيام. أما هي فلم تكن حزينة ولا مضطرمة، ولكنها كانت ناعمة هادئة. ولم تكن تحدوها الشهوة، ولم تكن ترجو المتاع، ولهذا لم تشعر بمتعة، ولم يؤنبها الضمير قط).
وهنا يفيض روسو في تحليل عواطف مدام دي فرنس وميولها الغرامية، ويحاول أن يعتذر عن أخطائها وزلاتها؛ فقد نشأت نشأة حسنة، ذات فضيلة واستقامة، وذوق رفيع، وخلال بديعة، ولكنها كانت تصغي إلى العقل والفلسفة دون القلب؛ وقد عنى معلمها وأول عشاقها، مسيو دي تاقل، بأن يغرس في ذهنها جميع المبادئ التي تسهل له إغواءها؛ فعلمها أن(63/14)
الاخلاص الزوجي سخف، وأن الاجتماع الجنسي أمر تافه، وأن الفضيلة والعفة والحشمة أمور ظاهرية فقط. فغزتها هذه المبادئ وطغت عليها حتى أصبحت تعتقد دائماً أنه لا يصفد الإنسان بحب امرأة قدر الوصل. وفي تلك الصحف التي يصف لنا فيها روسو ذلك التحول في علائقه مع مدام دي فرنس، يبلغ روسو ذروة البلاغة والافتنان، ولعلها أبدع قطعة في (الاعترافات).
وهكذا تحولت القصة البنوية الأموية إلى قصة غرامية، وغدا روسو خليل المرأة التي لبث بضعة أعوام يقدسها كأم رؤوم. واستمرت هذه العلاقة ما بقى إلى جانبها، واستمر الخادم كلود آنيه شريكه في الوصل مدى حين، ولكنه لم أن توفى. ثم انتقلت مدام دي فرنس وروسو إلى منزل خلوي في ضيعة (لاشارميت)، وهنالك قضى روسو، في ذلك المقام المنعزل أياماً سعيدة في الدرس، مستأثرا بصحبة (أمه) وحبيبته. ثم اعتلت صحته، واشتد به الهزال والضعف، وفكر في السفر لينتجع العافية، وأشير عليه أن يسافر إلى مونبلييه حتى يجد من الأطباء من يستطيع معالجته، ولم تمانع مدام دي فرنس في تنفيذ ذلك العزم، فسافر إلى مونبلييه، ووقعت له أثناء رحلته بعض حوادث غرامية بثت في ذهنه إضطرابا وجوى. وبعد أشهر عاد إلى (أمه) وكانت تلك العاطفة المضطرمة التي لبثت مدى أعوام تدفعه إلى جانب مدام دي فرنس قد خبت نوعاً، واستحالت إلى نوع من الصداقة الهادئة، والظاهر أيضاً أن مدام دي فرنس كانت تبحث عن صداقة جديدة وغذاء جديد لعواطفها الهائمة، فلما عاد روسو ألفى إلى جانبها في المنزل رجلاً آخر يدعى فنتز نريد، ولم يلبث روسو أن أدرك من تصرفاته ولهجته أنه غدا صاحبا لمدام دي فرنس، وأنه قد حل مكانه، فحزن روسو لذلك ولم يطق البقاء حيثما هدمت سعادته، فسافر إلى ليون، ولم تبد (أمه) كبير أسف لسفره. وبعد أن أقام بها حيناً عاد إلى مدام دي فرنس كرة أخرى، وأقام بالمنزل حينأ في عزلة عنها لا يكاد يراها إلا وقت الطعام، وكانت آخر زياراته لها. وكان يومئذ قد أشرف على الثلاثين من عمره، ونضجت دراساته ومواهبه وآنس في نفسه طموحاً إلى غزو ميدان الحياة الواسع، فاتجه ببصره إلى باريس، فودع (أمه) الوداع الأخير، سافر إليها تحدوه مختلف العواطف والآمال. .
وكان ذلك ختام قصة روسو ومدام دي فرنس، فلم يرها بعد ذلك ولم يحاول رؤيتها، وألقى(63/15)
به القدر في باريس إلى غمار حياة جديدة عاصفة، ولكنه لم ينس ذكرى المحسنة إليه قط، ولما توفيت بعد ذلك بنحو عشرين عاماً - سنة 1764 - اشتد حزنه لفقدها، وهو يعرب لنا عن ذلك الحزن في نفثة مؤثرة في (الأعترافات).
محمد عبد الله عنان المحامي(63/16)
ماذا يعني؟
سيدي الأستاذ البليغ صاحب الرسالة
إني قرأت في رسالتكم الواحدة والستين كلمة ندت من الأستاذ كرم ملحم كرم، وهو يتحدث عن (أدب اليوم) صغيرة في ذاتها، ولكن فيها طبيعة كطبيعة (الديناميت) لا يمس شيئاً إلا جعله يباباً، فأكبرتها، وأعددت فصلا طويلا في الرد عليها، ثم بدا لي فقلت: لعل الأستاذ كرم، لا يعني هذا الذي يفهم من كلمته، ولعله إذا نبه إليها نظر فيها ثم رجع عنها، فكفى الله المؤمنين القتال، وعهدنا بالأستاذ أنه ذكي متأن، وكاتب مفكر، فطويت فصلي وبعثت بهذه الكلمة إليكم راجياً منكم أن تنشروها وتسألوه الجواب عنها:
ماذا يعني الأستاذ كرم بقوله، وهو يتحدث عن روايات فولتير وروسو ولامارتين وهوغو: (والدين نفسه يقوم على الروايات، فما هو كتاب التوراة، وما هو الانجيل، وما هو القرآن؟ أليس للرواية من هذه الكتب أكبر نصيب؟) اهـ.
هل يعني دين التوراة والإنجيل فقط، فلا ننازعه ولا يكون لنا أن ننازعه وهو صاحب الدار وأدرى بما فيها، أم يعنى دين القرآن؟
وهل يعني أن القرآن رواية كروايات روسو ولا مارتين؟ وان ما فيه من عبرة التاريخ الصحيح، هو ملهاة الرواية الباطلة؟
هذا ما أرجو أن تتفضلوا بسؤال الأستاذ عنه، وأن يتفضل بأيضاًحه.
علي الطنطاوي
عضو (جمعية الهداية الإسلامية) بدمشق(63/17)
2 - الشخصية
للأستاذ محمد عطية الأبراشي
المدرس بكلية الآداب بالجامعة المصرية
العناصر الرئيسية التي تكون منها الشخصية القوية:
إن العناصر الجوهرية التي تكون منها الشخصية القوية كثيرة منها:
(1) الجاذبية: وهي قوة طبيعية إن وجدت في الشخص استطاع أن يجتذب قلوب غيره ممن يتصلون به بدون أن يتكلف أو يتصنع: وهذا العنصر يعد أقوى العناصر التي تتكون منها الشخصية إن لم نقل أقواها، ولكن بماذا يجتذب الإنسان غيره من الناس؟ والجواب أنه يستطيع أن يجتذبهم ويسيطر عليهم بأدبه وعلمه، وضبط نفسه، وسداد رأيه، وسرعة خاطره، وحسن حديثه، وكرم خلقه، ومراعاة شعورهم ومشاركتهم في وجدانهم. وهذه الصفات بعضها وراثي، وبعضها يمكن أن يكتسب بالتربية والتعلم، في البيت والمدرسة والملعب والمجتمع،
(2) النشاط العقلي أو الذكاء: العنصر الثاني من العناصر المكونة للشخصية القوية هو النشاط العقلي أو الذكاء، وبعبارة أخرى حضور الذهن. وسرعة الخاطر، وصفاء القريحة. فقد يكون الرجل مثقفاً، واضح التفكير، غزير المادة، واسع الاطلاع، ولكنه قد لا يكون متقد العقل، وضاء الفكر، حاضر البديهة، فلا يستطيع أن يدرك ما يرمي إليه محدثه، ولا أن يشاركه في رأيه؛ وقد تكون المرأة وسيمة الوجه، حسنة المنظر، جميلة الملبس، ولكنها قد تكون فاقدة ذلك النشاط الفكري والاتقاد العقلي، فتعجز عن التأثير في غيرها أو اجتذابه والسيطرة عليه. فهي كصورة جميلة المنظر، ولكنها فاقدة الروح الفنية، تلك الروح التي تؤثر في الصورة فتعطيها قوة وتأثيراً وحياة معنوية.
فللنشاط العقلي تأثير حسن في شخصية الإنسان، وفي ارتفاع منزلته بين إخوانه وذويه، وللغباوة وقلة الفطنة والكسل العقلي أثر سيئ في خمول الشخص وتأخره، وعجزه وارتكابه الجرائم أحياناً، ولا عجب إذا قلنا إن معظم المجرمين من الأغبياء وضعاف العقول، وتبدو شخصية الأذكياء في أعمالهم وأقوالهم كما تبدو في منطقهم وتفكيرهم المنظم، وآرائهم(63/18)
المرتبة، وحججهم القوية، وقدرتهم على التخلص بسهولة من المشكلات التي تعترضهم بما أوتوا من نشاط عقل وحدة ذهن وصدق حس.
ومن كان لذكائهم أثر في نجاحهم في حياتهم (ابراهام لنكولن)، أحد رؤساء الولايات المتحدة الذين تدين لهم تلك الولايات اليوم بما فيها من تقدم ورقي وإصلاح. ولد في 12 من فبراير سنة 1809، وكان أبوه بحاراً، نجاراً عادياً. توفيت والدته ولما يبلغ من العمر عشر سنين، تعلم مبادئ القراءة والكتابة وهو طفل، وكانت أمه قبل وفاتها تعني به العناية كلها، اختارت له من الكتب الكتاب المقدس وكتاباً عن حياة (جورج واشنطون) قرأهما وأعاد قراءتهما مراراً حتى كاد يحفظهما. وكان في بعض الأحيان يسير أميالاً ليستعير كتاباً يقرؤه. كان في حياته الأولى عاملاً، ثم ثقف نفسه بالقراءة في أوقات الفراغ، وكان في الليل يوقد قطعاً من الخشب، يتدفأ بنارها ويقرأ على نورها، ولولا ضيق المقام، والخوف من الخروج عن الموضوع لكتبنا عنه الكثير فارجع إلى تاريخ حياته أن شئت، وكل ما نريد أن نذكره هو أنه درس القانون أخيراً، ثم كان محامياً مدرهاً يشار إليه بالبنان، حاضر الذهن متقد الفكر، قوي الشخصية، ثم كان عضواً بمجلس النواب، فسياسياً، فرئيساً للولايات المتحدة بأمريكا. فضلته زوجته - وكان فقيراً - على منافس آخر من الأغنياء، وقد اختارته زوجاً لذكائه وإخلاصه وشخصيته. تنبأت أنه سيكون عظيماً، وقد كان مثلاً للعظمة؛ ولئن قام واشنطون بتحرير الولايات المتحدة، فقد قضى لنكولن على ما كان فيها من الاضطراب، وقام بكثير من الإصلاحات، وقد ترك لنكولن اسماً خالداً محبوباً لا من الأمريكيين فحسب، بل من أبناء الإنسانية في جميع الشعوب، فقد كان يعمل للإنسانية ويفكر كثيراً في الإنسانية وينسب إليه كثير من الحكايات التي تقرب من الخيالات والروايات.
وممن كان لحدة ذهنهم وشخصيتهم أثر كبير في نجاحهم أيضاً (اللورد ماكولي) الاسكتلندي، فقد كان كاتباً وشاعراً، وكان مؤرخاً وقانونياً، وكان خطيباً وسياسياً، ولد في 25 من أكتوبر سنة 1800 م وتوفى في 28 من ديسمبر سنة 1859 م.
أظهر حباً للقراءة وتعطشاً للعلم منذ نعومة أظفاره، توسم فيه أبوه كثيراً من علامات الذكاء والمقدرة العقلية منذ طفولته؛ فقد قلد (السير وولتر سكوت) في كتابته وعمره لم يزد على سبع سنين، فكتب ثلاث قصائد، ومختصراً تاريخياً عاماً، وهو طفل. كان قوي الذاكرة،(63/19)
محباً للعمل مولعاً بالأدب وبخاصة الروايات. وكثيراً ما لامه أبوه على قراءتها، التحق في أكتوبر سنة 1818 بجامعة (كمبردج). وحصل على أربع جوائز منها. وكنا نود أن نكتب عنه كثيراً لولا الخوف من التطويل. وكل ما يمكننا أن نقوله هو أنه اشتغل بالقضاء، ثم اتخذ الأدب مهنة، ثم انتسب إلى أحد الأحزاب السياسية، ونجح في حياته النيابية نجاحاً باهراً لنشاطه العقلي، وتأثيره الخطابي، وإخلاصه في قوله. وكان ينضم لآرائه كثيرون حتى المعارضون لحزبه. وله خطبة هي آيات بينات يدافع فيها عن تعميم التعليم المجاني، تدل على غيرته، وحضور بديهته. ولم يفخر الشعبان: الإنكليزي والاسكتلندي إلى اليوم بأحد من رجال السياسة والأدب فخرهما بماكولي: ومن كتابته تكاد تلمس قوة حجته، وروح خطابته، ووضوح لغته، وصفاء ذهنه، وسلامة ذوقه في كتابته، وجمال تعبيره، وحسن أسلوبه، ووفاءه لبلاده وأقاربه وأصدقائه، تكاد تلمس نقده المر البريء الذي ينبئ عن الإخلاص والإيمان بما يقول. .
وممن كان يشهد لهم بالذكاء وحضور البديهة كثير من رجال العرب ونسائهم نذكر لك منهم: معن بن زائدة؛ فقد دخل على أبي جعفر المنصور، فقارب خطوه، فقال المنصور: (لقد كبرت سنك؛ قال في طاعتك. قال وإنك لجلد؛ قال على اعدائك. قال: وأرى فيك بقية؛ قال: هي لك.) فانظر إلى أجوبة معن تجد أنها تدل على سرعة الخاطر وحسن الجواب.
فالنشاط العقلي يساعد على النجاح في الحياة، وينقذ الإنسان من أدق المراكز، ويحفظ شخصيته في أشد المواقف، ويسهل الصعب، ويقرب البعيد وله أثر كبير في حسن الخلق والسلوك. وبالإحصاء وجد أن أكرم حكام أوربه خلقا في القرون الثلاثة الأخيرة الماضية كانوا على قسط كبير من الذكاء. .
(3) المشاركة الوجدانية:
العنصر الثالث من العناصر التي تكون منها الشخصية يدعى المشاركة الوجدانية؛ فاذا لم نشعر بشعور الناس ونشاركهم في مسراتهم وأحزانهم، ونتأثر بآرائهم وأفكارهم، فهذا دليل على أننا في حاجة إلى أن نضع أنفسنا موضعهم، مهما كانت علاقتهم على شرط أن يكون لدينا استعداد للفهم والتفكير والشعور، مهما كانت مراكزنا بالنسبة إليهم، من غير نظر إلى رئيس أو مرءوس، غني أو فقير، عظيم أو حقير، رفيع أو وضيع، وألا تكون مناصبنا(63/20)
العالية حجر عثرة في سبيل فهمنا لغيرنا، وتقدير ظروفه المحيطة به؛ بل تكون معينا على أن نشاركه في حالاته، فنسر لسروره، ونتألم لآلامه، وبذلك نمتلك قلبه.
أما صاحب المزاج البارد الذي يتمثل فيه الجود والقسوة والغلظة فلا يتأثر لما ينتاب غيره من نكبات، ولا يحب أن يتفاهم مع أحد؛ فهو ينفر من الناس، والناس ينفرون منه. وهو يؤثر في غيره بالإيذاء، كما يؤثر الهواء البارد في النبات الغض الشديد الاحساس، فيتجمد قبل أن ينمو أو يترعرع.
ومن أكبر عيوب نابليون التي كان يتخلق بها شدة قسوته على النوع الإنساني، وعدم مشاركته له في شعوره، ومن ثم كانت شخصيته غير كاملة. وإننا في الوقت الذي نطالب فيه بالعدالة نطالب أيضاً بالرحمة.
ومن الحكمة إذا كنت رئيساً أن تصل بالمشاركة الوجدانية إلى تنفيذ جميع رغباتك من غير التجاء لإظهار سلطتك، وأن تفوز بطاعة مرءوسيك من غير احتماء بالقانون. ومن المهارة أن تبين لمرءوسيك أخطاءهم، ونقط ضعفهم، وتسيرهم كيف تشاء، بدون أن تحط من كرامتهم، وبدون أن تظهر لهم أنك أعلى أو أرقى منهم، ومن غير اضطرار إلى اتخاذ شدة أو عنف. إذا أمكنك الوصول إلى كل هذا كانت شخصيتك قوية، وكان تأثيرك كبيراً.
وإن قوة التأثير لا تستدعي قسوة أو غلظة، ولكنها تستدعي أن تشارك الناس في شعورهم ووجدانهم، وتتألم لما يدهمهم من حوادث الدهر، وتواسيهم فيما يلم بهم من نوائبه، وتنظر إلى حسناتهم قبل سيئاتهم، وفي صوابهم قبل خطئهم، وتقدر حسناتهم إذا أحسنوا، وتفكر في البواعث التي اضطرتهم إلى الخطأ إذا أخطأوا، وتعدل في أحكامك إذا حكمت، لا تنزع إلى جانب الظلم، ولا تميل إلى ناحية التهاون، وبهذه الوسيلة تكون قوياً، ليناً في غير ضعف، متواضعاً في غير ذلة، موفقاً في عملك محبوباً عند غيرك.
أما هؤلاء الذين يلجأون إلى الشدة والقسوة دائماً فهم ضعفاء، يشعرون بالضعف فيلجأون إلى الغلظة، ظانين أنهم بتلك الطريقة يسترون ذلك الضعف، ويكملون ذلك النقص. مثلهم مثل الكلاب، تنبح في الطرق لا في ضوء النهار، بل في ظلام الليل، كي تبحث عن فريسة تفترسها، أو خيانة تخونها، أو طعام تسرقه، هم كالكلاب تسرهم عيوب غيرهم، ويفرحون لهفوات سواهم. وأمثال هؤلاء لا شخصية لهم، فأشخاصهم مكروهة، وأسماؤهم(63/21)
منبوذة، وأفعالهم مذمومة مشئومة.
فالمشاركة الوجدانية من أهم عناصر الشخصية تجعل القلب متقداً يشعر بشعور غيره، ويقيس نفسه بمقياس سواه من الناس. يقول (السير وولتر سكوت) الكاتب الاسكتلندي الكبير: (إن المشاركة الوجدانية هي الحلقة الفضية أو الرباط الحريري الذي يصل القلب بالقلب، ويربط العقل بالعقل، والجسم والروح) فإذا كانت الشخصية هي القوة التي بها يجتذب الغير فالمشاركة الوجدانية من أهم الأشياء التي بها نتصل بقلوب غيرنا وأرواحهم. .
وإذا قدرنا غيرنا، وفكرنا فيه، وسررنا لسروره، وتألمنا لألمه، فإننا ننتظر منه أن يقابل المثل بالمثل، فيقدرنا ويفكر فينا، ويشاركنا في سعادتنا وشقائنا بوجدانه وقلبه، أما إذا لم نقدر أحداً، ولم نفكر في أحد، فإننا لا نترقب أن يقدرنا أو يفكر فينا أحد.
ومن المشاركة الوجدانية أن يخلص الأستاذ في نصح طلبته وإرشادهم، والتفكير في عملهم وظروفهم ومستقبلهم، فيقابل الطلبة ذلك بالوفاء والطاعة والتقدير. فالشخصية تستدعي أن نتأثر للغير، ويتأثر الغير لنا، ونشعر بشعورهم، ويشعروا بشعورنا. ولا أثر للتربية والتعليم إذا لم يصحبا بمحبة غيرنا، والتفكير فيهم بقلوبنا، فالمشاركة الوجدانية يجب أن تتحقق في القادة، قادة الفكر وقادة العمل، حتى تكون لهم شخصية جذابة. غير أنه ينبغي ألا يتدخل الوجدان والعاطفة في أقوالنا وأفعالنا وحركاتنا وسكناتنا تدخلاً كبيراً، حتى نستطيع أن نزن الشيء بميزان العدالة لا بميزان العاطفة. ويجب ألا ننظر إلى الأمور من ناحية واحدة وهي الناحية الوجدانية، لئلا يختل التوازن، ويصبح العقل عبداً خاضعاً للتأثيرات الوجدانية العاطفية التي تعمينا عن حقائق الأشياء وعلاقاتها بغيرها.
ونظراً لطول الموضوع وتشعبه أرجئ البقية إلى بعض الأعداد التالية من الرسالة.
محمد عطية الأبراشي(63/22)
الصقور البحرية في البحر الأحمر
للدكتور كرسلاند
مدير محطة الأحياء البحرية بالغردقة
تقل الطيور البحرية في شمال البحر الأحمر حيث محطة الأحياء البحرية التابعة للجامعة المصرية. وأكثرها الصقر البحري وبدهي أن تندر الطيور البرية في أرض مجدبة لم تجدها الأمطار منذ أثني عشر عاماً. أما الغربان فكثيرة الانتشار وتعتمد في غذائها على جماعات الإنسان، ولكني لم أعثر للآن على النسر البحري المصري الذي كان يوجد بكثرة عند المحطة التي كنت أديرها على شاطئ السودان.
أما في فصلي الربيع والخريف فيمر بالمحطة عدد كبير من الطيور من كل نوع، كنوعين من البط وبعضها كالخطاف وأبي فصاده ينساب طوال الفصل. أما الصفير (العصفور) فيمر فرادى.
وصقر البحر يختلف في نوع فريسته وطرق صيده عن الطيور البحرية الأخرى. إذ لم يتأقلم تماماً للحياة البحرية، فبرغم تشوك أصابعه واندثار الريش الطويل من أرجله ما زال يشبه الطيور الأخرى من فصيلته. ولا يمكنه أن ينقض على جماعات الأسماك التي تعوم بسرعة قريباً من سطح الماء كما تفعل النورزة والخطاف البحري بل يفترس عادة الأسماك البطيئة كأبي صندوق , والحجم والدرمة والمشط وهذه الأخيرة سمكة زرقاء اللون تزينها بقعة صفراء فاقعة، وتكثر حول الشعاب المرجانية. وكثيراً ما نرى عظام هذه الأسماك وجلودها بكميات كبيرة حول أعشاش الصقر. وإنه وإن بدت هذه الأسماك محصنة من الأسماك المفترسة بكيفية لا نعرفها إلا أن ذلك لا يقيها شرين: حربة الصياد، ومخالب الصقر.
وقد التجأ الصيادون هنا إلى استعمال الحراب لانتشار الشعاب المرجانية مما أدى تحديد صلاحية الشباك للصيد. وقد لا يجدي الصيد بالشص كثيراً إذ تتحصن الأسماك المصيدة بالشعاب فيفقد السمك والشص معاً، لذلك انتشر استعمال الحراب. وتتكون الحربة من قضيب من الحديد يبلغ سمكه سنتيمتراً أو سنتيمترين، ويصل طوله إلى ثلاثة أمتار، أحد طرفيه مدبب وبالآخر ثقب صغير يثبت به الخيط. ويشتغل الصيادون مثنى في كل هوري(63/23)
(قارب منحوت من الأشجار) ينظر أحدهما في منظار الماء بينما يجدف الآخر ببطء، ويبحثان عن صدف اللؤلؤ، ولكن إذا ما تراءت لهما سمكة أمسك أحدهما الحربة من منتصفها وصوبها ثم قذف بها بمهارة لا تفلت منها الأسماك الصغيرة. وأكثر ما يصاد عادة بهذه الطريقة الأسماك البطيئة الحركة. وقد تقتنص الأسماك السريعة كأنواع البياض وأميز هذا الجنس ما يسميه الأوربيون خطأ فأنه يتلون بألوان براقة جميلة حينما يحتضر خارج الماء.
وقد صادفت مرة جماعة من صيادي اللؤلؤ وقد أمسكوا درمة (جنس من السمك) فسألتهم (كيف أمسكتم هذه السمكة وليس معكم حربة واحدة؟) فأجاب أحدهم (أمسكتها بيدي).
والدرمة سمكة معروفة بأنها سامة، ولكنها تأكل كثيراً بالبحر الأحمر، ويقال إن لحمها جيد وإن كان قليلاً.
وعلى شاطئ البحر الأحمر لا توجد جروف ولا أشجار يبني في وقايتها الصقر عشه. فيلجأ إلى أفرع نباتات الأرض الملحة على الشاطئ المنبسط مثل الشمرة البحرية والحزيس والساليكورنيا وغيرها من النباتات التي تنمو على الأرض المنخفضة بجانب البحر بل وعلى رمل الشاطئ نفسه، وكذلك على الأعشاب البحرية وجلد الأسماك وعظامها والأجسام الطافية على سطح الماء من أي نوع. والصقر لا يغير عشه بل يضيف إليه كل عام حتى يصبح ربوة عالية - وعلى مقربة من المحطة عش يربو ارتفاعه على المترين. ورأيت آخر على شاطئ السودان كان يسكنه صقر مدة خمسة عشر عاماً ولست أدري كم أقام به الصقر قبل ذهابي إلى السودان.
وبيض هذا الصقر كبير الحجم وعليه نقط سمراء داكنة، أما الصغار فسمر الألوان، وإذا أزعجت خرجت من عشها وجثمت بين الأعشاب المجاورة.
ومما يساعد على وقاية هذه الطيور عزلتها في الصحراء ورغبة (البشاريين) عن أكل الطيور وبيضها. ولكن انتشار السيارات في الصحراء قد سلبها عزلتها. وكم نشفق الآن على بعض هذه الطيور التي ما زالت تأوي عشاً لا يبعد إلا قليلاً من الأمتار عن الطريق الموصل بين آبار البترول ومحطة الأحياء البحرية! أما الجزر فما زالت ولن تزال حصناً منيعاً لها.(63/24)
وقد أقمت عدة علامات لتحدد الشعب المرجانية، وسرعان ما انتفع بها الصقر للاستراحة والتهام فريسته، ولا شك أن هذه العلامات توسع نطاق صيدها. إذ أن الصقر طير بري، ولا بد له من الرجوع إلى الشاطئ لأكل فريسته، ولكنه الآن لا يحتاج إلى ذلك كثيراً بفضل انتشار العلامات على بضعة أميال من الشاطئ. وكثيراً ما يرى الصقر ممسكاً بفريسته بين مخالبه باحثاً عن مكان يلتهمها فيه؛ وهو يمسك فريسته موازية لجسمه، بخلاف الطيور الأخرى التي تمسكها في اتجاه مستعرض.
كرلس كربلاند(63/25)
الامتيازات والديك. .
للأستاذ محمد محمود جلال
منذ عشر سنوات كنت أعالج (ضرساً) لدى طبيب إنجليزي يقيم في مصر من زمان طويل بل لعله ولد بها. والعجيب من أمره أنه خالف سنة قومه فأكثر من معاشرة المصريين وأتقن الكلام بالعربية، واندمج في مختلف بيئاتهم، وهو على خفة في روحه وظرف في طبعه حلو النكتة حتى لتحسبه (ابن بلد).
ففي يوم من أيام العلاج، وقد أخذ يعد دواءً، أراد أن يروح عني من شدة الألم ومرارة الانتظار بنادرة مما حفظ فقال: إن أحد الشيوخ مر ذات يوم بشارع ضيق من شوارع القاهرة، وبينما هو في سيره إذ قفز من أحد المنازل ديك على عمامته فأتلفها وهوى بها، فاستاء الشيخ وبحث عن صاحب المنزل ثم رفع أمره للقضاء. ولم يشك المدعي يوم الجلسة في صدور حكم لصالحه، فحقه في التعويض واضح، زكته اعترافات المدعى عليه في أول إجابته.
بيد أنه ذهل إذ سمع المدعى عليه يدفع بعدم الاختصاص!! والخصمان مصريان والمحكمة مصرية، وصرخ عجباً!! قال المدعى عليه (كل ذلك حق) ولكن الديك (رومي) فقضت المحكمة بعدم اختصاصها!!!.
إحدى الخراقات الفكاهية التي لا يعدو أثرها حين تطلق في مجلس أن تنتزع ضحكة، ولا نفيد منها إلا نصيباً من الترويح، لكنها من خير ما يصور الأثر الذي تركه ذلك النظام في بلادنا، والطابع الذي أقامه في روح الحياة بعد أن نال من مصالحنا وكرامتنا وآدابنا.
فكم تعطلت إجراءات عادلة بدعوى أفاق، حتى إذا فصل في أمره كان الزمن قد ذهب بالمصلحة والغرض، وكم من عاث تعب في أمره رجال الأمن وهو كل يوم يظهر بحيلة جديدة، وكم من حقوق مصرية بحتة أخرجت من دائرتها الطبيعية ودفعت لمجرد شبهة في صالح أجنبي، إلى محاكم استثنائية.
يعيش بيننا كثيرون يسيئون إلى سمعة دولهم أكبر الإساءة. فهم يؤجرون للتعرض في التنفيذ ويتخذون ذلك مهنة لهم، وإني لأذكر واحداً تعرض مرة في تنفيذ حجز على محصول لقاء مبلغ الإيجار - وكان المتعرض شخصاً معروفاً للناس تأنف منه الجالية التي(63/26)
ينتسب إليها ولا يملك شيئاً إلا هذه المهنة - ومع ذلك فقد ادعى بأنه اشترى المحصول، وكان هذا وحده إشكالاً رجع معه المحضر ليتلافى الأمر من طريق الإجراءات - فلما أخذنا المتعرض بشيء من الحزم اعترف وأخرج من جيبه (جنيهاً واحداً). قبضه أجراً لتعرضه.
هذا وغيره كثير الوقوع وقد أصبح حديثاً مردداً. ولكن اليوم تشاء سخرية القدر أن يقع ما هو شر من الخرافة.
قضت أعمالي أن أغيب عن مصيفي ببور سعيد في أوائل أغسطس الماضي، فلما عدت أخبرت أن ضابطاً مصرياً جاء إلى المنزل بأمر الحكمدار الإنجليزي، وأبلغ الخادم أن (ديكاً) يزعج الجار الأوربي، فهو يأمر بنفيه إلى (السطوح) أو ذبحه!!
ليس بالمنزل سلم (للسطح)، ومكان الطيور بالحديقة بناه المالك ولا يد لنا بتغييره، لأننا نشغل المنزل لموسم الصيف، وإذن نفذ الأمر، وذبح (الديك) مأسوفا عليه من الدجاج مسطراً بدمه صحيفة عن آثار الامتيازات والعبث بالكرامة!! ضابط خلق لمهمات عالية من صيانة أرواح وأموال وأعراض، يحمله الرئيس الإنكليزي رسالة حقيرة في أمر حقير!!
عندما يحس الجار إقلاقا لراحته يكفي في دفعه عادة كلمة طيبة لجاره، وتقفه رسالة من خادم لخادم. هكذا نفعل، ولكن الاعتزاز بالامتيازات والاحتلال بدل الجوار الحسن تفرقة وتحكما.
ولست أشك في أن المناحة التي أقامتها الدجاج حزناً كانت قوية مؤثرة تضاعفت معها حركة الأقلاق، مما جعل الجار يندم على شكواه والحكمدار يرفه عنه، ولعلهما نسيا بهذه الصيحات المزعجة صوت الديك (الفقيد).
وأمام ما تخيلت ثقة بوفاء هذه الطيور تساءلت: (ألم يتجدد الأمر بذبح البقية المقلقة؟) فلما أجبت بالنفي قلت: لعل الآمرين قد أُخذا بروعة الوفاء وصعقة الحزن فنسيا الجريمة!! أو لعل في ذلك إشارة إلى قرب الخلاص!! والله سميع مجيب.
على أن في بيت الجار التالي (دجاجاً) سمعت صوتها وصياحها ولكن الشاكي لا يتحرك!! والحكمدار الإنجليزي لا يهتم! والضباط المصريون لا يسخرون! لأن الجار يتمتع بالامتيازات، وما في كنفه تابع له، ولو أن الديك (بلدي).(63/27)
ولقد هممت أن أكتب إلى الحكمدار - واحدة بواحدة - ولكني خشيت أن أكون سبباً في نكبة تحل بواحد أصله (مصري) وأنا الذي أفدي الوطن وما ينسب إليه بكل غال.
أنظر إلى ما حدث على تفاهته - انه سيصبح حديثاً يتناقله خادم طارئ عن خادم مقيم! وينشره الأول والثاني - ثم يصبح موضوعاً يتنادر به أكثر من جماعة في مقهى أو شارع أو مجلس، ثم تبني عليه نوادر وخرافات أصلها حقيقي عن أمر صدر من رئيس كبير وبلغه مرءوس كبير، ثم قل بعد ذلك ما شئت في التسلسل الطبيعي وأثره في البيئة وما ينشأ عنه من إكبار النفوس البسيطة للنفوذ الأجنبي - وما يتبع ذلك من صبغها بنوع من الخنوع أو نوع من الوجل.
ولكن الله سبحانه وتعالى يتدارك الشعب بأبنائه النابهين وما أظن نافذاً بإذنه إلا مشيئة البلاد.
ولقد راجعت نفسي وواجبي فكتبت إلى الحكمدار منبها إلى كرامة الضباط وغرابة الحادث، ودخول البيوت بغير إذن، وهم العاملون المكلفون بطبيعة وظائفهم بالسهر على الحقوق.
وبعد: أليس في الخرافة الأولى حق وعظة؟
محمد محمود جلال المحامي(63/28)
الرياضيات في الشعر
للأستاذ قدري حافظ طوقان
يقولون إن عداء مستحكما موجود بين الرياضيات والأدب بما فيه الشعر، ولكن الحقيقة تنقي وجود هذا العداء، والواقع لايؤيده، إذ ليس في أحدهما ما يناقض الآخر، وكثيراً ما استعان العلماء بأحدهما على الثاني. وإذا كان هناك عداء موضوع أو خصام موهوم، فهو في الحقيقة والواقع بين الرياضيين من جهة، والأدباء من جهة أخرى؛ وما علمت لهذا سبباً، وما قدرت أن أجد الدافع لذلك. فالأديب أو الشاعر يغيظه أن تذكر أمامه كلمة رياضيات، ويزيد في حنقه أن تجري أمامه بحوث في الأرقام والمعادلات والأشكال والخطوط، يتملص من جلسات الرياضيين ويشمئز حين الاجتماع بهم. وليس هذا خاصاً بالأدباء، فكذلك الذين يعنون بالعلوم الرياضية هم أشد حنقا على الأدباء من الأدباء عليهم، لا يتركون فرصة دون ذكر النوادر عن الأدباء والشعراء، وقد يتمادى بعضهم فيستهزئ بلغة العواطف والنسيم والطلول وهند وليلى ومجنونها. وتراهم (أو على الأقل يتظاهرون) بأنهم لا يفهمون معنى لأبيات يتخللها وصف بديع أو مجاز بليغ. هذا صراع موجود لا يمكننا إنكاره. وقلّ أن تجد أديبا أو شاعراً يعنى بالأرقام، كما أنه قل أن تجد رياضياً يعنى بالأدب أو الشعر. وأصبح الجمع بين الرياضيات والأدب والشعر في شخص واحد من الخوارق، بل من ضروب الشذوذ التي تثير الدهشة والاستغراب. فإذا قيل هذا أديب أو شاعر، فمعنى ذلك ضمناً أنه يمج الرياضيات ويكره كل شئ يحتوي على الأرقام والمعادلات. وإذا قيل هذا رياضي فمعنى ذلك ضمناً أنه يكره الأدب والشعر، ولا يفهم إلا الملموس المحسوس، ولا يتكلم إلا بلغة الأرقام. ولكن برغم ذلك فإننا نجد أشخاصاً برعوا وبرزوا في الناحيتين، وكان لهم فيهما جولات موفقات، فهناك رياضيون اعتنوا بالأدب ووجدوا فيه تسلية، وسحرهم الشعر وفنونه، ووجدوا فيه ملهاة، ولم تمنعهم الرياضيات من النظم أو من الغوص على كنوز الأدب، بل قد بلغ في بعضهم حب الجهتين أن استعمل الشعر في التعبير عن القوانين والمعادلات الرياضية. وإذا اطلعت على كتاب (مخطوط) للبيروني: (التفهيم لأوائل صناعة التنجيم) رأيت أدباً عالياً، ودقة في التعابير بالغة الدرجة العليا من الإجادة. وهناك شعراء عكفوا على دراسة الرياضيات والفلك، وشعروا بلذة في(63/29)
دراستهما، وبلغوا فيهما ذروة عالية يحسدهم عليها الكثيرون.
لا أعرف شاعراً أو شاعرة قبل زرقاء اليمامة نظم شعراً وضمنه مسألة حسابية. ومما لاشك فيه أنها لم تكن تقصد وضع معضلة رياضية في قالب شعري، إنما جل ما في الأمر أنها كانت حادة البصر، وقد رأت سربا من الطيور، فرغبت في وضع عدده شعراً. وأرجح أن إيجاد العدد يحتاج إلى عملية حسابية يعجز عنها الكثيرون من فحول الشعراء وكبار الأدباء، أما الأبيات فهي:
ليت الحمام ليه ... ونصفه قديه
إلى حمامتيه ... صار الحمام ميه
والمعنى المقصود من هذين البيتين أنه إذا أضيف إلى هذا السرب نصفه وحمامة واحدة لكان حاصل الجمع مئة، فإذا أخذت الحمامة كان الباقي تسعاً وتسعين، وهذا العدد يعدل عدد الحمام ونصفه، أي أن عدد الحمام ست وستون. وقد علق النابغة الذبياني على هذه الأبيات، ويظهر منها أنه يعرف عدد الطيور مع أنه لم يذكر ذلك صراحة. قال النابغة:
أحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمد
يحفه جانباً نيق وتتبعه ... مثل الزجاجة لم تكمل من الزمد
قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونصفه فقد
فحسبوه فألفوه كما زعمت ... تسعاً وتسعين لم تنقص ولم تزد
فكملت مائة فيها حمامتها ... وأسرعت حسبة في ذلك العدد
وإذا اطلعت على ديوان أبي نؤاس وقد غمره الحب والخمر واستوليا عليه ودخلا في كل أعماله الصغيرة والكبيرة، أقول إذا اطلعت على ديوانه العجيب الغريب وجدت فيه بعض أبيات أشار فيها إلى تقسيم قلبه بين جنان حبيبته والساقي والعشاق تقسيماً حسابياً غريباً في بابه تقسيمات أبي نؤاس:
جنان حصلت قلبي ... فما إن فيه من باق
لها الثلثان من قلبي ... وثلثا ثلثه الباقي
وثلثا ثلث ما يبقى ... وثلث الثلث للساقي
فتبقى أسهم ست ... تجزأ بين عشاق(63/30)
ولقد وجد في الغرب من استطاع أن يضع كثيراً من الطرق والقوانين التي تتعلق بالأرقام والأعمال الأربعة شعراً. واعتنى بعض علماء الرياضة بالشعر والأدب، ورغب غير واحد منهم في وضع الجبر شعراً، فابن الياسمين وضع أرجوزة في علم الجبر وقد شرحها كثيرون. وفي هذه الأرجوزة نجد خلاصة كثير من القوانين والمعادلات الجبرية التي يجدها القارئ في كتب الجبر الحديثة. وتدل الأرجوزة على تضلع الناظم في الجبر وبعد غوره فيه، على أن ثروته الأدبية لا يستهان بها، وتدل أيضاً على أن لديه شاعرية قوية قد لا نجدها في كثيرين من شعراء زمانه، وإني أعتقد أنه لولا إحاطته بالجبر والشعر إحاطة كلية لما استطاع أن يضعهما في قالب سلس جذاب. ولدينا نسختان من أرجوزة ابن الياسمين، أخذنا الأولى عن مخطوطة قديمة موجودة في المكتبة الخالدية في القدس وهي (شرح الياسمينية للمارديني)، والثانية أرسلها إلينا الصديق الأديب عبد الله كنون من شباب طنجة بالمغرب ومن نجومها اللامعة في سماء الشعر والتاريخ.
ولنرجع إلى الشعر الموجود في أرجوزة أبن الياسمين فنجد أنه يبدأ بذكر خواص القواعد الأربع الأصلية وشرح طرق حلها للأعداد الصحيحة والكسرية، وبعد ذلك ينتقل إلى علم الجبر فيقول:
على ثلاثة يدور علم الجبر ... المال والأعداد ثم الجذر
ثم يفسر كل واحد من هذه الأشياء الثلاثة يقوله:
فالمال كل عدد مربع ... والجذر واحد تلك الأضلع
والعدد المطلق ما لم ينسب ... للمال أو للجذر فافهم تصب
من هنا يفهم أن المال هو كل عدد مربع، والجذر أحد ضلعيه، والعدد المطلق هو الذي لم ينسب إلى جذر ولا إلى مال ولا إلى غيرهما، فالاثنان (مثلاً) عدد.
والجذر والشيء بمعنى واحد ... كالقول في لفظ أب ووالد
أي أن الجذر والشيء مترادفان، وبعبارة أخرى يمكن أن يقال إن الجذر هو العدد المجهول ويعبر عنه بالحرف (س) في علم الجبر وعلى ذلك يكون المال (س2). ثم يبحث ابن الياسمين في المعادلات وأقسامها وأنواعها وطرق حلها ويأتي بعد ذلك على شرح طريقة إكمال المربع لحل المعادلة ذات الدرجة الثانية، وإذا تتبعت خطواتها بالدقة تجدها هي(63/31)
بنفسها الخطوات المتبعة في الكتب الجبرية الحديثة.
فربع النصف من الأشياء ... واحمل على الأعداد باعتناء
وخد من الذي تناهى جذره ... ثم انقص التنصيف تفهم سره
فما بقى فذاك جذر المال ... وهذه رابعة الأحوال
ولم يستطع العرب أن يدركوا القيم السالبة، أي أنهم لم يعتبروا من جذور المعادلة إلا الموجب. ثم يشرح طريقة استخراج المجهول في المعادلة التي يكون فيها معامل (س2) غير الواحد، وهي نفس الطريقة التي تجدها في كتب الجبر للمدارس الثانوية. وأعطى طرقاً لكيفية حل بعض المعادلات التي تكون في أوضاع مخصوصة مثاله:
فاجمع إلى أعدادك التربيعا ... واستخرجن جدرها جميعا
واحمل على التنصيف ما أخدتا ... فذلك الجدر الذي أردتا
ولم يقف ابن الياسمين عند هذا الحد، بل نجده يشرح بعض النظريات التي تتعلق بالقوى والأسس وطرق ضربها في بعضها وقسمتها على بعضها. ولم ينس أيضاً أن يذكر معنى كلمتي (جبر) و (مقابلة) فقال:
وكل ما استثنيت في المسائل ... صيره إيجاباً مع المعادل
وبعد ما يجبر فليقابل ... بطرح ما نظيره يماثل
ولولا الخوف من الملل الذي قد يتسرب إلى القراء ولا سيما الأدباء منهم لأتينا على شرح هذين البيتين تفصيلاً. ولقد سبق أن شرحت معنى الكلمتين (جبر) و (مقابلة) في مقالي في المقتطف.
وتنتهي الأرجوزة بالصلاة والسلام على النبي.
ويوجد شعر كثير حوى مسائل حسابية وهندسية ومعضلات فلكية من الصعب فهمها وقد يكون حلها أيضاً.
وفوق ذلك أخذ الشعراء بعض الاصطلاحات والأسماء والآلات الفلكية والرياضية واستعملوها في شعرهم فقد كتب أبو إسحاق الصابي في يوم مهرجان مع إسطرلاب أهداه إلى عضد الدولة ما يلي:
أهدي إليك بنو الآمال واحتفلوا ... في مهرجان جديد أنت مبليه(63/32)
لكن عبدك إبراهيم حين رأى ... علو قدرك عن شيء يدانيه
لم يرض بالأرض مهداة إليك فقد ... أهدى لك الفلك العالي بما فيه
وكتب أيضاً مع زيج أهداه - والزيج هو كتاب يتضمن جداول وحسابات فلكية: -
أهديت محتفلا زيجا جداوله ... مثل المكاييل يستوفى بها العُمر
فقس به الفلك الدوار واجر كما ... يجري بلا أجل يخشى وينتظر
ومما كتب إليه في يوم نيروز مع رسالة هندسية من استخراجه:
رأيت ذوي الآمال أهدوا لك الذي ... تروق العيون الناظرات محاسنه
وحولك خزان يحوزونه وما ... له منك إلا لحظ طرف يعاينه
ولكنني أهديت علماً مهذباً ... يروق العقول الباحثات بواطنه
وخير هدايانا الذي إن قبلته ... فليس سوى تامور قلبك خازنه
وأخذ بعضهم من الأفلاك والكواكب ومن الظواهر الطبيعية والفلكية ميداناً لنظم الشعر ومسرحاً للخيال، قال أحدهم، ولا يحضرني اسمه الآن:
أما ترى الزهرة قد لاحت لنا ... تحت هلال لونه يحكي اللهب
ككرة من فضة مجلوة ... أو في عليها صولجان من ذهب
وقال التهامي في البقع السوداء التي تظهر على سطح القمر:
فبات يجلو لنا من وجهها قمراً ... من البراقع لولا كلفة القمر
وقال ابن المعتز في وصف الهلال:
أنظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
وجاء في سقط الزند للمعري وصف للسماء وما فيها من أجرام وقد صورت أحسن تصوير في قالب شعري جميل:
كأن سهاها في مطالع أفقه ... مفارق إلف لم يجد بعده إلفا
كأن بني نعش ونعشاً مطافل ... بوجرة قد أضللن في مهمه خشفا
كأن سهاها عاشق بين عود ... فآونةً يبدو وآونةً يخفي
كأن قدامي النسر والنسر واقع ... قصصن فلم تسمُ الخوافي له ضعفا
وجاء أيضاً:(63/33)
سقتها الذراع الضيغمية جهدها ... فما أغفلت من بطنها قيد أصبعِ
بها ركز الرمح السماك وقطعت ... عُرى الفرع في مبكى الثريا بأدمع
ويستبطأ المريخ وهو كأنه ... إلى الغور نار القابس المتسرع
وتبتسم الأشراط فجرا كأنها ... ثلاث حمامات سدكن بموضع
وتعرض ذات العرش باسطةً لها ... إلى الغرب في تغويرها يد أقطع
وجمع الشيخ اليازجي أسماء البروج في ثلاثة أبيات فقال:
من البروج في السماء الحملُ ... تنزل فيه الشمس إذ تعتدل
والثور والجوزاء نعم المنزلة ... وسرطان أسد وسنبله
كذلك الميزان ثم العقرب ... قوس وجدي دلو حوت يشرب
وقال أبو العباس ابن الخليفة المعتز بالله في مخاطبة القمر:
يا ساقي الأنوار من شمس الضحى ... يا مثكلي طيب الكرى ومنغصي
أما ضياء الشمس فيك فناقص ... وأرى حرارة نارها لم تنقص
لم يظفر التشبيه منك بطائل ... متسلخ بهقا كلون الأبرص
ولا يمكننا في هذه العجالة الإتيان على أكثر ما قاله الشعراء وعلماء الفلك والرياضة في مبادئ العلوم الرياضية والفلكية فهو أجل من أن يحاط به في مقالة أو مقالتين آملين العودة إلى البحث فيه بصورة أوسع وأوفى للمرام.
(نابلس)
قدري حافظ طوقان(63/34)
فصول مدرسية في الأدب الدرامي
6 - الرواية المسرحية في التاريخ والفن
بقلم أحمد حسن الزيات
المأساة في خلال القرون
لعلك تذكر أنني أشرت عند الكلام عن منشأ الرواية إلى أن أصل المأساة هو تلك الأناشيد التي كان يغنيها القيان (الخورس) إجلالا لباكوس إله الخمر يوم عيده. وكلمة (تراجيدي) اليونانية لا تزال تحمل دليل هذا الأصل. فمعناها غناء الجدي، وهي مركبة من كلمتين: (تراجوس جدي، و (أودي غناء. وذلك لأن الجدي كان مخصصا للقربان في ذلك اليوم، ولأن القيان كن ينشدن تلك الأناشيد أثناء ذبحه. وقلت إن (إبيجين) وضع الحجر الأول في بناء المأساة، ولكن اسحيلوس (525 - 456 ق م) هو الذي صورها وسواها بخلقه الحوار؛ ثم أبقى على القيان، وبث في المأساة الرعب على الأخص، وجعل تصريف الأشخاص بيد القدر. وجاء سوفو كليس (495 - 405 ق م) فقلل من عمل القيان، وأضعف من شأن القدر، وعزا جزءاً من العمل إلى أهواء الإنسان وحريته، وأحكم العقدة الروائية. وأشهر مآسيه أنتيجون، وإلكتر، وأوديب الملك، وفيلو كتيت. ثم كان أوريبيذس (480 - 420ق م) فكاد يلغي القيان، وأخفى أثر القدر من رواياته، وجعل الأمر كله لتصارع الأهواء، وبث فيها الرحمة على الأخص. وأطلق عليه أرسططاليس اسم أمير المأساة. ولكنهم أخذوا عليه الإغراق في تعقيد العمل، والالتجاء إلى معونة الآلهة في الحل، وحشوه القطعة بالحكم الفلسفية. وأشهر مآسيه ألسست وهيكوب وإيفجيني وأوليس. ثم نضبت قرائح اليونان من المأساة بعد أوربيذس فلم ينبغ فيها منهم أحد.
أما الرومان فميلهم الغريزي إلى المشاهد الوحشية الدموية كمصارعة الوحوش والثيران أزهق فيهم روح الفن الروائي، وشغلهم عن إجادة المأساة. وما نسبوه من المآسي إلى سنيكا (61 - 30ق م) ليس إلا تطبيقات مدرسية صيغت في أسلوب روائي. ثم درست معالم المأساة، وانقضى أمرها في العصور الوسطى، فلم تعد ثانية إلى الظهور إلا مع النهضة العامة في القرن السادس عشر. ظهرت في فرنسا واستمدت موضوعاتها من الأساطير(63/35)
اليونانية واللاتينية، واقتبست قواعدها من الأدب القديم، حتى جاء اسكندر هاردي فاستقاها من موارد الاسبان والطليان أيضاً. وظلت المأساة على هذا النحو من التقليد والفوضى حتى أدركها كرنيي زعيم المسرح الفرنسي، وخالق المأساة الحديثة، فزاد على غرضيها الأوليين وهما الرعب والرحمة، غرضاً ثالثاً وهو الإعجاب، وحصر أسباب هذه الأغراض الثلاثة في قلب الرجل وهواه، ووصف الناس كما ينبغي أن يكونوا، وجعل الخلق الغالب على أشخاصه النبل والبطولة، وضحى بالهوى على مذهب الواجب، وأضعف أثر الحب في رواياته ماعدا (السيد). ثم أعقبه راسين فحرك الرحمة في النفوس على ضحايا الأهواء، ولا سيما ضحايا الحب والغيرة، وأرخى عقدة الرواية إيثاراً لجاذبية التصوير الخلقي على جاذبية التعقيد الروائي، وجعل للحب المحل الأول في رواياته، ووصف الرجل كما هو لا كما ينبغي أن يكون كما فعل كورنيي. ثم يأتي فولتير في حسن الأثر وعظم الفضل ثالثاً لكورنيي وراسين، ولكنه دونهما في البراعة والإجادة. فقد أنكر النقاد عليه مزجه الحكاية بالفلسفة، وقصوره عن تصوير أخلاق أشخاصه، غير انهم يذكرون له حسن صنيعه في تقويته حركة العمل الروائي، وحرصه على حفظ اللون المحلي في المسرح.
ثم جاء القرن التاسع عشر، وظهر المذهب الابتداعي فهاجم المأساة وطاردها في المسارح حتى قضى عليها، واستبدل بها المأساة العصرية أو الدرامة، ولم يبق من أنصارها المؤلفين فيها والمناضلين عنها إلا تلما المتوفي سنة 1826، وراشيل المتوفي سنة 1858، ودلافني المتوفي سنة 1868 مؤلف لويس الحادي عشر وأطفال إدوار. ثم بنسار المتوفى سنة 1867 مؤلف لُكريس، وأنبيس دموراني، وشرلوت كردي. وقد ظل هذا الكاتب حينا من الدهر زعيم المعارضة لفكتور هوجو عميد المذهب الابتداعي.
أما أمر المأساة في غير فرنسا فقد كان ساقط الشأن قليل الجداء، اللهم إلا في إنجلترا فقد ألف شكسبير جملة من المآسي الخالدة كروميو وجوليت، وعطيل، والملك لير، ومكبث، وهملت، ويوليوس قيصر، وانطوان وكليوبطرة، وكريولان. وكلها ماعدا الثلاث الأخيرة مقتبسة من التاريخ الحديث.
تحليل موجز لأشهر الماسي
نريد بتحليل ما اخترناه من المآسي الرائعة الكشف عن هيكلها العظمي ليتبين القارئ فيها(63/36)
كيف يتوزع العمل في الفصول وتتدرج الجاذبية في الحادث، وتراعي الوحدة في الموضوع، وتسير الرواية على حكم ما قرأ من القواعد. وسنختار ما نحلله مما خلد على الدهر وعلق بالقلول من روائع كورنيي وراسين وفولتير وشكسبير عسى أن يكون في اختصارها له حادياً لقراءتها ودراستها.
مآسي كورني: (السيد
وقعت حوادث هذه المأساة في أشبيلية أواخر القرن الحادي عشر في ساحة من ساحات المدينة، ثم في دار كُنت جرماس، ثم في قصر الملك. وأهم أشخاصها: الدون ديبيج أبو رُدريج، والدون جوميز كنت جرماس أبو شيمين، وردريج حبيب شيمين، وشيمين خطيبة ردريج، والدون فردناند الأول ملك قشتاله، والدون سانش منافس ردريج في حب شيمين. وموضوعها زواج ردريج من شيمين، والحيلولة دونه بلطمة الكنت للدون ديبيج، وانتقام ردريج لأبيه من والد خطيبته.
ففي الفصل الأول:
بينما كانت أسرتا الأميرين (دون ديبيج) ودون جوميز على وشك الاتصال بالصاهرة أسند الملك إمارة (الانفانت) إلى الدون ديبيج، وكان الدون جوميز يرى نفسه أحق بها وأهلها. فيتمارى الأميران وهما خارجان من مجلس الملك وتتسعر بينهما نار الجدل حتى يلطم الدون جوميز صاحبه لطمة يريد أن يدفع عارها عنه بالسيف فيخونه عزمه ويظهر عليه خصمه. فليجأ إلى ولده ردريج يطلب منه أن ينتقم له. فيتردد ردريج هنيهة، ثم يقول: هما خطتا خسف لا معدى لي عن واحدة منهما: أما سمة الإهانة إلى الأبد، وإما الانتقام من أبي الحبيبة. ثم لا يلبث أن يغلب واجبه على هواه فيقبل.
الفصل الثاني:
يأبى الكنت أن يعتذر عن فعلته للدون ديبيج على الرغم من إلحاح الملك. ويدخل في أثناء ذلك ردريح فيدعوه إلى المبارزة ويقتله. ويعلم الملك فردناند بغزو العرب وقتل الكنت في وقت معاً، وينعى الناعي لشيمين أباها فترفض الزواج من ردريج القاتل وتطلب إلى الملك عقابه، ويتولى الدفاع عن ولده الدون ديبيج.(63/37)
شيمين (للملك): أنا أطلب العدل.
دون ديبيج: اسمعي دفاعي.
شيمين: لقد كسر أيها الملك عضادة صولجانك، وهدم ركناً من أركانك. إنه قتل أبي.
دون ديبيج: انه انتقم لأبيه!
شيمين: إن من واجب الملك أن يحقن دماء رعيته.
فيسمع الملك لها وله، ثم يحيل الفصل في القضية إلى مجلسه.
الفصل الثالث:
وفي أثناء انتظار الحكم يدخل ردريج على شيمين يسألها أن تقتله هي بيدها، فتقف موقف الحيرة ملياً بين الحقد والحب، ثم يفوز الشرف فتصرفه من وجهها وهي مصرة على القصاص. ويلقى الدون ديبيج ولده فيهنئه بفوزه، ويمدحه على شهامته، ويرسله إلى قتال العرب وقد أوشكوا أن يفتحوا أشبيلية، عسى أن يكون بلاؤه الحسن في جهاد العدو وسيلة إلى عفو الملك وصفح شيمين.
الفصل الرابع:
يهزم ردريج العرب تحت أسوار أشبيلية ويعود مظفراً بالأسرى وقد لقبوه بالسيد - وهي كلمة السيد بالعربية محرفة - فيقص على الملك أنباء مجده ونصره، وتأبى شيمين مع ذلك إلا القصاص. فيجيها الملك ويأمر بالمبارزة القضائية، وهي أن تختار من تشاء ليبارز السيد على أن تكون زوجة الغالب، فاختارت الدون سانش.
الفصل الخامس:
يلقى السيد شيمين فيصرح لها أنه لن يدافع عن نفسه، وانه لم يجئ إلا ليودعها الوداع الأخير فتحاول صده عن عزمه، ويأبى هو إلا إنفاذه، فتقول له: (دافع عن نفسك وأنقذني من دون سانش، وإذا خرجت من المعركة فائزاً كنت لك).
فيخرج من عندها قويا بهذا الوعد وينقض على خصمه فيجرده من سيفه، ويحكم الملك عليه أن يحمل سيف السيد لشيمين، فينالها الجزع الشديد ظناً منها أنه قتل، ولكن الملك يطمئنها على حياته، ويعلنها أنها تستطيع أن تتزوجه متى كفكف من دموعها الزمن.(63/38)
(هوراس
وقعت حوادثها في روما في غرفة من بيت هوارس عام 668 قبل الميلاد. وموضوعها انتصار روما على (ألب) في موقعة شعواء دامية نشبت بين بني هوراس وبني كرياس، ومغزاها إيثار محبة الوطن على محبة الأسرة، وأهم أشخاصها ملك روما، والشيخ هوراس فارس روماني، وهوراس ولده، وكرياس أحد أشراف ألب وحبيب كاميل، وفالير فارس روماني وعاشق كاميل، وسابين زوجة هوراس وأخت كرياس، وكاميل حبيبة كرياس وأخت هوارس، وجوليا نجية سابين وكاميل.
الفصل الأول:
أزف يوم المعركة الحاسمة بين الرومانيين والألبيين، فتجد سابين جالسة تشكو إلى نجيتها صرامة القدر الذي جذم الحبل بين ألب مسقط رأسها، وبين روما بلد زوجها، وتألم لحظها المنكود وهمها المتقسم. وتبثها كاميل إشارة من الآلهة، ولكنها ترى رؤيا تقلق بالها وتقلب حالها. ويقدم خطيبها كرياس فينبئها أن المعركة لن تكون، وأن قوميهما رأوا حقناً للدماء أن يقصروا المعركة على ثلاثة أبطال من كلا الفريقين، ويكون فوز الثلاثة فوزاً لقومهم.
الفصل الثاني:
يجتمع مجلس الشيوخ الروماني فيختار للمعركة أبناء هوراس الثلاثة. ويقبل كرياس خطيب كاميل فيهنئ صهره بما أحرز من ثقة وشرف. ويأتيه النبأ بعد قليل بان مدينة ألب اختارت عنها أبناء كرياس الثلاثة. يتأهب الأبطال للذهاب إلى المعركة، ولكن خطيب كاميل يكره أن يقاتل إخوة حبيبته، بينما زوج سابين لا يرى في أصهاره إلا أعداء لروما وأخصاماً للوطن. وتجهد كاميل وسابين في تخذيل الأبطال عن القتال، ولكن الشيخ هوراس يقبل فيشجعهم على الحرب ويبعث بهم إلى الميدان.
الفصل الثالث:
تدخل جوليا فتنبئ سابين وكاميل بأن الأقران برز بعضهم لبعض، وأن الجيشين أدركتهما الشفقة فعارضا في تقاتل الاخوة، وطلبا إما المعركة بين الجيشين، وإما الاختيار من غير هاتين الأسرتين. ولكن الشيخ هوراس يقبل وعلى لسانه الخبر المشئوم بأن الملك استشار(63/39)
الآلهة في هذا الاختيار فأقروه، وأن المبارزة بين الاخوة قد بدأت. وتطالع جوليا القتال عن بعد فترى اثنين من بني هوراس يسقطان مجندلين، والثالث يلوذ بالفرار، فتبادر القوم بإعلان هزيمة روما. ويتحدم الشيخ هوراس حنقاً وغضباً من جبن ولده. فتقول جوليا: وماذا يصنع واحد أمام ثلاثة؟ فيجيبها الأب في شدة وحدة: يموت! ثم يقسم الشيخ جهد اليمين ليغسلن عار الرومان بدم هذا الابن الجبان.
الفصل الرابع:
ولكن فالير وقد شهد نهاية المعركة يعود ويقول: استغفروا الآلهة فقد ظلمتم بطل روما! انه لما بقى وحده أمام بني كورياس الثلاثة، وهم مجروحون وهو سليم، رأى أنه أضعف منهم مجتمعين، وأقوى عليهم منفردين، فعمد إلى الخديعة وأوهمهم أنه يفر فطلبوه. حتى إذا انفرد كل عن الآخر كر عليهم واحداً بعد واحد فقتلهم، وبذلك انكسرت ألب! فتنساغ غصة الشيخ، ولكن كاميل تجزع على حبيبها جزعاً شديداً يفقدها الرشد فتنحى باللعنة والسخط على أخيها ووطنها. ويدخل حينئذ أخوها المنتصر فيسمعها، فينزو في رأسه الغضب. فيلطخ انتصاره بدم أخته.
الفصل الخامس:
يجعل هوراس حياته في يد أبيه تكفيراً عن الجريمة التي ارتكبها، ويجئ الملك مهنئاً هوراس بفوزه. فيتقدم إليه فالير متهماً الأخ بالقتل طالباً موته، ويستسلم القاتل لعدل الملك. ولكن الشيخ هوراس يتولى الدفاع عن أبنه فيقول: (معشر الرومانيين!! أترضون أن تقتلوا رجلا لولاه ما كانت روما اليوم؟ قل لنا يا فالير وأنت تريد قتل هوراس: في أي مكان يقتل؟ أبين هذه الجدران، ولا تزال آلاف الأصوات ترن في جنباتها بأعماله العظيمة؟ أم في وسط هذه الساحات ودماء بني كرياس لا تزال تدخن فيها؟ أم بين قبورهم الثلاثة في ميدان الوغى وكلها شواهد على شرف روما وشهامة هوراس؟. . . .) ثم تكون نتيجة هذا الدفاع البليغ البراءة.
ومما أخذه النقاد على كورنيي في هذه القطعة الخالدة أنه لم يراع وحدة العمل. فجعل فيها عملين مختلفين، الأول حرب روما مع ألب، وينتهي بالمنظر الثاني من الفصل الرابع.(63/40)
والثاني قتل كاميل ومحاكمة هوراس وينتهي بالرواية.
يتبع
(الزيات)(63/41)
شخصية ابن خلدون في كتاب الأستاذ محمد عبد الله
عنان
للأستاذ مصطفى عبد اللطيف السحرتي
هيأت لي فرصة حسنة قراءة كتاب الأستاذ عنان الأخير عن ابن خلدون وتصفح مقالات بعض كتابنا المصريين في التعليق عليه، وبخاصة مقال الدكتور هيكل والأستاذ العقاد. وقد لفت نظري في مقال هذا الأخير ملاحظة تتضمن أن عنانا لم يتناول شخصية ابن خلدون في كتابه! ولعل الذين درسوا الكتاب يذكرون أن كل فصل من فصوله حوى مادة غريزة عن هذه الشخصية، وإن لم تجمع هذه المادة في فصل مستقل.
فلقد أفاض المؤلف كثيراً في ذكر صفات ابن خلدون الخلقية والعقلية أي في العناصر المهمة التي تقوم عليها كل شخصية. ولعل كتابه وعى من هذه الصفات أكثر مما وعى عن تراثه الفكري الذي لازال الكثير منه مبثوثا في طي مجهول.
أبرز الأستاذ عنان صورة تقارب الحقيقة من صفات ابن خلدون المنيرة والمظلمة أبرزها كما هي بين النور والظلمة، كما يفعل النابهون في كتابة التراجم. ووقف من شخصيته موقفاً نزيهاً.
فلم يقف منه موقف المحامي الذي يدافع عن الحقيقة حيناً، ويستخدم فصاحته في الظفر أحياناً، بل وقف موقف القاضي النزيه الفطن الذي لا هم له إلا الوصول إلى الحقيقة، والحقيقة دون سواها. وهذا هو موقف المؤرخ العلمي.
فها نحن أولاء نراه لا يقطع برأي في خلال ابن خلدون حتى يرجع إلى الثقات الأذكياء من المؤرخين، ويتخذ مقاييسه في الحكم من أعماله وتصرفاته. ونراه أيضاً يربأ بضميره أن يطاوع بعض الكتاب في الزراية بابن خلدون ونسبة القبيح إليه، لئلا يكونوا قد اندفعوا في هذا السبيل جريا وراء الانفعال الأعمى أو العاطفة الهوجاء. وبخاصة إذا علمنا أن لابن خلدون اعداء حداداً أسرفوا في ذمه، وتدفقت أقلامهم في الطعن عليه غيره منه وحقداً.
وقد حفل الكتاب بذكر صفات ابن خلدون الخلقية والعقلية إلا أنه مَرَّ مَرَّ الكرام على صفاته الجثمانية ومظهره الخارجي. فقد نقل إلينا المؤلف عن السخاوي أن ابن خلدون كان فصيحاً مفوهاً جميل الصورة، ونقل عن ابن حجر أنه كان يتمسك بزيه المغربي، ولم نعثر في(63/42)
الكتاب على شيء من ملامح وجهه وسمات جسمه، ولا أعلم ما إذا كانت هناك مادة في هذه الناحية تعمد المؤلف إغفالها لأن بحثها ليس من عمله، بل من عمل الفنان والأديب، أو أنه لم يجد هذه المادة في كتب القدماء كما هي مع الأسف عادتهم في إغفال صفات الجسم، ولعل هذا هو الأرجح.
ومن حسن الحظ أن المؤلف أمدنا بمادة وافرة عن خلال ابن خلدون وخلقه، فنقل إلينا طائفة من أقوال الكتاب الأذكياء أمثال المقريزي والسخاوي وابن تغري بردى، والجمال البشبيشي، والعنتابي، وابن الخطيب، وابن حجر. فذكر أن المقريزي وكان تلميذاً له وسمه بسمات حميدة وذكره بالخير، ولسان الدين بن الخطيب، وكان من معاصريه، نعته بحسن الخلق والطموح وعلو الهمة، وأبو المحاسن بن تغري بردى أشاد بمقدرته ونزاهته في ولاية القضاء بقوله: (إنه باشر القضاء بحرمة وافرة وعظمة زائدة وحمدت سيرته) وأبو المحاسن من ثقات المؤرخين المصريين.
إلى جانب هذه الصورة النبيلة لابن خلدون نجد أقلاما ضئيلة مسمومة تشوه صورته وتبهت عليه، وتزري بخلقه، وترميه بالتهمة المؤذية الجارحة. فالعنتابي مثلاً ذكر أن ابن خلدون كان يتهم بأمور قبيحة (ص94) - والجمال البشبيشي اجترأ بقوله إن ابن خلدون كان في أعوامه الأخيرة يشغف بسماع المطربات ومباشرة الأحداث، وأنه تزوج امرأة لها أخ أمرد ينسب للتخليط! (ص94).
جمع الأستاذ عنان هذه الأقوال وعلق عليها بقوله: (إنها أقوال تنم عن خصومة مضطرمة، ومبالغة في الانتقاص تنحدر إلى معترك السباب والقذف) وقد يكون الأستاذ محقاً في هذا التعليق لأن نسبة أمثال هذه التهم إلى هذا العبقري بلا سند، مما لا يقبله الضمير النزيه، وقد تكون هذه التهم أراجيف أذاعها الكاشحون عن قصد وتعمد ولا ظل للحقيقة فيها، فليس على الأستاذ المؤلف من غبار إذا حكم حكمه الحاسم، واحتقر هذه التهم كي لا يجري الوهم إلى تصديقها، وتصير في الأذهان اعتقاداً وهي مجرد إرجاف ومراء.
ومع هذا فقد أورد المؤلف كثيراً من صفات ابن خلدون غير المحمودة، واعتمد في إيرادها على أقوال ابن خلدون نفسه وأعماله، فلقد نعى عليه خلتين: أولاهما تلونه ووصوليته، وثانيتهما كبرياؤه وصلفه. أبرز هاتين الخلتين إبرازاً جلياً، فانه ليقول في القسم الأول من(63/43)
كتابه أن ابن خلدون كان من عباد الحوادث، وكان ينتهز الفرص ويسعى لها بأي الوسائل (ص 28) مهما نافت الوفاء والولاء والعرفان (ص 48) وجلا هذه الخلة في مكان آخر من الكتاب قال: (وكان ابن خلدون يصدر في خططه وأعماله عن احتقار عميق للعاطفة والأخلاق المرعية، وكان يسيره مثل ذلك الروح القوي الذي أعجب به مكيافللي فيما بعد.) وأشار في كثير من المواضع إلى خلته الثانية من خلاله البارزة وهي خلة الكبرياء، وهذه الخلة قد تدل على عزة النفس وعظمتها فتكون خلة محمودة، وقد تكون متغالية فتصير كريهة مذمومة، ولقد أيد المؤلف تخلق ابن خلدون بها في بعض الأوقات وأنها كانت سبباً من الأسباب التي جعلت كثيراً من المصريين يناصبون الرجل العداء.
ومن دلائل هذه الخلة ما يقوله البشبيشي من أن ابن خلدون كان يكثر الازدراء بالناس (ص 95) وما يقوله ابن حجر في كتابه رفع الأصر من أن ابن خلدون كان معروفاً بخلق الكبر والازدراء بمقام غيره، وروي أن القضاة دخلوا للسلام عليه حين تولى منصب القضاء فلم يقم لأحد منهم، واعتذر لمن عاتبه على ذلك.
وأورد المؤلف غير هاتين الخلتين البارزتين خلالاً أخرى عول في إيرادها على طائفة من الكتاب أثنت على ابن خلدون وأخذت عليه بعض المآخذ، فمن هؤلاء نذكر ابن تغري بردي وما قاله في المنهل الصافي من أن ابن خلدون كان محباً للمنصب، وما قاله ابن الخطيب الذي وسمه بالفضائل الجمة يأخذ عليه الخفة فيقول: (إنه كان بعيداً عن التأني)، وعلل تحامل رجال الدولة عليه إلى هذه الخلة. وابن حجر نقم عليه سوء الأدب أيام كان قاضياً فقال: (كان فظاً جافي الطبع، وكان يعزر الخصوم بالصفع).
ولم يقتصر المؤلف في سوق هذه الحقائق على أقوال الكتاب السالفين، ولكنه اعتمد في ذكرها على أقوال ابن خلدون نفسه في كتاب - التعريف - وهذا الكتاب هو ترجمة ابن خلدون لنفسه. وهذا التعريف الذي يتركه لنا ابن خلدون عن نفسه وحوادث حياته قطعة فريدة في الأدب العربي، فهو صورة حقيقية ممتعة لتلك الشخصية الممتازة الجريئة، رسمت في كثير من الحرية والصراحة، حتى إنها لتفصح في كثير من المواطن عن خلال صاحبها، وليست هذه الخلال دائماً مما يحمد أو مما تقر الأخلاق الفاضلة، فهناك الكبرياء والزهو والأثرة، وهنالك الطمع وحب التقلب وشغف الدس، وانتهاز الفرص بأي الوسائل،(63/44)
ثم هنالك الجحود ونكران الصنيعة، هذه الخلال كلها أو بعضها نلمحها من آن لآخر ماثلة في أعمال المؤرخ ومواقفه حسبما يقصها علينا بنفسه (ص 140).
وبعد هذا الدرس الطويل الحر لخلق ابن خلدون كشف الأستاذ عنان في الجزء الثاني من كتابه ركناً من أركان شخصية ابن خلدون المضيئة، وهذا الجزء يلقي ضوءاً قوياً على عبقرية ابن خلدون، تلك العبقرية التي صيرته موضع إجلال السلاطين والملوك وذوي النفوذ والجاه، فهاهم سلاطين المغرب والأندلس يخطبون وده، وهاهم بنو عريف يكرمون مثواه وينزلونه ضيفاً عزيزاً مع أسرته بأحد قصورهم أربع سنين، وها هو شعاع العبقرية يسبقه إلى مصر المتحضرة، فيلقاه أهلها بالحفاوة والتعظيم، ويولونه الدرس في الأزهر النابه في ذاك الحين، ثم يتولى بعد ذلك قضاء المالكية عدة مرات، وهاهم الكتاب يجمعون على قوة عقله وحدة ذكائه وعلو تفكيره، حتى أنصفه الحاقدون عليه، فجمال الدين البشبيشي وهو من ألد خصومه اعترف له بالفصاحة والتفوه، وابن حجر الذي زرى عليه خلقه، يظهرنا على ناحية من نواحي عقله يقول: (كان لسناً فصيحاً حسن الترسل وسط النظم، وكان جيد النقد للشعر، وإن لم يكن بارعاً فيه) (ص93).
ولقد كشف لنا الأستاذ عنان عن عبقرية هذا الرجل الفذ وعن شاعريته أيضاً، وأتى بقليل من قصائده، وأبان أن هذه القصائد كان يطبعها طابع المرح الصوفي، وهذه الأبيات تجري بين دفتي الكتاب كالنهر العذب في الأرض المثمرة، ولقد أضاف المؤلف في القسم الثاني من كتابه أراء كتاب الإفرنج في عبقرية ابن خلدون وتراثه الفكري فذكر ما قاله جمبلوفتش من أن ابن خلدون درس الظواهر الاجتماعية بعقل متزن، وأنه أتى في هذا الموضوع بآراء عميقة (ص152) وذكر أيضاً ما قاله فون كريمر من أن ابن خلدون نثر بيدين نديتين ثمرات تأملاته الناضجة عن سير التاريخ البشري.
وأظن بعد هذا البيان يمكن للقارئ أن يخرج بصورة صحيحة عن شخصية ابن خلدون، صورة لا تشيع فيها ولا تحيز، ظهرت فيها الظلال كما ظهرت فيها الأنوار. وهذا المنحى الذي نحاه الأستاذ عنان في درس هذه الشخصية جدير بالتفات كتابنا المصريين المغرمين بتراجم العظماء، ولعل الذين وقع في وهمهم أن كتاب عنان لم يتناول شخصيته، يصححون رأيهم بعد هذا البيان الموجز.(63/45)
وأحب قبل أن أختم هذه الكلمة أن أدعو القراء إلى قراءة هذا الكتاب القيم ليتذوقوا فيه حرية البحث ونزاهة الحكم، ودقة الأسلوب وثباته وإيجازه ورزانته.
وأسمح لنفسي بعد هذا أن أهنئ الأستاذ المؤلف على كتابه، فلقد أعجبت به وبخاصة بالفصل الذي عقده عن (ابن خلدون والتفكير المصري) الذي أبان لنا فيه خلق ابن خلدون وأوقفنا على تفكير المؤرخين المصريين في القرن التاسع الهجري. وأعجبت كذلك بالفصل الذي عقده عن (ابن خلدون والنقد الحديث لأعلام الغرب). والذي كشف به عن تفكير ابن خلدون الدقيق الذكي.
وأرجو الله أن يزيد المؤلف قوة ليتم ما أخذ به نفسه من التنقيب عن التاريخ الإسلامي، وحياة أعلام مصر النابهين.
(ميت غمر)
مصطفى عبد اللطيف السحرتي المحامي(63/46)
2 - مشهد ومكة
للأستاذ أمين الخولي
المدرس بكلية الآداب بالجامعة المصرية
أصبح من الواجب أن أعود إلى الحديث عن مشهد ومكة، إذ عاد الأخ الأستاذ عبد الوهاب عزام إلى الموضوع، ففتح أبواباً كثيرة للكلام، وإنها لحقيقة من حقها علينا أن تنجلي وتتكشف.
ويأذن لي القارئ أن أرسل أول الأمر تحية خالصة إلى الأخ في حله ورحيله، ودعوات صالحة بأن يوفقه الله دائماً، وسلاماً إليه. . . ثم سلاماً على عبارات مهتاجة وردت في كلمته التي رد بها كل ما في الأمر: 1 - أن الأستاذ قال ما لفظه: (وأفظع من هذا - أي الخطأ كله؛ قوله - الرحالة - عن إخواننا شيعة إيران أنهم يفضلون مشهدا على مكة). فقلت له: (لا خطأ ولا فظاعة، لأن فلاناً العالم الشيعي قال في كتاب كذا صفحة كذا نقلاً عن كتاب البحار الذي يعد من أمهات كتب الشيعة: (إن كربلاء أفضل من مكة، فلا خطأ). قضايا محدودة، قصيرة، وجيزة، واضحة، متقابلة الأطراف؛ لا أجد فيها محلاً للمخالفة. . . وليس يقال مع هذا التحديد إني مجازف في الاستشهاد بكتب الشيعة قبل الاطلاع عليها، لأني قرأت بلا شك ما نقلت، وقلت بقدر ما قرأت وفهمت. قرأت في كتاب شيعي عن كتاب شيعي من أكبر إن لم يكن أكبر ما يرجع إليه في بيان عقائد الشيعة ومذاهبهم، كتاب عن كتاب، فهناك على الأقل جمع منطقي أيسره اثنان. . . . ثم ماذا قرأت؟ قرأت أخباراً تنعتها كتب الشيعة بأنها متواترة أي رواية جمع عن جمع، كما تنعتها بالكثرة، ويدل مرجعي على مكانها من أجزاء الكتاب الكبير الذي يعزو إليه. . . فدليلي واف بدعواي؛ وليس من الموضوع في شئ أني فرحت بالكتاب أو لم أفرح؛ وليس يجب في شئ أن يكون لي بالشيخ مؤلف الكتاب صداقة قوية أو صلة شخصية.
2 - مع هذا كله يقول الأستاذ عزام في رده علي: (فقد ادعى أن كتب الشيعة تقرر هذا التفضيل، ثم لم يرجع إلى كتب الشيعة؛ ولم يتحر أقوال أئمتهم، ولكنه اكتفى برواية في كتاب فرد لمؤلف. . . الخ) فهل لم أرجع إلى كتب الشيعة!!. وهل اكتفيت برواية في كتاب؟! وهل هو كتاب فرد؟!. على أن الأستاذ بعد هذا بقيراط من الورق ذكر (كتب(63/47)
الشيعة) وما فيها مرتين، فتتوقع من صاحب الملاحظة السابقة أن يحتج من (كتب الشيعة) بأقل الجمع ولو عند المناطقة وهو اثنان، ولكنك لا تراه يذكر إلا كتاباً فرداً هو (وسائل الشيعة إلى أحكام الشريعة) على حين يكرر الحديث عن قراءاته وخلاصة قراءاته في كتب الثقات، ويتحدث عن قراءاته في كتب الثقات وهو ذاكر أني اكتفيت بكتاب فرد، وأنه لا يرى ذلك، فكيف يجئ هذا؟!.
3 - لما أراد الأخ الأستاذ نقد خبر الرحالة (تفضيل الشيعة مشهداً على مكة) استنتج استنتجاً وقال: (وكيف يعقل أن أمة مسلمة. . . الخ) فسلمت له اختصاراً واقتصاراً أن هذا غير معقول، وقلت عرضاً إن مالا يعقل قد يعتقد، وان العقل ومنطقه شئ، والاعتقاد وسلطانه شئ آخر. فقال أعزه الله: إن هذه فلسفة لم يتهيأ هو لفهمها. فيسمح لي إذن أن أقول في غير فلسفة:
أ - إن من المعقول أن يكون الحج إلى مكة فرضاً وأن تفضل الشيعة مع ذلك مشهداً على مكة! فالأخ يعرف أن الوقوف بعرفة ركن في فريضة الحج، ويعرف أن زيارة الرسول عليه السلام ليست ركناً في تلك الفريضة ولا واجباً؛ ويعرف في الوقت نفسه أن المسلمين جميعاً يفضلون زيارة الرسول عليه السلام ويتطوعون بهذه الزيارة في غير موسم الحج من أيام السنة؛ ويشدون الرحال لها، ويتمنون المجاورة بالمدينة المنورة، ويؤثرون الموت فيها. ولا أعرف واحداً منهم جاور بعرفة أو حرص على زيارتها. فتفضيل مشهد على مكة يتفق تعقله مع كون الحج إلى مكة فرضاً. هذا هو القدر المعقول في المقام، والذي يتصل بفرضية الحج إلى مكة وتفضيل مشهد عليها.
ب - لكن الأستاذ عزاما لا يقول هكذا، بل يقول: (وكيف يعقل أن أمة مسلمة شديدة الغيرة على دينها تعتقد أن الحج إلى مكة فرض، وقاعدة من قواعد الإسلام، كيف يعقل أن هذه الأمة ترى زيارة مشهد أفضل من الحج إلى مكة). ولنا هنا مواقف: إن الرحالة ناقل يخبر، ولا يرد الخبر بهذا الاستنتاج العقلي؛ فأثم التناقض على المفضلين لا على المخبر. ولا يقال لناقل الخبر إنك خاطئ، بل يقال إنه كاذب أو غافل أو غير متحر أو ما إلى ذلك. على أنا لو جاوزنا هذا نرى التناقض المعقود غير ما نحن فيه. فخبر الرحالة أو دعواه - ان شئنا - أن الشيعة تفضل مشهداً على مكة؛ وكذلك تقول عبارة الأستاذ عزام في نقده،(63/48)
وتفضيل مشهد على مكة تفضيل زيارة مشهد على الحج إلى مكة، كما لم يلزم من تفضيل مسجد الرسول عليه السلام على عرفات تفضيل زيارته على الوقوف بعرفة؛ ولن ننسى أن الرحالة - في نقل الأستاذ عزام - يخبر بتفضيلهم مشهداً - لا زيارتها - على مكة - لا على الحج إليها -.
ج - والعجب أن الأخ الأستاذ يقحمني أيضاً في مسألة الزيارة والحج ويضع في رده خطاً تحت قوله (زيارة مشهد أفضل من الحج) وكأني كنت فيما كتبت مشتغلاً بنقد استنتاجه لا بتصحيح خبر الرحالة من كتاب شيعي غير عامي؛ والأستاذ بذلك يقول عني إني أدعي (على بعض المسلمين أنهم يفضلون زيارة كربلاء على الحج وهو قاعدة من قواعد الإسلام) وأنه فاتني التثبت في ذلك الادعاء. . الخ. ومن الفكه أن لفظتي (حج) و (زيارة) لم تردا في كلمتي مطلقاً، بل لم تقعا كذلك فيما استشهدت به من كلام العالم الشيعي المحدث مطلقا؛ ولم تردا إلا في الفقرة المنقودة التي نقلتها من كلام الأخ عزام، فكيف حملني عبء هذا الادعاء؟ لا أدري! ولعله هو يدري.
وأخيراً، نقل الحالة ثابت تفضيل الشيعة مشهداً مكة متفق مع ما ينقله عالم شيعي عن عالم شيعي ويعد انه متواتراً، وليس يتنافى هذا التفضيل مع فرضية الحج إلى مكة، وليس يلزم من هذا التفضيل زيارة مشهد على الحج المفروض، وهذا التفضيل لمشهد على مكة شئ آخر مغاير لتفضيل زيارة مشهد على الحج إلى مكة؛ وأسأل الله لي ولأخي الثبات والتثبت دائماً.
أمين الخولي
في تاريخ الأدب المصري(63/49)
أيدمر المحيوي
تتمة للأستاذ أحمد أحمد بدوي
أما الوصف في شعر شاعرنا فهو وإن كان غير مقصود له بالذات يحدثنا كذلك عن بعض نواحي الحياة المصرية، وبعض الجمال فيها، يحدثك عن الطبيعة المصرية في زمن الربيع، فيصفها وصفا دقيقا، ويحدثك عن الاحتفال بوفاء النيل، فيصفه كأنك تراه، ويصف لك الأبنية التي بناها الملك الصالح فيجعلك تشعر بالعظمة والأبهة اللتين تمتعت بهما تلك الأبنية. ويصف لك الجيش المصري فتحس بالمجد المصري والقوة المصرية والشجاعة المصرية التي لا تنثني عن قصد ولا تهزم أمام حصن مهما كان عظيما. قال يصف الجيش المصري الذي فتح دمشق:
جيشا تغص به الأرض الفضاء كما ... تراكم الغيم يوم الدجن ذا زجل
من الكماة التي تطوى ضلوعهم ... على العزيمة والاقدام، لا الفشل
من كل أمضى من الهندي في يده ... عزما، وأنفذ إقداما من الأسل
يكون أثبت يوم الروع من جبل ... راس، وأجول في الصفين من مثل
ولننصت إليه حين يصف لنا الاحتفال بوفاء النيل، وكأنه يصف لنا الاحتفال الذي لا نزال نراه بأعيننا في كل عام، قال:
يوم تجلى الدهر منه بزينة ... لما غدا المقياس وهو مخلق
هو ثالث العيدين إلا أنه ... للهو، ليس على العبادة يطلق
جمعت لمشهده خلائق غادرت ... فيه رحيب البر، وهو مضيق
وعلى عباب البحر من سباحه ... أمم يغص بها الفضاء، ويشرق
كادت تبين لهم على صفحاته ... طرق، ولكن يفتقون ويرتق
ثم مضى يصف الأنوار، ويصف المليك تحف به حاشيته إلى آخر ما وصف به ذلك اليوم، فإذا أنت ذهبت تستمع إليه، وهو يحدثك حديث إبداع عن طبيعة مصر في الربيع سمعته يقول:
الروض مقتبل الشبيبة مونق ... خضل يكاد غضارة يتدفق
نثر الندى فيه لآلئ عقده ... فالزهر منه متوج، ومنطق(63/50)
وارتاع من مر النسيم به ضحا ... فغدت كمائم زهره تتفتق
وسرى شعاع الشمس فيه، فالتقى ... منها ومنه سنا شموس تشرق
والغصن مياس القوام كأنه ... نشوان يصبح بالنعيم ويغبق
والطير ينطق معربا عن شجوه ... فيكاد يفهم عنه ذاك المنطق
غردا يغني للغصون فينثني ... طربا جيوب الظل منه تشقق
والنهر لما راح وهو مسلسل ... لا يستطيع الرقص ظل يصفق
فتمل أيام الربيع، فإنها=ريحانة الزمن التي تستنشق
فهو قد رسم لك بشعره ذلك صورة جميلة للرياض والزهر المتفتح الذي ارتاع من مر النسيم في الضحا فتفتحت أكمامه، وقد كان الندى عليه كحبات العقد فأضحى عليها كالتاج أو النطاق، ثم هذه الغصون المياسة كأنها سكرى والطير يغني على تلك الغصون فتهتز لهذا الغناء طربا، والنهر يصفق فرحا، والشمس تلقى أشعتها على هذا الجمال كله، فيبدو للمرء منظره وأبدع ما في الطبيعة من مناظر الجمال.
4
لشاعرنا المحيوي موشحات عارض بها سواه، وهي تعد بحق من أجمل الموشحات وأبدعها، وأنت تحس في بعض موشحاته بآثار الصنعة اللفظية ظاهرة جلية، وهو حين يعارض سواه في موشحاته يضمن موشحه أول بيت من الموشح الذي عارضه، ولذلك يضطره الحال إلى أن يدع المدح وينتقل منه إلى الغزل على عكس السنة المعروفة لدى الشعراء.
ولقد كان شاعرنا فخوراً بشعره الفخر كله، مملوءا به تيهاً، يعتقد أن شعره يفوق شعر غيره ويسمو عليه حتى قال:
إن القري - وإن تكاثرساكنو ... أفيائه - للعبد فيه الأوحد
وكان أحياناً لا ينشد الممدح قصيدته إلا بعد أن ينشده سواه ليتمكن الممدوح من أن يرى الفرق بين شعره وشعر غيره، غير أنه في بعض الأحيان كان لا يجد مركزه وما يواتيه به الدهر متناسبا مع جودة شعره وبلاغة قوله فيشكو ويلح في الشكوى، ويتألم أشد الألم، ولقد كان شعره فضلا عن عذوبته التي تحس بها جاريا على قوانين النحو والصرف إذا استثنينا(63/51)
بعض أخطاء لا تكاد تذكر، غير أنه قد أخطأ حقا حين قال يهنئ بالعيد:
لا أهنئ مولاي بالعيد إلا ... خوف تعطيل سنة تعتاد
فمن الجهل أن يهنأ بعيد ... من به الدهر كله أعياد
فمع صحة المعنى لا نشك مطلقا أنه ليس من أدب الخطاب أن يقال لأحد لا أهنيك بالعيد في مفتتح الكلام، ولكن شاعرنا لم يعن إلا بالمعنى وصحته بدون نظر إلى جمال الافتتاح وهو ليس أول من هفا تلك الهفوة بل سبقه بها سواه من الشعراء والشعراء المبرزين.
نظم شاعرنا قصيدة طويلة سماها الوسيلة المشفعة في مناقب الخلفاء الأربعة، وهي قصيدة طويلة تبلغ تسعة وسبعين ومائة بيت، عدد فيها مآثر الخلفاء وذكر فضائلهم، وبدأها برأيه فيهم كلهم وهو:
كل من الخلفاء غير محلأ ... عن مورد الشرف الذي لايورد
ولهم سوابق أنزلت كل امرىء ... حيث اقتضاه له التقي والسؤدد
وأقر بعضهم لبعض بالذي ... يسمو به من فضله ويمجد
فمضوا، ولم يتدافعوا حسناتهم ... كل لصاحبه يقر ويشهد
ثم مضى يعدد فضائل كل مبتدئا بأبي بكر، ذاكرا مآثره في الإسلام: فهو أول من آمن بالنبي، ولما مرض النبي أنابه عنه في الصلاة، فكان ذلك من النبي تقليدا له بالخلافة، ولذا كان أولى الناس بها، ولقد جمع أبو بكر أمر المسلمين بعد أن كادوا يتفرقون يوم السقيفة، وحارب أهل الردة حربا موفقا أعاد للإسلام بهجته، ثم حارب الروم والفرس، وكانت خاتمة حسناته أنه ولي الأمر عمر من بعده، وعمر هذا طالما نزل القرآن موافقا لرأيه وما بدا له، كما أن النبي كان يطلب من الله أن يعز الإسلام بدخوله فيه، حتى إذا دخل فرح المسلمون، وجهروا بدينهم بعد أن كانوا يخفونه، لما كان له من المكان له من المكان العظيم بين قومه وعشيرته، حتى إذا ولي أمر المسلمين بعد أبي بكر سهر على الرعية ومصالحها بعين لاتغفل، ففتحت الدنيا في عهده، ودرت الخير الوفير على المسلمين، فإذا أنهى عمر وتحدث عن عثمان ذكر له إعانته للمسلمين، بماله، وصومه وصلاته، وزواجه من بنتي النبي وفضله يوم جيش العسرة، ويوم بيعة الرضوان، ثم رد على من ينتقصه بقوله:
نطق الكتاب بفضله فمن الذي ... يرتاب فيه جهالة أو يجحد(63/52)
إلا كفور للهدى متنكب ... أو جاهل في غيه متردد
ولكبر ما نقموا عليه ضلة ... قربى تبر، وهفوة تتعمد
ثم انتهى إلى علي فحدثنا عن قربه من النبي، وتربية النبي له، وزواجه من ابنته، وإسلامه صبيا فلم يدنس الكفر نفسه، ولم يسجد لصنم طوال حياته، ثم وصف عدله، وعلمه، وتواضعه، وعبادته وورعه وزهده وشجاعته وبلاغته، وكل هذا الحديث عن الخلفاء الراشدين ينطق أن شاعرنا سني يفضل الخلفاء كلهم لا شيعي يقدم علياً على سواه بل هو يرتبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، غير أنه مما يلاحظ أنه أثنى على أبي بكر وعمر بأعمالهما بعد الخلافة ثناءً مستفيضاً، حتى إذا جاء إلى علي وعثمان أثنى عليهما بفضائلهما الشخصية أكثر مما أثنى عليهما بأعمالهما بعد الخلافة، ربما يكون منشأ ذلك أن أبا بكر وعمر كانت أعمالهما بعد الخلافة في تثبيت دعائم الإسلام ونشر دعوته أكثر من زميليهما، ومن أجل هذا كان الثناء المستفيض.
قبل أن نختم حديثنا عن صاحبنا المحيوي نريد أن نشير إلى أنه كان ناثرا مثلما كان شاعرا، غير أن نثره لم أعثر عليه، ولعلي أوفق يوما ما إلى الاطلاع عليه ودراسته، ولقد ألف كذلك كتابا أهداه إلى ولي نعمته محي الدين محمد بن سعيد لا نعلم اسمه وإن كنا نستطيع أن نفهم موضوعه حين نقرأ قوله واصفا إياه.
العبد أيدمر تطلب تحفة ... تكسي القبول لسيد الأصحاب
فرأى أجل هدية تهدى له ... ذوب النهى، ونتائج الألباب
فأجال في روض القرائح فكره ... ثم انتقى منه لباب لباب:
من طيب نادرة، ولطف فكاهة ... وبديع بادرة، وحسن خطاب
وسوائر الأمثال قد وشحتها ... فيه بمعجز سنة وكتاب
والجد موصولاً بهزل ينشط ال ... قارئ، ويطرب أيما إطراب
ونوادر الحكماء والبلغاء، وال ... خطباء، والشعراء، والكتاب
وجمعت فيه إلى سلامة رقة ال ... حضر اللطيف جزالة الأعراب
فأتاك كالحسناء قد لبست على الإ ... ثراء ثوب نضارة وشباب
والروضة الغناء أهدت نشرها ... ريح الشمال ضحى غداة سحاب(63/53)
فهو مجموعة فيها النوادر والفكاهات، وفيها الأمثال والحكم، وفيها طرف من نثر الخطباء والكتاب، وبعض من شعر الشعراء، فأنت تنتقل فيه من جد إلى هزل ومن هزل إلى جد، فتطرب ولا تسأم القراءة، وتلك طريقة معروفة لدى مؤلفي اللغة العربية فهم من قديم قد استنوا تلك السنة وساروا عليها في مؤلفاتهم.
6
لم نهتد إلى تعيين عام وفاته كما ضن علينا التاريخ بمعرفة عام ولادته، غير أنه مما يروى عنه أنه كان لطيف المحضر فاضلا مهذبا، أحضر ديوان شعره إلى ابن العديم وكان قد حضر رسولا عن السلطان الملك الناصر فتصفحه وأعجبه، وكتب على الديوان:
وكنت أظن الترك تختص أعين ... لهم إن رنت بالسحر فيها وأجفان
إلى أن أتاني من بديع قريضهم ... قواف هي السحر الحلال وديوان
فأيقنت أن السحر أجمعه لهم ... يقر لهم هاروت فيه وسحبان
وعسى أن يواتينا الزمن يوما بكل شعره ونثره، وتاريخ حياته مفصلا فندرسه دراسة مستفيضة تليق ببلاغته.
أحمد أحمد بدوي المدرس المنتدب بثانوية نابلس(63/54)
من طرائف الشعر
بين الليل والصبح
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
انظر إلى الكواكبِ ... يسبحن في الغياهبِ
من ذاهب في شوطه ... ولاحقٍ بالذاهب
إلى الطوالع الوضا ... ء الزُهر والغوارب
إلى الجمال آخذاً ... إلى الشعاع السائب
والليل ساجٍ قد خلا ... من العَصوف الصاخب
يعبرن عُرضَ بحره ... من جانبٍ لجانب
غَرقى إلى الجيد، إلى ... الثدى، إلى الترائب
أرسلن شَعراً من أش ... عةٍ على المناكب
وقد خللن ما على الر ... ؤُوس من عصائب
ما إن رأت عين امرئ ... أبهى من الكواكب
يلمعن مثل الماس أو ... كَوَمضة الحُباحب
يمشين أسراباً كأتر_ابٍ من الكواعب
يذهبن من مشارق ال ... أرض إلى المغارب
والليلُ ضاربٌ روا ... قه على الجوانب
كلّ الجمال في النجو ... م اللُمّع الثواقب
العاريات للخلا ... عات من الجلابب
الغامزات بالعيو ... ن النُجل والحواجب
ما إن لهن غير نش ... ر النور من مآرب
يضحكن من شيبي ... ومن آماليَ الكواذب
أشدو بما لهنَّ من ... حسنٍ ومن مناقب
كأنهن الحور يُط ... لِلْنَ من المَراقب
أمن بنات الليل هُنّ ... أم من الربائب؟(63/55)
أم من طيور الخُلد ير ... ففنَ على المشارب
عصائب يقعنَ أس ... رابا على عصائب
والماء في المَجَرَّة ال ... بيضاء غير ناضب
وربما اختلفن في ال ... ميول والمذاهب
خاطبتهن لو سمع ... نَ القولَ من مُخاطِب
يا لهفتي على ضيا ... ع للشهاب الثاقب
قد خر من عين الدجى ... ليلا كدمعٍ ساكب
وخيم الليل ونا ... م القطبُ في المضارب
ماذا الذي قد خلّف ال ... قطبَ عن الصواحب
ما أجهل الليل، وقد ... خيّم، بالعواقب
فليس يدري ما يلا ... قيه من المصائب
لقد رماه الفجر في الص ... در بسهم صائب
وكان لمّا ناله ... بالسهم غير كاذب
وكشر الليلُ عن ال ... أنياب كالمغاضب
وجرد الصبح علي ... هـ السيفَ كالمحارب
وظلّ يفري جلدَه ... فَرْىَ حَنيقٍ غاضب
جرّ الغَرورُ الليلَ مخ ... ذولا إلى المعاطب
ملاقياً جزاءه ... من ثائرٍ معُاقِب
والليل لا يقوى على ... ردّ الصباح الواثب
يفر كالمغلوب من ... وجه القويّ الغالب
وهو جريح، دمهُ ... يجري على الجوانب
ما أنتصر الليلُ بما ... جَمَّعَ من كتائب
بل إنه اختفى عن ال ... عين كلمحٍ ذائب
إِن عبس الليلُ فلي ... س الذنب للكواكب
فهنّ يبتسمنَ حت ... ى للعدوّ الناصب(63/56)
هو الذي جنى فَكُن ... نَ عرضة النوائب
وظلت الشعرى تنا ... جي الصبحَ كالمعاتب
بين الصباح مُسفِرا ... والليل ذي الغياهب
ثأرٌ سيبقى فتقَهُ ... دهرَاً بغير رائب
غمَّ النجومَ ما تقا ... سيه من المصائب
والصبحُ لما راعها ... ما كان بالمداعب
كأنه بازٌ جرى ... يسطو على أرانب
أو قَسْوَرٌ حُمارِسٌ ... سطا على ثعالب
يريد أن يفترس ال ... أنجمَ بالمخالب
فغرنَ جمعاء من ال ... خشية في المذانب
إني لأقرأ الأسى ... في الأوجه الشواحب
أجفلن لا يحملنَ غي ... ر الخوف في الحقائب
تؤذي العذارى فيالحيا ... ة قِلّةُ التجارب
تا لله ما هذى الوجو ... هـ الغرُّ للنوائب
والعندليب هبّ يَشْ ... دو بانتصار الغالب
والديك صاح يْعلن ... السرورَ للصواحب
كأنما قد فرحا ... بنكبة الكواكب
يا كوكب الصبح لك الص ... بح من الأقارب
ما كان ينبغي له ... صفعُك كالمعاقِب
لا تيأسَنَّ وأنتظر ... ليلَ الغد المقُارِب
تكن كما قد كنتَ في ال ... عين من الرغائب
يا أيها الصبح الجمي ... ل يا ملاذَ الراعب
لقد قسوتَ حين أخ ... نيتَ على الكواكب
رميتَ شملهنّ بالت ... شتيت والمصاعب
ما ضرّ لو حميتهنّ ... مثل أمٍّ حادب(63/57)
كنّ ينبنَ عنك في الْ ... لَيل الطويل اللازب
وكن زينةَ السما ... ء في عيون الراقب
ما أجمل الشمسَ بدت ... مُرخيةَ الذوائب
قد طلعت في موكب ... من أفخم المواكب
تنثر من ضيائها ... تبراً على الجوانب
على البحار والجبال ... الشُمّ والسباسب
يا شمس أنت للورى ... من أكبر المواهب
حبيبةٌ أنتِ إلى ... الشبان والأشايب
أكْبِرْ بما تُهدِينَ من ... نورِ ومن كهارب!
بغداد
جميل صدقي الزهاوي(63/58)
بسمة
للأستاذ محمد خورشيد
هاتها مِن فم القَدَرْ ... بَسمةً تَفتِنُ البشرْ
تُفسحُ الصدرَ للرَّجَا ... ء وتَفنى قوى الكدرْ
إنَّما الحظُّ خِلسةٌ ... فاغتنِمْ منهُ ما بَدَر
إجعلِ الهنا ... كعبةَ المُنَى
يضحكِ العُمُرْ
أهمِلِ الدَّهرَ ما طَغَى ... لا تَخَفْ منهُ إِن بَغَى
وأدَّرِعْ بابتسامةٍ ... تُحرِزِ النصرَ في الوغى
لم يُجندلْهُ غيرُ مَن ... لاذ بالهُزء والسَّخَرْ
عِشْ لِحْربِهِ ... لا تَثِقْ بهِ
طَالَما غَدَرْ
أمسِ، كالحُلمِ أَدْلَجَا ... عَوُدُه ليسَ يُرتَجَى
وغَدٌ، مِن ضميرِهِ ... لمْ يَرَ الغيبُ مَخرَجاً
فابتغِ (اليومَ) كلَّ ما ... يشتهي السمعُ والبصَرْ
روِّ بالأمَلْ ... فُسحَةَ الأَجَلْ
تصرِفِ الغِيَرْ
دَغدغِ النايَ واعزِفِ ... لحنَ هَيمانَ مُترَفِ
واسقِني قبلَ صحوتي ... ريقَ عذراء قَرقَفِِ
فندامايَ أكوٌّسٌ ... راحُهَا يخطفُ البصَرْ
رحمةُ الصَّمَدْ ... صَاحِ لا تُحَد
كمْ وكم غَفَرْ!
القدس
محمد خورشيد(63/59)
النفس الضائعة
للأديب سيد قطب
أثِني أنا؟ أم ذاك رمزٌ لغابر؟ ... لأنكرتُ من نفسي أخصَّ شعائري!
لأنكرتُ إحساسي، وأنكرتُ منزعي ... وأنكرت آمالي، وشَتَّى خواطري
وأنكرتُ شِعري، وهو نفسي بريئةً ... ممحضةً من كل خِلطٍ مخامر
ويفصلني عما مضَى من مشاعري ... عهودٌ وآباد طوال الدياجر
وأجبها ذكرى، ولكنَّ بُعدَها ... يخيَّل لي أن لم تمر بخاطري!
أنقَّب عن ماضيَّ بين سرائري ... فألمحه كالوهم أو طيف عابر
أعيش بلا ماضٍ كأنيَ نبتةٌ ... على السطح تطفو في مهب الأعاصر
وما غابرُ الإنسان إلا جذوره ... فهل تمَّ نبت دون جذر مؤازر
أنقب عن نفسي التي قد فقدتُها ... بنفسي التي أعيا بها غير شاعر
وأطليها في الروض إذ كان همها ... تأمله، يُفضي بتلك الأزاهر
وفي الليل إذ يغشى وكانت إذا غفا ... تيقظ فيها كل غاف وسادر
وفي الليلة القمراء إذ تهمس الرؤى ... وتومئ للأرواح إيماء ساحر
وفي الفجر، والأنداء يقطرن، والشذى ... يفوح، ويشجي سمعه لحن طائر
وفي الحب إذ كانت شواظا وحرقة ... ومهبط آمال ومطمح ثائر
وفي النكباء، والغبطة التي ... تجود بها الأقدار جود المحاذر
ولكنني أيئستُ أن ألتقي بها ... وتاهت بوادٍ غامر التيه غائر
سأحيا إذن كالطيف، ليست تحسهُّ ... يدان، ولا يجلوه ضوء لناظر
سيد قطب(63/61)
من وحي المرض.
إلى صورتها الحبيبة. . .
بقلم مختار الوكيل
يا صورةً قد عبدتُ فيها ... صورةَ مَنْ أَبدعَ الوجودْ
أنتِ التي قد ضمنتِ خلدي ... بوحيك الباسم السعيد
أعيش في عَالم الدنايا ... سأمان من حِصَّة العبيدِ
الداءُ! يا ويلتا، غزاني ... بجيشه الساغب المبيدِ
والصحب! أواه من صحابي ... لم يرأفوا بالفتى العميدِ
يا ليتهم حين أهملوني ... لم يطلقوا الهجوَ كالرعودِ!
يا طلعة قد لمحتُ فيها ... تهلُّلَ الوردِ في الخدودِ
وبسمةً قد قَبَسْتُ منها ... بشائرَ العالم الجديدِ
أموت والنورُ منكِ ضافٍ ... على دُجَى قلبيَ الشريدِ!
يا ما أُحَيْلَي الممات، لولا ... مرارة الَحبْسِ في اللحود!
كم هاجس ضجَّ في خيالي ... وَثارَ في خاطري البليدِ
وأنت يا فِتْنتي أمامي ... وبين كفّيَّ كالوليدِ!
غَفَرْتُ كلَّ الذي دهاني ... في عالَمِ الظُلم والكنودْ
ببسمةٍ منكِ لا تُرَائي ... ونظرةٍ تضمن الخلودْ!
مختار الوكيل(63/62)
الأدب الإنجليزي في القرن التاسع عشر
للأستاذ بشير الشريقي
اطلعت في عدد الرسالة التاسع والخمسين على كلمة موجزة للأستاذ محمود الخفيف في نقد كتاب (الأدب الإنجليزي الحديث) الذي قدمه الأستاذ سلامه موسى للجمهور مؤخراً، وقد ظهر لي من هذه الكلمة.
أولا - إن الأستاذ مصنف الكتاب أو مؤلفه قد نعت العصر الفيكتوري ما بين 1830 - 1900 بأنه عصر خمول في الأخلاق والأدب، بينما يرى الأستاذ محمود الخفيف هذا العصر من أرقى عصور الأدب الإنجليزي وأحفلها بالحركات والاتجاهات الأدبية الجديدة.
ثانيا - إن الأستاذ سلامه يشير في كتابه إلى تجديد في الأدب الإنجليزي ظهر عام 1900 فيوافقه الأستاذ محمود على ظهور هذا التجديد ويذكر أنه ثمرة من ثمار العصر الفيكتوري الناهض.
وأنا بدوري أود أن أقول كلمة في الموضوع أختلف فيها مع الأستاذين الفاضلين في مسائل، وأتفق معهما في أخرى، فأرجو أن توسع مجلة الرسالة الغراء صدرها لهذه الكلمة:
1 - إن مؤرخي الأدب الإنجليزي الحديث لا يوافقون الأستاذ سلامه موسى على قوله: (إن الأدب الإنجليزي قد اتجه طول مدة القرن التاسع عشر نحو الصياغة اللفظية دون التفكير والاقتحام) ويرونه قد حاد كثيراً حين رمى الأدب الإنجليزي في القرن التاسع عشر بالضعف والقبح والفساد لأن هذا العصر الذي يمتد من عام 1798 إلى عام 1892 من أزهى عصور الأدب عندهم اشتهر بمذاهبه الأدبية الجديدة وبتنوع شعرائه وكتابه الذين خرجوا فيما ينظمون ويكتبون عن أساليب القدماء. وإلى القارئ ما يذكره المؤلفان الإنجليزيان (وايت و (كلي عن الأدب الإنجليزي في القرن التاسع عشر في كتابهما (الأدب الإنجليزي الحديث. ص1 - 3:
إذا كان من أن نقع على تاريخ يحدد لنا نهاية عصر من عصور الأدب أو بدايته، وكان من النادر أن يتفق مثل ذلك التاريخ مع فسحة الزمان إلى قرون أو عصور أو أجيال، فان القرن التاسع عشر قد أمتاز بأنه كان ممثلاً أحسن تمثيل لدور انتقال بين في الأدب الإنجليزي. نشر (وردثورث) و (كوليردج) (قصائدهما الغنائية) قبل بزوغ فجر القرن(63/63)
التاسع عشر بعامين فقط في عام 1798، فكان ذلك النشر خدمة عظيمة للفن والأدب وعاملاً من أهم العوامل التي قلبت المذاهب الشعرية الأولى وهدمت النظريات الأدبية القديمة، وكأني بتلك القصائد قد أعلنت نهاية الطريقة الاتباعية في الشعر بإحياء الطريقة الابتداعية
إن الروح الرومانتيكية لم تكن حتى أيام (ورد ثورث) و (كوليردج) قد استيقظت والأساليب الشعرية القديمة لم تكن قد نسخت.
هذا ما يذكره المؤلفان العالمان عن أهمية عام 1798 بالنسبة لتاريخ الأدب الإنجليزي، فلنصغ إلى حديثهما عن وحدة الأدب في القرن التاسع عشر:
(فعام 1798 إذن يكاد ينفرد في إنه يعين بوضوح ابتداء عصر جديد للأدب، عصر إصلاح وتجديد أطلق الشعر فيه من قيود (الاتباعيين) والقرن التاسع عشر يبدو لنا ذا وحدة تامة كما كان عصر الياصابات 1660 - 1798 فلم يفقد فيه الشعر الروح الابتداعية. التي أمده بها (ورد ثورث) ومعاصروه، وقد ظلت رواياته النثرية في تقدم مطرد. إن أدب العلم والتاريخ والفلسفة قد امتاز في هذا العصر بطريقته الجديدة التي أدنت مسائله وأوضحتها، والتي اختلفت عن طريقة القرن الثامن عشر اختلاف (دارون) عن (لوك)
قد ترى الأجيال المقبلة في مذاهب (ماثيو أرنولد) الاتباعية أو في الطريقة (الابتداعية) الجديدة التي دعا إليها (روسيتي) و (موريس) ما لم نره نحن من خطورة وأهمية، غير أن ما يمكننا قوله الآن هو أنه لم يقم حتى العهد الذي ظهر فيه (ورد ثورث) و (كوليردج) ثورة تهدم الطرق القديمة وتكون جديرة بأن تعتبر فاتحة عصر جديد.
لا ينبغي أن نطنب - طبعا - في وحدة أدب القرن التاسع عشر أو بالفروق التي كانت بينه وبين أدب القرن الثامن عشر، إن كل ما ننوي التحدث عنه هنا هو أن نظهر أن الوحدة الأدبية كانت فيه تامة، وأن الفارق الذي يدعونا إلى درس أدبه كأدب عصر خاص كان ظاهراً جلياً. ولقد تظهر فوارق الشعر أكثر وضوحاً في هذا العصر، يرجع ذلك إلى النزاع العنيف الذي قام بين شعراء المدرسة القديمة في القرن الثامن عشر وبين شعراء الطريقة الابتداعية في فجر القرن التاسع عشر؛ أما الروايات النثرية فمن المؤكد أنه لم يدخلها تبدل ظاهر، لأن روائي القرن التاسع عشر كان يرضيهم بوجه عام ان ينشروا فن(63/64)
أساتذتهم فحسب - أساتذة القرن الثامن عشر.
ولو تتبعنا حقل النقد الأدبي الآن لأمكننا أن نقع على تغير واضح في طرقه وأساليبه وقواعده، وهذا التغير يظهر بارزا جليا منذ اليوم الذي تفتحت فيه عبقرية (كارليل) ودفعت بالنقد في طريق جديدة. كان النقد في الربع الأول من هذا القرن يتفق في أصوله وأساليبه مع نقد القرن الثامن عشر، وكان الناقد هو من يحسن وضع الخلاصات، ويجيد المديح والهجاء، حتى إذا جاء (كارليل) كان أول مبشر بطريقة النقد الحديثة الصحيحة، التي يهمها الشرح والتفسير والإيضاح الأصولي للمبادئ الجديدة.)
دور 1798 - 1832. وخطره.
ويقول المؤلفان الفاضلان:
مات (اسكوت، وكريب، وبنتام) عام 1832 وعاش من بعدهم (ورد ثورث) ثمانية عشر عاماً أيضاً، و (كوليردج ولامب) عامين، و (مور) عشرين، و (سواسي) أحد عشر، و (كامبيل) اثنى عشر، لقد أدى كل واحد من هؤلاء الأعلام رسالته قبل عام 1832، أما (كارليل) و (ماكولي)، و (تنسون) و (هود) و (بالوير) و (ليتون) والسيدة (براوننك) من مشاهير الكتاب فلم يكونوا قد نشروا حتى عام 1832 سوى خواطر صباهم. وفي عام 1798 كان عمر كيتس وشيلي وبيرون يتراوح بين الثالثة والعاشرة، ثم لم يأت عام 1832 حتى كان قد مضى على وفاة الثلاثة ثماني سنوات أو أكثر، وهكذا تظهر لنا أهمية الخمسة والثلاثين عاما التي بين 1798، 1832 من الناحية الفنية الشعرية.
وفي الحق أنه ما من عصر من عصور الأدب الإنجليزي حتى عصر الملكة الياصابات يستطيع مناظرة هذا الدور 1798 - 1832 في سمو التصوير وسرعة الانتاج، فقد بذ ببدائعه الفنية الرائعة عصر الملكة الزاهر.
إن في مجرد تعداد كتاب الطبقة الأولى والثانية شيئا من الغرابة والقوة والتأثير، يكفي أن نذكر من الشعراء (ورد ثورث) و (كوليردج) و (بيرون) و (شيلي) و (كيتس) و (لاندور) و (مور) و (ساوس)، ومن الكتاب (اسكوت) و (اوستن) و (هازت) و (ويلسن)، حتى نجعلك تؤمن بعظمة هذا الدور، ثم إليك نتاج عام واحد: في عام 1806 ظهرت رواية (ايما) لجان أوستن، و (تشايلد هارولد)، (وحصار كورنث) و (سجين تشيلون) لبيرون، و(63/65)
(الفناء القديم) لاسكوت، (وحاجتنا إلى الجحود) لشيلي، وكثير من المؤلفات القيمة.
بعد كل ما تقدم ما أحسب أن القارئ يشايع الأستاذ واضح كتاب (التجديد في الأدب الإنجليزي الحديث) في قوله: (إن الأدب الإنجليزي قد اتجه طول مدة القرن التاسع عشر نحو الصياغة اللفظية دون التفكير والاقتحام)، وفي قوله: (ان العصر الفيكتوري ما بين 1830 و1900 كان عصر خمول في الأخلاق والأدب. . الخ) بل أعتقد أنه يرى الصواب والحكمة في معارضة الأستاذ محمود الخفيف له في رأيه هذا.
أما هذا التجديد الذي أشار الأستاذ سلامة موسى إلى ظهوره في الأدب الإنجليزي عام 1900 ووافقه عليه الأستاذ محمود فانه في رأي (وايت) و (كلي) لم يوجد حقيقة، وان الشعر في هذا العام وما أعقبه من أعوام (من عام 1892 - 1919) قد سرى إليه الضعف، وجهل أربابه (روبرت بريدج، بلانت، وليام ونسون، ارثر سيمون، حنا دافيد سون، كبلنج، هاردي) الغرض منه، فمالوا إلى زخرف القول وتدبيج اللفظ بأنواع البديع وأوغلوا في ذلك حتى قبحت مبانيهم وسمجت معانيهم. وإلى القارئ ما يذكرانه في كتابهما المشار إليه ص211 - 212.
(يرينا الشعر في هذا الدور 1892 - 1919 ضعفا بينا؛ ليس في صور التعبير وآداب النظم، بل في النجابة واتساع أفق التفكير؛ لقد تجنب فيه معظم الشعراء السجايا النفسية وعواطف الحب وفتنة الجمال، فاكتفوا بمغازلة الوداد العائلي، وقراءة أفكار الرجل من غير أن يتعرضوا لخوالج نفسه؛ كانوا أطفالا في تفكيرهم ونظراتهم، قل أن يخوضوا في البحث والجدل والتفسير، بل كان مجرد (التبليغ) هو كل ما تصبو إليه نفوسهم؛ يطربهم الجمال الطبيعي (الفيزيكي) أو أن يكتشفوا في صورة اصطلح الناس على تقبيحها شيئا يدعونه جمالا حقا؛ تقيدوا بأوزان العروض وعانوا طول الدرس ليتمكنوا من تحسين عباراتهم وتطبيقها على ما يتخيلون من التشابيه والاستعارات؛ هم تلامذة (لورد ثورث) نبذوا مثله الأسلوب الشعري ونظموا معظم منظوماتهم غنائية، إنما كانوا يوقعونها على أوتار خرساء، نعم على أوتار خرساء لأنها تقف بمعزل عن الحياة ومسائلها، ولا تدعونا إلى التفكير في سر الوجود والعدم تفكيراً يجعلنا نرى بعين عقلنا العالم أكثر وضوحا. .).
هذا ما رأيت أن أثبته تعقيبا على كلمة الأستاذ محمود الخفيف التي انتقد فيها كتاب (التجديد(63/66)
في الأدب الإنجليزي) تأليف الأستاذ سلامة موسى.
شرق الأردن
بشير الشريقي(63/67)
العلوم
2 - التلفزة في عهدها الأول
للأستاذ محمود مختاربكلية العلوم
جهاز الاستقبال
تحدثت في رسالة سابقة عن جهاز الإرسال للتلفزة. والخطوات التي مرت بها صورة الجسم المتلفز من بدء تحليلها إلى مساحات صغيرة بواسطة القرص المثقب أو حلزون المرايا، ثم إسقاط الأشعة الضوئية المنعكسة من هذه المساحات الصغيرة على التعاقب على خلية كهرضوئية حيث تحولت إلى دفعات كهربائية، ثم تكبيرها فإذاعتها في الأثير.
والآن نحن عند جهاز الاستقبال حيث تصل إلينا هذه الدفعات الكهربائية بعد أن التقطها الهوائي وأرسلها إلى الكاشف اللاسلكي
وتأخذ عملية استقبال هذه الأمواج حتى إخراج الصورة النهائية ثلاث خطوات أيضاً هي بعينها ما يناظر خطوات الإرسال مأخوذة في ترتيب عكسي. فتبدأ أولى الخطوات بكشف هذه الأمواج وفصلها عن باقي الأمواج اللاسلكية المنتشرة في الأثير وتكبيرها. ثم تليها الخطوة الثانية وهي تحويلها من دفعات كهربائية إلى أخرى ضوئية. ثم تأتي الخطوة الثالثة وهي إعادة تركيب هذه الدفعات الضوئية بجوار بعضها لتخرج صورة الجسم المطلوبة.
أما خطوة الكشف والتكبير فهي كنظيرتها في جهاز الإرسال - خطوة التكبير والإذاعة - في المقام الثاني من الأهمية لباحث التلفزة. ويكفي لنا الآن أن نعلم أنها تتم بواسطة دائرة من الصمامات هي بنفسها دائرة أجهزة السمع العادية - ولا داعي للخوض في تركيبها وعملها في مثل هذه العجالة - وكما تؤخذ تلك الأمواج الكهربائية المكبرة في جهاز السمع إلى البوق لتحويلها إلى دفعات صوتية تؤخذ هذه بعد تكبيرها أيضاً إلى المصباح الغازي أو إلى خلية كر لتحويلها إلى دفعات ضوئية، وهذه ثانية خطوات الاستقبال.
والمصباح الغازي ولو أن لفظه ليس مطروقا إلا أنه كثيرا ما تقع عليه أبصارنا على واجهات المحلات التجارية الكبيرة في شكل أنابيب ضوئية كهربائية للإعلانات تأخذ ألوانا مختلفة أحمر أو بنفسجيا أو أزرق أو غيرها. هذه الأنابيب الضوئية ما هي إلا شكل تحور(63/68)
من المصابيح الغازية المستعملة في التلفزة لتحويل الطاقة الكهربائية إلى أخرى ضوئية. وهي عبارة عن انتفاخ زجاجي في حجم الصمام الكهربائي العادي يحوي بداخله غاز النيون أو الآرجون أو بخار الزئبق تحت ضغوط صغيرة جدا تقرب من بضعة مليمترات. وبه قطبان أحدهما الكاثود، ويكون القطب السالب للمصباح وهو عادة على شكل صفيحة رقيقة من النيكل. والثاني الأنود، ويكون القطب الموجب، ويكون عادة على شكل سلك حلزوني أو قضيب قصير يواجه صفيحة الكاثود. وعندما يوصل الأنود بالطرف الموجب لجهد كهربائي عال - حوالي 150 إلى 300 فولت - ويوصل الكاثود بالطرف السالب لهذا الجهد يتوهج المصباح بأحد هذه الألوان التي نراها في أنابيب الإعلانات تبعا لنوع الغاز الموجود به. وأفضل هذه الغازات هو بخار الزئبق إذ يعطي لوناً بنفسجياً فاتحاً. والسبب في هذا التوهج في المصباح هو انبعاث إلكترونات الكاثود - تحت تأثير فرق جهده عن الأنود - وسيرها بسرعة نحو الأنود، ومصادمتها في طريقها بذرات الغاز المنتشرة في المصباح التي تتذبذب سريعا تحت تأثير الصدمة فتتوهج. وربما عن لسائل أن يقول إننا كان يمكننا أن نحول الطاقة الكهربائية إلى أخرى ضوئية بطريقة المصباح المتوهج البسيط المستعمل في الاضاءة، فما هو إلا جهاز لتحويل طاقة كهربائية إلى أخرى ضوئية. والجواب على ذلك: إن عملية تحويل الطاقات في هذا المصباح نشأت من مرور تيار كهربائي في سلك المصباح ذي المقاومة الكبيرة الذي ترتفع درجة حرارته كلما اشتد التيار عليه حتى يحمى فيتوهج. وبمقارنة هذه النظرية في التوهج بنظرية المصباح الغازي السالفة الذكر نرى أنهما يختلفان تمام الاختلاف. ولكن لم فضلنا هذه على تلك؟ ذلك لأن المصباح الغازي يفوق المصباح المتوهج بحساسيته الشديدة للتغيرات الكهربائية، فلو أمر في كليهما تيار سريع التغير لظهرت إضاءة الأول متذبذبة تبعا لذبذبة التيار، على حين تظهر إضاءة الثاني منتظمة مستمرة، لا يلاحظ فيها أي ذبذبة أو تغير، وهذه طبعا ميزة لاستعمال المصباح المتوهج للإضاءة العادية. ولكنها ليست المطلوبة في التلفزة، بل المطلوب هو المصباح الأكثر حساسية للتغيرات حتى يمكنه أن يترجم ترجمة حرفية ما يصله من دفعات كهربائية سريعة التغير خارجة من جهاز الكشف والتكبير. ويوجد سبب آخر لتفضيل المصابيح الغازية، وهو أن الطاقة الضوئية المنبعثة منها تتناسب تناسبا(63/69)
طردياً مع الطاقة الكهربائية الداخلة إليها.
وقد يستعاض عن مصباح الغاز بخلية كر، وهذه فكرة حديثة صائبة، يتوقف عملها على خاصية سائل النيتروبنزين في استقطاب الضوء إذا ما وقع تحت تأثير مجال كهربائي. وربما عدت لشرح هذه النظرية في فرصة أخرى.
والآن بعد أن حصلنا على دفعات ضوئية متعاقبة تختلف شدة وضعفا باختلاف الدفعات الكهربائية المستقبلة من الأثير والتي كان اختلافها يتبع اختلاف نقط الجسم المتلفز نفسه في ضوئها وظلامها، لم يبق علينا إلا أن نعود فنركبها بنفس الطريقة التي حللناها بها، وذلك بوضع كل نقطة في مكان يناظر المكان الذي انبعثت منه على الجسم المتلفز، وهذه هي خطوة تكوين الصور النهائية.
وتتم هذه الخطوة بنفس الجهاز الذي حللها، وهو كما تقدم: إما القرص المثقب أو طبلة المرايا، أو حلزون المرايا. ولأقصر الكلام على القرص المثقب وحده إذ علمنا أن الطبلة أو الحلزون يمكن أن يستبدلا بدون أي تغيير.
فيوضع مصباح الغاز أمام القرص تجاه ثقوبه، ويوضع حاجز في الجهة المقابلة له من القرص ليتلقى الصورة ويدار القرص بنفس السرعة التي يدار بها نظيره في جهاز الإرسال - 12 , 5 دورة في الثانية - ويكون دائما في خطوة واحدة معه، ويخرج المصباح الغازي دفعاته الضوئية المتتابعة، والتي تتم كل دفعة منها عن خواص نقطة واحدة من نقط الجسم المتلفز في لحظة من لحظاته. فتقع على القرص الذي هو صورة مضبوطة لقرص الإرسال في حجمه وشكله وعدد ثقوبه وسعتها وسرعته وخطوته، فيعمل هذا على وضع كل نقطة في مكان على الحاجز يناظر تماما مكانها الذي انبعثت منه على الجسم المتلفز، وبذلك تظهر الصورة.
غير أن العملية لا تتم بمثل هذه السهولة، غير أن العملية لا تتم بمثل هذه السهولة، فنقطة الصعوبة فيها هي إمكان ضبط سرعة دوران القرص بحيث تساوي تماما سرعة دوران قرص جهاز الإذاعة. وظاهر تماما انه لو اختلفت السرعتان ولو اختلافا بسيطا لحصلنا على خيال لا يدل إلا على سحب غير مفهومة من الضوء والظلام. والطريقة الوحيدة لضبط السرعتين هي إرسال دفعات كهربائية ثابتة التردد من مصدر منفصل آخر لا علاقة(63/70)
لها بالجسم المتلفز أو توزيع الضوء أو غيره. بل تتوقف ذبذبتها على سرعة دوران قرص جهاز الإرسال فحسب. وهذه تستقبل عند جهاز الاستقبال بجهاز منفصل أيضاً حيث يكشفها ويكبرها ويسلطها على محرك القرص لتضبط سرعته تبعا لسرعة قرص الإرسال. وهذه طريقة فضلا عن أنها تستلزم جهازي استقبال منفصلين فهي تزيد الإذاعة والاستقبال تعقيدا على تعقيد.
فكر (بيرد) في أن يرسل من نفس جهاز الإذاعة بإشارة يكون ترددها لا يتوقف إلا على سرعة دوران القرص، وذلك بأن جعل شعاع الضوء الخارج من ثقب القرص في جهاز الإرسال عند ما ينتهي من رسم خطه الرأسي من الضوء على الجسم المتلفز لا يبدأ شعاع الثقب التالي له إلا بعد وقت قصير، وهكذا بين كل ثقب وآخر يمضي مثل هذا الوقت الذي يسبب دفعة ضوئية مظلمة في الخلية الكهرضوئية ترددها ثابت ويتوقف على سرعة القرص، أي يساوي 30 12. 5=375 ذبذبة في الثانية، لأن بالقرص ثلاثين ثقبا وسرعته 12. 5 دورة في الثانية. هذه الإشارة ترسل وتستقبل مع باقي دفعات الجسم كأنها واحدة منها، ولكن يمكن فصلها بسهولة عنها، لأن ترددها صغير جدا بالنسبة لتردد دفعات الجسم. وعلى ذلك تفصل عند جهاز الكشف الأول وتأخذ طريقا آخر حيث تكبر ثم تسلط على محرك قرص الاستقبال لتنظم سرعته.
وقد تتساوى سرعة القرصين تماماً، ولكنا نرى الصورة النهائية مشطورة إلى نصفين وينشأ هذا من اختلاف الخطوة. ومن أمثلة اتحاد السرعة واختلاف الخطوة ما نشاهده إذا لاحظنا صمامي عجلتين متشابهتين في دراجة مثلا أثناء سيرها. كلتا العجلتين تسيران بنفس السرعة، ولكن ذلك لا يستلزم أن يأخذ صماماهما موضعين متشابهين تماما. فهما في هذه الحالة متحدتان في السرعة ومختلفتان في الخطوة. واختلاف الخطوة هذا هو ما يسبب شطر الصورة وأظن ذلك واضحا بقليل من التفكير.
وبالرغم من كل هذه المجهودات الجبارة مازال جهاز التفلزة للاستقبال محروما من دخول المنازل. وبالرغم من نجاح التجارب التي عملت عليه حتى الآن نجاحا كافيا، فان الأجهزة مازالت على شئ من التعقيد وصعوبة التداول لشخص عادي. والعالم بطبيعته يرغب في البساطة بقدر الإمكان كما يتمنى أن يتخلص - في منزله على الأقل - من الأجهزة ذات(63/71)
المحركات الميكانيكية. فهو يأمل في جهاز للتلفزة له سهولة جهاز السمع في استعماله. فهل يقف العلم دون ذلك؟؟. . . .
قريبا سوف يتحقق له ما يريد. فمذبذب أشعة الكاثود على الأبواب والجميع ينتظره. وآمل أن آتى على ما وصل العلم فيه في رسالة قادمة.
وقبل أن أختتم هذه اللمحة عن التلفزة أريد أن أنوه ببعض نواح مختلفة تخرج عن مجرد إرسال صور أو أشخاص.
أولا: التليتوكي وهي تلفزة أفلام سينمائية ناطقة كما تذاع الاسطوانات الموسيقية. ولنقدر من الآن ما سيهدد دور السينما بانتشار هذه التلفزة.
ثانيا: التلفزة في الظلام أو وذلك باستعمال الأشعة تحت الحمراء بدل الضوء العادي. وستكون هذه ساعد البحار الأعظم لخوض البحار المجهولة في ظلام حالك، وكأنه في وضح النهار. كذلك في الحروب سوف تمكن هذه من رؤية حركات العدو وسكناته وهو في ظلام حالك بدون أن يشعر.
ثالثا: التلفزة بالألوان الطبيعية، وذلك باستخدام قرص ذي ثلاث لفات من الثقوب مغطاة بثلاث زجاجات شفافة ملونة بالألوان الأحمر والأزرق والأصفر. واستعمال ثلاث خلايا كهرضوئية وثلاثة مصابيح غازية كل منها يعطي أحد الألوان السابقة.
رابعا: التلفزة المجسمة أو عرض الصور مجسمة بدل أن تكون في مستوى واحد.
خامسا: حاكي التلفزة - وكما يدل عليه أسمه هو جمع ما بين الحاكي) الجرامفون) والمتلفز. وهو إشراك الصور وحركات الأشخاص مع حديثهم وموسيقاهم على اسطوانة واحدة من اسطوانات الحاكي. بحيث برى وتسمع في آن واحد.
محمود مختار معيد بكلية العلوم(63/72)
القصص
من صور الحياة - قصة واقعية
ظمأ الروح
(مهداة إلى:
للأستاذ عبد الحليم عباسي
كان فتى خيالي النزعة، أغرته هذه الأفكار السوداوية، فاندفع فيها، لا يرى أن الحياة تتسع لغير هذا الشقاء يعلق بها من مفتتحها إلى حيث الحد بين الدنيا والآخرة، ومضى تعبث الكآبة بناضر شبابه، إلى أن غدا وهو في ميعة العمر. ناحل القد، حائل اللون، رطب الجفن كأنما علق به أثر من أدمع البارحة. . وإذا ما أصغيت إليه وهو يتحدث أسرتك هذه الغنة في صوته، وهذا العمق في أفكاره، ورحت تعجب كيف يستطيع هذا الظل حمل كل هذه الشجون؟.
عرفته في بلدة الجمال - الشام - فقامت بيننا صداقة موثقة العقد، متينة الأواصر، يشوبها الإجلال من جانبي، والرثاء من جانبه، فقد كنت في نظره واحداً من هذه الملايين التي تتعثر بآمالها، وتتمرمر بأمانيها، وغبرنا على هذا زمناً إلى أن فرقت بيننا دواعي الحياة، وبقي خالداً في فكري، خالداً في روحي، ومضت سنون لم نتلاق فيها، إلى أن جاءتني منه هذه الرسالة أثبتها للقارئ، ففيها قصة طريفة:
يا صديقي:
ما كنت أظن أن كلامك يكون جداً وأنت تهزل، فلقد اعترضتني هذه - الجنية - التي شد ما حدثتني عنها، واستطاعت أن تلامس حياتي بعصا سحرها، فتغير منها. . ثم تمر بأناملها الجميلة على أجفاني فأغدو أبصر وأرى أن هذا الوجود ينطوي على أشياء كثيرة جميلة.
. . . وتفصيل الخبر أني هبطت هذا البلد، وشدتني إليه ضرورات لا أستطيع الإفلات منها، ومرت الأيام والشهور متشاكلة متشابهة، وقد كنت لا أزال أسدر في كآبتي، وأتخبط في مآتي أشجاني، حتى كان يوم اللقيا بهذه الساحرة، فكأنما بعثت خلقاً جديداً، واستطاعت(63/73)
أن تنقي حياتي من كل هذه الأفكار الشائكة. . . فلقد كانت تكبرني بأعوام، وكانت تكبرني بهذه الأفكار نقتها التجارب وأخلصتها من كل خطل، وشاء الدهر الساخر أن يكون بين أبي وزوجها علاقة. . . وزوجها هذا - غفر الله له - ليس له ميزة من علم أو جاه.
غير هذا الجاه الرخيص الذي تبعثه المادة، وهو يجمع بعد إلى قبح الجهل، دمامة الشكل، وسمح لي أن أتردد إلى بيته، وراقه أن يجد أن زياراتي تبعث في زوجه روح الغبطة والسرور، فينضر فرعها الذابل، وتدب الحياة في روحها الرازح تحت هذا الألم الحبيس الذي يعج في صدرها. . . وكأنه كان يشعر أن بينه وبينها عدا فارق العمر، تبايناً في الروح والفكر. .
وكنت أشعر وأنا أتردد إليها أني أقاد إلى الهاوية، فهذا الصوت الهادئ المتزن، يعيد إليك ذكرى لذة غابرة، وهذه العين غرقى في صفائها تغازل النور، محال أن يقوى على ندائها روح يتعشق الجمال. . . ولقد كنت قادراً على أن أكتمها حبي، وما حاجتي إلى الإفضاء به، وأنا لا أطلب أكثر من أن أجلس إليها ساعات ترفه عن روحي، وتغذي مشاعري، غير أنا في إحدى جلساتنا، وقد تشعب بنا الحديث، وأخذت علينا الغبطة يقظات الإرادة، سمعت صرخات روحي في داخل البدن. . . أنني في حاجة إلى الامتزاج بها، إلى الفناء في ذاتها، وكأنها أحست بما أحسست به فالتحمنا بالنظر. وقالت عينها، لا حاجة إلى الثورة - إني أحبك - فأجابت روحي من عيني - وأنا أحبك - ولكن عينها عادت فقالت إني احتقر ملذات البدن، فلا تطمع بها، فقلت وأنا أحتقرها، لقد مللتها، إن روحي هي الصادية.
وفي تلك الجلسة أعلنت لها حبي، وباحت لي بمثله. . . . .
ومن ذلك الحين، أصبحت لا أقوى على فراقها، ولا أطيق الابتعاد عنها دقيقة، ولقد تعاظم أو تضاءل الوجود - لا أدري - فأصبحت هي كل شئ فيه، واستقر حبها في أعماقي ناراً، فغدوت بجانبها أحترق.
ومرت الأيام مفعمة بالهناءة، فكنا نلتقي كل يوم، لا أرتوي من هذه الكلمات تند عن هذه الشفاه الجميلة، ولاأشبع من النظر إلى هذا المحيا الذي يبعث إليك في كل لمحة فكرة تحمل معاني الرضى عن الحياة. . .
وأشهد أن جمالها أدناني كثيراً من حمى الله. . وارتفع بنفسي إلى عالم أندى من عالمنا(63/74)
هذا، يرى منه الإنسان مبلغ ما تتردى فيه الخلائق من سخافات، ومبلغ ما تنطوي عليه البشرية من حماقة.
وكنا نتخير من الأمكنة أهدأها، ونهرب بسعادتنا بعيدين عن الضوضاء والصخب، وكأنها وهي ترقى القمم، أو تنساب معي إلى الوادي دنيا من الفتنة تتحرك. . على أن هذه التشابيه والصور كانت تجيش بنفسي ولا أجرؤ على إسماعها إياها. . . فهي لا تسمح لي أن أصور تموجات النسائم على غدائرها، ولا كيف تفتضح الموسيقى والشعر، قبالة ضحكتها وبسمتها، ولقد سألتها مرة عن سر هذا الامتعاض، فقالت: ذلك أن الجمال ليس في الشكل، وإنما هو فيما وراءه. . على أن في كلامك غلواً، قلت: نعم ولا، الجمال في ما وراء الأشباح، وليس في كلامي غلواً، وكذا أنت ترين أن جمالك أمثل من أن نتطاول إلى وصفه، فصمتت ثم قالت: دع هذا وخذ في غيره.
قلت: فليكن فقد يجر إلى ما أخذنا على أنفسنا العهد بالابتعاد عنه. . . ثم تأخذ الحديث بلباقة وتديره على الوجه الذي تريد، مبتعدة فيه عن كل ما من شأنه أن يستثير فيك هذا الذي يطمع فيه عباد البدن. وهي إذ تحدثك لا تجهد في إقناعك، بل تلقي الفكرة موجزة واضحة، ثم تتركك تتخيل، وتقيس وتقارن، ولك أن توافقها أو تخالفها فهذا ليس بالشيء المهم، وإنما المهم أن تفكر!.
شارف العام أن ينتهي، وأنا لا أزال في غمرة حبها أضوي جسماً، وأنمو فكراً وإحساساً، أصبحت شغلي الشاغل، لقد لهوت عن العالم، ونسيت أن به خلائق يعز عليها أن ترى آلافاً تمتزج بالمحبة، وتلتحم بالروح، حتى كان اليوم الذي سحق فيه قلبي، وتحطمت كأس سعادتي، فقد جئتها في عصاراه كالعادة، لنذهب إلى نزهة اتفقنا عليها، فجلست إليها ريثما تنهي عملها، وتصلح من شأنها، ولكني أوجست خيفة، وأنا ألاحظ عليها أثر اضطراب تحاول إخفاءه، ثم رأيتها تتحفز للكلام، وبعد لأى استطاعت أن تجمع شتيت إرادتها فقالت:
أصغ إلي. . . . . . . قلت: كلي آذان. . . . .
قالت: أو لم تسمع؟. . . لقد أكلتنا الألسنة!.
قلت: لا أدري ما تقصدين؟ قالت: ستدري. إن هذه البشرية المتمرغة بالخسة، المتهفتة على الساقط من اللذة، لا ترى من الممكن أن تقوم علاقة بين متحابين، لا تمت إلى هذه الأسباب(63/75)
الدنيا، ولا تنبع من هذه المنابع الآسنة التي منها يستقون علاقاتهم.
قلت، وقد قام بنفسي أن أداري ألم الصدمة: ليكن هذا فخلهم وصغائرهم، فما تصاحبنا لبذل في الخلق.
فوجمت قليلاً، ثم قالت: ليس عن غباوة تتكلم، وعاجلتها دموعها، وقد والله يا صاح رأيت أنواعاً من الدمع، فما رأيت أشجى ولا أبعث للأسى من دموع هذه الحسناء البريئة المظلومة، إنها بهذه القطرات تحاول أن تستنطق العناصر وتستشهدها على طهرها وظلم الإنسان.
قلت: هوني عليك أو بلغ الأمر إلى هذا الحد؟!. . .
قالت: أجل! ومن حين وأنا أكتمك إياه، وزوجي وأقرباؤه لقد طلبوا مني أن اقطع معك هذه العلاقات، انهم يرونها خطرا على كرامة الأسرة، وغدا يسافر بي إلى بلد ناء كتم عني أسمه وإخاله لن يعود إلا متى رحلت!!. . . . .
ودارت بي الأرض الفضاء وصرخت كالمذعور:
محال هذا، إنهم يملكون منك الجسد، أما الروح فهو وقف على محبتي، لن أدعهم - وأنا قادر - يحطمون كأس حياتي. .
كيف يفصلونك عني؟! أيفرق الروح عن الجسد دون أن يتقوض؟. . . .
ثم كانت ساعة افتضح فيها جلدي، فطفقت أبكي، لقد بكيت كثيراً، وما صحوت إلا وهي تضمني، وتبللني بمدمعها، ثم طبعت على فمي قبلة، طبعت على فمها مثلها، هي أنل وآخر قبلة، هي أثمن ما أمتلك من ذكرى. .
ومالي أشق عليك، لقد انتزعوها مني كما ينتزع الطفل عن ثدي أمه، لقد ذهبوا بأجمل حياتي، وموئل ذكرياتي.
لقد كانوا قساة، فلم يرحموا غرباء جاءوا دنياهم على عجل، ويمضون كما جاءوا.
لقد ذهب معها الصبر، فأصبحت هذه الدنيا في نظري كشراك الطائر ضيقة قفراء من كل ما يلهم العزاء.
وأنى لي أن أحمل كل هذه الدنيا من الأوصاب، فسقطت مريضاً خائر القوى، ولي هاهنا - بالمستشفى - شهران لا أبل إلا لأنتكس. .(63/76)
وقد جاءتني بالأمس منها كلمة هي: (إلى الملتقى. .) إذن فهي تعرف أني بالمستشفى، بدليل أنها كتبت العنوان ورقم الغرفة، فخبرني أين تكون لقيا المرضى. . وأكبر ظني أنها مثلي مريضة.
إن الدنيا أضيق من أن تتسع للقيا القلوب الطاهرة.
إلى الملتقى. . حيث يتبع الحسن دون رقيب، وحيث تروى القلوب الظامئة إلى الجمال. . . إلى الملتقى. . . إلى الملتقى. . .
شرق الأردن
عبد الحليم عباسي(63/77)
الكتب
القيثارة السارية
لطاهر محمد أبو فاشا
قرأت ديوان هذا الشاعر الشاب فأعجبني منه تنوع موضوعاته وراقني هذا النشاط الذي يبدو في قصائده، وهذه الحركة التي تنتقل به من الوصف إلى نقد بعض مظاهر الاجتماع.
بيد أني أصارح شاعرنا بأنه قليل العناية بتهذيب شعره وإحكام قوافيه، فإن في قصائده بعض العيوب اللفظية وبعض المجازات والأخيلة التي لا يستسيغها الذوق، كما أني ألاحظ على الشاعر الفاضل أنه شغوف بالتلاعب بالألفاظ، يتدفق في غير روية، وعهدي به سليم الذوق سريع إلى معرفة مواضع الجمال فيما يقرأ من الآثار الأدبية، وليت شعري كيف تنسب مثل هذه الأبيات إلى من كانت هذه صفاته إلا أن يكون أساس ذلك الإهمال. أنظر إليه يقول:
وأني قد دعوت وبح صوتي ... وأنك لا ترق ولا تجيب
وانظر إلى قوله:
اهدمي مهجتي بصبرك هدما ... واسألي الحب في الفؤاد المهدم
وإلى قوله:
أنا بين هاتيك الحمام حمامة ... تصف الشعور بشعرها الرنان
المرء يقتله الشعور وربما ... هز الشعور الميت في الأكفان
وانظر إلى قصيدته في ملكة الجمال عند سفح أبي الهول:
يكاد أبو الهول لولا الجلال ... يعربد مما رأى حوله
وكم سبع قد من صخرة ... يحب الجمال ويصبو له
وأوهمها أنه كالجماد - لتأمنه فتطيل الوقوف
ولولا مخافته أن تخاف ... لقام يدق لها بالدفوف
إلى غير ذلك من الأخيلة التي نحب أن يخلص منها شعر طاهر إن شاء الله.
الخفيف(63/78)
همام
قصة تمثيلية شعرية لعلي أحمد باكثير
ناظم هذه الأقصوصة أديب حضرمي تعجبك فيه براعة نظمه وعربية ديباجته، ويحمل بين جنبيه قلباً يخفق للعروبة التي خالطت دماءه كما يتبين لك ذلك من مقدمته النثرية التي يقول فيها (والشعب الحضرمي شعب عربي صميم تجري في عروقه دماء قريش وهمدان وحمير وكندة ومذحج) وتدور القصة حول محور واحد، ألا وهو حفلات الزواج في عاصمة الأحقاف. . . والناظم ممن يتشيعون لتعليم البنت فيقول على لسان همام (ص5)
صار فرضاً عليك أن تنشري هـ ... ذا الهدى في جماعة النسوان
فهدى الشعب من هدى أمهات ... الشعب في كل موطن وزمان
ويقول في موضع آخر في هذا الموضوع نفسه على لسان فتاة:
فيم غادرتم البنات علىجَهْـ - ل وقمتم تعلمونّ البنينا
كيف نستطيع بالجهالة يوماً ... أن نؤدي أمانة الله فينا
والناظم يجيد الوصف ويحسن التصوير مما يدل على ذوق محمود، ومقدرة قوية في رسم ما تقع عليه عيناه، فيقول مصوراً الشاي في الكأس:
لولا انتصاف الكأس خيل أنها ... في كف ساقيها تقوم بذاتها
ويسوؤه أن يرى الألاعيب والمهازل تمثل في وطنه تحت ستار الدين وهو برىء من تلك الأفاضيح الساقطة، ويهزأ برجال الدين الذين يدعون أنهم يذودون عن حياضه، ويدافعون عن بيضته وهم أبعد الناس عنه، فيسخر بهم قائلاً:
ولي الله ذو الحب ... وة والأردية الخضر
وذو المسواك في العمة ... قد أربى على الشبر
ورب المسبحة الغارق ... في التسبيح والذكر
بها يذكر في الناس ... ولا يذكر في السر
والأقصوصة على هذا المثال البديع من النظم التقليدي، وهي في أسلوبها وفنها أروع منها في روحها ومعناها، وهناك هفوات كنا نود أن يترفع عنها الناظم كما في قوله:
يوه ما أجملها من فتاة ... يوه ما أصلحها لهمام؟(63/80)
صلوات الله تغمر طه ... وحماها الله من عين رام
ومثل المبالغة الممجوجة في قوله يصور الحب:
ولقد لقيت به دواهي لو ... رُعْنَ الجبال تركنها تربا
ومن حسن الحظ أن مثل هذه الأبيات قليل، ولا يشين أقصوصته مثل هذا المغمز، وإنا لنهنئه على ذلك خاصة وهو ما زال في غضارة الصبا وميعة العمر.
م(63/81)
تربية الطفل
للدكتور شخاشيري
وهذا الكتاب أيضاً من الكتب التي نتناولها في غبطة وإعجاب، فما أحوجنا في حياتنا الاجتماعية إلى مثل هاتيك الكتب القيمة التي تبحث في الصحة وعلى الأخص ما يتعلق منها بالطفل.
والكتاب الذي أحدثك عنه قد سار على نهج فريد، فهو سلسلة أحاديث موضوعة على طريق الحوار بين طبيب وإحدى الأمهات، ويتناول كل حديث ناحية من نواحي حياة الطفل كتغذيته ونظافته وخصائص الأطعمة الصالحة له، وما يطرأ عليه من الأمراض. . . . . الخ مما جعل الكتاب سهل المأخذ بعيد المرمى، خفيف المحمل، هذا إلى علم واسع وتفاصيل دقيقة ما أجدر الأمهات والآباء أن يستوعبوها لخير أطفالهم، ولقد أضاف الدكتور الفاضل إلى الكتاب نص محاضرته التي ألقاها في دار جمعية الحشرات الملكية في مؤتمر المجمع المصري للثقافة العلمية وموضوعها التأمين على صحة الطفل، كما أختتم الكتاب ببعض الآراء القيمة في موضوع الطفولة لثلاث من فضليات المربيات، وإنا لنشكر للدكتور الفاضل عمله الإنساني وإخلاصه الذي يتجلى في كتابه للطفل ووالديه.
الخفيف(63/82)
أدولف هتلر
زعيم الاشتراكية الوطنية مع بيان المسألة اليهودية
تأليف أحمد محمود الساداتي بدار الكتب
كتاب يقع في نحو مائة وستين صفحة من القطع المتوسط جيد الطبع، متين الورق، وضعه مؤلفه الفاضل ليشرح به حركة من أهم الحركات التي تشغل بال العالم الآن، وإنه ليسرنا أن يكون بين إنتاجنا الأدبي ما يشهد باهتمامنا بتلك الحركات الشعبية التي تخرج عنها المطابع في الغرب مئات الكتب، وإن هذا الكتاب الذي أحدثك عنه ليزيد في اغتباطنا أنه بحث منظم واف بالغرض تقرؤه فتقف على الأحوال السائدة في ألمانيا اليوم وموقف حركتها الوطنية من العالم، ولقد أحسن المؤلف جدا بما أورده من مقدمات تاريخية عن ألمانيا منذ عهد تأسيس الإمبراطورية إلى الحرب العالمية، ثم بما قام به من شرح المسألة اليهودية، وشرح النازية وبرنامجها وروحها والشيوعية في ألمانيا وموقف النازية منها إلى غير ذلك من الأبحاث الوافية، وليس ثمة ما يؤخذ على المؤلف الأديب سوى تحمسه لهتلر تحمساً ظاهراً، كاد أن يفقده في بعض المواضع اتزان المؤرخ وإنصافه، وفيما عدا ذلك فالكتاب يشهد بمجهود محمود، وهمة مشكورة. .
محمود(63/83)
ديوان صالح جودت
أتممت قراءة هذا الديوان لشاعرنا الشاب، فأحسست بروح لطيفة ونبرات ساحرة هادئة تظن في أذني، وأشهد لقد أعجبتني موسيقاه وصفاء ديباجته، ولكني عدت فنظرت في بعض القصائد نظرة تمحيص وتعقيب فوقعت عيني على بعض الأخطاء اللغوية وصدمتني بعض القوافي، ولو أن شاعرنا قد عني بنظمه أكثر من ذلك لكان لقصائده شأن غير هذا الشأن، ففيها روح وفيها شاعرية لا يمكنك أن تنكرهما عليه، بل إن شاعريته لتستميلك حتى ولو لم تكن ممن يقبلون على الشعر، هذا وإني لأنكر عليه وأعاتبه في شدة على تلك النزعة الطائشة التي جعلته وهو ذلك العصفور الغريد الوديع يضطرب في أجواء خانقة ويتعثر في أشواك موبقة، ما كان أغناه عنها، فإنه في الحقيقة لم يرجع بطائل ولم يفد شيئاً، ولعله كان في نزعته تلك متأثراً بقراءته أو مقلداً لغيره، فانك لا تجد في تلك القصائد التي جرته إليها المغالاة، تلك الروح العذبة الرقيقة، ولا تلك النغمة الهادئة الساحرة، التي تجدها في باقي قصائده. والخلاصة أن شعر صالح جودت كالذهب، ولكنه (خام) لابد أن يستخلص مما يعلق به من الأوشاب.
الخفيف
المرافعات والتوثيقات الشرعية
عني فضيلة الأستاذ الشيخ علي قراعة رئيس محكمة الزقازيق الابتدائية الشرعية بوضع (كتاب الأصول القضائية في المرافعات الشرعية - وكتاب مذكرة التوثيقات الشرعية) استوعب في الأول طرق القضاء وقواعد المرافعات الشرعية، وفي الثاني كل ما يلزم الموثق والموثقين في كتابة الإشهادات المنوعة وصور الدعاوي الشرعية، والوثائق المختلفة، مما لا يستغني عنه موظفو المحاكم الشرعية، وطلاب الحقوق، وأقسام التخصص في القضاء الشرعي، ويكون مرجعاً للقضاة والمحامين ومدرسي القانون والشريعة، ويطلبان من المكاتب الشهيرة.(63/84)
العدد 64 - بتاريخ: 24 - 09 - 1934(/)
طغيان النيل
على الشاطئ الغريق. . .
هكذا الطغيان يا نيل يجعل مصدر الحياة مورد هلكة، ومنبع الخيرات مغيض بركه، وأصل العمارة غاية دمار وخسر!!
هذه شواطئك الخضر يا نيل كانت بالأمس تتنفس بالنعيم، وتتدفق بالخير، وتترقرق بالجمال، فأصبحت اليوم تختنق بالأخطار، وتلتطم بالمخاوف، وتهدد الحقول الغنية الخصيبة بالفاقة والجدب، وهذه مدنك البيض وقراك السمر كانت تتفيأ على ضفافك ظلال الخفض، وترمق من خلال النخل أمواجك المرسلة المسلسلة، وهي تقع بين القصب الألف ألحان الثراء والغبطة فتعز بك وتقدس لك، فأصبحت تحشد في وجهك الجنود، وتقيم بينها وبينك السدود، وتضرع إلى الله أن يصرف عنها طغيانك وجورك! وهؤلاء أبناؤك الوادعون كانوا يتعهدون بالعمل الدائب غرسك الزكي وثمرك الغالي، فيدفعون الحشرات عن القطن، ويدرؤون الطفيليات عن الذرة، ويسلسلون في الحقول نضارك الذائب، ويستقبلون بالشوق الأمل موسمك الآئب، فأصبحوا هم من هولك قائمون على رجل، لا يستقر لهم جنان من الروع، ولا يطمئن بهم مجلس من الجزع، ثم أمسوا وهم محشودون بقوة السلطان على جانبيك، من أسوان إلى مصبيك، يدافعونك مدافعة العدو، ويكافحونك مكافحة الوباء، ويكابدون في صد غارتك الجهد والجوع و (السخرة)! ذلك والقرويات ينتظرن بالقلق الجازع الغرق المخشي، ويرصدن الأهبة للهجرة المتوقعة، فهن يجمعن المتاع، ويشددن الغرائر، ويلقين النظر الحزين على القطن المكتهل على اعواده، والذرة الناشئ على سوقه!. وهكذا الطغيان يا نيل السكينة في القلب، ويفزع العدالة في الدولة، ويجعل سلام الأرض وسلامة الناس لمشيئة فرد!! وقفت منذ أيام على شاطئ من شطئانك المنكوبة، أرسل طرفي الساهم في تيارك الجارف، وداراتك المدومة، ولحجك الفائرة، ثم أرده إلى السواحل الغصانة والمزارع الغرقى، وفكري بين هنا وهناك يستقبل الذكريات القديمة، ويستخرج المشابهات الأليمة. فذكرت بهذا المنظر المحزن ترة بيني وبينك موروثة! فقد طغيت في عام 1878 على قريتي الصغيرة، فاحتملتها هي ومئات من أمثالها كما يحتمل السيل الدافع أكوام الهشيم! وكان قومي قد سمعوا بانفجارك على مقربه من(64/1)
سمنود، وبيننا وبينها عشرات من الأميال، ولكن ماءك الطاغي نحر هذا المفيض حتى انحدر فيه مجراك كله، فلم يكن بين السماع والرؤية إلا ريثما جزموا المتاع وشدوا المطايا، ثم أدركهم فيضانك قبل الرحيل، فتركوا الأرزاق وطلبوا النجاة. فحمل الكبار الصغار، والطوال القصار، والنساء الأطفال، ومضوا يتحسسون الطرق وتحت الماء، ويتلمسون المصاعد فوق الارض، حتى بلغوا - وما كادوا يبلغون - ساحل نهر (شبين)، وهو على بضع دقائق من القرية، وهنالك وقف المهاجرون على الشاطئ العالي بين البحرين، يودعون بالنظر العبران قريتهم الهالكة، والماء يغيب الدور ويبتلع الشجر، حتى لم يبق ظاهرا منها الا شرفات بيت الله، وغرفات بيت العمدة. ثم تمزقوا في البلاد يطلبون المأوى عند ذوي القربى أو عند أولي المودة، حتى أنحسر الماء فعادوا، واستأنفوا عمارة القرية فعادت ثم لا يزالون يؤرخون الحوادث بهذه (الغرفة)، ويهولون في أحداث تلك الهجرة، ويستعدون كل عام لطغيان النهر، قبل أن يئون أوانه بشهر! وهكذا الطغيان يا نيل يفرق الآلاف، ويشتت الوحدة، ويوهن بين الأوداء أسباب المودة! يطغى الحكم كما طغيت يا نيل فيجرف السدود، ويتعدى الحدود، ويتخطى الحواجز. ثم يدور بالتجسس، ويفور بالإرهاب، ويقذف بالتهم، ويسخر قوى الدولة وموارد الأمة ومرافق الناس لسلطان أمره وطماح نفسه ونفاذ حكمه. وأصل الطاغية كان مثلك يا نيل فياض اليد فقدسه الناس، جارف التيار فاتبعه الشعب، ثم ناصرته شهوته الخاصة، وساعدته غفلة العامة، فرد أهواء النفوس إلى هواه، وشورى العقول إلى رأيه، وحدود القوانين إلى أرادته، وسطوة الجماعة إلى يده، ثم تفيض هذه القوى المتجمعة عن طاقة الفرد فيطغى، ويزيد السلطان المفرط على غرور الإنسان فيتأله، ويومئذ لا تسأل عن حدود الله كيف تطمس، ولا عن رسوم العدل كيف تدرس، ولا عن حقوق الناس كيف تسفه، ولا عن نظام الأمر كيف يتبدد، ولا عن جموح الأثرة كيف يبغى ويتحكم.
وهكذا الطغيان يا نيل يعطل منابع الخير، ويبدل طبائع الفطرة، ويقتل مواهب العقل، ويغمر بالظلام آثار العلم ودلائل العقل وشواهد الكفاية.
ويطغى الأدب كما طغيت يا نيل فلا يكترث للقواعد، ولا يعوج بالأصول، ولا يحفل بالمنطق، ولا يأبه للخلق، ثم يرغي بالبذاء، ويزيد بالهراء، ويطفح باللغو. وكان الأدب(64/2)
الطاغي مثلك يا نيل عذب الشمائل، سهل الشريعة، فروى الناس من نبعه، وبردت أكبادهم على نداه. ثم أنتكس المجتمع، وانقلبت الأوضاع، وفسدت المقاييس، استفاضت الدعوى، وتبجح الغرور، وأستبهم الأمر، فرأى سلاطة اللسان أجدى عليه من براعة الذهن، والتواء الفكر أنفع له من سلامة القياس، ولؤم الوقيعة أشد لسلطانه من كرم النفس، وشهوة الجدل أقرب إلى قلبه من حب الحقيقة. وفي العهود التي تسطو فيها اليد ويستخذى القانون، يسلط فيها اللسان ويستكين المنطق! ثم يمكن لمثل هذا الطغيان تكرم الأدباء عن مقام المسافهة، ضنا بأخلاقهم على الغمز، وبإحساسهم على المضاضة وفي التاريخ السياسي والأدبي يا نيل أمثال وأشباه! ولكنها تنحسر كلها عن جوهر الحق، ومحض الخير، ولباب الجمال، كما تنحسر أنت عن هذه السواحل والجزر والقرى، بحكم الطبيعة ومشيئة الله!
أحمد حسن الزيات(64/3)
أستنوق الجمل. . .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال الشاب: لا قبل لي بهذا التعب المعنى الذي يسمونه (الزواج) فما هو إلا بيت ثقله على شيئين: على الأرض، وعلى نفسي، وامرأة همها في موضوعين: في دارها، وفي قلبي، وما هو إلا أطفال يلزموني عمل الأيدي الكثيرة من حيث لا أملك إلا يدين أثنتين، وأتحمل فيهم رهقا شديدا كأنما أبنيهم بأيامي، وأجمع هموم رؤوسهم كلها في رأس واحد هو رأسي أنا، يولد كل منهم بمعدة تهضم لتوها وساعتها، ثم لا شئ معها من يد أو رجل أو عقل ألا هو عاجز لا يستقل، متخاذل لا يطيق ولا يقدر.
قال: وإذا كان أول الزواج أي عسله وحلواه أنه امرأة تذهب عزوبتي - فأنا وأمثالي ما نزال في عسل وحلوى، ولكل وقت زواج، ولكل عصر أفكار، وما أسخف الليالي إذا هي ترادفت على ضرب واحد من أحلامها، فهذا يجعل النوم حكماً بالسجن عشر سنوات. . .!
قال: وإذا أردت أن تستكشف القصة فأعلم أننا نحن العزاب قوم كرجال الفن، رذيلهم فنية، وفضيلهم فنية، فتلك وهذه بسبيل، وكل شئ في الفن هو لموضعه منه لا من غيره، فإذا قلت: هذا خال من الفضيلة عار من الأدب، وعبت الفن لذلك - فما هو إلا كعيبك وجه المرأة الجميلة لأنه خال من لحية. .! هات الظلام سواده، فانه لون كالنور وإشراقه، لا بد من كليهما، إذ المعنى الفني في تناسب الأشياء لا في الأشياء ذاتها، ويد الفني كيد الغني، هذه لا يقع فيها الذهب إلا ليتعدد ثم يتعدد، وتلك لا تقع فيها المرأة إلا لتتعدد ثم تتعدد، وفي كل دينار قوة جديدة، وفي كل امرأة فن جديد.
قال: ومذهبنا في الحياة أن نستمع بها ضروبا وأفانين، من أطلق أنواعاً لم يقتصر على نوعين، ومن قدر على نوعين يرض الواحد، ولو أن زوجة كانت من أشعة الكواكب أو من قطرات الندى لثقل منها على حياتنا ما يثقل من الحديد والصوان، إذ هي لا تلد أشعة الكواكب ولا قطرات ندى، وحسب الجسد برأس واحد حملاً.
قال: ومن الذي تعرض عليه الحياة سلامها وتحياتها وأشواقها في مثل رسالة غرام ثم يدع هذا ويسألها غضبها وخصامها ولجاجتها في مثل قضية من قضايا المحاكم، كل ورقة فيها تلد ورقة. .!(64/4)
ثم قال الشاب: لا تحسبن أن المرأة هي السافرة عندنا، ولكن اللذة هي السافرة، وما أحكم الشرع! أقول لك وأنا محام يقرر الحقيقة: - ما أحكم الشرع الذي لم يرخص في كشف وجه المرأة الا لضرورة، فأن الواقع في الحياة أن هذا الكشف كثيرا ما يكون كنقب اللص على ما وراء النقب، وإذا كسر ما فوق القفل من الخزانة المكتز فيها الذهب والجوهر فالباب الحديد كله سخرية وهزؤ من بعد. .!
هذه عقلية شاب محام طوى عقله على الكتب القانونية وطوى قلبه على مثلها من غير القانونية. وليس يمترى أحد في أنها عقلية السواد من شبابنا المثقف الذي لبس الجلد الأوربي. ومن البلاء على هذا الشرق أنه ما برح يناهض المستعمرين ويواثبهم غافلا عن معانيهم الاستعمارية التي تناهضه وتواثبه، جاهلا أن أوربا تستعمر بالمذاهب العلمية كما تستعمر بالوسائل الحربية، وتسوق الأسطول والجيش، والكتاب والأستاذ، واللذة والاستمتاع، والمرأة والحب. ولو أن عدوا رماك بالنار فاستطارت في ثيابك أو متاعك لما دخلك الشك أن عدوك هو النار حتى تفرغ من أمرها. فكيف لعمري غفل الشرقيون عن أخلاق نارية حمراء يأكلهم بها المستعمرون أكلا كأنما ينضجونهم عليها ليكونوا اسهل مساغاً، وألين أخذاً، وأسرع في الهضم. لم افهم انا من كلام صاحبنا الشاب ومعانيه الا أن أوربا في أغصابه، وأما مصر ونساؤها ورجالها فعلى طرف لسانه لا تكون إلا صيحة، وليس بينه وبينها في الحياة عمل إلا من ناحية لذته بها، لا من ناحية فائدتها منه.
وتلك المعاني كلها مشتق بعضها من بعض، ومرجعها إلى اصل واحد، كالأمراض التي يبتلي الجسم
يمهد شئ منها لشيء، ما دامت طبيعة هذا الجسم زائفة أو مختلة، أو متراجعة إلى الضعف، أو ذاهبة إلى الموت.
وأولئك شبان وقف بهم الشباب موقف بلاده، فلا يخطر إلى الرجوله، ولا يكمل بنموه الاجتماعي كما يكمل الجل الوطني، فمن ثم يكون خواراً لا يستطيع أن يحمل أثقالا مع أثقاله ويستوطئ العجز والخمول فلا يكون إلا قاعد الهمة رخو العزيمة، قد استنام إلى أسباب عجزه وتخاذله، ولا يكون في بعض الاعتبار إلا كالمريض يعيش بمرضه حميلة على ذويه ضجعة لا يمشي، ثومه لا ينتهض، مستريحاً لا يعمل.(64/5)
وبهذه المكسلة الاجتماعية في الشبان يبدأ الشعب يتحول من داخله فينصرف عن فضائله ويتخذ في مكانها فضائل استعارة يقلد فيها قوما غير قومه، ويجلبها لبيئة غير بيئته، ويقسرها على أن تصلح له وهي فساد، ويكرهها على أن تنفعه وهي ضرر، وتلك حالة يغامر فيها الشعب بكيانه فلا تلبث أن تصدعه وتفرقه،
ولو أن في السحاب مطراً وغيثاً لما كان له في كل ساعة لون مصبوغ، ولو أن في الشباب دينا لما صبغته تلك الاخلاق الفاسدة، وما ذهاب الحارس عن مكان إلا دعوة للصوص اليه، وهل كان الدين إلا واجبات وتبعات وقيوداً يراد من جميعها إعداد الإنسان لأمثالها في الأجتماع، حتى يقر في إنسانيته الصحيحة على النحو الذي يصلح له منفرداً ويصلح له مجتمعاً؟ فليست الزوجة وحدها هي التي خيرت الشاب بل خسره معها الوطن والدين والفضيلة جميعاً، وبهذا أنعكس وضعه من الجماعة، فوجب في رأيه أن تسخر الجماعة له وان يستقل هو بنفسه. وبهذا العكس وهذا السقوط وهذا الاستمتاع الذي يجد سعادته في نفسه اصبح أولئك الشبان كأنما حقهم على المجتمع أن يقدم لهم بغايا لا زوجات. . . . بغايا حتى من الزوجات. . . .!
قبح الله عصراً يجهل الشاب فيه أن الرجل والمرأة في الوطن كلمتان تفسر الإنساني إحداهما بالأخرى تفسيرا إنسانيا دينيا بالواجبات والقيود والأحمال، لا بالأهواء والشهوات والانطلاق، كما تفسر الحيوانية الذكر والأنثى.
والنفس الدنيئة أو المنحطة في أخلاقها ومنازعها من الحياة لا تكون إلا دنيئة أو منحطة في أحلامها وأخيلتها الروحية، دنيئة كذلك في طاعتها إن قضت عليها الحياة بموضع الخضوع، دنيئة في حكمها إن قضت لها الحياة بمنزلة من السلطة. ولو تنبهت الحكومة لطردت من عملها كل موظف غير متأهل، فأنها إنما تستعمل شراً لا رجلاً يمنع الشر، وكل شاب تلك حاله هو حادثة ترتدف الحوادث وتستلزمها، وما يأتي السوء إلا بمثله أو بأسوأ منه.
ليس للزواج معنى إلا إقرار طبيعة الرجل وطبيعة المرأة في طبيعة ثالثة تقوم بالاثنتين معاً، وهي طبيعة الشعب. فمن سقوط النفس ولؤمها ودناءتها أن يفر الشاب القوي من تبعة الرجولة، فلا يحمل ما حمل أبوه من واجبات الإنسانية، ولا يقيم لوطنه جانبا من بناء(64/6)
الحياة في نفسه وزوجه وولده، بل يذهب يجعل حظ نفسه فوق نفسه وفوق الإنسانية والفضيلة والوطن جميعا، ولا يعرف أن انفلاته من واجبات الزواج هو إضعاف في طبيعته لمعنى الإخلاص الثابت، والصبر الدائب، والعطف الجميل في أي أسبابها عرضت.
ومن ُفسولة الطبع ولؤمه ودناءته أن يهرب هذا الجندي من ميدانه الذي فرضت عليه الطبيعة الفاضلة أن يجاهد فيه لأداء واجبه الطبيعي متعللا لفراره المخزي بمشقة هذا الواجب وما عسى أن يعاني فيه كما يحتج الجبان بخوف الهلاك وعناء الحرب. ومن سقوط النفس أن يرضي الشبان كساد الفتيات وبوارهن على الوطن، وأن يتواطئوا على نبذ هذه الأحمال وإلقائها في طرق الحياة وتركها لمقاديرها المجهولة كأنهم أصلحهم الله لا يعلمون أن ذلك يضيع بأخواتهم الفتيات، ويضيع بوطنهم في أمهات الجيل المقبل، ويضيع بالفضيلة في تركهم حمايتها وتخليهم عن حمل واجباتها وهمومها السامية. إن الجمل إذا أستنوق تخنث ولان وخضع، ولكنه يحمل، وهؤلاء إذا استنوقوا تخنثوا ولانوا وأبوا أن يحملوا.
ومن سقوط النفس في الرجل النكس العاجز المقصر أن يحتج لعزوبته بعلمه وجهل الفتيات، أو تمدنه وزعمه أنهن لم يبلغن مبلغ الأوربية، ولا يدري هذا المنحط النفس أن الزواج في معناه الإنساني الاجتماعي هو الشكل الآخر للاقتراع العسكري، كلاهما واجب حتم لا يعتذر منه إلا بأعذار معينة، وما عداها فجبن وسقوط وإنخذال ولعنة على الرجولة.
ومن سقوط النفس أن يغنى الشباب عن الزواج لفجوره فيقره ويمكن له، وكأنه لا يعلم أنه بذلك يحطم نفسين، ويحدث جريمتين، ويجعل نفسه إلى الدنيا لعنتين.
ومن سقوط النفس أن يغتر الشاب فتاة حتى إذا وافق غرتها مكر بها وتركها بعد أن يلبسها عارها الأبدي، فما يحمل هذا الشاب إلا نفس لص خبيث فاتك، هو أبداً عند من يسرقهم في باب الخسائر والنكبات، لا في الربح والمكسب، وعند المجتمع في باب الفساد والشر، لا في باب المصلحة والخير، وعند نفسه في باب العمل والشرف.
فسقوط النفس وانحطاطها هو وحده نكبة الزواج في اصلها وفروعها الكثيرة التي منها المغالاة والشطط في المهور، ومنها بحث الشاب عن الزوجة الغنية وإهمال ذات الدين(64/7)
والأصل الكريم لفقرها، ومنها ابتغاء الزوجة رجلاً ذا جاه أو ثراء عزوفها عن الفاضل ذي الكفاف أو اليسير على عنىً في رجولته وفضائله، كأنما هو زواج الدينار بالسبيكة، والسبيكة بالدينار، وكأن الطبيعة قد ابتلت هي أيضاً بالسقوط، فأصبحت تعتبر الغني والفقير، فتجعل في دم أولاد الأغنياء روح الذهب واللؤلؤ والماس، وتلقى في دم أولاد الفقراء روح النحاس والخشب والحجارة. . . على حين أن الجميع مستيقنون لا يتدافع اثنان منهم في أن الطبيعة لا تبالي إلا بوراثة الآداب والطباع.
وأعظم أسباب هذا السقوط في رأيي هو ضعف التربية الدينية في الجنسين، وخاصة الشبان، ظناً من الناس أن الدين شأن زائد على الحياة، مع أنه هو لا غيره نظام هذه الحياة وقوامها في كل ما يتصل منها بالنفس. وليست المدنية الصحيحة كما يحسب المفتونون هي نوع المعيشة للحياة ومادتها، بل نوع العقيدة بالحياة ومعانيها. وإلى هذا ترى كل مبادئ الإسلام، فأن هذا الدين القوي الإنساني لا يعبأ بزخارف كهذه التي تتلبس بها المدينة الأوربية القائمة على الاستمتاع وفنون اللذات وانطلاق الحرية بين الجنسين، فهذا بعينه هو التحطيم الإنساني الذي ينتهي بهدم تلك المدينة وخرابها، وإنما يعبأ الإسلام بالعقيدة التي تنظم الحياة تنظيماً صحيحاً متساوقاً وافياً بالمنفعة، قائماً بالفضيلة، بعيداً من الخلط والفوضى.
ويقابل ضعف التربية الدينية مظهراً آخر هو سبب من أكبر أسباب السقوط، وهو ضعف التربية الاجتماعية في المدرسة، وإلى الدعة والراحة، وفرارها من حمل التبعة (المسئولية) التي هي دائماً أساس كل شخصية قائمة في موضعها الاجتماعي. وبذلك الضعف وذلك السقوط وضعت المرأة البغي العاهرة في الموضع الطبيعي للأم، ونزل الرجل السافل المنحط في المكان الطبيعي للأب، وتحللت قوى الوطن بانحراف عنصرية المعظيمين عن طبيعتهما، وجعلت فضيلة الفتيات المسكينات تتآكل من طول ما أهملت، وأخذ سوس الدم يتركها فضائل نخرة ولا عاصم ولا دافع إلا قوة القانون وسطوته، ما دامت الفضيلة في حكم الناس وتصريفهم قد تركت مكانها للقوانين. وما دامت قوة النفس قد أخلت موضعها للقوة التنفيذية. لقد قتلت روحية الزواج، وهي على كل حال جريمة قتل، فمن القاتل يا صاحبنا المحامي؟(64/8)
قال الشاب: هو كل رجل عَزَب
قلت: فما عقابه؟
فسكت ولم يرجع إلي جواباً
قلت كأني بك قد تأهلت وخلاك ذم. فما عقابه؟
قال: إلى أن تبلغ الحكومة أو أن تعاقب هؤلاء العزاب، فليعاقبهم الشعب بتسميتهم أرامل الحكومة. . وأحدهم: رجل أرملة الحكومة. . .
ثم قال: اللهم يسرها ولا تجعلني رجلاً بغلطتين: غلطة في نساء الأمة، وغلطة في ألفاظ اللغة.
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(64/9)
انقلاب عظيم في السياسة الدولية
روسيا البلشفية في عصبة الأمم
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تجوز العلائق الدولية في تلك الآونة أعظم انقلاب عرفته منذ الحرب الكبرى، وتستعد عصبة الأمم لإستقبال أعظم حادث عرفته في تاريخها، فمنذ أشهر يجري الحديث بأن روسيا السوفيتية ستدعى إلى الالتحاق بعصبة الأمم. وستغدو عما قريب عضواً فيها، وتتمتع بكرسي دائم في مجلسها. وقد كان ذلك مثار دهشة وريب ممن يعرفون ظروف روسيا السوفيتية، ونزوعها إلى التباعد عن الدول الغربية، وما تقضي به طبيعة ونظمها من مخاصمة الحكومات (الرأسمالية)، ومناوأتها بكل الوسائل الخفية، والعمل على هدمها وهدم النظم التي تحميها، إضرام نار (الثورة العالمية). وقد كان للبلاشفة في عصبة الأمم منذ قيامها رأي يناقض ما يرونه اليوم كل المناقضة، فقد كانت في نظرهم عصابة من الدول الرأسمالية تحركها هذه الدول وتوجهها كيف شاءت، وهيئة إستعمارية منافقة تعمل من وراء ستار لتحقيق غايات الاستعمار الغربي، وأداة لتمكين نير الأمم القوية الغالبة من أعناق الأمم الضعيفة المغلوبة، وكانت الحوادث تؤيد كثيراً من هذه الريب الظنون، فلم تر الأمم الضعيفة ولاسيما الأمم الشرقية شيئاً من الأنصاف على يد عصبة جنيف، بل إبتدعت لها نظام الانتدابات أو الحماية المقنعة لتسبغ على استعبادها صفة مشروعة، ولم تحول مرة أن تحد من مزاعم الدول الاستعمارية أو أطماعها - وهذه الدول هي بعينها التي تسيطر على مجلس العصبة - ولم تجرؤ مرة على أن تصدر في أي المسائل التي طرحت أمامها أي قرار يناقض آراء هذه الدول أو غاياتها، ولازلنا نذكر موقفها من النزاع بين تركيا وإنكلترا على كردستان، والصراع بين الصين واليابان على منشوريا، وخذلانها حينما احتلت إيطاليا كورفو، وتملها فيما اقتضته من العراق شرطاً لالتحاقها بالعصبة، وموقفها من أماني فلسطين وسوريا، ولا زلنا نذكر بالأخص موقفها العقيم من مسألة نزع السلاح وفشلها الذريع في معالجتها، وسواء كانت روسيا السوفيتية مخلصة في رأيها بالنسبة لعصبة الأمم أم كانت تمليه بواعث السياسة فقط، فأن العصبة لم تحقق خلال هذه الأعوام العديدة من حياتها شيئاً مما علق عليها من الآمال في إنصاف الشعوب المظلومة أو تخفيف(64/10)
الخصومات القوية أو توطيد دعائم السلام.
والآن ماذا حدث؟ لقد تورطت العلائق الدولية خلال الأعوام الأخيرة تطوراً سريعاً مدهشاً، وأخذت روسيا تخصم من خصومتها للدول الغربية شيئاً فشيئاً، وأخذت الدول الغربية في التقرب من حكومة موسكو البلشفية، بعد ما لبثت أعواماً تحاول القضاء عليها، وتحشد لمناوأتها كل ما استطاعت من القوى الخفية والظاهرة، وعاد عهد التوازن الأوربي القديم وعهد المعاهدات السرية والمحالفات السياسية والعسكرية، وغاض ذلك الأفق المصطنع الذي ساد فيه حديث السلام والتضامن الدولي مدى حين. وقد كان من الطبيعي أن يعتبر التحاق روسيا بعصبة الأمم عاملاً في صفاء الأفق الدولي، وتعضيد قضية السلام، لأن تباعدها عن الدول الغربية كان عقبة دائمة في سبيل تقدم التفاهم الدولي واستقرار العلائق الدولية، وعدم اعترافها بالعصبة يعرض جهودها في سبيل السلام للانهيار: هذا على الأقل ما كان يتردد في دوائر جنيف حبط مسعى في سبيل التفاهم أو مجهود في سبيل نزع السلاح. ولكن التحاق روسيا اليوم بعصبة الأمم يدلي بمعان أخرى. وروسيا لم تغير رأيها في العصبة ولا في الدول (الرأسمالية) التي تتكون منها، ولكن روسيا اليوم تعلق على هذا الانضمام آمالاً كبيرة وترى أنه يحقق لها من المصالح ما لم تحققه سياسة القطيعة والعزلة، والسياسة الغربية التي تسعى منذ حين لتحقيق هذا الانضمام تحاول أن تقنعنا بأنه يزيد العصبة قوة ويزيد كلمة أوربا توحيداً، ويقرب أمد التفاهم في مسألة نزع السلاح، ويعاون على استقرار السلم في أوربا، ولكن الحقيقة أن هذه النظرية القديمة قد تطورت اليوم، وما ترشيح روسيا لدخول العصبة إلا نتيجة لسياسة التوازن الأوربي الجديدة التي ظهرت بوادرها قوية منذ قيام الحركة الوطنية الاشتراكية في ألمانيا وظهورها بمظهر المهدد لسلام أوربا، وفشل مفاوضات نزع السلاح وعود فرنسا صراحة إلى السياسة القومية القديمة بحجة الدفاع عن نفسها أمام الخطر الألماني. ومنذ عامين ونحن نشهد نتائج هذا التطور الجديد، في وقوع الجفاء بين ألمانيا وروسيا أولاً، ثم انتهاز فرنسا لهذه الفرصة وتقربها من روسيا، وتفاهم الدولتين على إحياء التحالف الفرنسي الروسي القديم الذي كان قائماً قبل الحرب، ثم مساعي السياسة الفرنسية المتواصلة في جمع كلمة دول أوربا الشرقية حولها في كتلة واحدة تخاصم ألمانيا جميعاً، وحملها حليفاتها دول الاتفاق الصغير على الاعتراف(64/11)
بروسيا السوفيتية إلى عصبة جنيف.
ولروسيا صلة قديمة بعصبة الأمم وإن لم تكن من أعضائها، فقد اشتركت في لجنة نزع السلاح ومؤتمراته بصفة رسمية منذ سنة 1925، وقدمت أليها عدة مشاريع لنزع السلاح كانت جميعها مثار البحث والمناقشة ولكنها رفضت جميعاً، وكانت السياسة الروسية خلال هذه الأعوام تثار على خصومتها لعصبة الأمم وعلى الطعن فيها وفي نزاهة مقاصدها، وتتخذ من فشل مؤتمر نزع السلاح دليلاً على نفاق الدولة الغربية وتمسكها بسياسة الحرب السوفيتية. أما اليوم فأن روسيا لا تأتي التفاهم مع الدول الغربية والاندماج في عصبة جنيف. ووراء هذا التطور الخطير في سياسة البلاشفة عاملان جوهريان: الأول حوادث الشرق الأقصى، والثاني موقف الدول الغربية من روسيا السوفيتية، فأما من الشرق الأقصى حيث تسيطر روسيا على أراض ومصالح عظيمة، فقد نشط الاستعمار الياباني في الأيام الأخيرة نشاطاً عظيماً وأنتزع إقليم منشوريا من الصين، ولم تحفل اليابان باحتجاج الدول الغربية أو تدخل عصبة الأمم، وآثرت أن تنسحب من العصبة لكي تكون مطلقة اليدين في تنفيذ برنامجها الاستعماري، ولم تحجم عن أن تصرح بأنها تعتبر الصين ميدان نشاطها وتوسعها دون غيرها من دول الغرب، وإنها ستقاوم كل محاولة جديدة تقوم بها الدول الغربية لتوسيع نفوذها أو مصالحها في الصين، ولما كانت روسيا تجاوز اليابان في الشرق الأقصى في أكثر من منطقة، فأن هذه السياسة اليابانية الجديدة التي تؤازرها عسكرية قوية تهدد أملاكها ومصالحها أعظم تهديد، وروسيا تريد من أجل ذلك أن تصفي خصومتها مع الدول الغربية لكي تستطيع أن تتفرغ لمقاومة هذا الخطر. وأما عن موقف الدول الغربية إزاء روسيا السوفيتية، فأن هذه الدول قد نبذت خصومتها المطلقة القديمة لروسيا بعد ما اقتنعت بأنه يستحيل عليها أن تسحق الثورة البلشفية، وبعد ما تطورت البلشفية ذاتها وتركت كثيراً من تطرفها القديم وآثرت جانب الاعتدال، أصبحت روسيا تميل إلى العودة إلى حظيرة أوربا القديمة والتفاهم مع الدول الغربية و! عطاء بعض الضمانات السياسية والاقتصادية، وقد كانت السياسة الفرنسية روح هذه التطور كما بينا لأن فرنسا أشد الدول اهتماماً باكتساب تلك القوة العظيمة في شرق أوروبا، لتعود كما كانت قبل الحرب مصدراً للخطر على ألمانيا يزعجها ويشغلها.(64/12)