ذكوراً، والكروموزومات التي وجدت على القطب السلبي أي المكهربة إيجابياً لعشر أخريات أعطت ثمانية منها إناثاً واثنان ذكوراً. والكروموزومات التي وجدت بين السلبي والإيجابي أعطت ذكرين وأنثيين:
وقد ذكر (جان روستان) الأبحاث الأخيرة التي قام بها طبيب ألماني يدعى في هذا المعنى. ونتيجة هذه الأبحاث هو أن الوسط القلوي يناسب النوع من الكروموزوم الذي يسبب ذكوراً، والوسط القليل الحمض يناسب مسببي الإناث. وهكذا يكفي لكي تحمل الأم ذكراً أن تحقن موضعياً بكربونات الصودا مثلا قبل الجماع. ويؤكد (انتار بارجار) نجاح هذه الطريقة عند الست والأربعين من النساء اللاتي تقدمن إليه خلال سنة 1932.
ولكن العلم لا يستطيع الجزم بعد في هذا الموضوع. ولا يمكننا أن نقبل نظرية لها من الأهمية ما لهذه معتمدين على بضع نتائج لم يقم بها إلا فئة قليلة من علماء البيولوجيا. غير أنه لا يبعد أن يصل العلم بعد قليل إلى حقيقة نهائية في هذا الموضوع.
ولنفرض أن العلم وصل إلى هذه الحقيقة فهل ينتج عن إمكان إعطاء ذكر لأي كان؟ لا. فنحن لا نستطيع أن نعطي ذكوراً أو إناثاً إلا لمن نقصتهم الذكور أو الإناث لتصرف الصدفة الوحيد ولكن هناك خلايا منوية، من منتجات الذكور مثلا، تكون ضعيفة التركيب ينقصها شيء أساسي كامن فلا يمكنها الوصول إلى البويضة أو إذا أمكنها ذلك والتحمت معها يقف عند حد ما نحو الجنين، أو يتم ولكنه يولد ذا علة جسمية أو عقلية. والدليل على هذا ما نراه عند المرأة المئناث. فالمرأة التي عادتها ولادة الإناث نراها (في كثير من الأحيان) بغتة، بعد أن تكون وضعت أربع بنات أو خمسا تلد ذكراً ميتاً أو يعيش قليلا ثم لا يلبث أن يموت دون أن تظهر علة ما خارجية. ثم تسقط ذكراً لم يتم نموه ثم ذكراً ميتاً أو ابله.
وهنا أستطيع أن أقول، دون أن أبحث المسألة من وجهتها الفلسفية إن قانون المصادفات الذي تكلمت عنه في البدء والذي يجري على حسبه تلقيح البويضة إما بخلية منوية + 23 أو بخلية منوية + 23 يكون فوقه في تأثيرات وصفات بيولوجية عميقة لا يحيط بها بعد علمنا.
وعلى كل حال فأنتم ترون ما قد يثيره تحقيق هذه الفكرة من مشاكل فلسفية واجتماعية.(47/65)
ورأيي أنها لن تتعدى النظريات، وفي هذا، أي تحقيقها النظري عظيم رضى العالم وغايته الوحيدة، وإذا تعدتها للحيوان فهي لن تطبق على الإنسان لأنها لن تزيد في أكثر الأحيان إلا في إشقائه وإكثار المسؤولية التي تقع على كاهله.
منير غندور(47/66)
اللانهاية هي شيء كله مساو جزءه
للأستاذ قدري حافظ طوقان
مقدمة
يوجد في بعض فروع المعرفة اصطلاحات وتعبيرات من الصعب جداً تعريفها أو تفسيرها تفسيراً موجزاً في بضع كلمات، وقد لا يستطيع الباحث أو العالم المتضلع أن يعطي إيضاحاً بكلمات قليلة تبين المعنى المقصود بصورة دقيقة جلية واضحة، ولهذا يضطر للتقرب من تعريفها أو لإعطاء فكرة عنها إلى ذكر وشرح بعض خواصها. وقد تبدو التعاريف لبعض الاصطلاحات العلمية لأول وهلة غريبة أو غير معقولة. وإذا جاز للقارئ أن يدهش من الوضع الموجود به تعريف اللانهاية، وإذا جاز له أن يضحك عند قراءته، أقول إذا جاز له كل ذلك يجوز لنا أن نطلب منه التمهل وقراءة المقال بتمعن عسانا - نحن وهو - نلتقي، وعساه بذلك يوافق العلم ويقره، ويعذره حين يضطر إلى وضع تعاريف لبعض الاصطلاحات بصورة قد تبدو غريبة يمجها المنطق في البدء، وقد لا يستسيغها عقل غير المطلعين على الموضوعات التي تحتوي أمثال هذه الاصطلاحات.
إن تعريف اللانهاية يختلف بحسب الميدان الذي تكون فيه، فهي في ميدان الفلسفة والمعنى المقصود منها فيه غيرها في ميدان الرياضيات، غيرها في الدين، غيرها في ميادين الفروع المختلفة المتنوعة
معكوس الصفر
خذ أية كمية محدودة كالواحد مثلاً، ولنقسمه على 21 فخارج
القسمة 2، وإذا قُسم على 41 فخارج القسمة 4، وإذا قسم على
1001 فالخارج 100، وإذا قسم على 10001 فالخارج
1000، وهكذا كلما صَغُر المقسوم عليه زاد خارج القسمة
وكبر، حتى إذا ما كان أصغر من أية كمية موجبة (صفر)(47/67)
كان الجواب أكبر من أية كمية موجبة (كمية لا نهائية)، أي
أن الواحد إذا قسّم على الصفر فالجواب كمية لا نهائية، أي
01=كمية لا نهاية ويُرمز لها بهذه العلامة ?، ويمكن وضع
المعنى السابق بهذه الكيفية: وكذلك إذا قسمنا الكمية المحدودة
على كمية لا نهائية فالجواب أصغر من أية كمية موجبة أي
الصفر. من هنا يتبين أن العلاقة متينة بين الصفر واللانهاية،
فالصفر هو في الحقيقة معكوس اللانهاية ومعكوس اللانهاية
هو الصفر.
هذا إيضاح يفسر خاصة من خواص اللانهاية، ويمكن وضع هذه الخاصة بالتعبير الآتي:
إذا قُسّمت أية كمية محدودة على الصفر فالخارج يساوي كمية لا نهائية.
تعريف غريب
لندع هذه الخاصية ولنأخذ غيرها علنا منها نستطيع أن نضع تعريفاً لـ (اللانهاية) وعلنا بذلك نوفر على الراغب في البحث عنها، وفي الوقوف على معناها قراءة صفحات عديدة من كتب الرياضيات وفلسفتها.
خذ المتوالية العددية الآتية: 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9. . . . . إلى عدد لا نهائي من الحدود فمجموعها كما هو ظاهر كمية لا نهائية.
خذ أيضاً المتوالية الهندسية الآتية وهي غير المجموعة الأولى: 2، 4، 8، 16. . . إلى عدد لا نهائي من الحدود، فمجموعها أيضاً يساوي كمية لا نهائية، ومن مراجعة المتواليتين يظهر أن كل حد من المتوالية الثانية موجود في المتوالية الأولى، أي أن المتوالية الثانية هي جزء من الأولى، ومع ذلك فمجموع كل من المتواليتين يساوي كمية لا نهائية، ومن هنا ظهر تعريف اللانهاية بالشكل الآتي: (هي شيء كله مساو جزءه) ومن هنا يظهر أيضاً(47/68)
للقارئ السبب الذي اضطر بعض العلماء إلى وضع مثل هذا التعريف الذي قد يبدو غريباً ومثيراً للدهشة وغير معقول
اللانهائي في المحدود
ومن غرائب خاصيات (اللانهاية) التي نجدها في البحوث الرياضية انه قد يتفق (في بعض الأحوال) أن يكون مجموع كميات عددها غير محدود لا نهائي يساوي كمية محدودة. أليس في هذا غرابة؟ أليس في هذا عجب؟ قد لا يصدق القارئ ما نقول ولذا سنوضح معنى ما مر:
خذ العدد الكسري 31 وهو كمية محدودة، ولنحوله إلى كسر
عشري فينتج لدينا كسر دائري 0. 3 أي 0.
33333000000 وهذه تساوي 103 + 1003 + 10003 +
100003 +. . . وهذه الأخيرة تساوي 103 (1 + 101 +
1001 + 10001 +. . . إلى حدود عددها لا نهائي) ومن
هنا يتبين أن مجموع كميات عددها لا نهائي يساوي كمية
محدودة
اللانهاية والعلم
والآن قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن يسأل ما علاقة العالم باللانهاية؟ وهل اللانهاية حقيقة موجودة؟ وهل يستطيع العقل البشري تصور شيء لا نهائي؟ وجواباً على هذه الأسئلة نقول: إن العلم يقرر (أو يجب أن يقرر) وجود شيء لا نهائي، فالخط يتكون من نقط عددها غير محدود ولا نهائي، والوقت يتكون من عدد غير محدود من اللحظات، ويمكنك أن تقسم المستقيم إلى أقسام لا عديد لها، وأن تستمر في ذلك إلى ما شاء الله.
وقد ظهر للقارئ بجلاء كيف أن مجموع كميات عددها لا نهائي يساوي كمية محدودة، وقد(47/69)
لا يكون غريباً إذا قلت أن كثيراً من البحوث الرياضية العالية لا يمكن أن يحاط بها، ولا أن تكون كاملة إلا بـ (اللانهاية)، وكم من الأعمال والمسائل الرياضية تحتاج إلى استعمال اللانهاية إذ لا يمكن حلها إلا بها.
على كل أرجو أن أكون قد وفقت إلى إعطاء فكرة عن اللانهاية، فان كان ذلك فهذا ما قصدت.
نابلس
قدري حافظ طوقان(47/70)
القصص
صاحب الملايين الأنموذج
للأديب الإنجليزي أوسكار وايلد
ترجمة الأستاذ بشير الشريقي
لا ينتفع المرء بجمال الشاب إلا مع الغنى؛ البطالة عمل الغني وليست شغل الفقير؛ على الفقراء أن يكدوا في طلب الرزق؛ دخل ثابت خير لك من شبابك الفاتن؛ تلك هي الحقيقة الواحدة في هذا الجيل الحديث، الحقيقة التي لم يدركها (هيوارسكين).
مسكين هيو! إنه ليس بالفتى صاحب الشأن أو الذي يضر وينفع؛ ولكنه كان يبدو مثال الملاحة بشعره الأسمر المجعد. وعينيه الرماديتين؛ ووجهه الجميل، وكان مشهوراً بالحسن بين الرجال والنساء على السواء، وبأنه يجمع كل الفضائل إلا فضيلة كسب المال؛ خلف له والده وكان فارساً مقداماً حسامه وتاريخ حرب الجزيرة في خمسة عشر مجلداً، فعلق (هيو) الحسام على مرآته، ووضع كتاب التاريخ على الرف. لقد طرق كل أبواب الرزق، فاحترف الصرافة ستة أشهر، ولكن ما الذي تفعله الفراشة بين الثيران والدببة؟ واشتغل بتجارة الشاي لمدة أطول بقليل، ولكن سرعان ما تعب: حينئذ جرب بيع الخمر الأسباني فلم ينجح؛ وأخيراً أصبح لا شيء، اللهم إلا شاباً طروباً قد أعطى البطالة مقوده.
وعلى نية العمل المثمر أحب؛ وكانت الفتاة التي أحبها تدعى (لورا ميرتون) وهي ابنة كولونيل متقاعد أضاع مزاجه ونظامه في بلاد الهند. لقد عبدته (لورا) وكان هو على استعداد لأن يقبل شريط حذائها؛ كانا أظرف عاشقين في لندن ولا يملكان فلساً واحداً.
أحب الكولونيل (هيو) كثيراً، ولكنه لم يكن يرغب أن يسمعه يتحدث عن أية خطبة، وكان يقول له من حين إلى حين: (تعال إليّ يا ولدي؛ حين تصبح مالكاً لعشرة آلاف جنيه عندها نفكر في أمر خطوبتكما) فيتألم (هيو) ويذهب إلى (لورا) ليجد بقربها العزاء.
في صباح أحد الأيام خطر له - وهو في طريقه إلى متنزه (هولاندة) - أن يرى أحد أصدقائه العظام (ألن تريفور) وكان (ألن تريفور) رجلاً غريباً فظاً؛ نمش الوجه أحمر الخدين خشن اللحية؛ ولكنه كان رساماً ماهراً، وفناناً إذا تناول قلم الرسم فهو الأستاذ(47/71)
الحقيقي والرسام العبقري.
وكان هذا الفنان عظيم الميل (لهيو) في الزمان الذي مضى، عظيم التقدير لجماله، وكثيراً ما كان يقول (على الفنان أن لا يصاحب إلا الظرفاء اللطفاء؛ والذين يشجيك مسمعهم ومنظرهم).
حين دخل (هيو) المحترف (الستديو) وجد (تريفور) يضع الأجزاء الأخيرة لصورة شحاذ كبيرة، ورأى الشحاذ نفسه واقفاً على منصة مرتفعة في زاوية المحترف، لقد كان شيخاً متهدماً ذا وجه كالجلد المجعد، قد ألقى على كتفه عباءة خشنة كلها رقع وخرق، ولبس حذاء رثاً بالياً، واتكأ بإحدى يديه على عصا غليظة، ومد بالأخرى قبعته الممزقة يلتمس المعروف!.
همس (هيو) وهو يصافح صديقه - ياله من أنموذج غريب! فصاح (تريفور) بأعلى صوته - أنموذج غريب. . أظنه كذلك. . إنك لا تلتقي بأمثال هذا الشحاذ كل يوم. . إنه لقية يا عزيزي.
هيو - مسكين هذا الشيخ إنه يبدو مثال البؤس والشقاء وإني لأظن أن ثروته بالنسبة إليكم أيها الفنانون إنما هي في وجهه
أجاب تريفور - طبعاً. . أنت لا تريد أن يبدو الشحاذ مسروراً
هيو - كم يأخذ الأنموذج عن كل جلسة.
- شلناً في الساعة.
- وكم تأخذ أنت على صورتك يا (ألن)
- أوه. . آخذ على هذه ألفي جنيه.
هيو ضاحكاً - حسن، ولكني أرى أن يأخذ الأنموذج نسبة من الأرباح، إنهم يتعبون بقدر ما تتعبون.
- كلام هراء. . يجب ألا تضيع وقتي بمثل هذا السخف، إنني مشغول جداً، دخن سيجارة واجلس صامتاً.
وبعد حين دخل الخادم وأخبر (تريفور) أن صانع الأطر يريد أن يكلمه.
(تريفور) وهو خارج - لا تذهب يا (هيو) سأعود حالاً.(47/72)
اغتنم الشحاذ الشيخ فرصة غياب (تريفور) فجلس يستريح على مقعد خشبي كان موضوعاً خلفه، حقيراً بائساً؛ حتى أن (هيو) لم يملك نفسه من الحزن عليه، فمد يده إلى جيبه ليرى مقدار ما معه من الدراهم، فكان كل الذي وجده ديناراً وبضعة دوانق، فقال لنفسه (مسكين الشيخ إنه أحوج مني إلى هذه الدراهم) وسار وسط (الستديو) ورمى الدينار في يد الشحاذ.
فزع الشيخ وارتسمت على شفتيه الذابلتين ابتسامة ضئيلة وقال: أشكرك يا سيدي. . أشكرك. .
ثم حضر (تريفور) فاستأذنه (هيو) بالانصراف إلى (لورا) حيث أمضى النهار وتمتع بتعنيف لذيذ على إسرافه.
وفي تلك الليلة؛ حوالي الساعة الثانية عشرة، ذهب إلى نادي (باليت) فوجد (تريفور) جالساً وحيداً في غرفة التدخين يعاقر بنت الحان؛ فقال له وهو يشعل سيجارته.
- خيراً (ألن). . هل أنهيت الصورة!
فأجاب تريفور - لقد انتهت يا ولدي، وأحيطت بالإطار؛ وعلى ذكر الصورة أخبرك أنك حزت ظفراً عظيماً نهار الأمس، إن ذلك الأنموذج الشيخ الذي رأيته معجب بك كل الإعجاب ولقد أخبرته عن كل ما يتعلق بك. . من أنت؟ وأين تعيش؟ وكم دخلك! وما هي مطالبك من الدنيا؟. . .
صاح (هيو) - يا عزيزي ألن، أخاف أن أجده في انتظاري كلما ذهبت إلى البيت؛ ولكنك تهزل. . مسكين هذا الشيخ الفقير.
آه! لو أقدر على نفعه. . إنه لشديد أن يعيش إنسان في مثل بؤسه؛ عندي في البيت تلال من الثياب القديمة، فهل تظن أنه يهتم بثوب منها؟ ولم لا؟ إن خرقه أخذ منها البلى مأخذه. .
تريفور - ولكنه يبدو في أطماره زاهياً، إن ما تسميه أنت اطماراً أسميه أنا حللاً، وما يظهر لك أنه الشقاء هو مثال البهاء عندي. . وعلى كل حال فسأخبره عن هديتك.
هيو جاداً - إنكم بلا قلب أيها الرسامون.
أجاب تريفور - قلب الفنان رأسه، ليس الإصلاح صنعتنا وإنما تصوير العالم كما نراه ولكل صنعته. . والآن حدثني عن (لورا) كيف هي؟ لقد أغرم بها الأنموذج كثيراً.(47/73)
هيو - أنت لا تريد أن تقول إنك حدثته عنها.
- أؤكد لك أنني حدثته، لقد عرف كل شيء عن الكولونيل الذي لا يرق له قلب، وعن (لورا) المحبوبة؛ وعن العشرة آلاف جنيه.
فصاح هيو وقد بدا عظيم الغضب كثير الاحمرار - إذن لقد أطلعت ذلك الشيخ الشحاذ على كل شؤوني الخاصة.
تريفور مبتسماً - يا ولدي العزيز إن الذي تدعوه بالشيخ الشحاذ هو من أغنى الرجال في أوربا، إنه يقدر أن يبتاع لندن كلها غداً من غير أن يؤثر ذلك في ثروته؛ إن له قصراً في كل عاصمة؛ ويأكل في أطباق من الذهب والفضة؛ وهو قادر - حين يشاء - أن يمنع روسيا من الحرب.
هيو متعجباً - من هذا الذي تعنيه؟!. .
تريفور - أقول إن الرجل الشيخ الذي رأيته في (الستديو) هو (البارون هوسبيرج) إنه من أعظم أصدقائي، ويبتاع كل صوري، وقد كلفني منذ شهر أن أرسمه كشحاذ فما قولك بهوي هذا المليونير.
صاح هيو - البارون هوسبيرج يا إله السموات. لقد تصدقت عليه بجنيه. . . وارتمى على المقعد مذعوراً. .
تريفور صائحاً - تصدقت عليه بجنيه!! وانفجر عن هدير من الضحك!
هيو بحزن - كان يجب أن تخبرني يا ألن. . .
ألن - لا بأس يا هيو. . إنه لم يخطر لي على بال أنك يمكن أن تذهب هذا المذهب في توزيع الصدقات؛ إنني افهم تقبيلك لأنموذج جميل، أما أن تعطي ديناراً لقبيح فلست أفهمه!
هيو - وأي غبي ظنني؟!.
- أبداً لقد كان في غاية السرور بعد أن غادرتنا، وظل يضحك في سره ويصفق بيديه المتغضنين مدة؛ لم أستطع إدراك سر سروره حينذاك؛ ورغبته في معرفة كل شيء عنك؛ أما الآن فقد فهمت كل شيء؛ سوف يشغل لك دينارك يا هيو ويدفع لك الفائدة كل ستة أشهر.
زمجر هيو - يا لي من شقي. الأحسن لي أن أذهب إلى الفراش، أرجوك يا عزيزي ألن(47/74)
ألا تخبر أحداً؛ إنني لم أعد أجرؤ على لقاء الناس
كلام هراء. إن عملك يا هيو يدل على ما في نفسك من الخير العظيم، لا تذهب، خذ سيجارة أخرى؛ وتكلم عن لورا بقدر ما تشاء. .
لكن (هيو) لم يقف بل سار إلى البيت حزيناً، تاركاً (ألن تريفور) غارقاً في الضحك.
في صباح اليوم الثاني وقد جلس (هيو) يتناول فطوره، أحضر له الخادم بطاقة كتب عليها (السيد كوستاف نودن، رسول البارون هاسبورج).
فقال هيو لنفسه - يغلب على ظني أنه آت يطلب إلى أن أعتذر، ثم أمر الخادم أن يصعده ردهة الاستقبال. .
دخل الغرفة شيخ جليل ذو منظار ذهبي وشعر أشيب وقال بلهجة فرنسية: هل لي شرف الكلام مع السيد (أورسكين).
- فانحنى له هيو.
الشيخ مستمراً - لقد أتيت من عند البارون هاسبيرج، ان البارون. . . .
هيو مقاطعاً - أرجوك يا سيدي أن تبلغه أصدق اعتذاري.
فابتسم الشيخ الجليل وقال - لقد أرسلني البارون أسلمك هذا الكتاب. ومد يده بمغلف مغلق قد كتب عليه (هدية عرس إلى هيو أورسكين ولورا ميرتون من شحاذ عجوز) وفي داخله حوالة بعشرة آلاف جنيه
وحين اقترنا صار لهما ألن تريفور عجاهنا، وألقى البارون خطاباً على مائدة العرس؛
وأبدى (ألن) هذه الملحوظة (إن نماذج صاحب الملايين نادرة، ولكن أنموذج أصحاب الملايين أندر)
شرق الأردن
بشير الشريقي المحامي(47/75)
النقد
حول ديوان الينبوع
للدكتور احمد زكي أبي شادي
إنني آسف أشد الأسف إذا كان ردي السابق على الأديب المرتيني يصح أن يوصف بالحدة كما وصفه حضرته، وما كنت أحسبه إلا مثالا للهدوء المقترن بالصراحة. وقد كرر ناقدي الأديب قوله عن الأدباء المصريين: (وإذاً أنا أعود فأردد مرة أخرى، ما عرفت الدكتور وإضرابه من إخواننا المصريين إلا أباة على النقد. يثيرون من أجله المعارك ويتسارعون بسبه إلى الخصام والنزاع). وقد أغناني الشاعر الناقد طلبة محمد عبده برده في عدد مايو من مجلة (أبولو) عن الرد المسهب على الأديب المرتيني، وحسبي هنا أن ألاحظ في إيجاز نقطتين: الأولى أن كل حجة صاحبنا في مؤاخذتي تقدمي إلى الرد عليه في أدب واعتدال، كأنما الواجب علي وعلى أمثالي الخضوع لديكتاتوريته النقدية، فإذا ما ناقشناها في هدوء مناقشة أدبية وصمنا بما وصمنا به، والثانية شهادة مجلة (الضياء) الهندية، وقد وافتني يوم صدور عدد (الرسالة) المنشورة به مقالة ناقدي، فقد ذكرت (الضياء) - وهي من أرقى المجلات الأدبية في العالم العربي - في كلامها على (الينبوع) وصاحبه وتشجيعه للنقد الأدبي أن تشجيعي هذا هو (جرأة نادرة) في هذا الزمن.
إذن ليس هناك يا صاحبي أي حدة ولا تأب على النقد، فأعداد (الرسالة) بين أيدي القراء، كما أن (الينبوع) وغيره من دواويني ومؤلفاتي بين أيديهم، ويمكنهم أن يدرسوا ويقارنوا لأنفسهم بين كتابتي وكتابتك. وفي الحق لم يعرف عني إلا العداء للديكتاتورية الأدبية، سواء أجاءت من ناحية المؤلفين أم من ناحية النقاد، وقد شجعت وسأشجع دائماً النقاش الأدبي البريء لأنه خادم وأي خادم للأدب، ومتى تحقق الاحترام المتبادل بين المؤلفين والنقاد، فلن يؤدي النقاش الأدبي بينهم إلا إلى الخير الأدبي المحض. ولولا هذا الإيمان في نفسي بالنقد وفوائده لصدقت عن التعليق على ما يكتب عني، فجل شعري لنفسي أولا لا للجمهور الذي تتحدث أنت عنه وتود أن تراعيه، وأنا لا أتطلع إلى مدح أو تصفيق لقاء جهودي، وقد أصبحت لا أتطلع حتى إلى محض الإنصاف من معظم معاصري
ومن كان لا يعنيه مدح ولا قلى ... يعف عن المدح العريض ويستغنى(47/76)
وقد تأملت الملاحظات الفنية الجديدة التي جاء بها نقدي الفاضل في مقاله الثاني فأسفت لأنه لم يذكرها في مقاله الأول. ولو كان قد فعل ذلك لما كنت رددت عليه: فقد كان في مقاله الأول يلقي الأحكام كأنه القاضي الأعلى الذي لا مرد لحكمه. وأما في مقاله الثاني فهو ينزع إلى التفسير النفساني ويتحدث عن الذوق الفني وما إلى ذلك. . وهو في موقفه الجديد منع من أن يساءل أو يناقش، اللهم إلا في تذكيري إياه بأن قولي:
كن أنت نفسي واقترن بعواطفي ... تجد المعيب لدي غير معيب
لا يعني شيئاً مما ذكره، وإنما يعني أن الناقد الذي لا يستطيع أن يتمثل نفسية الشاعر وظروفه والعوامل المؤثرة عليه وقت نظمه هو أبعد الناس عن الإنصاف، لأنه سيعيب ما لا يعاب لو أنه تمثل شخصية الشاعر في المناسبة التي نظم فيها ذلك الشعر المنقود. وليس من الحكمة ولا من الإنصاف في شيء أن يتقدم الناقد لي أثر شعري وهو نافر من صاحبه كيفما كانت أسباب ذلك النفور.
إن التحدث عن اللغة الفنية لا أول له ولا نهاية. وقد نقد لغتي من نقدها ممن عرفوا بالتضلع في اللغة والتمكن من الشعر. وفي مقدمتهم السيد مصطفى جواد، ولهؤلاء السادة ما لهم من الذوق الشعري الناضج. أليس هؤلاء إذن أولى من الأديب المرتيني بالحكم في هذا المجال؟ وما معنى انتقاص معارفهم ومناحيهم؟ أليسوا أجدر منه ومني بتحديد ما يسميه باللغة الصحفية؟ ليس لي يا صاحبي أن أزكي نفسي، وإن كان لي أن أدافع عن مذهبي أحياناً، وقد كتب في تقدير روحي الفنية وتعابيري الشعرية غير واحد من الأدباء المشهورين، ومنهم من ناقشك، فلك أن تناقشهم إذا شئت، وأما أنا فلا أجد فيما كتبت من جديد سوى إبهام جديد، إلا في موضع أو موضعين، وليس لي من رد على مثل هذا الانتقاص المبهم غير إنتاجي الجديد. . .
لقد أعجبك قول امرئ القيس
مكر، مفر، مقبلٌ، مدبرٌ، معاً ... كجلمودِ صخرٍ حطه السيلُ مِنْ علِ!
نظراً لما فيه من موسيقى وحركة وخيال، ولا أعرف أن كل شعر امرئ القيس من هذا القبيل، أو أن شعري تجرد من مثل ذلك، كما أني لا أعرف أن مثل هذه الصفات التي شاقتك مرغوب فيها في جميع ضروب الشعر، ومنه ما قد تؤثر فيه موسيقى المعاني(47/77)
والهدوء والتأمل العميق قبل رنين الألفاظ والحركة والخيال الوثاب.
ولك أن تنتزع بيتاً أو بيتين من قصيدة، وأن تقف حائراً مستنكراً، ولكني (وأنا المؤمن بوحدة القصيد والحريص على ذلك) لا أطلب شططاً إذا سألت قرائي أن يقرءوا تلك القصائد كاملةً ليتبينوا مواقع الأبيات بعضها من بعض وما تحمله من المعاني الظاهرة والضمنية إذا ما انتظمتها وحدة القصيد، وله لها حينئذ قيمة مادية وروحية أم ليست لها تلك القيمة.
وقد تفضل الأديب المرتيني ببيان طويل عن نظراته الأدبية العامة وأسلوبه في النظم ونحو ذلك، أشكره عليه لما حواه من الطرافة ودواعي التسلية التي يتحدث عنها. ولا أود أن أشغل فراغ (الرسالة) بالتعليق عليه فذلك أمر يعنيه، وأود بهذه السطور أن أختم تعليقاتي على كتابته شاكراً (للرسالة) منبرها الحر وغيرتها، وشاكراً لناقدي الفاضل تحمسه للفن وللغة العربية السامية.
احمد زكي أبو شادي(47/78)
الكتب
مذكراتي في نصف قرن
بقلم الأستاذ أحمد شفيق باشا
(في 527 صفحة كبيرة - طبع مطبعة مصر)
لم يجتمع لكثير من رجال الدولة المصرية مثلما اجتمع لصاحب السعادة الأستاذ أحمد شفيق باشا من ظروف المشاهدة وفرص الدرس والاطلاع والتحقيق؛ فقد عاصر هذا الشيخ النابه النشط عدة عصور ومراحل من تاريخ مصر الحديث؛ وشهد الحياة المصرية منذ أواخر عصر إسماعيل، واتصل بالقصر وشئون الدولة العليا منذ حداثته؛ وشهد حوادث الثورة العرابية وتتبعها بدقة، وكان مرجع النفوذ والحول طوال أيام عباس. ولم يكن شفيق باشا يطوي هذه المراحل والعصور مشاهداً فقط، ولكنه كان يقرن المشاهدة بالدرس والتدوين؛ فكان يدون مذكراته تباعاً عن الحوادث والشئون الخطيرة التي كان تتري في هذه الحقبة من تاريخ مصر، ويدون إلى جانبها كثيراً من الملحوظات عن تطور الحياة المصرية الاجتماعية، ثم عن حياته الخاصة التي كانت صدى ومثالاً صادقاً لهذه الحياة.
وقد أخرج لنا الأستاذ شفيق باشا الجزء الأول من هذه المذكرات في مجلد ضخم؛ يتناول وصف الحوادث والحياة المصرية منذ أواخر عهد إسماعيل حتى عزله، ثم عهد توفيق والثورة العرابية وأسبابها ونتائجها حتى استقرار الاحتلال الإنكليزي. وهذا هو القسم التاريخي العام. ويتناول القسم الثاني منه حياة المؤلف الخاصة أثناء دراسته في باريس، ومشاهداته العامة في فرنسا ومختلف البلاد الأوربية التي زارها.
ولعله لم يصدر عن الحياة المصرية في أواخر القرن وصف أصدق ولا أمتع من ذلك الذي يتحفنا به شفيق باشا في مذكراته. فقد تقلب شفيق باشا منذ حداثته في مختلف البيئات والمجتمعات المصرية لهذا العهد، واتصل بالطبقات الاجتماعية الرفيعة اتصالاً وثيقاً؛ وشهد بعينه من صورها وألوانها الشيء الكثير؛ ووصف لنا جدها وهزلها ولهوها وسمرها وصفاً صادقاً شائقاً؛ ويجد مؤرخ الحضارة المصرية في هذا العصر في مذكرات شفيق باشا مادة نفيسة تؤيدها المشاهدة الصادقة. وهذه ناحية من الكتاب لها أهميتها وسحرها.(47/79)
بيد أن لهذه المذكرات من الوجهة التاريخية ناحية أهم. ذلك أن المؤلف يقص علينا سيرة الحوادث السياسية الخطيرة التي وقعت في عهد توفيق، أعني الثورة العرابية وما انتهت إليه من النتائج المشئومة. وقد كتب تاريخ الثورة العرابية وما إليها في العصر الأخير غير مرة، وصدرت عنها مذكرات كثيرة مصرية وأجنبية، ولكن شفيق باشا ينفرد بمعالجة ناحية لم تعالج من قبل بمثل ما عالجها به من الإفاضة والدقة، ولم يكن ليستطيع معالجتها غير شفيق باشا نفسه. ذلك هو موقف القصر ووجهة نظره وحقيقة تصرفاته إزاء تلك الحوادث العصيبة. وقد كان شفيق باشا يومئذ من موظفي القصر، ومن الرجال الذي يضع فيهم الخديو ثقته؛ وكان بذلك في مركز يستطيع أن ينفذ منه إلى بواطن الأمور وحقائقها وأن يعرف حق المعرفة ما يقع في القصر وما يدبر فيه وما يقال نحو الحوادث وتطوراتها، وأن يقف على وثائق لا يقف عليها غير رجال القصر الأخصاء؛ وهذه الناحية تبدو واضحة قوية في رواية شفيق باشا عن الثورة العرابية، وتلقي الضياء على مسائل وشئون كثيرة في تاريخ الثورة لم نقف عليها من قبل بمثل ذلك الوضوح. وهذه الميزة وحدها تجعل لمذكرات شفيق باشا قيمة كبيرة؛ هذا إلى ما يتخلل ذلك كله من النبذ الاجتماعية والأدبية التي تمثل روح العصر وأحواله أصدق تمثيل.
فنهنئ الباشا بمجهوده القيم، ونرجو اله أن يمتعه بالصحة والعافية حتى يخرج لنا ما تبقى في جعبته من ذلك التراث القومي النفيس.
(ع)(47/80)
حياة وحياة
بقلم الدكتور محمد كامل الصبي دكتوراه في العلوم الطبيعية
كتاب يقع في نيف ومائتي صفحة، أخرجته جماعة نشر الثقافة بالإسكندرية على خير ما تخرج الكتب، دقة طبع، وحسن نظام، ومتانة ورق، وسلامة ذوق.
ولقد شاء الدكتور الفاضل ألا تقف جهوده عند العلم فرأيناه في هذا الكتاب أديباً، بل قصاصاً عذب الروح، واسع المعارف، متين الثقافة
تلمس في هذا الكتاب النهوض، وتعجبك فيه رغبة فنية لنفس متوثبة، تحتقر تقاليد الماضي البالية، وتتألم لما يرزح تحته المجتمع المصري من أعباء وما يتعثر فيه من قيود، وتتمنى أن ترى ذلك اليوم الذي تنفض فيه مصر عن نفسها غبار القرون وتحكم أغلال الجمود، ومن منا لا يشارك الدكتور عواطفه وآماله؟
ولقد وفق المؤلف إلى وسيلة جيدة لعرض آرائه فصور لنا أولاً الحياة المصرية في القرية، حياة الملاك القادرين والعمال المستضعفين من صغار المزارعين، حياة العتو والاستبداد، والمسكنة والذلة والجهل، ثم أرانا طرفاً من حياتنا المدرسية وما يكتنفها من آلام ومعايب مما شاهده وخبره بنفسه، فالقصة تدور حوله هو وحول حياته في مصر ثم انجلترا، وهنالك في إنجلترا، وصف لنا الكاتب حياة ذلك المجتمع الزاخر في صدق لهجة ودقة ملاحظة، دون أن تميل به عاطفة الوطنية إلى التحيز، بل إن هذه العاطفة كانت تحدوه إلى المقارنة بين حال وطنه وحال ذلك المجتمع في حماسة وصراحة وإخلاص وغيرة
ولقد قام برحلة في عطلته الجامعية إلى هولنده وألمانيا، ولم يفته هناك أيضاً أن يتعرض لمعايبنا الاجتماعية على ضوء ما صادف هناك من رقي عام قوامه الثقافة الفياضة والتضحية الخالصة، وفناء الفرد في المجموع، مما نتحرق ظمأ إليه في مجتمعنا
ولم يقف في كتابه عند النقد فحسب، بل لقد تعرض لكثير من ضروب الإصلاح، وأورد بعض اقتراحات جالت في ذهنه تشهد برجاحة علقه وصدق نظره
بيد أني أعيب عليه أنه يرى كل ما عندنا شراً، ولعل طموحه وتوثبه وشوقه الزائد إلى تغيير الحال وشدة إخلاصه هو الذي يملي عليه هذه الصرامة حين يشكو أو ينتقد، والحقيقة أني قد شاركته رأيه في جملة مسائل(47/81)
أحب الكاتب فتاة في الجامعة، وتعرف إلى فتاتين غيرها، فرأى إحداهما تضحي بشهرتها في سبيل الواجب فتقلع عن القيام برحلة جوية إلى استراليا لتسهر إلى جانب سرير أمها المريضة. ورأى الثانية ترفض خطبة حبيب لها لتعول أهلها، فأكبر هذه الأخلاق، ثم لم يشأ أن يكون أقل منهما نبلا، فضحى بحبه في سبيل عاطفته الوطنية، ولم يشأ أن يتزوج من فتاة تخالفه في طبيعته وآماله، وعاد إلى وطنه مسرعا. وكانت تلك هي خاتمة القصة، وكم نود لو نظفر بمثل هذا الخلق وبمثل هذا الروح، وبمثل هذا النشاط الأدبي ممن يعودون إلى أوطانهم من شباننا الناهض.
محمود الخفيف(47/82)
العدد 48 - بتاريخ: 04 - 06 - 1934(/)
لذة الشراء وآفة الملكية
للأستاذ أحمد أمين
بالأمس ضحك مني بائع الكتب القديمة، إذ رآني أقلب في الكتب، وأذهب ذات اليمين وذات الشمال، وأقف على الكرسي وأنزل من عليه، والكتب بعضها بال عتيق قد غلف بالتراب وأكلته الأرضة، وكلها وضعت حيثما اتفق، لم يعن فيها بترتيب حسب الموضوع ولا حسب الحجم ولا حسب أي شيء، ولم يبذل أي جهد في تنظيفها وعرضها، فكتب في الأرض، وكتب في السماء، وكتب في الرف، وكتب على المقاعد، وكتب في الممشى، البائع رجل تقدمت به السن، زهد البيع وزهد الشراء، وإنما يبيع ويشتري لأنه اعتاد أن يبيع ويشتري، كل ما في أمره أنه فضل أن يجلس في الدكان على أن يجلس في البيت إذ يرى الرائحين والغادين، ويستقبل الزائرين، ومن حين إلى حين يبيع كتابا أو كتابين.
وسط هذه المكتبة المغمورة بالكتب، والمغمورة بالتراب، والمغمورة بالفوضى، انغمست ببذلتي البيضاء، القريبة العهد بالكواء، أبحث عن كتب نادرة أشتريها، وأتصفح كتبا أتعرف قيمتها، فضحك إذ رأى غراماً بالكتب يشبه الجنون، ورغبة في البحث والشراء تشبه الخبل.
لا تضحك - يا سيدي - فإنما هي لذة الشراء أصيب الناس بها جميعاً، وان اختلفوا في مقدار الإصابة، فقد تهور فيها قوم، واعتدل فيها آخرون، وهي ظاهرة في منتهى القوة والغرابة، تتجلى بأجلى مظاهرها في الهواة، فهذا هاوي سجاجيد يجن جنونه إذ يرى سجادة قديمة، صنعت في أصفهان القرن الخامس عشر أو السادس عشر، يحتقرها الرائي العادي، ولا يرضى أن يأخذها ولا بالمجان، ويشمئز أن يراها في بيته، فإذا الهاوي يجري ريقه ويتحلب فمه، كأنه جائع سغب أمام أكلة لذيذة، وقد لا يجد ثمنها فيستدينه، وقد ينقصه الضروري من وسائل العيش ومرافق الحياة فيعمى عنه، ولا يرى أمامه إلا السجادة وشراءها، ولتكن النتيجة بعد ما تكون، وسيتكفل الزمن بسداد الدين، وليحمل الزمن وحده عبء ما يحتاج إليه من ضرورات العيش، بل سواء حلها أم لم يحلها، فليس في الوجود ما يعدل هذه السجادة، فلأشترينها ثم لتنطبق السماء بعد على الأرض
وكذلك الشأن في هاوي طوابع البريد، وهاوي الكتب، وكل الهواة، نمت عندهم على مر(48/1)
الزمان لذة الشراء لما يهوون، وغذاها كثرة الشراء وأحاديث الهواة الذين يحيطون به وإظهارهم الإعجاب الشديد بما اقتني، فإذا نظروا إلى سجادة عجبوا من لونها الباهت، وخيطانها التي هلهلها الزمن، وصورها غير المنسجمة، ونحو ذلك مما يدل على إمعانها في القدم، وكلما كان خيطها أبلى، ونسيجها أبسط، كانت أشد استخراجاً للعجب، وكانوا أكثر لها تقويماً، وأشد لها إعظاماً، وكانت لذة الشراء عند الهواة أشد طغيانا، وهم أمامها أشد ضغفاً.
هذه اللذة - لذة الشراء - يستغلها أرباب (المزاد) فهم يثيرونها إلى أقصى حدودها، ويبلغون مبلغاً جنونياً، فتحتدم الذات، ويخضع الشارون لتأثير الاستهواء، ويتغالبون في أثمان ما يعرض حتى قد تفوق أثمان الشيء الجديد، ولكن الشيء الجديد يشترى والعقل الواعي في سلطانه، وأما أشياء (المزاد) فتشترى والعقل الواعي قد أسدل عليه ستار من الاستغواء والاستهواء، ومن أغرب ما في هذا النوع أنك ترى الكثيرين يندمون إذا اشتروا، ويندمون إذا لم يشتروا.
ولذة الشراء هي السبب في أنك تشتري لزوجتك وبناتك الثوب الجميل، أو الحذاء الظريف، فتعرضه عليهن فلا يعجبهن، ثم يخرجن ويشترين ما هو أقل من جمالا وظرفا ثم يعدن راضيات، قد يكون السبب أن ما اشتريته ليس على ذوقهن، وأن هناك فرقاً كبيراً بين ذوق الرجال وذوق النساء، وأنك إذ تشتري لهن تحكم ذوقك في ذوقهن، ولكن يظهر لي أن ذلك في كثير من الأحيان ليس السبب الصحيح، وإنما السبب الصحيح أنك إذ تشتري لهن تحرمهن لذة الشراء، وهي في نفسها قد تفوق الشيء المشترى نفسه، ويفسر هذا أن السيدة قد تخرج وليس في نفسها شيء معين تشتريه، ولا تحس حاجة إلى شيء يشترى، وإنما هي - في أعماق نفسها - تريد أن تغذي لذة الشراء عندها، فما هي إلا أن تمر في دكان سمعان أو شملا أو شيكوريل حتى تشتري، وتشتري كثيرا، وتشتري ما لم يخطر لها على بال، ثم ترجع راضية لأنها أشبعت لذة الشراء عندها.
ولو أن الناس - وخاصة السيدات - اقتصروا على شراء ما هم في حاجة إليه لأغلقت دكاكين كثيرة، ولقل العرض وقل الطلب - ولكن لذة الشراء عندهم دفعتهم أن يشتروا ما لم يحتاجوا، وأوهمتهم في كثير من الأحيان بالحاجة إلى ما ليس لهم به حاجة - وإلا فما حاجتي إلى شراء كل هذه الكتب والمكتبات العامة مفتحة الأبواب؟ وما الحاجة إلى سراء(48/2)
نسختين من كتاب واحد والتعلل في ذلك بأتفه الأسباب؟ وما الحاجة إلى ملء البيت بهذا الأثاث وأقل منه يكفي ويزيده حسنا؟ وما الحاجة إلى شراء المرأة هذه الثياب المختلفة الألوان والأنواع، وقد لا تحتاج إليها مرة في الحياة؟ - لا شيء إلا لذة الشراء.
ويحدث في هذا الباب غرائب. فما وقوفك على الدكاكين واستعرضك ما فيها إما فيها إلا نوع مما تدعو إليه هذه اللذة، فان اشتريت فيها، وإلا فهو نوع من ظل اللذة كالسكير يتلذذ قليلا في رؤية الشاربين ولو لم يشرب معهم، والمحب يسر بعض الشيء من رؤية المحبين يتواصلون ولو هجره هو حبيبه.
قد كان من المعقول والطبيعي أن الناس - وهم يتلذذون هذه اللذة الشديدة القوية بشراء - يتلذذون كذلك لذة شديدة قوية بالملكية ثم يستمرون على التنعم بها، والتمتع الدائم بملكها، ولكن جرى الأمر في هذا العالم على غير ما يتوقع، فهم راغبون أشد الرغبة في ملك الأشياء، والملكية تذهب بلذتها. فالناس مولعون أشد الولع بالملكية حتى لو استطاعوا أن يملكوا القمر في السماء لملكوه، ولو ملكوه لحرموا جماله، وهم مولعون أن يملكوا كل شيء إلى درجة الجنون، حتى لو استطاعوا أن يسلبوا السماء زرقتها، والمزارع بهجتها، والبحار جمالها ليجعلوها في حوزتهم لفعلوا - وقد أدرك مهرة الباعة هذا الجنون في الإنسان فتفننوا في عرض ما يبيعون بحسن الوضع وتزويق وإيهام الترخيص وكثرة الإعلان في شكل جذاب يوقع في الوهم أن الشراء فرصة لن تعود، وأن ملكية الشيء تملأ الحياة سعادة وغبطة - ولو أنك دخلت بيوت الأغنياء والطبقة الوسطى لرأيت كثيرا مما فيها لا حاجة للبيت إليه، بل قد حمل أكثر مما يطيق حتى ذهبت بساطته، وزاد تعقده، واحتاج إلى زيادة الخدم والاتباع للعناية بنظافته وترتيبه، وجعل الحياة أكثر تعقداً وأشد ارتباكاً، وما دعا إلى هذا كله إلا لذة الشراء وجنون الملكية، وما قصر الفقراء في هذا إلا أنهم لا يجدون ثمن ما يطلبون، ولو أتيح لهم ذلك لأفرطوا في الشراء إفراط الأغنياء، ولولا جنون الملكية لكانت الحياة أبسط، ووسائل العيش أيسر، والتنعم بها أتم.
وكأن الطبيعة العادلة أرادت أن تعاقب على هذا النوع من الجنون، فسلبت المالك أكثر ما يتصور من لذة، فالشيء جميل لذيذ ممتع، فيه كل ما يتمنى المرء من سعادة ما لم يملك، فإذا ملك لم يجد فيه المالك كل ما يتصور ويتخيل، وأصبح أقل قيمة مما يأمل، ولا تزال(48/3)
قيمته في نقصان حتى يصبح عادياً تافها كأنه والحرمان سواء.
فالقصر الجميل هو أجمل ما يكون في عين من يمر به ويقل جماله شيئاً فشيئاً في عين من له به علاقة ما، حتى إذا بلغت المالك وجدت القصر لا قيمة له في نظره، ووجدت شعوره به كشعور الفلاح نحو كوخه، والفقير نحو عشه، وكلما طال الزمن بالغني تفه القصر في نظره، وحرم حرماناً تاماً من لذة الملكية، وصارت لذته خيالا لمن يمر به ويتصور نعيم سكانه أو مالكه.
وهذه قاعدة الحياة، فأجمل أيام الزوجية قبيل أيام يتخيل المرء أو المرأة ما ينتظر من نعيم مقيم، وأيام يسبح خياله أو خيالها في الآمال والأماني التي لا حد لها، ثم تصدمه أو تصدمها الملكية أو شبه الملكية، فإذا كل شيء عادي مألوف.
وأجن بالكتاب قبيل شرائه وعند شرائه، وأبيت ليلة وأنا أحلم به ولا أسمح لنفسي بالنوم ليلة الشراء قبل تصفحه ومعرفة ما فيه أو على الأقل عناوينه، ثم يوضع في المكتبة وينسى وكأنه لم يملك.
والأملاك الواسعة والغنى الوافر أمل الناس جميعاً، ولو درسوا في دقة - أربابها وحالهم وشعورهم لوجدوا الفرق الواسع بين ما يتخيلون وما يدرسون، ولو وجدوا أن أكثر الأغنياء يعانون من غناهم ما لو عقلوا وخف عنهم جنون الملكية لنزلوا للمجتمع عن شيء مما يملكون ويعانون، فسعدوا وأسعدوا.
أليس عجيباً في هذه الحياة أن ألذ شيء في الملكية خيالها؟
أحمد أمين
-(48/4)
من ذكريات العراق
تأمل ساعة
بقلم أحمد حسن الزيات
في الشرفة الوسيعة في فندق (كارلتون) جلست أطالع في صفحة دجلة ما خطته يد القرون. وكانت شمس الأصيل تنفض تبرها على أمواج النهر وسطوح الكرخ وحواشي الأفق، والطبيعة الأنيفة تنعم بالصفاء والبهاء والدفء، بعد ما أجهدها رعد الأمس وبرقه، وأغصها وابل الغمام وودقه، فالسماء مصرية الأديم، والجو عبهري النسيم، والأفق الغربي مزدان بقزعات من السحاب الأبيض الرقيق، والماء قد استحال لجينه نضاراً من طول ما حمل إليه السيل من كنوز الجبل.
أخذت أصوب النظر وأصعده في النهر والجسر والشاطئ. فأرى أنماطاً من الناس، وأخلاطاً من الأجناس، وصوراً من الأشياء، تنكرها العين ويعرفها القلب، لأنها شرقية، ولأنها عربية، ولأنها مظلومة!. . . .
ذكرتني هذه المناظر مناظر غابت في سويداء القلب ولفائفه: ذكرني تقابل الرصافة والكرخ على دجلة، تقابل القاهرة والجيزة على النيل الأعلى، والمنصورة وطلخا على النيل الأسفل!.
وفي هذه الأماكن الحبيبة مدرج طفولتي وشبابي، وملتقى أحبتي وصحابي، فهاجت شجوني وسالت شؤوني. فوضعت جبهتي المضطرمة على سياج الشرفة البارد، وعدت بالذاكرة وشيكاً إلى بغداد، ثم انطويت على نفسي، وأخذت أتفكر وأتذكر وأعمه في غيابة الماضي، حتى انقطع ما بيني وبين الحاضر، وانمحى من حوالي العالم بأسره
وحينئذ انبعث من جانب الكرخ صوت شاد يرجع بالنغم العربي الشجي، فخيل إلي أنني أرى دجلة (الأمين). وجسر (ابن الجهم)، وكرخ المجان والخلعاء من أهل بغداد المترفة؛ ووقع في سمعي أن هذا الشادي يقول:
سقى الله الكرخ من مُتَنزَّهٍ ... إلى قصر وضاح فِبرْكَةِ زلزل
مساحب أذيال القيان ومسرح ال ... حسان ومثوى كل خرق معذل
وصور لي أنني أسمع غناء الملاحين في الزلازل، وأبصر (الدلفين) و (العقاب) يمخران(48/5)
العباب بالأمين وحسانه وقيانه ونداماه!. . . وتراءت لي على الشاطئ الشرقي قصور البرامكة الحزينة، يقابلها على الشاطئ الغربي قصور الخلفاء والأمراء تعج بالجواري والغلمان، وتضج بالشعراء والندمان، وتموج بالسادة والقادة والجند، وتفيض بالنعيم والجلال والعظمة، وتمثلت في خاطري بغداد الأمس كباريس اليوم في عدد سكانها، وفخامة بنيانها، واتساع رقعتها، وازدهار مدنيتها، وانبعاث الحضارة من مجامعها ومنابرها، وانبثاق الهداية من جوامعها ومنائرها. إلا أن باريس تشع في أجواء مشرقة تسطع فيها شموس أخرى تضارعها وتصارعها، أما بغداد التي عنت لها وجوه القياصرة، وكان من جندها أبناء الدهاقين والأكاسرة، فكانت شمساً واحدة ترسل الضوء والحرارة والحياة في القارات الثلاث فتبدد ما غشيها من ظلام وخمود ونوم
لا أدري متى كنت أصحو من نشوة هذه الذكريات الحلوة المرة، لو لم يعدني إلى وجودي صوت منكر من أصوات الحضارة الحديثة، قد انطلق من جوف مركب بخاري عظيم، كان يشق بحيزومه صدر دجلة، فسرحت طرفي في الأفق فإذا شمس الشرق تجاهد ظلام الغرب، وإذا القزعات قد ارتد بياضها سواداً ضربت في حواشيه حمرة الشفق، فصارت كأجنحة الغربان الدامية، أو كقطع من الفحم علقت بأطرافها نار حامية. ثم نظرت شمالاً فإذا المكان الذي سجدت فيه رسل (شارلمان) أمام الرشيد يخفق فوقه علم غريب، لا هو أسود ولا أبيض ولا أخضر وإذا قطع من السحائب السود قد انعقدت فوقه ملبدة هنا مبددة هناك. . . فقلت في نفسي ليت شعري أهذه بقايا أعلام الرشيد والمأمون، أم هذه أثواب الحداد لبستها سماء العراق على السعدون؟!
الزيات(48/6)
حمار بوريدان
بقلم السيد محمد روحي فيصل
لعل أشد الأدواء فتكاً في النفوس، وأكثرها ذيوعاً وانتشاراً، وأعمقها أثراً وتغلغلا، هذا الضعف في الإرادة أو التردد في العمل. يقعد بالمرء عن تحقيق رغائبه وآماله، ويمسكه عن تنفيذ مشاريعه وخططه، ويحول بينه وبين الإنتاج المتصل الذي يفيد الأمة ويفيد الإنسانية ثم يدفعها نحو المثل العليا الثلاثة: الخير والجمال والحقيقة
ومن العجب أن التردد على شدة فتكه وكثرة ذيوعه وعمق تغلغله لا يحسب ولا يلتفت إليه كأنما هو عرض من هذه الأعراض الهينة اليسيرة التي لا قيمة ولا وزن، أو كأنما هو شذوذ خفيف ضئيل في اتجاه مجرى الإرادة الصحيحة القوية!! ولعمر الحق ما شيء أنكس للرقى والمدنية وأدعى إلى الجمود والموت مثل التردد والإحجام (يصيب المرء في حياته العملية فيغل يده، ويشل عقله، ويتركه فريسة للألم من ضعفه، والخجل من صحبه. تظهر أعراضه في صغار الأمور وكبارها، فيكون في انتقاء الثوب واختيار الحالة، وفي الإقدام على الزيارة القصيرة والرحلة الطويلة، ويدخل في لذاذات الرجل وأعماله، كما يدخل في إدباره وإقباله)
أجل! يكون التردد في زورة الصديق، وافتتاح الحانوت، وارتياد المقهى كما يكون في طلب العلم والقوت والمال. وسواء أدخل في حقير الأمور أم جليلها فإنما هو يقف النهضة، ويبطئ الحركة، ويعوق عن التجدد والإبداع
لقد كشف السيكولوجيون عن نفسية المتردد، وأوضحوا المظاهر المتباينة العنيفة التي تطغى عليه وتأخذه بالحيرة والقلق فقالوا إن كل فعل إرادي لابد أن يجتاز على التوالي أربعة أطوار:
1 - تصور غاية الفعل، وإدراك المقصود من تحقيقه
2 - طور الموازنة والمفاضلة. ذلك بأن كل فعل إرادي له بواعث قلبية وجدانية تخلقها الأهواء والميول، وتغذيها العواطف والنزعات، وتنميها المشاعر والأحاسيس. وعوامل عقلية ذهنية مصدرها المنطق والمحاكمة والمعرفة. فالمرء في هذا الطور يوازن بين البواعث القلبية والعوامل العقلية ويفاضل بينهما، ويقوم بعملية حسابية يزن بها قيمهما(48/7)
3 - طور التقرير، ذلك أن المفاضلة بين البواعث والعوامل لابد أن تسفر عن نتيجة هي حل الفعل وتقريره
- طور التنفيذ - والتنفيذ تاج يزين هام الفعل الإرادي، ويتم محاسنه
شاء بعضهم أن يحذف من هذا التقسيم طور التنفيذ لأن الفعل الإرادي في نظره مرتبط من الوجهة النفسية بالتنفيذ أو عدمه. على أنه ينبغي أن يكون ثمة بداية في تحقيق الفعل واتجاه نحو العمل. لذلك قلنا إن التنفيذ (تاج يتمم محاسن الفعل الإرادي ويزين هامته)
فالتردد إنما يكون في الطور الثاني، طور الموازنة والمفاضلة. والمتردد إنما تتجاذبه البواعث والعوامل، يوازن بينهما ويفاضل بين قيمهما ثم لا ينتهي من موازنته ومفاضلته، ولا يضع حدا لهذا الاضطراب والفوضى. تناجيه بواعث القلب فيتفيأ ظلاله ويطمئن إلى أفنانه، ثم لا تلبث عوامل العقل أن تخرجه من طمأنينته وتغزو نفسه كلها. فهو ساحة حرب ما تكاد البواعث القلبية تنتصر فيها حينا إلا لتنخذل وتتراجع أمام قوة العوامل العقلية. وشدة منعتها، وعظمة سلطانها.
هكذا كتب الله على المتردد أن يقف بين بين، لا يقرر ولا ينفذ وإنما يخضع لطائفة من الاعتبارات النفسية المتعاكسة. وهذه الاعتبارات قد تنشأ عن خصب في الخيال، وسعة في المعرفة، وقوة في التفكير. وقد تنشأ عن تيقظ في الحيوية الانفعالية، واشتداد في الميل والهوى، وتدفق في الرغبة والعاطفة.
ومها يكن منشأ هذه الاعتبارات القوية فان المتردد عضو أشل (يعيش على هامش المجتمع البشري) كما يقول الدكتور بلوندل
قد تسأل بعد هذا: إذا كان الأمر ما تقول فما شأن الحيوان هنا؟ ومن يكون بوريدان هذا؟ وما هي العلاقة التي تصل عالم النفس الإنسانية بعالم (الحمير)؟؟
الحق إنه سؤال وجيه ممن لا يعرف وجه الاتصال والتقارب. فأما بوريدان فهو فيلسوف من فلاسفة اللاهوت والدين المسيحي في العصور الوسطى، ولد في مدينة بيتون من أعمال فرنسا الشمالية وتوفي عام 1360 ميلادية. ينتسب إلى مدرسة (السكولاستيك) المشهورة بالجدل الديني والتفكير الغيبي، والتي من رجالها (روجر باكون) و (القديس بونا فانتير) و (دونز سكوت). وأما الحمار فقد شاء بوريدان أن يوضح (حرية الاختيار) في الحياة(48/8)
والنفس بتشبيه طريف ومثل قريب فافترض وجود حمار جائع ظمآن على مسافة معينة واحدة من إناء فيه ماء عذب، ومعلف فيه تبن وشعير. . . وطفق الحمار يفكر على جوعه وظمئه بأي الأمرين يبدأ: أيملأ بطنه أولا أم يروي ظمأه؟ فما يكاد يتجه نحو الماء مثلا حتى ينكفئ راجعاً نحو التبن والشعير!! وقد كان في وسعه أن يختار الذي يريد ويلتهم ما يهوى، ولكن الحمار المسكين بقي يفكر على ذلك النحو من المنطق العقيم حتى سقط جثة هامدة، ومات جوعاً وظمأ!!
هذه القصة الموجزة الخيالية تصور، غير حرية الاختيار، طبيعة التردد وعاقبة المتردد. فأما طبيعة التردد فقد شرحناها من الناحية النفسية، وأما عاقبة المتردد فهي كما رأيت: الفناء والموت. ذلك بأن الحياة تتطلب السرعة والحركة والعمل لا الجمود والإحجام. وكل من لابس الحياة وخاض غمارها فإنما ينبغي له أن يعمل ويعمل، لا يأبه بالموانع والصعوبات التي قد يصادفها في طريقة وتتعثر بها رجلاه، وإلا فان مصيره المحتوم التخلف عن الحياة، والانحدار نحو التفكك والانحلال. يذهب غويو إلى أن العمل المستمر أو الفاعلية الشديدة إنما يجب أن تكون المثل الأعلى في الأخلاق، لأن الحياة ليست ترددا ومحاسبة وإنما هي عمل وإنتاج , ` , ` ,
ولسنا نحب هنا أن نقيد الفاعلية الشديدة بالخيرية والشرية، وإن شئت فقل إننا لن نتعرض للخيرية والشرية في صدد الحث على الفاعلية الشديدة والجهد الدائم.
وعلم الأخلاق الحديث المبني على التجربة والمشاهدة يأبى ذلك وينفر منه كل النفور. فما يدربنا أن الأمر الذي نحكم بخيريته وشرف غايته يصبح شراً كله إذا نحن طبقناه ومارسناه في الحياة العملية. فالخيرية التي نخلعها على طائفة من الأمور دون أخرى هي خيرية سابقة للتجربة ومتقدمة على المشاهدة , فلنزاول إذن كل الأمور ولنتصل بكل شيء، ولتكن حياتنا ملآى مستفيضة الجوانب، متصلة الحركة، قوية الإرادة
والإرادة العاملة المحركة كنه الوجود وأس الكون كما يقرر شوبنهور إذ يعتقد أن الأحياء جميعاً محكومون بإرادة باطنية لا شعورية عمياء، دائبة الهمة والنشاط، متجددة الشهوة والرغبة، تسيطر على الفكر والعقل سيطرة عظمى.
إن صاحب الإرادة القوية سيد عواطفه وآرائه، فرغائبه تنقلب آناً إلى إرادة فاعلة، ليس(48/9)
يعرف المستحيل ولا يقر بوجوده في قاموس الأعمال!!
وبعد. ما دواء التردد؟ وكيف السبيل إلى الشفاء من هذا الداء؟ ذكر أطباء النفس طائفة من العلاجات الناجعة، منها ما هو لمداواة الجسم ومنها ما هو لمداواة الروح: ينبغي قبل كل شيء ترويض الأعضاء وتقوية الحواس وامتلاك الصحة لأن للإرادة أساساً عضوياً، ولسنا نبالغ إذا قلنا إن قوة العضلات هي الصورة الأولية الابتدائية لقوة الإرادة. فالمريض لا يستطيع تحقيق أمانيه لأن جسده فاتر العزم خائر القوى، وينبغي الطاعة وحب النظام، فالطفل إذا أطاع غيره فإنما يتعلم كيف تكون السيادة على الذات وقهر النفس، وهنا قد يكون للأسرة والمدرسة الأثر البليغ في ذلك
كذلك ينبغي تثقيف العقل وتهذيب الشعور. أما تثقيف العقل فيكون بالتفكير الصحيح، والانتباه الثابت، وتصور غاية الفعل بصورة محسوسة مسهبة، وإدراك مختلف المذاهب والنحل. وقد قال ديكارت (إن الإرادة القوية في العمل تقتضي وضوحاً شديدا في العقل). وأما تهذيب الشعور فيكون بالميل إلى المثل العليا الإنسانية، والاعتدال في الحب والهوى بحيث لا تطغى البواعث القلبية على العوامل العقلية فتجري الموازنة في جو هادئ ثم تسفر عن التقرير والتنفيذ ويسلم المرء مما وقع فيه حمار بوريدان.!
حمص
محمد روحي فيصل(48/10)
الانقلابات السياسية المعاصرة وأثرها في تطور
التفكير والآداب
للأستاذ محمد عبد الله عنان
من المبادئ الخالدة أن الفكر تراث الإنسانية، وأن ثمار التفكير البشري ملك حق لجميع الأمم والناس. وأن العلوم والآداب والفنون لا وطن لها ولا تعرف فوارق الجنس والقومية. وقد كانت هذه المبادئ وما زالت هي الغالبة في توجيه الفكر الإنساني؛ وإذا كان التفكير يتأثر في أحيان كثيرة بالعوامل والاعتبارات القومية فالمفروض دائماً أن هذه المؤثرات لا تجني على المبادئ والحقائق الخالدة. فقد مجدت الحرية مثلاً في كل العصور، واعتبرت أعز أمنية للشعوب والأفراد وأجدرها بالتضحية، وقدست حرية الفكر واعتبرت دائماً عنوان الكرامة البشرية؛ واعتبر الإخاء والمساواة منذ الثورة الفرنسية من أقدس المثل الإنسانية. ولكنا نرى اليوم هذه الحقائق تهدر في أمم عظيمة، فالحريات بأنواعها تسحق وتذم، وتعتبر العبودية نظاما، والخضوع الأعمى وطنية، والقومية المتعصبة تطغى على كل المبادئ والمثل الإنسانية؛ ونرى التفكير والآداب في هذه الأمم تنزل على وحي السياسة وإرادتها، وتغدو ألسنة مصفدة لتتأيد المبادئ والدعوات الجديدة.
وهذه ظاهرة خطيرة في عصرنا تستحق الدرس العميق. فمنذ الثورة الفرنسية لم يشهد العالم المتمدن انقلاباً في النظم الاجتماعية والفكرية كالذي نشهده اليوم كأثر للانقلابات السياسة التي وقعت منذ نهاية الحرب في كثير من الأمم الأوربية. وقد كانت الحرب الكبرى ذاتها وما ترتب عليها من النتائج السياسية والعسكرية أكبر عامل في التمهيد لهذه الانقلابات، فقد هزت الحرب دعائم المجتمع كله، وقوضت كثيراً من نظمه وآرائه ومعتقداته القديمة، وعصفت ويلاتها وأزماتها المتوالية بالنفوس والعزائم، وبعثت اليأس والاستكانة إلى كثير من المجتمعات، وظهر أثر ذلك كله واضحاً في آداب ما بعد الحرب. ونلاحظ في هذه الفترة أن النزعات الحرة والثورية تغلب على معظم ألوان التفكير والأدب، وأنها تتجه غالباً إلى الثورة على المبادئ والآراء القديمة، سواء في النظم السياسية أو الاجتماعية، أو تقدير الفضائل والأخلاق. على أن هذه الآثار العامة ليست كل شيء في هذا الانقلاب الفكري العميق الذي نريد أن نتحدث عنه. وإنما يمتاز الانقلاب بآثاره المحلية(48/11)
والخاصة، فهذه الآثار تذهب اليوم في بعض الأمم إلى إنكار الماضي كله والمثل الفكرية والأدبية والإنسانية كلها.
وهذه الثورات الفكرية والاجتماعية العميقة ترجع كما قدمنا إلى الحركات السياسية والقومية العنيفة التي جاش بها كثير من الأمم عقب الحرب، فقد كان لهذه الحركات أكبر أثر في توجيه التفكير والآداب والثقافة. والحقيقة أننا لا نستطيع أن نلاحظ مثل هذا الانقلاب العميق في مناحي التفكير والآداب إلا حيثما وقع انقلاب سياسي عميق يقوم على إنكار الماضي ومبادئه وآرائه القديمة. ففي روسيا السوفيتية حيث سحقت الثورة دولة القياصرة والمجتمع الروسي القديم بكل ما فيه من نظم ومبادئ وتقاليد، وقامت نظم سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة البلشفية، نرى التفكير الروسي يتميز بلون ثوري عميق، ونرى نظريات الثورة العالمية، وسيادة الطبقات العاملة، والإخاء الدولي، ونضال الطوائف، وسحق الرأسمالية وغيرها تغمر الأدب الروسي المعاصر، ونرى الثقافة الروسية كلها تتجه إلى غرس هذه النظريات واعتبارها قوام الحياة الروسية العامة، وغذاء التفكير والآداب والفنون. ولم يبق من الأدب الروسي القديم ما يستحق التقدير في نظر روسيا البلشفية سوى آثار المفكرين والكتاب الأحرار والثوريين، مثل ترجينيف ودوستويفسكي وتولستوي والبرنس كروباتكن، تلك الآثار التي تصف شقاء المجتمع الروسي في عصر القياصرة، والتي كانت غذاء للحركة الثورية. وفي تركيا الكمالية نرى نواحي التفكير والثقافة تصطبغ بصبغة غربية جديدة هي أثر مباشر لاتجاه ثورة التجديد التركي ودفعها لتركيا نحو الغرب، بعد أن لبثت قرونا شرقية أسيوية، ونرى زعماء تركيا الجديدة يحاولون أن يخلقوا للشعب التركي عقلية جديدة تقوم على نسيان الماضي وبغض دول السلاطين، وتحقير العصبية الشرقية أو الإسلامية، وتمجيد الإصلاحات الجديدة، والاندفاع وراء التيار الغربي. ويذهب زعماء تركيا الجديدة إلي غرس النزعة القومية والتفكير والآداب إلى حدود الإغراق، فنراهم يغيرون قواعد اللغة التركية وألفاظها ويستبعدون منها الألفاظ المشتقة من لغة أخرى، ويضمون لتركيا تاريخاً جديداً تغفل فبه الحقائق العلمية والتاريخية الراسخة، ويقال لنا فيه إن الحضارة التركية هي أساس الحضارة البشرية، وأن اللغة التركية القديمة هي مصدر اللغات البشرية، وغير ذلك من المزاعم المغرقة التي تنقضها أبسط الحقائق(48/12)
التاريخية؛ وهذه المزاعم والنزعات كلها تمثل اليوم بقوة في الأدب التركي الجديد، ولا يسمح للمفكرين والكتاب الترك أن يعالجوا غيرها أو أن يعالجوها بما يخالف النظريات الرسمية؛ فالأدب التركي اليوم كالأدب الروسي، أدب حكومي تشرف عليه الحكومة وتوجهه إلى ما ترى فيه تحقيق برنامجها السياسي والاجتماعي.
وقد كانت الفاشستية بلا ريب أعظم حركة سياسية اجتماعية حدثت بعد الحرب؛ وكان لها في توجيه التفكير والآداب أعظم أثر. ونلاحظ أولاً أن الانقلاب الروسي في هذا التوجيه أبعد مدى من حيث كونه ينكر أسس المجتمع القديم كلها، سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية، ولكن الفاشستية لا تذهب في الهدم إلى هذا الحد؛ وبينما تذهب البلشفية إلى تقوية النزعات الثورية والحرة في حدود الطغيان البلشفي، إذا بالفاشستية تقمع كل نزعة ثورية أو حرة تتجه إلى محاسبتها. وقد كانت الفاشستية إلى ما قبل عامين حركة محلية إيطالية، ولكنها تغدو اليوم حركة أوربية عامة تحدث آثارها السياسية والاجتماعية والفكرية في ألمانيا وبولونيا والنمسا وغيرها. ولما كانت الفاشستية حركة طغيان شامل، فإنها تبسط سلطانها على الحركة الفكرية كما تبسطه على كل قوة معنوية أخرى، وتحاول أن تصفدها في حدود برنامجها، وأن تسيرها طبقا لوحيها وإرشادها. وهنا فرق جوهري بين موقف الديموقراطية وموقف الفاشستية من الحركة الفكرية؛ ذلك أن الثورة الديمقراطية تقع دائما في المحيط العقلي، ثم تحدث آثارها المادية بعد ذلك في الأنظمة السياسية والاجتماعية؛ ولكن الفاشستية تقوم بالعكس في المحيط المادي وبوسائل العنف المادية، ثم تحاول بعد ذلك أن تغزو الميدان العقلي وأن تجعل من الحركة الفكرية أداة لتوطيد سلطانها كما تجعل من الجيش والأسطول؛ ومن أهم الظواهر الفاشستية إنها تعمل على مطاردة القوى العقلية الممتازة التي لا تخضع لوحيها، ولا ترعى سوى الأذهان الضئيلة المتواضعة التي تهرع لخدمة كل سلطة جديدة وكل نظام جديد
ويبدو أثر الثورة الفاشستية في الحركة الفكرية الألمانية بشكل قوي واضح. ففي إيطاليا تسود المبادئ الفاشستية الرجعية في توجيه التفكير والآداب والفنون والحياة العقلية كلها كما تسود الحياة السياسية والاجتماعية، وتغمر الثقافة الإيطالية في جميع نواحيها، وتحاول أن تحدث أثرها في توجيه الثقافة العالمية. ولما كانت الفاشستية تنكر الحريات العامة، فهي لا(48/13)
تعترف بحرية الفكر بل تبغضها وتسحقها بكل قواها، لأنها ترى في وجودها خطراً على كيانها؛ وحرية الفكر أسمى مزايا الإنتاج العقلي والفني، وإذاً ففي ظل هذا الطغيان الذي يسلب الفكر أقدس حقوقه، لا يمكن أن يزدهر التفكير الرفيع، ولا أن تصل الآداب والفنون إلى ذرى القوة والصقل؛ وتغدو الحياة العقلية مطبوعة بطابع التماثل الممل، لأنها تسير وتسخر طبقاً للوحي القاهر. هذا إلى أن التفكير والآداب في هذا الأفق المصطنع قد جردت من أقدس المثل التي استرشدت بها في كل العصور، فأصبحت تمجد العبودية لأنها أسيرة الطغيان، وتمجد الحرب لأنها جردت من المثل الإنسانية الخالصة. وهذه الظواهر هي وليدة الطغيان قبل كل شيء تتجلى اليوم بأوضح ألوانها في ألمانيا على حداثة عهدها بالفاشستية؛ فإن الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية ما كادت تظفر بقلب نظم الحكم في ألمانيا، وإقامة الطغيان على أنقاض الديموقراطية، حتى أخذت تفرض مبادئها ونظرياتها على التفكير والآداب والثقافة الألمانية؛ وهي اليوم تمثل في الحياة الألمانية بقوة، ونظرياتها القومية والجنسية المغرقة تطبع التفكير الألماني في جميع نواحيه العلمية والأدبية والفنية، بل هي تذهب في الجرأة إلى حد محاولة التأثير في العقيدة النصرانية وصبغها بصبغتها. والعلم والتفكير والآداب والفنون في ألمانيا تسخر كلها لخدمة الدعوة الوطنية والاشتراكية وتمجيد مبادئ هتلر، واثبات نظرياته المغرقة في تفوق الجنس الآري على الأجناس الأخرى، وتفوق السلالة الألمانية على سائر المخلوقات؛ واثبات صلاحية الحكم المطلق وفشل الحكم الديموقراطي؛ وتمجيد الخضوع المطلق للزعامة، والانتقاص من قيمة الحريات العامة، وغير ذلك مما تضمنه برنامج الوطنية الاشتراكية (وإنجيل) هتلر. وقد ذهب الوطنيون الاشتراكيون بعيداً في السيطرة على زمام الحركة العقلية في ألمانيا، فبسطوا إشرافهم على الجامعات، وأصدروا تشريعاً يصفد الصحافة ويجعلها مهنة شبه حكومية، ويجعل الكتاب دعاة للوطنية الاشتراكية وطغيانها. وكما أن الفاشستية الإيطالية بعثت إلى الأدب الإيطالي بصور رومة القديمة وذكريات الإمبراطورية الرومانية ومجد القياصرة، وبالطموح إلى إحياء هذه الذكريات والصور في حياة إيطاليا وآمالها، فكذلك بثت الوطنية الاشتراكية في الأدب الألماني مثل الإمبراطورية المقدسة الذاهبة، وصور ألمانيا العسكرية الظافرة الزاهرة تحمل زعامة الجنس الآري كله، وتملي على أوربا القديمة(48/14)
إرادتها ومثلها.
وقد كان للانقلابات السياسية والقومية دائماً أثرها في توجيه التفكير والآداب في جميع الأمم والعصور؛ ولكن لعل التاريخ لم يشهد عصراً غمرت فيه القومية المتطرفة والنزعات الرجعية التفكير والآداب كعصرنا؛ ذلك أن التوجه القومي المعاصر يذهب إلى حد الإغراق ويتخذ صوراً من العنف لم يسمع بها، ويحاول أن يسيطر على جميع نواحي الحياة العامة، وأن يتدخل في صوغ العقلية العامة. ولا ريب أن الحركات القومية تكسب من وراء ذلك قوة، وربما كست الأمم في بعض نواحي الحياة المادية حيوية جديدة، ولكن الحركة العقلية تعرض بالعكس لأخطار كثيرة. ذلك لأن الثورات القومية العميقة تقوم على العوامل السياسية قبل كل شيء، وتستخدم في سبيل مآربها سلاح الدعوات المغرضة والنظريات الموضوعة التي لا تقرها المثل الإنسانية دائماً، ولا يقرها العلم الخالص والحقائق المنزهة. والثقافات التي تطبعها أهواء السياسية والنظريات المغرضة، والآداب التي ترغم على تصوير ألوان مصطنعة من الحياة العامة والحياة الفردية، وتحمل على تمجيد البطولة الزائفة، وتمجيد العبودية في عصر النور والحريات، وامتهان المبادئ والمثل المقدسة، وتزييف حقائق العلم والتاريخ الراسخة، هذه الثقافات والآداب ليست جديرة بأن تقود الأمم العظيمة، وليست جديرة بالأخص بأن تتخذ مكانها بين تراث الإنسانية الرفيع.
إن تطور التفكير والآداب على هذا النحو في أمم عظيمة كإيطاليا وألمانيا، هو بلا ريب ظفر جديد للمبادئ والاعتبارات المادية، ولكن ظفر المبادئ والاعتبارات المادية على حساب الحياة العقلية والروحية من ظواهر انحلال الحضارات والأمم؛ وإن حضارة تمجد فيها العبودية، وتطارد فيها العلوم والآداب لأجدر بالعصور الوسطى منها بعصرنا.
محمد عبد الله عنان
المحامي(48/15)
من ذكرياتي في مصر:
ساعة عند أمير الشعراء
لا أزال اذكر تلك الساعة السعيدة التي هبطت فيها مصر لأول مرة في
حياتي عام 1929 فقد كانت مليئة بالخواطر، فياضة بالآمال، محفوفة
بالأحلام. وكانت الفصل بين ماض راحل، ومستقبل ماثل، لقد تذكرت
وأنا أجتاز ميدان (باب الحديد) وطرفي شاخص إلى تمثال (نهضة
مصر) القائم وسط ذلك الميدان الفسيح، أنني قد بلغت ما كنت أتشوف
له وأصبوا إليه، فها أنا في تلك المدينة الجميلة التي طالما تاقت إلى
مرآها نفسي، ونزع إليها هواي، وها أنا في ذلك البلد الأمين الذي كان
ملاك خاطري وقيد ناظري، ومعقد أملي، ومحط رغابي، كم كنت
أتمنى في تلك الساعة لو يتاح لي شهود مصر كلها فاجتلي ما فيها، لقد
تمثلت أمامي بحضارتها المزيجة من روح الشرق الخالدة، أو نفسية
الغرب الجديدة، فعملت فيها كل منهما عملها، فظهرت من الاثنتين ثالثة
كانت رباط الشرق بالغرب، وجماع شخصيتيهما المتباعدتين من أقدم
العصور حتى اليوم.
وتمثلت أمامي بأعلامها الميامين، وأبنائها المقاويل، وأساتيذها الأماثيل. وشعرائها المفلقين، أولئك الذين تسمع دوي اسمهم في أنحاء الشرق يملك عليك سمعك، ويأخذ بمجامع قلبك، فرفعوا اسم مصر وبنوا لها في الأدب والفن مجداً أصبحت به محط الرجال وقبلة الآمال. . .
رحم الله (شوقي وحافظ) فقد كنت إذا ذكرت مصر أو مرت على خاطريالحياة على جنبات النيل ذكرت قبل كل شيء (شوقي وحافظ) وأنهما يقيمان في هذه المدينة القائمة في هذا السهل الوسيع، يحرسها (أبو الهول) الرابض في كنفها هازئاً بالزمن ساخرا من الحياة(48/16)
الخاطفة. . والحق أن (شوقي وحافظ) أقاما لهما من المجد ما أخرس كل لسان، فملكا على الناس أسماعهم، وإنك لتسمع لهما صوتاً يرن في الآذان، حيثما وليت وجهك في هذه البلاد العربية المترامية الأطراف، فكان مما أردته وأنا في مدينة شوقي وحافظ أن أراهما حق الرؤية، وأن أعرفهما حق المعرفة، وهكذا كان. .
لقد أشربت النفوس حب شوقي فخالط اللحم والدم، لأنها كانت تجد فيه فيضاً من العبقرية لا ينضب، وكنزاً من الإبريز يزيد قدره تعاقب الأيام والسنين، هذا إلى ما كان عليه من عظيم الخلق، ونبل القصد، وسجاحة النفس، وعفة اللسان، وحب الخير، وصلابة الإيمان، والملاحاة عن بيضة الدين والعربية بما حباه الله من صارم ذرب، ولسان عضب، وقول فصل، يدعمه غزارة العلم، وضلاعة في التأثير، وشت الخصوم.
رأيت (شوقي) لأول مرة في دمشق بـ (كازينو الخديوية) وكان بالقرب من الطاولة التي كنت عندها فعرفته من غير دليل، وعرفت أنه الشاعر العظيم بلا لبس ولا مراء، وإن لم يرشدني إليه أحد فما أعظم المثلة بين هذه الأسرة والقسمات وبين تلك التي كنت أتوسمها في صوره في الكتب والمجلات. . .
لقد كنت جد شيق إلى التعرف به في تلك الفترة من الزمن، ولكن كم كنت أراني فضولياً إذا قمت بذلك في غير الفرصة السانحة التي تقضي بهذا التعارف، فحملت نفسي على إرجاء ذلك إلى الظروف والمناسبات. .
وفي عام 1930 بعد تجوال أربعة أشهر في سورية وفلسطين، عدت إلى القاهرة للمرة الثانية غب عطلة الصيف. فوجدت الكثير من الشباب العرب في معاهد مصر يزمعون إنشاء جمعية باسم (جمعية الوحدة العربية) تلك التي طالما كنا نتغنى بذكرها، ونؤكد وجوب تأسيسها في السنة المنصرمة لضم شمل أبناء الضاد وعقد تعارف وثيق بينهم على ضفاف النيل السعيد، وسرعان ما نضجت تلك الفكرة، فأتت أكلها عن قريب، ولقد وجدت من (شوقي) رحمه الله خير نصير لها، حريص عليها، مبشر بها، فأوفدت الجمعية ممثلين لمختلف أقطار العرب كنت أحدهم لتقديم الشكر إليه باسمها، وتهنئته بابلاله من علته، فما كان أعظم ابتهاجه بنا، لقد كان يحثنا على مواصلة ما نحن فيه، ويضرب لنا الأمثال بصوته الضعيف المتقطع يخرجه بتكلف وعناء، مدعماً إياه بإشارات مختلفة من يديه(48/17)
يستعين بها على إظهار ما يريد، لقد كان أساي في تلك الساعة عظيما كلما نظرت إلى الشاعر وما يقاسيه، التياعاً مما سيصيب دولة الشعر في المستقبل، وإشفاقاً على شوقي مما هو فيه من داء كامن بالغ، وإعياء شامل وشحوب باد. . .
لقد كان ذلك الاجتماع أول اجتماع عقد صلة المعرفة بيني وبينه، وكنت كلما زدت تعرفاً به، ازددت إعجاباً بعبقريته الفياضة، وزدت شوقاً إلى مجلسه الجامع لافانين الأدب، وروائع الحكمة، وطرائف الأخبار وأوابد الملح والمفاكهات، ولا غرور في ذلك فشوقي يمثل عصراً بكامله، عصراً كان فيه مالك سمعه، وشاغل لبه، ومثير مشاعره، وهو خير مرآة له، بل خير من سيصوره للأجيال الآتية حق التصوير.
وفي عام 1932 عدت إلى مصر بعد أن فارقتها ما يناهز سبعة أشهر، وكنت إذ ذاك في ضيق من دروس متراكمة، أتدارك ما فات، فشغلتني مشاغل المراجعة والحياة بين الكتب، والحرص على الوقت القصير من زيارة شوقي وتجديد عهد الاجتماع به. .
وأقبلت طلائع الصيف لهذا العام، وانتهت أعوام المدرسة اللذيذة، أو قل الحياة في مصر، ودنا أوان العودة إلى الوطن العزيز، والتزود من النيل بذكريات على جنباته لا تنسى، وصور باقية لا تمحى، فقد أوشكت أن تكون الحياة المغمورة بمختلف الخواطر، المحفوفة بشتى الألوان، ذكراً ماضياً، أو خيالاً سارياً ألم بنائم، وأطاف بحالم.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
أي والله: لقد أوشكت أن تكون تلك العهود إذ ذاك، ذكريات دفينة يضفيها الزمن إلى خزانته، تتجدد في نفوسنا كلما جد عهد، وهاج بعد، وحالت حال، ولاح خيال، وهاهي اليوم قد أصبحت كذلك، مطمورة في الصدر، رهينة في الفكر، تبتعثها لواعج الهم، وتشب جذوتها كوامن الألم.
قلت لقد دنا الفراق، فبعد أيام معدودات امتطي القطار الزفوف، وبعده السيارة الربيدة، إلى حيث ملاعب الصبا، ومجامع الألفة والهوى، والتئام الشمل، ولقيا الأهل، فكان من الواجب بعد هذا وأنا أودع مصر عن قريب أن ألقى (شوقي)، وأن أودعه، وما كنت أحسب أن ذلك الوداع سيكون الأخير، وان ذلك الاجتماع ليس بعده اجتماع، فكنت قد عقدت النية على الذهاب إليه. والتزود بالحديث العذب، وبينما أنا كذلك إذ جاءني صديق عراقي يخبرني(48/18)
بدعوة (شوقي) لي معه في داره (كرمة ابن هانئ) ضمن نخبة أمجاد من غطارفة مصر، وأهلة العصر، فما منهم إلا من استفاض ذكره، وعلا في الفضل كعبه، ونما في المجد حظه. .
ذهبت أنا ورفيقي في الموعد المنتظر إلى (كرمة ابن هانئ) ظهراً، وكنت قد زرتها قبل هذه المرة، جنة أنيقة زاهية، نسقت فيها مغارس الزهر، وخمائل النبت وأصص الورد تنسيقاً يبعث البهجة في النفس، يقوم وسطها قصر جميل يطل على النيل، ويقابل القطم مدلاً عليه بما أوتيه من جمال وجلال، وروعة أخاذة بالألباب، مستفزة للمشاعر، وذلك لأنه مقام الشاعر ومبيت جسمه، ومهبط وحيه وخياله، ومرتع شاعريته وتأمله، ومجتمع أمانيه وآماله، فله ذلك ما دام كذلك. .
دخلنا القصر فاستقبلنا سكرتير الشاعر، فجلسنا في الشرفة الأمامية منه ننتظر قدوم شوقي، ونتأمل محاسن الطبيعة أمامنا، هذه مدينة القاهرة تجاه أبصارنا، كم من خواطر تاريخية تمر على البال في تلك الساعة، إن الإنسان بهذا ليستعرض تاريخ مصر وما يتوالى عليها من حوادث وفتن وانقلاب وأحوال، تتزاحم كلها في ذاكرة الناظر إذا ما أمعن في نظره، ورجع إلى الماضي البعيد، أجل! تستثير كل تلك الذكريات مبان عالية مختلفة، ومنائر ضاربة في الفضاء، وقبب منتثرة هنا وهناك مختلفة في الأعمار، تنطق بالعبر، وتشهد على أن الزمان دول. وكان على جانبي السلم الرخامي تمثالان قائمان يحمل كل منهما شبه مصباح في يديه. فسألني صاحبي عن تعليل لطيف لذلك، فقلت إن هذا أصدق تخيل يطابق (ديوجيني) وقد حمل سراجا يدور به في شوارع (أثينا) ليفتش عن الرجل في الليل والنهار، وفي الأخير وبعد تجوال طويل عثر على امرأة خبرها فوجد فيها المثل الأعلى للإنسان الذي يبتغيه فقال (لقد بحثت عن الرجل بكل مكان فلم أجده، ولكني وجدت المرأة) وما أشبه هذا التمثال الصامت الناطق القائم في مدخل الدار حاملا بيده مصباح الحكمة والهداية بديوجيني، وكأنه هنا وقف للغادين والرائحين يقول (ها قد وجدت ضالتي المنشودة بعد عصور طويلة، لقد وجدت الرجل، لقد عرفت الرجل، هيا أدخل ترى الرجل).
وأقبل إلينا شوقي بعد فترة عاجلة من الزمن متهللاً، فتقدمنا إليه مسلمين، فرحب بمقدمنا غاية الترحيب. وانتبذنا جانب شرفة القصر ريثما يتم اجتماع الآخرين، وكان الشاعر في(48/19)
هذه المرة التي لقيتها فيها خيراً منه في النشاط ودلائل القوة في كل مرة رأيته قبلها، فقد هادنته العلل في ذلك الحين، وناهض المرض وصاوله حتى تغلب عليه إذ ذاك، ولكن من كان يدري أن (شوقي) سخر صريعاً في الميدان بعد أشهر قليلة من هذا الانتصار. وان تلك العلل إنما كمنت لتتجمع للوثوب، واختفت متراجعة لتظهر على حين غفلة، وهادنت خداعاً، والحرب خدعة، من كان يدري ذلك ومن المصدق بهذا المنقلب العاجل؟. . لقد كان شوقي في تلك الساعة قرير النفس، رخي البال، طافح البشر، وكان صورة من الطبيعة الباسمة في ذلك اليوم، وهكذا يكون الشاعر هو والطبيعة صنوان لا يفترقان. . تنظر إليه فتقرأ في جبينه المتغضن خطرات السنين المتعاقبة، وأصداء الزمن الماضي بما فيه من حوادث وشئون، كان لسانها الناطق وحافظها للأجيال المقبلة من الاندثار، فإذا أمعنت في سطور ذلك المحيا داخلت نفسك هزة وانتفاضة هي هزة الإجلال والمهابة، حيث ترى ذلك العقل الجبار وذلك الذهن المتقد يشع نوراً وحكمة، وذلك الخيال المطلق أعني به الشاعر أو روح الطبيعة الثاني، ذلك الذين يهم في كل واد، ويسبح في كل لجة، فيحلق مع الطيور في سمائها ليساجلها أنغامها، ويعانق الطبيعة في خمائلها ويتغنى بجمالها، وقد تراه فتبصر فيه خفة السرور وتقرأ عليه نضرة النعيم، وقد تراه فتجده بائساً لبؤس غيره، أنيس المحزون، وعزاء الضعيف، يشفق على المنكوبين وتذهب نفسه حسرات عليهم
وتقرأ في عينيه الذابلتين اللتين أتعب أجفانهما السهد وتعاقب الزمن، صفاء السريرة، وعفة القلب، وحدة الذكاء، وهي خير مترجم عن قلب الشاعر، ذلك القلب العامر بالفضيلة والخير. وإذا استمعت إلى حديثه العذب أسرتك طلاوته، واجتذبتك حلاوته، يبلغ إلى فؤادك قبل سمعك فلا تمل منه لغة، ولا تسأم فيه لهجة، وشوقي إذا حدث تخير ما راق لسامعه، ورقت حواشيه، وأتى بكل طريف قشيب، تستهله طرافة في التعبير، وتختتمه دعابة أو عبرة في الحديث تقتضيها الحال ويستدعها المقال، وكان الحديث جامعاً وكان إقبالنا عليه بالغاً، تناولنا شئوناً مختلفة في أحوال (العراق) والأدب العربي في هذا العصر وبعض مشهوري الشعراء والكتاب، وقضينا في هذا حينا حتى قدم علينا الأستاذ محمد عبد الوهاب، وكان حديث القدوم من العراق ثم اكتمل العقد، وانتظم الجمع فنهضنا إلى داخل الدار حيث مائدة الطعام.(48/20)
ولا تسل عما كان يدور حينذاك من مفاكهات عفة. وملح آبدة، ونوادر طريفة، ساقها فرسان مشهورون في مصر في هذا المضمار، مصلون به، والفكاهة والظرف والتندر من الغرائز التي طبع عليها المصري، وهي من خصائص دمه لا تفارقه، والذي يزيد فيها قوة وحسن وقع في النفس أنها تمرق من اللسان عفوا وتنطلق من غير تكلف وتعمل. . تزجيها الطبيعة، ويقذف بها الظرف الملائم، ولسرعة البديهة وحدة الخاطر أثر لا ينكر في سوقها. .
انتهى محفل الغذاء فجلسنا بعد برهة قصيرة حتى اقترب موعد سفرنا من مصر في ذلك اليوم، فتنازعنا عاملان: عامل البقاء والاستمتاع بهذه الأحاديث الطلية، وعامل الجلاء إلى حيث ينتظرنا القطار الذاهب إلى فلسطين، وفراق مصر على مضض، فتغلب العامل الثاني وإذا نحن في قطار المساء يزفر زفرة الوداع، وإذا بنا نودع من عز علينا وداعهم. وإذا بنا نستعرض صفحات وذكريات ماضية وإذا بنا نفارق أرض مصر وندخل في أرض الميعاد. . .
بغداد
كمال إبراهيم(48/21)
اختلاف المزاج وأثره في الأفراد والأمم
وفي السياسة العامة
إذا رجعت معظم أسباب حوادث الطلاق التي تنشرها الصحف الإنكليزية، وجدت أن في مقدمتها اختلاف المزاج، وهو ما يعبرون عنه بقولهم ولا نفهم تماماً كيف يؤدي اختلاف مزاج الزوجين إلى تنغيص عيشتهما حتى يطلبا الخلاص منه بالافتراق.
نريد أن نقول: هل إذا كان الزوجان من أهل المزاج العصبي يكونان أقرب إلى الاختصام مما لو كان الواحد عصبياً حامياً والآخر بلغميا بارداً؟
قد يخيل إليك لأول وهلة أن الأمر كذلك، أي أن العصبي سريع الانفعال إذا لقي مثله تطاحنا وتقاتلا حتى يغلب أحدهما الآخر. ويبقى ذلك ديدنهما حتى يفرق بينهما تفريقاً لا اجتماع بعده.
ولكن العكس صحيح أيضاً. أي أن العصبي - وحدته ونزقه معروفان - لا يطيق أن يرى أمامه بلغمياً بارد الطبع، لأن الأول شعاره السرعة والثاني البطء، فيؤدي اختلافهما هذا إلى تخاصمهما بشدة لا تقل عن شدة تخاصم الأولين.
وصحيح كذلك أن العصبي حاد المزاج يطلب تنفيذ إرادته بلا تهاون، فإذا لقي أمامه صفراوياً أو بلغمياً بطيء الانفعال والتأثر فالغالب أنهما لا يعارضانه فيتم له ما يريد بلا خلاف ولا احتكاك ولا قتال
ويظهر أن هذا الحكم الأخير هو الرائج في السياسة، فقد تبدلت محالفات الأمم المختلف المزاج وتغيرت، وبقيت محالفات الأمم المتشابهة الأمزجة. فمن القبيل الأول محالفات أوربا في القرن الماضي كالمحالفة الثلاثية بين ألمانيا والنمسا وإيطاليا، والمحالفة الثنائية بين فرنسا وروسيا. فقد زالت هاتان المحالفتان ولم يبق لها أثر.
ومن القبيل الثاني تحالف بلدان ألمانيا وتحالف ولايات أميركا. وهما تحالفان يبقيان على الدهر لأن (الدم أكثف من الماء) كما يقول المثل الإنكليزي. وعلى هذه النظرية يقدرون تحالف الأمتين الإنجلوسكسونيتين في مستقبل الزمان - أريد بهما أميركا وبريطانيا.
وقد وجد الإنكليز والفرنسيون بالاختبار الطويل أن كل سعي في التقريب بين الأمتين نجح حتى حين، ثم لم يلبث أن فشل لأن المزاج الأولين الصفراوي مضاد لمزاج الأخيرين(48/22)
العصبي. ومن ذلك كانت سلسلة حروبهما الطويلة التي بلغت أقصاها في عهد نابليون، ثم انتهت حروب نابليون ولم ينته عداؤهما. وقد تمكن الملك إدوارد السابع بكياسته وحسن سياسته من عقد الاتفاق الودادي بينهما، وظهر أن هذا الوداد ازداد توثقاً بتحالف الأمتين في الحرب العالمية وانضمام أميركا إليها بعد ما تلكأت نحو ثلاث سنوات عنها. ثم لما انتهت الحرب إذا هما كانتا في تاريخهما الطويل - أمتان دائمتا النفار إذا اصطلحتا اليوم فلتختصما غداً.
وهذا شأن الفرنسويين مع أميركا، ولكن بعد الشقة بينهما وقلة تصادم المصالح حالا دون بروز وجوه الخلاف. وحالت (مديونية) فرنسا لأمريكا دون إبداء مزاجها العصبي، وكانت خير شكيمة لتمادي جماحها على رجاء أن حسن سلوكها وكظم مزاجها العصبي وإحلال المحاسنة محل المخاشنة - تؤدي كلها إلى تجاوز أميركا عن مالها من الدين على فرنسا.
ولكن الأميركيين متصلبون في عزمهم على ما يظهر تصلب شيلوك في اقتضاء رطل اللحم من غريمه مما حمل فرنسا على التظاهر بشيء من الخلق العصبي الذي طالما أخفته المحاسنة والملاينة والمجاملة. فلما احتفلوا بعيد لافاييت في الأسبوع الماضي أوعزوا إلى وزير حربيتهم المارشال بتاين العسكري العبقري أن يخطب فخطب عاتباً، والعتاب أول درجات الخناق.
ذكر في خطبته مقاتلة الجنود الفرنسوية تحت لواء وشنطن دفاعاً عن استقلال أميركا وما كان من الود القديم بينهما ثم نعاه فقال أن الأمتين ليستا من الود الآن على ما كنتا في قديم الزمان
ولكن هذا الغضب المقنع بقناع العتاب اللطيف والغمز الظريف، لابد أن يكون صاحبه قد ندم عليه بعد ما وردت أنباء أميركا بأن الأميركيين لم ينسوا جميل لافاييت، بل قاموا قومة رجل واحد يعقدون الاحتفالات في جميع أرجاء فرنسا، ويدعوا مجلس أمتهم سفير فرنسا إلى احتفال عظيم في وشنطن يكون السفير ضيف الحكومة فيه، ورئيس الجمهورية خطيب الحفلة فيها خطبة مؤثرة، ويذكر مآثر فرنسا في شخص لافاييت.
ولكن ذلك لا ينقع غلة ولا يشفى علة، ما دامت أميركا تطالب برطل اللحم منقوص، هذا كله يجيء مصدقاً للقول أن اختلاف الأمزجة هو بيت الداء بين الأمتين كما هو بيت الداء(48/23)
بين الزوجين.
ق. س(48/24)
في المحكمة الصلحية
بكفيا - لبنان
للأستاذ حسن عبد الجواد
بكفيا بلد من بلاد لبنان يعلو 950 متراً عن سطح البحر ويبعد 21 كيلو مترا عن بيروت. وعلى مقربة من هذا البلد تقع ضهور الشوير التي احتفلت بلديتها في الصيف الماضي بافتتاح شارع الأمير فاروق فيها بحضور كبار المصطافين المصريين.
وفي بكفيا محكمة صلحية (جزئية) يرأسها قاض على جانب كبير من الثقافة اسمه الأستاذ ناصر رعد.
والمحكمة الصلحية هي هي الجزئية. وهناك محاكم ابتدائية واستئنافية. ولديهم محكمة التمييز (النقض والإبرام).
وسراي محكمة بكفيا الصلحية بها غرفة للقاضي وقاعة للجلسة وغرفة لكتاب المحكمة (قلم كتاب) وغرفة المأمور الأجراء (المحضر القائم بالتنفيذ). - ومأمور الأجراء في تلك البلاد يتقاضى فوق مرتبه نسبة معينة على المبالغ التي يحصلها لأصحاب القضايا.
وكاتب التصديقات هناك يعمل لحسابه الخاص ويسمى (كاتب عدل) وله محل خاص أسفل سراي المحكمة يدفع هو أجرته الشهرية.
انعقدت الجلسة في الساعة التاسعة صباحاً ورأسها القاضي مرتديا الروب؛ وجلس على اليمين كاتب الجلسة مرتدياً الروب؛ وجلس المحامون بمقعدهم الأمامي يرتدي كل منهم الروب.
ووضعت القضايا على المنصة، أمام القاضي، وكل قضية في مظروف مختوم.
نادى حضرة القاضي (فتحت الجلسة علناً) وفتح مظروف القضية الأولى بين سكون شامل - فإذا ما نظر القضية فتح مظروف الثانية وقال نفس العبارة (فتحت الجلسة علناً) وهكذا في كل قضية.
ولقد أعجبنا كثيراً كثرة التجاء المحكمة إلى تعيين محكمين، بعد اتفاق الخصوم والتوقيع على محضر الجلسة بقبول التحكيم. وكثيراً ما انتهت القضايا صلحاً أمام المحكمة، وقد رأيناها تعرض الصلح على طرفي النزاع في كل قضية. وهذا طبيعي لأن المحكمة(48/25)
صلحية. وأول ما يجب على القاضي الجزئي عرض الصلح على المتخاصمين.
وقد لاحظنا أن القاضي قد درس القضايا جيداً قبل افتتاح الجلسة إذ أخذ يناقش الخصوم في كل صغيرة وكبيرة - وقد تأكدنا أن القائم بتبليغ القضايا (بالإعلان) قد استجوب المدعي عليه كتابة على عريضة الدعوى. وفي ذلك تسهيل كبير لمهمة القاضي، وحصر للمرافعة في نقطة الخلاف فقط. وفي ذلك توفير كبير للوقت.
وقد رأينا القاضي يملي الكاتب أقوال طرفي النزاع بلغة عربية فصحى، ثم يطلب إليه قراءة ما كتب للتأكد من صحته
وكان يسأل القاضي الشاهد عن اسمه وصناعته وعمره، وعما إذا كان متزوجاً أو أعزب - وإن كان متزوجاً سأله عما إذا كان له أولاد. وقد سألنا عن السر في هذه الأسئلة الخاصة بزواجه وبأولاده فقيل (لمراعاة ذلك عند تقدير العقوبة على شاهد الزور)
وقد كان القاضي ظريفاً حقاً، وعلى جانب كبير من الأدب، فوق دقته وذكائه. وسمعناه يقول للشاهد عند الانصراف: (مع السلامة).
وقد حكمت المحكمة في القضايا الكيدية بمبلغ من النقود (نظير العطل والضرر) كذا، وفي ذلك القضاء حقا على القضايا الكيدية.
وفي القضايا التي تعين المحكمة فيها خبيراً، تستدعيه وتحدد له مهمته، والساعة واليوم الواجب تقديم التقرير فيهما
والتوكيلات يطلع عليها القاضي ويملي رقمها للكاتب ويردها لأصحابها.
ونظام الإكراه البدني متبع في تلك البلاد لتحصيل الديون المدنية المحكوم بها بعد الاستشهاد بشاهدين على أن المدين قادر على الدفع. ويشترط ألا يكون للمدين عقار حتى يكره على الدفع بالطريقة المذكورة؛ لأنه في حالة تملكه عقاراً يمكن اتخاذ إجراءات نزع الملكية بدلا من الإكراه البدني. والمحكمة تقضي بحبس المدين 91 يوماً مع استمرار حق الدائن في التنفيذ مدنياً. ومن أجل هذا قلت دعاوى الاسترداد، وقلت الدعاوى الكيدية المقصود منها عرقلة التنفيذ، وتأجيل إيصال الحقوق إلى أربابها.
والمحكمة تنعقد مراراً في الأسبوع لنظر قضايا الحقوق المدنية أو لنظر الجنح والمخالفات (محكمة جزاء).(48/26)
والمحكمة تشدد العقوبة على سائقي السيارات المقدمين بتهمة الإسراع فتقضي بالحبس لغاية 6 شهور - والإسراع بمصر مخالفة لا يزيد الحبس فيها على أسبوع حبسا بسيطا - ولعل السبب في ذلك سوء العاقبة عند الإسراع نظراً لارتفاع الجبال وعمق الوديان.
وعند انعقاد الجلسة - جلسة الجزاء - يقف بعض رجال البوليس (الجندرمة) للمحافظة على النظام. وعسكري البوليس هناك مثقف، ويتقاضى مرتباً حسناً، (حوالي تسعة جنيهات مصرية). وقد شاهدنا رجال الجندرمة يعاينون أدوات السيارة للتأكد من سلامتها قبل صعود الجبل، فإذا ما وجدوا تلفاً في أي جزء من أجزاء السيارة قدموا السائقين للمحاكمة. وكل هذا محافظة على أرواح الناس الذين تقلهم السيارات في طول البلاد وعرضها.
ولقد صادفنا عسكري بزحلة يحمل شهادة التجارة المتوسطة المصرية؛ وفي هذا الدليل على ما عليه رجال البوليس هناك في ثقافة ومعرفة.
تلك نظرة سطحية في نظام التقاضي بتلك البلاد الشقيقة؛ وهو في مجموعه في نظام طيب. وفقنا الله جميعا لخدمة العدالة ونصرة الحق، والأخذ بيد المظلوم.
حسن عبد الجواد
المحامي(48/27)
بين المعري ودانتي
في رسالة الغفران والكوميدية المقدسة
بقلم محمود أحمد النشوي
الوطنية لدى الشاعرين
ذكرنا في العدد الماضي حديث الوطنية لدى أبي العلاء، ورأينا حنينه للمعرة وللشام، وحبه لوطنه الذي ألقى رداءه على كل ما حوله حتى على نياقه التي تمنت قويقاً والصراة حيالها؛ والتي تلت زبور الوطنية المنزل عليها في أن الصبر عن الوطن غير حلال، ونريد الآن أن نتعرف الوطنية لدى شاعر الطليان، تلك التي نكاد نلمسها في كل ناحية من نواحي كوميديته. وكأني به يخلق المناسبات، ويتعمد الاستطراد ليتحدث عن إيطاليا وآلامها وأوصابها في عهده، وليتحدث عن خائني أوطانهم وبلادهم كذلك.
ولعلك على ذكر مما حدثتك به إبان استعراض طبقات الجحيم لديه عن الدرك التاسع الذي جعله مقراً لخائني أوطانهم، يشاركهم في تلك الطبقة إبليس ويهوذا الأسخريوطي. . أوليس في تسويته (وهو غرس الكنيسة) بين خائني الوطن وخائن المسيح وإبليس اللعين ما يجعلنا نكبر فيه وطنيته، ونعلم أي حد بلغه في حب بلاده؟
وسأستعرض شيئاً من نواحي الوطنية في كوميديته، تلك التي نتلمس الوطنية الملتهبة في كل ناحية من نواحيها، حتى لنظن أن الوطنية كانت أكبر الأسباب التي دعته أن يذبج رسالته. فكم تلمس دانتي الأسباب والمناسبات ليبكي مجد إيطاليا وحروبها الأهلية التي كانت تمزق أوصالها، وتفرق بين أبنائها. . فها نحن أولاء نراه يسير في الطبقة الثالثة من السعير، فلا تكاد تقع عينه على أحد مواطنيه (تشاكو) حتى يميل نحوه ويحدثه عن الوطن وعما أحاط به من ويلات ومصائب. وتشاكو بدوره ينسى الجحيم والعذاب، وينساق مع دانتي في حديثه، فيذكر له النزاع والفشل بين أحزاب فلورنسا.
وبينا هو يجوس خلال الطبقة السادسة من السعير، وبعد أن خلص من مدينة (ديتي) وشياطينها إذا هو أمام مواطن آخر اسمه (فاريناتا فيكرر على سمعه الحديث عن فلورنسا وأحزابها وحروبها حديثاً يخفق له قلبه، ويضطرب له جنانه.(48/28)
وفي (المطهر) بين النار والجنة يذكر أوجو كابيتو ونعيه على كارلو دي فالو الذي دخل فلورنسا وشرد أبناءها وأهلها. . ثم يرى في فراديس الجنان إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية (جوستنيان فيوازن الإمبراطور بين قديم روما وحاضرها، وبين وفاقها في عهدها الأول وانحلال عراها، وتنازع أهلها وفشلهم في عصرها الحديث، ناعياً على معاصري دانتي تفكيرهم في مصالح أشخاصهم، وتركهم الوطن تعصف به رياح القلاقل والاضطرابات. وكذلك يرى جده كاتشاجويدا ينعم في الطبقة الخامسة من طبقات الفردوس، فيحدثه هو الآخر عن الأحزاب والخصومات، والحروب والويلات، موازناً أيضا بين عهده المليء بالمحبة والسلام، وعصر دانتي المترع بالنزاع والخصام. .
ذلك شيء من حواره الوطني الذي كان يهتبل الفرص فيذكره في ثنايا رسالته، وفي تضاعيف خياله.
فأما العذاب الذي تخيله ينصب من فوق رءوس هؤلاء الخائنين، فحسبك أن تعيره سمعك إذ يحدثك عنهم وهم في الدرك التاسع من السعير زرق الوجوه، مائلي الرءوس، غارقين في بركة من الثلج فسيحة الأرجاء، سار على صفحاتها فارتطمت قدمه بأحد الوجوه المشوهة، فتبين صاحبه فإذا هو (بوكا خائن الوطن، وقاتل من كان يحمل العلم الفلورنسي غيلة، فتفرق جندها، وحقت على جيشها الهزيمة، كما حقت على خائني الوطن كلمة العذاب.
وحسبك أن ترهف أذنيك الحديثة عن الكونت أوجولينو الذي ألقت إليه مدينة بيزا مقاليدها، وخضعت لسلطانه، فأسلمها وأسلم قلاعها وحصونها لأعداد البلاد. بيد أن قومه ظفروا به فاستفتوا في أمره المطران روجيرو فاشتط المطران في فتواه، وأسرف في حكمه، وما كان جوابه إلا أن قال: ألقوه مع أطفاله وأبناء أخيه الصغار في غيابة برج من الأبراج حتى يموتوا صبراً جوعاً وعطشاً. فحبسوه وذريته الأبرياء الضعفاء في برج ألقوا بمفتاحه في النهر حتى ماتوا جميعاً؛ فكان عاقبتهما: الكونت والمطران، أنهما في النار خالدين، ينهش كل منهما رأس صاحبه
ثم اختتم دانتي جحيمه بالحديث عن بروتس وعن كاسيوس قاتلي يوليوس قيصر خيانة وغدراً، ولم يرعيا عطفه عليهما، ولا إحسانه العظيم لبلاده. وهنا أطلق لخياله العنان وافتن(48/29)
في وصف العذاب لهذا الثالوث غير المقدس بروتس وكاسيوس ويهوذا، فتخيل وحشاً ذا ثلاثة وجوه متعددة الألوان، تبرز تحت تلك الوجوه أجنحة تفرغ أشرعة السفائن طولاً وعرضاً، وهي تهتز فترسل ريحاً باردة على الجحيم وعلى من فيها. ريحاً هي السبب فيما يلقونه من الزمهرير. لذلك الوحش ست عيون وثلاثة أفواه، يسحق أحدها بروتس، والآخر كاسيوس، وثالثها يهوذا، وهي دائبة على تمزيق أجسامهم؛ وكلما تقطعت أشلاؤهم عادت سيرتها الأولى، وعاد لها تمزيق أوصالها وسحقها. . .
وكم كان طريفاً حقاً إذ تكلم في المطهر عن امرأة تدعى سابيا وهي تتطهر من ذنوبها وآثامها؛ وما ذنبها إلا أنها فرحت واستبشرت إذ رأت قومها منهزمين، ولولا أن القدر أسعفها فأدركها المتاب قبل أن توارى في التراب، لكانت حصب جهنم وطعاماً للسعير.
يتبع
محمود أحمد النشوي(48/30)
أعيان القرن الرابع عشر
للعلامة المغفور له أحمد باشا تيمور
سلطان باشا
هو محمد باشا بن سلطان بن أحمد، من قرية بالصعيد تسمى زاوية الأموات، بالجانب الشرقي من النيل، تجاه منية ابن الخصيب. ولد بها في سنة 1240 أو إحدى وأربعين. ورباه أبوه فسلمه لمعلم للقرآن بالقرية علمه القراءة والكتابة، وحفظه ما تيسر من القرآن الشريف. ولما بلغ أشده تركه أبوه ينظر في أمور القرية المذكورة، إلى أن نقل حسن باشا الشريعي من نظارة قسم قلوصنا، في ولاية محمد سعيد باشا على مصر، فسأله الوالي عمن يقيمه بدله على القسم المذكور فذكر له المترجم، وأثنى عليه، وضمن كفايته، فأقيم ناظراً لهذا القسم مدة ثلاث سنوات. ثم جعله سعيد باشا وكيلاً لمديرية بني سويف، وبعد سنتين جعله مديراً لها، فبقي فيها إلى أن توفي سعيد باشا، وتولى ابن أخيه إسماعيل باشا، فنقل المترجم مديراً للغربية فمكث بها نحو سنة، ثم أمر بنقله مديراً لأسيوط فأقام بها نحو سنتين، ثم جعله وكيلا لإدارة تفتيش الوجه القبلي ثم أحال عليه النظر في ضياعه التي بالصعيد المسماة بالجفالك، ثم جعله مفتشاً على مديريات الوجه القبلي، وانحرف عنه في أثناء ذلك عكوش باشا، وشاهين باشا، وعظمت الوحشة بينه وبينهما فوجد حاسدوه فرصة للإيقاع به، نظراً لمكانة الرجلين عند الخديو فسعوا به عنده، ووشوا له بأمور عنه كان يكرهها.
صداقته لتوفيق باشا
فغضب عليه وأمر بسفره إلى السودان رئيساً لمجلس الخرطوم وهو في الحقيقة نفي على جاري عادة ولاة مصر، إذا غضبوا على أحد نفوه إلى السودان في صورة تنصيبه بأحد المناصب. فصدع المترجم بالأمر وسافر، ولكنه لما وصل بني سويف وصله أمر الخديو بالرجوع بسبب تداخل ولي العهد محمد توفيق باشا وسعيه بالشفاعة له لدى والده لأنه كان يحبه. فرجع من الطريق وقصد قريته زاوية الأموات فمكث بها عدة شهور، ثم أذن له بالإقامة في القاهرة فأقام بها في داره المعروفة بجهة الإسماعيلية مدة إلى أن جعله الخديو(48/31)
إسماعيل باشا مديراً للفيوم، ولكنه عاد فألغى هذا الأمر قبل سفره. وبعد نحو سنة رجع بأمر الخديو المذكور إلى بعض المناصب التي كان بها بالوجه القبلي. وخلع الخديو وتولى بعده محمد توفيق باشا، وقامت الثورة العرابية وطالب العرابيون الخديو بإعادة مجلس النواب، وكان أهمل شأنه بعد توليته فأجابهم لذلك وألف مجلس النواب، فجعل المترجم رئيساً له لما يعلمه من إخلاصه ومحبته له؛ ثم وقعت بينه وبين العرابيين وأمراء الجند منازعات وخلاف في بعض الأمور ظهر لهم منها ميله للخديو فأبغضوه ونووا له السوء.
عرابي يهدده بالقتل
وقام عليه مرة عرابي وبعض الضباط في داره، فهددوه بالقتل، وجردوا سيوفهم في وجهه، وكاد يقع في أيديهم، لولا أنهم تراجعوا عنه من تلقاء أنسهم، واشتد قلقه بعد هذه الحادثة ورأى حياته معهم على خطر، فاحتاط لنفسه، وصار إذا جلس بداره وضع بجانبه مسدساً محشواً ليدافع به عن نفسه إذا فوجئ، ولم يغن تهديهم له شيئاً، ولم يجد في تحويله عن الخديو، بل استمر علة إخلاصه، والقيام بمساعدته، والأخذ بناصره. ثم اشتدت الفتنة، وسافر الخديو إلى الإسكندرية، فصحبه المترجم ملازماً خدمته، واستدعاه هناك درويش باشا مندوب السلطان في شعبان سنة 1299، وأنبأه بإنعام السلطان عليه برتبة رومللي بيكلريكي، وأعطاه تقليدها بيده.
مع الإنجليز
ثم قامت الحرب على ساق، بين الإنكليز والعرابيين، فندبه الخديو لمساعدة الإنكليز، وإرشادهم إلى الطرق، فبذل ما في وسعه وكاتب بعض مشايخ العرب والعمد، ومن لهم شأن، يمنيهم بالخلع والرتب والأوسمة، على أن يبذلوا الطاعة للخديو والإنكليز وينبذوا طاعة العرابيين، فنجح في مسعاه ووافقه الكثيرون، فانضموا للخديو وشيعته سراً، ووقع الفشل في زمرة العرابيين، وانهزمت جموعهم، واستولى الإنكليز على مصر ودخلوا القاهرة يوم الخميس مستهل ذي القعدة سنة 1299، فأرسله الخديو إليها نائباً عنه، وأطلق يده في التصرف في الأعمال، فوصلها في 2 ذي القعدة ليلاً من الطريق بور سعيد، واستبد بالأمور أربعة أيام حتى حضر النظار إليها، وباشروا أعمالهم. وقد تاه المترجم وتجبر في(48/32)
هذه الأيام الأربعة، وأمر بالقبض على كثيرين ممن كان له بغية في القبض عليهم وإذلالهم، ومنهم حسين باشا الشريعي، فإنه أوغر صدر الخديو عليه، وأشار بسجنه، ونسي له سابق فضله عليه، وذلك لخلف وقع بينهما إبان قيام الفتنة.
بعد الثورة العرابية
ولما حضر الخديو من الإسكندرية عقب إطفاء الثورة وذهب الناس لتهنئته بقصر الجزيرة يوم الثلاثاء 13 ذي القعدة المذكور أثنى أمامهم على المترجم ثناء كثيراً وقال هذا هو الرجل الذي أخلص لنا في السر والعلانية، وأنعم عليه بالوسام المجيدي الأول، وأمر بإحضاره فوضعه على صدره بيده أمامهم، ثم سعى له عند النظار للإنعام عليه بعشرة آلاف دينار مصري مكافأة على خدمته ومسعاه، فأعطيت له من ديوان المالية. وكافأه الإنجليز بوسام (سان جورج، وسان ميشيل) من الدرجة الأولى لمساعدته لجندهم إبان الحرب، وذهب به السير مالت قنصلهم الكبير إلى داره وسلمه له يوم الثلاثاء 17 محرم سنة 1300هـ، وقال له إن من شروط هذا الوسام أن تضعه مولاتنا الملكة بيدها على صدر من تنعم عليه به، وقد أتيت إليكم نائباً عنها في وضعه على صدركم جزاء إخلاصكم وولائكم لجلالتها ولحضرة الخديو. ثم في جمادى الأولى من هذه السنة أنعموا عليه أيضاً بالميدالية الإنجليزية المضروبة بخصوص الحرب العرابية.
وبقي المترجم بعد ذلك في داره بالقاهرة بلا عمل، ملقباً بلقب رئيس مجلس النواب، ثم انتدب للإشراف على شواطئ النيل وجروفه بالوجه القبلي لما زاد في الفيضان، فصدع بالأمر على كره منه، ورأى ذلك حطاً من مقامه، واستقل العشرة الآلاف والوسامين على ما قام به للخديو والإنكليز، وانعكست آماله التي كانت ترمي إلى تنصيبه في منصب كبير، وفترت نفسه، وكثرت همومه، وانحرف عن الإنكليز، وطفق يذمهم بعد أن كان لهجاً بمدحهم والثناء عليهم في كل مجلس يجلسه، واعتزل الناس فجعل إقامته بالصعيد، ولما ذهب اللورد دوفرين إلى تلك الجهة زاره المترجم فلم يلق منه ما كان يؤمله من حسن المقابلة، وسأله في عرض حديثه عن حضور أخوي الخديو حسين باشا وحسن باشا من أوربة، فقال له نعم حضرا، فقال ولم حضرا، فأعرض عنه اللورد ولم يجبه، ونقل حديثه مع غيره، فقام المترجم من المجلس كاظماً غيظه، وزاد في ذمه في الإنكليز، وأثرت هذه(48/33)
الأحوال فيه فاعتلت صحته.
رئاسة مجلس الشورى
ثم صدر الأمر العالي يوم الأربعاء 21 محرم سنة 1301 بجعله رئيساً لمجلس شورى القوانين الذي ألف حينذاك، بدلاً من مجلس النواب، حسب إشارة اللورد دوفرين في تقريره عن مصر، فتولى هذا المنصب وهو عليل، ثم ازدادت علته، فأشار عليه الأطباء بالسفر إلى أوربة للمعالجة، حيث لم تفده معالجة أطباء مصر، فسافر إلى بلاد النمسة، ونزل بنزل في مدينة غراتس، فوافاه أجله هناك يوم الاثنين 26 شوال سنة 1301.
وفاته
ونعي إلى الخديو في ذلك اليوم بالبرق، نعاه له قليني باشا فهمي فأسف عليه أسفاً شديداً وجزع، وأمر بنقل جثته إلى القطر المصري لتدفن فيه، وأقام له مأتماً من الخاصة الخديوية، وناط بمحافظة القاهرة القيام به بالنيابة عنه. ووصلت جثة المترجم إلى الإسكندرية يوم الأربعاء 6 ذي القعدة من السنة المذكورة فأمر الخديو بتشيعها تشييعاً كبيراً بالإسكندرية، فسارت في طليعة الجنازة كتيبة من فرسان الشرطة، ثم كتيبة من الجند الرجالة منكسي الأسلحة، يتلوهم قراء الأحزاب والبردة، ثم جميع كبار الموظفين بالإسكندرية، فتلاميذ المدارس، فجم غفير من الأعيان حتى أوصلوا النعش إلى السكة الحديد، فجعلوه في قطار مخصوص سافر به من هناك إلى منية ابن الخصيب، ونقل منها إلى الشاطئ الشرقي حيث دفن بمقبرة بلده. وخلف المترجم ثروة واسعة، وولداً واحداً عمره نحو سنتين، وثلاث بنات. وقد رثاه الشيخ علي الليثي بقصيدة.
أدبه
وكان للمترجم إلمام بالأدب وقرض الشعر، اشتهر عنه نظم النوع المسمى بالصعيد بالواو، وأخبرني من أثق بقوله أنه اطلع على قصيدة له في مدح حسن باشا الشريعي رحمهما الله.
وحدثني صديقنا على رفاعة باشا، ابن رفاعة بك الشهير قال: كانت بيني وبين المترجم وحشة ازدادت لما جعلت وكيلاً للمعارف إبان الثورة العرابية، ثم عزلت من هذا المنصب بعيد الثورة، وقصدت السفر إلى بلدتي طهطا، فلقيته بالقطار، فلما وقعت عينه على عيني(48/34)
نظر إلي نظرت الشامت ثم قال: إيه يا علي بك، لقد أجاد الشاعر في قوله:
برغم شبيب فارق السيف كفه ... وكانا على العلات يصطحبان
فقلت نعم أجاد، وأجود منه قول الآخر:
أني لأرفع حين أرفعها ... على كثير ولكن لا أرى أحدا(48/35)
يقظة الشرق
للآنسة فلك طرزي
. . . في ليلة من الليالي الشديدة القمر، الغائبة النجم، القاتمة السواد، الشديدة الحلوكة، قام طيف يخترق وحشة الليل، يسير بخطوات هادئة يتحسس طريقه على الأرض الحزون، يضرب فيها أخماساً لأسداس، ممسكاً بيده قيثارة قد أوتارها من نياط قلبه، وأنامله تلاعب هذه الأوتار بعزف يكشف رويداً غشاوة ما كان راكداً في أعماق النفس، وراسباً في قرارة القلب، من ذكرى الماضي الحافل التي طواها الزمن، وكان يشدو معها بالغناء بصوت رقيق حنون، تسبح موجاته مع تموجات الأثير تهدهدها طياته، وينقلها الهواء من شاطئ إلى شاطئ، ومن ضفة إلى ضفة، حتى ملأ أجواء الشرق بنغماته، وعبقت منه رائحة الأبدية وعبير الأزل.
أخذ الصوت يقول: تعالي إي قيثارتي نرتل لحناً نعيد به المجد البالي! تعالي نغرد أناشيد الصباح لعل الفجر يبدد الدجى! تعالي نتغنى بألحان السحر فتتحول الأرض القاحلة إلى حقول معشبة، والسهل الأجرد إلى سهول مخصبة! تعالي يا قيثارتي نوقظ النهار من غفلته والنفوس من نومها العميق! تعالي نرسل أنغامنا في سمج الدجى فتتحول السماء السوداء إلى قبة تسطع فيها النجوم وتتلألأ فيها الكواكب.
ظل هذا الصوت يشدو، وهذه القيثارة تجيب، حتى تمزقت حواشي الليل، وآذنت ساعاته بالفناء، وإذا بالفجر يبدو مشرقا وضاحاً، وإذا بواكير الصباح تكشف عن نهار مشرق وضاح جميل، وما لبثت السماء حتى تقشعت عنها الغيوم وتبدد عنها السحاب، فبدت بلونها اللاوزردي الجميل، وتربعت الشمس على عرشها، وأشرقت من أفقها ساطعة بنورها الوهاج على الجبال والأودية، وهي مشتعلة متأججة، وأخذت أشعتها تتفرق في السهول وعادت إلى الأرض حياتها، وإلى الزهر رونقه وبهاؤه، وإلى الزرع اخضراره وجماله.
فقالت الأزهار يخاطب بعضها بعضا: انظري يا أختاه إلى هذا النور المنبثق من السماء! انظري! ما هذا الضياء المشع؟ أليس هو نور (اليقظة) يسطع من سماء شرقنا المحبوب؟ وقالت الأشجار لبعضها: ألا تعلمين يا صديقتي أن أغصاننا كادت تتحول إلى أعواد يابسة يعصف بها الشتاء، لولا تلك النغمة المقدسة التي أرسلتها اليقظة من سماء مصر فأعادت لنا(48/36)
أنفاسنا وحياتنا! وقال الفجر يخاطب الليل: أنت أيها الحسود كدت أن تمحي خطوطي الزاهية إلى الأبد، لولا (هذه الفتاة الحسناء) التي عادت فرسمتها برغم أنفك! فيالك من عدو ماكر وحسود خداع!
وقالت الأطيار بعد أن عادت تغرد في الدوح: تعالوا نحلق في الفضاء ونرفرف بأجنحتنا فالجو صاف، والنسيم عليل، والعبير يعبق في جو الأفلاك! وقالت الأنهار: تعالوا نرو الأرض من مائنا السلسبيل ونطفئ ظمأها من ينابيعنا العذبة، تعالوا! تعالوا! أن غديرنا يبعث من خريره أناشيد ملؤها الغبطة والسرور!
عندئذ نظرت النفوس إلى (يقظة الكون) وتأملت طلوع شمسها البهية، واشرق محيا الصباح الجميل فتنفست الصعداء وارتسمت على الوجوه ابتسامة سرور وانشراح وقالت: لك الحمد يا رب! أنت الذي نظرت إلينا بعين الرحمة، فما أطلت علينا ليلك، وما طالت علينا حلوكة الظلام الدامس! فها نحن أولاء نستيقظ من سباتنا العميق، ودم الحياة يتدفق منا قوياً حاراً، وثغورنا تبتسم لابتسام ثغر الأدب من بين شفتي هذه النهضة المباركة التي أنشأتها أقلام الأدباء، ونظمت لحنها عقول الشعراء، وخلدت مجدها عبقرية الفانيين، فقامت عصبة الشباب تطالب بالحرية والمساواة، ورفع راية الشرق، تستنكر الذل والخضوع، وتأبى الضيم وعار الاستلام.
هاهما حافظ وشوقي قد طواهما الخلود بعد أن غرد أناشيد الحياة المتنوعة، وخلفا ذكراهما تتناقلها الأجيال زكية الأرج، ضواعة العبير، وسجلاً صحيفتيهما في عالم الخلود!
هاهي ذي (مصر) كما تخيلها مختار تقف بجانب أبي الهول توقظه من نومه الأبدي وغفلته العميقة، لينقذها من هذه الأهوال التي جعلتها تئن تحت نيرها! هاهي ذي (الرسالة) الغراء لما تبلغ سن الفطام شبت وترعرعت، وغدت لسان النهضة الأدبية في العالم العربي قاطبة يقوم بها أسطع الكتاب اسماً، وأوسعهم شهرة، وأجلهم قدراً.
فاللهم اجعل هذه النهضة مباركة ميمونة الطالع على الشرق فيتحد أبناؤه، وتتوحد كلمتهم، وتأتلف قلوبهم، وتخفق بأمنية واحدة هي (الحرية)! وقرب لنا الساعة التي تتهلل وجوهنا فيها بالسعادة والغبطة، وترسل أعيننا دموع الفرح والسرور، فيمتلئ الجو من ندائنا، ويرتفع علمنا المحبوب يشق أجواز الفضاء، ونصيح من أعماق قلوبنا بصوت واحد(48/37)
(ليحيى الشرق)
دمشق
فلك طرزي(48/38)
حقائق
لميشيل أنجلو
ترجمة عامر عبد الوهاب عامر
1 - يقول بنسن في كتابه (كلمات عن كورسيكا) لقد غرس حب الحرب في قلب نابليون منذ طفولته إذا أهدى إليه أحد أصدقائه الأحداث مدفعاً صغيراً من النحاس
2 - بينما كانت جوزفين ذاهبة ذات يوم مع نابليون إلى الأوبرا استوقفها الجنرال (راب) لحظة ليضع لها الشال على طريقة السيدات المصريات. وبهذه الحادثة التافهة نجا نابليون بحياته إذ انفجر اللغم الذي أرصد لاغتياله في تلك اللحظة وهكذا توقف مصير أوربا على تعديل وضع الشال.
3 - إن المؤامرة التي دبرت في عهد الملك شارل الثاني والمعروفة باسم - فشلت بسبب صغير. وذلك أن المنزل الذي أقام به الملك اشتعلت فيه النار فاضطر أن يرحل عن (نيو ماركت) قبل الميعاد المعين بعدة ساعات وكان ذلك سبيلاً إلى إفساد التدبيرات التي أعدها المتآمرون على جلالته
4 - إن الحريق الكبير الذي شب في لندن عام 1799 أحدثه خادم كان قد ألقى سهوا شرارة على تخشيبة كوخ. كذلك الحريق المروع الذي اندلع لهيبه في المدينة في عهد شارل الثاني يرجع إلى حادثة من هذا القبيل في مخبز قريب من جسر لندن
5 - إن طموح القائد الروماني ماريس وكل ما استتبعه من الشرور والآثام يرجع إلى تلك النبوءة الخرقاء بأنه (سيصير قنصلاً سبع مرات)
6 - هاجم الغاليون بزعامة برنوس روما عام 390 ق. م ولكن برنوس امتنع عن اقتحام القلعة الرومانية على أثر سماعه نقنقة بعض الإوز المقدس الذي أهاجه سير المحاصرين الغاليين
7 - إن اختراع الزجاج ينسب على العموم إلى بعض التجار الفينيقيين الذين أوقدوا ناراً على ساحل البحر. ثم لاحظوا بعد انطفائها تحول الرمل إلى زجاج
8 - إن اختراع الطباعة - ذلك الاختراع الخطير - أستلهمه جون جينسفليش في ساعة نشوة وطرب حيث نقش الحروف الأولى من اسمه على شجرة، ثم ساقه الخيال الحالم إلى(48/39)
أن يضع عليها ورقة فانطبعت عليها هذه الحروف
9 - إن جاك لافاييت أحد رجالات المال والسياسة الفرنسيين، والذي لعب دوراً خطيراً في ثورة عام 1830 كان في الأصل بائساً معدوماً. وقد نسب العمل الذي فتح أمامه طريق اليسار والفخار إلى التقاطه دبوساً ضائعاً في شوارع باريس
10 - خطرت نظرية الجاذبية لسير اسحق نيوتن عندما رأى تفاحة تسقط مصادفة من شجرة كان يرقد تحتها في لحظة تفكير وتأمل.
11 - قال قيصر (للمصادفة أثر كبير في الحرب) ولكن أثرها أكبر في الاكتشافات العلمية والأحداث السياسية (جريدة التيمس)
12 - قد تؤدي حادثة صغيرة جداً إلى نتائج عظيمة الشأن. وأحياناً تسبب أروع النكبات (تشيمبرز)(48/40)
تاريخ الأدب
بقلم الأستاذ محمود محمود محمد
سلكت دراسة التاريخ في العصر الحديث مسالك شتى، وتشعبت في فروع كثيرة؛ فأصبحنا نرى إلى جانب تاريخ السياسة تاريخاً للفلسفة، وتاًريخا للعلوم، وتاريخاً للاقتصاد، وتاًريخا للأدب. وسنحاول في هذه الكلمة أن نبين مدى ما يمسه تاريخ الأدب من مباحث.
1 - شخصية الكاتب
يعنى تاريخ الآداب بدراسة الآثار الأدبية من نثر ونظم. ولما كنا لا نستطيع أن نفهم الكتاب فهما صادقاً دون أن نعرف مؤلفه، أو نحلل القصيدة تحليلاً دقيقاً من غير أن نعرف ناظمها، فقد أصبح لزاماً علينا أن نجعل الكتاب والشعراء أنفسهم موضوعاً للدرس عند دراسة تاريخ الأدب، ذلك لأنه يستحيل علينا أن نفصل الأثر عن المؤثر أو نفهم النتيجة دون السبب. وإننا حين نقرأ كتاباً من الكتب تبرز لنا شخصية المؤلف الذي صب أفكاره ومشاعره في هذا الكتاب قوية واضحة، بحيث لا نستطيع إنكارها.
وتشمل دراسة الأشخاص نشأتهم وتجاربهم وأخلاقهم الموروثة والمكتسبة، ونزاعاتهم وتاريخ حياتهم، وغير ذلك من مكونات الشخصية. ولكن هناك ناحية أخرى يجب أن تنال من عنايتنا أكبر نصيب عند دراسة الأديب، تلك هي السمة الظاهرة، والطابع الخاص الذي يميز البعض عن البعض، ويرفع كاتباً فوق الآخر. ذلك لأن العبقرية معنى واسع تشمل أطرافاً متباعدة، ولكنها في صميمها عبارة عن قوة الشخصية، أو قوة الابتكار والابتداع. ويقول أحد الكتاب الإنجليز: (إن كل كاتب كبير يأتي إلى هذا العالم بشيء جديد كل الجدة: ذلك هو نفسه). والكاتب المخلص لفنه يسكب نفسه ويبث روحه في كل ما يكتب، ومن ثم اختلفت آثار الكتاب وانطبعت بصور شتى من شخصياتهم. وواجبنا عند دراسة الأديب أن نبرز طابعه الشخصي للعيان، ونفصله كل التفصيل؛ فهو أهم ما يجب أن نعرف عنه، وللأديب من الأهمية والعظمة بقدر ما لهذا الطابع من قيمة وجاذبية.
2 - المذاهب والمدارس في الأدب
ليست شخصية الكاتب إلا ناحية واحدة من نواح كثيرة، يختص بدراستها تاريخ الأدب. فلو(48/41)
أنا دونا مصنفاً يجمع بين دفتيه تاريخ حياة الأدباء وذكر آثارهم ومخلفاتهم متنافرة لا تؤلف بين ابعاضها فكرة، ولا تربط أجزاءها صلة، كان تأريخنا لأدب اللغة ناقصاً قليل الفائدة، لأن الأدب برمته يرتقي وينحط من عصر إلى عصر. وعلى مؤرخ الآداب أن يدرس أسباب الرقي والانحطاط، وتأثر الأدباء بها أو تأثيرهم فيها، وأن يدرس صلاتهم بأسلافهم وأخلاقهم، فان من الكتاب من يرتفع إلى درجة السمو والكمال، فيطبع عصره بطابع خاص، ويظهر من بعده أتباع له يتأثرون آراءه وأساليبه، معترفين بفضله حيناً ومنكرين أحياناً. والكتاب الذي يلقي رواجاً عند جمهور الناس لا يلبث أن يظهر له أشباه، وأن يتكرر ما فيه مرات ومرات: هكذا تنشأ المدارس في الأدب، وتظهر الحركات التجديدة التي تحيا حيناً من الدهر، ثم تموت لتخلي السبيل إلى ظهور مدرسة أخرى أو حركة جديدة حينما تتغير الأذواق وتتبدل المذاهب. فإذا قلنا - مثلا - مدرسة (بوب) في الأدب الإنجليزي، انصب قولنا على جميع الشعراء الذين تبعوه في الأسلوب الذي أذاعه بين الناس ورفعه إلى مرتبة الكمال. وإذا ذكرت (الحركة الكلاسيكية) في الشعر، حملت إلى أذهاننا عصر بوب الذي تميز بالرجوع إلى تراث الأقدمين وورود مناهجهم الأدبية. وإذا قلنا الحركة الرومانتيكية في النثر الخيالي، قصدنا ذلك المنوال الذي أنشأه (سكت) في كتابه القصص التاريخية، ونسج عليه أتباعه ومقلدوه. وقد ظهرت المدارس والمذاهب كذلك في الأدب العربي، فكان في العصر العباسي مدرسة وعلى رأسها الأصمعي، لا تحب إلا الشعر الجاهلي، ولا تحب من المحدثين إلا من قلد القدماء. وقد أدخل المتنبي والمعري الفلسفة في الشعر، فأصبحت مذهباً من المذاهب له أشياعه وأنصاره.
هذه المدارس والحركات تلعب دوراً هاماً في تطور الأدب، ولها من الأهمية في دراسة تاريخ الآداب ما لا يقل شأناً عن دراسة شخصيات الكتاب أنفسهم. فان الأديب مهما كان مجدداً مبتكراً فهو ما يزال إلى حد بعيد وليداً لبعض الكتاب السابقين، يستلهمهم الرأي ويستوحيهم الأسلوب. وقد ذكرنا مثلا أن (بوب) مجدد في الشعر الإنجليزي، له أسلوب خاص ومدرس خاصة، ولكنا إذا أمعنا في البحث عرفنا أن هذا الأسلوب لم يكن من خلقه وإنشائه، وإنما بلغ الذروة والكمال على يديه بعد ما سار شوطاً بعيدا في التقدم والترقي، ووصل إلى درجة تكاد تدانيه دقة وروعة في كتابات الشاعر دريدن. وقد تعلم سكت في(48/42)
مدرسة رومانتيكية قبل أن يصبح زعيماً لهذه الحركة، وظهرت الفلسفة في الشعر العربي قبل المتنبي والمعري. وكثيراً ما ينعت شكسبير بأنه يتفرد في عصره بالسمو والكمال الأدبي، وأنه ابتكر الدرام لم يتبع في ذلك أحداً ولم يتأثر أحداً، ولكنه في الواقع لم يكن إلا متماً لمجهودات السابقين من الكتاب أمثال نكولاس يودال، وتوماس فورتن، وغيرهما ممن لا يرد ذكرهما في تاريخ الأدب إلا لماماً.
وتاريخ الأدب يوضح لنا هذه الصلات ويربط كاتباً بآخر، وجماعة بجماعة، ومدرسة بمدرسة، كماً يدرس أسباب التطورات المختلفة في عصور الأدب، وتأثير فحول الكتاب في الجمود بالأدب والسير به في مناهجه القديمة والنهوض به وتوجيهه وجهات جديدة. وقد عرفنا أن روح الأدب تتغير من عصر إلى عصر، وكثيراً ما يتحكم الذوق العام عند جمهور الشعب في هذا التغير، فيخرج الأدب على غراره ويتطبع بطابعه. وكما أن لكل جيل أسلوبه في الشعور، فكذلك لكل جيل ذوقه الخاص. هذا الذوق سريع التقلب والتغير، فان عصر فكتوريا في الأدب الإنجليزي (1832 - 1877) على قرب عهده وشدة صلته بالعصر الحديث يختلف في أدبه عن الأدب الحديث، كما يختلف في زيه عن الأزياء الحديثة. والفرق واضح بين لغة الأدباء في مصر الآن، وبين لغتهم منذ عشرين عاماً فقط، ذلك لأن القراء قد تبدلت أذواقهم وتغيرت طرائق معيشتهم.
وتاريخ الأدب يبحث قبل كل شيء عن أسباب هذا التطور في الأساليب والأذواق، وقد عرفنا أن شخصية الكاتب عامل عظيم الأثر في هذه الانقلابات، لأن الكاتب الفذ يخلق ذوقاً جديداً وينشئ عصراً جديداً ومرحلة جديدة في الأدب، ولكنا يجب ألا نغالي في تقدير شخصية الكاتب حتى نجعلها تبتلع العوامل الأخرى وتستغرقها جميعاً، فقد ذكرنا أن النابغة يصاغ في قالب من الثقافة والمثل العليا والاتجاهات العقلية والخلقية التي يولد فيها، مما يكون له أكبر الأثر فيما يكتب ويخرج لهذا العالم. وكما يؤثر الأديب الفحل في عصره فهو كذلك يتأثر به، ويتوقف نجاحه إلى حد كبير على خضوعه لأذواق الجماهير ومجاراته لأهوائهم، وعلى ذلك فالكاتب ابن عصره، ولابد لنا عند دراسته من معرفة العوامل التي كيفت آراءه وحددت ذوقه الأدبي، وجعلت له طابعاً خاصاً في أدبه - وقد تكون هذه العوامل أدبية ترجع إلى الكتب والمدارس كما يتميز عصر اليزابيث - مثلا - في الأدب(48/43)
الإنجليزي باندفاعه وراء الآداب اللاتينية والإغريقية التي بعثتها النهضة الأوربية، فتأثر الكتاب في ذلك العصر بسحر الأدب الإيطالي، وكما انبعثت آداب العصور الوسطى وفنونها منذ سنة 1750، وتمثلت في كولروج وسكت. فالواقع الذي لا مراء فيه أن المؤثرات الأدبية تأتي بأذواق جديدة تجرف أمامها أشد الكتاب استقلالاً في الرأي.
ولكن الأدب يتأثر بعدة عوامل أخرى غير العامل الأدبي، عوامل لا تمت إلى الكتب والمدارس بصلة، ولكنها تتصل بالحياة العامة والسياسة والاجتماع بسبب، فكل ما يبعث اتجاهاً جديداً في الرأي أو في منحى الحياة أو في مجرى السياسة والشعور العام يؤثر في تكوين الآداب إلى حد كبير. ويجب علينا دراسة أي أثر من الآثار الأدبية ألا ننسى ظروف الزمان والمكان التي أحاطت بالكاتب عند تحرير كتابه.
3 - صلة التاريخ بالأدب
لكل جنس من الأجناس البشرية ولكل عصر من عصور التاريخ مميزات خاصة، ومهما تكن شخصية الأديب بالغة من القوة، فأن روح جنسه وعصره لابد ظاهرة فيه وعلى ذلك فتاريخ الأدب يتأثر بمؤثرات وطنية كما يتأثر بمؤثرات شخصية. ويكفي أن نذكر الإصلاح الديني والثورة الفرنسية وظهور الإسلام وتقدم العلوم في القرن التاسع عشر، وغير ذلك من الحوادث العظمى في التاريخ لنتبين العلاقة المتينة بين تاريخ الأدب والتاريخ العام.
ولا يقتصر تاريخ الأدب على دراسة المخلفات الأدبية لمختلف الكتاب، كل كاتب على حدة، وإنما هو يشمل كذلك دراسة أدب الأمة جملة واحدة، وإظهار مميزاته العامة باعتباره إنتاجاً لعقلية هذه الأمة ككتلة واحدة لها تفكير خاص وشعور خاص، فللأدب العربي - مثلا - مميزاته العامة، وللأدب الإنجليزي مميزاته العامة كذلك، وتختلف هذه عن تلك بمقدار ما يختلف الشعبان في الجنس والسلالة.
كل ما له أثر في تكوين الأمة له أثر في نسج أدبها، فأن أدب الأمة هو تاريخها الذي دونته بقلمها يصور لنا أخبار رقيها العقلي والخلقي. وإذا تتبعنا تاريخ الأدب في كل ما طرأ عليه من تقلبات، فنحن على اتصال مباشر بالأسباب الحقيقية، والحركات الدافعة لحياة الأمة في العصور المختلفة، ونحن مستطيعون أن نفهم نظر أهل تلك العصور إلى الحياة وألوان(48/44)
مسراتها وأنواع ملاهيها وفلسفتهم في الوجود ومختلف العواطف والأحاسيس التي كانت تجول بنفوسهم، ومثلهم العليا في الأخلاق والذوق، وأي صفات البطولة كان لها سلطان قوي على النفوس، وكان لها نصيب كبير من الإعجاب، فالأدب كما يقولون مرآة تنعكس عليها روح الشعب وحياته
4 - عصور الأدب
وقد اعتاد مؤرخو الآداب أن يقسموا الأدب إلى عصور مختلفة، ولم يلجئوا إلى ذلك لسهولة الدرس فحسب، ومن قبيل تقسيم الموضوع المتشعب إلى أبواب وفصول، ولكن هناك ما يبرر هذا التقسيم، فالعصر التاريخي عبارة عن فترة زمنية يسود فيها نوع من الذوق العام، وعلى ذلك فأن أدب ذلك العصر يتسم بصفات خاصة من حيث المادة والفكرة والأسلوب. وقد تختلف آثار الكتاب البارزين بقدر ما تختلف شخصياتهم، ولكن تلك الصفات العامة تظهر فيهم أجمعين، ولا ينتهي عصر ويخلفه آخر، إلا بعد تغير حاسم في الذوق العام.
ولكننا يجب أن لا نضع الحواجز المتينة بين عصر وعصر، فليس تاريخ الإنسان أبواباً وفصولاً، ولكنه تيار واحد متدفق يتعرج حينا ذات اليمين وحيناً ذات اليسار، وليس له بداية معينة ولا نهاية محدودة، والعصور التاريخية في الواقع آخذ بعضها بتلابيب بعض، وقد يبدأ الرحل عمله في عصر من العصور ولا ينتهي منه إلا في عصر آخر، كالمخضرمين بين الجاهلية والإسلام، وكبشار وابن المقفع بين العصر الأموي والعصر العباسي. وقد عاش دريدن وملتون في زمن واحد، ولم يعمر أولهما بعد الآخر إلا سنوات قلائل، ومع ذلك فقد أعتاد مؤرخو الأدب الإنجليزي أن يضعوهما على رأس عصرين متتابعين يعرفان بعصر (دريدن) وعصر (ملتون). ومع ذلك فإن لتقسيم الأدب إلى عصور أهميته الدراسية لأنه يوجه أنظارنا إلى المراحل التي اجتازها الأدب وتميز في كل مرحلة منها بميزة خاصة، وهو أهم ما يعنى به مؤرخ الآداب.
وللمؤرخ أن يطلق على هذه العصور أسماء يشتقها من التاريخ ورجاله كعصر اليزابيث، وعصر فكتوريا، وعصر المأمون. ولكن الأجدر بنا أن نسمي تلك العصور بأسماء مشتقة من الأدب نفسه ونطلق عليها أسماء مشاهير الكتاب الذين يمثلونها فنقول عصر شكسبير وعصر ملتون وعصر المتنبي. وعصر الجاحظ. . الخ ليسهل على الطالب أن يدرك(48/45)
بنظرة سريعة الصفات التي يتميز جيل عن جيل.
محمود محمود محمد
-(48/46)
من طرائف الشعر
الوادي
لصوت الطبيعة الصارخ ألفونس دي لامارتين
للشاعر الدمشقي أنور العطار
(إلى التي علمتني الحب وعلمتني الألم، وجعلت من حياتي مشابه لحياة هذا الشاعر، في خيبة الحب، وحرقة القلب، ومشجعي النغم، ومذيب الألم!)
إيهِ وَادي الصَّباءِ والأَحلاَمِ ... ِإيهِ مَهْوَى الإِيحاءِ والإِلهامِ
هَبْ لِضَعْفي مَلاَذَ يوْمٍ قصير ... أَتَرَقَّبْ فيهِ دُنُوَّ حِمامي
لم يَعُدْ قَلْبيَ السَّئُوم المُعنَّى ... يرْتجي مِنْ عَمايةِ الأَيَّامِ
أَنْ تُعِيدَ المُنى إِليهِ عِذاباً ... مُغْرِيَاتٍ بِثغرِهاَ البَسَّامِ
هُوَ ذا المسلَكْ الذي ضاقَ ذرْعاً ... في ثنَايَا الوَادِي المُضبَّ النَّوَاحي
تَتَدلَّى الغَابَات حَوْلَ حِفَافيْ ... هِ وَتَبْدُو مُلْتفَّةَ الأدْوَاحِ
بَاعِثَاتٍ إلَى جَبِينيَ فَيْئاً ... مِنْ غُصُونٍ تميدُ بالأَفرَاحِ
غَاَمِرَاتٍ سَاحَ الفؤادِ سَلاَماً ... مُقْصِيَاتٍ عَنَّي شَجَا الأَتْرَاحِ
هَاهُماَ جَدْوَلاَنِ في قَاتمِ البُعْ ... دِ اسْتَسَرَّ في مَسْرَبِ الأَعْشاَبِ
رَسما في المَسيِر مُنْعَطفَ الهضْ ... بِ وَمَسرَى الرُّبا ومَنْحى الشَّعابِ
مَزَجَا في هُنَيهْةٍ نَاغِمَ المَا ... ءِ بَموْجٍ كَالهَادِرِ الصَّخَّابِ
ثُمَّ غَابَا عَنِ العُيُونِ وَضَاعا ... في قَصِيَّ المدَى وَخَافي الرَّحابِ
وَلَكاَلجْدْوَلَيْنِ في التَّهدارِ ... فَاضَ نَبْعي وَلّجَّ في التَّسيْاَرِ
ثُمَّ ولَّى وَلَيسَ صَوتُ ولا اسْمٌ ... أوْ مَعَادٌ إِلى حِمى التَّذكاَرِ
فيهما المَاء قد ترَامى نَقيَِّا ... مُشرِقَ السكْبِ مثلَ شمْسِ النَّهَاَرِ
غيْرَ أنَّي، وَالهْفَ نفْسي، كئِيبٌ ... وَمِيَاهي مُرْبدَّةُ الأنْوَارِ
في ضِفَافٍ مِنَ الجدَاوِلِ غَرْقَى ... في دُمُوع النَّدَى وَسَجْوِ الظَّلالِ
كُنْتُ أَقْضيِ سَحَابةَ اليَوْمِ مَغْلُو ... لاً بِقيدٍ ممِنَ الطَّبِيعةِ غَالِ(48/47)
وَعَلى هَادِرِ الميَاهِ تَغُطُّ النَّ ... فْسُ في حُلْمِهاَ البَعيدِ المجَالِ
مِثْلَ طِفْلٍ أَغْفى على نَغَمٍ حُلْ ... وٍ غَميسٍ في زاهِرِ الآمَالِ
آهِ! هَلْ لي إِلى هُنَاكَ مَعَادٌ ... حَيْثُ أَفْنى في زاخِرِ الأَمْوَاجِ
إنَّ عَيْني تَهفُو الى ذلك الأُفْ ... قِ وَتَهْوى تَزَاحُمَ الأحرَاجِ
ليتَني في حِمى الطبيعةِ أَبْقى ... سَادِراً في بِقَاعِهَا والفِجَاحِ
ثُمَّ أَرنُو إِلَى السماوات مِفرَا ... حاً أُصَلَّي في ذَهَلتي وَأُناجي
كم تَعشقَّتُ في حياتي وَكم زوَّ ... دتُ عيني مَرْأَى، وَقَلبي شُعُورَا
غيْرَ أَنَّي رجعتُ أَدراجَ ذاك الْ ... عَيشِ أَبغي إلى الهُدُوءِ مَصيَرا
يَا مطافَ الجمَالِ باللهِ كُنْ لي ... شاطئِاً للسُّلُوَّ يوْماً قَصيرَا
لَيْسَ غيْرُ النَّسْيانِ يَمْلأُ نفْسي ... أَملاً وَاسعِاً وَصبْراً غَزيرَا
إِنَّ نَفسي في هدْأَةٍ وَفُؤادِي ... في ارتيَاحٍ يَفُوقُ كُلَّ ارْتيَاحِ
لمْ يعكَّر صَفاَءهُ الأَلمُ المرُّ ... (م) وَمَا في حِمَاهُ مِنْ أَترَاحِ
والضَّجِيج القَصيُّ للسكوْنِ يَفنى ... كَفَناءِ الأَشْباحِ في الأَشبَاحِ
مِثلماَ يُضعِفُ المدَى الصَّوت في الأُذْ ... نِ تمشَّتْ بهِ مُتُونُ الرَّياَحِ
قَدْ رَأيْتُ الحياةَ بَيْنَ الغُيُومِ ... تَتَوارى في الغَابرِ المَوْهُومِ
وَيضيعُ البَرِيقُ منها وَيَخفى ... خلْفَ سِتْرٍ مِنَ الزَّمانِ القْديِمِ
غير باقٍ منها سِوى الحُبَّ يَبدْو ... في إطارٍ منَ الخيالِ عظيمِ
وحْدَهُ ثابِتٌ لدُنْ قَدْ أفاقَ ال ... قلَبُ مِنْ حُلْمهِ العميقِ الهُمُومِ
إيهِ نفسي قِفي على الملْجَأِ البا ... قي وَلُوذِي بهِ لِكيْ تسترِيحي
مثلما يجلِسُ المسافِرُ والقَل ... بُ مَلئٌ مِنَ المرامِ المُرِيحِ
هادئَ البالِ تَهَنَّأ لمَّا ... بَلَغَ القَصْدَ بَعَدَ سَيرٍ طَليحِ
راح يَستنْشِقُ الهواَء نقيّاً ... في مَساءٍ بالنَّافِحَاتِ طفُوحِ
مِثْلُهُ فلُثِرْ غُبَارَ خُطانا ... مالنا رجعَةٌ إلى ذي الطَّريقِ
مِثْلُهُ فَلْنَشمَّ في غايةِ العُم ... رِ أريجاً مِنَ الصَّفاءِ العمِيقِِ
حُلُمٌ عَيْشُنا يَمُرُّ وَيمضي ... غيرَ حُلوِ الُّرؤى وغيرَ أنيقِ(48/48)
ما بِهِ جِدَّةٌ يرِفُّ سناهَا ... وهو غَمْرٌ بِكُلَّ رثٍّ عتيقِ
إنَّ أيَّامَكِ القِصَار العَبُوسَا ... تِ كمِثلِ الخريفِ في الإجهَامِ
تَنطوِي مثلما يُغَيَّبُ ظِلٌ ... في ثنايا الهضابِ والآكامِ
ثُمَّ تزوي عنكِ الصداقةُ والعط ... فُ يُولَّي موَشَّحاً بظلامِ
في طريقِ القُبُور تَهوين حَسْرى ... وتضيعين في سجونِ القَتَامِ
بيدَ أن الطبيعة الرحبةَ القَل ... بِ تُناديكِ في حنانٍ عظيمِ
فَاغمسي روحكِ اللهيفَةَ فيها ... فهيَ أحْنى مِنْ كلَّ قلبٍ رؤومِ
فإِذا ما ضجرتِ منْ عالمِ البُغْ ... ضِ وما في مطافِهِ منْ همُومِ
فارجعي القَهْقري ترَىْ عا ... لَمَ حُبٍ ضَمَّ كلَّ مرومِ
فهيَ توليكِ ظِلَّها وسناها ... وتُصَفَّي مِنَ الأثامِ هواكِ
أنصتي للصَّدى العميقِ (فبيتا ... غور) قد تامهُ صدَى الأملاكِ
فاعبُديهِ وقدَّسيه طويلاً ... إن فيهِ ما تَشتهيهِ مُناكِ
أَرهفي أُذْنكِ اللَّطِيفةَ تَسْمَعْ ... في سَمَاها نشَائدَ الأفلاَكِ
اْتبَعي النُّورَ في السَّمَاءِ ومَاشي ال ... ظِلَّ في الأَرضِ وامْرَحي في الوِهادِ
واصعَدِي في رُبا النَّسيم مع الرَّي ... ح التي لا تَعي مِنَ الإِنشادِ
وَاملئي الغَابَ فَرَحةً وَالسَّواقي ... وَاسرَحي طلْقةً مِنَ الأَصفَادِ
خاصِرِي ذلك الشُّعَاغَ السماويّ (م) ... وَهيَّا ارقُصي بِظلَّ الوَادي
نَفَحَ اللهُ بالذَّكاءِ بَني الأَرْ ... ضِ لكي يهتْدوا إلى مُوحِيهِ
وَيُناجُوهُ ضارِعِين إِليهِ ... لم يِخبْ قَطُّ في الدُّنا راجيهِ
إنَّ صوتْاً يُخاطِبُ الرُّوحَ حُلْواً ... وَهيَ غَرْقى في صَمتِهاَ والتَّيهِ
آهِ مَنْ لم يسْمَعْ نِداءً خفياًّ ... هُوَ في قَلْبهِ صّدَى مُلْقِيهِ
دمشق
أنور العطار
من المجمع الأدبي(48/49)
حنين إلى النخلة
يا نخلةً في أعالي النهر باسقةً ... قلبي إليك يذوب اليوم تحنانا
هلا تزالين مثل الأمس وارفة ... ولم يزل سعفك المخضر ريانا؟
تشدو القمارى فيه بكرةً وضحىً ... ويسجع البلبل الغريد سكرانا
والنهر تحتك يجري باسماً مطلقاً ... والموج يغدو يجر الذيل خجلانا
والفلك دونك تسري وهي حاملة ... من أهل جنتنا حوراً وولدانا
يا نخلةً أهلها يرجون غَلَّتها ... ونرتجي ظلها الزاهي ليرعانا
قولي بربك هل ما زلت قائمةً ... ولم يزل ظلك الفينان فينانا
يا نخلةً قد سقيناها بأنفسنا ... إذ نستقي في حماها اللهو ألوانا
هل صنتِ سري وعهدي بعد أن فضحت ... سري الليالي وخان العهد من خانا
من مسَّ جذعكِ بعدي جُذَّ ساعده ... أو نال سعفك يوماً نال أحزانا
لا طاب تمرك بعد اليوم من ثمر ... ولا أفأتِ بظل منك إنسانا
حتى ترد لنا الأيام غربتنا ... وترجع العيش صفواً مثل ما كانا!
بغداد
فتى شط العرب(48/51)
خولة بنت الأزور الكندي
بقلم. م. أسعد طلس
في السنة الثالثة عشرة للهجرة يزعم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفتح الشام فيجمع الصحابة ويخطبهم قائلاً (. . . وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عول أن يصرف همته إلى الشام فقبضه الله إليه، واختار له ما لديه، ألا وإني عازم أن أوجه أبطال المسلمين إلى الشام بأهليهم وما لهم؛ فماذا ترون؟) فلا يرى من المسلمين إلا ارتياحاً، فيعمد إلى بقية الأمصار الإسلامية من أطراف الجزيرة فيكتب إليهم بالأمر، ويستنفرهم خفافاَ وثقالاً ليجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وما هي إلا أسابيع حتى تقدم عليه الوفود في العدد العديد، والذراري والأموال، فيخرج إليهم المسلمون مستقبلين بوجوه باسمة، وقلوب جذلانة، ويعم المدينة روح مبارك، وكيف لا والمسلمون يجتمعون كلهم في صعيد واحد لنصرة دين الله، ورفعة شأو التوحيد.
وهاهي ذي حمير بدروعها الدوادية، وسيوفها الهندية، وتزحف بآلافها المؤلفة وعلى رأسها زعيمهاذو الكلاع الحميري، يكبر ويهلل والقوم من ورائه يكبرون ويهللون. وها هي ذي كتائب مذحج وطيء والأزد وكنانة بخيولها العتيقة، ورماحها الدقيقة، تؤم عاصمة الإسلام، فما أن يراهم أبو بكر حتى يخر لله شاكراً أن ألف من هذه القبائل المتنافرة أمة واحدة، نزع الله ما في قلوبهم من غل، وجعلهم بنعمته أخواناً ينصرون دينه وينشرون رسالة نبيه. في أطراف المعمورة.
اجتمعت هذه الآلاف العديدة فعسكرت خارج المدينة تنتظر إشارة خليفة رسول الله، وما أن تكاملت الوفود حتى خرج إليهم رضوان الله عليه في جمهرة من كبار الصحابة، فلما أشرف عليهم من عل ورآهم قد ملئوا السهول والجبال حتى حمد الله وقال (اللهم أنزل عليهم النصر وأيدهم، ولا تسلمهم إلى عدوك إنك على كل شيء قدير)
ثم أمر الأمراء وعقد الألوية، وأوصاهم وصيته الخالدة وفيها يقول (. . . شاورهم في الأمر، واستعمل العدل، فإنه لا أفلح قوم ظلموا، وإذا لقيتم العدو فلا تولوهم الأدبار، وإذا نصرتم على عدوكم فلا تقتلوا ولداً ولا شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً، ولا تغدروا إذا عاهدتم. وستمرون على قوم في الصوامع رهباناً يزعمون إنهم ترهبوا في الله فلا تهدموا صوامعهم(48/52)
ودعوهم. . .) فأمن القوم وهللوا فدوت بأصواتهم الجبال، ثم ساروا على يمين الله، وسار الخليفة وكبار الصحابة يودعونهم حتى ثنية الوداع.
سار القوم وكلهم أيمان وصبر، وعزيمة وحزم، وطاعة لأمرائهم، وجلد على السير، وتواد وتعاطف.
كان في هذا القوم شاب كندي ما جاوز العقد الثالث، جميل المحيا، عالم بفنون الحرب، فاتك في النزال، قوي الإيمان بنصرة الله عباده المخلصين، لا يعرف إلا الإقدام، يتقدم الجيوش والمنية مشهرة سهامها. ذلك هو الأمير (ضرار بن الأزور الكندي) الشاب الحدث الذي ما أغنى غناءه بطل في فتوح الشام إلا سيد القواد سيف الله خالداً.
وكان في الغازيات اللائي كن يتبعن هذا الجيش، كاعب عروب، ذات جمال باهر، وطرف فاتر، خرجت فيمن خرجن من عقائل حمير تأسوا الجرحى، وتعين على نصرة الحق. ولقد أبلت بلاء مغاوير الأبطال، فكان هذا الغزال الغرير ينقلب إلى أسد كاسر يصلي العدا ناراً حامية، يروع القلوب، وتجف من هوله الأفئدة، ولم لا وهي ابنة (الأزور) ذلك البطل الذي قضى بين يدي المصطفى دفاعاً عنه، وأخت ضرار صاحب فتوح الشام؟. . .
المسلمون يحاصرون دمشق وأهلها في أشد الضيق، وبينا المسلمون يكادون يظفرون بالقوم، إذا هم برسول من قائد جند أجنادين، يخبر خالداً أن الروم تجمعوا عليهم في أجنادين في عدد عديد، فيشاور خالد أبا عبيدة في ترك دمشق، فلا يرى ذلك أبو عبيدة فيقول خالد (فأرى أن ترسل إليهم كتيبة عليها قائد درب، وأرى أن ترسل إليهم يا أمين الأمة رجلاً لا يخاف الموت أبداً، خبيراً بلقاء الرجال، قد مات أبوه في القتال، فقال أبو عبيدة ومن ذلك يا أبا سليمان؟ قال هو ضرار بن الأزور بن طارق، فقال أبو عبيدة لقد صدقت ووصفت رجلاً باذلاً معروفاً).
استدعى خالدا ضراراً فقال له (يا أبن الأزور أريد أن أقدمك على خمسة آلاف، قد باعوا أنفسهم من الله عز وجل واختاروا دار البقاء والآخرة على الأولى، فقال ضرار (وا فرحتاه يا ابن الوليد، ما دخل قلبي مسرة أعظم من هذه. ثم يسير ضرار على يمن الرحمن، فلما بلغ أجنادين رأى جيش الروم ينحدر كأنه الجراد المنتشر، وهم غائصون في الدروع وقد أشرقت الشمس عليهم، فلمعت دروعهم، وخوذهم، فقال أصحاب رسول الله لضرار ما لنا(48/53)
والله بهم حول، فان هؤلاء جيش عرمرم، وخير لنا أن نقفل) فيكره ضرار ذلك القول ويقول (والله لا يراني الله منهزماً، ولن أزال أضرب بسيفي في سبيله وأتبع سبيل من أناب إليه، ولا أوليهم الدبر، والله يقول (ولا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله). . .) ثم تكلم رافع بن عميرة فقال (يا قوم أما نصركم الله في مواطن كثيرة وأنتم قليلو العدد؟ ألا إن النصر مقرون مع الصبر. ولم تزل طائفتنا تلقى الجموع الكثيرة، فاتبعوا سبيل المؤمنين، وتضرعوا إلى رب العالمين، وقولوا كما قال قوم طالوت (ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين). .) فيسترد القوم قواهم ويهللون ويكبرون (الله أكبر، الله أكبر، سيهزم الجمع ويولون الدبر).
التقى الجمعان وضرار يتقدم القوم وهو يرجز:
الموت حق أين لي منه المفر ... وجنة الفردوس خير المستقر
هذا قتالي فاشهدوا يا من حضر ... وكل هذا في رضا رب البشر
ثم اخترق القوم وحمل عليهم حملة نكراء فأحدقوا به، فأخذ يستصرخ قومه ويقول: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص) فيهجم المسلمون ويصيب ضراراً سهم في عضده فيطمع الروم فيه ويحملون عليه فيأسروه. ويجيء خالداً الصريخ فيولي على جند دمشق ميسرة بن مسروق سيد بني عبس، ويتوجه بطليعة إلى أجنادين، وكان بين جنده فارس على جواد فاره وبيده رمح طويلة، قد تجلبب بجلابيب سود، وتلثم حتى لا يرى منه إلا الحدق، وكان يسبق القوم وخالد يعجب من أمره، فلما أن أدرك خالد المسلمين في أجنادين وجد هذا الفارس المتلثم يهبط على الروم كأنه النار المحرقة، فزعزع الكتائب وحطم الأجناد. وكان يخترق قلب خميس الروم، فما هي إلا جولة جائل حتى يخرج وسنانه ملطخ بالدماء، وقد جندل رجالاًوصرع أبطالاً. ثم يعود فيخرق القوم ثانية معرضاً نفسه للهلاك والناس أمامه مصروع أو فار. وكثر قلق المسلمين عليه وهم لا يدرون من هو_وقد ظنه بعضهم خالد فما هي إلا جولات خالد - ولما رأوا خالداً بينهم سألوه عنه فقال أن والله لأشد إنكاراً وتعجباً.
وما إن غابت الشمس ووقفت الحرب، حتى أحدق القوم بهذا الفارس وفيهم خالد يسألونه(48/54)
عن اسمه فلا يجيب، ثم ينتحي بخالد زاوية فيقول له: (ما سكت يا سيف الله حين سألتموني عن اسمي إلا حياء منك لأنك أمير جليل، وأنا من ذوات الحجال، وإنما حملني على ذلك أني محرقة الكبد، زائدة الكمد. فقال: من أنت؟ قالت: خولة بنت الأزور أخت ضرار أسير الروم، أتاني آت بخبر أخي فركبت وفعلت ما فعلت.).
أشرقت الشمس فجدد المسلمون عزائمهم وكروا على القوم وحملوا حملة عظم أمرها على الروم، وكانت خولة تجول في كل مكان تطلب أخاها وهي لا ترى له أثراً ولا يراه أحد من المسلمين فيعم القوم حزن شديد وتبكيه بقولها: (يا ابن أمي! ليت شعري في أي البيداء طرحوك، أم بأي سنان طعنوك، يا أخي، أختك لك الفداء. . . ليت شعري، أتراني أراك بعدها أبداً؟ فقد تركت في قلب أختك جمرة لا يخمد لهيبها ولا يطفأ، فعليك مني السلام إلى يوم اللقاء). فبكي القوم وبكي خالد لحالها. وبينا المسلمون في شدة واضطراب إذا هم بمن يخبرهم بأن الروم أخذوا ضراراً إلى صاحب حمص لينفذه إلى الملك، ففرح خالد وتهلل وجهه، وشكرت خولة الله، فدعا خالد رافع بن عمرة الطائي لينفذه إلى حمص فسار خالد في مائة منهم خولة، فما وصل القوم قرب حمص حتى كمنوا، فبينا هم كذلك إذا بنفر أقبلوا، فنبه رافع قومه، فلما قاربوهم كر عليهم رافع فإذا فيهم ضراراً فتجالد الفريقان حتى أنقذ ضراراً، فخرت خولة لله شكراً وشكر خالد لرافع بلاءه.
هذا موقف من مواقف بسالتها الخالدات، وما موقفها يوم أسر النساء في يوم صحورا والناس يغزون الشام بالأمر الذي ينسى فقد ذكر الطبري أنها أسرت في فريق من نسوة حمير. فجمعتهن وخطبتهن تستحثهن على الثورة على هؤلاء الأعلاج، وقالت (يا بنات حمير، وبقية تبع، أترضين لأنفسكن علوج الروم، وأن يكون أولادكن عبيداً لأهل الشرك، فأين شجاعتكن التي تتحدث بها عنكن أحياء العرب، ولا أراكن إلا بمعزل عن ذلك، وإني أرى القتل عليكن أهون من هذه المصائب، وما نزل بكن من خدمة الروم الكلاب) فقالت عفراء بنت غفار الحميرية (صدقت والله يا بنت الأزور، نحن والله في الشجاعة كما ذكرت، وفي البراعة كما وصفت، لنا المشاهد العظام، والمواقف الجسام. ولقد اعتدنا ركوب الخيل، وهجوم الليل. غير أن السيف يحسن فعله في مثل هذا الوقت، ولقد دهمنا العدو على حين غرة، وما نحن إلا كالغنم بدون سلاح) فقالت خولة (يا بنات التبابعة، خذوا(48/55)
أعمدة الخيام وأوتاد الأطناب، نحمل بها على هؤلاء، فلعل الله ينصرنا فنستريح من المعرة) فقالت عفراء (والله ما دعوت إلا ما هو أحب إلينا) ثم تناولن الأعمدة وتقدمتهن خولة وهي تقول لهن لا ينفك بعضكن عن بعض، وكن كالحلقة الدائرة، وأوسعن أرجل أفراس القوم ضرباً، ولا تتفرقن فيقع بكن التشتيت، ثم هجمت وهي تقول:
نحن بنات تبع وحمير ... وضربنا في القوم ليس ينكر
لأننا في الحرب نار تسعر ... اليوم تسقون العذاب الأكبر
وما هي إلا جولات حتى خلصن إلى المسلمين.
هذان موقفان من مواقف البطولة في هذه المرأة العربية المسلمة ولقد كان لها رضوان الله عليها مواطن أخر غر صالحات. جعل الله منها أسوة حسنة لمرأة اليوم، هداها الله أقوم طريق.
م. أسعد طلس(48/56)
في الأدب الفرنسي
الدوق دي لاروشفوكو
للدكتور حسن صادق
ثم انتقل إلى وصف عواطفه فقال (إنه رحب الأناة، ناصح السريرة، لا يتملكه الغضب، ولا يضمر لأحد من الناس العداوة والبغضاء). وعقب هذا الوصف قال: (لست مع ذلك عاجزاً عن الانتقام لنفسي إذا اعتدى أحد علي أو أساء إلى شرفي. وفي هذه الحال أؤمن بأن الواجب يقوم في نفسي مقام الحقد، ويأمرني بأن أتم انتقامي في صلابة وعزم)
وليس في هذا القول شذوذ أو غرابة، ولكن ما يقوله عن الشفقة يثير الدهشة والعجب: (إني قليل الشعور بالشفقة، وأستريح إلى ذلك جد الراحة. ولكني إذا رأيت إنساناً جعجعت به المصائب، بذلت غاية جهدي في مواساته. وأعتقد حقاً أن من الواجب على الإنسان أن يسلك كل السبل التي تؤدي إلى إظهار الشفقة على من تصيبه الأرزاء والمحن، لان البائسين أغبياء إلى درجة تجعلهم يجدون في إظهار الشفقة عليهم والرثاء لحالهم راحة وعزاء. وأجد من الحزم إظهار هذه العاطفة دون الشعور بها صدقاً، لأنها لا تصلح لشيء في دخيلة الإنسان ولا عمل لها إلا إضعاف القلب وتحطيمه، ويجب النزول عنها للدهماء لأنهم لا يفعلون شيئاً بإيحاء العقل فهم في حاجة إلى عاطفة تحفزهم إلى العمل)
وقوله هذا يعبر أبلغ تعبير عن روح القرن السابع عشر الذي عرف الناس فيه بصلابة القلب وضعف الحساسية. كانوا أثناء الحرب الأهلية يدمرون نهاراً ويقتلون، ثم يرقصون ليلاً ويمجنون، وكانوا يتحدثون عن التعذيب والقتل في بساطة الحديث عن الدعابة الفرحة، والفكاهة الشهية.
ويجمل بنا في هذا المقام أن نذكر رأى ثلاثة من قادة الفكر في هذه العاطفة، لنرى الفرق الشاسع بينهم وبين لاروشفوكو. فمونتني يقول: (إني شديد الميل إلى الرحمة والوداعة). وديكارت يرى أن ميزة النفس الكبيرة (أن يكون شعورها بآلامها أضعف بكثير من شعورها بآلام غيرها). ويتطلب لابروبير من النفس العالية (أن تكون قوية الشكيمة فلا تلين صعدتها إلا أمام عاطفة واحدة هي الشفقة)
ومما يدعو إلى العجب أن لاروشفوكو الذي ينكر هذه العاطفة في مقالة ومواعظه، يقرها(48/57)
في مذكراته ورسائله. فقد كتب عن ثورة الفلاحين في (بواتو) التي سبق ذكرها في تاريخ حياته يقول: (لا أنكر أن بؤسهم جعلني أنظر بعين الشفقة إلى تمردهم). ثم طلب من الوزير مازاران في ذلك الوقت أن يمنحه حق العفو. ولما أجيب إلى ما طلب أحسن استعمال هذا الحق، فلم يخدش شرفاً ولم يسفح دماً. وقبل موته بقليل أي في عام 1674 كتب إلى الآنسة دي سكوردي يقول: (بودي لو تنفق سوق الرحمة وتصبح بدعة يولع الناس بها، فلا يقع بصرنا بعد ذلك على بائسين). وكثيراً ما رأته مدام دي سفنييه (متلبساً بالحنان)، فأدركت أنه يظهر من عواطفه وقلبه غير ما يبطن. ويغلب على ظننا أن هذا الرجل لم يميز طبيعة نفسه عن الأثر الذي أنشأته فيها البيئة والبلاط. فقد اشترك في الدسائس ورأى الأمراء والعظماء يتكالبون على متاع الحياة، ويجدون في البحث عن مصالحهم الذاتية في جشع وخسة، فكرههم واحتقرهم وقسا في الحكم عليهم، مع أنه بطبعه كريم رحيم. وأثر البيئة هو الذي جعله يخلص الود لعدد قليل من الناس اختارهم قلبه، وهذا شأن المتشائمين أمثاله، يضعون كل افتقارهم إلى الحب في بعض أفراد أعزاء عليهم. وهذا الافتقار إلى الحب هو جوهر نفورهم من الناس
وكان لاروشفوكو إلى جانب الصفات التي سبقت، طموحاً ولو أنه ينكر ذلك. لم يستحوذ عليه طموح ريشيليو، أو على الأقل عجز عن بلوغ شأو هذا السياسي العظيم، فتمنع بالسعي وراء الحصول على لقب لزوجه، والسماح له بدخول قصر اللوفر في عربة. فلما أخفق في سعيه، اقتصر طموحه على كتابة (المواعظ)
وقد حال خجله دون دخوله مجمع العلماء لأنه كان يعجز عن الكلام أمام جمع كبير من الناس، وتقليدات المجمع تفرض عليه أن يرد على خطبة الاستقبال بخطبة أخرى وما كان يجيد الحديث إلا في الصالونات الأدبية التي يؤمها عدد قليل من الأصدقاء الأخصاء. وكان من عادته أن يتكلم قليلاً، وينفر من الثرثارين الذين يدخلون الخطابة في الحديث، ويفرضون الصمت والإصغاء على غيرهم. ويعتقد أن (المصلحة الذاتية هي روح عزة النفس أو الأثرة) حتى في السمر والمناقشة، فإذا لم يفكر كل إنسان إلا في نفسه وفي قوله، شل الآخرين وبعث في نفوسهم الضيق والضجر، ويرى أن أمثل الطرق لإنعاشهم وإنقاذهم من الملل هو الإصغاء إليهم وإظهار الابتهاج بقولهم. ومن وصاياه المأثورة: (يجب(48/58)
الإصغاء إلى المتكلم مهما كان حديثه واهي الرباط طائش الغرض عارياً من المعنى. ولا أوصي بتجنب معارضته ومقاطعته فحسب، بل أوصي أيضاً برياضة النفس على احتمال روحه وذوقه والاطمئنان إليهما والتشبع بهما، وإطراء قوله بقدر ما يستحق، ووضع هذا الإطراء في قالب أميل إلى الحقيقة منه إلى اللياقة والمجاملة). وعرف بالتجربة والملاحظة أن لا شيء أبغض إلى النفس وآلم للأذن من أن يجعل الإنسان نفسه محور الحديث في كل موطن، فتجنب ذلك جهد المستطاع
وكان يكره من المتكلم لهجة الثقة المستبدة والتعبير الذي يدل على البحث الطويل وإعنات القريحة، ويكلف بتوزيع القسط بين المعاني والمباني. ويميل إلى الإيجاز الممتع ويفخر بذلك (من شأن العقول الكبيرة أن تدل بقولها الموجز على كثير من المعاني. ومن صفات العقول الهزيلة أن تتكلم كثيراً ولا تقول شيئاً). وقد أجاد الإيجاز في مواعظه إلى درجة كادت تبلغ حد الكمال. ولنضرب مثلاً هذه الموعظة: (يملك الإنسان دائماً ما يكفي من الجلد لاحتمال آلام الغير)، فليس من المستطاع (تكثيف) التهكم في كلمات أقل من هذه. وهذا الإيجاز يجعل (للمواعظ) قيمة تاريخية هامة، لأنها تعين طوراً جديدا للنثر الفرنسي. وقد قدرها فولتير حق قدرها فقال: (يرجع أكثر الفضل في تكوين ذوق الأمة وجعلها تتعشق الأصالة والدقة إلى مواعظ لاروشفوكو)
وذكر معاصروه أنه كان دقيقاً في الحكم على الكتب التي تعرض عليه، وأنه كان يحب قراءة الكتب القيمة التي تتطلب الحوار والمناقشة، وترغم العقل على التفكير العميق. وكان من أحب الأشياء إلى نفسه أن يستمع إلى حديث ذوي العقول الراجحة إذا تكلموا في الموضوعات الجدية وجعلوا للأخلاق النصيب الأكبر من حديثهم. وهذا يدلنا على ولعه الطبعي بكتابة المواعظ
ومن تاريخ حياته يتبن لنا أنه كان مشغوفاً بالنساء في كل أدوار حياته. ولا يذكر اسمه في كل دور إلا مقروناً باسم امرأة تحمل لقباً كبيراً، أولها في تاريخ الأدب ذكراً جميلاً. واللهجة التي استعملها في كلامه عن عفة النساء، هي لهجة الرجل الغني العظيم الحب الذي لم يصادف في حياته امرأة تدمي قلبه بالصد والدلال
وكان يفضل مجلس النساء على مجلس الرجال. يدلنا على ذلك قوله: (إني أحترم النساء(48/59)
وأعاملهن في أدب جم ورفق كثير، وأعتقد أني لم أقل قط أمامهن كلمة تؤذي شعورهن. (ولكنه آلم الدوقة دي لونجفيل في مذكراته، وآلم النساء جميعاً في مواعظه) وأفضل حديثهن، إذا كن حصيفات العقل، على حديث الرجال، لأني أجد فيه عذوبة وسحراً. ويخيل إلي أنهن يعبرن عن أفكارهن في وضوح وجلاء أكثر منا، ويضعن أقوالهن في أسلوب بهيج يسر النفس والخاطر)
ومن حسن حظه أن ساق إليه القدر الكونتس دي لافاييت في شيخوخته، تؤنسه وتنسيه مرارة الحياة وتهيئ له أسباب الهدوء والسعادة الروحية
يتبع
حسن صادق
-(48/60)
العلوم
جاليليو
1564 - 1642
بقلم عبد الرحمن فهمي
بكالوريوس في الآداب
يمكننا أن نقول أن الكواكب في مسارها حفظت للجنس البشري عبقرية جاليليو. وجاليليو هو الابن البكر لأب فقير، بدأ تعلمه في دير بالقرب من فلورنسا، وبينما هو على وشك أن يكون راهباً رأى أبوه أن يرسله إلى جامعة بيزه ليتعلم فيها علوم الطب، مستعيناً على ذلك بموارد الأسرة الضيقة المحدودة.
وبينا كان الطالب الصغير يقضي بعض أوقات فراغه في العبادة بكاتدرائية بيزه، لاحظ أن المصباح الهائل المعلق في سقفها يتأرجح كما لو كان به مس من تيار شارد من الهواء، ولحظ أيضاً أن قوس التذبذب سواء أكبر هذا القوس أم صغر يكمل دورته في وقت بذاته، فاستخلص من ذلك قانون اضطراد (البندول).
وسنحت له الفرصة عن طريق المصادفة، فاستمع إلى محاضرة في العلوم الرياضية في بلاط الدوقية الكبير في بيزه، ومنذ هذه الساعة تعلقت نفسه بالأبحاث الرياضية فترك الجامعة ولم يستطع أبوه إرغامه على البقاء بها، وقضى سنوات مجدبة في درس العلم الجديد الذي اختاره لنفسه في حماسة فائقة، ولكنه استطاع فيما بعد أن ينال من الجامعة أجراً ضئيلاً على محاضرات في الرياضة يلقيها على طلابها.
وكان أجره من الجامعة قليلاً، ولكن تهيأت له فيها صفحة جديدة لمستقبل مجيد من أعلى برجها المائل، وتفصيل ذلك أن أحداً لم يكن ليفكر حينئذ في زعزعة عقيدة راسخة في الأذهان هي أن سرعة الأجسام الثقيلة ترجع في هبوطها إلى أوزانها، فقذيفة المدفع مثلاً تهبط أسرع مما لو هبطت ريشة. ولكن جاليليو نسب سرعة الهبوط إلى مقاومة الهواء، ودلل على صحة ذلك بأن ألقى عدة أجسام معدنية وخشبية من حجم واحد من أعلى قمة برج بيزه، وأرى العلماء أن هذه الأجسام تصل إلى الأرض في أوقات متقاربة جداً،(48/61)
وبرهن بذلك على أنه لم يكن لأوزانها تأثير مذكور في سرعة هبوطها، فقضى على اعتقادات قديمة وخلق لنفسه أعداء كثيرين. ثم بدأ يتفهم طبيعة الجاذبية التي بقيت راسخة في عقله ولكنها لم تخرج من حيز هذا العقل.
وترك بيزه إلى فلورنسا لما طردته الجامعة، وفي هذا الوقت مات أبوه، واضطره الدهر إلى أن يعول باقي أفراد أسرته. ولكنه فيما بعد استطاع أن يوجد له كرسياً في جامعة بادوه، ومن هذا الكرسي واصل بحوثه ونظرياته العلمية ثمانية عشر عاماً بين استحسان إيطاليا وإعجاب أوروبا كلها، فأضحى بذلك أحد المفكرين الخالدين.
ولم يكن جاليليو ليستفيد من بعد نظره وقوة إدراكه فقط، بل استفاد أيضاً من أبحاث غيره واكتشافاته، ويعد اختراع (التلسكوب) وهو المثل الأعلى بين كافة أبحاثه واختراعاته، ففي حوالي هذا الوقت اخترع جوان ليبرشي من هولاندا بعض العدسات، وما إن سمع بهذا الاختراع حتى استولى عليه، وأوجد من هذه العدسات أول مجهر فلكي، وبه حول أبحاثه وفحوصه إلى الفضاء حيث كشف جديداً غير معروف، وقضى على معتقدات قديمة: كشف سطح القمر الجبلي، وأثبت طبيعة إضاءته بالانعكاس الضوئي، ومحا خرافة المجرة ودلل على أنها مجموعات من الكواكب، كذلك كشف أقمار زحل وأوجه الزهرة، واستعان بكل هذه الاكتشافات على تخليد الحق في تاريخ الفلك، وهو كل ما كان يعنى به من أبحاثه الطويلة، فأخذ عالم الخرافات المظلم في هذا الحين يستنير بضوء هذا الحق.
وكان جاليلو خلفاً لكوبرنيق الذي أثبت أن الأرض والكواكب تدور حول الشمس، وليست الشمس والكواكب هي التي تدور حول الأرض كما اعتقد ارسططاليس، بل أن كبلر وهو من معاصري جاليليو أوغل في هذا البحث، فدرس طبيعة مدار الكواكب. وبينما كان جاليليو يدري هذه الحقائق الفلكية كان باقي العالم ولا سيما الكنيسة ينكرها بتاتاً.
ولم تحرك الكنيسة ساكناً في بادئ الأمر، زعماً منها أن العاصفة التي نفخها جاليليو لا تلبث أن تهدأ، ولكن بحوث الفلكي وطريقة عرضها نبهت الأذهان إلى مناقضتها، لما جاء في الكتاب المقدس، وقويت الشبهة ضده بتأثير جيوردانو برنو، وهو زنديق ثائر على المسيحية، مفكر حر، بالرغم من إن جاليليو أعلن أنه ينكر على جيوردانو أن يقول عن بحوثه العلمية أنها تبرهن على تخبط الدين المسيحي، وحاول أن يظهر للعالم أن اكتشافاته(48/62)
العلمية لم تعارض يوماً ما التعاليم الدينية المقدسة، إلا أن ذلك لم يفده، بل استدعته روما إليها ليدافع عن نفسه ويبرر هرطقته. ولكن كان له في البلاط البابوي أصدقاء ومريدون من علماء غير متعصبين، فسمعوا لنقاشه، ثم سمحوا له بالعودة إلى فلورنسا. وعاد وهو يعتقد أن من حقه أن يتابع بحوثه دون إذاعتها. وكانت مهادنة بين الجانبين بعد عودته إلى فلورنسا ظل فيها سبعة أعوام ساكنا راكنا إلى قريحته العلمية الوقادة.
إلا أنه لم يكن من طبعه وجبلته أن يبقى ساكناً إلى الأبد، فطبع مطبوعات مختلفة مطولة ضمنها محاوراته ومناظراته في نظام الأرض، وعندئذ استدعي إلى روما مرة أخرى، ولكن ليقابل في هذه المرة بابا عابساً حانقا على رجل متمرد ناكر للجميل، ولم تقبل منه شفاعة، بل اضطر تحت تأثير آلات التعذيب إلى أن ينقض أفكاره، ثم حكمت المحكمة عليه بالسجن، إلا أن هذا الحكم لم ينفذ، وإنما استبدلوا به يكفر عن خطيئته بتلاوة أدعية التوبة، وهي من سبعة أبواب في الزبور مرة في كل أسبوع. وتتصل بهذا العبث الرسمي من جانب الكنيسة فكاهة طريفة وهي أن جاليليو في كل مرة عندما كان ينهض من ركوعه بعد تلاوته الأدعية وقسمه اليمين بنقض معتقداته في الفلك، كان يقول بصوت خافت (ولكن الأرض ما زالت تدور).
كانت هذه الكلمات تقال بصوت يكاد لا يكون مسموعاً ولكن فكر العالم بدأ يلتهب بهذه الشرارة، وكان جاليليو رمزاً لتوسيع حدود العالم برغم محاولات الصلف والتحكم لتضييق محيطه ولا يزال الكون دائراً على رغم عرقلة المعرقلين من رجال الدين والمتعصبين ضد دورانه.
فهل يعد خضوع جاليليو للكنيسة جبناً منه؟ إن لكل بطل ساعة جبن في حياته، وقد تقلب الزمن من عهد هذا الفلكي العظيم حتى اليوم، فرأينا الآن الجمعية الإيطالية الملكية تطبع على النفقة العامة كل مؤلفاته في واحد وعشرين مجلداُ، شاملة وثائق محاكمته ومضابطها، وكان جد راغب في تجنب التصادم مع تعاليم الكنيسة، فأذعن لحقها في تعليم كافة الناس الإيمان بالدين، وبلغ من ذلك أنه كان يؤمن في الظاهر بكل ما كانت تطلب إليه أن يؤمن به، وباعد بقدر استطاعته بين العلم والدين علماُ منه بما يجب أن يكون بينهما من مسافة سحيقة، وجعل آراء كل منهما منفصلة عن الأخرى.(48/63)
ولكن لم كل هذا، وغيره من الناس لم يكن ليفعل ذلك لو كان مكانه؟ ولا سيما أن الكنيسة طلبت إليه أن يقارعها بالحجة وقد كان من الطبيعي أن ينتصر عليها لو أنه قبل ذلك، لأنه على حق فيما يقول، ولأن تعاليمها متناقضة لا يصح أن يقبل عالم مثله أن تذاع على الناس فيقبلوها كأنها حقائق ثابتة غير قابلة للبحث والتمحيص. ولكنه لم يبغ قتالاً مع الكنيسة، بل سار معها موافقاً على كل ما طابت إليه، مكتفياً بالبقاء على عقيدته في نفسه واجداً فيها فضولياً متحرشاً واصفاً إياها (بأن واجبها هو تعليم الناس كيف يسيرون إلى عالم السموات، لا كيف يسير العالم السماوي).
وبذلك استطاع أن يجد في بعض الأحيان تعضيداً من سلطة الكنيسة، لولا المتعصبون الذين كانوا يضغطون عليه ويضطهدونه بين آونة وأخرى، لما وقفت الكنيسة قط في وجهه، بل كثيراً ما حماه الباباوات والكرادلة ودرأوا عنه السوء، عنه السوء، بل كان يعلم بعضهم أنه على حق في بحوثه العلمية، وكثيراً ما لمحوا إليه بالهروب من أعدائه في الوقت المناسب.
وقد بعثت الكنيسة إليه يوماً بالكردينال بللارد ليوبخه ويحذره، ولكنه بدلاً من أن يفعل ذلك أرشده إلى طريق التعبير عن نظرياته، فكتب إليه (لا تقل إن الأرض تدور حول الشمس بل قل لنفرض أنها تدور حول الشمس، لأن من الخطر عليك أن تقول بأنها تدور، ولكنه من المأمون قولك بفرض دورانها) وبذلك ظل جاليليو يفرض قي الظاهر وهو مؤمن بالحقيقة في الباطن مؤكداً أن للحق الغلبة في النهاية.
وقد ولد أسحق نيوتن في 8 يناير سنة 1642، وهو اليوم الذي توفي فيه جاليليو، وبذلك بدأ فصل جديد من حيث انتهى آخر. ولم تؤيد نظرية الأرض وموقعها من المجموعة الشمسية ودورتها فقط، بل أصبحت العقول تدرك جيداً حركات الكواكب وقانونها أيضاً.
وقد أصيب بالعمى في أواخر حياته، إلا أنه وهو أعمى كشف عن أقمار زحل، وبحث ودرس البقع الشمسية مستعيناً على ذلك بتلاميذه بدل عينيه. وهو بشير لنيوتن وطليعة له، وإذا كان نيوتن هو الذي وضع قوانين الحركة وأثبت بالدقة الرياضية قانون الجاذبية بين الكون المرئي والقاعدة المضبوطة لحركاته، فإن جاليليو هو الذي مهد إلى ذلك وقاد نيوتن إلى الحقيقة الخالدة.
ولم يستطع إي بلاط بابوي في هذا الوقت تقييد أفكاره الطامحة، وأبحاثه العلمية، بل اكتفى(48/64)
بإرساله أخيراً من روما إلى دير سينا، وهو دير تطل جدرانه على سهول توسكاني، اعتكف فيه أشهراً قلائل، ثم سمح له بالعودة إلى فلورنسا حيث قضى الأعوام الثمانية الأخيرة من حياته في عزلة تامة امتثالاً لأمر روما، إلا أنها عزلة لم تعرف قط السكون بل كان جاليليو فيها يغلي بأبحاثه كالمرجل.
وقد لحقه الأسى وحلت به عاهته في كبره، وكان أعمى عندما زاره جون ملتون في إركتري عام 1638، وقد واصل رسالته العلمية وهو بعاهته فاخترع وأملى اختراعاته. وانتابته حمى بسيطة وهو يملي ملحوظاته على تلميذين من حواريه، فأسدلت حياته الطويلة ستاراً كثيفاً أبدياً، ولكن برغم ذلك بقي للعالم من هذه الحياة بحث خالد في الأرض وعقل إنساني جبار.
عبد الرحمن فهمي(48/65)
القصص
الأمير السعيد
للكاتب الإنجليزي أوسكار وايلد
مترجمة بقلم اليوزباشي أحمد الطاهر
يقوم تمثال الأمير السعيد على عمود باسق يشرف على المدينة، وقد كست التمثال لفائف من صفائح الذهب الخالص، وجعل له من الياقوت الأزرق عينان، وأمسك بسيف في قبضته ياقوتة حمراء. وكان هذا التمثال موضع الإعجاب والفخار من الناس أجمعين، فينظر إليه عضو من أعضاء المجلس البلدي فيتحدث عنه ويتكلف الوصف والتشبيه حتى يقول (إنه لجميل، وله من الجمال ما لديك الرياح، وإن لم تكن ما لذلك الديك من المنفعة) وكان هذا العضو يحاول ما استطاع في تشدقه بالحديث أن يمتاز بما للفنانين من بديع الذوق، وما للعمليين من صدق النظر،.
وتمر بالتمثال إحدى العاملات وبيدها طفلها يبكي لأنها لم تستطع أن تجتذب إليه القمر، وتقول له مفتخرة بالأمير السعيد (لم لا تكون يا بني كهذا الأمير، وما أحسبه بكي في حياته من حاجته لشيء؟)
وينظر إلى التمثال رجل قد شاع في نفسه اليأس ويقول (كم يسرني أن أرى على الأرض رجلاً قد حاز السعادة كاملة).
ويطوف بالتمثال أطفال المبرة وهم منصرفون من الكنيسة في أرديتهم القرمزية، وعباءاتهم البيضاء الناصعة فيقولون (أليس هذا التمثال شبيها بالملائكة!!) فينهرهم أستاذ الرياضة في حدة وجفاء مستنكراً هذا التشبيه (وأنى لكم هذا وأنتم لم تروا واحداً من الملائكة؟) فيجيب الأطفال (نحن لم نر الملائكة جهرة ولكنهم طافوا بنا في أحلامنا) فيعبس أستاذهم ويتولى.
في إحدى الليالي كان يطير فوق المدينة سنونو صغير، وكان رفاقه قد رحلوا إلى مصر وتقدموه بستة أسابيع وتخلف هو عنهم وقد فتن بحب مغردة تقطن شجر الغاب الذي يكتنف النهر، وكانت أجمل بنات جنسها، لقيها في الربيع وهو يطارد يراعة كبيرة صفراء، فأعجبه خصرها الناحل، فكاشفه بحبه وابتدرها في صراحة وبيان (أتأذنين لي في حبك؟)(48/66)
فأومأت إليه إيماءة خفيفة، فطار من فرط الفرح، وكانت آية حبه أن يحلق في الجو طائراً حولها يرتفع أحياناً ويسف بجناحيه أحياناً حتى يضرب بهما صفحة النهر، فيخط عليه سطوراً من فضة كانت هي تقرأ فيها التحية والإجلال، وكانت هذه تحيته طوال أشهر الصيف،
ولقد شاع حديث حبه بين أبناء جنسه، فتغامزوا عليه يتساءلون عن هذه الصلة التي توثقت بينه وبين المغردة، وهي ليست بذات مال ولها من أقربائها عدد وفير، وكان النهر غاصاً بأسراب المغردات.
ثم رحل رفاق السنونو رحلة الخريف وشعر صاحبنا بعدهم بسأم الوحدة وشاع السأم في نفسه حتى غشى حبه لصاحبته المفردة، فبدا له ما يعيبها من صمتها، وحدثته نفسه بأنها فتاة مبتذلة، ولا سيما وقد رآها تداعب الهواء في خفة ودلال!! وهو أن وثق بما لها من طبيعة الاستقرار، فلا يتفق طبعها مع ما جبل عليه من حب الأسفار، ولن تكون له إذاً الزوجة الصالحة، وصارحها يوماً برأيه فسألها (أتظعنين معي؟) فهزت رأسها مستنكرة أن تهجر وطنها. ولقد ساءه منها إباؤها، وصاح في وجهها (أنت إذاً كنت عابثة في حبي؟ سأرحل عن ديارك إلى الأهرام!! وداعا!! وداعا!!) وطار
طوى نهاره طائراً وأدركه الليل عند المدينة، فتحسس فيها مهبطاً سوياً، وساءه أن المدينة لم تعد له العدة لهبوطه، ثم تراءى له التمثال فطاب له النزول عليه، واستهواه من المكان هواؤه العليل واتخذ له بين قدمي الأمير مقعداً. ثم دار ببصره في المكان يتبينه، وقال معجباً (ما أجمله فراشاً من ذهب) ثم طوى رأسه تحت جناحه، وما لبث أن أحس بقطرة من الماء تسقط عليه فعجب للسماء تمطر بغير سحاب، والنجوم سافرة بغير حجاب، وما له يعجب لهذا الجو وهو في شمال أوربا أشد نكاية بالخلق وأبلغ إيذاء، ثم خطرت له المغردة وحبها لوطنها المطير وقال (إنها لمؤثرة) ثم قطرة ثانية تسقط عليه فينحى باللائمة على هذا التمثال القائم (أما فيه على طول قامته عاصم من الأمطار؟؟.) (سآوي إلى رأس مدخنة لعل فيها من المطر تقية) وهم بأن يطير فشخص ببصره إلى السماء ورأى. . . . وما أعجب ما رأى. . . . غشيت الدموع عيني الأمير السعيد، وهطل الدمع على خديه الذهبيين مدراراً، وبدا وجهه تحت سنا البدر في حلة من الجمال،(48/67)
أشفق السنونو من بكاء الأمير السعيد وقال له (من أنت؟) قال (أنا الأمير السعيد) قال (وما بكاؤك في هذه الساعة وقد بللتني دموعك؟) قال (كنت حياً وكان لي قلب كقلوب الناس، وما عرف الدمع إلى عيني سبيلاً، كنت أسكن قصر (البال الخالي) وكان الحزن لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه، وكنت أمضي سحابة اليوم ألهو وألعب مع رفاقي بين الزهر والشجر، وأقضي هزيعاً من الليل أطرب وأرقص في بهوه الفسيح، وكان يحيط بالقصر حائط لم أحفل بما وراءه، وكان كل ما حولي جميلاً، طربت لهذه الحياة حتى دعتني حاشيتي بالأمير السعيد يحسبون السعادة في الطرب. إلى أن أدركني الفناء فأقاموني على هذا الشرف، أرى منه كل ما في المدينة فلا يقع بصري إلا على ما تكره الأبصار، ولا يمتد إلا ليرتد حسيراً، ولي قلب قد من الرصاص ولكن لا محيد لي عن البكاء،.)
عجب السنونو في نفسه من هذه القصة، وزاد عجبه أن القلب قد قد من الرصاص، والجسم من الذهب
قال الأمير في صوت هادئ ونغم موسيقى،: (في أقصى المدينة دار فيها البؤس، وفيها الشقاء، وفيها أم قد ألح عليها الفقر العنيف. حتى شحب وجهها، وغابت نضارتها، واحمرت يداها من فرط ما تعانيان من وخز الإبر، وهي جالسة إلى منضدة وبين يديها ثوب من الحرير توشيه (بزهر العواطف) وتعده لأجمل وصيفات الملكة، تريد أن تزدهي به في مرقص يقام في القصر غداً. وإني لأرى الأم من نافذة الدار وأرى ولدها الصغير طريح الفراش، تضطرم في أحشائه نار الحمى، ولا عاصم له من شرها إلا شربة من عصير البرتقال، وأنى لهذه الوالدة بعصير البرتقال؟ - إنها تسكب في فمه ماء النهر، وهو لا يروي صداه، ولا يدفع جواه، هذه رسالتي أيها السنونو الصغير، اخلع عن قبضة سيفي هذه الياقوتة، وألقي بها بين يدي الأم البائسة، فأنا في موقفي هذا لا أستطيع حراكاً بما شدت به قدماي إلى هذا العامود).
برم السنونو بهذا الأمر واستعفى منه الأمير قائلا (إن لي في مصر من يترقب عودتي. أولئك رفاقي ترفرف أجنحتهم فوق نهر النيل يناجون أزهار اللوتس العظيمة، وما أحسبهم الآن إلا آوين إلى مضاجعهم في مقبرة الملك العظيم، المضطجع في تابوته الموشى، وقد ضمت لفائف التيل الأصفر جسده المحنط بالتوابل والأفاويه، ويحيط بعنقه قلادة من(48/68)
الكديش الأخضر الشاحب، وتمتد يداه كأوراق الشجر الذابلة،)
توسل الأمير السعيد للسنونو أن يقيم معه الليلة، وأن يبلغ رسالته إلى ذلك الطفل الصادي، وتلك الأم الحزينة، قال السنونو أنا لا أعطف على الأطفال، فقد كنت في الصيف الماضي مقيماً على النهر، وكان هناك صبيان يحصبانني بالحصى وهما ولدا الطحان، ولم يكن الحصى يصيبني لما اشتهرت به طائفتنا من خفة الحركة، وسرعة الطيران، ولكن الذي يحزنني هو ما ينطوي عليه عملهما من المهانة لنا والتحقير لشأننا)
طافت بوجه الأمير سحابة حزن أشفق منها السنونو ولان قلبه وقال: (الآن طبت نفساً بالبقاء معك هذه الليلة، وسأحمل رسالتك) وشكره الأمير، واقتلع السنونو الياقوتة من قبضة السيف وضم عليها منقاره وطار،. . . طار فوق برج الكنيسة ورأى تماثيل الملائكة قد قدت من الرخام الأبيض إذا رأيتها حسبتها لؤلؤاً منثوراً، وطاف بالقصر الملكي فرأى مرقصاً ونعيماً ونوراً، وخرجت إلى شرفة القصر غادة جميلة مستندة إلى ذراع صاحبها فأنصت إليهما فإذا الرجل يقول (ما أغرب الحب وما أشده) قالت الفتاة لاهيةً عن حديث الحب بحديث الثياب (ما أشد لهفتي على ثوبي الذي أعده لليلة المرقص! لقد كلفت الحائكة وشيه بأزهار العواطف، ولكن الحائكة كسول،) وطار فوق النهر وأبصر المصابيح تتدلى على ساريات المراكب، وطاف بحي اليهود، فرأى شيوخهم يتنازعون في البيع والشراء، ويزنون الدراهم بموازين من نحاس، وحط على الدار الحزينة ونظر من خلال النافذة فإذا الصبي يصطلي بنار الحمى فلا يهدأ مضجعه، وإذا الأم قد احتواها التعب فقامت إلى فراشها. ونفذ السنونو إلى الغرفة وألقى بالياقوتة على المنضدة، ثم طاف يرفرف بجناحيه على الصبي. تحرك الصبي في مضجعه وقال (ما أعذب هذا النسيم العليل، لعلي واجد من المرض خلاصاً) ثم أخذته سنة مريحة.
عاد السنونو إلى الأمير السعيد، وقص عليه ما رأى وما فعل وقال (عجباً! إنني لأشعر بالدفء في هذا الجو البارد!) قال الأمير (ذلك بما وفقت إليه من فعل الخير)
وساد صمت عميق، كان السنونو فيه مطرقاً مفكراً وهو إذا فكر نام!! ولما انبثق الفجر طار إلى النهر واغتسل بمائه فأبصره أستاذ علم الطير، وراعه أن يرى السنونو في فصل الشتاء، وعد هذا من خوارق الطبيعة، فحرر مقالاً طويلاً نشره في الصحيفة المحلية وقرأه(48/69)
الناس جميعاً ولم يفهموا منه شيئاً لأنه وحشاه بألفاظ لا يفقهون لها معنى. قال السنونو وقد هزه الطرب (الليلة سأطير إلى مصر) وقام يزور آثار المدينة وأعلامها، فحط على منارة الكنيسة، وطابت نفسه بالاستراحة عليها ثم طار، وكان حيثما طار سمع تغريد العصافير يقول بعضها لبعض: (ما أعجب هذا الطائر وما أغربه!) فلما استمتع من رحلته وطلع البدر خف إلى الأمير السعيد وقال له (هل لديك رسالة أحملها إلى مصر، فأنا ميمها الساعة)
قال الأمير السعيد (أيها السنونو الصغير هل لك أن تبقى معي الليلة؟) قال السنونو (إن لي بمصر رفاقاً يترقبون عودتي. وما أحسبهم في الغداة إلا طائرين إلى الشلال الثاني ينعمون بطلعة فرس النهر مضطجعاً بين أوراق البردي ويسعدون بلقيا الإله ممنون جالساً على عرش من الجرانيت يناجي النجم طيلة الليل، حتى إذا أقبلت نجمة الصباح حياها بصيحة عالية ثم لزم الصمت، ويرقبون الأسود الصفراء ذات العيون الخضراء تنساب إلى الشاطئ وتستسقي ثم تزأر زأرة تذوب في صداها زأرة الشلال،) قال الأمير (أيها السنونو الصغير! في أقصى المدينة رجل يقيم غرفة وقد أكب على أوراق بين يديه، وأمامه باقة من زهر البنفسج الذابل، وله شعر مجعد، وشفتاه كجب الرمان، وعيناه ناعستان، أراه جاداً في نسج قصة تمثيلية يعدها لمدير المرسح وقد ألح عليه البرد والفقر فما يستطيع منهما خلاصاً، وما يستطيع معها التحرير،)
قال السنونو وقد رق قلبه (إني مقيم معك الليلة، فهل أنت مرسلي إليه بياقوتة أخرى؟) قال الأمير (لقد نفد الياقوت الأحمر، وما أملك إلا عيني، وهما من الجوهر الأزرق النادر، جلبت حبتاهما من ألف سنة من بلاد الهند، فاقتلع واحدة منهما وخذها إلى الرجل يبيعها للجوهري ويشتري طعاماً وناراً فيقوى على إتمام قصته) قال السنونو (أيها الأمير السعيد، لا قبل لي بما كلفتني، وما أستطيع على بعض هذا صبراً) وذرفت عيناه. قال الأمير (افعل ما أمرتك به) وفعل، وطار إلى القصصي فنفذ إلى غرفته من ثغرة في سقفها، وكان الرجل قد أسند رأسه إلى يديه فصمت أذناه، ولم يسمع حفيف أجنحة السنونو، ثم رفع رأسه وبهره بريق الجوهرة الزرقاء وسط باقة البنفسج الذابل، فأفتر ثغره عن ابتسامة فيها الزهور وفيها الإعجاب وقال: (لقد آن للناس أن يحسنوا تقديري، ما أحسب هذه العطية إلا من(48/70)
عظيم قد أعجب بقصصي وما أحسبني الآن إلا قادراً على إتمام القصة) ثم أشرقت في نفسه السعادة،.
وفي الغداة طار السنونو إلى مرفأ المدينة وجلس إلى سارية سفينة فأشرف على الحمالين وهم يجتذبون الصناديق الثقيلة وقد شدوها إلى الحبال، وألقي إليهم السمع وهم يصيحون جماعات كلما اجتذبوا صندوقاً فصاح بهم السنونو وقال (أنا طائر إلى مصر) فلم يحفل به أحد، ثم طار في ضوء القمر إلى الأمير السعيد وقال (جئت الآن لأستودعك الله) قال الأمير (هل لك أن تبقى معي الليلة؟) قال (نحن في زمان الشتاء وسيشتد البرد بهذه المدينة ومالي بها بعد اليوم مقام. سأطير إلى مصر فأنعم بشمسها الحارة تنصب على رءوس النخل الأخضر، وأسعد برؤية تماسيحها، وقد اطمأنت إلى أرض رخوة واستمرأت الكسل، ودارت عيونها تبصر ما حولها، وما أحسب رفاقي إلا جادين في اتخاذ أعشاشهم في معبد بعلبك، ترقبهم أعين الحمامات الرقطاوات تتناجى بأعذب الأنغام، أيها الأمير العزيز لست بعد اليوم مقيماً، وما أنسى فضلك وجودك، وسأعود إليك في الربيع وفي فمي جوهرتان جميلتان أعوضك بهما عن الجوهرتين اللتين جدت بهما، ستكون إحداهما أشد حمرة من الورد، والأخرى أشد زرقة من البحر.).
قال الأمير (هنا في الميدان فتاة تبيع أعواد الكبريت، ولقد سقطت الأعواد من يدها وأصابها البلل فما تصلح للبيع، وستلقى الفتاة من أبيها نصباً، وإني لأرها باكية، وأراها حافية القدمين حاسرة الرأس،. . اقتلع عيني الأخرى وجد بها عليها عل أباها يعفيها من سوط عذابه) قال السنونو (أما البقاء معك هذه الليلة فنعم، وأما ما تأمرني به فلا! أتحسبني لا أعصيك في هذه فأقتلع عينك فتصبح مكفوفا!!) قال الأمير (بل لا تعص لي أمراً). . . فما عصاه. . .!
وطاف فوق رأس الفتاة وأسقط الجوهرة في يدها. قالت (ما أجمل هذه الزجاجة! وسارعت إلى بيتها ضاحكة مستبشرة،) وعاد السنونو إلى الأمير وقال له (أما الآن فحق علي البقاء معك، فقد أصبحت كفيفاً ولا غنى لك عني!) قال الأمير المسكين (بل ارحل إلى مصر) قال السنونو (ما بي إلى الرحلة حاجة، ولن أبرح مقامك) وطوى رأسه تحت جناحيه واستكن بين قدمي الأمير)(48/71)
وفي الغداة جلس على كتف الأمير وأخذ يقص عليه من أنباء الدنيا عجباً، قص عليه أنباء طير مصر المعبود، وكيف وقوفه على ضفتي النيل يمسك بين منقاريه سمكاً ذهبياً، وقص عليه أنباء أبي الهول وقد عمر عمر الدنيا واتخذ الصحراء مسكناً، وأوتي علم كل شيء، وقص عليه أنباء التجار يسيرون الهوينى بجانب إبلهم وفي أيديهم مسابح من الكهرمان يذكرون عليها اسم الله ويسبحون بحمده، وقص عليه أنباء الأرقط الذي يأوي إلى سعف النخل، وله من الكهنة سدنة عشرون يطمعونه فطيراً معسولاً، وقص عليه أنباء الأقزام وما شب بينهم وبين الفراش من حرب في البحر،
وألقى إليه الأمير السمع ثم قال (أيها السنونو الصغير، في حديثك العجب، ولكني أرى في شقاء الرجال وشقاء وفي النساء ما هو أعجب، ليس في العالم مأساة أمعن في الأسى من الشقاء) طر أيها السنونو فوق مدينتي، وائتني بأنباء ما ترى، وما لا أرى.
طاف بالمدينة فرأى دوراً منجدة، وقصوراً مشيدة. وأغنياء ينعمون وعلى أبوابهم سابلة محرمون،!
وطار إلى أزقة يغشاها الظلام فرأى أطفالاً يتضورون جوعاً، ترنو أبصارهم المتلهفة إلى الشوارع المظلمة، ورأى تحت جسر صبيين قد استلقيا على الأرض متعانقين يتقيان شر البرد، ويهمس أحدهما في أذن الآخر (ما أشد الجوع) فينهرهما حارس الليل ويقول (ما ينبغي لكما أن تقيما في هذا المكان) فيفران وقد صب عليهما عذاب عنيف من الجوع والبرد والمطر.!
وعاد السنونو إلى الأمير وحدثه بما رأى، قال الأمير (هذه لفائف الذهب فوق جسدي فانزعها عني ورقة ورقة وهبها إلى الفقراء، فقد جبل الناس على حب الذهب، كأنهم يرون فيه السعادة.)
وقام السنونو ينزع الذهب عن الأمير ورقة بعد ورقة، حتى بدا جسمه كالح اللون شاحباً، وطاف بها على الفقراء يغدقها عليهم أرزاقاً، فتهللت وجوه الأطفال واستخفهم الطرب، فملئوا شوارع المدينة بشراً وسروراً وقالوا (لقد أوتينا طعاماً).
ثم قسا الشتاء على المدينة وصب عليها صقيعه وجليده، وتدلى الثلج من النوافذ، وخرج الناس يبتغون أرزاقهم، وقد اكتسوا الفراء، وخرج الأطفال يلعبون ويتسابقون زحفاً على(48/72)
الثلوج، كل هذا والسنونو تضنيه تباريح البرد، ولكنه لا يبتغي عن الأمير حولاً. يبتغي في الأرض رزقه من فتات يسترقه من حانوت الخباز، ويبتغي دفئه من تحريك جناحيه الضعيفين، ولكنه أحس أخيراً بدبيب الموت يسري في جسمه المقرور، وأحس بقواه تضعف وتخور، حتى لم يقو على أن يطير إلا مرة واحدة يصعد بها إلى كتف الأمير، وقال (وداعاً أيها الأمير العزيز، أتسمح لي أن أقبل يدك) قال الأمير (إني لسعيد بما عزمت عليه من الرحلة إلى مصر - أيها السنونو الصغير - لقد طال مكثك معي. خذها قبلة من فمي فإني أحبك) قال (ما رحلتي إلى مصر ولكن إلى دار البقاء، وما يفزعني الموت فهو صنو النعاس، أليس هو كذلك؟) ثم طبع على فم الأمير قبلة. . . ثم رفرف بجناحيه. . . وسقط بين قدميه. . . ميتاً،.
في هذه اللحظة سمعت في جوف التمثال قرقعة داويه، وكان قلبه وقد قد من الرصاص قد انشطر شطرين.
وفي الصباح مر عمدة المدينة بالميدان وحوله أعضاء المجلس البلدي فشهدوا التمثال وقد أصبح عاطلاً من حلاه، وقال العمدة (ما أقبح منظر الأمير السعيد!) قال أعضاء المجلس (حقاً ما أقبحه!) وكانوا دائماً يرددون ما يقوله العمدة - ثم صعدوا إلى التمثال ليتبينوا شأنه وقال العمدة (لقد ضاعت حلاه، وسقطت عن قبضة سيفه ياقوتها الحمراء، وسقطت من عينيه جوهرتاهما الزرقاوان، وتعطل جسده عن لفائف الذهب، وهو بهذا لا يفضل الشحاذ إلا قليلاً) قال أعضاء المجلس (وهو لا يفضل الشحاذ إلا قليلاً) قال العمدة وهاكم طائراً قد مات بين قدميه، أرسلوا في المدينة إلى الطير نذيراً ألا يموت أحد في هذا المكان، وحرر كاتب المدينة إعلاناً كتب فيه (ممنوع موت الطيور هنا).
دكوا تمثال الأمير السعيد، وما بهم إليه من حاجة بعد أن زال عنه جماله، ثم صهروا معدنه، وعقد العمدة مجلساً يتشاورون فيما يستخدم فيه معدنه المصهور،.
قال العمدة: (ما أرى إلا أن تعملوا منه تمثالاً، ويكون التمثال لي) وقال كل عضو من أعضاء المجلس: (ويكون التمثال لي) فدبت بينهما الشحناء، وماج بعضهم في بعض وما زالوا مختلفين،.
قال أحد العمال الذين يصهرون معدن التمثال (هذه قطعة من الرصاص لا تذوب في النار(48/73)
ولا تلين) والقى بها على كومة القمامة، وكان على الكومة جثمان السنونو)
فلو قال الله لملائكته ائتوني باثنين من أعز ما لقيتم في المدينة، وأتاه الملائكة بقلب الأمير وجسم الطائر - لقال لهم (صدقتم فيما اخترتم - وسعت جنتي هذا الطائر الصغير يغرد فيها، وهذا الأمير السعيد يسبح بحمدي)
أحمد الطاهر(48/74)
الكتب
بحث في نقد الأدب العربي
بقلم محمد بديع شريف
مؤلف هذا الكتاب الموجز شاب عراقي، يتلقى علومه في مدرسة دار العلوم، تكلم فيه عن النقد في الأدب العربي من فجر تاريخه حتى يومنا هذا، فأرانا كيف كان أهل الجاهلية يتحاكمون في أشعارهم إلى النابهين منهم كالنابغة وأضرابه، ثم قص علينا حديثاً طريفاً عن النقد في صدر الإسلام وفي عهد بني أمية مشيراً إلى ما كان عليه أهل هذين العصرين من سلامة الذوق وحسن الفهم والنزاهة كما يتضح فيما أورده من حديث عقيلة بنت عقيل ابن أبي طالب مع جميل وكثير والأحوص، وانتقل إلى العصر العباسي فأرانا كيف كان الخلفاء يهتمون بالنقد ويفطنون إلى موازينه وأوضاعه، وأخيراً تكلم عن النقد في أيامنا ويعجبني منه قوله في ذلك (والنقد في أيامنا يجري في البيت والبيتين، وهو عند الصديقين إلى تقارض المدح أقرب منه إلى النقد، وعند المغيظ المحنق أبعد عن النقد وأقرب إلى السباب، والمنصف بينهما قليل بل من القليل أقل).
وختم المؤلف كتابه بكلمة عن النقد وموازينه وطرقه مورداً في ذلك كثيراً من الأمثلة التي تدل على صدق نظره وحسن فهمه وسلامة ذوقه، وهي باكورة تبشر بمستقبل أدبي باهر لهذا الطالب النجيب.
أما اسم الكتاب فقد يبدو لي غريباً أو منحرفاً عن موضوعه فكان أولى به أن يسميه بحث في طرق النقد في الأدب العربي، فهو لا ينقذ الأدب العربي كما يشعر بذلك عنوانه، ولكنه يبحث في أساليب النقد في هذا الأدب قديمه وحديثه.
م. الخفيف
مسعود
تأليف محمود أبو النجاة
يتوق كثير من شبابنا اليوم إلى التأليف، فأول ما يستهوي الشاب في مستهل حياته الأدبية، فترة المطالعة والتأمل والاستعداد، أن يكون له كتاب يقرؤه الناس. لا جناح على الشاب أن(48/75)
يعمل على رفع نفسه، بيد أن لكل غاية وسائلها ولكل أمر عدته، ولابد لمن يضطلع بالتأليف أن يكون له من الخبرة والنضوج ما يكفل له النجاح في هذه المهمة الشاقة، أما أن يعمد الشاب إلى التأليف وهو لم يدر بعد ما القراءة، فهذا إلى العبث أقرب منه إلى الجد، بل هو الهزل بعينه، وهذا الكتيب الذي أحدثك عنه مثل من أمثلة التسرع والشطط، فهو رواية شعرية في موضوع تافه لا يليق حتى الأسلوب (الحواديت) وحسبك أن تقرأ حواراً كهذا ولو على سبيل التندر والفكاهة
مسعود - ما العشاء الليلة؟
سعيد - إنه جبن وعدس
مسعود (متأثراً) - كنت أرجو الفرخة
زينب - ماتت الفرخة أمس
ثم اقرأ إحدى أغانيه وهي من أجود مقطوعاته
بسم الصبح ابتساماً ... فيه آيات الجمال
فانحنى الزرع احتراماً ... في سكون وجلال
وشعاع الشمس ضاءا ... يملأ الآفاق نورا
وسرى الزهر هواءا ... يملأ الدنيا عبيرا
ودونك حواراً لذيذاً بين المحضر والعمدة
المحضر: كم يملكون من العقار؟
العمدة: عشرون فداناً ودار
الحد من جهة الشمال: أرض مسطحة بوار
ومن الجنوب المصرف: والغرب أحمد ذو الفقار
والرواية كلها على هذا النحو وكم وددت لو اتسع المجال لأذكر لك طرفاً من ذلك الحوار البديع بين النائب والمحامي في الجلسة. . .!
وحي النسيب في شعر شوقي
تأليف أحمد محمود الحوفي بدار العلوم(48/76)
حاول المؤلف الشاب أن يبرهن على صدق عاطفة الحب عند شوقي، أو بعبارة أخرى أراد أن يقيم الدليل على أن الغزل في شعر شوقي نتيجة غرام حقيقي ملك قلب الشاعر الكبير ليبطل بذلك حجة الذين يقولون أنه غزل لم تلده عاطفة ولم يبعثه حب. ابتدأ المؤلف الفاضل كتابه بكلمة في الغزل وأنواعه، ثم تكلم عن العلاقة بين الحب والشعر، وذكر طرفاً من غزل شوقي في الصبا والكبر، ثم شرح بصره بنفسية المحبين، وتعرض لشرح بيئته وصور نزعته إلى الوصف وصلتها بالحب.
ولكنه لم يخرج في براهينه كثيراً عن ذكر أبيات شوقي في الغزل مستدلاً بها على صدق حبه مع أن تلك الأبيات التي يذكرها من ينكرون عليه هذا الحب مستشهدين بوجودها في مطلع بعض قصائده دون مناسبة أو داع، وكان أولى به أن يسلك في البرهان طريقاً غير هذا، فان إثبات مواقف معينه أو إقامة الدليل على صفة خاصة في حياة شاعر لا تتأتى إلا بذكر حوادث معينة واضحة، أو الإتيان بقرائن قوية توضح الغرض من شعره.
على أننا نحمد لهذا الشاب وأقرانه من طلاب دار العلوم نشاطهم وإقبالهم على الأدب العربي بحثاً وتنقيباً، ويسرنا بنوع خاص أن ينهض الشباب لدراسة شعر شوقي من جميع نواحيه، ولنا أن نعتبر هذا الكتاب باكورة طيبة لهذا الشاب الأديب.
م. الخفيف
المدينة الإسلامية وأثرها في أوروبا
تأليف محمد سعيد بخت ولي
دعا المؤلف إلى نشر هذا الكتاب كما يتضح من مقدمته ما يراه من إقبال الشبان على دراسة مدنية الغرب مع إغفالهم مدنية العرب والإسلام، ولقد تكلم في هذا الكتاب الصغير عن عظمة الإسلام في أول نشأته، ثم تقدم المسلمين في العلوم والمعارف والآداب، ثم عن قوى الإسلام البرية والبحرية في شتى عصوره، ثم عقد فصلاً عن مبلغ ما أفاده أهل الغرب من الإسلام مستشهداً بعبارات من كلام مؤرخيهم
وإنك لتلمس غيرة المؤلف وحماسته للإسلام في كتابه هذا على صغره، فلا يسعك إلا أن تشكره على هذه الأريحية، بيد أن الموضوع أوسع من أن يلم به كتيب كهذا لا تزيد(48/77)
صفحاته على السبعين.
م. الخفيف
العامي النبيل
تأليف موليير وتعريب فؤاد نور الدين
عرب هذه الرواية الظريفة التي تعد إحدى طرف الأدب الفرنسي شاب من شباب سوريا، ولا ريب أن حاجة العالم العربي في هذه الأيام إلى تعريب الآثار الغربية القيمة، حاجة شديدة ملحة، بيد أن الترجمة ليست كما يتوهم البعض من السهولة، وفضلاً عن ذلك فليس كل كتاب بصالح للنقل إلى العربية، وأكبر ظني أن معرب هذه الرواية لم يتوخ الدقة في الاختيار، فالرواية يغلب عليها عنصر الفكاهة، وأسلوب الفكاهة في لغة غيره في لغة أخرى، هذا إلى اختلاف الذوق العام في أمة عنه في أخرى وخصوصاً في الأدب الفكاهي، وهذه القصة بنوع خاص ينحصر جزء كبير من فكآهتها حول نطق الكلمات وإخراج الحروف فكيف ينقل ذلك إلى العربية؟ نقل المعرب الحروف الفرنسية كما هي، فكان موقفه أشبه بموقف ذلك الذي يتصدى لإضحاكك فلا تفهم ما يريد فتقابله بالوجوم فينقلب مرحه إلى فتور.
غير أني لا أنكر على المعرب ما بذل من جهد وما توخى من كمال كما يتضح في كثير من عبارته.
سعادة الأسرة
للحكيم الروسي الأكبر ليو تولوستوي
نقله إلى العربية (مختار الوكيل)
لا تكاد تمضي في قراءة هذه الترجمة العربية للقصة الروسية البديعة حتى تشعر بدقة المعرب وسلامة أسلوبه من الضعف والابتذال، فألفاظه منتقاة وتراكيبه عربية وجمله متزنة، ثم أنك لتشعر أيضاً بأن المعرب الفاضل يفهم الأصل فهما صحيحاً فلا التواء في الحوادث ولا اضطرب في مجرى القصة كلها، هذا إلى ما يشع من هذه الترجمة من روح(48/78)
الاتزان والحصافة والشغف بفن القصص مما كان له أكبر الأثر في إنجاز هذا العمل على خير ما يرجى من طالب في كلية الحقوق لما يزل بين أعماله الدراسية المرهقة، وحسبك أن تقرأ هذه الفقرة من مقدمة المعرب لتعرف الروح التي سيطرت عليه أثناء التعريب فهو يقول (أما بعد، فغاية ما أطمح فيه من نقل هذه القصة إلى لغتنا هو تغذية الفن القصصي الناشئ عندنا بضم عناصر قوية خالدة من الفن العالمي إليه، فهل يا ترى ستحقق هذه الأمنية؟ علم الله أنها غاية ما أتوق إليه. . .؟)
ولا شك عندي أن تعريبه جاء مصداقاً لمقدمته المهذبة.
ديوان الفراتي
نظم محمد الفراتي
مطبعة باييل أخوان - دمشق
يقع هذا الديوان في أربعين ومائتي صفحة من القطع الكبير، جيد الورق متقن الطبع قسم ناظمه ما جاء فيه من قصائد إلى مصريات وسوريات وحجازيات وعراقيات وبحرينيات! ولست أذكر ديواناً في هذا الحجم تنوعت قصائده على نحو ما تنوعت القصائد في هذا الديوان، فلقد نظم الشاعر في الاجتماعات وفي شكوى الزمان وفي الرثاء والمديح والعتاب، وتغني بحنينه إلى البادية، وتفاخر بمجد الأوائل، ونظم يستنهض أهل عصره، ثم نظم في الوصف فوصف الكهرباء وصاغ شعراً في الأكسجين والنتروجين! وناجى الكواكب، ولم تكفه الأرض بما رحبت فطار على أجنحة الشعر إلى المريخ ونظم قصائد في وصفه وشط به خياله فاخترع ألفاظاً أشار في الحواشي إلى أنها من لغة المريخ!!
وهكذا أطلق الشاعر العنان لخياله في غير تحفظ ولا احتراس وسجل كل ما جادت به قريحته من غير حذف ولا إصلاح
من أجل ذلك أرجع أن الفراتي الفاضل يعنى حقاً ما أثبته في مقدمة ديوانه إذ يقول (لم أنظمة للناس وإنما نظمته لنفسي، وحسبي أن نفسي عنه راضية، ولم أقدم على نشره ليذيع اسمي ويشتهر، وإنما نشرته حرصاً عليه من الضياع) أقول أني أرجح أنه يعني ما كتب، وقد كنت أحسب ذلك منه تواضعاً أول الأمر، على أنني لست أقصد بذلك أن الديوان لا(48/79)
يستحق النشر، كلا ففيه عدد من القصائد يستحق الشاعر من أجلها التهنئة الصادقة، ثم أن شعره في الجملة مشرق الديباجة جيد الصياغة بله تنوعه المدهش، ومن قصائده البارعة قصيدته المسماة (درة في جبين الدهر) وأختها (نفثت مصدور) وقصيدته تحت عنوان (يا ابنة عمي) ومرثيته لسعيد وغيرها.
وإنما أقصد بما ذكرت أنه كمان ينبغي أن يحذف الشاعر من ديوانه بعض القصائد التي لا تسمو إلى مستوى شعره، ولئن فعل فما كان ذلك بضائره، فبضاعته موفورة، ولا سيما وأن هذا هو الجزء الأول، وخير له أن ينتقي من الجزءين ديواناً جيداً. ثم ليسمح لي أن أنبهه في احترام إلى ألفاظ استعملها بكثرة وهي في زعمي مما يمجه الذوق الشعري (كالقطقط والعجنفل والصنبر ونفنف اللوح وغيرها مما يجب أن يخلص منها شعر الفراتي.
صحيفة مدارس الأقباط الخيرية الكبرى بطنطا
هذه الصحيفة التي تفضل حضرة المربي الفاضل ناظر مدارس الأقباط بطنطا بإهدائها إلى الرسالة، هي باكورة أعمال الطلبة وأول ثمرة لجهودهم الأدبية الفتية، فإذا قلبتها أعجبك وسرك أن تكون تلك الباكورة على خير ما تكون عليه المجلات المدرسية من دقة وجمال وحسن نظام، وإذا قرأتها حمدت لأصحابها روحهم الطيبة التي تتجلى في إخلاصهم لمدرستهم وبلادهم، فالصحيفة مليئة بدروس الوطنية، حافلة بالأبحاث المتنوعة في الاجتماع والاقتصاد والتاريخ والعلوم والآداب. والذي تغتبط له بنوع خاص أن هذه الأبحاث التي كتبها الطلاب من عملهم لم يعمدوا فيها إلى نقل أو تلفيق، بل هي أصدق صورة لعواطفهم وآمالهم، وإذا أنت قارنت بين هذه الصحيفة وأمثالها مما يظهر في مدارسنا اليوم، وبين الصحف التي كانت تصدرها المدارس منذ بضع سنوات أحسست بتقدم الطلاب في فهم العالم الذي يحيط بهم، واستبشرت بالخير لبلادنا على أيدي هؤلاء الشبان الذين نعتبرهم عدة الحاضر ورسل المستقبل.
صحيفة مدارس الأهرام
تفضل حضرة المربي الفاضل ناظر مدارس الأهرام فأهدى صحيفة مدارسه إلى الرسالة أيضاً، وتلك الصحيفة في مرحلتها الثالثة، متقنة الطبع، أنيقة الشكل، كبيرة الحجم، وهي(48/80)
كأختها السالفة دقة وحسن نظام، تشرق صفحاتها الغر بقيم البحث في شتى المواضيع، كما أنها ثمرة خالصة لجهود الطلاب، ومرآة صادقة لعواطفهم وميولهم، التي تنهض دليلاً على وصول التعليم الأهلي في بلادنا إلى درجة يغبط عليها، فالصحيفتان ناطقتان بما يرفع رأس رجال التعليم الحر، وما جاء فيهما على ألسنة أبنائهم شاهد بما يبثونه في قلوبهم من الفضائل وما يغذون به عقولهم من المعارف.
هذا وتجد في الصحفيتين طائفة من الصور البديعة للجمعيات المدرسية المختلفة، والفرق الرياضية تتوج كلاً منهما صورة صاحب السمو الكشاف الأعظم أمير الصعيد كما تتصدر الصحيفتين صورة جلالة الملك مما يكسبهما جلالاً وعزة.(48/81)
العدد 49 - بتاريخ: 11 - 06 - 1934(/)
الامتيازات والدين
. . . حتى على حرم الدين، وموئل علومه، ومعقل آدابه، تعتدي الامتيازات الأجنبية المشئومة!! فقد حدثني من لا يجهل ولا يكذب، أن طالباً من جنوب أفريقية، يطلب العلم في أحد المعاهد الدينية، دهمه الامتحان وهو في سكرة النعيم المصري الخالص من الأذى والمن، فلم يجد في رأسه غير وساوس الشباب وغماغم الهوى، ففزع إلى الكتاب ينقل منه نص الجواب، فأخذته عين المراقب! ثم كان ما يقتضيه القانون والخلق والنظام في مثل هذه الحال من طرد التلميذ وإلغاء امتحانه.
ولكن جنوب أفريقية - وأرجو أن تتذكر - له على شمالها امتيازات بالواسطة، يُدل بها على مصر ادلال الخادم بسطوة سيده، ويصول بسيفها صولة العبد بسيف مولاه! حملها أبو الغلام على ظهره عشية الحادث، وراح يهدج بها في فناء الدار المشرفة على النيل وعلى أمة النيل، فاهتزت الدار لشكواهِ حفاظاً وأنفة، وأقبلت حجرات الحراس على حجرات الخدم يتساءلن: أين إذن الامتياز إذا تساوى الأجنبي والوطني في قانون عام؟ وأين إذن الامتياز إذا جرى المحمى والمصري في الأمر على منهاج واحد؟!
وفي الصباح الباكر كان مدير المعهد جالساً إلى مكتبه يذكر الله على إيقاع المسبحة، وذِكْر الله تطمئن به القلوب وتشجع به الأنفس، ولكن جرس التليفون كان اليوم على ما خيل إلى المدير أحدّ رنيناً، وأشد صلصلة، فزعزع القلب المطمئن، وضعضع النفس القوية!
- ألو! ألو! مَن؟
- الإدارة العليا! أعد إلى الامتحان الطالب الذي أخرجته منه أمس
- كيف وقد غش في الإجابة، وضبطت معه أداة الغش، وضاع من أيام امتحانه يوم، وذهب من هذا النهار حصة، وأعلن إلى الملأ أمر رفضه؟؟
- أعد هذا الطالب من غير مناقشة!!
وكانت اللهجة حاسمة، والإجابة مفحمة، فخرس التليفون، وخشع المدير، وتقاصر المكتب، وخزى القانون، وبُهت الخلق، وعجب المدرسون والطلاب إذ رأوا التلميذ الذي طرد بالأمس، يعود إلى مكانه اليوم وهو أضخم مما كان جثة وانضر طلعة وأطول رقبة!!
تخالست العيون نظرات العجب، وتبادلت الشفاه بسمات السؤال، ولكن المكاتب الرسمية ظلت واجمة، والأسباب السحرية الرهيبة بقيت محجوبة، حتى أذن الله لها أن تظهر،(49/1)
فسكنت طبيعة المعهد، وركدت ريح الفناء، وثقلت حرارة الجو، وأخذ الدارَ ما يأخذ الأرضَ قبيل هبوب العاصفة!
وهنالك اقتحم الدار ذلك الأفريقي الذي رأيناه بالأمس يقرع الباب الأحمر، والامتيازات تجأر بالشكوى على ظهره، ثم أثار من حلقه عاصفة هوجاء ترمي بالسباب والسفه، فلم تدع كرامة على منصة، ولا مهابة على مكتب، ولا جلالة في الإدارة، حتى تناولتها بالعيب والزراية
من الذي جرؤ على أن يطرد ابني يا. . . . . أين ذهبت أوامركم بالأمس؟ ما حال قوانينكم اليوم؟ كيف ترفعون رءوسكم غداً؟ ثم تربد وجه الرجل وتزبد فوه فأرسل على القوم من فحش البذاء ما نحمد الله على الجهل برسمه حتى نكتبه!
برح الخفاء واستعلن السر، فسكن القوم سكون الطير في ثورة الطبيعة! فلما هدأت زمجرة الأسود الممتاز، وانصرف عنهم انصراف الليل المرعد عن الصباح الوديع، أفاقت الطير من دوُار الزوبعة، وفزعت إلىالإدارة العليا تستصرخها للكرامة، وتستعديها على الرجل، وتسألها أن تعارض شكاية بشكاية، وتقول في حرارة الموتور ومرارة النادم: لقد قال الرجل فأسرف، وسكتنا فأسرفنا!
وتشاء المصادفات العجيبة أن يكون بين يدي الإدارة آنئذ دلَو من الماء النمير البارد فتلقيه على ثورة الغضاب فتقر! ثم قالت لهم بتلك اللهجة الحاسمة والإشارة الحازمة:
نعما فعلتم! الحلم سيد الأخلاق
كان رجال الدين في العهود العزيزة مفزع الفضيلة المروعة، وملجأ الفضل المضطهد. يبغي الحاكم، ويجحف السلطان، ويطغى المستبد، حتى إذابلغوهم شدوا الشكيمة، وردوا الجماح، واستقاموا على الطريقة. ثم كانوا في حضرتهم يستكينون لسلطان الدين، وسيطرة الضمير، وعزة القناعة، وصراحة الخلق، وشجاعة القلب، وإعلان الحق في وجه الباطل وإن ذهبت عليه الدنيا، وأريقت في سبيله النفس
وكان من ورع رجال الدين في الأزمان الصالحة سياج على حمى الشريعة، يرد عنها خبائث الطمع، ونقائص المادة، فلا تُسخر للظلم، ولا تُستخدم للحكم، ولا تُستغل للهوى، وكانت كلمة العالم هي كلمة الله، يقولها فتعنو لها الجباه، وتجمد لها الشفاه، ويستقيم بها(49/2)
ميزان العدل.
فلما ابتلى المؤمنون بنفاق الحياة، وفُتن المتقون بزهرة الدنيا، وذل العلماء لشهوة الترف، فرغبوا في وجاهة المظهر، وفراهة المركب، ورفاهة العيش، سلبهم الله ميراث النبوة، وحرمهم جلالة الدين، فأصبحوا كسائر الناس، يجري عليهم ما يجري على غيرهم من ذل الامتيازات، وغل الحزازات، وعنت السياسة
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما
احمد حسن الزيات(49/3)
(النيل)
تعيد مجدنا البحري
لكاتب كبير
بعد أيام قلائل - في يوم الجمعة 15 يونيه - تسير الباخرة المصرية (النيل) من ثغر الإسكندرية إلىنابل (نابولي) ثم إلى مرسيليا. وهذه الرحلة الأولى لباخرة مصرية كبيرة في عباب البحر الأبيض المتوسط، يجب أن تثير في نفوسنا كثيراً من الذكريات المجيدة. ذلك أن (النيل) تصل بهذا الفتح البحري الميمون ما انقطع من عصور السيادة البحرية المصرية في لجة هذا البحر الخالد؛ فمنذ قرون بعيدة كانت مصر تتبوأ في التجارة البحرية، كما تتبوأ في القوى البحرية مركزاً ممتازا، وكانت السفن المصرية تتردد بين الإسكندرية ودمياط وبين ثغور الشرق حتى قاصية البحر الأسود، والثغور الإيطالية، ثم ثغور المغرب والأندلس في الطرف الأخير من البحر الأبيض المتوسط، وكانت تساهم بأعظم قسط في النقل البحري ما بين أوربا والشرق، وتمر بثغورها معظم تجارة الشرق الأقصى. وكانت بين الإسكندرية وقسطنطينية، وبينها وبين البندقية وجنوة خطوط بحرية منظمة، والسفن المصرية تقطع لجة هذه المياة ذهاباً وإياباً، وعلم مصر الإسلامية دائم الخفوق في هذا العباب
ولقد تبوأت مصر الإسلامية مركزاً ممتازاً في السيادة البحرية منذ القرن الأول للهجرة؛ وكانت السفن المصرية والبحارة المصريون عماد الفتوحات الإسلامية البحرية الأولى في شرق البحر الأبيض: في رودس وقبرس واقريطش؛ وكان العرب قبل فتح مصر يخشون البحر وأهواله، فلما فتحوا مصر، وأدركوا أهمية مركزها البحري، اتخذوا من الإسكندرية قاعدة لحشد الأساطيل، والفتوحات البحرية؛ وكان لبحارة الإسكندرية شهرة خاصة؛ وكانت تدرب بينهم خيرة الضباط والجنود البحريين. ولما سار العرب لحصار قسطنطينية للمرة الرابعة سنة 99هـ (717م)، وحل بهم الضيق تحت أسوار المدينة المحصورة، حشدت سفن المدد في الإسكندرية، وسيرها البحارة المصريون إلى مياه المرمرة. وكان للسفن المصرية والبحارة المصريين دائماً أكبر نصيب في الفتوحات البحرية التي كانت تسير إلى ثغور الدولة البيزنطية وجزائر بحر إيجه. وظهرت براعة المصريين البحرية في عشرات(49/4)
المعارك أثناء الحروب والحملات الصليبية التي كانت تهبط دائماً على الشواطئ المصرية، في الإسكندرية ودمياط، ثم في يافا وعسقلان وعكا، وقد كانت يومئذ ثغوراً مصرية. وتاريخ مصر الإسلامية حافل بهذه الصفحات المجيدة من تاريخنا البحري.
أما عن الملاحة التجارية فقد كانت مصر إلى جانب البندقية تتبوأ مركز الزعامة والسيادة في البحر الأبيض المتوسط، وكانت البندقية تسيطر على الطرق الشمالية والشرقية إلى ثغور المرمرة والبحر إلاسود، بينما كانت مصر تسيطر على الطرق الجنوبية، والجنوبية الشرقية؛ وكانت العلائق بين الثغور المصرية، والثغور الإيطالية ولاسيما البندقية وبارى ونابل وجنوه في منتهى الانتظام، وكانت المعاهدات التجارية والبحرية تعقد بين مصر والدول الإيطالية في كل العصور والدول. ولم تفقد مصر أهميتها البحرية والتجارية إلا بعد اكتشاف طريق الهند في أواخر القرن الخامس عشر، ثم الفتح العثماني الذي انتهى بالقضاء على جميع قواها ومواردها وحضارتها الزاهرة.
وفي عصر محمد علي استعادت مصر شيئاً من نشاطها البحري، فأنشئ الأسطول المصري، واستأنف البحارة المصريون جهادهم المجيد في المياه اليونانية. ولكن أوربا النصرانية لم تشأ أن تعود مصر الإسلامية فتساهم بقسط في السيادة البحرية في شرق البحر الأبيض، فائتمرت بالأسطول المصري فحطموه في (نافارين)؛ وكان محمد علي أكثر عناية بإنشاء السفن الحربية، فلم تتقدم الملاحة التجارية يومئذ تقدماً يذكر. وكان القضاء على الأسطول المصري في نافارين خاتمة عصر قصير من الإحياء البحري.
وهاهي ذي مصر تستأنف اليوم بعد مائة عام أخرى، نشاطها البحري؛ وتعود البواخر المصرية، فتشق لجة البحر الأبيض جيئة وذهاباً. والفضل في ذلك يرجع إلى نشاط ذلك الصرح القومي العزيز - بنك مص -؛ وهاهي (النيل) تعود فتحمل علم مصر الإسلامية خفاقاً في ذلك العباب الذي بقيت السفن المصرية قروناً تمتطي صهوته، وتجوس خلاله في عزة وفخار.
إن مصر تستأنف نشاطها البحري في ميدان السلم، لا في ميدان الحرب؛ وليس غريباً أن يكون لها بواخر تشق العباب، ولكن الغريب أن لا يكون لها بواخر، وثغورها محط البواخر الأجنبية من أقاصي العالم. . . .(49/5)
في مدينة بروسة
للدكتور عبد الوهاب عزام
هذه بروسة الجميلة تشرف العين على سهلها المشجر، تلوح سقوفها المسنّمة من خلال أشجارها منثورة في سفح الجبل وحضيضه. وهذا (يشيل جامع) الذي شاده السلطان العظيم (مجدّد الدولة) محمد بن بايزيد، وهو الذي اختاره القدر، بعد أن تقسمت اخوته الخطوب، ليجمع شتات الدولة بعد أن انفرط عقدها في موقعة أنقرة، وثوت الصاعقة رهن المحبس والقيد وبعد أن تنازع أشبال بايزيد ميراث أبيهم، وتمادى بهم الخلاف بضعة عشر عاماً. لقد قدر لمحمد أن يستأنف المسير في سبيل المجد الذي سلكه آباؤه. أين محمد ومجد محمد؟ تجيبك هذه القبة الخضراء وراء المسجد. فهناك رفات السلطان وبعض أبنائه.
وانظر إلى اليمن فهذا المسجد المشرف بين الأشجار على السفح، والذي يحاول السرو الباسق حوله أن يطاول منارتيه، هو مسجد الأمير محمد البخاري وهذه قبة ضريحه. وكم تحت هذه الأشجار من قبور عاذت بقبر هذا الرجل الصالح. ولله هذا الرجل العظيم، فما ينسى له التاريخ صرامته في الحق، ومجابهة السلطان بالنصح واللوم.
كان السلطان بايزيد يتهم بالخمر، فلما بنى مسجده الكبير دعا الأمير البخاري ليراه، وبيناهما يقلبان النظر في المسجد قال السلطان للشيخ: ما ترى في هذا المسجد العظيم؟ قال: حسن، ولكن لابد أن تقام في كل زاوية من زواياه حانة ليأتي السلطان إليه!
وأرى ذات اليمين جامع بايزيد تلوح قبتاه ومنارته، وبجانبه قبة تحنو على قبر السلطان العظيم. سطور من الخطوب والعبر لا تجد العين منها مهرباً.
ألا ترى إلى اليسار (أدلو جامع) ذا العشرين قبة؟ هذه قبته الكبيرة التي تنفذ الأضواء منها إلى الحوض الكبير، فيسيل عليه النور في ماء النافورة المنبجس ليل نهار؛ وكأن خريرها دعوة إلى الصلاة لا تفتر، وتسبيح مع المسبحين لا يصمت. وماذا على جدران هذا المسجد من بدائع الخط وسطور الجمال؟ لقد افتن الكتاب على مر العصور في تزيينها بكل آية من الخط الجميل، وإنها لحجة قائمة على الذين يريدون هجر الخط العربي إلى الكتابة اللاتينية. وكلما أدرت عيني في هذا المسرح الرائع عادت إلى هاتين المنارتين البيضاويتين المشرفتين على الجامع كأنهما شمعتان. وكل مآذن بروسة تشبه الشمعات، وما(49/7)
أشبه المآذن بالمصابيح: تهدي في ظلمات الضلال، وبحق سميت منارات.
وانظر هذا البرج البعيد على سفح الجبل في مكان من القلعة القديمة حيث قبرا الرجلين العظيمين عثمان وأورخان.
لست أرى جامع مراد الثاني وضريحه والقبور التي أطافت به وبينها قبر جم الأمير التعيس، ولا أبصر جامع مراد خداوند كار شهيد قوصوه، ولا قبر مشرفا على السهل منطوياً على سره وجلاله، ولا ينابيع المياه الحارة والباردة منبجسة بفنائه. وما أجمل ينابيع الماء في بروسة مساجدها وطرقها تلقى السائر حيثما توجه متدفقة بالحياة ليلا ونهارا.
وأين مسجد أورخان أقدم مساجد بروسة؟ غيبه عن عيني الجبل والشجر، ولكنه لم يغب عن القلب وجه المتواضع
وليت شعري ما خطب هذه المآذن الصغيرة، والقباب الخاملة المنثورة في المدينة؟ بناها قوم لم يبلغوا من حظ الدنيا ونباهة الذكر ما بلغ هؤلاء. ولعلهم كانوا أسعد حياة، وأعظم عند الله شأناً. وإن الجاه والمجد والسلطان وما يحيط بها من ضوضاء هذه الحياة لأسوأ ما يكافأ به الرجل الطيب ذو النفس الزكية في هذا العالم. فلا تأس على ما فات الصالحين من جلبة هذه السوق.
لا تقع عيني في مجلسي هذا إلا على أكداس من العبر، وأسطار من حظوظ البشر. وما أشقى هذه النفوس التي لا تقلب بصرها في هذا العالم إلا لتقرأ ما وراء صوره من عظات وآلام، يا لها ذكريات تجيش لها النفس، وينطلق بها الفكر في مسالك يعيا بها جهد المفكر.
لله بروسة الجميلة سهلها وجبلها، ودورها وشجرها، ولله فيها هذا التاريخ العظيم يملأ أرجاءها، ولله هذه النفس، كلما خلت وطلبت للفراغ مجلساً انهال عليها من العَبر والفكَر ما يكدّرها ويحزنها، وينفر بها عن الناس، ويسمو بها في معارج من الحقائق والخيال تلتبس فيها السعادة والشقاء.
أيها القلم حسبك، فما يتركني الناس أبلغ من خلوتي غايتها. فهاهم قد أقبلوا يتحدثون، وها هي أصوات النرد تُطير عنّي أسراب الأفكار. وقديماً قال أبو العلاء:
حوربتُ في كل مطلوب هممت به ... حتى زهدتُ فما خُلّيت والزهدا
إيه يا بروسة والدنيا غِيَر، والدهر قُلّب! ليت شعري، وأنا أحبك، وأود لو إنفسح الزمان(49/8)
للإقامة فيك أياماً، لتبلغ النفس من جمالك وجلالك أمانيها - ليت شعري أأراك مرة أخرى، أم تلك جلسة التسليم والتوديع إلى الأبد؟!. إنما العلم عند الله، وما نحن إلا ظلال متنقلة ليس لها من الأمر شيء.
عبد الوهاب عزام(49/9)
قصاصات الورق
خمسة عشر عاماً بعد فرساي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
مازالت الحرب الكبرى توصف بأنها أشنع وأروع مآسي التاريخ، ومازالت مصائبها وعبرها وآثارها المخربة ماثلة في أمم وشعوب كثيرة؛ وكنا إلى أعوام قلائل فقط نسمع أقطاب السياسة الدولية يؤكدون أن الدرس الأليم الذي ألقته الحرب على الدول والأمم العظمى لا يمكن أن يمر دون أن يحدث أثره؛ وأن الشعوب أشد ما يكون اليوم زهداً في خوض الحرب والتعرض لويلاتها المروعة؛ وكنا نشهد ابتهاج الساسة والحكومات كلما عقد ميثاق جديد بعدم الاعتداء بين دولتين أو أكثر، أو حلت مشكلة دولية صغيرة على يد عصبة الأمم بطريق التحكيم والحسنى، أو ظهرت بوادر تفاهم ووئام بين خصوم الأمس؛ كنا نشهد ذلك وأمثاله خلال الأعوام التي تلت الحرب، فيخيل إلينا أن نزعة الحرب والاعتداء قد ضعفت، وأن عقلية الشعوب قد تبدلت، وأن العالم مقبل على عصر جديد، تتبوأ فيه قضية السلام مكانها اللائق، وتغيض فيه الخصومات والأحقاد القومية القديمة، ويسود الوئام والحسنى بين الشعوب.
ولكنا نشهد اليوم منظراً آخر؛ فان الأفق الدولي يفيض بالتشاؤم، وعلائق الدول المختلفة في اضطراب دائم، وعبارات الوعيد والحرب والانتقام تتردد في بعض الدوائر، وأحياناً يلوح بها بعض الساسة المسئولين؛ وهنالك بعض المسائل الخطيرة التي خلفتها الحرب الكبرى مثل مشكلة نزع السلاح، ومسألة السار، ومسائل الحدود والأقليات، ومسألة المستعمران الألمانية وغيرها تزداد اليوم خطورة وتعقيدا، بل إنا لنشهد اليوم انتحار مؤتمر نزع السلاح في جنيف، وهو ذلك المؤتمر الذي علقت عليه قبل بضعة أعوام آمال كبيرة في تخفيض التسليح والتقريب بين الأمم، ونشهد عصبة الأمم تفقد هيبتها الدولية وتنحدر بسرعة إلى زاوية النسيان، وهي الصرح الذي هللت له الأمم يوم إنشائه، وقيل إنه سيكون منارة السلام العالمي والعدالة الدولية، وملاذ الأمم الضعيفة والمظلومة. والخلاصة أن تلك الآمال العريضة التي ساورت العالم حيناً عقب دروس الحرب الأليمة في أن تعتبر الأمم بتلك العبر القاسية وبتلك الضحايا الهائلة، وتغلب الروية والتفاهم في حسم مشاكلها، قد أخذت في(49/10)
الأعوام الأخيرة تنهار تباعا، ولا نكاد نلمس اليوم من آثارها شيئاً.
لقد اختتمت الحرب الكبرى بعدة معاهدات للصلح بين الأمم المتحاربة، أعظمها وأهمها معاهدة فرساي، التي أريد أن تكون دستوراً جامعاً لتنظيم أوربا الجديدة سواء من الوجهة الجغرافية، أو العسكرية أو الاقتصادية. ولكن معاهدات الصلح، كأية معاهدة يعقدها الغالب مع المغلوب، أو بعبارة أخرى يمليها الغالب على المغلوب، لم تخل من المبالغة والاغراق، ولم تحرص على مراعاة الحقائق التاريخية الخالدة، ولم تراع العواطف القومية لأمم عظيمة، وإنما روعي فيها قبل كل شيء أن تحقق شهوات الظافرين ومطامعهم وخططهم في تمزيق الأمم المغلوبة وتحطيم قواها ومواردها. ففي معاهدة فرساي أرغمت ألمانيا على الإقرار بأنها مسئولة عن آثار الحرب الكبرى، وألزمت بناء على ذلك بدفع تعويضات الحرب الهائلة، ونص على تجريدها من السلاح، وتدمير أسطولها، وانتزعت منها الألزاس واللورين لترد إلى فرنسا، كما انتزعت سيليزيا العليا، ودانتزج، ووادي السار، وفرضت عليها غير ذلك قروض مرهقة كثيرة؛ وفي معاهدة سان جرمان حلت إمبراطورية النمسا والمجر القديمة لتقوم على أنقاضها عدة دول جديدة، انتزعت منها أراضي كثيرة لتعطي لإيطاليا ويوجوسلافيا ورومانيا؛ هكذا غيرت معاهدات الصلح حدود أوربا القديمة، وأثارت في كل مكان مشاكل الأقليلات القومية، ودفعت بالشعوب المغلوبة إلى غمار البؤس والفاقة، وأثارت بذلك مشاكل اجتماعية خطيرة. ولم يكن يدور بخلد الساسة الذين أملوا هذه المعاهدات المرهقة على الأمم المغلوبة، أنها ستغدو منذ يوم وضعها مثاراً لمشاكل لا نهاية لها، وأنها ستنقض غير بعيد في كثير من نصوصها، وأنها ستعتبر في النهاية أصل كل متاعب أوربا الجديدة، وأنها إذااستمرت على حالها فقد تثير ضرام الحرب مرة أخرى، ولكن هذا ما وقع بالفعل، وهذا ما نشهد اليوم، فقد عدل كثير من نصوص معاهدة الصلح في الأعوام الأخيرة، وهي اليوم مثار حملات شدية، لا من ألمانيا وباقي الدول التي أرهقت بنصوصها فقط، ولكن من إيطاليا إحدى دول الحلفاء التي اشتركت في إجتناء مغانم النصر، بل أنا لنرى مستر لويد جورج أحد الأقطاب الذين وضعوا المعاهدة وأشدهم وقت وضعها وطأة على ألمانيا ينادي اليوم بفداحة الشروط التي وضعت ويقترح مثل إيطاليا تعديل المعاهدة وأدمجه الحلفاء فيها كنتيجة لنزع سلاح ألمانيا؛ وفي أواسط أوربا وشرقها(49/11)
تثار عشرات المشاكل التي ترتبت على إجحاف معاهدات الصلح بالحقوق الجغرافية والقومية لمختلف الدول. والخلاصة ان معاهدات الصلح تغدو اليوم كالثوب المهلهل. ويغدو الأفق الدولي مثقلاً بالسحب ومختلف الاحتمالات.
قبل الحرب كانت السياسة القومية المغرقة والسلام المدجج بالسلاح، وإنشاء المحالفات العسكرية الدفاعية والهجومية، وعقد المعاهدات السرية، هي قواعد السياسة الدولية، وهي التي توجه علائق الدول بعضها ببعض. ولم تكن الفكرة في تنظيم علائق الأمم قد تقدمت يومئذ كثيراً عما كانت عليه قبل ذلك بقرون؛ فقد كانت هذه القواعد هي الغالبة في العلاقات الدولية في جميع عصور التاريخ الحديث مذ قامت أوربا الحديثة على أنقاض العصور الوسطى، بل كانت هي الغالبة في العصور الوسطى والقديمة مع فروق يسيرة في علائق السلام والحرب؛ وكانت الأطماع القومية في بسط النفوذ وإجتناء مغانم الاستعمار والتجارة هي التي تحرك الأمم بعضها ضد بعض، وكانت الحرب وسيلة فريدة لتحقيق هذه المثل؛ وقد كشفت لنا الحرب الكبرى عن المدى الذي وصلت إليه الدول العظمى ما قبل الحرب في الاعتماد على التسليح والمعاهدات السرية، وفي التنافس على اجتناء المغانم الاستعمارية واستعباد الأمم الضعيفة؛ ثم جاءت معاهدات الصلح بعد محنة الحرب دليلاً قوياً على أن هذه النزعات الخطرة لم تخمد بل أذكاها الظفر في نفوس الأمم الغالبة، على أن نزعة أخرى برزت من خلال هذه الغمار ترمى إلى العمل على التقريب بين الأمم، وتخفيف حدة الأحقاد القومية التي أثارت الحرب؛ وقد أريد أن تكون عصبة الأمم رمزاً لهذا الاتجاه الجديد؛ ولكن العصبة ولدت ميتة من هذه الناحية، واستطاعت العوامل السياسية الخفية أن تسيطر عليها منذ الساعة الأولى، وأن توجهها حيث شاءت، وأن تستغل نفوذها الدولي؛ ولما أن بدت بوادر التفاهم بين ألمانيا وخصومها بالأمس، وفازت سياسة التقرب والحسنى بعقد ميثاق لوكا رنو سنة 1925، هلل العالم مرة أخرى، واستقبل هذا الميثاق الذي يجمع بين أعداء الأمس ويقضي بتأمين منطقة الرين بين فرنسا وألمانيا، بوابل من الآمال الكبيرة، واعتقد أن الميثاق سيكون فاتحة لظفر السلام وقضيته؛ وساد في الأفق الدولي مدى حين نوع من التفاؤل، وحلت أثناء ذلك عدة مشاكل دولية خطيرة بالتفاهم والحسنى؛ ثم كانت الخطوة التالية بعقد ميثاق تحريم الحرب، أو ميثاق كيلوج سنة 1929، وهو الميثاق(49/12)
الشهير الذي يقضي بتحريم الحرب كأساس للسياسة القومية ووسيلة لمعالجة المشاكل الدولية، ويقضي باستعمال التحكيم كوسيلة لحسم المنازعات بين الأمم، وقد جمع هذا الميثاق بين جميع الدول العظمى وبين أعداء الأمس، وانضم إليه عشرات من الدول في أوربا وأمريكا وآسيا، ووقعته مصر أيضاً، واعتبر يوم وضعه كأنه إنجيل جديد للسلام، واستقبل بأناشيد المديح والإعجاب في كل مكان؛ وكان عقد ميثاق تحريم الحرب في الواقع ذروة لظفر النزعة السلمية التي حملت الساسة والأمم في ذلك الحين؛ ولكنه كان ظفراً نظرياً فقط؛ ولم يمض سوى عام واحد حتى ظهر أن تطبيق الميثاق مستحيل من الوجهة العملية، وأنه ولد ميتاً كمشروع عصبة الأمم.
وهكذا ظهر عبث العهود والمواثيق الدولية مرة أخرى، وانهارت جميع الجهود التي بذلها أنصار السلام من الوجهة العملية؛ ولم يبق أمامنا من تراث هذا الماضي القريب سوى عصبة الأمم. ومأساة العصبة معروفة، فقد ظهر فشلها وعقمها في كل مسألة دولية خطيرة، وكل مسألة تقتضي العدالة والإنصاف، وظهر أنها أداة مسيرة في يد الدول الاستعمارية تتجاذب في داخلها النفوذ والوحي؛ وهذا مؤتمر نزع السلاح الذي أنشأته العصبة لتحقق على يده برنامجها السلمي يحتضر ويسير إلى الموت محقق. ولم يشهد العالم منذ نهاية الحرب ظرفاً أظلم فيه الأفق الدولي مثل الظرف الذي نشهد اليوم؛ فاليابان قد انسحبت من العصبة لتطلق العنان لمشاريعها الاستعمارية في الصين، وهي اليوم بتوغلها في الصين وتحديها جميع الدول الأخرى تثير خطر الحرب في الشرق الأقصى؛ وقد انسحبت ألمانيا الهتلرية أيضاً من العصبة، وهي اليوم تعود إلى تسليح نفسها متحدية خصومها بالأمس ولا سيما فرنسا، وتعمل بكل ما وسعت لإثارة الأحقاد القومية في الداخل والخارج، وفرنسا من جانبها تعود بمنتهى الشدة إلى سياستها القومية القديمة وتبذل جهوداً فادحة لتقوية جيشها وتسليحاتها، وإنكلترا وأمريكا تسيران في نفس الطريق وتعملان لتقوية التسليحات البحرية والجوية؛ وإيطاليا تقوي جيشها وتسليحاتها منذ أعوام وتلوح من آن لآخر بالحرب، ولا تخفى مطامعها الاستعمارية في آسيا وأفريقية، وروسيا السوفيتية تقف لليابان بالمرصاد في الشرق الأقصى، وتركيا تطالب بالعود إلى تحصين الدردنيل بعد أن قضت معاهدة لوزان بنزع سلاحه؛ وتجري في القارة من أقصاها إلى أقصاها حركة انزعاج وتوجس، وتجري(49/13)
مختلف المفاوضات بين دول البلقان وأوربا الوسطى ودول البلطيق، وتعقد المواثيق هنا وهناك لتنظيم الجباه السياسية والعسكرية وأحكام المحالفات، وتتنافس دول القارة العظمى أعني فرنسا وألمانيا وإيطاليا في تنظيم هذه الحركات وتسييرها.
والواقع أن التاريخ القريب يتكرر ويتصل؛ وما يجري اليوم في العالم من الأحداث السياسية والمنازعات الدولية يشبه من وجوه كثيرة ما كان يجري قبل الحرب بأعوام قلائل فقط، من تسابق الدول العظمى في التسليح والاستعداد الحربي، ومن تنافسها وتنازعها في إجتناء المغانم الاستعمارية والتجارية، ومن توتر أعصاب الحكومات والساسة، ومن العمل على إذكاء الأحقاد القومية؛ وقد ثارت في الأعوام القلائل التي سبقت الحرب بعض مشاكل دولية خطيرة كانت مقدمة لانقضاض العاصفة؛ والأفق الدولي مثقل اليوم بكثير من هذه المشاكل؛ ويكفي أن مسألة كمسألة السار قد تضرم الشرارة الأولى، كما أن مسألة أغادير كادت قبل الحرب بعامين تضرم هذه الشرارة؛ ونستطيع أن نشبه رحلة مسيو هريو رئيس وزارة فرنسا الأسبق إلى روسيا منذ عام، أو رحلة مسيو بارتو وزير خارجيتها إلى بولونيا ودول الاتفاق الصغير، برحلة مسيو بوانكاريه إلىروسيا قبيل الحرب الكبرى بأسابيع قلائل. ولقد وصفت المعاهدات الدولية في فاتحة الحرب على لسان بعض الساسة الألمان بأنها قصاصات ورق والتاريخ يؤيد هذا القول في كثير من المواطن؛ ولكن هذا القول اعتبر أثناء الحرب من الكبائر وسجل على ألمانيا ضمن الأخطار الفادحة التي بنيت عليها مسئوليتها في إثارة الحرب. أما اليوم، ونحن نشهد عقم المواثيق والعهود الدولية الكثيرة التي وضعت لتسوية المشاكل والعلائق الدولية؛ ونشهد انهيار عصبة الأمم ومؤتمر نزع السلاح، وميثاق تحريم الحرب، ومعاهدة واشنطون التي تعهدت الدول العظمى فيها بتحديد التسليح البحري، ونقض معاهدات الصلح سواء من جانب الغالب أو المغلوب، فانه يسمح لنا أن نكرر القول القديم بأن العهود والمواثيق الدولية تغدو دائماً قصاصات من الورق كلما شاءت السياسة والاعتبارات القومية.
محمد عبد الله عنان المحامي(49/14)
الأثر اليوناني في الأدب العربي
للأستاذ فخري أبو السعود
كانت الثقافة اليونانية خلاصة ثقافات البحر الأبيض القديمة: لأنها إلى جانب ما استوعبته من الحضارات الشرقية تمثل نتاج العقل اليوناني الذي كان أخصب عقل ظهر في العصر القديم. فلما مضى ذلك العصر
ودالت دولة اليونان وكان العصر الوسيط كان العرب هم السابقين إلى التعرف بالثقافة اليونانية فأخذوا من علوم اليونان وفلسفتهم، ثم تعرف الأوربيون بعدهم بتلك الثقافة في عهد النهضة، وأوسعوا علوم اليونان وفنونهم دراسة ونقلا ومحاكاة. فأغنوا بذلك علومهم وفنونهم الناشئة وشادوا على ثقافة اليونان صرح حضارتهم الحديثة.
بيد أن الذي يسترعي النظر أن العرب حين اتصلوا بثقافة اليونان اقتصروا على اقتباس بعض علومهم وفلسفتهم دون الآداب والفنون، فدرسوا أر سطو وأفلاطون، وعرفوا أبقراط وفيثاغورس، ولكنهم أهملوا هوميروس وسوفوكليس وأوربيدس، على حين لم يفرق الأوربيون بين ناحية من نواحي الحضارة اليونانية وناحية أخرى، بل أكبو على دراسة الجميع، وبينما تقدمت علومهم على مر العصور عن علوم اليونان أشواطاً بعيدة واستغنت عن معينها ظلت الآداب والفنون اليونانية مرجعاً دائماً للآداب والفنون الأوربية ومهبط وحي لا يفنى، ولم ينفك كتاب الغرب وشعراؤه إلى اليوم عن تمجيد الثقافة اليونانية والحث على الرجوع إليها دائماً، فما السر في اختلاف موقف العرب عن موقف الأوربيين حيال تراث اليونان؟
السر راجع إلى سليقة العرب المطبوعة على البيان، المفطورة على فصاحة اللسان، فان العرب نظراً لبيئتهم البدوية وحياتهم المتنقلة لم يكن لهم سوى السان أداة للتعبير عن شعورهم الفياض، فلم يكن التصوير ولا النحت ولا غيرها من الفنون ليزكو في بيئتهم تلك، ومن ثم تأصلت في العرب سجية البلاغة وارتقت بينهم مرتبة البلغاء وتوطدت لغتهم ونضج أدبهم وهم على بداوتهم وقلة حظهم من الحضارة، وكان لهم بعصبيتهم ولغتهم اعتداد شديد، فلما نهضت دولتهم بظهور الإسلام ودخلت الأمم في طاعتهم ودينهم أفواجاً ازدادوا اعتداداً بعربيتهم ولغتهم وشعرهم وقرآنهم المبين، فلم يكن في نفوسهم حافظ إلى(49/15)
الاطلاع على آداب غيرهم ولا لديهم رغبة في التتلمذ لسواهم، بل كانوا يرون أنفسهم هم الأجدر أن يحبذوا ويؤخذ عنهم، ولقد أخذ كثير من الأمم المفتوحة لغتهم واصطنعوا أدبهم بالفعل، وأصبح الناشئون في الأدب من أبناء الأجيال التالية لا يرون أن شيئاً يوصل إلىنيل الفصاحة والحكمة وحذق الأدب وراء دراسة القرآن واستيعاب شعر فحول المتقدمين، وإنما كان العرب أميل إلى الاعتراف بالقصور وإظهار الرغبة في الأمور التي لم يكن لهم فيها إلى ذلك الوقت باع ولا يد كالعلوم والفلسفة، فلم يروا ضيراً في أخذها على أساتذة اليونان.
ولم يقتصر أثر اعتداد العرب بأدبهم وشعرهم على ذود الأدب اليوناني عنهم، بل ذاد عنهم غير الأدب من الفنون: فلقد اطلعوا في أطراف دولتهم وبلاد جيرانهم على ما كان لدى اليونان والرومان والفرس والمصريين من تصوير ونحت، فما خطر لهم أن يحاكوا شيئاً من ذلك، وكان كل ما يساور شاعرهم حين يشاهد أثراً من هاتيك الآثار أن يتمثل بطش الدهر وحلول الفناء وسقوط الجبابرة فيقول:
أين الذي الهرمان من بنيانه؟ ... ما قومه؟ وما يومه؟ ما المصرع؟
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حيناً ويدركها الفناء فتتبع
وما ذاك إلا لانصراف كل قوى العرب الفنية إلى ضرب واحد من الفنون هو الأدب واستغراقها فيه. فهي لا تحاول وسيلة أخرى سواه للتعبير عن نفسها، ومن ثم ظل العرب طوال عصورهم لا يعرفون من الفنون سوى الأدب والموسيقى المعتمدة عليه المرتبطة به ارتباطاً وثيقاً، فلا تصوير ولا نحت ولا تمثيل، اللهم إلا ذلك الضرب الوحيد من الزخرفة ذات الأغراض العملية المحضة، ومن الخطأ نسبة انعدام تلك الفنون بين العرب إلىالدين: ففضلا عن أن الدين لا ينافي شيئاً منها فانه لم يحل دون استمتاع العرب بالموسيقى وغيرها حين أرادوا.
فالعرب إذن اتصلوا بالثقافة اليونانية في غير الوقت الملائم: في وقت متأخر، كان أدبهم فيه قد نضج وقوى، وصار له من الاعتداد بنفسه ما يثنيه عن التتلمذ لغيره، أما الآداب الغربية فعرفت تلك الثقافة في عهد طفولتها ونشأتها، وهي لما تزل عاجزة تعترف بعجزها وتتلهف إلى المعرفة حيث وجدتها، فلم تتردد في الانتفاع بتراث اليونان إلى أبعد حد،(49/16)
فأثرت أيما إثراء بما أخذت عن اليونان من المواضيع والأشكال الأدبية، ومد الأدب اليوناني أمامها آفاق التفكير الواسعة وآماد المثل العليا وصور الجمال المختلفة، ووجدت في تاريخ اليونان وأدبهم وأساطيرهم ومنتجات فنونهم من صور وتماثيل وآثار منادح للكتابة والدرس والنظم، ومنابع للوحي لا تنضب.
فلا غرو أن طفرت تلك الآداب الغربية التي لم تكد في عهد النهضة تكون شيئاً مذكوراً، والتي كانت لغاتها ذاتها ما تزال في طور التكوين، فإذا هي بعد قرون ثلاثة أو أربعة تسبق الأدب العربي وهو أعرق منها محتداً وتفوقه اتساع آفاق وتعدد مواضيع، لأن الأدب العربي الذي م يكد يستفيد بأدب أمة أخرى ظل في مكانه جامدا يكرر نفسه ويعيد على نفسه الأبواب عينها التي جال فيها المتقدمون من فخر ورثاء ومدح وهجاء، حتى إذاكان العصر الحديث إذاهو يقف من الآداب الغربية موقف التتلمذ والتلقن.
ان تمكن ملكة البيان من العرب - مما جعلهم لا يدينون إلا لنبي يأتيهم بكتاب معجز، وجعل خلفاءهم يتخذون وزراءهم من أئمة البيان - واعتدادهم بأدبهم واستغراق مجهودهم الفني فيه وحده، هذا كله في مجموعة كان عاملا شامل الأثر بعيده في تاريخهم وأدبهم، ولقد كان أثره فيما يتعلق بالتراث اليوناني بليغ الضرر، فخسر العرب خسارة كبيرة بإغفال الأدب اليوناني الحي على توالي العصور، الشديد الإيحاء القوي التأثير، الذي كان بلا ريب أغنى من أدبهم. ولو لقح به الأدب العربي لاتسعت جوانبه وانصرف عن تلك الأغراض العلمية التي احتبس فيها إلى عوالم الفن الخالص وتغير مجرى تاريخه وأفاد العرب بذلك أضعاف ما أفادتهم دراسة الفلسفة اليونانية.
ونحن اليوم بدراسة الآداب الغربية والأخذ عنها بطريق غير مباشرة عن تلك الثقافة اليونانية، وندخل في أدبنا ذلك العنصر اليوناني الذي لابد منه لكل أدب يريد له مكاناً بين الآداب العالية، وإذا وقف شاعرنا العصري أمام الأهرام فلم ينصرف ذهنه إلى بطش الدهر بالجبارين الذين أعلوها ولم يتنبأ لها باللحاق بهم، بل حيا فيها الفن وعظم قدرة الإنسان وقال:
أهرامهم تلك حي الفن متخذاً ... من الصخور بروجا فوق كيوان
لم يأخذ الليل منها والنهار سوى ... ما يأخذ النمل من أركان ثهلان(49/17)
فما ذاك إلا لأننا قد تأثرنا بتلك الروح اليونانية التي تعظم الفن الخالص في مختلف صوره وتمجد قدرة الإنسان في مصارعتها للفناء، تلك الروح التي كان أغفلها أجدادنا العرب.
فخري أبو السعود(49/18)
إنما يرثها المؤمنون
أحلاف الأمل
للأستاذ أديب عباسي
الحياة كالسفينة: قلعها الأمل، ودفتها الفكر، والرابط لأجزائها واللاّم لشعثها هو الأيمان. والعقل يرسم الخطة، ويبين الاتجاه، ويدل على الطريق. والأمل شراع الحياة الذي يدفعها في أوقيانوس هذا العالم المضطرب وفوق لجه المصطخب، والذي يتلقى القوى من أين جاءته وأني واجهته ليحيلها في النهاية قوى
للدفع والانتظام في السير. أما الإيمان فهو هذا الذي يشد أضلاعها ويوثق أجزاءها، فلا يوهنها العاصف الشديد ولا يمزقها، أباد يد. وهو الذي يعدل انحناءها ويقوّم استواءها، فلا توهيها الصدمة ولا تزعزعها الزحمة. وبالقدر الذي تظفر به الحياة من توازن وائتلاف بين هذه القوى الثلاث يكون الخير والنجاح، وبالقدر الذي تتنافر وتضطرب يكون الفشل والخيبة. انظر إلى المتشائمين الصارخين في وجه الحياة الدافعين لها في الصدر، ترهم من أولئك النفر الذين كبرت عقولهم ونضبت آمالهم وتزعزع أيمانهم، فاضوا كالقارب قد تخرق قلعه، وحطمت دفته. يقابلهم المتهورون الذين لا ينزلون للعقل على حكم، ولا للمنطق على قاعدة، فتراهم يسيرون في هذه الحياة على غير توجيه يوجهونه، أو هدى يتوخونه، فلا يلبثون أن يرتطموا بصخورها الناشزة، فتتحطم آمالهم وتبخر الحقيقة أمانيهم كما تبخر الشمس أحلام النائم.
هذه هي صلة الأمل والأيمان بالفكر. وإذافإذا نحن ذكرنا أحدهما بعدئذ فإنما نذكره ونحن نضمر ونقدر الفكر. ذلك أن الأمل دون الفكر يضحى تهوراً ورعونة، والأيمان بلا عقل ملهم يمسي عناداً واشتطاطاً.
وماذا نقول بعد هذا الإجمال في دعامتي الحياة هاتين؟
نقول إن الأمل هو القوة الدافعة الكامنة في صدور الشباب، وهو النور الذي يبدد ظلام النفوس ويزيل حلكها عندما تتوالى النكبات وتتعاقب المصائب. هو ذلك المعبود الذي نصب له الرومان تمثالاً يجثون حواليه ويخشعون. وهو الإله الذي هجر رومة عندما عكفت على المادة تعبدها فسقطت سقوط شمشون في يد الشهوة. وهو الذي وقف في مضيق(49/19)
ترموبيلي يهزأ بالقوى المادية ويفخر بالتضحية الخالدة. هو ذلك الفيض العلوي الذي كان يخوض صفوف المسلمين مردداً: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين، فكان ملء الصدور في بدر، وكان ملء الصدور في اليرموق، وكان ملء الصدور في القادسية. هو الذي يحيل الشيخ الهرم شاباً إذا حل في صدره، والشاب شيخاً إذا زايله. وان شيخاً كبرت عدته من الأمل لا تنصفه إذ تحشره في زمرة الشيوخ وان بلغ عتياً. وان شاباً هزل أمله وفتر عمله هو والشيخ الفاني سواء. فالفتوة والشباب ليسا في السنين، إنما هما في القوى الروحية السليمة. والمهزومون في معركة الحياة الهاربون من وجهها هم الدليل. هذا شيخ مرفوع الرأس مسنود الظهر، قوي الأمل كبير الثقة بالنفس، يسير بقية الطريق في غير التواء، فيصل آخر مرحلة من مراحل الجهاد لا هو بالخائر العزيمة ولا بالخالي من الزاد. وذلك شاب (بحسب السنين فقط) خاوي الأمل فاتر الهمة، يدب كما تدب السلحفاة. . . أعياه نيل الشمس واصطياد النجوم، فلم يمدد يداً إلى ما هو في متناول اليد، وتملكه اليأس، وبث له من ترقب الخيبة نطاق، فلم يحفل كثيراً بالجني القريب، ففاته كثير من الجواهر واللآلئ التي يمر بها مرّ المجانب
إذاً فمعركة الحياة الصارمة تتطلب منك يا صاح الأمل القوي تسنده العزيمة المسددة، وتفرض عليك الاندفاع والسعي، ينير سبيلهما الاستبشار والثقة. وفي الوقت الذي يكف المرء فيه عن الحركة والدؤوب يدخل في ثبت الأموات الفانين. إن خير ما تشبه به الحياة هو الدوّامة التي ما تزال تدافع فعل الجاذبية وتقاومه بقوة الاندفاع وسرعة الحركة، ولكنها إذ تبطئ وتكف عن الحركة تسقط بعد إذ كانت مستوية على قدم قائمة على ساق.
وتفرض عليك معركة الحياة أيضاً أن يكون لك هدف تسعى إليه، لا هو بالوضيع الذي لا يستثير كل ما في النفس من استعداد ولا يستنفر كل ما فيها من قوة، ولا هو بالبعيد المنبت الذي تتقطع دونه جميع الأسباب وتفشل جميع الجهود.
ثم ليكن هدفك كالأفق العريض يتجدد على السير ويتسع مع الحياة ويغري على البذل. ولا يهمنك بعدها أنجحت أم فشلت. فالفشل ليس جرماً، إنما الجرم هي الآمال المحدودة والأهداف الوضيعة. ولا تغبطنّ من هو أحط منك هدفاً وأسعد حالاً. فقد تكون أنت بحرمانك وسمو هدفك أعظم منه في نجاحه وحطة هدفه الذي إذاوصل إليه لا يلاقي وراءه(49/20)
إلا ظلام القبر وقيد الفناء وأنت فوق هذا وذاك مكتسب من فشلك الآني منعة ضد مكروب اليأس الذي يقتل النفوس ويعصف بالرجولة.
وأخيراً - الإيمان - ماذا تقول فيه؟
نقول موجزين: إنه صفة العظماء الغالبة، ومزيتهم التي يمتازون بها عن الأوساط، ومن هم دون الأوساط. فيوليوس قيصر كان كبير الإيمان حينما قطع نهر الروبيكون واستولى على رومة بشراذم جنوده. وقد كان ضعيف الإيمان في الوصول إلى تاج الملك فذبح. وكولمب كان عظيم الإيمان، لذلك لم يفتّ في عضده كل ما قام في سبيله من صعاب، ولم يثنه أن يجد نصف العالم الذي كان مفقودا. ونابليون كان له نجم يراه في النهار ويسير بهديه. والمسيح كان كبير الإيمان، فكان يشفي المفلوجين ويقيم المقعدين. والنبي العربي كان وطيد الإيمان، فعمل لقومه في حقبة قصيرة من الزمن ما يُعجز أجيالاً ويفني آجالا.
ومن صفاته أن المؤمن يكون سريع العودة إلى ما اختطه لنفسه من طريق، ورسمه لها من مسير، بعد أن تحرفه عن ذلك رجات الحياة العنيفة وحوادثها الزاخرة. شأنه شأن الإبرة المغنطيسية - مهما بالغت الحياة في هزه، لا يلبث أن يعود سيرته الأولى ويتجه اتجاهه الأول. ذلك أن ثمة قوة حية مشبوبة فيه تتجاذب وقطب الحياة العام، قطب التقدم وارقي الذي تسير نحوه جميع الأحياء عامدة، لا تلفّ ولا تدور إلا مرغمة.
ومن صفات الإيمان أيضاً أنه لا يحتقر الأحلام، لأنها عنده أساس الحقائق وعدة الحياة. لهذا فهو رفيق جد الرفق بالصغار وما يحلمون، مؤمن جد الإيمان بما يكمن فيهم من قوى غير محدودة، واستعداد غير مُستغلّ، واندفاع غير مكبوت، ونقاء غير مرنق. وهو يقيم الدليل بعد الدليل على صدق متجهة بما أثبت التاريخ والحوادث من أن أحلام الطفولة وعبث الصبى كانت في غالبية العظماء حقائق الرجولة وعدتها إلى الحياة.
شرق الأردن
أديب عباسي(49/21)
ابن الهائم المصري المقدسي
للأستاذ قدري حافظ طوقان
كنت في القدس مع بعض الإخوان في زيارة المعرض العربي الثاني، وبينما نحن على مقربة من مقبرة مأمن الله سمعت أحدهم يقول: ان هذه المقبرة تضم عدداً كبيراً من فحول العلماء، وكبار الفقهاء ورجال الدين، ممن ظهروا في أيام الحروب الصليبية وقبلها. وقد سرد بعضهم أسماء بعض هؤلاء العلماء فلم يلفت نظري إلا اسم ابن الهائم، إذ تذكرت ان هذا الاسم مرّ بي أثناء مطالعتي لبعض الكتب الإنكليزية التي تبحث في تاريخ الرياضيات، وأصبح لديّ رغبة شديدة في الكتابة عنه. رجعت إلى مكتبتي لأبحث عنه فوجدت إن ابن الهائم من الذين لم يعطوا حقهم من البحث والاستقصاء، وحياته لا تزال غامضة في تاريخ المدنية الإسلامية، وهي في أشد الحاجة إلى من يتعهد جلاءها، ويقضي على غموضها. بحثت في الكتب الصفراء وغير الصفراء، قديمها وحديثها، من عربية وتركية وإنكليزية فلم أجد إلا جملاً هنا وهناك متناثرة لا يفهم منها إلا تاريخ الولادة والوفاة، وأشياء أخرى من الصعب جمعها وتكوين جملة تفي بالغرض وتشفي غلة الباحث المنقب. على كلٍّ، وبعد بحث في كتب متنوعة أمكننا أن نحصل على ترجمة متواضعة لهذا العالم من ناحية مآثره في العلوم الرياضية آملين أن نوفق في المستقبل للكتابة عنه بصورة أوسع وأوفى للمرام.
ولنرجع إلى صاحب الترجمة فنقول إن اسمه هو: شرف الدين أبو العباس (احمد بن محمد عماد) ابن الهائم المصري المقدسي، وقد اكتسب نسبته إلى مصر من ولادته فيها، وكان ذلك في المنتصف الثاني من القرن الرابع عشر للميلاد حوالي سنة 1352م - 753هـ أو 756هـ، وعرف بالمقدسي لاشتغاله في القدس ووفاته فيها. وكانت الوفاة في أوائل القرن الخامس عشر للميلاد حوالي سنة 1412م - 815هـ. وقد وجدت ثلاثة تواريخ وفاة لصاحب الترجمة في كتاب كشف الظنون في أسامي الكتب والفنون، ففي ص 418 من الجزء الأول يقول إن ابن الهائم توفى في سنة 987هـ، وفي الجزء الثاني في ص 362 نجد أن الوفاة كانت في سنة 387هـ، وفي ص 417 من الجزء نفسه نجد ان تاريخ الوفاة كان في 815هـ. بينما المصادر الإفرنجية ككتاب تاريخ الرياضيات لسمث، والتركية ككتاب آثار باقية، وبعض العربية ككتاب الأنس الجليل كل هذه تقول وتتفق على أن الوفاة(49/22)
حصلت سنة 815هـ - وهذا التاريخ (على ما أرجح) هو الصحيح. وقد يكون الاختلاف في الوفاة الموجود في كشف الظنون ناتجاً إما عن خلط في الأسماء أو في أغلاط مطبعية. والله أعلم.
وابن الهائم كما قلنا من الذين لم يعطهم التاريخ بعد حقهم من البحث والتنقيب، وقد يكون في كتاب الأنس الجليل عن حياته ما لا نجده في غيره من الكتب. ومن الكتاب المذكور يفهم ان ابن الهائم اشتغل في القاهرة، وانه لما ولى القمني تدريس الصلاحية أحضره إلى القدس، واستنابه في التدريس، وأصبح من شيوخ المقادسة. واستمر في وظيفته التدريسية إلىأن جاء الشيخ شمس الدين الهروي من هراة وكان حنفياً فرأى هذه الوظيفة فسعى اليها، واستطاع أن يأخذها من ابن الهائم. ولكن هذا لم يرق للأخير فسعى جهده لاستردادها، واستطاع أن يجعل ولاة الأمور يقسمون هذه الوظيفة بينهما. ونشأ لابن الهائم ولد نجيب اسمه محب الدين، كان نادرة دهره، ونابغة زمانه، ولكن المنية عاجلته فلم يعش طويلاً ومات صغيراً سنة 800هـ. ومحاسن ابن الهائم كثيرة أهمها تمسكه الشديد بالدين، وكان دائماً لا يترك فرصة دون وعظ أو إرشاد، فتراه في أكثر الأوقات يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، وصار له مقام عند العامة وكان لكلامه وقع في القلوب، وتأثير على النفوس.
(وتوفى ابن الهائم في القدس الشريف في شهر رجب سنة 815هـ ودفن في مقبرة مأمن الله وقبره مشهور) وقد ذهبت بنفسي إلى القدس لأرى القبر فلم أتمكن من العثور عليه بسب أعمال الحفر التي قامت مؤخراً في المقبرة، واتصلت بالعارفين فقالوا إن قبر ابن الهائم كان يقع في الجهة الغربية على بعد بضعة أمتار من البركة وكان القبر مبنياً على شكل غطاء التابوت.
وابن الهائم من الذين درسوا على أبي الحسن علي بن عبد الصمد الجلابري المالكي ومن الذين ألفوا في الفرائض والحساب والجبر وله في ذلك كتب ورسائل قيمة منها:
كتاب شرح الأرجوزة لابن الياسمين في الجبر والمقابلة، ألفه في مكة سنة 789هـ. وهذه الأرجوزة لدينا وقد أتتنا من الوطني العامل الأديب السيد عبد الله بن مكنون من أعيان طنجة بالمغرب، وسيأتي الكلام عنها عند البحث في ابن الياسمين. وله أيضاً رسالة اللمع في الحساب، ولدينا نسخة منها وقد نسخناها عن مخطوطة قديمة موجودة في المكتبة(49/23)
الخالدية بالقدس. ويقول المؤلف (ابن الهائم) في أولها: (. . وبعد فهذه لمع يسيرة من علم الحساب نافعة أن شاء الله تعالى. .) وهذه الرسالة تتكون من مقدمة وثلاثة أبواب يبحث الباب الأول في ضرب الصحيح في الصحيح ويتكون من أربعة فصول، الفصل الرابع منه طريف جداً ويحتوي على كثير من الملح الرياضية في الاختصار وفي ضرب أعداد خاصة في أعداد أخرى بدون إجراء عملية الضرب، ولا بأس من إعطاء مثال (من النسخة) على ذلك، ففي الفصل المذكور يقول المؤلف (. . وللضرب وجوه كثيرة وملح اختصاريه فمنها:. . إلى أن يقول. . ومنه أن كل عدد يضرب في خمسة عشر أو مائة وخمسين أو في ألف وخمسمائة فيزداد عليه مثل نصفه ويبسط المجتمع (أي يضرب حاصل الجمع) في الأول عشرات وفي الثاني مئات وفي الثالث ألوفاً، فلو قيل اضرب أربعة وعشرين في خمسة عشر فزد على الأربعة والعشرين مثل نصفها وابسط المجتمع وهو ستة وثلاثون عشرات فالجواب ثلاثمائة وستون، ولو قيل اضربها في مائة وخمسين فابسط الستة والثلاثين مئات، فالجواب ثلاثة آلاف وستمائة. . .) ويبحث الباب الثاني في القسمة ويتكون من مقدمة وفصل، والمقدمة تبحث في قسمة الكثير على القليل والفصل في قسمة القليل على الكثير، وأما الباب الثالث فيبحث في الكسور ويتكون من مقدمة وأربعة فصول. ولهذه الرسالة شرح لمحمد بن محمد بن احمد سبط المارديني وله أيضاً كتاب (حاوي) في الحساب وكتاب المعونة في الحساب الهوائي، ويتكون من مقدمة وثلاثة أقسام وخاتمة، وله مختصر اسمه الوسيلة وقد رأيته أيضاً على مقدمة وثلاثة أقسام وخاتمة. وقد قال المارديني في آخر شرح اللمع (ومن أراد الزيادة فعليه بالوسيلة لأنها من أحسن المصنفات في هذا الفن. .) وعليها أيضاً حاشية لمحمد بن أبي بكر الأزهري، ولها (أي الوسيلة) شرح للمارديني يسمى إرشاد الطلاب إلى وسيلة الحساب. ولابن الهائم كتاب مرشد الطالب إلى أسنى المطالب ويبحث في الحساب، ويتكون من مقدمة وخاتمة. وقد علم له مختصراً سماه كتاب النزهة. ومن مؤلفاته كتاب غاية السؤال في الإقرار في الدين المجهول، ويحتوي على أمثلة لحلول مسائل مختلفة في الحساب، والجبر، وكتاب المقنع هو قصيدة تتكون من 52 بيتاً من الشعر في الجبر، وقد شرحها في رسالة خاصة، وله رسالة التحفة القدسية، وهي منظومة أيضاً في حساب الفرائض. وكتاب المعونة في(49/24)
السحاب. وقد شرحه المارديني واختصره ابن الهائم برسالة سماها أسنان المفتاح.
نابلس
قدري حافظ طوقان(49/25)
مشروع القرى
وجوب العناية بالقرية المصرية
للدكتور محمد حسين هيكل بك
لا أظن شيئاً مهملاً في مصر إهمال القرية المصرية وإهمال أهلها. فبينما تغدق الوزارات المتتابعة على تجميل المدائن الأموال الطائلة، وبينما تقوم في سبيل شق الشوارع وإقامة العمائر الضخمة فيها، إذا بها تضن على القرى بكل إصلاح أو تنظيم، ولقد لاحظ أهل الريف هذا منذ زمان بعيد، فقامت ضجة كبيرة في البرلمان المصري سنة 1926 حين أريد توسيع شارع الهرم، ونال نواب الريف أغلبية في مجلس النواب لم يتيسر التغلب عليها إلا باجتماع مجلسي البرلمان في هيئة مؤتمر، ومع أن حاجات الريف إلى الإصلاح كثيرة جداً سواء من الجهة الصحية، أو من الجهة التعليمية، فان ما يبذل في سبيله من أموال وجهود يسير على سنة التطور البطيء جداً كأنما يجهل الذين يتبعون هذه السياسة أن ريف مصر يحتوي عوامل النشاط والقوى الحقيقية الحيوية في البلاد، وانه إذا حوربت الأمراض التي تفتك بأهل الريف، وإذانشر التعليم الأولي والابتدائي في ربوعه زاد الإنتاج الاقتصادي، والإنتاج الفكري، بما قدره بعض الأطباء بثلاثين في المائة من مجموع الإنتاج الحالي!!!
لذلك كان العمل الذي تقوم به جمعية مشروع القرى جديراً بأكبر التشجيع من كل إنسان، وكان ما يبذل الشباب من جهود في هذا الشأن حرياً بأن يلقى التشجيع والمعونة من جانب رجال هذه الأمة الرسميين وغير الرسميين، ونحسب الذين زاروا أوربا جميعاً ولم يكتفوا بالجلوس على مقاهي المدن الكبرى كباريس ولندن وكلفوا أنفسهم مؤونة التغلغل في أرياف فرنسا وإنجلترا وألمانيا وغيرها من الدول الأوربية، وقارنوا بين حياة ريف أوربا وحياة ريف مصر أشد شعوراً باستحقاق جمعية مشروع القرى لكل تشجيع، ويحسون في قرارة نفوسهم بشيء كثير من الأسف بل الألم لهذه المقارنة. فالمنزل القروي في أوربا يحتوي من معاني الحياة الإنسانية ما لا نجد له قط نظيراً في أحسن منازل القرى المصرية، والأماكن العامة كالكنائس والمدارس والمستشفيات في قرى أوربا تشهد بأن أهل تلك البلاد يحرصون على هذا المعنى الإنساني وعلى ترقية الذوق الفني في نفوس أهل الريف(49/26)
حرصاً كبيراً، ثم أن الشباب في أوربا يشعر هو الآخر بالواجب عليه إزاء أهل الريف فينظم نفسه جماعات تجول في مختلف أنحاء الدولة التي ينتمي إليها أثناء العطلة الدراسية لتستفيد هذه الجماعات معرفة بلادها معرفة دقيقة، وليستفيد أهل الريف من اختلاط الشباب بهم فتياناً وفتيات اتصالاً بالروح العلمية، والحياة الثقافية، يربط ما بين الريف والعواصم بخير الروابط.
وليس من ذلك شيء في مصر إلى الإطلاق، بل أن المشروعات الحيوية الأولية، كتعميم المياه الصالحة للشرب، وكجعل الأسمدة بعيدة عن القرى، وكتعميم التعليم الأولي إلاجباري، وما إلى ذلك من مثله من أمور تعتبر في الدرجة الأولى بالنسبة للحياة الإنسانية ما يزال مهملاً في مصر، بل ما يزال منظوراً إليه على انه أدنى إلى الكماليات، وتلك نظرة خاطئة جد الخطأ، فإذا أريد بمصر أن تصل إلى نشاط صحيح في حيويتها. فالخطوة الأولى يجب ألا تكون شق الشوارع وإقامة المباني الفخمة في المدن، بل يجب أن تكون العناية بأحوال الريف عناية صحيحة، والعناية في المدن بالتعليم الجامعي الصحيح قبل كل شيء.
فلتعمل جمعية مشروع القرى في حدود البرنامج الذي رسمت لنفسها تلق من غير ريب تشجيعاً صادقاً من كل من يعنيهم الأمر ومن كل من يدركون مصالح بلادهم الحقيقية.(49/27)
مشروع القرى
الإصلاح الاجتماعي في مصر ونصيب طلبة الجامعة
والمدارس العالية منه
للأستاذ عبد الله أمين عضو مجلس إدارة المشروع
قد يخيل إلى المتعجل في الحكم على الأمور أن الشعب المصري قد خطا خطوات واسعات في سبيل التقدم والإصلاح إلاجتماعي، وذلك حين يرى ما في أمهات المدن المصرية لا سيما القاهرة الأم الكبرى، عروس الشرق، من مبان شاهقة فخمة، قد بنيت على أحدث مثال، وأثثت فأفخر الأثاث، ومن أزياء حديثة يختال في حللها القشيبة شبانها وشوابها، رجالها ونساؤها؛ ومن متاجر ودور للملاهي يُعرَض فيها من السلع والمناظر ما يُعرض في متاجر أوربا وملاهيها؛ ومن مصارف وبيوت مالية ومدارس ومستشفيات وأندية وإنزال، وغير ذلك من مظاهر المدنية الغربية الحديثة.
أما المتأمل البصير فلا يرى في شيء من هذه المظاهر دليلا على شيء ذي خطر من التقدم والإصلاح الاجتماعي في مصر، لأنها كلها مظاهر مستعارة من الغرب لا ترتكز في هذه البلاد على شيء من عناصر المدنية التي ترتكز عليها في الغرب، وهي العلوم والفنون والصناعات والذوق المصري والعادات والتقاليد والنظم الموروثة، ولذلك تعد في مصر مظاهر كاذبة. وقد تعاون على استعارتها ثلاث جماعات، هي: (1) النزلاء الأجانب (2) الوطنيون المفتونون بهم، الناسجون على منوالهم، وما أكثر هؤلاء وهؤلاء في أمهات المدن المصرية، لا سيما مصر والإسكندرية (3) والحكومات المصرية المتتابعة. وليس هؤلاء جميعاً هم الشعب المصري.
إنما الشعب المصري هو ملايين الفلاحين الكثيرة المقيمة في القرى المصرية. وإذاجردت أمهات المدن المصرية من مظاهر المدنية الكاذبة أصبحت كالقرى المصرية شبراً بشبر وذراعاً بذراع. وأي شيء في القرى المصرية لا يحتاج إلى إصلاح؟ أمظاهر المدنية أم العماد الذي لا تقوم إلا عليه وهو عناصر المدنية؟ أم أساس هذه العناصر؟
إن كل شيء في القرى المصرية بل في مصر كلها أم المدنية القديمة والحديثة ومطمع(49/28)
أنظار الغرب، ومعقد آمال الشرق، فقير كل الفقر إلى إلاصلاح، فالأخلاق والعقائد وهي الأساس الذي تقوم عليه عناصر المدنية، والمنوال الذي تنسج عليه برودها قد أصيب بالخلل والفساد، فهي فقيرة إلى الإصلاح. والعلوم والفنون والصناعات والآداب والعادات والتقاليد والذوق واللغة والنظم المنزلية والمدرسية والاجتماعية والحكومية وغيرها من عناصر الحضارة لم يبق من محاسنها شيء، فهي أشد فقرا إلى الإصلاح. والأزياء والمساكن والأثاث والمتاجر والمصانع والمزارع والطرق والمتنزهات والأندية والمدارس وغيرها من مظاهر المدنية أصبحت ممقوتة بغيضة إلى النفوس لبقاء أكثرها على ما كان عليه منذ آلاف السنين، ولإنشاء أقلها على مثال غربي لا يلائم أخلاقنا وعقائدنا، فلابد من إصلاحها وإصلاح كل شيء إصلاحاً نحتذي فيه مثال الأمور الصالحة في الغرب، ثم نصبغها بصبغتنا ونجعلها ملائمة لأخلاقنا وعقائدنا ومزاجنا النفسي والعقلي.
وإذ كانت الأخلاق والعقائد هي الأساس الذي تبنى كل أمة عليه حضارتها، وكانت أخلاقنا وعقائدنا محتاجة إلى الاصطلاح كل إلاحتياج، فقد وجب أن نبدأ باصلاحها، فاذا صلحت صلح كل شيء، وان لم تصلح فلا رجاء في إصلاح. ألا تذكر قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). ولا ينبغي لنا أن يعوقنا على التصدر لإصلاح ما في نفوسنا من مفاسد، وما في عقائدنا من ضلال عِلْمَنا أن الأخلاق وهي الصفات النفسية ثابتة في الأمم ثبوت صبغاتها الجسدية، وأنها لذلك لا تتغير إلا بمضي آلاف السنين، وأن العقائد لا تقل عنها ثبوتاً، لأننا إذاأمسكنا عن التصدر للإصلاح لهذا العلم فلن نتقدم له أبداً ولن نبلغ ما نريد أبداً. ولا ينبغي لنا أن ننسى بجانب هذا أن للتغيير عوامل فعالة تجعله سهلاً سريعاً وهي الحروب والنهضات القومية، والثورات الفكرية، وأن النهضة المصرية الحديثة من عوامل التعجيل للإصلاح، وان قيام المتعلمين آباء وأبناء بإثارة الأفكار وتوجيهها في القرى إلى الإصلاح مما يكفل لنا بلوغ المراد منه، فيجب أن نتعاون على هذه الإثارة لنبلغ الأمر الذي نبتغيه.
فإذا نحن أيقظنا بصيحاتنا ودعوتنا النفوس النائمة، وأصلحنا العقائد والأخلاق وهذبناها بما لابد منه من العلم والمعرفة فلنعمد بعد ذلك إلى إصلاح كل شيء إصلاحاً يلائم أخلاقنا وعقائدنا، أو مزاجنا النفسي والعقلي، وإلا وضعنا بجانب كل حجر من أحجار الصرح الذي(49/29)
نبنيه معولاً لهدمه، لأن الأمة التي تستعير مدنية لا تلائم مزاجها النفسي والعقلي لا تلبث أن تهدم ما بنت بثورة منها، وحسبك دليلا على ذلك الثورة البلشفية التي قوضت أركان المدنية الغربية في روسيا، فقد كانت روسيا شرقية في كل شيء، فلما ولى أمرها بطرس الأكبر حملها على تقليد الغرب بالقوة فجاءت هذه المدنية الغربية غير ملائمة لأخلاق الروسيا وعقائدها لذلك هدمتها أخيراً. وبمثل هذا يتنبأ إمام علم الاجتماع في العصر الحاضر (جوستاف لوبون) للمدنية اليابانية التي نقلت عن الغرب في خمسين سنة. وبمثل هذا يمكنك أن تتنبأ للمدنية التركية الحديثة لأنها من عمل الحكومة لا من عمل الشعب نفسه، وقد نقلتها كما هي بلا تهذيب، ولأنها نقلت طفرة لا بالتدريج.
وليس المسئول عن هذا الإصلاح الحكومة وحدها، فان الحكومات لا تقوى على كل شيء. وإن من الناس من يقصر عمل الحكومات على حماية الوطن من اعتداء بعض أبنائه على بعض، ومن اعتداء الأجانب عليه. أما ما عدا ذلك فهو عنده من علم الأمة وحدها، ولئن استطاعت الحكومات أن تعمل كل شيء وحدها فإنها لا تستطيع أن تقوم البتة بالمرافق الكبرى كالزراعة والصناعة والتجارة والتعليم والتهذيب، فان هذا بلا شك من أعمال الشعوب، ولا بأس بمعونة الحكومة فيه
والمسئول من الأمة المصرية عن تحرير ملايين الفلاحين المصريين من مفاسد الأخلاق ومن البدع والخرافات والأوهام والضلالات وتزويدهم بشيء من مكارم الأخلاق ومن العقائد والمعارف الصحيحة التي لابد لهم منها في دينهم ودنياهم ليصبحوا كأمثالهم في البلاد الراقية وليستطيعوا أن يقوموا بإصلاح عناصر المدنية ومظاهرها إنما هم أهل المعرفة من البالغين الراشدين المصريين
لاشك أن العالم مسئول عن أخيه الجاهل، فلو أن رجلين اجتازا طريقاً خطيرة، وكان أحدهما علم بما فيها من خطر ولم يكن الآخر على شيء من العلم بما فيها من خطر، ثم أصابهما فيها صائب من الأذى كان العالم حينئذ هو المسئول عن الجاهل
وإذا كان أكثر طلبة الجامعة والمدارس العالية من الراشدين المكلفين شرعاً وعرفا، كانوا من المسئولين عن الإصلاح الاجتماعي ولا يرفع عنهم هذا التكليف أننا معاشر الآباء العارفين نحمل هذه التبعة لأن الأمر أكبر من أن يقوم به فريق دون فريق، فليس هو من(49/30)
فروض الكفاية التي إذا قام بها بعض الناس سقط عن الباقين. وإنما هو في الوقت الحاضر من الفروض الوطنية العينية التي يجب على كل ذي معرفة القيام بنصيب منها، وقد تكون من الفروض الدينية. وأبناؤنا الطلبة مع ذلك أطهر قلوباً وأخلص نية وأشد غيرة وحمية وأقوى أبداناً ونفوساً، فإذا خلا منهم ميدان الإصلاح فقد خلا من كل شيء
وإنا لا نبغي من أبنائنا النجباء طلاب الجامعة والمدارس العليا أن ينصرفوا عن التزود من العلم وتكميل أنفسهم إلى معالجة الإصلاح في القرى، لأننا إن طلبنا ذلك منهم كنا خاسرين مسرفين نشتري إصلاح الفلاح بإفساد الطبقة الممتازة التي نعلق عليها كل الآمال، وإنما نريد من أبنائنا الطلبة النجباء عُدّة الوطن وأعظم كنوز ثورته أن يقسموا أوقاتهم وجهودهم على ثلاثة أمور لا رابع لها وهي: (1) طلب العلم. (2) الرياضة البدنية واللهو المباح اللذين لابد منهما لحفظ الصحة وتجديد القوى والنشاط (3) خدمة الوطن من أحسن الوجوه وهو نشر العلم والفضيلة بين سواده الأعظم في القرى
أما البطالة والكسل والخمول فقد آن أن يكون بين أبنائنا وبينها ما بين المشرقين من بعد في هذا الزمن العصيب الذي يستهدف فيه للفناء كل إنسان وكل جماعة لا يكون شعاره وشعارها الجد، الاجتهاد، اليقظة، الاستقامة، العمل، التقدم. وانه ليعز علينا أن ينصرف فريق من شبابنا في أيام الدراسة وفي أيام العطل إلى اللهو غير المباح والى الكسل والخمول ناسين أنفسهم ووطنهم. وان أخسر الناس صفقة وأعظمهم غبناً في رأيي شاب آتاه الله قوة الشباب وسلامة الأعضاء والصحة وفراغ البال ورزقه من يعلوه ويكلف أموره ومهدت له سبل الاستفادة والإفادة، ثم هو مع ذلك يضيع هذه الهبات الثمينة والمواهب العقليلة التي من بها الله عليه من اللهو والبطالة فلا هو ينفع نفسه ولا ينفع غيره. لا بل قد. قد يكون بلاء على نفسه وعلى غيره
وما أشبه المصريين الآن بركاب سفينة تسير بالمجاديف مع طائفة من سفن أخرى لا أقول تسير بالبخار، وإنما أقول إنها تسير بالمجاديف مثلها، تلك السفن هي دول الغرب. وتسعة أعشار من في السفينة المصرية نيام نوم أهل الكهف، والعشر المستيقظ هو الذي يسير السفينة وحده، على حين أن ركاب كل سفينة أخرى يتناوبون العمل بينهم، فلابد لسواعد المصريين من الكلال ولابد لعزائمهم في النهاية من الخور، ولابد لسفينتهم من الانقطاع(49/31)
عن السفن الأخرى. وأنت عليم بما يصيب هذه السفينة المنقطعة من البلاء
ولو أن هذا العشر أيقظ تسعة الأعشار لاستغلّ جهودهم ولوصل بالسفينة وهي مصر إلى حيث تصل السفن الأخرى وأصبحت بنجوة من المهالك ونجا هو ونجوا هم معه. وليس ما يبذل من جهد ومال في تهذيب العامة وإصلاح شأنهم بكثير وان عظم. ولو علم الناس ما في تركهم أبناء وطنهم فريسة للجهل وللضلال وللفقر وللأمراض الجسدية والنفسية من الأخطار المحققة التي لا يمكن أن يسلم منها مجموع الأمة لافتدوا سلامتهم بأموالهم وأنفسهم، فما أشبه أبناء الوطن الواحد بأبناء أب واحد، عنى بتربية فريق من هؤلاء الأبناء فشبوا مهذبين قادرين على كسب قوتهم من أحسن الوجوه، ثم أدركته الوفاة قبل أن تشتد سواعد الفريق الآخر ويربيهم، ثم أهمل أخواتهم تربيتهم فشأوا جهلة مرضى النفوس عجزة عن كسب أقواتهم. فلا شك أن الفريق الأخير يصبح عالة على الأول مسئولا منه شرعاً وعرفا، فهو إما أن ينهض بأعبائهم، وإما أن يستهدف لخطرهم ويكون هو أول فريسة لهم يسلبونه ماله وراحته وربما سلبوا روحه، وما أكثر ما يمثل أمامنا من آن لآخر من هذه الحوادث
فيا أيها الشبان المتعلمون النجباء، يا رجال المستقبل القريب، اعملوا من الآن على إيقاظ تسعة أعشار المصريين إخوانكم لئلا يكونوا عالة عليكم غداً، بل ليكوا عوناً لكم على إحياء الحضارة وإصلاح كل فاسد، واحذروا أن تشتروا العاجل بالآجل بأن تؤثروا ساعات تقضونها في اللهو والكسل والخمول الآن على راحة المستقبل وسعادة المستقبل، وتعالوا إلى الميدان الذين فتحه لكم إخوانكم الأمجاد أعضاء اللجنة التنفيذية لمشروع القرى وجال فيه جولات صادقات في هذه العطلة الصيفية أبطال من ذوي العزائم هم إخوانكم المتطوعون لمشروع القرى فكان هؤلاء وهؤلاء من المجاهدين السابقين الأولين الموفقين. تعالوا واعملوا لوطنكم منذ الآن تحت العلم الخفاق الذي يحمله علم مصر وفخرها في القرن العشرين أبو الطب غير منازع ولا تدافع، الدكتور علي باشا إبراهيم واذكروا قول الشاعر
املأ الدنيا بما تسطيع من ... عمل يبقى إذا العمر ذهب
إنما الأعمال تاريخ الفتى ... تقرأ الأجيال فيه ما كتب
تعالوا واعملوا للخير، وفقكم الله لإسعاد أنفسا ولإسعاد وطنكم وأبقاكم ذخراً له.(49/32)
عبد الله أمين(49/33)
بين المعري ودانتي في رسالة الغفران والكوميدية
المقدسة
بقلم محمود احمد النشوي
الوطنية لدى الشاعرين
رأينا فيما عرضنا له من وطنية شاعر الطليان أنه كان يخلق المناسبات ليصدع بشعوره نحو بلاده ووطنه، فيحاور شخصيات وايته في جرائمهم الوطنية، ويتخيل لهم من صنوف العذاب ما تقشعر لهوله الأبدان، وفي الحق أن وطنية دانتي ملكت عليه كل نفسه، وسأقص عليك حديثاً طرز به كوميدتيه، فكان حليتها وزينتها، وسأعرض عليك تلك الأنشودة لتعلم أي حد بلغت به وطنيته، وأي مقدار بلغه النزاع والفشل بين الطليان في عهده، وكم برح بهم الظلم، وهدت من أركانهم الفوضى، ثم تقرن حالهم بالأمس بحالهم اليوم لتعلم أن الأمم تسقم وتبرأ، وتضعف وتقوى، فلا يخالج اليأس نفسك، ويمتد بك الأمل فتوقن باليوم الذي تتبوأ فيه بلادك مركزها تحت الشمس مستعيدة عصر صلاح الدين، وأيام رمسيس.
فبينا دانتي يجوب (الأعراف) مع فرجيل إذا بروح نبيل يرمقهما ملياً، ثم يسألهما قائلا: من أنتما أيها القادمان؟ فيكون تعارف يعقبه عناق، وإذابهذا الروح روح الشاعر سوردلو مواطن فرجيل، ولم يكد يعرفه حتى انتحى به قليلا يحدثه، وبقى دانتي منفرداً يفكر في لقاء المواطن للمواطن، ومحبة ابن الشعب لابن الشعب. فثارت شاعريته، وصدح بما خلدته الأجيال، فقال:
(لك الله يا إيطاليا، أيتها الأمة الذليلة المستعبدة، يا موطن الآلام وميدان المظالم، لقد أصبحت وكأنك سفينة بغير ربان ينقذك وسط هذه الزوبعة، ويقودك إلى شاطئ السلامة وبر الأمان، إن هذه الروح الكريمة قد وقفت تحتفل بمواطنها بمجرد أن سمعت باسم وطنها، بينما أنت لا يستطيع أبناؤك الأحياء أن يعيشوا دون أن يتقاتلوا ويحارب بعضهم بعضا، وحتى أبناء المدينة الواحدة قد أخذوا يتخاصمون ويتنازعون!
أنظري أيتها البلدة التعسة الذليلة، وابحثي في كل بحارك وجبالك ووديانك وفي كل ناحية من نواحيك، فهل ترين جزءاً واحداً يتمتع بالسكينة والراحة والسلام؟ آه. إنك لو قيض الله(49/34)
لك حاكما أو رئيساً حازماً لحسنت حالك، وهدأ بالك، ولكن القياصرة يعيشون بعيدين عن أرضك التي سيئول أمرها لا محالة إلى الخراب والدمار. إن روما تبكي وتستغيث بالإمبراطور، وكل بلاد إيطاليا قد امتلأت بالظلمة قساة القلوب، وفي فلورنسا أصبحت الأحوال أسوأ منها في أي مكان آخر؛ فقد تسن فيها القوانين ولا تلبث أن تلغي بين عشية أو ضحاها، وأصبحت كالمريض الذي ألح عليه الداء، وأعوزه الدواء، وأخذ يتقلب من جنب إلى جنب لكي يخفف من آلامه وعذابه دون أن يشعر بالراحة أو يذوق لها طعما).
أفرأيت إذا كيف كان دانتي حدباً على وطنه يندبه ويبكي انقسامه واضطرابه، وضعف قوانينه وتذبذبها بين الإلغاء والوضع كل عشية وضحاها؟
فلو أنه بعث الآن من مرقده ورأى بلاده اليوم وهي تنعم بالقوة وبالمنعة لقرت عيناه، ولرفأ مدمع كان هتاناً على وطن ملكت فكرته عليه كل شعاب نفسه.
الانتحار في الروايتين
كلا الشاعرين ذم هذا المرض الفتاك، وثار على ذلك الداء الوبيل؛ وما كان شاعر المعرة بالذي لا يعرض للانتحار: يهجنه ويزري به؛ فقد افتن في الزراية به بعبارة احتفل بها، وأسرف في احتفاله، فكانت جد غامضة ومبهمة. وما نحسب أن كثيراً من الأدباء يستشف غرض أبي العلاء دون أن يلحق به كبير من عناء ومن جهد. على أن في تهذيب الأستاذ كامل كيلاني لرسالة الغفران، وفيما حلى به جيدها من شرح وعنوانات، ما يجعل الطريق أمام روادها معبداً شائقاً إلى حد كبير.
ورغماً من أغراب أبي العلاء هنا فانك تراه جانف الخيال، وسلك سبيل الفلاسفة والحكماء؛ فجعل يبرهن ويعلل متخذاً من جهالة الإنسان بمصيره بعد الموت، ومن تقلبات الأيام وابتسامها بعد العبوس أدلة يهجن بها الانتحار، ويقبحه. وإني ذاكر لك شيئاً من قوله في ذلك، فاستمع إليه حين يقول: (قد كدت ألحق برهط العدم، من غير الأسف ولا الندم؛ ولكنما أرهب قدومي على الجبار، ولم أصلح بخلتي بأبار. وقيل لبعض الحكماء: إن فلاناً تلطف حتى قتل نفسه، وكره أن يمارس بدائع الشرور، وأحب النقلة إلى دار السرور. فقال الحكيم قولاً معناه: أخطأ ذلك الشاب المقتبل، له ولأمه يحق الهبل، هلا صبر على صروف الزمان، فانه لا يشعر علام يقدم، ولولا حكمة الله جلت قدرته، وأنه حجز الرجل عن(49/35)
الموت بالخوف من العلز والفوت، لرغب كل من احتدم غضبه، وكل عن ضريبة مقضبه أن تترع له من الموت كؤوس)
أفرأيت في حديث أبي العلاء كيف سلك سبيل الحكماء، وكرر معنى ذكره في لزومايته، ذلك المعنى هو رهبة ما بعد الموت، وصدها عن ورود حوضه حين يقول:
لو لم تكن طرق هذا الموت موحشة ... مخشية لاعتراها القوم أفواجا
وكان من ألقت الدنيا إليه أذى ... يؤمها تاركاً للعيش أمواجا
فما هو سر ذلك وما سببه؟ أكبر الظن أن سر ذلك هو وقوع ذكر الانتحار في الرد على رسالة ابن القارح بعد أن انتهى حديث الفردوس والجحيم. ولقد نرى أبا العلاء يتطاحن خياله، بل يودعه خياله حين يودع الجنان والنيران، وحين يأخذ في الرد على ما جاء في رسالة ابن القارح وما فيها من أشخاص يساجله الحديث عنهم، ويزيد عليه بسطاً في القول، والمساجلة في الشخصيات وفي تواريخها، وفي المذاهب والعقائد أبعد شيء عن الخيال، وأحوج شيء للعبارة البينة في دلالتها، السافرة عن غرضها
ولكن دانتي يحدثنا عن الانتحار وهو في دوره الثاني من الطبقة السابعة في جهنم فأعمل خياله في تهجينه، ووصف عذاب المنتحرين وصفاً يبعث في الجلود قشعريرتها، وفي القلوب هلعها.
وموعدنا بالحديث عن ذلك العدد القادم.
محمود احمد النشوي(49/36)
3 - أعيان القرن الرابع عشر
للعلامة المغفور له احمد باشا تيمور
مصطفى باشا الخزينة دار
جركسي الأصل، اشتراه عزت باشا، أحد الصدور في زمن السلطان محمود الثاني، ورباه صغيراً في القسطنطينية، ثم أتى به إلى مصر سنة 1252، فاشتراه كتخداها عباس باشا بن طوسون باشا بن محمد علي باشا، وحظي عنده حظوة عظيمة، وقدمه إلى سائر مملوكيه، ولما تولى إبراهيم باشا بن محمد علي على مصر سنة 1264 استأذن منه عباس باشا في السفر إلى الحج فسافر إلى الحجاز وأقسم بأنه لا يعود لمصر ما دام عمه والياً عليها، لوحشة وقعت بينهما، وأخذ المترجم معه، فلما وصل إلى مكة وأدى فريضة الحج وصل إليه البشير بموت عمه إبراهيم باشا، وتوليته مكانه، وصادف ذلك موت خزينة داره راغب أغا الموره لي فأقام المترجم بدله وأعتقه، ولزمه من ذلك الحين لقب الخزينة دار، ثم جعله رئيساً لمملوكيه، وأنعم عليه برتبة أميرالاي، ووظف له ألف دينار مصري في السنة، وعاد معه إلى مصر، فكبر شأنه، وعظمت منزلته بين الأمراء، وأمر ونهى في الولاية، وحل عند سيده بمنزلة كبيرة، حتى أمر أن يكون أمر المترجم كأمره نافذاً لا يرد في كافة الدواوين، وكان يقول له أنت يا مصطفى مثل أولادي، والمترجم لا يقابل ذلك إلا بالصدق والاخلاص في الخدمة، والوالي يوالي بره، ويزيد في إعزازه، حتى أمر أن يركب مثل ركوبه في موكب بجند وحاشية، فاستعفى من ذلك وقال: عبدكم يكفيه ركوب جنديين يستخدمهما في خدمة أفندينا فقبل منه وأعفاه، وتسامع الناس بذلك فلامه بعض أخصائه على إبائه هذا الشرف العظيم، فقال له أنتم جهلاء لا تقرأون العواقب، أما تعلمون انه إذامات أو غضب عليّ أسلب هذا الشرف وينحط قدري بين الناس، أفليس الأولى لي أن أبقى على حالة واحدة لا أغيرها؟
وكان المترجم ميالاً لفعل الخير يسعى فيه جهده، ويروي انه أنقذ نحو ثلاثمائة شخص من القتل والنفي لنفاذ كلمته عند الوالي
ويروي أن عباساً باشا غضب مرة على احمد باشا المنكلي، وكان من جلة القواد، فجفاه الناس، وخصوصاً الأمراء على عادتهم مع من يغضب عليهم الولاة، حتى يبلغ بالواحد انه(49/37)
لا يستطيع المرور أمام دورهم، واتفق ان المنكلي ذهب يوم العيد إلى العباسية لمقابلة الوالي وطلب العفو، فلقي إعراضاً من الحاشية ونفوراً، ورآه المترجم على هذا الحال فصعب عليه مكانه لما كان يعلمه عنه من علو المنزلة عند الولاة السابقين، فأسرع إليه وأكرمه وأمر له بالقهوة والدخان، وجلس بين يديه متأدباً، ونمى الخبر لعباس باشا فغضب واستدعى المترجم ووبخه على إكرامه رجلاً مغضوباً عليه منه، فتلطف معه وقال له: حلم أفندينا أكبر من كل ذنب، وهذا الرجل تعلمون حسن بلائه في الخدمة، وقد جرأني هذا الحلم بأن سكنت روعه وأخبرته برضاكم عنه، وإنكم دائماً تذكرونه بالخير وتقولون هذا رفيقنا بالشام يوم كنا مع عمنا في المحاربة، وأفندينا اكرم من ألا يقبل شفاعة عبده فيه، فضحك عباس باشا وقال لا بأس عليه قد عفوت عنه، ثم استدعاه فدخل وقبل الأرض من شدة فرحه، ودنا منه حتى قبل قدمه، فأجلسه وبش في وجهه وقال له أنت (أرقداش) ثم صرفه شاكراً مسروراً.
ثم لما مات عباس باشا بقى المترجم خزينة داراً لدائرته زمناً قليلا، وتولى محمد سعيد باشا على مصر وكان بالإسكندرية فتأخر بها خمسة أيام خوفاً من أن تغتاله شيعة عباس باشا إذاحضر إلى القاهرة، لما بلغه من أن الألفي يريد تولية الأمير الهامي باشا بن عباس باشا، فتأخر حتى كتب له الأعيان والأمراء بالطاعة وأرسلوا كتابهم اليه، وفيه توقيع المترجم، فاطمأن وحضر إلى القاهرة ونزل في قصر شبرا عند أخيه حليم باشا، فبات عنده ليلة لم يهنأ فيها بنوم، وأخبر أخاه انه بلغه عن المترجم ان عنده في العباسية خمسمائة فارس بسلاحهم، وانه يخشى من هجومه بهم على القصر قصد اغتياله، فصرف عنه أخوه هذا الوسواس، ثم طلب المترجم بعد ذلك إلى القلعة وخرج إليه حسن باشا المناسترلي، وقال له أفندينا يعلم انك رجل عاقل فما هذه الخمسمائة الفارس التي عندك بالعباسية؟ أتحاول أن تحدث بهم أمراً، أو تجدد لك ملكا؟ فقال معاذ الله من ذلك، إنما أنا عبد من عبيد أفندينا، وكل ما سمعه عني زور وبهتان من سعي المفسدين، وبعد، فهل هذه الفرسان في بطن الأرض أو فوق ظهرها، وكيف خفي عليكم أمرها، نحن ليس عندنا غير عشرين فارساً لحفظ قصور الحرم، فتبين لهم صدقه، ثم لما أراد سعيد باشا السفر إلى دار السلطنة لشكر السلطان على توليته على عادة ولاة مصر من بني محمد علي مع سلاطين آل عثمان وجد(49/38)
خزانة مصر خالية من المال، فطلب من المترجم إقراضه خمسين ألف دينار من أموال عباس باشا التي بيده فأبى وتوقف وقال: إنما أنا أمين عليها، وصاحبها الهامي باشا باستنبول، ولا يجور لي التصرف في ماله بغير اذنه، فتداخل بعض الأمراء في الأمر، حتى رضى بإقراضه القدر المذكور بشرط أن يكتب صكاً به ويوقع عليه، ففعل وأخذ المال، ولما حضر الهامي باشا من دار السلطنة أعطاه المترجم الصك وقال له: هذا المال أخذه عم أبيك، فان شئت طالبته به، وان شئت تجاوزت له عنه، فعدت هذه الحادثة من مواقف المترجم المحمودة.
وبقى المترجم خزينة دارا لالهامي باشا حتى رآه ينفق أمواله في غير وجهها، فنصحه بأنه إذا دام على هذا الحال لا يبقى ولا يذر شيئاً مما تركه والده، وأوصاه بالحزم، وقال له في عرض كلامه يا سيدي أنا لا أنهاك عن الكرم والإحسان إلى الفقراء، ولكني أنهاك عن الإسراف والتبذير والإنعام على صغار الخدم بهذه الجواهر والنفائس الثمينة التي نراها في أيديهم كل يوم، ولما رأى إعراض الأمير عنه وتماديه فيما هو فيه استعفى من منصبه ولزم داره التي بالتبليطة. ثم بدا له السفر إلى دار السلطنة فسار إليها وعلم السلطان عبد المجيد بن محمود بمقدمه فطلبه إلى القصر، ولكنه لم يقابله بل أمر أولاده الأمراء مرادا وعبد الحميد ورشادا بإكرامه فقابلوه ولاطفوه، ثم قيل له إن في نية السلطان الإنعام عليه برتبة باشا وأشير عليه بعدم السفر فلم يوفق للإقامة بل سافر بغير إذن إلى الحجاز، فحج وعاد لمصر، وكان الوالي سعيد باشا أرسل إلى كامل باشا زوج أخته الأميرة زينب هانم أن يراقب المترجم مدة وجوده بدار السلطنة لأنه يوجس من سفره خيفة، فأعلمه أنه تحقق من أن الرجل ليس له مقصد سوى التنزه والسياحة فقط. وأراد سعيد باشا مرة استخدامه فشكر ولم يقبل، ولما تولى إسماعيل باشا على مصر أنعم عليه برتبة ميرميران وأمر باستخدامه عضواً في مجلس الأحكام فاعتذر عن إلاستخدام وقال للرسول ان كنتم تجبروني على الخدمة لأجل رتبتكم فهاك (فرمانها) أرده لأفندينا فاقره إسماعيل باشا على الرتبة وأعفاه من الخدمة.
وبقى بعد ذلك في داره وينتقل تارة إلى ضياعه يراقبها وينفق من غلتها حتى وافاه أجله فمات محمود السيرة عف السريرة قليل الشاكين كثير الشاكرين لا يقطع فرضاً ولا يقصر(49/39)
عن نافلة مع إحسان للفقراء وسعة في النفقة من غير تقتير ولا اسراف، وخلف ثروة واسعة وأموالاً طائلة من غير عقب لأنه لم يتزوج في عمره إلا بنت راغب آغا سلفه في الخزينة دارية، وكان إلهامي باشا أراد أن يزوجها لشكيب باشا مدير ديوان الأراضي الأميرية فلم تقبله واختارت المترجم فتزوجها وانتقل إلى دارها فأقام معها نحو ثلاثة أعوام ثم فارقها بكرا لم يبن بها رحمه الله تعالى.(49/40)
الشيخ محمد أكرم الأفغاني
هو الشيخ الأجل، والعالم العامل، القدوة الورع، نزيل القاهرة أصله من القبيلة الأفريدية النازلة في مضيق جبل حيدر المشهور الآن بجبل خيبر الفاصل بين الهند وبلاد الأفغان، ولد ونشأ به، ثم رحل إلى الهند لطلب العلم وهو في الحادية والعشرين، فورد لكنهوه وهي حافلة بالعلماء، فقرأ العربية والمنطق والحكمة والعقائد والتصوف والفقه الحنفي والطب والرياضيات على الطريقة القديمة حتى صار من الفحول المشار إليهم مع العفة والتقوى والتشدد في الدين. ثم ساح في أغلب بلاد الهند وجعل اكثر إقامته في لكنهوه، ثم بدا له السفر إلى الحجاز لقضاء فريضة الحج فسافر إليه حوالي سنة 1272 وقعد قضاء المناسك ورد على مصر ونزل بالأزهر برواق الأفغانية المشهور برواق السليمانية، فاجتمع به هناك جلة العلماء مثل الشيخ حسين المرصفي وغيره، وبلغ خبره محمداً أفندي الأفغاني المشهور بالكشميرجي تاجر المطارف الكشميرية بجوار خان الخليلي فاجتمع به وصوب له الانتقال إلى مكان فوق حانوته فاكترى به محلا وانتقل إليه وأقام به نحو تسعة أشهر، وتسامع به الأكابر مثل حسن باشا المنسترلي كتخدا مصر وإسماعيل باشا عاصم، فسعوا إليه وزاروه، وبلغ خبره الأمير احمد باشا رفعت ابن إبراهيم باشا والي مصر من محمد أفندي الأفغاني فاشتاق لرؤيته، إلا أنه كان على قدم السفر إلى ضيعة له فأرسل له خمسة وعشرين ديناراً حباه بها.
ثم سافر المترجم إلى دار السلطنة واجتمع هناك بعارف حكمت بك الذي كان شيخاً للإسلام وبغيره من العلماء، فظن عارف بك أن مجيئه لطلب منصب علمي أو فتح (تكية) أو نوال صلة، وسأله عن ذلك ووعده بالمساعدة فعرفه المترجم حقيقة أمره، وانه ما ورد إلا للسياحة. وأقام بدار السلطنة نحو عشرة أشهر، ثم سافر منها إلى الشام، ومر بأزمير وتسامع به علماؤها فحضر له كبيرهم إلى السفينة، وسأله النزول وألح عليه فقبل، وأقام عندهم عشرة أشهر أخرى قرأ لهم فيها ديباجة الفتوحات المكية. ثم سافر على غير رغبتهم إلىالشام، فلقى من علمائها إكراماً زائداً واحتفالاً كبيراً لا سيما من كبيرهم الشيخ سليم العطار، وتلقوا عنه بعض رسائل منها تشريح الأفلاك في الهيئة، وفصوص الحكم لابن العربي، ثم أراد الشخوص إلى بغداد، ولكنه استصعب السفر إليها براً لكبر سنه وبدانة جسمه، فعول على السفر إليها بحراً، وأتى مصر بنية السفر منها في البحر الأحمر وخليج(49/41)
فارس إلى البصرة ومنه إلى بغداد، فلما وردها أنزله السيد احمد الحسيني شيخ طائفة النحاسين بداره وقام بشؤونه أتم قيام، وتراخت عزيمة المترجم عن السفر، وبدا له أن يتخذ القاهرة دار إقامة ما شاء الله تعالى فانتقل إلى 012 مكان اكتراه بخان الخليلي وأقام به بضع سنوات منكمشاً عن العالم مقبلا على شأنه، مواظباً على الإقراء والتدريس، ولم يكن معه غير أحد تلاميذه، وعلى هذا التلميذ قرأ شيخنا العلامة الشيخ حسن الطويل خلاصة الحساب لبهاء الدين العاملي.
ثم لما كانت ولاية إسماعيل باشا على مصر أجرى على المترجم عشرة دنانير في الشهر تصرف له من الحكومة، واستصوب أبو بكر راتب باشا ناظر الأوقاف إذ ذاك انتقال الشيخ إلى مدرسة محمد بك أبي الذهب التي بجوار الأزهر فانتقل إليها وسكن بها في قاعة الشيخ الصبان الذي كان موقتاً لهذه المدرسة، وأقام المترجم بها نحو أربع سنوات، ثم وافاه أجله المحتوم في ربيع الثاني سنة 1287، وقد جاوز التسعين ودفن ببستان العلماء في مقبرة المجاورين ومات من غير عقب لأنه لم يتزوج في حياته.
وكان ربعة أبيض اللون واللحية كثهاً، كبير الهامة، بديناً مهيباً إذاسار في الطريق قام له الناس من يعرفه ومن لا يعرفه، حليماً متواضعاً عفيف النفس زاهداً، مع كمال عقل وحسن فراسة. وكانت له اليد الطولى في كافة العلوم، وكان الشيخ مصطفى العروسي شيخ الأزهر يعرف له قدره، ويزوره بمدرسة محمد بك. ولما مات الشيخ الباجوري وبقى الأزهر بلا شيخ اكتفاء بالوكلاء، ولهج الناس بضرورة إقامة الشيخ قال الشيخ الأشموني لو استشرت في ذلك ما رضيت بسوى الشيخ محمد أكرم، فانه رجل له جانب مع الله، وبلغ المترجم قوله فتبسم وقال مالي وأزهرهم، لو عرضوا عليّ ولاية مصر ما قبلتها، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.(49/42)
من طرائف الشعر
طيور الأماني
للشاعر الوجداني الرقيق احمد رامي
الاهداء
إلى محراب أفكاري ... ومهبط وحي أشعاري
إلى القلب الذي حرّ ... ك بالأشجان أوتاري
إلى جنة أحلامي ... إلى نزهة أبصاري
إلى الروح التي أحيت ... مُنى نفسي وأوطاري
إلى الفجر الذي رصع ... بالأنداء نوّاري
إلى الطير الذي آنس ... بالتغريد أسحاري
أقدم كأس أشعاري ... وأهدي غضّ أزهاري
احمد رامي(49/43)
طيور الأماني
هتفت في الدجى طيور الأماني ... باكيات على النعيم الفاني
حائرات العيون رفّافة الأ ... جنح مطرودة عن الأفنان
كلما أوشكت تقارب غصناً ... ذادها حاصب عن الأغصان
أو أسفّت تريد نقع ظماها ... حلأَتها الأيدي عن الغدران
فهي الدهرّ حائمات ترى الأ ... ثمار والماء نائيات دوان
ولو ان الرياض خلو لعزّت ... نفسها بالقنوط والسلوان
غير أن الغصون ناضجة الأ ... ثمار والنهر طافح الفيضان
هكذا نحن في الحياة نريد ال ... صفو فيها والصفو نائي المجاني
ونريد النعيم فيها ومن دو ... ن منانا سدّ من الحرمان
ونشيد البنى من الأمل السا ... مي وفأس الزمان في الجدران
ونبثُّ البذور في الأرض وال ... دهر ضنين بالعارض الهتان
ومن الزرع باسق حفت الأ ... ثمار فيه وماجنتها يدان
ومن الماء دافق جف فوق ال ... أرض ما مس قطره شفتان
لهف نفسي على شباب ذوي قب ... ل كمال واجتثّ قبل الأوان
وضياء خبا ولم يك هدياً ... للذي ضلَّ في سبيل الزمان
لو نظرنا إلى الحياة بعين ال ... حق راحت بالكره والشنآن
غير أنَّا نعيش فيها بآما ... ل تسرّى لواعج الأشجان
وإذا أخطأت ظنون فيا رُ ... بّ ظنون تريح قلب العاني
فلنعش بالمنى فكم صدع ال ... بدر حجاب السحابة المِدجان
ولنعش بالمنى فكم سقت ال ... أنواءُ ذاوي الثمار والأغصان
ولنعش بالمنى فكم جرت ال ... أقدار بالعزّ بعد طول الهوان
فارفعي الصوت بالغناء قليلاً ... بدل النوح يا طيور الأماني
احمد رامي(49/44)
هند
للأستاذ محمود خيرت
ومخلْخَلاتٍ يستبِينَك كلما ... يخطُرْنَ في روض الملاحة عِينا
وقدُودُهنَّ من الرماح وإِن تكن ... في مثل عود الخيزرانة لِينا
كم خلّفت ألحاظُهنَّ نصبْنَها ... شرك الهوى في الآمنين طعينا
يَمَّمْنَ نحو النهر ذات عشِيّة ... بجرارهنَّ ورُحن يستَسقينا
والأرض ترقص تحتهن صبابةً ... والنهر مرتقبٌ يحنُّ حنينا
والبدر يُرسل من سماء جلاله ... نوراً كذرَّات اللجين خَفِينا
ويمُدُّ ظلاًّ خلفهنَّ كأنه ... ذيلٌ فيمشي كلما يمشينا
قد كُنَّ يقطعْنَ الطريق وقد نأى ... بالسير حيناً والتوقُّفِ حينا
والأُنس يكسو حسنهن بشاشةً ... كان الشبابُ بها لهُنَّ مَدِينا
حتى اقتربْنَ فعندما أبصَرْنني ... أجفلْنَ حتى كِدْنَ يستلقينا
وقد انتثرْن على الخميلة أنجماً ... وشرَدْن مني يسرة ويمينا
إِلا فتاةً كالنعيم نضارة ... والظبى جيداً والصباح جبينا
قالت عجيبٌ أن أراك على مَدى ... ما بيننا وقد احتجبتَ سِنينا
فأجبتُها يا هند بُعْدُكِ شفَّني ... ولقد ظللْتُ على هواكِ أمينا
أين الكناس نبثُّ في أركانه ... وجداً بمشبُوبِ الضلوع دفينا
ونُعيد سيرةَ ذلك العهد الذي ... غرسَتْ لياليه الصَّبَابةَ فينا
فتراجعَتْ جَزَاعاً تُكفكِفُ دمعَها ... كالدرِّ فوق الوجنتين سخينا
وقرأْتُ في إطراقها وخُفُوقها ... أن الكناس غدا يضمُّ عرينا
وكأنما خَشِيَتْ عليَّ فطوّقت ... عُنُقي مُسارعةً تئنُّ أنينا
وجرَتْ علَى شفتيَّ منها قُبلةٌ ... حرّاء كان بها السُّعُود ضنينا
إِنّي لأَذكرُها الزمانَ، فعندَها ... نسِىَ الزمانُ وجوده، ونسينا
محمود خيرت(49/45)
من الأدب الإنجليزي
الشعر عند ماكولي
للأستاذ محمود الخفيف
للكاتب الإنجليزي العظيم اللورد ماكولي طريقة انفرد بها في عرض آرائه والدفاع عنها، فقد أوتى بسطة في العلم، وامتاز إلى جانب عبقريته بقريحة وقادة، وذاكرة عجيبة، هذا إلى روعة في الأسلوب، وسلامة في المنطق، ولباقة في سوق المقدمات وضرب الأمثلة واستخلاص النتائج.
كتب رسالة عن الشاعر ملتن، وضح فيها آراءه في الشعر وتناول الموضوع من جميع نواحيه، ولقد أشار في رسالته إلى بعض المسائل التي يختلف فيها شعراؤنا وأدباؤنا اليوم.
كان ماكولي شديد الإعجاب بالشاعر الكبير، ولذلك أحفظه ما كتبه النقاد عنه وانبرى للرد عليهم في ماسة استثارت عبقريته وأيقظت قريحته. رأى هؤلاء النقاد يسلكون السبل الملتوية للحط من قيمة الشاعر، فبينما هم يسلمون في غير تحفظ بأن آثاره جديرة بأن تأخذ مكانها بين أعظم الآثار التي أنتجتها العقول البشرية، إذابهم يأبون على الشاعر أن يتبوأ مكاناً بين فحول الشعراء كهومير ودانتي وفرجيل وإضرابهم، وحجتهم في ذلك أن هؤلاء نشاؤا في عهد طفولة المدنية، فلم يكن لهم من المعارف مثل ما كان لملتن الذي نشأ في عهد مستنير وتلقى علماً منظماً، واطلع على كثير من آثار المتقدمين، ولكنهم على الرغم من ذلك قد تركوا للعالم آثاراً تجل على المحاكاة، فكانت شاعريتهم طبيعية تتجلى فيها الأصالة، وتشع منها العبقرية، ولا يمكننا على ذلك أن نضع ملتن في صفهم، بل إنه لينبغي علينا إذاأردنا الأنصاف أن نحسب على ملتن، عند قياس شاعريته، كل ما أتيح له من ظروف طيبة.
يسرد ماكولي آراء خصوم الشاعر ثم يعلن في حماس ويقين أنه على الرغم مما يقولون يقرر أنه ما من شاعر قد اضطر أن يغالب من الظروف أسوأ مما اضطر ملتن إلى مغالبته، حتى لقد كان يخيل إلى الشاعر أنه خلق متأخراً عما كان ينبغي له بأجيال، ذلك لأنه كان يحس أن شاعريته لم تستفد شيئاً من الثقافة التي تثقفها، بل إنه كان يتطلع بعين ملؤها الأسف إلى تلك العصور التي فاتته، عصور الكلمات البسيطة والتأثير العميق!(49/46)
يأخذ ماكولي في الدفاع عن رأيه هذا فيجره الدفاع أولا إلى العلاقة بين العلم والمدنية. ما حال الشعر في عصور التقدم؟ وكيف كان حاله في العصور السابقة؟ وهل لتقدم المدنية تأثير مطرد فيه؟
يقرر ماكولي أنه كلما تقدمت الحضارة، انحط الشعر تبعاً لذلك التقدم، ولهذا فانه إذا أعجب بتلك الآثار الشعرية التي جادت بها الأخيلة في العصور المظلمة، فليس إعجابه بها قائماً على أنها وليدة تلك العصور، كلا. فانه يعتقد أن البرهان القاطع على العبقرية إنما هو قصيدة عظيمة تظهر في عصر من عصور المدنية والتقدم، في عصر من عصور الفلسفة والتفكير.
وان الذين ينكرون هذا المبدأ ليخدعون أنفهسم في رأيه، ذلك أنهم ينظرون إلى الفنون نظرتهم إلى العلوم التجريبية والعقلية، فيقيسون الجميع بمقياس واحد متخذين تقدم العلم والفلسفة دليلا على تقدم الشعر والتصوير مثلا، وفات هؤلاء أن الفرق شاسع بين الفن والعلم، بين الخيال والتفكير، بين الحلم والحقيقة،
نسى هؤلاء أن العلوم تتقدم بتقدم العصور لأن أهل كل عصر يبتدئون دراستهم في النقطة التي وقف عندها أسلافهم، ومن ثم كان التقدم العلمي تدريجياً، وكلما تقدمت العصور، كان من أيسر الأمور على من رزق حظاً من الذكاء تحصيل العلم، فان أي شخص عادي الآن ليستطيع أن يحصل من قوانين الرياضة في بضع سنين أضعاف ما استطاع نيوتن العظيم تحصيله في نصف قرن قضاه في الكد والتأمل.
ولكن الأمر على خلاف ذلك في الفنون كالموسيقى أو التصوير أو النحت، وعلى الأخص في الشعر، فان تقدم الإنسان في الاختراع، قد يساعد على تحسين الأدوات التي يستعملها كل من الموسيقار والنحات والمصور، ولكن اللغة وهي أداة الشاعر تكون أكثر ملاءمة لفنه وهي في حالتها الفطرية الساذجة.
هذه الآراء التي يعرضها ماكولي في تحديه العلاقة بين الشعر والمدنية، تسوقه إلى نقطة أخرى قريبة من هذه، أعني بها العلاقة بين الشعر والفلسفة، فالفلسفة من عمل العقل والتحليل والتمحيص والموازنة والاستقراء والاستنباط، وتلك كلها أشياء تتقدم بتقدم العصور، إذافما موقف الشعر من الفلسفة؟ يتساءل ماكولي هل هما شيء واحد، وبعبارة(49/47)
أخرى هل يمكن أن يكون الشاعر فيلسوفاً والفيلسوف شاعراً؟ هي كما ترى نقطة ثار فيها الجدل بين كثير من الأدباء في الشرق والغرب، فبعضهم لا يجد غضاضة في الجمع بين الشعر والفلسفة في شخص واحد، بل وفي موضوع واحد تناوله النظم، ومن أجل ذلك تراهم يطلقون لقب الشاعر الفيلسوف على بعض الأشخاص.
ولكن ماكولي يرى أن الشعر والفلسفة شيئان، بل نقيضان، والجهل بهذه الحقيقة في زعمه جهل بمعنى الشعر وجهل بأغراضه
فهو لا يعني بالشعر كل كلام منظوم، لا ولا كل جيد من النظم، بل انه إذاأراد الشعر بمعناه الحقيقي، ليستبعد كثيراً من الكلام المنظوم، الذي ربما نال حظاً من الإعجاب في مجال آخر، وإنما يقصد ماكولي بالشعر، تلك القدرة على الوصول بواسطة الكلمات إلى ما يصل إليه المصور بواسطة الألوان، ثم ذلك الجو أو ذلك السحر الذي ينتزع الإنسان مما يحيط به ويطير به على أجنحة الخيال إلى وديان فسيحة مليئة بالرؤى والأطياف، ثم ذلك التأثير القوي، وتلك الحرارة أو ذلك الحماس المشبوب، الذي يجعل المرء طوع قلبه، وان هو خالف في ذلك منطقه وقواعد فكره.
ذلك هو الشعر في جوهره وطبيعته، وعلى ذلك فان كثيراً من النثر الذي تتحقق فيه هذه الصفات ليعد من روائع الشعر، فإذا - ما أردنا الشعر في الاصطلاح التزمنا النظم، وبواسطة الوزن والقافية والمهارة في التوقيع، نستطيع أن نجمع بين الشاعر والموسيقار، كما جمعنا بين الشاعر والمصور.
وشتان بين هذا وبين الفلسفة. نعم شتان بين عمل العقل في التفكير والتحليل، وبين اختلاج النفس بالأحاسيس وامتلاء المخيلة بالصور، وجيشان القلب بالعاطفة، وامتلاء المحاجر بالدموع، أو إشراق الوجوه بالفرح، واهتزاز الهيكل كله بالموسيقى.
وإذا كان الأمر كذلك فما أعجب الخلط بين الشاعر والفيلسوف في موضوع لا يمكن إلا أن يكون واحداً من اثنين: فإما إلى العقل وإما إلى القلب!!
يستخلص ماكولي من ذلك أن الرجل إذامال إلى التفكير والتحليل كان أقرب إلى الفلسفة منه إلى الشعر، وإذاأسلس العنان لخياله وأحلامه، كان إلى الشعر أقرب منه إلى الفلسفة، وقل في الأمم مثلما تقول في الإنفراد.(49/48)
فالأمم كالأفراد، تبدأ أولاً بالإدراك الحسي، ثم بعد ذلك ترقى إلى الإدراك العقلي أو المعنوي، وبعبارة أخرى، تبدأ أولاً بفهم الصور الجزئية، ثم تتدرج منها إلى الحدود أو النصوص العامة، وعلى ذلك كانت لغة المجتمع الراقي لغة فلسفية، ولغة المجتمع نصف المتمدين لغة شعرية، وان التطور الذي يطرأ على اللغة من تذليلها وتوسيعها وإعدادها لمقابلة التقدم الفكري ليعد شديد الخطر على الشعر عظيم الفائدة للفلسفة.
وعلى ذلك فانه بقدر ما تتزايد معارف الناس وبقدر ما يتزايد تفكيرهم، بقدر ما ينصرفون عن الجزئيات ويقبلون على الأنواع، وحينئذ يصلون إلى نظريات راقية، بينما هم في الشعور لا ينتجون إلا آثاراً سقيمة قوامها العبارات الغامضة، بدل الصور الناطقة، والحجج الجافة بدل الأخلية الرائعة، أو بعبارة أخرى يكون قوام عملهم في الشعر الصفت المجردة بدل الأشخاص والأرواح الحية.
نعم إن هؤلاء المفكرين قد يكونون أكثر ممن سبقوهم مقدرة على تحليل وفهم الطبيعة البشرية، ولكن التحليل ليس من عمل الشاعر، فعمل الشاعر أن يصور وليس من عمله أن يحلل أو يشرح، والتحليل في الفنون يذهب روعتها، ويبطل سحرها، وموقف الشاعر من الفيلسوف موقف المصور في صالته من الطبيب أمام مشرحته، كلاهما يعرف أجزاء الجسم ولكنهما لا يقصدان غرضاً واحداً، بل ولا يركبان في زورق واحد، ولقد يفهم الشاعر الفضائل العامة والطبيعة البشرية كما يفهمها الفيلسوف، ولكنه في تلك الحالة لا تؤثر عقيدته في شعره إلا كما يؤثر علم المصور بنظام الدورة الدموية في فنه إذاهو حاول أن يرسم تساقط دموع (نيوبا) أو توقد خد (أورورا)
ولو أن شكسبير مثلا قد وضع كتاباً في الدوافع التي تسيطر على سلوك الإنسان لما كان من المحتمل بأي حال أن يجيء كتابه جيداً، ولما كان من المحتمل أن يحوي من التحليل ومتانة الحجج مثل ما يحويه كتاب يخرجه عالم من العلماء المعاصرين، ولكن أي عالم لعمري يستطيع أن يخلق (اياجو) نعم! أي عالم يستطيع مع قدرته على تحليل الشخصيات إلى عناصرها أن يضم من هذه العناصر ما يريد ليخرج لنا في النهاية رجلا مثل (اياجو) له خلق خاص وطبيعة خاصة وسلوك خاص؟
ولا يكتفي ماكولي بهذه البراهين التي ساقها للتفرقة بين الشعر والفلسفة، بل انه ليخطو إلى(49/49)
أبعد من ذلك فيقول انه ربما كان من المستحيل على أي امرئ أن يكون شاعراً لا ولا أن يفهم الشعر ما لم يتجرد بعض الشيء من حدة عقله، أو بعبارة أخرى ما لم يكن له نصيب من خمود الذهن، إذا صح هذا التعبير وجاز لنا أن نسمي تلك القوة العجيبة التي تملأ قلوبنا بهجة خموداً ذهنياً.
نعم ان الصدق في الشعر أمر جوهري ولكنه (صدق الجنون) ذلك لأننا في الشعر نقيم الجدل الصحيح على المقدمات الزائفة، فبعد أن نضع الفروض الأولى، يسير كل ما بعده في توافق واتزان، ولكن قبول تلك الفروض يحتاج إلى نوع من التصديق قد لا يتسنى لنا إلا إذا ألغينا عقولنا مؤقتاً، ومن ثم كان الأطفال أكثر الناس خيالاً، فانهم يستسلمون إلى الوهم، فإذا ما عرضت أية صورة خيالية أمام أذهانهم عرضاً قوياً فأنها تفعل بنفوسهم ما تفعله الحقيقة. وليس ثمة من رجل مهما بلغت قوة إحساسه يتأثر بقراءة (هملت) أو (لير) كما تتأثر فتاة صغيرة بقصة الذئب والجدة العجوز، إن تلك الفتاة تعلم حق العلم أنه ما من ذئب في إنجلترا، وأن الذئاب لا تتكلم، ولكنها على الرغم من يقينها هذا تصدق فتبكي فترتعد، وذلك هو سلطان الخيال على العقول التي لم يصقلها العلم أو على الأمم في عهد طفولتها.
ولن يترك ماكولي أدلته دون أن يتوجها بتشبيه بديع، فهو يشبه الشعر بالفانوس السحري؛ فالشعر يرسم أطيافه في مخيلة المرء، أو كما يسميها ماكولي (عين العقل) كما يرسم الفانوس السحري لا يؤدي عمله إلى الوجه الأكمل إلا في الحجرات المظلمة، فكذلك الشعر لا يؤثر تأثيره القوي إلا في العصور المظلمة، عصور العقول الساذجة الفطرية التي لم تغيرها الفلسفة والعلوم. وكلما انتشر نور العلم وتمكنت العقول من استنباط الأصول وتقرير القواعد وكشف النقاب عن حقائق الحياة، تضاءل تبعاً لذلك عمل الخيال وتزايل تأثير الشعر، وحالت ألوانه، وتلاشت أطيافه، وهكذا نرى الفلسفة والشعر على طرفي نقيض.
تلك هي خلاصة آراء ماكولي في العلاقة بين الشعر والمدنية وبين الشعر والفلسفة. ولعلي أعرض على القارئ في القريب رأيه في شاعرية ملتن، فقد تعرض في ذلك إلى كثير من الأفكار التي تدور حول الشعر ولغته ومحسناته ومراميه.(49/50)
محمود الخفيف(49/51)
في الأدب الفرنسي
6 - الدوق دي لاروشفوكو
للدكتور حسن صادق
فلسفته:
لما عجز لاروشفوكو عن تحقيق آماله ويئس من إرضاء طموحه، صدف عن حياة الاجتماع الصاخبة، وانطوى على نفسه وحللها، واستعرض في ذهنه حوادث الماضي وأخلاق الناس الذين عاشروهم ولاحظهم، ثم طلع عليهم بمواعظه القاسية الأليمة التي تظهر عواطفهم في صورة دميمة، وتجعل لجميع أعمالهم مصدراً واحداً هو الأثرة. وليس عجيباً أن يقسو هذا الرجل في الحكم على نفسه وعلى الناس، وأن يقوده التفكير إلى فلسفته اللاذعة، لأن التحليل لا ينتج التسامح، والغلو في الشك يؤدي إلى حب النفس. وأعتقد أن آراءه في معاصريه وبيئته، تنطبق على الإنسان في كل زمان، مع أن المصور الذي يرسم البحر أثناء العاصفة فقط، لا يعطينا عنه إلا فكرة ناقصة إلى حد بعيد. ولكي يكون الحكم على الجماعة صحيحاً، يجب ملاحظتها ودرسها في حالتي الهدوء والشغب، ولكن لاروشفوكو رأى الناس في عصره يعملون مدفوعين بمصلحتهم الذاتية، كما هو الحال دائماً أثناء الاضطراب الداخلي والحروب الأهلية، فاستخلص من ذلك أن المصلحة الذاتية التي يسميها عزة النفس أو الأثرة هي الباعث على جميع الأعمال الإنسانية، وينبوع العواطف البشرية. ولا شك في أن الإنسان يعمل دائماً طوعاً لمبدأ في دخليته يدفعه إلى البحث عن مصلحته الذاتية وسعادته. ولكن يعاب على هذا الفيلسوف أنه يضع لجميع الأعمال والعواطف على اختلاف أنواعها تفسيراً واحداً، على حين أن الطبيعة قد منحت الناس مواهب خاصة وغرائز متعددة وأذواقاً متباينة وملكات مختلفة تسبق الفكر في كثير من الأوقات والحالات الى الحركة والعمل، وجعلت لكل فرد طريقة يتبعها في الوصول إلى هدفه من الدنيا. وفي الحياة كثير من الناس يرثون عن أصولهم السذاجة الكريمة وصفاء القلب الجميل، فليس لهم مبتغى ولا متمني غير إسداء المعروف إلى إخوانهم في العاجلة مخلصين. وهم يلاقون في سبيل ذلك عناء كبيراً ويصادفون أخطارا جمة ويقدمون على(49/52)
تضحية كثيرة يستعذبونها. وطريقتهم في الحياة هذه عزيزة عليهم، يجدون فيها مثلهم الأعلى في الشرف والسعادة. وليس من الحق والإنصاف أن يسمى الباعث إلى أعمالهم أثرة بالمعنى الذي يقصد إليه لاروشفوكو ويفهم عادة من هذه الكلمة وهذا الفيلسوف أبيقوري كمعاصره (هوبز) الإنجليزي الذي يرد بعض العواطف الهامة مثل الشفقة وحب البر والإحسان إلى مصدر واحد هو المصلحة الذاتية. ولكن الحكيم الفرنسي توغل أكثر منه في النفس الإنسانية. وقليل من علماء النفس ماثلوه في دقة التحليل، ولم يصل أحد منهم بمثل مهارته إلى هذا الجزء الخفي من النفس الذي تكمن فيه بعض الأفكار الأنانية العميقة. هذه الأفكار المبهمة ينفذ إليها لاروشفوكو بعقله ويخرجها إلى النور دون أن تستطيع الإفلات منه
ويرى هوبز أن في الحياة لذتين رئيستين: لذة البدن وهي الاستمتاع، ولذة النفس وهي الغرور، ويفضل الأولى على الثانية. أما لاروشفوكو فيعتقد أن اللذة النفسية هي الجديرة بالتفضيل على غيرها. ويقول، (اكبر مسرات النفس في اعتقادي هي المجد الصحيح والمعارف الجميلة. وأومن بأن الذين يجعلون للذة الجسدية قيمة كبرى لا يملكون من هذه المعارف إلا قليلا. وأرى أن اللذة الحسية خشنة مبتذلة تلهم الاشمئزاز، ولا تستحق البحث عنها والسعي وراءها إلا إذاكان للذة النفسية نصيب كبير فيها
ولم يقل ذلك إلا بعد أن مل العبث وكلف بالقراءة والتفكير العميق. وهو وهوبز يتفقان على أبيقور على أن الأعمال الإنسانية ليست نقية من الغرض. وقد اتبعا طريقتين مختلفتين في الوصول إلى آرائهما، ولكنهما التقيا في نقطة واحدة. أما هوبز فقد استعمل طريقة الاستنباط (أي استخراج قضية من قضية أعم منها) والتعقل. وأما لاروشفوكو فقد اتبع طريقة الاستقراء (أي الانتقال من الخاص إلى العام) والملاحظة. وكلاهما اتبع سبيلا واحدة في اتجاهين متضادين، ونجحا في قطعها إلى آخرها كل في اتجاهه
لما كف لاروشفكو عن حياة الخيال والدسيسة والشغب، بدأ حياة الفكر وتسلل بعقله إلى أبعد أغوار نفسه، ولاحظ في دقة ناردة نفوس أهل عصره. ثم وجد بأنه أينما ولى بصره لا يرى غير النفاق، يطل عليه الغرور، ويمكن خلفهما الأثرة. ودلته التجربة على أن هذه الأثرة كلما دقت واستخفت على الملاحظة، كانت قوية حادة، لأنه يجعل مقياسها مبلغ(49/53)
المشقة التي يعانيها الإنسان في استكشافها.
ومن ملاحظاته التفصيلية الخاصة، استخلص فكرته العامة عن الإنسان، وهي تتلخص في أن المصلحة الذاتية تقوده في كل موطن، وحب النفس يدفعه إلى كل عمل. وصاغ هذه الفكرة العامة في تعبير دقيق: (تتلاشى الفضائل في المصلحة الذاتية كما تتلاشى الأنهار في البحر) (موعظة رقم 171). ولكي يكسبها الوضوح والجلاء رجع إلى ملاحظاته التفصيلية واختبرها ليثبت أن كل واحدة منها تدخل في حكمه العام. وهذا يدل على أن لاروشفوكو له أسلوب (مجموع المقدمات الصحيحة الموجزة الموصلة للحقائق) أو طريقة منظمة متناسقة متصلة الحلقات، ومن يلق على مواعظه نظرة سطحية يرها مفككة الأجزاء مبعثرة، ويعتقد أنها ملاحظات بسيطة دونها صاحبها مصادفة تبعاً للظروف دون أن يكترث لما سيكون لها من القيمة أو لما ستنتجه من الأثر ولكن القارئ الذي يمعن في التفكير يجدها متصلة بأقوى إيمان بالأثرة العامة الشاملة، وأشده ثباتاً وعنادا.
وهذه الطريقة تتلخص فيما يلي: الأهواء مصدر أعمالنا وأحكامنا وعواطفنا، وكل فضيلة تفنى في الأهواء التي تجاورها، كل فضيلة تقترب غاية القرب من رذيلة وتمتزج بها في ميدان العمل، وإننا نطلق عليها اسم فضيلة بدلاً من الرذيلة المجاورة خطأ أو إرضاء لكرامة غرورنا أو كبريائنا: (إن ما نعده فضائل، ليس في أغلب الأحيان إلا مجموعة من أعمال متعددة، ومصالح متنوعة يرتبها الحظ أو صناعتنا) (موعظة رقم 1). فالرحمة - مثلاً - التي نؤمن بوجودها يقول عنها: (الرحمة التي يحسبها الإنسان فضيلة، تستعمل أحياناً بدافع الغرور وأحياناً بدافع الكسل، وفي أغلب الأحيان بدافع الخوف، ودائماً بدافع هذه الصفات الثلاث مجتمعة) (موعظة رقم 16). ونرى من قوله أن كل عمل من أعمال الرحمة يتلاشى في إحدى الرذائل المجاورة أو يتلاشى فيها مجتمعة، كما يتلاشى النهر في البحر. وهذه الجملة (التي يحسبها الإنسان فضيلة) تدل على أن الرحمة ليست في ذاتها فضيلة، أو على الأقل على أن مصدرها الغرور والكسل والخوف وليس غير، مع أنها قد تصدر عن الشفقة وهي عاطفة عامة، أو عن الطيبة الكريمة التي تشعر بها النفوس العالية الكبيرة. ولنضرب مثلا: يوليوس قيصر الذي انتصر على بومبيوس في موقعة فإرسال (من أعمال اليونان الآن) في عام 48 قبل الميلاد، وأسر كثيراً من عظماء عدوه، فانه عفا(49/54)
عنهم وكان في استطاعته قتلهم جميعاً. فهل يقول العقل إن هذا العفو مصدره الغرور، والغرور هو الكبرياء الذي تنشئه في النفس الأعمال التافهة الهزيلة، وانتصار قيصر على عدوه ليس من الأعمال التافهة، أو يقول إنه صدر عن كسل وهو في مقدوره أن يأمر بالقتل فيطاع، أو يقول إنه صدر عن خوف وهو منتصر قوي؟ ولكن لاروشفوكو لا يجد في الإنسان طيبة نقية، ويحرم علينا أن نؤمن بوجودها، وهو يبهر النظر بالضوء الذي يلقيه على رذائل الإنسانية، ويلقي بالفضيلة في ظلمة تحجبها عن الأبصار.
ولا شك في أن الرذيلة هي التي تسب شقاء الناس، وأن الفضيلة تهيئ لهم أسباب السعادة. فكل فكرة ترمي إلى هدم الفضيلة لتقيم على أنقاضها رذيلة، هي فكرة قاضية على سعادة البشر. والفكرة التي تقضي على سعادة البشر لا يمكن أن تشتمل على حقيقة، لأن صفة الحقيقة وعملها أن تسمو بالنفس لا أن تفسدها، وأن تشع الحياة في الجماعات الإنسانية لا أن تدمرها، وأن ترهب الطغاة لا أن تشجعهم. وقد سبق القول إن هذا الفيلسوف صور نفسه وعصره ومواعظه. ورأيه في الرحمة يدلنا على ذلك أفصح دلالة، لأنه ينطبق على سياسة الملكة آن دوتريش. فان هذه الملكة بعد أن ضحى لاروشفوكو في سبيلها كثيراً وشاكس ريشليو ورفض ما عرضه عليه من الرتب إرضاء لها، لم تحسن إليه بعد أن أقيمت وصية على العرش، بل أحسنت إلى الذين كانت تحقد عليهم. وهؤلاء كانوا أتباع ريشليو، فلما مات هذا الوزير وخلفه في الحكم صنيعته مازاران، بسط عليهم جناح حمايته كسلفه، فلم تجد الملكة بداً من مداراتهم بالرحمة التي ألهمت لاروشفوكو موعظته.
يتبع
حسن صادق(49/55)
العُلوم
الفكرة الذاتية والفكرة الموحاة
للدكتور عبد الفتاح سلامه
قد يلعب الإنسان النرد مع صديقه للتسلية ولتمضية الوقت، ولكنه قد يغافل صديقه هذا فيغالطه في أثناء اللعب لأجل أن يكسبه. وقد يجلس الإنسان في المقهى فيرى غادة حسناء فيوسوس له الشيطان أن يتبعها، فيحول الضمير دون ذلك وينسى كل شيء عنها، ولكنه بعد قليل قد يجد نفسه سائراً في نفس الطريق وقد يلحق بها.
وقد يدخل الإنسان في بيت ما فيجد سلعة جميلة صغيرة فيود لو تكون له ثم ينسى أيضاً كل شيء عنها. ولكنه بعد خروجه من البيت يضع يده في جيبه ولدهشته ودهشة العالم معه قد يجد هذه السلعة فيه.
فالفكرة الذاتية اللاشعورية عن وجوب الكسب هي التي جعلته يغافل صديقه برغم وجود فكرة شعورية عنده عن وجوب اللعب لمجرد التسلية وبدون اهتمام للنتيجة. والفكرة اللاشعورية الخاصة باتبعاع الفتاة هي التي قادته للسير في هذا الطريق رغم احتجاج الضمير واستنكاره. والفكرة اللاشعورية الخاصة بامتلاك تلك السلعة هي التي دفعته إلى أخذها. وهكذا يبدوا أنه إذاكان اللاشعور ليس عليه إلا أن يرغب فان الشعور عليه أن ينفذ هذه الرغبة. وهذه هي القاعدة في الإنسان. ولكن كيف يتسنى لهذا الشيطان أن يملي رغبته على الشعور وكيف يتسنى للشعور أن ينفذ هذه الرغبة مع وجود الضمير القوي والعقل المميز الموزون؟
انه يلجأ في هذا السبيل إلى الحزن والتنغيص على الشعور فيضطره إلى تنفيذ ما يريد. والحزن سببه عدم التمكن من تنفيذ الرغبة أو تخيل عدم إمكان تنفيذها، والحزن يختلف من مجرد شعور بعدم السرور إلى انقباض مستمر، وفي نهايته العظمى يكون الحزن المرضي المسمى بالسوداء ففي مثلنا الأول يجلس الإنسان للعب وعنده رغبتان كما قدمنا ويبتدئ في تنفيذ الرغبة الشعورية أي اللعب لمجرد التسلية وعدم الاهتمام للنتيجة حتى إذا ما خانه الحظ وعرف أنه سيخسر الدور فان الرغبة اللاشعورية - حب الكسب - تجد نفسها على وشك عدم التنفيذ فيبتدئ مرح اللاعب يقل شيئاً فشيئاً، ثم يبتدئ أن يكون لعبه آليا أي(49/56)
بدون تفكير منتظم فيشعر الإنسان بالضيق فيضطر بعد ذلك أن يجد له مخرجاً يقضي به الرغبة اللاشعورية التي سببت له هذا الضيق. وقد يكون هذا المخرج عن طريق النكتة والفكاهة وهذا من شأنه أن يقلب وضع الأمور فيخيل للمغلوب أنه غالب، وقد لا يكتفي المغلوب بهذا التخيل فيغالط إذن في اللعب عن قصد وغير قصد. هو إذ يغالط قد يعمل ذلك أيضاً على سبيل النكتة والفكاهة. والشعور في عمله لإزالة ما قعد يشعر به الإنسان من ضيق يرضي الرغبة اللاشعورية فيشعر الإنسان بالسرور والفرح. ويرضى كذلك الضمير لأنه إنما يغالط لأجل الضحك والسرور ولا حرج عليه في ذلك. فبالحزن إذن يسيطر اللاشعور على الشعور ويضطره إلى تنفيذ ما يريد. وهذه هي طريقة اللاشعور السحرية في إملائه لرغباته. أو هذا هو عمل الشيطان في وسوسته لما يبديه. ولعمري لو كان الشيطان جسماً مستقلاً عن جسم الإنسان ولم يكن ممثلاً في العقل الباطن فان هذا العقل هو صلة الاتصال بينه وبين الإنسان.
وفي مثلنا الثاني نجد أن صاحبه بعد أن أمره ضميره بالجلوس عاقلاً مؤدباً ما لبث أن شعر بالقلق في جلسته وسرعان ما فكر في مغادرة المكان، ولكنه لا يعلم سبب قلقه هذا، لأن الضمير قد طرد الفكرة اللاشعورية من الشعور، أو بمعنى آخر فان الضمير كان سبباً لنسيانه كل شيء عن هذه الفتاة. ولا يكون هناك بعد هذا النسيان ما يبرر منع المسير في هذا الطريق لو تذكر الإنسان لزوم قضاء حاجة معينة فيه. وهكذا تلجأ النفس إلى فكرة شراء شيء معين أو مقابلة شخص معين في هذا الطريق بالذات. فيقوم الإنسان من مكانه سائراً في الطريق الذي أراده اللاشعور ويزول القلق الذي سببه إذن هذا الأخير عندما منع عن تحقيق رغبته التي أبداها.
ومع أن اللاشعور يسبب للنفس المتاعب من جراء عدم تلبيتها لطلباتها فيضطرها إلى إجابتها. فانه كالطفل الذي قد يقنع من تحقيق رغبته بالأوهام دون الحقيقة الواقعة. وهكذا نرى في مثلنا الأول أن اللاشعور قد اكتفى بالنكتة والفكاهة دون تحقيق الكسب نفسه. وفي مثلنا الثاني ولو ان صاحبه سار في نفس الطريق الذي أراده اللاشعور إلا أن الغرض من السير قد التوى عليه.
ذلك هو اللاشعور، وقد رأيت أنه الطفل الذي يعيش في الأوهام أو هو الشيطان الذي(49/57)
يحاول أن يخرج الإنسان من الحقائق إلى عالم الخيال. وقد نجح فعلاً في هذا الأمر أي نجاح سواء مع المرضى أو مع الأصحاء. وهل نرى في العالم شيئاً غير أخيال في كل مكان؟ فالمريض العصبي مريض لأنه تخيل المرض. ويقوم الإنسان من نومه معللاً الآمال على ما وجد في رؤياه من تحقيق أمل يرقبه أو النجاة من مكروه يرهبه. ويستمد الشعراء منه الخيال فتكون الاستعارة والتشبيه والتورية. ويستمد الروائيون منه والفنانون كل دقائق الفن ومعجزاته، فالمثال لم يعمل إلا أنه رغب فتخيل فجسم خياله. وحقق رغبته تحقيقاً رمزياً. وهذا مما يدل في ذاته على أن ذلك الطفل الذي يتذرع بالحزن للحصول على تنفيذ رغباته مع انه قد يقنع بالتحقق الجزئي أو الرمزي لهذه الرغبات، قادر كل القدرة على السيطرة على النفس لأنه تريد أن تتحاشى غضبهفتنفذ له ما يشاء. فهل يمكن بعد ما تقدم أن نستخدم هذه القوة لعلاج بعض الأمراض؟
في الإمكان الإجابة على هذا السؤال بالايجاب، وذلك بواسطة طريق الإيحاء المختلفة، وسنرى فيما يلي كيف يمكن التغلب على هذا الشيطان واستخدامه في أغراض علاجية كثيرة. وإننا نود أن نشير أولاً إلى إن قوة الإيحاء تتوقف على عوامل شتى. وأهم هذه العوامل ما كان بفعل المودة والمحبة والتقدير لأنه بسببها يعتقد اللاشعور بما يوحي إليه تمام الاعتقاد. ويرسله إلى الشعور ليتولى تنفيذه.
ولما كان الإيحاء لا يمكن أن يثمر إلا في وجود الاعتقاد، وكان الاعتقاد أيضاً متوقفاً على العوامل المختلفة السالفة الذكر فانه من الواجب أن تكون شخصية الموحى بعيدة كل البعد عما يسبب الريبة أو الشك، وأن يكون هو نزيهاً يزن كل كلمة يقولها، وأن يكون صالح المريض أول ما يرمي اليه، ونحن إذاأردنا سهولة التعبير وتوخينا إظهار ما نقصده على وجه عام فانه يمكن القول بأن الإيحاء هو وضع أفكار أمام العقل على أمل قبولها والاعتقاد في صحتها. وهي لذلك تأخذ مجرى عكسياً لمجرى الأفكار الذاتية لأنها تبدأ في الشعور أو التمييز ثم تذهب بعد ذلك إلى اللاشعور إذا لم تجد ما يمنع دون الوصول إليه.
وقد يكون الإيحاء من أشق الأمور إذا وجدت أفكار ذاتية تخالفه أو تشك فيه، ويكون من أسهل الأمور إذا وجد من الأفكار الذاتية ما يعززه أو ما لا ينقضه. والإيحاء موجود في الحياة العملية، وقد يكون الموحى أي إنسان مهما يكن مركزه أو عمره. فقد يجتمع اثنان(49/58)
ويبدي أحدهما إعجابه بشيء معين وقد يكون على حق، ولكن سرعان ما يغير وجهة نظره بعد ملاحظة صغيرة من رفيقه فيبدو له قبح ما كان يعجب به، وقد ينقم إنسان على نفسه لتصرف يعتبره خاطئاً، ولكن سرعان ما يعد ذلك النوع من الإيحاء إيهاماً، لأن الأفكار الموحى بها كثيراً ما تكون مخطئة. وترك كلمة إيحاء للأفكار الصحيحة التي لا تحتمل الشك. وعلى كل حال فان الأفكار الموحى بها سواء أكانت صحيحة أم خاطئة فأنها تتبع نفس الطريق. أي إنها تسير من الشعور إلى اللاشعور حيث يحتويها ذلك الأخير فتصبح كالأفكار الذاتية ويعتقد بها الإنسان تمام الاعتقاد
والفكرة سواء أكانت ذاتية أم موحاة، تتحول في اللاشعور من مجرد تخيل إلى حقيقة متخيلة، وترسل على هذا الاعتبار الى الشعور فيتولى تحويلها من حقيقة متخيلة إلى حقيقة فعلية، أو بمعنى آخر من فكرة إلى فعل (من إلى وهكذا يكون التخيل من عمل اللاشعور، وتنفيذ التخيل من عمل الشعور. والشعور مع هذا ليس آلة ميكانيكية لتنفيذ تخيلات ورغبات اللاشعور، بل أنه قد يرد بعض هذه التخيلات إلى اللاشعور لعدم ملاءمة تنفيذها وهنا تحدث المشادة بينهما.
فإذا أمكن إقناع مريض عصبي بأن يده المشلولة قد شفيت تماماً فان فكرة الشفاء هذه تتحول في اللاشعور إلى حقيقة متخيلة أو بتعبير أدق إلى حقيقة نفسية. وترسل على هذا الاعتبار إلى الشعور حيث يتولى إثبات هذه الحقيقة بإخراجها من حيز التخيل إلى حيز الفعل فيأمر العضات أن تنقبض، وهكذا تتحرك اليد ويتحقق الشفاء الموحى به. والمريض العصبي لا يمرض إلا إذا تخيل المرض ولا يشفى إلا إذا تخيل الشفاء
وهناك قانون آخر كشف عنه كوويه وهو أنه إذا حدثت مشادة بين الإرادة والتخيل أو بين التمييز من جهة واللاشعور والشعور من جهة أخرى، فان الغلبة تكون دائماً للتخيل على الإرادة. فشارب الخمر أو الدخان عنده إرادة قوية تحاول منعه من تعاطيهما، ولكن تخيله احتياجه إلى الشرب أو التدخين يقهر الإرادة عنده ويستمر في التعاطي. وهكذا نرى كوويه يتحدث عن المشادة وهي تقرب من المشادة التي يتكلم عنها فرويد بين اللاشعور والشعور، ولو أن مشادة كوويه شعورية ومشادة فرويد لا شعورية أو تكاد. ولهذا أشار هذا الأخير بتحليلها ومعرفة أسبابها وعرض نتيجة ذلك على التمييز ليبت فيها بصورة معقولة، أما(49/59)
كوويه فانه لما كانت المشادة التي يتحدث عنها شعورية فهو لا يحتاج إلى تحليل، بل يقول انه ما دامت الإرادة ضعيفة بالنسبة إلى التخيل فيجب وضع تخيل جديد أمام العقل يكون من شأنه أن يقلل من قيمة التخيل الأول الذي يتعارض مع الإرادة. وهكذا تبطل المشادة ويشفى المريض، وهو يضع التخيل الثاني بواسطة إيحاء لا يكون فيه ذكر للإرادة، فيطلب إلى مريضه أن يقول (لقد تحسنت صحتي وأنا في طريق الشفاء) لا أن يقول (أريد أن تتحسن صحتي وأريد أن أشفى)
وإذا قال أتباع نظرية فرويد بأن المرض يختفي بالإيحاء ليحل محله مرض أخف أو أشد منه. أجاب أتباع كوويه بأن من الممكن عمل إيحاء تام يشمل جميع الأمراض، والواقع أن هذا إذا نجح في كثير من الأمراض فانه يعجز عن شفاء الكثير منها أيضاً، لأن المشادة الشعورية ليست إلا أثراً أو دليلاً على وجود مشادة لا شعورية. والإيحاء إذا عمل قبل الكشف عن هذه المشادة الأخيرة قد يخفف من وطأة المرض العصبي مؤقتاً ولكنه يزيد من فعل الضمير في كبح الرغبات والأفكار الذاتية وضغطها، وذلك يؤدي إلى نتائج غير مرغوب فيها. فمعرفة المشادة اللاشعورية في هذه الأحوال وتحليلها هو من أهم الأمور أولاً، ثم يأتي الإيحاء بعد ذلك بأفكار جديدة سامية وتخيلات ممكنة معقولة. ولهذا نرى فرويد في كتبه يقول إنه لا يميل إلى إيحاء أي فكرة إلى المريض بل يجب تركه ليكون لنفسه من الأفكار والتقدير ما يراه مناسباً لها، فهو بعد الكشف عن المشادة يكون قد شفى من مرضه. وإذاكان المريض لا يزال في حاجة إلى الإرشاد فقد يوحي إليه في بعض الأفكار والمثل العليا.
ولما كان كوويه يعتقد أن وجود الإرادة من شأنه أن يزيد في عناد التخيل وتشبثه بتنفيذ رغباته فإننا نجده يعمل لإزالة التمييز وهو محل الإرادة من مريضه قبل إيحاء أي فكرة إليه، وذلك بواسطة أربع تجارب تثبت للمريض مقدار تأثير التخيل على الإنسان في غياب التمييز. وهو بعد أن يقتنع بقوة التخيل هذه يطلب إليه أن يستخدمها في شفاء نفسه، وذلك بأن يتخيل الشفاء، ولكنه بالطبع لأي طلب إليه أن يقول إنه يتخيل الشفاء، بل انه شفى من مرضه وأن مرضه لن يعود.
وهناك طريقة أخرى للإيحاء وهي أن يكرر المريض جملة معينة في أوقات مختلفة من(49/60)
النهار ولمدة طويلة، وهذه هي الطريقة التي يتبعها في أمريكا وهي كثيرا ما تفيد في بعض الأحوال، لأن التمييز إذا عارض الفكرة الموحى بها في أول الأمر لا يلبث أن يتعرض لها بنقض أو شك فيما بعد فتصل في النهاية إلى اللاشعور وهو مركز التخيل كما قدمنا حيث تخرج منه حقيقة واجبة التنفيذ.
أما الإيحاء بالتنويم فلا شك أن الفكرة الموحى بها تصل إلى اللاشعور دون أن يقف في طريقها أي حائل. ذلك لأن النائم يعتقد في المنّوِم القدرة الفائقة والإرادة القوية، وهو لذلك يأخذ منه الأفكار دون أي مناقشة أو شك فينفذها الشعور بعد قيامه من النوم في الوقت المناسب. وهذه الطريقة ينطبق عليها ما سبق أن تكلمنا عنه بصدد الإيحاء بطريقة كوويه. أي أن الأعراض تختفي لأجل أن يظهر غيرها، وأن الضمير يشتد في الضغط على رغبات الإنسان اللاشعورية بدل أن يسمح لها بالمثول أمام الشعور والتمييز لمناقشتها. هذا إلى أن شخصية النائم تصبح ضعيفة تتأثر بأي فكرة يوحيها أي إنسان، لأن اللاشعور عنده قد كبر على حساب عقله المميز.
أما قيمة الإيحاء العلاجية فإنها تظهر من استعراض بعض حالات تمكن كوويه من شفائها شفاء تاماً. ومن الغريب أن بعض هذه الأمراض لا يمت إلى الأمراض العصبية بصلة ما. مثال ذلك أنه تمكن من شفاء صبي عنده التهاب في عضلات القلب وهبوط قلبي يئس أطباء مشهورون من شفائه. وقد تمكن أيضاً من شفاء النزلة الرحمية والنزيف بالإيحاء، ولنذكر القصة الآتية التي تكلم عنها البروفسور بودوان. فقد حدث أن مريضاً يشكو من نوبات ضيق التنفس بات ليلة في فندق وانتابته النوبة ليلا فقام فزعاً يريد فتح النافذة يلتمس منها هواء نقياً ولكنه بسب الظلام وللحالة النفسية التي كان بها إذ ذاك لم يتمكن من العثور إلا على لوح زجاجي تخيله جزءاً من النافذة فضربه بيده وكسره، وعند ذلك ذهبت عنه النوبة ونام مستريحاً. وعندما تيقظ في الصباح وجد أن خادم الفندق كتب له ورقة بأن عليه أن يدفع ثمن زجاجة ساعة الحائط التي كسرها. إذن فالذي أنقذه من نوبته ليس دخول الهواء النقي بل هو مجرد تخيل دخول هذا الهواء، لأنه كسر زجاج الساعة بدلا من أن يكسر زجاج النافذة. وقد ذكر الأستاذ بودوان أيضاً أن زوجة رأت وهي حام إصبعاً قبيحة الشكل فاستاءت منها وأصبحت صورتها لا تفارق مخيلتها فوضعت هذه الزوجة طفلا(49/61)
بإصبع مماثلة لتلك الإصبع القبيحة تماماً، وفوق ذلك فإننا نرى كوويه يقول إن المرأة يمكنها أن تلد ما تشاء من ذكر أو أنثى وما تشاء من محاسن وصفات إذا تخيلت رغبتها طول مدة الحمل
وليس هذا الأمر بغريب علينا نحن الشرقيين فإننا كثيراً ما نسمع عما يسمونه (الوحم) هذا فيما يتعلق بتأثير الإيحاء على الجنين، أما تأثيره على الشفاء من المرض فليس هذا بغريب علينا أيضاً لأننا كثيراً ما نقرأ في الكتب القديمة عن شفاء بعض الأمراض بالطلاسم والرقي والبخور، وهذه هي الأشياء التي نسميها الآن شعوذة وتدجيلا، مع أنها مدرسة قائمة بذاتها بتعاليمها وتلامذتها وأساتذتها الخ. . والواقع أنها كانت في العصر القديم لها من الأهمية بالنسبة إليه ما للإيحاء في العصر الحاضر من أهمية بالنسبة إلينا. والفرق بين طريقة اليوم وطريقة الأمس هو أن الشخص الذي يقوم بالإيحاء الآن رجل متعلم يعمل بوازع من ضميره الإنساني النبيل ويوحي إلى مرضى مثقفين أيضاً يعرفون قيمة ذلك الإيحاء ويعرفون أن قوة الشفاء موجودة في أنفسهم إذا أمكنهم أن يتخيلوا الشفاء أو إذا أمكنهم أن يتحكموا في مخيلتهم. وهكذا نرى أننا بعد أن وصلنا إلى هذه الدرجة من المدنية والعلم قد رجعنا إلى الطرق التي كان يعالج بها في الأزمنة القديمة والتي لا نزال نرى بقاياها. والتاريخ يعيد نفسه، فالمريض يشفى في العصر الحاضر إذا أوحى إليه بالشفاء بأذن الله على شرط أن يحمل حجاباً أو يحرق بخوراً. وهو بعد أن ينفذ هذه الشروط يتخيل الشفاء فيتم له. وقد تكون هذه الطريقة القديمة أجدى وأنفع للإنسان لأنها تجعله يضع ثقته في خالقه تعالى فيستمد من هذه الثقة كل معاني القوة والاطمئنان والراحة والمواساة. بدل أن يضعها في نفسه وهو كثيرا ما يشعر بضعفها.
وقد يساعد الإيحاء أو الإيهام على استفحال الداء، وذلك إذا كانت الفكرة الموحاة مخطئة كما يحدث في بعض حالات السل. ذلك لأن لفظة (سل) مخيفة عند الكثيرين الذين يعتقدون أنه لا سبيل إلى شفاء المريض به، وبمجرد معرفة أحدهم بأن هناك شكاً في تشخيص مرضه من هذه الناحية لا يلبث أن يعتقد بأنه مريض بهذا المرض فيتحقق له اعتقاده ويستفحل الداء ويسير به إلى الهلاك بخطى سريعة واسعة. ومع ذلك فمن منا سلمت رئتاه من هذا المرض؟ وكم رئة إذا شرحت وجدت خالية من التدرن أو من آثاره؟ فالسل مرض قابل(49/62)
للشفاء ما لم يعتقد المريض بخلاف ذلك.
عبد الفتاح سلامه(49/63)
بين الدين والعلم
كتاب عن فساد الداروينية
كان من نتائج الحرب العالمية الماضية طغيان موجة الكفر والالحاد، والمذهب الدهري الذي شعار أنصاره: (نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر)؛ وزوال فكرة الألوهية من بعض الرءوس الصغيرة والأحلام الضعيفة. ذلك بأن الناس تناحروا وتطاحنوا في الحرب، ثم لما رأوا أهوالها جعلوا يضرعون إلى الله سبحانه وتعالى أن يحقن دماء الباقين منهم وينجيهم من شر المخبأ لهم في عالم الغيب كما يقول شحاذونا. فلما لم يسمع لهم نادوا بالكفر، وطلقوا البقية الباقية في صدورهم من الإيمان، فكان هذا الاستهتار وكانت هذه (الكلبية) التي رانت على القلوب وبلغت أقصاها في روسيا البلشفية
لكن يظهر إن رد الفعل هذا سيعقبه رد فعل آخر من الجهة المقابلة،
ويعيد الناس إلى صوابهم مرة أخرى. ففي كل بلد من بلاد أوربا يقظة
دينية، وفي كل قلب ندامة، وفي كل ضمير شيء من الوخز يبشر
بانتعاش الإيمان من إغماء كان يخشى أن يكون طويل الأمد، وأن
ينتهي بموت الأبد، وبيقظته من سبات كان يخشى أن يكون دائماً، وأن
يليه مرض خبيث كمرض النوم لا يخلّص صاحبه منه إلا الموت
لكن أغرب من هذا كله أن يقوم من يقول لنا إن أعظم حوادث القرن العشرين فقد الناس إيمانهم بالعلم بعد عودة إيمانهم بالدين، وكما أن العلم هد أركان الدين في بعض البلدان وفي خلال القرن الماضي، كذلك نرى الأديان الآن تنتقم من العلم بتقويض أركانه، والبناء على أطلاله. فقد أعطانا العلم الحرب العالمية بفظائعها وأهوالها، فضربت أركان الديانة ضربة شديدة، ولكنها ضربت العلم ضربة أشد منها
قال أحد الكتاب: لما أعلن اينشتين مذهب النسبية الذي قلب به مذهب نيوتن، قلت في نفسي ومن يدرينا متى يقوم مذهب من نوع سوبر اينشتين يقضي على مذهب اينشتين؟
ظهر بالأمس كتاب جديد عنوانه (هذا التقدم - مأساة مذهب النشوء) أي مذهب داروين الذي ينكر الخلق الفجائي، ويقول إن أنوْاع الحيوان والنبات حتى الإنسان متسلسل بعضها(49/64)
من بعض، وان بيننا وبين القرود لذلك لحمة نسب وصلة قرابة. ولا يزال مذهب داروين ناقصاً ما يسمونها (الحلقة المفقودة) التي تثبت قرابة الإنسان للقرد، ومادامت مفقودة يبقى مذهباً، ويبقى لذلك خارجاً عن دائرة اليقينيات المثبتة إذ يعوزه البرهان
ومؤلف هذا الكتاب عالم إنجليزي اسمه الكبتن اكوارت، وهو يقول فيه: إن الداروينية كذبة كانت السبب الأول في تدهور الحضارة الغربية، بانياً حكمه هذا على اكتشاف اكتشفه وبرهن فيه على أن نشوء الطيور خرافة لا كما يقول المذهب الدارويني
وقد عرض المؤلف فكرته التي بنى عليها مؤلفه على بعض أصحابه النشوئيين فأقروه عليها، ولم يستطع أحد منهم أن يبين وجه الخطأ فيها وهزأ في كتابه ببعض الآراء الشائعة بين علماء الطبيعة عن النور ونهاية الفضاء والأثير والفراغ والسدام
وأبان في كتابه أن النشوئيين لم يهتدوا بعد إلى الحلقة المفقودة التي تصل الإنسان بالقرد كما يزعمون، مع انهم قلبوا بطن الأرض يبحثون عنها، ولكن الجيولوجيا تضحك من بحثهم عن شيء لا وجود له. وقد اعترف داروين نفسه في زمانه بأن (الجيولوجيا لا تؤيد وجود تلك السلسلة الدقيقة المتدرجة التي يتطلبها ناموس النشوء نفسه) بل بالضد من ذلك تثبت ان الداروينية غير صحيحة، لأن وجود بقايا الحيوانات في الصخور لا يمكن تعليله بأي مذهب من المذاهب، فان عظام الفرس مثلاً كانت موجودة في قلب الصخور قبل ظهور ما زعموا أنها أسلافه لا بعد ظهورها
وقد هدم مندل بناموسه عن الوراثة ناموس الانتخاب الطبيعي الذي هو أساس الداروينية. ويقول المؤلف إن الداروينية زعزعت أسس الدين، فلو أمكننا التخلص منها لمهدنا الطريق إلى إحياء الإيمان بالخالق. وان من الغربة بمكان ان يبنى الناس تزعزع إيمانهم بالله مدة قرن كامل أو نحو ذلك على مذهب لم يثبت بالبرهان ولا يمكن إثباته.
فالأيمان بالله أسهل كثيراً من الإيمان بخدع العلم وأوهامه.
ق. س(49/65)
القصص
النفس الرقيق. . .
لايفان بونين
ترجمة ع. الحمدي
في المقبرة فوق أكمة نضرة مخضرة صليب جديد مصنوع من خشب البلوط، قوي ثقيل، ثابت راسخ، ناعم الملمس، بهيج المنظر. وكان الشهر أبريل ولكن الأيام غائمة كالحة. فكنت ترى من مراحل شاسعة خلال الأشجار الجرداء شواهد الأجداث قائمة في المقبرة - مقبرة رحبة ريفية أو اكبر من الريفية بعض الشيء - والريح الباردة القاصفة تصفر صفيراً مخيفاً كلما مرت من تجاويف الإكليل المصنوع من الخزف الصيني عند قاعدة الصليب. وفي الصليب نفسه ركب إطار مستدير من النحاس الأصفر. وفي الإطار صورة لفتاة حسناء فاتنة من طالبات المدارس، مهندمة الملبس، لها عينان فرحتان براقتان تنمان على الحياة والغضارة
هذه الصورة هي صورة (أولجا مسجرسكي)
لما كانت بنتاً صغيرة لم يكن لها ما يميزها في ذلك الجمع الصاخب من ذوي الأثواب السمراء الذين كان لغطهم المتنافر يدوي في ابهاء المدرسة وصفوفها. وكل ما كان يستطيع الإنسان ان يقوله عنها هو أنها ليست إلا واحدة من هؤلاء الفتيات الكثيرات الجميلات السعيدات، وإنها ذكية، لكنها لعوب كثيرة الحركة، لا تصغي لما يلقيه عليها العلم في الصف من دروس. ثم صارت إلى النمو، وأخذت تتفتح أكمامها لا بالأيام بل بالساعات. وفي سن الرابعة عشرة، وقد أصبح لها خصر أهيف، وساقان جميلتان متسقتان، برز نهداها ولاحت عليها تلك الرسوم والملامح الدالة على النضوج، ولم تستطع لغة البشر بعدُ أن تصف فتنتها وسحرها. وفي سن الخامسة عشرة قيل عنها إنها حسناء. . . وكم كان أترابها ورفيقاتها في المدرسة شديدات العناية بتنظيم شعورهن، وكم كن نظيفات محترسات في حركاتهن! ولكنها ما كانت لتخشى شيئاً فهي دائماً نظيفة الثياب حسنة الهندام، متوردة الوجه من غير قصد فمنها ولا عناء من جانبها، اجتمع لها في سنتيها الأخيرتين كل ما(49/66)
يميزها من باقي المدرسة، اجتمع لها الظرف والأناقة وخفة الروح وإشراق الطلعة وبريق الذكاء. . . ذلك إلى أن أحدا لا يستطيع الرقص مثل (أولجا مسجرسكي)! ولا يستطيع العدو أو الانزلاق مثلها! ولسبب ما لم تكن لأحد تلك الألفة التي كانت لها مع صفوف الصغار والأحداث في المدرسة. ومن غير أن تشعر أصبحت فتاة، ومن غير أن تشعر ذاعت شهرتها في المدرسة. ولم يمض قليل حتى أخذت الألسن تلوك عنها الأحاديث بأنها نزقة متقلبة لا تستطيع أن تحيا بغير عشاق، وأن التلميذ (شنسين) مدله في حبها مأخوذ بجمالها، وأنها هي أيضاً لعلها تحبه ولكنها لكثرة تقلبها وسوء معاملتها جعلته يحاول الانتحار غيرة مرة. .
في خلال شتائها الأخير جن جنونها بذلك الفيض من السعادة الذي غمرها. . . كذلك قالوا عنها في المدرسة. . . وكان هذا الشتاء مثلجا قارساً تنزل الشمس فيه مبكرة وراء الأيكة الكثيفة من أشجار الشربين الباسقات خلف بستان المدرسة المكسوة بحلل من الثلج الناصع. ولكن الجو كان رائعاً بساماً على الدوام. اليوم ثلج وغدا شمس. نزهة قصيرة في شارع الكنيسة. انزلاقة في متنزه المدينة. غروب وردي دافئ؛ موسيقى. . . ثم ذلك الجمع الدائم الحركة الذي كانت (أولجا) تلوح من بينه أخفه روحاً وأشده نزقاً وأوفره سعادة. وفي ذات يوم بينما كانت مندفعة كالإعصار في غرفة الألعاب تعدو في أثرها الفتيات الصغار يصرخن ويهتفن مبتهجات استدعتها رئيسة المدرسة على حين غرة. فوقفت بغتة وتنفست نفساً عميقاً ثم رتبت شعرها وسحبت أطراف مئزرها كي توصله إلى كتفيها. وبعينين مضيئتين هرعت إلى فوق. كانت الرئيسة صغيرة السن، لكن شعرها كان أبيض، وكانت جالسة بهدوء إلى الطاولة تحت صورة القيصر وفي يديها تطريز قد انكبت عليه واستغرقت فيه.
قالت الرئيسة بالفرنسية دون أن ترفع عينيها عن التطريز (عمى صباحاً يا (مس. مسجرسكي) - إنني آسفة لأن هذه ليست المرة الأولى التي اضطررت فيها لاستدعائك إلى هنا لأكلمك في سلوكك) فأجابت (اولجا) - لقد أخذت بإرشادك أيتها السيدة - قالت ذلك وهي تقترب من المنضدة تنظر إليها بإشراق باد وسرور ظاهر، وفكر شارد، ولم تؤد إليها من التحية إلا طرفاً ضئيلاً ظريفاً هو كل ما تستطيع تأديته من التحيات.(49/67)
فقالت الرئيسة (انك لم تسمعي ما أقول - وقد اقتنعت وا أسفاه بهذا) قالت ذلك وسحبت الخيط سحبة تدحرجت لها كرة الخيوط على البلاط الصقيل اللامع، وتبعتها أولجا بنظرة مستطلعة. ثم رفعت الرئيسة عينيها إليها وقالت (سوف لا أكرر ما أقول. سوف لا أكثر من القول).
راق (اولجا) غرفة المطالعة هذه، وراقتها نظافتها الغريبة واتساعها غير المألوف. وأعجبتها زنابق الورد الجنية الزاهية التي كانت موضوعة في زهرية فوق المكتب. جلت بنظرها إلى القيصر الشاب وقد صور بكامل جسمه في بهو فاخر، ولبثت ساكتة لا تنبس ببنت شفة.
قالت الرئيسة في لهجة تدل على معنى مقصود منها. وقد شعرت في نفسها بسورة من الغضب: (انك لم تعودي الآن بنتاً صغيرة)
فأجابت أولجا في سذاجة يغلب عليها الحبور. (نعم. سيدتي!)
قالت الرئيسة ولا يزال في لهجتها معنى تقصده، وتتعمد الإلماع إليه (لكنك لم تصبحي امرأة بعد) واحمر وجهها الشاحب بعض الحمرة وقالت (خبريني أولاً: لماذا تصففين شعرك بهذا الشكل؟ انك لتصففينه كالمرأة).
فأجابت أولجا (ليس من ذنبي يا سيدتي أن يكون شعري جميلاً) وأمسكت شعرها المنظم الجميل بكلتا يديها وبشكل لا يخلو من دلال.
فقالت الرئيسة (أحقاً ما تقولين؟ أصحيح أنه لا لوم عليك؟ - ألا تلامين على الطريقة التي تنظمين بها شعرك؟ ألا تلامين على هذه الأمشاط الغالية؟ ألا تلامين إذا أفقرت أبويك باقتناء حذاء بعشرين روبلا؟ ولكني أكرر القول بأنه قد غاب عن بالك انك لا تزالين طالبة ليس إلا). وهنا قاطعتها أولجا فجأة بأدب ومن غير أن تفقد شيئاً من بساطتها وهدوئها قائلة (عفواً يا سيدتي انك خاطئة، إنني في الواقع امرأة، وهل تعلمين من يلام على ذلك؟ انه صديق أبي وجاره أخوك (الكسي ميكالوفتش). . . وقد وقع ذلك في الريف في الصيف الماضي).
بعد هذا الحوار بشهر أطلق ضابط من أجلاف القوزاق سمج أخرق، في هيئة السفلة من الرعاع والأفاقين، على أولجا عياراً نارياً أرداها قتيلة وهي في جمع من الناس على(49/68)
رصيف المحطة وقد وصلوا تواً بالقطار. وهكذا تحقق بهذا الحادث اعتراف (أولجا) الذي صعق الرئيسة. فقد قال الضابط للمحقق إن (مسجرسكي) قد أخرجته عن وعيه، وإنها فيما مضى كانت لها به صلة من صلات العشق الخفي، وإنها وعدته بالزواج منه، وفي محطة القطار في يوم مقتلها عند ما رأته يغادر المدينة إلى (نوفوجركاسك) أخبرته بغتة بأنها لن تفكر في الزواج منه، وان كل ما قالته له من أمر الزواج لا يتعدى السخرية منه والهزء به، وإنها ناولته مذكرتها ليقرأ فيها تلك الصفحات التي كانت قد كتبتها عنه.
قال الضابط (ألقيت نظرة عجلى على تلك الصفحات - وذهبت إلى الرصيف حيث كانت تخطر جيئة وذهاباً تنتظرني ريثما أفرغ من قراءتها وسددت إليها مسدسي فقتلتها. وتلك هي المذكرة في جيب معطفي، انظر تحت تاريخ 10 يوليو من السنة الماضية. . .). وهذا ما قرأه المحقق:
(الساعة الآن الثانية صباحاً، استغرقت في نوم عميق لكنني ما لبثت أن استيقظت مرة أخرى. . . أصبحت اليوم امرأة. أبي وأمي و (توليا) كلهم سافروا إلى المدينة وبقيت وحدي. ما أسعد الإنسان أن يكون وحده. آه لو أستطيع أن أصف مبلغ سعادتي بوحدتي هذا اليوم. في الصباح أخذت أتمشى في البستان بالمزرعة. دخلت في الأيكة الوارفة الظل. خيل إليّ أنني وحدي في هذا العالم كله. ليس فيه غيري. لم تلم بي قبل اليوم أمثال هذه الخواطر والأفكار اللذيذة. . . ما أحلاها. . . تناولت طعام الغداء وحدي، ثم لعبت ساعة من الزمن. . . وألقت الموسيقى في روعي بأنني يجب أن أعيش أبداً وأن أكون أسعد مخلوق على وجه الأرض! ثم أخذتني سنة من الكرى في غرفة الاستقبال الخاصة بأبي. وفي الساعة الرابعة أيقظتني (كيت) وقالت لي إن (الكس ميكالوفتش) قد حضر إلى هنا. كم سررت بلقائه. كم كان جميلا أن استقبله وأكرم مثواه. جاء ومعه جوادان مطهمان. ما أجملهما؟ ظلا طيلة لبثه واقفين عند الباب الأمامي. لكنه لبث هنا لأن المطر كان ينهمر كأفواه القرب وأنه يرجو انقطاعه وجفاف الطريق عند المساء. أسف أشد الأسف لعدم لقائه أبي في البيت، كان مبتهجاً خفيف الروح مترعاً بالحياة، عاملني بكل لطف وأدب. وصار يتنادر معي ويذكر في دعابه وفكاهة أنه وقع في شراك حبي من زمن بعيد. وقبيل تناول الشاي أخذنا نخطر في البستان بين الرياحين والأغصان المتمايلة وكان الجو رائعاً فاتناً،(49/69)
ولكن الرد طفق يشتد، وظللنا نمشي معاً ذراعاً بذراع، وقال كأنه معي فاوست مع مرجريت!. هو في السادسة والخمسين، إلا أنه لم يزل وسيماً جذاباً. حسن الهندام دائماً - والشيء الذي أنكرته عليه هو أنه جاء اليوم متلفعاً بملفعة تفوح منها رائحة عطر انكليزي ولا تزال عيناه عيني شاب يافع. . لحيته طويلة مسترسلة. مفروقة في وسطها فرقاً جميلا - هي فضية لامعة. - تناولنا الشاي في الشرفة الزجاجية، وشعرت بغتة أن وعكاً خفيفاً عراني فاستلقيت على السرير وظل هو يدخن. ثم جلس بقربي وشرع يقول أقوالاً لذيذة، فيها متعة، وفيها ما يستثير كامن الوجد ومكبوت الهيام. ثم تناول يدي فطبع عليها قبلة حارة. . . فجعلت من منديلي الحريري الكبير ستراً أسدلته على وجهي، وجع ينهال بالقبلات إثر القبلات من فوق المنديل على شفتي. . . لا أدري كيف وقعت الواقعة!. لا أستطيع أن أقول كيف حدثت، قد جن جنوني!. . ما كنت لأحلم يوماً أنني أكون كتلك اللحظة. . والآن لا أشعر نحوه بغير شيء واحد: الاشمئزاز الذي لا قبل لي بحمله. أواه! ما أشد ما ثار في نفسي بعد ذلك من المقت له!!
المدينة في هذه الأيام من أبريل نظيفة نقية، قد ذهبت بأدرانها وأقذارها أمطار الشتاء، وبدت حجارتها بيضاء ناصعة، وأصبح السير فوقها محبباً شهيا. . . في كل يوم أحد بعد القدّاس ترى في شارع الكنيسة المؤدي إلى خارج المدينة امرأة قِمئة ضئيلة الجسم تلبس الحداد، في يديها قفازان من جلد المعز الأسود، تحمل مظلة مقبضها من الأبنوس، تراها تسير في الشارع وما تنتهي منه حتى تجوز ساحته، ثم تعبر السوق المتهدمة حثت الحدادون الكثيرون، وحيث النسيم يهب رقيقاً عليلاً من الحقول القريبة. وهناك على بعد كبير بين الدير والسجن ترى العين المنحدر الأبيض من القبة السماوية، والحقول المترامية تغتسل في تلك القتمة الرمادية. . . وبعد ذلك، بعد أن تجوز البركة الكدرة خلف الدير ترى ما يبدو لك كأنه حديقة فسيحة واطئة محاطة بسور أبيض كتب على بابه: (صعود سيدتنا إلى السماء هناك تقف المرأة وقفة قصيرة ترسم مسرعة بيديها صليباً على صدرها وتسير سالكة الطريق الأصلي؛ ومتى وصلت المقعد إزاء الصليب الجديد المصنوع من خشب البلوط، جلست في تلك الريح الشديدة وذلك الهواء القارس ولبثت كذلك ساعتين. . حتى تؤلمها قدماها من شدة البرد، وهما في ذلك الحذاء الخفيف، وحتى تكاد تجمد يداها من(49/70)
قسوته ولذعته. وبينا هي تستمع لأطيار الربيع تصدح بالغناء العذب، والصوت الرخيمالرقيق حتى في ذلك البرد القارس. وبينا هي تصغي إلى صفير الريح تمر من تجاويف إكليل الخزف وتضاعيفه تبرق في رأسها فكرة أنها تقدم نصف حياتها لو أن ذلك الإكليل البارد الميت لا يكون أمام عينيها. ثم إن (أولجا مسجرسكي هي التي دفنت في ذلك القبر)، هذه الفكرة وحدها، تغمرها في لجة من الدهش البالغ والحيرة المتناهية، فيبدو عليها وجوم عميق وذهول غريب وجزع مروع: كيف يستطيع الإنسان أن يجمع بين طالبة غضة بضة لا تتجاوز سنها السادسة عشرة، كانت قبل شهرين أو ثلاثة تتفجر حياة، وتسطع فتنة، وترفل بأزهى حلل السعادة والهناء. كيف يستطيع الإنسان أن يوفق بينها وبين تلك الأكمة من التراب وذلك الصليب الخشبي؟ أممكن أن تكون هذه هي نفس هذه الفتاة التي تشع عيناها بالخلود الأزلي من هذا الإطار النحاسي؟ وكيف يستطيع الإنسان أن يجمع بين هذه الطلعة المشرقة الوضاءة وتلك الحادثة الفظيعة التي توافق الآن اسم (اولجا مسجرسكي)؟ رحماك يا رب! إن هذا ليعجز الإفهام. . ولكن هذه المرأة القمئة الضئيلة الجسم سعيدة في قرارة نفسها، سعيدة كأولئك العاشقين الذين وقفوا حياتهم على حلم عاطفي جميل. .
هذه المرأة هي معلمة (أولجا) في المدرسة. فتاة أربت على الثلاثين، ظلت منذ زمن بعيد عائشة على هوس في قرارة روحها كان هذا الهوس أول الأمر ينتاب أخاها - وهو ملازم في الجيش ليس فيه ما هو جدير بالاهتمام أو قمين بالالتفات - كل روحها كانت معلقة به، متصلة بمستقبله بأمتن الصلات، اتصالا تتصور أنه لابد يوماً مود بها إلى أرض من أراضي عبقر. وبعد ذلك لما قتل أخوها في (موقدن) أقنعت نفسها بأنها - ويا للسعادة ولحسن الحظ - ليست كالأخريات، وإنها بدلاً من الجمال، وبدلاً من أن تكون امرأة حقيقية تتمتع بما للمرأة من أنوثة، بدلاً من ذلك لها عقل راجح، وفكر ثاقب، هو أسمى من هذه الدنيويات السافلة، هي عاملة من عمال المثل الأعلى.
وأولجا الآن محور أفكارها وخيالها ومبعث كل إعجابها وسرورها، في كل عيد أو عطلة أن تهرع إلى قبرها - وقد ألفت الذهاب إلى المقبرة بعد موت أخيها - تظل ساعات طوالا شاخصة إلى الصليب الخشبي. تذكر وجه (أولجا مسجرسكي) الشاحب المصفر وسط(49/71)
الأزاهير في النعش وتذكر أيضاً ما سمعته ذات مرة: ذات مرة في فرصة الغداء بينما كانت (أولجا مسجرسكي) تتمشى في بستان المدرسة تقول مسرعة عجلي لصديقتها الحميمة (سبوتين) الطويلة البادنة: (كنت أقرأ في كتاب من كتب أبي - وأن لأبي لكتباً قديمة لا تحصى، أكثرها غريب نادر فيه الوفير من المتعة وفيه الجزيل من اللذة - قرأت عن الجمال الذي يجب أن تمتلكه المرأة، وما أكثر ما هو مسطور هناك، لست أذكره كله، لكنني أحفظ منه بعض الشيء؛ اسمعي: عينان سوداوان فاحمتان كالقار يغلي في جفنه، صدقيني، هكذا كان مكتوباً هناك. . . كالقار يغلي في جفنة!! حاجبان سوداوان كالليل البهيم، حمرة غضة تخضب الاهاب، قد اهيف، يدان أطول من المعتاد، قدمان صغيرتان، نهدان بارزان، ساقان مستديرتان متسقتان، ركبتان يحكى لون رضافهما لون داخل الأصداف. كتفان عاليان لكنهما منحدران - لقد كدت أحفظ أكثره غيباً، كله صحيح، ما أشده انطباقاً على الواقع، ولكن أتدرين ما هو أهم من كل هذا، هو النفس الرقيق الناعم اللين، وليس هو إلا هذا الذي أتنفسه أنا. . . . من الأعماق، أصغ إليّ، ألا تجدينه عندي!!. . أليس هو رقيقاً)
والآن قد تلاشى النفس الرقيق مرة أخرى في العالم، في ذلك اليوم الأشهب الغائم في ريح الربيع البادرة القارسة. . .
بغداد
ع. الحمدي(49/72)
المارد الأناني
لأوسكار وايلد
ترجمة عبد القادر صالح
أوسكار وايلد من أبرز رجالاتِ الأدب الإنجليزي في القرن التاسع عشر، نعم في حياته يما لم ينعم به الكثيرون من مشاهير الأدب: شهرة واسعة وحسن تقدير مصحوب بالحب والإعجاب. ولكن الدهر الذي لا يستقر على حال قلب له ظهر المجن في الشطر الأخير من حياته، فقاسى من الهوان والفاقة ما حطم جناحيه، وطمس عبقريته، فمات شريداً طريداً في باريس.
ولد أوسكار وايلد من أبوين إرلنديين في سنة 1854 في دبلن حيث قضى سني دراسته الأولى، فورث عن أبيه الدكتور (ويليام وايلد) إفراطه في الميل الجنسي، وعن أمه ميلها للفن، فقد كانت شاعرة نائرة، لها مكانتها.
أتم دراسته في أوكسفورد؛ وهنالك أعجب بالآداب اليونانية والحياة اليونانية القديمة التي أوحت إليه مذهبه في الأدب، وهو: الفن للفن. وفي أوكسفورد نما فيه ميله الجنسي الشاذ، الذي كان الصخرة التي تحطم عليها مجده
اشتهر (أوسكار) منذ أيام دراسته الأولى بطلاوة الحديث ورقة المداعبة، يعبد الجمال ويمقت القبح؛ لم يتحدث إلى إنسان إلا وود المحدث إليه أن لو يعيد أوسكار الأحدوثة من أولها. فشهرته في الدرجة الأولى ترتكز على طلاوة حديثه وظرفه، ثم على أدبه، ولا سيما رواياته التمثيلية وقصصه البديعة.
ترجمت في (الرسالة) قطع من كتابات هذه الشخصية العجيبة التي كانت تفتخر البيوتات الأرستقراطية في إنجلترا بزيارته لها. وهأنذا أترجم لقراء الرسالة قطعة أخرى من غرر ما كتب، تتجلى فيها روح الكاتب بأجلى بيان. على أنني تصرفت في ترجمة بعضها تصرفاً قليلا:
حديقة غناء، مترامية الأطراف، يكسوها العشب الأخضر الغض، ويزيد في جمالها ما يبدو فوق الحشائش هنا وهنالك من الزهور الشبيهة بالنجوم. فيها اثنتا عشرة شجرة من الخوخ، تزهر في الربيع أزهارها البهية، وفي الخريف تنوء بحمل ثمرها اليانع.(49/73)
تلك الحديقة هي جنينة المارد التي اعتاد الصبية أن يلعبوا فيها بعد ظهر كل يوم إثر انتهاء وقت المدرسة. وكثر ما كان أولئك الصبية يقفون ألعابهم ليصغوا إلى أغاريد الطيور العذبة التي كانت تنبعث من بين الأغصان. ولكم كان يخاطب بعضهم بعضاً: (ما أسعدنا هنا!)
عاد المارد من زيارته لصديقه عفريت (كورنول) التي استغرقت سبع سنوات تحدث فيها إليه بما طاب له من الحديث. فلما قدم إلى قصره ورأى الأطفال يلعبون في الحديقة انتهرهم قائلاً: (حديقتي! حديقتي! كل فرد يستطيع أن يفهم ذلك، ولن أسمح لأحد أن يلعب فيها). فلاذ الأطفال بأذيال الفرار.
وعلى أثر ذلك أحاط الحديقة بسور عال علق عليه لوحة أعلن فيها أن كل من ينتهك حرمة حديقته بدخوله إليها يحاكم. فكان بذلك مثال المارد الأناني.
لم يكن للصبية مكان يلعبون فيه. حاولوا أن يلعبوا في الطريق، ولكنها كانت مملوءة بالحجارة القاسية والتراب، فلم ترق لهم؛ فصاروا يطوفون بجدران الحديقة آسفين على تلك الأيام السعيدة التي قضوها فيها.
ورد الربيع وأخذت الأزهار تشقق عن أكمامها، والطيور تغرد على الأفنان في طول البلاد وعرضها. ولكن الشتاء ما زال ضارباً بجرانه فوق جنينة المارد الأناني. فقد أنفت الطيور أن تغرد على أشجارها والأطفال بعيدون عنها، ونسيت الأشجار أن تزهر.
نجمت زهرة من بين الأعشاب اتفاقاً، فلما رأت الإعلان أسفت لما حل بالصبية فعادت أدراجها الى بطن الأرض. ولم ينعم بتلك الجنينة في غياب الأطفال سوى الثلج والصقيع اللذين استبشرا قائلين: (هجر الربيع هذه الجنينة وسنتمتع بها طيلة السنة.)
غطى الثلج أعشابها ببساطه الأبيض، وصبغ الصقيع الأشجار بصبغة الفضة. وما لبثا أن دعوا (الريح الشمالية) لتشاطرهما الإقامة في تلك الحديقة فلبت الريح الدعوة مزملة بالفراء، وأخذت تزأر طيلة النهار فتقتلع المداخن وتطوح بها.
(هذه بقعة جميلة. فلندع البَرَد إلى زيارتنا.) وسرعان ما لبى (البرد) الدعوة فصار يقارع سطح القصر ثلاث ساعات متتاليات يومياً ثم يجري بعد تحطيم كثير من البلاط حول الجنينة مزبداً.
(لا أدري لماذا تأخر قدوم الربيع: على أين وطيد الأمل بأن الجو سيتغير). بمثل هذا كان(49/74)
يتحدث المارد إلى نفسه لما طال انتظاره للربيع ولكن الربيع ظل على هجرانه وتمادى الصيف في صده.
قدم الخريف وأينع ثمر الأشجار في كل الجنائن المجاورة. لكن جنينة المارد ظلت خلواً من الثمر لأنانيته. ترقص خلال أشجارها الثلوج والأمطار، وتعبث بها الريح الشمالية والصقيع.
استيقظ المارد صباح يوم على موسيقى عذبة، خيل إليه من حسن وقعها في نفسه، أنها فرقة الملك تصدح مارة بقصره. ولم تكن في الواقع سوى ألحان طائر صغير يغرد خارج نافذته، حمله طول عهده بأغاريد الطيور في جنينته على الاعتقاد بأنها أعذب موسيقى في العالم.
وقفت الأمطار وسكنت الرياح الشمالية وأخذت النسائم تحمل إليه ريا عطرا خلال نافذته المفتوحة، فتمتم قائلاً: (ها هو الربيع قد قدم.) نهض من فراشه وأطل من النافذة. فماذا رأى؟ منظراً عجباً.
رأي الأطفال الذين قد تسللوا من ثغرة في الجدران جلوساً على أغصان الأشجار. كل شجرة تضم بين أغصانها طفلا. فكأنها اغتبطت بمرآهم فتفتحت أزهارها ومادت أغصانها فوق رؤوسهم، وكانت العصافير تحوم حولهم تشقشق شقشقة الفرح. وصارت الزهور تتسابق للظهور من بين الأعشاب ضاحكة. لكن الشتاء ما زال ماثلاً في أبعد نقطة من الجنينة حيث وقف طفل صغير لم يساعده قصره على تسلق أغصان الشجرة القريبة منه. فأخذ يدور حولها وهو يبكي أمر بكاء. عز على الشجرة أن تظل مغطاة بالثلج، وأن تظل الريح تصفر فوقها فأخذت أغصانها تدنو من الطفل وأفنانها تتدلى، ولكنه لم يستطع تسلقها لفرط قصره.
ملئ قلب المارد حناناً وهو ينظر إليه فثاب إليه رشده وأخذ يقول: (ما كان أشد أنانيتي!) الآن أدركت سبب تأخر الربيع. سأضع ذلك الصبي الصغير على قمة الشجرة وسأهدم السور (وستصبح حديقتي ملعباً دائماً للأطفال.)
هبط الدرج ودخل الحديقة بلطف، فلما رآه الصبية ذعروا وفروا. فعاد الشتاء إلى الجنينة. غير أن الطفل الصغير لم يفر. لان عينيه كانتا مغرورقتين بالدموع فلم يرد المارد عند(49/75)
قدومه.
أتاه المارد من خلفه وأمسك به برفق ثم وضعه فوق الشجرة فاستحالت إلى أزاهير جميلة، وتهافتت العصافير لتغرد عليها، فتح الطفل ذراعيه من شدة الفرح وطوق بهما عنق المارد ثم قبّله، فلما رأى الأطفال الآخرون ان المارد فقد فظاظته عادوا إلي الحديقة سراعاً وعاد معهم الربيع، فهش المارد إليهم، وخاطبهم بقوله: (هذه جنتكم أيها الأطفال الصغار) ثم أخذ بمعوله الكبير يقوض الجدار.
ظل الأطفال يلعبون مع المارد في حديقته البديعة حتى المساء فأتوا يودعونه (ولكن أين رفيقكم الصغير الذي وضعته فوق الشجرة؟). فأجابه الأطفال: (لا نعرف. لقد ذهب) (احرصوا على مجيئه غداً). فأخبروه بأنهم لا يعرفون مسكنه وانهم لم يروه قبل ذلك اليوم، فحزن المارد حزناً شديداً لأنه أحب ذلك الطفل الذي قبّله حباً جماً.
صار الأطفال يأتون كل يوم بعد الظهر ويلعبون مع المارد، لكن الطفل المحبوب لم يُرَ ثانية، كان المارد لطيفاً معهم جميعاً ولكنه ما زال يحن الى صديقه الطفل الصغير، وكثيراً ما كان يذكره قائلاً: (ما أشد شوقي لرؤيته!)
تعاقبت السنون وشاخ المارد وضعف، فلم يقو على اللعب، ولذا كان يجلس في كرسيه يرقب الأطفال وهم يلعبون معجباً بهم وبجنينته:
(لدى زهور جميلة، ولكن لا ريب في أن هؤلاء الأطفال أجمل أنواع الزهور) أطل صباح يوم ماطر من نافذته وهو يرتدي ثيابه، فأخذ يمرس عينيه وينظر فيطيل النظر كأنما وقعت عيناه على شيء عجيب، ولقد كان عجيباً حقاً. رأى من طرف من أطراف الحديقة النائية شجرة مكتظة بالزهور، يتدلى من أغصانها الذهبية ثمرها الفضي، ورأى تحتها الطفل الذي أحبه.
هرول إلى الجنينة مسرعاً، فلما دنا من الطفل صعد الدم إلى وجهه، واحمرت عيناه غضباً، إذ رأى راحة الطفل دامية (من نجاسر أن يجرحك؟ اخبرني لكي أذبحه بسيفي الكبير.)
فأجابه الطفل (لا. هذه جراح الحب!) فاستولى على المارد خوف غريب، ثم جثا أمام الطفل قائلاً: (من أنت؟) فأجابه الطفل مبتسماً:
(سمحت لي أن ألعب مرة في جنينتك، والآن ستذهب معي الى جنينتي التي هي الفردوس)(49/76)
تراكض الأطفال بعد الظهر كعادتهم فوجودا المارد الميت تحت الشجرة مكفناً بالزهور البيضاء.
نابلس
عبد القادر صالح(49/77)
الكتب
مواقف حاسمة من تاريخ الإسلام
تأليف الأستاذ محمد عبد الله عنان
(الطبعة الثانية) نقحت وحققت وضمت إليها بحوث جديدة
لئن كان لهذا القلم الضعيف أن يطمح الى ما هو أبعد من غايته، فان مما يبهج نفسي أن أتحدث عن هذا الكتاب القيم، وقصاراي أن أتم هذا الحديث على خير ما أرجو من دقة، وعلى أحسن ما أحب من إنصاف.
الكتاب كما يتضح من عنوانه، يصور لك أدوار ذلك الصراع العظيم الذي قام بين الإسلام والنصرانية منذ أن وثب العرب من صحرائهم، وأثخنوا في أراضي الدولتين الفارسية والرومانية، والذي تجلى في عدة مواقف مشهورة كحصار العرب للقسطنطينية ولقائهم أعداءهم في الغرب في موقعة بلاط الشهداء، ثم ما كان من بسط العرب سيادتهم على البحر الأبيض المتوسط واحتلالهم اقر يطش، وصقلية، وروما، وجنوب إيطاليا، إلى أن تطور هذا النزاع إلى دور الحروب الصليبية وما تخللها من لقاءات هائلة بين قوى الإسلام والنصرانية، وأخيراً ما كان من أمر العرب في الأندلس، وتقوض دعائم ملكهم العريض هناك.
وتلك المواقف الحاسمة التي يتخذ منها المؤلف الفاضل عنواناً لكتباه هي في الواقع موضوع واحد، فهو وان اختلفت مظاهره وتعددت ميادينه، وتسلسلت عصوره، لا يخرج في جوهره عن الصراع بين الإسلام والنصرانية، ولقد أعجبني من المؤلف تنبيهه الأذهان إلى ذلك في مواطن كثيرة.
ولقد صور الأستاذ المؤلف كل هاتيك المواقف تصويراً دقيقاً رائعاً، مبيناً أثرها في مصاير كل من الطرفين في وضوح يؤيد ما اشتهر به من بسطة في فنه، وسعة في اطلاعه، وإلمام عجيب بالمواضيع التي يطربها؛ ولقد أضاف إلى تلك المواقف طائفة من الفصول سماها (بحوثاً مفردة) والواقع أنها ليست مفردة، وأن اتصالها بالموضوع وثيق، بل إنها لتعد ضرورية له، ومن أمثلة تلك البحوث الهامة (الدبلوماسية في الإسلام) و (الفروسية) و(49/78)
(الرقي في العصور الوسطى) وغيرها مما يلقى ضوءاً على الموضوع الأصلي؛ ولا يفوتنا أن نذكر مع مزيد الإعجاب أن المؤلف مهد لكتابه بفصلين في غاية الأهمية هما (وثبة العرب) و (سياسة العرب الدينية)؛ فأرانا في الفصل الأول، في تعمق ودقة وقوة بيان، تلك الروح التي سيطرت على العرب في جزيرتهم، وأرانا في الفصل الثاني، روح الإسلام في معاملة الأمم التي كانت تدخل في حوزته مورداً في ذلك كثيراً من الأمثلة والاقتباسات، شارحاً الأحوال الاجتماعية والسياسية التي كانت تسود ذلك العصر.
فأنت ترى من هذا الوصف الموجز أن الكتاب يجمع بين الفائدة واللذة، أبو بعبارة أخرى فهو للثقافة والاستمتاع.
أما طريقة الأستاذ في كتابة التاريخ فجديرة بالإعجاب حقا، فهو لن يسرد عليك الحوادث سرداً مملا، بل ترى له طريقة انقادت له وسهلت في يديه وأصبحت وقفاً عليه، طريقة طالما تطلعنا إلى وجودها في كتابه التاريخ باللغة العربية، فهو يحلل ويدقق، ويمحص الحوادث في نظام علمي دقيق، دون أن يملك أو يطوح بك في مجاهل مطموسة الصوى، جائرة السبل، وإنك لتحس شخصيته في كل عبارة من عباراته، لأنه يفرغ على القرطاس صور ذهنه، وحماس قلبه، كما أنك تلمس آثار جهوده في كل فقرة من فقراته، فتراه يعرض عليك الروايات المختلفة، والآراء المتنوعة، ثم يقف منها موقت الناقد الذي يمكنه من الحكم والفصل، ذاكرة قوية، وقراءة واسعة، وصبر شديد؛ ولن تراه يتهرب من نقطة أو يتحيز إلى رأي؛ كل ذك في فطنة ونفاذ بصيرة، فإذا أضفت إلى هذا أن الأستاذ عناناً مشغوف بموضوعات التاريخ الإسلامي، وأنه لن يكتب إلا ما جاشت به نفسه ونبض به قلبه، أمكنك أن تفهم الروح التي يكتب بها الأستاذ التاريخ، والواقع أننا لا نعدو الحقيقة إذاقلنا إن طريقة الأستاذ عنان في كتابة التاريخ قد ثبتت عندنا ناحية من نواحي الحركة الفكرية، كما أن الأستاذ نفسه قد صار ركناً وعلماً نفاخر به أهل الغرب، فطريقته العلمية الدقيقة في كتابة التاريخ تضع آثاره في صف مثيلتها في لغة الغرب، مما يعد مفخرة للعربية وأهلها.
وهناك ناحية أخرى في كتابة الأستاذ عنان جديرة بالتنويه، تلك هي أسلوبه، فللأستاذ أسلوب خاص، تحار إن أردت شرحه؛ فعباراته قوية وسط بين المقبوضة والمبسوطة، لا(49/79)
ترى فيها حشواً ولا تجد كلمة تستعمل في غير موضعها، أو تجد لفظاً يقصر عن أداء معنى، أو يتسع حتى يطغى على ذلك المعنى فيضيعه، كذلك لن تجد عبارة فاترة في موقف حماسي، أو جملة حماسية من غير داع، هذا إلى جمال ورونق في غير تكلف أو إسفاف.
أما عن مظهر الكتاب وطبعه وترتيبه، فحسبك منه أنه مطبوع في مطبعة دار الكتب، على ورق جيد من القطع الكبير، ولقد ختمه المؤلف الفاضل بثبت للمراجع العربية والإفرنجية، ثم بفهرس للأعلام التاريخية والجغرافية ومقابلها الإفرنجي، ثم بفهرس عام للكتاب.
ونحن لا يسعنا إلا أن نتقدم بعظيم الشكر للأستاذ المؤلف على مجهوداته التي ترفع رأس العربية، وتشرف أهل الضاد جميعاً.
محمود الخفيف(49/80)
العدد 50 - بتاريخ: 18 - 06 - 1934(/)
صفاء الأفق في الجزيرة العربية
عقد الصلح بين زعيمي الجزيرة، جلالة عبد العزيز بن السعود، عاهل المملكة السعودية، وسيادة الإمام يحيي حميد الدين ملك اليمن، فصفا أفق الجزيرة العربية، وقرت عيون العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بعد أن جزعت قلوبهم حيناً لتلك الحرب التي كادت تهدد أمن الجزيرة وسلامها، وتفسح مجالاً لسعي الطامعين والمتربصين من خصوم القضية العربية. وعقدت معاهدة الطائف بين الفريقين لتنشأ بين المملكتين العربيتين صداقة دائمة، وتحتم عليهما العمل المشترك في الشؤون الاقتصادية المشتركة، وفي تنظيم العلاقات الخارجية، فلا يعقد أحدهما معاهدة مع دولة أجنبية تؤثر في مصالح الطرف الآخر إلا بإذنه وبعد مشاورته؛ ويجب على الطرفين أن يتعاونا في العمل لحماية المصالح المشتركة والدفاع عن استقلال الجزيرة العربية ضد أي خطر خارجي.
ولقد قلنا منذ البداية أن هذا الخلاف الخطير لا يعني المملكة السعودية أو اليمن فقط، ونما يعني مستقبل الجزيرة العربية باسرها، وناشدنا الزعيمين أن يتذرعا بالرواية والحكمة، وان يغلبا التفاهم والحسنى. ولكن الظروف كانت أقوى من أي إرادة، فوقعت المعارك الأولى، وتطورت الحوادث بسرعة، ووقف العالم العربي والإسلامي مدى حين ذاهلاً يتساءل عما يمكن أن ينتهي الخطب إليه. وكان اشد ما يزعجه أن يرى بعض الدول الأجنبية تتربص وتتحفز لانتهاز الفرص والظروف. ولم يكن يومئذ ثمة مجال لتحديد المسؤوليات أو توجيه اللوم؛ وكل ما كان يشغل العالم الإسلامي ويهمه، هو أن يعقد السلام بأية وسيلة؛ وعود السلام إلى الجزيرة هو السبيل الوحيد للقضاء على تلك المطامع والآمال الأجنبية التي تزدهر إلا في الكدر والخصام، والتي خشينا عواقبها حينما رست بعض السفن الأجنبية في مياه الحديدة يوم أن استولت الجنود السعودية عليها، واحتج مرسلوها بذلك العذر الخالد الذي نسمعه في مثل هذه الظروف دائماً، وهو حماية الرعايا الأجانب؛ وقرأنا في الصحف الاستعمارية غير مرة أن بعض الجهات المعروفة بمطامعها في الشرق تهتم أيما اهتمام بتطور الحوادث في الجزيرة. ولكن تفاقم الحوادث على هذا النحو كان نذيراً بركود العاصفة ثم هدوئها، فضوعفت الجهود في سبيل السلام والتفاهم، وأدرك إمام اليمن خطورة الموقف، وخطر التردد، وعبث الخصومة والمقاومه؛ فأقر الملك الوهابي على مطالبه التي اشترطها منذ البداية لوقف القتال، وهي إخلاء الجبال التي احتلتها القوات اليمنية في عسير(50/1)
ونجران، وإطلاق الرهائن، وتسليم الأدارسة سادة عسير السابقين؛ وبدأ الإمام بتنفيذ الشروط المطلوبة، واستؤنفت المفاوضات بين الفريقين يحدوها الرجاء تارة واليأس أخرى، حتى شاء ربك أن تحقن الدماء وان يعقد السلام، وان تصان الجزيرة من شر الطامعين والمتربصين.
وعقد معاهدة الطائف حادث عظيم في تأريخ الجزيرة العربية، ومهما قيل عن نصوص المعاهدة وأثرها في مركز اليمن، وكونها ترتب للمملكة السعودية عليها نوعاً من الأشراف، فلا ريب أنها لخير الجزيرة بصفة عامة ويكفي أنها حسمت نزاعاً كان يضطرم منذ عشرة أعوام، ويهدد الجزيرة بشره بين آونة وأخرى، ويفسح المجال لسعي الكائدين، وأنها قررت حدوداً كانت دائماً مثار الأخذ والرد. وهذه الخاتمة السعيدة لحوادث الجزيرة العربية تحمل على كثير من الغبطة والتفاؤل: أولاً لأنها كشفت مرة أخرى عن المعاني السامية التي يحملها التضامن الإسلامي، وثانياً لأنها ستوحد بين الجهود التي تبذل لصون استقلال الجزيرة. فأما التضامن الإسلامي فقد ظهر في هذه الحوادث بمظهر رائع، وكان لصوت الرأي العام الإسلامي اكبر اثر في تلطيف حدة الخلاف وفي تحذير الزعيمين من عواقبه؛ وكان الرأي العام الإسلامي حكما في الواقع يحتكم إليه الزعيمان، فيذيع عليه جلالة ابن السعود وثائقه ومراسلاته مع سيادة الإمام ليشهده على ما بذل من الأناة والصبر، ويرجوه سيادة الإمام إلا يقف عند الإشاعات والأراجيف المزعجة؛ وكان وفد الأمم الإسلامية الذي سافر إلى الحجاز يبذل جهده لتقريب مدى الخلاف بالنصح والتوسط والرجاء. وفي ذلك اقطع حجة لدحض مزاعم أولئك الذين ينكرون قوة الرأي العام الإسلامي وقوة أثره في توجيه الأمم الإسلامية.
وأما عن توحيد الجهود العربية فيكفي أن
نتلو نصوص معاهدة الطائف لنقدر ما يترتب على تنفيذها من تنظيم لجهود الأمتين العربيتين المستقلتين في سبيل خيرهما وخير الجزيرة العربية؛ ولنقدر ما تدلي به هذه النصوص من فهم الأمتين لما يهدد استقلالهما ومصالحهما المشتركة من العوامل والدسائس الخارجية. ولا ريب أن
اليوم الذي يدرك فيه العرب والمسلمون قيمة التضامن والاتحاد بصورة عملية، هو اليوم(50/2)
الذي تتعثر فيه مشاريع الاستعمار وتتحطم، ويبزغ فجر النهضة الحقيقية للعالم الإسلامي، وتستطيع الأمم العربية والإسلامية أن تنظم جهودها لاسترداد استقلالها وحرياتها.
فإلي الزعيمين العربيين والى العالم الإسلامي كله نرفع خالص التهنئة على تلك الخاتمة السعيدة؛ ونرجو أن يوفق الزعيمان إلى خدمة الإسلام والعرب متصافيين متضامنين، ومن ورائهما عطف العالم الإسلامي.(50/3)
الراحة في التغيير
للأستاذ احمد أمين
خلق الإنسان ملولاً، يمل النعيم إذا طال، ويمل الشقاء إذا طال، يمل الحر إذا دام، ويمل البرد إذا دام، يمل الأكل الشهي اللذيذ إذا استمر عليه، ويمل الأكل الخسيس إذا استمر عليه.
وقديماً ملّ بنو إسرائيل أكل المن والسلوى، وقالوا: (لن نصبر على طعام واحد، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها). ولست أدري لم لامهم موسى عليه السلام على ذلك والملل طبيعي في الإنسان، إلا أن
تكون صيغة الطلب رذيلة مذمومة: (فادع لنا ربك) ليس الصيغة المؤدبة التي تصدر من المؤمنين.
من أجل هذا استعان الناس على درء بالتنويع والتنقل ولو من حسن إلى رديء، فاشتهوا أتفه الطعام بجانب أجوده، واشتهوا عشش رأس البر وأكواخ أبي قير فراراً من القصور الشامخة والبنيان المشيد - وروعي هذا في برامج الدراسة: فحط بعد لغة، ورسم بعد حساب، ولغة إنجليزية بعد لغة عربية، دفعاً للملل من الدرس ومن المدرس؛ وروعي كذلك في برنامج الحياة: فلعب بعد عمل، ومزح بعد جد؛ وراعت الطبيعة هذا في برنامجها: فليل ونهار، وحر وبرد، وسلطان للقمر بعد سلطان للشمس وهكذا - ولولا ذلك لعرى الناس ملل لا يطاق، ولكانت الحياة عبئاً ثقيلاً لا يحتمل، ولفر الناس منها إلى الموت طلباً للتغيير والتنويع.
اخطأٍ الناس فظنوا أن الراحة معناها الانغماس في الكسل، والإضراب عن العمل، والتمدد على سرير مريح، أو الاتكاء على كرسي مُجنح أو نحو ذلك؛ وليس هذا بصحيح دائماً، ولو كان كذلك لما مل الناس هذه الراحة، ولما فروا منها إلى العمل، واستروحوا بالجد والتعب، إنما الراحة التغيير من حال إلى حال، من عمل إلى لا عمل، ومن لا عمل إلى عمل، ولو كان عدم العمل هو الراحة لكان السجن أروح مكان - ألا ترى الراحة تكون في الأشياء وأضدادها باستمرار؟ فلو ركب سيارة من مصر إلى الإسكندرية لأحسست التعب من الركوب، أحسست الراحة من المشي، ولو مشيت طويلاً لأحسست التعب من المشي،(50/4)
والراحة في الركوب؛ وما أحلى النوم بعد التعب، وما أحلى اليقظة بعد النوم - وفي الجلوس راحة إذا طال الوقوف، وفي الوقوف راحة إذا طال الجلوس، وفي العمل راحة بعد طول فراغ، وفي الفراغ راحة بعد طول العمل، وفي نظر الصحراء لذة بعد طول النظر إلى البحر، وفي البحر لذة بعد طول النظر إلى الصحراء - ومنظر البحر ابعد عن السأم لأنه في تغير مستمر وحركة دائمة: موجة تعلو ثم تهبط، وموجة تتكسر على الصخر أو الرمل، ثم تسير إلى الشاطئ وتفنى، وتتجدد أخرى وهكذا. ومنظر الأرض ليس نصيبه كذلك من التغير، فالإنسان به أسرع مللاً وأقرب سأماً - وهكذا كل نظام الحياة: الملل من الدوام، والراحة في التغيير.
ما أصعب الحياة الرتيبة وأشقها على النفس! إنها تميت القلب وتبعث على الخمود، ولابد لعلاجها من التجديد، وليس التجديد إلا نوعاً من التغيير، يبعث عليه السأم من القديم، فإذا مل الناس الأدب القديم جدد زعماء الأدب في الأدب. وأتوا للناس بفن جديد يستروحون به، وإذا مل الناس نوعاً من النظام الاجتماعي أتى المجددون بشيء جديد ونظام جديد يذهب بالملل ويجدد النشاط، وليس تغيير الأزياء - وخاصة عند النساء - إلا ضرباً من هذا، هن أسرع خلق الله إلى الملل، وأدعاهم إلى التغير والتجديد؛ فهن يطلعن على الناس كل عام بزي جديد في القبعات والأثواب وكل ما يتصل بهن، شعر قصير بعد شعر طويل، وفستان طويل بعد فستان قصير، وهكذا كثير ما لهن فكثر تغييرهن فراراً من السأم وطلباً للراحة لهن ولغيرهن.
وأقدر الناس في هذه الحياة من استطاع أن يتغلب على السأم والملل بالتغيير المناسب في نفسه وفي غيره. فالأديب القديم من استطاع أن ينوع نفسه وينوع كتابه حتى لا يمل ولا يُملّ، وخير المجلات من استطاعت أن تجدد نفسها من حين إلى حين تجديداً يتفق ومنفعة الناس، ويتفق والرقي؛ فتتغير في أسلوبها وتتغير في موضوعاتها، وتتغير من حين إلى لآخر في كّتابها حتى لا يسأم قراؤها؛ وخير القادة من استطاع أن يجدد في دعوته، فإذا كان له مبدأ واحد يدعو إليه استطاع أن يبرزه كل يوم في شكل جديد يستلفت النظر، ويبعث فيه حياة جديدة تدعو إلى النشاط والحركة.
وكثير من شرور هذا العالم سببه الملل، فكسل التلميذ وانصرافه عن الدرس نوع من الملل،(50/5)
وخمول الموظف وقعوده عن الجد في العمل نوع من الملل، والخمود السياسي والفكري والاجتماعي نوع من الملل، والرغبة في الانتحار نوع من الملل، وكثيراً ما يكون الميل إلى الكيوف والإدمان عليها نوعاً من الملل، وكثيراً ما يكون الشقاق العائلي وشقاء المنزل والمشادة بين الزوجين أحياناً والأبوين وأولادهما أحياناً نوعاً من الملل، إلى كثير من أمثال ذلك، وكلها أمراض صعبة التشخيص صعبة العلاج، تحتاج إلى نوع من الطب النفسي أدق من طب الأجسام، وتحتاج إلى مهارة في علم النفس لا تقل أهمية عن المهارة في علوم الطب.
من اجل هذا أصبحت الحياة فناً يجب أن يدرس، وأصبحت طريقتنا في الحياة طريقة بالية، إذا ارتقى وتعقد اصبح فناً يحتاج إلى الدراسة، وأصبحت الطريقة الساذجة فيه لا تغني، فأمهاتنا يربين أولادهن حسبما اتفق، ثم أصبحت التربية فناً، ومعلمونا كانوا يعلمون حيثما اتفق، ثم اصبح فناً؛ ومغنونا كانوا يغنون حسبما اتفق، ثم صار الغناء فناً - كذلك الحياة نفسها نحياها الآن حيثما اتفق، ولكنها تعقدت واصبح حل عقدها يحتاج إلى دراسة ودراسات - وأصبحت المرأة في حاجة لان تتجدد في بيتها حتى لا يمل زوجها، والزوج يتجدد حتى لا تمل زوجته، والمعلم يتجدد حتى لا يمل طلبته، ورئيس الحزب يتجدد حتى لا يمل اتباعه، وأصحاب الملاهي يتجددون حتى لا يملوا.
والتغلب على الملل ليس من الأمور الهينة، فليس كل تغيير يصلح لإزالة السام، إنما يصلح التغيير يوم تدرس النفس ويدرس نوع التغيير، كما يدرس المرض ويدرس نوع العلاج، ويكون الدواء طبق الداء.
عن الإسكندرية
أحمد أمين(50/6)
مسلمو السودان الغربي يحاولون كشف أمريكا في
أوائل القرن الثامن الهجري.
للدكتور عبد الوهاب عزام
عثر كريستوف كلمب على أمريكا على غير قصد إليها، بل كان يرجو أن يبلغ الهند من الغرب فأتيح له هذا الكشف العظيم.
وقد حاول مسلمو السودان الغربي في أوائل القرن الثامن الهجري أن يبلغوا الشاطئ الغربي من المحيط الأطلنطي (بحر الظلمات) برأي أسد من رأي كلمب، وفكرة أصح من فكرته؛ قبل كشف أمريكا بنحو قرنين.
كانت عظمى ممالك المسلمين في السودان في القرنين السابع والثامن بعد الهجرة بلاد ماليّ ومضافاتها. وكانت تعرف في ذلك الحين باسم بلاد التكرور. والتكرور كان أحد أقاليم هذه المملكة الواسعة.
وكان ملكهم أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون منسا موسى، قال في صبح الأعشى نقلاً عن العبر: (وكان رجلاً صالحاً وملكاً عظيماً له أخبار في العدل تؤثر عنه، وعظمت المملكة في أيامه إلى الغاية، وافتتح الكثير من البلاد. قال في مسالك الأبصار: حكى ابن أمير حاجب والي مصر عنه انه فتح بسيفه أربعاً وعشرين مدينة من مدن السودان ذوات أعمال وقرى وضياع.)
وقد حج منسا موسى أيام الناصر بن قلاوون سنة أربع وعشرين وسبعمائة. قال في صبح الأعشى نقلاً عن مسالك الأبصار. (قال لي المهمندار: خرجت لملتقاه من جهة السلطان فأكرمني إكراماً عظيماً وعاملني بأجمل الآداب. ولكنه كان لا يحدثني إلا بترجمان مع إجادته اللسان العربي. قال ولما قدم قدمّ للخزانة السلطانية حملاً من التبر ولم يترك أميرا ولا رب وظيفة سلطانية إلا وبعث إليه بالذهب. وكنت أحاوله في طلوع القلعة للاجتماع بالسلطان حسب الأوامر السلطانية فيأبى خشية تقبل الأرض للسلطان ويقول جئت للحج لا لغيره.
فلما صار إلى الحضرة السلطانية قيل له قبل الأرض فتوقف وأبى إباء ظاهراً وقال كيف يجوز هذا؟ فأسر إليه رجل كان في جانبه كلاماً، فقال أنا اسجد لله الذي خلقني وفطرني ثم(50/7)
سجد. وتقدم إلى السلطان فقام له بعض القيام وأجلسه إلى جانبه. وتحدثا طويلاً.
ومقصدنا من هذا الكلام في الرواية آلاتية عن صبح الأعشى:
(قال في مسالك الأبصار قال ابن أمير حاجب سألته عن سبب انتقال الملك إليه فقال إن الذي قبلي كان يظن أن البحر المحيط له غاية تدرك فجهز مائتي سفينة، وشحنها بالرجال والأزواد التي تكفيهم سنين، أمر من فيها إلا يرجعوا حتى يبلغوا نهاية أو تنفد أزوادهم. فغابوا مدة طويلة ثم عاد منهم سفينة واحدة، وحضر مقدمها فسأله عن أمرهم فقال سارت السفن زماناً طويلاً حتى عرض لها في البحر في وسط اللجة وادٍ له جرية عظيمة فابتلع تلك المراكب، وكنت آخر القوم فرجعت بسفينتي. فلم يصدقه فجهز ألفي سفينة: ألفاً للرجال وألفاً للأزواد. واستخلفني وسافر بنفسه ليعلم حقيقة ذلك. فكان آخر العهد به وبمن معه) اهـ
فما رأى المؤرخين والجغرافيين في هذه الرواية العجيبة؟
قد قرأنا في الجرائد قبل سنة أو سنتين أن بعض الباحثين صادف في أمريكا الجنوبية قبائل تشبه أن تكون عربيه مسلمة. فهل بلغ ملك السودان الغربي وأصحابه أمريكا في القرن الثامن الهجري وانقطعت الطريق بينهم وبين أفريقية فأقاموا هناك؟ أو ماذا؟
لعل سعادة شيخ العروبة العلامة احمد زكي باشا يدلي برأيه في هذه المعضلة.
عبد الوهاب عزام(50/8)
لا تجني الصحافة على الأدب ولكن على فنيته
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قالوا إن الأصمعي كان ينكر أن يقال في لغة العرب (مالح)، ويقول إنما هو ملح، وان (مالح) هذه عامية، فلما أنشدوه في ذلك شعراً لذي الرمّة يحتجون به عليه قال: إن ذا الرمّة قد بات في حوانيت البقالين بالبصرة زماناً. . . .
يريد شيخنا هذا: أن (المالح) في الأكثر الأعم يكون مما يبيعه البقالون، ولغتهم عامية مُزالة عن سننها الفصيح، مصروفة إلى وجهها التجاري. ولكن كيف بات ذو الرمة في حوانيت البقالين زماناُ حتى علقت الكلمة بمنطقه وجذبه إليها الطبع العامي، ولم يخالط عربيته غير هذه الكلمة وحدها؟ لم يقل الأصمعي شيئا، ولكن روايته تخبّر أن ذا الرمة انحدر من البادية إلى البصرة يلتمس ما يلتمسه الشعراء، فلما كان بها استضاق فلم يصب لجوفه غير الخبز، ولم يجد للخبز غير (المالح) يُسيغه به ليجد المسلك في حلقه، قالوا فيأتي البقالين فيبتاع منهم السمكة (المالحة) والبقلة (المالحة)، ويعرفونه مضيقاً إلى فرج، فيُنسئون له في الثمن إلى أجل، حتى يمتدح وينال الجائزة. قالوا ثم يمطره الممدوح ويلوي به ولا يرى في تلفيق العيش رخصاً إلا في (المالح) فيتتابع في الشراء ويمضون في أسلافه إبقاء عليه وحسن نظر منهم لمنزلته وشعره، ويرى هو أن لا ضمان للوفاء بما عليه إلا نفسه، فما بدٌّ أن يتراءى لهم بين الساعة، فيخالطهم فيحدثهم فيسمع منهم، وهم على طبعهم وهو على سجيته. ثم لا يقتضونه ثمناً، ولا يزالون يمدون له، فلا يزال (المالح) أيسر منالاً عليه، كما هو إلى نفسه أشهى وفي جوفه أمرأ، لمكان أعرابيته، وخشونة عيشه، فيصيب عندهم مرتعه من هذا (المالح). قالوا ثم يرى البقالون أن لا ضمان لما اجتمع عليه إلا أن يكون الشاعر معهم، فيلزمونه الحوانيت بياض يومه، ويغلقونها عليه سواد ليلته، فهم يمسكونه بالنهار، وتمسكه الحيطان والأبواب بالليل.
فلما عظم الدين وبلغ الجملة التي فاتت حساب الأيام إلى حساب الأهلة أُحضر الشاعر كربه وهمه، ولم يعد (المالح) ينجع فيه، ولا يجد به غذاء بل حريقاً في الدم، ورأى أنه قد امتحن بهذا. (المالح) الخبيث، واشرط نفسه فيه، وارتهنها به، فلا يزال من (المالح) هم في نفسه، ومغص في جوفه، ولفظ على لسانه ودين على ذمته؛ ولا يزال مهموماً به، إذ كان على(50/9)
طريق من طريقين: إما الوفاء ولا قدرة عليه من مفلس، وأما الحبس ولا طاقه به لشاعر. وحبس ذي الرمة في ثمن (المالح) هو حبس عند الشرطة، ولكنه قتل أو شر من القتل عند صاحبته مية إذا ترامى إليها الخبر، والأعرابي الجلف الذي يحبس في ثمن (المالح) عند الوالي بعد أن بات زماناً رهناً به في حوانيت البقالين لا يصلح عاشقاً لميّ، وهي من هي! (لها بشر مثل الحرير ومنطق رخيم الحواشي) فلا (المالح) من غذائها، ولا لفظ (المالح) من الكلام الذي يكون في فمها العذب. وأبعد الله جاريتها الزنجية إن لم تأنف لنفسها ومكانها من عشق هذا الأعرابي الغليظ الخشن الذي ألحقه (المالح) باللصوص والعارمين، وأخزاها الله إن لم يكن عشق هذا الأعرابي لها سواداً على سوادها في الناس، فكيف بمي وهي أصفى من المرأة النقية، وابيض من الزهرة البيضاء؟
قالوا: ويصنع الله لغيلان المسكين، فيمدح وينافق ويحتال، ويعده الممدوح بالجائزة إذا غدا عليه، ويكون ذلك والشمس نازلة إلى خدرها، فينكفئ الشاعر إلى حوانيت غرامائه من البقالين يبيت فيه أخرى لياليه، ويغلقون عليه وقد سئموه آكلاً وماطلاً، وهان عليهم فلا يعتدونه لا فأراً من فئران حوانيتهم، غير أنه يأكل فيستوفي، ولم يعد اسمه عندهم ذا الرمة، بل ذا الغمة. . . فلم يعطوه لعشائه هذه المرة لا ما فسد وخبث من عتيق (المالح)، فهو نتن يسمى طعاماً، وداء يباع بثمن، وهلاك يحمل عليه الاضطرار كما يحمل عل أكل الجيفة، وكانوا قد وضعوه في آنية قذرة متلجنة طال عهدها بالغسل والنظافة، وفيها بقية من عفن قديم، فلصق بها ما لصق، وتراكب عليها ما تراكب، ووقع فيها ما وقع.
ثم يتهيأ الشاعر لصلاة العشاء يرجو أن تناله بركتها فيستجيب الله له ويفرّج عنه، وقد كان لديه قدح من الماء لوضوئه، ولكن (المالح) الذي تغذى به كان قد أحرق جوفه وأضرم على أحشائه وهو صيف قائظ، فما زال يطفئه بالشربة بعد الشربة، والمصة بعد المصة، حتى اشتف القدح وأتى عليه، فيكسل عن الصلاة ويلعن (المالح) وما جر عليه. ثم يعضه الجوع فيكسر خبزته ويسمي ويغمس اللقمة ثم يرفعها فيجد لها رائحة منكرة، فينظر في الآنية وقد نفذ إليه الضوء من قنديل الحارس فإذا في (المالح) خنفساء قد انفجرت شبعاً، ويدقق النظرة فإذا دويبة أخرى قد تفسخت وهرأها (المالح) وفعل بها وفعل. قالوا وتثب نفسه إلى حلقه ولا يرى الطاعون والبلاء الأصفر والأحمر إلا هذا (المالح) فيتحول إلى كوة الحانوت(50/10)
يتنسم الهواء منها ويتطعم الروح وهي مضببة بالحديد، ولا يزال يراعي منها الليل ويقدره منزلة منزلة بحساب البادية، وهو بين ذلك يلعن (المالح) عدد ما يسبح العابد القائم في جوف الليل. ويطول ذلك عليه حتى إذا كاد ينشق لمع الفجر لعينه فلا يراه الشاعر إلا كالغدير يتفجر بالماء الصافي ويود لو انصب هذا الضوء في جوفه ليغسله من (المالح) وأوضار (المالح). ثم يأتي الله بالفرج وبصاحب الحانوت فيفتح له، ويغدو ذو الرمة على الممدوح فيقبض الجائزة وينقلب إلى حوانيت البقالين فيوفي أصحابها ما عليه ولا يبقى معه إلا دراهم معدودة، فيخرج من البصرة على حمار اكتراه وقد فتحت له آفاق الدنيا، وكأنما فر من موت غير الموت. ليس اسمه البوار ولا الهلاك ولا القتل، ولكن اسمه (المالح).
قالوا: ويحركه الحمار للشعر كما كانت تحركه الناقه فيقول: أخزاك الله من حمار بصري، إن أنت في المراكب إلا (كالمالح) في الأطعمة. ثم يغلبه الطبع، وينزو به الطرب، وتهزه الحياة فيهتاج للشعر ويذكر شوقه وحبه ودار ميّ، وفي (عقله الباطن) حوانيت وحوانيت من (المالح)، فيأتي هذا (المالح) في شعرة ويدخل في لغته فيقول الشعر الذي أهمل الأصمعي روايته لأن فيه (المالح)، وما أدري أنا ما هو، ولكن لعله مثل قول الآخر:
ولو تفلت في البحر والبحر (مالح) ... لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا
أو مثل قول القائل:
بصرية تزوجت بصريا ... يطعمها (المالح) والطريا
هذه هي الرواية التمثيلية التي تفسر كلام الأصمعي ولا مذهب عنها في التعليل إذا صار (المالح) كلمة نفسية في لغة ذي الرمة على رغم أنف الأحمر والأسود، والأصمعي وأبى عبيدة، فالرجل من الحجج في العربية إلا في كلمة (المالح) فإنه هنا عامي بقال حوانيتي نزل بطبعه على حكم العيش، وغلبه ما لابد أن يغلب من تسلط (وأعيته الباطنية)
والحكمة التي تخرج من هذه الرواية أن ابلغ الناس ينحرف بعمله كيف شاءت الحرفة، ولابد أن تقع المشابهة بين نفسه وعمله، فربما أراد بكلامه وجهاً وجاء به الهاجس على وجه آخر.
وإذا كان في النفس موضع من مواضعها أفسده العمل - ظهر فساده في الذوق والإدراك فطمس على مواضع أخرى، فلا تنظر من صحافي قد ارتهن نفسه بحرفة الكلام إلا يكون(50/11)
له في الأدب والبلاغة (مالح) كمالح ذي الرمة وإن كان ابلغ الناس لا ابلغ كتاب الصحف وحدهم.
و (المالح) الذي رأيناه لكاتب بليغ من أصحابنا أنه كتب في إحدى الصحف عن ديوان هو في شعر هذه الأيام كالبعث بعد موت شوقي وحافظ رحمهما الله، فيأتي بالمجاز بعد الاستعارة بعد الكناية مما قاله الشاعر ثم يقول: هذا عجيب تصوره، لا أعرف ماذا يريد، البلى للشعاع غير مقبول. ولا يزال ينسحب على هذه الطريقة من النقد ثم يعقب على ذلك بقوله: (والأصل في الكتابة أنها للافهام، أي نقل الخاطر أو الإحساس من ذهن إلى ذهن ومن نفس إلى نفس، ولا سبيل إلى ذلك إذا كانت العبارة يتعاورها الضعف والإبهام والركاكة وقلة العناية بدقة الأداء، وإذا كنت تستعمل اللفظ في غير موضعه ولغير ما أريد به، فكيف تتوقع مني أن افهم منك.)
لا، لا، هذا (مالح) من مالح الأدب، فإذا كان الضعف والإبهام والركاكة وسوء الإفهام وضعف الأداء - آتية في رأي الكاتب من استعمال اللفظ في غير موضعه ولغير ما أريد له - فان محاسن البيان من التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية ليس لها مأتى كذلك إلا استعمال اللفظ في غير موضعه ولغير ما أريد له.
وعلى طريقة الكاتب كيف يصنع في قوله تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً).
أتراه يقول: كيف قدم الله، وهل كان غائباً أو مسافراً، وكيف قدم إلى عمل، وهل العمل بيت أو مدينة؟
ثم كيف يصنع في هذه الآية: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك) أيسأل: وهل للأرض حلق تحركه عضلاته للبلع، وإذا كان لها حلق أفلا يجوز أن ترمي فيه فتحتاج إلى غرغرة وعلاج وطب؟
وماذا يقول في حديث البخاري: إني لأسمع صوتاً كأنه صوت الدم، أو صوتاً يقطر منه الدم (كما في الأغاني) أيوجه الاعتراض على الصوت وجرحه ودمه، ويسأل: بماذا جرح، وما لون هذا الدم، وهل للصوت عريق فيجري الدم فيها؟
إن الإفهام ونقل الخاطر والإحساس ليست هي البلاغة وان كانت منها، وإلا فكتابة الصحف(50/12)
كلها آيات بينات في الأدب، إذ هي من هذه الناحية لا يقدح قيها ولا يغض منها، وما قصرت قط في نقل خاطر ولا استغلقت دون إفهام.
ههنا خوان في مطعم كمطعم (الحاتي) مثلاً عليه الشواء والملح والفلفل والكواميخ أصنافاً مصنفة، وآخر في وليمة عرس في قصر وعليه ألوانه وأزهاره ومن فوقه الأشعة ومن حوله الأشعة الأخرى من كل مضيئة في القلب بنور وجهها الجميل. أفترى السهولة كل السهولة إلا في الأول؟ وهل التعقيد كل التعقيد إلا في الثاني؟ ولكن أي تعقيد هو؟ إنه تعقيد فني ليس الا، به ينضاف الجمال إلى المنفعة فتجتمع الفائدة والاستمتاع وتزين المائدة والنفس معاً، وهو كذلك تعقيد فني لاءم بين إبداع الطبيعة وإبداع الفكر وجاء بروح الموسيقى التي يقوم عليها الكون الجميل فبثها في هذه الأشياء التي تقوم بها المائدة الجميلة، واستنزل سر الجاذبية فجعل للمائدة بما عليها شعوراً متصلاً بالقلوب من حيث جعل للقلوب شعوراً متصلاً بالمائدة.
وهذا التعقيد الذي صور في الجماد دقة فن العاطفة هو بعينه فنية السهولة وروحيتها. وتلك السذاجة التي في المائدة الأخرى هي السهولة المادية بغير فن ولا روح، وفرق بينهما أن إحداهما تحمل قصيدة رائعة من الطعام وما يتصل به، والأخرى تحمل من الطعام وما يتصل به مقالة كمقالات الصحف.
والوجه في الشوهاء وفي الجميلة واحد لا يختلف بأعضائه ولا منافعه، ولا في تأديته معاني الحياة على أتمها وأكملها، بيد أن انسجام الجميل يأتي من إعجاز تركيبه وتقدير قسماته وتدقيق تناسبه، وجعله بكل ذلك يظهر فنه النفسي بسهولة منسجمة هي فنيته وروحيته؛ أما الآخر فلا يقبل هذا الفن ولا يظهر منه شيئاً إذ كان قد فقد التدقيق الهندسي الذي هو تعقيد فن التناسب، وجاء على المقاييس السهلة من طويل إلى قصير، إلى ما يستدير وما يعرض، إلى ما ينتأ من هنا وينخسف من هناك، كالوجنة البارزة، والشدق الغائر، فهذه السهولة المطلقة في الوضع كما يتفق هي بعينها التعقيد المطلق عند الفن الذي لا محل فيه للفظة (كما يتفق).
والطريقة التي يكون بها الجمال جميلاً هي بعينها الطريقة التي يكون بها البيان بليغاً، فالمرجع في اثنيهما إلى تأثيرهما في النفس.(50/13)
وأنت فقل: إن هذا مفهوم وهذا غيرمفهوم، وذاك سهل والآخر معقد، وواضح ومغلق، ومستقيم على طريقته ومحول عن طريقته. انك في ذلك لا تدل على شئ تعيبه أو تمدحه في الجمال أو البلاغة اكثر مما تدل على ما يمدح أو يعاب في نفسك وذوقها وإدراكها.
ومعاني الاختلاف لا تكون في الشيء المختلف فيه، بل في الأنفس المختلفة عليه، فان محالاً أن تكون الجميلة ممدوحة مذمومة لجمالها في وقت معاً، وإلا كانت قبيحة بما هي به حسناء، وهذا شد بعداً في الاستحالة، وحكمك على شئ هو عقلك أنت في هذا الشيء.
ومتى اتفق الناس على معنى يستحسنونه وجدت دواعي الاستحسان في أنفسهم مختلفة، وكذلك هم في دواعي الذم إذا عابوا. ولكن متى تعينت الوجوه التي بها يكون الحكم، ورجع إليها المختلفون، والتزموا الأصول التي رسمتها وتقررت بها الطريقة عندهم في الذوق والفهم فذلك ينفي أسباب الاختلاف لما يكون من معاني التكافؤ وخاصة المناسبة. ولهذا كان الشرط في نقد البيان أن يكون من كاتب مبدع في بيانه لم تفسده نزعة أخرى، وفي نقد الشعر أن يكون من شاعر علت مرتبته وطالت ممارسته لهذا الفن فليس له نزعه أخرى تفسده.
وما المجازات والاستعارات والكنايات ونحوها من أساليب البلاغة إلا أسلوب طبيعي لا مذهب عنه للنفس الفنية، إذ هي بطبيعتها تريد دائماً ما هو اعظم، وما هو اجل، وما هو أدق. وربما ظهر ذلك لغير هذه النفس تكلفاً وتعسفاً ووضعاً للأشياء في غير مواضعها؛ ويخرج من هذه انه عمل فارغ، وإساءة في التأدية، وتمحل لا عبرة به. ولكن فنية النفس والشاعرة تأبى لا زيادة معانيها فتصبح ألفاظها صناعة توليها من القوة ما ينفذ إلى النفس ويضاعف احساسها، فمن ثم لا تكون الزيادة في صور الكلام وتقليب ألفاظه وإدارة معانيه إلا تهيئة لهذه الزيادة في شعور النفس. ومن ذلك يأتي الشعر دائماً زائداً بالصناعة البيانية لتخرجه هذه الصناعة من أن يكون طبيعياً في الطبيعة إلى أن يكون روحانياً في الإنسانية. والشعور المهتاج المتفزز غير الساكن المتبلد، والبيان في صناعة اللغة يقابل هذا النحو، فتجد من التعبير ما هو حي متحرك، وما هو جامد مستلق كالنائم أو كالميت، وبهذا لا تكون حقيقة المحسنات البيانية شيئاً اكثر من أنها صناعة فنية لابد منها لأحداث الاهتياج في ألفاظ اللغة الحساسة كي تعطي الكلمات ما ليس في طاقة الكلمات أن تعطيه.(50/14)
لقد تكلموا أخيراً في جناية الصحافة على الأدب. والصحافة عندي لا تجني على الأدب ولكن على فنيته، فلها من الأثر على سليقة البليغ وطبعه قريب مما كان لحوانيت البقالين في البصرة على طبع ذي الرمة وسليقته. وكلما قرب الصحافي من الصنعة وحقها على الجمهور بعد عن الفن وجماله وحقه على النفس، وهذا واضح بلا كبير تأمل، بل هو بغير تأمل. . .
مصطفى صادق الرافعي(50/15)
نزع السلاح
للأستاذ محمد عبد الله عنان
سمعنا خلال الأعوام الأخيرة كثيراً عن مسألة نزع السلاح، وعن اللجان المؤتمرات العديدة التي عقدت في جنيف وغير جنيف لبحثها؛ ومنذ أسابيع يدور حديث نزع السلاح في جنيف مرة أخرى، وتعرض مختلف الاقتراحات والتصريحات. ولكن مؤتمر نزع السلاح يعقد هذه المرة في جو قاتم يفيض بالتشاؤم، وسير العلائق الدولية أشد ما يكون اضطراباً، والدول الكبرى أشد ما يكون رغبة في التسليح؛ وليس في مناقشات جنيف ما يؤذن بتفاهم الدول على أية قاعدة أو مبدأ، بل كل ما هنالك يدل بالعكس على أن مفاوضات نزع السلاح غدت مناقشات فقهية عقيمة، تستتر وراءها الدول لتؤكد من الوجهة النظرية نياتها السلمية، بينا هي تتسابق جميعاً في فتح الاعتمادات الحربية والاستزادة من التسليح سواء في البر أو الحر أو الهواء.
وقد كان رأينا دائماً، مذ بدأت أعمال مؤتمر نزع السلاح، أن هذه المناقشات الفقهية لا يمكن أن تؤدي إلى أية نتيجة عملية، وان الدول المتفوقة في سلاحها واهباتها الدفاعية لا يمكن أن تفرط في هذا التفوق مختارة، وان أساليب السياسة القومية لم تتغير كثيراً عما كانت علية قبل الحرب، وما زالت القوة المادية عمادها. ولقد انتهى مؤتمر نزع السلاح أحياناً إلى بعض نتائج عملية خيل للعالم معها أنه سائر إلى تحقيق الغاية المنشودة من عقده، ولكن هذه النتائج لم تتعد الاتفاق على بعض المسائل التمهيدية كأنواع الأسلحة ومعيارها، وتعريف بعض الهيئات العسكرية؛ وأسفرت المفاوضات بين الدول العظمى عن عقد معاهدة تحدد نسب التسليح البحري بينها؛ ولكن هذه المعاهدة لم تحترم ولم تنفذ، ولا تعتبر اليوم سوى قصاصة ورق لا قيمة لها. وقدمت إلى مؤتمر نزع السلاح اقتراحات رسمية عديدة لتخفيض التسليح، فكانت تقابل دائماً حين عرضها ومناقشتها بكثير من التأييد والحماسة، ولكنها لم تسفر عن أي اتفاق عملي.
كانت فكرة نزع السلاح من أجل الفكر التي ظهرت عقب الحرب في أفق السياسة الدولية، وكانت المنافسة في التسليح قد بلغت أثناء الحرب مدى هائلاً استنفد موارد الامم، وحطم، إنتاجها الزراعي والصناعي، وأرهقت من جرائه بصنوف المغارم والاعباء، واضطربت(50/16)
أحوالها المالية والاقتصادية؛ فكان طبيعياً أن تفكر الدول الكبرى في وسيلة لتخفيف هذه المنافسة وتدارك آثارها المخربة؛ ولم تك ثمة سوى وسيلة واحدة لتحقيق هذه الغاية، هي اتفاق الدول فيما بينها على تحديد التسلح بطريقة تراعي فيها ظروف كل دولة وحاجاتها إلى السلامة والدفاع القومي؛ وظهرت هذه الفكرة في نفس الوقت الذي ظهرت فيه فكرة عصبة الامم، واتصلت بها حتى صارت بعد جزءاً منها، ثم أدمجت في ميثاق العصبة ذاته. وكان قيام عصبة الأمم رمزاُ لانتصار الدعوة إلى السلام والوئام بين الامم، والى تغليب التحكم والحسنى في فض المنازعات الدولية؛ وكان تحقيق فكرة نزع السلاح من أهم الوسائل العلمية لتحقيق المثل والأماني السلمية التي علقت على قيام عصبة الأمم. ويجب أن نعلم أن ميثاق العصبة هو قطعة من معاهدة صلح فرساي ذاتها، بل هو الفصل الأول من معاهدة الصلح؛ وفي هذا الميثاق ذاته يذكر مشروع نزع السلاح اكثر من مرة، باعتباره من وسائل تحقيق السلام بين الأمم. واليك النصوص التي وردت بشأنه في الميثاق:
نصت المادة الثامنة من ميثاق عصبة الأمم على (إن أعضاء العصبة يعترفون بان استتباب السلام يقتضي تخفيض التسليحات القومية إلى أدنى حد يتفق مع السلامة القومية، ومع تنفيذ التعهدات الدولية التي يفرضها العمل المشترك.
(ومجلس العصبة مع تقديره للمركز الجغرافي والظروف الخاصة لكل دولة، يعد برامج هذا التخفيض لتبحثه وتبث في شأنه الحكومات المختلفة.
(ويجب أن نبحث هذه البرامج من جديد، وأن تنقح إذا اقتضى الأمر في كل عشرة أعوام.
(ومتى وافقت عليها الحكومات المختلفة فان نسب التسليح التي تقررت على هذا النحو لا يمكن تخطيها دون موافقة مجلس العصبة).
(ولما كان صنع الذخائر وأدوات الحرب بصفة خاصة يثير اعتراضات خطيرة، فان أعضاء العصبة يعهدون إلى المجلس بان يتخذ الإجراءات اللازمة لتلافي نتائجه السيئة، مع مراعاة حاجات أعضاء العصبة الذين لا يستطيعون صنع ما يجب لسلامتهم من الذخائر وأدوات الحرب.
(ويتعهد أعضاء العصبة بان يتبادلون بمنتهى الصراحة والدقة، كل البيانات المتعلقة بنسب تسليحاتهم، وبرامجهم الحربية والبحرية والجوية، والظروف التي يمكن بها استخدام(50/17)
صناعاتهم لأغراض الحرب).
تلك هي القواعد الأساسية التي أدمجت في ميثاق العصبة بشأن نزع السلاح أو تخفيضه. وقد نصت المادة التاسعة من الميثاق على إنشاء لجنة دائمة تمد العصبة بآرائها عن تنفيذ هذه القواعد وعن المسائل العسكرية والبحرية والجوية بصفة عامة. وهذه هي اللجنة الدائمة لمؤتمر نزع السلاح.
ونصت المادة الحادية عشرة على أن كل حرب أو خطر حرب يهم العصبة كلها، وعلى أنه يجب عليها في هذه الحالة أن تتخذ ما يجب لتأييد سلام الأمم؛ ونصت المادة الرابعة عشرة على إنشاء محكمة دائمة للعدل الدولي، وفصلت المادة الخامسة عشرة الإجراءات السلمية التي يجب اتباعها لتسوية المنازعات الدولية بين أعضاء العصبة.
هذا وقد ذهبت معاهدة الصلح في التنويه بنزع السلاح إلى ابعد من هذه النصوص النظرية، وأرادت أن تعطيه صبغة عملية، فقررت في ديباجة الفصل الخامس منها وهو الخاص بنزع سلاح ألمانيا (انه لكي يمكن أن يعد مشروع بتحديد عام لتسليحات جميع الأمم، يجب على ألمانيا أن تنفذ بمنتهى الدقة ما تقرر من النصوص العسكرية والبحرية والجوية) أو بعبارة أخري، جعلت معاهدة الصلح، نزع سلاح ألمانيا مقدمة عملية لنزع السلاح العام، تحذوها بعد ألمانيا جميع الدول الأخرى، والمفروض أن الدول الظافرة التي أملت شروط معاهدة فرساي، ونصت على نزع السلاح، ستكون في مقدمة الدول التي تقوم بتخفيض سلاحها
وكان مشروع نزع السلاح في مقدمة المسائل التي عنيت ببحثها عصبة الأمم؛ ففي فبراير سنة 1921، انتدب مجلس العصبة (لجنة مختلطة مؤقتة) للنظر في تخفيض التسليحات، ولكن هذه اللجنة الأولى لم تستطع أن تتخذ أية خطوة عملية لبحث المسألة؛ وكانت الدول الغالبة ما تزال متوترة الأعصاب بعيدة عن التفكير في النزول عن المراكز الممتازة التي دفعها إليها الظفر، وكانت بالعكس قد بدأت تتسابق في وضع البرامج العسكرية والبحرية الضخمة؛ فلم تر (اللجنة المختلطة المؤقتة) أمامها سبيلاً للعمل، وقدمت تقريرها إلى العصبة بأنه لا سبيل لوضع اى مشروع عملي لتخفيض التسليح ما لم تراع فيه الحاجات السلامة القومية بادئ بدء، ثم وضعت فعلاً مشروع ضمان وتعاون متبادل وافقت عليه(50/18)
العصبة. ولكنها كانت خطوة نظرية أيضاً، وكان اسطع دليل على عبثها إقدام فرنسا في الوقت نفسه على احتلال وادي الروهر لإرغام ألمانيا على أداء تعويضات الحرب، وما قامت به يومئذ من المظاهرات العسكرية الضخمة. بيد أن الدول البحرية استطاعت أن تتخذ من جانبها خطوة عملية لتحديد التسليحات البحرية، إذ عقدت في واشنطون (سنة 1922) مؤتمراً بحرياً شهدته بريطانيا العظمى وأمريكا وفرنسا واليابان وإيطاليا، وعقدت فيها بينها ميثاقاً حددت فيه نسب التسليحات البحرية لكل منها؛ فكان لهذا الميثاق اثر كبير في تلطيف المنافسة البحرية بينها.
ولما هدأت أعصاب الأمم الغالبة نوعاً وسوي كثير من المشاكل التي خلقتها الحرب، واتخذت مسألة نزع السلاح أهمية خاصة، ولكنها قرنت يومئذ بمسألة القومية والتحكيم باعتبارها مسائل ثلاثة لا يمكن التفريق بينها. وكانت فرنسا دائماً من اشد الدول تمسكاً بالجمع بين المسائل الثلاثة. وأخذت عصبة الأمم بهذه النظرية، وانتهت إلى وضع بروتوكول جنيف الشهير (سنة 1924)، وفيه نص على مشروعية الحرب إلا في بعض الأحوال وعولجت مسألة السلامة ومسألة التحكيم؛ ولكنه رفض من جانب بريطانيا العظمى لأنه لم يعالج مسألة نزع السلاح، ونص من جهة أخرى على جعل عصبة الأمم هيئة دولية لرقابة التسليح نزولاً على النظرية الفرنسية؛ وفي سنة 1925 عقد ميثاق لوكارنو لتأمين منطقة الرين بين ألمانيا وفرنسا وبريطانيا العظمى وإيطاليا، وحلت بذلك مسألة السلامة القومية نوعا، ولكن الميثاق كان محدود المدى والاثار، ولم يتعرض بشيء لمسألة نزع السلاح. بيد أن عقده كان عاملاً كبيراً في صفاء الأفق الدولي، والتقريب بين ألمانيا والحلفاء، وبث روح من التفاهم بين خصوم الأمس لم تعرف منذ معاهدة الصلح.
وكان هذا التفاهم مشجعاً لعصبة الأمم على التقدم في معالجة مشكلة نزع السلاح، خصوصاً بعد أن انضمت ألمانيا إلى العصبة. ففي سنة 1926 انتدبت العصبة لجنة تمهيدية لتنظيم مؤتمر عالمي لنزع السلاح؛ وأنفقت هذه اللجنة جهوداً كبيرة في بحث المسائل الفنية المتعلقة بأنواع الأسلحة والذخائر وعدد الجيوش والجمعيات العسكرية. وبدئ منذ العام التالي بعقد مؤتمر السلاح الذي استمر يعقد كل عام مرة أو اكثر حتى يومنا. ومن المستحيل أن نتتبع في هذا المقام الضيق أعمال مؤتمر نزع السلاح خلال الأعوام الأخيرة،(50/19)
فهي في الواقع أعمال ومفاوضات تسير في دور لا ينتهي. ويكفي أن نقول انه قدم إلى مؤتمر عشرات المشاريع من مختلف الدول لتخفيض التسليح أو نزعه، وبحثت مسألة السلامة وعدم الاعتداء مراراً ولقيت وعود وتصريحات لا نهاية لها من مختلف الدول، وفي كل مرة تنتهي الجهود والمفاوضات المستفيضة بالفشل المطلق، وفي كل مرة نشعر بحق أن مؤتمر نزع السلاح قد اختتم حياته. وانتهى مؤتمر نزع السلاح الذي عقد في لندن سنة 1930 إلى نتيجة ضئيلة هي عقد اتفاق جديد بين بريطانيا العظمى وأمريكا واليابان على تخفيض التسليح البحري في حدود معينة، أبت فرنسا وإيطاليا أن تدخلا في هذا الاتفاق لتمسك إيطاليا بالمساواة مع فرنسا، وتمسك فرنسا بتفوقها في نسب التسليح البحري.
وفي العامين الأخيرين دخلت مسألة نزع السلاح في دور جديد، وزادت تعقيداً وصعوبة، أولاً لان ألمانيا بعد طول التسويف في نزع السلاح رأت من حقها أن تطالب بالمساواة في التسليح بالاعتماد على نصوص معاهدة الصلح ذاتها إذ اعتبرت تجريد ألمانيا من السلاح مقدمة لنزع السلاح العام كما قدمنا، ومادامت الدول لم تقم بتعهداتها في هذا الشأن فمن حق ألمانيا أن تعود إلى تسليح نفسها كباقي الدول؛ وثانياً لان فرنسا ازدادت تمسكاً بنظريتها في جعل حل مسألة نزع السلاح متوقفاً على مسألتي السلامة القومية والضمان المتبادل بعدم الاعتداء. وقد اشتد الخلاف بين ألمانيا وفرنسا في العام الماضي إلى حد رأت معه ألمانيا أن تنسحب من عصبة الأمم ومن مؤتمر نزع السلاح حتى تجاب إلى وجهة نظرها. وبدأت ألمانيا بالفعل بتسليح نفسها رغم احتجاج فرنسا؛ ودبت روح جديدة من المنافسة بين الدول في تقرير الاعتمادات العسكرية وزيادة التسليحات؛ وحاولت إيطاليا وبريطانيا غير مرة أن تقوم كلتاهما بمهمة الوساطة وتذليل الخلاف بين فرنسا وألمانيا، فذهبت جميع الجهود سدى. وعقد مؤتمر نزع السلاح في خريف العام الماضي في جو قاتم يفيض بالتشاؤم، وظهر منذ المناقشات الأولى انه يستحيل أن يوفق المؤتمر إلى شيء جديد، فأجل ليتفادى الموت النهائي. وعقد هذا العام، منذ أسابيع قلائل، وعدنا نسمع الحوار العقيم بين مختلف المندوبين؛ وما زالت ألمانيا خارج المؤتمر، ومازالت فرنسا تؤكد إصرارها على تحقيق الضمانات المتعلقة بالسلامة القومية قبل اتخاذ أية خطوة في سبيل نزع السلاح.(50/20)
لقد استمرت هذه الجهود والمفاوضات العقيمة في نزع السلاح أكثر من عشرة أعوام؛ وربما استمرت حيناً آخر. ولكن المحقق أن مؤتمر نزع السلاح صائر إلى موت لا ريب فيه، وانه لم يكن قط ابعد عن غايته مما هو عليه. ويرجع هذا الفشل قبل كل شيء إلى موقف فرنسا وألمانيا؛ فقد جردت ألمانيا من سلاحها طبقاً لمعاهدة الصلح وانتظرت أعواماً طويلة، وفرنسا وباقي الدول تجد في تسليح نفسها، ولم تتقدم أعمال مؤتمر نزع السلاح تقدماً يذكر؛ وكانت فرنسا بإصرارها خلال هذه الأعوام هي الصخرة التي تحطمت عليها كل الجهود التي بذلت في هذا السبيل؛ ولكن ألمانيا الهتلرية جاءت بسياستها العنيفة فزادت المسألة حرجاً وتعقيداً، وألفت فرنسا في تلك الروح العسكرية التي يبثها النظام الهتلري في ألمانيا، وفي تلك المظاهرات العنيفة التي تجري في ظله، وفي ذلك الوعيد الذي يلقيه زعماء ألمانيا الحاليين هنا وهناك، وما يبرر موقفها في التمسك بسياستها العسكرية والمطالبة بتأمين سلامتها ضد الخطر الألماني.
وهكذا بينما يمضي مؤتمر نزع السلاح في جدله العقيم، إذا بالمنافسة في التسليح بين الدول العظمى تبلغ ذروة الاضطرام، وإذا بسياسة المعاهدات السرية والعسكرية وتعود فتغدو سبيل التوازن الأوربي، وإذا بشبح الحرب يلوح بين آونة وأخرى.
محمد عبد الله عنان
المحامي(50/21)
عتاب
بقلم محمد قدري لطفي
ليسانسييه في الآداب
كان النبي صلى الله عليه وسلم يود لو انهم اسلموا ليعتز بهم الإسلام، ويدعو الله أن يهبه من لدنه حكمة لعله يصرفهم عن الضلالة أو يجعلهم من المهتدين؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على إسلامهم ملحاً فيه، لان أشخاصهم عند قريش مهيبة، وأسماءهم عند العرب رفيعة؛ فلما دخل عليهم وقد اجتمعوا عنده، حياهم فردوا عليه تحيته، مخلصين أو غير مخلصين، ثم اخذ مكانه بينهم، فكان صمت، وكان جلال رهيب، ولم يلبث أن سرى بين الجمع صوت مهيب، فيه قوة لأنه صوت الحق، وفيه إيمان لأنه وحي القلب؛ وكان الصوت متجهاً نحو عتبة بن ربيعة وأخيه، يقول: أما آن يا عتبة أن تدخل أنت وأخوك شيبة في دين الله؟ ما دعوتكما لأمري ولا لشيء هو من عندي، ونما دعوتكما لأمر الله رب العالمين؛ وهذا كلامه بين يدي فاستمعاه وأصغيا إليه لعله تعالى يهديكما فتكونا من عبادة المسلمين. ولكن عتبة وأخاه لم يلبثا أن جادلاه فجادلها، واخذ النبي منهما وأخذا منه، حتى إذا غلبهما الرسول بمنطقه وقوة حجته، لم يلبثا أن عقد الصمت لسانهما، فالتفت النبي إلى العباس بن عبد المطلب وكان مصغياً يستمتع إلى قوله لابني ربيعة، وقال له انك يا ابن عبد المطلب لو اهتديت بهدى الإسلام وانه من صناديد قريش لاهتدى معك جميع كثير، فلا تكونن بصدك عن دين الله حائلاً بين الناس والجنة، ولا تضربن لقريش مثلاً من الغي والضلال، فتضل وتضل، وأنت حري أن يكون لهم منك هاد معين. فلم يرفع العباس رأسه ولم تتحرك له شفتان، ونما ود لو أن النبي تركه إلى الوليد بن المغيرة أو إلى أمية بن خلف، فلما شعر النبي أن العباس حائر بين عقله وعاطفته، ورآه مطرقاً إلى الأرض، لم يلبث أن تحول عنه إلى أمية بن خلف، قال: يا أمية، ما كان لسادة الناس أن يكفروا بسيد العالمين، الله الذي فضلهم على عشيرتهم وذوي قرباهم، وما كان لك أن تكون لقومك قدوة سوء، لعمر الله ليس بعد الكفر ذنب، وما ينبغي لك أن ترغب عن دعوة الله وتصد قومك عن الدين بإعراضك عنه. قال يا محمد أمهلني يوماً أو بعض يوم، فان الأمر اعسر عندي من يسره لديك. واتجه الرسول إلى أبي جهل بن هشام وكان يجلس بجوار الوليد بن(50/22)
المغيرة، فقال لهما وقد دنا منهما: أيحق لكما أن تسبقا الناس في الدنيا حتى إذا كانت الآخرة كنتما آخر الناس عند الله؟، الله ما لكما في آلهتكم غناء، وما كنتما لتجعلا رضى الشيطان في عصيان الله. ولكن أبا جهل لم يكن ليصبر كما صبر العباس، أو يسكت كما سكت، ونما جادل النبي في عنف، فجادله النبي في لين، وآثر أبو جهل الحدة، ولم يكن النبي ليتحد. واتجه الرسول إلى القوم جاداً في دعوتهم، ملحاً في اقناعهم، يمنعهم بالوعود يوم الدين، ويحذرهم عاقبة الكفر يوم القامة، وأخذ النبي يفيض عليهم من بيانه، ويشع على القوم قبساً من إيمانه، حتى أقبل الكل عليه يستمعون له ويصغون إليه، وبينما النبي يدعوهم فينصرف إلى الدعوة بكل إيمانه، كان يسعى إليه رجل يتوكأ على عصاه يتحسس بها الطريق إليه حتى إذا بلغ مجلس النبي لم يستمع إليه ولم يلق بالا إلى قوله، ولم يدر أن النبي يدعو صناديد قريش إلى ما دعا الله، ونما بادر النبي يسأله أن أيقرئني وعلمني مما علمك الله؛ وكان النبي عنه في شغل، وكان ضيوف النبي قد تلهوا عنه بما هم فيه، فلم يلتفت إليه أحد، ولم يرد عليه مجيب؛ فقال أقرئني وعلمني مما علمك الله، فلم يكن حظه في الثانية خيراً منه في الأولى، والرجل واقف في مكانه لا يريم، ملح في طلبه لا يسأم، فأخذ يعيده، وطفق يكرره، حتى كره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع عليه الحديث، وأي حديث، أو يلقى عليه قول ولما ينتبه من قوله، فعبس في وجه الرجل وأعرض عنه، ولم يلبث النبي أن انصرف القوم من عنده، فيهم الذي أوشك أن يقتنع، وفيهم الذي مازال متبرماً بالدعوة ساخطاً، وفيهم الذي ينكر على الرسول قوله، وفيهم الذي يحب أن يتريث في الأمر فلا يقطع فيه برأي؛ وكان النبي قد ظن انه بالغ منهم في يومه ما لم يبلغه في أمسه، وانه لابد اليوم مقنعهم حتى يسلموا، فلم يدر بعد ذهابهم ماذا اخذ عليه نفسه وقد كانت معه وله؟ ولا كيف ضاق صدره وقد كان واسعاً لا يضيق بشيء ولا يتبرم بسوء؟ وشعر النبي بحرج لم يدر ما هو ولا من أين اتاه، فقد كان عند أمر ربه يؤدي الرسالة في صدق وأمانه، لم يدع سبيلاً لهداية القوم إلا سلكها، أو باباً إلى قلوبهم الغليظة إلا طرقه؛ ولم يلبث النبي إذ خلا لنفسه أن أحس بما يحس به حين يريد الله أن يبعث إليه بحديث أو ينزل عليه شيئاً من آية، وإذا الوحي له لا للمسلمين، وإذا القول له لا للمشركين، وإذا الله عاتب عليه يقول انه: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى) ويقول له (وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى،(50/23)
أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى) وإذا ربه يلومه ويقول في لومه (وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى، كلا إنها تذكرة). عند ذلك ذكر النبي قوم قريش وما كان بينه وبينهم من حديث، وهتف هاتف كأنه عمرو بن قيس يقول: أقرئني وعلمني مما علمك الله، وتصور النبي حال الرجل يسأل وليس من مجيب، ويقف وليس من يأذن له بالجلوس؛ ولكنه لم يكن يدري انه أساء إلى الرجل أو قصد إلى إساءته، فليس النبي من يسيء إلى أحد، وليس النبي من يصد عن الناس بله عن السائلين، ونما شغله أمر ربه فاشتغل عن عمرو واقبل على سادة قريش، فألهاه حرصه على إسلامهم وهم كفرة عمن اسلم، ونما يريد أن يقرأ وأن يستزيد من العلم. وبات النبي ليلته مسهد الجفن قلقاً، يفكر فيما سمع من ربه، وفيمن عبس بالأمس في وجهه، واعرض عنه، حتى إذا طلع الفجر كان النبي يلتمس ابن أم مكتوم يلقاه هاشاً باشاً، يسلم عليه ويشد على يده ويقول له: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي؛ وكان النبي يلقاه بعد ذلك فيكرمه ويسأله حاجته، وكأنما أراد الله أن يصبح إعراض النبي عنه إقبالاً عليه، وان يغدو عبوس النبي في وجهه بشاشة له وارتياحاً للقائه، وإذا عمرو ابن قيس مؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا عمرو بن قيس خليفة رسول الله على المدينة، لم يستخلفه النبي عليها مرة أو مرتين، ونما استخلفه عليها في غزواته ثلاث عشرة مرة، وإذا النبي يخرج إلى الحجة الوداع فلا يستخلف على المدينة إلا عمرو بن قيس. وكان حقاً قول المصطفى: أدبني ربي فاحسن تأديبي
محمد قدري لطفي(50/24)
استدانة إسماعيل باشا
(1863 م - 1879 م)
بقلم عبد العزيز عبد الكريم
إن ما قام به إسماعيل باشا من جليل الأعمال لا يضارع، وما تم في عصره من المشروعات والإصلاحات العامة لا يتسنى لأي حاكم آخر في مركزه أن يأتي بمثلها. بيد أن خطأ إسماعيل باشا كله يرجع إلى السرعة وتعدد المشروعات، وفرط الثقة بدهاة أوربا السياسيين والماليين، وعدم الاحتياط في الإنفاق على الأعمال، وخلو البلاد من المستشارين المخلصين.
أسباب الاستدانة:
كانت زيادة الثروة في البلاد في أوائل حكم إسماعيل بسبب ارتفاع أثمان القطن المصري لنشوب الحرب المدنية في أمريكا في ذلك الوقت أول عامل على تشجيع الوالي في سياسته، فعقد قرضاً كبيراً لتوهمه أن الحرب ستستمر طويلاً، ولكن الحرب وقفت فجأة في عام 1865م. ولم يقف إسماعيل باشا عند هذا الحد بل أخذ يعقد القرض بعد القرض، بشروط فادحة حتى عجز عن سداد الدين بل عن فوائده التي بلغت الخمسة أو الستة ملايين من الجنيهات في العام.
وكان إسماعيل يجد من أوربا التشجيع في سياسة الاقتراض طمعاً في ثروة مصر، ولأن كبار الماليين كانوا يبحثون عن البلاد الصالحة لاستثمار رؤوس أموالهم فيها، فوفد الكثيرون منهم إلى الإسكندرية في أوائل حكم إسماعيل، وأسسوا فيها الشركات، واخذوا يتصلون بالوالي، ولجأ كثير من الأجانب في ذلك الوقت إلى مصر لطلب الرزق، وقد أخذت مصالح الأوربيين تنتشر في مصر من ذلك الوقت.
وبعد أن فتحت قناة السويس التي أصبحت أهم طريق للمواصلات بين الشرق والغرب وظهرت مطامع إنجلترا وفرنسا الاستعمارية نحو مصر، فأخذتا تتنافسان في استغلال مصر وامتلاكها
وكان إسماعيل مسرفاً في الواقع، فكان ينفق الأموال الطائلة في إكرام الضيوف الأوربيين،(50/25)
والهدايا، والقصور، والحفلات وغير ذلك؛ ولكنه انفق معظم الأموال التي حصل عليها في الإصلاحات، وكان إسماعيل سليم الطوية، على حين أن دهاة أوربا كانوا ينصبون له الحبائل بطرق غير شريفة.
ديون إسماعيل باشا:
كانت ديون إسماعيل ثابتة وسائرة؛ فالثابتة هي القروض المحدودة التي عقدها في بنوك إنجلترا وفرنسا، وقد بلغت حتى عام 1868م نحو 20. 000 , 000 من الجنيهات، وتراكمت عليه الديون السائرة الصغيرة المستحقة الدفع، فكان يجددها بفوائد باهظة حتى بلغت ثلاثة أو أربعة أضعاف المبلغ المقترض.
وفي عام 1868م ابتدأت الحكومة تتوقف عن دفع مرتبات الموظفين، فأخذ مركزها المالي يتزعزع، وكانت الضرائب تجبى مقدماً، فساءت أحوال البلاد، فأصدر الباب العالي في تلك السنة فرماناً يحرم تقديم أي قرض إلى مصر بدون استئذان الحكومة التركية، لكن إسماعيل عقد سلفة جديدة برهن إيرادات أملاكه الخاصة ومقدارها 7 ملايين من الجنيهات بفائدة 13 % فاحتج الباب العالي على ذلك لدى الحكومة الإنجليزية.
واستمرت الحكومة في عقد القرض إلى ان اقترح إسماعيل صديق (المفتش) وزير المالية في عام 1868م فكرة (المقابلة) وكان المقصود منها أداء ديون الحكومة كلها، وذلك بان يقوم الأهالي بدفع ضرائب ستة أعوام مقدماً نظير إعفائهم من نصف الضريبة بصفة دائمة. فحصلت الحكومة على 8. 000 , 000 من الجنيهات ولكن الدين الثابت بلغ في ذلك الوقت 27. 000 , 000 من الجنيهات؛ ولشدة حاجة الحكومة إلى المال الوفير لسداد بعض الديون عقدت سلفة جديدة تبلغ 4. 000. 000 من الجنيهات.
وسافر إسماعيل باشا إلى الأستانة وحصل من الباب العالي في عام 1872م على فرمان خول له حق عقد القروض بدون قيد ولا شرط، فرجع الوالي إلى مصر فوجد الحكومة في ضائقة شديدة فعقد سلفة مع أحد البيوت المالية الإنجليزية مقدارها 32. 000 , 000 من الجنيهات بفائدة 8 %.
وقد باعت الحكومة المصرية أسهمها في القناة بثمن بخس لإنجلترا، وكانت هذه الصفقة اكبر غلطة سياسية ومالية ارتكبها إسماعيل باشا في حياته.(50/26)
بعثات حكومات أوربا:
(1) بعثة كيف: وبعد مضي أيام قليلة على شراء الأسهم تألفت
لجنه إنجليزية برئاسة (كيف) لدرس الحالة المالية في مصر
في عام 1876م، وكان هذا العام بدء التدخل الفعلي في مصر
وإرسال البعثات المختلفة التي كان الغرض منها إصلاح
الإدارة بوضعها تحت المراقبة الأوربية ضماناً للدائنين.
وقد اقترح (كيف) توحيد الديون المصرية كلها على أساس فائدة معتدلة تتناسب وحالة البلاد، وتأجيل الاستحقاقات لخطورة الحال، ووضع الإدارة المالية تحت رقابة أحد رجال المال الإنجليز في ذلك الوقت، ولكن إسماعيل لم يوافق على هذا النشاط الأخير واتفق مع الماليين الفرنسيين واصدر في مايو مرسومين بإنشاء (صندوق الدين العمومي) وتحويل جميع الديون السائرة والثابتة إلى دين موحد بفائدة 7 %؛ وقد عين في صندوق الدين مندوبون عن الحكومات الفرنسية والنمساوية والإيطالية.
(2) بعثة جوش: وقد امتنعت الحكومة الإنكليزية عن تعيين
مندوب لها، وعارضت المشروع في بادئ الأمر، ثم تم الاتفاق
على إرسال بعثة مؤلفة من (جوش) ممثلاً للدائنين الإنكليز
و (جوبير) ممثلاً للدائنين الفرنسيين لإجراء تصفية عامة،
واصطحب تلك البعثة سياسيون من ذوي الخبرة لتمثيل
إنجلترة وفرنسا في مصر، ووضع قواعد المراقبة الثانية
(كوندومنيوم).(50/27)
وقد كانت أهم نتائج بعثة (جوش - جوبير) المالية إيجاد دين ممتاز قدرة 17. 000 , 000 من الجنيهات بفائدة 5 % وتخفيض الدين الثابت إلى 59. 000 , 000 من الجنيهات بفائدة 7 % فأصبح مجموع ما يدفع من فوائد الدين سنوياً لا يبقي لمصر من الإيرادات ما يكفي للأنفاق على الإدارة وتعهد الأعمال الهامة مثل الري وغيرها التي هي عماد الثروة في البلاد.
أما نتائج البعثة السياسية فتتلخص في نظام المراقبة الثانية (الكوندومنيوم) الذي يشكر إنجلترا وفرنسا في إدارة مصر على الوجه الآتي:
(أولاً) بتعين مراقبين إنجليزي وفرنسي عامين للمالية المصرية.
(ثانياً) بتعيين مندوبين من الأجانب للدين العام تعرض أسماءهم الحكومات الأجنبية على الحكومة المصرية، وتنحصر مهمتهم في تسليم إيرادات الجهات المرهونة ضمانة لسداد أقساط الدين السنوي من يد مراقب الإيرادات العام، وتسليمها لبنكي إنجلترا وفرنسا، واتخاذ الإجراءات اللازمة لاستهلاك ذلك الدين.
(ثالثاً) بتعيين مندوبين آخرين لإدارة مصلحتي السكك الحديدية وميناء الإسكندرية، مصريين وفرنسي وإنجليزيين تحت رياسة العضوين الإنجليزيين. وتنحصر مهمتهم في تسليم إيرادات هاتين المصلحتين إلى مندوبي الدين العام وذلك علاوة على الأشغال الإدارية.
(3) بعثة ريفرس ولسن: ظلت إدارة البلاد وأحوالها وماليتها
في ارتباك مستمر، وعمت الشكوى فطلب إسماعيل باشا
إرسال بعثة جديدة فأصدر في عام 1878م مرسوماً يقضي
بتعيين (لجنة للتحقيق) تحت رياسة المسيو دي لسبس لفحص
الحالة المالية فحصاً دقيقاً، وفوض لهذه اللجنة السلطة المطلقة
لإجراء ما تراه كفيلاً لتحقيق الغرض الذي أنشئت من اجله.(50/28)
وقد تألفت هذه اللجنة وكان وكيلاها السير ريفرس ولسن ورياض باشا وأعضاؤها مندوبي الدول الأربعة في صندوق الدين، وكان رئيسها الفعلي ريفرس ولسن. وقد رفعت اللجنة تقريرها التمهيدي إلى الخديو وطلبت أن تدفع إلى الموظفين مرتباتهم، وختمت تقريرها بقولها (إن الحاكم الأعلى يتمتع بسلطة لا حد لها).
وبناء على ذلك كلف إسماعيل بتكوين وزارة مسئولة، فأصدر مرسوماً في 28 أغسطس عام 1878م بتأليف وزارة برياسة نوبار، وريفرس ولسن في المالية، ودي بلينيير المراقب المالي الفرنسي في الأشغال.
وألغيت المراقبة الثنائية التي قام عليها (الكوندومنيوم)، وضمنت إنجلترا لنفسها النفوذ الأول في الوزارة الجديدة، وبذلك انتقل الحكم المطلق من إسماعيل إلى الأجانب أو إلى السير ريفرس ولسن وزير المالية الإنجليزي.
وقد واصل ولسن خطة إسماعيل فعقد قرضاً جديداً مع بيت روتشلد مقداره 8. 500. 000 من الجنيهات بضمانة أملاك الخديو، واستخدمت الوسائل القديمة في جباية الضرائب، فعم البؤس البلاد. وأخذ السير ريفرس السير ولسن يفكر في تسوية الدين بطريقة نهائية بعد أن تحققت أغراض السياسة الإنجليزية، وانتزع السلطة من يد الحاكم الشرعي؛ فاقترح على إسماعيل إعلان إفلاسه وتأجيل دفع بعض الديون وتخفيض الفوائد الفادحة إلى 5 % بيد أن هذا الحل جاء بعد ما ساءت أحوال البلاد وتدخل الأجانب في شؤون المصريين، فثارت حمية القومية في نفوس المصريين، واضطر إسماعيل إلى المقاومة فعز الوزارة الأوربية في عام 1879م، وعين وزارة وطنية بحتة برياسة شريف باشا.
وقد اشترك إسماعيل باشا مع نواب الأمة في وضع خطه مالية جديدة، وكانوا هم الضامنين لها، ولكن الدول لم تغفل عن هذه الإهانة، فسعت لدى الباب العالي إلى أن تمكنت من عزل إسماعيل في عام 1879م.
وكان من الممكن حل الأزمة المالية بوضع الإدارة تحت رقابة مالية أو أوربية كما حصل عند إنشاء صندوق الدين؛ ولكن طمع إنجلترا وفرنسا أدى إلى تحويل المسألة المالية إلى مسألة سياسية وحال دون انفراج الأزمة. وختمت الكارثة بقانون التصفية في عام 1880م والاحتلال في عام 1882م.(50/29)
إسكندرية
عبد العزيز عبد الكريم(50/30)
مشروع القرى
الأمية في مصر والعالم
للأستاذ محمد مظهر سعيد
أستاذ علم النفس بمعهد التربية وكلية أصول الدين
الأمم كألافراد، تقاس مدنيتها ومبلغ رقيها وتقدمها بمقاييس معقولة، لعل اصدقها حكماً وأصحها نظراً - وإن كان أقساها وأبعدها عن التحيز - مقياس الأمية. ولا أخال فرداً واحداً من أبناء النيل المخلصين لبلادهم، الذين لم تفسد النزعة الوطنية الجانحة حكمها على الأشياء، وتقديرهم للظروف، يكاد ينكر أن مصر على الرغم مما بلغته من الرقي المطرد في عصرها الحاضر الزاهر، وأخذها بجميع أسباب المدنية في العالم لا يزال ينظر إليها بغير العين التي نرضى أن ينظر لبلادنا بها، مادامت وصمت الأمية عالقة بجبينها، وظل الجهل مخيماً على السواد الأعظم من أهلها.
ولقد أصبحنا الآن في زمن يشعر فيه الرجل الذي لا يعرف القراءة والكتابة ومبادئ الحساب - مهما كان نابهاً مستنيراً واسع الخبرة والاطلاع - أنه تحت رحمة المتعلم، بل هو قدي يكون في اغلب الأحيان تحت رحمة الطفل الصغير في الكتاب الذي لا يستطيع أن (يفك الخك) إلا في صعوبة وعسر؛ فإذا أراد أن يحرر خطاباً لأحد أقاربه أو معارفه في جهة بعيده، أو يكاتبهم في مسألة هامة لا قبل له بتأجيلها إلى زيارة أو مقابلة فيتحدث عنها شفوياً، أو إذا أراد أن يحسب حسبة بسيطة مستعجلة كبيع القطن أو المحصول، أو تحرير مستند هام يضمن له حقوقه، أو الرد على إشارة من المركز أو العمدة، وجده نفسه مضطراً إلى ارتكاب الصعب، وإراقة ماء الوجه في استعطاف من يستطيع أن يقوم له بهذه الخدمة البسيطة من أهل القرية، ويكافئه عليها بما يزيد على قيمتها من اجر أو كلمات الشكر على الأقل. ولذلك يشعر رجال القرية جميعهم بأنهم مدينون بالشكر طول حياتهم لفقيه الكتاب، أو مأذون القرية، أو كاتب المحكمة، أو المجاور الأزهري القديم، أو غيرهم ممن يقضون لهم هذه الحاجات ولو بلغة ركيكة وعبارة سقيمة. فإذا انتقل من هذه الأمور البسيطة إلى أمور اشد خطراً واعظم قيمة، كتحرير عقد بيع وتسجيله، والإطلاع على منشورات(50/31)
الداخلية وأوراق الانتخابات، وتعليمات وزارة الزراعة عن الطيور والحشرات، ونشرات مصلحة الصحة عن الأمراض المتفشية وطرق مكافحتها. كانت المهمة اشق، وإراقة ماء الوجه اشد، والمكافأة المالية اكبر. وكثيراً ما يدفع الفلاحون - بل قل العمد والمشايخ - الجنيهات الكثيرة في هذه الأزمة الطاحنة أجراً للكاتب العمومي، أو مندوب المحضر الذي يقوم بتحرير محضر البيع، أو العقد، أو الشروط الوقفية؛ على ما في هذا كله من خطر كبير. فقد يحدث أن يكتب الكاتب شيئاًغير الواقع، أو يزور في العقد شيئاً لمصلحة الخصوم، فيشتري الرجل عقاراً غير موجود، أو حقلاً تقل مساحته عن المساحة الأصلية بكثير. والرجل مسكين يقبل هذا في حينه بالبركة، ثم يضع الختم أو يبصم ولا تنكشف له الحيلة إلا بعد أن يكون العقد قد استوفى سائر الإجراءات القانونية التي تجعل مطالبته بحقه أمام الناس والمحاكم أمراً عسيراً. ناهيك عن العلم بالمخترعات وما جريات الامور، وتتبع الحوادث وتذوق طعم الفن والأدب، مما يجعل رقي الأمة حقيقة ملموسة.
ويكفي أن ندلل على أهمية تثقيف الأمة، وان الجهود التي تبذل في هذا السبيل مهما كانت جبارة ومضنية ومستنفذة لمالية الدولة، ومهما كانت العقول جامدة، والقرائح مطموسة، والشعب نفوراً بطبيعته من التعليم؛ لا يمكن أن تذهب سدى، ولا بد أن تأتي آكلها بعد حين. أنا نذكر المصريين بان الأمم لا تقاس ثروتها بمقدار ما يملكه أغنياؤها من مال، ونما بمقدار نصيب كل فرد من أفرادها عامه وخاصة من هذا المال ومن الثروة القومية، فهي كذلك من الناحية العلمية لا تقاس ثقافتها ومدنيتها ورقيها بعدد من فيها من كبار المتعلمين، ونما بمقدار ما ينال كل فرد من أفرادها من مجرد التعليم الأولى. فالأمة التي يحسم كل أبنائها مجرد فك الخط هي افضل من المستوى الاجتماعي الدولي، وأرقى حضارة وأسرع تقدماً، واجدر بالاعتبار من أمة عشرها علماء وتسعة أعشارها أميون.
فلا عجب إذا تسابقت الأمم القوية الناهضة في سبيل تعميمه لكل أبنائها وإجبارهم عليه بالقانون من بدء طفولتهم، وتسهيل سبل تحصيله إلى آخر مراحله، وأرقى درجاته للنابهين الممتازين من أبناء العامة والدهماء من غير أن تكلفهم شيئاً، أو تثقلهم بالنفقات، ولو استنفذت جل مواردها ومخصصاتها. وما على المتشكك إلا أن يلقي نظرة واحدة على جدول الأمية في العالم، وان يقابل بين نصب الأمم الأخرى التي كنا نحسب أنفسنا ارقي(50/32)
منها تعليما وأسرع منها تقدما. ناهيك بالأمم العظمي كإنجلترا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة واليابان وإيطاليا التي محت أو كادت تمحو وصمة الأمية عن جبينها، فتحكم الأرقام الناطقة الصادقة علية وعلى حكما لا يرضاه، ويكفيه أن يعرف أن مصر ذات المجد الأثيل والتاريخ المجيد النبيل قد دار بها الزمن دورته، فأصبحت في القرن العشرين اقل شأناً وأبطأ تقديماً من شيلي وجبل طارق وارجنتينا وباراجواي وتركيا وحتى كوبا واليونان وسيام. ويهوله الأمر إذا قارن نسبة التلاميذ في مصر إلى من هم في سن التلمذة وهي (12. 4 %) بالسويد وهي (98 %) وتشيكوسلفاكيا وهي (60 %) وحتى بلغاريا وهي (31) واليونان وهي (31 %) وكولومبيا وهي (17) والبانيا وهي (25 %).
ولا ضير علينا من اتخاذ نسبة التلاميذ دليلاً على الأمية مادامت نسب الأميين ذاتهم في ممالك العالم المختلفة تعوزنا.
إحصائيات التعليم العالم
الدرجة
البلد
نوع التعليم
سن التعليم
عدد السكان
عدد التلاميذ
عدد في سن التلمذة
النسبة لسن التلمذة
النسبة لعدد السكان
1
الدنمارك
م ج
6 - 14
3. 441(50/33)
758
23 %
2
كندا
م
9. 504
2. 052
3. 000
68
21
3
هولنده
ج
7 - 16
6. 865
1. 346
2. 377
58
20
4
ارلنده
م ج
6 - 14
3. 000
547(50/34)
920
58
18
5
تشيكوسلوفاكيا
م ج
6 - 14
14. 000
2. 400
4. 000
60
17
6
لكسمبورج
261
43
70
61
16
7
النرويج
ج
7 - 14
2. 650
418(50/35)
904
46
16
8
سويسره
م ج
6 - 15
3. 891
610
1. 083
57
16
9
إسبانيا
م ج
6 - 14
21. 000
3. 152
15
10
شيلي
م ج
3. 754
570
15(50/36)
11
جبل طارق
ج
5 - 14
17
3 ب
15
12
النمسا
م ج
6 - 14
6. 536
866
1. 533
51
14
13
ارجنتينا
م
6 - 14
مليون 10
ألف 1. 204
14
14
بولنده(50/37)
م ج
7 - 14
29. 249
3. 586
12. 000
30
12
15
بلغاريا
م ج
7 - 14
5. 484
667
1. 751
31
12
16
باراجواي
ج
7 - 14
800
89
11
17
السويد(50/38)
ج م
7 - 14
6. 000
705
725
98
11
18
تركيا
م ج
7 - 14
13. 000
1. 331
11
19
مالطة
م
225
22
10
20
بلجيكا
ج
6 - 14
7. 812(50/39)
833
1. 953
43
10
21
لاتفيا
1. 845
199
550
36
10
22
كوبا
م ج
6 - 14
3. 470
320 ب
9
23
كوستاريكا
م ج
498
42 ب ت
8
24(50/40)
اليونان
ج
6 - 10
6. 600
532
1. 718
31
8
25
بناما
ج
7 - 15
442
35
8
26
بوراجواي
ج
5 - 14
1. 678
129
8
27
اسلننده
م ج(50/41)
10 - 14
954
7
7. 3
28
المكسيك
م ج
6 - 12
14. 131
975
7
29
الصرب
م ج
12. 000
856 ب ت
7
30
سيام
م ج
9. 831
617
6
31
مصر(50/42)
م ج
14. 178
842
6. 775
12. 4
5. 7
32
لتوانيا
م ج
7
2. 230
124
650
19
5
33
كولومبيا
7. 000
361 ب
2. 168
17
5
34
اكوادور
م ج(50/43)
6 - 12
2. 000
109
5
35
جواتمالا
م ج
6 - 14
2. 000
97
758
13
4. 5
36
رومانيا
م ج
7 - 15
17. 393
738
4. 3
37
البرازيل
م
31. 000
1. 270(50/44)
4
38
البوغاز
ج م
961
40
4
39
ملقا
ج
1. 147
61
349
18
3. 7
40
البانيا
م
6 - 14
850
32
125
25
3. 6
41(50/45)
الكونغو
8. 000
265
2. 550
10
3. 5
42
سلفادور
ج
7 - 14
1. 582
49
3. 1
43
البرتغال
م
7 - 15
6. 000
183
3
44
الهند
319. 000
9. 600
123. 000(50/46)
7. 8
3
45
بوليفيا
ج م
ب
3. 660
84
2. 6
46
هايتي
م ج
2. 500
48
2
47
بيرو
م ج
7 - 14
6. 000
107 ب
1. 5
48
الصين
343. 000(50/47)
4. 000
1. 2
49
ليبريا
ج
1. 750
9
12
(ج) تعليم إجباري. (م) مجاناً. (ب) ابتدائي. (ث) ثانوي. (و) متوسط.
هذه الحقائق الملوسة هي التي جعلت جماعة مشروع القرى يؤمنون بأن التعليم هو أس التقدم وسبيل الرقى، وكل ما عداه ثانوي لاحق. وأهابت بهم أن يجعلوا نداءهم فوق كل نداء، وعملهم الزم لمصر من كل عمل، فقاموا زرافات ووحدانا منظمين ومتطوعين يحاربون الأمية في القرى بكل ما لديهم من حول، وما يستطيعون من سبل، وأيدهم الله بروح من عنده، وثبت أقدامهم في جهادهم، وقوى ايمانهم، وانجلت تجربتهم الأولى في صيف العام الماضي عن تعليم أربعين ألفاً من القرويين، ردهم المتطوعون إلى حظيرة النور، واخذوا بيدهم في سبيل الحياة. وها نحن أولاء نوطن النفس على أن نتعاون مع وزارة المعارف في جهادها العظيم لنشر التعليم الإلزامي، والعمل معها جنباً لجنب تاركين لها من هم في سن التعليم مركزين جهودنا فيمن فاتتهم الفرصة من البالغين. ولكن سيل الأمية جارف وتيارها قوي في أمة كمصر فيها من الذكور البالغين الأميين ممن تجاوزا التاسعة عشرة وفاتوا سن التعليم 79 % أي حوالي 2. 853 مليون من مجموع الذكور البالغين 3. 585 ناهيك بالبنات والنساء الأميات اللاتي لم ندخلهن في حسابنا هذا. تصور بعد مراجعة جدول الأمية في محافظات القطر المصري ومديرياته مبلغ ما سيجده مشروع القرى من صعوبات جمة وما يحتاج إليه من جهود جبارة في مكافحة الأمية في مديرية كأسوان تبلغ فيها نسبة الأمية بين الذكور 91 % وأسيوط 90 % وجرجا وقنا وغيرها.
ولا يحسبن أحد أن انتشار التعليم الإلزامي سينجح وحده في قطع دابر الأمية في عشر(50/48)
سنوات لان المدارس محدودة وعدد الذكور كثير. أو، ن التوسع في سياسة التعليم في مراحله الأخرى يخفف الوطأة. فجملة التلاميذ الآن 655 ألفاً من الذكور أي حوالي 27 % من مجموعة الأحداث الذين في سن التلميذة من 5 - 19. البالغ عددهم 2. 487 مليون والمدارس الأولية بأنواعها فيها 470 ألفاً. وسينضم المتخلفون من الأحداث الذين لا تتسع لهم مدارس التعليم الإلزامي عاماً بعد عام إلى مجموع البالغين الأميين مادامت قد فاتتهم فرصة التعليم. ودليلنا على ذلك انه مع ارتفاع نسبة الأمية في مصر وعلى الرغم من التوسع في إنشاء المدارس فقد زاد تلاميذ المدارس من جميع أنواعها 18735 تلميذاً في مدى أربع سنوات من سنة 1927 إلى سنة 1931. خص التعليم الإلزامي منهم 7370 تلميذاً وتلميذة فقط أي نسبة 1. 5 %.
(جدول تعداد الذكور الأميين من سن 19 فما فوق)
المنطقة
عدد الذكور
عدد الملمين بالقراءة والكتابة
عدد الأميين
نسبة الأميين للذكور
القاهرة
321786
152110
169676
53 %
الإسكندرية
168766
85159
83607
50 %(50/49)
القنال
38353
13425
24928
66 %
السويس
13320
5696
7624
57 %
دمياط
8378
896
7282
87 %
الحدود
29826
3712
26114
87 %
مديريات الوجه البحري
البحيرة
220696
42126
178570(50/50)
81 %
الدقلية
250112
55630
194482
71 %
الشرقية
242836
51677
191159
78 %
الغربية
409485
80592
328873
80 %
القليوبية
143893
25697
118196
82
المنوفية
278397
51286
227101(50/51)
72 %
مديريات الوجه القلبلي
اسوان
60755
5150
55605
91 %
اسيوط
281251
27083
254188
90 %
بني سويف
131498
18358
113140
87 %
جرجا
239871
23651
216220
90 %
الجيزة
152692
19768(50/52)
132924
85 %
الفيوم
141542
32830
108892
77 %
قنا
230630
22371
208259
90 %
المنيا
221485
35450
186035
84 %
الجملة العمومية
3. 584. 983
732061
2. 852. 922
79 %
فإذا أضفنا مجموع الأميين من الذكور البالغين (سن 19 فما فوق) وعددهم 2. 853 مليوناً إلى المتخلفين عن المدارس من الأحداث (سن 5 - 19) وعددهم الآن 1. 823 مليوناً وما يستجد عليهم ممن لا تتسع لهم مدارس التعليم الإلزامي من الأحداث الذين تقل سنهم عن(50/53)
خمس وأسقطنا من يموتون هؤلاء يكون لدينا على اقل تقدير خمسة ملايين من الذكور البالغين الذين يحتاجون إلى معونة مشروع القرى، فإذا صحت النية على قطع دابر الأمية في مصر بين الذكور البالغين في سن 15 سنة ولا أقول عشر أو سبع سنوات يكون لدينا في كل عام حوالي 300 ألف قروي يحتاجون على اقل تقدير إلى 15 ألف متطوع من التلاميذ المدارس الثانوية والعالية والأزهر وغيرهم ممن يهمهم مستقبل مصر وسمعتها يعلم كل منهم عشرين قروياً.
فلا عجب إذا رفعنا صرختنا عالية داويه في القطر من أقصاه إلى أقصاه نطلب المتطوعين.
فيا أيها المصريون المخلصون لبلادهم. المعترفون بما لها عليهم من جميل. العارفون مالها في أعناقهم من دين بادروا بالتطوع. وسارعوا إلى سداد الدين. يرده الله لكم أضعافاً مضاعفة
وما استحق الحياة من عاش لنفسه فقط.
ملاحظة: إحصائيات التعليم في مصر استقيتها من الأرقام التي أمكنني الانتفاع بها من إحصاء سنة 1927م وهو الأخير. ولذلك حرصت على أن تكون أرقام الأمية في العالم من إحصاء 1927م أو يقرب منها لبلاد العالم حتى تكون المقارنة صحيحة على قدر الإمكان.(50/54)
مشروع القرى
روح الاجتماع تدعو إليه فيلبيها الشباب
للأستاذ محمد فريد وجدي
ما تمخضت أفكار المصلحين بشيء اكبر اثراً، واجل خطراً، تمخضها بمشروع تعليم أهل القرى بوساطة النجباء من أهلها من طلبة الجامعة وسائر المدارس في هذه البلاد، فان مصر التي تتوثب الآن للحصول على مكانتها بين الأمم الراقية، وتحاول أن تسرد مجدها التاريخي الأقدم، لا تستطيع أن تحقق أمانيها القومية هذه وتسعة أعشارها أميون لا يعرفون من أمر الوجود إلا ما تدعوهم إليه الحاجات الجسدية، فأما النواحي العقلية وما يتجلى فيها من ثمرات البحوث الأدبية، وما تنكشف فيها من أسرار الوسائل العلمية، والأصول الإصلاحية، والمبادئ الاجتماعية والعمرانية، فهم بمعزل عنها، وإذا كلفوا بشيء منها لم يفقهوا له حكمة فلا يندفعون فيه عن اقتناع وروية. ألم تضطر الحكومة إلى الاعتماد على نوع من الإجبار حين نصت للفلاحين بجميع الديدان من شجيرات القطن وإبادتها، فتلكأوا فيها لاعتبارات خرافية حتى اضطرت لإنفاق أموال طائلة لمراقبتهم في القيام بهذه المهمة؟ أما تذهب اكثر النصائح الطبية سدى فيما يختص بوجوب تصفية مياه الشرب وفي عدم التبرز في المياه الجارية اتقاء لمرض البلهارسيا والانكلستوما اللذين يفتكان بهم فتكا ذريعا؟ ألم تفشل اكثر المحاولات التي أريد بها تخليصهم من العادات السيئة والتقاليد الضارة، حتى ولو جاءتهم من ناحية الدين الذي يقدسونه ويتفانون في المحافظة عليه؟
وكيف كانت تروج حيل الدجالين، وأحابيل المتطببين، إذا كان القرويون يقرأون ما يكتبه عنهم العارفون، وما تنشره الجرائد عن جرائمهم في العواصم والأقاليم؟
أن الجو القاتم الذي يعيش السواد الأعظم من الأميين فيه يجعل منهم كتلة متحجرة لا تستطيع بل ولا تفكر في أن تتابع خطوات المتعلمين في التقديم إلى الأمام، فيكون مجموع الأمة في حالة تخاذل: بعضه يحاول السير ويقدر عليه، وبعضه جامد حيث هو لا يستطيع انتقالاً من مكانه، بل الخير كل الخير في الإقامة على ما وجد أبويه عليه، فان حاول أن يتشبه بالمتعلمين خيل إليه أن ذلك يكون بتقليدهم في بعض القشور فيشذ عن الجماعتين، وينتهي أمره إلى حالة من الضياع يضطر معها أن يلتحق بالمجرمين ليعيش.(50/55)
كل ما في الوجود يحفزنا لان نقضي على الأمية في بلادنا بكل الوسائل الممكنة، فالحكومة سائرة في طريقها من ناحية، ولكن أعباء تفريج الأزمة الاقتصادية قد لا يسمح لها ببذل الوسع في هذا السبيل، فلا بد من عامل جديد يتناول ما لا تمتد يدها إليه، وهذا العامل هو ما فكرت فيه الشبيبة المتعلمة تحت قيادة رجال مثقفين من العمل على تعليم القرويين، وتقويم أخلاقهم، واشراكهم في ثمرات العرفان الذي نالوه، ليكون اتصال أجزاء المجتمع بعضه ببعض حاصلاً ومنتجاً للغاية التي تتوخاها جميعاً، وهي أن تأخذ الأمة المصرية مكاناً بين الأمم يسمح لها أن تشاطرها العمل في خدمة الإنسانية، وإبلاغها أقصى ما ترجوه من الكمال العالمي المنشود.
هذه النزعة من الشبيبة المتعلمة ليست بثمرة تفكير عميق فحسب، ولكنها نفحة من روح الاجتماع تنزلت على اكثر النفوس حساً، وأدقها شعوراً، فحركتها إلى الوجهة التي سلكتها كل أمة نهظت قبلنا نهوظاً ثابتاً مضطرداً. فهذه النفحة التي تجعل عملنا هذا أشبه بالأمور الطبيعية الاضطرارية، منه بالأمور التفكيرية الاختيارية، وهي في الوقت نفسه تدل على أن المجتمع المصري اصبح حاصلاً على جميع المقومات الاجتماعية التي تجعل منه جسماً مترابط الأعضاء، متكافل القوة، متماسك الأجزاء، متأثراً بحياة صحيحة تدفعه النهوض دفعاً طبيعياً متزناً لا تقوى العوامل المحللة على صرفه عنه مهما تسلطت عليه.
فإذا كان اكثر محاولاتنا التي أنتجها التفكير المحض قد حبطت فأن هذه المحاولة الأخيرة التي بعثت إليها روح الاجتماع لا يجوز عليها الحبوط، بل هي ستتطور في أدوار التكمل حتى تبلغ ما بلغته أمثالها في الأمم التي سبقتنا إلى الكمال المدني.
ان جميع الأمم التي ضربت في المدنية بسهم قد ألهمت هذه الطريقة في إيقاظ عامتها، وإشراكها في نعمة الحياة الأدبية، فأن الإنجليز قد نشطوا بتعليم الشعب نشاطاً كانوا فيه المثل الأعلى، إذ تطوعت الطبقة المتعلمة لتعليم الطبقة الجاهلة، فأسسوا الدور الأهلية لتعليم الليلي وإلقاء المحاضرات التي تعين على ترقية مستواهم الأدبي. وكذلك فعل الأمريكانيون والالمان وغيرهم. وفي ألمانيا اليوم حركة اكبر لزيادة رفع المستوى الأدبي لأهل القرى بعد أن نجحوا في رفع الأمية عنهم، علماً منهم بان كل عمل يبذل في سبيل إصلاح القرى، وتحبيب سكانها لأهلها، وترقية مداركهم، يعود بأكبر النفع على مجموع(50/56)
الأمة لأنهم الحجر الأساسي في بنائها، وإذا كان الأساس قوياً ركيناً كان كل ما يبنى عليه متيناً ثابتاً.
فنحن ألان حيال نهضة أدبية خاصة بالقرى، مقبلون منها على حالة مليئة بكبار الآمال، يقوم بها شباب تخفق بين جوانحهم قلوب يعمرها حب الوطن، وإيمان راسخ في النجاح، فلحي فيهم هذه الهمة الوثابة، والإخلاص الذي تضرب به الأمثال، كلل الله أعمالهم بالنجاح، أمدهم الله بروحه وعونه، انه ولي الصادقين
محمد فريد وجدي(50/57)
9 - بين المعرى ودانتي
في رسالة الغفران والكوميدية المقدسة
بقلم محمود احمد النشوي
قد وعدنا أن نحدثك عن خيال دانتي في الانتحار والمنتحرين وعما وصف به ما هم فيه من عذاب. فلعلك على ذكر من أن أبا العلاء لم يتبع سبيل الخيال إبان ذلك، بل سلك طريق الحكماء، ولعلك على ذكر أيضاً من تعليله. فأما دانتي فقد انتحى نحو الخيال يستمد منه الزراية بالانتحار والمنتحرين، فبينما هو في الدرك السابع من جهنم إذ رأى غابة موحشة، أشجارها متجعدة الأغصان، متجردة إلا من أشواكها المسممة الأطراف، وقد ملئت وحوشاً أنصاف جسومها في زي الأناسي، وأنصافها الأخرى على هيئة طيور، وهي ترفع صوتاً تنخلع منه القلوب عن أبدانها، فسار في جنبات تلك الغابة على خيفة من وحوشها، وهو يسمع أنات وزفرات لا يعلم طريقها، فسأل عنها فرجيل فأجابه: أن اقطع طرفاً من هذه الغصون لعلك تتعرف تلك الأنات، فصدع بالأمر، وامتدت يده إلى غصن لم يكد يجتذه حتى نطقت له تلك الشجرة صاحبة الغصن قائلة: لم نزعتني؟ أليس في حنايا قلبك شيء من الرحمة؟ لقد كنا رجالا مثلكم، وقد صرنا نباتاً، فأما شجرات تلك الغابة فهم المنتحرون نبتوا اشجاراً كان مأواها جهنم وبئس القرار وأما تلك الشجرة التي قطع دانتى غصنها فهي الشاعر (بيير ديللي فيني وقد كان في حياته الدنيا مستشاراً لحكومة الإمبراطور فردريك الثاني، فخدم مليكه مخلصاً في خدمته، ولكن السنة السوء عبثت به فتقولت عليه الأقاويل، فأصاخ لها الإمبراطور وفقأ عيني مستشاره، وألقى به في ظلمات السجن، فأكبر بيير ما حاق به وهو الشاعر الملتهب العاطفة، فضرب برأسه في جدران السجن ضربة أودت بحياته، وختم أيامه بتلك الجريمة الكبرى، فلم يك ينفعه إخلاصه، ولم تك تنفعه أمانته، بل دخل النار مع الداخلين، وكان شجرة في تلك الغابة الموحشة التي تنخلع لهولها القلوب.
في الطريق إلى الفردوس
لقد كان طريق الفردوس في خيال المعري مليئاً بالمفاجآت الطريفة، وبالدعابة الساخرة، ينبعث من كل عبارة فيها ما يضحك الثكلى. وسندع ابن القارح يقص علينا حديث ذلك(50/58)
الطريق، وما تذرع به لدخول الجنة، إذ يحاور تميماً بن أبي ويسأله عما يريده بكلمة (المرانة) من قوله:
يا دار سلمى خلاء لا أكلفها ... إلا المرانة حتى تسأم الدنيا
فيجيبه تميم بان الحساب العسير أنساه كل شيء، فلم يدخل الجنة ومعه كلمة من الشعر أوالرجز، ثم يقول لابن القارح أن حفظك لمبقي عليك كأنك لم تشهد أهوال الحساب، فيقص عليه ابن القارح حديث الموقف، وحديث دخوله فراديس الجنان، وانه يمم شطر رضوان خازن الجنان يمتدحه بشعره، فلا يزداد رضوان إلا إعراضاً عنه، وصدا دونه، ولما لم تجد مع رضوان ضراعة الشعر، صاح ابن القارح قائلا: يا رضوان! استطالت مدة الحساب، ومعي صك التوبة، وقد امتدحتك بأشعار كثيرة، فيستجيب دعاءه ثم يحاوره، لا في دخول الجنة بل في تعريف الشعر وفائدته. وفي جمع كلة شعر، ثم ينتهي بينهما الحوار إلى منعه من دخول الفردوس دون إذن من رب العزة. فلا تنقطع أطماعه بل يذهب إلى خازن آخر اسمه زفر يمتدحه بالشعر فيقول له زفر احسب هذا الذي تجيئني به قرآن إبليس المارد، ولا ينفق عن الملائكة. فمن أي الأمم انت؟ فيقول له من أمة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. فيقول له زفر: صدقت ذلك نبي العرب، ومن تلك الجهة أتيتني بالقريض، لأن إبليس اللعين نفثه في إقليم العرب، وقد وجب علي نصحك، فعليك بصاحبك لعله يتوصل إلى ما ابتغيت. فيتركه ابن القارح غضبان أسفاً، ثم يسير في طريقه فيرى حمزة بن عبد المطلب فتتجدد آماله، وترجع له ثقته بالشعر: يأمل أن يجد له نفاقاً لدى ابن عبد المطلب، فيناديه وينشده، فيقول له حمزة: ويحك! أفي مثل هذا الموقف تحييني بالمديح؟ إني لا اقدر لك على ما تطلب. بيد انه يرسل مع رسولا إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ليخاطب النبي صلى الله عليه وسلم في أمره، فلما قص عليه القصص، قال له: أين صحيفة حسناتك؟ فيبحث عنها فإذا بها سقطت في شجار بين أبي علي الفارسي وبين شعراء حرف كلامهم، وأول أغراضهم، تدخل ابن القارح في فضه قائلاً: يا قوم، هذه أمور هينة، فلا تعنتوا الشيخ فانه ما سفك لكم دماً ولا احتجن عنكم مالاً. وعاد إلى كتاب التوبة يبحث عنه فلم يجده، فجزع وهلع؛ ولكن أمير المؤمنين قال له: لا عليك، ألك شاهد بالتوبة؟ فقال له نعم، يشهد لي عبد المنعم بن عبد الكريم قاضي حلب (حرسها الله) في أيام(50/59)
شبل الدولة، فيناديه الهاتف فيجيبه بعد لأي شاهد بتوبته. ولعل أمير المؤمنين كرم الله وجهه اتهم تلك الشهادة فأعرض عنه. بيد أن اليأس ولم يخامر قلبه، فذهب إلى العترة متوسلاً بهم، قائلاً: إني كنت في الدار الذاهبة إذا كتبت كتاباً وفرغت منه قلت في آخره: وصلى الله على سيدنا خاتم النبيين، وعلى عترته الأخيار الطيبين؛ وهذه حرمة لي ووسيلة. فقالوا ما نصنع بك؟ فقال أن مولاتنا فاطمة عليها السلام تخرج من الجنة كل حين مقداره أربع وعشرون ساعة من ساعات الدنيا الفانية، فتسلم على أبيها وهو قائم لشهادة القضاء، فإذا هي خرجت كالعادة فاسألوها في أمري باجمعكم، فلعلها تسأل أباها في ذلك. فلما جاءت قال لها جماعة الأبرار: هذا ولي من أوليائنا قد صحت توبته ولا ريب انه من أهل الجنة، وقد توسل بنا إليك (صلى الله عليك). فقالت لأخيها إبراهيم دونك الرجل، فقال له إبراهيم: تعلق بركابي، وطارت الخيل في الهواء من الزحام حتى بلغ الركب الرسول صلى الله عليه وسلم. فقالت له فاطمة رضي الله عنها: هذا رجل سأل فيه فلان وفلان. فقال حتى ينظر في عمله: فسأل عن عملي فوجد في الديوان الأعظم وقد ختم بالتوبة، فشفع لي، فأذن لي في الدخول.
(يتبع)
محمود احمد النشوي(50/60)
4 - أعيان القرن الرابع عشر
للعلامة المغفور له احمد باشا تيمور
الشيخ محمد الاشموني الشافعي
أصله من اشمون جريس، قرية من أعمال المنوفية، وقد اخبر انه من نسل أبي مدين التلمساني، ولد سنة 1218م، وحضر إلى الأزهر لطلب العلم، فتلقى عن القويسني، والبولاقي، والفضالي، والامير، والباجوري، والمرصفي وغيرهم. وكان اكثر حضوره على البولاقي، والباجوري، واشتهر بالذكاء، وجودة التعليق وإتقان التحصيل، إلى أن تأهل للتدريس فدرس الكتب المتداولة بالأزهر من صغيرة وكبيرة وقرأ المطول، وجمع الجوامع، وكتب التفسير، والحديث، والعقائد وغيرها مرات بعذوبة منطق وحسن إلقاء، ولم يؤلف كتباً ونما كتب عنه بعض الطلبة تقييدات عن قراءته للعقائد النسفية، وكذلك قيدوا عنه نحو ثلاثين كراسة حال قراءته لمختصر السعد، واخذ عنه كثيرون من كبار علماء الأزهر، وعمر عمراً طويلاً حتى الحق الأجداد بالأحفاد وصار جميع من بالأزهر إما تلاميذه أو ممن في طبقتهم، وروى عنه أن الشيخ محمد الانبابي الذي كان شيخاً على الأزهر كان ممن تلقى عنه، إلا أن الشيخ الانبابي كان ذلك.
ولم يعقب المترجم لأنه لم يتزوج قط، وكان القائم بخدمته في داره أخت له وجارية سوداء وعبد اسمه محبوب تبناه وزوجه من الجارية، وفتح له حانوتاً بالتربيعة وصيره من التجار، ثم وقف على الثلاثة داره التي يسكنها بالباطنية بالقرب من الأزهر.
ولم ينقطع عن التدريس والإفادة إلا قبل موته ببضع سنوات لضعف أصابه من الكبر، وابطل حركته في آخر أيامه، وكانت وفاته ليلة الجمعة رابع ذي القعدة سنة 1321 عن مائة سنة وثلاث سنوات، وأمر الخديو بتجهيزه من الأوقات الخيرية، وأطلقوا منادين في الطرق للإنباء بوفاته، فسار مثنى رافعين أصواتهم بالنعي واجتمع في صبيحة الوفاة الألوف من صنوف الناس لتشييع جنازته قيل انهم بلغوا نحو أربعين الفاً، وحضر أيضاً الوزير المنبهي المراكشي وزير الحرب بالغرب، وكان ماراً بمصر للحج واحب أن تكون نفقة التجهيز والمأتم من عنده فاخبروه بأمر الخديو، وتقدم شيخ الأزهر السيد علي الببلاوي للصلاة عليه بالأزهر، وتولوا قبيل الصلاة مرثية من نظم الشيخ إبراهيم راضي مطلعها:(50/61)
لا قلب للإسلام غير حزين ... فاليوم فيه انهد ركن الدين
ثم خرجوا بالجنازة إلى القرافة ودفنوه في مقبرة الشيخ الانبابي وكان رحمه الله أنيس المحضر، كثير الدعابة والمزاح مع الطلبة شديد الورع متصفاً بالزهد والتقشف وقلة الاحتفال برفاهة العيش إذا سار في الطريق توكأ على عصاه بيد ووضع الأخرى على كتف من يسايره، لاسيما بعد علو السن وضعف القوة. حضر مرة احتفالاً مما يقام لكسر السد أو المولد النبوي، ورموا بالسهام النارية كعادتهم، فتجاوز سهم منها مداه ووقع على الحاضرين، فأصاب المترجم في إحدى عينيه وذهب بها، فرق له الخديو إذ ذاك، ورتب له راتباً شهرياً علاوة على راتب الأزهر، رحمه الله تعالى.(50/62)
الغازي احمد مختار باشا:
ولد في بروسة من مدائن آسيا الصغرى شهر (سبتمبر سنة 1837) وقدم الأستانة صغيراً، فدخل المكتب الحربي العالي، فنبغ من بين أقرانه، ولم يخرج منه حتى نال رتبة قائمقام وحضر حرب القرم، ثم انتظم في عداد أركان حرب السردار الأكرم عمر باشا حين حمل على الجبل الأسود سنة 1860 وامتاز بالبسالة خصوصاً في مضايق اوستروك، وكوفئ وقتئذ بترقية رتبة ثم ما لبث أن عاد إلى الأستانة عقب ابرام الصلح فجعل أستاذاً في المكتب الحربي. وفي سنة 1866 جعله السلطان عبد العزيز مربياً لنجله البكر يوسف افندي عز الدين، فرافقه إلى إيطاليا، وفرنسا، وانكلترا، وألمانيا، والنمسا فنال في أثناء ذلك وسام (اللجيون دونور) وغيره من فرنسا وسواها، وعاد إلى الأستانة سنة 1867م فجعل مأموراً لتحديد التخوم بين بلاد الدولة والجبل الاسود، فرجحت بسببه كفة الأولى إذ أبقى في حوزتها عدة مواقع حربية مهمة، وقوبل عمله هذا بترقية لرتبة أمير اللواء وجعله عضواً في المجلس الحربي، وفي ختام سنة 1870 أرسل مع ضباط الجيش المرسل إلى اليمن تحت إمرة رديف باشا، فاستولى على مدينة يدى، ونال رتبة فريق، ثم أقيم مقام رديف باشا في القيادة الكبرى لنقله والياً على الحجاز، فتمكن من الفوز على أهل اليمن، فرقي إلى رتبة مشير وجعل والياً على اليمن. ثم لما رجع إلى الأستانة أقيم وزيراً النافعة فاستقال منها ثم جعل والياً لكريد، ثم مشيراً للفيلق الثاني في شوملة سنة 1873م، ثم مشيراً للفيلق الرابع في ارزروم سنة 1874م، ثم قائداً لجيش الهرسك بدلاً من رؤوف باشا سنة 1875م فحصن مواقعها، وقاوم الثورة حتى عقدت في ختام سنة 1876م فأعيد إلى كريد والياً عليها، ولكنه لم يبق بها شهراً واحداً حتى أمر بالذهاب إلى ارزروم لقيادة الفيلق الرابع وحماية المواقع العثمانية عند حدود القوقاز. واشتهر بالفوز في الوقائع الحربية مع الروسيا في جهة قرص، والكسندر، وبول وغيرها، خصوصاً بمعسكر جديكلر في شهر أغسطس سنة 1877 حتى استحق لقب الغازي، ولما قطع الغراندوق ميخائيل الصلات بين فرقته وسائر الجيوش العثمانية تمكن هو من النجاة، ثم استدعى إلى الأستانة فجعل ناظراً (للطوبخانة) وكان ذلك في شهر افريل سنة 1878م، وبعد ذلك عين قائداً لجيش يانيا، ثم والياً لكريد مرة ثالثة في 28 أغسطس سنة1878 فتمكن من توطيد الأمن بها وألف بين أهلها المسلمين والمسيحيين فكتبوا عريضة رفعوها للباب العالي في شهر أكتوبر(50/63)
سنة 1878 بالثناء عليه وبعد ذلك أرسل إلى البانيا لتنفيذ العهدة البرلينية المتعلقة بها، فدوخ الثائرين، وعاد بعد حين إلى الأستانة ولبث يقوم فيها بالمهام الجسيمة في الجيش حتى أرسل إلى مصر معتمداً عالياً.
الشيخ حسونة النواوي:
الحنفي
هو حسونة بن عبد الله، أصله من نواي، قرية تابعة لملوي، من أعمال أسيوط، ولد سنة 1255م، ولما ترعرع حضر إلى الأزهر، وتلقى به العلم على شيوخ وقته، وكان حضوره الفقه الحنفي على الشيخ عبد الرحمن البحراوي، والمعقول على الشيخ محمد الانبابي والشيخ على بن خليل الاسيوطي. ثم درس به، وأحيل عليه تدريس الفقه بمدرسة دار العلوم ومدرسة الإدارة التي سميت بعد ذلك بمدرسة الحقوق، ودرس آخر بمسجد محمد علي بالقلعة فكان له من مجموع وظائف هذه الدروس ما حسن به حاله، وألف في أثناء ذلك كتابه (سلم المسترشدين في الفقه الحنفي) لتلاميذ مدرسة الإدارة، ونال في شهر شعبان سنة 1302م كسوة التشريف من الدرجة الثانية.
ثم لما شرع الخديو عباس باشا الثاني في أوائل توليته في تحسين حال الأزهر، وإصلاح نظامه، وطريقة التدريس فيه، وإبدال بعض الكتب التي تقرأ فيه بغيرها، وإدخال بعض العلوم فيه كالرياضيات، وتقويم البلدان والتاريخ وغيرها وذلك بسعي الشيخ محمد عبده وغيره رأى الساعون تعذر ذلك مع وجود الشيخ محمد الانبابي شيخاً عليه، ولم يشأ الخديو عزله دفعاً للقيل والقال، فألف مجلساً من العلماء ينظر في شؤونه سمى بمجلس الاداره، والتمس رئيساً له يعين على أحداث النظام المطلوب فأشير عليه بالمترجم لما عهد فيه من الشهامة والصرامة، وسعى له بعض كبار رجال الحكومة ممن سبق لهم التلقي عليه بمدرسة الإدارة فأقيم رئساً لهذا المجلس، واخذ من الاستبداد بأمور الأزهر حتى انحصرت فيه كلياتها وجزئياتها، وصار هو الشيخ في باطن الأمر حتى ضجر الشيخ محمد الانبابي ثم اعتلت صحته، فاستقال في 25 ذي الحجة سنة 1312، وأقيل في ثاني المحرم سنة 1313.
فجاءت استقالة الشيخ على وفق مأمولهم، وأقيم المترجم شيخاً على الأزهر بدله، فكانت(50/64)
توليته كالشجا في حلوق أهله لأسباب منها انهم يرون فيهم من هم اكبر سناً، واكثر علماً، وأحق بالرئاسة عليهم منه. ومنها انه جاء مؤيداً لإدخال بعض العلوم المسماة عندهم بالجديدة كالحساب والهندسة والجبر وتقويم البلدان وما هي إلا علوم قديمه اشتغل بها المسلمون وألفوا فيها، وكانت تدرس بالأزهر قبل انحطاطه، ونما نفروا منها لطول عهدهم بها وحسبانها من علوم الإفرنج، وأنها ما أدخلت فيه إلا للقضاء على العلوم الشرعية أو تقليل الرغبة فيها. ومنها انه تولى بعد الشيخ الانبابي المشهود له بالعلم والفضل والتقوى بن الخاصة والعامة بل لأنه كان سبباً من باطن الأمر على إرغامه على الاستقالة. ومنها اشتهاره بشيء من الشدة والجفاء في مخاطبة الناس ومعاملتهم مع ما داخله بعد تولي من الزهو والخيلاء، وما كان يشيعه أعداؤه عنه من ممالأته للإنكليز على هدم أركان الدين بإدخال العلوم الجديدة بالأزهر حتى كثرة القالة فيه، ويعلم الله انه بريء مما يأفكون.
وحدثت في مدته حادثة الوباء التي امتنع فيها المجاورون بإغراء بعض متهوريهم من الخضوع لأوامر الحكومة، واعتصموا بالأزهر، وقاوموا رجال الشرطة ورموهم بالأحجار حتى أصيب محمد ماهر باشا محافظ القاهرة بحجر أدمى وجهه، فأحيط بهم ورموا بالرصاص، فجرح منهم من جرح، ثم قبض عليهم وحكم على البعض بالسجن وعلى البعض بالنفي، واغلق رواق الشوام لان اصل الحركة كانت منهم، وهال الناس وقوع هذه الحادثة وانتصروا للمجاورين، ووجدوا منها باباً للكلام في الشيخ ورميه بالضعف والتهاون في الدفاع عن حرمة المسجد والمحاماة عن أهله.
ثم لما توفي الشيخ محمد المهدي العباسي مفتي القطر سنة 1315 أضيف منصب الإفتاء للمترجم فجمع له بينه وبين رئاسة الأزهر كما كان يجمع بينهما للشيخ العباسي احياناً، واستمر المترجم جامعاً للمنصبين واكثر القلوب منصرفة عنه حتى وقع الخلاف الكبير بين جمال الدين أفندي قاضي قضاة مصر وبين الحكومة أواخر سنة 1316 بشأن إصلاح المحاكم الشرعية واقتراح انتداب قاضيين من مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية ليشاركا قضاة المحكمة الشرعية العليا في الحكم، فلما عرض الاقتراح في مجلس شورى القوانين أبى قاضي القضاة قبوله، وقام المترجم بنصرته وشد أزره، وأراد رئيس النظار مصطفى فهمي باشا مناقشته فبدرت منه كلمات عدها الوزير مهينة له، ولم يقتصر على ذلك بل(50/65)
أرغى وأزبد وخرج من المجلس مغضباً وهو يتلو قوله تعالى ()
وشاع بين الناس ما اقدم عليه فأكبروه منه وحمدوا موقفه فيه، لاسيما وقد سرى إلى الأذهان أن الحكومة تريد هدم الشريعة لهذا المشروع، فانقلب ذمهم له مدحاً، وبغضهم محبة، ولكنهم لم يغنوا عنه شيئاً لان النظار احفظهم ما واجه به رئيسهم وحرك ذلك ما كان في صدورهم منه يوم أردوا منع الحج احتجاجاً بالوباء واستفتوه ليجعلوا فتواه عصا يتوكئوون عليها كلما أرادوا منع الحج وظنوا انه يوافقهمفاخلف ظنهم، وأفتى بعدم جواز المنع فكانت حادثته مع الوزير من احسن ما يتوصل به إلى التخلص منه، فشكوه إلى الخديو وطلبوا منه عزله، فاستدعاه يوم الثلاثاء 6 المحرم سنة 1317 إلى مصيفه بالإسكندرية ومعه القاضي وألان لهما القول وناقشهما في تعديل الاقتراح، وتغيير ما يخالف الشرع منه، فأصر القاضي على الامتناع، وتكلم المترجم منتصراً له، فقال في عرض كلامه أن المحكمة الشرعية العليا قائمة مقام المفتي في اكثر أحكامها، ومهما يكن من التغيير في الاقتراح فانه لا يخرجه عن مخالفته للشرع لان شرط تولية المفتي مفقود في قضاة الاستئناف، ثم التفت إلى القاضي وسأله هل هو مولى من الخليفة أم من الخديو؟ فقال من الخليفة، فقال إذن يجب لمن يريد مولانا الخديو إشراكه معه ولو كان هلاً ثم انصرفا. وكان كلام المترجم فيه شيء من الشدة تألم منها الخديو فمال لرأي نظاره فيه، ولكنه أسرها في نفسه حتى حسم نازلة القاضي بالحسني، ثم اصدر أمره يوم السبت 24 المحرم سنة 1317 بفصله من الأزهر والإفتاء، وإقامة ابن عمه الشيخ عبد الرحمن القطب النواوي شيخاً على الأزهر، والشيخ محمد عبده المستشار بالاستئناف الأهلي مفتياً للقطر، بعدما انتقل من مذهب الإمام مالك لمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة.
ولما أشيع الأمر كثرت وفود العلماء والوجهاء على دار المترجم وانطلقت الألسن بمدحه والثناء عليه وتعلقت به القلوب، واقبل الناس عليه أي إقبال، وتحققوا أن ما كانوا يتهمونه به من قبل لم يكن إلا عن محض توهم. والحقيقة أن الرجل وان لم يبلغ شأو طبقته في العلم لم يعهد عليه ما يشين دينه ولا دنياه. بل عرف بالعفة، وعلو الهمة، ونقاء اليد من الرشى لولا جفاء يبر بعض الأحيان في منطقه، وشدة فيه يراها بعض الناس غلظة ويعدها البعض شهامة لحفظ ناموس العلم، خصوصاً مع الكبراء الذين أفسدهم تملق علماء السوء(50/66)
وحملهم على الاستهانة بهذه الطائفة.
ولم يزل المترجم عاكفاً في داره، مقبلاً على شأنه، وحببت إليه العزلة فابتنى داراً بجهة القبة انتقل إليها وسكنها، ولم يقم ابن عمه في الأزهر طويلا بل توفي فجأة بعد نحو شهر من ولايته سنة 1317، فولى على الأزهر الشيخ سليم مطر البشري المالكي ثم استقال فأقيل يوم الأحد 2 ذي الحجة سنة1320، وأراد الخديو إعادة المترجم أو تولية الشيخ محمد بخيت فلم يوافق النظار وتولى الشيخ على بن محمد الببلاوى المالكي نقيب الأشراف على الأزهر ثم استقال يوم الثلاثاء 9 المحرم سنة 1323 فأقيل يوم السبت 12 منه، وصدر الأمر العالي يوم الأحد 13 منه بإقامة الشيخ عبد الرحمن الشربينى الشافعي ثم استقال فأقيل بأمر صدر يوم الأربعاء 16 ذي الحجة سنة 1324 وصدر أمر آخر في ذلك اليوم بإعادة المترجم شيخاً على الأزهر وهى توليته الثانية، ولكنه لم يمكث فيها طويلاً بسبب اختلال الأحوال، ونزوع المجاورين للفتن، وذهاب هيبة المشايخ، فاستقال سنة 1327 ورتب للشيخ الشربيني 15 ديناراً مصرياً في الشهر من الأوقاف الخيرية ليكمل مرتبه 25 ديناراً.
وأعيد إلى الأزهر الشيخ سليم البشري، ولزم المترجم داره التي بالقبة يزوره محبوه ويزورهم، ونال في توليته الأولى الوسام المجيدي من الدرجة الثانية، وجعل حينذاك عضواً من الأعضاء الدائمين بمجلس شورى القوانين ومن شرط هؤلاء الأعضاء انهم لا يعزلون، ولهذا بقى المترجم به بعد عزله من الأزهر والافتاء، حتى الغي المجلس واستعيض عنه بالجمعية التشريعية سنة 1332 فانفصل عنه بحكم الإلغاء.
وظل مقيماً في داره التي بالقبة في عزلة على الناس إلى آخر حياته، وقد أصيب بأمراض ووهن في القوى وضعف في النظر حتى توفي صباح يوم الأحد 24 شوال سنة 1343، ودفن في العصر بالمجاورين تغمده الله برحمته.(50/67)
طرائف الشعر
الذكري
للعالم الشاعر الراوية الأستاذ احمد الزين
أدّكاراً بعد ما وَلى الشباب ... ومن الذكرى نعيمٌ وعذاب
لا تقُلْ تعزيةٌ عن فائت ... كم عزاءٍ في ثناياه المصاب
وإذا الدار جفاها أُنسُها ... فمغانيها مع التُّرْب تراب
وإذا الروض ذوت أوراقهُ ... فغناء الوُرق في الروض انتحاب
وإذا ما الزهر وَلّى حُسنهُ ... فبقاياه عبُوسٌ واكتئاب
واحمرارُ الشمس في مغربها ... دمعُها القاني أو القلبُ المذاب
إنما الذكرى شجونٌ وجوًى ... يسكن القلبٌ لها وهي حِراب
رُبَّ نفسٍ عشقتْ مصرعَها ... كفَراش النار يغريه الشِّهاب
ولكَم أُنسٍ وفيه وحشةٌ ... واقترابٍ هو نأْىٌ واُغتراب
عاِّلِي القلبَ بذكراكِ وإن ... كان لا يغني عن الماء السّراب
وصلينا في الكرى أو في المُنى ... مَن أباه الصدقُ أرضاه الكذِاب
أو عِدينا عِدة ممطولةً ... قد يشام البرقُ إِن ضنَّ السحاب
كم تَمنَّينا عقيمات المنى ... ودعونا وصدى الصوت جواب
ورضينا بقليلِ منكِ لو ... أن مشتاقاً على الشوق يثاب
لا أرى بَعدكِ شيئاً حَسَنا ... آهل الأرض بعينيّ يَباب
رنّةُ العود بسمعي أنّةٌ ... وسُلافُ الخمر في الأقداح صاب
يا زماناً صَفِرتْ منَه يدي ... غير ما تُبقي الأمانُّي الكِذاب
ليت نفسي ذهبتْ في إثره ... فذهاب الصّفو للمرء ذهاب
مَن لقلبٍ حاملٍ من وجده ... ما يذوب الصخر منه والهضاب
حَمَّلَ الأيام ذكرَى ومنًى ... ضاقت الدنيا بها وهي رحاب
والمنى عذرُ الليالي إن جنتْ ... وهي للشاكي على الدهر عتاب
ونعيمٌ يَعِدُ القلب به ... نفسَه حين المقاديرُ حجاب(50/68)
ليتها دامت على خدعتهِا ... أحسب الخير ويعدوني الحساب
ربّما رفّه ظنٌ خاطىءٌ ... ولقد يجني على النفس الصواب
غير أن اليأس قد أبقى بها ... مثلَما يبقي من الشمس الضباب
لم يدَعْ لي اليأسُ ما أحيا به ... غيرَ قد كنَّا وقد كان الشباب!
احمد الزين(50/69)
حلم
للأستاذ محمود خيرت
هذا الجميل هو الذي وصَلَ الهوى ... حظِّي به فكُتبْتُ من عُشَّاقِه
ولقد شَقِتُ بهجره حتى إذا ... بلغ المدى ويئَسْتُ من إشْفاقه
نادى علىَّ فلم أُصدِّق مَسمعي ... في ليلةِ كَرُمت على مُشتاقه
وقد استقلَّ البدرُ عرشَ سمائه ... وأطلَّ ضافي الزّهر من أوراقه
فطفقْتُ أشرح والدموعُ هواطل ... ما جَرَّعَتْ شفتيَّ كأسُ فِراقه
وأبثُّهُ عَتْبي علىَ إعراضه ... لما وَشَى بي عاذِلي بِنِفَاقه
وأخذتُ أرْوِي مِن جِنَي قُبُلاَته ... ظَمَئيِ وأُطفئ لوْعتي بِعنِاقه
حتى إذا نفخ الصبَّاح ببُوقه ... في النائمين وهلَّ من آفاقه
أدركتُ أنّي عِند حُلمٍ طائفٍ ... لم يَبْقَ مِنهُ غيرُ مُرُّ مَذاقه
إِنّي المَلُومُ عرضْتُ قلبي سِلْعَةً ... عند الهوى فخَسِرْتُ في أسْوَاقه(50/70)
البليارد
له أيضاً
تمشَّتْ إلى بليارها ذاتَ ليلةٍ ... تُعالج في لُطفٍ صوالَجِه لَمسْا
ومالَتْ بِنَهْديها عليه فعِندهَا ... أرتْني كُرَاتِ العاجِ من فوقه خمسا
محمود خيرت(50/71)
من الأدب الغربي
سانت بوف وفن النقد
بقلم علي كامل
النقد قبل بوف:
كان النقد في القرنين السابع عشر والثامن عشر قائماً على تلخيص أعمال الكتاب وإيراد مقتطفات من كتاباتهم مصحوبة ببعض تعليقات عليها. وكانت هذه التعليقات على تفاهتها وقلة اهتمام النقاد بإيرادها تمثل الفوضى المطلقة. فكان كل ناقد ينظر إلى الكتاب المنقود بمنظار فكره الخاص. فإذا اتفق تفكير الكاتب وتفكير الناقد كان الكتاب ناجحاً في نظر الناقد فيهلل له تهليلاً. وإذا خالفه كان سقوط الكتاب هو المصير الأكيد! كان النقد إذن نظرياً فلم تكن له قواعد يتبعها الناقد في نقده. ولم تكن هناك شروط معينة من المفروض توفرها فيمن يتصدرون لنقد أعمال كبار الكتاب والأدباء، لذا كان ينزل إلى ميدانه كل من ظن في نفسه القدرة على مسك القلم وتسويد بضعة سطور على القرطاس. واستمر الحال هكذا حتى صاح (جرم) قائلاً (إن الأعمال الأدبية العظيمة لا ينبغي أن تدرس بالاطلاع على ملخصاتها بل يجب أن تقرأ جيداً. أما الأعمال الأدبية التافهة فلا تستحق إلا الإهمال المطلق، إن النقد الصادق هو الدراسة والإصلاح. والناقد يجب أن يفهم المؤلف حق الفهم. ويتغلغل إلى أعماق تفكيره لا أن يخضع لفكرة الخاص).
على هذا الأساس نشأت بذرة فن النقد الحديث في أوائل القرن التاسع عشر. وكانت أول مظاهره نشوء ما سمي بالنقد التأريخي والفكرة في ذلك أن العمل الأدبي خاضع بالضرورة للحالة الاجتماعية في العصر الذي كتب فيه. فلكي نحكم على الكتاب حكما عادلاً وجب أن نقيم وزناً للظروف التي عاصرته. . . تلك كانت وجهة النظر الجديدة وكان أول من عمل على تطبيقها الأستاذ فليمان فكان النقد في نظره صورة من تأريخ، وقد اتبع طريقته في النقد عند كتابته عن الأدب الفرنسي والآداب الأوروبية كالأدب الإنجليزي والإيطالي والإسباني.
ومن أوائل المجددين في النقد سان مارك (1801 - 1873) وقد اشتهر بمحاضراته في السوربون وبكتابه الذي قال عنه معاصره الناقد المجدد (انه كتاب أدبي ولكنه يسمو(50/72)
إلى مصاف الكتب الأخلاقية العظيمة).
إذن كان فيلمان وسان مارك جيراردن صاحبي الفضل الأول في الخروج بالنقد من فوضاه القديمة، وذلك بمزج النقد بالتاريخ واعتبار الأول صورة مصغرة من الثاني. على أن فضلهما كان أشبه بمناورات طفيفة إذا قورنا بالفاتح الجديد سانت بوف.
سانت بوف وأعماله الأدبية
كان سانت بوف - مبدأ حياته طبيباً ثم انضم إلى جماعة فكتور هوجو. وفي عام 1828 نشر كتابه ثم ارتفع اسمه كشاعر عندما نشر عام 1829 مجموعة الشعرية الأولى ثم مجموعته الشعرية الثانية (1830) وفي عام 1834 نشر قصته عام 1837 نشر مجموعته الشعرية الثالثة '
وابتداء من عام 1840 تفرغ سانت بوف للنقد الأدبي الذي نبغ فيه بسرعة نبوغاً عجيباً فلم يكن ينافسه فيه منافس. وفي عام 1845 انتخب عضواً في الأكاديمي. وفي عام 1857 عين أستاذاً في مدرسة النورمال فألقى سلسلة من المحاضرات نشرت فيها بعد بعنوان (دراسات عن فرجيل) ولقد كتب سانت بوف ما يقرب من ثلاثمائة ترجمة أدبية جمعت تحت أسماء مختلفة منها (أحاديث الاثنين) و (صور أدبية) و (صور معاصرة) و (صور من النساء) وغيرها.
عبقرية سانت بوف:
إذا كان لفيلمان وسان مارك فضل النهوض بالنقد كفن له قواعد وأصول، فان لسانت بوف فضل المجدد الطليق الذي لا يلتفت لحظة إلى الوراء ولا يرعى تقاليد الماضي. فهو الرجل الذي قلب بحق فن النقد في القرن التاسع عشر فلم يبلغ أحد ما بلغة في تطبيق طريقة (النقد التاريخي) ولم يكن هناك من يفوقه فهما لمهمة الناقد الوفي.
كان سانت بوف ناقداً بالسليقة إذ كان يجمع كل الصفات التي يجب أن تتوفر في كل من يجرؤ على خوض غمار فن النقد. ذلك الفن الذي يعتبر - إذا استثنينا بلادنا! من اصعب فنون الأدب. وهذه الصفات الضرورية التي كانت من أخص سجايا سانت بوف هي:
أولاً: حب الاطلاع. فكان يجد السعادة كلها في دراسة كل أنواع الكتاب - من يحبهم ومن(50/73)
لا يحبهم - وقراءة الأعمال الأدبية من جميع العصور.
ثانياً: الجلد الذي كان يجعله لا يمل قراءة ابسط التفصيلات والإصغاء لكل كلمة قبل أن يقدم على نقد عمل أدبي. وكانت ابعد الصفات عن طبيعته أن يفر من الصفحات المملة أو أن يكتفي بقراءة الفهرس ودراسة المقدمة كما يفعل الكثيرون!
ثالثا: الذكاء الوافر الذي يهئ له القدرة على فهم نفسه والتخلص من سيطرة رأيه الخاص في المؤلف وفي الموضوع الذي يبحثه المؤلف. وكانت عبقرية سانت بوف من هذه الناحية تنحصر في أمرين. الأمر الأول في مهارته في أن يلبس شخصية المؤلف الذي ينقده فيزول بذلك ما قد يوجد بينهما من اختلاف في وجهات النظر ويصبح المؤلف في نظره رجلاً عادياً لا غرابة في أفكاره فينقده في هدوء وصفاء. والأمر الثاني في أن يخلق حول نفسه نفس الجو الذي كتب فيه الكتاب حتى تكون مواضيعه كأنها حقائق واقعة. وعندئذ يقدم على دراسة الكتاب دراسة عميقة ناظراً إليه من كل النواحي مشدداً عليه الخناق. وكان هذا في نظر سانت بوف هو الوسيلة الوحيدة لفهم الكتاب.
رابعاً: الليونة في التفكير. كانت لسانت بوف القدرة العجيبة على نقد كتاب ما، ثم الانتقال إلى نقد كتاب آخر على أتم خلاف في الرأي مع الكتاب الأول.
خامساً: عاطفة العدل. وهي سجية طبيعية نادرة الوجود لدى الناس. ويقصد بها أن الشخص إذا عهد إليه القضاء في أمر من الأمور فانه يكون أسير عاطفة تجعله لا يقضي إلا بالحق والعدل. وهذا هو السبب في أن جل أحكام سانت بوف على مئات الكتب التي نقدها كانت أحكاماً عادلة سليمة من اللوم رغم تضارب أنواع الكتب واختلاف مذاهب مؤلفيها.
استغل سانت بوف هذه المواهب النادرة في علمه كناقد. على انه كان إلى جانب ذلك مبتدعاً لطرق جديدة في النقد لم تكن معروفة من قبل. فادخل على النقد شيئين:
أولاً: الصورة ثانيا: الترجمة
ولنشر الآن ماذا يقصد سانت بوف بالصورة ثم ماذا يقصد بالترجمة.
كان سانت بوف إذا أراد نقد كتاب من الكتب ساءل نفسه: ما هي أخلاق الكاتب؟ وما هي ميوله، وما هي طباعه؟ وكان يلح في الوصول إلى حقيقة هذه الأشياء التي قد يظن البعض(50/74)
أن لا علاقة لها بالكتاب المنقود. على أنها كانت في نظر سانت بوف أهم ما يساعد على فهم الكتاب علاوة على فهم المؤلف نفسه. وكانت هذه الفكرة هي الباعثة لسانت بوف على كتابة عشرات الصور لمختلف الكتاب والأدباء. وقد كتب سانت بوف يشرح فكرته في تلك فقال (إنني احب دائماً الرسائل والأحاديث والأفكار وكل الدقائق التي تعين على فهم أخلاق الكاتب. وبكلمة واحدة احب دراسة تراجم كبار الكاتب. ولقد احبس نفسي خمسة عشر يوماً محاطاً بكتب شاعر أو فيلسوف مشهور توفي فأدرسه وأعيد قراءة ما قرأته وأسائل نفسي في هدوء وروية، وعندما انتهي من دراستي أرى أن هذه الدراسة قد أوصلتني في النهاية إلى كشف عوالم خفية فأجد أن ذلك الكاتب الغامض الذي كان في البداية لا يختلف في نظري عن نوعه من الكتاب يضم من السجايا الفنية الخاصة به ما لا يمكن تجاهله ونسيانه).
ولقد ظهرت هذه الطريقة الجديدة في النقد التي اتبعها سانت بوف ظهوراً قوياً في مجموعته الشهيرة (صور أدبية)
على أن هذا النوع من الدراسة لنفسية الكتاب وأخلاقهم كان يعتبر في نظر سانت بوف سطحياً لا يكفي لكي يكون النقد كاملاً غير منقوص، لذا كان يرى ضرورة التوسع في دراسة الكاتب وإتمام ما كان يعتبره نقصاً بإضافة ما سماه (التاريخ الطبيعي للأفكار) وذلك أن بين (أفكار) الكتاب نواحي من التشابه وأخرى من الاختلاف، فواجب النقد أن يفتش عن هذه النواحي حتى يعثر عليها ويميزها ويبين من خلالها خصائص كل كاتب واوجه التشابه والاختلاف في الأفكار بينه وبين غيره من الكتاب الذين يكونون معه أسرة فكرية واحدة. وقد لجأ سانت بوف لتحقيق ذلك إلى طريقة ما ترجمة حياة الكاتب تحت ضوء الملاحظة الصادقة والتحليل الدقيق وذلك للوصول إلى أغوار فكرة، واكتشاف (الفروق العظيمة الطبيعية) - كما يقول سانت بوف - بين العقول المختلفة.
ولقد تضمنت مجموعتاه الخالدتان التراجم الفكرية الفائقة التي تعتبر بما احتوته من الأفكار الغزيرة، والذوق السليم، خير نموذج لفن النقد الحديث.
علي كامل(50/75)
في الأدب الفرنسي
7 - الدوق دي لاروشفو - كو
للدكتور حسن صادق
إننا نعجب باحتقار حطام الدنيا والزهد فيها، ونعد ذلك فضيلة، ولكن لاروشفوكو يقول عنها: (احتقار الثروة كان عند الفلاسفة رغبة مستترة في الانتقام لجداراتهم من الحظ، باحتقار النعم التي حرمهم منها، يدفعون به عن أنفسهم ذل الفقر، كان سبيلاً ملتوية يسلكونها لاكتساب الاعتبار الذي حرمتهم منه رقة العيش) (موعظة رقم 54). ومعنى قوله إن بعض الناس يزهدون في الثروة انتقاماً لجداراتهم من الحظ، وهذا كبرياء. وبعضهم يتخذون هذا الزهد سلاحاً يدفعون به أنفسهم ذل الفقر، وهذا خداع. وبعضهم يتخذونه مجازاً إلى الاعتبار، وهذا طموح؛ أي أن لاروشفوكو يجعل مصدر هذه العاطفة الراقية الكبرياء والخداع والطموح.
الاعتدال فضيلة جميلة، ولكن لاروشفوكو يقول عنها: (الاعتدال هو خوف الوقوع في جحيم الحسد واتقاء الازدراء الذي يستحقه من تثمله السعادة، انه تفاخر جديب بقوة العقل، وعلى الجملة اعتدال الناس في أرقى درجات علوهم هو الرغبة في الظهور اكبر من حقيقة مركزهم وثروتهم) (موعظة رقم 18) (الاعتدال لا يستطيع أن يتطلع إلى مناجزة الطموح واخضاعه، لأنهما لا يجتمعان مطلقاً. هو فتور النفس وكسلها، كما أن الطموح نشاطها وتوقدها) (موعظة رقم 293). (عد الاعتدال فضيلة ليخفف من غلواء الطموح الذي يتملك العظماء، وليتعزى به صغار الناس عن ضآلة ثروتهم وجدارتهم) (موعظة رقم 308). فالخوف والغرور والكبرياء والكسل هي جوهرة فضيلة الاعتدال. وهذه الفكرة برهان آخر على أن لاروشفوكو استخلص مواعظه من عصره، لأنها تنطبق على خلق مازاران. كان هذا الوزير يتكلف البشر إذا اختلت مصالحه ليظهر للناس أن المحن لا تروعه، ويتصنع الرزانة إذا كلل النجاح أعماله، ليظهر أن الرفاهية لا تستخفه طرباً. ولكن اعتداله الكاذب لم يخف على أحد معاصريه. أما (فوكيون) الإغريقي - مثلاً - فقد اشتهر بالاعتدال النقي وشهد له به أهل أثينا وأيدت حياته شهادتهم. ولما حكم عليه بشرب السم قال لابنه والكأس في يده: (آمرك وأرجو منك إلا تحمل للاثنين في صدرك غلا أو ضغينة من اجل موتى)(50/76)
جلد الحكماء يستدر إعجابنا، ولكنه في اعتقاد لاروشوكو (ليس إلا فن كتمان اضطرابهم في دخيلتهم) (موعظة رقم 20)، أي أن الحكمة ليست شيئاً آخر غير النفاق. ولو قيد لاروشفوكو هذه الفكرة قليلاً ولم يضعها في صيغة عامة لكان اصح. إذ يروي التاريخ أخبار حكماء كان الجلد عندهم غراماً بالفضيلة لا ينال منه خوف أو أمل. ولنضرب مثلاً: سقوط الحكيم الذي جلس في سجنه قبيل إنفاذ حكم الموت فيه يحدث أصحابه عن موضوعات فلسفية هامة، وهو اشد ما يكون هدوءاً واطمئناناً (راجع فيدون لأفلاطون). وكيف نعرف أن الهدوء الظاهر يخفي اضطراباً باطنياً؟ انه في هذه الحالة ينم عن نفسه مهما حاول المضطرب إخفاءه. ومثل هذا الإنسان لا يسمى حكيماً. وإذا لم يبد لنا اثر من آثار الاضطراب، فليس من حقنا الجزم بوجوده.
وماذا يقول لاروشفوكو عن فضيلة العدل؟ (حب العدل ليس عند كثرة الناس إلا الخوف من وقوع ظلم عليهم) (موعظة رقم 78). وهو لم يميز العدل الذي يصدر عن إيهام نفساني وما يسمى صرخة الضمير وينتج الأعمال الكريمة، من العدل الذي يصدر عن التفكير والروية وينتج القانون الذي يمنع أعمال الظلم من الوقوع.
ثم يقول عن الطيبة: (الإنسان العاجز عن أن يكون شريراً، لا تستحق طيبته المديح، والطيبة في هذه الحالة - أي حالة العجز عن فعل الشر - ليست في الأغلب إلا خمولاً أو ضعف إرادة) (موعظة رقم 237). وهذه الفكرة نقد لخلق الملكة ان دوتريش
ونذكر عقب الطيبة قوله عن الفضيلة التي تمت إليها بصلة كبيرة، وهي الشفقة: (الشفقة في الأغلب شعور بآلامنا في آلام الغير. إنها تبصر ما هو في عواقب المحن التي قد تصيبنا. إننا نقدم المعونة للغير لنضمن معونته في ظروف مماثلة لظروفه. وهذه الخدمات التي نسديها إليه هي في الواقع معروف نسديه إلى أنفسنا مقدماً) (موعظة رقم 264). وهذه الفكرة لا تدعو إلى العجب بعد الذي ذكره عن الشفقة في معرض حديثه عن نفسه. وقولة (في الأغلب) يدل على إيمانه بوجود الشفقة النقية التي تتفجر من القلب وتسبق كل تفكير وتأمل، وتنتج الخير من تلقاء نفسها، وفي بعض الأحايين على الرغم مما تتطلبه المصلحة الذاتية. وهذه العاطفة الزم ما يكون للإنسانية لأنها بلسم البائسين، تربط القوي بالضعيف، والمجدود بالمحدود، ولن يصيبها العفاء مادام على الأرض بشر.(50/77)
وتأتي عقب الشفقة فضيلة الشكر على المعروف، فيقول عنها: (شكر الكثرة من الناس إلا رغبة خفية في الحصول على معروف اكبر من الذي حصلوا عليه) (موعظة رقم 298).
ومن الطيبة والشفقة المتبادلة والشكر تنتج الصداقة: (إننا لا نستطيع أن نحب شيئاً لا تربطنا به اصرة، ولا نتبع غير ذوقنا ولذتنا لما نفضل أصدقاءنا على أنفسنا. وهذا التفضيل فقط هو الذي يجعل الصداقة حقة كاملة) (موعظة رقم 81)، أي أننا ننسى مصلحتنا الذاتية في سبيل أصدقائنا ونجد في هذا النسيان لذة. وهو يذكر هذه الكلمة للحط من قيمة هذه العاطفة، ولكنها لذة فيها نبل وبطولة.
ولم يلبث أن أنكر وجود الصداقة التي توهب ولا تباع، فقال: (الصلح مع أعدائنا ليس إلا رغبة في إصلاح حالنا، والملل الناشئ من عناء الحرب، والخوف من وقوع حادث سيئ) (موعظة رقم 82). وهذه الفكرة مأتاها الحرب الأهلية التي سبق الكلام عنها. فان لاروشفوكو الذي دفعته مصلحته الذاتية إلى الاشتراك في هذه الحرب، رغب في الصلح بعد أن جرح رأسه وهلك زرعه ودمر قصره، خشية أن تصيبه ملمات أخرى.
وكانت الملكة ان دوتريش أثناء هذه الحرب لا تثق بمن يلتفون حولها لأنها لم ترض طموحهم، وتوجس منهم خيفة كما يدل على ذلك قولها: (متمناي أن يبقي الليل في مجثمه أبداً لأني لا أرى في النهار إلا أناساً يدأبون على خيانتي). فالبلاط والثائرون لم يلجأوا إلى الصلح إلا فراراً من الملل الناشئ من عناء الحرب، وخوفاً من وقوع حوادث أليمة، ورغبة في إصلاح حالهم). ثم قال في موضع آخر: (إن ما يسميه الناس صداقة ليس إلا شركة، أو إدارة وتدبير مصالح ذاتية متبادلة، أو تبادل ضروب المعروف. وهي على الجملة ليست إلا تجارة يتطلع حب الذات فيها دائماً إلى شيء يربحه) (موعظة رقم 83). (إننا نقنع أنفسنا في اكثر الأحايين بأننا نحب من هم اكثر منا قوة واشد بأسا. وفي الحق أن المنفعة هي فقط التي تنتج صداقتنا؛ ونمنحهم هذه الصداقة ابتغاء خير نروم الحصول عليه منهم، لا في سبيل خير نريد أن نهديه إليهم) (موعظة رقم 85).
تتمه البحث في العدد القادم
حسن صادق(50/78)
العلوم
ما هو الزمن؟
للدكتور عبد الله صبري
كثرت المناقشات في الأيام الأخيرة بين العلماء والمفكرين في موضوع الزمن حتى سرى الاهتمام بهذا الموضوع إلى عامة الجمهور مما دعاني إلى ذكر بعض الحقائق والملاحظات التي اسردها هنا مقتبسة من المصادر العلمية الصحيحة.
لا شك أن كلامنا يعرف الوحدات العادية للزمن. ولا أظننا ناسين انه يجب علينا أن نستيقظ غداً في ساعة معينة من الصباح (مع الأسف!). وبالرغم من كراهيتنا للمنبه فنحن مضطرون لطاعته - ليس منا من يتجاهل سلطة الزمن، ذلك السيف الجبار الذي إذا لم تقطعه قطعك، وليس منا من يتجاهل أحقيته ووجوده ودقته وتأثيره في أعمالنا اليومية. غير أننا بالرغم من اعترافنا به لهذا الحد قد نقع في الحيرة عندما يطلب إلينا تعريفه أو ذكر كنهه
فبالرغم من وجود الأجهزة الدقيقة التي تبين لنا مقادير الزمن، كثيراً ما نشعر في أنفسنا باختلاف تقدير هذه الأجهزة في أحوالنا النفسية المختلفة. فكثيراً ما نشعر بطول الوقت وبطء مروره عندما نكون في انتظار صديق في موعد، وعلى العكس نشعر بسرعة مروره عندما نكون سعداء أو منهمكين في عمل هام. فهل خاننا إحساسنا الزمني في هذا الشعور؟ أم هل خانتنا الأجهزة التي تبين لنا الزمن؟ وعلى أي قياس ينبغي لنا أن نعتبر الزمن؟ أبأنفسنا أم بالساعات؟
إذا رضينا بالساعات مقاييس حقيقية للزمن، فكيف يمكننا أن نتلاعب بها إلى الحد الذي نقدمها ونؤخرها فيه حسب أرادتنا كما جرت العادة في أوروبا عند اعتبار الزمن الصيفي الذي تقدم فيه الساعات ساعة زمانية في أبريل من كل عام؟ وكيف يمكننا أن نتلاعب بالتقاويم السنوية فنضبطها ونغيرها حسب الإرادة من غير أن يؤثر ذلك كله في العالم.
أن حكاية تعديل التقويم السنوي في أوائل القرن السادس عشر حكاية معروفة. إذ اتضح في ذلك الوقت أن التقويم الجريجوري قد اخطأ في مدة أحد عشر يوماً، وقررت الحكومات حينئذ تقديم التاريخ بمقدار هذا الزمن، وبذلك حدث هياج كبير في الرأي العام، واعتقد(50/80)
الناس أن الحكومة قد استقطعت من حياتهم هذه المدة لغير ما سبب، وتظاهروا صائحين: أعطونا الأيام التي اتخذتموها من عمرنا، ألا يكفيكم أن تسلبوا منا نقودنا فتسلبوا منا أيامنا كذلك؟
وفي الحقيقة أن تعيين وحدة حقيقة ثابتة للزمن من الأمور العسيرة. فقد ثبت لعلماء الفلك أن المدة اللازمة لدوران الأرض حول الشمس تزداد عاماً بعد عام، أي أن السنة الزمنية ليست ثابتة إذ كانت أطول في الزمن الغابر منها في الزمن الحاضر بمقدار محسوس. فهناك اتجاه حديث لاعتبار سرعة تحلل عنصر الراديوم مبدأ لتقدير الزمن إذ ثبت أن الراديوم في تحوله إلى الرصاص يستغرق أزمنة متساوية تماماً.
غير أن هذه الوحدة الزمنية سواء اعتبرت من الجهة الفلكية لدوران الأرض حول الشمس أو من الجهة الطبيعية لسرعة تحلل الراديوم فإنها في النهاية متوقفة على إدراك الإنسان وتابعة لاحساسه، وقد تكون هي في ذاتها خدعة عقلية. وهذا مما جعل كثيراً من المفكرين يتساءلون إذا كان في أجسامنا جهاز طبيعي لتقدير الزمن؟
ومن التجارب التي تدل على احتمال وجود ساعات حيوية في أجسامنا إمكاننا الاستيقاظ مثلاً في ساعة معينة من الصباح بمجرد حصر ذهننا في ذلك قبل النوم. وهنالك كثير من الناس الذين يمكنهم الحصول على هذه النتيجة بغاية الدقة. وهنالك تجربة مشهورة أخرى أجريت مراراً عديدة بحضور الشهود وهي بان ينوم شخص تنويماً مغناطيسياً، ويؤمر أثناء نومه بان يكتب كلمة (الزمن) بعد استيقاظه بعد تمام مليون ثانية تماماً (أي بعد حوالي عشرة أيام). وفعلاً يحدث. فمهما كانت ظروف المنوم في حياته العادية بعد هذه المدة فانه في تمام الثانية المليون تماماً يأخذ قلمه ويكتب الكلمة المطلوبة. وبديهي أن المنوم لا يتذكر شيئاً بعد استيقاظه مما قيل له أثناء تنويمه.
ويميل كثير من المفكرين على ضوء هذه التجربة ومثيلاتها أن يعتقدوا بوجود هذا الجهاز الحيوي الذي يعد الزمن في أجسامنا. وقد اكتشف أخيراً تيار كهربائي منتظم يمر في الجسم في كل من لحظات الحياة سواء أكان الإنسان نائماً أم مستيقظاَ ومهما كانت حالته العصبية أو الصحية مستمراً إلى لحظة الموت. فمن الجائز أن يكون هذا التيار هو الذي يعد الثواني والزمن الذي يمر ونحن أحياء. ومن البديهي انه لا يمكن اعتبار دقات القلب مقياساً للزمن(50/81)
إذ أن هذه الدقات يتغير عددها وانتظامها بين آن وآخر تبعاً لظروف الإنسان وحالته العصبية.
غير أن احتمال وجوده هذا الجهاز الحيوي الذي يقيس الزمن في أجسامنا لا يفسر لنا كنه كثير من التجارب الشخصية التي تحدث لكل واحد منا بين آن واخر، الا وهي معرفة بعض حوادث المستقبل قبل وقوعها. فكلما شعر أن كثير من أحلامنا تصور لنا صوراً جلية واضحة من المستقبل. وقد أجريت عدة تجارب علمية لإثبات ذلك واتضح منها صحة هذه النظرية، ويظهر أن الاعتقاد بإمكان رؤية المستقبل قد صادف ميلاً كبيراً عند كثير من المفكرين والمؤلفين وعند الجمهور في الأيام الأخيرة. فهناك كثير من الروايات التي تكتب على هذا الأساس وهناك الكثير من المؤلفات العلمية التي تبحث في هذا الموضوع الغريب. فمن اشهر ما كتب حديثاً عن ذلك كتاب (تجربة عن الزمن) تأليف الكاتب الإنجليزي ج. و. دن وهذا الكتاب يفسر تجارب المؤلف الشخصية في إمكان رؤية المستقبل، ويوضح ذلك بنظرية المتواليات الزمنية. وهناك كذلك كتاب المفكر الإنجليزي المعروف هـ. ج ولز عن كنه المستقبل وهو يعطى في هذا الكتاب تاريخ العالم في المستقبل القريب لا كخيال يتوهمه، بل كحقيقة واقعية رآها صديق له عند قراءته لكتاب حقيقي للتاريخ مكتوب في سنه مقبلة
والعلم الحديث لا ينكر رؤية المستقبل. إذ لو أننا تصورنا إمكان وجودنا في طيارة سائرة بسرعة اكبر من سرعة الضوء لما أيمكننا أن نرى أو ندرك شياً من العالم الزمني الموجود، بل إننا نصبح خارج نفوذ الزمن ونصبح أبديين. وهذا مما يقرب إلى العقل البشري إمكان خروج المادة والإنسان عن نفوذ الزمن وتقديره، ويمكن الإنسان من تصور رؤية المستقبل كحقيقة واقعية تحدث عند خروج الفكر وقتياً عن دائرة الزمن
ويميل بعض المفكرين إلى تفسير رؤية المستقبل بافتراض طبقتين للعقل الإنساني - الطبقة الأولى وهي التي نحس بها بالمقاييس الثلاثة المعروفة والتي نستعملها في حياتنا اليومية، وهي التي تشعرنا بمرور الزمن. والطبقة الثانية وهي التي نحس بها بالمقياس الرابع (وهي نتيجة نظرية اينشتين المعروفة التي ينسب فيها الزمن للمسافة) والتي تعطينا في بعض الأوقات قوة على إدراك المستقبل إذ تخرجنا وقتياً عن نفوذ الزمن وتجعلنا جزءا(50/82)
من الأبدية اللازمنية.
ومهما كان مقدار الصحة في هذه الافتراضات والنظريات، فليس هناك من شك في أن هذه المعضلة الغريبة المبهمة، ألا وهي الزمن ستكون بيت القصيد في كثير من الأبحاث العلمية والاكتشافات التي قد يتم بها تغيير جوهري في تفكير البشر في المستقبل القريب والتي قد توصلنا إلى بداية الطريق الطويل الذي أراد الله أن يصل البشر في نهايته إلى الحق المطلق.
عبد الله صبري
دكتور في الهندسة من جامعة كامبردج(50/83)
إسحاق نيوتن 1642 - 1727
(من فاق جميع الرجال في النبوغ)؟
بقلم مصطفى محمود حافظ
العالم قبل نيوتن:
قد يبدو أن في دراسة حالة العالم العلمية كما وجدها نيوتن، وذكر الحقائق التي كانت معروفة ومتراكمة من قبله، والتي درسها نيوتن فاخرج منها للعالم تلك القوانين التي رفعته إلى الذروة، قد يبدو أن في ذلك غضاً من عبقريته. ولكن ذلك غير حقيقي، فالرجل الذي تمكن أن ينتزع من الرءوس الأفكار التي كانت تجول فيها حيرى لا تدري سبيلاً إلى الظهور، يستحق كل ما أعطي من شرف حتى ولو جاء مبالغاً من أبناء جلدته الذين يجعلون منه اكبر مفكر ظهر على الأرض.
كانت أوربا قد أخذت تتحرر في أوائل القرن السابع عشر من الجمود العلمي الذي لازمها في العصور الوسطى، والذي كان سببه الأعظم محاربة رجال الكنيسة لكل فكرة علمية فيها مخالفة لتعاليمهم الدينية، وكذلك اقتصار المتعلمين على البحث الكلاسيكي ودراسة كتب الأقدمين الفلسفية دون الاستعانة بالملاحظة والتجربة.
فكان العالم قد بدا ينبذ (نظرية بطليموس) في تركيب الكون، وهي التي كانت تقول بان الأرض وهي مهبط ارقي المخلوقات (الإنسان المفكر) يجب أن تكون مركز الكون، تدور حولها الشمس والكواكب والنجوم، ويرحب بنظرية (كويرنيج) التي تقول بان الأرض كرة تدور حول نفسها فيحدث الليل والنهار، وتدور حول الشمس مع الكواكب فيحدث اختلاف الفصول. وكان الخطأ الذي وقع فيه (كويرنيج) من اعتباره مدارات الكواكب حول الشمس دوائر قد أصلحه (تيخوبراه) و (كبلر)، الأول بما سجله من مشاهدات والثاني بما استنتجه رياضياً من هذه المشاهدات. فوصلا إلى معرفة أن مدار الكوكب حول الشمس قطع ناقص والشمس في إحدى بؤرتيه.
وجاء جاليليو وتمكن بمنظاره من تأييد فكرة النظام الشمسي الجديد برؤية مثل هذا النظام في الكون في المشتري وأقماره. وكذلك عرف معنى القصور الذاتي، ووضع أساس علم(50/84)
الديناميكا بتوصله إلى قوانين الحركة التي تنسب خطأ إلى نيوتن. وبذلك يكون نيوتن قد ولد وكيفية تحرك الآجام على الأرض وتحرك الكواكب حول الشمس قد عرفت، ولكن السبب في ذلك لم يصل إليه غيره. ولقد حاولوا قديماً معرفة ذلك السبب ولكن كل ما وصلوا إليه هو انه إذا اختارت الأجرام السماوية أن يتحرك بعضها حول بعض بنظام خاص فهذا من شأنها لا من شأن الإنسان ساكن أحد هذه الأجرام.
تلك كانت حالة علم الفلك بغض النظر عن خزعبلات ما كان يسمى (علم) التنجيم. أما في الرياضة فقد كانت كتب إقليدس في الهندسة وأرشميدس في الرياضيات معروفة من زمن بعيد. والجبر كان يشارك الهندسة في قدمها إلا انه كان معقداً ليس بالسهولة التي نعرفها عنه الآن. والحساب كان مهمة شاقة، حتى أن مستر صمويل بييس الذي صار فيما بعد رئيساً للجمعية الملكية بلندن يقول في يومياته انه كان بعد أن نال درجته من جامعة كامبردج يسلي نفسه كل مساء يحفظ جدول الضرب! أما حساب اللوغريتمات فكان نابيير قد اخترعه في سنة 1617
وفي الكيمياء كان العلماء لا يزالون في بحثهم وراء حجر الفلاسفة، وتحويل المعادن الخسيسة إلى أخرى ثمينة، ولو أن بعض العناية كانت قد اتجهت إلى استخدام الكيمياء في صنع الأدوية. ولكن حال هذا العلم لم يصلح إلا بعد أن اثبت نيوتن أن العالم مساق بقانون طبيعي عام، فاتجهت العناية إلى إيجاد القوانين إلى تحكم العالم المادي والتغيرات إلى تطرأ عليه، حتى امسك دالتون بطرف الخيط في سنة 1808 فوضع مبادئ النظرية الذرية.
أما في البصريات فقد كان قانونا الانعكاس معروفين لدى العالم العربي الحسن بن الهيثم في أوائل القرن الحادي عشر وكذلك تركيب العين وكيفية رؤيتها للأجسام. وقد ذكرنا أن جاليلو كان قد اخترع التلسكوب، وفي نفس الوقت تقريباً اخترع صانع نظارات يدعى (زكريا يوانيدس) الميكرسكوب. وقبيل زمن نيوتن توصل (سنل) إلى معرفة قانوني الانكسار، ولو أن الذي وضعهما في صيغتهما المعروفة الآن هو (ديكارت).
تلك فكرة موجزة عن حالة العلوم التي اشتغل فيها نيوتن وكان موفقاً كل التوفيق.
طفولة وأيام المدرسة في جرانتام:
في يناير سنة 1642 وف ي مزرعة صغيرة تدعى (وولثورب) جنوب (جرانتام) ابصر(50/85)
إسحاق نيوتن الدنيا بعد أن كان إسحاق نيوتن الأب قد اغمض عينيه إلى الأبد. ولا يعرف شيء عن سنواته الثلاث الأولى التي تزوجت بعدها أمه فنزحت مع زوجها إلى مقر عمله تاركة نيوتن في كفالة جدته من أمه، وأرسلته إلى مدرسة القرية الصغرى لينال من التعليم ما كان يضن أن فيه الكفاية لذلك العقل الصغير الذي خلق ليكون جباراً ولكن خاله رأس قبساً من عبقريته فكان سبباً في إرساله إلى مدرسة الملك في (جرانتام)، تلك المدرسة التي رأت بزوغ نجم من المع النجوم في العلوم، والتي لا تزال تحتفظ حتى اليوم على خشب إحدى نوافذها باسم (أ. نيوتن) محفوراً فيه. كان في أول أمره خجولاً غبيا بعض الشيء يناله من زملائه الشيء الكثير من الاستهزاء الذي ازداد حتى وصل إلى أن ركله زميل ضخم الجثة في فناء المدرسة. عند ذلك انفجر ما كان كامناً فيه من عبقريته، لأنه لم يكتف بان ثأر لنفسه من هذا الزميل الضخم بان تغلب عليه جثمانياً وجعله يدلك انفه في حائط المدرسة، بل كان عليه أن يفوقه في الشئون المدرسية لأنه كان يفوق نيوتن في ذلك. وقد نال ما ابتغى واصبح (أول) المدرسة التي كانت تتكون من فصل واحد فيه عدة مجاميع، واحتفظ بذلك اللقب حتى غادرها
كان نيوتن مغرماً في طفولته بصنع الألعاب والآلات الصغيرة ليعرضها على صديقاته الصغيرات، وكانت أحبهن إليه كما يقول سير. ج. ج. تومسن (مس ستوري) التي ظلت حبيبته الوحيدة، والتي لم يتزوجها لأنه لم يتزوج. فكان يصنع الطيارات من الورق ويضع فيها شمعاً موقداً فيضنها الفلاحون البسطاء مذنبات. وكان ماهراً في عمل المزاول والساعات المائية، وقد أدار طاحونه هوائية بأن حبس بعض الفيرات في صندوق وجعلها في حركة دائمة، وكان ينتهز هبوب العاصفة ليقفز في الهواء مرة مع الريح وأخرى ضده ليقدر سرعته.
ولما بلغ الرابعة عشر من عمره رجع مكرهاً من المدرسة في (جرانتام) إلى المزرعة الصغيرة في وولثورب) ليساعد أمه التي رجعت إليها بعد وفاة زوجها مع ولد وابنتين كانا ثمرة هذا الزواج الثاني. ولكنه لم يلبث بمعونة خاله أن رجع إلى (جرانتام) في السادسة عشرة وظل ثلاث سنوات يعمل استعداداً للذهاب إلى (كامبردج) مكافحاً الفقر الذي ظل ملازماً له زمناً طويلاً.(50/86)
دراسة في كامبردج
غادر نيوتن جرانتام في يونيو سنة 1661 وهو في التاسعة عشر إلى كامبردج وهناك التحق بكلية (ترنتي) كطالب خادم يقوم بتقديم الطعام لزملائه في نظير أكله بدون أجر. ولا يعلم إلا القليل عن سنواته الأولى في كامبردج، ومن ذلك انه اعفي من حضور محاضرات المنطق لأنه كان يعرف منه قدر ما يعلم أستاذه، وانه درس بنفسه كتاب البصريات لكبلر قبيل إلقاء محاضرات هذا الموضوع حتى دهش أستاذه من مقدار تمكنه من هذا الموضوع، وقد لازمه هذا الميل إلى البصريات طوال حياته. وقد كان يتتلمذ لأستاذ هو أحد أعلام عصره في الرياضيات يدعى (إسحاق بارو) وقد عرف القدرة الرياضية الكامنة في تلميذه فشجعه على التقدم فقرأ كل الكتب الرياضية، إلا انه كان دائماً ضعيفاً في الهندسة، حتى انه ممتحنيه عابوا عليه هذا الضعف في أحد امتحاناته. وقد نال درجته الجامعية في 1664 وغادر كامبردج إلى مزرعته قبل أن يصل إليها الطاعون التاريخي المشهور الذي سبب ترحيل كل طالب إلى بلدته.
وقد قضى نيوتن في المزرعة مكرها سنتين كاملتين كان فيهما بعيداً عن مكتبة الجامعة وأجهزتها ولكنه استعاض عن ذلك بما كان قد حفظ من معلومات في ذلك العقل الراجح الذي اخرج للعالم في هاتين السنتين أربعة اكتشافات كل منها يكفي للتخليد لو انه صدر من شخص غير نيوتن.
اكتشافاته الرياضية الأولى
النظرية ذات الحدين: ظهرت عبقرية نيوتن عند أول ظهورها في الرياضيات مع أن لم تبد عليه وهو في كامبردج علائم هذا النبوغ، وقد كان أول إنتاج رياضي له هو اكتشافه (نظرية ذات الجدين) وهي النظرية التي نتمكن بواسطتها بدون إجراء عملية ضرب من إيجاد حاصل ضرب مقدار على صوره (س + ص) في نفسه أي عدد من المرات، أو بمعنى رياضي آخر إيجاد ناتج رفع هذا المقدار إلى أي أس وترتيب حاصل الضرب في شكل منتظم سهل.
قد يكون هذا الاكتشاف طبيعياً مع شخص له نباهة نيوتن الرياضية ودقة ملاحظته، ولكن(50/87)
اكتشاف الرياضي الآخر كان نتيجة حبه للظواهر الطبيعية وميله لفهم دقائقها وحل معضلاتها.
حساب التفاضل والتكامل:
كان ارشميدس واقليدس قد حاولا أن يقدرا بالضبط مساحات الأشكال المحاطة بخطوط منحنية ولكنهما لم يفلحا، وجاء بعدهما كبلر وجاليلو واشتدت بهما الحاجة إلى ذلك لتطبيق قانون كبلر الثاني في حركة الكواكب وهو القائل (إن المستقيم الواصل بين الكوكب والشمس يمسح في الفضاء مساحات متساوية في أزمنة متساوية) فنالهما من الفشل ما نال ارشميدس واقليدس. فجاء ذلك الشاب الذي لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره وحل ما عجز عنه هؤلاء، وذلك باكتشافه نوعاً آخر من الرياضة هو حساب التفاضل وحساب التكامل.
فإذا أعطينا معادلة رياضية تشمل مقدارين أحدهما يتغير بالنسبة لتغير الثاني، وذلك كتغير المسافة التي يقطعها قطار بتغير الزمن فان حساب التفاضل يمكننا من معرفة معدل تغير المسافة المقطوعة بالنسبة إلى الزمن في أية لحظة كانت، أي معرفة سرعة القطار في أي لحظة.
أما حساب التكامل فهو الذي تمكن به نيوتن من إيجاد مساحات الأشكال المحدودة بمنحن أو اكثر وذلك بتقسيمها إلى أشكال متناهية في الصغر، ثم إيجاد مجموع مساحتها في حدود معينة وهو ما يمكن الفلكيين الآن من معرفة وقت حدوث الخسوف والكسوف بتلك الدقة التي تذهلنا أحياناً.
قانون الجذب العام:
والآن جاء دور ذلك الاكتشاف الهائل الذي تضمحل بجواره دائماً اكتشافاته الأخرى على خطورتها. ذلك القانون الذي غير نظر الإنسان إلى الكون.
كان كبلر قد عرف قوانين حركات الكواكب حول الشمس ولكنه لم ير علاقة بين حركات الكواكب وحركة الأجسام التي تسقط على الأرض. وجاء جاليلو فدرس قوانين سقوط الأجسام بالتفصيل وعرف أن الأجسام تقصر قصوراً ذاتياً عن أن تغير حالتها من السكون(50/88)
إلى الحركة المستقيمة. ثم جاء نيوتن فرأى من خلال ذلك اخطر قانون انقلابي وصل إليه الإنسان. لقد ربط بين قوانين كبلر الفلكية وقوانين جاليلو الديناميكية فكشف عن النظام الكوني العام في قانون الجذب العام.
فانه كما يريدنا فولتير أن نعتقد، كان جالساً في حديقته بعد عناء صرفه في حل مشكلة رياضية أو صقل عدسة زجاجية عند ما رأى تفاحة تسقط من أعلى الشجرة. فسأل نفسه ذلك السؤال القديم الذي لم يكن قد أجاب عنه أحد، سال نفسه عن علة سقوط التفاحة. وهنا كان قد قدر لتفسير الحركة الكونية إلا أن تظل لغزا فاشتغل بها عقل ذلك الشاب الصغير. لقد ذهب عقله إلى ما هو ابعد من التفاحة وسقوطها. هي تسقط لان الأرض تؤثر فيها وهي بعيدة عنها في أعلى الشجرة، فماذا يحدث أن هي ارتفعت إلى ما هو ابعد من ذلك؟ لقد رآها نيوتن بعيني عقله لا تزال تميل إلى السقوط على الأرض، ولكن بقوة تصور أنها تتناقص تبعاً لقانون التربيعي العكسي. حتى إذا ما وصل بتفاحته إلى القمر تركها ليأخذ القمر، فرآه لابد وان يكون متأثرا هو الآخر بقوة الأرض، إذن لا يمكن أن تكون حركة القمر حول الأرض، وتقيده بهذه الحركة وعدم انطلاقه في خط مستقيم على حسب قانون القصور الذاتي، ألا يمكن أن يكون ذلك راجعاً إلى تأثره بنفس القوة التي تؤثر بها الأرض على التفاحة؟
كان في هذا الإلهام بدء ظهور القانون العام الذي يحكم حركة الماديات في الكون، فانطلق نيوتن يستعين بالرياضة على تحقيق ما وصل إليه فكان في الحاجة إلى معرفة نصف قطر الكرة الأرضية حتى يقارنه ببعد القمر عن مركز الأرض، وهنا شاء القدر ألا يظهر هذا القانون في سنة 1661 بل بعدها بستة عشر عاماً فخانت نيوتن ذاكرته في تذكر نصف قطر الأرض فاعتبره 3440 ميلاً وهو 3960 ميلاً، ولم يتمكن من التحقق من صدق ذاكرته لانزوائه في مزرعته وبعده عن كامبردج ومكتبتها ومراجعها فكان ما وصل إليه رياضياً لا يتفق مع المشاهدات العملية. عند ذلك شعر بالخيبة في ذلك الأمل البراق الذي كان يراه، وهو الوصول إلى قانون طبيعي عام، فذهب يبغي التسلية في تجاربه العملية الضوئية حيث قدر له أن يصل إلى اكتشاف لا يقل في خطورته عن قانون الجذب العام، ولكنه هذه المرة وان كان قد أتم اكتشافه فانه أخفاه عن العالم لمخالفته الآراء المأخوذ بها(50/89)
في وقته.
كشفه عن طبيعة الضوء الأبيض:
عندما وجه جاليليو أول تلسكوب صنعه إلى السماء ألهاه ما شاهده من عجائب غير منتظرة عن آن يعنى بكون الصورة ممسوخة أو أن ضوءها مشوه، وهو ما نلاحظه في المناظير غير الدقيقة الصنع من تعدد الألوان. ولكنه حاول بعد قليل أن يعرف سبب هذا التشوه وطريقة تلافيه، وكان المظنون أن السبب في ذلك راجع كله إلى ظاهرة (الزيغ الكري)، وهي أن الأشعة الآتية من الجسم البعيد عند مرورها في عدسة التلسكوب تنكمش ولكن لا تتجمع كلها في البؤرة. وقد دفع نيوتن حبه للسماء إلى محاولة معرفة سبب هذا التشوه اللوني للصور فقاده ذلك إلى معرفة أن ضوء الشمس الأبيض يتركب في الواقع من عدة ألوان تبتدئ بالأحمر وتنتهي بالبنفسجي وهي ما تسمى بألوان الطيف، وذلك بان أمر الضوء الأبيض في منشور ثلاثي من الزجاج. وبذلك إن عيب التلسكوب ذي العدسة راجع إلى تفرق الضوء الأبيض الذي يمر في العدسة فيسبب ما يسمى (بالزيغ اللوني). لذلك حاول أن يصنع تلسكوباً آخر لا يستخدم فيه عدسة لامة للاشعة، بل يستخدم مرآة مقعرة تلم الأشعة أيضاً، وقد نجح في ذلك، ولا يزال أحد تلسكوباته محفوظاً في الجمعية الملكية بلندن. وتستخدم الآن المرآة المقعرة بدلاً من العدسات في صنع اكبر تلسكوبات العالم. فتلسكوب مرصد (مونت ويلسون) له مرآة يبلغ قطرها 100 بوصة ويصنع الآن تلسكوب آخر قطر مرآته 200 بوصة.
انقضت سنتا العزلة الإجبارية وبلغ نيوتن الخامسة والعشرين وحان له أن يعود ممتلئ الرأس بكل الآراء الخطيرة التي وصل إليها إلى كامبردج حيث الكتب المحبوبة والأجهزة المطلوبة لإجراء التجارب، وسنتركه الآن لنتم تاريخ حياته في مقال قادم
مصطفى محمود حافظ(50/90)
الخبز الأسود
لأناتول فرانس
ترجمة حبيب المعوشي
كان في مدينة فلورانسا العظيمة بتقادم عهدها، الخالدة بنفيس متاحفها، رجل وافر الثراء يقال له نقولا نزلي، وكان إذا طلعت الشمس يتزوى في مخدعه، ويلبث سحابة نهاره جالساً إلى مكتبه يخط في دفاتره أرقاماً وينقل أخرى. وكان عاهل البلاد وبابا الكثلكة مدينين له بمبالغ باهظة، ولم يكن يعامل المراوغين والمكرة وخافري الذمم محاذرة منهم، ومخافة أن يقع في حبائلهم ويعرض أمواله للضياع. وكان من اجل هذا يقظاً حذراً، وقد جمع أموالاً وافرة، وجرد مدينيه الكثيرين من أملاكهم ومتاعهم ومقتنياتهم. وكان أهالي فلورانسا يجلونه ويخصونه بالاحترام من اجل ثرائه، وكان يقطن قصراً له لا يدخله النور إلا من كوى ضيقة مستديرة، لان الحرص والحرس يحدوان الأغنياء إلى تحصين دورهم وإيصاد أبوابها ليصونوا ما حشدوه فيها من أموال وكنوز وحلي، جمعوها بالإفك والمخاتلة والخداع. ومن اجل هذا أيضاً كان قصر نقولا نزلي محاطاً بالأسوار العالية المنيعة والسلاسل الحديدية الصلبة الثقيلة.
وكان قد استقدم امهر الفنانين وأحذقهم، فرسموا على جدران القصر الداخلية صور فتيات فاتنات، يرمزن إلى أسنى الفضائل واسماها، وصور أحبار إسرائيل وأنبيائه وملوكه. وكان معلقاً على جدران بعض الغرف كثير من النسائج الموشاة بفتوحات الإسكندر وتربستيان ووقائع حروبهما العظيمة كما هي متناقلة بالتواتر ومدونة في بطون التواريخ.
وكان يطيب لنقولا نزلي هذا أن يظهر سواطع ثروته بما كان يأتيه من أعمال الخير: فأنشأ على نفقته خارج أسوار المدينة مستشفى نقشت على أفاريزه رسوم ترمز إلى امجد أعمال حياته. وقد علق الفلورانسيون رسمه في محراب المعبد الجديد المشيد على اسم العذراء مريم، عرفاناً بجميله، وتخليداً لذكرى مبالغ وافرة تبرع بها لإتمام بناء هذا المعبد. وقد مثل في هذا الرسم مضموم اليدين جاثياً على قدمي العذراء. وكان يدل عليه في صورته هذه وجهه الشاحب الكالح، وعيناه الحادتان، وقبعته الحمراء، ودثار مفري اعتاد الظهور به في المجتمعات. وكان رسم زوجه (منى يسمانتونا) معلقاً في المحراب أيضاً في الجهة المقابلة،(50/91)
قرب صورة العذراء، وكان الرسم يمثلها في موقف الصلاة وعلى وجهها بادية سمات الكابة والخفر والخشوع دلالة على احتفاظها بعفافها.
وقد كان نزلي فوق هذا في طليعة المواطنين الذين أسسوا الجمهورية؛ فلم يخالف يوماً شيئاً مما سن في البلاد من شرائع ووضع من نظم، ورسم من المراسيم، وفرض من قوانين. ولم يعن قط بشؤون البؤساء والمعوزين، ولم يتدخل في أمر من قضى عليهم رجال الحل والعقد بالعقاب أو التغريم أو الأبعاد، بحيث لم يفقد في أعين القضاة ورجال السلطة شيئاً مما أحرزه لديهم من مكانة ومقام، بوافر ثروته وحسن سيره وانقياده.
ففي ذات مساء من أيام الشتاء عاد إلى قصره متأخراً على غير عادته، فوجد نفراً من المتسولين نصف العراة محتشدين أمام الحديقة. فلما أبصروه احتاطوا به وبسطوا له أيديهم مستجدين. فزجرهم بعنف وانهال عليهم بالسب والشتم وأقصاهم عنه بفظ الكلام وقارسه فتفرقوا حلقات واجمين جزعين - غير أن الجوع وقد اخذ مأخذه منهم حملهم على لم شعثهم وإعادة الكرة على نزلي فرجعوا كأنهم مراجل تغلي واحتاطوا به ثانية بشكل نصف دائرة وطفقوا يضجون ويولولون ويلغطون ويصيحون صيحات تماثل عواء الذئاب الضارية واخذوا يسألونه بأصوات ملؤها التهدج والتهديد خبزاً يأكلونه فهم بالانحناء على الأرض ليلتقط حجارة يرشقهم بها، ولكنه ابصر أحد غلمانه آتيا وعلى رأسه طبق عليه أرغفة من الخبز الأسود جاء بها ليفرقها على المشتغلين في اصطبلات القصر ومطبخه وحديقته فأومأ إليه كي يدنو منه، ولما اقترب شرع نزلي يلقي بملء يديه على أولئك الجياع ذلك الخبز الأسود فهاجوا وماجوا وهجموا في هرج ومرج يدفع بعضهم بعضاً متزاحمين متسابقين على تلقف تلك الأرغفة والتقاطها، ولما خف صخبهم وسكن لغطهم وهدأت ثورتهم وحنقهم دخل نزلي في داره ونام، وفيما هو مستغرق في رقاده أصيب بضربة مخية أودت بحياته وكان موته سريعاً جداً بحيث خيل إليه انه لم يزل بعد على قيد الحياة. وبعد هنيهة شعر انه في مكان مقفر مظلم ثم ابصر ميكائيل رئيس الملائكة أتيا إليه قدماً وهو يحمل قسطاساً ذا كفتين، فلما أدركه الملك اخذ يضع في إحدى الكفتين ما كان في حيازة نزلي من حلى أرامل وأموال أيتام وقطع ذهبية وحجارة كريمة ونقود مختلفة كان أحرزها بالغش والربا الفاحش - ففهم نزلي انه قبض وانه إنما جيء به إلى ذلك المكان ليحاسب(50/92)
فقال للملك: أما وقد وضعت في هذه الكفة ما جمعته بالغش والحرام فمن العدل أن تجعل في الكفة الأخرى ما عملتهمن مبرات وصنعته من حسنات فأرجو منك يا سيدي أن تجعل فيها ما شدته من معاهد للبر والعبادة: ضع المستشفى العظيم الذي أقمته خارج أسوار المدينة، ضع القبة الضخمة التي أنشأتها لمعبد العذراء مريم، ضع. . . فقاطعه الملك وقال: هدئ روعك يا نقولا واخلد إلى السكينة فلن اغفل شيئاً من صالح أعمالك. قال هذا ووضع بيده اللبقة اللطيفة ذينك المستشفى والقبة في الكفة الأخرى ولكن الأولى ظلت راجحة. فقال نزلي: فتش جيداً لعلك تجد لي أعمالاً صالحة أخرى، ومع هذا أراك أهملت جرن الماء المبارك الذي قدمته لكنيسة القديس يوحنا، وغاب عنك منبر الخطابة الذي صنع على نفقتي في معبد القديس اندراوس، ونسيت بنوع خاص تمثال عماد السيد المسيح فهو عظيم جداً وقد كلفني نحته الدقيق البديع المتقن مبالغ طائلة. فجعل الملك كل هذا في الكفة أيضاً ولكن رجحان الأولى مازال عظيماً - فامتقع وجه نزلي روعة وجزعاً وغشى جبينه عرق بارد فأدرك انه هالك، وتدبران الجحيم المعد للخطاة والأشرار سيكون مصيره، ثم التفت إلى الملك وقال: أأنت واثق يا مولاي من ميزانك وصحته؟ فابتسم الملك وقال: إن قسطاسي وان خالف بشكله موازين مرابي باريس وصيارفة البندقية إلا انه في منتهى الدقة والضبط: فقال نزلي أنى يكون هذا؟ أفلا يزيد في قسطاسك وزن القبة الضخمة والمنبر الكبير والتمثال العظيم والمستشفى الفسيح العالي بكل ما فيه من أسرة وعدد ومعدات على وزن قلامة الظفر وقشة الحقل وريشة الطائر؟ فقال الملك: لست ادري ولكن الأمر كما ترى، فمساويك وآثامك لا تزال حتى الآن ترجح كثيراً على مباراتك وحسناتك. فقال نزلي: وهو يصر بأسنانه وفرائصه ترتعد وركبتاه تصطكان هلعاً ورعباً: يا لشقائي! وما عسى أن يكون مصيري؟ أأنا هالك؟ وهل إلى النار مآلي؟ فقال الملك: رويدك يا نقولا إني لم أنجز بعد عملي إذ بقى وزن هذه، مشيراً إلى أرغفة الخبز الأسود التي ألقاها نزلي مكرهاً على الفقراء المعوزين في مساء اليوم السابق، ثم جمع الملك تلك الأرغفة وضمها إلى ما في كفة الأعمال الصالحة فإذا بهذه الكفة قد تحركت وبدأت تثقل وتهوي إلى أسفل، بينا الكفة الأخرى أخذت تخف وتشيل، ولبثت حركة الكفتين تتراوح هنيهة بين هبوط وصعود حتى سكنت، فإذا الكفتان متعادلتان وزناً ومستوىً. فدهش نزلي مما رأى وكأنه لا يصدق عينيه.(50/93)
فقال له الملك: انك والأمر كما ترى لا تستحق الجنة جزاء ولا تستوجب النار عقاباً، فعد إذن إلى فلورانسا، وواصل الإحسان على الفقراء عن رضىً ولو بالخبز الأسود، ولا تدع أحداً يحس بالخير الذي تصنعه، وثق بأنك إن فعلت هذا وواظبت عليه تخلص، إذ لا يكفي أن يفتح الله أبواب الجنة للص النادم وللبغي التي تحوبت بغاها وندمت عليه وبكت من اجله وتابت عنه، بل يجب أن يخلص بواسع رحمته من النار غنياً أيضاً، فكن أنت هذا الغني ووال الإحسان ولو بالخبز بعد أن تبينت مبلغ وقعه وثقله في قسطاس العدل الإلهي.
قال الملك هذا واختفى، وبعد قليل أفاق نزلي من رقدة الموت وجلس في سريره يتأمل في ما حدث ويعجب مما رأى. ثم نهض بعد أن وطد النفس على العمل بنصح الملك وموالاة المعوزين بالصدقات والحسنات لينال الخلاص - وهكذا لبث طيلة ثلاث سنوات قضاها على الأرض بعد موته الأول كثير الإشفاق على الفقراء، وافر الرحمة على البؤساء والمعوزين، مواظباً على فعل الخير مواصلاً أعمال البر والصلاح.
حبيب المعوشي(50/94)
الكتب
المسرح الغنائي
على ذكرى (غرام الشعراء)
تأليف الأستاذ احمد رامي
كتب مرة أديب من الشبان مقالاً في جريدة السياسية الأسبوعية الغراء منذ سنوات عدة حاول فيه أن يلفت أصحاب الغناء المبرزين إلى أن المرتبة التي وقفوا عندها ليست جديرة بهم، وان الغناء على تخت مكون من (أساطين رجال الفن) ليس قصارى ما يصل إليه فن الموسيقى، بل إن الميدان الفسيح للغناء هو المسرح والأوبرا. غير أن تلك النصيحة آلمت كبيراً من كبراء أهل صناعة الغناء وظن أنها تمس كرامته وفنه، وإلا فهل يليق أن يقول أحد أن غناءه يقصر عن غاية؟ أو أن في الإمكان أبدع مما كان؟ فهب إلى الرد على الكاتب واقبل على تجريحه بما لا يتفق ووداعة الفن الجميل. وإنني اليوم اجرؤ أن اكرر ما قال ذلك الأديب في مقاله السالف، فان أغاني هذه الأيام تكاد تجعل السماع حملاً ثقيلاً، وتكاد تجعل الاهتزاز إليه نوعاً من الصناعة المتكلفة. ولا شك انه قد آن لمصر أن يكون لها مسرح ثابت للأوبرا يجول عليه كبار المغنين من الجنسين ويمدهم فيه بالوحي والروح شعراء مصر المبرزون.
والحق أن موت المسرح الغنائي هو الذي أمات الرواية الشعرية، وهاهي آية تدل على استعداد شعرائنا للتأليف والإبداع إذا وجد من يغرد بقولهم ويصدح بشعرهم.
وهاهو الأستاذ رامي يترك المقطعات حيناً ليظهر للملأ انه يستطيع إذا وجد من المسرح حاجة إليه أن يخلق قصة شعرية رائعة. فان بين أيدينا اليوم قطعة (غرام الشعراء) تجمع بين ما اعتاده الناس من عذوبة شعر رامي وما يتطلبه المسرح الغنائي من تصوير بديع وتأليف متسق. وقد جعلها الشاعر فصلا واحداً ونظنه قد قصد إلى ذلك قصداً. فما نظنه إلا عارضاً على أصحاب الغناء بضاعة جديدة لعله يستطيع أن يرغبهم في ترك البسائط والطموح إلى آفاق أعلى واكثر سمواً.
وان رامي إذا فعل ذلك فإنما يرجى منه أن يلقي إلى الأدب بالآية الكاملة: بالقصة الشعرية(50/95)
الطريفة: بما هو جدير به
م. ف. ا
كتاب القاهرة
للأديب عبد الرحمن زكي
ملازم أول بالأشغال العسكرية
هاهو ذا مؤلف يريد أن يقول شيئاً فيعرب في قوله. إن كثيراً مما نسمع من الأقوال لا يعدو أن يكون صوت أنين غير معرب، أو صوت نشوة لا يتبين السامع منها إلا صيحة تدوي في الفضاء، ولكن مؤلف (القاهرة) أراد أن يصف القاهرة فرسم خطة ثم أنفذها، وعرض على الناس كتاباً أن يقول لهم أن يقرأوه.
بدا بوصف فسطاط عمرو، ثم عسكر بني العباس ثم قطائع ابن طولون، ثم القاهرة المعزية، ثم ما طرأ عليها من الزيادة في أيام الدول التركية المتعاقبة. ثم أردف ذلك بوصف مختصر عن المقريزي لما كان في أيامه من خطط القاهرة، وأوضح ذلك كله بخرائط دقيقة واضحة.
ففكرة الكتاب فكرة علمية بديعة يشكر المؤلف عليها شكراً عظيماً.
غير انه لم يوفق في إنفاذ الخطة كما نظنه رسمهاً لنفسه، فان كتابا يصف القاهرة ينبغي أن يغلب عليه الوصف لما في القاهرة، وما اكثر ما فيها من مخلفات العصور المتعاقبة! غير انه قنع بان يغلب على كتابه ذكر تاريخالقاهرة وتطور عمرانها. فالكتاب اجدرأن يعد كتاب تاريخ نمو القاهرة لا كتاب وصف لها. ولسنا بسبيل التماس الأسباب التي دعت المؤلف إلى ذلك، غير أننا نرجو أن يوفق في مستقبل أيامه - واغلب الظن انه لا يزال في شبابه الأول القوي - إلى أن يكمل هذا البحث الطريف فيجعلنا نرى مميزات كل عصر ومخلفات كل دور من أدوار نمو القاهرة حتى يصبح ذكر القصة التاريخية ثانويا في ظهور الصورة بدل أن يكون كما هو الآن ابرز شيء فيها.
م. ف. ا(50/96)
روائع من قصص الغرب
ترجمة الأستاذ كامل كيلاني
اذكر أنني منذ سنوات خمس، كنت أتحدث مع صديق حول رسالة الغفران التي هذبها الأستاذ كامل كيلاني، فقد كنت أقرا الرسالة مع الصديق قراءة الدرس والتحليل، فلما أن فرغنا من تلاوتها، قلت لصاحبي: والله إن الأستاذ كيلاني ليستحق منا الشكر لما صادفنا في هذه الرسالة من لذة وجمال. قال بل إن أبا العلاء لأجدر منه بذلك الثناء، أما الأستاذ كيلاني فماذا قدم إلينا إلا أن تناول رسالة أبي العلاء، فحذف منها شيئاً واثبت شيئا؛ قلت أن رسالة أبي العلاء لبثت مطمورة بين أكداس الكتب لا يجرؤ عليها إلا صفوة الخاصة وهم قليلون. أما وقد هذبها الأستاذ كيلاني، وشذب أطرافها النابية، وأزال ما يعترض سبيلها من عثرات، فقد باتت معبدة ميسرة للكثرة الغالبة من القراء، تتداولها أيدي الطبقة الوسطى من المتأدبين، بعد أن كانت أرستقراطية مقصورة على طبقة الأشراف! وإذن فمن الأسرف في الغبن وإنكار الجميل إلا نعترف بذلك المجهود - وأشباهه - الذي يهيئ للقراء ما لم يكن لهم إليه من سبيل.
وإذا كانت التجارة في عالم الاقتصاد دعامة قوية يرتكز عليها البناء الاقتصادي بأسره، وهي ليست إنتاجاً في ذاتها، إنما هي وساطة بين المنتج والمستهلك، ففيهم الكفر بقيمة الوساطة الأدبية بين الكاتب والقارئ؟ ولولاها لما اتصل القراء بأكثر ما تسيل به الأقلام في أنحاء الأرض إلا في دائرة ضيقة وحيز محدود. وان صح هذا القول بصفة عامة، فهو اشد صدقاً واثبت يقيناً بالنسبة إلى مصر، لأنها اليوم في عصر ترجمة اكثر منه عصر تاليف، فالمترجم الذي يقدم إلى قراء العربية صوراً من أدب الغرب، إنما يسدي إليهم يداً بيضاء، لأنه يقدم إليهم غذاء صالحاً ما كانوا ليوفقوا إليه لولا ما بذل من مجهود.
نقول ذلك بمناسبة مجموعة القصص التي عربها الأستاذ كامل كيلاني. فهي من روائع الأدب الغربي حقاً، قد وفق في اختيارها وتعريبها إلى حد بعيد. وحسبك أن تعلم أنها طائفة من قصص بوكاتشو، وفولتير، وديدرو، وسرفنتس، وفلوبير، وسويفت، وروسو وغير هؤلاء من أئمة الأدب في الغرب!(50/97)
ولسنا نشك في أن القصة القوية الرائعة التي تحلل النفس الإنسانية في أعماقها، وتحرج سرها الدفين من مكمنه، فتضع تحت أبصارها ما استتر في أحنائها حتى نلمس مواضيع النقص بارزة واضحة، لهي من افعل الأدواء لما ينتاب جيلنا من أمراض خليقة تكاد تهز كياننا من أساسه، والتي تدعو إلى تضافر الأقلام جميعاً في درء خطرها الداهم.
فهذه المجموعة القيمة وعاء اجتمعت فيه مجموعة مختلفة من طباع الإنسان، وتلمح في ثناياها مثلا عليا تؤثر في نفس القارئ من حيث يدري ولا يدري. ولا بد أن نذكر - ونحن بصدد هذا الكتاب - جودة الطبع والورق، وجمال التنسيق وسلامة الذوق.
ز. ق. م(50/98)
العدد 51 - بتاريخ: 25 - 06 - 1934(/)
ذكرى المولد
كان الناس في أبريل من عام 571، والطبيعة المشفوفة تنتظر انبثاق الروح المبدع، وانبعاث الربيع الممرع، وانتعاش الحياة الجديدة في الأرض الهامدة؛ والخليقة المئوفة ترسل النظر الحائر في الآفاق الغائمة، ترتقب لمعة النور من الشرق، ونفحة القوة من الحق، وكلمة الهدى من الله؛ والجزيرة المجهودة تصهرها الشدائد، وتطهرها الدماء، وتهيئها الأقدار ليهبط فوقها الوحي، ويتجلى لها الخالق، وتتصل عندها السماوات بالأرض؛ والهواتف الطائفة تعلن في رؤوس الجبال، وسفوح الأودية، ومدارج السبٌل، وسوابيط المعابد، وأواوين القصور، بشرى الرسالة الأخيرة، وظهور الرسول المنتظر؛ والشياطين الآلهة تئن في أجواف الأصنام المنكسة أنين الخيبة والهيبة واليأس؛ وأجنحة الأملاك تخفق من وراء البصر في جو مكة القائض المغبر، فتنفض عليه النور والسرور والدعة؛ وأرواح الأنبياء من حول الكعبة تضوع بالحمد والدعاء احتفالاً بختام النبوة، وقيام الدعوة مرة أخرىفي بيت إبراهيم؛ وومضات من روح القدس وأشعة الخلد تنعقد هالات مشرقات على (شعب بني هاشم) وفوق دار آمنة؛ والنبي الوليد الذي خنس لمولده الشيطان، واعتدل بمقدمه الزمان، وخشع لذكره الكاهن والموبذان، وتصدّع من خشيته الدست والإِيوان، يفتح عينيه للوجود في بيت العُدم، ويلقى ارواقه الكريمة على نهاد اليتم، ولا يظفر بمرضع إلا لأنها لم تظفر آخر الأمر بغيره!!
تبارك الله ما أبلغ حكمة وأجل شأنه! شاء لنوره وبرهانه أن يشرقا في هذا المنزل المتواضع، ولمجده أن يظهرا في هذا اليتيم الوادع، ولعلمه وقراّنه أن ينزلا على هذا الأمي الحي، لتكون آيته أبهر للعيون، ودعوته أبرع في العقول، وكلمته أنْوط بالأفئدة؛ ولو اتخذ رسله من الملوك العواهل لاٌّتهمت المعجزة، والتبس على الناس فعل القدرة.
كان محمد بن عبد الله مثَل الله الأعلى للإنسان الكامل.
صوره خلقاً سويّاً ليرسم الأخلاق بالمثل، ويعلم الدين بالعمل، وينظم الحياة بالقدوة. وإلا فكيف اجتمع فيه ما تفرق في جميع الناس من خصال الرجولة، وخلال البطولة، وخلائق النبل، وبيئته لا تملك من بعض ذلك ما تعطيه؟
رعى على بعض أهله، وسعى لبعض قومه، واتجر بمال زوجه، فكان في جليل الأمر كما كان في ضئيلة صادق العزم، كريم العهد، وثيق الذمة، راجح الحلم، شاهد اللب، لين(51/1)
العِطف، حلو المعاشرة (يحمل الكَلَّ، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الحق)
ثم اصطنعه الله لحقِّه، وحَّمله الرسالة إلى خلقه، فكان في غار حراء، وفي دار الأرقم، وفي جبل ثور وفي دار أبى أيوب، وفي المسجد الجامع ثم في الرفيق الأعلى، مظهرا صحيحا لروح الله، وإعلانا صريحا لسر الدين، ومثالا عاليا لصدق الجهاد، واحتمالا ساميا لمكاره الدعوة، وأسوة حسنة لجميع الناس!
جهر الرسول بالدعوة بعد أن خافت بها في قريش ثلاث سنين، فضلل الأقوام وسفه الأحلام وهاجم الشرك في معقله، وليس وراء ظهره إلا عمه! فتألبت عليه عناصر الشر جمعاء فما أفكتْه عن عزمه، ولا خلجته عن همه. ثم تجلت فيه الكمال الإنساني فحشد للخصومة قوى النفس وقوى الحس فجاهد بالصدق، وجالد بالصبر، وجادل بالمنطق، وصاول بالرأي، وأثَّر باللسان، وقهر باليد، وتلك مزيته الظاهرة على النبيين والرسل، فكل نبي وكل رسول إنما بان شأوه على قومه في بعض المزايا، إلا الرسول العربي فقد تم فيه ما نقص في غيره من معجزات الرجولة، فكان رسولاً في الدين، وعلَماً في البلاغة، ودستوراً في السياسة، وإماماً في التشريع، وقائداً في الحرب.
إن حياة الرسول قانون إلهي خالد لصاحب الدين وصاحب الدنيا، وان وسائل الجهاد التي جدد بها أسلوب العيش وأقام بها ميزان المجتمع لا تزال عناوين ضخمة في صفحات العلم والسياسة والخلق، وان من أساس الإسلام أن نطيع الله في كتابه، ونطيع الرسول في سننه وآدابه، فليت شعري أكان في حدود الإمكان أن يرتطم العرب والمسلمون في مراغة الخمول، فيرضون بالهُون، ويقنعون بالدون، ويتخلون عن مكانهم من صدر الوجود، لو أنهم اتخذوا من أحكام ربهم منهاجا، ومن كلام رسولهم علاجا، ومن حياة السابقين الأولين من رجالهم قوة وقدوة؟؟
أليس من خذلان الله لنشئنا الجُدُد أن يلوكوا جاهدين أسماء فلان وفلان ممن رأى رأيا أو أنشأ قصيدة أو ألف كتابا، ثم يتركوا عامدين اسم محمد الذي جمع العرب من شتات، وأيقظ العالم من سبات، أقام للسماء دينا في الأرض، وأسس للأرض دنيا في السماء؟
احمد حسن الزيات(51/2)
الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
كما تطلع الشمس بأنوارها فتفجر ينبوع الضوء المسمى النهار، يولد النبي فيوجد في الإنسانية ينبوع النور المسمى في الدين وليس النهار إلا يقظة الحياة تحقق أعمالها، وليس الدين إلا يقظة النفس تحقق فضائلها.
والشمس خلقها الله حاملة طابعه الإلهي في عملها للمادة تُحَوِّل به وتُغَيِّر، والنبي يرسله الله حاملاً مثل ذلك الطابع في عمله للروح تترقى فيه وتسمو.
ورعشات الضوء من الشمس هي قصة الهداية للكون في كلام من النور وأشعة الوحي في النبي هي قصة الهداية لإنسان الكون في نور من الكلام.
والعامل الإلهي العظيم يعمل في نظام النفس والأرض بأداتين متشابهتين: أجرام النور من الشموس والكواكب، وأجرام العقل من الرسل والأنبياء.
فليس النبي إنسانا من العظماء يُقرأ تأريخُه بالفكر مع المنطق، ومع المنطق الشك، ثم يُدرس بكل ذلك على أصول الطبيعة البشرية العامة؛ ولكنه إنسان نجميٌّ يُقرأ بمثل (التلسكوب) في الدقة، معه العلم، ومع العلم الإيمان، ثم يُدرس بكل ذلك على أصول طبيعته النورانية وحدها.
والحياة تنشئ علم التأريخ ولكن هذه الطريقة في درس الأنبياء صلوات الله عليهم - تجعل التأريخ هو ينشئ علم الحياة؛ فإنما النبي إشراق إلهي على الإنسانية يقومها في فلكها الأخلاقي، ويجذبها إلى الكمال في نظام هو بعينه صورة لقانون الجاذبية في الكواكب.
ويجيء النبي فتجئ الحقيقة الإلهية معه في مثل بلاغة الفن البياني، لتكون أقوى أثراً. وأيسر فهماً، وأبدع تمثيلاً؛ وليس عليها خلاف من الحس. وهذا هو الأسلوب الذي يجعل إنسانا واحداً فنَّ الناس جميعاً، كما تكون البلاغة فن لغةٍ بأكملها؛ هو الشخص المفسِّر إذا تعسَّف الناس الحياة لا يدرون أين يؤمون منها، ولا كيف يتهدَّون فيها، فتضطرب الملايين من البشرية اضطرابَها فيما تنقبض عنه وتتهالك فيه من أطماع الدنيا؛ ثم يخلق رجل واحد ليكون هو التفسير لما مضى وما يأتي، فتظهر به حقائق الآداب العالية في قالب من الإنسان العامل المرئيّ، أبلغ مما تظهر في قصة متكلمة مرويّة.(51/3)
وما الشهادة للنبوة إلا أن تكون نفس النبي أبلغَ نفوس قومه حتى لَهو في طباعه وشمائله طبيعة قائمة وحدها كأنها الوضع النفساني الدقيق الذي يُنصب لتصليح الوضع المغلوط للبشرية في عالم المادة وتنازع البقاء. وكأن الحقيقة السامية في هذا النبي تنادى الناس: أن قابلوا على هذا الأصل وصححوا ما اعترى أنفسهم من غلط الحياة وتحريف الإنسانية.
ومن ثم فنبي البشرية كلها من بُعث بالدين أعمالاً مفصلة على النفس أدق تفصيل وأوفاه بمصلحتها، فهو يعطي الحياة في كل عصر عقلها العملي الثابت المستقر تنظم به أحوال النفس على ميزة وبصيرة، ويدع للحياة عقلها العلميَّ المتجدد المتغير تنظم به أحوال الطبيعة على قصد وهدى، وهذه هي حقيقة الإسلام في أخص معانيه، لا يغني عنه في ذلك دين آخر، ولا يؤدى تأديته في هذه الحاجة أدب ولا علم ولا فلسفة، كأنما هو نَبعٌ في الأرض لمعاني النور بازاء الشمس نبعِ النور في السماء.
وكل ذلك تراه في نفس محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهي في مجموعها أبلغ الأنفس قاطبة؛ لا يمكن أن تعرف الأرض أكمل منها؛ ولو اجتمعت فضائل الحكماء والفلاسفة والمتأهلين وجعلت في نصاب واحد - ما بلغت أن يجئ منها مثل نفسه صلى الله عليه وسلم. ولكأنما خرجت هذه النفس من صيغة كصيغة الدرة في محارتها، أو تركيب كتركيب الماس في منجمه، أو صفة كصفة الذهب في عرقه. وهي النفس الاجتماعية الكبرى، من أين تدبّرتها رأيتها على الإنسانية كالشمس في الأفق الأعلى تنبسط وتَضحي وتلك هي الشهادة له صلى الله عليه وسلم بأنه خاتم الأنبياء، وأن دينه هو دين الإنسانية الأخير. فهذا الدين في مجموعه إن هو إلا صورة تلك النفس العظيمة في مجموعها، صلابته بمقدار الحق الإنساني الثابت، لا بمقدار الإنسان المتغير الذي يكون عند سبب جبلاً صلداً يشمخ، وعند سبب آخر ماءً عذباً يجري.
وهو دين يعلو بالقوة ويدعو إليها، ويريد إخضاع الدنيا وحكم العالم، ويستفرغ همه في ذلك، لا لإعزاز الأقوى وإذلال الأضعف، ولكن للارتفاع بالأضعف إلى الأقوى. وفرقُ ما بين شريعته وشرائع القوة، أن هذه إنما هي قوة سيادة الطبيعة وتحكمها، أما هو فقوة سيادة الفضيلة وتغلبها؛ وتلك تعمل للتفريق، وهو يعمل للمساواة؛ وسيادة الطبيعة وعملها للتفريق هما أساس العبودية، وغلبة الفضيلة وعملها للمساواة هما أعظم وسائل الحرية.(51/4)
ومن هنا كان طبيعياً في الإسلام ما جاء به من أنه لا فضيلة إلا وهو يطبع عليها صورة الجنة بنعيمها الخالد، ولا رذيلة إلا وهو يضع عليها صورة النار الأبدية وقودها الناس والحجارة؛ فلا تنظر العين المسلمة إلى أسباب الحياة نظرة الفكر المنازع يحرص على ما يكون له، ويَشرَه إلى ما ليس له، ويمكر الحيلة، ويبدع وسائل الخداع، ويزيد بكل ذلك في تعقيد الدنيا - بل نظرة القلب المسالم بخلع الدنيا، ويسخو بكل مضنون فيها فيعف عن كثير؛ ويعرف الانسانية، ويطمع في غاياتها العليا، فيعفو عن كثير؛ ويدرك أن الحلال وإن حل فوراءه حسابه، وأن الحراموإن غر ليس إلا تعلل ساعة ذاهبة ثم من ورائه عقاب الأبد.
ويخرج من ذلك أن يكون أكبر أغراض الإسلام هو أن يجعل من خشية الله تعالى قانون وجود الإنسان على الأرض، فمن أي عطفيه التفت هذا الإنسان وجد على يمينه ويسرته ملكين من ملائكة الله يكتبان أعماله بخيرها وشرها، فهو كالمتهم المستراب به في سياسة النفس لا يمشى خطوة إلا بين جاسوسين يحصيان عليه حتى أسباب النيه، ويجمعان منه حتى نزوات الكبد، ويترجمان عنه حتى معاني النظر. وإذا قامتهذه المحكمة الملائكية وتقررت في اعتبار النفس - قام منها على النفس شرع نافذ هو قانون الإرادة المميزة، تزيد الحسنات وتعمل لها، وتخشى السيئات وتنفر منها، فإذا معا عضها بعضاً، لا لتحقيق الحكومة والسلطة، ولكن لتحقيق الخير والمصلحة؛ وإذا نواميس الطبيعة المجنونة في هذا الحيوان قد نهضت إلى جانبها نواميس الإرادة الحكيمة في الإنسان، وإذا كل صغيرة وكبيرة في النفس هي من صاحبها مادة تهمة عند قاضيها في محكمتها، وإذا كل ما في الإنسان، وما حول الإنسان - لا يراد منه إلا سلام النفس في عاقبتها؛ وإذا معني السلام هو المعنى الغالب المتصرف بالإنسانية في دنياها.
وكل أعمال الإسلام وأخلاقه وآدابه، فتلك هي غايتها، وهذه هي فلسفتها؛ لا يقررها للإنسانية حسْب، بل يغرسها في الوراثة غرساً بالاعتياد والمران الدائم، لتكون علماً وعملاً، فتمكن لسلام النفس بين الأسلحة المسددة إليها من ضرورات الحياة في أيدي الأعداء المتالبة عليها من شهوات الغريزة.
فليس يعم السلام إلا إذا عم هذا الدين بأخلاقه فشمل الأرض أو أكثرها، فان قانون العالم(51/5)
حينئذ يصبح منزعاً من طبيعة التراحم، فأما انتسخ به قانون التنازع الطبيعي، وإما كسر من شِرتَّه، ويولد المولود يومئذ وتولد معه الأخلاق الإنسانية.
تقرير معنى الدوام لكل أعمال النفس حتى مثقال الذرة من الخير والشر، وضبط ذلك برياضة عملية دائمة مفروضة على الناس جميعاً - هذا هو أساس العقيدة الإسلامية. ولا صلاح للإنسانية بغيره يردّها إلى سبيل قصدها، فان من ذلك تكون الصفة العقلية التي تغلب على المجتمع وتجانس بين أفراده، فتوجّه الإنسانية كلها نحو الممكن من كمالها، ولا تزال توجَّهها نحو ما هو أعلى، وتحكم فاسدها بصالحها، وتأخذ عاصيها بمطيعها، وتجعل الشرف الإنساني غرضها الأول، لأن الله الحقّ غرضُها الأخير؛ فيصبح المرء - وهذا دينه - كلما تقدم به العمر كمل فيه اثنان: الإنسان، والشريعة. ولا يعود طالب السعادة النفسية في الدنيا كالمجنون يجري وراء ظله ليمسكه؛ فلا يدرك في الآخر شيئاً غير معرفته أنه كان في عمل باطل وسعى ضائع.
والإسلام يحرص أشد الحرص وأبلغه على تقرير ذلك المعنى الإلهي العظيم، لا بالمنطق ولكن بالعمل؛ ثم في النفس وعواطفها لا في العقل وآرائه؛ ثم على وجه التعميم دون الاستثناء والخصوص، وذلك هو سر مشقته على النفس بما يفرضه عليها؛ فان فلسفته أن هذه النفس هي أساس العالم، وأن النظام الخلقي هو أساس النفس، وأن العمل الدائم هو أساس النظام، وأن روح العمل الدائم تكون فيما يشق بعض المشقة ولا يبلغ الكسل والإهمال. وللنفس وجهان: ما تعلن، وما تُسرّ. ولا صدق لإعلانها حتى يصدق ضميرها، ولا صلاح لجهرها حتى يصلح السرّ فيها، ولا يكون الإنسان الاجتماعي فاضلاً بِمشَهدهِ حتى يكون كذلك بغيبه. وللعالم كذلك وجهان: حاضره الذي يمر فيه، وآتيه الذي يمتد له. ولا يفلح حاضر منقطع لا يُوَرِّث ما بعده كما وَرِث ما قبله، وما حاضر الإنسانية إلا جزء من عمل الناس في استمرار فضائلهم باقية نامية. وللنظام أيضاً وجهان: نظام الرغبة على الطاعة والاطمئنان لها، ونظام الرغبة على الخشية والنّفْرة منها. ولا يستقيم شأن ليس أساسه الطاعة في النفس، ولا يستمر نظام عليه خلاف من فكر العامل به. وللعمل الدائم طريقتان: إحداهما طريقة الجادّ يعمل للعاقبة يستيقنها، فلا يجد مما يشق عليه إلا لذة المغالبة للنصر، كل مرارة من قبله هي حلاوة فيه من بعد، ولا يعرف للمحنة يبتلى بها إلا(51/6)
معناها الحقيقي وهو إيقاظ نفسه، فيصبح الصبر عنده كصبر المحب على أشياء ممن يحبه؛ صبر فيه من السحر ما يكسو الحرمان في بعض الأحيان خيال الاستمتاع، ويذيق النفس في العجز عن بعض أغراضها - لذةّ كلذة إدراكه.
تلك هي فلسفة الإسلام؛ لا قوام للأمر فيها ولامساك له إلا بتقرير الدوام لكل أعمال النفس، ووضع طابع الجنة على أعمال الجنة، وطابع النار على أعمال النار - وحياطة كل فرد من الناس حياطة رياضية عملية بين الساعة والساعة، بل بين الدقيقة والدقيقة، بما يكلف من أعمال جسمه وحواسه، ثم أعمال قلبه ونيته - وتعظيم الشخصية الروحية دون الشخصية المادية، فلا يحاول كل إنسان أن يجعل بطنه في حجم مملكة أو مدينة أو قرية بما ينتقص من حقوق غيره؛ بل تتسع ذاتية كل فرد بما يجب له على المجتمع من الواجبات الإنسانية. وبهذا لا بغيره تتعين مقاييس الأخلاق في الأرض - بالمصلحة لا باللذة - فلا يقع الخطأ ولا التزوير، وتنحل المشكلة الاجتماعية مادامت الحياة لا تجد من أهلها كل ساعة عقدا فيها.
والاستيلاء بذلك المعنى على العقل والعاطفة هو وحده الطريقة لإنشاء طبيعة الخير في الناس على نسقها الطبيعي، كما أنه هو وحده الطريقة لتطهير التأريخ الإنساني من أوبائه الاقتصادية التي جعلته كأنما هو تأريخ الأسنان والأضراس. . وتركت الناس يهدم بعضهم بعضاً، كما يهدم الجار حائط جاره ليوسع بيته!
وأساس العمل في الإسلام إخضاع الحياة للعقيدة، فتجعلها العقيدة أقوى من الحاجة، فيكون الفقير معدماً ويتعفف، ويكون الغني موسوراً ويتصدق، ويكون الشرهُ طامعاً ويمسك، ويكون القوي قادراً ويحجم؛ وكما قال العرب في تحقيق ناموس الأنفة والحمية وغلبته على الناموس الاقتصادي: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.
تريد الإنسانية امتداداً غير امتدادها التجاري في الأرض، وتحتاج إلى معنى يقود إنسانها غير الحيوان الذي فيه، وإذا قاد الغراب قوما ً - كما قال شاعرنا يمر بهم على جيف الكلاب. .
والإنسانية اليوم في مثل ليل حَوْشىِّ مظلم اختلط بعضه في بعض، وليست معاني الإسلام إلا الإشراق الإلهي على هذه الكثافة المادية المتراكمة، وإذا رفع المصباح لم تجد الظلام إلا(51/7)
وراء الحدود التي تنتهي إليها أشعته.
وقد علمنا من طبيعة النفس أن إنسانية الفرد لا تعظم وتسُمو وتتخيل وتفرح فرحها الصادق وتحزن حزنها السامي إلا أن تعيش في محبوب؛ فإنسانية العالم لا تكون مثل ذلك إلا إذا عاشت في نبيها الطبيعي، نبي أخلاقها الصحيحة وآدابها العالية ونظامها الدقيق؛ وأين تجد هذا المحبوب الأعظم إلا في محمد ودين محمد؟
وعجيب أن يجهل المسلمون حكمة ذكر النبي العظيم خمس مرات في الأذان كل يوم ينادى باسمه الشريف ملء الجو، ثم حكمة ذكره في كل صلاة من الفريضة والسنة والنافلة يهمس باسمه الكريم ملء النفس! وهل الحكمة من ذلك إلا الفرض عليهم ألا ينقطعوا من نبيهم ولا يوما واحداً من التأريخ، ولا جزءاً واحداً من اليوم، فيمتد الزمن مهما امتد والإسلام كأنه على أوله، وكأنه في يوم ولا في دهر بعيد. والمسلم كأنه مع نبيه بين يديه تبعثه روح الرسالة، ويسطع في نفسه إشراق النبوة، فيكون دائماً في أمره كالمسلم الأول الذي غير وجه الأرض؛ ويظهر هذا المسلم الأول بأخلاقه وفضائله وحميَّته في كل بقعة من الدنيا مكان إنسان هذه البقعة لاكما نرى اليوم؛ فان كل أرض إسلامية يكاد لا يظهر فيها إلا إنسانها التاريخي بجهله وخرافاته وما ورث من القدم؛ فهنا المسلم الفرعوني، وفي ناحية المسلم الوثني، وفي بلد المسلم المجوسي، وفي وجهة المسلم المعطل. . . وما يريد الإسلام إلا نفس المسلم الإنساني.
أيها المسلم!
لا تنقطع من نبيك العظيم، وعش فيه أبدا، واجعله مثلك الأعلى، وحين تذكره في كل وقت فكن كأنك بين يديه؛ كن دائماً كالمسلم الأول؛ كن دائماً ابن المعجزة.
مصطفى صادق الرافعي(51/8)
(محمد)
للأستاذ علي الطنطاوي
منذ أربعة عشر قرناً ونيف ولد محمد، فلم يكد يفطن إلى ولادته إلا قليل، وبعد أربعة عشر قرناً ونيف - استضاءت فيها الدنيا بنور محمد، واهتدت الإنسانية بهدْى محمد - مرت بالدنيا ذكرى مولد محمد، فلم يكن يفطن إليها إلا قليل!
بل لم يعرف بعدُ من هو محمد!
على أن العظماء في التأريخ كثيرون، وقد عرفهم التأريخ، ولكنه لم يعرف محمداً، لأنه ليس فيهم مثل محمد!
عظمة أولئك أنهم سبقوا أوانهم، فعظموا لسبقهم، ثم جاء أوانهم فساواهم أبناؤه جميعاً، ثم جاء أوان بعده ففاقهم أهله جميعاً، ولم يبق لهم إلا عظمة الذكرى.
وان التلميذ اليوم يعرف من الطبيعة أكثر مما كان يعرف جاليليو، والضابط يعلم من فنون الحرب أكثر مما كان يعلم اينبال وطالب الفلسفة يدرك من حقائقها أكثر مما كان يدرك أفلاطون وكذلك سائر العظماء.
أما محمد فطراز من البشر لا تحتمل الدنيا منه أكثر من واحد، ولا يمتد عمرها حتى ترى مثل محمد، فمحمد عظيم كل عصر، وعظمته لا تبلى على الدهر.
وإن كثيراً من العظماء قد سنوا سنناً، وشرعوا شرائع، ولكنهم سنوها ناقصة فكملت، وقاصرة على زمان واحد فعدلت، ومحدودة ضيقة فوسعت، وما زالت أبداً في حاجة إلى التكميل والتوسيع والتعديل. أما شريعة محمد فجاءت كاملة، وعاشت كاملة، وستخلد كاملة، لأنها من عند الله الكامل، لا من عند العقل الناقص.
وستموت الشرائع كلها، والعاقبة لشريعة الله
إن روحية الشرق ستطحن مادية الغرب، ومادية الغرب ستقتل روحية الشرق، ولا يبقى إلا الأصلح، والأصلح هو الإسلام.
أي دين غير الإسلام يستطيع المرء أن يتمسك بأحكامه كلها، ثم يكون امرأً صوفياً قوياً غنياً؟
أي دين غير الإسلام يعرف للبدن حق البدن، وللروح حق الروح، ويعرف للدنيا حقها،(51/9)
وللآخرة حقها؟
أي دين غير الإسلام فيه الوحدانية في الإيمان، والشورى في الحكم، والاخوة في الحياة، والجهاد في المبدأ، والقوة والاعتدال في كل شيء؟
أي دين غير الإسلام يحل المشكلة الاجتماعية الكبرى، التي ولدت الشيوعية والفاشية والنازية، وستلد الموت الأحمر، والخراب الأكبر؟
إن العظماء كثيرون، ولكن العظيم عظيم في ناحية، صغير في سائر النواحي، فهو عظيم في العلم، أو في الحرب، أو في الأدب، أو في السياسة. أما محمد فعظيم في كل شيء.
وآثار العظماء في البشر واضحة جلية، ولكن لم يعمل أحد أجل ولا أجمل مما عمل محمد.
نفخ في هذه البادية القاحلة، وهذه الأمة المتفرقة الجاهلة، فاخرج منها أمة قوية عالمة عاملة. . . حملت مشكاة النور، في وقت عم فيه الظلام، وبنورها اهتدى ويهتدي كل إنسان في كل مكان إلى آخر الزمان، ولولا محمد ما كانت أوربة ولا الأميركتان!
كانت الدنيا في نظر قريش مكة، كما أن الدنيا في نظر الفرنسيس باريس، ولكن دنيا محمد أوسع، ومحمد لا تسعه مكة، فأم غار حراء ليشرف على الأفق الواسع، ثم سما على معراج إلى السماء، فرأى الأرض كيراعه مضيئة، فاستصغرها، ولم يحفل بما عليها من ذرات هينة. .
هكذا عاش محمد، وهكذا انتقل
عاش محمد في الأرض وهو أكبر من الأرض، وترك في الأرض أثراً أكبر من الأرض، ولم يعرفه في الأرض أحد من أبناء الأرض - ذلك لأنه كان كما قال لامارتين:
(فوق البشر، ودون الإله، فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم)
علي الطنطاوي(51/10)
إحياء المولد النبوي الكريم
بعض رسومه ومناظره في مصر الإسلامية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت ليلة الثاني عشر من ربيع الأول - ليلة مولد النبوي الكريم - دائماً من المواسم والأعياد المشهودة في جميع الأمم الإسلامية؛ ومازال مولد النبي العربي من الذكريات الخالدة في المجتمع الإسلامي؛ ولكن الاحتفال بذلك الحادث العظيم في تأريخ الإنسانية كان يقترن في العصور الخالية، أيام عز الإسلام ومجده، بضروب من الجلال والبهاء والبذخ، ذهبت بها حوادث الزمن وتقلباته، وما انتهت إليه الأمم الإسلامية من الاضمحلال والتأخر. وقد بدأ هذا الاحتفال المقدس في عصر الإسلام الأول بسيطاً متواضعاً، كباقي المواسم والاحتفالات الدينية، فلما بلغت الخلافة ما بلغت من العظمة والبهاء، ظهرت فخامة الملك وروعته في الأعياد والحفلات الرسمية، وجرت الشعوب على سنة ملوكها وأمرائها في هذا الموسم من الظهور والبذخ. وكان شأن مصر الإسلامية في ذلك شأن باقي الولايات الإسلامية في عصر الخلافة الأول من بساطة في الرسوم والمظاهر؛ فلما استحالت مصر من ولاية خلافية إلى دولة مستقلة في عهد بني طولون وبني الأخشيد وقامت فيها قصور ملوكية باذخة، ظهر أثر هذا الانقلاب في رسوم الدولة ومظاهرها العامة، وغدت المواسم والاحتفالات الدينية حوادث عامة يحييها الشعب، كما تحييها الحكومة في كثير من الرونق والبهجة والحبور.
وقد بلغت هذه المظاهر والرسوم الفخمة ذروة البهاء والروعة في عهد الدولة الفاطمية، وكانت هذه الدولة القوية الشامخة تتخذ من المواسم والأعياد الدينية والقومية فرصاً للظهور في أبدع مظاهر القوة والغنى والترف، وتغمر الشعب في هذه الأيام المشهودة بوافر بذلها وعطائها؛ فكان الشعب يستقبل هذه المواسم باهتمام وحماسة ويكثر فيها من الاحتشاد والإنفاق والمرح، تشجعه الدولة على ذلك وتحثه بقدوتها ومثلها. وكان للاحتفال بهذه المواسم رسوم وتقاليد معينة تختلف باختلاف أهميتها الدينية أو القومية. وقد بلغت في ظل الدولة الفاطمية من الكثرة والانتظام ما لم تبلغه في أية دولة إسلامية أخرى. ذلك أن الخلافة الفاطمية شرعت لنفسها، إلى جانب الأعياد الدينية المأثورة، أعياداً خاصة بها(51/11)
وبدعوتها ومذهبها الديني، فقررت أن تحتفل إلى جانب المولد النبوي، بموالد خمسة أخرى هي مولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومولد زوجه السيدة فاطمة الزهراء التي ينتسب الفاطميون إليها، ومولد الحسن، ومولد الحسين ابني علي، ومولد الخليفة الفاطمي القائم في الملك؛ هذا إلى مواسم وأعياد أخرى كيوم عاشوراء (عاشر محرم) الذي قتل فيه الحسين، وليلة أول رجب ونصفه وليلة أول شعبان ونصفه وهي ليالي الوقود الشهيرة؛ ثم كانت هنالك أعياد قومية أخرى كيوم فتح الخليج، ويوم الميلاد النصراني ويوم النوروز، ويوم الغطاس؛ ذلك أن الخلافة الفاطمية لم تنس أن تشمل رعاياها النصارى برعايتها وتسامحها في إحياء هذه الأعياد القومية القديمة بصفة رسمية، وفي أن تسبغ عليها من البهجة والبهاء ما يسبغ على الأعياد الأخرى.
وكان المولد النبوي الكريم في مقدمة الأعياد الإسلامية المقدسة، تحتفل به الدولة طبق رسوم معينة، ويحتفل به الشعب في فيض من الضجيج والمرح. وقد وصف لنا مؤرخو الدولة الفاطمية المعاصرين، كابن زولاق، والمسبحي، وابن الطوير، وابن المأمون، طرفاً من هذه المناظر والرسومالشائقة؛ وخلاصة هذه الرسوم، هو أنه إذا حل المولد النبوي، يطلق من الخزينة مبلغ كبير برسم الصدقات، ويطلق من دار الفطرة أربعون صينية فطرة ومن الخزائن سكر ولوز وعسل وزيت برسم خدمة المزارات التي بها - حسب قولهم - بعض أعضاء آل البيت، ويوزع من الحلوى بضع مائة ألف رطل، وكذا من الخبز كمية كبيرة. وفي يوم المولد النبوي - الثاني عشر من ربيع الأول - يخرج الخليفة في موكبه ليجلس في المنظرة الخلافية المجاورة للمشهد الحسيني؛ وهي أقرب المناظر إلى القصر؛ وتكون دار الفطرة قد أعدت ثلاثمائة صينية مجهزة بالحلوى اليابسة لتفرق في كبار الموظفين والقضاة، وفي مقدمتهم قاضي القضاة وداعي الدعاة، وقراء الحضرة وخطباء المساجد الجامعة. وعند الظهر يركب قاضي القضاة في موكبه من عند القصر، ويخلى ميدان القصر من الجماهير، ويترك للجمهور السلوك من ناحية أو اثنينْ، ويقوم والي القاهرة بالمحافظة على النظام مع رجاله؛ ويصل موكب قاضي القضاة من ناحية، ويصل موكب الحاجب الكبير من ناحية أخرى إلى ساحة المنظرة الخلافية وقد فرشت بالرمل؛ ويقف الجميع في الساحة متشوقين لرؤية الخليفة. وبعد نحو ساعة يطل الخليفة من إحدى(51/12)
الطاقات وعلى رأسه المنديل الخلافي، ومن ورائه بعض الأستاذين المحنكين ويطل أحد الأساتذة من طاقة أخرى ويقول: (أمير المؤمنين يرد عليكم السلام) ويسلم على الحضور؛ ثم يبدأ قراء الحضرة بالقراءة وقوفاً، ووجوههم إلى الجمهور، وظهرهم إلى المنظرة؛ ثم يلقى خطباء المساجد الجامعة خطبهم، فيبدأ خطيب الجامع الحاكمي، ثم خطيب الجامع الأزهر، ثم خطيب الجامع الأقمر؛ وتدور الخطبة حول المولد النبوي وقدسيته وفضله؛ فإذا انتهت الخطابة، أخرج الأستاذ رأسه من الطاقة ويده في كمه ورد على الجماعة السلام، ثم تغلق الطاقتان. ويحتجب الخليفة والأستاذ، وينتهي الاحتفال، وينفض الناس.
هذا، وإلى جانب الاحتفال الرسمي، يحتفل الشعب في كل مكان بإقامة المآدب الخاصة ليلة المولد النبوي، وفي مساء يوم المولد، وتسطع القاهرة في الليل بالأنوار الباهرة، وتغص الساحات والدروب بالجماهير المحتشدة، وتكثر النفقة والنزهة، وتقام أنواع الملاهي والمطاعم العامة، وتسير السفن في النيل والخليج محملة بالمتنزهين، ويكثر البر بالفقراء والمساكين.
وكان الاحتفال بالمولد النبوي في دول السلاطين المختلفة دائماً من الأعياد الرسمية، تحييه الحكومة والشعب، ويشهده السلاطين أحياناً؛ ولكنه لم يبلغ في ظل هذه الدول ما كان يبلغه من الفخامة والبهاء في ظل الدولة الفاطمية.
وفي عصر الحكم التركي، ذوى بهاء المواسم والأعياد الدينية كما ذوى كل شيء في الحياة العامة المصرية، وغلبت عليها التقاليد السخيفة، ولم يبق لها شيء من تلك الروعة التي كانت تهز قلوب المسلمين، وتبعث إليها الجلال والخشوع.
ويصف لنا الجبرتي طرفاً مما كانت عليه رسوم الاحتفال بالمولد النبوي في أواخر الحكم التركي وأيام الحملة الفرنسية، فيقول مثلاً في وصف احتفال سنة 1214هـ ما يأتي:
(وفي يوم الثلاثاء حادي عشره (أي حادي عشر ربيع الأول) عمل المولد النبوي بالأزبكية ودعا الشيخ خليل البكري ساري عسكر الكبير مع جماعة من أعيانهم وتعشوا عنده وضربوا ببركة الأزبكية مدافع وعملوا حراقة وسواريخ ونادوا في ذلك اليوم بالزينة وفتح الأسواق والدكاكين ليلاً وإسراج قناديل واصطناع مهرجان).
ويقول في وصف احتفال سنة 1216هـ ما يأتي:(51/13)
(وفيه (أي ربيع الأول) نودي بتزيين الأسواق من الغد تعظيما ليوم المولد النبوي الشريف فلما أصبح الأربعاء كررت المناداة والأمر بالكنس والرش فحصل الاعتناء وبذل الناس جهودهم وزينوا حوانيتهم بالشقق الحرير والزردخان والتفاصيل الهندية مع تخوفهم من العسكر. وركب المشار إليه عصر ذلك اليوم وشق المدينة وشاهد الشوارع. وعند المساء أوقدوا المصابيح والشموع ومنارات المساجد وحصل الجميع بتكية الكلشني على العادة، وتردد الناس ليلاً للفرجة وعملوا مغاني ومزامير في عدة جهات، وقراءة القرآن، وضجت الصغار في الأسواق وعم ذلك سائر اخطاط المدينة القاهرة، ومصر وبولاق. وكان من المعتاد القديم ألا يعتني بذلك إلا بجهة الأزبكية حيث سكن الشيخ البكري لأن عمل المولد من وظائفه وبولاق فقط).
وفي وصف احتفال سنة 1217هـ ما يأتي:
(فيه (ربيع الأول) شرعوا في عمل المولد النبوي وعملوا صواري ووقدة قبالة بيت الباشا وبيت الدفتر دار والشيخ البكري ونصبوا خياماً في وسط البركة ونودي في يوم الخميس بتزيين البلد وفتح الأسواق والحوانيت والسهر بالليل ثلاث ليال، أولها صبح يوم الجمعة وآخرها الأحد ليلة المولد الشريف فكان ذلك) ونستطيع أن نلمح في الاحتفال الرسمي الذي يقام في أيامنا احتفاء بالمولد النبوي الكريم بعض رسوم العصور الخالية، وبالأخص بعض المناظر التي ينقلها إلينا الجبرتي عن هيئة الاحتفال في أواخر العصر التركي، ولكنا لا نستطيع أن نلمح فيه كثيراً من تلك الروعة التي كانت تطبعه في عصور المجد والاستقلال، ولا نستطيع بالأخص أن نلمس آثار ذلك الصدى العميق الذي كان يتردد بين طوائف الشعب ويجعل من المولد النبوي الكريم عيداً دينياً وقومياً عاما يحتفي به الشعب بأسره).
محمد عبد الله عنان المحامي(51/14)
من وراء البحر
للدكتور محمد عوض محمد
عزيزي الزيات
لقد غادرت القاهرة وأنا حانق عليك، غاضب ثائر. وكان مثلي كمثل هذا البحر - بحر الريفييرا - الذي ما برح هائجاً صاخباً. فاستحال علىّ أن أقضي الوقت في السباحة والاستحمام، واضطررت أن أقطع الوقت في الكتابة إليك كما ترى.
أجل! لقد تركت السواحل المصرية وأنا غاضب منك، ولحسن حظك أن بيني وبينك هذا البحر الطويل المديد العريض وإلا نالك مني بعض الأذى. فانك حاولت في العدد السابع والأربعين من (الرسالة) أن تفسد على عيشي، وتقطع عني الخبز الذي أتبلغ به في هذه الحياة الدنيا،
وتفصيل الحديث - إن كنت لم تدرك بعد ما جريرتك - أنك في العدد الأخير - الأخير بالنسبة إلي - حاولت أن تقطع عني وسائل عيشي؛ بأن تناولت أفاضل الشعراء بالنقد الشديد. لا لسبب سوى أنهم اتخذوا لأشعارهم عنوانات اقتبسوها من بيئة غير بيئتهم وأرض غير أرضهم؛ وقد تناولتهم من أجل ذلك باللوم ما شاء لك ذلك القلب القاسي الذي أتخذ جوانحك مستقراً ومقاماً.
وكأنما جهلت - يا أبا رجاء - أو تجاهلت أنني بحمد الله - الذي يحمد على الخير وعلى الشر - ما أكلت الخبز والملح (ومعهما - أحياناً - قليل من الجبن الدمياطي والخيار المصري) إلا بأمر واحد أؤديه في هذه الحياة، وهو تعليم الناس تقويم البلدان. ولست أدري أدفعتني في هذا الطريق ملائكة الرحمة أم شياطين العذاب. لكنه على كل حال هو الطريق الذي سلكت، والذي آكل منه الخبز والملح فكان الأجدر بمثلك لو انك ترى للمودة عهداً أن تشجع الشعراء على أن يقبلوا ما استطاعوا على تلك البيئات البعيدة، والأقطار النائية، يلتمسون فيها عنواناتهم وموضوعاتهم، فيضطرون إلى دراسة البلدان والأقاليم، ويبحثون في أسفار الجغرافيا عن صفة كل قطر وكل ظاهرة طبيعية، حتى إذا استوعبوا فهمها واستطاعوا الإحاطة بأسرارها سالت خواطرهم في وصفها قريضاً بديعاً. . . وهكذا يصبح الشعراء والكتاب طلبة يدرسون علم تقويم البلدان، ورسلاً لنشر الدعوة الجغرافية وبثها بين(51/15)
طبقات الأمة. وهكذا تروج بضاعتنا التي نأكل منها الخبز والملح، ومن يدري، فقد ينتهي بنا هذا لأن نصبح قادرين على التنعم بأشياء غير الخبز والملح - مما نجهله الآن كل الجهل.
إن واجب الجغرافيا - يا أبا رجاء - هو أن تدنى البعيد وأن تقرب أطراف العالم بعضها من بعض، وأن تعلمك وأمثالك كيف تتخذون الناس كلهم سكناً، وكيف تجعلون الأرض كلها داراً.
نريد لكم اليسر والسعة، ولا نريد لكم العسر والضيق، نريد أن يطلق سراح الكتاب، وألا يتقيدوا بسلاسل المكان وأغلال الزمان، فتنطلق أرواحهم في العالم الفسيح، وتشرب من كأس الحرية حتى تروى وتشفى.
أن الجغرافيا هي علم الكون، علم الوجود، ولهذا كانت أهم ما في الوجود من علم. ولهذا وجب على من كان مثلك - مهنته نشر الثقافة - ألا يقول كلمة واحدة تثبط همة المشتغلين بهذا العلم العظيم. .
لهذا أريد منك أن ترجع إلى الحق، وأن تعترف معي بأن (وراء الغمام) و (الملاح التائه) وما شابه ذلك عنوانات بديعة، وأنه لا يضير الكاتب الذي يستخدم مثل هذه العنوانات أن ليس في سماء القاهرة غمام كثير - مع أن في سماء الإسكندرية من الغمام ما يكفي لألف عنوان! - كذلك لا ضير على الكاتب أن يتحدث عن البراكين وجبال النار، والزلازل، وأمثال تلك الظاهرات التي لا نحسها في مصر إلا نادراً. ذلك لأننا معشر الجغرافيين نريد أن نبصر ثمار ما بذرناه من علم ونراها تؤتي أكلها في كل مكان.
هذا ما عنّ لي أن أقوله تأنيباً لك على أن حاولت أن تقطع عيشنا في هذا البلد الأمين. وأريد أن أزيد في التنكيل بك بأن أرسل إليك قصيدة كنت نظمتها في وصف (نهر في جبال الألب) فهي كما ترى لم تكتب عن نهر النيل. فإذا أردت أن تلومني في هذا، وليس هذا على جرأتك بعزيز - فاذكر أنني كتبت عن نهر النيل كتاباً كاملاً؛ قد أتعبني في النهار وأسهرني الليل أعواماً طوالاً. أما النهر في جبال الألب فما كان له مني سوى جلسة قصيرة جلستها بجانبه أراقب مجراه، وأصغي إلى خريره وزئيره. لم يسهد له طرف، ولم يدمع له جفن.(51/16)
وعندي أن الذين يبحثون عن موضوعاتهم في غير بيئتهم لا يضربون لنا مثلاً لما نسميه (الامتيازات) في الأدب؛ بل للاستعمار في الأدب. فمادام الأسلوب عربياً، والصبغة والنزعة عربيتين؛ فلن يضير الشاعر أن يفتش أرجاء العالم في سبيل البحث عن موضوعه، أو عن استعاراته أو معانيه. والذي قد يعاب على الكاتب العربي هو هذا الولع باصطلاحات غربية تبدو للعربي بادية السخف، مثل قولهم (كوبيد رماني بسهم) أو ما شاكل ذلك من الاصطلاحات التي لا طلعت ولا نزلت. وليست عبادة الغربيين مقصورة على شعرائنا بل هي كذلك شائعة في سائر الكتاب ورجال السياسة. فكل نغمة - مهما كانت سخيفة - مطربة لهم مادامت خارجه من قيثارة غربية. وكل حكم نافذ مادام صادراً من محكمة غربية. وأكبر عار على الأديب المصري أن يكون إلمامه بأدب الغرب أكبر من إلمامه بأدب الشرق.
والآن ما خطب تلك القصيدة التي أريد أن أثأر بها منك: والتي موضوعها (نهر في جبال الألب)؟ إنها ليست من جليل الشعر ولا خطيره، ولكني مادمت أرسلها إليك للتنكيل بك فلن أهتم بتنقيحها وتهذيبها. فهاكها:
يحار لبي إذ أرى ... مَسيلَ هذا الجدول
وإذ أرى انحداره ... يسبق لَْمح المُقل
لا يستقر في المس ... سير لحظةٍ بمنزل
كأنه مُندفعٌ ... بالخوف أو بالأمل
أو سائر لغاية ... بعزمة لم تُفْلل
ينقض في انسيابه ... مثل هُوِيِّ الأجدل
مِن مَدْفَع لمدفع ... وجندل لجندل
فاعجب لماء شبمٍ ... يجيش مثل المرْجل!
مصطخب مضطرب ... محتدم منفعل
وهائج في مائج ... ومدبر في مقبل
وعابس في ضاحك ... ومنجد في مسهل
وأول في آخر ... وآخر في أول(51/17)
مستعجلاً وليس يخ ... شى زلة المستعجل
وليس يُعييه المسيرُ ... في الضحى والأصُل
عليه من حبابه ... ثوب كأبهى الحلل
رذاذه مثل شرار ... ناره لم تشعل
منتثرٍ منتشرٍ ... في السهل أو في الجبل
شلاّلهُ يهوى هو ... ى شُهب ليل أليل
كعمد من فضة ... أو كملاء مًسدل
أو حائط من مرمر ... يلمع كالسجنجل
أو ذوب بلور هوى ... من حالق لأسفل
في صخب ولجب ... متصل منفصل
يكاد أن يسمع من ... بالمشترى أو زحل!
زئيره يطغى على=خريره المتصل
مثل زئير الأسد يخ ... في شدو كل بلبل
أصغي إليه صامتاً ... في هيبة ووجل
أسمع في خريره ... ذكرى العصور الأول
كأنه صوت الزمان ... من قديم الأزل
ينبئ بالماضي وقد ... يهمس بالمستقبل
سفر يخط الدهر فيه ... كل سطر منزل
من كل معنى مُذْهل ... وكل سر مُعضل
يا ليت شعري إذ أرا ... هـ في سراه المعجل
هل هو رمز للخلو - د والوجود الأزلي
أم هو رمز للفنا ... يبدو وللتحول؟
وقد أراه قدوةً ... لنا وخير مَثَل
لو أن فينا بعض ما في ... هـ الخُلقِِ العلى
من شدة وعزمه ... وقوةٍ وعمل(51/18)
إذن لكنا دولة ... بين كرامِ الدول
والآن أيها الصديق تحية وسلاماً. . . أرجو أن أكون قد نكلت بك كما أردت واشتهيت؛ وان عدتم عدنا. وإلى اللقاء
أخوك المخلص
جوان لي بان في 6 حزيران
محمد عوض(51/19)
بين العلم والأدب
هل يميت العلم الشعور؟
بقلم محمد روحي فيصل
(العلم يجفف القلب ويميت الشعور)
رأى أملاه على منذ سنوات أحد أساتذتي الأدباء ممن لا بأس بلبه وعقله، ولايتهم في فطنته وبصيرته، ثم سمعته من بعض الشباب الناهض المتأدب وقرأته لغير واحد من كبار الكتاب في مصر والشام والعراق. فإذا الرأي شائع معروف، ثابت الأصول منبسط الفروع يرد أبداً على طرف اللسان وشق القلم، وإذا الناس يخشون العلم ويخافون على قلوبهم ونفوسهم من بأسه وضرره، وإذا هوة سحيقة المنأى بعيدة المستقر تفصل العلم عن الأدب وتباعد بين أسبابهما وأدواتهما، أما أن بعض مصطلحات العلم جاف شديد الجفاف فهذا ما لا يختلف فيه اثنان، وأما أن قوام العلم المنطق والعقل فهذا حق إلى حد ما، وأما أن العلم ذاته يميت الشعور فهذا ما نحب أن نعالجه الآن في جرأة وإخلاص، ونناقشه في روية وهدوء ونحن نغتبط كل الغبطة حين تعنى الصحف والمجلات بالأدب، تعقد له الفصول الطوال وتدعو إلى تفهمه ودراسته، وتبذل لهذا كله قوتها وجهودها ونرجو ان تكون النهضة الأدبية مقدسة مباركة تحفها أشعة من نور وهالة من بهاء، فليس أدل على حياة الأمة من الفن والأدب يعرض عليك، في وضوح ودقة، ميولها وأهواءها وأفكارها وسائر ما يتردد بين قلبها وعقلها من الخواطر والانفعالات. ولكن مفهومه على النحو الصحيح ما يزال مبلبلاً مهلهلاً. ما هو افقه وغايته؟ ما هو مقياسه وحدوده؟ ما صلته بالعلم؟ ما قيمته في عالم المعرفة؟ هذه أسئلة يختلف كتابنا في الإجابة عليها تمام الاختلاف، ويذهبون فيها شتى المذاهب.
أما نزال بسطاء سذجاً تخدعنا البهرجة الكاذبة، والطلاوة العابثة، وتفتننا الألاعيب اللفظية والأناقة الكلامية؟ ألسنا على ثقافتنا وجلال نهضتنا نجهل مقاييس الأدب الصحيحة، وحدود الجودة والرداءة، ومواطن الجمال والدمامة؟ ألسنا نستحسن ما تغثي منه النفس؛ وما هو حقيق بالنبذ والإهمال، ثم نستقبح ما قد يكون في الذروة من البلاغة الجميلة الرائعة؟
ذلك ناشئ عن فساد في الذوق، وجدب في التربة، وكره للعلم وابتعاد عن دراسته وتحصيله، وعندي أن كل إنتاج في الأدب. لم يبدأ بإصلاح هذا الرأي فإنما هو محاولة(51/20)
فاشلة فائلة، ومضيعة للجهود المبذولة في غير طائل ولا نفع.
في الدنيا جمال، وفي الدنيا حقيقة، وفي الدنيا خير. أقانيم ثلاثة تتحد في السبب وتتصل في الجوهر والعرض، أو هي مثل عليا متداخلة متشابكة، ففي الجمال حقيقة، وفي الحقيقة جمال وهكذا. . . فالأدب إنما ينبغي أن يستند إلى شئ من العلوم التجريبية والنفسية والاجتماعية، ويعتمد على ما أثبته العلم في مختلف الميادين والموضوعات، والأديب والعالم إنما يجب ان يتصالحا ويتصاحبا فكلاهما ينظر إلى الطبيعة والحياة من ناحية، هذا يكشف عن حقيقتها وذاك عن جمالها، وهما بعد يتعاونان على بحثها واجتلائها.
فالعلماء مجمعون فيما بينهم على ان غاية العلم إنما ينبغي أن تكون البحث عن الحقيقة الخالدة يتحرونها في كل مظهر من مظاهر الوجود، لا لنتائجها العملية يستخدمونها في حياتهم ومعاشهم، بل حباً في الإطلاع وإشباعا للنفس. هم يطلبون العلم لذات العلم لا لآراب أخر، ويلحون في أن يكون خلواً من الأغراض والمنافع، بريئاً من كل نزعة تطبيقية. يريدون ان يكون العلم نظرياً محضاً يستهدف الحقيقة في كنهها وصفاتها ودلائلها ونسبها. يقول هنري بوانكاريه (إن معرفة الحقيقة يجب أن تكون غاية نهضتنا) ويقول شالي (كلما سما العلم وتجرد عن المقاصد والأغراض في العصر الحاضر كان للأجيال الآتية اكثر خيراً وأعظم نفعاً).
وليست المادة وحدها بالتي يتناولها العلم فيدرسها وإنما هو يبحث أيضا في حياة النفس وأحداثها، فهي في نظره موضوع للتفكير كالمادة سواء بسواء. . فالعلوم على اختلافها إنما هي دروب ما تتشعب وتنحرف إلا لتلتقي في نقطة واحدة هي (الحقيقة). أفتظن إن معرفة هذه الحقيقة التي يبذل العالم لها جهوداً جبارة هي سبيل لتجفيف قلبه، وإطفاء معنى الشعر فيه!! لا! لعمري إن العالم الذي يصل إلى حقيقة من الحقائق إنما تمتلئ نفسه في الحال بهذا السرور وهذه النشوة العلوية، فليس أدعى للذة ولا اكثر مجلبة للسعادة من عرفان الحقيقة!! أذكر عالماً من العلماء - وأظنه الكيميائي داوي قد أخذ نفسه بدراسة (البوتاسيوم) في مخبره، فلما عرف حقيقة الجسم قام حول الطاولة يرقص بهجاً طروباً!! وكان أرخميدس يوماً في الحمام يجري عمليته في سبيكة المعدن ليعرف مقدار الذهب فيها والفضة، حتى إذا لاحت له الحقيقة خرج في شوارع المدينة عارياً حافياً يصيح: وجدتها. ففي خروجه على(51/21)
هذه الحال من العرى والحفاء، وفي صراخه القوي البهيج، صورة جامعة تامة الخطوط والألوان للذهول الشديد الناشئ من اللذة الفجائية الطافرة التي بعثت في قلبه المشاعر والعواطف، وأسالت منه أقصى حدود الفرح والبشر، وطبعت على شفتيه المنفرجتين بسمة حلوة مشرقة!!
ولعل الحقيقة النفسية اكثر الحقائق مدعاة للسرور، فهي التي تهمنا قبل كل شيء لأنها تتصل بنا وتؤلف الجانب الأكبر من حياتنا، فالكشف عنها إنما هو اجتلاء أفق فسيح عجيب، ملؤه الجمال والجلال.
إن العلوم التجريبية تسمو دوماً من الحوادث والواقع إلى القانون. هي تعلو وتعلو في جو التجريد حتى تحصر مظاهر الكون في هذا الرمز الصغير المدعو (قانون). فالقانون علاقة بسيطة تريك هذا النظام الدقيق الذي تتقيد به الطبيعة، وتخضع له من غير شذوذ ولا مصادفة. فنحن حين نقرر سقوط الأجسام كلها نحو مركز الأرض نوضح هذا التجاذب القوي العام الذي يحصل بين الكتلات، نوضح ناحية من نواحي الوجود لها قيمتها ولها أثرها. وهذا التجاذب هو في الحق حلقه من سلسلة النظام الطبيعي. فالقانون هو، على حد تعبير هنري بوانكاريه، أحدث وسيله لجأ إليها العقل البشري للتعبير عن هذا النظام الطبيعي. أفلا يروقك أن تلحظ أن في هذا العالم الذي تعيش بين جوانبه، والذي أنت عنصر كريم من عناصره العديدة - اتساقاً وانسجاماً بديعينً؟!
لقد كان الناس في العصور الخوالي يتطلبون من آلهتهم معجزات خوارق يثبتون بها وجودهم وقدرتهم، وإنما الأعجوبة الرائعة حقاً ألا يكون هناك أية معجزة خارقة، وأن يكون كل شيء في الطبيعة يسير على خط منتظم في حركة منتظمة، لا اعوجاج في الخط ولا تزايد في الحركة!! فنظام الطبيعة الذي يكشف عن العلم شيئاً فشيئاً هو مصدر كل جمال وكل شعر، يبعث في القلب أسمى الشعور وأدق النزوات. . .
لعل الذي يقول بتجفيف العلم للقلب إنما ينظر إلى هذه المجازر البشرية، وإلى تلك الشرور والآثام التي كان العلم فيها عاملاً قوياً لهتك الفضيلة وسفك الدماء. . هذا صحيح، ولكن العلم في ذاته لا يبغي إلا هدفاً شريفاً منزهاً عن كل النزعات البشعة، فهو يصلح للخير ويصلح للشر، ويستخدم لرفع مستوى الإنسانية ويستخدم لتدنيسها، فليس الذنب ذنبه وإنما(51/22)
هو ذنب من حمله! فأنت تستطيع أن تنقم عليهم، وتستطيع أن تكيل لهم أشنع النعوت والصفات ولكنك، مضطر إلى أن تقف في محراب العلم خاشعاً متصدعاً، تتلو آي الحمد والإجلال، وترتل أناشيد الحب والإعجاب!!
أو لعل الذي يقول بتجفيف العلم للقلب إنما يزن الحقائق التي اجتلاها الإنسان خلال هذه العصور الطويلة، فوجدها ضئيلة هزيلة لا تعدل ما بذل في سبيلها من جهود. . وهذا صحيح أيضاً، فالحقيقة لا تطفو على ظاهر الأشياء ولا تستبين بارزة عارية وإنما هي خيال ما يكاد يتراءى للعين والبصيرة حتى يختفى، ولقد يضطر العالم إلى اللحاق به فيعدو ويعدو ثم يعود في الأعم من الأحوال خاسراً خائباً. فتحري الحقيقة عمل شاق مضن، ولذا اشترط على العالم الصبر والأناة والجلد. على أن ما علمناه يزيد في ثراء خزانة المعارف، ويهيب إلى القول أن الإنسان الحاضر أرقى من الإنسان الأول، واكثر منه كمالاً. أقول كمالاً ولا أقول سعادة، لأن السعادة غير منوطة بالعلم أو ناتجة عنه، ولعلها بالجهل أجدر واليق، ولعل العلم يبعث القلق والاضطراب، ويثير أحلام النفس لغافية ووساوسها الكامنة.
اكتشاف الحقيقة لا يتم إلا بالخيال والعاطفة، وهما أهم مقومات الشعر والأدب، يتخذهما العلم في البداءة جناحاً يطير به، ووسيلة يلجأ إليها، فهما أداتان لا غنىله عنهما، أفيستطيع العالم تبيان مجاهل الكون إلا بالتخيل والتصور، يرسم حدودها وأشكالها على صحيفة مخيلته قبل أن يعرفها بالواقع والمحسوس؟ أفلم تكن العاطفة والرغبة حافزاً للمعرفة وداعياً إلى الإحاطة بها؟. . ومع أن العلماء حددوا مدى الخيال، وألزموا الحس بالبرهان فلقد راضوهما كثيراً واستنهضوهماً كثيراً.
فالمعهود أن ملكة التخيل والفرض قوية نامية عند العلماء والمفكرين، والمعهود أن كبار الأدباء كانوا علماء أو مثقفين ثقافة علمية متينة واسعة. فهذا جيتي الأديب العبقري كان عالماً من علماء القرن الثامن عشر، له في النبات نظرية (التحور) وله في طبقات الأرض والأحجار الكريمة آراء محترمة، يعتقد ببساطة النور ويقول إن جمجمة الرأس إنما هي حلقة من حلقات العمود الفقري تطورت ونمت فصارت إلى ما هي عليه الآن من التجسم والضخامة. أما بساطة النور فلا يؤمن بها أحد من العلماء اليوم، وأما نظرية الجمجمة فلا تتلاءم مع علم الرشيم الحديث فعدل عنها، وان شئت فقل أنها تحورت إلى نظرية أخرى.(51/23)
كان جيتي أديباً كبيراً وكان عالماً حقاً، لم يمنعه علمه من الإنتاج في الفن والأدب، ولم يمنعه علمه من الاسترسال وراء الخيال الصادق الصحيح، وهل الخيال الصادق الصحيح إلا ظل الحقيقة وصورة الواقع؟؟
إنما يكشف العلم عن مصادر خصبة للجمال يجدر بالأديب أن يتأملها ويستوحيها، يهيج الخيال وينشط العاطفة ثم يسبغ عليها من روعة الحقيقة ما يلهبها ويؤججها.
حمص
محمد روحي فيصل(51/24)
في الأفق الدولي
جبهة أوربية جديدة
كان اعتراف دول الاتفاق الصغير بروسيا السوفيتية واجتماع السينور موسوليني والهر هتلر أهم الأحداث الدولية التي وقعت في الأسبوعين الأخيرين. وتوجد بين الحادثين صله وثيقة، وكلاهما يرجع إلى نفس البواعث والظروف التي تدفع أوربا اليوم إلى منحدر شديد الحلك. وقد بينا في مقال سابق في الرسالة أن التأريخ يعيد نفسه، وأن أوربا القديمة تعود فتبدو للعالم كما كانت قبل الحرب مسرحاً للتنافس الحربي وعقد المحالفات السرية، وتنظيم الجباه الخصيمة. وقد بدأت فرنسا مذ رأت تصميم ألمانيا على تسليح نفسها بتنظيم جبهه سياسية عسكرية تستطيع ان تعتمد عليها في مقاومة ألمانيا إذا ما نشبت بينهما الحرب؛ ولما كانت العلائق قد فترت بين ألمانيا وروسيا على أثر قيام الطغيان الهتلري في ألمانيا وسحقه للحركة الديمقراطية ومجاهرته بخصومة روسيا السوفيتية، فقد رأت فرنسا أن تعود فتتقرب من روسيا وأن تحاول إحياء التحالف الذي كان معقوداً بينهما قبل الحرب ضد ألمانيا. فبعثت مسيو هريو رئيس الوزارة الأسبق إلى روسيا ليمهد السبيل لهذا التحالف، ورأت روسيا من جانبها أنها في حاجة لتوطيد مركزها بين الدول الغربية، وتأمين سلامة حدودها الأوربية لكي تستطيع التفرغ نوعاً لمقاومة الخطر الياباني في الشرق الأقصى، فرحبت بهذه الخطوة؛ واستمرت فرنسا في سعيها لتنظيم هذه الجبهة الشرقية ضد ألمانيا، حتى استطاعت أن تحمل دولتين من دول الاتفاق الصغير هما رومانيا وتشيكوسلوفاكيا على الاعتراف بروسيا السوفيتية تمهيداً لعقد التحالف بينهما وبين روسيا. وقد جاء اعتراف الدولتين بروسيا على أثر الزيارة التي قام بها مسيو بارتو وزير الخارجية الفرنسية لكل منهما. ونفوذ فرنسا في رومانيا وتشيكوسلوفاكيا معروف، وهو الذي يوجه سياستهما الخارجية منذ نهاية الحرب الكبرى. ونستطيع أن نقارن بين رحلة مسيو بارتو التي أسفرت عن التمهيد لهذا التحالف برحلة مسيو بوانكاريه التي قام بها قُبيل الحرب الكبرى في روسيا وما انتهت إليه من توثيق التحالف بين روسيَا وفرنسا.
اجتماع هتلر وموسوليني
وقد كان لهذه الحركة التي قامت بها فرنسا في تنظيم الجبهة الجديدة وقع عظيم في ألمانيا(51/25)
لأنها هي المقصودة بها قبل كل شيء. وقد شعرت ألمانيا الآن بخطر العزلة السياسية والاقتصادية التي انتهت إليها، وكان للسياسة الهتلرية وما أبدته من العنف وقصر النظر أكبر أثر فيها. ففي عام ونصف عام فقط، منذ قيام الطغيان الهتلري في ألمانيا، فقدت ألمانيا كثيراً من عطف الرأي العالمي، وفقدت صداقة روسيا السوفيتية وما كانت تتمتع به فيها من مركز اقتصادي ممتاز، وأثار عنف السياسة الهتلرية عليها كثيراً من الأحقاد في النمسا وتشيكوسلوفاكيا، ودفعها بسرعة إلى طريق الخراب الاقتصادي. وقد شعر الهتلريون بخطورة المأزق الذي دفعوا إليه ألمانيا، ولم يجدوا قبلة يتجهون إليها اليوم في أوربا غير إيطاليا. والسياسة الإيطالية تشعر بعطف خاص نحو ألمانيا الهتلرية أولا لما بين الطغيان الفاشستي والطغيان الإيطالي من وجوه الشبه في الوسائل والغايات، وثانياً لاتفاق الرأي بينهما في بعض المسائل الخارجية مثل وجوب تنقيح معاهدة الصلح، وميثاق عصبة الأمم، وتسوية مسألة نزع السلاح على قاعدة المساواة بين الدول العظمى. هذا وإيطاليا تشعر نحو السياسة الفرنسية في القارة بغيرة شديدة وتتوجس من عواقبها ولاسيما في أوربا الوسطى، وتحقد على فرنسا لأنها تحول دون توسعها الاستعماري في أفريقية؛ والخلاصة أن هنالك أسبابا وبواعث كثيرة تجمع بين ألمانيا وإيطاليا في الظروف الحالية؛ وتقرب بينهما في الرأي والغايات.
تلك هي العوامل التي حملت هتلر زعيم الوطنية الاشتراكية الألمانية، وموسوليني زعيم الفاشستية على اللقاء بسرعة للبحث والتفاهم. وقد تم اللقاء بين الزعيمين في مدينة البندقية (فنيزيا) وأستمر يومي 14و15يونيه. ولم تذع تفاصيل شافية عما دار عليه البحث أو تقرر؛ ولكن المفهوم أنه تناول كل الوسائل الخطيرة التي تهم البلدين، وفي مقدمتها مسألة التوازن الأوربي، ومقاومة السياسة الفرنسية في تنظيم الجبهة الخصيمة، ومسالة نزع السلاح وعصبة الأمم، ومسألة استقلال النمسا وضمان السلم في أوربا الوسطى. وقد أفاضت الصحف الألمانية في أهمية هذا الاجتماع وخطورة أثره في مستقبل السياسة الأوربية؛ وكانت الصحف الإيطالية أكثر تحفظاً. ولا ريب في أهمية الاجتماع وخطورته؛ ولكنه من جهة أخرى دليل على خطورة المأزق الذي صارت إليه ألمانيا في ظل الوطنية الاشتراكية، وعلى جزعها من عواقب العزلة السياسية التي انتهت إليها، وشعورها بالحاجة(51/26)
إلى التعاون الخارجي.
(ع)(51/27)
صور من الحياة البائدة
للآنسة أسماء فهمي درجة الشرف في الآداب
على ضفاف (بحر يوسف) حيث قام في العصور السحيقة قصر (التيه) أو (اللابرنته) وفي وسط الحقول النظرة ظهر في جلال على ربوة تناثرت فوقها نباتات برية مزدهرة يقوم قصر آل عباد الفخيم. ولم يشأ القصر أن ينسجم مع ما يحيط به من بساطة فأغرق في الزخرف والزينة وأبى إلا أن يجمع بين إسراف الفن القوطي من تماثيل رمزية وأبراج، وروعة الفن العربي من نقوش وعمد، فبدا وكأنه الحسناء التي طمعت أن تزداد حسناً فأسرفت في الزينة والتبرج، فهوى جمالها النظر في خضم من الأصباغ والمساحيق الجامدة. . . ولكن سكان القصر واغلب زائريه كانوا يقفون مبهوتين أمام فخامته، لأن البذخ والإسراف كانا لديهم مقياس الفن والجمال.
ولم يكن داخل القصر بطبيعة الحال اقل زخرفا أو إغراقاً في التجمل من خارجه. وكان المبدأ الذي أتبع في تأثيث القصر المنيف هو اقتناء أثمن الأشياء من بلاد الشرق وممالك الغرب وتكديسها في الغرف دون مراعاة لما بين أنواعها من تفاهم أو تنافر، والواقع أن أثاث المنزل كان دوليا بكل ما في الكلمة من معنى التباين والتنافر! وسكان الدار؟ كانت أيضاً خصالهم وعاداتهم خليطاً من صفات الشعوب في عصور التاريخ المختلفة، فلقد جمعوا بين ديمقراطية العرب وسخائهم وتعصب أهل القرون الوسطى في الدين واحتقارهم للمرأة، وبين زخرف القرن الثامن عشر وانغماسه في التزين , وأضافواإلى كل ذلك تفانى أهل القرن العشرين في عبادة المادة. .
وكان رب هذه الدار عميد آل عباد الشهيرة في الفيوم شيخاً مسناً معروفاً بالتقى والكرم في عناد وصلابة. ولكن على الرغم من تقواه كان لا يتورع من أن يزيد في ثروته الطائلة بأي وسيلة تصادفه، وكان إذا اصبح الصباح بادر بالجلوس على حصير متواضع في أحد أجرانه الفسيحة، وسرعان ما يجتمع حوله فلاحوه واتباعه يبسطون أمامه خصوماتهم ومشاكلهم فيقضي بينهم في وقار وحزم كما كان يفعل النبيل في عهد الإقطاع. . حتى إذا ما حان وقت الغداء، أمر بإعداد الموائد للاتباع والفقراء، ويأبى السيد إلا أن يأكل معهم برغم احتجاج أبنائه الذين أخذوا بقسط من مظاهر المدنية الحديثة، ودرسوا علم الجراثيم(51/28)
الاجتماعية ووقفوا على أن الفقراء والمعوزين من أفتك أنواعها! ولكن الشيخ كان يرد على مثل هذا الاحتجاج باسماً قائلاً: إن الفقراءأحباب الله. . وإذا ما نادى مناد للصلاة هرول الشيخ إلى مسجد القرية تتبعه جموع الرجال. وقد أدى ورع السيد إلى تورع الأتباع حتى أكثر الأشقياء جبروتاً وعتواً. .
أما زوجة السيد فلم تكن على شيء من نشاطه وبساطته؛ قضت حياتها كلها قعيدة دارها لم تخرج منه إلا يوم وفاة أمها من أكثر من عشرين عاما. وكانت على جانب عظيم من البدانة لا ترتدي من الأثواب غير الحرائر النادرة التي يطول ذيلها أمتاراً وراءها. . وتحمل حول عنقها وأناملها ومعصميها وفي أذنيها أرطالا من اللؤلؤ والماس والذهب، فضلا عما أكثرت من الأصباغ المختلفة الألوان في الرأس والوجه واليدينوالقدمين فغاصت شخصيتها في ضخم من المساحيق والحرائر والجواهر. . وبدت في مجلسها كصنم هائل تكدست فوقه قرابين الحلي والجواهر وضعت حيثما اتفق لإرضاء عاطفة الورع.!
وقد كانت بطبيعة الحال لفرط بدانتها وثقل أحجارها الكريمة بطيئة الحركة تشتد ضربات قلبها لأقل مجهود، وقد ترتمي على مقعدها إعياء لمجرد محاولتها النهوض، فيأتي رهط من الخدم للأخذ بيدها وإنهاضها كما لو كانت عجوزاً شمطاء قد قطعت شوطاً بعيداً في طريق العدم.
وعلى مقربه من الأم كانت تجلس أبنّتها (سمر) وهي غادة هيفاء لولا ضعفها البادي وشحوبها لما بخل عليها حتى أقسى حسادها بوصف الحسن الرائع، ولكنها كانت كالزهرة التي أقصيت عن الضوء والهواء فذبلت وتهدلت أوراقها. ولم تحاول الفتاة أن تخفي الشحوب بالأصباغ (وإن قد اجتهدت في إخفاء النحول بكثرة الكرانيش والذيول) لأن ذلك العهد لم يبح للمرأة أن تتجمل إلا إذا كانت ذات بعل. . أما المذهب الذي يدعو إلى الاهتمام بالفن للفن، فلم يكن مألوفاً عند بنات ذلك العصر، وإنما من مستحدثات هذا القرن!
كرت الأعوام على هذه الأسرة والحياة تسير على وتيرة واحدة لا تنوع فيها إلا تغيير أنواع الطعام الكثيرة، وتبديل الملابس والجواهر التي اكتظت بها الصناديق والخزائن - ولكن لم تلبث الأيام التي تلد العجائب أن تمخضت عن حادث هام أدخل في حياة الأسرة الراكدة انتعاشاً وجدة. . وحول تفكيرها إلى مجرى غير مجرى الطعام والشراب والملبس. . فلقد(51/29)
خطب الشاب مراد ابنة عمه (سمر) إلى أبيها، وقبل الشيخ عباد راضياً مسروراً، لأن مرادا كان يمتاز بأسمى صفات الرجولة من نبل وشجاعة وقوة فوق جاهه العريض وجماله. وقد فرحت الفتاة سمر عند وقوفها على هذا النبأ، لأن مراداً كان رفيقها في عهد الطفولة، وهي وان كانت لم تره منذ زمن بعيد كانت تسمع الكثير عن خصاله وجماله.
وكانت الأم منذ إعلان الخطبة لا تطيق ابتعاد ابنتها عن مجلسها، وفي ذات يوم فاضت عاطفة الأم عند ما تذكرت انه لم يبق على زفاف ابنتها سوى أيام قلائل، فجّرت نفسها نحوها بمجهود غير يسير، ووضعت ذراعها الغليظة حول جسم الفتاة النحيل، وقالت وهي تلهث من التعب: - أواه يا ابنتي! عما قليل ستزفين إلى ابن عمك مراد، لا يحزنني أمر فوق ما يحزنني منك هذا النحول. . أتوسل إليك يا سمر أن تأكلي وتشربي كل ما آتيك به. . وليس هناك من دواء للنحول كشرب كوبه من السمن الخالص أو المحلى بالعسل كل صباح وكل مساء. . انظري إلى أمك! إنها لم تستمتع بهذا الهيكل العظيم من اللحم الذي يحسدها عليه جميع نساء آل عباد إلا بفضل هذا الدواء الناجع الذي أشير به عليك الآن. .
فقالت الفتاة وقد توردت وجنتاها حياء لذكر موضوع الزفاف، آسف لإيلامك يا أماه. . سأحاول مرة أخرى تعاطي هذا الدواء، ولكني أوثر البقاء بجانبك طول الحياة. . . إني لأرتعد فرقا عندما أفكر أني سأغادر هذه الدار المحبوبة قريبًا لأذهب إلى دار غريبة لا أعلم من أمرها أو من أمر ساكنيها إلا ما أسمعه من أفواه الرواة. . أني لم أر عمي (قاسما) إلا مرات معدودة، كنت فيها لا أجسر على مخاطبته أو النظر في وجهه استحياء. . أهوَ طيب القلب يا أماه؟ وزوجه؟ أحقاً ما نسمعه من أنها شديدة الورع؟. .
أجابت الأم وهي تحاول إخفاء تأثرها: عمك يا ابنتي كأبيك نبيل كريم. أما زوج عمك فهي شديدة التقى كثيرة التعبد، ولكن ذلك قد لا يمنعها من أن تتصف برذائل الحماة. . وما أدراك يا سمر ما الحماة. . إنها نار الله الموقدة، أو أحد شياطين الجحيم المردة. . أني يا ابنتي لم أتذوق طعم الحياة الرغيدة إلا بعد أن ماتت حماتي!
ارتعدت فرائص الفتاة عند سماع هذا القول وأبرقت عيناها ببريق الكره والخوف معاً، وقالت والعبرات تكاد تحبس صوتها: - وماذا أنا فاعله يا أماه؟. .
اخضعي لحكم القدر، واستعيني برب الفلق على شر ما خلق!. .(51/30)
انهمرت عبرات الفتاة على الرغم من أيمانها الشديد. ودخل أبوها مهرولاً في تلك اللحظة فانقطع مجرى الحديث، لان الفتاة أسرعت بالاختفاء إذ أصبحت لا تجرؤ على مواجهة أبيها منذ خطبتها مدفوعة بعامل الحياء الشديد. . . ولم يحاول الأب استبقاء فتاته وان كان الموضوع الذي أتى ليعالجه مع امرأته يعني الفتاة دون سواها، لأنه أتى طبعاً ليتكلم في موضوع العرس، هذا الأمر الذي كان محور حديث الأسر، ماعدا الفتاة قضت عليها التقاليد بكتمان آرائها ورغائبها وعدم الخوض في موضوع الزواج. .
قال الأب بعد فترة سكون لم تحاول ألأم بدء الحديث في أثنائهابرغم تشوقها للوقوف على احدث تفاصيل موضوع العرس، لأنها كانت تهاب الزوج وتخشاه.
سيتم كل شي بعد أيام بأذن الله على رغم تجدد الخلاف بيني وبينهم أخي قاسم من جراء اقتسام تركه أمنا المتوفاة. انه يصر على أن يأخذ منها ما وقع عليه اختياره، وينتهز فرصة العرس ليحملني على التساهل. . كلا. . ومن بيده الملك، ولو آل الأمر إلى دك أعلام الزينة وإطفاء أنوار الأفراح. .
قالت ألام بصوت خافت لا يخلو من رعشة الوجل: - ولكنا لا نجد عريساً لأبنتنا خيرا من مراد، فلا تحجم عن التضحية من اجله.
فأجاب الأب وهو يرتجف من شدة الغضب: انك شديدة الغباوة يا (مُنى). . أني قادر على مصاهرة من يدفع لي من المهر أضعاف اضعاف ما دفع أخي لابنتي - لقد كانت على عيني غشاوة عندما قبلت هذا المهر من اللئيم أخي. .
أخذت الأم تحس بالجبن والخوف أمام غضبه، فقالت باستسلام انك على حق دائماً يا سيدي. .
نهض الشيخ بخفة الشباب وأسرع للإشراف على معدات العرس، إذ كان قد وطد العزم على إتمامه في اليوم التالي منتظراً من ورائه إتمام صفقة رابحة، وهذا نفس ما كان يرجوه أخوه. .
نصب السرادق وسطعت الأنوار، وصدحت الموسيقى، وأطلقت البنادق وزغردت النساء، وظهر قصر آل عباد في حلة قشيبة من الزينة والبهاء في ليلة الزفاف. أسرع وجهاء القوم بالحضور إلى الفيوم من الدلتا والصعيد، ليروا ابرع نموذج في البذخ والإسراف، إذ كان(51/31)
لآل عباد من الشهرة ومن الثروة ما كان لخمارويه وكافور الأخشيد. . واكتظت حجرة العروس بكرائم العقائل وكرائم الجواهر، وتعالت أصوات المغنيات البدينات بالغناء، وأخذن في الرقص والانثناء أمام العروس كالحيات. .
ولكن العروس كانت عن كل ذلك في شغل، فقد غلب عليها الخوف فتركت العنان لعبراتها، ولم يستغرب منها أحد هذا الأمر، لان بكاء العروس في ليلة الزفاف كان من الأشياء المألوفة المرغوبة، إذ كان يعد رمز الحياء ودليل الوفاء والطهر. . . ومن جفت دموعها في تلك الليلة فقد حكم عليه بالجرأة وغلظة القلب. .
ولم تلبث الحياة أن استعادت مجراها الطبيعي الهادئ وانقشعت سحب الرهبة والخوف التي طالما تجمعت في سماء حياة الفتاة قبل الزواج، إذ وجدت في قرينها من العطف والود ما أنساها شكوكها وملأها سعادة وحباً وإخلاصًا له. وفي ظل زوجها ورعايته نسيت أقوال أمها عن الحماة الشريرة، بل إنها وجدت في حماتها قديسة طاهرة لا تحمل في نفسها إلا التسامح والعطف. .
وهكذا نعمت الفتاة بعيشها، وساعدتها وداعتها ورقتها وطيب عنصرها على إدخال السرور من حولها. .
ومضت اشهر قلائل والفتاة لا تفكر في مرور الوقت ولا تكترث لمعرفة الايام، اذ لم تكن ترقب حدوث تغييًر أو وقوع جديد، لأنها كانت راضية عن حياتها كل الرضا، لا تعرف ولا تطمع في خير منها. . ولكن هل يغر بطيب العيش إنسان؟
خرج مراد كعادته مبكراً مشرق الجبين للإشراف على شؤون مزارعه، وجلست الفتاة في ردهة فسيحة أنيقة تخيط بعض الثياب لأطفال الفقراء، إذ كان لا يسعدها اكثر من رؤية ابتهاج الأطفال عند ارتدائهم الثوب الجديد، وإذا بها تسمع جلبة أصوات في فناء الدار، فأرهفت السمع، وسرعان ما تبينت صوت أبيها يتهدج بالغضب وعمها يجيبه بحدة، ثم انقلبت المحاولة إلى شجار عنيف وتقاذف بالتهم والعبارات الجارحة، فاضطرب فؤادها ونزلت مسرعة تبحث عن من يأتي بزوجها، إذ توقعت حدوث أمر رهيب، وشعرت بحاجتها لحمايته. ولكنها لم تكد تخطو خطوات حتى سمعت أباها يناديها بصوته الهائل الأجش فوقفت مذعورة لا تبدي حراكا. .(51/32)
وسرعان ما وقعت على مسامعها كلمات كانت كالحكم عليها بالموت (هيا معي يا سمر. . ليس لك بقاء بعد اليوم في هذا البيت. . الترمل خير لك من العيش في هذا الجو الموبوء بالخداع واللؤم. . عمك يأبى إلا الاستيلاء على أطيب جزء من ميراث جدتك. . لقد أنذرته بفسخ زواجك من قبل إن هو أصر. .)
ولكن يا أبت. . ألا ننتظر عودة مراد؟. أليس له في الأمر شيء. .؟
له في الأمر شيء؟! ما هذا الجرأة يا بنية؟ أتجرئين على مجادلة أبيك ابتغاء مرضاة زوجك؟ - لا تزيدي حرفاً. انطلقي أمامي إلى دار أبيك.
أصابت الفتاة رعشة واعتراها دوار، فسارت أمامه متثاقلة وضاق أبوها ذرعاً بهذا البطء، فجذبها مسرعاً إلى حيث كانت بانتظاره المركبة. .
انطلقت الخيل تنهب الأرض نهباً، ولزمت الفتاة الصمت، بينما كان أبوها يصب جام غضبه على الحوذي ويتهمه بالبلادة والبطء ويتوعد باستعمال السوط!
تزاحمت الأفكار السوداء في رأس الفتاة الصامتة فداخلها الندم، لأنها تذوقت طعم السعادة، وودت لو أنها كانت تعسة في حياتها الزوجية، حتى كانت تفرح بالفرار منها والعودة إلى دار أبيها. . وأحزنها أنها لم تجد في حماتها شيطاناً مريداً، وأن زوجها لم يكن جبارا عتياً. .
وأخيراً عندما لاحت أبراج القصر خاطب الوالد فتاته بعطف إذ كانت قد بردت ثورة الغضب:
ألا تبتهجين بمرأى أمك يا سمر؟
ولما لم تنجح الفتاة في تكلف الانشراح خاطبها قائلا:
لا أشك في أن عمك قاسما وزوجك مراداً سيحضران إلينا خاضعين ذليلين عندما يشعران بفقدك، ولا أخالهما إلا قادمين قبل انطواء أسبوع واحد. .
ولكن مرت أسابيع واشهر، واكتملت دورة الأرض حول الشمس ومراد وأبوه لم يقدما، على أن الفتى كان يرغم إرغامًا على الخضوع لأبيه، إذ كان كالفتاة عبداً للتقاليد الجائرة.
وكانت الفتاة تتظاهر بالشجاعةوالابتهاج عندما شعرت بحزن أمها من اجلها. ولكن مجهود التكلف المضني والآلام المبرحة التي كانت تأكل قلبها سرعان ما أنهكت قواها وأفسحت(51/33)
الطريق للمرض العضال الذي لا يعرف الرفق بالشباب ولا الجمال، ولما اشتد بها أشفق عليها ملاك الموت فأسرع لنجدتها وبسط على تلك النفس الطيعة الوفية جناح الرحمة الأبدية. .
أسماء فهمي(51/34)
العلم يبحث عن الله
ترجمنا هذا المقال لكاتبإنكليزي بالعنوان المتقدم، وعنينا كل عناية بالمحافظة على معانيه وبإفراغها في قالب عربي أقرب ما يستطاع من القوالب الأصلية، ولزمنا هذه القوالب أحياناً إذ لم نجدها مختلفة عن العربية، لأننا كثيراً ما نرى الترجمة تخالف الأصل في المعاني وفي الألفاظ. وليس لذلك من سبب سوى مبالغة المترجم في تقريبها من العربية فتكون النتيجة شرودها عنهما جميعاً
جلست ذات ليلة شديدة البرد بجانب الأب رولند العالم اليسوعي عند قاعدة التلسكوب الكبير في مرصد ستونيهرست في آكام لنكشير.
ولم يكن هناك نور سوى وهج سيجارتينا وبعض النجوم المتلألئة التي كنا نرعاها من الشق المعقوف في قبة المرصد.
ولم يسمع حس سوى دوي الجهاز المعد لإدارة التلسكوب وجعل حركته مطابقة لدوران الأرض.
وكنت قد رأيت جبال القمر ومجموعة الكواكب الذرية المعروفة باسم الثريا. فجعلت الآن أمتع بصري بذلك السدام الغريب في برج الجوزاء، وأنا بين عاملين من الخوف والدهش مما لا تجلبه المناظر الأرضية.
فالتفت إلى صاحبي وقلت: (تعلم عن هذا الفلك المدار ما لا يعلم معظم الناس، لأنك قضيت ردحاً من عمرك في رصد النجوم فأصبحت لذلك أكثر إدراكاً منهم لصغر شأن الإنسان بالنسبة إلى سائر الكون. فان الأرض ليست سوى ذرة من الغبار وهي عائمة في الفضاء الخصم غير المحدود، والنوع الإنساني كله صغير القدر بالنسبة إلى قدر الأرض. فلست أفهم كيف تؤمن أنت من بين سائر الناس بالله واهتمامه بأناس مثلنا).
ولما فرغت من سؤالي هذا بقي القسيس العالم صامتاً هنيهة ثم قال:
(أفهم حقارة شأن الأرض لا حقارة النوع الإنساني ولا حقارة أرواح الناس).
فلم أحِرْ جواباًحينئذ، ولاجواب عندي الآن، لأني أدرك اكثر مما أدركت قبلاً أنه إذا كان العالم متديناً كان احسن ديناً لأنه عالم. وهو يرى حيثما كان أن البرهان يدعم إيمانه لا لأنه يحتاج إلى البرهان، ولكنه يسرّ إذ يجده هناك
طالعت منذ عهد قريب كتاباً اسمه (القصد الأعظم) وفيه فصول كتب كلا منها عالم(51/35)
معروف، أبان في الفصل هذا كتبه إن يد الله وعقل الله وراء كل نظام ورقي في الطبيعة. وقد جاء في مقدمته (إن غرض الكتاب أن يبين أن العلم ليس بهادم للدين ولا بحال محله، بل انه يكشف له الحجاب عن عالم للغيب أوسع من عالم الشهادة هذا واجل شأناً فيضع بذلك أساساً اثبت للإيمان)
إن الكون بالرغم من عظم اتساعه وتعقد تركيبه وتعدد محتوياته إلى ما لا حد له هو جسم كلي عضوي متسق التركيب، ومصنوع من عناصر واحدة جوهرية، وخاضع لنواميس واحدة.
ومن أدلة النظام والعقل في الكون إن عقل الإنسان استطاع أن يستخرج هذه القواعد العظيمة العامة ويتوسل بها إلى بلوغ قوة الأنباء بالمستقبل. فهذا الكون كون مصحوب بالفكر واكثر من الفكر - كون يمثل روح واجب الوجود وغير محدود.
كتب البروفسور كروذر من جامعة رد نج فصلاً عن الإشعاع فعرفه بأنه (المادة الأساسية التي صنع الكون منها) فالنور والحرارة وأمواج اللاسلكية وأشعة اكس - هذه كلها صور للإشعاع واقعة تحت حسنا. والمادة نفسها مصنوعة من إشعاع مقيد بقيود كهربائية. قال:
(في زمان بعيد جداً اهتز ذلك الخلاء الفارغ فظهر فيه البروتون والإلكترون فتكون من بعضها تلك النظم الثابتة المعروفة باسم الجواهر الفردة التي صنعت المادة منها. وانحل البعض الآخر على مر الزمان إلى إشعاع صرف. وقد قطع العلم منذ ابتدائه أجوازاً كثيرة وكشف بقاعاً كثيرة كانت مجهولة، ودار دورته حتى جابه العلم الحديث سر عمل الخلق فلا يجد لوصفه كلاماً اكثر مطابقة له من قول الشاعر العبري (وقال الله ليكن نور فكان نور) (يريد بالشاعر العبري موسى الكليم)
وخذ البروتوبلازم - أي المادة التي تكونت الحياة منها. فقد عرف تركيبها الكيميائي، ولكننا لم نستطع تركيب الحياة: فالأميبا أدنى أنواع الحيوان وابسطها تركيباً مؤلفة من بروتوبلازم صرف، وهي قطرة صغيرة من المادة الجلاتينية تعيش في الماء. وقد حاول كثيرون أن يصنعوا الأميبا من المواد الكيمائية التي يتألف البروتوبلازم منها فعجزوا عن ذلك. فالمواد مضبوطة والنسبة بينها صحيحة والأحوال المحيطة بها ملائمة تمام الملاءمة، ولكن الشرارة الحيوية لاوجود لها، إذ الله وحده هو الذي يصنع الحياة.(51/36)
قال البروفسور آرثر طمسن: (لامناص لنا من التسليم بالأولية التي وضعها أرسطو طاليس وهي انه في كل سلسة من الأعمال المتصلة لا يمكن أن يظهر في آخرها شيء لم يكن نوعه موجوداً في أولها. ولذلك فان عقلنا وقصة تحرره يقوداننا راجعين بنا شيئاً فشياً إلى العقل الأعظم الذي بغيره لم يكن شيء مما كان)
وبعبارة أخرى انه كيفما فحص العالم تركيب الكون ونواميس الطبيعة ونشوء الحياة حتى عقل الإنسان لم ير مفرا من التسليم بأن وراء القصد الأعظم يد الله.
ق. س(51/37)
5 - أعيان القرن الرابع عشر
للعلامة المغفور له احمد باشا تيمور
الشيخ محمد العباسي المهدي الحنفي
هو ابن الشيخ محمد امين، ابن الشيخ محمد المهدي الكبير الشافعي، كان جده المذكور من الأقباط، فأسلم على يد الشيخ العلامة محمد الحفني، وقرأ عليه وعلى أخيه الشيخ يوسف الحفني وغيرهما حتى صار من كبار العلماء، وترشح لرياسة الأزهر بعد الشيخ الشرقاوي ولكنها لم تتم له، وتولاها الشنواني، وقد أطال الجبرتي في ترجمته. ثم نشأ ولده الشيخ محمد أمين عالماً حنيفاً وتولى الفتوى بمصر زمناً، وتوفي سنة 1247.
وولد المترجم بإسكندرية سنة 1243 فقرأ بها بعض القرآن، ثم حضر إلى القاهرة سنة 1255 فأتم حفظه، واشتغل بالعلم سنة 1256 فقرأ على الشيخ إبراهيم السقاء الشافعي، والشيخ خليل الرشيدي الحنفي، والشيخ البلتاني وغيرهم، ثم صدر أمر إبراهيم باشا بن محمد علي بتوليته إفتاء الديار المصرية في منتصف شهر ذي القعدة سنة 1264 وهو في نحو الحادية والعشرين من سنيه، ولم يتأهل بعد لمثل هذا المنصب الكبير، ويقال انه السبب في ذلك عارف بك الذي تولى القضاء بمصر، وكانت له الصلة بأبي المترجم. فلما ذهب إبراهيم باشا إلى القسطنطينية ليتسلم من السلطان مرسوم ولايته على مصر قابله عارف بك، وكان إذ ذاك شيخاً للإسلام وأوصاه خيراً بذرية الشيخ المهدي، وان يولي منهم من يصلح لمنصب أبيه، فكان همه السؤال عنهم عودته لمصر، وطلب المترجم لحضرته فصادفوه في درس الشيخ السقاء يحضر مقدمة مختصر السعد، فركب إليه وهو بين الخوف والرجاء، ولما قابلة أثنى عليه لاشتغاله بالعلم، ثم أنباه بأنه ولاه منصب الفتوى بمصر، وعزل عنه الشيخ احمد التميمي الخليلي وخلع عليه خلعة هذا المنصب، ثم عقد له مجلساً بالقلعة حضره حسن باشا المنسترلي والشيخ مصطفى العروسي وغيرهما، فأقروا على إقامة أمين للفتوى يقوم بشؤونها حتى يتأهل صاحبها لها ويباشرها بنفسه، واختاروا له الشيخ خليلاً الرشيدي الحنفي بدل الشيخ علي البقلي أمين فتوى التميمي، ونزل المترجم من القلعة بموكب كبير من العلماء والأمراء ووفد الناس على داره للتهنئة، ومدحه الشعراء، فمن ذلك قول الشيخ محمد شهاب:(51/38)
عز يا عزة الحمى أن تقاسي ... بمهاة الصريم فيما تقاسي
ومنها قوله:
تب مفتي الهوى وتبت يداه ... ضل شرعي نهجه والسياسي
فدعيه يا عز اصطباري ... إن فتواه فتنة للناس
ولئن قلت أي فتوى البرايا ... حكمت بالنصوص دون التباس
وارتضاها الزمان قل لي وأرخ ... قلت فتوى مهديه العباسي
1264
وهي قصيدة طويلة ألحق بها هذه الأبيات الثلاثة مشيراً فيها إلى التميمي وإلى الرشيدي أمين الفتوى الجديد.
قلت لما أن تمبدر التميمي ... واعتراه نقص الخسوف الشديد
رجع الدر بالفتاوى إلى ما ... كان فيه من المكان المشيد
فلنعم الرشيد يا ابن أمين ... ولنعم الأمين يا ابن الرشيدى
وروى الفاضل محمد أفندي التميمي في الترجمة التي جمعها لأبيه الشيخ احمد التميمي أن سبب عزله عن الإفتاء أحقاد قديمة كانت في صدر إبراهيم باشا منه بسبب معارضته له في أمور تخالف الشرع كان يريدها ويعارضه الشيخ فيها، فلا يجد بداً من الإذعان بسبب إقبال أبيه محمد علي على الشيخ، فلما تخلى عن ولاية مصر وتولاها إبراهيم كان اكبر همه عزله عن الإفتاء. انتهى.
ثم أكب المترجم على الاشتغال بالعلم خصوصاً الفقه حتى نال منه حظاً وفيراً، وجلس للتدريس بالأزهر لاقراء الدر المختار فقرأ منه إلى كتاب الطلاق وأكمل قراءته في داره، وقرأ الأشباه والنظائر في داره أيضاً، وباشر أمور الفتوى بعفة وأمانة وتدقيق وتحقيق، واشتهر بين الناس بالحزم والعزم وعدم وممالأة الحكام، وحسبك وقوفه في وجه عباس باشا الأول وتعريضه نفسه للتهلكة صيانة لما استودع من أمانة العلم، وسبب ذلك ان هذا الوالي أراد أن يمتلك جميع ما بيد ذرية جده محمد على مدعياً انه ورد مصر لا يمتلك شيئاً، فكل ما خلفه لذريته إنما هو من مال الأمة يجب رده إليها، ووضعه بيد أمينها المتولي شؤونها، واستفتى المترجم فلم يوافقه وأصر على الامتناع، ولم يحفل بوعيده وتهديده حتى طلبه فجأة(51/39)
إلى بنها فسافر إليها وهو موقن بالهلاك، وكان معه عند طلبه الشيخ أبو العلاء الخلفاوي، فسافر معه لمؤانسته ومواساته، فلما وصلا قصر بنها روجع المترجم في الفتوى فأصر على قوله الأول، فأُمر بهما فانزلا إلى سفينة بخارية سافرت بهما ليلاً لنفي المترجم إلى أبى قير؛ واعتراه لشدة وجله زحير كاد يودي به وهو مع ذلك مصر على قوله، والشيخ أبو العلاء يهوُن عليه الأمر ويؤانسه بالكلام إلى أن صدر الأمر بإرجاع السفينة، وانزلا منها وأمرا بالسفر إلى القاهرة وسلم الله. فكانت هذه الحادثة سبباً لعلو المترجم في النفوس وأعظام الولاة فمن دونهم لشأنه؛ وتسبب منها إقباله على الشيخ أبي العلاء المذكور وسعيه له في المناصب التي تولاها وعظم بها أمره بعد ذلك.
ثم لما كانت سنة 1287 والمتولي على القطر الخديو إسماعيل باشا، وكان انحرف عن الشيخ مصطفى العروسي شيخ الأزهر، فأراد عزله ولكنه خشي الفتنة، لأنه شيء لم يقع من قبل لأحد من مشايخ الأزهر، فأخذ في جس نبض العلماء وسبر غورهم في ذلك، فهون عليه الشيخ حسن العدوى الأمر، وأوضح له انه وكيل الخليفة أن يعزل من يشاء والوكيل له ما للأصيل، فسر الخديو وبادر إلى عزل الشيخ العروسي في أواخر السنة المذكورة، وكان العدوى يطمع فيها، وما قال ما قال إلا توطئة لنفسه فأخلف الله ظنه، وصدر أمر الخديو في منتصف شوال بتولية المترجم والجمع له بين منتصب الإفتاء ومنصب الأزهر، فاستدعاه وخلع عليه وأنزله من عنده بالموكب المعتاد. فباشر شؤون منصبه بحزم وعزم وتؤدة وتعقل، وكان أول ما صدر منه سعيه لدى الخديو بإعادة ما كان لأهل الأزهر من المرتبات التي أبطلت زمن عباس باشا، فوافقه على ذلك وأعيدت المرتبات الشهرية والسنوية، ثم استصدر أمراً من الخديو بوضع قانون للتدريس، فأجابه إلى ذلك ووضع قانون الامتحان، وكانوا قبل ذلك لا يمتحنون بل كان من تأهيل للتدريس تصدّر له، فيحضر له، فيحضر أول درس له شيوخه وغيرهم من كبار العلماء، ويناقشونه فان وجدوه أهلاً أقروه وإلا أقاموه.
ولم يزل المترجم سائراً في طريقة المحمود، ملحوظاً بعين التبجيل من الحكام، وبين الخاص والعام، حتى ثارت الثورة العرابية المشهورة، ورأى فيه العرابيون أنه ليس بالرجل الذي يوافقهم ويساعدهم في مطالبهم، فكان من جملة ما طلبه عرابي باشا من(51/40)
الخديو لما زحف بالجيش على قصر عابدين عزل المترجم من الأزهر، فعزل عنه المحرم سنة 1299، وتولى عليه بدله الشيخ محمد الانبابي، وانفرد هو بالافتاء، ثم تجسمت الفتنة وجاهر العرابيون بطلب عزل الخديو، وكتبوا قراراً بذلك اجبروا العلماء والوجهاء على التوقيع عليه، فامتنع المترجم من موافقتهم على ذلك، وقال لحامل القرار: أنا لا أوقع بيدي، فإذا كان في الأمر غصب فان خاتمي معه خذوه ووقعوا انتم بأيديكم كما تشاءون.
فانحرف عنه العرابيون وضايقوه وبثوا عليه العيون حتى احتجب في داره التي على الخليج بالقرب من مدرسة الفخري المشهورة بجامع البنات، وتحامى الناس زيارته، وصار لا يخرج منها إلا لصلاة الجمعة في أقرب مسجد إليه؛ ومرت عليه أيام وليال قضاها في انتظار حتفه في كل ساعة تمر به، حتى كانت الهزيمة الكبرى على العرابيين، وتشتت شملهم، وعود الخديو إلى مقر ملكه في 12 ذي القعدة من تلك السنة، فذهب المترجم فيمن ذهب للسلام عليه وتهنئته بالظفر، ودخل مع العلماء فخصه الخديو بترحيب ورعاية زيادة عمن معه من العلماء تقديرا لحسن بلائه في الإخلاص له مدة الفتنة؛ ولحظ الشيخ الانبابي شيخ الأزهر إغماضا عنه من الخديو، وخشي أن يعزله ليعيد العباسي، فقال بيدي لا بيد عمرو، واستقال بعد أيام؛ فأصدر الخديو أمره يوم الأحد 18 منه بإعادة المترجم إلى الأزهر، علاوة على منصب الإفتاء الذي بيده، ونصه موجها لرئيس النضار:
(انه بناء على استعفاء حضرة الأستاذ الشيخ محمد ألانبابي من وظيفة مشيخة الجامع الأزهر، ووثوقنا بفضائل وعالمية حضرة الأستاذ الشيخ محمد العباسي المهدي، قد اقتضت إرادتنا توجيه هذه الوظيفة لعهدته كما كانت قبلا، علاوة على وظيفة إفتاء السادة الحنفية المتحلي بها من السابق، وصدر امرنا للمومى إليه بذلك في تاريخه، ولزم إصدار هذا لدولتكم إشعارا بما ذكر في 2 أكتوبر سنة 82 الموافق 18 ذي القعدة سنة 99)
فتمت للمترجم رياسة الأزهر على رغم انف كثيرين، فان بعض علماء الأزهر سعوا لتنصيب الشيخ عبد الهادي نجا الابياري، وكتبوا كتابة بذلك واخذوا يوقعون عليها، ويطوفون بها علىالعلماء، فلم يشعروا إلا وقد فاجأهم الأمر بإعادة المترجم، وذهب سعيهم وتعبهم أدراج الرياح.
ثم استمر المترجم جامعاً للمنصبين قائماً بشؤونهما أتم قيام، حتى كانت سنة 1304 وفيها(51/41)
بلغ الخديو أن جماعة من الأعيان والتجار مثل محمد باشا السيوفي، وأخيه احمد باشا يجتمعون للسمر بدار المترجم في اغلب الليالي، فيتكلمون في الأمور السياسية ويظهرون أسفهم من وجود الإنجليز بمصر، وموافقة الحكومة لهم فيما يحاولون، وغير ذلك من هذه الشؤون، فحنق الخديو أرسل لمحمد باشا السيوفي بالحضور فلم يجدوه، بل وجدوا أخاه احمد باشا، فحضر إلى القصر وقابل الخديو، فوبخه توبيخاً شديدا وقال له: يخيل إليً أنكم تريدون إعادة الثورة العرابية، فتبرأ من ذاك وحلف أن اجتماعهم لم يكن إلا بقصد السمر واللائتناس، ثم قابل الخديو المترجم في إحدى المقابلات الاعتيادية فلم يهش له كعادته، بل قال له وقت الانصراف: يا حضرة الأستاذ، الأجدر بالإنسان أن يشتغل بأمور نفسه، ولا يتدخل فيما لا يعنيه ويجمع الجمعيات بداره. فلميجبه المترجم إلا بقوله: أطال الله عمر أفندينا وأدام عليه العافية، إنني ضعفت عن حمل أثقال الأزهر، فأساله أن يعفيني منه. ولم يكن الخديو يتوقع منه هذا الكلام، بل كان يظنه يجيب بجواب يصرف المسألة بسلام، فغضب وقال مستفهما: ومن الإفتاء أيضاً؟ فقال له نعم يا أفندينا ومن الإفتاء أيضاً، ثم انصرف.
ولم يكن المترجم ممن يعزب عنهم أن مثل هذا السبب لا يدعو إلى الاستقالة، وخصوصاً أن الخديو صرفه بالحسنى مع من اتهم معه، ولكن كان هناك سبب أقوى أغضب رئيس النظار نوبار باشا الأرمني، وذلك لحادثة رفعت عنها دعوى أمام المحاكم الأهلية، واستدعى الأمر طلب كشف وجه إحدى المخدرات للتحقق منها فامتنعت عن الأسفار محتجة بعدم جوازه في الشريعة، واستفتى المترجم في النازلة، فأفتى بعدم الجواز وشدد في المسألة؛ فشكا رئيس النظار للخديو وأوضح له أن الشيخ أصبح عقبة أمام القضاة معارضاً لأحكام القضاء؛ ويقال انه طلب منه إما أن يقيله من الوزارة، أو يعزل المترجم. فلما قال الخديو للمترجم ما قال تيقن أن المراد عزله فاستقال. فأمر الخديو يوم الثلاثاء 3 ربيع الثاني من السنة المذكورة بإعادة الشيخ محمد الانبابى للأزهر، وإقامة الشيخ محمد البناء للإفتاء.
وبقى المترجم بداره التي على الخليج واشتغل بإصلاح قسم منها تشعث فأعاده إلى رونقه الأول، وصبغ حيطانه بالأصباغ، وهو القسم المطل على الخليج، وصار يمضي وقته بالنظر في شؤونه الخاصة والاشتغال بالعلم، إلى أن أعيد إلى الإفتاء فقط في. . .(51/42)
فبقى به إلى وفاته، وأصيب في آخر أيامه بفالج وهو يتوضأ لصلاة الجمعة أبطل حركته، ثم تعافى قليلاً وصار يخرج في عجلته للتنزه بدون فرجية بل بعباءة بيضاء من الصوف، وأشير عليه بالإقامة بحلوان لجفافها، فانتقل إليها وأقام بها برهة لم يستفد فيها شيئاً، فعاد لدارهبالقاهرة، ووافته منيته في الساعة الخامسة من ليلة الأربعاء 13 رجب سنة 1315 عن اثنتين وسبعين سنة، بعد أن لازمه المرض نحو أربع سنوات، فأذن له على المآذن، وحزن الناس لموته حزناً شديداً، وتكاثرت الجموع على داره لتشييع جنازته، فقيل إن عدد المشيعين بلغ نحو أربعين ألفاً، والمصلين عليه نحو خمسة آلاف، ثم دفن بقرافة المجاورين في زاوية الأستاذ الحفني جنب أبيه وجده، ورثاه كثير من الشعراء جمعت مراثيهم في رسالة ألفها الشيخ عثمان الموصلي نزيل القاهرة، وسماها (المراثي الموصلية في العلماء المصرية)، لأنه أضاف إليها ما رثي بها الشيخ عبد الرحمن الرافعي مفتي الإسكندرية، والشيخ سليم القلعاوي شيخ مسجد القلعة، والشيخ محمد المغربي المتوفون هذه السنة أيضا.
وكان المترجم رحمه الله ربعة إلى الطول، مليح الوجه، منور الشيبة، معتدل القامة، ذا هيبة ووقار، مات عن ثروة طائلة وولدين هما الشيخ عبد الخالق المهدي والشيخ أمين، ماتا بعده الواحد تلو الآخر. ولم يؤلف من التأليف سوى مجموع فتاواه الذي سماه (الفتاوى المهدية في الوقائع المصرية)، طبع بمصر سنة 1301 في ثمانية أجزاء كبار. وعاش في عز وتبجيل مدة حياته، وتولى الإفتاء مدة إبراهيم باشا وعباس باشا الأول وسعيد باشا وإسماعيل باشا وتوفيق باشا، أي أربعين سنة من سنة 1264 إلى سنة 1304 لم يعزل فيها، فلم تحفظ عليه بادرة خطأ أو مخالفة للشرع، وسبب ذلك انه تولاه وهو صغير والعيون شاخصة إليه، فكان لا يفتي فتوى إلا بعد المراجعة والتدقيق والتعب الكثير، فحصلت له بذلك ملكة فيه حتى صار معدوم النظير، لا يجاريه مجار في هذا المضمار وأضيف إلى ذلك ما كان عليه من التقوى والتشدد في أمر الدين، حتى كانت مواقفه أمام الولاة لا تزيده إلا رفعة في عيونهم لعلمهم أنه لا يريد إلا نصرة الحق، فأحبوه وأغدقوا عليه بالإنعام. ومن مواقفه غير ما ذكرناه أن الخديو إسماعيل باشا أراد مره ان يستولي على الأوقاف الأهلية ويعوض عنها أهلها ما يقوم بمعاشهم، فاستفتاه في ذلك فتوقف، وأفتاه بعضهم بالجواز، فتكدر منه وجمع بينه وبين مخالفيه، فناظرهم وفاز عليهم بعدما ألفوا(51/43)
رسائل في الحادثة وأكثروا من الجلبة. ولم يقتصر الولاة على مشاورته في الأمور الدينية المختصة بمنصبه، بل كانوا يستشيرونه في غيرها من معضلات الأمور لما عرفوه فيه من سعة المدارك وجودة الرأي، حتى أن إسماعيل باشا لما عزل عن مصر قال لولده توفيق باشا فيما أوصاه به: احتفظ يا بني بالشيخ المهدي فأنه رجل لا نظير له. وبالجملة فمحاسن المترجم كثيرة، ولم يكن فيها ما يشينه، سوى ما كان يرميه به بعض شانئيه من الإمساك والتقتير، ويضعون عليه النوادر الخارجية عن حد المعقول، والمعروف عنه المشاهد للقاصي والداني أن داره كانت مفتوحة للصادر والوارد، لا تخلو مائدته يوماً عنهم، وحسبنا أنه كان يخرج زكاة أمواله كل سنة ويفرقها على المستحقين رحمه الله رحمة واسعة وأكثر في الأمة من أمثاله.
وكان حائزاً لكسوة التشريف من الدرجة الأولى، ومنحه الخديو عباس باشا الثاني الوسام العثماني الأول في 21 صفر سنة 1310 وهو شيخ الأزهر الشيخ محمد الانبابي، وقاضي القضاة جمال الدين افندي، وسبب ذلك ان السيد توفيقاً البكري نقيب الأشراف سافر في هذه السنة إلى دار السلطنة، وبرتبة قضاء عسكر الأناضول، وبرتبة قضاء عسكر الأناضول، فلما بلغ مسامع الخديو أحب أن لا يكون ممتازاً من كبار الشيوخ وهم القاضي والمفتي وشيخ الأزهر، فأنعم عليهم بهذا الوسام، وأرسل إلى السلطان ملتمساً الأنعام على المفتي وشيخ الأزهر برتبة قضاء عسكر الأناضول، وعلى القاضي برتبة قضاة عسكر الرومللي، لأنه كان حائزاً لرتبة الاناضول، لكن طلبه لم يصادف قبولاً.
أحيل على المترجم قديماً أمر انتقال القضاة الشرعيين والمفتين الذين يقامون في ولايات القطر ومراكزه، فكان يختار ذوي الكفايات يتحرى فيهم النجابة والذكاء والديانة، ويحامي عنهم لدى الحكام، ويشد أزرهم، فحصل له بذلك مقام لدى أهل العلم المرشحين لهذه المناصب، وقصدوه ووجهوا وجوههم شطر داره، وهو مع ذلك لا يميل مع الهوى في تنصيبهم، ولو كان ممن يمد اليد لجمع من هذا الوجه شيئاً كثيراً، ثم رأت الحكومة أن يكون أمر تنصيبهم منوطاً بلجنة تؤلف من بنظارة الحقانية برياسة وكيلها إذ ذاك بطرس غالي باشا، وعرضوا على المترجم أن يكون من أعضاء تلك اللجنة فأبى.
وكان له في المحاماة عن أهل الأزهر ومساعدتهم القدح المعلى، ونروي عنه مواقف في(51/44)
ذلك: منها أن الشيخ مصطفى العروسي مدة توليه على الأزهر استصدر من الخديو إسماعيل باشا أمراً بنفي الشيخ حسن العدوى إلى أسنا وكاد ينفذ فيه لولا أنه استغاث بالمترجم فقام بناصره وذهب للخديو مستشفعاً، ولجّ وألحّ حتى عفى عن الشيخ.(51/45)
الأديب الحائر
قصة تمثيلية للأستاذ توفيق الحكيم
للدكتور طه حسين
لم يكتبها بعد، ولست ادري إن يرد أن يكتبها أم لا؟ ولكن الشيء الذي لاشك فيه هو انه قد مثلها ومثلها تمثيلاً رائعاً، احب أن تشعر بروعته في هذا الحديث الذي أسوقه اليك، ولست آسف إلا لشيء واحد، وهو أنك ستشعر بهذه الروعة جملة وفي وقت قصير هو وقت نظرك في هذا الحديث، على حين شعرت أنا بهذه الروعة واستمتعتُ بلذتها الفنية تفصيلاً وفي وقت طويل، يبلغ العام أو يكاد يبلغه.
ولم يمثل الأستاذ توفيق الحكيم قصته هذه التي لم تكتب بعد، في ملعب من ملاعب القاهرة المعروفة، ولو قد فعل لشهدتها أنت وغيرك من الناس من النظارة. فأي الناس يستطيع أن يتخلف عن شهود قصة للأستاذ توفيق الحكيم يمثلها بنفسه، ويشترك معه في هذا التمثيل جماعه من المصريين المعروفين، أنا أحدهم. لم يمثلها إذن في ملعب ضيق محدود، وإنما مثلها في ملعب واسع جداً بعيد الأقطار والآماد هو ملعب الحياة. وما دام لم يمثلها في ملعب معروف، ومادام لم يخرجها للناس في كتاب، فأنا بالطبع عاجز عن أن أحدثك برأي النقاد فيها. لأن النقاد أو لأن كثرة النقاد لم يشهدوها.
وأنا أريد أن أحتاط فلا أحدثك برأي في هذه القصة، من جميع وجوهها وأنحائها لان الحر شديد، ولأن للحر الشديد تأثيراً في نفس الأستاذ توفيق الحكيم وقلمه. والناس جميعاً يعلمون أنى محبٌ للأستاذ معجب بقلمه، وأقل ما يوجبه على الحب والإعجاب أن أكون رفيقاً شفيقا، حين يشتد القيظ ويخشى من شره على الرؤوس والنفوس والأقلام. وهذا العنوان الذي وسمت به هذه القصة لا يعدو أن يكون اقتراحاً قد يعدل عنه الأستاذ توفيق الحكيم إن خطر له أن يكتب قصته فما ينبغي لمثلك ولا لمثلي، بل ما ينبغي لخير منك ولا خير مني، أن يقترح على الأستاذ أو ينصح له، فالأستاذ اكبر من ان يقترح عليه مقترح، وأن ينصح له ناصح، مهما يكن مخلصاً أميناً.
وما دامت هذه القصة لم تمثل في ملعب محدود، ولم تخرج للناس في كتاب، فان نظامها وترتيب فصولها وتنسيق مناظرها وما يكون بين أشخاصها من حركاتُ متكلفة، وحوار(51/46)
مصطنع، كل ذلك مشكوك فيه، قابل للتغيير والتبديل، إن أراد الأستاذ توفيق الحكيم. وإنما الشيء الوحيد الذي لاشك فيه هو هذا الهيكل الذي تقوم عليه القصة ان صح هذا التعبير، فهذا الهيكل يفرض نفسه على الأستاذ الأديب وعليّ أنا الناقد المسكين فرضاً، لأنه شيء لا تملك له تغييراً ولا تبديلاً، شيء قد كان وليس للإنسان حيلة في تغيير ما كان، حتى ولو كان هذا الإنسان أستاذنا وكاتبنا الأديب توفيق الحكيم.
أما الفصل الأول من هذه القصة كما كانت لاكما ستكون يوم يكتبها الأستاذ توفيق إن أراد، فيقع في العام الماضي في أوائل الربيع في حجرة من حجرات البيت الذي كنت اسكنه في هليوبوليس. إذ يقبل علي صديقان يحبان الأدب لأنهما أديبان، ويعجبان بالأستاذ توفيق الحكيم لأنه أديب. وهما يتحدثان إلى عن هذا الأستاذ الذي لم أكن أعرفه ولا سمعت من حديثه شيئاً. فيثنيان عليه بما هو أهله، أو بما هو أهل لأكثر منه، ثم يدفعان إلى كتاباً وضعه الأستاذ توفيق الحكيم، وكان يود أن يهديه إلي بنفسه لولا أنه لايعرفني، ولايريد أن يلقاني حتى اقرأ كتابه وأكون لنفسي رأياً فيه، ثم يقصان عليّ الكثير من أطواره الغريبة حتى يثيرا في نفسي الشوق إلى لقائه، وإلى النظر في كتابه، فإذا انصرفا اقبل صديق ثالث فلا أكاد أحدثه بما كان من أمر الصديقين حتى يثني على الكاتب ويثني على الكتاب، ويزعم لي انه قرأ الكتاب مخطوطاً قبل أن ينشر، لأن صاحبه لا ينشر شيئاً حتى يستشير فيه أصدقاءه، وينبئني كذلك بأن هذا الكتاب لم ينشر إلا نشراً ضيقاً، لأن صاحبه يريد ان يعرف رأي المثقفين قبل أن يعرض نفسه على كثرة القراء.
فإذا كان الفصل الثاني فقد أخذت اقرأ في الكتاب فأرضى عنه، ثم أعجب به، ثم أكتب عنه فصلاً في (الرسالة) أسجل فيه هذا الإعجاب، وذلك الرضى، وملاحظات يسيرة لا بأس منها على الكاتب ولا على الكتاب. وما يكاد يلقى الستار على هذا الفصل، ويستريح النظارة في وقت الراحة بين الفصول، حتى أتلقى رسالة برقية ملؤها الشكر وعرفان الجميل ومصدرها الأستاذ توفيق الحكيم.
ثم يكون فصل ثالث والخير في ألا نقسم القصة إلى فصول، بل إلى مناظر يتبع بعضها بعضاً، وليعذرنا الأستاذ توفيق الحكيم فنحن لا نحسن الكتابة في التمثيل. يكون منظر ثالث أو رابع لا أدري، وإذا الأستاذ توفيق الحكيم قد سعى إلى من إقليمه الذي كان يعمل فيه،(51/47)
وهو يشكر لي تشجيعي له، ويغلو في هذا الشكر ثم يلقى أموره الأدبية كلها إلي، ويطلب مني أن أكون له مرشداً وحامياً، فأقبل منه هذا كله سعيداً به، مبتهجاً له، وأتحدث إلى الأستاذ حيث الصديق المحب المعجب، ويتكرر هذا المنظر مرات كلما اقبل الأستاذ من إقليمه الذي كان يعمل فيه إلى القاهرة ليقضي فيها بين أصدقائه يوماً أو يومين، والحديث والود يتصلان ويشتد اتصالهما بيننا وتظهر آثار هذا الاتصال فيما يكون من كتب تنشرها لنا (الرسالة)، ومن لقاء يشهده الأصدقاء. ثم يكون منظر آخر من هذه المناظر الكثيرة التي سيؤلف الأستاذ منها قصته إن أراد. نجتمع فيه مع أصدقاء لنا يعرفهم الأستاذ، ونتشاور في أمره هو لا في امرنا نحن، فهو يريد إن ينتقل من الأقاليم إلى القاهرة، لأنه ضيق بحياة الريف التي لا يجد فيها ما يلائمه من البيئة المثقفة المتحضرة وما يحتاج إليه من الكتب، ولأنه يلقى فيها بعض العناء، فحياة وكلاء النيابة في الأقاليم مضنية شاقة، وفي وزارة المعارف عمل قد يلائمه وهو يميل إلى هذا العمل، ولكني أنا لا أميل إليه، وأنا أوافق على ان بيئة القاهرة وحياتها خير للأستاذ من بيئة الأقاليم وحياتها، ولكني أشفق عليه من وزارة المعارف لأني اعلم الناس بوزارة المعارف، ولاني واثق بأن الهواء الذي يملأ غرفاتها وحجراتها لا يلائم حياة الأديب المنتج وإنما هو هواء خانق لكل أدب ولكل إنتاج. والأستاذ وأصدقاؤه يلحون في العرض وأنا ألح في الرفض، ثم اقترح مكاناً آخر يستطيع الأستاذ أن يعيش فيه عيشة تلائم الإنتاج الأدبي، فيظهر أن تحقيق هذا الاقتراح غير ميسور، ثم يلقى الستار ويتم انتقال الأستاذ من الريف إلى القاهرة في هذه الراحة التي تكون بين الفصول، ثم يكون منظر آخر أو مناظر أخرى نجتمع فيها لنقرأ بعض الكتب التي يريد الأستاذ إخراجها للناس، ومنها شهرزاد.
فالأستاذ شديد الشك في نفسه، ضئيل الثقة بفنه، لا يظهر آثاره إلا إذا أقرها أصدقاؤه الأقربون. وهو لا ينشر فصلاً في (الرسالة) إلا إذا قرأته وأذنت بنشره. وهو لا يرى أنه قادر على أن يحتمل وحده تبعة الإذاعة والنشر. ثم نقر من هذه الكتب ما نقر، ونرجئ منها ما نرجئ ونتحدث عن أهل الكهف وعن طبعة ثانية تذاع بين الناس. فاقترح أنا أن أقدمها إلى الجمهور فيظهر الأستاذ وأصدقاؤنا الرضا بذلك والابتهاج له، ثم يلقى الستار ويرفع وقد تمت الطبعة الثانية من أهل الكهف، وأبطأت أنا بالمقدمة أسبوعين أو نحو أسبوعين.(51/48)
فينشر الكتاب بغير مقدمة، وبغير أن يتحدث إلى أحد في ذلك، فيسوءني ذلك بعض الشيء فيسعى إلي الأستاذ في منظر جديد، ويعتذر إلي بمحضر من بعض الأصدقاء، فأسمع منه وأبسم له وأتجاوز عن استعجاله، وينصرف راضياً. فإذا أصبحت تلقيت منه هذا الكتاب باللغة الفرنسية وأنا أترجمه فيما يأتي:
أنا محزون حقاً. فقد فكرت، فإذا خطيئتي بديهية: فقد كان يجب على الأقل أن أستشيرك قبل أن أخرج كتبي.
فماذا ترى في موقفي منك؟ ويزيدني حزناً لطفك حين تجاوزت في سهولة وكرم عن كل هذا.
إنما أنت في حقيقة الأمر فنان كبير، فنان حقاً وإني لأعترف بأني لم امنح هذه النفس، ولست أنا خليقاً بالفن ولا بك.
واليك الآن ما تمت عزيمتي عليه إذا احتفظت بغضبك على فسأعرض عن كل حياة أدبية.
وتقبل
ت. الحكيم
وأخشى أن أكون قد أسأت الترجمة فأنشر معها النص الفرنسي لهذا الكاتب الكريم:
, -
- ? ' , ' ' '
, ' ' ' ,
ثم يكون منظر آخر يراني الله فيه حزيناً أسفاً ومشفقاً جزعاً لأني صدقت هذا الكلام، وخفت أن يكون صاحبه جاداً فيه فأنكرت من نفسي ما أظهرت من غضب، وهأنذا أسرع إلى التليفون فألتمس صاحبي في مظاله كلها، حتى يصلني به التليفون، فأداعبه ألاعبه، وأترضاه، وأتلطف له، وأقبل منه، وأهدي إليه حتى يرضى. وتطمئن نفسه الثائرة أو التي كنت أحسبها ثائرة، ويهدأ قلبه المضطرب أو الذي كنت أظنه مضطرباً، ويستريح ضميره المتعب أو الذي كنت أراه متعباً.(51/49)
ثم تكون مناظر أخرى تجرى الحياة فيها بيننا كما تجري بين الأصدقاء الذين تؤلف بين قلوبهم المودة والحب والإعجاب، الا منظراً واحداً انكرته، ولكني لم اظهر إنكاري له، كان في مجلس لنا بغرفة من غرفات لجنة التأليف وكنا كثيرين، وكنا نتحدث عن الكتاب والشعراء المحدثين، وعن أصحاب القصص خاصة، وكنت أريد ان أعنى بآراء هؤلاء الكتاب والشعراء وان أتبين وأبين للناس مالهم من المحاسن والعيوب او ما أرى لهم من المحاسن والعيوب. وهنا يثور ثائر الصديق الأديب ويأبى لي العناية بهذا الأدب الحديث لأنه لا يصلح أن يكون أدباً حديثاً أو قديماً، ولأن الطابع الفني الصحيح ينقصه، فنختلف في ذلك ونفترق على غير اتفاق؟
ثم يكون منظر آخر وما اكثر هذه المناظر التي ستتألف منها هذه القصة، والتي ستقيم لأصدقائي ولخصومي أدلة قاطعه على أني من المكر والدهاء والحذر بحيث يظنون. أراني في حجرة من حجرات البيت الذي أسكنه الآن في الزمالك، وقد أقبل الصديق الأديب ومعه اثنان من أصدقائنا، وكنا على موعد لنقرأ فصلاً كان الصديق الأديب يريد أن ينشره في الرسالة. ولكن أصدقاء آخرون قد اقبلوا، وليس يعنيهم أن يقرأوا آثارنا الأدبية أو يسمعوها قبل أن تذاع فنتحدث إليهم، ونسمع منهم، ويطول الحديث حتى إذا تمت الساعة التاسعة انصرف الأصدقاء، وبقينا نحن فنقرأ الفصل على طوله، ونحاور فيه، ثم لا نفترق حتى تنتصف الساعة الحادية عشرة، وشهد الله لقد كان في بيتي تلك الليلة مرض هو آثر عندي من ألف أدب وأدب ومن ألف أديب وأديب، ومن الحياة والأحياء جميعاً، فما ترددت مع ذلك في أن أسمع، وأحاور، وأقترح التغيير والتبديل، كما لو كنت مستريحاً فارغ البال:
ثم تكون مناظر أخرى أسمع في بعضها اللوم لأني احب توفيق الحكيم واقرأ في بعضها الشتم لأني اكبر توفيق الحكيم، وأنا أبسم للوم اللائمين، وأضحك لشتم الشاتمين، لأني لم أحب هذا الكاتب إلا لأنه ألهمني الحب، ولم أعجب بهذا الكاتب إلا لأنه ألهمني الإعجاب:
ثم أكتب إلى المصور فصلاً عن الأدب التمثيلي في مصر فلا يكاد ينشر حتى يتحدث إلي من يتحدث بأن الكاتب الأديب مغضب من هذا الفصل لأني لم أنصفه فيه، ولأني زعمت أن قصصه التمثيلية على جمالها وروعتها قد لا تلائم الملعب المصري. فلا أحفل بحديث المتحدثين، ولا بنقل الناقلين، واقرأ في المصور بعد ذلك رداً من توفيق فيه عوج كثير(51/50)
فأقوم هذا العوج مداعباً لصاحبه، ملاطفاً له، ثم يبلغني أنه قد سعى إلي في بيتي مساء الاثنين الماضي فلما لم يجدني فيه ترك لي تحيته ومودته وانصرف. ثم أكتب عن شهرزاد، فلا يكاد يظهر حديثي عن شهرزاد حتى أتلقى من صديقي توفيق هذا الكتاب صباح الخميس. لا يحمله إلي البريد، وإنما يحمله ساع خاص ولا يكتبه توفيق بخطه وإنما يضربه على الآلة الكاتبة ضرباً، ويتفضل الصديق فيمضيه بخطه. ولست اعرف آية في الأدب والمودة والوفاء وصدق الرأي في الأدب والنقد، والصلة بين الكتاب والناقدين تشبه هذا الكتاب. ولا غرابة في هذا، فتوفيق قد عاهدنا على ألا يكتب إلا كان مبدعاً مبتكراً. وأنا أنشر نص هذا الكتاب لأنه سيكون باقياً على الدهر، ولأنه سيقع من الكتاب والناقدين في هذا العصر موقع تلك الوصية التي زعموا أن عبد الحميد قد أذاعها في الكتاب القدماء آخر أيام بني أمية.
قال الصديق توفيق الحكيم:
عزيزي الدكتور طه حسين
يظهر أني سيئ الحظ معك أو أنك سيئ الحظ معي هذا الأسبوع، فلقد قرأت مقالك عن شهرزاد وما أحسبنا تلاقينا فيه عند رأي، فأما قولك أنى أدخلت في الأدب العربي فناً جديداً وأتيت بحدث لم يسبقني إليه أحد، فهذا إسراف سبق لي أن أشرت إليه في خطاب مني إليك عن أدب الجاحظ ذكرت فيه يومئذ أن للجاحظ ملكة في إنشاء الحوار تذكرنا ببعض كتاب المسرح من الغربيين. فما أنا إذن بمبتدع وإنما أنا أحد السائرين في طريق شقه الشرق من قبل. وأما نصيب قصصي من البقاء فلست اعتقد أن لنا قد معاصر حق الجزم به، وما بلغت من البساطة حد تصديق ناقد يتكلم في هذا. فان الزمن وحده هو الكفيل بالحكم للأعمال بالبقاء. فأنا كما ترى لا اسمح لنفسي بقبول مثل هذا الثناء. كذلك لست اسمح لأحد أن يخاطبني بلسان التشجيع، فما أنا في حاجة إلى ذلك، فإني منذ أمد بعيد اعرف ما اصنع. ولقد أنفقت الأعوام أراجع ما أكتب قبل أن انشر وأذيع. كما أنى لست في حاجة إلى أن يملي علي ناقد قراءة بعينها، فإني منذ زمن طويل اعرف ماذا اقرأ. وما أخالك تجهل إني قرأت في الفلسفة القديمة والحديثة وحدها ما لا يقل عما قرأت أنت: - وما أحسبك كذلك تجهل أني اعرف الناس بما عندي من نقص، واعلم الناس بما احتاج إليه(51/51)
من أدوات، فأرجو منك أن تصحح موقفي أمام الناس وألا تضطرني إلى أن أتولى ذلك بنفسي.
توفيق الحكيم
وأنا أسرع قبل كل شيء إلى تصحيح موقف توفيق لا أمام الناس، بل أمام نفسه وأمام رؤسائه في وزارة المعارف. فقد كنت أشفق عليه من هؤلاء الرؤساء كما كنت أشفق عليه من نفسه إذا اتصل بهؤلاء الرؤساء. فالذين يعملون في وزارة المعارف لا ينبغي أن تظهر الصلة بينهم وبيني، لان هذه الصلة خطرة حقاً. وما رأيك في قوم يعملون في هذه الوزارة ثم يتصلون برجل لا يزال من يوم إلى يوم ينال هذه الوزارةورؤساءها بالنقد الشديد. وأؤكد لصديقي توفيق إني لم انشر كتابه هذا إلا تصحيحاً لموقفه أمام رؤسائه وأمام نفسه، فسيعلم رؤساؤه منذ اليوم انه قد أساء إلي عمداً وفي غير ما يبيح الإساءة، وانه قد قطع ما بينه وبيني من صلة، وانه قد سجل هذه القطيعة في كتاب، أني قد سجلت هذه القطيعة في صحيفة سيارة. ليشيع أمرها بين الناس. واضن أن رؤساءه منذ اليوم سيرفقون به، ويعطفون عليه، ويحسنون الرأي فيه. وأظن انه سيحس منهم ذلك فيطمئن على منصبه ويستريح إلى رضى رؤسائه عنه، ويبتسم له الأمل بالمستقبل القريب والبعيد.
والآن وقد صححت موقف توفيق أمام نفسه وأمام رؤسائه أريد أن أصحح موقفه أمام الناس وأمام الأخلاق وأمام الأدب أيضاً. فموقفه أمام هؤلاء جميعاً في حاجه إلى تصحيح لم يخطر لصديقنا ببال فيما يظهر لانه كان مشغولاً بنفسه ورؤسائه، ولعله كان مشغولاً بذلك القيظ الشديد، الذي أخرج كثيراً من الناس عن أطوارهم منذ أيام.
فأما قول توفيق إني قد أسرفت حين زعمت انه احدث بالأدب العربي حدث لم يسبقه إليه احد، فإني احمده له وإني كنت اعرف أن هذا الكلام كان يرضيه، وانه كان يحب أن يسمعه وأن يقرأه قبل هذا الأسبوع الذي هاجمت فيه وزارة المعارف مهاجمة عنيفة، ومن الحق انه تحدث إلي بان للجاحظ ملكة حوار ولكن من الحق أيضاً أنه نبهته إلى أن الحوار شيء والتمثيل شيء آخر، وإلى أن الكاتب يستطيع أن يكون محاوراً مجيداً دون أن يبلغ من التمثيل شيئاً. فإذا كان الجاحظ قد أتقن الحوار وبرع فيه فلا ينبغي أن يفهم من هذا بحال أن الجاحظ قد عرف التمثيل أو ألم به أو كان يمكن أن يخطر له التمثيل على بال. وانه(51/52)
لمن المؤلم حقاً أن احتاج إلى أن أسوق مثل هذا الكلام إلى كاتب أديب كتوفيق قرأ من آثار القدماء والمحدثين مثل ما قرأت على الأقل.
وأما أن توفيقاً ينكر على أن احكم لقصصه بالبقاء، فهذا إسراف منه كثير، فنحن الناقدين أحرار فيما نعرف من ذلك وما ننكر، وفيما نثبت من ذلك وما نمحوه، ومادام الزمان هو الحكم الأخير في هذا كله فيما يضير صاحبنا أن نحكم له أو أن نحكم عليه. واغرب من هذا كله أن يرفض توفيق ما أهديت إليه من ثناء، فليعلم إني لم اهدِ الثناء إلى شخصه ليرفضه أو يقبله، وأن شخصه لا يعنيني إلا قليلاً منذ الآن، وإنما أهديت الثناء إلى فنه ومازلت أهديه اليه، ولن يستطيع هو أن يرده. وكنت احب له أن يرفق بين شخصه الفاني وفنه الباقي.
وأما أنه لا يسمح لأحد أن يحدثه بلغة التشجيع فقد كنت أحب أن يكون أذكى في حياته العملية من أن يشارك رئيس الوزارة في لغته، (فلا أسمح) هذه كلمه يملكها رئيس الوزراء القائم وحده. ولكن الذي يجعل نفسه دولة لا يتردد في أن يستعير لغة الوزراء وهو بعد حر في أن يسمح أو لا يسمح فسنشجعه على رغم منه، لأن فنه يستحق التشجيع، ولأن واجبنا الأدبي يفرض علينا تشجيع المجيدين فرضاً. وأما أنه لا يسمح لأحد بأن يدله على ما يقرأ، وأنه قرأ في الفلسفة القديمة والحديثة مثل ما قرأت على الاقل، فإنني احب أن يعلم أن ما قرأته لا يرضيني لنفسي ولا لغيري، وإني ابذل ما أملك من جهد لأقرأ أكثر مما قرأت ومما قرأ غيري. وأسأل الله أن يقيني وأن يقيه شر الغرور، فهو مهلك للنفوس حقاً. وأما انه اعرف الناس بما ينقصه، وأعلم الناس بما يحتاج إليه من الأدوات وانه لا يحتاج مع ذلك إلى نقد ناقد، فهذا رأيه في نفسه منذ الآن ولا يشرفه ولا يرفع منزلته عند أحد. أما أنا فأرى لنفسي الحق في أن أدل كل كاتب يخرج للناس كتاباً على رأي فيما ينقصه وفيما يحتاج اليه، وهو حر في أن يقبل أو يرفض، ولكني حر كذلك في أن أقول له ما أريد.
أما بعد، فهل صححت موقف توفيق أمام الناس، أم هل ما يزال مضطراً إلى أن يصححه بنفسه؟ أحب أن يعلم توفيق إني لن أرد عليه بعد الآن، ولن أحفل به إلا يوم يخرج لنا كتاباً نقرؤه، ويومئذ سأعلن رأيي في هذا الكتاب سواء رضى توفيق أو سخط، وأنا أرجو أن يكون رأي في كتبه المقبلة حسناً كرأيي في أهل الكهف وشهرزاد. وأرجو بعد هذا كله(51/53)
أن يتدبر الكتاب والشعراء هذه القصة التمثيلية فان فيها عبراً وعظات، وأن أمثالها مع الأسف في مصر ليس بالقليل.
طه حسين(51/54)
من طرائف الشعر
عطيل
للأستاذ فخري أبو السعود
قليل رقاد الليل نابي المضاجعِ ... يبيت على مضٍّ من الشك لاذعِ
على حُرَقِ: لا الظن قاتلُ حُبِّهِ ... ولا حُبُّهُ للظن عنهُ بِدَافِعِ
دجا عَيْشُهُ جَرّاَء من كان ذكرهُا ... ضياءًَ له في داجيان المعامعِ
أطاع مقالاً للحسود أهاجه ... ولم يك لو قال النصيحُ بِطَائع
يقول: إِذَنْ قد نازعتْها صبابةٌ ... وغَىُّ فألقَتْ قيدَها للنوازع
وأصبحَ عِرضي في بني الرُّوم مُثْلَةً ... وهُزْأةَ مِهْذَارٍ وَمَلْهاةَ صافِع
جَزَائَيِ هذا: إنني كنت غافلا ... فأقحمتُ نفسي في وخيم المراتع
حسبتُ قلوبَ الغيدِ بالبأس تُستَبَي ... وتُملك بالبِيض الخفاف القواطع
جَزَائَيِ عَدْلاَ: مالمِثْليِ وللهوى؟ ... لقد قذفتْ بي في المرامي مطامعي
ولم يك وجهي للحسان بفاتن ... ولا لونُ جلدي في الغرام بشافعي
ألا ليتني لم ألق أشْرَاكَ حُسْنها ... فقد كنتُ في أشراكها شَرَّ واقع
ألا ليتني لم أدِْر أنباَء بغيِها ... وكفَّتْ جفوني دونه ومسامعي
لقد أنكرتْ خَلْقي وضاقت بِكَبْرتي ... ومنظر شَيبْاتٍ برأسي طَوَالع
وماسَرَّها أني بلوْنَي مُعْلَمٌ ... لَدَى الحرب بَطَّاشٌ بكل مُقارع
ولاغُدُوَاتى في البحار زواخراً ... ولا دَلجَاتي في الفَلا والبلاقع
ولا أَوبتى بالغار في كل موكب ... ولاخطرتي بين السيوف السَّوَاطع
فلم يَثْنها عهدٌ وجٌنَّ جنونُها ... بغَضِّ الصِّبا من قومها الصُّفرِ يافع
سباها بطبع منه هَيْنٍ ومنظرٍ ... طَرِيرٍ وخلاَّبٍ من القول رائع
تهيم به دونى وإن يك خادمي ... وتمنحه حقَّي وإن يك تابعي
ولم يَبقَ لي في قلبها اليومَ موضعٌ ... وما كان فيه أمس إلا مَوَاضعي
نعم هي تلقاني بنظرة مُغْرَمِ ... وبسمةِ مفتونٍ وعَطفةِ خاشع
نعم وَهْيَ تسقيني خَدُوعَ رُضابها ... كما مَجَّت الأفعى الخَؤُونُ بناقع(51/55)
وتوهمني الطُّهْرَ الذي يدعينه ... وليس سوى آلٍ بصحراَء لامع
وتُوشك - لولا الرشد - أن تَسْتِخَّفنيِ ... ويَسْتَلَّ حقدي سِحرُها من أضالعي
ويوُشك ذاك الحُسْنُ أن يستهزني ... فأنسي لديها كيدَها وهَو فاجعي
أتْبسَمُ لي غِشاَّ ومحضُ ودادها ... لَدَى قاهري في حُبهِّا ومنازعي؟
لَعمَرْىَ ماذا يدعُوَاني إذا خلَعتْ ... إليه بمنأى عن رقيب وسامع؟
أتدعِينَني فَدْماً؟ أتُفُضْيِنَ للفتى ... بشجوِى ولأَوائي وجَمِّ مواجعي؟
أيَضْحك من جهلي؟ أيزعم أنني ... بليدٌ غليظ الحِسِّ غيرُ مُدافع؟
حَنانَيْكُما - قد جُرْ تُما وغلوتما ... ورفقاً بهذا المسْتغَرِّ المخادَع
سيأتيكما أمري فيَدْري كلاكما ... بأنَّ حِمَى الوَحْشِيِّ ليس بضائع
سأنقع ممن خانت العهد غُلتَّي ... وهيهات ما غيرُ الحِمام بِناقع
سأمنحها كأس المنية مُوقفاً ... بأني لتلك الكأْس أوَّلُ جارعُ
سأُسلِمُها للموتِ أوَّلَ نادمِ ... لتلك الحُليَ تَقْضي وتلك البدائع
سأقتل مَن لو أستطيع فديتها ... بِبَتِّ نِيَاطي أو بِقَطْعِ الأخادع
فخري أبو السعود(51/56)
الإنسان الآلي
للأستاذ محمود غنيم
ماذا أُشاهد؟ لا طيناً ولا ماَء ... وليس هذا الفتى من نسل حواَء
لا يشبه الناس إحساساً وعاطفة ... ويشبه الناس تركيباً وأعضاء
فتى عريق بحبل العلم متصل ... إن عدد الصيد أجداداً وآباء
هي الحضارة أُمٌّ أنجبته وما ... زالت كمريم ذات الطهر عذراء
خلق جديد إذا شاهدت طلعته ... تكاد تومئ بالتسليم إيماء
لا يشتكى مثلما يشكو الورى سقما ... ولا يهاب رسول الموت إن جاء
يرى ويسمع لكن لا يحس وإن ... هم قطعوه بحد السيف أجزاء
فياله ساعياً يمشي على قدم ... لا تشتكى إن شكت أقدام وجناء
وياله خازناً لا تستبيه ولا ... تغريه بالمال إن حاولت إغراء
وياله حارساً لم يشك من أرق ... ليلا ولا حاولت عيناه إغفاء
لن ترهب العقم بعد اليوم والدة ... أو يعدم الشيخ بعد الشيب أبناء
للشيخ ما يشتهيه الشيخ من عقب ... ولليتيم من الآباء ما شاء
لينفخوا الروح فيه مثلما خلقوا ... له يدين وشقوا العين حوراء
قم سائل العلم إذ سوى جوارحه ... هل رام هدماً به أم رام إنشاء؟
يشكو البطالة غادينا ورائحنا ... فهل نضيف إلى أدوائنا داء؟
أما ترى الأرض قد ضاقت بمن حملت ... فثارت الحرب حول القوت شعراء؟
حسب البرية أن الطب يكلؤها ... وأن سهم الردى يخشى الأطباء
يا أيها الرجل الآليّ هل لك في ... ود أساقيكه ماء وصهباء
تشابه الناس عندي في المذاق وإن ... تعدد الناس ألواناً وأسماء
لأَنت أسلم يا ابن الصلب عاقبة ... من أنفس ملئت حقداً وبغضاء
أقسمت أنك بين الناس أنزههم ... يداَ وأطهرهم قلباً وأحشاء
حببت فيك فتى ما قال فاحشة ... يوماً ولا عاب إنساناً ولا ساء
محمود غنيم(51/57)
فولتير العظيم حتى بموته 1694 - 1778م
بقلم مهدي الجم الطرابلسي
ما أنا أول الذين يتحدثون إليك عن فولتير ولا آخرهم. بل أنا من هؤلاء الذين تلح على عواطفهم إشعاعات من أرواح العظماء فتبعثهم حينا راضين وآخر كارهين لينشروا ماضي هؤلاء العظماء ويتغنون بعبقريتهم ويسجلونهم في سجل الأفذاذ الخالدين.
أطل فولتير على الحياة سنة أربع وتسعين وستمائة وألف فشب ورأى من حوله فساد الحكومة والبيئة فعظم عند نفسه أن يرى أفراد الشعب يتضورون جوعاً والملك والحاكم ينزلون بهم أنواع العذاب عاتين جائرين. وكان كاتباً رائع الكتابة رائق الأسلوب قوي العارضة سيال القريحة سياسي المبدأ لاذع النقد. وكانت الصحف التي تنشر رسائله رائجة نافقه اكثر من غيرها، لان الشعب كان يُقبل على كل رسالة له أو كتاب فيطالعه، فتنشيه نغمة العبارات ولحن الأسلوب فيعيد مطالعته، فيؤثر في نفسه، فيهيج هياجاً شديداً، لأنه ضد الحكومة. وقد كان الشعب الباريسي يضمر لفولتير حباً شديداً حتى أضحت كلمته فوق كل كلمة، وأسمه فوق كل اسم، وحتى أضحى رسمه زينة، تحلى بها الأكاليل والمتاحف، وحتى أضحى الشعب يمحص كل كلمه من كلماته تمحيصاً ويعربها ويردها إلى اصلها مستمتعاً مغتبطاً بذلك.
وهكذا استأثر فولتير بقلوب أبناء وطنه وجعل من نفسه قائداً محبوباً يشير فيطاع. والشعب لم يقبل على فولتير ومؤلفات فولتير ولم يهتف له إلا لنقده الملك والملكة والبلاط وما فيه، النقد اللاذع الذي دعا الملك أن ينفيه من اجله.
كانت الكونت لدلنفيليه قد تكهن أن فولتير صديقه سيموت في الثلاثين من عمره، لكن فولتير الجبار لم يكن ممن يتأثرون بتنبؤات الكهنة والمنجمين، فأستمر لا يحيد عن سمته في النقد والفلسفة، ولما جاوز الثلاثين كان يداعب صديقه الكونت قائلاً: (لقد خدعتك أيها الصديق بثلاثين عاماً وخدعت نفسي بالباقي)
وأخيراً لم يرى الملك بداً من إخراجه عن فرنسا. وهكذا قضى فولتير حياته شريداً طريداً يتنقل من بروسيا إلى إنكلترا إلى غيرهما.
وقد قضى اكثر أيامه على ضفاف بحيرة جنيف في (فرني) وغيرهما حيث سالت نفسه(51/59)
حنينا إلى وطنه، فرق أسلوبه كثيرا وبرعت ديباجه.
ألف فولتير من الكتب والقصص (محمداً، زاير، ميروب، عصر لويس السابع عشر، تأريخ شارلي الثاني عشر، كالديد، ميكروموكاس، زاديك، القاموس الفلسفي، ملاحظات على نظريات باسكال) وغير ذلك من المؤلفات التي جعل بعضها قصصاً تخيل وقائعها في بلدان شرقية وعصور خاليه، فقصته (زاديك) جعل وقائعها في بلاد فارس في عصور ما قبل الميلاد، فقارئها يرى من طرف خفي وظاهر ان فولتير ينتقد الملك والبلاط النقد الجارح الأليم.
لأضرب لك مثلاً في كتابه زاديك: - (زاديك شاب غني فيلسوف هجر المجتمع الخاطئ واعتزل في قصر له في البرية، فانه ليتجول يوماً في الغابة إذ مر به خصيان البلاط والحرس الملكي يسألونه متلهفين أريت كلب الملكة وحصان الملك؟ فيقول هي كلبة لا كلب، ولكن لم أرها، فيكبلونه إلى الحاكم فيحكم عليه بالجلد والنفي إلى سيبيريا فما يكاد يفعل حتى توجد الكلبة والحصان فيعفو عنه، ولكنه يحكم علية بغرامه قدرها أربعمائة من الذهب) وهكذا يريد فولتير أن ينقل البلاط وأن يقولَ إن الداخل فيه خاسر ما في ذلك شك، مدعياً كان أو مدعى عليه.
لقد كان منظر فولتير يدل على غير ما يختلج في نفسه، فقد كان الناظر إليه يحسبه سعيداً مغتبطاً، على حين أن فولتير قضى حياته بين عبرة مهراقة، وزفرة مصعدة، بدليل عبارات تقرأ في رسائله. وكان فولتير هزيلاً ناحلاً، وكثيراً ما كان يشكو ألماً في جسمه يقول ان الأطباء لم يهتدوا إليه بعد. فكان يئن في نفس، فتبدو انته على ثغره ابتسامة عذبة هادئة تجتذب إليه النفوس، وقد نعته، فكتور هوجو بالرجل الكئيب الباكي. وفولتير وان كان أكثر الشعب مناصراً له فقد كان له أعداء كثيرون يتسخطون عليه ويتبرمون بكتاباته النارية الحماسية التي كانت إحدى الشرارات الرئيسية التي أضرمت نار الثورة الكبرى من بعد. فكان هؤلاء السادة يجادلونه فلا يقف عن مجادلاتهم، ويغالبونه فلا يفتى عن مغالبتهم، وهو مع ذلك لم يهن، فهم ما كانوا ليزدادوا إلا موجدة عليه، وهو ما كان ليزداد إلا استهزاءً واستخفافاً بهم.
ولما مات لويس الخامس عشر وتربع على العرش لويس السادس عشر كان فولتير في(51/60)
منفاه، فاستأذن الملك الجديد العودة إلى وطنه فإذن له، ولكن بعد ان تهدده الملك وتوعده بالنفي والتشريد إن هو عاد سيرته الأولى. فعاد إلى باريس برفقته كاتبه الخاص. وكانت قد سبقته إليها زوجه والمدام دنس حفيدته التي كان يحبها كثيراً وصديقه المركيز دي فيلت ليعدوا المنزل ويهيئوا المستقر.
وفولتير إذا أتى باريس فقد أشرقت باريس وهب الناس كلهم هبة واحدة محللين فرحين. فلما أن أقبل كانت المحطة مزدحمة بالناس حتى لا مسير. وقد أخذ مخبرو الصحف يكتبون عنه الرسائل المسهبة الطويلة ويصفونه جزءاً جزءاً فقالوا انه اقبل وكان على رأسه قلنسوة أرجوانية صوفية. وانه كان مرتدياً برداء من الفرو المخطط، وانه زار صديقه الحميم القديم (دارجنتال) في شارع (اورسه)، وانه خرج بعد ذلك يقصد منزله، وان الأولاد الصغار إذا رأوا منظره الغريب أخذوا يهتفون بحياته ويصفقون، وانه لما انتهى إلى منزله اخذ الناس يفدون عليه أفواجاً فيستقبلهم بثياب المنزل معتذراً بمرضه.
وحقاً لقد امتلأ المنزل افناؤه وحجراته وأروقته بالناس من جميع الطبقات. فكان فولتير يبسم لهم ويستقبلهم بأحسن ما يستقبل مزور زائراً، وقد قيل انه لم يبق أحد في باريس إلا واقبل يهنئه بالعودة السالمة ويدعو له بطول العمر. وذلك مما دعاه أن يسن دستوراً للزيارة. فأمر حفيدتهأن تقيم في القاعة الكبرى ففعلت تستقبل الزائرين عوضاً عنه وتعتذر لهم بمرضه إلا العظماء منهم فقد كانت تقدمهم إليه فيجالسهم ساعة ثم يعود إلى غرفته يتسلى بالقراء والكتابة. وممن زاره منهم سفير إنكلترا وفرانكلن الشهير وغيرهما، لكن كان يستقبل الكل بثوب المنزل لا يخلعه إلا للنساء فقد كان يجهلن. فلما زارته الكونتيس دي باري لم يشأ أن يبدو إليها بهذا الثوب، فلم يقابلها اولاً، فرجته وألحت في الرجاء، ورجاه أصدقاؤه وألحوا في ذلك أيضاً أن يفعل فاقبل كارهاً متعثراً، فقال له من حوله انك تقول أن ثوب العقل خير من ثوب الجسد فماذا دهاك اليوم؟
ولقد كان الناس يجتمعون حول منزله كل يوم فلا يزالون يهتفون به حتى يخرج إلى النزهة فيركب عجلته فيزدحم الناس من حولها ويقبل بعض المتحمسين يدفعون الناس بمناكبهم يريدون أن يحملوا العجلة فلا يمتنعون حتى يرجوهم فولتير الامتناع شاكراً، لكن وا أسفاه! إن هذه الاستقبالات والمهرجانات أمرضته، ولا سيما حين سمع إن صديقه (لكن)(51/61)
قد قضى. ولقد كان مرضه انحباس البول، وتورم الرجلين، وقد منع طبيبه كل إنسان، وحال بينه وبين أصدقائه، فعكف فولتير في سريره يؤلف القصص ويكتب الرسائل، ويئن بين الحين والحين أنة لاشك سامعها، في أنها أنة عظيم.
عناية طبيب فولتير بفولتير وعنايته بنفسه بدت نتيجتها، فابل ونقه، وشرع يطبع روايته التي وضعها أثناء المرض وسماها - أرين - وقبل أن تعرض للتمثيل جهد فولتير جهداً عظيماً في تدريب الممثلين وتعليمهم إتقان ادوارهم، ولم تكن صحته قد عادت إليه كاملة، فرماه الكد والتبذل في سرية، فإذا الحمى تدور في جسمه، وهذا صداع شديد يهز جمجمته، وهذا ورمشديد في قدميه، وانحباس موجود في كليتيه، ثم هذا دم يخرج من رئتيه، ثم هاهو ذا يهذي ويصرخ الصرخات الداوية: وطبيبه لم يدر أصل الداء ومنبت العلة، فلجأ إلى الحكمة والدراية. فاستأجر ممرضة صبية جميلة أعجبت فولتير وسر بها كثيراً. أما الصحف فكانت تملأ أعمدتها في الحديث عنه، فإذا أكل فولتير دوى في أفق باريس إن فولتير أكل وإذا شرب فولتير قد شرب. ولم يزل الداء يلح به ويضعف من جسمه ومن حواسه حتى كاد لا يقدر أن يقرأ كتابا أو صحيفة ولا أن يستوي جالساً في سريره. لكن ماذا؟ ها هو ذا فولتير يصح وينشط فلا دم يبصق ولا قدم تتورم وها هو ذا الطبيب قد أذن له بأكل بيضة وقطعة من الخبز، وحسو كأس من الماء ومثلها من الخمر كل يوم. وإذا عادت إلى فولتير صحته فقد عادت إلى الناس المسرات والأفراح. وأما الأطباء فوقفوا وقفة الحائر أمام هذا المرض العجيب وسرعة شفائه. وكان تمثيل الرواية قد تأجل ليشهده فولتير بنفسه، فلما شفى حكم الأدباء والفلاسفة فيها فأعجبوا بها إعجاباً شديداً فمثلت، ولكن فولتير لم يشهد التمثيل فقد سقط مرة أخرى وخيف أن تكون السقطة الأخيرة الهائلة. فعاده الأطباء فوصفوا لبن اتانٍ يتناوله فشفى بعض الشيء، وخرج إلى متنزه الشانزلزيه بعربته، فالتف الناس من حولها هاتفين: ليعش فولتير! ليعش فولتير! وقد كان السعيد منهم من يحظى بشعرة من ردائه.
لكن مما يؤلم أن فولتير أمسى بعد ذلك هائج البال، فاسد الرأي فقد سأل ان يبدلوا الممرضة بأخرى غيرها قائلاً أنى استحي أن اخلع ثيابي أمام تلك الفاتنه، فأبدلت بأخرى. ولكن هاهو ذا المرض يطل عليه زائراً مرة اخرى، ولكن هاهو ذا الشفاء يأتيه عائداً ثانية.(51/62)
أما الرواية (ارين) فقد مثلت ست مرات، وفي الأخيرة تجلت عظمة فولتير وكبر نفسه واضحين وقد شهدها فولتير، فلما انتهى التمثيل قام الشباب وجعلوا يتمسحون به ويلثمون يديه ويهتفون باسمه، ووصل إلى منزله تلك الليلة وما احسب أن أحداً وصل في الدنيا ليلاً إلى منزله وصوله.
أفاق الناس صباح 23 أيار من سنة ثماني وسبعين وسبعمائة وألف، فإذا هم يتحدثون أن فولتير قد تورمت قدماه وانحبس بوله واصبح يبصق أفلاذ كبده وانه لا يرجى له شفاء.
وحقاً لقد وقع فولتير هذه المرة ويأس طبيبه من نجاته، أعاده الماريشال ريشيليو، وصف له دواءً يدفع عنه الأرق فتناوله فولتير دفعة واحدة فتعقد داؤه وعز دواؤه.
أضحى فولتير بعد هذه السقطة فارغ الصبر ضيق الصدر، هلوع النفس متلكئ الجسم يسب من حوله، ويضرب ممرضته، ويجافى حفيدته، وينظر إلى الناس بغير العين التي كان ينظر بها إليهم وكان يصرخ بين الحين والحين صراخاً عظيماً احتار في تعليله الأطباء، ولم يعرفوا إلى شفائه من سبيل. وممرضته كلت وملت وأسلمته إلى يد القدر إلا قليلاً. وأشار عليه صيدلي أن ينشق الأفيون، ففعل دون أن يدري طبيبه. والأفيون أنامه إنامة طويلة استفاق بعدها فإذا معدته لا تهضم اللبن الرائب. ومر به جراح شهير يدعى (ترى) وفحص مثانته وكليتيه وتوصل بحيلته وحدة ذكاءه ان يفتح للبول طريقاً بواسطة أنبوب طبي. وارتفعت درجة حرارته بعد ذلك كثيراً فأرقدوه في الجليد فما أفادوا شيئاً!!
وا حسرتاه! لقد فقد فولتير عقله أو كاد! لقد أضحى يرجع إلى أحشائه من فيه ما يخرج من احشائه، فكانت حفيدته تبكي كثيراً وتقبل عليه وتقول: مسيو فولتير! مسيو فولتير! لقد كنت مثال النظافة فانظر إلى أية حال مؤلمة قد صرت.
ومن الأطباء الذين اعتنوا بفولتير كثيراً ترونشين طبيبه الخاص وبلوري وتياري. وقد بذل هؤلاء الأطباء الحكماء أقصى ما وهبوا من حيله وذكاء لشفائه، فخاب سعيهم وما ازدادوا إلا جهلاً بالداء. ودخلوا عليه ذات ليله فإذا هو حائل اللون، ازرق الشفتين متصلب اليدين والقدمين، فأخذوا يعالجونه ساعة حتى أفاق وقال: آه! دعوني أسير إلى ربي. ثم اخذ يصيح صياحاً شديداً تهتز له النفس، وتسيل له الأفئدةهولاً وجزعاً. فعلل أطباؤه صراخه بوجع شديد لا يعرفون مصدره، وخافت الممرضة إذ رأته على هذه الحال، وخاف الأطباء(51/63)
أيضاً ولبثوا حتى منتصف الليل يعالجونه وينضحون جسمه بالماء فما أفادوه. وفي تلك الساعة المظلمة فاضت نفساً عظيمة بعد أن سجلت آثارها في سجل الخلود.
قيل إن فولتير مات مسموماً وأن يداً لم تعرف بعد قد دست له السم، وقال الأطباء نعم لقد مات مسموماً، ولكن اليد التي دست له السم هي يد دائه.
حماه
مهدي الجم الطرابلسي(51/64)
في الأدب الفرنسي
8 - الدوق دي لارشفوكو
للدكتور حسن صادق
ولكي يخفف من حدة الإنكار قال في مكان آخر من كتابه (الحسد تقضي عليه الصداقة الحقيقية) (موعظة رقم 376).
(مهما يكن الحب الصحيح نادراً، فانه أقل ندرة من الصداقة الخالصة) (موعظة رقم 473). أيأنه يؤمن بندرة الصداقة النقية ولا ينكرها إنكاراً تاماً.
وحكمه على الصدق والوفاء ليس بأقل غرابة من حكمه على الفضائل السابقة: (الصدق هو إخلاص القلب ولا يتصف به إلا عدد قليل من الناس. أما الصدق الذي يرى عادة فهو مداهنة بارعة ترمي إلى اكتساب ثقة الغير) (موعظة رقم 62) (بغض الكذب هو في الأغلب طموح دقيق غير محسوس إلى جعل أقوالنا تكسب منزلة رفيعة واحتراماً كالذي يلهمه الدين) (موعظة رقم 63) (الوفاء الذي يبدو من كثرة الناس هو حيلة ابتكرها حب الذات لاجتذاب الثقة) (موعظة رقم 247).
ولنذكر الآن ما قاله عن الحب: (لا يوجد إلا نوع واحد من الحب، ولكن منه صور زائفة لا حصر لها) (موعظة رقم 74) (الحب كالنار لا يستطيع أن يحتفظ بوجوده إلا بالحركة المستمرة. ويصيبه العفاء في اللحظة التي يكف فيها عن أن يأمل أو يخشى) (موعظة رقم 75) (مثل الحب الصحيح كمثل ظهور الأشباح، جميع الناس يتكلمون عنها، ولكن قليلاً منهم من رآها) (موعظة رقم 76) (كثير من الناس لو لم يسمعوا أحاديث الحب، لما أحبوا) (موعظة رقم 136) (الغياب يخفف من وطأة الأهواء الضعيفة ويورث نار الأهواء القوية، كالريح تطفئ الشمعة وتوقد النار) (موعظة رقم 276) (إذا اعتقد الإنسان انه يحب صاحبته فهو مخطئ) (موعظة رقم 374).
ثم قال عن الغيرة: (الغيرة تستمد غذاءها من الشك، ويمحوها اليقين) (موعظة رقم 32) (مبلغ ما في الغيرة من حب الذات، اكثر مما فيها من الحب) (موعظة رقم 324) (الغيرة أكبر الشرور، واقلها استدراراً لشفقة الذين ينسجون أسبابها) (موعظة رقم 503)
وهذا الرجل الذي كان يبجل النساء في حضرتهن، ولا يقول كلمة تؤذي شعورهن، قسا(51/65)
عليهن في مواعظه: (تمنع النساء نوع من الزينة يضفنه إلى جمالهن) (موعظة رقم 204) (عفة النساء هي في الأغلب الحرص على سيرتهن وراحتهن) (موعظة رقم 205) (الغرور وخشية العار وعلى الأخص المزاج، تعمل في الأغلب قيمة الرجال وعفة النساء) (موعظة رقم 220) (الكثرة من النساء يبكين عشاقهن الذين يقضون نحبهم، لا لأنهن أحببن هؤلاء العشاق، ولكن ليظهرن أنهن جديرات بالحب) (موعظة رقم 362) (قليل من النساء الشريفات من لم يسأمن عفتهن) (موعظة رقم 367) (كثرة النساء الشريفات كنوز مخبأة، ليست في مأمن من العبث إلا لأن الرجال لا تبحث عنها) (موعظة رقم 368) (الخليعات يفخرن بغيرة عشاقهن ليخفين الحسد الذي يضمرنه لغيرهن من النساء) (موعظة رقم 406).
وحكمه على التواضع ليس بأقل قسوة من حكمه على العواطف والفضائل السابقة (لا يمدح الإنسان غيره عادة إلا ليمدح) (موعظة رقم 196) (قليل من الناس من يملك الحكمة التيتجعلهم يفضلون النقد الذي ينفعهم على الثناء الذي يخدعهم) (موعظة رقم 197) (رفض الإنسان المديح معناه الرغبة في ان يمدح مرتين) (موعظة رقم 199).
ويستمر لاروشفوكو في أحكامه على الأعمال والفضائل الإنسانية حتى يصل إلى هذا الحكم العام (تدخل الرذائل في تركيب الفضائل، كما تدخل السموم تركيب الدواء، التبصر يجمعها ويخفف من وطأتها ويستخدمها بنفع في مغالبة شرور الحياة وآلامها) (موعظة رقم 182).
وهو يعتقد أن الإنسان في حياته عبد لأهوائه وليست الإرادة شيئاً مذكوراً (في القلب جيل من الأهواء لا يفني، حتى أن زوال أحدها هو في الواقع طغيان هوى آخر عليه) (موعظة رقم 10). فالنضال الذي نعتقد انه قائم في دخيلتنا بين الهوى والعقل، بين الرغبة والواجب، هو سراب محض. (الحظ والشرف يحكمان العالم) (موعظة رقم 435) (مهما يفخر الناس بأعمالهم العظيمة، فإنها في كثير من الأحيان ليست نتيجة تدبير عظيم، ولكنها نتيجة المصادفة) (موعظة رقم 57) (جمع صفاتنا تقريباً تحت رحمة الظروف) (موعظة رقم 170) (يخيل إلى أن لأعمالنا نجوماً سعيدة وأخرى شقية ندين إليها بكثير من الثناء أو اللوم الذي يوجه إلينا) (موعظة رقم 58).
وإذا كانت المصلحة الذاتية تقود الفرد والجماعة، فكيف نفسر هذا الشعور المعقد الذي يتبع(51/66)
ارتكاب أعمال مضادة للفضيلة، وهو الندم؟ يفسر لاروشفوكو الندم الخارجي، أي الاعتراف بالزلل بقوله: (إننا نعترف بخطايانا لنصلح الفكرة السيئة التي علقت بأذهان الغير عنا) (موعظة رقم 184). ويفسر الندم الباطني بقوله: ندمنا ليس أسفاً للشر الذي فعلنا بقدر ما هو خوف شر يصيبنا من جراء ما فعلنا) (موعظة رقم 180).
وبما أن المنفعة هي غرض الإنسان الوحيد، إذن يكون الخير الوحيد هو الخير المحسوس في إغفاله. وبما ان الموت هو نهاية كل شر، إذن الموت اكبر شر: (الشمس والموت لا يستطيع الإنسان ان يحدق فيهما) (موعظة رقم 26).
وقد ظن بعض الناس أن لاروشفوكو يستعمل هذه الكلمات: في الاغلب، عادة، تقريباً، كثرة الناس، لياقة ومجاملة حتى يعتقد كل قارئ انه من المستثنين، ولكنه يستعملها على الأرجح لأنه يؤمن بوجود الفضيلة الخالصة، ولكنها نادرة. والدليل على ذلك انه لا يذكرها في بعض مواعظه. ولنضرب مثلاً: (الصدق إخلاص القلب. . . موعظة رقم 62) فهو لا ينكر وجود الصدق، ولكنه يؤمن بندرته. وهو يتعدى بطريقته إلى كشف اللثام عن الفضائل الكاذبة التي يدعيها اكثر الناس.
ومواعظ لاروشفوكو على قسوتها تنفع الإنسان لأنها تجعله يتأمل نفسه ويراقب فضائله ويطهرها من الرذائل التي تختلط بها.
ولهذه المواعظ اثر كبير في تفكير فلاسفة أوربا النابهين أمثال كانت، وشوبنهور، ونيتشه، وبنتام، وستيوارت مل، وبييربايل وهلفسيوس وغيرهم. وسنتحدث عن هذا الأثر في فرصة أخرى أن شاء الله.
تم البحث
حسن صادق(51/67)
العلوم
استحالة الأجسام
بقلم منير غندور ليسانسييه في العلوم
لو سألت أحداً ممن لم ينالوا من العلم شيئاً من هو الكيميائي؟ لأجابك إن الكيميائي رجل يستطيع أن يحول الرصاص ذهباً، وهذا لا وجود له.
وهكذا علق في ذهن كل منا عندما قرا القصص القديمة إن الكيميائي هو الذي يستطيع ان يحول معدناً خسيساً إلى معدن ثان نفيس تحت تأثير قوة روحية سحرية.
الانتقال من عنصر إلى عنصر كان حلم الكيميائيين القدماء.
غلت المراجل أياما وليالي، واستحضر الكيميائيون الأرواح واستنجدوا بالأسرار، واوهم أناس أناساً بأنهم توصلوا إلى سر هذه المهنة، وأتت القصص تستعمل هذه المواضيع، وقضى بعضهم حياته ساعياً وراء هذا السراب الخلاب لينتظر قوة يجهلها تحول رصاصه ذهباً، ومضى عصر ثم عصر وعصور، دون أن يستحيل درهم من رصاص إلى عشر درهم من فضة أو ذهب!
واليوم وأين نحن من تحقيق هذه الفكرة؟ أين نحن من تحقيق خيال كيميائيينا القدماء؟
لسنا بعيدين قط عن تحقيقها، وان كنا لا نزال نقف أمام رصاصنا وقفة ذلك الكيميائي القديم يستنزل القوة. نعم لقد أصبحت استحالة الأجسام شيئاً خاضعاً للقوانين العلمية الثابتة.
ولكن القوة التي كانت تنقص الكيميائي القديم ليحقق خياله لا تزال تنقصنا لنحقق يقيننا العلمي. ومن يدري؟ فلعل ذلك الخيال كان في الحقيقة إلهاماً علمياً!
أثبت (ايفيزيك) أن المادة مركبة من وحدات متناهية الصغر تدعى كهارب، تدور بسرعة هائلة حول نواة وسطية كما تدور السيارات حول الشمس، وكل نظام من هذه النظم الصغيرة يشبه ما نسميه ذرة. هذه الكهارب هي نفسها في كل ذرة وفي ذرة أي عنصر. وإنما الذي يختلف إذا انتقلنا من عنصر إلى اخر، من النحاس مثلاً إلى الذهب، أو من الأزوت إلى (الهيدروجين) هو عددها والترتيب في مركبات النواة. (النواة بدورها مركبة من أجزاء صغيرة جداً تقسم إلى كهارب وإلى بروتون. وهي تحمل، أي النواة، كهربائية إيجابية.) فالانتقال إذاً من عنصر إلى عنصر شيء ممكن إذا استطعنا تبديل عدد هذه(51/68)
الكهارب أو تبديل الترتيب داخل النواة.
ان تركيب الذرة ودرس خصائصها هو في الحقيقة معقد اكثر من هذا بكثير على الأخص مع ما يكتشف في كل يوم في هذا الميدان، ودرس الذرات اصبح اليوم علماً مستقلاً بنفسه يقوم بالتنقيب فيه رجال كثيرون. ولكني اقتصر على هذا الشرح البسيط حرصاً إظهار الغرض الرئيسي من هذه الكلمة وهو إمكان استحالة الأجسام.
وهذه النظريات التي تقدم لنا الذرة على الوجه الذي شرحت لم تكن معروفة إلى عهد قريب. إذ كان من الثابت أن الذرة هي اصغر شيء يمكن الحصول عليه من عنصر ما فهي وحدة لا تتجزأ. والذي سمح للعلم أن يأخذ طريقه الجديد في شرح الذرات هي النتائج العظيمة التي قدمها درس الأجسام (ذات الإشعاع الفعال) - واكتشاف هذه الخاصة في هذه الأجسام يدين به العلم إلى فهو قد لاحظ قبل أن يكتشف مسيو كوري وامرأته الراديوم أن ملحاً من أملاح الايرانيوم يستطيع أن يعطي دون أي تأثير خارجي معروف أشعة مؤلفة من ثلاثة أقسام: أشعة ألفا (?) وهي مركبة من أجزاء مكهربة إيجابيا، من أشعة باتا (?) مركبة من كهارب ومن اشعة جاما وهي كأشعة
هذه الأجسام ذات الأشعة الفعالة تتفكك عندما تذيع ألفا (?) (وهذه مؤلفه من أجزاء مكهربة إيجابيا والآن أزيد على أنها من الهاليوم) وأشعة باتا (مؤلفة من كهارب سلبية كما رأينا) وتعطى ذرات جديدة مختلفة. وهكذا فالراديوم يتفكك عندما يذيع أشعة الفا وينتج ذرة جسم جديد كانوا يسمونه ذرور الراديوم ويدعى اليوم رادون ولكن هذا يتفكك بدوره فيصبح راديوم ثم راديوم ثم راديوم. . . وهكذا إلى أن يصبح رصاصا. وهناك أجسام أخرى من ذوات الإشعاع الفعال كالايرانيوم والطوريوم (وقد عرف من هذه الأجسام أربعون تقريباً) تتحول إلى أن تصير رصاصاً.
ولكن كيميائي هذه الاستحالة هو الطبيعة، ولا يمكننا أن نؤثر على هذا الكيميائي في شئ، فنحن لا نستطيع أن نجعل سير هذه الاستحالة اكثر أو اقل سرعة، ولا نستطيع تسبيبه ولا إيقافه.
يظهر لنا من هذا المثل أن الأجسام ذوات الإشعاع الفعال، وهي كلها ذوات وزن ذري مرتفع، هي في حالة توازن وقتي فتنفجر ذراتها تحت تأثير نجهله وتتحول إلى أجسام(51/69)
اضعف وزناً ذرياً وتحصل عندها على توازن مطلق.
غير أن الطبيعة تقدم لنا أمثلة في الاستحالة غير هذه تدلنا على أن تحول الأجسام يمكن أن يحصل دون انهيار أو تدن في الثقل الذري. ولنا في الأجرام السماوية آية على هذه الاستحالة: فالسدم يتركب كما يظهر من فحص طيفها على الأخص من هيدروجين ومن هاليوم. وإذا تتبعنا تطورها نرى أنها تتحول تدريجياً لتؤلف كواكب فيها اكثر العناصر التي نعرفها في الكيمياء. فهاليوم السدم وهايدروجانها قد تحولا إلى عناصر جديدة اقل بساطة وارفع ثقلاً ذرياً. ودرس الكواكب ونشوئها ومعرفة ما تتركب في مختلف حالات تطورها هو الذي جعل لوكيار يقول بتحول المادة قبل ان تكشف خصائص الأجسام ذوات الأشعة الفعالة.
ولكن هذه الاستحالة كتلك كيميائيها هو الطبيعة، والقوى التي يستخدمها لا قدرة لنا على إيجاد مثلها. فالحرارة التي تسود في تلك الطبقات والضغط الهائل هما القوة المستعملة ليتألف من تلك العناصر البسيطة كل باقي العناصر.
الآن وقد ظهر لنا كيف كان من الممكن استحالة ذرة إلى ذرة وكيف أن الطبيعة تعطينا أمثلة من هذه الاستحالة أريد أن أقول كلمة في المحاولات التي أجريت لتحقيق فكرة استحالة العناصر عمليا.
إن ما يصح أن نعتقد به الآن كتجربة علمية لاشك فيها هو ما قام به العالم الإنكليزي ريتفورد لقد سلط ريتفورد مقذوفات جسم ذي إشعاع فعال، أجزاء الفا، على بضعة عناصر: الأزوت، البور، الفوسفور، الصوديوم، الألمنيوم والفليور. فتفككت هذه العناصر تحت تأثير هذه القذائف التي تسير بسرعة 20 ألف كيلومتر في الثانية وأعطت هيدروجين. غير أن كمية الهيدروجين كانت متناهية القلة.
وما عدا هذه النتيجة فكل ما قام به المجربون، وهم كثيرون، لا يزال يشك في صحته، ولذا لا أرى لذكره فائدة.
نشط العلماء في جميع أنحاء العالم يواصلون جهودهم للتوصل إلى نتيجة نهائية. وليس من العسير علينا أن نفهم اندفاع هؤلاء العلماء في هذه المضمار، فالوصول إلى استحالة الأجسام بطريقة ما يتغير فكرتنا عن المادة وعن الحياة، نستطيع أن ننتقل من عنصر إلى(51/70)
عنصر، لقد ألغيت الحاجة! الحاجة كما يصورها مجتمعنا الحالي لأنه سوف تخلق حاجات لاوجود لها الآن.
لا نحتاج لنحمل إلى البشرية اختراعاً (لا يقل أهمية عن اكتشاف الرجل القديم للنار) إلا قوة اشد مما عرفنا إلى الآن، قوة من أي نوع كانت. ولنا الحق في الأمل بأننا سوف نصل قريباً، فالكهرباء تعطينا في كل يوم قوة لم نكن نتخيل الوصول إليها.
وقد توصل الدكتور (فان دي جراف) إلى توليد مجرى كهربائي تحت ضغط عشرة ملايين (فولت) وسيزيد عدد (الفولتات) ويزيد. . أو سنكتشف قوة جديدة لا نشك بوجودها فنمزق الذرة كيفما شئنا ونتصرف فيها كيفما أردنا ونحقق حلم كيميائيينا القدماء.
منير غندور(51/71)
2 - إسحاق نيوتن1642 - 1727
للأستاذ مصطفى محمود حافظ
رجوعه إلى كامبردج:
تركنا نيوتن في مقالنا السابق يغادر مزرعته ذاهباً إلى كامبردج للمرة الثانية، بعد أن احتجزه الطاعون مدة سنتين بعيداً عن مكتبة الجامعة ومعاملها، مما كان سبباً مباشراً في عدم ظهور قانون الجذب العام في هذه الفترة، وظهر متأخراً بين عاصفة من المناقشات والأحقاد
نال الأستاذية بعد سنة من رجوعه، ثم اختارته الكلية زميلاً وقد كان لهذه الزمالة فوق ميزة الشرف ميزة أخرى مادية كان نيوتن في اشد الحاجة إليها في ذلك الوقت الذي لم يكن له فيه من مورد سوى ما كانت توفره له أمه من دخلها الصغير.
اشتغل نيوتن بإتمام صنع تلسكوبه العاكس الصغير وكان طوله ست بوصات، وتمكن بواسطته من رؤية المشتري وأربعة من أقماره (المشترى له تسعة أقمار). ولكنه كان يعمل دائماً على تحسين هذا التلسكوب العاكس. وكان عدا اشتغاله بإجراء التجارب الكيميائية يقوم بمساعدة أستاذه (إسحاق بارو) في إعداد محاضراته في الرياضة، وقد ساعده أيضاً في تصحيح محاضراته الضوئية، ولكنه لم يجرؤ على أن يخطئ أستاذه فيما كان يعتقد في طبيعة الضوء الأبيض على أساس ما وصل إليه هو من تجربة المنشور الثلاثي وفي سنة 1669 غادر الأستاذ (بارو) كامبردج تاركا كرسيه في الجامعة مرشحاً خلفاً له فيه إسحاق نيوتن الشاب، وقد عين فيه، فكان يحاضر في البصريات والجاذبية وعلم الجبر، ولكنه ظل يعني بأبحاثه العلمية وإصلاح تلسكوبه الأول.
الجمعية الملكية بلندن وعضوية فيها:
نشأت هذه الجمعية في سنة 1645 من نفر من ذوي الميول الفلسفية، كانوا يجتمعون في مواعيد معينه في لندن في كلية (جراشام). وفي سنة 1660 بلغ عدد أعضائها 41 عضواً واتفقوا على ان يدفع العضو عشرة شلنات رسما للدخول في الجمعية وشلناً أسبوعيا قيمة الاشتراك فيها.(51/72)
وقد ساعد الملك (تشارل الثاني) هذه الجماعة لميله إلى العلوم وفي سنة 1661 اصبح عضواً في هذه الجمعية الناشئة التي سميت الجمعية الملكية.
ولما أتم نيوتن صنع تلكسوبه الثاني في سنة 1671 آثار به اهتماماً كبيراً، ونصح له أن يقدمه إلى الجمعية الملكية، ففعل، ولا تزال تحتفظ به الجمعية إلى الآن. وقد انتخب عضواً فيها في يناير سنة 1672 فكان أول ما قدمه إليها رسالة عن طبيعة الضوء الأبيض، فكانت أول حلقة في سلسلة المتاعب التي لازمته طول حياته.
لقد كانت نظرية نيوتن تقول بان الضوء الأبيض ليس في الواقع إلا عدة ألوان تؤثر كلها في شبكية العين فتعطي تأثير اللون الابيض، ويمكن تفريق اللون الأبيض إلى هذه الألوان المتعددة بإمراره في منشور ثلاثي من الزجاج مثلاً. ولكنه اخطأ واعتبر أن مقدار الانكسار لا يتغير لكل من مكونات الضوء الأبيض غير ملاحظ ما يسببه اختلاف نوع الزجاج المستعمل في تغير هذا المقدار.
عارضه في ذلك من معاصريه العالم (روبرت هوك) الذي ظل منافساً قوياً له فيما بعد، والفيلسوف الهولندي (كرستيان هيجز) صاحب النظرية الموجية في الضوء، والفلكي المشهور (فلامستيد). كما عارض فكرته من غير معاصريه الشاعر الألماني العظيم (جوت) رغم قصر باعه في العلوم الطبيعية.
نظرية نيوتن في ماهية الضوء
وقد جر الجدال حول هذه النقطة نيوتن إلى أن يضيع بضع نظريته في الطبيعة الضوء، وهي نظرية (الدقائق) التي قضت على النظرية الموجية بالاختفاء قرناً كاملاً.
قال نيوتن في تفسير الضوء انه عبارة عن (دقائق) صغيرة تنطلق من الجسم المضيء وتسير بسرعة كبيرة في خطوط مستقيمة، وقد فسر على هذا الأساس ظاهرتي (الانعكاس) و (الانكسار) وذلك بأن رأى لدقائقه أطواراً تجعلها تنعكس مرة وتنكسر أخرى. وقد شرح على أساس هذه النظرية كل الظواهر الضوئية التي كانت معروفة في عصره كالحيود والتداخل بشروح تتراوح بين البساطة والتعقيد وقد دافع نيوتن عن نظريته هذه بكل ما أوتي من ذكاء، فظلت مأخوذاً بها عند اغلب علماء الطبيعة حتى أوائل القرن التاسع عشر، حينما بدأت النتائج العلمية تؤيد النظرية الموجية، فاختفت نظرية نيوتن ولم يعد يؤبه لها(51/73)
مما جعل البعض من المتحيزين إلى نيوتن يقولون انه لم يكن يقصد إلى وضع نظرية كاملة لطبيعة الضوء، إنما كان يقصد الرد على معترضي فكرته في الطبيعة اللون الأبيض فوضع ما يقرب من أن يكون نظرية. ولكن الأبحاث الأخيرة في (نظرية الكم) التي وضعها (بلانك) تكاد تؤيد (دقائق) نيوتن، وهي أن فعلت فان نيوتن يكون قد سبق معاصريه بما يقرب من ثلاثمائة عام.
وقد أراد نيوتن أن يثبت علمياً دوران الأرض حول نفسها فأرسل إلى الدكتور هوك، وهو سكرتير الجمعية الملكية في ذلك الوقت، يقترح تجربة لإثبات ذلك، بإلقاء جسم من مكان عال. فإذا كانت الأرض ساكنة فان الجسم يسقط في خطر رأسي، وإلا فانه يحيد عن ذلك الخط بقليل. وقد وافقه هوك ملاحظاً أن ذلك يتوقف على موضع إجراء التجربة على سطح الأرض.
ظهور قانون الجذب العام:
ذكرنا في المقال السابق أن نيوتن اعرض عن قانون الجذب العام حينما وجد أن العمليات الحسابية الخاصة بحركة القمر لا تتفق مع ما ذهب إليه من أن القمر يتحرك حول الأرض بقوة جاذبيتها له، وكان ذلك الاختلاف راجعاً كما قلنا إلى الخطاء في تقدير نصف الكرة الأرضية، وانه بتجاربه في الكيمياء والبصريات وبإلقاء المحاضرات. ولكن لما وصل إلى الجمعية الملكية نبأ قيام العالم الفرنسي (بيكار) بقياس طول محيط الكرة الأرضية وذلك بقياس المسافة بين كل درجتي طول متتاليتين (69 ميلاً) وضرب ذلك في 360 (عدد درجات الطول) أدرك نيوتن خطأه في تقدير نصف قطر الكرة الأرضية، فرجع إلى كامبردج وأكب على ما ذهب إليه في (وولثورب)، وهو أن قانون الجاذبية هو قانون كوني عام. فالأرض تجذب كل جسم على سطحها بقوة تتناسب طردياً مع حاصل ضرب الكتلتين، وتتناسب عكسياً مع مربع المسافة بينهما. وكذلك الأرض تجذب القمر بنفس هذه القوة. والشمس بدورها تجذب الأرض وبقية الكواكب السيارة، فيتسبب عن ذلك دوران هذه الكواكب حول الشمس بدلاً من انطلاقها في خطوط مستقيمة كما ينص على ذلك قانون القصور الذاتي
ولن ينقص من قيمة هذا القانون ما يقول به (اينشتين) من أن الجاذبية شيء نسبي، وأن(51/74)
التفاحة التي لاحظ نيوتن إنها تنجذب إلى الأرض يمكن اعتبارها جاذبة الأرض إليها، وان الشخص الجالس في مصعد يهوي بتأثير ثقله لا يشاهد سقوط التفاحة إلى ارض المصعد أن هو تركها من يده، بل يلاحظ بقاءها معلقة في مكانها، وان ظواهر الجاذبية يمكن تعليلها كلها بفرض تكور الكون؛ لا يمكن أن ينقص كل ذلك من قيمة قانون الجذب العام مادام هذا القانون يفسر لنا جل الظواهر الكونية. ولا صحة مطلقاً للقول الشائع بان (اينشتين) قد هدم نيوتن، فكل ما فعله هو انه نظر إلى قوانين نيوتن من ناحية غير الناحية القديمة.
اثبت نيوتن هذا القانون في سنة 1682، ولكنه لم ينشر آراءه خوفاً من حملات النقد التي كان يتحاشاها قدر جهده، وفضل ان تنشر بعد موته: وفي سنة 1683 وصل الدكتور (هوك) ودكتور (هالي) وسير (كرستوفريرن) إلى جزء من قانون نيوتن، وهو أن قوة جذب الأرض تتبع قانون التربيع العكسي وأخذوا يبحثون لإيجاد مسير كوكب متحرك إذا كان منجذباً إلى نقطة معينه بقوة تتناسب عكسياً مع مربع المسافة بينهما، وكان الأمل الذي يجول في قرارة أنفسهم هو إثبات ان حركات الكواكب حول الشمس ترجع إلى ما يشبه قانون الجاذبية على سطح الارض، ولكنهم لم يفلحوا. فوعد سير (كرستوفريرين) بإهداء كتاب قيمته جنيهان لمن يعين هذا المسير، فقال دكتور (هوك) بان هذا المسير سيكون قطعاً ناقصاً ولكنه لم يقدم البرهان على ذلك. فقصد (هالي) إلى كامبردج وعرض الأمر على نيوتن فوجده قد اشتعل بهذه المشكلة وحلها، وأخبره أن هذا المسير يكون قطعاً ناقصاً ووعده بالبرهان بعد قليل. وقد بر نيوتن بوعده فأرسل بالبرهان إلى (هالي) بعد ثلاثة اشهر. ولكن (هالي) أراد التأكد من بعض نقط فرحل مرة أخرى إلى كامبردج، ثم طلب من نيوتن أن يقدم بحثه إلى الجمعية الملكية فوافق بعد إلحاح
مصطفى محمود حافظ.
مدرس بمدرسة المعلمين بانبابة(51/75)
من القصص الشعري
إسلام حمزة
بقلم فريد عين شوكه
مر أبو الحكم بن هشام (أبو جهل) برسول الله عند الصفا فأذاه وشتمه ونال منه، فلم يرد عليه. ثم انصرف أبو جهل وعاد الرسول إلى بيته وعاد حمزة بن عبد المطلب من صيده فمر بالصفا فحدثته مولاة لعبد الله ابن جدعان بما كان من أمر أبى جهل مع الرسول؛ فغضب حمزة وراح يبحث عن أبى جهل حتى إذا بصر به في ناد من قريش ضربه بقوسه فشج رأسه شجة منكرة، ثم أعلن إسلامه في هذا الجمع، وعلمت قريش أن الرسول قد عز وامتنع بإسلام عمه حمزة.
الرسول يجلس على الصفا مطرقاً إلى الأرض، تراه المولاة فتقول:
لك الله من ناصب مُتَعب ... يجاهد في بلد مشغَب
تحمل فيه صفوف العذا ... ب فلم يستبد ولم يغضب
وأوذى من أهله الظالمين ... وشرّد في حيّه الأقرب
وقاسى بمكة ذل الغريب ... وذاق من المهد يُتمَ الأب
(تسعى إليه تستضيفه عندها)
محمد (ينظر إليها)
لا تسترح بيننا ... على ذلك الحجر المجدب
ونحن جوارك تحت الظلا ... ل بوادٍ وفير الجنى مخصب
يطالعنا بشهي الثما ... ر ويجري بمورده الأعذب
الرسول (إليها):
دعيني هنا أسترح ساعة
هي (مستنكرة) ... على ذلك الجامد الملهب؟
وكيف تطيق لهيب الرما ... ل وترتاح في وهج السبسب؟
هُلمَّ إلى حيّنا فاسترح ... قليلاً بمربعنا الأرحب
يظلك فيه وريف الغِرا ... س فتغفو على ظله الطّيب(51/76)
الرسول (شاكراً):
رعتكِ العناية، لن أستطيع ... ثواءً بواديكُم المُعشبِ
هي (متضرعة): أطعني
الرسول (زاهداً): دعيني
ترثي له الفتاة ثم تمضي عنه في صمت، ويطرُق ثانية إلى الأرض؛ ثم يمر به أبو جهل فيرفع رأسه بشدة:
أنت هنا ... فريداً عن الصحبة الهُرَّب
تجالد وحدَك ذل الخرو ... ج على دين آبائك الأشهب
الرسْول (في هدوء): معي الله
أبو جهل (ساخراً):
خلك من فرية ... يضيق بها صبية الملعب
وأسطورة جئت تسعى بها ... وتزعم أنك فينا نبي
وانك قائدنا في الحيا ... ة وهاد لمن ضل في الغيهب
ألا ما أضلك من قائد ... وأخسفك اليوم من كوكب
فمن أنت حتى تقود الأنام ... وتهد يهمو وضع المذهب
ومن أنت حتى نصيخ إليك ... ونمشي على نهجك الأنكب
وكيف وأنت مهيض الجنا ... ح ومن ذلك النفر المترب
أليس لدى الله من يصطفيه ... سواك من المرد والشيب
محمدُ أسرفت فيما دعوت ... ولكن غرسك لم يعقب
وأشفق منا عليك الرجال ... فجاءوك بالمال والمنصب
وأقبلتَ تسخر من عطفهم ... وتزرى برأيهم الأصوب
فلم نسعَ بعدُ بعُتب إليك ... فما أنت والله بالمعتب
ولكن سنصليك سوط العذا ... ب ونفريك بالناب والمخلب
ينصرف عنه الرسول غير مجيب فيهدده أبو جهل صارخاً:
فأما نكصت وإما هلكتَ ... وموتك ليس بمستصَعب(51/77)
ثم ينصرف أبو جهل ويمر حمزة عائداً من الصيد يقول:
يوم أغرُّ على الجزيرة مشرقُ ... كالبدر في جنح الدجى يتألق
عالجت فيه الصيد جد مظفر ... ورجعت منه مجلياً لاُ يلحق
كم صدت من ظبي به وكواسر ... عصماَء كانت في السماء تحلّق
تسمع صوته المولاة فتخرج إليه فتستوقفه لترى ظبيه:
أرنيهِ حمزةُفينعطف عليها فتراه وتقول:
ياله من شادن ... تهوى رشاقته النفوس وتعشق
دعه لدىِّ أبا عمارة منحةً
حمزة (في تيه): أمل لعمرك سوف لا يتحقق
إن كنت تائقة إليهِ مشوقة ... بجمال بزَّته فإني أشوق
هي: بل خلّه
حمزة (وهو يأخذه منها):
لن أستطيع فإنما ... هو كل ما أبني وما أتعشق
هي (وقد جدت بعد هزل)
تالله ما يغنيك ظبي صدته ... وحماك صيد مستباح مطْلق
حمزة (غاضباً):
كذباً زعمتَ فإنما أنا قسور ... تعنو لطلعته القلوب وتفرق
وأنا اعز شباب مكة كلها ... وحماي ارفع ان ينالَ واشهق
هي (ساخرة):
خفف عليك فقد تصدع شمله ... وغدا على عبث الحوادث ينتِقِ
حمزة (هائجاً):
كيف استبيح؟
هي: أما رأيتَ محمدا ... يرمي بما يوهي الجبال ويمحق
ومحمد أبن أخيك كيف يصيبه ... هذا العذاب وفيك قلبُ يخفق
حمزة (غاضباً):(51/78)
منَ ذا استطال عليه أم من ناله ... بأذىً؟
هي (متحسرة): أبو الحكم الجهول الأحمق
لاقاهُ قبلكَ بالسفاهةِ والأذى ... وقسا عليه وهو مغض مطرق
يرنو إليه بمقلتى متضرع ... فيفيض في سفه الحديث ويُغرق
سفنه تضج له السماء العلى ... والأرض من غلوائه تتشقق
وأذى تخر له الجبال صريعة ... وتهى لمسمعه النفوس وتصعق
حتى إذا ضاق النبي بكل ما ... لاقاه من عنت يؤود ويرهق
ترك الصفا ثبت الجنان وكله ... شكوى تفيض وأدمع تترقرق
حمزة (وقد بلغ به الغضب):
ويل لعمرٍ ومن حسام في يدي=قاسي الطعان يشيب منه المفرق
ويل له حتى يصير فريسة ... تفرى حشاها الضاريات وتعرق
لو كنت حاضره على هذا الصفا ... لأصاب مني مارداً لا يرفق
صبراً نبي الله سوف يصيبهم ... مما رموك به شواظ محرق
ثم يذهل عما كان معه من ظبي الطيور ويهم بافتقاد أبي جهل، ويشرف على ناد بقريش فيراه أحدهم من بعد فيحادث جلساءه وهو مرتاع:
انظروا حمزة:
فينظر ثم يقول أكثرهم:
شر مدلهْم ... بين عينيه ونار تضطرمْ
بعضهم:
ويحه أي مصاب هاجه ... فأتى يعبس كالخطب الملْم
يأتي حمزة فيقول إليه:
إنه يا حمزة:
حمزة (ثائراً): الهوبُ لظى ... بين أحشائي قاس يحتدم
ثم ينظر فيهم:
أين هذا الوغد(51/79)
هم (إليه): من ذا تبتغي
هو (في اضطراب): ... أخبروني أين يا قوم جثم
يقبل أبو جهل من جهة أخرى فيراه حمزة فيضربه بقوسه قائلاَ:
أنت أقبلتَ؟ فخذها ضربة=يرتوي منك بها قوسٌ نَهِم
أبو جهل (وقد وقع على الأرض):
أدركوني ... (فيقبل البعض عليه)
حمزة (وقد أحاط به بعض الشجعان يمنعونه):
بل دعوني أسقه ... أكؤس الموت وأكواب العدم
واحد منهم:
اصطبر حمزة لا تهتج فم ... سكن المهتاج إلا وندم
ثم يتحايلون عليه حتى يجلس فيتحادثون:
ما الذي نالك من عمرو
حمزة: لقد=نال مني قومي كثيراً وظلم
كل يوم يشتفي في ابن أخي ... بسباب دونه أقسى الحمم
وإذا ما شامه أغرى به ... صبية الحيّ وأوشاب الخدم
هم (في ترفق):
سوف نرجوه فلا يقربه ... بأذى
حمزة (مستنكرا) =ترجونه فيما اجترم؟
هانت الدنيا إذا لم احمه ... أينما حل وأيانَ قدم
من أناسيّ كربع دارس ... كاد من فرط البلى أن ينهدم
أسد في غير ساحات الوغى ... وهُم إن جدت الحرب نَعَم
ثم يسكت قليلاً ويهم واقفاً:
بلغي يا ريح عني واحفظي ... أيها الصحراء واشهد يا حرم
أنني أسلمت لله فلن ... أخفض الهامة مني لصنم
وسأعلي دينه الحق على ... مفرق العُربْ وهامات العجم(51/80)
(ثم يمضي والقوم في لغط واضطراب)
فريد عين شوكة(51/81)
الكتب
تحضير الميزانية المصرية
للدكتور محمد توفيق يونس
نشر الدكتور محمد توفيق يونس رسالته التي نال بها أخيراً إجازة الدكتوراه في الحقوق من الجامعة المصرية بدرجة (جيد جداً) مع شرف الامتياز بتبادلها مع الجامعات الأجنبية.
وموضوع الرسالة (تحضير الميزانية المصرية) وهو موضوع من أقوى الموضوعات المالية نفعاً، أعظمها خطراً، وأشدها اتصالاً بعمل الحكومة والبرلمان، أعمقها أثراً في حياة البلاد وتقدمها.
وعلى الرغم من ذلك كله ظل هذا الموضوع مجهولاً حتى جاءت هذه الرسالة القيمة أزاحت الستار عنه وألقت عليه ضوءاً ساطعاً أنار جوانبه جميعاً.
ويزيد هذا البحث جلالاً وخطراً انه بني على أبحاث قيمة عميقة، ومشاهدات واقعية ودقيقة، ووثائق أصلية ثمينة، تستفرغ الجهد المضني وتستنفد الوقت الطويل.
وقد رتب المؤلف أبحاثه ترتيباً منطقياً سليماً وصور للقارئ الميزانية المصرية تصوراً علمياً سديداً، فأرجع موضوعاتها إلى أصولها العلمية وسماها بمسمياتها الصحيحة، وطبق عليها مبادئ علم المالية العامة، أخضعها للبحث العلمي الدقيق، وجعل منها مجموعة متماسكة الأجزاء، محكمة الارتباط، واضحة المعنى.
بيّن للجمهور الحالة الحاضرة للميزانية المصرية من الوجهتين العلمية والعملية بعد ان تكلم عن حالتها في الماضي ومختلف تطوراتها. وقد درسها فوق ذلك دراسة نقدية، ووقف إزاء ما يعرضه من مسائل موقفا إيجابيا، وبين ما يراه من الوسائل المؤدية لحلها، فمهد بذلك الطريق لمن يتبعه من الباحثين، أعطى كل من يهمه أمر الميزانية المصرية من الشيوخ والنواب والموظفين والطلبه مرجعاً قيماً ثميناً، شديد الأهمية جزيل الفائده، خصوصاً ولم يكن أمامهم قبل ذلك أي بحث آخر يعبد السبيل وينير الموضوع.
وليس أدل على موضوع هذا البحث مما يقوله المؤلف في ختام مقدمته: (على هذا الأساس الواقعي بنيت رسالتي جاعلاً نصب عيني أن أرى القاريء، في تحضير الميزانية، كيف تصبح مجموعة من التقديرات الأولية المبعثرة مجلداً ضخماً منسقاً؛ وأن أصور له الميزانية(51/82)
المصرية تصوير الكائن المستقل له أجزاؤه ومميزاته مقدماً إليه بياناً عن جميع ألادوار التي تمر بها في مرحلة التحضير محدداً ومحللاً المبادئ والقواعد التي تتصل بها وتقوم عليها).
ولقد حقق المؤلف غرضه أتم تحقيق، وبلغ ولاشك غايته على خير ما يكون، فقدرت الجامعة المصرية رسالته اعظم تقدير ومنحته أسمى درجاتها، وصادف عمله نجاحاً عظيماً واهتماماً شديداً في الأوساط العلمية والدوائر الحكومية. والكتاب أنيق الطبع جيد الورق يباع في جميع المكاتب الشهيرة وثمنه عشرون قرشاً.
زعامة الشعر الجاهلي
بين امرئ القيس وعديّ بن زيد
تأليف الأستاذ عبد المتعال الصعيدي
الأستاذ عبد المتعال الصعيدي أديب مجتهد واسع الاطلاع، يعجبك منه إذا حادثته دماثة خلقه، ورقة طبعه، وسرعة بديهته، ومن آثاره الأدبية هذا الكتاب الذي أحدثك عنه، وهو يقع في نحو مائة وثلاثين صفحة من القطع الكبير.
ابتدأ الأستاذ كتابه بفصل من ميزان الشعر وقد تساءل في هذا الفصل (هل يوزن الشعر بموضوعه او يوزن بألفاظه ومعانيه أو يوزن بهما معاً؟ وإذا كان يوزن بهما معاً فما الذي ينظر إليه قبل غيره منهما؟) ثم تكلم في هذا الفصل عن الشعر وأغراضه، وعقد فصلاً آخر عن الشعر الحضري والشعر البدوي ثم وصف نجداً وتكلم عن كندة وتغلب، ثم ترجم لامرئ القيس وشرح عقيدته وتعرض للغته وشعره، وأورد طرفاً من شعره في لهوه وجده، وبعد ذلك انتقل إلى عدي ابن زيد فتكلم عن الحيرة وعن حياة عدي ولغته وشعره، وأورد أيضاً شيئاً منه، ثم تكلم عن منزلة الشاعرين إجمالاً ووازن بينهما في النهاية فجعل الزعامة لعدي بن زيد.
فالكتاب كما ترى جدير بان يقرأه الأدباء، فسيجدون في قراءته متعة، وسيظفرون منه بكثير من المعلومات الشيقة المفيدة ولهم بعد ذلك أن يوافقوا الأستاذ فيما ذهب إليه أو يخالفوه.(51/83)
أما أنا فأخالفه وأراه متحيزاً في حكمه، وأرى هذا التحيز نتيجة لازمة لمقدمته عن ميزان الشعر فقد جعل الأساس في وزن الشعر أغراضه، وقسم هذه الأغراض إلى شريفة وغير شريفة، دون أن يحدد هذا التقسيم، ثم اظهر ميله إلى شعر الحضر ونفورة من شعر البادية فجعله غليظاً خشناً ليس فيه من المحاسن إلا وصف جمال الطبيعة إن كان ثمة من جمال في البادية! وعلى هذا الأساس قدم عدياً لشرف أغراضه ورقته التي اكتسبها من الحضر مع انه يقول في صفحة 14 (ولا نريد من هذا ان الأدب الحضري في جملته كان خيراً من الأدب البدوي في جملته، وقد يوجد من أدباء البدو من كان خيراً من بعض أدباء الحضر ومن أدباء الحضر من كان خيراً في أدبه اقل من بعض أدباء البدو) ولكنه أراد ان يقدم عدياً فتكلف، واضطر إلى أن يغمط امرأ القيس كثيراً من محاسنه، هذا إلى أنى أخالف الأستاذ الفاضل في قوله عن الشعر (ان موضوعاته هي أغراضه وألفاظه هي معانيه، ومعانيه هي ألفاظه، ولا يمتاز اللفظ عن المعنى إلا في مظهر وجوده في اللسان ووجود المعنى في الذهن).
لا أستطيع أن اقره على هذا الرأي، ولا أجده يحتمل المناقشة أو بعبارة أخرى أجد المناقشة فيه لا تنتهي، فإن المناقشة في البديهيات تخرج عن الموضوع إذ أنها تبدأ من قضية مسلمة ومن نقطة نهائية.
أما عن قياس الشعر بأغراضه فإني أرى الأمر على عكس ما يراه الاستاذ، فلم تتسنى الموازنة بين شاعرين، إذا أردنا تفضيل أحدهما على الآخر إلا إذا اتفقا في الغرض، أو على حد تعبير أدبائنا إلا إذا اتحدا في المدرسة، أما أن يختلفا في البيئة والغرض فنجعل من ذلك مقياساً للموازنة بينهما فما لا أسلم به إلا إذا استطعنا أن نوازن موازنة تنتهي بحكم تفضيلي بين أبي نؤاس وعمر بن أبي ربيعه مثلاً أو بين البحتري والمعري أو بين شوقي والبار ودي. . . الخ.
ولكني إذا خالفت الأستاذ في بعض آرائه فلا يسعني إلا أن أعلن إعجابي بدقته في البحث واستقصائه لتفاصيل الموضوع وإلمامه به، هذا إلى جمال عبارته ودقة أدائه مما يجعل كتابه جديراً بالاقتناء، خليقاً بالدرس في روية وإمعان.
محمود الخفيف(51/84)
العدد 52 - بتاريخ: 02 - 07 - 1934(/)
في الموقف الأدبي الحاضر
كان ظهور (الملاح التائه) و (وراء الغمام)، وصدور (الوادي) في لونها الجديد سبباً قريبا في حدوث هذه الضجة الأدبية القائمة. لان الديوانين على رغم ما قيل فيهما نتاج من الطراز الأزل يستحق العناية ويستوجب النقد ويستدعي الخلاف؛ ولان الشاعرين - وان كانا بحكم ثقافتهما غريبين عن العالم الأدبي - قد جذبا إليهما الأنظار، وعطفا عليهما الأنصار، بالطبع الموهوب والذوق الناقد. فلكل منهما في كل قهوة رقيب ورفيق، وفي كلحيفة عدو وصديق، وفي كل ناد مكبر ومنافس؛ ولان الوادي قد أخذت منذ حين تفتح لأدب الشباب (محضراً) في كل أسبوع، وقد تطوع للشهادة له وعليه أساتذة النقد في الجهاد والبلاغ. وكانت الحملة عنيفة على احبي الديوانين لحظهما الوافر من الإجادة ومحلهما الرفيع من الفن؛ فكابد الشاعر الطبيب مبضع العقاد، وقاسى الشاعر المهندس معول المازني. وكان الدفاع عنهما ألكن الحجة أرعن الدليل، لصرفه الجهد في رد المآخذ، ولو عني بتبيين المحاسن كما عني بتحسين المساوئ لأخفى ما ظهر تحت مجهر النقد من ضئال العيوب في بهر الجمال وروعة الصنعة. ولكل عمل من أعمال الناس جهة للمدح وجهة للذم لا تتشابهان على ناظر. والنقدناعة دقيقة لا يحسنها في الغالب إلا شيوخ الادب، لانهم استكملوا عدتها، واكتسبوا ملكتها بإدمان الدرس وطول المران وكثرة التجربة، فرد مآخذهم إذا برئت من الشطط والاعتساف يكون في الكثير الغالب من وراء القدرة الشابة.
كان أسلوب النقد ولا سك مشوبا بصلف الاستاذية، وعنت الحزازة، وعبث التهكم. وحجة النقاد انهم بالطبيعة أولياء الفن، وأمناء هيكله، وأصحاب اذنه، فلا يجمل بهم أن يخلوا فيه من لا يثبت معدنه على شدة السبك، ويخلص جوهره على تقصي النظر؛ وان الأدب اعسر من أن ينال بالدعوى العريضة، والدعاية المريضة، والأساليب الملفقة.
وكان طبيعيا أن يأنف الشباب من هذه اللهجة، ويألموا من هذه الشدة، ويزعموا أن هناك ائتمارا بهم وإنكارا بأدبهم، فيسوء ظنهم بالنقد، وتفيض مجالسهم بالشكوى، ويقابلوا الأستاذية بالتمرد، والحزازة بالعناد، والتهكم بالحنق، وبسطوا الأمر على انه نزاع بين أدبين: قديم يشتهيه الموت، وجديد تبتغيه الحياة، وتنفرج الحال أخيرا بين جيلين مقام الأول من الثاني مقام المدرب المشفق، والمرشد الناصح، والدليل المجرب.
إن شيوخ الأدب وشبابه إنما يصطنعون أدوات واحدة، ويعالجون موضوعات متقاربة،(52/1)
وينتجون نتائج متشابهة. فتاريخ الأدب يوم يكتب عن هذه الفترة لا يجد للشباب أسلوبا خاصا يسجله، ولا مذهبا جديدا يحلله، ولا أثرا مستقلاً يشرحه ويعلله. إنما هي مطامح الفتوة إلى المثل الذي توحيه الطبيعة، وتقتضيه الفطرة، ويلهمه الاطلاع، تحاول همتهم الوثابة أن تدنيهم منه فيقعد بهم عجز الوسيلة ونقص العدة.
وليس يسوغ في العقل أن يعد التسامح في اللغة والتساهل في الأسلوب والتجاوز عن القواعد ميزة، فان باس الشباب لم ينكسر أمام الشيوخ إلا في هذه الناحية.
والحق أن المسارعة إلي الإنتاج العام قبل استكمال وسائله الأولى غميزة بينة في أدب الجيل الحديث. فان الإلمام باللغات الأجنبية، والوقوف على قواعد الفن الاوربية، لا يجعلان المرء كاتبا في العربية ما لم يدرس هذه اللغة دراسة قوية نزدها طيعة لقلمه، لينة على لسانع، والاعتماد في اكتساب الأدب على محاكاة النماذج وتقليد المثل لا يقوم عليه فن ثابت، ولا ينهض به فنان معدود. وما كان المثل ليغني عن القاعدة وهو لا يضيء إلا ناحية من الطريق، والقريحة نفسها، وهي غريزة الأدب وافن في الإنسان، ليست من الكمال اليوم بحيث تجزى عن القواعد؛ كذلك الذوق وهن أداة الجمال كما أن العقل أداة الحق، لا يمكن أن يكون طريقا مأمونة إلى عمل أدبيحيح. فانه موهبة طبيعية تختلف في الناس وفي الأجناس. وتحتاج إلى المران بالدرس والعادة، وليس لها ما للعقل من سلطان وثبوت؛ وانك لتجد عقلا مطلقا مستقلا لا يختلف ولا يتغير، لان هناك حقيقة مستقلة تتميز بالوضوح والجلاء، ولكنك لا تجد مهما استقريت واستقصيت ذلك الذوق المطلق المستقل الذي لا يختلف باختلاف الألوان والأزمان والأمكنة. أما القواعد فهي نتيجة التجارب وخلاصة الملاحظات على طول القرون. وضعتها القرائح المنطقية المتعاقبة بعد أن فقهت أصول الأشياء، ودرست علائق هذه الاصول، واستخلصت نتائج هذه العلائق، ثماغت هذه النتائج قواعد وقالت لك إنها امثل الطرق لاحسان العمل دون أن تخضع عبقريتك إليها، ولا أن تسمح لهواك بالخروج عليها، فان بين الاستبداد والفوضى نظاما أحق أن نؤثر ويتبع.
وبعد، فان الفنان والناقد إنما يتعاونان على فهم الجمال، كما يتعاون القاضي والمحامي على فهم العدل، فليس من الخير لأحدهما أن يكون مع الآخر على حد منكب؛ وان الأدب الشيخ(52/2)
والأدب الشاب ليتعاونان على قيادة النفس، كما يتعاون البصر والجناحان على قيادة الطائر. فليس من خير أحدهما أن يكون من الآخر على قطيعة.
والأدب الرفيع من بعد ذلك كلهلة المرء بربه، ينفي الأذى عن لسانه ويذهب الغل عن قلبه.
أحمد حسن الزيات(52/3)
ديمقراطية الطبيعة
للأستاذ أحمد أمين
يعجبني البحر في جماله وبهائه، وجلاله ولا نهايته، ويعجبني كذلك في ديمقراطيته، فهو لا يسمح لأحد أن ينغمس في مائه إلا إذا تجرد من كل المظاهر الكاذبة التي خلقتها المدنية، يجب أن يتجرد أولا من ملابسه التي تميز بين الغني والفقير، ومن ريائه ونفاقه ومظاهره التي اصطنعها ليجعل من الناس طبقات يتحكم بعضها في بعض. ففي البحر تتساوى الرءوس، لا غني ولا فقير، ولا ذو جاه ولا عديم الجاه، ولا عالم ولا جاهل , ولا حاكم ولا محكوم، لا يتميزون بشيء فلا بلباس البحر، وفي الحقيقة ليس هو لباس البحر، وإنما هو لباس البر، فليس للبحر لباس إلا ماؤه. ودليل انه لباس البر أن الناس حاولوا به أن يتميز بعضهم من بعض، واتخذوا منه شعارا للغنى والأناقة واللباقة والوجاهة، والبحر لا يعرف شيئا من ذلك، إنما يعرف ذلك البر، ومن اجل هذا سرعان منا ينغمس الناس في البحر، فيسدل بمائه الأزرق الجميل ستارا على كل أثواب الرياء حتى لا ترى بعد إلا رءوسا عارية لا يميز بينها شيء من الصنعة، ثم هو يرسل أمواجه تداعب الناس على المواء، فتغازل الأسود كما تغازل الابيض، وتصفع الجميل كما تصفع القبيح، وتعبث بلحية العالم، كما تلعب براس الجاهل، وأحيانا يهيج هائجه، وتثور حفيظته، فيزفر من الغضب، حتى ليكاد يخرج من لهابه، ويطفر من ثيابه، ويربد وجهه فيلفظ بالزبد، وينتفخ ويرتعد، ويرقص من غير طرب؛ وهو في هذه الحال لا ينسى ديمقراطيته، يأتي للباخرة الضخمة قد أخذت زخرفها وإزَّينت وظن أهلها انهم قادرون عليه فيبتلعها في لحظة، لا تغني عنه محصنات العلم القديم ولا الحديث، كما يبتلع أحيانابيا وديعا وشيخا ضعيفا، ليبرهن انه لا يعبا بقوة ولا ضعف، ولا يخشى باس كمي، ولا يرحم ضعف اعزل، سواء هو في هزله وجده، وسواء هو في حلمه وغضبه ـ ما اجمل البحر، وما اجله، وما ألطفه، وما أقساه!
على أنه يظهر لي أن الطبيعة في جملتها ديمقراطية لا أرستقراطية، ولا أرستقراطية إلا في الإنسان الكاذب، فالشمس ترسل أشعتها الذهبية، والقمر أشعته الفضية، على الماس سواء: على المؤمن والكافر، والأسود والابيض، والغني والفقير، والقصر الكبير.
ويأتي الجو بريح سموم فتلفح وجوه الناس على السواء، لا تميز عظيما ولا حقيرا، ولا(52/4)
شريفا ولا وضيعا؛ ثم يأتي بريح طيبة تنعش الناس كذلك، لا يعرف في شيء من ذلك محاباة، ولا يعرف طبقات، ولا يعرف أي نوع من أنواع التفاوت التي تواضع عليها الناس، يرسل في الصيف شواظا من نار فيدخل على الأمير في قصره، وعلى الفقير في كوخه، فلا يهاب عظيما، ولا يحتقر وضيعا، ويرسل في الشتاء برده القارس فلا يستطيع أن يتقيه الغني بصوفه وملابسه، ولا بمدفأته وناره؛ كما لا يتقيه الفقير في عدمه وبؤسه؛ ثم تطلع شمس جميلة، ويعتدل الجو، فتحتضن الطبيعة الناس على السواء وتكون لهم جميعا أما حنونا، مشفقة بارة_أن تحدث الباشا أو البيك في نفسه بأنه فوق طبقات العامة، وانه يستطيع في شرع العرف والعادة أن ينعم بما لم ينعموا، فتفسح له الطريق، ويخلى له السبيل، وتفتح له أبواب المجتمعات، ويعامل أولاده وأقاربه بما لا يعامل به الفقراء، فلن تحدثه نفسه أن يمتاز من الفقير في حر ولا برد، ولا نور ولا ظلام، فان أخطأ فيذلك وظن انه يغالب الطبيعة في شيء من قوانينهافعتهفعة أمن بعدها بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وأدرك انه أن علا الناس بماله أو جاهه، وان تلاعب بأوضاع النام لسخف الناس، فهو أمام أوضاع الطبيعة حقير ذليل.
ثم يأتي القدر فينثر نعمه ونقمه، وشره وخيره على الناس جميعا، فصحة في الأغنياء والفقراء، وشره وخيره على الناس جمنعا، فصحة في الأغنياء والفقراء، ومرض في الأغنياء والفقراء. وتجد غنيا فاتر القوى منقوف الوجه، يبيت يتضور من الألم، يود لو خرج عن كل ماله وجاهه لتعود إليهحته، وبجانبه فقير مستحكم الخلقة، متين البنية، ممتلئ قوة وشدة وصلابة_وتجد جمالا في الأغنياء والفقراء، وقبحا في الأغنياء والفقراء، فهذه فقيرة مشرقة الجبين، افية الاديم، مفرطة الجمال، معتدلة القوام، لا تفتح العين على اجمل منهاورة، ولا أتم منها حسنا؛ وهذه سيدتها الغنية دميمة الخلقة، منكرة الطلعة، تنبو عن منظرها الأحداق، وتتفادى من مراها الأبصار، تريد أن تتجمل بالصناعة والأصباغ والحلي والملابس، فلا يزيدها ذلك كله إلا قبحا، على حين أن جارتها الفقيرة جميلة في طبيعتها، جميلة في بساطتها، جميلة حتى في ثيابها المهلهلة!
وللقدر في ذلك بدع، فاشهر طبيب في القلب يموت بالقلب، واعظم جراح يموت بالتسمم. وتلد الفلاحة الفقيرة في الطريق وهي حاملة قدرتها مملوءة ماء على رأسها، ثم يقطع(52/5)
(الخلاص) وتحمل طفلها وتذهب إلى بيتها سالمة غانمة؛ وسيدتها الغنية يحلل دمها وغير دمها قبل الوضع، ويعقم كل شيء في حجرة ولادتها، ويقف مشاهير الطبيبات والأطباء على بابها، حتى إذا أذنت ساعة الولادة بالقدوم استخدم كل ما وصل إليه الطب الحديث، والكيمياء بالحديثة، والعلم الحديث، وأمعنت جمهرة الأطباء في التطهير والنظافة واتخاذ وسائل الراحة والحصانة، وغير ذلك مما لم أذكر منه إلا قليلا؛ ثم هي بعد تصيبها حمى النفاس، ويقف الطب والعلم دهشا حائرا، ثم تسلم الروح إلى ربها، هازئا بكل ذلك القدر.
وهناك نوع من الأرستقراطية غريب، هو الأرستقراطية العلمية، فالمتعلمون ذوو الشهادات يعدون أنفسهم_وربما عدهم الناس أيضا_نوعا ممتازا من الناس، يختلفون عنهم نوعا من الاختلاف، ويرتفعون عليهم نوعا من الرفعة، كما ترتفع طبقة الأغنياء وكما ترتفع طبقة الامراء، فالمتعلم ينظر إلى أخيه الشقيق الجاهل نظرة فيها شيء من التعاظم، وشيء من الازدراء، وشيء من الغرور، وان ساواه في الدم، وان ساواه في الغنى أو الفقر، وهو لغروره يظن أن شهادته تخوله الحق أن تكون آراؤه في كل شيء خير الآراء، وان غير الجامعي لا يحق له أن يبدي رأيا بجانب رايه، حتى فيما ليس له اختصاص له اختصاص فيه.
وهو كذلك نوع من الأرستقراطية الكاذبة لا تعبا بها الطبيعة ولا تعيرها أي التفات، فقد جعلت بين المتعلمين أذكياء وأغبياء، وجعلت بين الأميين أذكياء وأغبياء، بل من غرور المتعلمين أن يسموا من لم يقرا ولا يكتب جاهلا وأميا ونحو ذلك من الأسماء، ويسموا من يقرا ويكتب متعلما، كأن وسيلة العلم والحكمة والعقل القراءة والكتابة وحدهما، ونحن لو نحينا غرور المتعلمين جانبا لهزئنا بالقراءة والكتابة في كثير من الأحيان، ولوجدنا وسيلة من وسائل الرقي، ولكن بجانبهما وسائل أخرى، ولوجدنا انهما لا تستحقان هذا الغرور الذي ينشئ نوعا من الأرستقراطية، فالحكمة في تصريف الأمور لا تعتمد على التعليم الجامعي، وسعة العلم كما تعتمد على الفطرة البشرية، والغريزة الإنسانية. ومن ثم قد ترى الجامعي الحائز لاقى الشهادات العلمية وهو أخرق في الحياة، سعيه في التصرف، وأخاه الذي يسمونه جاهلا أميا حكيما في تصرفه مدبرا لشؤونه وشؤون اخوته الجامعيين، وترى الأمة قد تصاب على يد متعلميها في أحوالها السياسية والاجتماعية اكثر مما تصاب على يد(52/6)
جاهليها، والفلاح القروي الأمي قد يرزق من الحزم في تصريفه، وبعد النظر في آرائه، وصدق الشعور في وطنيته، ما لا يرزقه أخوه الأستاذ في الجامعة أو العالم الحائز لأرقى الدرجات العلمية، بل قد يصدر من الرأي العام الجاهل في شؤون وطنه، وفي المسائل الهامة التي عرض عليه ما يفوق رأي متفلسفة المشرعين، وحيل القانونيين.
إن نظرنا إلى الذكاء، فالذكاء مشاع بين المتعلم والجاهل، وان نظرنا إلى حكمة التصرف، والحزم في إدارة الأمور، وتدبير شؤون الحياة، فذلك أيضا أمر مشاع بين الناس، ففيم غرور المتعلمين وإنشاؤهم أرستقراطية بجانب أرستقراطية الأموال والأعمال والطبقات. يطالبون أن يكال لهم المال جزافا، ويطالبون ألا يهينوا أنفسهم في عمل، ويطالبون أن يكون ميراثهم من آبائهم اكبر نصيب، ويطالبون أن يكون زبدة ما تخرجه الأمة لهم وحثالته لما يسمونه الجاهلين.
ما اسعد الأمة تخفف من غلوها فغي أرستقراطيتها، بجميع أنواعها، وتقلد الطبيعة في ديمقراطيتها واعتدالها.
احمد أمين(52/7)
موت أم
للأستاذ مصطفىادق الرافعي
رجعت من الجنازة بعد أن غبرت قدمي ساعة في الطريق التي ترابها تراب وأشعة، وكانت في النعش لؤلؤة آدمية محطمة هي زوجةديق طحطحتها الأمراض ففرقتها بين علل الموت، وكان قلبها يحيها فأخذ يهلكها، حتى إذا دنا أن يقضي عليها رحمها الله فقضى فيها قضاءه. ومن ذا الذي مات له مريض بالقلب ولم يره من قلبه في علته كالعصفورة التي تهتلك تحت عيني ثعبان سلط عليها سموم عينيه!
كانت المسكينة في الخامسة والعشرين من سنها، أما قلبها ففي الثمانين أو فوق ذلك؛ هي فيسن الشباب وهو متهدم في سن الموت.
وكانت فاضلة تقيةالحة، لم تتعلم ولكن علمها التقوى والفضيلة , واكمل النساء عندي ليست هي التي ملأت عينيها من الكتب فهي تنظر إلى الحياة نظرات تحل مشاكل وتخلق مشاكل؛ ولكنها تلك التي تنظر إلى الدنيا بعين متلألئة بنور الأيمان تقر في كل شيء معناه السماوي فتؤمن بأحزإنها وأفراحها معا، وتأخذ ما تعطى ن يد خالقها، رحمة معروفة أو رحمة مجهولة. هذه عندي تسمى امرأة، ومعناها المعبد القدسي؛ وتكون الزوجة، ومعناها القوة المسعدة؛ وتصير الام، ومعناها التكملة الإلهية لصغارها وزوجها ونفسها.
ومهما تبلغ المرأة من العلم فالرجل اعظم منها بأنه رجل، ولكن المرأة حق المرأة هي تلك التي خلقت لتكون للرجل مادة الفضيلة والصبر والإيمان، فتكون له وحيا وإلهاما وعزاء وقوة، أي زيادة في سروره ونقصا من آلامه.
ولن تكون المرأة في الحياة اعظم من الرجل إلا بشيء واحد هوفاتها التي تجعل رجلها اعظم منها.
ومشيت من البيت الذي ألبسته الميتة معنى القبر_إلى القبر الذي البس الميتة معنى البيت. وأنا منذ مشيت في جنازة أمي_رحمها الله_لا أسير في هذه الطريق مع الأحياء، ولكن مع الموتى، فاتبعديقا ليس رجلا ولا امرأة لأنه من غير هذه الدنيا، وامشي في ساعة ليست ستين دقيقة لإنها خرجت من الزمن، ولا أرى الطريق من طرق الحياة لأنني فيحبة ميت؛ وتصبح للأرض في رأيي جغرافية أخرى عمى الناس عنها لشدة وضوحها، كالألوهية(52/8)
خفيت من شدة ما ظهرت.
يقولون: أن الحياة هي. . . هي ماذا، ويحكم أيها المغرورون؛ أفلا ترون هذه الصلة الدائمة بين بطن الأم وبطن الأرض؟
لعمري كيف تجعل هذه الحياة للناس قلوبا مع قلوبهم، فيحس المرء بقلب، ويعمل بقلب آخر؛ يعتقد ضرر الكذب ويكذب، ويعرف معرة الإثم ويأثم، ويوقن بعاقبة الخيانة ثم يخون؛ ويمضي في العمر منتهيا إلى ربه_ما في ذلك شك_ولكنه في الطريق لا يعمل إلا عمل من قد فر من ربه. . .
هبت الريح في السحر على روضة غناء فطابت لها فعقدت
عقدتها أن تتخذ بها بيتا في ذلك المكان الطيب لتقيم فيه. . .
يالها من حكمة من التدبير! تزعم الريح الإقامة على حين كل
وجودها هو لحظة مرورها، وتحلم بالقرار في البيت وهي لا
تملك بطبيعتها أن تقف.
يالها حكمة سامية! لا يسكنها من المعنى إلا اسخف ما في الحمق!
همد الحي وانطفأت عيناه، ولكنه تحرك في تاريخه مما ضيق على نفسه أو وسع، واصبح ينظر بعين من عمله أما مبصرة أو كالعمياء؛ فلو تكلم يصف الحياة الدنيا لقال: أن هذه النجوم على الأرض مصابيح مأتم أقيم بليل. وما اعجب أن يجلس أهل المأتم في المأتم ليضحكوا ويلعبوا!
ولو نطق الموتى لقالوا: أيها الأحياء، أن هذا الحاضر الذي يمر فيكون ماضيكم في الدنيا هو بعينه الذي يكون مستقبلكم في الآخرة، لا تزيدون فيه ولا تنقصون. وان الدنيا تبدأ عندكم من الأعلى إلى الأدنى، من العظماء إلى الفقراء؛ ولكنها تنقلب في الآخرة فتبدأ من الفقراء إلى العظماء؛ وانتم ترسمونها بخطوط المطامع والحظوظ، ويرسمها الله بخطوط الحرمان والمجاهدة. أن التام على الأرض من تم بمتاعها ولذاتها، ولكن التام في السماء من تم بنفسه وحدها.(52/9)
يا أسفا! لن يعول الميت للحي شيئا، ومن يدرن؟ لعلنا ونحن نلحد للموتى وننزلهم في قبورهم يرون بأرواحهم الخالدة إننا نحن موتاهم المساكين، وإننا مدفونون في القبر الذي يسمونه (الكرة الأرضية)! وهل الكرة الأرضية من اللإنهاية إلا حفرة برجل نملة لتدفن فيها نملة. . .
الحياة. أتريد أن تعرفها على حقيقتها؟ هي المبهمات الكثيرة التي ليس لها في الآخر إلا تفسير واحد: حلال أو حرام.
ورجعنا مع الصديق إلى بيته، وله خمسة أطفالغار لو أنهم هم الذين انتزعوا من أمهم لترك كل واحد على قلبها مثل المكواة المحمى عليها في النار إلى أن تحمر. ولكن أمهم هي التي انتزعت منهم، فكان بقاؤهم في الحياة تخفيفاً لسكرة الموت عليها. وغشيتها الغشية فماتت وهي تضحك، إذ تراهم نائمين تحت جناح الرحمة الإلهية الممدود، وقالت: إنها تسمع أحلامهم، وكانوا هم عقلها في ساعة الموت!
تبارك الذي جعل في قلب الأم دنيا من خلقه هو، ودنيا من خلق أولادها! تبارك الذي أثاب الأم ثواب ما تعاني، فجعل فرحهاورة كبيرة من فرحغارها!
وجاء أكبر الأطفال الخمسة وكأنه ثمانية أرطال من الحناة، لا ثمانية ـعوام من العمر؛ جاء إلينا كما يجيء الفزع لقلوب مطمئنة، ' ذ كان في عينيه الباكيتين معنى فقدم الأم!
وطغت عليه الدموع فتناول منديله ومسحها يبدو الصغيرة، ولكن روحه اليتيمة تأبى إلا أن ترسم بهذه الدموع على وجهه معاني يتمها!
وظهر الانكسار في وجهه يعبر ببلاغة انه قد أحس حقيقة ضعفه وطفولته بازاء المصيبة التي نزلت به؛ وجلس مستسلماً تترجم بيئته معاني هذه الكلمة (رفقا بي!)
ثم تطير من عينه نظرات في الهواء كأنما يحس أن أمه حوله في الجو ولكنه لا يراها.
ولا يصدق إنها ماتت؛ فانوتها حي في أذنيه لا يزال يسمعه من أمس.
ثم يعود إلى وجهه الانكسار والاستسلام، ويتململ في مجلسه فينطق جسمه كله بهذه الكلمة (يا أمي!)
أحس_ولا ريب_أنه بمضيعة حدودها الحياة، لان الوجود كان أمه.
ولمس خشونة الدنيا منذ الساعة، بعد أن فقد الصدر الذي فيه وحده لين الحياة، لان فيه قلب(52/10)
أمه وروحها.
وشعر بالذل ينساب إلى قلبه الصغير لان تلك التي كان يملك فيها حق الرحمة فد أخذت منه وتركته بلا حق في أحد، وليس لأحد أمان.
ولبسته المسكنة لان له شيئا عزيزا أصبح وراء الزمان فلن يصل إليه.
ولبسته المسكنة لأنهار وحده في المكان، كما هو وحده في الزمان.
وارتسم على وجهه التعجب بأنه يسأل نفسه: (إذا لم تكن ـمي هنا، فلماذا أنا هنا؟!)
ثم تغرغرت عيناه فيخرج منديله ويمسح دمعه بيده الصغيرة، ولكن روحه اليتيمة تأبى إلا أن ترسم بهذه الدموع على وجهه معاني يتمها!
ونهض الصغير ولم ينطق بذات شفة. نهض يحمل رجولته التي بدأت منذ الساعة.
انتهت - أيها الطفل المسكين - أيامك من الأم؛ هذه الأيام السعيدة التي كنت تعرف الغد فيها قبل أن يأتي معرفتك أمس الذى مضى، اذ يأتي الغد ومعك أمك.
وبدأت - أيها الطفل المسكين - أيامك من الزمن، وسيأتي كل غد محجباً مرهوباً؛ إذ يأتي لك وحدك، ويأتي وأنت وحدك!
الأم؟ يا إلهي، أيغير على الأرض يجد كفايته من الروح إلا في الأم؟!
مصطفىادق الرافعي(52/11)
في تاريخ القضاء في مصر الإسلامية
صور من استقلال القضاء وصور من خضوعه
للأستاذ محمد عبد الله عنان
لم تعرف نظرية فصل السلطات الحديثة كثيراً في العصور الوسطى، ولم تطبق بالأخص في ظل الأنظمة المطلقة التي سادت في تلك العصور، فالسلطات الثلاث، التشريعية والقضائية والتنفيذية التي تقوم الدولة الحديثة على مبدأ الفصل بينها، كانت تجتمع في ظل الأنظمة المطلقة في نفس اليد العليا التي تصرف في سائر الشئون العامة. ولم تشذ الدول الإسلامية عن هذه القاعدة، فقد كان الخليفة أو السلطان أو الأمير نجمع في شخصه كل السلطات ويزاولها مجتمعة أو منفردة على يد عماله. نعم كان هناك توزيع للسلطات، ولكن نظري محض، فقد كانت أصول التشريع قائمة تعدل وتفسر في ظل الدول المختلفة طبقاً لمختلف النزعات المذهبية والسياسية، وكان للقضاء جهة خاصة يعمل في دائرتها، وكان الوزراء ومن إليهم من الكتاب والعمال يمثلون الناحية التنفيذية: ولكن هذه الجهات الثلاث التي تقابل السلطات الثلاث في الدولة الحديثة كانت تمتزج دائماً من الوجهة العملية، وتخضع دائماً سواء منفردة أو مجتمعة لرأي الخليفة أو السلطان أو الأمير؛ وكان هذا الرأي دائما فوق كل قانون وقضاء ونظام، وان كان في معظم الأحيان يلتمس له ظاهر من القانون أو النظام.
وكان القضاء كالسلطة التنفيذية دائماً عرضة للتأثير والتدخل ولكن السلطة العليا كانت تؤثر، في معظم الأحيان، أن تبدو في الظاهر محترمة لرأي القضاء بعيدة عن التأثير في سير العدالة. ذلك أن القضاء كان يتشح دائما بثوب الدين، ويستمد سلطانه من كتاب الله وسنة رسوله، فكان التدخل المرغوب كثيرا ما يحمل طابع التفسير لنص من النصوص. وكان القضاة أعوان السلطان قبل أن يكونوا أعوانا للعدالة، وتقدير استقلال القضاء وحريته يرجع قبل كل شيء إلى السلطان: وقد كان ثمة خلفاء وسلاطين يقدرون استقلال القضاء، وينحنون أمام كلمته؛ وكان ثمة قضاة أقوياء النفس والجنان يتمسكون برأيهم وسلطتهم في الحكم، ويأنفون من التدخل والتأثير. وهناك أمثلة كثيرة في التاريخ الإسلامي تؤيد هذه الحقيقة نورد بعضها في هذا الفصل، وهي مما يتعلق بتاريخ القضاء في مصر الإسلامية.(52/12)
كان من قضاة مصر في أوائل القرن الثالث الهجري، الحارث بن مسكين، ولي قضاء مصر الأعلى من قبل الخليفة المتوكل سنة 237هـ. ويصف لنا الكندي مؤرخ قضاة مصر حتى منتصف القرن الرابع، شخصية الحارث بن مسكين وطريقته في الحكم، نقلا عن ابن قديد، وهو فقيه ومحدث مصري عاصر الحارث وعرفه. كان الحارث شخصية غريبة قوية، وكان شديد الحرص على حريته واستقلاله، وكان مقعداً، يركب حمارا مبرقعا، ويحمل في محفة إلى مجلس الحكم بالمسجد الجامع (جامع عمرو)، وكانارما شديد الوطأة جريئا في أحكامه يأبى تلقى الولاة والسلام عليهم. وطلب إليه أن يلبس السواد، وهن شعار بني العباس فأبى حتى انتهى بعض أصحابه بإقناعه بأنه إذا لم يرتد السواد اتهم بالانحراف عن بني العباس والميل إلى بني أمية، فارتدى عندئذ كساء اسود من الصوف. وكان كثير الاجتهاد والابتكار في إجراءاته وأحكامه. ويورد لنا الكندي طرفا من هذه الإجراءات والأحكام، ويذكر لنا كيف أن الحارث بن مسكين آثر الاستقالة على قبول التدخل في أحكامه. وذلك أنه رفع إليه نزاع على ملكية دار الفيل، وهي إحدى دور الفسطاط الشهيرة، وكانت لأبي عثمان مولى الصحابي مسلمة بني مخلد الأنصاري؛ وكان قد قضى في شإنها قبل الحارث عدة من قضاة مصر، فقضى فيها أولا هرون بن عبد الله بإخراج بني البنات من العقب باعتبار أن لا حق لهم في الميراث؛ ولكن خلفه محمد بن أبى الليث قضى بإلغاء هذا الحكم، وحكم لبني السائح المدقين بنصيبهم في الدار؛ فلما رفع النزاع مرة أخرى إلى الحارث بن مسكين، فسخ حكم بن أبى الليث، وقضى بإخراج بني السائح من الميراث، فسافر ابن السائح إلى بغداد، ورفع إلى الخليفة المتوكل تظلما من حكم الحارث والتماسا بإعادة النظر في قضيته، فأحال المتوكل القضية إلى الفقهاء، فحكموا فيها على مذهب الكوفيين، وقضوا بإلغاء الحكم، وكان حكم الحارث على مذهب المدنيين. فلما بلغ الحارث ما وقع، كتب في الحال إلى المتوكل يرفع إليه استقالته من منصبه؛ وقدر المتوكل دقة الموقف فقبل الاستقالة، وكتب وزيره إلى الحارث بقبولها فيما يأتي (إن كتابك وصل باستعفائك فيما تقلدت بأمر القضاء بمصر، وأمر (أمير المؤمنين) أيده الله بإجابتك إلى ذلك. . استعافا لك مما سالت، وتفضل لما أدى إلى موافقتك فيه، فرأيك أبقاك الله في معرفة ذلك والعمل بحسبه) وغادر الحارث بن مسكين منصبه سنة 245هـ، وضرب باستقالته مثلا(52/13)
قويا في الكرامة والاستقلال بالرأي والحرص على حرمة القضاء وقدسه.
ولما تولى المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون قضاء المالكية بمصر سنة 786هـ، في عهد الظاهر برقوق، أبدى في تصرفاته وأحكامه تمسكا شديدا بالرأي، وإعراضا قويا عن كل مؤثر وشفاعة، خلافا لما كانت عليه أحوال القضاء يومئذ، وكان المؤرخ الفيلسوف يسبق عصره بمراحل في فهم استقلال القضاء ووجوبونه عن كل مؤثر؛ ولكنرامته في تطبيق هذا المبدأ أثارت عليه عاصفة من الحقد والسعاية؛ ويقول لنا ابن خلدون في هذا الموطن في (تعريفه) كلاما طويلا عما كان يسود القضاء المصري يومئذ من فساد واضطراب، وما يطبع الأحكام من غرض وهوى، وعما كان عليه معظم القضاة والكتاب والشهود من جهل وفساد في الذمة، وانه حاول إقامة العدل الصارم المنزه عن كل شائبة، وقمع الفساد بحزم وشدة، وسحق كل سعاية وغرض يقول (فقمت بما دفع إلى من ذلك المقام المحمود، ووفيت جهدي بما أمنني عليه من أحكام الله، لا تأخذني في الله لومة، ولا يرغبني عنه جاه ولا سطوة، مسويا بين الخصمين اخذ الحق الضعيف من الحكمين، معرضا عن الشفاعات والوسائل من الجانبين)
وهذا تصوير قوي لاستقلال القضاء لا يتفق كثيرا مع روحالعصر، ولكن يتفق مع شخصية الفيلسوف القوية، ومع ثقته بنفسه، وسموه برأيه. وفد انتهت العاصفة التي آثارها عليه خصومه باستقالته أو إقالته من منصب القضاء لعام فقط من توليته، وينسب خصوم الفيلسوف تخليه عن منصب القضاء، لأسباب غير استقلاله برأيه ونزاهته في أحكامه، ولكن مؤرخا مصريا كبيرا قريبا من عصره هو أبو المحاسن بن تغري بردي يفر الفيلسوف على عليله، ويقول لنا مشيرا إلى ولايته للقضاء (فباشره بحرمة وافية وعظمة زايدة، وحمدت سيرته، ودفع رسائل أكابر الدولة، وشفا عات الأعيان. . .)
على أن فهم استقلال القضاء على هذا النحو كان من الأمور النادرة في تلك العصور وكان مرجعه شخصية القضاة أنفسهم، وليس روح العصر أو نظمه. وفد كانت القاعدة العامة كما قدمنا انه لا استقلال للقضاء إلا في حدود رأي السلطة العليا وهواها؛ وكان خضوع القضاء لرأي هذه السلطة ووحيها يبدو بنوع خاص في بعض القضايا الجنائية الهامة التي تريد السلطة العليا أن تسبغ فيها لون القانون والعدالة على قصاص أو انتقام ترى إجراءه، أو(52/14)
القضايا المدنية الهامة التي يراد فيها اغتيال مال وثروات يطمع فيها باسم الشريعة وقضائها. وكثيرا ما كانت السلطة العليا تغفل في إجراءاتها وأعمالها هذه الصبغة الشرعية، ولكنها كانت في أحيان كثيرة ترى من حسن السياسة إلا تحمل مسئولية القصاص أو الانتقام أو مصادرة الأموال، وان ترد هذه المسئولية إلى القضاء، وهو في نظرها ورأيها أداة من أدوات التنفيذ التي تسيطر عليها وتسيرها طبقا لمصالحها وأهوائها.
وإذا كنا لا نستطيع أن نظفر في تاريخ القضاء في تلك العصور بأمثلة كثيرة لتطبيق مبدأ استقلال القضاء، فأنا نستطيع أن نظفر بالعكس بكثير من الأدلة والوقائع على خضوع القضاء للسلطة العليا ايا كانت وتبعيته لها وتوقفه على إرادتها وهواها. ونكتفي بان نورد لتأييد هذه بالحقيقة مثلا واحدا من تاريخ القضاء في أوائل الفرن التاسع الهجري، نقله إلينا المقريزي وهو من معاصريه وشهوده. وخلاصته انه في عهد الناصر فرج سلطان مصر، أنشأ الأمير جمال الدين الاستادار مدرسة عظيمة بالقاهرة، أوقف عليها أوقافا جليلة، وكان إنشاؤها على ارض عليها أبنية موقوفة على بعض الترب، فاستبدل بها الأمير أرضا من جملة الأراضي الخراجية بالجيزة، وحكم له قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم بصحة الاستبدال وهدم البناء أقام مكانه المدرسة. ثم نكب الأمير جمال الدين وقتله السلطان، وحسن له بعض وزرائه أن يستولي على المدرسة وان يضع اسمه عليها، فادعى السلطان عندئذ أن الأرض الخراجية المستبدل بها كانت ملكه واغتصبها الأمير جمال الدين دون إذنه، وحكم له قاضي قضاة المالكنة، بان بناء المدرسة الذي أقيم على ارض لم يملكها الواقف، لا يصح وقفه، وانه باق على ملكية بانيه إلى حين موته، وعندئذ انتدب الشهود لتقدير قيمة البناء، فقدر باثني عشر ألف دينار ودفع المبلغ إلى أولاد جمال الدين وباعوا المدرسة للسلطان، فصارت ملكه، ثم أوقف السلطان أرض المدرسة وبنائها بعد أن قضى له قاضي الحنفية بصحة الاستبدال، وحكم له القضاة الأربعة بصحة هذا الوقف؛ بعد أن قضوا من قبل بصحة وقف الأمير جمال الدين. فلما قتل الملك الناصر، وتولى مكانه الملك المؤيد، تولى الوزارة بعض أصدقاء جمال الدين، وسعوا لدى السلطان ليرد أملاك جمال الدين المغتصبة إلى أخيه وأولاده، فأجاب السلطان ملتمسهم، وأحيلت القضية مرة أخرى على القضاة الأربعة، وعقدت لذلك جلسة مشهودة (815هـ)، وقضى برد المدرسة وأوقافا(52/15)
إلى جمال الدين وما نص عليه في وقفيته؛ ورد النظر فيها لأخيه؛ ثم نزع منه النظر بحكم جديد وأعطى لكاتب السر، وهكذا يقول المقريزي (فكانت قصة هذه المدرسة من أعجب ما سمع به في تناقض القضاة وحكمهم بإبطال ماححوهم حكمهم بتصحيح ما أبطلوه، كل ذلك ميلا مع الجاه، وحرصا على بقاء رياستهم، ستكتب شهادتهم ويسألون)
وهذا مثل بارز يصور لنا مبلغ خضوع القضاء للسلطة التنفيذية وتأثره بأهوائنا في بلك العصور، فلم يكن القضاء يومئذ هو ذلك الملاذ النهائي للحق والحرية، ولم يك ثمة احترام لما نسميه اليوم بقوة الأحكام النهائية؛ فما يفتى به اليوم تحقيقا لرغبة سلطان أو أمير أو وزير، يفتي غدا بعكسه تحقيقا لرغبة السلطان الجديد أو وزيره، ويقضي بهذه الأحكام المتناقضة نفس القضاة في كل مرة. وما يقوله لنا المقريزي من أن بواعث هذه الحالة كلها ترجع إلى ميل القضاة مع الجاه وحرصهم على بقاء رياستهم، هو أصدق تعليل لهذا الصدع الخطير في بناء الدولة ونظمها. ونستطيع أن نضيف إلى قول المقريزي، أن هنالك عاملا آخر له قيمته في خضوع القضاء للسلطة التنفيذية على هذا النحو، هو أن القضاء الأعلى لم يكن يتمتع في بلك العصور بما أسبغ عليه في العصر الحديث من الضمانات الكفيلة باستقلاله وحمايته من تدخل السلطة التنفيذية وانتقامها، وأهم هذه الضمانات كما هو معروف هو عدم قابلية القضاة الأكابر للعزل أو النقل، وعدم مسئوليتهم أمام أية سلطة أخرى؛ ولكن القضاء في العصور الوسطى لم يكن يعرف مثل هذه الطمأنينة سواء في الشرق أوفي الغرب، وكان القاضي يخاطر دائما بمركزه وجاهه ورزقه وأحيانا بحياته إذا لم يذعن لرأي السلطة التنفيذية وهواها؛ ولم يكن يستطيع مغالبة هذا التيار الخطر أو تحديه سوى شخصيات قوية جريئة تستهين في سبيل كرامتها في تلك العصور منها سوى القليل.
محمد عبد الله عنان المحامي(52/16)
بردى. . .
والتاريخ العربي
للأستاذ علي الطنطاوي
(بردى) سطر من الحكمة الإلهية، خطته يد الله علىفحة هذا الكون، ليقرأ فيه الناس ببصائرهم لا بأبصارهم فلسفة الحياة والموت، وروعة الماضي والمستقبل - وخصَّته للأمة العربية، فجمعت فيه تاريخها الجليل ببلاغة علوية معجزة.
والقرآن الذي جعل الآية المعجزة في القرآن - هو الله الذي جعلها في الأكوان.
والله الذي أعجز ملوك القول، وأمراء البلاغة، بسور من آيات وكلمات وحروف، هو الله الذي أعجز قادة العقل، وأئمة الفلسفة. بسور من بحار وإنهار وكهوف.
وما (بردى) إلا سورة من قرآن الكون المعجز البليغ - وليس إعجازه في أنه يجري؛ ولكن إعجازه في أنه ينطق. وبأن في كل شبر منه تاريخ حقبة من العصور. وتحت كل شبر أنقاض أمة من الأمم: أمة ولدت في حجره، ورضعت من لبانه، وحبت بين يديه، ثم قويت واشتدت، وبنت فأعلت، وفتحت فأوغلت، ثم داخلها الغرور، وحسبت إنها شاركت الله في ملكه، فظلمت وعتت واستكبرت، فبعث الله عليها نسمة واحدة من وادي العدم، فإذا هذه العظمة وهذا الجبروت ذكرى ضئيلة في نفس بردى، وأنقاض هينة في أعماقه، وصفحة أوفحتان في كتاب التاريخ. وإذا بأمة أخرى تخلفها في أرضها، وترثها مالها، ثم يكون سبيلُها سبيلَها: فقام الفينيقيون على أنقاض الحيثيين، والكنعانيوتنن بعد الفينيقيين، والفرس بعد الكنعانيين، واليونان بعد الفارسيين، والروم بعد اليونانيين، والغساسنة بعد الرومانيين، والمسلمون بعد الغسانيين - ثم قام العباسيون بعد الأمويين، ثم قاملاح الدين، ثم جاء الترك بعد السلجوقيين - ثم جاء فيصل بن الحسين، ثم جاءت جيوش الفرنسيين.
هكذا يدور الفلك في السماء، ويدور السلطان في الأرض، فتنشأ من القبر الحياة، ويغطى على الحياة قبر، والسلسلة لا تنتهي، والناس لا يعتبرون. . . و (بردى) يبتسم ساخراً من غرور الإنسان، ضاحكاً من جهالته. يحسب نفسه شيئاً، فيضارع الكون، ويتطاول بعقله إلى الله؛ وما هو من الكون إلا ذرة من الرمل ضائعة في الصحراء، وما عمره إلا ثانية واحدة من عمر (برد ى).(52/17)
(بردى) وهو يجرى على الأرض، رمز لتاريخ الأمة العربية وهو يجري في الزمان. ففي كل قسم من بردى، فصل من التاريخ:
يخرج (بردى) من بقعة في (الزبداني) منعزلةعبة، لا يبلغها إلا من كان من أبنائها عارفا بمداخلها ومخارجها - كما خرج العرب من هذه (الجزيرة) الصعبة المنعزلة، التي لم تلن إلا لأبنائها، والتي ردت عنها الفاتحين كافة، وجعلت رمالها قبرا لكل من يجرؤ منهم على وطئها، على أنه لم يتجرأ عليها إلا كسرى، فبلغ جيشه (ذي قار)، ولكن الجزيرة قد ابتلعت هذا الجيش وهي تهتف لمحمد، ثم لم يقنعها هذا الثأر، فابتلعت دولته كلها في (القادسية) تحت راية محمد،. . وقالت لعالم: هذا جزاء من يطأ الجزيرة!
ويسير (بردى) في غور عميق لا يخرج الى هذه الجنان الجميلة الفتانة التي قامت على مقربة منه، يسلك قراره الوادي، تلتطم أمواهه وتصطدم: كما كان العرب في جاهليتهم يصطدمون ويقتتلون ويشتغلون بأنفسهم عن العالم، فلم يخرجوا إلى الدنيا، ولم تخضع لجزيرتهم جنات أالشام، ولا سهول مصر، ولا سواد العراق.
ثم يبلغ (بردى) (الفيجة) وهناك تصب فيه أمواهها العذبة الصافية الزاخرة، فلا تخالطه ولا يخالطها، ويسير النهر خمسين متراً، ومن إحدى جهتيه (بردى) القليل العكر، ومن الأخرى (الفيجة) الكثيرة العذبة، ثم يختلطان، فتضيع قلته وكدورته، في كثرتها وصفائها، ويعدو (بردى) قوياً عذباً زاخراً، نحو أرض الورود والثمار.
كمابت على الديانة الجاهلية، مبادئ الإسلام السامية، فتجافى العرب عنها، وأبوا أن يتبعوها، وكادوا لأصحابها، حتى غدت الجزيرة كبردى، فيها المسلمون الموحدون المتحدون، والجاهلون المشركون المختلفون، ثم مكَّن الله لمحمد، فخضعت له الجزيرة لم تخضع قبله لمخلوق، واجتمعت كلها تحت رايته، ولم تجتمع قبل تحت راية واحدة، فقادها إلى الشام والعراق، إلى أرض النخيل والأعناب.
ويبلغ (بردى) (بسيمة) ويبلغ (الجديدة) فيسير بين بسيمة والجديدة، في أجمل البقاع على وجه الأرض، ويسقي هذه الخمائل فيكون شكرها إياه، أفنان الورود، وأغصان الأشجار التي تتدلى فوقه، وتلمس خده لمساً رقيقاً، وتقبل جبينه قبلة طاهرة، وهو يلين تارة فترى حصباءه منفائه، ويشتد أخرى فيرغي ويزبد، ويكون له منظر مرعب ولكنه جميل!(52/18)
مرهوب ولكنه محبوب!
كما كانت الأمة العربية بعد أن بسطت سلطإنها على العالم القديم كله محبوبة مرهوبة في آن، يفزع أعداؤها من هيبتها، ولكنهم يحبون عدلها، وينتفعون بحضارتها. أغاثت بالعدل بقاع الأرض فكان شكرإنها إياها، هذه الأموال التي فاضت بها خزائنها، وهذا النعيم الذي تفيأ ظلاله أبناؤها، وكانت تستقيم لها الأمور فتلين وتدع هذه الرقعة البسيطة من الأرض جنة يسعد بها أهلها، ويسعد بأهلها أهل الأرض جميعاً، وكانت تستغضب، فإذا غضبت غضب لها الدهر، وإذا سارت إلى عدوها سار في ركابها الموت والدمار أنى سارت: كانت نحمل في يمينها السلام والسعادة، وفي يسراها الموت والشقاء، كما يحمل بردى بين (بسيمة والجديدة) الغيث والثمرات، والطوفان والغرق.
ويبلغ بردى (الربوة) ويمشي حيال اليزبين، ذلك المعنى الذي بني من الشعر، وولد فيه الشعر، استحال إلى مقاه من عيدان تقوم على الخمر والقمر والعهر. . . وينقسم بردى إلى أقسام سبعة انتثرت نثراً بين عدوتي الوادي: يزيد، وتورا، وبردى، وبايناس، وقنوات، والديراني، وعقربا - منها القوى الممتلئ، ومنها الضعيف القليل - كما انقسمت الأمة العربية إلى طوائف وحكومات، منها القوي المتين، كحكومةلاح الدين التي ردت - علىغرها - أوربة كلها يسوقها الجهل والتعصب، وانتزعت في (حطين) الفريسة من (قلب الأسد)، وحكومة سيف الله التي هدت في (الحدث) حكومة الرومان هداً، ومنها الضعيف المستكين وقد ازدهرت الحضارة في هذا العهد وأثمرت، كما ازدهرت الأشجار في (الربوة) وأثمرت.
ثم يدخل بردى (دمشق)، فلا يصفق بالرحيق السلسل، ولا يتمايل على الورود والرياحين، بل يصفق بالأوحال والحشائش، ويميل على الأقذار والأوساخ، ويشح ماؤه وينضب ثم يضيع ويضمحل، كما ضاعت عزة العرب واضمحلت. . .
ثم يخرج إلى (الغوطة) فإذا نشق نسيمها عاودته الحياة، ونشأت في مجراه الجاف الصلب، عيون وينابيع، فإذا بلغ (جسر الغيضة) عاد قوياً زاخراً عذباً - كما عادت الأمة العربية اليوم إلى الحياة، ورفعت في الشام ومصر والعراقروحاً جديدة، لن تلبث إلا قليلاً حتى تكون خالصه لأصحابها، من دون الناس أجمعين!(52/19)
وبعد، فهل أحزنك يا بردى أنك اليوم ضائع في اهلك، لا ترى حولك عزة العروبة ولا جلال الإسلام؟ كلا، لا تحزن يا بردى فما أنت وحدك المضاع، إن هناك أمة بقضها وقضيضها، هي مثلك مضاعة، وهي مثلك بنت المجد والشؤدد.
لا تحزن يا بردى! بل اصبر حتى إذا أعجزك الصبر فثر بأمواهك، وليضطرم موجك حتى تغسل عن قومك عار الذلة والخنوع، أنه لا يغسله إلا ثورتك، هذه سنة الحياة يا بردى: لا بالحق ولكن بالقوة.
وإذا غرهم منك لينك، فأرهم شدتك، إن الماء لينه يجرف جبلاً على جبروته وكبريائه، ولقد ثرت مرة، فبلغ رشاشك بواتيه من هنا، وحيدر آباد من هناك! فهل استنفدت تلك المرة قوتك كلها؟ أما فيك بقية من الشباب؟ تعبت إذ تجري هذه الملايين من السنين؟ إنها فترةغيرة من عمرك، فعلام الونى؟ انك لا تزال شاباً، ولم تنس بعد جيش خالد ولا موكب الوليد، لقد كان ذلك أمس، وسيكون مثله في غدٍ.
فاصبر ولنصبر يا بردى! إن الصبر مفتاح الفرج يا بردى. . .
دمشقعلي الطنطاوي
آراء حرة(52/20)
القصة في الأدب العربي
للأستاذ فخري أبو السعود
حب تتبع الحوادث وحكايتها مركب في الطبع الإنساني، ولكن القصة كانت آخرور الأدب ظهورا، فلم تعرفها الآداب القديمة ولم تظهر في الآداب الأوربية الحديثة إلا أخيرا، ولذلك أسباب منها الوهم الذي وقر في نفوس الأدباء المتقدمين وإن يكن يبدو لنا اليوم غلطه واضحاً: أعني توهم أن القصة إن هي إلا أحبولة أكاذيب لا يليق بالأديب الراقي أن يلهو بحوكها، وأن القصص مرتبة من التأليف سهلة يستطيعها كل من رامها فلا يجمل بالأديب القدير أن يتدلى إليها.
ومن ثم كان العرب يؤثرون الأخبار التاريخية والأدبية ويخصونها بالحفظ والرواية مهما خالطها التحريف، لاعتبار إنها حقيقة لا اختلاق، وكثرت بينهم كتب التواريخ والسير دون كتب القصص، ومن ثم أيضا لم يسلك سبيل القصص من الأدباء المجيدين إلا من كان له غرض آخر دون القصص يوهم قراءه أو يوهم نفسه أنه الغاية التي إليها يقصد: إما بإعطاء القصص مغزى وعضياً كما في كتاب كليلة ودمنة، أو بإلباسه ثوباً قشيباً من الصناعة البلاغية كما في مقامات الهمذاني والحريري، بينما تركت الأقاصيص المجردة للعامة الذين يفشو بينهم القصص في كل العصور نتيجة لذلك الميل الطبعي في الإنسان، وتتداول بينهم أساطير المردة والسحرة ووقائع الأبطال الغازين ومخاطرات التجار والملاحين ونوادر الظرفاء والمعتوهين.
بيد أن القصة إن انعدمت من الآداب اليونانية والرومانية القديمة ومن الآداب الأوربية الحديثة إلى عهد قريب، فقد قامت مقامها عند تلك الأمم الرواية التمثيلية التي تؤثر في النفوس لا من طريق الميل الطبعي إلى القصص وحده، بل من طريق أخرى هي الميل إلى محاكاة الأشخاص وتقليد الحركات، ومن طريق ثالثة هي الثوب الخيالي الشعري الذي اسبغ على تلك الروايات التمثيلية.
ثم التفتت رويداً رويدا إلى أحوال المجتمع فتناولت وصف شؤونه وتصوير أخلاق أفراده، أما العرب فلم تقم لديهم لا القصة المقروءة ولا الرواية التمثيلية، فإلام يعزى ذلك؟ يعزى إلى أمرين: أولهما إيجابي هو موقف أدباء العربية من مجتمعهم، وثانيهما سلبي هو مكانة(52/21)
الشعر لدى العرب.
فكتاب العربية وشعراؤها عاشوا دائما بنجوة عن مجتمعهم لا يشتركون في تقلباته السياسية والاجتماعية، ولا يعبرون عن شعوره وحاجاته، ومن ثم ندر الأدب الوطني في العربية وإن كثر الأدب العصبي، وندر الشعر الاجتماعي، وكان جل شعر الشعراء فرديا يعبر عواطفهم وحاجاتهم الشخصية ويفيض بذم منافسيهم وأعدائهم الشخصيين ومدح أولياء نعمتهم من الكبراء والأمراء الذين يعتمدون عليهم دون الشعب ويبتغون رضاهم قبل رضا الشعب، فلم يكن هناك تواصل وتجاوب بين الأدباء ومجتمعهم ولا رغبة لدى الأدباء في معالجة شؤون المجتمع وتحليلها ومحاولة إصلاح فاسدها عن طريق أدبهم، فلم يقم في العربية أمثال أديسون وستيل ودكنز وجالزورذي من الأدباء الإنجليز الذين جعلوا إصلاح الأخلاق أو ترقية المرأة أو إنهاض العامل نصب أعينهم، ولا ريب أن هذا التواصل والتجاوب بين الأدباء والمجتمع واعتماد الأدباء على جمهور القراء دون هبات النبلاء أساس نمو القصة التي تصف المجتمع وتحلل الأخلاق، ولم تنشأ القصة الحديثة في أوربا في القرن الثامن عشر إلا بقيام ذلك التواصل والتجاوب بين الأدب والمجتمع، وكانت الطباعة التي سهلت انتشار الكتابات مساعدة لذلك ولا ريب.
وأما مكانة الشعر الممتازة لدى العرب - والتي لعله لم ينلها لدى أمة أخرى - فإنها ثبطت ماعدا الشعر منور الأدب، فقد كان الشعر لدى العرب هو الوسيلة للتعبير عن العواطف قبل كل وسيلة، فصرفهم شديد اعتدادهم به وتوفرهم عليه عما عداه، وأودعوه عواطفهم وأخبارهم وقصصهم، فلو أن الشعر ترك مجالا لغيره لاحتمل أن يلجأ أديب كأبي نواس إلى القصص يودعه أنباء لهوه ووقائع غرامه ويشرح فيه ما سبر من غور العواطف وبلا من سريرة المرأة سادلاً على شخصيته ستاراً رقّ أو كثف، ولربما كان منه في العربية نظير لموباسان في الفرنسية، ولكن الشعر كان كما تقدم هو الوسيلة للتعبير عن العواطف قبل كل وسيلة، فلميتردد أبو نواس في سلوك السبيل التي سلكها ابن أبى ربيعة من قبل، سبيل الشعر القصصي أو القصص المنظوم شعراً.
إن الناظر في أدب العرب وتاريخهم لا يسعه إلا أن يرى هذه الحقيقة بارزة: حقيقة أن الشعر نال من المنزلة عندهم ما لم يبلغ عند سواهم حتى طغى على ما دونه من ضروب(52/22)
الأدب، وأن الأدب على إطلاقه بلغ لديهم مكانة طغى بها على ما عداه من الفنون وصبغ ثقافتهم بصبغته - برغم بعده عن معالجة الحالة السياسية والاجتماعية فكان كاتبهم في التاريخ وتقويم البلدان وغيرهما من العلوم يتحدث عن الأدباء ويرجع إلى محفوظه من الأدب، وكم من أعلام للشعر العربي لو كان التصوير والنحت رائجين لدى العرب رواج الأدب والشعر لانصرفوا إليهما دونه أو لمارسوهما معه.
ولقد كتب الأستاذ الفاضل محمود خيرت في الرسالة أخيراً يثبت وجود التصوير لدى العرب فلم يعد أن أثبت أنه كان في حالة أولية لا يفتخر بها ولا يغتبط: فإن الفن الذي لا ترى له باقية ولا يمكث له أثر في أدب اللغة وكتبها، ولا يتوصل إلى إثبات وجوده إلا بشذرة شاردة فيحيفة من كتاب، لا يكون فنا قد نال حظا من الرقي وخالط نفوس الأمة واستدعى اهتمام مثقفيها، والحكاية التي رواها الأستاذ عن المقريزي تشهد بذلك، حكاية المصورين اللذين رسماورتين إحداهما كأنها داخلة في الحائط والأخرى كأنها خارجة منه: فإن تفاخر الرجلين بهذا العمل الضئيل ودهش الوزير له وإسباغه عليهما المنن من أجله ووقع القصة من نفس المؤرخ حتى أثبتها في كتابه، كل ذلك لا يدل على ارتقاء الفن في ذلك العصر. بل يدل على كونه في حالة بدئية، وعلى ندرة المصورين المجيدين بل المتوسطي الحظ من الإجادة، وكلام المؤرخ كله يدل على أن التصوير الذي عرف لذلك العهد لم يتعد الصناعة ذات الغرض العملي التي يزاولها الصناع كما يزاولون النقش والطلاء، ولم يرق إلى مرتبة الفن الخالص المنزه عن الأغراض العملية.
إنور المدارس الإيطالية والهولندية وغيرها منتشرة في الأقطار تملأ المتاحف وتتحدث عن نفسها وعن رقى الفن عند أهلها قبل أن تحدثنا عن ذلك مئات الكتب التي الفت فيها، فأين آثار مصوري العرب التي تحدثنا عن مثل ذلك؟ بل أين الكتب المؤلفة فيها؟ بل أين الصور العربية التي كانت وحيا لشعراء العربية كما كانت الصور الأوربية وحياً لوردزورث وتنيسون وغيرهما، أو كما كانتور الأطلال الفارسية وحيا لسينية البحتري؟
لن لخفر بشيء من ذلك إذا طلبناه، ولن يسعنا إلا الإقرار بالحقيقة التي تطالع قارئ تاريخ العرب وأدبهم: وهي أن العرب كادوا أن يكونوا أمة ذات فن واحد هو الأدب وبخاصة الشعر الذي استوعب ملكات جل نوابغهم واحتوى دراسات جل مثقفيهم ذلك بأن العرب(52/23)
كانوا منذ جاهليتهم أمة لسان وبيان.
فخري أبو السعود(52/24)
خصومة
للأستاذ توفيق الحكيم
بعثت إليه أول النهار بالرسالة التي سماها (باقية على الدهر) ثم أويت آخر النهار إلى بيتي فوجدت اسطوانات (بيتهوفن) التي استعارها مني قد ردها إلي، فعك إنها القطيعة. فوقفت واجماً في مكاني وزالت آثار الغضب ولم يبق في نفسي إلا ألم عميق: لقد انتهى كل شئ بيني وبين الدكتور طه حسين. . ولم أستطع أن أقرأ شيئا في ليلتي، وما إن أقبل الصباح حتى أوفدت إلى الدكتور طه حسينديقين كريمين يحادثانه في أمر الرسالة، وإذا به قد دفعها إلى المطبعة، وإذا به يأبى إلا أن يعلن الخصومة إلى الناس. وحاول الصديقان عبثا أن يحولا بينه وبين هذا الإعلان. وحاولا عبثا أن يقنعاه بإبقاء الخصومة سراً بيننا حتى يعرض أمرها على الأستاذ الجليل لطفي السيد بك وكلانا ولده وهو أولى من جمع بين القلوب النافرة وكان إلى ذلك سبيل. لكن الدكتور طه أراد أن ينتقم فتناول القلم ووضع قصة روى فيها ما كان من أمري وأمره.
قرأت القصة فدهشت. أي روعة وأي إبداع! إنها في ذاتها أثر من آثار الفن الخالد، إني أشهد أنها عمل فني عظيم. فيها من سعة الخيال وروعة الأسلوب ما يضمن لها البقاء. إنها هي التي ستبقى على الدهر.
لقد أعجبت حقيقة بهذه القصة إعجاباً شديداً، وهي عندي من أقوى ما كتب الدكتور. ولقد أنساني إطارها الأدبي ما احتوته
من اتهامات قاسية، وماذا يهم؟ إن شخصي ليس يعنيني كثيراً، كما أنه ليس يعنيديقي الدكتور منذ اليوم. إنما الذي حفلت به حقيقة وأحفل به الآن، هو تلك القطعة التي تشيع الحرارة في جوانبها، ويمتلئ أسلوبها بمرارة مؤلمة. قطعة لا ينساها من يقرؤها. وأغلب ظني أن الدكتور قد أصر على نشرها لأنه يعلم أنه قد كتب شيئاً جميلاً: وأني الآن لأرضى أن يضحي شخصي الزائل في سبيل ظهور هذه القطعة الباقية. على أن القارئ وقد فرغ من القصة لابد يسأل نفسه: ما كل هذا الذي بين توفيق وبين الدكتور؟ وأني أمد القارئ بالجواب فأقول: لا شئ في رأيي غيرداقة لا يمكن أن تزول لأنهالة بين قلبين اجتمعا على حب الجمال الأعلى: جمال الفن والحقيقة، ولئن قامت خصومة بيننا اليوم أو الغد، فهي(52/25)
خصومة من اجل الرأي والتفكير، إن الشخصية الحرة هي كل ما يحتاج إليه الأديب الحقيقي. ومهما يكن من قيمة الصداقة الأدبية العظيمة لا ينبغي أن تقتات على هذه الحرية. إن الدكتور طه حسين العميد الرفيع المقام، والزعيم الجليل الشأن في أدبنا العربي الحديث يفهم هذا حق الفهم، وإنه ليعلم أني أقدره أحسن تقدير وأضعه من نفسي في أسمى مكان وأحفظ له على مر الزمن ما أسدى إلي من جميل، ولا أنسى أنه هو الذي ألقى الضوء على وجودي، غير أنه يخطئ إذا فهم أنداقتي له معناها التزام موافقته على كل رأي أدبي يبديه، والتسليم والتأمين على كل ما يخرج من قلمه أو من فيه. إن الحكم المطلق إذالح في دولة السياسة فهو لا يصلح في دولة الأدب. وأني لا أخالديقي الدكتور طه نفسه يرضى لي أو يرضى لفني وتفكيري هذه الحرية المقيدة. هذه هي كل الخصومة التي بينه وبيني. فهو قد استاء مني إذ عارضته في بعض آرائه في مقالات نشرت في (الرسالة) أو في (المصور) وفاته أني أجد لذة عقلية في معارضة منطقه السليم وآرائه المستقيمة دون أن أحفل بالنتائج. ولقد استاء كذلك مني يوم أخرجت الطبعة الثانية من (أهل الكهف) بغير مقدمته، وعقيدتي أنه على حق في هذا الاستياء لو أنه فهم من تصرفي أني قصدت خدش كبريائه، أو أني رأيت أحداً غيره أولى منه بهذا التقديم.
أما وقد فهم أني لم أقصد هذا ولا ذاك، وأن الحقيقة لا تعدو أني شخص بسيط لا أمقت شيئاً في الأدب مثل المقدمات، وأني روح حر يأبى أن يقيد نصوصه بتفسيرات، فضلاً عما قام في ذهني يومئذٍ من إبطائه أنه جاد في وعده بالمقدمة. فهل تراه يصر بعد ذلك اتهامي بسوء القصد؟. أني أحب الحرية، حرية التصرف، وحرية الكلام، وحرية إبداء الرأي. وأعتقد أن أثمن كنز يغدقه المجتمع على رجال الفن هو (الحرية)، وأعتقد أن خير هدية أهديهاديق العزيز علي، هي (الحرية) ولقد بلغ من إخلاصي فيداقتي لطه حسين أن أعطيته (حريتي). فهو لن ينسى أني ما أتصرف في عمل أدبي بغير رأيه، وما استشارني أحد في أمر يتصل بمكتبي إلا أحلت المر عليه، وانتظرت كلمته فيه. على أني أحب من جهة أخرى أن أستعير بعض هذه الحرية أحيانا لأناقشه في فكرة من الفكر، أو أحاوره في مسألة، أو أرد عليه في مقال. فأنا كما يعلم الدكتور طه ذو طبيعة لا تسير على نظام.
إني أعطى كثيراً ثم آخذ فجأة، ثم أعود فأرد ما أخذت. وعلىديقي أن يكون رحب الصدر،(52/26)
سخي النفس كمصرف فتح لي فيه حساب جار. وإني أشهد أن الدكتور طه يحمل نفساً من أنبل النفوس وأندرها؛ ولقد سجلت هذه الشهادة في قلبي قبل أن أسجلها في كتابي الفرنسي الذي بعثت به إليه منذ شهرين. غير أن الدكتور لم يعرفني حق المعرفة، وأراه يأخذ بعض تصرفاتي على سبيل الجد، حيث لا ينبغي أن تؤخذ على سبيل الجد. ولست أدري ماذا كان يضيره لو أنه غضب ما شاء من رسالتي العنيفة ثم مزقها دون أن يحفل بها، ودون أن يعلن للناس، ودون أن يدخل الناس بيننا؛ وهو يعلم لو رجع إلى قلبه أن لا شئ في هذا الوجود يستطيع أن يحول بيني وبينه، ومع ذلك فل ن هذه الرسالة الغريبة قد أدت إلى الأدب العربي أجل خدمة، فهي التي ألهمت الدكتور كتابة قصة من أروع القصص، وإني أؤكد للدكتور أنها خير نموذج للون جديد في الأدب كان ينبغي أن يوجد. وأخشى أن تحدثني نفسي بتكرير فعلتي كلما تاقت نفسي إلى متعة فنية، وكلما آنست في إنتاجنا الحديث فراغاً.
وبعد، فياديقي الدكتور أنا محزون حقا. فقد فكرت، فإذا خطيئتي بديهية، فقد كان يجب على الأقل أن أستشيرك قبل أن أبعث بتلك الرسالة. فماذا ترى في موقفي منك؟ ويزيدني حزناً لطفك حين تتجاوز في سهولة وكرم عن كل هذا.
إنما أنت في حقيقة الأمر فنان كبير، فنان حقا. وإني لأعترف بأني لم أمنح هذه النفس، ولست أنا خليقاً بالفن ولا بك.
واليك الآن ما تمت عزيمتي عليه إذا احتفظت بغضبك على فسأعرض عن كل حياة أدبية
توفيق الحكيم
تعليق
نقلنا في العدد الماضي عن الوادي ما سماهديقنا الدكتور طه (قصة تمثيلية للأستاذ توفيق الحكيم)، لأن (الرسالة) كانت مسرحاً لهذه الرواية، فمن حق قرائها الذين لا يصل إليهم الوادي أن يشهدوا فصلها الأخير، ولأن (الرسالة) سجل لأوان الأدب الحديث، فمن حق الأدب أن نسجل في تاريخه ما يقع بين رجاله من الخلاف الجدي فيه كاملاً غير منقوص. ولهذين السببين نقلنا أيضاً عن الوادي ما كتبه الأستاذ توفيق الحكيم تعليقاً على تلك(52/27)
(الرواية)، وأنه ليسرنا أن نسجل كذلك أن الود قد اتصل، بين الصديقين الكريمين، وأن الدكتور طه قد أعلن في الوادي (أن ما كان بين الأستاذ توفيق الحكيم وبينه من خلاف قد انتهى أمره وحي محواً بعد ذلك الكتاب الرقيق).
أما هذا الذي نشره في الواديديقي طه وسماه عتاباً فلعله من الأمور التي تسمى بغير أسمائها وتجري على غير أوضاعها في هذا العهد العجيب الذي استغل الناس فيه كل شئ حتى حياء الحيي ووفاء الوفي وتسامح الصديق.
الزيات(52/28)
الرسوللى الله عليه وسلم
للأستاذ محمود حمد شاد
قرأت في عدد الرسالة الذيدر بتاريخ الاثنين 13ربيع الأول سنة 1353 باباً من القصص الشعري عن (إسلام حمزة) رضي الله عنه وقد وضع هذه القصة واضعها وهو يقصد بها - إن شاء الله - خيراً. إلا أن طريق الخير إلى ما قصد إليه قد التوى به التواء يذهب بكل ما عمد إليه، فانه وضععلى لسان الرسول شعراً نزهه الله عنه بقوله (وما عَلَّمناهُ الشِّعرَ وما ينبغي له)، ثم يلي ذلك أنه قد وضع على لسانه ما لم يقلهلى الله عليه وسلم.
وليعلماحب هذه القصة أن الرسوللى الله عليه وسلم يقول (من كذب علىَّ متعمداً فليتبوَّأ مقعده من النار) ويقول (من حَدَّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين). فكيف بصاحبنا وهو ينطق رسول اللهلى الله عليه وسلم بما لم يقله، ثم يكون ما أنطقه به من الكلام مصوغاً في القالب الذي نزَّه الله نبيهلى الله عليه وسلم؟
هذه المسألة مما يريد بعض الناس أن يحتال لها بمنافق الكلام ليستحل ما لا يحل أبداً. وهم يراودون الناس فيها عن عقولهم أولاً ثم عن أيمانهم ثانياً، لينقادوا لهم في الرضا بها والمتابعة عليها. . . والمسألة لو تناولت أحداً غيراحب الرسالة لقلنا عسى ولعل. . .
ولنظرنا في المخرج الذين يتأولونه نظر المنطق، ولكنها تتناول إنسانية وحدها قد جعلها الله بمنزلة فوق منازل سائر البشر، وإن لم تخرج عن منزلة البشر في أعراض الحياة وما يكون فيها وما يأتي منها.
إن إنسانية الأنبياء وحدها التي أوجب الله على من حضرها من الناس أن يؤمن بها أولاً، ثم يحافظ على رواية سيرتها ثانياً، ثم يحترس ويتدبر فيما ينقل عنها أو يصف منها، لأن نسبة شئ من الأشياء إليها قد يكون مما يتوهم أحد منه وهماً يخرج - فيما يُقبل من أمر الدنيا - بحقيقة الرسالة التي أرسلوا بها عن القانون الإلهي الذي عملوا به ليحققوا كلمة الله التي تعلو أبداً، وتزدهر دائماً، وتبقى على امتداد الزمن روح الحياة البشرية وميزان أمر الناس في هذه الدنيا.
وليس يقال في قصةاحبنا أو غيرها أن ما أنطق به الرسول لا يتناول تشريعاً أو أدباً أو حكماً، وإنما يتناول الكلام المتعاطي بين الناس فليس به من ثم بأس. . . ليس يقال مثل(52/29)
هذا لأن التشريع حين يوضع ويراد به سد أبواب من الشر والفتنة يأتي منعاً مصمتاً لا مدخل فيه ولا ثغر حتى يدفع المحزبين والمفسدين والعابثين ويضرب على أيديهم من كل ناحية. ولو كان الأمر على غير ذلك لتناول كل لص مفتاح الباب الذي يريد أن يدخل منه إلى عقول الناس ليستغرهم ويزلزلهم من جنة الأيمان إلى جحيم الإلحاد في الدين من الطريق الخفي الذي لا تبصر فيه العامة ولا تهدي به إلى أرشد أمرها في الحياة.
فنحن هنا نتقدم إلى الأستاذاحب القصة بأن يتدبر ما شاء، فهو سيدع ما سلك إلى سبيل أهدى، فإن الأدب الذي له نعمل لم يقتصر ولم يضق حتى ندع ما أحل الله إلى ما نهى عنه، ونترك سبيل الرشاد إلى سبيل تنحدر بنا إلى هاوية لا قرار لها، ولا عاصم منها.
محمود محمد شاكر(52/30)
في الريف
بقلم عبد الرحمن فهمي
ليسانسييه في الآداب
إذا أردت أن تمتع النفس بجمال الطبيعة فانك لست واجداً هذا الجمال في المدينة لأنها دائمة الصخب والضجيج، مشتبكة المصالح العامة والخاصة بشباك يتعذر على المرء الولوج منها إلى حيث الحرية الطبيعية التي وهبها الله عباده. ولا شك أن المدينة أحد العوامل التي أرخت ظلها الثقيل على جمال الطبيعة في المدن. بل إن هذه المدينة نفسها هي التي اضطرت ابن الطبيعة إلى أن يعقها إرضاء لشهوة المدة، حتى إذا سئم حياة المدينة - وسرعان ما يملها لأنها حياة مضنية للعقل والجسد - تطلع إلى الطبيعة وارتمى في أحضانها إلى أن يرتوي ببهائها.
وجمال الطبيعة في مصر يتجلى في الريف والصحراء والبحر بصورة جلية واضحة، وقد ذقت لذة الجمال في كل فطبت نفسا بهدوء الريف وسذاجته، وأخذتني روعة الصحراء ورهبتها، ورقصت مع أمواج البحر وأعجبت بعظمته، ولكني لم ألق جمالاً أكثر تأثيراً في النفس مثل جمال الريف الطبيعي.
ولا عجب إذ تراني أقضي بعض أوقات فراغي في قريتي بالمنوفية وهي قريةغيرة بحجمها كبيرة بتاريخها، ومن أبنائها العالم الكبير، والوزير الخطير، والمدير القدير، ونسبة المتعلمين فيها طيبة. فإذا حللت بها نسيت كل شئ إلا الجمال: فهذه حقول واسعة تتزيا في كل موسم بلباس خاص قد يكون أخضر سندسياً مسترسلاً موشى بالأبيض اللامع والأصفر الفاقع في موسم البرسيم الجميل، وقد يكون ذهباً براقاً عندما تنضج سنابل القمح والشعير إيذاناً بالبركة والخير الجزيل، وقد يكون أبيضافياً عند ظهور وبر القطن ثروة القطر وأمل الجميع، وقد يأبى هذا اللباس إلا أن يكون ذا خطوط متقاطعة أو متوازية عند إطلاق الماء في المصارف قبل أن ينبت الزرع. وهذه دور ساذجة تقرأ فيها أخلاق القروي من بساطة العيش ووداعة النفس وشئ من الدهاء مقرون بالسذاجة، ونوع من الإهمال ممزوج بالجهل، يشرف على هذه الدور جميعاً، مئذنة مسجدغير ينبعث منها كل وقتلاةوت مسترسل عذب يدعو المؤمنين إلى ربهم.(52/31)
ويعجبني جمال الخلق الذي عفا معظمه في المدن، فالفضيلة لا تزال محافظة لكيانها في القرية، فلا بغاء ولا فحش، ولا يمكنك أن ترى قروياً ثملاً في أحد طرق البلدة، بل إن أغلب القوم متمسكون بالعروة الوثقى. والشرف ظاهر في جوانب الحياة، والكرم والسخاءفتان ملازمتان للقروي والقروية.
توقظك في الصباح الباكريحات الديكة المتناوبة، وزقزقة العصافير المرحة، فإذا أطلّت الشمس من خدرها مؤذنة الحياة والكد والعمل، خرج الفلاحون من دورهم إلى حيث انعامهم فجهزوها ورووها بالماء وقادوها إلى العمل طوال النهار، ويعطف القروي عليها ويحنو، عطفاً كبيراً وحنواً زائداً، ولا عجب فهي ذراعه اليمنى التي يعتمد عليها في حياته، تطعمه وتهيئ أرضه للزرع.
ينعم الفلاحون في الحقل بكثرة العمل ونقاء الهواء وضوء الشمس إلى أن يؤذنهم غروبها بوجوب العودة إلى دورهم وهم في ذلك أيضاً أول ما يعنون به بهائمهم يقودونها إلى حضائرها وينثرون أمامها التبن والفول أو البرسيم والعشب، أما هم فتمد لهم ألوان الطعام على الأرض وهو طعام دسم كثير وهو الوجبة الوحيدة التي يعتمدون عليها في غذائهم فضلاً عن وجبة أخرى أو وجبتين من الخبز والجبن المخزون.
وفي العشية والمساء يجتمع أهل القرية جماعات في البيوت أو خارجها على المصاطب يتسامرون، أو يهيئونفقة بيع أو يتفقون على ري قطعة من الأرض بعد قطعة، أو يصلحون بين متخاصمين وتلحظ عليها جميعا روح المعاونة والحب.
وعلى ضفة النهير الذهبية برملها المبلور اللامع ترى الفتيات النواهد الحسان كلهن في جلابيبهن السوداء قد بدون سافرات الوجه في زينة طبيعية جميلة، وما أجمل الوجه القروي الناعم الذي لم تعمل فيه يدناع! وقد حملن فوق رؤوسهن الجرار، هذه تغسل جرتها وقد ارتسم جسمها الجميل علىفحة الماء الصافي، وتلك تغترف من الماء ما هي في حاجة إليه، وضفة النهر في هذه الفترة من كل يوم في نظري ناد لأولئك الفتيات يتقابلن فيه ويتحدثن عنده ويستعرضن يومهن الذي خلا، وقد يغنين بصوت متناسق جميل أناشيد قروية طريفة:
وأظهر ما تلحظه في القرية اليوم نوع من الركود المالي، فبعد أن كانت عقب مواسم الحصد نشطة بحركة بيع المحصول بالأثمان العالية أصبحت متأثرة بالأزمة، فأسعار رزق(52/32)
الفلاح رخيصة، وديونه كثيرة، وموارده قليلة، وقد نتج عن هذا هجرته إلى المدينة باحثاً عن عمل يلقى منه أجراً يومياً أو راتباً شهرياً.
وتقام في القرية رغم هذا سوق أسبوعية تعرض فيها أنواع التجارة فيبتاع القرويون ما هم في حاجة إليه من أقمشة أو بضاعة. ويبيعون ما هم في غنى عنه من الغلال أو الطيور أو الزبد. ويفد إليها كثير من أبناء القرى المجاورة يبتاعون ويبيعون.
ومنذ بضع سنوات لم يكن بالقرية محطة للسكة الحديدية، أو دار للشرطة، أو بكتب للبريد والبرق، وإنما كان المسافرون يحتملون عناء السفر بركوب ظهور الدواب ومتن النهر إلى أن يصلوا إلى محطة بعيدة يستقلون منها القطار، وكان ساعي البريد الجوال يصل إلى القرية كل يوم على حماره فينفخ في بوقه فيهرع القوم إليه ويقرأ عليهم الأسماء فيتناول منه كلاحب رسالة رسالته، أما اليوم فأسباب المواصلات موفورة.
ويثلجدرك بعض الشيء أن ترى بالقرية اليوم مكتباً للتعليم الإلزامي، وفكرة ناضجة في النفوس عن خطر الأمراض لا سيما (الرمد، والبلهارسيا، والانكلستوما) وغيرها، ورأيي أن أفضل ما تقوم به حكومة مصرية هو ترقية شئون الفلاح وأحوال القرية، لأن الفلاحين هم كثرة سكان مصر، ولأن القرية مما مورد ثروة البلاد الأساسي.
عبد الرحمن فهمي(52/33)
6 - أعيان القرن الرابع عشر
للعلامة المغفور له احمد باشا تيمور
السيد على الببلاوي
المالكي
هو على بن محمد بن احمد المالكي الحسني الادريسي من ببلاو، قرية تابعة لعمل ديروط الشريف التابعة لمديرية أسيوط، ولد بها في شهر رجب سنة 1251 ونشأ بها فحفظ القران ومبادئ العلوم وحضر للأزهر سنة 1269 فقرأ به على شيوخ وقته كالشيخ محمد عليش، والشيخ منصور كساب، والسيد محمد الصاوي، والشيخ علي مرزوق، والشيخ إبراهيم السنجلفي، والشيخ احمد الإسماعيلي، والشيخ محمد الانبابي، والشيخ علي بن خليل الأسيوطى، وكان له به نوع اختصاص في الحضور، وصحب مدة حضوره الشيخ حسونه النواوي، فكانا يسكنان معاً، ويحضران معاً الدروس إلا في درس الفقه فإن المترجم كان مالكياً والشيخ حسونه حنفياً. ولم يزل يجد ويجتهد حتى تأهل للتدريس فدرس بالأزهر والمسجد الحسيني الكتب المتداولة، وفي سنة 1280 سافر للحجاز فحج، ثم استخدم، بدار الكتب الخديوية بالقاهرة مغيراً، حتى كانت الثورة العرابية، واتجهت الأنظار لتنصيب المصريين في المناصب الكبيرة فساعدهديقه ومريده محمود سامي باشا البارودي على إقامته ناظراً هذه الدار سنة 1299 فتمت له نظارتها بعد ما سعى كثيرون لها فلم يوفقوا.
ثم لما هدأت الأمور وأطفئت الفتنة كان المترجم يتوقع القبض عليه كما فعل بكثيرين للملم بأنه مننائع البارودى، ولكن الله سلمه، ولم يشأ الخديو أذاته لاشتهاره عنده بالصلاح والتقوى والبعد عن الفتن فاكتفوا بفصل من دار الكتب وجبروا خاطره بالخطابة في المسجد الحسينى، ثم جعل شيخاً لخدمة هذا المسجد في ثانيفر سنة 1311. ولما غضب الخديو على السيد توفيق البكري نقيب الأشراف وشيخ الطوائف الصوفية وأمره بالاستقالة من النقابة فاستقال، سعى للمترجمديقه وروفيقه في الحضور الشيخ حسونه النواوى، وكان إذ ذاك رئيسا لمجلس إدارة الأزهر قبيل إقامته شيخاً عليه، فقبل الخديو منه وأقام المترجم نقيبا للأشراف في 6 شوال سنة 1312 فاعتنى بضبط مدخولها وجدد من أوقافها ست دور(52/34)
بناها بجهة الحلمية، وصار يصرف الاستحقاقات في أوقاتها، وسئل في رياسة الخدمة بالمسجد الحسيني فقال إن كانت النقابة تمنعني من خدمة سيدنا الحسين لا أقبلها فأبقي كما كان وأقام المترجم في النقابة نحو ثماني سنوات يجدد من معالمها، ويحيي ما درس منها، حتى نقل منها شيخاً إلى الأزهر، وكان سبب ذلك أن الخديو انحرف عن شيخ الأزهر الشيخ سليم البشري وانتهى الأمر باستقالته يوم الأحد 2 ذي الحجة سنة 1320، وأراد الخديو إعادة الشيخ حسونه النواوى أو تنصيب الشيخ محمد بخيت المطيعي فلم يوافق النظار على ذلك، فرشح الشيخ احمد الرفاعي المالكي وأعلمه بذلك، وكادت تتم له لولا عوارض اعترضت، ثم سعى الشيخ على يوسفاحبحيفة المؤيد ومن اكبر المقربين من الخديو للشيخ أمين المهدى بن العلامة محمد المهدي العباسي فرد عليه بأنه لا يصلح لخموله وعدم توليته أموراً قبل الآن، فأجاب بأنه وان كان كذلك فهو من بيت علم وغنى، تربى في نعمة فلا تطمح نفسه لشيء مما في الأيدي، وتدربه على الأمور قريب مدرك فرضي الخديو به، ولكن النظار لم يوافقوه عليه لأمور نقمها عليه ناظر الحقانية مدة ما أقامه عضواً بالمجلس الحسبي فحار الخديو وحنق، وطلب دفتر أسماء العلماء فوقع نظره على أسم المترجم فارتفضاه وجنح إلى توليته، ولم يكن قد خطر على بال أحد، وساعد الشيخ على يوسف على ذلك ليتمكن من رد السيد محمد توفيق البكري إلى النقابة فتم له الأمر ورضى به النظار وأعيد البكري إلى النقابة مضافة إلى ما بيده من رياسة الطرق الصوفية وصدر الأمر في 2 ذي الحجة بإقالة الشيخ سليم من الأزهر وتنصيب المترجم، فلما ذهب لشكر الخديو كالعادة استصحب معه ولده الأصغر السيد محموداً والتمس إقامته شيخاً على السجد الحسيني بدله، كما أقيم أخوه الأكبر السيد محمد قبل خطيباً له فقبل ملتمسه وأجيبت رغبته.
وكان الخديرو ذلك الحين منحرفاً عن الشيخ محمد عبده مفتى مصر والعضو بمجلس إدارة الأزهر وصاحب الكلمة العليا فيه، فكان يظن أن المترجم يوافقه في معاكسة الشيخ ومعارضته وعرقلة مساعيه، فأخطأ ظنه، لأن المترجم مال للشيخ كل الميل ووافقه في كل مشروع، واتحد به واندرج فيه حتى لم يكن له من الرياسة غير رسومها، والكلمة كلمة الفتي، وعوتب في ذلك من أحد المقربين فاعتذر بأن الرجل لا يريد غير الإصلاح فلا(52/35)
يرى وجهاً لعارضته، فكان ذلك سببا لميل الخديو عنه بعد إقباله عليه، وضعف المفتي عن معاندة الخديو ولم يجد من الإنكليز المساعدة التي كان يرتكن عليها فعزم على نفض يده من الأزهر، ورأى المترجم أن الأمور لا تجري على مرغوبه فاستقال من الأزهر يوم الثلاثاء 9 المحرم سنة 1323 فأقيل يوم السبت 12 منه وأقيم بدله الشيخ عبد الرحمن الشربيني الشافعي واستقال أيضا المفتي من مجلس الإدارة مرغماً.
* * * * * * * * * * * * * * * * *
وأقام بعد ذلك المترجم بداره التي بجهة المناصرة بعد أن رتب له الخديو خمسة وعشرين ديناراُ مصريا من الأوقاف الخيرية تصرف له كل شهر، هي مواظبا على كثرة تلاوة القران كعادته، مقبلا علىالعبادة حتى ازداد به المرض سنة 1323، وتوفاه الله في غروب يوم الجمعة الثالث من ذي القعدة من تلك السنة فشيعت جنازته بعد عصر يوم السبت وصلى عليه بالمسجد الحسينى وطيف به حول المقام كوصيته، ثم دفن بقرافة المجاورين في بستان العلماء رحمه الله رحمة واسعة. وله من المؤلفات رسالة اسمها الأنوار الحسينية على رسالة المسلسل الأميرية، ورسالة فيما يتعلق بليلة النصف من شعبان، ولده السيد محمود تعليق عليها سماه عروس العرفان في الحث على ترك البدع وشوائب النقصان على الرسالة الببلاوية المتعلقة بليلة النصف من شعبان.
وأعقب المترجم من االذكور ولدين كبيرهما السيد محمد الببلاوى سس له والده حين انفصاله من نظارة دار الكتب فجعل مغيراً بها ثم جعل وكيلا لها وخطيبا للمسجد الحسينى ونال درجة العالمية الثانية بالأزهر، ثم جعل بعد ذلك نقيبا للأشراف. والآخر السيد محمود جعل شيخا للمسجد الحسينى لما أقيم والده شيخا للأزهر ثم جعل بعد ذلك شيخا للمسجد الزينبى.(52/36)
الشيخ أحمد الرفاعي
المالكي
اشتغل بالحضور في الأزهرعلى مشايخ وقته حتى تأهل للتدريس فدرس الكتب المتداولة، وقرأ عليه كثيرون من كبار علمائه الآن كالشيخ محمد عبده والشيخ محمد بخيت والشيخ أبى الفضل الجيزاوى والشيخ محمد حسنين العدوي والشيخ محمد النجدى الشرقاوى وغيرم، وقد أصبح في أواخرأيامه وليس في الأزهر إلا من هم تلاميذه أو في طبقتهم إلا الشيخ الشربيني والشيخ البشري
وكان من عادته ألا يقطع الأقراء طول السنة ولا يسامح في اوقات المسامحات ولا يقعده عن الاشتغال إلا المرض، فقرأ الكتب المتداولة مراراً ومهر فيها بسبب كثرة اشتغاله حتىار المستعصي منها عنده بمنزلة السهل عند غيره. وأتقن فن التجويد فجعل شيخاً على المقارئ مد ة طويلة. ولما أقيم الشيخ حسونه النواوي شيخا علىالأزهر في المرة الأولى ولم يجد إقبالا من علمائهاحبه المترجم وتحبب إليه ولازمه في غدواته وروحاته. ثم لما انحرف الخديو عباس باشا الثاني عن الشيخ محمد عبده مفتي مصر والعضو بمجلس أدارة الأزهر وأراد كف يده عنه ساعده المترجم على ذلك واخذ في معاكسة، الشيخ وتدبير المكايد له، وتنفير الأزهريين منه، وتقرب من الخديو واكثر من الترداد على قصر القبة ومداخلة الحاشية حتى حظى عنده واقبل عليه إقبالا عظيما، فلما عزل الشيخ سليماً البشري عن الأزهر في 2 ذي الحجة سنة 1320 وأراد إرجاع الشيخ حسونه النواوى أو تنصيب الشيخ محمد بخيت ولم يرض النظار، رشح المترجم واستدعاه وأعلمه بانتخابه له فعاد إلى داره جذلا وأشاع الأمر وهيأ السكر لشرب المهنئين والرمل الأصفر لفرشه بصحن الدار، وكاد الأمر يتم له لولا أن بعض مبغضيه من المقربين للخديورفه عن توليته وذكر عنه هنات الله أعلم بها، فعدل الخديو عن تنصيبه الا أنه التمس لنفسه مخرجا من وعده الذي وعده به فأعملبعض المقربين
الحيلة واستدعوه بحضرة الخديو وسألوه عن قبوله للتولية فقال لهم نعم ولاني مولاي وقبلت، فاخذوا يذكرونعوبة مراس أهل الأزهر والمشاق التي يعانيها شيخهم لاخضاعهم ولمحوا له بأنهم لا يظنونه يقوى عليهم فقال ومن اهل الأزهر، انا أدوسهم بقدميّ فقاوا إنك(52/37)
ستكون مع الشيخ محمد عبده والشيخ عبد الكريم سلمان العضوين بمجلس الادارة فهل ترضى بأن يشاركاك في الادارة؟ وكيف يكون شأنك معهما؟ فقال كلا لا أرضى بأن يشاركاني بل أشترط لقبول التولية عزلهما وهما عندي كافران لايوثق بهما، فاستغرق الخديو في الضحك وقال شرطك لايمكن تنفيذه، ونحن نريحك من رياسة الأزهر ونعوضك عنها بشئ نجريه عليك من الأوقاف فأسقط في يده ورضى مرغما ثمرفوه
ثم وقعت منه في أواخر أيامه زلة، قيل إنه تصرف في وقف بغير وجه شرعي ولكن الله لطف به فلم يقع له بسبب ذلك غير فصله من المقارئ، وكثرت غمومه وهمومه لما لاكته الألسنة في هذه المسئلة، فانقطع عن التدريس لمرض أصابه إلى أن توفي بعد ظهر يوم الاثنين 18فر سنة 1325 ودفن يوم الثلاثاء وآذنوا له على المآذن كالعادة في موت كبار العلماء، وقد بلغ من السن نحو خمس وسبعين سنة، وكان قصيراً دحداحا خفيف الحركة رحمه الله تعالىوتجاوز عنه.
وله من الؤلفات حاشيته على شرح بحرق على لامية الافعال لابن مالك طبعت بمصر.(52/38)
قس بن ساعدة الأيادى
للاستاذ عبد المتعال الصعيدى
مدرس بكلية اللغة العربية بلأزهر
نسبه: قال ابو حاتم السجستاني هو قس بن ساعدة ابن حذافة بن زفر أو زهر بن إياد بن نزار بن معد بن عدنان، وقد نقل ابن حجر العسقلنفي في كتاب الاصابة هذا النسب عن أبى حاتم ولكنه ذكر جذامة بدل حذافة، وقالاحب الأغاني هو قس بن ساعدة بن عمرو أو شمر أو عمرو بن شمر بن عدي بن مالك بن ايدعان بن النمر بن وائلة بن الطمثان بن زيد مناة بن مهدم أو يقدم بن أقصى بن دعمي بن إياد، فبينه وبين إياد على القول الأول ثلاثة اباء، وبينهما على القول الثاني اثنا عشر أبا أو ثلاثة عشر أبا، وقد يكون النسب الأول هو الثاني مع اختصار فيه، ولكن يبعد هذا وجود أسماء فيه لاتوجد في النسب الثاني، فلا بكون مع هذا مختصرامنه، ولعل كلا من هذين النسبين يمثل رأيا من رأيين في قدم قس أو قربه من زمن ظهور الاسلام، فقد ذكره أبو حاتم في المعمرين، وحكى أنهم قاوا أنه عاش ثلثمائة وثمانين سنة، ونقل المرزباني عن كثير من أهل العلم أنه عاش ستمائة سنة، ونقل الأبشيهي في كتاب ألمستطرف أنه عاش سبعمائة سنة، فهوإذا كان قد عاشقبل ألاسلام هذه ألقرون الطويلة (600 أو 700 سنة) فلابد أنه لم يكن بينه وبين إياد الا نحو هذه الثلاثة الاباء، وإذا كان لم يعمر قبل الاسلام إلا الحد المعقول في معمري عصره، فيكون بينه وبين إياد ما ذكرهاحب الأغاني من تلك الأصول، وقد يكون قس على القول بقدمه إلى ذلك الحد لم يعمر أيضا إلا التعمير المعقول، فلا يكون بينه وبين إياد إلا تلك الثلاثة الأصول ولا يكون من رجال ذلك العصر الجاهلى الذي كان قبيل الاسلام، بل يكون عصره ابعد في القدم منه، وبكون ابتداء ظهوره في نحو عصر كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار من أجداد النبىلى الله عليه وسلم، وهو قريب من زمن حواريي المسيح الذين قيل إنه أدركهم، فإذا عاش إلى أن ادرك جداً أو جدين أو ثلاثة بعد كنانة يبقى بعد هذا بينه وبين عصر الجاهلية الذي كان قبيل الأسلام أزمان طويلة.
وليس هذا كل ما يحيط بنسب قس إلى الأصل الأول لقبيلته وهو إياد من الغموض، فهناك غموض اشد منه فيحة نسبته! لى إياد نفسه، ويكاد يقتلعه من هذا الأصل وتلك القبيلة التي(52/39)
أجمع النسابون على أنه منها اى قبية أخرى غيرها، فقد ذكراحب الاغاني في سلسلة نسب قس أقصى بن دعمي بن اياد، وذكر أيضا في نسب النابغة الشيباني أقضى بن دعمي بن جديلة بن أسد في ربيعة بن نزار فيكون أقصى بن دعمي على هذا من ربيعة بن نزار لا من إياد بن نزار، ويكون قس من ربيعة لا من إياد، ومن البعيد أن يكون أقصى بن دعمي المكور في نسب قس غير المذكور في نسب النابغة، وأن بكون الاتفاق في اسميهما واسمي أبيهما من باب المصادفة، على أنه روي مع هذا أن الجارود بن عبد الله لما وفد في وفد عبد ألقيس على رسول الله سأله يا جارود هل في جماعة عبد القيس من يعرف لنا قسا؟ قالوا كلنا نعرفه، وفي رواية أخرى أنه لما قدم وفد بكر بن وائل على رسول الله قال لهم ما فعل قس بن ساعدة الايادي؟ قالوا مات يا رسول الله، وفي رواية ثالثة أن وفد بكر بن وائل قدموا على النبىلى الله عليه وسلم فقال هل فيكم أحد من إياد؟ قالوا نعم، قال ألكم علم بقس بن ساعدة؟ قالوا مات يا رسول الله، فكل هذه الروايات تفيد اتصال نسب قس بعبد القيس وبكر وهما من قبائل ربيعة، نعم قد يمكن أن تكون إياد مجاورة في السكن لهاتين القبيلتين فسأل رسول لله وفدهما عن قس لمجاورتهما لقبيلته، ولكن هذا لا يكفي في دفع ما يفيده ظاهر هذه الروايات مع ما يفيده ذكر أقصى بن دعمي في نسب قس ونسب شيبان وبكر وعبد القيس وغيرهما من قبائل ربيعة، بل إن سؤال رسول الله بكرا وعبد القيس عن إياد ظاهر في أن إياد كلها من ربيعة لا قسا وحده، وربما يؤيد هذا أن إياد لوكانت فرعاً مستقلا من نزار لما أمكنه أن يحافظ على وحدته ذلك العهد الطويل، لما تأباه طبيعة بلاد العرب، إذ يعيش فيها أهلها عيشة ارتحال وتنقل، وقد قضت تلك الطبيعة على فرعيمضر وربيعة أن ينقسما إلى مالا يحصى من القبائل، فلا يمكن أن ينجو من تأثيرها فرع إياد على ما يراه النسابون من تفرعه من نزار مع ذينك الفرعين في ذلك الأمد البعيد، وإذا كانت إياد من ربيعة فيكون التقاؤها مع قبائلها في أقصى بندعمي، ويكون إياد بعد أقصى لا قبله، وقد دخل أنساب القبائل تخليط كثير مثل هذا وغيره، وربما كانت إياد فعلت ذلك عن عمد بعد حروبها مع عبد القيس وغيرها منقبائل ربيعة.
قبيلة اياد: كانت قبيلة إياد نازلة في قديم أمرها بين
إخوتها من قبائل معد، في تهامة والحجاز ونجد، وكانت تقيم هي وأنمار معا في أرض(52/40)
تهامة، بين حد أرض مضر إلى حد نجران وما والاها وصاقبها، ثم نزحت من تهامة في حرب وقعت بينها وبين ربيعة ومضر في خانق، فغلبت فيها وخرجت إلى العراق فنزلت في سواده قرب مكان الكوفة، فأقامت هناك دهرا، وانتشرت في تلك الأنحاء، وكانت تغزو أهل العراق من العجم وغيرهم، فلما كان عهد كسرى أنوشرؤان أغارت على نساء من الفرس فأخذتهن، فأرسل إليها أنوشروان جيشا أجلاها عن أرض العراق، وشتتها في البلاد،، فنزل بعضهاتكريت، ونزل بعضها الجزيرة، ونزل بعضها أرض الموصل، ثم سلط عليها أنوشروان قومًا من بكر ففتكوا بها، وفرقوها في أرض الروم، وبلاد الشام وقد اشتهرت قبيلة إياد بخطبائها، وظهور قوة الخطابة فيها، وكان خطباؤها مضرب المثل في الفصاحة وقوة البيان، وفي وصفهم يقول بعض الشعراء:
يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وجى الملاحظ خفية الرقباء
فذكر المبسوط في موضعه، والمحذوف في موضعه، والموجز والكناية، والوحى باللحظ ودلالة الاشارة. وكانت قبيلة عبد القيس من ربيعة تسامي إياد في خطبائها، وشيوع الخطابة بين أفرادها، ولعل هذا مما يقوي ما رجحناه من اتصال نسب إياد بنسب عبد القيس وربيعة، ولكن عبد القيس لم تظهر فيها الخطابة إلا بعد أن انتقلت من البادية إلى عمان والبحرين، حتى قال الجاحظ في كتاب البيان والتبيين: وشأن عبد القيس عجيب، وذلك انهم بعد محاربة إياد تفرقوا فرقتين، ففرقة وقعت بعمان وشق عمان، وفيهم خطباء العرب، وفرقة وقعت إلى البحرين وشق البحرين، وهم من أشعر قبيلة في العرب، ولم نكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية، وفي معدن الفصاحة، وهذا عجب.
ولاشك أن إياد كانت في سرة البادية مثل عبد القيس، ثم انتقلت منها إلى العراق، فالظاهر أن الخطابة لم تظهر فيها إلا بعد أن انتقلت من البادية مثل عبد القيس، وقد علل ذلك بأنهم حينما تركوا سرة البادية جاوروا الأعاجم في تلك الأماكن، وكان الاعاجم أهل خطابة وكتابة، ولهذا كثر الخطباء أيضما في اليمن عند اختلاط أهله بالفرس الذين أتى بهم سيف بن ذي يزن لاخراج الحبشة منه، وهذا يفيد أن الخطابة العربية ماخوذة من الخطابة الفارسية مع أن الجاحظ قال في موضع اخر في الموازنة بين خطابة العرب وخطابة الفرس، وبيان الأمم التى انفردت بالخطابة: (وجملة القول أنا لا نعرف الخطب إلا للعرب(52/41)
والفرس، وأما الهند فانما لهم معان مدونة، وكتب مجلدة، لا تضاف الى رجل معروف، ولا إلى عالم موصوف؛ وليونانيين فلسفة وصناعة منطق، وكاناحب المنطق نفسه بكئ اللسان، غير موصوف بالبيان، وفي الفرس خطباء إلا أن كل كلام لهم فانما هو عن دراسة وطول فكرة، ومشاورة ومعاونة، وحكاية الثاني علم الأول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم، وكل شيء للعرب فانما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ومكابدة، وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ، أو يحتاجوا إلى تدارس، وليس هو كمن حفظ علم غيره، واحتذى على من كان قبله).
وإذا كان هذا شأن خطابة الفرس وخطابة العرب، فأين احداهما من الأخرى؟ وكيف أخذت الثانية من الأولى، وهما يختلفان هذا الخلاف، ولا يوجد بينهما أدنى شبه يدل على تأثير إحداهما بالأخرى، واحتذاء خطباء العرب بخطباء الفرس في الخطابة؟ ولا يؤثر في هذا أنا لا نسلم لجاحظ ما يزعمه من انفراد الفرس والعرب بالخطابة، وانفراد العرب بالقدرة على ارتجالها، فقد يوجد في غير العرب من يقدرعلى ارتجال الخطابة في لغته، وقد يكون في العرب من لا يخطب إلا بعد ترو وتدبر، ولكن العرب لشيوع الأمية فيهم، كان يقل من يذهب هذا المذهب في خطبائهم.
فلم يبق إلا أن نعلل ذلك بأن أخبار هذه القبائل قبل انتقالها من البادية بعيدة عنا، ولم يصل الينا إلا قليل منها، فما يدرينا أنها لم يكن فيها خطباء حين كانت بسرة البادية؟ ولعله كان لها من الخطباء فيها ما لا يكون هناك محل لتعجب الجاحظ أو غيره منه.
دراسة حياته: إذا رجع الباحث إلى ما كتب عن قس
في كتب الأقدمين المختلفة لا يمكنه أن يؤلف من الأخبار التي وردت فيها عنه سيرةحيحة، متلائمة غير متدافعة، متصلة غير منقطعة، لها بداية معروفة، ووسط غير مجهول، ونهاية ليست غامضة، وانما هي أساطير لا يمكن أن يعرف منها يقيناً زمنه متى بدأ؟ ومتى انتهى؟ ولا مكانه في تلك الأمكنة التي تنقلت فيها قبيلته؟ وهل كان يعيش بينها؟ أو كان يعيش بين قبيلة أخرى غيرها؟ أو كان يعيش هائما متنقلا لا يقر في مكان؟ فقد ورد أنه ادرك حواري عيسى عليه السلام، ولكن ورد مع هذا أنه أدرك محمداًلى الله عليه وسلم قبل(52/42)
بعثته، بل ورد أنه أدرك بعدها وآمن به وعد من أصحابه، ولا يمكن أن يكون قد أدرك هذين العهدين المتباعدين إلا اذادقنا أنه عمر حوالي ستمائة سنة، كما يذكر هذا من يعده في معمري العرب، وهذا أمر لا يمكن تصديقه، ولم يحدث مثله من عصر الحواريين الى العصر الذي نعيش فيه الآن.
وورد أيضا أنه كان أسقف نجران، فلا بد أنه كان يعيش عيشة مألوفة بين أهلها من النصارى، ولكن أين اياد من نجران وقد كانت إياد مستقرة بالعراق في الزمن الذى ظهرت فيه النصرانية بنجران؟ بل أين هذا مما يروى من أنه لم تكنه دار، ولا يقره قرار، ويتحسى في تقفره بعض الطعام، ويأنس بالوحوش والهوام، وأخبر بعضهم أنه رآه على جبل بالشام يقال له سمعان، في ظل شجرة إلى جنبها عين ماء، فإذا سباع كثيرة وردت الماء لتشرب، فكلما زأر منها سبع علىاحبه ضربه بعصا، وقال كف حتى يشرب الذي سبق، قال فتداخلني لذلك رعب، فقال لي لا تخف ليس عليك بأس، ورووا أنه كان يفد على قيصر زائراً فيكرمه ويعظمه، وقد سأله مرة ما أفضل العلم؟ قال معرفة الرجل بنفسه، فقال له فما أفضل العقل؟ قال وقوف المرء عند علمه، فقال له فما أفضل الأدب؟ قال استبقاء الرجل ماء وجهه، فقال له فما أفضل المروءة؟ قال قلة رغبة المرء في اخلاف وعده، فقال له فما افضل المال؟ قال ماقضي به الحق.
وهذا كل ما يروونه عن قس في حياته، يحيط به الغموض في بدئه، ويستمر متماشيا معه، ثم يلازمه إلى نهايته، فلا تنتهي حياته بين قبيلته إياد، ولا بين أتباعه الذين كان فيما يقال أسقفا عليهم في نجران، بل يقال إنه توفي بروحين فيلحف جبل بها، وهي قرية قريبة من حلب، وله بها مشهد يزوره الناس، ويقصدونه بالنذور، وله أوقاف محبوسة عليه، وقد زاره أبو جعبل الألبيري فقال فيه:
هذى منازل ذي العلا ... قس بن ساعدة الايادى
كم عاش في الدنيا وكم ... أسدى إلينا من أياد
قدنالها بحلى البلا ... غة مفصحا في كل ناد
قد قر في بطن الثرى ... متفرداً بين العباد
وقد قدروا له السنة التي توفي فيها سنة 600 م وذلك قبل الهجرة باثنتين وعشرين سنة.(52/43)
ولكن هذا الغموض الذي يحيط بحياة قس من بدئها إلى نهايتها، وهذه الأخبار القليلة التي لايمكن أن يؤلف منها لقس سيرة متصلة تعرف منها أطوار حياته طوراً فطورا، كل هذا لايمكن أن يتفق مع عيش قس في هذا الزمن القريب من ظهور الاسلام، فك رجال هذا العصر من شعراء وغيرهم معروفون لنا، وقد وردت إلينا أخبارم معلومة مفصلة. ولا تحيط بها هذه الأساطير من كل ناحية، ولا يتفق مع هذا إلا ما رجحناه في نسب قس من إدراكه عصر الحواريين، وتعميره فيه التعمير العقول في مثل هذا العصر، فتكون وفاته قبل الاسلام بتلك الأزمنة المتطاولة، التي تسمح بهذا الغموص الذي يحيط بحياة قس على شهرته وظهور أمره، نعم قد روى حديث قس وسماع النبي له في سوق، عكاظ من طرق متعددة، وقد أفرد بعض الرواة طريقه وفيه خطبة قس وشعره، وهو في الطوالات للطبراني وغيرها، ولكن أبن حجر العسقلاني ذكر في كتاب الاصابة، أن طرقه كلها ضعيفة، فلا يحتج بها في مثل ذلك.
عقيدته: قد ذكر الأب لويس شيخو اليسوعي قساً في كتابه
(شعراء النصرانية) وقد ورد فيما روى من أخبار قس أنه كان
أسقف نجران، وقد ذكر الجارود بن عبد الله فيما وصفه به
النبيلى الله عليه وسلم أنه كان يلبس المسوح، ويتبع السياح
على منهاج المسيح، لا يغير الرهبانية، مقراً بالوحدانية،
تضرب بحكمته الأمثال، ويتنكشف به الأهوال، وتتبعه
الأبدال، أدرك راس الحواريين سمعان
ولا شك أن الأب لويس لا يعنى بالنصرانية التي يثبتها لقس
الا هذه النصرانية التي تكاد تتصل بموت المسيح عليه السلام، ومن أهم أصولها عقيدة التثليث وعقيدة الصلب والفداء، وما إلى هذا من أصول هذه النصرانية، ولا شك أن الأخبار التي وصلت ألينا عن قس، والاثار التي وردت إلينا عنه فيما كان يدعو العرب(52/44)
إليه، لا تفيد أكثر من أنه كان يدعوهم إلى التوحيد، والايمان بالبعث والحساب، ولم يرد فيها أنه كان، يدعو إلى عقيدة التثليث والصلب والفداء ونحوها، وهي العقائد التي لا تثبت النصرانية التي يريدها القس لويس إلا بها، بل لم يرد فيها أنه كان يدعو إلى، الايمان بعيسى عليه السلام، وإنما ورد أنه كان يبشر العرب بدين جديد قرب ظهوره بينهم، فلا يمكن أن تكون عقيدته هذه النصرانية إلى يدعو إلى دين بعدها، وهي ترى أنها خاتمة الأديان، وان عيسى هو اخر الأنبياء الذي بشر به موسى عليه السلام، فلا يمكن بعد هذا أن يكون قس أسقفا على نصارى نجران، ألا أن تكون نصرانيتهم نصرانية أخرى غير هذه النصرانية، ولكن الذي يفيده التاريخ أنها كانت من نصرانية الروم والحبشة، ولهذا حاربوا أهل اليمن من أجلها، ومع هذا فقد أثبتنا أن قسا كان أقدم من ظهور النصرانية بنجران، ثم انه كان من إياد وكان أهل نجران من اليمن، فلا يقبلون رآسة مثله عليهم، لما كان من العصبية بين العدنانيين والقحطانيين، وأما خبر الجارود إنح فلا يفيد إلا انه كان مثل عيسى في ذلك، وقد ورد في بعض الأحاديث تشبيه أبى ذر الغفاري بعيسى في زهده وترهبه.
فلا يعدو أمر قس إلا أن يكون من قدماء الحنفاء الذين ظهروا في بدء انحراف العرب عن ملة إبراهيم إلى الوثنية، فكان يعوهم إلى ملة أبيهم إبراهيم، ويحارب فيهم هذه البدعة، وهكذا كان شان كل أولئك الحنفاء في العرب، وهذه كانت وظيفتهم فيهم، وقد حاول الأب لويس في كتابه (النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية) أن يلحق كل أولئك الحنفاء بالنصرانية ولا يخفى أن شأنهم في ذلك مثل شأن قس بن ساعدة.
خطابة: كان قس خطيب العرب وحكيمها وحكمها في عصره، وكان على شهرته بالخطابة يقول الشعر، فإذا خطب أتى في خطابته بشيء من شعره، يناسب موضوع خطابته، وقد جدد في الخطابة العربية بعض أمور تنسب إليه، منها انه أول من قال فيها (أما بعد) وبعضهم ينسبها لغيره، وقد نسبت لداود عليه السلام، وفسر بها قوله تعالى (وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) ولكن أسلوب الكلمة عربي خالص، ولغة داود كانت عبرية، وإنما عظم شأن هذه الكلمة في الخطابة وغيرها، لأنها تساعد على الانتقال من غرض إلى غرض فيها ولا تحوج الخطباء في ذلك إلى تكلف مناسبات طامية لا تقف فيه عند حد، ويصعب على(52/45)
كل واحد فيه أن يأتي بما لم يأت به غيره، وإنما تحسن (أما بعد) في الخطابة والكتابة دون الشعر، لأنها أسلوب نثري، ولأن الشعر فيه من آثار الفنون ما ليس في الخطابة والكتابة، فيحسن التفنن فيه، ويقبح التزام أسلوب وا، حد في التنقل بين أغراضه. ومما ينسب إلى قس أيضاً أنه أول من خطب على شرف، وأول من اتكأ في خطابته على سيف أو عصا، وأول من كتب من فلان إلى فلان.
ولم يبلغنا من خطابة قس إلا قدر قليل لا يمكننا أن نعرف منه تماما كنه خطابته، ولا المميزات التي تمتاز بها من غيرها، ولا الدرجة التي يستحق أن يوضع فيها قس بين خطباء العرب، وإن كان قس في الخطابة مضرب المثل، وان كان الناسقد أجمعوا قديماً وحديثاً على تقديمه فيها، وقد قال فيه أعشى قيس:
وأحكم من قس وأجرأ مِلّذي ... بذي الغيل من خفان أصبح خادراً
وقال الحطيئة:
وأقْوَل من قس وأمضى إذا مضى ... من الرمح إذ مَسّ النفوسَ نكالُها
وقد يمكننا أن نحكم من القدر الذي وصل إلينا من خطابة قس حكما تقريبيا بأنه كان يعنى بالخطابة الدينية أكثر من غيرها، فكانت أكثر خطابته في الدعوة إلى التوحيد، والإيمان بالبعث والحساب، وما إلى ذك ممل كان يدعو العرب إليه، كما يمكننا أن نحكم أيضاً بأنه كان يؤثر فيها الألفاظ السهلة على غيرها، وكذا السجع القصير الفواصل لما له من التأثير في النفوس، وما كان له في ثقافته وعلمه وحكمته واشتغاله بهذه الدعوة العامة، إلا أن يدع التكلف في خطابته، ويخاطب الناس بهذه السهولة التي يفهمونها، وقد أنكر عليها بعض أدباء عصرنا هذه السهولة، فحكم بأنها خطابة إسلامية مختلقة على قس، وليست خطابة جاهلية ملائمة لما كان في هذا العصر من بداوة وخشونة، ولا يخفى أنه لا يمكن أن يستقل عصر من العصور بالتأثير في خطبائه أو شعرائه، وإلا وجب أن تتحد مسالكهم فيه، وألا يختلفوا في أساليبهم من حيث السهولة والشدة وغيرهما، وكم كان في الإسلام من خطباء يؤثرون الشدة في خطابتهم، وخطباء يؤثرون فيها السهولة على الشدة، فلا بدع في أن يهون بجانب الشدة في عصر الجاهلية تلك السهولة، وان تجتمع فيه كما اجتمعت في غيره الرقة والخشونة.(52/46)
عبد المتعال الصعيدي(52/47)
عروس الورد
شذى الخزامى وريا النرجس العطر ... سرت بها نسمات الروض في السحر
والفجر قاد جيوش النور منتصراً ... والليل أدبر لا يلوي على أثر
إلا بقايا نجوم وهي حائرة ... في افقها ورشاش من سنا القمر
سرى فأنعشني ريح الصبا سحراً ... فرحت أستعرض الماضي من الذكَر
والذكريات كأسراب القطا كُثُرٌ ... لما تحوم على الغدران والنهَر
والقلب كالطير قد أرداهائده ... بين الظلوع خفقاً خفق محتضر
أهيم والشوق يطويني وينشرني ... والدمع طافٍ بجفني غير منهمر
حتى مررت بروض شاق منظره ... قد أتقن الصنع فيه حذق مقتدر
لا الشعر وافٍ ولا التصوير يدركه ... وإن سمت ريشة الفنان في الصور
هنا الغصون بأعطاف لها رقصت ... مثل الكواعب ذات الدَّلِّ والحور
والعندليب يغنيها فيُسمعها ... أشجى النشيد بلا عود ولا وتر
والزهر في مهرجان ريحه عبق ... ما بين منتظم زاهٍ ومنتثر
والحوض يبدو كمرآة قد انعكست ... في وجههاور الأفنان والثمر
أو خد عذراء لم يجذب بتطرية ... إذا تدلت عليه خصلة الشعر
وقفت بالباب والأشواك تحرسه ... أسأل الطائر الشادي عن الخبر
فأومأت مورفات الدوح مخبرة ... تزوج الورد بنت السوسن النضر
فالورد في حمرة الجلباب متشح ... أما العروس ففي بيض من الأزر
يحنو عليها وأحيانا يقبلها ... كمدنف آب للأحباب من سفر
كلاهما ليس يخشى عين مرتقب ... في الحب أو قول واش في الهوى أشر
يداعبان ضياء الشمس في شغف ... وظلمة الليل في أنس وفي سمر
روحان قربت الأشواق بينهما ... على اقتراب من الريحان والزهر
والكل جذلان لا الأيام توحشه ... ولا تبدلفو العيش بالكدر
ثم التفت إلى نفسي وقد عصفت ... فيها الهموم وأذوت زهرة العمر
بيني وبين الليالي ما يكدرني ... كأنني جئت ذنباً غير مغتفر
فقلت يا ليتني في الروض زنبقة ... أو بعض ورد ولم أخلق من البشر(52/48)
دمشق
عبد الجبار جرمود(52/49)
لوعة الربيع
وقفت - ولم أقصد - على ضفة النهر ... وطرفي ممتد إلى حيث لا أدري!
وفي النفس ما فيها! عواطف جمَّة ... يضيق بهادري، ويعيا بها فكري
عواطف، لا أدري حقيقة أمرها ... ولكنها بين الكآبة والشعر!
أراقب سير الموج، والريح سجسجُ ... تعابث وجه الماء، وهو بها يزري
ودجلة يجري في جلالٍ وروعةٍ ... وعزم كعزم الدهر، كراً بلا فرّ
تطلُّ عليه الشمس من خلف رفرفٍ ... - على الضفة الأخرى - من النخل والسِّدر
فينساب، لا يلوي على ما وراءه ... كأن به شيئاً من التيه والكبر
يجرُّ على الشطَّين فضل غلالةٍ ... من الموج، كالأملاك في غابر الدهر
رزين، قويّ، يملأ النفس هيبةً ... وقور، فسيح الصدر، متزن السير
فخيلّ لي - والماء ينساب جارياً ... كان حياة بين أثنائه تجري
ولو كان ذا روح، لعمرك - لم يكن ... بأهيب منه وهو يجري، ولا يدرى!
فحولت وجهي، ساكن النفسامتاً ... سوى خفقان خافت الجرس فيدري
فما هاجني إلا جلالة موكبٍ ... تسير به شمس الأصيل إلى الخدر
وقد برزت في حل من شعاعها ... مذهبة، في منظر فاتن مغري
ومن خلفها، يحملن فضل إزارها ... جوار من السحب المنوّرة الأز
ودرت بيميني حول نفسي فلم أجد ... سوى كل ما عند الطبيعة من سحر
فذى الأرض كيف إزَّينت وتجملت ... بثوب من الأعشاب رصّع بالزهر
وهذا النسيم الرطب، نشوان فارح ... بما نال عند الزهر من عاطر الذكر
وهاتيك أرواح تَجولُ في الفضا - ءِ محسوسة التأثير، مجهولة الأمر
لعمرك ما أدري! أأرواح جِنّة ... ترفرف، أم روح الربيع انبرت تسري
أم السحر هذا، أم خيالات شاعر ... سبت لبّه أشباح آلهة الشعر
وذانك عصفوران من خلف دجلة ... يطيران في جو من الحب والطهر
وتلك حمامات ينحن نوادباً ... يساجلن فوق الدوحادحة القمر
وكلٌّ بتمجيد الطبيعة هاتفٌ ... مُهنٍّ بميلاد الربيع ابنها البكر
بدت تعلن البشرى بشتى لغاتها ... فذا الطير بالنجوى، وذا الزهر بالنشر(52/50)
وتلمح حتى للجماد بشاشة ... ووجهاً ودوداً يستميلك كالسحر!
حياة لعمري لامست كل ميت ... تحس بها نفسي، وينكرها فكرى!
فمالك ياقلبي كأنك نائم ... تساورك الأحلام غامضة السر؟
لئن كنت في ليل الطبيعة راقداً ... شتاءً، فأنت اليوم في غرة الفجر
حنانيك هذا يومك المرتجى فقم ... وباكر لذاذات الهوى الطامح العذري
حرام علينا أن يمرّ بنا سُدى ... ولم نقض منه مأرب الشاعر الحر
فجارِ الملا إن كنت منهم ومثلهم ... وطر في الفضا إن كنت من زمرة الطير
ونُح بالأسى إن كنت أسوان يائساً ... وبح بالهوى إن كنتبا أخاضر
وفيما الأسى واليأس - والكل منقضِ؟ ... وأنت لدي عيدين جاءا على الأثر
فهذا ربيع للطبيعة ناضرٌ ... جميل المحيا، زاهر، باسم الثغر
وهذا ربيع الشباب محبب ... بأحلامه، حلو المنى، ناعم البشر
وما العمر إلا مدة ثم تنقض ... كالحلم، بما فيها من الخير والشر
لقد فاتني ما قد خلقت لأجله ... وأدركني ما يرتجي نيله غيري
فما طعم عيشي؟ لا شقاء ولا هنا ... ولا يائسة تقضى ولا أمل يغرى!
حنانيك فامرح في الضلال أو الهدى ... وهبتك ما تهوى فمالك من عذر
وخذ قسطك الأوفى - من الأرض والسما ... من الروح والريحان والنور والنِّور
العراق - العمارة
عبد الحق فاضل الصيدلي(52/51)
من الأدب الهندي
الببغاء
لشاعر الهند الأكبر طاغور
ترجمة الأستاذ مصطفى كامل المحامي
كتب طاغور هذه القصيدة التي نترجمها اليوم منذ بضع سنين في بنغالي تحت عنوان (الببغاء) وقد فهم بعض الناس في الهند عند قراءتها أنها رمز لاذع عن النظام المدرسي المدخل بالهند، ثم انتشرت هذه القصيدة في بلاد أخرى من آسيا فقال الناس (من الممكن أن الشاعر قد أراد بشعره أن يشير إلى النظام الذي أدخل في بلادنا) ورأى آخرون أن غرض النظام الذي أدخله الأوربيون في آسيا هو الحصول على النتائج التي نجحت مع الببغاء؛ وتصايح بعض لأوربيين (أرأيتم الام يؤدي الأمر إذا أردنا أن ندخل التعليم العالي في شعب لا يفهم شيئاً من مبادئنا التعليمية العالية) ثم يديرون رؤوسهم والرضى ملء نفوسهم، وقليل ما هم الذين أدركوا أن ببغاءهم أيضا ينحدر إلى الموت في نفس الوقت.
- 1 -
كان عصفورا شديد الجهالة يهزج كل يوم، يقفز ويطير من هنا وهناك، دون أن يعنى بالعلم أو حسن السلوك.
فقال الملك يوما لا يصلح هذا العصفور لشىء، وهو يحدث مع ذلك أضرار جمة، فيتلف ثمار الحديقة الملكية؛ واستدعى في الحال وزيراً وأمر أن ويعلم العصفور أحسن التعليم.
- 2 -
كلف ابن أخي الوزير بتعليم العصفور، فعقد المعلمون أولاً مجلسهم، ثم تباحثوا وتجادل دون انقطاع، في الأسباب الحقيقية لجهل العصفور؛ وقرروا أخيراً أن عش الطائر المصنوع من الخشب، شديد الضيق فلن يسع العلم العريض، ورأوا قبل كل شيء أن يصنع له قفص جميل.
- 3 -
استدعواانعنا ليصنع قفصاً من ذهب، فجاء آية فنية مثيرةللإعجاب، حتى بادر الناس من(52/52)
كل فج لرؤيته وقالوا: (سيتل العصفور أخيراً تعليماً حسناً)؛ وصرح آخرون: (حتى ولم ينل أحسن التعليم، فإن له الحظ أن يكون له قفص جميل! ما أسعد جَد هذا العصفور! ورجع الصانع سعيداً ملئ اليدين من حسن الجزاء، وابتدأ الأستاذ درسه بعد أن جذب نفساً من غليونه، وقال لا بد لي من مكتبة. فدعا ابن أخي الملك نساخي البلاد، فنسخوا ونقلوا الكتب حتى تجمع منها الكثير، فقال كل من رأى هذه الأسفار:
(مرحى سيكون له الآن من المعرفة قدر وفير)، ورجع النساخون بجوائز طردت عنهم إلى الأبد شر الفاقة.
وبذل الوزير لهذا القفص الثمين من ضروب العناية ما ليس له حدود، حتى جهر الناس جميعا وقالوا: سيتقدم التعليم بكل هذه الجهود، وتوفر على العناية بهذا القفص كثيرون، ولرقابة هؤلاء توفر نفر أكثر، وفازوا جميعاً بأسمى الهبات والعطايا.
- 4 -
تنقص الدنيا أشياء كثيرة، إلا أن الساخطين لا ينقصهم أن يهمسوا، (إن القفص معني به كل العناية، لكن العصفور على ما يظهر مهمل)؟ وبلغ الهمس آذان المليك.
فاستدعى الوزير واستخبره معنى هذا الهمس، فقال الوزير:
(يا مولاي، إذا أردتم معرفة كل الحقيقة، فاستدعوا المعلمين والنساخين والصائغ والرقباء على القفص ومراقبي الرقباء وقد قال الساخطون ما قالوا، لأنهم يتضورون من الجوع)، فاقتنع الملك وجزى الوزير، فأهدى سلسلة من الذهب إليه.
- 5 -
وتاق الملك يوماً إلى معرفة نجاح العصفور، فتوجه إلى المدرسة في حفل من الوزراء والأصدقاء والندامى، وأذاعوا زيارة الملك في الأبواق، ودقت النواقيس المعلقة فوق المدرسة، وأخذ العلماء يرتلون الأجزاء المقدسة، وهتف البناؤون والعمال والنساخ والصائغ فيوت واحد (ليحيى الملك).
وقال الوزير (مولاي! انظر!)
فأجاب الملك (مدهش! ولكن ما هذه الضوضاء؟)
فقل الوزير: ليست هذه ضوضاء فحسب، فان وراءها معنى خبيئاً؛ وطرب الملك كثيراً(52/53)
وجاز الدهليز، وحين أراد امتطاء الفيل خرج الناقد من مخبئه خلف شجيرة وقال بخبث: (هل رأيت العصفور يا مولاي؟)
فأجل الملك وقال: (لم أر العصفور حقاً) وكر راجعاً مع الأساتذة وهو يقول: (أريد أن أعرف الطريقة التي اتبعتموها في تعليم العصفور، فلما رآها الملك وجدها بديعة، ولم يلاحظ نقصاً في شيء، كما أن الأوامر كلها مرعية، ما كان في القفص ماء ولا حَب، وإنما كان يحشى فم العصفور بأوراق الكتب، فلم يعد قادراً على التغريد، إذ لم تبق أدني فرجة يخرج الصوت منها؛ وما كان أبشع المنظر! وقبل أن يمتطى الملك الفيل أمر بالناقد فلكمه جنده.
- 6 -
وغدا العصفور دقيقاً رقيقاً على مر الزمن حتى بدا كالميت، لكن الحراس ظنوا أنه مازال هناك أمل، والتفت العصفور نحو ل الضوء في الصباح، ورفرف بالغريزة على حائط القفص بجناحيه، وحاول أن يقطع أسلاك القفص الذهبية بمنقاره الواهن، فصاح الحارس: (أي أحمق!) وأسرع فأحضر الحداد فصنع أسلاكا من الحديد، ثم قصوا جناحي الطائر.
وقال أصدقاء الملك وهم يهزون الرءوس: (ليست طيور هذه الملكة جاهلة فحسب، وإنما تجمع إلى الجهل نكران الجميل)، وعاود المعلمون واجبهم باليقين الراسخ، ورجع الحداد قريراً بإلعطاء الجزيل، والحارس القانع بالراتب المبذول جزاء انتباهه
- 7 -
وقضى العصفور، ولميعرف أحد متى مات، واذاع الناس قالة السوء، واستدعى الملك ابن أخيه يسأله عما حل بالعصفور:
- إن تعليمه قد تم يامولاى
- الا يقفز الآن؟
- كلا!
- أما يزال يطير؟
- كلا!
- أيغني؟(52/54)
- كلا!
- فمذا يفعل إذا جاع؟
- لاشىء
- أحضره إلى فاني اريد أن أراه
واحضروه إلى الملك فلمسه وضغطه دون أن يظهر الطائر علامة على الحياة الا حفيف الورق الذي حشوا به معدته، على حين اهتزت أوراق الشجر وقد مرت بها نسمة من نسمات الربيع!
(طاغور)(52/55)
العلوم
خلق المادة في الكون
بقلم فرح رفيدي
أين يخلق الكون؟ - كيف توصل ملكان إلى اكتشاف مصدر الأشعة. الكونية وبناء نظريته في خلق المادة في الكون؟ في الفضاء خليط من المؤثرات إلتي تفعل فعلها في الأجسام والأشياء وهي مستترة في الأثير، لا ترى وكأنها ترى، كائنة وكانها غيركائنة. وهي مزيج من الاشعاع المنبعث من جميع الجهات. فاشعاع من الشمس تراه العين وتحس به، واشعاع اخر من الشمس لا تراه العين ولا تحس به، وأشعة مصدرها الأرض وأخرى مصدرها النجوم وا لشمس، أشعة إكس وأشعة والراديوم، والأشعة الكهربائية واللاسلكية وأشعة الحرارة. وكل هذه تنطلق بسرعة متناهية في الفضاء ونحن لانشعر بها ولا ندري حركتها. ولهذه الأشعة تأثير خاص في الهواء المحيط بنا وبها وخصوصا الأشعة ذات الموجة القصيرة كأشعة أكس او الراديوم، فانها تحلل الهواء إلى ذرات مكهربة تكهرباً سلبيا او ايجابيا
والذرات المتشابهة بالكهربائية تتنافر من بعضها كلما تقاربت، والذرات المختلفة الكهربائية تلتصق وتتحد في تلاقيها وبذالك تفقدفة التكهرب وتصبح مادة في حالتها الطبيعية.
لقياس مقدار تكهرب الهواء أو تحلله إلى ذرات من تأثير هذه الأشعة توجد الة خصوصية تقيس الكهربائية إلى درجة دقيقة جداً. وهذه الآلة هي (الالكتروسكوب). جرب أحد العلماء أن يمنع الأشعة المعروفة من دخول هذه الآ له ليرى هل يبقى تأثيرها في الهواء أم يتلاشى باختفائها ومنعها، فوضع الالة في داخلندوق من الرصاص الغليظ ليمنع دخول أقوى أشعة معروفة، فوجد بعكس ما توقع من أن الآلة ظلت متأثرة بالرغم من احاطتها بالرصاص فاستنتج من ذلك وجود أشعة أقوى من الأشعة المعروفة قدرت أن تخترق سماكة الحائط الذي بناه وتتصل بالآلة التي وراءه.
ظل هذا الاكتشاف سبع سنوات غامضا، إلى أن قإم رجل سويسرى سنة 1910 وصعد إلى علو 4500 متر ومعه الالكتروسكوب، فوجد خلاف المنتظر، بان تكهرب الهو اء. أو تأينه (تحليله إلى ذرات مكهربة تسمى الواحدة منها أيون ازداد مع ارتفاعه. فقد ظن أن مصدر(52/56)
هذا التأثير أشعة منبعثة من الأرض وليست من السماء، فعلى ذلك مقدار التأين يجب أن يقل بدلا من أن يزداد مع الارتفاع. بعد ذلك بقليل قام المانيان وطارا إلى علو 9 كيلو مترات فوجدا أيضا ذات النتيجة.
لم يكن العالم الأميركي أثناء ذلك ساكتاً عن هذه (التجارب ونتيجتها الواحدة، بل أثرت عليه كل التأثير، وحفزته للعمل بأن يقوم بهذه المهمه في اكتشاف أصل هذا التأثير ومصدر تلك الأشعة التي لم تكن في الحسبان ولم تخطر على بال. فقام في سنة 1926 مع مساعدة وصعد منطادينغيرين في الفضاء إلى علو 15 كيلو متراً. وكان المنطادان مرتبطين الواحد بالآخر، وحجم أحدهما مصنوعا بالقدر الذي ينفجر فيه عند العلو الطلوب، والآخر كان ليقل الأدوات الأتوماتيكية لقياس وتقييد ألتأثيرات الجوية ولارجاعها بعد بلوغ علوها إلى الأرض سالمة. فكان من هذه الآلات الالكتروسكوب لقياس الكهربائية والترمومتر للحرارة والبارومتر لمقدار ضغط الهواء، والاواح الفتوغرافية المختلفة لتنطبع عليهاور التأثيرات المختلفة، ثم الالة التي تسير كل هذه الأجهزة حركة أوتوماتيكية مطردة. ومع كل ذلك فأن وزن المنطادين مع مافيهما من غاز وآلات متعددة لم يزد على 190 جراماً أو ما يعادل 50درهماً تقريبأ. وذلك مما يدل على دقة الصنع والتركيب ويبين مقدار أهتمام ملكان بالتجربة وتفرغه لها. والنتائج التي ظهرت من هذه التجربةأتت مطابقة للتجارب الأولى. فلم يعد بعد شك في وجود أشعة خفية دقيقة ذات تأثيرعظيم.
على أن ذلك لم يقنع ملكانقط، ولم يقلل من شوقه لمعرفة تلك الأشععة وما أليها. ففي ذات السنة التي أجري فيها تجربت المنطادين، عد بالأكتروسكوب الى قمم جبال مختلفة العلو في أميركا، ليرى تماما مقدار اختلاف التأين باختلاف معين في الارتفاع. وقد تحقق من ذلك شيئان: الأول أن قوة (الأشعة تزداد مع الارتفاع، وذلك يؤكد بأن مصدرها ليس هو الأرض بل السماء. والثاني أن هذه الأشعة ليست متجانسة، بل من ثلاثة أنواع، تختلف عن بعضها بقوة نفوذها فى الهواء، فمنها لقوتها من قدرت أن تخترق الهواء كله وتصل سطح الأرض، ومنها من استطاعت فقط أن تنفذ في بعضالطبقات العليا غير المتكاثفة، والأخيرة لضعفها لم تقدر على التعمق كالأوليين فظل تأثيرها محصواً في الطبقات الرقيقة من الهواء. تجارب في الفضاء وفوق سطح الأرض أكدت أن الأشعة آتية من فوق، ولكن(52/57)
يتحقق من ذلك أكثر، خطر لملكان أن يجري تجاربه في داخل الأرض تحت الماء. فوضع الكتروسكوباً أدق من لأول فيندوق من الرصاص يحتمل الضغط على عمق 67 قدما في الماء، أي يحتمل ضغط كيلو جرامين لكل سنتيمتر مربع. فاذا كان مصدر هذه الأشعة حقيقة من الفضاء فالتأثيرات تحت الماء يجب أن تقل كلما ازداد الاناء عمقا، لأنه كلما نزل الاناء في جوف الأرض بعد عن مصدر الأشعة، وبذلك ضعف تأثيرها على الهواء بحكم السافة البعيدة التي تقطعها. والنتيجة أتت - كما توقع - أي أنها كانت تضعف تدريجيا في نزولها تحت الماء. وقد وجد من اختراق هذه ام لأشعة جميع طبقات الهواء، ومن نفوذها 50قدما في الماء. أن لها من ألقوة ما يعادل 100 ضعف قوة أشعة إكس، وأن طول موجتها أصغر من طول موجة الثانية ب 5000مرة تقريبا. وهي لذلك قادرة على اختراق حائط من الوصاص عرضه متران.
اجرى بعد ذلك ملكان تجارب متعددة في الليل والنهار، وفي أوقات مختلفة من الليل وأوقات مختلفة من النهار، وفي ضوء القمر وتحت ستر الظلام والنجوم بكثرتها لامعة مشعة، وفي أمكنة ببعدة عن الجبال عن المدن، وفي المغاور حيث لا تدخلها الشمس، ولا ينفذ اليها شعاع النجوم، وفي الصيف تحت تاثير حراره الشمس المحرقة، وفي الشتاء تحت تأثير البرق والرعد، ليرى هل لكل هذه الأشياء والظواهر الطبيعية تأثير خاص على الأشعة وقوة انفعالها في الهواء. فوجدها غير متأثرة بها جميعا. فكان تأثيرها واحداًيفا وشتاءً ليلآ ونهارا، وما كان ليفرق بين تأثيرِ وتأثير إلا الارتفاع والهبوط. فاستنتج من ذلك أن الشمس والنجوم ليست مصادر هذه الأشعه.
ذكرنا أن التجارب دلت على وجود ثلاثة أنواع من هذه الأشعة، تختلف عن بعضها بقوة نفوذها. وقد وجد ملكان من الحقائق التي توصل اليها أن نسبة هذه القوى الى بعضها كنسبة الأرقام الثلاثة هذه: 35،.: 8 ' ,.،: 4.،. الى بعضها. وكل رقم منها يشيرالى نوع من هذه الأشعة. وقال ملكان من حيث ان الأشعه لا تأتينا من الأرض او من النجوموالشمس فلا بد من ان تكونادرة عن احوال ومقتضيات مضادة للأحوال والمقتضيات إلى في جوف الشمس أو في داخل النجوم. وبما أن الأحوال فيالثمس تدعو إلى انصهار وهدم المادة من شدة الحر والضغط فالأشعة هذه يجب أن تكون ناتجة عن بناء المادة(52/58)
وتركيبها من ذرات (الكترونات وبروتونات) في أماكن بعيدة عنا في الفضاء، حيث تقرب درجة الحرارة من الصفر المطلق. 273 - قسم آستون العالم السويدى جميع العناصر التركب منها
الكون إلى قسمين: مشعة كالراديوم وغير مشعة كالحديد والرصاص. وقد لاحظ أنه لما كان عنصر الهيدروجين أبسط العناصر تركيبا، إذ هو مركب من بروتون واحد والكترون واحد، وأخفها وزنا، فانه يمكنافتراض أن جميع العناصر الأخرى متركبة منه كتركيب جميع الأعداد الصحيحة من الواحد الصحيح، فذزة الهليوم تساوي في وزنها أربع ذرات ذرات من الهيدروجين، وذرة الصوديوم تساوى 23 ذرة من الهيدروجين أيضا. وكذلكافترض ملكان ان الهيدروجين يدخل في تركيب جميع العناصر، وأنه الحجر الأساسي في بناء الكون. وقد افترض ملكان أيضاً طبقا لمعادلة اينشتاين (القائلة بأن انصهار جزء من المادة في داخل النجوم يولد جزءاً مقابلاً من الحرارة والقوة تشع في كل أنحاء الفضاء). إن هذه الحرارة والقوة المنبعثة باستمرار من النجوم، ستصير يوما ما وفي مكان ما مادة تحت الظروف الملائمة لبنائها، وأنه ما من مادة تنعدم في النجوم إلا ويقابلها بناء ثان في غير النجوم.
بقسمه العناصر إلى , مشعة وغير مشعة ترى أن المواد المشعة اقل من المواد غير المشعة، وهذا شيء طبيعي، لأن هذه المواد باشعاعها الدائم تتحول إلى مواد أخرى، وبذلك تقل نسبة وجودها في الكون تدريجياً. فأخذ ملكان بعد ذلك ثلاثة عناصر تولف الجزء الأكبر في تركيب الكرة الأرضية والشهب والنجوم. ووجد أن هذه العناصر الثلاثة في الهيليوم والأو كسجين والسليكون. وقال اذا كانت هذه الأشعة التي لاحظناها ناتجة عن بناء العناصر فأن الهيدروجين وهو أبسطها تركيباً الحجر الأساسي في هذا البناء. وبواسطة معادلة اينشتاين استخرج مقدار القوة الضائعة في بناء كل ذرة لكل من العناصر الثلاثة وبواسطة معادلة أخرى اشترك في إيجادها ثلاثة شباب: (ديراك شاب انجليزي، و (كلاين شاب ألماني، و (نشينا شاب ياباني، استخرج نسبة قوى هذه العناصر الضائعة إلى بعضها، فوجدها كما يأتي: 3،.: 8.،.: 4.،. وهذه كما نرى ذات الأرقام التي استنتجها من تجاربه، إلا في الرقم الأول فالاختلاف فيه تعلله قلة الضبط في التجارب فقط.(52/59)
وهكذا كان نجاح ملكان في تعليل نظريته في بناء الكون من طريقين: طريق التجربة التي أدت إلى اكتشاف تلك الأشعة الصادرة عن بناء الكون، ولذلك سميت الأشعة الكونية؛ وطريق الرياضيات التي طابقة نتائج تجاربه كل المطابقة، فدلت لا على اكتشاف أشعة جديدة من مصدر جديد فحسب بل أيضا على توحيد النظريات والمعادلات الرياضية مع الظواهر الطبيعية، وعلى دقتها وتلاؤمها بعضها مع بعض.
جامعة بيروت
فرح رفيدي
3 - اسحاق نيوتن
1642 - 1727
للأستاذ مصطفى محمود حافظ
كتاب (البرنسببا):
في ابريل سنة1676 تقدم نيوتن إلى الجمعية الملكية بكتابه المشهور (البرنسبيا) وهو في ثلاثة اجزاء. وقد شرح في الجزء الأول منةنظريته الخاصة بتحرك الأجسام مع البرهان الكامل لقانون الجذب العام. وقد أمرت الجمعية الملكية أن يطبع هذا الكتاب علىنفقتها الخاصة، ولكن ذلك لم يتم لانها لمتشأ أو لم تقدر على جميع النفقات الازمة لذالك. ولك ن (هالي) ديق نيوتن قام بذلك على نفقته الخاصة. فخرج الكتاب بالاتينية في مايو سنة1687.
ولم تكد تظهر أصول الجزء الأول من (الرنسبيا) حتى قام دكتور (هوك) ينسب إلى نفسه الأسبقية في الكشف عن قانون التربيع العكسي متهماً نيوتن بأخذ هذا الاكتشاف عنه. وبذك اتسعت شقة الخلاف بين العالمين، ولكندكتور (هالي) تمكن بتأثيره على نيوتن من أن يجعله يشير في كتابه إلى أنه مع (رن) و (هوك) و (هالي) توصلوا في نفس الوقت إلى قانون الجاذبية من قوانين (كبلر) في حركة الكوكب.
وقد اشتمل الجزءالثاني من البرنسبيا على مبادى علم الأيدروستاتيكا، والأيدروديناميكا، كما اشتمل على تطبيق قانون الجذب العام في شرح ظواهر المد ونسبتها إلى مكان القمر من(52/60)
البحار، وقد أضاف إليها هو مواضع الشمس أيضا. وقد احتوى البرنسبيا أيضاً على موضوع المذنبات، فاعتبرها أجساماً سماوية تسير في قطع ناقص هائل، ولا تظهر لنا إلا وهي تقطع جزءاًغيراً من هذا القطع الناقص بالقرب من الشمس، وعلل بذلك ظهورها بعد أزمنة معينة: وبذا يكون قانون الجاذبية قد امتد خارج المجموعة الشمسية فشمل هذه المذنبات أيضاً. لقد احتوى هذا الكتاب نواة الفلسفة الطبيعية، ولكنه لم يؤخذ به كأساس هي لذلك إلا بعد سنوات، وذلك لحملات النقد الكثيرة التي كانت توجه إليه من أمثال (هوك) و (هيجنز) و (ديكارت) وأن كان البعض قد آمن به بعد حين. وبرغم اتصال نيوتن بجامعة كامبردج طول حياته فانها لم تكن الجامعة الأولى التي أخذت بما في كتابه من فلسفة، وسبقتها في ذلك جامعات اسكتلندا.
حياته العامة:
أخذ نيوتن راحة طويلة بعد ذلك المجهود الذي مكنه من اتمام البرنسبيا في سنتين فقط. وفي سنة1688 اختير عضواً برلمانياً بعد دفاعمجيد قام به مع غيره لصيانة حرمة جامعته عندما أمر الملك (جيمس الثاني) جامعة كامبردج أن تمنح قساً جاهلاً درجة (الأستاذية)، مما كان له أثر في رجوع الملك عن أمره. وقد انصرف إلى أعماله البرلمانيهسنتين، ولو أنه لم يسجل له أي مساهمة في مناقشة سياسية. وفي ذلك الوقت اصابتة أكبر محنة لاقته في حياته، تلك هي وفاة امه التي ضحت من أجله بالكثير من القليل وساعدته للوصول إلى ما وصل اليه. فبرغم قلة دخلها السنوي الذي لم يتجاوز الثمانين من الجنيهات، كانت تقتر على نفسها لتنفق عليه في (جرانتام) وفي سنواته الأولى في كامبردج.
وفي سنة1690 عاد إلى كامبردج ليزاول التدريس مرة أخرى، كما اشتغل بدراسة تأثير الضوء على شبكية العين بتجارب أجراها في نفسه. وقد أجرى تجارب لتقدير درجات انصهار بعض المعادن وملاحظة معدل برودتها، وقال إن هذا المعدل يتناسب وزيادة درجة حرارة الجسم على درجة حرارة الوسط الذي يحيط به. ولكن بحوث (دولنج دبتي) أثبتت بعد ذلك أن هذا ليس بصحيح إلا إذا كان الفرق بين درجتي الحرارةغيراً.
وقد شاء نيوتن أن يخرج للعالم كل ما وصل إليه في علم البصريات، وهو العلم الذي كان يشغل دائما جزءاً من وقته، ولكن كارثة لا يعلم إلى الآن سببها الحقيقي سببت حرق أغلب(52/61)
مذكراته. فقد ترك غرفته ليلاً وبها شمعة موقدة وأخر إلى أجل قليل، فعاد ليجد الشمعة قد انكفأت فأحرقت جُل مذكراته. ويقال إن كلباًغيراً يدعى (دياموند) كان السبب في ذلك،
ولكن لسوء الحظ لم يعرف عن نيوتن الميل إلى إبقاء مثل هذه الحيوانات برغم حبه العظيم لها. وبذا لم يتمكن نيوتن من إعادة مذكراته وإتمامها إلا بعد اثني عشر عاماً.
في دار سك النقود
لم تكن المائتي جنيه التي كان يتقاضاها نيوتن سنويا عن وظيفة الأستاذية في الجامعة لتكفي للقيام بحاجاته؛ فسعىديق له يدعى (شارل مونتاج) حتى عين في سنة 1695 وكيلا لدار سك النقود بمرتب سنوي يتراوح بين 500 و 600 جنيه. فوجه كل عنايته إلى عمله بعيداً عن المناقشات العلمية، ولكنه مع ذلك كان يشتغل بحل المشكلات إلى تقابل غيره. ففي سنة 1797أعلن الرياضي الكبير (جون برتولي) عن معضلات رياضية يطلب إلى العلماء حلها، ففعل ذلك نيوتن في يوم واحد. وفي سنة1699 أصبح رئيساً لدار السك بمرتب سنوي قدره 1200 من الجنيهات، فترك مهنة التدريس التي كان يزاولها مع وكالته للدار.
وقد وجه نيوتن عنايته إلى إصلاح العملة الانجليزية مما دخلها من الغش، فوفق إلى ذلك بعدعوبات لاقاها هو وصديقه (هالي) الذي عينه مديراً لأحد الفروع، ممن كانوا يستفيدون من ذلك الغش. فاتهموه بالرشوة عندما وجدوه يرفضها.
وفي سنة 1700 اكتشف نيوتن آلة السدس (السكستانت) وعي الآلة التي يتمكن بها الملاحون من معرفة أماكنهم في عرض البحار، ولكن هذا الاكتشاف ينسب عادة إلى (هادلي).
وفي سنة 1703 نال نيوتن اعظم شرف منحه في حياته، وهو رياسة الجمعية الملكية؛ وقد لبث في هذه الرياسة حتى موته، ولا تزالورته معلقة فوق كرمي الرياسة. وبعد سنة من ذلك التعيين توفي منافسه الدكتور (هوك) وأتم كتابه (البصريات). وقد احتوى هذا الكتاب كل ما وصل إليه في علم الضوء، كما احتوى أيضا على رسالة في حساب التكامل، قال إن أساسها هو ما وصل إليه في سنة 1665 عندما كان في (وولثورب)، فقام يعارضه في ذلك العالم الرياضي (ليبنتز)، الذي اصبح بعد وفاة (هوك) شر خلف لأعند سلف. هاجم نيوتن(52/62)
مهاجمة عنيفة، فاتهمه بسرقة اساس علم التكامل منه، فقام دكتور (كيل) من اكسفورد وأعلن أن (ليبنتز) هو سارق حساب التكامل من نيوتن. والواقع أن كليهما وصل مستقلاً إلى علم حساب التكامل، إلا أن نيوتن له الأسبقية في ذلك وإن لم ينشرما وصل إليه في حينه، كما أقرت بذلك اللجنة التي عينتها الجمعية الملكية للتحقق من مبلغحة أقوال المتنافسين. عند ذلك اختار (ليبنتز) ناحية أخرى يهاجم منها نيوتن، فادعى أن فلسفته إلحادية، واستمر زمناً طويلاً كان هو البادئ بالعدوان دائما. وقد تحدي نيوتن مرة أن يحل مسالة رياضية فحلها نيوتن في ليل واحدة بعد كل اليومي في دار السك.
نيوتن الرجل
كان طويل القامة، كث الشعر أبيضه، وقد لحقه الشيب ولما يزل في سن الشباب؛ كان كثير التفكير، يندر أن يشترك في مناقشة كلامية.
ذاق نيوتن طعم الفقر والحرمان في أيامه الأولى، وحتى بعد انتخابه عضواً في الجمعية الملكية قصرت موارده عن أن يدفع رسم دخول واشتراك الجمعية، فاعفي منهما مع ضآلتهما. ومع ذلك كان كريماً يساعد أقاربه وأصدقاءه.
كان وديعاً خجولاً متواضعاً، وكان دائماً يردد قوله: (لا أعلم ماذا يعتقده الناس فيّ، ولكني أعلم أنني كطفلغير ألعب على الشاطئ فأجد من حين لآخر حصاة قدقلتها الأمواج، أودفة تدعوني إليها بحسنها، بينما محيط الحق أماي لم أكشف منه شيئاً).
لم يكن يميل إلى الظهور واسترعاء الأنظار إليه، كما كان لا يميل إلى المناقشات والمشاجرات، ومع ذلك لازمته ولاحقته بعد كل جديد كان يصل إليه. كان ضعيف الذاكرة، لا يعتني كثيراً بملابسه، غريباً في أذواقه. ولكنه كان يفني نفسه في عمله، وكثيراً ما آثر ذلك فيحته.
كان نيوتن يعتقد بوجود الله، رغم ما اتهمه به (ليبنتز) من الكفر والإلحاد. كان يعتقد بوجود قانون كوني عام يحكم كل أجزاء الكون، وهذا القانون هو إرادة الله. وقد رأى في ثبوت قانون الجذب العام سيطرة الخالق على الكون بأجمعه. وقد أنعمت عليه الملكة (آن) بلقب الفروسية (سير) في زيارتها لجامعة كامبردج في سنة 1705. وكان يعيش في أواخر أيامه في لندن وقد أصبحت له مركبة خاصة.(52/63)
لم يتزوج نيوتن برغم انه كان يحب (مس ستوري) التي تزوجت مرتين، وكانت تعتني به (حنا) أخته من أمه. وقد أخذتحته في الاضمحلال في سنة 1724، وأخذ يشكو مرض الشيخوخة، ولكنه ظل يرأس الجمعية الملكية حتى مات في سن الخامسة والثمانين في مارس سنة 1727. ودفن في وستمنستر، وقدرت ثروته بمبلغ 32 الفاً من الجنيهات، الجنيهات أوصى بها إلى أولاد اخوته.
(تم البحث)
مصطفى محمود حافظ
مدرس بمدرسة المعلمين بأمبابة(52/64)
الملاح التائه
للشاعر المهندس على محمود طه
بقلم الدكتور محمد عوض محمد
بعد كتابي الذي أرسلته إلىديقي الزيات منذ أيام، قد أدرك القارئ أنني راضٍ كل الرضى عن هذا العنوان الذي اتخذه الشاعر المهندس سمة لكتابه الجديد. وكيف لا نرضى عن هذا العنوان، وكثير منا من استقل زورق العمر، يطفو به فوق بحر الحياة، تتدافعنا رياح الحوادث، وتتجاذبنا أعاصير القضاء، وتحدق بنا الصخور والأمواج من كل جانب. فإذا أبصرنا على بعد جزيرة أمل ماثلة لأعيننا، لم نلبث أن نضل السبيل في البحث عنها، فلا نزال حائرين، ولا ننفك تائهين!.
كان ظهور (الملاح التائه) لعلي محمود طه و (وراء الغمام) لإبراهيم ناجي في شهر واحد وفي سنة واحدة من أحسن النعم الأدبية على قراء العربية. وقد ظهر كلاهما في شهر أيار، حين تخرج الورود والرياحين، فتملأ الأرجاء عبيراً وبهجةً وجمالا. ولست أشك في أن هواء الأدب قد امتلأ أيضا بأريج هذه الزهرات الأدبية اليانعة.
إن شعر علي محمود طه ليس مجهولاً للقراء؟ فقد ظهر منه (الرسالة) وفي (المقتطف) وفي (أبولو) شيء كثير. ولكن هناك فرق بين أن نطالع شعر الشاعر موزعاً متفرقاً، وبين أن نتناوله مجموعاً في سفر واحد. فأنا نجده في الصحف ملقى بين مختلف المواضيع والمنشآت التي تشبه في تنوعها وكثرتها (سلطة) الفواكه، قد اختلط منها التفاح بالموز، والعنب بالبرتقال، والشليك بالكمثرى، بل قد تجد أيضاً قطعاً كبيرة من اللفت أو الفجل، لا تدري كيف اتخذت سبيلها إلى تلك البيئة الغريبة عنها.
لهذا كان ظهور تلك الأشعار مجموعة في كتاب مستقل حادثاً يسترعي الأنتباه، ويستوقف النظر الذي كان يمر بتلك القصائد من قبل مراً سريعاً. ولدينا ويا للأسف شعراء كبار مثل حفني ناصف وإسماعيلبري لم يعنوا - ولم يعن أحد بعدهم - بجمع أشعارهم في كتاب. فليس في قلبنا منهم سوىورة مبهمة ناقصة فإخراج أشعار علي محمود طه في كتاب هو الحادث الذي يتيح للمرء أن يجلس لكي يتذوقها، ويتناولها بالنقد وبالدراسة.
تمجيد الشاعر(52/65)
أول ما يلفت النظر في علي محمود طه أنه شاعر يعرف للشاعر منزلته العالية، ومكانه السماوي الهائل وسط هذه المخلوقات الأرضية البائدة، ولهذا نراه يخص الشاعر بقسم كبير جداً من قصائده الممتازة؛ فنراه يخبرنا في أولى قصائده أن (ميلاد الشاعر) حادث جليل ترقص له الأرض، وتبتهج السماء، وتبرق أسارير الدهر، ويزداد له البدر إشراقاً ونوراً. فتتنادى الملائكة، وتتجاوب الأصداء: ليستبشر العالم فقد ولد فوق الأرض شاعر!
وفي قصيدة أخرى يرينا الشاعر وهو يناجي ربه، في شيء من غرور الشعراء. وإذا كنا نرى في هذه القصيدة ما يجعلنا أحياناً نصيح: (تأدب يا موسى؟) فيجب على الأقل أن نذكر أن الشاعر اقرب الكائنات إلى الله، فيجوز له ما لا يجوز لسواه.
وفي قصيدة ثالثة: تعد آية في الشعر العربي يصف لنا الشاعر في غرفته، وصفاً بديعاً لا عهد لنا بمثله، ولئن كان في هذه القصيدة ينحو نحو الفرد دي موسه أو غيره كما يقول الأستاذ طه حسين، فإن هذا لا ينقص من جمال القصيدة ذرة واحدة، بل انه ليدهشنا أن تكون المعاني الغريبة قد انسجمت هذا الانسجام الجميل في ثوبها العربي القشيب. ولها من وزنها العربي ما يسمو بها فوق الأوزان الإفرنجية الركيكة.
وفي قصيدة رابعة يحدثنا عن (قبر الشاعر). وقد أثارها في نفسه حديث عن الشاعر الفاضل المرحوم فوزي المعلوف، الذي قفي نحبه وهو بعد في ريعان الشباب ومزدهر الشعر، وسيحس القارئ في هذا التمجيد للشاعر شيئاً من تقدير المؤلف لنفسه، وإن لم يقل كلمة واحدة عن نفسه، وهذا خير مثال نضربه للذين لم يفهموا بعد أن هنالك مدرسة جديدة ومذهباً جديداً في الشعر العربي. فالقدماء من الشعراء كانوا هم أيضاً يقدرون للشاعر قدره. ولكن هذا الشعور كان مظهره فخر الشاعر بنفسه وبأدبه:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي ... إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
هذا عتابك إلا أنه مقة ... قد ضُمّنَ الدر إلا أنه كلم
واني وان كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل
وفي الشعر العربي من هذا الشيء الكثير جداً، ذلك كان دأب القدماء ومن نحوا نحوهم من المحدثين، وقد تلطف شوقي وسلك طريقاً جديداً حين جعل غادته تقول: (أنتم الناس أيها الشعراء!) ولكن علي محمود طه لم يقل عن نفسه شيئاً ولم يفتخر بل جعل يصف لنا(52/66)
الشاعر في مولده وحياته وفي أحلامه وأوهامه وفي تفكيره وحيرته، وفي أثناء ذلك نتبين ما للشاعر من قدر جليل ومكانة سامية.
ورجائي إلى الذين لم يصدقوا بعد أن هنالك تجديداً في الأدب العربي أن يفكروا في هذا المثل وحده الذي ضربته! فلعل فيه ما يقنعهم بان هنالك نواحي جديدة قد أخذ شعراؤنا يسيرون فيها وإنها من غير شك أكثر ملاءمة لروح عصرنا، فنحن اليوم لا نعبأ بشاعر يقول لنا إنه إذا قال شعراً أصبح الدهر منشداً. فلقد كان للفخر والتفاخر زمان غير هذا الزمان. ولكننا نرحب ونستأنس بهذه الصور التي تمثل الشاعر في أطواره المختلفة كما يحكيها لنا علي محمود طه.
تمجيد الطبيعة
الظاهرة الثانية التي تكاد تبرز أمامنا واضحة قوية في كلفحة منفحات (الملاح التائه) هي تمجيد الطبيعة، وهذه الظاهرة بادية فما ظهر من أدبنا الحديث كله، ولكنها شديدة الظهور في شعر علي محمود طه، وليس ذكره للطبيعة ذكراً سطحياً بل فيه تدبر وتعمق وإمعان فكر. وهي أحياناً تسيطر على القصيدة كلها كما هي الحال في (الشاطئ المهجور) و (صخرة الملتقى) و (القطب) و (عاشق الزهر) و (إلى البحر). ولكنها إلى جانب هذا منتشرة في الكتاب كله، ولن نعدم إشارة إليها في كل موضع.
وهذا يرينا كيف يسير شعراؤنا، بفطرتهم - ومن غير تعمد على ما أظن - في نفس الدور الذي سارت فيه حركة الرومانتزم في الشعر الغربي، فقد كان من أهم مظهرها الرجوع إلى الطبيعة.
والقارئ يعلم أن للوصف - سواء كان لظاهرة طبيعية أو لغيرها - طريقتين الأولى موضوعية فيحاول الكاتب بالألفاظ والعبارات أن يعطيناورة واضحة لما يراه أمامه كقول القائل:
والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء
وكقول علي محمود طه نفسه:
نَزَلَتْ فيه تستحمُّ النجومُ الزُّ ... هرُ في جلوة المساء المنيرِ
راقصاتٍ به على هزج المو ... ج عرايا مهدلات الشعور(52/67)
وعلىدره الخفوق طوينا الليل ... في زورق رضى المسير
ورياح الخليج دافئة تثنى ... حواشي شراعه المنشور
والطريقة الثانية في الوصف يرينا فيها الشاعر تأثير الموصوف في نفسه، ويتخذ من مظاهر الطبيعةوسيلة لأخراج ما يكنهدره من عاطفة أو حب أو ذكرى. كقول مهيار:
يانسيم الريح من كاظمة ... شد ما هجت الجوى والبرحا
الصبا - ان كان لابد - الصبا ... إنها كانت لقلبي أروحا
وكقول علي محمود طه في قصيدة (عاشق الزهر):
يا ليت لي كالفراش أجنحة ... أهفو بها في الفضاء هيماناً
أروح للنور في مشارقه ... وأغتدي من سناه نشواناً
وأرشف القطر من بواكره ... فلا أرود الضفاف ظمآناً
والأمثلة على هذا ونحوه كثيرة جداً لا حاجة إلى الزيادة منها. وقد كانت عناية القدماء بالنوع الأول اقل من عنايتهم بالثاني. وأما هاهنا فسيجد القارئ من النوعين قدراً وافياً. . ومن رأيي أن قصيدة الوصف يجب أن تشتمل على النوعين فيبدأ الشاعر بتصوير الظاهرة التي أمامه حتى يكادالقارئ أن يلمسها، ثم ينتقل إلى تأثيرها في نفسه وإلى ما توحي به من حكمة أو عاطفة، وهذا سر القوة الهائلة التي نجدها في قصيدة مثل سينية البحتري في إيوان كسرى.
الغموض
والآن فلأعد. إلى علي محمود طه. وهنا أريد أن أسر إلى القارئأن مطالعة هذا الشاعر هي أحياناً عبارة عن لذة سهلة سائغة كما يجدها القارئ في قصيدة (عاشق الزهر) أو (قبلة) أو (غرفة الشاعر). أو رثاء عدلي يكن. ولكنه أحياناً، وفي بعض القصائد الخطيرة، سيجدها لذة لا تدرك بسهولة. بل لا بد لها من التأني والتدبر. أما الموسيقى فهي هناك لاشك فيها. لكن المعاني فيها بعض الخفاء.
وقد يرجع هذا الخفاء لازدحام المعاني المتعددة في البيت الواحد. انظر مثلاً إلى قوله في مطلع (الوحي الخالد)
لوجهك هذا الكون ياحسن كله ... وجوه بفيض البشر من قسماتها(52/68)
فمثل هذا البيت لابد أن يقرأ في هدوء وتؤدة وأن يعاد غير مرة حتى نستوعبه فهماً.
لكن هذا النوع من الخفاء لا يعترض عليه؛ بل قد يكون جميلاً مستحسناً. أما النوع الأخر فهو الذي دار فيه الجدال في (الرسالة) من قبل. وذلك أن هنالك شعراء لا يعنون فقط بالصور الواضحة الملموسة البارزة، بل يكون كذلك بالصور التي يحيط بها غشاء من الإبهام، كالتي يراها الحالم بين النوم واليقظة أو كالظل لا هو نور ساطع ولا ظلام حالك. وهذا ما يعبر عنه في الفرنسية ذلك مذهب الرمز بين أمثال فرلين وأتباعه يمثلهم في الشعر الإنكليزي إلى حدٍّ ما الشاعر سوِ ْنبِرْن.
فالقارئ لأمثال هؤلاء الشعراء يجد في شعرهم موسيقى بديعة وأنغاماً رخيمةً. أما المعاني البارزة الملموسة فإننا قد نطلبهادائماً، ولكنا لن نجدها دائماً. ويجب أن نكتفي منهم بصورة لا نعيها تماماً. بل نفهمها نصف أو ربع فهم. وذلك بالطبع لأنهم هم أنفسهم لم يفهموها الفهم كله، وإنما تأثروا بها غامضة مبهمة خافية، وأرادوا أنينقلوا هذا ألينا هذا الأثر كما هو.
وفي شعر علي محمود طه شيء يسير من هذا. نجده في مواضيع متفرقة، في مثل قصيدة (عاصفة في جمجمة)، أو في (الله والشاعر) وفي غيرهما. وكثير منا يعز عليه أن يمر بالبيت فلا يحيط بمعناه تمامًا، أو بالصورة فلا يتبين شكلها تماماً. وهذا الطراز من الناس لا يميل إلى هذا الضرب من الشعر وينكره. وقد يكون له بعض الحق في هذا الأنكار، ولكن يجب أن نذكر أن الشاعر الذي يخلص لشعره ولشاعريته مضطر لأن ينقل إلينا ما يراه أو يتوهمه من الصور واضحة من الصور واضحةأو خافية.
والذي قد نؤاخذ الشاعر عليه حقيقة شيء واحد، ومن السهل جداً عليه معالجته إذا وافقنا على رأينا فيه، وذلك أن الشاعر خيالاً قوياً مفرطاً في القوة، وكثيراً ما يركب هذا الخيال بلا سرج ولا لجام فيذهب به فيفياف بعيده وأقطار قاصيةلا نستطيع غالباً - أن نصحبه إليها. هذا الخيال القوي الذي كثيراً ما يطربنا ويعجبنا نراه أحياناً يتعبنا وينصبنا.
يعجبنا حين يرينا الشاعر هذه الصورة:
أيها الشاعر الكئيب مضى الليل ... وما زلت غارقاً في شجونك
مسلماً رأسك الحزين إلى الفكر ... وللسهدذابلاتجفونك
ويد تمسك اليراع وأخرى ... في ارتعاش تمر فوق جبينك(52/69)
وفم ناضب به حر أنفا - سك يطغى على ضعيف آذينك
أو هذه الصورة:
وأطلت الأزهار ر من ورقاتها ... حيرى تعجب للربيع الباكر!
وجرى شعاع البدر حولك راقصاً ... طرباً على المرج النضير الزهر
فهذا وأمثاله كثير في (الملاح التائه) - هو من المعجب الطريف. وقد ساعده خياله القوي على إخراج هذه الصور الرائعة انظر إلى البيت الثالث في القطعة الأولى. ما أروعه وما أبدعه، وهو مع ذلك لا يحكي سوى حقيقة واضحة ملموسة. حقاً إن أبدع الخيال ما كان وسيلة إلى تصوير الحقيقة.
وإلى جانب هذا سيجد القارئ إن شاعرنا قد يذهب به الخيال مذاهب بعيدة: انظر مثلاً إلى قوله في (أغنية ريفية) إلى أن يمل الدجى وحشتي=وتشكو الكآبة مني الضجر
بيت موسيقاه جميلة مطربة. ولكنا لا ندري كيف تشكو الكآبة منه الضجر. وكذلك نرى خيال الشاعر قد بعد عنا إلى حيث لا نلحقه في قصيدة (عاصفة في جمجمة)، ولا نستطيع أن نأتي بها هنا كلها، ونكتفي بمثال أو اثنين كقوله:
أحياة سمتهاخر ونار ... حفت الأشواك من يسلكه
تنقضي الآجال فيه والسفار ... أبدى، ويح من تهلكه!
احملوا أمس إلى حفرته ... وتخطوا هوة الوادي السحيق
واحفزوا النجم إلى ثورته ... واحطموا أنو الليل ل ايفيق،
وبالطبع عذر الشاعر في هذا كله أنها (عاصفة في جمجمة) ويجب أن تثور مثل هذه العاصفة في جمجمة القارئ لكي يستمتع بهذه القصيدة.
كذلك قد يجد القارئ أن الخيال قد ذهب بعيداً في قصيدة (النشيد) حيث يجرد الشاعر من حبه شخصاً يصاحبه إلى لقاء الحبيب. وفي بعض المواضع نجد من الصعب علينا أن نتصور الموقف تماماً.
هذا ما يبدو للناقد في خيال الشاعر، أنه قد يفرط في القوة فيذهب مذاهب بعيدة. فإذا وافق الشاعر على هذا الرأي، فمن ابسط الأمور عليه أن يخفف من حدة هذا الخيال.
الأسلوب(52/70)
الأسلوب هو طريقة الأداء، وهو من المعاني كالجسد من الروح. وإذا نظرنا في أسلوب علي محمود طه نجد عبارته منسجمة طلية وألفاظه في الغالب متخيرة، ودليله في الاختيار حسن وقعها في الأذن، وهذا نجده في معظم الكتاب، حتى في المواضع التي يخفى أو يغمض المعنى لانعدام الموسيقى على كل حال.
وفي اختيار الشاعر لأوزانه نراه يكثر من الخفيف والرمل. ونصف قصائد الكتاب من هذين البحرين، وهو أحياناً يكتب القصائد الطويلة على الطراز المألوف من قافية واحدة؛ واكثر الكتاب من هذا الطراز ولكنه - لحسن الحظ - قد أتى بقصائد ذات قواف متعددة، وهذه على ثلاثة أنواع؛
(1) في الأول منها تتغير القافية عدة مرار بلا قيد ولا شرط كما في قصيدة ميلاد الشاعر.
(2) وفي الضرب الثاني تتغير القافية في كل أربع أبيات كما في (غرفة الشاعر) و (قبله) و (قبر شاعر) وترجمة (البحيرة) وقد نظم شعراء آخرون قصائد على هذا النظام الرباعي ولهذا يخيل لي أنه طراز طبيعي مستحسن. والمنتظر لهذا النوع أن ينتشر، ومن المستحسن جداً أن ينتشر.
(3) أما النوع الثالث ومنه قصيدة (الله والشاعر). فان فيه كل بيتين على حدة؛ والمصراع الأول يتفق في القافية مع الثالث والثاني مع الرابع. وهذا الطراز منتشر أيضاً في الشعر الحديث.
وهذا النظام الجديد للقافية من الظاهرات التي نرحب بها في شعر شعرائنا المحدثين. فقد انقضى الزمن الذي يفتخر فيه الشعراء بطول النفس؛ وبأن الواحد منهم ينظم القصيدة في مائة أو مائتين بل مئات من الأبيات، لا يكرر فيها القافية. كان
هذا الفخر سخفاً لا طائل تحته. فليس نظم القصائد الطوال في قافية واحدة بالشيء العسير على من أراد أن يقيد المعنى بالقافية. وان يجعل الجسم كله متوقفا على شكل الذِّنب! وأكبر شعراء العربية لم يكونوا من المطيلين مثل أبي نواس، والمتنبي. ولم يخرج عن هذه القاعدة سوى ابن الرومي. الذي كان يكرر معانيه ويفصلها ويستقصيها فتطول قصائده تبعاً لذلك.
وليس من شك في أن تنويع القافية سيشق أمام شعرائنا طرقاً كانت مغلقة أمام المتقدمين،(52/71)
ويفتح لهم أبواباً جديدة.
وقد لاحظ الأستاذ طه حسين على شاعرنا أن قول فيه أحياناً غير متفقة في مثل (نورها وقبرها) وفي مثل (فاتها ويواقيتها) و (ووجهها وتيهها) في قصيدة (الله والشاعر) وهذه الأمثلة حقيقة نادرة في الكتاب. ولكن يجمل بشاعرنا الذي ينشد الكمال أن يلاحظها:
ولقد يؤخذ على شعرائنا المحدثين انهم قلما يهتمون بدراسة موضوع العروض والقوافي في اللغة العربية. اتكالاً على أن هذا من الأشياء التي تجيء للشاعر الموهوب عفواً. هذا مع أن الكثير منهم - وليساحب (الملاح التائه) أحدهم - ربما خلط - بين الوافر والهزج، وبين السريع والكامل، وبين الكامل والرجز. ولو أنهم أتعبوا أنفسهم قليلاً في دراسة كتاب مختصر عن الوزن والقافية لكفوا أنفسهم شر هذه الزلات.
إن العرب قد اصطلحت على أن القوا في الآتية - مثلا -:
ليلى - ذْيلا - قوْلا - هولا. لايجوز أن تجتمع في قصيدة واحدة مع هذه القوافي - مثلا -: قبلا - عدلا - جهلا - مهلا. فالمجموعة الأولى فيها حرفا علة - الواو والياء - لهما موسيقى خاصة لا تتفق مع الحروف الساكنة الأخرى. فلو عرف شعراؤنا هذا الاصطلاح العربي القديم لأمكنهم أن يتذوقوا القافية التذوق اللازم. وليس من حسن السياسة في شئ أن نجهل أو نتجاهل ما اهتدى إليه الشعراء من قبل باحساسهم وذوقهم. ومهما كما كانت غرائز شعرائنا قوية وصادقة. فان جموع غسرائز شعراء العربية في مختلف العصور والبلاد أقوى وأصدق. لهذا كان لابد لشعرائنا من دراسة العروض دراسة وافية لكي يطلعوا على زبدة تجارب المتقدمين.
وفي الختام أهنئديقاحب (الملاح التائه) على كتابه البديع الذي قد تبوأ مكاناً ثابتاً خطيراً في الأدب العربي. واذا كان الأستاذ طه حسين قد قال عنه إنه مبتدئفليس معنى هذا أنه ينقصه النضوج أو الجمال. فهذا واضح في الكتاب كل الوضوح. ولكن معنى ذلك في نظرى أن لديه ما لمبتدئ من حماس ومن قوة ومن سعي وراء الكمال.
جوان لي بان
عوض(52/72)
القصص
منور الريف
كفارة. . .!!
. . . نهار من أيام الخريف، بدأ ثقيلاً طويلا قاتماً، ومضى عاصفاًاخبا، وأقبل اليل فسال الظلام على جوانب الكون كثيفا مطبقا، الريح تعصف عنيفة باردة والساء يغشاها سحاب أسحم ومطر سخي، أوراق الثسجر تساقط مستسلمة، وسهف النخيل يتخدى العاصفة، والعاصفة تداعبه وتعبث به، فتشيع في أطراف الليل حفيفأ موحشأ يشبه أن يكون أنين أرواح هائمة في أودية العذاب، أصوات الذئاب يتجاوب بها الصدى، والكلاب ترد عليها بنباح قوي مختلط يتصل حيناً طويلا، ثم ينقطع لحظات، ثم يعود فيتصل ويختلط، على ان هذه الأصوات المختلطة المبهمة كانت تنجلي أحيانا عن نداء أو غناء يردده أحد الفلاحين في حقل بعيد
سكون موحش يثير القلق، ويحمل على الشك، ويدفع الرهبة إلى النفوس دفعا. . . وقف بيومي قليلا ثم تردد في استئناف السرى. . . لقد جسم له الوهم والخوف من الظلام أعمدة جاثمة تعترض الطريق كأنها المردة السود، وكان بيومي يقف أحياناً يتطاول بعنقه ويرهف سمعه ويضرب بعينيه فيميم الظلام كأنما يبحث عن قبس أو هدى: إنه يحمل في جيبه مالاً كثيراً وهو يوجس خيفة، وهو فوق هذا وذاك يحس شيئاً من الجوع والتعب وبين بلده ساعةً وبعض ساعة فلماذا لا يبيت بلدة (قلوصنا) وهي على بضع دقائق فقط ريثما يسفر الصبح؟ إن لهديقاً قديماً هو شيخالخفراء وأكبر الظن أنه سيطعمه من جوع ويؤمنه من خوف ويهيء له من امره راحة وأمناً. . . ومن أحق بهذا من شيخ الخفراء؟! ولكن بيومي لا يستريح إلى هذا الحل ويتردد طويلاً قبل أن يبيت فيه لأنه يعلم عن شيخ الخفراء ما ليس لنا به علم، إنه يخشى أن يجيئه الهلاك من مأمنه، فلشيخ الخفراءحائف في ثبت الأجرام، وأكبر اليقين أنه لا يتورع من أن يضيف إليها فصولاً جديدة. ولكن أتراه يعتدي على ضيف ينزل بداره ويلجأ إليه؟ ربما! وهو فوق ذلكديقه! ولنترك بيومي يضطرب بين الشك واليقين ويتصارع في نفسه الأحجام والأقدام فلعل الله أن يجعل له فرجاً من الضيق، ومخرجاً من الحيرة، ومن الخوف أمناً وهدى. . .(52/74)
أما عبد الهادي شيخ الخفراء فهو رجل مديد القامة، شديد البأس، قوي مفتول، له وجه تشيع في قسماته الصرامة، وعينان ينبعث منهما التحدي والشر، كان فيما فرط من أيامه يقطع الطرق ويهدد السارينويسلب الناس، ولم يجد في القتل حرجاً ولا في السلب جناحاً، بل إنه ليعدها من مفاخره. وعبد الهادي يثبت نظرية لمبروزو في المجرمين فقد كان من القرويين الذين تغلب فيهم سيطرة الأجرام، ويتحكم في رجولتهم شر اسود في لون هذا الليل العاصف المدلهم، لم يكن يردعه قانون ولا دين، ولا يمنعه عقل ولا عاطفة، عُين شيخاً للخفراء فزاد عبثه وما زال يصل أسبابه بأصدقائه القدماء من اللصوص والقتلة، يغريهم بالناس ويدلهم على مواطن الصيد ويمهد لهم سبل الإفلات. . .
واتصلت جرائمه واضطرب الأمن في بلده والبلاد القريبة، والناس يعلون أن لعبد الهادي يداً في كل شيء، لكنهم امتون لايهمسون، لأن لعبد الهادي عيناً ترقب الثرثار، ولأن الناس يدفعون هذا الصمت ثمناً لأرواحهم وأموالهم إشفاقاً من انتقامه وهم يؤدون إليه ما يفرض عليهماغرين إذاً اختفت سوائمهمفترد إليهم من حيث يعلمون ولا يعلمون.
أما بيومي فقد قلب الأمر غير مرة وانتهت المعركة في نفسه أخيراً. . . وتغلبت على وساوسه نوازع الثقة في الله ودوافع الخوف من السرى في الظلام والبرد، وتعاونت هذه الأسباب كلها على أن تسوقه إلى بيت عبد الهادي ضيفاً. . .
طرق بيومي باب عبد الهادي في رفق ففتح له وأحسن استقباله وقدم إليه طعاماً وأعقبه بالشاي مثنى وثلاث، ثم سمر معه إلى وهن من الليل وتركه ليجول في البلاد جولة بعد أن أوصى به ابنه سالماً أن يهيئ له فراشه في المنظرة، سهر بيومي وسالم ما طاب لهما، وسمرا ما تشقق بينهما الحديث وشربا الشاي غير مرة، ودخنا كثيراً ثم ثقلت أجفانهما وفترت أعضاؤهما ولحقهما الخمول، وأحسا الحاجة إلى الراحة فقام كل منهما إلى فراشه، ونام بيومي بعد أن قرأ ما تيسر من القران وتوكل على الله وأسلم إليه وجهه.
وعاد عبد الهادي بعد ما انتصف الليل وقد طوعت له نفسه أمراً، وأحسب أن هذا الأمر قد اختصم في نفسه طويلاً مع الواجب، واحسب أن بقايا المروءة المتناثرة في زوايا قلبه قد تجمعت فانطلقت تقرع أذنيه في عنف واتصال. . .! ربما لم يسمع، وأكبر الظن انه سمع، ولكنه سخر من ضميره وضحك من هذا الخور الذي لم يألفه في أعصابه، اتجه إلى الباب(52/75)
ففتحه ودار ببصره في الظلام والنجوم، ثم أرسل ضحكه مكبوتة كأنها في فحيح أفعى هائلة ثم انقلب إلى الداخل ثانية وأجمع رأيه قبل أن يبدله ما يرده إلى النكول أو التردد، حمل الذئب (بلطته) وتسلل إلى المنظرة فدخل ثم وقف وأنصت وتقدم إلى النائمفناوله ضربات متصلة قطعت ما بينه وبين العالم من أسباب الحياة.
اضطرب القتيل قليلاً ثم ساد السكون مرة أخرى. . .! وتحسس عبد الهادي جيب القتيل فلم يجد معه من المال قليلاً ولا كثيراً.
عرته الدهشة. .! أين اختفى المال الذي كان مع بيومي.؟ لاشك أنه حفظه في مكان ما في نفس المنظرة. . . ولم يتردد
عبد الهادي في أن يخفي أثر الجريمة أولاً. . . فلف الجثة وحزمها ثم حملهامطمئنا آمناً، لأن الشك ينحسر عنه وإن فاض حول جميع الناس. . شيخ الخفراء طبعا. .!! وللمرة الأولى أحس عبد الهادي رجفة تأخذ أعصابه وهماً مبهماً جائشاً يستبد بروحه ويضيق عليه أنفاسه، وثورةاخبة تصم أذنيه وتدور برأسه. . . لقد أخذه الندم! وأفاق ضميره ولكن متى. . .!؟ سمع عبد الهادي وقع حوافر الخيل تخب مسرعة وتناديه أن يقف. . إنهم العسس (الداورية)! غامت الدنيا في عينيه وملكه اليأس وأسقط في يده ولم يملك إلا أن يتطامن للقضاء الأعلى ويعنو لأرادة الله التي ترى كل شيء وتدبر كل شيء. . .! قاتل! وشيخ خفراء!! جريمة ذات شعبتين، قاده الجند إلى منزله أولاً وعلى كتفه ضحيته. . وحسر الجند اللفائف وتفرسوا في وجه القتيل وصرخ عبد الهادي وخرعقا. .!
لقد قتل ابنه خطأ. . .! واستيقظ بيومي فزعا فأدرك كل شيء، وأعلن أنه كان ينوي أن يبيت في المنظرة لولا أن سالما رأى أنها رطبة لا تلائم الضيف فنقله إلى غرفة أخرى وأخذ مكانه في المنظرة.!
وكان يوم الحكم فشرقت القاعة بالوفود ووقف القاتل في القفص يبكي في إطراق طويل وصمتاخب ومرارة ملتهبة وحسرة لجوج، وساد السكون فجأة لما ارتفعوت القاضي يدوي في القاعة قوياً جلياً هادئاً (أشغال شاقة مؤبدة).
وقاد الجند الرجل المحطم إلى قاعة النيابة في أعلى المحكمة وهو. لا يزال ينشج كالأطفال. . . وغافل الرجل المحطم الحراس وألقى بنفسه من أعلى المحكمة فهوى خليطاً(52/76)
هامداً من اللحم والعظم. . . قلوصنا
محمود البكري القلوصناوي(52/77)
يوميد
للأديب حسين شوقي
ما كادت تلوح بالأفق خيوط النهار الفضية الأولى، حتى كنا انتبهنا من نومنا: ديقاي وأنا، وقد أزمعنا الذهاب لصيد البط في ضواحي الهرم، وكان كل منا يحمل بندقية ذات عيارين وعدداً كبيراً من الخرطوش، عدنا السيارة ونحن أشد بهجة من فصائل اسكندر المقدوني الفتية لدى زحفها على أسيا.
أما المدينة فكانت غارقة في النوم في تلك الساعة المبكرة ساكنة بأحقادها وشهواتها، ولم يكنأحد مستيقظاً، اللهم الا محرك سيارتنا.
سارت بنا السيارة في شارع الهرم، ولما بلغنا المستنقعات الواقعة في الجهة الغربية من طريق الهرم، غادرناها وركبنا زورق طلي بالطلاء الأسود حتى لا نشعر البط بوجودنا بالمستنقع، وكان موجوداً بكثرة على سطح الماء. . هل كان البط نائماً وقتئذ؟ لم يكن لدينا شك في ذلك برغم اعتراض دليلنا - وكان فتى قرويا - وذلك لسكونه سكوناً عجيباً. .
ولكنا كنا مخطئين إذ لم نكد نقترب منه حتى انطلق في الجو. كأنه سهم ناري فأطلقنا عليه البنادق في الهواء ولكن بدون جدوى رغم عدده الكثير. . لقد ظهرنا في عيني دليلنا القروييادين غير ماهرين، فانتزع بندقية أحدنا وأطلق طلقة واحدة أسقطت بطة في الحال!
وا أسفاه على الدروس التي تلقيتها فيباي للصيد في الهواء! كنت أتمرن وقتئذ على البيض، يقذفون لي البيض في الهواء فأطلق عليه بندقيتي فاذا أصيب البيض وهو ما كان يقع نادراً - سال فأمطرنا مطراً اصفر.
وبعد محاولات يائسة لصيد البط، غادرنا المستنقع إذ لم نجد سبيلاً إلى البط فهو شديد الفطنة. .
كيف يدرك البط الخطر على مسافات بعيدة؟ إن شأنه شأن الحمام الزاجل الذي يعرف طريق الوطن على بعد مئات من الأميال. هل تكشف لنا الطبيعة يوماً عن مثل هذه الأسرار؟
قبل أن نغادر تركنا لدليلنا القروي البطة التيادها هو، حتى لا تذكرنا فشلنا على الدوام. .
هل كنا نعود وقتئذ إلى المنزل؟ لم يكن في استطاعتنا أن نفعل ذلك، إذ لوعدنا لصرنا(52/78)
سخرية للجميع. . ممنا بعد ذلكعلى البحث عن طير يكون أقل فطنة من البط. .
ها نحن أولاء نسير وسط الغيطان التي كسيت بساطاًأخضر جميلاً من البرسيم. . وثم اعترضتنا ترعة لاجسر عليها للمرور، وكنا في حيرة من أمرنا حينما اقبل قروي وتطوع أن يحملنا على ظهره عبر الترعة. وقد مرت بهذه الطريقة، ومر أحدديقي. وأما الصديق الثالث وكان بديناً، فقد غرز هو وحامله في الطين، وبدلاً من أن يعمل على الخروج من الترعة، أخذ يضرب القروي المسكين!. ياله من منظر مضحك أنسانا فشلنا مع البط!
ثم أقبل قرويان آخران فقاما بعمليه النجدة. . بعد ذلك بلغنامكاناً مظللاً بالأشجار الكثيفة، حيث أخذت العصافير تزقزق جزلة مسرورة. . وقد شاهدنا على أحد الغصون يمامتين تتناجيان، كم كان منظرهما جميلاً، وقد طوق عنقاهما بطوق فاحم جميل، كما رصع منقاراهما بالياقوت. .
ثم حدث ما كنت أخشى وقوعه، فقد اقترحديقاي أن نصطادهما! لم يكن في طاقتي أن أطلق النار على هذين المخلوقين الجميلين، إنها حقا لوحشيه! لذلك رفضت، فقال أحدديقي ليقنعني: أطلق ولاتكن غبياً، لقد حللت لك الصيد قوانين السموات والأرض! فقلت: ليكن، ولكن قلبي لا يطاوعني! ولما رآنيديقي مصمماً على الامتناع، أطلق هو عياراً
فأردى إحدى اليمامتين، سقطت وقد كسر جناحها، كما أن خرطوشة أخرى لا بد أنها اخترقت قلبها، لأن الدم كان يسيل من منقارها بغزارة.
ورغم وحشيتنا هذه. كانت عينا اليمامة ترمقاننا في حنان، كأنها قد غفرت لنا فعلنا كما غفر عيسى من قبل لمضطهديه اليهود! يا للأسف! إننا ما زلنا متوحشين نسر لرؤية الدم! كم نحن بعيدون عن المثل العليا التي ينشدها أفلاطون!
ومن ذلك اليوم كرهت الصيد، فكل عام اجدد رخصتي دون أن أجدد رغبتي.
حسين شوقي(52/79)
الكتب
علم الدولة
(الجزء الأول في أصول الدولة وتطورات فكرتها)
تأليف الأستاذ أحمد وفيق
يقع الجزء الأول من هذا الكتاب الفذ في نحو أربعمائةفحة من القطع الكبير، وهو ثمرة جهود شاقة وتجاريب طويلة وحسبك أن فكرة الكتاب قد جالت في رأس مؤلفه الفاضل منذ خمسة وعشرين عاماً، وأن العمل على إصداره ظل شغله الشاغلطوال هذه المدة، ذلك لأنه أثر التريث وإمعان النظر وإطالة البحث والاطلاع حتى جاء عمله في النهاية جديراً بفضله وأدبه وواسع خبرته.
مهد الأستاذ لموضوعه الواسع بمقدمة ضافية محكمة فتكلم عن أسباب إصداره هذا الكتاب مشيراً إلى حاجة الشرق في نهوضه إلى مثل هذه البحوث، ثم عرف هذا العلم إلى القاريء وجاء بلمحة تأريخية عنه، وبين له كيف تدرس فكرة الدولة عملياً، وتعرض لآراء العلماء في ذلك وهي بحق مقدمة شيقة، تدلك على شدة اهتمام الأستاذ بموضوعه كما تشهد بحسن فهمه واستيعابه له.
بعد ذلك تكلم الأستاذ في هذا الجزء من كتابه عن أصول الدولة وعرض في إسهاب ودقة النظريات المختلفة التي وضعت للدولة، فتكلم عن نظرية الطبيعة، وعن نظرية الأصل الاصطلاح شارحاً العقد الاجتماعي واصله، مورداً آراء الفلاسفة في ذلك. ثم انتقل إلى نظرية التكوين الاختياري الضروري للدولة ذاكراً في كل نظريه ما دار حولها من الآراء.
وبعد أن انتهى الأستاذ من سرد النظريات وشرحها، عاد إلى الكلام عن التطور التاريخي لفكرة الدولة: فتكلم عن فكرة الدولة في الهند وفارس والصين ومصر ودولة الإسرائيليين واليونان والرومان، ثم انتقل إلى العصور الوسطى وعهد إحياء العلوم وعهد الإصلاح مورداً في كل هاتيك الخطوات آراء العلماء والفلاسفة شارحاً جميع الحركات الفكرية والسياسية والاجتماعية التي لم يكن منها بد لموضوعه، وقد ختم الجزء الأول عند هذا الحد، وسيفتتح الجزء الثاني بتناول الفكرة ابتداء من عهد الانتقال بين عصر الإصلاح وعصر الثورة الفرنسية.(52/80)
وأني وقد أعجبتني طريقة الأستاذ وفيق في بحثه، وراقتني فصاحته وخبرته لأتقدم إليه باقتراح أرجو أن ينال عنده القبول، ذلك أن يفرد بابا من كتابه لفكرة الدولة في الإسلام وتطورها منذ عصر الخلفاء، فان القاريء الشرقي ليتطلع إلى هذه. الناحية في شوق عظيم، ولا سيما إذادرت من عالم جليل كالأستاذ وفيق له مثل هذه الخبرة عن الدولة وفكرتها.
م. الخفيف
غاندي والحركة الهندية
تأليف الأستاذ سلامة موسى
غاندي والحركة الهندية كتاب جدير بأن يطلع عليه كل شبابنا فهو حافل بدروس الوطنية الصادقة مصورة في حركة من أروع وأجل الحركات الوطنية وفي شخصية من أعظم شخصيات التاريخ هي شخصية غاندي الرجل العظيم والزعيم النادر المثال والإنسان الكامل، الذي لايجود الزمان بأمثاله من العظماء الإ كل حقبة طويلة من الدهر.
أعجبني في هذا الكتاب تفصيل الموضوع وحسن تقسيمه وتقريبه إلى أذهان القراء في مهارة ولباقة عرف بهما مؤلفه الفاضل. ثمأعجبني أكثر من ذلك ما أحسسته من حماس الأستاذ. وصراحته وصدق تأثيره بما يكتب واندماجه في موضوعه حتى لتحار فيما لو كان الأستاذ يسرد عليك تاريخ وتطور حركة من الحركات الوطنية أم هو يسمعك آراءه الصريحةالجريئة في الاستعمار أو وما ينجم عنه من نكبات كل ذلك في أسلوب علمي دقيق جمع بين حماس القلب ورزانة العقل.
قسم الأستاذ هذا الكتاب إلى ثلاثة أجزاء، ففي الجزء الأول يتكلم عن الأحوال العامة في الهند، وفي الجزء الثاني يبسط لك سياسة غاندي وفلسفته، وفي الجزء الثالث يورد لك بعض مقالات وحكم كتبها غاندي ونشرت في المجلات الهندية.
وغاية الأستاذ من هذا الكتاب جديرة بالثناء، انظر إلى قوله (ونحن في جهادنا للمباديءالإمبراطورية البريطانية نشبه. الهنود وإن كانت قدم الإنجليز في الهند ارسخ وتاريخهم أطول، ولهذا السبب نفسه يجب أن نستنير بحركتهم كما استناروا هم بحركتنا(52/81)
فان زعماءهم كثيراً ما ذكروا الاتحاد بين المسلمين والأقباط في مصر ودعوا أبناء أمتهم المسلمين والهندوكيين إلى مثله في الهند. وسيجد القاريء المصري في هذا الكتاب كثيرا ًمن المواضيع التي يهمه معرفتها، كأصل الحركة الهندية والديانة الهندوكية، والفقر والنجاسة، والدستور الجديد، وغاندي وحياته وموقفه من المدينة الحديثة وما لم يعرف عن غاندي، وصوم غاندي الأول، هذا إلى بعض مقالات غاندي نفسه، مما يجعل الكتاب جديراً بالمطالعة والانتفاع مما جاء فيه من دروس نحن أحوج ما نكون إليها.
مثلنا الأعلى
قصة وضعها عبد المجيد عباس المعلم في مدرسةتطبيقات دار المعلمين
مطبعة الحكومة - بغداد
قصة تمثيلية تقع في أربعين صفحة من القطع الكبير، موضوعها الوحدة العربية والدعوة إليها، أهداها صاحبها الفاضل المغفور له فيصل بن الحسين فقيد العرب العظيم وجاء في هذا الإهداء أنها (مُثلت في حضرة جلالته فحباها بالإعجاب، وظفرت من جلالته بالرضا).
ونحن لا يسعنا إلا الإعجاب بكل ما يكتب عن الوحدة العربية والدعوة إليها كما أني أشعر بالغبطة والارتياح بعد تلاوة القصة، وذلك لما تخللها من شعور كريم وآراء سديدة. ولكني إذا نظرت للقصة من ناحية الفن، أجدني ميالاً إلى أن أصرح لمؤلفها الفاضل بأن هذا الموضوع الكبير، كان يحتاج إلى طريقة خير من طريقته التي اتبعها، كما أن القصة يكاد ينعدم منها الجو القصصي، وكأني في مواضع كثيرة منها كنت استمع إلى مناظرة في موضوع الوحدة العربية، فالحوار ينقصه (الفن في الأداء والتوجيه، والآراء تسرد بطريقة سطحية جافة كما يجيء على لسان مدرس المطالعة عند شرح موضوع درسه، هذا إلى أنها تكاد تخلو من المواقف المثيرة والمفاجآت القوية، كما أن مناظرها محدودة وأشخاصها قليلون لا أكاد أفرق بينهم في خلق، غير أني أشعر بميل المؤلف الفاضل إلى القصة واتخاذها أداة لنشر ارائه، ولعلنا نجد منه في المستقبل ذلك الفنان الناضج الذي يجمع بين الموهبة والثقافة
م. الخفيف(52/82)
العدد 53 - بتاريخ: 09 - 07 - 1934(/)
بين أسلوبين
بين الإطناب الذي لم تؤثره (الوادي)، وبين الإيجاز الذي تحبه (الرسالة)، كادت تضيع صداقة رسخت قواعدها على الإكبار والحب، وتأكدت أسبابها على الخفض والشدة، وتمكنت الفتها على ربع قرن من الزمان المضطرب تغيرت فيه مودّات الأخوة، وتنكرت قلوب الجماعات، وتحللت روابط الأمم.
وجملة الأمر أن صديقي طه قد بنى قصة من الأدب الجميل على رسالتين خاصتين أرسلهما إليه الأستاذ توفيق الحكيم، ثم نشرها ونشرهما في الوادي؛ فلما أصبح كل ذلك للجمهور والتاريخ جاءت الرسالة فنشرته، لأنها كما قلت في العدد الماضي كانت مسرحاً لهذه الرواية، فمن حق قرائها أن يشهدوا فصلها الأخير، ولأنها سجلٌّ لألوان الأدب الحديث، فمن حق الأدب أن نسجل في تاريخه ما يقع بين رجاله من الخلاف الجدي فيه كاملاً غير منقوص. وإن بقي لأصحاب الظنون والفروض سبب ثالث فلن يكون غير تعصب الصديق للصديق. وكان الأستاذ توفيق الحكيم فيما بين ذلك قد نشر بيانه الذي نقلناه في الأسبوع الماضي عن الوادي بعنوان (خصومة)، فلم يُتَح لي الاطلاع عليه لحالة خاصة صرفتني عن قراءة الصحف ذلك اليوم. ولو كنت قرأته وقرأت بجانبه تعريض الدكتور بالأستاذ في مقاله (أخلاق الأدباء) لشق على فهمي أن يستنتج من المقالين عودة الصفاء وزوال الجفوة.
تصافى الصديقان إذن على غير علم من الوادي ولا من الرسالة، فلما رأى الأستاذ الحكيم عودة المقالة في الرسالة خالجته في الصفاء ريبة، وأراد صديقي الدكتور أن يجلو شبهة الأمر، ويخرج من تبعة النشر، ويترضى الغاضب المرتاب، فأرسل إلى كلمته العاتبة تتنمَّر على صفحة الوادي.
كان المألوف في مثل هذه الحال أن يقف العتاب عند الترضي والتنصل، ولكن الأسلوب المطنب الذي يؤثره صديقي من خصائصه التدفق، والتدفق لا يخلو من كدورة، فأخذ يولد من العتاب ويفرع فيه، حتى خرج به إلى التلويح والتجريح والاستعداء، لأنني نشرت ما نشرت بغير إذنه. علقت على هذا (العتاب) الموجع بأن صديقي طه استغل حيائي منه ووفائي له في إرضاء الحكيم وإنصاف الوادي، لأنه يعتقد إني إذا عاتب واشتد لا أجيب، وإذا أجبت لا أعيب؛ ولكن الأسلوب الموجز الذي اصطنعته كان على ما يظهر أقرب إلى(53/1)
الإخلال والغموض، لأن صديقي لم يفهم (الاستغلال) على الصورة التي اقتضاها المقام وبالمعنى الذي قصدته، وإنما فهمه بمعناه الشنيع الذي لا يكون بين أخوين، ثم رتب على هذا الفهم في رده على تعليقي ما رتب مما لا أعده موجهاً إلى ما دام قائماً على هذا الأساس!
فأنت ترى أن أكثر ما حدث إنما نشأ من أسلوبين استعمل كل منهما في غير موضعه، وان الأمر كله ما كان ليقع لولا حرفة الصحافة التي تغري بالنشر كما يغرى على القتل حمل المسدس. فان أكثر من هذا يقع كل يوم بين الأصدقاء والاخوة فتزيله كلمة في التليفون أو تحية عند اللقاء.
قال الذين وقفوا على ملابسات هذا الأمر إني إذا كنت أخطأت في نشر المقالة وهي عامة، فان صديقي أخطأ في نشر الرسائل وهي خاصة، وما يُسَوِّغ موقفه من الحكيم يسوغ موقفي منه. ولكني لا أقول هذا القول ولا أستعين به، فإن الواقع أن ما صرفني عن الاستئذان في النشر إنما هو اعتقادي بارتفاع الكلفة بين طه والزيات، وبين الوادي والرسالة.
أما بعد، فإذا جاز لهبَّة الريح أن تزعزع الجبل، أو لحبة الرمل أن تكدر البحر، جاز لنشر مقال أدبي من غير إذن أن ينال من صداقة رفيقي الصبي وخديني الشباب، فينتزع المحبة من خلال النفس، ويقتلع العلاقة من صميم القلب، ويقتطع الماضي من حساب الزمن، بالسهولة التي تنشر بها كلمة في صحيفة!
وما كان ليقع في الوهم أن قلبين ألفت بينهما براءة النشأة، وطول الصحبة، ووحدة الهوى، وطبيعة الثقافة، يجرى بينهما من سوء التفاهم ما يجري بين القلوب المتناكرة والصلات الحديثة! كذلك ما كان ليسبق إلى الظن أن صديقي الذي لم تكشف الحوادث والأيام منه إلا شعوراً سليماً وخلقاً كريماً وذكاءً متقداً وضميراً يقظاً ونفساً طيبة، يخضع لأثر الحر وثقل العمل وعنت الظروف، فيقول في صديقه ما لا يحب، ويرميه بما لا يعتقد!
أخي طه!
إن بيني وبينك ماضياً جليلاً لا تمحوه طوارئ الحاضر الحقير، وصداقة خالصة لا تكدرها شوائب الظن السوء، وذمة وثيقة لا تخفرها بوادر الكلام السريع، وأخوَةً كراماً جزعوا لهذا الخلاف ويسرهم أن ينقضي.
وإذا أمكنك أن تجد في ذاكرتك القوية المعجزة غميزة في خلق أخيك على طول عهدك به،(53/2)
كنت خليقاً أن تطيع فيه نوازي الغضب، وتقبل عليه شواهد الظن، وتسلكه في ذوى الخلق المعوج والطبع اللئيم!
أما إذا كان من طبيعة الصحافة أن تعبث بكل ما بقي بيننا وهو الود، وتعتدي على كل ما بقي لنا وهو الخلق، وتمتد إلى رأس مالنا الوحيد وهو الشرف، فادع الله لي ولك أن يخرجنا منها، ويغنينا عنها، ويحفظ البقية من عمرنا الكادح في كنف رعايته وفضله.
احمد حسن الزيات(53/3)
حديث قطّين
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
جاء في امتحان شهادة إتمام الدراسة الابتدائية لهذا العام في موضوع الإنشاء ما يأتي:
(تقابل قطان أحدهما سمين تبدو عليه أثار النعمة، والآخر نحيف يدل منظره على سوء حاله؛ فماذا يقولان إذا حدث كل منهما صاحبه عن معيشته؟)
وقد حار التلاميذ الصغار فيما يضعون على لسان القطين، ولم يعرفوا كيف يوجهون الكلام بينهما، وإلى أي غاية ينصرف القول في محاورتهما؛ وضاقوا جميعاً وهم أطفال - أن تكون في رءوسهم عقول السنانير؛ وأعياهم أن تنزل غرائزهم الطيبة في هذه المنزلة من البهيمية ومن عيشها خاصة، فيكتنهوا تدبير هذه القِطاط لحياتها، وينفذوا إلى طبائعها، ويندمجوا في جلودها، ويأكلوا بأنيابها، ويمزقوا بمخالبها.
قال بعضهم: وسخطنا على أساتذتنا أشد السخط، وعبناهم بأقبح العيب؛ كيف لم يعلمونا من قبل - أن نكون حميراً، وخيلا، وبغالاً، وثيرانا، وقردة، وخنازير، وفئرانا، وقِططة وما هب ودب، وما طار ودرج، وما مشى وانساح؛ وكيف - ويحهم - لم يلقنونا مع العربية والإنجليزية لغات النهيق، والصهيل، والشحيج، والخوار، وضحك القرد، وقُباع الخنزير، وكيف نصئ ونموء، ونلغط لغط الطير، ونفح فحيح الأفعى، ونكش كشيش الدبابات، إلى ما يتم به هذا العلم اللغوي الجليل الذي تقوم به بلاغة البهائم والطير والحشرات والهمج وأشباهها. .؟
وقال تلميذ خبيث لأستاذه: أما أنا فأوجزت وأعجزت، قال أستاذه: أجدت وأحسنت، ولله أنت! وتالله لقد أصبت! فماذا كتبت؟ قال كتبت هكذا:
يقول السمين: ناوْ، ناوْ، ناوْ. . . فيقول النحيف: نَوْ ناوْ، نَوْ. . فيرد عليه السمين. نَوْ، ناوْ، ناوْ. . فيغضب النحيف، ويكشر عن أسنانه، ويحرك ذيله ويصيح: نَوْ، نَوْ، نَوْ. . . فيلطمه السمين فيخدشه ويصرخ: ناوْ. . . فيثب عليه النحيف ويصطرعان وتختلط (النّونَوَة) لا يمتاز صوت من صوت، ولا يبين معنى من معنى، ولا يمكن الفهم عنهما في هذه الحالة إلا بتعب شديد بعد مراجعة قاموس القِطاط. .!
قال الأستاذ: يا بني، بارك الله عليك! لقد أبدعت الفن إبداعا فصنعت ما يصنع أكبر(53/4)
النوابغ، يظهر فنه بإظهار الطبيعة وإخفاء نفسه، وما ينطق القط بلغتنا إلا معجزة لنبي، ولأنني بعد محمد صلي الله عليه وسلم؛ فلا سبيل إلا ما حكيت ووصفت، وهو مذهب الواقع، والواقع هو الجديد في الأدب؛ ولقد أرادوك تلميذا هراً، فكنت في إجابتك هرا إستاذاً، ووافقت السنانير، وخالفت الناس، وحققت للممتحنين أرقى نظريات الفن العالي، فان هذا الفن إنما هو في طريقة الموضوع الفنية، لا في تلفيق المواد لهذا الموضوع من هنا وهناك؛ ولو حفظوا حرمة الأدب، ورعوا عهد الفن لأدركوا أن في أسطرك القليلة كلاماً طويلاً بارعاً في النادرة والتهكم، وغرابة العبقرية، وجمالها وصدقها، وحسن تناولها، وإحكام تأديتهالما تؤدى؛ ولكن ما الفرق يا بني بين (ناو) بالمد، و (نو) بغير مد؟. . . قال التلميذ: هذا عند السنانير كالإشارات التلغرافية: شرطة ونقطة وهكذا. قال يا بني ولكن وزارة المعارف لا تقر هذا ولا تعرفه، وإنما يكون المصحح أستاذاً لا هراً. . . والامتحان كتابي لا شفوي. قال الخبيث: وأنا لم اكن هراً بل كنت إنسانا، ولكن الموضوع حديث قطين، والحكم في مثل هذا لأهله القائمين به، لا المتكلفين له، المتطفلين عليه؛ فان هم خالفوني قلت لهم: اسألوا القطاط؛ أو لا فليأتوا بالقطين: السمين والنحيف، فليجمعوا بينهما، وليحشروهما ثم ليحضروا الرقباء هذا الامتحان، وليكتبوا عنهما ما يسمعونه وليصفوا منهما ما يرونه، فوالذي خلق السنانير والتلاميذ والممتحنين والمصححين جميعا - ما يزيد الهرَّان على (نو، وناو) ولا يكون القول بينهما إلا من هذا، ولا يقع إلا ما وصفت، وما بد من المهارشة والمواثبة بما في طبيعة القوي والضعيف، ثم فرار الضعيف مهزوماً، وينتهي الامتحان!
إن مثل هذا الموضوع يشبه تكيف الطالب الصغير خلق هرتين، لا الحديث عنهما؛ فأن إجادة الإنشاء في مثل هذا البابألوهية عقلية تخلق خلقها السوي الجميل نابضاً حياً كأنما وضعت في الكلام قلب هر، أو جاءت بالهر له قلب من الكلام. وأين هذا من الأطفال في الحادية عشرة والثانية عشرة وما حولهما؛ وكيف لهم في هذه السن أن يمتزجوا بدقائق الوجود، ويداخلوا أسرار الخليقة، ويصبحوا مع كل شيء رهناً بعلله، وعند كل حقيقة موقوفين على أسبابها. وقد قيل لهم من قبل في السنوات الخالية (كن زهرة وصف. واجعل نفسك حبة قمح وقل) وإنما هذا ونحوه غاية من ابعد غايات النبوة أو الحكمة؛ إذ النبي(53/5)
تعبير إلهي تتخذه الحقيقة الكاملة لتنطق به كلمتها التي تسمى الشريعة، والحكيم وجه آخر من التعبير، تتخذه تلك الحقيقة لتلق منه الكلمة التي تسمى الفن.
وقد كان في القديم امتحان مثل هذا، لم ينجح فيه إلا واحد فقط من آلاف كثيرة؛ وكان الممتحن هو الله جل جلاله؛ والموضوع حديث النملة مع النمل؛ والناجح سليمان عليه السلام (قالت نملةٌ: يا أيها النمل، ادخلوا مساكنكم، لا يَحْطِمَنَّكُمْ سليمانُ وجنودهُ وهم لا يشعرون. فتبسم ضاحكاً من قولها).
إن الكون كله مستقر بمعانيه الرمزية في النفس الكاملة؛ إذ كانت الروح في ذاتها نورا، وكان سر كل شيء هو من النور والشعاع يجري في الشعاع كما يجري الماء في الماء، وفي امتزاج الأشعة من النفس والمادة تجاوب روحاني هو بذاتهتعبير في البصيرة وإدراك في الذهن، وهو أساس الفن على اختلاف أنواعه: في الكلمة والصورة، والمثال والنغمة؛ أي الكتابة والشعر والتصوير والحفر والموسيقى.
ومن ذلك لا يكون البيان العالي أتم إشراقاً إلا بتمام النفس البليغةفي فضيلتها أو رذيلتها على السواء؛ فان من عجائبالسخرية بهذا الإنسان أن يكون تمام الرذيلة في أثره على العمل الفني - هو الوجه الآخر لتمام الفضيلة في أثره على هذا العمل؛ والنقطة التي ينتهي فيها العلو من محيط الدائرة هي بعينها التي يبدأ منها الانحدار إلى السفل؛ ومن ثم كانت الفنون لا تعتبر بالأخلاق، حتى قال علماؤنا: إن الدين عن الشعر بمعزل. فالأصل هناك سمو التعبير وجماله، وبلاغة الأداء وروعتها؛ ولا يكون السؤال الفني ما هي قيمة هذه النفس، ' ولكن ما طريقتها الفنية؟ وأي عجيب في ذلك؟ أليس لجهنم حق في كبار أهل الفن، كما للجنة حق في نوابغه؛ وإذا قالت الجنة: هذه فضائلي البليغة؛ أفلا تقول الجحيم وهذه بلاغة رذائلي. وكيف لعمري يستطيع إبليس أن يودي عملهالفني. . ويصور بلاغته العالية إلا في ساقطين من أهل الفكر الجميل، وساقطات من أهل الجسم الجميل؟. .
لقد بعدنا عن القطين، وأنا أريد أن أكتب من حديثهما وخبرهما.
كان القط الهزيل مرابطاًفي زقاق، وقد طارد فارة فانحجرت في شق، فوقف المسكين يتربص بها أن تخرج، ويؤامر نفسه كيف يعالجها فيبتزّها، وما عقل الحيوان إلا من حرفة عيشه لا من غيرها. وكان القط السمين قد خرج من دار أصحابه يريد أن يفرّج عن(53/6)
نفسه بأن يكون ساعة أو بعض ساعة كالقططة بعضها مع بعض، لا كأطفال الناس مع أهليهم وذوي عنايتهم. وأبصر الهزيل من بعيد فأقبل يمشي نحوه، ورآه الهزيل وجعل يتأمله وهو يتخلع تخلع الأسد في مشيته وقد ملأ جلدته من كل أقطارها ونواحيها، وبسطته النعمة من أطرافه، وانقلبت في لحمه غلظا، وفى عصبه شدةً، وفي شعره بريقاً، وهو يموج في بدنه من قوة وعافية، ويكاد إهابه ينشق سِمناً وكدْنة. فانكسرت نفس الهزيل، ودخلته الحسرة، وتضعضع لمرأى هذه النعمة مرحة مختالة. وأقبل السمين حتى وقف عليه، وأدركته الرحمة له إذ رآه نحيفاً منقبضاً، طاوي البطن، بارز الأضلاع، كأنما همت عظامه أن تترك مسكنها من جلده لتجد لها مأوى آخر. فقال له: ماذا بك، ومالي أراك متيبساً كالميت في قبره غير انك لم تمت، ومالك أعطيت الحياة غير أنك لم تحي، أو ليس الهر منا صورة مختزلة من الأسد، فمالك - ويحك - رجعت صورة مختزلة من الهر؛ أفلا يسقونك اللبن، ويطمعونك الشحمة واللحمة، ويأتونك بالسمك، ويقطعون لك من الجبن أبيض وأصفر، ويفتون لك الخبز في المرق، ويؤثرك الطفل ببعض طعامه، وتدللك الفتاة على صدرها، وتمسحك المرأة بيديها، ويتناولك الرجل كما يتناول ابنه.؟ وما لجلدك هذا مغبراً كأنك لا تلطعه بلعابك، ولا تتعهد بتنظيف، وكأنك لم ترقطّ فتى أو فتاة يجري الدهان بريقاً في شعره أو شعرها، فتحاول أن تصنع بلعابك لشعرك صنيعهما؛ واراك متزايل الأعضاء متفككاً حتى ضعفت وجهدت، كأنه لا يركبك من حب النوم على قدر من كسلك وراحتك، ولا يركبك من حب الكسل على قدر من نعيمك ورفاهتك، وكأن جنبيك لم يعرفا طنفسة ولا حشّية ولا وسادة ولا بساطاً ولا طرازاً، وما أشبهك بأسد أهلكه ألا يجد إلا العشب الأخضر والهشيم اليابس، فماله لحم يجيء من لحم، ولا دم يكون من دم، وانحط فيه جسم الأسد، وسكنت فيه روح الحمار!
قال الهزيل: وإن لك لحمة وشحمة، ولبناً وسمكاً، وجبناً وفتاتاً، وإنك لتقضي يومك تلطع جلدك ماسحاً وغاسلاً، أو تنطرح على الوسائدوالطنافس نائماً ومتمدداً. أما والله لقد جاءتك النعمة والبلادة معاً، وصلحت لك الحياة وفسدت منك الغريزة، وأحكمن طبعاً ونقضت طباعاً، وربحت شبعاً وخسرت لذة، عطفوا عليك وأفقدوك أن تعطف على نفسك، وحملوك وأعجزوك أن تستقل، وقد صرت معهم كالدجاجة تُسمن لتذبح، غير أنهم يذبحونك دلالاً(53/7)
وملالاً.
إنك لتأكل من خوان أصحابك، وتنظر إليهم يأكلون، وتطمع في مؤاكلتهم، فتشبع بالعين والبطن والرغبة ثم لاشيء غير هذا، وكأنك مرتبط بحبال من اللحم تأكل منها وتحتبس فيها.
إن كان أول ما في الحياة أن تأكل فأهون ما في الحياة أن تأكل، وما يقتلك شيء كاستواء الحال، ولا يحييك شيء كتفاوتها، والبطن لا يتجاوز البطن، ولذته لذته وحدها، ولكن أين أنت عن إرثك من أسلافك، وعن العلل الباطنة التي تحركنا إلى لذات أعضائنا، ومناع ارواحنا، وتهبنا من كل ذلك وجودنا الأكبر، وتجعلنا نعيش من قبل الجسم كله، لا من قبل المعدة وحدها؟
قال السمين: تالله لقد أكسبك الفقر حكمة وحياة، وأراني بازائك معدوما بزوال أسلافي مني، وأراك بازائي موجودا بوجود أسلافك فيك. ناشدتك الله إلا ما وصفت لي هذه اللذات التي تعلو بالحياة عن مرتبة الوجود الأصغر من الشبع، وتستطيل بها إلى مرتبة الوجود الأكبر من الرضى؟
فقال الهزيل: إنك ضخم ولكنك أبله، أما علمت - ويحك - أن المحنة في العيش هي فكرة وقوة، وأن الفكرة والقوة هما لذة ومنفعة، وأن لهفة الحرمان هي التي تضع في الكسب لذة الكسب، وسعار الجوع هو الذي يجعل في الطعام من المادة طعاماً آخر من الروح، وأن ما عدل به عنك من الدنيا لا تعوضكمنه الشحمة واللحمة، فان رغباتنا لابد لها أن تجوعوتغتذي كما لابد من مثل ذلك لبطوننا، ليوجد كل منهما حياته في الحياة؛ والأمور المطمئنة كهذه التي أنت فيها هي للحياة أمراض مطمئنة، فان لم تنقص من لذتها فهي لن تزيد في لذتها، ولكن مكابدة الحياة زيادة في الحياة نفسها.
وسر السعادة أن تكون فيك القوى الداخلية التي تجعل الأحسن أحسن مما يكون، وتمنع الأسوأ أن يكون أسوأ مما هو، وكيف لك بهذه القوة وأنت وادع قار محصور من الدنيا بين الأيدي والأرجل؟ إنك كالأسد في القفص، صغرت أجَمَتُهُ ولم تزل تصغر حتى رجعت قفصاً يحده ويحبسه، فصغر هو ولم يزل يصغر حتى أصبح حركة في جلد، أما أنا فأسد على مخالبي ووراء أنيابي، وغَيْضَتي أبدا تتسع ولا تزال تتسع أبداً، وإن الحرية لتجعلني(53/8)
أتشمم من الهواء لذة مثل لذة الطعام، وأستروح من التراب لذة كلذة اللحم، وما الشقاء إلا خلتان من خلال النفس، أما واحدة فأن يكون في شرهك ما يجعل الكثير قليلا، وهذه ليست لمثلي مادمت على حد الكفاف من العيش - وأما الثانية فأن يكون في طمعك ما يجعل القليل غير قليل، وهذه ليس لها مثلي مادمت على ذلك الحد من الكفاف. والسعادة والشقاء كالحق والباطل، كلها من قبل الذات، لا منقبل الأسباب والعلل، فمن جاراها سعد بها، ومن عكسها عن مجراها فبها يشقى.
ولقد كنت الساعة أختل فأرة انجحرت في هذا الشق فطعمت منها لذة وإن لم أطعم لحماً، وبالأمس رماني طفل خبيث بحجر يريد عقري فأحدث لي وجعاً، ولكن الوجع أحدث لي الأحتراس، وسأغسثى الآن هذه الدار التي بازائنا فأية لذة في السلة والخطفة، والاستراق والانتهاب ثم الوثب شداً بعد ذلك! هل ذقت أنت بروحك لذة الفرصة والهزة، أو وجدت في قلبك راحة المخالسة واستراق الغفلة من فأرة أو جرذ، أو أدركت يوما فرحة النجاة بعد الروغان من عابث أو باغٍ أو ظالم؟ وهل نالتك لذة الظفر حين هوّ لك طفل بالضرب فهوّ لته أنت بالعض والعقر ففر عنك منهزماً لا يلوي؟
قال السمين: وفى الدنيا هذه اللذات كلها وأنا لا أدري؟ هلم أتوحش معك، ليكون لي مثل نكرك ودهائك واحتيالك، فيكون لي مثل راحتك المكدودة، ولذتك المتعبة، وعمرك المحكوم عليه منك وحدك. وسأتصدى معك للرزق أطارده وأواثبه، وأغاديه وأراوحه و. . . فقطع عليه الهزيل وقال:
يا صاحبي، إن عليك من لحمك ونعمتك علامة اسرك، فلا يلقانا أول طفل إلا أهوى لك فأخذك أسيراً، وأهوى عليّ بالضرب لأنطلق حراً، فأنت على نفسك بلاء، وأنت بنفسك بلاء عليّ.
وكانت الفأر التي انجحرت قد رأت ما وقع بينهما، فسرها اشتغال الشر بالشر. . وطالت مراقبتها لهما حتى ظنت الفرصة ممكنة فوثبت وثبة من ينجو بحياته، ودخلت في باب مفتوح، ولمحها الهزيل، كما تلمح العين برقاً أومض وانطفأ، فقالللسمين: اذهب راشداً، فحسبك الآن من المعرفة بنفسك وموضعها من الحياة أن الوقوف معك ساعةً هو ضياع رزق، وكذلك أمثالك في الدنيا، هم بألفاظهم في الأعلى وبمعانيهم في الأسفل. .(53/9)
مصطفى صادق الرافعي(53/10)
من روائع عصر الأحياء
حياة بنفونوتو تشلليني مكتوبة بقلمه
مثل أعلى للترجمة الشخصية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
قد تفوق الحقيقة أحياناً من حيث الغرابة والروعة والميل إلى المدهش الخارق، كل ما يتصوره الخيال المغرق. وهذه ظاهرة نلمسها في كثير من حوادث التاريخ، كما نلمسها في الحوادث الفردية. ومن الأشخاص العاديين من تهيأ له حياة فياضة بالمخاطر والمغامرات المدهشةتجعل منه شخصية فريدة تخلق بذكر التاريخ، وإن لم تؤثر في مجرى حوادثه. وكثيراً ما تبدو هذه السير الشخصية العجيبة برائع حوادثها ومفاجآتها في لون خارق لا تسبغه الحوادث العظيمة على التاريخ نفسه، ولا يسبغه الخيال المغرق على القصة المبتكرة.
ومن هذه النماذج الخارقة للحياة الفردية، حياة الفنان الإيطالي بنفونوتو وهو نموذج ليس له فيما نعتقد مثيل في الغرب أو الشرق؛ ومما يزيد في قيمته وروعته انه صورة رسمتها يد ذلك الفنان البارع الذي نقرأ حياته، عن نفسه وعن حوادث حياته. وكم من تراجم شخصية بديعة انتهت إلينا لشخصيات عظيمة وبأقلام قوية ساحرة؛ ولكنا لا نستطيع أن نلمس فيها رغم روعتها، تلك الحياة المضطرمة التي تفيض بها سيرة بنفونوتو تشلليني. ومن الغريب أن تشلليني لم يكن كاتبا ولا أديبا، يسبغ من أدبه وقلمه على حوادث حياته سحراً وقوة؛ ذلك أن معظم التراجم الشخصية العظيمة التي انتهت إلينا أتيحت لها أقلام بارعة صاغتها في أوضاع أدبية باهرة، وكثيرا ما يتفوق الجمال الأدبي فيها على روعة القصة وسحر الحوادث. ويعرف الذين قرأوا (اعترافات) جان جاك روسو، أو ترجمة المؤرخ الفيلسوف جيبون لنفسه، أي جمال يسبغه القلم ويسبغه البيان الرائع على تلك الصحف الشائقة التي يقدمها إلينا كل من روسو وجيبون عن نفسه، حتى أن سحر البيان ليسمو في مواطن كثيرة، على روعة الحوادث ذاتها. ولكن تشلليني كان اكثر من كاتب وأديب؛ كان فناناً عظيماً تتجلى عبقرية الطبيعة في مواهبه، ويستمد منها سحر البيان وآية(53/11)
الوصف؛ وأنا لنلمس في تلك الصحف القوية التي تركها لنا عن حياته العجيبة، روعة هذه المواهب الساذجة، وتحملنا بساطتها المؤثرة إلى أعماق هذه النفس التي تحدثنا لا بواسطة اللفظ الساحر، ولكن في نوع من الوحي والتأثير الروحي، ونكاد نشعر ونحن نتتبع تلك الصورة الحية التي يرسمها لنا تشلليني عن نفسه، إننا نرى تشلليني نفسه، لا تفصلنا عنه القرون، ونشهد معه تلك الحوادث العجيبة التي يقصها علينا، نشهد أحوال عصره ماثلة أمامنا، في ألوان ساطعة، تسبغ عليها ريشته البارعة كل ما في الحقيقة من قوة وروعة وحياة.
كان تشلليني من غرس عصر الأحياء، ذلك العصر الذي تفتحت فيه مكامن العبقرية البشرية، وأخرجت لنا ثبتاً حافلا من تلك الشخصيات التي يزدان بها تاريخ الإنسانية؛ وقد بزغ فجر هذا العصر في إيطاليا، منذ القرن الرابع عشر، وأشرقت طلائعه على يد دانتي وبتراركا وبوكاشيو وماكيافيللي، وميراندولا وجاليلو، ثم على يد رافائيل سانزيو وميشيل انجيلو وعشرات آخرين من أبطال الفن الرائع ترجمهم لنا جميعا، جورجو فازاري في أثره الضخم؛ وكان بنفونوتو تشلليني من جنود ذلك الجيش الباهر الذي لبث ضوء عبقريته يسطع في جنبات إيطاليا زهاء قرنين. ولم يكن في الصف الأول من ذلك الثبت الحافل، ولكنه يقدم إلينا بحياته الغريبة أقوى وأصدق مثل لعصره، بكل ما فيه من حسنات ورذائل؛ ولا غرو فقد عاش تشلليني في عصر البابوية الذهبي، وعصر الحروب الأهلية والغزوات الأجنبية في إيطاليا، واشترك بقسط وافر في كثير من الحوادث العظيمة التي كانت تهز أسس المجتمع الإيطالي يومئذ، وشهد عن كثب سير أولئك البابوات والأحبار الذين كانت أقوالهم ونزاعاتهم يومئذ كل شيء في الملك والحياة العامة.
ولد تشلليني في أسرة متوسطة الحال في سنة 1500 بمدينة فلورنس (فيرنتزا) التي كانت يومئذ في طليعة المدن الإيطالية الزاهرة، وكانت موئل الفنون والآداب؛ وكان أبوه مهندساً وموسيقياً يجيد العزف بالمزمار، وفناناً يقوم بصنع التحف العاجية الدقيقة؛ وكان يحاول أن يغرس في نفس طفله بنفونوتو حب الموسيقى ويرغمه على العزف والغناء. ولكن بنفونوتو كان يتضجر من الموسيقى، ويؤثر عليها الرسم. ولما بلغ الخامسة عشرة التحق على كره من أبيه بحانوت صائغ ماهر؛ وكان يهوى هذه الصناعة بطبيعته؛ ولكنه لم يلبث أن(53/12)
اضطر إلى مغادرة فلورنس على أثر اشتراكه في شجار دموي وقع بين أخيه وبين جماعة من جند الأمير، وقضى من جرائه بنفي الأخوين من فلورنس؛ فسار تشلليني إلى مدينة سيينا، واشتغل هنالك حيناً لدى صائغ آخر؛ ثم سعى والده لدى الكردينال دى مديتشي الذي انتخب لكرسي البابوية باسم كليمنضوس السابع، فسمح للأخوين بالعودة إلى فلورنس؛ واقترح الكردينال على الأب أن يرسل ولده بنفونوتو إلى بولونيا ليتعلم هنالك الموسيقى على أساتذة الفن بتوصية منه، فاغتبط الأب لذلك أيما اغتباط، وقبل الفتى رغم إرادته لأنه كان يكره الموسيقى وينعتها (بالفن الملعون)، ولبث مدى أشهر يتعلم الموسيقى، ويشتغل أيضاً بصناعته المحبوبة أعني الصياغة وصنع القطع الفنية الدقيقة؛ ثم عاد إلى فلورنس يزاول صناعته حتى اشتهر رغم حداثته، وتحدث الناس بمواهبه. وهنا اتصلت أواصر الصداقة بينه وبين فتى يدعى تاسو، وهو فنان حفار؛ فاقترح عليه أن يسافر الاثنان إلى رومه؛ وكانت هذه أمنية تثير خيال فتى ذكي مخاطر مثل بنفونوتو، فقبل الاقتراح؛ وسافر الاثنان إلى رومه، وكان تشللينى يومئذ في التاسعة عشرة من عمره
وفي رومه اشتغل تشلليني لدى أقطاب فنه، وزاد كسبه، وتفتحت أمامه الآمال الكبيرة؛ وكانت رومه في ذلك العصر مدينة الأحبار، ومعقل الفاتيكان، تنثر عليها البابوية من سلطانها وبذخها وبهائها ألوانا رائعة؛ وكان الاتصال بذلك المجتمع القويالباهر أشد ما يثير طلعة ذلك الفتى الطامح؛ وكانت البابوية وأولياؤها من الأحبار الأكابر يومئذ موئل الفن الرفيع، وملاذ الفنانين الموهوبين؛ فاستقر تشلليني في رومه يرقب فرصه، ولبث إلى جانب عمله يشتغل بدراسة النقوش والصور الخالدة التي خلفها ميشيل انجلو ورافائيل، في صروح رومة؛ ولم يمض سوى قليل حتى أتيحت له فرصة الاتصال بحبر كبير هو أسقف شلمنقة أصلح له بعض التحفوسر من مهارته وعهد إليه بصنع إناء بديع مزخرف؛ وعهدت إليه زوج الأمير تشيجى بصنع حلية من الجواهر. وهنا يفض تشلليني في وصف التحف والحلي البديعة التي كان يصنعها إفاضة تدل على ما كان يجيش به من شغف بفنه ومهنته، وهنا أيضا يطلق تشلليني العنان لأهوائه المضطرمة ويصف لنا بمنتهى الصراحة والجرأة مواطن لهوه، ومواطن عبثه وفسقه مهما كانت من الوضاعة، ويقص علينا كيف أصابه الوباء الذي عصف يومئذ برومة، عقب ليلة غرام قضاها مع فتاة خادمة لبغي حسناء(53/13)
جاءت لزيارة صديق له، فاختص الصديق بها، واقتنص هو الخادمة خلسة عنها. وقد قص علينا روسو في اعترافاته كثيراً من مواطن لهوه وفسقه، في أحاديث صريحة واضحة؛ ولكن روسو يسبغ من بيانه على تلك الأحاديث في كثير من الأحيان لوناً من الحشمة، وتكاد تنم عن شعوره بالآثم والندم واحتقار مواطن الضعف الإنسانية. أما تشلليني فانه يقص علينا تلك المناظر الآثمة بكل بساطة، ويصف لنا طبيعته المضطرمة الجامحة دون استحياء، ويكشف لنا عن دخائل نفسه دون تحفظ، وأخص ما يلفت النظر في ما يقصه علينا من تلك الصفات النفسية، انه
كان كثير الإفراط والعنف، شغوفاً بالمخاطرة، تواقا إلى الانتقام، كثير المجون والاستهتار.
ونجا تشلليني من الوباء، بينما احتمل كثيراً من أصحابه، ولكن رومه لم تكد تفيق من عيث الوباء حتى دهمتها مصائب الحرب والحصار، وزحفت الجنود الإمبراطورية - جنود الإمبراطور شارلكان - على رومه بقيادة الكونستابل دى بوربون (سنة 1527). وهنا يبدو تشلليني في ذروة الجرأة والمخاطرة، فنراه رئيس سرية من الجند المأجورين يتولى حراسة قصر الساندرو دلبيني، ثم يخف مع سيده إلى الأسوار المحصورة ليرى الجيش المحاصر. وفى ذلك الموطن يقص علينا تشلليني قصه لا ينقضها التاريخ؛ وهي أنه حينما اشرف على الأسوار مع زملائه ليرقب سير المعركة، رأى وسط الدخان رجلاً يرتفع عن الجميع، فصوب رصاصه نحوه، وأطلق مع زملائه في تلك الناحية عدة رصاصات، وحدثت على أثر ذلك في قلب الجيش ضجة كبيرة؛ وشاع بعد ذلك أن الكونستابل دى بوربون قد قتل من رصاصة أطلقت عليه من وراء الأسوار. ويدعي تشلليني أنه هو الذي أصاب الكونستابل برصاصه. وليس في ذلك ما ينقضه التاريخ، ولكن ليس فيه أيضا ما يؤيده. فقد سقط بوربون قتيلا في بدء القتال من رصاص الجند المحصورين؛ ولكن ليس ثمة ما يؤيد أن تشلليني هو صاحب الطلقة القاتلة. وعلى أي حال فأن الحادث دليل على جرأة تشللينيووافر شجاعته. ولم يمنع مقتل بوربون جنوده من اقتحام المدينة، فدخلوها في عدة مواضع دخول الضواري المفترسة، وأضطر البابا كليمنضوس السابع أن يفر مع بطانته إلى حصن سانت انجيلو الذي يتصل بقصر الفاتيكان بأقبية سرية؛ وكان ذلك الحصن الشهير الذي ما يزال إلى اليوم قائما في رومه على ضفة نهر تفيرى، من أمنع وأعجب(53/14)
معاقل العصور الوسطى، يلجأ إليه البابوات بكنوزهم كلما دهم رومه خطر السقوط في يد العدو، ويتخذ في أوقات السلم سجناً تزج إليه البابوية أعداءها. واختار الجنرال دى مديتشى قائد الحرس تشللينلي ضمن حرس الحصن إذ كان يعرف شجاعته؛ وكان الحصن مجهزا بالمدفعية من جميع نواحيه، فانتخب تشللينيليتولى إطلاق إحدى وحدات المدفعية، ولبث مدى شهر يتولى هذه المهمة. ويقول لنا تشلليني انه أتى في ذلك بالعجب العجاب، وحصدت قنابله كثيرا من جند العدو، وباركه أكابر الأحبار وهنأوه على براعته. وفى خلال ذلك استدعاه الباباكليمنضوس، وكان قد عرفه من قبل وعهد إليه بصنع بعض التحف وأعجب بافتنانه، وطلب إليه أن يقوم باستخراج جميع التحف والحلي الرسولية من علبها وإطاراتها الذهبية؛ وبعد أن خبا البابا الجواهر في بطانة ثيابه وثياب بعض خواصه، أمره أن يصهر القطع الذهبيةسرأ؛ فأخذتشللينيواشتغل بصهرها في ركن صغير إلى جانب مدفعيته؛ ولبث أثناء العمل يطلق القنابل على جند العدو؛ وهنا يقول لنا تشلليني انه أطلق قنابله ذات يوم على فارس يسير حول خنادق العدو فأرداه وتبين انه هو البرنس دى اورانج كبير الجيش المحاصر.
وبعد أيام قلائل عقد الصلح؛ وسار تشللينيإلى فلورنس ليزور أباه وأسرته، ملئ الجيب، يركب فرساً جميلاً، وورائه خادم خاص. وبعد أن مكث قليلا سار إلى مانتوا ليزورها، واتصل بأميرها دوق مانتوا، وصنع له بعض التحف الجميلة. ثم عاد إلى فلورانس، فألفاها تتاهب للدفاع عن نفسها ضد جنود البابا كليمنضوس، فاعتزم أن يشترك في الدفاع عن وطنه، ولكن البابا كليمنضوس أرسل يستدعيه إليه، ويعده بوعود حسنة، فعاد إلى رومه، واستقبله البابا مراراً، وعهد إليهبصنع حلي وتحف خاصة بثيابه وتاجه، ثم عهد إليه بصنع نماذج للنقود تستعمل في دار الضرب البابوية، وأبدى تشللينيفي ذلك كله من المهارة والدقة ما جعل البابا يضاعف له العطف والبذل ويعينه ناظراً لدار الضرب. وهنا وقع حادث جديد يدل على صرامة تشللينيوعنفه؛ ذلك أن أخاه الأصغر جوفانيالذي كان يومئذ في رومه ضمن جند الدوق الساندرو دى مديتشي اشتبك وبعض فتيان من صحبه ذات مساء مع جماعة من الحرس كانت تقود إلى السجن صديقاً لبعض أولئك الفتيان، فأصيب جوفانى خلال المعركة بجرح خطير، وحمل مغشياً عليه إلى قصر الدوق الساندرو، فهرع إليه(53/15)
بنفونوتو، ولكنه أسلم الروح بين ذراعيه؛ وعرف بنفونوتو الرجل الذي طعن أخاه الطعنة القاضية، فسار إلى منزله ذات مساء، وكان الرجل يتنزه أمام داره، فطعنه بخنجره طعنة نجلاء خر لها صريعاً، وبذا انتقم لأخيه وشفى نفسه. وعاد إلى عمله كأن لم يحدث شيء. وكان القانون يومئذ صريع الجاه والهوى، فمن كان ذا جاه أو حماية استطاع أن يجري القصاص لنفسه وأن يستبيح دم خصومه
واستمر بنفونوتو حيناً يقوم بخدمة البابا، فأعاد صنع التحف الرسولية كما كانت قبل الحصار، وكلفه البابا بصنع تحف أخرى، فوضع رسومها ونماذجها، وكان البابا دائماً فارغ الصبر يستحثه على السرعة، وبنفونوتو لا يدخر وسعاً في العمل، وأصابه ذات يوم مرض في عينيه، وعاقه عن العمل حيناً، فغضب البابا واعتقد البابا انه يتقاعد عن إتمامه قصداً، وكان ثمة بعض رجال البطانة ممن يحقدون على بنفونوتو، ويستكثرون عليه هذه الرعاية، يدسون دائماً حقه ويلتمسون الفرص لإحفاظ البابا عليه بحجة انه مقصر في أعمال قداسته وانه كثير الحب للمال لا يقنع أبداً بما يدفع إليه من الأجور والهبات، وأنه كثير الادعاء والغرور؛ فأثمرت هذه السعاية ثمرها، وطلب البابا من بنفونوتو ما لديه من تحفه، فامتنع من بنفونوتو من تسليمها بحجة أنها لم تتم وانه لم يقبض أجرها، فقبض عليه بأمر البابا، وأخذت التحف قسراً عنه، ثم أطلق سراحه؛ بيد أنه كان قد فقد عطف البابا. فحاول أن يجد يومئذ عزائه في الحب وكان قد تعرف بسيدة صقلية ذات ابنة حسناء، هام بحب الابنة، واعتزم أن يختطفها ويفر بها إلىفلورنس.
ولكن الأم شعرت بمشروعه، فسافرت مع أبنتها خلسة إلى صقلية؛ ولجأ بنفونوتو إلى ساحر في رومه ليعاونه على الاجتماع بحبيبته، ولبث أياماً يحضر الجلسات السحرية خارج رومه؛ ولكنه لم يفز طبعاً ببغيته. ثم نسى غرامه، ووجد عزاءه مرة أخرى في فنه وفي التماس صنعبعض الحلي والتحف النادرة التي تدلل على أنه أستاذ عصره، وانه لا يجارى في ابتكاره وبراعته.
(للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان المحامي(53/16)
دق على الخشب
أو (بص وراك)
من عبارات الدعاء والتشميت لجلب الخير وطرد الشر عند الإنجليز قول الواحد منهم (مس الخشب) أو (دق على الخشب) كما نقول نحن (بص وراك) كأن هذا المس أو هذا الدق يطرد الشيطان أو العفريت الذي يتحفز غير منظور وغير مشعور به لقطع الخير عن أهله. يراد به أن يكون كالبسملة عند المسلمين أو كذكر الصليب عند المسيحيين ضماناً لحسن البدء وحسن الختام.
وقد رأينا مقالاً لعالم إنجليزي بهذا العنوان حاول فيه تعليل هذا المس وتسلط الخرافات على الناس قال:
(كلما مر يوم رأى العالم وقد عراه الدهش انه لا يزال في القرن العشرين أناس يؤمنون بالسحر. أما أنا فلا أفهم قدرة الناس على أن تدهشهم هذه الحوادث التي تتكرر في مدة قصيرة).
ففي سنة1921 كان حديث القوم عندنا ذلك المنزل المسحور الذي كانت فيه قوى غير منظورة تبعثر الأثاث والرياش في جميع جوانبه، وفي سنة1926 اتهم بعضهم بالسحر في محاكمة ملون، وفى سنة1928 روع الناس بوقائع سحرية في ولاية بنسلفانيا الأمريكية.
هذا بعض من كل، وهم كلما سمعوا بحادثة من هذا النوع دهشوا لها أيما دهش وقالوا إنها مستحيلة، ومن التخرص والأحاديث الملفقة. ثم تراهم يدقون على الخشب ويحاذرون المرور تحت السلالم الخشبية ويلقون الملح من فوق أكتافهم إلى غير ذلك، هذا كله مع علمنا بان السحر خارج عن دائرة العقل والحقائق العلمية.
فان كان ذلك كله مستحيلاً وخارجاً عن دائرة العقل فكيف قوى على البقاء آلافاً من السنين، على حين أن خصوم السحر والسحرة جعلوا ديدنهم في كل زمان ومكان القبض على السحرة وحرقهم أينما وجدوهم. فهل هذا كله مناقض للعقل؟
كنا منذ مئة وخمسين سنة نقول إن طيران الإنسان مناقض للعقل، وكنا منذ عشرين سنة نقول أن من مناقضات العقل جلوس امرئ في منزله بلندن ينصت إلى عزف الموسيقى في برلين.
وقد علل بعضهم هذه الغرائب بقوله إنها من فئة الحقائق التي تخضع لناموس طبيعي(53/18)
مجهول، ومتى يعرف هذا الناموس تصبح الغرائب حقائق لا علاقة لها بالسحر، لأن السر لا يخضع لنواميس الطبيعية.
وقد تكون هنالك نواميس نجهلها، ومع ذلك فهي تعمل عملها كل يوم أمام عيوننا.
وفى سنة1770 كان الناس يسمون التنويم المغناطيس سحراً أي ضبط إنسان لحركات إنسان آخر وأعماله وهو يجهله تمام الجهلفلا يمكن أن يقال أن بينهما تواطؤاً وتدبيراً سابقاً.
ثم جاءت سنة1778 فسموه بالمسمرزم وسلموا به جدلا وعلى كره منهم كما نسلم نحن الآن بالتليباتي أي انتقال الأفكاروننتظر ناموساً طبيعياً لتعليله، ولكن هذا الناموس لم يكشف بعد ونحن نسميه في هذه السنة، سنة1934 بالهبنوتزم. فهل نستطيع أن نعلل بناموس طبيعي كيف يتمكن بعض الناس وفى أيديهم غصن من شجر البندق من أن يدلونا على ينابيع ماء تحت الأرض التي يقفون عليها وذلك بانحراف الغصن فجأة في أيديهم؟
وهل نستطيع كذلك أن نعلل تعليلاً طبيعياً حوادث شفاء المرضى والمفلوجين والمقعدين والمبتلين بسائر العلل في كهف لورد وتريبيه (في فر نسا) فان كنا لا نستطيع ذلك؟ وجب علينا الأيمان بالسحر ونبذ القول إننا نرفضه لأنه لا يعلل بناموس طبيعي نعرفه.
ثم ما هي هذه التي يسمونها حقائق علمية. أنا لا أعرف كثيراً منها، وإنما أعرف كثيرا من المذاهب والآراء العلمية. ففي أيام تلمذتنا كان من الأوليات أو البديهيات قولهم (إن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين). ولكننا بعد مذهب آينشتين نعلم علمًا ليس بالظن أن ذلك ليس صحيحاً.
وكان من الحقائق العلمية في حداثتي أن أهل الكيمياء القديمة كانوا جهلاء وحمقى لأن القاعدة التي كانوا يبنون عليها تجاربهم وامتحاناتهم كانت فاسدة. فقد كانوا يقولون إن عناصر معدن من المعادن يمكن تحويلها إلى عناصر أخرى يركب منها معدن آخر. وعليه استدلوا أنه يمكن تحويل معدن ما ذهباً أو فضة باستعمال الوصفة الصحيحة لذلك. وبالفعل استحدثوا الذهب من النحاس، ولكن نفقات التجربة كانت اعظم من الانتفاع بها عمليا كما أن استقطار الزيت من الفحم كان إلى عهد قريب عظيم النفقة بحيث لا يمكن استخدامه تجارياً.
وبعد ما تقدمت في السن وجد العلماء أن تحويل المعادن بعضها إلى بعض حقيقة علمية كما(53/19)
ظن أهل القرن الثامن عشر لا خداعا كما ظن أهل القرن التاسع عشر بعده. فصار العالم بعد ذلك أكثر إجلالا لأهل الكيمياء القدماء وصرت أنا أكثر شكاً في الحقائق العلمية.
أما المذهب السحري فخلاصته هي أنه كما أنه حولنا قوى عظيمة الفعل كالكهربائية، وهذه القوى تنتج أشياء لا نزال نجهلها إلى الآن كذلك في داخلنا قوى عظيمة الفعل كالهبنوتزم و (التبصير) نستطيع بها بعد تربيتها وإتقانها أن نأتي أفعالا لا تخطر لنا الآن على بال.
ويقول الخبيرون بالسحر إننا نستطيع بهذه القوى أن نخضع جميع الأشياء المادية التي نراها حولنا من شفاء الأمراض والتكهن بالمستقبل. والمعيشة بلا طعام. والعوم في الهواء كما صنع الوسيط دوجلاس هوم في القرن الماضي بشهادة الشهود العدول. ونحكم الإنسان في مصيره.
وقد قسم المعاصرون الأعمال السحرية قسمين: سموا ما يراد به الخير والرشد السحر الأبيض، وما يراد به الشر والنكد السحر الأسود. فمن قبيل الأول الشفاء بالإيمان وهو الشفاء الذي يجرى على أيدي أئمة التبت. ومن قبيل الثاني سحر سحرة أفريقية بين قومهم السود. ومن غريب ما يذكر في هذا الصدد أن الموظفين الإنجليز والمبشرين في أواسط أفريقية يعودون منها وهم يعتقدون أن لأولئك السحرة قوة خارقة وإن لم يدركوها ويعرفوا لها تعليلاً.
وغاية (علم) السحر إن صحت تسميته علماً هي إضعاف شهوة الجسم بسلسلة من أعمال التمرين والرياضة والتقشف اعتقاداً أن (إماتة ما هو مادي إنما هي إحياء ما هو روحاني وما وراء الطبيعة فينا. وهكذا نتمكن بالأشياء غير المنظورة من إخضاع الأشياء المنظورة والتحكم فيها).
ولا نستغرب أن يصدق أهل أواسط أفريقية سحر سحرتهم وكهانة عرافيهم وكهنتهم ونحن نرى الأوربيين الذين يعيشون بينهم مبشرين وتجاراً ومستعمرين يحارون في تعليل بعض الحوادث التي يخبرونها بأنفسهم ويرونها بعيونهم، فما كدنا ننتهي من نقل مقالة العالم المتقدمة حتى قرانا حكاية لضابط إنجليزي فحواها أن بعض الأقوام الذين يعيشون حول بحيرة البرت نيانزا في أعالي النيل يقدسون التمساح ويقدم كاهنهم قرباناً له من آن إلى آن - فتاة صغيرة من فتياتهم لرد غضب الآلهة إذا أنسوا غضبها.(53/20)
وقد روى هذا الضابط انه أنقذ فتاة أعدت طعاما للتمساح المقدس بترويع التمساح من غير أن يلحق به أذى. وأرسلها الضابط إلى مكان بعيد تشفى فيه من الروع الذي أصابها.
وفي اليوم التالي علم الكاهن بما صنع الضابط فجاءه معاتباً وقال له في جملة ما قال:
(أتظن الفتاة تنال الشفاء. لن يمضي عليها شهر من هذا التاريخ حتى تموت). وكان ما قال الكاهن
وقد روى الضابط ما حدث وعلق عليه بقوله: (ومما كان سببا في أسفي أنه مع كل ما بذل من الجهد لشفاء الفتاة ماتت في خلال شهر كما أنبأ الكاهن. أفكان موتها من لعنة الآلهة أم من تأثير الروع؟ ذلك ما لا يستطيع أحد معرفته)!
ق. س(53/21)
مصطفى كمال وموسوليني
كيف أجاب بطل تركيا على تهديد بطل إيطاليا
منذ بضعة أسابيع وقف دكتاتور إيطاليا وباعث نهضتها ليلقي خطبة من خطبه النارية على شباب إيطاليا الفاشيست ليزيدهم حماسة ووطنية فوق ما خلق فيهم منها كما هي عادته منذ أن تقلد زمام أحفاد الرومان، فرأى أمامه بحرا زاخرا من ذوى القمصان السود وكلهم ممتلئون حرارة وحماسة، ومتعطشون لليوم الذي تتاح لهم الفرصة فيه لإبراز مقدرتهم الجسمانية، ومهارتهم في فنون الحرب والفروسية، فغره ذلك: نعم، غر الدوتشي ذلك الجمع المحتشد وتلك الصفوف المتراصة، الثابتة كالبنيان. وخيل إليه في تلك اللحظة أن العالم كله قد ارتدى القمصان السود وجاء ليقدم آيات الخضوع وفروض العبودية لموجد إيطاليا الأوحد، ليزداد كبراً على كبريائه.
وهنا لعب الغرور دوره وزلت بموسوليني القدم زلة سياسية فظيعة. أجل، فقد أوحى الغرور إلى هذا الجبار أن يميط اللثام عن أمور كان حريصا على كتمانها حتى تلك اللحظة حرصه على حياته. . فأشار في سياق كلامه إلى رجاله، شباب إيطاليا الحاضرين ساعتئذ، أن أرض القياصرة لم تعد تسعهم وأن عليهم بعد الآن أن يتطلعوا بأبصارهم نحو الشرق ونحو الجنوب. . .
(تلك البلاد التي غدا أحقر علوج الغرب يمني النفس بالسيادة عليها؟!. .)
لقد غفل عن نفسه موسوليني هذه المرة وارتكب في غفلته هذه خطأ سياسيا لا يمكن تلافيه بالسهولة التي كان ظنها. ذلك انه قد تحرش وبالأحرى صوب سهام كلامه، بقصد أو بغير قصد لذلك الذي أثبت مراراً لأوربا، المفتونة بنارها وحديدها، انه مستعد دائما وأبداً لأن يعطيها درسا جديدا أقسى وأمر من كل الدروس القاسية التي أعطاها إياها في الماضي القريب فقط. . .
وما كاد الأثير يحمل صدى هذه الخطبة إلى قاعة مجلس الأمة الكبير ويوصله إلى آذان جبار تركيا العتيد، حتى أوعز إلى سفيره في روما أن يقابل الدكتاتور ويستوضحه عن كلمة (الشرق) التي قالها وأومأ إليها في عرضخطبته تلك. وما كاد موسوليني يعلم أن سفير تركيا يريد مقابلته حتى انتبه للغلطة التي وقع فيها. فأسرع للقاء الوزير وأكد له بأنه ليس(53/22)
إلا محباً لتركيا ومعجبا بغازيها الأعظم. ولم يقصد قط الأراضي التركية فيما أراد من (الشرق) في خطبته. وانه لا يضع تركيا في مصاف الأمم الشرقية، بل يعتبرها دولة أوربية من صديقات إيطاليا. . .
فبمثل هذه التأمينات ظن موسوليني انه يستطيع اليوم أن يلعب مع الكماليين (أو ليسوا هم في الحقيقة شرقيين أيضاً؟؟) الدور الذي لعبته إيطاليا بالذات مع حكومة (الباب العالي) في حرب طرابلس وبنغازي بالأمس القريب، فلذا شعر كأن الكابوس الذي ضايقه من يوم إلقائه الخطبة المذكورة - وربما كان لأول مرة في حياته الدكتاتورية - قد زال بانصراف سعاد بك من لدنه، فوجئ على حين غرة بضربات سياسية قوية متتالية من منقذ تركيا العظيم.
قلنا لم يكد موسوليني يضحك من تحت شاربيه الحليقين بعد انصراف الوزير الشرقي حتى ذهل ووقف واجما، إذ علم أن قيامة الجيش التركي قد قامت، ذلك الجيش الذي لم تكن كتائبه قد تنفست بعد من غمار الحرب الكبرى في وجه أوربا العاتية، قبل عشر سنوات فقط، وهددت جيوش أقوى دول العالم على أبواب الآستانة في الوقت الذي كان قد خيل إلى العالم أن حملة الـ (آل سنجاق) (العلم التركي الأحمر) قد اصبحوا في خبر كان ودخلت سلطنتهم وسيادتهم فيما قدر لها من صفحات التاريخ. .
وقف اليوم هذا الجيش اللجب، الشاب القوى، المزود بأحدث معدات الحرب الآن، وقف ليستعرضه وليرد له تحياته العسكرية الصميمة المشير (الغازي مصطفى كمال باشا)، قائده العام بالأمس القريب - يوم أن كانت الأرض غير الأرض والسماء غير السماء في الجبهة الغربية من بلاد الاناضول - ورئيسه الأعلى اليوم الذي اخذ يزور الأماكن التي قد يغر ضعف في استحكاماتها أو عدم اعتناء في حراستها من يسوقه سوء حظه من جيوش الغرب إلى أن يشتبك معها. .
وعلى اثر عودة الغازي إلى الآستانة من طوافه لغرب الأناضول ومن استعراضاته لحماة سواحل تركيا الغربية والجنوبية دوى في قاعات عصبة الأمم والقاعات السياسية الأخرى في أوربا خبر التوقيع على معاهدة أصبحت بموجبها دولالبلقان - كلها تقريباً - كتلة واحدة بزعامة سيدة البوسفور، وأعقب ذلك اتفاق بين فرنسا وروسيا السوفيتية حليفة تركيا القوية.(53/23)
ومن ثم اعتراف شبكة بلقان بروسيا نتيجة للمساعي التي بذلها في ذلك السبيل توفيق رشدي بك (ساعد الغازي السياسي). .
وليس هذا كل ما فعله الأتراك على أثر غلطة (الدوتشي) الزعيم الإيطالي الأعلى، تلك الغلطة التي ألقت في يد الكماليينسلاحاً قوياً ليستعملوه إلى أقصى حد ممكن؛ فرصة انتهزها الأتراك واستغلوها لصالحهم إلى ابعد الحدود المستطاعة. .
أمر داهية تركيا أن يخصص فورا - بحجة الخوف من غارة إيطالية - ثلث الميزانية العامة لهذه السنة لإعلاء شان الدفاع القومي وأوصى اليابان - صديقته الجديدة - بصنع بوارج وغواصات ونسافات وطرادات وغيرها من معدات القتال البحري، كما أوعز في الوقت نفسه إلى وزير خارجيته وممثله في عصبة الأمم أن يطلب إلى ممثلي الدول ان يأذنوا لتركيا لتلحق القسم المعتل الوحيد من معاهدة لوزان بأمثاله من مجموع فصول معاهدة (سيفر) التي كان توقيع الكماليين عليها قد جرى، لا كما جرى عليها توقيع باقي دول الاتفاق الرباعي، إنما برؤوس الحراب المسمومة التي مزقتها إرباً إرباً وقبرتها في مهدها فيما يتعلق بتركيا، بينما ألمانياالهتلرية الآرية العظيمة لا تزال إلى يومنا هذا تعمل المستحيل للتخلص من بعض أغلال تلك المعاهدة. وعلى ذلك تقدم ممثل تركيا إلى مجلس جنيف وأبلغ أعضاءه رغبة الأمة التركية في تحصين المضايق وتسليحها، إذ أن هذا القيد الوحيد الذي أجبرت ظروفه الدقيقة تركيا أن ترتضي به كتذكار - وقتي على الأقل - لمعاهدة لوزان التي اعترف فيها باستقلال تركيا المطلق، لم يعد الآن يقوى على نمو ساعد تركيا الفولاذي.
إن هذا القيد قد أكله الصدأ وتصدع من جوانبه كلها، ولا يلبث حتى يتفتت من تلقاء نفسه إن لم يسرع ممثلو الدول في التقاط أوصاله التي ستتطاير في القريب ليحتفظوا بما ضحوا في الدردنيل. .
(ولو أن السير جون سيمون صرح حديثاً وهو، مسرور، في مجلس العموم (أن توفيق رشدي بك قد وعده أخيراً بأن تركيا سوف لا تصر على هذا الطلب في الوقت الحاضر؟!. .)
وها هي ذي الأسلاك أخذت تنبئنا الآن بأن صاحب الجلالة رضا شاه بهلوي إمبراطور(53/24)
إيران العظيمة قد ترك بلاده لأول مرة في أيام حكمه، واجتاز الحدود التركية ووصل بموكبه الشاهاني المؤلف من (40) وزيراً وقائداً واختصاصياً ومرافقاً إلى (أنقرة) عاصمة الكماليين، محروساً طول الطريق بقوات مضيفه من البر والبحر والجو، ومستقبلاً ومشيعاً حيث ما مر من بلاد جارته العزيزة بهتاف الشعب التركي بحياة جلالته الغالية، وذلك إجابة منه لدعوة بلغته من زميله الحاكم الشرقي الكبير، وجاره القوي العزيز، الذي أقام على أنقاض حكومة (الرجل المريض) البائدة، هذا الصرح الشامخ، وهذا السد المنيع في وجه أوربا كلها، والذي دعاه ليرتبط وإياه بروابط ستهلع لها قلوب الكثيرين من طغاة أوربا المتجبرين. ومن بينها، على كل حال قلب الدكتاتور الإيطالي، صاحب التهديد، الذي لا بد وقد بلغته أيضا الخطب الشديدة والكلمات النارية التي ألقاها أخيرا في المجلس الوطني الكبير نواب الأمة التركية، جواباً على تهديداته المعروفة، وكذلك التصريحات الرسمية التي ختم بها هذه الجلسةشكري قايا بك بالنيابة عن زميله وزير الخارجية الغائب، عن موقف تركيا في الحرب المقبلة والتنويه الصريح الذي نوه به هذا إلى المصير السيئ المنتظر على حدود تركيا وسواحلها الصلدة الصلبة المهلكةلكل من تحدثه نفسه بأن ينظر خلسة أو بأن يمد في ساعة جنون أو غرور يده إلى الأرض التي يفتديها في كل لحظة 17 مليون تركي وتركية، من اعظم الأمم وطنية وشجاعة، وعلى رأسهم وفى مقدمتهم صناديد تركيا العظام الذين باعوا النفس في سبيل هذه التربة عشرات المرات: وهم الغازي وجماعته من كبار القادة.
وعلى كل حال فلسنا هنا في معرض الانتقاص من قدر موسوليني إنما أردنا أن نبين أن الشرق مهد البطولة والأعمال الخالدة ومهبط الوحي ومنبت العلم والمدنية لا يعدم في أيامنا أيضاً أن يرد الغرب على أعقابه خاسراً نادماً، ويرفعرأس الشرق والشرقيين عالياً.
وقد أردنا بهذا المقال إن نبين بصورة خاصة كيف أجاب جبار الشرق على تهديد جبار الغرب، وكيف أن القوة وحدها هي التي يحترمها الأقوياء ويهابون جانبها، وكيف إن القوي وحده هو الذي يطلب وده وتلتمس صداقته.
بغداد
ج. مولود(53/25)
الأدب كما ينبغي أن يكون
بقلم الأستاذ أحمد أحمد بدوي
ما غاية الأدب؟ وما رسالته في الحياة؟ سؤالان إذا نحن استطعنا الإجابة عنهما أفلحنا إلى حد كبير في تحديد ما ينبغي أن يكون عليه الأدب، وما يجب أن يأخذ به الأدباء أنفسهم حتى يصلوا أو يقاربوا المثل العليا التي ننشدها في الحياة، ولا تظنوا أن الإجابة عن هذين السؤالين هينة يسيرة، بل هي عسيرة جداً، ومع عسرها تختلف باختلاف العصور إن لم تختلف باختلاف الأفراد، ولكنى أستطيع أن أقول: إن الأدب الخالد، أو بعبارة أخرى ما يجب أن يكون عليه الأدب ليكون خالداً، هو تصوير المثل العليا للإنسانية، ونشدان هذه المثل، إذ أن غايتنا في الحياة هي السير إلى المثل العليا بجد وعزيمة حتى نحققها أو نقاربها، وبما أن الأدب هو المعبر الدقيق عن عواطف الإنسانية وآمالها وأحلامها، فلتكن مهمته في الحياة هي تصوير المهمة الملقاة على عاتق الإنسانية وإن الإنسانية لتسير إلى المثل العليا على قدمين: العلم الذي يحقق الناحية المادية للمثل العليا، والأدب الذي يحقق منه الناحية الروحية. وقد فرغ العلماء من إثبات ما بين الناحيتين من تآزر وارتباط، وليس منواجبي الآن أن أتحدث عن المثل العليا للإنسانية فذلك يحتاج إلى كتب تؤلف فيه، ولكنني فقط أحدثكم عن بعض هذه المثل مصورة في الأدب ومقتبسة من حياتنا المصرية الحاضرة
- 1 -
إذا نحن ذهبنا إلى الشعر العربي وجدنا فيه القيم الخالد، وإلى جانبه الكثير من الرديء البائد، ولن أحدثكم عن رداءة الشعر أو جودته من الناحية اللفظية، ولكن من الناحية الروحية وناحية ما يبعثه في النفس من وجدان وشعور، يسمو بنا إلى حيث نحقق ما خلقنا له ونعيش من أجله.
في الشعر العربي صور لا أغالي إذا قلت أنها ضعيفة لا تستحق خلوداً، ولا ينبغي أن نلقنها نشأنا، ونؤدب بها أبناءنا، لأنها تنأى بنا عن بلوغ غاياتنا، وسأعرض طرقا من هذه الآداب مقتصداً في إيراده ما استطعت. ففي الأدب العربي كثير من الشعر الذي أسميه شعر الضعف والاستسلام للواقع؛ فتسمع فيه تلك النغمة التي تحقر العمل وأرباب العمل، وتدعو(53/27)
بملء فيها إلى الرضا وإلى الاستسلام، ومنشأ هذه النغمة على ما أرى هو إيمان أصحابها بالقضاء والقدر إيمانا معكوساً؛ إذا هم قد حسبوا، وهم مخطئون فيما حسبوا، أن القضاء أو القدر لهما تأثير فعلي في فعل الإنسان وإرادته، وإذا كان الأمر كذلك فما قدره الله جل وعلا لابد واقع لا محالة، سواء أعمل المرء , أم لم يعمل، وإذا كان العمل، وترك العمل سواء، فمن العبث البين أن يكلف الإنسان نفسه مؤونة الجد والجهاد والمزاحمة في تلك الحياة، لأنه لن ينال على ذلك أجراً، غير ما كان يناله لو كف عن جده وجهاده، وليس غرضي الآن أن أبين خطأ ذلك التفكير، فانه من البين الواضح أن القضاء والقدر ليسا إلا علم الله فحسب بما سيكون، والعلم ليس من صفات التأثير بل هو من صفات الكشف والإيضاح لا دخل له في قدرة الإنسان وإرادته
الإيمان بالقضاء والقدر على تلك الصورة التي أسلفت ذكرها هو إيمان بالجبر، وإيمان بالحظ على الصورة السطحية التي لا تتغلغل في حقيقة الأشياء، فأنكرت قدرة الإنسان وإرادته ودعتنا إلى الضعف والاستسلام وأنتجت لنا هذا اللون من الأدب الضعيف قال الشاعر:
وما فسدت أخلاقنا باختيارنا ... ولكن بأمر سببته المقادر
وفى الأصل غش والفروع توابع ... وكيف وفاء النجل والأب غادر؟
فقل للغراب الجون إن كان سامعاً ... أأنت على تغيير لونك قادر؟
وقال أيضاً:
ويجرى قضاء مالكم عنه حاجز ... فألقوا إلى مولاكمو بالمقالد
وقال أيضا:
وجبلة الناس الفساد وفضل من ... يسمو بحكمته إلى تهذيبها
وقال أيضا:
لا تمدحن ولا تذمن امرأ ... فيها، فغير مقصر كمقصر
وقال غيره:
عزت مطالب دنيا كل ذي أدب ... وهان مطلب دنيا الأحمق الخرق
وقدر الله فيها أن يذللها ... فهان مطلبها للجاهل الحمق(53/28)
فليس ينفك ذو علم وتجربة ... من مأكل جشب أومشرب رنق
وذو الجهالة منها في بُلَهنية ... من مسمع حسن أو منظر أنق
تبارك العدل فيها حين يقسمها ... بين البرية قسماً غير متفق.
ذلك شعر ينبع كله من واد واحد ومعين واحد، هو الجبر والإيمان بالقضاء والقدر إيمانا معكوساً، والإيمان بالحظ إيمانا ساذجاً، وسأترككم إلى أنفسكم تحكمون على هذا الأثر الذي يتركه ذلك الشعر في النفوس، وهل يقربها إلى مثلها العليا؟! أو هو على العكس من ذلك يؤخرها ويسير راجعا إلى الوراء، إنكم رأيتموه يدعونا إلى الرضا بفساد أخلاقنا؛ لأن الفساد ليس باختيارنا، ولكن بأمر سببته المقادر، ونحن عاجزون تماماً عن تغيير أخلاقنا عجز الغراب عن تغيير لونه، ورأيتموه يدعونا إلى الضعف والاستسلام للقضاء والإلقاء إليه بالمقالد، ورأيتموه يسوي بين الناس مقصرين وغير مقصرين، فكلهم لا يستحقون مدحاً ولا ذماً، لأنهم لم يأتوا ما أتوه بقدرتهم واختيارهم، بلمجبرون على أن يفعلوا ما فعلوا، ورأيتموه يقرن الرزق الواسع بالجهل، والرزق الضيق بالعلم، لأنه يؤمن بالحظ، وإذن فعلى العلم والتعلم السلام، لأن أحداً من الناس لا يرضى برزقه مقتراً، ورأيتموه يؤمن بالحظ ويزرى بالعمل والجد، فقدروا بأنفسكم ما يبعثه هذا الشعر في النفوس من ضعف واستكانة واستسلام تبعد بنا عن المثل العليا التي لا تثبت ولا تقوم إلا على دعائم من العمل ثابتة وطيدة، حقاً أنا أومن بالقضاء والقدر، وأنا شخصياً أومن بالحظ، ولكنه إيمان ليس كإيمان هؤلاء، إذ أني اعتقد أن الإيمان بذلك كله لا يحول بين المرء وعمله، لأنه ما يدريه أنه قد كتب له الشقاء وقدر عليه التعس، وأن حظه بائس منكود، وما يدريه أنه على العكس من ذلك قدر له السعادة، وكتب له النجح وان حظه حظ السعيد الموفق؟
وبعد ذلك آخذ بيدكم لأريكم أدب القوة والهمة والإرادة وهي هي التي تأخذ بيدنا إلى بلوغ المثل العليا، قال الشاعر:
ذريني من ضرب القداح على السرى ... فعزمي لا يثنيه نحس ولا سعد
سأحمل نفسي عند كل ملمة ... على مثل حد السيف أخلصه الهند
فان عشت محموداً فمثلي بغى الغنى ... ليكسب مالاً أو ينث له حمد
وإن مت لم أظفر فليس على امرئ ... غدا طالباً إلا تقصيه والجهد(53/29)
وقال غيره:
ذريني أنل مالا ينال من العلا ... فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين إدراك المعالي رخيصة ... ولابد دون الشهد من إبر النحل
وقال أيضاً:
يهون على مثلي إذا رام حاجة ... وقوع العوالي دونها والقواضب
ويعجبني هنا ما قاله أحد شعراء الإنجليز وترجمه إلى العربية بعض أدباء الشباب قال:
ليَ قلب لا يهاب ... فزعت منه الصعاب
بين أيامي وبيني ... حادثات وغلاب
لست أشكو إنما الش ... كوى من الحر تعاب
أنا ربان سفيني ... هاج أو قر العباب
فلْيلنْ أو يقس دهري ... إن قلبي لا يهاب
فافرقوا بين ألاحساسين اللذين يبعثهما هذان الشعران المختلفان مورداً وينبوعاً، وإني واثق الثقة كلها من أن الإحساس الذي يبعثه فيكم الشعر الثاني هو الإحساس بالقوة والإحساس بالإرادة، وأنا نطلب من الشاعر أن يحدثنا دائما عن قوة إرادتنا، وأنا نستطيع فعل كل شيء لأن ذلك يبعث فينا إيمانا جديداً وعزيمة جديدة بل ويخلقنا خلقاً جديداً، وإن قوة الإرادة هي المنبع الفياض والمعين الذي لا ينضب للنجاح في الحياة وبلوغ المثل العليا، أما الشعر الأول فشعر ضعيف مستسلم لا ينفعنا ولا يهذب من إرادتنا.
ولون آخر من ألوان الأدب الضعيف يتصل بالأدب الجبري، وقد يكون خدينه وشقيقه لأنه يستقي من معينه وينبع من ورده، وأعني بهذا اللون أدب الزهد والقناعة، ويطول بي الحديث إذا حدثتكم عن العوامل التي أنتجت لنا هذا النوع من الأدب، وإن كنت ارجع جل هذه العوامل إلى سوء فهم الشرقي للدين، فقد فهمنا وكنا مخطئينحين فهمنا أن الدين الإسلامي هو دين العمل والجهاد ودين الرفعة والطموح - يدعونا إلى الزهد في الدنيا والقناعة بما نصيبه منها من صبابة قليلة، فهمنا ذلك، ووجدت هذه التعاليم التي أخطأنا فهمها مرعى خصباً من قلوبنا الضعيفة الخائرة، وآنست من قلوبنا ضعفا وقلة ثقة بالقدرة على الجهاد، والتغلب على ما يعترض سبيل الحياة وسبيل النجاح من صعاب وعقبات،(53/30)
فقنعنا بما في أيدينا من قليل لا يرضى به إلا ضعاف النفوس ضعيفو الهمم، فكان ذلك أكبر عامل في خلق هذا الأدب الزاهد القنوع، فأصبحت تسمع كثيراً من مثل قول الشاعر:
نبغي من الدنيا الكثير وإنما ... بكفيك منها مثل زاد الراكب
وقوله:
أيها الباني قصورا طوالا ... أين تبغي؟ هل تريد السحابا؟
أأمنت الموت والموت يأبى ... بك والأيام إلا انقلابا
أبت الدنيا على كل حي ... نالها إلا أذى وعذابا
إنما داعي المنايا ينادي ... احملوا الزاد وشدوا الركابا
وقول الآخر:
مرحبا بالكفاف يأتي هنيئا ... وعلى المتعبات ذيل العفاء
ضلة لامرىء يشمر في الجم ... ع لعيش مشمر للفناء
دائبا يكنز القناطير للوا ... رث والعمر دائباً في انقضاء
حبذا كثرة القناطير لو كا ... نت لرب الكنوز كنز بقاء
يحسب الحظ كله في يديه ... وهو منه على مدى الجوزاء
ليس في آجل النعيم له حظ ... وما ذاق عاجل النعماء
ذلك الخائب الشقي وإن كان ... يرى أنه من السعداء
حسب ذي إربة ورأى جلي ... نظرت عينه بلا غلواء
صحة الدين والجوارح والعر ... ض وإحراز مسكة الحوباء
تلك خير لعارف الخير مما ... يجمع الناس من فضول الثراء
إلي غير ذلك من أدب يحمل الدعوة إلى الزهد والقناعه، وإذا نحن أردنا أن ندرك آثار هذا الأدب فانه يجب علينا أن نتصور شعباً نائماً كسلاً، لا يجد ولا يعمل إلا بقدر ضئيل، وماله يجد وماله يعمل، وقد وجد ما يمسك حوباءهووجد قوته الضروري؟ وإني أكاد اعتقد أن تأخر الشرق في ميادين الاختراع وفي ميادين العمل يعود كثير منه إلى خلق الزهد وخلق القناعة الذي غرس في قلبه وأثر في كل عمله، بل إني أكاد أعتقد أيضاً أن استغلال الغرب للشرق يعود إلى هذا الخلق الوبيل الذي يجرنا إلى الفناء، فلندع القناعة بمعناها الذي ضرنا(53/31)
وأخرنا، ولنتقبلها بمعنى ألا نطمع فيما في يد غيرنا، أما بمعنى الرضا بالقليل فيجب أن نذهب بها إلى قبرْ لا تخرج منه لترى ضوء الحياة، ولنقبل على أدب الطموح وأدب الآمال الذي يسمو بنا عن الرضا بالقليل نناله من غير أن نبذل عناء في نيله ولا تعباً، - ولنكرر دائماً مثل قول الشاعر:
ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجدّ المؤثل أمثالي
وقول الآخر:
ذريني للغنى أسعى فأني ... رأيت الناس شرهم الفقير
وأضيعهم وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له حسب وخير
يحقره الندىُّ وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير
ويلقى ذو الغني وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير
قليل ذنبه، والذنب جم ... ولكن للغنى رب غفور
وقول الآخر.
من الناس من يرضى بميسور عيشه ... ومركوبه رجلاه والثوب جلده
ولكنّ قلباً بين جنبيّ ماله ... مدى ينتهي بي في مراد أحده
وقول غيره:
يا شباب الغد وابناي الفدا ... لكمو، أكرم وأنعم بالفداء
لا تقولوا حطنا الدهر، فما ... هو إلا من خيال الشعراء
واطلبوا المجد على الأرض فان ... هي ضاقت فاطلبوه في السماء
وإني مع شوقي يوم قال واصفاً شباب مصر:
شباب قُنَّع لا خير فيهم ... وبورك في الشباب الطامحينا
ولكنه من الواجب ألا نلقي العبء كله على الشباب، بل هو ملقى على التربية والآداب، فالأدب الشعبي الدارج مليء بالقناعة والأدب المدرسي مثله.
(يتبع)
أحمد أحمد بدوي(53/32)
زرياب
بقلم محمد قدري لطفي
ليسانسييه في الآداب
رجل من رجال الفن، خلق له وفطر عليه، لعل في سيرته الطريفة مثلا للموهبة الطبيعية، ترفع من شان صاحبها فتبلغ به الذروة وتجعله شيئاً مذكورا، يتحكم في حياة أمة بأسرها، فيبدل فيها ويغير منها، ويؤثر وحده في طبائع أهلها وما ورثوه من تقاليد، ويخلق فيها من العادات والفعال ما لم يكن بها وما ليس يخطر لأهلها على بال.
هو أبو الحسن علي بن نافع مولى المهدي الخليفة العباسي كان أسود اللون، حلو الشمائل، وكان شاعراً مطبوعاً فصيح اللسان، لقبه قومه بزرياب تشبيهاً له بطائر عندهم أسود اللون، عذب الصوت، حلو التغريد، وكان زرياب رقيق الحس، دقيق الشعور، له حنجرة لم تخلق لغير الغناء، وأنامل كأنما أعدت للعود، ونفس تميل إلى الفن، وروح يهفو إلى الطرب، تتلمذ لأسحق بن إبراهيم الموصلي ببغداد يدرس عليه أصول الصناعة ويتعلم منه دقائق الفن، وكان اسحق يعلمه الأغاني ويلقنه الألحان، حتى إذا خلا زرياب بنفسه خلق من فن اسحق فناً جديداً، وهداه صفاء نفسه وسمو روحه إلى كل معجب مطرب، واسحق لا يعلم من أمر تلميذه شيئاً ولا يدري أنه أخذ منه فتفوق عليه.
وذهب اسحق إلى مجلس الرشيد يبعث فيه السحر كعادته وينطق فيه العود بالغناء الشجي والنغم العذب، والخليفة مصغ إليه معجب به، تأخذه حلاوة التوقيع وتروقه عذوبة الألحان، حتى إذا فرغ اسحق من غنائه التفت إليه الرشيد يثني عليه ويمدحه ويحادثه في صناعة الغناء، فما هو إلا أن يتشعب بهما الحديث حتى يقترح عليه الرشيد أن يسمعه مغنياً غريباً يجيد فنه ويحسن صنعته ممن لم يشتهروا عنده ولم تبلغ مكانتهم إليه، فيذكر له اسحق تلميذاً له قد علمه وأعجب به يتوسم فيه الإجادة وعلو الكعب في صناعة الغناء.
مثل زرياب أمام الخليفة فسأله عن معرفته بالغناء قال (نعم! أحسن منه ما يحسنه الناس وأكثر ما أحسنه لا يحسنونه. . . فان أذنت غنيتك ما لم تسمعه أذن قبلك) وأخذ يصف له عوده وما ركب عليه من أوتار لها في الترنم والصفاء والعذوبة ما ليس لغيرها وما أن يأذن له الرشيد حتى يوحي إلى عوده فيغنى معه:(53/34)
يا أيها الملك الميمون طائره ... هرون راح إليك الناس وابتكروا
ويظل يغنى والرشيد يسمع حتى يتم أبياته في نغم لم يسمع الخليفة مثله، ولحن لم تردد نظيره جنبات القصر، ويطير الرشيد طرباً ويسمع من الأنغام جديداً لم يُسمعه اسحق مثله فيعاتب اسحق كيف ترك الرجل من قبل فلم يعلمه به، ثم يأمره أن يأخذه لديه فيعنى به حتى يفرغ هو له.
أما اسحق فأسرها لتلميذه، ولم يكد يخلو به حتى عنفه واشتد في تعنيفه وصارحه بما هاج به من الحسد له والغيظ منه، وخيره بين اثنتين لا ثالث لهما، فأما أن يغادر تلك البلاد فلا يراه بعد ذلك أبداً ويعطيه على ذلك أغلظ الأيمان وأوثق العهود وله عليه ما يريد من مال أو عطاء، وإما أن يقيم على كره منه وشركة له في الصناعة وعند ذلك لن يأمن غدره ولن يغنيه الحذر شيئا، وأما زرياب فلم يكد يرى أستاذه ينفس عليه رضاء الخليفة، ولم يكد يسمع منه هذا الوعيد المخيف حتى قام من فوره يبغي بلاداً غير هذه وناساً غير هولاء، وأما الرشيد فانه لم يكد يفرغ من بعض شؤونه حتى سأل عن زرياب أستاذه فزعم له اسحق أنه رجل غر أحمق ما هو إلا أن أبطأت عليه جائزة أمير المؤمنين حتى رحل غضبان ينعى على الأيام أن أوقعته فيمن لا يقدرون النبوغ ولا يكرمون النابغين ولا يعرفون الغث من السمين فسكن الرشيد إلى قول اسحق.
سار زرياب إذن من المشرق وكان المغرب قبلته فولى نحوها وجهه، وراح في الأندلس يلتمس ما لم يظفر به في العراق من بعد الصيت ورفعة الشأن، وكتب إلى عبد الرحمن بن الحكم يعلمه بمكانه من الصناعة ويسأله الأذن له في الوصول إليه، وما هو إلا أن يقرأ عبد الرحمن الكتاب حتى يرحب بصاحبه ويوصي عماله على البلاد أن يحسنوا إليه ويوصلوه إلى قرطبة، وفى قرطبة يبدع زرياب ويملك على الأمير نفسه فيطرح كل غناء سواه ويقدمه على جميع المغنين ويقطعه الأرض ويمنحه المال ويبلغ إعجابه به حداً لا مثيل له، فيفتح له باباً خاصاً يستدعيه منه متى أراده، وزرياب يذهب في الغناء كل مذهب ويضرب في التجديد بسهم وافر: هذه أعواد القوم لها أوتار أربعة، فليزد هو عليها وتراً خامساً يستهوى النفس بما يحدثه من النغم، وهاهي أعواد المغنين كبيرة الحجم ثقيلة الوزن فليكن عوده خفيفاً مرهفاً دقيق الصنع، وهذا مضراب العود قد استعمله الناس من خشب فهو ثقيل(53/35)
في اليد قاس على الأوتار ما يلازمها قليلا حتى يقطعها أو يفسدها، فليكن مضراب عوده من قوادم النسر فهو خفيف على الأنامل رفيق بالأوتار وان طالت ملازمته لها، وهاهي ألحان القوم معدودة وأغنياتهم معروفة فليجدد هو في اللحن، وليأت من النغم بكل طريف وليُسمع القوم من أغانيه وألحانه ما يعد بالآلاف.
وكان زرياب أيضاً قد جمع إلى براعة الفن وحلاوة الترجيع سلامة الذوق وترتيب الذهن فهو سمير إذا جالس الأمير أو أشراف الأمير، وهو طيب الحديث إذا تحدث، ماهر في خدمة الملوك، يجيد استقبال الضيوف والزائرين، متأنق في ملبسه يعني بزينة نفسه حتى صار مثالاً في الأناقة يحتذى، أخذ عنه أهل الأندلس وحاكوه، فلم يعودوا إلى إرسال الشعر مفروقاً وسط الجبين مسدلاً إلى الخدين والحاجبين وإنما فعلوا كما يفعل زرياب ونساء زرياب، فحذفوا شعورهم وقصروها دون الجباه وسووها مع الحواجب ودوروها إلى الآذان وأسدلوها إلى الخدود ولم يعودوا إلى ملاحف الكتان يلتحفون بها، وإنما فعلوا كما يفعل زرياب فآثروا على الكتان أنطاع الأديم الناعمة، ولم يبق الناس على ما هم عليه من خلط بين ملابس الشتاء وملابس الصيف، وجهل بما يلائم الربيع وما يناسب الخريف، وإنما علمهم زرياب أن لكل زمان ثيابا، فللربيع الملون الزاهي، وللخريف الخفيف الملون، وللشتاء الثياب الكثيفة ذات الحشو والفراء، وللصيف البياض من الثياب، وكذلك عرف الناس مذ جاءهم زرياب صنوفا من الطعام لم تكن لهم بها دراية ولا بطعمها علم واستعمل القوم في الأندلس من العطور ما لم يألفوه من قبل، وفضلوا آنية الزجاج الرفيع على آنية الذهب والفضة لأن زرياباً كان يؤثر الزجاج ويتناول شرابه فيه.
وكان زرياب أيضاً قد علم بناته وجواريه أحسن الأغاني وأدبهن بأدبه فبرعن في الغناء وأتقنَّ الصناعة، فكانت حمدونة ابنته عند أهل بيتها في الصدر، وكانت أختها علية كذلك، وتزوجت من الوزير هشام بن عبد العزيز، أما جاريته مصابيح فقد جمعت إلى جمال الصوت جمال النبل كتب صاحب العقد الفريد إلى مولاها وقد حجبها عن الناس واختص بها مجلسه يقول له:
يا من يضن بصوت الطائر الغرد ... ما كنت أحسب هذا الضن من أحد
لو أن أسماع أهل الأرض قاطبة ... أصغت إلى الصوت لم ينقص ولم يزد(53/36)
فادخله مولاها إلى مجلسه وأذن له في سماعها.
ووضع زرياب المراسم لافتتاح الغناء فما يفتتح غناء في الأندلس إلا وأوله النشيد وآخره الاهزاج فأكسب زرياب المحافل روعة وأهدى المجالس باقات من الفن زاهيات، وكان وحده فناً انتقل إلى الأندلس، وحضارة عمت قرطبة.
محمد قدري لطفي(53/37)
فن البناء عند المصريين والإغريق
بقلم محمد علوي
لا شك أن أهم مظاهر الحضارة الفرعونية هو فن العمارة.
ولما كان للدين عند الفراعنة المنزلة العليا نجد أن درجة اهتمامهم به ظهرت جلية في معابدهم، وهي أهم ناحية ضرب فيها الفنان المصري بسهم. ولم تكن مصر هي البلد الوحيد الذي اهتم بأمر المعابد، فقد تبعها في ذلك الإغريق أيضاً، وكفاهم فخراً معهد (البارثينون) في (الاكروبوليس) بأثينا، فلقد كان هذا المعبد ولا يزال آية في الجمال، أجمع جميع الفنانين على أنه - لا يوجد له في العالم مثيل. فقد راعى فيه بانيه خداع النظر في الأجسام المنظورة فتلافاه بكل الوسائل، فكان معبده أشبه ببلورة طبيعية جميلة. ومع كل ذلك فإن الفنان المصري قد سبق زميله الإغريقي في تصميم معبد؛ فانك إذا وقفت أمام المعبد الإغريقي لاشك تشعر برهبة وذهول. ولكن هذه الرهبة ليست إلا نتيجة لقوة الجمال وحسن التنسيق، أو بمعنى أقرب إن تأثير هذا المعبد كتأثير حسناء كملت فيها معاني الجمال. فكأنما فن البناء الإغريقي أراد أن يأسر لب المتعبدين بسلطان الجمال. ولكن ليس هذا هو الغرض الذي من أجله كلف بتصميم المعبد، وفي رأيي أن هذا خروج عن الموضوع الديني، ولو أنه خروج لم يخل بقيمة المعبد من حيث جماله.
أما المعبد الفرعوني فهو يشعر بالهيبة والعظمة فالخضوع والرهبة، ولكن هذا الخضوع ناشئ عن الشعور بالضعف أمام القوة والرهبة الدينية، وهذا ما أحسه أنا الآن وأنا بعيد عن البيئة التي كانت تحيط بالمعبد في حداثته، وبعيد عن العقيدة الدينية التي كانت تتملك شعور أسلافنا.
إن الفنان المصري كان أعظم مما نقدره به وأوسع خيالاً، فنراه قد راعى في معبده صلاحيته للعبادة من جميع النواحي، فجعله لا يصلح إلا للعبادة، بل والعبادة لا تصلح أن تقام إلا بين جدرانه. فتصميم المعبد واختيار موقعه في مكان بعيد عن الحياة المادية الدنيوية، والبيئة الدينية التي أحاط بها الفنان البارع معبده، كل هذا يفصل المتعبد عن العالم المادي فيحصر ذهنه في دائرة روحانية بحتة.
لست أريد أن أحكم على مقدرة هذا المهندس البارع، بل سأوضح عمله، وأترك لكم الحكم(53/38)
على كفايته وموهبته.
اختار هذا الفنان لجميع معابده أن تقع في نهاية طريق مستقيم جداً ومتسع، بحيث ينتهي هذا الطريق بواجهة المعبد الشامخة، يتوسطها بابه الصغير، وقد خصص هذا الطريق مهما بلغ طوله، (وقد يصل إلى ثلاثة كيلومترات) للمعبد فقط، فلم يسمح بإنشاء أي نوع من المصالح أو المباني على الجانبين، بل أنشأ على حافتيه وعلى مسافات متساوية تماثيل ضخمة متساوية ومتماثلة لمعبود معروف رأسه رأس كبش، وجسمه جسم أسد. فتصور تأثير هذين الصنفين من التماثيل المتوازية المتماثلة، والأفريزين الممتدين بجانبي الطريق، تلك المستقيمات المتوازية تظهر للرائي كأنها تتقابل وتتجمع في نقطة واحدة كما تجمع العدسات الأشعة الضوئية في نقطة واحدة، وهذه النقطة هنا هي باب المعبد الصغير الذي يظهر عن بعد. وكما أن النظر تقوده تلك المتوازيات إلى النقطة، كذلك يكون التأثير على الأذهان الشاردة، فهذا يساعدها على أن تتجمع وتتركز في العبادة. هذا بخلاف ما كان يعتقده الفراعنة من أن هذا الطريق مقدس لا يطؤه غير المطهرين الأبرياء، وأن تلك التماثيل الجانبية كانت تراقب حركات المارة وأفكارهم طوال الطريق. وكان المصريون يتوجهون إلى المعبد تحت هذه التأثيرات في موكب تتمثل فيه معاني الخشوع، يتقدمه غالباً الفرعون وحاشيته، حتى إذا اقتربوا من المعبد يمرون تحت قوس نصر فخم أشبه ببوابة شامخة يبلغ طولها نحواً من ثمانية وثلاثين متراً في معابد الكرنك. فتصور كيف يشعر المار من تلك البوابة بضآلته أمام هذا العلو الشاهق وهو يعتقد انه بمجر مروره منها تطهر نفسه مما قد يكون عالقاً بها من الأدران، فيصبح طاهراً يصلح لأن يقترب من المعبد، وبعد ذلك يمر الموكب بين مسلتين شاهقتين، كتب عليهما تاريخ إنشاء المعبد وبعض الرموز التي تمثل شارة المعبود الذي في المعبد، وهنا يجد الموكب نفسه أمام بناء شامخ مثال للقوة والبطش والجمال، وهذا هو المعبد ذو الواجهة الجرانيتية الضخمة التي تتكون من هرمين شامخين ناقصين متقاربين، يتوسطهما باب المعبد الصغير، وعلى جانبيه تمثالان عظيمان (يصل طول كل منهما إلى عشرين متراً كما في معبد (أبي سمبل شمال الشلال الثاني)، وهذان التمثالان يمثلان فرعون، ويرى الواقف بباب المعبد عدة أبواب متتالية ومتساوية الاتساع، تقع جميعها على محور واحد عمودي على الواجهة غالباً، وقد تصل المسافة بين(53/39)
المدخل والباب الأخير إلى ثلثمائة متر، وهذا الباب الأخير هو باب مخدع الإله الأعظم.
وأول ما يلفت نظر الداخل في المعبد هو البهو الكبير ذو الأعمدة الضخمة، وقد بلغت مساحة ذلك البهو الفخم في معابد الكرنك ثلثمائة متر في خمسين مترا، وهذا البهو مسقف بكتل عظيمة من الأحجار يحملها أربعة وثلاثون ومائة عمود، مصطفة في ستة عشر صفاً، وطول أعمدة الوسط منها ثلاثة وعشرون متراً وقطرها ثلاثة أمتار ونصف. فتصور بهواً يحوي هذا العدد من هذه الأعمدة التي بلغ ارتفاع الواحد منها ارتفاع عمارة مكونة من سبع طبقات تقريباً. كيف يكون تأثير مثل هذا البهو الرهيب الفخم في نفوس المصلين؟ ألا يمكننا اعتبار هذا البهو رمزاً للقوة والبطش كما أنه مثال العزلة والرهبنة؟ إن طول قامة البشر في هذا البهو لا يتجاوز قاعدة العمود. وبين تلك الأعمدة يقوم الشعب بتأدية الصلاة، أما فرعون وحاشيته فيستمرون في موكبهم مخترقين الردهات والدهاليز حتى يصلوا إلى مخدع المعبود، وهو مظلم لا يصله الضوء إلا من فتحة واحدة في السقف، قد وضعت بهندسة خاصة بحيث لا تضيء من المكان سوى تمثال الإله، حتى يخيل للرائي أنه يشع الضوء من جسمه. وأمام المعبود وتحت قدميه يوجد نضد عظيم من الحجر ليضع عليه فرعون قربانه بين التراتيل والتعاويذ الدينية ذات الأنغام الساحرة الرهيبة.
ولو كانت لي موهبة في الإيضاح أرقى من ذلك لاستطعت أن أضع لكم صورة اقرب للحقيقة للمعبد والدرجة، التي وصل إليها من الإبداع، ولكن عظمة ذلك الفن وروعته فوق أن يصفها قلمي الضعيف.
وهنا اقف بسيدي القارئ لأساله: هل يوجد مكان انسب لبناء المعبد من المكان الذي اختاره الفنان المصري؟ هل يوجد بناء تتمثل فيه معاني القوة والخشوع والرهبة اصلح للعبادة من تصميم هذا الهيكل الفرعوني؟ وهل يمكن إيجاد بيئة تحيط بالمعبد من الوجهة المعنوية والفنية أقرب للكمال من تلك البيئة التي هيأها هذا الفنان الحاذق؟ أظن أنه لا يمكن أن نجيب على تلك الأسئلة إلا بالنفي. ولقد أجمع عظماء الفنانين في العالم على أن المعبد المصري هو صاحب المنزلة الأولى بين معابد العالم، وإذا أمكن تصور منزلة أسمى من الأولى لكانت هي منزلة معبدنا، وبالتالي فن عمارتنا الذي نفر ونهرب منه، ونتناسى منزلته حتى في هذا العصر الذي هو عصر تجديد وانقلاب، لم يفكر أحد من كبار الفنانين(53/40)
المصريين في إحياء هذا الفن الجميل، أو إدخال روحه في المنشآت الحديثة، إلا إذا استثنينا بعض الشواذ.
محمد علوي
قسم العمارة - مدرسة الفنون الجميلة العليا(53/41)
10 - بين المعري ودانتي
في رسالة الغفران والكوميدية المقدسة
بقلم محمود أحمد النشوي
تحدثنا معك في المقال الماضي عن ابن القارح، وتوسله بالسيدة فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان من أمر هذا التوسل والأذن له بدخول الجنة
والآن ماذا صنع ابن القارح؟ أنه تعلق بركاب سيدنا إبراهيم عليه السلام حتى بلغ الصراط، وأشير إليه بأن اعْبرْهُ، فلما وجد نفسه لا يستمسك قالت الزهراء لجارية من جواريها يا فلانة أجيزيه. فجعلت هذه تمارسه وهو يتساقط عن يمين وشمال، فقال لها: يا هذه إن أردت سلامتي فاستعملي معي قول القائل:
ست إن أعياك أمري ... فاحمليني زقفونه
فقالت: وما زقفونه؟!
فقال أن يطرح الإنسان يديه على كتف الآخر ويمسك بيديه ويحمله وبطنه إلى ظهره، أما سمعت بقول الجلجلول من أهل (كفر طاب)
صلحت حالتي إلى الخلف حتى ... صرت أمشي إلى الورى زقفونه
فقالت: ما سمعت بزقفونه، ولا الجلجول، ولا كفر طاب إلا الساعة!!!
ثم تحمله وتمر به كالبرق الخاطف حتى يبلغ الجنة، فيمنعه رضوان طالبا منه جواز المرور، فيطلب ابن القارح ورقة من صفصاف الجنة ليرجع بها إلى الموقف، ويأخذ عليها الجواز، ولكن رضوان يأبى عليه هذا، فيقول ابن القارح أنا لله وأنا إليه راجعون، لو أن للأمير أبي المرجي خازناً مثلك، ما وصلت أنا ولا غيري إلى قرقوفمن خزانته.
ولا يطول بينهما الحوار، حتى يرجع إليه إبراهيم عليه السلام فيجذبه جذبة شديدة يحصله بها في الجنة. . . أفرأيت إذاً كيف كان سبيل المعري إلى الفردوس مليئاً بالدعابة وبالمرح حين سقوط صك التوبة من ابن القارح، وحين تدخله في فض النزاع بين أبي على الفارسي ومشاجريه، وفى دعابته مع الجارية، وهو على الصراط في أحرج المواقف وأدقها. فهل كان طريق دانتي كطريق المعري، كله دعابة وظرف؟ لا. فقد كان طريق دانتي على العكس من طريق المعري، آلام وأوصاب، وأهوال وعذاب. . . لقد كان طريق(53/42)
دانتي على النار يعيرها أولاً ثم (المطهر) بعدها حتى يصل إلى الفردوس. فما ظنك بذلك الطريق الشائك المترع بالأهوال والآلام؟!
فبينا هو في غابة موحشة إذا به يتخلص منها إلى أكمة تكلل هامتها شمس الصباح فيهم بصعودها حتى إذا سار قليلاً رأى نمراً قبيحا يسد عليه شعاب طريقه، ثم يرى أسداً مخيفاً وذئبة قاحلة حدقته بنظراتها، فكر راجعاً إلى سفح الأكمة فرقاً ورعباً، فثار في نفسه اضطرابها حتى أتاه (فرجيل) فاستغاثه فهدأ روعه، وحدثه بأن سبيل النجاة من هاتيك المخاطر هي رحلة في أعماق الجحيم، ومنها، إلى الأعراف، ثم إلى الفردوس. ثم حدثه بأن بياتريشي أوفدته لإنقاذه مما هو فيه من أخطار. فاطمأن قلبه وهدأ روعه وعقد عزيمته على اجتياز الجحيم فاجتازها بين أنين العصاة وعويل المذنبين، مما حدثتك عن كثير منه في المناسبات الماضية. حتى إذا انتهت رحلته من جهنم أمسك فرجيل بابليس، وأمسك دانتي بعنق فرجيل، وساروا قليلاً حتى خلصوا من الجحيم، وأسلمت الجحيم دانتي إلى الأعراف فدخلها وسار في جنباتها يتحدث مع العصاة الذين يتطهرون من ذنوبهم ومن آثامهم، حتى إذا قارب نهايتها رأى نهراً ينفرج عن ماء رقراق، فبصر بالنهر وبفتاة على سيفه الآخر، وهي تغرد بصوت مطرب وتقطف الزهرات، فطرب دانتي واقترب منها فقصت عليه حديث النهر، وأن اسمه نهر ليتي نهر التوبة، من أغتسل منه طهر من ذنوبه، وبرئ من آثامه، ثم عاودت الفتاة الغناء، وعاد له من الفتاة الطرب.
ثم تراءت أمام عينيه أضواء تشع في أرجاء الغابة، وتواردت على سمعه نغمات حلوة لم يكد يطرب لها حتى تراءت له من بعيد سبعة أجسام كأنها شجرات من خالص الذهب، تبينها فإذا هي مصابيح تحمل أضواءها كل ألوان الطيف، ويتلوها أربعة وعشرون شيخاً يجللهم وقارهم، وتلقي عليهم الهيبة رداءها، وتكلل رءوسهم زهرات الزنبق وتتبعهم عربة يقودها حيوان يشبه الأسد، بيد أن له رأساً، وأن له أجنحة كأجنحة الطيور ورءوسها.
تلك العربة كانت تحمل بياتريشي جاءت تستقبله لتكون دليله في جنبات الفردوس المحرمة على فرجيل أن يلج بابها. وقد افتن شاعر الطليان في وصف بياتريشي وعربتها، وما احتف بها من راقصات، ومن سحائب الزهور افتنانا جعل ذلك الوصف في طليعة كوميديته إبداعاً وفتنة. وكذلك نرى فيرسالة الغفران وصف الطريق إلى الفردوس، وامتداح(53/43)
رضوان وزفر، ودعابة الجارية على الصراط ناحية جد مخصبة من خيال أبي العلاء ومن إبداعه.
ذلك هو طريق الفردوس، وهاهو ذا وصفه في الروايتين، فأما الفردوس وطبقاته وأقسامه وما تخيله المعري من حيات يسبحن في الخلد فوق كثبان العنبر. وقد كان منهن في الدار العاجلة من تسكن في جحر بدار حمزة بن حبيب أمام القراء.
ونقمت عليه قراءته واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام (بخفض الأرحام) بعد أن كانت تسكن من قبل في دار الحسن البصري. ثم تحولت عنه لأنها رغبت عن بعض حروف في قراءته حين يقرأ الإنجيل. وفالق الأصباح (بفتح الهمزة فيهما). فأما الحديث عن تلك الحيات والرد على المعري في تخطئته حمزة فموعدنا به العدد القادم.
(يتبع)
محمود أحمد النشوي(53/44)
شركة مصر للغزل والنسيج
المحلة الكبرى منشستر مصر
لمندوب الرسالة
لا يتم استقلال سياسي صحيح لأمة من الأمم ما لم تستقل استقلالاً اقتصادياً أولاً. تلك حقيقة لا يختلف في صحتها اثنان. والاقتصاد في كل الأمم هو العمود الفقري لحياتها، والمقياس لعظمتها وتقدمها، حتى أضحى شغل العقول الكبيرة إلتي تخلص لأوطانها، وتعمل لرقيها بإخلاصها وإيمانها
ولقد ظلت مصر ردحاً من الزمن تضع السياسة في المنزلة الأولى من تفكيرها، وفى غمرات ذلك الاضطراب السياسي ساءت الأحوال المالية فيها، وامتدت الأيدي إلى المصارف الأجنبية التي استغلت الفرص احسن استغلال، وأخذت تضيق على من يقع في حبائلها الخناق، حتى ضج الناس وغمرهم الذهول. هنالك تفتحت الأذهان، وحدقت العيون إلى نصير منهم يأخذ بأيديهم ويهديهم صراطاً اقتصاديا مستقيما. عندئذ قام ذلك الوطني المخلص (طلعت حرب باشا) ووضع هو وصحبه الأكرمون نواة ذلك الصرح الوطني الشامخ، فخر مصر وعنوان مجدها الاقتصادي، ووجه ذهنه الخصب، وعقله الجبار، لإنجاح ذلك العمل القومي العظيم، حتى صافح الفوز وتجاوز حد الثقة وأصاب مشاكلة الغرض
وبعد أن وصل ذلك المشروع إلى الحد الذي يحسد عليه ضاق علي جسامته وخطورته بنشاطهم وبنتاج هممهم فأخذوا ينشئون الشركة تلو الشركة، والمصنع تلو المصنع، ومن بين هذه المشروعات الجليلة التي قام بنك مصر بتأسيسها (شركة مصر للغزل والنسيج) التي أقيمت في المحلة الكبرى
نما غرسها منذ سنوات ثلاث، وأخذت أغصانها تزداد قوة وامتدادا، وتؤتي أكلها جنياً شهيا، كلما زادت الأمة في الإقبال عليها وتشجيعها، وأبواها بنك مصر و (طلعت حرب) يتعهدانها ويؤازرانها بإدخال كل مستحدث من الآلات، وكل جديد من الفن، حتى كان آخر ذلك هذا التوسع الكبير الذي يجري اليوم فيها على قدم وساق، والذي شاء لنا حسن التوفيق أن نشهده تلبية لدعوة وجهها إلينا رجال الشركة(53/45)
كان يوم الخميس الماضي يوماً حافلاً حقاً، فقد شهدنا فيه بأعيننا صرحاً من صروح قوميتنا العزيزة، وغرساً من غراس تلك الأيدي العاملة الكريمة
كان في انتظارنا رتل من السيارات أمام دار بنك مصر أقلتنا إلى المحلة الكبرى، فلما دخلنا المدينة وبلغنا مقر دار الشركة كان في استقبالنا رهط من موظفيها الكرام على رأسهم مدير الشركة العام الدكتور محمد عبد الطيف محرم، فطافوا بنا أقسام المصنع يشرحون لنا مختلف آلاته ومتنوع غاياته
تبلغ مساحة الأرض التي شيدت عليها مصانع الشركة مائة فدان، وقد بنيت كلها على أحدث النظم الصحية وجميع العمال والمديرين والمهندسين من المصريين إلا اثنين من الأوربيين دعت الضرورة القصوى إلى استخدامهما
وقد افتتحت مصانع الشركة لأول مرة في 23 إبريل سنة1931 وعدد أنوالها 448فزيدت في عام 1932 إلى 1200ولن يأتي العام القادم حتى تبلغ 4000، أما المغازل فكان عددها 12000 مغزل في عام 1932 فزاد حتى بلغ الآن50000 مغزل وسيزداد إن شاء الله باطراد كل عام
وكان عمل الشركة في بادئ الأمر قاصراً على غزل القطن ونسجه، ولكن ما وافى عام 1933 حتى أدخلت فيها صناعة غزل ونسج الكتان، وفي عامنا هذا أنشئت مصانع لغزل الدوبارة والفانلات والجوارب وبكر الخيط وغيرها، ويعدون العدة منذ الآن لكي يقوم مصنع الصوف في عام 1936بصنع البدل الصوفية ولوازمها من الصوف كذلك
وإن الذي يزيد في سرور كل مصري وابتهاجه أن يعلم أن عمال الشركة الآن يبلغون 6000 عامل سيزاد عددهم بعد عامين على الأكثر إلى 18000 عامل، ولحرص الشركة على أن يكون كل شيء مصرياً أنشأت مصنعاً كبيراً لصنع ما تحتاج إليه من الآلات، ولكي لا تضطر إلى استخدام أجانب فيه أوفدت عدة بعثات إلى أوربا من خريجي المدارس الصناعية. وتخرج الشركة الآن أنواعاً عديدة من الأقمشة معروفة في سائر الأسواق: منها (التيل الكاكي) و (فولار) و (دبلان) و (تيل المراتب) و (زفير) و (سكروته) و (فوط للوجه) و (بشا كير) إلى غيرها مما لا يتسع المقام لذكره
هذا قليل من كثير مما قام به بنك مصر من جسيم المشروعات التي سار بها من نجاح إلى(53/46)
نجاح بفضل إخلاص أولئك المجاهدين القائمين على أمره، وبفضل الأمة المقبلة على تعضيده وشد أزره.(53/47)
7 - أعيان القرن الرابع عشر
للعلامة المغفور له أحمد باشا تيمور
الشيخ أحمد أبو الفرج الدمنهوري
احمد أبو الفرج الدمنهوري الشاعر الأديب، ظريف الجملة والتفصيل، حلو النادرة والفكاهة، انجذبت إليه النفوس وألفته القلوب على دمامته وغرابة شكله. ولد بدمنهور ونشأ بها في ضنك وحرقة حال، ولم يكن مشتغلاً بالأدب في أول أمره، ثم لازم الشيخ محمداً الوكيل القباني أحد أدباء دمنهور المشهورين وعليه تخرج في النظم، وصحب أيضاً الشيخ حميده الدفراوى، وهو أديب لكنة لا يبلغ درجة الوكيل، ولم يحضر المترجم العلم على شيخ، بل كان يلازم مجلس الوكيل ولا يفارقه ليلاً ولا نهاراً فيكتب عنه كل ما يسمعه من شعر ونثر ونادرة ثم يستظهره، أخبرني ثقة أنه اجتمع بدمنهور حوالي سنة 1285 فرآه شاباً نيف على العشرين مخفوض الجانب كثير التواضع لا يستنكف من خدمة الوكيل المذكور وحمل المصباح أمامه إذا سار ليلاً.
ثم نظر المترجم في كتب الأدب ودواوين الفحول وبدأ ينظم الشعر فكان يعبث بالبيت والبيتين، ثم نظم بعد ذلك القصائد والمقطعات، إلا أنه كان قليل الإجادة كثير الخطأ واللحن، يتكلف التجنيس والتورية، وأحسن شعره ما نظمه في المجون وضمنه ألفاظ العيارين والشطار. وكان حضوره إلى القاهرة صحبة الوكيل، فأوصله إلى السيد عبد الخالق بن وفا شيخ السادات الوفائية فأعجب بظرفه ومجونه، وكان ينزل عنده كلما حضر إلى القاهرة، وهي إذ ذاك غاصة بالأدباء والأعيان وفي الناس بقية، فكانوا يهشون له ويتهادونه إذا حضر، ويراسلونه إذا غاب، فحسنت حاله قليلا بما كان يناله من هباتهم. ثم اتصل بشاهين باشا كنج في طندتا لما كان مفتشاً على الأقاليم سنة 1293 فانتظم في حلبة ندمائه، واختص به وواساه وجعله طرفة مجلسه، وجمع له من أغنياء البلاد مبلغاً وافراً اشترى به عقاراً ورمم داره بدمنهور، واجتمع عند شاهين باشا بعبد الله أفندي نديم الشهير وغيره من خاصة أهل الفضل والأدب، ثم نقل شاهين باشا إلى منصب آخر بالقاهرة فصار المترجم يتردد عليه ويقيم عنده الأيام والأشهر يجتمع في أثنائها بغيره من الكبراء وذوي الوجاهة فيهدي إليهم مدائحه ويتحفهم بطرائفه(53/48)
وكان على قلة إجادته في شعره مفتوناً به مبالغا في تقريظه وقت إنشاده، يمزج ذلك بإشارات وحركات تستظرف منه، ولا يكاد يقر لأحد بالتقدم عليه في النظم، ولعمري لا أرى عبارة تفي بوصفه ووصف حركاته عند الإنشاد وقيامه وقعوده والتفاته واستدعائه الحاضرين إلى استماعه، فانه كان إذا أراد إنشاد قصيدة من نظمه بدأ أولاً بتقريظها ونبه الحاضرين إلى مواضع الإجادة منها، فإذا ألقوا إليه بسمعهم أنشد المطلع وسكت هنيهة كالمأخوذ من جودته، ثم التفت يمنة ويسرة مستطلعاً خبيئة رأيهم فيه، واستحلفهم بالله وبأنبيائه هل طرق، آذانهم مثله في عمرهم، وهل تهيأ لشاعر قبل ما تهيأ له فيه من رشاقة المبنى وغرابة المعنى وتناسب الشطرين، ثم يمضي في البيتين والثلاثة ويعود إلى الصمت والتفكر. ويقول سبحان المانح! كمترك الأول للآخر! وأمثال هذه الجمل التي اشتهرت عنه وصارت من لوازمه، ثم يمضي في الإنشاد، فإذا مر بتجنيس أو تورية وثب من موضعه وتمايل طرباً، ثم نظر للحاضرين وقال لهم اسمعوا من الفتى العربي اللعوب، تُفّ على المتنبي وسحقاً له، أين له السلاسة والسهولة؟ وهكذا حتى يتم القصيدة، فان رأى من السامعين استحساناً تمادى في غلوائه وأعجب وأطرب، وربما عارضه بعض من يحضره استجلاباً لطرائفه واستئناساً بمحاورته، فتصدر عنه النوادر ومحاسن الأجوبة الحاضرة. بلغني أنه حضر مرة مجلساً جمع لفيفاً من أهل الأدب فأنشدهم قصيدة من نظمه، وبالغ في استحسانها كعادته، وأخذ يستطلع طلع آرائهم فيها. فأنتبذ له صديقنا العالم الفاضل، والشاعر المجيد، الشيخ عبد الرحمن قُرَّاعة مداعباً، وقال له أخطأت في بيت منها فأدخلت حرفاً على حرف وهو مما لا يجوزه النحاة، فإما أن تسقطه أو تأتينا بشاهد على صحة قولك، ووافقه الحاضرون ومالوا معه على المترجم، فنكس رأسه هنيهة، ثم نظر إليهم كالمتعجب وقال يا ليت قومي يعلمون! وكان كثير الاجتماع بشيخ أدباء العصر الشيخ أحمد أبي البقاء الزرقاني، فلا يخليه مرة من شعر له ينشده إياه، ويعرض للشيخ ما يشغله عن الاستماع فيستلفته ويكثر من الإلحاح عليه بترك ما هو فيه والاصاخة إليه ويضايقه بذلك مضايقة شديدة، ولكن لا يكاد الشيخ يعرض عنه حتى تصدر منه نادرة ينقلب لها المجلس ضحكاً، فكان يقول فيه إن أبا الفرج عندي مشكلة من المشاكل لا أدري أهو ثقيل أم ظريف.(53/49)
وكان أول اجتماعي به في مجلس أحد الأعيان وأنا شاب يافع متعلق بالأدب وأهله، ولم اكن لقيته من قبل، بل كنت اسمع به وأشتاق رؤيته فرأيت عجباً: رأيت شيخاً قصيراً دميم الوجه قد ذهبت إحدى عينيه، عليه جبة واسعة الأكمام وهو جالس في زاوية من المكان يملي على شخص حسن الخط دالية من الطويل منصوبة الروى جعلها تهنئة للخديو محمد توفيق باشا بقدومه من الإسكندرية، فكان منه من الوقوف عند كل بيت والإعجاب به على ما تقدم ذكره ما نبهني للالتفات إليه، ثم مر ببيت قافيته لفظة (ومعضداً) فوثب من مكانه ونبه الحاضرين إلى أنها تورية باسم الخليفة المعتضد بالله فلم يوافقوه، فاعرض عنهم واقبل على الكاتب يشرح له حسن هذه التورية وأنها لم تتهيأ له إلا بعد إعمال الفكر والروية حتى أضجره ورمي الدرج من يده، فغلبني الضحك واستظرفته وقصدت محادثته، فقلت لعل سيدي الأستاذ عارض بهذه القصيدة قصيدة أبى الطيب التي يقول في مطلعها:
لكل امرئ من دهره ما تعودا ... وعادة سيف الدولة الطعن في العِدا
فسكت ثم نظر إلي شزراً ولم يزدني على قوله: تِفّ على المتنبي، فاستغربت في الضحك وسألت عنه بعض الحاضرين فخبرني به فكدت أطير سروراً بلقائه، وأقبلت عليه امدح القصيٍدة وأذكر مواضع الإجادة فيها وأستعيدها منه، فأبرقت أسرته وأقبل علي أيما إقبال واسمعني بعض مقطعات من شعره، فقلت له: أما كان الأولى بهذه اللآلئ أن تنظم في سمط؟ فقال نعم يا سيدي إني مهتم بذلك وسيكون ديوانا مرقصاً، وامتد بنا المجلس فرأيت منه ما لو أردت إثباته برمته لطال بنا المقال. ثم فارقته وأنا أشوق الناس إليه، وكأني به أحد أبناء المنجم الذين ذكرهم الثعالبي في اليتيمة وأورد فصولا للصاحب بن عباد في وصفهم.
ومن غريب أمر المترجم أنه كان يستملح منه ما يستثقل من غيره، فقد رَوَوْا عن بشار أنه كان يصفر ويصفق ويتفل عند إنشاده وعن البحتري أنه كان يتقدم ويتأخر ويتلفت إعجاباً بشعره، وقد عيبا بذلك وعد من سقطاتهما التي نعاها عليهما الناعون بخلاف المترجم.
ومن غرائبه أنه كان معجباً بكنيته وكثيراً ما كان يتدرج بها إلي الانتساب لمن تكنى بها من الفضلاء المتقدمين كأبي الفرج ابن الجوزي وأبي الفرج الاصبهاني صاحب الأغاني وغيرهما، فلا يدع أحداً من المتكنين بها إلا وينتسب إليه، تارة لهذا وتارة لذاك، ثم ارتقى(53/50)
درجة فادعى الشرف ولاث على رأسه عمامة خضراء، ووسع أكمامه وسعى حتى جعلوه نقيباً للأشراف بدمنهور. حدثني صاحبنا الأديب الفاضل محمد شكري أفندي المكي قال: لقيته مرة وكنت علمت بأمر تلك النسب وأردت مداعبته فقلت: يا أبا الفرج إن كنيتك تنبئ عن شرف عظيم فلعلك من نسل أبي الفرج بن الجوزي، فقال نعم يا سيدي صدقت وأصابت فراستك، ثم لقيته بعد ذلك بأيام وقد نسى ما دار بيننا فأعدت عليه الحديث وقلت له إجادتك في الشعر مع هذه الكنية تدلني على انك من نسل أبي الفرج الببغاء، فقال أي نعم وهو الواقع أ. هـ. ولا خلاف في انه كان يعلم قصد محدثه في أمر نسبه، إلا أنه كان يخرجه مخرج الجد حتى مع أخص الناس به ويغضب ممن ينكر عليه فتستظرف منه.
وادعى مرة أنه نال نصيباً وافراً من اللغة بحيث أصبحت لا يشذ عنه شيء من مفرداتها، وتمادى في هذه الدعوى وتبجح بها في المجالس، وتصدر للإجابة عن كل سؤال فيها يطرح عليه فتوالت عليه الأسئلة وهو يجيب عليها خابطاً خبط عشواء لا يبالي بمن يحتج عليه بكتب اللغة. وصار الأدباء من أصحابه يرتجلون له الفاظاً يسألونه عنها فيخترع لها معاني يجيب بها، وربما أحال تخرصاً على كتب لغوية يعينها، ونظم له بعضهم بيتاً كبيت الخنفشار وسأله عن معناه في جمع كبير من الأدباء وهو:
وبِخرْنقِِ الأقيال عاثت فالتثت ... وركاء تعترض الأكام بشيظم
فقال نعم! هذا بيت لعنترة، ذكره له صاحب الأغاني وهو يصف به حمامة، والخرنق شيء يشبه نسج العنكبوت وليس به، يكون بين أغصان الأشجار، فيقول إن هذه الحمامة عاثت بين الأقيال، أي الأشجار الكبيرة فالتثت قدماها بالخرنق أي اشتبكت به، وأما الشيظم، وأراد أن يفسره فقطعته أصوات الضحك من جوانب المجلس.
وبالجملة فقد كان خفيف الروح محبباً إلى القلوب أديباً ظريفاً حاضر الجواب حلو النادرة، وكانت وفاته فجأة بدمنهور في ثاني ليلة من شهر ربيع الثاني سنة 1310 بعد أن صلى العشاء، وكان آخر قوله أنا لله وأنا إليه راجعون، فشق نعيه على من عرفه وشيع جنازته الألوف تغمده الله برحمته.(53/51)
الشيخ زين المرصفي الشافعي
هو من طبقة الشيخ عبد الرحمن الشربيني والشيخ سليم البشري، إلا أن الشيخ سليماً أكبر منهما سناً، حضر إلى الأزهر وقرأ على كبار الشيوخ به حتى برع وتأهل للتدريس، ثم جعله الخديو إسماعيل معلماً للعربية لولده الأمير حسين كامل باشا سلطان مصر الآن، وبسبب مخالطته له ولمن حوله ألم ببعض اللغات، وسافر مع الأمير إلى القسطنطينية وكانت أسواقها لم تزل آهلة بالكتب العربية فاقتنى هناك كتباً نفيسة غريبة عن أهل الأزهر، فصار ينقل منها في تآليفه نقولاً يُغرب بها عليهم. ثم استخدم بالمدارس وترقى إلى أن صار كبير المفتشين بها، ولم يزل بهذا المنصب حتى توفاه الله يوم الأربعاء الخامس من جمادي الأولى سنة 1300، , فشيع جنازته لفيف من العلماء وجمع كبير من الناس، وأمر ناظر المعارف فسار فيها من كل مدرسة فريق من، تلاميذه وأناب عنه نائباً حضرها، ولما بلغوا به الجامع الأزهر للصلاة عليه وقف الشيخ حمزة فتح الله فأبنه ورثاه ببيتين من نظمه هما:
سقى الله من صوب الرضا أعظماً هوى ... بها ركن بيت العلم إذ دكه الحين
فلا غرو إن أضحت وجوه علومنا ... مشوهة فاليوم فارقها زين
رحمه الله رحمة واسعة.
وفى مقدمة شرح أحمد بك الحسيني لكتاب الأمّ للأمام الشافعي الذي سماه بمرشد الانام لبر أم الأمام ما نصه (زين المرصفي كان عالماً فاضلاً أخذ عن علماء وقته وجد واجتهد حتى صار من أكابر العلماء، وكان ذهب مع الرسالة المصرية إلى بلاد فرنسا زمن الخديو إسماعيل باشا وكان يجيد اللغة الفرنساوية، وله كتابات في المنطق والحكمة وكانت وفاته سنة 1300)
انتهى(53/52)
شعراء الجاهلية
طرفه بن العبد
للأستاذ بشير الشريقي
مسكين طرفة! لقد ثكلته آلهة الشعر والهوى والخمور باكراً غضاً نضير العود، مسكين لم يمتع بالشباب؛ بل كان لا يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره حينما طوته المنون في سجل العدم ودفنت معه عبقرية فياضة، وذهنية جبارة، وشاعرية قوية حارة. خمسة وعشرون حجة، إنها لحلم قصير يا طرفة. . ولكنه حلم لذيذ، وحلم جد عجيب أيها الشاعر الاغتنامي والشاب الفيلسوف المتهتك.
على رمال الصحراء الطليقة ولد طرفة، ولكن متى؟ هذا ما لا يعلمه أحد؛ كان والده من سادة (بكر وائل) ومن ذوي الشرف الرفيع والمقام المحمود في قومه، وسمع طرفة يفتخر بأصله:
لقد علم الأقوام أنا بنجوة ... علت شرفاً من أن تضام وتشتما
لنا هضبة لا يدخل الذل وسطها ... ويأوي إليها المستجير فيعصما
وتشاء الأقدار أن تسلب الشاعر والديه وهو لم يزل طفلاً في المهد فينشأ المسكين كما نشأ الحطيئة والأخطل وبشار وأبو نواس وابن الرومي، يتيماً محروماً من كل عطف ورعاية، لا يعرف سوى أعمامه الذين أهملوا تربيته وهضموا حقه.
لقد ثار طرفة في شبابه على هؤلاء الذين نبذوه وظلموه وكانوا علة شقائه، ثار على أعمامه وذوى قرباه، وفى ساعة ذكرى ماض محروق مهان، وطفولة نكدة محرومة، تلهم عرائس الشعر هذا العبقري الصغير أبياته الخالدة:
فمالي أراني وابن عمي مالكاً ... متى أدن منه ينأ عنى ويبعد
يلوم، وما أدرى علام يلومني ... كما لامني في الحي قرط بن معبد
وظلم ذوى القربى اشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
ولا أعلم كيف عاب بعض النقاد الأدباء هجاء طرفة لقومه في قوله:
أسامني قومي ولم يغضبوا ... لسوءة، حلت بهم فادحة
وكلهم أروغ من ثعلب ... ما أشبه الليلة بالبارحة(53/53)
وكيف رموه من أجل ذلك بكثرة الشر ولؤم الطبع، ما كانوا محقين وما كانوا منصفين، انهم لم يفطنوا إلى أن الشاعر ما قال بيتيه إلا بعد أن لاقى من قومه كل احتقار وقسوة؛ وكل ما من شأنه أن يجعل الشاعر يثور على البيئة التي نشأ فيها.
ثم هل تظن أن طرفة عنى قومه فقط حينما قال: (كلهم أروغ من ثعلب) أنا لا أظن ذلك بل أرجح أنه عنى الناس أجمعين، وأنه كان سيئ الظن بالبشر شديد الحذر منهم، أليس هو القائل في ذم الأخلاّء:
كل خليل كنت خاللته ... لترك الله له واضحه
ولد طرفة عبقرياً وشب عبقرياً، فأسمعنا وهو في زهرة العمر وفجر الشباب أناشيد الحياة والموت فأطربنا بأنغامه إلى حين، نعم إلى حين، فقد أخرس الزمن لهاته قبل أن يكمل الخامسة العشرين ربيعاً؛ وكأن طرفة كان يشعر بمصيره ويعلم أن أيامه في الحياة قصيرة؛ فراح يسخر بمن يردعه عن اغتنام لذائذ الدنيا ويزجره عن الخمر والنساء واقتحام الهيجاء:
ألا أيُّهذا الزاجري أحضر الوغى ... وان أشهد اللذات هل أنت مخلدي
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي ... فدعني أبادرها بما ملكت يدي
واعتقد طرفة أن (الكل باطل) ورأى أن هنالك شيئاً واحداً ثابتاً، هو أن الحياة تمضي، وما عدا ذلك أباطيل:
أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلة ... وما تنقص الأيام والدهر ينفد
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطِّوَل المرخي وثنياه باليد
لعمرك ما الأيام إلا معارة ... فما استطعت من معروفها فتزود
وما دام طرفة يرى أن اسمه سيمحى من سجل الوجود وأن قبر البخيل النحام في شرع الفناء كقبر الغوي الضال الذي قضى عمره في الشرب واللعب:
أرى قبر نحام بخيل بماله ... كقبر غوي في البطالة مفسد
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد
ما دام يرى ذلك فقد صمم على أن يغتنم أويقات الحياة ويتمتع بكل ما تناله يده من لذائذ ومتع فعاش - وهذا طبيعي ممن مات ولم يبلغ الخامسة والعشرين من سنه - صريع الكأس والأعين النجل؛ واهباً روحه للجمال وحسه للذة، أما نفسه فظلت كبيرة لم يذلها(53/54)
الهوى ولم يخضها الحسن، أبداً محترمة مهيبة طموحة إلى المجد:
إذا القوم قالوا (من فتى)، خلت أنني ... عُنيت، فلم أكسل ولم أتبلد
فإن تبغني في حلقة القوم تلقني ... وإن تقتنصني في الحوانيت تصطد
متى تأتني أصبحك كأساً روية ... وإن كنت عنها غانياً، فاغد وازدد
وان يلتقي الحيُّ الجميع تلاقني ... إلى ذروة البيت الشريف المصمد
نداماى بيض كالنجوم وقينة ... تروح إلينا بين برد مجسد
ومازال تشرابي الخمور ولذتي ... وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدى
إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردت إفراد البعير المعبد
شعر رقيق عبر به صاحبه فأحسن التعبير، وطريقة واقعية مذهبها الإباحة والصراحة، حقاً لقد خلق هذا الصغير طرفة شاعراً فياض القريحة، انظر، إنه ما فكر في غير نفسه، ولا استمد إلا من حسه.
ربما دهشت إذا قلت لك إن هذا الشاعر الشاب الذي مات قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين من عمره، والذي عاش كما قال بشار:
عشت بين الندمان والراح والمز ... هر في ظل مجلس حسن
قد امتاز أيضاً بما نظم من الحكم البالغة والأمثلة السائرة، لا تعجب، إن طرفة لم يكن مخلوقاً عادياً، بل كان عبقرياً ملهماً، نظر بعين بصيرته إلى الحياة نظر الشيخ المجرب، فحدثنا عن الوجود والعدم حديث العارف الحكيم، وعالج لنا خلال السنوات القليلة التي عاشها كثيراً من مسائل الحياة وأحوال المجتمع وخوالج النفس. قال يطلب الغيث لديار حبيبته:
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمى
شعر جزل فصيح، طلب الغيث على قدر الحاجة، لأن الفاضل ضار، وقد قال محمد (ص) (اللهم اسقنا سقياً نافعاً)
أنا وأنت وكل الناس نتمثل بقول هذا الشاب:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
واسمع إنه يحدثك عن الخير والشر:(53/55)
الخير أبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد
وتأمل قوله وهو في السجن - يخاطب قاتله عمرو بن هند
أبا منذر كانت غروراً صحيفتي ... ولم أعطكم بالطوع مالي ولا عرضي
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
ألا تشعر معي أن في قوله (أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا) نقاء وحرارة، وليناً وروعة واستعطافاً، وان قوله (بعض الشر أهون من بعض) آية يتمثل بها.
وذكروا أن من حكمه التي حملت فحول الشعراء كلبيد وجرير والأخطل على الاعتراف بفضله وتقدمه قوله:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويروى عن عائشة رض الله عنها قولها: كان النبي صلي الله عليه وسلم إذا استراب الخبر يتمثل بقول طرفة (ويأتيك بالأخبار من لم تزود) وكان ابن عباس يقول عن هذا البيت (انه كلام نبي).
النبي محمد يتمثل بقول طرفة.!
وابن عباس يقول إن كلامه كلام نبي.
وأبو العلاء المعري يقول في رسالة الغفران (. . لو لم يكن لطرفة أثر إلا قصيدته التي على الدال لكان قد أبقى أثراً حسناً).
أما قصيدة طرفة التي على الدال فهي معلقته، اسمع مطلعها الرائع:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وقوفاً بها صحبي على مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد
ونظر طرفة إلى الحياة، إلى المستقبل، بعين فيلسوف حكيم، بعين شيخ مجرب بصير بعواقب الأمور فقال:
قد يبعث الأمر العظيم صغيره ... حتى تظل له الدماء تصبّبٌ
رحم الله طرفة شاعر الشباب والجمال والحكمة.
شرقي الأردن
بشير الشريقي(53/56)
المحامي(53/57)
من طرائف الشعر
البلبل المسحور
لشاعر الشباب السوري أنور العطار
أَلهَمْنتيالشِّعْرَ وَأَنْغَامَهُ ... وَحَسْرةَ الذكْرَى وَشَجْو الهَوَى
وَحَيْرَةً صَاحِبُها ذَاهِلٌ ... مُرَوَّعٌ يُضْنِيِهِ فَرْطُ اْلأَسَى
نَاَدْتكِ رُوحي في دُجَى صَمْتِها ... مَمْرُورَةً غَلْغَلَ فِيها الْجَوَى
وَاسْمُكِ حَوَّامٌ يُنَاغَي فَمي ... قَلْبي طَوَاهُ وَلِساَني رَوَى
وَطَيْفُكِ الرَّفَّافُ في خاطِرِي ... يُنَضِّرُ المَاضي وَيُحْي الْمُنَى
آمَنْتُ بالْحُلْمِ فَكَمْ مَأْمَلٍ ... مُسْتَبْعَدٍ أَدْنَتْ خُطَاهُ الرُّؤَى
وَعَالَمٍ ضَلّلَني لُغْزُهُ ... مَدَّ عَلَيْهِ جُنْحَهُ فَانْجَلَى
يُطْمِعُني في عُزْلَتي أَنَّني ... أَرَى بِسِتْرِ الْغيْبِ مَا لاَيُرَى
أعي حَدِيثاً حَافِلاً بالرِّضاَ ... يُهَدْهِدُ الْقَلْبَ إِذَا مَا وَعَى
وَتَسْكُنُ النَّفْسُ إلى نَغْمَةٍ ... هَابِطَةٍ مِنْ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى
كم صُغْتُ أَشَعْارِي مِنْ وَحْيهِا ... وَكم تَغَنَّيْتُ بِهَا في الدُّجَى
قُلتُ لِنَفْسي في سُجُوِّ الرُّؤَى ... لَمْ آتِ دُنْيَايَ لَعَمْري سُدَى
لئن شَجَاني أَنَّني مَيِّتٌ ... لَقَدْ نَفَى شَجْوي أَنّي صَدَى
كَتَبتُ رُوحي قِصَّةً لَذَّةً ... وَصُغْتُ قَلْبي نَغَماً يُشْتَهَى
لَيْسَ يَنَالُ التُّرْبُ مِنْ مُهْجَتي ... وَلاَ يُذِيبُ اللَّحْنَ مِنْها الْبِلَى
طَوفَتِ الأَفْلاَكَ في سَبْحِهَا ... كَأَنَّها مَا حَفَلَتْ بالرَّدَى
أترَعَتِ الدُّنْيا شَذاً بَاقِياً ... وَغَلْغَلتْ طَيَّ الرِّحَابِ الْعُلَى
أغاضَنَي مِنْ فَرْحَتي حَسْرَةً ... مِنْ بَدَّلَ الضِّحْكَ بِمُرِّ الْبُكا
مَرَرتُ في دُنْيايَ مُسْتعجِلاً ... كأَنَّني في الغُمْضِ طَيفٌ سَرَى
تُزَيِّنُ الأحْزَانَ لي عِيشَتي ... وَتَرْسُمُ الشَّكَّ وَتَمْحُو الهُدَى
يَئِسْتُ مِنْ صَحْوي وَمِنْ غَفْلَتي ... كِلاهُما بَعْضُ خَيَالِ الكَرَى
أَسْلو، وَمَا سَلْوايَ إِلاَّ الْبُكا ... أَحْيَا، وَمَا عَيْشي إِلاَّ الشَّجَا(53/58)
ضاَعَتْ أَمَاني وَلَمْ يَبْقَى لي ... في عُمُري مِنْ أَمَلٍ يُرْتَجَى
وَلَمْ يَعُدْ لي مَطْمَحٌ مُشْرِقٌ ... إِلا انتحَاهُ الَمْوتُ نَضْرَالصِّبَا
أَمْسِ صِبَايَ الغَضُّ وَدَّعْتُهُ ... وَغَابَ عَنِّي في سَحِيقِ الْهُوَى
وَذَا شَبَابي الْيَوْمَ مُسْتَرجَعٌ ... يَمْشي إِليَ الَمْوتِ حَثِيثَ الخُطَى
وَقَلْبي الموْجُوعُ مَا يَأْتَلي ... يُمْعِنُ في النَّوْحِ إِذَا مَا اشْتَكى
حَنَّتْ إلى المَاضي جِرَاحَاتُهُ ... وَجُرْحُهُ قُدِّسَ لَمَّا مَضَى
آهاً عَلَى نُعْمى تَخَيَّلْتُها ... مَا جَزِعَتْ أَنْ هَدَّمتني ضَنَى
تَعْتَادُني الأَشْجَانُ في وَحْدَةٍ ... لا فَرَحُ يُسْعِدُهَا أوْ سَنَا
دَاجِيَةٍ نَكْرَاَء طَفَّاحَةٍ ... بالسُّهْدِ وَالبَلوَى وَبَرْحِ الأَذَى
العَدَمُ الرَّاعِبُ فيها لَقىً ... تَحْسِرُ عَنْ أَسْرَارِهِ مَا اخْتَفَى
وَالوَهْمُ مَلْمُوسٌ بِهَا بَيِّنٌ ... وَالغَيبُ فِيهَا ماثِلٌ يُجْتَلى
بُلْبُلُكِ الَمسْحُورُ يَا فِتْنتي ... مَاتَ، وَعُشُّ الحُبِّ مِنْهُ خَلا
الوَرْدُ قَدْ جَفَّ عَلى قَبْرهِ ... وَالنَّغَمُ المِطْرَابُ فيهِ ثَوَى
فَأَرْهِفِي أُذْنَكِ تَسَّمَّي ... إِنْشَادِهُ مِنْ جَوْفِ هَذَا الثَّرى
يَاطَيْفَهَا قَاسَمْتَنى وَحْشَتى ... وَظَلتَ في قُربى برغْمَ النَّوَى
عِشْ في فُؤادي بُلْبُلاً نَاغِماً ... وَابْقَ أَنِيساً ليَ طولَ المَدَى
أَسْمِعْني الأَلحانَ عُلْوِبةً ... وَأَنسِني الدُّنيا وَهَذَا الوَرَى
وَطُفْ بِرُوحي عَالماً سَامِياً ... عَاشَ بهِ الحُبُّ وَمَاتَ الْقلَى
تَعْتَنِقُ الأَملاكُ في سَاحِهِ ... وَيُسعدُ المُشتَاقَ فِيه اللقَا
دمشق
أنور العطار(53/59)
من الأدب الهندي
عود إلى محمد إقبال
للدكتور عبد الوهاب عزام
كتبت في الرسالة عام أول طرفاً من أخبار شاعر الهند العظيم، وفيلسوف الإسلام النابغة الدكتور محمد إقبال، وترجمت نبذاً من ديوانه (بيام مشرق). ولإقبال كتاب اسمه (أسرار خودي)، وهو كتاب منظوم شرح فيه (أسرار خودي) أي أسرار الذاتية، فبين بأسلوب شعري رائق أن حياة الإنسان والأمة في تقوية النفس، واستخراج كل ما فيها من قوى ومواهب، وأن الهلاك أن يغفل الإنسان عن فطرته، ويردّ د آراء الناس، ويحاكي أعمالهم. الخ
ولإقبال كتاب آخر اسمه (رموز بيخودي) أي رموز اللاذاتية، يبين فيه كيف يؤلف الإنسان نفسه القوية في الجماعة ساعياً إلى المقاصد العامة. والكتابان منظومان في بحر الرمل على القافية المزدوجة.
وسيرى القارئ في هذا المقال وما يليه نبذاً من الكتابين، على ان قارئ هذه الترجمة العربية المنثورة يفوته كثير مما يحس به قارئ شعر إقبال في لغته.
وفما لي قطعة من أسرار خودي:
(قصة شاب من مرو ذهب إلى السيد المعظم علي
الهجويريفشكا إليه حيف أعدائه عليه):
سيد هجويري قبلة الأمم الذي صار مرقده حرماً في بيرسنجر، جاب الأقطار، وقطع سلاسل الجبال، وبذر في أرض الهنود بذور السجود؛ فجدد عهد الفاروق بجماله، ورفع صوت الحق بجداله؛ عزت (أم الكتاب) بحماسته، وخربت دار الباطل بنظرته، وحيت أرض البنجاب بأنفاسه، وتلألأ صبحنا بشمسه، عاشق وهو رسول للعشق سيار، تتجلى، من جبينه للعشق أسرار.
أقص عليك من أنبائه عبرة، فأطوي بستانا في زهرة:
ورد لاهور شاب من أهلمرو مرير القوى، فأمّ حضرة السيد الرفيع ليقشع بشمسه ظلمات(53/60)
نفسه.
قال: يا سيدي أحاطبي الأعداء الفجار، فأنا منهم كزجاجة بين أحجار، فعلمني يا ذا السنا والسناء، كيف العيش بين هؤلاء الأعداء.
قال المرشد العليم الذي ائتلف في نفسه الجمال والجلال:
يا جاهلاً بأسرار الحياة، وغافلاً عن مبدئها ومنتهاها؛ افرغ من هم غيرك، وأيقظ القوة النائمة في نفسك. إن الحجر الذي يتوهم نفسه زجاجة بين الأحجار، ينقلب زجاجة غايتها الانكسار. ومتى ظن المسافر الضعف بنفسه، فقد أسلم لقاطع الطريق روحه. حتَّامَ تعدّ نفسك طيناً وماء؟ أخرج من طينتك شعلة الطور ناراً وضياء. ماذا التكبر على الأصدقاء، وما هذه الشكاة من الأعداء؟ لا ريب أن عدوك صد يقك، وأن وجوده رونق حياتك. كل من وعى مقامات الذاتية يحمد الله كلما ألفى عدوه في قوة.
العدو من الإنسان كالسحاب من الأرض، يغشاها، فيوقظ من سباتها قواها. وإن حجر الطريق ليسيل كالماء، أمام الهمة القعساء. وما السهل والحزن أمام السيل المنهمر، عقبة الطريق مسن لسيف العزم، وقطع المراحل اختبار لهذا السيف، ما العيش في أكل ودعة كالحيوان الأعجم؟ وما غناء الحياة وأنت في نفسك غير محكم؟ حصن نفسك بالذاتية يسخر لك العالم كله. تجرد من نفسك إن ترد الفناء، واعتصم بنفسك إن تبغ البقاء. هل الموت إلا غفلة عن الذاتية؟ وهل افتراق الروح والجسم إلا هذه المنية؟ اتخذ من نفسك مستقرأ لتنجو من الهلك؛ ثم امض قدما - كيوسف - من الإسار إلى الملك. تفكر في الذاتية وكن رجل الجلاد السباق إلى الغايات، كن رجل الحق المليء بالآيات. هأنذا أشرح بالقصص الأسرار، وأفتح بالنفحات أكمام الأزهار. (خير أن يأتي سر الأحباب حديثاً في قصص الآخرين)
(قصة الطائر الذي أنهكه العطشى)
بلغ العطش من طائر جهده، فاضطرب نفسه موجة من الدخان في صدره، فأبصر في بستان شذرة من الماس الوضاء، فخيل إليه العطش أنها ماء. وخدعت الطائر المجهود هذه الشذرة المتلألئة كالشمس، فتوهم الحجر الصلب ماء سائلا، وغره من هذا الجوهر بريقه فضرب بمنقاره فلم تنقع غلته. قالت الماسة: أيها الطائر المسحور! لشد ما ضربت بمنقار(53/61)
الغرور؛ لست قطرة من الماء، ولا شربة للظماء، ليست حياتي من أجل غيري. إن محاولة التقاطي جنونوغرور، وغفلة عن الحياة الذاتية الطهور، إن مائي يكسر من الطير منقاره، ويصدع من الإنسان جوهر روحه.
خاب أمل الطائر فأعرض عن هذه الشذرة الوضاءة، وانقلب الأمل في صدره حسرات، واستحالت أنيناً هذه النغمات. ثم بصر بقطرة من الطل على فننٍ من الورد، تتلألأ كدمعة في عين البلبل، ضياؤها استغراق في حمو الشمس، وهي من جوف الشمس في رعدة. كوكب خفاق ولدته السماء، فلبث لمحة في نشوة الظهور والضياء؛ وخدعته ألوان الأكمام والأزهار، فلم يأخذ من الحياة نصيباً، كدمعة العاشق العليل، زانت الهدب لتسيل.
ويسرع الطائر إلى فنن الورد فيلتقط قطرة الندى.
أيها المبتغي نجاة من الأعداء! خبرني أجوهر أنت أم قطرة من ماء؟ ألم تر إلى الطائر حين أذاب العطش مهجته كيف وقى بحياة غيره حياته؟ لم تكن القطرة في صلابة الجوهر، ولكن كانت الماسة صلبة المكسر. فلا تغفل عن حفظ الذاتية لمحة، وكن قطعة ماس لا قطرة. كن ناضج الفطرة راسخاً كالجبال، وتحمل بحاراً من السحاب الهطال. وجد نفسك بقوى نفسك، واستحل فضته بجمود زئبقك. أظهر نغمه الذاتية من أوتارها، وتجل للناس بأسرارها.
(قصة الماس والفحم)
وهذا حديث آخر يفتح لك من الحقيقة بابا:
قال الفحم للماس وهما في المعدن: يا من أودعت هذا التجلي الأبدي! نحن رفيقان، وفى المنشأ صنوان، وهأنذا أموت في معدني ذلة، وأنت تعلو تيجان الملوك عزة، وقدري من سوء الجبلة دون الحصاة، وجمالك يصدع قلب المرآة. يضيء بظلمتي المجمر الوقاد، فإذا غاية جوهري هذا الرماد. منزلتي من الناس مواطئ الأقدام، وغايتي أن أكون طعام النيران. إنها لحياة جديرة بالبكاء، فما وجودي إلا هباء؛ موجة من الدخان مركومة، وأما أنت فكالنجم وجهك وسيمتك تفيض بالنور كل جوانبك. فأنت حيناً قرة عين قيصر، وأخرى حلية في مقبض الخنجر.
قال الماس: أيها الرفيق البصير إن التراب الأغبر إذا نضج فهو جوهر، وأنا ما زلت أجالد(53/62)
ما حولي حتى أنضج الجلاد نفسي، فانقلبت صلباً كالحجر، مضيئا كالنجم، وامتلأ صدري بهذه التجليات. وأنت من حياتك النيئة ذليل، محتقر من رخاوة بدنك العليل، فرغ من الخوف والغم فؤادك، وانضج كالصخر وكن ماساً بجهادك. فكل من جاهد في الحياة صبوراً، يملأ العالمين نوراً. إن الحجر الأسود كان تراباً بالتكريم غير خليق، فصار حلية في صدر البيت العتيق، فاق الطور رفعة وصعد، حتى صار مقبل الأحمر والأسود.
إن في الصلابة ماء الحياة وسر البقاء، وإن في النيوءة الهوان والضعف والفناء.
عبد الوهاب عزام(53/63)
بين الشك والإيمان
الشاعر الإيطالي (ليوباردي)
'
1798 - 1837
للأستاذ خليل هنداوي
(أيتها الشريعة الجميلة! أنت ستعيشين طويلا معصومة من كل خطأ، وإذا هاجمنا الضلال نعوج إليك ونجد الحقيقة تحت ردائك، ويدك وحدها تقودنا إلى شاطئ السلام)
(ليوباردي)
- 1 -
في نفس (ليوباردي) سكن الألم الممض والشك العنيف متجاورين. فجعلا منه - في العمر الذي يبسم فيه كل شيء - شاعراً يحمل للناس مقاطع الأحزان، ونفاثات الأشجان.
قضى أيامه الأولى يساوره الداء من ناحية، والدرس والاعتزال ينهكان قواه من ناحية ثانية، على أن الدرس برغم متاعبه كان ينفخ فيه روح النشاط فيهب، ويحى أهواءه النائمة فتحيا.
كان لوالده الكونت (مونالدو) شغف بالأدب، يعوج إلى مجالسه وندواته، وقد بعثه شغفه هذا على أن يغرس في ولده هذه الروح، وأن يسهل له إدراكه. فكان أدبه الأول أدب إيمان وتقوى، يتعصب لهذا الأدب، ويحله من صدره أسمى مكان، ويحسب من لا يؤمن به جاهلا، وهو القائل في ساعات شكه وجموده (أيتها الشريعة، انك ستعيشين طويلاً معصومة من كل خطأ، وإذا هاجمنا الضلال نعوج اليك، ونجد الحقيقة تحت ردائك، ويفر الضلال فرار الذئب من الراعي، ويدك وحدها تقودنا إلى السلام)
- 2 -
كان الدافع الأول إلى شك (ليوباردي) هو سأمه من كل شيء في بلده، قال في إحدى(53/64)
رسائله (لا تحدثوني عن (ريكاناني) إنني سأحب وطني عندما أغدو بعيداً عنه، ماذا في ريكاناني؟ هل تنظرون ما أستطيع صنعه هنا؟ فالكل يجهلونني، وأنا مؤثر الحياة في هذا الوطن الذي لا تعرفونه بدون معجم جغرافي، مستخف بكل شيء. الآن صنع الإله الوجود جميلاً، والناس يصفون العظائم في كل الأنحاء، وهنالك كثيرون من الرجال يعدون بلهاء لأنهم جربوا أن يروا وأن يعرفوا! الأرض ملأى بالعجائب)
وهكذا قضى أيامه الأولي مغترباً عن أبيه الذي دعاه مراراً وتكراراً إلى العودة، وهو يأبى ويصر على البعد إصراراً. كتب له أبوه، (وما هي الحاجة الماسة التي تدعوك إلى هجرة دارك وأهلك إلى دار لا تتمتع فيها بمثل عطفي ورضاي؟) ولكن ليوباردي كان يهمل كثيراً هذه الأسئلة، وإذا أجاب أجاب بنفس ناقمة غاضبة ثائرة، يكتب إلى أحد أصدقائه (لأسهل عليك أن تحرك الجبل من أن تدفعه (والده) إلى صنع شيء من أجلي) ثم يقول: (على أنني اخترت هذه المرحلة؛ فلا آخذ منه شيئا، ولا أطلب شيئاً) وهكذا يغلب الكبرياء على ليوباردي ويصبح شقاؤه شقاء جباراً.
أوى ليوباردي إلى الدرس يجد فيه لذته النفسية، ولكن هل كان الدرس كله راحته من عنائه، وهناءه في شقائه؟ كتب في أحد كتبه يعبر عما يجد في ساعة الدرس:
(إن سبب تعسي هو عقلي، إنني أظن أنكم تعرفون، ولكني أثق بأنكم تجهلون كيف يقتل العقل صاحبه الذي يحاول أن يفكر على غير ما يفكر به الآخرون، عندما لا يكون لهذا الصاحب من لهو غير لهو الدرس. . أما العقل فقد أعطاني ويعطيني أمثال هؤلاء الشهداء، وبهذا وحده يفرض سلطته عليَّ ويكون سبب أذاتي. وسوف يقتلني إذا لم أبدل خطتي! ألا إن العزلة ما خلقت لمن يحترقون بأنفاسهم ويذوبون بأنفسهم)
بلى! ما كان أصدق ليوباردي في كلمته الأخيرة! لأنه كان معبراً عن حالة نفسية هي فيه. فقد تسرب إليه الداء حتى أنهك قواه فشح ناظراه وساءت صحته وركبته العلة إثر العلة. ووقر على ظهره عبث الحياة فقال (إنني ناضج للموت). ولكن الموت كان يرى هذه الثمرة غير ناضجة، فتركها عشرين عاما تنضج خلالها وتحمل من آلام الحياة ما ينوء بالجبابرة حمله، تائهاً ضالاً في مسارب الشك، مستجلياً الحقيقة كما استجلاها من قبله، طالبا ما تعده من وصل، ووعدها بالوصل علالة.(53/65)
أما نظرته الحادة وصوته المرنان وتألق نفسه وكل تلك الملامح القوية التي مثلها - سانت بوف - قد تغيرت في أخريات أيامه وإنما غيرها وقر الهم لا وقر الهرم، وإذا بليوباردي كما يصفه (رانيري) صديقه الوفي (ذو قامة مقوسة، ولون أبيض مشرب بصفرة، وجبهة مربعة عريضة، وعينان زرقاوين ذابلتين، وأنف دقيق، ولهجة مبهمة جافة، وبسمه ترافقها العذوبة والشقاء)
وهو يكتب عن نفسه:
(وأخيراً أتعبتني تلك الأعوام التي قضيتها في الدرس وأودت بجسدي، حتى لا يرجى لي شفاء غير الموت. وهكذا حطمت رجائي لأفهم أن الطرب لا يلائم قلبي. وإذ ذاك وجب على أن أرتدي ثياب الحداد وأن أتخذ التشاؤم رفيقاً لي لا يمكن فصله عنى إلى الأبد، نظرتُ فألفيت أن حياتي لا يمكن أن تكون إلا تعسة، ولكن هذا لم يبعثني على اليأس، فحبذا لو أن قواي تحملها بدون خوف وتحولها إلى شيء مفيد بعض الشيء)
وهكذا نستطيع أن ندرك أن أهم العوامل التي تألبت على هذا القلب فبدلت إيمانه شكلاً معذباً إنما هي عوامل جسدية ونفسية تضافرت على نضاله، وما فتئت تلح عليه وتنال منه، حتى تركته لا يهديه إلا شك، ولا يقنعه إلا جحود.
- 3 -
في هذه العزلة الموحشة التي اختارها لنفسه ارتبط مع الأديب الإيطالي (بيانرو جيورداتي) بصلات مودة متينة، وكان نجم هذا الأديب متألقاً في سماء بلاده، وهو ممن طرح القديم وأعلن شكه فيه، وراقت له المذاهب الجديدة فأخذ بها، فتمنى لو يرى ليوباردي بعد أن سمع عنه الشيء الكثير، فقصده في عزلته فمال إليه وأعجب به وكتب عنه (إذا كان دانتي نجمة صبح في سماء إيطاليا، فان ليوباردي هو نجمة مسائها)
لليوباردي صفحة مؤثرة كتبها في ليلة تحت أضواء القمر والنجوم المشعة، ذاهبة نفسه في الليل العميق كل مذهب:
(وفي ذلك المساء كانت نافذتي مفتوحة، وناظري يتمتع في هذا الصفاء السماوي وشعاع القمر المتهادي. أتروّح نسيماً عليلاً، وأصغي إلى عواء الكلاب المتناوحة في مواطن قصية عني. فخيل إلى أن صوراً ترقى إلى نفسي وأن قلبي يتسلط عليه قلق غريب، فهتفت كمن(53/66)
أصابه مس، طالباً رحمة الطبيعة التي خيل إليّ أنها تسمعني. في هذه اللحظة ألقيت أنظاري على ماضي، فتجمدت من الخشية أعضائي، وأنا لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن الناس أن يتحملوا الحياة بدون أوهام ولا أفراح ولا عواطف، بدون خيال ولا هيام، وبدون ما كان يملأ وجودي قبل عام، ويجعلني سعيداً برغم مخاوفي، أما اليوم فإنني يابس كالقصبة، لا عاطفة تتمشى في حنايا نفسي البائسة، وقوة الحب الخالد الطلقة قد ماتت وهلكت في العمر الذي أنا فيه).
كم مرة ذكر ليوباردي هذه الليلة العنيفة! وكم مرة تمثلت له هذه الليلة وهو ينظر في المروج الفضية الهادئة يغمرها نور القمر وهو ينجلي وراء (الابينين، وقمم الألب الشامخة) أو يتهادى على حضن البحر اللانهائي، وسائق العجلة يردد أغنيته الحزينة، مودعا آخر شعاع النهار، ثم يردد الشاعر: (وهكذا يغادر الشباب الحياة ويتركها تخمد رويداً رويداً، والأوهام الجميلة تتطاير مع الآمال التي كانت مساعدة للإنسان، ولكن أنتن أيتها الروابي التي ينحدر عنها النور، أنتن لن يغشاكن الظلام طويلا. . . ولكن حياة الإنسان بعد فرار الشباب لن يُلوَّنها شيء، وستظل غريبة حتى النهاية. . . والقبر وحده هو الذي يضع حداً لليل عمرنا!)
وفي عام 1818 نظف الشاعر رأسه من كل شيء. طلق الإيمان وودع الأوهام، فبقي وحده وسط خرائب جسده وروحه إزاء عالم فارغ وتحت سماء من نحاس، ومنذ ذلك العهد لم يتغنّ الشاعر إلا بأنشودة الشك التي رافقته حتى ودَّع الحياة.
- 4 -
وأخيراً نزع عنه الشك العابس كل إيمان بالله والخلود والعناية، فتلاشى منه كل شيء وانصرف عنه كل شيء، فلا آله عنده غير الطبيعة، تلك القوة العمياء التي لا تُدرك، يسألها عن سر الأشياء فتجيبه (وأنا طائعة للمقادير، أما أسباب الأشياء فهي ألغاز، لا أنا ولا أنت نستطيع إدراكها، فالأجدر ببني الإنسان أن يصرفوا عيونهم عن هذه الألغاز التي تقلقهم، فإن حلها كما خُيِّل إلينا انه صار قريباً زاد عنا بعداً)
لننظر ما هو الإيمان الجديد الذي اعتنقه الشاعر في بعض مقطوعاته (مومياء تُبعث) بعثاً مقيداً بلحظة زمنية، يسألها فيها (كيف ماتوا وماذا وراء الموت)؟ ولكنها تجيب (اسكت! لم(53/67)
يحن وقت الجواب. . .) وهكذا تكر هذه اللحظة، وتعود المومياء إلى رقادها الأبدي.
وهنالك مقطوعة صغيرة تدور حول رجل (ايزلاندي) فرّ في الأرض على وجهه من الطبيعة، ولكنه تلاقى معها في وسط الصحراء، فألح عليها بأسئلة كثيرة منها هذا التأنيب:
(لماذا قذفتِ بي في هذا العالم دون استشارتي، ولماذا بعد إيجادك لي لم تشغلي نفسك فيَّ؟ فما هي غايتك؟ وما عسى تبتغين؟ وماذا تريدين؟ هل أنت لئيمة أم عاجزة؟)
فأجابته الطبيعة: بأن ليس لها إلا سأم واحد وواجب واحد أن , تُدير دولاب العالم دورة واحدة يناجي فيها الموت الحياة، والحياة الموت. وإذ ذاك سألها الرجل (ومن عسى يبتهج بحياة هذا العالم الذي لا يبقى ولا يدوم إلا بموت كل الأجزاء التي تولف عناصره؟ ولكن الطبيعة لم تجشم نفسها عناء الجواب. . . وإذ ذاك انقض أسدان جائعان عليه فالتهماه فهوى هيكله على التراب منتظراً أن يسقط كلاهما بدورهما على رمال الصحراء.
السكوت هو الجواب البليغ على هذه الأحاجي والأسرار، لأن المستقصي عنها لن يرى إلا جداراً يعثر به ويدفعه إلى الوراء، وإذا سار فلن يسير إلا في صحراء لا يجد منها مخرجاً.
لم يختر ليوباردي شيئاً من حياة المستقبل ولا الحاضر، ولم ينظر إلى مستقبل الإنسانية، ولم يجرب أن يقف هواه على شيء في الحياة، وإذ أراد أن يمجد وطنه فلن يرى شيئاً جديراً بالتمجيد إلا ذلك الماضي، أما الغد فهو لا يؤمن به
(أيها الأسلاف العظماء، ألا تزالون تصونون لديكم شيئاً من الرجاء فينا؟ ألم نهلك نحن جميعاً؟ إنني محطم لا أملك أية قدرة أجابه بها الشقاء، أما المستقبل فهو جهنم في عيني، والذي أتبينه هو الذي يريني الأمل حلماً أو جنوناً)
لهجته - أينما صعدت - مبطنة بالكآبة العميقة التي لا يخفف منها مجد ولا علاء. يُسألُ عن الرجل العظيم فيقول (هو اسم سرعان ما يصبح كاللاشيء. إن فكرة الجميل تتبدل دائما مع الزمن. فالمسائل العلمية سرعان ما يتفوق عليها غيرها وتصبح نسياً منسيا، وإن أدنى رجل رياضي منا يعرف أكثر مما يعرف (غاليلو ونيوتن) فالمجد ما هو إلا خيال، والبراعة التي تكون مكافأة للمجد ليست إلا حاضراً مشؤوماً لمن يتقبلها) ثم يتكلم عن دانتي ويقول. (وعلى هذه الأرض القبيحة لم يؤثر إلا الجحيم، وأي منزل في الحقيقة لا يفضل على منازلنا الأرضية، إن الشقاء الذي يؤلمنا هو أقل ثقلاً وأقل شراً من السأم الذي يخنقنا.(53/68)
ألا أيها السعيد، أنت الذي حياتك في بكائك) وينظر ليوباردي إلى المستقبل نظرة سوداء ويعتقد أن الأجيال تسفل ولا ترتقي، ويسخر من المتأملين في تسامي الأحفاد
هنالك راع يخطر على قمم جبال (هملايا) متكئاً على عصاه يطيل التأمل في السكون المحيط به، وينظر إلى القمر الهائم مثله في السماء فيسأله: (قل لي أيها القمر! ما قيمة حياة الراعي، وما قيمة حياتك أنت؟ بل ما قيمة حجى الفقير وسُراك الأبدي؟ أنت أيها المسافر المنعزل الخالد والملك المفكر، ربما تفهم أنت حياتنا وآلامنا وتنهداتنا، وربما تفهم الموت والصفرة السامية، وسفر الأرض ووداع الصداقات الجميلة. انك بلا شك تفهم أسرار كل هذه الأشياء ولكني لا افهم ولا أعرف إلا شيئاً واحداً. ليأخذ البعض من هذه الحياة خير ما فيها، يستنقذونه من ثوراتها الهوجاء ومن كائناتها الضئيلة. قد يمكن لهم ذلك. ولكن الحياة هي شر من اجلي)
وهل في هذه القطعة إلا اليأس من الحياة والكفر بها في شعر جميل
يتبع
خليل هنداوي(53/69)
العلوم
تغير شكل الأرض من الكروية
بقلم نعيم علي راغب
دبلوم عال في الجغرافية
كلنا نعرف أن الأرض التي نعيش عليها كروية الشكل. وقد برهن علماء الجغرافية على صحة هذه النظرية ببراهين عديدة كانت ولا زالت موضوعاً من مواضيع دروس الجغرافيا في المدارس، من أهمها الظل المستدير الذي تلقيه الأرض على سطح القمر إذا ما حالت بينه وبين الشمس.
إلا أنه قد ظهر أخيراً بين العلماء المحدثين من يقول بأن الأرض يتغير شكها من كروي وهو ما يطلق إلى شكل هرمي له أربعة أضلاع، كل منها مثلث متساوي السيقان.
والنظرية لا تعتمد في إثباتها على براهين نظرية أو خيالية، وإنما تعتمد على حقائق جغرافية ملموسة موجودة فعلاً على الأرض، فهي براهين عملية ثابتة. وسأنقل النظرية لحضرات القراء ملحقاً كل نقطة بالتفسير الكافي وذلك لخطر الموضوع الذي نبحث فيه وخطر النتيجة التي تنتج عن إثباتها علمياً.
قال صاحب النظرية:
(هناك على سطح الأرض منخفضات لم تغمرها المياه بعد، من أهمها ذلك المنخفض العظيم الذي يقع فيه بحر الكاسبيان الذي يفصل وسط وشرق آسيا عن أفريقيا وأوربا، والذي غمرته المياه في العصور الحديثة. إذا علمنا هذه الحقيقة الجغرافية وعرفنا أن هذا اتصال بالمنخفضين اللذين تغمرهما مياه المحيطين الأطلسي والهادي سهل علينا أن نفهم أو نعرف كيف أن شكل الأرض يبعد عن الكروية بالتدريج مقترباً نحو الشكل
في هذه النقطة يمهد صاحب النظرية الطريق للفكر لتسوغ نظريته، وذلك بإلقاء حقائق جغرافية ثابتة يرى أنها تساعد على فهم نظريته إذا ما أراد البرهنة عليها. وهاهو ذا بعد ذلك يريد أن يعلل سبب اتخاذها الشكل الهرمي دون سواه مستعيناً في ذلك بحقائق جغرافية أخرى. فيقول:(53/70)
(باطن الأرض لا زال حاراً منصهراً يبرد بالتدريج، وهو يقل حجماً بالبرودة. ولما كانت القشرة الأرضية صلبة لا يمكنها تقليل حجمها تبعاً لذلك فإنها تتقلص وتغير من شكلها تبعاً لانكماش باطن الأرض فتتخذ الشكل الهرمي).
أي أن باطن الأرض حارٌّ ملتهبٌ منصهر، ولكنه يبرد بالتدريج، فسيجيء وقت مستقبل يصل فيه إلى أقص درجة، أي لدرجة التجمد، وعندها يقل حجمه تبعاً لقانون الانصهار. وبما أن الحيز الذي كان شاغلاً له قبل التجمد سيكون جانب كبير منه بعد ذلك شاغراً، فان القشرة الأرضية أو الغلاف الخارجي سيضطر بفعل الفراغ الداخلي أن يغير من شكله لملئ هذا الفراغ مع عدم تغير في حجمه. وقد وجد الأستاذ صاحب النظرية أن الأرض سائرة في هذه الطريق، وأنها ستتخذ الشكل الهرمي دون سواه لحقائق جغرافية تبرهن على صدق قوله وصحة اعتقاده. ولظنه أن هذا الشكل يمكن القشرة الخارجية من التمشي مع وصول الباطن إلى اقل حجم ممكن دون المساس بحجم الغلاف الخارجي.
(ولو أنني أعرف جيداً أن المعضدين لهذه النظرية أقلية صغيرة إلا أنني أقول إن هناك حقائق جغرافية كثيرة تؤيد وجهة نظري وتبرهن على صحة نظريتي:
أولاً: تركز اليابسة حول مساحة مائية في النصف الشمالي من الأرض.
ثانياً: كل مساحة مائية في جهة يقابلها كتلة أرضية في الجهة الأخرى.
ثالثاً: وجود ثلاثة مناطق مرتفعة تكون عقداً أو أحزمة أرضية شمالية وجنوبية يفصل بعضها عن بعض منخفضات هي منخفضات المحيط الأطلسي والهادي ومنخفض الكاسبيان.
والشكل رقم (1) يساعدنا على فهم ذلك.
وتفسيراً لذلك نقول. أنه لما كانت الأرض في حالة الليونة الأولى وكانت تدور حول محورها بسرعة، أخذت الشكل الكرويكأي جسم لين يدور حول محور، وانبعجت عند خط استوائها ثم تفرطحت عند القطبين بفعل قوة الدوران.
وكانت الأرض في العصر الأيوزوي أقرب في شكها من الكروية التامة تغطيها المياه. فلما أخذت تبرد بدأت القشرة الخارجية في التقلص فظهرت أراضٍارتفعت عن المياه المغطاة بها (شكل 2 أ). وفى العصر ألباليوزوي مساحة اليابس تتزايد وأخذت الأرض(53/71)
شكلاً كما يقول العلماء عبارة عن هرمين غير كاملين متصلين ببعضهماوكانت الأحزمة أو الكتل الأرضية بدلاً من اتجاهها من الشمال للجنوب (مثل الأمريكتين) كما هو حادث الآن. متجهة من الشرق إلى الغرب. وكانت عبارة عن كتلتين أو حزامين كما يطلق عليهما إحداهما شمالاً والآخر جنوبا يفصل سطحيهما مساحة مائية عظيمة. ولما كانت الأرض لازالت آخذة في البرودة بالتدريج فان الكتلة الجنوبية قد بدأت في الانكماش وكادت تختفي، وأخذت الأرض تسير نحو تكوين شكل هرمي واحد هو تكملةللكتلة الأرضية الشمالية (شكل 2 جـ)
هذا هو شرح صاحب النظرية لفكرته وهو شرح واضح وافٍ نعرف منه أن الأرض التي نعيش عليها سائرة في طريقها إلى تكوين شكل هرمي. وقد يعترض معترض فيقول لم لا تأخذ الأرض أي شكل آخر غير هذا الشكل الهرمي؟ ولم كان هذا الهرم مقلوب الوضع، أي أن قاعدته من أعلى. وردي على ذلك بسيط للغاية. لأن الحقائق الجغرافية والخرائط التي أمامنا يظهر عليها أن اليابس يتركز في الجزء الأعلى، وأنه من الممكن جداً أن ندخل شكل اليابس داخل أضلاع المثلث. وهذه الظا هرة إن دلت على شيئ فلا أقل من أن الجزء الأعلى يكون القاعدة. ثم إن هناك نقطة أخرى وهي أننا نلاحظ جميعاً أن القارات الجنوبية ينتهي أغلبها بأشكال مدببة، فأمريكا الجنوبية وأفريقيا وأستراليا بمجموعة جزائرها تكون أشكالاً تنتهي بمدببات، ومن جهة أخرى فأن الشكل الهرمي كما سبق ذكره يمكن القشرة الأرضية من التشكل تبعاً لنقص حجم باطن الأرض بالبرودة دون أي مساس بحجمها هي. وفي قوله هذا شرح أو رد للاعتراض الثاني أي أن شكل الأرض الآن على ماهي مرسومة عليه في الخرائط يبين أن القاعدة من أعلى لا من أسفل.
وفى هذه النظرية يقول البروفسور و. هـ. هوبز ما معناه (إن الكرة الأرضية لا يمكن أن تعتبر بأي حال من الأحوال كرة تامة التكوير إذ لابد من أن تعاقب العصور الجيولوجية المختلفة قد أثر في شكلها التأثير البين وحور فيه. وهي تقترب في الوقت الحالي نحو الشكل الهرمي. ويجب ألا ننسى أن الزوايا الحادة قد استدارت، وأن الشكل الهرم قاعدته من أعلى، يبرهن لنا على صحة ذلك رحلتا نانس أولا، وبيري ثانيا، إلى القطب الشمالي إذ أثبتت وجود كتلة أرضية في الشمال يزيد ارتفاعها على 10 آلاف قدم عن سطح البحر(53/72)
يمكن اعتبارها أكبر مساحة أرضية على سطح الأرض إذا ما ضمت إليها مساحة ثلاجاتها وجزرها.)
هذه هي النظرية أقدمها لحضرات علماء الجغرافيا في مصر راجياً الإدلاء برأيهم فيها. على أنه يجدر بي أن أذكر أن هذا التغير والتطور في شكل الأرض هو تغير تدريجي، بطيء يحتاج لآلاف السنين، وأنه لذلك يمكن اعتبار الأرض التي نعيش عليها كروية أو قريبة للكروية ولو أنها في الحقيقة سائرة في طريقها إلى تغيير شكلها الذي نعرفه.(53/73)
القصص
الدون جوان
لموليير العظيم
ترجمة حامد اسعد محمد
الفصل الرابع. المنظر الثاني
(الدون جوان أحد فقراء الأشراف الفرنسيين. يغلق بابه دائما في وجه الدائنين. يحضر المسيو ديمانش بائع الملابس والخائط وهو أحد دائني الدون فيطلب مقابلته)
الخادم زجانارل: سيدي. قد حضر المسيو ديمانش وهو يريد التحدث إليك.
الدون جوان: دعه يدخل. إن التهرب من مقابلة الدائنين لا يجدي نفعاً. سأعمل جهدي لاستقباله استقبالاً حسناً دون أن أدع له فرصة الطالبة بدينه
(يدخل المسيو ديمانش)
الدون جوان: أهلاً وسهلاً بالمسيو ديمانش. كم أنا مسرور برؤيتك. وكم أنا آسف لأن الخدم تركوك تنتظر في الخارج أكثر مما ينبغي. ولكن معذرة، إذ أنني أمرتهم بعدم دخول أحد، ولكن هذا لأمر طبعاً لا يسرى عليك فان لك الحق أن تحضر دائماً دون أن يمنعك أحد.
المسيو ديمانش: سيدي. أنا عاجز عن شكرك. لقد حضرت لـ. . . .
(يقطع الدون جوان عليه حديثه فينادي خادمه)
(الدون جوان: اسرع باحضار كرسي (فوتيل) للمسيو ديمانش.
المسيو ديمانش. سيدي. لا داعي (للفوتيل). إنني مستريح
الدون جوان: لا. أبداً. يجب أن تجلس بجانبي.
المسيو ديمانش: لا ضرورة لذلك. لقد أتيت فقط لـ. . . . .
(يمنعه الدون جوان إبداء الغرض من زيارته له فيقول للخادم)
الدون جوان: خذ هذا الكرسي الصغير وأسرع بإحضار (فوتيل)
المسيو ديمانش: سيدي أنت تهزأ بي. لقد جئت لـ. . . .
الدون جوان: لا. لا أقصد السخر منك. إنني أود أن أستقبلك كما يليق بك. وأود ألا أجعل(53/74)
هناك فرقاً بيني وبينك.!
المسيو ديماننش: سيدي. . . .
الدون جوان: تفضل بالجلوس.
المسيو ديمانش: لا ضرورة للجلوس يا سيدي. أريد أن أقول لك كلمة فقط. لقد حضرت لـ. . . .
الدون جوان: تفضل بالجلوس.
المسيو ديمانش: لا ضرورة لذلك يا سيدي. إني مستريح كذلك. لقد حضرت لـ. . . .
الدون جوان: لا. لا. لن أستمع إليك حتى تجلس.
المسيو ديمانش: سيدي. سأفعل ما تريد. لقد حضرت لـ. . .
الدون جوان: ما شاء الله يا مسيو ديمانش. إن صحتك جيدة جداً!!
المسيو ديمانش: نعم يا سيدي. أنا في خدمتك. لقد حضرت لـ. . . . . .
الدون جوان: إنك في صحة حسنة حقاً. وجهك متورد. وعيناك يلمع فيهما بريق القوة.
المسيو ديمانش: أنا شاكر لعطفك يا سيدي. لقد حضرت لـ. . .!
الدون جوان: كيف حال مدام ديمانش زوجك؟
المسيو ديمانش. نحمد الله، إنها في صحة جيدة يا سيدي.
الدون جوان: إنها امرأة طيبة القلب حقاً.
المسيو ديمانش. إنها خادمتك يا سيدي. لقد حضرت لـ. . .
الدون جوان. وكيف حال ابنتك كلودان؟
المسيو ديمانش: إنها على احسن حال يا سيدي.
الدون جوان: كم هي جميلة وذكية. إني أحبها من كل قلبي
المسيو ديمانش: انه لشرف عظيم لها يا سيدي. لقد حضرت لـ. . .
الدون جوان: وطفلك كولان. ألا يزال يكثر من ضوضائه؟
المسيو ديمانش: نعم يا سيدي. لقد حضرت لـ. . .
الدون جوان: (ضاحكا) وكلبك (برسكيه) لا يزال يعض كل من يزورك؟!
المسيو ديمانش: اكثر من قبل يا سيدي. ولكني جئت لـ. . . . .(53/75)
الدون جوان: لا تعجب من كثرة اسئلتي عن أسرتك فإنني أحبها كثيرا وأود سماع كل ما يتعلق بها.
المسيو ديمانش. إننا عاجزون عن شكرك يا سيدي. لقد. .
الدون جوان: (يقف ويمد يده لمسيو ديمانش مشيراً بذلك إلى أن المقابلة انتهت)
ضع يدك في يدى كصديق
المسيو ديمانش. إني خادمك يا سيدي
الدون جوان: يا إلهي! كم أنت رقيق وظريف. إني أحبك كثيراً
المسيو ديمانش: انه لشرف عظيم يا سيدي. لقد حضرت لـ. . .
الدون جوان: إني على أتم استعداد لعمل كل ما تريد.
المسيو ديمانش: سيدي. لقد أحسنت إلي كثيراً.
الدون جوان. وكل هذا بدون مقابل
المسيو ديمانش: إني لا أستحق كل هذا العطف. ولكنني حضرت لـ. . . . .
الدون جوان: العفو يا مسيو ديمانش. هلا شرفتني بتناول العشاء معي هذه الليلة؟
المسيو ديمانش: شكراً لك يا سيدي. يجب أن أرجع إلى منزلي في الحال. لقد جئت لـ. . . . .
الدون جوان: (يقف ويمد يده للمسيو ديمانش إشارة إلى أن الأخير يجب عليه أن يستأذن في الانصراف)
أسرع يا زجانارل وأحضر المشاعل لتوصيل المسيو ديمانش. وخمسة من خدمي بأسلحتهم لحراسته أثناء رجوعه إلى منزله
المسو ديمانش: (يقف أيضا مضطراً) سيدي. لا ضرورة لكل ذلك. يمكنني الرجوع وحدي، ولكنني جئت لـ. . . .
(يأتي الخادم في الحال ويأخذ الكرسي الذي كان يجلس عليه المسيو ديمانش)
الدون جوان: كيف لا يا سيدي وأنا خادمك أو بالأحرى مدينك؟
المسيو ديمانش: (تنبسط أسارير وجهه ويقول) آه. سيدي
الدون جوان: انه فضل لا يمكن أن أخفيه. وإني لأعترف به أمام جميع الناس.(53/76)
المسيو ديمانش: شكراً. إذاً لقد حضرت لـ. . . . .
الدون جوان: ألا تتنازل بالسماح لي بأن أوصلك؟
المسيو ديمانش: سيدي. انك تهزأ بي. سيدي لقد. . . .
الدون جوان: ضع ذراعك في ذراعي إذا تفضلت. أود أن تكون على ثقة من أنني خادمك. وإني على استعداد لأبذل لك كل غال ونفيس
(يخرج المسيو ديمانش ويوصله الخدم إلى بيته)
حامد أسعد محمد عاشور(53/77)
قصة في رسائل
سعادة لم تتم
بقلم عبد الوهاب الخطيب
صديقي:
تسألني ما بالك كثير الإطراق، دائم التفكير، حائر البصر، مشرد اللب، بادية عليك علائم السقم؛ كأنك تعالج كتمان أمر في نفسك شديد على لسانك إعلانه. أو تشكو داء لا قبل لمثلك باحتماله. وتعلم يا صديق أنني كنت قبل ذلك كنت مرحاً غاية المرح، طروباً نهاية الطرب؛ وأنني كنت في مرحي وطربي لا أخرج عن كوني شاباً سعد حقبة من الزمان بالأمل الباسم وعين الزمان نائمة - والأمل جذوة الشباب وشعلته، وروحه وقوته، ومرحه وطربه، ولهوه ولعبه - فكنت بما بين ضلوعي من أمل أجري مع الشباب إلى تلك الغاية التي رسمتها لنفسي، مستسهلاً في سبيلها وراء الأمل كل صعوبة أمام الشباب، حتى إذا كنت من آخر المضمار قاب قوسين أو أدنى، فتح الدهر عينيه، ثم تثاءب وتمطى، ثم التفت إلي ونظر نظرة أنت تعلم ماذا كان وراءها!
يا ويحي!! لقد تأنق في مكروهي القدر، أخ في الورد من أيامه بالورد عثر، وعم ظلله المشيب ففر منه ونفر، وأمل علىآثارهما تحطم واندثر. ثلاثة أشباح كانت صروح سعادة ومنتديات أحلام، لم يفارق العين خيالها، ولم يهدأ القلب من طعناتها، ولم أفتأ اذكرها من حين إلى حين.
قلت قضاء حُمَّ، وأمر من الله نفذ، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، واستعنت الله على هذه النوازل فأعانني، واستهديته فهداني. وإن كانت في القلب جمرات من الأسى، مغطاة برماد من الصبر خفيف ضئيل. ولبثت على ذلك برهة كانت أقصر من عمر آمالي وسنات أحلامي، لم أشعر فيها بشيء من معاني الحياة، الهم إلا بذكرى في قلبي تتمثل، وخيال أمام عيني يتنقل. وكنت مع ذلك أرى كما يرى الناس، وأسمع كما يسمعون، أسير كما يسيرون. غير أني كنت انظر بعينين فيهما انكسار من بقايا آثار المدامع، وأسمم بأذنين فيهما رنين من صدى تلك الفجائع، وأمشي على قدمين يؤودهما حمل هذا الهيكل السقيم الناحل المتهدم، مشى من حنت ظهره السنون، وأثقلت كواهله الليالي والأيام!!(53/78)
ثم رأيتها لأول مرة، وقد ألقى عليها بارىء النسم ثوبين ضافيين من جمال وجلال، فأحسست نحوها بحنان كأنه رقة العشق، سرى في دمي سريان الكهرباء في أسلاكها، ومكثت طول يومي أفكر فيما سيصير إليه أمري بعد تلك النظرة التي كانت توفيق أقدار لأقدار.
يا لله يا صديقي! لشد ما ملكتإحساسي وشعوري في المرة الثانية، والقلب الهواء تجد فيه كل غيداء فراغاً لها. وكان قلبي لا يزال واقفاً على أطلال الأمل، يندب شجوه ويبث لوعته. فنظر إليها نظرة كنظرة إبراهيم في النجوم وقال إني سقيم. وكأنما، أرادت أن تداويه كما يتداوى شارب الخمر بالخمر، فرنت إليه بنظرة جمعت شعبه ولمت شتاته، وأطفأت لهبه وأحيت مواته، فالتفت في مثل انكسار جفونها، ورفعالراية بالإذعان في شكر، والتسليم في طاعة. ثم كان بعد ذلك ما كان.
أخذ فكرى يسبح رويدا رويداً في ملكوت لا نهاية له من الخيال وراء هذه الظاهرة الغريبة التي ملكتني، وأصبحت أشعر بحياة جديدة فيها معنى حائر بين سعادة لا نهاية لها، ذلك أني احتويتها في جوانح القلب، واتخذت من عبقري جمالها ريشة لعبقري خيالي، فكان لا يرتسم في ذهني معنى إلا وفيه من حسنها مثال، ولا يقع نظري على شيءإلا وفيه منها رونق بهجة أو شعاع جمال، تلك سعادة علوية ساحرة قاهرة، تغطي على كل سعادة في الأرض لتظهر هي في صورتها البديعة اللطيفة فتنة لمن يراها أو يحس بها من الناس أجمعين.
لا أستطيع يا صديقي أن أصفها لك، فهي روح، والروح لا توصف، وهي حياة، والحياة لا يمكن إنسانا في الوجود تكييفها، وهي مع هذا وذاك سر لا يدركه غيري، ولا يحسه أحد سواي، وكل ما أستطيع أن أقوله لك إنها مشرقة الطلعة، معتدلة القامة. مطمئنة السير، فيها لمحات محدودة من الإنسانية العالية السامية. هبطت بها إلى هذا الملأ الذي نعيش فيه كدليل حسي على أسمى مراتب الجمال وأتم مظاهر الجلال.
لقد مضت علي يا صديقي مدة تزيد على ثمانية عشر شهراً،
لم أحاول فيها أن أطرق سمعها - على قربها مني - بكلمة واحدة تفهم منها ما يكنه قلبي من الحب لها والوجد بها، وكم تمنيت أن أسمع من فمها الرقيق الساهم الحالم كلمة واحدة،(53/79)
فلم أجد إليها من سبيل، كما أني لم أملأ منها عيني حياء وخجلا، واكتفاء بصورتها المرسومة في حبة القلب وفوق صفحات الخيال، على أن طريقي كانت تتحول تبعاً لها على غير قصد مني، حتى إذا لم يكن من توديعها بالنظرة بد، وضعت يدي على صدري كمن يتلمس شيئا فقده، وما فقدت إلا قلباً تقطر كالدمعة الحمراء من بين أهداب الجفون.
لا يزال صولجان المقادير يقذف بقلبي في واد من الذكريات القديمة ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب، كلما طال علي الأمد في لقائها، والآن يا صديقي وقد مضت علي مدة تزيد على شهرين لم المحها فيها لمحة واحدة، أقول لك إن هذا هو سر إطراقي وتفكيري، فلا تسألن عن شيء بعدها حتى أحدث لك منه ذكرا.
21 - 7 - 1932 صديقكجمال
صديقي:
أوقد فعلتها؟ يا قلبي!! ما كان أحرصني على الاحتفاظ بالسر وكتمانه، لولا أنني أعتقد أن لي من قلبك وإخلاصك ووفائك ما يجعلني أستريح إلى أن أبوح لك (في شيء من التحفظ كثير وبعد مضي زمن على كتمان هذا السر طويل) بما كنت أقاسيه أناء الليل وأطراف النهار من لواعج قلبي، وزفرات أنفاسي ودموع عيوني، ولكن غفر الله لي ولك يا صديقي ما تقدم من ذنبنك وما تأخر، فان هذه القلوب الطاهرة البريئة، المكتهله في شبابها، الرزينة في حبها، لا يمكن أن تتصل في يوم من الأيام بغير ما يماثلها شرفا وطهرا، ورزانة ونبلا.
ولئن وقع خطابي في يد غير يدها، ورأته عين غير عينها، وطرقت نبراته الحزينة سمعاً غير سمعها لخطأ في الاسم كما يقال، فانني لسعيد مغتبط، هنئ ملئ قرارة نفسي وطوايا فؤادي، ذلك أن خطابي وقع في يد شريفة وعند قلب ذي إحساس سام، يعرف المعنى المرتسم فيه كما أريد، وأغلب الظن أن الله قد يهئ لي من أمري هذا رشداً. ولعله يكون قريباً والسلام.
14 - 9 - 1932صديقك جمال
عزيزتي:
عبثا كنت أخادع قلبي بالسلو عنها أو الإفلات من براثن حبها بعد أن جاءني خطابك(53/80)
الأخير، فإنها لم تدخل قلبي إلا بعد أن صهرته آلام الحياة وأحزانها، وأصبح نقيا شديد الإيمان بقضاء الله وقدره، صادق الإحساس بما يجري حوله في الحياة من مظاهر خادعة وأخرى مخدوعة، مطمئنا إلى الحياة من حيث هي وجود ناقص أحياناً وتام أحيانا، عالماً أن لكل شيء نهاية لابد وأن ينتهي إليها
ولقد أيقنت من يوم أن أحسستها تجري في دمي أن الله قدر لي أن أحبها، فأحببتها لنفسي، وأحببتها لأن الله أراد ذلك، وكان قلبي صادق الحس بها، فلم تكن خادعة ولم يكن مخدوعاً، وكان وقوراً حكيما فاكتفى بأن يحبها هو من غير أن يتساءل ما هي ميولها نحوه؟ وهل تعلم أن في العالم المحيط بها قلبا يرفرف عليها في غدوها ورواحها، في مسائها وصباحها، في يقظتها ومنامها، في دمعتها وابتسامتها؟ ومن هو صاحب هذا القلب؟ وبعد ذلك اطمأننت إلى أن الحياة من حيث هي وجود ناقص، هي تلك الساعات التي لا تجرى فيها المدامع من شوق، ولا تسيل فيها النفوس من ذكريات وحنين، وأيقنت بعد هذا وذاك أن الحب كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها، ولا يقال في نقطة منها إنها نهاية إلا قيل في نفس الوقت إنها بداية
لقد ذهبت بك الظنون كل مذهب في أمري، بل أيقنت أنك قد أصبت المرمى حين أرسلت إلى خطابك المفوق، وإني أقول لك بلغة يقطر منها الشكر إن خطابك كان فيه الشفاء لقلبي من الناحية التي تريدينها، وإني ما سكت هذه المدة إلا لأختبر قلبي واستشير عقلي، أما القلب فلم يجد عنها حولا، وأما العقل فأشار بأخذ رأيك فيها من جهة ميولها نحوي، فان كنت عندها شيئاً فابسمي يا دنيا، وأشرق يا أمل
كنت في بعض الأيام اراها، فيحترق قلبي من الشوق إليها وهي أمامي، ولا يكاد نظري يلتقي بنظرها حتى ينقلب إلى خاسئاً
وهو حسير، وكنت أستجمع قواي كلما رأيتها لألقى إليها بالتحية في فيحتبس لساني من العي - لا طبيعة فيه ولكن جلالا لا أدرى له مدى، وجمالاً لا أعلم له غاية، وسحراً بين هذا وذاك قوياً شديداً، كانت ثلاثتها تقيد لساني عن النطق تقييداً أعتبر نفسي منه في حد من السعادة محدود - ولقد كان الجو المحيط بنا يمرح في عبق من أنفاسها وتحايا قلبي، غير أنها كانت كالزهرة تفوح رائحتها عند الصباح، وكان قلبي كعود الصندل، كلما لا(53/81)
مستهالنار فاح.
مرت تلك الأيام كالأحلام الكبرى لذيذة مستعذبة، قصيرة كالنظرة، طويلة كالعبرة، وخلفتها أيام أعاني من مرها ما أعاني! فلقد سافرت إلى البلدة لقضاء بضعة أيام هناك، وكأنما كانت الأسقام مني على ميعاد:
يا ويح أهلي يروني بين أعينهم ... على الفراش ولا يدرون ما دائي
ومكثت هناك بدل سبعة الأيام التي صرح لي بها سبعة عشر يوماً. ثم عدت إلى القاهرة وفارقت الحي الذي ولد فيه هواي وترعرع، إلى حيث أنا الآن، وهأنذا ابعث إليكما منه وراء قلبي بتحيات كأضغاث الريحان لا تكاد تبلل بندى المدامع حتى تجفف، بزفرات الأنفاس، والسلام.
فبراير سنة 33 جمال
صديقي:
كتب أحد الحكماء إلى صديق له يقول (يا أخي إن أيام العمر أقل من أن تحتمل الهجر) وكنت قرأت فيما قرأت كلمة للامرتين يقول فيها (إن الحب القوي المطمئن صبور) فأنا بين هذين في حيرة، ترى متى أهتدي إلى سبيل؟.
مارس سنة34
جمال
أختي سعاد:
لماذا لا تكونين بجانبي في كل لحظة كما كنت من عهد قريب؟ أنا في شدة الشوق إليك وإلى سماع حديثك العذب الجميل، وكم أود أن أفضي إليك بسر يجيش به صدري ولا يمكن أن ينطلق به لساني لغيرك. كنت إلى الأسبوع الماضي فارغة الفؤاد، وكنت على أن أطلب إليك الحضور لأناقشك موضوعاً خطيراً قرأته ليلة أمس في رواية (مجنون ليلى) وهو لماذا حكم على ليلى بالموت قبل قيس؟ ألأنها كتمت حبها؟ إن كان الأمر كذلك فأني - خوفاً على حياتي الشابة - أقول لك يا عزيزتي - واثقة منك كل الوثوق - إنني بدأت أشعر بقلبي يميل رويداً رويداً إلى شاب كان يطالعني بعض الأحيان كئيباً حزيناً كأنه دفن(53/82)
قلبه بيده، رأيته على حالته تلك منذ ثلاثة أعوام، ويخيل لي أنه محب يكتم حبه أيضاً.
ألا ما أسعد تلك الفتاة التي تتيح لها المقادير مثقال حبة من احترام هذا الفتى النبيل!!
ضعي يا عزيزتي بجانب هذه الجملة سعادة من استولت، على قلبه كله.
أرجو أن أراك يوم الخميس المقبل وإلى اللقاء.
2 أبريل سنة 34 أختك فتحية
وفى عصر الخميس تلاقت الصديقتان في منزل فتحية هانم، وكان بيد الآنسة الزائرة إحدى جرائد المساء، فجذب نظر فتحية إليها صورة شاب غضير الشباب في صدرها فتناولت الجريدة من صديقتها ورأت الصورة ورأت تحتها ما يأتي:
(المرحوم جمال الدين أفندي الموظف بوزارة المالية، علقته المنون وهو في بريق شبابه)
فامتقع لونها وأدركتها حال شديدة من الذهول والحيرة، فأقبلت عليها صديقتها تسألها ما بها، فقالت لها وهي تشير إلى الصورة الضاحكة، والخبر المبكي:
أمل لم يزدهر، وناشئة حب لم تبق، وسعادة مرجوة لم تتم!
ثم ألقت في يدها مجموعه من الرسائل البالية، وقالت والدمع
يسيل على خديها، ومرارة الأسى تجري على شفتيها: إقرئيعبد
الوهاب الخطيب(53/83)
العدد 54 - بتاريخ: 16 - 07 - 1934(/)
أحمد زكي باشا
رحم الله زكي باشا ورضي عنه! لقد كان علَماً من أعلام هذا العصر، ورسولاً من رسل هذه النهضة! وأعلام هذا العصر ورسل هذه النهضة معلومون معدودون، لا تزيد فيهم المجاملة، ولا تنقص منهم المجافاة، ولكل واحد منهم ناحية من نواحي الإصلاح أشرقت فيها نفسه، وانتشر في جوانبها سناء. وهم يمتازون من النابغين والنابهين بأن لهم عقيدة فطرية قوامها الإيمان والعصبية، ورسالة روحية بلاغها الجهاد والتضحية. فمحمد عبده في الناحية الدينية، ومصطفى كامل في الناحية الوطنية، وقاسم أمين في الناحية الاجتماعية، وسعد زغلول في الناحية السياسية، وأحمد زكي في الناحية القومية؛ قد بلَّغوا جميعاً رسالات الفطرة على نحو ما بلغ المرسلون رسالات الوحي. نزلت على قلوبهم منذ الشباب الأول فجعلت عقولهم وميولهم ومواهبهم وقفاً عليها ودواعي إليها ووسائل لها؛ ثم لازمتهم في أطوار العمر، وحلت من نفوسهم محل الغرض من السعي والغاية من الحياة
فزكي باشا منذ بلغ سن التكليف تمثل لعينه مثَله، واستعلنت في ذهنه رسالته: رأى العروبة لفظاً تغير مدلوله في الناس، وجنساً تنكرت معالمه في الأجناس، ولساناً فشا فيه الدخيل، وديناً تقول عليه الباطلُ، وأثراً عبث به الجهل، وتاريخاً تطرق إليه النسيان، وحضارة غض منها التعصب، وحقاً تجهم له البغي، وإرثاً تخطفته الغزاة، ووحدة مزقتها العوادي. وكان أول ما عانى من وسائل العيش معالجة الترجمة في الديوان، ثم تعليمها في المدرسة؛ فصرف جهده في تنقيح التراكيب الديوانية، وتصحيح الأعلام العربية، وتصويب الأخطاء التاريخية، ونَقْل ما يعلن محامد الإسلام إلى اللغة الفرنسية، ثم لا يسمع بمكرمة تروى لأمة إلا التمس الأولية فيها للعرب. فالصحف الفرنسية تذكر أن وفود المهنئين دخلوا على الرئيس (بوانكاريه) يهنئونه بالرياسة فما شكر أحداً بما شكر به الآخر، فيكتب في تلك الصحف نفسها ان الوزير أبن زيدون قد سبقه إلى ذلك في موقف حرج من مواقف العزاء؛ وتتبجح أوربا باختراع الطيارة فيثبت لها أن أبن فرناس أسبق من طار في الجو وأول من مات في سبيل الطيران؛ وتشيد أمريكا بعبقرية (كولمب) فيقول لها إن العرب أول من فطن إلى وجدودها وسعى لكشفها
ثم اتسع أمامه أفق الجهاد فاستشرقت نفسه إلى إحياء ثقافة العرب ونشر حضارة الإسلام، فحج الأندلس وزار العواصم الأوربية، ينقب عن نوادر المخطوطات ونفائس المطبوعات(54/1)
ينسخها أو يصورها أو يشتريها لا يدخر في سبيل ذلك جهداً ولا ثروة. ثم لابس المستشرقين دهراً مليَّا، يفيدهم ويفيد منهم حتى ثقف مناهج البحث، وحذق أصول التحقيق، ومهر طرائق النشر، وأصبح لهم مرجعاً وفيهم حجة
فلما اعتزل المنصب الحكومي تسايرت قواه وهواه إلى خدمة الأمة العربية، فوفد على ملوكها، وسفر بينهم بالصدق والألفة، حتى أذهب الموجدة، ومهد لتوحيد الكلمة
ثم جرد لاستقراء الدقائق واستجلاء الحقائق نشاط الصبي، وعزم الشاب، وصبر الرجولة، فشغل الصحف بالمقالات والمناظرات، وعمر الأندية بالخطب والمحاضرات، وأحيا المجالس بالملح والمحاورات، وفي كل يوم يعتكف الساعات الطوال في مكتبته الجامعة يحرر مسألة، أو يحضّر إجابة، أو يحّبر مقالة، أو يصحح تجربة، حتى إذا فرغ من ذلك كله رجع إلى بيته، فوجد ناديه قد حفل بزواره وسماره من رجالات العرب والمسلمين الطارئين على مصر، فينشر عليه الأنس، ويفيض فيه الكرم، ويبث خلاله المعرفة، فكانت حضرته كحضرة الصاحب بن عباد، مصدر العوارف والمعارف، ومثابة القصد من كل قطر وطبقة
ثم أسلم وجه إلى الله في عهده الأخير، فجعل همه وعزمه حبساً على إنشاء مسجده وبناء قبره. فكنت تراه لا يفكر إلا في هذا المسجد، ولا يعمل إلا له، ولا يتحدث إلا عنه، ولا ينفق إلا عليه، ولا يُبرد البُرُد ويرسل الرسل إلا في شأنه. فلو لم يعجله الموت عنه لتركه قطعة خالدة من الفن العربي
ثقافة زكي باشا ثقافة الأديب، فهو محيط بكل شيء، ولكنه غير راسخ في شيء؛ وذوقه ذوق الفنان، فهو أنيق في ملبسه، أنيق في مأكله، أنيق في مسكنه، أنيق في نشر مقالة، أنيق في طبع كتابه؛ وخلقه خلق العالم، فهو متطامن النفس، عذب الروح، حلو الفكاهة، سليم الصدر، يذهب في السذاجة إلى حد العُجب، ويخرج من تقرير مجهوده في العلم إلى التفاخر به
وكان تصوره وتصويره عربيين خالصين على رغم تضلعه من الفرنسية، وإلمامه بالآداب الأوربية: فتفكيره استطرادي لا يعني بالوحدة، ولا يحفل كثيراً بالتناسق، وأسلوبه أندلسي يتصيد السجع، ويلتمس ألوان البديع، ومرجع ذلك إلى اعتقاده بعربيته، واعتداده بشرقيته،(54/2)
واعتماده في تكوين نفسه على أدب أمته
إن رسالة الفقيد الكريم كانت ضرورة من ضرورات الإصلاح في عصر قضى الله أن يبعث فيه مجد العرب ليحيا من حيّ عن بينة، فان نهوض الأمة على تاريخ طامس، وأثر دارس، ولغة معجمة، وهيكل منحل، يكون أشبه بنهوض الكسيح لا يقوم إلا ليقع
وقد لخص الفقيد رسالته أجمل تلخيص في ثلاثة أبيات من الشعر أنشأها ثم جعلها زخرف داره، وصورة شعاره، ومرجع حديثه. وهي:
وقفت على أحياء قومي يراعتي ... وقلبي وهل إلا اليراعة والقلب
ولي كل يوم موقف ومقالة ... أنادي ليوث العرب ويحكموا هبوا
فإما حياة تبعث الشرق ناهضاً ... وإما فناء وهو ما يرقب الغرب
رحمه الله رحمة واسعة. وعوض العروبة والعربية والإسلام من فقده خير العرض.
احمد حسن الزيات(54/3)
ما فعلت الأيام
للأستاذ أحمد أمين
عرفته بالإسكندرية منذ عشرين عاما، شاباً رقيق البدن، ضئيل الجسم، مسنون الوجه، شاحب اللون، أظهر مميزاته الرقة والتواضع والتدين. حيي الطبع، شديد الخجل، إن جلس في قوم اعتقل لسانه، وأطرق رأسه. وأرخى عينيه؛ وإن صدرت منه هفوة أو شيء ظنه هفوة، تمنى لو ساخت به الأرض، وظل يحاسب نفسه ويطيل تأنيبها، فآثر الانفراد وأخلد إلى الوحدة، واستأنس بالوحشة، فقلّت معرفته بالناس، وقلّت معرفة الناس به، لا يعرف من العالم إلا مدرسته التي يدرس فيها، وبيته الذي يأوي إليه، ومسجده الذي يتعبد فيه؛ فأما الحياة وشؤونها، وجدها وهزلها، وملاهيها وألاعيبها، فلا يدري منها شيئاً. لا يجلس في مقهى لأنه يخلُّ بمروءته، ولا يذهب إلى تمثيل أو سينما لأنهما لا يخلوان من امرأة سافرة، ولا يشتري شيئاً من بقال عنده لحم خنزير خوفاً من أن تكون سكينته التي يقطع بها الجبن والحلوى قد مست الخنزير، فلا يطهرها مسح، إنما يطهرها عسل سبع مرات إحداهن بالتراب؛ ويغض طرفه إذا سار حذر أن تقع عينه على امرأة.
أعز شيء عليه في الوجود دينه، حياته كلها دين، ومثله الأعلى رجل ظهارته دين، وبطانته دين، تفتير عينيه في خشوع دليل على أنه قضى شطر ليله في عبادة ومناجاة، أسبل عليه الدين نوعاً لطيفاً من الرضى بالقضاء والقدر، فلا يأسى على فائت، ولا يجزع على ميت، ولا يستخفه الفرح لخير، ولا يغلو في الحزن على شر، راض بما كان وما يكون، فكل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيْس، كل أحكامه صادرة عن دين، فالرجل الطيب من تدين، ورجل السوء من لم يتدين، ويستحيل على رجل أن يكون طيباً إذا شرب كأساً من خمر، أو لعب لعبة ميسر، أو ترك صلاة أو زكاة - يوفق دائماً بين أعماله في الحياة وأوامر الدين، إذا أراد الرياضة ذهب إلى سيدي بشر لزيارته، أو لسيدي جابر لصلاة الجمعة فيه، أو أخذ جزءاً من (الأحياء) وذهب إلى (طابية قايتباي) يخلو فيها بنفسه ودينه وكتاب الأحياء. وإن أراد أن يحفظ شيئاً من الأدب حفظ في نهج البلاغة لأنه يجمع بين البلاغة والدين، وإن عرضت فرصة في دراسته للغة العربية خرج من اللغة إلى الدين، وانقلب واعظاً لتلاميذه، حتى استطاع أن يكوّن منهم فرقة دينية تلتزم الصلاة(54/4)
والصوم وشعائر الدين.
عرفته اتفاقاً، ولست أدري الآن سبب المعرفة وكيف كانت، وكل ما أذكره أني عرفته، وفي لمحة تحولت المعرفة إلى صداقة فحب، فكان من خاصة إخواني وأقربهم مودة إلى قلبي، يأنس بي وآنس به، ويفضي إلى بدخيلة نفسه وكامن أسراره، وكان حبي له مشوباً بعطف عليه ورحمة له، عطفي عليه ظرف فيه، وأرأفني به رقة حواشيه، وملأ نفسي رحمة عليه قسوته على نفسه وأخذه لها في كل شيء بالأشد الأحزم، قد ملك الدين عليه نفسه، فروّعه من كل نعيم خشية السؤال، وهوّل عليه كل لذة خوف العقاب، وغلبت عليه في كل تصرفٍ فكرة الموت مخافة ما بعده، إن قال له قائل (ولا تنس نصيبك من الدنيا) قال (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم).
على كل حال نعمنا بالصداقة حيناً تساهمنا فيه الوفاء، وتقاسمنا الصفاء، أسافر إلى الإسكندرية فأرى أول واجب علىّ أن أزوره، ويحضر إلى القاهرة فيرى أول واجب عليه أن يزورني، وأكتب اليه، ويكتب إلىّ، ثم عفَّى الزمان على الصداقة ففترت حرارتها، وخمدت جذوتها، لا لسبب إلا أن الصداقة ككل حيّ إذا لمُ تغذ دائماً بالمقابلة والمكاتبة أسرع إليها الذبول فالفناء.
ثم دارت الأيام دورتها، وتعرفت في الإسكندرية بإنسان جديد، فإذاهو صديقي القديم، هو في هذه المرة بدين بطين، مطهم الوجه، ريان السواعد؛ كنت في أيامي الأولى أقرأ في أرنبة أنفه وصفاء جبهته آيات السذاجة والإخلاص، وكنت أرى في وجهه وجلسته عزوفاً عن الدنيا، وزاهداً في الاستكثار منها، ورضى بميسورها؛ وكنت ألمح في فتور عينه حياء العذراء وخجل المخدرات؛ وكنت أرى في نبرات صوته وحركات جفونه ونظرات عينه ديناً وورعاً، فإذاكل ذلك قد استحال كما يستحيل الماء إلى ثلج، علمت أنه قد ورث من أبيه فأثرى، وسمحت لي الظروف بمخالطته فأدهشني ما رأيت من تغير وانقلاب - رأيته وقد أماط عن وجهه قناع الحياء، وخلع ربقة الحشمة، يداخل الناس ويمازجهم، حسن الصحبة، جميل العشرة، يضرب بسهم وافر في المفاكهة والتنادر، جيد القصص، حسن الحديث، لا يأنف من حديث فاجر إذا كانت فيه نكتة حلوة، كثرت أصحابه على اختلاف منازعهم وطبقاتهم، وهو عند كل جماعة منهم قطب الرحى، يمتزج بأرواحهم ويتصل بقلوبهم، خبير(54/5)
كل الخبرة بأندية اللهو وما إليها، يعرف جد المعرفة برامج السينما في كل أسبوع، وما يمثل من روايات في كل فصل من الفصول، وعنده الخبر اليقين عن كل مغن ومغنية، وفنان وفنانة أتت من مصر إلى الإسكندرية تغني أو تمثل، ذهب عنه خفر عينيه وأصبح يتعشق الجمال ويتتبعه، ويحملق فيه ويشتهيه، حلت المسائل المالية جزءا كبيراً من عقله فهو كثير التفكير فيها، له ديون وعليه ديون، وله قضايا وعليه قضايا، وله دفاتر حساب دقيقة، وله آمال مالية واسعة
حادثته مرة، وكان أشد ما أريد استطلاعه منه أن أعرف حال دينه الذي كان يملك عليه قلبه وعقله، والذي كان يغمر حياته ويسيطر على كل خطوة من خطواته، فإذاعقله حر شديد الحرية في تفكيره، قد تحرر من كل قيد، يعجب بالمدنية الحديثة ويستلهمها الرأي ويستوحيها االنظر، ويتخذ عماد منطقه ومصدر حكمه على الأشياء ما يفعله الأوربيون وما لا يفعلون. قد يعارض ما يراه من ضروب المدنية مبدأ من مبادئ دينه فيظهر عليه نوع من الارتباك والحيرة، ويجمجم في القول ويتبين في قوله الاضطراب بين دين خالط لحمه ودمه شطراً من حياته، وبين عقل نزع إلى الحرية في آخر أيامه، ويشعر بثقل الموقف على نفسه فيجتهد في تحوير الحديث، وتغيير مجرى القول إلى حيث يسترد كامل رأيه، ومنتهى حريته - هذا عقله، وأما قلبه فدينه في رف من رفوفه، لم يملأه ولم يخل منه، لذلك حرت أن أسميه مؤمناً أو كافراً، ماشيته مرة على البحر فرآه جميلاً جليلاً، ورأى القمر يسطع عليه بنوره الساحر، فصاح هذا موضع سجود، فصلى على الرمل، ودعاني مرة إلى ملهى فكان فيه كمن لا يؤمن بحساب ولا عقاب، وهكذا تذبذبت حياته بين نزعة قديمة، ونزعة جديدة، ودين نشأ عليه، ولا دين مال حديثاً إليه، حينا يتحرك دينه الذي في الرف وينتعش حتى يعم قلبه، وحينا ينكمش وينكمش حتى لا يكاد يرى أو يحس
حننت إليه لما بيننا من حب قديم، ولكن لست أدري لم لم تتأكد بيننا الصداقة في هذه المرة كما تأكدت من قبل أكان يعطفني عليه دينه وقد رق؟ أم كان يحني عليه ما فيه من ضعف - مظهره الحياء والخجل، وقد قوي فلا حياء ولا خجل، أم كانت تؤلف بيننا وحدة فتعددت، وأسلوب واحد في الحياة فتفرقت بنا السبل، لعله شيء من ذلك، ولعله كل ذلك، ولعله شيء غير ذلك، على كل حال تركته وبيننا ودّ دخله العقل فخف، وصداقة جال في(54/6)
نواحيها الفكر ففترت
لقد خليته، وأنا أفكر في شأنه، لقد عاش شيخاً وهو شاب، وعاش شاباً وهو شيخ - عصى هواه صغيراً وأطاعه كبيراً، فليته ولد كبيراً ثم عاد صغيراً، وليت شعري هو في أي حاليه أسعد، أيوم فر من العالم إلى دينه، أم يوم فر من دينه إلى العالم؟ - انه ليمثل في حياته العالم خير تمثيل، موجة دين تتبعها موجة الحاد، وموجة روحانية تتلوها موجة مادية، وهكذا دواليك، وما أدرى أيقف صديقنا في تطوره عند هذا الحد، أم يعود سيرته الأولى، أم يختط مسلكاً جديداً لا هو هذا ولا هو ذاك؟ الله أعلم.
أحمد أمين(54/7)
سمُوُّ الفقر في المصلح الاجتماعي الأعظم
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
- 1 -
كان النبي صلى الله عليه وسلم على ما يصف التاريخ من الفقر والقلة، ولكنه كان بطبيعته فوق الاستغناء، فهو فقير لا يجوز أن يوصف بالفقر ولا تناله المعاني النفسية التي تعلو بعَرَضٍ من الدنيا وتنزل بعرض، فما كانت به خَلّة تحدث هدما في الحياة فيرممها المال، ولا كان يتحرك في سعى ينفق فيه من نفسه الكبيرة ليجمع من الدنيا، ولا كان يتقلب بين البعيد والقريب من طمع أدرك أو طمع أخفق، ولا نظر لنفسه في الحسبة والتدبير لتدرّ معيشته فيحتلها ذهباً أو فضة، ولا استقر في قلبه العظيم ما يجعل للدينار معنى الدينار ولا للدرهم معنى الدرهم؛ فان المعنى الحيّ لهذا المال هو إظهار النفس رابية متجسمة في صورة تكبر على قدر من السعة والغنى؛ والمعنى الحي للفقر من المال هو إبراز النفس ضئيلة منزوية في صورة تصغر على قدر من الضيق والعُسرة.
إن فقرهُ صلى الله عليه وسلم كان من أنه يتَّسع في الكون لا في المال، فهو فقر يعد من معجزاته الكبرى التي لم يتنبه إليها أحد إلى الآن، وهو خاص به، ومن أين تدبّرته رأيته في حقيقته معجزة تواضعت وغيّرت اسمها. معجرة فيها الحقائق النفسية والاجتماعية الكبرى، وقد سبقت زمنها بأربعة عشر قرناً، وهي اليوم تثبت بالبرهان معنى قوله صلى الله وسلم في صفة نفسه (إنما أنا رحمةٌ مُهْدَاة)
نحن في عصر تكاد الفضيلة الإنسانية فيه تلحق بالألفاظ التاريخية التي تدل على ما كان قديما. . بل عادت كلمة من كلمات الشعر تراد لتحريك النسيم اللغوي الراكد في الخيال، كما تقول: السحاب الأزرق، والفجر الأبيض، والشفق الأحمر، والتَّطاريف الوردية على ذيل الشمس؛ وأصبح الناس ينظر أكثرهم إلى أكثرهم بأعين فيها معنى وحشيّ لو لمس لضرب أو طعن أو ذبح؛ وعملت المدنية أعمالها فلم تزد على أن أخرجت الشكل الشعري لإنسانها الغني ترفا ونعمة وافتناناً بين ذلك، من أيسر الحلال إلى الفظيع المتفاحش في الاباحة، فكأنما وضعت المدنية عقلاً في وحش، فزاغت فيه الطبيعة من ناحيتين؛ ثم قابلته بالشكل الوحشي لإنسانها الفقير، فكأنما نزعت عقلاً من إنسان، فضلت فيه الطبيعة من(54/8)
ناحيتين؛ وكان الأول سَرَف الهوى، وكان مع الثاني سَرَف الحماقة.
وقد أصبح من تهكم الحياة بأهلها أن يكون الفقير فقيراً وهو يعلم أن صناعته في المدنية هي عَمَلُ الغِني للأغنياء. . . وأن يكون الغنيُّ غنياً وهو يعلم أن عمله في المدنية هو صنعة الفقر لضميره.
وخرجت من هذا وذاك مسائل جديدة في فلسفة المعايشة الإنسانية التي يسمونها (الاجتماع)، فسؤال اسمه الاشتراكية يسأل القوة أن تجعل صاحب المال من ماله كالمرأة المطلقة من رجلها. . وسؤال اسمه الشيوعية يطلب من القوة أن تسلط على كل حيّ ما يجعله في قواه كصاحب الدار سلط عليه الطغيان فانقلبت داره سجنه، فهو يتألم من معنى نعمته بمعنى شقائه، ويكون أغيظ له أن روح السجن ليست شيئاً غير روح البيت؛ وسؤال اسمه العَدَمِيّة يأمر القوة أن تجعل الإنسان كالحيوان المُسْتَوْلِغ فيما يجده من طيب وخبيث لا يبالي ذماً ولا عاراً، وليس إلا أنه يعيش ليموت أكلاً ونوماً. . .
هذا إلى أسئلة كثيرة لو ذهبنا نعدها ونصنفها لطال بنا القول وكلها عاملة على نزع الشعور العقلي من الحياة لتظهر أسخف مما هي، وأقبح مما كانت؛ حتى أصبحت الشمس تمحو ليلاً عن المادة وتلقى ليلاً على النفس، في حين أن الدين والإنسانية لا يعملان غير بث هذا النور العقلي في الأشياء والمعاني لتظهر الحياة مضيئة ملتمعة فتصبح أوضح مما هي في نفسها، وأجمل مما هي في الطبيعة.
في مثل هذه النزعات المتقاتلة التي صعدت بالفلسفة ونزلت، وجعلت من العلم في صدر الإنسانية ملء سماء من الغيوم بسوادها ورعدها وصواعقها، وتركت العالم يضج ضجيجه المزعج في قلب كل حي حتى لتذاع الهموم إلى قلوب الناس إذاعة الأصوات إلى أسماعهم في (الراديو). . . في مثل هذا البلاء الماحق تتلفت الإنسانية إلى التاريخ تسأله درساً من الكمال الإنساني القديم تطِبّ منه لهذه الحماقات الجديدة، ولو علمت أن درس هذا العصر في علاج مشاكله الإنسانية هو (محمد) صلى الله عليه وسلم الذي لن يبلغ أحد في وصفه الاجتماعي ما بلغ هو في قوله (إنما أنا رحمة مهداة)
هذا المصلح الاجتماعي الأعظم يلقي فقره درساً على الدنيا العلمية الفلسفية، لا من كتاب ولا فكر، ولكن بأخلاقه وعمله وسيرته؛ إذ ليس المصلح من فكّر وكتب، ووعظ وخطب،(54/9)
ولكنه الحيّ العظيم الذي تلتمسه الفكرة العظيمة لتحيا فيه وتجعل له عمراً ذهنياً يكونُ مصَرَّفا على حكمها، فيكون تاريخه ووصفه هو وصف هذه الفكرة وتاريخها. وما كان محمد صلى الله عليه وسلم إلا عمراً ذهنياً محضاً تمر فيه المعاني الإلهية لتظهر للناس إلهية مفسرة. وكل حياته صلى الله عليه وسلم دروس مفنّنة مختلفة المعاني، ولكنها في جملتها تخاطب الإنسان على الدهر بهذه الجملة: أيها الحي، إذا كانت الحياة هنا فلا تكن أنت هناك. أي إذا كانت الحياة في الحقيقة فلا تكن أنت في الكذب، وإذا كانت الحياة في الرجولة البصيرة فلا تكن أنت في الطفولة النزقة؛ فان الرجل يعرف ويدرك فهو بذلك وراء الحقيقيّ، ولكن الطفل يجهل ولا يعرف الدنيا إلا بعينيه فهو وراء الوهم، ومن ثم طيشه ونزقه، وإيثاره كل عاجل وإن قلّ، وعمله أن تكون حياته النفسية الضئيلة في مثل توثب أعضاء جسمه، حتى كأنه أبداً يلعب بظاهره وباطنه معاً. .
أيها الحي، إذا كانت الحياة هنا فلا تكن أنت هناك. أي الحياة في ذاتك الداخلية وقانون كمالها، فإذااستطعت أن تُخْرج للأرض معنى سماوياً من ذاتك فهذا هو الجديد دائماً في الإنسانية وأنت بذلك عائش في القريب القريب من الروح، وأنت به شيء إلهي، وإذا لم تستطع وعشت في دمك وأعصابك فهذا هو القديم دائماً في الحيوانية، وأنت بذلك عائش في البعيد البعيد من النفس وأنت به شيء أرضي كالحجر والتراب.
هنا، أي في الإرادة التي فيك وحدك، لا هناك، أي في الخيال الذي هو في كل شيء. وهنا، في أخلاقك وفضائلك التي لا تدفعك إلى طريق من طرق الحياة إلا إذا كان هو بعينه طريقاً من طرق الهداية والحكمة؛ وليس هناك، في أموالك ومعايشك التي تجعلك كاللص مندفعاً إلى كل طريق متى كان هو بعينه طريقاً إلى نَهْبة أو سرقة. هنا، في الروح إذ تشعر الروح أنها موجودة ثم تعمل لتثبت أنها شاعرة بوجودها، ماضية إلى مصيرها، منتهية بجسدها إلى الموت الإنساني على سنة النفس الخالدة؛ وليس هناك في الحس إذ يتعلق الحس بما يتقلب على الجسم فهو مهتاج لشعوره يوشك فنائه فلا يحدث إلا الألم إن نال أو لم ينلْ، هو منتهٍ بجسمه إلى الموت الحيواني بين آكل ومأكول على سنة الطبيعة الفانية.
أيها الحي، إذا كانت الحياة هنا فلا تكن أنت هناك
إن الحكيم الذي ينظر إلى ما وراء الأشياء فيتعرف أسرارها لا تكون له حياة الذي يتعلق(54/10)
بظاهرها ولا أخلاقه ولا نظرته، هذا الأخير هو في نفسه شئ من الأشياء له مظهر المادة وخداعها عن الحقيقة، وذلك الأول هو نفسه سر من الأسرار له روعة السر وكشفُه عن الحقيقة. ولهذا كان في حياة الأنبياء والحكماء ما لا يطيقه الناس ولا يضبِطونه إذا تكلفوه، بل ينخرق عليهم فيكون منه العجز، وينشأ من العجز الغلط، ويحدث من الغلط الزلل.
ونظرة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوجود نظرة شاملة مدركة لحقيقة اللانهاية، فيرى بداية كل شيء ماديّ هي نهايته في التوّ واللحظة، فلا وجود له إلا عارضاً ماراً، فهو في اعتباره موجود غير موجود، مبتدئ منتهٍ معاً. وبذلك تبطل عنده الأشياء المادية وتأثيرها، فلا تتصل بنفسه العالية إلا من أضعف جهاتها، ويجد لها الناس في حياتهم الشجرة والفرع والثمرة، وما لها عنده هو جذر ولا فرعِ. وبهذا لم يفْتِنه شيء ولم يتعلق بشيء، وكانت الدنيا تطول الناس وتتقاصر عنه، وكانت منقطعة النماء وهو ذاهب في نموه الروحي، وكأنما هو صورة أخرى من آدم عليه السلام، فكلاهما لمس بنفسه الحياة جديدةً خالية مما جمع فيها الزمن وأهله من طمع وشَرَه، وجاء آدم ليعطي الأرض ناسها من صلبه، وجاء محمد ليعطي الناس قوانينهم من فضائله، فآدم بشخصه هو دنيا بُعثت لتتسع، ومحمد بشخصه هو دنيا بعثت لتنتظم.
وماذاُ يفهم من الفلسفة الأخلاقية النبوية العظيمة؟ يفهم منها أن الشهوات خلقت مع الإنسان تتحكم فيه لينقلب بها إنساناً يتحكم فيها، وأن الإنسان الصحيح الذي لمُ تزَوِّره الدنيا يجب أن يكون ذا روح يمتد فيفيض عن غايات جسمه إلى ما هو أعلى فأعلى حتى يصبح في حكم النور وانطلاقه وحريته، ولا ينكمش فيحصره جسمه في غاياته وضروراته فيرتدّ إلى ما هو أسفلَ أسفلَ حتى يعود في حكم التراب وأسره وعبوديته. فالفقر وما إليه، والزهد هو بسبيل منه، والانصراف عن الشهوات والرذائل - كل ذلك أن هو إلا تراجع النفس العالية إلى ذاتها النورانية حالاً بعد حال، وشيئاً بعد شيء، لتضئ على المادة فتكشف حقائقها الصريحة فلا تباليها ولا تقيم لها وزنا. فبينما الناس يرون الأموال والشهوات مادة حياة وعمل وشعور، تراها هي مادة بحث ومعرفة واعتبار ليس غير، وبهذا تكون النفس العظيمة في الدنيا كأستاذ المعمل، تدخل المادة إلى معمله وهي مادة وفكرة، وتخرج منه وهي حقيقة ومعرفة، وعلى أي أحوالها فهي إنما تُحس في ذلك المعمل بأصابع علمية دقيقة(54/11)
ليس فيها الجمع ولا الحرص، ولكن فيها الذهن والفكر، وليس لها طبيعة الرغبة والغفلة، ولكن طبيعة الانتباه والتحرّز، وليست في أسر المادة، ولكن المادة في أسرها ما شاءت.
ولا يسمى فقرة صلى الله عليه وسلم زهداً كما يظن الضعفاء ممن يتعلقون على ظاهر التاريخ، ولا يحققون أصوله النفسية، وأكثرهم يقرأ التاريخ النبوي بأرواح مظلمةٌ تريهم ما ترِي العينُ إذا ما اختلط الظلام ولبس الأشياء فتراءت مجملة لا تفصيل لها، مُفْرغة لا تبين فيها، وما بها من ذلك شيء، غير أنها تتراءى في بقية من البصر لا تغمرها.
وهل الزهد إلا أن تطرد الجسم عنك وهو معك، وتنصرف عنه وهو بك متعلق؟ فتلك سخرية ومُثْلةَ، وهي في رأيي تشويه للجسم بروحه، وقد تنعكس فتكون من تشويه الروح بجسمها فليس يعلم إلا الله وحده: أذاك تفسير لإنسانية الزاهد بالنور، أم هو تفسير بالتراب. . .
ولقد كان صلى الله عليه وسلم يملك المال ويجده، وكان أجوَدَ به من الريح المرَسلة، ولكنه لا يدعه يتناسل عنده، ولا يتركه ينبت في عمله، وإنما كان عمله ترجمة لإحساسه الروحي، فهو رسول تعليمي، قلبه العظيم في القوانين الكثيرة من واجباته، وهو يريد إثبات وحدة الإنسانية، وأن هذا الإنسان مع المادة الصامتة العمياء مادةٌ مفكرةٌ مميزة، وأن الدين قوة روحية يلقىَ بها المؤمن أحوال الحياة فلا يثبت بازائها شيء على شيئيّته، إذ الروح خلود وبقاء، والمادة فناء وتحوُّل، ومن ثم تخضع الحوادث للروح المؤمنة وتتغير معها، فان لم تخضَع لم تُخْضِعْها، وإن لم تتغير لا تتغير الروح بها، وأساس الإيمان أن ما ينتهي لا ينبغي أن يتصرف بما لا ينتهي.
وما قيمة العقيدة إلا بصدقها في الحياة، وأكثر ما يصنع هذا المال: إما الكذب الصُّراح في الحياة، وإما شبهة الكذب، ولهذا تنزَّه النبي صلى الله عليه وسلم عن التعلق به، وزاده بعداً منه أنه نبيّ الإنسانية ومثلُها الأعلى، فحياته الشريفة ليست كما نرى في الناس إيجاداً لحلّ مسائل الفرد وتعقيداً لمسائل غيره، ولا توّسعا من ناحية وتضييقا من الناحية الأخرى، ولا جمعا من هنا ومنعا من هناك، بل كانت حياته بعد الرسالة منصرفة إلى إقرار التوازن في الإنسانية، وتعليم الجميع على تفاوتهم واختلاف مراتبهم كيف يكون لهم عقل واحد من الكون. وبهذا العقل الكوني السليم ترى المؤمن إذا عرض له الشيء من الدنيا يفتنه أو(54/12)
يصرفه عن واجبه الإنساني - أبت نفسه العظيمة إلا أن ترتفع بطبيعتها، فإذاهو في قانون السمو، وإذا المادة في قانون الثقل، فيرتفع وتتهاوى، ويصبح الذهب - وإنه ذهب - وليس فيه عند المؤمن إلا روح التراب.
مصطفى صادق الرافعي(54/13)
مجهولو الأبطال
عيسى العوام
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
وقفت إلى جانب الطريح المسكين وقد فقد المحيطون به الأمل في حياته، وكان رجلاً نيف على الستين، ظل يجاهد في عمله حتى وقع وهو يدفع عربته وعليها حملها الثقيل فكان في وقعته أجله، وهو من أهل الصعيد الأعلى كما تنم عليه عمامته وسحنته، إذ كان ثوبه المهلهل لا يكاد يتماسك في رأي العين ليكون آية دالة على منبت لابسه، فكان موته في جوار البحر الملح موت المهاجر الشهيد، لا تحيط به عناية أهل، ولا ترفه عنه شفقة البنين. ومن يدري ماذا كان يعاني ذلك المسكين قبيل ضجعته من آلام تحملها صامتاً، وجاهد في سبيله وهي تخزه وتطعنه؟ ومن يدري على أية حال من الضعف كان يدفع بحمله في سبيل القوت، وسوط الجوع من ورائه يلهب ظهره؟
ووقف حوله معي من أهل الساحل بقوامهم السمهري ولونهم الخمري، فكانوا يؤدون له تحية الوداع على غير معرفة، والشفقة بادية في محياهم، ولم يكن أحدهم خيراً منه بزة ولا مظهرا، ولكنهم كانوا جميعاً يعرفون كنه ما في هذه الحال من عظمة لأنهم يجاهدون مثله، ولعلهم هاجروا مثله من بلاد قصايا في التماس الخبز وما يبلله من رقيق الآدام. (أولئك قومي بارك الله فيهمو)
وانصرفت وفي عيني دمعة كما كان في عين سواى من الوقوف إشفاقا على ذلك المسكين، وجعلت أفكر فيما تدين به الحياة لهؤلاء. فهم عدة السلم، وهم سواعد العمل، وهم جنود النضال. وأذكرني ذلك التفكير ببطل من هؤلاء الدهماء ذكر التاريخ اسمه، وأقام له تمثالاً هو رمز لمجهولي الأبطال، فلسنا نعرف أهله ولا منبته. ولا شيئاً مما يمسه غير اسمه، وهو (عيسى العوام)
كان ذلك الرجل يعيش في عكاء ثغر الشام منذ نيف وثمانمائة عام. في أيام النضال الكبير بين الشرق والغرب - أيام الحروب الصليبية - وكان السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب في ذلك الوقت في صراع الحياة أو الموت مع ملوك الفرنج قد بلغ به الجد أن كان يتمثل بقول عبد الله بن الزبير وهو يصارع الأشتر النخمي في موقعة الجمل مصارعة من(54/14)
لا يريد هوادة، إذ قال:
اقتلوني ومالكا ... واقتلوا مالكا معي
وكان الفرنج قد جمعوا جموعهم وحشدوا أمام عكاء، وجعلوا التغلب عليها مقصد همهم. فكان هناك ملوك ثلاثة هم أكبر ملوك أوربا وزعماء فرسانها. وحاصروا المسلمين في ذلك الثغر من قبل البر ومن قبل البحر، وأتى صلاح الدين من خارج المدينة يحاول رفع الحصار عن إخوانه وجنوده.
واستمات جنود الجانبين في القتال، وبذل كل قصاراه في النضال، وعض على النواجذ من الأضراس. واستطالت بهم الحرب نيفاً وسنتين، حتى اشتد الأمر بالمحصورين، وعجز صلاح الدين عن أن يرفع عنهم نطاق الأعداء، فأخذ ذلك النطاق يتضامن ويشتد، حتى بلغت الشدة بالمحصورين مبلغاً عظيماً، وتراخت همة الدفاع من طول الجهد وشدة القتال.
فذهب جماعة من صيادي عكاء ممن درجوا على أمواج البحر ونشأوا على أمواهه، فعرفوا مداخله ومخارجه، وبرعوا في اقتحام تياراته وخوض غمراته، وعرضوا على قادة المسلمين ما في طاقتهم من المساعدة في ذلك المأزق. وتساءل القادة ماذا عسى هؤلاء يصنعون في قتال العدو؟ وماذا تراهم يستطيعون أن يرزأوا فيه؟ فأقبل عليهم الصيادون يعرضون أن يحملوا الأخبار إلى إخوانهم المحصورين، وأن يحملوا المال إليهم إذ استحال على السلطان الاتصال بهم، وقالوا انهم يستطيعون أن يستتروا بجنح الليل فيسلكوا سبيلهم بين سفن الأعداء سباحة، فإذاما تعذر ذلك سلكوا بينها غاطسين في الماء كما تسلك الأسماك وتسبح الحيتان. وكان صلاح الدين في أشد الحاجة إلى الاتصال بالجنود والقواد الذين يدافعون عن المدينة، فقبل ما عرض هؤلاء الأبطال، وكانوا منذ ذلك الوقت لا ينقطع وافدهم من المدينة إلى عسكر المسلمين، أو من عسكر المسلمين إلى المدينة. وكانوا لا يطلبون في سبيل ذلك جزاء، إن هو إلا قربان يقدمونه احتساباً، وواجب يؤدونه عن رضا وسخاء.
وظهر من بنهم (عيسى العوام) فكان أسرعهم سبحا وأجرأهم على الليل والنهار، وأكثرهم إقداما على الأخطار. فصار يهتف باسمه، ويدعى إذا ما اشتد الخطر وادلهم الخطب. وكان هو لا يخيب ظناً ولا يخيم عند دعوة. وكانت بسالته تزداد كلما ضاقت حلقة الحصار.(54/15)
والتأمت فروجه واتصلت سلسلته. فكان أقر لعينه وأثلج لصدره أن يغوص في شبر بين سفن الفرنج، أو يسبح على مرمى سهم من نبالهم. وبقي على أداء واجبه مدة حتى طلع يوم، وانتظر أهل عكاء طلوع عيسى عليهم من ثنايا الموج كعادته، فلم يتحقق لهم ذلك. وطال وقوفهم وامتدت أعناقهم نحو البحر، كلما برق لهم شيء سابح، أو لمع لهم جسم طاف، أشاروا إليه إشارة الملهوف، وتوقعوا أن يكون هو عيسى، ثم تبين لهم أنه حباب الماء أو رشاش الموج، فعادوا إلى ناحية أخرى، فشدوا إليها أبصارهم ثم لم يلبثوا أن يجدوا خيبة لظنونهم وتكذيباً لأوهامهم. ولما طال بهم الوقوف وملوا الانتظار انصرفوا وفي قلوبهم هلع وتوقع للمحذور، ولم تخل صدورهم من شكوك ساورتها في أمانة عيسى وديانته. وقديماً كان في الناس الطمع وأعماهم الجشع، وقديماً فتنهم حب المال وأغواهم شيطان الغرور. أيكون عيسى كبعض من خان وافتتن؟ أيكون عيسى ممن خذلتهم نفوسهم عندما استطال بها النضال، وانخلع فؤادهم عندما اكفهر الجو وأظلم؟ لم يرد الله أن يدع تلك الشكوك تساور ذكرى عيسى، ورحم ذلك الرجل أن يهمس هامس عند ذكرى اسمه بما ثار في صدره من شك، فتسود بين الناس صحيفة بيضاء عند الله. فأرسل الموج حاملاً جسمه نحو الشاطئ، ولا تزال حولها أكياس الذهب التي كان بعث بها صلاح الدين معه إلى المدينة. فرأى الناس عند ذلك جثة شهيد قضي وهو يؤدي الأمانة، وجاد بالنفس وهو في سبيل الخير والمجد.
رحم الله (عيسى العوام)! وكم في الناس من مثل عيسى؟ غير أن التاريخ لا يذكر منهم أحداً إلا فلتة ليشير إلى أن بين المجهولين آلاف الألوف من أفذاذ الأبطال.
محمد فريد أبو حديد(54/16)
2 - من رائع عصر الأحياء
حياة بنفونوتو تشلليني مكتوبة بقلمه
مثل أعلى للترجمة الشخصية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
لم ينعم بنفونوتو تشلليني بالسكينة طويلاً بعد الحوادث العاصفة التي خاضها، وبعد أن فقد عطف البابا وحمايته. وفي ذات يوم وقعت مشادة بينه وبين صديق قديم من مواطنيه كان برومة وكان يدينه بشيء من المال، وسبه ذلك الصديق بألفاظ جارحة، فغلب عليه عنفه المعهود وضربه في رأسه بحجر فسقط مغشياً عليه. وأبلغ الحادث إلى البابا، فأمر بالقبض على تشلليني وشنقه في مكان الجريمة. ولكن تشلليني شعر بالخطر الذي يهدده، واستطاع أن يفر من رومة في الوقت المناسب. وقصد إلى نابولي، وأقام بها حيناً، واتصل بدوقها وحظي بعطفه ورعايته؛ والتقى هناك بحبيبته انجليكا الصقلية. ثم وصله خطاب من الكردينال دي مديتشي حاميه القديم يأمره فيه بالعودة سريعاً إلى رومة؛ فسافر إليها في الحال ومعه انجليكا؛ واستقبله الكردنيال بترحاب وطمأنه على نفسه وحريته؛ وبعد أيام قلائل استطاع أن يزور البابا كلمنضوس، وأن يقدم إليه (مدالية) بديعة من صنعه، ثم سأله الصفح والرعاية بكلمات رقيقة؛ فأعجب البابا بهذه التحفة، وأمره أن يصنع له تحفاً أخرى تمثل بعض مناظر التاريخ المقدس، ووعده بالعفو والرعاية. ولكن البابا لم يعش طويلاً ليحقق وعده، ومرض وتوفي بعد أيام قلائل؛ وحدث على أثر موته ذلك الاضطراب الذي يحدث عادة قبيل انتخاب البابا الجديد؛ ولبث بنفونوتو يرقب الفرص؛ ولكنه ارتكب في تلك الأثناء جرماً جديداً، وقتل رجلاً آخر من رجال البطانة يدعى بومبيو تحرش به ذات يوم بكنيسة القديس بطرس، فسار إليه ولقيه على مقربة من منزله وطعنه بخنجره بين أصدقائه وأعوانه فألقاه صريعا. ويقص علينا تشلليتي هذا الحادث الدموي وأمثاله في عبارات صريحة هادئة، كأنها حوادث عادية لا خطورة فيها، ويصور لنا بذلك مبلغ اضطرام نفسه، ومبلغ استهتاره بالحياة البشرية
وانتخب الكردينال فارنيسي لكرسي البابوية باسم بولس الثالث، وعهد إلى تشلليني بصنع(54/17)
نماذج نقوده، وأعطاه عهداً بالأمان. ولكن جماعة من خصومه وأصدقاء بومبيو القتيل لبثوا يدسون له لدى السينور بير لويجي ولد البابا حتى اعتزم القبض عليه، ولكن بنفونوتو علم بهذه المؤامرة في الوقت المناسب ففر إلى فلورنس، وأقام بها حيناً يخدم أميرها الدوق الساندرو دي مديتشي. وهنالك أصابه حمى شديدة كادت تقضي عليه؛ فلما برئ من مرضه، عاد إلى رومة بعد أن استيقن أنه لم يبق ثمة ما يخشاه من كيد خصومه. وكان البابا يستعد في ذلك الحين لاستقبال الإمبراطور شارلكان، فعهد إلى تشلليني بعمل صليب بديع من الذهب المرصع بالجواهر ليهدى إلى الامبراطور، وتحلية كتاب للصلاة ليهدى إلى الإمبراطورة. ويصف لنا تشلليني هذه الزيارة التاريخية، وكيف شهد استقبال البابا لإمبراطور، وقدم إليه الكتاب المرصع وخاطب جلالته بفصاحة وجنان ثابت، وكيف عكف بعد زيارة الإمبراطور على صقل جوهرة بديعة أهداها الإمبراطور للبابا وتركيبها في خاتم بديع الصنع. وكان تشلليني دائماً هائم الذهن والخيال، يهوي التنقل والمخاطرة، فما كاد ينتهي من صنع التحف البابوية حتى اعتزم تنفيذ مشروع قديم عنده، هو السفر إلى فرنسا
وسرعان ما نفذ عزمه، وسافر إلى فرنسا بطريق سويسرا وألمانيا، مع خادم فتي يدعى اسكانيو. ولما وصل إلى باريس سعى لرؤية فرنسوا الأول ملك فرنسا، فاستقبله بترحاب في فونتنبلو؛ وسافر بنفوتوتو في ركبه إلى ليون؛ وهنالك مرض ولزم فراشه، وأصابت الحمى فتاة اسكانيو؛ فكره المقام في فرنسا، وعول على الرجوع إلى رومة، وغادر فرنسا في أول فرصة، فوصل إلى رومة بعد رحلة شاقة؛ وافتتح له حانوتاً كبيراً فخما، واستأنف عمله، واتسعت موارده؛ ولكنه لم يكن يتمتع بذلك العطف البابوي القديم الذي كان يستظل برعايته وحمايته؛ وكان القدر من جهة أخرى يهيئ له أروع مفاجأة عرفها في حياته. ذلك أنه كان يستخدم عاملاً من بروجيا، وكان يدينه ببعض المال؛ ففر الرجل من حانوته ولم يؤد ما عليه، فطالبه بنفونوتو بواسطة القضاء وحصل على حكم بحبسه؛ فاستشاط الرجل غيظاً واتصل ببعض أتباع السينور بير لويجي ولد البابا وكان يعرف عندئذ بالدوق كاسترو، وأفضى إليه أن تشلليني يملك ثروة طائلة من الجواهر، وأن هذه الجواهر إنما هي من جواهر الكنيسة، سرقها تشلليني وقت الحصار حينما كان في حصن سانت انجيلو؛ وإنه يجب القبض عليه قبل أن يفر مرة أخرى. فأثمرت هذه السعاية ثمرها؛ وفي ذات(54/18)
صباح جاء ضابط الشرطة مع سرية من الجند إلى حانوت تشلليني، ونبأه الضابط بأنه أضحى سجين البابا، وأنه مكلف بأخذه إلى حصن سانت انجليو حيث يعتقل الأكابر والرجال الممتازون؛ ثم أحاط به عدة من الجند، وجردوه من سلاحه، ثم اقتادوه إلى الحصن، وهنالك ألقي إلى غرفة في البرج الأعلى؛ وكانت هذه أول مرة يذوق فيها مرارة السجن، وكان يومئذ في السابعة والثلاثين
كان حصن سانت انجيلو في ذلك العصر أمنع معاقل رومة؛ ولا يزال الحصن الشهير قائماً على مقربة من قصر الفاتيكان وميدان القديس بطرس، على ضفة نهر تفيري؛ يشهد بطرازه العجيب ومناعته الخارقة بما انتهت إليه هندسة القلاع في العصور الوسطى من الأحكام والتقدم. ولقد أتيح لكاتب هذه السطور أن يزور حصن سانت انجيلو مراراً وأن يتجول في أقبيته ومخادعه المظلمة، وأن يرقى إلى أبراجه الشاهقة، وأن يتأمل طويلاً في جنبات ذلك الأثر المدهش، وهو اليوم يستعمل متحفاً حربياً تعرض في طابقه الأول أسلحة العصور المختلفة، ولكن طبقاته العليا لا زالت خالية تعرض لنا بعض الآثار الغربية، وأخصها الجناح الذي كان يسكنه البابوات كلما التجئوا إلى الحصن، وغرفة نوم البابا بولس الثالث وسريره وكرسيه. على أن أروع ما في الحصن مخادعه المنيعة الواقعة في الجهة الخلفية، وهاوياته السحيقة التي تنساب إلى أعماق مظلمة لا يدرك غورها. وهنالك مخادع معينة، اشتهرت على كر العصور بمن زج إليها من العظماء والسادة؛ فهذا مخدع تقول الرواية إنه هو الذي سجن فيه بنفونوتو تشلليني؛ وهذا مخدع تقول انه هو الذي زج إليه جاليليو، وآخر زج إليه جوردانو برونو وهكذا؛ ولقد لبث هذا الحصن المروع عصورا سجنا لمحاكم التحقيق (التفتيش)، وكان مقبرة لكثير من العلماء والأحبار الذين قضوا نحبهم فيه ضحية المطاردة الدينية؛ ولا يزال السائح المتفرج يشعر فيه برهبة تلك العصور وروعتها
زج بنفونوتو تشلليني إلى مخدع في البرج الأعلى، لا تزال تعينه لنا الرواية حتى اليوم؛ ولبث ثمانية أيام منسياً لا يفاتحه أحد بشيء، وفي اليوم التاسع قدمت إلى السجن لجنة من ثلاثة على رأسها حاكم رومة، ووجهت إلى تشلليني تهمة اختلاس مقدار من الحلي الرسولية وقت أن كان يعمل أيام الحصار بمدفعية الحصن، وأسر إليه البابا كليمنضوس أن(54/19)
ينتزع الحلي الرسولية من اطاراتها؛ وأن قيمة هذه الحلي قدرت بمبلغ ثمانين ألف جنيه (كرونا)، وأن عليه أن يردها أو يرد قيمتها، وإلا فانه يترك ليرسف في سجنه. وعبثاً حاول تشلليني أن يقنع اللجنة ببراءته، وأن الحلي الرسولية مرصودة في دفاترها فلتراجع فيها، وأن دفاتره رهن تصرف اللجنة لترى أنها في منتهى الدقة، وأنه قد خدم الكرسي الرسولي بفنه وإخلاصه مدى أعوام طويلة، فلا يحق أن يجزي ذلك القصاص. ولما نقل دفاعه إلى البابا أمر بمراجعة الحلي على قوائمها فوجدت تامة لا ينقصها شيء. ومع ذلك ترك تشلليني يرسف في سجنه؛ وكان البابا يحمله سعي بطانته، قد أصبح يرى في تشلليني رجلاً شريراً يجب التنكيل به؛ وزاد حنقه عليه أن رسولا جاء إلى رومة من قبل فرانسوا الأول ملك فرنسا يسعى في إطلاق سراح تشلليني، ورد على السفير بأن تشلليني رجل شرير، لا يستحق اهتمام جلالته. وكان محافظ الحصن رجلا طيب القلب فلورنسياً من مواطني تشلليني، فعمل على تخفيف وطأة سجنه، وتركه في الحصن حراً طليقاً يتجول فيه كيفما شاء مكتفياً بعهده ألا يحاول الفرار؛ وكان تشلليني ينفق وقته في التجوال بالحصن وصنع بعض الحلي التي يأتيه بها فتاه المخلص اسكانيو، وكان يسمح له بزيارته وبأن يحمل إليه ما شاء. ويقول لنا تشلليني أنه لم يشأ أن يفكر في الفرار لولا أن حادثاً وقع في السجن وحمل تبعته، وهو أن قساً زميلاً له سرق منه قطعة من الشمع الذي يتخذ منه نماذج للحلي، وطبع عليها مفتاح غرفته ليحاول صنعه ثم الفرار فيما بعد، ولكنه ضبط واعتقد المحافظ أن تشلليني شريك في هذا العمل، فأمر باعتقاله في غرفته وألا يبرحها بعد، وشدد عليه الخناق، ولم يحله من هذه القيود إلا بعد أن أقنعه تشلليني ببراءته؛ وهنا أدرك تشلليني خطورة موقفه، وأيقن أنه سيبقى عرضة لهذه المفاجآت الخطرة؛ إذا قضي عليه بالبقاء في هذا الأسر؛ ونمى إليه أيضاً أن البابا يصر على اعتقاله، وأن مساعي الملك فرانسوا في سبيله لم تثمر شيئاً، فأخذ يفكر في مصيره ويرى ألا نجاة له من تلك المحنة إلا بالفرار
وزاده عزماً على الفرار حادث جديد وقع بينه وبين المحافظ. ذلك أن المحافظ كانت تنتابه في بعض الأحيان أعراض جنون غريب فيتصور أنه ضفدعة أو وطواط، أو يتصور أنه ميت يجب أن يدفن، ففي ذات يوم من أيام جنونه سأل بنفونوتو هل بفر ويطير إذا استطاع، فأجابه بنفونوتو، إنه إذا أطلقت له الحرية، فانه يصنع لنفسه أجنحة يطير بها؛(54/20)
وعندئذ أقسم المحافظ أنه سيعتقله كرة أخرى ويشدد عليه الحراسة؛ وفي الحال نفذ وعيده، وزج بنفونوتو إلى غرفته، ووضع تحت الرقابة الصارمة. ومن تلك الساعة أخذ بنفونوتو يدبر وسائل الفرار، وكان خادمه اسكانيو قد حمل إليه أغطية جديدة لفراشه، فمزقها شرائح وجعل منها حبلا طويلا، وكان لديه أيضاً خنجر، ومقبض حديدي كبير سرقه من نجار الحصن، فخبأ هذه الأشياء في مرتبته؛ وبدأ يعمل لانتزاع المسامير الغليظة التي تثبت بها مفاصل الباب، ويغطي مكانها بشمع قاتم حتى لا يكتشف أمره؛ وأنفق في هذا العمل جهداً كبير حتى انتهى منه. وفي ذات ليلة اشتدت فيها النوية على محافظ الحصن واجتمع حوله معظم الحرس، اعتزم أمره. ويصف لنا تشلليني فراره في عدة صحف ساحرة رائعة كنا نحب أن ننقلها بنصها لولا ضيق المقام. وقد بدأ بأن دعا الله بحرارة أن يرعاه وينقذه. ثم رفع مفاصل الباب وعالجه حتى استطاع الخروج، وثبت الحبل المصنوع من شرائح الأغطية بنتوء في سور البرج وأدلاه، وعاد فرفع بصره إلى السماء قائلا: (رباه، إنك تعلم عدالة قضيتي، فاشملني برعايتك)؛ ثم أمسك بحبله وتدلى حتى وصل إلى الأرض من ذلك العلو الشاهق؛ وظن أنه غداً حراً طليقا، ولكنه كان في الساحة الداخلية يفصله عن الخارج سوران كبيرا. بيد أنه لم ييأس، ورفع قطعة كبيرة من الخشب كانت ملقاة هنالك على السور الأول وتسلقها حتى القمة، ثم تدلى بحبل صغير كان معه إلى الساحة الأخرى؛ وهنالك رأى أحد الحراس على مقربة منه فاعتزم أن يسحقه، وقصده شاهرا خنجره، ولكن الحارس ولاه ظهره؛ ثم تسلق السور الآخر؛ وهنا خانته قواه قبل أن يصل إلى الأرض فسقط من ارتفاع، واصطدمت رأسه بالأرض وأغمي عليه، ولكنه كان عندئذ خارج الحصن.
يقول تشلليني (وقد كان النهار يسفر، فهب على الهواء الصبوح الذي يسبق بزوغ الشمس، ورد إلى حواسي؛ ولكن صوابي لم يعد تماماً، وخيل لي أن رأسي قد فصل، وأنني انحدرت إلى عالم العدم، ثم عادت إلى قواي شيئاً فشيئا، وأيقنت أني غدوت خارج الحصن، وتذكرت في الحال كل ما وقع، وشعرت بجرح رأسي قبل أن أشعر بكسر رجلي، وذلك حينما مسستها، ورأيت يدي قد خضبتا بالدماء، بيد أني رأيت بعد فحصها أن الجرح لم يكن خطيرا. ثم أردت النهوض، وعندئذ رأيت ساقي قد كسرت مما يلي الركبة؛ ولكني لم(54/21)
أيأس، واستخرجت خنجري من غمده وألقيت الغمد، لأنه كان ينتهي بكرة كبيرة، وهي التي اصطدمت بساقي وكسرتها، وقطعت بخنجري قطعة من القماش وضمدت ساقي؛ وأمسكت خنجري بيدي وزحفت على أربع نحو باب المدينة؛ وكان الباب مغلقاً، ولكني رأيت تحته حجراً، فأزحته فتحرك، فدفعته ونفذت من الخرق إلى داخل المدينة. وكان بين الحصن والمدينة نحو خمسمائة خطوة؛ ولما دخلت المدينة هجم علي عدة من الكلاب، وأخذت تلاحقني وتعضني عضاً أليما، فسحبت خنجري وطعنت أحدها طعنة نجلاء جعلته يصيح محتضرا، فالتف باقي الكلاب حوله؛ وأسرعت زاحفاً على اليدين والركبتين نحو طريق (القديس بطرس) (الكنيسة)؛ وكان النهار قد أسفر، وشعرت بالخطر الذي يهددني. وهنا قابلت سقاء وراء حماره المحمل بالقرب؛ فناديته، ورجوته أن يحملني إلى شرفة سلم القديس بطرس، وقلت له إنني شاب فررت من نافذة صاحبتي، فكسرت ساقي؛ ولما كان المنزل الذي اقتحمته منزل أسرة كبيرة، فإني في خطر القتل؛ ووعدته بأن أعطيه ديناراً من الذهب وأريته كيسي المنتفخ؛ فحملني في الحال على ظهره وسار بي إلى ميدان القديس بطرس ووضعني عند الشرفة، وعاد مسرعاً إلى حماره)
واستمر تشلليني في زحفه قاصداً إلى منزل قريب لأميرة يعرف أنه يستطيع الالتجاء إلى حمايتها هي زوجة الدوق الساندرو مديتشي؛ ولكن رآه عندئذ أحد حشم الكردينال كرنارو الذي يقع قصره في ذلك المكان وعرفه، فهرول إلى الكردينال ونبأه، فأمره بحمله. فلما رآه هدأ روعه وطمأنه، واستدعى الطبيب لعلاجه. وذاع نبأ الحادث في روما، فاهتز الشعب الروماني دهشة وإعجاباً لهذه الجرأة. وذهب الكردينال كرنارو مع بعض زملائه إلى البابا وسألوه الصفح عن ذلك الرجل الموهوب، فأجاب بالعفو ووعد الإثابة. ولكنه طلب إلى كرنارو فيما بعد أن يسلمه تشلليني ليقيم عنده في أحد الغرف السرية، فاضطر كرنارو إلى تحقيق رغبته لكي يحقق له بعض مصالحه، وكانت نيات البابا نحو تشلليني غامضة؛ وحمل تشلليني إلى القصر البابوي، واعتقل هنالك عدة أيام؛ وفي ذات مساء قدمت إلى غرفته سرية من الجند وحملته إلى حصن سانت انجلو، وألقته في مخدع صغير يطل على إحدى الساحات الداخلية؛ وبذا رد إلى سجنه المروع كرة أخرى، وغاضت كل آماله في الخلاص، وغلبت عليه الروعة والاستكانة. يقول تشلليني: (وكان قبس ضئيل من النور(54/22)
ينفذ إلى غرفتي التعسة من ثقب صغير مدى ساعة ونصف في كل يوم، فلا أستطيع القراءة إلا في هذه الفترة؛ أما باقي النهار والليل فكنت أمكث صابراً في الظلام، لا يفارقني التفكير في الله وفي ضعفنا الإنساني. وكنت على يقين من أنه لن تمضي أيام قلائل حتى أقضي نحبي في هذا المكان وفي هذه الظروف. بيد أنني كنت أروح عن نفسي ما استطعت ذاكرا أن الموت بضربة من سيف الجلاد أشنع من ذلك وأفظع، هذا بينما أستطيع الموت هنا هادئاً كأنني في غفوة النوم. وشعرت شيئاً فشيئاً أن لهب حياتي يخبو، حتى اعتاد جسمي البديع على ذلك الانحلال، وحتى شعرت أنه اطمأن إلى تلك الظروف التعسة؛ واعتزمت أن أحتمل آلامي المروعة في سكينة وجلد ما بقي لي شيء من قوة الاحتمال). وكان ذلك لعام ونصف من اعتقاله الأول، أعني في منتصف سنة 1539.
(الخاتمة تأتي)
محمد عبد الله عنان المحامي(54/23)
الامتيازات الأجنبية والضرائب
للأستاذ زكي دياب المحامي
عبثت الامتيازات ولا زالت تعبث بمرافق الدولة العامة، ووقفت في سبيل نموها عقبة ليس من اليسير تذليلها إلا على الأيام. وأثرت فيما أثرت على التشريع المالي تأثيراً بالغا، وددتُ لخطورة شأنه أن أفرد له هذا الفصل.
إن المبدأ العام الذي يحكم تشريع الضرائب في البلاد المتمدينة هو وجوب قيام كل فرد يقطن الإقليم بقسطه في الضريبة التي تفرض، بغض النظر عن تباين الجنسيات. تلك هي القاعدة العامة التي يأخذ بها الشارع والتي تقتضيها حكمة التشريع. وهي تستند على فكرتين أوليتين: محلية الضرائب، وعمومية الضرائب.
والأولى بدورها تعتمد على الحقيقة المعروفة القائلة بأن سيادة الدولة محدودة في نطاق إقليمها. وعماد الفكرة الثانية ضرورة تحمل كل فرد نصيبه من التكاليف العامة، حتى تقوى الدولة على إنجاز المشروعات الكبار التي تضطلع بها.
والآن وقد أوردنا المبدأ العام متعجلين، نقول في أسف شديد بان مصر أكرهت تحت عبء الامتيازات على عدم التمشي مع ذلك المبدأ الذي أخذ به العالم كله؛ فالأجانب معفون أصلاً من الضرائب إلا إذا وافقت دولهم سلفا. وقد استطاعت مصر أن تحصل على هذه الموافقة بعد جهود كبيرة بالنسبة لأربعة أنواع من الضرائب يسوي في جبايتها بين الوطني والأجنبي وهي:
أولاً: الرسوم الجمركية، والضرائب التجارية المفروضة طبقاً للمعاهدات التجارية. فللحكومة أن تفرض من هذه الضرائب ما تراه لازماً كضريبة الكحول.
ثانياً: ضريبة الأراضي طبقاً للفرمان العثماني الصادر بتاريخ 7 صفر سنة 1284، وهو الذي خول لهم بمقتضاه حق تملك العقار.
ثالثاً: عوائد المباني طبقاً لاتفاق لندن سنة 1885، وللدكريتو الخديوي الصادر في 13 مارس سنة 1884.
رابعاً: عوائد مجلس بلدي إسكندرية طبقاً للمادة 31 من الدكريتو الخديوي المؤرخ 5 يناير سنة 1890.(54/24)
فإذا ما حصلت الحكومة من أحد الأجانب رسوماً أو ضرائب في غير نطاق ما ذكرناه، كان له الحق في طلب استردادها أمام المحاكم المختلطة، التي تحكم طبقاً للمادة 11 من لائحة ترتيبها فيما يمس حقوق الأجانب المكتسبة بالمعاهدات.
وفي الطريق الذي استطاعت به مصر أن تحصل على موافقة الدول على تلك الأنواع المذكورة من الضرائب تفصيل رأيت أن أبسط شيئاً منه:
وافقت الدول الأجنبية على سريان قوانين الضرائب على رعاياها فيما يتعلق بالضريبة العقارية على الأراضي الزراعية، والضريبة العقارية على أراضي البناء، وهما نوعان من الضرائب المباشرة.
أما عن الضريبة العقارية على الأراضي الزراعية فلم يكن يسمح قبل القرن التاسع عشر لأجنبي ما أن يتملك عقاراً في الدولة العلية. ولم يعف الأجانب من هذا الحظر إلا عندما حل عام 1867 إثر مفاوضات طويلة. على أنه بالرغم من ذلك المنع السابق، اعتاد الأجانب أن يسلكوا طرقاً ملتوية للحصول على تلك الملكية المحرمة، فكان الواحد منهم يبتاع الأرض باسم شخص متجنس بالجنسية التركية. وإزاء ذلك رأت الدولة العلية أن تضع حداً لتلك الحال، فأباحت تحت تأثير هذا العامل الملكية العقارية لكل فرد، بغض النظر عن تباين الجنسيات. ولقد تعرض الحظر الهمايوني الصادر سنة 1856 لهذا الموضوع، فنص صراحة على إباحة الملكية العقارية للأجانب في أراضي الدولة وولايتها، على أن يذعن هؤلاء الملاك لما يفرض على الجميع من التكاليف المالية، فاستووا بذلك مع الأهالي.
ولكن حركة الإصلاح لم تنجح، إذ تأجل نفاذ النصوص الصريحة؛ فحاول الباب العالي بعد ذلك مرة أخرى أن يخضع هؤلاء الأجانب للوائح والقوانين التي تسري على الملكية العقارية، وطلب ذلك مُلحّاً، فأجابته الدول إلى ما طلب بقانون صدر بتاريخ 10 يونيه سنة 1867 الموافق 7 صفر سنة 1284، وسمح للأجانب أن يكونوا ملاكاً عقاريين للأراضي الزراعية في الدولة العثمانية، وألزموا بالقيام بكافة الفرائض المالية على الأراضي الزراعية - أسوة بالوطنيين - في أي صورة تتشكل بها تلك الفرائض
ولقد خول الأجانب في مصر حق تملك الأراضي وكلفوا في الواقع بضرائبها قبل أن يُسن(54/25)
قانون 7 صفر ومن قبل أن يسمح لهم بالملكية في تركيا. ذلك أن الأجانب الذين حازوا في مصر ملكية عقارية لم يفكروا في منازعة الحكومة المصرية في حق كانوا يرون من الطبيعي الخضوع له، فكانوا يعتبرون الضريبة ديناً على الأرض نفسها لا على مالكها (دو روزاس ص465)، ومن أجل ذلك كان غير صحيح القول - كما يرى دو روزاس - بأن فرمان 7 صفر هو الذي قرر الضريبة العقارية على الأجانب في مصر.
تلك هي الأدوار التي مر بها تشريع الضرائب العقارية على الأراضي الزراعية وخضوع الأجانب لها.
أما الضرائب العقارية على أراضي البناء فقد قبل الأجانب سداد الضرائب العقارية عن الأراضي الزراعية بعد اقتناع وتسليم بوجاهة الطلب. ولكنهم رفضوا جميعاً الوفاء بضريبة أراضي البناء حتى بعد صدور فرمان 7 صفر الذي صادقت عليه الدول، والذي تقضي مادته الثانية بإلزام الأجانب بالضرائب على الأراضي الزراعية والأراضي المبنية. وفي إنكار هذا الحق وعدم النزول على إرادة القانون تحميل ثقيل للنص الصريح.
ولا عجب فلقد ذهبت المحاكم المختلطة مذهبهم وعززت وجهة نظرهم في أحكامها، فقررت أنه برغم إطلاق النص في قانون 7 صفر وشموله الضرائب العقارية عن الأراضي بنوعيها، فان العرف قد أكسب الأجانب حق إعفائهم من الضرائب على أراضي البناء. ونحن لا يكفينا إزاء الدور الذي تلعبه المحاكم المختلطة في موضوعنا هذا أن نمر سراعاً على حكم لها، بل سنبين فيما بعد أكثر أحكامها معلقين على بعضها عندما نرى ضرورة لذلك.
وأخيراً وبعد لأي وافقت الدول على تطبيق دكريتو سنة 1884 المتعلق بالضريبة على الأراضي المبنية على رعاياها، وكانت تلك الموافقة سنة 1885.
هاتان الضريبتان المباشرتان يخضع لهما الأجانب حالاً في مصر بعد الجهود المضنية التي بذلت للموافقة عليهما وبخاصة للموافقة على ضريبة المباني، فمن إنكار تام لمشروعيتها، إلى عبث بالنص صريح، إلى أحكام منتقدة تصدر من المحاكم المختلطة، ولا أرْجعُ أنا هذه المحاورات والتمحل من الطرف الأجنبي إلا إلى رغبة كمينة في النفس الأجنبية تدفعها دائماً إلى أن تجعل في يدها جماع الحقوق وأكثر المنافع.(54/26)
ولسنا في حاجة إلى أن نبين كيف وافقت الدول على النوعين الآخرين من الضرائب، فلقد حَمَّل دكريتو 5 يناير سنة 1890 في المادة 31 منه الأجانب عبء عوائد مجلس بلدي الإسكندرية، شأنهم في ذلك شأن الأهالي، لما لبلدية إسكندرية من شخصية معنوية ممتازة، ونظراً لتمثيل الأجانب فيها تمثيلا صحيحاً. أضف إلى ذلك كثرتهم في الثغر، فلو تخلصوا من عبء الضرائب فقدت بذلك البلدية مورداً هاماً.
وللحكومة المصرية بما تبرمه من معاهدات تجارية مع الدول الأجنبية أن تفرض الضرائب التجارية والرسوم الجمركية.
أما المحاكم المختلطة فلقد لعبت دوراً خطيراً في الموضوع، فكلما همت الحكومة راغبة في فرض ضريبة جديدة حال بينهما وبين ما تبغي عدم اعتراف المحاكم المذكورة بحق الحكومة في فرض ضرائب جديدة تُحَمّل بها الأجانب فلا تستطيع إزاء ذلك شيئاً. فلابد من موافقة الدول سلفاً، ويجب أن توافق هي مقدماً على كل ضريبة مستحدثة. وكل إجراء مالي سن به قانون أو شرع في سنه وكان يلقى على عاتق الأجانب عبء ضريبة أو فريضة مالية أيا كان نوعها.
ووقف قرار الجمعية العمومية بالمحكمة في سبيل فرض ضريبة السيارات التي شرعت الحكومة في سنها أخيراً ورأت أن الحكومة تريد بذلك أن تفرض نوعاً مستتراً من الضرائب العقارية على الأجانب لأن تلك الضريبة كما تراها هي رسوم لاستعمال الطريق العام.
وأخيراً وبعد جهود عادت فأقرتها. وقضت تلك المحاكم في القضية التي رفعها الفيكونت روفونتارس سنة 1912 بأن الضرائب التي تفرضها مجالس المديريات للصرف منها على المنافع العامة ليست خاضعة لشروط موافقة الجمعية العمومية المقررة في مادة 24 من القانون الصادر في أول مايو سنة 1883.
وقضت كذلك في عدة قضايا، منها قضية شركة سكة حديد القاهرة الكهربائية، وقضية أوجست قساجيه ضد مديرية البحيرة.
وترى المحاكم المختلطة أيضاً فيما يتعلق بالأشخاص المعنوية أنها إن كانت مؤلفة من الأجانب تخضع للضرائب المباشرة التي تقررها الحكومة المصرية على الأشخاص(54/27)
الطبيعيين المصريين.
وخلاصة القول أن المحاكم المختلطة انتهت إلى التفريق بين الضرائب المباشرة وغير المباشرة، فهذه الأخيرة يجوز فرضها، أما الأولى فيجب لفرضها موافقة الدول، على أن ذلك القيد قديم نشأ نتيجة لعرف فاسد منتقد لا نتيجة نص صريح.
ومما يستنبط من ذلك أيضاً ومن مجموعة الأحكام التي لم نشأ أن نورد كل ما لدينا منها أن للحكومة أن تفرض ضريبة مباشرة أو غير مباشرة على رعايا الدول غير المتمتعة بالامتيازات، وعلى الشركات المساهمة المؤسسة في مصر وقد حكم بأن جنسيتها مصرية ولو كان أعضاؤها أجانب، وان كانت تشملها في حالة تقاضيها نظرية الصالح المختلط. ولكن ذلك لا يزيل مالها من صفة مصرية يظهر أثرها فيما يتعلق بالضرائب.
(بقية البحث في العدد القادم)
زكي دياب(54/28)
نقابة للأدباء الشبان
لأديب كبير
أخرج اليوم من معتزلي إذ سمعت ضجة حسبتها ضجة معركة حربية، وتحركت نفسي لمرأى ميدان تلك الضجة، فعز علىَّ أن أرى الصرعى يئنون من الألم وجراحهم تجري بالدماء، وأن أرى العماليق تزأر، وترغي وتزبد، وسيوفها تقطر من دماء ضحاياها؛ وعولت على أن أنزل إلى الميدان لألقى فيه نصيبي من الأذى إذا لم يتح لي أن أنصر ضعيفاً أو أنتصر لمظلوم.
وقد يحسب قارئ أني أهزل في قولي - ولا بأس عليه إذا هو ظن ذلك - فإني لا يضيرني أن يحسب قارئ أني أهزل، ما دام لا يظن فيّ أني أسخر منه أو من سواه، فأني لا أحب أن يظن أحد في أنني اسخر منه، فان السخرية مُرة الطعم، وقد ذقتها فوجدت قبحها فوق كل قبح.
ولكني مع ذلك أرجع إلى نفسي فأقول: إنني لا أخشى من أن يظن أحد فيّ أنني أسخر، فقد طالما سخر كبار الأدباء من قرائهم، ولا يزيد قراؤهم مع ذلك إلا إعجاباً بهم؛ بل إن بعض شيوخ الأدب قد زاد وبرز في ذلك الباب إلى أن قال لقرائه في صراحة عجيبة إنه يسخر منهم، وإنه عالم بأن القراء لا يعجبون بالكاتب الأديب أشد الإعجاب، إلا إذا تفنن في السخرية بهم. فلا بأس عليّ إذن إذا حسب أحد القراء أنني ساخر، فإنني قد أصل بذلك إلى إعجابه وإكباره.
وإني هنا قاصد إلى الأدباء أدعوهم إلى اتباعي والأخذ برأيي، بعد أن شهدت صرعاهم في النضال الأخير مع مشيخة الأدب وكباره. وقد يقول قائل وكيف تجعل نفسك بين الشبان وقد بلغت من السن فوق مبلغ الشبان؟ ولكن ذلك القول لن يثنيني، فأني لا أردع بمثل هذا العنف، وإني لا تزال فيّ بقية من الشباب تكفي لان تبرر مدخلي فيهم وانخراطي في سلكهم. على أن الأديب لا يعد شابا إذا كانت سنه من الشباب، فان الشباب والشيخوخة في الأدب لهما اصطلاح خاص واعتبار موضوع. فالأديب الشاب هو الذي لم يبلغ من الشهرة مبلغاً مذكورا ولو كان قد نيف على الخمسين؛ والأديب الشيخ هو من ضرب اسمه في الخافقين ولو لم يكن ممن بلغوا سن الثلاثين أو الأربعين. وعلى هذا فأنا شاب في عرف(54/29)
الأدباء، لأنني بحمد الله قليل الحظ من ذيوع الاسم، بل أكاد لا أسمع اسمي يذكره ذاكر إلا في أمر من أمور هذه الدنيا البعيدة عن عالم الأدب، ولقد حبب إليّ الخمول والبعد عن الشهرة منذ اقترن ذلك الخمول باسم الشباب، فأني كنت دائماً أحب الشباب واسم الشباب ولو كان مقترناً بالذم؛ وقد كان لي صديق - عفا الله عنه - عرف فيّ ذلك الطبع، وكان يحلو له أن يشتمني؛ ولكنه مع ذلك كان حريصاً على مودتي، فدفعه خبثه إلى أن يجعل سبابه لي مقترناً باسم الشباب، فكان إذا رآني بدرني بقوله: (ما هذا الذي فيك من طيش الشباب؟) وقوله: (إنك تظهر في عملك هذا ضروباً من جهل الشباب) وقوله: (إنك والله ملئ بنزق الشباب). فكنت أقبل الشتم ما دام دفيناً في وصف الشباب المعسول، وبذلك توصل صديقي إلى ما شاء من سبابي، ولم يخش أن يخسر شيئاً من مودتي. ولم أفطن إلى حيلته الخبيثة إلا بعد لأي، ولكنني مع ذلك لم أعاتبه ولم أغضب عليه، بل بقيت راضياً بما ينالني من شتمه لأحظى بوصف الشباب من ورائه. وعلى هذا فلست إلا حفياً بدخولي في زمرة الشبان الأدباء، قانعاً بوجودي بينهم. ومادمت كذلك فإني لابد مذمرهم على الشيوخ، ومعصبهم ومحرضهم. وأول آيات ذلك التعصب أنني أدعوهم اليوم إلى تأليف نقابة لهم، لتكون جامعة لكلمتهم، ورابطة لهم عند الملمات إذا ما فكر الشيوخ مرة أخرى في أن يصبغوا لهم العيون بلون الدماء.
وأي شيء يستنكر في دعوتي هذه إلى تأليف نقابة للأدباء الشبان؟ وهل في ذلك بدعة أو ضلالة؟ إن الأديب الشاب شبيه بالعامل الفقير الذي لم يدخر بعدُ مالاً، ولم يتأثل شيئاً من حطام الدنيا، والشيوخ الأدباء هم الذين ادخروا وتأثلوا. ألسنا نراهم اليوم يقولون للشبان إنكم مدينون لنا بكل شيء؟ أليسوا قد أعلنوا للملأ أنهم الأوصياء على إنتاج الأدب وتوزيعه؟ ومادام هذا هكذا - كما يقول شيخ منهم - فان الأمر لا بدعة فيه ولا ضلالة؛ فقديماً اجتمع ضعفاء العمال لكي يحموا أنفسهم من وقعة أصحاب (رءوس الأموال) بهم، فلما أن فعلوا أظهروا للعالم أن العمل شيء واجب أن يرعى فيه الحق، وأن يتخذ في معاملته العدل. فهلموا إلى العمل أيها الأدباء الشبان.
وإني منذ اليوم أجعل نفسي رداءاً لمن يدخل منكم نقابة الأدباء الناشئين أدفع عنهم عادية الشيوخ، وأوقف دونهم إذا ما سمع أحدهم يزأر أو يزمجر، أو إذا ما رؤى بعضهم يرغي(54/30)
أو يزبد، ولست أقف هذا الموقف لأني آنس في نفسي قوة فوق قوة الشاب أو قدرة على الدفاع لم يؤتها سواي منكم معشر مساكين الأدباء، بل أقف موقفي هذا متدرعا بدرع قلدت فيه بعض شيوخ الأدباء، فقد رأيت أحدهم عفا الله عنه، وزاده بسطة في الأدب، وأمتع به بابي الجد والفكاهة في الكتابة، وحفظ عليه دهاءه وبهاءه - ولا مؤاخذة إذا لم يسعفني الخاطر الكليل بسجعة خير من تلك - أقول رأيت ذلك الصديق القديم قد لجأ إلى حيلة خلقها له عقله القوي، وهي أن يبدأ نزاله وطعانه بأن يتبرأ من كل ما كتب في الماضي وما يكتب في الحال والاستقبال من نثر ونظم، ومن جد وفكاهة. فإذاما وثق من أن الناس انخدعوا بذلك واعتقدوه، أقبل على المسكين أو المساكين الذين اختارهم لطعانه فما زال يخزهم ويضحك، ثم يطعنهم ويضحك وهو يتسلى بما يراه من عنف حركات مساكينه وعلو صراخهم. فإذاما دفع الألم أحدهم إلى الدفاع أو الانتقام وسدد طعنته إلى عضو من أعضائه قال له ثابتاً غير منزعج (ومن أدراك ان هذا العضو يهمني أمره؟ ومن قال لك أني أعبأ بطعنتك لي في هذا الموضع أو ذاك؟) فيصدقه المسكين وتنفجر عيناه بدموع الحنق والعجز ظناً منه أن هذا المنازل متحصن فيما لا مطمع فيه، ثم يرمي بحربته أو سهمه، ويعدل عن انتقامه، وتلك حيلة فطنت لها دون سواي من الأدباء، وستكون لي عدة في نزال الدفاع عن أفراد النقابة إذا ما التأم أمرهم، وتم اجتماعهم، فإذاهم جعلوني نقيبهم جعلت نفسي فداءهم، ولن يصيبني بفضل حيلة صديقي الشيخ أذى ولا ألم، وسأجعل همي أيها الأدباء الشبان إذا ما وفقكم الله إلى اختياري زعيماً لكم أن أقوم فيكم بدعوة أو (دعاية) كما يقول بعضهم تكون لكم فيها بركة إن شاء الله، وذلك أن أنصح لكم أن تقللوا من الاهتمام لما ينالكم من وراء ما تؤلفونه، وأن تقفوا من مؤلفاتكم موقف الناظر (المتفرج) لتروا ما يقول الناس فيها، ولكم الحق في أن تضحكوا ملء أفواهكم من سواكم سخرية إذا رأيتم أنه لم يوفق إلى فهم ما في مؤلفاتكم من جمال أو حقيقة وبذلك تكونون قد وقفتم من ناقدكم على سواة - فإذا لم تستطيعوا ذلك، ورأيتم أن الناقد قد أخذ عليكم مسامع الناس فأساء عندهم ذكركم، فأني أنصح لكم أن تروضوا أنفسكم على فلسفة الأستاذ الذي وصفت لكم حيلته حتى تصلوا بعد حين من رياضتها على تلك الفلسفة إلى مرتبة القدرة على أن تنظروا إلى مؤلفاتكم في شيء من الاحتقار، أليست مؤلفاتكم من صنعكم؟ وإذا لم تكن معجبة ولا باهرة، أليس في(54/31)
طاقتكم أن تخلقوا سواها؟ فإذاكانت باهرة ولكنها قد ظلمها النقاد، أليس في استمراركم على التأليف وإتيانكم بعد الآية الآية الأخرى، وإتحافكم الناس بمؤلف في أثر مؤلف أقوى دليل على حسن استعدادكم، وعلو كعبكم؟
وبعد، فهذه نصيحة أخرى، وهي أن يؤلف من يؤلف منكم لأنه مندفع إلى ذلك بميل في نفسه لا لكي يطلع الناس منه على ما يمدحونه به، فلأديب الصحيح من ألف لنفسه أولاً، ولا تظنوا أنني سأجتزئ من واجبات النقابة بالنصح لكم، بل سأتجه بكم نحو نضال يجعل المشايخ يطلبون عفو الشبان وهم جاثون خاضعون مذعنون، وليس في خطتي شيء عجيب، فإني لن افعل شيئا اكثر مما يفعله نقباء سائر النقابات، فإني إذا ما حزبكم أمر سأدعوكم إلى الاعتصاب والإضراب عن التأليف والكتابة إضرابا تاماً، فيعدل عند ذلك عن الاقتراب من الأقلام كل من يكتب منكم في مجلة أو صحيفة، أو من يؤلف الكتب سواء أكان ممن يكتبون في الجد أم في الفكاهة؛ وإذا ما رأى بعضكم أن ذلك غير ممكن لتغلب شهوة الكتابة عليه مهدنا له السبيل بأن نجعل في دار النقابة مطبعة ونجعل لها صحيفة ونقصر قراءتها على أفراد النقابة أو أعضائها كما يقولون أحياناً، وعند ذلك يجد شيوخ الأدب أنفسهم عدداً ضئيلاً، كما حدث لأشراف رومة من قبلهم منذ قرون، فلا يستطيعون أن يخرجوا جريدة ولا مجلة، ولا يجدون شيئاً ينتقدونه ويظهرون بنقده سيادتهم فتقف دواليب أعمالهم ويعضون البنان أسفاً على إحراجكم واغضابكم، ويلجئهم الحرص على مصلحتهم إلى طلب الصفح وإلى معاملتكم بالعدل والحق. حقاً قد يستريح الجمهور بضعة أيام من القراءة، غير انه قد يستجم في أثناء هذه الأيام قدرته على الاستقلال في التفكير فيكون أقدر على أن يزن أقوال مشايخ الأدباء فيكم وحكمهم عليكم، وعند ذلك لا أتشدد في مطالبي، بل سأقتصر على طلب واحد إلى مشايخ الأدباء، وذلك أنهم إذا شاءوا نقد مؤلف أحدكم فهم بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يذكروا محاسنه ومساويه كما قال أحد قدماء مشايخ الأدب، وأن يعدلوا في الحكم ماداموا يجعلون عنوان كتابهم (نقد كذا) وإما أن يجعلوا عنوان كتابتهم (محاسن كذا) ويكتفوا بذكر محاسنه أو (مساوئ كذا) ويكتفوا بذكر مساوئه، فإذاهم قبلوا ذلك الشرط أبحت لكم العودة إلى معاونتهم ومشاركتهم، وإن هم أبوه مضينا في الإضراب حتى تلجئهم ضرورة الحياة إلى النزول عند العدل.(54/32)
فهل من مجيب أيها الأدباء الشبان؟
(أديب)(54/33)
وفاء الطائر
للآنسة أسماء فهمي
درجة شرف في الآداب
امتقع وجه الشمس، وخبَت أشعتها، وعلاها اصفرار، وأصابتها رعشة، وغشي الأفق حمرة الوجد في ساعة الغروب، ثم وجمت الطبيعة، واطمأن الجدول في سيره، ورق النسيم واستولى على الكائنات شعور منقبض حزين. . .
ثم حالت نضرة الحقول في الأصيل؛ ونظر الناس إلى الشمس الغاربة فآثروا الرواح، وتململت الماشية، وقلق الصغار، فسارع القرويون إلى جمع شتات أدواتهم من فؤوس وسلاّت، وامتطوا دوابهم فصارت تعدو بهم يدفعها الحنين والشوق إلى الدار بعد نصب النهار؛ وسرعان ما ازدحمت بالعائدين الطرق والمسالك الموصلة إلى القرية. وكلهم مفتون بروعة المساء، الإنسان والحيوان في ذلك سواء. . .
وأمام الدور في القرية تجمهرت النساء والأطفال، وسرت الحياة في الأرجاء، وتطاولت الأعناق لإجتلاء طلعة القادمين كما لو أن أمد الشوق والفراق قد طال. . .
والطير لمحت بدورها احتضار الشمس من بين الأغصان، فتبادلت النظرات، وتجاوبت بالأغاريد كأنها تذكرت أمراً ذا بال، وسرعان ما جمعت جموعها وغادرت أسرّة الأغصان، وحلقت في الفضاء أسراباً تندفع اندفاعاً نحو العش بقوة الحنين وعزم الجناح. . والحق ليس هناك أروع من منظر الطير، يدفعها الحنان نحو العش فلا تعود تأبه بتدليل الغصن ولا بجمال الزهر ولا بوفرة الحَب، ولا بالمرح والتغريد. . .
ولكن طائراً جميلاً يمتاز بقوة تغريده وشدة جرأته، وتدفق مرحه وحيويته، أغرته أكوام القمح الذهبية فترك أفنان الشجر وكاد يقع في شراك الفلاح لولا أن أنقذته سرعة قفزه، فنجا بأعجوبة بعد أن أصابه خدش في الجناح. ولم يدر الطائر لشدة فرحه بالنجاة حقيقة ما أصابه إلاّ عندما حان ميعاد الرحيل للعش، وناداه الرفاق فرفرف بجناحيه وفاضت نفسه بنشوة الحنين، ودفع جناحيه محاولاً أن يأخذ مكانه في مقدمة السرب، ويكون كعادته أول من تضمه أحضان الوكر. . . وصاح صيحة الطرب، واندفع إلى الأمام كالسهم، ولكن لم يلبث أن أخذ منه الجهد، إذ اتسعت شقة الجرح. فترنح في سيره، وأخذ يدور حول نفسه ثم(54/34)
استسلم لجاذبية الأرض. . وسرعان ما استحال طيرانه إلى قفز. . ونظر أمامه فوجد السرب قد توغل في الفضاء فداخله الهم، ولكن بقي لديه شيء من الأمل الذي كانت تحمله إليه بقايا أسلاك الشمس الغاربة، فصار يتعلق بها كما بتعلق الغريق بالأعشاب الطافية على وجه اليم. . على أن شعاع الأمل سرعان ما انطفأ مع أشعة الشمس، وانتشر الظلام في الأرجاء، وتسربل الكون بحلة سوداء. . والطائر المسكين لا يزال بعيداً عن العش، بينما الطيور الأخرى كانت في تلك الآونة تنعم بدفء الوكر وحنان الأهل، وتستقبل الظلام في هدوء واطمئنان؛ والناس والماشية بلغوا مستقرهم، والليل يهمس حولها: نعم عقبى الدار. . .
أخذ الطائر الشريد يسير على غير هدى في دياجير الظلام واليأس - يرتطم بالحوائط والجدران والأشجار، ويتعسر في الوحل والشوك، وقد كان في وسعه لو أراد أن ينزوي في ركن من الأركان، أو يقضي الليل فوق غصن من الأغصان، ولكنه لم يشأ أن يتخذ عن عشه بديلاً، بل آثر الجهد والنصب آملاً أن تسوقه الأقدار بعد طول السهاد إلى العش الوثير المحبوب. . . واستحالت في نظره حرية الفضاء إلى سجن قاتم، وجمال الشجر إلى قبح دميم، ونفح النسيم إلى شواظ من نار، وأنسى الطائر فقد العش كل ما كان ينعم به من لذة ومتعة وشدو، طليقاً في سماء الصفاء والجمال. . .
وبقي على تلك الحال من القلق والاضطراب إلى أن قاده الحظ العاثر إلى كوخ فلاح ينبعث منه نور ضئيل، فاندفع إليه في ساعة يأسه وحيرته دون تفكير. وهاجت الأطفال وماجت عند ما رأت وسطها الطائر الجميل، واجتهدت في حصاره وإلقاء القبض عليه، فاشتد هلع الطائر وقاوم مقاومة الأبطال، ولكن آلام جرحه اشتدت، وازداد تخبطه وتكرر سقوطه، وأخيراً وقع في الميدان صريعاً، فهجمت عليه الأعداء، ولكن سرعان ما تراجعت ووقفت مبهوتة صامتة مأخوذة برهبة الموت. . .
ولم يعلم الأطفال والكبار شيئاً عن سر دخول الطائر في ظلام الليل، ولو علموا سبب حيرته واضطرابه، وأنه قاوم القدر وأبى أن يهجع في غير العش الرؤوم إخلاصاً منه وولاء، لنثرت عليه الزهور والرياحين، ولشغل مكاناً من القلب أسمى من المكان الذي يشغله آلاف الناس - الذين لا يتعصبون في الحياة لأمر، ولا يتطرفون في الغرام بشيء،(54/35)
ولا يفضلون داراً على دار. . بل قد لا يعبأون أن تضحّي سعادة أوطان بأكملها. . . بينما يموت طائر صغير شهيد الوفاء للعش. . .
أسماء فهمي(54/36)
من الشعر المنثور
المدينة الهاجعة
للأستاذ خليل هنداوي
مهداة إلى مدينتي الصغيرة الراقدة رقاداً عميقاً على الشاطئ الأزرق. . . . . صيداء.
خليل
خاطر أزعج نفسي ... يا له من خاطر!
ما له من أول ... ما له من آخر
دعوا مدينة البحر تنم هادئة، فقد أرقتها يقظة الشاطئ،
لا توقظوها إذا جاء الفجر. . . أنها نائمة.
نامت عن الأرزاء والشجون.
واستسلمت للأحلام الجميلة وأطبقت عليها الجفون
من فاته في اليقظة الهناء
فليطلب النوم، ففيه شفاء
وليفر أحلامه بألوان الضياء
فتصبح الروح بها ناعمة
ألا لا توقظوها. . . إنها حالمة
نامت في غابر الزمن على الشاطئ الأزرق نوماً عميقاً،
وفي النوم تتبدل الخاطرات، وتتغير الأرواح،
إذ لا سكون في عالم الحركة، ولا وقوف في عالم الضوضاء.
تبدلت مدينتي وهي راقدة، وهبت فلم تر من آثار أخواتها إلا أطلالاً بالية، ورسوماً عافية.
فمشت بين مدائن غريبة حائرة ذاهلة، مشية أهل الكهف بعد يقظتهم!
رجعت إلى شاطئها الأزرق كما قفل أولئك إلى كهفهم،
لأن الحياة تنكرت لها ولهم
فنامت. . . ولا تزال نائمة(54/37)
لا توقظوها. . . إنها حالمة.
يهوي على قلبي أسى مبهم
أكتمه قسراً فلا يكتم
ألا أيها الأسى في أية جانحة تجثم؟
لا خمر تقوى على أمرك!
ولا غادة تقوى على قتلك. . .
أي أسى في روحي السائمة؟
تذوقت أيها الغريب جمال الصحراء الذي لا تنتهي حدوده كما لا تنتهي لها حدود،
وفنيت مع طيوبها، وامتزجت مع ألوانها
وجريت مع (فراتها) الصامت، ورتلت مع أطيارها،
فمالك لم يشبعك جمال، ولم تذهلك هذه الأشكال؟
فيك وحشة من كل شيء، لا يغلب عليها شيء،
ولا تنير آفاقك المظلمة شمس، ولا ينفذ إليها قمر
لأن في روحك وحشة من كل شيء. . .
لا الطبيعة تشبع نفسك، ولا عبيرها يسكر روحك.
لأن مدينتك الصغيرة بعيدة عنك. . .
وإن لم يكن لك في مدينتك - أيها الغبي - إلا الصخور والأمواج، فإنها ستدعوك إليها.
لا حبيب في زواياها يناديك.
ولا صديق يناجيك.
الرمال التي تحسبها جامدة ميتة. . . الرمال التي كنت تعبث بها طفلاً تناديك.
تناديك لتحتضنك. . . هي مبعث وحشتك، وموئل ذكرياتك.
للصخور الصلدة روح، وللأمواج المتقلبة روح
تحيا كلها في حنايا روحك
هي نائمة كمدينتك النائمة. . .
لا توقظوها. . . إنها نائمة(54/38)
ترقد مدينتي الصغيرة في كل شيء أراه، حتى في ذرات الرمال وقزعات السحاب.
ويرن صوتها في كل مبعث صوت، حتى في وقع الأمطار.
فأين أفر من وجهها، وكيف أصم أذني عن صوتها؟
وكل الأشياء التي نحيا فيها تحيا فينا.
هي حية في نفسي. . . مدينتي الصغيرة
هي مبعث وحشتي في هذه الحياة الغريبة.
هي التي تجذبني إليها وتخيم فوق رأسي في غربتي كالسحابة السوداء،
هي مجمع ذكرياتي التي تصطف للقائي في كل زاوية من زواياها،
وفي كل ثنية من ثناياها
سأحاول أن أنسى. . . وسيساعدني الزمان على النسيان،
وأية ذكرى وأية خطرة تستطيع أن تثبت أمام سلطان الأزمان؟
لكن شاطئك الأزرق الجميل. . شاطئك الذي امتزج دمه بدمي،
وخفق قلبه في قلبي، أنّى لي أن أنساه؟
هو كالقطرة التي تنعكس فيها كل السموات والنجوم. . .
ألا هنيئاً للجالس على شاطئك الأزرق فانه مالك كل شيء.
صيداء
خليل هنداوي(54/39)
دنيا الأدب
بقلم محمد قدري لطفي
ليسانسييه في الآداب
ليست هي دنيانا، فما ينبغي أن يكون هذا الأدب منها، وليست هي عالمنا، فما لهذا الأدب أن يدخل فيه، وإنما هي طبيعة الأدب تأبى أن يكون من دنيانا في شيء، فان أكثر دنيانا قبيح، وأكثر الأدب جميل، وعماد دنيانا الحقيقة وعماد دنيا الأدب الخيال، والعقل في دنيانا عنصرها الأكبر، والعاطفة في دنيا الأدب عنصرها الأول، والمرء في دنياه يرى بعيني رأسه، ويرى في دنيا الأدب بعين قلبه، وهو في الدنيا مادي، قد يمسك بالزهرة فيقطعها في غير رحمة التماس عبيرها، فيظلّ به حتى ينفذ، ثم يلقيها كأن لم تبهره لحظة بجمالها، ولم تنعشه برهة بأريجها، وهو في دنيا الأدب روحي، إذا أمسك بالزهرة فإنما يمسها في رفق، وإذا التمس شذاها فإنما يفعل في حذر واحتياط، حتى إذا أعجبه عبيرها لم يقتطفها ولم يلقها، وإنما تراه يستخلص من عبيرها الطيب بيتاً ينظمه، أو قصيدة ينشئها، أو سطوراً يكتبها، وتراه يغوص في قرار المعاني ويصعد إلى عنان اللغة ليسجل للخالق حسن الصنعة ودقة الخلق وجمال التكوين، وتراه يوفي الزهرة حقها من الإعجاب والإطراء، ويبادلها حسنا بحسن ومتعة بمتعة. والمرء في دنياه يتكلم فيما يشاء بما يشاء، وهو في دنيا أدبه لا يتكلم إلا فيما حرك شعوره وهز عاطفته، فإذافعل فباللفظ المختار وبالمعنى المنتقى، والمرء في دنياه حين يتكلم لا يكاد يقع قوله إلا من نفوس قليلة مهما تكثر فلن تخرج عن الحصر، ولن تفوق العد، وهو في دنيا الأدب يتكلم فيلتقي بعواطف الجموع ويضرب على أوتار القلوب، وقد ينتقل قوله من لغة إلى لغة وينتشر حديثه من لسان إلى لسان، فيفنى هو وما قال باق على الدهر خالد على الأيام، وقد يظل المرء في دنياه من غير صاحب، وقوله في دنيا الأدب يلقى الصحاب في كل مكان، ويتخذ سميراً في الجماعات أو خليلاً في الوحشة، أو مؤنساً في الوحدة، يصادف من كل قلب مبتغاه، ويلقي عند كل امرئ قبولاً، ويقع من كل نفس موقع البرء من السقام
ودنيانا محدودة وان ترامت حدودها، مقيدة وان اتسعت قيودها، ودنيا الأدب لا تعرف الحد ولا تعرف القيد، فالأدب يعيش في كل مكان ويحيا في كل زمان، يتناول كل شيء، وقد(54/40)
يتخذ لنفسه موضوعا من لاشيء، وليس توخي الجمال فيه ولا التزام أوجه الحسن في فنونه قيداً له ولا عيباً في دنياه، وإنما هو الجمال طبيعته وعنصره، ما أن يفقده حتى يخرج من دائرة الأدب إلى دائرة الكلام البحت والحديث الصرف. فالشعر إن فقد الجمال كان نظما فحسب، لا هو بالشعر ولا هو بالنثر، قد وقف بين الصناعتين لا يدري أهو من هذه أم هو من تلك، والنثر إن فقد طلاء البلاغة لم يكن من الفن في شيء، وكما تغلو الأشياء في دنيانا وترخص، يغلو الأدب في دنياه، وتنحط قيمته تبعا لمقدار الجمال فيه، وأكثر موازين دنيانا الكم، وميزان دنيا الأدب الكيف.
على أن دنيا الأدب وان كانت جمالاً كلها فليست نعيما كلها، وان كانت إعجابا كلها فليست تخلو من العجب، فقد أقام البؤس فيها إلى جانب الجمال، وسكنت الفاقة فيها إلى جانب الحسن، وكثيراً ما تحالفا على غير فكاك، وتوافقا على غير خلاف، شأن دنيا الأدب في ذلك شأن دنيانا، فانك لتجد فيها الوجه الجميل في المسكن الذليل، وغالباً ما يلقاك الشرف الرفيع في الكوخ الحقير، وكثيراً ما تحل السعادة حيث ترق الحال، ويقيم الهناء حيث يحل الفقر.
ودنيا الأدب لا آخره بعدها، ولا إمهال فيها، وإنما يلقي صاحب الأدب فيها حسابه سريعاً فيجزى به أو يعاقب عليه، فما هو إلا أن يظهر أهل دنياه على ما أتى من عمل فني حتى يتولاه النقاد من قومه بالحساب، يحاسبونه حسابا فيه يسر حيناً، وكله عسر أحياناً، وحساب أهل الأدب على عسره ليس يخلو من عجب، فلا الخير فيه خير بالاجماع، ولا الشر فيه بالإجماع، وإنما الخير عند زيد شرٌّ لدى عمرو، والشر يراه هذا خيراً، والخير في عرف ذاك شر، قد تفاوتت الموازين، وتباينت المكاييل، وليت شعري متى يشاء ملائكة النقد أن يكون لدنيا الأدب ميزان يزن به الجميع، وكيل يكيل به الجميع. فقد خلق الناقدون وكل معه ميزانه، وكل في يده كيله، فاختلفت أحكامهم على العمل الفني الواحد، وتعددت أقوالهم في إنتاج الأديب الواحد، ولعل دنيا الأدب لم تظلم صاحب الأدب حين أباح له حرية الدفاع عن آثاره الأدبية والرد على محاسبيه، والتماس الحق لجانبه. ومن غريب دنيا الأدب أنها تبيح حساب المرء حياً وميتاً، فيتناول النقاد سيرته بالتحليل ويتولون حياته بالتمحيص، ويظهرون الناس على أقواله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وانك لتجد الشاعر أو الناثر قد(54/41)
فارق دنياه منذ قرون، وأسدلت السنون عليه وعلى قومه حجابا من النسيان، ومع ذلك فهو في دنيا الأدب حي مذكور لا يزال النقاد يحاسبونه على شعر قرضه، أو نثر كتبه، أو قصة حاك أطرافها، ولا يكتفون من ذلك بالمئات من المرات.
ومما يحاسب المرء عليه في دنيا الأدب عدا الإجادة في الفن أو التقصير فيه ما قد يرتكبه من سرقة لثمار العقول أو نتاج العواطف فينتحل لنفسه ما ليس له. غير أن الحساب على هذا الذنب ليس كما ينبغي له من العسر والشدة، وليس كما يتفق مع خطره من القسوة والقوة، وإنما هو مباح أو كالمباح حتى خشيت دنيانا هذه الإباحة من دنيا الأدب، وخافت على أهلها من دعاة الأدب أن يبيحوا فيها ما ليس إلى إباحته من سبيل، فأفسحت صدرها لمن يلجأ إليها من دنيا الأدب، شاكياً ما استحله الغير من ثمرات قريحته ووحي خاطره فحمته بتشريعها، وأحاطته بسياج من قانونها.
وفي دنيا الأدب من المفارقات العجيبة والسير الطريفة ما لا تتسع له الصحائف، فكيف يقوى كاتب على دنيا بأكملها يحصى ما بها ويعدد ما فيها.
محمد قدري لطفي(54/42)
8 - أعيان القرن الرابع عشر
للعلامة المغفور له احمد باشا تيمور
الشيخ مصطفى السفطي
مصطفى السفطي بن مصطفى الفاكهاني السفطي بن علي السفطي أبن احمد شلبي، نسبة إلى سفط القطايا، ولد بمصر القاهرة حوالي سنة 1250، وأرسل إلى المكتب في السابعة من سنيه، ثم تنقل من مكتب لآخر حتى حفظ القرآن الكريم، واشتغل بتجويده في الأزهر، ثم شرع في طلب العلم على شيوخ عصره، فقرأ الكفراوي على أحد العلماء المبتدئين في التدريس، فكان يحفظ العبارات ولا يفقه لها معنى، ولما أعيي عليه أمره، وتعذّر عليه إعراب أمثلة من غير هذا الكتاب أعاد قراءته، ولكنه لم يستفد شيئاً. وكان بجوار داره دار السيد احمد البقلي أحد المدرسين بالمدارس، وله ولد أراد أن يقرأ القرآن مع المترجم، فشكا المترجم له من تعسر النحو عليه، فأشار عليه بشراء متن الآجرومية وأمره بحفظه، ثم شرع في إعرابه له على الطريقة الأزهرية، فلم يستفد شيئاً أيضا؛ وشكا من ذلك للشيخ محمد الدمنهوري، فأمره بترك طلب النحو كلية حتى ينسى ما علق بذهنه، ففعل واقتصر على الفقه، فحضر أبن قاسم على الشيخ البيجوري، وكان يتفهمه بخلاف النحو، فمالت نفسه إليه فحضره مرة ثانية على الشيخ فتّوح البيجرمي، ثم مرة ثالثة على الشيخ عبد الرحمن القباني أحد تلاميذ الشيخ فتوح المذكور، وكان يطالعه لإخوانه المبتدئين.
ثم قرأ الكتب المتداولة بالأزهر، ولم تفتر نفسه عن طلب النحو على ما لاقاه فيه من الصعوبة، فصار يتردد على الشيخ محمد الدمنهوري ومعه متن الآجرومية فقط، وصار الشيخ يقول له اقرأ هذه الجملة ثم تفّهم معناها بنفسك ولا تنظر لأقوال الشراح، فيفعل، فتارة كان يخطئ وتارة يصيب، وسهل عليه فهم هذا العلم بهذه الطريقة؛ وكان أحد أصحابه مبتلى بمثل ما ابتلى به، وأخبره أن عند علي العروسي شرحاً للرملي على الآجرومية، فاستعاره منه وقراه معاً، فكانا بفهمان ما فيه فهماً جيداً. ثم اجتمع المترجم بانسان كفيف البصر اسمه الشيخ علي الفيومي، له باع في العربية، فقرأ عليه مع صاحبه كتاب الشيخ خالد والأزهرية، والقطر، وأبن عقيل؛ ثم أعاد المترجم القطر علي الشيخ الشبيني بالأزهر، وقرأ التحرير والمنهج على الشيخ مصطفى المبلّط، وهو آخر حضوره في الفقه. ثم قرأ(54/43)
علوم البلاغة بالأزهر، والعروض مع إعادة البيان بالمطالعة مع بعض تلاميذ رفاعة بك: كقدري باشا وإبراهيم بك مرزوق. وبعد ذلك انتخب مدرساً بالمدرسة التجهيزية سنة 1290 في أول نظارة رياض باشا على المعارف، وكانوا إذ ذاك يقرأون بها الأنموذج للزمخشري في النحو؛ ثم كُلف بتأليف رسالة في الصرف ففعل، وقرأها للتلاميذ نحو ثلاث سنوات، ثم اتفق مع بعض المدرسين على تأليف رسائل في البلاغة والصرف بتوسُّع أبسط من الرسالة الأولى، وقرأ بها سنوات، ثم أُمر بقراءة العروض والقوافي في المدارس، فاستحسن رسالة أبي الجيش وأقرأها، ثم وضع رسالة في العروض والقوافي أتم بها ما أراده أبو الجيش، ولكن وقع ما منعه من تقديمها للمدارس، ثم كلف بوضع رسالة في علم الرسم، فوضع رسالته (عنوان النجابة في قواعد الكتابة) وقرئت بالمدارس.
ونقل بعد ذلك للمدرسة الابتدائية المسماة (بالمبتديان)، وكان ذلك سنة 1306، فألف بها رسالة بالاشتراك مع غيره في المترادفات، ثم نقل إلى المدرسة السنية الخاصة بتعليم البنات، فبقي بها سنتين ألف فيها رسالته (محاسن الأعمال)، ولما عرضت على المجلس العالي بنظارة المعارف استحسنها أعضاؤه جداً وقالوا: الأولى أن تكون بيد المعلمات لا بيد المتعلمات. ثم أخذت قوته في الوهن، وبصره في الضعف لكبر السن، فعرض استقالته على النظارة مبيناً السبب. فأحيل على الكشف الطبي، ثم أحيل على المعاش. وله من التأليف غير ما تقدم رسالة في الصرف اسمها (قرّة الطرف) أوسع من المتقدمة، وأخرى في النحو وهي (منحة الوهاب في قواعد الإعراب)، وهي نظم. ومن شعره:
الحمد الله لا فقر يضرّ ولا ... غنى يغرّ فلا حزن ولا فرح
وليس لي مطمع في الناس يلجئني ... للذم والمدح إن ضنوا وإن سمحوا
وأسأل الله حاجاتي فيمنحني ... من فضله فوق ما أهوى وأقترح
وله:
قد يسر الله أسباب المعاش لنا ... بالعقل والرزق موقوف على القسم
ليعلم العبد أن الله يرزق من ... يشاء بالفضل لا بالسعي والهمم
فيطلب الرزق بالأسباب معتمداً ... على الذي أوجد الأشياء من عدم
ولا يخاف ولا يرجو سواه ولا ... يحيد عن منهج الأحكام والحكم(54/44)
وكان رحمه الله طيب الخلق، حسن المعاشرة، اعتكف في داره بعد فصله من المدارس على الاشتغال بالعبادة ومذاكرة العلم مع بعض من يسمر معهم من إخوانه وأخلائه، أو استقلالاً بنفسه، وكان في مبتدأ أمره مولعاً بالسماع، وتشبث بتعلم الموسيقى، فلازم الشيخ محمداً شهاب الدين الشاعر المشهور، وكان متقناً لها، فأخذها عنه وأتقنها، ولكثرة مطالعته لكتب الأدب صارت له ملكة أدبية، ومعرفة بجيد الشعر ونقده. ثم ما زال على هذه الحالة المحمودة حتى أرهقه الكَبر وضعف عن المشي، فلزم داره لا يخرج منها إلاّ لصلاة الجمعة في أقرب مسجد اليه، ومع ذلك فلا يبلغه إلا بمشقة زائدة. وتوفاه الله إلى رحمته في يوم الثلاثاء 21 رمضان سنة 1327.
الشيخ احمد أبو خطوة الحنفي
أحمد بن أحمد بن محمد بن حسب الله بن علي بن محمد بن علي أبن مدكور بن أبي خطوة المدفون في مطوبس أبن مدكور بن شكر بن هاشم بن محمد وهو أول من نزل بكفر ربيع منهم ودفن به، أبن سالم المدفون بالحدّين بالبحيرة، أبن موسى بن حسن بن احمد أبن علي بن شكر بن إبراهيم بن أحمد بن شاكر بن حسن بن علي أبن محمد بن علي أبن السيد عبد الرحيم القنائي صاحب الضريح المشهور بقنا أبن هريدي بن جعفر بن حمّاد بن سعادة بن عبد اللطيف القاسم بن عبد الله بن عبد اللطيف بن هاشم بن عبد الجواد أبن محمد بن عليالرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن آلاما الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب. هكذا أملى عليّ نسبه من لفظه. . ولد في 20 ذي القعدة سنة 1268 ببلدة كفر ربيع التابعة لتلا من أعمال المنوفية ونشأ بها، فحفظ القرآن وبعض المتون، ثم سافر للقاهرة لطلب العلم بالأزهر في 16 شوال 1281 واشتغل فيه بالطلب وقراءة الفقه على مذهب الإمام الأعظم. ومن شيوخه الشيخ محمد البسيوني البيبانيّ، والشيخ أحمد الرفاعيّ الفيوميّ، والشيخ عبد الرحمن البحراويّ، والشيخ عبد الله الدرستاويّ، والشيخ حسن الطويل
وكان أكثر اشتغاله في المعقول على الشيخ حسن الطويل ولازم صحبته وتخلّق بأخلاقه، وقرأ عليه بداره العلوم الحكميّة والرياضّية فتلقى عنه شرح الهداية للميبدي، والطوالع، وأكثر المقاصد والمواقف، وإشارات أبن سينا بالشروح لنصير الدين الطوسيّ والإمام(54/45)
الرازيّ، والمحاكمات، وبعض كتاب النجاة لأبن سينا، وأشكال التأسيس بشروحها في الهندسة، وتحرير أقليدس، وفي الهيئة شرح الجغميني، وتذكرة نصير الدين الطوسيّ، وفي الحساب خلاصة بهاء الدين العامليّ بشرح البورصاوي، والمعولة وشرح أبن الهائم وغيرها، وفي المنطق القطب بحواشيه والمطالع والخبيصيّ وايساغوجي وغير ذلك من هذه العلوم.
وامتحن للعالمية والتدريس في 18 صفر سنة 1293 وكان مجلس الامتحان مكوّناً من الشيخ عبد الرحمن البحراويّ والشيخ عبد القادر الرافعيّ الحنفّيين، والشيخ أحمد شرف الدين الموصفيّ والشيخ زين المرصفيّ الشافعّيين، والشيخ احمد الرفاعي والشيخ أحمد الجيزاوي المالكيّين، برئاسة شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية الشيخ محمد المهدي العباسي، فلما امتحنوه أعجبوا به اعجاباً شديداً لجودة تحصيله وشدّة ذكائه فأجازوه، إلاّ أنه اخر التدريس لسبب اشتغاله بتتميم ما كان يقرؤه على شيخه الطويل
ثم ابتدأ في القراءة بالأزهر سنة 1296 فقرأ به الكتب المتداولة به وغيرها، وتخرّج عليه من الأفاضل منهم السيد محمد شاكر، والشيخ محمد حسنين العدوي، والشيخ محمد بخاتي، والشيخ سعيد الموجي، والشيخ محمد الغريني، والشيخ مصطفى سلطان وغيرهم.
ثم جعل مفتياً لديوان الأوقاف فكانت له اليد الطولى في إصلاحه وعاون من به على تحسين أموره بجودة عقله وحسن رأيه، وحسبك انه دخله وإيراده مائة وعشرون ألف دينار وخرج منه وإيراده يربو على المائتين. ثم نقل عضواً في المحكمة الشرعية الكبرى بالقاهرة ورأس المجلس العلمي للنظر والفصل في القضايا الكبرى، ثم انتدب للمحكمة العليا بعد ذلك فكانت له اليد الطولى في إصلاحها ومنع شهادات الزور وإصلاح حال المحامين، وكانت وفاته في شوال سنة 1324.
حسن أفندي عبد الباسط الحُوَيّ
كان خِلاَسيّ اللون يشبه الحبش، وبوجهه أثر جدريّ، وكان أديباً شاعراً هجّاء، خبيث اللسان مجيداً، إلا أنه مقلّ، استخدم بالإسكندرية فكان رئيس قلم في الضبطية حوالي سنة 1285، وبقي بها إلى سنة 1290، وكان بها إذ ذاك مصطفى صبحي باشا الشاعر المشهور، فكان يجتمع به من بها من الأدباء والشعراء، فيسمرون معاً ويحيون الليالي(54/46)
بالمذاكرة وإنشاد الشعر، واتفقوا على تسمية مجلسهم بالمربد، وألا يقبلوا به أحدا إلا إذا ارتضوا به جميعاً، فكان المترجم ممن رضوا به أن يكون من شعراء المربد، وكانت تمر عليهم ليال يقترحون فيها ارتجال الشعر، ويعيّنون عدد الأبيات والوقت الذي يجب نظمها فيه، فكان أحدهم إذا تعذرت عليه قافية وأعجله الوقت ارتجل كلمة لا معنى لها، أو لها معنى لا يوافق السياق وتمم بها البيت، فاجتمعت لهم من ذلك ألفاظ غريبة مضحكة سموها بالألفاظ المربدية.
ثم تنقلت الحال بالمترجم فاستخدم معاوناً بمديرية الشرقية، ثم فصل فضاق به العيش وفتح حانوتاً بالزقازيقً للصيدلة القديمة، المسماة في العرف الآن بالعطارة؛ وكان أمره بها عجباً، فانه اقتنى كتباً من مفردات الطب وقانون أبن سينا، وصار إذا طلب منه أحدهم بيع عقّار من العقاقير، سأله عن سبب حاجته إليه وقام إلى تلك الكتب فاستخرج له منها مزاياه وما يداوي به من العلل، وبقي مدة على ذلك حتى توفاه الله بعد سنة 1300.
ومن شعره يمدح محمداً فتح الباب أفندي كبير كتّاب ديوان البحر:
رأيت العلا ترتاد بعلاً لنفسه ... وقد خطبتها قبل ذاك الأوائل
فقمنا سراعاً قاصدين لخدرها ... عساها بنا ترضى ويُجلى التواصل
فلما رأتنا واقفين ببابها ... أشارت لفتح الباب منها الأنامل
وكان رحمه الله على خبث لسانه طرفة من الطرف، وأعجوبة من العجائب: في حسن المنادمة وحضور الذهن وسرعة الجواب؛ رآه مرة يعضهم وهو مسافرَ إلى الزقازيق في القطار ومعه جراب يحمله بيده، فقال له مداعباً: أظن هذا جراب الحاوي، أي المشعبذ. فقال لا يا سيدي، هذا جراب الُحَويّ!
إبراهيم بيك مرزوق الشاعر
تلقى العلم بمدرسة الألسن، وتخرّج على ناظرها رفاعة بك رافع الشهير، فقرأ بهذه المدرسة النحو والصرف وباقي علومها، وبرع في الفرنسية. وكان لرفاعة عناية خاصة في تلقين تلاميذه العربية والعلوم الأدبية، وتدريبهم على نظم الشعر، فكان للمترجم حظ من هذه الصناعة، فنظم الشعر الجيد من المقطّعات والقصائد، اعتنى بجمعها بعده محمد سعيد بك أبن جعفر مظهر باشا سنة 1287 في ديوان سماه (الدرّ البهيّ المنسوق، بديوان إبراهيم بك(54/47)
مرزوق) وطبع بمصر.
ولما أتم المترجم علومه بالمدرسة استخدم ديوان كان يقال له (ديوان الهرجلات) وهو خاص ببيع الخيل والماشية التابعة للحكومة، ثم نقل منه للقلم الإفرنجي بالضبطية، وفصل منه مدة عبده باشا ضابط مصر، ثم عاد إليه بعد نحو ثلاث سنوات، وكان مدة توليه لهذا القلم كثير المعاكسة للإفرنج إذا وقع أحدهم في سجن الضبطية، أو كانت له دعوى بها، قلما كان يسلم من أذاته، حتى ضج منه وكلاء الدول وأكثروا من الشكوى، فلم يكن يثبت عليه شيء عند التحقيق، والسبب في ذلك أنه كان يعتمد على إخوانه ومرءوسه بالضبطية على إيصال الأذى اليهم سراً، نكاية بهم لطغيانهم على الرعية، وتدرّعهم بدروع الحمايات.
وفي مدة وكالة إسماعيل باشا الخديو نقل المترجم معاوناً بمجلس الأحكام، ثم لما تولى هذا الخديو على مصر أرسله ناظراً للقلم الإفرنجي بالخرطوم قاعدة بلاد السودان، فبقى إلى أن توفي بها سنة 1283. وكان مربوع القامة، أبيض اللون، قد وخطه الشيب، ومات بعد ما تجاوز الستين، رحمه الله تعالى.
الشيخ مصطفى سلامة النجّاري
توفي والده وهو صغير، فتكفل به زوج أمه ورباه، فلما ترعرع مال للأدب، وقرض الشعر، فاتصل بالشيخ على الدرويش، وتخرّج عليه في النظم، واتصل بعد ذلك بأسرة المويلحي، ففتحوا له حانوتاً بالتربيعة لبيع الحرير فلم يصادفه النجاح، ثم جعل منشئاً بالوقائع المصرية، ولم يزل يكافح زمنه حتى اتصل بوالي مصر سعيد باشا، وصار شاعره وتقرب إليه ونال جوائزه، فحسنت حاله، واجتمع بأكابر الدولة ومدحهم وداخلهم فنال وجاهة وصار له شأن يذكر، وجمع ما نظمه في مدح سعيد باشا في ديوان خاص، وهو الذي جمع ديوان أستاذه الدرويش وسماه الأشعار بحميد الأشعار.(54/48)
الكندي
(هو من الاثني عشر عبقرياً الذين ظهروا في العالم)
كاردانو
للأستاذ قدري حافظ طوقان
مقدمة:
ليس أصعب على الباحث من الكتابة عن حياة عالم لمُ يعطه التاريخ حقه من البحث والاستقصاء، ويزيد في الصعوبة التشويه الذي نجده في حياة كثيرين من علماء العرب والمسلمين. فكم من حقائق لم تذكر، وكم من حوادث أخذت على غير حقيقتها فسيئ فهمها، وكم من اختراع للعرب نُسب لغيرهم، وكم من تلاعب طرأ على التراث الإسلامي فجعل كثيرين من شبابنا يشكون في مجد أمتهم ومدنيتها وقابليتها على الإنتاج. ومن الغريب أن تجد بعض علماء الفرنجة (لبقين) في الكتابة عن نوابغ العرب، فهناك شخصيات عربية وإسلامية لمعت في نواح عديدة من المعرفة، ومن الطبيعي أن يختلف اللمعان، فبينما تراه شديداً في فروع، تراه في الأخرى وفي الوقت نفسه غير شديد. ويأخذ بعض الإفرنج النواحي الشديدة اللمعان ويذكرونها ويهملون النواحي الأحرى إهمالاً كلياً لا يعيرونها أي اهتمام ولا يأتون على ذكرها. ولا شك أن في هذا إجحافاً لا يستسيغه عقل ولا يقبله منطق، وعلينا أن نعمل جهدنا لنظهر هذه ونعطيها حقها من التنقيب والبحث. خذ أبن سينا (مثلاً) فقد اشتهر في الطب والفلسفة، وقليلون جداً الذين يعرفون أنه كان رياضياً وطبيعياً، وأن له في كل هذه جولات وآراء سديدة قيمة، فلقد أفاد الفيزياء ببحوثه المبتكرة فيها، كما أنه استطاع أن يقدم خدمات جليلة لبعض الفروع من العلوم الرياضية. وإذا اطلعت على ترجمة حياة أبن يونس في دائرة المعارف الإسلامية تجد أن كاتب الترجمة قد وفي حق أبن يونس في نواح ولم يوفها في نواح أخرى فلقد جهل أو نسى أو تناسى (لا أدري) أن يذكر أن الرقاص (بندول الساعة) هو من مخترعات أبن يونس وناهيك بالرقاص والفوائد التي جنتها المدنية منه. ولا أكون مبالعاً إذا قلت إنه يندر أن تجد واحداً يعرف أن عمر الخيام كان من كبار رياضي زمانه ومن فحول فلكي عصره، فلقد قدم خدمات حقيقة(54/49)
للرياضيات والفلك لا تقل عن خدماته للشعر والفلسفة، وما يقال عن هؤلاء يُقال عن غيرهم.
منشؤه:
والآن. . . نعود إلى الكندي فنقول: قل من يجهل أن يعقوب الكندي من أشهر فلاسفة الإسلام، ولكن قل من يعرف أيضاً أن له فضلاً على العلوم الرياضية والفلكية إذ كان من الذين امتازت مواهبهم في نواحيها العديدة، ومن أوائل الذين اشتغلوا وألفوا في العلوم الدخيلة. يقول كتاب التمدن الإسلامي (. . . فبعد أن كان العرب في صدر الإسلام يستنكفون من الاشتغال حتى في العلوم الإسلامية. . أصبحوا لا يستنكفون من الاشتغال حتى في العلوم الفلسفية الدخيلة، وأول من اشتغل فيها أبناء ملوكهم. .) كان الكندي عالماً بالطب والفلسفة والحساب والهندسة والمنطق وعلم النجوم، وتأليف اللحون، وطبائع الأعداد. وهو يمت بالنسب إلى أحد الملوك العرب، وكان أبوه أميراً على الكوفة (محل ولادته). وقد وُلد في بداية القرن التاسع للميلاد ولم نتمكن أن نعثر بالضبط على تاريخ ولادته. أما تاريخ وفاته فيرجح أنه في أواخر القرن التاسع.
درس الكندي في بادئ أمره في البصرة ثم أتم تحصيله على أشهر العلماء، هذه الفرص التي لم تكن تسنح لغيره، واستعداده الفطري واستغلاله لكل ذلك أوجد له مكاناً ذا حرمة واعتبار عند خلفاء بني العباس حتى أن الخليفة المأمون انتخبه ليكون أحد الذين يُعهد إليهم ترجمة مؤلفات أرسطو وغيره من حكماء اليونان. ولم يخل الكندي من أناس يناصبونه العداء إما حسداً وإما غير ذلك كالقاضي صاعد بن أحمد القرطبي، وأبي معشر جعفر بن محمد البلخي ويُقال إن هذا الأخير كثيراً ما كان يشاغب عليه ويشنع بحجة أخذه بعلوم الفلاسفة، وقد تمكن الكندي مرة بثاقب نظره أن يتخلص منه، وذلك بأن بعث مَنْ حسّن له النظر في الرياضيات وفعلاً اشتغل أبو معشر بها زمناً، ولكنه لم يوفق، فعدل عنها إلى علم النجوم، وقد وجد فيه لذة فعكف عليه وأحب من يشتغل فيه وأصبح من أصحاب الكندي ومن المعجبين بعلمه ونبوغه
آثاره:(54/50)
والكندي أول من احتذى حذو ارسطوطاليس، كان ملماً بحكمة الهنود، فسر كثيراً من كتب الفلسفة ووضع بعض النظريات الفلسفية في قالب مفهوم حتى إن كتبه في المنطق وغيره لقيت إقبالاً عظيماً، (وله رسائل ومؤلفات في علوم شتى نفقت عند الناس نفاقاً عجيباً، وأقبلوا عليها إقبالا مدهشاً)
هذا وغيره أوجد له في قلوب معاصريه حسداً فنقموا عليه وحاولوا مراراً النيل منه، وأن يوقعوا بينه وبين الخليفة فنجحوا في ذلك، ولكن إلى زمن لم يطل أمده.
كان الكندي مهندساً قديراً كما كان طبيباً حاذقاً وفيلسوفاً عظيماً ومنجما ماهراً، وقد ترك آثاراً كباراً حليلة جعلت العالم الإيطالي (كاردانو) يعده من بين الاثني عشرا عبقرياً الذين هم من أهل الطراز الأول في الذكاء، وجعلت أيضاً (باكون) الشهير يقول (إن الكندي والحسن بن الهيثم في الصف الأول مع بطليموس) ويقول كتاب (آثار باقية) (إن الكندي أول من حاز لقب فيلسوف الإسلام.) وكان يرجع إلى مؤلفاته ونظرياته عند القيام بأعمال بنائية كما حدث عند حفر الأقنية بين دجلة والفرات. وعلى ذكر الأقنية يقال إنه كان في بلاط المتوكل أخوان اشتهرا بالهندسة والأعمال التطبيقية، وهما محمد وأحمد ابنا موسى بن شاكر، وكان يعز عليهما أن يظهر غيرهما بمظهر الماهر المتفوق، وبذلك لم يتركا فرصة للنيل من كل من عرف بالمعرفة والتفوق في علم من العلوم، ومن الطبيعي أنه لم يكن يروق لهما أن يسمعا عن الكندي وفضله، سيما وأنه ذو مركز عظيم في البلاط فسعيا في الوشاية عليه، وكان لهما ما أرادا في بادئ الأمر، واستطاعا أن يجعلا الخليفة يأمر بمصادرة مؤلفاته وكتبه. وكان يقال إن مراد ابني موسى من المصادرة هو أن يستفيدا من مراجعة الكتب في حفر القناة الجعفرية، ولكنهما فشلا في إنشائها فاستدعيا المهندس الشهير سند أبن علي لحل بعض المعضلات التي وجداها عند حفر القناة، فوعد بحلها وبمساعدتهما على شريطة أن يرجعا للكندي كل كتبه، وأن يسعيا لدى وليّ الأمر في العفو عنه وفي إزالة ما أوجداه من فتور وسوء تفاهم.
وقال الكندي بأحكام النجوم، وكان يرجع بعض الظاهرات والحوادث إلى أسباب فلكية فيستمد من أوضاع النجوم وحركاتها بعض التنبؤات. فيقال إنه نهى عن الاشتغال بالكيمياء للحصول على الذهب، وقال إن في ذلك تضييعاً للوقت والمال، وقد ألف في هذا الموضوع(54/51)
رسالة سماها (رسالة في بطلان دعوى المدعين صنعة الذهب والفضة وخدعهم). وقد أفادت رسالته هذه بعض معاصريه والذين أتوا بعده، إذ لا يخفى أن كثيراً من علماء القرون الوسطى أضاعوا معظم أوقاتهم في الكيمياء للحصول على الذهب، وله مؤلفات في المرئيات والبصريات وقد وضع كثيراً من نظرياتهما في قالب رياضي، وكان لبحوثه هذه تأثير كبير على دراسات باكون وواتيل، وكتب في الموسيقى وأعطى طرقاً لإيجاد التردد.
مؤلفاته:
وللكندي مآثر جمة تظهر في أكثر العلوم بل تكاد تسجلها كلها فقد ألف في الفلسفة وعلم السياسة والمنطق والحساب والكريات والموسيقى والنجوميات والهندسة والفلك والطب والاحكاميات والجدليات والنفسيات والإحداثيات والأبعاديات والتقدميات، كل هذه وغيرها مذكورة في كتاب الفهرست لابن النديم، وتبو على 230 كتاباً، وله فوق ذلك رسائل في علم المعادن وأنواع الجواهر والأشباه وفي أنواع الحديد والسيوف وجيدها ووضع انتسابها. أما تأليفه في الرياضيات والفلك فأهمها رسالة في المدخل إلى الارثماطيقي خمس مقالات، كتاب في استعمال الهندي أربع مقالات، رسالة في تأليف الأعداد، رسالة في تسطيح الكرة، رسالة في علل الأوضاع النجومية، كتاب في أغراض كتاب أقليدس، كتاب في تقريب قول ارشميدس في قدر قطر الدائرة من محيطها، رسالة في تقسيم المثلث والمربع وعملهما، كتاب في كيفية عمل دائرة مساوية لسطح اسطوانة مفروضة، رسالة في قسمة الدائرة ثلاثة أقسام، رسالة في صنعة الإسطرلاب بالهندسة، رسالة في ظاهريات الفلك، رسالة في استخراج بعد مركز القمر من الأرض، رسالة في استخراج آلة وعملها يستخرج بها أبعاد الأجرام، رسالة في الحيل العددية وعلم إضمارها، وو. . . الخ
تلاميذه:
وقد أخذ عن الكندي طلاب كثيرون منهم أبو العباس أبن محمد بن مروان السرخسي، وكان متفنناً في علوم كثيرة من علوم القدماء والعرب، قرأ على الكندي وعنه أخذ، اشتهر في الفلسفة والطب وكان موضع سر المعتضد، وكذلك أبو زيد أحمد أبن سهل البلخي فقد أخذ عن الكندي، وكان له مقام رفيع، ودعي جاحظ خراسان. ومن تلاميذه أيضاً حسونيه(54/52)
ونفطويه وسلمويه وغيرهم كثيرون.
نابلس
قدري حافظ طوقان(54/53)
من طرائف الشعر
فرحة الألم
لشاعر الشباب السوري أنور العطار
لَقَدْ صَاغَنيِ اللهُ جَمَّ الشُّجُونِ ... وَيَأْبَى فُؤَادِيَ إِلاَّ المَرَحْ
يُبَدِّدُ أَحْزَانَ قَلْبيِ الرَّجَاءُ ... وَيَمْحُو صَفَائَي طُول التَّرَحْ
أُهَدْهِدُ أَوْجَاعِيَ الصَّارِخَاتِ ... وَأُرْقِدُهَا بالمُنَى وَالمُلَحْ
سكِرتُ مِنَ الدهْرِ حَتَّى انْتَشَيْت ... فَلَسْتُ أُبَاليِ بِخَمْرِ الْقَدَحْ
كَأَنّي أَخُو سَفَرٍ لا غِبٍ ... تَهالَكَ مِنْ جَهْدِهِ وَارْتَنَحْ
فَطُوبَى لِجُرْحِىَ إِمَّا اسْتَفَاضَ=وَطُوبَى لِقْلبَي إِمَّا انْجَرَحْ
تَعَلَّمْتُ بالنَّوْحِ سِرَّ النَّعِيمِ ... وَأَدْرَكتُ بالشَّجْوِ مَعْنَى الْفَرَحْ
سَجَتْ لَيْلَتِي وَترَامى الظَّلاَمُ ... وَمَالِيَ عَنْ خَوْضِهِ مُنْتَدَحْ
وَقَدْ رَوَّحَ الْغُيَّبُ النَّازِحُونَ ... وَأَلْقَى المُساَفِرُ عِبْثاً فَدَحْ
وَفَضَّ الكَرَى سَامِرَ العَاشِقِينَ ... وَلَمْ يَبْقَ في اْلأَرْضِ إِلاَّ شَبَحْ
يَحْومْ عَلَى عَالَمٍ نَائمٍ ... رَمَى بَمَتاعِبِهِ وَاطَّرَحْ
يْطَوّفْ في الَّليْلِ مَا يَأْ تَلِي ... يُنَاجِي وَيَرْعَى حَبِيباً نَزَحْ
وَقدْ سَكَنَ الغَابُ إِلاَّ صَدىً ... تَوَلَّهَ مِنْ وَجْدِهِ وَافْتَضَحْ
كأنّيَ أُصْغِي إلى بُلْبُلٍ ... يُثيرُ المَفاَرِحَ إِمَّا صَدَحْ
فأحْسَسْتُ دُنْيا مِنَ النُّعْمَياتِ ... وَأُفْقاً جَدِيدَ الأمَاني انْفَسَحْ
وأُذْني إلى هَمْسَةٍ في الدُّجَى ... وَعَيْنِي إلى بَارِقٍ قَدْ لَمَحْ
وأَقْبَلَ طَيْفُكِ جَمَّ الَجْلاَلِ ... تَدَثَّرَ بالنُّورِ حَتَّى اتَّشَحْ
مَدَدْتُ يَدَيَّ وَعَانَقْتُهُ ... فَغَمغَمَ قَلْبِي وَدَمْعِي شَرَحْ
وَضاعَ اللَّجَاجُ وَغاَبَ الْعِتَابُ ... كَأَنَّ الزَّمَانَ صَفَا أو سَنَحْ
قَرأتُ بِعَيْنَيهِ فَرْطَ الَحْنِينِ ... وَشَجْوًا يُذيِبُ إذا مَا قَدَحْ
وَعَايَنَ بِي غَمَرَاتِ الرَّدِى ... تَرِفُّ عَلَى هَيْكَلٍ قَدْ جَنَحْ
فَأَطْرَقَ مُسْتَعْبرِاً نَادِمًا ... وَبَانَ عَلَيْهِ الأَسى وَاتَّضَحْ(54/54)
فَقُلْتُ لَهُ خَلِّ عَنْكَ الْبُكاَء ... وَلاَ تَجْزَعَنْ إِنَّ قَلْبِي صَفَحْ
إِذَا مَنْ أُحِبُّ جَزَانِي الصُّدُودَ ... هَتَفْتُ عَفَا اللهُ عَمَّا اجْتَرَحْ
صحوْتُ فَلاَ الطَّيْفُ يَحْنُو عَلَيَّ ... وَلاَ نِعَمٌ تُشْتَهَي أو مِنَحْ
وَعُدْتُ إلى وَحْدَتِي رَاضِياً ... أَرَى في الأسَى غَايَةَ الُمقْتَرَحْ
أنور العطار(54/55)
يقظة الهوى
تعالى قد سجا الليلُ ... ونام الدوح والطيرُ
تعالى قد حلا الوصل ... وطاب السهد والسمر
تعالى ضاحكي البدرا
تعالى نافحي الزهرا
تعألى طارحي الجدولْ ... نشيد الأعصر الداوي
تعالى نرشف السلسل ... ونروي روحنا الذاوي
شجتني رنة العودِ ... وصوت الناي أغري بي
تعالي أنتِ معبودي ... وهذا الروض محرابي
تعالي فجرّي قلبي
ينابيعَ من الحب
تعالي عطّري النرجسْ ... بعطر الورد والشوقِ
تعالي نوّري الحندس ... بنور الحب والعشق
أيا ليل ألا أمهلْ ... معنْى فيك ذا مأربْ
وقل للصبح لا يقبل ... وقل للنجم لا يغرب
هلمي نفحة الوردِ
هلمي ملكة الخلد
هلمي قبل أن يجفو ... ويمضي الليل والبدرُ
هلمي فالهوى يغفو ... إذا ما استيقظ الفجر
البصرة
فتى شط العرب(54/56)
جائزة الأدب الكبرى
هنري دو منترلان
بقلم علي كامل
لمحة عن أدبه وفنه
منحت الأكاديمية الفرنسية جائزة الأدب الكبرى للكاتب الشاب هنري دو منترلان، فارتفع بذلك اسمه إلى مصاف أكبر الكتاب الفرنسيين المعاصرين، وتنبهت الأذهان إلى الطابع المخصوص الذي يمتاز به أدبه كفن من فنون القصة الفرنسية الحديثة:
وهنري دو منترلان كاتب من كتاب الشباب الذين تفتحت عيونهم على ضوء هذا القرن العشرين. ولد عام 1896، ودخل مدرسة سانت كروا دو نوبيي. ولما شبت الحرب الكبرى خرج من المدرسة ليشترك فيها وجرح جروحا بليغة. وكان طبيعياً أن يعود منترلان وقد ملأت نفسه نزعة التشاؤم والثورة، فقد هجر مدرسته ليخوض غمار المجزرة البشرية الكبرى وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، فعانى فيها أشهرا من الحرمان والتضحية لم يجد لهما مبرراً أمام عقله الذي يفكر وقلبه الذي يحس، كما يفكر ويحس كل أديب فنان ينزع نحو مثل عليا في الحب والرحمة والأخاء
عاد منترلان من الحرب ضائع العزم محطم الآمال. وكان استعداده الأدبي قد ابتدأ يتفتح على ضوء تجاربه ومحنه السابقة، فانصبت آلامه وثورته في أدبه تلمسها من بين خفايا السطور، وكانت إنسانيته الحزينة تدفعه - كغيره من كتاب الشباب الذين خاضوا غمار الحرب - لوصف أهوالها وما جرته وراءها من التدهور الأخلاقي والفكري. كذلك فان (أنانية الفنان) التي تغمره كانت تأبى عليه أن يضحي بشيء دون أن ينال على تضحيته جزاء يبررها ويلتمس منه العزاء. لذا لم يغفر منترلان لأمته وللمجتمع تضحيته الكبيرة حين جرفته العاطفة الوطنية كغيره دون وعي إلى ميدان القتال ليتعذب شر عذاب وبعود جريحاً بين الحياة والموت فاقد الأمل في إتمام حياته المدرسية.
ولقد كان هذا الشباب المعذب دافعاً لهنري دو منترلان إلى أن يهيم بتلك السن التي ضحى وتألم فيها، فأصبح يمجد سن الشباب (تلك السن - كما يقول - التي لا تعترف بجميل. سن(54/57)
القلب والنفس. نجم الحياة المتألق). ولقد تدرج منترلان من ذلك إلى الغرام بالألعاب الرياضية لأنها المظهر الذي تتمثل فيه حيوية الشباب وجبروته، ولأنها الوسيلة لإطالة عهد الشباب إلى أبعد مدى مستطاع
و (أدب الألعاب الرياضية) فن حديث جداً في الأدب الفرنسي. وترستان برنار هو صاحب الفضل الأول في تغذية القصة الفرنسية بالأفكار الرياضية ومعالجة شئونها ووصف أبطالها، وكان يحب الكتابة عن ألعاب الملاكمة وأبطالها كما في قصته على أن هذه الحركة ظلت بطيئة الخطر، ولم يتعد نشاط قادتها القليلين الكتابة في الصحف والمجلات، وإخراج عدد قليل من الأعمال الأدبية التي لم تكن ذات قيمة تذكر. . إلى أن كانت الألعاب الأولمبية عام 1924 فنشط أنصار (أدب الألعاب الرياضية) وأرادوا أن يدخلوا الفنون الرياضية في القصة الطويلة والقصيرة وفي الشعر أيضاً، وكثر عددهم واتسعت مدرستهم وأصبح كل منهم متخصصاً في الكتابة عن فن من فنون الالعاب الرياضية، فمنهم من هام بالسيارات مثل هنري كستماكرز في قصته وميشل كورداي في قصته ' واكتاف ميربو في قصته الشهيرة 628 - التي تعتبر في نظر النقاد أروع قصة في (أدب السيارات)
ومنهم من ولع بألعاب كرة القدم مثل جان برنييه في قصته ولوي هنري دستل في قصته وتعتبر قصة , لمارسيل برجيه خير ما كتب في (أدب كرة القدم)
وهناك غير هؤلاء الكتاب عدد كبير من أنصار هذه المدرسة جعلوا من شخصيات قصصهم أبطالاً لفنون رياضية أخرى مثل سباق الخيل والطيران وغيرهما.
وهنري دومنترلان يعتبر اليوم زعيم الأدباء الشبان على الإطلاق، وأدب الألعاب الرياضية على الخصوص. وقد برع في الكتابة عن المصارعة. وسافر خصيصاً إلى أسبانيا وتعلم طريقة مصارعة الثيران ودروس نفسية أبطالها وأخلاقهم ثم عالج ذلك في قصته
كان أول أعمال منرلان كتابه كتبه عام 1916 وظهر عام 1920 وهو قطع من الشعر المنثور يصف فيها ذكرياته عن الحرب والمدرسة التي كان يتعلم فيها. وفي عام 1922 ظهرت قصته وفيها يمجد الألعاب الرياضية والصداقة التي بين الأبطال الرياضيين. تلك الصداقة التي يضعها (البان) بطل القصة فوق الحب. وفكرة (البان) عن الحب هي فكرة(54/58)
الكثرة العظمى من أبطال الرياضة الذين يقعون فريسة النزاع الدائم بين نداءين: نداء القلب ونداء الواجب الرياضي الذي يطالبهم بالابتعاد عن النساء كيما يحتفظوا بعناصر القوة فيهم. وينتهي بهم الأمر إلى انتصار النزعة الرياضية وعبادة القوة والمجد فيتضاءل مركز المرأة في نظرهم. وهو لذلك لا يؤمنون بالحب العاطفي. فالحب في نظرهم ميل جسدي إذا ما تحقق مات ما يسميه الناس بالحب، ولذا نرى (البان) يرفض حب القلب بقسوة
ولألبان هذا رأي غريب إلى حد ما. فهو يقول إن العالم خاضع لفلسفتين: فلسفة النساء وفلسفة الرجال. فالأولى تتمسك بالديمقراطية، أما الثانية - وهي التي يؤمن بها بعناد - فهي تتشبث بالماضي المجيد وبالقومية.
وفي قصة , (1924) نرى منترلان يبرر اهتمامه بالألعاب الرياضية إذ يعتبرها مرحلة من مراحل تحقيق الشخصية، على أن فكرته في علاقة الرياضة بتكوين الشخصية تتكرر بشكل أقوى بروزاً في قصة (مصارعي الوحوش) (1926). إذ يعرض لنا منترلان نوعاً من أنواع المخاطرة الجريئة، تلك التي يستهدف لها مصارعو الثيران بعرضها مصاغة في قالب بارع يدفعنا لاحترام أولئك المصارعين البواسل الذين يغامرون بحياتهم حباً في السيطرة وإظهاراً للقوة وامتحاناً لشخصياتهم التي لا تعتبر كاملة في نظرهم إذا عرفت للوجل معنى!
وقد كتب منترلان في هذه الفترة القصيرة من حياته الأدبية عدداً كبيراً من القصص أهمها عدا ما ذكرنا قصة (1927) (1928) (1929). وكانت آخر قصصه قصة (العزاب)
والآن قد يتساءل القارئ. كيف يبشر منترلان بقيمة الألعاب الرياضية ويخصص أدبه لخدمتها والدعوة لنشرها وهو الناقم على مظاهر العنف، الثائر على نظام الجندية والحرب، الداعي إلى الأخاء والمحبة والتعاون؟ ومنترلان نفسه يحس بالتناقض الظاهر بين طبيعته الثائرة المتمردة وبين نظام الألعاب الرياضية الذي يدعو إليه وما فيه من معاني الترف البرجوازي. على أنه يقبل ذلك كارهاً غير مرتاح الضمير. يقبله كوسيلة لتحقيق فلسفته التي ترى في الألعاب الرياضية - كما ذكرنا - وسيلة لإبراز الشخصية والسمو بها على سائر الشخصيات التي تحيط بها. والواقع أن منترلان قد أجاد تصوير فكرته بطريقة غاية(54/59)
في الإبداع. فأنت تلمح من خلال شخصيات قصصه كيف تتفتح الشخصية وتسود حين يصبح صاحبها بطلاً من أبطال الرياضة. وكيف يغمر صاحبها النشاط والحيوية وعبادة البطولة التي تدفعه للاستهداف للموت راضي النفس مرتاح الضمير
وأدب منترلان اقرب إلى الرومانتيكية منه إلى الواقعية وهو في ذلك يقول (إن الواقع والحقيقة تقع عندي في المرتبة الثانية) وإذا كان كل كاتب لابد أن يتأثر بروح بعض من سلفه من الكتاب، فان بلزاك وشاتو بريان يطبعان أدب منترلان بطابع لا يمكن إنكاره وتناسيه
ويمتاز هنري دو منترلان بأسلوبه الرائع، فثروة الألفاظ وحسن اختيارها وأدائها، والموسيقى السامية التي تلبس عباراته فتعبر عنا يدوي بين أرجاء نفسه من النزعات والعواطف هي أظهر ما يميز فنه وشخصيته بين الكتاب الفرنسيين المعاصرين.
على كامل(54/60)
العلوم
مدام كوري وقصة الراديوم 1867 - 1934
للأستاذ مصطفى محمود حافظ
مسيو ومدام كوري:
توفيت مدام كوري في صباح الرابع من شهر يوليو الحالي بعد أن نالت من النجاح في حياتها العلمية والعملية ما لم تنله أخرى من قبل، فانطفأ ذلك السراج المنير الذي أضاء سبيل بعض علماء العصر الحديث في الوصول إلى أخطر انقلاب علمي حديث، وهو النظرية الحديثة في تركيب المادة
ولدت ماري سكلود وفسكا في فارسوفيا عاصمة بولونيا في 7 نوفمبر سنة 1867، ولكنها نزحت عن وطنها الأول إلى وطنها الثاني فرنسا لأسباب سياسية. فذهبت تطلب العلم في السوربون، وقد اضطرها الفقر إلى الخدمة في معامل المعهد، فكانت تغسل الزجاجات وأنابيب الاختبار لتنال من ذلك ما يساعدها على تسديد نفقات التعليم
تعرفت بالمسيو (بير كوري) الذي كان يعمل في السوربون هو الآخر، وقامت تساعده في أبحاثه التي كان يقوم بها في ذلك الوقت في الكهربائية وخواص الأجسام المغناطيسية في درجات الحرارة المختلفة. وقد انتهى بها هذا الارتباط الذي ابتدأ في المعمل إلى الزواج به سنة 1895. وقد ظلا يعملان معاً أحد عشرا عاماً توصلا فيها إلى الكشف عن عدة عناصر أهمها (البولونيوم) و (الراديوم). وقد كشف الأستاذ الفرنسي (بيمون) عن وجود عنصر الراديوم مستقلاً عنهما، ولكن اسمه لا يكاد يقرن باسميهما عند الكلام عن الراديوم إلا في القليل النادر
قصة الراديوم:
لم يكن الكشف عن الراديوم من هذه الاكتشافات التي أتت عفواً وكاد مكتشفها يتعثر فيها أثناء سيره في عمله، كما حدث للأستاذ الألماني (رُنْتجن) عند كشفه عن الأشعة التي تعرف باسمه؛ ولا من تلك الاكتشافات والاختراعات التي كأنه قد أوحي بها إلى أصحابها، كما حدث للأستاذ (ويلسون) عند تفكيره في صنع (الغرفة القائمة)، وهي الجهاز الذي(54/61)
يمكننا من رؤية مسار الدقائق المتحركة التي لا يمكن رؤيتها بالعين ولا بأقوى ميكروسكوب. بل كان من هذه الاكتشافات التي عمل لها أصحابها وكانوا يتوقعونها نتيجة لأبحاثهم الرياضية أو الطبيعية، كما حدث عند البحث عن السيار (نبتون) فقد رآه (لفرييه) بالرياضة قبل أن يراه (جال) بتلسكوبه
إذن لابد أن يكون قد سبق الكشف عن الراديوم دراسة بعض الظواهر التي مهدت السبيل لظهور هذا العنصر، وهذا ما أود أن أسرده الآن مرتباً ترتيباً تاريخياً
في سنة 1895، وهي السنة التي ارتبط فيها (الكوريان) بالزواج، كان الأستاذ (رنتجن) يمرر التيار الكهربائي في الأنابيب المفرغة تقريباً من الهواء، وهي المعروفة بأنابيب (كروكس)، وذلك للكشف عن أشعة غير مرئية للعين. فلاحظ أن لوحاً مغطى بطبقة مومضة - وقد وضع عفواً بجوار الأنبوبة - قد تألق وأومض وهو في الظلام. فإذاانقطع التيار انقطع الوميض. هذا الوميض يحدث لمواد معينة إذا سقطت عليها أشعة الشمس، وبالأخص ما كان منها بعد البنفسجي، وامتصت جزءاً من الطاقة الضوئية، ثم آخذت إلى الظلام. فالطاقة الممتصة تنطلق ببطء، وتومض المادة حتى تزول الطاقة المخزونة. يحدث هذا إذا عرضت هذه الأجسام إلى أشعة الشمس، ولكن لوح (رنتجن) لم يتعرض تعرضاً مباشراً لأشعة الشمس ولا للأشعة الخارجة من أنبوبة (كروكس) لأنها كانت مغطاة بورق أسود يمنع نفاذ كل الأشعة التي كانت معروفة في ذلك الوقت، ولكن ما دام اللوح قد أومض فيجب أن يكون (رنتجن) قد توصل إلى أشعة غير معروفة من قبل ويمكنها النفاذ من الأجسام المعتمة، وقد سماها رنتجن (أشعة اكس) أو (الأشعة السينية) أو (الأشعة المجهولة). ولكن عدم معرفته لكُنه هذه الأشعة لم يمنعه وغيره من دراسة خواصها، فعرف أنها تخترق الصفائح الرقيقة المعدنية، وأن مقدار نفاذها من هذه الصفائح يختلف باختلاف المعادن نفسها، وأنها تؤثر على الألواح الفوتوغرافية وتلقي عليها ظلالا للأجسام المعتمة التي توضع بين مصدر الأشعة واللوح الفوتوغرافي، وأنها تجعل الغازات موصلة للكهرباء، وأنها تضيع شحنة الأجسام المكهربة
هذه هي نتائج التجارب الأولى التي أجريت على (أشعة رنتجن) في أواخر سنة 1895، وفي السنة التالية فكر أحد علماء فرنسا وهو الأستاذ (هنري بيكرل) في شيء آخر وهو:(54/62)
إذا سقطت (أشعة رنتجن) على جسم مومض فانه يومض ويتألق، فهل العكس صحيح؟ هل المادة بعد تعرضها لأشعة الشمس ثم تركها تومض في الظلام، تخرج (أشعة اكس) أو أشعة نفاذة مثلها؟ للاجابة على ذلكالسؤال اشتغل (بيكرل) بأملاح الأورانيوم المومضة، فتركها في الشمس مدة ثم لفها في ورق أسود ووضعها في الظلام بجوار لوح فوتوغرافي، فوجد بعد مدة أن اللوح قد تأثر. إذن هناك أشعة خرجت من ملح الأورانيوم المومض ونفذت من الورق الأسود، فهي كأشعة رنتجن في ذلك، وقد وجد لها أيضاً بقية الخواص المعروفة لهذه الأشعة. ولكن استمرار البحث بّين له أن هذه الأشعة الخارجة ليس لها علاقة البتة بالوميض كما كان يعتقد. فالوميض يضعف عادة مع الوقت، ولكن هذه الأشعة النفاذة لم يكن ليعتريها الضعف بمقدار محسوس. أذاب الأملاح المومضة وبلْوَرها في الظلام دون تعريضها لأشعة الشمس فوجدها تخرج نفس الأشعة. أخذ أملاح الأورانيوم غير المومضة فوجدها تخرج نفس الإشعاع النفاذ.
جاءت بعد ذلك الخطوة الثالثة التي كان من نتيجتها الكشف عن (المواد المشِعّة) أو المواد الراديومية
انقسم العلماء بعد تجارب (بيكرل) إلى فريقين: الأول ذهب يبحث عن ماهية الأشعة التي تصدر من أملاح الأورانيوم، والثاني يبحث عن مواد أخرى لها نفس خواص أملاح الأورانيوم، وقد تزعم هذا الفريق (مدام كوري) وزوجها، بعد أن أبدت رأيها في مبحث الفريق الأول من العلماء بأن قالت: إن (الفعل الإشعاعي) لأملاح الأورانيوم راجع إلى خاصية في المادة لم تعرف بعد ولا تشبه في ذلك أشعة رنتجن.
وأول ما وصلت إليه (مدام كوري) في بحثها أن إشعاع أملاح الأورانيوم (خاصية ذرية). أي أن مقدار الإشعاع يتوقف على مقدار الأورانيوم أو عدد ذرات العنصر الموجودة في المادة المختبرة، وليس له أية علاقة بالمواد الأخرى الداخلة في تركيب الملح. وإلى ذلك يعزى سر نجاحها في الكشف عن مادتين مشعتين أخريين
وجدت بقياس الفعل الإشعاعي لبعض المواد التي تحتوي الأورانيوم أن قوة إشعاعها تفوق ما ينتظر أن يكون، على حساب أن الموجود في المادة أورانيوم فقط. فلو كان الفعل الإشعاعي (خاصية ذرية) كما وجدت هي فلا بد أن توجد مادة أخرى أقوى في فعلها(54/63)
الإشعاعي من مادة الأورانيوم نفسها. وعلى هذا الأساس بدأت (مدام كوري) تعمل لكي تفصل هذه المادة الجديدة. وقد شجعتها حكومة النمسا على المضي في بحثها بأن أهدت إليها طناً من المعادن المحتوية على أملاح الأورانيوم المستخرجة من (بوهيميا) الموجود في الخامات، ولكنها وجدت أن الباقي كان أشد فعلاً وإشعاعاً من مقدار الأورانيوم المستخرج بأربع أو خمس مرات. فاستخرجت ملح البزموث الموجود في الخامات فوجدته متحداً مع مادة فعالة مشعة سمتها (بولونيوم) نسبة إلى وطنها الأصلي (بولونيا). ثم استخرجت ملح الباريوم الموجود فيما تبقى من الخامات فوجدته متحداً مع مادة مشعة أخرى سمتها (راديوم) أو (المشِع)، وهي تسمية موفقة، لأن هذه المادة الجديدة تفوق في إشعاعها (الأورانيوم) بمقدار مليوني مرة إذا قورنت به وزناً بوزن. وقد أعلنت (مدام كوري) عن هذا الاكتشاف العظيم في رسالة قرأتها أمام (أكاديمية العلوم) في باريس سنة 1898
وقد أثارت رسالتها الرغبة في نفوس كثير من العلماء للبحث عن ماهية الأشعة المنطلقة ذاتيا من المواد المشعة، وقد كان من قادة هذا البحث سير (جوزيف تومسون) وسير (إرنست رثر فورد) (وهو الآن لورد رثر فورد). فام تأت سنة 1900 حتى كان من المعروف أن هناك ثلاثة أنواع من الإشعاع تصدر عن المواد الراديومية.
الأول - أشعة لا تقدر على النفاذ من ورقة رقيقة، وقد سميت (الأشعة الألِفية). وقد درسها (رثر فورد) في المدة الواقعة بين سنة 1903، 1909 فعرف أنها ليست أشعة بل دقائق متحركة بسرعة كبيرة، وأنها مشحونة بشحنة كهربائية موجبة، وأنها عبارة عن ذرات غاز الهليوم الذي تملأ به المناطيد الحديثة. وقد استخدم (رثر فورد) هذه الدقائق كقذائف يرمي بها الذرات فيحطمها، وكان من نتيجة بحوثه في ذلك أن وضع النظرية الذرية الحديثة، القائلة بأن الذرة عبارة عن نواة متركزة في الوسط موجبة التكهرب، يدور حولها الكترونات سالبة.
الثاني - أشعة يمكنها النفاذ من ألواح من الألومنيوم سمكها بضعة مليمترات، فهي أكثر نفاذا من الأشعة الألفية وقد سميت (الأشعة البائية). وفي سنة 1899 تمكن (بيكرل) و (جيزل) و (كوري) من معرفة أن هذه الأشعة تنحرف بتأثير المجال المغناطيسي، فهي(54/64)
لبست أشعة بل دقائق كهربائية سالبة.
الثالث - أشعة أشد نفاذا من سابقتها كشفها (فيّار) في سنة 1900، وسميت (الأشعة الجيمية) ويمكنها النفاذ من 15 بوصة من الصلب أو 6 بوصات من الرصاص. وهي من نوع أشعة رنتجن.
وفاة بير كوري:
انهالت على (الكوريين) التهاني والأسئلة بعد كشفهما عن الراديوم. وفي سنة 1903 منحتهما الجمعية الملكية بلندن مدالية (دافي). وفي نفس السنة قسمت جائزة نويل للعلوم الطبيعية بينهما وبين (هنري بيكرل). وقد عين (كوري) أستاذاً للطبيعة في السوربون، واختير في سنة 1905 عضوا في (أكاديمية العلوم) بباريس. وبعد ذلك بعام واحد، بينما كان خارجا من الجامعة، صدمته عربة ومرت عليه فقتلته لساعته. وقد أثر ذلك في زوجته حتى خيف أن تترك الاشتغال بالعلوم بعد تلك الفاجعة، ولكنها تشجعت واستعانت بذلك الصبر الذي لازمها في أبحاثها العلمية الشاقة. وقد عينت أستاذة للطبيعة في السوربون مكان زوجها.
وقد تمكنت (مدام كوري) من فصل عنصر الراديوم من أملاحه، وهي عملية شاقة لأنه سريع التحول إلى الإيدروكسيد، وعينت وزنه الذري فوجدته 225، ولكنها تمكنت بعد ذلك من تصحيحه إلى 226 , 2، ثم وجده (ثورب) 227. وقد نالت من أجل ذلك جائزة نوبل في العلوم الكيماوية، وبذلك تكون قد نالت جائزة نوبل مرتين وهو ما لم يظفر به عالم من قبل.
تأثير الراديوم في خلايا الجسم:
استخدم الراديوم في بحوث نظرية وعملية. ومن النظرية الكشف عن كيفية تركيب المادة وتحطيم الذرة. كذلك تقدير عمر الكرة الأرضية بالاستعانة بما يوجد من الراديوم بين الصخور فانه يتحول ذاتيا إلى مواد أخرى تنتهي بالرصاص بنسب معينة في أزمنة معينة. ومن البحوث العملية التي يستخدم فيها الراديوم معالجة بعض الأورام الخبيثة مثل (السرطان). وأول من عرف تأثير الإشعاع الخارج من المواد المشعة على جلد الإنسان(54/65)
وخلاياه هو (بيكرل) في سنة 1901. ولكنه دفع ثمناً لذلك التهاب جلد صدره زمناً طويلا. فقد كان يحفظ أنبوبة صغيرة بها مواد مشعة في جيب صديريته، فأصيب في مدة أربعة عشر يوما بالتهاب جلدي حاد تحت موضع الانبوبة، سمي (حرق بيكرل) ومنذ ذلك الوقت بدأت البحوث تتري في تأثير الراديوم على الخلايا المريضة في الجسم، فافتتح في سنة 1906 في باريس (المعمل البيولوجي للراديوم). وفي سنة 1909 افتتح مركز يماثله في لندن ولكن لا يزال النجاح غير كامل في استخدامه للعلاج، وان كان موثوقا به في الأضرار بالخلايا السليمة إذا أسيء تعريضها إليه.
وفاة مدام كوري
ظلت (مدام كوري) تحاضر في السوربون، وتجري بحوثها العلمية حتى هذا العام. فأصيب بفقر في الدم وانتقلت إلى مصح حيث ماتت في الساعة الرابعة من صباح 4 يوليو سنة 1934 بعد أن خلدت اسمها في صحائف المجد.
وقد خلفت (مدام كوري) وراءها ابنتها مدام (جوليو) زوجة العالم الفرنسي الأستاذ (جوليو). وهي كوالدها شغوفة بالبحوث العلمية، وهي تسلك نفس الدرب الذي شقه والداها من قبل. فقد أجرت مع زوجها في سنة 1931 بعض تجارب في إطلاق (الدقائق الألفية) على عنصر (البريليوم) مما كان من نتيجته الوصول إلى معرفة أحد الأحجار البنائية في الكون وهو (النترون). فان لازمهما التوفيق فسيكون للعلم (مسيو ومدان كوري) آخران.
مصطفى محمود حافظ
مدرس بمدرسة المعلمين بامبابه(54/66)
القصص
من الواقع
طارق الليل
للأستاذ أديب عباسي
كان ذلك في ليلة من ليالي الحرب الكبرى وفي شطرها الأخير، وكنا يومئذ لا نعلم من أهوال ذلك الصراع العنيف إلاّ ما يستطيعالصغار - وما رُكّب في رءوسهم من عقول محدودة - أن يعلموا. فلم تكن الحرب عندنا إذ ذاك إلا تلك القترة وذلك الوجوم يعلوان وجوه الكبار، وإلا ذلك القلق المقيم في اللحاظ، وتلك الهمسات يتبادلونها فيما بينهم، ولا ينُون في التلطف حيناً والمخاشنة حيناً آخر، ليصرفونا عن الاستماع والإصغاء إليها. ولكنها كانت محاولات فاشلة، إذ ليس شيء أعلق بنفوس الصغار وأخلب للبّهم وألصق بخيالهم وأدعى لفضولهم من حديث يتسارُّ به الكبار فيما بينهم، ثم يُراد لهم ألا يُلمُّوا منه بشيء. فكنا - لنرضيهم ونأمن مناكدتهم - ننأى ونصد عنهم لاعبين ظاهراً، وننكفئ عليهم بالسمع نرهفه لنلتقط ما يتسارُّون به ويتهامسون. فلم يكن يفوتنا شيء من أحاديثهم عن الحرب، وما يقدرونه لها من استطالة، وما يترقبون من مفاجآت، وما يخشون من عواقب، وما يتوجهون به من عطف، وتمنى الانتصار لهذه الدولة أو لتلك.
على أن أظهر ما كان يبدو من آثار الحرب هو ما كنا نلمحه من مظاهر الفاقة والحاجة إلى الغذاء؛ وهو أثر ليس للتجمل والابتسام المقسور عليه حيلة. فالحزن والغضب، والحب والفرح، والبغض والعطف، والكره والحقد والخوف، جميعهاً يستطيع المرء بالمران والممارسة أن يروض نفسه على إخفائها، بل والظهور معها في عكس مظاهرها الصحيحة. ولكن الجوع إذا أزمن لا يستطيع وجه أن يخفيه مهما رُزق صاحبه من قدرة على الإخفاء وحيلة في التمويه.
أقول: كان هذا أكثر مظاهر الحرب بُدُوّاً عندنا وأشدها بروزا: وماذا ينتظر ممن كان في سننا وفي مثل خبرتنا غير هذا؟ وهل كان بوسعنا أن نستشرف من حوادث ذلك النضال غير هذا الأثر الذي لم يستجد علينا مع الحرب غيره؟ في الحق أننا لم نكن نعي من معاني(54/67)
تلك الحرب في ذلك الحين سوى أنها شدة تقاسي فيها المعدة وتوابعها أشد ما يقاسي، وهي نظرة لم تكن من الضحولة وقرب الغور على قدر ما حسبنا لها فيما بعد، حينما بدأنا نقرأ عن الحرب في بطون الكتب وفي ثنايا الخطب! وهذا في الحق مما يُحسب للطفولة من بداهة مسدَّدة وإلهام صادق. ومن منا يشك بأن أقسى ما قاساه الناس عموماً في الحرب هو الجوع، حتى بين الجنود الذين كانت تشويهم نيران المدافع وتجزّئهم قذائفها!
أوينا إلى فراشنا ليلتئذ على هدهدة قبضة من الأخبار المتناقضة عن الحرب مما ترشَّح إلى البلدة النائية. وكنا نتلقى هذه الأخبار في كثير من الاستمتاع واللذة. وما هو إلا أن أغمضنا أجفاننا حتى نُقلنا من عالم الواقع المنغص إلى عالم الأحلام والرؤى اللذيذة: من عالم الحرمان إلى عالمالرغائب المحققة والمتع الدانية. فكان لنا من شهي الحلوى التي حرمتنا الحرب ما نشتهي، ومن طريف اللعب التي غابت مع الحرب ما نختار. على أنها كانت لعباً من نوع آخر غير الذي ألفنا. فهي لعب صورها مشتقة ومؤلفة من الأوصاف التي كانت توصف بها أدوات الحرب يومئذ: طيارات تئز في الفضاء، وسيارات تنهب الأرض وتتخطف الأميال، ودبابات تجوز الوهاد وتتخطى العقبات، وأمور أخرى شتى. وكنا في يومنا يشنُّ بعضنا الغارات على بعض، وسلاحنا هذه الأدوات التي أعارها لنا الخيال، فلم يكن يكلفنا اقتناؤها جهداً ولا نقدا، إلا أنها متع لم تدم، وأحلام رُوّعت؛ فقد هببنا مذعورين بعد موهنٍ من الليل على طرق يُوالي دراكاً على باب أحد الجيران. وأصخت بملء جوارحي أتبين ضوضاء السيارات وقعقعة المدافع، ورغاء الطيارات، فيتصل ما بين يقظتنا والمنام: وهي الصورة التي تبادرت حالاً إلى الذهن بعد ذلك الليل الحالم وبعد تلك الانكسارات والانتصارات التي عالجناها نياماً.
وأطللت فيمن أطلَّ من خصاص الباب نتبين الأمر ونجتلي الواقع، وكلٌّ في ذهنه - على ما أقدّر - صورة تباين ما في ذهن الآخر تبعاً لأول بوادر الخيال المروَّع والبداهة المجفلة. ولم نلق صعوبة في تبين الطارق؛ فقد كانت ليلة قمراء فائضة النور كشفت لنا عن شخص في بقية أثواب لا ينفكُّ يقرع الباب بجُمع يده قرعاً فيه عنف وفيه شدة، يصيح بين الفينة والفينة في نبرات شديدة يطلب فيها فتح الباب ممن كان وقتها وراء الباب
أما صاحبنا الذي كان الطارق يقصده بالطرق، وبهذه الصيغة الآمرة بفتح الباب، فقد ذهب(54/68)
به الخيال مذهباً آخر. وهل يتجه في مثل هذا الحال إلى غير اللصوص خيالُ من امتلأت صناديقه بالذهب وفاضت بالأصفر الرنان؟ إن صاحبنا كان على ثروة لا بأس بها في مثل ذلك العهد. فقد كان صاحب مطحنتين، وكان لا يتخلّى عن صاع القمح بأقل من خمسة مجيديات، ليس من طمع أو جمود عاطفة كما كان يقول، بل لأنه حلف حلفة لا يبيع الصاع بأقل من هذا المقدار!! فكانت تجيئه المرأة وبيدها الخمسة مجيديات تنقص بضعة قروش تروم بها دفع أجور الطحين في مطحنته، فيبادرها بهز الرأس مشيراً في أسف إلى يمينه التي أقسم والتي ستجرُّه إن هو حنث بها إلى الجحيم!
أيقن صاحبنا إذن أن لصاً شديداً جاء يقتحم عليه الدار عنوة، وإذن فليتحصن ما تيسر له أن يتحصن، وليتخذ من العدَّة كل ما يستطيع من عدة، وليضع من الصناديق وراء الباب ما يضع، وليأخذ بيده مسدسه محشوا، وليوسط بينه وبين الباب أمه العجوز يتترَّس بها، ففي جسمها الدسم الغني بالشحم واللحم، وفي قامتها العريضة المديدة وقاء له إذا هم هذا الواغل بشيء من خلف الباب، وتشجع صاحبنا المحاصَر ونادى يصوت كالحشرجة: مَن الطارق؟! من الطارق؟! فجاءه الجواب زيادة في الطرق ولجاجة في النداء والطلب. وتكرر السؤال الذي جعله الرعب على وتيرة واحدة، وتكرر الجواب الذي جعله الاصرار على وتيرة واحدة أيضاً.
وقال كبيرنا: ليس هو باللص الذي يخشى. وعهدنا باللصوص لا يقتحمون المنازل على السكان، بل هم يتسلّلون إليها في غفوة من الناس وغفلة من الحراس. وهو كذلك ليس بالسائل والعهد بالمتسولين يقرعون الأبواب قرعاً خفيفاً في أبصار غضيضة، ورؤوس منكسة، وأصوات خفيضة لا تكاد تبين، إلا الأغرار منهم الذين لم يجربوا ولم يعرفوا من طباع البشر ما يعرف المتسولون المجربون.
ولم نشأ أن نطيل الحدس والتخمين، فتوجه كبيرنا إلى الطارق وسأله في جفاء ماذا يريد في ذلك الهزيع من الليل، ولم ذلك القرع العنيف والنداء الصاخب؛ فأجاب في نظر شارد وفي غير أناة:
لقد مضى علي ثلاثة أيام لم أطعم طعاماً، فأوشكت أن أهلك وقد طرقت فيمن طرقت حياً من أحياء الأعراب المخيمين في ضاحية البلد الجنوبية على بعد غلوتين أو ثلاث، فوصفوا(54/69)
لي هذه الدار من البلدة، وقالوا انك واجد هناك قوتاً ومأوى ليلتك هذه، وعساي لم أخطئ الاستهداء.
وهم كبيرنا ليدخله بعد الذي عرف من أمره دون أن يزيد في سؤاله، فينال بعض الطعام ويبيت ليلته. غير انه حدث في هذه اللحظة ما راعانا جميعاً: ذلك أن صاحبنا المحاصر، بعد أن أنس إلى أصواتنا ولهجة الحديث الذي دار بيننا، وأيقن أن الأمر من الخطورة على غير ما توهم وجسم له الخيال الزائغ. ففتح الباب بعنف ظاهر، والمسدس يلمع في قبضة يده والعصا في قبضة يده الأخرى، ولم يتريث لنوضح له جلية الأمر، بل أقبل على المسكين بهراوته الثقيلة وانهال يكيل له بلا حساب حتى كاد يقضي عليه بين أيدينا، لولا أن لطف المولى وتداركه برحمته فسقط مما ناله بين أيدينا التي جعلنا منها شبه حاجز بين عنف الرجل المهاجم وضعف هذا الطارق. ولم يستطع صاحبنا معها أن يستعمل العصا فاندفع يكيل له بقبضة يده حيثما وجد سبيلاً إلى ذلك من بين أيدينا. وأدرك كبيرنا أي شيء يصير إليه الرجل إذا لم يحل حيلولة تامة بينه وبين مهاجمه المحنق، ولم تسعفه سنه من أول الأمر في تخليص الرجل، فلجأ أخيراً إلى أسلوب فيه شيء من القسوة، ولكنه الأسلوب الذي لم يكن بالإمكان ارتجال ما يفضله في هذا الظرف الحرج. فقد أمسك بتلابيب الرجل وجره إلى حيث استطاع أن يوقيه من لكمات مهاجمه الذي أراد أن يثبت لنا بعد ذلك الموقف من الجبن أنه على شيء كثير من البأس والأقدام
وبعد أن هدأ روع الرجل وتناول بعض الطعام أقبلنا نلومه مشفقين، وسألناه ما شأنه ولِمَ لم يختر له غير ذلك الأسلوب الغريب للاستجداء واستدرار العطف. فأجاب عن أسئلتنا جميعاً بقوله:
إنني جندي من فلول الجيش التركي في فلسطين، طوح بي السير إلى هذه البلاد بعد أن نال مني الجوع والتعب أقصى ما ينالاه من حي. فقد كنت لقلة خبرتي بالطرق أسير من البلد الواحد أبغي بلداً آخر فانتهى غالباً حيث أبتدئ، وأبتدئ حيث أنتهي. وكنت حيناً أصيب طعاماً أو شيئاً شبيهاً بالطعام وأحياناً أمضي ساغباً أياماً لا يخالط الماء في جوفي شيء من الزاد، وآخر عهدي بالطعام - كما أخبرتكم - كان منذ ثلاثة أيام. فقد استجديت واستجديت، مصطنعاً كل أساليب الخشوع وأنواع الضراعة، ولكن في غير طائل. وأخيراً(54/70)
وصلت ذلك الفريق من الأعراب فوصفوا لي هذه الدار، فآليت لا أصبر زيادة عما صبرت فإما شبع يرد إلي الحياة، أو موت أرتاح معه من ذلة السؤال وآلام الجوع. وعوّلت على أمر. قلت أبادر أصحاب الدار بالعنف والصياح: فان كانت فيهم بقية من رحمة وآثار من إنسانية لم يمنعهم صياحي إذا ما شاهدوا ما أنا فيه، من الرثاء لحالي والجود على بشيء. وان كانت الأخرى وكانوا كبقية الناس نالني منهم ما أرجو معه أن أضع حداً لهذه الحياة المثقلة. وحياة الجندي - كما قد تعلمون - لا تساوي في هذه الأيام شيئاً، ولا تعسر على أحد، ولولاكم - جزيتم خيراً على كل حال - لكانت هذه آخر ليالي من الشقاء.
ولحظت عند هذا الحد من حديث الرجل الدمع يجول في عينيه بين متحير ومتحدر، يهبط به الحزن لحظة، وتكفكفه الرجولة أخرى. وكأنه آنس مني عطفاً صادقا عليه وإشفاقا على ما صار إليه، فأقبل علي يحدثني ويبثني شكواه. وأغلب اليقين أنه لم يكن يعتقد أنني مدرك إلى أي الأغوار والأعماق النفسية تنحدر آلامه وأشجانه. إلا أن ذلك لم يكن يمانعه قط عن الحديث. والمرء إذا زخرت نفسه بالألم وأترعها الحزن تحدث إلى كل شيء، تحدث إلى نفسه، تحدث إلى سواه، تحدث إلى الأطفال، تحدث إلى الحيوان، تحدث إلى الجماد، تحدث إلى لا شيء، فكأن المرء في ذلك الإناء يمتلئ فيفيض بالزائد على ما حوله.
كشف الجندي عن صدره وأراني أثر جرحين أو ثلاثة، وكشف عن ساقه وأراني مثل وشرع يقول: أترى يا ولدي؟ هذا بعض نصيبنا من هذه الحرب. هذا بعض ما أصابني. ولكنني كنت كلما أصبت أتغلب على آلامي وأتحامل على نفسي فألوذ بربوة أو اهبط حفرة تقيني زيادة الأذى إلى أن ينصرف العدو أو يزول الخطر، فأقوم إذا كنت قادراً، أو أحمل إلى حيث أعالج، لأعود إلى القتال أمضي عزيمة وأشد بأساً. ولكن الزمن - يا بني - والجوع والخذلان، قد ذهبت بالكثير من قوانا وصبرنا، فعدنا لا يهمنا أكنا في الطليعة أم في المؤخرة. وأخيراً رأيتني على غير إرادة مني أتخلف عن الجيش وأهيم على وجهي في غير قصد أو اتجاه، إلى أن انتهى بي المطاف إلى هذا البلد ثم هذه الدار، فنالني ما نالني على يدي ذلك العلج الذي كاد يميتني بهراوته. . . أهذا يا ولدي جزاء هذه الجراح؟ أهذه خاتمة الجندي الذي يدفع عنكم عدوان الأعداء بدمه وحياته؟! إنني من غدي مسلم نفسي إلى أقرب سلطة عسكرية تفعل بي ما تشاء. ذلك خير لي وأبقى.(54/71)
والتفت إليه عند هذا الحد من حديثه وخاطبته متحمساً:
نعم! ذلك أفضل يا عماه. لو كنت محلك ما فعلت غير هذا. انك هناك لا تضرب بالعصى على ما أعتقد ولا تجر على الأرض:
ونظر ألي المسكين نظرة ذاهلة حزينة وقال:
نعم يا بني، سوف لا يضربونني بالعصي، لأن العصي ليست جزاء من يتخلف عن واجبه في الجندية! إنما هي قطع من الرصاص صغيرة يدفنونها في أحشائنا أو يولجونها في رؤوسنا، فنضحي وكأن لم نكن. ولكن يميناً غموساً لن يحول هذا دون ما أنا عازم عليه من غدي!
وخُيل إلى كأنني أدركت معنى هذا الكلام الغريب فراعني من الرجل هذا العزم، ونظرت إليه في رعب ظاهر وذعر متوسل، وبعد لحظة من الصمت خيل ألي فيها أن الرجل يتذكر أموراً ويستعيد صوراً رفع عينيه وقال:
كلا يا ولدي الصغير! كلاّ! سأجاهد إذا في سبيل الحياة، سأحاول أن أعيش. إن لي صغيراً في سنك. لقد نسيته حينما أقسمت، ولكنني الآن أذكره. انه ينتظرني الآن: ينتظر أن يطوقني بيديه الصغيرتين. سأعيش، سأعيش
وانحدر الدمع المعلق في مقلتيه منذ حين، وذهب يسير في أخاديد وجهه المجعد. وكان بعضه يقع على الأرض وبعضه الآخر تتلقاه كفه وفيها قِدّة من القماش أخذها من بقية قميص على صدره
وعدت إلى فراشي وليس أقر مني عيناً، وليس أدمي مني قلباً كذلك.
أديب عباسي(54/72)
المغفل المخدوع
(إذا أصيب الرجل بداء الغفلة فقد الثقة من نفسه، وعاد لا ينظر بعينه، ولا يسمع بأذنه، ولا يفكر بعقله)
أولع ملك من الملوك بالجديد من الثياب، فكان يتأنق في لباسه التأنق كله، وأصبح لا يرى اللذة إلا في الأغراب فيه، وكثرة الإنفاق عليه، وما كان يعبأ بعد ذلك بأمر أمته، فترك الجند هملاً، وهم حصن الأمة وسلسلتها الفقرية، واحتقر علماء الدنيا والدين، وهم مصابيح الكون يضيئون الحياة؛ ويبصرون الناس بسبلها المعوجة وطرائقها العجيبة؛ وكان لا يذهب إلى التمثيل حباً فيه، وإنما ليعرض على الناس زخرف ملبسه وجميل هندامه، وكان لا يخرج للنزهة ترفيهاً لأعصابه واستمتاعاً بجمال الطبيعة، وإنما ليدهش من يقابل، ويثير فيه عاطفتين: العجب من تأنقه، والإعجاب بذوقه.
مرت الأيام هادئة في حاضرة الملك الواسعة، وأخذ يأتيها الناس من كل فج عميق. وفي ذات يوم قدم إلى الملك لصان متشردان، ضربا في فنون الاحتيال السهم، وذهبا في صنوف الخداع كل مذهب، وتظاهرا أنهما أستاذان مبرزان في النسج والحياكة؛ فأقبل عليهما الملك بسمعه وبصره. ثم قالا له: (أيها الملك المعظم، إنا نريد أن نقدم لك خدمة جليلة، إذ أنت بها خليق، وهي بك أنسب، إنا نستطيع أن نعد لك ثوباً شفيفاً جميلاً لا يراه عليك ألا من كان مخلصاً لك، معجباً بك، أو كفؤاً في عمله، قديراً عليه).
فتهلل الملك واستبشر وقال: (لله دركما يا صديقي، ما أكرمكما وما أجمل صنيعكما، إنني ولا شك أصبح بما تنسجان وتحوكان بصيراً بأحوال الخلق جميعاً، فأعرف من كان لا يحسن عمله، ولا يصلح للقيام بما وكل إليه، وأعرف كذلك المخلص من المخادع المداهن، فأبدأ من الساعة بهذا العمل الخطير، وأنا أعرف كيف أجزل لكما العطاء).
ثم أمر الملك أن يعطيا مبلغاً كبيراً من المال، وأُخلي لهما قصر رحيب على مقربة من قصر الملك، ثم انتشر الجند حوله يحرسونهما من اعتداء المعتدين (من غير المخلصين وغير الأكفاء!)
جلس اللصان المحتالان في القصر الجديد، ونصبا المناسج والأنوال، وتظاهرا بالجد في العمل، والمثابرة التي لا تعرف الملل، وطلبا من الحرير أرقه وأنعمه، ومن الخيوط الذهبية أدقها وأنقاها، فجئ لهما بما أرادا؛ ولما انفردا في المكان وضعا الحرير والخيوط وما أخذاه(54/73)
من المال في حقيبتيهما، وجلسا إلى مناسجهما القائمة يديرانها على لا شيء، لا خيط عليها ولا قطعة حرير، يديرانها بهمة غير محدودة الليل كله، والملك في قصره ساهر يسمع أزير المناسج والأنوال، وهي لا تضعف ولا تخمد. وأخذ النعاس يغالب جلالته حتى غلبه وأخضعه لسلطانه، ولم بنزح عنه حتى تنفس الصبح، وجلا الليل جلاء تاماً، فقام الملك مسرعاً إلى نافذته، تواقا إلى معرفة ما قد تم، وأخذ يقلب وجوه الآراء فيمن يبعث، فقر رأيه على رئيس وزارئه، وما كان أخلص منه ولا أكفأ في نظر الملك.
كلف الوزير الأكبر بهذه المهمة الشاقة، فانطلق في سبيله واثقاً من نفسه، ودخل على الدجالين الكاذبين فوجدهما يتصببان عرقاً، ويديران المناسج الفارغة بالقوة والعزم اللذين يميزان عمل المخلصين المصممين على النجاح، فدهش الوزير الجليل وقال في نفسه: (ماذا أرى؟ أيمكن أن أكون غير مخلص للملك أو غير جدير بمكانتي الاجتماعية العالية؟ أيمكنأني لا أرى ولو قطعة صغيرة من الخيط أو الحرير على هذه المناسج القائمة الدائرة. لله ما أشقاني!) ثم صدر من اللصين سؤال قطع عليه تفكيره الصامت، إذ طلبا منه أن يقترب قليلاً من المناسج ويخبرهما برأيه في اتساق الألوان، ودقة التطريز وجمال الأشكال، ثم أشارا في الوقت نفسه إلى مناسجهما الفارغة.
اقترب الوزير الخطير ووضع منظاره على عينيه ليري ما لم تبصره عينه المجردة. نظر فلم ير شيئاً. ثم رجع البصر كرتين فعاد البصر إليه خاسئاً وهو حسير. اتهم الرجل نفسه وكفايته ودب الحزن في قلبه. وقال في نفسه: لا لا! لا يمكن أن يعرف الناس عني أنني غير مخلص أو غير كفء، ولن أعترف أبداً أني ما رأيت النسيج الشفاف.
لم يكد السيد الرئيس يفرغ من خاطرته المشجية المضحكة حتى فاجأه أحد المحتالين بقوله: (سيدي، يظهر أنك لا تبصر محاسن ما قد صنعنا.) فأجابه الوزير: (لا أبصره!! ومن ذا الذي يستطيع الإبصار اذن؟ ما أبدع ما أرى وما أدقه، بنفسي تلك الألوان المتسقة. وهذه التصاوير الرائعة. و. . و. . . نعم سأخبر الملك سريعاً بهذا البدع وهذا التفنن) فشكره اللصان شكراً جزيلاً على حكمته وكفايته. وأخذا يشرحان له الأشكال المختلفة الموهومة. ويذكران أسماء الألوان. ويبينان مواضع الحسن في ذلك القماش الخيالي. والوزير يصغي إليهما ويهز رأسه لبعض ما يسمع حتى يسرده على الملك عند عودته حرفا بحرف(54/74)
رجع الوزير والهم حليفه إلى الملك، وأخذ يصف ذلك الجمال الذي سمعه بأذنه. وعجز عن رؤيته بعينه. والملك يترنح عجباً وسروراً. وفي اليوم التالي بعث الملك ضابطاً من ضباطه الذين سمعوا وصف الوزير وإعجابه بما شهد. فذهب الرسول ولم ير من المناسج إلا خشبا قائما لا شئ فيه. ولكنه اتهم عينيه واتهم كفايته وأخذ يفكر تفكيراً هو الحريق الداخلي ويقول لنفسه: (لا شك أني غير كفء لمكانتي ذات الأجر الكبير. أف ما أتعسني! كيف أعجز عن إبصار ما رآه السيد الرئيس وافتتن به؟ لا يجوز أن يعلم أحد عني ما أعلمه الآن من نفسي.) ثم ارتفع صوته فجأة بالإعجاب والمديح، وعاد إلى الملك يبالغ في الثناء. فازداد الوزير (وكان حاضراً) اتهاماً لنفسه وكفاءته. وسر من كذبه الصالح. ثم عزم الملك على زيارة تلك المناسج العجيبة. فقام مع حاشيته ورئيس الوزراء والضابط الممتاز وذهبوا إلى اللصين جميعاً
دخلوا حجرة اللصين فصاح الوزير الأكبر صيحة العجب والإعجاب: (ما أجمل ذلك الزخرف. وما أدق هذه الصنعة! وما أبدع تلك الألوان المتداخلة. وتلك الأشكال المتماثلة.) ثم صاح الضابط: (يا الله! ما كنت أحسب قبل اليوم أن في طاقة الإنسان أن يعمل كل هذا البدع: ثوب شفيف مطرز. وبالأشكال الجميلة مزخرف. وهو مع ذلك لا تراه إلا عيون المخلصين والأكفاء، ولا تلمسه الأيدي ولا تدركه الظنون.)
فوجم الملك وقال في نفسه: (ما هذا؟ ألا أرى شيئاً؟ إنها لمصيبة كبرى؟ هل يمكن أن أكون معتوهاً أو غير خليق بالملك؟ لا. لابد أن أسدل على الأمر ستار الخفاء.) ثم صاح (حقاً ما أجمل ذلك القماش! إني راض عنه الرضى كله) ثم ابتسم وحدق في المناسج الفارغة. ولكن هيهات لنفسه الضعيفة أن تنكر وجود شيء أقره رجلان من كبار رجاله!! وانطلق رجال الحاشية يحدقون كذلك ويصيحون: بديع! مدهش! فخم! عجيب! رائع! تلك كانت الصفات التي أخذت ترن في أنحاء المكان الواسع. ثم عطف الملك على الحائكين وأجزل لهما العطاء ورفعهما إلى الدرجات العالية، وقرر الملك أن يلبس تلك الحلة الرائعة ويسير في موكب فخم في أنحاء المدينة يعرضها على الأنظار. .
جاء يوم الاحتفال - ذلك اليوم المشهود - فخرج الناس من منازلهم، وساروا زرافات في الطرق، حتى فاضت بهم السبل، وكأن الأرض صفحة كتاب، سطورها الشيوخ والشباب.(54/75)
أما الملك فقد جرده اللصان من ملابسه إلا قميصه وسرواله، ثم أوقفاه أمام المرآة، وأخذا يروحان ويجيئان، ويرفعان أيديهما ويضعانها، ويديران الملك أمام المرآة ليرى الحلة الجديدة، وأفراد الحاشية وقوف بين متعجب ومسرور، ثم صاح اللصان أن قد تم كل شيء فتقدم الخدم إلى رفع الذيل الموهوم لتلك الحلة الخيالية، وسار الملك في طليعة السائرين، والوزراء والأعيان حوله ووراءه، والنساء مطلات من المنافذ والشرفات، والناس منهومون بالنظرات. وما وقعت عيونهم عليه حتى علا الصياح يشق جوف الفضاء: (ما أجمل الثوب، وما أبدع الذيل)!!. . .
وهكذا ظل كل إنسان يخدع نفسه ويكذب عينيه، ظناً منه أنه وحده قد عجز عن رؤية الثوب، وأن الباقين يرونه كما يرى بعضهم بعضاً. واستمر الحال كذلك برهة والناس جميعاً خادعون ومخدوعون، ثم صاح طفل ساذج: (ليس على الملك ثوب جديد! الملك عريان!) فبهت الجميع. . . ثم صاح شيخ كهل:
(اسمعوا صوت الحق، اسمعوا صوت الطبيعة التي لا تعرف الملق والنفاق). فاغتم الملك غماً شديداً إذ علم أن ما قاله الطفل حق صراح، يبصره هو ويشعر به، ثم عاد أدراجه بين سخر الساخرين، واستهزاء الضاحكين.
م. ك(54/76)
سيوة
تقع واحة سيوة في صحراء مصر الغربية على الحدود ما بين مصر وطرابلس على مسافة مائتي ميل جنوبي السلوم وأربعمائة ميل غربي وادي النيل.
ويمكن القول أنها الواحة الشمالية من سلسة واحات تتبع إحداها الأخرى من الجنوب إلى الشمال في صحراء (ليبيا) وكان الأقدمون يسمون هذه الواحات (بالأراضي المقدسة) لأنهم كانوا يعتقدون أن الآلهة منحت هذه البقاع ماء وسط تلك الصحراوات القاحلة، ولأن هذه الواحات قد حمتها الطبيعة بأن أحاطت كل واحة منها بسلسة من جبال كلسية تمنع عنها الرمال الدقيقة التي تحملها معها الرياح، إذ لولا هذه الجبال لغطتها كثبان الرمال وجعلتها في عالم النسيان، كذلك عيون الماء المتفجرة في هذه الواحات سببت الحياة والرخاء وسط ذلك المحيط القاحل غرب وادي النيل.
تتكون سيوة من عدة واحات صغيرة متجاورة تقع في منخفض من الأرض يبلغ طوله حوالي ثلاثين ميلا وعرضه ستة أميال تقريبا، وينخفض عن سطح البحر حوالي عشرين متراً تكتنفها صحراء جرداء محرقة لا تسقط فيها الأمطار
ولقد زارها الاسكندر الأكبر حينما غزا مصر وتبرك بزيارة معبد (جوبيتر آمون) إرضاء للكهنة المصريين ورغبة منه في إظهار احترامه لدينهم
يبلغ عدد سكانها ثلاثة آلاف نسمة، وهم سلالة أقوام قديمة من البرابرة، ولا يشبهون أعراب الصحراء في شيء. ولهم لغة خاصة بلهجة ولكنة غريبتين، ولعلها لغة أجدادهم البرابرة القدماء، والغريب في أمرهم أنهم يتكلمون بتلك اللغة، ولكنهم لا يتكاتبون بها، بل إنهم يتكاتبون باللغة العربية، ولا شك في أن بقاء هذه اللغة البربرية راجع إلى بعد الواحة عن العمران، وصعوبة المواصلات بينهما وبين الأجزاء الأخرى من القطر فقل اختلاط السكان بالمصريين والأعراب، بل إن أهالي سيوة لهم عادات خاصة، وطباع تخالف في جوهرها طباع وسكان وادي النيل
ليس لهذه الواحة تاريخ معروف، بل إن ماضيها مظلم، وليس من سبيل لإلقاء أشعة من النور لمعرفته إلا إذا قامت بعثات علمية بالحفر في جبالها وآثارها والتنقيب في معابدها وخرائبها حتى يمكن أن يرفع ذلك الستار الكثيف عن تلك المدنية البائدة الغربية
والطريق الأكثر استعمالا للوصول إلى سيوة هو من مرسى مطروح والسلوم، ويمكن(54/77)
للسيارات الصغيرة الخفيفة أن تقطع ما بين مرسى ومطروح وسيوة في ثماني ساعات. أما السيارات الثقيلة المعدة للتحميل فتقطع المسافة في يومين، وتقطعها الجمال في سبعة أيام، ويقطع كثير من أعراب الصحراء المسافة من شاطئ البحر الأبيض إلى سيوة مشيا على الأقدام وهي مسافة لا يستهان بها إذا أضيف إليها ندرة الماء في الطريق.
وكل ما يعيش عليه الأعرابي في الطريق، قليل من التمر ولبن الناقة وقطرات من الماء، وبهذه المناسبة أقول إن السيارات لم تبدأ بالسير بين مرسى مطروح وسيوة إلا منذ سنة 1926 أما قبل ذلك فالمواصلات بين البلدين كانت بالجمال، غير أنه حدث أن زار الخديو السابق عباس باشا سيوة سنة 1905 مع بعض الألمان الذين كانوا ينقبون عن الآثار في مدينة (سانت ميناس) القديمة التي تقع في الجنوب الغربي من الإسكندرية وكان بصحبته الهر إيوارت فولز وقد قطع المسافة لسيوة على عربة مكشوفة (فيتون) تجرها جياد تستبدل بغيرها كلما أصابها الكلال والتعب. وهذه هي المرة الأولى التي سارت فيها عربات ركوب في الصحراء في تاريخ سيوة الحديث، وتألفت حملة الخديو السابق في هذه الزيارة من أربعة علماء من الألمان وعشرين جنديا واثنين وستين حصانا و288 جملا لحمل الأمتعة. هذا عدا خدم الخديو الخصوصيين.
وتهتم مصلحة الحدود الآن بإصلاح الطريق ما بين مرسى مطروح وسيوة. فهي تزيل الصخور من الطريق وتضع مخلوطاً من خرسانة الأسمنت في المواضع التي يغطيها مطر الشتاء، ثم إنها أصلحت بعض المستودعات القديمة الرومانية التي تجمع فيها الأمطار وسقفتها بأسقف من خرسانة الأسمنت وعملت فيها فتحات حتى يتمكن المارة من أن يحصلوا على الماء بإلقاء دلو مربوط في حبل كي يأخذوا ما يشاءون من الماء، وحتى لا يضيع أي قدر من ماء الأمطار، وازدادت تلك العناية عقب زيارة حضرة صاحب الجلالة الملك الأخيرة سنة 1928 إذ أن مصلحة الحدود تعمل على إيجاد أكبر عدد من مستودعات ماء المطر في طريق الصحراء بين مرسى مطروح وسيوة لدرجة أن العربي الذي يقطع المسافة سائراً على قدميه يمكنه أن يجد في طريقه كل يوم مستودعاً فيأخذ منه ما يحتاجه من ماء يكفيه طول اليوم، ومن أكبر هذه المستودعات أو الآبار هو بئر جلالة الملك فؤاد الأول عند البويب وهي منتصف المسافة تقريباً بين مرسى مطروح وسيوة، وتوجد آبار(54/78)
أخرى في الطريق أذكر منها بئر الكنائس والحجفا وغيرها.
يقطع المسافر من مرسى مطروح الصحراء الغربية في رقعة من الأرض متشابهة الأشكال والمنظر لا تتغير فيها، فهي رمال صفراء تغطيها قطع صغيرة من الأحجار المتناثرة هنا وهناك، ويمر في طريقه ببعض التلول الصخرية القاتمة اللون، ولا يرى إلا سراب الصحراء على امتداد البصر، ولقد رسمت السيارات دروباً واضحة في الصحراء بحيث أصبح السائقون على إلمام بها بحيث لا يضلون الطريق كأنما هم يسيرون في شوارع البلاد الآهلة بالسكان، وقبل الوصول إلى سيوة بما يقرب من عشرين كيلو متراً تبدأ العربات بالانحدار في طرق متعرجة وسط الصخور التي تحيط الواحة، ولا يزال هذه الطرق تنحدر في ميلها تدريجياً حتى تتمكن السيارات في نهايتها من الوصول إلى الواحة نفسها، وذلك الانحدار طبيعي لأن هضبة الصحراء ترتفع عن سطح البحر، بينما الواحة نفسها منخفضة عن سطح البحر حوالي عشرين متراً، وما أن ينتهي ذلك الانحدار حتى ترى أشجار النخيل وقد مالت كل منها على الأخرى وكأنما هي عرائس وضعت على رؤوسها أكاليل من أوراق الربيع الخضراء، وتراها وهي في وسط الواحة الهادئة الساكنة كأنما تسر كل منها للأخرى أسرار الكون وأسرار وجود الحياة وسط تلك الصخور الصامتة الخرساء. ولا شك في أن القادم على سيوة حينما يقع بصره على أشجار الزيتون والنخيل يشعر بالفرق الشاسع بين تلك الصحراء المملة برمالها ودروبها، وبين تلك الواحة باخضرارها ووجود الحياة البالغة فيها، ثم يستمر السير وسط حقول الواحة وقد أحيط كل حقل بسياج من جريد النخل الذي لفحته حرارة الشمس فتحول لونه من أخضر زاه إلى أصفر ذهبي، وبعد مسير بضع دقائق تصل وسط البلدة مركز سيوة.
(يتبع)
كابتن(54/79)
الكتب
رسائل سائر من بلاد العرب إلى بلاد اليونان
بقلم صاحب الفضيلة الشيخ محمد سليمان
من الأمور اليسيرة العسيرة، السهلة الممتنعة، التي تستعصي إجادتها إلا على ذوي الأفهام النادرة، والأقلام القادرة، وإن خدعت ظواهرها، وخيل لأوساط الكتاب أنها هنة هينة، تستطيع أرباع الأقلام وأنصافها أن تجول فيها وتبرز، هي تصوير الشعوب تصويراً صادقاً ناطقاً قوياً رائعاً. . يروى عن سائح فرنسي زار انجلترا، أنه لم يكد يقيم بها أسبوعا حتى حمل القلم وهم بالكتابة عنها، فلم يقطر قلمه إلا كلمات متقطعة وأسطر ركيكة فلم يشأ أن يرد ذلك إلى قصوره وعجزه، وزعم لنفسه أنها سبعة الأيام لا تجمع في الذهن محصولاً من الصور يكفي لإجادة التصوير، وعول على الإقامة شهراً كاملاً، فانقضى الشهر واهتز القلم، وانغمس في الدواة مراراً وجف مراراً، دون أن يهبط عليه الوحي الذي يرجو، ولكنه ليس عاجزاً ولا مقصراً، إنما هو الشهر لا ينفع ولا يجدي كاتباً يريد أن يجيد، فصبر حتى الفلك دورة كاملة، وانسلخ العام بشهوره الاثنى عشر، والذهن على ركوده والقلم على جموده، فأيقن بعجزه عن الوصف وارتحل
فليست الكتابة عن الأقطار والشعوب هينة لينة كما يبدو، إنما هي مرتبة عالية، تحتاج إلى قلب كبير حساس، يعي ما يرى من الصور وعياً تاماً ويحسها إحساسا قوياً، حتى لكأنه نشأ بينها ودرج في أحضانها، وإلى عقل راجح لا يميل به الهوى، فيزن القول وزناً دقيقاً عادلاً، وإلى قلم قدير ينطق بما يحسه القلب ويحكم به العقل. وقد اجتمعت هذه الأدوات الثلاث لدى الأستاذ الجليل الشيخ محمد سليمان، الذي طوف في أرجاء فلسطين وسوريا وزار بلاد اليونان، فلم يعوزه ذلك القلب اللاقط الحساس، ولا غربة فهو أبو التلاميذ جميعاً، الذي وسعت رحمة قلبه ألوف الأبناء، ولم ينقصه العقل الراجح المتزن العادل، فقد عرفته منصات القضاء أعواماً وأعواماً، فإذاما أحس قلبه وإذا ما حكم عقله، ألفيا قلماً بليغاً ينطقانه في بيان ساحر خلاب.
طوف الأستاذ في تلك الأنحاء، فأحس كثيراً وعلم كثيراً، فأملى على القلم إحساسه وعلمه، فصدع القلم ودبج فصولاً لست أعرف خيراً منها، أستغفر الله بل ما يدنو منها فيما كتبه(54/80)
الرحالة المتجولون حديثاً، وأخذ ينشر تلك الفصول تباعاً في صحيفة سيارة، ثم نظمها اليوم في كتاب، حتى يطالعه الأخلاف كما قرأه المعاصرون، فكان هذا الكتاب القيم: رسائل سائر
قرأت الكتاب فراعتني منه جوانب ثلاثة: التصوير الدقيق، والملاحظة الصحيحة، واستخلاص العبرة، ولو أردت أن أسوق إليك الأمثلة لنقلت إليك الكتاب الذي أدعوك لقراءته من السطر الأول إلى السطر الأخير
على أن في الكتاب هنات يسيرة، كنا نرجو أن يبرأ منها كالتطويل القليل الفائدة في بعض المواطن، وقلة عدد الصور، وهذا القليل لم ينل حقه من الإجادة تصويراً وطبعاً، وكالإطناب في خالد بن الوليد، ومن رأينا أن ما يمكن تحصيله وأنت هادئ ساكن في مكتبك، ليس مما يحسن ذكره في كتب الرحالة، وبوقوع بعض الأخطاء اللغوية، أو التي نحسب أنها كذلك، ففي صفحة 7 يقول (ظاهرة حقة) ونظن أن الصفة هنا لا تؤنث كقولك رجل عدل وامرأة عدل. وفي صفحة 35 ذكر الريح مذكراً وأظنها أو يحسن على الأقل - أن تكون مؤنثة. وفي صفحة 38 ذكر (باقة زهر) والباقة لا تكون إلا للبقل، أما حزمة الزهر فيقال لها طاقة الزهر.
وإنما نذكر هذه المآخذ لضرورة ذكرها في مجال عرض الكتاب، على إنها لا تشوه من جمال الكتاب في شيء؟
زكي نجيب محمود(54/81)
العدد 55 - بتاريخ: 23 - 07 - 1934(/)
بمناسبة ذكرى حافظ
بين السياسة والأدب
ينظر الأدب المصري اليوم إلى السياسة نظر الَمغِيظ الحانق لطغيان جلالها على جلاله، وعدوان سلطانها على استقلاله، وعبث أهلها بأقدار أهله عبث الهوى المتحكم بقوانين العدالة!
شهد الأدب في هذه الأيام جنازة سياسية لمرقص حنا باشا. وجنازة أديبة لأحمد زكي باشا، وسمع بذكرى سياسية لسينوت حنا بك، وذكرى أدبية لحافظ إبراهيم بك؛ فأما الجنازة السياسية والذكرى السياسية فكانتا مظهرين من مظاهر الوطنية الرائعة، ومظاهرتين من مظاهرات القومية المتحدة، شملت البلاد، وشغلت الصحف، وأرهفت الشعور، وأرهبت الحكومة، ونفَّست عن العاطفة العامة المكروبة؛ وأما الجنازة الأدبية والذكرى الأدبية فكانتا شاهدين على هذا التواضع المسكين الذي يصاحب العلم، وأثرين لهذا البؤس المهين الذي يلازم الأدب، فشيَّع الأولىبعض الأصدقاء وبعض الخاصة، ونسى الثانية كل الأصدقاء وكل الخاصة، ثم تهامست بين الناس الشكاوي، وتملقت من الأنصار المعاذير، وتجاوبت في الأقطار الشقيقة أصداء الأسف، ونعى كاتب سورية الكبير صاحب (فتى العرب) على مصر عقوق الأدباء وجحود العباقرة؛ وليس في نظرنا مما يبعث الشكوى من السياسة، ويثير السخط على الجمهور، ويستوجب الملامة على مصر، فان السياسة تقوم بواجبها، ولا تحول بين أحد وبين واجبه.
السياسة عقيدة، والعقيدة تحييها الشعائر، وتنميها المظاهر، ويقويها الحشد، وينشرها الإعلان، ويديمها التذكير، وتجددها الدعاية.
والسياسة مبدأ، وهذا المبدأ نفسه يريد أن يكرم في ذكرى الميت كما كان يكرم في وجود الحي، وما حالات السياسي إلا مناسبات يُهتف فيها بفكرته لا بصورته.
والسياسة جهاد، والجهاد يدعو بتكريم البطولة إلى البطولة، وبتعظيم التضحية إلى التضحية.
والسياسة حكومة وخصومة، ومن حق السياسة المكبوتة أن تتلمس الحرية في كل فرصة، وتتنشق الراحة من كل فُرْجَة(55/1)
والسياسة جاه وقوة، ومن طبيعة النفوس أن تشايع الجاه وتبايع القوة ابتغاء لمنفعة أو اتقاء لمضرة
والسياسة بعد ذلك كله للشعب، فرجالها زعماؤه، وضحاياها شهداؤه، ومواقفها مواقفه
أما الأدب فلا نصيب له من بعض ذلك، ليس عقيدة للعامة، ولا فكرة للأمة، ولا ساحة للنفوس المجاهدة، ولا مطمعة للعيون الرغيبة؛ إنما هو فن الخاصة وبغية الرجل المثقف، فإذا لم يحتفل أهله بأهله، وينوه جمهوره بفضله، ذهب أثر رجاله من الدنيا كما تذهب أنغام موسيقى الجيش بعد المعركة، ثم لا يبقى الفخر والذكر إلا للجند والقادة
الأدباء هم الملومون على هذا العقوق، والصحفيون هم المسئولون عن هذا الإهمال، وشهوة المنافسة وعداوة الحرفة، هما اللتان تفسران البواعث على هذا والدوافع إلى ذاك؛ والأديب الذي يَنْفِس على أخيه محنة الوجود، يجد الأولى أن ينفس عليه نعمة الخلود، والأدب في الحياة وفي الممات شر على صاحبه، فإنما لا نزال نشهد كل يوم معارك الأهواء بين الأدباء الأحياء تقطع وشائج الصداقة، وتخفي دلائل النبوغ، وتزيف حقائق الفضل، ثم لا تترك منهم للتاريخ إلا أشلاء منكرة من الأدب والفن والخلق. ولا نزال نسمع من يذكر المنفلوطي بالسوء لأنه اصطنع الأدب الباكي، كأن للكاتب يداً في تركيب مزاجه، وتكوين بيئته، وتأليف ظروفه، وتثقيف ملكاته. كذلك لا نزال نسمع من يشدد النكير على شوقي لأنه عالج في بعض عمره شعر المديح، كأنه نشأ في ظل الدستور وعهد الديمقراطية وعصر الجماعة، وكأنه كان يمدح عباساً لأن المتنبي كان يمدح سيف الدولة!
نعم كان أمس ذكرى حافظ، وكان أول أمس ذكرى سينوت! فهل رأيت بعينك وفاء السياسة وجحود الأدب؟. إن حافظاً رحمه الله ما يزال يقتضي أصدقاءه الخلَّص حفلة التأبين وتأليف الكتاب، فهل من المعقول أن نطلب من شعبه المغلول إحياء الذكرى وإقامة التمثال؟
ولقد كان من جرائر نحسه الذي ظل بعد موته حياً يعيث، أن مواهبه السامية في الشعر والبلاغة قد أخذ ينالها النسيان وتشوهها الغفلة، فما يذكره الناس حين يذكرونه إلا بحلاوة النادرة وبراعة (النكتة) وحسن الحديث، حتى خشينا أن يصبح في الخاصة ما أصبح أبو نواس في العامة.!
فَمَنْ مُبْلغٌ حافظاً الصديق أن المودة بعده أصبحت لا تبقى على المحن، ولا تقوى على(55/2)
الأهواء، ولا تثبت للظروف، ولا تتجاوز كذب الحياة إلى صدق الموت!
ومَنْ مبلغٌ حافظاً الأديب أن الأدب بعده أصبح داء كداء الضرائر، تهيمن عليه المنافسة الكاذبة، وتغض منه المحاسدة اللئيمة، وتتحكم فيه الأغراض الحقيرة؟
ومَنْ مبلغ حافظاً الفنان أن فنه الجميل سيبقى على لؤم الإنسان وظلم الزمان، رائعاً ما راع الجمال، ساطعاً ما سطعت الشمس، خالداً ما دام الخلود؟!.
احمد حسن الزيات(55/3)
سمُوُّ الفقر في المصلح الاجتماعي الأعظم
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
- 2 -
قالت عائشة رضي الله عنها: لم يمتلئ جوف النبي صلى الله عليه وسلم شبعاً قَطّ، وإنه كان في أهله لا يسألهم طعاماً ولا يتشهّاه، إن أطعموه أكل، وما أطمعوه قبل، وما سقوه شرب.
وقالت: ما شبع آل محمد من خبز الشعير يوميين متتابعين حتى قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعنها: كنا آلَ محمد نمكث شهراً ما نستوقد بنار، إن هو إلا التمر والماء.
وقالت: ما رَفع رسول الله صلى الله عليه وسلم قَط غداءً لعشاء، ولا عشاء لغداء، ولا اتخذ من شيء زوجين، لا قميصين، ولا رداءين، ولا إزارين، ولا زوجين من النعال.
ويروي عنها، قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عندي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رفّ لي.
وقالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير.
وعن أبن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت اللياليَ المتتابعة وأهلهَ طاوياً لا يجدون عشاءً، وإنما كان خبزهم الشعير.
وعن الحسن، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله ما أمسى في آل محمد صاعٌ من طعام، وإنها لتسعة أبيات) والله ما قالها استقلالاً لذكر الله، ولكن أراد أن تتأسى به أمته.
وعن أبن مجير، قال: أصاب النبيَّ صلى الله عليه وسلم جوعٌ يوماً فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه ثم قال: (ألا رُبَّ نفس طاعمةٍ ناعمة في الدنيا - جائعةٌ عارية يوم القيامة؛ ألا ربَّ مُكرمٍ نفسه وهو مهين لها؛ ألا رب مهين نفسه وهو مكرم لها)
وخُيّرَ صلى الله عليه وسلم أن يكون له مثل (أُحد) ذهباً فقال: لا يا رب، أجوع يوماً فأدعوك، وأشبع يوماً فأحمدك.(55/4)
وكان يقول في دعائه ويكثر منه: اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين.
هذا هو سيد الأمة، يمسكه في الحياة نبياً عظيماً ما يُخرج غيره منها ذليلاً محتقراً، وكأنما أشرق صفاء نفسه على تراب الأرض فردّه أشعة نور، على حين يُلقِى الناس على هذا التراب من ظلام أنفسهم فلا يبقى تراباً، بل يرجع ظلاماً، فكأنهم يطئون المجهول بخوفه وروعته؛ ثم لا يستقر ظلاماً، بل يرجع آلاماً، فكأنهم ينبتون على المرض لا على الحياة؛ ثم لا يثبت آلاما، بل يتحول فورة وتوثباً تكون منه نزوات الحمق والجنون في النفس. هؤلاء الذين تعيش أنفسهم في التراب، ويتمرغون بأخلاقهم فيه - ينقلبون على الحياة من صنع التراب ناساً دُوداً لا يقع في شيء إلا أفسده أو قذَّره؛ أو قوماً سوساً لا ينال شيئاً إلا نخره أو عابه، فهم يوقعون الخلل في نظام أنفسهم فإذا هي طائشة تخيَّل لهم كأنما اختلت نواميس الدنيا، وكأن الله قبضهم وبسط غيرهم، وشَغَلَهم وفَرَّغ مَن عداهم، وابتلاهم على مسْكَة الرزق بالشهوة المسعورة التي لا تتحقق، فضربهم بالمجاهدة التي لا تنقطع؛ وأنعم على غيرهم في بسطة الرزق بالشجرة المسحورة التي لا تُقطع منها ثمرة إلا نبت غيرها في مكانها.
إن ما وصفناه من فقر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يكن له عتيدٌ حاضر، وأنه لم يجعل نفسه في همّ المال، ولا جعلته نفسه في هم الفقر، وأنه لقي الحياة حاملاً لا محمولاً، واستقر فيها هادئاً لا مضطربا - كل ذلك إنما يثبت للدنيا أنه خلق وبُعث وعاش ليكون درساً عملياً في حل المشكلات الاجتماعية، يعلَّم الناس أنها لا تتعقّد بطبيعتها، ولكن بطبائعهم فيها؛ ولا تستمر بقوتها، ولكن بإمداد قواهم لها؛ ولا تغلب بصولتها، ولكن بجَزَعهم منها؛ ولا تُعضل من ذات نفسها، ولكن من سوء أثرهم عليها، وسوء نظرهم لأنفسهم ولها.
فإذا قرأت الأحاديث التي أسلفناها فلا تقرأها زهداً وتَقلُّلاً، ولا فقراً وجوعاً، ولا اختلالاً وحاجة، كما تترجمها نفسك أو تحسها ضرورتك؛ بل انظر فيها واعتبرها بنفسه هو صلى الله عليه وسلم، ثم اقرأها شريعةً اجتماعية مُفصَّلة على طبيعة النفس، قائمةً على أن تأخذ نفس الإنسان من قوى الدنيا عناصرها الحيوية، لتعطي الحياة من ذلك قوة عناصرها.(55/5)
والحياة العاملة غير الحياة الوادعة، هما ذكر وأنثى؛ فأما الأولى فهي ما وصفنا وحكينا، وأما الثانية فهي تَغلُّل النعمة، وإطلاق قانون التناسل في المال ينمي بعضه بعضا، وينبت بعضه على بعض، ثم إقامة الحياة على الزينة ومقوّمتها، وقيام الزينة على الخداع وطبائعه، فيُقْبل المرء من دنياه على ما هو جدير أن يصرفه عنها، ويحب منها ما كان ينبغي أن يباغضه فيها. وكل ما رأيت وعلمت في رجل قُوَّته القوة فهو هناك؛ وكل ما علمت ورأيت في أنثى قوتها الضعف فهو هنا.
فالسواد الذي تراه في فقره صلى الله عليه وسلم هو السواد الحيّ؛ سواد الليل حول الروح النَّجْميَّة الساطعة؛ وذلك التراب هو التراب الحيّ؛ تراب الزرع تحت النضرة والخضرة؛ وتلك الحاجة الجسميّة هي الحاجة الحية الدافعة إلى حرية النفس؛ وذلك الإقلال من فهم اللذة هو الإقلال الحيّ الذي يزيد قوة فهم الجمال في السماء والأرض وما بينهما؛ وذلك الضيق في حيز المتاع للحاسة هو الضيق الحي الذي يوسع حيّز المتاع للروح. وبالجملة فذلك النقص من المادة لم يكن إلا لنفي النقص عن الفضيلة، وذلك الاحتقار للعرَض الفاني الزائل هو المعنى الآخر لتقديس الخالد الباقي.
فليس هناك خبز الشعير، ولا الجوع، ولا رهن الدرع عند اليهودي. كلا، كلا، بل هناك حقيقة نفسية عقلية، ثابتة متزنة. قائمة بعناصرها السامية: من اليقين والعقل والحكمة، إلى الرفق والحلم والتواضع، تخبر هذه الدنيا العلمية الفلسفية المفكرة أن ذلك النبي العظيم هو الرجل الاجتماعي التام بأخلاقه وفضائله، وهو الذي بُعِث لتنقيح غريزة تنازع البقاء، وكسر هذه الحيوانية، وقمع نزواتها، وإماتة دواعيها، والسمو بخواطرها فهو بنفسه صورة الكمال الذي بعث لتحقيقه، وإثبات أنه الممكن لا الممتنع، والحقيقي لا الخيالي.
ليس هناك درع مرهونة في ثلاثين صاعا، ولا الفقر، ولا خبز الشعير. كلا، كلا، بل هناك تقرير أن النصر في معركة الحياة لا يأتي من المال والثراء والمتاع، ولكن من المعاناة والشدة والصبر، وأن التقدم الإنساني لا يباع بيعاً، ولا يؤخذ هوناً، بل هو انتزاع من الحوادث بالأخلاق التي تتغلب على الأزمات ولا تتغلب الأزمات عليها، وأن هذا المال وهذه الشهوات - في حقائق الحياة ومصائرها - ككنوز الأحلام لا تكون كنوزاً إلا في مواضعها من أرض الغفلة والنوم، فلا لذة منها إلا بمقدار خفيف من هذه الغفلة. وليس إلا(55/6)
الأحمق أو المخذول أو الضائع هو الذي يقطع العمر نائماً أبداً ليظل مالكاً أبداً لهذه الكنوز، وهو يعلم أنه لابد مستيقظ، وأنه متى انتبه في آخرته لم يجد منها شيئاً (ووجد الله عنده فوفاه حسابه)
كلا، كلا، ليس هناك فقر ولا جوع وما إليهما، بل هناك وضع هذه الحقيقة: ينبغي أن تجد نفسك، وموضع نفسك، وإيمان نفسك، وعزة نفسك، فإذا أدركت ذلك ورفعت نفسك إلى موضعها الحق، وأقررتها فيه وحبستها عليه، وحددتها بالإنسانية من ناحية، وبالله من الناحية المقابلة - رأيت إذن أن قيمتك الصحيحة في أن تكون وسيلة تعطي وتعمل لتعطي، لا غاية تأخذ وتعمل لتأخذ - ومهما ضيق عليك، فنما أنت كالشجرة الطيبة تأخذ تراباً وتصنع حلاوة. وما قط نبتت شجرة في مكانها لتأكل وتشرب وتختزن السماد والتراب، وتحصنهما وتمنعهما عن غيرها، ولو قد فعلت ذلك شجرة لكان هلاكها فيما تفعل، إذ تحاول أن تضاعف فائدتها من قانون العالم، فيكون طمعها سريعاً في إفساد الصلة بينهما، فلا يجد القانون فيها نظامه، ومن ثم لا تجد في القانون نظامها، فيهلكها الذي كان يحييها، وتستبعد لحظّ نفسها فيفقدها ذلك حرية الحياة التي كانت لها في نفسها.
يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن بكل خير على كل حال، إن نفسه تنزع من بين جبينه وهو يحمد الله عز وجل.) فهذا هو أسمى قانون اجتماعي يمكن أن تظفر به الإنسانية وما يأتي لها ذلك إلا إذا أصبحت تلك المعاني التي أومأنا إليها شعوراً اجتماعياً عاماً، مقرراً في النفس، قائماً فيها على إيمان راسخ بأن الفرد هو صورة المجتمع لا صورة نفسه وحدها، وأن الناس كحب القمح في سنبلة ليس لجميعه إلا قانون واحد، فموضع كل حبة من السنبلة هو ثروتها، علت أو سفلت، وكثير ما تأخذه أو قل، وإذا كان أساس الحياة في الحبة منها أن تجد قوامها وكفايتها من مادة الأرض فتمام الحياة فيها أن يغمرها النور من حولها، وأن يستمر النورمن حولها يغمرها.
فالحبة من السنبلة بكل خير على كل حال، وإنها لتُنْزَع وما بها أنها نُزِعت، ولكنها أدت ما تؤدِيّ، وانقطعت من قانون لتتصل بقانون غيره، وما اغتنت ولا افتقرت، ولا أكثرت ولا أخَفَّتْ؛ بل حققت موضعها، فإنها ما نبتت لتبقى، وما نمت إلا لينقطع نماؤها. وكذلك المؤمن الصحيح الإيمان، الصادق النظر في الحياة؛ هو أبداً في قانون آخرته؛ فهو أبداً في(55/7)
عمل ضميره.
والناس في هذه الحياة كحشد عظيم يتدفق من مضيق بين جبلين ينفذ إلى الفضاء؛ فإذا هم أدركوا جميعاً أنهم مُفْضُون إلى هذه النهاية مرّوا آمنين وكان في يقينهم السلامة، وفي صبرهم الوقاية، وفي نظامهم التوفيق، وفي تعاونهم الحياة؛ فهم بكل خير على كل حال، ما دام هذا قانون جميعهم، فأيما رجل شذَّ منهم فاضطرب فطاش هلك وأهلك من حوله، ومن عكس منهم موضعه ونكص على عقبيه أهلك من حوله وهلك. والموت أشقى الموت هنا - اعتبارُ الحاضر بنفسه، والضجرُ منه، وجعل الإنسان نفسه غاية؛ والحياة أهنأ الحياة - اعتباره بما وراءه، والصبر على شدته، وجعل الإنسان نفسه وسيلة.
فذلك معنى خبز الشعير، والقلة والضيق، ورهن الدرع عند يهودي من سيد الخلق وأكملهم، ومن لو شاء لمشى على أرض من الذهب. فهو صلى الله عليه وسلم يعلم الإنسانية أن الرجل العظيم النفس لا يكون في الحياة إلا ضيفاً نازلاً على نفسه.
ومن معاني ذلك الفقر العظيم أن خبز الشعير هو رمز من رموز الحياة على التحلُّل من خلق الأثَرةِ، والبراءةِ من هوى الترف؛ ورهن الدرع رمز آخر على التخلص من الكبرياء والطمع؛ والعُسْرة رمز ثالث على مجاهدة الملل الحي الذي يفسد الحياة كما يفسد بعض النبات النبات. ومجموع هذه الرموز رمز بحاله على وجوب الإيقاظ النفسي للأمة العزيزة التي تقود أنفسها بمقاساة الشدائد ومجاهدة الطباع، لتكون في كل فرد مادة الجيش، وليصلح هذا الجيش قائداً للإنسانية.
على أنه صلى الله عليه وسلم حثّ على طلب اليسار، والتغلٌّل من الأعمال الشريفة بالغلَّة والمال، فقال: (إنك إن تدع عيالك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس). ورأى عابداً قد انقطع للعبادة حتى أكلت نفسه جسمه، ووصفوا له من زهده وعبادته، فقال صلى الله عليه وسلم: من يعوله؟ قالوا كلنا نعوله. فقال: كلكم خير منه!. . إلى أحاديث كثيرة مروّية، هي تمام القانون الأدبي الاجتماعي في الدنيا، تثبت أن الحي إن هو إلا عمل الحيّ. ولكن حين يكون سيد الأمة وصاحب شريعتها رجلاً فقيراً، عاملاً مجاهداً، يكدح لعيشه ويجوع يوماً ويشبع يوماً، فلم يقلب يده في تِلاد من المال يرثه ولم يجمعها على طريف منه يورّثه - فذلك هو ما بيناه وشرحناه وذلك كالأمر نافذاً لا رخصة فيه على ألاّ يتخذ الغني(55/8)
من الفقير عبداً اجتماعياً، لفقر هذا ولمال ذاك؛ بل هي المساواة النفسية لا غيرها، وإن اختلفت طبقات الاجتماع. والأكرم هو الأتقى لله، بمعنى التقوى؛ والأقوم بالواجب، على معنى الواجب؛ والأكفأ للإنسانية، في معاني الإنسانية.
فقر ذلك السيد الأعظم ليس فقراً، بل هو كما رأيت: ضبط السلطة الكائنة في طبيعة التملك، لقيام التعاون الإنساني على أساسه العمليّ؛ هو المحاجزة العادلة بين المصالح الاقتصادية الطاغية يمنع أن تأكل مصلحةٌ مصلحةً فتهلك بها، ويوجب أن تلد المصلحةُ مصلحةً لتحيا بها.
والنبي الفقير العظيم هو في التاريخ من وراء كل هذه المعاني كالقاضي الجالس وراء موادّ القانون. صلى الله عليه وسلم.
مصطفى صادق الرافعي(55/9)
بين يدي شهرزاد
للأستاذ توفيق الحكيم
شهرزاد متكئة على الوسائد تنظر باسمة في حوض ماء من المرمر وبين يديها الوزير قمر. . . .
شهرزاد - (في مكر) أراك يا قمر تسرف في إطرائي وتبخس قدر صديقك.
الوزير - لم أبخس قدره.
شهرزاد - (في مكر) يخيل إلى أنك نسيت ما بينكما من ود عجيب.
الوزير - (في حدة) لم أنس شيئاً.
شهرزاد - (في خبث) بلى!
الوزير - (في حدة عمياء) إني لم أنسى شيئاً. إنما أبين لك لماذا أنت تحبينه أسمى الحب، فلا تزعمي لي غير هذا مرة أخرى. إني لست أُخدع. لست أُخدع. لست أُخدع!
شهرزاد - (هادئة) قمر؟ ماذا دهاك؟
الوزير - (يثوب إلى رشده) مولاتي مغفرة. . إني. .
شهرزاد - انك أحياناً لا تملك نفسك.
الوزير - إني. . أردت أن أقول انك غيرِتِه، وأنه انقلب إنساناً جديداً منذ عرفك.
شهرزاد - انه لم يعرفني.
(يسمعان طرقاً شديداً)
الوزير - (يرهف السمع) هذا هو.
شهرزاد - إن شهريار يحمل دائماً مفتاحه ولا يدخل القصر ليلاً إلا من سردابه.
الوزير - مَن هذا الطارق إذن؟
شهرزاد - اذهب وجئني بالخبر.
(الوزير يخرج مسرعاً)
شهرزاد - (كالمخاطبة لنفسها) مسكين أنت يا قمر!
(الوزير يعود على عجل)
قمر - مولاتي! أتدرين من الطارق؟ رجل عجيب الزي، يقول انه المؤلف، ويلتمس المثول(55/10)
بين يديك.
شهرزاد - (في عجب) المؤلف؟ أي مؤلف؟
قمر - لم أفهم مراده. إنما هذا ما قاله لي.
شهرزاد - أدخله لنتبين أمره.
قمر - أفي مثل هذه الساعة من الليل؟
شهرزاد - وماذا يضير. انك معي.
قمر - نعم سألبث معك.
(يخرج قمر في الحال)
شهرزاد - (كالمخاطبة لنفسها) المؤلف؟: أتراه أحد السحرة قد أرسل في طلبه شهريار؟
(قمر يعود وخلفه توفيق الحكيم يلتفت يمنة ويسرة منبهر البصر مما في القصر من عجائب لم يسبق لعين مثله أن وقعت على مثلها)
شهرزاد - (تلتفت إليه وتتأمل زيه وتأذن له في الدنو منها ولكنه يقف مكانه جامداً) (تقدم يا هذا)
توفيق - مولاتي. . .
شهرزاد - ماذا بك؟
توفيق - أأنا بين يدي شهرزاد؟
قمر - نعم أنت في حضرة الملكة العظيمة.
توفيق - (كالمخاطب لنفسه) نعم، لا يمكن لهذا الجمال أن يكون لغيرها.
شهرزاد - بِمَ تهمس كمن به مس؟
توفيق - مغفرة أيتها الملكة، إني. . .
شهرزاد - لماذا تنظر إليَّ هكذا؟
توفيق - هذا الجمال. . .
شهرزاد - (لقمر) أرأيت يا قمر! انك قد جئتني آخر الليل بمُعْجَب مفتون.
قمر - (لتوفيق) ماذا جئت تصنع هنا أيها الرجل؟
توفيق - (همساً) لست أدري. . . (يعود فيتأمل شهرزاد)(55/11)
شهرزاد - أرجو منك ألا تطيل النظر إلى هكذا.
توفيق - مولاتي! لا أستطيع.
شهرزاد - أين الجلاد؟
توفيق - خير لك أن تأمري بي فتطاح رأسي من أن تطلبي إلى ألا أعجب بك.
شهرزاد - أتراني حقَّا جميلة؟
توفيق - نعم.
شهرزاد - إن لي جسداً جميلاً! أليس لي جسد جميل؟
توفيق - ليس الجسد وحده.
شهرزاد - اقترب.
توفيق - كلاَّ.
شهرزاد - لماذا؟
توفيق - (يشير إلى الحوض) هذا الحوض. . .
شهرزاد - أيخيفك هذا الحوض؟
توفيق - أخشى أن تزل قدمي فأسقط وأنا لا أحسن السباحة. . .
شهرزاد - انه قليل الغور
توفيق - لا شيء عندك قليل الغور.
شهرزاد - (تتفرس فيه) عجباً! انك تتكلم كما يتكلم شهريار! من أنت؟
توفيق - خادمك توفيق الحكيم.
شهرزاد - أتعني أنك صاحب توفيق أم أنك صاحب حكمة؟
توفيق - لا هذا ولا ذاك، ولكنه اسم من الأسماء.
شهرزاد - وما صناعتك؟
توفيق - أؤلف القصص.
شهرزاد - مثلي؟
توفيق - لم أيلغ شأوك. وليس لي ذكاؤك ولا خيالك.
شهرزاد - انك تسرف في إطرائي وتبخس قدر نفسك.(55/12)
توفيق - قدر نفسي؟ وما أدراك به؟ وهل عرفت لي قصصاً على الأقل أيتها الملكة؟
شهرزاد - كلاَّ. ماذا صنعت من القصص؟
توفيق - قصة (شهرزاد)
شهرزاد - (في عجب) أنا؟
توفيق - نعم أنت.
شهرزاد - متى صنعتها؟
توفيق - ليس يعني الزمن الذي صنعت فيه.
شهرزاد - أصنعتها في الماضي؟
توفيق - بل في المستقبل.
شهرزاد - فهمت. هذا الزي العجيب. . .
توفيق - نعم. إني أهبط إليك الساعة من المستقبل الذي أعيش فيه لألقاك في الماضي الذي فيه الآن تعيشين كما يهبط الطائر من الشمال إلى الجنوب في غابة متسعة الأرجاء.
شهرزاد - يا للعجب! كلامك هذا يذكرني بشهريار.
توفيق - أترين هذا؟
شهرزاد - لكنك أهدأ نفساً منه.
توفيق - نعم، الآن.
شهرزاد - (تنظر إليه ملياً) إني أعجب كيف أن القدر لم يجمع بيننا قبل الآن؟
توفيق - لقد جمع بيننا دائماً.
شهرزاد - أين؟
توفيق - (يشير إلى قلبه) هنا.
شهرزاد - (في عجب تشير إلى قلبه) هنا؟
توفيق - نعم. ومن هنا خرجت أنت إلى الوجود. فما أنت إلا صنع النار والنور الكائنين هنا (يشير إلى قلبه)
شهرزاد - هذا جميل.
توفيق - أرأيت من أي مادة أنت مصنوعة يا مخلوقتي العزيزة!(55/13)
قمر - (يتململ) من هذا الرجل!
توفيق - صه أيها الوزير. فكر في شأنك أنت، ودعني فيما أنا فيه. فما جئت الليلة إلا من أجل شهرزاد.
شهرزاد - جئت من أجلي؟
توفيق - نعم.
شهرزاد - وماذا تريد مني؟
توفيق - أريد أن أعيش إلى جانبك.
قمر - (في غضب وهياج) أيها الرجل! من أنت أيها الرجل؟
توفيق - أنا كائن أشقى منك حالاً.
شهرزاد - (باسمة لتوفيق) لماذا؟
توفيق - لأني أشعر ببرد الوحدة يكتنفني في تلك السماء ذات السحب.
شهرزاد - ويل للمبدعين.
توفيق - صدقت، أَجل يا شهرزاد لو لم يعش المبدع في مخلوقاته لقتله برد الوحدة.
شهرزاد - تريد إذن أَن تهبط إلى الأرض.
توفيق - لقد قلتها يا شهرزاد. لا شيء غير الأرض؟
شهرزاد - أَين شهريار يسمع منك؟ وهو الذي هجر الأرض يريد السماء.!
توفيق - لا تخشى عليه من بأس. سوف يعود إليك.
شهرزاد - متى؟
توفيق - يوم يعلم أَن السماء في الأرض.
شهرزاد - يا هذا. أريد منك شيئاً. . .
توفيق - ماذا؟
شهرزاد - أَمنحك قبلة.!
توفيق - تمنحينني قبلة؟
شهرزاد - نعم.
توفيق - وهبتها قمرا.(55/14)
قمر - (في استنكار) مولاي!
توفيق - خذها أَيها الأبله. من ذا يرفض قبلة من شهرزاد؟
قمر - (يخرج سريعاً). . .
توفيق - هرب الأحمق.
شهرزاد - (تنظر إلى توفيق ملياً) عرفتك أَخيراً.
توفيق - (باسما) أَعرفتني؟ من أَنا؟
شهرزاد - أَأَنت هو؟ أَم أَنك تعيش فيه؟
توفيق - من هو؟
شهرزاد - شهريار!
توفيق - صه. لست أَدري. . . لست أَدري. . . هذا سؤال لا ينبغي أَن يوضع. ولا ينبغي أَن يلقى عليّ.
شهرزاد - إذن ارتفع. فما أَنت إلا شبح من الأشباح.
توفيق - شبح من؟
شهرزاد - شبح شهريار.!
توفيق - لا تقولي هذا. إنما هو الشبح وأَنا الحقيقة.
شهرزاد - أَمام الأبد هو الحقيقة التي ستبقى وهو خالقك وهو مخلدك، وما أَنت إلا خيال سوف تتبعه صاغراً على مرّ الأيام. وان ذكر اسمك على الدهر فإنما يذكر خلف اسمه. انك تزعم الآن أنك صانعنا ومبدعنا أَمام ذلك الزمن المحدود، وإنما نحن في الحقيقة صانعوك ومبدعوك في الغد أَمام الخلود. . .
توفيق - ويل لي.
شهرزاد - ماذا بك؟
توفيق - أأنا عنك شبح؟ تلك هي السخرية الكبرى! في وحدتي ينخر في نفسي الشك. فإذا هبطت بينكم ألتمس اليقين علمت إني شبح لا حقيقة. وإني وليد صنعكم أنتم أمام الدهور.
شهرزاد - كل شيء يصنع كل شيء. . .
توفيق - نعم.(55/15)
شهرزاد - ليس هناك إلا حقيقة واحدة.
توفيق - ما هي؟
شهرزاد - أننا جميعاً لسنا حقيقة.
توفيق - وأَنا معكم.
شهرزاد - وأَنت معنا لا فرق بينك وبيننا.
توفيق - (بعد لحظة) صدقت! ولا أَمل لي مع ذلك في أَن أَعيش إلى جانبك.
شهرزاد - اليوم كلاَّ.
توفيق - ومتى إذن؟
شهرزاد - في الغد، يوم تصبح من مادتنا، لو أَن لنا اليوم مادة.
توفيق - فهمت. وداعاً يا شهرزاد.
شهرزاد - إلى الملتقى!
توفيق الحكيم(55/16)
3 - من روائع عصر الأحياء
حياة بنفونوتو تشلليني مكتوبة بقلمه
مثل عال للترجمة الشخصية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
زج بنفونوتو تشلليني إلى غيابة الحصن الرهيب (حصن سانت انجيلو) مرة أخرى، وهو كسير الساق، طريح الفراش وألقي في تلك المرة إلى غرفة مظلمة ضيقة رطبة، تتمثل فيها روعة الأسر، ورهبة العدم؛ وشعر أن لهب حياته يخبو، فانكب على قراءة الكتاب المقدس استعداداً للقاء ربه؛ ولكنه بعد أن لبث أياماً في قراءته، شعر أن قبساً جديداً يضئ حياته، وتولاه نوع من السكينة المعنوية وصفاء النفس؛ ويصف لنا تشلليني ذلك التطور النفسي الغريب الذي حقق له خلال الألم المبرح نوعاً من السعادة، وحوّله من فتى مضطرم الأهواء والنزعات، إلى شبه قديس يتجرد بعواطفه نحو الملكوت الأعلى، لا يذكر شيئاً من ملاذ هذا العالم وحواسه؛ ويقص علينا في عدة صحف شائقة حوادث حياته في ذلك الظلام الدامس، وكيفعرضة للأحلام الروحية البديعة، ويبدو تشلليني في هذا الوصف كاتباً بارعاً، في بيانه كثير من القوة والسحر؛ والمحن تطلق البيان والشاعرية؛ أجل، وغدا تشلليني شاعراً أيضاً، يكتب فوق الصفحات البيضاء من (توراته) أبياتاً من الشعر الصوفي، ويشتغل بوضع قصيدته الكبيرة (الكابيتولو) في وصف السجن ومديحه، ووصف ما عانى من ألم، وما آنس من سعادة نفسية
ثم توفي محافظ الحصن، صديقه القديم الذي كان يرعاه ويجتهّد في تخفيف محنته وخلفه أخوه في منصبه. وكان البابا كلما خطر له أن يطلق تشلليني من أسره تدخل ولده السنيور بيرلويجي وحال دون قصده. وكان خصوم تشلليني يودون موته بأي الوسائل، وكان السم بالطبع أيسر وأنجح الوسائل التي تستعمل في هذا العصر الفياض بالجريمة والغدر. وعلى ذلك عهد أحد رجال البطانة إلى أحد حراس السجن أن يضع شيئاً من مسحوق الماس في طعام تشلليني، وعهد بسحق الماس وإعداده إلى صائغ من أريزو؛ وقدم الطعام المسموم إلى تشلليني فأكله، ولكنه لاحظ في النهاية ذرات تلمع في أحد الصحون، فخفق قلبه، واعتقد(55/17)
بعد فحصها أنها ذرات الماس القاتلة. يقول: (فأيقنت عندئذ بأني هالك، وامتزج الحزن والإيمان في قلبي حينما هرولت إلى الصلاة. ولبثت مدى ساعة أواجه الموت المحقق، وأضرع إلى الله، وأشكره على أن هيأ لي هذا الموت الهين، وشعرت برضى عميق، وباركت العالم والزمن اللذين عشت فيهما؛ والآن فإني أعود إلى أرض أفضل برعاية الله التي أيقنت إني كسبتها). ولكن أملاً غامضاً في الحياة حمله على أن يتأمل الذرات اللامعة مرة أخرى، وأن يفحصها بواسطة مدية صغيرة، فانتهى بعد فحصها وسحقها إلى أنها لا يمكن أن تكون من الماس، وأنها مسحوق مادة لامعة أخرى لعلها لا تؤذي الحياة. والظاهر أن الصائغ الذي عهد إليه بسحق الماس قد طمع فيه واستبقاه لنفسه واستبدله بهذه المادة. وعلى أي حال فقد نجا تشلليني من هذه المحاولة، واستمر أياماً يرفض الطعام الذي يحمل إليه ما لم يذقه أمامه حارس السجن
وقضى ربك أخيراً أن تختم المأساة المروعة وأن يطلق سراح البريء. ذلك أن الكردينال دي فرارا مبعوث فرانسوا الأول ملك فرنسا قدم إلى رومة لمفاوضة البابا في بعض الشئون، وانتهز هذه الفرصة فالتمس من قداسته أن يفرج عن تشلليني، وأن يسلمه إليه، منوهاً باهتمام ملك فرنسا بأمره، فاضطر بولس الثالث أن يجيب ملتمسه، وأوفد رسوله في الحال إلى الحصن مع كبيرين من حاشية الكردينال، وأفرج عن تشلليني، وأخذ إلى الكردينال دي فرارا، فاستقبله بترحاب، وأنزله بقصره. فلبث به مدى حين ينفض عنه عثار السجن، ويستجمع قواه الذاهبة، ويستعيد مواهبه التي كادت أن تخبو. ولما انتعشت نفسه، عاد فانكب على عمله المحبوب، وأخذ يشتغل بطائفة من الأواني والتحف التي عهد إليه الكردينال دي فرارا بصنعها. ولما أتم الكردينال مهمته في رومة اعتزم السفر إلى فرنسا، فسار تشلليني في ركبه مع فتاه اسكانيو وزميل له يدعى باجولو، وسبفه الكردينال إلى فرنسا، وتخلف هو حيناً في فلورنس وفيرارا، ثم كتب إليه الكردينال ليوافيه إلى باريس، فسار إليها مع عامليه، ولم يكن راضياً عن معاملة الكردينال له من الوجهة المادية، ولكنه لم يستطع التخلف قياماً بحق الوفاء والعرفان لأنه هو الذي أنقذه من إسار السجن. ووصل إلى باريس، ثم سار إلى فونتنبلو حيث كان يقيم الملك وبلاطه، وهنالك لقي الكردينال، فأكرمه وأنزله منزلاً حسناً، ثم استقبله الملك فرانسوا الأول بترحاب وأغدق(55/18)
عليه عطفه، وقدم إليه التحف والحلي التي صنعها لحسابه، فأعجب بجمالها ودقتها وهنأه على براعته، وعهد إليه بصنع تحف أخرى، وأقطعه منزلاً للعمل والإقامة، وأجرى عليه راتباً حسناً. وهنا يفيض تشلليني كعادته في وصف التحف التي عهد إليه ملك فرنسا بصنعها والزخارف التي وضع نماذجها لبعض أبواب قصر فونتنبلو، ثم يصف لنا حياته اليومية في عاصمة فرنسا. وكانت كالمعتاد حياة عاصفة مليئة بالشجار والمنازعات، وكان قد اتخذ له صاحبة جديدة، هي فتاة فرنسية تدعي كاترينا، تشتغل لديه كنموذج فني، فكانت هذه العلاقة مثاراً لعدة منافسات وفضائح غرامية يصفها لنا تشلليني بصراحته المعروفة. ويقص علينا كيف فاجأ ذات يوم فتاه باجولو متلبساً بالخيانة مع كاترينا، وكيف تسممت بينهما العلائق من أجل ذلك، وطرد الفتاة الخائنة وصاحبها، ثم انتهى بأن رتب لهما انتقاماً جهنمياً هو أنه عقد زواجهما بالإكراه، وسيفه معلق على رأسيهما ثم عاد بعد ذلك فاستخدم كاترينا نموذجاً وخليلة لكي يذل بذلك أنف عامله السابق باجولو، وكيف أنه استخدم بعد ذلك فتاة أخرى، وأولدها طفلة ثم صرفها مع طفلتها بشيء من المال، ولم يرهما بعد ذلك قط
ولبث تشلليني في خدمة ملك فرنسا حيناً من الدهر، ولكنه لم يحظ بعطف الدوقة دتامب صاحبة الملك، وكانت تستأثر يومئذ بالنفوذ في البلاط، وأنفت نفسه من أن يترضاها بوسائل لا تتفق مع كبريائه، فلبثت من جانبها تدس له لدى الملك وتخلق الصعاب في وجهه. ولكن الملك أعرض عن تحريضها حيناً، وعهد إلى تشلليني بأعمال فنية كبيرة منها تماثيل فضية عديدة، وأحواض زهر، وباب برنزي وغيرها، وأدى الفنان هذه الأعمال كلها ببراعته الفائقة، وأعجب بها الملك أيما إعجاب. وأخيراً شعر تشلليني بأن عطف الملك قد فتر، وعاف هذه الحياة المضطربة الفياضة بالأحقاد والدس، فاستأذن في السفر، وذهب إلى الكردينال دي فرارا يلتمس إليه العون في العودة إلى وطنه، فأجاب ملتمسه، وغادر فرنسا غير آسف على فراقها، ووصل إلى إيطاليا بعد رحلة شاقة، وقصد إلى مدينة فلورنس مسقط رأسه، وكان ذلك في صيف سنة 1445. وبعد أن أقام أياماً إلى جانب أسرته، سعى إلى لقاء الدوق كوزيمو دي مديتشي أمير فلورنس، فاستقبله بترحاب وعهد إليه بصنع تمثال (لبرسيوس) وتمثال نصفي له، وقضى حيناً في خدمته، ولكن سوء تفاهم وقع بينه وبين الدوقة زوج الأمير، حمله على مغادرة فلورنس، وعندئذ سافر إلى البندقية وأقام بها(55/19)
حيناً ثم سافر إلى رومة وزار هنالك ميشيل أنجلو المهندس والفنان الخالد، وكان يومئذ يعني ببناء كنيسة القديس بطرس وزخرفتها، ليفاوضه في بعض المسائل الفنية. ثم عاد إلى فلورنس، بعد أن عاد التفاهم بينه وبين الدوق، واشترى هنالك ضيعة صغيرة بما اجتمع له من المال، واستقر هنالك منكباً على تحفه وتماثيله
وهنا ينتهي ما كتبه بنفونوتو تشلليني عن حياته. وقد كتب تشلليني هذه الصحف بين سنتي 1558 و1566، ولكنه يقف فيها عند سنة 1562. وكانت أوصاب الشيخوخة قد دهمته يومئذ، وذهبت بذلك العزم المضطرم الذي كان يلتهب أبدا؛ وملك تشلليني سحر القلم فكتب في ذلك الحين أيضاً قصته (تراتاتي) يكرر فيها القصة القديمة المعروفة بذلك الاسم. وليس في حياته ما يستحق التدوين يومئذ غير زواجه سنة 1565، وهو في الخامسة والستين من خادمته بيرا دي سلفادوري، تزوجها عرفاناً بما قدمته في خدمته أثناء مرضه من الغيرة والإخلاص، ورزق منها بولدين هما أبنه أدريا سيموني، وأبنته مادلينا، وتبنى أيضاً أبناءها من زوجها الأول. وتوفي الفنان الكبير في 13 فبراير سنة 1571، بمنزله في فلورنس، ودفن باحتفال فخم، وخبت تلك الحياة التي لبثت سبعين عاماً تملأ ما حولها حركة ونشاطاً واضطراما.
هذه خلاصة لذلك المجلد الضخم الذي تركه لنا بنفونوتو تشلليني عن حياته الغريبة الحافلة. وإذا كان تشلليني قد عُدّ من أقطاب الفنانين في عصر الأحياء، فانه يرتفع بأثره إلى صف أقطاب كتاب هذا العصر. ولم يكن تشلليني كاتباً كما قدمنا، ولم تهيئه تربيته الساذجة، ولا حياته الشريدة المضطربة لمعالجة الكتابة؛ ولكن البيان هبة الطبيعة؛ وقد كان تشلليني أبن الطبيعة، وهبته كثيراً من خلالها الباهرة؛ فكان القلم في يده يدون به حوادث حياته، كالريشة يرسم بها نماذج تحفه. وليست روعة ترجمة تشلليني في هذا البيان القوي الساذج الساحر فقط، ولكنه أيضاً في تلك الصراحة الخشنة التي يحدثنا بها تشلليني، وفي تلك البساطة الرائعة التي يكشف لنا بها عن دخائل نفسه. ويقول لنا تشلليني في الخطاب الذي يوجهه إلى صديقه بنديتو فارشي بشأن ترجمة أنه لم يكتب إلا ما وعته الذاكرة من حقائق حياته. يقول: (والواقع أنني لم أكتب سوى الصدق، وقد أغضيت عن كثير من الحوادث العجيبة التي كان غيري يعطيها أهمية خاصة. ذلك أن لدي شئوناً عظيمة كثيرة أقصها،(55/20)
وقد تركت كثيراً مما هو أقل أهمية منها لكي لا يفيض بي القول فأخرج مجلداً ضخماً جداً). ولم ينته إلينا قبل تشلليني أو بعده أثر كأثره يمتاز بتلك الروعة والصراحة والحقائق المدهشة، وإن كانت هنالك ثمة تراجم شخصية عديدة غربية وشرقية ترتفع إلى ذروة البيان والطرافة الأدبية. وقد أشرنا فيما تقدم إلى ما بين ترجمة تشلليني و (اعترافات) جان جاك روسو من وجوه الشبه والتباين، وأخصها أن جمال ترجمة تشلليني مستمد بالأخص من روحه التي تكاد تمثل في كل صفحة من صفحاته؛ أما جمال الاعترافات، فهو مستمد على الأغلب من السحر الذي يسبغه بيان روسو وقلمه على حوادث حياته. وفي رأينا أن ترجمة تشلليني تتفوق من ناحية الفن والطرافة والروعة على اعترافات روسو؛ وعلى أي أثر غربي آخر من نوعها.
ولدينا في العربية أثر هام من نوع التراجم الشخصية القوية. ذلك هو ترجمة المؤرخ الفيلسوف أبن خلدون لنفسه، وهي المشهورة (بالتعريف). فقد دوّن أبن خلدون حوادث حياته في مجلد خاص في أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر، أعني قبل أن يكتب تشلليني ترجمته بقرن ونصف؛ و (التعريف) ترجمة شخصية، ولكن الحياة السياسية العاصفة التي خاض أبن خلدون غمارها والتي يقصها علينا في هذا السفر، تسبغ على (التعريف) لون التاريخ العام؛ ذلك أبن خلدون ضنين علينا بمواطن الإفضاء الشخصي التي تملأ ترجمة تشلليني، وهو يؤثر دائماً أن يدون من حوادث حياته ما يرتفع إلى أهمية الحياة العامة وحوادث التاريخ؛ بيد أنه يحدثنا أيضاً عن نفسه وعن خلاله، ولا يتردد في الافضاء بكثير مما لا يحسن الإفضاء به، لا عن حياته الداخلية ولكن عن حياته العامة. وفي تعريف أبن خلدون، كما في ترجمة تشلليني عنصر القصة الشائقة لحوادث حياة حقيقية. فان فيلسوفنا يصف لنا في تعريفه كيف يجوز من قصر إلى قصر، ويتعرض لمخاطر النقمة والاعتقال والمطاردة، ويسير في ركب الجند، ويمثل إلى جانب أميره في المعارك الحربية، ويقوم بقضاء المهام الخطرة في أعماق الهضاب والصحاري. ونراه في دمشق في السبعين من عمره يجوز مخاطر جديدة، وينزل من أبراج المدينة المغلقة مدلى بحبل ليقصد إلى معسكر الفاتح التتري تيمورلنك، وغير ذلك من الحوادث الغريبة الشائقة. والواقع أن هنالك شبهاً عظيما بين ترجمة أبن خلدون وترجمة تشلليني مع اختلافهما في(55/21)
النوع، فكلتاهما تفيض بمواطن الجرأة والمخاطرة ومواطن الإفضاء والصراحة. وإذا كانت ترجمة الفنان الإيطالي تعتبر في الأدب الغربي نموذجاً بديعاً للترجمة الشخصية، وقطعة رائعة من العرض الساحر والقصص الشائق، فان (تعريف) أبن خلدون يتبوأ مثل هذه المكانة في أدبنا العربي.
ولأثر تشلليني فوق ذلك أهمية تاريخية، فهو يصور لنا كثيراً من ألوان الحياة الاجتماعية في عصر الاحياء، وهو عصر تطور عظيم في تاريخ الإنسانية؛ وفيه وصف شائق لكثير من أحوال البابوات وبذخهم وقصورهم، ووصف لأخلاق الأحبار ودسائسهم واستغلالهم لطبقات المجتمع الأخرى، ووصف لأحوال الجمهوريات الإيطالية في ذلك العصر وأمرائها وسادتها؛ والخلاصة أنه يلقى أكبر الضياء على تاريخ عصر من أهم عصور إيطاليا، وعصر يعتبر بحق فجر التاريخ الحديث. وفي رأينا أن كتاب تشلليني من أجدر الآثار الغربية وأحقها بالترجمة العربية؛ وقد ترجم فعلاً من الإيطالية إلى جميع اللغات الأوربية؛ فعسى أن يتقدم بعض شبابنا المثقف فيتحفنا بترجمة عربية بديعة لذلك الأثر البديع.
(تم البحث)
محمد عبد الله عنان المحامي(55/22)
2 - الامتيازات الأجنبية والضرائب
للأستاذ زكي دياب المحامي
يرى بعض الشراح أن إعفاء الأجانب من الضرائب التي تفرضها الحكومة المصرية قائم على اتفاقات دولية، وهم في زعمهم خاطئون. وآية ذلك أن الاتفاقات الخاصة بالامتيازات كانت ترمي إلى إعفاء الأجانب الكيدية، وخصوصاً ضريبة الرأس وهي ما تقضي قواعد الشريعة المطبقة في الدولة العلية حينذاك بأن تجبى من كل أجنبي يقيم أكثر من سنة في بلد إسلامي. وكانت تعتبرها الشريعة أيضاً نوعاً من الجزية، فضلاً عن أن في دفعها مظهراً للاستبداد والتعسف المالي. هذا ويلاحظ أنه وإن كانت هذه الاتفاقات تحمي الأجانب من حملة المكايد إلا أنها لم تعفهم إعفاء مطلقاً من الضرائب بكافة أنواعها. وقد كان الأجنبي منظوراً إليه بعين الكراهية لنزعته الدينية، وبدراسة نصوص الاتفاقات الفرنسية والإنجليزية يظهر ذلك جلياً. على أنه وإن كانت الاتفاقات الفرنسية تعفي الأجانب من فرائض صغيرة فيها شيء من التعسف، فان ذلك الوضع لا يمنع من فرض ضرائب معروفة لدى الدول المتمدينة، فالهوة سحيقة بين الجزية القديمة التي كانت تفرض من جانب الظافر على المهزوم وبين الضرائب التي تفرض في الدول الحديثة.
وترى الأوساط الأجنبية هنا وجوب الإعفاء من كل تلك الضرائب، ضريبة الأراضي العقارية والرسوم الجمركية، ويرد على هذا بأن العامل الوحيد الذي حدا بالدول إلى طلب هذا الامتياز والحرص عليه هو وضع الأجانب في مأمن من تيار الضرائب الكيدية التي كان يفرضها الحكام في ذلك الوقت بدليل أن نص الاتفاقات لا يتضمن إعفاء عاماً للأجانب، فالدول في الواقع كانت تقصد حماية رعاياها من حيث طريقة جباية الضريبة ولكنها لا تعارض في فرضها. وما دامت قد ذهبت العلة فلا داعي لبقاء المعلول. فدوافع الكيد معدومة.
ولا غرو فمبدأ المساواة في تحميل الضرائب قد حبذته لجنة التحقيق في بيانها سنة 1878. وهي مؤلفة من أجانب عينوا بعد مفاوضات مع الدول. أليست هذه حجة قوية؟ وأليست هذه شهادة شهود من أهلها؟
وفي مؤتمر لندن سنة 1885 أكدت الدول بصراحة رغبتها في المساواة، ورأت من العدل(55/23)
إخضاع الرعايا الأجانب القاطنين بمصر لنفس الضرائب التي يخضع لها المصريون. . وقبلت (الدول) تنفيذ ديكريتو سنة 1884 الخاص بالضرائب على أراضي البناء فسرى على الأجانب والمصريين كما سبق القول. وفي قرارات ذلك المؤتمر الخطير حجة لنا دامغة لا يأتيها الباطل من بن يديها ولا من خلفها.
وفي مستهل القرن العشرين استنكرت الشخصيات الكبيرة المعروفة في عالم السياسة نظام الامتيازات في مصر فصرح اللورد ملنر في كتابه أو (إنجلترا في مصر) بأن إعفاء الأجانب من الضرائب في القطر المصري من المنح التي خلقتها الامتيازات بدون وجه حق، وفي عبارته التالية مبلغ ذوده عن رأيه الحكيم:
'
وأعرب لورد كرومر بأنه لا يتردد في القول بأن النظام المعروف بالامتيازات في مصر لا يتفق إطلاقاً وحالة مصر الحاضرة:
' , ' ' , '
وبعد، أليس من الجور في أخص صورة أن مصر وقد خطت في سبيل المدنية الصحيحة والتقدم خطوات لم تنكرها عليها الدول؟ أليس من الجور أن مصر هذه إن أرادت فرض ضريبة جديدة تستعين بها على ما تقوم به من أعمال كبار أن تلجأ إلى اثنتي عشرة دولة تلتمس موافقتها. إنه مظهر من مظاهر قصور السيادة، وجرح لا يندمل في صميم العزة القومية.
ومن ذلك ما حدث خلال المدة التي أعلنت فيها الأحكام العرفية على البلاد، إذ جرت السلطة العسكرية على إصدار أوامر تسري على الوطنيين والأجانب سواء بسواء، وكان بين هذه الأوامر ما يتعلق بفروض مالية قبل الأجانب، والوطنيون يحملونها. فلما ألغيت الأحكام العرفية أثار إلغاؤها دفائن العصيان المدني لأوامر الحكومة المصرية، فامتنع أكثر الأجانب عن دفع ضريبة الحفر، وأشار بذلك بعض القناصل وعللوا الامتناع بأن دولهم لم توافق عليها. وما كانوا ليقولوا كلمة وقت أن فرضتها السلطة العسكرية.
ومجمل القول أن نظام الضرائب في مصر جد متناقض، وعلة ذلك نظام الامتيازات العتيق والتوسع الضار الذي خلقه العرف السائد الآن والقواعد القديمة البالية، والأوضاع الكيدية(55/24)
المهينة التي صورتها الامتيازات. وهل ترى من العدالة أن الأراضي الزراعية وجلها في يد المصريين تثقل بالضرائب حتى لتكاد تستغرق الإيراد، أما التجارة الواسعة وهي في يد الأجانب، والصناعة الممتازة المكسبة، والمصارف الكبرى وكل ذلك في يدهم، فمعفى من الضرائب.
وأخيراً فلا تردد في إبراز الحقيقة نيرة في سطور معدودة ذلك أن قيام الأجانب متمسكين في وجه مصر بامتيازاتهم كلما حاولت الحكومة المصرية السعي لإلغائها أو تخفيف وطأتها سيكون له من الأثر الخطير ما يقرب أجل الامتيازات، لأن الحال على ما هي عليه لن تدوم طويلاً ولابد لمبادئ العدالة أن تسود يوماً ما.
(تم البحث)
زكي دياب(55/25)
الذكرى
للأديب حسين شوقي
مضى عام كامل منذ أن رافق (س) رفاتها إلى المقرّ الأخير، فرأى أن يزور القبر بهذه المناسبة وأن يضع على الضريح طاقة من البنفسج، لأنها كانت تحب هذا الزهر الذي طالما لاحت زرقته في إنسانيْ عينيها، ثم قصد إلى محل الشاي حيث اعتاد مقابلتها لدى خروجها من عملها، وجلس إلى المائدة التي كانت تجلس إليها وهي تنتظره في شغف وسرور. . ثم أقبل الخادم وكان هو بعينه الذي خدمهما في العام الماضي، فحياه (س) كالعادة في لطف ودعة، ثم طلب الطلب نفسه: قدحْين من الشاي، فدهش الخادم لأن الرجل لم يكن معه أحد، ثم أخرج (س) مجموعة من الرسائل التي علتها صفرة القدم ثم أخذ يتلوها واحدة واحدة للمرة المتمّمة للمائة، ولكن كان يجد فيها دائماً لذة جديدة كأنها لحن من ألحان ديبوسي الشجية التي لا تملها النفس أبداً. .
ها هي ذي ذكريات الماضي ماثلة أمامه: مقابلاته الأولى مع محبوبته، رحلاتهما، نزهاتهما، نوادرهما، جلساتهما في هذا المكان نفسه، تناولهما الشاي في هذه الساعة نفسها، كل ذلك كان يحسّ وجوده، حتى المحبوبة خيل إليه أنها بجواره. . كان يشعر بلذّة عظيمة من أجل هذا، لقد أتى عملاً يعدّ من معجزات الرسل إذ تحدّى الفناء وعلا سلطانه فوق سلطان الدهر، ولو إلى زمن قصير!
مضت ساعة، فساعة ولم يحضر أحد. . وكان الخادم يرقبه فظن أن الرجل ضحية خيبة أمل من عشيقة. . ولكن على حين فجأة تذكر قصة هذا الرجل ففهم الحقيقة المؤلمة لما كان يبدو على (س) من مظاهر اليأس المتجلد، فخجل من نفسه وأشفق على الرجل شفقة عظيمة، كما أعجب من تحدّيه للموت ومن وفائه لمحبوبته المتوفاة، ثم اقترب منه ومد إليه يده معتذراً لسوء ظنه قائلا: آسف جداً يا سيدي لقد شككت في وفائك، سامحني! فصافحه (س) في حزن وألم مردداً: لا بأس لا بأس. . وكأنه أفاق من حلمه الجميل فعاد إلى عالم الألم والشقاء، يئن تحت سلطان الزمن.
حسين شوقي(55/26)
رأي عربي مسيحي في محمد
محمد والعرب
قصيدة في ذكرى مولد الرسول
بقلم وصفي قرنفلي
توطئه
عقيدتي الشخصية، أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول كبقية الرسل، وكما جاز للمسيحيين أن يجمعوا للمسيح (ص) صفتيْ الألوهية والإنسانية الممتازتين، فقد يجوز لي أن أرى في سيّد قريش نبياً دينياً ومنقذاً قومياً في آن واحد. فأنا أحترمه (ص) كنبي جاءنا بالهدى والرجمة، وانضوى إلى لوائه كمنقذ الشرق من إسار الفرس والرومان، وأنا أرى في الدين الإسلامي قوة للشرق في جهاده يجب استغلالها، وإذا لم يكن للقرآن من يدٍ إلا صيانة لغتنا - واللغة أجلّ مظاهر القومية - لكفاه ذلك فضيلة تحمد، ويداً تشكر.
فاعترافاً بفضل محمد وقرآنه على العرب والعربية كتبت ما كتبت، وأكتب من طوال الفصول في جرائد الفتح في (مصر) والاعتصام في (حلب) والرابطة في (دمشق) وسواها من الصحف الإسلامية، عدا رسائلي وقصائدي القومية في بقية الصحف العربية
وفي سبيل محمد وقرآنه لقيتُ وألقى ما أكابد من عَنَتِ الجهل وسخر رجاله، فُحبيتُ (الرياء) وساماً، ورُميت بالكفر والضلالة، وقيل إنني أداري الأكثرية فأصانع المسلمين، وأني حزب القوة أنّى كانت القوة، وكان أشد أولئك الغاضبين عنَتاً وغيظاً، كهل مسيحي يدعى (سمعان) قرأ لي مقالاً في (الجزيرة) فهزّه الغضب حتى لقد همّ بى لو استطاعني، ولكني هزأت به وترفعت عن خصامه، فالى (سمعان) هذا ومن أخذ أخْذَهُ صرفتُ وجه الخطاب في مستهل القصيدة.
إنني مسيحي كما يحب (سمعان) أن أكون، ولكني لا أرى في مسيحيتي ما يمنعني عن الاعتراف بهدى محمد ويده على الإنسانية والعرب!
ولعل الضلالة كل الضلالة أن نحصر الفضيلة والهدى في دين من الأديان، فلكل دين ميزاته، ولكل دين فضائله، ومرجع كل دين إلى الله (ولله ما في السموات وما في الأرض،(55/27)
والى الله تُرجع الأمور)
القصيدة
قد يقولون (شاعر نصراني ... يُرسل الحبَّ في كذاب البيانِ)
(يتغنى هوى الرسولِ ويهذي ... بانبثاق الهدى من القرآن)
(ينتحي الجبهة القوية يحدو ... ها رياءً، والشعر (لا وجداني)
(قسماً بالمسيح، لو قام للشيطا ... ن حزب، أشاد بالشيطان.)
كذبوا والرسولِ، لم يجر يوماً ... - بخلاف الذي أكنّ - لساني
ما تراءيت بالهوى، بل سقاني ... طائفُ الحبّ والهوى ما سقاني
أوَ عارٌ على فتى يعربيٍ ... أن تغنّى بالسيد العدنانى؟
أوَ ليس الرسول منقذَ هذا (م) ... الشرق من ظلمة الهوى والهوان؟
صاح بالشرق واستثار بنيه ... فتنادوا بالفرس والرومان
ومشوا للحياة تحت رايته السم ... حاءِ صفّاً موطَّد الأركان
وبنوا مجدنا المؤثّل صرحاً ... من نِثار العروش والتيجان
وأتوا قمة الزمان فكانوا ... سادة الأرض في شباب الزمان
أَفكُّنا لولا الرسول سوى العب ... دان؟ بئست معيشة العُبدان!
أو ليس الوفاء أن تُخلص المن ... قذ حباً إن كنت ذا وجدان؟
فالتحيات والسلام أبا القا ... سم تُهدى إليك في كل آن
قلْ (لسمعان) إن ما في عروقي ... عربي، وأن ما في لساني
أتغنى بالحق، والحق يا صا ... ح لا مسلم ولا نصراني
إنما الشاعر الذي أنا منه ... فوق ذاك الارتجاف والبهتان
قد تعالى عن الرياء بريئاً ... من هوى الشيخ أو هوى المطران
كلُّ هذي الأديان - لو عقل النا ... س - سبيل هادٍ إلى الرحمن
أخذته الغاياتُ فانشعب السي ... رُ وضلت قوافل الركبان
فاذا الناس في مريج من الأم ... ر حيارى مشلولة الأذهان
يترامون بالكبائر والاث ... م ويمضون طيّة الأضغان(55/28)
أيها الناس! ما أتى الرسل للتف ... ريق لكن لوحدة الإنسان
كلنا مسلمون لله، فحتا ... م الترامي بالكفر والإيمان؟
كلنا صائرون لله يوماً ... (يوم تنشق وردة كالدهان)
أتدينون بعضَكم؟ مَن حباكم ... أيها الناس سلطة الديان؟
فاتقوا الله! واتركوا الأمر لل ... هـ، وخلّوا ضلالة الكهّان
أم نراكم علمتم الغيب فأصدر ... تمُ إذ أصدرتمُ عن عيان؟
فقذفتمْ في زيداً وبوّأ ... تُم عميراً مقصورة في الجنان
جلّ سبحانه عن الشرك في الرأ ... ي وعلم المصير والسلطان!
منقذ الشرق! قد أتيناك نشكو ... ضيعة الحق وانخذال الأماني
فاحي فينا ميْتَ العزائم وابعث ... نائرات الهدى ودُرس المباني
قد أضعنا ذاك التراث وضِعنا ... في شعاب الحياة والوديان
منقذ الشرق! أنت لم تنقذ المس ... لمَ دون المواطن النصراني
فجزاء الإحسان أن ينهض الشر ... ق جميعاً بواجب المهرجان
حمص (سورية)
وصفي قرنفلي(55/29)
لماذا أخفقت جمعية الأمم في نشر السلام في العالم؟
للكاتب الإنجليزي الشهير
(ولز) من أعظم كتاب العالم اليوم، أصالة رأي وقوة بيان، يزيد كتاباته روعة نزعته الإنسانية الصادقة التي تتجلى في كل ما يكتب. لا يشاطره مكانته الرفيعة في عالم الأدب الغربي من كتاب اللغة الإنجليزية سوى (برنادشو) الكاتب الالرندي الشهير بنقده اللاذع. غير أنه يختلف عن (شو) في أنه لا يقتصر على هدم الأنظمة الاجتماعية التي يتراءى له فسادها، وإنما يكلف نفسه عناء خلق أنظمة جديدة تخلفها. فهو يهدم ليبني، وينتقد ليصلح.
من أحدث ما كتب (ولز) ومن أروع ما أنتج، كتابه (شكل الأشياء القادمة) الذي بحث فيه ما يكون عليه العالم في سنة 2116؛ فقد تصور شخصاً يعيش في هذا التاريخ، أخذ يدرس تطورات العالم الاجتماعية منذ سنة 1913، حيث انتهى ذلك التطور بحكومة عالمية يعيش فيها كل فرد سعيداً، لا استعباد فيها ولا استبداد، ولا احتكار ولا منافسة.
وليُلمّ قراء الرسالة الذين لم تصل أيديهم إلى هذا الكتاب بعض ما فيه، ترجمت فصلاً منه بالعنوان المذكور آنفاً ترجمة حرة مختصرة:
بحث في الفصل السابق لهذا الفصل معاهدة فرسايل بحثاً مستفيضاً وانتقدها انتقاداً مراً، ثم أخذ في هذا الفصل يشرح أسباب فشل جمعية الأمم كما يأتي:
(قبل أن نضرب صفحاً عن ذكر (ويلسون)، ذلك الرجل الخيالي، يجدر بنا أن نلفت الأنظار إلى العوامل التي أدت إلى فشله.
لم تكن شخصيته مكتملة للميزات الضرورية لنجاح الهدف الذي كان يرمي إليه. ولكن هذا النقص يجب ألا يجعلنا نتناسى استحالة تحقق مطمحه في ذلك الوقت.
فأنانيته الضيقة، والروح الانتقامية التي عوملت بها دول أوربا الوسطى وما إلى ذلك، جعلت من الخطر مجابهة العالم غير المستعد آنئذ بجمعية أمم.
فلم يكن في ذلك الوقت استعداد فكري كاف لقبول نظام عالمي؛ و (الحكومة العالمية) أو الحكومة الحديثة الحاضرة كانت مجرد فكرة غامضة لم تبحث جيداً. فلا ريب إذن أن وليسون تسرع في خلقه جمعية الأمم، إذ كان لزاماً أن ينتشر علم النفس الاجتماعي، وأن يطبق قبل القضاء على فوضى الحكومات الملكية واستبدالها بسلطة مركزية.(55/30)
غير أن ويلسون الذي لم يسبر غور الواجب الذي ألقي على عاتقه، ولم يحط بما يكتنفه من عقبات، رأى من غير روية ولا تبصر، انه من السهل عليه توحيد البشر. فقد حاول أن يرتق نظام ذلك الزمن البالي، وأن يجيزه كنظام جديد.
لم يحلم بتهذيب نظام النقد، ولم يفكر بالحاجة إلى انتشار النظام الاشتراكي في العالم، وانقلاب النظم التربوية انقلاباً شاملاً، قبل أن يكون في الإمكان استقرار السلام في العالم.
ولكن على الرغم من كل نقائصه يظهر أنه كان أبعد رجالات زمنه نظراً.
فجمعية الأمم هذه غير الناضجة، والعديمة الأثر، لم تساعد على توطيد السلام الدولي، وإنما على العكس من ذلك كانت حجر عثرة في سبيله؛ إذ منعت الناس أن يفكروا تفكيراً حراً في هذا الموضوع.
ومن المؤسسات التي وجدت لمساعدة جمعية الأمم وعرقلة مساعي ناقديها (جمعية الأمم البريطانية) فكانوا يقولون بأن (وجود جمعية الأمم خير من عدمه). وقد فاتهم أن البد الخاطئ أسوأ من عدمه.
في العشر سنين التي تلت الحرب العالمية لم تكن أفكار مجددة في السياسة العالمية يؤبه لها، ولم يرجع البشر إلى بحث توحيد العالم، إلا بعد أن ثبت لهم ثبوتاً لا شك فيه عدم صلاحية جمعية الأمم للغرض الذي كونت من أجله.
ظلت حركة (الحكومة العالمية) في الاثنتي عشرة سنة التي تلت تلوح وتختفي. وكان من الضروري أن تتوحد جهود محبي السلام والشيوعيين والاشتراكيين، وكل من سار على نهجهم من الذين حاولوا حل المعضلات الاجتماعية، وكانوا لا يزالون يقضون أوقاتهم في مناضلة بعضهم وفي التراشق بالتهم.
وعلى كل فقد انقضى منتصف القرن العشرين قبل أن يتسع نطاق الدعاية في العالم (للحكومة الحديثة).
نابلس
عبد القادر صالح(55/31)
1 - كتاب نهج البلاغة
بقلم محمد محمد العزازي
ذلك الكتاب المنسوب إلى فارس الفصاحة وصيقل البلاغة وإمام الخطابة، والضارب في ميدان البيان بما لم يلحقه فيه لاحق، ولا وصل إليه سابق. أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. كتاب نابه الشأن، رفيع القدر، بليغ الموعظة، صادق الحكمة، قد توفرت عليه سنين طوالاً أقرأ ما بين دفتيه مرة وأخرى وثالثة حتى بدت لي فيه آراء أردت بها تحقيق أمره. والكشف عن سره. مستنداً في بحثي إلى ما هدتني إليه الفكرة وطول المراس. . وجل الذي قيل في الكتاب كلمات مجملة. لا تشفي غليلاً ولا تقوم دليلاً، فالشيعة على أن الكتاب بجملته وتفصيله لأمير المؤمنين علي، والمنصفون من النقدة والنظار على أن فيه ما هو مدخول منحول بدعوى أنه يتعرض لبعض الصحابة بالطعن والتجريح. .
وهناك من يدعي أن الذي لعلي من القلة بحيث لا يصح أن ينسب الكتاب إليه. وعلى كل فهذه كلمات - كما قلنا - مجملة لا تشبع الباحث. ولا توقف الناظر عند حد أو تلزمه رأياً. وهذا ما يدعونا إلى بحث المسألة على ضوء العلم والأدب والحقيقة والتاريخ. والكتاب في جملته عالي الأسلوب فخم العبارة صقيل الديباجة، لطيف الروح يتحدر إلى النفس بسهولة. والذي يدور عليه الكلام في الكتاب كما يقول الرضى (أقطاب ثلاثة أولها الخطب والأوامر، وثانيها الكتب والرسائل، وثالثها الحكم والمواعظ) وهذا تقسيم حسن، والمعقول ألا يخرج كلام أمير المؤمنين عن هذا. . فأمير المؤمنين أحد رجالات الإسلام غير مدافع. وله في الفصاحة والشجاعة والفضل والنبل يد طولى. بايع أبا بكر نزولاً على حكم الإجماع. ورضى بعمر نزولاً على اختيار أبي بكر، وأخطأته الشورى بعد أبن الخطاب، ثم انتهت إليه بعد عثمان. فكان أمير المؤمنين أربع سنين وتسعة أشهر أخذ يصلح فيها ما يراه فاسداً ويجمع كلمة المسلمين ويلم شعثهم. وقد نقض بعض الصحابة بيعته فكانت حروب. انتهى بعدها الحكم إلى معاوية بعد تنازل الحسن. فكل هذا يدعو أمير المؤمنين إلى الخطب في شأنه. وفي صلاح المسلمين وفي رجال جيشه. يحثهم على الأخذ بحقهم، ويستفزهم للقاء عدوهم وإلى الأوامر يصدرها إلى عماله ورجاله وأعوانه. وإلى الكتب والرسائل يبعث بها إلى الثغور والعمال، بل وتجري بينه وبين معارضيه، كل يؤيد رأيه ويقيم حجته ويدعي(55/32)
الحق في جهته والباطل في جهة صاحبه. أما الحكم والمواعظ فأشياء كانت في نفس على غرسها فيها حب الصلاح للناس يلقيها عليهم يبين لهم طريق الهدى ومنارة الحق ويذكرهم بالله ويفهمهم المعاش والمعاد، مما يدل على إخلاص علي وطيبة نفسه وسمو روحه وكرم أخلاقه وقوة إيمانه وحبه للمسلمين. . .
ولكن الذي يعنينا هو: هل كل ما في الكتاب من خطب وأوامر وكتب ورسائل وحكم ومواعظ لأمير المؤمنين علي.؟ أم أن فيه ما ليس له. . نريد أن نعرض أمام القارئ صوراً مختلفة من الكتاب نشرحها له تشريحاً دقيقاً ثم نخرج على ما يهدينا إليه البحث. وليكن أول ما نعمل فيه المبضع الخطبة الأولى من الكتاب التي يقول الرضى في عنوانها إنها خطبة يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم، وعبارات هذه الخطبة منسجمة ميالة آخذة بعضها بحجز بعض. وهي ميتدأة بتحميد بديع يعقبه تنزيه لله عما لا يليق به، وكلام في معرفته مترتب على بعضه على مثال القضايا المنطقية، ثم ذكر للخلق من ابتدائه إلى انتهائه على مثال ما في الكتب المقدسة، وذكر لخلق آدم ومعصيته وخروجه من الجنة. وذكر لذريته في الأرض، وكلام عن الأنبياء من أبنائه حتى انتهى إلى محمد وبعثه؛ والقانون السماوي الذي نزل به، وخص من ذلك الحق، فتكلم فيه كلاماً كثيراً. ولو نظرنا إلى هذه الخطبة لوجدنا أسلوبها أقرب إلى الأسلوب التأليفي منه إلى الأسلوب الخطابي، فهي خالية من الاندفاعات الخطابية، ويظهر على عباراتها أنها وليدة التفكير، فترتب العبارات على بعضها ترتباً مطرداً على مقتضى قوانين المنطق مما لا يتيسر في الخطابة ولا يتأتى في الارتجال، وما كان علي ليخطب غير مرتجل، والتحميد الذي في أولها (الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون. ولا يحصى نعماءه العادُّون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم ولا غوص الفطن. الخ.)
هذا التحميد أشبه بالتحاميد التي تبتدأ بها الكتب. وهو يخالف التحاميد في صدر الإسلام. وهو ملحق بتنزيهات كالتي تلحق التحاميد في العصر العباسي حتى أن في العصر العباسي ما يوافقه في المعنى ويكاد يشبهه في اللفظ، ويجري معه في النسق والترتيب والروح، مما يجعلنا نرجح أنه من تحاميد ذلك العصر التي منها (الحمد لله المتعالي عن تشبيه الجاهلين، وتحديد الواصفين، وتكييف الناعتين. يوصف لا بالعرض والطول، وينعت بغير الشبح(55/33)
الممثول. ويحد لا بالخلق المعدود، والجسم الموجود، بل يتناهى من وصفه، إلى ما دل عليه من صنعه، ويوقف من نعته، على ما أخبر به عن نفسه. وكيف يوصف من لم يره أحد، أو يحد من لم يحده بلد، أو يشبه غير ذي أعضاء، أو يكيف غير ذي أجزاء. لو رئي لوصف، ولو وصف لمثل، ولو مثل لكان له نظير الخ) فكل هذه التنزيهات من منع التحديد والرؤية، ونفي الصفات على نسق واحد في التحميدين. مما يجعلنا لا نشك في أنها وليدة عصر واحد، ونشك في أنها وليدة عصرين، ثم لو قارنا هذا التحميد بتحميدات أمير المؤمنين التي يهدينا البحث إلى أنها له. . لوجدنا بوناً شاسعاً في المعنى والأسلوب والروح مما يظهر منه أن القائل غير واحد. . . ثم لنا نظرة في هذه التنزيهات وهي قوله في صفة الله (الذي لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود. ولا نعت موجود ولا وقت معدود ولا أجل محدود. . . أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده. وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة. فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه. ومن قرنه فقد ثناه. ومن ثناه فقد جزاه. ومن جزاه فقد جهله. ومن جهله فقد أشار إليه. ومن أشار إليه فقد حده. ومن حده فقد عده. ومن قال فيم فقد ضمنه، ومن قال علام فقد أخلى منه). . هذه التنزيهات تجري على نسق بديع من البيان والمنطق وكلها عقائد كلية في علم الكلام.
وأهم ما يطالع الباحث فيها شيئان: هما المحور الذي تدور عليه. والغرض الذي صيغت من أجله هما منع رؤية الله ونفي الصفات. فمنع الرؤية يؤخذ من العبارات الأولى، لأن الإدراك قد نفي، والرؤية أحد الأدراكات، ولأنها تقتضي تكييفاوقد دلل على بطلان التكييف. ولذلك نرى أبن أبي الحديد عند شرحه لهذا الكلام يطنطن في هذه المسألة، ويدلل عليها بأدلة المعتزلة، ويرد على الأشاعرة رداً قوياً ومعقولاً. وأما نفي الصفات فقد جاء صريحاً في قوله. (وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة). . ونفي الصفات كلام جرى بين علماء الكلام وأخذ به المعتزلة - واحتدم فيه النزاع والجدال بينهم وبين الأشاعرة. والمعتزلة ينفون الصفات بدعوى أنها تثبت تعدد القدماء، وأنه لابد من تغاير بين الصفة والموصوف،(55/34)
وأن الموصوف يسبق الصفة، ولذلك يحرجون الأشاعرة فيسألونهم عن كيفية قيام الصفات بالذات إن كانت زائدة عنها. والذي يعنينا من هذا الكلام أن مسألة الرؤية ومسألة نفي الصفات لم تنشأ إلا بعد نشوء مذهب الاعتزال، وإلا بعد أن اختلف واصل بن عطاء وأستاذه الحسن البصري في مسألة الاختيار ومسالة مرتكب الكبيرة إن لم يتب. فلم يكن لهذه المسائل أثر في زمن علي. ولم يكن لعلي أو الناس وقت يخلون فيه إلى نفوسهم ويفكرون في مثل هذه الأشياء. وليس عندهم ما يدعوهم إلى التفكير في هذه الأشياء. وإنما كانوا في زمن الرسول والخليفتين من بعده يفكرون في الفتوح وفي أنها الدين الجديد وأغلب الخلاف كان في فروع الأحكام لا في أصول العقائد. وفي زمن الخليفة الثالث حصلت فتن سياسية أفضت إلى قتله. ولم تكن هذه الفتن لتترك الناس يفكرون في مثل هذه العقائد، وفي زمن علي قام الخلاف بين أمير المؤمنين وبين ناقضي بيعته فاشتعلت به نار الحرب وانتهى الأمر إلى الأمويين. وحصل بهذا الانقسام خلاف جديد لا في الأشياء التي نحن بصددها وإنما في شيء آخر هو الإمامة، انقسم الناس به إلى شيعة وخوارج ومعتدلين. . فالمعقول إذن والمعروف من التاريخ السياسي وتاريخ علم الكلام أن هذه العقائد جاءت متأخرة عن علي وزمن علي وأنها نشأت بعد نشوء مذهب الاعتزال وصارت من مسائله وكلياته. . . فالدليل ناهض والحجة ناصعة على أن علياً لم يقل هذه العبارات ولا نشأت في عصره. . وربما كان الرضى قائلها. أو أنها وقعت للرضى منسوبة للأمام فألحقها بالكتاب
وبنظرة في هذه العبارات نجدها عبارات تأليفية محضة، فعبارة (نفي الصفات) وعبارة (لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف الخ) هي بعينها الجارية على ألسنة المؤلفين والباحثين في علم الكلام حتى أن أبن أبي الحديد يقول عند العبارة الأخيرة هذا دليل المعتزلة بعينه. . ويظهر على هذه العبارات بأجمعها أنها جاءت وليدة جدل وبحث، وان فيها تكلفا محسوسا جاء من إقامة الدليل المنطقي ومن قرع الحجة بأختها مما يشهد على أن هذا الكلام من أحد المتحمسين لهذا المذهب. والمنافحين عنه وأنه حدث بعد احتدام الجدل بين الفريقين.
(يتبع) - أبو حماد(55/35)
محمد محمد العزازي(55/36)
العلم الحديث ينصف العرب
العصور المظلمة تسمية تاريخية خاطئة
للأستاذ بشير الشريقي
هذا هو الموضوع الطريف الذي أثاره في هذه الأيام الدكتور جورج سارتون أستاذ علم التاريخ في جامعة وشنطون، وإني أنقله فيما يلي كما لخصته مجلة (أخبار العلم في عددها 674 سنة 1934
(ليعلم المؤرخون المعاصرون بأن (العصور المظلمة) لم توجد حقيقة؛ من الجائز أن غربي أوربا قد عانى المتاعب خلال القرن السادس حتى العاشر الميلادي من جراء تراجع الثقافة الرومانية التي لم ينعم بها غربي أوربا الاّ زمناً قليلاً؛ وان المشعل الروماني قد همد تحت أقدام البرابرة المهاجرين؛ ولكن نور الثقافة لم يخمد أبداً في الأرض التي تطل على شرقي البحر الأبيض المتوسط، والتي هي الوطن الحقيقي والطبيعي لما نسميه خطأ (بالمدنية الغربية)
لقد انتقل مصباح الثقافة الدري من أيدي اليونان البيزنطيين إلى أيدي العرب الفاتحين المؤمنين بالله وبمحمد، وكان في أيديهم أكثر تألقاً وبهاء.
إن سبب اضطراب آراء مؤرخي القرون الوسطى هو أنهم وان كانوا يجيدون اللغة اللاّتينية، فقد كانوا يجهلون اللغة العربية جهلاً تاماً، على حين كان كل تقدم في العلم والثقافة، يسجل منذ عهد محمد حتى منتصف القرن الثاني عشر باللغة العربية.
ولكن هذا لا يعني بأن مدينة الإسلام المشرقة التي امتدت من قلب الهند حتى منتهى غربي أسبانيا المتوحش كانت من عمل الفاتحين فحسب؛ يقول الدكتور سارتون، إن العرب أول من نزلوا الميدان أسيادأ للعالم، لم يكونوا أحسن ثقافة من قبائل الهند الغربية، ولكنهم كانوا ذوي أهبة ممتازة فاقتبسوا بسرعة عجيبة كل ما يمكن اقتباسه من مدنية البيزنطيين، واستطاعوا في خلال جيلين اثنين فقط أن يرتقوا في العلم منزلة لم يرتق إليها أحد من قبلهم، وكذلك برهنت الثقافة التي نشروها على أنها توافق طبيعة كل الشعوب.
إن تكييف العرب لعلوم اليونان وتوسيعهم لفنونهم قد بلغ بهم الذروة في الفلك والرياضيات والطب والطبيعيات والكيمياء، وهم لم بقتصروا على نشر الثقافة فيما بينهم، بل نشروها(55/37)
خارج ممتتلكاتهم. إن موسى بن ميمون أعظم فلاسفة اليهود، لم يكن يكتب بالعبرية، بل بالعربية، ومن المسلم به الآن أن تأثير العرب كان قوياً في نجاح القديس توماس أكونياس مؤسس مناهج الدرس في العصور الوسطى التي تعتبر بحق جسراً بين تفكير القرون الوسطى والتفكير الحديث.
وعلى ذلك فان سلسلة الثقافة ظلت تامة ولم تنقطع من عهد اليونان إلى ثقافة العرب إلى مدينة أوربا الحديثة
شرقي الأردن
بشير الشريقي المحامي(55/38)
تحليل نفسي
الأفعال المفقودة أو الفلتات
للدكتور عبد الفتاح سلامة
إذا كانت الأمثلة السائرة والقصص المتداولة بين الجمهور تدل على شيء، فإنما يكون ذلك لأنها نتيجة لتجارب كثيرة، لمس كل فرد حقيقتها، وعرف مقدار الحكمة فيها ويمكن له الاستفادة منها بتطبيقها على ما قد يصادفه من حوادث. وقد تكون القصة الآتية واحدة من هذه القصص، وإنا لنذكرها هنا لأنها تحتوي على فعل مفقود أو فلتة. وإذا عرفنا أن راوي هذه القصة هو أحد رجال البوليس فان من السهل معرفة إلى أي حد يمكن للبوليس والقضاء الاستفادة من هذه الفلتات.
قال صديقنا - والعهدة على الراوي - إن اثنين كانا يسيران في جهة بعيدة عن العمران فأراد أحدهما اغتيال الآخر، وبعد أن استعطفه دون جدوى قال له: وهل تظن أنك ناج من القصاص؟ فأجابه: ولمَ لا؟ فقال المسكين: (الهوا يخبر). ولكنه قتله ووارى جثته التراب ورجع وحده إلى بلدته؛ ولم يهتد أحد إلى مقر القتيل المسكين. مضى على ذلك وقت غير قصير، واطمأن القاتل إلى النجاة. وفي ذات ليلة قمرية جميلة جلس القاتل وزوجه يتبادلان الحديث - والحديث ذو شجون - وتوالت الأفكار على رأسه، وإذا به يبتسم في غير موضع للابتسام، وإذا بزوجه تصر على معرفة سبب الابتسام، فيقول لها إنه تذكر كلمة قالها رجل معتوه أثناء قتله، وهذه الكلمة هي (الهوا يخَبّرْ). فلا تزال هي به حتى يعترف لها بكل شيء يتعلق بالجريمة وبمكان الجثة. فالابتسام إذن هو الفلتة التي كشفت سراً كان يحرص على كتمانه؛ وهي التي حققت المثل القائل: (مهما تبطن، تظهره الأيام). ولا حاجة بنا إلى القول بأن فلتات مشابهة لهذه قد اضطرت الزوجة إلى الاعتراف إلى صديقة لها، وهكذا شاع الأمر وأمكن إدانة القاتل. ولعلنا نكون قد توصلنا بإيراد هذه القصة إلى إيضاح ما نقصد من كلمة (فلتات، أو أفعال مفقودة)، إذ أننا بعد أن تكلمنا عن تأثير الإيحاء في بعض الأمراض العصبية وكذلك في بعض الأمراض الأخرى، نود أن نتكلم عن التحليل النفسي، لأنه هو الوسيلة الوحيدة للكشف عن المشادة اللاشعورية، وهي التي تحدث بين ذلك الشيطان - اللاشعور - والنفس.(55/39)
ويكون التحليل النفسي ممكناً بالمناقشة والاستفادة من الفلتات ومن الأحلام ومن الأعراض عند المرضى. وقد سبق أن تكلمنا عن تفسير الأحلام التحليلي.
أما الفلتات أو الأفعال فإنها أفعال تصدر في الغالب عن غير إرادة الإنسان، كأن ينطق في سياق حديثه بكلمة لا يريدها، وقد ينتبه أو لا ينتبه إلى ما صدر منه، (فلتة لفظية). أو قد يكتب كلمة غير التي يريد كتابتها، أو قد ينسى كلمة كان يود أن يكتبها، (فلتة كتابية). وقد ينسى الإنسان شيئاً كان يذكره منذ لحظة قصيرة، فيبحث عن قلم وهو في يده، أو يريد أن يتذكر اسم شخص أو بلد كان يعرفهما تماماً، ولكنه لا يمكن له ذلك، (فلتة من فلتات الذاكرة، وهو ما نسميه بالنسيان).
وكذلك قد تتحدث إلى شخص وهو منتبه اليك، ولكنه لا يلبث أن يسرح ببصره في الفضاء، أو أن يتغير لونه، أو أن يلعب بأصابعه في أي شيء، ثم يسألك أو لا يسألك بعد ذلك عما كنت تتحدث به إليه لأنه (لم يأخذ باله). وهذا بالطبع معناه أنه حدث له ما صرف انتباهه إلى ناحية أخرى.
فلماذا لفظ الإنسان أو كتب ما لا يريد؟ ولماذا نسى ما كان يعرفه تماماً منذ لحظة قصيرة؟ السبب في ذلك هو في وجود رغبتين عند الإنسان، وفي أن إحداهما مكبوتة والرغبة المكبوتة قد تكون لا شعورية أو شعورية أو تمييزية كذلك، حيث لا يعرف عنها صاحبها شيئاً إلا بعد التحليل. أما إذا كانت شعورية أو تمييزية فان صاحبها ليس في احتياج إلى تحليل لمعرفتها. هذا فيما يتعلق بالرغبة المكبوتة. أما الرغبة الأخرى فإنها في الغالب رغبة تمييزية، ولكنها قد تكون شعورية أو لا شعورية كذلك؛ فصاحب الفعل المفقود إذن يجد نفسه أمام رغبتين، وهو في أثناء تعبيره عن الرغبة غير المكبوتة عنده تتحين الرغبة المكبوتة أي فرصة للظهور، وهي عند ما تسنح لها هذه الفرصة تجد سبيلها إلى الظهور بواسطة أي لفظ أو حركة تنم عليها. وهذا اللفظ أو الحركة هو ما تسميه الفلتة أو الفعل المفقود أو الفعل غير الإرادي أو
ومع أن الفعل المفقود قد أظهر الرغبة المكبوتة فانه لم يتمكن من تنفيذ هذه الرغبة. لأن الإنسان سرعان ما يستنكر صدور هذه الفلتة منه، ويتساءل كيف أخطأ في تعبيره. والواقع أن الرغبة المكبوتة وهي التي سببت هذه الفلتة قد اكتفت بهذا التحقق الرمزي أو التلميحي(55/40)
بواسطة الفعل المفقود، لأن التحقق الفعلي تأباه عليها ظروف الحياة، فهو إذن غير ممكن لها. وهكذا تكتفي الرغبة المكبوتة بالأوهام بدلاً من الحقيقة الواقعة، ومثلها في ذلك مثل الأفكار الذاتية التي سبق أن تكلمنا عنها سواء بسواء. لأن الرغبة المكبوتة مهما كانت شعورية أو تمييزية فإنها في الأصل من اللاشعور، وهو الذي يكتفي في تنفيذ رغباته بالأوهام.
وأما الفرص التي تنتهزها الرغبة المكبوتة فهي كثيرة: فالتعب واهتياج الشعور والاجتهاد الفكري وكل ما من شأنه أن يقلل من انتباه الإنسان يساعد على إيجاد هذه الأفعال المفقودة.
والرغبتان اللتان نشأ عنهما الفعل المفقود قد تكونان متعارضتين، فيكون اللفظ إذن عكس ما كان يراد تماماً، وقد تكون إحدى الرغبتين معدلة للأخرى أو مكملة أو مؤكدة لها؛ وسنذكر فيما بعد بعض الأمثلة على كل نوع منها. ولنرجع الآن إلى ابتسامة القاتل التي سببت اكتشاف سره، ونرى هل هي الأخرى وليدة رغبتين عنده؟ وهل في هاتين الرغبتين ما يدل على التعارض؟ والى أي حد يمكن استخدام الفلتات في الكشف عن خفايا نفسية المجرم؟ فلقد جلس هذا إلى زوجه وعنده رغبتان: الأولى حب الظهور بالبطولة، وإظهار بأسه وقوته. والثانية حب كتمانه لما فعل خوفاً من تسرب الأخبار والوقوع تحت طائلة العقاب، فهو إذن بين رغبتين تتنازعانه، وبينما تشتد رغبة النجاة في كبت رغبة الزهو والاعتداد بالنفس إذا بهذه الرغبة الأخيرة تنتهز الفرصة للظهور في وقت ضعف الرغبة الأولى تحت تأثير الهوى. وهكذا يتحقق الزهو والفخر، ولكن هذا التحقق إن هو إلا تحقق رمزي وذلك بالابتسام، وما الابتسام إلا رمز الانتصار، لأن رغبة النجاة مهما ضعفت فإنها لا تسمح بالاعتراف والفخر الصريح. وهكذا كان، فقد ابتسم الرجل في غير موضع الابتسام، ولكنه مع ذلك يأبى الاعتراف الصريح أولاً. وهنا نرى الزوجة تقوم بدور المحلل النفسي فتستخلص منه ما كان يأبى الاعتراف به.
وإذا كنا فيما سبق قد قلنا إن الشعراء والأدباء والفنانين يستخدمون الخيال، فان ذلك من دواعي الفخر لهم، لأن التخيل ممكن وموجود عند كل إنسان، وإنما امتاز هؤلاء بإمكان استخدام خيالهم وتحقيق أحلامهم على صورة رمزية جملية تأخذ بالألباب. وفوق ذلك فان لهم من حسن الذوق ودقة الحس ما يسمح لهم بملاحظة كل ما يمر أمامهم من دقائق الحياة،(55/41)
وهكذا فان الأفعال المفقودة أو الفلتات لم تفت عليهم، بل انهم استخدموا هذه الأفعال لتجميل الأسلوب وتوضيح المقصود، وقد أظهر لنا فرويد مثلين من ذلك. ففي رواية تاجر البندقية لشكسبير تقول بورشيا لبسانيو الذي يتقدم إلى الصناديق الثلاثة ليجرب حظه في نيل يدها (إن عينيك هذه تقسمني إلى نصفين. فالنصف الأول لك وأما النصف الثاني فهو لك. . . . أريد فهو لي). والسبب في هذه الفلتة الكلامية هو أن بورشيا تريد أن تقول إنها كلها له. وفي رواية أخرى. يقول كاستنبرج لاوكتافيو. (إلى أين أنت ذاهب). فيجيب اوكتافيو (إليها. . . إلى الدوق هيا بنا) والسبب في هذه الفلتة أيضاً هو رغبة اوكتافيو في اللحاق بالفتاة التي يحبها
وأما النكت والفكاهات التي تقال على البديهة فإنها نوع آخر من الأفعال المفقودة، إلا أن قائلها يتذرع بالضحك لستر رغباته الكامنة، ومع ذلك فان هذه الرغبات كثيراً ما تكتفي حقيقة بالأوهام، فلا تصر على التنفيذ الحقيقي لها، وإنما تكتفي بالرموز والتلميح كما تقدم.
ويمكن استخدام هذه الأفعال في انتخاب الأسئلة المحرجة وفي توجيه الاتهامات والمناقشة إلى الهدف الذي يرمي إليه المحقق، أما فيما يتعلق بالمرض فان التحليل النفسي لا يطمع من المريض أن يعترف برغباته اللاشعورية، ولكنه يطمع فقط في أن يعرف المريض رغباته في أثناء المناقشة معه، ولو أنه قد ينكرها بتاتاً، وقد يكون ذلك الإنكار خجلاً أو لأي سبب آخر، ولكن إنكاره هذا لا يمنع من وصول رغبته إلى الشعور، ومن ثم إلى التمييز لمناقشتها. فليس الاعتراف إذن ضرورياً للشفاء ما دامت الرغبة قد وصلت إلى التمييز، والإنكار نفسه قد يكون طريقة من طرق السمو بالرغبة، وهذا السمو هو في الواقع ميزة من ميزات التحليل النفسي ومن أجلها يفضل على الإيحاء. والرغبة المحرمة يسمو بها الإنسان إذا صورها وعدلها فأصبحت غير مخالفة لنظام المجتمع وتقاليده. فقد يفكر الإنسان في الأضرار بأي شخص كان لكراهيته له، وذلك إظهاراً لمقدرته على البطش والأذى، ولكنه قد يسمو فيكتفي فقط بإظهار قدرته على الأذى ثم يعفو ويتسامح بعد ذلك. وهذا هو ما يحدث تماماً عند ما يسمو المريض العصبي رغبته. ولكن رغبة هذا المريض العصبي ليست من هذا النوع البسيط من الرغبات فإنها هي والرغبات التي تتجلى في الأحلام والتي تملي على الفنان فنه ليست إلاّ رغبات جنسية تتعلق بأشخاص من ذوي القربى، وقد(55/42)
عرف كل من المريض العصبي، وصاحب الرؤيا، ورجل الفن طريقه إلى تحقيق رغبته. وإن كان هذا التحقيق رمزياً مشوهاً لا يدل في الظاهر على أي رغبة محرمة، ولكن التحليل في كل الحالات قد أثبت أن أعراض المريض والرؤيا ومنتجات الفن ليست إلاّ هذا التحقيق الرمزي المشوه لهذه الرغبات. فالرغبة المحرمة المجهولة لصاحبها لأنها مكبوتة بفعل الضمير هي أصل كل أعراض المرض، وهي أصل الرؤيا، وهي التي توحي الفن إلى الفنان، بل هي سبب التخيل وكل ما يبينه الخيال من تصورات وأمان، وإذا كنا قد ذكرنا الفنان هنا فان من الإنصاف أن نقول إنه عرف كيف يسمو برغبته ذلك السمو البارع الجميل.
ولا يمكن أن يكون هذا الموضوع تاماً إلا إذا تلكمنا عن المسألة الجنسية، وعن قصة أوديب الملك كما ينظر إليها فرويد، وهذا ما نرجو أن نتمكن من إيضاحه فيما بعد، إلاّ أن ما سبق أن أوردناه يسمح لنا أن نقول إن الإيحاء وحده لا يمكن أن يثمر الشفاء التام الدائم إلا إذا سبقه التحليل والكشف عن الرغبات الكامنة السالفة الذكر. ولنرجع الآن إلى الموضوع الذي يشغلنا وهو الفلتات أو الأفعال المفقودة. فقد بينا أن هذه الفلتات قد تكون كلامية. كأن يذكر كلمة غير التي كان يود أن يقولها أو يقرأها إذا كان يتكلم أو يقرأ من أي ورقة أو كتاب. أو فلتة سماعية، كأن يسمع كلمة غير التي قيلت له أو بمعنى آخر يتخيل سماع الكلمة المعينة، أو فلتة كتابية كأن يكتب غير الكلمة التي كان يريد كتابتها أو يمحو كلمة غير التي كان يريد محوها. أو فلتة من فلتات الذاكرة وهو ما نسميه بالنسيان - وقلنا إننا سنذكر بعض الأمثلة على كل هذا، وأن الكلمة الخطأ قد تكون عكس الكلمة المطلوبة - المخالفة قد تكون في ترتيب الحروف وفي معنى الكلمة - أو معدلة لها أو كلمة مدغومة في غيرها. الخ والواقع أن الأمثلة على كل نوع منها كثيرة ولا تدخل تحت حصر، ومن منا لم يسمع أو يلاحظ الكثير منها في كل يوم وفي كل مكان؟. ولهذا فإنني أترك الأمثلة لمن يود أن يلاحظ بنفسه هذه الفلتات وأن يتعرف إلى الغرض الذي حدثت من أجله. وأتكلم الآن عن فلتات الذاكرة أو النسيان، فقد أخبرني صديق لي أنه أراد مرة أن يتحدث عن شخص عرفه من مدة قريبة وعرف اسمه وسمع ذلك الاسم مراراً، ولكنه مع ذلك كان ينسى اسمه كلما أراد أن يتحدث عنه. وبعد جهد في محاولة استذكار الاسم فانه يذكر اسما آخر على(55/43)
أنه الاسم مطلوب - وهكذا يسمى صديقي ذلك الشخص (شافعي) دائما بدل اسمه الحقيقي، وذلك بعد جهد في التذكر بدون جدوى، وهو إذ يقول إن اسمه شافعي لا يقولها بصفة التأكيد أيضاً في كثير من الأحيان: وفي ذات مرة بعد لحظة قصيرة من التأملات أخذت الأفكار تتوالى على عقله ولم يكن يقصد أن يتذكر الاسم الذي ينساه دائماً وإذا به يصيح فجأة إن اسمه (شبلي)
نعم. هذا هو ما حدث لصديقي، وأراد أن يعرف لماذا نسى ذلك الاسم، ثم لماذا ذكر شافعي بدل شلبي مع شكه أيضاً في أن ذلك هو اسمه الحقيقي. ولما سألته أن يذكر لي كل ما يعرفه عن أي شخص آخر يسمى بنفس هذا الاسم (شلبي) أخبرني أنه كان يعرف شخصاً بهذا الاسم ولكن لم تكن بينهما صادقة ما. بل بالعكس فانهما كانا متنافرين - هذا يفسر لنا نسيان الاسم (شلبي) ولكنه لا يفسر لماذا يسميه شافعي في كثير من الأحيان فسألته ان يذكر لي شيئا عمن يعرفهم باسم شافعي هذا. وهنا صاح متعجبا انه يعرف شخصاً محترماً بهذا الاسم وأن هذا الشخص المحترم (شافعي) من حيث الخلقة والشكل العمومي يشبه (شلبي) ذلك الشخص المكروه الذي مضى على معرفته إياه وقطعه كل علاقة به زمن طويل - هذا هو إذن سر إبدال الاسم، وهو جواب ما كان يسأل عنه.
وقد ذكر فرويد أن رجلاً كان بينه وبين زوجته نفور، ولكنه لم يكن قد صارحها بأي شيء، وهي مع ذلك تحبه وتخلص له. وقد أهدته كتاباً شيقاً في نظرها ليقرأه. ولكنه وضعه في جهة معينة ولما أراد البحث عنه لقراءته لم يتمكن من تذكر المكان الذي وضعه فيه برغم كل الجهود التي بذلها في هذا السبيل. ثم حدث أن والدته مرضت مرضاً شديداً حمل زوجته على أن تعتني بها وتمرضها، وكان من نتيجة ذلك أن شعر الزوج بشكره لزوجته لعنايتها بوالدته، وتحول هذا الشكر إلى تقدير، ثم رجع الحب إلى سابق عهده. ثم لما رجع إلى بيته ذات يوم فتح درجاً من أدراج المكتب بدون أي فكرة عن إمكان العثور على الكتاب ولكنه لدهشته وجده فيه، برغم مضى أكثر من ستة أشهر على وجوده فيه، وبحثه عنه على جملة مرات في هذه المدة.
أليست عوامل المودة والنفور هي التي تؤثر في النسيان والتذكر وحدها؟ فإننا سبق أن تكلمنا عن فعل الضمير في هذا الشأن، وكيف أنه يكبت الرغبة فيردها إلى اللاشعور،(55/44)
ولست في حاجة إلى القول بأن الإنسان لا يذكر أو بمعنى آخر لا يشعر إلا بما يعرفه الجزء الشعوري من عقله. فكل فكرة تتمكن من الوصول إلى الشعور فهي شعورية، أي أن الإنسان يعرفها ويذكرها، وكل فكرة ترتد إلى اللاشعور أو تحفظ فيه فهي فكرة لاشعورية لا يعرفها الإنسان ولا يذكر الحوادث المتعلقة بها. على أنه من السهل التنقيب عما يوجد في ذلك المخزن - اللاشعور - إذا ترك الإنسان لحرية تفكيره العنان، فلا يعترض حرية التفكير هذه بنقد أو تجريح ولا يرمي أي فكرة تأتي إليه بأنها غير معقولة أو غير جائزة أو الخ. . . بل يترك نفسه للتفكير فلا تلبث الأفكار إذن أن تتوالى كما يقول المثل - الشيء بالشيء يذكر - لأننا سبق أن بينا أن الأفكار والرغبات مسجلة على قواعد الاصطحاب والقرينة، أي أن الأشياء المتشابهة أو المتضادة - والمتقاربة والمتباعدة مسجلة بالقرب من بعضها، وإذا ذكر أحدهما فلابد من تذكر الآخر. وإذا ذكر الإنسان صديقه فلا يلبث أن يذكر أشياء كثيرة معه كبيته أو المقهى الذي يجلسان به أو الكلام الذي حدث بينهما، وإذا تذكر هذا المقهى فقد يذكر مقهى آخر في أوربا أو أي بلد آخر، ويذكر معه الحوادث التي مرت به في هذا المقهى الآخر وهلم جراً.
فاذا كانت الفلتات تخدم التحليل النفسي لأنها توجه نظر المحلل إلى وجهات مهمة فتوحي إليه بالأسئلة الواجب إلقاؤها على المريض، وهذا يتطلب من المحلل ذهناً صافياً وفكراً سليماً، فان على المريض واجباً آخر يجب عليه أن يرعاه، وهو أن يلتزم الإخلاص في كل إجاباته على الأسئلة التي توجه اليه، ويجب أن يعلم أن مقدار إخلاصه هذا يعرفه الطبيب المحلل نفسه. وفوق ذلك فانه يجب أن يترك أفكاره حرة من كل قيد فيجيب بكل ما يخطر على باله بصرف النظر عن موافقة ذلك للمعقول والجائز أو مخالفته لهما.
ولا يفوتني أن أذكر هنا أن شاعرنا شوقي بك في روايته الخالدة (مجنون ليلى) قد ذكر فلتة على لسان ليلى العامرية، فقد ذكرت المسكينة اسم قيس مرتين دون أن تشعر، ولما نبهتها زميلة لها إلى ذلك قالت: وأي شيء في ذلك لو ذكرت قيساً ثلاثا. ثم قالت (يا قيس ناجي باسمكالقلب اللسان فعثر)
دكتور عبد الفتاح سلامة طبيب مستشفى برقاش(55/45)
9 - أعيان القرن الرابع عشر
للعلامة المغفور له احمد باشا تيمور
محمد أفندي أكمل
هو محمد أكمل بن عبد الغني بك فكري بن لطف الله بن حسين، الشاعر الأديب الظريف؛ ولد بالقاهرة ونشأ بها واعتنى والده بتعليمه وتهذيبه، ثم أدخله في الديوان الخديوي للتعليم كتلميذ، وكان كبار هذا الديوان مدة الخديو إسماعيل باشا، فجود الخط به وألمّ باللغة التركية، وكانت له حدبة بظهره شوهت خَلْقه، ورأى والده أن لا مطمع في استخدامه بمنصب لائق، لحدبته وقصر قامته، فاستحسن له طلب العلم بالأزهر، وكان يرجو أن يكون من كبار العلماء، فلازم الطلب به وقرأ النحو والعلوم العربية على الشيخ أحمد المنصوريّ، والشيخ محمد البجيرميّ، وكان أحدب مثله، وكثيراً ما كان يقعده بجواره في حلقة الدرس. ثم انقطع عن الطلب ولازم والده، وكان والده جماعة للكتب، مغالياً في اقتنائها شراء واستنساخاً، ينفق عليها جلّ ما يصل ليده، ويحي الليالي في مقابلة ما يستنسخه منها وتصحيحه وضبطه، فكان المترجم يعاونه في ذلك، واطلع بهذا السبب على كثير من الكتب العلمية والأدبية والدواوين الشعرية، وعاشر من كان يجتمع بوالده من العلماء والأدباء وتردد عليهم واستفاد منهم، وعرف مدة طلبه بالأزهر كثيراً من أدبائه وشعرائه المجيدين كالشيخ عبد الرحمن قرّاعة، والشيخ أحمد مفتاح وحفني بك ناصف وغيرهم، فاستفاد منهم أيضاً، ونظم الشعر والزجل وأدوار الغناء، واشتهر بحسن المحاضرة وملاحة التندير وسرعة الجواب وخفة الروح، وكان كثيراً ما يجعل محور تنديره دائراً على حدبته، فيأتي بما يضحك الثكلى، بل كان لا يأنف من ذكرها في شعره، كقوله من زجل في الوباء الذي حلّ بمصر أوائل سنة 1320 وما فعله الأطباء من الهجوم على الدور وترويع ربات الخدور:
شاعرْ وناثرْ زّجالْ عالْ ... فنّ الأدبْ فيدُه لِعْبَهْ
لطيفْ زكيِ وفَهْمُهْ سَيَّالْ ... وِرِقّتُهْ منَ اللهْ وَهْبَهْ
مخْلِصْ لاْخواُنه ومَيَّالْ ... نَادْرِةْ زَمَاُنهْ ولُه حَدَبَهْ
ما فِيهْش عيْب ظاهرْ معروفْ ... قَصِيرْ ولكنِ فِيهْ أقْصَرْ(55/46)
واللى يعيش يَاما بِيْشُوْف ... واللى بِيمْشى بِشُوف أكتَرْ
ومن ولوعه بحدبته شرع في جمع كتاب في نوادر الحدبان وما قيل فيهم من الأشعار، وتراجم مشهوريهم، أخبرني أنه جمع منه جزءاً إلا أنه لم يتمه
ونقل والده مدة محمد توفيق باشا الخديو من الديوان إلى المحاكم الأهلية قاضياً، وتوفي يوم الثلاثاء 29 المحرم سنة 1307 وخلف له ولاخوته ضيعة بالصعيد أصاب المترجم منها ستون (فداناً) باعها وبدد ثمنها بالإسراف حتى احتاج للاستخدام بديوان الأوقاف بمرتب قليل دون الكفاف، وعاش في ضيق ومضض بعد ما تعوده من السعة والرفاهية، وأخذ يتقرب للخديو بنظم التواريخ في كل عيد واحتفال وحل وترحال وينشرها في صحف الأخبار رجاء أن تبلغه فيأخذ بيده فلم يستفد شيئاً وراح تغزّ له في الريح، وكان قصر شعره في أواخر عمره على هذه التواريخ فنظم منها الغث والسمين. وكنا إذا قرب عيد أو سفر أو قدوم للخديو لا ننتفع به لاشتغاله بالنظم والحساب وإعمال الروية فيصير هذا ديدنه في غدوه ورواحه وقيامه وقعوده حتى يمن الله عليه بشيء يرتضيه
وترك له والده غير الضيعة داراً بسوق الزلط بيعت أيضاً، وترك خزانة كتب كبيرة قل أن تضارعها خزانة في نفائس الكتب ونوادر الأسفار، وهي التي أفنى عمره وماله في جمعها، وأتعب نفسه في تصحيحها وضبطها، وصبغ الورق وصقله لنسخ ما كان يستنسخه منها، فوق ما كان يتكلفه من السعي في البحث عنها في الخزائن المهجورة وعند الورّاقين، واتخذ له في داره مصنعاً للتجليد، واستخدم عدة نساخ أجرى عليهم المرتبات فاختصوا بالنسخ له لا يشتغلون لسواه، وكان هو وعبد الحميد بك نافع من أدباء القرن الثالث عشر يتباريان في ذلك ويتسابقان. أخبرني المترجم عن والده أنه بلغه أن تاجراً من الورّاقين قدم من سفر بكتب أوصاه عبد الحميد بك نافع بجلبها له وبينها ديوان البحتري وكان اذ ذاك لم يطبع بل لا يعرف في مصر إلا باسمه، فأسرع إليه وبذل له مالاً فوق قيمة الديوان على أن يعيره له يوماً وليلة فقط يطالع فيه، فرضى وأعاره إياه، فلما أتى به لداره أعطاه لمجلده ففك له تجليده وأحضر في الحال عدة نساخ فرقه عليهم كراريس فنسخوه وقابلوه، ولم يمض اليوم والليلة إلا وقد ردت النسخة الأصلية لصاحبها مجلدة كما كانت، ثم قابله بعد ذلك عبد الحميد بك وأخذ يفاخره بوجود الديوان عنده واختصاصه به، فقال له خفّض عليك يا أخي(55/47)
هذا شيء أكلنا عليه وشربنا حتى مججناه، ثم أخرج له نسخة الديوان من الخزانة. وبلغه مرة وهو يسمر مع بعض أصحابه أن بعضهم رأى عند فلان الوراق رسالة من الرسائل، وكان هو يتطلبها من زمن وينشدها فلا يجدها، فلم يسعه إلا أن قام في الحال وأخذ يسأل عن دار الوراق من هنا وهناك حتى اهتدى إليها بعد ما مضى هزيع من الليل، فأيقظه من نومه وساومه في الرسالة بقيمة فوق قيمتها ولم يمهله للصباح بل أنزله من الدار وذهب معه إلى حانوته ففتحه ليلاً وأخرجها له ولم يهدأ له بال حتى باتت الرسالة عنده. فلما مات عرّض المترجم كتبه للبيع فبيعت وتفرقت واقتنى نفائسها ونواردها الكونت لندبرج قنصل السويد بمصر، وكان من مستعربي الأفرنج المولعين بجمع الكتب العربية، وأدركت أنا أوارخها فاقتنت منها بضعة عشر كتاباً، منها ما هو بخط عبد الغني بك نفسه، وبحواشيها آثار التصحيح واختلاف النسخ التي كان يقابلها بها
وكان أول التقائي بالمترجم في دار أبن أختي محمود توفيق بك، وهي إذ ذاك مجمع الأدباء ومحط رجال الفضلاء، فلما رأيته استغربت شكله واستملحت محاضرته، ثم رأيته يناقش الأدباء ويطارحهم الشعر، فدنوت منه وكنت صغيراً في أول الطلب، وقد تعذر علي فهم باب أفعل التفضيل، وأجهدت نفسي في درسين متوالين على تفهمه، فلم يفتح علي بشيء فيه، فسألته عنه فأوضحه لي بعبارة سهلت علي فهمه، فكان بعد ذلك كثيراً ما يقول لي ممازحاً: إذا ذكرت شيوخك فاذكرني معهم ولا تنسني. ثم تأهل ببنت حنفي بك، وكان لأسرتها نوع اتصال بنا، فاتصلت المودة بيني وبينه بهذا السبب، وازدادت ملازمته لي لما سكن بجوارنا، فكان يزورني عصر كل يوم ويبقى حتى نسمر معاً ثم ينصرف، فتارة كنا نحي الليالي بمسامرات أدبية ومذاكرات علمية، أو بمطالعة بعض الكتب، وتارة بمقابلة ما كنت أستنسخه وتصحيحه، وكان لا يمل من المقابلة مهما يطل الوقت فيها، ويقول هذا شيء دربني عليه والدي وعودني إياه من الصغر. وأشار عليّ مرة أستاذنا العلامة محمد محمود الشنقيطي أن أطالع أمالي أبى عليّ القاليّ مطالعة إمعان وتدبر، ولم تكن طبعت بعد، فاستنسخت منها كراريس عكفت على مطالعتها، وأخبرت المترجم أنني سأحتجب عن الناس بضعة أيام حتى أستوفي ما يهذه الكراريس، فغاب عني ثلاثة أيام ثم حضر ومعه زجل، ينحي فيه على الأستاذ وعلى أبي على القالى اللذين تسببا في انقطاعي عن الإخوان(55/48)
ويذكر فيه بعض من كان يجتمع بنا
وقد أطلعته على رسالة عندي جمعها الشيخ احمد الفحماوي صاحب الخط الحسن، المشهور بكتابة لزوم ما يلزم للمعري وسماها (بنات أفكار وعرائس أبكار في ألقاب أهل العصر) ذكر بها كنى وألقاباً وضعها لفضلاء أواخر القرن الثالث عشر عبد الحميد بك نافع، وإبراهيم افندي طاهر الشاعر الرقيق المشهور على سبيل المزاح والدعابة، فقلبا كل واحد بلقب شاعر متقدم، أو رجل مشهور يوافق اسمه هيئة الملقب به، أو شيئاً يغلب على أخلاقه وأحواله، كتلقيبهما مصطفى أفندي المنعوت بكامل بالعكوَّك، لأنه كان قصيراً جداً معوَّج القدمين، وتلقيهما الشيخ محمد الرافعي الكبير شيخ رواق الشاميين بالأزهر وأحد كبار علمائه بملاّ مسكين، لأنه كان نحيفاً وبقوامه بعض احديداب يرى كأنه تواضع وانكسار، وتلقيبهما عبد الغني بك أبا المترجم بالأخطل، لأنه كان ضخم الجسم كبير الهامة. فلما اطلع المترجم عليها جن بها جنوناً وشرع في وضع رسالة تماثلها في فضلاء عصره، وسألني مشاركته فيها كما فعل ذانك الأديبان فامتنعت خشية اللوم، فانفرد هو بتأليفها وأتى فيها بغرائب ذهب أغلبها عن الذهن لطول العهد، فمن ذلك تلقيبه للعالم الفاضل على رفاعة باشا أبن رفاعة بك المشهور، بابن المقفع لنحافته ودخول شدقيه، وتلقيبه للعالم الفاضل يحي أفندي الأفغاني، بالقدوري لغرابة شكله وقصر ساقيه تشبهاً له بالقدر من الفخار، والقدوري اسم عالم من الحنفية مشهور. وكان الشيخ محمد الحفني المهدي أبن أخي مفتي مصر الشيخ العباسي المهدي ولعاً بذم الناس منقباً عن معايبهم، لهجاً بها في المجالس، لم يسلم منه أحد حتى عمه، واشتهر بذلك حتى أبغضه عارفوه وتحاموا عن الاجتماع به، فلقبه بابن هِرمهْ، وهي كلمة سب عند العامة، فقلت له هذا لا يستقيم لك لأن ابن هرمة الشاعر بفتح أوله فتأنف وقال لا أجد له لقباً ينطبق عليه غير هذا فدعني من شنقيطيتك. ثم لما فرغ منها سألته عما لقب به نفسه، ففكر وقال أحسن لقب ينزل علىَّ ابن قتيبة، ثم تركه وتلقب بالمقوقس. وضاعت هذه الرسالة فيما ضاع من أوراقه وأشعاره، ويغلب على الظن أنه مزقها لأنه وقع له بسببها نفور بينه وبين بعض من لقبهم، فانه لما لقب صاحبنا وصاحبه الشيخ احمد مفتاح لسلامة طويته، بالأبله البغدادي، غضب منه وكاد يتفاقم الشر بينهم، وغضب منه صاحب آخر كان قصيراً ممتلئاً يتدحدح في مشيته كما يتدحدح البط لأنه لقبه(55/49)
بابن بطوطة، فأخفى الرسالة لهذا السبب وطوى ذكرها.
وكان رحمه الله في الزجل، متقناً لصياغة الأدوار التي يتغنى بها، وأكثر ما كان متداولاً منها بين المغنين في عصره كان من نظمه، وأما شعره فالإجادة فيه قليلة إلا ما ضمنه النكت والتنديرات العامية، فمن أحسن ما وقفت عليه منه قوله من مرثية في صاحبه علي رفاعة باشا
جزعت وللحرّ أن يجزعا ... وودَّعت صبري إذ ودَّعا
وجادت عيوني على بخلها ... وحُق لها اليوم أن تدمعا
وروَّع قلبي النوى بعد ما ... أمنت ومثلي كم رُوّعا
لحا الله يوماً أشاعوا به ... وقالوا أمير العلا شيعا
فما كان أصعب تأبينه ... وما كان أسوأه موقعا
وما كان حق البكاء ولكن ... فزعت ولا بدع أن أفزعا
تجرعت من هوله كل صاب ... وغيري من الناس كم جرعا
وما دار في خلدي أنني ... أرى البدر يرضى الثرى مضجعا
ولكن شأن الزمان عجيب ... فما كان أضيع عهداً رعى
يقول النعيّ عليّ قضى ... ولم يدر أن العلا قد نعى
نعى سيداً صيته طائر ... حوى الفضل في شخصه أجمعا
فدكت رواسي الدنى بعده ... وماد الزمان بما أودعا
وغابت شموس المعارف لما ... ذوى غصنه بعد ما أينعا
فقل للخطابة ذوبي أسى ... ولا تطلبي بعده مصقعاً
وقل للكتابة لا تحفلي ... بمن يتبّجح في المدعى
وقل للعلوم فقدت أميراً ... مضى تاركاً فضله مشرعاً
وقال مورّيا باسم الطبيب سعد بك سامح:
يا سعد مالك معرضاً ... عنيّ وقلبي فيك طامحْ
إني أتيتك قائلاً ... أنا تائب يا سعد سامح
وقال مورّيا باسم محمد ثابت:(55/50)
ان كنت في ريب بصدق محبتي ... وسمعت عني ما تقوَّل شامت
فاعلم فديتك دائماً إني على ... عهد المحّبة يا محمد ثابتُ
ولما مرضت شقيقتي السيدة عائشة التيمورية وأحست بدنو الأجل نظمت في مرضها أبياتاً لتكتب على قبرها وتركت مصراع التاريخ لمن ينظمه بعدها وهي:
قد كنت عائشة فنوديت ارجعي ... للقبر مأوى كل حيّ فان
فأتيت صفر الكف عن مرضاته ... ومقرة بالعجز والعصيان
جرّدت من ثوب الهدى لكنّ لي ... تاجاً من الإسلام والإيمان
ونزلته مستشفعاً بمحمد ... وتوّسلي عفواً من الرحمن
أصبحت ممن زار لحديَ راجياً ... خير الدعا وتلاوة القرآن
لكم البقا إخوان ديني أرّخوا
فنظم المترجم التاريخ بقوله: (قبر لعائشة سما بجنان)
302 811 101 106
1320
وله غير ذلك مما ذهب عن الذهن الآن، ولكثرة ممارسته للتواريخ الشعرية كان يأتي فيها أحياناً بغرائب في ابراز المقصود بدون حشو كقوله في تاريخ ولادة ولده عبد الغني: (عبد الغني ابن أكمل).
وكانت وفاته فجأة قبل ظهر يوم الثلاثاء 22 ذي القعدة سنة 1321 ودفن بمقابر باب النصر رحمه الله تعالى.(55/51)
من طرائف الشعر
تعالي
لشاعر الشباب السوري أنور العطار
تَعَالَيْ نَسْأَلِ الذِّكْرَى ... عَنِ الحُبَّ وَمَاضِيهِ
وَعَنْ سِحْرِ لَياليهِ ... وَعَنْ حُلْوِ أَمَانيهِ
حَكايَا مَا تَني تَنْ ... هَلُ مِنْ ضِحْكٍ وَتمْويهِ
قَصَصْنَاهَا عَلَى قَلْ ... بيْنِ مَغْمُورَيْنِ بالتِّيهِ
وَهَذَا اللَّيْلُ كَمْ أَصْغى ... وَكَمْ أَصْغَتْ دَرَاريهِ
لَقَدْ قَرَّبَنَا الْحُبُّ ... وَضَمَّتْنَا أَوَاخيهِ
وَلَمْ تَنْوِ القِلَى أَهْليِ ... فَلِمْ أَهْلُكِ تَنْويهِ
حَيَاتي مِنْكِ في نَوْحٍ ... وَتَعْذِيبٍ وَتأْوِيهِ
فَهَلْ أَظْفَرُ في الهَجْرِ ... بطَيْفٍ مِنْكَ أُصْبِيهِ
أُفَدِّيهِ بأَحْلاَمِي=فَيُسْليني وَأُسْليهِ
وَأُغْرِيهِ بِأَشْعَارِي ... فَيَبْكيِني وَأَبْكيهِ
وَكَمْ قَاسَمَني اللَّيْلُ ... أَنيناً بِتُّ أُخْفِيهِ
شَجَانِي مِنْهُ مَا أّشْجى ... وَأَضْنَانيَ مُضْنيهِ
أَسًى للْقَلْبِ مَا يَن ... ْشُدُ إِلاَّ مَا يُعَنَّيهِ
وَمَا يَبْرَحُ طُولَ الدَّ ... هْرِ طِفْلاً في تَمِّنيهِ
يُعِدُّ الفَرْحَةَ الكُبْرَى ... لِحُبٍ كامِنٍ فِيهِ
إِذَا سَاوَرَني الْوَجْدُ ... وَأَطْيَافُ لَيَاليهِ
وَأَضْنى قَلْبيَ الْهَمُّ ... وَأَحْزَانُ عَوَادِيهِ
لَمًسْتُ الْبُرَْء في اللَّيْلِ ... وَفي صَمْتِ دَياَجيهِ
كلاَنَا موُحَشٌ رُوخاً ... سَقِيمٌ غَابَ آسِيهِ
إِذَا ضَاعَ لَكَ الحُلْمُ ... الذي عِشْتَ تُرَجَّيهِ
فما تَطْمَعُ في الْعَيشِ ... وَلاَ يُغْريِكَ حَاليهِ(55/52)
لَقَدْ لَقَّنِتني الحُبَّ ... وَمَعْسُولَ أَغَانِيهِ
وَأَوْحَيْتِ ليَ الشَّعْرَ ... وَمَنْ غَيْرُكِ يُوحِيهِ؟
وَنَجْوَى لحْنِهِ البَاكِي ... وَأَنَّاتِ قَوَافيهِ
قَطَعْنَا الْعُمْرَ في الُحْبَِ ... وَفِي غَمْرَةِ وَادِيهِ
فَلَمْ يَبْقَ لَنا مِنْهُ ... سِوَى طَيْفٍ نُنَاجِيهِ
دمشق
أنور العطار(55/53)
ليلة الزورق
لعبد العزيز أفندي عتيق
حينما ذَهَّب الأصيلُ مياه الني ... ل، واختال في الرياض جميلا
أبصرتني أطوف حول حِماها ... سادرَ الخطوِ، حائراً، مخبولا
هتفتْ بي: إليّ يا صاح أقبلْ ... أنا مَن قد بحثت عنها طويلا
ذاك وكرُ الهوى، ألستَ تراه ... مثلما كان شاعرياً ظليلا؟
ذاك روضي، فقرَّ عيناً ونفساً=يا حبيبي، واجلسْ إليَّ قليلا
واسقني بالجمال والسحر شعراً ... شفقياً يُميت مني الغليلا
كيف جانيتَ روضكَ الفينانا ... أتسلّيتَ؟ أم نسيت المكانا؟
كلما طفتُ بالمكان أثارتْ=وقفاتُ الوداع مّني الحنانا
وأرى القلب في غيابك أمسى ... يا حبيبي موزّعاً حيرانا
أيها الغائب الذي خالط القل ... ب هواه، تعال نحي هوانا
خُذْ ذراعي إلى ذراعك واصعدْ ... ربوةَ الأمس، واسقني الألحانا
رُبَّ ليلٍ سهرتُه أتقّلى ... فيه وحدي، وأشتكي الحرمانا!
ها هو النايُ حالماً بالأغاني ... فأعِدْها سحرّيةَ الأنغام
ها هو الناي يا حبيب فؤادي ... غنّ للحِب، للنفوس الظوامي
فاذا ما شُغلتُ عنكَ بنفسي ... وبما هاج من هوى وضرام
فدعِ النايَ جانباً، وأدِرهْا ... قُبُلاتٍ من ثغركَ البسّام
ودع الربوةَ السحيقة تخفي ... أثرينا عن أعين الأقوام
ولنعش ها هنا كما نتمنى ... للأغاني، للحب، للالهام
وانظر الشمس! هل شجتك اختلاجاً ... وهي تخطو إلى الفناء السريع؟
كم أضاءت وجددت من الحياة ... وتجلت في كل أفق وسيع
ثم همَّتْ فليس في الكون إلا ... نائحٌ في مواكب التشيع
يا حبيبي خلِّ الوقارَ وهيا ... نوقظ اللهو بعد طول هجوع
بالأغاني، وبالحديث، وبالشع ... ر، وبالسحر، والهوى والدموع(55/54)
فغداً تذهب الحياة بشمسْي ... نا وتمضي بنا لغير رجوع!
وانظر البدر في الفضاء سَبوحاً ... يغمر الكونَ وجهُه بالنور
أطَلق السحرَ في السماء وفي الأر ... ض، فبتنا في عالم مسحور!
لا نرى فيه غير ليلٍ وضئٍ ... يبعث الشوق والهوى في الصدور
يا حبيبي خذني إليك وأنعِشْ ... شفتينا بثغركَ المخمور. .
قرَّب البدر بيننا ورعانا ... فتمَّتعْ بساعة من سرور
ما غناء الساعات، تمضي خُواء ... من لقاء، أو رحلة، أو سمير؟
وارقب الزورق المقدسَ يبدو ... من بعيدٍ كالطائفِ الجّوالِ
كم عبرنا به الخَضمَّ وقد أغ ... فى وجُلْنا به كل مجال
نوقظُ الموجةَ الصغيرة بالهم ... سِ، فتبدِي تثاؤب الأطفال
وأغاني المجداف تُضِفي على اليمِّ (م) ... رداءً من رهبةٍ وجلال
يا حبيبي حان الوداع فهيا ... جئتَ نقضي حقَّ الليالي الخوالي
كم حبتنا بصفوها ورعتنا ... نضّر الله وجهَها من ليال
ورسا الزورق المقدسُ للشطْ ... طِ فيا للصفاءِ يخطو الينا
ودعانا الملاّحُ بالنغم العذْ ... ب، فأروى بصوته مهجتينا
أيهذا الملاحُ أيَّةَ ذكرى ... فوق هذا الخضمِ هجتَ لدينا؟
قرّب الزورقَ المقدس كالأم ... سِ، وهيئ لنا به مجلسْينا
وامض في اليمّ حيث تسعد بالصف ... و، ونُحيي في ظلّه أملينا
طال شوقي إلى المطاف بدنيا ... كم شجتنا وأطلقتْ خاطرينا!
قلتُ والبدرُ، والدراري ... حالماتٌ، والكون وسنان صاح
يا رجاَء القلبِ الجريح - ومازا ... ل - أمَا آن أن تداوي جراحي؟
بي ظِماءٌ إلى حديثكِ عذباً ... واشتياقٌ لوجهكِ الوضاح
قد سَهوْنا عن الحياة وبتنا ... في محيطٍ من الطلاقة ضاح
فابعثي النور في جوانب نفسي ... وارحميني من وحشة الأرواح
شدّ ما ضقتُ بانفرادي وسُهدي ... واغترابي، في غُدوتي ورواحي!(55/55)
أنا لولاكِ لم أعشْ في حياةٍ ... ثقلَتْ محملاً وساءت مَقرّا
ليس تصفو لنا، وهيهات تصفو ... للذي ازداد بالحقائق خِبْرا
أنتِ جَمَّلِتها لعيني ونفسي ... وفؤادي، فلست ألوكِ شكرا
فتعالَيْ نعِشْ هنا في حمى اليمّ (م) ... وننسى ما ساءنا، أو سرّا
نتناغى كالطير في كنَف الدو ... ح ونطوي الساعات أنساً وبشرا
ذاك لبُّ الحياة، بل ذاك أندى ... ما حوته الحياة برّا وبحرا
وصحا الشوقُ عارماً فإذا هِي ... في جنونٍ ورعشةٍ قبلتني
ثم ألقتْ برأسها فوق صدري ... كالذي نام من مَلاٍل وأيْنِ
وسرى الريح ليناً فاطمأنت ... واستراحتْ في جانبي المطمئن
وشجاها الهوِى فألقت بأذني: ... يا حبيبي طاب المكان فغَنِ
غنّ لى غنوةَالربيع على اليمّ (م) =ورَوِّ الفؤاد من كل لحنِ
فاختضنتُ العود الحبيب إلى النف ... س، وأيقظته ورحت أُغني:
حينما يشرق الربيعْ ... في سماء الحدائق
ونرى حسنَه البديع ... في وجوه الشقائق
سوف ألقاكِ ها هنا ... فوق ذا الزورق السبوحْ
حيث تصفو لنا المنى ... ويَقرُّ الهوى الجموحْ
يا مُحياً عبدْته ... مثلما يُعبدُ الآلهْ
وجمالاً عشِقتُه ... عِشق من لا يَرى سواه
كم تمنيت لو نكونْ ... في حمى اليمّ مفردْين
في وقاءٍ عن العيونْ ... حيث نحيا كطائرين!
قدَّر الله يا حبيبْ ... للغريبين بالتلاقْ
فمتى تسعدُ القلوب ... بلقاءٍ بلا افتراق؟!
ورسا الزورق المقدس للشطْ ... طِ، فصاح الملاح: هيا، فقمنا
ومشينا على بساط من العُش ... ب نديٍ، يهتز في حيث سرْنا
ووقفنا في كل مجلس حُبٍ ... وادَّكرْنا من سحره ما ادكرنا(55/56)
ثم ودَّعتها وعدْتُ وأحلا_مي إلى عالمي الشقيِّ مُعنّى
ثم ودَّعتها وعدْتُ وأحلا ... مي إلى عالمي الشقيّ مُعّنى
أسأل القلب: كيف يا قلب مرَّت ... ليلةُ الزورق الحبيب، وأينا؟
وأراني مُردّداً في حنين: ... ليت أنا نعيدها! ليت أنا!!
ميت غمر
عبد العزيز عتيق(55/57)
بمناسبة ذكرى وفاة الإمام
وقفة على دار الإمام محمد عبده بعين شمس
للشاعر الحاج محمد الهراوي
أظلاماً وأنت في عين شمس ... وعبوساً من بعد صفو وأنس؟
كيف أصبحتِ يا مثابة غاد؟ ... كيف أمسيتِ يا منارة ممسي؟
كنت والعهد منك غير بعيد ... بيت مَلك بغير تاج وكرسي
كنتِ للفضل والمكارم والنب ... ل جميعاً، للناس من كل جنس
كنت للعلم، والمعلم، والطا ... لب، مجلي نهي، ومعهد درس
عطلت هذه الدروس وكانت ... ملء أهل الزمان في كل حس
وانطوت ثم لا يزال صداها ... بين صدر يرن فيه وطرس
فانظر الدار وهي قفر خلاء ... بعد أهل، فهل ترى من محس؟
واسأل الرسم إن أصبت جواباً ... في كلام أو في إشارة خرس
هيه يا دار بعد أنس أجيبي ... كيف أوحشت بين يوم وأمس؟
لا تراكِ العيون من دمعها المس ... بل حزناً، إلا بنظرة خلس
نظرات تعيد ذكرى إمام ... كاد ينسى، وصنعه غير منسي
حسدت مجدك الليالي فمالت ... بعد لين عليك ميلة بأس
أقفرت هذه الربوع وأقوت ... واستحالت إلى معالم درس
لا يكاد البناء يقوى على الأر ... ض ولا يثبت الجدار بلمس
ما بناك الذي بناك ليزهى ... بالذي شاد من قباب وأس
هو لو شاء شاد عرشاً وفرشاً ... من لجين ومن حرير الدمقس
إنما آثر التواضع حكماً ... للذي فيه من تواضع نفس
ليس يعني بزخرف العيش حُرٌّ ... قطع العيش بين نفي وحبس
فأقام البناء من لبنات ... خشنات أطرافها غير مُلس
لا يبالي وكل شيء سيبلى ... أن يطوف البلى عليه بطمس
أنكر النفس ثم باع هواها ... في سبيل الأوطان بيعة بخس(55/58)
ومضى يحمل الكريهة فرداً ... مستعيناً بكل بأس وبؤس
مستعيناً بالله والحزم والعز ... م ووحي الحجى وتدبير رأس
نفس حر تجملت بخلال ... يتجافين عن صغار ورجس
خصه الله بالمواهب والرأ ... ي بعيد المرام صلب المجس
رجل كان حين يقطع أمرا ... يتقاضاه من مخالب يأس
ليس يثنيه عن أياديه قوم ... يصبغون الجميل صبغة ورس
فلقد عاش (عبده) في زمان ... جل من فيه أهل كيد ودسّ
حسدوا فيه نعمة الله فيهم=ورموه بكل منكر حدس
فاذا مات أيقنوا أي ركن ... هدمته يد الضلال بفأس
قل لشعب حظ النوابغ منه ... حظ سقراط حين أودي بكأس
تقتلون النبوغ حياً وتمضو ... ن بُكيا عليه في بطن رمس
أيها الناس، ههنا قام بيت ... فوق آثار خفرع وكيوبس
لم يكن من صروح هامان فرعو ... ن ولا كان من حصون الفرس
فاذا ذل فالذي قد بناه ... ليس من طينة الذليل الأخس
آه لو كان شكسبير بناه ... أو بناه أخوه (هيجو) الفرنسي
لرأى الناس أي دار تجلت ... واستحالت إلى حظيرة قدس
أثر النابغين في كل شعب ... هو ميراث كل جيل وحرس
أيها الناس ههنا سر مجد ... قبست منه نورها عين شمس
وهنا ههنا أشعة ذكرى ... تستضيء العقول منها بقبس
فأقيموا البناء من قبل أن يأ ... تي يوم يحول من متاع للبس
واجمعوا فيه ما تشتت منه ... بيد الدهر من متاع ولبس
واجعلوه للعلم داراً وللد ... ين مناراً، أو مرجعاً للتأسي
ينبري للوفود منه خطيب ... صامت القول من بلاغة قُس
يوعظ العقل للحياة ويمضي=يفتح العين من عماء ونعس
ذاك من جانب الوفاء إلى الشع ... ب نداء لصاحب غير نكس(55/59)
محمد الهداوي(55/60)
بمناسبة ذكرى حافظ
شاعر النيل
بقلم الأديب أحمد عثمان عبد المجيد
لولا أن الخطب في شاعر النيل هو خطب الشرق الذي كان الفقيد لساناً من ألسنته، وعموداً من عمد نهضته، وبطلاً من أبطال المحاماة عن حريمه، والذود عن حقيقته، وقائداً من قواده البسلاء الميامين، وداعية فيه إلى الإخلاص في الجهاد، والإحسان في البلاء، ليظفر بحقه في الحياة والسلطان. لولا أن الفقيد كان ذلك الرجل ما جل الخطب فيه وما فدح وما كان لمثلي أن يجاوز طوره، ويصطنع ما لا يطيق، ويدفع نفسه دفعاً في مزدحم الكرام الكاتبين عن حافظ شاعر النيل فيعرضها لشيء كثير من العنت والمشقة.
ومن أعجب العجب أن يريغ هذا القلم اللدن تلك السبيل برغم ما يتعاور حامله من تبلد القريحة، وركود الذهن، وأن يأسره ذكرى شاعر النيل وحده فيتحدث عنه يوم مضى على وفاته الأربعون، ثم العام، وها هو ذا يتحدث عنه وقد تصرم العام الثاني على وفاته أمس.
وأعتقد أن حافظاً ما ملك من نفسي إلا بما غلب عليه من إيثار الوطن وفدائه، وغلب على شعره من الحماسة الوطنية والنزوع إلى الحرية، والولوع بالاستقلال والسيادة. ولعل أقل ما نجزي به حافظاً (رحمه الله) أن نكثر الحديث عنه، وأن نقدمه إلى شعرائنا الذين آثروا أدب الصبابة واللذة، وجنحوا بالأدب عن أن يكون وسيلة من وسائل إلهاب الشعوب المستضعفة وإنهاضها للمطالبة بالحقوق والدفاع عن الذمار، وظنوا أن تزويق الحديث وتليين المعارض والمقاطع ووصف الغانيات، وأسباب الترف من الأوليات التي يجب أن يعنى بها الأديب، وأن يخلص لها الأدب.
لمثل هؤلاء يجب أن نقدم حافظاً مثلاً للأديب الذي عرف غاية الأدب السامية فجعل نتاجه الجم وقفاً عليها، وجهاداً في سبيلها، ولم يحاول أن يسلك بالأدب مسلك أكثر أدبائنا الذين جحدوا حق الوطن عليهم، وتأثروا طريقة الأدب العربي في فنونه التي خلت إلا قليلاً جداً من الشعر الوطني الذي يحدث عن آمال الشعوب ورغائبها.
لذلك لم يأل جهداً في تسجيل ما للشرق من مفاخر، عز بها حقبة من الزمن، وما ينبعث لتحقيقه في إيمان ثابت، وجهاد صادق من مآرب وغايات. ضارباً له الأمثال ليشد أزره،(55/61)
ويصحح عزيمته، ويثير حفيظته، ويزيد إيمانه بحقه، واعتزازه بمجده
فتش في آثار حافظ كلها يأخذ ببصرك هذا الطابع المجيد، وتر أنه لم ينس الحديث عن مصر والشرق حتى في مدائحه، ومراثيه، لأنه لم يمدح ولم يرث إلا الغطارفة الذين عرفهم وعرفتهم مصر مجاهدين في سبيلها، مخلصين في الذود عنها، بل لم ينسه في خمرياته التي يستعبد الحديث عنها السمع والبصر واللب جميعاً، ويأخذ بذمام الفكر فلا يدعه يجنح إلا إلى اللهو والخمر والقيان والندمان وما إليها.
لم يذهب حافظ في أدبه ذلك المذهب إلا متأثراً بمصريته الصميمة، وما أفاده من صحابة الأحرار من كره الاستعمار وضيق بالذل، وما لقيه من عناد الإنجليز بالسودان وما مني به بعد من بؤس وشدة.
كل هذه العوامل قربت بينه وبين الشعب، فأحس منه ضعف النفوس، وتزايل الوحدة، وتردد المستضعف، وخوف الذليل، وأراد الإصلاح ما استطاع فاتخذ سبيله ليرضى بسعيه عن نفسه، ويكون كما قال:
لعمرك ما أرقت لغير مصر ... وما لي دونها أبداً مرام
وقوله:
إني لأحمل في هواك صبابة ... يا مصر قد خرجت عن الأطواق
لذلك لم يدع باباً من أبواب الجهاد إلا ولجه، فكان له في سبيل الوطن والدين والأخلاق مواقف عز بها وبز، وأقعد غيره عن أن يلحق به ويدانيه، واصطنع في جميعها الجرأة والصراحة وخلطها أحياناً بالتهكم اللاذع، والسخرية المرة، لتكون أبلغ في التأثير وأبقى في الآذان. واليك حديثه مع غادة اليابان مثلاً تر فيه كيف برز حافظ في هذا المضمار، وجمع إلى سلامة الشعر وشرف المقصد دقة التصوير، وسمو التصور:
لا تلم كفى إذا السيف نبا ... صح مني العزم والدهر أبى
أنا لولا أن لي من أمتي ... خاذلا ما بت أشكو النوبا
أمة قد فت في ساعدها ... بغضها الأهل وحب الغربا
وهي والأحداث تستهدفها ... تعشق اللهو وتهوى الطربا
لا تبالي لعب القوم بها ... أم بها صرف الليالي لعبا(55/62)
ثم يمضي يصف تفريط أمته. وعشقها الألقاب في غير العلا، وجهادها بالنفوس في سبيل الرتب، وتباغضها وتحاسدها، وما إلى ذلك مما يقعد بالمصلحين، ويثبط همم المجاهدين إلى أن يقول مخاطباً غادة اليابان:
قلت والآلام تفري مهجتي ... ويك ما تصنع في الحرب الظبا
فسليني إنني مارستها ... وركبت الهول فيها مركبا
وتقحمت الردى في غارة ... أسدل النقع عليها هيدبا
جال عزرائيل في أنحائها ... تحت ذاك النقع يمشي الهيدبى
فدعيها للذي يعرفها ... والزمي يا ظبية البان الخبا
وهو بذلك الحديث كله يمهد لما يريد أن يقدمه نصيحة للشباب ويجعله مثيراً لهممهم، باعثاً لهم من مراقدهم، فأي شاب يعرف للرجولة حقها يسمع حديث حافظ على لسان هذه الغادة فيرضى أن يسيغ المذلة، ويقيم على الخسف الذي يراد به فيكون أحد الأذلين؟
فأجابتني بصوت راعني ... وأرتني الظبي ليثاً أغلبا
إن قومي استعذبوا ورد الردى=كيف تدعونيَ الا أشربا
أنا يابانية لا أنثني ... عن مرادي أو أذق العطبا
أنا إن لم أحسن الرمي ولم ... تستطع كفاي تقليب الظبا
أخدم الجرحى وأقضي حقهم ... وأواسي في الوغى من نكبا
ولسنا في حاجة إلى أن نقول: إن حافظاً قد بلغ في هذه القصيدة مبلغاً من الإحسان يحسد عليه، وأشرف بها على الغاية، وأسمعت كلماته من به صمم
ولم يزل يتبع الصيحة المدوية أخرى أشد وأعلى ليستقيم له قياد النفوس. ويدفع الشباب المترف المنعم الذي سدر في شهواته وغلا في مباهجه، ونسى حق الوطن عليه - إلى ما يجب أن يعمل له ويشغل نفسه به فانه
عار على ابن النيل سباق الورى ... مهما تقلب دهره أن يسبقا
فتدفقوا أسداً وصونوا نيلكم ... فلكم أفاض عليكم وتدفقا
فمن البلية أن تباع وتشترى ... مصر وما فيها وألا تنطقا
تلك هي البلية البالغة، والهوان الأكبر، والفعلة النكراء، فأحر برجال الغد المأمول أن يلموا(55/63)
الشعث، ويرأبوا الصدع، ويسعوا إلى خير هذا الوطن المسكين سعياً ملاكه التضحية بالنفس والتفدية بالعزيز
رجال الغد المأمول إن بلادكم ... تناشدكم بالله أن تتذكروا
فكونوا رحالاً عاملين أعزة ... وصونوا حمى أوطانكم تتحرروا
ويا طالبي الدستور لا تسكنوا ولا ... تبيتوا على بأس ولا تتضجروا
فما ضاع حق لم ينم عنه أهله ... ولا ناله في العالمين مقصر
لست أدري إذ أقرأ لحافظ هذا وكثيراً غيره فأرى دعوته إلى الثورة سافرة غير مقنعة، وحفيظته على الاستعمار صريحة غير منكتمة، ماذا يكون منه لو أفسح له القانون قليلاً في الحرية؟ وأي شيء بعد هذا نرتقبه من مجاهد، ونرجوه من حر.؟
إن من يعرف صرامة القانون إذ ذاك وما رمي إليه المشترع الإنجليزي من كبت الشعور، والتفزيع والكيد للاحرار، ليعتقد أن حافظاً آثر عنت القانون، وشدته ليقضي حاجة نفسه، وحاجة أمته في ذلك الوقت العصيب الذي سعى فيه كثير من الخاصة إلى رجال الاستعمار متزلفين مؤثرين أنفسهم على الوطن
فهذا يلوذ بقصر الأمير ... ويدعو إلى ظله الأرحب
وهذا يلوذ بقصر السفير ... ويطنب في ورده الأعذب
وهذا يصيح مع الصائحين ... على غير قصد ولا مأرب
لله درك يا حافظ! لقد جاهدت والغمرات من حولك منكرات والقوم مشغولون عنك بذات نفوسهم. فما فنيت عزيمتك ولا وهى صبرك، ولا دفعك ذلك إلى اليأس إلا حين ترجو الإلهاب والتهييج، فما أجمله يأساً يوقظ الشعور ويحفز الغافل إلى المناداة بالحقوق
حطمت اليراع فلا تعجبني ... وعفت البيان فلا تعتبي
فما أنت يا مصر دار الأديب ... وما أنت بالبلد الطيب
وكم فيك يا مصر من كاتب ... أقال اليراع ولم يكتب
فلا تعذليني لهذا السكوت ... فقد ضاق منك ما ضاق بي
أيعجبني منك يومَ الوفاق ... سكوت الجماد، ولعب الصبي
وكم غضب الناس من قبلنا ... لسلب الحقوق ولم نغضب(55/64)
غضب الناس لحقوقهم فاستردوها، ونمنا نحن عن حقوقنا وهي ملء الأرض، وشغلنا عن مجدنا الدابر وهو ملء التاريخ، ورضينا بالدون من العيش قسما وحفظاً وقد
كنا قلادة جيد الدهر فانفرطت ... وفي يمين العلا كنا رياحينا
كانت منازلنا في العز شامخة ... لا تشرق الشمس إلا في مغانينا
وكان أقصى مُنى نهر المجرة لو ... من مائه مزجت أقداح ساقينا
والشهب لو أنها كانت مسخرة ... لرجم من كان يبدو من أعادينا
فلم نزل وصروف الدهر ترمقنا ... شزراً وتخدعنا الدنيا وتلهينا
حتى غدونا ولا جاه ولا حسب ... ولا صديق، ولا خل يواسينا
في هذه الأبيات وفي كثير غيرها يذكرنا حافظ بسلطان الشرق وملكه، وعلمه وفلسفته، وأيامه الخالية، ثم بعبوديته وفقره المادي والأدبي ليبعث من ألقى السمع إلى النهوض، وينبه الغافل الكسل إلى ماله من حقوق مسلوبة
ولبس من شك في أن شاعرنا قد أدى بقصائده هذه ما وجب عليه كمصري صميم إنيكن زاد وأربى، وأن الشعب قد أحمسه تذكير بنعمى عريضة تحولت أبؤساً، وعز باهر آض ذلاً. ولكن نفسه الكبيرة ما كانت لترضى بهذه التضحية الحق، فلولا صرامة القانون لأرتنا عجباً، فمثلها لا يقنع بما دون النجوم.
متى أرى النيل لا تصفو موارده ... لغير مرتقب لله مرتهب
فقد غدت مصر في حال إذا ذكرت ... جادت دموعي لها باللؤلؤ الرطب
إذا نطقت فقاع السجن متكئ ... وان سكت فان النفس لم تطب
وكما لم يحمد حافظ جهاده وبلاءه لم يحمد للشباب نهوضهم المقدور، وجهادهم المحدود، وهو يريدهم أسوداً ضارية لا ترتد عن الغاية أو تبيد، فأنحى عليهم باللائمة وأغلظ لهم في القول، وقرعهم وتحدى رجولتهم فقال:
أنابتة العصر إن الغريب ... مجد بمصر فلا تلعبي
يقولون في النشء خير لنا ... وللنشء شر من الأجنبي
أفي الأزبكية مثوى البنين ... وبين المساجد مثوى الأب
وكم ذا بمصر من المضحكات ... كما قال فيها أبو الطيب(55/65)
هذه النابتة التي راضها حافظ على التضحية فارتاضت بعد شماس، وأدبها ذلك الأدب الجميل وطالما أوضعت في اللهو وجنحت إلى الأثرة فجنت على الأمة، هي التي تسعى اليوم غير وانية، وتمضي غير متريثة، لا يشغلها عن جهادها الشريف ما يُمنى لها من كيد، وما يراد بها من هون، لقد علمها بالصراحة، وعرض عليها شر ما فيها من الخصال لتتوقاه، وكان عليها حديد اللسان إن ترددت حين العزم وتقاعست عند النائبة
حسبي هذه الصور البارعة التي تدل دلالة واضحة على أن حافظاًً - أحسن الله جزاءه - كان شاعرا الوطنية الثائرة، لم يقدع ثورته الخوف، ولم يأسر قلمه التزلف والرياء، ولم يخالف بين قوله وفعله
وستظل هذه الناحية من شعر حافظ شغل الباحثين ما دام الحديث عنها يمتد ويمتد فلا يقوم بالإيفاء فيه الإطناب المطنب، وما دامت النفوس الأليمة تستروح برد الراحة في دراسة هذه الآثار التي تحدث عن أشهى أمنية من أمانيها، وما دام - حافظ - نفسه يأبى أن يحتفل بغير هذه الناحية، ويقول ما معناه (إن من قضى شبابه في الجيش، ثم انغمس بعد تسريحه في شعر الوطنية؛ هيهات أن يجد متسعاً لما وراء ذلك) وأختتم الكلام بعرض مختار من إحدى قصائده في داهية دنشواي الدهياء، وقد صاغها من حسرات نفسه وآلام شعبه، ورثى فيها العواطف الشريفة - يقتلها حب الاستعمار في نفوس أهله - فجاءت طرازاً وحدها في قوة التأثير وجمال النظم قال:
خفضوا جيشكم، وناموا هنيئاً ... وابتغوا صيدكم، وجوبوا البلادا
واذا أعوزتكم ذات طوق ... بين تلك الربى فصيدوا العبادا
انما نحن والحمام سواء ... لم تغادر أطواقنا الأجيادا
لا تظنوا بنا العقوق ولكن ... أرشدونا إذ ضللنا الرشادا
ثم يقف بعدُ من المستعمر موقف الخصم العنيد، فلا يدع له حجة ولا ينجيه من التثريب والملامة:
أحسنوا القتل إن ضننتم بعفو ... أقصاصاً أردتمُ أم كيادا؟
أحسنوا القتل إن ضننتم بعفو ... أنفوساً أصبتم أم جمادا؟
ليت شعري أتلك محكمة التف ... تيش عادت أم عهد نيرون عادا؟(55/66)
كيف يحلو من القوى التشفي ... في ضعيف ألقى إليه القيادا؟
ثم يمضي بعدُ حسراته وزفراته حتى ينتهي إلى تقريع أبناء مصر الذين ينقلبون حرباً عليها، ويكونون عوناً للمستعمر على خضد شوكتها؛ ويخلص من ذلك إلى قوله وقد أنكر تصرف هؤلاء الأعيان وزرى عليه:
لا جرى النيل في نواحيك يا مصر ... ولا جادك الحيا حيث جادا
أنت أنبتّ ذلك النبت يا مصر ... فأضحى عليك شوكاً قتادا
أنت أنبتّ ناعقاً قام بالأمس ... فأدمى القلوب والأكبادا
إيه يا مْدرهالقضاء ويا من ... ساد في غفلة الزمان وشادا
أنت جلادنا فلا تنس أنا ... قد لبسنا على يديك الحدادا
هذه الروح القوية التي استبانت فيما أوردنا من شواهد هي التي صدر عنها حافظ في جهاده الوطني الذي صار من أجله شاعر النيل غير مدافع ولا منازع.
وما زال - رحمه الله - يغذي الحركة الوطنية، ويشيد بها حتى ألقى عصاه بدار الكتب، فصرم بها زماناً لا ينشدنا إلا لماما.
وما كان للنفوس التي خالطها حبه، وغذاها أدبه، وطبعت على أن تسمع صوته متصلاً لا ينقطع، أن تسكن إلى تلك الحال، وأن ترضى بذلك القليل يأتيها منجما في أوقات متباعدة.
فلما ترك - رحمه الله - المنصب محالاً إلى الراحة والدعة، أمّلت خيراً واستشرقت وأنست إلى مقطوعاته التي كان ينظمها اليوم بعد اليوم، ولكن ما هي إلا جولة أو جولتان حتى رفع القلم، وطوى الأثر، وودعنا حافظ
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
أبى البؤس الذي ألح على حافظ حياته أن يدعه بعد وفاته، فكفرت الأمة بأياديه عليها، ولم تعرف لذكراه حقها، وكان أقل ما يجب عليها لمن عاش حياته مجاهداً في سبيلها، مسبحاً باسمها، أن تجعل يوم وفاته أحد أيامها الخالدات، تهرع فيه إلى تمجيد ذكره وإعلاء قدره، وأن تنشر صحيفة جهاده للأدباء ليتأثروه فيه ويعملوا على شاكلته.
وليس هذا وحده هو كل ما أصاب حافظاً من بؤس بعد وفاته، فان خلصاءه الذين عاشروه ولابسوه ولزمهم بذلك ما يجب على الصديق للصديق، قد نفضوا أيديهم مما تعاهدوا عليه(55/67)
إثر وفاته واجتمعوا من أجله، وقد كان فيه قليل من كثير جداً يجب عليهم لذلك الشاعر الصديق الذي أضحى بين هؤلاء الصفوة الأنساء أو النسيان وكلاهما شر.
وبعد، فتلك كلمة فيها إيجاز وقصور، لم أرد فيها كشفاً عن فضل مستور، وبياناً لقدر منكور، ولكني أردت أن أؤدي لشاعر النيل بعض ما وجب علّي بالأخذ عنه، والانتفاع بآثاره. فان أك قد قاربت ما أردت فحسبي، وإلا أكن فالمجتهد يعذر.
أحمد عثمان عبد المجيد(55/68)
بين الشك والإيمان
الشاعر الإيطالي (ليوباردي)
للأستاذ خليل هنداوي
- 2 -
أعجب ليوباردي بالموت والفناء، فقال في مقطوعة له:
_ أيها الموت الرحيم الذي لم أزل أدعوه إلى منذ تألق صباي: تعال أغلق إلى الأبد عينيَّ، فقد طرحت بعيداً عني كل أمل خادع يتعلل به العالم، ويلهو كالطفل. أنا لا رجاء لي إلا بك، ولن أرتقب إلا النهار الذي أرقد فيه مسنداً جبيني على صدرك الطاهر)
وهكذا أصبحت نفسه لا يشبعها لون من ألوان الحياة وآمالها، لا الحب ولا زهوه، ولا الأمل وآفاقه؛ لا يشبعها ولا يطفئ رغائبها إلا لقاء الموت.
قد تسمع هذه اللهجة من غير ليوباردي فتصد عنها، ولكنك تسمعها من هذا القلب الخافق والروح المعذب فتوقظ نفسك الهاجعة وتهيج قلبك الهامد، لأن اللهجة التي ينطق بها الشاعر ليست لهجة خاصة، وإنما هي لهجة الإنسانية التي تأتي من حيث لا تعلم، وتنطلق إلى حيث لا تدري.
يقول ليوباردي: إن الجميل هو عدو الحقيقي، ولكن هذا الجمال الخادع هو - عندي - خير من الحقائق الأرضية الدنيئة. ألا فلنهذب الأشياء التي تفسح ساحات الخيال، فهي أجدى نفعاً على الناس لأنها تبعث على النسيان. إن الآداب هي رفيعة المقام، وهي القائدة إلى المثل العليا، والدرس يبعث على التعزي، وهو يبهج ويلهي النفس. أما الحب فهو نعمة لأنه يتصور ويتأمل. أما الأمل فهو الأريج الفواح الذي يعطر مسارب كل مكان. وإذا كنت أعتقد أن الموت هو خير هذه الأشياء، فلأنه يفاجئ الإنسان المسترسل في أوهامه، لا يقتل هذه الأوهام إلا بقضائه على الحياة؛ لماذا تصلح حياتنا؟ هل تصلح إلا للازدراء؟
- 5 -
ومن الغريب أن ترى ليوباردي الكاتب يناقض ليوباردي الشاعر، فرسائله لا تكاد تخلو من ذكر الله وهو في شعره جاحد لوجوده، يقول في إحدى رسالاته (والأجل الذي كتيه الله لي(55/69)
لما يحن! ولكنني أرجو من الآلام التي أنهكتني أن تسوقني إلى الراحة الخالدة التي أطلبها كل يوم، هرباً من العذاب الذي أضواني.)
كان ليوباردي يجحد وجود العناية الإلهية، والآن يثبتها لأنه يحس وجودها بالضرورة التي تفرض وجودها. يقول الشقي (إذا كان هنالك كائن في السماء أو الأرض أو في قاع البحار، فلا أقول عنه إنه رحيم، ولكنه شاهد على عذابي)
كان ليوباردي يحتقر البراعة، وينسى الأسماء الخالدة اللامعة وها هو الآن في ذات مساء، في مدينة (رومة) يرقى ربوة ((سانت أتومزيو) حيث قضى (لوتاس) نحبه، ينحني إزاء قبر هذا الشاعر الكبير، ويستوي تحت ظلال الشجرة التي ألف الشاعر أن يفئ إليها متأملاً في غروب الشمس، هنالك يقول ليوباردي لا شيء جميل على الأرض؛ عظمة اليراعة التي تعيش وتخلد هي فوق كل عظمة. وكان يقول عن الحب إنه حلم فارغ، غير خليق به أن يقلق نفساً صافية، وها هو ذا الآن يجعل من الحب رسول السعادة الحقيقة، ترسله الآلهة إلى قلوب بني الإنسان. (فهو إذا هبط الأرض تحرى عن أشرف القلوب وأطهرها، وبث فيها من روحه وعذوبته. حتى ليحس صاحب الحب أن في قلبه روحاً غريبة تثنيه عن العالم) وهو الكاتب إلى أخيه (بالله أجبني. . . أنا في حاجة إلى الحب. . . الحب. . . النار. . . الهيام. . . الحياة) وهو الذي يحدث عن صداقة أنقذته، وبدلت بؤسه هناء وجعلته يؤمن بأن في الحياة أفراحاً كان يحسبها مستحيلة.
كان ليوباردي يساير مذهب الجاحدين وجود المشاعر السامية في الإنسان، والآن أصبحت هذه الأكاذيب عنده أسمى شيء في أخلاق الإنسان، تدل على شيء هو أعظم من الرداء الترابي، فيصرف وجهه عن الأرض ليتأمل في عظمة الفضاء الشاسع والعوالم السابحة فيه، فيرى كل شيء صغيراً حقيراً عند هذه النفس، فيعرف أن النفس هي أوسع بخاطراتها وتأملاتها من كل عالم، فتشكو هذا النقص وتحس الفراغ والسأم؟ أليس هذا بما فيه برهاناً على شرف الطبيعة الإنسانية؟
هذه المشادة هي المعركة التي تقوم بين القلب والروح، ولكن هذه المعركة التي تتخذ من صدر (ليوباردي) ميداناً عنيفاً هي معركة دائمة لا انتهاء لها. يحفزها الألم ويسعر ضرامها الشقاء ذلك الألم الذي نحا بالشاعر إلى هذه الوجهة العابسة من فلسفة الشك، وطبيعي أن(55/70)
تكون هذه الوجهة غيرها فيما لو قيَّضت المقادير لهذا الشاعر حياة ناعمة وعيشاً رغداً، إذا لكبست الحياة متفائلاً جديداً يشدو بمحاسنها ويلهج بالثناء على جمالها، وسيان عندها شاعر بكى وشاعر شدا:
فلله ما أظلم الفلسفة إذا كان قليل من هناء يبيض وجهها فيبيض العالم، وقليل من شقاء يسوَّد وجهها فإذا العالم كله ظلمات بعضها فوق بعض. والحقيقة - وأجدر بالحقيقة أن تكون وراء هناء الإنسان ووراء شقائه، ولكن قل لي من الذي يستطيع أن يتجرد من جميع هذه الظواهر، ومن ذا الذي يقدر على أن يضمن سلامة عقله إذا جاع بطنه، وأن يبقى على هنائه إذا عضه ألم أو فرَّ منه أمل
- 6 -
وهكذا ظل ليوباردي تتشاطر قلبه نوازع مختلفة، وينحط على جسده الداء إثر الداء، يحاول أن يهدئ ثائرتها عنه بتنقله من رومة إلى بولونيا، ومن بولونيا إلى فلورنسا، إلى نابولي، والداء لا يزيد إلا تمكناً منه، حتى آثر الشاعر الموت لنفسه على ان يذلها بسبب الحاجة، وقد دفعه ألمه هذا للكتابة إلى والده (. . . ان ما رتبته لي لا يكفي. . . على أنني أريد ألاّ أحيا كما يحيا الناس، ولكن الموت هو أفضل عندي، ولكن الموت يجب ارتقاب أجله، فلو كان الأمر بيدي لما طلبت إليك - والله شهيد علي - أن تمنحني شيئاً.)
تعرف في نابولي إلى صديقه (رانيري) ذلك الصديق الذي أخلص له كل الإخلاص، وظل أميناً حتى اللحظة التي غادر فيها ليوباردي الوجود، وفي نابولي اعتزل الشاعر الناس، فلا يبصر منهم أحداً، ولا يسمع عنهم شيئاً، كأنما عزلته هذه هي عزلة الموت. ينطبق عليه فيها قوله (أصبحت جزعاً يفكر ويقاسي العذاب، هو لا يزجى حياته إلا في التفكير، ولا يشغله في عزلته ألاّ التأمل. إذا رآه الناظر يخطر بين خرائب (بومباي) عند الغروب، تمثل شبحاً قديماً يزحف بين الخرائب يرثي حظها وحظ نفسه
وجد على قمة جبل تنفث مائعاً نارياً نبتة ضعيفة تحاول أن تنزل فيها جذورها، فمثل الشاعر نفسه بالنبتة الحقيرة وناجاها قائلاً: (وأنت أيضاً، ستخضعين لقوة النار، وستنحنين تحت الأثقال، ولكنك لن تنحني جبانة أمام الظالم، ولن تلتفتي إلى السماء بكبرياء أهوج)
يطغى على ليوباردي هذا الشك العنيف، فينكر الخلود ويعلن قبل موته أن هذه الفلسفة(55/71)
البائسة - كما يدعوها - ليست نتيجة ألمه وشقائه، ولكن نتيجة اعتقاد وايمان، ويؤلف مقطوعة الموت والحب، معنوناً إياها ببيت للشاعر (لمينادر) (هنالك يموت شاباً من تحبه الآلهة)
وإزاء هذا التناقض الذي شاهدناه بين قصائده ورسائله كتب أيضاً (وداعاً يا صديقي العزيز. . إنني أحس في نفسي رغبة هائجة لعناقك، ولكن كيف؟ وفي أي موطن أستطيع؟ أخاف جداً ألا يكون هذا بقدر طول حديقة (أسفوريل). حدثني عن دروسك، وأحببني دائماً، وداعاً لك من كل قلبي)
انتشرت الكوليرا في نابولي وكثرت ضحاياها، فنقله (رانيني) صديقه الحميم إلى (بورتيسي). وفي الرابع عشر من يونيو عام 1839 أخذت الشاعر نوبة إغماء قوية تزايلت لها أعضاؤه، ولم يكن عند الشاعر إلا صديقه وأخت صديقه، كانت تمسح العرق المتصبب من جبين العليل، وكان (رانيني) يساعده بحركات رياضية على التنفس، وكل هذا لم يغنه شيئاً. فعاد بعد لأي إلى وعيه واتسعت عيناه، ونظر إلى صديقه نظرة عميقة، وقال به بلهجة يمازجها التنهد: (لن أراك أبداً) ثم انقطعت أنفاسه وهمد قلبه الهمدة الأخيرة
ووري جثمانه في الكنيسة الصغيرة (سانت فينال) حيث يرقد غير بعيد عنه رفات الشاعر الأكبر (فرجيل). فيا لله من هذا الحظ الذي جمع بين لحدي هذين الشاعرين العظيمين، وهما على قربى في الوطن والفكر والشعر. قد انشق الاثنان من نبعة، وانطلقا ليرقدا في رقعة واحدة. كلاهما تألم، وكلاهما لقي حتفه في ميعة الصبا، وكلاهما أيس من العالم الثاني، وود أن ينتقم من المقادير ويثأر لشقائه فقالا: (هي المقادير! ما أوجدت الإنسان ليحيا، وإنما أوجدته ليموت)
وهذه الفكرة التي تجعل الموت غاية الوجود قد رددها ليوباردي في مقطوعته (أنشودة الديك)
_ يخيل اليَّ أن المآل الوحيد لكل موجود هو الموت، لن يموت شيء لم يوجد، ولن يولد شيء من العدم.
يتجه كل مخلوق بأعماله وآماله إلى السعادة.
فيسعى ثم يقف مجهوداً دون أن يدركها.(55/72)
ثم يجد أن جميع أعماله - لا تؤول وا أسفاه! إلا إلى مشيئة الطبيعة المكتوبة على كل موجود - وهي الموت)
وكأنه يقول، وهو المتألم، خلقنا لنتألم، ثم لنفنى.
(بيروت)
خليل هنداوي(55/73)
العلوم
تطور فكرة النظام الشمسي عند اليونان
بقلم فرح رفيدى
. . . هذه أول مقالة من عدة مقالات في تطوير فكرة النظام الشمسي عند اليونان وعند الكنيسة في العصور الوسطى، وعند العرب، ثم الانقلاب الأخير الذي حدث على عهد كويرنيكس وجاليليو.
وقفت في مساء ليلة من ليالي الصيف متأملاً انحدار الشمس إلى المغرب انحداراً بطيئاً، وكان الشفق بألوانه ممتعاً للأنظار، محركا للنفوس. لكني لم أبال بجمال المنظر أكثر من أن الشمس ستتوارى عني وراء الجبال بضع دقائق
وأجهدت نفسي في تلك الآونة لأرى الشمس واقفة وأشعر نفسي متحركاً مع الأرض، لكن جهدي ذهب عبثاً، إذ مازلت أرى الشمس تهوي مسرعة لتختفي عن ناظري، والشفق يزداد احمراراً كلما دنت من المغيب. فبالرغم عني لم أرها إلا متحركة وبالرغم عن كل شيء لم نلاحظ الشمس تقف ثانية واحدة في مجراها اليومي، فهي أبداً في كل يوم نشاهدها صباحاً في المشرق، ترتقي رويداً في هذه القبة الزرقاء، إلى أن تصل أوجها في منتصف النهار، ثم تأخذ في الانحدار والاختفاء وراء الأفق الغربي، فتضئ هناك ما كان مظلماً، وتبقى خلفها الظلمة ترتقبها النجوم بأعين ساحرة متلألئة.
وقد نشاهد القمر أحياناً يظهر بعد اختفاء الشمس، فيسلك مسلكها، ويتبع خطاها واحدة واحدة، إلى أن يتدرج في انحداره وراء الجبال أو وراء البحار. ففي أثناء هذه الدورة العظيمة من الشمس، أو هذا الانقلاب الخطير المتعاقب من ليل ونهار، من بفكر أو يشعر أنه دائر حول محور الأرض بسرعة تقرب من الألف ميل في الساعة، وأنه في اثنتي عشرة ساعة ينقلب أسفله إلى أعلاه وأعلاه إلى أسفله؟ وكيف يكون هذا الدوران السريع ولا نرى البنايات تتهدم، والأشجار تتساقط، والمياه تتطاير في الفضاء والناس تقع وتقوم؟. إن هذا الدوران حركة عنيفة قادرة على تفتيت الأرض وهدمها. فبما أن كل هذه الأشياء لا تحدث، فالأرض إذن ثابتة لا تتحرك في وسط هذه القبة المستديرة. نعم ذلك ما اعتقده اليونان الأقدمون وجاهر به بطليموس في القرن الثاني بعد الميلاد. فثبات الأرض في(55/74)
مركزها كان النقطة الأساسية في النظام اليوناني القديم.
لنقف الآن قليلاً، ولنتصور أنفسنا في يوم 22 يوليو عند ما يكون النهار على أطوله، والشمس مشرقة تماماً على الخط المار بين الغرب والشرق منا. لندع الشمس تدر حول الأرض كعادتها ونحن نرقبها كل يوم من مسقطها ونعين موضعها بين الجبال أو ان شئنا بين النجوم، فبعد أيام نرى أن الخط المار بنا وبها قد بدأ في الانحراف قليلاً عن خط الشرق والغرب، ولا يزال الخط في الانحراف ولا تزال الشمس متنقلة بين النجوم إلى أن يأتي الخريف بعد الصيف الحار، ويقترب الشتاء ببرده القارس، ويأتي يوم 22 ديسمبر حيثما يكون النهار على أقصره، فبلغ الخط منتهى انحرافه، وبدأ بالرجوع إلى مكانه الأول. ثم لحق الربيع الشتاء، وما كاد يطرب بنضارته وجماله الشعراء حتى يباغته الصيف بحره وجفافه، ويأتي يوم 22 يوليو حيث يرجع الخط لمكانه الأول. وذلك بعد أن أنهت الشمس مسيرها بين النجوم. لأن ذلك كان ما اعتقده أرسطو وبطليموس في النظام الكوني وعللاه بقولهما: إنه لو كانت حركة الشمس هذه ظاهرية فقط ومسببة عن حركة في الأرض في جهة معكوسة، لكنا رأينا النجوم أيضاً تسير بهذه الحركة الظاهرية مع الشمس، وبما أنا لا نلاحظ أي انتقال أو تغيير في النجوم فالأرض إذن ثابتة لا محالة، وأي تغيير قد يحدث في بعض هذه اللوامع في الليل فانه راجع إلى الأجرام نفسها لا إلى حركة الأرض أو دورانها. وهذا التعبير الذي أذاعه المعلم الأول أرسطو تعبير منطقي يسلم به العقل، ولذلك ظل معتقداً راسخاً في قلوب الناس قروناً عديدة
أول ما يلاحظ الناظر في الليل إلى السماء هو الاختلاف البيّن في لمعان النجوم، فاستدل اليونان من ذلك على أن النجوم الأشد لمعاناً هي أقرب إلى الأرض من غيرها، وقد وجدوا أن من غريب أمر بعض هذه النجوم، أنها تنتقل من مكان إلى أخر، لذلك سميت بالنجوم السيارة فبثوا العيون وراءها ترصدها أينما حلت، واعتقد أرسطو أن هذه النجوم السيارة إن هي إلا أجسام طبيعية تدفعها إلى الحركة أرواح حالة فيها. وبما أن الأرواح تسير بقوة الإله الأكبر، والكاهن هو الواسطة بين الله والإنسان، فالكاهن إذن عالم بأمر هذه النجوم. فادعى الكاهن هذه المعرفة فأخذ يدرس حركاتها، فلما لم يعلم بسر حركتها ظن أن الروح تحركها، ولما رآها تسير بنظام لا يدركه قال هي تسير بلا نظام، وأن بعضها يسلك على(55/75)
حسب حظ الواحد وسعده، فمنها ما يتحرك لخير ومنها يتحرك لشرّ. ومن ذلك انتشر الاعتقاد بمعرفة حظوظ الناس من معرفة حركات النجوم، فصار العالم بالأرواح عالماً بالنجوم ومسالكها، وأصبح صاحب الدين في الدنيا وهو صاحب العلم أيضاً، ولم يمكن عند ذلك التمييز بين الاثنين.
عرف اليونان من الكواكب خمسة غير الشمس والقمر.
عرفوا: (1) الزهرة، وهي الكوكب المتألق في السماء عند الصباح أو عند المساء، وقد دعاها الرومان إلهة الحب لجمالها وافتتانهم بها؛ وليس من الغريب أن يقرن نابليون حظه بها، إذ قال لأحد جنوده ذات ليلة: (انظر! هذه نجمتي، ما دامت متألقة فلا شك في نجاحي).
(2) عطارد، رسول الآلهة، يُرى أحياناً في الشفق فقط بعد مغيب الشمس، يلبث قليلاً ثم يتبعها، وهو كالزهرة يرى أيضاً في الصباح.
(3) المريخ، ونراه أحياناً متألقاً، وأخرى ضعيف الإشعاع، أحمر اللون، وهو إله الحرب عند الإغريق.
(4) المشتري، إله الآلهة، وهو كزوس عند اليونان، وثاني الكواكب بشدة لمعانه، فلا عجب إن عرفه الناس من زمن قديم.
(5) زحل، المعروف ببطء حركته بين النجوم الثوابت، عرفه الأقدمون كأبعد سيار عن الأرض.
ليس لنا أن نبين الأبحاث التي قام بها علماء اليونان في علمي الهيئة والنجوم، ولكن المهم الآن أن نعرف بعض من قاموا بتأسيس فكرة النظام الشمسي التي عرفت بالنظام البطليموسي، والتي ما كانت إلا تعديلاً لما اعتقده أرسطو العظيم في هذا الكون العجيب.
في سنة 532 ق. م قام فيتاغورس وأنشأ أخوية دينية كان لها اعتقادها الخاص في كروية الأرض، وكان هو أول من فرض حركة الأرض حول الشمس، لكن أرسطو رفض هذا الفرض لعدم ظهور دواع تؤيده، وكان أيضاً هبارخس أول من أظهر استدارة فلكي الشمس والقمر حول الأرض.
وفي سنة 370 ق. م، أظهر يودكس فكرة الكرات المتراكزة، فبنى على هذه الفكرة من(55/76)