البيولوجي أن يسلم بوجود روح للإنسان أو للحيوان، وعنده أن الروح والجسم شيء واحد لا يتجزأ).
هذا رأي في تعليل ظواهر الحياة. أما الرأي الآخر فزعيمه سر أليفر لدج، ومجمله أن كل حيوان، ابتداء من الأميبا (حيوان أحادي الخلية بدأ يتميز من الجماد بالشعور والإرادة) يتألف من كيان مادي وكيان اثيري، وينفرد الثاني إذا ما تحطم الاول، وتستمر الحياة بعد ذلك بهيئة لا تدركها حواسنا الخمس.
هذان رأيان نقيضان فأيهما الصحيح؟ العلم الحديث لا يقف عند حد الإدلاء بالآراء، بل سر قوته ونجاحه هو اختبار الآراء بالتجارب العملية، فهو لا يقيم وزنا لآراء تأبى الامتحان العملي، ولو فعل لتصدعت الرؤوس بآلاف الآراء الجامحة. فقبل أن يصبح الرأي حقيقة علمية يجب أن تحققه التجارب العملية.
نظرة في هذين الرأيين
الرأي الأول (رأي العدميين) لا سبيل إلى إثباته عمليا إلا بصنع خلية حية من مواد كيمياوية عادية وهذا لم يحدث بعد. نعم. نسمع في الحين بعد الحين أن كيميائيا احدثه، ولكن الخبر يذاع اليوم ويموت غدا، فهو مبالغة أو اختلاق. أما الرأي الثاني فتوجد اليوم ظواهر تؤيده، نذكر هنا مثالا منها:
مستر (فرانك لي) وسيط يعمل بجمعية للبحث الروحي بلندن، وله خاصة الكشف البصري، فهو يرى الأرواح كالأشباح. ولكنه يزيد عن أمثاله من الوسطاء بأنه رسام ماهر، فعندما يرى الروحويصفها، يتناول القلم والورق ويرسمها. للتحقق من صدقه يفاجئه الباحثون كل يوم بأشخاص ليست لديهم معرفة. ولكنه برغم ذلك يرسم صوراً صحيحة لأرواح أقربائهم. ويجد القارئ هنا رسمين لروحين من عمل مستر (لي)، وبجانب كل رسم صورة عادية من صور المتوفي أيام حياته. ويلاحظ أن الشبه متوفر بين الأصل ورسم الوسيط.
كيف يمكن أن يرى الروح إنسانا كائنا من كان، ليس الأمر من الغرابة كما يبدو. نحن نرى من الأشعة ما يقع منها بين الأحمر والبنفسجي. ولكن هل هذه هي كل ما في الكون من أشعة؟ لا. لقد كشف العلم عن سلسلة طويلة من موجات أطول من الحمراء، وسلسلة أخرى اقصر من البنفسجية - أشعة يعج بها الفضاء من حولنا ولا نراها. ويمكنك أن تدخل حجرة(40/62)
حالكة الظلمة، وتملأ فضاءها بتلك الأشعة، ومع ذلك لا تميز عينيك غير الظلمة الحالكة.
يفترض سر أليفر لدج أن الروح بعد الموت تعيش في جسم أثيري. فلعل هذا الجسم الأثيري يشع من الموجات ما لا يؤثر في العصب البصري للشخص العادي ولكنه يؤثر في عصب شخص شاذ هو الوسيط.
لعل العالم المرئي لنا هو واحد من عوالم كثيرة تحف بنا من كل جانب وبيننا وبينها حجاب رقيق.(40/63)
القصص
قصة مصرية
صدمة الغرور
أتم كامل تسريح شعره بعد أن نضحه بماء الكلونيا ووضع طربوشه فوق رأسه. ثم نظر في المرآة المثبتة في خزانة ملابسه نظرة اختبار وتأمل، فحسن في عينه كل شيء إلا نظام المنديل الحريري المدلى من جيب سترته، فأخذه في يده وجمع أطرافه إلى وسطه وأعاده بعناية ورفق إلى مكانه.
ارتدى بعد ذلك معطفه، وامسك بعصا دقيقة وخرج من المنزل الصغير، بعد أن أوصى الخادم أن يعد طعام الغداء مع شيء من الزيادة وكثير من العناية، لان ضيفا سيأتي لزيارته اليوم وسيعود إلى المنزل معه.
سار كامل في طريقه إلى عمله بمكتب (التلغراف) في تؤده ونظام، ترتسم على شفتيه نصف ابتسامة يتكلفها دائما ليكون عظما علا الأقل - في نظر نفسه - وكان حريصاً كعادته على أن يقتصد في نظراته وتحياته في الطريق، وعلى أن يظل منتصب القامة واضعا يده اليسرى في جيب معطفه، وممسكا بالأخرى قفازيه وعصاه الثمينة، ويرفعها ويهبط بها على نظام ثابت، وبين مسافات متساوية. مبتعدا بحذائه اللامع عن آثار المطر القليل في الشارع.
وصل المكتب فحيا الوكيل وحيا زملائه بابتسامة كاملة لم تنفرج لها شفتاه، ثم جلس إلى عمله يستقبل البرقيات ويعنونها ويضعها في أغلفتها ويسلمها بإصلاتها إلى السعاة الموزعين.
يفكر كامل في نفسه كل التفكير ويتأنق في ملبسه كل التأنق، فهو يشفق أن تقتحمه نظرة أرستقراطية تقع منه على ضعف في التجانس بين قميصه الحريري وبين بذلته أو رباط عنقه. ولذلك يأخذ نفسه بكثير من الدقة في اختيار الألوان وفي انسجام كل مجموعة من ملابسه على ذوق مناسب للفصل وللوقت. يرعى ذلك كله وأن يعمل في مدينة صغيرة من مدن الوجه البحري قلما تقع فيها العين على اكثر من اللباس العادي النظيف الذي يمتاز بالبعد عن الكلفة والإمعان في البساطة.(40/64)
ويحرص على هذا كله برغم ما يقتطع من مرتبه الشهري الذي لم يزد على سبعة جنيهات ونصف جنيه من يوم أن عين في وظيفته. وهو راض بذلك يعيش منه في جو من الغرور وخيال العظمة يعزله عن وسطه وزملاءه ويجعله أحيانا مبعث دهشتهم وأحيانا موضع نكاتهم.
قلبه يحمل إلى جانب ذلك حبا يملكه كأقوى ما يمتلك الحب، وهوى يعذبه كأشد ما يعذب الهوى. فإذا به وهو ممسك بصورة محبوبته يقلبها بين يديه في مناجاة ذليلة، وضعف ينسى فيه نفسه ويتخيل الحبيبة كل شيء، طالما أوصد على نفسه باب حجرة نومه الصغيرة. واخرج الصورة من حرزها الحريز في خزانته ولبث ينظر إليها في ذهول حتى يغيب عن وجوده عن حجرته، ويعود في ذكرياته إلى أيام الدراسة ثم إلى أيام العمل الأولى في القاهرة. فيرى نفسه وقد ذهب محملا بالأماني غارقا في الأحلام إلى منزلها ليزور والدها واخوتها، حاملا إليهم تحيات أسرته الصديقة كان ينتهز لذلك فرصا كثيرة. وكان يقابل هناك بكثير من الحفاوة للصلات القديمة المتينة التي تربط العائلتين. وكانت تأتي (هي) لتحيته فيقوم لها وقد سرت في جسمه هزة سريعة ينهزم لها قلبه، وينعقد لسانه، وتتسمر عيناه، إلا أن الابتسامة التي كانت تنطبع على شفتيه دون وعي كانت تحجب عن الأنظار كثيراً من ذلك. ثم يجلس مفكك الأوصال كما يعتدل في فراشه المريض الناقه بعد أدوار الحمى القاسية. ويمضي الزمن سريعا سريعا فيستأذن ويخرج مهيض الجناح ملتاع القلب. يذكر ذلك وفي يده الصورة فينهال عليها بفمه الملتهب يقلبها في حرارة، ويرفع نظره عنها ويثبته في السقف وهو لا يرى منه شيئا. ثم يرسل تنهدة عميقة، ويقوم في تراخ فيفتح صوانه ويضع الصورة حيث كانت. ثم يعود إلى سريره يستلقي عليه في فتور وإعياء.
هذه الصورة عزيزة عليه يحتفظ بها ويحرص عليها كل الحرص لأنها لم تصل إلى يده إلا بعد عناء شديد، شاركته فيه أمه عندما سافرت لرؤيته في مصر، فأعملت حيلتها في تبادل الصور بين الاسرتين، ولم تظفر بها إلا بعد جهد ورجاء في الزيارة الثانية. وقد تشجعت - بعد إلحاح أبنها الشديد - على أن تشير في سرعة وغموض إلى أملها في أن تتصل بينهما أواصر صلة قريبة. وكم اطمأن قلبها عندما لمحت حمرة الخجل تشيع في وجه (رسمية) وابتسامة المجاملة تبدو على ثغر والدتها!(40/65)
كل هذه الذكريات كانت تطيف بكامل كل يوم قبل أن يأوي إلى فراشه، وعندما يخلو إلى الصورة العزيزة يناجيها ويتنهد من أقصى رئتيه، لا يستطيع التفكير في مصير أمله الغامض.
لم يسافر إلى مصر من عهد أن نقل منها، وقد أرسل خطابا إلى (عمه) رأفت بك والد رسمية يعرفه فيه حاله، ويتجه بتحية إلى الأسرة جميعها. وورد إليه منه رد رقيق يتمنى له فيه الراحة ويبدي استعداده لخدمته فيما يريد. وقد استحى بعد ذلك أن يكتب إليه مرة أخرى، ثم هو لا يعرف طريقا يقربه من غرضه. فوق انه لا يعتمد على شيء لهذا الغرض إلا على الصداقة القديمة بين أبيه وبين رأفت بك. وهو لا يثق كل الثقة في أنها تكفي بعد أن بعدت الشقة واصبح رأفت بك موظفا كبيرا، نشأت رسمية على حياة راقية وآمال واسعة. كما انه لا يثق من مساعدة أبيه له لنفس هذه الاعتبارات، ولذلك يؤثر إلا يكاشفه بالأمر في رغبة ورجاء استبقاء على أمله أن يتبدد من اقرب الناس إليه.
كانت تؤلمه هذه الخواطر حين ينتهي في تفكيره إليها فيحاول أن يبعده عنه فلا تببتعد، فيعلق نفسه بخيوط من الأماني. لعله يوما أن يكتسب عطف رأفت بك، ولعله يوما أن ينعم بحب رسمية. أليس شابا مستقيما؟ أليس وسيما أنيقا؟ وتحمله هذه التعلات من مكانه فإذا به أمام المرآة ينظر إلى نفسه ثم يبتسم لها ويعود إلى فراشه. ويسلم أفكاره إلى الهواجس ثم إلى النوم حتى الصباح.
حان موعد قيام القطار فدوى صفيره في الفضاء، ثم انطلقت أنفاسه المحبوسة، وتحرك في خفة وهدوء، وارتفعت أصوات المودعين، واخذ القطار يبتعد عن الرصيف شيئا فشيئا، واخذ المودعون والمسافرون يلوحون بمناديلهم في الهواء. ثم أغلقت النوافذ، وتتابعت المناظر من خلال الزجاج في سرعة عظيمة.
وجلس الدكتور أمين ممسكا بيده المجلة العلمية التي ابتاعها واخذ يقلب صفحاتها ليعرف موضوعاتها وكتابها. ثم وضعها إلى جانبه وسبخ في خياله. هو اليوم يعود إلى القاهرة منقولا إليها بعد أن فارقها من سنتين،. فارق فيهما حريته الواسعة وأصدقاء الدراسة، واندمج فيهما بالتقاليد الاجتماعية، التي ينفر منها، ولكنه لا يجد مفرا من الخضوع لها. سيعود إليها الآن شبه غريب فقد تفرق زملاءه، واصبح هو مقيدا بعمله وواجباته. ولكن(40/66)
القاهرة هي القاهرة على كل حال، ولابد أن فيها كل امرئ راحته وسعادته.
اتسعت أحلامه وذكرياته فقام من مكانه ومد يديه إلى الإمام ثم إلى الخلف في بطئ واسترخاء مالئا رئتيه من الهواء المنعش البارد كمن يود أن يستجمع نشاطه المتفرق. ثم سار في بهو العربة الخالي ينظر أحيانا إلى الركاب اللاهين في أحاديثهم أو صحفهم، أو المسلمين أنفسهم إلى سنة خفيفة من نوم أو تفكير، سار مرات في ذهاب وجيئة لم يتعد العربة التي هو فيها، ثم خطر له أن يجتاز مركبات الدرجة الأولى إلى عربة الأكل ليتناول فيها فنجانا من الشاي. فسار سيرا وئيدا في ممرات العربات التي يسودها سكون لا تسمع فيه قرقعة العجلات، ولا صفير القاطرة. وانقلب تفكيره وخياله إلى حال من العظمة والشعور بالكبرياء. وسمح لآماله أن تسبق الزمن فتراه طبيبا شهيرا جمع إلى ذيوع الصيت ثروة ضخمة تؤهله أن يكون دائما من رواد هذه العربات الفاخرة دون أن يكون دخيلا عليها. ثم تسرب فكره وخياله إلى نواحي العظمة الأخرى فتصور الضياع والقصور، وتخيل رحلة لذيذة في الصيف إلى خارج القطر يمثل فيها مصر في مؤتمر دولي طبي. وكان قد استند قليلا إلى إحدى النوافذ وإذا بيد تنزل على كتفيه في ملاطفة وتنبيه، فالتفت سريعا وملأت وجهه ابتسامة شاكرة، ثم مد يده مسلما في احترام ولين.
- إلى أين أنت مسافر يا دكتور؟
- إلى مصر يا بك فقد نقلت إليها للعمل في المصلحة
- عال. إذن ننتظر منك أن تزورنا كثيرا. فأنت من الآن طبيبنا الخاص. أليس كذلك؟
- بكل سرور يا بك، ولي الشرف
- العفو يا دكتور. وكيف حال عمك؟ ألم تزوره حديثا؟
- كنت عنده في الأسبوع الماضي وهو في صحة جيدة ولو انه يعلم بهذا النقل لأوصاني أن أزور سعادتكم وأن أحمل إليكم أطيب تحياته.
- وكيف حال كامل ابنه فإني لم أره منذ أن نقل من القاهرة بعد تعيينه بمصلحة التلغراف.
- بخير يا بك. وسأمر عليه اليوم لأراه.
- إذن أنت لا تسافر فوراً إلى مصر في هذا القطار؟
- سأتخلف عنده ساعتين، وأصل أن شاء الله مصر في هذا المساء.(40/67)
- والى أين كنت تسير الآن؟
- كنت أريد الذهاب إلى عربة الأكل أتناول فنجانا من الشاي
- إذن تفضل. وعمل ترتيبك على أن تنزل عندنا إلى أن تنظم مسكنك الجديد، فاهم؟ سأنتظرك في المساء. لا اقبل منك اعتذاراً. أن لعملك عندي منزلة كبيرة. وأنت دكتورنا الصغير العزيز - ها. ها. ها! بلغ كامل سلامي.
- متشكر يا بك، أن شاء الله
وقف القطار واستقبل كامل ابن عمه في حفاوة وترحيب وكان قد انتهى من عمله حين كانت الساعة الواحدة بعد الظهر. فسار به إلى المنزل، وتحدثا في الطريق عن النقل، فهنأه به كامل تهنئة حارة، وبادله الدكتور التهنئة على أناقته ومظهره الفخم الذي يبدو فيه من أبناء الطبقة الراقية
بلغا المنزل وكان الخادم على استعداد لتقديم الطعام. فأمره كامل بأعداده، وساعده في ترتيبه على مائدته البسيطة. ودعا ابن عمه أمين الذي في حجرة النوم مشتغلا بالتفرج على ملابس كامل العديدة الجميلة الصنع واللونفذهب إليه واخذ مكانه من المائدة وبدأ الحديث. .
- برافو كامل أنت لا تزال محتفظا برشاقتك المعروفة عنك برغم بساطة البلد الذي تعيش فيه. فمجموعة ملابسك تعتبر من أبدع ما يملكه هاو للأزياء الحديثة.
- أبدا، أنها في منتهى البساطة. ويظهر أن للعادة حكما لا يستطيع الإنسان أن يتغلب عليه ولو عاش في الأرياف أو في الصحراء.
- (على فكرة) رأفت بك كان مسافرا إلى مصر في القطار الذي وصلت فيه. وقد عرفني أثناء مروري في العربة وسأل عنك. وكلفني أن احمل سلامه إليك.
- رأفت بك: وكيف عرفك؟ وماذا قال لك؟
- يظهر أن ذاكرة الرجل قوية. فقد مرت سنتان لم أره فيهما، ولكنه رآني مع عمي كثيرا قبل ذلك. وقد هنأني تهنئة رقيقة يوم ظهور نتيجة الدبلوم. وقد سألني اليوم عن عمي. وطلب مني بإلحاح أن انزل عنده في مصر حتى أهيئ لي سكنا، وقال انه في انتظاري الليلة.
- في انتظارك الليلة؟ إذن أنت لا ترغب في البقاء معي ولو يوما واحداً؟(40/68)
- بكلأسف. فأنا مضطر إلى الذهاب إلى المصلحة غدا صباحا ولذلك سأسافر بقطار الساعة الثالثة. ولا تنس إنني وعدت رأفت بك بالذهاب إلى منزله هذا المساء
- إنها فرصة سعيدة جدا، إلا تعرف؟
- فرصة لا باس بها وأن كان لا يهمني كثيرا الاختلاط بالطبقات الأرستقراطية، بل إني أضيق بالعادات والتقاليد الخاصة بها. وأحاول أن أتكلفها لئلا يفوتني شيء منها، فتقابل تصرفاتي بابتسامة أشفق منها على نفسي. ولذلك فأني في الغالب سأعتذر للبك بعد لليلتين بحصولي على مسكن وانتقل إلى أحد الفنادق
- كيف ذلك؟ أني أريد أن أكلفك بهمة هذا المنزل. مهمة شريفة جداً. يتوقف على قضائها مستقبلي، واقل تتوقف عليها حياتي، وقد خدمتني الظروف أجل خدمة بما حدث بينك اليوم وبين رأفت بك مما جعلك تقبل النزول في بيته، فتكون ضيفا كريما مسموع الرأي، مجاب الإرادة. فهل أنت مستعد أن تقدم لابن عمك وصديقك هذه المكرمة الميسورة لك؟
- لا افهم. إنما ثق أني على أتم الاستعداد لخدمتك فأنت أخي قبل كل شيء، فما هي هذه المهمة وكيف يتوقف قضاؤها على بقائي في منزل رأفت بك. أأنت تريد العودة إلى القاهرة؟
- هذا طلب ثانوي سيكون له وقته القريب أو البعيد.
اسمح لي دقيقة. . .
وقام كامل فغسل يديه بسرعة وجففهما ثم دخل إلى حجرة النوم وعاد ومعه الصورة في غلافها.
اقترب من أمين وقد امتقع لونه وعلت أنفاسه ورفع بين إصبعين من يده المرتعشة. فامسك أمين عن الأكل وحملق بعينيه وفغر فاه وقال بصوت ملؤه الغرابة والدهشة:
(رسمية! بنت رأفت بك، أنت بتحبها!؟ مين جاب لك الصورة دي؟). . . (آه يا عفريت). جلس كامل وهو لا يكاد يعي ما يسمع أو ما يقول ثم أجاب - الصورة مهداة إلى أمي. وليست لي بالذات، أما إني احبها فلست ادري إن كان الحظ أو سوء المصير هو الذي أوقد نيران هذا الحب في قلبي، فهو يستعر به ولا تنبئ عنه إلا هاته الزفرات.
وهل كاشفت أحد بهذا الحب؟(40/69)
أبداً لم أجد الفرصة أو لم أجد شجاعة. حتى إني أحس الآن بألم في نفسي كأني استبحت حرمة دفينة حين صرحت لك، ولكنه الأمل، فعزائي الآن بيديك. وإنما أمي تعرف عنه كل شيء، وأظنها أبدت الرغبة ذات مرة في زواجي من رسمية، وأخبرتني ولست ادري أكان حقا أم قصدت سروري. أخبرتني أن رغبتها صادفت ارتياحا من الجميع.
إذن المسألة أصبحت سهلة. وماذا يمكنني أنا أن أقدمه إليك في هذا الأمر؟
- ماذا يمكنك؟ يمكنك كل شيء. تستطيع أن تعرف الميول الحقيقة نحو الفكرة. وميول رسمية بصفة خاصة. وتستطيع أن تكون صريحا في ذلك. وان تستعمل حيلتكوتأثير شخصيتك. وعندك الفرصة سانحة لتمكنك من قضاء وقت طويل أثناء إقامتك في المنزل.
- على كل حال ثق أنني سأجرب نفسي في هذا الموضوع، وأنني سأتخذ ما ليس من طبعي من التبسط في التفاصيل، وسيساعدني على ذلك أن مثل هذا الحديث عند الطبقة الراقية مألوف لا غضاضة فيه. وإن كنت لا أكتمك ظني أن لأمثال هذه الطبقات ميولا وآمالا قد لا تدخل في تقديرنا فلا نعمل لها حسابا. إنما يمكنك أن تعتمد عليّ في ذلك إلى ابعد حد.
- إذن أضع كل أملي فيك. حياتي ومستقبلي بين يديك، عاملني كأخ، ولا تنس أن قلبي يتفطر، وأنني لن أرى الراحة حتى أرى بواكير خدمتك. وسأظل مدينا لك بروحي مدى الحياة.
لماذا أمسكت عن الأكل؟ كل فإن المسافر يجب أن يأكل كثيرا
متشكر، لقد امتلأت. أين ماء الغسل؟
سافر الدكتور ومضت أيام، فأرسل إليه كامل خطابا يستثير فيه اشفاقه، ويرجو منه إفادته عما عمل وما رأى وما سمع، ومضى أسبوع، وأرسل كامل كتابا أخر يعتب فيه اشد العتب، احتدت فيه عاطفته أول الأمر ثم لانت وتوسلت وتذللت وطلبت رداً. . . أي رد
واتى الرد أخيراً. نشر كامل الخطاب بين يديه في سرعة ورجفة وقرأ. .
عزيزي كامل
أحييك وأتمنى لك الصحة والراحة. جاءني خطاباك وقد كاشفتها بحبك، فامتعضت وزمت شفتيها في احتقار وتبرم. ولم أشأ أن اجرح شعورها بعد ذلك، اجتهد أن تنسى عاطفتك(40/70)
الجامحة، وثق انك تستطيع ذلك، ويمكنك أن ترسل الصورة إلى الوالدة، أو تتخلص منها على أي حال. فهذا يساعدك على ما ذكرت، وإني لك على الدوام المخلص
أمين
ومنذ شهر، عاد كامل في نهايته من أجازته المرضية الطويلة. وإذا به يتلقى في البريد الدعوة الآتية:
(محمد رأفت بك، والدكتور أمين سامي يتشرفان بدعوة حضرتكم إلى حفلة عقد قران الآنسة رسمية كريمة الأول على الثاني في الساعة السادسة من مساء الخميس 25 الجاري بمنزل الأول في الزمالك ويسرهما أن يشفعا هذه الدعوى بأطيب الأماني)
وجمد كامل في مكانه من ألم الصدمة. ولكن سؤالا سريعا وجوابا حاسما، طافا بمخيلته في غير شعور أيذهب؟ مستحيل!
محمد فريد عبد القادر(40/71)
3 - شهر بالغردقة
للأستاذ الدمرداش محمد
مدير إدارة السجلات والامتحانات بوزارة المعارف
- ما هذه يا دكتور كرسلاند؟
- هذه حدائقي المرجانية
- عجبا وما هذه الألوان الجميلة؟
- هذه ألوان المرجان نفسه
- ولكن عهدي بالمرجان - أن يكون شعبا صلبة من مادة جيرية بيضاء أو حمراء
- ما تقوله يصدق على بيوت المرجان بعد إخراجها من الماء وتعرضها للهواء والشمس
- إذن أرجو أن تزيدنا علما بهذه الكائنات العجيبة
- بكل سرور - المرجان كائن حي هلامي الجسم صغير جداً من فصيلة الحيوانات الدنيئة، وله القدرة على بناء بيت له من مادة جيرية يفرزها جسمه، وهذا البيت يعيش فيه الحيوان ويرتكز عليه وهو يتكاثر بطريقتين: طريق التوالد أي التلقيحوطريق الانقسام، أي أن الواحدة تصير اثنتين بطريقة تشبه الأزرار في النبات، وشانه في ذلك كثير من أنواع هذه الفصيلة - فالمرجان في تكاثره يشبه النباتات والحيوانات العليا معا، فهو مثل النباتات في أن كلا منهما يحتاج إلى رواكز ينمو عليها، كما انه ينتشر في الأماكن المتباعدة بطريقة تكاد تشبه طريقة الانتشار بالبذور، وهو مثل الحيوانات العليا في انه ينقسم إلى ذكر وأنثى - وتكاثر المرجان من الأمور المدهشة العجيبة، فالجزر تحت أقدامنا والشاطئ من السويس إلى المحيط الهندي والحاجز المرجاني العظيم شرقي قارة استراليا وكثير من جزائر المحيط الهندي والهادي ما هي إلا تكوينات مرجانية من نوع الخمائل التي ترونها الآن والتي تثير فيكم الإعجاب والدهشة - فمتى حان وقت اللقاح قذف الذكر من فمه سائلا لبنيا خفيفا ينتشر في الماء، فإذا وصل السائل المذكور إلى الأنثى واختلط بالبويضات في جوفها حصل التلقيح وأخذت البويضات في النمو على شكل كرات صغيرة جداً لا ترى بالعين العادية، وبعد تمام نموها تطرحها الأنثى في الماء بكميات عظيمة، فتعوم فيه بحركة ضعيفة بواسطة أهداب على جسمها تدفعها إلى الإمام، وبعد أيام أو أسابيع تستقر هذه الأجنة في(40/72)
قاع البحر بالمكان الملائم لنموها فتلتصق سريعا بالقاع، ثم تتطور فيتميز لها فم تحيط به اذرع لدفع الغذاء إلى الفم، ثم يتكون للحيوان هيكل جيري يأخذ في النمو سريعا فتقوى اذرعه ويكبر تجويفه حتى إذا اكتمل نموه بدأت عمليتا التوالد والتكاثر على نحو ما قدمنا فتتسع قاعدته وتطول شعبه، وتتفرع بالتزر كما يزرع نفسه في الأماكن المجاورة بالتوالد.
وهنا اقتلع الدكتور كرسلاند من الماء شعبة مرجانية زرقاء فانساب منها سائل هلامي شفاف له قوام كثيف ثم قال: إن هذا السائل عبارة عن أشلاء مئات الحيوانات المرجانية، تسقط عن هياكلها الجيرية بعد أن فارقت الحياة لأنها لا تقوى على البقاء خارج الماء، وأما هذه الشعبة - انظروا إلى الثقوب فيها فهي قرية أو مستعمرة مرجانية، وعما قليل يضيع لونها الأزرق وتصير سمراء ثم بيضاء - إنها قصفة تنكسر، بسهولة، وهذه المرجان لا يغرنكم شكله الجميل، فهو حيوان مفترس، فالكائنات البحرية الصغيرة التي يسوقها سوء الطالع بالقرب من اذرعه تلاقي حتما حتفها، فعلى الأذرع تنتشر ابر دقيقة تنتهي عند قواعدها بأكياس صغيرة تحتوي على سم شديد الفعل، فمتى انغرزت الإبر في جسم الحيوان شلته عن الحركة فيقف جامد فتمتد إليه الأذرع وتلصقه بها، ثم تدفعه رويدا إلى الفم، فمتى وصل إليه انفتح بالقدر اللازم لابتلاع الفريسة، ثم يطبق عليها وتبدأ عملية الهضم داخل التجويف، والمرجان من أكلة اللحوم فهو لا يتغذى بالنبات، وهو يتنفس مثلنا بالأوكسجين يأخذه من الماء ونحن نأخذه من الهواء.
والمرجان موجود في معظم بحار العالم، ولكن النوع الذي يبني الجزر والحواجز العظيمة لا يعيش إلا في البحار الاستوائية قليلة العمق، حيث يتوافر دفء الماء وصفاؤه، ومن صفات المرجان انه يموت إذا انكشف عنه الماء أو غطته رواسب كطمى الأنهار. والمرجان نوعان: نوع صلب وهو هذا، ونوع لين يكاد يشبه العشب البحري وله ملمس كالجلد، ثم أن النوع الصلب على اشكال، فمنه الريشي أي ذو الشعب، وهو أكثرها انتشارا وأجملها منظراً، ومنه ألوان كثيرة بديعة كالأرجواني والأصفر والأخضر والأسمر، ومن أشكاله أيضا النوع المخي وهو على هيئة تلافيف المخ، والنوع الطبقي وهو على هيئة أطباق صغيرة، والنوع الخيمي وهو على هيئة عيش الغراب.
ثم إن الدكتور كرسلاند بعد أن خطا بضع خطوات ونحن نتبعه وقف متفرسا وقال انظروا(40/73)
في الماء: انظروا إلى هذا الأسماك الصغيرة التي تعيش بين الشعب، أليست جميلة حقا؟ إن وصفها يحتاج إلى بلاغة اكبر الكتاب وخيال اعظم الشعراء وريشة امهر المصورين - انظروا إلى حركاتها الرشيقة وهي تتسلل بين الشعب - فهذه اسماك لا يزيد طولها على سنتيمتر ونصف ذات ألوان بديعة براقة بين أزرق وأخضر وبرتقالي وأصفر وأحمر وأرجواني وأسمر، وبعضها نصف جسمه بلون والنصف الأخر بلون، وبعضها مخطط بخطوط واضحة محدودة: أزرق وأبيض، أو أصفر وأسود، وبعضها جسمه رفيع وبعضها جسمه مبطط يكاد أن يكون شفافا.
ثم انظروا إلى هذه المحارة العظيمة، أنها من النوع ذوي المصراعين، إنها كذلك تعيش مختبئة هكذا بين المرجان - ثم أن السماكين يخشونها ويحاذرون أن تزل قدم فيسقط أحدهم بين فكيها، فإذا انطبق المصرعان على القدم فانه لا يخرج منهما إلا مهصورا مهشما.
ثم انظروا إلى هذا (السجق) الأسود والأبيض، انه كذلك من سكان هذه المنطقة، والصيادون يسمونه خيار البحر، وهو حيان وديع لا يؤذي أحداً، ثم انه يكون عديم الحركة، فهو لا يسعى للقوت بل يكتف بدفع ماء البحر مع الرمل إلى جهازه الهضمي وهو عبارة عن قناة بطول جسمه، فيدخل الماء من طرف ويخرج من الطرف الاخر، والحيوان يكفيه ما في هذا الماء والرمل من موادعضوية حيوانات صغيرة لتكون غذاء له.
ثم انظروا إلى هذه السمكة التي تحاول مسرعة أن تختفي منا بين المرجان الأخضر - أنها (الدرمة) أو السمك البالوني - أن لونها يكاد يكون كلون البيئة التي تعيش فيها: - ظهر أخضر وبطن أبيض - ثم أنظروا إلى رأسها الكبير، وخصوص الفم، إلا ترون أن لها منقارا كمنقار الببغاء - ثم انه أمر (خير الله) كبير صيادي المحطة باقتناصها، فبعد دقائق كان يسحبها من الماء، ولم تكد تخرج منه حتى انتفخ جسمها وصار كالكرة الكبيرة (البالون) ثم قال هكذا طبيعتها كلما خرجت من الماء فهذا هواء الجو تضغطه في جسمها فإذا عادت إلى الماء زفرته فيتقلص جسمها كما كان - ثم قال لا تلمسوها بأيديكم لان جسمها مغطى بأهداب بيضاء من مادة لاذعة تحدث في اليد تخديراً.
ثم انه أنطلق ونحن في أثره اقبل على بقعة غنية بأنواع المرجان فقال هنا تعيش حيوانات بحرية كثيرة، والجهاد للحياة بينها على اشده، فهي لا تنفك في هجوم ودفاع - إن الغذاء(40/74)
هنا وافر ولكن المنطقة مفتوحة للبحر فلا يجد فيها السمك الضعيف الحماية الكافية لصد هجمات السمك القوي فهو يعمد إلى الخديعة والحيلة - انظروا إلى هذا الثقب، إن حيوانا لا شك انه مختبئ هنا - ثم أنه ادخل في الثقب طرف عصاه فقفز منه شيء متحرك لم نميز فيه شيئاً - فمد الدكتور يده إلى الماء بخفة وحذر وانتشله منه فكانت دهشتنا كبيرة إذ رأينا سرطاناً بحريا (أبو جلمبو) في حجم الليمونة قد نما على ظهره عشب مائي غطى منه الرأس والأرجل حتى أنه إذا وقف على الأرض أو تعلق بالعشب أو اختبأ في ثقب فأنك لا تفرق بينه وبين قطعة من العشب إلا بعد جهد وأنعام نظر.
ثم أنه تقدم ونحن وراءه وقال: في كل خطوة مخلوق عجيب، وفي كل شبر كائن غريب، ولا حصر لعجائب مخلوقاته. فتبارك الله العظيم!
ثم ركبنا اللنش فعاد إلى المحطة وقد أنتصف النهار.
وفي المقال التالي سنتكلم إن شاء الله عن منابع الزيت ومناجم الفوسفات.
الدمرداش محمد
-(40/75)
العالم المسرحي والسينمائي
فن التنكر -
لناقد (الرسالة) الفني
فن التنكر - أو الماكياج، من أدق الفنون التي تتطلب من الممثل مهارة خاصة، أو خبرة واسعة، ودراية تامة، ذلك لان الممثل يعتمد على تعبيرات وجهه وما يكون لها من التأثير في نفس المتفرج في إبراز الشخصية التي يمثلها، وفي تلوين بعض المشاهد بلون العاطفة التي تناسبها من الغضب أو الرضا، اليأس أو الرجاء، الحب أو البغض، إلى غير ذلك من شتى الانفعالات النفسانية التي تختلج في القلب، ويلجأ الممثل في إظهاره إلى رنة الصوت وطبيعة اللهجة التي يتحدث بها، وبما يأتيه من الحركة المناسبة، هادئة كانت أم عنيفة، ثم بما يلوح على وجهه من الملامح التي تعبر عن هذه العاطفة، ومن هذا المجموع، من الصوت والحركة وملامح الوجه، يستطيع الممثل أن يحدث في نفس المتفرج الأثر الذي يريد، وينقل إليه إحساس الشخصية التي يحيا في تضاعفيها على المسرح.
على أن الوجه وما ينطبع عليه من تعبيرات شتى، ما يلوح على صفحته مما يترجم عن خلجات النفس وعواطف القلب، اكبر معوان للممثل في فنه. والممثل القدير قد يعطيك بنظرة ساهمة، أو لمحة خاطفة، مالا تؤديه عشرات الجمل، بل قد يشرح الممثل المؤلف والقصة كلها بهذه النظرة، أو هذه الملامح التي تنطبع على صفحة وجهه في مشهد من مشاهد القصة.
اذكر أني يوم قرأت (شمشون) للمؤلف الفرنسي المعروف هنري برنشتين، أستكثر على الزوج أن يضحي ثروته ومركزه الذي ناله بكده وجده، وكان حمالا فأصبح من كبار رجال المال والنفوذ؛ استكثرت عليه أن يضحي كل جهوده حياته في سبيل الانتقام من عشيق زوجته. وطويت الرواية وأنا أقول إن برنيشتين لا يزال يجعل العنف المسرحي غرضا من أغراضه، وشاهدت هذه القصة بعد ذلك من فرقة فرنسية على أحد مسارح القاهرة، ورأيت الممثل الذي قام بدور الزوج في المشهد الرائع الذي يتضمن في تضاعيفه القصة كلها، تراه في هذا الموقف بين اثنتين: أما أن يكف عن طريقته في الانتقام من عشيق امرأته، وإما أن تجرفه العاطفة معه فيسقطان إلى الهاوية معا، وقف الزوج مشدوها لا(40/76)
يتحرك، ينتابه ألف عامل وتمر بقلبه ألف عاطفة، وفجأة ينظر إلى غرفة داخلية كان قد احتبس فيها خصمه، ينظر إلى الغرفة فتلمح في نظرته وترى على وجهه من معاني الحقد والثار والغضب ما يفزعك، ثم يصدر أمره إلى أحد رجاله بان يمضي إلى النهاية، النهاية التي فيها الخراب والدمار، وفي هذه النظرة الحاقدة، وفي هذه الملامح التي غمرت الوجه لحظة أو بعض لحظة، ملامح الغضب الكمين والرغبة في الثأر والانتقام الفظيع برّر الممثل ما أخذه الناقد على المؤلف، بل شرح الممثل المؤلف وأعان المتفرج على أنه يفهم كيف أرتضى الزوج أن يهدم حياته كلها في سبيل هذا الانتقام.
وأنت إذ تمضي في الطريق ترى عشرات الوجوه، بل المئات بعضها سمح طلق تحس الراحة والطمأنينة بالتطلع اليه، وبعضها قاس عنيف تنفر منه، بعضها تحس أن وراءه طبيعة طيبة وقلبا كريما، وبعضها الآخر تحس أن وراءه خبثا كمينا وشرا مستطيرا، وقد ترى إنسانا لا تعرفه ولم تحتك به في عمل أو حديث، ولا صلة لك به، ثم تهمس في أذن صديقك انظر! هذا رجل ابله، أو هذا رجل طيب، أو هذا رجل شرير، إلى غير ذلك من المعاني التي توحيها إليك ملامح الوجه الذي رأيته.
ومن العبارات المألوفة أن تقول عن شخص معين في حديث يدور حوله إن وجها يدل على الطيبة وكرم الأخلاق أو أن ملامح وجهه تدل على أنه شرير خبيث ولن تجد لغة من اللغات تخلو من هذه العبارات التي تتردد على الألسنة والأفلام، فتمر بالسمع أو يقع عليها النظر وكأنها بديهة لا نقاش فيها ولا جدال، وفي العربية من مثل هذا شيء كثير، وفي شعرها ونثرها قديمه وحديثه مطولات في وصف الوجوه على مختلف ما تنبئ عنه ملامحها وقسماتها، وهذا هو الشاعر العربي لم ينس أن يستهل القول في مديح من أراد وصفهم بأنهم (بيض الوجوه. . .). وهذا الحطيئة لما أراد أن يهجو نفسه، هجا وجهه!!
ولسنا نمضي في هذا إلى النهاية، فإننا لا نكتب بحثا في الأدب، وكل ما أردناه من هذا الاستطراد أن نقول أن لوجه المرء وما يرتكز عليه من ملامح، أو يمر عليه من تعبيرات، أهمية كبيرة في إعطاء الناظر فكرة خاصة عن صاحبه، سيئة كانت أم حسنة، سواء أكانت هذه الفكرة عن طبيعة الشخصية ذاتها في سائر أطوارها، أم عنها في ظرف خاص ووقت معين، ومن هنا كانت هذه الأهمية الكبرى التي يعلقها فن التمثيل على قوة تعبير الممثل(40/77)
بوجهه، ولهذا كان لفن التنكر خطره الذي لا ينكر، فإذا أجاده الممثل أعانه إلى مدى كبير على خلق شخصية دوره خلقا صحيحا مستقيما مع طبيعة الدور، وأعانه على إعطاء المتفرج فكرة حقيقية عن الشخصية التي يقوم بها كما أرادها المؤلف، وكما تفرضها طبيعة القصة، وإذا اخطأ الممثل في تنكره المسرحي ولم يعط الوجه - مستعينا بما لديه من الأدهنة والألوان وغيرها من أدوات التنكر المعروفة - الصورة التي يجب أن يكون عليها، فقد يؤدي به ذلك إلى الفشل المحتوم والسقوط الذي لا مفر منه، بل هذه هي النتيجة التي لا محيص عنها، وضع على وجه اقدر الممثلين وأكفئهم قناعا كثيفا وأخرجه أمام الجمهور المتفرج فلن يرى فيه إلا دمية تتحرك وجثة تروح وتجئ، بعد أن حجبت منيع الحياة، ومرآة القلب والشعور.
وفن التنكر من أدق الفنون واشقها، يتطلب خبرة واسعة ودراية كبيرة، حتى ليضطر الممثل الذي يريد أن يحيط به إحاطة تامة أن يدرس تشريح الوجه من الوجهة الطبية ويلم بكل التفاصيل التي تتعلق بهذه الناحية إلماما شاملا. وعليه أن يدرس أيضا إلى جانب هذا مختلف التغيرات التي تطرأ على وجه الإنسان في شتى أطوار حياته وكلما تقدمت به السن. فوجه أبن العشرين ليس كوجه أبن الأربعين أو الستين، كما أن علائم المرض والصحة تترك أثرها على الوجه، وهناك بعض الأمراض تترك آثارا مادية تدل عليها كالجدري مثلا.
وإلى اختلاف السن، هناك اختلاف البيئة والمركز الاجتماعي والمعروف أن لكل حرفة طابعا خاصا يميز صاحبها، ولا تخطئ النظرة الدقيقة الخبيرة هذا الطابع على الوجه، وما أظن أن من العسير أن تميز الفلاح من بين المئات ولأول نظرة وفي مقدورك أن تشير إلى أحد المارة فتقول أنه عامل، وتكون مصيبا في قولك صادقا في فراستك، كما تستطيع أن تحكم على معين أنه من الدهماء أو من أوساط الناس أو أثريائهم من ملامح وجهه، ومن العبارات المألوفة قولنا (هذا الشخص تلوح على وجهه آثار النعمة)
والتعاسة والشقاء يتركان على الوجه آثار لا تخطئها العين في تلك التجاعيد والغضون ومسحة الألم التي تنبئ عما وراءها من كدر العيش ومرارة الحياة، كما أن السعادة والهناء يخلفان هذه البسطة في الملامح والسماحة في تعبيرات الوجه، تتوجها كلها الابتسامة(40/78)
المشرقة التي تدل على راحة البال وخلو الفؤاد مما يشغله من أكدار الدنيا.
وأنت تعرف بعد كل هذا أن للإقليم تأثيره في ملامح الإنسان، بل قد تتعدد السحن والوجوه في الإقليم الواحد والوطن الواحد، فالأوربي غير الآسيوي؛ وفي أوربا الإنجليزي غير الفرنسي، والألماني غير الإيطالي، كما أن فيآسيا الصيني والياباني غير الهندي والتركي والسوري، وفي أفريقيا المصري غير السوداني وهكذا.
كذلك يختلف أبناء الوطن الواحد، فالقاهري غير الصعيدي أو الإسكندري مثلا، وقس على ذلك مئات الفروق التي تجدها في هذه الدنيا العريضة، والممثل بحكم مهنته معرض لان يقوم بتمثيل شخصية من هذه الشخصيات المنتشرة على رقعة الأرض، وقد يكون من المستحيل أن تتطلب منه أن يدرس كل هذه الشخصيات الدراسة التفصيلية التي تعينه على تنكره وتكييف ملامح وجهه، بما يعطي الشخصية الطابع الأصيل لها، ولكن من الميسور لديه أن يدرس الشخصية التي سيمثلها الدراسة التي تؤهله لإعطاء المشاهدصورة منها، مستعينا على ذلك بأدوات التنكر التي تحت يده.
من هذا يستطيع المرء أن يكون فكرة عامة عن دقة هذا الفن، فن التنكر، وعن العناية التي يتطلبها العمل المسرحي من الممثل حتى يستطيع أن يصور على وجهه الوجه الآخر، وجه الشخصية التي يتقمصها ويؤديها أمام النظارة. ونستطيع بعد هذا أن نتحدث عن فن التنكر من الناحية الفنية العملية مستعينين في ذلك ببعض الصور والرسوم التي تشرح ما نقول.
محمد علي حماد
-(40/79)
النقد
الينبوع
للدكتور احمد زكي أبو شادي
من جد الحياة أن نضحك. ومن جد الحياة أن نعمل ونشقى، وبين الضحك والعمل، تنساب الأيام وتتراكم الأعوام، ويفنى قديم ويعيش جديد، ويقضي قوم وينشأ آخرون.
ومن جد الحياة أن يرسم الإنسان نفسه في وقت ضحكه، ومن جد الحياة أن يرسم الإنسان نفسه في وقت عمله، وأن يصور خلجات قلبه القلب، وجموح نفسه الوثابة، ومطامع روحه الهائجة، أو نمثل حياتنا التي هي مسرح نضال بين عواطفنا وعقولنا.
فنحن أما عمل لذيذ مفرح، نتمثل فيه الماضي، ونرسم صورته الحائلة بصورة لماعة رائعة، ونخلد فيه ذلك الشبح الباهت بطيف براق فاتن. فيه سحر الحياة وفتونها، وفيه غموضها واسرارها، وفيه جمالها وبهائها، وفيه موسيقاها المتزنة، وأنغامها المتناسقة. إننا نخلق من القتام نوراً، ومن الموات حياة، أو ننتج نتاجا فنيا.
إننا نشيد هذه العواطف والاحساسات، التي أوحت بها إلينا الحياة، والتي صبغها الأسى بلونه الأحمر الدامي، أو أيقضها الأمل بعطره وشذاه، أو حركها الأباء والشمم، والغيظ والشفقة، والغضب والرحمة، تلك العواطف التي تتلاعب بعقولنا وأرواحنا، والتي تتحد في دائرة، سمها إن شئت حياة. وان شئت حركة الكون.
والفنان إنما خلق ليسجل هذا الشعور الذي يصور وحدة الكون، ولا يستطيع تسجيلها إلا إذا أحس بالكون ذاته، ولا يستطيع أن يحس بالكون إلا إذا كان نفس صافية، تنطبع عليها المشاهد، وتظهر على صفحتها الرؤى، وقد تشابك بعضها ببعض. وقد ارتبطت بروح واحد هو روح التناسب. فهي كالنغمة الموسيقية، مترابطة مؤتلفة متزنة.
وعمل الفنان في هذا المجال. هو أن يقف أمام دولاب الزمن الذي يدعس كل شيء فينتشل من تحته رؤى ومشاهد. وعواطف واحساسات، ونوعا من الشعور المبهم الغامض. ونوعا من الإدراك الناقص. اجدر بها أن تبقى لأنها تمثلنا. لأنها قريبة منا شديدة الصلة بنا. إننا نحتفظ بها لنبقى نحن. فهي تخلدنا ونحن تخلدنا فنشعر بها في أدمغتنا، ثم نصورها بألفاظنا وكلماتنا. فنحس أنها قد أتت بسامة فتانة. نحس بنورها المشرق على نفوسنا فيبعث مواتها.(40/80)
ويحي رميمها، وقد لا نرسمها بالكلمات، فأن اللغات أضيق من أن تشرح ما في النفوس، قد تستعين بالرسم أو النقش أو الموسيقى أو غير ذلك، فعملنا في سبيل إحيائها ورسمها هو الفن وجزاؤنا منها هو الخلود.
فهل الفن الذي يتنفس عنه رجال الفنون في بلادنا من هذا القبيل؟
وهل لي أن أقول واسأل عن الشعر الذي يفيض من قرائح شعراء الزمن أيكون تلك الأداة المادية التي تصور تلك الصور الفتانة التي تمتلك علينا تفكيرنا. وتستبد بنفوسنا؛ أو تلك العواطف المتبدلة المتغيرة التي تستنفد حياتنا،
أيكون تلك الأداة المادية التي لها موسيقاها وتوقيعها، والتي نسعى لان نظهر لعيوننا نوعا من الشعور الغامض والإدراك الناقص، لا يدركه إلا القلب الشعري الذي يستمد قوته من الإلهام والعلم والعقل والخيال، كأنه أدراك شامل لما تحويه لحظة من لحظات النعيم أو الشقاء، وبإبراز هذا الشعور الغامض وهذا الإدراك الناقص، في صورة واضحة ناطقة، تامة كاملة فيها حياة وفيها حركة.
واذا كان الشعر العصري كما يقول الدكتور أبو شادي في مقدمة ينبوعه (هو لسان حياة العصر، والحياة العصرية ذات صلات شتى بالماضي، وذات تطلع إلى المستقبل، فليس غريبا في الثورة الروحية والفكرية الحاضرة أن يأتي هذا الشعر مزيجا منوعا، لا في مصر وحدها بل في العالم الأدبي بأسره) ويضرب على ذلك المثل بالشاعر الألماني العظيم (إننا لا نجاريه في قوله ولا نجاريه في استشهاده بالشاعر الألماني العظيم، فبينما يشرح ذلك الألماني النبيل عواطفه المتدفقة في نفسه، أو يشرح نفسه الواسعة الفياضة، بأنواع من النظم، نرى الدكتور، لا يرتفع في شعره عن أن ينظم في بعض مناسبات خاصة. وفرق كبير جداً بين هذا الشعر الذي يكاد يكون (شعرا صحفيا) وبين شعر هين المختلف المتناسق، الذي نرى اختلافه في أغراضه وسعتها، والذي تراه يتناسق في الصفات الأولى، التي تتصف بها نفس ذلك الشاعر العبقري، أما أن يجد الدكتور احمد زكي أبو شادية حجة على الناس في مناسباته التي صاغ كل شعره من اجلها فهذه حجة غير واردة كما يقول رجال القانون في بلادنا، ولا ادري أن كانوا يقولون كذلك في مصر.
وأنا عالم كل العلم بأن أقوالي قد لا تفيد مع الدكتور الشاعر، لأنه قد قطع عليَّ الطريق في(40/81)
مقدمة ديوانه فقال (وإذا كنت أؤمن إيمانا عميقا، بأن الفنون الجميلة من أقوى عوامل السلام ورسول الإنسانية المشتركة. فلست اعني بذلك أن تقديرها شامل في الظروف الحاضرة. فكم تتباين الأذواق، وعلى حد تعبير (بردنز لاهو برمان) (لا يرتقب أن يجيد عزف موسيقى بتهوفن إجادة المتذوق المعجب بها، من ليست لديه إثارة من عواطف بتهوفن) كذلك شأن الشعر وغيره من الفنون الجميلة).
والأستاذ أبو شادي يشير إلى أن (ليس محتوما على غير مريديها - أي أشعاره - أن يطلعوا عليها حتى أكون معرضا لمؤاخذتهم إياي)
والشاعر يحدث الناس في صراحة ما بعدها صراحة فيقول (نوازع وجدانية، صوفية تحبب ذلك إلى - أي نشر أشعاره - كأنما أنا مكلف برسالة أؤديها)
وأبو شادي يقول (إن الشاعر ككل فنان يعمل على تخليد صورة الحياة الفانية، وذكرياتها في النسق الذي يستطيع به استرجاعها لروحه العالمية)
وأنا متفق مع الدكتور في هذه الفكرة إلى ابعد حد، مؤمن بالنوازع الوجدانية الصوفية التي تحفز الشاعر العبقري على إذاعة بنات شعره، ولكنني أكاد أكون كافراً بفكرته الأخرى فكرة النقد واطلاع الناس على الشعر.
إن هذا الشعر الذي نشره صاحبه قد خرج من يده واصبح ملكا للناس، لقد تنازل لهم الشاعر عنه، فسيقرئون وسيفهمون وقد لا يفهمون كثيراً، وسيؤخذون وينقدون، فما دخل الشاعر هنا، لقد صار هذا الكلام في حكم التاريخ وسيتكلم الناس عنه بما يرضي صاحبه وبما يكره.
وأنا باسم هذا الحق المكتسب قد استعرضت الكتاب، ووقفت على مقدمته، وبعد أن قرأت الينبوع من الجلد إلى الجلد بما فيه من مقدمة وتصدير وإلمامه، ودراسات مختلفة. وبما فيه من شعر اختلفت ألوانه، وتباينت أمزجته، وبعد أن أنعمت النظر بما فيه من صور جميلة ملونة تستهوي كثيرا من الناس، وأنعمت النظر مرة أخرى في عنوان الكتاب، وصورته الفنية التي تزين غلافه. آمنت بفكرة واحدة، جسمتها في ذهني قراءة ديوان أبى شادي الجديد.
آمنت أن من النادر أن ينتج لإنسان كما يتصور الإنتاج، وأخذت أطبق هذا الحدس على(40/82)
نفسي. هل الشعر الذي انظم عقوده، يوافق ما أريد أن افهم من الشعر، ثم رجعت اسأل مرة أخرى، إلا يخطئ الإنسان في تصوير الصورة التي تقوم في ذهنه، ومن ثم سألت نفسي، هل الشعر الذي يفيض من ينبوع أبي شادي يشبه في شيء الشعر الذي يشير إليه في مقدمته،؟
وأنا حائر بين الفكرتين، أو أنا أؤمن بأن لأبي شادي اكثر من شخصية واحدة في الشعر، كما أن له اكثر من شخصية في مناحي الحياة، فقد يكون من الوجهة الشعرية، نظرياً وعملياً، وعمله لا يتفق مع نظرياته، كما نه في الأعمال لا يتمسك بمهنة أو فكرة واحدة، فهو طبيعي وشاعر يحرر وينشر ويقرأ ويطالع ويهتم بالوظيفة والنظم وتربية الحيوان، أكاد أتمثله بصورته الرمزية، والجاهرة أمامه والمبضغ في يد والريشة في الأخرى والآلة الموسيقية إلى جانبه، وفتاة الإلهام تنضو عليه، والنحل من حوله وله أزيز وطنين، ويتمثل أمامي وعيناه في الأفق البعيد واحدة تنظر إلى الشرق ولا ترتفع عن الشرق. وواحدة في الغرب تذهب بنظرها عنه ثم تعود إليه كأنها أبصرت ما يريبها، ولسانه يردد بين هذه النظرات الحائرة شعره المقفى الموزون هو ناظر إلى بلد آبللوخياً، وشاخص ببصره إلى عمرو بن كلثوم يردد معه أقوالا تشبه قوله:
قفي قبل التفرق يا ظعينا ... نخبرك اليقين وتخبرينا
وأنا شاك في أن يكون أبو شادي مجددا ملتوي التجديد، لقد وقف على أدب الغرب ما في ذلك شك، وعرف من أدبالغرب كل غث وسمين، فماله قد ضيق على نفسه كل هذا التضييق وهو يحاول بين العسر وذاك، أن يضع لنفسه مزاجا خاصاً. يتمثل لك فتكاد تنفر منه، لضعفه في التعبير، وتقصيره في التصوير. ثم هو لا شيء من وجهة التفكير.
اقرأ معي الينبوع وهي قطعة من الديوان سمي الديوان باسمها يتمثلها في صورة (سكس ابيل) اقرأها جملة. فماذا ترى. . . أنا إلا أرى فيها نظرة صوفية، ولا افهم منها فكرة فلسفية عميقة، هي فكرة عادية بسيطة، من الفكر التي يسميها (بول فاليري) فكرة غير شعرية،. وهي بعد هذا كله، شهوانية مفرطة في الشهوة، تتمثل في بطن أملس، انتصب فوقه جبلان وفي أسفله واد عميق، ربما كانت الفكرة طيبة، ربما كنت تهم علماء الغريزة، ربما كانت تهم رجال النسل، ولكن المادة الصرف، المادة المنتجة الملموسة، المادة التي(40/83)
تشبع شهوة الجسم، أو التي تنتج الجسم، المادة التي لا روح فيها. هذه المادة النجسة التي ترى في كثير من النساء، قد لا تعجب ذا النفس الشاعرة، وقد لا تروق في عينيه كثيرا.
وأعوذ بالله أن أكون كمن حاول عزف مقطوعة لبتهوفن فما استطاع لأنه لم يتأثر بالمؤثرات التي دفعت بتهوفن إلى تأليف قطعته. لو أن يكون الدكتور كذلك المصور الذي أتيت إليه ليرسمني فشوهني، فلما عاتبته في ذلك. قال هذا تصوير فني وأنا عوذ بالله من أن يكون كلامي لغواً من ناشئ ارعن، يقلق على الدكتور صفاء نفسه. وما عرفته وغيره من إخواننا المصريين، لا أباة على النقد، يثيرون من اجله المعارك. ويتسارعون بسببه إلى الخصام والنزاع.
وأنا بعد هذا الذي قمت أسال نفسي. إذا كنت على اتفاق والدكتور من حيث النظرة إلى الشعر كفن من الفنون العالية، أفلا يجدر بي أن اتفق معه على اللغة التي يدون بها هذا الشعر؟ إلا يصدق معي الدكتور أن العلة هي اللغة التي يشتكي منها الشعراء، فهي التي تؤلمهم عند التعبير، وتضيق عنهم أو يضيقون بها عند التصوير، فيداورونها ويتلاعبون بها حتى تأتي طيعة راضية لا تحس فيها ضعفاً، وهل يرى الدكتور معي أن لغته في شعره، ابسط من أن تسمى لغة شعرية، بل أكاد أحس بضعفها في كل بيت من أبيات الينبوع التي تبلغ ألفي بيت ونيفا
التمس من الدكتور، أن يقرأ معي قطعة أخرى أو قطعتين. وقعت يدي عليهما من غير تفتيش أو تنقيب. الأولى دنيالفي جب الأسود. أقرا هذا البيت وافهم منه شيئا:
جعلوا المليك محرماً ... لسوى الميك دعا المسود
أظن أن في هذا الكلام ركاكة وتعقيدا. وأظن أن الزمن ليس زمن عبد القاهر الجرجاني. لنعيد النظر في بيت الشعر والفاظه، ولكننا نقول: أن ضعف هذا البيت وغيره من أبيات هذه القطعة اظهر من أن يظهر
بل ما تقول في هذا البيت الهزيل من القطعة ذاتها. وكثير على شاكلته؟
أنا في أمان يا مليك ... بفضل ربي من ملك
أتدري أية مناسبة بين حكمة من ملك ومليك. ما الذي هزها. فأنت مختالة تضع نفسها في آخر البيت لتكمل القافية(40/84)
أو قوله في قصيدة العودة صفحة (30)
وقفنا في جوار اليم سكرى ... كسكر الناظرين إلى الرحيق
نرى في البر ألوان التناجي ... وفي البحر المشارف والعميق
البحر المشارف والعميق، وسكر الناظرين إلى الرحيق، لا يكملها إلا قوله
وأبنا أوبة المحزون لكن ... بنا طرب من الأدب الحقيقي
أو قوله
وتمضي الغانيات على تثن ... تثنى النور في الجو الصفيق
الحق أن الجو الصفيق والأدب الحقيقي. والبحر المشارف والعميق والرحيق إذا زف بعضها إلى بعض خرج شيء ليس في الحسبان هو قصيدة العودة.
أنا لا أريد أن اذهب إلى كثير من شعر الديوان فبعض يجزي عن بعض، بل لا أريد أن أطيل الحوار في قضية يراها الدكتور قضية ذوق، وأنا أراها أدبية عربية، تهم الناطقين بالضاد جميعا، فما كانت الكلمات تتلاعب بالشاعر، فتسخره ولا يسخرها، وأنا أومن إيمانا واثقا أن كلمات الشعر يجب أن تكون كالكلام المنزل، لو رفعت كلمة من بيت فلن تجد في اللغة بأجمعها كلمة تحل مكانها وتؤدي المعنى الذي كانت تؤديه الأولى، بل أنا افرق كثيراً من أن توضع الكلمة في غير موضعها فيبخس حقها، ويبخس المعنى حقه بل ما رأى الدكتور في قرط جميل من الماس الفاخر تعلقه أنثى في اسفل ذقنها؟ إنها تشوه جمالها، ويضيع قدر الماس الثمين، فما للدكتور يسوق الكلام فيمواضعه وفي غير مواضعه، بل ما يلجئه إلى كثرة الإنتاج هذه، وللقليل الناضج خير من الكثير الفج، وأنا أرجو أن أكون مخلصا كل الإخلاص في قولي، جريئا كل الجرأة في تعبيري، فقد كفى هذا التبلبل في الأدب العربي، وينهض ولكن ليقعد، ويسير ولكن، إلى الوراء، ينتج الأديب أو الشاعر، ويظن انه فوق النقد، ولو عرف أن النقد سيتناوله في عنف وفي قسوة ما انتج إنتاجا كهذا، ولحاول أن يكون مدققا اكثر مما دقق.
حلب
(المرتيني)(40/85)
العدد 41 - بتاريخ: 16 - 04 - 1934(/)
مصر في الصباح
للدكتور طه حسين
ولابد من الكتابة عن (مصر في الصباح) بعد أن كتب صديقي الزيات عن الحالة الحاضرة، فهما عنوانان طالما ترددا في أفواه ثلاثة من الشبان، ظلوا أعواما طوالا يلتقون كل يوم إذا كان الضحى، ثم لا يفترقون حتى يتقدم الليل. وكانوا إذا التقوا أخذوا في فنون من الحديث والقراءة وتناشد الشعر، والاختلاف إلى الدرس، وإطالة المقام في دار الكتب. ودفعوا إلى الوان من الهزل، وضروب من العبث، حتى كانوا مضرب المثل عند اللذين يعرفونهم واللذين لا يعرفونهم من الأزهريين.
وكان هؤلاء الشبان الثلاثة قد اتفقوا على الضيق بالدرس الأزهري القديم، والابتهاج بما لم يكن مألوفا في بيئات الأزهر من درس الأدب والعناية به، وقراءة الصحف والإغراق فيها، ومن التطلع إلى ما كان يقوله ويأتيه المثقفون الممتازون، أولئك الذين كانوا يدبجون الفصول في الصحف، يمسون بها السياسة والأخلاق وشؤون الاجتماع. وأولئك الذين كانوا يخطبون في المحافل والمجامع ويتحدثون في الأندية، وتنشر الصحف خطبهم ومحاضراتهم، ويتناقل الناس أحاديثهم ومحاورهم، وتذكر أسمائهم فتمتلئ بها الافواه، وتبتسم لها الشفاه، وتشرق لها الوجوه، ويشتد بها الإعجاب، ويتخذ الشبان أصحابها مثلا عليا لما شئت مما يطمع فيه الشباب من بعد الذكر وارتفاع الشان، والظفر بما يظفر به عظماء الرجال من الإكبار والإجلال. وكان هؤلاء الشبان الثلاثة إذا التقوا وفرغوا من قراءة في كتاب، أو استماع لدرس، أو إنشاد الشعر، أو نظروا أمامهم إلى هؤلاء العظماء المثقفين، فاجلوا واكبروا، ونظروا من حولهم إلى شيوخهم الأزهريين فتفكهوا وتندروا، وأطلقوا ألسنتهم بالفكاهة والنادرة، ولعل من الناس من كان يجلس إليهم ويسمع منهم، ثم ينتقل فيذيع ما سمع، ويملا به هذه الحلقات التي كانت تنحلق من حول الصحن وعند القبلة القديمة أو القبلة الجديدة، وكانت أصداء ذلك ترد عليهم فيفرحون، وكان إنكار ذلك يبلغهم فلا يرتاعون، حتى اقبل ذلك اليوم الذي دار فيه الملاحظون في الازهر، يجمعونهم من دروس الظهر جمعا، ويدفعونهم إلى مجلس الشيخ الأكبر دفعا، ثم يسالون، فمنهم من يجهر ومنهم من يجمجم، ثم ينهرون، فمنهم من يبسم ومنهم من يعبس، ثم يعلن الشيخ إليهم انهم(41/1)
مطرودون، وان درسهم الذي كانوا يحبونه موقوف ممنوع، وان شيخهم الذي كانوا يكبرونه مكلف أن يدرس المغنى لابن هشام بدل الكامل للبرد، منفى من الرواق العباسي، مقرون إلى اسطوانة من هذه الأساطين داخل المسجد يختارها له (رضوان).
هنالك ضاق الشبان الثلاثة بعض الضيق، وفرقوا بعض التفريق، ثم يلبثوا أن استأنفوا الحياة ومضوا فيها باسمين، يطمحون إلى ما كانوا يطمحون إليه، يسخرون مما كانوا يسخرون منه، حتى ضرب الدهر بينهم بضرباته، كما قال حافظ رحمه الله في ترجمة البؤساء، وقد كانوا يعجبون بهذه الجملة إعجاباً شديداً، ويرددونها ترديدا متصلا. وهنالك مضى كل منهم في سبيله، واخذوا لا يلتقون إلا من حين إلى حين، فإذا التقوا كانت ساعات اللقاء أضيق من أن تسع ما كان يضطرب في نفوسهم من الخواطر والآراء والأحاديث.
وكانوا في حياتهم تلك، كما كانت الشعوب الأولى في حياتها، أصحاب حس وشعور، وأصحاب قلوب تتأثر، ونفوس تتغنى، وكانت عقولهم غافلة أو كالغافلة، فكانوا ينشئون الشعر وينشدونه، وقلما يفكرون في النثر، فان فكروا فيه قلما يحاولونه، فإن حاولوه فقلما يجيدون. وكانوا لا يخطر لهم موضوع إلا تناولوه مسرعين، فنظموا فيه الشعر وتنافسوا في الاجادة، ولم يتحرجوا من أن ينقد بعضهم بعضا. وكانوا يبلغون من ذلك ما يريدون يجيدون قليلا، ويسيئون كثيرا، ويرضون دائما. وكانوا يحسون انهم ضعاف في النثر، وانهم في حاجة إلى أن يأخذوا منه بحظ، وكان الزيات يحاول أن يقوم من صاحبيه مقام الأستاذ، لانه كان احب منهما للصحف، واكثر منهما عكوفا عليها وإغراقا في قراءتها، ويجب أن نعترف بالحق، فقد كان أوسع منهما صدرا للتجديد، يحب الكتاب المحدثين وما كانوا يحدثون من الآداب، على حين كان صاحباه يكلفان من الأدب بقديمه، بل بأقدمه. كان الزيات يكلف بالمتنبي بين الشعراء القدماء، وكان صاحباه يسخران منه ومن المتنبي، ويكرهان أن يسمعا له حين ينشد شعره البديع. كان الزيات يقرأ المثل السائر، وكان صاحباه لا يعترفان بمن بعد الجاحظ من الكتاب. كان الزيات يؤثر شوقي، وكان صاحباه يؤثران حافظا، ويتعصبان للبارودي، ويسرفان في تقديم الكاظمي عليهم جميعا. كان الزيات إذن يقيم نفسه من صاحبيه مقام الأستاذ في النثر، وكانا لا يتحرجان من أن يقرا له بهذه الأستاذية، فإذا أراد أن يزعمها لنفسه في الشعر كان الجدال والنضال، وكان تذاكر الغرزمة(41/2)
وآثار الغرزمة، وكان انتحال الشعر الرديء وحمله عليه وأضافته إليه، وكان انحاله هو للشعر الرديء وحمله على صاحبيه وإضافته إليهما، وكان إنشاد لمثل هذين البيتين:
بموسم عاشوراء قد عمت البشرى ... وضاءت لنا الأكوان مذ علت الذكرى
ونادى المنادي أيها الناس يمموا ... ضريح الحسين الشهم تنجوا من الأخرى
ولست ادري أي الثلاثة قال هذا الشعر الرائع، أو لعله شائع بينهم جميعاً. ولعل ثالثهم محموداً أن يكون قد حفظ هذا الشعر فيما حفظ من آثار هذا العصر، فقد كان إليه تخليد هذه الآثار التي لم تكن تستحق اقل من الخلود.
وفي ذات يوم اقبل الزيات يقترح على صاحبيه التفكير فيما ينبغي لهم في العناية من النثر، ويبين لهما ولنفسه أسباب هذه العناية ومذاهبها، ويرى أن ليس إلى ذلك من سبيل إلا أن يفعل الثلاثة كما يفعل الطلاب في المدارس، حين يعالجون الإنشاء، ويعرض عليهما وعلى نفسه هذين الموضوعين: (الحالة الحاضرة)، و (مصر في الصباح). وكان يقول ذلك جاداً كل الجد، مؤمنا كل الإيمان، وكان صاحباه يسمعان له في موقف بين الجد والهزل، يريدان أن يكتبا ويعلمان انهما لن يستطيعا. فيقدمان ثم يضطران إلى الإحجام، ويستران ضعفهما بالهزل والعبث، ثم يفزعان إلى الشعر فينظمان منه ما شاء الله لهما أن ينظما بين الجيد والسخيف. وكانت الأيام تمضي وتمضي، والأصدقاء يلتقون ويتحدثون في النثر، والزيات يقترح الكتابة في الحالة الحاضرة ومصر في الصباح. وصاحباه يسألانه عن مصر في الصباح كيف
هي؟ وماذا يقول فيها فلا يحير جواباً، فيتمثل ثالثنا بهذا البيت الذي كان يغيض الزيات ويحفظه:
شيخ لنا من ريبعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس
وقد فتح الله على الزيات بعد خمسة وعشرين عاما فكتب في الحالة الحاضرة. ولم يفتح الله عليه ولا على صاحبيه بعد خمسة وعشرين عاماً ليكتبوا عن مصر في الصباح. ولكنه قد كتب على كل حال، فمازال إذن قائما من صاحبيه مقام الأستاذ، ولن يستطيع صاحباه منذ يوم الاثنين الماضي أن يصدماه بهذا البيت:
شيخ لنا من ريبعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس(41/3)
وإني لأخشى أن يستطيل هو على صاحبيه، وقد عجزا ربع قرن عن أن يكتبا في الحالة الحاضرة، أو يصورا مصر في الصباح، فيصدمهما بهذا البيت بعد أن كان يخافه ويضيق به، ويكره استماعه منهما.
ولست ادري أأشفق ثالثنا من هذا النذير فاستعد لهذه الساعة الخطرة التي يلتقي فيها الأصحاب لتصفية الحساب، أم شغل بكتبه وأسفاره عن كل هذا الحديث. أما أنا فاعترف باني فكرت بهذه الساعة، وقدرت إنها ستكون عصيبة محرجة، وأشفقت من هذا الحرج، وحاولت أن احتاط له، واستعد لهجمة الزيات، واربا بنفسي عن أن اسمع منه هذا البيت الذي كنا نخوفه به، فاصبح خليقاً أن يخوفنا به:
شيخ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس
فحاولت منذ أسبوع أن اطرق هذا الموضوع، وان اكتب عن مصر في الصباح، فإذا بلغت من ذلك ما أريد أمنت الزيات وحالفته على صديقنا الثالث، كما كنت أحالف صديقنا الثالث عليه، ثم ذهبنا إلى صاحبنا نسعى إليه مبتسمين، حتى إذا بلغنا مجلسه لم نبدأه بتحية ولا مصافحة ولا حديث، وإنما وضعنا الرسالة بين يديه وفيها الحالة الحاضرة
للزيات، وفيها مصر في الصباح لطه حسين. ثم ابدرناه معاً بهذا البيت:
شيخ لنا من ريبعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس
ثم انصرفنا عنه راجعين وتركناه يغلي كالمرجل. ولكن الله الذي فتح على الزيات فألهمه وصف الحالة الحاضرة لم يفتح علي ولم يلهمني وصف مصر في الصباح. ذلك إن الزيات راغ وزاغ وعدل عما كان يراد منه من وصف تلك الحالة الحاضرة قبل نيف وعشرين سنة إلى وصف هذه الحالة الحاضرة التي نبغضها اشد البغض ونضيق بها اعظم الضيق. وأي الكتاب لا يقدر على أن يصف الحالة الحاضرة الآن؟ وأي الكتاب لا يقدر على أن يجيد في هذا الوصف ويأتي فيه بالأعاجيب؟ ومن يدري؟ لعلي احسن إذا ذهبت إلى صديقنا الثالث فالتقيت في روعة أن الزيات قد ذكر اسمه القديم فراغ وزاغ، ووصف ما لم يكن يراد على وصفه.
وإذن فهو مازال عاجزا كصاحبيه، وإذن فما زلنا ننتظر من يصف الحالة الحاضرة ويصور مصر في الصباح.(41/4)
أما أنا فلم اشك في أن مصر في الصباح موضوع خطير لابد من الكتابة فيه، ولكن أي مصر، أهي مصري أنا أم مصر الزيات أم مصر صديقنا محمود؟ فقد كانت لنا أمصار ثلاث مختلفة فيما بينها اختلاف غير قليل. كانت مصري أنا تبتدئ في ربع من ربوع حوش عطى، وتنتهي إلى الأزهر الشريف مارة بمشهد الحسين والحلوجي بعد أن يقطع السالك إلى هذا المشهد الكريم إحدى طريقين: حارة الوطاويط، أو شارع خان جعفر.
وأما مصر محمود فكانت تبتدئ في الظاهر في حارة ضيقة قريبة من بيت الشيخ الانبابي رحمه الله، وتنتهي إلى الأزهر الشريف مارة بما شئت من الطرق التي تستقيم إن أردت لها أن تستقيم، وتلتوي إن أحببت لها الالتواء.
وأما مصر الزيات فكانت تبتدئ في حارة ضيقة على قلعة الكبش، ثم تنحدر إلى شارع لا اذكر اسمه، ولكنه ينتهي إلى مسجد السيدة زينب. ثم تصل بعد ذلك إلى الأزهر من طرق تستطيع أن تستقيم وتستطيع أن تلتوي، تستطيع أن تقصر وتستطيع أن تطول. فأي هذه الأمصار الثلاث اصف؟ وعن أي الأمصار الثلاث اتحدث؟ فاما مصري أنا فقد كانت حلوة لذيذة في الصباح، ولكنها لم تكن تعجب الزيات، ولم تكن تلذ لمحمود. كان يوقضني فيها مع الفجر صوتان: أحدهما صوت المؤذن الذي كان يدعو إلى الصلاة في جامع بيبرس، والآخر صوت جارنا الشيخ الذي كان شافعيا موسوسا، ينفق نصف ساعة في إقامة الصلاة: ال. . . ال. . . الله الله. . ال. . الله اكبر، ثم يبدو له فيخرج من الصلاة أو يستأنف الدخول فيها: أل. . أل. . الله. . الله. . أل. . . الله اكبر ثم يمضي في صلاته حتى يتم الفاتحة أو يكاد وإذا هو يخرج ويستأنف الدخول فيها. وما يزال يقبل ويدبر، ثم يبدأ ويعيد، ثم يقيم الصلاة ويستأنف أقامتها حتى إذا أشفق من فوات الوقت عزم امره، وهجم على صلاته فاقتحمها اقتحاما ثم مضى إلى درسه في الأزهر الشريف.
استغفر الله فقد نسيت صوتا ثالثا كان يوقظني في السحر لا في الفجر صوت ذلك الشيخ الظريف الذي لم يكن عالما ولا شيء يشبه العالم، وإنما كان تاجرا اعرض عن التجارة، وانقطع للفكاهة والضحك في النهار، وللصلاة والنسك في لليل. فإذا اقبل السحر خرج من غرفته يهمهم ويجمجم ويضرب الأرض بعكاز غليظ، ويبعث في الجو صوتا هائلا رائعا يحمل جملاً متقطعة من الورد الذي كان يبدأه في غرفته ليتمه، ثم يستأنفه في مسجد(41/5)
الحسين، حتى إذا صلى الصبح عاد هادئا مطمئنا قد خف وقع عكازه على الأرض، وخف ارتفاع صوته في الجو، لان الذين كانوا نياما في السحر قد اصبحوا إيقاضاً حين ارتفعت الشمس.
استغفر الله، وقد نسيت أصواتاً أخرى، كانت تنبعث بعد أن ينقطع صوت المؤذن: فهذا سائق عربة قد اقبل يحل خيله أو يحل حماره الذي عقله تحت النافذة. وهذه (حمدة) التي كانت تبيع الوان الفاكهة على اختلافها باختلاف الفصول تفرضها علينا نحن المجاورين فرضا. فأما اشترينا وأما تعرضنا لغضبها، وويل لمن كان يتعرض لغضب (حمدة) فقد كان عنيفا مخيفا يضطرب له الربع ويزلزل له حوش عطى زلزالاً!!
على هذه الأصوات كنت استقبل مصرا، وكانت تستقبلني مصر في الصباح، فإذا هبطت من الربع ومضيت إلى مدخل حوش عطى، فهذا صاحب القهوة قد افاق، وهو يحك عينه من بقية النعاس، ويهيئ (الجوزة) للحاج فيروز، فإذا مضيت قليلا فهذه الحوانيت تستيقظ شيئا فشيئا، وهؤلاء باعة الفول والبليلة والطعمية قد ازدحم من حولهم الناس، حتى إذا تقدمت بعض، الشيء عطفت ذات الشمال ان كنت مستعجلا، فمضيت من حارة الوطاويط، حيث اقذر مكان خلقه الله، وحيث اعظم الناس حظا من البؤس رجالا ونساءً، قد جلسوا في اقبح شكل وأبشعه يسألون الناس. وان كنت مستانياً عطفت ذات اليمين، فمضيت من خان جعفر، وانتهيت على كل حال إلى شارع الحسين، ثم المفارق الأربعة ثم انغمست في شارع الحلوجي، ثم دفعت إلى باب المزينين. هذه مصري التي كان الزيات يريدني على أن أصورها له في الصباح واقسم لو فعلت لنفر مني وهزأ بي وازور عني ازورارا. ولكني واثق الآن باني حين أتحدث إليه عنها أثير في نفسه عواطف يحبها وأحلاماً يرضاها وابلغ من استحسانه ما اقصر عنه من غير شك لو أني صورت له مصر في الصباح هذه التي تبتدئ من داري في الزمالك، وتنتهي عند الكوكب في عابدين.
ان الزيات ليحسن اعظم الإحسان لو انه وصف لنا مصره في الصباح، تلك التي كانت تبتدئ من قلعة الكبش، وتنتهي إلى الازهر، وانما محمودا ليحسن اعظم الإحسان لو انه وصف لنا مصره في الصباح، تلك التي كانت تبتدئ في ظاهر القاهرة المعزية، كما كان يقول، وتنتهي إلى الأزهر، فأما مصرهما الأخرى هذه التي تبتدئ في شبرا وتنتهي عند(41/6)
الرسالة، أو عند قبة الغوري، فلسنا في حاجة إليها الان، وقد يحتاج إليها أبنائنا بعد ربع قرن، كما نحتاج نحن إلى أمصارنا تلك العزيزة في أيامنا هذه.
طه حسين(41/7)
مختار مريض
للأستاذ مصطفى عبد الرازق
لقيت مختارا أول ما لقيته في باريس عندما ذهب إليها لإكمال دراسته في (مدرسة الفنون الجميلة).
كنا جماعة من الشبان المصريين نسمر في بعض قهوات (الحي اللاتيني) والحي اللاتيني يومئذ مجمع الطلاب ومسرح الشباب، فهبط علينا فتى اسمر اللون رقيق الجسم، فيه وداعة وفيه حياء، تعرف من سحنته ومن سمته ومن حديثه انه ريفي، وتلمح في نظراته التائهة أن استعداده الفطري يوجه بصره إلى مرمى بعيد، ذلك الفتى هو (محمود مختار) وقد اخذ يعرض علينا أوراقا كان يرسم فيها أبطالاً من العرب كخالد بن الوليد وغيره ممن حفظ التاريخ فعالهم ولم يحفظ مثالهم.
وكنا كلما اجتمعنا بعد ذلك بمختار في الحي اللاتيني، طالعنا بثمرات عمله، وحدثنا في فنه الذي يكب عليه، ويوجه كل همه إليه، فأحببنا مختارا لما في شمائله من البساطة والتواضع والصفاء، وأحببناه لشغفه بفنه الجميل، ولما توسمنا فيه من مخايل النبوغ.
ثم غمر الفن مختاراً واستحوذت عليه الأوساط الفنية، وغمرتنا في الحياة شؤون اخر، فافترقنا زماناً، وسمعت ذكر مختار حين برزت آثاره الفنية في الميدان، وعرضت في معارض الفن في باريس، فنالت من أسنى الجوائز وشهد لها بالبراعة كبار النقاد.
وسمعت ذكر مختار حين صور لنهضة مصر تمثالا تجمع فيه للوثوب أبو الهول حتى كاد ينتفض انتفاضا، فهتفت مصر كلها باسم النابغة مختار.
رأيت النابغة مختاراً فإذا الشاب النحيف الأمرد، قد استوى رجلا مفتولا اصلع الهامة، طويل اللحية، عريض الصوت ضخم الملامح، طبعه الفن بطابعه، وألقى عليه من حب الجمال وفهمه جاذبية أيهل الجمال، ديمقراطي النزعة، أرستقراطي الذوق، يعجبك حديثه وجدله، وإن كان حديد الطبع سريع الرضا والغضب، في نفسه فيض من الصبى والمرح، كأنما هو على مر السنين يزيد.
منذ ذلك العهد تكررت فرص لقائنا في السفر والحضر، فشهدت مختارا في عمله جاهدا مثابرا مجدا، حتى حسبته لا يعرف اللهو، وشدت مختارا لاهيا مرحا، حتى ظننته لا يدري(41/8)
مالجد، وبلوته صديقا وفيا، ووطنيا مخلصا، وعرفت من جانب حياته دلائل بر وشهامة، وصبر وكرامة، في شدة الحياة وفي رخائها.
ولقد يخيل إلى الناس أن مختارا لم تنله في حياته شدة. ذلك بأنه صبور على أحداث الحياة، لا يغيره عسر ولا رخاء. ولعلك لو اطلعت على مختار اليوم وهو في سرير المرض لوجدته باسما صبورا. ولو انه كان يقوى على الضحك لملا الدنيا كعادته ضحكا برغم أوجاعه ووحدته الموحشة.
الأستاذ مختار، هو صاحب (نهضة مصر) أول تمثال في تاريخنا الحديث صنعه مصري، وهو الذي أبدع للفلاحة المصرية تماثيل لا يستطيع إبداعها إلا فنان ماهر، أنبته الريف المصري، وغذاه بمائه وهوائه.
لقد قالوا إن في تمثال النهضة مآخذ: منها انه ضئيل فوق قاعدته الضخمة: وان حجاب الفتاة وتناسب أعضائها، وموقع يدها من أبى الهول لا يحقق ما يشتهي الفن.
ليكن كل ما يقولون صحيحا! فهل سلم من النقد اثر من آثار المجهود الإنساني في القديم والحديث؟
إن الأنظار ستصقل على مر السنين هذا التمثال العظيم القائم في ميدان المحطة رمزا وطنيا خالصا لمصر، وسيبقى اسم مختار في ديوان مجدنا القومي عنوانا لنهضة الفن الجميل في وادي النيل.
بذل مختار شبابه وقوته للفن ولمجد مصر من ناحية الفن. وقد يكون المرض الذي يعانيه الآن من آثار جهده المضيء.
في بعض حجرات (المستشفى الفرنسي) بالعباسية، يقيم مختار منذ اشتدت به العلة، وصار في حاجة إلى علاج يقظ متواصل، والى راحة لا يجدها المريض إلا في المستشفيات، وإذا كان عواد مختار قليلين، فقد يكون هو في شغل بأوصابه عن كثرة الزوار وقلتهم، وعن وفاء الناس وتقصيرهم، لكن علينا جميعا أن نحف بكل ما في قلوبنا من عطف وبر سرير ذلك المريض العزيز، تحية لعبقريته وتكريما لمجده الفني، وابتهالا إلى الله العلي ينجيه من براثن الداء، ويكتب له العافية والشفاء.(41/9)
مقبرة عائمة
للدكتور احمد زكي
ليست هذه حكاية من صنع الخيال، ولكنها واقعة صدق، أرويها عن راوية صادق ورجل مسئول:
سكيم وحكيم شابان من أهل الإمبراطورية السماوية المقدسة التي يسميها أهل هذه الدنيا غير المقدسة ببلاد الصين، نشآ في قرية من قرى مديرية (كانتون) ولازماها حتى بلغا سن الشباب الأول، سن العشرين، هذا باحتساب دوران الأرض واختلاف الليل والنهار، فانك كنت تراهما فتحسبهما بلغا الثلاثين أو فاتاها، وتحدق في وجهيهما الكالحين مليا فتجدهما مثقلين بهموم الأربعين والخمسين. وتلك المسحة الحزينة الكلحاء تجدها حيثما ضربت في بلاد الله فالتقيت بصبي شاب أو شيخ، دائما أبداً ذلك الوجه النحيل الشاحب المسكين الذي تكاد تقطر منه الصفرة والألم. اشترك سكيم وحكيم مع شباب أمتهم في حمل ذلك الوجه الكالح والحزين، وزاده كلاحة وحزنا فروض ثقيلة يفرضها الآباء من يوم يخلقون، فالابن دائما في طاعة أبويه ومن متاعهما، لقن صغيرا انه إنما خلق لخدمتهما وترفيهما وكسب معاشهما، وان وجوده في هذا العالم لا يبرره إلا التضحية لها بالنفس والنفائس.
وذات مساء ذهبا إلى حانوت القرية الصغير يشتريان من الأفيون أطيبه وأنضجه، ويتخيران منه أكثره تسكينا للطبع الثائر وتخديرا للمزاج الحاد، فقد كان اتفق في تلك الليلة أن أبويهما لم يكونا على أطيب حال وارحب بال، فالتقيا هنالك بعد غيبة أيام قليلة ملاتهما بالشوق الكثير، فرحب حكيم بسكيم، ورحب سكيم بحكيم، وتساءلا مليا في أدب كثير عن صحة أبويهما، ولما بلغا من ذلك ما طمأن بالهما وأقر خوفهما، انتقلا يصفان الزمن السيئ ويشكوان ضيق الحال، ويتأسفان على ما حاق بالقرية من الفقر والجوع وكان إلى جانبهما رجل من أهل الصفرة كذلك، إلا انه سمين بدين، وقد اضطجع على فراش من فرش الحانوت يهيئ لنفسه تدخيني الأفيون، وكان يستمع للشابين وشكاتهما، فلما بلغا من الحديث ما بلغا، شاء أن يتدخل فيأخذ بطرف من حديثهما فقال:
- نعم صديقي، إن في الزمن سوءاً، وان في الحال ضيقا، وكيف تقنع الروح فتهدا وتخلد للسلام والمعدة فارغة؟(41/10)
فابتدره الصديقان:
- هذا حق. هذا حق لا مراء فيه
ثم أخذا يتساران:
- إن هذا الغريب المحترم لابد ان يكون فيلسوفا كبيرا لانه يتكلم بلغة الحكماء
وجرى الحديث بينهما وبين الحكيم المحترم، وبعد تحية تتلوها تحية، وشكوى منهما يتلوها تامين منه، وبعد ان ذكرا للغريب مرارا انهما وضيعان وحقيران لا يساويان خردلتين، تراءى للفيلسوف أن يفتح لهما عيبة حكمته ويدلهما على أقوم السبل واقر بهما للعناية بآبائهما الأشياخ حتى تنفرج الأزمة الحاضرة فذكر لهما جزيرة في ناحية من نواحي البحر المحيط يسكنها شياطين شقر من الهولانديين يقومون فيها بزراعة الطباق في مساحات مديدة واسعة، ويستخدمون فيها الشبان فيعطونهم أجور لا تتحقق إلا في الاحلام، هذا بشرطين: أولهما أن يكون الشاب قادرا ماهرا، وثانيهما ان يكون له الحظ المجدود الذي ييسر له الخدمة لدى هؤلاء الشقر. وذكر لهما انهما لابد مجدودان لأنهما وقعا غي سبيله، وانه هو أيضاً مجدود باستطاعته إسداء الخير لهما على هذا النحو. وكان في حديث هذا الفيلسوف عذوبة، كانت كلماته ملساء تنزلق في سهولة من بين شفتين ملساوين، ولا بدع فصاحبنا كانت تفرض عليه صناعته حذق الكلام وموادعة القلوب ومصانعة الإفهام، فهو رجل من الرجال المغامرين، الذين كانوا يجوسون خلال الريف يتصيدون الشباب البريء الساذج يبعثون به إلى وكلائهم بالموانئ ليرحلوهم في طلب العمل وراء البحر إلى حيث تشتري الأبدان اغتصابا لقاء كراء دنيء وعيش رقيق.
ولما كان في طبع الصيني ارتياب، وفيه كذلك حب المساعرة والممارسة، لم يطمئن سكيم ولم يطمئن حكيم إلى قبول الدعوى في الليلة الأولى من عرضها، وآثرا انتظار الغد، فالغد الذي يليه وانتهيا أخيراً إلى أن بلعا الطعم كما بلعه قبلهما ألوف وبثمن بخس، بخمسة وثلاثين دولارا فضة، باعا الجسم والروح وفي صبيحة يوم كان سكيم وحكيم يدقان بأقدامهما تراب الطريق إلى ميناء (كانتون) وهو ميناء في الشرق الأقصى في ذكر اسمه غناء عن سوء وصفه وشناعة الأمور التي تجري فيه، ولما بلغاه سيقا كالغنام في قطيع كبير من الضحايا إلى سفينة صينية عتيقة عرفت البحار طرازها منذ خمسة قرون. وكانت(41/11)
سيئة النظام فاسدة التقسيم عاطلة من كل أدوات الراحة ووسائل العيش، لا أقول الرفيه، ولكن اللازم للتميز بينه وبين عيش الأنعام وسائر الحيوان. دخل شباب الصين إلى السفينة الصغيرة وكانوا خمسين ومائة رجل فملأوا طابقيها حتى ضاقا بهم، ولكن لم يظهر عليهم انهم ضاقوا بهما، وكيف يضيق الصيني بشيء وهو من أمة يرى الرجل فيها صنوف الكرب تحل به بأهله، وألوان الخسف والعذاب تنزل بغيره وبأهل غيره، وهو يحدق إلى هذه والى تلك بعين تنظر ولا ترى، ومقلة إن أدركت من الصور مبناها فقد فاتها معناها.
وتحركت السفينة باسم عزريل مجراها والى جهنم مرساها. وبتحركها بدأت تتحرك الأمور. فالبحر أخذ يدور فدارت معه نفوس الراكبين - في الأمم المتحضرة يذهب دوار البحر بوقار الناس، وهم يعلمون ذلك من أنفسهم فيحرصون على حرمتها فيتقون ما يقع لهم من ذلك بالتخفي والتستر، أما أصحابنا فلم يعرفوا للوقار اسما ولا لحرمة النفس معنى، ولو انهم علموا من ذلك ما علم غيرهم لما أغناهم علمهم شيئا، فلم يكن في السفينة موضع فاضل، فكيف بمكان ساتر، وما حاجة الصيني العامل المسترق للستر والخفاء، فمضت أيام ثلاثة، اختلط فيها الإنسان والمتاع والمكان، بمقذوفات الحلوق في جو امتلأ فسادا وتنضح سماً.
وصحا الجو في اليوم الرابع فرفع الرجال رؤوسهم وقاموا إلى وجبة من سمك وأرز، الارجلين بقيا بلا حراك على ظهر السفينة. ومن اجل هذين اجتمع ربان السفينة بوكيله اجتماعاً سريعاً فقررا أن الرجلين يحتضران، وانه لابد ألا يموتا في السفينة فيجلبا لها الشؤم والخراب. وكان من عادة أمثال هذه السفن أن ترسى على شواطئ غير أهلة طلبا للوقود الرخيص الذي يفر إليها هربا من الضريبة. وفي أول إرساءة انزل الرجلان ففرحا لذلك فرحا كبيرا، ولكنهما ما لبثا أن أدركا انهما نزلا إلى ارض لا أنس فيها ولا عون بل فيها المرض المتصل والمرض البطيء. فبكيا واستغاثا يطلبان العودة إلى السفينة، ورفعا أيديهما عبثا بالرجاء والدعاء. وأقلعت السفينة بدونهما. وعلم الرجال الذين بها ان هذا مآل كل من يسقط منهم هذه السقطة، ولكن لم يتحرك فيهم بنان باحتجاج أو لسان بكلمة دفاعا عن هذين البائسين، وكيف يقع من أحدهم شيء فيه إفساد لمغامرة مالية تعود على نفسه وأهلة بالنعمة والثراء؟ وما هذه بأول مرة بردت فيها المنافع الذاتية الدم الإنساني في موقف(41/12)
كان من طبعه أن يغلي فيه ويفور.
سارت السفينة مع الريح جنوبا، وكان يهب من الشمال شديدا، فسرعان ما بلغت أرخبيلاً يقع إلى الجانب الأدنى من بوغاز (مالقة) فانقلب اتجاه الريح فاصبح حاراً لافحا، وبدأ العطش يأخذ من الرجال فاستنفذوا صهريج ماء كامل. وفتحوا الصهريج الثاني وبفتحته انفتحت طاقة من جهنم.
ففي مساء ذلك اليوم مرض ثلاثة من الرجال مرضا مفاجئا، وماتوا موتا سريعا فلم يمهلوا ربان السفينة ليفعل بهم ما اعتاد ان يفعله بالمرضى إذا قل فيهم الرجاء. فاستاء الربان وتشاءم وتربص شرا. وقذف الرجال الأحياء بالرجال الأموات من فوق ظهر السفينة إلى البحر، إلى أفواه القروش التابعة، ووحوش الأقيانوس السابحة، وكان في وجوههم جزع، وفي عيونهم رعب، وكانت في الجثث بشاعة وشناعة.
في الصين يعيش الناس في فقر مدقع وجهالة سوداء، وهذان يلدان القذارة فإذا حلت الهيضة (الكوليرا) بهم راعتهم اشد الروع فان كانوا على الأرض فروا منها وتفرقوا سراعًا في كل صوب، وفرقوا معهم عدوى المرض في كل ناحية، وان كانوا حيث لا مفر ولا منجاة استسلموا استسلاما كاملا، واشتد بهم الخوف فجمدوا عن الحركة وهذا ما حدث لسكيم وحكيم وأصحابهما على تلك السفينة المشئومة، فانهم جميعهم جلسوا القرفصاء ودلوا وجوههم بين أرجلهم يحدقون في الأرض تحديقا شديدا كأنما يريدون خرقها بانظارهم، وهم إنما يفكرون فيمن تكون عليه النوبة التالية، وبأي اسم يهتف الهاتف عن قريب.
ولم يطل تفكيرهم طويلا، فما انتصف النهار التالي حتى أجاب الهاتف منهم ستة رجال، وما جاءت العشية حتى زاد هؤلاء عشرة آخرين. وجاء النهار مرة أخرى وجاءت شمسه، وأخذت تصب على السفينة أشعة لا من ضياء لطيف ولكن حمما من النار، وكان من حولها البحر هادئا ساكنا كأنه صفحة الزجاج، تشقه السفينة بصدرها فيسمع انشقاقه واضحا في هذا السكوت الرهيب.
وزاد جدول المرضى وطال، وتحرك الريح فزادت سرعة السفينة، وما لبثت أن تراءت لها شواطئ جزيرة (سومطرا) وكان البحارة خمسة فمات منهم ثلاثة. ومات اكثر الركاب أو كانوا في سبيل الموت، وأحدق الأحياء إلى الأرض البعيدة، إلى الأمل النائي، إلى الحياة(41/13)
من بعد أن ذهب رجاؤهم في الحياة. وكان من بينهم نفر ذهب الرعب بصوابهم فزادوا الحال خبالا
وعلم الربان أن السلطات لن تسمح بدخوله المرفأ الذي كان يطلبه على هذا الحال، فنكب عنه، وسار بحذاء الشاطئ يطلب مرسى آخر، وبعد ساعات وصل إلى ميناء صغير لهولاندا. وازدحم الرجال على ظهر السفينة، وفي عيونهم بريق الأمل، وفيها كذلك بريق الدموع.
ولكن كان الربان اضطر إلى ان يستعين على قيادة السفينة بأيد تعوزها الخبرة وينقصها المران، فلم يستقم سيرها، وظهر كانتا لا تعرف إن تميل ولا إلى أين تقصد، أو كأنها تدري ولكن لأمر ما تخشى وتخاف. فأثار ذلك الريبة في موظفي الميناء فخرج إليها ضابط هولاندي في قارب ومعه بعض الجند، فلما بلغ صاح مترجمه الصيني إلى رجال السفينة يسأل ما بها. فصمت الجميع ونطقت الجثث المترامية على ظهرها.
فصرخ الضابط: (إنها الكوليرا. الكوليرا السوداء. لا سماح بالنزول وإلا هلك من في الجزيرة جميعا. يا مترجم. صح بهم أن لا أمل في النزول. وانهم إن أبو نسفت السفينة بمن بها).
فكان بالسفينة هرج، وفيها مرج شديد، واصطفت تلك الوجوه الجوفاء الشاحبة تطل على القارب تبكي وترجو في ذعر ودهش من ان تبلغ القسوة هذا المبلغ من الإنسان. وتحول الضابط بنظره عنها وفي قلبه إحساس قوي اليم بأنه إنما حكم بالموت على هؤلاء التعسين، ولكنها الأوامر لم يكن باستطاعته مخالفتها، وغير ذلك فلم يكن في الميناء محجر صحي ينزل هؤلاء الأشقياء فيه واجتمع الربان بوكيله، واعتزما أن يعبرا البوغاز إلى الشاطئ الآخر يحاولون النزول على شاطئ الملايا كان هذا آخر أملهم فتمسك الرجال به تمسك الغريق بقطعة خشب عائمة، فقام من استطاع منهم بالمعونة لنصل السفينة سريعا إلى منزل الخلاص. وجاء الليل فمرض الوكيل وذهب. وجاء دور حكيم فدافع المرض بقدر ما في جسمه من قوة، ومر بكل أدوار الوباء وآلامه. ونظر إلى صديقه سكيم والداء يملؤه، يرجوا ويسترحم ويطلب تخليصه، ولكن سكيما فر، فحكيم لم يكن في تلك الساعة صديق طفولته وصباه الذي كان يعرف، ولكنه رجل يزفر الموت في أنفاسه وجمع القبطان رجاله، وذكر(41/14)
لهم ان الخير في تجريد السفينة مما عليها من الأشلاء، وفي تنظيفها من مظاهر الوباء، وفي التخفي وفي التستر لكي يسمح لهم بنزول الشواطئ. فبدءوا في رمي الجثث إلى البحر بسواعد تضطرب، وفرائص ترتعد. وجاء دور الجثث التي لم تمت بعد، فنظر إليها الرجال ولم يمدوا إليها يدا، ونظروا إلى الربان يستنبئون، فصاح بهم: لابد من إزالة كل اثر فقذفوا بأجساد لا تزال بها حرارة الحياة. وكان حكيم لم يمت بعد، فاسترحم واستغاث. ومرت رعدة شديدة في ظهر سكيم لما رآه يقذف إلى الماء. ولكنه لم يفعل شيئاً.
دبر الربان ودبر القدر، فحدث ما لم يكن ينتظر. سكنت الريح وكان تيار الماء قويا في هذه المنطقة فحمل السفينة معه، وحمل معها الجثث التي قذفت بها، فسارت حولها في موكب مريع، وازدحم الرجال على السفينة ينظرون إلى الرجال الذين يرقصون في الماء. ونظر سكيم فيما نظر صديقه حكيما يصعد في البحر وفي فمه صياح وفيه إزباد وارغاء، ثم يغطس غطسة فسرتها ست من زعانف سوداء، أكلت (القروش) حتى شبعت، ومع ذلك بقيت على المائدة بقية صحبت السفينة حتى بلغت ميناء (كلانج).
وكان البرق قد طير خبر السفينة إلى (سنغافورة) فخرج رجال الميناء يطلبونها. فأقبلت تتهادى في ثقة من النزول هذه المرة لأنها تخلصت من آثار الوباء أو خالت أنها تخلصت منه، ولكن حال الرجال التي حملت كانت تنم عن كثير، وغير هذا فقد دخلت تجرر في أذيالها على الماء من بقايا الأموات وثائق حية تعلن التهمة للرياح الأربع فأحاط بها الجند من كل ناحية، وساقوها إلى جزيرة العزل، أما الأموات فدفنوهم مع كثير من الجير، وأما البقية القليلة الباقية فمركزوهم في نطاق مضروب، ومرضوهم فمات منهم ثلاثة، وخرج الباقون بعد حين في ذهول كبير، إلى الدنيا بلا خوف، إلى الأرض الجامدة الواسعة الامينة، يستقبلون حياة جديدة وأملاً جديداً. وكان كلما نظر ناظر منهم إلى خلفه اقشعر.
احمد زكي(41/15)
الانقلاب الجمهوري في إسبانيا
1 - إسباني ما قبل الحرب
بقلم الأستاذ محمد عبد الله عنان
تعاني إسبانيا الجمهورية منذ قيامها أزمات ومتاعب متوالية، وتتعاقب فيها القلاقل والاضطرابات المختلفة. وقد استطاعت حكومة السينور ليرو الأخيرة التي قامت بعد أزمة وزارية طويلة أن تسيطر على الموقف نوعاً. ولكن استنادها إلى العناصر الفاشية والمحافظة يثير سخط الأحزاب الاشتراكية والمتطرفة ويذكى النضال الخالد بين الجبهة الثورية. وتتنازع إسبانيا فوق ذلك قوتان أخريان: هما قوة الملوكية، وقوة الكثلكة. وقد قامت الجمهورية الإسبانية الفتيه على أنقاض الملوكية والقوى الدينية التي تحركها. ولكن فلول الملوكية مازالت تنبث في إسبانيا وتعمل في الداخل والخارج لإثارة الصعاب في وجه الجمهورية، وما زالت قوى الكثلكة رغم انهيارها تحاول النهوض والعمل لاسترداد نفوذها وسلطانها. وما زالت الجمهورية قويه تقبض على ناصية الحوادث، ولكن الخلاف الذي يضطرم دائماً بين العناصر الجمهورية والحرة، وبينها وبين العناصر المتطرفة والثورية من جهة أخرى، يزيد في متاعبها ويعرضها لأخطار شتى.
قامت الجمهورية الإسبانية منذ ثلاث أعوام، في إبريل سنه 1931 نتيجة لنضال ديمقراطية ثائرة تضطرم منذ أعوام طويلة. ولكن الديمقراطية الإسبانية قديمة ترجع إلى اكثر من قرن. وقد ظفرت إسبانيا بدستورها الحديث سنة 1812، أثناء الحروب البونابارتية، وهو الدستور الذي وضعته جمعية وطنيه في قادس، ووعد فرديناند ملكها المنفي يومئذ باحترامه، ولكنه لما عاد إلى إسبانيا بعد ذلك بعامين على اثر انتهاء الحروب البونابارتية، عمل على توطيد الملوكية المطلقة وانتقاص الحريات والحقوق الدستوريه، فعاد الشعب الإسباني إلى الثورة في سنة 1820، واضطر فرديناند إلى الاعتراف بالدستور كرة أخرى ن ولكنه لم يلبث أن عاد إلى انتهاكه، وعاونته الجنود الفرنسية التي أمده بها لويس الثامن عشر على تنفيذ سياسة الحكم المطلق. وكانت معظم الشعوب الأوربية تنزع يومئذ إلى الحركات التحريرية، ولكن الملوكيات القديمة لم تقف جامدة أمام هذه النزعة، ومنذ سنة 1815 عقدت المعاهدة المقدسة بين العروش الأوربية القديمة في روسيا، والنمسا، والمجر،(41/16)
وألمانيا، للتعاون على إخماد النزعات والحركات الشعبية الحرة التي بثتها مبادئ الثورة الفرنسية، وإذكاها مبالغة الملوكية القديمة في الاستئثار بالسلطان والحكم المطلق، وفي تجاهل الرغبات والأماني الشعبية. وفي اواخر عهد فرديناند (نحو سنة 1830) اضطرام النضال بين فرديناند وأخيه الدون كارلوس على مسألة وراثة العرش. وكان فرديناند حتى سنة 1829 عقيما لا ولد له.، ثم ولدت له بعد ذلك ابنة، فعمد في الحال إلى تغيير قانون الوراثة ليحرم أخاه كارلوس من ارتقاء العرش وليبقى العرش لابنته. ولما توفي سنة 1833، اعترف (الكورتيز) (البرلمان) بابنته ايزابيلا ملكة لإسبانيا وبوالدتها وصية على العرش، واعترفت إيزابيلا بعد ذلك بالدستور الإسباني الجديد الذي وضع سنة 1936، على مثل دستور قادس. ولكن عهدها كان فياضا بالاضطراب والقلاقل، وتوالت فيه الحكومات الضعيفة العاجزة وفسدت النظم والادارة، وفيه فقدت إسبانيا معظم أملاكها الأمريكية على اثر الحركات التحريرية التي قامت في أمريكا الجنوبية وانتهت بتحرير شعوبها من النير الأسباني، وقيام الجمهوريات الأمريكية الجديدة، واستمرت إسبانيا عصرا تعاني غمر الاضطراب والفوضى، ولكن الديمقراطية استطاعت خلال ذلك ان تنمو وان تقوى، وبذلت يومئذ لتحطيم الملوكية عدة محاولات عنيفة، ووقعت من جراء ذلك حوادث دموية كثيرة. واشتد ساعد الحركة الجمهورية إلى حد روعت معه الملوكية، واستمرت أداة الحكم على ضعفها وانحلالها، والعرش فيما بين ذلك يهتز توجساً وفرقاً، حتى غدا الموقف مما يستحيل استمراره. ولم تقوى الملكة ايزابيلا على مواجهة هذه الصعاب والخطوب كلها، ففرت إلى فرنسا، ثم تنازلت بعد ذلك عن العرش لولدها الفونسو الثاني عشر. وكان الفونسو وقتئذ طفلا في نحو العاشرة، فلبث العرش الإسباني خاليا مدى حين، وأقيمت حكومة مؤقتة تحيط بها الصعاب والأزمات من كل ناحية ثم كان عرض العرش الإسباني على ليوبولد الألماني من أمراء آل هوهنزلرن، ومعارضة نابليون الثالث في ذلك، وقيام تلك الأزمة الخطيرة التي التمست سببا لاضطرام الحرب بين فرنسا وألمانيا في سنة 1870 فعدلت إسبانيا عن ترشيح ليوبولد. وانتهى الأمر باختيار امديس أمير سافوا ملكا لإسبانيا، فجلس على عرشها نحو ثلاثة أعوام يعمل في ظروف صعبة، ثم استقال وغادر البلاد وخلا العرش كرة أخرى، وهنا اضطرمت البلاد بثورة تحريرية قوية، واستطاع(41/17)
الأحرار أن يعلنوا قيام الجمهورية، وان يقيموا الحكم الجمهوري مدى عام (سنة 1874)، وكان هذا أول ظفر حقيقي للديمقراطية الإسبانية، ولكنه كان ظفرا خلبا، لان العناصر الرجعية لبثت قوية تعمل لاسترداد سلطانها. وكانت إسبانيا تعاني في نفس الوقت مصائب الحرب الأهلية، لان الدون كارلوس وأنصاره انتهزوا فرصة الاضطراب العام ليحاولوا انتزاع العرش فوقعت الحرب الكارلية الثانية (سنة 1872)، ولبثت نحو أربعة أعوام تمزق أوصال الأمة، ثم انتهت أخيرا بسحق قوى الدون كارلوس وفراره إلى فرنسا. وعندئذ أعلن الفونسو الثاني عشر، وكان عندئذ طالبا يدرس في إنكلترا - انه ملك إسبانيا الوحيد، واستمر أنصاره في الداخل يدبرون له سبيل العودة، حتى استطاع أن يعود وان يجلس على عرش إسبانيا سنة 1875، وهو فتى لا يجاوز السابعة عشرة، وكان الفونسو الثاني عشر رغم حداثته يتمتع بخلال ومواهب طيبة، فاستطاع بمعاونة وزيره الشهير شاروفاس دل كاستيلو ان يقمع الفوضى وان يعيد الأمن والنظام، وان يقوم بإصلاحات واسعة المدى. وتنفست إسبانيا في عهده الصعداء، وتمتعت بفترة من السكينة والرخاء. ولكن الموت لم يمهله فتوفي شابا في السابعة والعشرين من عمره سنة 1885، وترك أرملته حاملا، فوضعت بعد وفاته ولدا سمي بالفونسو الثالث عشر، واعن منذ مولده ملكا لإسبانيا وعينت أمه الملكة ماريا كرستينا وصية للعرش.
كان الفونسو الثالث عشر خاتمة لتلك السلسلة الحافلة من ملوك قشتالة الذين لبثوا قرونا يحاربون العرب والإسلام في إسبانيا والذين قضوا بعد طول الجهاد على الإسلام والحضارة الإسلامية في إسبانيا. وكان وريث ملوكية عريقة كانت مدى حين تفوق جميع الملوكيات أل أوربية في العظمة والبهاء، وتبسط سلطانها ما وراء المحيط على قارة بأسرها. ولكنه لم يرث من ذلك التراث العريق الباذخ سوى بقية واهنة مضعضعة. كانت الملوكية الإسبانية في الواقع تطوي مرحلتها الأخيرة في بطئ، وشاء القدر أن يكون مصرعها على يد الفونسو الثالث عشر آخر ملوك قشتالة.
تولت الملكة ماريا كريستينا زمام الأمور حتى يبلغ ولدها اشده. وكانت مهمة شاقة، لان الأمور لم تكن قد استقرت بعد، ولكن الملكة الأرمل استطاعت أن تعمل في جو من العطف سواء في الداخل أو في الخارج، فهدأت الخواطر وتحسنت الأحوال نوعا. وكان اعظم(41/18)
الحوادث في هذا العهد نشوب الحرب الإسبانية الامريكية، وفقد إسبانيا لباقي مستعمراتها، وكان سبب نشوبها الخلاف بين إسبانيا وأمريكا على جزيرة كوبا، وتطلع أمريكا إلى انتزاعها من إسبانيا. ونشبت الحرب بين الدولتين سنة 1898، وهزمت إسبانيا وحطمت قواها البحرية، وفقدت كوبا وباقي مستعمراتها في الهند الغربية، وفقدت أيضاً جزائر الفلبين الغنية في الهند الشرقية، ولم يبق لها شيء من تراثها العريض فيما وراء البحار وكبدتها الحرب نفقات باهظة أنضبت مواردها وأثقلت كاهلها مدى حين.
وفي مايو سنة 1902 توج الملك الفونسو الثالث عشر، وهو في السادس عشر من عمره، وتولى زمام الحكم، وبدأ بذلك عهد جديد من الملوكية الإسبانية استطال مدى ثلاثين عاما، وكان عهد الفصل في تاريخها. وأبدى الفونسو منذ ولايته همة ونشاطا، بيد انه لم يمض نحو عام حتى توفي السنيور ساجستا رئيس الوزراء وزعيم الأحرار، وكان سياسيا بارعا يتمتع بكفايات جمة، فاضطربت شؤون الحكم، وانتقلت السلطة إلى المحافظين، وتعاقبت منهم في الحكم خمسة وزارات في نحو ثلاثة اعوام، واخذ الملك الجديد يواجه كل الصعاب التي واجهها إسرافه. وكان الفونسو الثالث عشر يبدي منذ البداية ميولا رجعية قوية ويلتمس الوسائل المختلفة لمقاومة النزعات الحرة والحريات الدستورية، ويعتمد في تنفيذ سياسته على العناصر الرجعية المحافظة وبجمعها حوله، وكان ذلك سببا في بث السخط حول العرش وحول شخصية حتى انه دبرت يوم زواجه من الأميرة فكتوريا أوجيني ابنة آخي الملك إدوارد السابع، أول محاولة لاغتياله (سنة 1906)، وبدأت من ذلك الحين سلسلة من الاعتداءات شاء القدر أن ينجو منها جميعا. وكانت الحركات والنزعات الديمقراطية والثورية أثناء ذلك تنمو وتشتد وخصوصا في مقاطعة قطلونية. وكانت قطلونية فوق ذلك مسرح حركة انفصالية قوية ومهد معركة مضطرمة بين الوطنيين القطلان والراديكاليين المركزيين بزعامة السنيور ليرو. وعاد الأحرار إلى منصة الحكم منذ سنة 1905 على يد زعيمهم موريه واستمروا بضعة أعوام؛ ولكن الملك ما لبث أن عاد إلى محالفة المحافظين، وكانت المسالة المراكشية تشغل إسبانيا منذ حين، وكانت قد سويت مع فرنسا في سنة 1904 بمعاهدة فرنسية إسبانية، اعترف فيها بحقوق إسبانيا، وحددت المنطقة الإسبانية تحديدا يرضي أمانيها. ولكن المسالة المراكشية استمرت شغلا(41/19)
شاغلا للسياسة الإسبانية، بل غدت كما سنرى كابوس السياسة الإسبانية مدى أعوام طويلة، وكانت عاملاً جوهرياً في تطور الحوادث في إسبانيا، وفي تذرع العناصر الرجعية بإقامة حكم الطغيان الشامل الذي لبث عدة أعوام يخمد أنفاس الشعب الإسباني، ثم انتهى بذلك الانفجار الحاسم الذي حطم صرح الملوكية القديمة، وحقق في إسبانيا آمال الديمقراطية كاملة شاملة.
وخلف المحافظون الأحرار في منصة الحكم على يد زعيمهم السنيور مورا، وفي ذلك الحين اشتدت الحركة الثورية في قطلونية، واضطرمت الحرب في مراكش في نفس الوقت لأن بعض قبائل الريف هاجمت الخط الحديدي الذي يربط المناجم الاسبانية؛ وقررت الحكومة أن تعبئ الجنود الاحتياطية القطلونية، فثارت قطلونية احتجاجا على ذلك، ونظم إعتصاب عام في برشلونة امتد إلى باقي أنحاء الولاية (يوليه سنة 1909) وانفجر بركان الثورة فقبضت العسكرية على زمام السلطة، وقمعت الثورة بمنتهى القسوة، واعدم الزعيم الثوري فرانشيسكو فيرر؛ فازدادت البلاد سخطا، واضطرت الوزارة المحافظة إلى الاستقالة، وعاد الأحرار إلى الحكم أولاً على يد السنيور موريه، ثم بعد استقالته على يد السنيور كاناليخاس (فبراير سنة 1910). واستمرت الوزارة الحرة في الحكم حتى مقتل رئيسها كاناليخاس في نوفمبر سنة 1912. وامتاز هذا العهد بحادثين في منتهى الخطورة، أولهما: اضطرام المعركة بين الحكومة الحرة والكاثوليك، بسبب اضطهاد الحكومة للكاثوليك وسخط الفاتيكان من اجل ذلك؛ والثاني قيام الخلاف بين إسبانيا وفرنسا بسبب المسالة المراكشية. وكانت فرنسا تزداد توسعا في مراكش حتى شعرت إسبانيا أنها تهدد منطقتها ومصالحها وانتهزت ألمانيا هذه الفرصة للتنويه بمصالحها في مراكش، وأرسلت الطرد (بانتير) إلى مياه أغادير بحجة حماية مصالحها، واضطرت فرنسا إلى أن ترضي ألمانيا بتحقيق بعض مطالبها في الكونغو، واضطرت من جهة أخرى أن تحترم سياسة إسبانيا على المنطقة الإسبانية وكان ذلك فوزا للوزارة الحرة، ولكن اشتدادها في إخماد الحركة الثورية في قطلونية انتهى بمقتل رئيسها (نوفمبر سنة 1912)، فخلفتها وزارة محافظة برئاسة السنيور داتو لبثت في منصة الحكم حتى ديسمبر سنة 1915، وفي عهدها نشبت الحرب الكبرى. وأعقبتها وزارة حرة برئاسة الكونت رومانونيس، فاستمرت حتى(41/20)
أوائل سنة 1917. ولزمت إسبانيا الحياد أثناء الحرب، واستفادت من حيادها فوائد تجارية واقتصادية جمة وتمتعت بفترة من الرخاء الحسن، وكان الرأي العام الإسباني يتراوح بين تأييد الحلفاء وتأييد ألمانيا. فالأحرار وأحزاب اليسار تميل مع الحلفاء، والأحزاب المحافظة ورجال الدين يميلون مع ألمانيا. وكان السلام الذي تمتعت به إسبانيا خلال الحرب نعمة سابغة وعاملا كبيرا في استقرار شئونها وأحوالها.
وفي أواخر سنة 1917 تحركت أحزاب اليسار (الأحزاب الاشتراكية) كرة أخرى، ودبرت إعتصابا عاما في جميع إسبانيا. وكانت الديمقراطية ترمي بهذه المحاولة إلى تحطيم النظام القائم، وإقامة جمهورية أسبانية ديمقراطية، ولكنها أخفقت في تدبيرها واستطاعت العسكرية ان تسحق الثورة في مهدها. وكانت العسكرية تتطلع دائما إلى فرض نفوذها وسلطانها على شؤون الحكم، وكانت ترى من حقها بعد أن أنقذت الملوكية والنظام القائم من ثورات الديمقراطية غير مرة، أن تستاثر هي بالسلطة، وان توجه سياسة البلاد طبقا لرأيها، وقد استطاعت في الواقع ان تحقق هذه الغاية إلى حد كبير على يد الوزارة المحافظة التي قامت يومئذ برياسة السينور جارسيابريثو، وتولى فيها وزارة الحربية رجل من رجال العسكرية هو الجنرال لاتشيرفا، ولكن هذا الطغيان العسكري لم يطل يومئذ أمده لما أبداه لاتشيرفا من عجز وصلف؛ فسقطت هذه الوزارة المسيرة؛ والفت وزارة حرة برئاسة الكونت رومانيوس (ديسمبر سنة 1918)؛ وعلى يد هذه الوزارة التحقت إسبانيا بعصبة الامم التي كانت يومئذ معقد كثير من الآمال والأماني. ولكن الوزارات الحرة كانت تصطدم دائما بعثرات وصعاب جمة سوداء من جانب العرش، وقد كان يؤثر دائما جانب الطغيان والقمع ويعتمد على مؤازرة العناصر الرجعية والعسكرية والدينية، أو من جانب العسكرية وقد كانت ترهق بضغطها كل حكومة لا تذعن بإرادتها ووحيها. فسقطت وزارة رومانيونس، وخلفتها وزارة محافظة برياسة السينور مورا، ثم وزارة محافظة أخرى برئاسة السينور توكا، وكانت هذه الوزارة الأخيرة وزارة قوية مستنيرة، ولكنها اصطدمت بإرادة العسكرية ولم تذعن لها، فاستقالت مرغمة، ولكن المحافظين استمروا في الحكم أيضا أولا على يد السينور سلازار ثم على يد زعيمهم السينور داتو الذي ألف الوزارة الجديدة في مايو سنة 1920. وكانت إسبانيا ترزح يومئذ تحت خطبين عظيمين: أولهما اضطرام الثورة في قطلونية، وثانيهما(41/21)
اضطرام الحرب في مراكش؛ وكانت حوادث قطلونيةدائما كابوس السياسة الداخلية، كما كانت حوادث مراكش كابوس السياسة الخارجية، فحاولت وزارة داتو أن تقمع الثورة في قطلونية وانساقت كالعادة إلى القسوة والتطرف متأثرة بإرادة العسكرية والعرش، لكنها لم تفلح في إخماد الهياج، وانتهى الأمر بمقتل رئيسها (مارس سنة 1921)؛ فعاد السينور سالازار إلى تأليف الوزارة الجديدة؛ وهنا تطورت حوادث مراكش تطورا خطيرا نرجئ شرحه إلى الفصل القادم.
محمد عبد الله عنان المحامي(41/22)
فضيلة. . .!
للأستاذ الأديب عباسي
والفضائل كالرجال: منها المائع المسترخي، ومنها الشديد الصلب الذي لا يثنى، ومنها المقرور مفرط القر، ومنها المشبوب مفرط الحر، ومنها مرهف الحد نافذ الشفرة، ومنها كثير الفلول كليل السطوة، ومنها الذليل المستعبد ومنها الأبي المستكبر، ومنها الواضح البين، ومنها الذي ليس له أول ولا آخر. وتستطيع أن تمضي بالمقارنة إلى آخر ما يحضرك من صور للرجال ونماذج. ولا عبرة بما يوحيه اللفظ من معاني القداسة والاشتقاق من الفضل. فأنت تعرف جيدا من الفضائل كالرجال أيضا تخضع لملابسات الحياة وتعنو الزمن، وتنال من دهرها تقديرا عادلا حينا، وتقديرا جائرا أحيانا أخرى.
وفي عصور النضال العنيف والجهاد المحرج يقسر الناس على التفطن إلى جميع مناحي الحياة دقيقها وجليلها ويحملون على تناول موادها تناولا سريعا مرتجلا لا إشفاق فيه - غالبا - على ماضي تليد ولا مستقبل موموق بعيد والذي يربح المعركة للقوم من هذه المواد هو الذي لاشك يربح البقاء والخلود.
ولعل الشرق في هذا الوقت الحافل بجميع ضروب النزاع المليء بأقرب الاحتمالات وابعدها، هو احوج ما يكون إلى أن يكر راجعا إلى هذا الكتاب القديم الذي دونت فيه فضائلنا، ويطمس بالقلم العريض هذه الأسطر المجرمة التي تسيء إلى رجولة الشرقي، وتنقص من حيويته الفردية ثم حيويته الاجتماعية، وعملية التنقيح في الاخلاق والفضائل هذه عملية قديمة خبرها اليونان والرومان والعرب وغيرهم، وخبروا أخيرها اصدق مختبر. ولعل اشد عصور هذه الأمم سوادا هي العصور التي كان فيها الرقيب في غفوة عنها، فشبت بعض هذه الفضائل من رقدتها ونشبت تنهش في الحياة وتوالي تمزيقها إلى ان أحالتها في النهاية رسما لجسم، وبقية من جثة. والحياء - كما تعلم - من اقدم ما خط في كتابنا الأخلاقي - الحياء لا بمعنى صرف النظر وتحويل الفكر عن الشهوات والملاذ الدنيئة - بل الحياء بمعنى إعطائك سيفك لخصمك ليقتلك به، أو الارتماء على فجوة بين حائطين ليعبر عليك إلى غايته من هو دونك، أو السير وراء الناس من بعد تلتقط بقايا الزاد وفتات الأطعمة.(41/23)
إن سبيل النجاح سبيل واضح لا يخطئه النظر الصائب والاستعداد الصادق. فإذا رمت السير فيه غير مرفوع الرأس موفور الثقة بالنفس، فأحر بك أن تجدك في آخر الطريق أو موطئا للإقدام. ان الزحام على طيبات الحياة لا يدعك تسير في رفق وعلى مهل. وخجلك الذي تخجل واستكانتك التي تستكين، ليس لهما إلا نتيجة واحدة تعرفها لاشك تمام المعرفة. وهي لا ريب الحرمان والخيبة على حين قد تكون وأنت المحروم اكثر الناس استعداداً وأحقهم بالفوز تقول كتابة فرنسية: ما من حياة إلا ويمكن ان تكون ضررا على حياة أخرى أو اكثر. فإذا صدقت كاتبتنا فيما تقول - وما أخالها إلا صادقة - فما معنى ذلك؟ معناه أن نجاحك في سعي أو سبقك إلى غاية هو في الواقع حرمان لواحد أو اكثر ممن عداك. فهو - لذلك - مدفوع بغريزته إلى مزاحمتك وإقامة العراقيل في وجهك ليصرفك عن النجاح في هذا المسعى أو السبق إلى تلك الغاية. وهو غالبا لا يكتفي بان يوقفك حيث أنت بل تراه لا يحجم ولا يتجمجم أن يدفعك خطوة أو خطوات إلى الوراء، فذلك اضمن لفوزه واكفل بنجاحه.
ونحن لا ندعو إلى إطراح الخجل أو المزاحمة بالمناكب لنقف عند هذا الحد من تقوية الأنانية الفردية واحتجان معظم الخير للنفس. ولكن يقيننا الذي لا يتسرب إليه الشك هو إن من احسن نيل الحق خاص وأجاد في مدافعة الأخصام عنه يحسن أيضا المدافعة عن حق عام والمزاحمة في نصرته. والمرء في أمم الغرب العريقة يزج في أتون من الخصام العنيف والنضال الشديد فما يزال ينحي ويذود عن نصيبه الموموق وحقه المشروع حتى يناله. فإذا دعا داعي النصيحة العامة والبذل المطلق كان صاحبنا هذا في أول الملبين وطليعة المستجيبين. وما ذلك إلا إن فضائل الصبر والاحتمال يصيبها المرء من هذا النضال مضافا إليها استشعاره الرضى كل الرضى عن هذا البلد الذي يظلله ويهيئ له من فرص النجاح على قدر استعداده، هي مما يحبب إليه هذا البلد ويدعوه إلى المسارعة في البذل له والتضحية من اجله وليس من باب المصادفة المحضة أن تجد الإنكليزي اكثر الخلق مطالبة بحق خاص، وأكثرهم في ذات الوقت مطالبة بحق عام.
ثم لا تحسبن انتفاء الحياء والخجل يولد الغرور ويشجع على القحة كما قد يتبادر إلى الذهن. والصواب أن نقول: إن انتفاء الحياء بالمعنى الذي أردت هو قتل للغرور(41/24)
واستئصال للقحة. وذلك إن ظهور الجميع بمظهر الصراحة والثقة بالنفس لا يدع للدعى مضطربا يضطرب فيه أو مجال يصول فيه، إذ لا يبقى حينها رائجا إلا سوق الجدارة والاقتدار. ولو انتفى المزاحمون لراح هؤلاء الأدعياء المغرورون يملأون الدنيا صياحا وصخبا وادلالا بقوتهم وسمو مواهبهم:
زد على هذه المحاذير أن الحيي بانزوائه قد يحرم المجتمع الذي نعيش فيه كثير من الثمار الطيبة والجني اليانع الذي قد لا يخصب خصبه المطلوب في غير نفسه. وحبذا لو درس أصحابنا الخجلون هؤلاء شيئا من صحائف الطبيعة الناطقة، ولقنوا بعض دروسها العلمية. إذا لكانوا يشفون من مرضهم المخامر هذا. لينظروا إلى الزهرة ترفع جيدها لتستقبل الشمس، وليلاحظوا الرياح تذروا النبتة لا تتشبث جهد التشبث في أديم الارض، وليلحظوا أيضا الزهرة الجميلة لا يفوح عطرها يأتي عليها منجل الحاصد وتلقى بين ما يلقى أمام البهائم. ثم ينظروا إلى ذلك الطائر الجميل يتخذ من رواء ريشه وجمال زينته وسيلة للتشبث بأسباب الحياة. وليصغوا أيضا إلى ذلك الطائر عينه يملا الأرض برجع صوته الرخيم، لا ليشنف اسماعهم، بل ليكون له مما تصوغه حنجرته الصغيرة وسيلة يستبقي بها النوع ويستديم الذرية.
إن المرونة الخلقية لا باس بها، ولكن ليس إلى الحد الذي يصبح عنده الإنسان كالإسفنج تعتصر كل ما فيه من حياة دون أن يأسى أو يتألم، فيحاول المدافعة عن نفسه بالتي هي احسن أو بالتي هي اشر. الحرير لا باس به لباسا للمترفين، ولكنه بئس اللباس للمحاربين. فلنكن إذاً الشوكة تدمي الأنامل وتؤذي الملمس لا الوردة تنثر غلائلها أو الشهد يستساغ منهله.
شرق الأردن
أديب عباس(41/25)
الشطرنج كيف اخترع؟ - تطوراته بين الأمم القديمة
لعبة الشطرنج من أدق اللعب الفكرية وأهمها وانفعها. بل هي معيار
لقوة الذكاء والمهارة والحذر والدهاء والإقدام، لأنها دقيقة في وضعها،
دقيقة في لعبها، تروض الإنسان على التحذر وسعة الحيلة وتدفعه إلى
المجازفة إذا ما تبين له بريق أمل من الفائدة.
إن هذه الرقعة التي يلعب عليها اللاعبون بقطع من الخشب مصورة ذات أسماء موضوعة، إنما هي ملعب الحياة، ومضمار السباق والرهان فيها، بل هي سر الحياة والعظمة، والموت والمهانة والزراية، ففيها يعلو الصغير إلى منصة العرش، وفيها تخطو الفرس ثلاثا فتعلو على الشاه فنلقيه بحافرها، هذه وغيرها كلها مشاهد في لوحة هذه الحياة التي تعتورها دائما ظروف شاقة لا يحتملها غير ذي الصبر والجلد الذي يفسح له من الآمال مجالا، ويجعل بين حدي الفشل والنجاح اتصالا.
لا يوجد من الأسانيد التاريخية القديمة شي محقق يدل على تاريخ وجود هذه اللعبة الفكرية كما حققت هذا (دائرة المعارف الفرنسية) وكل ما عرفوه عنها راجع إلى العهد الذي ذاعت فيه، فقد كان للقدماء العاب شتى بالطبع يلهون بها في فراغهم لترويج نفوسهم. وقد تشاهد منقوشة على الآثار المصرية القديمة ولكن لم تعرف لها قواعد.
(وقد قيل في أساطير الأولين ان أول من اخترع لعبة الشطرنج هو (بالاميد) إبان حصار طروادة وقد صدرت جريدة خصيصة بهذه اللعبة اسمها (بالاميد)).
وللشطرنج أسماء قديمة تباين اسمه العصري، فقد كانوا يطلقون عليه في أوربا في القرون الوسطى، عندما كانت اللغة اللاتينية ذائعة في ذلك الحين اسم (لودوس لاترنكولوروم) وكانوا في الهند يسمونه قديما (شطرونجا) وأطلقوا عيه في القرن السادس اسم (شاتورانجا) وتسربت هذه اللعبة إلى فارس وبلاد العرب وغيرها من مختلف البلاد. ولعل أول عهد لأوربا بها كان القرن السادس عشر وأخذت تذيع فيه إلى حد أن تألفت فيها مجامع ومدارس وجرت مسابقات بين البلاد وعقدت مؤتمرات خصيصة بها وغامر فيها الغاوون بضياعهم ورؤوس أموالهم حتى لقد فقد واحد كل ما ملكت يداه في سبيل لعبة واحدة فلم يحزن لانه أضاعها بغلطة فكرية. ولعبة الشطرنج في ذاتها، فكرية تبعد الناس عن كل(41/26)
موبقة وتصرفهم عن كل إثم، فأنت ترى الجالس أمام الرقعة مقصور النظر والفكر عليها، لا مطمع له إلا أن ينهمك في المغامرة ليغلب بجد، ويدفع عن حياض فكره بحق.
وللاعبين حيل غريبة في التغلب، فان الدهاء لابد أن يكون الآلة العاملة مع الفكرة، مثال ذلك إن اللاعبين في أوربا في القرن الخامس عشر كان أحدهما إذا لاعب الثاني ليلا جعل الضوء إلى يساره، وإذا ما لاعبه نهارا اجتهد في أن يجعل خصمه إزاء الضوء حتى يضلل بصره. وقد كانت هذه الطريقة التي جرى عليها (فنسان) و (دي لوسينا) وهما من اشهر اللاعبين الأوربيين في ذلك الحين. وقد كان للعرب القدح المعلى في هذه اللعبة، وكانوا يسمون الملك؟
(شيخاً) وهو الذي اسماه الفرس (شاها) وجرت تسميته حتى الآن. وقد روي (الصفدي) انه رأى غير مرة في دمشق سنة 731 هـ شخصا يعرف (بالنظام العجمي) وهو يلعب الشطرنج غالبا في مجلس (الصاحب شمس الدين) ورآه أول مرة يلعب مع (الشيخ أمين الدين سليمان) رئيس الأطباء فغلبة مستدبرا ولم يشعر به حتى ضرب (شاه مات) بالفيل.
وحكى له عنه انه يلعب غائبا على رقعتين وقدامه رقعة يلعب فيها حاضرا ويغلب في الثلاث. وكان الصاحب يدعه في وسط الدست ويقول له عد لنا قطعك وقطع غريمك فيسردها جميعها كأنه يراها.
واجمع بعض من المؤرخين على ان السبب في اختراع لعبة الشطرنج راجع إلى عهد الملك
(تلمبيت) ملك الهند الذي أحزنه أن يضع (شيربابك) أحد ملوك الفرس (النرد) وهو رموز على السنين والحساب، والأشهر، والأيام، والأسابيع، والقضاء والقدر، إلى غير ذلك. فعمد حكيمه (صوصة) إلى اختراع لعبة تفوق تلك وتعد فخارا للهند. فاخترع لعبة (الشطرنج) التي اجمع حكماء ذلك العصر ومفكروه على تفضيلها. فلما آن عرض اختراعه على الملك اعجب به وطلب منه أن يتمنى عليه ما شاء من جزاء، فتمنى عدد تضعيفه حبات قمح، فأنكر عليه الملك هذا الطلب التافه فالح المخترع في إجابة طلبه، فحسب أهل ديوان الملك هذا التضعيف ثم قالوا له إن ما عندنا من القمح هو دون الطلب، فدهش، ثم أوضحوا له الأمر فاعجب به لان تضاعف الأعداد إلى البيت السادس عشر أسفر عن اثنين وثلاثين(41/27)
ألفا وسبعمائة وثمانية وستين حبة من القمح. فكيلت قدحا، ثم ضوعفت أجزاؤها إلى البت العشرين. فكانت ويبة، ثم ضوعفت هذه الأرادب فكانت في البيت الأربعين مائة وأربعة وسبعين ألفا وسبعمائة واثنين وستين إردبا وثلثي الإردب. ولما كان الإردب ستة وتسعين قدحا فان هذا القدر يملا شونة، ثم ضوعفت الشونة في البيت الخمسين فكانت الجملة ألفا وأربعا وعشرين شونة، وهذا القدر يعادل فسيح مدينة، ثم ضوعفت المدينة إلى البيت الرابع والستين وهو آخر بيوت رقعة الشطرنج، فكانت النتيجة ستة عشر ألفا وثلثمائة وأربعة وثمانين مدينةوهو ميزان الرقعة جميعها. فان جمع من البيت الأول إلى الثالث والستين كان الحاصل مساوياً لما في البيت الرابع والستين لا ينقص عنه غير حبة بر واحدة، ثم جمع ما في الرقعة جميعها فكان اثنين وثلاثين ألفا وسبعمائة وثماني وستين مدينة. فعجب الملك ومن حضر مجلسه العجب كله.
أبو بكر طاهر مؤمن(41/28)
مهجور اللغة
روي إن ابن زيدون قام على جنازة بعض حرمه والناس يعزونه على اختلاف طبقاتهم فما سمع يجيب أحدا بما أجاب به غيره، قال الصلاح الصفدي: واقل ما كان في تلك الجنازة ألف رئيس ممن يتعين عليه ان يشكر له، فيحتاج في هذا المقام إلى ألف عبارة مضمونها الشكر.
وورد إن ابن نباتة الخطيب المصري أملى مجلدة معناها من أولها إلى آخرها (أيها الناس اتقوا الله واحذروه فإنكم إليه ترجعون) وكان الحريري صاحب المقامات كلما جمع بين الحارث بن همام وأبي زيد السروجي وأراد أن يفرق بينهما بقوله (فلما اصبح الصباح) أتى بعبارة تغايرها لفظا في كل مقامة.
وليس في هذا كله ما يدعو إلى الغرابة وان دل على البراعة، فان اللغة العربية تمتاز في سائر اللغات بكثرة الترادف في الألفاظ والتعدد في الصيغ، يذكرون إن للخمر فيها مائتي اسم وللجمل خمسمائة وللسيف الفا، وهذا مما يساعد الكتاب على التوسع في العبارة، ويعيبهم على التفنن في أساليب الكلام، ولكن العجز قعد بكتابنا عن أن يحفظوا على اللغة هذه الميزة وان ينتفعوا بها في كتاباتهم، فهم يصيغون عباراتهم على نمط واحد، ويجرون في أساليبهم على طريقة متفقة، وتجدهم يستعملون ألفاظا محدودة، وأبنية متكررة ويميلون إلى الترهل واللين، حتى أصبحت ثروتنا اللغوية يكتنفها الإبهام والغموض، وأصبحت أساليبنا في الكتابة ضعيفةواهية لا تلمح فيها أثراً للفن والجمال.
وكتابنا معذورون في هذا ماداموا لا يشتغلون بمتن اللغة، فقل منهم من يهتم بكتاب اسمه (القاموس) أو (اللسان) أو (أساس البلاغة) وقل منهم من يعرف شيئا اسمه (فصيح ثعلب) (فقه اللغة) أو غير ذلك من كتب اللغة، يكتفي الواحد منهم يأخذ لغته من الصحف والمجلات، وبمعرفة جمل من الألفاظ من نوع (فحسب، ومهما يكن من شيء) ليجعل نفسه في عداد الكتاب ثم لا يستحي من اتهام اللغة العربية بالعقم ونضوب المادة ورميها بالتأخر والقصور!!
أنا لا أرجو من الكتاب أن يترسموا طريق ابن زيدون في كتابته، ولا أن يذهبوا مذهب ابن نباتة في أسلوبه، ولا أن ينهجوا منهج الحريري في سجعه وتكلفه، إنما أدعوهم إلى التمكن من فقه اللغة ومتنها، والارتفاع بالقواميس والمعاجم فان هذا مما يساعدهم على تلوين(41/29)
الخطاب وإحياء كلم اللغة الميتة، فكم في لغتنا من الألفاظ مهجورة، وكم في قواميسنا من مفردات مهملة، مع إنها تصلح للاستعمال والتداول على اسلات الأقلام، فمثلا كلمة (يتمعج) بمعنى يلتوي ويتثنى لا تجد الكتاب يستعملونها مع إنها سهلة النطق والرسم وقد تكون أولى من مرادفاتها في الاستعمال، ومثلها كلمة (يعمس في الأمر) بمعنى يتجاهله ويتغافل عنه إلى غير ذلك من الكلمات التي نحن في حاجة إلى إيحائها والتي في تداولها تغزير لمادة الكتاب.
وإحياء مهجور اللغة معناه ان تستعمل كل كلمة غريبة مجهولة وان تجريها على أي وجه كان، وتدرحها في أي عبارة كانت، وإنما هذا مقام يحتاج إلى البراعة والدقة، وورد عن ابن شهيد الأندلسي انه قال (جلس إلي يوما يوسف الإسرائيلي، وكان افهم تلميذ مر بي وأنا أوصي رجلا عزيزا علي من أهل قرطبة وأقول له: إن للحروف أنساباً وقرابات تبدو في الكلام، فإذا جاور النسيب النسيب، ومازح القريب القريب، طابت الألفة وحسنت الصحبة، وإذا ركبت صور الكلام من تلك، حسنت المناظر وطابت المخابر، أفهمت؟ قال أي والله!! قلت له وللعربية إذا طلبت، وللفصاحة إذا التمست، قوانين من الكلام، من طلب بها أدرك، ومن نكب عنها قصر! أفهمت؟ قال نعم، قلت: وكما تختار مليح اللفظ ورشيق الكلام فكذلك يجب ان تختار مليح النحو وفصيح الغريب وتهرب من قبيحه قال: اجل، قلت: أتفهم شيئا من عيون كلام القائل؟
لعمرك أني يوم بانوا فلم أمت ... خفاتا على آثارهم لصبور
غداة التقينا إذ رميت بنظرة ... ونحن على متن الطريق نسير
ففاضت دموع العين حتى كأنها ... لناظرها غصن يراح مطير
فقال: أي والله! وقعت (خفاتا) موقعا لذيذا ووضعت (رميت) و (متن الطريق) موضعا مليحا، وسرى (غصن يراح مطير) مسرى لطيفا، فقلت له: أرجو انك تنسمت شيئاً من نسيم الفهم، فاغد عليّ بشيء تصنعه الخ.
وفي هذه الحكاية يشرح لنا ابن شهيد كيف يكون استعمال الغريب وأحياء المهجور من الألفاظ، فيرى أن تختار الكلمات الصالحة، وان يراعى في وضعها القرابة والنسب، حتى تحسن الصحبة وتطيب الألفة، وهو رأي صحيح ولكنه يحتاج في تنفيذه كما قلنا إلى(41/30)
البراعة والدقة، فلعل الكتاب يستجيبون لدعوتنا، ولعلهم يراعون هذا في كتاباتهم فيكونوا قد بروا بلغتهم وخدموا أساليبهم؟
الزقازيق
محمد فهمي عبد الطيف(41/31)
الألوان والصور في شعر ابن الرومي
الشعر تمثيل وتصوير، قبل أن يكون لفظا منمقا وكلاما مزوقاً، وكما تعجبنا دقة الراسم حينما يبرز الأضواء والظلال، والألوان والشكول، لصورة من الصور، فكذلك تعجبنا يقظة حواس الشاعر حين يصور لنا في منظومه وأبياته ما يرسمه الراسم بريشته وألوانه وحين يبدي لنا الشاعر حور العيون، وسحر الجفون، وحمرة الخدود، وبروز النهود، بتمثيل وتصوير لا بريشة وألوان، كلا الفنانين ممثل للحقيقة إلا أن الراسم يصوغها شكولاً وألوانا، والشاعر ينقلها شعورا ووجدانا
قد يجتمع - وهذا نادر - للراسم خيال الشاعر، وللشاعر دقة الراسم، فان كل شيء من ذلك فقد استوى كل منهما على عرش الفن - فأي الرجلين كان ابن الرومي؟
كان ابن الرمي رساما فنانا، ومصورا ماهرا، مرهف الحواس شديد التأثر بالطبيعة كأن أعصابه أسلاك كهرباء وعينيه عدسة الكامرا ينطبع عليها مختلف المناظر والصور. وكأن أذنه - ميكرفون - موكل بالتقاط دقيق الأصوات وجليلها. وكان ابن الرومي أيضا شاعرا مطبوعا واسع الخيال، خصب الشعور، مشبوب العاطفة. ولئن حق لأبي العلاء أن نسميه شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء. فمن حق ابن الرومي ان يكون شاعر المصورين ومصور الشعراء
لأن في شعره دقة المصور وتعدد الوانه، وروعة خيال الشاعر وسمو عواطفه. وهو حين يصف قينة شادية، يستهويك من شعره عاطفة مشبوبة وخيال خصب، ثم تصوير دقيق وإتقان للألوان الطبيعية.
وقينة إن منحت رؤيتها ... رضيت مسموعها ومنظرها
شمس من الحسن في معصفرة ... ضاهت بلون لها معصفرها
في وجنات تحمر من خجل ... كأن ورد الربيع حمرها
وللمشاهد الطبيعية الفاتنة، ومجالي الربيع الموقنة، لوحات ساحرة في شعر ابن الرومي ونحب أن نعرض عليك لوحة من هذه اللوحات لترى صدق قولنا. قال يصف روضة
وجادها من سحابة ديم ... ورد أنوارها وعصفرها
وساق من حولها جداولها ... فشق أنهارها وفجرها
فارتدت الماء من جوانبها ... فزانها ربنا ونضرها(41/32)
أمامها بركة مرخمة ... ترضى إذ ما رأيت مرمرها
أعارها البحر من جداوله ... لجا غزير المياه أخضرها
أفلا ترى انك في كل بيت، حيال زهرة تقطفها، وريحانة تنشقها، وبركة إطارها من مرمر ومياهها أشبه بمياه بحر اخضر؟
ثم أن حاسة اللون عند ابن الرومي حاسة زاكية متوفرة: وهي في شعره بمنزلة علبة الألوان عند الرسام. لا تقوم صورة إلا بها، ولا تأخذ حظها من الحياة والحركة إلا بأصباغها. فحين يصف لك الكأس تترقرق فيها الخمر لا يشبهها بحصباء من الدر على ارض من الذهب، وإنما يوكل بها حاسة اللون الزاكية اليقظة فلا تكاد تعرض إلا للونها البراق وشعاعها الخفاق. وقد يكون حظ ابن الرومي من تألق الخمرة ولهيبها. اكبر من حظ أبي نؤاس من نشوتها ودبيبها
صفراء تنتحل الزجاجة لونها ... فتخال ذوب التبر حشو أديمها
لطفت فقد كادت تكون مشاعة ... في الجو مثل شعاعها ونسيمها
ولقد عرض قوس قزح لعيون الشعراء ما عرض، فلم نر شاعرا قبل ابن الرومي أو بعده استطاع أن يصور ألوانه الطبيعية في أبياته تصوير الرسام له في لوحته وألوانه. فأنت تحت سحاب مطرز بالألوان، مرصع الأردان ما دامت تقرأ له هذه الأبيات
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفا ... من الجو دكنا والحواشي على الأرض
يطرزها قوس السحاب بأخضر ... على احمر في اصفر اثر مبيض
كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبغة والبعض اقصر من بعض
واحب أن تلتفت إلى البيتين الأخيرين فان فيهما من جودة التصوير ومهارة تثبيت الألوان ما يعجز عنهما شاعر غيره.
وابن الرمي حين يصف القيان الشوادي والجواري الفواتن يدرن الكؤوس ويملكن النفوس، ويبرز لنا أعضائهن عضوا عضوا ويعرض علينا أجسامهن عرضا، حتى لا تفوتنا بضاضة الإهاب ولا شفافة الثياب
من جوار كأنهم حوار ... يتسلن من حياة عذاب
لابسات من الشفوف لبوسا ... كالهواء الرقيق أو كالسراب(41/33)
فترى الماء ثم والنار والآ ... ل بتلك الابشار والأسلاب
وكما كانت حاسة اللون اليقظة تصور اختلاف الوان الطبيعة وتباين شكولها فلا تفوتها خافقة أو بارقة. كذلك كانت أذنه السامعة المرهفة تلتقط أدق الأصوات وأخفى النغمات. وهو حين يصف لنا صوت المغنية وحيد، لا يصف غنائها فحسب، بل ينقل لنا بأذنه الحساسة رقيق نغماتها ولطيف نبراتها وعذوبة صوتها نقلا يشبه نقل الميكرفون.
مد في شأو صوتها نفس كا ... ف كأنفاس عاشقيها مديد
وارق الدلال والغنج منه ... وبراه الشجا فكاد يبيد!
فنراه يموت طورا ويحيى ... مستلذ بسيطه والنشيد
فيه وشيى وفيه حلى من النغ ... م مصوغٌ يختال فيه القصيد
ما هذا شعر! إن هو إلا حاك يحكى واسطوانة تغنى ولو أردنا أن نعرض عليك أشعاره في وصف الأقزام والمحدودين لحسبت نفسك أمام شريط سينمائي تطالعك فيه هذه الصور المضحكة. ولكن من الخير أن تكتفي بصورة واحدة من هذا الشريط وهي صورة الأحدب
قصرت أخادعه وطال قذاله ... فكأنه متربص أن يصفعا
وكأنما صفعت قفاه مرة ... وأحس ثانية لها فتجمعا
فقد شخص لناظر القارئ وفي هذين البيتين صورة طبق الأصل للأحدب يعجز عن تصويرها امهر المصورين.
وجملة القول في شعره انه كان تعرض له الصورة أيا كان نوعها فلا يصورها بحاسة واحدة تنما يوكل بها حواسه كلها. فترسم عينه أشكالها وألوانها وأضوائها وظلالها ولمحاتها وخلجاتها، وتنظم أذنه صوتها وجرسها، وينقل الأنف عرفها وريحانها، واللمس وقعها وأثرها. أي أن جميع حواسه تنهض في تصوير هذه الصورة حتى تبرزها موفورة الحظ من الحياة، وفي هذه الأبيات يصف فيها شمس الأصيل وهي تجنح عن روضة، غنى عن الشرح
وقد رنقت شمس الأصيل ونفضت ... على الأفق الغربي ورسا مزعزعا
ولاحظت النوار وهو مريضة ... وقد وضعت خداً على الأرض اضرعا
وقد ضربت في خضرة الروض صفرة ... من الشمس فاخضر اخضرارا مشعشعا(41/34)
وأذكى نسيم الروض ريعان ظله ... وغنى مغنى الطير فيه فسجعا
وغرد ربعي الذباب خلاله ... كما حثحث النشوان صنجا مشرعا
لئن حفل شعر أبي تمام والبحتري بالكنايات الظريفة والاستعارات الطريفة، فأبن الرومي في الشعر التصويري الملون نسيج وحده
حلب
كمال الحريري(41/35)
الأدب العربي والأدب الغربي
على ذكر رواية خسرو وشيرين
لا ريب إن الأدب العربي مقصر دون الأدب الغربي في كثير من
النواحي. برغم ماله من الميزات الخاصة وبرغم عراقته وحداثة الأدب
الغربي بالنسبة إليه. فقد سار الأدب الغربي بخطى واسعة وتطور في
عصوره. على حين سار الأدب العربي دائماً على نمط يكاد يكون
واحداً. وكبا بعد العصر العباسي الزاهي كبوة لم يقل منها إلا اليوم.
وكان من عهدها إلى العصر الحديث في حكم العدم إذا قيس بآداب
الأمم الرفيعة.
ولا ريب إن الأدب العربي يكسب كثيرا - وقد كسب بالفعل كثيرا - بلقاحه بالأدب الغربي، وهذا اللقاح يتأتى عن طرق ثلاثة:
الأول اطلاع أدباء العربية على الأدب الغربي. فان لذلك اكبر الأثر في نفوسهم وفي كتاباتهم وان لم يشعروا لم يتعمدوا إدخال ما قرءوا فيما يكتبون.
والثاني ترجمة الآثار الغربية المشهورة من نثر وشعر إلى لغة الضاد. فان ذلك يؤثر في أبناء العربية الذين لم يطلعوا على آداب غيرها تأثيرا يكاد يدنيهم ممن اطلعوا عليها.
والثالث إدخال الأشكال والمواضيع الشعرية الغربية في الأدب العربي إذا كانت غير موجودة فيه. فان ذلك يزيد اللغة ثروة وقوة، يقدر الأدب العربي على مجاراة آداب الغرب
والشعر العربي خاصة خلو من كثير من الأشكال والمواضيع التي يتناولها الشعر الغربي كالدراما والملحمة والشعر المرسل والقوافي المنوعة والأوزان المتداخلة في القصيدة الواحدة. فالشعر العربي فضلا عن كون مواضيعه محدودة قوامه الوحدة في الوزن والقافية، والأحكام في القواعد، والصنعة والرصانة في الأسلوب، وعلى المعنى ان يخضع لكل هذا فلا يخرج إلا مصقولا في قالبه. بينما الشعر الغربي اكثر مرونة واقل قواعد واسهل في يد الناظم واقدر على التحول والتنوع وزنا وقافية اتباعاً لمعاني القصيدة المتتابعة، ومن ثم(41/36)
استطاع الشاعر الغربي أن يودع شعره من دقيق المعاني وعميق الأفكار وخاصها وجزئيها ما يشق على الشاعر العربي الذي لا طاقة له بغير ذكر العام والكلى، فكلما جاد الشعر العربي راع أسلوبه وأحكمت ديباجته ورافقت موسيقاه، وكلما جاد الشعر الأوربي دقت معانيه ولطفت أخيلته وتجسم وصفه وتصويره وعبر عن الخوالج النفسية البعيدة الغور. وبالجملة كانت نتيجة الوحدة في العروض والقافية في الشعر العربي إن كان شعر أسلوب، ونتيجة التنوع والمرونة في عروض الشعر الغربي وقافيته إن كان شعر معنى.
وإذا كان شعراء العربية الأقدمون قد قنعوا بذلك الضرب المقيد الموحد من الشعر وأدوا به معانيهم وأغراضهم العامة، فلن يقنع به عصرنا، هذا إذا كنا نريد للشعر العربي مجاراة الشعر الأوربي، ونريد أن يؤدي من لطيف الأوصاف للمشاهد الطبيعية والحالات النفسية ما يؤديه ذلك الشعر، ولابد لنا - كما اقتبسنا من الغرب القصة القصيرة والطويلة والرواية التمثيلية والمقالة في عالم النثر - أن نقتبس في عالم الشعر الأوضاع والأشكال التي توسع أفق شعرنا العربي وتزيده قوة وخصبا
والواقع إن القافية الموحدة التي تنظم القصيدة من أولها إلى آخرها غير معروفة في الشعر الغربي، وقد قال ملتون في مقدمته لملحمته المشهورة (الفردوس المفقود) انه عول على نضمها شعرا مرسلا وعلى نبذ القافية نبذا تاما لأنها اثر من اثار الهمجية، وكثيرا ما عاقت الشعراء عن تسجيل سامي المعاني، وبرغم مغالاة ملتون في قوله هذا - إذ للقافية روعتها ولزومها في كثير من ضروب الشعر - فلا شك في إن القافية كثيراً ما تقف عقبة في سبيل نظم دقيق المعاني وجليلها
لابد من رياضة الوزن العربي والقافية العربية على المرونة والسهولة والتنوع في القصيدة الواحدة تبعا للمعاني، كي يساعدا الناظم البارع على بيان أغراضه، فلا يعتمد الاعتماد كله على المعاني والتشبيهات ونحوها، بل يعتمد أيضاً على جرس الألفاظ وموسيقى الوزن ووقع القوافي وتجاوبها واختلافها لإبراز أوصافه وإحياء صورته التي يريد في خلد القارئ، فقد برع الشعر الغربي في هذا الضرب من الملائمة بين المعنى واللفظ والوزن ولاسيما في أشعار الوصف فبذ بتصويره ريشات المصورين في كثير من الأحيان ولا بد من التخلي عن بعض القيود والقواعد وإدخال بعض السهولة والحرية واقتباس ما يمكن(41/37)
اقتباسه من الأوضاع والأشكال الشعرية الغربية على أننا يجب أن نذكر أولا ما سنقتبسه لن يلغي القافية الموحدة والوزن الموحد من العربية الغاء، بل تظل هذه الطريقة العربية الخاصة قائمة، لها ميزتها من الرصانة والفخامة، ولها مناسباتها التي تستعمل فيها فتؤدي غرضها أحسن الأداء، لن نهجر طريقتنا إلى طريقة غيرنا بل ناخذ مما عند غيرنا ما يزيد لغتنا وشعرنا سعة وثروة، ويجب أن نذكر ثانية إن الناظم الغربي إنما يستخدم تلك الحرية والمرونة في شعره ليؤدي بها أغراضا خاصة، تجسيم وصف، أو تمثيل حركة، أو تقليد صوت، أو اسلاس قصص، فيجب ألا نهجر القافية والوزن الموحدين إلا أن يؤدي تنويع الوزن والقافية مثل تلك الأغراض، وإلا كان الأمر مجرد تسهيل للنظم يغض من قيمة الشعر الفنية ويورث الناظم الكسل وقلة التعب في معالجة القصيد
واكبر اعتراض يقام أمام إدخال هذه الأساليب الشعرية الغربية نبوها على السمع الذي اعتاد الوحدة في الوزن والقافية العربيين. وهو اعتراض وجيه غاية الوجاهة: فان اقتباس تلك الأساليب إن أدى إلى فساد موسيقى الشعر العربي التي هو قوامه كان وبالا وكان علينا أن نقلع عنه مهما كان له من فوائد، ولكن هذه العقبة يمكن تذليلها بوسيلتين:
الأولى التدرج في التحرر من قيد الوزن والقافية تحررا يسير بطيئا مع الزمن ولا يفاجئ الآذان كبير مفاجأة، فان التطور دون الطفرة جدير بتعويد الآذن على اختلافات العروض والقوافي في القصيدة الواحدة، حتى تستطيب تلك الاختلافات وتلتذها وتصير لها فيها متعة كالمتعة التي نجدها في النظم الواحد، وقدما اخترعت الموشحات والأبيات المختلف شطراها طولا فكانت خرقا في الطريقة السائدة وكانت بلا ريب نابية على الأسماع في أول الأمر، ولكنها بمرور الزمن صارت مألوفة ولم يعد أحد من كبار الشعراء يتحرج من اللجوء إليها في بعض أغراضه.
والوسيلة الثانية هي أن يتصدى لإدخال هذه الأساليب في شعرنا العربي كبار الشعراء الذين عالجوا القريض سنين طوالا، مارسوا اللغة واستوعبوا ثروتها واستنبطوا أسرارها وحذقوا عروضها، فهم وحدهم بخبرتهم ودربتهم وتمكنهم قادرون على أن يدخلوا في اللغة ما يلائمها وينبذوا ماعداه، ويصقلوا ما يدخلون بصقا لها حتى يصير جزء منها ويثبت فيها وينمو ويثمر، أما أن يتصدى لذلك الناشئون المتحمسون للتجديد على غير بصيرة فلن يأتوا(41/38)
إلا بكل غث لا يؤدي أغراض الشعر الغربي ولا يبقى على جمال الشعر العربي ولا يكتب له بقاء.
والقافية اشد من الوزن قبولاً للتلقيح بالأساليب الغربية، والشعر المرسل خاصة يكون ذا مستقبل باهر في العربية إذا عالجته الأيدي القديرة، وقد مارسه الأستاذ فريد أبو حديد غير مرة ونجح فيه نجاحا غير قليل، ونشر في الرسالة ترجمة لفقرات من (عطيل) امتازت بالسلاسة ولم ينقص من قدرها في نظري سوى إن الأستاذ أختار لها بحر الرمل، وليس هذا ولا الخفيف المنظومة فيه رواية خسرو وشيرين بأليق البحور لبدء معالجة الشعر المرسل. بل اكثر البحور العربية استعدادا لذلك البحر الطويل الذي هو بطوله وفخامة موسيقاه واتادها اقدر على الاستغناء عن القافية وأحق بان يترجم إليه الشعر المرسل الغربي المعروف (بالبلانك فيرس) وان يحل عندنا محل ذلك الضرب الذي يختص عند الغربيين بشعر الدرامات والملاحم، ولا ريب ان ترجمة روايات شكسبيروأمثالها إليه أولى من ترجمتها نثرا.
ولقد كان شوقي في أواخر أيامه اقدر الناس على ولوج هذه الأبواب لو أراد، لولا شديد اعتداده بالوزن والقافية الموحدين، فانه كان قد مارس قرض الشعر نحو نصف قرن حتى حذق صناعته، وكانت له موهبة في الأسلوب عالية، فبلغ في النهاية غاية الجزالة والسلاسة، وكان له من الوقت متسع للتجريب والمحاولة، ولو عمل على إخصاب اللغة ببدء هذه الأساليب الغربية فيها لخدمها خدمة اجل كثيرا من خدمته أياها بمعالجة النظم التمثيلي في أخريات أيامه، ورواياته التمثيلية ذاتها شاهدة بذلك: فان ميزتها الكبرى والوحيدة براعة الديباجة، أما إذا قيست بمقياس التأليف التمثيلي وقوبلت بالمؤلفات الغربية التي كان يقلدها ويترسمها فلن تكون شيئا مذكورا
على انه إذا كانت العربية قد فقدت شوقيا وحافظا الذين عالجاها حقبة وتمكنا منها، فما يزال لها من كبار الشعراء المجربين من هم قادرين على توسيع افقها ومضاعفة ثروتها بطرق هذا الباب من الاقتباس والابتكار، فلعلهم يتقدمون، ولعل مجهودات الأستاذ فريد أبي حديد تكون الخطوة الأولى في هذا السبيل.
فخري أبو سعود(41/39)
بديع الزمان الهمذاني
للدكتور عبد الوهاب عزام
رحيله عن نيسابور
فارق بديع الزمان نيسابور سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة. نعرف هذا من قوله وهو يمدح خلف بن احمد أن سنه خمس وعشرون سنة. وهو مولود سنة ثمان وخمسين. ثم هو يكتب من سرخس إلى الشيخ أبي الطيب سهل بن محمد فيذكر ان الخوارزمي كتب إلى الأمير يسأله ألا يقبله في حضرته ويذم الخوارزمي ويرد عليه دعواه الغلب في مناظرته، ويهدده بالعودة إلى مساجلته. والخوارزمي مات في رمضان سنة ثلاث وثمانين
ويفهم من هذه الرسالة انه ذهب إلى مرو كذلك، يقول عن الخوارزمي، ان اللسان الذي اخرس لسانه، والبنان الذي انبس بيانه، لم تكسبهما مرد مجادة، ولا كستهما سرخس بلاده. وهما معي لم يفارقاني:
ولم يسم الأمير الذي نزل بحضرته في سرخس، والظاهر انه أحد أمراء السامانية. وقد اكرم الأمير مثواه كما قال في آخر الرسالة نفسها عن الخوارزمي: (وإما مسألة الأمير ألا يخرطني في سلكه ولا يمكنني من بساط ملكه فقد شملتني على رغمه أطراف النعم، وبلتني سحائب الهمم، وللراغم التراب، وللحاسد الحائط والباب) وفي سنة ثلاثة وثمانين مات الخوارزمي! يقول الثعالبي (وأجاب الخوارزمي داعي ربه فخلا الجو للهمذاني، وتصرفت به أحوال جميلة، وأسفار كثيرة)
وفي رسائل بديع الزمان رسالة كتبها إلى من هنأه بمرض الخوارزمي يقول فيها: (فكيف يشمت بالمحنة من لا يامنها في نفسه، ولا يعدمها في جنسه، والشامت إن افلت، فليس يفوت) وفي ديوانه قصيدة يرثى بها الخوارزمي ويرد على من قال: (قد خلا الجو للهمذاني) يقول فيها:
حنانيك من نفس خافت ... ولبيك من كمد ثابت
أبا بكر اسمع. وقل كيف ذا ... ولست بمسمعة الطائت؟
تحملت فيك من الحزن ما ... تحمله ابنك من صامت
حلفت لقدمت عن معشر ... غبيين عن خطر المائت(41/41)
يقولون أنت به شامت ... فقلت الثرى بفم الشامت
وعزت علي معاداته ... ولا متدارك للفائت
وقال الأنام خلا الجو لي ... لعمري ولكن على عانت
ابيض ولكن إلى عاقر ... واصفر ولكن على ساكت
اكثر البديع أسفاره بعد مفارقة نيسابور. يقول الثعالبي:
(ولم يبق من بلاد خراسان وسجستان وغزنة بلدة إلا دخلها وجنى وجبى ثمرتها، واستفاء خيرها وميرها، ولا ملك ولا أمير ولا وزير ولا رئيس إلا استمطر منه بنوء، وسرى معه في ضوء، ففاز برغائب النعم، وحصل على غرائب القسم) ويقول الهمذاني في رسالته إلى القاسم الكرجي: (فإني وإن كنت في مقتبل السن والعمر، قد حلبت شطري الدهر، وركبت ظهري البر والبحر، ولقيت وفدى الخير والشر، وصافحت يدي النفع والضر)
وفي رسالة أخرى: (وإني أيد الله القاضي، على قرب العهد بالمهن قطعت عرض الأرض وعاشرت أجناس الناس.) وليس يمكن بما عندنا من الرسائل غير المرتبة أن نتتبع أسفاره في خراسان وسجستان وغزنة، ولكننا نعرف انه فارق خراسان لما وقع بها من الحروب، والظاهر إنها الحروب التي وقعت في أواخر الدولة السامانية، ونعرف إن الأتراك قطعوا الطريق عليه وهو ميمم سجستان كما قطع الأعراب طريقه وهو قاصد نيسابور من جرجان: (ولما وقع بخراسان ما وقع من حرب، وجرى ما جرى من خطب، واضطربت الامور، واختلفت السيوف، والتقت الجموع وظفر من ظفر، وخسر من خسر، كتبني الله في الأعلين مقاما، ثم ألهمني من الامتداد عن تلك البلاد، والإقلاع عن تلك البقاع. واعترضتنا في الطريق الأتراك. واحسن الله الدفاع عن خير الأعلاق وهو الرأس، بما دون الأعراض وهو اللباس. فلم نجزع لمرض الحال مع سلامة النفوس، ولم نحزن لذهاب المال مع بقاء الرؤوس. وسرنا حتى وردنا عرصة العدل، وساحة الفضل، ومربع الحمد، ومشرع المجد، ومطلع الجود، ومنزع الاصل، ومشعر الدين، ومفرع الشكر، ومصرع الفقر، حضرة الملك العادل أبي احمد خلف بن احمد الخ) هذا هو الذي مدحه في ست من مقاماته، وبعض رسائله مدحا لم يبذل لغيره مثله، ولكن بديع الزمان لم يعفه العتب الموجع حين آنس منه الإغضاء عنه.(41/42)
ثم ذهب الهمذاني إلى غزنة حاضرة الدولة الغزنوية ومدح السلطان محموداً بأبيات. ولا نجد في رسائله تفصيل مقامه في غزنة ولقائه السلطان. ولكننا نجد له رسائل كثيرة إلى الفضل بن احمد الاسفرائيني وزير السلطان يذكر بعض خطوب هذه الدولة، ويهنئ ببعض فتوحاتها. والأبيات التي مدح بها السلطان مثبتة في الديوان، وفي اليتيمة وأولها:
تعالى الله ما شاء ... وزاد الله إيماني
أأفريدون في التاج (م) ... أم الاسكندر الثاني؟
أم الرجعة قد عادت ... إلينا بسليمان
أظلت شمس محمود ... على انجم سامان
في هراة
ثم سار إلى هراة ليرحل عنها كما رحل عن غيرها، ولكن كتبت له الإقامة بها حتى الممات. يقول في رسالته إلى الشيخ أبي نصر انه سار من سجستان إلى بوشنج، وانه لما سكنت الحرب وانفتحت السبل إستأذن الأمير في المسير إلى هراة. ويقول في رسالة أخرى (ويا سبحان الله ما علمت إن هراة تنسيني صرصر والصرات، حتىانستني دجلة والفرات، على ظهر الغيب نظر الريب. فكيف بنا إذا دخلناها وحللناها فسقاها الله من بلد، وأهلها من عدد.) وذلك إن بعض الهرويين أرسل إليه مرحبا قبل دخوله المدينة، ويظهر من رسائله انه لم يغتبط بالإقامة في هراة أول عهده بها، ولا أزمع المقام فيها، يقول في رسالته إلى الشيخ أبي النصر (كتابي أطال الله بقاء الشيخ، والماء إذا طال مكثه، اظهر خبثه، وإذا سكن متنه، تحرك نتنه).
كذلك الضيف يسمج لقاؤه، إذ طال ثواؤه، ويثقل ظله، إذا انتهى محله. قد حلبت اشطر خمسة اشهر بهراة ولم تكن دار مثلى لولا مقامه. ونجده: في رسالة أخرى يشكو حيفا أصابه في هراة.
(والله، أطال الله بقاء الشيخ الرئيس، ما سكنت هراة اضطرارا، ولا فارقت غيرها فرارا. وإنما اخترتها قطنا ودارا، واخترته سكنا وجارا، لتكون ارفق لي من سواها، ولأزداد به عزا وجاها. فان كان قد ثقل مقامي، فالدنيا أمامي، وان كان قد طال ثوائي، فالانصراف ورائي. لست والله ذباب الخوان ولا وتد الهوان. والشام لي شام، مادام يكرهني هشام،(41/43)
وهراة لي دار، ما عرف لي فيها مقدار، وقرى الضيف غير السوط والسيف الخ) فهذا يدل على انه غير مطمئن إلى هراة وإن أختارها سكنا. ونجده في الديوان يقول من قصيدة مدح فيها ابن عدنان رئيس هراة.
قد طال مكثي في هراة فهل لكم ... في أن أوليكم قفا الأعراض
ولو أنني ماء الحياة لملني ... ورداه وتنكبوا أحواضي
أحسنتم يا للكرام ضيافتي ... عند الورود فاحسنوا إنهاضي
ولكن بديع الزمان، على هذا ألقى عصا التسيار في هراة واتخذها موطنا وأمضى بها بقية عمره. فما الذي بدّل رأيه وحبب إليه المدينة؟ يقول الثعالبي: (ومازال يرتاد للوصلة بيتا يجمع الأصل والفضل، والطهارة والستر القديم والحديث حتى وفق التوفيق كله وخار الله له في مصاهرة أبي علي الحسين بن محمد الخشنامي. وهو الفاضل الكريم الأصيل الذي لا يزاد اختبارا إلا زيد اختيارا. فانتضمت أحوال أبي الفضل بصهره، وتعرفت القرة في عينه والقوة في ظهره. واقتنى بمعونته ومشورته ضياعا فاخرة، وعاش عيشة راضية.
وفي رسائل الهمداني تصديق خبر الثعالبي، فهو يقول في إحدى رسائله من هراة (والله لولا يد تحت الحجر، وكبد تحت الخنجر، وطفلة كفرخ يومين، قد حببت إلى العيش، وسلبت عن رأسي الطيش، لشمخت بأنفي عن هذا المقام (ص162) وهو يتكلم في رسائل هراة عن الزرع والاكرة والخراج وديونه على الناس والسفاتج (والشأن أن أعيشعيش الجعل، بين السرقين والعمل، وأنا على ذلك محسود. . . أرأيت رجلا يندم أن ولده آدم، أو يألم أن يسعه العالم، يحسد في قرية يشتريها وفي رسالة إلى بعض وزراء السلطان محمود: ومما أبث الشيخ الجليل، إن مبلغ خراجي بهراة ألفان. وعلى المخف من الجريان ثلاثة مدورة، بيض مقشرة، وعلى المثقل تسعة وعشرة. وودت لو أمكن التبلغ بأقل من هذا فافعل ولكن أفواها فاغرة، وأضراسا طاحنة، وعيالا وأذيالا، الله وكيلهم وأنا ربهم واكيلهم. وإن أمكن تحويل هذا المقدار من الخراج ببوشنج لتتوفر حقوق بيت المال، وأصان عن مجازفات العمال، وتبعات الحال، فتلك غاية الآمال وفي رسالة إلى والده: وقد رسمت لموصل كتابي هذا أن ينقده مائة دينار بشرط أن يخرج، وان يرتب له عمارة شتوية تسعه والشيخ الفاضل العم، فليتفضلا وليقوما ويرحلا، ويستصحب الأخ أبا سعيد، وليأتني بأهله(41/44)
أجمعين فما يعجبني لقاء ليس له بقاء، ولا وصل بعده فراق، فان لم يمكن استصحاب القوم فلا يتأخر بنفسه، فسيرد على خمسمائة نير وألف أكار، وأحوال منتظمة، وأسباب مستقيمة).
ومن اجل هذه الثروة قصده الناس واستماحوه. وفي رسائله واحدة كتبها إلى مستميح عاوده مرارا: عافاك الله: مثل الإنسان في الإحسان مثل الأشجار في الأثمار. سبيل من أتى بالحسنة أن يرفه إلى السنة. وأنا كما ذكرت لا املك عضوين من جسدي، وهما فؤادي ويدي. أما الفؤاد فيعلق بالوفود، وأما اليد فتولع بالجود. ولكن هذا الخلق النفيس، لا يسعه الكيس، الخ.
وفاة بديع الزمان
كان الهمداني يتعجل العمر ويستكثر السنين فهو يتكلم عن الشيب في مدحه خلف ابن احمد وهو في سن الخامسة والعشرين
ويرحب بالشيب ويفضله على الشباب وهو في سن الثلاثين: فجزى الله الشيبة خيراً، إنها لاناة، ولا رد الشبيبة إنها لهناة وبئس الداء الصبا وليس دواؤه إلا انقضاؤه، وبئس المثل النار والعار وونعم الرائضان الليل والنهار. وأظن الشباب والشيب لو مثلا لكان الأول كلبا عقورا، والأخر شيخا وقورا، ولأشتعل الأول نارا وانتشر الآخر نوراً. والحمد لله الذي بيض القار وسماه الوقار. وعسى الله ان يغسل الفؤاد كما غسل السواد. أن السعيد من شابت جملته، والشقي من خضبت لحيته) وفي رسالة أخرى: وأسال الله خاتمة خير وعاجل وفاة. إن بطن الأرض أوسع من ظهرها وأرفق بأهلها.) فهذا ينم عن طبع مكتئب وصدر يضيق بالحياة وكأن وفاته في سن الأربعين كان استجابة العمر لهذه السجايا.
في رسائله رسالتان يذكر فيهما مرضه، يقول في إحداهما (وقد عملت في أمر الدواء ما أشرحه له شفاها. وجملة الأمر أني أؤمل النفع في تناوله، وحالي الآن صالحة) ويقول في الأخرى (ولكني وقيذ أوجاع، أنتقل من حمى إلى صداع. وأخشى أن يأخذ مني لفح الهواء مأخذه، فلذلك لا ابرز عن البيت، وأنا فيه حي كميت. وعلى كل حال فإذا خفت وطأة الهواء، وحان وقت المساء، لعبت لعباتي إلى حضرته، متزوداً من طلعته إن شاء الله تعالى) وما أدري متى أصابه هذا المرض وهل كان مرضه الأخير أو غيره.(41/45)
ويقول الثعالبي (وحين بلغ أشده وأربى على الأربعين سنة ناداه الله فلباه، وفارق دنياه سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.) ويقول جامع الرسائل في عنوان رسالة (وله في تهنئة فتح الجابية بباب بلخ. وهذا آخر كتاب أنشأه. ومات يوم الجمعة الحادي عشر من جمادى الأول سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.)
يتبع
عبد الوهاب عزام(41/46)
غلطة نحوية
للآنسة سهير القلماوي
لا تستغربوا هذا العنوان، وأستحلفكم أن لا تستتفهوه، فسترون بعد حين أن للغلطات النحوية شأناً وأي شأن. ستدركون عظمة الغلطة النحوية وخطورتها، ولن يكلفكم هذا الإدراك ما كلفني. ستقرءون المقال وستؤمنون بعده إن للغلطة النحوية الواحدة قدراً، وأنه لقدر لو تعلمون عظيم
ما كادت تنتهي من محاضرتها حتى عادت إلى أستاذها تستطلع رأيه، وتحاول أن تلمح في تقاطيع وجهه قيمة جهدها الذي بذلته. لقد كانت تحسب حساباً كبيراً لنقده، وخاصة لابتسامته الساخرة التي يلاقي بها جهداً بذل في غير موضعه واستنتاجاً سخيفاً متكلفاً بعيداً عن الصواب، وعن طبيعة الأشياءكما يقول. وما وصلت حتى بادرها بقوله: أهنئك، قالت أشكرك، قال أريد مقابلتك، قالت ومتى تشاء؟ قال أأنت قادمةً لعمل في دار الكوكب غداً؟ قالت لا. قال إذا قابليني بعد غد فسأكون هناك، قالت حسن، إلى بعد غد
وجلست تفكر بعدها ماذا يريد منها يا ترى؟ لم يدعها في حياتها قط إلا لعمل ذي شأن، أو لمسألة ذات خطر. ثم هو يتعجل تلك المقابلة، ما سر هذه العجلة؟ أكانت المحاضرة سخيفة إلى هذا الحد؟ ولم هنأها إذا؟ ولم تره في ظرف من ظروف حياته يقول غير ما يعني، أكان هازئاً؟ ولكنها لم تلمح منه إلا الجد ليلتها، ثم هي توقن إنه لن يستهزئ بها مهما يكن، في مكان وفي ظرف كهذين، وأخيراً هي تحس في شيء من الإخلاص أن المحاضرة كلفتها جهداً، وإنها وإن لم تكن خالية من المآخذ، إلا إنها بكل تأكيد لا تستحق إستهزاءاً علنياً ومقابلة مستعجلة. وأحس قلبها إن الأمر أهون مما تظن، ولكن متى خضع العقل للقلب؟ لقد ظل العقل في عمله يقدر ويحسب، يستبعد ويستقرب، يرجح وينفي، كل هذا وهو متعب مكدود، فأفسد عليها يوماً كانت أعدته لراحته الكاملة.
ظلت يوماً وبعض يوم تفكر، وتقلب الاحتمالات التي أمكن أن يخترعها عقلها في مثل هذا الظرف، وبدأت تحس إن تفكيرها في الموضوع أصبح آلياُ دائرياً، يبدأ ليعيد، ثم يبدأ من جديد وهكذا، وانتهت أخيراً بإبعاد كل احتمال أن تكون المقابلة خاصة بالمحاضرة، فلو كان ثمت متعجل في شأنها لقاله لها يومها، وإلا لأنتظر فرصة أخرى فهي لا تتغيب عنه كثيراً(41/47)
وما جاء صباح الأحد حتى استعدت للذهاب إلى المقابلة، وما كانت تستعد حتى سألها والدها ان تصحبه في نزهه كان يسرها جداً أن تصحبه فيها، ولكنها اعتذرت بضرورة ذهابها لمقابلةأستاذها، وسألها هل ستبطئين عنده، فتكلفت شيئا من عدم الاكتراث تخدع به نفسها، وقالت لا أدري، لأني لا أعرف لماذا يريد مقابلتي. ولكن نفسها لم تنخدع بهذا المظهر المتكلف وبدأ عقلها سيرته الآلية من جديد، وسخطت على نفسها، ما الذي يثير حب استطلاعها إلى هذا الحد؟ وفي استهزاء مؤلم اكمل صوت في قلبها و (خاصة إذا كان الأمر أهون مما تتوهمين) فثار عقلها واسترد سيرته الإلية في حمية جديدة.
وجاءتها ابنة خالتها تعرض عليها الذهاب إلى أختها لترى هناك صديقة عزيزة عليها، وكانت تود رؤية هذه الصديقة فهي لم ترها منذ سنين، ولعلها لا تراها سنين أخرى، ولكنها اعتذرت ثانية، فسألتها ابنة خالتها: ولكن ألا تعرفين لأي شئ يريدك، وكأنها أحست تطفلاً فأكملت حتى تستطيعي أن تلحقي بي هناك إذا كان الأمر لا يستغرق طويلاً. قالت بعدم اكتراث، لست أدري ماذا يريد، فلا أستطيع أن أعدك باللحاق بك. وبدأ عقلها سيرته من جديد، وبدأت نفسها تضحك منها وتعيد (الأمر أهون مما تتوهمين).
وأخيراً وصلت دار (الكوكب) وصعدت الدرج في اتزان عجيب تحاول أن تؤخر المعاد ما استطاعت حتى لا يستشف أستاذها عجلتها وحب استطلاعها. ودخلت حجرته فحيته وحياها، ثم جلست تنتظر. وتكلم في مواضيع مختلفة، وهي تحاول في جهد أن تتبع كلامه وأن تخفي عجلتها واشتياقها لمعرفة ما جاءت من أجله وجاء ذكر المحاضرة فأثنى عليها، ثم قال: ولكني اترك ما بها لغيري من أساتذتك، لأن لي معك الآن أمراً من أخطر الأمور. وخفق قلبها ولم تستطع حفظ مظهر الاتزان الذي تكلفته منذ الصباح، ودون أن تدري قالت في لهفة ظاهرة وما هو!؟ قال يا فريد آتني بعدد الرسالة الماضي.
فأرتفع الصوت الهازئ في نفسها يضحك ويقول (الأمر أهون مما تتوهمين) قال غلطة تكبرك بكثيرما قرأتها حتى كلمت الأستاذ الزيات بشأنها تلفونيا.
وارتفع صوت العقل وقال ألم اقل لك إن الأمر خطير ولكن العقل ما كاد يزهى حتى قال أستاذها متابعا كلامه - غلطة نحوية كبيرة. إما أنتقلعي عنها، وإما أن تطلعي على الناس بمذهب جديد هو عدم التفريق في الجمع السالم بين مذكر ومؤنث، ومن يدري قد تجدين من(41/48)
يؤيدك. . . . . . . واستمر في كلامه
(غلطة نحوية) كانت كلوح ثلج نزل على رأسها الملتهب يوما وبعض يوم. وكأنه لمح شيئا من غيظ تخفيه بسكوتها بعد أن لم تجد آمن منه ستاراً. فقال: ألا تستحق هذه الغلطة انتقالك من العباسية إلى عابدين؟
وهمت أن تقول له إن هذا الانتقال ايسر ما كلفتها تلك الغلطة، ولكنه اسمر يحاول إغاظتها:
دوني في مذكرتك ان أستاذك استدعاك من العباسية إلى العابدين من اجل غلطة نحوية. وضحك في سخرية مثيرة للغيظ، فقالت محاولة إخفاء غيظها - سادون!
أستاذي: - غلطة نحوية كلفتني هذا. فليت شعري ماذا سيكلفني هذا المقال؟ ولكني أؤكد لك لا في تملق كما تقتضيه حال الخائفة من عقابك، وإنما أؤكد في صدق وإخلاص أن لولا يقيني برحب صدرك ما خططت حرفا في هذا المقال.
سهير القلماوي(41/49)
تعتزل الحب!
للأديب حسين شوقي
الكونتس (س) سيدة في العقد الخامس من عمرها، أما جنسيتها فلا تهم كثيرا لأنها غنية جدا، والمال جواز سفر دولي تستقبل به بالترحاب في كل مكان، إن الكونتس (س) وهي سيدة صالونات - تلم إلماما تاما بجميع اللغات الحية كأنها سكرتيرة ممتازة بعصبة الأمم.
توفي زوجها حديثا فحزنت عليه لأنه كان رجلا طيب القلب، وديعا مطيعا لها مثل كلبها الصيني الصغير (بيبي) وكانت فضلا عن ذلك تتخذه حجابا لستر غزواتها الغرامية الكثيرة، وكانت الكونتس نهمة في الحب، بل شيوعية، لا تبالي إن قضت ليلتها مع أمير من الأمراء أو مع سائق سيارتها، وتمضي الكونتس (س) زمنا طويلا في معاهد الجمال، لتصلح أولا فأول الآثار التي يحدثها الزمن في وجهها، ولكن هذه الآثار كانت تزداد يوما عن يوم حتى قلقت الكونتس على مصيرها، لما ينتظرها وراء ذلك من شيخوخة محتمة. . لذلك فكرت في اعتزال الحب، كما فعلت المحظية المصرية الشهيرة تاييس التي روى قصتها الكاتب العظيم اناطول فرانس، أجل! ستفعل الكونتس ما فعلته تاييس قبلها، وتقيم هي أيضا في كوخ بصحراء مصر النائية.
وفي صباح يوم من الأيام، وبعد أن شاهدت الكونتس في الليلة تمثيل تاييس بالأوبرا، قالتلوصيفتها ماري:
ماري، إنني صممت على أن اعتزل المجتمع. اعدي الأمتعة، سوف نرحل إلى مصر حيث نعيش في الصحراء في عبادة وتقشف مثل تاييس المحظية المصرية التي اعجب بتضحيتها كل الإعجاب. . .!
فابتسمت الوصيفة ولم تجب، لأنها مقتنعة إن سيدتها غير جادة في قولها، وإنها إذا ذهبت إلى مصر فإنما تذهب لتهرب من برد العواصم الأوروبية القارس، ثم عادت الكونتس فقالت:
حقا! إنني سئمت المجتمع وما فيه من خدع وخيبة أمل! ولا سيما بعد خيانة صديقي جان، الراقص بفندق (بلاس) آه! إنني كنت احبه حباً عميقاً، كما كنت مفتونة بشبابه الغض، كيف استطاع أنيكذب علي وهو في مثل هذه السن الصغيرة؟(41/50)
الوصيفة - ولم لا يكذب المرء وهو صغير في السن يا سيدتي! إنني كذبت في طفولتي أضعاف أضعاف كذبي الآن! كم سرقت الكرز من حديقة الجار، فإذا سألت عنه اتهمت الغربان!
الكونتس_هذا شئ آخر، هذه كذبة الطفولة البريئة، إني اقصد كذب الشباب، إن الشباب يصعب عليه في نظري إن يكذب، لأنه ليست في وجهه تجاعيد تستطيع أن تخفي الأكاذيب.
الوصيفة_وكيف عرفت خيانة السيد جان يا سيدتي!
الكونتس_من عشيقته نفسها!
الوصيفة_عجباً! وما فائدة عشيقته أن تفضح أمر صديقها؟
الكونتس (مستضحكة) _لتنتقم يا بنيتي! إن الوغد كان يخونها مع عشيقة أخرى ثالثة!
ثم أعدت الوصيفة الأمتعة للسفر إلى مصر كمشيئة الكونتس، ولكن لشد ما كانت دهشتها حين قالت لها سيدتها لدى عودتها إلى المنزل ظهراً:
ماري! إننا لا نسافر إلى مصر، إنني أولمفي الأسبوع القادم وليمة عشاء تكريما للمثال العبقري هنري دي. . . فابتسمت الوصيفة وقالت: وما سن هذا المثال العبقري يا سيدتي؟
الكونتس (في إعجاب) - خمسة وعشرون ربيعا!
ثم ضحكتا ضحكا عاليا على هذه الملاحظة، ولكن الوصيفة عادت فقالت في حسرة: يا للأسف على رحلة مصر إنها لن تتحقق! وقد كانت شديدة النفع لما اشعر به من ألم في المفاصل!
حسين شوقي(41/51)
بعد النوى
أيها الرحل عن قلبي العميد ... سوف يشقى بالنوى حتى تعود
ويح للعشاق في وادي الهوى ... من عذاب فادح العبء شديد
أين من عيني وجه مشرق ... رائع الطلعة كالصبح الوليد
أين من أدنى صوت ساحر ... كل صوت دونه عندي زهيد
وحديث للهوى مستعذب ... هو في الأسماع قرآن مجيد
وغناء كم هفت روحي له ... مثلما يهفو لمغناه الطريد
يطفئ الوجد ويشفى مهجة ... من بتاريخ الجوى كادت تبيد
يا حبيبي لم تروِّعك النوى ... مثلما روعت الصب الوديد
أنت في الريف قرير ناعم ... رافل في عيشك الحالي الرغيد
بين أهل جمعوا فيك المنى ... وبك ازدان لهم هذا الوجود
وتمنوا بسط أكبادهموا ... لك تمشي فوقها أين تريد
وشباب أنت فيهم كوكب ... ضوءه ضاف على الدنيا مديد
كلما عدت تراءى جمعهم ... للورى حولك كالدر النضيد
تهبط الحقل فيغدو نبتهُ ... لك ما بين ركوع وسجود
ويهب الطير من أوكاره ... حائما حولك في كل صعيد
ويغني أينما سرت به ... كل لحن رائع الحسن فريد
ويفيق الدوح من غفوته ... بعد ما أيقظه رجع النشيد
فترى الأغصان في نشوتها ... قد غدت شطرك تهفو وتميد
وأنا في مصر نهبٌ للجوى ... سادر في ظلمة الوجه شريد
وإذ ما عاد بي الليل إلى ... مضجع عن أعين الناس بعيد
دفع الشوق بفكري عنوة ... في ظنون ماله عنه محيد
وظنون الحب إذ ما عصفت ... بفؤادي فهي شيطان مريد
أيها الغائب عن عيني وفي ... قلبي المضني له عرش وطيد
أدرك الغارق في بحر النوى ... قبل أن يصرعه الموج العنيد
فريد عين شوكه(41/52)
من الأدب الإنكليزيالحديث
وقفة الوداع
للورد بيرون
لما وقفنا للوداع، نبكي واجمين، وقد انسحق قلبانا، من هول الفراق، نال وجنتيك الشحوب والبرودة، وكانت قبلتك مثلوجة، حقاً لقد تنبأت تلك الساعة بويل اليوم.
سقط ندى الصباح قارصا على جبيني، فكان نذير ما اشعر به الآن، لقد ضاعت كل عهودك، وظهرت لي قضيتك، كلما سمعتهم يلغطون باسمك، أحسست بنصيبي من عاره.
يذكرون اسمك أمامي، فيقع على سمعي وقع جرس الموت، وتعتريني هزة غريبة، ويلي! لم أحببتك كل هذا الحب؟ انهم لا يعرفون إنني أعرفك، أنا الذي عرفتك جيدا، سأتحسر عليك زمنا طويلا، حسرة بعيدة القرار.
التقينا سرا، فآلمني إن قلبك استطاع إن ينسى غدر نفسك، وإذا قدر لي أن التقي بك، بعد أعوام طوال، كيف أحييتك؟ بالصمت والدموع!(41/54)
المطبعة
لروبرت. هـ. ديفيز
أنا المطبعة، أمي الأرض، قلبي من فولاذ، أطرافي من حديد، وأصابعي من نحاس، انشد أغاني العالم، القي خطب التاريخ، وأردد الحان الزمان، أنا صوت اليوم، ومتني الغد، أقص حكايات السلم والحرب على السواء، أحرك القلوب في خفوقها وخفوتها. أوحى للعامل المضي في منتصف الليل، أن يرفع رأسه محدقا في الفضاء البعيد غير خائف ليتلمس الأمل المواسي الخالد، ملايين من البشر تصغي إلى، حينما أتكلم يفهمني الجميع.
أملأ دماغ الغبي بأفكار تعليه، أنا النور والمعرفة والقوة.
اجمل انتصارات العقل على المادة، في الشروق وعند الظهيرة وفي الغسق، تقصد إليك أولادي، وأنت على نور الشمعة بين أضواء الفقر الخافتة أو نعم الثراء.
أنا قهقهة العالم ودموعه؛ وسوف لا أموت حتى يستحيل كل شيء ترابا. أنا المطبعة.(41/55)
دعاهما الصبي فلبياه
لروبيرت بيرنس
في صباح يوم جميل من آذار، وقد لونت الطبيعة كل شيء بلون بهيج ضاحك، وعلمت الأطيار الغناء، والخراف اللعب وكشفت عن فتنة الصبايا ونضارتهن، استيقظ (جوان) الشاب مبكر جدا، وارتدى ثياب يوم الأحد مسرعا، لان (جيني) الصبية الجميلة، التي احبها (جوان) وعبدها، سترافقه إلى رياض المدينة، حيث يقضيان ساعة في اللهو والرقص والغناء.
دق ناقوس الكنيسة الخاشع، فتلمس الشاب طريقه وسار بخطوات المشتاق إلى منزل الحبيبة، قرع النافذة (أسرعي يا عزيزتي) عندها صاحت (جيني) صيحة الجزوع الضجور (من هنا؟) أنا يا حبيبتي، لا أحد سواي، اقبلي على مهل ولا تخافي عيون الرقباء.
ان أبي وأمي غارقان في رقادهما، وأخي بعيد يرعى غنمه، وأنت. ألا تزال أمينا على وعدك، وهل تبرهن أبدأ على وفائك! بحق ما في السماء من قوى، ساكون أبدا المحب العابد، ولن أضيع لحمامتي عهدا، ولن اغفر ذماما، ابعدي عنك هذه الشكوك وأسرعي يا حبيبتي.
وسارا ملتصقين بين الورود والرياحين، يضحكان ويعبثان حتى انتهيا إلى غدير يترنم في اسفل الوادي، فجلسا على حافته يتشاكيان الجوى، ثم استرخت الأكف للعناق، وكانت ساعة حالمة تساقيا فيها كؤوس الحب مترعة صافية، لقد دعاهما الصبي فلبياه.!
شرق الأردن
ترجمة بشير الشريقي المحامي(41/56)
نجوى يتيم
ما لفؤادي ذاب ... وما به وجد
وللدجى قد شاب ... ولم أنم بعد
ما للأسى قد فاز ... في كبدي الحرى
وما لدمعي ثار ... من مقلتي ثرا
أمن بكا الأطيار ... تستقبل الفجرا
أم لزمان جار ... قد ألف الغدرا
أحنو إلى التذكار ... وليس من ذكرى
خيال أمي غاب ... وألفي المهد
عدا مع الأحقاب ... ولم يزل يعدو
فتشت في فكري ... عنك فخيبت
مت ولم أدري ... إني قد عشت
ما ضر بالدهر ... لو لفني الموت
خلفت في الأسر ... قلبي ينفت
يندب في السر ... حليفه الصمت
في زمن لعاب ... من طبعه الحقد
يروح بالأوصاب ... وبالجو يغدو
تمضي بي الأفكار ... في هدأة الأغلاس
تسائل الأقدار ... وتنبش الآماس
عل بها تذكار ... لساكن الأرماس
والدهر للآثار ... مخرب دراس
منقلب غدار ... قاس شديد البأس
دهر حديد الناب ... ليس له عهد
مزمجر صخاب ... كأنه الرعد
الله للأيتام ... ماذا يلاقونا
من عنت الأعوام ... كم ذا يعانونا(41/57)
غافون بالأحلام ... بالدمع لاهونا
وهذه الأيام ... لا تعرف اللينا
تسقيهم الآلام ... والذل وألهونا
وتدهق الأكواب ... لهم وتشتد
واليتم مثل الصاب ... ما مثله ورد
أي طرفي الذراف ... مالك لا تهدا
فالحلم الرفاف ... أشرق وامتدا
والزمن المخلاف ... لا ينجز العهدا
من طبعه الإجحاف ... إن خشي اشتدا
في هزله مسراف ... لا يعرف الجدا
دعني من التسكاب ... فهمي المجد
وخافقي وثاب ... قد شاقه الخلد
دمشق
أمجد الطرابلسي(41/58)
في الأدب الفرنسي
زهرات من حديقة أبيقور
الحقيقة
هذه الحكمة اليونانية القائلة (أعرف نفسك بنفسك) هي لعمري طيش شديد وجهالة كبرى!! فلن نستطيع أبداً أن نعرف نفوسنا ولا نفوس غيرنا من البشر. وأنه لينبغي التيقن من ذلك والأيمان به، فأن خلق العالم أدنى صحة وأقل استحالة وأكثر إمكاناً من فهمه وعرفانه. لقد شك بها (هجل) بعض الشك، ومن القريب المحتمل أن يخدمنا العقل في يوم من الأيام بإبداع كون جديد، فأما الكشف عن مفهوم هذا الكون وتبين كنهه فذلك ما لا سبيل إليه، ولا قدره لأحد عليه. والأولى بنا أن نسئ استعمال العقل ونمعن في الجور وسوء التصرف به، بدلاً من أن نتخذه آلة لتحري الصواب ومعرفة الحقيقة. وحتى استخدامه للحكم والقضاء كما يتطلب العدل ويرتضيه الناس فأنه ضعيف ضئيل لا يجدي نفعاً كبيراً، وإنما يصلح العقل للتسلي بتلك الملاهي، وهي أكثر تعقيداً وغموضاً من الشطرنج، المسماة ميتافيزيك. علم الأخلاق. علم الجمال، ولعله جدير بالرضى والإعجاب حين يقتطف من هنا وهنالك قليلاً من النتوء أو بعضاً من الوضوح في الأشياء، ثم يتمتع بألوانها وأصباغها من غير أن يفسد تلك اللذة البريئة الخالصة بالتفكير الكلي الشاملوالاندفاع وراء الحكم والقضاء.
أدب الحياة
مادام معنى الجمال لا يدرك مستقلاً عن حدود الزمان والمكان فأني لا أشرع في استساغة آثار الفكر والتلذذ بمنتوجات العقل إلا حين أكشف عن وجه اتصالها بالحياة ولصوقها بها، وهذه الصلة هي التي تجذبني إليها وتأسرني عن قراءتها. فجرار هيارليك الضخمة حببت إلي (الإلياذة) كثيراً، وإذا كنت أتذوق (المهزلة الإلهية) وأسيغ حلاوتها جيداً، فلأني أعرف حياة فلورنسا، وأدرك الحال التي كانت عليها هذه المدينة في القرن الثالث عشر. أنا لست أفتش في الفنان إلا عن صورة الإنسان! وما عسى أن تكون القصيدة الجميلة الرائعة غير البقية الباقية من جثمان الشاعر؟ إليك هذا القول العميق يرسله جيتيه (الآثار التي تخلد دون غيرها هي آثار الظروف والأحوال) لكن الآثار الفنية لا يمكن أن تكون إلا آثار الظروف(41/59)
والأحوال لأنها إنما ترتبط جميعها بالمكان والزمان اللذين أبدعاها وكونا عناصرها. ولسنا نستطيع تفهمها ولا محبتها إذا كنا نجهل الزمن الذي أنشئت فيه والمكان والشروط الاجتماعية التي أحاطت تكوينها.
الحق إن البلاهة المتعاظمة الصلفة إنما تبرز في القول بالإنتاجالفني المستقل. فالثمن الذي يدفع غالياُ للمؤلفات الرفيعة العالية إنما هو ثمن العلاقات التي تربطها بالحياة. وأنا كلما تبينت هذه العلاقات وكشفت قوتها أشتد هيامي بالأثر الفني أستسيغه وأستمرئه.
القمار
يلعب المقامرون كما يحب العشاق ويسكر الشراب مرغمين مجبرين. يلينون لقوة رائعة لا تقاوم، ويستكينون للنوازع الجامحة العمياء! وفي الناس من وقف نفسه على القمار ونذرها للعب، على نحو من يقف نفسه على الهوى وينذرها للتصابي والغرام. ولست أدري الذي ابتدع قصة ذينك الملاحين المقامرين تذيبهما نيران اللهو، كاد الملاحان يغرقان ثم طوحا بجسميهما وسط المغامرات الخطيرة، ولم ينجهم من الموت المحتوم غير الطفرة إلى ظهر حوت، فما لبثا أن انتزعا من الجيوب الزهر والفنجان، ثم راحا يلعبان!
هذه القصة أصح من الحقيقة وأشد منها ثبوتاً، وكل مقامر مدنف إنما هو ملاح على طراز من ذكرنا. والواقع إن في القمار معنى من معاني الرهبة، يهز أعصاب الشجاع، ويثير في نفسه ألوان الاضطراب والقلق. فليس اختبار الحظ غبطة يسيرة معتدلة، وليس ارتشاف حياة طويلة عريضة ذات أشهر وسنين مليئة بالخوف والرجاء، بالألم والأمل - ليس ارتشافها في هنيهة من الزمن لذة ضعيفة هامدة لا تثمل، أذكر إني كنت دون العاشرة من عمري حين قرأ علينا المسيو غريبيني، أستاذ الصف التاسع، حديث الإنسان والجنية. وبالرغم من طول البعاد وتقادم العهد، فأني ما أزال أعيه وأتمثله كأنما هو حديث الأمس القريب: إن جنية ماكرة دفعت إلى طفل صغير خيطاً طويلاُ قد لف بانتظام حول نفسه ثم قالت له (هذا خيط عمرك فألمسه وحين تريد أن يمضي الزمن لتستشرف له وتحيا فيه فأشدد الخيط فأن الأيام والليالي سوف تمر أمام ناظريك وتكر متتابعة في إسراع أو بطء حسبما تشد الخيط في قوة أو فتور. وما دمت لا تجذب هذا الخيط فإنك تبقى من الوجود في الساعة التي أنت فيها) فأخذ الطفل الخيط الملفوف فجره قبل كل شئ ليفلت من طور(41/60)
الطفولة ويغدو رجلاً رشيداً، ثم جره ليتزوج ممن أحب، وما زال يجره حتى رأى أولاده تنمو، ونفسه تبلغ أسنى المراتب، وتنال المال الوفير والمجد الرفيع، ثم جره ليجتاز آلام الشيخوخة ويجتنب ثقل وطأتها وأمراضها. . وا أسفاه على هذا العود الأملد النظير! لقد عاش الطفل أربعة أشهر من بعدها ستة أيام على زيارة الجنية له.
لعمرك قل لي ما حد القمار إذا لم يكن الفن الذي يستبق أحداث الطبيعة العاقلة، ويشد تقلبات الأقدار المتئدة التي لا تبرز إلا في سنين وسنين! أليس القمار هذا الفن العجيب الذي يجمع في لمحة من الزمن مختلف الأهواء والميول المنتثرة بين حياة الناس البطيئة الراكدة؟ بلى! إنه سر الوجود ومعنى الحياة نتذوقها في مدى قليل من الثواني القصار، فهو يطاول القدر ويسايره جنب إلى جنب ولعله يشبه صراع يعقوب مع الملك، أو ميثاق الدكتور (فوست) مع الشيطان.
المال مادة القمار؛ ونقصد إنه العلة الضرورية المباشرة ومن يدري! لعل الورقة التي تستبطن، أو الكرة التي تتدحرج، تنفح المقامر اللاعب بالحدائق الجميلة، والحقول المزروعة، والأحراج الفخمة، والقصور المشيدة تشق السماء أبراجها الدقيقة. هذه الكرة المتدحرجة إنما تضم في اطوائها الأراضي الخصبة الواسعة، والدور العامرة تلمع مداخنها المنحوتة في مياه اللوار، إنما تضم كنوز الفن وعجائب الذوق، وجواهر غالية طريفة، ونفوساً كان يظن أن ليس إلى بيعها من سبيل. وعلى الجملة تضم مطارف الزينة والمجد، وشديد القوى ونافذ الأسلحة، ماذا أقول؟ إنها تضم شيئاً أثمن من هذا كله بكثير: تضم الأماني والأحلام، أفتريد بعد هذا ألاّ يلعب المقامرون وألاّ يلهو الهازلون. .؟؟ ولو أن القمار لا يبعث غير الآمال الكبار ولا يبدي إلا بسمة عينيه الخضراوين، لكان الميل إليه خفيفاً نحيفلاً، ولكنما أظافره مصنوعة من ماس، يروع، ويخلع البؤس إن شاء، والحياء حين يريد. . ومن هنا كان القمار إلهاً تقدم له فروض الطاعة ومراسيم العبادة:
يكمن الخطر في الأهواء الملحة العنيفة، أرأيت غبطة شديدة ليس يصحبها خمار أو يعقبها دوار، وإنما تسكر اللذة قد خالطها الفزع، وهل يخيف شئ في الوجود أكثر مما يخيف القمار؟ إذا أعطى أدهش، وإذا أخذ فتش. منطقه يباين منطقنا، فهو أصم وأبكم وأعمى، قادر على كل شئ كالإله، له عباده وقد يسوء الذين يحبونه لذاته لا لثوابه، وأكثر ما(41/61)
يعبدونه حين ينزل بهم عذاباً أليماً، وقد يعريهم مما يلبسون، فيعزون النقص إليهم دونه، ثم يقولون (لقد أخطأت كثيراً في لعبي)
وا رحمتاه لهم! يتهمون أنفسهم ثم لا يكفرون
حمص
محمد روحي فيصل(41/62)
العلوم
ماء جديد أيضا
للدكتور احمد زكي
ذكرت في العدد ألا سبق من الرسالة ما كان من أمر الماء الثقيل، وقد سألني سائلون الزيادة من ذلك فها هي: -
ان الماء الثقيل يختلف كل الاختلاف عن الماء العادي في خواصه:
الماء العاديالماء الثقيل
درجة السيحانصفر + 3. 8
درجة الغليان100 101. 42
الوزن النوعي
في درجة 251 1. 1056
الدرجة التي عندها
يبلغ اكثر كثافته + 4 + 11. 6
فمن اجل هذا، ومن اجل أن الأيدروجين في الماء الأخف يختلف عنه في الماء الأثقل اختلافا بينا، اقترح الكيمياويون الأمريكان لهذا الأيدروجين الأثقل اسما جديدا فأسموه ديوتيريوم واقترح له الأستاذ المعروف اللورد رذرفود اسما غير هذا لاعتبارات كثيرة فاسماه وكلا الاسمين ثقيل على السان العربي.
ولعل الثاني أخف وطأة من أخيه، وقد اشتركا في حرفهما الأول فصار رمز هذا العنصر الجديد هو حرف يصبح الماء الثقيل أكسيد الدبلوجين.
وقد قدر الباحثون مقدار الدبلوجين في الأيدروجين العادي وقدروا مقدار أكسيد الدبلوجين في الماء العادي فاختلفوا اختلافا كبيرا، وكان الاختلاف لأسباب، مثالها انهم اعتمدوا في أحد هذه التقديرات على طيف الأيدروجين، وكان أيدروجينا حضروه بطريقة التحليل الكهربائي للماء. فكان دبلوجينه لاشك قليل لان أكسيده أبطأ تحللا بالكهرباء من الماء.
فخرج الحساب بنتائج واطئة المقدار. ومن هذه النتائج الواطئة النسبة 1 إلى 25000 التي ذكرتها في مقالي السابق.(41/63)
واتبع باحثان آخران طريقة أخرى يكفلان بها تحلل الماء كله تحللا كهربائياً كاملاً، ثم اختبروا طيف ايدروجينه الناتج، فقدروا ان به من الدبلوجين جزءا في كل 5000 جزء وطبق الأستاذان لويس ومكدونالد طريقة البكنومتر على المائين، العادي والنقي (هكذا أسمياهما) فخرجا على آن الماء العادي يحتوي جزءا في كل 6500 جزء واستخدم الأستاذ اللورد رذرفورد وأصحابه طريقة (القذائف) وفيها قذفوا عنصر الليثيوم بأيونات الدبلوجين وأيونات الأيدروجين، فوجدوا أن جسيمات (ألفا) الناتجة في حالة الدبلوجين لها مدى اكبر 50 في المائة من مداها في حالة الأيدروجين. وهذه طريقة دقيقة يرجون بها أن يقدروا أكسيد الدبلوجين في الأمواه الاصطناعية والأمواه الطبيعية المختلفة، فماء العين لاشك سيختلف عن ماء النهر، وهذا عن ماء البحر، ومياه البحار الطلقة لا شك ستختلف في ذلك عن مياه البحر الحبيسة. وقد وجدوا فعلا أن ماء البحر الميت يكثر مقدار أكسيد الدبلوجين الذي به، وقد قدرت النتائج الأولى هذه الكثرة بالضعف. وهذا ما كان منتظرا لتبخر مائه تبخرا يزيد على غيره من البحار. أما الخواص الكيماوية للدبلوجين ولأكسيده فالأبحاث التي أجريت عنها لا تزال قليلة. ولكنها في مجموعها تشير إلى قلة النشاط الكيميائي في الدبلوجين وفي أكسيده. مثال ذلك انهم حللوا ماء مأخوذاً من المطر بإمراره على الحديد المحمي فوجدوا أن الجزء الأول الناتج من الأيدروجين يحتوي 6000: 1 من الدبلوجين، بينما الجزء الأخير يحتوي 4500: 1 منه. ومثال ذلك انك إذا حللت ماء محمضا بالخارصين فان المتبقي من هذا الماء تزيد نسبة أكسيد الدبلوجين فيه زيادة كبيرة.
أن علمنا بالدبلوجين ومركباته لا يزال قليلا، ومناهج البحث فيه كثيرة والاحتمالات العلمية الذي سيتمخض عنها الغد لاشك جليلة. قال الأستاذ الورد رذرفورد (لقد فتح هذا الكشف لنا باب كيمياء جديدة وبليجة جديدة)
احمد زكي(41/64)
ماء جديد
حضرة الأستاذ الكبير صاحب الرسالة الغراء
تحية واحترام وبعد، فقد قرانا فيما قرأناه من موضوعات شيقة آخر ما صدر من أعداد الرسالة فصلا قيما كتبه حضرة الدكتور احمد زكيفي باب العلوم بعنوان (ماء جديد) فهمنا منه أن البحث قد كشف أخيرا عن وزنين مختلفين لذرة الأيدروجين كما كشف قبلا عن مثل ذلك في الزئبق وغيره من العناصر، وانه ظهر على اثر ذلك أن الماء العادي يشمل على كم صغير جدا من ماء ثقيل شديد التركز مؤلف من ذرات الأيدروجين الثقيلة وذرات الأوكسجين وقد ذهب الدكتور الفاضل إلى أن هذه الحقيقة الأخيرة قد أظهرت خللا في الأسس المقررة لقياس الحرارة ووزن الإثقال وذهب بعض القراء إلى انه يؤخذ من مقال احمد أمين هذا - يريد احمد زكي - أن البحث الحديث قد أدى إلى نتيجة جديدة وهي إن الماء مؤلف من ذرات أيدروجين صغيرة وذرات أيدروجين كبيرة، وانه لا صحة لما كان يقال من أن السنتيمتر المكعب من الماء يزن جراما.
وعندي صاحب المقال لم يخطر بباله عند كتابته انه سيؤدي إلى هذه النتائج الخطرة فهو يقول أن الماء الثقيل يتجمد في درجة 4 تحت الصفر ويغلي على درجة 101 ويعد هذا دليلا على فساد أسس علم الحرارة، ثم يسال بأسلوب يلقي الريب في ذهن القارئ عن الجرام وهل وزن السنتيمتر المكعب من الماء الخفيف أو من الماء الثقيل؟
والصحيح أن الحقائق التي كشفها البحث وأشار إليها الكاتب لا تمس مقاييس الحرارة والأوزان من قريب أو بعيد. فالعبرة فيها كانت وستبقى في الماء النقي العادي، أو أن شئت الطبيعي، سيتجمد دائما في درجة الصفر ويغلي على درجة المائة ويزن السنتيمتر المكعب منه جراما لا غير في درجة معينة من الحرارة.
وما شان الماء الخفيف وحده والماء الثقيل وحده بعد ذلك في أمر الحرارة والثقل إلا نفس الشأن الذي لغيرهما من السوائل
فالماء النقي العادي سيظل كما هو أساس مقاييس الحرارة والأوزان. وأما ما ذهب إليه بعض القراء من الخلط بين الأستاذ الكاتب وزميله الأستاذ احمد أمين فمرده فيما أرى إلى تناول الكاتب موضوعاته العلمية بأسلوب كأسلوب زميله الأديب الكبير(41/65)
واغلب الظن أن النتيجة العجيبة التي طفر بها إليها هذا البعض من تكون الماء من أيدروجين صغير الذرات وأيدروجين كبيرها تقع تبعتها على هذا الأسلوب الأدبي الممتع نفسه. . . . .؟
الإسكندرية
(م. ا.)(41/66)
تعليق
أقرأني صديق الأستاذ الزيات اعتراض الكاتب الفاضل م. ا. وأرى انه إذا كان حضرته يريد القول بان هذا الكشف الجديد لا يؤثر في وزن السنتيمتر من الماء مطلقا، أو على حسب تعبيره (من قريب أو بعيد) فهو لاشك مخطئ، لان الأمواه تختلف نسبة الماء الثقيل فيها اعني أكسيد الدبلوجين، وإذن تختلف كثافتها.
ولو رجع إلى مقالي الثاني المنشور بهذا العدد من الرسالة لوجد بعملية حسابية أن هذا الاختلاف يتناول من كثافة الماء الرقم العشري الخامس، وأرجو أن يكون عالما بان من الموازين الحساسة ما يحس بزنة الرقم العشري الثامن من الجرام، ومن اجل هذا أمكن العلماء باستخدام طريقة البكنومتر، وهي تعتمد على تفريق بين الكثافات بالوزن، في تقدير ما بالأمواه من ماء ثقيل - وان كان الكاتب الفاضل يريد أن يقول أن هذا الاختلاف بسيط لا يؤثر في التجارب العلمية المعتادة فهو لاشك مصيب، فان الموازين العادية بالمدارس تزن إلى جزء من عشرة آلاف من الجرام، أي تصل إلى الرقم العشري الرابع فقط. وهذا هو عينه الذي قررته في مقالي الذي يعترض عليه. فقد قلت فيه (على ان هذه الاختلافات لا تؤثر في حوائج العلم العادية)
أن الكاتب إذ كتب في الأدب قد يذهب به الخيال عن الدقة، وقد يغتفر له ذلك، أما إذا هو كتب في العلم وجب أن يكون أول ما يقصد إليه الدقة في التعبير ويزداد هذا الواجب وجبا إذ هو حاول أن يتكلم عن العلم لغير علمين، فاضطر إلى استعارة شيء يسير من لغة الأدب، وهذا ما نأخذ به دائما. ولكن على القراء كذلك واجب التدقيق عند القراءة. فصاحبنا الذي خلط بين احمد أمين واحمد زكي كان من الطبيعي أن يخلط في فهم المقال. وحضرة الفاضل م. أنفسه لاشك قرا المقال بسرعة، فانه روى على ان الماء الثقيل يتجمد في درجة أربعة تحت الصفر والذي كتبته ونشر في المقال كان (في نحو درجة أربعة) ومعناها بالطبع فوق الصفر لا تحته.
احمد زكي(41/67)
القصص
الميتة. . .
بقلم الكاتب القصصي (جي دي موباسان)
ترجمة الأستاذ خليل هنداوي
أحببتها حتى غلب علي فيها الذهول، ولماذا أحببتها؟ أغريب شأني إذا لم تر عيناي إلا كائنا واحدا، ولم تحمل نفسي إلا فكرة واحدة، ولم ينطوي قلبي إلا على أمنية واحدة، ولم يتسع فمي إلا لاسم واحد؟ ذلك الاسم الذي يصعد من فمي تكرارا. من أعماق روحي مرارا، كأنه ينبوع متفجر. أقوله وأعيد فيه القول ثانية وثالثة كأنه صلاة اذكرها وارددها.
لن أقص عليكم ما غشيني في هذا الحب، ومتى كان للحب حكايات متعددة، ورواياته في كل زمان ومكان واحدة. قد رايتها واحببتها، وهذا كل ما في روايتي.
قضيت زمنا - ويا حبذا ذلك الزمن - يغمرني عطفها، وتحوطني بذراعيها، وتشبعني نظراتها، ورداؤها وكلماتها. بل فنيت فيها حتى غلب علي الذهول فأصبحت لا ادري: أذلك الليل أو النهار يحيط بي؟ وأنا في قيد الحياة أو في سجل الأموات؟ وهل أنا على أرض غير الأرض؟
والآن ماتت، فكيف سطا عليها الموت؟ لا ادري. . لا اعلم، دخلت علي أمسية ليلة من ليالي الشتاء مبللة الأثواب فنامت، فتيقضت وهي ترسل السعال ملحة فلزمت سريرها مضطرة.
وبعد ذلك لا اعلم.
الأطباء حشدناهم من كل صوب. فكانوا يقدمون ويكتبون ويذهبون. والعلاجات تنهال عليها وإزاءها امرأة ترعاها. يدها حارة الملمس. وجبينها متوقد. ونضرتها ساطعة، لكنها كئيبة.
أكلمها فتخاطبني، ولكن ماذا قلنا؟ لا أعلم. . قد نسيت كل شيء. . كل شيء. إنها قضت ولا أزال اذكر تنهدتها الخفيفة وأنتها الضعيفة.
وقد صاح من خولها (آه) ففهمت أن الأمر انقضى.
لم اعد اعلم شيئا. .(41/68)
لمحت كاهنا يخاطبني بهذه الكلمة: أمعشوقتك؟ فخيل الي انه ينال منها، - وهو بعد موتها - يجب عليه ألا يعرف شيئا من هذا فنفيته من دارها وطلبت غيره، فخف إلى كاهن طيب السريرة.
رقيق النفس، حدثني عنها فغلب علي البكاء.
أمسيت لا أعرف شيئا، ولكني اذكر الأكفان والناووس الذي ووريت فيه إلى الأبد.
نزلت في التراب، وجاء معها بعض صواحبها، وأخيرا انطلقت وطفت في السبل شاردا، وعدت أدراجي، وفي الغد الباكر حملت نفسي على الرحيل
وبالأمس دخلت باريس. . .
ومذ وقع ناظري على غرفتي. . غرفتنا وسريرنا ومتاعنا. وكل ما يخلفه الميت وراءه، شعرت بان أنفاسي تضيق، وبان كآبة تتمدد في إحناء نفسي فتزيد صدري حرجا. وتبعثني على إلقاء نفسي من النافذة. . . لم استطع البقاء طويلا في هذه الغرفة التي تتراءى لي فيها محبوبتي، فاسرعت عازما على الخروج فوقع ناظري على تلك المرآة المصقولة التي كانت تقف إزاءها ناضرة إلى وجهها وجسدها كل يوم، تتقن زينتها تجاه هذه المرآة التي كان رسمها ينعكس فيها، ولا يزال يتراءى على صفحتها فأدركتني رعشة عميقة، وعيني خلال ذلك لا تبرح المرآة العميقة الفارغة التي احتوتها - قبل اليوم - فخيل إلي أنني احب هذه المرآة فلمستها فإذا هي باردة. . .
ولكن الذكرى، الذكرى!! المرآة الملتهبة المعذبة.
إلا انهم سعداء، من تشبه قلوبهم هذه المرآة ترتسم عليها الضلال ثم تمحى. وتنسى كل ما ارتسم عليها وارتسم فيها.
برحت مكاني وأنا غير مختار. ولا اعلم أية وجهة اسلك!؟ فدخلت المقبرة فألفيت ضريحها المنفرد يشرف عليه صليب رخامي نقش تحته
(إنها أحبت وكانت محبوبة ثم ماتت. . .)
إنها تحت هذا الضريح قد عبث فيها الفساد! مكثت هنالك طويلا خاشع الرأس حتى واتى المساء، ولكن خطرة غريبة صعدت من نفسي هي خطرة عاشق يائس تحدثني وترغمني على قضاء الليل بجانبها ذاكراً باكياً، ولكن الناس سينظرون إلي وسيطردوني فما عسى(41/69)
اصنع؟ نهضت وأبديت لمن يراني إنني ضال بين القبور، فسرت وأمعنت في السير، ولكن ما أضأل مدينة الموتى إزاء غيرها من مدن أهل الحياة، والموتى ينيف عددهم على عدد الأحياء.
يتخذ القصور الشامخة والدور الباسقة والسبل الفسيحة أبناء النور، وشاربو الينابيع، وراشفو ابنة الأعناب، وآكلو سنابل الحقول، أما الموتى الذين تحدروا إلى أعماق الثرى وما زالوا ينحدرون. أولئك لا ينالون شيئا. . . رقعة من الثرى تضمهم والنسيان يطوي أسماءهم ووداعاً.
في زاوية من زوايا المقبرة الآهلة بسكانها وقع ناضري على المقبرة العتيقة التي اختلط رفات أصحابها بالتراب، واتى على صلبانهم الهلاك. وغداً سيبدل الأحياء بالنازلين القدماء، نازلين محدثين.
كان يغشى تلك المقبرة ورود منتشرة، وأوراق سوداء، كأنها حديقة كئيبة سامخة تغذيها لحوم الموتى.
آويت إلى جذع شجرة تواريت به عن الناس. ولبثت مرتقبا قابضاً على الجذع كما يقبض الغريق على بقية من بقايا زورقه المحطم حتى مد الظلام رواقه، فغادرت مكاني وطفقت أطوف متمهلا بين اللحود
ضللت كثيراً وأنا أتلمس قبرها. فكنت أسرى باسطاً يدي. وفاتحاً عيني، وواثباً بين القبور على غير هدى، فكم قبور لمحت، وكم رسوم وقفت عليها كأعمى يود أن يهتدي إلى سبيله فلمست حجارة وصلباناً. وأكاليل ذوت ازاهيرها، واكاليل من زجاج. وتلوت أسماء كثيرة بيدي ولكنني لم أجدها.
لا قمر في السماء يزيح هذه الظلمة الداجية.! وياله من ليل بعث في نفسي الهول. أغشى الطريق تغمر جانبيها القبور. القبور عن يميني والقبور عن شمالي. والقبور أمامي وورائي. أعياني السير فاستويت على ضريح فسمعت خفقان قلبي وسمعت شيئا غير خفقانه.
ماذا اسمع؟ أهذه وساوس تعيث في رأسي؟! وهذه أسماء تتصاعد من الأرض الطافحة بأشلاء بني الإنسان؟(41/70)
كم مضى علي من الزمن وأنا لابث في مكاني؟ لا أعلم: ولكن الخوف قابض على قلبي بكلتا يديه لا يبرحه. همت باكيا أصيح، وأوشكت أن اقضي نحبي.
فجأة شعرت بأن لوح الضريح الذي تخذته مقعداً لي بدأ يتحرك كأن شيئا تحته يزيحه، فنعدت عنه مذعوراً وإذا باللوح يمشي. . . وصاحبه ينتصب بهيكله العظمي. أزاح بظهره المقوس لوح الضريح فألقاه على الأرض
فتلوت على اللوح برغم حلوكة الليل: (هاهنا يرقد (جاك اوليفان) المتوفى في الخمسين من عمره. كان باراً بأبويه: وكان صالحا شريفاً. ومات تحت كنف الله)
رأيت الميت يحدق في هذه الكلمات ثم جاء بحجر مسنون يمحوها حتى لم يبق لها من اثر. ثم اخذ ينظر مكانها وتناول عظمة من عظامه وسطر عليها بأحرف بارزة (هاهنا يرقد جاك اوليفان المتوفى في الخمسين من عمره. قد عجل موت والديه لعقوقه، وأضنى امراته. وعذب أولاده وخدع جيرانه وسرق ما استطاع ومات فقيراً).
أتم الميت تسطيرها وظل يتأمل فيها، وغادرت مكاني فإذا القبور جميعها متفتحة، وسكانها جميعا بعثوا من مراقدهم، ومحوا الصفات الكاذبة التي سطرها أهلوهم على لوحات قبورهم، ونقشوا مكانها حقائقهم المجردة، فوجدت أن جميع هؤلاء الآباء الصالحين والزوجات الأمينات، والأبناء الطاهرين، والغواني العفيفات، وأن هؤلاء التجار المستقيمين، منهم العاق والبغيض، واللئيم والمرائي، والكاذب والحاسد والنمام، ومنهم السارق والخادع، والمرتكب كثيرا من الآثام. رايتهم جميعا منكبين على منازلهم يسطرون حقيقة أنفسهم التي يجهلها أو يكاد يجعلها أبناء الحياة.
شعرت - إذ ذاك - بان محبوبتي خطبها خطبهم، فجعلت إليها نافضا عني الخوف، ومن حولي القبور المفتوحة. والجثث المنشورة والهياكل المنتصبة. عرفتها إذ لمحتها، ولم أتوسم وجهها المتصبب عرقا. وعرفت القبر الذي كانت هذه الجملة مسطورة عليه (إنها أحبت. وكانت محبوبة ثم ماتت).
تلوت هذه الجملة الثانية (خرجت يوما لتخون حبيبها فأصابها برد أودى بحياتها)
ويبدو لي انهم عثروا بي راقدا عند شروق الشمس على أحد القبور
خليل هنداوي(41/71)
في المزرعة
بقلم إيفان بونين
كان ذلك الوهج الوردي الفاتر المنبعث من الغروب الداوي يغادر السماء متلكئا متباطئا. وتوارى الضوء شيئا فشيئا بين جحافل الظلام التي أخذت تخيم فوق مزارع الغلال الفسيحة المترامية. ثم أمعنت تلك الجحافل في الزحف حثيثا على القرية. . بعد أن أرسلت بعض النوافذ الصغيرة في جدر الأكواخ وميضا نحاسيا خالبا يستبي اللب. كان المساء هادئا ساكنا. قد حشدت قبل قليل قطعان الماشية في حضائرها، واحكمت دونها الرتج والإغلاق. وآب أهل القرية من عملهم المضني فتناول كل عشاءه على الحصباء قبالة أكواخهم ثم غرقوا في صمت ساهم عميق. لا صوت لغناء ولا صرخة لطفل
كل شيء كان يحلم حلمه المسائي. وكان الكابتن ايفانيش وقد جلس إلى نافذته المفتوحة يحلم أيضاً.
كانت (عزبته) فوق رابية آجام واطئة من الاقاقيا والليلاك تحتها انجم كثيفة ملتفة مشتبكة من القراص والحماض تنحدر إلى اسفل في اتجاه الوادي. ومن النوافذ تستطيع العين ان تقطع مسافات شاسعة فوق تلك الأيك والإحراج البالغة مكانا قصيا.
كانت الحقول ساكتة صامتة تحت ذلك الغسق الشاحب، قد انقطعت فيها الحركة. والهواء جافا دافئا عليلا. والنجوم في السماء ترتجف بإستيحاء وفي غموض مبهم كأنما تخفي في باطنها أسراراً لا تدرك وأحاجي لا تحل.
ليس هناك تحت النافذة إلا بضع جنادب دائبة في صريرها المتشابه من غير كلل ولا ملل، وهي في مكامنها تحت عساليج القراص وإلا صيحات السماني المتزنة الآتية من السهل النائي البعيد.
كان الكابتن ايفانيش وحده، كدأبه دائما. لقد كتب له أن يعيش وحيدا يقاسي آلام الوحدة ما بقي حياً.
كان أبواه لا يملكان شيئا، يعيشان في بيت الأمير (نوكايسكي) ماتا إبان طفولتهولما يبلغ من العمر سنة واحدة. قضي أيام طفولته وفتوته في بيت عمة له مخبولة وفي مدرسة أبناء الجنود. كان في شبابه ينظم الأغاني ناسجا فيها نسج ديلفك وكولتسوف. نظم في قصائده(41/73)
الغرامية الكثير عن (هي) المعهودة.
وما كانت (هي) المعهودة إلا (آنا) ابنة موظف في مكتب (تسجيل العقود) في القرية، لكنها ما كانت تحبه كما يحبها. كان اهل القرية يقولون عنه انه يشبه (السيد) ولكن ليس فيه شيء يسترعى النظر.
هو نحيف طويل بعض الشيء. قد صار يوما بتأثير الأمير ملازما في الجيش ثم ورث عن عمته نقودا واستقال من وظيفته أما (هي) فقد ذهبت لتقيم في بيت صديق لها وتزوجت واقفل هو مكتبه على قصائده الغرامية حيث ظلت وستظل إلى يوم موته.
أنشأ يشتغل بالزراعة وحاول العمل في مكتب الحكومة في القرية ولكن لم يسعفه الجد.
ومرت الأيام وانقضت الشهور وتعاقبت السنون، واصبح فلاحا حقيقيا: سترة طويلة تصل إلى ركبتيه وشاربان طويلان أسودان، على انه ما كان يعلم إن وجهه المنضمر المغضن بعض الشيء وما كان يعلوه من إمارات الحنو كان جميلا جذابا.
انه اليوم حزين مكلوم. وجاءت إليه في الصباح خادمة (اكرافية) التقية الورعة وذكرت له بين ما حدثته به (أتذكر السيدة (آنا) يا سيدي؟
- فأجابها الكابتن ايفانيش. نعم
فقالت له ماتت ودفنت في خلال أيام الصوم.
وبعد هذا لبث الكابتن ايفانيش طول يومه مرتسمة على شفتيه ابتسامة مضطربة غامضة. وفي المساء، وما أهدأ ذلك المساء وما اشده سكونا، وما أعمقه كآبة - لم يتناول عشائه ولم يذهب إلى فراشه مبكرا كعادته. بل تناول في يده لفافة غليظة من تبغ اسود قوي وظل جالسا إلى نافذته واضعا ساقيه الواحدة على الأخرى.
أراد أن يخرج من البيت ويذهب إلى مكان ناء، ولكنه سال نفسه: إلى أين؟!. أيذهب لصيد السمان؟ ولكن لم يبقى وقت لذلك، ثم ليس هناك من يرافقه. أيذهب؟ أم لا. . . لم يرق له صيد السمان. تنهد وخبط بيده ذقنه غير الحليق.
ثم قال في نفسه (ان حياة الإنسان لقصيرة ضنينة).
أترى الحقبة طويلة من يوم كان فتى في ميعة الشباب حتى الآن مدرسة أبناء الجنود - حسنا إنها ولت. . . إلى حيث لا رجعة. . . قر وسغب ولغب - أسفار إلى عمته، ما(41/74)
أغربها من عمة. ما اشد شذوذها وغرابة أطوارها. هو يتذكرها جيدا، حتى لكأنها الآن ماثلة أمام عينيه - عجوز بكر هيفاء نحيلة. لها شعر اشعث، اسود فاحم، وعينان دعجاوان شاردتان ذاهلتان. كان يقول عنها أهل القرية إنها قد أصابها الخبل من حادث غرامي لم توفق فيه. . . هو يتذكر كيف كانت تحفظ جيدا بعض أساطير فرنسية جريا على عادة كانت في ذلك الحين متبعة في مدرسة ليلية من طراز قديم، وكيف كانت تكررها مرة بعد أخرى. ويذكر أيضا كيف كانت تضرب على البيان لحن (بولوني أو كينيكسي). لقد كانت تلك الأغنية تبدو مخيفة غريبة، لأن السيدة العجوز كانت تغنيها من غير عاطفة ولا شعور
أوه - تلك الأغنية (بولوني أو كينيسكي). . . (هي) المعهودة أيضاً كانت تحسن غنائها وعزفها على البيان.
والآن أخذت النجوم في السماء تبعث بصيصا ضئيلا من نور خافت وتتلألأ تلألؤاً سحرياً لا تدركه الأفهام.
وطفقت الجنادب تسبح بصريرتها تسبيحتها الواهنة الوانية، لا تلبث تفتر حتى تهتاج من جديد في هدوء المساء وسكون الطبيعة. . . هناك بيان عتيق. هناك في تلك الغرفة الداخلية. النوافذ مفتوحة لولا أن (هي) المعهودة تدخل الآن في الغرفة، خفيفة الظل كالطيف وتعزف عليها، تمس مفاتيحها العتيقة المغبرة. . . ومن ثم يذهبان معا إلى هناك. . . إلى هناك باستقامة واحدة. . . يمران من تلك الطريق الضيقة بين الجويدار الكثيف. إلى اين. . . إلى بعيد، حيث الضوء ينبعث في الأفق الغربي.
كبح الكابتن ايفانيش جماح أفكاره وابتسم قائلا بصوت مرتفع (لقد ذهب الخيال معي إلى بعيد. . .)
كانت الجنادب تصدح بإنشودتها في نسيم المساء الهادئ البليل ومن البستان يعبق شذا الأرقطيون المحمل بالطل. وأريج زهرة الفجر ورائحة القراص المخضل المنعشة، فتختلط كل هذه الأرواح العطرة في الفضاء وتتجه شطر الأنوف كأنما تنتوي نية أو تبغي بغية. . . هذه العطور الزكية ذكرته بمساء كان قد رجع فيه من المدينة في ساعة متأخرة؛ وكيف ظل يفكر (عنها) يخدع نفسه ويمنيها بآمال السعادة والهناء. . .
ما كنت ترى في القرية نافذة تشع، ساعة ساق عربته إلى أعالي الرابية. كل شيء تحت(41/75)
تلك القبة السماوية الصاحية السلسبيل الزاخرة بالكواكب كان غارقا في سبات عميق. . . ليالي إبريل مظلمة دافئة من البستان كانت تفوح رائحة الكرز المزهر. والضفادع تنق وسنانة في البرك - فتبعث بموسيقى ضعيفة هزيلة من النوع الذي يسمع عادة في آخر هزيع من ليالي الربيع عندما يدنو الصباح. ظل زمناً طويلاً قبل أن يعقد أجفانه الكرى، استلقى في نومة عميقة فوق الحلفاء في الكوخ بالبستان. قد لبث ساعات يمشي الهوينى على سراب جار تحول من بعد إلى سحابة بيضاء شفافة متألقة من الأحلام البعيدة النائية. ولكن هناك جاءت من بركة ليست في الحسبان بعد حين صيحة مالك الحزين - كأنها لغز أو سحر، والظلام الحالك - الظلام الذي ضرببجرانه فيطرقات البستان الضيقة هو أيضاً بدا كاللغز أو السحر. وبعد ذلك، قبيل الفجر فتح عينيه واستنشق ملأ رئتيه نسمات البستان الندية الباردة المحملة بالعطر. ومن خلال الكوة المفتوحة قليلاً أطلت عليه نجوم الصباح اللامعة مضطربة قلقة. استفاق الكابتن إيفانيش من هواجسه واستوى قائماً. وراح يطوي أرجاء الدار ترجع الجدر أصداء خطواته، وينحني بلاط الغرفة هنا وهناك تحت قدميه مرسلاً صوتاً متزناً كأنما هو يئن تحت وطئهما أنين الألم.
(ثمانون عاماً عمر هذه الدار) قال في نفسه (لأستدعين الفعلة في الخريف سيكون البرد فيها في الشتاء المقبل قارساً لا يطاق). وفيما كان يتمشى جيئة وذهاباً كان يشعر إنه أضحى الآن أعجف سمجاً - هو طويل نحيل منحني بعض الشيء. ظل كذلك يجيء ويغدو ثم رفع حاجبيه وهز رأسه وغنى الغناء (البولوني). أحس إنه يرقب خطواته الخاصة - ينظر إلى نفسه - فقدم نفسه إلى نفسه على إنها رجل آخر يهيم في أرجاء الدار - رجل حزين قد أمضه الحزن وأرمضتقلبه الكلوم. حمل كنانته وخرج من الدار.
كان الضوء خارج الدار أكثر من داخلها، ولا يزال ضوء الغروب الشاحب الذي توارى خلف القرية يرسل على مزارعها بصيصاً ضئيلاً باهتاً. وبخطوات ثقيلة مرتبكة جاز رقعة من الأرض مفروشة بفراش من القراص انتهى منها إلى رابية وقف عندها. وبعد أن أشعل غليونه وقف على صخرة هناك ثم قال في نفسه (أراني جالساً كالبوم على سفح الجبل) وسيقول الفلاحون عني هناك. . . إن الشيخ لا عمل له. . . نعم لقد أمسيت عجوزاً (ألم تبت (أنا). . . حتى لكأنها لم(41/76)
تكن) أين ذهب كل ذلك. . . كل ذلك الماضي
كم ظل محدقاً ببصره في الحقول النائية كم ظل مصيخاً بسمعه إلى هجعة الطبيعة وسكنة المساء. . .
قال بصوت مرتفع (كيف يمكن ذلك؟!) كل شيء سيبقى على حاله. الشمس تشرق. الفلاحون يخرجون إلى الحقول حاملين على أكتافهم محاريثهم عاليها سافلها، وسوف لا أرى من ذلك شيئاً - وليس هذا فحسب، بل ولن أكون في هذا المكان أبداً ولو مرت ألوف السنين، لن أعود إلى الدنيا مرة أخرى، لن أجلس جلستي هذه على هذه الرابية. .
لبث زمناً طويلا جالساً جلسته تلك، مطرقاً يسحب شاربيه الأشيبين ويعبث بشعراتهما.
ترى كم من السنين كان الرجل الذي أمامه الآنشيئا خطيراً - بارزاً. . . لقد كان ذات مرة صبياً صغيرا - وكان شاباً يافعاً - ثم هو في يوم قائظ لافح من أيام الصيف قصد بعربته الصغيرة إلى الانتخابات. . . ماراً من طريق عريض رحب
ما اعرض ذلك الطريق!. . .
ابتسم الكابتن ايفانيش إلى نفسه من أفكاره التي تتواثب من شيء إلى آخر.
لكن ذلك كله كان منذ زمن بعيد. . . ممعن في البعد. . . كذلك.
أواه! ماذا يرى الآن أمامه يا لهول ما يرى! قد بلغ زمنا هو كما يقول الناس يصل فيه كل شيء نهايته، سبعون، ثمانون عاماً لا يقدر الإنسان أن يعمر أكثر من هذا - ما هي الحياة البشرية - طويلة كانت أم قصيرة
قال في نفسه: (إن حياتي طويلة على كل حال)
هناك في ظلمة السماء أضاءت نجمة وخرت إلى الأرض. رفع عينيه الحزينتين الكليلتين، وظل يحدق في السماء. وفيما هو يرسل بنظراته في أعماق تلك اللانهاية المظلمة الهادئة الزاخرة بالكواكب، تنهد الصعداء وشعر بالحزن يذهب عن نفسه، لقد عاش هادئاً مطمئناً وسيموت هادئاً مطمئناً. كالورقة في تلك الأيكة تجف وتسقط متى يحين أوانها، إيه، لكل أجل كتاب.
لا تكاد الحقول المترامية ترى في ظلمة الليل الحالكة. اشتدت الظلمة وزاد لآلاء النجوم. وبين الفينة والفينة تسمع صيحات السماني، وأخذت تنبعث من العشب الندي رائحة(41/77)
منعشة، استنشق الهواء بخفة، وبسهولة ملأ رئتيه، ما أشد اتصاله بهذه الطبيعة الهادئة الساكنة!
بغداد
ترجمة
ع. الحمدي(41/78)
4 - شهر بالغردقة
للأستاذ الدمرداش محمد
مدير إدارة السجلات والامتحانات بوزارة المعارف
عند آبار البترول
في الشمال من محطة الأحياء المائية وراء الأفق جبل عال تراه من المحطة إذا كان الجو صافياً ناتئاً بالبحر ببروز كبير. كان لهذا الجبل شأن كبير في قديم الزمان عند القدماء: من مصريين ورومان، فامتدت إليه همتهم وقصدوه من وادي النيل عبر الصحراء طلباً في سائل أسود كثيف ذي رائحة شديدة ينضح من جدار الجبل عند سطح الماء - هذا الجبل هو جبل الزيت، وهو سائل هو زيت البترول ولا يزال الجبل ينز بالزيت إلى يومنا هذا. وفي القرن الماضي عثر على الزيت في مغارات بالقرب من دمشة (جمسا) جنوبي جبل الزيت بنحو عشرين كيلو متراً، فدل هذا على وجود الزيت في باطن الأرض بكميات كافية للاستغلال التجاري، فتقدمت لاستغلاله شركة شل الإنكليزية، واستحوذت من الحكومة المصرية على منطقة امتياز في هذه البقعة، وبدأت العمل في مستهل هذا القرن، ثم حفرت أربعة وثلاثون بئراً مكثت تجود بالزيت حتى سنة 1927، ثم نضب معينها فهجرتها الشركة وتحولت إلى غيرها.
ويظهر إن هذا النجاح حفز حكومتنا السنية للبحث عن البترول، فاختارت بقعة جنوبي دمشة بخمسين كيلو متر تعرف بابي شعر، فأنشأت فيها في أوائل هذا القرن أيضاً مرفأ حسناً، وجعلت حوله رصيفاُ لإرساء السفن. مدت عليه سكة حديد ضيقة تربطه بالداخل لمسافة طويلة، ثم أقامت بالقرب من الرصيف المخازن والمساكن لإيواء الموظفين والعمال وجلبت إليهم الفناطيس والماكينات والسيارات والأنابيب، وكلها من أجود أنواع الصلب المتين، ثم أخذت في حفر بئر وقبل أن تتمها بدأت في حفر بئر ثانية على مسافة من الأول وقبل إكمالها توقفت عن العمل فصرفت العمال والموظفين وشونت الماكينات والأدوات وتركت الأبراج قائمة على الآبار إلى اليوم،
وقد زرنا أبا شعرة عصر أحد الأيام وهو قريب من محطة الأحياء المائية، فاستقبلنا بالقرب(41/79)
من المرفأ الخفير القائم بالحراسة من قبل مصلحة المناجم، وقال هنا في هذا المخزن عربات الترولي وفي ذاك المخزن ست عربات لوري، وهناك الوابورات (ملقحة) وعلى يمينكم بيت المدير والإدارة وعلى يساركم منازل الموظفين والعمال، وعلى رأس السكة فنطاس الزيت، وخلف التل البئر الأولى وفي الوهدة أمامكم البئر الثانية. ثم تقدمنا فتبعناه فشاهدنا برجاً عظيماً من الحديد قد أقيم فوق البئر ولا زالت الأحبال والعدد هناك كما تركها العمال منذ عشرين عاماً ونيف.
وكنت أتخيل الحارس وهو يعد محتويات أبي شعر كأنه الترجمان في منطقة سقارة أو الهرم وهو يرشد السائحين إلى مقابر الفراعنة وآثار الغابرين. وكنت أسائل نفسي في حيرة عن السبب أو الحكمة التي أملت هذا التصرف الغريب وعن العقلية التي أوحت بترك كل هذه الأدوات والعدد وثمنها لا يقل عن سبعين ألفا من الجنيهات كما قال الحارس ملقاة هكذا وسط الرمال طوال هذا الزمن حتى كادت تبلى ما دامت الحكومة قد قطعت الأمل من وجود البترول في هذه المنطقة.
وفي عام 1914 استحوذت شركة شل (أيضاً) على شقة طويلة من ساحل البحر جنوبي أبو شعرة بعشرة كيلو
مترات (فقط) في منطقة الغردقة، ثم حفرت فيها الآبار وأقامت عليها الأبراج وشيدت المعامل والمنازل وما إلى ذلك كما سيأتي وصفه.
وقد توجهنا لزيارة هذه الآبار عصر أحد الأيام برفقة صديقنا الدكتور محمود أبو زيد مفتش مصلحة المناجم وهو مندوب الحكومة لدى الشركة وله الأشراف على تنفيذ اشتراطات العقد بينها وبين الحكومة، وقد استقبلنا لدى وصولنا إلى الشركة وكيل المدير وهو إنكليزي، وبعد تبادلنا التحية أجاز لنا الزيارة، فتوجهنا إلى المعمل الفني ثم إلى منطقة الآبار، ويدير المعمل عالمان لهما دراية خاصة بالجيولوجيا الصناعية فيقدم لهما عينات من أنواع التربة التي تخرج أثناء عملية حفر الآبار فيبحثانها بحثاً مستفيضاً من حيث التكوين والعصر الجيولوجي التي تكونت أثناءه ونوع الحيوانات التي كانت تعيش فيها وهكذا، ثم يعمل بذلك رسم تمثيلي لكل بئر يدل على الترتيب الطبقي للقشرة الأرضية في مكان البئر ونسبة السمك لكل طبقة وغير ذلك من البيانات الدقيقة. ومن هذا الرسم والشواهد الجيولوجية(41/80)
المحلية يكون في مكنتهما أن يقدما للشركة بيانات صحيحة لدرجة كبيرة من الأمور الآتية
1 - صلاحيات المنطقة من حيث وجود البترول
2 - عمق الطبقات الخازنة له
3 - نوع البترول
4 - اتجاه البحث عند المشروع في اختيار مكان حفر البئر التالية.
ولهذا المعمل على صغره وسكون الحركة من حوله أهمية كبرى في نظر الشركة وذلك لعظم النفقات التي يتكلفها حفر البئر الواحدة، فقيمة ذلك تتفاوت بين ستة آلاف وعشرة آلاف من الجنيهات. وللقارئ أن يتصور فداحة الخسارة التي قد تصيب الشركة إذا سارت في حفر الآبار على غير هدى كأن تقوم بالحفر في منطقة رحل عنها البترول أو كانت الطبقة الخازنة له قليلة العمق ينضب معينه منها بعد وقت وجيز.
وقد انتهزت فرصة وجودي بالمعمل وسألت أحد العاملين عن رأيه في مسألة أصل زيت البترول، وهي من المسائل العلمية التي لم تقرر بعد بصفة قاطعة فأجاب انه في جانب النظرية التي تقول بأن البترول ناتج من انحلال مواد نباتية وحيوانية معاً.
خرجنا من المعمل قاصدين الآبار، وتقع في منطقة الاستنباط الأساسية عند سفح تل من حجر جيري
- المحطة نمرة 1 - وفي هذه النقطة حفرت الشركة أول بئر لها، وفد قيل لنا ان خروج الزيت منها كان بكميات عظيمة مكثت مدة تتدفق ليل نهار على هيئة نافورة، حتى أنها أغرقت من الأرض حولها مساحة كبيرة - ثم توالى بعد ذلك حفر الآبار شمالاً وجنوباً حتى بلغ عددها التسعين - وفي السنوات الأخيرة قل الناتج منها قلة ظاهرة دعت الشركة إلى الانتقال إلى المحطة نمرة (2) وهي تقع في شقة جبلية قريبة من البحر على مسافة كيلو مترين تقريباً جهة الشرق من المحطة الأولى. وعدد ما حفر من الآبار حتى وقت الزيارة بلغ سبع عشرة بئراً كلها تجود بزيت غزير.
وعملية حفر الآبار من العمليات الهندسية الدقيقة، وقد شاهدنا بئراً في دور الحفر في المحطة الثانية وقد أقيم عليها برجاً من الحديد لا يقل ارتفاعه عن عشرين متراً تتدلى من قمته أحبال من الصلب معلقة في بكرات ووقف في البرج حول البئر المهندس والعمال(41/81)
وكانوا يدخلون في جوف الأرض أنبوبة طويلة من الصلب، ومصدر الحركة من البرج طارة كبيرة من الخشب تديرها ماكينة قوية وقودها الزيت الثقيل.
وعلى خبرة المهندس وبراعته يتوقف نجاح حفر البئر فمثقاب ثقيل صاعد هابط وأنابيب ترسل في جوف الأرض إلى عمق ألفين وربما ثلاثة آلاف من الأقدام الواحدة تلو الأخرى في استقامة رأسية، وإشارات المهندس يتلوها أفعال وأعمال بأوضاع مختلفة مؤتلفة. والمثقاب دائب الحركة داخل الأنابيب، وفتات الصخور والرمال ترتفع من باطن الأرض إلى سطحها بطرق ميكانيكية وبصيرة المهندس تلحظ ما هو جار في الأعماق فتصلح أي انحراف يطرأ على اتجاه الأنابيب أو تسد بالسمنت ما قد يحدث من الثغرات في جدرانها حتى لا يتدفق فيها ماء الرشح أو يتسرب منها الرمل فتفسد البئر، ويستمر العمل جارياً هكذا مدة ثلاثة شهور أو أربعة وأحياناً عشرة حتى يصل المثقاب إلى طبقة البترول، وهنا يسير العمل بحذر شديد وبعناية كبيرة، وتتجلى في هذا الدور ألمعية المهندس في توقيه ما قد يحدث أحياناً من انبثاق الزيت وهو تحت ضغط هائل من الأعماق السحيقة إلى وجه الأرض بشدة عظيمة تخرب البئر وتقذف الأنابيب والأدوات في الهواء إلى علو كبير، وتغرق الأرض بكميات كبيرة من الزيت يذهب معظمه هباء وتكون الخسارة افدح لو اتصلت النار بهذا الزيت فنشب حريق هائل قد يلتهم باقي الآبار ومستودعات البترول ومباني الشركة. للمهندسين طرائق مختلفة لاجتناب هذه الكارثة - فإذا اجتاز الحفر هذه الخطوة الدقيقة ووصل المثقاب إلى الزيت نفسه رفع المثقاب وأدليت مكانه مضخة ماصة كابسة تستقر وسط الزيت على عمق لا يقل في المتوسط عن 600 متر، هذا إذا كان ضغط الغازات في باطن الأرض عاديا، أما إذا كان الضغط كبيرا فان الزيت يستمر متدفقا داخل الأنابيب من نفسه مدة طويلة حتى يهبط ضغطه، وعندئذ تدار المضخة بواسطة محركات قوية فيخرج الزيت على هيئة سائل كثيف لونه اسمر داكن مشبع بغازات فوارة ومختلط بدقائق الماء الملح وبعض المواد الصلبة والأملاح فيرسل في أنابيب إلى أجهزة خاصة لتنقية مما فيه فتنفصل عنه أولا الغازات الخفيفة التي ينتفع ببعضها محليا كوقود ثم تفصل عنه الأملاح بغسله بالماء الغذب في أحواض مقفلة ثم يفصل عنه الماء بطرق كهربائية في مصنع كبير مشيد بالقرب من الآبار، ومن جهازات التنقية يذهب الزيت إلى(41/82)
مستودع كبير بالقرب من الميناء لتخزينه بها حتى شحنه في السفن للسويس لتكريره وفصل مركباته عن بعضها كزيت الإضاءة وزيت الوقود والبنزين وغير ذلك - ويبلغ الناتج اليومي من البترول الخالص في حقل الغردقة 600 طن يصيب الحكومة منه نحو 60 طنا وذلك قيمة الضريبة.
يتبع
الدمرداش محمد(41/83)
العالم المسرحي والسينمائي
فن التنكر -
وعلاقته بالإضاءة المسرحية
تحدثنا في الأسبوع الماضي عن فن التنكر من الوجهة العامة بحيث لوضحنا أهميته وخطره للممثل الذي يريد أن يتقن عمله المسرحي الإتقان الفني المنشود ليستطيع ان يخرج الشخصية التي يمثلها الإخراج الصحيح المطلوب من الممثل الكفء. وقد رأينا سعة الدائرة التي يشملها هذا الفن حتى ليتطلب الإلمام به دراسة شاملة دقيقة بعضها يتصل بعلم النفس، وبعضها يتصل بعلم التشريح والطب، وبعضها يتصل بدراسة الأجناس المختلفة المبعثرة على سطح هذه الأرض. ونتحدث في هذا الأسبوع عن فن التنكر من إحدى نواحيه الفنية اعني من حيث علاقته بالإضاءة المسرحية. فالأصباغ والأدهنة التي يستخدمها الممثل في تنكره تتألف من الوان مختلفة متعددة، ومن الثابت أن الألوان لها علاقة وثقى بالضوء، وشتان ما بين الأضواء الصناعية والضوء الطبيعي الذي يكسب الأشياء مظهرا خاصا ولونا خاصا لا يمكن أن يكون لها تحت الأشعة الصناعية، وليس ثمت ضوء صناعي يظهر الأشياء بنفس المظهر الذي يكون لها تحت أشعة الشمس في وضح النهار، لذلك كان لزاما علينا أن درس هذه العلاقة بين اللون والضوء حتى نستطيع في المسرح أن نعطي الضوء المناسب وقد أدخلت في السنوات الأخيرة تحسينات كثيرة على الإضاءة المسرحية سواء من الوجهة الفنية أو الآلية، وتكاد تكون لكل مخرج طريقته الخاصة به ونظرياته التي يبتكرها تارة أو يستنبطها من تجاربه المتوالية تارة أخرى. ولسنا بصدد شرح هذه النظريات، فنتركها إلى البديهيات التي لا محل فيها للاختلاف.
والان نضع هذا السؤال: كيف نرى الأشياء ونميز ألوانها المختلفة؟ حاسة النظر هي التي تودي لنا هذه الغاية بواسطة الضوء. وهذا ثابت من الحقيقة المعروفة إذ لا يمكن أن نرى شيئا من الأشياء إلا إذا سلطنا عليه ضوء طبيعيا أو صناعيا، فإذا لم يكن هناك هذا الضوءلم نستطع رؤية شيء. وادخل غرفة مظلمة وحاول أن تميز ما فيها فلن تستطيع مهما كنت حاد البصر، مع أن الغرفة ملأى بما فيها من أثاث وأدوات وغيرها. وعود من الثقاب تستطيع بلهبه، الذي يشع ما نسميه بالضوء تمييز ما في هذه الغرفة. واكثر ما في(41/84)
هذا العالم من الأشياء لا يشع ضوءاً ذاتيا، وتسمى بذلك بالأجسام غير مضيئة، والبعض الآخر له القدرة على الإشعاع الذاتي وتسمى بالأجسام المضيئة. وهذه الأجسام كالشمس والمصباح واللهب ترى بواسطة الضوء الذي تشعه، ويتألف هذا الضوء من ذرات مضيئة يصل بعضها إلى شبكة العين فيؤثر فيها هذا التأثير الخاص أما الأجسام غير المضيئة فأنها تتراءى للعين لعلة واحدة وذلك بسبب مالها من الخاصية في عكس الأضواء التي تنصب عليها من الأجسام المضيئة. وعلى ذلك فان الأشياء التي تراها إنما تبين لناظريك عن طريق الضوء الذي تعكسه على شبكة العين. وتتوقف درجة وضوحها ومداها على طبيعة وحجم الأجزاء العاكسة للضوء فيها، وعلى مقدار الضوء المتسلط عليها، وعلى المدى الذي بينها وبين العين والأجسام المضيئة تبدو كأنها تزداد حجما كلما زاد ضوئها بريقا وقوة، وإذا نظرت إلى شيئين متساويين في الحجم أحدهما مضيء والثاني مظلم بدا الأول اكبر حجما من الثاني. ومن المسلم به إن الضوء الأبيض، كما يسمونه في الاصطلاحات العلمية، يتألف من جميع الألوان الموجودة في الطبيعة أو التي يمكن خلقها صناعيا، ومن الميسور تفريق هذه الألوان بعضها عن بعض، كما انه من الميسور مزجها من جديد فيعود للضوء لونه الأصلي. وهذه الألوان المختلفة يمكن تقسيمها إلى ستة الوان رئيسية هي: الأحمر والبرتقالي والأصفر والأخضروالأزرق والبنفسجي. ولكل من هذه الألوان طبيعته، ولكل منها موجته وخواصه إلى غير ذلك مما لسنا بصدده. ولكن يهمنا هنا أن نقرر أن جميع الألوان ليست إلا نتاجا للضوء في انعكاسه من سطح المنظور على شبكة العين. فالأشياء التي نراها ليست لها الوان ذاتية في الحقيقة، ولكنها تكتسب ألوانها التي نراها ونصفها من طريق الانعكاس الضوئي. أو نقول بعبارة أخرى، إن اللون ينتج من الضوء الواقع على الشي المنظور. وما نسميه بالألوان الطبيعية للأشياء يرجع إلى الحقيقة المقررة من أن كل منظور يعكس على العين لونا من الألوان الموجودة في الضوء الأبيض المسمى بالضوء الكامل لانه يتألف من جميع الألوان والأجسام غير المضيئة خاصة تمييز أو امتصاص الضوء المتسلط عليها. وهذه الخاصية لها قوة الاختيار، أي إنها تمتص بعض الوان الضوء وتعكس البعض الآخر. وعلى ذلك فلون شيء من الأشياء يرجع في حقيقته إلى طبيعة اللون الضوئي الذي لم يمتصه المنظور وعكسه على العين. فمثلا، إذا امتص(41/85)
المنظور كل الضوء المتسلط عليه بدا المنظور اسود اللون وإذا عكس كل الضوء بدا ابيض اللون. فالمنظور الذي يبدو احمر اللون تحت الضوء الأبيض يكون قد امتص سائر الألوان الضوئية ولم يعكس منها إلا الأشعة الحمراء، فطبيعة اللون الذي يبدو للمنظور تتوقف على الضوء الساقط عليه، فإذا فرضنا إن الأشعة التي يعكسها المنظور معدومة في الشعاع الساقط عليه أو قليلة المقدار بداالمنظور قاتما أو غير تام الوضوح. ومن المعروف انه لا يمكن الحكم على الوان الأشياء حكما صادقا تحت الأشعة الصناعية. وذلك لان هذه الأشياء تكون في هذه الحالة معرضة لضوء لا تحتوي على كل الألوان الضوئية، ولذلك لا يمكن لهذه الأشياء أن تعكس جميع الألوان التي تعكسها تحت الضوء الطبيعي والضوء اللون ضوء ناقص، أي انه ينقصه لون أو جملة الوان من تلك التي يحتويها الضوء الأبيض الكامل.
وهذه الكلمة الموجزة عن طبيعة الضوء إنما تعيننا على فهم الإضاءة الصناعية المستخدمة في المسرح وعلى الاستفادة منها بحيث نتسلط عليها كل التسلط ونوجهها الوجهة التي ننشدها لنخرج منها على خشبة التمثيل ما نشاء من الصور والأخيلة التي نريد أن نبرزها للتفرج.
ولما كان التنكر المسرحي أساسه أصباغ وأدهنة ملونة، يستخدم كل لون منها لغاية مخصوصة محدودة، فان العلاقة بين فن التنكر والإضاءة المسرحية تبدو واضحة جلية.
محمد علي حماد(41/86)
العدد 42 - بتاريخ: 23 - 04 - 1934(/)
العام الهجري
1353
منذ أسبوع قلب الدهر المسجل صفحة ثلاث وخمسين وثلثمائة وألف من تاريخنا المجيد المشرق. قلبها هذه المرة وهو حافل حاشد يرصد فلك الإسلام، ويرقب حركة العرب، ويجمع الأُهبة لتسجيل ما يتوقع من أحداث الأمة المبعوثة، والبطولة الموروثة، والعروبة الناهضة!
وكان منذ تفجرت في وجوهنا الأهوال، واغبرت في عيوننا الآمال، وأخلد إلى الجِمام سلطاننا الجاهد، يقلب الصفحة بعد الصفحة، فلا يجد ما يسجل غير أنَّات العاني، ونشجات الباكي، وخلجات الجناح المهيض، حتى أوشكت حياتنا الخالفة أن تكون لَحّقا من البؤس والهُون لكتاب آبائنا الجليل المحكم! ولكن الأمة العربية التي تمتد جذورها في أعماق الأزل لابد من ربيعها وإن طال الخريف!
فالحياة المتجمعة في الأصل الثابت أخذت تشيع في الجذع وتنتشر في الفروع، والظلال الحاسرة في العهد الجديب جعلت تمتد إلى القفر وتنبسط في الربوع، وأشبال الفاتحين الذين غيروا وجه الأرض، وحرروا موازين العدل، قد هبوا ينفضون عن المعدن الكريم غبار الزمن، ويمسحون عن الجوهر الحر عبث العوادي، ويعودون إلى مكانهم من رأس القيادة وصدر العالم!
ففي مصر تضطرب الحياة الجديدة في البراعم النابتة، وتضطرب نوازي الكمال في النفوس الهامدة، ويفيض نبل الإحساس في صدور الناس فيكفكفه وا أسفاه طغيان الغاضب، وتكدره وا حسرتاه بقايا العهد الذليل!
وفي فلسطين تدافع العروبة جراد أوربا المحاق، وتصارع الاستعمار المسلح الخاتل، وتطلب عز الحياة بعز الممات وشرف التضحية.
وفي سورية يقظة عاملة فطنة، تداور خصمها بالصبر، وتواثب جشعه بالحزام، وتقابل نفعه بالجذر، وتصارح هوجه بالنخوة. وتتجهز للمستقبل الباسم القريب بجهازه
وفي العراق (أمة تنشئ الحياة، وتبني الملك، وتلحق الزمن) وتصل ما انقطع بين ماضٍ ضخم وحاضرٍ نزوع، وتنبض بالحيوية العربية المتجددة نبضان القلب الفتي الطموح(42/1)
وفي الجزيرة موطن الأسرار ومهبط الوحي ومشرق الدين ومنبت العبقرية تخطر العروبة في مطارف العز بين سرير الإمام وعرش المَلِك! وإذا نزت بين الأخوين نوازي الخلاف فذلك حفاظ ينتهي إلى السلم، تعود إلى السلامه، وإن في إصاختهما إلى دعوة الداعين إلى الصلح في أقطار العرب لدليلا على اتجاه الميول إلى الوحدة، وإصغاء القلب إلى الجماعة وفي الجزائر ومراكش قلوب تذوب من حرارة الظلم، ورءوس تدور من خَدَر السياسة، وشهداء في سبيل الوطن والدين يخطون لأبنائهم بدمائهم وصية المستقبل! وسائر المسلمين في تركية وإيران وأفغانستان والهند والصين وأندوسيا وروسيا ويوغوسلافيا يشعرون بالتطور الجديد، وينظرون إلى الأفق، ويتمنون أن يعود الإسلام كما بدأ مرفوع الراية، مجموع الرأي، مسموع الكلمة! والأمر في الجملة يدل على نور ينبثق من جديد في أمة محمد، وروح ينبعث في مملكة الرشيد، وشعور يتألف من هذه الروح وذلك النور فيجمع قلوب الاخوة المتفرقين على هوى واحد!
حسبُنا مطلع العام الهجري موقظا للشعور وحافز للهمم وهادياً إلى شرف الغاية. يستقبله المسلم الذاكر فتعاوده ذكريان تجددان دينه وتثبتان يقينه وتقومان خلقة: ذكرى هجرة الرسول في سبيل الدين، وذكرى مقتل الحسين في سبيل الحق! فأما هجرة الرسول فقصيدة من قصائد البطولة القدسية لا يفتر عن إنشادها الدهر! استمدت وعيها من روح الله، ونسجها من خلق الرسول، وسيرها من صدق العرب! واستقرت في مجامع الأجيال مثلا مضروبا لقواد الإنسانية، يلهمهم الصبر على مكاره الرأي، والاستمساك في مزالق الفتنه، والاستبسال في مواقف المحنة، والاستشهاد في سبيل المبداء، والاعتقاد الصادق بفوز الفكرة
بلَّغ الرسول ما أنزل إليه من ربه وقد تألبت عليه جهالة العصبية، وحماقة الشرك، وسفاهة الحسد، وعداوة المنافسة، وحرمان الفقر، وخذلان القلة، فما استكان ولا وهن؛ ثم نبْت ففار مكة على الغراس الإلهي فهاجر به تحت عين الله إلى طيبة!
وهنالك؛ الصبر والصدق والأيمان والرجولة، أثمر غرس الدعوة، وتم نور الله، وأصبحت القلة ملة، وصارت كل قرية من القرى الثلاث قارَّة
وأما مقتل الحسين فلا يزال صكاً دامياً في سجل التأريخ، يثبت أن العربي الحر لا تلهية(42/2)
عن نداء الواجب زهرة الحياة، ولا ترده عن طلب الحق كشرة الموت.
فإذا انتفع العرب والمسلمون بهاتين الذكريين، وجعلوهما كما هما في رأس العام رمزين على الجهاد الواصب في سبيل العقيدة، والاستشهاد المروع في سبيل الحق، عاد أمرهم يجري مع الشمس، ويسري مع الروج؟ ويتغلب أخيراً مع الحق!
احمد حسن الزيات(42/3)
من حديث الشهداء
للدكتور طه حسين
لم يذكر في تلك الليلة ماضيهم الحلو، وحاضرهم المر، ويستمتعون فيها عن أوطانهم تلك النائية التي كانوا ينعمون فيها بلذات الحياة، ويستمتعون فيها بخفض العيش، ويسيرون سيرة الأحرار لا يعرفون لأحد غير قيصر وعماله عليهم سلطاناً، وقد يعرف لهم غيرهم كثيرا من السلطان والبأس، وقد يقدم إليهم غيرهم كثيرا من آيات الطاعة والإذعان. ولم يسمروا بهذه الأحاديث التي تعودوا أن يسمروا بها إذا فرغوا من أعمالهم وانصرفوا إلى راحتهم ولقي بعضهم بعضا حين ينقضي النهار ويتقدم الليل، والتي كانوا يستعيدون بها حياتهم تلك الجميلة المشرقة، ويستحضرون بها مواطن لذاتهم ونعيمهم، هناك حيث لا يشتد القيظ حتى ينضج الجلود ويصهر الأجسام، وحيث لا تقع العين على الجبال الجرد والوهاد المقفرة، وحيث لا تضيق الأرض بالناس ولا يضيق الناس بالأرض، وحيث يستقبل الناس أيامهم راضين باسمين، ويستقبلون لياليهم لاهين عابثين. كلا ولم يسمروا في تلك الليلة بما كانوا يسمرون به من ذكر الفاتنات المفتونات اللاتي كن يحولن حياتهم أحلاماً ويجعلن جدهم لعباً، ويسرين عنهم كل هم، ويغرين بهم كل نعيم، يخلبنهم بالفظ واللحظ، ويعذبنهم بالذل والتيه، ويسعدنهم بالقرب والوصل، كلا ولم يسمروا في تلك الليلة بأحاديث قيصر وقصره، ولا بأنباه الحاكم وحاشيته، ولا بقصص الحرب بين الفرس والروم، وأين هم الآن من قيصر وقسطنطينية؟ وأين هم الآن من تلك الثغور الباسمة القوية التي كانت تبسم لأهلها كأنها الجنات، وتعبس لأعدائها كأنها الجحيم. وأين هم الآن من الفرس والروم؟ وأين تكون مكة من ميادين الحرب بين الفرس والروم؟ كلا. ولم يسمروا في تلك الليلة بما كانوا يسمرون به أحياناً من أحاديث ساداتهم ومواليهم، ومما كان يتصلبينهم من التنافس والجهاد، ومما كان يدبر بينهم من الكيد والمكر، ومما كان يجتمع لهم من الغنى والثراء، ومما كان يلم بهم من الحوادث والخطوب كلا، ولم يسمروا في تلك الليلة بما كانوا يسمرون به أحياناً من أحاديث هذه القوافل التي تفصل من مكة إلى الشام، فتمضى معها نفوسهم تسايرها في تلك الطرق البغيضة التي يذكرون طولها وثقلها حين قطعوها عناة أذلاء يساقون إلى مكة عبيداً أرقاء، والتي كانت تعود إلى مكة قافلة من الشام تحمل من أرض قيصر أنباء(42/4)
مختلطة وأحاديث مشوهة مضطربة، ولكنهم كانوا يتلقفونها ثم يتناولونها بالتأليف والتصنيف، وبالتحليل والترتيب، حتى يكونوا منها شيئاً مستقيماً أو كالمستقيم: ثم يتخذون منه علما بأمور أوطانهم تلك التي لم يبق لهم اليها سبيل.
كلا. لم يسمروا في تلك الليلة بشيء من هذا، لأن أحاديث مكة شغلتهم عن كل هذا، وما لها لا تشغلهم وصاحبهم نسطاس قد اشترك فيها وأثار كثيرا منها، وها هو ذا قد اتخذ مكانه بينهم كئيباً كاسف البال، محزوناً بادي الحزن، قد اضطربت نفسه أشد اضطراب. وهو يتحدث إليهم في صوت متقطع مظلم كأنما أسبغ الحزن والندم واليأس عليه ظلمة كثيفة متراكمة لا تنكشف عن شيء. وما له لا يكتئب ولا يبتئس، وماله لا يحزن ولا يندم، وما له لا يفزع ولا يجزع، وقد سفكت يده المسيحية دما بريئا ولما ينتصف النهار: أو كان هؤلاء النفر جماعة من نصارى الروم دفعوا إلى بعض أطراف الصحراء وعدت عليهم بعض القوافل فاتخذتهم تجارة، وتقلبت بهم ظروف الرق حتى انتهوا إلى ملك جماعة من سادة قريش. وكان نسطاس أنقاهم ضميراً. وأصفاهم قلباً، وأعظمهم حظاً من الدين. وكان لهذا كله أصبرهم على ما ألم به من كرب، وأحسنهم احتمالا لما سلط عليه من محنة، ورضى بهذا النكبة التي كان ينظر إليها على أنهااختبار له، وابتلاء لأيمانه، وامتحان لثقته، وتهيئة لنفسه لتحيا حياة السعداء إذا انقضت إقامتها في هذا العالم الشقي البغيض. ولكنه أظهر في تلك الليلة غير ما تعود أن يظهر لأصحابه من الجلد والصبر، ومن الإباء والاحتمال، وهم يعرونه ويرفقون به في العزاء، وهم يلومونه ويعنفون عليه في اللوم، وهم يأتون نفسه من جميع أنحائها يريدون أن يصرفوها عن هذا الحزن العميق، وأن يصرفوا عنها بعض الهم الثقيل، ولكنهم لا يبلغون منه شيئاً ولا يزيدونه إلا إغراقاً في الحزن وغلواً في اليأس، وربما بلغوا بأحاديثهم قرارة نفسه فأثاروها ودفعوه إلى الحديث فإذا هو يتكلم بكلام تقطعه العبرات وتبلله الدموع. وكان نسطاس ملكاً لصفون بن أمية، وكان قد أنفذ في ذلك اليوم أمره في أسير من أسرى الأنصار يقال له زيد بن الدثنة دفعه إلى صفوان وأمره أن يخرج به من الحرم، حتى إذا بلغ به النعيم قتله ثم عاد، ولم يكن مثل هذا العمل يحبب إلى نسطاس، ولكنه لم يكن خليقاً أن يدفعه إلى مثل هذا اليأس المهلك لولا أنه عرف من أمر أسيره وصريعه، ومن أمر أصحابه ما عرف، ولولا أنه رأى من أمر زيد ما رأى،(42/5)
وسمع من أمر خبيب ما سمع، وانتهت إليه أحاديث أولئك الذين أدركهم الموت قبل أن يحملهم إلى مكة ويبيعهم لقريش غدر الغادرين من هذيل. ولكنه عرف ما عرف، ورأى ما رأى، وسمع ما سمع. فذكر أموراً كان يقرؤها في الكتب، وأحداثاً كان يهلع لها حين يسمع أبناءها من الوعاظ. ذكر أولئك الشهداء الذين قتلوا في المسيحية تقتيلا، والذين امتحنوا بما كتب الله عليهم من ضروب المحن وفنون الكيد فلم تضعف نفوسهم ولم تهن عزائمهم ولم يفرطوا في دينهم ولم يجد الشك إلى نفوسهم سبيلا. ذكر أولئك الشهداء الذين أقاموا مجد المسيحية على أشلائهم وغذوه بدمائهم، وقووه بضعفهم، وأعزوه بما احتملوا في سبيله من الذل، وأيدوه بما لقوا في سبيله من الأذى والآلام. ذكر أولئك الشهداء الذين كان يكبرهم ويجلهم، ويرى أنهم شفعاؤه وشفعاء أمثاله عند الله، وانهم قدوته الصالحة وأسوته الحسنة ومثله الأعلى، وانه أسعد الناس لو استطاع أن يظفر ببعض ما ظفروا به من عذاب الدنيا ونعيم الآخرة؛ ومن ذل الدنيا وعز الآخرة؛ ومن هذا الموت الهين السريع الذي تتبعه حياة باقية سعيدة متصلة لا حد لما فيها من نعيم.
ذكر هؤلاء الشهداء وذكر أنه لم يزد حين أطاع أمر مولاه صفوان على أن قتل واحداً منهم، واقترف ذلك الإثم الذي اقترفه الظالمون الذين اضطهدوا الشهداء وفتنوهم؛ ثم قدموهم قرباناً إلى آلهتهم وأوثانهم في الزمن القديم. هنالك اضطربت نفسه اضطراباً، وزلزل قلبه زلزالا، ورأى حياته كلها وقد استحالت إلى شر منكر، ورأى ما قدم من الخير وقد استحال إلى فساد، ورأى ما احتمل من الآلام وقد أصبح هباء. وهنالك ملك الندم عليه أمره، وملأ اليأس عليه قلبه، وعجز أصحابه عن أن يمسوا نفسه بما كانوا يقدمون إليه من تسلية أو عزاء. على انه لم يكن يحس في نفسه شيئاً من الموجدة على مولاه صفوان، ولم يكن يضمر شيئاً من البغض، إنما كانت موجودته كلها وحقده كله قسمة بين نفسه وبين امرأة من قريش، وهي سلافة بنت سعيد بن سهم زوج طلحة ابن عبد الله بن عبد العزى. كان واجداً على نفسه أشد الموجدة، مبغضاً لها أشد البغض لأنها أثمت بقتل هذا الرجل الشهيد، وكان حانقاً على سلافة حاقداً عليها لأنه هي أصل هذا الشر، ومصدر هذا الإثم، ومنشأ هذا البلاء وكان يقول لأصحابه: لولا أن هذه المرأة الآثمة نذرت ما نذرت، وأذاعت ما أذاعت من أهل البادية، لما دفع صفوان إلى ما دفع إليه، ولما ظفر صفوان بما ظفر به، ولما اشترى(42/6)
اسيره، ولما أنفذت أمره فيه. قال أصحابه وما نذر سلافة وماذا أذاعت في الأعراب؟ قال أتذكرون يوم حشدت قريش لحرب صاحبها في يثرب كيف كان أشراف مكة موتورين يأكل قبلهم الغيظ، وتملأ نفسهم الحفيظة، وتضطرب أمامهم أشباح الخزي يذكرون هزيمتهم حين لقوا صاحبهم لأول مرة ففعل بهم الافاعيل، وترك من أشرافهم صرعى لم يثوبوا إلى أهلهم ولم يستمتعوا بتجارتهم تلك الرابحة التي أنقذها أبو سفيان. ويشفقون أن يتراءى لهم الموت فلا يثبتوا له ولا يقدروا على النظر إليه فيفروا منهزمين كما فروا من قبل. ويتركوا صرعى من أشرافهم كما تركوا مثلهم من قبل.
هنالك اجمعوا أمرهم على أن يتقووا بالنساء ويتقوا بهن الهزيمة والعار، فاختاروا منهن أعلاهن قدراً وارفعهن شأناً وأنبههن ذكراً وأقدرهن على دفع الرجال إلى غمرات الموت. وكانت سلافة بين هؤلاء النساء، خرجت مع زوجها وبنيها الثلاثة، وعادت مع المنتصرين أيما ثكلى قد فقدت زوجها وفقدت بنيها.
ثم سكت نسطاس كأنما يستحضر هولا يروع النفوس ويخلع القلوب. ثم عاد إلى حديثه في صوت هادئ بعيد فقال: إن كانت لوقعة مروعة حقاً تلك التي كانت عند يثرب. لقد عادت قريش تتحدث بالأعاجيب، لقد عادت تتحدث بالإخوان يسعى بعضهم إلى بعض بالموت. لقد عادت تتحدث بالأمهات يدفعن أبناءهن إلى أن يقتل الرجل منهم أخاه. لقد عادت تتحدث بأم مصعب فما كان لها أن تظهر عليه حزناً أو جزعاً لأنه كان من خصم قريش وأصحاب محمد، لقد عادت قريش منتصرة تتحدث بأمر سلافة هذه وقد فقدت زوجها وتلقت ابنيها أحدهما بعد صاحبه يبلغها وقد أصابه السهم فتضع رأسه على حجرها وتسأله يا بني من أصابك؟ فيقول ما أدري، ولكن سمعت قائلاً يقول: خذها وأنا بن الأفلح. ثم أصابني السهم، يقول ذلك ثم يجود بنفسه بين ذراعيها. هنالك نذرت سلافة لئن قدرت على قاتل ابنيها لتشربن في قحف رأسه الخمر، وهنالك أذاعت في أهل البادية وأعراب الحجاز أن من جاءها برأس ابن الأفلح هذا فله مائة من الإبل. هذا أصل الشر وهذا مصدر البلاء.
قال قائل وأي شيء لا يفعله الأعراب في سبيل جزور فضلاً عن عشرة من الابل، فضلاً عن مائة من الإبل؟ قال نسطاس: والغدر أيسر ما يفعله الأعراب ليبلغوا أيسر من هذا المال.(42/7)
أقبل جماعة من هذيل على صاحب يثرب فزعموا له انهم قد آمنوا به وأسلموا له، وان دينه قد فشا فيهم، وسألوه أن يرسل معهم من يفقههم في الدين ويعلمهم شرائعه. يظهرون الإخلاص ويضمرون الغدر، لا يبتغون إلا أن يظفروا بنفر من أهل يثرب يبيعونهم من قريش لتصيب بهم ثأراً وليصيبوا بهم مالاً. ويريد الله لأمرٍ قضاه أن يختار نبي يثرب ستة من أصحابه وأن يؤمر عليهم عاصم بن ثابت بن الأفلح الذي كانت تبتغيه سلافة، وان يرسل هؤلاء النفر من أصحابه مع أولئك الغادرين. فما هي إلا أن يقربوا من مكة حتى يظهر الخفي ويصرح الشر ويتبين الغدر. وإذا الذين كانوا يعلنون إيمانهم يستصرخون فيأتيهم الصريخ من هذيل. وإذا أصحاب محمد يرون الغدر فينحازون إلى الجبل ويعاهدهم أعداؤهم على ألا يقتلوهم ولا يمسوهم بأذى أن هم ألفوا بأيديهم. فأما عاصم واثنان من أصحابه فيقسمون لا ينزلون على عهد كافر أبداً. ويقاتلون حتى يقتلوا. وأما الآخرون فيحبون الحياة ويلينون لها، فيستأسرون ولا يكادون يفعلون حتى يروا الغدر، فيأبى أحدهم أن يتبع الغادرين وإذا هو مقتول، ويبقى الآخران أسيرين يحملان إلى مكة ويباعان فيها. فيشتري أحدهما صفوان ويأمرني به فأتم له ما قدر له من نعيم، ويتم لي ما قدر لي من شقاء.
ثم يجهش نسطاس بالبكاء ويغرق فيه حينا. ثم يعود إلى حديثه في صوته ذلك الهادئ البعيد، فيقول لقد عرفت ورأيت من أنباء هؤلاء الناس ما لم أكن أقدر أن أعرف أو أرى. ولولا أن الشقاء مقضي علي ومقدور لي، لكان فيما عرفت قبل أن أقترف الإثم صارف لي عن اقترافه، وماذا كنت أخاف لو عصيت صفوان ولم أسفك هذا الدم الحرام؟ وأيهما أهون عليّ؟ وأيهما كان خليقاً أن أوثره؟ الموت بيد صفوان أم الشقاء الأبدي الذي دفعت إليه؟
لقد فرحت هذيل بمقتل عاصم بن ثابت، وقالت مائة من الإبل تدفعها إلينا القرشية حين نأتيها بهذا الرأس، ثم أقبلوا إليه يريدون أن يحتزوا رأسه؟ ولكن ماذا سمعت وماذا تسمعون، هذه ظلة من الدبر تقوم دونه فتحميه وتمنعهم أن يصلوا إليه، فيقول بعضهم لبعض: دعوه حتى يأتي الليل فسنصرف عنه هذه الدبر، وسيخلص لنا رأسه. حتى إذا كان الليل هموا أن يسعوا إليه ليحتزوا رأسه؛ ولكن ماذا سمعت وماذا تسمعون؟ لم يبلغوه ولم يمسوه، وإنما أقبل السيل فاحتمله، ومضى به إلى حيث لا تبلغه يد. ولقد حدثت أن هذا(42/8)
الرجل كان قد نذر ألا يمس كافراً ولا يمسه كافر، ولقد حدثت أنه لما امتنع على القوم فقاتلهم وقاتلوه، رفع صوته ضارعاً إلى ربه وهو يقول: اللهم إني قد حميت دينك أول النهار فاحم لحمي آخر النهار. ولما بكى نسطاس عند هذا الحديث فلم يبك وحده، وإنما بكى معه أصحابه جميعاً بكاء طويلا، حتى إذا كفكفت عبرته وهدأ عنهم البكاء مضى في صمته، ولكنهم ألحوا عليه أن يتم ما بدأ من الحديث، فقال وبم تريدون أن أتحدث إليكم؟ لقد كنت أقرأ أخبار شهدائنا وأسمع أحاديثهم فأرهبها وأكبرها وأخافها وأرغب فيها وأود لو أني حييت في تلك الأيام التي كانت ترخص فيها الحياة، ويغلو فيها الإيمان، وأود لو أني كنت واحداً من هؤلاء الناس الذين باعوا نفوسهم من الله، فقد أُتيح لي اليوم أن أعيش في بيئة الشهداء وأن أراهم وأتحدث إليهم وأسمع منهم، ولكني لم أبع نفسي من الله، وإنما بعتها من الشيطان، ولم أسفك دمي في سبيل الله، وإنما سفكت دم شهيد كريم.
ولقد سمعت أبا سفيان زعيم قريش يسأله أيما احب إليه؟ أن يقوم محمد مقامه هذا وأن يكون هو آمنا بين اهله؟ فيجيبه والله ما احب أن تصيب محمداً شوكة تؤذيه وأنا آمن بين أهلي، فيقول أبو سفيان لمن حضر من أشراف قريش: ما رأيت أحداً يحب أحداً كما يحب هؤلاء الناس صاحبهم. ثم تمتد يدي الآثمة إلى هذه الحياة الطاهرة فنطفئ سراجها، والى هذا الدم الزكي فتسفكه على الأرض مخافة من غضب صفوان، يا للهول! لقد كنت احسب أن صفوان لم يملك إلا جسمي وان نفسي ما زالت حرة. فقد علمت الآن إني رقيق حقاً، وقد علمت الآن أن سلطان السادة على الأرقاء قد يتجاوز الأجسام إلى النفوس، وقد علمت الآن أن الرجل الذي يرضى بالرق ولا يموت دون الحرية إنما يقتل نفسه قتلا. لقد قتلت نفسي يوم آثرت الحياة وقبلت أن أكون سلعة في يد أولئك التجار.
قال رجل من أصحابه إن كان صريعك هذا شهيداً كريماً، وما أراه إلا كذلك، فان رفيقه الذي قتله بنو الحارث بن عامر لم يكن أقل منه كرامة، ولعل مصرعه أن يكون أشد من مصرع صاحبه ترويعاً للنفس وتمزيقاً للقلب، لم يبسطوا عليه بالشر يد مولى من مواليهم أو عبد من عبيدهم، وإنما كانوا ظماء إلى دمه، حراصاً على أن يخمدوا جذوته بأيديهم خرج به جمعهم إلى التنعيم فلما أراد قتله استأذنهم في أن يتقرب إلى ربه بالصلاة قبل أن يخطو آخر خطواته في الحياة، فأذنوا له فصلى ركعتين، ثم قال لهم لولا أني أخاف أن(42/9)
تظنوا بي الجزع لزدت. ثم ينهض إليه أحدهم فيقتله ويعودون عنه وانهم ليتحدثون من أخلاقه وخصاله بما كان خليقاً أن يصرفهم عن قتله لولا أن قلوبهم قست فهي كالحجارة أو أشد قسوة. لقد كانوا يقولون انهم جعلوا سجنه عند امرأة منهم، وان هذه المرأة كانت تتحدث إليهم من أمره بالأعاجيب، كانت تراه مغلولا يأكل من الفاكهة والثمر ما ليس لأهل مكة عهد به في مثل هذا الوقت. لا تدري كيف سيق إليه. ولقد أنبأتهم انه حين أظله اليوم الذي كان يراد قتله فيه طلب إليها موسى يتهيأ بها للموت. فأرسلتها إليه مع طفل صغير يدرج، ثم لم تلبث أن راعها ما فعلت، وان امتلأ قلبها رعباً، وان قالت لنفسها ما يمنع هذا الأسير أن يقتل هذا الصبي فيثأر بنفسه قبل أن يدركه الموت؟ وأقبلت عليه مسرعة فإذا هو قد اجلس الطفل على فخذه وهو يداعبه ويلاعبه، وأكبر الظن أنه إنما كان يودع فيه طفلاً له بعيداً. فلما رأى المرأة مقبلة وقد أخذها الروع ابتسم لها ابتسامة الحزن، ونظر إلى الطفل نظرة الحب، وقال للمرأة: أشفقت على هذا الصبي من الغدر، ليس الغدر من أخلاقنا
أفمثل هذا الرجل كان خليقاً أن تقدمه قريش فتقتله لو أن قريشاً تعرف الحق، أو تقدر الخير، أو ترجوا لله وقارا، أو تحس في قلوبها أثراً من آثار الرحمة والبر؟ قال قائل منهم ما أرى إلا أن لهؤلاء الناس من أهل يثرب شأناً. فلو أنهم يقيمون أمرهم على شيء من باطل هذه الحياة الدنيا لما استقبلوه بهذا الحزم، ولما احتملوا في سبيله هذا الأهوال، ولما رخصت عليهم نفوسهم ودماؤهم وأموالهم وأهلهم إلى هذا الحد. والله أني لأسمع ما يقال وأرى ما يحدث فلا أشك في أن أهل هذه الأرض يستقبلون عصراً كذلك العصر الذي استقبله أهل بلادنا حين انبعث فيهم رسل المسيح. هذا الأيمان الذي زين في بعض القلوب حتى زهدها في كل شيء، وهذا اليقين الذي سيطر على بعض النفوس حتى هون عليها كل شيء، هذه المعجزات التي تساق إلى الناس في يسر وسذاجة وما كانوا ينتظرونها ولا يرجونها فلا تغرهم ولا تطغيهم ولا تدفعهم إلى أشر ولا بطر
كل هذا دليل واضح على أن السماء لم تقرب من الأرض قربها في هذه الأيام، وعلى أن أخبار السماء لم تتصل بالأرض اتصالها في هذه الأيام، وعلى أن الله يريد بالناس شيئاً لم نكن نقدر انه كائن ولكن أو أنه قد آن. أما إني لاحق بهؤلاء الناس إن استطعت إلى ذلك سبيلا. قال الآخرون: ما ايسر ذلك وما أعسره! وأين لمثلنا أن يفلت من سادة قريش، وإن(42/10)
من حول مكة من أهل البادية لأرصاداً على من أقبل من يثرب أو قصد إليها من الأحرار فكيف بالرقيق؟ قال نسطاس وهو ينتحب فكروا في ذلك ودبروا: وتهيأوا لذلك واستعدوا، فأنتم أهل لهذه الكرامة إن كان الله قد قضاها لكم؛ أما أنا فقد كتب عليّ الشقاء، وما أرى أن بحار الأرض لو سلطت على التنعيم تستطيع أن تغسل عن آثر هذا الدم الزكي الذي سفكته هذه اليد الآثمة، ثم قام عنهم يعدو مشتداً في العدو، فلم يروا له بعد ذلك أثراً، ولم يسمعوا عنه بعد ذلك خبرا.
طه حسين(42/11)
المسلمون أمس واليوم
للأستاذ احمد أمين
في نحو ثلاثة وعشرين عاما استطاع محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بما منح من قوة العقيدة. وصدق العزيمة. وبعد النظر وتأييد الله أن يحول العرب من جماعات مختلفة اللغة، مختلفة الدين، مختلفة الرأي، مختلفة الأهواء، تشعر بالضعة إذا قارنت نفسها بمن حولها، وبالذلة إذا رأت من في جوارها، ولا يفكر الفرد فيها إلا في نفسه، فان اتسع أفقه ففي قبيلته، فان فكر في قبيلة أخرى ففي الانتقام والأخذ بالثار، وشن الغارة للسلب والنهب - إلى أمة واحدة، متحدة اللغة، متحدة الدين، متحدة الرأي، يشعر الفرد فيها أنه من أمة أعزها الله بالإسلام. وفضلها به على الأنام. وجعلهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله. وليس ذلك بالكثير في تاريخ الأمم.
فان مات محمد (صلى الله عليه وسلم) ولم يتعد إصلاحه جزيرة العرب، فقد أعد أمة لإصلاح غيرها، ولسيادة الناس خير إعداد - حتى إذا وجهها قادتها نحو الفتح، أتوا بما حير علماء السياسة والاجتماع والتاريخ إلى اليوم - بسطوا سلطانهم على جزء كبير من العالم في أقل من عشر سنين، ولم يكن فتحهم تخريباً وتدميراً، إنما كان فتحاً منظماً أحكمت قواعده وأصوله - واستمروا ينتقلون من فتح إلى فتح، ومن ظفر إلى ظفر، مما يجعل الباحث يقتنع بأن نجاحهم لم يكن حظاً أتيح لهم، ولا مصادفة وقعوا عليها - إنما كان نتيجة مبادئ صحيحة اعتنقوها، ونفوس قوية ضمت صدورهم عليها - ومع ما عرض لهم من خلاف فيما بينهم كان من طبيعته أن يودي بأمثالهم من حروب داخلية ومنازعات سياسية وخلافات دينية، تغلبوا على كل ذلك، ولم يمنعهم من الظفر بعدوهم واستمرارهم في فتوحهم.
ثم هم ساهموا في كل شأن من شؤون المدنية، إن نظرت إلى الدين فقد دعوا إلى دينهم فدخل الناس فيه أفواجاً في هدوء من غير عنف، ولم يمض قرنان على فتحهم حتى كان أكثر البلاد المفتوحة على دينهم، ثم هو لا يزال ينتشر إلى اليوم مع انعدام الدعاة، وعدم حماية الدعوة، وان نظرت إلى اللغة رأيتهم هيئوا لغتهم لكل جديد ووسعوها - وهي البدوية الأصل والمنشأ. حتى أحاطت بكل مرافق المدنية إذ ذاك، وحتى زاحمت الفارسية(42/12)
في فارس، والرومانية في الشام والقبطية في مصر، وسارت مع الدين جنباً لجنب، كلما ظفر الدين ظفرت اللغة، وكسبت لغتهم قادة الفكر في كل هذه الأمم المفتوحة. فأصبحوا يمنحونها خير أفكارهم وأفكار أممهم، وظلت اللغة العربية تسود حتى نسى كثير من الأمم لغتهم الأصلية، وأحلوا محلها العربية، ولو لم يعتنقوا الإسلام - وان نظرت إلى النظم والتشريع فكذلك، فقد أقلم المشرفون أنفسهم وكانوا حيث حلوا مرنين يقفون موقف المتفهم للموجود من نظم وقوانين ثم يقرون ما لم يتعارض وأصول دينهم، ويغيرون ما تعارض، ووقف الفقهاء في كل قطر يوسعون مذاهبهم حسب الحاجة، وحسب الإقليم الذي حلوه، وخلفوا من كل ذلك قوانين لا تزال إلى اليوم محل إعجاب المنصفين من المتشرعين
وان التفت إلى العلم رأيت أنهم في كل فرع من فروع العلم أخذوا بحظ وافر، لم يمنعهم دينهم أن يأخذوا عن وثنيي اليونان فلسفتهم، ولا عن النساطرة طبهم، ولا عن اليهود ما يروون من أخبار أنبيائهم وعلمائهم، وأبلوا في العلم بلاء لا يقل عن بلائهم في الحرب، فحيث حلوا رأيت علماً كثيراً وجداً عجيباً؛ ثم خلفوا من كل ذلك ثروة فيها غاية ما وصل إليه العلم لعهدهم. فهموا ما كان من علم قبلهم وتداولوه بالشرح والنقد وضموا إليه ما أوحته نظرات دينهم من علوم إسلامية، ومذاهب دينية، وزادوا في ثروة من قبلهم بما بذلوا من جهد وأنفقوا من مال ونفس.
فلئن لم يكونوا سادة العالم فقد كانوا سادة في العالم، وان لم يكونوا رأسه المفكر فقد كانوا رأساً من الرؤوس، لا عبيداً ولا أذناباً، ووقفوا في بعض أيام تاريخهم من العالم موقف المعلم، يرحل من أراد العلم من الأوربيين إليهم، وينقلون إلى اللاتينية كتبهم، ويدرسون في جامعاتهم علمهم - وفي السياسة العالمية وقفوا موقف الموازن، يسمع لقولهم ويحسب حسابهم، وتعقد المعاهدات المحترمة معهم.
ثم دار الزمن دورته وأصبح سادة الأمس عبيد اليوم ورؤوس الأمس أذناب اليوم، وشباب الأمس هرم اليوم، وقضى على حضارتهم ما قضى على حضارة اليونان والرومان، والآشوريين والبابليين، وقدماء المصريين، إلا فرقاً واحداً وهو أن حامل لواء الحضارة الإسلامية لا يزال حياً وان كان شيخاً فانياً، وان الشيخ إن لم يصب بالعقم فقد يلد طفلاً يمر بأدوار الحياة ومنها الشباب، وان الأمم إن لم تمت فلها أيام، فقد يكون للإسلام فجر(42/13)
وضحى، وعصر وغروب، ولكن لا يلبث الليل حتى ينجلي عن صبح آخر فيه كل صفات الصباح، من نور وضياء، وإشراق يدفع للحركة، ونسيم يبعث الحياة.
وبالفعل يظهر أن هذا الشيخ الفاني قد مات أو كاد، وأن الله فالق الإصباح ومخرج الحي من الميت لم يصبه بالعقم، ووهبه ما وهب زكريا (إذ نادى ربه نداء خفيا، قال رب اني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا. وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك وليا. يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا. يا زكريا إنّا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا)
ولكن إن ورث (يحيى) من زكريا علماً وحكمة فإني أخشى أن يرث (يحيانا) تركة قد أثقلت بالديون وأفعمت بالمغارم، فهل من سبيل إلى أن يرث من آبائه الأبعدين لا من آبائه الأقربين؟ يحدثنا علماء الوراثة بأن ذلك جائز في قوانينهم، وأن بعض الأبناء يرث من جده الأبعد لا من أبيه الأقرب، إن كان ذلك كذلك فخير له، فأن أباه أشعث أغبر، لوحته الهموم، وأحنت ظهره الأحداث، أما جده البعيد فجميل المُحيا، مشرق الجبين، صارعه الدهر، فصرع الدهر، وأرادت أن تنال منه الأحداث فنال منها، ولكن أنى لنا ذلك، ومربوه من جنس أبيه، فان لم تفسده الوراثة أفسدته البيئة وأفسده المربي وأفسده الموالي من ورائه يكيدون له، ويضعون الخطط تلو الخطط لاغتياله، لا يكون ذلك حتى يرزق (يحيى) بالمثل الصالح، والمربي الصالح، يفتح عينيه ليرى ما حوله، ويضع له البرامج ليعده أن يكون سيداً مع السادة ورأساً بجانب الرؤوس، يبنى صرح المدنية مع بناته، ويشيد العالم مع مشيديه، فأن كان العالم لا يسع إلا مدنية واحدة شارك فيها، وإن كان يسع مدنيتين فاكثر، أسس هو مدنية تتفق وروحه، وعقليته ونفسيته، ودينه وخصائصه.
من نحو خمسة قرون فقد المسلمون مركزهم العالمي، وأصبحوا حيث حلوا عنوان الذل والعبودية، وحلفاء الفقر والمسكنة، ولم يكن تأخرهم راجعاً إلى بيئتهم كما يذهب بعض الباحثين، فهم يسكنون بيئات تختلف حرارة وبرودة، وتختلف خصباً وجدباً، وتختلف جفافاً ورطوبة، وهم من ذلك في مستوى واحد من الضعة والتأخر، على أن الأمر لو كان يرجع إلى البيئة ما تداول عز وبؤس، ونعيم وشقاء، وسيادة الأشراف وصعلكة العبيد، ولكانوا على حال واحد أبداً، لأن البيئة تلازمهم أبداً - كما أن الأمر لا يرجع إلى ما يجري في(42/14)
عروقهم من دم، فدمهم الذي يجري فيهم اليوم هو من نوع الدم الذي كان يجري في عروقهم أمس، وقد بطلت نظرية أن الله اختار من عباده جميعاً شعباً واحداً عهد إليه تنظيم العالم وسيادته هو الشعب التيوتوني أو الشعب الآري، فليس من أمة إلا وهي خليط من دماء مختلفة ولو كان كذلك لما عزوا وذلوا، وعلوا وسفلوا، وليس أمر المسلمين كذلك يرجع إلى دينهم فدينهم قديماً كان هو سبب سعادتهم وهو الذي انتشلهم من بؤس، وأعزهم من ذل - والدين متى كان صالحاً أسسه كالإسلام كان باعثاً على الأصلاح لا الفساد، وعلى النهوض لا الانحطاط، إنما هو ككل دين يختلف باختلاف العين التي تنظر إليه، فان صلحت العين صلح ما تنظر إليه، وان ساءت ساء، بل قد رأينا في تاريخ الأمم عيناً صحيحة وديناً مريضاً استطاعت العين لصحتها أن تصلح منظره وتجمل شكله
على إني لا أرى أن المسلمين تأخروا وانحطوا بالمعنى الحرفي الذي يفهم من الكلمة أعني الرجوع إلى الوراء، بل كل ما في الأمر أنهم وقفوا حيث كانوا من خمسة قرون، وغيرهم سائرون، وناموا وغيرهم أيقاظ، فلما بدأوا ينتبهون رأوا الشقة بعيدة واللحاق يتطلب عزماً قوياً وجهداً بالغا
مظاهر هذا الوقوف وإن شئت فسمه الركود متجلية في كل مرفق من مرافق الحياة - ففي اللغة وهي أداة الثقافة، وآلة العلم ووسيلة الرقي العقلي - وقفنا حيث انتهى الأمر بالدولة العباسية، ولم نساير الزمن ولم نخط معه خطواته، تغير وجه الحياة، واخترعت ألوف الآلات، ومعاجم لغتنا - كما هي - لا نعترف إلا بما كان، وتهمل ما هو كائن وما سيكون، فلا هي توسعت في مدلول الكلمات العربية ووضعت منها أسماء للجديد، ولا هي سمحت بالكلمات الأجنبية أن تدخل من غير تعديل أو بتعديل، والخلاف محتدم، والنزاع قائم، ومركزنا كما هو لم نتقدم فيه شبراً - مع أنا واجهنا هذا الأمر منذ احتكاكنا بالمدينة الحديثة، وحرنا في تصرفاتنا فحينا ندرس كثيراً من المواد في مدارسنا بلغة أجنبية وحيناً تأخذنا العزة القومية فنحولها إلى العربية، والنقص كما هو والموقف كما هو
وفي التشريع تغير العالم في معاملاته، فأنتجت المدنية الحديثة أنواعاً من المعاملات عديدة، وأنواعاً من الجرائم جديدة، ونظماً في الحكم والقضاء، فأبى رجالنا إلا أن يقفوا حيث هم، أبوا أن يفتحوا أعينهم لأنواع الشركات إلا ما نص عليه في الكتب القديمة من شركة(42/15)
مفاوضة ووجوه وعنان، وأبوا أن ينظروا إلى نظام الجمارك إلا ما ورد في كتب الفقه في باب العاشر، وأبوا أن ينظروا في جرائم الكيوف والاختلاس والتزوير إلا ما جاء في باب التعزير فكان من الزمن أن تركهم فيما هم فيه، وسلب من يدهم أوسع أبواب التشريع، وهي ما يتعلق بالمسائل المدنية والعقوبات واستند من قانون نابليون إذ أبى، بالعلماء أن يمدوه بالفقه أو لم يترك في يدهم إلا الأحوال الشخصية إلى حين
وكان موقفنا في الأخلاق موقفنا في اللغة والتشريع، فالمدنية الحديث كان لها من الأثر ما غير قيم الأخلاق، وقلب أوضاعها وطبعها بطابع جديد، ذلك أن أكبر أسس المدنية الحديثة وأهم أركانها الصناعة - ومن أجل هذا قومت الأخلاق من جديد على أساس الصناعة، ورتبت قائمة الأخلاق ترتيباً يتفق والصناعة، فخير الأخلاق النظام، والنظافة، والصدق في المعاملة، والمحافظة على الزمن، والاقتصاد وما إلى ذلك وجعلت هذه الصفات في المنزلة الأولى، ووضع للعمال نظم لحمايتها وترقية شؤونهم من نقابات وجمعيات، وقلبت القائمة التي وضعت في القرون الوسطى رأساً على عقب، فالحياء والتواضع والسماحة ونحوها قل أن تعد فضائل، وإذا سمح بعدِّها ففي ذيل القامة لأنها لا تتناسب مع أخلاق القوة وأخلاق الصناعة، فليس خير الصناع أشدهم حياء وأكثرهم تواضعاً، ولكن خيرهم أقواهم وأمهرهم، وأحفظهم على نظام، وأشدهم مراعاة لموعد وهكذا - وجاء العلم فخدم هذا النظر لأنه رقى الصناعات رقياً عظماً بفضل ما يقدمه لها كل يوم من مكتشف جديد، وبجانب هذا تحكم العلم في تقويم الأخلاق. فغير الأنظار القديمة وجعل المقياس سعادة الناس ورفاهيتهم في الحياة الدنيا، ولم يعبأ بالتقدير المأثور عن السلف، فنظر من جديد إلى الموسيقى والألعاب وسائر الفنون، وحكم بالحسن على ما كان يحكم عليه من قبل بالقبح، وعد كثيرا مما كان قبل إثماً وحراماً وجريمة محمدة وخيراً وفضيلة، ورأى أن ما في حياة القرون الوسطى من رهبنة واعتكاف في الأديرة والتكايا ونحو ذلك، عيشة كسل وخمول لا تتفق وخير الناس (فمن لم يعمل لا يأكل) جرى كل هذا والمسلمون حائرون بين تقاليدهم القديمة وما تقدمه المدنية الحديثة من نظر جديد - والزمن لا ينتظرهم في حل الإشكال واختيار أحد الطريقين، فلما ترددوا جرفهم طوعاً أو كرهاً من غير أن ينظرهم حتى يبتوا فيما يتفق وأخلاق المدنية الحديثة مع تقاليدهمم ودينهم وتاريخهم وما لا يتفق.(42/16)
ويطول بنا القول لو عددنا كل مرفق من مرافق الحياة وأبنّا ما أصابه من ركود فنجتزئ بما ذكرنا من أمثلة للدلالة على باقيها.
ثارت أوربا في التاريخ الحديث ثورات سياسية وثورات صناعية، كان من نتائجه تغيرها تغيراً كبيراً في القرن التاسع عشر فمن الناحية السياسة حلت الديمقراطية محل الأرستقراطية بما يتبع ذلك من تغير في النظم والتشريع، ومن الناحية الصناعية حلت المصانع الكبيرة والشركات، والسكك الحديدية والتلغرافات والتليفونات والكهرباء محل المظاهر الساذجة من صناعات يدوية وحمل على الخيل والبغال، واستنارة بالشمع والزيوت، وما إلى ذلك وهذا التغير السياسي والصناعي هو ما نسميه بالمدنية الحديثة. وتبع هذا التغير الداخلي في أوربا، تغير آخر خارجي، فقد اتجهت أفكار قادة الرأي فيهم إلى غزو آسيا وأفريقيا وكان الباعث لها على ذلك جملة أمور، أولها اقتصادي وهي أن تجد لها في الشرق مواد أولية لتغذية صناعتها، وثانيها وطني، وهو أن كل أمة من أمم أوروبا فشت فيها النزعة الوطنية وامتلأت نفوس أهلها حمية، ودفعها ذلك لأن تتطلب كل أمة قوة المظهر داخلاً وخارجاً، ومن أهم ذلك التوسع في الاستعمار وبسط النفوذ، والفخر بلون الخرائط - وثالثها - وهو أقل من الأولين شأناً الدافع الديني فقد دفع قوماً من أوروبا لنشر الدعوة المسيحية في البلاد الإسلامية واستعانوا بالسلطة على حمايتهم
على كل حال - حمل الأوربيون إلى أسيا وأفريقيا مدنيتهم مع فتحهم، وكان لابد لهم أن ينظموا الحال فيهما بما يتفق والنظام السائد عندهم ففي التشريع لابد أن تسود المبادئ القانونية السائدة في أوربا حتى تسهل التجارة ويأمنوا على معاملتهم للشرقيين، ولابد من انتشار المدنية الحديثة بآلاتها وأدواتها حتى تروج في الشرق البضائع الأوربية، ولابد أن يتعلم طائفة من المفتوحين على النمط الأوروبي الحديث، وأن يكونوا هم المتولين المناصب الكبيرة حتى يمكن التفاهم معهم في تسيير الشؤون، وهكذا كان من أثر انتشار هذه المدنية بين المسلمين نتائج كثيرة أهمها فيما يظهر لي أمران - الأول - اختلال التوازن بين الأمم الشرقية عامة والأمم الإسلامية خاصة، وأكبر ما تمنى به أمة اختلال توازنها، ذلك أن المدنية الحديثة بما استتبعها من تغير في مظاهر الحياة الاجتماعية ومن تعديل في قيم الأخلاق، كانت نتيجة لثورات داخلية شبت فيه، وآمال وآلام جاشت في(42/17)
صدره وتجارب جربها وأخطأ فيها فأصلح خطأه وهكذا كانت حركاته سلسلة متصلة تسلم حلقة منها إلى حلقة، ونسير في التدرج فيها سيراً طبيعياً، أما في الشرق فجاءته هذه المدنية لا من داخل نفسه بل من خارجها، وفرق كبير بين ما دعت إليه الطبيعة وما دعا إليه التقليد - ولاختلال هذا التوازن مظاهر كثيرة فان نظرت إلى القضاء فقضاء شرعي في الأحوال الشخصية يطبق نظم المدنية الإسلامية وقضاء أهلي يطبق نظم أوربا ممصرة وقضاء مختلط يخالفهما، وفي الحياة الاجتماعية نرى قرى لم يتأثر أهلها بالمدنية الحديثة في قليل من شؤونهم ولا كثير، ومدناً تأثرت إلى حد كبير بها حتى في أدق أمورها، ولعل خير ما يمثل مظاهرنا المختلفة المضطربة اختلاف ملابسنا وتعدد أشكالها مما لا يعرف له نظير في أوربا.
وفي التعليم أنواع تتبع الأنماط الإسلامية في عصورها، وأنماط تتبع المدنية الحديثة في مظاهرها وأشكالها، وهكذا فأن أنت نظرت إلى أية أمة أوربية في كل مظاهر الحياة من لغة وتعليم وملبس ومظهر اجتماعي رأيت فيها وحدة رغم الاختلافات السطحية، وان أنت نظرت إلى حياة المسلمين في كل مرفق من هذه المرافق لم تجد هذه الوحدة ووجدت الخلاف في الصميم، نرى نزعات تتجه نحو تاريخهم ودينهم ومدنيتهم القديمة ونزعات تتجه نحو المدنية الحديثة ولا رابطة تربط هذه النزعات - وترى ناحية من نواحي المدنية الحديثة تطغى وتكثر ولا يماثلها ما يقابلها فيطغى - مثلاً - في الشرق لهو أوربا من خمر ورقص وحياة مترفة وهي كثيرة في أوربا كثرة تفوق بمراحل ما في الشرق، ولكنها في أوربا تتعادل وتتوازن، فلهو كثير يزنه جد كثير، وإجرام يوازنه حزم - وعلى هذا النمط يختل التوازن وتفقد الأمة قوتها الحيوية - ولا يمكن أن تصلح هذه الحال إلا إذا توافر جماعة من خير الأمة على دراسة الموقف الاجتماعي للمسلمين والشرق دراسة عميقة مسلحة بما وصل إليه علم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ، ثم يضعون بعد هذه الدراسة الأكاديمية خططاً للسير في هذا الظرف العصيب ظرف الانتقال، يعرفون الداء ويصفون الدواء، يعلمون مدنيتهم القديمة والمدنية الحديثة، ومعايب كل، ومزايا كل، ويعلمون الحالة النفسية لأممهم وما يناسبهم وما لا يناسبهم ويبينون (خطة الانتخاب) يعرفون مناحي اختلال التوازن وأسبابها ويرسمون طريقة (إعادة التوازن).(42/18)
والأمر الثاني من نتائج انتشار المدنية الحديثة بين المسلمين أمر يناقض الأول ويكاد يسير سيراً عكسياً معه، ذلك أن انتشار التعاليم الجديدة للمدنية الحديثة واضطرار الأوربيين لتأليف فرقة من المسلمين يتكلمون لغتهم، ويتعلمون مناهجهم، ويتشربون مبادئهم، أمكنت هذه الطائفة من الاطلاع على المبادئ التي تدعو إلى الديموقراطية، وتبث روح الوطنية، فكان من ذلك أن أشربوا روح الثورة - نظروا إلى أممهم بالعين التي نظرت إلى هذه المبادئ فأيقنوا بحقهم في الحياة، وحقهم في الاستقلال، وحقهم أن يساهموا في بناء صرح المدنية، وأن يشاركوا في تحمل أعباء الإنسانية - وزادهم عقيدة في ذلك ما رأوا من أن أوربا تحكم آسيا وأفريقيا على قاعدة مختصرة موجزة واضحة طبيعية، وهي أنها تتجه في تسيير آلات الحكم إلى منفعتها هي، فحيث اتفقت مصلحة آسيا وأفريقيا مع أوربا نفذت المصلحة المشتركة، وحيث اختلفت مصلحة آسيا وأفريقيا مع مصلحة أوربا، فطبيعي أن تنفذ مصلحة أوربا، وقد ينظر في تقدير المصلحة النظر الضيق القريب لا النظر الواسع البعيد - كان من جراء هذا وذاك وجود الاصطدام وشعور الشرق بالغبن، وقيام الطائفة المتعلمة على النمط الحديث ببث روح الوطنية - وعملت هذه الحركة في النفوس سنين وتكفل الزمن بأن يظهر كل حين وآخر حادثة تفتح عيونهم وتقوى شعورهم، فكان القلق في كل مكان في الشرق، في مصر، في تونس، في الجزائر، في مراكش، في فلسطين، في الشام، في العراق، في الهند، في غيرها من البلدان، قلق اقتصادي وقلق وطني وقلق ديني، هذا القلق أنتج وليداً جديداً هو ما وصفته قبل، ماذا ينتهي إليه هذا القلق؟ ماذا يكون شأن هذا الوليد؟ ما تاريخه المستقبل؟ هذه الأسئلة وأمثالها خارجة عن عنوان مقالنا وهي بعنوان (المسلمون غداً) الصق واليق، وكل ما أعمله الآن وأريد أن أقوله عن هذا الطفل أنه (لن يموت).
أحمد أمين(42/19)
وحي الهجرة في نفسي
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
إن التاريخ ليتكلم بلغة أوسع من ألفاظه إذا قرأه من يقرؤه على أنه بعض نواميس الوجود صورت فيها النفس الإنسانية، كيف اعتورت أغراضها، وكيف مدت في نسقها، وكيف تغلغلت في مسالكها، وما تأتي لها فجرت به مجراها، وما دفعها فانحدرت منه إلى مقارها. فهو ليس بكلام تستقبله تقرأ فيه، ولكنه أحوال من الوجود تعترضها فتغير عليك حسك بإلهامها وأحلامها، وتتناولها من ناحية فتتناولك من الأخرى، فإذا الكلمة من ورائها معنى، من ورائه طبيعة، من ورائها سبب وحكمة، وإذا كل حادثة فيها إنسانيتها وإلهيتها معاً، وإذا الوجود في ذهنك كالساعة ترسم لك حد الثانية بخطرتين، وحد الدقيقة من عدد محدود من الثواني، ثم حد الساعة إلى حد اليوم، وإذا البيان في نفسك من كل هذه الحواشي، وإذا التاريخ فيما تقرؤه مفنن في ظاهره وباطنه يفيء عليك من ألفاظه ومعانيه بظلال هي صلتك أنت أيها الحي الموجود بأسرار ما كان موجوداً من قبل.
كذلك قرأت بالأمس تاريخ الهجرة النبوية في كتاب أبي جعفر الطبري لأكتب عنه كلمة في (الرسالة) فلم أكن علم الله - في كتاب ولا في حكاية، بل في عالم انبثق في نفسي مخلوقاً تاماً بأهله وحوادث أهله، وأسرار أهله وحوادثه جميعاً، كما يرى المحب حبيبه، لا يكون الجميل في محل إلا امتلأ مكانه بعاشقه، فهو مكان من النفس والدنيا، لا من الدنيا وحدها، وفيه الحياة كما هي في الوجود بمظهر المادة. وكما هي في الجب بمظهر الروح. وتلك حالة من القراءة بالروح والكتابة بالروح متى أنت سموت إليها رأيت فيها غير المعنى يخرج معنى، ومن لا شيء تخلق أشياء، لأنك منها اتصلت بأسرار نفسك، ومن نفسك اتصلت بأسرارٍ فوقها، فيصبح التاريخ معك فن الوجود الإنساني على الوجه الذي أفضت به الحكمة إلى الحياة لتستمر بالنفس الإنسانية، لا فن علم الناس على الوجه الذي أفضت به الحوادث مما بين الحياة والموت.
نشأ النبي (صلى الله عليه وسلم) في مكة واستنبئ على رأس الأربعين من سنه، وغير ثلاث عشرة سنة يدعوا إلى الله قبل أن يهاجر إلى المدينة فلم يكن في الإسلام أول بدأته إلا رجل وامرأة وغلام: أما الرجل فهو هو (صلى الله عليه وسلم)، وأما المرأة فزوجه خديجة،(42/20)
وأما الغلام فعلي أبن عمه أبي طالب، ثم كان أول النمو في الإسلام بحر وعبد: أما الحر فأبو بكر، وأما العبد فبلال، ثم اتسق النمو قليلاً قليلاً ببطء الهموم في سيرها، وصبر الحر في تجلده، وكأن التاريخ واقف لا يتزحزح، ضيق لا يتسع، جامد لا ينمو: وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) أخو الشمس؛ يطلع كلاهما وحده كل يوم. حتى إذا كانت الهجرة من بعد، فانتقل الرسول إلى المدينة - بدأت الدنيا تتقلقل، كأنما مر بقدمه على مركزها فضغطها فحركها، وكان خطواته في هجرته تخط في الأرض، ومعانيها تخط في التاريخ، وكانت المسافة بين مكة والمدينة، ومعناها بين المشرق والمغرب.
لقد كان في مكة يعرض الإسلام على العرب كما يعرض الذهب على المتوحشين، يرونه بريقاً وشعاعاً، ثم لا قيمة له وما بهم حاجة إليه، وهو حاجة بني آدم إلا المتوحشين، وكانوا في المحادة والمخالفة الحمقاء، والبلوغ بدعوته مبلغ الأوهام والأساطير - كما يكون المريض بذات صدره مع الذي يدعوه في ليالي القر إلى مداواة جسمه بأشعة الكواكب؛ وكانت مكة هذه صخراً جغرافياً يتحطم ولا يلين، وكأن الشيطان نفسه وضع هذا الصخر في مجرى الزمن ليصد به التاريخ الإسلامي عن الدنيا وأهلها.
وأوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذب وأهين، ورجف به الوادي، يخطوا فيه على زلازل تتقلب، ونابذه قومه وتذامروا فيه، وحض بعضهم بعضاً عليه، والصفق عنه عامة الناس وتركوه إلا من حفظ الله منهم، فأصيب كبيراً باليتم من قومه، كما أصيب صغيراً باليتم من أبويه.
وكان لا يسمع بقادم يقدم من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له فدعاه إلى الله وعرض نفسه عليه، ومع ذلك بقيت الدعوة تلوح وتختفي كما يشق البرق من سحابه على السماء، ليس إلا أن يرى ثم لا شيء بعد أن يرى!
فهذا تاريخ ما قبل الهجرة في جملة معناه، غير أني لم أقرأه تاريخاً، بل قرأت فيه فصلا رائعاً من حكمة الإلهية، وضعه الله كالمقدمة لتاريخ الإسلام في الأرض، مقدمة من الحوادث والأيام تحيا وتمر في نسق الرواية الإلهية، المنطوية على رموزها وأسرارها، وتظهر فيها رحمة الله تعمل بقسوة، وحكمة الله تتجلى في غموض، فلو أنت حققت النظر لرأيت تاريخ الإسلام يتأله في هذه الحقبة، بحيث لا تقرؤه النفس المؤمنة إلا خاشعة كأنها(42/21)
تصلي، ولا تتدبره إلا خاضعة كأنها تتعبد.
بدأ الإسلام في رجل وامرأة وغلام، ثم زاد حراً وعبداً، أليست هذه الخمس هي كل أطوار البشرية في وجودها، مخلوقة في الإنسانية والطبيعة، ومصنوعة في السياسة والاجتماع؟ فها هنا مطلع القصيدة، وأول الرمز في شعر التاريخ.
ولبث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة لا يبغيه قومه إلا شراً، على أنه دائب يطلب ثم لا يجد، ويعرض ثم لا يقبل منه، ويخفق ثم لا يعتريه اليأس، ويجهد ثم لا يتخونه الملل، ويستمر ماضياً لا يتحرف، ومعتزماً لا يتحول، أليست هذه هي أسمى معاني التربية الإنسانية، أظهرها الله كلها في نبيه، فعمل بها وثبت عليها، وكانت ثلاث عشرة سنة في هذا المعنى كعمر طفل ولد ونشأ وأحكم تهذيبه بالحوادث حتى تسلمته الرجولة الكاملة بمعانيها، من الطفولة الكاملة بوسائلها؟ أفليس هذا فصلاً فلسفياً دقيقاً يعلم المسلمين كيف يجب أن ينشأ المسلم، غناه في قلبه، وقوته في إيمانه، وموضعه في الحياة موضع النافع قبل المنتفع، والمصلح قبل المقلد. وفي نفسه من قوة الحياة ما يموت به في هذه النفس أكثر ما في الأرض والناس من شهوات ومطامع؟
ثم أليست تلك العوامل الأخلاقية هي هي التي ألقيت في منبع التاريخ الإسلامي ليعب منها تياره، فتدفعه في مجراه بين الأمم، وتجعل من أخص الخصائص الإسلامية في هذه الدنيا - الثبات على الخطوة المتقدمة وإن لم تتقدم، وعلى الحق وإن لم يتحقق؛ والتبرؤ من الأثرة وإن شحت عليها النفس، واحتقار الضعف وإن حكم وتسلط، ومقاومة الباطل وإن ساد وغلب، وحمل الناس على محض الخير وإن ردوا بالشر، والعمل للعمل وإن لم يأت بشيء؛ والواجب للواجب وإن لم يكن فيه كبير فائدة، وبقاء الرجل رجلاً وإن حطمه كل ما حوله؟
ثم هي هي البراهين القائمة للدر قيام المنارة في الساحل - على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، تثبت ببرهان الفلسفة وعلوم النفس أنه روح وغاياتها المحتومة بالقدر، لا جسم ووسائله المتغلبة بالطبيعة، ولو كان رجلاً ابتعثته نفسه لتحمل الحيل لسياسته، ولأحدث طمعاً من كل مطمع، ولركد مع الحوادث وهب، ولما استمر طوال هذه المدة لا يتجه وهو فرد إلا اتجاه الإنسانية كلها كأنما هو هي.(42/22)
ولو هو كان رجل الملك أو رجل السياسة لاستقام والتوى، ولأدرك ما يبتغي في سنوات قليلة، ولأوجد الحوادث يتعلق عليها، ولما أفلت ما كان موجوداً منه يتعلق به، ولما انتزع نفسه من محله في قومه وكان واسطة فيهم، ولا ترك عوامل الزمن تبعد وهي كانت تدنيه. قالوا إن عمه أبا طالب بعث إليه حين كلمته قريش فقال له. يا أبن أخي، وإن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، فأبق عليّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء، وأنه خاذله ومسلِّمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال: يا عماه، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته. ثم استعبر صلى الله عليه وسلم فبكى، يا دموع النبوة! لقد أثبت أن النفس العظيمة لن تتعزى عن شيء منها بشيء من غيرها كائناً ما كان، لا من ذهب الأرض وفضتها، ولا من ذهب السماء وفضتها، إذا وضعت الشمس في يد والقمر في الأخرى.
وكل حوادث المدة قبل الهجرة على طولها ليست إلا دليل ذلك الزمن على أنه زمن نبي، لا زمن ملك أو سياسي أو زعيم؛ ودليل الحقيقة على أن هذا اليقين الثابت ليس يقين الإنسان الاجتماعي من جهة قوته، بل يقين الإنسان الإلهي من جهة قلبه؛ ودليل الحكمة على أن هذا الدين ليس من العقائد الموضوعة التي تنشرها عدوى النفس للنفس، فها هو ذا لا يبلغ أهله في ثلاث عشرة سنة أكثر مما تبلغ أسرة تتوالد في هذه الحقبة؛ ودليل الإنسانية على أنه وحي الله بإيجاد الإخاء العالمي والوحدة الإنسانية. أفلم يكن خروجه عن موطنه هو تحققه في العالم؟
ثلاث عشرة سنة، كانت ثلاثة عشر دليلاً تثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس رجل ملك، ولا سياسة، ولا زعامة، ولو كان واحداً من هؤلاء لأدرك في قليل؛ وليس مبتدع شريعة من نفسه، وإلا لما غبر في قومه وكأنه لم يجدهم وهو حوله؛ وليس صاحب فكرة تعمل أساليب النفس في انتشارها، ولو كأنه لحملهم على محضها وممزوجها؛ وليس رجلاً متعلقاً بالمصادفات الاجتماعية، ولو هو كان لجعل إيمان يوم كفر يوم؛ وليس مصلح عشيرة يهذب منها على قدر ما تقبل منه سياسة ومخادعة؛ ولا رجل وطنه تكون غايته أن يشمخ في أرضه شموخ جبل فيها، دون أن يحاول ما بلغ إليه من إطلاله على الدنيا إطلال السماء(42/23)
على الأرض؛ ولا رجل حاضره إذ كان واثقاً دائماً أن معه الغد وآتيه، وإن أدبر عنه اليوم وذاهبه؛ ولا رجل طبيعته البشرية يلتمس لها ما يلتمس الجائع لبطنه؛ ولا رجل شخصيته يستهوي بها ويسحر؛ ولا رجل بطشه يغلب به ويتسلط؛ ولا رجل الأرض في الأرض، ولكن رجل السماء في الأرض.
هذه هي حكمة الله في تدبيره لنبيه قبل الهجرة، قبض عنه أطراف الزمن، وحصره من ثلاث عشرة سنة في مثل سنة واحدة، لا تصدر به الأمور مصادرها كي تثبت أنها لا تصدر به؛ ولا تستحق به الحقيقة لتدل على أنها ليست من قوته وعمله. وكان صلى الله عليه وسلم على ذلك وهو في حدود نفسه وضيق مكانه يتسع في الزمن من حيث لا يرى ذلك أحد ولا يعلمه، وكأنما كانت شمس اليوم الذي سينتصر فيها، قبل أن تشرق على الدنيا بثلاث عشرة سنة - مشرقة في قبله صلى الله عليه وسلم.
والفصل من السنة لا يقدمه الناس ولا يؤخرونه، لأنه من سير الكون كله؛ والسحابة لا يشعلون برقها بالمصابيح، ومع النبي من مثل ذلك برهان الله على رسالته، إلى أن نزل قوله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) فحل الفصل، وانطلقت الصاعقة، وكانت الهجرة.
تلك هي المقدمة الإلهية للتاريخ، وكان طبيعياً أن يطرد التاريخ بعدها، حتى قال الرشيد للسحابة وقد مرت به أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك.
مصطفى صادق الرافعي(42/24)
5 - صور من التاريخ الإسلامي
الهجرة
للأستاذ عبد الحميد العبادي
كان من أثر الاتجاه المادي الحديث في فهم حوادث التاريخ وتعليلها أن أصبح المؤرخون أشبه شيء بالفلاسفة الكلبيين القدماء الذين كانوا يجردون الإنسان من عاطفة الخير، ويعتقدون أنه أناني بطبعه، لا يصدر عنه الخير إلا رئاء ونفاقاً، ولكن من حسن حظ الحقيقة والفضيلة أن بعض أحداث التاريخ يكذب هذه الدعوى وينقضها نقضاً صريحاً، ولست أجد في التاريخ الإسلامي انقض لتلك الدعوى وأشد تكذيباً من حديث الهجرة التي وقعت زمن النبوة، سواء أكانت هجرة الحبشة أم الهجرة إلى المدينة، ففي كلتا الهجرتين تجد الإخلاص للعقيدة مجسماً محسوساً، والتنزه عن حطام الدنيا واضحاً ملموساً. وإلى القارئ أسواق المقال الآتي توضيحاً لهاتين الهجرتين في ضوء الحياة العامة التي ابتعثتهما وأدت إليهما
لقد حمل الإسلام من أول الأمر على ما كان لقريش من نظم بالية عتيقة حملة عنيفة لا مواربة فيها ولا هوادة. فكان محمد يقرع أسماع قومه بما يتنزل عليه من القرآن ناعياً عليهم وثنيتهم المنحطة، ونظامهم الاجتماعي الذي فرقهم أغنياء وفقراء وسادة وعبيداً، مهجنا تكثرهم بالاحساب والأنساب، مقبحاً طرقهم الملتوية في المعاملات من تطفيف الكيل والميزان وأكل أموال الناس بالباطل. محذراً لهم إن هم أصروا على عتوهم واستكبارهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم من قبلهم عندما أعرضت عما بعث به إليها الرسل من أسباب الهداية والأصلاح.
لم يجب هذه الدعوة التي تكلفت بخيري الدنيا والآخرة إلا فريق قليل العدد وسيط المكانة في المجتمع القرشي. أما الملأ من قريش فرأوها دعوة صريحة إلى الفوضى وقلب الأوضاع. ورأوا في محمد ثائراً يريد هدم النظم التي درجت عليها الجمهورية المكية من قديم. ثم من يدريهم لعلهم إن هم اتبعوه التات عليهم الأمر واضطرب الحبل، فان الهدم عادة أيسر من البناء. تلك كانت حجتهم في عدم متابعته، وهي حجة الجامدين على المصلحين في كل زمان ومكان.(42/25)
وكان موقف قريش من محمد أول الأمر سلبياً محضاً. ولكن محمداً كان النشاط واللباقة والفصاحة وقوة الخلق مجتمعة، فوجدت قريش نفسها بازاء رجل لا كالرجال، وخصم ليس كغيره من الخصوم، فهي إن لم تعاجله عاجلها، وإن لم تقض عليه قضى عليها. لذلك أخذت تنهج في مقاومته خطة إيجابية تدرجت فيها تدرجاً. فكانت أول الأمر تستهزئ به وبدعوته وبمن اتبعه، فهو شاعر وساحر ومجنون، ودعوته إنما هي محض خداع وغرور، وأتباعه ليسوا إلا أراذلها وسفلتها، ثم جعلت تحاول إعجازه ومعاياته. إن يكن صادقاً فيما يدعى فليحول جبال مكة جناناً وأنهاراً، أو فليكن له بيت من زخرف، أو ليرق في السماء، أو فليسقط السحاب عليهم كسفاً، أو فليأت بالله والملائكة قبيلاً. ثم انتقلوا من هذه المعاياة الدالة على قصر عقولهم إلى التعريض له بالمال والسلطان. فلما أعيتهم فيه الحيل ورأوا وقوف عشيرته دونه أخذوا يفتنون أصحابه بالأذى والعذاب. فمنهم من كان يثبت على رأيه وعقيدته، ومنهم من كان يفتتن من شدة البلاء.
عند ذلك أمر الرسول أصحابه بالهجرة التي هي آخر ما يلجأ إليه المحق الضعيف في مقاومة المبطل القوي. أمرهم بالهجرة إلى أرض الحبشة فهي أرض قديمة الصلة بمكة، وبها ملك نصراني رشيد لا يضام من يلجأ إليه ويحتمي بحماه.
فخرج من مكة في شهر رجب من سنة خمس للنبوة زهاء مائة مسلم ومسلمة، وكلهم جاز البحر الأحمر من الشعيبة إلى بر الحبشة، فتلقاهم النجاشي لقاء حسناً وأذن لهم في المقام بأرضه آمنين على دينهم وأنفسهم. وقد أبى أن يخفر ذمته لهم عندما أرسلت إليه قريش في رد اللاجئين إليه. فلما تبدلت الأحوال بالحجاز وعلا شأن الإسلام به جعل هؤلاء المهاجرون يعودون إلى الحجاز. وكانت عودة بقيتهم إلى المدينة سنة سبع للهجرة أي بعد أن لبثت بأرض الحبشة نحو خمسة عشر عاماً. وقد جزت الرواية الإسلامية النجاشي عن صنيعه هذا بأن اعتقدت إسلامه، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى عليه عندما بلغته وفاته.
ولما رأت قريش خروج من خرج إلى الحبشة من أصحاب محمد أرادت أن تحسم مادة الخطر فاجتمعت كلمة ملئها على حبس محمد وعشيرته من بني هاشم والمطلب في بعض شعاب مكة، وعلى أن يقطعوا كل أسباب الاتصال بينهم وبين جمهور قريش، وقد أنفذت(42/26)
هذا الحكم، وقضى بنو هاشم والمطلب في الشعب نحو ثلاث سنين قاسوا فيها جهداً جاهداً حتى لقد كان يسمع صوت صغارهم من وراء الشعب وهم يتضورون جوعاً. وأخيراً قام في قريش من عطفته عليهم عاطفة الرحم والقرابة فسعى في إخراجهم من الشعب فأخرجوا
على أن الرسول لم ينعم بتلك الحرية التي سيقت إليه طويلاً. ففي السنة العاشرة للنبوة أصيب بفقد عمه أبي طالب وزوجه خديجة، فخلا الميدان من النصير الذائد، وخلا البيت من الحبيب المؤنس. واصبح محمد وجهاً لوجه أمام عدون حنق عليه كان يترقب فيه الفرصة، فلما امكنت استغلها استغلالا. فجعل يأخذ عليه المذاهب ويعزى به السفهاء يتعمدونه بالأذى والهوان
عند ذلك أخذ الرسول يفكر فيما كان قد أشار به على أصحبه منذ سنين عندما اشتد تحامل قريش عليهم: أخذ يفكر هو أيضاً في الهجرة. لقد دلته تجارب سنوات عشر على أن دعوته توشك أن تذهب بمكة صرخة في واد ونفخة في رماد، وإذا ففيم المقام بواد غير ذي زرع حقيقة ومجازاً؟ فليهاجر! ذلك ما قر عليه رأيه. ولكن على ألا يتخطى حدود بلاد العرب فهو مبعوث إلى العرب أولا والى سائر الناس أخيراً. فليخرج إلى اقرب قرية عربية من مكة؛ إلى الطائف، لعل ثقيفاً تجيره حتى يبلغ رسالته. ولكن ثقيفاً لم تكن أبر به من قريش، فقد أعرضت عن سماع دعوته وضنت عليه بجوارها، ثم زادت فأغرت به سفهاءها، فما زالوا يتعقبونه حتى ألجأوه هو ومولاه زيد بن حارثة إلى حائط من حوائط ثقيف. وهنا - وقد خلا إلى نفسه وربه -. فاضت أشجانه واعتلجت في صدره همومه، فانبعث يناجي ربه (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس! يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك على غضب فلا أبالي؟ ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)
ثم نهض من مكانه يريد مكة فلم يدخلها إلا في جوار سيد من ساداتها هو المطعم بن عدي. وكف محمد مؤقتاً عن توجيه الدعوة إلى قريش واكتفى بعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج لعل قبيلة تصغي إليه فينتقل إليها ويبلغ دعوته في ظلها وسلطانها. فكانت(42/27)
القبائل ترد عليه بأنه لو كان صادقاً لاتبعه قومه، إلا ما كان من أمر أهل يثرب. ففي عام 11 للنبوة لقي النبي عند العقبة ستة نفر من الخزرج فعرض عليهم الإسلام فآمنوا وصدقوا، ووعدوا أن ينشروا الدين الجديد في قومهم. تلك بيعة العقبة الأولى. فلما كان العام القابل وافى الموسم من الأوس والخزرج اثنا عشر رجلاً، لقوا النبي عند العقبة أيضاً فبايعوه على بيعة النساء، وذلك قبل أن يشرع القتال (على ألا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف. فأن وفيتم فلكم الجنة، وان غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله عز وجل، أن شاء غفر، وأن شاء عذب) تلك بيعة العقبة الثاني، وبعث الرسول معهم صاحباً من أصحابه ديِّناً لبقاً فطنه ليفقه القوم في الدين، وفي الوقت نفسه ليخبر أحوال يثرب العامة ويسبر غورها وينهي إلى النبي ما يصل إليه من ذلك. ذلك هو مصعب بن عمير. وقد أدى مصعب بن عمير واجبه أحسن أداء وأتمه، ثم عاد إلى مكة فاطلع الرسول على حال يثرب ومقدار نجاح الدعوة الإسلامية بها. فلما حل موسم الحج وافى مكة جم غفير من الأوس والخزرج، مسلمهم ومشركهم. فواعد المسلمون منهم رسول الله أن يلقوه عند العقبة ليلاً، وقد لقيه منهم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، فبايعوا الرسول بيعة العقبة الكبرى المشهورة وهي تقوم على تعهد الأوس والخزرج بالدفاع عن الرسول والحرب من دونه. يقول الطبري (فوافوه بالحج فبايعوه بالعقبة وأعطوه عهودهم، على إنّا منك وأنت منا، وعلى أنه من جاءنا من أصحابك أو جئتنا فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا) وبهذه البيعة أصبح للرسول بيثرب أنصار يؤوونه ويذودون عنه.
لكي ندرك السبب في مسارعة الأوس والخزرج إلى قبول الدعوة الإسلامية ومبايعة الرسول على الدفاع عنه، ينبغي أن نلم بحال يثرب في السنوات السابقة على الهجرة من الناحيتين الدينية والسياسية، فمن الناحية الدينية كانت اليهودية قد حرثت المدينة وأعدتالأنصار لقبول الدعوة الإسلامية، لأنهم أهل كتاب منزل ودين مشروع. وكان الأوس والخزرج يلقفون منهم معنى النبوة والرسالة والوحي ونحو ذلك من المصطلحات الدينية. ثم أن اليهود كانوا كدأبهم يتوقعون ظهور نبي منهم يجمع شملهم ويعيد إليهم سلطانهم يقهر بهم أعداءهم، وكانوا لا يعدمون أن يبوحوا بشيء من ذلك لمواطنيهم من الأوس والخزرج.(42/28)
قال ابن اسحق عند كلامه على استجابة الأنصار لدعوة النبي في بيعة العقبة الأولى: (وكان مما صنع الله لهم به من الإسلام أن يهود كانوا معهم ببلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم. فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم إن نبياً مبعوث الآن، قد أظل زمانه نتبعه فنقلتكم معه قتل عاد وأرم. فلما كلم رسول الله (ص) أولئك النفر دعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا، والله انه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام)
قد يكون تصوير حالة المدينة السياسية قبيل الهجرة أبلغ من تصوير الحال الدينية في فهم قبول الأنصار دعوة النبي والتزامهم الدفاع عنه ببلدهم. لقد كانت الحياة العامة بالمدينة مضطربة أشد الاضطراب من جراء حرب الأوس والخزرج التي سببها ما كان بين الفريقين من دماء وثارات. وكانت الغلبة بوجه عام في تلك الحرب للخزرج على الأوس، حتى لقد همت الأوس حوالي السنة العاشرة قبل الهجرة أن تجلو عن المدينة جملة، وأخذت تفاوض قريشاً في أن تأذن لها بالنزول عليها بمكة، ولكن قريشاً كانت أحرص من أن تأذن بذلك، فلما طلبت إليها الأوس أن تحالفها على الخزرج أبت أن تتورط في شيء من ذلك أيضاً. فعادت الأوس تلتمس الحلف من يهود يثرب وخاصة قريظة والنضير. وكان اليهود قد وقفوا من تلك الحرب موقف الحياد المطلق، فملا بلغ الأمر الخزرج أرسلت إلى اليهود تحذرهم عاقبة هذا الحلف إن تم، فلما أكد اليهود أنهم غير محالفي الأوس عادت الخزرج تطلب منهم رهناً أربعين غلاماً من غلمانهم يكونون بأيديهم ضماناً لهذا الحياد. فلم يسع اليهود ألا أن يسلموا إليهم الضمان الذي طلبوا. ولكن الخزرج كانت قد قدمت إلى ارض قريظة والنضير وكانت أغنى بقاع يثرب، فأقبلت تتجنى على اليهود وتخير قريظة والنضير بين أمرين كلاهما شر: فإما أن يجلوا عن يثرب وينزلوا لهم عن أرضهم، وإما أن تقتل غلمانهم. فلما رأت اليهود أن الخزرج قد لجت في طغيانها، وان حيادها لن يجر إليها خيراً، عند ذلك خرجت من حيادها وحالفت الأوس صراحة، فقتلت الخزرج الغلمان وعقدت حلفاً مع القبيلة اليهودية الثالثة بالمدينة قبيلة بني قينقاع وبذلك استحالت يثرب عسكرين تشحذ فيهما السيوف وتراش النبال استعداد للواقعة الفاصلة.(42/29)
وقد وقعدت الواقعة الفاصلة في يوم بعاث الذي كان قبيل الهجرة بنحو خمسين سنين. في ذلك اليوم أديل للأوس وحلفائهم من الخزرج وحلفائهم، وقتل من الفريقين يومئذ عدد كبير من سادات الناس وأشرافهم. جاء في صحيح البخاري عن عائشة: (كان يوم بعاث يوماً قدمه الله لرسوله (صلعم) في دخولهم في الإسلام، فقدم رسول الله صلعم وقد افترق ملؤهم وقتلت سراتهم) ويفسر السمهودي هذا الحديث بقوله (ومعناه انه قتل فيه من أكابرهم من كان لا يؤمن أن يتكبر، ويأنف أن يدخل في الإسلام) إلى أن يقول (وقد كان بقي معهم من هذا النمط عبد الله بن أبي بن سلول. . . وكذلك أبو عامر الراهب. . . فشقيا بشرفهما)
ورأى أهل يثرب غداة يوم بعاث أن الحرب مهلكة النفوس متلفة الأموال، وأنها يشقى بها الغالب والمغلوب جميعاً، وأنه أولى بهم أن يقيموا بيثرب حكومة تزع القوى وتأخذ بناصر الضعيف. وكان عبد الله بن أبي بن سلول الخزرجي قد رأى غدر قومه في الحرب فلم يخض غمارها معهم وامتنع من قتل من كان بيده من غلمان يهود، ولذلك اتجهت إليه أنظار القوم وهموا أن يملكوه على يثرب، وأقبلوا ينظمون له الخرز، وكان ذلك شارة الملك عندهم. ولكن يظهر أنه لم تكن هناك رغبة صادقة في تمليكه. أما الأوس فكانت تكره أن يصير الأمر إلى خزرجي مهما تكن فضائله، وأما الخزرج فقد كبر على كثير من أحيائها أن تولي رجلاً وسمها بالغدر وخذلها عند الحرب، فكان بذلك مسؤولاً إلى حد ما عن هزيمتها. وأما اليهود فلا شك في أنها كانت تستنكف أن يلي أمرها مشرك ولو كان ابن أبي نفسه.
فلما لقي حجاج الأوس والخزرج الرسول بموسم الحج وأطلعوا على سيرته وحالته وجدوا فيه ضالتهم المنشودة. فهو وحده الرجل الذي تستقيم على يده حالهم المختلة، وتجتمع على حكومته آراؤهم المختلفة، هو نبي عربي يتنزل عليه الوحي من السماء، وبذلك يحتجون به على اليهود. نعم إنه من الناحية السياسية يعتبر أجنبياً عن يثرب، ولكن حكومته لن تكون أجنبية. أليس الأنصار هم الذين سيكونون عدته ومادته؟ فأي حكومة ليثرب يمكن أن تفضل هذه الحكومة؟ إذن فليعدلوا عن تمليك ابن أبي، وليبايعوا محمداً، وليكن ذلك في غيبة ابن أبي وليكتموا ذلك الأمر عنه كتمان النبي إياه عن قريش.
تلك كانت الحال المعنوية للأنصار عندما بايعوا النبي بيعاتهم الثلاث بمكة. قال بن اسحق(42/30)
عند كلامه على العقبة الأولى (. . . وقالوا له (للنبي) إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فان يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم) وروي ابن إسحاق أيضاً عند كلامه على بيعة العقبة الكبرى (. . . فاعترض القول أبو الهيثم بن التيهان فقال يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها، يعني اليهود، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فقال فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال بل الدم الدم! والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم). فالمسألة من ناحية الأنصار لا تعدو أن تكون حلفاً سياسياً قوامه الفكرة الدينية. أما من ناحية الرسول فلم تكن كذلك. فالرسول إنما كان يريد إذ ذاك بلداً يأمن فيه على دعوته وأصحابه، وقوماً يحمون ظهره حتى يبلغ رسالته. وقد أصبح ذلك مكفولاً له بالبيعة الأخير، وإذن فلم يبقى إلا الرحيل من مكة إلى المدينة
ورأى الرسول اغتنام الوقت فأذن لأصحابه في الخروج إلى يثرب في أواخر ذي الحجة من السنة الثالثة عشرة للنبوة. فجعلت جماعاتهم عندما استهل المحرم تخرج من مكة أرسالاً وتنزل على الأنصار في دورهم. فخرج في نحو شهرين زهاء المائتين. وقد أقفرت دور برمتها بسبب الهجرة. من ذلك دور بني مظعون وبني جحش وبني البكير. قال ابن هشام (فغلقت دار بني جحش هجرة، فمر بها عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل بن هشام ابن المغيرة. . . وهم مصعدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها عتبة ابن ربيعة تخفق أبوابها يباباً ليس فيها ساكن، فلما رآها كذلك تنفس الصعداء ثم قال:
وكل دار وان طالت سلامتها ... يوماً ستدركها النكباء والحوب
ثم قال هذا عمل ابن أخي هذا، فرق جماعتنا وشتت أمرنا وقطع بيننا) ولم يبق بمكة من المسلمين إلا النبي وأبو بكر وعلي وإلا من كان مفتوناً أو محبوساً أو مريضاً أو ضعيفاً عن الخروج.
وأحست قريش الخطر الذي أصبح يتهددها من جراء تلك الهجرة وذلك الحلف الذي عقده محمد مع أهل يثرب. فاجتمع ماؤها في دار ندوتها ليقلب الأمر على وجوهه ويصدر فيه(42/31)
رأياً حاسماً. وهنا افترقت بها الآراء وتشعبت المذاهب، فمنهم من رأى أن ينفى من البلد، ومنهم من رأى قتله. والظاهر أن الرأي الأخير هو الذي اجتمعوا عليه آخر الأمر. وإلى هذه القصة كلها يشير القرآن بقوله (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) ثم رأوا أن يقتلوه بحيث تمتنع على عشيرته المطالبة بدمه فأمروا فتياناً من بطون قريش أن يضربوه ضربة رجل واحد وبذلك يتفرق دمه في القبائل ويرضى بنو هاشم بديته.
ولكن رسول الله كان قد نذر بذلك فأسرع إلى الخروج خفية من داره إلى دار صديقه أبي بكر وكان قد أعد عدة السفر إلى المدينة، دليلاً وظهراً وخادماً وزاداً. وخرج الرسول وابو بكر إلى غار بجبل ثور بقيا به ثلاثة أيام اهتاجت فيها قريش اهتياجاً شديداً وجعلت لمن يأتي بالنبي حياً أو ميتاً جعلاً سنياً. والى حادث الغار يشير القرآن بقوله (إلا تنصروه فقد نصره الله، إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه، لا تحزن، إن الله معنا فانزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز ذو انتقام).
توصف الأرض التي بين مكة والمدينة بأنها حزنة وعرة موحشة، ليس بها ما يرفه عن المسافر في بلاد العرب من ماء أو خضرة ثم هي يشقها طريقان: إحداهما شرقية محاذية لنجد ويجاوز طولها الثلاثمائة ميل بقليل، والأخرى غربية محاذية لساحل البحر الأحمر ويقرب طولها من مائتين وخمسين ميلا. وقد آثر الدليل الذي اتخذه أبو بكر هادياً له وللرسول أثناء السفر سلوك الطريق البحرية. غير انه كان ينحرف يمنة، ويسرة تضليلاً لمن عسى أن ترسله قريش في أثرهم. فخرج بالجماعة من جبل ثور اسفل مكة فبلغ عسفان وهنا أدرك الجماعة سراقة بن مالك طامعاً في قتل الرسول وأخذ جعل قريش، ولكنه وجد نفسه أمام أربعة أشداء فكان قصاراه أن نجا بنفسه بعد أن أعطى الرسول وأصحابه موثقاً ألاّ يدل عليهم. ثم سار الدليل بهم إلى أمج فقديد، فلما قارب بدراً مال بهم يمنة إلى العرج، ثم هبط وادي العقيق الذي يؤدي إلى المدينة. ولكن النبي أمر بأن يكون المسير أولاً إلى قباء قرية بني عمر بن عوف. فبلغها ظهر يوم الاثنين 12 ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة وذلك بعد مسير ثمانية أيام. وأقام النبي ثلاثة أيام بقباء وثق فيها من(42/32)
حسن استقباله بالمدينة. فما كان يوم الجمعة خرج من قباء إلى المدينة يحف به ملأ بني النجار. وقد لحقه بقباء علي بن أبي طالب بعد أن أدى عن الرسول ما كان للناس عنده من الودائع. ولما اطمأن الرسول بالمدينة انفذ إلى مكة من حمل إليه أهل بيته.
ليس يسيراً على المؤرخ أن يصور مقدار المشقة التي لحقت المهاجرين الأولين من جراء هجرتهم من وطنهم إلى بلد ناء ومعشر غرباء. لقد كان أول مظهر لهذه المشقة أن تأثروا بجو المدينة الوخم لأول قدومهم فاعتلت صحتهم وأصابتهم الحمى وعراهم داء الحنين إلى وطنهم القديم، حتى لقد كان بعضهم يهذي بذلك إذا أخذه دوار الحمى. البلاذري بإسناده عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت (لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مرض المسلمون بها فكان ممن اشتد به مرضه أبو بكر وبلال وعامر بن فهيرة. فكان أبو بكر يقول في مرضه:
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بفخ وحولي أذخر وجليل!
وهل أردن يوماً مياه مجنة ... وهل تبدون لي شامة وطفيل!
وكان عامر بن فهيرة يقول:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه ... كالثور يحمى جلده بروقه
قال فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: اللهم طيب لها المدينة كما طيبت لنا مكة، وبارك لنا في مدها وصاعها).
وتتمثل هذه المشقة كذلك في الفاقة الشديدة التي صار إليها المهاجرون بسبب الهجرة. فقد خلف أكثرهم أمواله بمكة فعدت عليها قريش فاغتصبتها تشفياً من أصحابها. روى صاحب أخبار مكة (انه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح (فتح مكة) ألا تنزل منزلك بالشعب؟ قال وهل ترك لنا عقيل منزلاً. قال وكان عقيل ابن أبي طالب قد باع منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنازل أخوته من الرجال والنساء بمكة حين هاجروا ومنزل كل من هاجر من بني هاشم، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل في بعض(42/33)
بيوت مكة في غير منزلك. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لا أدخل البيوت، فلم يزل مضطرباً بالحجون وكان يأتي المسجد من الحجون) ويروي ابن هشام أن عبد الرحمن بن أبي بكر عدا على مال أبيه بمكة بعد هجرته، فلما كان يوم بدر خرج عبد الرحمن مع قريش لقتال المسلمين فناداه أبوه: أين مالي يا خبيث؟ فأجابه عبد الرحمن:
لم يبق غير شكة ويعبوب ... وصارم يقتل ضلال الشيب
ويروي ابن هشام كذلك (أن صهيباً حين أراد الهجرة قال له كفار قريش أتيتنا صعلوكاً حقيراً، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريدان تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك: فقال لهم صهيب. أرأيتم أن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا نعم! قال فأني جعلت لكم مالي. قال فبلغ ذلك رسول الله (صلعم) فقال: ربح صهيب! ربح صهيب!) ويروي ابن اسحق أنه (لما خرج بنو جحش بن رئاب من دارهم عدا عليها أبو سفيان ابن حرب فباعها من عمرو بن علقمة. . . . فلما بلغ بني جحش ما صنع أبو سفيان بدارهم ذكر ذلك عبد الله بن جحش لرسول الله (صلعم). فقال له رسول الله (صلعم) ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك اله بها داراً خيراً منها في الجنة؟ قال بلى! قال فذلك لك. فلما افتتح رسول الله (ص) مكة، كلمه أبو أحمد في دارهم فأبطأ عليه رسول الله (صلعم). فقال الناس لأبي أحمد، يا أبا أحمد! إن رسول الله (صلعم) يكره أن ترجعوا في شيء من أموالكم أصيب في الله عز وجل، فأمسك عن كلام رسول الله (صلعم) فيها) ومما يدل على شدة فقر المهاجرين لأول عهدهم بالمدينة أن الرسول عند ما خرج بهم إلى وقعة بدر في السنة الثانية للهجرة دعا الله في رواية الواقدي فقال: (اللهم انهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأشبعهم، وعاله فأغنهم من فضلك)
من أجل تلك الفاقة كان المهاجرون في السنوات الأولى من الهجرة عالة على الأنصار. وذلك مظهر ثالث للحوق المشقة بهم - نعم إن الأنصار أكرموا وفادتهم كل الإكرام وواسوهم أتم المواساة، ولكن تلك الحال ليس من السهل على كرام النفوس احتمالها. يروي البلاذري أن النبي عندما أراد قسمة غنام بني النضير قال للأنصار: (ليست لإخوانكم من المهاجرين أموال، فأن شئتم قسمت هذه فيهم خاصة. فقالوا بل اقسم هذه فيهم واقسم لهم من أموالنا ما شئت. فنزلت (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) فقال أبو بكر:(42/34)
جزاكم الله يا معشر الأنصار خيرا، فوالله ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال الغنوي:
جزى الله عنا جعفراً حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت
أبوا أن يملونا ولو أن أمنا ... تلاقى الذي يلقون منا لملت
فذو المار موفور وكل معصب ... إلى حجرات أدفأت وأظلت
من أجل تلك المشقة التي نالت المهاجرين الأولين في سبيل الله اعتبر القرآن هجرتهم هجرة إلى الله ورسوله، ومن أجلها جعل أولئك المهاجرين أرفع طبقات المسلمين درجة وأجزلهم مثوبة، وفرض مثل هجرتهم على كل مسلم عند خوف الفتنة ولحوق الضيم، قال تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا: إلا المستضعفين من الرجال والنساء والوالدان، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوا غفورا. ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة، ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً).
أما بعد فلقد وفق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كل التوفيق عندما اتخذ هجرة الرسول من مكة إلى المدينة تاريخاً يحسب منه المسلمون سنيهم وأيامهم، ويؤرخون منه أحداثهم ووقائعهم. انه لا شك قد لحظ في الهجرة أنها بدء رسوخ الإسلام، ولكنا نلحظ فيها فوق ذلك أنها كانت مظهراً رائعاً لعناصر الحياة القوية النبيلة: حياة الألم والتضحية والإخلاص.
عبد الحميد العبادي(42/35)
اشراق الهلال على الوادي
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
وقف ربيئة الروم فوق أعلى حصن (بابليون) بجوار مدينة مصر العظيمة، فنظر إلى ما دونه نحو الأهرام عابراً ببصره نهر النيل العظيم فذهب به الخيال إلى الماضي البعيد، وهمت بنفسه سورة خفيفة من الشجن المبهم، وكان الجو كله ممتلئاً بالأشجان والمخاوف لما كانت الدولة تلقاه من جميع الأنحاء من الغارات والأخطار ثم، نظر إلى الشمال نحو مدينة الشمس العظيمة (أون) حاضرة العلوم القديمة ومركز ثقافة الفراعنة، غير أنها لم تكن عند ذلك إلا بقية ضئيلة من نفسها القديمة. ثم نظر إلى الكروم والبساتين التي تكتنف الحصن من شماله حتى تصله بمدينة (أون) فلاح له من بينها غبار ثائر وجرم متحرك. وما زال يحدق في ذلك الغبار وقلبه مضطرب وعقله تساوره الذكريات، والمخاوف تتوارد عليه سراعاً. ثم صاح صيحة النذير فاجتمع حوله جنود الحصن الذين كانوا على مقربة منه يشتركون معه في النظر إلى ذلك الغبار الثائر وما لاح تحته من أجرام متلاحقة متحركة نحو شاطئ نهر النيل. وكان الجنود إلى ذلك الوقت لا يعرفون شيئاً سوى ما يذيعه لهم قوادهم وأمراؤهم، فجعلوا يذهبون مع الخيال مذاهب شتى، فقائل منهم تلك جنود من الفرس عادت لتنتقم من الهزيمة الطاحنة التي لحقت بدولتها على يد هرقل ملك الروم العظيم، وقائل أن تلك قبائل البجة التي اعتادت العيث في جنوب البلاد قد بلغت شمال الوادي لتهبط على ريفه فتسلب منه ما شاءت ثم تعود مسرعة قبل أن يستطيع الروم أن يجمعوا الجيوش للإيقاع بها، ثم قال قائل منهم ممن عركتهم الحروب (أين الفرس اليوم؟ لقد صارت دولتهم في يد جيوش عرب الصحراء كما صارت بلاد الشام. ولقد رأيت بنفسي جيش العرب يأخذ دمشق ويطرد الروم من مروج سوريا، وليس من شك في أن هذا الغبار قد أثارته حوافر خيولهم السريعة).
وأتى عند هذه اللحظة قواد الروم عندما بلغهم الصخب واللغط فنظروا حيث نظر الجنود، ثم نظر بعضهم إلى بعض نظرات صامتة في وجوه مصفرة ثم قال (جورج) كبيرهم للجنود: (هلم أيها الجنود إلى أماكنكم فليس من المباح لكم أن تقفوا إلى جوار الربيئة تشغلونه عن حراسته) فانصرف الجنود طائعين وقلوبهم غير راضية وعقولهم غير(42/36)
مطمئنة، ثم مضى القواد إلى ناحية من سور الحصن وجعلوا ينظرون إلى الأشباح المتحركة والغبار الثائر في ضوء الغروب الخافت.
ثم قال (جورج) القائد الأعلى للحصن (أيمكن أن يكون هؤلاء العرب قد غلبوا جنود الدولة التي أرسلت إليهم وبلغوا هذه الجهات في شهر واحد؟ وماذا فعل (إريطبون)؟ وماذا فعل تيودور؟) فقال أحد القواد، وكان أقربهم إليه: (لقد شهدت حرب هؤلاء في مواطن كثيرة، إنهم يخرجون إليك كأنهم سراب الصحراء لا تدري من أين جاءوا، ثم تراهم ينصرفون عنك حتى لا تسمع عنهم شيئاً فكأنهم غاصوا في رمال الصحراء. ثم ما يلبثون أن يعودوا إليك وأنت لا تتوقع عودتهم كأنهم أشباح لا تعوقهم مادة هذه الأرض).
ثم أرخى الليل سدوله ولم يأت بعد نبأ عن فعل تلك الأشباح المتحركة، وطلع صباح اليوم التالي فإذا بالأرض الشمالية على عهدها ليس فيها غبار ثائر ولا أشباح متحركة، فكأنما كان منظر المساء الغابر من صور الخيال واختراع الوهم. إلا أن زوال ذلك اليوم حمل إلى الحصن بقية من جرحى قرية (أم دنين) التي على شاطئ النهر وفلا من مسلحة الحصن التي هزمها الجيش البدوي المغير. غير أن ذلك الجيش لم يبق بعد ذلك طويلاً على الشاطئ بل عبر النهر واختفى في الأفق الغربي. فتعجب القائد (جورج) عندما بلغه هذا، وعرف أن قائده الذي وصف له حرب العرب كان يصفهم عن خبرة وعلم. لقد ظهر جيش العرب في شمال الحصن كأنه شبح خيال ثم اختفى كذلك كأنه شبح خيال. ولكن متى يعود؟ ومن أي جهة يطلع بعد عليهم؟
تواردت إلى الحصن بعد ذلك الإمداد الكثيرة من جميع أنحاء مصر تعزيزاً لحصن الحصون الذي يدافع عن قلب البلاد مدينة (مصر)، وأجاب قواد الأطراف على استصراخ (جورج) قائد الحصن بأن بعثوا إليه ما استطاعوا بعثه من الجنود المجهزة ليطردوا ذلك الجيش الذي لاح ثم اختفى، وتجهز المقوقس العظيم ليسير بنفسه من الإسكندرية إلى مركز البلاد، ليكون وجوده حافزاً لهمة الجنود، وليكون على مقربة من الأعداء لعله يستطيع بما أوتي من بلاغة ومكر أن يصرفهم عن البلاد.
ومرت الأيام سراعاً وراجت الأخبار المتضاربة عن الغزاة، وأتت بعض أنباء تلك الكتيبة الصغيرة من فرسان الصحراء، فإذا بالقائد الشجاع (حنا) الذي كان معبود جيش الروم(42/37)
بالفيوم يقتل في بعض المواقع منذ دفعته شجاعته للقاء جيش العرب. وترددت أنباء ذلك بين القواد والجنود فإذا هم في حصن بابليون حلقات يتهامسون عن هذا العدو المغير ويتساءلون عن كنهه وحقيقة أمره، وكان بين جنود الروم وقوادهم من رأى حروب الآفار والبلغار والفرس، وكان منهم من قرأ أخبار الأمم الماضية ممن أغار على دولة الرومان في القرن الماضي من اللمبرديين والوندال والقوط. وما كان أفظع تلك الأمم التي أغارت في تلك القرون على أراضي الدولة الرومانية! فقد كانوا لا يعرفون في الحرب هوادة ولا رحمة، ولا يخضعون لقانون خلقي أو ديني. فقد حكى عن (البوين) ملك اللمبرديين أنه هزم في بعض حروبه قبيلة الجبيدي وقتل رئيسهم والد (روزاموند) الجميلة، ثم اتخذ تلك الابنة الجميلة زوجة له واحتفل بزواجه منها احتفالاً وحشياً، وجعل يشرب الخمر في كأس جميلة - وأي كأس أجمل من جمجمة عدوه والد عروسه الجميلة؟ حقاً ما كان أفظعه وأفظع قومه! ولقد دخل الوندال بلاد غاله ثم بلاد أفريقية، وكان الروم يعرفون مقدم هؤلاء الوندال بما يرتفع من لهيب النيران فوق آفاقهم. فكان هؤلاء الوندال يجتاحون بلادهم كما تجتاح العواصف والحرائق السهول الفيحاء فتتركها قاعاً صفصفاً، أيكون العرب كبعض هذه الأمم؟
مضى أشهر ثم عادت كتيبة العرب من الأفق الغربي فعبرت نهر النيل مرة أخرى، وظهرت لربيئة الروم من خلال البساتين والكروم التي بين الحصن ومدينة (أون)، وكان الروم قد اجتمعوا في العدد والعدة في حصنهم العظيم (بابليون)، فما أسرع أن تدفقت جموعهم نحو الشمال لتحيط بتلك الكتيبة وتهلكها. وهل كان هؤلاء العرب ليقووا على صدمة جيش عظيم كهذا؟
وقع الاصطدام أخيراً عند مدينة (أون). وماذا دهى القوم؟ فان هي إلا جولات، فإذا بجيش الروم يتردد في سيره، ثم إذا به يرتد نحو شاطئ النهر. ثم ها هي ذي كتيبة عربية تخرج إليه من شاطئ النهر كأنها تنقذف عليه من أعماقه. وها هو ذا الجيش العظيم يتردد مرة أخرى ثم يتفكك ثم تتدافع جموعه نحو الجنوب يحاول كل فرد منهم أن يبلغ الحصن قبل أن تأخذه سيوف العرب اللامعة. ومرت الأيام بعد ذلك فإذا بالروم قد دخلوا حصنهم وأغلقوا أبوابه الضخمة، وإذا بالعرب حول الحصن العظيم يتطلعون إليه ولا يدرون كيف(42/38)
يسمون فوقه. وأراد المقوقس العظيم أن يعرف حقيقة أمر هؤلاء المغيرين لعله يعطيهم بعض مال فيرتدوا عنه، فقال له أحد القواد: (دع عنك هذا فما هم بمن يأتي من أجل الذهب حتى إذا ما بذل لهم ذهبوا به عنا) وجعل يقص عليه قصته مع رجل من هؤلاء العرب رآه يوماً واقفاً وحده يصلي، فهبط إليه من الحصن مع جماعة من الروم، فترك العربي الصلاة وأقبل إليهم كأنه الصخرة الثقيلة التي تنحدر من عل لا يتردد ولا يلتفت إلى شيء، فهربوا منه حتى أنهم رموا إليه بمناطقهم الذهبية ليلهوه بها فلم يلو على شيء منها، ولم ينجهم منه إلا أن بلغوا الحصن وأغلقوا بابه دونه، ورموه بالحجارة من فوقه. فارتد ولم يلتفت إلى تلك المناطق الذهبية، بل عاد إلى موضعه ليتم ما كان فيه من الصلاة وتركهم يخرجون من حصنهم لاسترجاع مناطقهم ثم يعودون على حذر
تعجب المقوقس العظيم، وأراد أن يستطلع حقيقة الأمر فبعث بجماعة من الروم رسلا إلى قائد القوم فرأوا من هؤلاء المغيرين ما لا عهد للروم به من قبل. قال الرسل: (رأينا قوماً، الموت أحب إليهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة. إنما جلوسهم على التراب وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم. ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد منهم من العبد. وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد. يغسلون أطرافهم بالماء ويخشعون في صلاتهم).
لم يكن هذا شأن شعب من شعوب الهمج الذين افترسوا اطرف الدولة الرومانية. وهذه أول مرة يجتمع فيها إلى الاستهانة بالحياة والشجاعة التي لا تعرف خوفاً، خلق متين ونظام لا ينفك منه أحد. ومن ذا يستطيع أن يقاوم شعباً اجتمع له هذان الوصفان؟
كان أعظم ما يخشاه الروم في مصر أن يعرف شعب مصر حقيقة هؤلاء العرب، فلو أنهم عرفوا العرب لأمنوا إليهم، ولو أمنوا إليهم لأصبح الروم ولو كثر عديدهم غرباء عن الأرض قد فقدوا الناصر والتابع. غير أن شعب مصر ما لبث أن عرف الحق واتصل بهؤلاء المحاربين، فلقد كانوا في سيرهم لا يسيرون سير الجيوش المغيرة المدلة المتكبرة المفسدة، بل كان الطفل آمنا بينهم، والمرأة لا يلحقها أذى من نظرة أحدهم. إذ كانت عداوتهم لجيش الروم لا لأهل مصر، بل إن أهل مصر كانوا موضع وصية خليفتهم ووصية نبيهم الكريم، ومنذ رأى أهل مصر ذلك صاروا حلفاء لهم على أولئك الروم الذين(42/39)
طالما طغوا وبغوا وظلموا وعسفوا وأحرقوا وعذبوا ولم يرعوا في رعيتهم ما كان في أعناقهم من أمانة. وما هو إلا عام حتى كان العرب على انتظار تسليم الإسكندرية ذاتها بعد أن دان لهم داخل البلاد.
وكان الحاكم العربي عمرو بن العاص لا يدع فرصة لتذكير جنوده بما عليهم من الواجب نحو أهل البلاد التي حلوا بها، وكأننا به يتطلع بخياله القوي نحو ذلك اليوم الذي يمتزج فيه قومه الصحراويون بقبط مصر، وينشا من ذلك الامتزاج شعب جديد يقوم على إنشاء مدنية جديدة. وقف عمرو يخطب في قومه عند حلول الربيع وقت ذهاب العرب إلى الريف ابتغاء أن يصيبوا من خيراته لأنفسهم ولخيولهم. وقال عند ذلك في خطبته: (واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيرا، وإياكم والمسومات المعسولات. . . حدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرا، فان لكم منهم صهراً وذمة، فكفوا أيديكم وعفوا فروجكم وغضوا أبصاركم. . .))
ولقد سار العرب على وصية قائدهم الحكيم فلم يشك أحد من أهل مصر اعتداء على شرفه ولا انتهاكاً لحرمته.
ولقد كان عمرو عفيفاً في حكمه عن العسف والخبط حتى لقد وقف في وجه عمر بن الخطاب نفسه دفاعاً عن سياسته المالية الرحيمة، ثم عزل عن مصر في أيام عثمان دفاعاً عن تلك السياسة عينها. وكانت سياسة العرب على تقلب الأيام واختلاف الدول مدى القرنين الأولين من بعد الفتح سياسة اعتدال ورفق، تسمع ذلك متردداً على لسان أساقفة القبط الذين تركوا لنا في دواوينهم ذكراً من تلك الأيام.
قال أحدهم عندما عاد بنيامين بطريق القبط آمناً بعد أن هرب ثلاثة عشر عاماً من اضطهاد الروم: (الحمد لله الذي أنجاك من الكفرة (الروم)، وحفظك من الطاغية الأكبر الذي شردك فعد إلى أبنائك تراهم ملتفين حولك مرة أخرى).
ونقل عن بنيامين البطريق الأعظم للقبط انه قال يصف عودته عند فتح العرب: (كنت في بلدي وهو الإسكندرية فوجدت بها أمناً من الخوف، واطمئناناً بعد البلاء، وقد صرف الله عنا اضطهاد الكفرة (الروم) وبأسهم) (وقد فرح القبط كما يفرح الاسخال إذا ما حلت لهم(42/40)
قيودهم، وأطلقوا ليرتشفوا من لبان أمهاتهم).
وقال الأسقف حنا النقيوسي: (لقد تشدد عمرو في جباية الضرائب التي وقع الاتفاق عليها، ولكنه لم يضع يده على شيء من ملك الكنائس، ولم يرتكب شيئاً من النهب أو الغصب، بل أنه حفظ الكنائس وحماها إلى آخر مدة حياته).
وقد ورد في كتاب الأستاذ بتلر (فتح العرب لمصر) في وصف دخول المصريين في دولة العرب: (فقد خرجوا من عهد ظلم وعسف تطاول، وآل أمرهم بعد خروجهم منه إلى عهد من السلام والاطمئنان، وكانوا من قبل تحت نيرين من ظلم حكام الدنيا واضطهاد أهل الدين، فأصبحوا وقد فك من قيدهم في أمور الدنيا، وأرخى من عنانهم. وأما دينهم فقد صاروا فيه إلى تنفس حر وأمر طليق).
وإذا كان قبط مصر قد دخلوا في الإسلام أفواجاً حتى صار الإسلام دين الكثرة في البلاد، فما ذلك إلا ميل الطبيعة نحو وحدة قوم هم بطبيعة حياتهم ذاتها لا يستطيعون إلا أن يكونوا شعباً واحداً متجانساً. ولقد بقيت من القبط بقية عظيمة في دلالتها، عظيمة بما يجري في عروقها من دم مصر القديمة، وإذا كان دينها دين المسيح، ودين سائر أهل مصر الإسلام، فان ذلك لا يفرق بين طائفتين تجمع بينها أسباب الحياة وأواصر الاخوة. وأن الأسماء إذا اختلفت، والمظاهر إذا لاح عليها شيء من التباين، فان الدماء التي تجري في العروق ترجع إلى منبع واحد وجرثومة قديمة شهدت عصور ما قبل التاريخ.
محمد فريد أبو حديد(42/41)
الهجرة
رواية في فصل واحد وسبعة مناظر
للأستاذ توفيق الحكيم
إني أشهد أن محمداً نبي كريم
إني أشهد أن محمداً بشر عظيم
إني أسجد للعظمة والنور
وما صفحاتي إلا إشهاد وسجود.
توفيق الحكيم
المنظر الأول
كان النبي (ص) جالساً وحده في المسجد وأشراف قريش مجتمعون عن كثب يتهامسون. . . .
قريش - ما الرأي في محمد؟ إن عمه أبا طالب يمنعه وينصره علينا
عتبة بن ربيعة - أجل، ولا قِبل لنا بأبي طالب
أبو جهل - إني لأخشى أن يتابع محمداً بعض رؤوس القوم فيعز ويمتنع ويفشو أمره في القبائل
أبو سفيان - ما أحسبه يا أبا الحكم إلا نائلا منا إن تركناه فيما هو فيه
قريش - وما الرأي؟
عتبة (تبدو له فكرة)
يا معشر قريش! ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟
قريش - بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه
(يقوم عتبة إلى رسول الله ويجلس إليه. . . .)
عتبة (للنبي)
يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السلطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد(42/42)
أتيت قومك بأمر عظيم: فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم، وكفرت به من مضى من آبائهم؛ فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها.
محمد - قل يا أبا الوليد، أسمع
عتبة - يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تريد به شرفاً، سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً، ملَّكناك علينا، وإن كان هذا الوحي الذي يأتيك رئيَّاً تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه.
(يسكت عتبة وينظر إلى النبي)
محمد - أقد فرغت يا أبا الوليد؟
عتبة - نعم
محمد - فاستمع مني
عتبة - أفعلُ
محمد (يلتو)
بسم الله الرحمن الرحيم، حم تنزيل من الرحمن الرحيم، كتاب فصَّلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون، بشيراً ونذيراً، فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون. وقالوا قلوبنا في أكنّة مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر، ومن بيننا وبينك حجاب، فاعمل إننا عاملون. قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ، إنما إلهكم إله واحد، فاستقيموا إليه واستغفروه، وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون. . .
؟
عتبة (ينصت ويلقي يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه. . .)
محمد (يمضي فيها يقرؤها عليه)
ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون. قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين. ثم استوى إلى السماء وهي(42/43)
دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين. فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم. فان أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألاَّ تعبدوا إلا الله، قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أُرسلتم به كافرون، فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة؟ أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون. فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون. وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون. . .
(ينهي رسول الله إلى السجدة منها فيسجد. . . .)
عتبة - (مأخوذا كأنما على رأسه طائر واقع. . . . . . . . . . . .)
؟
محمد - قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك
عتبة - (يقوم إلى أصحابه صامتا)
؟
أبو جهل (لقريش ناظرا إلى عتبة مقبلا عليهم)
أحلف لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به
عتبة - (يجلس إليهم ساكناً)
أبو جهل - ما وراءك يا أبا الوليد؟
عتبة - (في صوت متغير)
ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط. والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه
(قريش يعروها دهش ويصمت الجميع)
أبو جهل - (ينتبه ويرفع رأسه ملتفتاً إلى عتبة. . .)
سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه(42/44)
عتبة - والله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ
قريش - أهذا رأيك فيه؟
عتبة - هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم. . .
المنظر الثاني
(بعد غروب الشمس. . . . . أشراف قريش عند ظهر الكعبة)
أمية بن خلف - هل بعثتم إليه؟
أبو سفيان - نعم، لقد بعثنا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك
أمية بن خلف - أجل، ابعثوا إليه فكلموه وخاصموه حتى تُعذروا فيه
أبو جهل - لن يستطيع اليوم أن يسحرنا بحديثه كما سحر أبا الوليد
أبو سفيان (ينظر)
ها هو ذا مقبلا سريعاً
أمية - (ينظر)
أرى في وجهه المستبشر أنه يظن أن قد بدا لنا فيه بداء
(رسول الله يحضر ويجلس إليهم مستبشراً طامعاً في إسلامهم)
أبو سفيان - (لأبي جهل)
كلمه أنت يا أبا الحكم
أبو جهل - (لرسول الله)
يا محمد! إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام. فأن كنت إنما جئت بهذا الحدث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وان كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وان كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وان كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك
(يسكت وينظر إلى النبي)
محمد - ما بي ما تقولون. ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك(42/45)
عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل على كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فان تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وان تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم
قريش (تتهامس)
انه غير قابل
أبو جهل - يا محمد إن كنت غير قابل شيئاً مما عرضناه عليك فانك تعلم أنه ليس من الناس أحد أضيق بلداً ولا أقل ماء ولا أشد عيشاً منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل، فان صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله وأنه بعثك رسولا كما تقول
محمد - ما بهذا بعثت اليكم، انما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فان تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وان تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم
قريش (تتهامس)
انه والله غير فاعل
أبو جهل - فإذا لم تفعل هذا لنا، فخذ لنفسك، سل ربك أن يبعث معك ملكاً يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك
أبو سفيان - وسله فليجعل لك جناناً وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة، يغنيك بها عما تراك تبتغي، فانك تقوم بالأسواق كما نقوم، تلتمس المعاش كما نلتمسه
أمية - نعم، فليجعل لك قصوراً وكنوزاً حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم
محمد - ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً، فان تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وأن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم(42/46)
قريش (تتهامس)
فليرنا ما يتوعد
أبو جهل - أسقط السماء علينا كسَفا كما زعمت، فان ربك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل
محمد - ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل
أبو سفيان - يا محمد، أفما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به؟
أبو جهل - يا محمد، أنه قد بلغنا أنك أما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا؛ فقد أعذرنا إليك، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا
أمية - نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله
أبو سفيان - لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا
محمد (يقوم عنهم يائسا) (ويقوم معه عبد الله بن أبي أمية)
؟
عبد الله - يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل، ثم سألوك أن أخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل، فوالله لا أوآمن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلّما ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها، ثم تأتي بصك ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول وايم الله أن لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك
محمد - (ينصرف حزيناً آسفاً)
؟
أبو جهل - يا معشر قريش، إن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آلهتنا، وأني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضخت به(42/47)
رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم
الجميع - والله لا نسلمك لشيء أبداً، فامض لما تريد
المنظر الثالث
أبو طالب (وقد حضره الموت. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .)
أبو طالب - شربةَ ماء
العباس (على رأسه يسقيه)
؟
أبو طالب (يلتفت)
من هذا؟
العباس - أين؟
أبو طالب (يشير إلى الباب)
؟
العباس (يتوجه إلى الباب ينظر ثم يعود)
هو أبو جهل في رجال من أشراف قومه، ما أحسبهم إلا يمشون إليك في أمر محمد ابن أخيك
أبو طالب - أدخلهم عليّ
العباس (يدخلهم)
؟
أبو جهل - يا أبا طالب، انك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا وخذ لنا منه ليكف عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه
أبو طالب (يشير إلى العباس أن يبعث إلى محمد)
؟
العباس (يخرج في طلبه ثم يعود)
لقد جاء محمد(42/48)
(يدخل رسول الله)
أبو طالب (للنبي)
يا ابن أخي، هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك
محمد - نعم يا عم، كلمة واحدة يعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم
أبو جهل - نعم وأبيك وعشر كلمات
محمد - تقولون، لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه
(يصفق القوم بأيديهم)
أبو جهل - أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحداً؟ إن أمرك لعجب
أبو سفيان (يتهيأ للانصراف مع بعض القوم) والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه
(يتفرقون ويخرجون)
أبو طالب (للنبي بعد خروج قريش) والله يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شططا
محمد (ناظرا إليه طامعاً في إسلامه)
أي عم، فأنت فقلها، أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة
أبو طالب - يا ابن أخي، والله لولا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعاً من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها. . . .
(يقترب منه الموت)
العباس أخي. . . .
أبو طالب - من هذا؟
العباس - أين؟
أبو طالب - (يغمض عينيه ويحرك شفتيه)
؟
العباس (ينحني عليه، ويصغي إليه بأذنه ثم يهمس إلى رسول الله. . .)
يا ابن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها
محمد - لم أسمع(42/49)
المنظر الرابع
(بيت النبي في مكة)
بلال - (يدخل باكياً)
؟
جارية - ويحك يا بلال. ما بك؟
بلال - قاتلهم الله
الجارية - ما يبكيك يا بلال؟
بلال - قاتلهم الله
الجارية - من هم؟
بلال - أغروا أحد سفهائهم فاعترض رسول الله وحثا على رأسه التراب
الجارية - التراب؟
بلال - نعم
الجارية - قريش؟
بلال - نعم. هي قريش صنعت هذا
الجارية - نعم، اليوم
بلال - واحزناه عليك يا أبا طالب. من ذا يمنع اليوم النبي وينصره؟
الجارية - (ترى إحدى بنات النبي مقبلة)
صه ودع البكاء عنك يا بلال
بلال - (يرى النبي مقبلا)
رسول الله. . .
(ثم يكفكف دمعه سريعاً)
محمد - (يدخل والتراب على رأسه)
ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب
ابنته - (تبكي)
؟(42/50)
(ثم تأتي بماء وتغسل عن النبي التراب. . . .)
محمد - لا تبكي يا بنية، فان الله مانع أباك
المنظر الخامس
(في الطائف. النبي في نفر من سادة ثقيف وأشرافهم على مقربة من حائط لعتبة بن ربيعة وأخيه شيبة وهما فيه ينظران)
عتبة - (يهمس)
ما جاء به إلى الطائف؟
شيبة - ما أحسبه إلا جاء يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه
عتبة - قريش؟
شيبة - نعم، ما كان أحد يمنعه وينصره على قريش إلا عمه أبو طالب، فلما هلك عمه نالته قريش من الأذى بما لم تكن تطمع به في حياة عمه
عتبة - وهل تحسب ثقيفاً ناصرة إياه؟
شيبة - إن لم تنصره ثقيف فلا ناصر له
عتبة - (يلتفت إلى ناحية القوم)
انظر يا شيبة. انه جلس إلى أشراف ثقيف يدعوهم إلى ربه الذي يحدث عنه. وما أرى في وجوه القوم إلا استهزاء به وبما يقول
شيبة - (ينظر)
سمع. هذا مسعود بن عمرو يدنو منه
مسعود - (يدنو حقيقة من النبي)
أني أمرط ثياب الكعبة ان كان الله أرسلك
عتبة - (لشيبة همساً)
أسمعت؟
شيبة - (هامساً)
سمعت
عتبة - (همساً)(42/51)
أرى وجهه قد تغير
شيبة - هذا أيضاً عبد ياليل بن عمر يدنو منه
عبد ياليل (يدنو من النبي)
أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟
عتبة - (هامساً)
انهم يغلظون له
شيبة - صه. هذا حبيب بن عمرو يدنو منه كذلك ليقول له شيئاً
حبيب - (للنبي)
والا لله اكلمك أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام. ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك
محمد - (يقوم وقد يئس منهم)
عتبة - انظر يا شيبة، انه قد قام
شيبة - ما أراه إلا بائساً حزيناً
عتبة - انه يريد أن يقول لهم شيئاً، اسمع
محمد - (للقوم)
إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني
عتبة - (هامساً)
ماذا يريد بهذا؟
شيبة - لعله يكره أن يبلغ قومه عنه خذلان ثقيف له فيذئرهم ذلك عليه
(صياح وأصوات).
عتبة - ما هذا الصياح؟
(ينظر)
انظر هؤلاء ناس وعبيد تصيح به
شيبة - (ينظر)
ما أحسب إلا أن القوم قد أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به.(42/52)
عتبة - انظر لقد اجتمع عليه الناس وهو لا يستطيع منهم فرارا
شيبة - ما أرى إلا أنه سيلقى منهم أذى كثيرا
عتبة - أنه مقبل علينا
شيبة - أنهم يسدون عليه السبيل
(الصياح يقترب)
عتبة - لقد ألجأوه إلى حائطنا
شيبة -، أجل، ها هو ذا يسقط إعياء
(النبي قد عمد حقيقة إلى ظل حيلة من عنب فجلس فيه وقد رجع عنه من كان يتبعه من سفهاء ثقيف. . .)
عتبة - أي هوان يلقى هذا الرجل من أهل الطائف!
شيبة - أتحركت له رحمتك يا عتبة؟
عتبة - (ينظر إليه)
اسمع. إصغ. انه يقول شيئاً
محمد - (وقد اطمأن قليلاً بعد ذهاب الناس عنه. . .)
اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتهجمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ أن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي. ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك. لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك
عتبة - (همساً لأخيه شيبة)
أسمعت؟
شيبة (مأخوذا)
نعم!
عتبة - أيمكن أن يكون مثل ذلك الرجل كذاباً؟
شيبة - ويحك يا عتبة!(42/53)
عتبة (ينادي غلامه همساً)
يا عداس!
عداس - لبيك!
عتبة - خذ قطفاً من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه
عداس (؟ يسارع إلى ما أمر به)
شيبة (ينظر إلى وجه أخيه)
ما حملك على هذا؟
عتبة (ينظر إلى النبي)
انظر يا شيبة، إن عداساً قد أقبل بالطبق ووضعه بين يديه
عداس (للنبي)
كل!
محمد (يضع يده في الطبق)
بسم الله!
(ثم يأكل)
عداس (ينظر في وجه النبي)
والله أن هذا لكلام ما يقوله أهل هذه البلاد
محمد - ومن أهل أي البلاد أنت؟ وما دينك؟
عداس - نصراني. وأنا رجل من أهل نينوى
محمد - من قرية الرجل الصالح يونس بن متي
عداس - وما يدريك ما يونس بن متي؟
محمد - ذاك أخي. كان نبياً وأنا نبي
عداس - (يكب على رسول الله يقبل رأسه ويديه وقدميه. . .)
؟
عتبة - (هامساً لشيبة)(42/54)
أرأيت؟
شيبة - نعم
عتبة - وما تقول في هذا؟
شيبة - أما غلامك فقد أفسده عليك
عداس (يقبل عليهما)
؟
عتبة - ويلك يا عداس، مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟
عداس - يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي
شيبة - ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فان دينك خير من دينه
عداس - إن مثل هذا لا يمكن أن يحتمل ما لقي إلا في سبيل الحق، ولا أن يثبت على دينه بعد كل هذا إلا أن يكون دينه دين الحق
المنظر السادس
(دار الندوة التي تجتمع فيها قريش للمشاورة. إبليس في ثياب شيخ نجدي جتيل يدخل الدار وهي خالية فتلقاه حية تظهر في الحائط)
الحية - (تصيح به)
إبليس في لبوس شيخ من نجد؟
إبليس - لا تصيحي أيتها الصئيلة
الحية - ماذا جئت تصنع في دار الندوة؟
إبليس - أريد محمدا
الحية - تريد به الهلاك
إبليس - أريد لنفسي الحياة
الحية - ماذا صنع بك؟
إبليس - سيغير وجه الأرض!
الحية - كيف؟
إبليس - نور يخرج من قلبه يضيء الأرض(42/55)
الحية - وما يضيرك هذا؟
إبليس - يعمي بصري هذا النور
الحية - أطفئه من قلبه
إبليس - لا سلطان لي على مثل هذه القلوب
الحية - قلب لا ككل القلوب، إني لأذكر أمره، لقد أتاه الملكان وهو صغير بطست من ذهب مملوءة ثلجاً فأخذاه فشقا بطنه واستخرجا قلبه، فشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها ثم غسلا قبله وبطنه بذلك الثلج حتى أنقياه. . .
إبليس - العلقة السوداء!
الحية - تلك رسولك في كل قلب
إبليس - تبا له، تبا له
الحية - كما كنت أنا رسولك إلى أول قلب
إبليس - حواء؟
الحية - ذاك يوم ملعون إلى أبد الآبدين
إبليس - أتندمين؟
الحية - ماذا جنيت من كل هذا؟
إبليس - قلت لك: تلك حياتي
الحية - حياة ملعونة في كل زمان
إبليس - ويل للنفاق! ويل للنفاق!
الحية - نفاقك
إبليس - بل نفاق من يلعننا
الحية - كنت أود أن تفتن غيري
إبليس - أود أن أفتن هذا الرجل
الحية - انك تقول أن لا سبيل لك عليه
إبليس - تبَّاً لي!
الحية - أنه ليس كغيره من الناس(42/56)
إبليس - تبا له!
الحية - لقد وزنه الملكان وهو صغير بعشرة من أمته فوزنهم، ثم وزناه بمائة من أمته فوزنهم، ثم وزناه بألف من أمته فوزنهم: فقالا والله لو وزناه بأمته كلها لوزنها
إبليس - صه. انهم قادمون
الحية - من هم؟
إبليس - ادخلي جحرك. ولأتخذن لغة القوم
(الحية تختفي ويقف إبليس بباب الدار ويدخل أشراف قريش)
أبو سفيان (لابليس)
من الشيخ؟
ابليس - شيخ من أهل نجد، سمع بالذي اتَّعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، عسى ألا يعدمكم منه رأي ونصح
أبو جهل - أجل فادخل
(إبليس يدخل معهم ويجتمعون في دائرة. . .)
أبو سفيان - تكلم يا أبا الحكم
أبو جهل - إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيا
أمية بن خلف - احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله: زهير أو النابغة ومن مضى منهم، من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم
إبليس - لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره
أبو سفيان (يتفكر قليلا)
نخرجه من بين أظهرنا فتنفيه من بلادنا، فإذا أخرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع، إذا غاب عنا وفرغنا منه، أصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت(42/57)
إبليس - لا والله ما هذا لكم برأي. ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم في بلادكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد. دبروا فيه رأياً غير هذا
أبو جهل (بعد تفكير)
والله إن لي فيه لرأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد
أبو سفيان - وما هو يا أبا الحكم؟
أبو جهل - أرى أن نأخذ من كل قبيلة شاباً فتى جليداً نسيبا وسيطا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه، فانهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم
إبليس (مبتهجاً)
القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا رأي غيره
(يتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له. . .)
المنظر السابع
(ليلة الهجرة. . . . النبي في داره. . .)
جبريل (للنبي)
لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه
(يرتفع الملك)
علي بن أبي طالب (يدخل هامساً)
ألمح في عتمة الليل رجالاً قد اجتمعوا على بابك، ما أحسبهم إلا يرصدونك حتى تنام فيثبون عليك
محمد - نم على فراشي والتف ببردى هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه، فانه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم
(علي يفعل ما أمره به النبي)(42/58)
أبو جهل - (يهمس بين الرجال على باب النبي)
أكره أن يفلت منا الليلة كما أفلت مني يوم احتملت الحجر أري فضخ رأسه في المسجد
أمية (هامساً)
وكيف أفلت منك يومئذ؟
أبو جهل (هامساً)
ما أدري والله. لقد أقبلت نحوه حتى إذا دنوت منه رجعت مرعوباً وقد يبست يداي على حَجري حتى قذفته من يدي، فقد عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهم بي أن يأكلني
أمية - سحرك والله يا أبا الحكم
أبو جهل - إن كان قد سحرني يومئذ فما أحسبه يستطيع ذلك الليلة معكم جميعاً
أمية - أرى أنه قد نام
أبو سفيان (يتطلع إلى مكان النبي)
انه نائم في برده الأخضر الذي ينام فيه
أبو جهل - إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وان لم تفعلوه كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم ناراً تحرقون فيها
(رسول الله يخر عليهم آخذا حفنة من تراب في يده. . .)
محمد - نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم
(ينثر عليه الصلاة والسلام التراب على رؤوسهم حتى لم يبق منهم رجلا إلا وقد وضع على رأسه تراباً وهو يتلو:)
يس والقرآن الحكيم انك لمن المرسلين، على صراط مستقيم، تنزيل العزيز الرحيم، لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون. لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون. إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون. وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون.
(ينصرف النبي وهم كالنائمين لا يبصرون. . . .)(42/59)
؟
راع (يمر بهم)
؟
قريش (لا تراه)
الراعي (لقريش)
ما تنتظرون ههنا؟
الجميع (كأنما افاقوا يهمسون)
محمدا
الراعي - خيبك الله! قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه تراباً وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟
الجميع (يضع كل منهم يده على رأسه)
حقا هذا تراب، ما هذا التراب؟
(يتطلعون إلى فراش النبي وفيه علي في برد رسول الله)
أبو جهل (متطلعاً)
والله إن هذا لمحمد نائماً عليه برده
الراعي (كالمخاطب لنفسه)
إن محمداً قد هاجر أيها الغافلون. . .!)
(جميع الحقوق محفوظة توفيق الحكيم)(42/60)
السفارات النبوية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
مضت خمسة أعوام على هجرة النبي العربي (عليه السلام) إلى المدينة قبل أن تهدأ ثائرة قريش أو تفتر عن مخاصمته ومهاجمته: وأنفق النبي هذه الأعوام الخمسة على أهبة الدفاع يرد محاولات قريش لغزو معقله وملاذ دعوته، أولاً في بدر ثم في أحد ثم في موقعة الخندق. فلما وهنت قوى قريش بعد الخندق، استطاع النبي أن يعني بالتفكير في العمل الإيجابي لمغالبة خصومه وبث دعوته. ولم تكن الدعوة الإسلامية قد تجاوزت يومئذ وديان مكة والمدينة؛ ولم تثبت دعائمها إلا في المدينة بين عصبة المهاجرين والأنصار؛ ولم يك ثمة ما ينبئ بأن هذه البداية الضئيلة إنما هي الحجر الأول في صرح الدولة الإسلامية العظيمة التي قامت بعد ذلك بعشرين عاماً فقط على أنقاض دولتين من أعظم دول التاريخ هما الدولة الفارسية والدولة الرومانية الشرقية. وكان فشل قريش في موقعة الخندق حاسماً في تطور هذه الخصومة التي أضرمت قريش لظاها مذ أذاع النبي رسالته. ومنذ الخندق استطاع الإسلام أن يفتتح غزواته للأمم والأديان القديمة؛ ففي أواخر العام الخامس وأوائل العام السادس للهجرة قام النبي بعدة غزوات محلية لبعض القبائل والبطون المعادية وفي أواخر العام السادس نظم النبي بعوثه أو سفاراته لأكابر الملوك والأمراء المعاصرين. وفي العام الثامن كان فتح مكة وخضوع قريش؛ وكان ظفر الإسلام حيثما استهل رسالته وانبعثت أشعته الأولى
وكانت السفارات النبوية بين حوادث هذا العهد حادثاً فريداً؛ وكانت دليلاً جديداً على ما تجيش به نفس الرسول العربي من سمو في الشجاعة وقوة في الإيمان برسالته. ولم يكن الإسلام يومئذ قوة يُخشى بأسها فيدعو قيصر وكسرى إلى اعتناق دعوته؛ ولكن محمدا أرسل للبشر كافة بشيرا ونذيرا. وكما كانت الغزوات النبوية المتواضعة سبيلا للذود عن الإسلام ووسيلة لتأييد كلمة، فكذلك كانت السفارات النبوية سبيلا لأداء رسالته وإبلاغ صوته إلى الملوك والأمراء الذين يحكمون العالم القديم يومئذ. ففي شهر ذي الحجة سنة ست من الهجرة (إبريل سنة 628م) بعث النبي كتبه وسفراءه إلى ثمانية من أولئك الملوك والأمراء هم قيصر قسطنطينية، وقيروس حاكم مصر الروماني، والحارث بن أبي شمر(42/61)
الغساني النصراني عامل قيصر في الشام، وكسرى (خسرو) ملك فارس ونجاشي الحبشة، وثلاثة من أمراء الجزيرة المحليين هم هوذة بن علي صاحب اليمامة، والمنذر بن ساوي صاحب البحرين، وجيفر بن جلندا وأخوه صاحبا عمان. وقد كان هؤلاء (ملوك العرب والعجم) الذين يسودون الجزيرة العربية يومئذ أو يتصلون بها بأوثق الصلات. وكان أهمهم وأعظمهم بلا ريب قيصر الروم وملك فارس، وقد كانا يقتسمان سواد العالم القديم يومئذ؛ ويبسط أولهما حكمه على الشام وما إليها جنوباً حتى شمال الحجاز، ويبسط الثاني حكمه على شمال شرقي الجزيرة، ويدين له كثير من أمراء العرب بالولاء والطاعة. وكان الأول زعيم الأمم النصرانية، والثاني زعيم الأمم الوثنية
نظمت هذه السفارات وأرسلت إلى مختلف الأنحاء، لكل ملك وفد أو رسول ولكل كتاب نبوي. وكانت مهمتها جميعاً واحدة. وتقدم الرواية الإسلامية إلينا صور الكتب المرسلة، وهي جميعاً في صيغ واحدة أو متماثلة؛ وفيها جميعاً يدعو النبي ملوك عصره إلى الإسلام والإيمان برسالته. وكان سفير النبي إلى هرقل قيصر الدولة الرومانية الشرقية دحية بن خليفة الكلبي؛ واليك نصل الكتاب النبوي إلى قيصر حسبما ورد في السيرة وفي الصحيحين: (من رسول الله إلى هرقل عظيم الروم؛ سلام على من اتبع الهدى - أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم: أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فان توليت فان عليك إثم الاريسيين؛ يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون). وكان هرقل (الأول) قد تسلم عرش قسطنطينية قبل ذلك بثمانية عشر عاما بعد حوادث وخطوب جمة، وقضى معظم عهده في حروب طاحنة مع الفرس. وكان الفرس قد غلبوا على مصر وسوريا وآسيا الصغرى، وهددوا قسطنطينية نفسها، فاستطاع هرقل أن يردهم عن أقطار الدولة، وان يطاردهم حتى قلب بلادهم، وان يسحق قواتهم في موقعة نينفة الحاسمة (ديسمبر سنة 627). وفر كسرى الثاني ملك الفرس المعروف بكسرى ابرويز من عاصمته المدائن، ثم قبض عليه ولده شيرويه (سيروس) وقتله وجلس على العرش مكانه، وعقد الصلح مع هرقل. وعاد قيصر إلى قسطنطينية ظافراً يحمل صندوق (الصليب المقدس) الذي كان الفرس قد انتزعوه من بيت المقدس. ثم سار في خريف هذا العام (سنة(42/62)
628) حاجاً إلى بيت المقدس سيراً على الأقدام ومعه الصليب ليرده إلى موضعه بالقبر المقدس؛ فبينا هو ببيت المقدس يؤدي مراسم الحج، إذ وفد عليه حاكم بصرى (بوسترا) ومعه دحية الكلبي؛ فقدم إليه كتاب النبي، واخبره بمضمون سفارته. وتقول الرواية الإسلامية أن هرقل استقبل سفير النبي بأدب وحفاوة، وسأله عن بعض أحوال النبي وأحوال رسالته؛ بل تذهب إلى القول بأن هرقل هم باعتناق الإسلام لولا أن خشي نقمة البطارقة، وانه صارح دحية برغبته وخشيته. وهذه مبالغة بلا ريب. ونستطيع أن نتصور ما أثارته سفارة النبي في نفس قيصر من بواعث الإنكار والدهشة؛ ولعله لم يكن قد سمع عن محمد ورسالته من قبل قط؛ بيد انه رد السفير النبوي ببعض المجاملات والأقوال الودية. ولما عاد هرقل إلى عاصمته وصلته رسالة أخرى تلقاها عامله على الشام المنذر بن الحارث الغساني من النبي على يد رسوله شجاع بن وهب يدعوه فيها إلى الإسلام، ويحذره عواقب المخالفة فبعث بها المنذر توا إلى هرقل وسأله أن يسير لمحاربة ذلك الذي اجترأ على هذا الوعيد فلم يوافقه هرقل على ذلك، ورد شجاع كما رد دحية ببعض المجاملات والتحيات
ووصلت سفارة النبي إلى مصر في الوقت نفسه يحملها حاطب ابن بلتعة اللخمي. وتجمع الرواية الإسلامية على أن هذه السفارة كانت موجهة إلى (المقوقس عظيم القبط) وتقدم إلينا صورة الكتاب النبوي الذي أرسل إليه مستهلا بهذه العبارة: (بسم الله الرحمن الرحيم؛ من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط)
وهو في نص الكتاب الذي وجه إلى هرقل وفي نفس عباراته مع تغيير يسير في بعض الروايات؛ وفيه يدعى المقوقس كما دعى هرقل إلى اعتناق الإسلام. وهنا يجب أن نقف قليلاً عند شخصية المقوقس هذا الذي تعرفه الرواية الإسلامية دائماً بأنه عظيم القبط. فقد كانت مصر يومئذ ولاية رومانية استردها هرقل من الفرس بعد أن لبثوا فيها عدة أعوام ورد إليها سلطة قسطنطينية، وعاد يحكمها الولاة الرومانيون كما كانت من قبل؛ ولم يكن لأهلها القبط أي نوع من الاستقلال. والظاهر أن هذه الحقائق لم تكن مجهولة في المدينة حيث تدل رسالات النبي وكتبه على أن الأحداث والأوضاع السياسية التي كانت تسود الجزيرة العربية وما يجاورها من الممالك كانت معروفة من النبي وصحبه. وقد كان حاكم(42/63)
مصر الروماني في نحو الوقت الذي نتحدث عنه هو الجبر (كيروس) وهو في نفس الوقت حاكم مصر وبطريقها الأكبر. وقد استطاع البحث الحديث أن يلقي كثيراً من الضياء على شخصية (المقوقس) وأن يتعرف فيه شخصية (كيروس) نفسه؛ وإذا فالمرجح أن المقوقس الذي تردد الرواية العربية اسمه إنما هو (كيروس) حاكم مصر الروماني بيد أن هناك نقطة ما تزال غامضة هي أن (كيروس) لم يعين حاكماً لمصر إلا في سنة 631م، أعني بعد إرسال السفارات النبوية بأكثر من عامين؛ ولا يمكن أن تفسر هذه الثغرة في التواريخ إلا بأن السفير النبوي قد انفق الوقت في قطع الطريق ثم في الانتظار أو أن (كيروس) كان معينا قبل ذلك لحكم مصر بصفة غير رسمية ثم عين بصفة رسمية، بيد أن الواقدي يقدم إلينا حلا لهذا المشكل، فيقول أن سفارة النبي إلى (المقوقس) كانت في السنة الثامنة من الهجرة لا في أواخر السنة السادسة، وأواخر السنة الثامنة من الهجرة توافق أواسط سنة 630م، فإذا أضفنا إلى ذلك موعد المسافة من المدينة إلى مصر استطعنا أن نضع مقدم السفير النبوي في أوائل سنة 631م. وعلى أي حال فالمرجح والمعقول هو أن السفارة النبوية لم توجه في مصر لأحد غير الحاكم العام، وقد كان هذا الحاكم العام هو (كيروس). ومما يؤيد هذا الحقيقة هو أن السفير النبوي قصد إلى الإسكندرية ليؤدي مهمته وقد كانت الإسكندرية يومئذ مقر الحاكم العام الروماني
اخترق حاطب بن بلتعة اللخمي مصر في شرقها إلى غربها وقصد إلى الإسكندرية ليؤدي سفارة النبي ورسالته، واخذ إلى (كيروس) في مجلسه المشرف على البحر؛ فاستقبله بترحاب وحفاوة، وتلقى منه الكتاب النبوي وناقشه في مضمونه، وسأله عن النبي ودعوته. وهنا تقول الرواية الإسلامية أيضاً كما قالت في شأن هرقل، أن المقوقس (كيروس) أفضى إلى حاطب بأنه مؤمن بصدق رسالة النبي، وانه يود لو تبعه لولا خشيته من القبط؛ ثم صرف حاطباً بكتاب منه إلى النبي وهدية يذكرها في الكتاب. واليك نصه كما يورده ابن عبد الحكم اقدم مؤرخ لمصر الإسلامية: (لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط. سلام، أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت وما تدعو إليه. وقد علمت أن نبياً قد بقى وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام. وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة؛ وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام). وفي بعض الروايات أن الهدية(42/64)
تضمنت فوق ذلك حماراً وشيئاً من العسل والمال. والجاريتان هما مارية القبطية وأختها شيرين. وقد أسلمتا على يد النبي؛ وتزوج النبي بمارية ورزق منها بولده إبراهيم الذي توفى طفلا؛ ووهب أختها شيرين لأحد أصحابه المقربين إليه. وفي زواج النبي بمارية، وفي مولد ولده إبراهيم، دليل مادي قاطع على انه كانت ثمة مخاطبات وعلائق حقيقية بين النبي وعظيم مصر يومئذ، أعني (كيروس) الحاكم الروماني
هكذا كانت النتائج التي انتهت إليها الكتب والسفارات النبوية إلى قيصر وعامليه على مصر والشام، وقد كانت نتائج سلبية، ولم تكن حاسمة في شيء. بيد أنها كانت بلا ريب ذات أثر معنوي عميق في البلاط الروماني وفي الكنيسة
وأما الكتب والسفارات النبوية إلى الناحية الشرقية من الجزيرة فقد لقيت مصاير أخرى. وكانت ثلاثا أهمها سفارة فارس، وكان سفير النبي إلى ملك فارس عبد الله بن حذافة السهمي، فقصد إلى المدائن ومعه الكتاب النبوي. وتقدم الرواية الإسلامية أيضاً نص هذا الكتاب فيما يلي: (بسم الله الرحمن الرحيم - من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس - سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله، ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأدعو بدعاء الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً، ويحق القول على الكافرين؛ فاسلم تسلم، فان أبيت فان إثم المجوس عليك). وكان ملك الفرس يومئذ كسرى الثاني (أو كسرى ابرويز)؛ فلما قرئ عليه كتاب النبي مزقه، وأهان السفير وطرده؛ وبعث إلى عامله على اليمن باذان الفارسي أن يبعث إلى محمد من يتحقق خبره أو يأتيه به؛ فصد بالأمر. بيد أنه حدثت في تلك الأثناء بالمدائن حوادث خطيرة، فان شيرويه (سيروس) ولد كسرى ثار عليه وقتله وانتزع الملك لنفسه. ويضع الواقدي تاريخ هذا الانقلاب في العاشر من جمادى الأولى سنة سبع (سبتمبر سنة 628م). فإذا صح هذا التعيين فان الرواية الإسلامية تكون معقولة متناسقة فيما تقوله من أن الذي استقبل سفير النبي وتلقى كتابه هو كسرى ابرويز، ولكن أغلب الروايات على أن مقتل كسرى كان في فبراير سنة 628 (ذي القعدة سنة ست) أعني قبل قيام البعوث النبوية بنحو شهر؛ وإذاً فالمرجح أن الذي استقبل السفير النبوي هو شيرويه ولد كسرى. أما حادث إرسال كسرى لعامله على اليمن أن يتحقق خبر محمد أو يأتيه به فالمرجح أنه وقع قبل(42/65)
البعوث النبوية وقبل مصرع كسرى ببضعة أشهر لما نمى إلى كسرى من ظهور الدعوة الإسلامية وتقدمها
وفي السنة الثامنة من الهجرة (630م) قصد إلى البحرين سفير آخر هو العلاء الحضرمي، ومعه كتاب نبوي إلى أميرها المنذر ابن ساوى؛ وقصد إلى عمان، عمرو بن العاص الذي أسلم قبل ذلك بأشهر قلائل، ومعه أيضاً كتاب نبوي إلى أميريها جيفر وعباد ابني الجلندي زعيمي بني الأزد. وفي الكتابين يطلب النبي إلى هؤلاء الأمراء اعتناق الإسلام أو أداء الجزية. بيد أنهما حسبما تنقل الرواية الإسلامية قد صيغا في أسلوب يخالف أسلوب الكتب السابقة. فمثلا تنقل إلينا كتاب النبي إلى أمير البحرين فيما يأتي: (من محمد النبي رسول الله إلى المنذر بن ساوى - سلام عليك - فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو - أما بعد فإن كتابك جاءني به رسلك، وأن من صلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا واستقبل قبلتنا فانه مسلم له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين؛ ومن أبى فعليه أداء الجزية). ففي الكتاب خيار بين الإسلام ودفع الجزية لم يرد في الكتب السابقة، وهو بهذه الصفة ذو صبغة عملية؛ ثم هو يدل على أمر آخر هو أنه رد على استفهام وجهه أمير البحرين إلى النبي عن أحكام الإسلام. وقد تضمن الكتاب الذي أرسل إلى أميري عمان شرح بعض أحكام الإسلام أيضاً. وكان لهاتين السفارتين نتيجة عملية، فان أمير البحرين، وأميري عمان آمنوا برسالة النبي واعتنقوا الإسلام، وأدوا الجزية عن رعاياهم غير المسلمين. وأرسلت سفارة ودعوة أخريان على يد سلبط بن عمرو إلى أمير آخر من أمراء هذه الأنحاء هو هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة؛ وكان نصرانياً، فرد على النبي بكتاب خشن يطلب فيه مشاركة النبي في أمره وسلطانه شرطا لدخوله في دعوته.
بقى أن نتحدث عن سفارة النبي إلى الحبشة، وهي السفارة الوحيدة التي أرسلت إلى ما وراء البحر. وقد كان إرسالها في ختام السنة السادسة أو فاتحة السنة السابعة في نفس الوقت الذي أرسلت فيه سفارتا قيصر وكسرى. وكان بين الحبشة والنبي وأنصاره قبل ذلك علائق ودية منتظمة. والى الحبشة لجأ كثير من أنصار النبي أيام الهجرة فراراً من اضطهاد قريش، وأقاموا بها تحت حماية النجاشي ورعايته، ومنهم جعفر بن أبي طالب عم النبي، فلما نظمت السفارات النبوية إلى (ملوك العرب والعجم)، أرسلت سفارة إلى ملك(42/66)
الحبشة (النجاشي) على يد عمرو بن أمية الضمري في ذي الحجة سنة ست أعني في نفس الوقت الذي أرسلت فيه سفارة قيصر؛ ووجه النبي إلى النجاشي كتابين، يدعوه في أولهما إلى الإسلام؛ ويطلب إليه في ثانيهما أن يرسل إلى المدينة من عنده من المسلمين اللاجئين. وقد صيغت دعوة النبي إلى النجاشي في أسلوب خاص يخالف في روحه وألفاظه ما تقدم من الدعوات. واليك نص هذه الدعوة حسبما يقدمها إلينا ابن إسحاق في السيرة: (بسم الله الرحمن الرحيم - من محمد رسول الله إلى النجاشي الاصحم ملك الحبشة، سلم أنت؛ فإني أحمد الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، واشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه الله من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته، وان تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله؛ وقد بعثت إليك ابن عمي جعفراً ونفراً معه من المسلمين، فإذا جاءوك فاحترمهم ودع التجبر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله، فقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصحي والسلام على من اتبع الهدى). وقد كان النجاشي نصرانياً، وكانت النصرانية تسود الحبشة منذ القرن الرابع. وفي الكتاب النبوي شرح لموقف الإسلام نحو النصرانية ونظريته في خلق المسيح؛ وهو موقف ليس فيه إنكار ولا خصومة جوهرية إلا من حيث الوحدة والتوحيد؛ والكتاب النبوي ينوه بهذه الوحدة. وبعث النبي إلى النجاشي أيضاً يكلفه بأن يعقد زواجه من أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت من المسلمين اللاجئين، وكانت زوجة لصحابي يدعى عبيد الله هاجر بها إلى الحبشة ثم ارتد هنالك عن الإسلام وتنصر، وتوفي مرتداً. وتقول الرواية الإسلامية أن النجاشي لبى دعوة النبي وأسلم، وبعث إليه بكتاب يؤكد فيه إسلامه، وانه حقق رغبته في تزويجه من أم حبيبة نيابة عنه، وبعثها إليه مع من كان عنده من المسلمين في سفينتين كبيرتين. بيد أنه يلوح لنا أن القول بإسلام النجاشي مبالغة يمكن أن تحمل على ما أبداه النجاشي من أدب ومجاملة في استقبال السفارة النبوية؛ والمرجح أن النجاشي لم يسلم؛ ولو أسلم النجاشي يومئذ لكان الإسلام قد غمر الحبشة كلها ولكانت النصرانية قد غاضت منها. بيد أن الإسلام لم ينتشر في الحبشة إلا بعد ذلك بعصر، وكان انتشاره في الجهات الشرقية والجنوبية فقط.
ونلاحظ أخير أن البعوث والسفارات النبوية لم تقتصر على من تقدم من الملوك والأمراء.(42/67)
فقد أوفد النبي بعوثاً وكتباً أخرى إلى عدة من زعماء الجزيرة المحليين، لتحقيق نفس الغاية في ظروف وتواريخ مختلفة، أسفر بعضها عن نتائج عملية مرضية، ودخل بعض هؤلاء الزعماء في الإسلام
كانت هذه السفارات والكتب النبوية عملا بديعاً من أعمال الدبلوماسية، بل كانت أول عمل قام به الإسلام في هذا الميدان. وليس أسطع من هذه السفارات دليلاً على ما كانت تجيش به نفس النبي العربي من فيض في الإيمان والشجاعة؛ ذلك النبي الذي لم يكن قد نجا بعد من اضطهاد قومه، ولم يكن له سلطان يعتد به أو قوى يخشى بأسها، يقدم في ثقة وشجاعة على دعوة قيصر الدولة الرومانية وعاهل الدولة الفارسية، وباقي الملوك والأمراء المعاصرين على اعتناق دعوة لم تكتمل بعد في مهدها، على أن هذه الدبلوماسية الفطنة التي لجأ إليها النبي في مخاطبة ملوك عصره لم تذهب كلها عبثاً كما رأينا. ولا ريب أن النبي لم يكن يتوقع أن يلبي أولئك الملوك الأقوياء دعوته، وهو ما يزال يكافح في بثها بين عشيرته وقومه. بيد أن إيفاد هذه البعوث كان عملا متمما للرسالة النبوية. وكان العالم القديم الذي يتوجه إليه النبي العربي بدعوته يقوم يومئذ على أسس واهية تنذر بالانهيار من وقت إلى آخر؛ وكانت الأديان القديمة قد أدركها الانحلال والوهن وفسدت مثلها العليا؛ فكانت الدعوة الإسلامية تبدو في جدتها وبساطتها وقوتها ظاهرة تستحق البحث والدرس. ولم يكن عسيراً أن يستشف أولو النظر البعيد، ما وراء هذه الدعوة الجديدة من قوى معنوية تنذر بالانفجار في كل وقت. وقد كان الانفجار في الواقع سريعاً جدا، فلم تمض أعوام قلائل على إيفاد هذه البعوث حتى كان الإسلام قد غمر قلب الجزيرة العربية، وانساب تيار الفتح الإسلامي إلى قلب الدولتين الرومانية والفارسية، واخذ العرب أبناء الدين الجديد وحملة الرسالة المحمدية يعملون بسرعة خارقة على إنشاء الدولة الإسلامية الكبرى
وقد تناول البحث الغربي حوادث السفارات النبوية فيما تناول من حياة النبي العربي، وكان جل اعتماده في شأنها على الرواية الإسلامية؛ وهنالك من كتاب السيرة الغربيين من يبدي ريباً في أمر هذه السفارات، أو يبدي بالأخص ريباً في صحة الكتب والرسائل النبوية.
ومن هؤلاء الكتابالمستشرقان الألمانيان فايل وميلر؛ فإن فايل يلاحظ مثلا أن في بعض الكتب النبوية (كتاب النبي إلى كيروس) آيات قرآنية لم تكن قد نزلت وقت إرسالها مما(42/68)
يدل على أنها قد وضعت فيما بعد، ويرتاب ميلر في أن رسالة قد وجهت من النبي إلى هرقل، ولكنه مع ذلك يقدم ملخصاً لحوادث السفارات النبوية كما وردت في السيرة
أما نحن فلسنا نرى من الوجهة التاريخية ما يبعث على الشك في صحة هذه السفارات النبوية، بل نلمس بالعكس كثيراً من الأدلة والقرائن على صحة معظم الوقائع التي اقترنت بها. وقد تبالغ الرواية الإسلامية في بعض الوقائع حسبما أشرنا إليه فيا تقدم ولكن في تعيين الرواية الإسلامية للتواريخ والأشخاص والأمكنة، وفي اتفاقها على كثير من الوقائع، وفي موافقة الرواية الكنسية والبيزنطية لكثير منها خصوصاً فيما يتعلق برسالة النبي إلى قيصر وكيروس - في ذلك كله ما يؤيد صحة كثير من هذه الأحداث الدبلوماسية الإسلامية الأولى. وإنما يتطرق الشك في نظرنا إلى النصوص والصيغ التي تقدمها الرواية الإسلامية للكتب النبوية. ذلك أنها لم ترد جميعا في رواية ابن إسحاق اقدم مؤرخي السيرة؛ وقد ورد بعضها بعد ذلك في كتاب الواقدي الذي لم يصلنا منه سوى شذور قليلة، وفي كتاب ابن عبد الحكم المصري، ثم في الصحيحين (صحيح البخاري وصحيح مسلم) وفي الطبري وغيره من الروايات المتقدمة ولكنها ترد بصيغ وألفاظ مختلفة مما يحمل الشك في صحة هذه النصوص. وأكبر الظن أن هذه النصوص قد وضعت، ورويت فيما بعد باعتبار أنها تمثل أقرب الصور التي صيغت فيها الكتب النبوية، وقدمها كتاب السيرة على أنها أرجح النصوص المحتملة. بيد أن هذا الشك في صيغ الكتب النبوية لا يتعدى الحقائق التاريخية التي تنهض الأدلة والقرائن على صحة الكثير منها
لقد كانت السفارات النبوية حادثاً سياسياً عظيماً في حياة النبي العربي.
محمد عبد الله عنان المحامي(42/69)
خالد بن الوليد
القائد الذي لم يهزم قط
للدكتور عبد الوهاب عزام
كان شرف قريش قبل الإسلام لبني عبد مناف وبني مخزوم، وكان شرف بني مخزوم إلى المغيرة بن عبد الله بن مخزوم حتى آثر بعض ذريته اسم المغيري على اسم المخزومي. وكان هشام بن المغيرة يسمى رب مكة، ولما مات أرخت قريش بموته، وكان ابنه أبو جهل زعيماً من زعماء قريش. والوليد بن المغيرة أخو هشام كان أكبر رجل في مكة. وكان يلقب الوحيد، وريحانة قريش. ولما كلم زعماء قريش أبا طالب في أمر النبي عرضوا عليه أن يأخذ عمارة بن الوليد ويسلم إليهم محمدا فقالوا كما روي ابن هشام: (يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدا فهو لك).
وقال المفسرون في قوله تعالى: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم). إن المشركين عنوا الوليد بن المغيرة في مكة وعروة بن مسعود الثقفي في الطائف. وقالوا في الآيات (ولا تطع كل حلاف مهين) - إلى أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) والآيات: (ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالاً ممدودا وبنين شهودا، ومهدت له تمهيدا). أنها نزلت في الوليد بن المغيرة ومن أجل التنافس بين بني عبد مناف وبني مخزوم كانت عداوة هؤلاء للإسلام. روي ابن هشام قول أبي جهل، (تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه؟)
كان للوليد بن المغيرة عشرة بنين أو ثلاثة عشر، أسلم منهم ثلاثة عمارة وهشام وخالد.
وأم خالد لبابة بنت الحارث بن حزم الهلالية أخت ميمونة أم المؤمنين، ولبابة الكبرى زوج العباس، وكانت لبابة الكبرى منجبة أنجبت سبعة من بني العباس يقول فيهم الراجز:
ما ولدت حليلة من بعل ... في جبل نعلمه أو سهل
كسبعة من بطن أم الفضل ... أكرم بها من كهلة وكهل!(42/70)
وحسب أختها إنجابا أنها ولدت خالدا.
اتفق الرواة على أن خالداً مات سنة إحدى وعشرين، وقال القسطلاني: وكان له بضع وأربعون سنة. فمولده حول خمس وعشرين قبل الهجرة أو اثنتي عشرة قبل البعثة.
وكان خالد قائد فرسان قريش، وذاع صيته بما فعل في أُحد إذ فجئ المسلمين من خلفهم حين ترك رماتهم مواقفهم فهزم المسلمون بيقظة خالد ومهارته. وهو يومئذ دون الثلاثين. وقد شارك فيما كان بين المسلمين وقريش من حرب إلى غزوة الحديبية، وكان يومئذ قائد الفرسان، وتقدم بهم من مكة إلى كراع الغميم ليرد المسلمين
إسلام خالد
روي ابن إسحاق عن عمرو بن العاص: (خرجت عامدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسلم فلقيت خالد بن الوليد، وذلك قبيل الفتح وهو مقبل من مكة مقبل فقلت: أين يا أبا سليمان؟ فقال والله قد استقام الميسم، وان الرجل لنبي، أذهب والله فأسلم، فحتى متى؟ قلت والله ما جئت إلا لأسلم. فقدمنا المدينة على رسول الله فتقدم خالد ابن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت يا رسول الله أني أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر. فقال رسول الله يا عمرو: بايع، فان الإسلام يجب ما كان قبله، وان الهجرة تجب ما كان قبلها فبايعته ثم انصرفت).
دخل خالد في جند المسلمين يومئذ وسرعان ما شارك في الغزوات وأبلى فيها. فلم يمض على إسلامه شهران حتى شهد غزوة (مؤتة) في جمادى الأولى من السنة الثامنة. وكانت موقعة نائية نازل فيها المسلمون أضعافهم من العرب والروم. وتهافت القواد الثلاثة الذين ولاهم الرسول واحداً بعد الآخر: زيد بن ثابت، فجعفر بن أبي طالب، فعبد الله بن رواحة، فاختار الناس خالداً فدافع العدو وانحاز بالمسلمين حتى نجا، بهم وقفل إلى المدينة فلقي الناس القافلين يعيرونهم: يقولون يا فرار، فقال الرسول صلوات الله عليه، بل هم الكرار، وسمى فعل خالد فتحاً، ولقبه سيف الله. في البخاري أن رسول الله قال: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب - وعيناه تذرفان - حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم) ولا ريب أن من الفتح أن يخلص خالد هذا الجيش القليل من سورة جيش عرمرم جمع الروم والعرب فلا يقتل منه إلا اثنا عشر. ولا(42/71)
ريب أن بعضهم قتل قبل تولي خالد القيادة (وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت خالد بن الوليد يقول: لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية) فإنما أنقذ خالد جنده إذ دفع بنفسه في نحر العدو حتى دقت في يده تسعة أسياف وإنها لبطولة.
وبعد قليل سار المسلمون لفتح مكة، وكان خالد قائد المجنبة اليمنى وفيها جماعة من أسلم وغفار وسليم ومزينة وجهينة وغيرها من القبائل، وأمره الرسول أن يدخل مكة من أسفلها، فكان بينه وبين قريش قتال يسير قتل فيه نفر من الفريقين
وبعثه رسول الله بعد الفتح إلى بني جذيمة داعياً إلى الإسلام، فقتل جماعة منهم حين لقوه بالسلاح، فلما نمى الخبر إلى الرسول قال: (اللهم إني ابرأ إليك مما صنع خالد) وودى القتلى. واعتذر خالد بأن عبيد الله بن حذافة السهمي قال له: أن رسول الله أمرك بقتالهم لامتناعهم عن الإسلام. ومهما يكن فقد أخذ المسلمون على خالد تعجله في قتال القوم. ولكن لم تذهب هذه الهفوة بحسن بلائه.
ثم بعثه الرسول فهدم العزى في بطن نخلة، وكانت في سدانة بني سليم، (ولا نجد ذكر خالد في موقعة حنين، إلا ما روى ابن إسحاق أن الرسول وجد امرأة مقتولة فأرسل إلى خالد أن رسول الله ينهاك أن تقتل وليدا أو امرأة أو عسيفاً.
ولما كانت غزوة تبوك بعث الرسول خالداً إلى أكيدر بن عبد الملك أمير دومة الجندل فأسره وجاء به إلى الرسول فصالحه
ولما وضعت الحرب أوزارها بين المسلمين والعرب وأرسل الرسول دعاته إلى أرجاء الجزيرة بعث خالداً إلى بني الحارث بن كعب في نجران فاستجابوا لدعوته وأقام فيهم يعلمهم الإسلام، وكتب إلى الرسول بإسلامهم، فكتب إليه الرسول أن يقدم مع وفدهم. وفي ابن هشام وصبح الأعشى نص الكتابين.
في حروب الردة
ولما سير أبو بكر الجيوش لحرب المرتدين رمى بإبن الوليد أقرب الأعداء إلى المدينة: طليحة بن خويلد الأسدي ومن شايعه، ثم مالك ابن نويرة اليَربوعي. فسار خالد إلى متنبئ بني أسد فأدار عليه في (بزاخة) حرباً أكذبت دعوته وأذابت غشه. ثم يمم مالك ابن نويرة(42/72)
وكان قد مالأ سجاح المتنبئة، فلما جاء البطاح وجد القوم قد تفرقوا حيث سراياه، فرجعت بأسارى منهم مالك ابن نويرة. ثم قتل الأسارى. ونقم الناس من خالد بعد أن شهد بعض الجند أنهم أجابوا أذان المسلمين بالأذان إعلاماً بإسلامهم. وروي بعض المؤرخين أن خالداً أمر بإدفاء الأسارى في ليلة باردة، وإدفاء الأسارى قتلهم في لغة كنانة، فسارع الجند إلى قتلهم، وما أراد خالد القتل. وزاد ارتياب الناس بخالد حين تزوج أم تميم بنت المنهال امرأة مالك. وجاء إلى أبي بكر أبو قتادة الأنصاري مفارقا خالدا، ومتمم أخو مالك مستعدياً عليه. ورأى عمر أن يقاد خالد بمن قتل. فقال أبو بكر: هيه يا عمر، تأول خالد فأخطأ! فارفع لسانك عن خالد. ثم كتب إلى خالد يستقدمه فقدم وأبان عن عذره فقبل منه الخليفة. قال الطبري: (وأقبل خالد بن الوليد قافلا حتى دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد متعجراً بعمامة له قد غرز في عمامته أسهما، فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها. ثم قال أرئاء؟ قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته. والله لأرجمنك بأحجارك. ولا يكلمه خالد بن الوليد، ولا يظن إلا أن رأى أبي بكر على مثل رأي عمر فيه، حتى دخل على أبي بكر. فلما أن دخل عليه أخبره الخبر واعتذر إليه فعذره أبو بكر وتجاوز عما كان في حربه تلك. وان في عفو أبي بكر عن خالد لبرهاناً على أن فعلته لم تكن بحيث ظن عمر.
وكان أبو بكر وجه عكرمة بن أبي جهل ابن عم خالد إلى بني حنيفة قوم مسيلمة المتنبئ في اليمامة وأتبعه شرحبيل بن حسنة فتعجل عكرمة الحرب قبل أن يؤازره شرحبيل فهزم، وعنفه أبو بكر وبعثه مدداً للمحاربين في عمان، فلما فرغ سيف الله من بني أسد وتميم سيره أبو بكر إلى اليمامة، فرأى أن يؤمن طريق جيشه بإبعاد القبائل الموالية لمسيلمة وسجاح، فكتب إلى بني تميم فطردوهم من الجزيرة، وتقدم خالد لطيته فإذا شرحبيل قد سبقه إلى الحرب وباء بالهزيمة. وكانت بين خالد وبين مسيلمة موقعة عقرباء الطاحنة التي تهافت فيها أنجاد المسلمين. وكادت تقضي بالفلج لبني حنيفة، ولكن خالدا أمر الناس أن يمتازوا ليعرف بلاؤهم، فتميز الناس وأحسنوا البلاء. وحمى الوطيس، وما طل النصر بلاء الأبطال حتى رأى خالد أن الحرب دائرة ما دام مسليمة قطبا لها، فبرز ودعا إلى المبارزة، وارتجز ونادى بشعار المسلمين يومئذ: (يا محمداه!) وصمد إلى مسيلمة يحطم(42/73)
الصفوف إليه، وآزره أطال جنده فلم ينثن إلا ومسيلمة قتيل. فقضى للمسلمين بالنصر وجاء بنو حنيفة مستسلمين فصالحهم خالد، وجاءه أمر أبي بكر بقتلهم فأعلمه أن عهده قد سبق. وحفظ للقوم ذمتهم.
فتح العراق
لم يكد يفرغ خالد من مسيلمة حتى وجهه أبو بكر لفتح العراق لحرب الفرس: الأسد الذي كانت القبائل تخشاه وتتحاماه، وأمره الخليفة أن يبدأ بالأبلة ثم يفتح إلى الشمال صوب الحيرة، كما أمر عياض بن غنم أن يبدأ بالمضيح في الشمال ثم يتجه إلى الجنوب شطر الحيرة، كذلك وأي القائدين سبق إلى الحيرة فهم الأمير على صاحبه
كتب خالد إلى هرمز والى الأبلة يدعوه إلى الإسلام وينذره الحرب، ثم التقى الجمعان قرب كاظمة في موقعة ذات السلاسل، فبارز خالد هرمز فقتله فحقت الهزيمة بقتله، ثم سار خالد يقود جيشين من الجند والرعب، فكانت مواقع المذار، والولجة، وأليس، ومغيشيا، وخالد يسير من نصر إلى نصر، ويوالي الكتب والأخماس إلى أبي بكر، فلما جاءته البشرى بفتح مغيشيا قال: (يا معشر قريش. عدا أسدكم على الأسد فقلبه على خراذيله، عجزت النساء أن ينشئن مثل خالد!)
خالد في الحيرة بعد شهرين من دخوله العراق، وها هو في الثاني عشر من ربيع الأول سنة اثنتي عشرة يكتب كتاب الصلح لرؤساء الحيرة
(بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عدياً وعمراً إبني عدي، وعمرو بن عبد المسيح، وإياس بن قبيصة وحيري بن أكال، وهم نقباء أهل الحيرة، ورضى بذلك أهل الحيرة وأمروهم به - عاهدهم على مائة وتسعين ألف درهم تقبل في كل سنة جزاء عن أيديهم في الدنيا رهبانهم وقسيسهم إلا من كان منهم على غير ذي يد حبيساً عن الدنيا تاركاً لها، وعلى المنعة، وإن لم يمنعهم فلا شيء عليهم حتى يمنعهم. وإن غدروا بفعل أو قول فالذمة بريئة منهم).
تتابعت القرى على الصلح بعد الحيرة. ومن الحيرة وجه خالد كتبه إلى أمراء الفرس ومرازبتهم يدعوهم إلى الإسلام، وينذرهم الحرب. وصار خالد أمير العراق كلها ففتح الحيرة (لعهد أبي بكر فمد فتوحه إلى الشمال في الأرض التي عهد إلى عياض فتحها،(42/74)
طوى الأرض إلى الأنبار فاعتصم الناس بالحصون وخندقوا. فنحر أضعاف الإبل وألقاها في الخندق وعبر عليها، فاضطر أهل المدينة إلى المصالحة، ثم سار إلى عين التمر وقد اجتمع له بها العرب والفرس. وخرج للقائه عقبة ابن أبي عقبة في جموع من تغلب وأياد والنمر فانقض خالد على عقبة وهو يسوي صفوفه فاحتضنه وأسره وكفاه عناء الصفوف والزحوف فانهزم جنده، فهل عرفنا قبل خالد قائدا يخطف القواد، ليكفي الجند عناء الجلاد؟
ثم توجه تلقاء عين التمر فنزل من فيها على حكمه.
أين عياض بن غنم؟ في دومه الجندل تكالبت عليه الأعداء وأخذت عليه الطريق فاستغاث خالداً فأجابه: (من خالد إلى عياض، إياك أريد).
لبث قليلا تأتك الجلائب ... يحملن آسادا عليها القاشب
كتائب يتبعها كتائب
وسار إلى دومة الجندل فاجتمعت لحربه كلب وغسان وبهراء وتنوخ، وعلى الناس رئيسان أكيدر بن عبد املك الذي أسره خالد في غزوة تبوك، والجودي بن ربيعة، قال الأكيدر:
(أنا أعلم الناس بخالد. لا أحد أيمن طائراً منه ولا أجد في حرب، ولا يرى وجه خالد قوم أبدا قلوا أو كثروا إلا انهزموا عنه، فأطيعوني وصالحوا القوم) فلما أبوا قال: لن أمالئكم على حرب خالد، وتركهم لينجو بنفسه، ولكنه طاف يبغي نجوة من هلاك فهلك.
أخذ خالد عليه الطريق وقتله جزاء غدره بما كان بينه وبين المسلمين من عهد، ثم أتى دومة الجندل ففتحها وتألب أهل الفرس وأهل العراق على المسلمين حين علموا غيبة خالد، فرجع وهزم أعداءه في مواقع الحصيد والخنافس والمضيح والثنى والزميل.
ثم توجه إلى الفراص وهي بلدة على الفرات عندها حدود العراق والشام والجزيرة، وملتقى دولتي الفرس والروم. فلم يرهب خالد جموع الفرس والروم والعرب ومزقهم كل ممزق حتى روى الرواة أنه قتل في المعركة والطلب مائة ألف.
كانت الموقعة منتصف ذي القعدة من السنة الثانية عشرة. فقد طوى خالد وادي الفرات ما بين الأبلة والفراض في أقل من أحد عشر شهراً وانتصر في خمس عشرة موقعة لم يهزم في واحدة، أبت ذلك شجاعته، وكفايته واقتحامه الغمرات، وقتله القواد وصيته الذي ملأ جنده يقينا وعدوه رعبا.(42/75)
من الفراض إلى مكة في أثني عشر يوما
ورحل خالد قافلا إلى الحيرة في الخامس والعشرين من ذي القعدة. وولى على الجيش عاصم بن عمرو، وأظهر للناس أنه سيسير في الساقة وأسر إلى خاصته أنه على عزيمة، الحج ثم طوى الفيافي ما بين الفراض إلى مكة فأدرك الحج، فلا محالة قد قطع هذه الصحاري المترامية في أثني عشر يوما. قال الطبري:
(وخرج خالد حاجا لخمس بقين من ذي القعدة مكتتماً بحجه ومعه عدة من أصحابه يعتسف البلاد حتى أتى مكة بالسمت، فتأتى له من ذلك ما لم يتأت لدليل ولا رئبال. فسار طريقاً من طرق الجزيرة لم ير طريق أعجب منه ولا أشد على صعوبته منه. فكانت غيبته عن الجند يسيرة فما توافى إلى الحيرة آخرهم حتى وافاهم مع صاحب الساقة الذي وضعه. فقدما معاً وخالد وأصحابه محلقون لم يعلم بحجة إلا من أفضى إليه بذلك من الساقة. . .
وكتب أبو بكر إلى خالد يأخذ عليه مسيره إلى الحج وترك الجند بغير إذن، ويأمره بالمسير إلى الشام مددا لمن بها من الغزاة. وأن يترك نصف الجيش مع المثنى ويسير بنصفه، فسار في صفر من السنة الثالثة عشرة.
وكان رحيل خالد من العراق إلى الشام معجزة من معجزات المسير، وأعجوبة من أعاجيب المخاطرة، فقد قطع بالجيش الجرار صحراء ليس بها ماء يقطعها الراكب المخف في خمسة أيام قطعها في خمس ليال ولا ماء إلا ما في أجواف الإبل: أعطشها وسقاها وكظم أفواهها، فكان ينحرها في مراحل الطريق فيرتوي الناس والخيل.
وقد خرج خالد من مفازته على بهراء فصبحهم بالقتال وهم لا يحسون جيشاً من الجن يسلك إليهم هذه المفازة، وحارب قبائل من العرب في طريقه حتى بلغ ثنية العقاب على مقربة من دمشق فنشر عليها راية سوداء من رايات الرسول صلوات الله عليه. ثم حارب غسان في مرج راهط وصار إلى بصرى ففتحها، ثم أدرك المسلمين في معسكرهم على اليرموك أو أجنادين. فما ظنك بهذا النصر السائر، والفتح المسافر، الذي يطوي البلاد والصحارى والقبائل في عزمات الجند القليل؟
خالد في الشام(42/76)
وافى خالد المسلمين معدين لمنازلة جحافل كثيفة من الروم والعرب، ووجد الجيوش مقسمة بين القواد الأربعة الذين بعثهم أبو بكر إلى الشام، أبي عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، فأراد أن يلقى الروم بجيش مجتمع ورأى موحد فخطب الناس:
(إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي. أخلصوا جهادكم، وأريدوا الله بعملكم، فان هذا يوم له ما بعده. ولا تقاتلوا قوماً على نظام وتعبية - على تساند وانتشار. فان ذلك لا يحل ولا ينبغي. وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لو تؤمروا به بالذي ترون أنه الرأي من واليكم ومحبته. قالوا فهات، فما الرأي؟ فقال فيما قال (هلموا فلنتعاور الإمارة فليكن عليها بعضها اليوم والآخر غداً، والآخر بعد غد حتى يتأمر كلكم. ودعوني إليكم اليوم).
تأمر خالد على الجيش كله وفيه قواد أسن منه وأقدم إسلاما، ولكن اعتداد خالد بنفسه وثقة الناس به ألقت إليه بالمقاليد ذلك اليوم، فقسم الجيش كراديس ستة وثلاثين، وجعل على كل كردوس قائداً، ثم جعل قواداً على القلب والجناحين. ثم أدار المعركة طول النهار وبعض الليل، وأصبح في فسطاط قائد الروم قد ملك النصر كله وبلغ من العدو ما تمنى.
كتب كتاب الفتح باسم خالد. وبعد قليل جاء المسلمين نعي أبي بكر وولاية عمر.
هل عزل عمر خالدا
لا ريب أن عمر كان ينقم من خالد هنات في حروبه، وأنه أشار على أبي بكر بالاقتصاص منه لمالك بن نويرة، وما كانت تعجبه جرأته واستبداده في تقسيم الغنائم والأرزاق. وكان خالد معتداً برأيه كتب إليه أبو بكر يأمره ألا يعطي شيئاً فأجابه خالد: (إما أن تدعني وعملي وإلا فشأنك بعملك، هذا وأشباهه أسخط عمر على خالد وما كان عمر ليداهن في دينه وقد كثرت الأقوال فيما فعل عمر بخالد وينبغي أن نذكر أن خالداً لم يول على الشام من قبل أبي بكر ولا عمر ولكنه بعث مددا لغزاة الشام. فعمر ما عزل خالدا عن ولاية الشام أو قيادتها ولكن خالداً أمر نفسه يوم أجنادين وتيمن الناس به، فكان حرياً أن يكون أحد القواد. فلما جاء كتاب عمر بضم خالد إلى أبي عبيدة قال الناس ما قالوا في عزل(42/77)
خالد. وقد خطب عمر مرة فاعتذر عما فعل، فقال أبو عمرو بن حفص بن المغيرة (عزلت عاملاً استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضعت لواء رفعه. فقال إنك قريب القرابة حديث السن مغضب لابن عمك).
ولكن خالدا لا يعزل نفسه العظيمة، ولا كفايته التي لا تعوض فلما اجتمع القواد على دمشق يحاصرونها نزل خالد على الباب الشرقي فاقتحمه اقتحام الأبطال ودخل المدينة عنوة فسارع الرؤساء إلى أبي عبيدة يصالحونه فالتقى عنوة في وسط المدينة خالد الفاتح والقواد الآخرون. فكتب كتاب الفتح باسم خالد. فلما جاءت عمر الأنباء قال: أمر خالد نفسه، يرحم الله أبا بكر هو كان أعلم بالرجال مني.
ولم يزل خالد مشاركاً في فتوح الشام كافياً لما يعهد إليه من حرب أو ولاية بقية حياته
هذه سنة إحدى وعشرين من الهجرة وخالد العظيم في سن الخامسة والأربعين على فراش الموت في حمص وأمامه مجد عشرين سنة مظفرة لم تنكس له راية، ولا أعيا عليه فتح، ولم يختلف عليه اثنان من جنده، فاستمع البطل العظيم والقائد الباسل يقول:
(لقد طلبت القتل في مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي. وما من عملي شيء أرجى عندي بعد أن لا اله إلا الله من ليلة بتها وأنا متترس. والسماء تهلني بمطر إلى صبح حتى نغير على الكفار - ثم قال: (إذا أنا مت فانظروا في سلاحي وفرسي فاجعلوه عدة في سبيل الله).
ثم أوصى وصية، فمن اختار أميناً على انفاذها؟ عمر بن الخطاب! إن النفوس العظيمة لتختلف إلا في العظمة التي تؤلف بينها، والتي تأبى أن تصيخ إلى سفساف الأمور. اختلف الرجلان على أمور، وجمعتهما همة عالية ومطالب عظيمة.
لقد بكى خالدا الإسلام والمسلمون حتى عمر: سمع عمر البكاء على خالد فقال:
ما على نساء الوليد أن يسفحن على خالد دموعهن. . وسمع راجزا يذكر خالدا فقال والأسف ملء فؤاده: (رحم الله خالداً).
عبد الوهاب عزام(42/78)
من ذكرياتي
للأستاذ عبد العزيز البشري
تفضلت (الرسالة) فدعتني إلى أن اجري بحديث في العدد الذي ترصده لرأس السنة الهجرية. ولم يجد طول التعذر بالمرض ولقس النفس وحرج الصدر. لقد أمر أصحاب (الرسالة) وكيف لي بعصيان أصحاب (الرسالة)؟. إذن فلأعص نفسي ولأنشز على وهني في طاعتهم والاستجابة لهم. وحسبي الله ونعم الوكيل ففيم كتب وماذا أكتب إذن؟
أقول في الأدب! سيقول فيه أصدقائي الدكتور طه، والأستاذ أحمد أمين، والأستاذ الزيات، وغيرهم من صفوة الأدباء. ولست احب لنفسي أن أكون فسكلا لا أبلغ السبق، إن أنا بلغته، إلا بعد جميع الجياد!
إذن أكتب في السيرة النبوية الكريمة، ونحن على شرف عام هجري جديد، يتجرد لذكراه هذا العدد العتيد! لا والله، ولن أخدع في هذا أيضاً بعد الذي كتب هيكل في (حياة محمد) وطه (على هامش السيرة)
لقد أصبح عليّ، بعد هذا، أن أتقرى السبل فأختار أعبدها لي، وأوعرها عليهم جميعاً، وهم ولا شك تاركي أجوز وحدي فأكون المجلي في حلبتي على كل حال.
سأحدث القراء عن بعض ما شهدت بنفسي مما يرجع إلى أكثر من خمس وثلاثين سنة. ولست أحسب أن أكثر أدباء العصر شهدوه لقصر أسنانهم. فمن قد علت به السن منهم فلعله ممن لم يكن هبط بعد القاهرة في طلب أواسط العلم وأعاليه. فمن تهيأ له منهم أن يكون في القاهرة، وهؤلاء من القليل أقل، فلعله كان في شغل من تحصيل العلم والاكباب على الدرس عن شهود هذا والاحتفال له. فان كان قد وقع لبعضهم هذا عفواً فهو عنده دون أن يجمع له همه ويطوي عليه قلبه، ويختزنه في نفسه اختزان البعير الطعام في جوفه ليجتر منه وقت حاجته.
لقد قدر لي، والحمد لله، أن اسمع من عظماء المغنين المرحومين عبده الحمولي، والشيخ يوسف المنيلاوي، ومحمد عثمان، والشيخ محمد الشنتوري، والسيد أحمد صابر، وعبد الحي حلمي، وإبراهيم القباني، واحمد حسنين، وأحمد فريد، ومحمد سالم. ومن الهواة السيد عبد السلام الدنف. وان أسمع من المنشدين ومن في حكمهم الشيخ سلامة حجازي، والشيخ(42/79)
احمد المحروقي، والشيخ عبد الله الأودي، ومن صدور القراء السيد الصواف، والمشايخ حنفي برعي، وأحمد ندا، وعلي الفلاحة، واللبان، وأبا السعود، وعلي يوسف، وعلي الجنيد، والمناخلي، والعيسوي. والشيخة أسمهان، كما سمعت هؤلاء المعاصرين الأحياء، وصل الله في أعمارهم يمتع بهم الأبناء والأحفاد، كما متع بسلفهم الآباء والأجداد.
ولست أحاول في كلمات ارتجلها للرسالة ارتجالا، وأرسلها من عفو الحديث إرسالا، أن أتحدث عن هؤلاء جميعاً. وما كان هذا المقام ليحتمل هذا كله ولا بعضاً من بعضه. بل ولست أحاول أن أستغرق بالحديث واحداً من هؤلاء، فأدل على منجمه ومنشئه وخلقه وسيرته، ولون صوته، ومأتي فنه، وعمن أخذ، وكيف ذهب، وماذا أجد في الفن بصنعته. فذلك مما يستهلك الكثير من الصحائف ومن الوقت والعزم معاً، ولكنني أكتفي بذكر اثنين من أحداث أربعة شهدتها بنفسي. ولو قد حدثني بها محدث لا تهمته بالغلو إذا لم أعدل به إلى التزيد. وأحدها، كان من محمد عثمان، وهذا أدخره للمحاضرة التي ألقيها في شأنه، والثاني من الشيخ أحمد ندا. وهو من أشياء أضيفها إلى المقال الذي كتبته فيه عقب موته. أما الحادثان اللذان أطالع بهما قراء (الرسالة) اليوم فأحدهما يتصل بعبده أفندي الحمولي، والثاني بالشيخ علي الجنيد، عليهما رحمة الله.
وقبل أن أسترسل بالحديث أرجو أن الفت الشباب إلى شيء واقع دائر شديد الدوران بين الناس. ذلكم أن الإنسان بطبعه أثر شديد الأثرة، فهو لا يحب بل ولا يكاد يطيق أن يبرعه أحد في سبب من أسباب الحياة. ومن هذه الخلة أصاب الحسد مدخله من نفوس الناس، ولهذه الأثرة، أو لهذا الحسد مظاهر شتى وآثار تختلف وتتفق وتلتقي وتفترق. ومن أغربها في طباع المصريين، بوجه خاص جحود فضل القائمين في الحياة. فان لم يكن إلى هذا سبيل فهنالك الذرائع المختلفة لتهاون أقدارهم، والحط من حظوظهم في أقطار الفضائل والنعم. فإذا أعيا هذا على الناس أيضاً راحوا يشيدون بفضائل من تقدموا، وينحلونهم من الأسباب ما يبرعون به القائمين في مزاياهم، ويجهرونهم به في جمال خلق، أو جمال فن، أو جمال صوت.
وكلما علت بالمرء السن تزيّد في هذا وأسرف لا حد المعاصريه من أهل الفضل ومن أصحاب الفنون وحدهم، بل مكايدة أيضاً لهؤلاء الناشئين الذين يستقبلون الحياة (وتحنيسا)(42/80)
لهم لما ظفروا به من دونهم، وليس إلى عودتهم من سبيل. فكأنهم يقولون لهم: إننا لن نأسى على أدبارنا، وإنكم لن تفرحوا بإقبالكم. لأنكم لن تصيبوا من الطيبات ما أصبنا، ولن تظفروا من متع الحياة ببعض ما ظفرنا.
ولقد أدركنا طرفا من حياة ملك المغنين المرحوم عبده الحمولي، فكان إذا أطرب وأفلق تبادر القعديون وقالوا: وأين هذا مما كان يصنع المقدم أو البيطار؟. وكانت الوردانية إذا جلجلت بصوتها الحنان قالوا: إن هذا إلا مزعة من صوت ألماس!. كذلك أدركنا صدراً كبيراً من عهد حنفي برعي وأحمد ندا، وسمعنا منهما العجب العاجب ولكن يأبى القعد لنا إلا تكديراً وانطواء على الحسرة لما فاتنا من صوت القيسوني، وكان صوته يقف الطير في جو السماء!. وغير هذا من فنون المبالغات تكدر صفو الناشئين، وتبطرهم على ما أزل الله لهم من ألوان النعم!
وإنني قضاء لحق التاريخ أقرر أن من الأصوات القائمة الآن ما لا يقل في قوته وحلاوته وصفاء جوهره عن خير ما سمعنا من ثلث قرن خلا. على انه إذا كان مما يوهن من تلذيذ الناس بسماع الغناء وشدة الطرب عليه تلك الخلة التي أسلفت عليها القول، فقد جد على ذلك عنصران كان لهما، في هذا الباب، خطر عظيم: أحدهما شدة اشتغال الجمهرة بالأحداث السياسية ونحوها، فلم تعد تجتمع لهذا ببعض ما كان يجتمع له السلف، إلى ما ورثت هذه الأسباب من كدر في النفوس هيهات أن يأذن لها بالخلوص للطرب على الغناء.
وأما الثاني فهذه العنيفة المشبوبة في الفن نفسه بحكم التطور والتحول من القديم إلى جديد يراد. وهيهات أن تستريح الأذن إلى ما لم يقر من بعد له قرار. ولعل الحال لو استقرت، والنفوس لو صفت، لخرج لنا من هم خير ممن تقدمت بهم الأيام.
ومهما يكن من شيء فقد حرم هذا الجيل من نعمة تلك الأثرة والتنغيص على من دونهم من النبت إذا صح أن يدعى ذلك نعمة! والفضل كله للرجل العظيم (أديسون) مخترع الفونغراف، فقد دون الأصوات، وسجلها على وجه الزمان!
والآن وأنا مقبل على ما أنا بسبيله، أشعر أنني قد تورطت في اختيار هذا الموضوع أشنع التورط. ولعل ما هربت منه كان أرفق بنفسي مما استعصمت به، وخاصة بعد هذا الذي قدمت من الكلام. ولقد قال أصحاب قواعد السلوك إن الرجل المربي خليق به ألا يروي ما(42/81)
يقع له من نوادر الحوادث وغرائبها لئلا يسرع الناس إلى النيل من مروءته، وإحالة أمره إلى التزيد والخلق طلبا للمكاثرة بشدة الأغراب. على أن مما يلين لي هذه الرواية ويشد من متني في قصتها أن لا يزال في الأحياء آلاف ممن شهدوا أمثال ما شهدت، بل وممن شاركوني فيه بالذات. فلنمض لحديثنا والله تعالى المستعان.
عبده الحمولي:
لم يكن يتهيأ لفتى حدث مثلي أن يسمع عبده الحمولي في سهولة ويسر. فلقد كان، في العادة، لا يغني إلا في بيوت الطبقة (الأرستقراطية). ودون أبوابها لؤم الحجاب وعصى الأحراس، فما من سبيل إلا في الغفلة من أعينهم، أو بالرشوة في أيديهم، أو في أعجاز الليل بعد منصرف السادة المدعوين، وعلى بعض هذا أذن الله أن اسمع ملك المغنين بضع عشرة مرة.
وبعد فعبده، وتاريخ عبده، وفن عبده، وصنعة عبده، وبدع عبده، كل أولئك غني عن التعريف والتبيين. ولكنني أبادر فأقرر أن صوت هذا الرجل على جلالته، وحلاوته، ووفائه بكل مطالب النغم في جميع الطبقات، لم يكن بالموضع الذي يتمثل لأوهام من لم يسمعوه من أهل هذا الجيل. بل إن من القائمين من لعله يجهره في هذا المعنى من الجمال. ولكن لا يذهب عنك أن وراء هذا الحس المرهف، والذوق الدقيق، والفن الواسع، والكفاءة الكفيئة والقدرة القادرة على التصرف في فنون النغم في يسر ولباقة وقوة ابتكار ورعاية لوجوه المقامات المختلفة. والتوفيق إلى كل ما يغمز على الكبد. ألا لقد جمع الله أحسن هذا كله لعبده الحمولي. فلم ينته أحد فيه ممن سمعنا منتهاه إذا استثنيت صاحبه المرحوم محمد عثمان على اختلاف غير قليل بين فني الرجلين.
وإني لأذكر أنني سمعته مرة عند مطالع الفجر، وكان ذك في دار المرحوم السبكي بك في شارع الطرقة الشرقي. ولعله كان قد مسه طائف من الشجي، فكاد يحيل العرس مناحة من كثير ما تبادر لنغمه الشجي من دموع الناس.
أما الحادثة التي أؤثرها بالرواية فلقد كانت في دار رجل من خؤولتنا أولم لتزويج ابنه، وداره تقع في حي الناصرية، وكان صديقاً حميماً للمرحومين عبد الحمولي والشيخ يوسف المنيلاوي، وكان أثيراً عندهما كريم المحل منهما، وقد دعاهما كليهما ليغنيا معا في عرس(42/82)
ابنه، فلبيا الدعوة خفيفين.
وأنت بعد خبير بأن (أفراح) أولاد البلد لا يحجب عنها الناس، ولا يدفعهم من دونها شرط ولا أحراس. وكذلك اكتظ السرادق بالمئآت إن لم أقل بالآلاف من أصناف خلق الله.
ويستوي عبده إلى (التخت)، ويتدلى في الميدان يحمي ظهره الشيخ يوسف وأحمد حسنين، ونصر الحصاوي، عليهم رحمة الله، وشيخ المغنيين الآن الأستاذ محمد أفندي السبع، نعمه الله بأطيب الحياة، ومعهم السيد أحمد الليثي بعوده، (أو الجمركشي؟ لا أذكر) وأمين أفندي بزري بنايه، وإبراهيم أفندي سهلون بكمانه، ومحمد أفندي العقاد بقانونه، فغنوا وعزفوا ما شاء الله أن يغنوا ويعزفوا حتى ختموا ما يدعى (بالوصلة) الأولى، ولست أذكر ما تغنوا فيه من الأصوات. ثم استراحوا برهة من الزمن عادوا بعدها إلى شأنهم. وما برح عبده، رحمة الله عليه، يضطرب بين الليل والعين. ثم ينقلب إلى المواليا فيرجع فواصله ترجيعا. حتى إذا فعل في هذا كله الأفاعيل، وصنع مالا ترتقي إلى صفته الأقاويل، أقبل يغني، والجماعة معه (الدور) المشهور وهو من نغمة العراق:
(لسان الدمع أفصح من بياني ... وأنت في الفؤاد لابد تعلم
هويتك والهوى لجلك هواني ... ولكن كل دا ما كانش يلزم)
إلى آخر ما يدعى في عرف أصحاب الغناء (بالمذهب). ثم أمسك القوم لحظة خرج بعدها عبده منفرداً، وقفى العقاد على أثره بقانونه. وقال الجبار: (أديني صابر على ناري)!!!!
لست بمستطيع يا معشر القراء أن أقول لكم كيف قالها الرجل ولا كيف صنع. لأنني أنا نفسي لا أدري، ولا احسب أحداً من الخلق دري كيف قال الرجل ولا كيف صنع!. ولكنني أستطيع أن أقول لكم إن طائفاً عنيفاً جداً من الكهرباء سرى في هذا الحشد كله لم يسلم عليه أحد: جمد الناس جميعاً، وتعلقت أنفاسهم، وشل كل مناط للحركة فيهم، فما تحس منهم إلا أبصاراً شاخصة وأفواهاً مفغورة. لو اطلعت عليهم لخلتك في متحف يجمع دمى منحوتة لا أناسي يترقرق فيها ماء الحياة، حتى القائمون بالخدمة، لقد مسهم هذا الطائف فجمدوا وثبتوا: وحتى رداف عبده لقد جرى عليهم من هذا ما جرى على سائر الناس!!!
ولقد ظلت هذه الحال زهاء عشرين ثانية، اعني قرابة ثلث الدقيقة، وينفجر البركان الأعظم يتطاير عنه الحمم، وترى الخلق يموج بعضهم في بعض، لا يدري والله أحد أين مذهبه.(42/83)
ولا تسل كيف قدت الحناجر من الشهيق، ولا كيف بريت الأكف بالتصفيق. وخرج الأمر ساعة عن عرس مقام إلى مستشفى مجانين. رفعت فيه الحوائل وفتحت الأبواب، ونحى عنه احراسه من الشرط والحجاب
والى هنا أراني قد أطلت بما لم يدخل في صدر حسابي. ولعلي بهذا أمل وأضجر. وعلى كل حال فقد تعبت وجهد بي فلأقف إذن عند عبده الحمولي. أما حديث الجنيد فأرجئه إلى كرة أخرى، وأرجو ألا أوفق إلى مثل هذا أبدا.
عبد العزيز البشري(42/84)
شرقاً وغربا
للدكتور محمد عوض محمد
في يوم قديم من أيام هذا الزمن السرمدي، جلس يافث وسام إبنا نوح، في ظل شجرت من الأثل، ليستريحا ساعة من النهار. وإلى جانبهما جدول يجري، له خرير هادئ وديع، وانسياب معتدل، ليس بالسريع ولا البطيء. ولأغصان الأثل حفيف دائم، فيه رنة حزن بادية. كأنها انتحاب الثاكل أو أنين السقيم.
كان العالم حديث عهد بالطوفان الهائل الذي غمره، ورحضه رحضاً عنيفاً قاسياً لكي يطهر مما به من رجس، ويصفو مما به من كدر، ويعود نقياً بريئاً نظيفاً. . .
يا للعجب! أكلما تدنس وجه الأرض، وغشيته الأقذار، انتابته هذه الكارثة وأرسل إليه طوفان ليغمره ويطهره،؟ لقد عادت الأرض بعد هذا الطوفان طهراً، كأنما خلقت خلقاً جديداً، وعاد ثغرها باسما، وجبينها ناصعا، ووجهها زاهراً. لكن - تباركت اللهم - ألم يكن الثمن غاليا، والقربان جسيما؟ أما من سبيل غير هذه لكي تطهر الأرض مما تمتلئ به الأدران وما قد يغشاها من الرجس؟ وإلا فهل من سبيل لأن يسود هذا العالم الصفاء والطهر، فلا ينغمس في الأقذار ذلك الانغماس المروع، الذي لا مفر معه من كارثة ماحقة، تعيد إليه الصفاء والنقاء؟
لابد أن يكون هنالك سبيل غير هذه السبيل، وطريق لإصلاح العالم غير تلك الطريق. . . فهل لهذه العيون الحائرة من قبس من النور القدسي يهديها تلك السبيل؟
كانت هذه الخواطر تتردد في فكر سام ويافث، وهما جالسان: ينظران إلى تدفق الجدول، أو يحدقان في السحاب المنتشر في السماء، أو يصغيان لحفيف الأثل، أو يرسلان الطرف بعيداً إلى قمم عالية يغشاها الثلج الأبدي. وهما في الحقيقة لا يريان ولا يسمعان من هذا كله شيئاً، إذ شغلهما ما أهمهما من هذه الأفكار المتدافعة تدافع الموج. فكان كل منهما يقطب جبينه حيناً، ثم يقلب في الفضاء نظرات حائرة، لا تكاد تعرف لها قرارا. . .
وأخيراً تكلم يافث:
أي سام! لقد حم الفراق، ولم يبق بد من أن يتخذ كل منا في هذا العالم سبيله،. فعلام عولت؟. . . إن هذا الطوفان الذي غمر الأرض، وعم الغور والنجد، قد طهر كل ركن من(42/85)
أركان البسيطة، وأزال ما قد علق بها من رجس، لكنه قد اكتسح أناساً، وأهلك خلقاً كثيراً. . ولقد أتى أمر الإله بأن ننتشر في الأرض، وأن نضرب فيها طولاً وعرضاً، وأن نتناسل ونتكاثر وأن نملأ الأرض بذرياتنا: وقد حم الفراق، وستذهب في ناحية وأذهب في أخرى، فعلام عولت؟
قال سام:
إن الفراق أليم، والضرب في البيداء أليم، وقطع السهول والحزون أليم، ولكن أشد من هذا ألماً ذلك الظلام الحالك الرهيب الذي يكتنف الأيام المقبلة والسنين، ويتجاوزها إلى الأجيال والقرون، وإني كلما أرسلت بصري باحثاً مستطلعاً، أرتد إلى البصر خاسئاً حسيراً، قد أجهده الضلال، وسط ظلام دامس، متراكم بعضه فوق بعض، لا يعرف له آخر ولا يدرك له حد.
سوف نتكاثر ونتناسل، ونملأ بذرارينا الأرض؛ حتى يعمر الخراب، وتمتلئ الأقطار؛ ثم - من بعد هذا كله - تنهمر السيول من السماء، وتتفجر الأنهار من جوف الثرى، ويعم العالم طوفان مخرب مدمر، يفتك بالناس، ويهلك الحرث والنسل. . . أمن أجل هذا نلد ونتكاثر، لكي نسلم ذرارينا إلى هذا المصير الحزين، كلما دارت الأيام دورتها؟
قال يافث
لقد استفحل خطب العالم، وتكدست فوق البسيطة أدران أفسدت الثرى والهواء، واستحالت معها الحياة. فلم يكن بد من أن يجتاح الأرض هذا الطوفان، فيملأ كل مكان، ويغسل كل بقعة من البقاع مما علق بها من الدنس. . . فلماذا يجزنك الجزاء الحق، والقضاء الذي لا مفر منه؟ ونفسي تحدثني أن هذا الجزاء الصارم لا يكون إلا مرة. وأكبر ظني أن العالم بعد أن رحض هذا الرحض العنيف، لن ينغمس في الحمأ، ولن يغرق في الموبقات بمثل تلك الصورة البشعة التي استوجب ذلك الجزاء، سيكون في الناس أبداً من تدفعه نفسه الأمارة بالسوء إلى مجاهل الشرور. لكن العالم في أمان ما غلب خيره على شره، وحقه على باطله. وإن عليّ وعليك واجباً ألا نلد لعمارة هذا العالم غير الأنفس النقية والذرية الصالحة، التي ترهب الإله وتلزم سننه؛ ولئن صلح نسلي ونسلك، فما أجدر العالم أن يغلب طهره على رجسه، وصالحه على فساده. الأمر إذن راجع إليك والي فعلام عولت؟(42/86)
قال سام:
من هذا العبء الباهظ أفرق، ومن تأمل ذلك الواجب المضني تملكني رعدة الحائر، وجزع العاجز. . . لست أدري يا يافث كيف يولد الشر، ومن أين ينبغ الرجس! لقد يكون العالم وما به الأكل بر كريم، ثم ينقلب في عشية أو ضحاها: فإذا الشر قد طغى وساد، والبر أوشك أن يمحى من الأرض!
أن الدم الذي يجري في عروقي - علم الله - لطهور. وأخلق بنسلي ألا يرث مني سوى الخير والهدى. ولكن من لي بأن أضمن له ألا يحيد عما ورثه، وألا تجمح به النفس الهوجاء. فينزل به السخط ويحل البلاء ويجتاحه طوفان كالذي شهدناه؟
قال يافث:
لقد مالت الشمس نحو الأفق، وتوشك أن تتوارى خلف تلك الجبال، تاركة خلفها سحباً عسجدية صفراء. إن مغرب الشمس قد استهواني يا سام! وكأنما فيه قوة قوية تجذبني أبداً إلى الغرب! ولقد طالما جلست في هذه الأثلات أتأمل الغروب، وأفكر في هذا الكون البديع الذي يميل نحو ذكاء، وفي كل مرة كنت أحس دافعاً شديداً يدفعني إلى الغرب!
إلى الغرب إذن سأمضي، وفي الغرب سأحيا، وتحيا ذريتي ونسلي. وهنالك فلنحاول أن ننشر اليمن والعمران. .
أنا أيضا لست أدري. كيف تولد الشرور، والأصل في العالم البر، ولا أدري كيف ينمو الرجس، وأساس الكون الطهر. على أني - وأن أجهدت في هذا خاطري - ليس بضائري أن أعيا به، وأن يقصر عن إدراكه فكري. فسواء لدى أكان الشر مما يخرج من الأرض أم يهبط من السماء، فان عليّ وعلى ذريتي أن نعد العدة لسحقه، وأن نهيئ الأسباب لحربه. فلا تكاد شجرته أن تنبت حتى تجتث من أصولها، ولا يكاد رأسه أن يرتفع حتى يلقي ضربة فاقرة. وأني أحسن أن فيّ وفي نسلي قوة كامنة ستسير بالناس حتما إلى الخير، وتردهم - ولو بعد لأي - عن كل منكر. وما هذه القوة سوى قوة الفكر البشري: الفكر الباحث الذي يتناول الأشياء بالنظر وبالتأمل، ولا يزال مسترسلا في البحث وفي التحقيق حتى يسلمه الإمعان في التفكير إلى سبيل الرشاد. ويريه ما انطوي عليه العالم من أسرار، وما خفي فيه من الحقائق. . . وسيخطو العالم خطوات بعيدة يوم يعلم الناس القوى التي(42/87)
تمسك الأجرام لتربط الأكوان، وما كمن في الأرض من كنوز، وما جرت به الأنهار من خيرات. هنالك تعم السعادة، ويقضي على الشرور.
إلى الغرب إذن سأمضي، وهنالك سأغرس شجرة العلم، لكي تؤتي زهرها يانعاً، وثمرها شهياً رائعاً. وأنت يا سام، علام عولت؟
قال سام:
الآن يشرق القمر بدراً كاملا: وهو احسن ما يكون حين يطلع في المشرق، إذ لا يرتفع فوق الأفق إلا أذرعا. . لست أدري هل تخدعني عيناي. لكني أراه وقت الشروق أكبر حجما، وأملح وجها، وألطف نورا. وما زلت منذ درجت يستهويني الشروق، وتعجبني الشمس والنجوم ساعة تطلع على العالم. ولقد طالما جلست أرقبها إلى جانب هذا الجدول الجاري. فتوحي إلى بما يطمئن له القلب الثائر، والطرف الحائر. الشرق هو المبتدأ، والغرب هو المنتهى، فهنيئاً لك الغرب يا يافث! أما أنا، فان هوى نفسي في الشرق. لا أبغي به بديلا.
في الشرق إذن سأحيا. وتحيا ذريتي ونسلي، وهنالك فلنأخذ في نشر أسباب العمران.
ولست أدري هل أقدر أن أسلك وذريتي السبيل التي رسمت، والنهج الذي تريد أن تنهج. ولئن قدرت أن أسلك سبيلك تلك، فما أدري أمنجيتي وذريتي من الويل، وهاديتي ونسلي إلى الرشاد، إن عهدي بالفكر البشري أنه كثير الضلال، كثير الخبط في بيداء لا تفضي إلى خير. وقلما يصيب الحق إلا بعد أن يتيه في الباطل دهراً طويلاً. وما أشد خوفي يوم يطلع أبنائي على ما ثوى في الطبيعة من قوة، وما كمن فيها من كنوز. عند ذلك قد يلهيهم التكاثر أو يتملكهم الجشع، ويتناحرون من اجل مادة قد لا تغني عنهم شيئاً. . . كلا، ليس العلم أو الفكر بالذي ينقذ الناس، فان طريقه طويلة وعرة. . .
الآن تنكشف الغشاوة عن عيني وأرى السبيل واضحة جلية. إن أبنائي سيولون وجوههم شطر الدين، وبالدين سيبلغون بالعالم أقصى مراتب السعادة والطهر.
وسيبلغون حقائق الدين بالألهام، وبالوحي ينزل من السماء، لا بالبحث والحفر والتنقيب في الأرض. فذلك هو الهدى الذي ليس بعده هدى، والنجاة التي لا تعدلها نجاة. ولقد يتناحر الناس من أجل الدين، ويكيد بعضهم لبعض، ويصيبهم من هذا أذى كثير، غير أنه دم(42/88)
طاهر يسفك من أجل مأرب طاهر، لم تدنسه المادة، ولم يلوثه الطمع. . .
أجل وإني لأرى الساعة كيف ينبغ من أبنائي رسل مبشرون ومنذرون وكيف ينتشر أبنائي في العالم، فيرفعوا علم الدين، وينشروا الهدى، ويحطموا الأصنام، ولقد أسمع الساعة صوتاً ينبعث من أرض كنعان، فيملأ الأرض حبا ورحمة، ثم أسمع بعد فترة صوتاً قوياً رزيناً ينبعث من الصحراء فيملأ الأرض عدلاً وأمنا، فيتردد صداه من المشرق إلى المغرب فإذا الأوثان تتكسر، والشرك يمحى، والأغلال المذلة تتحطم، وصروح الباطل تندك.
لا خوف إذن على العالم من طوفان يمزقه، أو لهيب يحرقه، ما دام فيه رسل تهدي، ودين ينير الظلام.
إلى الشرق إذن سأمضي، وهنالك فلتغرس شجرة الدين. أصلها ثابت وفرعها في السماء. وارفة الظلال، طيبة الثمرة
ثم سكت الاخوان، وأطرقا زمنا، ولبثا جالسين يحدقان في الكون، دون أن ينطقا بكلمة، حتى دجى الليل، ولمعت في السماء النجوم، وبرد الهواء، فنهضا وجعلا يمشيان الهوينى صامتين.
حتى إذا اقتربا من منازلهما مد الأخ الأكبر يده مصافحاً:
- فليهنئك الشرق يا سام!
- وليهنئك الغرب يا يافث!
محمد عوض محمد(42/89)
النجاشي العادل
للآنسة سهير القلماوي
(كلا لا تطعهم واسجد واقترب) هكذا كان ينبعث الصوت خافتا واضحا عذبا حنونا، وهكذا كان يتردد الصوت في صدر الرسول وهو وسط الكفار والمشركين والمنافقين والمستهزئين من أهل مكة. فإذا ما تغامزوا عليه، وإذا ما تآمروا على قتله، وإذا ما استهزأوا بوحيه، وإذا ما سبوه ولعنوه وتهجموا عليه، كان هذا الصوت الخافت الحنون يكرر ويعيد: (كلا لا تطعهم واسجد واقترب)
ولكن آل الرسول وآل عبد المطلب، كانوا أعزاء في قريش، وكان الرسول محمياً بعزتهم مطمئناً للوحي الذي ينزل على قلبه. أما المسلمون المستضعفون، أما العبيد وأما الإماء، فلم تكن لهم عزة ولم يكن لديهم وحي، وإنما إيمان هو كل ما يملكون. ومتى درأ الإيمان عن صاحبه العذاب؟ بل متى لم يجلب الإيمان لصاحبه عذابا؟ ورأى الرسول عذاب هؤلاء المؤمنين المستضعفين فأمرهم بالهجرة من مكة، ولم تكن هجرة في الإسلام بعد فقالوا له حائرين؟ وإلى أين نهاجر يا رسول الله؟ قال إلى الحبشة، فان بها ملكاً عادلا لا يظلم عنده أحد. وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا.
وفر قلة من المسلمين بدينهم لأول مرة ملتجئين إلى النجاشي العادل ملك الحبشة، فآواهم ونصرهم وأقاموا عنده في خير جوار لم يؤذوا ولم يسمعوا شيئاً يكرهونه، ولكن قومهم بمكة عز عليهم هذا الفرار، أو قل عنَّ عليهم أن يتلقاهم النجاشي هذا اللقاء. فأرسوا وراءهم عظيمين من عظمائهم مزودين بالهدايا الثمينة ليأتيا بهم من أرض النجاشي العادل.
وفد العظيمان على أرض الحبشة فوزعا هداياهم على أساقفة النجاشي العادل، وفي الغد قدما عليه وهو جالس على عرشه في أبهة الملك وعزته وسطوته وقدما له هداياهما وقالا له (أيها الملك أنه قد أوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، بل جاءوا بدين جديد ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا انتم. وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم لتردهم عليهم، فهم أعلى بهم عينا واعلم بما عابوا عليهم)
أنصت النجاشي العادل إلى قولهما وإذا أساقفته تصيح معهما (صدقا أيها الملك. قومهم أعلى بهم عينا. فأسلمهم إليهما) وهاج النجاشي قولهما وثار لموافقة أساقفة لهما فقال غاضبا (لا(42/90)
اسلم إليهما قوما بادروني ونزلوا بلادي واختاروا جواري دون سواي حتى أدعوهم فاسألهم عما يقول هذان في أمرهم)
وأرسل النجاشي خلف المسلمين فآتوه وهو على عرشه وأساقفته ناشرون مصاحفهم حوله، وتكلم عن المسلمين جعفر بن أبي طالب قال، (أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش. . . حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا. . . وامرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكشف عن المحارم. ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. . . فصدقناه وآمنا به واتبعناه. . . . فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا. . . فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا. خرجنا إلى بلادك. . . ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك) قال النجاشي العادل وقد أثر فيه قول جعفر: هل معك مما جاء به من الله من شيء؟ قال جعفر نعم، قال له فاقرأه، فقرأ جعفر (كهيعص. ذكر رحمة ربك عبده زكريا: إذ نادى ربه نداء خفيا. قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا. وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك وليا. يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا. يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا).
أنصت النجاشي لآيات الله يتولها جعفر فلم يشعر إلا والدموع تنهمر من عينيه وتبلل لحيته. النجاشي ملك الحبشة العظيم، النجاشي الذي ذاق هول الدهر، فقد غدر به قومه وقتلوا أباه وباعوه ليخلصوا منه ثم لجأوا إليه أخيرا حين احتاجوا إليه، هذا النجاشي الذي بلا الدهر واستمرأ غلظته وجفاءه، نعم هذا النجاشي يبكي لمجرد تلاوة آي الذكر الحكيم وكأنه صعب عليه أن يبكي لمجرد تلاوة آيات فالتفت إلى أساقفته وفيهم الغليظ القلب، وفيهم الجافي الطبع، وفيهم البارد العاطفة، فإذا بهم كلهم باكون وقد اخضلت لحاهم من الدمع. ولكن عظيمي مكة وقفا جامدين! لقد ألفا هذه التلاوة ولم تؤثر في أكبادهما الغليظة شيئا. (الأعراب أشد كفر ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله).
خرج العظيمان المكيان مخذولين، ولكنهما لم ييأسا، فجاءا النجاشي العادل في الغد يريدان(42/91)
الوقيعة بينه وبين من آووا إليه فقالا له أيها الملك: انهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيما فناداهم النجاشي وقال لهم وما تقولون في عيسى بن مريم؟ فرد عنهم جعفر ابن أبي طالب (نقول فيه الذي جاءنا به نبيناً صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول) وآمن النجاشي العادل بقولهم وإن لم يؤمن به أساقفته، ورجع العظيمان إلى مكة خائبين وظل المسلمون في جوار النجاشي العادل آمنين مطمئنين
وجاء النجاشي منازع له على العرش يحاربه فلم ينس المسلمين في محنته. وإنما أعد لهم سفنا وقال لهم إذا هزمت فهذه سفنكم توصلكم إلى أهلكم بمكة، وإذا انتصرت فانتم كما كنتم آمنون في جواري. وصلى المسلمون من أجل النجاشي فانتصر على عدوه، وظلوا في جواره آمنين إلى أن تهيأت لهم مكة فرجعوا إليها
وانشغل المسلمون بجهادهم عن الحبشة وملكها النجاشي العادل، وبينما هم ملتفون حول رسولهم يجاهدون من أجله وفي سبيل تعاليمه ودينه، إذا بهم ينعى إليهم النجاشي العادل. ولم ينس الرسول يده على المسلمين يوم كانوا مستضعفين فارين من وطنهم فاستغفر له وصلى من اجله.
كان المار قديماً بأرض الحبشة يرى على ضفاف النيل بقعة ينبعث منها النور فيظنها لأول الأمر وهج الشمس، فإذا ما اقترب منها عرف انه نور ينبعث من الأرض لا من السماء، فإذا ما سأل أهل البقعة عن مبعثه قالوا هذا قبر النجاشي العادل، هذا قبر أول من آوى المسلمين المهاجرين يوم كانوا مستضعفين في الأرض!
سهير القلماوي(42/92)
من طرائف الشعر
إلى الشواطئ المصرية
للشاعر الوجداني على محمود طه
حيَّاكِ أرضاً وازدهاكِ سماء ... بحرٌ شدا صخراً وصفَّقَ ماَء
يحبو شعابَك في الضحى قبلاتِه ... ويرفُّ أنفاساً بهنَّ مساَء
مُتَجَدَّدَ الصبَّوَات أودعَ حبُهَّ ... شتىَّ الأشعةِ فيكِ والأنداء
وَلِعٌ بتخطيط الرَّمال كأنَّه ... عرافةٌ تستطلعُ الأنباء
وَمُصَوِّر لَبِقُ الخيال يصوغ من ... فنِّ الجمال السِّحرَ والأغراء
نَسَقَ الشَّواطئ زينةً وأدقَّها ... صُوَراً بريَّا صفحتيه تَراءى
يجلو بريشته السماَء وإنِّما ... زادتْ بريشته السماءُ جلاَء
لا الصبحُ أوضحُ من مطالعه بهِ ... شمساً ولا أزهى سناً وضياَء
كلاَّ ولا الليلُ المكوكبُ أفقه ... بأغرَّ بدراً أو أرقَّ سماَء
ولربَّ زاهيةِ الأصيل أحالها ... سيلاً أحمَّ ولجةً حمراَء
وكأنما طوَت النهارَ ونشَّرتْ ... لَهَباً وفجَّرت الصخورَ دماَء
ولربَّ عاطرةِ النسيم عليلةٍ ... طالعتُ فيها الليلةَ القمراَء
رقَصَتْ بها الأمواجُ تحت شعاعها ... وسرتْ تُجاذبُ للنسيم رداء
حتى إذا رانَ الكرى بجفونها ... ألقتْ إِليك بسمعها إِصغاَء
تتسمعُ النوتيِّ تحت شراعه ... يشدو فيبدعُ في النشيد غِناَء
هَزَّتْ ليالي الصيِف ساحرَ صوته ... فشجا الشواطئَ واستخفَّ الماَء
وأثارَ أجنحةَ الطيور فحوَّمتْ ... في الليل حيرى تتبعُ الأصداَء
وَُرٌ فواتنُ يا شواطئُ صاغها ... لك ذلك البحر الصَّنَاعُ رواَء
فتنظّريهِ على شعابكَ مثلما ... رجع الغريبُ إلى حماهُ وفاَء
كم ظلَّ يضربُ في صخورك موجضه ... مما أجنَّ محبةً ووفاَء
عذراً إذا عيَّتْ بمنطقة اللُّغى ... فهو العبيُ المفجمُ الفصحاَء
فخذي الحديثَ عليه واستمعي لهُ ... كم من جمادٍ حدَّثَ الأحياَء(42/93)
وسليه كيف طوى اللياليَ ساهداً ... وبلا الأحبَّةَ فيك والأعداَء
كم ليلةٍ لكِ يا شواطئُ خاضها ... والرعبُ يملا حولك الأرجاَء
والسفنُ مرهفة القلاعِ كأنَّها ... تطأ السحابَ وتهبط الدأماَء
حمَلَتْ لمصر الفاتحين وطَّوَحتْ ... للنيل منهم جحفلاً ولواَء
ولو استطاعَ لردَّ عنكِ بلاَءهم ... وأطار كل سفينةٍ أشلاَء
أو كان يبلغ للغيوب شفاعةً ... هزَّ الوجود ضراعةً وبكاَء
أو كان يملكُ قدرةً حشد الدُّجى ... ونضا الرجومَ وجنَّدَ الأنواَء
ودعا غوارَبه الثِّقالَ فأقبلتْ ... فرمى بها قَدَراً وردَّ قضاَء
فاستعرضي سيِرَ الزمان ورددي ... ما سرَّ من أبنائهنَّ وساَء
وخذي ليومكِ من قديمك سلوةً ... ومن الجديدِ تعلَّةً ورجاَء
إيهٍ شواطئَ مصر والدينا منىً ... تهفو إِليك بنا صباحَ مساَء
ناجيتِ أحلامَ الربيع فأقبلتْ ... وأشرتِ للصيف الوسيم فجاَء
يحبوك من صفو الزمان وأنسه ... ما شئتِ من بَهَجِ الحياة وشاَء
وغداً تضيءُ على جنبيك لمحة ... طَبَعَ الخلودُ سماتِها الغراةَ
وترفُّ منه على ثغورك بسمةٌ ... خَفَّ العبابُ لها وغَضَّ حياَء
فاستقبلي الصيف الجميلَ وهيئي ... للفنِّ فيك خميلةً غنَّاَء
واستعرضي حور الجنانِ وأطلقي ... لغةَ السماء وألهمي الشعراَء(42/94)
إسلام عمر
أسلم سعيد بن زيد بن نفيل (ابن عم عمر) وزوجته فاطمة (أخت عمر) وكان خباب بن الارت يختلف إلى فاطمة يقرئها القرآن
خباب - (يستحث فاطمة):
رتلي ما شئت فيه رتلي ... وأقرئيه كل صبح ومساءْ
إنه خير كتابٍ مُنزَلِ ... فيه للمؤمن أمن وشفاءْ
فاطمة:
يا بياناً جلَّ عن كل شبيه ... وتعالى عن أساليب العربْ
وكتاباً كلما رتلتُ فيه ... خشع القلب لديه واقتربْ
هو إن رقَّ نسيم نافحٌ ... بشذا الخلد وأنفاس النعيمْ
وإذا ثار فجمر لافحٌ ... يستمد الوقد من نار الجحيمْ
أعرضوا عنه ولو أصغوا إليه ... لهداهم وَضَحَ الحق المبين
ولخرُّوا سجدَّاً بين يديه ... وغدوا لله خير المخلصين
يعود عمر غاضباً إلى أخته وقد علم بإسلامها مع زوجها
خباب - إِن بالباب طارقا
فاطمة - من لدى بابنا؟
عمر - عمرْ
فاطمة إلى خباب -
اختبئ منه إنه ... ملك الموت قد حضر
خباب وهو مسرع:
نجنِّي رب واكفني ... شر ما يخبئ القدَرْ
تفتح فاطمة فيدخل عمر ويظهر سعيد
عمر إلى فاطمة: لمَ أبطأت في لقائي؟
فاطمة - عذراً
عمر - (هائجاً) أي عذرٍ يصدكم عن لقائي؟
وعلام اتبعتِ رأيَ سعيدٍ ... وهو غرُّ مُسَفَّه الآراء(42/95)
فعصيتم مَناةَ واللات والعزَّ ... ى ودين الأبوَة القدماء
واتبعتم محمداً في هواهُ ... وغدوتم من صحبه الأوفياء
سعيد - (في رفق) يا ابن عمي
عمر - (ثائراً)
لستُ ابن عمك حتى ... تتعرَّى من لبس هذا الرداء
سعيد - (مستنكراً)
أوَ أعصي محمداً سيد الخل ... ق جميعاً وصفوة الأنبياء
والرسول الذي هدانا إلى الحق ... بتلك الشريعة الغراء
عمر - (يهم بضربه)
فيم هذا العنادُ يايها الوغ ... دُ وذاكَّ العقوق للآباء؟
فاطمة في وجه عمر -
أنت أسرفت في إساءة زوجي ... وهو ثبت الجنان جَمّ الحياء
فامضِ لا ترتفعْ يداك عليه ... وكفى ما أتيت من إيذاءِ
فيشج رأسها قائلاً:
اتركيني لا جاد ربعَك غيثً ... ودعيني أجزيه شر الجزاء
تشعر فاطمة بدمها يسيل فتبكي
أماه قد شجَّ رأسي ... أخي وأجرى دمائي
ولم يلنْ لأنيني ... ولم يُرعَ لبكائي
كم كنتُ أرجوه عوني ... في النكبة الهوجاءِ
فكان مبعث هميَ ... وكان كل شقائي
يا ويح ما أنا فيه ... من محنةٍ وبلاء
أكلُّ من أصطفيه ... يخيب فيه رجائي؟
فيثوب عمر إلى رشده وهو يضمد جرح أخته
ثورةٌ ثبت بعدها لرشادي ... فاصفحا عني قساوتي واضطهادي
وتناسي يا أخت ما كان مني ... من أذى صبَّه عليك عنادي(42/96)
لا تظني بيَ الظنون فأني ... لك عند الخطوب أكرم فادِ
أنا مهما قسوتُ عونُك في الكر ... ب وحصن يحميك من كل عاد
فاطمئني إلى سريرة نفسي ... واستريحي إلى حنان فؤادي
فيهدأ الجميع ثم يسألها:
وأريني صحائف الدين أقرأ ... بعض ما هاج سائر الحساد
فاطمة بل لتمحو سطورها
عمر - لا وربي ... ولو إني لها من الأضداد
فيقول بعد ما ملكت عليه قبله
صحف كلَّها جلال رهيب ... وبيان يسمو عن الأندادِ
وكتابٌ يعنو لروعة ما فيه ... قساةُ القلوب والأكباد
وضياء يشع في حالكِ الشكَ ... فيجلوه بالشعاع الهادي
فيقبل خباب متهللاً:
هيه يا ابن الخطاب
عمر - (مشدوهاً) من ذاك؟
ثم يراه فيقول خبَّاب؟ ... ومن أي موضعٍ أنت غادي
خباب: -
كنت في صحبة ابن عمك أتلو ... صحف الوحي والهدى والرشاد
ثم أقبلتَ فاخفيُت مَروعاً ... من حسامٍ لديكَ غرثانَ صادي
وها قدْ أتيُتك لما هدأ ... تَ وثبتَ إلى نفسك الراضية
عساكَ تصيخ إلى ما أقو ... لُ وتمنحني أذْنك الصاغية
تحدث عنك النبّي الكر ... يمُ وأعينه ثرَّةٌ هاميه
ونادى إله الورى أن يعزَّ ... بك الدين في مكة العاصية
فهلا تمزق ثوب الضلا ... لِ وهلا تفيق من الغاشية
فتتبع دين الرسول القوِ ... يمَ وتنبو عن الفئة الباغية
عمر إلى من حوله:(42/97)
بلى سوف أهجر هذا الضلا ... لَ وأنزع أسماله البالية
وألبس يا قوم ثوب الهدى ... وحلة دينكم الزاهية
فيتهلل الجميع ويقول سعيد:
أجاب الإله دعاء الرسو ... لِ وحقق دعوته الغالية
فقم فاعتنق دينه المرتضى ... لنكبت أعداءه ثانية
(في نفسه)
لسوف يذوقون منك العذا ... بَ ويُلقوْن في نارك الحامية
يخرج عمر ميمما مجلس الرسول مع صحبه فيطرق الباب:
صحابيّ - طارقٌ جاء
آخر - (وهو يسعى إلى الباب) من يدق علينا؟
عمر - عمْر
فيعود مذعورا - ما على لقائك أقْدِمْ
ثم يهيب بصحبه:
إيذعروا فقد أتى ماردُ القو ... مِ وفي سيفه المنيّةُ تجثم
فيهربون ويخاطبهم حمزة غاضباً
أدخلوه فان أراد اهتداء ... بعد ما لج في الضلالة أكرم
وإذا جاء بيننا يشهر السيف ... ويسعى إلى النكاية حُطِّم
فيمنعهم النبي
بل دعوني ألاقِه أنا وحدي ... فهو أحنى مما ترون وأرحم
يفتح له وينتحي به -
فيم يا ابن الخطاب جئت إلينا
عمر - (خاشعاً) جئت أسعى إلى الرسول لأسَلم
فيكبر النبي ويهتف أحد الصحابة -
الله أكبر عَّز الدين وانتصرت ... جماعةٌ صمدوا للذل واصطبروا
فيعلم الصحابة بإسلام عمر ويقبلون فرحين مهنئين(42/98)
أحدهم -
يا مرحبا بحسام الله يمنعنا ... من بعد ما فت فينا الخسف والصَّغَر
آخر -
يرجو بك الدين أن تسعى لنصرته ... فحقق اليوم ما يرجوه يا عمرُ
وانصر رجالا أباح الأهل حرمتهم ... فلم يصيبهمو في دينهم خوَرُ
عمر -
سيروا بمكة أني شاَء رائدكم ... واستكثروا في بقاع الأرض وانتشروا
وأطلعوا راية الإسلام خافقة ... فدون من رامها الصمصامة الذكر
من صدكم بالأذى مزقت أضلعه ... ولو يكون له في أهله خطرُ
فليزدجر بخطابي كل ذي رشد ... وليمتثل للردى من ليس يزدجرُ
فريد عين شوكة(42/99)
الحركة الأدبية في ألمانيا بعد الحرب
للأستاذ ران
مدرس اللغة الألمانية بالجامعة المصرية
- 1 -
في سنة 1918 انهارت دعائم ألمانيا على اثر حرب اضطلعت بضرامها ضد عصبة متحالفة تفوقها قوة ومنعة. ومنذ سنة 1918 إلى سنة 1924 جازت ألمانيا غمر أعوام تفيض بالأزمات الداخلية والخارجية، فمن حروب أهلية، إلى صنوف من الذلة في السياسة الخارجية، إلى تدهور العملة، إلى جوع وقحط؛ وفعلت هذه كل شيء لتدفع الشعب المنكود إلى وهاد اليأس. وفي سنة 1924 استحالت شئون السياسة الخارجية إلى شيء من التحسن، وثبتت العملة، واندفعت ألمانيا في دهشة الصديق والعدو، إلى تقدم اقتصادي سريع، ولبثت حالتها المادية والمعنوية حتى وقوع الأزمة الاقتصادية الكبرى ظاهرة الثبات والاستقرار.
يقابل هذين العهدين من تاريخ ألمانيا السياسي، عهدان أدبيان مما بعد الحرب. فإلى سنة 1923، كانت تسود الثورة الأدبية والفوضى. وفي سنة 1924 بدأ عهد من الاستجمام والدعة والرجعة. وإذا كنا نلخص أحوال هذين العهدين - مما يلي الحرب - فإنا سنقتصر طبعاً على ذكر الأسماء والحركات التي ظهرت في هذه الحقبة ذاتها؛ وسنغضي عن ذكر كثير من الشعراء والكتاب الأحياء المعروفين، إذ قد ظهر معظمهم قبل الحرب؛ وما صنع عهد ما بعد الحرب سوى أن ثبتهم في مراكزهم، ومن هؤلاء ريكارد اهوخ، وجرهاردها وبتمان، وتوماس وهينرنخ مان، وغيرهم.
- 2 -
تعرف الحركة الأدبية الثورية في العهد الأول مما يلي الحرب عادة بأنها حركة (التعبير) وكان (التعبير) في الأصل أساساً لبرنامج جماعة من الرسامين ثاروا على فكرة (التأثير) في الرسم فاستعار الأدب من الرسم هذه الكلمة علماً له. وهي في الأدب كما في الرسم علم للثورة. وقد كانت بادئ بدء برنامج عصبة صغيرة من الشعراء والأدباء الذين حاولوا -(42/100)
شأن كل جيل - أن يمكنوا لطابعهم الخاص وآرائهم الخاصة، وان ينحرفوا في عنف أو هوادة عما للجيل المنصرم من مظاهر الطموح إلى الجمال. ومن هؤلاء بعض الشعراء الشبان الغنائيين الموهوبين (مثل الزه لاسكار شيلر، وارنست شتاتلر، وجود فريد بن، وفرانتس فرفل، وبخر وغيرهم) والى جانبهم بعض النقدة المنتجين الأقوياء مثل كارل اينيشتين ولودفج روبينر، وفردينايد هراديمويف. وظهر إلى جانب هؤلاء خلال هذه الحقبة أيضاً جماعة من القصصيين وكتاب المسرح مثل جستاف مايرنك مؤلف قصة (جولم) وماكس برود مؤلف (طريق تيشوبراه إلى الله) وكارل شتر نهايم، وليونهارد فرنك، وجورج كايزر، وارنست تولر، وفالتر هازنكلفر. بيد أن أهم ظاهرة في الحركة هو أنها كانت وما زالت غنائية في اتجاهها. بل إن (التعبير) كان يعني شهر النضال في سبيل الهام حر وطابع مطلق من كل قيد، أو بعبارة أخرى كان يعني ثورة العواطف والغرائز على أغلال عالم آلي مسير، وعلى الاتجاهات الفنية التي تصفدها قواعد العقل: تلك هي المبادئ التي دفعت بالحركة الأدبية سريعاً إلى الفوضى في الشكل والموضوع
كان الكاتب (المعبر) كأنه (فرتر) مبعوث، ولكن هؤلاء الثوار الجدد كانوا بالأخص يخالفون (فرتر) القديم في ميولهم الفنية كل المخالفة، على أن الميول الثورية أيام (فرتر) كما هي في ظل (التعبير) لم تكن تقف عند الفن. فقد كان البحث يتجه إلى طابع فني جديد، وكان يطمح إلى حق التدخل في أعمق ظروف الحياة الخاصة، ولكن الحركة كانت تتجه بعواملها الثورية بالأخص إلى تحطيم النظم الحكومية والاجتماعية والأخلاقية القائمة؛ كان هذا هو الجيل الذي ازدهر في معركة الطوائف قبل الحرب، وفي جحيم الحرب، وفي أحياء العمال، وفي ميدان الحرب؛ وما يكاد يعرف عالما غير عالم البطش والروعة؛ عالما يهوي الضعيف فيه إلى حضيض البؤس، ويبدو القوي عنيفا مطلق الهوى. وعلى هذا المنوال نشأت العواطف الأساسية لهذا الجيل، وهي عواطف رأفة ورثاء لضحايا هذا العالم، وعواطف طفولة، وعدم مسئولية نحو نظام اقتصادي عنيف ونظام سياسي قاهر أكثر عنفاً، وبالاختصار عواطف ثورة واستهتار. كذلك كان هذا الجيل يؤمن بالعاطفة الإنسانية التي شوهتها التقاليد والعرف. وبالخبر المحض الذي غاض في غمر من الكسل والخبث. وكانوا ككل الثوار الخياليين لا يرون في الحاضر ولا في التاريخ شيئاً غير بطش(42/101)
الدولة الجهنمية، وظلم الضعفاء، واضطهاد العقل والروح من طبقات سيدة لا ضمير لها ولا وازع.
وقد بدا لهم كما بدا لفوتر، أن الدين والعلم والفن قد زيفت لصالح الطبقات الغالبة. بيد أن هنالك فرقاً بين تكييف آلام الحياة في الماضي وبين تكييفه الجديد، وهي آلام تهم حركة (التعبير) فقد كان فرتر القرن الثامن عشر أيضاً يقطع علائقه مع مجتمع العصر وثقافته، ولكن بقيت له اللغة القومية، وكان يقيس خمول المجتمع بمقدار ما يضطرم في صدره من فيض البيان وعنفه، ذلك البيان الذي تلقاه من جيل إلى جيل. وكان يتلقى صلات الماضي البعيد المجيد، كما يتلقى من حاضره ما لم يغشه الفساد. وكان فرتر يرى نفسه في مرآة اللغة القومية النقية المخصبة، فإذا أخرسه الألم، أمدته بما يقول فيما يعاني. وقد بدت هذه اللغة القومية للشاعر الفتي الذي ظهر في نهاية الحرب مهيضة منهوبة، وألفاها طعمة للسادة الخاملين والطبقات الوسطى الراضية المسترقة، قد استحالت على يدهم إلى أداة خاملة خالية من المعاني
ولسنا نجد ما نقوله عن الطابع الشعري، فقد بدا شكله لهذا الجيل الفتي عليه العفاء مثلما بدت ظروف الدولة والمجتمع، وبدا له الجد والوقار كأنهما وضع مجرد منافق والجمال كأنه امتياز وضيع لرفاهة التجار الاغنياء، وان رنين العواطف قد غدا رنين لغط مجرد، أو غدا بلسما مخدرا
وقد اندفع الشعراء الغنائيون الجدد، بعوامل ترجع إلى الأحقاد الاجتماعية وإلى بعض مثل الجمال، سراعا إلى معترك من الفوضى اللفظية والفنية، ونشأ في ذلك المعترك رغم تناقصه مذهب لعبادة القبيح
وبدأ أولئك الغنائيون (المعبرون) بالخروج على كل قواعد النظم والروى وتنسيق العبارات، بل على قواعد اللفظ ذاته، وانتحلوا لأنفسهم لغة خاصة لم تكن اكثر من سلسلة طويلة من الزفرات المتقطعة والغمغمة والصياح، قد ضحى فيها اختياراً بكل منطق خارجي، وكل جمال ونبل في اللفظ، ويستحيل علينا أن نقدم هنا أمثلة، مثلما يستحيل علينا أن نترجم كتابات الفرنسيين أنصار الحقيقة المغرقة، أو شعراء اكسفورد المحدثين. ونضطر أن نحيل القارئ إلى الشعراء والكتاب الذين سبق ذكرهم. ففي هذا الضرب من(42/102)
الشعر كله في هذه اللغات، ينعدم كل تنسيق منطقي أو صوغ للجمال. بيد أن لهذا الأسلوب مزاياه في التأثير بما يقوم عليه من العناصر اللفظية الخاصة بكل لغة، وهي مؤثرات يفهمها كل إنسان يعرف هذه اللغة، دون أن يعني بشرحها أو ترجمتها
وقد ذهبت الثورة على المبادئ والقواعد المرعية إلى حد اقصد إلى معالجة القبيح الشاذ. نعم استعمل أولئك الشعراء الروى والقافية ولكن دون شكل ولا قاعدة، بل حولوا الوزن والتناسق إلى خلل وتنافر. ولم يكن شعر هذا العصر يمتاز فقط بالتحلل والغموض، ولكن يمتاز أيضاً بنوع من الضيق والقبح والشناعة. وليس هذا فقط فيما يتعلق بحرية التعبير، بل هو كذلك يتعلق بالميل إلى ذلك التبسط العنيف القبيح، والى ذلك اللفظ الضعيف المغصوب، فقد كان هذا الميل هو طابع الإنشاء
ويرد أنصار (التعبير) على ذلك بأسباب يرجع بعضها إلى الطموح إلى الجمال، فيقولون إن الأمر يتعلق بتجارب لفظية وصور فنية للأشياء أهملت ولم تطرق من قبل، ويرجع البعض الآخر إلى العاطفة وفلسفة التاريخ حيث يقولون أن البيان الذي أتى به عصر محطم ممزق يجب أن يقوم على شيء من الخلل والقبح والهوس، وان ميلاد عصر جديد، أو إنسان جديد كامل يقع دائماً في غمار الألم والقبح. ثم يقولون إن عين العصر الحاضر كعين ساكن جهنم في أسطورة أفلاطون لابد أن ترى اليوم قبيحاً، ما يراه عصر جديد، أنقى الانطباع والجمال.
- 3 -
وما كان ذلك كله ليرضي غير طائفة قليلة من المفكرين الخبثاء أو الذين لا خلاق لهم. ولو لم تكن الحرب وما بعد الحرب لبقيت الحركة محصورة في هؤلاء. ولكن هذه المحاولات التي كانت تقصد إلى عدم المساس بالأذواق والمظاهر الشعبية في الفن والأدب بل تقصد إلى إثارتها، استطاعت بسبب انحلال العصر واضطرابه أن تغزو أوساطاً عظيمة
ذلك أن الرجل العادي الذي فقد صوته في جحيم الخنادق وذعر الهزيمة؛ ألفى في هذه الموسيقى الثورية المضطربة بيانه الطبيعي وبدا الأسلوب الجديد الذي صيغ سراعا في صوت الملاك، أو صوت الحيوان، ولكن لم يصغ قط في صوت الإنسان الأمثل، في نظر الجموع، أنشودة أولئك المساكين الذين كانوا يرقدون نصف عراة في الخنادق لا يفكرون(42/103)
في غير حياتهم، أو أنشودة أولئك المشردين المنبوذين الذين كانوا أيام الجوع يبتهجون بافتراش الغبراء وأكل الأعشاب. وقد كانت الجماهير الزاخرة، ولا سيما جمهرة المتعلمين تعتقد أن الزمن سيدور دوره. وكان الاعتقاد عميقاً سائداً بأن البراءة ستأتي أو سيأتي عصر تنهض فيه الأحوال الأخلاقية والاقتصادية. وهكذا حظيت هذه العوامل التي بعثت الخيال الجديد بظلامه وخفائه وحماقته بتأييد الجمهور. ولعل الرسالة كانت أقوى من فهم الشعراء أنفسهم وأقوى من ثروتهم اللقطية؛ وكان ثمة اعتقاد بأنها رسالة رسل أو أنبياء. ألم يكن ثمة دليل على عمق الرسالة حين تحطم الإناء تحت ثقل ما فيه؟
- 4 -
ولقد كان ذلك الخيال الذي أقامته حركة (التعبير) ضد (التأثير) والذي كان يعم من الوجهة النظرية لصوغ الحالة النفسية من جديد، وينكر كل استقلال خارجي، بل كل شرعية خارجية وكل شكل وضعي، يلتقي مع ذلك بحاجة للوسط الذي يعني بالفلسفة، هذا إلى تلك الحساسية الدقيقة التي أذاعتها في الطبقة الوسطى فلسفة (فرويد) النفسية والتي اتجهت نحو تصوير الغرائز المضطربة والمثل النفسية
وكانت الفلسفة الألمانية الرسمية، منذ فاتحة هذا القرن تتجه بلا ريب إلى معارضة الفكرة الواقعية، أولاً على يد الأشكال المعتدلة للفلسفة الكانتية ومنذ سنة 1910 ظهرت حركة واضحة تميل نحو فلسفة واقعية روحية (وقوامها فلاسفة مثل، مينونج وهوسرل، وبعض تلاميذ مدرسة ديكرت، وحركة الأحياء الهجلية، وهنز دريش وغيرهم) بيد انه قلما كان يفرق أحد بين الواقعية والآلية، فكانت كل هذه الميول تتجه إلى إنكار الشكل والمقدار سواء في الطبيعة أو البيولوجيا أو الاجتماع.
وكانت الحركة الوطنية قبل الحرب بل وأثناء الحرب أيضاً، تعضد هذا الاتجاه، وكانت ترى في تراث أجست كونت وجون ستوارت ميل، ثقافة خصيمة تجب محاربتها. ولكن بتقدم الميول الروحية ارتد المفكرون إلى الفلاسفة الألمان القدماء: ايكهارت، بيمي، وفختى، وشلنج، وهجل
ومن اليسير أن نبرهن على أن دعاة نظرية (التعبير) قد استقوا من هذه الميول، سواء من الوجهة الشخصية. أو الوجهة المادية. بيد أن الحركتين كانتا تسيران جنباً إلى جنب في(42/104)
محاربة الآراء الغربية كما وضعت غالباً، وكانتا تطاردان نفس العدو في مواطن كثيرة. فمثلا نعرف جميعاً أن حركة (التأثير) التي تقاومها حركة (التعبير) كانت تتصل أوثق صلة (بالواقعية) الفرنسية وكانت الرواية والقطع المسرحية الألمانية التي أثار عليها (التعبير) أيضاً حربه العوان، في العشرة أعوام الأولى من القرن الحالي، تستقى إلى حد كبير من التعاليم الطبيعية الجبرية والاجتماعية
بيد أن الفلسفة والفن الجديد كانا يلتقيان في تمثيل (الواقعية) أما حركة (التعبير) فكانت تجعل من (الوضعية) وصوغ العبارة محور فنها، وكان الفلاسفة الجدد من جانبهم يمثلون الميل إلى تصوير العالم في صورة تفيض فيها الجوانب المادية، وتتأثل فيها العناصر المعنوية: أعني الفكرة والروح والحياة، أو تكون لها قواما
- 5 -
ثم إن هذه الرجعية الروحية في الفلسفة قد اتخذت صورا ومناحي شتى فبدت أحياناً في الأشكال الصارمة لنظرية المعرفة والمنطق. وأحياناً في ميدان الاجتماع، وطورا في ميدان النظريات الفنية، وأحياناً في مباحث الخفاء. وهكذا استطاعت أن تمد الفن الجديد لا بنظرياته العلمية فقط، بل استطاعت أيضاً أن تمده بالصورة العالمية التي ينشدها
ولقد ظهرت هذه الآثار واضحة في الرواية والقطعة المسرحية اللتين أخرجتهما حركة (التعبير) فكلتاهما انحدرت إلى غمار الخيال المغرق. وفي عوالم محطة أو ممزقة مهلهلة يبدوا فهيا الشغف بما وراء الطبيعة، وما وراء النفس والعناصر الشيطانية الخبيثة. فأما الرواية، فقد عالجت الحوادث الخارقة، وقصص الأشباح، وأشخاص الهائمين في العالم. والعلم بالاتصال بالله؛ وكذا تشبهت الرواية بالأدب الروسي في معالجة قصص المجرمين الذين يتصفون بالصلابة الخارقة أو يزعمون الإلهام من الله، والقضاة ذوي الكبر والقلوب الغليظة، والمذنبين التائبين الذين هم أصفى قلوبا ونفوسا. وأما الرواية المسرحية فقد رسمت صور الشقاء للمعدمين الأطهار، ورسمت على العموم صورة الكفاح المتناقض بين الفكرة المستنيرة والمادة المظلمة، وشرحت الأسباب القديمة المعادة لعقوق الابناء، ومعركة الضمير التي تضطرم في صدور الشبيبة الديموقراطية السلمية التي تتنبأ للعالم بمستقبل عظيم زاهر في ظل النظام الجديد، وصورة المناظر المغرقة لمدنية عظيمة ذات معترك من(42/105)
الحقيقة والظاهر، والغنى، والفقر، والتسول، والمال، والرذيلة، والعالم الخفي، والعالم الأنيق، كذلك عادت الرواية المسرحية إلى معالجة موضوع القصص الدينية القديمة. ومن الصعب أن نقول إلى أي حد ترجع هذه الصور والمسائل إلى أثر الفلسفة والتيوسوفية، والى أي حد تمثل فقط الحقيقة المروعة لأيام الحرب وما بعد الحرب، وعلى أي حال فقد كانت الحقيقة هي أعظم غذاء لهذه الآثار كلها. فلما تغيرت هذه الحقيقة في سنة 1924 غاضت هذه الآثار كما يغيض الطيف. أما في دوائر الأدب الرفيع فقد اضمحلت الحركة منذ سنة 1922، وكانت في الواقع ظاهرة الفراغ. ذلك أن الدأب على تصوير ضعف الأخيار وبؤسهم، وكونهم يكافحون في عالم قاس أضحى نغمة قديمة مضحكة بغيضة وغدا الاشتقاق من العالم الخفي ومجتمع الفقر والرذيلة فناً سهلاً وغدا يشف من ثمرات كل عام عن ضعف ذهني سيئ. أما الرجال الذي عنوا بمعالجة مشاكل هذا العصر فقد توفروا على دراسة الاقتصاد والتاريخ والفلسفة. ومن ثم فقد انهارت دعائم هذه الحركة التي قامت فطيرة مغرقة. وكان أسلوبها الذي غفل عن الصقل والغاية أحب الأساليب إلى العاجزين. وهكذا سرعان ما غدت حركة (التعبير) لا تعني شيئاً سوى (الفقر الأدبي).
- 6 -
بيد أن العصر الجديد (منذ سنة 1824) عاد فأخذ يتلمس طريقه إلى التقاليد القديمة في حذر بل في روعة. ولما توطدت دعائم الظروف الاقتصادية عاد العمل والحياة فاستقاما ببطء، وعادت الأرزاق الدنيوية تسترد مكانتها وقوتها بعد أن غدا الحصول عليها ممكناً. وغاض الشعور بأن كل شيء يضطرب ويهتز؛ وأخذ الإنسان ينظم شأنه في العالم، وكان لذلك أثره في تقدم الآداب ما بين سنتي 1924 و 1930.
عاف الإنسان الأحلام، وأخذ يقدر الحقائق ويقدر أساتذة الكتاب. وسئم الإنسان الاتهامات الخطيرة وكذلك الوعود التي ليست أقل منها خطورة وعاد يروض نفسه على تذوق العواطف الطبيعية وعلى تقديم الجهود المحدودة ولكن السليمة. أجل، سئم الإنسان إغراق العصر الذاهب وقبحه، وأخذ يقدر احتشام العاطفة وقيمة البيان، وقضى على ذوي الغي والقصور وعاد الإنسان يطلب الصقل والتهذيب.
وإن الإنسان ليشعر في هذه الأعوام الأخيرة إلى أي حد كان أولئك الناس يغرقون في(42/106)
استعمال العبارات الجريئة؛ ولقد غاضت الرغبة كما غاضت الجرأة في تحري الصور الجديدة أو العنيفة أجل، كان عصر الرجعة، وعصر استرداد التقاليد الأدبية التي خلفتها القرون ولم يكن عصراً ضعيفاً ولكنه أيضاً لم يكن مضطرباً ولم يكن يتلمس طريقه في الظلام.
ولم يكن هذا الجيل أيضاً من الوجهة الخارجية جيلاً جديداً حل مكان الجيل القديم، ولكنه كان طائفة من عمر الجيل المنصرم نضجت في سكينة أو كانت أقدم وأطول عمراً. ونحن نمثل لتلك الطائفة بقصصيين مثل هانز كاروسا، والبرخت سيفر، ويوسف بونتن، ويوسف روت وأرنولد تسفايج. . فهؤلاء فياضون بالرجولة، بل انهم يبدون أحياناً شخصيات هائمة: وهم قديرون على أن ينسجوا من حوادث الحياة اليومية صوراً ينفذون إلى أعماقها ويصوغون منها اللآلئ التي توجد في كل حقيقة وفي أصغر حقيقة. وهم كتاب حقيقة، ولكن جردوا من كل النظريات الفلسفية والاجتماعية. هم كتاب قصص، وكتاب قصص فقط، لا يتجنبون المدهش الخارق ولكن ليس لديهم ما يحول دون قصده وتحريه. فإذا قصدوه تناولوه بحذر، بل بإحجام كشيء تتأثر له حقاً، ولكنه ليس مما يجب أن يكون لنا. فمثلا كتب كاروسل مذكرات عن الحرب، ولكن كل ما يورده فيها من خطوب الحرب لا يكاد يبدو بين ثنايا القصص ووصف الحوادث اليومية
كذلك كان حال الشعر في هذه الفترة؛ ونستطيع أن نمثل لها برتشارد بلنجر أو بفيلكس براون. وقد عيب على هؤلاء أنهم يغرقون في التعلق بالطبيعة، بيد أنهم لجأوا في التعبير إلى ذلك البيان الفني الذي ازدهر جيلا بعد جيل، وفيهم يشعر الإنسان بأثر شعراء المدرسة القديمة مثل جورج، وهوفمانشتال، وريلكة. ولقد كان لأولئك الشعراء القدماء شيء من لون النبوة، ولكن الشعراء الجدد تنقصهم الصياغة الفنية وكذلك كل ما يدخل في عالم التصوف أو الدين. وشعرهم صور قصيرة، ولكنهم يجانبون ذلك الغي الواضح، ويبدو في شعرهم هوى الفن والعناية بصقل العاطفة، والحرص على صوغ البيان.
وإن هؤلاء لأنبل من يمثل هذه الفترة، ولكن يوجد إلى جانبهم من يمثل الحقيقة، الخشنة، فمثلا توجد طائفة من القصصيين مثل برنو فرنك والفريد نويمان، ترعى قصص المخاطرات والعجائب، وهؤلاء يهتمون بالوقائع قبل الشكل. بيد أنهم رغم التعلق بالخوارق(42/107)
والمدهشات، كتاب حقيقة، لأنهم ليسوا ككتاب القصص (المعبرين) يبحثون عن المدهش في عالم من الخفاء، بل يلتزمون جانب الواقع، ويستمدون المدهش من شغف خالص بالواقع، ويستخرجون من الواقع قصصهم وغالباً أشخاصهم العنيفة المدهشة
ونستطيع ان نضع بين هؤلاء اميل لدفيج، فهو يميل إلى الخوارق والمدهشات، ولكنه يصوغها في أسلوب عادي، بل أحياناً في أسلوب ركيك مبتذل.
وينتمي إلى هذه الحقيقة الخشنة، أيضاً كتاب قصص الحرب المتأخرين، الذين نالوا حوالي سنة 1930 شهرة عالمية، ونذكر من هؤلاء رين، وجليزر، وريمارك. فان كتبهم إنما هي وثائق، ولكنها ليست رفيعة من ناحية الفن الأدبي
ويجدر بنا أن نشير أيضاً إلى كاتب مستقل اللون ولكن يتصل بحركة التعبير، وهو الفرد ديبلن، وهو طبيب اجتماعي في برلين، ففي كتابه المسمى (برلين ميدان اسكندر) يصور وقائع حياة عامل نشأ في بيئة المدينة على نمط سينمائي، متأثراً في ذلك بأسلوب جيمس جويس
- 7 -
وإنا لنصارح القارئ بأن ما أوردناه عن الحياة الأدبية الألمانية بعد الحرب لا يكفي إلا لشرحها بصورة موجزة جدا. فإذا كانت حركة التعبير قد اضمحلت وعفت بسرعة، وإذا كانت النزعة الجديدة إلى الحقيقة برغم ما أنتجت من مواهب قليلة لم ترتفع إلى اكثر من مستوى متوسط، فليس علينا أن نعتقد أن الحياة الأدبية في هذه الفترة كانت ضئيلة. ولقد تحدثنا فيما قبل عما وجه من الاهتمام ولا سيما من جانب الطبقات الوسطى إلى مسائل هذا العصر الفلسفة والسياسة، وقلنا أن حركة التعبير لم تصمد لأن مناهجها لم ترق في عين المفكرين الحقيقيين، وأنها اتخذت للتعبير عن الأزمة الفكرية التي هزت أركان بلاد العالم كلها بلا استثناء، وهزت الرأي العام الألماني حتى بعد سنة 1924 بما اقترن بها من الضغط السياسي والاقتصادي.
ولقد كانت المصائب المادية التي ترتبت على الهزيمة سبباً في أن هذه الأزمة العقلية وقعت في ألمانيا قبل أن تقع في غيرها من أمم أواسط أوربا وغربها وفي أنها ربما كانت أعم وأعمق أثراً. اجل لقد حولت هذه الهزيمة ألمانيا في بضعة أشهر من أقوى دولة في أوربا(42/108)
وأحسنها نظاماً إلى بلد يمزقه الجوع والحرب الأهلية، وقد بينا أن حركة التعبير إنما كانت ثمرة لما وقعبألمانيا من تحطيم جميع الملكيات والضمانات وانهيار الطبقات، وتحطم جميع مثلها الوطيدة، وهي ريح لم يقف عصفها بالجندي المحارب، ولكنها شملت جميع السكان قاطبة. كذلك كانت هذه المصائب سببا في حمل جميع الطبقات خلال هذه الأعوام، على الاهتمام بالدين والفلسفة والسياسة. ولما أن ثقلت هموم الحياة، لم يبق للفن سوى القليل، وهذا هو السر في كون هذه الصورة التي قدمناها من قبل تبدو ضئيلة عجفاء، كذلك الحركة العلمية عانت من هذه الظروف، فقد كانت من قبل تجد في ألمانيا تحت تصرفها احسن القوى، ولكن أولئك الرجال ألفوا أنفسهم عندئذ يواجهون تلك المسائل الفكرية والسياسية التي لا تدع بعد مجالا للعمل الهادئ المنظم، وغدا من الضروري قبل أن يستأنفوا عمل الجيل القديم ويسيروا به أن ينظموا أراءهم العلمية وأن يجربوها من جديد. كذلك تطور كثير مما يتلقاه الطالب في الجامعة من العلم الوضعي ولم يبق ذا أهمية علمية فقط، بل غدا أيضاً ضروريا لمعالجة المسائل الماسة التي أتى بها الحاضر. صحيح أن الألماني الفتى كان يهضم العلم كما كان يهضمه من قبل، ولكن لا ليسير في البناء بادئ بدء، بل ليجد لنفسه مكانه الخاص في ذلك المعترك الفكري
كانت تقوم في كل مكان جماعات عاملة تضطرم جميعاً بهذه المسائل التي لا نهاية لها؛ واقترنت بقيامها حركة أدبية معينة؛ كذلك لا يكاد يوجد اليوم في فرنسا أو إنكلترا كاتب كبير لم يشترك بكتاب وضع أو أكثر في معالجة المسائل التي شغلت ذلك العصر. كذلك اشترك جميع الكتاب الألمان الذين ظهروا قبل الحرب بهذه الوسيلة في معالجة مسائل ما بعد الحرب؛ وكان ذلك نذير التجدد والفتوة. كذلك تحول كثير من هؤلاء الكتاب من روائيين متشككين إلى نوع من العطف والاشتراك في الشعور مع معاصريهم ونذكر بعض هؤلاء؛ فقد عنى (هرمان هيسه) مثلا بمشكلة الشباب وعنى (يعقوب فاسرمان) بجموح الطبقات الوسطى الجديدة وغطرستها وعنى (اوتوفلاكه) بأزمة الزواج، وعنيت (ريكاردا هوخ) بشرح صور الإخلاص والتصوف الألماني بطريقة جديدة. واخرج توماس مان، القصصي الشهير ما قبل الحرب، عددا من القصص الصغيرة التي لا موضع للكلام عنها هنا، وهي في مستوى إنتاجه قبل الحرب. بيد انه إلى جانب ذلك تحدث إلى أمته حديث(42/109)
المربي، وقد عرفته من قبل وصافا للأسر الذاهبة والشخصيات الضعيفة. وتحدث بشجاعة ولكن بتحيز دائماً عن (ضرورات العصر) مشيرا بذلك إلى المسائل الشائكة الخاصة بنظام الدولة والمسائل الخارجية وكذلك معنى النفسية الجديدة؛ وتحدث بالأخص عن تقاليد الفن والحياة؛ عن تراث القرن التاسع عشر كله من جيته إلى فاجنرونيتشه ثم إلى الروس. وفي سنة 1924 ظهرت روايته التهذيبية الكبيرة (جبل الساحر) وهي رواية في الظاهر فقط، ولكنها في الأصل صورة لأوربا في أحوال صمتها ومرضها ونقاهتها، وضعت في شكل مناقشة بين جماعة من الشخصيات الأوربية ذهبت بسبب المرض أو غيره إلى آكام دافوس (في سويسرا).
- 8 -
كذلك اشترك في هذا الجدل علماء مثل ماكس فيرومكس ترلنش. بيد أنه قد اضطلع بأعظم قسط من هذا الجدل طائفة من الشخصيات ليست من رجال العلم ولا من رجال الفن، ولكنهم كفلاسفة مستقلين استخلصوا جميع التقاليد، وتحدثوا عن طوالع العصر على نحو ما فعل تاين في فرنسا عقب كارثة سنة 1870. ومن الحيف أن نصف هؤلاء الرجال بأنهم فنانون أو علماء، فقد فسروا العلوم الطبيعية والتاريخية في عصرهم بطريقة فلسفية سياسية. ومثل هذه الجهود لا يمكن أن تخلو من العيب، فهي تتطلب كثيرا من المعارف الشخصية وقوة التناسق، والنظر إلى الحقائق ومقدرة كبيرة على التنبؤ: بيد أنه إذا كان الشخص المستقل يبالغ في تقدير كفايته في هذا الميدان، فكذلك يجب ألا ننسى أن مرحلة التطور لا يمكن أن تحل دون أن تبذل هذه الجهود للتطلع إلى كل شيء
ونستطيع أن نذكر ماكس شيلر، ولدفيج كلاجي، بين الذين أسسوا فلسفة جديدة في علم طبائع الإنسان
وقد كان كتاب أزوالد شبنجلر (انحلال الغرب) أشد ما يمثل هذه الطائفة. وهو كتاب أسوأ ما فيه عنوان. وقد اعتبر مع ما فيه من العيوب أعظم حادث أدبي في الحركة الأدبية الألمانية بعد الحرب
وفي هذا الكتاب يدرس شبنجلر قوانين النمو والانحلال في التاريخ، ويشرح بصفة عامة الأشكال التاريخية بأسلوب الدرس المقارن في العلوم الطبيعية في أصول الاصطلاحات(42/110)
الخاصة بالنبات والحيوان، ويتناول في بحثه كل ما يتصل بمصير الإنسان وطالعه، سواء من ناحية الدولة أو من ناحية المجتمع، وكذا من ناحية الفنون والعلوم الرياضية بنوع خاص. ويعتقد شبنجلر أنه قد استطاع بهذا العرض أن يطلع مواطنيه على المكان الذي يستأنف من التاريخ سيره، وعلى واجبات العصر الذي سيلي، ومصاير القرن الآتي. بيد أن شبنجلر لم يكن بالطبع أستاذاً في جميع العلوم التي تناولها بحثه، ويستطيع الإنسان دون جهد أن يحصي عليه الخطأ في كل خطوة. وقد أنكر العلم والفلسفة كتابه، ولكنه يعتبر مع ذلك إنجيلا لعصره وفيه مزايا لا تنكر. وإذا كانت روحه ثقيلة الوطأة، فأنه في ذاته مسهل الآراء، مبسط العلم، ذو بيان سلس قوي. كذلك يعتبر الكتاب من الناحية المعنوية قوي الحجة ينم عن أبدع الخواص الألمانية. وقلما أنكر على الألمان انهم يعرفون كيف يواجهون القدر المحتوم مواجهة الأبطال، فكتاب شبنجلر ينفس من أوله إلى آخره هذا الرضوخ الرفيع الرائع للقدر
والى جانب شبنجلر نجد الكونت كايزرلنج مؤسس أكاديمية الحكمة في (دارم شتات) وهو محلل قدير لحضارات العالم وأديانه وفي مذكرات سياحاته: وفي دراساته عن أمريكا وعن الشعوب الأوربية نجد نوعا من دائرة معارف تتناول كل المسائل التي تهم الألمان بنوع خاص والأوربيين بنوع عام، منذ أن قربت السياسة الحديثة والاقتصاد الحديث بين تقاليد القارات العظيمة ورسالاتها وهذه الدراسات صورة قوية لكفاح الشباب الألماني ضد مؤثرات العالم الخارجي. ففي مئات الكتب وفي آلاف الجماعات، يتجه البحث إلى بيان أصل الإنسان، وما له من ماضيه الخاص، وما كسبه من الأمم الأخرى. وقد ظهر أثر هذه البحوث في المسائل السياسية وكان يشتد كلما تقادم العهد على الحرب، وذلك في نفس الوقت الذي تطورت فيه الحركة الأدبية من التعبير إلى الحقيقة، وأخذ الاهتمام يتجه من التحليل والمباحث الدينية والمثل الخيالية إلى ناحية الماضي القومي والى ناحية الشئون السياسية والعملية
ولا يسمح المقام بأن نصف هذه الحركة في دقائقها ولا أن نتتبعها إلى يومنا، ذلك أنا لا نستطيع أن نغضي عن العنصر السياسي تمام الإغضاء. فمن الواجب أن نبين مثلا أي قوى غنمتها المثل الخصيمة للديموقراطية، وكيف أن التقاليد الأدبية، والتصوف الأدبي(42/111)
الجديد، مالت إلى جانب الأحزاب غير الديموقراطية.
وقد كان مما له أهمية سياسية أن الطوائف الحرة ذاتها كانت تتلقى المؤثرات الأدبية الرفيعة القوية التي تهيئها لإنشاء مجتمع جديد غير ديموقراطي متدرج في الطبقات وإلى نظم جديدة للدولة.
ولا يسعنا قبل كل شيء أن نغض عن الأثر الذي خلفه شتيفان جورج، وهو شاعر كبير ذو مكانة هامة نبغ قبل الحرب، ولكنه لم يرتفع إلى ذروة التأثير في الطبقة الرفيعة إلا منذ الحرب، ولو شئنا أن نصف آثاره المنظورة وغير المنظورة لاقتضى ذلك فصلا بأسره، وآثاره فنية وأخلاقية وسياسية، فلنتصور شاعراً مضطرم الشاعرية ذا أسلوب صارم في نفس الوقت، كأنه في دائرة فنه نوع من القسس يعمل بروح القس. أجل لنتصور قسا كأولئك القسس الذين عاشوا منذ أربعة آلاف عام في مصر، وكان لهم إلى جانب التأثير الكهنوتي، أثر سياسي. ولقد لبث أثر شتيفان جورج السياسي خفياً غير منظور. أما أثره الفني والأخلاقي فيبدو بالعكس منذ عشرة أعوام في كتب تلاميذه. ونذكر على سبيل التمثيل كتاب جوندولف عن جيته وكتاب برترام عن نيتشة
- 8 -
ولا يدرك سوى أولئك الذين عاشوا خلال هذه الحركات المتباينة وعملوا معها. كيف أن العصر لم يكن خاملاً ولا مندثراً، وليس من الحق أن نصر على أن العصر كان خلواً من الآثار الأدبية الرفيعة. وإذا كان هذا العصر ينقصه التناسق وتنقصه العبقريات الأدبية الممتازة، فذلك يرجع إلى أنه عصر جدل شاق بين المثل القديمة والمثل الجديدة. وفي غمار هذا الجدل الذي اشترك فيه كل إنسان سر طرافته، بل وسر عظمته، وسنرى في المرحلة المقبلة. إذا كان عصر تعليم وغرس لجني جديد.
كتبت للرسالة خاصة
(ترجمها) (ع)(42/112)
الموسيقى عند العرب
للأستاذ قدري حافظ طوقان
مقدمة
قد يعجب البعض وقد يؤدي هذا العجب إلى القول: ما علاقة صاحب هذا المقال بالموسيقى؟ وهل هذا الفن يقع في دائرة اختصاصه حتى يتمكن من الكتابة فيه؟ وما هي الفائدة التي ستعود على القراء إذا عرفوا أن للعرب أو للمسلمين فضلا فيه؟ ولماذا كل هذا الاهتمام بتراث السلف الذين مضوا بخيرهم وشرهم؟ أما آن الأوان للاهتمام والانعكاف على شيء جديد حاضراً لنفع ممتع؟ أجوبتي على هذه الأسئلة ستكون بالجملة! فإجابة على السؤالين الأولين أقول إن الموسيقى هي من بحوث الصوت، والصوت فرع من فروع علم الطبيعة، وعلم الطبيعة هذا في العلوم التي نشتغل بها ونهتم بماضيها وحاضرها، بتطورها ونموها. وأما الجواب على الأسئلة الباقية فيمكن أن يتخلص في أن الأمة التي تريد أن تصل إلى ما تصبو إليه من تقدم وسؤدد يجب أن تهتم بماضيها، وأن تربطه بحاضرها، وان تأخذ من الحضارة الحالية ما فيها من عناصر صالحة وبالقدر الذي يتلاءم ونفسيتها وتقاليدها بحيث لا يضيع شيء من مميزاتها، وان تضيف هذا إلى ما في حضارتها من عناصر خالدة، بذلك تستطيع أن تخرج حضارة جديدة تمد سلسلة التاريخ الفكري للعالم، وبذلك تكون قد قامت بواجبها نحو تاريخها وتراثها ونحو المدنية والبشرية
نبذة في أطوار الموسيقى
الموسيقى من الفنون الجميلة ومن أهم العوامل التي تترجم عن نفسية الأمة وطبائعها، وهذا الفن طبيعي في البشر، فالإنسان يرغب في الموسيقى يطرب منها وترتاحنفسه لها، وهي لغة العواطف، وقد تكون هي الوحيدة من بين الفنون التي يطرب لها الحيوان. هذا الميل الغريزي في الإنسان دفعه إلى الاعتناء بها فاهتم لها المصريون من قديم الزمن وبلغوا فيها شأواً بعيداً، وأبدع فيها اليونانيون وأحلوها محلها من الاعتناء والاهتمام، وكذلك الرومان فانهم اعتنوا بها فأخذوها عن اليونان وزادوا عليها؛ وفي الشرق اهتم لها الصينيون واليابانيون وبرعوا فيها واخترعوا آلات كثيرة من ذوات الأوتار، وظهر منهم من انتقد(42/113)
الموسيقى الأوروبية، هذا في الشرق الأقصى، أما الفرس فاحتقروها في بادئ الأمر وترفع أعيانهم عن تعاطيها، ولكن لم يلبث هذا الاحتقار وهذا الترفع أن حل محلها العناية والاعتبار، فألفوا أنغاماً بديعة التوقيع واخذ عنهم العرب كثيراً، يدلنا على ذلك تسمية الألحان العربية بأسماء فارسية كما أخذوا أيضاً عن البيزنطيين، وهؤلاء (البيزنطيون) وأهل فارس بدورهم أخذوا عن الموسيقى العربية. ولم يكتف العرب بذلك بل ترجموا كتب الموسيقى لليونان والهند ودرسوها، وبعد أن نقحوها هي وغيرها زادوا عليها، فألفوا في ذلك المؤلفات القيمة، وجمعوا بين ألحانهم والحان اليونان والفرس والهنود، واستنبطوا ألحاناً جديدة لم تكن معروفة فضلا عما اخترعوه من الآلات. ولا يظنن القارئ أن في وسعي أن اسرد تفصيلا تاريخ الموسيقى العربية والأدوار التي مرت عليها فهذا ما لا طاقة لي به، وسأعمل جهدي في هذا المقال أن أعطي فكرة بسيطة عن الموسيقى العربية من حيث قواعد أنغامها وترتيب ألحانها ومن حيث وزنها الموسيقي وآلاتها القديمة والكتب المؤلفة فيها. . .
الأنغام والألحان والوزن الموسيقي
إن كلمة موسيقى مأخوذة عن اليونانية، ومعناها تأليف الألحان، والموسيقى (علم يعلم به النغم والإيقاع وأحوالها وكيفية تأليف اللحون وإيجاد الآلات الموسيقية)
إن الأصوات الموسيقية درجات أو أبراج متتابعة، الواحدة فوق الأخرى إلى عدد غير متناه، والأبراج الأصلية عند العرب تبتدئ بالياكاه، فعشيران، فعراق، فرست، فدوكاه، فسيكار، فجهاركاه، ويقال لها ديوان، وفوق هذا الديوان ديوان آخر له أبراج النوى؛ فالحسيني، فالاوج، فالماهور، فالمحير، فالبزرق، فالماهوران، وما ارتفع عن ذلك فهو جواب لما يقابله في الديوان الذي تحته وهكذا. وبين هذه الأبراج فسحات يختلف بعضها عن بعض في الكبر؛ وقد قسمها العرب إلى كبيرة، وتتألف من أربعة أرباع، وصغيرة مؤلفة من ثلاثة أرباع، ويحتوي الديوان على أربعة وعشرين ربعاً، وتختلف الألحان، العربية واختلافها يرجع لأسباب، منها طبقة النغم واختلاف الإيقاع وتعويض الأبراج وتضعيف الألحان، وبعض هذه يحتاج إلى قليل من الشرح، فطبقة النغم هي الانتقال في سلم برج من الأبراج صعوداً ونزولا مع حفظ المساحات التي يتغير النغم بتغيرها،(42/114)
وتعويض الأبراج هي تعويض بالأبراج بارباع، وتضعيف الألحان هو الإيقاع على برج يكون جواباً لما تحته، والصعود والنزول على سلمه بحيث يبقى الجواب طبقة للنغم، ولهذا يتضاعف الصوت. وكان للعرب عشرة أنغام يبتدئ كل منها على برج من أبراج الديوان فتفرع منه أنغام فرعية، هذا من جهة الأنغام والالحان، وأما من جهة الوزن الموسيقي فاكتفي بالقطعة الآتية، وقد أخذتها من المجلد التاسع عشر من مجلة المقتطف. (الوزن الموسيقي هو مجموع ضربات منفصلات بعضها عن بعض بأوقات محدودة في القياس، وطبقا للنسبة والمكان فيمكن الإنسان أن يوقع مقطعين بسيطين بضربتين فقط، لكن الوقت يختلف بين أجزائها فمرادفة المقاطع تكون إما متساوية أو غير متساوية، فالمتساوية هي مراجعة الضربات بطريقة لا نشعر بها مراجعة الأوتار بشرط أن يطول الوقت عند نهاية كل مجموع من الضربات أكثر من غيره، فلو حدث اختلاف بين المجموعات ولو بضربة واحدة شذ القياس وفسدت المساواة، ومجموع الضربات المتساوية الأوقات يسمى الوزن المجموع، وغير المتساوية المقسوم. وإذا قصر الوقت بين الضربات المتساوية حتى لا يمكن قسمتها بعد ذلك يسميها الفارابي (الهزج السريع)، وإذا تضاعف الوقت بين الضربات يسميه (الهزج الخفيف)، أو كانثلاثة أضعاف (فالهزج الثقيل الخفيف) وهو يقابل الوتد المجموع، أو أربعة أضعاف، (فالهزج الثقيل) وما زاد على ذلك من الأوقات فنضع له الأسماء التي نختارها بشرط أن تختص بالوزن المجموع. وهذا كله يقابل تقسيم الأوقات في الموسيقى الإفرنجية. . .)
العرب عمليون
وقد طبق العرب مبادئ علم الطبيعة على الموسيقى، وكانوا دائماً في نظرياتهم الموسيقية عمليين، فلا يقبلون نظرية إلا بعد التثبت منها عملياً، ويعترف فارمر أن علماء العرب لم يأخذوا بآراء الذين سبقوهم (حتى ولو كان نجم السابقين مضيئاً وعالياً) إلا بعد أن يتثبتوا منها عملياً، والمعترف به عند علماء الفرنجة أن ابن سينا والفارابي وغيرهما من علماء المسلمين زادوا على الموسيقى اليونانية وادخلوا عليها تحسينات جمة، وان كتاب الفارابي لا يقل عن (إن لم يفق)، الكتب اليونانية الموسيقية. وثبت أن العرب أجادوا في بحوث التموجات الكرية للصوت. وفوق ذلك فقد زاد زرياب، وتراً خامساً بالأندلس وكان للعود(42/115)
أربعة أوتار على الصنعة القديمة التي قوبلت بها الطبائع الأربع فزاد عليها وتراً خامساً أحمر متوسطا، ولون الأوتار وطبقها على الطبائع وهو الذي اخترع مصراب العود من قوادم النسر فكانوا قبله يضربون بالخشب.
الآلات الموسيقية
لا نستطيع أن نسرد كل الآلات الموسيقية التي كانت معروفة عند العرب، ولهذا نذكر أهمها، ولكن قبل ذلك نود أن نلفت النظر إلى أن العرب اعتنوا بصناعة آلات الموسيقى، وكانوا ينظرون لهذه الصناعة نظرهم إلى الفن الجميل، وقد كتبت عدة رسائل في ذلك واشتهرت مدينة أشبيلية بها. وقد جمع المسلمون آلات غناء كثير من الأمم كالفرس والأنباط والروم والهند واستخرجوا من ذلك آلات تلائم أذواقهم وميولهم، أضف إلى ذلك ما أضافوه واخترعوه من شتى الآلات، فمن الآلات التي كانت معروفة عندهم: الارغانون، والبزق، والطبلة، والدف، والشلياق، والقيثارة، والطنبور والعنق والرباب والمعزفة والشهروذ (وقد اخترع الأخيرة حكيم بن أحوص السفدي ببغداد) والعود، وله خمسة أوتار أعلاها البم والثاني المثلث والثالث المثنى والرابع الزير والخامس الحد، وتترتب هذه الأوتار بصورة مخصوصة بحيث يعادل كل وتر ثلاثة أرباع ما فوقه، والمسافة التي بينهما تعدل ربعاً، ويقال أن الفارابي اخترع الآلة المعروفة بالقانون، فهو أول من ركبها هذا التركيب، ولا تزال عليه إلى الآن، وهو الذي اصطنع آلة مؤلفة من عيدان يركبها ويضرب عليها وتختلف أنغامها باختلاف تركيبها، يحكى انه كان مرة في مجلس سيف الدولة فسأله هل تحسن صنعة الغناء؟ فقال نعم (ثم اخرج من وسطه خريطة ففتحها واخرج منها عيداناً وركبها ثم لعب بها فضحك منها كل من كان في المجلس، ثم فكها وركبها تركيباً آخر ثم ضرب عليها فبكى كل من كان في المجلس، ثم فكها وغير تركيبها وضرب عليها ضرباً آخر فنام كل من كان في المجلس حتى البواب فتركهم نياماً وخرج. . .). واصطنع الزلام آلة موسيقية من الخشب تعرف بالناي أو المزمر الزلامي، وأدخل زلزل عود الشبوط كما ادخل الحكم الثاني تحسيناً على تركيب البوق
كتب العرب في الموسيقى(42/116)
للعرب مؤلفات قيمة في الموسيقى بلغ بعضها الذروة، وكانت (ولا تزال) من المصادر المعتبرة جدا في تاريخ الموسيقى وتطورها، وقد يكون كتاب مروج الذهب للسعودي وكتاب الأغاني للأصفهاني من أكثر الكتب بحثا وكتابة في اشتغال المسلمين والعرب في الموسيقى، وفي أشهر موسيقييهم وما يتصل بهؤلاء من طريف الحوادث ولذيذ الأخبار. ويرجع أن الكندي أول من كتب في نظرية الموسيقى، وكتبه فيها هي: الرسالة الكبرى في التأليف، كتاب ترتيب الأنغام، كتاب المدخل إلى الموسيقى، رسالة في الإيقاع، رسالة في الأخبار عن صناعة الموسيقى. وكتب في ذلك أيضاً منصور ابن طلحة بن ظاهر والرازي وقسطا بن لوقا البعلبكي والسرخسي، وللأخير كتاب الموسيقى الكبير، وكتاب الموسيقى الصغير، وكتاب المدخل إلى علم الموسيقى، وللفارابي كتاب الإيقاعات، وكتاب أخر اسمه كتاب الموسيقى، وهو من أشهر الكتب، ويقول عنه سارطون (إنه أهم كتاب ظهر في الشرق يبحث في نظرية الموسيقى) ولثابت بن قرة رسالة في فن النغم، ولأبي الوفاء مختصر في فن الإيقاع، وأبدع ابن سيناء في الكتابة عن الموسيقى وله فيها مؤلفات منها: الفن الثامن من كتاب الشفاء وهو الموسيقى، وفيه ست مقالات ولكل منها فصول، والفن الثالث من الجملة الثالثة من كتاب الشفاء، وكتاب الموسيقى. وهذا الكتاب يدور على مواضيع الأصوات والأبعاد والأجناس والجموع والإيقاع والانتقال والصنج والشاهرورد والطنبور والمزمار ودسانين البربط وتأليف الألحان. وللشيخ شمس الدين الصيداوي كتاب في الموسيقى تستخرج منه الأنغام، اكثره شعر، وفيه كلام على بحور الشعر والأوزان ودوائر البحور، ولصفي الدين عبد المؤمن البغدادي كتاب الرسالة الشرفية في النسب والتأليفية، وهو مقسوم إلى مقالات وفصول. ولصفي الدين الأموي كتاب الأدوار في الموسيقى وينقسم إلى خمسة عشر فصلا، وفيه صورة عود وصورة آلة قائمة الزويا تسمى نزهة، واشتهر هذا الكتاب كثيراً وبقى قروناً كثيرة المعين الذي استقى منه المؤلفون في الموسيقى. ولمحمد بن محمد بن احمد الذهبي الجزيري ابن الصباح شرح على كتاب في علم الموسيقى ومعرفة الأنغام، وكذلك لأبن زيلا وابن الهيثم وأبي الصلت أمية، والنقاش والباهلي وأبي المجد وعلم الدين قيصر ونصير الدين الطوسي مؤلفات قيمة، بعضها عديم المثال. وظهر في الأندلس عدد لا يستهان به ممن كتبوا في الموسيقى وأجادوا في ذلك(42/117)
إجادة أوصلت هذا الفن إلى درجة عالية، فمن الذين اشتغلوا وكتبوا فيها: ابن فرناس والمجريطي والكرماني وأبو الفضل ومحمد بن الحداد وابن رشد وابن السبعين والرقواطي وغيرهم، وأنشأ صفي الدين عبد المؤمن الأموي مدرسة لتعليم الموسيقى وتخرج منها عدد غير قليل من العلماء الذين استطاعوا أن يتقدموا خطوات بعلم الموسيقى، اشتهر منهم شمس الدين بن مرحوم ومحمد بن عيسى ابن كرا، وهناك كتب عديدة لم يذكر فيها اسم مؤلفيها ككتاب الميزان وعلم الأدوار والأوزان وهو مبني على كتاب الأدوار المار ذكره ومقسوم إلى ستة أبواب في ماهية الموسيقى وماهية النغم المطلق والأوتار والمواجب ومعرفة الشدود والأوزان وأسماء الدساتين والإيقاع. وفي كتاب رسائل إخوان الصفا بحث في الموسيقى موجود في الرسالة الخامسة من القسم الرياضي، وهذه الرسالة مقسمة إلى أربعة عشر باباً وهي تبدأ بصفحة 132 وتنتهي بصفحة 180، ومن يرغب في الاطلاع على ما كتب في كل باب فليرجع إلى الكتاب المذكور ففيه تفصيل وكفاية، وإذا أردنا أن نعدد الذين نبغوا في فن الموسيقى وكتبوا فيه حتى القرن الرابع عشر للميلاد يطول بنا المطال وقد يخرج مقالنا هذا عن القصد.
نابلس
قدري حافظ طوقان(42/118)
العُلوم
ويسألونك عن الأهلة
للدكتور احمد زكي
الأهلة مواقيت
كذلك ارتآها العرب، وكذلك ارتآها الأقوام من قبل ومن بعد. دارت الأرض فاختلف الليل والنهار، وانتظم دورانها فثبت يومها فكان وحدة الزمن الطبيعية الأولى. ودار القمر حول الأرض فصغر في ظلمات الليالي مرآه حتى انعدم. وكبر حتى استكمل فاستدار، وعرف الناس ثباته على ذلك، وثبات ما يمضي بين انعدامة وانعدامة، أو استدارة واستدارة، فاتخذوا من ذلك وحدة زمنهم الطبيعية الثانية فأسموها شهراً. ثم طلعت الشمس عليهم من المشرق، وأخذ يُشمل مطلعها حتى بلغ الغاية في الاشمال، ثم أخذ يُجْنِب حتى بلغ الغاية في الاجناب، وأختلفت بذلك الفصول فاحترْت حتى بلغت غاية الحر، ثم ابردت حتى بلغت غاية البرد، ودام هذا الاختلاف وثبت وانتظم، فوجد الناس فيه وحدة زمنهم الطبيعية الثالثة الكبرى فأسموها العام
وكان لابد لوحدات القياس أن تتناسب، وكان لابد أن تقسم بعضها بعضا، وان تنقسم بعضها ببعض، فلما تلمسوا ذلك عند اليوم والشهر والعام، وجدوها لا تنقسم انقساماً صحيحاً، وحاولوا التأليف بينها فاستطاعوه بين اليوم والعام بالبسط والكبس، فكانت السنة البسيطة، وكانت السنة الكبيسة، واستعصى عليهم تأليف ما بين الشهر والعام، ما بين القمر والشمس، فانفردا كل بتقويم، فكان التقويم القمري، وكان التقويم الشمسي، وتنافس التقويمان، وكانت الشمس أصل الحياة فاتفق تقويمها وحوائج العيش فشاع وذاع، واستقر التقويم القمري حيث كان لابد أن يستقر، فكان لتوقيت الصوم والحج وصنوف العبادات وبالرغم من أن التقويم الشمسي يعتمد على اليوم والعام فحسب، فانه لم يستطع أن يغفل الوحدة الثانية المتوسطة التي خلقها القمر، أعني الشهر، أرغمه عليها ألفة الناس لها وحاجتهم إلى وحدة تقع من حيث طولها بين اليوم القصير والعام الطويل.
كذلك خلَّف القمر في لغات الأمم أثرا من معنى ما استُخدم فيه من قياس الزمن. فقد اسماه(42/119)
الإنجليز (مون واسماه الارلنديون (ماي والألمان (مُند والغوطيون (مينا والإغريق (ميني والهنود القدماء (ماس واسم الشهر في الإنجليزية (منث وفي الألمانية (مونات وفي الفرنسية (موا وفي الغوطية (مينوبس وفي اللاتينية (منسيس وفي الإغريقية (مين وفي الهندية (ماس فبين اسم القمر واسم الشهر في اللغات تطابق تام أو تشابه كبير. ويظهر أن هذه الأسماء جميعها مشتقة من اللغة الهندية (ما) ومعناها (يقيس) وذلك أن القمر به يقاس الزمن، من هذه اللفظة نفسها لاشك يرجع اشتقاق الكلمات الإفرنجية التي معناها (مقاس) وهي بالإنجليزية وبالفرنسية وبالألمانية وباللاتينية وبالإغريقية ومن اللفظة الأخيرة (المتر) المعروف
دوران القمر
ومن المشهور المعروف أن القمر يدور حول الأرض، فإذا هو وقع بينها وبين الشمس، أضاءت الشمس منه النصف الذي يليها، فأظلم بذلك النصف الذي يلي الأرض فلا يرى الإنسان من القمر شيئاً، وهذا هو المحاق أو أول الشهر. ثم يسير القمر سيرته، فإذا بلغ الموضع المقابل للموضع الأول توسطت الأرض بينه وبين الشمس أو كادت، وعندئذ تضيء الشمس منه النصف الذي تراه الارض، فيظهر لنا كأن القمر كله يضيء وما هو بذلك، وهذا بدر التمام. وبين المحاق والتمام ينزل القمر منازل بين هذين، فيها يضيء الشمس منه أنصافاً لا ترى الأرض منها إلا أبعاضا هي الأهلَّة، فإذا زاد هذا البعض على نصف دائرة قارب البدر التمام فارتأته العين منقوصاً قليلا. ويسير البدر من التمام إلى المحاق فتتكرر الظواهر السالفة معكوسة، وبذا يتم الشهر
وفي الأهلة يرى الإنسان الجزء المعتم من القمر كأن نورا ضعيفاً ينيره، وذلك أن الأرض تعكس ضوء الشمس إلى القمر كما يعكس القمر ضوءها إلى الأرض، فلو أن للقمر أهلا يسكنونه لأسموا أرضنا هذه قمرا، إلا أنه أقمر وأسطع كثيرا من قمرهم، فقد يبلغ المعكوس منا إليهم خمسين ضعفاً
والأرض تدور حول الشمس في مستو، والقمر يدور حول الأرض في مستو غيره، إذ لو دار الثلاثة في مستو واحد لانكسفت الشمس في كل محاق، وانخسف القمر لكل تمام. ويميل المستوى الذي يدور فيه القمر عن المستوى الذي تدور فيه الأرض بنحو خمس(42/120)
درجات
ومن يرقب الأهلّة يعلم أن قرني الهلال لا يستويان على الأغلب. قال ابن المعتز
انظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
فالهلال على الأكثر زورق مائل، تارة يميل بصدره إلى الشمال، وتارة يميل بعجزُه إلى الجنوب، وهو في هذا كله يتبع الشمس ويداورها، فنوره من نورها، وهما قل أن يغربا من الأفق في مكان واحد، فإذا هما فعلا أو قاربا ذلك، وقعت الشمس عند غروبها في أسفل الهلال تماماً فاستقام الزورق. ثم يجري الدوران باختلاف المغربين فيعود الزورق فيمتلئ عنبراً ثقيلاً
والقمر يتم دورته حول الأرض في 32 , 27 يوما، وهذا شهره الحقيقي، ولكن أهل الأرض لا يروضون منه ذلك، فالشهر عندهم هو ما بين المحاق والمحاق، والقمر بعد جريانه 32 , 27 يوما واستتمام دورته يجد أن الأرض خدعته عن بلوغ المحاق؛ لأنها أيضاً تسير فيختلف موضعها من الشمس، فلكي يتوسط القمر بينهما لابد للمتعب المجهود أن يسير 2. 21 يوماً فيبلغ المحاق، وبذلك يكون الشهر 53 , 29
والقمر يدور حول نفسه، فكان المرجو من ذلك أن نرى كل جوانبه، ولكن الواقع غير هذا، فإنا لا نرى منه غير جانب واحد، نرى وجهه ولا نرى قفاه، وذلك أن القمر يدور حولنا ويدور كذلك حول نفسه، حول محوره، ويستغرق في الدورتين زمناً واحدا، فهو يدور حول الأرض مرة واحدة في الشهر، ويدور حول نفسه مرة واحدة في الشهر كذلك، فنحن دائماً نرى منه وجهاً واحداً. نعم قد يتذبذب القمر في دوراته فيرينا أذنه اليمنى، ثم يرينا أذنه اليسرى، وقد يطرق فيرينا شيئاً من أم رأسه، وقد يرفع رأسه فيُبيِن عن أدنى لحيته، وهو في كل هذا لا يُظهر غير ستة أعشار سطحه، أما أربعة الأعشار الباقية فقد شاء القدر أن لا تراها عين إنسان. وسترى في العدد القادم ماذا في القمر نفسه من أشياء.
احمد زكي(42/121)
القصور الذاتي
للدكتور على مصطفى مشرفة
من صفات المادة الملازمة لها والتي تكاد تكون دليلا عليها ما يسمى، القصور الذاتي، وهو نوع من الجمود أو الخمول، به تقصر المادة بذاتها وبدون مؤثر خارجي عن ان تأتي حراكا، ونحن نحس بوجود هذا الجمود إذا حاولنا تحريك جرم من الأجرام - ككتلة من الحجر مثلا - فأننا نشعر بمقاومة كأنما المادة تأبى علينا مجهودنا وتريد أن تترك وشأنها.
وربما بدا لأول وهلة أن المادة إنما تميل بطبعها إلى السكون وتجنح إليه وتؤثره على الحركة، ولكن قليلا من الخبر يدلنا على أن المادة المتحركة تقاوم كل محاولة لإيقافها كما تقاوم المادة الساكنة كل محاولة لتحريكها. فإذا شك أحد القراء الكرام في كلامي هذا فما عليه إلا أن يتحقق من صحته بنفسه، بأن يتعرض لجسم متحرك كحجر منطلق في الهواء مثلا - محاولا إيقافه أو تغيير اتجاه سيره، ونصيحتي في هذه الحال أن يختار جسماً صغيراً ذا سرعة ضئيلة وإلا عظمت التضحية في سبيل العلم
فالقصور الذاتي هو قصور عن السكون إذا كان الجسم متحركاً، كما أنه قصور عن الحركة إذا كان الجسم ساكناً، وفي الواقع هو قصور عن التغير وميل إلى بقاء الحال على ما هو عليه، فهو إذن نوع من المحافظة. ولنا أن نعكس هذا التشبيه فنقول إن المحافظة هي نوع من القصور الذاتي أو الجمود، فالخطيب المصقع الذي ينادي أن حافظوا على عاداتكم الموروثة وتمسكوا بتقاليدكم وتقاليد آبائكم ربما كان لا يعبر عن أكثر من القصور الذاتي لمجموعته العصبية!
وعلى قدر عظم كمية المادة يكون قصورها. فالكتلة الكبيرة من الحديد مثلا أعظم قصورا من الكتلة الصغيرة منه، وبالعكس، ولذلك أتخذ القصور الذاتي دليلا على مقدار الكتلة ومقياساً له.
وقد كان يظن حتى أواسط القرن الماضي أن القصور الذاتي خاصية من خواص المادة وحدها تتميز بها عن سواها، إلا أنه وجد أن الضوء يشاركها هذه الخاصية. فالضوء إذا اعترضه حائل في طريقه دفعه وضغط عليه كما تفعل المادة المتحركة، ويبلغ ضغط الضوء العادي للشمس نهارا على سطح الأرض نحو ثقل نصف كيلو جرام عن كل(42/122)
كيلومتر مربع، أو نحو ثقل نصف ملليجرام عن كل متر مربع. وشأن الضوء في ذلك شأن سائر الأشعة الأخرى كالأشعة الحرارية والأشعة التي تلي البنفسجية وما إليها، وكلما زادت شدة الضوء وكذلك كلما قصرت موجته زاد قصوره الذاتي، وبالتالي زاد ضغطه على السطح التي تعترضه في سبيله.
وكما أن للمادة قصوراً ذاتياً به تحاول المحافظة على حالتها من حركة أو سكون، كذلك لها قصور ذاتي به تحاول المحافظة على حالتها الكهربائية وتقاوم كل تغيير في هذه الحالة. فالجهاز الكهربائي الذي نستخدمه في التقاط أمواج الراديو مثلا له هذا القصور الكهربائي، وهو خاصية أساسية فيه عليها تتوقف قابليته للاهتزاز الكهربائي تحت تأثير الهزات الأثيرية، كما تهتز الأرجوحة تحت تأثير هزات الصبي لها.
بل إن الفضاء العاري عن المادة له صفة القصور الذاتي، بها يقاوم كل تغيير في حالته الكهربائية، وعلى وجود هذه الصفة يتوقف إمكان انتقال الأمواج الكهربائية فيه.
فليس بغريب إذن أن يظهر القصور الذاتي في الإنسان؛ في حركاته الجسدية وفي صفاته الذهنية. فالقصور هو نوع من الصابورة به تكتسب سفينة الوجود الاستقرار وحسن الاتزان، وهو في الوقت ذاته عبء على كاهل الطبيعة يعوقها عن الحركة المطلقة ويجنح بها إلى الجمود.
علي مصطفى مشرفة(42/123)
من صور المدنية الإسلامية
التجارب العلمية عند المسلمين
نكاد أن نصور لأنفسنا صورة كاملة لمعظم النواحي الفكرية من المدنية الإسلامية، ولكن الناحية العلمية المحضة مجهولة بالنسبة لسائر تلك النواحي، فقل من أقدم على إثارة أبحاثها والغوص إلى أعماقها، وذلك لقلة ما بين أيدينا من الآثار في هذه الناحية بل لفقدانها، فلم يصل إلينا من هذه الآثار إلا أسماؤها وما تغني الأسماء عنا شيئا! نعم يمكننا أن نستدل بهذه الأسماء - التي كثيراً ما نجدها في أمثال كتاب طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة وتاريخ الحكماء للقفطي وغيرهما - على ما عالجوه في تلك العصور من المواضيع العلمية في الطبيعيات والرياضيات وما يلحق بهما.
على انه إذا كان لدينا شيء من هذه الآثار فأنى نجد من يستطيع أن يقدم على معالجة هذه المواضيع والناس على شطرين، فأما مثقفون ثقافة عربية حديثة يملون وينفرون من النظر في أشباه تلك الكتب (الصفراء) كما يسمونها لقلة عنايتهم بها واستبعادهم حصول الفائدة من مثلها لأنها (قديمة) ولأنها (شرقية)، وإما مثقفون ثقافة شرقية قديمة وهم بعيدو عهد عن النظر في المواضيع العلمية الخالصة، ولا تكاد تجد منهم من يقدر على فهمها وإعطائها حقها من العناية. فما أحوجنا إلى أولئك الذين سماهم الأستاذ احمد أمين الحلقة المفقودة، أعني الذي يجمعون بين الثقافتين الشرقية والغربية ويؤلفون مزيجاً من الحضارتين القديمة والحديثة.
قد كان الناس إلى عهد غير بعيد، ولا يزال بعضهم على ذلك، يعتقدون أن العلم بمعناه الحديث وأساليبه الحاضرة من حيث استناده على الحس والمشاهدة والتجربة والاستنباط هو من مولدات هذه العصور ومن مميزات المدنية الحديثة، ولكننا إذا تتبعنا الحركة العلمية في المدنية الإسلامية وجدنا فيها ما يملأ النفس إعجاباً وإكباراً بأولئك العلماء الذين كانوا مثلا أعلى للنشاط العلمي بجميع معانيه، فلقد كانت الفكرة العلمية نامية لديهم وبالغة من التجريد والتعميم درجة غير قليلة، فكانوا يقولون كما يظهر من آثارهم بالقوانين وبشمولها واطرادها ويسلكون في استنباطها واستخراجها الطرق المعروفة اليوم والتي تستند إلى المشاهدة والتجربة، وليس استعمال التجارب أداة للتحقيق العلمي مقصوراً على العصور(42/124)
الحديثة، فالمدنية الإسلامية كانت مجلية في هذا الميدان، فلم يقصر علماؤها كبني شاكر محمد واحمد والحسن، وأبي الريحان البيروتي وغيرهم في القيام بالتجارب العلمية الكثيرة وتقليبها على وجوهها، ولم تعوز تجاربهم تلك دقة الملاحظة لشروط الحادث الطبيعي وظروفه والعوامل المؤثرة في تغييره ولم يفتهم إحكام القياس وجودة الاستنباط.
وهانذا ناقبل تجربة لأبي الريحان البيروني في رسوب الأجسام وطفوها على وجه الماء، تلك التجربة المؤدية إلى فكرة كثافة الأجسام وهي تطبيق للقانون المشهور الآن باسم قانون أرخميدس، والتجربة بعينها يجرونها اليوم في مخابر التعليم من غير تغيير يذكر.
ولعل القارئ يعجب إذا قلت له أن هذه التجربة يجدها مذكورة في أحد كتب التوحيد وهو شرح المقاصد لسعد الدين النفتازاني، ولكن سرعان ما يزول بعض تعجبه إذا عرف أن كتب التوحيد كانت مبنية على الفلسفة، والفلسفة بمفهومها القديم تشمل جميع أنواع العلوم، فكانوا يقسمونها إلى ثلاثة أقسام، الفلسفة الدنيا وهي الطبيعيات، والفلسفة الوسطى وهي الرياضيات، والفلسفة العيا وهي الآلهيات، فمباحث التوحيد مؤسسة على هذه الأقسام الثلاثة للفلسفة، ولهذا فان كثيراً من الأبحاث الطبيعية منبثة في كتب التوحيد، وموضوع هذه التجربة من جملة تلك المباحث المشردة في تضاعيف تلك الكتب.
قال التفتازاني في آخر الجزء الأول من كتابه المذكور: (. . وبحسب تفاوتها - يعني الأجسام - في الخفة والثقل. . تتفاوت فيما يتبع ذلك من الحجم والحيز والطفو على الماء والرسوب فيه، ومن اختلاف أوزانها في الماء بعد التساوي في الهواء، مثلا: حجم الأخف (أي الأقل كثافة) يكون أعظم من حجم الأثقل (أي الاكثف) مع التساوي في الوزن كمئة مثقال من الفضة ومئة مثقال من الذهب، (والفضة كما نعلم أقل كثافة من الذهب). (وإذا كان في إحدى كفتي الميزان مئة مثقال من الحجر وفي الأخرى مئة مثقال من الذهب أو الفضة أو غيرهما من الأجسام التي جوهرها أثقل من جوهر الحجر (أي أكثف منه) فلا محالة يقوم الميزان مستوياً في الهواء، وإذا أرسلنا الكفتين في الماء لم يبق الاستواء، بل يميل العمود إلى جانب الجوهر الاثقل، وكلما كان من جوهر أثقل (أي أكثف) كان الميل أكثر، ويفتقر الاستواء إلى زيادة في الحجر حسب زيادة الثقل مع أن وزن الجوهر ليس إلا مئة مثقال مثلاً) (وقد حاول أبو ريحان تعيين مقدار تفاوت ما بين الفلزات وبعض الأحجار(42/125)
في الحجم وفي الخفة والثقل بان عمل إناء على شكل الطبرزد مركبا على عنقه شبه ميزاب منحن كما يكون حال الأباريق وملأه ماء وأرسل فيه مئة مثقال من الذهب مثلا وجعل تحت رأس الميزاب كفة الميزان الذي يريد به معرفة مقدار الماء الذي يخرج من الإناء، وهكذا كل من الفلزات والأحجار بعد ما بالغ في تنقية الفلزات من الغش وفي تصفية الماء، وكان ذلك من ماء جيحون في خوارزم في فصل الخريف، ولا شك أن الحكم يختلف باختلاف أحوالها بحسب البلدان والفصول، فحصل معرفة مقدار الماء الذي يخرج من الإناء بمئة مثقال من كل من الفلزات والأحجار (أي بوضع مئة مثقال من كل منها في الماء) وعرف بذلك مقدار تفاوتها ما يخرج من الماء بوضع كل مئة مثقال منها في الماء)، والثقل (يعني به الكثافة) فان ما يكون ماؤه أكثر (أي الماء الذي يخرج بوضع الجسم في الماء) يكون حجمه أكبر وثقله أخف بنسبة تفاوت الماءين وإذا اسقط ماء كل من وزنه في الهواء كان الباقي وزنه في الماء، مثلا لما كان ماء مئة مثقال من الذهب خمسة مثاقيل وربع مثقال كان وزنه في الماء أربعاً وتسعين مثقالا وثلاثة أرباع المثقال، والماء الذي يخرج من الإناء بإلقاء الجسم فيه إن كان أقل من وزن الجسم فالجسم يرسب فيه، وان كان أكثر منه فيطفو، وإن كان مساوياً له فالجسم ينزل في الماء بحيث يماس أعلاه سطح الماء. وقد وضع أبو ريحان ومن تبعه جدولا جامعاً لمقدار الماء الذي يخرج من الإناء بمئة مثقال من الذهب والفضة وغيرهما ومقدار أوزانهما عند كون الفلزات السبعة في حجم مئة مثقال من الذهب، والجواهر في حجم مئة مثقال من الياقوت الاسمانجوني، ولمقدار اوزانها في الماء بعدما يكون مئة مثقال في الهواء، وهو هذا الجدول (فهذا الجدول يحتوي على ثلاثة جداول أحدهما لأوزان الماء الذي يخرج بإرسال مئة مثقال من كل من هذه الأجسام في الماء، وثانيها لأوزان هذه الأجسام عندما تكون حجومها متساوية، ومساوية لحجم مئة مثقال من الذهب إن كانت من الفلزات، ولحجم مئة مثقال من الياقوت الاسمانجوني إن كانت من الجواهر، وثالثها لأوزان هذه الأجسام في الماء عندما يكون وزن كل منها في الهواء مئة مثقال).
(1) جدول في أوزان ما يخرج من الماء بوضع مئة مثقال من الأجسام المذكورة
المثاقيل الدونق الطسوجات(42/126)
ذهب 5 1 2
فضة 9 4 1
زئبق 7 2 1
الاسرب 8 5 0
الصفر 11 2 0 الفلزات
النحاس الاحمر 11 2 1
النحاس الاصفر 11 4 0
الحديد 12 5 2
الرصاص 13 4 0
الياقوت الاسمانجوبي 25 1 2
اللعل 27 5 2
الزمرد 36 2 0
اللاجورد 37 1 0
اللؤلؤ 38 3 0 الجواهر
العقيق 39 0 0
الشبه 39 3 0
البلور 40 0 0
الياقوت الأحمر 26 0 0
(2) جدول في أوزان الفلزات والجواهر إذا كانت الفلزات في حجم (100) مثقال من الذهب والجواهر في حجم (100) مثقال في الياقوت الاسمانجوني
ذهب 5 1 2
فضة 9 4 1
زئبق 7 2 1
الاسرب 8 5 0
الصفر 11 2 0 الفلزات
النحاس الاحمر 11 2 1
النحاس الاصفر 11 4 0
الحديد 12 5 2
الرصاص 13 4 0
الياقوت الاسمانجوبي 25 1 2
اللعل 27 5 2
الزمرد 36 2 0
اللاجورد 37 1 0
اللؤلؤ 38 3 0 الجواهر
العقيق 39 0 0
الشبه 39 3 0
البلور 40 0 0
الياقوت الأحمر 26 0 0
(2) جدول في أوزان الفلزات والجواهر إذا كانت الفلزات في حجم (100) مثقال من الذهب والجواهر في حجم (100) مثقال في الياقوت الاسمانجوني
مثقال دانقطسوج
ذهب 100 0 0
فضة 54 1 2
زئبق 71 2 1
الاسرب 55 2 2(42/127)
الصفر 46 2 0 الفلزات
النحاس الأحمر 45 3 0
النحاس الأصفر 45 0 0
الحديد 40 3 3
الرصاص 38 2 2
الياقوت الاسمانجوبي 100 0 0
الياقوت الأحمر 97 0 3
اللعل 90 2 3
الزمرد 69 3 0
اللاجورد 69 5 2 الجواهر
اللؤلؤ 65 3 2
العقيق 64 4 2
الشبه 64 2 1
البلور 63 0 3
وأما الجدول الثالث وهو الذي يبين وزن كل جسم في الماء فيحصل بطرح وزن ما يخرج من الماء بغمس كل جسم في الماء، من الوزن الأصلي في الهواء اعني مئة مثقال، ولما كان وزن ما يخرج من الماء بغمس كل جسم من الأجسام المذكورة مبيناً في الجدول الأول فيطرح هذا الوزن من (100) مثقال فيخرج وزن ذلك الجسم في الماء، مثلا: وزن الذهب في الماء (94) مثقالا و (4) دوانق و (2) طسوجان
ومما يلاحظ أن المؤلف قد استعمل لفظي الثقل والوزن بمعينين مختلفين فجعل الثقل بمعنى الكثافة كما هو ظاهر من سياق كلامه، وهذا مما يدل على ما في اللغة العلمية من دقة في التعبير.
هذا وإن من الجدير بالعناية والنظر في أمر هذه التجربة أنه اشتهرت نسبتها - أو على الأقل نسبة النظرية التي تستند إليها هذه التجربة - إلى ارخميدس، وقصته في اكتشافها مشهورة تكاد تكون مضرب المثل في الإلهام أو الحدس العلمي، ومع ذلك فلم يشر إلى هذا(42/128)
الأمر المتقدمون من علماء المسلمين ممن بحثوا هذا المبحث أو ممن ترجموا لارخميدس. وإذا رجعنا إلى ترجمته في كتاب تاريخ الحكماء للقفطي والفهرست لابن النديم مثلا وجدنا ما ترجم من كتبه إلى العربية ليس شيء منه من باب الطبيعيات وإنما هي في الرياضيات، فكل هذا يدعونا إلى التساؤل كيف انتقل هذا القانون أو هذه النظرية إلى المسلمين؛ أهو عن طريق ارخميدس ولم يذكر بين كتبه المعربة ما يشبه هذه المباحث! أم عن طريق غيره من الفلاسفة ممن نقلوا عنه ذلك؟ وإذا كان كذلك فلم لم يكن لارخميدس ذكر في هذا النقل! أم أن المسلمين أنفسهم توصلوا إليها؟ ولم ينقل إلينا مثل هذا الاكتشاف! وعلى كل نترك التحقيق والبت في هذا الأمر إلى من هم أوسع تحقيقاً واغزر علماً ومهما كان الأمر فان مما يسترعي النظر في هذه ما فيها من الدقة في تعيين المكان (خوارزم)، والزمان (فصل الخريف)، والماء المستعمل في التجربة (ماء جيحون)، تلك العوامل التي تؤثر في نتيجة التجربة كما أشار التفتازاني نفسه إلى ذلك حيث قال: (ولا شك أن الحكم يختلف باختلاف المياه واختلاف أحوالها بحسب البلدان والفصول) ولا شك في الحقيقة أن كثافة الماء تختلف تبعاً لهذه العوامل التي ذكرها. ومن جهة أخرى فان أبا ريحان (بالغ في تنقية الفلزات من الغش وفي تصفية الماء) لتكون النتائج أدق واضبط، ولم يكن في الكميات أقل ضبطا منه في الكيفيات وهو لتعيين الأوزان يستعمل المثقال والدانق (سدس المثقال) والطسوج (ربع الدانق) ومن ذلك نعلم أن فكرة إرجاع الكيفيات في الحوادث الطبيعية إلى الكميات كانت معروفة شائعة لديهم وهي الفكرة التي يرتكز عليها علم الطبيعة اليوم والتي كانت وسيلة لرقيه السريع وبلوغه تلك المنزلة الرفيعة التي ارتقى إليها في هذا العصر، فجرى بمن يؤلف بالعربية في علوم الطبيعة أن يشير إلى أمثال هؤلاء العلماء ممن نستطيع أن نفاخر بهم في الميادين العلمية، والذين كثيراً ما ينسب إلى غيرهم من متأخري علماء الفرنجة ما هو أحق أن ينسب إليهم لما لهم من السبق في تحريه واكتشافه أو في التحقيق عن صحته واثباته، فقد اصبحنا ومالنا من ماضينا سوى الافتخار باسمه والإشادة بذكره، فإذا توخينا تلمس ما في هذا الماضي من مآثر حقيقية في كل منحى من مناحي التفكير أحجمنا وكلت أبصارنا عن النظر في مثل تلك الآفاق الواسعة التي تثبت بحق ما كانت تقوم عليه الحضارة الإسلامية من سعة في التفكير لم يكن الدين (على ازدهاره إذ(42/129)
ذاك) ليضيق بها ذرعاً، بل أن هذه الحركة فيما أرى كانت تغذيها وتدفع الناس إليهما روح الإسلام نفسه، ذلك الدين الذي يجب أن نتصوره بأوسع مما هو مصور في الحقيقة في مخيلتنا والذي قد تضيق كلمة دين - إذا نحن اطلقناها عليه - مفهومة في، نفوسنا لما نتصوره من لوازم عديدة لهذه الكلمة حينما نذكرها بسبب ما مرت عليه من أدوار مختلفة في خلال التاريخ البشري. فهو في الحقيقة أوسع من أن يسمى ديناً بالمفهوم الحالي لهذه الكلمة، وانما هو الطريقة المثلى في الحياة في جميع نواحيها وشعبها، وناهيك بما أنتجته الحضارة الإسلامية من إبداع في الأدب والعلم والتشريع دليلا على سمو هذا المنهاج الحيوي الأقوم.
دمشق
محمد مبارك
بكالوريوس في العلوم(42/130)
القصص
من أقاصيص العرب
وضاح الشاعر
بقلم احمد حسن الزيات
- 1 -
في اليمن الخضراء، وفي صنعاء ذات الظل والماء، نشأ وضاح أزهر اللون، أصهب الشعر، مليح القسمات، رقيق الأديم، ثم ترعرع بين خمائل الأودية ومروج السهول وأزاهير الربى فازداد رواء وجهارة.
وإذا كان الجمل يكتسب لون الصحراء. والسمك يستفيد مرونة الماء، والطاووس يستعير أفواف الروض؛ فان اليمانيين لم تصلهم بطبيعتهم ولا بيئتهم صلة، فهم سمر الوجوه ضئال الجسوم قصار القدود، وأرضهم مشرقة الأجواء مونقة المناظر خصبة التربة. لذلك رابهم وضاح بقدر ما راعهم، فقالوا إنه من أبناء الفرس الطارئين على اليمن في عهد ابن ذي يزن، ولكن الحكم سفه هذا الرأي وقضى بعربيته
لا يعنيك ولا يعنيني أن نكشف عن دخيلة هذا الشاب فنصف تاريخ أسرته وحقيقة ثروته وطبيعة عمله، إنما يعنينا من وضاح ذلك الفتى الطرير الذي أشقاه شعره وأبأسه شعوره وقتله جماله.
نريد أن ننقل عن لوح القدر هذه الصفحة الدامية التي كتبت لهذا البائس وجرت عليه في غير رفق ولا هوادة.
كان وضاح الجميل الشاعر كالبلبل يعرف في نفسه جمال الريش وجمال الصوت، فهو لا ينفك في حذر من الصائد، وخوف من القفص، فكان يغشى المواسم والأسواق وهو مقنع منتقب خيفة الحاسد وحذر المرأة!!
ولكن المرأة كانت تعترضه بكل سبيل، وتترقبه في كل مرصد، وتتراءى له في كل مكان: تحت النخيل، وفي الأسواق، وعلى الماء، وهو لا يزداد إلا تمنعاً وترفعاً ووحشة، لأنه محبوب ومن طباع المحبوب الادلال؛ ولأنه مطلوب ومن غرائز المطلوب الهرب، ولم يجد(42/131)
مع ذلك فيمن رأى من النساء روحا جذابة ولا قوة غلابة ولا جمالا أبرع من جماله، على أن وضاحاً خلق للحب وكتبت عليه فيه الشهادة! فعيناه على غير علمه ترتادان الحبيب، وقلبه من قلقه وانتظاره يضطرب في حنايا صدره، وعواطفه من اضطرامها وانبساطها تكاد تسيل، وكان يفر من ضوضاء صنعاء ومتاجرها وقوافلها، إلى سكون الصحراء الرهيب، وهدوء الطبيعة الموحش، فيضي سحابة نهاره جالساً في روضة، أو مستلقياً على غدير، أو نائماً في مغارة؛ كأنه نبي من أنبياء بني إسرائيل - ينتظر الرسالة.
- 2 -
ففي صباح يوم من أيام الربيع مشرق الأديم عنبري النسيم منضور الخمائل استهوته الطبيعة فأخذ يضرب في الأرض حتى متع النهار، وإذا هو على ماء من امواه (الخصيب) من قرى اليمن، وفي الخصيب شد الجمال إطنابه وشاد الحب معبده. والعرب يقولون لك: إذا بلغت ارض الخصيب فهرول!
فجلس وضاح ينضح ظمأه ويرفه عن نفسه إلى أن طاف به الكرى فنام.
تنبه وضاح ساعة الأصيل على صوت رخيم الحواشي، متسق النبرات في رنين الفضة. فنظر فرأى حورية من حواري الحقول قد حسرت عن ساقها وغمست رجلا في الغدير ووضعت رجلا على الحافة وهي منحنية على الماء، تجمع ثوبها بيد وتملأ سقاءها بيد. فرجف قلبه وبرق بصره وخيل إليه أن عينه لم تقع من قبل على فتاة، فنهض يملأ من هذا المنظر الرائع عينيه فلفتتها حركته. فرفعت بصرها إليه في سكون طرف وفتور لحظ. وكأنها همت بالنكوص لولا أن رأت منه ما رأى منها. فوقفت جامدة لا تتحرك، وشاخصة لا تطرف، بل أحست من نفسها الهفوان إليه حين تقابل النظران وتجاذب القلبان وتمشى إليها مشية الحباب في حياء ووناء ورقة. حياها فردت التحية، واستنسبها فانتسبت كندية، واستسماها فقالت (روضة)
ثم جرى بين المحبين حديث الشباب الحيي المضطرب الحائر. . ويكاد نصه يكون واحداً على اختلاف الألسنة والأزمنة فلا نثبته، وكيف يثبت كلام الناظر للناظر، وتدفق الخاطر في الخاطر، وعناق القلب للقلب، وامتزاج النفس بالنفس، ولحن اللسان للسان؟؟
كانت روضة كما تشتهي كل فتاة أن تكون، فهي كما صورها وضاح في شعره (كاعب(42/132)
وضيئة الطلعة لطيفة التكوين مصقولة الجبين يزينه شعر أثيت أشقر كذنب الكميت، زجاء الحاجبين كأنهما شقا بقلم، تقوساً على مثل عين الظبية، ساجية الطرف، ذلفاء الانف، عبلة الذراعين لا ترى فيهما عظما يحس ولا عرقا يجس، طفلة الكفين تعقد ان شئت منهما الأنامل، ممشوقة القد قد أفرغت في قالب الحسن.
وجد كل منهما في الآخر مشابه في زهرة الوجه وصهبة الشعر وهجنة النسب بالدم الفارسي. فتعارفا بلحظة، وتفاهما بلفظة، وتآلفا تألف الاخدان كأنما كانا على موعد!
طوت شمس الطفل الغاربة مطارفها العسجدية عن السهول والحقول فلم يبق منها الاهلاهل على رؤوس التلال وشعاف الجبال وأعراض النخيل، وأخذ الرعاة يروحون بالقطعان إلى الحظائر، وآن للراعية الحسناء كذلك أن تؤوب! فقامت روضة متنافلة، وودعته متخاذلة: وسارت وراء قطيعها تتهادى في مرطها المفوف ونطاقها المحبوك وخمارها الأسود كأنها آلهة الرعاة أو تمثال الحسن
تلاقيا مرة أخرى في سرة الوادي المعشب وقد عملت فيه يد الطبيعة فازَّرته بعميم النبت، وطرزته بألوان الزهر، وضمختة بعبير الخزامي وريا البشام وأرج الرند. فجلسا ساعة تحت دوحة يتساقطان عذب الحديث، ويتناشدان حلو الغزل، ويتساقيان كؤوس الهوى، ثم نهضا يسيران صاعدين تارة في مدارج السيل، وهابطين تارة إلى قرارة السهل، يجنيان الكمأة ويقطفان البهار ويلتقطان الجزع المفصل. فلما نفضت الشمس على الأفق الغربي تبر الأصيل توادعاً ثم تواعدا على اللقاء وتعاهدا على الوفاء بعد أن شق عليها رداءه وشقت عليه هي برقعها استدامة للحب وبقيا على الهوى!
- 3 -
ظل العاشقان في غفلة الزمان والإنسان يتلاقيان كل يوم على خلاء، حتى نم على هواهما شعر وضاح، فتنبئه الغافل وتحرش العاذل وتحذر الأهل، فحالوا بينها وبين لقائه وتوعدوه.
فكان وضاح يأتي كل يوم على عادته فيجلس في الأماكن التي إعتادها، ويرتاد الغياض التي ارتادها؛ ويستروح النعامي والخزامي فلا يجد قراراً في مكان، ولا جمالا في طبيعة، ولا روحاً في أرج، فيدنو من الحصيب يترصد غفلة القوم ويتنسم ريح روضة ويقول:
يهددوني كيما أخافهم ... هيهات أنى يهدد الأسد؟(42/133)
حتى لقي ذات مساء عبدها الذي كان يرعى عليها رائحاً بالقطيع إلى مزاحه، فجعله رسالة إليها يطلب فيها أن توافيه على الكثيب متى غفت العين وهدأت القدم، فوافته في إحدى أترابها، فجلسا على الحصباء يتشاكيان حرقة الجوى وتحكم الهوى وتعقب الرقيب، وأخذت روضة تحكي لوضاح كيف استفاض الخبر وخاض فيه الناس، وكيف حجبها أخوتها وراقبوها بعين لا تغفل، وذكرت له والدمع يتقاطر من عينيها أنهم صمموا على رفض خطبته ومنع تزويجه، وقرروا تزويجها من موسر كثيف الظل جافي الخلقة، وحذرته أن يدنو من الحي فان قومها يأتمرون به.
غلى جوف وضاح وعصفت في رأسه الحمية، ونزت بقلبه الصبابة، وعقد نيته على معالجة الأمر بالحزم، ومواجهة الخطر بالصراحة، وقرر زيارتها في دارها بعد هذا الحوار البديع الذي خلده وضاح في هذه القصيدة:
قالت: ألا لا تلجن دارنا ... إن أبانا رجل غائر
قلت: فإني طالب غرة ... منه وسيفي صارم باتر
قالت: فان القصر من دوننا ... قلت: فإني فوقه ظاهر
قالت: فان البحر من دوننا ... قلت: فإني سابح ماهر
قالت: فحولي اخوة سبعة ... قلت فإني غالب قاهر
قالت: فليث رابض دوننا ... قلت فإني أسد عاقر
قالت: فان الله من فوقنا=قلت فربي راحم غافر
قالت: لقد أعييتنا حجة ... فأت إذا ما هجع السامر
واسقط علينا كسقوط الندى ... ليلة لا ناه ولا زاجر
وفي الليلة التالية كان وضاح في طريقة إلى الخصيب، وكان أخوة روضة وعمومتها يرصدون سبيله ويطلبون لقاءه، بعد أن عملوا من الرقيب اجتماع الكثيب، وكانت الحبيبة على علم بخروج القوم وقدوم المحب المخاطر فطرقت مضعجها الهموم، وتخالجت قلبها الوساوس، وأخذها عليه المقيم المعقد.
لم يطل انتظار الجماعة للفرد فتلاقوا وراء الوادي: ثم كان عتاب على الأشعار الجارحة، وسباب على الشهرة الفاضحة؛ وقتال انتهى بطعنة تلقاها المحب في موضع حبه. ثم خلا(42/134)
المكان إلا من جريح يئن، وفرس يحمحم؛ وتحامل على نفسه وضاح فضمد جرحه وركب جواده وقفل راجعاً إلى أهله.
قضى المسكين شهرين على فراش الألم يتضور من ضربان الجرح وهذيان الحمى وثوران الحب. ولكن الجرح كان قريب الغور فاندمل، والحمى كانت عارضة فأقلعت، والحب؟ هذا هو المرض المخامر والداء العياء، فليس له غير الله من آس ولا طبيب، لذلك نصحوا لوضاح أن يحج البيت فشد إليه رواحله. وسنلقاه هناك بعد قليل.
- 4 -
أذن مؤذن الحج للمرة الثمانين بعد الهجرة، فسالت فجاج الجزيرة بالقباب والهوادج، وشرقت دروب الحجاز ومسالكه بالناس رجالاً وعلى كل ضامر، واكتظت بطاح مكة ورباعها بالحجيج من الشام والعراق واليمن، ودوي الفضاء المشرق بأصوات التهليل والتلبية، وروي الثرى المكروب من دماء البدن والضحايا، وتعطر الجو القائظ بأنفاس الحسان الغيد، وفاضت أندية مكة النبيلة بالقصف والعزف والغزل، وخرج الشعراء من بني الأنصار والمهاجرين في مطارف الخز وبرود الوشى على النجائب المخضوبة، يتعرضون للغواني المحرمات، ويقطفون من فوق شفاهها اللعس ألفاظ الدعاء، قبل أن ترفع إلى السماء، وهناك على الربوة العالية ضرب الفسطاط الرفيع العماد، وفرشت الطنافس، ونصبت الأرائك، وصفت النمارق، ونضدت الوسائد، وقامت الجواري والولائد، وعلقت السدول والستائر، وبرزت من خلالها زوج الخليفة في زينتها وفتنتها ترسل النظر تارة إلى الأفق البعيد، وتارة تتصفح به الوجوه المختلفة والأزياء المتعددة، والناس يتحامون جانبها ويتهيبون ظلالها لهيبة الملك وشراسة الجند وجلال الخلافة. حتى الشعراء من شباب الهاشميين وخلفاء ابن أبي ربيعة لم يجرؤا أن يمدوا إلى جمالها الفاتن عيناً ولا لساناً، لأن الخليفة كتب (يتوعد الشعراء جميعاً أن ذكرها أحد منهم أو ذكر أحد ممن تبعها) ولكن الملكة تريد على رغم الملك أن تكون من عرائس الشعر، وأن تظهر في ديوان الشاعر، كما ظهرت في ديوان الملك. والشعر في الحجاز كان حينئذ للمرأة، يصف حالها ويعرض جمالها فتصل من طريقه إما إلى الزواج وإما إلى الشهرة. فتراءت الملكة للناس وسهلت للغزالين الحجاب.(42/135)
وكان وضاح يومئذ مشغولا عن الشعر والشعراء بنفسه، فهو يطوف بالبيت ويتعلق بستور الكعبة، ويسأل الله انه يشعب قلبه بالسلوة. حتى إذا خرج الحجيج إلى عرفات وتطاولت الرقاب، وتطلعت العيون، وأومأت الأصابع إلى موكب الملكة الحاشد، جذبه جلال الحاجة النبيلة وجمال وصائفها فدنا من فلكها، فوجد كهنة الحب وشياطين الشعر يسايرون ركابها ويراقبون سناها. فمشى بجانب الشاعر كثير، ووقعت عين الملكة عليه فراعها جماله، وعلقتها حباله. فأشارت بطرف العين إلى جاريتها غاضرة فأثبتت معرفته.
فلما أفاض الناس من عرفات، وانحدروا إلى مرمى الجمرات، وقفت بجانبه فتاة فتانة ناهد، وأسرت إليه وهو يرجم الشيطان أن الملكة تريد لقاءه في مخيمها على (منى)
اضطرب وضاح لهذه الإرادة وخشي عاقبة هذه الدعوة، وتردد طويلا في الذهاب إلى هذا الموعد، لان هذا الحب الملكي اكبر من عواطفه، ولان قلبه الجريح لا يزال يقطر في لفائفه، ولأن خيال (روضة) يعتاده في جميع مواقفه، ولكنه عربي!! والعربي طماع طماح مخاطر. فلماذا لا يبذ الشعراء ويكبت الأعداء بالسبق إلى جمال الملكة ومال الخليفة؟؟
أمسى المساء، وكان هلال ذي الحجة قد توارى بضوئه الشاحب خلف الجبل، وأخذت الأضواء المنبعثة من بواقي المشاعل والمصابيح والكوانين تكافح ظلمة الغسق، والقي الناس أرواقهم على الرمال مجهودين بعد نهار قائظ احمرت حواشيه من دماء القرابين، وضرب الكرى على آذان العامة فلم يبق يقظان إلا ذوو الحس الرقيق ممن جرهم جمال الليل إلى جمال السمر، وإلا نفسان شاعرتان بسط الحب عليهما جناحه، وأزال ما بينهما من فروق، ورفع ما يفصلهما من حواجز، حتى التقى ابن آدم ببنت حواء وجهاً لوجه، وأقبلت الملكة على وضاح اليمن تناقله الحديث، وتساجله الشعر، وتنصب له شرك الفتنة في مطاوي اللفظ، وتسدد إلى قلبه سهم الغواية في مرامي اللحظ، وحسبنا أن نروي من هذا الحديث المشفق العذب هذا الحوار:
- وكيف حال روضة بعدك يا وضاح؟
- على شر حال وا أسفاه! زوجوها من موسر مجذوم فأعداها بالجذام!!
- وما حالك أنت من بعدها؟
- أما قبل هذه الليلة فكنت لا انتفع بنفسي ولا اشعر بوجودي(42/136)
- ومنذ الليلة؟
- منذ الليلة عرفت نعيم السماء بعد ما عرفت في الخصيب نعيم الأرض
- إذن ستحبني؟؟
- نعم ولو خيرت ما اخترت
- وستنسب بي في شعرك؟
- نعم ولو كره الخليفة
- أذن اصحبني إلى دمشق فامدح الخليفة. وسأرفدك لديه واقوي أمرك عنده
- 5 -
وعلى نهر بردى وفي القصر المشيد زكت شجرة الحب حتى عرشت على كل حائط؛ وسطعت فوحتها في كل انف، وتهدلت أغصانها المزهرة على سرير الخليفة، ودنت قطوفها المجرمة من فم المجنون وليلاه؛ فاكلت منها حواء وجرت إلى الخطيئة آدم! وآدم دائماً هو الذي يكفر عن الخطيئة!!
ظل وضاح ابن الطبيعة الطليقة سجيناً في الخليفة قصر لا يبصر سماء ولا أرضاً، ولا يرى غديراً ولا روضاً، ولا يسمع حركة ولا صوتا ,. ولا يشعر بمجرى الحياة إلا حينما تخرجه الملكة من مخبئة ساعة يغفل الرقيب وتغفو العين المريبة. فتطارحه أحاديث الغزل. وتسقيه من سلاف الهوى عللا بعد نهل. ثم ترده عند الخوف إلى مأمنه.
ومضت على تلك الحال حقبة من الدهر ورفت عليهما ظلال الأمن فيها. ولكن وجه الجريمة وقاح لابد من سفوره. وريحها ذفر مهما كتمته فلا مناص من ظهوره. والخطيئة لا يطهرها إلا عقوبة أو ضحية!
فأهدى إلى الخليفة ذات يوم جوهر نفيس فراقه حسنه. وأحب أن يطرف به الملكة. فبعث به إليها مع خادم له ومعه كلمة رقيقة. فمضى الغلام بالتحفة إلى مجلس الملكة فلم يجدها، وعلم أنها في بعض الغرف فدخلها عليها مفاجأة، وكانت قد أحست بخطاه دون الباب فبادرت إلى إخفاء وضاح فأدخلته في صندوق وأغلقته. وحينئذ دخل الغلام فرأى أواخر جسمه تغيب تحت الغطاء. فأدى إلى الملكة الرسالة ودفع إليها الجوهر، ثم قال لها بلهجة الخبيث الماكر: ألا تهبين لعبدك يا مولاتي حجرا من هذا الجوهر؟ فأجابته الملكة بلهجة(42/137)
العزيز الممتعض: (كلا يا بن اللخناء ولا كرامة)
ولعلها لو كانت تحسن قراءة الوجوه لحشت فمه بهذا الجوهر حتى لا ينطق. أو لعلها فهمت لحن قوله، ولكن نفسها الملكة الأبية أنفت الخشوع، لهذا العبد فآثرت نقمة زوجها على نغمة خادمه وهي مع ذلك قوية الثقة في شفاعة الجمال ووساطة الحب! ومهما تكن الدوافع إلى هذا الجواب فأن الخادم قد ارتد إلى سيده بجلية الأمر. ولكن الأمر نزل من خليفة معاوية في بال واسع. فأمر بالغلام فوجئت عنقه. ثم لبس نعليه ودخل على زوجه وهي جالسة تمشط في تلك الغرفة. فجلس على الصندوق وقد علم وصفه من الغلام، ثم قال بلهجته الهادئة الرزينة:
- ما أحب إليك هذا البيت من بين بيوتك. فلم تختارينه؟
- اختاره واجلس فيه لأنه يجمع حوائجي كلها فأتناولها منه كما أريد من قرب
ألا تهبين لي صندوقاً من هذه الصناديق؟
- كلها لك يا أمير المؤمنين!
- ما أريدها كلها. وإنما أريد واحداً منها
- خذ أيها شئت
- أريد هذه الذي جلست عليه
- خذ غيره فأن لي فيه أشياء احتاج إليها
- ما أريد غيره!.
- إذن خذ يا أمير المؤمنين
فأشار إلى الخدم فحملوه إلى مجلسه. ثم أمر العبيد فحفروا تحت بساطه بئراً بلغوا بها الماء. ثم دعا بالصندوق أو الناووس وقال له:
(انه بلغنا شيء. . إن كان حقاً فقد كفناك ودفناك ودفنا ذكرك وقطعنا أثرك إلى آخر الدهر. وان كان باطلا فقد دفنا الخشب، وما أهون ذلك!!)
ثم قذف به في البئر! وهيل التراب، وسويت الأرض، ورد البساط، وأخذ الخليفة مجلسه. واستمر الفلك يدور دورانه الأبدي المنتظم
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر!!(42/138)
الزيات(42/139)
مسيلمة
بات مسيلمة والكرى لم يطرق جفنه، يفكر في محمد اليتيم كيف انتصر، وصارت له عصبة وقوة، وكيف سر أعداءه وقد بدا لا عدة ولا عدد، وها هو ذا يريد أن يكتسح جنوب الجزيرة بعد شمالها، فتنفرد مضر بالرياسة. لا ورب الشعرى ما تذل ربيعة، ولا ينبغي لها ذلك، وان كان قد دعا لنفسه، فلم ينفرد بالرسالة؟ أولست مثله؟ ولي لسان كلسانه وقومي كقومه بل أشد شوكة. انهم أعراب غلاظ شداد لا يعصوني ما أمرتهم، تدفعهم النعرة إلى نصرتي ظالماً أو مظلوما - والله لأوقدنها نارا ولأكون صاحبها.
دخل عليه صديقه (مجاعة) عند انبثاق النور، واشد ما أدهشه أن رآه جالساً القرفصاء قد دفن وجهه! بين ركبتيه، فنادى مسيلمة فرفع إليه رأسه في صمت وسكون وقد بدت من وجهه عينان أدماهما الأرق فسأله مجاعة؛
- ما بك يا أخي؟ أسوء إعتراك؟
- بل الخير كل الخير
- وكيف صممت عن دعائي وقد ناديت مرارا؟
- ما كنت واعيا
- وما شغلك؟
- كنت في فكر أقض مضجعي، وأطار نومي، وما أحسب أحداً غيري يقوي على احتماله
- وأخوك الذي أذهب ميعة شبابه بجانبك، وأخلق ديباجته مقتحماً الأهوال بين يديك؟ ألما تجده لسرك أهلا؟
- كلا ما ذهبت إلى ذلك، وما أردت أن أثقلك بما ينقض ظهرك، وأشركك في كأس مرة
- ما دمت تشرب منها، فكيف تبخل علي بها؟ وهبها كأس المنية
- بارك الله فيك من عشير، إذن فأصغ إلي - أنت تعلم العداوة التي بين أهلنا ربيعة وبين مضر، وكم أوقدنا الحرب نمدها بأفلاذ أكبادنا ونرميها بزهرات اولادنا، ولم نرض في حال بالذل وسوم الخسف
- وماذا فعلت مضر بنا؟ هل أغارت على حينا؟ هل أرسلت شياطينها على عيرنا؟ هل حمت البيت دوننا؟ هل وترتنا في أهلنا أين. ماذا فعلت؟
- ما فعلت من ذلك شيئا. ولكنها أوقدت نارا وأخال أن ألسنتها ستمتد إلينا، فيهبط العرش(42/140)
على الفرش ويذهب الولد والوالد
- وما هذه الداهية؟
- ألم تعلم أن محمدا ظهر أمره، وزهر نجمه، وكنا حسبناه شرارة ما تضيء إلا لتخمد، وخطباً ما ينزل إلا ليهون. ولكن خاب فألنا، فالركبان يتناقلون أنه استحوذ على ما بين مكة والمدينة؟ والناس يدخلون في دينه أفواجاً، وأخشى على اليمامة. منزلنا العتيد ومهد الجدود، أن يأخذها منا على غرة فنذل بعد عزة، ونبوء بالخسران المبين.
- وما بدا لك أن تفعل؟
- إن الحديد بالحديد يفلح، والدعوة بمثلها تقابل، له الشمال ولنا الجنوب. ليت شعري لم يكون النبي من مضر ولا يكون لربيعة نبي؟ قرب سمعك مني. لابد من الحيلة لقومك حتى يستقتلوا ويطيعوا، ولابد من السيطرة على قلوبهم حتى ينصاعوا، ولا يكون ذلك إلا بغزو عقولهم وخدعة عيونهم فلا يرون إلا ما نرى ولا يسمعون إلا ما نسمع.
- أذن فاعمل كيدك حتى تأينا بآيتك التي تبهر وتسحر
- ما تظنني عن هذا غافلا - بل إن فكري ليحلق في آفاق أبعد، وكيف أنصب قدرا قبل تهيئة الاثافي، ومثلي الذي جاب الآفاق وجال في الأسواق، ونفذ إلى ما وراء الحيرة والأنبار، واقتحم سواد فارس واجتمع بأوشابها، فوقف على ألاعيب فتيانها وكيد دهاتها واختلط بتجار الهند وعرف حكمتهم واستجلى شعوذتهم - لا يخلو من كيد وحيلة، فكم خدعة عندي يحسبها الأعراب معجزة، وكذبة يظنونها حقا!
- يا لك من داهية يا أبا ثمامة! وما وراءك بعد؟
- سأزعم النبوة كمحمد، وأدعي المعجزة، ولابد من ردء يصدقني ويشد أزري. وأظن فيك - بعد ما بلوتك - ذلك الرجل
- قد أجبت سؤلك. ما دام في ذلك مرضاة لحمى الجدود، وبر لرفاتهم، فماذا تريد أن أفعل؟
- تذيع في الناس أمري، وظهور رسالتي، وتحشدهم إلى دارك بعد غد. ليشهدوا آياتي أليس الموعد بقريب؟
- بلى، سيتم ذلك على أحسن حال. إلى اللقاء
هب الناس على دار (مجاعة بن مرارة)، وكانت رحبة الفناء ضمت ألوفاً من الأعراب(42/141)
وكلهم يشيع في وجهه السرور، ويهنئ صاحبه، لأن الله حباهم نبياً من أنفسهم، عزيز عليهم، به رجحت كفتهم، وأنقذوا من نير مضر وسورة سلطانهم، وها هم أولاء يجتمعون ليشاهدوا آياته، فتملئ قلوبهم إيماناً
وفي الأصيل وقف مسيلمة على دكان بصدر المجلس وقد اختفت قسمات وجهه تحت لثامه الغليظ فلم تبد منه إلا عينان خبيثتان تدوران في الجمع الحافل، وتلحظان فيض العاطفة على الوجوه، وتقرءان في العيون الأيمان والسخرية. وكان ممتقع اللون، يرفض جبينه عرقاً، يهوله ما يقدم عليه من خطب ويخشى العاقبة. ثم ثبت يده على عكازه التي اعتمد عليها واستفتح كلامه حامداً الله الذي حمى اليمامة وأعزها بنبيها، وأفاض في الثناء على أهلها وثباتهم، وناشدهم أن يعينوه بقوة على محمد شريكه في الرسالة، ليستخلصوا نصيبهم من بين يديه. ثم أعلن أنه سيعرض عليهم معجزاته الناطقة برسالته، لتطمئن قلوبهم. تنفس الجمع الحاشد، ونظر بعضهم إلى بعض متلهفين إلى ما يأتي به من خوارق ومعجزات، وكان مسيلمة قد اختفى وراء ستر نصبه بينه وبين الحائط، فرجع وفي يده قارورة داخلها بيضة، كان قد أطال انقاعها في الخل حتى لان قشرها الأعلى، فمدها فامتدت كالعلك فأدخلها قارورة ضيقة الرأس، وتركها حتى جفت ويبست، وكلما انضمت استدارت حتى عادت سيرتها الأولى
قال: هاكم آية من آياتي نزل بها عليّ الرحمن، ترتفع عن قدرة البشر. بيضة كبيرة، غير مقشورة، في قارورة. أجيبوني بآبائكم، من أدخلها فيها غير ربكم. أم هل فيكم من يفعل من ذلكم شيئا؟ وناول القارورة أحد الجلوس، فتقاذفتها الأيدي، متأملين المعجزة العجيبة، والبدعة الغريبة.
ثم دار بعينيه في دار (مجاعة) فرأى زوجاً من الحمام مقصوص الريش، واقفا على عود في حائط كانت الأعوان قد هيأته لتلك الفرصة، فالتفت إلى مجاعة وقال له:
- إلى كم تعذب خلق الله بالقص؟ ولو أراد الله للطير خلاف الطيران ما خلق لها أجنحة، وقد حرمت عليكم قص أجنحة الحمام
فقال مجاعة كالمتعنت -: فسل الذي أعطاك في البيض هذه الآية أن ينبت لك جناح هذا الطائر الساعة.(42/142)
- فان أنا سألت الله ذلك، فطار وأنتم ترونه، أتعلمون إني رسول الله إليكم؟
- أجل: أجل
- أريد أن أناجي ربي، وللمناجاة خلوة فانهضوا عني، وإن شئتم اختليت به وراء الستر ودعوت الله ثم خرجت به اليكم وافي الجناحين
ولما خلا بالطائر أخرج ريشا كان قد هيأه، فأدخل كل ريشة مما كان معه في جوف ريش الحمام المقصوص من عند المقطع - ولما أتم جناحيه خرج به وأرسله على رءوس السامر فرفرف عليهم - فصاحوا معجبين، ونهض منهم خلق كبير، يبايعه ويشهد الله على ما في قلبه، وانفض السامر وقلوبهم شتى، ولكنهم جميعاً أخذوا يفيضون فيما رأوا وما سمعوا.
وفي غداة اليوم التالي دخل مجاعة على مسيلمة، فرآه مشرق الوجه، فما لمحه مسيلمة حتى اندفع إليه قائلاً:
- ماذا كان من أمر القوم بعد ما رأوا الأعاجيب أمس؟
- منهم المصدق ومنه المكذب ومنهم دون ذلك. ولا يخفى عنك أن فيهم من رأى اعجب من آياتك في سياحاته وتجاراته على أيدي الكهان والسحرة وغير هؤلاء.
- وماذا ترى؟ - محمد جاء بقرآن ليعقل به ألسنة العرب ما بقيت في افواههم، وليسلبهم بسحره ألبابهم، ولا أرى إلا أن تصنع كلاماً ككلامه.
- ما أبعد روق الشامخ على الطرف! كلما صعدته إليه ارتد البصر حسيرا، هذا يا صاح يعقد لساني - ولا أكتمك شيئاً - انه جل عن أن يبدعه قلب من لحم، ولسان من عضل، وإنما هو آية كخلق الله تعجبنا وتطربنا، كما تشهدنا على عجزنا.
- ولكن قومك يطلبون منك آية كقرآن محمد، وهم لد الخصام. وما دمت زعمت مشاركته في رسالته - فهات كتابك مثله بيمينك، وإلا عبثت بك العيون.
- حق ما تقول، إذن نحاول، ولكن أين الظهير؟
- ربما تكون العناية قد لحظتنا، فقد قدم علينا صباح اليوم رجل من المدينة على دين محمد حسن السمت، سليم الطوية، قد هم فتيان من العشيرة أن يقتلوه، ولكن استبقيته لعلنا نستفيد منه في أمرنا. فيزعم أنه صاحب الرجل، وقد حفظ كلامه، وقرأ بعينه صفحة جهاده.
- وكيف نملك قلبه؟(42/143)
- بالمال؟
- وما يدريك الوصول إليه؟
- بلوته فوجدته رطب العود قريب الغور
- وماذا نأخذ منه؟
- يسمعنا قرآنه فنقيس على الآيات مثلها، ونصب في القوالب ما يملؤها،
- كيف والعرب صيارف كلام، يقلبون الكلمة ويحكونها كالدينار لا يخدعهم وشمها، أو يخطف بصرهم وسمها
- اجتهد أن تكن مزيفاً ماهراً، فهذا ما لابد منه مادمت تصر على رأيك.
- نعم لابد من صنعاء، ولكن ألا ينفعنا في سبيل آخر، فنلقي إليه أن يزعم أن محمداً أخبره بأني شريكه في رسالته، وقد بعثه إلي بذلك النبأ.
- نعم ما رأيت، وأظن أن الإبل والشاء كفيلة بأن تركبه الصعبة وهو الذلول كما أعلمتك.
اجتمع نفر من بني حنيفة في ساحة من القرية تحن شجرة ليستروحوا بفيئها ساعة الهجير، وهم أخلاط في أسنانهم ونزعاتهم، ابتدأ أحدهم يقول:
- بالأمس قدم رسول محمد فأعلن على رؤوس الأشهاد أن مسيلمة شريكه في رسالته - فهنيئاً لليمامة بصاحبها.
آخر - الآن لزمته الحجة، فتثاءب شيخ من الجلوس وقال:
وما يدريكم أن الرجل رسول محمد، وأنه أرسله لذلك الشأن، وكيف جاء اليوم وقد ظهر أمر محمد من سنين، أبعد ما جاهد وكابد، وصار له النقض والإبرام، يعلن شركة مسيلمة؟ فهل كان الأمر والخطوب به مكتنفة، والأعداء له متربصة، فيستعين بشريكه، ويحمله نصيبه في جهاده. ما أحسب ذلك إلا خدعة.
فدارت عيون القوم وقد انبسط فريق منهم لهذا الكلام الذي أجلى المبهم فكان كالبرق في الظلمات وانقبض آخرون. ولكن الشيخ أخذ يقول:
وما ذلكم الكلام الذي ينحله الله؟ أأعجبكم قوله في الضفدع:
(يا ضفدع بنت ضفدعين. نقي ما تنقين، نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين،). أي عجيبة أبانها في الضفدع، وأي حكمة اظهرها؟ أمرها(42/144)
بالنقيق فهل رآها أمسكت عنه؟ ولعله أعجب بنغماتها فأثارت أشجانه، وحركت بيانه، فصار يستوحيها، ويطلب المزيد من هديرها.
- إن أنكرت بيانه يا عم فكيف تنكر آياته الشاهدة التي لمستها أعيننا. أتراها قد خانتنا فأرسل منها الكذب إلى نفوسنا وخيل إلينا.
قد كنت في ذلك السامر يا ابن أخي، فهاج سخريتي بكذبه الفاضح، أرأيت البيضة والقارورة يزعم أن الله أدخلها! فلم أدخلها وراء أظهرنا ولم لم يخرجها أمامنا؟ ورأيت الحمام المقصوص كيف زعم أن الله ينب له ريشا في ساعة. ما باله لم يسأله ذلك أمام أعيننا؟ وهل لا يجيب الله داعيه إلا بخلوة؟ فتحوا أعينكم يا قوم فلا تضلوا انه لعمري ليس بمتنبئ صادق ولا بكذاب حاذق.
- أصوات: مه مه!
أيها الشيخ لقد كبرت. ولئن كان كما تزعم لنتبعنه، فكذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر
- قد محضت لكم نصيحتي وأنا شيخ كبير قد تقلب وجرب. وأخشى أن تسندوا باطلا فيقع عليكم، أو تشعلوا نارا فتكونوا وقودها،
- فنظرة إلى محمد وقرآنه تجدون اللبن الصريح. ولعمري إن نفسي لتنزع إلى دينه كما ينزع الفطيم إلى ثدي أمه. ولكني أخشى. . .
- فتيان ينهضون - لقد خرف الشيخ
آخرون باقون معه - لا ضير عليك من هؤلاء فأنهم سفهاء يتبعون أول ناعب.
فتى يتحدث إليه - قديما ظننت في مسيلمة البركة فأحضرت له وليدي ليباركه غداة يوم فدعا له بطول العمر فما جاء الأصيل ألا وقد كفنته بثوبه الأصفر
آخر - وجارنا أمسى له بغلامه فمسح له رأسه، فما مضت أيام ثلاثة حتى لف فيه القرع
- وأمتنا المريضة ذهبت إليه لتستشفي فكأنها ذهبت إلى حتفها
- وأنا أعتقد ضلاله. ولكن يكبر على نفوسنا أن نمد أيدينا لمحمد، كما يكبر علينا أن نحاربه أو نؤذي قومه. ونخاف الفتنة إذا ما غزانا فلا ندري أنحارب معه اخوتنا، ونقضي على بني عمومتنا، أم نحاربه وهو أقرب إلى قلبنا، أم نمسك ونعتزل فيظن بنا الجبن(42/145)
والعار، ونصير مضغة الألسنة في حينا؟
الشيخ - حقاً أنها لحيرة يا بني. فلننتظر ما تأتي به المقادير، ويفعل الله ما يريد.
سمع مسيلمة بقدوم خالد إليه فاستنجد ببني حنيفة، فتبعه أربعون ألفاً لعزته وعصبته، وفر قوم من وجهه، وكرهوا أن يشهدوا مقارعة الباطل للحق، وقبعوا في واد ظاهر القرية وأخذوا يتجسسون الأخبار فرأوا قادماً عليهم
- مم قدمت يا فتى؟
- من القرية.
- أشهدت خالداً وصحبه؟
- كنت بين ظهرانيهم.
- ما عندك فيه؟
- انه ليعسوب قريش وفتاها، ولئن طاولته الكواكب لأحسب أنه ينزلها من منازلها، ما تقولون في عقل سديد، وقلب شجاع، وأمر مطاع.
- وكيف رأيت صحبه؟
- شباب مكتهلون، أشداء على أعدائهم، رحماء بينهم، أبصرتهم موهنا متثنية أصلابهم على كتابهم، فسمعت منهم دوي النحل، وأزيز المرجل، وشهدتهم في المعمعة ينظرون الشزر ويقذفون الجمر. فرأيت النار المحرقة، ليستعجلوا حتفهم مرضاة لرِبهم طامعين، في الجنة والحرير، والملك الكبير.
- وما فعل مسيلمة بهم؟
- قارعهم فلما أثخنوه جراحا ولى ظهره واستقبل (عقرباء) وتحصن بحديقته
- تلك حديقة الموت، وهل حسب القصر يضم جيشا - انه لغمر.
هو ما تقول - فتقدم خالد إليهم بجيشه، ووضع السيف في رقابهم. فهلك مسيلمة ومشيخة قومه ونادى مناد: الله أكبر
- وما فعل قومك بعد؟
- دخلوا في دين محمد أفواجاً وسموا مسلمين. وقد تركت أكابرهم يتحملون إلى أبي بكر ليبايعوه ويشهدوه على إسلامهم.(42/146)
- الآن نكون معهم.
أبو بكر - ويحكم، ما هذا الذي استنزل منكم ما استنزل؟
- يا خليفة رسول الله لقد كان الذي بلغك مما أصابنا، كان أمر لم يبارك الله عز وجل له ولا لعشيرته فيه
- هل فيكم من يحفظ من أسجاعه؟
- أجل - يا ضفدع بنت ضفدعين. . .
- ويحكم. ان هذا لكلام ما خرج من إل ولا بر، فأين يذهب بكم؟
- بربك حسبنا عدلا. كان ما كان، واليوم تبنا وأنبنا واشهد بأنا مسلمون.
احمد احمد التاجي(42/147)
5 - شهر بالغردقة
للأستاذ الدمرداش محمد
مدير إدارة السجلات والامتحانات بوزارة المعارف
والتنظيم الإداري في منطقة الآبار يبلغ درجة عظيمة من الاتقان، والدخول فيها لغير موظفي الشركة غير مسموح، والتدخين فيها ممنوع والقائمون بالعمل فيها ثلاث فئات، طبقة الموظفين الكبار الصناع، وهم خليط من الإنجليز والفرنسيين والأرمن، ثم طبقة الصناع والعمال وغالبيتهم من المصريين من أهالي قنا وقفط، ويقيمون في قرية منازلها نظيفة منسقة في طرفها الشمالي مسجد كبير شيده العمال على نفقتهم الخاصة، ويقوم بالإمامة فيه عالم من الأزهر سمعته يوم الجمعة يلقي الخطبة بعبارة مهذبة جلية، وبالقرب من المسجد كنيسة للأقباط، وفي الجهة الغربية من القرية مدرسة أولية يتعلم فيها أولاد العمال وصغار الموظفين، وبالقرية حانوتان كبيران تباع فيهما أنواع الحاجات المنزلية بأثمان معتدلة، وسكان القرية نحو 650 نسمة منهم 450 من الصناع والعمال.
وبالغردقة طبيب ومأمور تابع لمصلحة الحدود لفض المنازعات، ويقيم بها أيضاً مفتش سواحل البحر الأحمر، وهو موظف مصري كبير تمتد سلطته من جنوبي القصير حتى السويس، مركزه دقيق فهو يقوم بالحكم في أربع مناطق نفوذ لشركات أجنبية قوية، ففي القصير وسفاجة شركتان للفوسفات الأولى طليانية والثانية إنجليزية، وفي الغردقة ودمشة شركتان للبترول وهما إنجليزيتان، ومن أهم واجباته صون النظام العام داخل هذه الشركات والمحافظة على الأرواح والأملاك
في سفاجة
في طريق معبدة تارة تحاذي البحر في انبساط وطورا تحيد عنه إلى سفوح الجبال فتعلو وتهبط وتنحني وتنثني - في هذا الطريق درجت بنا السيارة في الصباح جهة الجنوب قاصدة سفاجة إحدى مواني الفوسفات على البحر الأحمر فوصلناها ضحى، بعد أن قطعنا سبعين كيلومترا في ثلاث ساعات، وسفاجة كالغردقة - كل منهما مركز لشركة أجنبية، فهناك البترول وهنا الفوسفات، وهناك (فيللات) مشيدة ومساكن منسقة وهنا أيضاً (فيللات)(42/148)
ومساكن، وهناك الرأس أجنبية واليد مصرية، وهنا الحال كذلك
وتقع سفاجة فوق البحر على سفح جبل عال من الجرانيت وأمامها جهة الشرق جزيرة طويلة مرتفعة، وهي كالغردقة طلقة الهواء خفيفة الروح
ولسفاجة مرفأ حسن نصبت فوقه الروافع القوية ومدت عليه سكة حديدية، وعلى مقربة منه تقوم مخازن الشركة ومصانعها ومكاتبها ومقطرات الماء (الكوندسة)
نزلنا نقطة بوليس مصلحة الحدود وبعد راحة قصيرة ذهبنا إلى المرفأ حيث كان في انتظارنا سفينة شراعية من مراكب الصيد فسارت بنا صوب الجزيرة في بحر مضطرب، وبعد ساعة أرست أمام شاطئ مرجاني، فانصرف بعضنا إلى الجزيرة للرياضة وصيد الطيور، ومكث البعض الآخر في القارب يلهو بصيد السمك بالشص، وانتجعت ناحية في المركب قرب مقدمها، وجلست أسرح البصر في البر والبحر - كان المنظر بهيجاً حقاً يملأ النفس انشراحاً وحبورا، فجهة الغرب سفاجة بمنازلها ناصعة البياض، ومن خلفها الجبل قائم كالستار الأسود فبدت البلدة أشد ما تكون وضوحاً وتحديداً ومن تحتها البحر يمتد في زرقة نضرة إلى الأفق جهتي الشمال والجنوب، وفي محاذاة البحر شاطئ متجعدا متعرجا في نتوء وانحناء، ومن وراء الشاطئ سلسلة جبال العرب تسمو في عظمة تتضاءل مع مد النظر حتى تصير هي والبحر خطين متوازيين يلتقيان والسماء، وجهة الشرق جزيرة سفاجة في صفرة شديدة تنعكس صورتها في الماء فيبدو أخضر قاتماً، والقارب فوق الماء كالأرجوحة يعلو ويهبط في رفق وهوادة، والموج يلطم جانبيه في توقيع كالنقر على الدف ونسيم بليل عليل يخدر الأعصاب ويثقل الجفون ويجعل النوم أشهى ما يكون - فاتكأت بظهري على (برميل) كان بجانبي والنوم يغالبني، فكنت أغفو تارة وأصحو أخرى، وقد مرت على ساعة هكذا وأنا في سعادة ما بعدها سعادة.
كان شريكي في (البرميل) أحد نوتية القارب جمعت سحنته كل مميزات عرب الحجاز من سكان السواحل، فوجه طويل نحيف تحيط به لحية شعثاء خفيفة وعينان صغيرتان براقتان في حاجر بارز فوقه حاجب غزير الشعر، وبشرة نحاسية صقيلة وجسم ناحل دقيق، وصاحبي رقيق الحال لا يستر جسمه سوى أسمال من بقايا ثوب عتيق أطرافها وخاط فتوقها على غير انتظام بغرز طويلة، فكانت معرضاً لأنواع الخيوط وألوانها، كان جالساً(42/149)
القرفصاء وقد بسط في حجره جلدة سمك مقددة امسكها بإحدى يديه واستعان باليد الأخرى على تمزيقها قطعا كان يحشى بها فمه ويلوكها ثم يبلعها من غير أدم، وبعد أن أكل الجلدة حتى ذيلها ورأسها وزعانفها مد يده إلى ناحية من المركب فاخرج منها علبة دخان قبض منها بين إصبعيه قبضة صغيرة من دخان أغبر، دس فيها قطعة صغيرة من مادة حجرية بيضاء، ثم ضغطها وألقاها في فمه، وبعد أن مضغها ألقاها في حلقه كذلك
فقلت ماذا تفعل يا أخي؟
فأجاب غير مكترث:
- هذه سمكة آكلها وهذا تبغ أمضغه
- وهل أشبعتك هذه الجلدة؟
- الحمد لله تكفي
فقلت في نفسي مكرراً عبارته الحمد له الذي لا يحمد على النعمة والحرمان سواه، وقبيل الظهر أقلعت بنا السفينة عائدة إلى سفاجة في بحر هائج وريح قوية، فكانت نزهة بحرية لم تخل من مجازفة
وبعد الظهر توجهنا إلى مكتب مدير الشركة فاستقبلنا بحفاوة وأخذ يصف لنا أعمال الشركة فقال: هنا المرفأ والمطاحن والإدارة، وفي وادي الحويطات على بعد 22 كيلومتراً من هنا مناجم الفوسفات، والفوسفات كما تعلمون صخر تكون منذ عصور جيلوجية بعيدة من تراكم عظام حيوانات فقرية برية وبحرية من أسماك وزواحف، ومع مرور الزمن الطويل تحولت هذه العظام إلى مادة متماسكة مندمجة يقال لها في علم الكيمياء فوسفات الكلسيوم، ويوجد الفوسفات ضمن طبقات العصر الطباشيري في بعض جهات القطر المصري، كسفاجة والقصير، واسنا، وفي بعض الواحات، والفوسفات لا توجد نقية بل مختلطة بصخور أخرى، وتختلف نسبتها في الصخر الخام من 30 في المائة إلى 75 في المائة، على أن النوع الذي يطلب عادة في التجارة هو الذي يحتوي على 60 في المائة - ونستعين بالطرق الميكانيكية على استنباط الفوسفات من المناجم ونستخدم كذلك عدد كبيراً من العمال في عمليات الحفر، وفرز أحجار الفوسفات وفصلها عن المواد الأخرى، وفي شحنها من المناجم إلى المطاحن. وبين سفاجة ووادي الحويطات سكة حديدية تنقل في(42/150)
الذهاب الماء العذب والزاد للعمال والموظفين، وتنقل في العودة الفوسفات
ثم انه دعانا لمصاحبته إلى المطاحن، وهي بناء كبير من طبقات قد ركبت فيها ماكينات على هيئة اسطوانات كبيرة، داخلها كرات ملساء من الصلب يلقى فيها حجر الفوسفات بعد تجفيفه بنشره في الهواء تحت أشعة الشمس، فيتبخر ما به من الرطوبة فإذا دارت الاسطوانات طحنت الكرات الفوسفات وجعلته كالدقيق الناعم (البودرة) وبعد تعيين نسبة الفوسفات الخالص في عينات الدقيق المختلفة ثم مزجها بالقدر اللازم توضع في أكياس ذات سعة محدودة وترسل للمخازن حيث (تشون) للتصدير.
ثم بعد ذلك جلنا حول المطاحن وشاهدنا الفوسفات وهو منشور قبل نقله إليها وهو على هيئة صخر أبيض اللون يميل إلى الصفرة، ولا تزال ترى فيه بقية من أسنان الأسماك التي كونته وبعضها صغير شديد الاندماج كبير لا يختلف كثيرا عن أسنان الحيوانات البحرية التي تعيش الآن، وقال المدير إنهم أحياناً يعثرون على بعض أجزاء من عظام الحيوانات القديمة حافظة شكلها
ثم انتقلنا إلى مقطرات الماء العذب من ماء البحر، ثم زرنا مكان توليد القوة التي تدير المطاحن والدوافع، وتنير المدينة بالكهرباء
والفوسفات سماد لبعض المزروعات، وهو شائع الاستعمال في كثير من الجهات، على أنه في حالته الطبيعية لا يصلح سماد لقلة ذوبانه في الماء ولذلك يصدر للخارج لتحويله إلى مادة تذوب يقال لها (سوبر فوسفات) ومعظم الناتج من مناجم سفاجة يصدر لليابان لهذا الغرض
وسكان سفاجة نحو خمسمائة منهم أربعمائة من العمال والصناع وكلهم تقريباً من المصريين
وفي الأصيل عدنا إلى الغردقة فبلغناها قبيل العشاء.
الدمرداش محمد(42/151)
النقد
شهرزاد
للدكتور محمد حسين هيكل بك
وأقصد بشهرزاد التي أتحدث الآن لقراء الرسالة عنها، مسرحية توفيق الحكيم الأخيرة
تلوتها للمرة الأولى فاغتبطت، وتلوتها للمرة الثانية فأعجبت، ثم جعلتها بعد ذلك سمير أويقات السأم، أتلو فيها بعض صحف من منظرها الثالث أو من منظرها الأخير، فأستريح للتلاوة وأبرأ من سأمي
ترى أيرجع الفضل في ذلك إلى فن الأستاذ توفيق الحكيم، هذا الفن الذي يقصد به لوجه الفن وحده، أم يرجع لما ينطوي عليه اسم شهرزاد من سحر قديم، سحر رد الملك شهريار عن قتل العذارى ألف ليلة وليلة، وأوحى بموسيقى شهرزاد الرائعة، وأصبح علامة على ما يجري في الظلام وتحت ستر الليل، وجعل المتحدثين يسكتون عن الكلام المباح كلما جل الأمر ودهي الخطب.
أريد أن أقنع بأن الفضل في اغتباطي ثم في إعجابي يرجع إلى فن الأستاذ توفيق الحكيم، هذا الفن الحديث الذي يجاري أحدث أطوار الفن في أوربا، مما تتبعنا نحن ولم نتمثل. وأقصد بنا نحن الذين تمثلوا الفن القصصي أو للفن المسرحي أو ما سواهما من صور الفن الغربي قبل الحرب. أما ما بعد الحرب فقد تتبعنا إلى حد أطوار الفن، ولكن ما دهمنا من مشاغل طغى على تمثيلنا إياها، وقد تنقل الفن بعد الحرب في أطوار شتى كان الأستاذ توفيق الحكيم مأخوذاً في تيارها أثناء مقامه بباريس، فلا عجب أن يتمثلها بل أن تتمثله، ولا عجب وله في الأدب المسرحي ما له من مواهب أن تدفعه ليخرج للناس مسرحيتيه أهل الكهف وشهرزاد.
وأنت تقرأ شهرزاد وتعيد قراءتها وتغتبط وتعجب ثم تسائل نفسك: ماذا فيها وما هي الفكرة التي تنطوي عليها؟ وقفت أمام سؤالك نفسك ولا تكاد تحير جواباً. بل لعلك تجد الجواب إذ تطرب بعد ذلك لسماعك لحناً من الموسيقى تهتز له جوانب فؤادك، وتشيع له الغبطة في أنحاء نفسك، ثم تسأل: ماذا في هذا اللحن وما هي الفكرة التي ينطوي عليها؟ وتستطيع أن تجيب بعد ذلك لا شيء ولا فكرة، وإنما هو الفن يغذي النفس بالغذاء الروحي الذي تصبو(42/152)
إليه في الساعة التي تنال فيها هذا الغذاء. وتستطيع أن تجيب بأن في هذا اللحن كل شيء وأسمى فكرة، وأنه يتناول أجل ما في الحياة من معان وصور.
وذلك شأن مسرحية شهرزاد، فلا شيء ولا فكرة فيها وفيها كل شيء وكل فكرة. فالملك شهريار الذي قتل زوجه الأولى وقتل معها العبد الذي وجده في أحضانها قد أقام يقتل عذراء في كل ليلة انتقاماً لنفسه من غدر النساء، حتى تزوج شهرزاد، لكنه لم يقتلها لأنها بدأت تقص عليه أحسن القصص ولا تتم قصتها إذا كان الصباح. وتعود إليها إذا جن الليل، حتى انقضت ألف ليلة وليلة، وشهرزاد لم تكن إلى يومئذ تبلغ العشرين. كيف لها إذن أن تعرف كل هذا الذي تقصه؟ وكيف تراها وهي تعرف ذلك كله لا تريد أن تبوح لشهريار بسرها وسر الطبيعة وسر الكون كله. هذه مسرحية توفيق الحكيم من أولها إلى آخرها، هي كما ترى لا شيء ولا فكرة فيها. ولكن لا، ففيها كل شيء وكل فكرة، استمع إليه حين يصور هذه الفكرة الأساسية التي تنتظم المسرحية كلها على لسان شهريار حين يثور بشهرزاد لأنها تلح عليه في أن الحياة ليس بها ما يستحق العلم، وأنها لا سر فيها، وأنها هي - شهرزاد - ليست إلا امرأة ككل النساء ذات أم وأب وماض معروف، يثور شهريار ويتحدث كمن به مس، وكمن يتحدث إلى نفسه فيقول:
قد لا تكون امرأة، من تكون؟ إني أسألك من تكون؟ هي السجينة في خدرها طول حياتها تعلم بكل ما في الأرض كأنها الأرض! هي التي ما غادرت خميلتها قط، تعرف مصر والهند والصين! هي البكر تعرف الرجال كامرأة عاشت ألف عام بين الرجال، وتدرك طبائع الإنسان من ساميه وسافله، هي الصغيرة لم يكفها علم الأرض فصعدت إلى السماء تحدث عن تدبيرها وغيبها كأنها ربيبة الملائكة، وهبطت إلى أعماق الأرض تحكي عن مردتها وشياطينها ومساكنهم السفلى العجيبة كأنها بنت الجن! من تكون تلك التي لم تبلغ العشرين قضتها كأترابها في حجرة مسدلة السجف! إما سرها؟ أعمرها عشرون عاماً، أم ليس لها عمر؟ أكانت محبوسة في مكان، أم وجدت في كل مكان؟ إن عقلي ليغلي في وعائه يريد أن يعرف. . . أهي امرأة تلك التي تعلم ما في الطبيعة كأنها الطبيعة؟))
أسمعت؟ إن بنا ظمأ لأن نعرف. ولكنا لا نستطيع أن نعرف، وما نزعم أننا عرفناه اليوم سيقول أبناؤنا غداً إنه حديث خرافة، كما نقول نحن عما عرف أجدادنا أنه حديث خرافة،(42/153)
هذا كلام لا شيء ولا فكرة فيه كما ترى. وهو مع ذلك كل شيء وهو مع ذلك طريف وأن تكرر كل يوم مادام يتكرر في أسلوب من له روعة أسلوب توفيق الحكيم المسرحي. وهو طريف وإن تكرر لأنه يدعونا للمحاولة كي نعرف أفي الحياة جديد
فإلى أي شيء نسعى في الحياة؟ وما غرضنا منها؟ هذا ما يريد شهريار أن يعرف. وتقول له شهرزاد إن الحياة هي السعادة. والسعادة يجب أن يلتمسها الرجل في جسم امرأته. ويأبى شهريار ويتكدر ويكاد يقتل شهرزاد. ولكن شهرزاد تتبدى له في روعة جمالها كاملة فيتمنى لو تحبه ليكون سعيداً. وفي أحلام الحب ينام!
وشهرزاد في مسرحية توفيق الحكيم هي المرأة، وهي الطبيعة، بها يفتن شهريار، وبها يفتن وزيره قمر وبها يفتن العبد. وبها يفتن الناس جميعاً، ومنها يخاف الناس جمعياً. يلتمسون منها المعرفة، ويلتمسون منها الحقيقة، ويلتمسون منها السماح، ويلتمسون منها السعادة. وينالون من ذلك كله فتاتا لا يغنيهم، ولكنه يقتلهم. الوحيد الذي ينجبر هو العبد الذي استمتع بجسد شهرزاد، والذي أحبت شهرزاد رغم سواده وغلظته، لأن الزهرة البيضاء الرقيقة تنبت من الطين الأسود والغليظ، ورغم قبحه وضعة أصله، لأن سواد اللون وضعة الأصل وقبح الصورة هي الصفات الخالدة التي تحبها شهرزاد، والتي تعشق الطبيعة وإن كانت الطبيعة وكانت شهرزاد مثلها لا يعشقان أحداً.
لعلي استطعت بالقليل الذي تقدم أن أصف الأثر الذي تركت في نفسي مسرحية توفيق الحكيم الأخيرة وهو كما ترى أثر يتعدى الغبطة إلى الإعجاب. لكنني لاحظت عليها كأثر من آثار توفيق الحكيم، ما لا يتفق وما كان بارزاً واضحاً في أهل الكهف وفي قصة عودة الروح، وفي آثاره الوجيزة الأخرى التي تنشر في المجلات، فقد كان بروز الشخصيات ووضوحها بعض ما امتازت به هذه الآثار كلها. أما في شهرزاد فالكل فلاسفة في قوة واحدة. الملك والوزير قمر، وشهرزاد، والعبد، والجلاد، والساحر، يتحدثون جميعاً ومنطق كل واحد منطق الآخر وقوته قوته، وأنوثة شهرزاد أنوثة فلسفية هي الأخرى. وحب قمر إياها أقرب لأن يكون حباً فلسفياً لا يخضع لضعف الحب إلا بكلام وهذا في رأينا مأخذ وإن سترته قوته المسرحية. وهو مأخذ بالنسبة لتوفيق الحكيم بنوع خاص، لكنه لا يغض من قيمة أثر له من الجلال ما قدمنا، وله إلى جانب جلاله انه أثر خالص للفن وهذا ما لا(42/154)
تجده في الأدب العربي الحديث ألا نادراً واندر من النادر
محمد حسين هيكل(42/155)
ديوان الينبوع
للدكتور احمد زكي أبو شادي
راقني ما دبجته براعة الأديب الحلبي الفاضل (المرتيني) نقداً لديوان (الينبوع) فقد استهله بمقدمة بديعة عن ماهية الفن، هي من صفوة ما كتب في هذا الموضوع، وهي وحدها كافية لاحترام بيانه وللصفح عن زلات نقده.
وكان أول ما أخذه على، إشارتي إلى أن الشاعر الألماني العظيم هنريش هيني جمع في شعره بين نفحات القديم وبين النزعة الرومانطيقية التي كان آخر شعرائها في قومه، وبين نزعة التحرر العصري التي ساعد على تكوينها، وقد أصبحت الصورة الغالبة على الشعر العصري في الغرب صورة الرومانطيقية الواقعة
أتعرف بماذا علق الأديب المرتيني على ملاحظاتي هذه؟ إنه لم يتعرض لها ولو بكلمة نقدية واحدة وإنما اتخذها تكأة ليقول هذا القول الغريب الذي لا صلة له بموضوعها إذ يعلن: (إننا لا نجاريه في قوله ولا نجاريه في استشهاده بالشاعر الألماني العظيم، فبينما يشرح ذلك الألماني النبيل عواطفه المتدفقة في نفسه أو يشرح نفسه الواسعة الفياضة بأنواع من النظم نرى الدكتور لا يرتفع في شعره عن أن ينظم في بعض مناسبات خاصة. وفرق كبير جداً بين هذا الشعر الذي يكاد يكون شعراً صحفياً وبين شعر هيني المختلف المتناسق الذي نرى اختلافه في أغراضه وسعتها، والذي نراه يتناسق في الصفات الأولى التي تتصف بها نفس ذلك الشاعر العبقري) وكل هذا لا شأن له بتعرضي لشعر هيني ولا محل له من النقد المتزن
إن ناقدي الفاضل يشير في مقدمته إلى أن الفن يرسم الشعور الإنساني في ظروفه العاطفية المختلفة، وهذه سطور مقدمته بين أيدي القراء ناطقة بذلك، فكيف يأتي بعد هذا مصغراً فينعت شعري بشعر المناسبات وبالشعر الصحفي؟ إن جميع الشعر يا مولانا في أصله شعر مناسبات وبواعث لأنه لا يفتعل افتعالا، وإنما سمينا الشعر السطحي الذي لا ينتظر له الخلود بشعر المناسبات من باب التجوز إشارة إلى أنه يعيش في حيز مناسبته الوقتية، ولأنه ليس بالشعر الإنساني العميق، وشتان بين التعبيرين. . . .
فهل صحيح أن شعري من هذا الضرب الأخير، لا لسبب إلا لأنه مناسبات بعضه عامة؟(42/156)
وهل هذا عذر ينهض للأصغار من روائع الشعر العربي والأوروبي التي خلقت في مناسبات عامة لا تعني الشاعر وحده؟! أن مثل هذا النقد لن يقبله أي أديب مستقل، خصوصاً وهو نقد مبهم لا تعززه الشواهد، ولا أعرف شيئاً يسيء إلى النقد أكثر من هذه البراعة في الإبهام، ومن هذه الأحكام التي لا (حيثيات) لها. . . .
إني لم أقطع على ناقدي الطريق حين أشرت إلى ضرورة التجاوب بين الناقد والشاعر حتى يجيء النقد تفسيراً أدبياً صادقاً للشعر، لأني لا أفهم من النقد أن يكون لوناً من ألوان النفور أو التحامل. وقد آخذني على إشارتي إلى أنه ليس محتوماً على غير مريدي أن يطلعوا على شعري حتى أكون معرضاً لمؤاخذتهم اياي، متوهماً أني بذلك أصد الناقدين عن شعري أو أنعالي عليهم. والواقع انه لا يوجد أديب معاصر شجع النقد الأدبي واحترمه أكثر مما شجعته، ولدى صديقي الألمعي صاحب مجلة (الرسالة) آخر مثل يعرفه عن ذلك، فليطمئن بال الأديب المرتيني، وليثق بأن كلمتي هذه ليست موجهة إلى أمثاله من أفاضل النقاد، وإنما وجهتها إلى جيش من المتطفلين على الأدب الذين ينالون ما ينالون من تشجيع في الصحف العامة ولا يتورعون عن أن يقولوا مثل هذا القول: (إن شعر فلان يحصب وجوهنا) فليت القدر يخرسه مادمنا عاجزين عن ذلك، وهذا بلا نزاع إسفاف في النقد) ولكن له سوقه النافقة، فكلمتي المنطقية الهادئة الموجهة إلى هؤلاء الكرام لا غبار عليها.
وتحدث ناقدي الفاضل عن ميولي المتباينة، ولست أرى تبايناً بينها، مادامت نفسي تؤلف منها وحدة فنية، ولكل نفس طبيعتها واستعدادها، كما أني لست فذاً في هذا: فهناك شواهد كثيرة على تنوع الميول عند أعلام الفكر والأدب في الشرق والغرب، ولم يكن هذا التنوع مؤدياً إلى العجز أو التقصير الفني، بل كان شاحذ للمواهب الفنية، دافعاً إلى الإنتاج الناضج الوفير.
وادعى سامحه الله أني مجدد ملتوي التجديد، وأني قد وقفت نفسي على أدب الغرب، وأني أحاول في عمري أن أضع لنفسي مزاجاً خاصاً، وأني أتمثل لقارئي فيكاد ينفر مني لضعفي في التعبير وتقصيري في التصوير وفقري في التفكير. . .
ومثل هذا الانتقاص الذي يقال جزافاً أمره سهل لدى كل من يطاوعه قلمه على تحبيره، ولكن الناقد المنصف المدقق يقر بشغفي العظيم بالأدب العربي وخدمتي إياه، وأن عنايتي(42/157)
بالأدب الأوربي هي عناية الراغب في إعزاز أدبنا العربي وتبديل فقره غنى، وسد ما في مناحيه من فجوات يشعر بها كل مطلع على الآداب العالمية. وليس لمثلي أن يزكي أدبه وإن دافع عنه، ولكني أزكي مدرسة أدبية أنا أحد أفرادها، وقد كتبت من قبل ما يغني عن الإفاضة في (الرسالة)، كما يغنيني ما ظهر حديثاً في مجلة (الإمام) للشاعر الياس قنصل، وفي صحيفة (الأهرام) للشاعر سيد قطب، عن الرد على ذلك الانتقاص المبهم الذي لن تطاوعه الشواهد مهما تلمسها ناقدي الفاضل.
ولكن قد جاء بما يحسبه شاهداً مفحماً في تعليقه العجيب على صورة (الينبوع) (ص 17 من الديوان). . . . ان ذلك التعليق وتلك الخطرات هي نظراتك أنت يا ناقدي العزيز، وأما أنا فلا أعرفها بل اشمئز من تعابيرك كل الاشمئزاز. أما نظراتي أنا فنظرات الفطرة السليمة المتسامية التي تأبى التصنع والشذوذ والتدلي، وتقول في صراحة:
يا جمال النور في الظل الحبيب ... يا جمال الروح في الجسم الرطيب
هذه الدنيا لأحلام الأديب ... هذه غايات آمال الأريب
أيها الينبوع كم ساع إليك ... يدعى بغضاً لما أهوى لديك
كل ما يرجوه موقوف عليك ... فإذا الإنعام منك واليك!
أنت سحر غامض للعالم ... أنت ينبوع الرجاء الدائم
أنت موسيقى الخلود الباسم ... أنت ومض للشريد الهائم!
أيها الينبوع يا رمز الأبد ... يا شعاع الله في طيف الجسد
كم معان فيك كادت لا تحد ... وعزاء عن حياة تفتقد!
إنما أرنو إليك في خشوعي ... ما ابتسامي غير لون من دموعي
أنا لحن بين أطياف الربيع ... من طيور وغدير وزروع
أنا أحيا حينما أجني رضاك ... حينما جسمي وروحي عانقاك
حينما لبيت مسحورا نداك ... فإذا بي لا أرى العيش سواك
كل همي في حياتي يستحيل ... حينما أخشع للفن الأصيل
حينما أروي من النبع النبيل ... ذاك نبع الحب في الجسم النبيل!
فإذا كان الأديب المرتيني لا يرى في هذا الشعر الطبيعة الصافية المتسامية فالذنب ليس(42/158)
ذنبي، وما أراه منصفاً مهاجمة الذوق الفني لمصور (سكس ابيل) وهو من أعلام فنه، إني مصدق صاحبي في تأكيده أنه قرأ الديوان من الجلد إلى الجلد، ومع ذلك أومن بأنه لم يقرأه، وأومن كذلك بأنه في ذهنيته ونفسيته الحاضرة لا يحمل ذرة من التجارب مع شاعريتي، وإنما يؤدي به مزاجه الخاص إلى النفور منها ومن كل ما يمت إليها بصلة، ناظراً من وراء منظار أسود شاقه أن يلبسه، وإلا فبماذا يفسر تصويره لاحترامي النقد الأدبي وتشجيعي رجاله، ذلك التصوير الغريب الذي ابتدعه في قوله؛ وما عرفته (يعني كاتب هذه للسطور) وغيره من إخواننا المصريين إلا أباة على النقد يثيرون من أجله المعارك ويتسارعون بسببه إلى الخصام والنزاع. . . .؟! لقد ظهرت في الأعداد الثلاثة الأخيرة من مجلة (أبولو) تعليقاتي على نقد ديوان (الينبوع) فهل يستطيع حضرة الناقد الفاضل إذا التزم الإنصاف أن يحد فيها دليلاً واحداً يعزز دعواه هذه التي أنكرها كل الانكار؟ أما عن لغتي فمن أحسب صاحبنا في المكانة التي تسمح له بذلك النقد، وقد نقد (الينبوع) فعلا رجال ذوو بصر فني باللغة، ومنهم من تخصص فيها كالسيد مصطفى جواد، فما قالوا إلا عكس ما ذهب إليه صاحبنا.
وقد تصدى لنقد بيتين من قصيدة (دانيال في جب أسود) - ص 50 من الديوان - وهي من الإسرائيليات المشهورة التي راقى تسجيلها شعراً، فجاء نقده معلنا جهله أو تجاهله لهذه القصة الدينية، وراح يلوم على ما يستحق الثناء من إيجاز أو تركيز في محله أو بساطة يدعو إليها سياق القصة، وكأنه أراد بالأقصوصة الشعرية الوجيزة أن تكون تفضيلاً خبرياً عن الحوادث لا لمحة شعرية من روح الموضوع. . . وإذا كان شعري في حكم العدم كما يريد الأديب المرتيني أن يقول، فلماذا يشغل نفسه وقراء (الرسالة) بأكثر من ثلاث صفحات نقدية وهو يعلم أن هذا الضرب من الشعر لا تعني به إلا أقلية من الأدباء. فهل صحيح أنه في حكم العدم؟!
إن الشواهد التي يسوقها النقاد هي دائما كافية لتعزيزهم أو لخذلانهم، ولذلك يتهارب النقاد العاثرون من الإتيان بالشواهد، والأديب المرتيني كان بعيداً جداً عن التوفيق فيما ذكره من شواهد من غير تفتيش أو تنقيب على ما يقول. . . وحسب القارئ أن ينظر في هذه الأبيات من قصيدة (العودة) (ص 30 من ديوان الينبوع) وقد وجهتها إلى الدكتور زكي(42/159)
مبارك الذي كان بصحبتي في قطار البحر عائدين من الإسكندرية:
وداعا للرمال وللمغاني ... وداعاً للملاحة يا صديقي
أتذكر كيف كان الموج يجري ... كما يجري الشقيق إلى الشقيق؟
وقفنا في جوار اليم سكرى ... ككر الناظرين إلى الرحيق
نرى في البر ألوان التناجي ... وفي البحر المشارف والعميق
كأن الحسن ذاب بكل لون ... نراه، وفي المياه وفي الطريق!
سكرناه سكرة الحمرمان حتى ... كلانا كالأسير وكالطليق
وهذا الجو يملؤه حنان ... ولو أن الغروب من الحريق
وأبنا أوبة المهزوم، لكن ... بنا طرب من الأدب الحقيقي!
فهذه القصيدة التي أعجب بها أستاذنا مطران إعجاباً عظيماً لم تستحق من ناقدنا الفاضل غير السخرية المبهمة التي إن لم تكن سخرية المغرض فهي سخرية المتسرع الذي يهرع إلى قلمه قبل أن يتمثل الموضوع الشعري ويستوعبه الاستيعاب الواجب.
بيد أني مستعد للإيمان بحسن طوية الكاتب الفاضل، وأؤكد له أن نصائحه هي في صميم نفسي، ومع ذلك فمرحباً بنصائحه وبغيرته على اللغة! فهل له بعد هذا أن يأخذ نصيحة متواضعة مني مشفوعة برجاء: تلك أن يدرس الطاقة الشعرية عند الشعراء المختلفين فسوف يجدها متباينة، وأن طبيعة الإجادة الفنية لا شأن لها بإنتاج، بل ربما رهفتها كثرته، وأن الشاعر الملتوي الأسلوب الضعيف البيان السقيم الذوق لا يجديه إكثار ولا إقلال. . . وهو وغيره أحرار بعد ذلك في وضعي في المكان الذي يرضي نفوسهم، وأما رجائي فمحصور في مبدأ أدبي عام يؤمن معه العثار النقدي ويمثله هذا البيت:
كن أنت نفسي واقترن بعواطفي ... تجد المعيب لدى غير معيب
احمد زكي أبو شادي(42/160)
العدد 43 - بتاريخ: 30 - 04 - 1934(/)
أحاديث الأسبوع. . .
للدكتور طه حسين
كان جو القاهرة قلقاً مضطرباً أثناء الأسبوع. يذكر الشتاء المدبر فيستحضر بعض أرواح البرد، ويلمح الصيف المقبل فيسرع إلى بعض بشائر القيظ. وكان النهار ضعيف الذاكرة جداً، محى الشتاء من نفسه محواً على قرب عهد الشتاء. وكان الليل وفياً بعض الشيء، قوي الذاكرة إلى حد ما، رفيقاً بالناس بعض الرفق، كأنما كان يشفق عليهم من قسوة النهار ونسيانه للعهد، وزهده في الأمس وتهالكه على غد. فكان يثير لهم بعض هذه النسمات الهادئة الحلوة التي تغرق أحياناً في الهدوء والخفة حتى توشك أن تكون لاذعة، وحتى تلفت الناس إلى أن من الخطر أن يخونوا عهد الشتاء كما خانه النهار، وأن يتهالكوا على عهد الصيف كما تهالك عليه النهار، وأن يتخففوا من ثيابهم، ويتهاونوا في الاحتياط والحذر من هذه الأرواح القليلة الخفية المغرقة التي تتعلق بشعاع من أشعة القمر، أو بنفس من أنفاس النسيم، والتي لا تكره أحياناً أن تمس المهملين مسا خفيفاً، فتعرضهم للأذى، وتحملهم من الآلام جهداً ثقيلاً.
وكان الناس، أو بعبارة أدق، كان الأدباء يسايرون الزمان كدأبهم في كل حين وفي كل بيئة. كانوا يفترون للنهار وينشطون لليل، كانوا يثقلون للظهر، ويخفون لمغرب الشمس، كانوا يؤدون أعمالهم خامدين هامدين في الضحى، أو يتخذون شكل الذين يؤدون أعمالهم وهم لا يؤدون منها شيئاً. فإذا ألقت الشمس يداً في كافر كما كان يقول لبيد، خفت الأجسام، ونشطت النفوس، واتسعت الرئات للهواء، وتفتحت العقول والأذهان للخواطر، وانطلقت الألسنة بالحديث، ولم تكن أحاديث الأدباء في هذا الأسبوع قليلة الخطر، ولا ضئيلة الشأن، ولا هينة الأمر على المتحدثين بها من الأدباء، والمتناقلين لها من غير الأدباء، فهم قد بدءوا أحاديث الأسبوع بهذا الاجتماع الذي ختم به الأسبوع الماضي، والذي كان عند جماعة (الاسيست) وقصد به لا أقول إلى إحياء ذكر مختار، بل أقول إلى ذكر مختار ليس غير. وكان حديث الأدباء عن هذا الاجتماع طريفاً، لأنه لم يزد على أن ذكره وألم به دون أن يفسره أو يعلق عليه. وهل أحاديث غير الأدباء في مصر الآن خير من أحاديث الأدباء؟ فأنت تستطيع أن تلتمس النشاط عند رجال السياسة، أو عند أصحاب المال، أو عند غير(43/1)
أولئك وهؤلاء من طبقات الناس، فأن استطعت أن تجده أو تجد صورة من صوره فأنت منصف حين تلوم الأدباء على القصور، وتعيبهم بالفتور. على أن شيئين لم يهملهما الأدباء حين تحدثوا عن هذا الاجتماع، إن كانوا قد تحدثوا عنه بالفعل أو خاضوا فيه حقا، ولم يكن هذا الحديث الذي أنقله عنهم خيالا فاترا فتور حياة الأدباء كلها في هذه الأيام. فأما أول هذين الشيئين: فهو أن هذا الاجتماع إنما كان أثراً من آثار الشباب، ومن آثار الشباب وحدهم. هم الذين فكروا فيه، وهم الذين دعوا اليه، وهم الذين ألحوا في الدعوة، فوفقوا إلى إكراه جماعة من الكهول والشيوخ على الاستجابة لدعوتهم، وظفروا من جماعة أخرى بالوعود والأماني التي لم يقدر لها الوفاء ولا التحقيق، ولم يظفروا من جماعة آخرين بوعود ولا أمنية، فضلاً عن الوفاء أو التحقيق.
وأما الشيء الثاني فهو أن هذا الاجتماع لم يحدث في الأدب حدثاً، ولم ينتج له جديداً، إلا كلمة طريفة قيمة مؤثرة، قالها صديقنا مصطفى عبد الرزاق. فأما ما دون هذه الكلمة فلم يكن شيئاً، حتى أن صديقنا مطران لم يستطع إلا أن يعيد على السامعين قصيدة رائعة بارعة من غير شك، ولكنها قديمة، أنشئت وأنشدت لاستقبال مختار حين عاد ظافراً يستقبل المجد. ثم استخرجت وأنشدت لوداع مختار حين استأثر به الموت، فولى يودع المجد ويودع الحياة والغريب أن هذا الاجتماع كان لتكريم الفن، ولتأبين المثال الأول في تاريخ مصر الحديثة، المثال الذي ابتكر من الآثار ما يقال أنه جميل رائع ينطق البكم ويثير حس الذين لا يثور لهم حس، ويفيض شعور الذين لا يفيض لهم شعور، ومع ذلك فهو لم ينطق أدباءنا - وما أكثر ما كانوا ينطقون - ولم يثر حسهم - وما أكثر ما كان يثور. ولم يفض شعورهم - وما أكثر ما كان يفيض. تساءل الأدباء عن مصدر هذا في السر أو في الجهر، في النوم أو في اليقظة، في الحقيقة أو في الخيال. فكان الجواب أن مصر الآن نائمة تستريح.
ثم مضى يوم ويوم من الأسبوع، وإذا الأدباء ينسون حديث مختار أن كانوا قد ذكروه، لأن حديثاً آخر قد فتحت لهم أبوابه، ومدت لهم أسبابه، وهو حديث صحيفة اضطرها حكم القضاء إلى الصمت. فتفرق كتابها، وانتشر أصحابها في الأرض يبتغون من فضل الله عليهم وعلى الناس، وسكت هذا الصوت، أو هذه الأصوات التي كانت تسمع مع الصباح(43/2)
في كل يوم، والتي كانت تفتح للساسة والأدباء وأصحاب الاقتصاد والذين يلتمسون الأنباء فنوناً من القول وألواناً من الحديث. تحدث الأدباء عن هذا الحدث الأدبي السياسي، في السر أو في الجهر، في النوم أو في اليقظة، في الحقيقة أو في الخيال. وتساءلوا ما باله لم ينطق الأدباء بشيء، فكان الجواب أن مصر الآن نائمة تستريح.
ثم مضى من الأسبوع يوم ويوم ويوم. وإذا حفل يقام واجتماع يحتشد له الناس في ملعب من ملاعب التمثيل، وإذا خطب تلقى مختلفة ألوانها، متباينة أشكالها، وإذا شاعر يكرم بهذا الاجتماع الضخم، وبهذا الاحتفال الرائع، وبهذه الخطب الطوال. وإذا الأدباء - استغفر الله - بل الشعراء منهم خاصة، يتحدثون بهذا الحدث الأدبي، ويتناقلون أنباءه، ويفسرونها ويؤولونها، في السر أو في الجهر، في النوم أو في اليقظة، في الحقيقة أو في الخيال. ثم يتساءلون ما بال الشعراء لم يشاركوا في تكريم الشاعر، فكان الجواب أن مصر الآن نائمة تستريح.
وأنا أعترف بأني لم أكره هذا الجواب، ولم أضق به، فحب النوم والإغراق في الراحة شر، ولكن بعض الشر أهون من بعض وأنا أعترف بأني أوثر هذا الجواب على جواب آخر بغيض، لا أحب أن أسمعه ولا أن يسمعه غيري، ولا أن يكون هو المصور لحقيقة الأمر. وقد كان يهمس به بعض الناس الذين يفترون الكذب على الله وعلى الناس، فكانوا يقولون وليتهم لم يقولوا: إنما تثاقل الأدباء والمثقفون من ذكر مختار لأن ذكر مختار شيء يخاف، وكانوا يقولون وليتهم لم يقولوا: إنما سكتت أصوات الأدباء عن صمت أولئك الكتاب، لأن التعرض لصمت أولئك الكتاب أو نطقهم شيء يخاف، وكانوا يقولون وليتهم لم يقولوا: إنما ثقل الشعر على تكريم العقاد، لأن تكريم العقاد شيء يخاف من جهة، وشيء يشق على الشعراء من جهة أخرى. وقد استقر الخوف على أحد جناحي الشعر، واستقرت المنافسة على جناحه الآخر، فظل المسكين جاثماً على الأرض، لا يستطيع أن يرقى في الجو، ولا أن يسبح في الهواء.
أما أنا فلم يعجبني الجواب الأول، لأني رجل لا أحب النوم، ولا أستريح إلى الراحة، ولم يعجبني الجواب الثاني، لأنه كذب كله، أملاه سوء الظن وحب الكيد. ولهذا أعرضت عن أحاديث الأدباء في هذا الأسبوع، وتحدثت إلى نفسي، وإلى نفسي وحدها، بحديث لا صلة(43/3)
بينه وبين الأدب، ولا صلة بينه وبين السياسة، ولا صلة بينه وبين شيء مما يعنى به الناس الممتازون في هذا البلاد الآن، وهو حديث المنجمين. لا تعجب وتأخذك الدهشة، فقد فكرت في المنجمين وأطلت التفكير. ألم تزعم لنا الصحف أن السلطان يطارد التنجيم والمنجمين في مصر؟ فما يعني أن أفكر في التنجيم والمنجمين وأنا أقرأ في الصحف الأوربية أن التنجيم ينهض في أوروبا بعد كبوته ويستيقظ بعد نومه الطويل، ويسترد مكانته العليا في قصور الملوك ودواوين الوزراء، أستغفر الله، بل في ميادين القتال، بل في الجامعات أيضاً. فهذه صحيفة فرنسية - النوفيل ليترير - تحدثنا بأن صاحب الجلالة جورج الملك الإمبراطور، قد عنى بالتنجيم وحديث المنجمين، فأبى أن يسافر أبنه إلى أستراليا في يوم كان المنجمون يخافون منه الشر، واحترقت فيه طيارة فرنسية كانت تحمل حاكم الهند الصينية العام.
والصحيفة نفسها تحدثنا بأن الزعيم الإيطالي العظيم يحفل بالتنجيم والمنجمين، كما يحفل بالسياسة والساسة. وهي تحدثنا بان الألمانيين كانوا قد ألحقوا بقيادتهم العليا أثناء الحرب منجمين، وكانت كلمة هؤلاء المنجمين مسموعة، وكانت وعود المنجمين لقواد الألمان أصدق من وعيد المنجمين للمعتصم بن الرشيد. والصحيفة نفسها تحدثنا بأن الألمانيين أنشئوا كرسياً للتنجيم في جامعة برلين سنة 1918. ثم الصحيفة نفسها تلوم فرنسا لأنها لا تعني بالتنجيم والمنجمين عناية الإنجليز والإيطاليين والألمان، فكيف لو علمت هذه الصحيفة أن المصريين يعدون التنجيم أثماً، ويرون المنجمين جماعة من المتشردين؟ إلا يؤذن لنا في أن نلفت السلطان إلى أنه ليس من الضروري أن يكون بيننا وبين الأوروبيين هذا الأمد البعيد فنحارب التنجيم ونعرض عنه حين يؤيده الأوروبيين ويقبلون عليه. أليس من الخير أن يكون لكل وزارة منجمها؟ بل مالنا وللوزارات ومنجميها؟ ألسنا نرى أن التحدث إلى النفس في التنجيم والمنجمين خير من التحدث أليها في الأدب والأدباء؟
طه حسين(43/4)
حكمة غاندي
وضع أحد كتاب اليونان الشباب ترجمة للمهاتما غاندي أسماها (الحياة المقدسة) ونحن نقتبس منها حديثاً لغاندي يقارن فيه بين عصر الآلة وبين الحياة في عصر الصناعة اليدوية التي يحدثنا عنها في تأثر وحنين:
كانت حياتنا في الأزمنة الخالية، قبل أن يحل بيننا هذا الوحش وأعنى به الآلة، حياة إنسانية جميلة. فقد كان عندنا متسع من الوقت للتفكير والخلو إلى النفس في المعابد صباحاً، وتحت ظلال الأشجار في هجيرة الظهر، وفي أفنية المنازل مساء، حتى في أوقات العمل ونحن جلوس إلى المناسج أو قائمون في المزارع نفلح الأرض، نجد الوقت للإنشاء وللتوجه بأرواحنا إلى ملكوت الجمال والحق،
أما أخواتنا فأنهن قبل الشروع في أعمالهن في الحقول، يضفرن أكاليل الزهر ويعلقنها على قرون البقر، فلم يكن للزمن عندنا في يوم من الأيام من المعنى ماله اليوم عند الأوروبيين. ولم يعلمنا واحد من حكمائنا هذا المبدأ المنكر (الوقت من ذهب) فلم نكن من الهيام بالذهب بحيث نضحي كل وقتنا من أجله. لأن العمل في اعتقادنا هو خلق الجمال والتوجه بأرواحنا إلى الله.
وأني لأذكر أن أبوي في صغري أخذاني معهما لأشهد كيف يكون بدء اشتغال الفتى بصناعة أبيه. فقد كان الفتى أول الأمر يمضي للاغتسال في النهر ليكون لجسمه طهارة نفسه. ثم تأخذه أمه إلى المعبد. ويكون أبوه وشيوخ القرية في انتظاره حول النار المقدسة وعند ذاك يسأله أبوه:
- أتريد استئناف صناعتي؟ أتريد أنت أيضا أن تصبح حداداً؟
- نعم يا أبت.
ثم يقسم اليمين المفروضة:
(أقسم بالنار وبأجدادي، وبالله الحي القيوم، أني راغب في أن أكون حداداً، وأني راغب في خلق الجمال والمنفعة للناس) وإذ ذاك يقدم له أبوه (أخوته الصغار) ويعني بها الأدوات، لأنها له بمثابة الخلان الأوفياء في حياته العاملة الكادحة.
ويتناول الفتى محراك الجمر والمطرقة والكير والميدع من أدم وأنه يتناولها بحنان كأنها أحياء، ويقول مجدداً بيمينه:(43/5)
(أقسم أني لا أدنس هذه الأدوات. وإنما استخدمها في خلق الجمال والمنفعة للناس).
ثم يستطرد غاندي في ذكرياته:
لقد عرفت العهد السعيد الذي كان فيه ناسجو الشيلان مثلاً في عداد الفنانين، أي صنو المثالين والرسامين سواء بسواء.
وكانوا يجلسون صبيانهم حول المنسج يمسك هذا كبة الصوف الأزرق، والآخر والأحمر، وذاك الصوف المعصفر، وذلك الأخضر. . .
وفي صباح كل يوم قبل البدء في العمل، يرفع المعلم الشيخ عصاه. فيسود السكون مطلقاً شاملاً. هذه آونة التأمل، ثم تعقبها الصلاة. فيبتهلون إلى الله أن يعينهم على صنع ما هو جميل ونافع للناس. فإذا فرغوا من الصلاة، أخذوا في الإنشاد على فريقين سائل ومجيب:
- ماذا تنسجون؟ ننسج السماء ونجومها
- ماذا تنسجون؟ ننسج الأرض وزهرها
- ماذا تنسجون؟ ننسج البحر وحيتانه وسفائنه
والصبيان يداولون خيوط الصوف، كل في دوره، في حركة موزونة موقعة. والمعلم جالس في وسطهم يضبط الإيقاع، وينظم بعصاه الصغيرة حركة الذهاب والإياب للخيوط المتداولة زرقاً وحمراً وخضراً. . فتتولد شيئاً فشيئاً قطعة موسيقية من النسج عجيبة التأليف من الشيات والألوان.
ويتجدد هذا العمل كل يوم بين الصلاة والإنشاد
وبعد أسابيع ثلاث يتم الشال. وإذ ذاك يستعرضه كل صبي ويقلبه بين يديه معجباً بجماله، هذا صنيعهم أجمعين. وهم يحبونه كأنه مخلوق حي لا تقوم نفاسته بثمن، فيرمقونه طويلاً بأنظارهم، ويمسحون عليه بأيديهم، ولا تكاد تطاوع أنفسهم على التخلي عنه
ويقول المعلم الشيخ: - هيا أطلقوا عليه اسماً.
فيقول الشيخ: - بل نسميه (البهيج) أليس هو وليد البهجة وصنع الفرحة والحبور؟
فيهتف الجميع استحساناً، ويمضي الشال في طريقه إلى الدنيا الواسعة، ويأخذ المعلم وصبيانه من جديد في عملهم. وهكذا في كل ثلاثة أسابيع يطلعون الدنيا آية جديدة.
عبد الرحمن صدقي(43/6)
الموت والحياة
للأستاذ أحمد أمين
أبت علىَّ نفسي أن تكتب اليوم إلا في الموت، وهل نتاج الكاتب إلا قطعة من نفسه؟ يفرح فيرقص قلمه، وينقبض فيسبل قلمه بالدمع، وقد كرهت للقراء هذا العنوان فأضفت إلى الموت الحياة، ولست أدري لمَ يلطف ذكر الحياة الموت، ولا يلطف ذكر الموت الحياة
دعا إلى هذا أني فجعت هذه الأيام بموت أصدقاء كأنهم كانوا على ميعاد، وكأن لموت الأصدقاء أيضاً موسماً كسائر المواسم وإن لم يحدد زمنه ويعرف زمنه ويعرف مداه.
تنفك تسمع ما حيي ... ت بهالك حتى تكونه
والمرء قد يرجو الحيا ... ة مؤملاً والموت دونه
وكان آخرهم صديق استعجل الموت فأنشب في المنية أظفاره قبل أن تنشب فيه أظفاره، وقطع حظه من الدنيا قبل أن تستوفي حظها منه، لم يصبه سهم القضاء فأخذ السهم منه ورماه بنفسه في نفسه فمضى سابقاً أجله - غربت شمسه ضحى، واستكملت ساعته دقاتها قبل ميعادها
كان سريّ النفس، نبيل الخلق، طيب العنصر، يغبطه كل من عرفه على ما وهب من خلال، وما تهيأ له من وسائل الرفاهة وأسباب النعيم، وما دروا أن الأمر في السعادة والشقاء إلى ما في داخل النفس لا ما في خارجها، وأن نفوساً قد تشقى في النعيم، ونفوساً قد تسعد في الشقاء.
جزعت لموته واستكنت للعبرة، وفقدت بفقده السلطان على دمعي وقلبي، فرحمه الله ورحمني.
ولكن ما الجزع من الموت وقد طال عهدنا به، وعرفه بنو آدم منذ عرفوا الحياة. ولمَ لم يألفوه كما ألفوه كثيراً من المر حتى إعتادوه، وليس الموت في ذاكرته مراً ولا أليماً، وكما قال أحد الرواقيين (إن الموت هو وحده المصيبة التي لا تمسنا، ففي حياتنا لا موت، وإذا جاء الموت فلا حياة) وقد نظم المتنبي هذا المعنى فقال:
والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون بعد الفراق
ولكن أعظم الناس شأن الموت لما أحاط به من ظروف، وما أتصل به من خيالات، وأثير(43/8)
حوله من رعب بالغ بعض من رجال الدين في تفظيع الموت، وهولوا من شأنه تهويلاً تنخلع له القلوب، وتقشعر منه الجلود، لأنهم رأوا في ذلك درساً قاسياً يردع المجرم عن أجرامه، ويزع الآثم عن أثمه، ولكن أخشى أن يكونوا قد أفرطوا إفراطاً شل النفس وأشاع فيها اليأس. وأنهم - وقد عهد إليهم أن يعادلوا بين الترغيب والترهيب - قد أرهقوا كفة الترهيب حتى ثقلت وهوت، وخففوا كفة الترغيب حتى شالت وعلت - ولعل هذا كان من الأسباب التي جعلتنا نتسخط الحياة ونتبرم بها. ثم ما هذه الأخلاق التي هي أشبه ما تكون بأخلاق العبيد! لا ندعى للخير إلا بالعصا، ولا تطلب منا الفضيلة إلا بالسياط؟
أليس خيراً من ذلك أن يحدونا إلى الخير الحب. لا أن يسوقنا إليه الرعب؟
ثم زاد الموت سوءاً ما أحاطه به الأحياء من مظاهر الفزع والألم، فصراخ تنفطر له المرائر، وبكاء يذيب لفائف القلوب، والناس حول الميت بين ساهم البصر، ومطرق الطرف، ومكروب النفس، وناكس الرأس، يتأوه الآهة تنقصف منها ضلوعه، ويزفر الزفرة تتصدع منها نفسه - لست أظن أن هذا وأمثاله من طبيعة الإنسان، قد يكون من طبيعته الحزن على فقد القريب والصديق، ولكن ليس من طبيعته الجزع، فلو اعتاد قوم أن يقابلوا الموت كما يقابلون أية ظاهرة طبيعية في الحياة لزال الجزع وخف الألم، كما حدث عند بعض الأمم، استطاعوا أن يضبطوا عواطفهم وينفقوا من الحزن بقدر، وأن يرددوا قول القائل (مات الميت فليحي الحي) وتفاخروا بالجلد كما نتفاخر بالجزع، وتواسوا بالثبات كما نتواسى بالهلع.
ثم كان من الأدباء ما كان من رجال الدين: حزنوا للشيب إذ فقدوا الشباب، أكثر مما فرحوا بالشباب يوم أن كان، ووقفوا في مراثيهم موقف النادبات في المآتم، يعجبون كيف كان الموت وكيف نزل، ويلهبون عواطف الناس، ويثيرون أشجانهم، ويعدون أقدرهم على القول وأقربهم إلى الإجادة من عرف كيف يستخرج الدمع ويستنزف الشؤون، فكان من هذا وذاك إفساد عواطف الناس نحو الموت ودفعهم إلى التغالي في المشاعر.
ثم أخطأ الناس في القياس، فظنوا أن النفس تألم في الحياة الأخرى بما تألم به في الحياة الدنيا. ظنوا أن القبر يوحش بعزلته كما يستوحش الحي من عزلته، وأن القبر يرهب بضيقه وظلمته، كما يتبرم الحي بضيق المكان وظلمته، وأن الميت يألم من البرد القارس(43/9)
كما نألم، ويضجر من الحر القاسي كما نضجر، وغاب عنهم إدراك الفرق بين الحياتين، والاختلاف الواسع بين الطبيعتين
إذا افترقت أجزاء جسمي لم أُبَلْ ... حلول الرزايا في مصيف ولا مشتى
أن تفظيع الموت يدعو إلى نوع من الحياة لا هو حياة ولا هو موت، ولعل كثيراً من رذائل الشرق سببه ما اعتاده قادتهم من تهويل الموت وتفظيع شأنه، وإلا فما الذي يجعلنا نرضى بالعيش الذليل بين أحضان آبائنا وأمهاتنا ولا نتطلب العيش السعيد بالهجرة والارتحال؟ وما الذي يدعونا إلى الفرار من المغامرة في شؤون الحياة، والركون إلى عيش الدعة والاطمئنان، وإلى كثير من أمثال ذلك؟ لا شيء إلا التغالي في الخوف من الموت، للتغالي في تهويل الموت.
لقد جل خطب الحياة أن كان كلما مات قريب أو صديق ذابت النفس حسرات، وأظلمت في وجهنا الدنيا، وتطرق ألينا اليأس.
لا. لا. أعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وتباً لهؤلاء الذين يخلعون قلوبنا بالموت فنكون طعمة لمن يحبون الحياة.
ولنبدأ دعوة جديدة قوامها العمل للحياة و (لا بأس بالموت إذا الموت نزل).
أحمد أمين(43/10)
الانقلاب الجمهوري في أسبانيا
3 - حرب الريف إلى قيام الجمهورية
بقلم الأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت حوادث مراكش كابوس السياسة الأسبانية منذ نهاية الحرب. وكان لها أكبر أثر في تطور الحوادث التي انتهت بظفر الديموقراطية وقيام الجمهورية، وما زلنا نذكر تلك الحرب التحريرية العجيبة التي شهرها عبد الكريم زعيم الريف على أسبانيا مدى أعوام، ودحر خلالها الجيوش الأسبانية مراراً، وكاد يظفر بسحق سيادة أسبانيا في شمال مراكش لولا أن تألبت عليه قوى الاستعمار أخيراً واتحدت فرنسا مع أسبانيا على محاربته وسحقه، فكان ما أراد الاستعمار.
وكانت أسبانيا تعاني في بلاد الريف (شمال مراكش) منذ احتلالها متاعب جمة من جراء ثورة القبائل وتضطر دائماً إلى الاحتفاظ بجيش ضخم، ولكن أول نكبة حقيقية نزلت بالجيش الأسباني في بلاد الريف، وقعت في أنوال سنة 1921، ففيها هاجم عبد الكريم زعيم الريف مراكز القوات الأسبانية في تلك المنطقة، وكانت تبلغ زهاء تسع عشرة ألفاً، فمزقها واستولى على مراكزها وذخائرها، وقتل منها نحو ستة عشر ألفاً، وفر الباقون في مختلف الأنحاء، وانتحر قائدها الجنرال سلفستر. وكان محمد بن عبد الكريم الخطابي من أبناء بني أراغيل، رباه أبوه تربية حسنة، ودرس اللغة الأسبانية، والتحق بوظيفة في الإدارة الأسبانية بمليلة؛ وفي سنة 1919 وقعت بينه وبين الجنرال سلفستر مشادة حادة وأهانه القائد، ففر من مليلة وهو يعتزم الانتقام ولحق به أخوه (محمد أيضاً) وهو مهندس درس في أسبانيا وكانت القبائل يومئذٍ تتحفز للانتقاض، وكانت قد تلقت أيام الحرب كثيراً من الأسلحة والذخائر التي هربت بواسطة الألمان، فكان ذلك أكبر عون لها على مقاومة القوات الأسبانية وإزعاجها من وقت لآخر. فلما فر عبد الكريم من مليلة داعياً إلى الثورة ألتف حوله عدة مئات من الرجال الأشداء، واستطاع بهذه القوة الضئيلة أن يدبر ذلك الهجوم الجريء على المراكز الأسبانية في أنوال وأن ينزل بها تلك الكارثة الفادحة (يوليه سنة 1921)، واستولى عبد الكريم على كميات هائلة من الأسلحة والذخائر مكنته من المثابرة في الحرب أعواماً. وكان للنكبة وقع عميق في أسبانيا، فاضطرم الرأي العام سخطاً(43/11)
واضطرت وزارة سالازار إلى الاستقالة، وألفت وزارة محافظة برياسة السنيور مورا. ولكن الرأي العام ظل على اضطرامه، وارتفعت الصيحة بطلب التحقيق في الكارثة، وحملت الدوائر العسكرية على البرلمان باعتباره مسئولاً عما وقع من الاضطراب والخلل في الخطط والتدابير العسكرية، وأرسل إلى مراكش جيش ضخم يبلغ مائة وأربعين ألفاً لتدارك الموقف وإنقاذ القوات المحرجة، وانتدبت الوزارة لجنة للتحقيق، ولكنها اضطرت إلى الاستقالة قبل أن تقوم اللجنة بمهمتها، فقامت وزارة محافظة أخرى برآسة السينور سانكيز جويرا، ثم تلتها وزارة حرة برآسة جراسيا بريتو؛ وفيها تولى وزارة الحربية موظف مدني هو الكالا زامورا الذي يتولى اليوم رآسة الجمهورية الأسبانية، ولكنه استقال غير بعيد وخلفه جندي هو الجنرال ايزبورو، وكان من أنصار العسكرية الرجعية وحلفائها، ومن خصوم النظام الدستوري، فأخذ يعمل بكل ما وسع لتوطيد النفوذ العسكري في شئون الحكم، وكان هذا النفوذ يشتد يوماً فيوماً، تغذية حوادث مراكش، وما أثارته من الاضطراب.
وفي خريف سنة 1923 تمخض النضال بين العسكرية والديموقراطية عن نتيجة حاسمة. وذلك أن الدون مجويل بريمو دى رفيرا حاكم قطلونية العسكري أعلن الثورة ضد الحكومة وهدد أعضائها، وأيدته السلطات العسكرية في مدريد وسرقسطة، وأذاع في البلاد منشوراً نادى فيه بتحرير البلاد من الساسة المحترفين الذين يحملون تبعة ما أصاب البلاد من محن، وأعلن قيام إدارة عسكرية في مدريد، لإقالة البلاد من عثراتها وحل المسألة المراكشية (أوائل سبتمبر سنة 1923). وكان الفونسو الثالث عشر يعتقد أنه يستطيع انتهاز هذه الفرصة لإقامة الحكم المطلق واستئثار القصر بجميع السلطات ومن ورائه الجيش، ولكن زعماء الجيش أصروا على أن يتولى زعيم الثورة الجنرال دي رفيرا الحكم. وفي 15 سبتمبر دخل دي فيرا مدريد، واحتل دور الحكومة، وسيطرت العسكرية في الحال على كل شيء، وأنشئت الإدارة العسكرية وعلى رأسها دي رفيرا، وأعلنت أن البلاد في حالة حرب، واتخذت إجراءات شديدة لسحق كل معارضة، وعطلت البرلمان، وفرضت الرقابة على الصحف، وذهب وفد من زعماء الساسة الأحرار والمحافظين إلى الملك يناشده صون الحياة النيابية فرد، بخشونة. وقد وصف هذا الطغيان العسكري الجديد يومئذٍ بأنه(43/12)
(نظام يقوم على القوة بأكثر ما يقوم على السلطة، ذو نزعة مركزية قوية، يعتمد على مؤازرة الجيش، ويميل إلى عناصر الأحبار والكنيسة، ويصادق كبار الملاك، ويعطف على الاشتراكية في خصومتها للحركة النقابية) وتولى الجنرال دي رفيرا جميع السلطات والوزارات على مثل السنيور موسوليني وقضى على جميع الحريات الدستورية التي تمتعت بها أسبانيا أكثر من قرن، واستقبلت أسبانيا عهداً جديداً من الحكم الحديدي.
وكانت مسألة مراكش أهم وأخطر المسائل التي عنيت بها الإدارة العسكرية؛ وكان مركز أسبانيا يزداد حرجاً في الريف، وتستنزف مواردها تباعاً، ويتساقط جندها أمام هجمات عبد الكريم فرأى دي رفيرا أن يلجأ إلى الصراحة والجرأة في حل المسألة المراكشية، وقرر أن تنسحب القوات الأسبانية من المناطق الداخلية وأن تمتنع فيما يلي الشاطئ؛ وهكذا استطاع عبد الكريم أن يسيطر على إقليم الريف كله ما عدا تيطوان ومليلة، واجتمعت حوله القبائل، وأضحى قوة يخشى بأسها في شمال مراكش؛ ولم يبق استقلال الريف أمنية مستحيلة، ولم تبق على تحقيقها سوى مرحلة يسيرة، ولتكن الحوادث تطورت بشكل لم يكن يتوقعه عبد الكريم ولم تكن تتوقعه أسبانيا ذاتها. ذلك أن الفرنسيين تقدموا من حدود الريف الجنوبية، وخشى عبد الكريم عواقب هذا التقدم، فرأى أن يحول شطراً من اهتمامه إلى هذه الناحية. وفي سنة 1925 نظم عبد الكريم هجوماً شديداً على مراكز تازة ووجده داخل الحماية الفرنسية، وأثخن في بعض القبائل الموالية للفرنسيين وهدد مدينة فاس، فارتاعت فرنسا لتلك المفاجأة، وكانت لا تزال تلقى في مراكش متاعب جمة؛ واعتزم الجنرال ليوتي حاكم مراكش العام أن يسحق تلك القوة الخطرة؛ وفاوضت فرنسا أسبانيا في تنظيم العمل المشترك في مراكش ورحب دي رفيرا بهذه الفكرة، ونظمت الدولتان خطة مشتركة لتطويق عبد الكريم وسحق قواته وبعثت فرنسا أثنين من أعظم قوادها وهما بتان ونولان إلى مراكش على رأس جيشه قوامه نحو مائتي ألف مقاتل مجهز بأحدث الوسائل والعدد، وأنزلت أسبانيا جيشاً كبيراً في الحسيمة، ونظم الجيشان بادئ بدء خطة الاتصال. وهكذا طوق الزعيم الريفي في مراكزه ولم يك ثمة شك في مصير تلك الحرب التي تثيرها دولتان أوربيتان على زعيم محلى يعتمد على آلاف قليلة من البدو ويستمد موارده وذخائره من أيدي عدوه، وأدرك عبد الكريم من شدة المعارك الأولى أن المضي في القتال عبث، وأن(43/13)
الدائرة دائرة عليه بلا ريب، ففاوض الفرنسيين في التسليم بلا قيد ولا شرط، وفي 30 مايو سنة 1926 سلم نفسه إلى الجنرال بويشيت، ودارت بشأنه مفاوضة بين الحكومتين الفرنسية والأسبانية انتهت بتقرير نفيه مع أسرته إلى جزيرة رينيون من أعمال مدغشقر؛ وانهارت تلك الحركة التحريرية البديعة التي نظمها هذا الزعيم البربري الباسل، وعاد الاستعمار الأسباني فوطد سيادته في الريف، ووطد الاستعمار الفرنسي سيادته في شمالي مراكش؛ وخسرت الدولتان في تلك الحرب آلاف الرجال وملايين الأموال، ولكن الاستعمار لم يكن ليحجم عن بذل مثل هذه التضحيات الهائلة في سبيل القضاء على ثورة تحريرية تهدد مستقبله في تلك الأنحاء.
وهكذا حلت المسألة المراكشية. وكان حلها عاملاً قوياً في تأييد نفوذ الدكتاتورية العسكرية وهيبتها. وفي عهد الدكتاتورية أيضاً تحسنت الأحوال الاقتصادية. ولكن وطأة هذا النظام المطلق لبثت تثقل كاهل الشعب الأسباني؛ وكان ظمأه إلى الحريات الدستورية التي تمتع بها مدى قرن، يشتد كلما اشتد ضغط الطغيان العسكري؛ وكان هذا السخط ينفجر من آن لآخر في قطلونية وبعض الأنحاء الأخرى عن ثورات محلية كان دي رفيرا (أو المركيز دي استيلا كما لقب بعد) يقمعها بمنتهى الشدة والقسوة؛ وكانت الدكتاتورية مع ذلك تقوم دائماً على بركان مضطرم، حتى أن دي رفيرا أضطر أن يضع أسبانيا تحت الأحكام العسكرية (سنة 1926). وفي أوائل سنة 1927 حاول زعيم قطلونية المنفى الكولونيل ماشا أن يعبر الحدود الفرنسية مع جماعة كبيرة مسلحة من أنصاره ليسير إلى قطلونية؛ ولكن قبض عليه وعلى كثير من أصحابه عند الحدود. ورأى دي رفيرا أن يهدئ السخط العام بتخفيف وطأة النظام. وأن يعود إلى ظاهر من الحكم الدستوري، فأصدر في سبتمبر سنة 1927 قانوناً بإنشاء جمعية للشورى. ولكن هذه الجمعية لم تكن لها أية سلطة حقيقية، ولم تكن إلا ستاراً فقط تستر من ورائه الإدارة العسكرية. وعلى ذلك فقد فشلت هذه المحاولة، ولبثت المعارضة على شدتها واضطرامها. وكان الجيش أيضاً قد بدأ ينقلب على دي رفيرا، أولاً لأنه لم يوافق على مسلكه في المسألة المراكشية حيث قرر الانسحاب أولاً عن المناطق التي كان يحتلها الجيش، ثم تساهل بعد ذلك في الاتفاق مع فرنسا، وثانياً لأنه كان يبالغ في الاستئثار بالأمر ولا يرى في الجيش سوى أداة لتحقيق سياسته؛ وكان(43/14)
الفونسو الثالث عشر من جهة أخرى يشعر بوطأة هذا النظام الذي نزع العرش كل سلطاته. ومنذ سنة 1928 أخذت بوادر السخط والانتقاض تبدو في الجيش؛ وفي سنة 1929، ثارت فرق المدفعية بزعامة السينور سانكيز جويرا الزعيم المحافظ الذي تولى رياسة الوزارة فيما قبل؛ وانتهز الفونسو الثالث عشر هذه الفرصة فأصدر أمراً بعزل بريمودي رفيرا وحل الإدارة العسكرية؛ ولم يجد دي رفيرا سبيلاً للمقاومة فأذعن وغادر منصة الحكم بعد أن لبثت ستة أعوام يثقل كاهل الشعب الأسباني بطغيانه وعسفه. وفي مستهل سنة 1930، ألفت حكومة جديدة برياسة الجنرال برنجير، لتعمل على إعادة الحكم الدستوري؛ وهنا تنفس الشعب الصعداء، وتقدم زعماء الأحزاب المعارضة (المحافظون والأحرار والجمهوريون) بطلب إجراء الانتخابات العامة، فعارضت الحكومة في أجرائها. واشتد السخط حينما رأى الشعب أن الحكومة الجديدة لم تأت إلا لتستمر في تأييد نظام الطغيان والحكم المطلق. وفي ديسمبر سنة 1930، شبت ثورة جديدة، ولكن الجنرال برنجير استطاع أن يسحقها في الحال بيد أنه لم يلبث أن استقال؛ وخلفه الجنرال آزنار على رأسه حكومة شبه عسكرية أيضاً؛ وهنا تقدم الكونت رومانونيس زعيم الأحرار الذي تولى رياسة الوزارة مراراً من قبل، إلى الوزارة الجديدة، بنصيحة رآها كفيلة بحل الأزمة وتهدئة الخواطر، وهي أن تجرى الانتخابات البلدية على الأقل ما دام إنها لا ترغب في إجراء الانتخابات العامة؛ فنزلت الوزارة عند هذا النصح، وأجريت الانتخابات البلدية في جميع أسبانيا في العاشر من أبريل سنة 1931. وكان يوماً حاسماً في تاريخ أسبانيا في العاشر من أبريل سنة 1931. وكان يوماً حاسماً في تاريخ أسبانيا الحديث؛ ففيه خرج الجمهوريون في جميع الدوائر بأغلبية ساحقة، وغمر التيار الجمهوري كل شيء في البلاد، فاستقالت الوزارة في الحال. ورأى الفونسو الثالث عشر أنه لم يبق سبيل للمقاومة، ولم تبق للعرش قوة يستند إليها، فبادر بمغادرة مدريد مع أسرته وخاصته، وعبر الحدود إلى فرنسا قبل أن تمتد إليه يد خصومه؛ ولكنه لم ينزل عن شيء من حقوقه. وفي الحال نودي في أسبانيا بسقوط الملكية وقيام الجمهورية؛ وأقيمت حكومة جمهورية احتياطية برياسة الكالا زامورا وزير الحربية السابق ورئيس الشعبة المحافظة في الحزب الجمهوري؛ وأعلن في الوقت نفسه قيام جمهورية في قلطونية على رأسها الكولونيل ماشا؛ وفي 28(43/15)
يونيه أجريت الانتخابات البرلمانية العامة، فأسفرت كذلك عن أغلبية جمهورية ساحقة، وتوطدت دعائم الجمهورية الجديدة بتأييد البلاد كلها.
وهكذا انهارت دعائم الملوكية الأسبانية العتيدة؛ التي هي أقدم الملوكيات الأوروبية، والتي سطعت خلال قرون مديدة، وأخرجت ثبتاً حافلاً من الملوك العظام - ملوكية فرديناند الخامس وشارلكان وفيليب الثاني؛ تلك الملوكية التي لبثت تغالب العرب في أسبانيا ثمانية قرون، والتي انتهت بالقضاء على دولة الإسلام في الأندلس واسترجاع الوطن القديم كله. وهكذا ظفرت الديمقراطية الأسبانية ممثلة الشعب الأسباني باسترداد الحريات الدستورية كاملة شاملة بعد أن كاد يقضى عليها القضاء الأخير. وكان أول ما عنيت به الحكومة الجمهورية هو أن تضع لأسبانيا دستوراً جديداً لحماية المبادئ الجمهورية والحريات الشعبية، واضطلع الكورتيز (البرلمان الأسباني) بهذه المهمة منذ 14 يوليه وأتمها في ديسمبر؛ وكان من أهم المشاكل التي عالجها مسألة النظام الاتحادي الذي نشأ عن مطالبة قطلونية بالاستقلال الداخلي؛ وقد أقر الدستور هذا المبدأ، واعتبر أسبانيا جمهورية اتحادية واعترف باستقلال قطلونية الداخلي. وثمة مسألة خطيرة أخرى هي مسألة الكنيسة والدولة، وقد انتهى البرلمان بالموافقة على فصل الكنيسة عن الدولة (أكتوبر سنة 1931) ولكن هذا القرار أحدث أزمة وزارية، فاستقال السينور الكالا زامورا، وقامت وزارة جديدة برياسة الدون مانويل أزانا. وعانت أسبانيا خلال هذه الفترة كثيراً من المتاعب من جراء الثورات والمظاهرات المختلفة التي دبرتها أحزاب اليسار المتطرفة - الشيوعيون والاشتراكيون - ومن الاعتصابات العامة التي نظمت في كثير من أنحاء البلاد؛ وعانت الجمهورية الجديدة من جراء معارضة الكنيسة ودسائس الأحبار وفلول الملوكية؛ ولكن الحكومة الجمهورية أبدت حزماً وصرامة في قمع الفتن الشيوعية، وسحق دسائس الأحبار؛ وثار بين أسبانيا والفاتيكان خلاف كبير من جراء نزع أملاك الكنيسة ومطاردة الأحبار. وأصدرت الحكومة قانوناً خاصاً لحماية الجمهورية (20 أكتوبر) - وفي نوفمبر صدر قانون خاص باعتبار الفونسو الثالث عشر خارجاً على القانون وبوجوب مثوله ومحاكمته: وفي العاشر من ديسمبر أجريت الانتخابات لرآسة الجمهورية، فانتخب السينور أل لا زاموار أول رئيس للجمهورية الأسبانية الثانية. . وقد اضطرمت أسبانيا في الفترة الأخيرة بعدة ثورات وفتن(43/16)
محلية ودبرت عدة مؤامرات ملكية، ولكنها أخفقت جميعاً: وفي العهد الآخر رأت حكومة الجمهورية أن تستعين على قمع الفتن بالتشريع الصارم فأصدرت قانوناً بإعادة عقوبة الإعدام، وكان من جراء ذلك جدل حاد في البرلمان بين الحكومة والمعارضة بزعامة السينور مورا وكادت تحدث، أزمة وزارية جديدة، ولكن السينور ليرو رئيس الوزارة الحالية استطاع أن يتلافى الأزمة، وصدر التشريع الجديد، وما زالت الجمهورية الفتية سائرة في طريقها تغالب كيد خصومها من قبل الملوكية والأحبار الذين قضت على سلطانهم وامتيازاتهم. ولا ريب أن في ظفر الديموقراطية بأسبانيا إبان تلك الأزمة العصبية التي تعانيها في بلاد أخرى مثل ألمانيا والنمسا، دليلاً على أن الديموقراطية ما زالت تتمتع بحيوية كبيرة وأنها إنما تجوز أزمة وقتية لا تلبث أن تعود بعدها إلى سابق توطدها وازدهارها.
محمد عبد الله عنان المحامي(43/17)
هل لمصر طراز؟
للأديب حسين شوقي
يجب أن تكون أبنيتنا الخاصة والعامة على طراز وطني. إما على الطراز العربي وإما على الطراز الفرعوني، ولو أني أفضل الطراز العربي بنقشه الدقيق الأشبه بالدانتلا، وزجاج نوافذه الملون الجميل، لأن القاهرة الآن حاضرة العالم العربي أجمع. . كما أن الطراز الفرعوني لا يظهر بهاؤه إلا في البنايات الكبيرة الشاهقة؛ أما في المساكن الصغيرة فقد يضيع فيه حسنه. . والطراز العربي قابل جداً للتطور مع مقتضيات العصر من مراعاة الإضاءة والتهوية دون أن يفقد شيئاً من رونقه، فقد شاهدت في أسبانيا منازل خاصة بنيت على الطراز العربي المستحدث آية في الذوق. . أما الآن فنحن في فوضى - في تشديد الدور - تجد هنا بناء على الطراز الفرنسي، كما تشاهد بجانبه بناء على الطراز الإنكليزي. . وترى إلى جانب هذا وذاك بناء على الطراز الحديث. . قد تكون هذه الطرز كلها جميلة في ذاتها، ولكنها لا تناسب طبيعة البلاد ولا تقاليدها.
إن تعدد أشكال البناء في القاهرة يقضى على جمالها وعلى طابعها الشرقي الرائع. .
يجب إلا يكون تقليدنا للعرب تقليداً أعمى. . لماذا لا نحذو حذو اليابان التي تأخذ عن الغرب مخترعاته ومستحدثاته، دون أن تنزل عن تقاليدها؟ كم صدق الكاتب الفرنسي الشهير بيير لوتي الذي كان صديقاً حميماً للمرحوم مصطفى كامل باشا حين قال يحذرنا تقليدنا للغرب:
(تجنبوا الحثالة الغربية التي يغمرونكم بها حين تذهب جدتها عندنا. . حافظوا على آثاركم وعاداتكم ولغتكم الجميلة. . .)
هناك مشكلة أخرى. . مشكلة البنايات الأثرية القائمة في وسط القاهرة التي تعوق حركة العمران. . رأيي أن يحفظ منها الشيء النفيس ويحاط بمتنزه صغير أو ميدان. أما الباقي فيهدم بعد أن يؤخذ له شريط سينمائي دقيق يكون وثيقة تاريخية عن هذه الأحياء للأجيال القادمة. .
أما الفن الحديث وله أنصار كثيرون، فلم يستقر على حال بعد، ولا يزال فنانوه يتخبطون، ينقضون اليوم ما أبرموه بالأمس. وأوروبا نفسها تشكو من المبالغات التي حدثت في الفن(43/18)
الحديث التي لا يقبلها ذوق ولا منطق. . واليك هذه الفكاهة التي قرأتها في إحدى الصحف الفرنسية نقداً لهذا الفن الحديث:
عرض أحد المصورين منظراً يمثل عبور بني إسرائيل البحر الأحمر، فسأله صديق له شاهد الصورة فلم يجد غير منظر البحر: ولكن أين بنو إسرائيل؟ قال لقد انتهوا من العبور، قال؛ وجند فرعون الذين يطاردونهم؟ قال لم يأتوا بعد!
حسين شوقي(43/19)
الفلسفة في مهدها
للأستاذ زكي نجيب محمود
لم تكد تقذف الحياة بهذا الإنسان فوق ظهر الأرض ضعيفاً خائراً، حتى دأب المسكين يسعى ويلح في السعي كلما ألحت عليه ضرورة البقاء، ولم تكن الحياة حين ألقت به رحيمة كريمة فلم تبسط يدها في العطاء بحيث تمنحه من قوى التفكير والغريزة ما يرد به غائلة الضرورة واعتداء الطبيعة في سهولة ويسر، بل كانت مقترة مغلولة اليد، واكتفت من ذلك بالحد الأدنى الذي يحتمه مجرد البقاء، فجاء الإنسان وكل بضاعته من التفكير شعاع خافت ضئيل، يعينه على جمع القوت وإقامة أسباب الحياة.
ولكن الزمان الذي يغير كل شئ قد أخذ بيد الإنسان فأخرجه قليلا قليلاً من تلك الحياة التي كانت تقنع من الغنيمة بدفع الخطر، وما زال به حتى شحذ مواهبه ووسع من نطاق إدراكه، فمرن على القيام بأعباء الحياة بحيث لم يعد يصدر ذلك عن شعور ووعي يستنفذان كل ما يملك من قوة ومجهود، ثم لا يبقى له من دهره شيء. بل أصبحت شئون العيش عادة آلية يديرها اللا شعور. وبذلك استطاع أن يظفر بشيء من الفراغ في الحين بعد الحين، ينعم به بعد جهد العيش الجهيد، فأخذ يلهو بهذا الكون الذي يحيط به، والذي يبعث في النفس اللذة والخوف في آن، ولكن ماذا عساه أن يقول عن ظواهر الكون لكي يرضي خياله الساذج الغرير، سوى أقاصيص ينسجها له الوهم فيرويها لتكون له دينا وأدبا وعلما وما شئت من فنون الإنتاج، وهكذا كانت الميثولوجيا أول الأمر، ثم يمضي الزمن ويمعن في مضيه، فيدفع معه في تياره الجارف هذا الإنسان، فإذا الخيال تضيق دائرته وتضيق. وإذا العقل يتسع ويتسع، ثم إذا بالإنسان قد هانت عليه أعباء الحياة وخفت أثقال البقاء، وبرد الهوب السوط الذي كانت تسلطه عليه ضرورة الحياة ليدأب في جمع القوت ورد الخطر، واستقبل الإنسان عهدا جديدا رأى فيه اللذة والفراغ جنبا إلى جنب مع عناء العمل، وانتقل من حياة تملؤها الضرورات القاسية، إلى حياة يمازجها شئ من ترف الفكر وإبداع الفن، وعندئذ تغير موقف الإنسان، فلم يعد عبدا يذله قانون الحياة وكفى، عليه أن يستمع لإملائه فيطبع، بل اخذ يفكر في خلق السموات والأرض ويسأل نفسه لماذا يكون هذا هكذا؟ وكيف يجيء ذلك كذلك؟ فبدأت بذلك الفلسفة(43/20)
وكان مهدها الذي تدرجت في كنفه طفلة عابثة، مستعمرة يونانية في آسيا الصغرى على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، حاضرتها مدينة تدعى مليتس، وفي ذلك البلد أضاءت شعلة الفكر خافتة أول الأمر، ثم شاء لها الله أن يمتد نورها ويتوهج حتى يكون في أرض اليونان فلسفة عميقة كانت أساس البناء، جذرا للدوحة التي امتدت فيما بعد قوية مثمرة
في مليتس - في القرن السابع قبل ميلاد المسيح - نهض الإنسان فحطم أغلال الضرورة التي كبلته حينا طويلا من الدهر، وخص شطرا من حياته للتفكير المجرد، الذي يقصد جمع القوت وتوفير أسباب العيش، ولكن فيم عسى أن يفكر ذلك العقل الناشئ؟
بديهي أن يتجه إلى هذه الطبيعة التي يزخر عبابها بالكائنات، والتي تحتويه في غمارها وتملأ عليه شعاب نفسه وحسه، ولم تكن الطبيعة موضوع فلسفته فحسب، بل كان قصيدا ينشد في حماها الخلاب، وكان دينه تسبيحاً لقوتها وجبروتها، وأية غرابة في هذا؟ أليست سنة الحياة أن يبدأ الطفل حياته الفكرية بما يقع تحت الحس ثم يتدرج صاعدا إلى الفكر المجرد؟
وأول ما استرعى منه النظر واستدعى أعمال الفكر هو هذا التغير الذائب والتحول المستمر الذي يطرأ على الأشياء، فها هو ذا كل شئ، كائنة ما كانت مرتبته في الحياة، يجيء إلى الوجود ليبقى حينا ثم يمضي ويترك الوجود، ولكن يستحيل على الفكر الناضج أن يظن أن هذه الأشياء تأتي من العدم وتنحدر إلى العدم، فليست تدل الظواهر على أن هذا الشيء المعين حينما جاء إلى الوجود، قد بدأ حياة لا يربطها بالماضي سبب من الأسباب، أو حينما يذهب وينقضي قد زال أثرهو تلاشت مادته، إنما تدل الدلائل جميعا على إنها مادة موجودة يطرأ عليها التغيير فتكون اليوم حجرا، وتصبح غدا نباتا يحيا، وقد تكون أنسانا يفكر ويسعى بعد غد، فليت شعري، أو ليت شعر الفلاسفة الأولين، ماذا عساها أن تكون تلك المادة التي تملأ الكون وتبدو في صور مختلفة متباينة؟ تلك هي المشكلة التي حاول فلاسفة أيونيا أن يلتمسوا لها جوابا يقنع ويرضي
وإذا التمس الفكر الإنساني مادة تكون أصلا لكل ما يشمل الوجود من ظواهر، فانه لن يصادف إلا عددا قليلاً من ألوان المادة التي يجوز لها أن تكون كذلك، إذا لا بد لهذه المادة الأولية المنشودة إلا تكون محدودة الصفات والخواص، وأن تكون مرنة شديدة المرونة في(43/21)
قابليتها للتشكل في صور مختلفة، وماذا تكون تلك المادة الأولية عند قوم يتاخمون البحر، فترسخ في نفوسهم صورته ويدوي في أسماعهم هديره كلما أمسى مساء أو اصبح صباح، غير الماء؟! فهو أدناها عند العقل الأيوني مأخذا، وأقواها حجة. فليس عجيبا إذ أن ينهض طاليس، أول فيلسوف عرفته الدنيا وأجمع على فلسفته المؤرخون، وهو في طليعة الباحثين عن تلك المادة التي نشدها العقل، والتي تتركب منها الأشياء جميعا، وتنحل أليها الأشياء جميعا، ويعلن أن الماء هو قوام الموجودات بأسرها، فلا فرق بين هذا الإنسان وتلك الشجرة وذلك الحجر، الهم إلا اختلافا في كمية الماء التي يتركب منها هذا الشيء أو ذاك، أليس الماء يستحيل إلى صور متنوعة فيصعد في الفضاء بخارا، ثم يعود فيهبط فوق الأرض مطرا، ثم يصيبه برد الشتاء فيكون ثلجا؟ وإذن فهو غاز حينا، وصلب حينا ثالثاً، وكل ما يقع في الوجود لا يخرج عن إحدى هذه الصور الثلاث.
رضى العقل بادئ بدء بالماء جوهرا للكون، ولكنه ما لبث أن أدرك انه مهما يكن للماء من مرونة وحيوية، فان صفاته محدودة، ضيقة، لا يمكن أن تسع كل ظواهر الوجود، وإذن فلا بد للعقل أن يبحث ويجد في البحث عن مادته الأولية التي ينشدها فجاء انكسمندر وقرر حقا أن كل مادة يكون لها صفات بعينها لا تصلح مطلقا أن تكون أصلا للكون، لأن مجرد الاعتراف بصفة ما هو دليل قاطع على وجود نقيضها، فلا يمكن عقلا أن تفهم معنى الحرارة إلا إذا اقترنت ذهنك بالبرودة، ولو تلاشت هذه لذهبت في أثرها تلك، وأذن فيستحيل إن تصف مادة بخاصة معينة إلا إذا كان ثمت مادة أخرى لها صفة مناقضة، وينتج من هذا انه لا يمكن أن يكون الوجود مركبا من مادة تميزها صفات، وإذن فلم يتردد انكسمندر في القول بأن الأشياء جميعا، إنما تفرغت عن مادة لا تمدها حدود، وليس لها صفات، اللهم إلا صفة واحدة هي الثبات وعدم التجول؛ أي الخلود. ولعلها في عنصرها وسط بين الهواء والماء. هكذا يغريك انكسمندر بتصديق منطقه، ولكن ما لبث الإنسان أن وجد في هذا المنطق الخلاب مغمزا وثغرة. إذ كيف تنشأ هذه الفروق الشاسعة بين صفات الأشياء، إذا كانت كلها مشتقة من مادة واحدة لا صفة لها، فبديهي أن تجيء أجزاء هذه المادة الأولى على نسقها وغرارها؛ فلا تكون للأشياء الجزئية صفات كذلك، وأذن فليستأنف العقل بحثه عن ضالته(43/22)
هنا نهض انكسمينس فخطا بالعقل خطوة ثالثة: إذا كانت مادة طاليس لم تصادف من العقل اطمئنانا، لأنها ليست من الشمول بحيث تسع بأسره، وإذا كانت مادة أنكسمندر قد أصابها الرفض لأنها تخلو من الصفات التي تدرك في أجزائها، فما يمنع انكسمينس أن يقع اختياره على مادة ثالثة، فيها الشمول الذي ينقص الماء وفيها الصفات التي تعوز مادة انكسمندر: إلا وهو الهواء، فهو ذو صفات معروفة لا تنكر، وهو في نفس الوقت يشيع في كل أنحاء الوجود، يغلف الأرض ويملأ جوانب السماء، بل ويتغلغل في الأشياء والأحياء مهما دقت الأبدان والأجسام. أليست الحياة أنفاسا من الهواء تتردد في الصدر شهيقا وزفيرا؟ أليس الهواء يملأ الفضاء ويغمر الكائنات ويستحيل إلى صور متنوعة، وهو فوق ذلك أسبق من الماء إلى الوجود، فالهواء إذن هو الجوهر الأول الذي صدرت عنه جميع الكائنات، يتكاثف حينا فيكون هذا الشيء، ويتخلخل حينا فيكون شيئا آخر.
فأنت ترى من هذا أن الفلسفة في أول صورها كانت لا تعدو في بحثها ظواهر الأشياء وأجسامها المادية، وكيف تريدها على أن تجاوز الظواهر المادية وهي لم تعترف بما وراء المادة من حياة وفكر؟ فالحياة عندها أنفاس مادية لا أكثر ولا أقل
وكان طبيعيا إلا يجمد العقل عند هذه المرحلة من التفكير والنظر، فجاوزها في البحث عن جوهر الوجود وكنهه، لا يأبه كثيرا بالصور المادية التي يتخذها ذلك الجوهر لبوساً مختلفة يظهر فيها للحواس وبعبارة أخرى فقد خلفت الفلسفة وراءها مرحلة طبيعية، لم تكن تنشد فيها إلا مادة ولم تعترف لغير المادة بوجود، واستقبلت مرحلة ميتافيزيقية، تعترف فيها بوجود شيء وراء المادة يدرك بالفكر المجرد دون الحواس. وان كانت الشقة بعيدة بين هذين النقيضين - بين تلك الفلسفة الطبيعية وهذه الفلسفة الميتافيزيقية - لا أن هذه قد اعتمدت على أساس تلك، لأنه إذا كان الخلاف بين الأشياء، هو فرق ما بين التكاثف والتخلخل، إذن فلا يفضل مخلوق مخلوقا آخر إلا من حيث الكمية المادية فحسب، وبعبارة ثانية، فالذي يفرق بين الكائنات اختلاف الحكم، أي في العدد، وإذن فكنه الوجود وحقيقته هو الأعداد، فالكون سلسلة من أعداد تتجمع وتتفرق حينا. ومن هنا نشأت المدرسة الرياضية الجديدة التي كان زعيمها فيثاغورس، فقد ذهبت طائفة الفيثاغوريين إلى اعتبار الأعداد جوهر الكون وأساسه. ومن الواحد خرجت جميع الإعداد، وأن تكن مختلفة متباينة،(43/23)
إلا إنها لا شك تنطوي جميعا تحت ذلك الفرد. وقد يستوقفك هذا التباين بين الأشياء، فتسأل كيف يمكن أن تجتمع هذه النقائض كله تحت أصل واحد، وأن يكون هذا الأصل هو الواحد الرياضي. كيف يكون هذا الحيوان وذلك الماء وهذه الشمس وما إلى ذلك أشباها تلتقي عند جوهر واحد؟ ولكن هذا الشتيت المتضارب في الظاهر إنما هو أجزاء هذه الوحدة التي أحدثك عنها، أو يحدثك عنها الفيثاغوريون، كما يكون إصبعك وعينك وشعر رأسك وسائر أجزاء بدنك - وهي متنافر الصورة لا يشبه بعضها بعضا - وحدة لا شك في تماسكها واتحاد أجزائها، وتكون في النهاية واحدا
وأحب أن أضع إصبعك على هذا الضرب الجديد من التفكير الفلسفي، لتدرك تطور الفكر مرحلة بعد مرحلة. فالفيثاغوريون لم يعودوا يفكرون في أجسام مادية، هم لا ينشدون مادة الأشياء الاولية، كما فعل طاليس وأنكسمندر وانكسمينس، ولكنهم كما ترىيضربون في الأعماق ويجاوزون هذا الغشاء المادي ليصلوا بتفكيرهم إلى جوهر الكون
ولكن مذهب الفيثاغوريين بدورة لم يسلم من النقد، فهو يبالغ في الإكبار من شأن الواحد، ويصر على أن تكون الأعداد جميعا - أي الأشياء - أجزاء. من ذلك الواحد يحتويها ويشملها كما يحتوي الكل أجزاءه، ولكن إذا كان الفرق بين الأصل وما يتفرع عنه فرقاً عدديا فقط، فبديهي أن يكون الأصل وفروعه في منزلة كيفية واحدة، ولا يكون أمامنا مبرر لتفضيل هذا على ذاك إلا بالفرق في الحكم، أعني انه يجب أن يكون التعدد أصلا وجوهرا تفرع عنه الواحد. إذن لابد للعقل أن يتناول هذا المذهب بالتهذيب والتعديل حتى يتخلص مما يشوبه من تناقض.
نهض اكزنوفنس بشيء من هذا التهذيب المنشور، فليس واحد الفيثاغوريين عنده واحد حسابيا، بل هو الكون بأسرة هو الله الذي لا يعتريه تغيير ولا تبديل ولا فناء، هذا الكون بل هذا الإله لا يتعدد، وهو يصلك عن طريق الحواس، فلا تراه عيناك، ولا تسمعه أذناك، إنما هو حقيقة مجردة تصل إليك عن طريق الفكر المحض.
ثم تبعة بارمنيدس فسار في طريق سلفة اكزنوفنس، وجاوز حده، فلم يكتف بأن يكون الواحد المجرد - أي الله - مصدراً لجميع الكائنات، بل لم يعترف لهذه الكائنات نفسها بوجود الموجود، في الوجود شيء. واحد: هو الله، فليس ثمت مصدر وصادر، ليس ثمت(43/24)
خالق ومخلوق، إنما الجميع الشيء واحد، هو الله هذا الكائن المطلق، هو وحدة الحقيقة ولا حقيقة سواه، فكل ما ليس إلهاً لا حقيقة له في الوجود. وبديهي أنه لا يتعدد ولا تحده حدود من مكان، ولا يمكن أن يكون خارج نطاق عقل مفكر بحيث يتخذ من هذا الكائن موضوعا للتفكير. ومعنى هذا أنه ينكر على الإنسان أن يضن نفسه حقيقة موجودة مفكرة، كلا بل هناك شيء واحد يفكر ويكون موضوعا للتفكير في وقت معا. فهو لا نهائي، ولهذا لا يجوز عقلا أن يكون هناك من الفراغ ما يشاغله شيء آخر أو إله آخر. وهكذا كانت فلسفة بارمنيس هذه ضربة قاتلة قضت على الآلهة المتعددة التي كان يعبدها معاصروه.
لا حقيقة إذن لهذه الأشياء المتباينة التي يخيل إلينا إنها تملأ الكون، ليس ثمت إنسان ولا حيوان ولا نبات ولا أرض ولاسيما، كل هذه أوهام خلقتها الحواس خلقا من عدم، وأنشأتها إنشاء. باطلا لا يرتكز على صورة خارجية، وهو لا يعلل لنا هذا الخداع الحسي الذي يصيب أفراد البشر جميعاً، ولكنه يأسف لهذا النقص الذي يصور لنا الباطل حقا.
وقد أيد هذا المذهب بعد بارمنيدس فيلسوفان، لم ينتجا جديدا، ولكنهما اكتفيا بالدفاع والتأييد، وهما مليسس، وزبنو، ولكن العقل الذي لا يقنع بقليل ولا كثير، أبي هذه المرة أيضا أن يستكين لهذا الرأي زمنا طويلا، إذ بدا له في منطقة الضعف والتناقص.
لقد علمت الآن أن الفلسفة قد اعترفت بوجود واحد، وكل ما عداه وهم وباطل اختلقته الحواس اختلقا. وليت الدفعة قد وقفت عند هذا الحد، بل جاء هرقليطس، فسار في هذا الاتجاه شوطا بعيدا، فأنكر وجود حتى هذا الموجود الواحد! وله في هذا الإنكار منطق، إلا يكن مقنعا، فهو لا يخلو من ظرف كثير قال إن هذا الكون وما يشتمل عليه من كائنات، في حركة متصلة دائمية، لاتنقطع ولا يصيبها الجمود لحظة واحدة، هو كسيل يهوي من قمة الجبل إلى هاوية السفح، كله تغير وحركة وانتقال، فكلما فتحت ناظريك على هذا المجرى رأيت صورة لم تراها من قبل ولن تراها بعد، لان الماء لا ينتظرك حتى ترسل إليه البصر مرة ثانية، وإذن ففي كل لحظة ينشأ مجرى جديد. ولعلك تدرك خطورة هذا الرأي، فلو صح لذهب علمي وعلمك هباء منثورا. إن كل ما نعلم خيال منحول ووهم ملفق، لأنه إذا كان العالم الخارجي لا يستقر على حال ثابتة، فكيف تصدر على شيء منه حكما من الأحكام، انك أن علمت شيئا عن الكون فما إلا في لحظة بعينها، ولا يجوز أن يكون ذلك(43/25)
العلم صحيحا على الكون في كل آن. فان الكون سينقلب كونا آخر قبل أن ينطق لسانك بالحكم، كلا، بل قبل أن تدور في رأسك الخلجة الفكرية. انك ترى ملايين الأكوان المتعاقبة، كون يجيء في أثر كون، وإذن فمن الشطط أن تقرر حكما عن شيء من الأشياء لأنه لا يستقر على صفة ولا ولا يبقى على حال. الأمر في ذلك كفلم سينمائي تمر صورة مرا سريعا متداركا، فلا تلبث أن تقول إني أرى الآن صورة كذا حتى تفر مسرعة لتخلي المكان لما بعدها، وإذن فليس في الوجود ثابت كما يزعم الفلاسفة من قبل
هنا نشأت طائفة جديدة - أعني جماعة الذريين - وجاهروا برأي جديد يلائم هذا الموقف الذي خلفة هرقليطس، هم يقررون معه أنه ليس هناك موجود ثابت إذا نظرنا إلى الكون من وجهة الشكل والصورة، ولكن الثبات والخلود في كمية المادة التي يغص بها الكون، فثمت عدد لا يحده الحصر من العوالم، تتكون جميعها من ذرات متشابهة، ولكنها تكون بعد تركيبها كائنات متباينة، كما تتألف الكتب المختلفة من حروف هجائية بعينها، ومع ذلك فليس هي بالمتشابهة. هذه الذرات لا تفتأ تجتمع فتكون هذا الجسم أو ذلك، ثم تنحل وتالف في أسلوب جديد فتحدث كائنا جديداً على هذا الأساس يمكنك أن تدرك معنى التغير والحدوث في الصورة والثبات والخلود في المادة. وبناء على هذا يكون كل شيء في الوجود مؤلفا من ذرات مادية، حتى الروح الذي يدب في الأحياء. فهو عندهم مكون من ذريات دقيقة غاية الدقة، مستديرة أو قريبة من المستديرة. وليست عملية التنفس إلا اكتساب لذرات جديدة من نوعها تسبح في الفضاء. ولما كانت هذه الذرات مبثوثة في أنحاء الكون، فليس من شك في أن الحياة تدب في الكائنات جميعا
بدأت الفلسفة إذن بالبحث عن المادة الأولى التي تتألف منها الأشياء جميعاً، ثم أدركت أن للوجود جوهراً وراء المادة، فالتمسه الفيثاغوريون في الواحد الحسابي، ثم التمس من جاء بعد الفيثاغوريون من فلاسفة آيونياً (جنوبي إيطاليا) في الإله الذي خلق الكائنات، ثم أنكرت الكائنات وبقى الله وحده موجوداً لاوجود لسواه، ثم حام الشك حول ثبات الكون على صورة واحدة، وأخيراً قرر الذريون أن الكون متغير في صورته، خالد في مادته. . . .
تطور سريع في الفكر كما ترى، اسلم العقل إلى حال من الارتياب والشك، ارجوا أن أحدثك عنها في فصل تال.(43/26)
زكي نجيب محمود(43/27)
معهد الطفيليات
للدكتور محمد عوض محمد
. . . سار بي (الأستاذ) سيراً حثيثاً، ليطلعني على ما اشتملت عليه تلك الجامعة الهائلة من دور ومن فصول، ومن مدارس ومعاهد، فلم نزل نتنقل من بناء شامخ إلى قصر مشيد، إلى أفنية فسيحة، إلى مغان ذات طباق بعضها فوق بعض. . .
ثم وقف بي أمام دار فخمة ضخمة ذات صروح وأبراج، ولها باب عظيم ذو عمد من الرخام وسلالم من المرمر الأملس.
وقد انفتح المصراعان، وبدأ لنا من ورائهما دهليز كبير تحف به عمد رفيعة موشاة بالذهب والأحجار الكريمة؛ ومن فوقها سقف مزين بأبدع النقوش وأبهى الألوان
فقال صاحبي: (الآن أريك اجمل شيء في هذه الجامعة الجيلة، ان هذا البناء العظيم الذي تراه أمامك هو (معهد الطفيليات). قد عنيت الجامعة بتشييده وإعداده، ولم تال جهداً ولا مالاً في زخرفته وتأثيثه، ليكون منه مرتع خصيب للطفيليات: تمرح فيه ما شاء لها المرح، وتنعم فيه بكل ما تشتهيه نفوسها التي لا يرضيها القليل، ولا تنفع إلا بالغالي النفيس
(وسأمضي بك الآن إلى المتحف العظيم، الذي حشدنا فيه ما استطعنا حشده من طفيليات هذه الأرض؛ وما احسب أن لجامعة من الجامعات متحفاً كهذا المتحف، شاملاً لما اشتمل عليه من طفيليات عزيزة نادرة به، حقيقة أننا لم نستطيع أن نجمع هنا كل ما في الأرض من هذه الكائنات! إن هذا مرام بعيد. ومن ذا الذي يستطيع للطفيليات عدا. فضلاً عن جمعها. وإيوائها، وتربيتها، وتغذيتها، وتأديبها؟ لكننا نستطيع أن نفتخر - بحمد الله - أن ليس في القارات كلها جامعة بها من الطفيليات ما بجامعتنا هذه
(فلنفتش الآن بين هذه الصناديق الزجاجية. وليكن سيرنا غاية في الهدوء والتؤدة. فأن هذه الطفيليات رقيقة المزاج جداً. فلا تكاد خطرات النسيم تجرح خديها فحسب، بل تقتلها قتلاً. وهي علينا جد عزيزة. ويجب أن نحرص عليها غاية الحرص، أمش إذن برفق لكيلا يسمع لنعليك صوت، ولكيلا ترتج لوقع أقدامنا هذه المنازل البديعة التي آوت إليها الطفيليات.
(والآن فلأشرح ما اغلق عليك من أمر هذه الكائنات! إنك يا صديقي من الأدباء. ولديكم في(43/28)
الأدب طائفة أظنك تعلم من أمرها ما اعلم - من كل كويتب أو شويعر. عاجز كل العجز عن أن يخرج من صدره أو قلبه أو رأسه رأياً أو خاطرة أو فكرة. يفتش في نفسه فيلقيها خلاء بلقعا قفرا. فيعمد إلى دواوين القدماء وكتبهم، يستخرج منها القصيدة أو الرسالة، ولا يزال بها يحاكيها ويقلدها، ويحذف لفظا ويضيف لفظا، حتى يتم له مسخها وتشويهها ثم يلصق في أخرها اسمه الكريم فإذا به قد اصبح ذا شأن وخطر، وإذا النوادي تتحدث بأمره. والصحف تنوه باسمه، والمحافل تتلقاه بالإكرام والترحيب، وإذا صورته لفخمة تطالعك من صدر كل صحيفة سيارة وغير سيارة لتنبئك، وتنبئ الجاهلين أن قد نبغ في هذا الزمان الأخير أديب خطير، وشاعر كبير!
(ونحن يا صديقي في عصر قد علا فيه كعب هؤلاء وعظمت دولتهم، وقويت شوكتهم. ولا تحسب انهم وقف عليكم أهل مصر بل أن لدينا منهم في مملكتنا هذه خلقا كثيرا. وفي وسعك أن تقسمهم إلى قسمين عظيمين: الأول طائفة الطفيليات القومية أو الوطنية وهم الذين يعيشون متطفلين على قومهم العرب مثلا وأمتهم العربية.
غذاؤهم وحياتهم بما يمتصونه أو يبلعونه أو يمسخونه من شعر القدماء ورسائلهم. ناهيك أن في أدبكم العربي أسفارا لا تزال مودعة في خزائن مظلمة في دور الكتب؛ مخطوطة لا يصل إليها إلا الباحث الجليد. . . وما اولع الطفيليين بالبحث والتنقيب، وما اشد صبرهم وجلدهم! فهم يجدون في هذه الأسفار المنسية ضالتهم، ويصيبون منها الغذاء الذي يكسبهم الشهرة والعظمة. ومنهم من لا يكلف نفسه عناء البحث في خزائن الكتب، بل يعمد إلى الشائع المتداول من كتب القدماء والمحدثين، فلا يزال بها يحولها ويحورها، ويربعها ويدورها، حتى يرى فيها الطعام شيئا مخترعا، وأدبا مبتدعا. . . ولعل هذا الطراز ابرع من الأول واقدر، لأنه يعتمد على مقدرته الهائلة في المسخ والتشويه، بينما الأول يعتمد - قبل كل شيء - على بحثه وتنقيبه عن المجهول من الكتب، والخفي المستور من كنوز الأدب.
(تلك إذن طائفة الطفيليات القومية. تعتمد كما ترى على تراث قومها. أما الطائفة الثانية فهي جماعة الطفيليات الغربية؛ ننعتها بهذا الاسم لا لأنها جاءت من الغرب. بل لأنها تتغذى من الثمار الغربية. وتعيش على أجساد الكتاب من أهل الغرب والكاتبات، الأحياء(43/29)
منهم والأموات.
(وهذه الطائفة قد استفحل أمرها، واشتد دراسها، منذ انتشر في بلادكم تعليم اللغات الغربية، فوجدت أمامها أودية خصبة ومروجا ممرعة، لا يكاد الطرف أن يدرك مداها. فأقبلت عليها في شره لا يعرف شبعا، ونهم لا يعرف حدا. إذ رأت أن المجد الأدبي قد دنت قطوفه، وسهل تناوله. . . فجعلت تجني من ثمار الغرب ما شاءت وما شاء لها الجشع؛ ثم مسخته قليلاً أو كثيرا، ثم جلته للعيون الشرقية، على انه من ثمارها ومن نتاج روحها. فأكبر الناس تلك الثمار، وسبحوا بحمد تلك الطائفة. ورفعوها على الأعناق، وبوموها مقاعد السيادة في الآداب أو في العلوم. . .) عند ذلك قاطعت الأستاذ، وقد تملكني الضجر، وقلت: (أعن هؤلاء تريد أن تحدثني؟ وهل هؤلاء هم الذين أودعتموهم في معهدكم هذا؟ اللهم أني لفي غنى عن رؤية أمثال هؤلاء، وما جئت سائحا في بلادكم العظيمة، لكي تطلعني على تلك المناظر التي طالما أقذت عيني وأحرجت صدري!)
قال: (لا تخف! فهيهات أن نجد مكانا في معهدنا هذا - على ضخامته وسعته لكل تلك الطوائف! كلا يا صديقي! وما ذكرت لك أمر هؤلاء إلا لأنك ممن يعنون بالأدب. ولاني أريد أن تفهم عني أمر الطفيليات التي حشدناها هنا! فأردت تقريب الأمر إلى ذهنك متنقلا بك مما تعرف إلى ما لا تعرف!
(وخلاصة الحديث يا صديقي، إن الطفيليات هذه هي كائنات - اجل وأني لمضطر لان ادعوها كائنات - لا تستطيع أن تحيا وأن تعيش من نفسها وجهودها. بل لابد لها من كائن آخر، تستمد حياتها من حياته، وكثيرا ما تكون حياتها سببا في فنائه. وهي على كل حال لابد لها من أن تضعف الجسم الذي يمدها بالحياة حتى تورده موارد الدمار. . .)
(هذه الكائنات لا تكد ولا تكدح في طلب الرزق، بل تدع السعي والطلب إلى غيرها، وليس لها أسنان تمضغ، أو معدة تهضم، أو أجهزة تحيل الطعام الخشن والشراب، إلى غذاء وحياة، بل تبقى كامنة في الأجسام الحية، ثم تنتظر حتى تكد هذه وتعمل، وتجمع الرزق من نواح شتى، وحتى تتناول طعامه وتهضمه وتمثله، وتحيل إلى تلك العناصر التي ثوت فيها القوة والحياة، عندئذ تبادر الطفيليات، فتمتص منها الحياة والغذاء، من غير جهد ولا عناء. . . هذه الطفيليات لا تحسن عملا، ولا تجيد صنع شيء؛ الهم إلا شيئا واحداً، هو:(43/30)
الالتهام)
(تأمل قليلا في هذا الكائن البديع، القرمزي اللون! انه لا يعيش إلا في الشرايين، لا يحلو له أن يتناول إلا الدم الطاهرالزكي: يستقيه سائغا شهيا حين يقذفه القلب إلى كل شريان. . وهذه صورة رجل قد حلت بجسده هذه الكائنات! أن وجهه الشاحب قد علته صفرة الموت. وعينيه الغائرتين تجدان كفايتهما من الدم المغذي. وعلى عظامه الناتئة جلد رقيق، يوشك أن يكون شفافا. . . أن حياة مثل هذا لن تطول. فان هذا الضرب من الطفيليات من أقتلها وأفتكها بمن يعيش في جسده.
(انتقل بنا الآن إلى هذا الكائن الأبيض المنتفخ! إن خطبه ايسر من خطب الأول. ودأبه أن يعيش وسط الدسم والشحم.
فهو لا يسكن من الجسم إلا حيث الدهن متراكم متكدس. فإذا رأيت من بني آدم من أضخمته النعمة، وأشحمه الغنى، فأن هذا الشقي لن يلبث طويلا حتى تتألب عليه هذه الكائنات الشرهة، ترتع في نعمته، وتمرح في شحمه ودهنه، وما تزال مكبة عليه تمتص منه وتلتهم، حتى تذره نحيلا هزيلا. قد وهى عظمه، ورق جسمه حتى لم تبق منه إلا بقية ضئيلة، لا تلبث أن تذهب، فيهلك الجسم وتهلك معه تلك الطفيليات.
(وأظنك تشاطرني الرأي أن ليس بمستغرب أن تتجمع الطفيليات على مثل هذا المخلوق السمين، حيث المرعى الخصيب، والخير الوفير، والنعمة السابغة. . .
ولكن ما بال هذه الطائفة - التي تراها عن يمينك - قد تألبت على غير ذي دسم، وتجمعت على غير ذي نعمة، ولا يحلو لها أن تمتص الحياة والرخاء إلا من كل بائس شقى، قد عضه الفقر من جانب. والجوع من جانب، ممن يقضي حياته في كد وكدح، من اجل اليسير من الزاد، والزهيد من القوت، لا يكاد يصل إليه إلا باهراق عرق الجبين، وبذل الجهد الجهيد، وإيراد الروح موارد العذاب. ثم يغدو المسكين وإذا قوته ودمه يذهبان غذاء سائغا شهيا لهذه الطوائف النهمة من الديدان الملتوية.
(ومن عجب إن ليس في الطفيليات كلها ما هو اشد نهما واكثر شراهة من هذه الكائنات، التي تعيش وسط الفقر المدقع، فتراها غنية وسط الفاقة، سعيدة وسط الشقاء، مدلة بنفسها عزا وكبرا برغم ما يحيط بها من الذل والضعة، وهي إلى هذا كله قصيرة النظر، لا تكاد(43/31)
أن ترى شيئا، لأنها لو استطاعت أن تبصر لعلمت أن ليس في عيشها ذاك ما يبعث الكبر والغرور، ولأدركت حقارة شأنها بين الكائنات.
والآن انتقل بك إلى هذه المجموعة الفريدة؛ إنها ستبدو لك لأول نظرة كأنها ديدان لما بها من الالتواء والانحناء؛ لكنها في الحق ليست بديدان، بل حشرات طفيلية جميلة الصورة، حسنة الهندام؛ أما هذا الالتواء والانحناء، فراجع إلى طبع غريب مغروس في نفوسها، ذلك إنها مولعة أبدا بالركوع حينا والسجود حينا: مغرمة بتمريغ الجبين في مواطئ النعال. فهي تبدي للجسم الذي تمتص خيره وبره عبودية وخضوعا. وتتملقه تملقا بديعا. وما تنفك تهتف باسمه. وتسبح بحمده: ولا يحلو لها الزاد الذي تمتصه وتتغذى منه، ما لم يصحبه كل هذا الركوع والسجود، والتملق والخنوع. . . . . وهذه الحشرات لا تعيش إلا في الجسم القوي ذي البأس الشديد، والعزة والجبروت. ولقد يحلو لهذا الجسم أن يؤدي هذه الحشرات، وان تمتص من خيره ومن رحيقه، لأنه يعجبه منها هذا الخضوع الظريف، وهذا التملق الساحر. وهذا الركوع الدائم والسجود. ولا يرى على نفسه بعد ذلك بأسا في أن تأكل هذه الحشرات من مخه ومن دمه، ومن لحمه ومن عظمه. لأنه قوي مدل بقوته، بئيس مفاخر بأسه، يظن أن كنوز قوته لن تنفذ مهما كبر ذلك الجيش الجرار من الحشرات. فتراه يستكثر منها ويستزيد ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
(ومن عجب أن هذه الحشرات قد تحل بها حشرات أخرى أحقر منها، لكي تعبدها وتتزلف إليها، وتمتص خيرها؛ وهذه أيضا على حقارتها تنمو حولها طائفة أخرى أحقر منها، وهلم جرا، ولن تستطيع أن ترى هذا كله بالعين العادية، بل لابد لك من التحديق في المجهر: انظر هاهنا! وأمعن التحديق حتى تعتاد عينك رؤية هذا العالم الطفيلي المدهش! أرأيت كيف تتابعت هذه الكائنات تتابعا مطرداً: من الكائن الأكبر إلى الأصغر فالأصغر حتى تبلغ إلى الحقير التافه الذي لا تكاد تراه حتى بالمجهر!
(وبرغم ما تراه في هذا الجيش العرمرم من مظاهر القوة والنشاط، والحركة الدائمة، فان هذا مظهر خداع. ولا بد أن يدركه الفناء في لمحة الطرف. ولا بد للمسكين من يوم تدول فيه دولته وتذهب ريحه، وينظر فإذا قوته قد فنيت وبأسه قد زالوإذا هو صريع وسط تلك الجيوش الجرارة من الطفيليات التي أفنته وأفناها.)(43/32)
وألتفت (الأستاذ) إلي، فرأى الدم يتصاعد إلى وجهي، فقال: (أحسبك قد نال منك التعب، ولا جرم فأن عالم الطفيليات عالم عظيم جسيم. ولكن لن تبرح حتى ترى هذه الحشرات السوداء التي لا تعيش إلا على جثث الموتى. وتخشى الأحياء وترهبهم. ألا تراها تذكرك بأصحابك الذين يغيرون على شعر القدماء، وأدب القدماء. ولا حياة لأمثال هؤلاء إلابما يدره أولئك الموتى!
والآن تأمل هذه الكائنات الدميمة التي تراها عن يسارك! وقل لي هل رأيت في حياتك أشد منها دمامة، وأقبح منها منظر؟ وهي مع ذلك لا تعيش إلا حيث يوجد الحسن والبهاء! ولا تحيا إلا على كل من رزق الوسامة، وضرب في الجمال بسهم، وحيثما رأت الشباب الغض والحسن الباهر تر هذه الكائنات الدنسة. قد تراكمت من حوله وتألبت عليه. . . لكن أراك قد تصاعد الدم إلى وجهك، وأحمت عيناك وانتفخت أوداجك، فهل تحس ألماً أو دوار، أو تراني قد أتعبتك بكل هذا الشرح الطويل؟
قلت: (ليس ما أحسه الآن تعبا أو ألما، ولكنه الغيظ قد استولى علي وأخذ يحرق صدري، ويوقد النار في دمي، وبودي لو تناولت عالمك هذا كله بالتحطيم والتدمير، فلا أدع فيه دودة ولا حشرة، قائمة أو قاعدة، راكعة أو ساجدة!)
قال: (من حسن الحظ أنا تركنا عصينا بالباب، فهلم بنا لنخرج من هنا، قبل أن يذهب بك الجهل مذاهب الطيش والنزق فأن هذه الطفيليات أعز على الدهر من أن نعرضهات لسخط الحمقى، الذين لا يعرفون ما لها من المنزلة الفريدةوالمكانة العزيزة في نظام هذا الكون الأبدي.)
ثم انطلقنا، وصاحبي يبتسم، وأنا أكاد أتميز من الغيظ.
محمد عوض محمد(43/33)
التعاون في التأمين على الحياة
يعمل الرجل وهو في مقتبل الشباب ممتلئاً صحة وقوة، ويخيل إليه أن الدهر سيظل له على الدوام مسالماً، فيسرف في أنفاق كسبه غافلاً عما يكنه المستقبل في طياته من المفاجآت. فإذا لم يعترضه مرض أو حادث يعجزه عن العمل والكسب، فأنه قلما يسلم من الخضوع لسلطان الطبيعة البشرية وسحرها، تجتذب حواسه وتأسر لبه حتى تسوقه طوعاً إلى شريكة في الحياة؛ يرزقه الله منها الأبناء، فيشعر في أعماق قلبه بذلك الشعور الذي لا يدرك كنهه سوى الزوج المخلص والوالد الرحيم، وهذا الشعور ينطوي على رغبة صادقة في أن يهيئ لهم أسباب السعادة في ظل حياته، ويعد الوسائل التي تسهل لهم سبل العيش بعد مماته.
ولا تقف مسئولية الرجل العائلية عند حد الزوج والأبناء، بل قد تتناول أبويه والقاصرين من اخوته المحتاجين لمساعدته. فأن حق عليه أن يكفل زوجه وأبناءه بعين رعايته، فأن من واجبه الشرعي والاجتماعي أن يشمل أبويه بعطفه وحنانه. فإن فعل فإنما يسدد ديناً عليه. فقد ضحيا من أجله راحتيهما ومالهما في سبيل تربيته وتعليمه حتى بلغا به طريق الرزق - قد يكونان ذهبا في التضحية إلى حد نفاد مواردهما - فحق لهما أن يجنيا ثمار تضحيتهما بمساعدته لهما في شيخوختهما.
وخلاصة القول أن الرجل في هذه الحياة مسئول عن سعادة أبويه وأخوته، كما أنه مسئول عن هناء زوجه وأبناءه. فإن كانت عائلته تعيش من كده وجهاده، فهو بمثابة رأس مال لها. يقف رأس المال العائلي هذا عن الإنتاج إذا إنتاب الرجل العامل المرض أو اعترضه العطل، ويفقد مقدرته الإنتاجية إذا أقعده العجز أو الشيخوخة عن العمل، ويفنى إذا وافاه الأجل؛ فالرجل المتزن العاقل هو الذي يتبصر في عواقب الأمور، ويتسلح للطوارئ، فيعمل على تهيئة أسباب السعادة لعائلته في مختلف أطوار الحياة، بأن يستجمع في شبابه من المال ما ينعم به في شيخوخته، وما يتركه لذويه يستعينون به على صروف الدهر بعد وفاته. وقد يبتدئ فعلاً بتدبير المال عن طريق الادخار. فأن عاجلته المنية قبل أن يكون لعائلته المال الذي يعيشون منه فأنه يتركهم عرضة للتسول وقد يدفعهم الإملاق إلى اقتراف الرذائل وارتكاب الجرائم.
تلك هي النتائج الاجتماعية التي يجب أن يتوقعها الرجل الذي يعيش من كسبه، ولا يدخر(43/34)
لشيخوخته ولأهله من بعده ما يقيهم شر الحاجة وذل السؤال. ومما يؤسف عليه أن أولئك الذين تلهيهم سعة الحاضر عن مفاجآت المستقبل كثيرون في بلادنا، وضحاياهم عديدون، نصادفهم كل يوم فلا يثيرون في نفوسنا غير الإشفاق والرثاء.
قال المرحوم أحمد بك لطفي أحد أبطال التعاون (هل في مقدور الجمعيات الخيرية مساعدة كل هؤلاء، والعناية بتربية أولادهم والصرف على بيوتهم؟ وهل يمكن أن يعيشوا من مد يدهم للناس وإراقة ماء وجوههم للغير؟ ليست هذه الأحوال خاصة بمصر، فإنها وجدت خلال القرون الأخيرة في غيرها من البلاد الغربية، ولم ينجح فيها استعمال الإحسان والصدقة، ذلك لأن الإحسان وإن كان من الفروض الدينية، إلا أنه بحسب القوانين الوضعية ليس إلزامياً، بل هو متروك لمروءة الإنسان، فلا عطاء بغير مقابل، ولا وسيلة لإرغام الناس على القيام به. لذلك لجأ الناس هناك لنوع من الإحسان يتحقق فيه الإلزام بأجلى معانيه، وهو تبادل الإحسان بين الفرد والجماعة بنظام مخصوص يجعله محققاً، ويسهل تنفيذه بغير أثقال على النفس ولا بتضحية كبيرة. وهذا العلاج وهو ما يسمى بالتعاون).
يقوم التعاون على مبدأ تبادل المنفعة بين الفرد والجماعة. فإذا ما أتحد عدد كبير من أرباب الأسر الذين يعيشون من كسبهم على تأليف جمعية تعاونية على أساس أن يؤدي كل واحد من كسبه اشتراكاً دورياً لصندوق الجمعية، وأن يستثمر جزء كبير من الأموال المتجمعة في أوراق مالية أو عقار على أن يصرف للعضو عند مرضه أو عطله ما يعالج به نفسه ويقوم أوده مدة عطلته من العمل، ويصرف لورثة من يتوفاه الله منهم مال أو معاش يستعينون به على الحياة، وإذا أقعدته الشيخوخة يصرف له مبلغ معلوم من المال أو يخصص له مدى الحياة معاش، أمكن تبادل المساعدة والمنفعة بغير أضرار بالفرد ولا بالجماعة.
ولتثبيت نظرية التعاون في الأذهان نضرب المثل الآتي:
أتفق جماعة من الأفراد عددهم خمسمائة من أعمار مختلفة تتراوح بين الثلاثين والخمسين سنة على تشكيل جمعية تعاونية، على أساس أن تدفع الجمعية خمسمائة جنيه لورثة العضو منهم إذا توفى قبل بلوغه سن الستين أو عند بلوغه هذه السن إذا ظل حياً، مقابل أن يؤدي(43/35)
العضو للجمعية اشتراكاً شهرياً يختلف باختلاف سنة عند التعاقد، وينقطع دفع الاشتراك بالوفاة أو عند بلوغ سن الستين. ولكي يتيسر للجمعية القيام بتعهداتها يجب أن تكون الاشتراكات التي يدفعها الأعضاء مبنية على أساس علمي يراعي فيه احتمال الوفاة واحتمال بلوغ السن المعينة، وعلى هذا الأساس يصح أن تكون الاشتراكات على النحو الآتي:
السن عند التعاقد
الاشتراك الشهري الذي يدفعه العضو بالقروش
30
112
31
116
32
121
33
127
34
133
35
139
36
146
37
153
38
162(43/36)
39
170
40
180
41
191
42
203
43
217
44
232
45
250
46
269
47
292
48
319
49
250
50
287
ويجب أن يكشف طبياً على كل من يريد الالتحاق بالجمعية على ألا يقبل غير الأصحاء(43/37)
لكي لا تتعرض الجمعية لخطر عاجل قبل تكوين أموال كافية لمواجهة الطوارئ، فأن متوسط معدل الوفيات بين فئات السن من 30 إلى 50 هو 60 في المائة، أو بمعنى آخر أن عدد الوفيات التي يحتمل حصولها خلال السنة الأولى بين أفراد الجماعة المذكورة المكونة من خمسمائة عضو هو ثلاثة. فعلى أساس هذا الحساب يمكننا أن نقدر التعويضات التي يحتمل دفعها في السنة الأولى بمبلغ 1500 جنيه، على اعتبار أن المبلغ الذي يدفع لورثة العضو المتوفى هو خمسمائة جنيه.
ويجب أن الجمعية لا تحتفظ في صندوقها أو في البنك الذي تعامله مما تحصله من الأقساط في أول كل شهر إلا بقدر ما يلزم لتغطية المصروفات ومواجهة التعويضات المحتمل دفعها خلال الشهر، بل تقتني به أوراقاً مالية سهلة التداول، فأن المبلغ الذي يحتمل تحصيله في السنة الأولى من الأقساط وفوائد استثمارها، يقرب من 8500 جنيه. وقد خرجنا بهذه النتيجة على أساس حساب الاحتمال، بعد أن استبعدنا طبعاً الأقساط التي حرمت منها الجمعية من المتوفين أثناء المدة التي تجري بين الوفاة وآخر السنة، وكذلك فائدة الاستثمار التي كانت تعود على الجمعية لولا دفع التعويضات والمصاريف الإدارية أثناء السنة. .
أما النفقات الإدارية، فأن جمعية تعاونية مكونة من خمسمائة عضو كالتي ذكرت، لا تحتاج لمسك دفاترها (بطريقة الفيش) والقيام بالأعمال الكتابية إلى أكثر من كاتب واحد يمكن أن يتقاضى مرتباً سنوياً 120 جنيهاً. أضف إلى ذلك قيمة مطبوعات ونفقات نثرية 80 جنيها، فيكون المجموع 200 جنيه بالقياس إلى نفقات جمعية تعاون موظفي البريد التي تضم نحو 4300 عضو مع حفظ الفارق.
أردنا مما تقدم أن نثبت في أيجاز أن دخل الجمعية من أقساط وفوائد استثمار لا يفي بدفع تعويضات الوفيات وتغطية المصروفات فحسب، بل يترك فائضاً. ولا غرو فإن مبلغ الدخل في السنة الأولى هو 8500 جنيه، في حين أن التعويضات هي 1500 جنيه، والمصروفات الإدارية 200 جنيه، فيكون الفائض 6800 جنيه، يحول جزء منها إلى الاحتياطات التي يجب تكوينها لاستخدامها فيما بعد في سداد التعويضات التي تستحق الدفع عند حلول أجل العقود للباقين أحياء، وما بقى من الفائض في نهاية كل سنة بعد تغذية الاحتياطات يصح توزيعه على الأعضاء ويقال له (العائد) إلا أن أكثر الجمعيات لا توزعه(43/38)
على الأعضاء إلا مرة كل خمس سنوات مضافة إليه فوائد استثماره؛ أما في حالة الوفاة فأنها تصرف لورثة المتوفي زيادة على المبلغ المؤمن به، حصته في العائد المتكون لحسابه حتى نهاية السنة السالفة للوفاة.
وكلما تيسر للجمعية استثمار أموالها بفائدة كبيرة، كبرت
حصة العضو في العائد. وإن السوق المصرية لهي من
أخصب الميادين لتوظيف الأموال، ولا جرم فأنه يوجد 52
قرطاساً، أي ما يزيد على ثلث عدد القراطيس المتداولة في
برصتي القاهرة والإسكندرية، تربى غلتها على 21 4 %
على أساس الفوائد والأرباح الموزعة خلال ثلاث السنوات
الأخيرة، وسعر البورصة في نهاية كل سنة، بعد أن أجرينا
عمليات التصحيح التي تلزم في هذا المقام.
إن ما عليه حال العمال وطبقة صغار موظفي الحكومة والبنوك والمصالح الأهلية من قلة المرتب، يجعلهم يقاسون آلاماً مبرحة إذا ما نزلت بهم نازلة من المرض، أو الإصابة بحادث، أو البطالة، أو الشيخوخة، أو الوفاة. وقد يصل بهم العسر إلى عدم توافر نفقات العلاج أو ثمن الدواء أو تكاليف الدفن. فهم يستهدفون لاستشراء الأمراض لقصر ذات اليد. وقد يبلغ الإملاق بأسرهم من بعدهم حد التسول وإراقة ماء الوجه. فلدرء تلك العواقب انتشرت جمعيات التعاون للتأمين على الحياة في الأمم الراقية لتخفف عن أعضاءها وأسرهم ما يخبئ لهم الدهر من الويلات.
فما أحوجنا إلى نشر مثل هذه الجمعيات بين طبقات الموظفين والعمال وصغار التجار والزراع. ومن الميسور أن يضحي كل منا بعشرة قروش شهرياً في سبيل أن يضمن لنفسه ولعائلته الدواء ووسائل العلاج بتأسيس جمعيات تعمل على إبرام الاتفاقات، مع طائفة من ذوي القلوب الرحيمة من الأطباء والصيادلة ومديري المستشفيات لمعالجة الأعضاء بأتعاب(43/39)
معقولة، وتقديم الدواء بأثمان معتدلة، وقبول المرضى بالمستشفيات بأجور مخفضة، تقوم بدفعها الجمعيات من الاشتراكات التي تحصلها من الأعضاء.
كما أنه من الميسور أن يضحي الرجل منا من مرتبه الشهري بقيمة الاشتراك الذي سبق أن أوضحناه بالجدول على سبيل المثال، ليضمن لأولاده ولذويه مالاً أو معاشاً، يقتاتون به إذا ما عاجلته المنية، حتى ولو حصلت بعد أداء القسط الأول، وليضمن لنفسه معاشاً ينعم به في شيخوخته لكي لا يصبح حميلة على غيره، بعد ما كان في شبابه عاملاً مفيداً للمجتمع.
وواجب على الشباب المتعلم أن يبث الدعوة بين طبقات الموظفين والعمال وفقراء التجار والزراع لتشكيل الجمعيات التعاونية.
وأني على استعداد لإبداء النصح والإرشاد عن طيب خاطر لكل هيئة تتألف لتأسيس جمعية للتعاون في التأمين على الحياة، لأني ممن يدينون بمبدأ التعاون، ويعتقدون صلاحية المنشآت التعاونية لإنقاذ الطبقات العاملة الفقيرة من شتى المخاطر التي يستهدفون لها.
وليس بكاف أن يوجد في مصر أربع جمعيات تعاونية للتأمين على الحياة، تعمل كل واحدة منها في دائرة ضيقة، فلا تحتضن إلا عدداً قليلاً من الأعضاء. وأقدمها جمعية تعاون موظفي البريد التي أسسها المرحوم يوسف سابا باشا في سنة 1893، ثم تبعتها جمعيتا تعاون الصيارفة والمساحين. وجمعية تعاون موظفي الصحة التي أسسها حديثاً الدكتور شاهين باشا في فبراير سنة 1934. ولقد أخذت الجمعيات الثلاث الأخيرة نظامها عن جمعية البريد.
وليس هذا مجال نقد أنظمة تلك الجمعيات، وإنما نكتفي بالإشارة إلى إنها لا تقوم على أساس علمي صحيح في تحديد الأقساط وتوزيع المكافآت، بل على طريقة فطرية لا تتمثل فيها العدالة بين جميع الأعضاء وتعرضها لخطر الإفلاس، بالرغم أن موازينها تبدو لغير الفنيين في مظاهر اليسر. فأن خطر الإفلاس لا يمكن أن يدرك مداه في جمعيات التعاون في التأمين غير الفنيين، خصوصاً وأن موازين تلك الجمعيات لا تبين القيمة الحالية لتعهداتها إزاء أعضائها. ونأمل أن تسرع هذه الجمعيات إلى إصلاح نظامها على أساس القواعد العلمية الحديثة قبل فوات الأوان.(43/40)
ولا يزال المجال متسعاً لمن يزيد أن يسجل التاريخ أسمه بين أبطال التعاون في مصر، فأن من يقوم بتأسيس من جمعية تعاونية في التأمين على الحياة، على أساس التعاليم الحديثة، يقدم للإنسانية خدمة جليلة، ويسدي لأمته خيراً كثيراً.
طه عفيفي عضو بعثة التأمين سابقاً(43/41)
2 - بين المعري وداني
بقلم الشيخ محمود النشوي
في رسالة الغفران والكوميدية المقدسة
تحدثنا فيما سبق عن رسالة أبن القارح، وأن أسلوبها أثار في نفس المعري رغبة في الضرب على غرارها، والاتجاه مع تيارها. بيد أن المعري أرانا أفانين من الخيال مما يحدونا أن نقول: إن رسالة أبن القارح وإن تكن أثارت لديه فكرة نقد الشعراء، ومحاورة الرواء والأدباء. . فلا يدور بخلدنا إنها كونت فيه روحاً ليست عنده، أو ألهمته فكرة لم يكن هضمها من قبل. على إنها وإن ذكرته الحوار والنقد فأن ثوب الخيال الذي ألقاه أبو العلاء على رسالة غفرانه يتسامى عن طوق أبن القارح وآلاف مثله. وما كان أبن القارح ليستطيع أن يتخيل تلك الرحلة العجيبة في طبقات الجنان، وبين دركات الجحيم.
ولدينا برهان قوي على أن المعري لم يسلك سبيلاً عبدها له أبن القارح، وأن رسالته ما كانت غير سبب مباشر، نبه من المعري فكرة راسخة. ذلك البرهان هو رسالة الملائكة التي نرى فيها خيال المعري يطوف بالجنة وبالنار يقرع أبوابهما، ويمزح مع الخزنة والحراس والملائكة في محاورة تستهوي اللب، وتضحك أشد الناس عبوساً. إذ يحاور عزرائيل حين يزوره زورة الموت، فيقول له: أمهلني ساعة حتى أخبرك بوزن عزرائيل. ولكن ملك الموت إذا جاء لا يؤخر عمله، فيستل روحه من بين جنبيه، ثم بقذف به إلى القبر فيلقى منكراً ونكيراً. وبدلا من أن يجيب سؤالهما. يبتدرهما هو بالسؤال فيقول: كيف جاء اسماكما عربيين منصرفين وأسماء الملائكة كلها أعجمية مثل إسرافيل وجبرائيل وميكائيل؟
فيقولان هات حجتك. . وكأني بأحدهما يهوي إليه (بالارزبة) فيتملقها قائلاً. قد كان ينبغي لكما أن تعرفا وزن ميكائيل وجبرائيل على اختلاف اللغات إذ كانا أخويكما في الله عز وجل. فلا يزيدهما ذلك إلا غيظا. . ثم يتخيل أنه تلاقى مع (مالك) خازن النيران فيحاوره لا في العذاب ولا في الزبانية. ولكن في أوزان الأسماء وجموعها فيقول له: أخبرني - رحمك الله - ما واحد الزبانية؟
فيعبس مالك لما يسمع ويكفهر. ثم يسائله عن (غسلين) قائلاً أهو مصدر أم واحد أم جمع؟.(43/42)
ويحاوره في (جهنم) سائلاً: هل النون في جهنم زائدة؟ فيجيبه مالك بقوله: ما أجهلك وأقل تمييزك؟ ما جلست هنا للتصريف ولكن جلست لعقاب الكفرة والمشركين والقانطين. ثم يذهب في جماعة من الأدباء إلى رضوان خازن الجنان فيناديه بعضهم قائلاً. (يا رضؤ) بالترخيم. فيقول له ما حاجتكم؟ فيقول بعضهم نسألك أن تكون واسطتنا لدخول الجنة فأنهم لا يستغنون عن مثلنا: فقبيح بالعبد أن ينال هذه النعم وهو إذا سبح الله لحن. . ولعل في الفردوس قوماً لا يدركون أحرف (الكمثرى) أكلها أصلية أم بعضها زوائد فيبتسم رضوان ويقول: أن أهل الجنة اليوم في شغل فاكهون. هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون:
فانصرفوا - رحمكم الله - فقد أكثرتم الكلام فيما لا منفعة فيه، فيطلبون لقاء (الخليل بن أحمد) فيطل عليهم قائلاً: ماذا تريدون؟ فيعرضون عليه مثل ما عرضوا على رضوان فيقول لهم: إن الله جلت قدرته جعل من يسكن الجنة ممن يتكلم بكلام العرب ناطقاً بأفصح اللغات كما نطق بها (يعرب بن قحطان أو معد بن عدنان) فاذهبوا راشدين - إن شاء الله - فينصرف الأدباء وتنتهي رسالة الملائكة. تلك التي نتلمس من أسلوبها وخيالها أن رسالة الغفران أينعت في نفس أبي العلاء فأرسلها تحمل صنعته على الرواة الذين صحفوا أحاديث الشعراء. وعلى الشعراء الذين نجوا من عذاب الله دون عمل يسلك بهم سبيل النجاة (في رأيه).
وأما دانتي فقد علمنا أنه عذب وشرد في الآفاق. . وحكم عليه بالإعدام حرقاً. ثم كان محباً من قبل ذلك لبياتريشي وتفتحت أزهار حياته الأولى على أيدي القديسين والرهبان يغرسون في نفسه بذور التفكير في الجنان والنيران. وعذاب العصاة ونعيم الطائعين. فلما أوشك أن ينطفئ سراج حياته، وأذنت شمسه بالمغيب قبيل وفاته بأسابيع قلائل نظر وراءه فرأى قوماً اضطهدوه وشردوه ورأى حباً مضاعاً لم يستمتع به ثار في نفسه ما يثور في كل نفس عجزت عن نيل الأماني فعمدت للخيال تحقق به ما أضلته في الحقيقة. وتخيل رحلته في الجحيم وفي النعيم يلقى في جهنم من شردوه وعذبوه ويلقى فيها البابا بونيفاشيو الذي كان السبب في تشريده وتشتيت شمله، يراه في الدرك الثامن من جهنم في ثلة من المعذبين أمثاله غرست رؤوسهم وأكتافهم إلى الأسفل في حفر عميقة. وأما بقية أجسامهم(43/43)
فقد ظلت معرضة لوابل النيران التي كانت تنصب عليها جزاء على اتجارهم بالدين. واتخاذهم من أسم الله ذريعة لجلب المنفعة لأشخاصهم، ويرى فيها الكونت جويدو منفيلترو الذي خدعه البابا بونيفاشيو. . ويرى بياتريشي حبيبته في طبقات الجنان مستمتعا عن طريق الخيال بما لم يستطعه لدى الحقيقة. ووصف استقبالها عند باب الجنان وصفا هو أخصب ناحية في أدبه. وسنذكر ذلك الوصف كاملاً غير منقوص حين الحديث عن الموازنة بين الخيالين عند الشاعرين. أفرأيت إذن كيف كانت الحوافز النفسية الخاصة تدفع كلا من الشاعرين أن يتخيل تلك الرحلة العجيبة؟ نعم كل منهما كان في نفسه نزوع لما كتب.
هل سرق دانتي رسالة المعري؟
مسألة طال حولها الحوار والجدل، ولم نر دليلاً مادياً على السرقة أو على البراءة منها. ولكن قوما يردونها. . فقد قال الأستاذ محمد كرد علي إن أعمى المعرة كان معلماً لنابغة إيطاليا في الشعر والخيال. وبعض الباحثين من المستشرقين في أوروبا على أن دانتي في روايته الإلهية قد اقتبسها - ولا سيما الجحيم - من رسالة الغفران للمعري.
وقال جورجي زيدان: إن المعري توفي سنة 449هـ ودانتي توفي سنة 720هـ، وملتن الإنجليزي توفي سنة 1084هـ. فلا بدع إذا قلنا باقتباس هذا الفكر عنه. وأقدمهما (دانتي) لم يظهر إلا بعد احتكاك الإفرنج بالمسلمين والإيطاليان أسبق الإفرنج إلى ذلك.
ذلك هو رأي جورجي زيدان توسع فيه حتى أدخل ملتن أيضاً في الاقتباس من المعري وحجته تأخر الزمن بدانتي وملتن واحتكاك الإفرنج بالمسلمين، فهل ذلك كله ينهض دليلاً على اقتباس الفكرة أو يكفي برهانا على الأخذ؟ المسألة لا تعدو الحدس والظن. وأما لنرى البراهين تنحاز دانتي فتبعده عن الأخذ وعن الاقتباس.
فقد بدأ حياته يتعلم الدين، يكفل ثقافته القديس فرانشكو
ولقد كان عصره عهده قوة سلطان الباباوات والكهنة. ولن يقوم لهؤلاء سلطان إلا بقوة النزعة الدينية. وإبان ذلك تتكاثر صور الجنة والنار واردة في أخيلة الناس وأذهانهم. أليس في نشأته الدينية، وفي عهده المليء بالتعصب الديني ما يكفي في أن ترد الجنة والنار في خياله؟ على أن فكرة الجنة والنار والنعيم والجحيم تدور برؤوس الناس منبلج الصباح(43/44)
وأفول الشمس في كل يوم. فهي حق شائع لجميعهم لا يعده الأدباء أخذاً. ولم أنهم عدوه لكان كل شعرائنا وأدبائنا سراقا. ولكان امرؤ القيس سارقا لأنه بكى الديار كما بكاها أبن حذام من قبله، إذ يقول امرؤ القيس
عوجا على الطلل المحيل لعلنا ... نبكي الديار كما بكى أبن حذام
وإنما الذي يعده الأدباء سرقة هو أخذ الفكرة النادرة التي ينفرد واحد بها. أو الترتيب الذي لا يستطيعه إلا الشواذ والأفذاذ فهل سرق دانتي الترتيب من رسالة الغفران؟ اللهم لا
فحراس الجحيم في خيال المعري ملائكة، وفي خيال دانتي شياطين، وأشخاص الرواية عند المعري شعراء ورواة. وعند دانتي رجال دين وعصاة ومذنبين، والجنة عند دانتي تسعة أقسام لكل قسم طائفة عملوا الخيرات كل على حسب عمله. وعند المعري ثلاثة أقسام (جنة الجن) وجنة (الرجاز) والجنة الأصلية.
وقد بلغ المعري أسمى خياله لدى وصفه الفردوس. كما كان أخصب النواحي خيالا عند دانتي هو وصف الجحيم
وسنعرض لذلك بالموازنة التامة (إن شاء الله)
على أنه إن كان لا بد من أن نتهم الشاعر الطلياني بالاقتباس. فأولى أن نعتقد أخذه من فرجيليو الذي كان دليله في رحلته وهاديه في ظلمات الجحيم. ولفرجيليو هو الآخر رحلة في أعماق الجحيم هي أقرب لخيال دانتي من رسالة الغفران.
ولقد كانت لدانتي أحلام فيها ملائكة وفيها موتى، هي إرهاص ومقدمة لرسالته العتيدة.
فقد رأى في حلم من الأحلام أنه ضل في غابة موحشة فأطلت عليه محبوبته بياتريشي في سحابة من الملائكة وعليها لهب قرمزي كأنه اللهب المتأجج. وخيل إليه أنه يتغلغل في عالم الأموات.
كما تحدث في بعض أشعاره قائلا: ها أنذا جالس في مكاني أذكرها وأذكر أيامها السعيدة فيلوح لي كأن ملائكة من السماء تهبط من عل وتأخذ أماكنها على المقاعد الموجودة حولي.
فإذا ضممنا لذلك كله أن حبه ألهمه خيال الجنة ليستمتع بمن أحب، وأن بغضه لمن حاربوه ونفوه وشردوه يوحي إليه أن يتخيلهم في دركات الجحيم، وأن تلك طبيعة النفس تشره لنيل آمالها ولو عن طريق الخيال. عرفنا براءته من السرقة.(43/45)
يتبع
محمود أحمد النشوي(43/46)
4 - بديع الزمان الهمذاني
للدكتور عبد الوهاب عزام
عاش أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني أربعين عاماً أمضى شطرها نائياً عن بلده وعشيرته في طلب المجد والغنى، فبلغ ما أراد. نبه ذكره واتصل بمعظم الأمراء والوزراء في الشرق: شمس المعالي قابوس بن وشمكير، وخلف بن أحمد، وبني قريفون، وبني ميكال والسلطان محمود، والصاحب بن عباد، والفضل بن أحمد، وأبي نصر من وزراء الدولة الغزنوية. وعرف كثيراً من رؤساء نيسابور، وطوس، وسرخس، ونسا، وبلخ، وهراة. وصار مطمح أصحاب الحاجات يتوسلون به إلى أولى السلطان والجاه، يتبين ذلك في كثير من رسائله. وقد قال في رسالة الشيخ أبي النصر في أمر بعض الفقهاء: (وهؤلاء الصدور، يرون الشمس من قبل أن تدور.) يعني أن الناس يرونه قادراً على تيسير حاجاتهم. وكان له عناية بالأمور العامة يبذل فيها من عقله وجاهه. كتب إلى الوزير الفضل بن أحمد مع وفد من هراة ذهبوا إليه يلتمسون تخفيف الخراج عن أهل مدينتهم، وكتب إلى رئيس هراة في أموال رأى جبايتها حراما، وكتب إلى وزير السلطان محمود في قتل رجل أسمه أبو عثمان: (والله لئن سكن السلطان العظيم وتغافل، وتسامح الشيخ الجليل وتساهل، أن الله بالانتصاف لملى، وأن الله على الانتقام لقوي، والمحنة أدام الله عز الشيخ الجليل في ذهاب ذلك العالم المسلم، دون المحنة في بقاء هذا الظالم المظلم، ولئن ساغ لهذا الفاسق ما فعل ليرخص نجم المسلم، وليراق دم العالم، وليصيرن كل سكين منشور ولاية، ثم ليتسعن الخرق على الراقع، وليس دم المسلم بيسير عند ربه، ولزوال الدنيا على الله أهون من صبه، أليس الله تعالى يقول: من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا: وأنا أعيذ بالله هذه الدولة من أن توصم بتعطيل الحدود، أو توسم بإهدار الدماء، وعسى الله أن يوفق الشيخ الجليل لتدارك هذا الأمر، أن ذلك على الله يسير.
ويقول في الرسالة نفسها: (ورد على خادم الشيخ الجليل كتاب من أقصى خراسان والعراق بحديث تسيار فلان وصاحبه فلان وذكروا معرفتهما بأحوال الثغور، وممارستهما لما يعرض بها من الخطوب، وأن أعين المرابطين والغزاة طامحة إلى نصره، من السلطان العظيم أعز الله نصره وقد بعثوا بهما وفدا وقدرا أنهما يجدانني بالحضرة فأكون لهما لسانا،(43/47)
وتنجزا إلى كتابا ليعلماني، ولو أمكنني النهوض لاحتسبته لهما وإذا لم ينهض قدمي، فقد أستثاب قلمي، والشيخ الجليل يرى عالي رأيه في تفريبهما لنصرة الله والاصغاء المثوبة إن شاء الله تعالى.
وفي هذا ما يبين عن مكانته بين الناس واهتمامه هو بأمورهم.
ونجده أحيانا يكتب للإصلاح بين فريقين متحاربين. وقد مكنته هذه الهمة العظيمة من دفع المفسدين عن نيسابور، وكان إذ ذاك في مستهل صيته ومبدأ نباهته، يقول في رسالته إلى أبيه بعد إن وصف ما كان بخراسان من هرج ومرج: لا ولا شيء إلا السلاح والصياح وكل شيء إلا السكون والصلاح، وأنا إذ ذاك حاضر نيسابور وداري بين القبة الرافضة وكل يوم تهديد، ورعب جديد، فقلت:
ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلا ... به الخطب إلا وهو للقصد مبصر
فلقيت صدور نيسابور وقلت حتام هذا البلاء والعلاج قريب ليأخذ، وهلا نفر من طائفة الغزاة؛ إلى هؤلاء الغواة، وآزارهم أهل الصلاح وأنا من دعا إلى هذا الأمر وأجاب إليه وبذل فيه وأنفق عليه، ففعلوا وما كان سواد ليلة حتى علت كلمة الحق وباد أهل الفساد، إن جرح الجور، قريب الغور، وإن نار الحلفاء سريعة الانطفاء، وأن كيد الشيطان ضعيف، ثم أسمع الآن بهمذان من خراب واضطراب، وبأموالها من ذهاب وانتهاب، وبأسواقها من فساد وكساد، وبأسعارها من غلاء، وبأهلها من جلاء، أفليس فيهم رجل رشيد يجمع كلمة أهل الصلاح؟ عجبا من تعاون المفسدين على أخذ ما ليس لهم، وتخاذل المسلمين عن منع مالهم.
أخلاق الهمذاني
أظهر أخلاق أبي الفضل بديع الزمان، الأنفة والعظمة، ومن أجل ذلك يكثر في رسائله عتاب الأمراء والرؤساء على التفريط في جنبه أو إنزاله دون منزلته. كتب إلى أبي جعفر بن ميكال حين آنس منه التقصير في الحفاوة به: (وأعرفه إني ما أطوي مسافة مزار إلا متجشما، ولا أطأ عتبة دار إلا متبرما، ولست كمن يبسط يده مستجديا، أو ينقل قدمه مستغذيا فإن كان الأمير الرئيس أطال الله بقاءه يسرح طرفه في طامح أو طامع، فليعد للفراسة نظرا.(43/48)
فما الفقر من أرض العشيرة ساقنا ... إليك ولكنا بقرباك تبجح
وكتب إلى الأمير خلف بن أحمد وهو الذي اصطفاه بأحسن مدائحه: (كتابي أطال الله بقاءك وقد كنت نذرت إلا أخاطب حضرته ثم روى لي القاضي حديثاً طرق إلى نقض ما نذرت طريقا وسمعت منشداً ينشد:
لحي الله صعلوكاً مناه وهمه ... من العيش أن يلقى لبوسا ومطمعا
فقلت أنا معنى هذا البيت، لأني قاعد في البيت، آكل طيب الطعام وألبس لين الثياب، ويفاض على نزل، ولا يفوض إلى شغل، ويملأ لي وطب، ولا يدفع بي خطب. وهذا والله عيش العجائز والزمن العاجز. . . . ولعل جرما تصور، أو رأيا تغير، أو اعتقادا أخلف، أو ظنا اختلف. فأن لم يكن شيء مما سردت وأوردت فالغلط في صدر القصة كان، وفي عجزها بان. وإن كان كذا فبالله ما أرضى، ولو صارت السماء أرضا، ولا أريد، ولو انقطع الوريد. وأني لأستحي من الله أن أرى لي المثل الأدنى، وفي القوس منزع أبا، وإن لم أكن بالعراق أمير البصرة، وببخارى زعيم الحضرة، فما أزعجني عن همذان فقر إلى جوع وعرى، ولا ساقني إلى سجستان طمع في شبع ورى، وإنما نحوم حول المراد،
ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال.
لا يكثر الأمير على من خلعه وصلاته. فوالله لو علمت أن قصارى أمدي سجستان أليها، وضياعها أقتنيها، وغلمانها أشتريها، وأموالها اتسع فيها، ولا مطمع في زيادة بعد لآثرت الزهد على الطلب.)
وكتب إلى عامل البريد: ولكنك طفقت لا تهاب سلطان العلم، فأعلمناك أن سلطان العلم لا يهابك. ولو اتصلت بالسماء أسبابك) وكتب إلى الوزير أبي نصر بن بريدة وقد قدم رجلا عليه: قدم اليوم على فلانا ولست أنكر سنه وفضله، ولا أجحد بيته وأصله، ولكن لم تجر العادة بتقدمه لا في الأيام الخالية، ولا في هذه الأيام العالية، وشديد على الإنسان ما لم يعود) إلى أن يقول: (أنا لا ألبس الشيخ الجليل على هذه الخصلة، ولا أحتمله على هذه الفعلة.
فأما أن تكون أخي بحق ... فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني ... عدوا أتقيك وتتقيني
لا أعدم كريما، ولا يعدم نديما. ولي مع هذا الماء حالان لا واسطة بينهما، إن صفوا(43/49)
بأشربه، أو كدرا فلا أقربه، والسلام.
وكان البديع ذا همة عالية، ومروءة عظيمة، يعطف على الناس ويرثى لهم، ويصغي لأصحاب الحاجات، ويشفع فيهم. وقد مر بعض ذلك. ومما يدل على نبالة نفسه وسمو همته ما كتبه حين هنأه بعض الناس بمرض الخوارزمي، وما يظهر في رثائه الخوارزمي من حزن صادق.
ويؤخذ من رسائله أنه كان جوادا: كتب إليه صديق يؤذنه بقدومه إليه ويسأله أن يستأجر له داراً فأبى إلا أن ينزله معه في داره، وكتب إلى صديق له مات أبوه فحذره من أن يقتر على نفسه ويحرم نفسه المتعة بماله كما حذره أن ينفقه في اللهو واللعب. ومن رسالته إلى الأمير أبي الحارث محمد مولى أمير المؤمنين: (وأما الدرهم والدينار فدفعهما ونزعهما من يدي سواء. لا أشكر واهبهما ولا أشكو سالبهما. إن لي في القناعة وقتا وفي الصناعة بختا)
يشهد لهذا ما أرسله إلى أبيه من المال وما أرسله إلى أقاربه وأصدقائه من الهدايا.
وبديع الزمان على حسن معاشرته، وحلوة حديثه، وما ينزع إليه من الفكاهة في كتابه، كان في طبعه الانقباض، والنفرة من الناس والتشاؤم، يظهر هذا حين يصف الزمان أو يرثى الموتى أو يهجو رجال عصره من القضاة والكتاب، وأصحاب الأعمال. وحسبك من رسالته التي أجاب بها شيخه أبن فارس حين كتب إليه يذم الزمان: (نعم أطال الله بقاء الشيخ الأمام، أنه الحما المسنون، وإن ظنت الظنون. وأن الناس ينسبون لآدم. وإن كان العهد قد تقادم، وارتبكت الأضداد، واختلط الميلاد، والشيخ الأمام يقول: فسد الزمان أفلا يقول متى كان صالحاً؟ إلى أن يقول: وما فسد الناس، وإنما أطرد القياس، ولا أظلمت الأيام، وإنما امتد الظلام. وهل يفسد الشيء إلا عن صلاح، ويمسي المرء إلا عن صباح؟)
ويقول في الديوان:
كذاك الناس خداع ... إلى جانب خداع
يعيثون مع الذئب ... ويبكون مع الراعي
ولعل من هذا المزاج المنقبض كانت شدته في الهجاء، وإفحاشه في الذم أحياناً، وميله إلى العرلة، ولذلك كان أحسن شعره ونثره ما كتب في الرثاء أو التعزية أو الوعظ.
ويؤخذ من رسائله أنه كان عزوفاً عن اللهو، يعاف الخمر، ويتجنب المحرمات. وفي(43/50)
رسالته التي كتبها لأبي الطيب سهل بن محمد يقول عن نفسه والخوارزمي: (ونحن في كل حال، على طرفي محال، هو خوارزمي ولست من خوارزم. وهو شاعر ولعن الله النظم؛ وخمري ولا أشرب الخمر، ونائي ولا أسمع الزمر، وعودي ولا أسمع النقر، ونردي ولا ألعب القمر.
ويؤخذ من رسائله كذلك أنه كان متألها يلتزم السنن جهده.
وقد بلغ من الورع أنه كتب وصية يأمر فيها بأتباع السنة في تجهيزه ودفنه، وينهى عن البكاء عليه، وهي مثبتة مع رسائله.
ونجد في رسائله مع هذا أنه يجيز الكذب أن كان في الكذب خير يقول. في رسالة إلى بعض وزراء الغزنوية. (زعم أدام الله تمكينه أني أخلف المواعيد، وأرد العذر البعيد. ومتى ادعيت أن قولي يكتب في المصاحف أو يتلى في المحاريب؟ ومتى تبرأت من الأحاديث. والله أني لأكذب الكذبة أظنها لحسنها صدقا)
وفي رسالة أخرى: (وقد زورت على الشيخ تزويرا آمل أن ينفعه الله به في الدارين، وغدا أعرفه الحديث)
يتبع
عبد الوهاب عزام(43/51)
من طرائف الشعر
البهال
للشاعر الحاج محمد الهراوي
هُم الناس قد ألقوا عليَّ حمولهم ... على علمهم أني أضجُّ بأحمالي
ويبلغُ ظن المرء منهم جهالة ... بأني أنا وحدي له وحدَه خالي
فعِّمي وعماتي، وخالي وخالتي ... وأبناءُ أعمامي، وأبناءُ أخوالي
وآلي، وأصحابي، وآل صحابتي ... ومن ليس من صحبني وليس من آلي
يكلفني قومي ثمانين حاجة ... ولم يحملوا منهنَّ ذرةَ مثقالِ
كأنيَ فيهم، والحوائجُ جمةً ... وقد أثقلوا ظَهري، مطية أثقالِ
لئن سرَّهم مني خلائق عائلِ ... لقد ساءني منهم خلائق بُهَّالِ(43/52)
الهوى والشباب
تعالَى نعْش في ربيع الشبابِ ... خلِيِّينِ من حَزَنٍ والتياحْ
ونُسبغْ على الكون ظِلَّ الرجاء ... فيغدُوَ طلقاً كثير السماحْ
ونُصغِ إلى هاتفٍ في الغصونِ ... طروبِ الغناءْ، شجيِّ النواحْ
ونجني مَلذَّاتِ فجرِ الحياةِ ... فأن الشبابَ سريعُ الرَّواحْ
تولى زمانُ الأسى والرَّنين ... وأشرقَ عَهدُ الهوى والمِراحْ
وزخرفتِ الأرض كَفُّ الربيع ... ولفَّتْ بِبُردِ الجمالِ البطاحْ
ورف على الزهر قَطرُ الندى ... رفيفَ الضُّحى فوق ماء قَراحْ
فهيَّا امرحي وابسمي للحياةِ ... وحيِّي الربيعَِ، نجىَّ المِلاحْ
له الله من عبقري الفتونِ ... صَناع البنان، ظليل الجناحْ
تراءى عليْهِ رداء النعيم ... فيا حُسنه مُجتلى، حيث لاحْ
أطلَّ فأسفرَ بِشرُ الوجوهِ ... وآبت بشاشةُ ثَغرِ الصباحْ
ومَّستْ يداهُ يَبيسَ الحقولِ ... فعاد غزيرَ الجني والنفاحْ
وآوى إلى ظله اللاغبون ... وألقوا هنالكَ عبَء الكِفاحْ
تعالى إلى روضةٍ بَرةٍ ... وظِلِّ ندٍ، وصفاءٍ مُتاحْ
تعالى أبثَّكِ نجوى الفؤادِ ... وأسِمْعِك شِبهَ أنين الرياحْ
تغلغل حبكِ بين الضلوعِ ... وخالطَها مِثلَ ماءٍ وراحْ
فأحيا خيالي حتى استفاض ... وأضحى بعيدَ مَجالِ السراحْ
جماَلكِ أوحى إليَّ القصيدَ ... وما كنتُ قبلَكِ جَمَّ الصُّداحْ
نَعشتِ فؤادي بالذكرياتِ ... وهَدْهدتِه بالمنى فاستراحْ
وعلَّمتِهِ من نشيدِ الحياةِ ... لحوناً تَفيضُ بِروحِ الطِّماحْ
جراحُ الهوى، كالمنى، لذَّةً ... فيا حُبِّ أيقظ دفين الجراحْ
دمشق
حلمي اللحام(43/53)
الجدول الحالم
تدفق كشعري بالحنان، ولا تكن ... شحيحاً، فهذا الزهر نشوان من ضمَّكْ
ووقَّعْ أناشيد الحياة على الحصى ... ودع صادحات الطير نثمل من لثمك
وسر حالماً ما بين عشبٍ منمق ... وبين شجيراتٍ تضاحكن من حُلمِكْ
تدفق، لأنتَ النايُ يُلهِبُ خاطري ... وأنت شبيهي في صداكَ وفي وسمكْ
تدفق، وُثرْ، وأبعث أغانيكُ حرةً ... ولا تخشى مأفوناً يلوم ولا يدري
ألا إنما الألحان تملك منطقي ... ولحنُك أولى أن يُغَني على شعري
ولحنك آلامي، ثَوَتْ مِلَء خافقي ... سنين إلى أن رُعتَها أنت من فكري
ووثبك بين الرمل، وثبي لدى الصبي ... وعهد الصبي أغلى الذي فات من عمري
ألا حبذا كوخٌ لديك ومرتعٌ ... بشطك أقضي فيه أسعدَ أيامي
لقد ضقتُ ذرعاً بالحياة وأهلها ... وشَردتُ في بحبوبة العمر أحلامي
ونفسي تخاف الناس، حتى كأنني ... أعاشر عجماواتِ تسعى لإعدامي
منعت يميني عن تحية فاجرٍ ... مخافة أن تدمى بمخلبه الدامي.!
الجدول الحالم
تدفق كشعري بالحنان، ولا تكن ... شحيحاً، فهذا الزهر نشوان من ضمَّكْ
ووقَّعْ أناشيد الحياة على الحصى ... ودع صادحات الطير نثمل من لثمك
وسر حالماً ما بين عشبٍ منمق ... وبين شجيراتٍ تضاحكن من حُلمِكْ
تدفق، لأنتَ النايُ يُلهِبُ خاطري ... وأنت شبيهي في صداكَ وفي وسمكْ
تدفق، وُثرْ، وأبعث أغانيكُ حرةً ... ولا تخشى مأفوناً يلوم ولا يدري
ألا إنما الألحان تملك منطقي ... ولحنُك أولى أن يُغَني على شعري
ولحنك آلامي، ثَوَتْ مِلَء خافقي ... سنين إلى أن رُعتَها أنت من فكري
ووثبك بين الرمل، وثبي لدى الصبي ... وعهد الصبي أغلى الذي فات من عمري
ألا حبذا كوخٌ لديك ومرتعٌ ... بشطك أقضي فيه أسعدَ أيامي
لقد ضقتُ ذرعاً بالحياة وأهلها ... وشَردتُ في بحبوبة العمر أحلامي
ونفسي تخاف الناس، حتى كأنني ... أعاشر عجماواتِ تسعى لإعدامي
منعت يميني عن تحية فاجرٍ ... مخافة أن تدمى بمخلبه الدامي.!
تدفق؛ وأنشدْ، إنني وحدي الذي ... يعي كلَّ ما تلقيه من وَحي قيثاركْ
وغيري من الأحياء ألهتهمُ الدُنى ... فصُموا جميعاً عن قريضي وأشعاركْ
لئن كنتَ مغموراً، فلحنك خالد ... وكم ذائع الآثار يعنوُ لآثارك
شدونا كلانا يا غديرُ، فلم أصِبْ ... مُصيخاً، ولم تُلف المذيعَ لأسرارك!
عبرتُ إليك اليوم، والضوء ضاحك ... بصفحتك الخجلي، وقد قاض بشره
وقد هبط النسمُ الجريءُ للثمها ... حدوباً، عظيمَ الشوق، يُسكرُ نُشْرُه
وغرَّدَ عصفورٌ على غصن دوحةٍ ... أغاريد عربيد تزايدَ سُكرُهُ
وصفَّقَ قلبي في الضلوع محاولاً ... عناقَكَ، كي يَهمي بمائكِ شعرُهُ
ألآقل عن الذكرى، وحدِّث عن الهوى ... ولو أنَّ في ذاك الحديث شجيِ قلبي
وقُصَّ الذي تدريه عن ملعب الصبي ... وعن حيرة النجوى، وعن لوعةِ الحب
وقُل عن عهود الغيد ما قد وعيته ... لعل بما ترويه تنفى جوى الصَبِّ
وحَدِّثْ عن الأولى حديثاً مُفصلاً ... فأنيَّ منها فزتُ بالأمل العذبِ
تدفق، وقل يا جدولي، هاهو الضحى ... قد أنساب منه النورُ فوقك كالتبر(43/54)
تبسم، فهذا النسمُ هبَ مداعباً ... مياهَك، فياضَ الطلاقة والبشر
وإن كنتَ لا ترضى عن الحسن والهوى ... لأنك تلقى فيهما غاية الشَرِّ
فكن ثائراً، وارفع بألحانك النهى ... إلى عالم سام من الطهر والبِرِّ. . .
أيَا جدولي المجهول، رَدِّدْ خواطري ... ففيها شفاءٍ النفس من بعض أسقامي
ويا رُبَّ لحنٍ عاثرٍ متكاسلٍ ... يُثيرُ نبوغي، أو يُحَفِّزُ إلهامي. .!
لَكَمْ نحت والإعصارُ يعوي مُدَمِّراً ... بشطْيكَ، والأمواه تلطم أقدامي
وقد لاح في جوف الزعازع وأمضٌ ... تألق نوراً من ذُرى الكوكبِ السامي
إلا فْلنُغَنِّ الآن للنجم، عَلَّةُ ... يُضيءُ لنا ليلاً فتمضي المخاوفُ
لقد عشتُ مجهولاً بشطكِ مُهمَلاً ... يُضيءُ لنا ليلاً فتمضي المخاوفُ
نزفتُ دمائي في مياهكَ كُلها ... بربك قل لي ما عسى أنا نازف؟
عسى أن يشق النجمُ أسدافَ ليلنا ... فتنقذنا الدنيا، ويُجْدِي التعارفُ!
مختار الوكيل(43/55)
من الأدب الفرنسي
والحب. . .؟
لأناتول فرانس
قرأت فيما قرأت كتيباً ألمانياً عنوانه (على هامش سفر الحياة) للأستاذ جرهار دامنتور، فيه عرض قوي صادق لمعيشة النساء اليومية المضنية، وقد ترى معي أن الحزن باد على هذا الجانب المظلم من الجنس اللطيف: (في سبيل مطالب الأسرة وحاجات الزوج والأولاد تفقد ربة البيت سناء جمالها، وتذهب غضارة وجهها، وتستهلك قوة بدنها، وتنخر مخ عظامها. فهذا السؤال الخالد المعاد (ماذا عسى أن نطبخ اليوم من طعام، ونهيئ من أدام) وذلك الاضطرار الملح إلى مسح البلاط، وتنظيف الغرف، ونفض الثياب، وغسل الأواني إنما، هما قطرة من ماء تتساقط دائمة دائبة، لا تفتأ تعمل في بطئ على انحلال جسد المرأة وعقلها حتى لا تبقى منها شيئاً، ولا تذر لها أثرا، وأمام الموقد المشبوب، في المطبخ المشؤوم يستحيل هذا المخلوق الصغير، الناصع الوردي، ذو الضحكة الساحقة البلورية إلى مومياء هزيلة سوداء تبعث في الرائي الكآبة والألم!! وبين يدي ذلك الوجاق الأدخن الأسخم، يطبخ عليه اللحم في القدر تناثرت ضحايا كريمة: (الشباب، الحرية، الجمال، اللذة).
هذه عبارات جرهار دامنتور، وهذا حظ الكثرة الغامرة في الدنيا من بنات حواء. فأن الحياة عسيرة ملتوية عليهن كما هي عسيرة ملتوية على الرجال، كل يئن من وعوثة الطريق ويرفع عقيرته بالشكوى والصراخ! ولو راح باحث يستعلم وجه العلة في ذلك لأيقن أن ليس في الإمكان أن يكون غير ما كان، وأن الحياة لا بد أن تكون مضنية لأن جميع مقوماتها ضئيلة تندر فوق كوكب صعب إنتاجه واستثماره؛ ولن يرجى تخفيف عبء الشقاء لأن أسباباً عميقة متغلغلة مصدرها شكل الأرض، وطبيعة تركيبها، ونوع نباتها وحيوانها تحتم وا أسفاه دوام هذا الحال، وتقتضي عسر المعاش إلى يوم القيامة. ومهما يكن من أمر توزيع العمل في الناس فأن جمهرة الرجال وعامة النساء لتنوء كواهلهم بحمل أعبائه، ولن ترى غير امرأتين أو ثلاث قد خلصن من متاعب البيت ثم تسللن إلى مواطن اللهو وخرجن إلى باحة الحياة ينشرن الظرف والجمال، على مواطن العطر الندى واللذة(43/56)
المتجددة، ويدخلن إلى النفوس الأماني والأحلام!! وإنما اللوم كله لا شك عائد على الطبيعة وحدها والحب، ما عسى أن يكون مصيره؟
لا نريد أن نعرف مصيره المنحدّر إليه ما دام الجوع عدوه اللدود وخصمه العنيد. ومن الواقع الذي لا يتطاول إليه الريب أن النساء جائعات أبداً، قد وكل إليهن أمر الطبخ في القرن العشرين كما وكل إليهن أمره في القرن التاسع عشر، اللهم إذا لم يرجع عهد هاتيك العصور النائية حين كان الصيادون يلتهمون فرائسهم ساخنة نيئة، وحين كانت فينوس - آلهة الحب والجمال - تجمع العشاق جميعاً وسط الإحراج ثم تفيض عليهم من وحيها ما شاءت لها العاطفة المشبوهة أن تفيض! يومئذ، ويومئذ فقط، كانت المرأة حرة طليقة قد تنصلت من تكاليف الحياة وخرجت على حدود الأسر والانكماش.
وهاأنذا أعترف إليكم بما يدور في خلدي، فاستمعوا لما أقول: لو كنت أنا خالق الجنسين من ذكر وأنثى لأبدعتهما على نحو يباين ما نعهده الآن فيهما من فقاريات لبون. كنت لا أخلق الرجل والمرأة على غرار القردة، وإنما أنشئهما على صورة الحشرات التي تكد وتعمل إذ تكون ديدانا، صغيرة ثم تنقلب إلى فراش جميل طائر يحيا حياة التشرد والهيام، لا شاغل له غير أن يحب وأن يحب! وكنت أضع طور الطفولة والشباب في آخر مراحل الوجود البشري. والواقع أن نوعاً معلوماً من الحشرات أثناء نموه وتطوره تبيد منه المعدة وتقوي الأجنحة، فهو إنما جاء إلى الدنيا بهذا الشكل المهذب ليتمتع منها ساعة أو ساعتين ثم يموت!
أجل! لو كنت إلهاً (أو أُليها (بالتصغير) لأن فلسفة الإسكندرية تعزو صنع هذا الكون إلى آله صغير أو شيطان مبدع) لو كنت أُليها لما اتخذت غير هذه الحشرات نمطاً أنسج على منواله الإنسان، وكنت أجعل المرء يتم جميع أموره المعيشية الغذائية وهو جنين، وفي هذا الطور الابتدائي لا أثر للغريزة الجنسية البتة ولا جوعيغشى الحب أو يلتهم معالمه، ثم أدفع الحياة إلى حيث يطير الرجل والمرأة على أجنحة رفافة، يتنقلان فوق الزهور، ويتذوقان ما يشتهيان ثم يموتان في معانقة وتقبيل. . . وهكذا أكون قد أكسبت الحياة الفانية جزاء وفاقا، ووضعت الحب تاجا على رؤوس الأحياء من بني آدم. ولعلك توافقني على أن ذلك خير وأبقى!!(43/57)
بيد أنني وا حسرتاه لم أخلق الكون، والإله المبدع لم يشاورني في الأمر، وأنا أشك فيما بيني وبين نفسي أن يكون قد استشار أحدا من الفلاسفة، ورجالات العلم والمعرفة.
حمص
محمد روحي فيصل(43/58)
تذكار الشاعرة الكونتس دي نواي 1876 - 1933
للأستاذ خليل هنداوي
خلاصة مقال نشرته مجلة في تموز الغابر للأديب (موريس را)
دي نواي والطبيعة
يقول (جابريول) إن الشاعرة الفتاة - صديقة الحدائق - قد تأثرت كثيرا بالشاعر الكبير (جامس) وقد وضح هذا التأثر في ديوانها (القلب الذي لا يمكن تعديده) فهناك تشابه قريب بين الروحين وبين الفنين. فمقطوعات الشاعر (جامس) (الآس البري الأزرق) و (شجرات الجوز ذات الأزهار البيضاء) و (طيب الغصون المبتورة قبل الشتاء، وهو ينتشر كالمحزون في أجواء الغابة) قد ألهمت (دي نواي) كثيرا. وهب أن (جامس) لم يكن مترنماً بهذه المقاطع، فهل كان باستطاعة (دي نواي) أن تستنزل ذلك الإلهام، وأن تخترق بروحها ما اخترقت من تلك الآفاق الواسعة. قد يكون الجواب لا، ولا ريب! ولكن مالنا ننكر على (دي نواي) براعتها وخصائصها، فهبها إنها كانت حميلة على (جامس) في كي ما أنتجت وأخصبت، فأن للشاعرة وراء هذا كله مجداً وبراعة خاصة. لقد أغارت على طائفة من معاني (جامس) إغارة روحية لا أدبية، ونظمت ما تلجلج فيه (جامس) نظماً رقيق الحواشي، لطيف التعبير، زاخراً بالعاطفة، جرت فيه على الأسلوب العاطفي، أسلوب (هوجو ولامرتين). أما هوجو فقد كان كثير الرؤى والأحلام و (بودلير) كان يعبث بالطيوب عبثا، أما (الكونتس) فقد فتحت قلبها للصباح وودت أن تلمسه وتذوقه بحاستي اللمس والذوق، كما تقول:
(أفتح فمي للهواء الذي ترطبه الانداء)
وفي موطن آخر تراها لا تشبعها الطيوب ولا الألوان ولا الألحان، تتذوقها وتظل جائعة نهمة، فتعلن أنها تود أن تلمس العالم والطبيعة بيدها، فنقول بلهجة صادقة:
(أريد أن ألمس عذوبة هذا الفضاء، هذه العذوبة الندية الزرقاء حيث العصافير السكارى تثب وتنفذ في مساربه كما تشاء)
فهي تريد أن تتذوق وأن تتروح وأن تلتمس وأن تلتهم جمال الصباح، هي تستطيع أن تقول مع (سانت انطوان) بنأليه الكون. (أريد أن يكون لي أجنحة، وأن أدخل في كل(43/59)
شيء، وأن أكون في كل شيء. أنتشر كالطيوب، وأنمو كالنبات، وأجري كالماء، وأرن كالألحان، وأسطع كالنور وأوتى جميع الأشكال، وأنفذ في كل شيء وهيئة، وأغور في أعماق المادة، وأكون بعد هذا كله - المادة. . .)
ودت الشاعرة أن تكون المادة بذاتها، فدنت منها وامتزجت مع الأشياء وقالت (سيكون جميلا وحقا إيماني. . . بأن قلبي المتوقد هو كهذه الكمثرى التي ينضج جلدها رويداً تحت أشعة الشمس). وتمنت أن تكون أحد الكائنات في الغاب، فقالت والجشع غالب عليها:
(من أين جئت؟ إن الوجود لم يحل العقدة التي تجمعني بهذا المرأى.
أنا بنفسي، أفق، وجدول، وكوكب، وغابة).
على أن رغبتها قد تثور فتأبى أن تماثل جسدها الهالك بكل أشياء هذا الوجود، ويهيج نهمها الذي لا يشبع فتخاطب الزمن قائلة:
(وأنا مثل الزمن. أنا قبل مصر العتيقة. وقبل اليونان. كنت في عهد الماء)
على أن مثل هذا الهذيان الخيالي قد يدعو إلى الابتسام، وإذا كانت الشاعرة - في واديها الذي هامت فيه - لم تخلص نفسها من تأثير أترابها الشعراء فيها، ولم تجد لمسراتها التي تفننت بها ألحانا جديدة قوية، فأنها قد جارتهم وبزتهم في كثير من مقاطعها، وابتدعت لنفسها أفقا جديدا، وإذا أدرك الشعراء الطبيعة وفهموا معانيها ورأوا ألوانها، وتنشقوا أريجها، فهي قد تروحت هذا الأرج وأصغت إلى ألحان الطبيعة التمتامة، ولمست أشياءها وأكلتها وشربتها.
أليس هذا نهمها الشعري يبدو في ثنايا سطورها؟
وهكذا أجدني أستطيع أن أطرح بيدي للا نهاية فإذا كل شيء دان من فمي، لا يمتنع عنه شيء)
وإذا ما هبت النسائم العاطرة تروحت شذا خمور (آسيا)
(وهذه الريح المهيمنة. . .
المزودة بالسماء والفضاء، والمناظر الواسعة
هي شبيهة بهذه الخمور القادم شذاها من (آسيا)
وإذا ما جنحت الشمس للغروب وكان الأفق هادئا جميلا، خيل لها أن الطبيعة نفسها قد(43/60)
استحالت كلبة جميلة أمينة مستوية على حضنها).
(وكنت أحس أن هذا المساء الأنيس
يهرع إلى من كل صوب ومن كل طريق لينام بين يدي)
فيالها من ساحرة نهمة لا تشبع، ويالها من غادة مجوسية - كما دعاها مارسيل بروست - هذه الغادة النهمة التي لا تقنع بإرسال طرفها في الكون، ولا بالإصغاء إلى أصواته، ولا بتروح شذاه، فهي تعمل على أن تلمس وأن تلتهم الوجود إلتهامة الشره. ولهذه الرغبة الملتهبة والصور القوية المكتنزة يعود سر استعمالها للألفاظ (اللحمية) في شعرها، ودي نواي الشاعرة هي التي كتبت (لأندريه جيد) عن الأطعمة الترابية - بكل ما في معنى الكلمة حتى أنزلت الطبيعة والحياة عندها منزلة (راحة الحلقوم) (إن الهواء الحار يحمل إلى أريكة تتهافت عليها روحي وفجاجة هذا المرج الأخضر هي في عيني مائدة فاخرة)
لكن إغراقها كثيرا في التشابيه والمجازات قد يضل القارئ عن أغراض المقطوعة وعن قصد الشاعرة.
قد تكون وجهتها في شعرها وجهة (جامس) في شعره، فأن (جامس) قد تغنى بجبال (البيرية) التي حنت على طفولته وشدا بجمالها الساحر بألحان صادقة سامية رائعة، و (دي نواي) قد تغنت بحدائق (فالوا) الفينانة، وبدت شرقيتها في كل ما نظمت هذه الشرقية المغمضة، فكانت تتروح عطور المشرق وتجد ألوان جزائر (الأرخبيل) وتذكر الأرض وقد حالت عند المغيب شعلة ملتهبة، هذه المناظر وهذه الأكوان قد آثرتها على كل شيء ووصفتها وحبتها بالألوان والشذا وبكل تلك الخاطرات السامية التي تموج في قلبها.
قال أحد نقادها بعد وفاتها (إن دي نواي قد أحبت التراب القدسي الذي يولد منه كل شيء، وإليه كل شيء يعود، هذا المعبد الذي تتعاقب عليه الفصول الأربعة تعاقبا متشابها. أحبت في الأرض تلك المرضع التي يفيض قلبها رأفة وحنانا، والتي تسمو عن الإنسان القاسي على الضعفاء)
وإذا تأمل قارئ (دي نواي) في شعرها يدرك أن هذا رأي خاطئ، لأن الشاعرة لم تقدس الأعمال ولا الأيام. لكنها كانت كإحدى كاهنات (أدونيس) أو (باخوس) تحمل في صدرها ملذات حساسة متيقظة. وهي لا تتخذ الطبيعة موضوعا لها، بل تتخذ موضوعها نفسها،(43/61)
وإذا ما خرجت عن نفسها لتتحد مع النجوم الساهرة، أو لتمتزج مع الأطياف التي تخلقها بخيالها، فإنما تريد من وراء هذا كله أن تنمي وجودها، وتستخلص من الوجود مسراتها النادرة.
وهي القائلة عن نفسها: (قد أكون غير مجدية، ولكن فراغي لا يملؤه أحد)
(يتبع)
خليل هنداوي(43/62)
العلوم
ويسألونك عن الأهلة
للدكتور أحمد زكي
- 2 -
ملعوب القمر
نظر الإنسان من قديم إلى القمر، فوجد بعض سطحه نيِّرا كثير النور، وبعضه قاتما قليل القتومة، فتخيل عنه الأخيلة.
وجاء التلسكوب فنظر إليه منه فزاد تفصيل ما كان يراه أجمالا، فرأى مناطق الأنوار قد اتسعت، ومناطق الظلال قد امتدت، وتداخل النور في الظل، وتداخل الظل في النور، وتمثلت في ذهنه صورة الكرة الأرضية ببحارها الواسعة وقارَّاتها المديدة، وعرف البحر يدخل في الأرض، وعرف الأرض تدخل في البحر؛ وعلم أن الأرض تكون بها الجبال العالية الرواسي فتظهر في الشمس للرائي البعيد واضحة وضاءة، وتكون بها الوديان المنخفضة المستورة فتظهر في الشمس للرائي البعيد قاتمة معتمة، فطبق الإنسان علمه الأرضي على ما أرتاه في القمر من ظلال وأنوار، ورسم الرسامون خرائط لوجه القمر كثيرة دقيقة، فأما المناطق التي برزت بنصاعتها فأعطوها أسماء فلاسفة معروفين، أو فلكين مشهورين، لأنهم خالوها جبالا شواهق خالة فتخلد أسماءهم، وأما المناطق التي امتازت بحلوكتها فحسبوها بحار أو محيطات فأسموها البحر الحبيس والمحيط العاصف.
وغير ذلك من أسماء تسلس في السمع وتجوز في الإفهام وزاد الإتقان في صناعة التلسكوبات فاحتد بها بصر الإنسان ودقة ملاحظاته، واستخدم التصوير الشمسي في التقاط ما يرى من صور، فعلم من أمر القمر ما لم يكن يعلم، ومع ذلك احتفظ علم الفلك بالأسماء الرنانة التي وضعت قديما أعلاما على مناطق القمر.
ويظهر إن الإنسان عز عليه فقدان هذا الحلم العزيز، فلما قام صوت يجدده ويحييه منذ مائة عام وجد له آذانا تصغي وقلوبا تؤمن. ذلك إن العالم الفلكي المعروف الدكتور جون هرشل ذهب في بعثة إلى جنوب أفريقيا لدراسة النجوم في وسط السماء الجنوبي كما درسها في(43/63)
نصفها الشمالي، ولما وصلها أنطلق قلم بعض الكتاب يصف ما وجدت البعثة من العجائب وما كشفته في القمر من غرائب، وذلك على صفحات جريدة بالولايات المتحدة ذات مكانة رفيعة وحرمة معروفة أسمها (شمس نيويورك) ذكر الكاتب كيف اهتدى الدكتور (هرشل) بعد مناقشة علمية طويلة بينه وبين العالم الفيزيائي السير دافيد إلى صنع تلسكوب جديد يستخدم فيه الضوء الصناعي في توضيح الصورة البؤرية للمرئيات، وأفاض في تفصيل تلك المناقشة وذكر فيها كثيرا من نظريات الضوء وقواعده ومعقداته، وقدَّر العالمان نفقه هذا المخترع الجديد فكانت سبعين ألفا من الجنيهات، فبعثا إلى صاحب الجلالة الملك وليم الرابع بجملة الأمر، وكان جلالته يهتم بالبحار أكثر من اهتمامه بالأقمار، فسأل هل يفيد هذا المنظار الجديد الملاحة؟ فكان الجواب نعم، فأمضى لهما حوالة بيضاء يرقمان فيها المال الذي يريدان. وصنع المنظار وجاء دور الرؤية فكانت رؤيا. نظر (هرشل) إلى القمر لأول مرة فماذا رأى؟ (أخذ أول الأمر يتفقد أراضي القمر وآفاقه أحمالا فرأى من ذلك عجبا؛ رأى بلورات لامعة تشع منها ألوان مختلفة جميلة كالتي تشع من الجواهر والأحجار الكريمة، إلا إنها ذات جرم هائل، فهي أشبه شيء بأعمدة (الاستالا كتيت) البديعة التي تتدلى من سقوف الغيران. ورأى رواسب الذهب تغمر السفوح والقيعان) ثم دار بمنطاده فوقع على غابة قمرية (بها أشجار عظيمة اختلفت أجناسها ولمعت أوراقها وتلونت أزهارها، وطالت بعض فروعها العالية وتدلّت حتى نالت الأرض. ونمت هذه الغابة إلى جانب بحر ذي ضياء سحري كأنما سكنته الحور. . .) وأخيرا وقع على حيوانات القمر فرأى (قطيعا من ذوات الأربع سمراء اللون أشبه شيء بثيران البيسون، يتميز بغشاء من اللحم نما كالمظلة على العينين وامتد حتى اتصل بالأذنين، هو لا شك وقاية من صنع الطبيعة أرادت بها حفظ أبصارها من ضوء يشتد على هذا الجانب من القمر حتى يبهر العين ويؤذيها. واتضح بعد نظرات عديدة أخرى أن حيوانات القمر كلها تشترك في حمل هذا الحجاب الساتر) ثم دار (هرشل) بمنظاره هنا وهنا، وبعد لأي (رأى جماعة من الطير تهبط إلى جانب غابة صغيرة، ولما مست أرجلها الأرض اختفت أجنحتها واستقام عودها ومشت مشية الإنسان) وذات يوم استيقظت البعثة على صوت هاتف يهتف: النار النار. فهرعوا إلى ناحية الصوت فوجدوا أنهم كانوا في الليل غفلوا عن أن يوجهوا(43/64)
المنظار غير وجهة المشرق، فلما طلعت الشمس أصابت عدساته فتركزت على ما وراءها فأحرقته وأحرقت المرصد بما فيه، وأدهى من ذلك وأنكى إنها أساحت زجاج المنظار نفسه وأتلفت مراياه فخيم على المعسكر يأس شديد)
هذه كلها بالطبع قصة من خلق كاتبها، أطالها ومدد فيها واستعار لها لغة العلم، وقواعد العلم، ونقاش العلم، فسبكها وحبكها وأطلعها على الناس من فوق منبر معروف، فجرت الشائعة فيهم بالتصديق. ولم تلبث أن جرت فيهم بعد حين شائعة أخرى بالتكذيب. وأسماها التاريخ (ملعوب القمر
وكلن لهذا الملعوب معان كثيرة، وكان له عبر كثيرة، وكانت له مغاز كثيرة، أقلها أن الناس أسرع ما يكونون إلى تصديق الخيال الكاذب الملون منهم إلى الإيمان بالحقيقة العاطلة القاسية.
أما الحقيقة، فليست أدرى أهي عاطلة أم قاسية، فهي أن القمر بلقع أجرد، لا ماء فيه ولا نبات ولا حياة.
يتبع
أحمد زكي(43/65)
القصص
السهم الأعظم
أوسكار وايلد
ترجمة الأستاذ بشير الشريقي
كانت الحفلات في كل مكان لأن أبن الملك على أهبة الزواج، لقد انتظر عروسه، وهي أميرة روسية، عاما كاملا؛ وأخيرا جاءته مجتازة إليه المسافة الطويلة من (فنلاند) على زحافة يجرها ستة دببة، تشبه في شكلها إوزة كبيرة من الذهب، وبين أجنحة هذه الإوزة اضطجعت الأميرة الصغيرة ملتفعة ببرنس من الفرو يصل إلى قدميها، وعلى رأسها قبعة من الدمقس الفضي، وكانت في صفرة وجنتيها تشبه قصر الثلج الذي عاشت فيه، حتى أن الشعب كان كلما رآها تجتاز في عربتها شوارع المدينة يهتف معجبا: (إنها كالوردة البيضاء) ويرمي عليها الأزهار من الشرفات.
وعند باب القصر وقف الأمير ينتظر عروسه، تزين وجهه عينان عسليتان حالمتان، وشعر كالذهب المصقول، حتى إذا رآها جثا على ركبته وقبل يدها متمتماً (كم كانت صورتك جميلة، ولكنك أجمل بكثير من صورتك) فاحمرت وجنتا الأميرة الصغيرة حياء. .
قال وصيف إلى رفيقه - كانت من قبل كالوردة البيضاء - ولكنها الآن (كالوردة الحمراء) وعم القصر السرور.
مضت ثلاثة أيام على مجيء الأميرة، وكل شخص في المملكة كان يردد خلالها (الوردة البيضاء، الوردة الحمراء، الوردة البيضاء). كما إن الملك قد أمر بمضاعفة رواتب الوصفاء والوصيفات. ولما كان الوصيف لا يأخذ راتباً لم يثر ذلك اهتمامه إلا من ناحية أن أمر الملك الذي نشر في جريدة القصر، كان بذاته شرفاً عظيما له.
وكان اجتماعا حافلا هذا الذي سار فيه العروسان ويد كل منهما في يد الآخر، تحت مظلة من القطيفة الأرجوانية الموشاة باللآلئ.
ثم كانت وليمة الدولة التي دامت خمس ساعات، وقد جلس فيها الأمير والأميرة في صدر القاعة الكبيرة، وشربا في كأس من البلور الصافي لا يشرب فيها إلا المحبون المخلصون،(43/66)
لأن شفاء الغدر لا تمسه حتى يأخذها القتام والتلبد.
قال الوصيف الصغير: - من الواضح أنهما متحابان، ذلك واضح وضوح البلور، فضاعف له الملك راتبه للمرة الثانية.
صاح رجال البلاط - ياله من شرف عظيم!
وبعد الوليمة كان الرقص، وكان على الأمير والأميرة أن يرقصا معا (رقصة الوردة) ووعد الملك أن يعزف بالناي، ولكنه لم يحسن العزف أبدا، ولم يجرؤ أحد أن يخبره بذلك، لأنه الملك لم يكن عارفا إلا بنغمتين اثنتين، وقد ظل حائرا أيهما يختار، مع أن الأمر أهون من ذلك إذ ما من شخص إلا كان على استعداد لأن يصيح مهما كان عزف الملك - هذا هو السحر. هذا هو السحر!
وكان آخر ما في البرنامج استعراض الأسهم النارية عند منتصف الليل. ولم تكن الأميرة الصغيرة قد شاهدت انطلاق هذه الأسهم من قبل. لذلك أمر الملك صاحب الأسهم النارية الملكي أن يكون على استعداد ليلة الزفاف.
سألت العروس الأمير - ماذا تشبه الأسهم النارية؟
قال الملك وكان يحب دائماً على الأسئلة الموجهة إلى غيره - إنها تشبه شفق الصباح، ولكنها أكثر بساطة؛ أنا شخصيا أفضلها على النجوم، إنها مبهجة بقدر ما يبهج عزفي على الناي؛ من المؤكد أنك سوف ترينها.
وهكذا انصبت منصة كبيرة عند نهاية حديقة الملك، وحالما وضع صاحب الأسهم النارية الملكي كل شيء في مكانه الخاص أخذت الأسهم النارية تكلم بعضها بعضا.
صاح صاروخ صغير - حقا أن العالم جميل، وأني لمغتبط لأني قد تنقلت. أن الترحال يروح القلب، ويريض العقل، ويمحو ما كمن في النفس من تعصب.
قالت شمعة رومانية كبيرة - أن حديقة الملك ليست العالم أيها الصاروخ الغبي. . العالم مكان واسع جدا، ولتشاهده تماما تحتاج إلى ثلاثة أيام بطولها.
هتف دولاب كثير التفكير قد ثبت إلى صندوق قديم - أي مكان تحبه فهو العالم عندك - ولكن الحب لم يعد رائجا في هذه الأيام، لقد قتله الشعراء الذين تكلموا عنه كثيرا حتى لم يعد يصدقهم أحد. . المحب المخلص يتألم في صمت. . وأني لأذكر أيام ألـ. . ولكن ليس(43/67)
من الضروري الآن. . الحب شيء جميل عرفه القدماء. .
قالت الشمعة الرومانية - كلام هراء! الحب لا يموت أبدا، إنه كالقمر، وسيعيش إلى الأبد. أضرب لك مثلا: العروسان، أنهما متحابان كل الحب، لقد علمت هذا الصباح كل شيء عنهما من ورقة سمراء حدث أن كانت في نفس الدرج الذي كنت فيه: وهي تعرف آخر أخبار البلاط.
ولكن الدولاب القديم هز رأسه وتمتم - مات الحب، مات الحب، مات الحب؛؛. لقد كان من هؤلاء الذين يظنون أنك إذا أعدت الشيء الواحد مرارا عديدة يصبح في النتيجة حقيقية.
وفجأة سمع سعال خشن رنان، فالتفت الجميع ليعرفوا مصدره فإذا به آت من سهم طويل له منظر المتشامخ قد ربط إلى نهاية عصا طويلة، وكان من عادته أن يسعل قبل أن يبدي أية ملحوظة، وذلك ليسترعي الأسماع.
قال - أهيم أهيم وأصغى الجميع إلى الدولاب المسكين الذي ظل يهز رأسه - متمتما (مات الحب). صاحت مفرقعة - النظام. . النظام.) لقد كانت سياسية من بعض النواحي وكان لها دائما عمل معلوم في الانتخابات المحلية، لذلك عرفت كيف تستعمل التعابير البرلمانية الخاصة.
قال الدولاب في خفوت - مات الحب ثم أخذه النوم.
ولما عم الصمت، وانتشرت السكينة، سعل السهم للمرة الثالثة وأنشأ يتكلم، لقد تكلم بصوت هادئ جداً وواضح جداً كما لو كان يملي أفكاره إملاء. وكان ينظر دائما إلى أعلى أكتاف الشخص الذي يخاطبه؛ وفي الواقع كان أسلوبه رائعا. .
قال - من حسن حظ أبن الملك أنه سيتزوج في نفس اليوم الذي سأنطلق فيه! حقيقة رُب صدفة خير من ميعاد؛ ولكن الأمراء موفقون دائما.
قال الصاروخ الصغير - يا عزيزي أظن الأمر على العكس تماما، فأننا سوف ننطلق على شرف الأمير.
أجاب - قد يكون ذلك صحيحا بالنسبة إليك. بل أني لا أشك فيه، ولكن الأمر معي يختلف جداً. . أنني سهم عريق في المجد. . وقد تحدرت من أبوين نبيلين، كانت أمي أعظم (عجلة) في عصرها، وكانت مشهورة برقصها البديع، وقد عاشت معللة بأحسن البارود،(43/68)
وكان والدي شبيها بي، ومن أصل فرنسي، إذا أنطلق ارتفع جداً حتى كان الناس يخشون أن لا يعود إليهم. . ولكنه كان يعود، وكثيراً ما كتبت الصحف عن أعماله بعبارات الإطراء والإعجاب. وفي الحق أن جريدة البلاط قد لقبته ببطل (الأسلم النارية). قال الضوء البنغالي - تريد أن تقول (الأسهم النارية. . الأسهم النارية. .!)
أجاب السهم بلهجة خشنة - حسن، لقد قلت الأسهم النارية، ثم استمر في حديثه. . لقد كنت أقول. . لقد كنت أقول. . ماذا كنت أقول!؟
أجابت الشمعة الرومانية - كنت تتحدث عن نفسك
- طبعاً أنا أعلم بأني كنت أبحث في موضوعات طلية حينما قوطعت بكل وقاحة. . أنا أمقت الوقاحة والرديء من الصفات، لأنني حساس بأوسع معاني هذه الكلمة. . ما أظن أن في العالم من هو أقوى شعوراً مني. . أنني متأكد تماماً من ذلك.
قالت المفرقعة للشمعة الرومانية - من هو الشخص الحساس!؟
أجابت الشمعة الرومانية في همس لا يكاد يسمع - هو الذي يطأ دائما أصابع أقدام الآخرين.
فانفجرت المفرقعة عن هدير من الضحك.
السهم محنقاً - أرجوك، علام تضحكين! أنا لست أضحك أجابت المفرقعة - أنني أضحك لأنني مسرورة.
قال السهم غضبان - أنه لعذر أقبح من ذنب. يدل على أنانيتك المفرطة، قولي ما الذي يجيز لك أن تكوني مسرورة. . يجب أن تفكري في الغير، بمعنى أنك يجب أن تفكري في: أنني أفكر دائما في نفسي، وأني لأتوقع من كل شخص أن يفعل فعلي، ذلك ما يسمونه (الأثرة) وأنها لنعم الفضيلة، لنفترض على سبيل المثال، أنه قد حدث لي مكروه الليلة فكيف يكون حال كل واحد؟
الأمير والأميرة لن يسرا بعد ذلك، وستنقلب حياتهما الزوجية رأساً على عقب، وكذلك الملك فأن اضطرابه سيكون عظيما أيضاً. حقيقة أني لا أكاد أبداً في تصوير خطر مركزي حتى تغلبني الدموع
فصاحت الشمعة الرومانية - أرى الأفضل لك إذا كنت تحب الخير للغير أن تبقى جافاً.(43/69)
وهتف الضوء البنغالي - بالتأكيد، هذا ما يقضى به الشعور العادي. .
قال السهم في استهزاء - الشعور العادي. . حقاً لقد نسيتم بأني غير عادي، وأني عظيم جداً. . لماذا. كل شخص يمكن أن يكون ذا شعور عادي ولكن يكون محروم الخيال، أما أنا فخيالي لأني لا أنظر إلى الأشياء كما هي أبداً. . أني أفكر فيها من ناحية بعيدة عن الحقيقة. حقاً لا يوجد بينكم من يحمل قلباً. . أنكم تضحكون وتلهون كأن الأمير والأميرة لم يقترنا الساعة.
هتف منطاد ناري صغير - حسن حقاً. . ولماذا لا نضحك ولا نلهو. . إنها خير فرصة نغتنمها للسرور، لقد صممت أن أخبر النجوم عن ليلتنا، حين احلق في الهواء. . وسوف تراها تتلألأ حين أحدثها عن العروس الجميلة. .
قال السهم - آه ياله من رأي سخيف. . ولكن هذا ما كنت انتظره. . لا شيء فيك، أنك منتفخ فارغ. . لماذا. . قد يذهب الأمير والأميرة ليعيشا في بلاد يجري فيها نهر كبير. . وقد ينجبان ولداً وحيدا ذا شعر جميل وعينين عسليتين كعيني الأمير، وقد يخرج في أحد الأيام يسير مع وصيفته، وقد تذهب الوصيفة لتنام تحت الشجرة الكبيرة الضخمة، وقد يسقط الولد الصغير في النهر العميق ويغرق، أن من المصائب الهائلة، أيها الناس المساكين أن يفقد الأمير والأميرة ولدهما الوحيد.
قالت الشمعة الرومانية - ولكنهما لم يفقدا ولدهما الوحيد ولم يحدث لهما مكروه.
أجاب السهم - أنا لم أقل أنه قد حدث ذلك لهما، بل قلت أنه قد يحدث لو أنهما فقدا حقيقة لما كان من ضرورة للبحث في الموضوع، أنني أكره الذين يبكون على الحليب المراق، ولكن حين أفكر أنهما قد يفقدان ولدهما الوحيد أشعر بألم عظيم.
صاح الضوء البنغالي - حقيقة تشعر بألم عظيم بمعنى أنك أرق شخص عرفته في حياتي.
قال السهم - إنك أغلظ شخص عرفته في حياتي. وإنك لا تستطيع أن تفهم صداقتي للأمير.
فزمجرت الشمعة الرومانية قائلة - ماذا؟ أنت لا تعرفه معرفة مجردة
أجاب السهم - أنا لم أقل أبداً بأنني أعرفه. . وأني أعلن بكل جرأة بأني إذا عرفته سوف لا أكون صديقا؛ إنه لأمر جد خطير أن يعرف المرء صديقه؛(43/70)
قال المنطاد الناري - حقاً أن من الأفضل لك أن تظل جافاً، هذا هو الأمر المهم.
أجاب السهم - مهم جداً بالنسبة إليك - أنا لا أشك في ذلك، أما أنا فسأبكي حين أشاء؛ وبالفعل تفجرت منه دموع حقيقة، جرت على عصاه كنقط المطر. فأغرقت خنفستين صغيرتين في اللحظة التي كانتا فيها تفكران في بناء بيت لهما وتفتشان عن بقعة جيدة جافة تعيشان فيها. قال الدولاب - يجب أن يكون ذا طبيعة خيالية حقيقية لأنه يبكي من دون أن يكون هنالك موجب للبكاء أصلا. . ثم صعد زفرة عميقة:
عندئذ طلع القمر أشبه شيء بدرع فضي عجيب؛ وأخذت النجوم تتلألأ؛ وأصوات الموسيقى تتعالى من القصر.
كان الأمير والأميرة يرأسان الرقص؛ ولقد بلغ من جمال رقصهما أن السوسن الأبيض الطويل أطل من النافذة يتفرج، والخشخاش الأحمر العظيم مد رأسه يمتع ناظريه ويتسلى.
ثم دقت الساعة العاشرة فالحادية عشرة، فالثانية عشرة، وعند منتصف الليل خرج كل شخص إلى الشرفة الواسعة ثم أرسل الملك في طلب صاحب الأسهم النارية الملكي.
قال الملك له - أطلق أسهمك النارية.
فانحنى الرجل إلى الأرض وسار إلى نهاية الحديقة وبرفقته ستة معاونين قد حمل كل منهم مشعلا مضيئا معلقا في رأس عمود طويل.
لقد كان استعراضا، بديعا موفقا فقد نجحت كل الأسهم إلا السهم الأعظم فقد كان مبتلا بالبكاء لدرجة أنه لم يتمكن من الانطلاق أبدا؛ كان خير ما فيه البارود، وهذا تشبع بالدموع حتى أصبح بلا فائدة.
قال السهم - يغلب على ظني أنهم احتفظوا بي لأمر خطير وبدا أكثر تعجرفا من قبل.
جاء العمال في اليوم الثاني ليعيدوا كل شيء إلى مكانه.
قال السهم - هؤلاء على ما يظهر - هم الوفد، وأني سأقابلهم بما يجب من العنجهية، وهكذا وضع أنفه في الهواء وقطب حاجبيه كأنما يفكر في أمور خطيرة؛ ولكنهم لم ينتبهوا إليه إلا في اللحظة التي هموا فيها بمغادرة المكان؛ عندئذ رآه أحدهم فصاح ياله من سهم رديء ورمى به إلى الخندق من أعلى الحائط.
قال وهو يتقلب في الهواء - سهم رديء سهم رديء! مستحيل. . سهم عظيم. هذا ما(43/71)
قاله الرجل. . رديء وعظيم لهما وقع واحد في الأذن، وحقيقة أنهما - في الغالب - شيء واحد وسقط في الرجل. . فأبدى هذه الملحوظة:
أنه ليس بالمكان المريح. . ولكن مما لا شك فيه أنه مكان على (المودة!) وأنهم قد أرسلوني إلى هنا لاستعيد قواي؛ حقيقة أن أعصابي محطمة، وأنني في حاجة إلى الراحة.
حينئذٍ سبحت إليه ضفدعة صغيرة ذات عينين لامعتين وظهر أخضر أرقش.
قال الضفدعة - أرى قادما جديداً. . حسناً، بعد كل شيء لا يوجد مثل الوحل. . . أعطني جواً ممطرا وخندقاً فأكون جد سعيدة، هل تظن أن السماء ستمطر بعد الظهر؟ إني آمل ذلك، ولكن السماء زرقاء صافية.
قال السهم - أهيم أهيم وأخذ يسعل، فصاحت الضفدعة - إن لك صوتاً جميلاً. . أنه أشبه شيء بالنقنقة؛ والنقيق طبعاً أرق موسيقى في العالم، سوف تسمع أغاني نادينا هذا المساء، أننا نقيم في بركة البط القديمة بالقرب من بيت الفلاح، ولا يكاد يطلع القمر حتى نبدأ غناءنا، أنه يؤثر في النفس لدرجة أن كل شخص يتمدد في الفراش يقظا ليصغي ألينا، بالأمس فقط سمعت زوجة الفلاح تقول لأمها: أنه لم يغمض لها جفن طوال الليل بسببنا. أنه لما يبهج النفس أن يجد المرء نفسه مشهوراً بهذا المقدار.
قال السهم مغضباً: - أهيم! أهيم! ولم يزد. لقد بلغ به السخط مبلغا عقد لسانه.
الضفدعة مستمرة - حقاً أنه لصوت جميل. . آمل أنك ستأتي إلى بركة البط. . أنا ذاهبة أفتش عن أخواتي. . إن لي ست أخوات جميلات، وأني لأخشى أن يصادفهن (الكركي)، أنه وحش كاسر وسوف لا يتردد في أن يتغذى بهن. . وداعا. . أنني جد مسرورة من محادثتنا، وأظنك كذلك.
قال السهم - محادثة. . حقا. . لقد احتكرت الحديث كل الوقت، أن ذلك ليس بمحادثة.
أجابت الضفدعة - واحد يجب أن يصغي. . وأنا أحب أن أستقل بالحديث. . أن في ذلك اقتصاداً في الوقت وحيلولة دون الجدل.
قال السهم - ولكني أحب الجدل.
قالت الضفدعة بأدب - ما أظن ذلك. . الجدل دليل الوحشية، لأن كل أعضاء الهيئة الاجتماعية الراقية يحملون أفكاراً واحدة. وداعا للمرة الثانية. . أني أرى أخواتي من بعيد،(43/72)
وسبحت الضفدعة الصغيرة مبتعدة.
قال السهم - أنت جد مزعجة: وجد جاهلة، أني أمقت الذين يتحدثون عن أنفسهم - كما تفعلين - حين يود أحدهم أن يتحدث عن أحد الأشخاص - كما أفعل أنا - وهذا ما أسميه أنانية؛ والأنانية أمر لا يطاق: خصوصا على من كان في مزاجي، لأنني معروف بحسن العطف على الغير؛ كان عليك أن تعتبري بي؛ أنك لن تجدي أنموذجا أفضل مني؛ والآن وقد حصل لك شرف التعرف إلى، يجد بك أن تغتنمي الفرصة لأنني عائد إلى البلاط حالا؛ أنني محبوب جدا في البلاط؛ وقد اقترن الأمير والأميرة على شرفي؛ أنت طبعاً لا تفقهين شيئا من هذه الأمور لأنك قروية.
قال يعسوب كان جالسا على ورقة كبيرة سمراء من ورق البردي: لا فائدة من مخاطبتها؛ لا فائدة أبداً. . لأنها قد ذهبت. . أجاب السهم - حسنا، إن في ذهابها خسارة لها لا لي: أنا لا أقف عن محادثتها لمجرد إنها غير مصغية إليَّ. . أني أحب أن أسمع نفسي أتكلم دائماً. وهذا من أبهج المسرات عندي، كثيرا ما تراني أحدث نفسي أحاديث طويلة دون أن أفقه كلمة واحدة مما أقوله. وهذا دليل الذكاء المفرط. .!
قال اليعسوب - أذن تكون محاضرا في الفلسفة في مثل هذه الحال، ونشر جناحيه الجميلين الرقيقين وحلق في السماء.
قال السهم - إنها لسخافة منه إلا يمكث هنا؛ أنا أعتقد إنها فرصة ثمينة له قل أن يقع على مثلها؛ تفيده إضاءة في عقله؛ وعلى كل فهذا لا يهمني، من المؤكد أنه لا بد وأن يعرف الناس يوما ما قدر العبقري الذي يكون مثلي. وغاض قليلا في الوحل. .
وبعد قليل جاءت تتهادى إليه بطة كبيرة بيضاء، ذات سيقان صفراء، وأقدام غشائية.
قالت - كواك. كواك. كواك! أن لك شكلا غريبا. هل لي أن أسألك هل ولدت على هذا الشكل أو هو شكل طارئ؟
فأجاب السهم - من الواضح أنك أنفقت عمرك في الريف، وإلا لعرفت من أنا، وعلى كل فأنا أغفر لك جهلك، من الظلم أن تطلب من الغير أن يكون مثلك عظيما.
أنا لا أشك في أنك ستدهشين حين تعلمين بأني أستطيع أن أطير إلى السماء وأن أهبط الأرض في مظهر الغيث الذهبي.(43/73)
قالت البطة - أنا لا أهتم كثيرا بهذا؛ لأنني لا أجد فيه أدنى فائدة لأحد الآن؛ إذا كنت تستطيع أن تحرث الحقل كالثور؛ أو تجر عربة كالجواد؛ أو تحرس الأغنام كالكلب الإسكتلندي: هذا يمكن أن يكون شيئا!
فصاح السهم في غطرسة وتعجرف - أرى أنك تنتمين إلى طبقة وضيعة، شخص في مركزي لا يفيد أبدا: لنا أعمال معلومة، وهذا فوق الكفاية، أنا شخصيا لا أميل إلى نوع من الصناعات، خصوصا هذه التي نوهت لي بها، ساعة من ساعات تفكيري هي بالصناعات كلها.
قالت البطة - وهي بطبيعتها مسالمة، ولم تتورط في مجادلة أحد - حسناً. حسناً. لكل رأيه. أكبر ظني أنك ستقيم هنا، في هذا الخندق.
صاح السهم - أوه، كلا يا عزيزتي. لست أكثر من زائر، زائر ممتاز. حقاً لقد أضجرني هذا المكان حيث لا جمعية راقية ولا واحدة آمنة، على الأرجح أني سأعود إلى البلاط. .
قالت البطة - أني أفكر في دخول الحياة العامة يوماً ما. . وعليًّ الآن أن أذهب إلى البيت واعتني بعائلتي.
قال السهم - لقد خلقت للحياة العامة، وكذلك جميع أقربائي، نثير الاهتمام حيثما وجدنا! وعلى ذكر الحياة العائلية أقول إنها تهرم الإنسان بسرعة وقبل الأوان، وتصرف العقل من الأفكار السامية.
قالت البطة - آه. . الأفكار السامية: ما أنفسها، إنها تذكرني بما أشعر به من جوع، وسبحت إلى أسفل الغدير وهي تقول: كواك. . كواك. . كواك
زعق السهم - أرجعي. أرجعي. عندي أشياء كثيرة أريد أن أقولها لك ولكن البطة لم تصغ أليه: قال لنفسه: أنا مسرور لأنها ذهبت، لا ريب إنها صغيرة العقل جداً. ثم غاص في الوحل قليلاً أيضاً، وفي الوقت الذي أبتدأ يفكر فيه بوحدة العبقري ظهر فجأة ولدان صغيران يركضان نحو الشاطئ في قمصان بيض يحملان قدراً أو أعواداً.
قال السهم - هؤلاء يجب أن يكونوا الوفد. وعمل على أن يظهر بمظهر العظيم.
صاح أحد الولدين - تعال. أنظر إلى هذا العود العتيق أني لاستغرب ما لذي جاء به إلى هنا وأخرج السهم من الخندق(43/74)
قال السهم - عود عتيق، مستحيل؟! عود من ذهب عود من ذهب، هذا أحسن أنواع المديح. .
قال الولد الآخر - دعنا نضعه في النار، أنه سيساعد على غليان القدر.
وهكذا كدسا الأعواد بعضها على بعض، ووضعا السهم في الذروة، وأشعلا النار.
صاح السهم - هذا بديع! إنهم يودون إطلاقي في وضح النهار لكي يراني كل إنسان.
قال الولدان - أنا نذهب لننام الآن، وحين نستيقظ تكون القدر قد غلت؛ واضطجعا على الحشيش وأغمضا عيونهما.
كان السهم مشبعاً بالماء، لذلك احتاج احتراقه إلى وقت طويل؛ وعلى كل حال فقد بلغته النار أخيراً.
صاح - الآن سأنطلق. . يقينا أني سأعلو على النجوم، سأعلو على القمر، سأعلو على الشمس، بمعنى أني سأعلو. . .
- ويز، ويز، ويز، وحلق في الهواء. . .
صاح: هذا مبهج! سأظل في هذا الصعود إلى الأبد؛ ياله من نجاح عظيم! ولكن لم يره أحد.
ثم أخذ يحس بشعور غريب يستولي عليه فصاح: الآن سأنفجر، وسأحرق الأخضر واليابس، وسأترك دويا يظل حديث الناس أعواما طوالا، وفعلاً أنفجر! بم! بم! بم؛ لقد خرج البارود، ولا شك في ذلك؛ ولكن لم يسمعه أحد، حتى ولا الوالدان الصغيران، لأنهما كانا يغطان في نومهما. وهكذا لم يبق منه إلا العصا، وهذه سقطت على ظهر إوزة خرجت تتنزه إلى جانب الخندق. عندئذٍ صاحت الإوزة - يا إلهي أن السماء تمطر عصيا؛ واندفعت نحو الماء.
لهث السهم - لقد علمت من قبل أنني خالق شعوراً عظيما!
شرق الأردن
بشير الشريقيالمحامي(43/75)
الكتب
حاضر العالم الإسلامي
تأليف لوتروب ستودارد الأمريكي
ترجمة الأستاذ حجاج نويهض وتعليق الأمير شكيب أرسلان
لنا في كل يوم مثل جديد ينهض دليلا قاطعا على أن النهضة الفكرية الحديثة جادة لا هازلة، قوية لا تعرف الخور، ثابتة الأصول لا يخشى على بنائها من الزلل والسقوط، فهي نهضة تستمد الوحي من ماضيها الناصع المجيد، ثم لا تقف عند ذلك راثية باكية، إنما هي تتخذ من ذلك الماضي عدة. وعماداً لمستقبل تنظر إليه بعين يملأها الأمل، وقلب يحدوه الرجاء. وأن نهضة لا تقيم صرحها فوق هام ذلك العماد الركين، لهي هباء يسبح في الهواء، لا يتصل بالأرض ولا يرتفع إلى السماء. لأنها عندئذٍ تكون هائمة في عزلة زمنية، لا تعرف لشوطها مبدأ ولا نهاية، كما يخبط ذو السبيل الجائر في بيداء موحشة مقفرة، يرى الموت جاثماً في أحضان كثبانها أنى سار.
وإنا نضرب لك مثلاً أوروبا حين قامت تنفض عن نفسها غبار القرون الوسطى ونهضت تشيد حياة جديدة زاهرة، فلم تنشئ جديداً من عدم، ولا هي أولت القديم ظهرها مزدرية له ناقمة عليه، بل نظرت إلى الوراء قبل أن تبدأ السير إلى الأمام، واستلهمت التاريخ - تاريخ الإغريق والرومان - لتستقي من معينة الدافق ماء الحياة التي تريد.
من أجل هذا، يحق لنا أن ننظر إلى نهضتنا نظرة فيها ثقة ورجاء، لأننا نلاحظ فيما نلاحظ اتجاهاً إلى تاريخ العرب والإسلام، يزداد سعة وشمولاً في اطراد لا ينقطع، وأقل ما يقال في هذا الاتجاه، أنه يشحذ الهمم الخامدة، ويهدي نهضتنا سبيلاً سواء.
فبين يدي الآن مجلدات أربعة، كتبت في حاضر العالم الإسلامي، ألفها الكاتب الأمريكي لوتروب ستودارد ثم نقلها إلى العربية الأستاذ حجاج نويهض وفيها فصول وتعليقات وحواش مستفيضة عن دقائق أحوال الأمم الإسلامية وتطورها الحديث بقلم الأستاذ الكبير والمجاهد العظيم الأمير شكيب أرسلان، وقد يظن القارئ - وله عذره في هذا الظن - أن الكتاب المترجم هو الأصل، وأن ما كتبه الأمير شكيب حواش متناثرة هنا وهناك، ولكن(43/76)
الواقع نقيض ذلك، فالفصول المترجمة لا تتجاوز خمس المقدار، وأربعة الأخماس الباقية هي حواش للأمير، وأنه ليخيل إلي أن كتاب لوتروب أتخذ تكأة لنشر هذه الفصول الكثيرة القيمة التي دبجتها يراعة الأمير شكيب أرسلان في شئون المسلمين والإسلام.
فأما الفصول المنقولة إلى العربية التي استأثرت بعنوان الكتاب فهي تسع كلها بحث دقيق في حالة الشعوب الإسلامية في العصور الحديثة، فهو يحدثك في تحليل ممتع عن اليقظة الإسلامية، والجامعة الإسلامية وسيطرة الغرب على الشرق، والتطور السياسي، والعصبية الجنسية والتطورين، الاقتصادي والاجتماعي، ثم يختم فصوله يبحث فيما يسود تلك الشعوب من قلق يدفعها إلى الثورة والانقلاب.
أما حواشي الأمير فليس إلى حصرها من سبيل، وكلها شيق ممتع ولكنها - عندي - قد خرجت بالكتاب عن وحدته وتجانسه، بل خرجت بالكتاب عما يجب أن تكون عليه الكتب من تركيز في موضوع بعينه، وأدنته من دوائر المعارف التي من شأنها أن تجمع بين دفاتها شتيتاً من ضروب العلم والمعرفة، وهو يعترف بذلك في المقدمة إذ يقول عن هذا الكتاب أنه لم يصل بعد إلى الدرجة المنشودة من السعة والشمول، وانه يرجو أن تتسع يوماً ما حتى (يصح أن يقال أن في اللغة العربية إنسيكلوبيديا إسلامية أشبه بموسوعات العلوم التي عند كل أمة من الأمم الراقية التي يقتدي بها) ثم يستطرد فيحفز همة الحكومات لوضع تلك (الإنسيكلوبيديا فيقول (وهذا الأمر وهو وضع معلمة إسلامية وافية ضافية لا يجوز أن يغيب عن نظر الحكومات الإسلامية التي تبغي الفلاح، وتنشد الرقي والطيران إلى النجاح بجناح. . .)
ومهما يكن من أمر هذه الفوضى في التأليف لا نطمئن إليها ولا نرضاها، فهو كتاب جليل القيمة كبير النفع، ويجدر بنا أن نقتبس لتقديمه إلى القراء عبارة الأمير التي صدر بها الكتاب (أما كتابنا هذا في أجزائه الأربعة فأنه يجوز أن يقال إنه معلمة إسلامية صغيرة، بل هو في المباحث الجغرافية والتاريخية والإحصائية عن أقطار الإسلام النائية وبقاعة المجهولة فذ في بابه، وكذلك يمتاز هذا الكتاب بالمباحث السياسية التي قيض لمحررها أن يعلمها. من عين صافية، وأن يقف على الرواية الوثقى منها بطول خبرته، وقرب سنده، واستمرار مزاولته لهذه الأمور 47سنة، وفيه بعد تراجم وأخبار، لم يسجلها كتاب ولا جرى(43/77)
بها قلم، فلا يجدها الناشد في غيره إذ هي نتيجة مشاهدات الكاتب وما رآه بالعين وما سمعه بالأذن، وما كان له فيه أخذ ورد. وعلى كل حال ففي هذا الكتاب من الطريف ما لا يسع إنكاره الجاحد، ولا يضير مراء الحاسد. ولا شك في أن الأمة الإسلامية الناهضة إلى تجديد تاريخها، النازعة إلى النماء بجميع فروعها وشماريخها، ستتفطن إلى كل ما يعوزها من هذه المقاصد الجليلة، ومن جملتها تأليف المعلمة الكبرى التي هي من ضرورات رقيها وأشراط نموها).
زكي نجيب محمود
قلب جزيرة العرب
تأليف الأستاذ فؤاد حمزة
لسنا نشك في أن الشرق العربي يجتاز اليوم عصرا ذهبيا زاهرا لا يكاد يدنو من غباره كل ما سلف من عصور، وكأني بالحياة قد دبت في أعضائه المتزايلة، فأخذت تنهض وتسعى إلى النشاط والحركة، بعد رقدة طال أمدها، حتى حسبناها ضجعة الموت والفناء، وهاهو ذا ينهض ويستقيم على قدمين راسختين، يشاطر أوروبا في الحركة الفكرية ويبادلها إلى حد ما إنتاجا بإنتاج. وما زالت تزداد حركة التأليف في كل يوم قوة وسعة وانتشارا بعد أن كنا إلى عهد قريب لا نصادف في المكتبة العربية ما يشبع للباحث حاجة أو يسد له رمقا - كائنا ما كان موضوع البحث - وكنا نقابل ذلك العقم والأجداب بالأسى والأسف، فليس يسيرا على النفس الفنية الأبية أن تظل متكئة على عكازة الغرب في كل ما تطرق من بحوث، حتى ما يمس منها حياتنا في اللب والصميم.
وأنا نسوق اليوم لهذه النهضة التأليفية مثلا جديدا هذا الكتاب الجديد: قلب جزيرة العرب الذي دبجته يراعة قديرة ونسقه فكر قدير.
ولقد كان أول ما اختلج في نفسي من خواطر، حينما تناولت يدي هذا الكتاب، دهشة عميقة، فيها كثير من السخرية بالماضي، وفيها كثير من الأمل في المستقبل، فقد تساءلت: أفهذا أول كتاب حديث يكتب عن جزيرة العرب وهي تلك الديار التي تنزل منزلا ساميا من العقول والقلوب جميعا، والتي تضطرب لها كل نفس بأدق المشاعر وأجمل الذكريات؟!(43/78)
عجيب لعمري أن يظل هذا النقص دون أن ينهض من الكتاب من يسد ثغرته، وإذن فقد ملأ هذا الكتاب الذي نحن بصدده فراغا شاسعا وأكمل نقصا معيبا شعر به المؤلف الفاضل الأستاذ فؤاد حمزة، وشعرنا به جميعا، فقد حمله على وضع كتابه هذا شعوره (بنقص خزانتنا العربية وافتقارها إلى مؤلف جامع لأحدث المعلومات الجغرافية والطبيعية والاجتماعية عن البلاد العربية، وحاجة الجمهور إلى مرجع حديث، سهل التناول، يجمع ما تفرق من المعلومات العامة في الكتب العربية القديمة، وكتب المستشرقين والرواد الأوروبيين مما لا وجود له في اللغة العربية. والحقيقة أن جميع الذين يعنون بالشئون العربية ويتبعون تاريخ التطورات الحديثة والنهضات الوطنية في بلاد العرب، يشعرون بهذه الحاجة، ويدركون الصعوبات الجمة في التنقيب في بطون الكتب العديدة، عن معلومات مبعثرة هنا وهنالك في طيات الصحف القديمة أو ثنايا التفاصيل المملة التي يسردها الرواد في سياق رحلاتهم)
قرأت هذا السفر الجليل، فألفيته صورة قوية رائعة للبلاد التي كتب من أجلها، وهو يقوم على أثاث متين من الأسلوب العلمي الصحيح، يبدأ البحث بالبيئة الجغرافية فيتناول أطرافها جميعاً بالدراسة والتحليل، ويصف لك في أطناب سطح البلاد العربية ومناخها، في أسلوب لا يصدمك فيه جفاف الحقائق العلمية، بل يخيل إليك وأنت تتلو هذه الصفحات أنك تستمع لرجل يحدثك حديثاً عذباً عن بلاد جاس خلالها وارتحل بين أرجائها، وأن كنا نأخذ على المؤلف في هذا القسم الجغرافي بعض الهنات الهينات، التي ما كنا لنذكرها لولا رغبتنا الصادقة في أن يبلغ هذا المؤلف حد الكمال، ومن أمثلة ذلك أنه يعلل جفاف الإقليم بانخفاض السطح (وعدم وجود الجبال العالية التي تمسك الأبخرة وتحتفظ بها لتتبرد وتنهمل مطراً إلا في الجهات الغربية منها) والواقع أن جفاف شبه الجزيرة يرجع إلى وقوعها في مهب الرياح التجارية التي تفد من الشمال الشرقي جافة لا تنزل المطر. هذا وقد جعل المؤلف عنوان الفصل السابع من هذا القسم (الحرارة والمناخ) كأن الحرارة ليست جزءاً من المناخ! وقد جاء في صفحة 60 هذه العبارة (رياح المونسون) وقد كان أجدى أن تذكر بما عرفت به في الكتب العربية وهو الرياح الموسمية.
ثم ينتقل بك إلى القسم الثاني من الكتاب وهو تصوير دقيق لحياة السكان في تلك البلاد،(43/79)
فيقص عليك دقائق المعيشة اليومية: ماذا يأكل القوم وماذا يشربون ويلبسون، وكيف يتزين النساء منهم والرجال. كيف يقيمون المآتم والأفراح، كيف يتعهدون أطفالهم بالتربية في الحواضر ويطلقونهم إطلاقاً في البادية، وفي أي المنازل يسكنون؟ هذا فضلاً عن تصويره للغة العربية في حالتها الراهنة، ويقدم لك نموذجاً مما ينطق به أدباء اليوم من شعر ونثر، إلى آخر تلك الحقائق التي أكسبت البحث شيئاً من الحياة النابضة.
فإذا ما انتقلت إلى القسم الثالث وجدت نبتاً مفيداً في القبائل العربية وأنسابها، ولعله أشد فصول الكتاب جفافاً على غير سكان الجزيرة من القراء. أما القسم الرابع فهو عرض قوي موجز لتاريخ البلاد منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا، وهو أطول الفصول وأكثرها فائدة ولذة.
هذه الثروة الزاخرة يحويها كتاب (قلب جزيرة العرب) وفوق هذا فهو متقن الطبع، جيد الورق، جميل التنسيق.
ز. ن. م(43/80)
العدد 44 - بتاريخ: 07 - 05 - 1934(/)
يوم الجمعة
كان أمس الأحد، ومن قبله كان السبت، ومن قبلها كان الجمعة! ثلاثة أيام تتعاقب في مدار الأسبوع تعاقب الجياد في مضمار السبق! يحمل كل منها في رأسه علم دولته، وعلى صدره عنوان ملته، ويشرق على قومه في المسجد أو في الكنيس أو في الكنيسة إشراق الحب في الفؤاد الغرير، أو الإيمان في النفس الرضية، فيؤلف ما نفر من القلوب بالمودة، ويعود بما شرد من النفوس إلى الجماعة، ثم يكون في البيت مصدر انس وبهجة، وفي المدينة مظهر استقلال وعزة. ولقد كان فيما سلف من مؤاتاة الدهر شأن يومنا في الأيام، كشأن قومنا في الأقوام: صدارة يكنفها جلال مُلك، وأمارة يسندها سلطان دين، وعيد يأتلق جماله في كل مكان وفي كل نفس، وفترة تحدد للناس مواقيت العيش ومراحل الزمن، وكان له في أدب الدين قواعد مقررة، كالاغتسال، والطيب، واتخاذ الزينة، وشهود الجماعة، ومودة القربى، وصلة المساكين، وترفيه البدن بالراحة، وتطهير النفس بالعبادة، وإعلان مجد الله بإعزاز دينه، وسلطان الشعب بإعلاء أمره؛ لم يكن السبت والأحد يومئذ إلا شعاعا لضوئه واتساعا لمداه!
ثم غيرنا فغير الله، فإذا بالتابع يأخذ المهلة على المتبوع وإذا يوم الجمعة يصبح طرفاً في ذيل الأسبوع، فلا تخشع له أسواق العالم كيوم السبت، ولا تسكن له حركة الدنيا كيوم الأحد، ولا يبقى له من الرعاية عند أهله، إلا إغلاق دور الحكومة في وجهه!
استعرض هذه الأيام الثلاثة بالاعتبار والموازنة، تجد كلا منها صادق الدلالة على حال أهله، فيومنا يجيء كما ترى خافض الجناح، خافت الصوت، حائل اللون، مخضود الشوكة، مغموط الحق، لا يدخل في حساب الناس، ولا يقدم ولا يؤخر في حياة المجتمع!
فمظهره الديني تضاءل حتى صار صلاة الجمعة عادية لا يقيمها إلا القرويون الطارئون على المدينة، والحضريون الفارغون من العمل!
ومظهره المدني انحصر كما قلنا في عطلة الحكومة. ومن المؤونة المعجزة ان تطلب العطلة وما يتبعها عند غير الحكومة، فان جمهور الشعب أما تاجر يتبع في نظامه البنوك الأوربية، وأما عامل يخضع في عمله لرؤوس الأموال الاجنبية، فلم يبق إلا الموظفون الرسميون، وهم وحدهم الذين يستطيعون بما تهيأ لهم من اليسر والفراغ إجلال هذا المظهر، وإعلان هذه الشعيرة، فتعال ننظر كيف ينقضي هذا العيد في بيت الموظف في(44/1)
البيت الذي الهمني هذا المقال أسرة مسلمة عميدها موظف كبير، وأسرة يهودية كاسبها تاجر صغير، وأسرة مسيحية عائلها مستخدم متوسط.
ففي يوم السبت ينبعث في المسكن اليهودي تاريخ إسرائيل بأساطيره وتقاليده وعقائده، فالتوراة تتلى، والصلوات تقضى، والذكريات تستيقظ، والمجارى الروحية تتحدر من الأجداد إلى الأحفاد فتوثق الروابط، وتجدد القوى، وتهون العظائم، ثم تخرج الأسرة بأسرها، في زينتها وبشرها، فتتناول عشاءها في مطعم سأمر، وتقضي أمسيتها في ملهى ساهر وفي يوم الأحد يحول المسكن المسيحي إلى عرس أنيق مترف: فالأسرة تعود من القداس في ألوان الزهر وافواف الوشى، والغرف تضحك من طلاقة النفوس واتساق الأثاث، والمائدة المزهرة تحفل بأفانين الشراب السائغ والطعام الهنئ، والبيان الفخم تحت الأنامل الطفلة يقطر بالنغم العذب واللحن البهيج، والفنغراف يدور بأناشيد الرقص فيسمى البهو بالزائرين والزائرات أشبه بأعشاش الربيع كلها مناغاة وهديل وهزج! وفي يوم الجمعة يصبح المسكن المسلم عابسا كالكهف، ساكتا كالمقبرة!
فالبك قضى ليله سهران، فهو نائم نومة الضحى! فلا تسمع حسا ولا حركة، إلا صوتا شديد الخفوت، يستعين بالإشارة على ان يهمس الحين بعد الحين:
- هس سس س! خفض من صوتك! خفف من مشيك! لا تلعب بهذا! لا تعبث بذاك! أبوك نائم!
والبك يأخذ حمامه الأسبوعي الحار فيشغل الحمام ساعتين! فتمضي الظهيرة والفتاة لا تستحم، والعجوز لا تتوضأ!
والبك مدعو إلى العشاء، عند بعض الأصدقاء، فالمطبخ بارد هادئ، وطعام اليوم بقية طعام الأمس!
والبك يتهيأ للخروج، فالأسرة كلها في خدمته: هذه تنظف البدلة، وتلك تمسح الطربوش، وهذا يذهب برباط الرقبة إلى الكواء، وذلك يستعجل الخادم بالحذاء، وأخيراً يخرج البك!! فيتنفس البيت الصعداء، ويستروح المكروب نسيم الرخاء!
وهكذا يمر عيد الأسبوع على هؤلاء القوم، وهم يقولون يا الله ما اثقل روح هذا اليوم!!
احمد حسن الزيات(44/2)
الضمير الهارب
للدكتور طه حسين
لم يكن صاحبي ساذجا ولا غليظ القلب ظاهره كهذا الضابط الفرنسي الذي اظنك رأيته في دار من دور السينما، يأتمر مع أصحابه ليغير النظام في فرنسا ويرد إلى العرش ابن نابليون. فبينما هو ذات يوم يمشي على رصيف من ارصفة باريس لقى رفيقا من رفاقه في جيش الامبراطور. وكان العهد قد بعد بينهما فوقع اللقاء من نفس الرجلين موقعا حسناً، وتحدثا عن الجيش وعن الامبراطور، وتحدثا عن امس وعن غد، ولم يكرها ان يذما يومهما ويسرفا في ذمه. ثم ذهب الصديقان إلى حيث كان الضابط يحدث صاحبه عن أصدقائهما وما يأتمرون به، ثم مازال الحديث ينتقل بهما من موضوع إلى موضوع حتى عرف الضابط ان صديقه لم يقم على عهد الامبراطور، وإنما اثر لين الحياة فعمل في جيش الملك. هنالك لم يستطع الضابط ان يلوم صاحبه ولا ان يعاتبه، ولا ان يناقشه في شئ، ولم يزد ان اطفأ المصباح حتى لا يرى وجه هذا الصديق الخائن وفهم الرجل عن صديقه فأنصرف عنه خزيان اسفا.
لم يكن صاحبي ساذجا غليظ القلب طاهره كهذا الضابط الفرنسي، وإنما كان رجلا مترفا لا في حياته المادية، بل في حياته المعنوية خاصة. كان مترف العقل جداً لا يكتفي بظواهر الأشياء ولا يقنع بحقائقها، وإنما يبغي شيئا ارقى من الظواهر واعمق من الحقائق كأنه اللب والخلاصة لكل شئ. وهو إذا وصل إلى هذه الخلاصة وذلك اللب ولم يقنع بهما وإنما تخير منهما انقاهما وارقاهما واشدهما ملائمة للعقل الممتاز، والذوق الرفيع، والشعور الراقي، والنفس الأبية العالية. وكان صاحبي قوي الحس جدا، ولكنه كان شديد الازدراء للحس، يضعه في موضعه الطبيعي فلا يكبره ولا يغلو في العناية به، ولا ينتظر منه إلا ما ينتظر في الأداة التي لا يراد منها إلا ان تؤدى للعمل الذي هيئت له، فهو لا يريد من حسه إلا ان ينقل إليه صورة الحياة الخارجية، فإذا نقلها إليه شغل بها فحقق ودقق، ومحص وصفى، واثر نفسه بخلاصة ما ينتهي إليه التحقيق والتدقيق والتمحيص والتصفية، فغذى به عقله وقلبه وشعوره؛ وفكر فيه فأطال التفكير، واستخرج منه أقصى ما يستطيع استخراجه من اللذة والألم، ومن العبرة والعظمة، ومن الغبطة والحزن.(44/4)
وكان صاحبي هذا بحكم هذا المزاج الخاص معقدا شديد التعقيد متعباً لنفسه ولأصحابه وأصدقائه جميعاً، وكان كثيراً ما يسأل نفسه عما يريد فلا يجد لهذا السؤال جواباً. وكان أصدقاؤه يسألونه عما يريد فلا يجدون لهذا السؤال جواباً. فقبلوه على علاته، وقبلوه على ما في صحبته من مشقة وتعقيد. وكانت حياته وحياة أصحابه هينة لينة مستقيمة تمضي في طريق لا عوج فيها ولا التواء، كما كانت حياة الناس كلهم في بعض أوقات الأمن والدعة والهدوء، فكان راضيا عن أصحابه، وكان أصحابه راضين عنه. وكان ما يعرض له ولهم من مصاعب الحياة ومشكلاتها لا يزيد على ان يكشفها لهم فيحببه إليهم، ويكشفهم له فيحببهم إليه. ولكن هدوء الحياة ودعتها واضطراد الامن فيها واستقامة الطرق لسالكيها ليست أمور محتومة مقضية للناس أو مقضية عليهم، قد اخذوا بها عهدا على الظروف والأيام. وإنما هي أمور ممكنة تتاح حينا وتمتنع أسحياناً، تتاح فيسعد الناس، وتمتنع فيشقى الناس. تتاح فيجهل بعض الناس بعضا، ويحب بعض الناس بعضا، ويطمئن الناس إلى بعض، لان ظروف الحياة لا تكرههم على ان يدفق بعضهم في امتحان بعض، ويحقق بعضهم في ابتلاء بعض. ثم تمتنع فإذا الناس يتعارفون، ولا يلبثون ان يتعارفوا حتى يتناكروا ويتدابروا. ويقوم الشك منهم مقام اليقين، ويقوم الحذر منهم مقام الاطمئنان، وتقوم التفرق منهم مقام الصراحة، ويقوم البغض منهم مقام الحب، وإذا هم يندمون على جهلهم القديم، وإذا هم يحزنون على اطمئنانهم لماضي، وإذا هم يتمنون لو رد الله عليهم تلك الأيام الحلوة التي كانوا يستمتعون فيها بلذة الجهل وحلاوة الغفلة ونعيم الثقة، واعفاهم من هذه الأيام التي يشقون فيها بألم المعرفة ومرارة الفطنة وبؤس الشك.
وكان صاحبي قد فتح لنفسه الأبواب كلها على مصاريعها كلها ليتلقى كل شئ من كل شئ ومن كل إنسان. ثم ليسعد بهذه التصفية والتنقية، وبهذا التمحيص والتحقيق، وبتخير الثمرات من كل ما كان يجتمع له من الجد والردى فلما نكرت الأيام لم يغلق من أبواب نفسه بابا، وإنما نظر فإذا النفوس تغلق من دونه نفسا فنفسا، وإذا أبوابها تغلق من دونه بابا فبابا. إذا ما كان يجتمع له من الملاحظات شيئا فشيئا، ويندر حتى كاد لا يصبح شيئا. وإذا ما بقى من هذه النفوس القليلة التي ثبتت للمحن، وامتنعت على الخطوب، وابت ان تلين قناتها للأحداث، قد اخذ يغشاها من حين إلى حين لون رقيق جدا من الحياء، ثم من الغلو(44/5)
في الحياء، ثم من الإشفاق، ثم من الاسراف في الإشفاق، ثم يتكاثف اللون ويتكاثف، وتضاف طبقات منه إلى طبقات حتى يصبح احتياطيا وحذرا، وحتى يستحيل إلى حجاب كثيف صفيق لا تنفذ من دونه نفس إلى نفس، ولا ينتهي من دونه قلب إلى قلب، ولا يتحدث من دونه ضمير إلى ضمير، وإذا صاحبي يلقى أصحابه فلا يلقى منهم إلا وجوها، ويصافح أصحابه فلا يصافح منهم إلا أيدياً، ويحدث أصحابه فلا يكون بينه وبينهم إلا حركات الألسنة في الأفواه، وخروج الألفاظ من الشفاه، وانتهاء الأصوات إلى الآذان، ثم وقوفها دون هذه الأبواب التي قد غلقت تغليقا، وهذه الأستار التي قد اسدلت اسدالا، على انه أيضاً لم يكن اقل من أصحابه واحبائه تغليقا لأبواب نفسه، والقاء للحجب والأستار بينه وبينهم، فقد آذاه ما رأى منهم كما آذاهم ما رأوا منه، فكان هذا الحياء الذي كان منهم، ثم اخذ هذا الحياء يتعقد في نفسه كما كان يتعقد في نفوسهم حتى اصبح إشفاقا ثم شكا ثم احتياطا وحذرا. ولكن حياء صاحبي لم يكن كحياء أصدقائه، كانوا يستحون منه وكان يستحي لهم، كانوا يشفقون منه وكان يشفق عليهم. كان يحذرون منه وكان يحذر عليهم، ولكنه الحياء والإشفاق والحذر على كل حال. ولكنه تغليق الأبواب والقاء الأستار والحجب على كل حال. ولكنه انقطاع الأسباب وفساد الصلات على كل حال. ولكنه العزلة بين قوم لم يكونوا يستطيعون ان يعتزل بعضهم بعضا، والفرقة بين قوم لم يكونوا يستطيعوا ان ينعموا بالفراق، ولكنه الرياء بين قوم لم يكونوا يحتملون الرياء، ولكنه هذا الألم الممض الذي ينشأ عن الفراق والناس مجتموعون، وعن البعد والناس متقاربون، وعن القطيعة والناس متواصلون. ولكنه العذاب الذي يجده الناس حين يتحدثون بألسنتهم لا بقلوبهم، وحين يسمعون بآذانهم لا بنفوسهم، وحين تتصافح أيديهم وتتباعد بين ضمائرهم ونياتهم الآماد، إلا من ألف منهم هذه الحياة واطمأن إليها ووجد فيها مثل ما كان في تلك الحياة من اللذة والراحة والنعيم لأنه فارق أصدقاء فوجد مكانهم أصدقاء آخرين، ونأى عن أحباء فاستقر في أحباء آخرين. هنالك نظر صاحبي إلى نفسه، فإذا هو قد اصبح أداة من الأدوات تسعى مع النهار وتعود مع الليل، تلقى الناس فتتحدث إليهم وتسمع منهم دون ان تعقل ما يصدر عنها أو تذوق ما يصدر إليها من حديث. أداة تذهب وتجئ تتلقى آثاراً من أدوات مثلها، وتحدث آثاراً في أدوات مثلها، ولكنها آثار ظاهرة آلية لا قوام لها ولا لذة فيها ولا(44/6)
اثر للحياة القوية العاقلة المفكرة في مظاهرها، وإنما هي أداة ممثلة لا اكثر ولا اقل. تعمل مع أدوات ممثلة لا اكثر ولا اقل. وكانت لصاحبي بقية من قوة في النفس، وفضل من حياة في الضمير، واثر من حزم في الإرادة، وقليل من ذلك الترف العقلي الذي كان يستمتع به أيام كان الناس ناسا، وحين كانت الحياة حياة، فاكبر ما انتهت إليه أموره وأمور أصحابه من هذه الصفة التي يجحد فيها الرجل نفسه ولا يؤمن فيها إلا بغيره. اكبر ذلك وضاق به وازمع ان يعتزل هذه البيئة التي لا يستطيع ان يكون فيها إلا أداة مسخرة. ولكنه اعتزلها ولم يعتزلها، قر في داره وعاش بين أهله، لم يسع إلى أحده ولم يفكر في لقاء أحد، وكان يظن ان هذه العزلة ستغنيه وتحميه وترد إليه نفسه بريئة من النفاق معصومة من الفساد. ولكنه لم يلبث ان استيقن انه لم يصنع شيئا. فهو يعتزل الناس ولكن الناس لا يعتزلونه، يعرض عنهم فيقبلون عليه، يقعد عنهم فيسعون إليه، يكف عنهم حياءوه لهم وإشفاقه عليهم فيحملون إليه حياءهم منه، وإشفاقهم منه، ويغلون في ذلك يحسبون انهم يخدعونه عن انفسهم، أو يحسبون انهم يخدعون انفسهم عن انفسهم. فلما استيأس صاحبي من نفع هذه العزلة، واستيقن له انه لا امل له في ان يظفر بنفسه صافية وقلبه طاهرا، وضميره حيا، إلا ان ترك البيئة كلها وهاجر من ارض إلى ارض، وارتحل عن وطن إلى وطن، اسر ذلك في نفسه واظهر لنا معشر أصدقائه المخادعين له ولانفسنا مثل ما كان يظهر من حسن اللقاء ولطف المؤانسة حين كنا نزوره ونجلس إليه. ثم سعيت إليه ذات يوم لاقضي معه ساعة من ساعات الفراغ، وما اكثر ساعات الفراغ في حياتنا نحن المصريين فلم اجده، وسألت اين يمكن ان يكون فلم ادلل عليه. وسألت متى يمكن ان يعود لم انبأ بشىء. فعدت محزونا لا لأنني لم القه، بل لاني لم الق عليه ثقل ما كنت احتمل من الضجر والضيق والفراغ، ولاني لم الق في نفسه اني اوثره بالحب، واعتقد انه يؤثرني به. لاني لم اهد إليه شيئا من هذا الرياء الذي يهديه بعضنا إلى بعض في كل يوم، لم اتلق منه شيئا من هذا الرياء الذي يتلقاه بعضنا من بعض في كل يوم، رجعت محزونا لان الأداة لم تؤد بعض ما كانت يجب ان تؤدى من التمثيل. وعدت إلى صاحبي التمسه فلم اجده، واخذ أصحابنا يلتمسونه فلا يجدونه وكلهم شعر بمثل ما شعرت به، وكلهم يتحدث إلى نفسه بمثل ما تحدثت به إلى نفسي من الحزن وخيبة الامل، وقليل منهم يتحدث إلى الناس بمثل ما(44/7)
اتحدث به اليك الان ايها القارئ العزيز. ثم انقضت الاسابيع والاشهر، وإذا انا اتلقى صباح اليوم منه هذه الاسطر التي دفعتني إلى كتابة هذه الفصل. واحسب اني لن اجيبه إلا بارسال هذا العدد من الرسالة إليه. فقد عرفت عنوانه الان. كتب الي يقول: كتابي اليك ايها الصديق من بلد ناء فررت إليه بنفسي وضميري من بلد تفسد فيه الضمائر والنفوس، واثرت ان احيا فيه فردا مع نفسي على ان احيا عندكم حياة الأدوات لا حياة الناس، ولقد كنت اظن اني فارقتكم إلى غير رجعة، ورحلت عنكم إلى غير عودة. وسئمت حياتكم سأما لأحد له، وكرهتها كرها لا اعرف له قراراً، وعجزت عن احتمال أيسر اثقالها. واعترف باني سعدت بهذه الهجرة سعادة خصبة حقا، واستكشفت فيها نفسي، نعمت بهذا الاستكشاف، وانست فيها إلى ضميري، واستمتعت بهذا الانس، ولكني لم البث في هذا البلد شهرا أو شهرين، حتى احسست ان نفسي لا تكفيني، وحتى ضقت باطالة النظر في المرآة، حتى ذكرت الأصدقاء فنفرت من ذكر الأصدقاء، وفزعت منهم إلى الكتب حينا، إلى مناظر هذه الطبيعة الرائعة حينا اخر، وما زلت ايها الصديق مطمئنا إلى هذا المعقل الذي آويت إليه، واعتصمت به ولكن انظر! ها أنذا اكتب اليك، وما كتبت اليك إلا لاني فكرت فيك، وما فكرت فيك إلا لان نفسي نازعتني إلى حديثك، وإذن فقد ابت حياتي تلك إلا ان تتبعني في هجرتي وتقتحم علي هذا المعقل الذي لجأت إليه، وكل ما اتمناه إلا تغلبني على نفسي، ولا تخرجني من معقلي، وان تكتفي بزيارتي والإلمام بي من حين إلى حين. فأكتب إلى واطل فقد يظهر ان الحياة التي ترتفع ارتفاعا خالصا عن كل ما نكره من النقائص شئ لا سبيل إليه، وأما انا فقد جربت الضيق بالحياة في مصر والفرار منها، وانا زعيم لكم ايها الأصدقاء بان صاحبكم سيعود اليكم متى انقضى الصيف ومن يدري، لعل الحياة ان تكون قد عادت إلى شئ من الامن والدعة والهدوء، فتتفتح الأبواب، وترفع الحجب والأستار، لا نحتاج فيما بيننا إلى اصطناع الرياء، أو إلى اصطناع المجاملة. ثم لا يستحي بعضنا من بعض، ولا يستحي بعضنا لبعض.
طه حسين(44/8)
حوادث الشرق الاقصى
اليابان والجامعة الاسيوية
مبدأ مونرو اسيوي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
منذ أسبوعين طلعت اليابان على العالم بتصريح في منتهى الاهمية والخطورة. خلاصته: (ارفعوا أيديكم عن الصين)، وهو بعبارة اخرى انذار من اليابان إلى أوربا وأمريكا بأنها اصبحت تعتبر من واجبها أن تحمي الصين من كل محاولة جديدة اوربية أو أمريكية في سبيل الفتح أو الاستعمار الاقتصادي، ومن حقها أن تستأثر بالتوسع السياسي أو الاقتصادي في انحاء الصين الشاسعة. ولا تخفى اليابان انها جادة في انذارها، وانها على اهبة لتأييده وتنفيذه بالقوة المادية، وفي نفس الوقت الذي تلقى فيه اليابان بهذا الانذار، نراها تقر اعتمادات حربية ضخمة لتقوية اسطولها الجوي، وتقوم بعدة مظاهرات عسكرية اخرى.
وقد اثار هذا التصريح الجرىء في جميع دوائر السياسة العليا دهشة عظيمة، ولا سيما في الدول ذات النفوذ والمصالح في الصين مثل بريطانيا العظمى وأمريكا وروسيا وفرنسا وايطاليا. ولم يتضح حتى الان موقف هذه الدول ازاء تلك الخطوة الجديدة التي تتخذها اليابان للحد من النفوذ الغربي في الصين. ولكن اولئك الذين يتبعون تصرفات السياسة اليابانية في الصين في الأعوام الثلاثة الأخيرة يدركون أن هذه الخطوة إنما هي نتيجة طبيعية لهذه السياسة التي فازت منذ عامين بالاستيلاء على منشوريا ووضعها تحت الحماية اليابانية، والتي ما زالت تتقدم في سبيل التوسع في الثغور والأراضي الصينية الشمالية والوسطى. واليابان تتخذ خطواتها وشئون السياسة الدولية في منتهى الاضطراب والتعقيد، والدول العظمى كلها مشغولة بمشاكلها الداخلية والخارجية السياسية والاقتصادية، ومن الصعب عليها أن تتفاهم أو تتفق بسرعة على اتخاذ خطة أو سياسة مشتركة ضد هذه السياسة اليابانية الجديدة التي تهدد نفوذها ومصالحها في الصين.
والنظرية اليابانية في مقاومة التوسع الغربي في الصين ترجع إلى فكرة اهم وابعد اثرا هي فكرة الجامعة الاسيوية، وشعارها (اسيا للأسيويين). وقد قويت هذه الفكرة بعد الحرب،(44/9)
حينما اشتد تنافس الدول الغربية على التوسع في الصين واستطاعت روسيا السوفيتية وبريطانيا العظمى وأمريكا أن تتدخل في شئون الصين تدخلا قويا مباشراً، وان تبسط كل نفوذها على مناطق واسعة في الصين، وحينما عمدت الدول في كل مناسبة وفرصة إلى ارسال اساطيلها إلى المياه الصينية بحجة: حماية مصالحها؛ ولما كان موقع اليابان الجغرافي في شرق الصين، مشرفة على تلك المياه الصينية التي تغزوها الدول كما شاءت، وكانت تبسط حمايتها ونفوذها على مساحات واسعة في الصين، في كوريا ومنشوريا وشانصي، فقد كانت السياسة اليابانية تنظر دائما إلى حركات الدول في الصين بمنتهى التوجس والريب، وكانت تتلمس السبل دائما لمقاومة الاستعمار الاوربي والأمريكي. وكانت حركة (الجامعة الاسيوية) تزداد نشاطا وقوة، وخصوصا كلما اشتدت الصيحة في أوربا وأمريكا بالتحذير من (الخطر الاصفر) أو بعبارة اخرى من نهوض الامم الاسيوية. وقد عقد اول مؤتمر رسمي للجامعة الاسيوية في ثغر ناجازاكي في صيف سنة 1926 وشهده مندوبون من اليابان والصين والهند وسيام وكوريا والفلبين، واستمرت السياسة اليابانية ترعى هذه الحركة وتغذيها مدى الاعوام الاخيرة، وقد عقد في فبراير الماضي في دايرين تحت رعاية الحكومة اليابانية مؤتمر (للشعوب الاسيوية) شهده مندوبون من الصين واليابان والهند وافغانستان وسيام وبلاد الملايو وغيرها من البلاد الاسيوية. واصدرت فيه قرارات بوجوب اتحاد الشعوب الاسيوية على العمل في سبيل مصالحها المشتركة الجنسية والسياسية وتحريرها من كل تدخل اجنبي، وسيدعى مؤتمر دوري للجامعة الاسيوية. وربما كانت اليابان ترمي من وراء هذه الحركة إلى انشاء عصبة امم اسيوية لتأييد غايات الجامعة الاسيوية.
مبدأ مونرو اسيوي
ولهذا الانذار التي تتقدم به اليابان إلى الدول الغربية صبغة مزدوجة؛ فهو يعني ان اليابان ستقاوم منذ الان فصاعدا كل محاولة تقوم بها الدول الغربية في سبيل التوسع في الصين، وثانيا ان اليابان ستكون مطلقة اليد في الصين تحقق فيها ما شاءت من خطط التوسع والنفوذ. وللناحية الاولى سابقة تاريخية في السياسة الدولية هي مبدأ الرئيس مونرو (رئيس جمهورية الولايات المتحدة)، الذي وضع منذ سنة 1823 ليكون شعارا لسياسة أمريكا(44/10)
الخارجية؛ واليك نص هذا التصريح الشهير الذي تطبقه السياسة الأمريكية منذ اكثر من قرن وذلك بعد الديباجة:
(ان القارتين الأمريكيتين بحكم حالة التحرير التي احرزتاها والتي تحتفظان بها يجب إلا تعتبر منذ الان فصاعدا قابلتين للاستعمار من جانب اية دولة اوربية، وعلى ذلك فانا نعتبر في المستقبل أي محاولة من جانب الدول الأوربية لبسط سلطانها السياسي على اية ناحية من نواحي هاتين القارتين خطرا على سلامتنا وسلامنا.
نحن لم نتعرض لاي مستعمرة أو ملك قائم فيها للدول الأوربية ولن نتعرض له، ولكنا بالنسبة للحكومات التي اعلنت استقلالها وحافظت عليه واعترفنا نحن به كحق ذي اساس عادل، لا نستطيع ان نعتبر أي تغيير يرمي إلى ارهاقها أو التحكم في مصايرها إلا بأنه ميل عدائي نحو الولايات المتحدة. ذلك انه يستحيل ان تبسط الدول المتحالفة نظامها السياسي في أي بقعة من هذه القارة دون تهديد سلامنا وسعادتنا. كذلك لا يستطيع إنسان ان يعتقد ان اخواننا في الجنوب إذا تركوا وشأنهم قد يقبلون هذه السياسة مختارين، ومن ثم كان من المستحيل ان ننظر إلى هذا التدخل في ذرة من التهاون والاغضاء).
ويمكننا ان نلخص مبدأ مونرو في كلمتين: (أمريكا للأمريكيين) أو (اتركو أمريكا) كما نستطيع ان نلخص الانذار الياباني في كلمتين (آسيا للاسيويين) أو (اتركو اسيا) مع هذا الفارق، هو ان اليابان تحدد في تصريحها منطقة معينة من اسيا هي الصين، أو الشرق الاقصى بصفة عامة، وقد فهم مبدأ مونرو في أمريكا وطبق خلال قرن من الناحية السلبية فقط. اعني من ناحية مقاومة التدخل الاوربي؛ ولكن السياسة الأمريكية وضعت في الاعوام الاخيرة تفسيرا جديدا لمبدأ مونرو، وهو انه إلى جانب حق أمريكا في قمع أي تدخل اوربي، يحق لأمريكا، وأمريكا وحدها
- أن تحتل أي بقعة من القارة الأمريكية متى رأت ذلك ضروريا لصون سلامها ومصالحها، وطبقت السياسة الأمريكية ذلك التفسير الايجابي الجديد لمبدأ مونرو في عدة حوادث معاصرة مثل تدخلها، في حوادث نيكاراجوا، واحتلال بعض اراضيها، وارغامها بناما على عقد معاهدة تعتبر شبه حماية، ثم تدخلها اخيرا في حوادث كوبا. وهذا هو نفس ما يعني التصريح الياباني من ناحيته الايجابية ترى اليابان من حقها دون غيرها من الدول(44/11)
ان تستأثر بالتوسع في الفتح في الصين.
وقد بدأت اليابان فعلا بتطبيق هذه السياسة منذ ثلاثة اعوام فوضعت خطتها للاستيلاء على منشوريا وتذرعت لذلك الفتح باعتداء العصابات الصينية على المنطقة اليابانية والسكة الحديدية الشرقية التي تضع يدها عليها واضطرارها إلى حماية المصالح اليابانية والرعايا اليابانيين من ذلك الاعتداء الذي عجزت عن قمعه السلطات الصينية. وحوادث فتح اليابان لمنشوريا ما زلت ماثلة في الأذهان فلسنا بحاجة إلى تفصيلها. غير انا نذكر في هذا المقام فقط اليابان ابدت منذ البداية عزمها احتلال منشوريا وامتلاكها فعلا، ولم تحفل بتدخل عصبة الامم لتلبية نداء الصين، ولم تقف لحظة عند أي القرارات التي اصدرتها العصبة لحسم النزاع كانتداب لجنة للتحقيق، والتوصية لوقف القتال، واعادة الحالة إلى ما كانت عليه؛ بل لبثت اثناء اشتغال العصبة بهذه الازمة الخطيرة ماضية في غزو منشوريا وافتتاحها حتى اتمت خطتها العسكرية، واستخلصت اقليم منشوريا كله، ثم انتهت بأن ضاقت بتدخل عصبة الامم، فأنسحبت منها لتكون حرة طليقة اليد والتصرف. ولم تقف اليابان عند افتتاح منشوريا بل هاجمت اثناء ذلك شنغهاي اعظم الثغور الصينية بحجة الاعتداء على بعض رعاياها واحتلت وكادت تنفذ إلى الداخل لولا ما ابدته الحكومة الوطنية الصينية من مقاومة شديدة وما انذرت به الدول من التدخل؛ ثم عادت فغزت اقليم شهلي شمال بكين، واحتلت عدة من قواعد واجتازت السور الكبير. كل ذلك لترغم الصين على الاعتراف بمركزها في منشوريا. وانتهت اليابان بأن جعلت منشوريا دولة جديدة بأسم دولة (منشوكيو)، واقامت عليها هنري بوي امبراطور الصين المخلوع، اولا رئيسا لجمهورية منشوكيو ثم امبراطور لها، وتم بذلك استيلاء اليابان على اعظم الاقاليم الصينية الشمالية واغناها، فإذا ذكرنا ان اليابان تملك من اراضي الصين شبه جزيرة كوريا وثغر تياتسين وما إليه، وبورت ارثر وتسنج تاو، وتحتل مناطق كبيرة في اقليم شانصي، استطعنا ان نقدر إلى أي حد بلغت اليابان في توسعها في الصين.
موقف الدول
وقد قلنا ان موقف الدول ازاء السياسة اليابانية الجديدة لم يتضح بعد، ولم يتخذ بعد صبغة رسمية. ولكن الذي لا ريب فيه هو ان الدول التي لها في مياه الشرق الاقصى وفي الصين(44/12)
مصالح عظيمة مثل أمريكا وبريطانيا العظمى وروسيا وفرنسا، ستقاوم هذه السياسة اشد مقاومة، وليس بعيدا ان تلجأ إلى الوسائل العنيفة إذا هددت املاكها أو مصالحها، وكما ان اليابان تقرن انذارها بالمظاهرات العسكرية وتقرير الاعتمادات الحربية الجديدة، فكذلك نرى انكلترا تقوم بمظاهرة بحرية في ثغر سنغافورة، ويعقد أمراء البحر الانكليز هنالك اجتماعا خطيرا للنظر في تعجيل الاعمال والاجراءات الخاصة باتمام قاعدة سنغافورة البحرية التي ستكون اعظم واقوى قاعدة بحرية في الشرق الاقصى، ونرى أمريكا تقرر اعتمادات مالية ضخمة لبناء سفن جديدة، وينتقل الاسطول الأمريكي من مياه الاطلانطيق ويجوز قناة بناما إلى المحيط الهادئ في اقل من يومين قياما بمظاهرة بحرية كبرى. وتحتج الدول ذات الشأن على لسان صحفها من الوجهة الدولية؛ بالمعاهدات المعقودة بين اليابان والدول بشان الصين، واخصها وأحدثها معاهدة الدول التسع التي عقدت على يد مؤتمر واشنطون سنة 1922 بين الولايات المتحدة (أمريكا) وبريطانيا العظمى وفرنسا وايطاليا واليابان والصين وبلجيكا وهولندة والبرتغال، وتنص هذه المعاهدة على احترام سيادة الصين واستقلالها ووحدتها الادارية والاقليمية، وعلى معاونتها على النهوض والتقدم بكل الوسائل، واستعمال الدول الموقعة لنفوذها في تأييد مبدأ الفرص المتساوية في النشاط التجاري والصناعي في الصين لجميع الامم، وعلى عدم انتهاز ظروف الصين للحصول على امتيازات خاصة، ومعنى ذلك اليابان ليست حرة في ان تحتل في الصين مناطق جديدة، أو تبسط نفوذها على مناطق جديدة، وليست حرة بالاخص في ان تستأثر وحدها بتنفيذ سياسة التوسع والاستعمار في الصين؛ هذا إلا إذا كانت تعتبر المعاهدات الدولية قصاصات لا قيمة لها.
وهناك غير هذه الدول الموقعة لمعاهدة واشنطون وروسيا السوفيتية؛ وهي من اعظم الدول مصالح في شمال الصين، واشدها اهتماما بسير السياسة اليابانية، وروسيا تجاور اليابان في منشوريا، وتشترك معها في امتلاك السكة الحديدية الصينية الشرقية، وفي امتلاك جزيرة سغالين، وتصطدم معها في شئون ومصالح كثيرة وقد ساءت علائق اليابان وروسيا في العهد الاخير بسبب استيلاء اليابان على منشوريا وانتزاعها القسم الروسي من السكة الحديدية الشرقية، وتهديدها بذلك نفوذ الروسيا في منغوليا، وقد كان لروسيا فوق ذلك في(44/13)
الصين الوسطى والجنوبية نفوذ عظيم منذ اعوام، وكانت اليابان من انشط الدول لمحاربته والقضاء عليه، والخصومة الروسية اليابانية قديمة في الشرق الاقصى، وترجع بالاخص إلى حرب سنة 1904 التي هزمت فيها روسيا أمام اليابان وفقدت بورت ارثر ثغرها الممتاز في الصين؛ وهي اليوم اشد ما تكون اضطراما. ولا تخفى حكومة موسكو انزعاجها من السياسة اليابانية الجديدة، واستعدادها لمقاومتها وحماية النفوذ والمصالح الروسية في الشرق الاقصى بكل ما وسعت.
موقف الصين
ثم هنالك الصين، وهي المقصود بتطبيق السياسة اليابانية الجديدة. وقد لبثت الصين مسرحاً للفتن والحرب الأهلية زهاء ربع قرن، والدول الغربية اثناء ذلك تعمل على انتهاز الفرص لتوسيع نفوذها ومصالحها، واليابان تجاريها في انتهاز الفرص. فلما اشتد التنافس بين الدول على استغلال الحوادث الصينية، عقدت فيما بينها معاهدة واشنطون سنة 1922 (معاهدة الدول التسع) لكي تضع حدا لهذا التنافس أو بعبارة اخرى لكي تنظمه، وقطعت الصين بعد ذلك ستة اعوام اخرى في غمار من الحروب الأهلية الطاحنة حتى قامت الحكومة الوطنية اخيراً (حكومة نانكين) لتوحد كلمة الصين إلى حد ما، ولتعمل على صون استقلال الصين والحد من التوسع الاجنبي. وقد بذلت الحكومة الوطنية في هذا السبيل جهوداً لا بأس بها، ولكن اختلاف الزعماء والقادة كان دائما يشل من هذه الجهود، ويفتح الباب لدسائس الدول الاجنبية وعدوانها المستتر بصور واساليب شتى، ولو كان الانذار الياباني متعلقاً بوقوف اليابان فقط في وجه المطامع الاجنبية في الصين، لما كان للصين كبير اعتراض عليه؛ ولكن اليابان لا تقف كما قدمنا عند هذه الناحية السلبية من سياستها الجديدة، وإنما تقرنها بادعاء حق الاستئثار بالتوسيع في الصين، وتقوم بتنفيذ هذه السياسة بطريقة فعلية منظمة منذ ثلاثة اعوام، اعني منذ غزوها لمنشوريا، ومعنى ذلك أن اليابان تريد أن تستأثر بفريستها - الصين - دون باقي الدول وأن تترك هذه الفريسة أمامها وجها لوجه؛ وليس بعيدا ان تكون اليابان قد وضعت خطتها لافتتاح الصين كلها والاستيلاء عليها اقليماً فأقليماً، وخوض معركة الحياة والموت مع الغرب والاستعمار الغربي.
ولا ريب ان الصين تنكر هذه السياسة ايما انكار، وسوف تقاومها بكل ما وسعت حسبما(44/14)
صرح به مندوبها لدى عصبة الام وسفيرها في لندن، ولا ريب انها ستعتبر بهذا الخطر الجديد الذي يهدد كيانها واستقلالها فتعمل لتوحيد كلمتها وتنظيم قواها؛ كذلك لا ريب في ان اليابان رغم قوتها ومنعتها وفيض مواردها، تقدم على مغامرة كبيرة محفوفة بالصعاب والمخاطر؛ ومن المشكوك فيه أن تستطيع اليابان أن تتحدى دول الغرب العظمى إذا اجتمعت كلمتها على مقاومة هذه السياسة، هذا إلى ما لابد ان تبذله الصين من الجهود الزاخرة لدفاع عن استقلالها وكيانها؟
محمد عبد الله عنان المحامي(44/15)
وادي حلفا
بقلم عبد الرحمن فهمي ليسانسيه في الآداب
وادي حلفا عاصمة إحدى مديريات السودان الكبرى، وهي مديرية حلفا، وهو ميناء نيلي تسير السفن البخارية الصغيرة بينه وبين الشلال تنقل المسافرين والبريد من مصر إلى السودان ومنه إليها، ويشعر الزائر المصري للسودان عندما تطأ قدمه ارض حلفا كأنه في إحدى مستعمرات التاج البريطاني، ولا عجب فمنذ جلاء الجيش المصري عام 1924 تعمل السياسة البريطانية على ان تجعل من السودان منطقة انكليزية بحتة. وقد تلاشت المصرية أو كادت تتلاشى بعد ان كانت ظاهرة قوية فيه.
ووادي حلفا له مكانته لانه كما قلت ميناء نيلي كبير ومركز تجارة لا بأس به، وهو فوق ذلك مدخل جمركي يفتش المسافرون وامتعتهم فيه حتى لا تهرب بضائع معينة من السودان إلى مصر. ثم هو الحد الذي يشعر عنده المصري بشعور مؤلم هو شعور الفصل اللاطبيعي بين القطرين التوأمين.
وينقسم هذا البلد قسمين رئيسين أحدهما (حلفا توفيق) نسبة إلى مسجد كبير شيده الخديوي توفيق في ميدان فسيح يتوسطه. والثاني (حلفا معسكر) نسبة إلى معسكر الجيش المصري الذي كان يعسكر فيه حتى سنة 1924.
وحلفا توفيق هو روح البلد، ففيه الميناء المشغول بالحركة الدائمة ولا سيما عند وصول البريد إليه من الشلال وعند قيامه منه إليه ويحصل ذلك اربع مرات في كل أسبوع، وفيه محطة السكة الحديدية ومكتب البريد والبرق وبناء المديرية والمستشفى ودار الشرطة والمحكمة ومكتب الجمرك والري المصري، وفيه المحال التجارية والمقاهي والفندق وتوكيل لبعض الشركات كشركة كوك وسنجر. والدور فيه ذات طابق وأحد وفناءات فسيحة إلا بعض الدور القلائل ذات الطابقين على ضفة النيل يؤجرها ملاكها الوطنيون إلى بعض الموظفين المصريين والسوريين.
وحلفا معسكر، قسم صاخب بالنهار في ناحية من نواحيه حيث توجد (الورشة) ففيه تسمع صوت المطرقة وآلات التصليح والنجارة والحدادة وغيرها. أما منذ الاصيل فهو هادئ، وهو بخلاف القسم الاول ملآن بالدور الفخمة، وافخم هذه الدور هي التي يسكنها(44/16)
البريطانيون، فهي مزدانة بالشجر والزهر والثمر، تطل نوافذها على النيل، ومنها تستطيع ان تمتع الطرف بمياهه الجارية، كأنها السلسبيل، وبالشجيرات على ضفتيه نضراء وقد تجمعت في مكان وتفرقت في اخر، فكأنها الزبرجد مسكوبان وكأنك تستمد الحياة من منبع الحياة.
ويتوسط القسمين منتزه جميل فرشت ارضه بالبرسيم المورق قامت عليه الشجيرات النضراء المختلفة كأنها الحراس إلا انها تغفل دائما عن المنجل يحصده غالبا. وزين بالزهور المختلفة الألوان والانواع تحملها جذور وسيقان، ويدار الحاكي فيه مرة في مساء كل جمعة. ولعل (الراديو) حل محله اليوم.
ويؤلف البريطانيون فيه كتلة متحدة غير مختلطة بغيرها من الاجناس الأخرى، اللهم إلا الاختلاط الذي يوجبه العمل، وهو مخالطة الرؤساء لمرؤوسيهم، يلمحون بالطلب فيلبى، ويعطون الاشارة فتنفذ، ويلقون الأمر فيطاع. أما في أوقات فراغهم فهم يريضون اجسادهم بركوب الخيل ولعب (التنس) و (الجولف) وغير ذلك، والمساء يقضرنه في المسامرة والمنادمة بين الكأس الرحيق والرقص الرشيق.
والمصريون في وادي حلفا الان كما هم في غيره من بلدان السودان: اقلية ينظر إليها اولو الأمر فيه نظرة حذر، ويكادون يكونون تحت مراقبة دقيقة لانهم متهمون ببث روح التمرد وما هم كذلك، وما الحركة التي قامت في سنة 1934 في السودان إلا فورة وطنية قام بها الوطنيون وغيرهم كما تقوم اية جماعة في أي بلد بحركة يرجون بها غرضا معينا، وما ظن الاتهام الذي يوجهه اولو الأمر في السودان إلى المصريين في هذا الشأن إلا ستارا لسياسة موضوعة لقصد معين.
ولكن الروح التي تربط المصري والسوداني لا تزال قائمة ولن تزول - وهي روح وطنية -، لأنهما يريان النيل ابا مشتركا بينهما، وهي روح جنسية، لان المصري والسوداني هم مزيج من جنس البحر الابيض والجنس الحامي، ثم هي روح لغوية لأنهما يتكلمان العربية، وهي روح دينية لأنهما أما مسلم وأما قبطي، وهي اخيرا روح لا يمكن نزعها من جسم أحدهما دون ان يموت الاخر.
والوطنيون هم البربريون الحلفاويون، لهم رطانة يتكلمون بها فيما بينهم، إلا انهم جميعا(44/17)
يعرفون العربية، وكثير منهم ملمون باللغة الانكليزية، ويمتازون من السودانيين بالذكاء والنشاط، عرف منهم قاضيا في إحدى محاكم مصر الأهلية، وعالما دينيا، وموظفين اكفاء، وتجارا قديرين.
والمولودون وهم مزيج من المصري والتركي ومن السوداني، ثم السودانيون والعبيد.
ويشتغل الوطنيون بالزراعة فوق اشتغالهم بالتجارة، زراعة مساحات ضئيلة بالخضر والنخيل، والبلح اهم الحاصلات.
أما العبيد فمنهم عمال يحملون طرود البريد وامتعة المسافرين، ومنهم مكاريون ينقلون الاثقال على حميرهم، ومنهم السقاءون يحملون الماء إلى الدور بصفائحهم وقربهم.
تتألف الحكومة في مديرية حلفا كما هو الحال في أي مديرية اخرى من مديريات السودان: من المدير وينوب عن الحاكم للسودان في مديريته، وهو بريطاني له سلطة شبه مطلقة، ويعاونه المفتش وهو أيضاً انجليزي يحل محله في غيابه، وتنظر دار المديرية في احوال الناس القضائية: الأهلية منها والشرعية، وفي جباية الأموال والمحافظة على الصحة.
ويسهر على الامن رجال الشرطة ومقرهم (الضابطية) أو دار الشرطة، وهم رجال اشداء يلبسون عمامة كاكية أو بيضاء كبيرة وقميصا من الصوف الاصفر وسروالا ونعالا، يشبهون في ذلك رجال الهجانة في مصر ويعاونهم حراس نظاميون في الليل.
وعلى رأس دار الشرطة المأمور وله نائب، وكلاهما سوداني، ولكل قرية عمدتها وشيوخها، تؤلف منهم محكمة قروية تعدل بين الناس.
وقد حل الوطنيون محل معظم المصريين في كافة اقسام المصالح، وهم خريجو كلية غوردن بالخرطوم يلتحق بها التلميذ بعد ان يتم العلوم الابتدائية ويقضي بها ثلاثة اعوام يتخصص خلالها في أحد اقسامها، أذكر منها قسم المعلمين والترجمة والهندسة ويشترط في طالب الكلية ان يكون سودانيا.
ويفضل اولو الأمر ان يلبس الموظفون الزي الوطني اثناء العمل، وهو رداء من نسيج ابيض وعمامة بيضاء ومركوب احمر، ويحثونهم على ان يفضلوه على اللباس المصري.
وتقام حفلات رسمية في كل عام: اهمها عيد الميلاد السنوي، والعيد النبوي الكريم، وعيد ملك الانكليز، وعيدا الفطر والاضحى، وتدعو الحكومة كبار الموظفين والتجار والوطنيين(44/18)
إلى عيد رأس السنة، وعيد ميلاد ملك الانكليز في حفل رسمي وتتولى لجنة من الوطنين دعوة الموظفين البريطانيين وعقيلاتهم إلى الاحتفال بالاعياد الأخرى، وابهجها الاحتفال بالمولد النبوي، إذ تقام سرادقات مختلفة عديدة على ميدان فسيح يضاء بمصابيح الكهرباء القوية الملونة، ويحي ليالي هذا المولد شيوخ يستأجرون من إحدى مديريات الوجه القبلي وتدار على المدعوين المرطبات ولفائف الطباق.
وبعد ان يستمع المدير ورفاقه قليلا من المديح النبوي ينهضون إلى أنحاء السردقات متنقلين بين اقسامها متفرجين على حلقات الذكر والرقص الوطني، وفي كل حلقة توزع الدراهم على بعض الذاكرين والراقصين. والنقود المتداولة في السودان هي النقود المصرية باقسامها والاسترليني والشلن والشلنين من النقود الانجليزية.
وكان وادي حلفا منفى للزعماء السودانيين المرغوب عنهم من الحكومة امثال عثمان دقنه وقد مات بها. وما زال منفيا بها زعيم آخر ولد عبد الكريم ينتمي إلى المهدي بصلة القرابة وقد زرته منذ خمس سنوات فوجدته هرماً ولكنه قوي.
وبالوادي مكان معد لنزول لطيارات التي تطير بين أوربا وافريقية عن طريق مصر والسودان.
عبد الرحمن فهمي(44/19)
اثر الأدب في الحياة
بقلم محمد قدري لطفي ليسانسيه في الآداب
تؤلف في الأدب كتب، وتنشأ له صحف، وتقام له جماعات وتشيد من اجله جامعات، وتعرف به رجال، فأي اثر لهذا الأدب في الحياة، وأي وظيفة يؤديها لهذا المجتمع الذي غلبت عليه المادة ولم تلق فيه المعنويات ما يجب لها من عناية وتقدير؟
ان للأدب عناصر يتركب منها، أساسها تلك العواطف التي تستولي على المرء فتحرك نفسه وتهتز لها يراعته فتدون على صفحة القرطاس تلك الحركات النفسية، وتصورها على قدر شدتها أو خفتها، فإذا عرضت على الناس حركت فيهم نفس الشعور وأحيت منهم نفس العاطفة.
وكم في هذه الحياة من نفوس دقيقة الحس صادقة الشعور تحركها شؤون الحياة وتهزها صروف الدهر، هي نفوس أدبية تحس في صمت، وتشعر في سكون. ولكن أصحابها فقدوا أداة الأدب وأعوزتهم المقدرة على التعبير عما يحسون في أسلوب جميل أخاذ، وبهذه المقدرة الفنية يتميز الأدباء من غيرهم من ذوي الحس الدقيق والشعور الصادق. فالحياة تذيقنا جميعاً حلوها ومرها. ونلقى منها جميعا ما نحزن له أحياناً ونطرب له حيناً، وهي تعرض علينا من ألوانها الزاهي البهيج والقاتم الحزين. والأديب منا من شرح حسه فأجاد الشرح، وصور لنا عواطفه فأحسن التصوير، وإذن فليتعز المحزون العاجز عن بث حزنه بنفثات الأديب المحزون، وليبحث البائس الذي لم يسعفه بيانه عما يسليه ويذهب ببعض آلامه في سطور الأديب البائس، وليقرأ المحب الذي احب فأخلص، واخلص فتفانى في اخلاصه، ولكنه كان اعجز من أن يسمعنا حديث قلبه وينقل الينا نفسه وخفى حسه، اقول ليقرأ ذلك المحب العاجز ما كتب المحب الأديب، فسيجد بين السطور نفسه مرسومة، وسيلمح في ثنايا العبارات عواطفه مصورة، فلست اعرف بين العواطف الإنسانية عاطفة تشترك فيها القلوب جميعا، وينطبق ما يقال عنها على الناس جميعا، كعاطفة الحب الخالص المتين. الست ترى الانشودة يغنيها المحب شاكيا أو باكيا، فيعدها غيره صدى نفسه وترجمان حسه؟
وإذن فالأدب ضرورة من ضرورات الحياة وعنصر هام من عناصر العيش، فيه الحزين،(44/20)
وسلوى المحب، وعزاء المحزون. وليست مع العزاء مصيبة. إن الأدب هو نتاج العواطف الشريفة وثمار الاحساس الجميل، ولن تجد كثمرة العاطفة في حديقة الحياة.
نظرة إلى هذا العالم تنبئك عن قدر الأدب بين الاحياء، فكل من فيه ماله آخر يومه إلى الراحة والسكون، والمرء مهما كد وجد فلابد له من سويعات تقر فيها نفسه، ويخلد فيها إلى السكون جسمه، وعندئذ فلن يجد أشهى من ثمرات القرائح والنفوس يقطفها من صفحات كتاب. ولن يجد أحلى من زهر العواطف تفوح رائحته من ثنايا النثر أو الشعر. ولن أقول أي نثر أو أي شعر، فلكل ذوقه ولكل ما يؤثر، وهي بضاعة من نتاج القرائح معروضة، فليأخذ منها كل ما يلائم حسه، ويصادف هوى نفسه.
وتريد ان تعرف قيمة الأدب في الحياة وتتبين أثره في الناس. إذن فانظر إلى رجل ليس يقرأ إلا قصيدة قد حوت رائع اللفظ وساحر المعنى، وليس يطالع إلا في كتاب قد تضمن من الحديث أعذبه وأحلاه، ومن القصص أحسنه وأشهاه، فيه شجون وفيه احزان، وفيه شكوى وفيه غرام، وفيه عاطفة حارة وحس جميل، وفيه وصف رائع وشعور صادق نبيل، ثم استمع إليه تحدثك فستجد عقلا مصقولا ونفسا مهذبة، أثرت فيها هذه الآداب فرققت حواشيها، وعملت فيها تلك القراءات فأرهفت حسها وهذبت نواحيها، وهل اجل في الحياة من نفس مهذبة وعقل صقيل؟ وهل ادعى إلى حياة الامم ورقيها من نفوس ابنائها وقد طبعت على كل حسن جميل؟ وهل مثل الأدب مقوم للطبع مهذب للنفس؟
وتريد أن تعرف قيمة الأدب في الحياة وتتبين أثره في الناس؟
إذن فنصور شعبا ينصت إلى نشيده الوطني وقد ذبحته براعة أديب قدير فحوى من معاني الوطنية ارفعها واسماها، وحرك من نفوس الناس اشرف العواطف وارقى درجات الشعور، فتحفزت نفوسهم واستعذبوا الموت في سبيل الوطن.
وللأدب بعد ذلك ناحية عامة لا تقل شانا عن تهذيب النفوس وصقل العقول واحياء العواطف السامية في القلوب، فأدب الامة صفحة صادقة من تاريخها كتبتها طائفة من ابنائها فلم تتحيز ولم تظلم، وإنما دونت فيها شعورها الخالص وحسها الصادق. ولذا عنيت أرقى الامم بالآداب وأحلتها المحل اللائق بها، وأنزلت أهلها المنزلة التي تتفق وما لآثارهم الأدبية من قيمة في الحياة. فلولا الأدب لكانت حياتنا جافة لا تحتمل، وعبئا ثقيلا لا يطاق.(44/21)
الاسكندرية
محمد قدرى لطفي(44/22)
حبل الأبد في الأدب
بقلم امين نخلة
في كفة الغروب أمس، بعد ان مال ميزان النهار، وغشى السواد الشفق، كنت أسألهم إلا يوقدوا المصباح في وجه الليل. بل ندع العتمة تتساقط على مهل وتتلبد، حتى إذا غمر السواد الجهات، غرق عبث الحياة في الليل، وسلم الأمر. . . هل مطلبي من الحياة غير هذا؟!
ثم اشرف من النافذة، فإذا المدينة قطعة واحدة في جوف الليل. خفى الشتات، وتألفت الدقائق، ومسح على الفضول. فلست أرى ما يتعالى في المشهد الأسود المنطرح إلا ذؤابات الأبنية تشمخ، وكأن بعضها في رأي العين يمشي إلى بعض، فتتلاقى وتتساند بعد البياض الفاني، والعبث المولى!
وهذا قمر الليل، يقهقه بلا صوت. . . ولقد جنح إلى المنحدر الاخر، كأنما يزلق من هنالك، فتدفق الفضة دفقا، غير العهد بها في مقاطر الصحو الازرق، حين تنقط ولا تبل الارض!
والليل فهرس البياض المنطفئ، ترى فيه العناوين، وعفاء على الحروف الضئال، والتنقيط المنمنم في كتاب النهار. فالعمود البعيد القائم الساعة ناحية الجنوب، ولا أتبين ما حواليه، عنوان طويل لبناية المسجد، ولقد خفيت المقالة وسلم العنوان. . .
وإننا في الأدب على أعقاب جيل مال ميزانه، وطفقت العتمة تتساقط عليه، فعما قليل تغمر نوافله، وتبتلع توافهه. ولا يسلم منه في الغرق الاعظم إلا العناوين الجديرة بالسلامة! ويسلم القمر ذو القرص الباقي، والشعاع المجدد
كنا في (الباروك) (1) - في مطلع الصبى - نجول بالضاحية، حيث كان (لامرتين) يهبط الخضرة والفيء على الينابيع. أو نصعد في الهضبات حيث مر جواد (ابي الطيب). . . (وعقاب لبنان وكيف بقطعها) فيقول وأحدنا للرفقة:
- ترى أي شئ من هذا الريف لفت صاحبنا؟!!
وكنا بعد لم نتعلم التريث في الجواب، فتنطلق الأجوبة في الرفقة كما يهتاج العش! فالطاحون الذي يهدر حتى آخر الأبد عند الشجر، كأنما يهوم للجمال الأخضر فينعس وينام،(44/23)
وقد افتن به (لامرتين) ولا ريب! وافتتن بالبحيرات الصغيرة التي يبسطها النهر بين مرجين حين يتهمل - وهي لا تبرح إلى اليوم تنتظر (صاحب البحيرة!) وبدرب النهر ساعة تحدر الفلاحات بالجرار الحمراء في العشايا، ويسلن فوجا غب فوج، فيغدو الدرب نهراً للاحاديث والغبطة يدفق من الضيعة إلى الوادي. . .
أما (أبو الطيب) وهو لم يعرج على الباروك في (وعقاب لبنان وكيف بقطعها) فقد كان حسبنا منه، ان يلتفت في رأس الجبل إلى خيمة الناطور التي تتلاقى عليها عيون القرويين من كل حقل. فيثنى رأس جواده، ويطل من شاهق - وهو الشتاء (2) - على البساط الأبيض الذي نقيم عليه أيام الثلج في (الباروك)! كذلك كنا في الصبى الاول، نحسب الدنيا تبتدئ. ويخيل الينا ان (لامرتين) كان عندنا أول أمس، وكان (أبو الطيب) أول من امس. وأن خيمة الناطور تلك، وطاحون الوادي، ودرب النهر، معالم ثابتة على الزمن، بذهابها ذهاب الباروك والينابيع والربوات والشجر وهاتيك الدنيا الصغيرة!! فلما كبرنا عن الصبى وكبرت الدنيا وصغرت (الباروك) - وكانت خيمة الناطور قد سقطت وانهد الطاحون، وعفت الدروب على النهر - لم يذهب من القرية شئ! بل ظلت لنا (الباروك) قرية بنهر وجبل وضاحية، كما كان عهدنا بها اول العمر. ذهب النافل من ذلك الجمال الباروكي في غرق الأيام وعتمة السواد، وسلم ما ينبغي له. فلو مر جواد (ابي الطيب) في رأس الجبل لثناه راكبه، وقف يتلفت! ولو نزل (لامرتين) بين البحيرات والدروب لآنس نعيما ظلا واخضراراً.
هكذا نقول لأصحابنا في مشادة العبث بين (القديم والجديد)، فالزمن يمسح النافل، ويبقى على المحتم النافع. وليس في الأدب قديم ولا جديد، بل الأدب كد على الحق، ووله بالجمال. تسقط عتمة الآباد ألف مرة على الصنيع الفني الذي غمس بألوان الوله والكد وهو السالم الباقي لا يأخذ الليل منه حرفا!
فالحسن حسن على كل جيل. والتافه تافه أبداً. ما أخر القدم قيد شبر، ولا قدمت الجدة قلامة ظفر.
ولقد سبقنا إلى الدنيا، وجاءها أناس كلفوا بالجمال والحق. وداروا على اللباب في الدروب. فآنسوا نارا ثم ألفوها ونزلوا رماداً. فكيف يسوغ لنا، ونحن في الدرب من ورائهم، ان(44/24)
نقطع ما بيننا وبينهم، ويقال أدب قديم وأدب جديد؟؟!
ان الكدح القاسي في صعيد الفكر، والتضحية السمحة على مذبح (فينيس)، والتنقيب في بياض الصحيفة عن الدنا المنحجبة، كل هذه عرفها الرصيف القديم (بين الدخول فحومل. . .). .
فطلب البلاغ الحر، وقلب النسق في الصنيع الفني، وإبدال ألوانه وصبه على شكيلة الحياة القائمة كانت في وكد الاساتذة السالفين جيلا تلو جيل. وهكذا يقال في شيوع الخاطر من المستهل إلى المقطع، وفي تماسك الحسن الذي لا يبذل للنور نفسه، وفي الميسم المطبوع والنفس الخاص، وفي المعنى الذي يسكن المبنى ولا يمد ساقيه على بحبوحة اللفظ - ذلك كله كان من أغراض الأساطير فيهم، يوفقون إليه حينا وينكصون عنه حينا. فليس الأدب ابن يومه، ما خطرت مطالب الحياة منه على بال أحد في الزمن لتقوم الضجة علينا، ويتنادوا بالويل بعد أن اردنا الأدب حياة وقوة وخفق جناح. . وأطفأنا الشمس بأكفنا!!!
وعندي ان الاساتذة الموتى الذين سلكوا السبيل قبلنا - وكأنهم مضوا ليفسحوا لنا المواضع - من حقهم ان يطرقوا خواطرنا، وان يرشفوا قليلا من الحياة في ألفاظنا. فهم، رحمهم الله، لم يبق لهم من سبيل إلى الضياء إلا هذه الحروف التي تشع فيها خواطرنا هذا حبل الابد هيهات ان ينقطع. والأدب بشرى قبل كل شئ، فليس في استطاعة أحد ان يقطع الحبل! والأدب أخو الحياة لا قديم فيه ولا جديد، بل هو وله الجمال وكد على الحق، وما عداهما فهراء!؟
لبنان
امين نخلة(44/25)
تطور الفلسفة
بقلم على محمد راضي
الإنسان المدرك رأس هذه الخليقة التي تدرجت نحو استكمال نموها حتى تمخضت عنه. ومتى أدرك ما حوله اعمل فكره في تعليل ما يرى ورجع إلى نفسه يبحث انفعالاتها وآثار ارادتها، فهو إذن فيلسوف بطبيعته، ومدفوع للتفكير بحكم جوده وعمل حواسه وعقله وإذا عنى الباحثون بدراسة الحفريات لنوع وأحد من الكائنات ليصلوا إلى مقدار تطور حياته فما أولى طلاب العلم ان يصلوا بين حلقات تفكير الإنسان منذ سكناه الكهف وصيده الوحش لاستخدامه الكهرباء واكتشافه مغناطيسية الحياة.
الطبيعة والإنسان متلازمان، وبينهما أوثق الروابط. . هي معلمته التي تلقى عنها أول دروسه، وهي موضع بحثه منذ اللحظة الأولى لوجوده، يكافحها مرة فتتسع دائرة مجهوده وتفكيره، ويستخدمها مرة فيبني صرح تقدمه وعظمته. ولكنها ضنينة باسرارها، وهذا ما يبعثه على إعمال الفكر في تعليل مظاهرها وتكليف نفسه مشقة البحث عن اصل وجودها وعلة استمرارها.
أبصر من مظاهر الطبيعة ما لم يساعده عقله (الطفل) على فهمها، وعجز عن التعرف على اسبابها، فأحال صدورها إلى قوى لا يدركها تماماً، وما دامت لا تخضع لإرادته فهي أقوى منه واشد بطشا، ولذا اعتقد بالارواح الساكنة في الغابات، وقدم للآلهة المتعددة القرابين ليبعد بها عن نفسه غضبها، واعتقد بتجسد هذه الارواح في بعض الكائنات الحية. وكان اليوناني يعتقد باله الحب والقوة والجمال والماء والأرض، ولا يزال الهندوس يقدسون البقر، وبعض أهالي فارس يوقدون النار ليطردوا إله الظلام ويساعدوا إله النور. وعليه فالعقيدة هي محور الفلسفة الاولى الذي دارت حوله، وطبيعي ان يلجأ الإنسان وهو منزعج الحواس بما يكتنفه من هزيم الرعد ووميض البرق وانبثاق الحمم المستعرة إلى الاعتقاد بوجوب التقرب والخضوع للقوة التي تصدر عنها. . انه بذلك يدرأ عن نفسه غضبها، وتهدأ وساوس نفسه وشكوكه.
ولكن لم يقف تفكير الإنسان عند هذا الحد الذي تسلط فيه عليه الوهم، بل جعل يفكر في منشأ هذا الكون. . . والعالم في نظره الأرض التي تعيش على سطحها، والشمس التي تمده(44/26)
بنورها، والقمر والكواكب التي تلتمع كلما جن الليل، فقال بوجود العناصر الأربعة (التراب. والماء. والهواء. والنار.) ثم تدرج إلى القول بوجود عنصر وأحد هو الماء، ثم عدل عنه إلى الهواء لأنه أبسطها وأسرعها انتشاراً. ولعل هذه هو اساس الاعتقاد بالسديم الذي لا يخرج عن كونه غازا ملتهبا متحركا حول مركز جذبه. . . واليوم يؤمن الإنسان بوجود الاثير، ولم يصل بعد إلى تعرف طبيعته ويضطر لافتراض وجوده ليعلل حدوث الاهتزازات والتموجات التي تنشأ عنها القوى المحركة والمرتبة للجزيئات الترتيب الذي يجعلنا نرى المادة في أوضاع واشكال مختلفة.
واخيرا قام مذهب المعتقدين بوجود وحدات كهربائية (الكترونات) تتحرك بواسطة التجاذب الذري، وان الكهربائية نفسها مؤلفة من ذرات. وقد قاد الإنسان إلى بحث سر الطبيعة ما أودع في نفسه من كلف بكشف كل ما يغمض عليه فهمه أو تعليله. . وقد أداه هذا الشغف إلى التفكير في أمر نفسه لا من حيث الاحتفاظ بوجوده وسد حاجاته الضرورية، ولكن من ناحية فلسفية أدق ووجهة اكثر تعقيدا. .
يشعر الإنسان بوجوده بطريق يقيني، وهذا اصل معرفته، ولكنه لم يدرك كيف تقوم معرفته لما يحيط به، وكيف يفكر؟ وما هي القوة الباطنة التي تؤثر فيه وتوجهه إلى حيث تريد؟. . .
الى هنا طويت صحيفة الفلسفة الطبيعية التي أضاع وقته في خلق فروضها طاليس وانكسمندر وانكسمينس. . وبدأ طور جديد تدور أبحاثه على الإنسان نفسه، ويعتبر الواضع للاساس الجديد سقراط زعيم فلاسفة اليونان وتلميذه افلاطون. . ولكنهما لم يتعرضا لتحليل العقل الإنساني باعتباره القوة المدركة، ولم يذكرا لنا شيئا عن ماهية النفس الإنسانية وقصرا بحثهما على اعمال الإنسان ووجوب مطابقتها لما هو حق وعدل وخير. . صحيح أن افلاطون كان يقول بقدم المادة، ولكنه كان يعلل عملية الادراك بوجود صورة سابقة في النفس للكائنات الموجودة، فهو القائل بوجود عالم العقل وعالم الحس.
والحقيقة ان دراسة الفلسفة الإنسانية من الناحية التي عنى بها المعلمون الثلاثة (سقراط وافلاطون وأرسطو) تنطبق على مباحث علم الأخلاق اكثر من مباحث الفلسفة نفسها، ولهذا كان غرض أقطاب الفلسفة الحديثة إتمام النقص الذي ظل موجودا بعد الفلسفة اليونانية.(44/27)
ومباحث الفلسفة الحديثة تتمم الفلسفة الإنسانية من حيث تحليل الحركة الفكرية، وعلاقة الجسم بالعقل، وقدرة العقل على فهم الحقائق، وحركة الفكر الذاتية (التأمل) ثم بحث النفس الإنسانية وهل لها وجود مستقل أو هي نتيجة لاتحاد القوى المدركة بالقوى المفكرة في الإنسان؟
ولما كانت هذه المباحث من المعضلات العويصة الحل اتخذ كل فريق من الفلاسفة لحلها طريقاً خاصاً، ففريق اعتمد على العقل وحده فانهدم صرح العقائد الموروثة، وعاد العقل يزنها بمقياس الاستقلال الفكري مستعينا بقوانين المنطق، ولكن التوى على جماعة العقليين قصدهم لان العقل بدأ يبحث نفسه، وتطرق الشك إلى كيفية حدوث الادراك، وإذ ذاك لم يجد الباحثون بدا من الالتجاء إلى الحواس والاعتراف بأنها طريق الادراك، وهذا اساس المذهب (التجريبي)، ومع ذلك قام من يثبت أن الحواس تقوم بعمل ميكانيكي، وان المخ في دائرة عمله في الحكم على ما تحمله إليه الحواس قاصر، وان هناك بجانبه وجدانا له انفعالات خاصة لا دخل للحواس ولا للعمل الفكري في أحداثها. ولذا قسموا العقل فقالوا بالعقل المدرك والعقل الملهم أو الخالص.
ويطول البحث إذا اتينا على حجج كل فريق، ولكن ما لا شك فيه ان للنفس البشرية وجودا مستقلا وارادة خاصة غير ما تبعثه فيها البواعث الخارجية ويصل إليها من طريق الحواس والذي يهمنا ان الفلسفة تحولت من اعمال الإنسان إلى أفكاره ومن تفكيره إلى ماهية نفسه. وهذا آخر مدى وصلت إليه الفلسفة الإنسانية.
واليوم تقوم فلسفة اخرى تبحث النوعين الرئيسين (الفلسفة الطبيعية والإنسانية) لا على انهما منفصلان، ولكن على اساس ايجاد الروابط التي تربط الإنسان بالطبيعة، ونتيجة هذا البحث الوصول إلى الغرض الاسمى الذي لم يستطع الإنسان منذ وجوده ان يظفر به لقصر تفكيره ونقص استعداده. وان اليقين بوجود الله من طريق العقل قد حل مشكلات الفلسفة قديما وحديثا. .
لقد ادرك الإنسان ان ما يراه من مظاهر الطبيعة لم يسخر له اعتباطا، وان القوانين الطبيعية التي لم يتطرق إليها الخلل لم توجد اتفاقا، وان صلة الإنسان بالطبيعة ضرورية، وان عظمة الخالق كما تظهر في سر الكهرباء والجذب تظهر في سر النفس وخلود الروح،(44/28)
وكما عجزنا عن تعرف ماهية القوة المسببة للحركة العامة للمادة. فما أحرانا أن نكتفي من بحث الروح باليقين بوجودها.
ان نوعا من الفلسفة لا يزال غير مطروق مع عظيم فائدته. . على الفلاسفة اليوم أن يتركوا بحث الإنسان فرداً فقد قام الإنسان بنصيبه من التفكير في أمر نفسه. ولكن عليهم أن يضعوا لنا فلسفة أجدى، وان يصرفوا جهودهم لبحث القوانين العامة التي يجب أن تربط المجتمع الإنساني. . إن فلسفة المجتمع هي الغاية التي يجب أن ننشدها لتتم سنة الارتقاء وهي الناموس الذي يحكم الطبيعة والإنسان؟
على محمد راضي(44/29)
قصة من الواقع
الأمل الضائع
أو كذبة ابريل
لا تظن أيها القارئ الكريم أني سأحدثك عن سبب هذه الكذبة ولا متى
واين وجدت؟ فذلك بالمؤرخ اجدر، ولا عن مدى أثرها في نفوس من
وقعوا في حبائلها: أخير هو أم شر؟ أجميل أم قبيح؟ أنافع أم ضار؟
فذلك بعالم الأخلاق أو النفس أليق. إنما أحدثك بلسان أديب، رأى رأي
العين قنيصة من قنائص هذه الكذبة، على غير علم منه انها قنيصة،
وإنما أردت ان اطرف بها القراء؛ لأنها كما سيرون طريفة حقاً،
محكمة في نسجها احكاماً، حتى لقد بدت - وهي الباطل المزخرف -
كأروع ما يكون الحق، ومثلت مع أديب شاعر لم يتسرب إلى قلبه
الشك في صدقها؛ ولعل ذلك إلى ان الأديب خلق اطهر الناس فطرة،
وأنقاهم سريرة. . . ضحك الأديب المكذوب عليه مع من ضحكوا على
هذه الاكذوبة، وربما كان اكثر إغراقا في الضحك، ذلك انه وقف من
أصحابها موقف جاد من هازلين، متفرج على ممثلين: صادق مع
كاذبين.
طرحت إحدى المجلات الشهرية المصرية على الشعراء مسابقة أدبية، ذات جوائز مادية، وانتهى موعد التقديم، وترقب كل شاعر وأديب نتيجته، كما يترقب المساهم في بعض الأنصبة نصيبه. . .
وفي ذات ليلة من ليالي ابريل، فكر ثلاثة من الأصدقاء في ان يكذبوا (كذبة ابريل) ولم يطل التفكير؛ فقد كانوا مساهمين في هذه المسابقة الأدبية، فلماذا لا تكون المسابقة هي مادة(44/30)
الكذبة؟ ولماذا لا يكون أحد المتسابقين غيرهم موضوعها؟ ولماذا لا يكون ذلك الأحد صديقا لهم، اشتهر فيهم بالحلم، فيأمنوا عاقبة ما تحدثه الكذبة في صدره؟ واخيرا لماذا لا يتلهون بهذه الاكذوبة ويقطعون بها وبالحديث عنها فترة الانتظار، انتظار النتيجة الممل.
اختمرت الفكرة، لكن بقي أن تصقل بصقل الدهاء، وترتب حوادثها تباعا، ويشذب ما عساه ينتأ فيها من شبه وظنون، ويبعد عنه ما عساه ينبه قوة الملاحظة التي ستغرق في حلم من الاكذوبة لذيذ. .
تولى أحد المتآمرين سرد حوادث الكذبة كما ستقع، وتولى الآخر الاعتراض، وتولى الثالث الرد، وهكذا تبادلوا الاسئلة والاجوبة والنقد والتمحيص، حتى اقر الجميع متانة صقلها، قوة سبكها ثم تعاهدوا على ان يتكاتموا سرها حتى على أنفسهم ليضمنوا لها النجاح والتوفيق.
ابتدأت الخطوة الاولى من التنفيذ بكتابة خطاب إلى هذا الصديق المتسابق بخط صاحب المجلة الزائف، ولكن مع كثير من التقليد، وبخاصة الامضاء. وهذه صورة من الخطاب!
(فلان. . . تحية. . . وبعد فيسر صاحب الامضاء ان يبشركم بالفوز في مضمار المسابقة. والمجلة تهنئكم به، وتطلب اليكم أن ترسلوا صورتكم الشمسية لتصدر بها قصيدتكم المحلية في ميعاد لا يتجاوز 28 الجاري. . والسلام)
الصق الخطاب وكتب عليه عنوان صاحبه، وسلم إلى بريد القطار الذي يؤم القاهرة أو بعبارة أدق وضع في صندوق بريد المحطة طمعاً في ان يصل إلى القاهرة خطأ فتعيده تلك إلى مكتب البريد الذي يوصله إلى صاحبنا، حتى إذا نظر إلى الخطاب لا يشك في انه صادر من موطن المجلة - كلف أحد المتآمرين ان يرقب عن كثب مصير الخطاب حين يصل القطار - تنبه البريد إلى هذه الخطأة فأرسل الخطاب إلى مكتب بريد البلد قبل ان يصفر القطار، وذلك ما لم يكن في حساب المتآمرين؛ وسرعان ما تلافوا ذلك بأن تطوع أحدهم بحمل الخطاب من مكتب البريد إلى حيث توضع خطابات صاحبنا على مكتبه، وتولى حراسته حتى لا ينظر فيه غير صاحبه خشية ان يدرك بوساطة خاتم البريد انه مصدر من البلد نفسه، لانه سينظر إليه بعين فاحصة فتنكشف العصا كما يقولون، لا كما سينظر إليه صاحب الخطاب بعين اللهف على ما فيه. . . هل صاحبنا في وقت تعود فيه أن يتسلم بريده، فأبرقت أسارير جبهته، حين وقعت عينه على ذلك الخطاب، وأنت أدرى(44/31)
كم يكون سرورك حين تقع عينك على خطاب، ولو كان ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب. . . تناول صاحبنا الخطاب بيد مرتعشة، رعشة الفرح أو الإشفاق لا أدري! ومزق الغلاف ونظر في سطور الخطاب نظرة سريعة وإذا بالبشرى، بشرى الفوز في مضمار المسابقة يفوح عبيرها؛ فيملأ انفه ويسري منه إلى اعصاب المخ والقلب سريان البرق، فيصدر في غير وعي، اشارات الفرح وإمارات الانتصار، غير ناظر إلى خاتم البريد، ولا ممعن في النظر إلى السطور الزائفة. . .
(اعطني عقلك!) لا نظر ولا انتظار، ولا هدوء ولا قرار، على مثل ذلك النبأ السار. . .
اغتنم حارس الخطاب هذه النشوة من صاحبنا فاختلس الغلاف وأخفاه حتى لا يعيد النظر إلى الخاتم بعد زوال السكرة، ورجوع الفكرة، ثم اظهر الحارس الفرح بفرح أخيه، وتناول الخطاب من يده، واخذ يطوف به على بقية الإخوان، مبشرا من لم يتآمر منهم بنجاح صاحبهم، ومن تأمر بنجاح مؤامرتهم. . أرأيت كيف تدبر المؤامرات وتحكم التلفيقات؟ ألم يصدق المثل القائل (كذب مرصوف، ولا صدق مندوف) وهنا اقترح المتآمرون على صاحبهم ان يدفع ثمن هذه البشرى (حفلة سمر أخوية مسائية تقام في بيته) وايد هذا الاقتراح سائر الاخوان فلم يسعه إزاء هذا الاجماع إلا أن يوافق بعد تردد لم يطل مداه إذ بخسوا له هذا الثمن (بمبلغ زهيد يشتري به فاكهة، وتقام حول مائدتها حفلة تكريم، للشاعر العظيم)، ودفع صاحب الثمن لأحد المتآمرين الذي تطوع بأن يقوم عنه بمهمة شراء الفاكهة، وانه سيتبرع هو الاخر بنصف هذا الثمن، حبا وكرامة - التفت ذهن الشاعر إذن إلى الصورة الشمسية، ورأى ان ما عنده من الصور لا يصلح لمثل هذا التفوق فقرر ان يحضر صوراً جديدة تكون أنقى وأجمل. وتواردت في ذهنه هذه الاسئلة: من ذلك المصور الماهر الذي سيحظى بشرف تصوير حامل قصب السبق في مضمار أدبي؟ من أي المدن القريبة يستحضرها؟ أي القطر يستقله إلى المدينة؟ متى يسافر؟ كيف يحصل على اجازة من عمله؟. . .
بعد لأي قرر السفر غداً - ولكن اخوانه المتآمرين كانوا قد قروا ان تكون هذه الاكذوبة مداعبة ظريفة ليس اكثر، فرسموا خطتهم على لا يكون سفر، والا يكون ما وراء السفر من مشاق ونفقات، ولا ما وراء ارسال الصورة الشمسية إلى صاحب المجلة مما تعلم، وما لا(44/32)
تعلم. . . كان ذلك واكثر منه سيحدث لو لم يقرر للمداعبة ان تكون ظريفة غير قاسية: لذلك قرروا ان تكون حفلة السمر في مساء ذلك اليوم، وان يفاجأ صاحبنا بأكذوبة ابريل بعد ما عساه ان يقال، من خطب ومقطوعات وازجال، في حفلة كلها أدباء أبطال.
قضى الشاعر يومه غير محسوب من عمره كما يقولون: احلام شهية، وأمال طلية، وشرف ومجد، وصيت لا يحد، ذهل حتى عن نفسه، واختلط عليه يومه بأمسه، يخاطبه مخاطبةً فيجيب (نعم) حيث الجواب (لا) يجيب (لا) حيث الجواب (نعم)، وقد يكتفي بإيماءة من رأسه تصلح للنفي والاثبات، وتؤدي معنى لا ونعم، وما ان فرغ من عمله حتى رأى نفسه في حجرة الاستقبال في بيته، ينظم وينسق، ويرتب وينمق، ثم في حجرة المائدة يكللها بالازهار لأنها ستحظى بتكريم فائز المضمار. . . دقت الساعة تسعا، فدقت (سماعة) الباب وإذا الطارق اخوانه المحتفلون، اخذ يحييهم، فيهنئون، ثم دعاهم إلى المائدة، فطفقوا يأكلون.
جلس الشاعر على مقعد التكريم، ولاول مرة يفوز بهذا المقعد فأحس الخيلاء تتمشى في نفسه، وخواطر العظمة تجيش في صدره، انبرى الخطباء أمام المنصة، يقولون ما سمته مرارا حول موائد التكريم، حديث معاد، لا يحرف ولا يزيد، وكان الخطباء بين اثنين: جاد منسجم في جده، وهازل غارق في هزله. والشاعر ترتسم على وجهه ألوان متعاقبة متأثرة بما يقال، فهو خجل حين يفيض المدح، متواضع حين يغلو الاعجاب، مبتسم حين تشرق الدعابة، ضاحك حين تدوي النكتة، مزهو يذكر السبق في المضمار، ثمل حين تدار كأس الانتصار؛ انتهى الخطباء من كلماتهم، ولم يبق غير وأحد من المتآمرين اعتذر بأن كلمته قصيرة فاترة، قد يفوح شذاها ان جعلت مسك الختام.
وهنا قام الشاعر المكرم، يؤم المنصة، متئد الخطى في دلال، مصعر الخد من جلال، ولم لا؟ الم يكن المجلى في حلبة الفرسان؟ ألم يفز بالقدح المعلى في الرهان؟ الم يشر أو سيشار إليه بالبنان؟ الم يصرع - وهو الشاعر الناشئ، والأديب الحديث - فحول الشعراء، قدامى الأدباء في الميدان؟ اخذ أمام المنصة يجول ويصول ويهز جوانبها تارة بالشعر المصقول، واخرى بالنثر المعسول، يخلع على الخطباء أبهج الحلل، ويقلدهم أنصع الدرر؛ حتى ملأ السمع، واثلج الصدر، وأفعم القلب؛ واخيرا جلس كما قام بين عاصفة من الهتاف(44/33)
والتصفيق. .
قام صاحب مسك الختام، وألقى في اول كلمته ما يناسب المقام، ثم. . . ثم مإذا؟. ثم استجمع قواه، وشد من اعصابه كما يتجمع من يهم بالقاء قنبلة داوية، وأراد ان يلقيها كلمة صريحة فلم تطوع له نفسه أن يقذف بها صديقا أعز عليه من نفسه، ولكنه أرسلها مبهمة تأخذ النفس في استجلائها رويداً رويداً فتأنس لها ولا تنفر منها نفورا كبيراً. . إذن ماذا قال؟ قال! (ألما يزل في ابريل، ذلك الشهر الطويل، شهر الكذب والتضليل) وسكت. . . هنا ذهبت نفوس المحتفلين غير المتآمرين وأولهم الشاعر في تأويل ذلك الذي قيل كل مذهب، وأخذ الشك يدب إلى يقينهم، رويدا رويدا، كما يدب غسق الليل إلى وضح النهار حين الغروب،. . . ولكن مازال في الافق بصيص من نور، وفي النفس ذبالة من أمل، لقد اطفأه ظرف الخطاب (أنسيت الخطاب المزيف؟) الذي عرض على الجميع بين الدهشة والاستغراب، فوجدوا ان خاتم البريد هو لمكتب البلد الذي به صاحبنا ن غير انه ختم به مرتين ذلك الخطاب الذي لم يحظ بركوب القطار. . . وإذن كان ظرف الخطاب، هو فصل الخطاب، قطعت به (جهيزة قول كل خطيب) وصاح الجميع في نفس وأحد، ابريل. . . ابريل، كذبة ابريل! لقد مثلت أجود تمثيل، فكانت كذبة رائعة محكمة، وكانت مفاجأة لذيذة متعة. فهل كانت كذلك في نفس شاعرنا الكريم؟ الجواب والمعنى في بطن الشاعر كما يقولون. فوجئ صاحبنا بكذبة ابريل، وانت ادرى ما يحوم حول المفاجآت من تكبير وتهليل.
آفاق الشاعر من حلم لذيذ، دام من الثامنة صباحاً إلى العاشرة مساء، على صوت قذيفة هذه المفاجأة الصارخة، وانهار في لحظة واحدة من الواقع ما بناه الخيال والوهم من صروح في ساعات وغار البشر في ظلام العبوس، ودفنت النشوة في وجوم الدهشة، وأرسل صاحبنا قهقهة عالية عصبية؛ أمن الغيظ أو الكذب أو الغفلة؟ لا ادري! ملأ السامرون حجرة السمر بصوت مزيج من التصفيق الانتصار، وضجيج الدهشة، وصياح الانكار، وضوضاء الفرح، ونشيج الامل.
فكيف كان موقف شاعرنا؟ تكلف وسط هذا الموج الصاخب أن يظهر بمظهر الرجل الثابت الذي يقابل الخطوب بابتسام. والأكاذيب بابتسام، وهتف من اعماق نفسه (الا لعنة الله على(44/34)
الماجنين، واخذ يسلي نفسه بما حضره من حكم الشعراء، بمثل قول ابي العلاء.
فظن بسائر الاخوان شراً ... ولا تأمن على سر فؤادا
فلو خبرتهم الجوزاء خبرى ... لما طلعت مخافة ان تكادا
هنا أحس زعيم المؤتمرين ان تلك المفاجأة - مهما يكن من شئ - قاسية شديدة، فأخذ يلطف حرارتها، ويخفض من شدتها بما قال مخاطبا الشاعر: لا يكن في نفسك يا أستاذ أثر من كذبة ابريل، فوالله ما تدري. لعل ذلك فأل جليل، فتطلع علينا في غرة مايو الجميل المجلة النزيهة. وفيها لك تاج واكليل.
حسن! وما رأيك في ان ذلك الشاعر الموتور. هو صاحب تلك السطور؟
فرحات عبد الخالق(44/35)
3 - بين المعري ودانتي في رسالة الغفران
والكوميدية المقدسة
بقلم محمود احمد النشوي
اثر الروايتين في اللغتين العربية والايطالية
حدثنا الدكتور جوفاني كابو فيلا عن أثر دانتي في اللغة الايطالية إبان تقدمته لروايته فقال (إليه يرجع الفضل في تثبيت دعائم اللغة الايطالية التي ملأها وهي لا تزال في مهدها بأقاصيص الحب والعدالة والحرية والجمال).
تلك كلمة نسطرها مقتنعين بها. فاللغة ايطالية وكل لغات أوربا الحديثة إنما تزداد على مر الأيام جمالا وحسنا وثراء من أخيلة ومن ألفاظ. انها تطرد في الحسن اطراد الاوربيين في الرقى. وهكذا اللغة تقوى بقوة الامة، وتضعف بضعفها. وانا لنتقرى مصداق تلك النظرية في الاوربيين المعاصرين فنرى نسبتهم في اللغة كنسبتهم في القوة. وقد كان الايطاليون ضعافا في عهد دانتي فكانت لغتهم وليدة، كما قال الدكتور جوفاني.
ونحن ما دهانا في لغتنا؟. لقد كان عهدها الذهبي عصر المعري إبان القرن الخامس الهجري. ومن ذلك الحين أخذت تفقد شعاعها على يد التتار في الشرق، والاسبانيين في الغرب، والمماليك في مصر، ولا زالت تضعف تراكيبها، وبتهليل نسيجها، حتى بلغت درجة (الصفر) ضعفا وهزالا أواخر القرن الثالث عشر الهجري.
بيد ان نهضتنا المباركة أعادت للعروبة طراءة الشباب وجمال الفتوة. وارتنا كتابا من المعاصرين لا اسميهم، ولا ابالغ ان قلت انهم في الطليعة يسايرون الجاحظ، وابن المقفع وعبد الحميد، وعمرو بن مسعدة. في الفكرة وفي الاسلوب.
فذلك الضعف المطرد في الامة العربية منذ القرن الخامس الهجري. وتوالي الكوارث، والمحن عليها اضعف من لغتها. وجعل أثر (رسالة الغفران) محدودا. وهل تستطيع رسالة الغفران أن تقاوم الضعف التي تفتحت أبوابه علينا من كل اتجاه؟. ان ذلك غير مستطاع. ولو انها رقت ألفاظها وعذبت مفرداتها، وسلمت من غرابة اتشحت بها، لرجونا ان تلوكها الالسن فتعذب، وتجول في جنياتها الاخيلة فتسمو. ولكنها ابت ان تخرج للناس سافرة غير(44/36)
ذات نقاب. فوضعت من دونها حجباً واستاراً من اغراب ووحشية ومعاظلة لا تزول إلا بعد استشارة القاموس ولسان العرب ومعاجم اللغة. وقد تجد طلابتك وقد لا تجد. نعم قد لا تجد شرح بعض مفردات (رسالة الغفران) في معاجم اللغة كلها. فحالت الغرابة دون تناولها، بقيت صدفاتها مغلقة على لآلئها، فلم ينتفع بها أحد.
نزعة في أبي العلاء إغرابه والعصر عصر حضارة، وتوعره والزمان زمان رقة نمت في نفسه بنمو مزاجه السوداوي، وتقوت دعائمها بما كان يكاثر به العلماء بعضهم بعضا في عهده من المباهاة بالغريب. ثم صوغه في قالب جذاب ترغيبا في حفظه.
تلك المدرسة التي كان يرفع لواءها الحريري المتوفى سنة 516 والتي وضع أساسها ابن دريد المتوفي سنة 321. وابن فارس المتوفي سنة 390. والخوارزمي المتوفي سنة 383، والبديع الهمذاني المتوفي سنة 398، وابن نباتة السعدي المتوفي سنة 405. والتي كانت تكلف بالغريب تتلمس أوهى الأسباب لذكره والاكثار منه، كان لها اثر في نفس المعري. فحببت إليه الأغراب والإغماض. وأخرى لعلها حدث به أن يغرب. تلك هي السخرية والدعابة التي يشم منها رائحة التطاول على الدين. فعمد المعري للغريب يتوارى خلفه. ويتخذه مجنا دون من كان يتقى، فأرانا أفانين من الاغراب تعرب عن علمه باللغة بما تقصر دونه الأعناق ولا تكاد تحيط به العقول. ولقد كان يأتي ببعض الغريب ثم يفسره مما نستنبط منه أن شرح المفردات اللغوية كان أحد أغراضه من تدبيج رسالته.
وحسبي أن أضع أمامك بعض نصوصها لتحدثك عن غرابتها، فأول ما ينطق به في رسالته قوله: قد علم الحبر الذي نسب إليه حبريل (بالحاء). وبينا ابن القارح يطوف في روضات الجنة إذا به ينظر خمسة نفر فيقول لهم: ما رأيت احسن من عيونكم! من انتم؟ فيقولون: نحن هوران قيس تميم بن مقبل العجلاني، وعمرو ابن أحمر البأهلي، والشماخ بن ضرار أحد بن ثعلبة، وعبيد بن الحصين النميري، وحميد بن ثور الهلالي. فيحاور الشماخ في شعره، فيقول له الشماخ: إنما كنت أسبق هذه الأمور وانا آمل ان أفقر بها ناقة. أو أعطي كل عيالى سنة. وأنا الآن إن احببت وردا من رسل الأوارى، فرب نهر كأنه دجلة أو الفرات. ولقد أراني في دار الشقوة أجهد أخلاف شياه لجبات لا يمتلئ منهن القعب.(44/37)
وكذلك قوله: وما عمل من أجناس المسكرات. مفوقات للشارب. وموكرات كالجعة والبتع والمزر. والسكركة ذات الوزر. إلى غير ذلك مما امتلأت به رسالة أبي العلاء. فكان حصونا منيعة دون المعنى تحول بينه وبين الافهام. ودونك مثلا من غريب ما ذكره وفسره حين يقول. فأن خرج إلى الحاء فقال: من أم شح جاز أن يقول: وحوارى بمح، وببح، وبرح، وبجح، وبسح. فالح مح البيضة، وبح جمع أبح من قولهم: كسر أبح أي كثير الدسم. ويجوز أن يعني بالمح القداح كما قال السلمى
قروا أضيافهم ربحا ببح ... يعيش بفضلهن الحي سمر
ورح جمع أرح، وهو صفات بقر الوحش. وقد يقال لأظلاف البقرة رح. قال الشاعر الاعشى
ورح بالزمان مردفات ... بها تنضو الوغى وبها ترود
والسح تمر صغير يابس، والجح صغار البطيخ قبل ان ينضج. وسواء لدينا أكان إغرابه معاياة لعلماء اللغة أم خدمة في سبيل إحيائها. أم تلك الأسباب كلها مجتمعة، فقد كان ذلك النسيج دروعا حول المعنى رغبت الناس عنه. فلم تؤثر الرواية في الجماهير. ولعل اكثارها من نقاش النحو واللغة والصرف، صرف قلوب الناس عنها. على حين كان دانتي يتخذ من روايته عظة خليقة خلابة فتهافت الناس عليها منذ تراءت في سماء ايطاليا.
ولعا مما يكبر المعري في أعين النقاد أن نقاش رسالته وهو في غريب اللغة، وعميق النحو والصرف والعروض، وثلة من تلك الابحاث الجافة لم يكن جافا، فقد اضفى عليه عذوبة من روحه جعلته عذبا شائقا. وتلك هي القدرة الفذة التي تجعل المعري في الخالدين.
نفسية الشاعرين
كان المعري ههنا مرحا طربا، فابتدأ بالفردوس، وختم بالفردوس، واطلق لخياله العنان، في السخر والدعابة، يسمر مع الشعراء والأدباء والنحاة. بل مع إبليس، ومع الخزنة، خزنة النيران: يرى المعذب تندلق أقتابه، ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت، فيحاوره في النحو والصرف، وفي الرواية والتصحيف، دون أن تجدي لديه ضراعة المعذبين واعتذارهم عن الاجابة بما هم فيه. ولم يصحب المعري دليلا في رحلته إيناسا لابن القارح، وتعبيداً لسبيلها.(44/38)
ولكن دانتي كان مروع القلب. هلوع الفؤاد. ابتدأ الرحلة بالجحيم فلم يطق لسير في ظلماتها وحيدا. فصحب الشاعر العظيم فرجيل، يؤنسه ويهديه سواء السبيل. بيد ان اصطحابه لم يمنعه أن يشتد به تأثره، حين يرى الجثث تتطاير مع اللهب من اللهب وحين يستمع العصاة وهم يصطرخون فيها داعين بالويل والثبور الوأحد، وبالويل والثبور الكثير.
ولقد أغمي عليه مرات عدة. ففقد وعيه حينما كان يطوف في الطبقة الثانية من جهنم، فرأى العاشقين باولو وفرنشيسكا وهما يتطايران متعانقين في لهب السعير. رأى دانتي تلك المخلوقة الضعيفة تلفح وجهها النيران فأغمي عليه. ولما أفاق قصت عليه قصصها. وأنها كانت هيفاء القوام، مشرقة الطلعة، خطبها (جانشوتو مالاتستا) القصير القامة الدميم الخلقة. فأطمع أهلها ثراؤه. فتغاضوا عن دمامته، وإبان الخطبة أروها أخاه (باولو) الوسيم القسيم، فأحبته وظلت ترقب ليلة الزفاف التي تجلت لها سوداء قاتمة حين رأت زوجا دميما خدعت فيه بأخيه الذي ظلت عرى المحبة بينها وبينه متواصلة. حتى أتاحت لهما الفرصة سفرا من زوجها قريبا فالتمساها وجلسا يقرآن معاقصة قبلة، بلغاها فقلداها فتوشجت بينهما أواصر المحبة، حتى تكشف أمرهما لأحد الخدم، فسعى بهما زوجها فحضر على حين غفلة فرآهما معا مختليين في منأى عن أعين الرقباء، فاستبقا الباب فاتبعهما بسيفه فقضى عليهما عقابا في الدنيا، يتلوه خلودهما في الجحيم.
ولقد كان دانتي يطوف في الطبقة الاولى من الجحيم. فزلزت الارض زلزالها، وانتشر في الجو نور أحمر تكاثف حتى ملأ للآفاق ففقد كل المشاعر والحواس. لولا رعد قاصف دوى في إذنيه فأفاقه وهكذا كان دانتي مضطرب القلب مروعا من رحلته، على حين ان ابن القارح كان طروبا كما حدثتك حتى في أشد المواقف إذابة للصخور الجلامد.
وذلك فرق ما بين الشاعرين: دانتي العابس، والمعري الباسم في رسالة الغفران لا في اللزوميات.
يتبع
محمود احمد النشوي(44/39)
التصوير في الشعر العربي
للأستاذ فخري أبو السعود
الوصف من أهم أغراض الشعر وأخص فنونه. وكلما كثر في شعر لغة أو آثار شاعر، دل على رقيهما الفني، إذ أن مناظر الطبيعة خاصة، وروائع المشاهدات عامة، من أشد العوامل تأثيراً في النفس الشاعرة وتحريكها لعاطفتها وبعثاً لها إلى القول. والوصف في الشعر العربي غزير يتناول شتى الموضوعات، ويبلغ في يد كبار شعراء العربية غاية الاجادة. فكثيراً ما تخلص شعراؤنا من قيود المدح والرثاء والنسيب الاستهلالي - مهما كان تقيدهم بهذه الاغلال الثقيلة التي كبلت الشعر العربي - وعرجوا على وصف أثر من آثار الطبيعة أو المدنية، فأبدعوا وأرضوا الفن، أضعاف ما أرضوه بمبالغات المدح والرثاء والنسيب المدعى.
ولكن الذي أريد الاشارة إليه في هذه الكلمة، ان اعتماد الوصف في الشعر العربي كان دائما على المعنى دون اللفظ، على التشبيه والاستعارة والمجاز دون جرس الألفاظ وتتابع التراكيب ووقع الاوزان والقوافي. بينما الشعر الوصفي الغربي اعتمد على هذه الأشياء الاخيرة اعتماداً كبيراً. فبلغ الغاية في المطابقة بين المعنى واللفظ مطابقة تملأ الوصف حياة وجلاء. وتوفر بعض الشعراء على هذا الضرب من التصوير، ومنهم ملتون وتنيسون، ولا سيما الثاني الذي بلغ في القدرة على تذليل اللفظ للمعنى واستخدامه في تصوير ما يشاء حداً منقطع النظير. وأضحت آثار أولئك الشعراء مهبط وحي لكبار المصورين يستلهمونها ما حوت من روائع الاوصاف ومحكمات الصور ويسجلون ذلك على لوحاتهم.
إذا كان في المنظر المراد تصويره حركة كجريان نهر أو عدو جواد استخدم الشاعر الغربي بحرا من بحور الشعر يلائم تلك الحركة ويحكيها. وإذا كان به صوت أو أصوات مختلفة كهدير أمواج البحر أو قصف المدفع في الحرب اختار من الألفاظ تلك التي تحتوي على حروف خشنة قوية، وإذا كان يصف منظراً ساكنا وادعاً لم يذكر ذلك في القصيدة ذكراً، وإنما استعمل الألفاظ ذات الحروف اللينة كالسين مثلا، وهناك عدا هذا وذاك ضروب شتى من الملاءمة بين الصيغة والمعنى يفتن فيها الشاعر الوصاف ما شاء له(44/40)
اقتداره: ككثرة العطف وتكرار الحروف والكلمات والتراكيب والابيات الكاملة.
ولقد وقع شئ من ذلك في بعض اشعار الوصف العربي، ولكنه كان الهاماً محضا أو اتفاقا عارضا ساقت الشاعر إليه المصادفة السعيدة أو السليقة المجيدة، دون ان يعتمده أو يتكلف في صوغه عناء، ويقرأ القارئ العربي فيستطبيه ويعزو موقعه من نفسه إلى مجرد جودة معاينة وحسن تشبيهاته. ويجمل ذكر شئ من هذا القبيل للتمثيل والبيان:
ففي معلقته يصف أمرؤ القيس الليل في بيته المشهور
فقلت له لما تمطى بصلبه ... واردف اعجازاً وناء بكلكل
وفضلا عن جودة المعنى وحسن التشبيه في هذا البيت يزيد الوزن والتركيب الوصف المراد ظهوراً: فالبحر الطويل ذو الحركة الوئيدة وتكرار العطف بالواو يمثلان بطء مسير الليل ولجاجه في الاقامة وتماديه في الطول خير تمثيل، وفي بيته الآخر حيث يصف جواده بقوله:
مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
نرى تتابع الصفات بلا فاصل في الشطر الاول، واستعمال الألفاظ الضخمة الخشنة في الشطر الثاني يمثلان توثب الجواد وسرعة انطلاقه وارتداده ومفاجآت حركاته تمثيلا جيداً يصرف النظر عن تشبيه بانحطاط الصخر من شاهق. وفي قول المتنبي:
أتوك مجرون الحديد كأنما ... سروا بجياد مالهن قوائم
خميس بشرق الارض والغرب زحفه ... وفي إذن الجوزاء منه زمام
نرى وصفا رائعا لجيش كثيف وئيد الزحف لكثافته، وليس في البيتين معنى كبير، وليس فيهما سوى مبالغة غير معقولة ولكنه البحر الطويل يمثل هذه الحركة البطيئة أتم تمثيل، هذا فضلا عن فخامة الألفاظ التي تخيرها الشاعر؛ ونرى البحر الطويل يؤدي مثل هذا الغرض ويرسم صورة أخرى رائعة في قول جميل
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالاركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الاحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطى الأباطح
فهنا حركة الابل البطيئة واضحة ماثلة، وقد كان جميل ملهما حيث ذكر اسم كلمة أعناق في البيت الثاني فانها وحدها ترسم الصورة التي اراد: فان ذكر الجزء الأهم من الصورة،(44/41)
كثيراً ما يبعث إلى المخيلة باقي الاجزاء ويبرز الصورة جليلة كاملة، ويترك البحر الطويل مثل هذا الأثر أيضاً قول البارودي الذي اشار إليه الدكتور صبري في كتابه عن الشاعر:
- ونبهنا وقع الندى في خميلة -
فإذا قرئ هذا الشطر بتأن وجدنا الوزن يمثل تساقط قطرات الندى متتابعة، أما الحركة السريعة فيمثلها البحر الكامل، ومن ذلك قول المتنبي:
اقبلت تبسم والجياد عوابس ... يخببن بالحلق المضاعف والقنا
عقدت سنابكها عليها عثيراً ... لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا
ففي البيت الثاني نرى مبالغة أخرى من مبالغات المتنبي، وهي لا تكاد تؤدي معنى، ولكن البحر الذي صيغت فيه القصيدة يؤدي خبب الجياد خير أداء، حتى ليكاد يريك توثب الفرسان فوق ظهورها، ولو حاول الشاعر وصف الخبب في البحر الطويل لما استقامت صورته.
ولتكرار الألفاظ أو التعبيرات أحيانا اثر بليغ في ابراز الصور وبعث الاخيلة. ففي قول ابن هانئ الاندلسي:
وفوارس لا الهضب يوم مغارها ... هضب ولا الوعر الحزون حزون
يوحى تكرار كلمتي هضب وحزون إلى المخيلة تتابع الهضاب والربى أثناء عدو الفرس، فكأنه يعرض أمام العين شريطا سينمائيا متحركا، أضف إلى ذلك صوغ البيت في البحر الكامل واختيار الكلمات الفخمة، وفي قول الأستاذ المازني:
لغط اليم إذا طما ... والتقت فيه هضاب بهضاب
ترى صورة رائعة لجيشان اليم، ولا يرجع هذا إلى معنى البيت وحده، ولكن إلى وزنه وألفاظه كذاك: فبحر الرمل يمثل الحركة المتضاربة أدق تمثيل. وتكرار كلمتي اليم وهضاب يوحي إلى المخيلة تتابع اللجج، وتكرار حرف الهاء ثلاث مرات في الشطر الثاني يزيد الركة تصويراً وبروزاً.
كان ذلك في الغالب كما ذكرت محض اتفاق أو الهام، ولم يقم في العربية فرد أو مدرسة تتوفر على هذا الضرب من النظم والتصوير وإنما حين اتجه نظر الشعراء إلى اللفظ صادف ذلك عصر انحلال الأدب فلم يسخروا اللفظ لابراز المعنى، بل صرفوا كل همهم(44/42)
إلى اللفظ دون المعنى، وولعوا بالألاعيب اللفظية التي سموها محسنات، وأوغلوا هذه الغثاثات على اجل فنون الشعر خطرا كالرثاء والنسيب فأسفت وانعدم فيها الحس والشعور؛ فرأينا شاعرا ينسب فيقول
ناظراه فيما جنى ناظراه ... أو دعاني أمت بما أودعاني
وآخر يتوجع فيقول:
لي مهجة في النازعات وعبرة ... في المرسلات وفكرة في هل أتى
وثالثاً يمدح فيقول:
وان أقر على رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له
وليس في كل هذا التعبير عن شعور أو أداء غرض، وما هو إلا عبث بالألفاظ واقتناص للجناس والطباق والسجع، والتورية، وإنما أكثرت من هذه الامثلة الغثة لأوضح كم كان الشعر العربي يربح لو أن المجهودات التي صرفت في مثل هذا التحايل العقيم وجهت إلى تسخير اللفظ للمعنى، والاستعانة بهما معا على ابراز الوصف المقصود كما يصنع شعراء الغرب.
وليس في طبيعة اللغة العربية قصور يحول بينها وبين مجاراة اللغات الأخرى في هذا الباب، بل لها من الميزات ما يقدمها على غيرها: فهي كثيرة البحور التي تؤدي كل منها غرضا مختلفا، غزيرة الألفاظ الوعرة الضخمة والرقيقة اللطيفة التي توحي بخشونتها أو رقتها مختلف الصفات، غنية بالحروف السلسة اللينة والحروف الخشنة الجافية التي تطاوع الناظم القدير. ليس يعوز العربية شئ من ذلك وإنما يعوزها الجرأة من الناظمين بها والعزم والجلد.
فخري أبو السعود(44/43)
5 - بديع الزمان الهمذاني
للدكتور عبد الوهاب عزام
عقيدته
وكان سني الاعتقاد يكره المعتزلة ويلعنهم قال في ديوان متغزلا:
ذات جفون ضعفت ... كمذهب المعتزلة
وله قصيدة يرد فيها على الخوارزمي قوله في الصحابة. ومن هم اجل ذلك اتهم في نيسابور بميله عن العلويين، فبرأ نفسه وروى لهم من شعره في رثاء الحسين، فهو على حبه آل البيت لا يذهب مذهب الشيعة في الخلافة وما يتصل بها. يقول في الديوان:
يقولون لي لا تحب الوصي ... فقلت الثرى بفم الكاذب
أحب النبي وأهل النبي ... وأختص آل أبي طالب
وأعطي الصحابة حق الولاء ... وأجري على السنن الواجب
فأن كان نصبا ولاء الجميع ... فأني كما زعموا ناصبي
وان كان رفضا ولاء الوصي ... فلا يبرح الرفض من جانبي. الخ
في رسائله واحدة كتبها إلى بعض الوزراء يشكو من ظهور التشيع في هراة ويحذر ان يصيبها ما أصاب نيسابور وقم والكوفة: (ورجع صاحبي آنفا من هراة فذكر انه سمع في السوق صبيا ينشد ان محمداً وعلياً، لعنا تيماً وعدياً. فقلت ان العامة لو علمت معنى تيم وعدي، لكفتني شغل الشكاية، وولي النعمة شغل الكفاية، ويل أم هراة، أنصب الشيطان بها هذه الحبالة، وصرنا نشكو هذه الحالة. والله ما دخلت هذه الكلمة بلدة إلا صبت عليها الذلة، ونسخت عنها الملة، ولا رضي بها أهل بلدة إلا جعل الله الذل لباسهم، وألقى بينهم بأسهم. هذه نيسابور منذ فشت فيها هذه المقالة في خراب واضطراب الخ)
أدبه
قدمت في المقالات الماضية طرفا من سيرة الهمذاني وأخبار أسرته وأحوال عصره، وأبين الآن عن أدبه: نثره وشعره
كان أحمد بين الحسين الهمذاني أعجوبة في ذكائه وحفظه، فتيسر له علم واسع باللغة(44/44)
والأدب. وهو يقول في حديثه عما شجر بينه وبين أبي بكر الخوارزمي: (فقلت يا أبا بكر هذه اللغة التي هددتنا بها وحدثتنا عنها، وهذه كتبها وتلك مؤلفاتها، فخذ غريب المصنف ان شئت، واصلاح المنطق ان أردت، وألفاظ ابن السكيت ان نشطت، ومجمل اللغة ان اخترت، فهو الف ورقة، وأدب الكاتب ان اردت، واقترح على أي باب شئت من هذه الكتب حتى اجعله لك نقدا، واسرده عليك سردا، فقال اقرأ من غريب المصنف رجل ماس خفيف على مثال مال وما أمساه فاندفعت في الباب حتى قرأته فلم أتردد فيه، وأتيت على الباب الذي يليه، ثم قلت اقترح غيره، فقالوا كفى ذلك، فقلت له اقرأ الآن باب المصادر من أخبار فصيح الكلام ولا اطالبك بسواه، ولا اسألك عما عداه، فوقف حماره، وخمدت ناره، وقال الناس اللغة مسلمة لك أيضاً فهاتوا غيره، فقلت يا أبا بكر هات العروض، فهو أحد أبواب الأدب وسردت منه خمسة أبحر بألقابها وأبياتها، وعللها وزحافها، فقلت هات الآن فأسرد كما سردته. . .).
وقد أعجب الناس بذكائه وبديهيته، وتحدى هو الناس بهما فجاءه كثير من منشآته عفو البديهية، ولو روى فيه لجاء خيراً من ذلك.
قال الثعالبي في اليتيمة: (ولم ير ولم يرو أن أحداً بلغ مبلغه من لب الأدب وسره، وجاء بمثل إعجازه وسحره، فانه كان صاحب عجائب، وبدائع وغرائب، فمنها أنه كان شديد القصيدة التي لم يسمعها قط، وهي أكثر من خمسين بيتاً، فيحفظها كلها ويؤديها من أولها إلى آخرها، لا يخرم حرفا ولا يخل معنى، وينظر في الاربعة والخمسة أوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة خفيفة ثم يهد بها من ظهر قلبه هداً، ويسردها سرداً. وهذه حاله في الكتب الواردة عليه وغيرها. وكان يقترح عليه عمل قصيدة أو انشاء رسالة في معنى بديع، وباب غريب، فيفرغ منها في الوقت والساعة والجواب عنها فيها. وكان ربما يكتب الكتاب المقترح عليه فيبتدئ بآخر سطر منه ثم هلم جرا إلى الاول، يخرجه كأحسن شئ وأملحه، ويوشح القصيدة الفريدة من قوله بالرسالة الشريفة من انشائه، فيقرأ من النظم والنثر، ويروي من النثر والنظم، ويعطي القوافي الكثيرة فيصل بها الأبيات الرشيقة. ويقترح عليه كل عويص وعسير من النظم والنثر فيرتجله في أسرع من الطرف على ريق لا يبلعه، ونفس لا يقطعه، وكلامه كله عفو الساعة. . . وكان يترجم ما يقترح عليه(44/45)
من الأبيات الفارسية المشتملة على المعاني الغربية بالأبيات العربية فيجمع فيها بين الابداع والاسراع، إلى عجائب لا تحصى، ولطائف تطول ان تستقصي).
لدينا من آثار الهمذاني ديوانه ورسائله ومقاماته. فأما الديوان فيتضمن زهاء ثلاثمائة والف بيت، منها ست وثلاثون قصيدة وقطعة من المدح مدح بها من الملوك والأمراء: شمس المعالي قأبوس بن وشمكير، والسلطان محموداً الغزنوي، وبنى فريغون وخلف بن احمد، وبني ميكال. ومن الوزراء الصاحب بن عباد، وأبا نصر بن زيد - ومدح جماعة من رؤساء جرجان ونيسابور ونسا وهراة. وهو يجري في المدح على السنن المعروف، ولكنه لا يلتزم الغزل في أول المدائح، ولا يطيل في معظمها.
ومن جيد شعره في المدح القصيدة التي أولها:
على إلا أريح العيس والقتبا ... وألبس البيد والظلماء واليلبا الخ
وقوله في بني فريغون:
ألم تر أني في نهضتي ... لقيت الغنى والمنى والأميرا
ولما التقينا شممت التراب ... وكنت أمرأ لا اشم العبيرا
لقيت امرأ ملء عين الزما ... ن يعلو سجايا ويرسو ثبيرا
لآل فريغون في المكرمات ... يد أولا واعتذار أخيرا
إذا ما حللت بمغناهم ... رأيت نعيما وملكا كبيرا
وأما الغزل فيه غير ما في قصائد المدح ست قطع تحوي وأحداً وعشرين بيتاً. والبديع ليس غزلا، ولكنه حاكى الشعراء في ضرب ألفوه وافتنوا فيه وعدوه من فروض الشعر.
وله قطع في وصف الاسد، والليل، والمجمر. . وقطعته في وصف الليل نموذج من شعره المرتجل. ارتجلها حين اقترح عليه الموضوع والقافية:
أنعت ليلا ذا سواد كالسبج ... مخدر الصبح خدارى الدعج
أدرج العالم فيه لا ندرج ... أو نسج الحرمان منه لا نتسج
ليلا حرون النجم قاري النهج ... العمر فيه نقطة لو انفرج
والدهر من اجزائه ولا حرج ... أيسر ما فيه الشهور والحجج الخ
ويجود شعر الهمذاني في الرثاء والمواعظ. وفي ديوانه ست مرات إحداها في واقعة(44/46)
كربلاء، وله اثنتان وعشرون قطعة صغيرة في المواعظ تنبئ بما في نفسه من الانقباض والحزن والتشاؤم كما قدمت في الكلام عن أخلاقه. ومن مرثية الحسين بن علي:
يالمة ضرب الزمان ... م على معرسها خيامه
لله درك من خزامي ... م روضة صارت ثغامه
فوربه قامت به ... للدين أشراط القيامة
لمضرج بدم النبوة ... م ضارب بيد الإمامة
متقسم يطأ السيوف ... م مجرعا منها حمامه
منع الورود وماؤه ... منه على طرف الثمامة. الخ
وقد قدمت آنفا مرثية الخوارزمي التي أولها:
حنانيك من نفس خافت ... ولبيك من كمد ثابت
ويقول في المواعظ، وهو في هذا يشبه أبا العتاهية:
يا حريصا على الغنى ... قاعدا بالمراصد
لست في سعيك الذي ... خضت فيه بقاصد
ان دنياك هذه ... لست فيها بخالد
بعض هذا فإنما ... انت ساع لقاعد
ويقول:
يا قلب ما أغفلك ... عن حركات الفلك
ويحك هذا الردى ... اليك يسعى ولك
انت على سفرة ... يشيب منها الحلك
من انتحى نهجه ... بغير زاد هلك
ويقول:
أجدك ما تنبه للمنايا ... كأنك واجد عنها ملاذا
لذاك على الغنى تزداد حرصا ... وفي حلبات سكرتها نفاذا
هب الدنيا تحقق ما ترجي ... من الآمال ويحك ثم ماذا؟
ونراه يتكلم بلسان الصوفية في القطعة التي أولها:(44/47)
ان لله عبيدا ... في زوايا الارض غبرا الخ
ويقول في صديق له حبس:
مالي أرى الحر ذاهبا دمه ... ولا أرى النذل ذاهبا ذهابه
أفلح من لؤمه وسيلته ... وليس ينجو من جرمه حسبه
من شاء إلا يناله زمن ... فليكن العرض جل ما يهبه
أراحنا اله منك يا زمنا ... أرعن يصطاد صقره خربه
يا ساغبا جائع الجوارح لا ... يسكن إلا بفاضل سغبه
يا ضرماً في الانام متقدا ... والجود والمجد والندى حطبه
يا صائدا والعلى فريسته ... وناهبا والجمال منتهبه
يا سادتي لا تلن عظامكم ... لعضة الدهر ان يهج كلبه
بل هو حين يحض على التمتع بالدنيا، واهتبال فرص العيش ينم عن حزن وتشاؤم يذكرنا بعمر الخيام فإنما يلهو لينسى تباريح الحياة
إنما الدهر الذي يص ... دقني حر المصاع
كالني مدا وأجزي ... هـ من الحلم بصاع
فاغنم الأيام ما أل ... فيتها خضر المراعي
إنما نحن من الده ... ر بواد ذي سباع
لا تدع من لذة العي ... ش عيانا لسماع
ويقول في قصيدة يمدح فيها أبا جعفر الميكالى:
نستبيح الدهر والأي ... ام منا تستبيح
ضاع ما نحميه من أن ... فسنا وهو يبيح
نحن لاهون وآجال ... المنى لا تستريح
يا غلام الكاس فاليأ ... س من الناس مريح
أنا يا دهر بأبنا ... ئك شق وسطيح الخ.
وللهمذاني قطع كثيرة في الالغاز والمعميات، وكان الرجل نادرة في الذكاء والبديهة فكان يختبر الناس ويختبرونه بهذا الضرب. وفي الديوان منه اثنان وعشرون، ويكثر في شعره(44/48)
الترجمة عن الفارسية. وفي الديوان ثلاث عشرة قطعة مترجمة عن هذه اللغة. وكانت الترجمة بين العربية والفارسية سنة شائعة بين متأدبي المسلمين في ايران وما يجاورها، وإذ كان الشعر الفارسي قد بلغ اشده، وكانت العربية لا تزال لغة العلم والأدب. وكثير من شعراء هذا العصر وما بعده نظم باللغتين، ولقب ذلك بذي اللسانين، وفي يتيمة الثعالبي أمثلة من هذا. وهذه الترجمة تهم دارس الأدبين العربي والفارسي. ولكن يقلل خطرها اننا نجد الترجمة ولا نجد أصلها، ولم اعرف من الشعر الفارسي الذي ترجمه البديع إلا قطعة أثبتها محمد عوفي في كتاب لباب الألباب في ترجمة المسطقي الشاعر الفارسي، ويقول عوفي ان الصاحب بن عباد أمر البديع بترجمتها، فقال على أية قافية؟ فقال الطاء. قال ومن أي بحر؟ قال أسرع يا بديع، في البحر السريع، فترجمها ارتجالا والأبيات:
بك بوي بد زويدم أزدوزلفت ... جون زلفت زري أي صنم بشانه
جونانش بسختي همي كشيدم ... جون موركه كندم كشدنجانه
باموي بخانه شدم يدركفت: ... منصور كدامست أزين دوكانه
والترجمة:
سرقت من طرته شعرة ... حين غدا يمشطها بالمشاط
ثم تدلحت بها مثقلا ... تدلح النمل بحب الحناط
قال أبي من ولدي منكما ... كلاكما يدخل سم الخياط
وير انه تصرف في ترجم البيت الثالث. وأصله: (ذهبت إلى الدار بالشعرة. فقال ابي: منصور أي الاثنين؟. وفي الديوان بيتان قبل هذه الثلاثة.
ومن الترجمة التي يتجلى فيها اسلوب الفارسية هذان البيتان
فؤادك أين؟ سباه بماذا ... بمقلته. من؟ غزال ربيب
سلابا. نعم. اين؟ وسط الطريق ... متى؟ اليوم. هذا سلاب غريب
وهي تذكر دارس الأدب الفارسي بمطلع قصيدة محتشم من شعراء الدولة الصفوية في رثاء آل البيت.
وفي الديوان قطعة فيها كلمات وشطرات فارسية، والشعر المنظوم بلغتين أو أكثر يسمى الملمع في عرف أدباء الفرس أو الترك وهو كثير عندهم.(44/49)
ويكثر في شعره المجزوء، ولا سيما الهزج الكامل. وسأعود إلى هذا حين الكلام في سجعه.
واحسب بديع الزمان نظم معظم شعره في أوائل حياته. ففي الديوان أبيات نظمها وهو في الثانية عشرة، وهو يذكر سن العشرين في بعض شعره:
إني بعشرين تصاريف ما ... بعد الثمانين تعرفتها
ويذكر الخامسة والعشرين وهو يمدح خلف بن احمد:
ألم يك في خمس وعشرين حجة ... تسنمتها هاد لمثلى الطرائق
ثم هو يلعن لنظم في كلامه عن الخوارزمي في بعض رسائله وذلك دليل على انه مال عن الشعر: (هو خوارزمي، ولست من خوارزم، وهو شاعر ولعن الله النظم) واوضح من هذا قوله في رسالته إلى ابن ظهري رئيس بلخ
(كنت نويت إلا أقول الشعر فأبت النملة إلا الدبيب. وأجدني قد اكتهلت والكهل قبيح به الجهل).
يتبع
عبد الوهاب عزام(44/50)
من طرائف الشعر
الى البحر
للشاعر الوجداني علي محمود طه
قِفْ من الليل مصغياً والعباب ... وتأملْ في المزبداتِ الغضاب
صاعدات تلوك في شِدقها الصخر ... وترمي به صدور الشعاب
هابطات تئنُ في قبضةالر ... يح وترغي على الصخور الصلاب
ذلك البحرُ: هل تشاهد فيه ... غيرَ ليلٍ من وحشة واكتئاب؟
ظلماتٌ من فوقها ظلماتٌ ... تترامى بالمائج الصخاب
لا ترى تحتهن غير وجود ... من عباب وعالم من ضباب
أيها البحر كيف تنجو من اللي ... ل؟ وأين المنجى بتلك الرحاب
هو بحرٌ أطمٌ لجّا وأطغى ... منك موجاً في جيئة وذهاب
اوما تبصرٌ الكواكبَ غرقى ... في دياجية كاسفات خوابي؟
وترى الارض في نواحيه حيرى ... تسأل السحب عن وميض شهاب
ويك يا بحر ما أنينك في الي ... ل أنينَ المروع الهَّياب
امض حتى ترى المدائن غرقى ... وترى الكون زخرة من عباب
إمض عبر السماء مواطغ على الاف ... لاك واغمر في الجو مسرى العقاب
ذاك أويهتكَ الظلامُ دياجي ... هـ وينضو ذاك السواد الكابي
وترى الشمس في مياهك تلقى ... خالصَ التبر واللجين المذاب
أقبل الفجر في شفوف رقاقٍِ ... يتهادى في منظرٍ خلابِ
حُللٌ من وشائع النور زهر ... يتماوجن في حواشي السحاب
وإذا الشاطئ الضحوك تغنى ... حوله الطير بالأغاني العذاب
ونسيمُ الصباح يعبث بالغا ... ب ويثني ذوائب الاعشاب
من الشمس جمرة في ثنايا ال ... موج يذكر ضرامها غير خابي
ومن البحر جانب مطمئن ... قزحيٌّ الأديم غضٌ الأهاب
نزلت فيه تستحمُّ عذارى ال ... ضوءِ من كل بضة وكعاب(44/51)
عاريات يسبحن في اليمِّ لكنْ ... لفّها الرغو في رقيق الثِياب
فإذا البحر يرقص الموج فيه ... وإذا الطير صُدَّحُ في الروابي
راقصات الامواج علْمن قلبي ... راقصات المغرِّد المطراب
وأفيضى عليه من سلسل الوح ... ى نميراً كالجدول المنساب
واستثيري عواطفي ودعيني ... أسمعُ البحرَ أغنيات الشباب
لي وراء الامواج يا بحرُ قلبُ ... نازح الدار ماله من مآب
نزعته منّى الليالي فأمسى ... وهو ملقى في وحشة واغتراب
ذكرياتَ تدنى القصىَّ ولكن ... اين منى منازل الاحباب
أنا وحدي هيمان في لجك الطا ... مي غريقٌ في حيرتي وارتيابي
أرمق الشاطئَ البعيدَ بعين ... عكفت في الدجى على التسكابْ
فسواء في مسمعي من ذَرَاهُ ... صدحةُ الطير أونعيق الغراب
وسواءُ في العين شارقةُ الفج ... رِ أو الليل أسود الجلباب
بيد أني أحسُّ فيك شفاءً ... من سقامى ورحمة من عذاب
أنت مهد الميلاد والموت يابحر ... ومثوى الهموم والأوصاب
فأنا فيك أطرح الآن آلا ... مي وعبء الحياة والاحقاب(44/52)
السائلة. . .
كاعبٌ زادها الشحوبُ جمالا ... وكساها اليتمُ الرهيبُ جلالا
أمُعَنَ الهمُ في مدامعها نَزُ ... حاً وفي قدِّها النضير هُزالا
// لبست بالي الثيابِ وجَرت ... إثْرَها من جلالها أذيالا
تُمعنُ الَخَّلةُ والعزّ ... ة في قلبها الكليم نضالا
كم تمَّنتْ على الصَّبِا نعمةَ المو ... ت إباء فما تطيقُ السؤالا
ولو ان الحمامَ طوع بنان الن ... اس، كان الإنسان أسعدَ حالا
حثها الجوعُ للسؤالِ كما تحْ ... تَثُّ للموتِ مجرماً قتالا
فأتت سيداً وقد جَرَّرَ الأذ ... يال تيهاً على الورى واختيالا
سألته قِرشاً ومدَّت له الكف ... فَّ ترجّى من الكبير النوّالا
ناهدٌ، لو رَجَت نوالَ صخور ... لجرى الصخرُ بالدموع وسالا
ردها عنه صاخباً، بكلام ... كان في قلبها الكسير نبالا
فانثنت عنهُ والفؤادُ جريحٌ ... وانثنى دمعُها أسى هطّالا
ويلها شرعةً أعزَّتْ لئيما ... فتمادى على الكريم وصالا
بعض هزل الزمانِ أن يوسع الأح ... رار ظُلما ويكرمَ الأنذالا
زمنٌ يُنزلُ المراتعُ قطعا ... ن الخنازيرِ والصحارى التبالا
عجبى للغنىّ يغفو قريرَ ال ... عينِ في ليلهِ وّينعْمُ بالا
بينما النسوة الضّوأمر يَبك ... ينَ ويُكثرنَ في الدُّجى إعوالا
من يَعولُ الفتاةَ أرمضها الجو ... عُ وآضت بها الهمومُ خيالا؟
لا أبُ يُمسكُ الانينَ إذا لجَّ ... ولا الدمعَ إن ألحَّ وسالا
أتُراها تقضي من الجوع بينا ... غيرُها يمرحُ السنيَّن الطِّوالا
عزَّت اللقمةُ الطَّهورُ عليها ... مثلما عزَّتِ السُّها أن تُنالا
فغداً تاخذُ الطريق إلى المن ... كر كرهاً وتخلعُ الأسمالا
وتجلىّ كالبدر في أفق الشر ... بهاء وروعةِ ودلالا
وترى سادة النضار عبيداً ... يَتًمَّنون عطفها بُذالا
. . ويقول الإنسان تلك فتاة ... لؤَمت نفُسها وساءت فعالا(44/53)
باعتِ العرض باللذائِذ طوعاً ... فستلقى من الالهِ نكالا
كذبوا! فالاله أعدلُ من أن ... يجزي الساغبَ البرئ وبالا
نخلق المجرمين نحن بأيدي ... نا ونسقيهم الرّدى أشكالا!
دمشق
أمجد الطرابلسي(44/54)
أحيي الربيع
أتى من يبشرني بالربيع ... ويعجب لي كيف لا أفرحُ
وكيف تكون الربى في حبور ... وتزهو الحقول ولا أمرح
وكيف الطيور على غصنها ... بأشجى أناشيدها تصدحُ
وما للبنفسج من زرقة ... ومن عبق روحه تنفح
فقلتُ وقد ضفت باللوم ذرعاً ... وفي وجنتي عبرة تسبح
أحي الربيع وفي مهجتي ... شتاء من الغمّ لا يبرح
حسين شوقي(44/55)
ليت قلبي. . .!
إيه يا دهر ما مخالبك العص ... ل بأقسى عليَّ من مقلتيَّا
نظراتي للناس تترك في القل ... ب ضرأما يكوى ضلوعي كيَّا
// لا أرى في الحياة غير حزين ... يذوب الدمع بكرةً وعشيَّا
وكئيب إذا تنفس خلت الن ... ار تذور لظى الجحيم عليّا
ليت قلبي من الحجارة صلد ... ليس يدري من الحقيقة شيئاً
أنا يا قوم شاعر ملأ الشع ... ر جناني وفاض من جانبيا
قلبي النظم لمعةً وضياَء ... غير اني أرى الظلام قويَّا
من رملة فلسطين
عبد الرحمن رباح(44/56)
القلب الطريد
إن بين الضلوع قلباً طريداً ... عاثر الجد لم يُقَل من عثارهِ
قام دهراً إلى اليسارِ ربيئاً ... مشرفا قابضاً على منظارهِ
آملا أن يلوح قلب نقيّ=يبذل الود سإذج في نفارِه
يعرف الحب والحياة فيُلقى ... عن فؤاد المحب ثوب صغارِه
عالم بالجمال في كل لون=وخبير بخافيات مَثارِة
يستطير الذكاء منه شعاعا ... ساكباً ضوأه على اقطارِه
يشرق القول من سناه ويمشي ... شرطيّ العفاف في أنوارِه
ويفيض الحنان نهراً دفوقاً ... يجرف العازلين في تيارِه
آملاً أن يراه منه قريباً ... قبل موت الهوى وقبل اندثاره
إن شدا بالغرام هب مجيباً ... ذلك القلب شادياً بجوارِه
يرسل اللحن في الفضاء قويا ... ويسر الأنين في أوتارِه
جامد الطرف ذائبا من حنين ... مسنداً رأسه إلى قيثارِه
ويحه لم يجد مبادل حب ... أو صديقاً يصون من أسرارِه
هام شرقاً وهام غرباً كئيباً ... يستميح الحنان في أطمارِه
طارقاً للفؤاد من كل ظبي ... حُفّ أو لم يحف لى بمكارِه
ويوالي الهجوم حتى أراه ... مشرئباً يشب في أسوارِه
كلما دقّ باب قلب تراءى=فيه شخص يجيل في أنظاره
خافتٌ رده يقول تأخر ... ت كثيراً يا صاح عن ايجارِه
طال تسايره وآب ولم يح ... ظ بغير الكلال في تسيارِه
فأبى بعدها القلوب مقيلا ... واستعاض البيوت من اشعارِه
يشتكي دهره ويدلع فيها ... من سعير الغرام ألسن نارِه
كاحلا بالدماء من مهجة القل ... ب عيون القصيد في أشطارِه
هدنة ما أقمت شهرا عليها ... ثم عاد الفؤاد ماضي سُعاره
فهو يغلي به ويطغو عليه ... وجده المستثار من أغوارِه
هابطا بالهموم أو مستطارا ... داويا بالانين فوق مطارِه(44/57)
زاخرا بالدماء فالحب فيه ... متعب يرتمي على احجارِه
قابضا كفه على ذكريات ... كن بالامس في رمال قرارِه
باسمات وهن حول غرامى ... مغضبات مضين في آثارِه
ذكريات اثارها من جديد ... ستثير الغرام من أوكاره
عابث بالنهى كثير التأبى ... حارس غصنه وطيب ثمارِه
باسم عندما يراني وحيدا ... وخجول إذا مررت بدارِه
سارح الطرف إن رآني وصحبي ... ذاهل كالغريق في افكارِه
اسجحى يا حبيبتي ففؤادي ... قلبٌ كالحياة في أطوارِه
زاخرا بالدماء فالحب فيه ... متعب يرتمي على احجارِه
قابضا كفه على ذكريات ... كن بالامس في رمال قرارِه
باسمات وهن حول غرامى ... مغضبات مضين في آثارِه
ذكريات اثارها من جديد ... ستثير الغرام من أوكاره
عابث بالنهى كثير التأبى ... حارس غصنه وطيب ثمارِه
باسم عندما يراني وحيدا ... وخجول إذا مررت بدارِه
سارح الطرف إن رآني وصحبي ... ذاهل كالغريق في افكارِه
اسجحى يا حبيبتي ففؤادي ... قلبٌ كالحياة في أطوارِه
قد ملكت القياد منه وصارت ... بسمات من فيك إكليل غارِه
فاحذري أن يثور بعد سكون ... فيطير الغرام في إعصاره
المنصور
نزيل القاهرة(44/58)
في الأدب الفرنسي
الدوق دي لاروشفوكو
للدكتور حسن صادق
كتب اديب فاضل في عدد الرسالة الغراء رقم (40) يقول ان السبب الأول في سقوط روايات كورني الاخيرة يرجع إلى غلو هذا الشاعر (في مبدئه الذي يعنى بتصوير الاشخاص كما يجب أن يكونوا، فجاءت شخصيات قصصه الأخيرة خارجة عن حدود المعقول)، لا إلى اضمحلال قواه الذهنية من أثر الهرم كما ذكرت في مقالي عن هذا الشاعر العظيم. وأعتقد اني محق فيما ذهبت إليه لأن كورني قال عن نفسه بعد فشل قصصه الأخيرة (شعري ذهب مع اسناني)، ولأن شخصيات قصصه الأولى الخالدة كالسيد وهوارس وسنا تعلو على الضعف الإنساني وعلى الرغم من ذلك أبلغت الشاعر قمة المجد وأكسبته لقب: كورني العظيم.
ثم قال الأديب الفاضل ان كلمات فولتير: (الشرح الوحيد لكتب كورني يجب أن يكون بكتابة هذه الكلمات في أسفل كل صحيفة! جميل. جليل. إلاهي!)، على ما جاء في كتب الآداب الفرنسية، قيلت في راسين لا في كورني. وأصر على أن فولتير الذي عرف بالبخل الشديد دفعه اعجابه بكورني إلى أن يتبنى ابنة اخته ويزودها بمهر ثم يزوجها. ولم يكفه هذا بل نشر كتبه وشرحها إمعانا في اظهار إعجابه بالشاعر الأكبر، وكتب في مقدمة شرحه تلك الكلمات. وأرجو من الأديب الفاضل ان يتفضل بإرشادي إلى كتب الأدب التي ذكرت أن فولتير قال تلك الكلمات في راسين لا في كورني وله مني وافر الشكر.
والآن نتحدث عن الدوق دي لاروشفوكو الذي شغل أذهانس الناس في عصره وأقلام الكتاب والنقاد في العصور العصور التالية. ولم يخرج هذا الرجل للناس من الآثار الأدبية غير مذكراته شأن أمثاله النبلاء الاغنياء، وكتاب صغير الحجم عنوانه: (مواعظ أو تأملات وأحكام أخلاقية) جمع فيه كل آرائه في العواطف الإنسانية، بعد أن خيبت الحياة أماله ودكت أحداث الزمن صروح أحلامه، وذهبت الحقيقة المريرة بأوهام طموحه، فجاءت هذه الآراء معتمة حزينة تلقى على عواطف الإنسان رداء من الشك الأليم وتظهرها في صورة بشعة مخوفة، وهي تتلخص في كلمتين:(44/59)
فلسفة الاثرة، وهذه الفلسفة هي التي حركت الاقلام وأثارت المناقشة، وألقت باسم صاحبها إلى الاجيال في إطار الخلود.
ولا يستطيع الإنسان ان يفهم (مواعظ) هذا الكتاب إلا إذا درس حياته وعرف الحوادث التي اشترك فيها، وتركت في نفسه أثرا عميقا. وهذا السبب سيدعونا إلى الاطالة والتفصيل.
وسنقسم حياته إلى أدوار ثلاثة: دور الشاب الخيالي، ودور الرجل الطموح، ودور الشيخ الفيلسوف.
الشاب الخيالي
ولد فرانسوا السادس دوق دي لاروشفوكو بباريس (شارع بتي شان) في 15 سبتمبر عام 1613. وهو من أسرة عريقة لها تاريخ حربي مجيد، وتملك ثروة طائلة في (بواتو وانجوموا)، ومقام آل روشفوكو يلي مباشرة مقام أمراء البيت الملكي. وقد كتب في عام 1648 إلى الوزير مازاران يقول: (أستطيع أن أقول وأثبت أن ملوك فرنسا منذ ثلاثمائة سنة يعاملوننا معاملة ذوي الرحم، لا يجدون في ذلك عيبا ولا بأسا) وهذا يدل على مبلغ اعتزازه بأسرته واعتداده بأرومته.
ولما حان وقت تعلمه، أخذ منه في الريف قسطا ضئيلا، إذا اتجهت عناية أهله إلى التمرينات الجسدية ليجعلوه من حملة السيف شأن أبناء النبلاء في ذلك العصر. ثم زوجوه وهو في الخامسة عشر من فتاة ولدت في حجر صالح ونشأت في خير جزيل، هي (أندريه دي فيفون). وقد قال في كبره: (يوجد زواج طيب، ولكن لا يوجد زواج عذب شهي). وما لبث بعد زواجه أن اتبع هذا الرأي قبل أن يقوله، وبحث خارج بيته عن ضرورة اللذة التي لا تهيئها العيشة الزوجية. وتناهت أخباره إلى امرأته، ولكنها صانت عفتها، ولم يتألفها العبث من نفرتها. وأنجبت له أولادا ثمانية.
ثم خاض أول معركة حربية في إيطاليا وهو في السادسة عشرة من عمره. ولما عاد منها دخل البلاط الملكي. وكان الفن السائد فيه كما قال فولتير، هو تدبير الدسائس لقهر الوزير الكبير الكادردينال ريشليو. فاستدرج هذا الفن فرانسوا ودفعه إلى أحضان النبلاء الذين كانوا يئنون من سلطان الوزير ويأتمرون به في كل حين. ورأى بعينيه سطوة الوزير(44/60)
وأنواع العذاب الذي ينزله بهؤلاء النبلاء ليخضعهم للقانون العام، ولكنه لم يجبن ولم يرجع عن سبيله.
وكان في ذلك الوقت كثير الكبرياء، طموحا بلا غرض معين، حي الذهن، دقيق الملاحظة، خجولا كلفا بالخيال، شديد الميل إلى مجالس النساء. وقد لازمه هذا الميل طيلة عمره. وعقب دخوله البلاط اتصل بأحب فتيات الملكة (آن دوتريش) إليها، وهي الآنسة دي هوتفور التي يحبها الملك لويس الثالث عشر حبا افلاطونيا. وهذه الصلة عبدت له الطريق إلى اكتساب ثقة الملكة البائسة المضطهدة من جراء الريبة في نيتها وأغراضها. وقد سببت له هذه الثقة ضررا كبيرا، كما ذكر في مذكراته: (أسباب أتفه من هذه كانت كافية لان تبهر نظر الرجل لم يسبر غور الحياة، وتدفعه في سبيل ضارة بمصلحته، وقد جلب على هذا السلوك غضب الملك والكاردينال ريشلييه، وسلسلة طويلة من المحن أدخلت الاضطراب على حياتي).
وفي عام 1633 سافر مختاراً مع شبان الطبقة العالية إلى محاربة الأسبان في الفلاندر، وأظهر ساحة القتال من ضروب البسالة والاقدام ما أثار الاعجاب. ولما عاد من الحرب، أمر بمغادرة باريس والاقامة في أملاك أبيه، لأنه اتهم ظلما بأنه أفشى جميع ما دار في الموقعة. ولكنه أدرك ان الملك أصدر هذا الأمر انتقاماً منه لصلته بالملكة والقهرمانة دى هوتفور.
حرم عليه دخول الحاضرة اربعة اعوام. وهيأت له المصادفة التعسة أثناء ذلك مقابلة الدوقة دي شفريز، شيطانة الدسيسة كما سماها سانت بيف، وعقد أواصر الصداقة معها. وقد وصفها الكادينال دي رتز بأنها (كانت تحوك الدسائس، لأنها جاءت في عصر الخداع والختل. ثم اتصلت بالدوق بوكنجهام والكونت دي هولاند فدفعاها في هذه السبيل، فاستفادت لأنها كانت تفعل كل ما يسر حبيبها. وكانت دائمة الوفاء للغرام، كثيرة التغيير للموضوعة. وإني لم أر إنسانا اقل اكتراثا للأخطار، ولا امرأة أكثر احتقارا للواجب منها. ما عرفت في حياتها غير واجب وأحد: هو أن تحصل على إعجاب صاحبها بها).
وكان ريشليو قد أبعدها إلى (داميير) حتى يقطع الصلة التي بينها وبين الملكة، ولكنها كانت تأتي لزيارته خفية، وتمهد لها طريق الاجتماع بالدوق بوكنجهام الانجليزي في حديقة(44/61)
اللوفر. وعرف ريشليو هذه الأخبار فأبعد الدوقة إلى التورين، وهناك قابلت لاروشفوكو، واستطاعت بدهائها أن تستخدمه رسولا بينها وبين الملكة. ولم تقف عند هذا الحد، بل نظمت مراسلة سرية خطرة بين ملكة فرنسا وملك أسبانيا. وعرف ذلك الوزير الساهر على مصلحة بلاده، فأوعز إلى الملك ان يطلق زوجه ويخرجها من الارض الفرنسية.
ولما شعرت الملكة بعزم الكاردينال، استدعت لاروشفوكو وتقدمت إليه ان يسهل لها طريق الهرب إلى بروكسل. وهو يقول في مذكراته عن هذه الحادثة: (لما وقعت في هذا المأزق لم تجد وفيا لها غيري وقهرمانتها الآنسة دي هوتفور، فعرضت على أن أختطفهما وإذهب بهما إلى بروكسل. وقد بعثت أخطار هذا العمل والصعاب التي تقوم في وجه إنفاذه سرورا كبيرا في دخيلتي. كنت في سن تحبب إلى الإنسان أن يأتي أعمالا خارقة ذات دوي عظيم. ولم أجد عملا يرضي هذا السن أكثر من اختطاف ملكة من زوجها، وفتاة من ملك يهواها).
ولكن ريشليو أحبط هذه الخطة، وآلم الملكة جد الألم. وخافت الدوقة دي شفريز بطش الوزير فاعتزمت الهرب. وكانت تجيد ركوب الخيل، فغادرت مدينة (تور) في زي رجل، ومعها خادمان وكان ذلك في السادس من شهر سبتمبر عام 1637. ولما صارت على مسيرة فرسخ من (فرتي) التي التجأ إليها لاروشفوكو، أرسلت إليه تقول إنها رجل من النبلاء اضطر إلى الهرب عقب مبارزة، وتسأله أن يرسل إليها عربة مقفلة وبعض الخدم. وما أن ألقى على الرسالة نظرة حتى عرف خطها، ولكنه لم يستطع الذهاب إليها لأن ضيوفه أرادوا أن يصحبوه. وأرسل إليها في الحال ما طلبت، فسارت آمنة حتى بلغت حدود أسبانيا. ثم أرسلت إليه جميع حليها وقيمتها 200000 دينار راجية منه أن يقبلها منها هدية إذا قضت نحبها، أو يردها إليها في أحد الأيام إذا قدر لها ان تعود إلى بلادها.
وقد ذكر مسألة الحلي في مذكراته للدلالة على الثقة التي يلهمها وفاؤه، مع انه ينكر في كتاب (مواعظه) الثقة النقية الخالصة ويقول: (ليس لنا أن نفخر باكتساب ثقة هي دائما مشوبة بالغرض) وذكر أمامه أحد أصدقائه جاك اسبريه هذه الحادثة وقال يداعب صديقه في شيخوخته: (مما يثير العجب أن يفخر الإنسان بأن أميرة لجأت إليه ووضعت بين يديه حياتها وحريتها، مع أنها لم تفعل ذلك إلا خشية الوقوع في يد العدالة، وأن يفخر بأن هذه الأميرة ائتمنته على حليها الثمينة وهي خارجة من وطنها، مع انها لم تفعل ذلك إلا في(44/62)
سبيل مصلحتها الذاتية، أي حرصا على مالها وخوفا عليه من السرقة في الطريق!) وهذا رد ساخر على كتاب لاروشفوكو الذي يرجع كل العواطف الإنسانية إلى مصدر وأحد هو: المصلحة الذاتية أو الاثرة.
ثم عرف ريشليو أن لاروشفوكو ساعد الدوقة على الهرب فاستقدمه إليه وأنبه. ولما رأى منه غلظة في الاجابة على أسئلته، أرسله إلى سجن الباستيل، ولكنه أمر مدير السجن بأن يتلطف في معاملته ويسمح له بالاستراضة على الشرف كل يوم. وبعد مرور ثمانية أيام على سجنه، أطلق سراحه فحمد الله على خروجه بعد هذه المدة الوجيزة في عهد حرص الباستيل فيه على حرفائه، وأنساه شعوره برضى الملكة وقهرمانتها والدوقة عن عمله، مرارة السجن قسوته.
وعقب استرداد حريته أمر بمغادرة باريس والاقامة في (فرتي) وهناك جاءه رسول من الدوقة وتسلم منه حليها، وعاش في ذلك لريف عامين هادئاً مطمئنا، وأصبح بيته ملتقى النبلاء والعظماء. وقد ذكر هذا العهد في مذكراته فقال (كنت شابا في ذلك الوقت، وكان الملك ووزيره يدانون رويداً من القبر، فرجوت أن أحصل على خير كثير بعد موتهما وتغير الحال. وكنت سعيداً في أسرتي، أحظى بكل مسرات الريف وأجد حولي كثيراً من النبلاء الأغنياء المغضوب عليهم من الوزير، لهم مثل أماني وآمالي). وهنا يظهر الرجل الطموح في ثوب الشفيق على ملكة تعسة.
ولما دارت رحى الحرب في (البلاد الواطئة)، سمح له بالانضمام إلى الجيش بعد طول إلحاحه، وأبلى بلاء حسنا في موقعتي سان نيقولا وسان فينان. وعرض عليه ريشليو رتبة سامية مكافأة له على بسالته فرفض إذعانا لأمر الملكة، إذ كان في نيتها إن تجنبه قيد الوزير حتى يستطيع أن يسل سيفه في وجهه لما تمكنها الظروف من إشهار عداوتها له.
يتبع
حسن صادق(44/63)
2 - بين الموسيقى الشرقية والغربية
بقلم مدحت عاصم
لانعام
يضم جميعا من الخلان حفل يستمعون فيه إلى مغني عذب أو موسيقى شجية، وقد ملكت البابهم النغمة، واستأثرت بمشاعرهم المثاني والمثالث، ولا تتعدى معرفتهم باللحن أو المعزوفة عن أن اسمها كذا، وأن مؤلفها هو فلان، ولكن اخذهم قد يهتف في نشوة من الطرب، ما أحلى هذه الترجيعة (البياتي) أو ما أجمل تلك الحركة (السيكاه)!: فينظر الي رفقاؤه نظرة تقدير واعجاب، ويعتدل هو في جلسته مزهواً مستزيداً من اشارته، وايماءاته، كيف لا وقد وفق لسر من أسرار الانغام وسيرها، وأطلع رفاقه على قدر علمه ومعرفته! ولو عرف الرفاق أن القدرة على تعيين النغمة لمجرد سماعها، إن أعوزها شئ من الخبرة بالمران، فهي ليست من الخطر بالقدر الذي يتصورونه، لاقتصدوا في تقديرهم واعجابهم. أما أنا، فأذكر أني وفقت في صغري إلى جلسة ضمت جمعا من الوافدين من ليلة من ليالي رمضان المكرم، وقد اجتمعوا حول شيخ مقرئ يسمعهم طرفا من المولد، وقد استولى عليهم الطرب الممزوج بالخشوع، ولم يكد ينتهي حتى أسرعوا يكبرون ويمدحون الشيخ المقرئ وبراعته وصوته الحنون القوي. ثم تكلم أحدهم، وكانت له عند الشيخ مكانة وله عليه دالة، فطب قصيدة (يا نسيم الصبا)، وأردف طلبه قائلا (والله يا سيدنا، اني أحب نغمة الصبا هذه، ولا أكاد أحبس الدمع عند سماعها.) فهمهم الشيخ ودمدم وأراد أن يرد الحق إلى نصابه ويمنع الخطأ أن يروج فقال (يا بني هذه القصيدة من نغمة الحجاز). وكأنه شعر بقدر الخيبة التي لحقت الطالب فاسرع بانشادها تعويضا له، فكان هذا أول درس وعيته في علم النغم، وكنت بعدها كلما سمعت نغمة طبقتها على (يا نسيم الصبا)، فأن وافقتها فهي حجاز، وان خالفتها فعلمها عند الله والراسخين في العلم. ومن بعد (نسيم الصبا) عرفت أن مارش (عباس) من نغمة (النهاوند) وأن (يا طالع السعد) (رصد)، وهكذا أصبحت أقيس كل ما أسمعه على معرفته، وبذا أستطيع تعيين نوع النغمة.
غير أن علماء الانغام يرون أن ميزان الإذن قد لا يعدل، وأن هذه الطريقة الساذجة لا تصح أن تكون حجة علمية دقيقة يعتمدون عليها في قوانينهم وأبحاثهم، فهم لذلك يعمدون(44/64)
إلى تحليل النغمات تحليلا صوتيا حسابيا، ويفرقون بين درجات السلم الموسيقي بنسب مضبوطة ثابتة لا يعتورها خلل، ولا تعرض للأحداث والغير.
وأرى هنا قبل ان أتحدث عن تقسيم النغم الشرقي والغربي أن أثبت التقاسيم العامة في السلمين ليظهر جليا تركيب التقسيم في السلم الشرقي وبساطته في السلم الغربي.
1 - السلم الغربي (من اليمين إلى اليسار تنازليا)
دو - سي - لادييز - لا - صول دييز - صول - فاد - فا - مي - ري د - ري - دود - دو
والمسافة بين كل هذه الاقسام متساوية في السلم المقرب وهو
المستعمل في العالم الغربي الآن وتساوي نصف مسافة كاملة
1516
2 - السلم الشرقي
8204859049 8
9218765536 9
نوا - تيك حجاز - حجاز - نيم حجاز - جهار كاه - تيك -
بوسلك - سيكاه - تيك - كردي - دوكاه - تيك - زنكلاه - نيم - رصد
2048 59049 8
218765536 9
- رصد - تيك - كوشت - عراق - تيك - عجم عشيران -
حسيني عشيران - تيك - قباحصار - قباحصار - نيم قباحصار - يكاه -
8204859049 8
9218765536 9
نوا - تيك - حجاز حجاز - نيم - جهار كاه - تيك - بوسلك -
سيكاه - تيك - كردي - دوكاه - تيك - زنكلاه - نيم - رصد -
تيك - كوشت - عراق - تيك - عجم عشيران - حسيني عشيران - تيك -(44/65)
قباحصار - قباحصار - نيم - قباحصار -
2048 59049 8
218765536 9
ويراعى في تقسيم هذه المسافات، النسب التي ذكرناها تحت باب السلم الموسيقي الشرقي في عدد أسبق من الرسالة.
وقد رأى موسيقيو الغرب ان كل ما يستعملونه من الانغام ينحصر في نوعين رئيسيين، اطلقوا على أحدهما اسم النغمة الكبرى والثاني اسم النغمة الصغرى وجعلوا الدرجة الاساسية للسلم الكبير وهي دو وللسلم الصغير لا. وينسبون اسم النغمة الاساسية فيقال نغمة دو الكبيرة ونغمة لا الصغيرة ولا بأس من أن نوضح هنا نسب المسافات بين الدرجات في سلمي النغمتين.
النغمة الكبرى دو 1615 سي 98 لا 98 صول 98 فا 1615
مي 98 ري 98 دو
النغمة الصغرى لا 98 صول 98 فا 1615 مي 98 ري 98
دو 1615 سي 98 لا
وقد جعلوا شرطا في كل لحن ان ينتهي بالدرجة الاساسية في نغمة دو يجب ان تكون آخر درجة في ختام اللحن هي دو وكذلك في لا. كما انهم أباحوا للملحن أن يختار أي درجة من درجات السلم الموسيقي لتكون درجة اساسية للحن مع مراعاة النسب المفروضة للنغمة المستعملة سواء أكانت الكبرى أم الصغرى، وجوب انتهاء اللحن بالدرجة الاساسية.
وقد رؤى بعد ذلك أن هناك نوعين من النغمة الصغرى إحداهما تشابه النغمة وهبوطها، والأخرى يختلف السلم هبوطا عنه صعودا إذ يرسون موقع الدرجة السادسة نصف مسافة في الصعود، وعند الهبوط تكون النسب بين الدرجات هي نفس نسب النغمة الكبرى وسميت النغمة الاولى بالصغرى المطربة والثانية بالصغرى المتوافقة أو المتجانسة فرضوا أن من الشروط اللازمة في علم الانغام ان المسافة التي بين الدرجة السابعة والثامنة يجب ان يكون مقدارها نصف مسافة، كاملة وسميت الدرجة السابعة في السلم(44/66)
بالدرجة الحساسة - وان كنت لا ادري مصدر هذه التسمية - واحسب ان علماء النغم انفسهم لا يستطيعون لذلك تفسيرا دقيقا.
هذا في الموسيقى الغربية، أما في الموسيقى الشرقية فشد الله ازر المشتغلين بالانغام فيها، ويسر لهم من أمرها ما عسر، فلا قاعدة عامة، ولا نغمات معدودة محصورة يسهل على الفكر ادراكها وتحديدها. وإنما هي نغمات تعد بالمئات، ولكل نغمة قاعدتها الخاصة أو قل قواعدها في ترتيب النسب لمسافاتها ودرجاتها. ولذا يستحيل علينا ان نجد عالما شرقيا، مهما بلغ به العلم، قد الم بكل هذه النغمات وأحاط بها. وليس هذا يعني ان كل النغمات في الموسيقى الشرقية عسيرة المطلب شاقة المنال، بل ان فيها من الانغام ما يستطيع الموسيقي العادي ان يلم بها بدون حاجة إلى جهد أو كبير عناء. بل إن من هذه النغمات ما يجعل الموسيقى الغربية في يأس قاتل لعدم بلوغها تلك المرتبة من دقة التقسيم وعذوبة التوقيع وحساسة الإذن.
وفي الموسيقى الشرقية اختلاف عن بساطة التسمية للنغمات الغربية فقد قلنا في النغمات ان النغمة الكبرى أو الصغرى يصح ان تنتقلا على كل درجات السلم محتفظين باسميهما مع نسبة اسم الدرجة التي تعتبر أساسية إلى النغمة. أما في الموسيقى الشرقية فلا يمكن حصر النغمات. ولنأخذ مثلا النغمات التي درجتها الاساسية الرصد، وأولها نغمة الرصد، ثم السوزناك والحجاز كار والنهاوند والنوا أثر والنكريز وطرزنوين والسازكار، وهكذا إلى حوالي الثلاثين نغمة. ولا يقتصر الأمر على هذا. وينهج النهج الغربي عند اعتبار درجة اساسية اخرى غير الرصد للنغمة بل يزداد التعقيد، فمثلا نغمة الحجاز كار ودرجتها الاساسية الرصد وسلمها الموسيقي كما يلي:
كردان 21872048 أوج حصار 21872048 نوا 98
جهاركاه 21872048 سيكاه 21872048 زيركوله
21872048 رصد 256243 98
فلو اتخذنا درجة الدوكاه أساساً لهذه النغمة فان اسمها يتغير ويصبح مشهناز، ولو اتخذنا نفس هذه النسب أيضاً لدرجة اساسية هي الحسيني عشيران لتغير اسم النغمة وأصبح(44/67)
سوزول وباتخإذ درجة اساسية هي العراق يصبح اسم النغمة اوج أرا، ويقول الراسخون في علم الانغام الشرقية - ولسنا نعرض لقولهم الآن - ان هذا التركيب والتعقيد في اختلاف اسماء الانغام وتنوعها مع تشابهها لهو عقدة فنية محبوكة، والفخر كل الفخر لمن استطاع ان يلم من هذه الانغام باكثرها تعقيدا واكثرها غرابة في الاسم والتصوير، ثم يعللون هذا أيضاً بأن تلك الانغام وان تشابهت حقا في ترتيب سلمها فان هناك اختلافا بسيطا في سير النغم عند الصعود أو الهبوط.
هذا ابسط مثل لنغمة واحدة في انتقالها على ثلاث درجات مختلفة، ولو اردنا ان نحصر عدد الانغام التي يمكن تكوينها على درجات السلم الشرقي وعددها اربع وعشرون - من النغمات التي درجتها الاساسية هي الرصد فقط لاحتجنا إلى خبير حسابي ليستعين بعمليات التباديل على اجابتنا إلى ما نرغب. ولما كان الغرض من هذا البحث هو التعرض بوجه عام إلى الفروق الظاهرة بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية، فانا نرجئ التكلم عن محاسن ومساوئ الموسيقى الشرقية إلى اجل قريب.
مدحت عاصم(44/68)
العلوم
ويسألونك عن الأهلة
للدكتور احمد زكي
- 3 -
سطح القمر
إذا اعتمدنا في حكمنا على الأمم القديمة من مصرية وكلدانية وهندية وفارسية على المرقوم مما خلف التاريخ، واعتمدنا عليه وحده، خرجنا على أن هؤلاء القدماء وُفقوا إلى دراسة مدار القمر دراسة دقيقة كشفت عن أهم الصفات الخاصة بهذا المدار، أما رأيهم في القمر نفسه، ما جوهره وماذا عليه؟ فلم يصلنا مما قد كانوا علموه من ذلك شئ.
ومن أقدم ما نعرف في هذا الصدد ما أرتاه العالم الإغريقي طاليس (640 - 550 ق م) فقد ارتأى ان القمر ان كان أكثره من الشمس، فان بعضه يخرج بالاشعاع من القمر نفسه. ودلل على ذلك بأن الأجزاء المعتمة من الأقمار الجديدة والأهلة لا تعتم كل الاعتام، بل يبقى فيها برغم احتجابها عن الشمس بقية قليلة من ضياء تتبينها العين.
ومن القدماء الفلاسفة الفيثاغوريون علموا أن القمر كرة بلورية ملساء ينعكس منها الضياء كما ينعكس على المرايا، وتتراءى فيه صور الأشياء كما تتراءى في المرايا، فالمناطق التي تظهر على سطح القمر بيضاء ناصعة، أو سمراء داكنة، ليست إلا صورة الكرة الارضية انعكست فيه ببحرها وخلجانها، وجبالها ووديانها، وتابعهم في ذلك ارسطو، فأظهر جهلا كجهلهم تاماً بأبسط قواعد الضوء وانعكاساته، وبما لاشك كان معلوما في هذا العصر من الحال التي عليها دار القمر. فهذه القواعد الضوئية والمعلوم من المدارات القمرية لا يمكن ان يؤلف بينها العقل العادي - بله عقل أرسطو - وبين أن القمر يرينا دائما وجها وأحداً وصورة واحدة لا تتغير. فلو أنها كانت صورتنا تنعكس الينا لتغيرت حتما باختلاف أوضاعنا واوضاعه.
وسبق هذه الآراء وتخللها وتبعها آراء أخرى للأقدمين كثيرة، كان من الطبيعي أن تحظى من الخيالى بحظ أكبر من الحقيقة لعجز العين الإنسانية عن استيضاح ما هنالك.(44/69)
ثم جاء جاليليو، وفي عام مايو عام 1606م وجّه إلى القمر أول منظار صنعه، فعلم من تلك النظرات الأولى أن لا ملاسة في سطح القمر، وأنه سطح خشن فيه خروج وفيه دخول، وفيه تكسر وفيه انحناء والتواء. ثم تهيأ له منظار الأكبر فحرره إليه، فرأى لأول مرة جبال القمر تمتد في سلاسل كسلاسل الأرض، تدور على الأغلب في حلق يضيق ويتسع. ورأى على حافة الأهلة الداخلة نقطا لامعة في بقع سوداء، عرف أنها قمم الجبال، نالتها وحدها الشمس فأضاءت، بينما الوديان المحدقة بها في ظلام بهيم، وتتبع ظلال تلك الجبال القمرية فوجدها تطول وتقصر، كما تطول وتقصر الجبال الارضية بشروق الشمس عليها وغروبها عنها. إنما الذي حيره أن جبال القمر ووديانه كانت تنير بغتة، وتظلم بغتة، كانت تعرف البياض الخالص والسواد الخالص، وتجهل ما بين هذين الطرفين من درجات، بينما جبال الأرض لا تكاد تنالها الشمس حتى يصيب الوديان من نورها نصيب ولو ضئيلاً. حيرة إحتارها جاليليو من تلك الحيرات الغوالي التي كثيرا ما تنكشف عن حقيقة غالية، حيرة نعرف الآن انها كانت أول دليل على أن القمر لا جو له ولا هواء يلفه كهوائنا، فان هذا الجو الارضي، وهواء دينانا هذا الذي نعيش فيه، يكسر أشعة الشمس إذ تمر فيه فينشرها وينال بها فيما ينال مواقع تلك الظلال التي لولاه لكانت سوداء كالليل، وظلماء كالظلال على القمر.
واستخدم جاليليو أطول تلك الظلال في تقدير أطوال الجبال وخرج من ذلك على نتائج وارتأى أول من رأى فوهات القمر، وهي جبال كالبراكين الأرضية تتقور قممها كالجفان، شبهها كما تراءت له بالعيون على ذيل الطاووس.
ورسم جاليليو خريطة للقمر تحكم له بالحذق وتقضي له بالمقدرة، إذا ذكرنا ان منظاره لم يكبر أكثر من ثلاثين ضعفا، ولكن فاق خريطته في الاتقان وسبقها في التفصيل ما تلاها من خرائط الباحثين، فأصبحت هي ولا قيمة لها إلا المتعة بالقديم.
تبع جاليليو رجال نذكر منهم هيفيليوس وريكسيوني وكسيني وشروطر ولو هرمان وبير ومدلر ووب وشمت بحثوا القمر، فزادوا في قوة المنظار، وأكثروا من رؤية التفاصيل، ودونوها على الورق تارة وعلى المعدن تارة أخرى، وبذلوا في ذلك مجهودات كبيرة، وصبروا وصابروا على المشقات الكثيرة، لاسيما مشقة العين وجهد البصر وألم(44/70)
التحديق.
وانتصف القرن الثامن ففكر القوم في استخدام الفوتوغرافيا في تصوير الأقمار والنجوم فكانت فتحا جديداً.
يتبع
أحمد زكي(44/71)
6 - في البحوث الروحية
للأستاذ عبد المغنى على حسين
ما هو النوم؟ ثقل يداعب الرأس، ثم تطبق الاجفان، وينعدم الحس، وتهدأ حركة القلب، ويبطئ التنفس ويكون عميقاً، وتهبط حرارة الجسم شيئا قليلا. أما المخ فيتوقف جزء منه عن العمل، فيغيب ما يسمى بالعقل الواعي، وينفرد بالأمر العقل الباطن. والاحلام أكثرها أحاسيس، تغزو الجسم النائم من خارجه، أو تتولد في داخله، فتبرق بها الاعصاب إلى العقل الباطن، فيقرؤها بلغة قصصية رمزية، ويأخذ من سالف الذكريات، وكامن المخاوف والرغبات، فيكمل الاقاصيص، يحوك اطرافها. في الاحلام شواذ، ولكن اكثرها من هذا النوع.
هذا النوم الطبيعي، هدنة يتخذها العقل الواعي. وهناك نوم اصطناعي، هو المعروف بالنوم المغنطيسي، ظاهرة اكتشفها في القرن الثامن عشر طبيب ألماني يسمى مزمر وبأكتشافها انفتحت للاحتيال سوق جديدة، اتاها الدجاجلة يهرعون، من كل موفور الذكاء، منقوص الخلق، فأساءوا إلى العلم، وفوتوا على الإنسانية النفع، وفجع الرجل في اكتشافه، وساءت سمعته، وقضى على اساليبه. ولكن لما كان الشىء الحقيقي لا ينعدم، عاد العلم في أواخر القرن التاسع عشر فتناول الظاهرة المزمرية بالدرس الجديد.
في النوم المغناطيسي لا يغيب العقل الوعي من تلقاء نفسه، بل بتأثير ضغط يقع عليه من عقل آخر. فإذا نظر المنوم في عيني القابل للنوم، أحس هذا بعد حين بثقل في الجفون، ثم يغمض، ويفقد الحس، وتسترخي عضلاته، ويقع في سبات يختلف عن النوم الطبيعي فيما يأتي: -
1 - لا يكون العقل الباطن حراً مستقبلا كما في النوم الطبيعي بل يكون عبداً طائعاً للشخص المؤثر، يأتمر بجميع اوامره، ويتلقى منه كل فكرة كلها تنزيل. ويمكن تشبيه الجسم في النوم الطبيعي بمملكة غاب مليكها باختياره، وترك آلة الحكومة تدير نفسها، على أن يعود إذا استدعت الحال، أما في النوم المزمري فقد قهر الملك، وكبل عنوة بالاصفاد، فطبيعي أن تقع حكومته لعبة في يد القاهر. هذا تشبيه فقط، والذي يحدث على أي حال هو أن المتأثر يصبح للمؤثر أطوع من بنانه.(44/72)
2 - لا يستيقظ المتأثر من سباته إلا بأمر من المؤثر، ولا يستيقظ من تلقاء نفسه ولو قطع اربا.
كيف يحدث هذا التأثير المزمري؟ لا تعرف الآن علة حدوثه على التحقيق، وخير ما يقال في ذلك هو أن الفكرة القوية تثير أمواجا كهرطيسية حادة تنتقل في الأثير، وان المؤثر عندما يحدق في المتأثر يصليه من هذه الموجات شواظا ينصب على مراكز الوعي في مخه فتتخدر. وقد استجدت بحوث تجريبية تشهد لهذا الفرض إلى حد ما، من ذلك ما أذاعه منذ شهور البروفسور فرديناند كازيمالي أستاذ الأمراض العصبية بجامعة ميلانو، من أن موجا كهرطيسياً يتشعع من الجسم البشري عند اضطراب النفس، وانه استقبل هذا الموج بآلة سينمية، فوجده، مما يؤثر في الاشرطة الحساسة.
مهما تكن العلة فالنوم المغنطيسي حقيقة واقعة، وهو أداة خطرة إذا أريد منه الشر والعبث، كما أنه نافع في علاج العادات الذميمة، وشفاء أمراض عصبية ليس سببها تلفا ماديا في الاعصاب.
هذان ظرفان يغيب فيهما العقل الواعي - ظرف النوم الطبيعي، وظرف النوم المزمري - ونود ان نتحدث عن ظرف ثالث، من الناس من تطرأ عليه حالة عصبية، فتعتريه تشنجات، ثم يفقد الحس، ويبدو كنه عقليته تغيرت، فيأتي من الاقوال والافعال ما ليس من عاداته، كان يدلي برغبات لم يكن يبوح بها، أو يوجه عنيف الكلام إلى أهله ومن هم موضع احترامه، ويحتج على إهانات تافهة لحقته ولا يكاد يذكرها أحد، ثم ينتفض فيعود إلى نفسه، ويدور بعينه فيما حوله ومن حوله، لا يدري ما حدث، ولا يذكر حرفا مما قيل.
تشاهد هذه الظاهرة، وتفسيرها سهل، لأن كل ما يلفظ المريض من قول لا يتعدى سابق اختباراته، والطبيعي من رغباته، فالمسألة إذن ثورة داخلية، يتغلب فيها العقل الباطن على العقل الواعي، ويحكم برهة حكم طيش واضطراب، ثم يهبط ثانية إلى مستقره، ويعود العقل الواعي من غيبته. هذه الظاهرة مرض عصبي، يضمه الطب إلى أنواع الهستيريا، وسببه رعب أصاب الشخص في طفولته أو نحو ذلك، فاختل التوازن بين قوى أعصابه، وغدا عقله الواعي مزعزع السلطان.
تلك حالات ثلاث يغيب فيها العقل الواعي. ولكن الحال الثالثة (الهستيريا) ليست من(44/73)
البساطة كما ذكرنا. فمن هذا النوع أمثلة نادرة وعجيبة. أمثلة لا تدخل في الحقيقة في اختصاص الطب، لأن صاحبها لا يشكو مرضا، تأتيه النوبات من غير ألم، ويتحدث اليك في ذهوله حديثا هادئا متزنا من غير انفعال، زاعما انه شخص آخر غير نفسه، قد يكون امرأة فتنتحل في ذهولها شخصية رجل، أو العكس، وقد يكون صغيرا فيحدثك حديث الكبير أو العكس، فإذا عاد إلى نفسه لم يتذكر شيئا مما كان، وإذا عاودته النوبة برزت شخصيته الثانية بذاكرتها الخاصة، وخبرتها الخاصة، وحكمها الخاص على الأمور، وأذواقها وميولها الخاصة، وتبدأ حديثها معك من حيث انتهيتما في المقابلة السابقة، وبالاختصار تشعر انك تعاشر شخصين مستقلين أحدهما أساسي والآخر يأتي في الفينة بعد الفينة.
هذه الحال يعرفها علماء النفس، ويسمونها الشخصية المزدوجة ويصح ان يتكلفها البعض لغاية في نفس ولا سيما إذا كان من ورائها كسب، ولكن إذا شوهدت في أسرة لا تتجربها، كما هو الحال اللادى كونان دويل أرملة سير آرثر كونان دويل المؤلف الانكليزي المعروف والباحث الروحي الكبير، فالدجل غالبا لا محل له، وقد خبرت هذه الحال في فتاة كانت في سن لا تعرف التكلف إلى هذا الحد، وما كان لها فيه مآرب. أما الشخص الذي يرزق هذه الخاصة فسوء الظن به واجب، وامتحان يتحتم. ومن وسائل امتحانه أن تأتيه من الخلف على حين غرة وتغرز في جسمه إبرة، فأن كان متكلفا فسيفزع من غير شك مهما كان جلدا. وقد وجد الباحثون أن من هؤلاء الناس من تضربه الإبرة من الخلف مفاجأة (بمعرفة طبيب) وهو ماض كأن شيئا لم يحدث، فهو في ذهول حقيقي. ولما كان جمهور الناس يعجز عن التفريق بين الحقيقة والدجل، فالارتزاق بهذه الخاصة ومثلها يؤدي إلى فوضى ومآس خلقية، وتحريمه واجب من غير شك.
ما تعليل هذه الظاهرة العجيبة، ظاهرة الشخصية المزدوجة؟ ليس لدى علماء النفس تعليل لها، ومن يتصد لتعليلها منهم يستعر لها علة الهستيريا، ويعتبرها تبادلا للسلطة بين العقلين الواعي والباطن، ولكن في سلم وهدوء. أما اتزان الشخص في ذهوله، واكتمال شخصيته الثانية، وما قد تنم عنه أحيانا من سمو وسعة علم وتهذيب يفوق بكثير مستوى الشخص الاصلي، فيعزونه إلى أن العقل الباطن بحر لا يعرف بعد مداه، ولا ما قد يحوي من علم(44/74)
وخلق كامنين، اتياه من طريق الوراثة، أو تجمعا فيه بطريق التلباثي ولكن عددا من الباحثين الذين انقطعوا لدراسة مثل هذه الظاهرة يذهبون إلى تفسير آخر، وهو أن الشخصية الثانية روح مستقلة عن الشخص الاصلي، تستطيع بكيفية تشبه التأثير المزمري أن تنميه، وتتسلط على عقله الباطن، فيكون أداة اتصال بينها وبيننا ويزعمون أنه بهذه الوسيلة يمكن وأمكن التخاطب مع أرواح الموتى. فما يسميه علماء النفس بالشخصية المزدوجة يعتبره هؤلاء الباحثون نوعا من الوساطة الروحية، ويسمونه وساطة الذهول
يتضح مما سبق أن الخلاف على تعليل هذه الظاهرة العجيبة كبير، وأن الباحثين حيالها شيع ثلاث.
فهناك المطمئنون إلى تركها شاغرة من غير تعليل، لفرط غموضها ولكن ليست هذه بالروح العلمية، إذ الواقع أن تعليلا خاطئا خير من لا تعليل، فهو يفتح باب البحث على الاقل، ويقود يوما ما إلى التعليل الصحيح.
وهناك الذين يعزونها إلى العقل الباطن، وهو رأي يستمد قوته من المحافظة على المذهب المادي، وتلافي كل افتراض روحي وفيما عدا ذلك لا يوجد ما يؤيده.
وهناك القائلون بالفرض الروحي، وهؤلاء يبنون أقوالهم على درس وتجريب طوال نصف قرن أو يزيد، وفيهم رجال يزنون القول ويقدرون المسئولية، مثل سر اليفر لدج، فنفى أقوالهم ليس باليسير، سيما إذا كان النفي من غير اختبار.
عبد المغنى على حسين(44/75)
القصص
6 - شهر بالغردفة
تتمة
للأستاذ الدمرداش محمد
مدير ادارة السجلات والامتحانات بوزارة المعارف
عنب جيل الشيب
كان من عادتي أثناء الاقامة في الغردقة أن أقف ساعة في الصباح ومثلها في الاصيل أمام نافذة الاستراحة اشاهد منها جبل الشايب لأمتع النظر بجمال لا يراه عادة في جبال وادي النيل، وكان منظر القمة وهي جاثمة فوق هأمات الجبال في جلال وروعة ومن حولها قمم جبال أم عنبة، وعتلمى وكحيلة وغيرها، كأنها الصغار حول الأب الجبار يوحي إلى النفس بشعور الكبرياء والعظمة. وجبل الشايب لا يبعد عن محطة الاحياء المائية كثيراً، فالمسافة بينهما 45 كيلو متراً تقطعها السيارة في نحو الساعتين في طريق ممهدة، وقد ذهبنا إليه يوم الجمعة 21 يوليه في ثلاث سيارات تحمل إحداهما الخيام والزاد - كان اليوم راكد الهواء مساند جبل الشايب بالقرب من بئر أم دلفة، والبئر عبارة عن حوض في جدار الجبل تظلله الصخور، وينضح إليه الماء من شقوق وعيون في الصخر، فإذا فاض الحوض تدفق ماؤه إلى فجوة أسفله، ومن الحوض يستقي الاعراب، ومن الفجوة تشرب الابل والمواشي. والوادي حول البئر كثير العشب وافر الكلأ، تظلله الاشجار وتسبح في جوه الطيور والعصافير.
وبعد راحة قصيرة حاولت وبعض الرفاق التسلق إلى قمة أم دلفة، ولكن الصعوبة المرتقى وحرارة الشمس جعلتا الصعود شاقا منهكا فاكتفينا بمرحلة متوسطة، وعدنا أدراجنا، وفي العودة التقيت عند البئر شباب من سكان المنطقة وهو من عرب معاذة، أسود البشرة ناحل الجسم، دقيق العظم، وكان معه جمل يحمله بقرب الماء: فقلت له يا أخا العرب: هل من وسيلة إلى قمة الشايب فقال: إن الطريق إليها طويلة شاقة، كثيرة الالتواء والعقبات لا يعرفها إلا نفر قليل منا فلا تطمع في الوصول إليها وحدك، ثم إن الصعود إليها يستغرق(44/76)
يوما كاملا ومثله للنزول. فقلت كيف ذلك؟ فقال هكذا يقول من صعدوا إليها - ثم سألته عن حال البادية فأجاب، كرب وشدة، فانحباس المطر إحدى عشرة سنة متعاقبات أجدب الوديان حتى كادت تتعرى من الأخضر واليابس، وغاض ماء الآبار وجف كثير من العيون، وتفرقت البيوت فقوم منا لحقوا بوادي النيل، وآخرون أوغلوا صوب الشمال، وبقية بدا لها أن تتشبث بوطنها مثوى الآباء، والأجداد، برغم ما تعانيه من شظف العيش وما تلقاه من حرمان. يعملون هكذا فرارا من معرة الهجرة وهوان الارتحال. فقلت: وما بعد ذلك فقال، سنبقى هنا بالتوكيد حتى يقضي الله أمره فينا. ثم أطرق برأسه وهو يقول فرج الله لا بد قريب، فقلت صدقت يا أخي، اصبر فان الله لا ينسى عباده، فعلت وجهه ابتسامة اطمئنان ويقين. وبعد حديث طويل عن الجبال وأسمائها، ومسالكها والعيون وأماكنها سألته عن حيوانات المنطقة ونباتاتها فقال، يعيش هنا الغزال والتيتل والثعلب والارنب والخروف الوحشي، والأخير كان كثيرا، ولكنه رحل عنا منذ أجدبت الوديان. وعندنا من الطيور العصافير والغراب والصقر وغيرها، ومن الحشرات الثعابين والعقارب والزنابير والخنافس والذباب والنحل وغيرها، ومن النباتات الشيح والسيال (السنط) واللصف واليسر والفطنة (ذات رائحة شديدة كريهة) والحرجل (يستعمل دواء للمغص) والجتيات والمرغادة والأراك وغيرها.
قلت وهل تستفيدون من هذه النباتات، فقال نعم؟ فلكل نبات فائدة نعرفها. ثم اننا نجمع الشيح ونبات المسواك وحب اليسر، ونبيعها في قنا، ومن خشب الطرفا، وهي شجرة الاثل نصنع الفحم وقد كانت له سوق رائجة، ولكن الطلب عليه الآن قليل. ثم قال اننا قوم ذوو همة نتاجر في الاغنام والابل، وننقل التجارة على الجمال من قنا إلى الغردقة، ونستخرج بعض المعادن من الجبال ونبيعها في السويس، وهكذا، فإذا كانت المراعي قد أجدبت فان نشاطنا لم يضعف وعزيمتنا لم تفتر.
وجبال الشايب وما حولها تبدو من الغردقة متلاصقة متجاورة إلا أنها في الحقيقة متباعدة تخترقها الوديان والسهول وتشقها مجاري السيول في كل صوب. وعند الأصيل انطلق الهواء واعتدل الجو فتفرقنا بين الجبال واخذ بعضنا يتبارى في الرماية بالبنادق وإصابة الهدف، وقبيل الغروب عدنا بسلام.(44/77)
من الغردقة إلى قنا
قضينا الأسبوع الأخير من إقامتنا في الغردقة في إعداد الصناديق وحقائب السفر استعداداً للعودة. وكانت الأيام تمر سراعاً، ويوم الرحيل يدنو مسرعا، وقد أشفقت أن نعود من غير أن أتمكن من الذهاب إلى قنا عن طريق الجبل، ولكن تهيأت الفرصة قبل الرحيل بأيام قلائل فحمدت الله على توفيقه.
وطريق الجبل إلى قنا طويل شاق تقطعه السيارات عادة في ثلاث مراحل: الأولى من البحر إلى مدخل الجبال وطولها نحو 40 كيلو متراً، وهي عبارة عن ساحل كثير الحزون والتلال، والمرحلة الثانية منطقة الجبال نفسها وطولها 70 كيلو متراً. والمرحلة الثالثة من باب مخينق إلى قنا في وادي قنا العظيم وطولها مائة كيلو متر.
وتشتد الحرارة صيفاً في الطريق أثناء النهار لدرجة لا تطاق فكان لابد لنا من القيام من الغردقة ليلا: ففي الساعة الثالثة صباحا كانت تسير السيارات بنا نحو الجبال في طريق صاعدة كثيرة العقبات. وكان الظلام حالكا، والسكون رهيبا شاملا، وهواء الليل بارداً منعشاً ونحن جلوس في صمت عميق، شاخصة أبصارنا نحو مقدم السيارة تتابع ضوءها الكشاف وهو يجلو أمامها الطريق، والسيارة تجاهد مندفعة بسرعة أربعين، والسواق رزين قد استجمع كل حواسه في عينيه، وكل قوته في يديه وقدميه، يقودها باهتمام وحذر، يتلمس الطريق في جوف الليل بمهارة وحذق نادرين - مرت علينا هكذا ساعتان ثم لاحت تباشير الفجر وقد دخلنا منطقة السدود، فكان الطريق بينها خطرا يتلوى في ضيق وانفراج، ثم بزغت الشمس على القمم والروابي فكان منظراً بديعاً حقاً: فجبال شامخات قائمات في استقامة كالجدار، تعلوها كالسهام تناطح السحاب، وقد بدت أطرافها في بوادر الشفق حمراء قانية كأنها تتوقد في أتون من نار، والجبال من تحتها والثنايا والحنايا من حولها في لون ازرق داكن كأنها الدخان الكثيف - ثم علت الشمس. واصفرت الأشعة فبدت القمم كأنها أهرام من ذهب فوق قواعد من رصاص وأخيراً انقشع الظلام واشرق النور فتوارى جمال السحر ليتجلى جمال الطبيعة في حلة الصباح، فكان أشد فتنة وأبلغ أثرا - كنا حينئذ نسير في وادي (بلي) وعن يمننا جبل الدخان (1800 متر) وعن يسارنا جبل القطار والوادي بينهما ضيق عميق يخترق الجبال من الشرق إلى الغرب، وهو كثير العشب والأشجار،(44/78)
وقد أقام الرومان على مدخله من جهة البحر قلعة للحراسة، وهي الآن انقاض لم يبق من معالمها إلا الجدران - ويتفرع من وادي بلى عند وسطه وادي البديع، وهو يخترق جبل الدخان وينتهي عند بئر البديع حيث توجد مناجم الحجر السماق الامبراطوري، وهو حجر جرانتي دقيق الحبيبات لونه احمر قاتم قد صنعت منه طائفة كبيرة من أجمل التماثيل في العصر القديم، ولا يزال بوادي البدع آثار رومانية قديمة من مبان واستحكامات وطرق - ويتطرق وادي بلى إلى وادي القطار وهو كسابقه فيه العشب وفيه الشجر، وعند الكيلو متر 65 تقوم استراحة بوليس مصلحة الحدود على رابية بجانب الطريق، وبالقرب منها بئر الأمير فاروق وماؤها عذب غزير، ويخرج من وادي القطار عند الاستراحة طريق يؤدي إلى سطح جبل القطار حيث مناجم الموليدات. وهي لشركة طليانية بقيت تستغلها سنوات طويلة، ولكنها منذ سنتين توقفت عن العمل وصرفت العمال، ولم يبق بمركزها سوى المهندس وهو شيخ طلياني طابت له الإقامة ففضل البقاء وحده وسط هذه الجبال - فتأمل - وبلى والقطار من أجمل الوديان والطريق فيهما مرسوم يحاذي الجبال في تعاريج كثيرة بين صعود وهبوط، والجبال هنا موحشة جداً تحمل في طياتها وعلى جدرانها طوابع العصور الطويلة التي تعاقبت، والكوارث التي نزلت من تفتت وتهشيم وتصدع وانكسار وانثناء وتعرية.
وصلنا ممر محينق قبيل الساعة السابعة، ثم انحدرنا منه إلى وادي قنا، وهنا تغيرت معالم الطريق وطبيعة الجبال، فاصبح الوادي أكثر اتساعا والجبال أقل ارتفاعا، واختفت الجبال القديمة وظهرت هضاب الحبال الكلسية التي تمتد إلى وادي النيل - وبعد أن مررنا بجبل (نجع الطير) ثم بجبل (ابي حد) وطابية الحيط، وصلنا بير (عراس) وهنا زاد الوادي انفراجا وانبساطا، وفي منتصف الساعة التاسعة وصلنا قنا ونزلنا ضيوفاً على نقطة بوليس مصلحة الحدود.
ولوادي قنا شهرة قديمة، فقد كان طريق المصريين والرومان والعرب إلى محاجر الجرانيت ومناجم المعادن وشواطئ البحر الاحمر، ولوقوعه في سفوح الجبال العالية فأنه يترع بالماء وقت الامطار الغزيرة، وتفيض منه سيول جارفة تصب في النيل عند قنا وتجلب معها كميات عظيمة من طمى ناعم يعرف (بالحيب) يصنع منه الفخار القناوي(44/79)
المشهور - واختراق وادي قنا أمنية قديمة تعلقت بها منذ كنت ناظرا لمدرسة قنا في سنة 1923 وقد حاولت وقتها في مرة أن أمشي فيه يوما كاملا، ولكن ضللت الطريق السوي لتشابه المسالك وجهل الدليل، وبعد أن أقمنا بقنا ليلتين ويوما برحناها بعد نصف الليل بساعتين عائدين في نفس الطريق فوصلنا الغردقة بعد شروق الشمس بقليل. وبعد يومين ودعنا الغردقة ومن فيها وأبحرنا عائدين إلى السويس ثم إلى القاهرة.
وأختم هذه الرحلة بتقديم خالص الشكر لحضرات - الدكتور كرسلاند مدير المحطة، ومحمد بك حبيب مفتش منطقة البحر الاحمر، وسيد أفندي الحملاوي مساعده، والدكتور محمود أبو زيد مفتش المناجم، لما بذلوه عن طيبة خاطر من مجهود عظيم في سبيل راحتنا ومساعدتنا، ويلهج كذلك لساني، بالشكر الوافي لصديقي العالم الكبير الدكتور محمد عبد الخالق بك لما خصني به من جميل العناية والرعاية.
الدمرداش محمد
في الكتب(44/80)
جولة في ربوع الشرق الادنى
إذا تمثلت الأستاذ ثابت، فلست أتمثل وأحداً من الرجال وكفى، وإنما أتخيل طريقة بأسرها من طرائق العيش، وأسلوبا شاملا في فلسفة الحياة، أخذ يتبلور ويتركز، حتى تجسد في أستاذنا ثابت، فمن الناس من يقضي حياته التي كتب له أن يحياها على ظهر الأرض، في بلد وأحد، بل في دار واحدة، بل في مكان بعينه من الدار. وأجرأ ما يطرأ على حياتهم الضئيلة الآسنة من ارتحال، انتقال من غرفة في الدار إلى غرفة أخرى كما يقول جولد سمث.
وهذا رحالتنا ثابت أراد ان يحيا! هو ذا قد وازن بين حركة الحياة وجمود الموت، وازن بين الأيام تدور، وتدور حول صورة بعينها آسنة راكدة، وبينها تزخر بأسباب الحياة، فلم يتردد في الاختيار. . وأخذ يضرب في مناكب الأرض، يجوس أنحاء أوربا ويخرج للناس وصفا لجولته في ربوعها، ثم يجوس في أنحاء آسيا ويذيع في الناس وصفا لجولته في ربوعها، ثم يجوس في أنحاء أفريقيا وينشر بين الناس وصفا لجولته في ربوعها، وهاهو ذا في الصيف الماضي، قد جال في أرجاء الشرق الأدنى وأخرج للناس هذه الجولة الجديدة التي نحن بصددها.
وان كان القراء قد أمتعهم ما طالعوه من مشاهدات رحالتهم في أوربا وآسيا وأفريقيا، فكم تمتعهم قراءة هذه الرحلة الأخيرة التي لم تكن بين أقوام من غرب بعيد، تربطنا وإياهم صلات مهما تكن - فهي على شئ من الضعف والوهن، ولم تكن بين أقوام من شرق أقصى لا تكاد تصلنا بهم إلا روابط الإنسانية الواحدة والعصر الوأحد، وإنما هي رحلة بين شعوب توشجت بيننا وبينها أواصر من الرحم والقربى هيهات أن تقوى على فصمها الأيام، وهي كما يقول الأستاذ المؤلف حقاً في المقدمة (أقطار تربطنا بها روابط وثقتها أواصر التاريخ والاجتماع والدين. وزادتها رسوخا صلة الرحم قديمة وإخلاص وعمق وعطف متبادل تذكى ناره رغبة مشتركة في النهوض، وطموح متأجج للخلاص بأوطان مهددة ظلت ولا تزال تئن تحت أخطاء أبنائها ونهم الطامعين فيها).
قرأت كتاب الأستاذ ثابت، فكنت أتابعه في رحلته بلدا بعد بلد، وقطر في أثر قطر، جبت معه - على حسابه - فلسطين وسوريا وتركيا والعراق وفارس وافغانستان؛ وكنت أقف معه هذه الوقفات التي تطول حينا وتقصر حيناً؛ أمام روائع الآثار القديمة المنتثرة هنا(44/81)
وهناك في ربوع الشرق الأدنى، والتي تثير النفس شتى العواطف والذكر. في المسجد الاقصى، عند مبكى اليهود، في كنيسة القيامة؛ على جبل الزيتون، في إيوان كسرى، في الحدائق المعلقة، في ضريح الأمام الرضى، وغيرها. . . كما خالطت وإياه هذه الطوائف المختلفة، فعرفتها معرفة حية بعد أن كانت مجرد أسماء تتردد: السامريون، الدروز، الشيعة، الصابئة، اليزيديون عبدة الشيطان وغير هؤلاء.
وللأستاذ ثابت مقدرة ممتازة في الوصف الدقيق لما يشاهده باسلوب سلس فتشعر كأنما هو يتحدث اليك عن رحلته حديثاً حلواً شيقاً، بحيث يترك في ذهنك صورة قوية، كثيراً ما تميل بك إلى العقيدة بأنك قد رأيتها رأي العين، ولا تكاد تقتنع بأنها صورة قلمية فقط قرأتها عند الأستاذ ثابت!
كنت أشعر بحلاوة الحديث، واندفع مشوقا إلى القراءة متنقلا من بلد إلى بلد. . . . ولكن لم يستطرد معي هذا الشعور في كل انحاء الكتاب، فكأنما عز على الأستاذ ثابت أن يمتعنا متعة محضة خالصة، دون أن يصدمنا في الحين بعد الحين صدمة عنيفة، يضيق بها الصدر، يود عندها القارئ أن لم يكن ذلك الكلف على تلك الشمس المشرقة الضاحية! وإنما اعنى بتلك الصدمات، هذه الحقائق العلمية التي ركزها في صفحات قليلة، نثرها في أركان الكتاب كأنما يريد بها أن يبلو صبر القارئ على القراءة وجلده على احتمال العلم الصارم. وكم كنت احب - وليس الأستاذ ثابت بالطبع مكلفا بأداء ما أحب - أن يكون الكتاب كله من ذلك النوع الذي لا أستطيع أن أقرأه إلا في كتاب الرحالة الذي شاهد ورأى، وقد يكون من الأثرة أن اغتصب الحكم لنفسي دون القراء جميعا، فها هو الكتاب بين أيدي القراء فلا حاجة للاقتباس أو ايراد الشواهد.
ومع أن الأستاذ قد أخذ علينا طريق هذا الاعتراض انه إنما أراد بمزج هذه بتلك، أن يكون الكتاب أداة ثقافية بجانب اللذة والمتاع، فعلى هذا الاساس من وجهة النظر نوافقه في شئ من القلق وبعد، فقد اشترك الأستاذ الرحالة قراءة معه في حياته الزاخرة، وكان عليه وحده الغرم، غرم الارتحال وعناء التسطير ولقرائه الغنم، غنم الفائدة والمتاع السائغ.
زكي نجيب محمود(44/82)
التربية بالقصص
لمطالعات المدرسة والمنزل
الطفل أب الرجل كما يقول الانجليز، وهو قول صحيح من كل الوجوه، لأن الرجولة مهما اختلف لونها، ليست إلا ثمرة لهذه البذور التي نبذرها في تربة الطفولة الغفل، إن خيرا فخير وان شرا فشر، وفي هذا قال الفيلسوف ليبنتز قوله المشهور: (سلمني قياد التربية وأنا كفيل بتغيير وجه أوربا في قرن وأحد من الزمان) يريد بذلك انه يستطيع أن (يصنع) ما يشاء من الرجال ما دامت تربية الأطفال موكولا أمرها إليه يتوجه بها إلى حيث شاء.
فأن كان هذا حقا لا يحتمل الشك والجدل، فما أحوجنا إذن إلى وضع الخطط المحكمة وتمهيد الطرق التي تؤدي بأطفالنا -
وهم رجال الغد - إلى الرجولة قوية صلبة لا تميل ولا تلين.
وليس من الشك في أن امثل الطرق لتي تحقق لنا هذا الغرض المنشود، هي ما سارت مع طبيعة الطفل وغريزته، أعني يجب أن نقدم له من وسائل التربية ما يتفق مع غرائزه التي تختلف باختلاف السن حتى نفلح الحديد وهو ملتهب. ولما كان ابرز ما تتميز به طبيعة الطفل في سنيه الأولى هو الخيال القوى الشارد، وجب أن نعد له ما يلائمه من غذاء وهو القصة الخيالية، التي نحوكها بحيث نبث في ثناياها مثلا عليا في الأخلاق، بطريقة غير مباشرة. فينطبع الطفل بطابعها وهو لا يشعر.
وليست تقتصر القصة التي نقدمها للطفل على هذه الناحية التربوية، بل إن لها جانبا آخر لا يقل عن ذلك أهمية وخطراً، وهو أن يكون للطفل أدب خاص به، يجد فيه صورة نفسه، ويصادف عنده متعة تحبب إليه الحياة وتروضه على لذة الدرس والمطالعة، فيستمتع بها في أوقات فراغه طفلا وشابا ورجلا.
هذا النوع من القصص التي تهذب الطفل وتمده بما يحتاج إليه من أدب هو ما يقدمه الينا اليوم الأستاذ حامد القصبي في كتابيه (التربية بالقصص) اللذين أعدهما لمطالعات المدرسة والمنزل، فنجح نجاحا يهنأ عليه تهنئة خالصة صادقة، ولم يفته أن يكتبهما بالخط الكبير وان يزينهما بالصور التوضيحية التي تلائم مزاج الأطفال وتبعث إلى نفوسهم اللذة والسرور فجاء مثلا للتأليف الطريف الممتع.(44/83)
ز. ن. م(44/84)
العدد 45 - بتاريخ: 14 - 05 - 1934(/)
قطع العقدة أسهل من حلها
كان الموروث غفر الله له مهلوس العصب، أرعن اليد، ألكن اللسان، أخرق السياسة، فابتلاه الله بالحرب حتى قَلَّ، وبالدَّين حتى ذلَّ، وبالرشوة حتى فشل. ثم عصفت به ريح المنون فحطمت جذعه وأذرت هشيمه، وتبدد في مهب العوادي تراثه المشتهى، واستقرت على أعناق أبنائه وأوليائه أثقاله وأغلاله وديونه.
فإما الترك الخلَّص البواسل فبتروا من خلفهم ذلك الذيل الطويل، ثم انطلقوا خفافا إلى المجد وراء كمال، وأما العرب الأقحاح الميامين فأقلوا من فوقهم ذلك الحمل الثقيل، ثم مضوا سراعاً إلى الملك وراء فيصل، وأما نحن - وقرابتنا إلى المرحوم وما ترك قرابة كلالة - فقد نالنا من عهوده الجزية، ومن قيوده الامتيازات، ورأينا في نصوص القوانين ما يثبت القلوب المنخوبة على الحق، وفي سوابق الدول ما يشجع النفوس الهيوبة على الاقدام، وفي سوانح الفرص ما يذكَّر الرقاب المغلولة بالعتق، ولكن الشعب الذي قسا عليه القدر فمحا من ذهنه الفروق بيَن التواضع والضعة، وبين الوداعة والذل، وبين المجاملة والملق، وبين الكرامة والتساهل، وبين الضيافة والاحتلال، لا يستطيع أن يفهم من القانون إلانص الواجب، ولا من (السابقة) إلامعنى الجرأة، ولا من الفرصة إلاخلاف الحزم.
حررت الأمم رقاب العبيد، واحترام السادة إرادة الخدم، ومنحت الدول طعام الشعوب كرامة الوطن، وبرئ الأسود والأبيض من معرة التفريق ووصمة التميز، اللهم إلانحن في مصر، وإلا الزنوج في أمريكا!
وما الفرق بالله بين الزنجي والمصري إذا كان كلاهما قد حرم الأخاء في المجتمع، والمساواة في القانون، والحرية في الموطن؟ وهل الامتيازات إلاحكم قائم بانحطاطنا عن الأمم التي ميزناها في الجنسية والعقلية والمدنية والتربية؟ فالأوربي إذا اعتقد انك دونه في القدر والحق والخلق فتمزَّى عليك وانتفي منك، كان واضح العذر ما دمت تعترف بهذا النظام الذي يجعل قضاءه أعلى من قضائك، ولغته أفضل من لغتك، وشأنه ارفع من شأنك.
أنه يعرف أن لك على الأقل أن تلغي المحاكم المختلطة من ذات نفسك، فلا ترى بعدها من يظلم قضائك على منصة العدل، ويحتقر لغتك تحت راية الدولة، ويهين رجالك في دست الحكومة، ولكنه يراك تهمل حقك حتى يموت، وتغفل واجبك حتى يفوث، وتنفق من كرامتك على المجاملة واللطف حتى تنفذ، فجعل نزولك عن مقامه تقليداً لا ينهض في(45/1)
وجهه أدب، وعرفا لا يقوم بسبيله قانون.
إن الامتيازات الأجنبية شر ما مُنيت به هذه الأمة من علل الفساد وأسباب الوهن. فان وجودها يوهم الأوربي انه فاضل بالحق، ويشعر المصري انه مفضول بالطبيعة، فيمعن هذا في هضم نفسه وبذل مقادته، بمقدار ما يمعن ذلك في تصعير خذه وتجاوز حده، ويجري الأمر بين الرجلين مجرى الطبع والعادة، فلا يندم الأول على إساءة، ولا يألم الثاني من غضاضة!
وما تجره على الأمة هذه الآفة من قتل الرجولة في النفوس، وكسر النخوة في الرءوس، لا يدفعه إلهاب العواطف بعظمة الآباء وحماسة الشعراء وطموح المدرسة، فما ظنك إذا خلا التاريخ من روح الوطنية، والشعر من أدب القومية، والمدرسة من رفع الخلق
أن اخبث الأدواء ما خامر الجسم فسلبه القدرة على الفكر فيه بَلْهَ الخلاص منه.
ولقد جنت الامتيازات على أخلاقنا جناية العبودية على أخلاق العبيد! فنحن نجبن أمام الإهانة، ونكذب أمام الخوف، ونخنع أمام القوة، ويقعد بنا اتهام الكفاية عن المنافسة، حتى خلت ميادين العمل للأجانب فتحكموا تحكم الأرباب، وتصرفوا تصرف السادة، وعاشوا بالشر على خير هذا البلد، وأنضجوا شِواءهم في حريق أهله!
كل أولئك ونحن نضرع للسفيه أن يحلم، وللخصم أن يحكم، وللقوي أن يستكين، ثم نحاول أن نتحاكم إلى المعاهدات، ونتفاهم بالمفاوضات، كأنما انقلبت حملة الغرب على الشرق دعوة إلى سبيل المدنية وتقدم الإنسانية على هَدْى السلام والعدل!
كلا يا سادة! إن علاج المسموم بالعزائم مزاح مع الداء لا تؤمن عاقبته، وان قتل الحية أهون من ترويضها، وان قطع العقدة أسهل من حلها، وان المتنبي ما كان يجهل الناس حين قال:
إنما أنفس الأننَيْس سباع ... يتفارسْنَ جهرة واغتيالا
من أطاق التماس شيء غلابا ... واقتسارا لم يلتمسه سؤالا
أحمد حسن الزيات(45/2)
الخيال الطارق
للدكتور طه حسين
أقبل صاحبي وجه النهار مرتاعاً حائل اللون، شاحب الوجه، حائر الطرف، طائر اللب، كأنما ألم به طائف من الجن فروعه ترويعاً، وأخرجه عن ذلك الطور الهادئ الرزين الذي كنت اعرفه منه إذا لقيته فتحدثت إليه، واستمعت لأحاديثه المطمئنة العذبة الخصبة.
أقبل مرتاعاً لا يكاد يبين إذا تحدث أو هم بالحديث، بل لا يكاد يستقر في مجلس، بل لا يكاد يمسك جسمه من رعدة كانت تلم به من حين إلى حين فتهزه هزاً عنيفاً، وتذكر بقول ذلك الشاعر القديم
وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلله القطر
وأشهد لقد أنفقت كثيراً من الجهد، واصطنعت فنوناً من الحيلة، لأرده إلى ما الفت فيه من دعة وأمن وهدوء، ولقد افتقدت في تلك الساعة بعض هؤلاء الشيوخ الذين يتلون العزائم والرقي، بعد أن أخفقت أو كدت اخفق فيما كنت أحاول من رده إلى الوقار والصواب. ولكن ظفرت آخر الأمر بما كنت أحاول، واستطعت أن أتحدث إلى صاحبي، وأن اسأله عن مصدر هذا الاضطراب العنيف الذي أصابه وما عرفته عرضة لاضطراب يصيب العقل أو يصيب الجسم. قال وهو ذاهل أو كالذاهل: إثم هذا على أبي العلاء أيها الصديق، فلولا إنني نظرت في كتاب من كتبه آخر الليل، لأذود به هذا الأرق الذي ألح عليَّ إلحاحاً لما أصابني ما ترى، بل لما أصابني ما لم تر من تلك الأهوال التي ألمت بي، واصطلحت عليَّ حتى نفرتني من داري وأزعجتني عن أهلي، ودفعتني إليك في هذه الساعة التي لم أتعود أن أسعى فيها إليك. وثق باني قد خرجت من داري معتزماً ألا أعود إليها، وقد أمرت أهلي أن يلتمسوا لنا داراً أخرى، وأزمعت الرحلة عن القاهرة أياماً، حتى إذا تم لهم ما أريد من التحول عن هذه الدار الموبوءة، عدت إليهم في دارنا الجديدة، لعلي أن أجد فيها ما أنا في حاجة إليه من الدعة وراحة البال. قلت ما أراك إلامريضاً تحمل مرضك على أبي العلاء وتكلفه من ذلك ما لم يقترف، وتكلف أهلك من آثار هذا المرض شططا. ومع أني لم أعرف بعد هذه الأهوال التي ألمت بك فأزعجتك عن دارك ودفعتك إلى ما تحاول من فراق القاهرة. فلست أرى بأساً بهذا الرحيل فقد طال مقامك في مدينتنا، وقد احتملت من الجهد(45/3)
والعناء في عملك ما يضني الأصحاء والأقوياء، فكيف برجل عليل ضئيل مثلك، فارحل مصاحباً ولكن حدثني عما ألم بك من الهول؟ قال مصدره رسالة الغفران يا سيدي، فليت أبا العلاء لم يكتب رسالة الغفران، قلت لا تقل هذا ولا تكن أثراً، فان لغيرك في رسالة الغفران لذة ومتاعاً، وإذا كانت قد سلطت عليك الهول الذي لم أعرفه بعد، فإنها قد أتاحت لقوم آخرين في الشرق والغرب من الشهرة وبعد الصوت ما لم يسلط عليهم هولا من الأهوال، ولم يغربهم خطباً من الخطوب. ولكن هات حديثك. قال: ما أشك في أن أبا العلاء كان مجنوناً حين كتب هذه الرسالة. قلت رب جنون خير من العقل، ولكن هات حديثك. قال: أتذكر هذا السخف الذي أغرق فيه إغراقاً حين ذكر هذين البيتين القديمين من شعر النمر بن تولب:
ألم بصحبتي وهم هجوع ... خيال طارق من أم حصن
لها ما تشتهي عسلا مصفى ... إذا شاءت وحواري بسمن
قلت هذا من خير ما في الرسالة، وأي بأس عليه من أن يفترض أن الشاعر قد وضع مكان حصن في البيت الأول اسماً آخر كجزء أو حفص أو عمرو، ثم يلائم بين هذا الاسم وبين القافية في البيت الثاني، فهذا نوع من العبث المباح الذي لا يسوء أحداً، وهو مع ذلك يدرب الذاكرة ويظهر شيئاً من المقدرة اللغوية التي يحرص العلماء والأدباء على إظهارها. قال أنت الذي يزعم أن هذا العبث لا يسوء أحداً، وما رأيك في أنه قد ساءني وجشمني ما رأيت وما لم تر من الأهوال والخطوب. فقد أراد سوء الحظ أن أنظر في هذا الكتاب، وأن أقف عند هذا العبث، فأفكر في هذه الخيالات التي كانت تطرق المحبين والشعراء منهم بنوع خاص، والتي كانت إذا تطرق المحبين والشعراء منهم بنوع خاص، والتي كانت إذا طرقت هؤلاء الشعراء أنطقتهم بما تعرف وما لا تعرف من رائع الشعر وبارع الكلام. وأغرقت في هذا التفكير وجعلت استعين بالذاكرة على استحضار شيء من الشعر القديم الذي قاله الشعراء في الخيال الطارق والطيف الملم. ثم جعلت اسخر من أبي العلاء ومن جفاء طبعه وخشونة مزاجه، وجعلت ارثي لأم حصن هذه التي عبث الشاعر بها هذا العبث فلم يترك اسمها حيث وضعه النمر بن تولب، وإنما حذفه واخذ يضع مكانه أسماء أخرى بعدد حروف المعجم، ولو أنه كان رقيق القلب دقيق الحس ممتاز الشعور رفيقاً بالغانيات(45/4)
لما أزعج أم حصن عن مكانها، ولما أقلقها عن موضعها، ولكنه رجل غليظ لا علم له بالحب، ولا حظ له من الرقة، ولا معرفة له بحسن معاشرة النساء.
وإني لفي ذلك وإذا أنا أحس كأن الأرض تدور تحت قدمي، وكأن كل شيء يضطرب من حولي، ولا أكاد التفت إلى ذلك وأفكر فيه حتى يهدأ من حولي كل شيء، وإذا شخص جميل قد قام مني غير بعيد، وهو ينظر إليَّ نظرة عطف، وعلى وجهه غشاء من كآبة حلوة، وعلى ثغره ابتسامة كأنها ابتسامة الرضى، ولكني لا أعرف شيئاً أصدق منها تصويرا للحزن والأسى، وتمثيلا للوعة والحسرة، ولست أدري كيف لم يرعني مقام هذا الشخص الجميل، فلم أظهر فزعاً ولا اضطراباً، وإنما أنست إليه وحققت النظر فيه فتبينت فتاة غضة الشباب رائعة الجمال، لولا أن شبابها يوشك أن يكون وهماً، ولولا أن جمالها يوشك أن يكون خيالا، تبينت شخصاً حياً متحركاً نضيراً، ولكنه على ذلك لا يخلو من شيء يشبه الموت، ومن شيء يشبه السكون، ومن شيء يشبه الذبول. وهو على هذا كله يذكرني بشخص كنت آلفه ويألفني، وكنت أكبره ويكبرني، وقد فقدته منذ حين، فجزعت عليه جزعاً شديداً، وكثيراً ما سألت نفسي أتراها قد ذكرتني قبل أن تلج باب الموت.
وإني لأنظر إلى هذا الشخص الماثل، وان هذه الخواطر لتمر أمام نفسي وادعة كأنها السحاب الرقيق، وإذا أنا اسمع صوتاً رقيقاً خافتاً حلوا يسعى إليَّ سعياً خفياً من ناحية هذا الشخص الماثل غير بعيد. وإذا هذا الصوت يحمل إليَّ تحية عذبة هي التي كنت اسمعها من صديقتي حين كنت ألقاها وجه النهار، وما اكثر ما كنت ألقاها وجه النهار. اصبح بخير يا سيدي. فأجيب اصبحي بخير يا سيدتي. انك تعرفني أو تكاد تعرفني، انك تذكرني وتسال نفسك الآن كما كنت تسألها من قبل، إذ ذكرتك حين فارقت الحياة وودعت الاحياء، نعم يا سيدي قد ذكرتك وألححت في ذكرك، وكلفت من يقرأ تحيتي عليك، ولولا الحياء لكلفت من يدعوك لزيارتي قبل أن أموت ولكن لم افعل، ولم يعرض علي ذلك أحد من الذين كانوا يحيطون بسرير الموت، على أني لست آسفة فأني لم اخسر شيئاً، لأني لم أفارق أحدا ممن كنت احب لقاءهم في تلك الحياة، إنما أنا أراهم وأسعى بينهم وأتحدث إلى نفوسهم وأسمع منها، وكل ما فقدته إنما هي هذه الأصوات التي كنت اسمعها، وهذه الأيدي التي كنت أصافحها. وثق بأنها لا تعدل شيئاً حين أقيسها إلى ما اسمع الآن من أحاديث(45/5)
الضمائر ونجوى النفوس. وما كنت لأتراءى لك الآن لولا انك أغرقت في ذكر الخيال واستحضار الخيالات. ولست اخفي عليك أني كنت أريد حين تراءيت لك أن أداعبك بعض الشيء، فلا تظن أن الدعابة مقصورة على الاحياء، فقد يأخذ الموتى من الدعابة بنصيب أيضاً. كنت أريد أن أتراءى لك على أني أم حصن صاحبة النمر بن تولب، وان اشكر لك عطفك عليَّ ورفقك بي ولومك لأبي العلاء. ولكني لم استطع أن أخدعك لأني لم أتعود خداعك أثناء الحياة. ثم لأني إنما أقبلت إلى هذا المكان لألقى في روعك رسالة كنت أريد أن تبلغها عني، وكنت أريد أن القيها إليك كما تلقى الرسائل إلى الناس في الأحلام، ولكني رأيتك يقظان تنظر في هذا الكتاب فانتظرت لعل النوم أن يسعى اليك، ثم رأيتك تذكر الخيال وتستحضر الاطياف فتراءيت لك، وهل انا الأخيال أو طيف؟ لا تطل النظر إليَّ ولا تقل شيئاً فان نظر الاحياء يؤذيني، وان اصوات الاحياء تثقل عليَّ، ولكن اسمع مني ولتتحدث نفسك إليّ إذا لم يكن لك يد من حديث، واني لأعلم انك تريد أن تسألني كيف اتحدث اليك بصوت يشبه صوت الاحياء، واشفق مع ذلك من سماع صوتك فانا لا اتحدث اليك بصوت يستطيع غيرك أن يسمعه، إنما انت الذي يمنح هذا الصوت قوته وتشخصيه، ولو أن في هذه الغرفة قوماً غيرك لما رأوا من شخصي ما ترى، ولما سمعوا من صوتي ما تسمع، ولكن اصغ اليّ فاني أحس مقدم النهار، واني أكره هذا الضوء الذي يغمر الكون حين تشرق الشمس، والذي كنت أحبه أشد الحب اثناء الحياة، والذي لم احزن على شيء حزني على فراقه قبل أن أموت، والذي لم أتسل عن شيء كما تسليت عنه الآن.
أصغ إليّ فان أريد أن ألقي إليك رسالتي، وان أنصرف عنك قبل أن يهجم ضوء النهار فيبدد ظلمة الليل، وإني لحريصة على أن ألقاك، فان كان لقائي يرضيك الآن كما كان يرضيك من قبل، فأنتهز فرصة كهذه الفرصة، في ساعة كهذه الساعة، وانظر في هذا الكتاب وأطل التفكير فيه، فقد أستجيب لدعائك حينئذ. ثم سكت هذا الصوت قليلاً، وإنما قتلني معه الحب أيضاً، فقد تذكر أن زوجي فارقني قبل أن أموت بأشهر، لأن مرضي المتصل قد ثقل عليه، وقد تذكر اني كنت أظهر تجلداً وعزاء، وقد تعلم أني كنت اخفي في ذلك غير ما اضمر، وانك كنت تشفق علي مما كنت أخفيه. وكنت تود لو استطعت ان تسليني عن بعض ما اجد، فاعلم الآن اني حين ثقلت على العلة، وتورمت اطرافي، ورأى(45/6)
الطبيب ان ينزع ذلك الخاتم الذي كان آخر ما بقي لي من زوجي، لم اشك في انه سينزع معه الحياة من هذا الجسم المريض، ولم اكره ذلك، وأي بأس من مفارقة العلة واليأس. فأبلغ زوجي إني فارقت الحياة وانا أحبه، وان مقامي في هذه الارض بعد الموت لن يطول، وأنه خليق ان يعلم اني أراه وارافقه، وأنه خليق أن يرعى ذلك وان يذكرني في شيء من الخير والرفق والوفاء، حتى إذا آن لهذا الخيال ان يصعد في طبقات الجو وان يمضي إلى ذلك العالم الذي تعيش فيه خيالات الموتى، وان تنقطع الصلة بينه وبيني من الاسباب. قالت ذلك ثم نظرت اليّ نظرة قوية حادة، لم استطع ان أثبت لها، وإنما أطرقت برأسي إلى الارض خائفاً وجلا. ثم رفعت رأسي بعد ذلك ونظرت فلم أر شيئاً، وتسمعت فلم ينتبه إلى صوت وانما هي رسالة الغفران مبسوطة أمامي أرى فيها عبث ابي العلاء حول شعر النمر بن تولب. هنالك أخذني هلع ما أعرف اين احسست مثله من قبل، وملكني روع كاد يدفعني إلى الصياح لولا بقية من عقل، وفضل من حياء، ففارقت غرفتي وهبطت إلى الحديقة أهيم فيها انتظر مطلع النهار، حتى إذا ارتفعت الشمس قيلاً أوصيت أهلي بما أوصيت واسرعت اليك. أترى بعد ذلك ان سخف أبي العلاء لم يسؤ أحداً؟ قال ذلك ثم أخذته رعدة غريبة اشفقت أن ترده إلى مثل ما كان عليه من الوجل والاضطراب، فما زلت به حتى رددت إليه الامن والهدوء. وقلت مداعباً: ويحك! ألم تقرآ كتاب أناطول فرانس ذلك الذي سماه جريمة سلسفتر بونار؟ إن فيه قصة ان لم تكن تشبه قصتك هذهمن كل وجه، فانها قريبة منها إلى حد ما، وما أرى إلا انك قد ذكرت صاحبتك هذه في ضوء النهار أو في ظلمة الليل، حتى إذا أخذت تنظر في كتابك اخذك هذا النوم الخفيف الذي تتراءى فيه الأشباح والخيالات. قال مغضباً: اقسم لك ما كنت نائماً ولا قريباً من النائم، وإنما كنت يقظان أشد ما يكون الناس يقظة وانتباهاً، ولكن ما نفع الحديث معك في هذا وأنت لا تؤمن بعالم الخيال. قلت: فاني أشفق عليك من ايمانك هذا فقد تسطيع أن تتحول عن دارك، وان تفارق القاهرة، وأن تنزل من الارض أي منزل شئت، فسيتراءى لك هذا الخيال كلما خطر له أن يتحدث اليك، أو أن يحملك رسالة إلى الاحياء. وماذا تريد الآن أن تصنع برسالته هذه؟ أتحملها إلى من أنت مكلف أن تحملها إليه أم تكتمها؟ فان تكن الاولى فماذا تصنع إن لقيك باللوم لانك تعرض لما لا ينبغي لك أن تدخل فيه، وان تكن الثانية(45/7)
فماذا تصنع إن ألم بك الخيال وسألك عن تبيلغ الرسالة وتأدية الأمانة والوفاء بالعهد؟ هنالك نهض صاحبي مغاضباً وهو يقول: ما أشد بغضي للذين يمزحون في غير أوقات المزاح. ثم انصرف عني وانا شدي الاشفاق عليه وعلى كثير من امثاله الذين تطرقهم هذه الخيالات فتملأ قلوببعضهم أمناً ورضى، وتملأ قلوب بعضهم الآخر خوفاً وروعاً.
طه حسين(45/8)
سبيل الخلاص من الامتيازات الأجنبية
للدكتور عبد الرزاق احمد السنهوري
الأستاذ بكلية الحقوق
- 1 -
قد لا يكون هذا الموضوع الذي أعالجه وثيق الاتصال بالموضوعات الأدبية والعلمية التي اعتاد كتاب الرسالة أن يطالعوا بها قراءها. ولكني مع ذلك لا أتردد في أن أرسل بمقالي هذا إلى الرسالة. فان مسألة الامتيازات الأجنبية أصبحت في هذه الأيام من أكبر المسائل خطراً وأشدها تعقداً. والرسالة تتسع جوانبها لكل مسالة تشغل الرأي العام.
وما بي أن أعالج الامتيازات الأجنبية من نواحيها المألوفة: الامتيازات جائرة، لا يتفق أصلها التاريخي مع حقيقتها الواقعة، لا يصح أن تستسيغها أمة لها حظ من الكرامة، لا يجوز التواني عن المطالبة بإلغائها، بل هي قد سقطت بتغير الظروف طبقاً لمبادئ القانون الدولي المعروفة. كل هذا أصبح معروفاً مستقراً في الأذهان. وإنما يعنيني أن أتلمس سبيلا عملياً إلى التخلص من هذه الامتيازات.
وإنه ليبدو لي ضرورياً أن تكون للحكومة المصرية خطة مرسومة للتخلص من الامتيازات الأجنبية. أما ترك الأمر للظروف فليس بمنتج شيئاً ولا يتفق مع ما لمسألة لا تقل في الأهمية عن مسألة الاحتلال الإنجليزي للبلاد. فالتخلص من الاحتلال مع بقاء الامتيازات لا يفيد كثيراً، إذ نبقى مقيدين في أهم مقدمات السيادة الداخلية للدولة: التشريع والقضاء والإدارة. فلا يصح إذن في مسألة لها هذه الأهمية أن نترك أنفسنا تسوقنا المصادفات وتسيطر علينا الحوادث. ولقد شاءت المصادفة أن يتنحى رئيس إحدى الدوائر في محكمة مصر المختلطة عن نظر أحد القضايا، فترتب على هذا التنجى هذه الأزمة الحالية التي لا نزال نخوض غمارها وإني لأخشى، ونحن نعتمد على المصادفات، أن ننصرف عن هذه المسألة الحيوية بمجرد انتهاء المناسبات التي دعت إلى الاشتغال بها. فكم سبق هذه الأزمة أزمات شغلت الرأي العام قليلاً أو كثيراً، ثم ما لبث أن انصرف عنها، ولم يعد يذكرها، حتى تقوده المصادفة المحضة للعودة إليها. ثم إني لأخشى أن تقتصر الحكومة المصرية في(45/9)
معالجة هذه المسألة الخطيرة، على ناحية أو ناحيتين منها، مكتفية بما ساقته المصادفات أمامها من المشاكل، فتفاوض في رياسة الدوائر أو في مسألة اللغة العربية، أو في غير ذلك من المسائل التفصيليلة. وما هذه وغيرها ألا أعراض لمرض مستحكم، لا تجدي فيه معالجة الأعراض دون استئصال مواطن الداء. يجب أن يكون للحكومة المصرية خطة شاملة عامة لمعالجة مسألة الامتيازات في مجموعها. وهذا ما جعلني أدلي برأي في هذا الموضوع الخطير، وادعوا رجال القانون إلاالإدلاء بآرائهم، حتى تتمحص الآراء، فترتسم أمامنا الخطة العملية لتخليص البلاد من هذه النكبة.
لا يجوز أن ننسى أن مسألة الامتيازات لها جانب سياسي غير جانبها القانوني. وقد يكون هذا الجانب السياسي هو أشد الجانبين استعصاء على الحل. وكل محاولة ترمي إلى إيجاد حل عادل للمسألة، ولا تبدأ بمعالجتها من جانبها السياسي، مقضي عليها بالفشل. إنجلترا تزَّعم لنفسها حق حماية المصالح الأجنبية في مصر. وقد تقدمت بهذه الدعوى في مشروع ملنر، وفي تصريح 28 فبراير، وفي مشروع كيرزون، وفي كل المشروعات التي تلته. وقد كانت تفرع على هذه الدعوى دعوى أخرى لا تقل عنها انتقاصاً لسيادة البلاد: كانت تطلب أن تأخذ من مصر تفويضاً تتولى بمقتضاه مفاوضة الدول ذوات الامتيازات. ثم نزلت عن هذه الدعوى منذ المفاوضات التي دارت مع المرحوم ثروت باشا. ويظهر أنها أخذت تفكر أخيراً في الرجوع ثانية إلى هذه الدعوى.
فهناك أمران يجب الاحتراز منهما في أية محاولة نقدم عليها لحل مشكلة الامتيازات: (أولاً) ألا نعطي لإنجلترا سبيلا لمفاوضة الدول ذوات الامتيازات. فان المعاهدات التي تقوم عليها الامتيازات الأجنبية قد ورثنا بعضها عن تركيا وعقدنا البعض الآخر مع الدول. فقيام إنجلترا بالمفاوضة ليس معناه إلا تسليما منا بدعواها حماية المصالح الأجنبية. وإلا فان الوضع الطبيعي للمسألة يقتضي إلا يكون تعديل هذه المعاهدات أو إلغاؤها إلابمعاهدات تكون مصر طرفاً فيها. ولا يمنع هذا من تلمس معونة إنجلترا ووساطتها الودية في المفاوضات التي تقوم بها الحكومة المصرية مع الدول، والفرق كبير بين ان تبذل إنجلترا وساطتها لتأبيد جهودنا وبين ان تكون هي الطرف المفاوض. (ثانياً) أن تلقى بنا رغبتنا الملحة في التخلص من الامتيازات فيما هو أشد خطراً منها. فما دامت إنجلترا على دعواها(45/10)
من حماية المصالح الأجنبية، فان أي حل توافق عليه يكون من شأنه تأييد هذه الدعوى وتدعيمها. فالواجب إذن أن ننظر في المسألة من أساسها، وأن نقدم معالجة دعوى إنجلترا في حماية المصالح الأجنبية على معالجة الامتيازات، ولا نحاول الثانية قبل أن ننتهي من الأولى. وإلا فان التسليم لإنجلترا بحماية الأجانب في مصر انتقاص خطير من سيادة البلاد، وفتح الباب لتدخل الإنجليز في شؤوننا الداخلية.
نرى مما تقدم أن المساعي التي تبذلها مصر في إلغاء الامتيازات الأجنبية يجب أن تكون مسبوقة بتفاهم تام مع إنجلترا، على أن تعديل هذه الامتيازات أو إلغاءها لا يكون إلا على أساس أن تسترد مصر حقوق سيادتها التي انتقصت منها هذه الامتيازات؛ لا أن تنتقل هذه الحقوق إلى إنجلترا. فإذا تم هذا التفاهم، سواء أكان ذلك في مفاوضات عامة شاملة لحل المسألة المصرية في مجموعها، أم في مفاوضات خاصة بهذه المسألة إذا لم يتهيأ السبيل لمفاوضات عامة. يمكن بعد ذلك تلمس السبيل العملي للوصول إلى إلغاء الامتيازات.
ونحن نقترح سبيلا عمليا يكون سيرنا فيه مقروناً بالحكمة، فلا نتخذ تدبيراً إلاإذا دعت إليه الضرورة. نحاول اولاً التفاهم مع الدول ذوات الامتيازات أنفسها على تعديل النظام الحالي للامتيازات، فقد أصبح هذا النظام يصطدم مع الكرامة والعدالة والمصلحة. فان لم تفلح عرضنا على إنجلترا أن تؤيدنا في إلغاء الامتيازات بإعلان يصدر من جانبنا، بشرط ألا تجعل من هذا التأييد وسيلة لتثبيت دعواها في حماية المصالح الأجنبية؛ فان لم نفلح أخذنا على أنفسنا مسئولية إلغاء المحاكم المختلطة وإلغاء الامتيازات معاً، أو الاقتصار على إلغاء النظام الأول دون الثاني. ونفترض في كل هذا أن الشعب المصري يؤيد الحكومة التي تتولى اتخاذ هذه التدابير، إذ لا يجوز لأية حكومة مصرية لا تحوز ثقة الشعب أن تقدم على إلغاء الامتيازات، فان الأقدام على هذا الأمر الخطير يقتضي أن يكون للحكومة سند من الشعب، والحكومة التي تفقد هذا السند ليس أمامها إلا أن ترتمي في أحضان إنجلترا، فتجر على البلاد نكبة أشد وبالا من نكبة الامتيازات.
وها نحن أولاء نفصل ما أجملناه، ونقسم السير في الطريق الذي نقترحه إلى خطوات:
الخطوة الأولى
تستصدر الحكومة المصرية مرسوماً بإلغاء المحاكم المختلطة طبقاً لقانون نمرة 28 سنة(45/11)
1921، وتنشر هذا المرسوم في الجريدة الرسمية، حتى يكون الإلغاء نافذاً بعد سنة من نشره.
الخطوة الثانية
بعد نشر هذا المرسوم تدعو الحكومة المصرية الدول ذوات الامتيازات إلى الدخول معها في مفاوضات بشأن تنظيم الحالة التي ستجد عقب إلغاء المحاكم المختلطة
ونحن نشدد في استصدار المرسوم بإلغاء المحاكم المختلطة ونشره قبل الدخول في مفاوضات مع الدول، لأن هذا هو السبيل لإقناع هذه الدول بأن الحكومة المصرية ومن ورائها الأمة تؤيدها، قد عقدت العزم على السير في طريقها، ولو لم تؤد المفاوضات إلى اتفاق، وان مصير المحاكم المختلطة قد أصبح محتوماً، فلا مناص من إلغاء هذه المحاكم مهما كانت نتيجة المفاوضة. وفي هذا معنى خطير لا يفوت الدول، ولا يمكن إلاأن يكون مؤثراً في سير المفاوضات.
وتكون الدعوة إلى المفاوضة مصحوبة بمذكرة تبين فيها الحكومة المصرية الأسس التي تقترحها لإقامة النظام الجديد الذي يعقب إلغاء المحاكم المختلطة.
وفي رأينا أن تكون هذه الأسس مبنية على دعائم ثلاث: (أولاً) إيجاد محاكم جديدة تحل محل المحاكم المختلطة، ولكنها تختلف عنها اختلافاً كبيراً من حيث تقوية العنصر المصري فيها، فهي ستكون محاكم مصرية قانوناً وعملاً، (ثانياً) استرداد ما فقدته الدولة المصرية من حقوقها التي لا تأباها عليها نفس الامتيازات حسب وضعها الأصلي، كحقها في سن تشريعات عقارية ولوائح بوليس تسري على الأجانب دون موافقة الدول. واسترداد الحقوق التي أنكرتها عليها المحاكم المختلطة الحالية من طريق التوسع في تفسير اختصاصها توسعاً لا يسيغه المنطق القانوني الصحيح. ثم استرداد الحقوق التي أنكرتها المحاكم المختلطة، لا من طريق التوسع في التفسير، بل من طريق خرق التقاليد القضائية أو النصوص القانونية الصريحة. فان المحاكم المختلطة، وهي معقل الامتيازات الأجنبية في مصر قد عملت على تقوية الامتيازات من هذه الطرق المختلفة. توسعت في تفسير النصوص فحملتها مالا تحتمله، كما فعلت في نظرية الصالح المختلط وفي تفسير معنى الأجنبي. ثم خرقت التقاليد القضائية بإنكارها على القاضي المصري أن يتولى رياسة دائرة(45/12)
هو أقدم أعضائها، دون أن يكون هناك في القانون ما يمنعه من ذلك. ولجأت أخيراً إلى إنكار النصوص الصريحة، كما فعلت عندما أنكرت على اللغة العربية أن تكون لغة رسمية تنطق بها الأحكام ويجري بها التقاضي.
(ثالثاً) توقيت النظام الجديد الذي يحل محل النظام القديم، حتى يتهيأ لمصر في الوقت المناسب أن تتخلص من هذا النظام الجديد أيضاً كما تخلصت من النظام الذي سبقه، ولا يكون في البلاد إلانظام واحد في التشريع والقضاء يسري على جميع سكان مصر.
وتطبيقاً لذلك نرى أن تدعو الحكومة المصرية الدول لعقد معاهدة يكون من حق الحكومة المصرية إنهاؤها بإعلان يصدر من جانبها بعد سنة من تاريخ نشر هذا الإعلان. وفي حالة إنهاء المعاهدة لا يعود النظام الحالي للمحاكم المختلطة بل يعتبر هذا النظام قد ألغي بصفة نهائية. وتتناول المعاهدة جوانب ثلاثة: التشريع والقضاء والإدارة.
1 - التشريع
ينص في المعاهدة على أن التشريع المصري يكون نافذا على الاجانب، بما فيه التشريع المالي، إذا مضى ثلاثون يوماً من عرض هذا التشريع على الجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف المختلطة الجديدة (وسنبين تشكيلها فيما بعد) دون أن تقدم هذه الجمعية اعتراضاً على التشريع المذكور. ولا يجوز الاعتراض على أي تشريع مصري إلاإذا كان هذا التشريع يتضمن مبادئ تتنافى مع المبادئ العامة التي يقرها العالم المتمدين في التشريع تنافياً يخل بالعدالة. وتبين الجمعية العمومية المسائل التي لاحظت فيها هذا التنافي. فإذا اقتنعت الحكومة المصرية بوجهة نظر الجمعية العمومية لا يكون التشريع نافذاً على الأجانب ذوي الامتياز، وإن لم تقتنع كان لها أن ترفع الأمر إلى محكمة لاهاي. أما فيما يتعلق بالتشريع المالي فلا يجوز للجمعية العمومية أن تعترض على ضريبة تفرض إلاإذا أخلت بالمساواة فيما بين الأجانب، أو فيما بينهم وبين المصريين، عدا الضرائب الخاصة بالأجانب التي يكون لها نظير في البلاد المتمدينة. ولا يعتبر إخلالاً بالمساواة أن تفرض ضريبة على جميع السكان، حتى لو تبين أن عبء هذه الضريبة يقع على عاتق الأجانب أكثر مما يثقل كاهل المصريين، بسبب أنها تتناول أعمالا يغلب فيها العنصر الأجنبي كالشركات. وإذا اعترضت الجمعية العمومية على تشريع مالي لانه لا يحقق المساواة(45/13)
المطلوبة، كان للحكومة المصرية أن ترفع الأمر إلى محكمة لاهاي. ويستثنى من الأحكام المتقدمة ما يأتي:
(1) أي تشريع يعدل أو يلغي حكماً من أحكام هذه المعاهدة، فهذا لا يكون نافذاً على الأجانب ذوي الامتياز إلا بعد الاتفاق مع دولهم على ذلك
(2) التشريع الخاص بعقار، بما فيه الضرائب العقارية، فهذا يكون نافذاً على الأجانب دون حاجة إلى عرضه على الجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف المختلطة
(3) لوائح البوليس التي تفرض عقوبة لا تزيد عل عقوبة المخالفة، وهذه أيضاً تكون نافذة دون حاجة إلى عرضها على الجمعية العمومية. وغني عن البيان أن التشريعات التي تطبقها المحاكم المختلطة الحالية (كالتقنينات الستة المعروفة) تعتبر تشريعات نافذة دون حاجة إلى عرضها على الجمعية العمومية، إلاإذا رأت الحكومة المصرية تعديل هذه التشريعات (وستظهر ضرورة ذلك بنوع خاص في القانون الجنائي وقانون الإجراءات الجنائية وعند تنقيح القانون المدني)، ففي هذه الحالة تعرض التعديلات التي يراد إدخالها على الجمعية العمومية على النحو الذي بيناه فيما تقدم.
هذه هي المقترحات الخاصة بالتشريع، ونتولى الآن تبريرها. فهي قسمان: قسم أقرته إنجلترا في المقترحات التي عرضتها على مصر عند ما دارت المفاوضات المختلفة بين الدولتين. وقد ورد ذكر ذلك في المذكرة البريطانية المتعلقة بالامتيازات في المفاوضات التي دارت بين المستر هندرسون ومحمد محمود باشا إذ جاء فيها ما يأتي: (وسأكون مستعداً للاتفاق على أن تقوم الجمعية العمومية للمحاكم المختلطة في المستقبل بإبداء كل موافقة لازمة لتطبيق التشريع المصري، ومن ضمنه التشريع المالي، على الأجانب، إلافي حالة التشريع الخاص بتشكيل المحاكم المختلطة وتديد اختصاصاتها، فانه لا ينفذ إلا بموافقة الدول عليه. ويكون على الجمعية العمومية للمحاكم المختلطة أن تتثبت من أن التشريع المشار إليه لا يناقض المبادئ التي يجري العمل بموجبها عادة في التشريع الحديث الذي يسري على الأجانب. وأنه فيما يتعلق بوجه خاص بأي تشريع ذي صفة مالية لا يوجد تمييز غير عادل ضد الأجانب بما فيهم الشركات الأجنبية، (انظر الكتاب الأخضر الخاص بهذه المفاوضات ص10). ومن هذا يتبين أننا لم نأت بجديد إلافي شيء واحد. فالمذكرة(45/14)
البريطانية تشترط موافقة الجمعية العمومية على كل تشريع مصري يراد سريانه على الاجانب، أما نحن فنكتفي بعدم اعتراض هذه الجمعية على التشريع المقدم إليها. والفرق ما بين الأمرين ظاهر، ففي الحالة الأولى يجب أن تكون هناك أغلبية توافق على التشريع حتى يسري على الاجانب، أما في الحالة الثانية فيجب أن تكون هناك أغلبية تعترض على التشريع حتى لا يسري على الأجانب، فإذا انقسمت الجمعية في أمر تشريع إلى فريقين متساويين في العدد، لم يسر التشريع على الأجانب في الحالة الأولى وسرى في الحالة الثانية. ولا يخفي ما لهذا الأمر من الأهمية إذا لوحظ أن نصف أعضاء الجمعية العمومية يجب أن يكون من المصريين كما سنبين ذلك فيما يلي. أما فيما يتعلق برفع الأمر إلى محكمة لاهاي، فهذا هو المبدأ الذي تقرر في المفاوضات التي دارت بين إنجلترا ومصر.
والقسم الثاني من هذه المقترحات جديد، وهو خاص بالتشريع العقاري وبلوائح البوليس. هذه تشريعات نريد ان نسترد فيها حقوق مصر الضائعة. فان للمشرع المصري حتى بمقتضى الامتيازات الأجنبية، الحق في أن يسن قوانين تسري على الأجانب، دون حاجة لموافقة الدول أو لموافقة الجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف المختلطة، إذا كانت هذه القوانين خاصة بالعقارات في مصر، سواء أكانت هذه القوانين مالية (أي تفرض ضريبة عقارية) أم غير مالية. وذلك أن الأجانب لم يسمح لهم قانوناً بتملك عقار في مصر إلاعلى أساس الفرمان العثماني الصادر في سنة 1867، وقد اشترط هذا الفرمان في تملك الأجنبي للعقار أن يخضع للقوانين واللوائح التي يخضع لها الرعايا العثمانيون، وأن يدفع جميع التكاليف والضرائب التي تجبى أو يمكن أن تجبى في المستقبل على العقارات في المدن أو في القرى، تحت أي شكل كانت، وبأي اسم سميت. فمن حق مصر أن تسترد هذا الحق الضائع، فإن اغتصابه منا خرق للامتيازات الأجنبية نفسها التي يحتج بها الأجانب علينا وكذلك الأمر في لوائح البوليس، فقد كان لمصر سن هذه اللوائح، وكانت تسري على الأجانب قبل وجود المحاكم المختلطة نفسها. وتأيد هذا الحق بنص المادة العاشرة من القانون المدني المختلط، وبنص المادتين 331 و 340 من القانون الجنائي المختلط
(تتمة البحث في العدد القادم)
عبد الرزاق السنهوري(45/15)
مقياس الرقي
للأستاذ أحمد أمين
سألني أديب سوري، بمناسبة مقال كتبته عنوانه (المسلمون أمس واليوم)
بم نعد أمة أرقى من أمة، وما العوامل التي نحسبها ونقيس بها الرقي؟ وفي الأمة الواحدة - إذا سئلنا أكانت بالأمس خيراً منها اليوم، أم هي اليوم خيرٌ منها أمس. فأي النواحي نرعاها عند النظر؟
والحق أنها أسئلة في منتهى الصعوبة، يحار المجيب عنها أي العوامل يحسب وأيها يترك، وأيها لها قيمة كبيرة الأثر وأيها ضعيف الأثر؟
قد يجيب مجيب إجابة سهلة من طرف اللسان فيقول (مقياس الرقى في الأمم الأخلاق) فأرقى الأمم أحسنها خلقاً ولكن هذه الإجابة لا تقنع، فالأخلاق متغيرة، وكل عصر له أخلاق يتطلبها وواجبات ينشدها، وما علينا الآن من واجبات أضعاف ما كان على أجدادنا منها، أصبح واجباً علينا أن نعلم أولادنا في المدارس، وما كان ذلك واجباً من قبل إنما كان تبرعاً من الأب، وأصبح واجباً علينا ترقية الوطن من جهات متعددة وما كان ذلك واجباً من قبل، وان كان واجباً فواجب غامض ليس محدود المعنى ولا معين الاتجاه، وكان آباؤنا يعدون من أرقى الأخلاق في الأمة حجاب نسائها وبناء سور متين بين الرجل والمرآة، فأصبحنا نرى الواجب أن تتعلم المرآة كما يتعلم الرجل، ومن حقها أن تسمع المحاضرات مع الرجل، وأن تتمتع بالحياة البريئة كما يتمتع الرجل، فإذا قلنا مقياس الرقي الأخلاق كانت كلمة عامة تدل على كل شيء ولا تدل على شيء.
وقوم يقيسون الرقي بالدين، وهي كذلك كلمة عامة يختلف مداولها باختلاف أنظار الناس فيضيق عند بعض الناس حتى لا يسع إلا الصلاة والصوم والزكاة والحج، ويتسع عند بعض الناس حتى يشمل كل شيء.
وفي الحق أن هناك مناحي للحياة مختلفة متعددة يجب أن ينظر إليها كلها لتقويم الرقي - ففي كل أمة مجموعة من المرافق، يعد كل مرفق منها كالخلية في الجسم الحي: من حكومة وتعليم ولغة ودين وأسرة ونظام اقتصادي ونحو ذلك، كلها تتغير وكلها ترقى أو تنحط، وكلها في حركة مستمرة دائماً إما إلى الإمام وإما إلى الخلف. وكلها تتفاعل تفاعلاً قوياً،(45/17)
يؤثر قويها في ضعيفها، وضعيفها في قويها - وهذا التغير الدائم في كل هذه المرافق هو مقياس الرقي والانحطاط، فان كان تغيراً إلى سمو فرقي، وان كان تغيراً إلى تدهور فانحطاط
وحسبان هذا ليس بالأمر اليسير، فقد تتدهور بعض المرافق لأسباب خاصة، وتسمو بعض المرافق لأسباب كذلك، ثم تتفاعل عوامل الضعف والقوة فينشأ من ذلك عملية حسابية من أصعب المسائل حلا. والمثل الأعلى للأمة أن يكون كل مرفق من مرافقها الاجتماعية يؤدي عمله خير اداء، ويتنقل في سمو أبداً، وأن يكون سيره ورقيه في حالة ملائمة ومناسبة لسائر المرافق الاجتماعية، لا يطفر عنها ولا يقعد بها - فالأمة التي تختار أحسن النظم في التربية والتعليم ولا تساعدها اللغة على المصطلحات الحديثة لا ترقى في التربية والتعليم حتى تحل مشكلتها اللغوية، والأمة التي تختار أحسن النظريات الفقهية وخير النظم القضائية، ثم لا يعينها على ذلك حالة الأسر الأخلاقية وحالة المعاملات بين الأفراد لا يمكن على ذلك حالة الأسر الأخلاقية وحالة المعاملات بين الأفراد لا يمكن أن ترقى بنظرياتها الفقهية من الناحية القضائية، والأمة التي تسن أرقى أنواع الإصلاحات الاجتماعية ثم لا تعينها الناحية الاقتصادية تصبح وإصلاحاتها تسر القارئ ولا تسر الناظر وهكذا.
وهناك دلائل قوية تدل الباحث على رقي الأمة وتدهورها وسيرها إلى الإمام أو إلى الخلف، إما بمقارنتها بغيرها من الأمم في نواحي معينة أو بمقارنتها بنفسها في عصرها الحاضر وعصرها السابق، والمقارنة الأولى تدلنا على الدرجة التي تقف عليها الأمة في سلم الرقي العام، والمقارنة الثانية تدلنا على اتجاه سيرها: إلى فوق أو إلى تحت
من أهم هذه الدلائل تعرّفُ موقف الامة ازاء ما يحيط بها من ظروف طبيعية واجتماعية: هل هذا الجيل أحسن استخداما لبيئته وما يحيط به؟ هل استطاع أسلافه؟ هل استخدم المنابع القديمة خيراً مما استخدمها آباؤه؟ هل كان في حله لما يعرف له من المشاكل الاجتماعية والطبيعية أكثر توفيقاً؟ لمّا عَرَضت هذه المصاعب أو أمثالها لنا ولآبائنا كيف حلوها وكيف حللناها، وما منهجهم في الحل وما منهجنا؟ ما مقدار تضامن الأفراد يومذاك في التغلب عليها، وما مقدار تضامننا اليوم؟ لكل أمة مقدار من الثروة. فهل زادت؟ وهل استطاعت اليوم أن تسعد بثروتها أكثر مما كانت تسعد بها من قبل؟ هل استخدمت العلم(45/18)
أحسن مما أستخدمه آباؤها فقلت الوفيات وتحسنت صحتها، وجمل منظرها، ونظفت عيشتها، وأصبح نيل القوت أسهل وأيسر حتى تفرغ كثير من أبنائها وبناتها للعلم والفن والأدب؟ أظن إن هذه الأسئلة متى حددت بهذا الشكل لم تكن الإجابة عليها عسيرة، وبذلك نستعين على تعيين الاتجاه ومقدار الرقي إن كان.
ومن ناحية أخرى، ربما عد من أكبر دلائل الرقي في الأمة (تذليل العقبات أمام الكفايات) فخير الأمم من أفسحت السبيل أمام أفرادها ليرقوا كما يشاءون حسب استعدادهم وجدهم، في التعلم، في الوظائف، في النواحي السياسية والاجتماعية - وقد قطعت الأمم المتمدنة في ذلك خطوات واسعة، فأزالت احتكار الأرستقراطية للمناصب العليا، وسهلت وسائل التعلم لمن شاء، واعتمدت في تقدير الأشخاص على مزاياهم لا على بيتهم - إلى درجة كبيرة - وحاربت (المحسوبية) والنزعات الأرستقراطية، وقضت على النظام الإقطاعي الذي يميز بين الطبقات، ويضع حداً فاصلاً بينها لا يمكن كل فرد بذكائه ومواهبه أن يصل إلى ما يستطيع من رقي - وإن كانوا هم أنفسهم يصرحون بأنهم لم يبلغوا الغاية في ذلك، وأن أمامهم عقبات شاقة ومسافات طويلة يجب أن يقطعوها حتى يسهل على كل فرد تحقيق غايته وبلوغ شأوه
وربما كان كذلك من أهم دلائل الرقي النظر إلى ثروة الأمة ومقدار ما يصرف منها على (الصالح العام) من مدارس ومصانع ومساجد ومتنزهات وحدائق وماء وإنارة ونحو ذلك ولست أعني النظر إلى كمية ما يصرف فحسب، ولكن أعني أيضاً كيفية الصرف، وهل أنفق هذا القدر في أحسن السبل وهل هناك وجه آخر خير منه؟. كذلك لست أعني ما ينفق في ذلك من ميزانية الحكومة فقط، ولكن اعني أيضاً مقدار شعور الأفراد في هذا الباب ومقدار ما يتبرعون به من أموالهم لهذا الصالح العام، فليست ثروة الأمة مقصورة على ميزانية الحكومة ولكنها تشمل ثروة الأفراد (وفي أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم) فالأمة التي لا يشعر أغنياؤها بواجب في أموالهم لفقرائها، أو يشعرون شعوراً ضعيفاً لا يقوى على استخراج المال من جيوبهم، أمة منحطة إذا قيست بغيرها من الأمم التي كثرت فيها المدارس والأندية والمستشفيات والجمعيات الخيرية من مال أغنيائها
ومما يتصل بهذا الأمر، النظر في ميزانية الأُسَر في الأمة وكيف تنفق، فأمة خير من أمة(45/19)
إذا عرفت أسرها كيف توازن بين دخلها وخرجها، وكيف تفرق بين الضروري والكمالي وما ليس بضروري ولا كمالي، ولم تسمح لنفسها أن تصرف في الكمالي حتى تستوفي الضروري، ولا في غير الضروري والكمالي - حتى تستوفي الكمالي، فذلك - من غير شك - يجعل الأسر أسعد حالاً، وأهدأ بالا، وأكثر استعداداً للرقي، وهل الأمة إلامجموعة من الأسر؟ وهل رقي الأمة إلاحاصل جمع رقي الاسر، وكما أن أسرة قد تكون أسعد من أسرة مع إن دخلها أقل وثروتها أضعف، ولكن عقلها أكبر، وتصريفها لمالها أدق، فكذلك الأمم ليس خيرها أغناها، ولكن خيرها من عرفت كيف تستخدم مالها وأحاطت ما تملك بوسائل اجتماعية، وكمية كبيرة من الإصلاح تجعل مالها يتضاعف في القيمة وإن لم يتضاعف في العدد - فكم من الأمم لها ثروة كبيرة طبيعية ولكن لم تعرف كيف تستخدمها ولا جزءاً منها، ولو حلت محلها أمة أخرى لصيرت صحراءهابستاناً وجبالها جناناً، ولجعلت ترابها ذهباً وأرضها عجباً.
ومن أجل هذا لم يخطئ كثيراً من حصر مقياس رقي الأمة في مقدار تغلبها على طبيعة بلادها وتعديل نفسها حسب ما يحيط بها - لأنها لا تصل إلى ذلك إلا بمقدار كبير من العلوم الطبيعية يمكنها من الانتفاع بأرضها وجوها وبقدر وافر من العلوم الاقتصادية يبين لها كيف تستغل منابعها، وبقدر وافر من العلوم الاقتصادية يبين لها كيف تستغل منابعها، وبمقدار صالح من النظم السياسية والاجتماعية والأخلاقية يهيئ للأفراد سبل الانتفاع بما حولهم ويعدهم خيراً عداد للنظر في مصالحهم.
فليتساءل الشرقي في ضوء هذا: أين هو في نفسه، وأين هو في أمته، وأين أمته في العالم؟
أحمد أمين(45/20)
الحرب في بلاد العرب
تطور الحوادث في الجزيرة وصداه في الأفق الدولي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
أسفرت المعارك التي نشبت في الأسبوعين الأخيرين في هضاب عسير وتهامة بين القوات السعودية والقوات اليمانية عن نتائج خطيرة حاسمة فيما يظهر؛ فقد استطاعت القوات السعودية أن تتوغل في نجران وفي عسير بسرعة مدهشة، وأن تستولي على منطقة واسعة في شمال اليمن تشمل عسيراً ونجران وجميع الجهات والمواقع التي كانت موضع النزاع بين البلدين، وأن تتقدم بعد ذلك في أراضي اليمن ذاتها بحذاء البحر الأحمر حتى ثغر الحديدة، وهو أهم الثغور اليمانية، وأن تستولي عليه بعد أن فرت منه قوات الإمام التي كان يقودها ولده وولى عهده سيف الإسلام. وقد كنا نؤمل حين كتبنا مقالنا الأول عن هذه الحرب التي تضطرم بها الجزيرة العربية، أن يكون لصوت العالم العربي والإسلامي أثره في تدارك هذا الخلاف الخطر، وفي وقف المعارك قبل استفحالها. وقد رفع العالم الإسلامي صوته قوياً بمناشدة الزعيمين أن يتذرعا بالروية والحسنى في حسم النزاع القائم بينهما، وسافر إلى مكة وفد عربي إسلامي يمثل عدة من الأمم العربية لتحقيق هذا المسعى. ولكن الظاهر أن سير الحوادث لم يفسح مجالاً للتفاهم الحسن بين الملكين؛ وقد كان جلالة ابن السعود يشترط لوقف القتال شروطاً يراها لازمة لسلامة حدوده وسلام مملكته، وهي جلاء القوات اليمانية عن نجران ومواقعها الجبلية، وإطلاق الرهائن، وتسليم الأدارسة؛ ولكن سيادة الإمام يحيى لبث حيناً يتردد بين القبول والاعتراض؛ وحدث في تلك الفترة أيضاً أن تقدمت القوات اليمانية في نجران وعسير واحتلت مواقع جديدة؛ وأيقن ابنالسعود بعد طول المكاتبة والمفاوضة أن الإمام لا يريد اتفاقاً ولا يسلم بشيء من مطالبه. ويبدو من مراجعة الكتاب الرسمي الأخضر الذي أذاعته الحكومة السعودية عن سير المفاوضات والمكاتبات بين الملكين أن ابن السعود تذرع بكثير من الروية والأناة في محاولة إقناع الإمام باحترام المعاهدات المعقودة والحالة الواقعة. وتدل وثائق الكتاب الأخضر أيضاً على أن عوامل التحريض كانت تعمل عملها في عسير ونجران لدفع قبائلهما إلى الثورة على عمال الحكومة السعودية وأصدقائها. إزاء هذه العوامل والظروف لم ير ابن السعود بداً من(45/21)
الالتجاء إلى القوة المادية؛ فزحفت القوات السعودية في نجران وتهامة صوب الجنوب، واستولت على جميع مواقعها وانتهت كما تقدم بالاستيلاء على ثغر الحديدة، وانهارت في الحال كل التدابير التي اتخذها الإمام للحرب والدفاع، وأضحت اليمن تحت رحمة القوات السعودية التي تطوقها من الشمال والغرب.
وتطور الحرب بين ابن السعود والإمام على هذا النحو يثير احتمالات ومسائل في منتهى الخطورة، وساء في داخل الجزيرة العربية أو خارجها، ولا سيما إذا استمرت القوات السعودية في زحفها على اليمن وانتهت بالاستيلاء عليها. ذلك أن ابن السعود الذي يسيطر على قلب الجزيرة العربية من الأحساء وعمان شرقاً إلى ساحل البحر الأحمر غرباً، ومن بادية العراق وشرق الأردن شمالاً حتى الربع الخالي جنوباً، يغدو باستيلائه على اليمن سيد الجزيرة المطلق، والمسيطر على الساحل الشرقي للبحر الأحمر كله من العقبة حتى مضيق باب المندب. وقيام إمبراطورية عربية قوية على هذا النحو تشمل نجداً والحجاز واليمن مما يثير اهتمام السياسة البريطانية ومخاوفها. وقد كان تقدم المملكة السعودية في الأعوام الأخيرة موضع اهتمامها دائماً. ذلك أن المملكة السعودية تجاور مناطق النفوذ البريطاني والأملاك البريطانية في جميع أنحاء الجزيرة العربية؛ فهي تجاور عمان والكويت من الشرق، والعراق وفلسطين وشرق الأردن من الشمال، وإذا تم ضم اليمن إليها، فإنها تجاور عدن وحضرموت من الجنوب. وعلائق ابن السعود مع بريطانيا العظمى ودية حسنة. وقد نظمت منذ سنة 1922 بمعاهدة المحمرة ثم ببروتوكول العقير. بل إن علائق الصداقة بين ابن السعود وبريطانيا ترجع إلى ما قبل عشرين عاماً، أعني إلى ما قبيل الحرب الكبرى. وكان ابن السعود يومئذ اميراً محلياً، فرأى في اتصاله بالسياسة البريطانية وسيلة لتحقيق مشروعاته؛ وحالف بريطانيا العظمى على الترك، ولزم الحياد أثناء الحرب وفاء بعهده لها. وافتتح في ذلك الحين منطقة شمر في شمال نجد وانتزعها من يد خصمه ومنافسه ابن الرشيد، وبدأت إمارة نجد تتخذ مكانها وأهميتها في شئون الجزيرة العربية. وفي سنة 1924 غزا ابن السعود الحجاز واستولى عليها من يد الحسين بن علي ملكها يومئذ، وامتدت حدود نجد حتى ساحل البحر الاحمر، وقامت من ذلك الحين مملكة نجد والحجاز القوية، واعترفت بقيامها الدول وفي مقدمتها بريطانيا العظمى. وكانت السياسة البريطانية(45/22)
خلال هذه المراحل كلها ترى في ابن السعود صديقاً لها؛ ولم يشب هذه العلائق الودية شيء من الكدر إلا في سنة 1928 إذ أغارت بعض القبائل النجدية على حدود العراق، ونشب الخلاف بين الفريقين على مسألة مخافر الحدود؛ ثم سوى الخلاف وعاد التفاهم بين الفريقين.
ولكن المملكة السعودية قد غدت في الجزيرة العربية قوة يخشى بأسها، وهي تدلل اليوم على قوتها مرة أخرى بذلك الغزو السريع لنجران وتهامة، ثم شمال اليمن واستيلائها على ثغور جديدة على البحر الأحمر، وقد لا تقف القوات السعودية في زحفها حتى يتم استيلاؤها على بلاد اليمن كلها، وتغدو اليمن كالحجاز ولاية جديدة في المملكة السعودية الكبرى: واجتماع الأمم العربية داخل الجزيرة تحت هذا اللواء القوي يثير روحاً جديداً في القضية العربية ويقوي فكرة الجامعة العربية، ويحيي الآمال في تحقيقها. والسياسة البريطانية لا تنظر إلى هذه التطورات بعين الارتياح لأنها تزيد في متاعبها حيثما تبسط سلطانها على أطراف الجزيرة العربية، والسياسة الفرنسية التي تسهر على مصاير سوريا تخشى أن يثير هذا الروح المعنوي الجديد في الوطنية السورية قوة جديدة، ويزيد في متاعبها في سوريا. هذا ومن جهة أخرى فإن السياسة الإيطالية ترقب تطور الحوادث في اليمن بمنتهى الاهتمام والجزع أيضاً. وللسياسة الإيطالية في اليمن مركز خاص، ولإيطاليا في اليمن مطامع لا تخفي. وقد نظمت العلائق من سنة 1928 بين الإمام يحيى وإيطاليا وعقدت بينهما معاهدة تجارية اقتصادية، وأخذت إيطاليا من ذلك الحين تعمل بكل الوسائل على تقوية نفوذها في اليمن؛ والسياسة الإيطالية لم تكن بعيدة عن موقف الإمام في الحوادث الأخيرة ولم تكن بعيدة عن شد أزره بالمال والرجال والذخائر في الحرب التي ستنشب بينه وبين ابن السعود. ثم يجب ألا ننسى أن مستعمرة إريترية الإيطالية في اليمن، ويجعل ساحل المستعمرة الإيطالية عرضة لأخطار جديدة، ويضع حدا للتوسع الإيطالي في تلك المنطقة.
والسياسة البريطانية تقف اليوم موقف التريث والانتظار؛ ولكن في اجتماع السفير الإنكليزي في جده بابن السعود، حسبما نقلت ألينا الأنباء الأخيرة، ومحادثته إياه في الاحتمالات التي نشأت عن انتصار الجيوش السعودية، وعما إذا كانت تنوي التقدم بعد في(45/23)
قلب اليمن - في ذلك ما ينم عن اهتمام السياسة البريطانية بتطور الحوداث على هذا النحو؛ وربما عن قلقها أيضاً. ذلك لأن اليمن تجاور منطقة عدن البريطانية وتشرف عليها من الشمال والغرب؛ ولعدن أهمية حربية خاصة فهي مفتاح باب البحر الأحمر من الجنوب، ومفترق الطريق الإمبراطوري البحري إلى الهند والشرق الأقصى؛ فوقوع اليمن في يد زعيم قوي كابن السعود قد يهدد مركز بريطانيا في عدن، أو في بعض ولاياتها المحمية المجاورة لليمن، وهي التي كانت منذ بعيد موضع خلاف بين الإمام والإنكليز، ثم سوى منذ أشهر بمعاهدة الصداقة البريطانية اليمنية. ومسألة المواصلات الإمبراطورية من أدق مهام السياسة البريطانية.
بيد أنه إذا كانت السياسة البريطانية تقف موقف الانتظار والتحوطإزاء تطور الحوادث في الجزيرة العربية. فليس هنالك على ما نعتقد، ما يدعوها للتدخل المباشر في سر هذه الحوادث. فعلائق ابن السعود وبريطانيا مازالت حسنةٌ. والإنكليز يثقون بابن السعود وصراحته وعهوده التي برهن في فرص عديدة أنه يحترمها ويعمل على تنفيذها، ولا نعتقد أن ابن السعود يفكر في الوقت الحاضر على الأقل في الإقدام على مناوأة سياسة بريطانيا أو مصالحها في أية منطقة من المناطق التي تسيطر عليها في أطراف الجزيرة، لأن ابن السعود يحرص دائماً على صداقة بريطانيا. وربما كان الإنكليز يؤثرون دخول اليمن في طاعة ابن السعود، ويؤثرون سياسته القائمة على الحزم والصراحة وحسن التقدير، على سياسة رجل كالإمام يلقون من صلابته وتردده وعدم اعتباره بالحقائق الواقعة كثيراً من المتاعب في عدن وولاياتها المشمولة بالحماية البريطانية. هذا إلى أن ابن السعود قد صرح على لسان ممثله في لندن أن يحترم الحقوق القائمة والمعاهدات المعقودة ويبذل وسعه لحماية أرواح الأجانب ومصالحهم في البلاد التي تفتحها جيوشه، ولا ريب أنه في حالة استيلائه على اليمن سيحترم نصوص المعاهدة اليمنية البريطانية الأخيرة، وسيحترم الحالة القائمة في ولايات عدن المحمية؛ ومن جهة أخرى فانه لن يفوت الإنكليز أن ينتهزوا فرصة انشغال الإمام بغزو أراضيه فيعملوا علىتوسيع احتلاهم لتلك الولايات بما يطابق خططهم التي لبث الإمام طويلا يقف في سبيلها.
ليس هنالك إذا ما يخشى وقوعه من جانب السياسة البريطانية للتأثير في مجرى الحوادث(45/24)
الحاضرة في جزيرة العرب. وهذا ما تؤيده التصريحات الرسمية التي أدلى بها السير جون سيمون وزير الخارجية البريطانية في مجلس العموم في شأن حوادث الجزيرة العربية، فهو يؤكد فيها أن بريطانيا العظمى ستقف إزاء هذه الحوادث موقف الحياد الدقيق وأن اجتماع السفير البريطاني بابن السعود لم يكن يقصد به إلا التأكد من حماية المصالح البريطانية والرعايا البريطانيين في الجهات التي تفتتحها القوات السعودية. وهذا ما تؤيده أيضاً الصحف الإنكليزية وأقوال الكتاب السياسيين وتنويههم بحزم ابن السعود ومقدرته وصداقته لبريطانيا العظمى
أما السياسة الإيطالية فهي على العكس تخشى تطورات الحوادث الحاضرة وترى فيها خطراً على مشاريعها ومصالحها حسبما بينا. وقد كان الأمام صديق السياسة الإيطالية، وكانت إيطاليا تتمتع في اليمن بمركز خاص تعلق عليه أهمية كبيرة لتنفيذ مشاريعها في بلاد العرب، فسقوط اليمن في يد ابن السعود يقضي على هذه الآمال والمشاريع، وقد أرسلت إيطاليا كما أرسلت إنكلترا بعض بوارجها إلى مياة اليمن لحماية مصالحها. ولكن هل تذهب إيطاليا إلى أبعد من ذلك فتحاول التدخل المباشر في سير الحوادث في اليمن؟ من المعروف أن إيطاليا كانت تمد الإمام بالأسلحة والذخائر والضباط الفنيين، ولكن استيلاء القوات السعودية على الحديدة وساحل اليمن كله تقريباً يقفل هذا الباب في وجه إيطاليا ويقطع هذا العون عن الإمام. ولسنا نعتقد إن إيطاليا تستطيع الإقدام على مثل هذه المغامرة في الظرف الحاضر، فتحاول الدفاع عن اليمن والاشتباك مع القوات السعودية الغازية في حرب لا تؤمن عواقبها، أولاً لأن بريطانيا العظمى لا تستطيع السكوت على مثل هذا التدخل ولا بد أن تقاومه بكل قواها، وليس من اليسير أن تقدم إيطاليا على تحدي بريطانيا العظمى في مثل هذه الظروف التي يفيض فيها الأفق الدولي بالمشاكل الخطيرة، وثانياً لأن إيطاليا تعلم من تجاربها القاسية في طرابلس، إن الأعمال الحربية في الصحاري والهضاب ليست يسيرة على الجنود الأوربية، وقد كانت هضاب اليمن مدى أجيال حصوناً مغلقة في وجه الجيوش العثمانية المدربة على ارتياد الهضاب الوعرة، ومن المرجح أن تلقى الجيوش السعودية ذاتها، وهي جيوش الصحراء، صعاباً كبيرة قبل ان تستطيع الوصول إلى صنعاء والاستيلاء على اليمن. وإذاً فكل ما يمكن للسياسة الإيطالية أن تقوم(45/25)
به الوقت الحاضر، هو أن تحاول المضي في خطتها من معاونة الإمام بالاسلحة والذخائر والأموال
على أنه يبقى بعد ذلك كله أن نتساءل عما إذا كان ابن السعود يعتزم حقاً أن يستولي على صنعاء وان يتم غزو اليمن. إن الجيوش السعودية تقف الآن عند الحديدةمن جهة البحر، وتطوق شمال اليمن، وليس في الأنباء الأخيرة ما يدل على إنها ستتابع زحفها في الحال، بل يرجح أن تنتظر حيناً حتى تتم اهباتها وتقوى مؤخرتها وقد يرى ابن السعود في تلك الأثناء ما يقنعه بالوقوف عند هذا الحد من الظفر وإرغام الإمام على قبول شروطه ومطالبه؛ وقد ينزل عند صوت العالم العربي والإسلامي فيقبل وقف الحرب والاتفاق مع الإمام، إذا رأى انه يستطيع بذلك اجتناء جميع الثمرات التي يخوله الظفر اجتناءها.
وسنرى في الأسابيع المقبلة ما تسفر عنه هذه التطورات الخطيرة في مصاير الجزيرة العربية.
محمد عبد الله عنان المحامي(45/26)
مختار. .!
للدكتور سامي كمال
كان بالأمس مارداً، فثوى اليوم راقداً. . . كان فلم يكن ولن يكون، بعد أن أضاء على الإنسانية جميعها بذلك النور الفني الخالد.
لقد وصل ماضينا بحاضرنا وبمستقبلنا أيضاً، فكان الحلقة المتينة، وملأ ذلك الفراغ الهائل المظلم القاتم الذي نام أثناءه أبو الهول ونام المصريون بجواره، إلى أن عادت إليهم الروح وثارت ثورتهم فهبط عليهم من السماء، وكان قائداً لخيال ذلك الشعب، وحقق أمله في النبوغ. وأنهض أبا الهول بعد طول رقاده بجانب الفراعين الذين حققوا لربوضه الهدوء والنوم. رمزوا به لقوة باسهم وشدة بطشهم، ولم يحتاجوا بعد إليه وقد خضع الكل لسلطانهم فنام وملأ جفونه نوماً، إلى أن شعر القوم باحتياجهم إليه فأنهضه مختار وجعله ينظر محدقاً عازماً شاعراً ما سوف يطلب منه اليوم وغداً.
إن من لم يسمع لفظ فرعون من فيك يا مختار لم يفقه من هو فرعون. . هو لفظ كنت تسوقه من شعورك العميق ينبئ بالقوة وبالجبروت
ومن لم يسمع منك لفظ الثورة التي قامت بهذا البلد الذي شعرت انك من ترابه أو من التراب الذهب لهؤلاء الفراعين. . . من لم يسمعك تحدث عن الثروة بلفظها الذي كنت تنطق به فيصير تمثالاً من صنع بصيرتك وحسك وقلبك الكبير. . . ان من لم يسمعك لم يضطرب قلبه من هولها.
لم أرك يا مختار إلا وتلك الروح مخيمة عليك وظلت غذاءك. . . وأنت يا مصر، يا من تقفين بجانب القوة الناهضة، أنت الروح وأبو الهول الجسد، علام تنظرين؟ إلى الشمس أم إلى أبنائك؟ إلى سلام أم إلى حرب؟
تخيلك على ضفاف السين وقبله ينبض بحبك - تتمثل أجمل امرأة أمام عينيه فلا يرى غيرك، يطير بخياله إليك لأنك الغاية. عاش ينشد حبك طول طريقه. هذا نقابك تحاولين فيه بيسراك حجب بعض الضوء، لتحققي النظر وتتعرفي أسرار ما سيأتي لك به القدر. .
هذه الحركة المصرية الصميمة أنشودة ستصدح مع الزمان. . .
تراك جميع المصريات فيتعرفنك ويعجبن ويفخرن، لأنك ترفعين الرأس إلى السماء،(45/27)
وتسفرين عن وجه لا يدل على غير القوة واطمئنان الوصول إلى الغاية التي تتطلبين إلى أبنائك، وعودك القوي هو هو، صلب حار في اللب. . . أفنا أم كبرا أم مثالا يحتذى؟ أم هو تراث من فخر مضى؟. . .
كل من رآك يعرف أن قلبك قد من الثورة، وأن عينيك انفتحتا لهذا النور الذي كنت تتوقين إليه
هذه روحك يا مختار نقرأها وسنقرأ كل يوم فيها جديدا، وبعد آلاف السنين سيقرءون فيها جديدا. . . ويطلب المصريون لك الرحمة حينما لا يذكر من أحياء اليوم إلا القليل.
ثم هادئاً فقد أديت الرسالة
فن مختار وروحه
أوجد مختار فناً خاصاً وطبعه بطابع تكاد تتعرفه عندما تلقى بنظرك إلى آية قطعة من قطعه البديعة التي خلفها، ولتدرك ذلك الطابع تماماً تصور ذلك الفنان القوي، وقد نشأ في قرية مصرية، أفعم قلبه بحب الفلاحين، وملأ عينيه من تلك التماثيل المصرية القديمة، ثم من ذلك الفن المصري في جميع صوره، وقد امتاز بالبساطة وجمال التنسيق وعدم الاكتراث بما يقع تحت الحس تماماً، غير ناظر إلا إلى الموضوع المطلوب تصويره فينتظم التصوير في أسلوب واحد، كان الجمال فيه لتلك الخطوط والمسطحات المنتظمة
أخذ الغربيون بذلك الفن عندما قاموا بتمثيل رموزهم العسكرية بعد الحرب العظمى، فلا ترى إلا مستويات لا تستوقف النظر، إنما يحرض التمثال فكرك لتبحث فيه عن معنى ينبئ به
تلك كانت آية الفن عند قدماء المصريين، فلما انتقل منهم إلى اليونان فالرومان فالغرب أخيراً، عمدوا إلى تصوير الجمال كما يجب أن يكون في الواقع لا في الخيال، فجمال المرأة أو الرجل صار تمثيلا لبعض النساء أو الرجال فعلا
وعندما انتهت الحرب العظمى لم يرد الفنانون في جميع العالم أن يتقيدوا بما كان نظاماً وأسلوباً للفن فيما قبل الحرب، وأخذوا يبحثون عن فن عصري لم يستقر إلى اليوم نظامه، فانك ترى لهم في كل يوم اتجاهاً وميلا.
أثناء تجاربهم هذه تطاير بعض الشرر الفني من مقبرة توت عنخ آمون، فدققوا النظر من(45/28)
جديد في ذلك الفن المصري القديم ونحوا نحوه، وصاروا لا يقفون في التمثيل على ما يرون بعيونهم، إنما عمدوا إلى الرمز في النحت والتصوير لترسل مخيلتك في البحث عما يرمزون فلا يقف نظرك على تفاصيل الجسم أو الرداء بل يلجئك الفنان إلى البحث عما يريد من معنى، وليس من السهل الوصول إلى ما يريد والوقوف عليه. ويمتاز الفنان الماهر بأن يقدم لك ما تقرأ فيه كل يوم جديداً. ألم يحدثنا الصديق الدكتور طه حسين بأن هذا ما نحا نحوه بعض شعراء الفرنسيين؟ عاش مختار في هذا الجو وأدرك سر الأقدمين المصريين، فعمد بالمعاول إلى رسم الطريق للمجددين؛ وبعث من جديد فناً كان يشعر أنه يفيض من حبه لمصر، فغنى على قيثارته (القاهرية) و (الفلاحة) و (بنت الشلال).
أنظر إلى تلك القاهرية تختال في ردائها تجدها الملاك الطاهر في حلم النائم لا تفتر تنظر إليها، ولا يرتد نظرك عنها، ثم تعاودك طيفاً تحار في فهم روحها ولا تجسر أن تبادرها بالسؤال.
أما بائعة الجبن فإنك تراها في صور الأقدمين، لكنها لا تحمل شيئاً بل ترمز إلى الروح، وهي رافعة ذراعيها على هذا النمط. فقدها مختار من قطع بائعات الجبن جميعاً، فيه رقيقة حقاً لكنه أعطاها الصلابة البرنزية وتركها للخلود. . .
رأى مختار مثالاً لشيخ البلد في دار الآثار المصرية، فكان جديراً بأن يصنع مثالاً لامرأته، أنظر إليها تجد جمالاً ووقارا يجلبان الاحترام وقوة معنوية تسحر اللب. . . .
وبنت الشلال هي تخليد بديع مليء بروح ذلك العنصر من سكان الشلال، اهتدى إليها مختار عند وادي الجرانيت فأنطقها تترنم بنشيد النيل والصحراء والشمس المحرقة والحياة الحزينة. . . .
وتلك المرأة في القيلولة تجد في دار الآثار شبيها لها امرأة كانت تخبز، غلب عليها النعاس أمام الفرن فنامت. هي صورة لبعث القديم وإحياء الجديد من الفن
عاش مختار سنين في باريس، وما كان يأمل في الحياة بقدر ما كان يأمل أن يكون له بيت في قرية مصرية بين تلك المصريات ويعبر عنهن بالملكات اللاتي أحب حركاتهن وسكناتهن، يحملن الماء وغير الماء، يأكل مما يحلو لهن أكله، مرتدياً ذلك السروال الواسع الأكمام(45/29)
وما كان يلذ له التمتع بأي شيء وحيدا، فان دعاه داع إلى الغداء مثلا اشترط لذلك دعوة إخوانه جميعاً وان لم يعرفهم جميعهم الداعي
لقد كان يحب أن يعيش بين القلوب لا بين الأجساد. ما عاش مختار لنفسه، بل عاش للفن - أن كان ما نراه اليوم بمصر من مجهود فني، هو في الحقيقة أثر من آثاره - فقد كان المحرك لإرسال البعثات الفنية، وفي فتح مدرسة الفنون الجميلة، وفي إقامة المعارض والإشادة بذكر الفنانين، كان يحلم بإيجاد إدارة للفنون تحت رياسة وكيل ثان للمعارف على نسق النظام المتبع في فرنسا.
وبالاختصار كان مختار روح الفن في مصر نفثه في جميع المصريين حتى نطقوا باسمه جميعاً، وصارت (نهضة مصر) عنواناً لكل صاحب مهنة وفن في القاهرة، وفي جميع القرى المصرية، فكفاه تمجيداً تمجيده ليوم من أيام مصر.
سامي كمال(45/30)
السفسطائيون
للأستاذ زكي نجيب محمود
. . . . إذن فقد كانت آسيا الصغرى مهداً تقلب فيه الوليد الجديد وظل حيناً يتعثر، حتى استقام بعد لأي على قدمين لم ترسخا إلا في عسر شديد، فقد حدثتك في فصل سابق أن العقل الناشئ لم يكد يستيقن من وجوده، حتى أرسل البصر يستطلع أصل الوجود، وجاهد ما استطاع لكي يصل في تعليله إلى مبدأ معقول، فالتمسه في الماء والهواء، ولكنه أفلس، ثم عدل عن مادة الكون إلى جوهره ومعناهن فأفلس كذلك، وهكذا لبث اليافع في عثاره، يستقيم ليكبو، ويكبو ليستقيم، حتى كانت غارة الفرس الداهمة، التي اجتاحت المستعمرة اليونانية في آسيا الصغرى، ففزع الفلاسفة رعباً، هاموا في فجاج الأرض فرادى يحملون قبس الفكر، حتى انتهى طرف منهم إلى بلاد اليونان. . .
أنظر! فهذي بلاد اليونان قد صاغها الله يدا مبسوطة، كأنما تريد أن تلقف بأصابعها الناتئة في مياه البحر حضارة القدماء من الجنوب والشرق، بسطت كفها فتناولت من مصر مدنية كانت حينئذ قد بلغت شأوا بعيداً، واستعارت من بابل وأشور وآسيا الصغرى شذرات منثورة من العلم والمعرفة. . وقد أراد الله لتلك البلاد اليونانية أن تكون وعرة المسالك ملتوية الأديم، تنهض على صدرها الحزون وترتفع الجبال، فانحصرت بين شعابها طائفة من الأودية، كانت في عزلتها كالأوكار، نشأت في أكنافها مدن متفرقة، ليس إلى اتصالها سبيل هين ميسور، فسلكت كل واحدة منها طريقاً بعينها في الدين والثقافة ونظام الحكم. ولبثت تلك المدائن متنافرة متناكرة، لا تلتقي في وحدة قومية، اللهم إلا إذا أغار عليها مغير يطمع منها في غزو وسلطان. وذلك ما حدث عندما جاءت من الشرق جيوش الفرس يقودها عظيمهم دارا، عندئذ انعقدت الخناصر على التحالف بين اثنتين من تلك المدن اليونانية، كانتا أشدها بأساً، وأوفرها قوة وأبلغها رقياً وتقدماً، تحالفنا على ان تعد إحداهما الجيش، والأخرى تهيئ الأسطول، ومن ذا تظن أن ينهض بتهيئة أسطول ضخم قوي غير الأثينيين، الذين لهم من موقعهم صلة وثيقة بالملاحة وركوب الموج، وأما الأخرى - إسبرطة - التي عرف رجالها بالبأس والقوة، فقد جهزت جيش الدفاع.
وقعت الحرب وانتصر اليونان، فعاد الأثينيون بأسطولهم وقد اتخذوه بعدئذ إدارة للتجارة،(45/31)
ظلت تجوب جواريه المنشآت في جوف البحر الأبيض، تحمل منها واليها التجارة من كل صوب، وما هي إلا أن تزخر أثينا بتك التجارة الصادرة الواردة، ويعلو ذكرها في الأسواق، وتصبح مركزاً تلتقي عنده الأقوام والأجناس، لكل قوم دينه، ولك جنس ثقافته. وإذا بهذه الألوان المختلفة يضطرب بعضها في بعض، ويخالط بعضها بعضا، فتمتزج الثقافات جميعاً والديانات جميعاً في صعيد واحد، ويكون لذلك كله نتيجة محتمة، هي المقارنة والتحليل، وبالتالي نشأة الفكر الصحيح. وهذا بديهي معقول، فالمذاهب المتضاربة ينسخ بعضها بعضاً، وتدنو بالناس إلى الارتياب والشك فيها جميعاً.
وإذن فقد كانت أثينا، عندما طوح القدر بذلك القبس الخافت من آسيا الصغرى بيئة صالحة وتربة خصبة، يستطيع أن يستقر في أرضها ذلك الشعار الضئيل، حتى إذا ما امتد به الزمان قليلا، سطع لامعا وهاجا في عهد الأساطين الثلاث: سقراط وأفلاطون وأرسطو
حمل انكسجوراس إلى أثينا تلك البذرة الأولى للتفكير الفلسفي وقد كانت وليدة الأفكار السابقة التي نشأت في آسيا الصغرى وجنوب إيطاليا. فلعلك تذكر أني وقفت بك في تتبع السلسلة الفكرية عند المذهب الذري، الذي رد الكون إلى ذرات دقيقة تجتمع وتأتلف فتكون هذا الشيء أو ذاك، ولكنك تستطيع أن تسأل أشياع ذلك المذهب، ما الذي يبرر عقلا أن تجتمع طائفة معينة من الذرات في صورة ما دون صورة أخرى؟ خذ الإنسان مثلا، فهو عندهم مجموعة ذرية لا أكثر ولا أقل، فهل تظن أن من اليسير على عقل منطقي أن يقنع بان تلك الذرات الجامدة تأتلف بطريق المصادفة العمياء، فتنتج ملايين الأفراد على غرار واحد وفي هذه الدقة من التنسيق؟! كلا! يستحيل ألا يكون وراء هذه الذرات المادية عقل مدبر حكيم، يملك تصرفها فيجمع بينها ثم يفرق جمعها تبعاً لما يقتضيه قصد معين وهدف منشود. . . في الكون إذن عنصران متميزان: مادة ترى بالبصر وتحس بالأيدي، وعقل خفي يكمن وراء أستار المادة، يسلك بها ما شاء من سبل، وهو حكيم رشيد، يعرف أين يسير بمادته في سبيل سواء. . هذا ما حمله انكسجوراس إلى أثينا، فبدأت الفلسفة إذن طوراً جديداً. . . لم يعد العقل يلتمس أصل الكون وعلته في ماء ولا هواء، ولم يعد يلتمسه في قاعدة رياضية، أو في ذرات تفترق وتلتقي على غير هدى، بل جاوز العقل في جولته حدود الطبيعة المحسة، وضرب فيما وراءهن وإذن فما أجدرنا أن نضع انكسجوراس في(45/32)
مرتبة من تاريخ الفلسفة عالية رفيعة إذا كنا نفرق بين مراتب رجالها. فهو بين الفلاسفة أول من رأى في الكون رأيا ناضجا، يصرد عن رشد ووعي، بالقياس إلى أسلافه الذين لم تزد أقوالهم على سذاجة الطفولة الحالمة
ترى من هذا كله أن العقل قد لبث طويلا يبحث في حقيقة الكون فانتهى إلى نتائج متنافرة متباعدة، وتشعبت عليه السبل وكثرت الحلول، فكان طبعياً ان يقف منها جميعاً موقف الشك والريبة فكلها حق ان شئت. وكلها باطل ان شئت. ولنترك الكون وما يحوي لا نطرقه بالبحث الآن، وليكن موضوع بحثنا منذ اليوم هو الانسان، فهو سيد الأشياء، وهو وحده الفيصل الحكم إزاء هذه المذاهب الفكرية، يعتنق منها ما يشاء؛ ويطرح ما يشاء في زوايا الإهمال. وليس لأحد سلطان على أحد في ان يوحي إليه بفكرة أو رأي، فما تراه أنت حقاً فهو حق، وما تراه أنت باطلا فهو باطل. . ما تلمح فيه النفع لشخصك فهو الفضيلة العليا وكل ما يناقض هواك فهو رذيلة وشر، لا تأبه بتقاليد، ولا تصدق الناس فيما يذهبون إليه من خير وشر، فأنت دولة وأنت مالكها، لك أن تحكم فيها بما تشاء وتهوى. . . انظر! هذان رجلان يشخصان ببصريهما إلى الشمس تنحدر إلى خدرها ساعة الغروب فخلعت على الأفق غلالة حمراء، فيفتن جمالها واحداً منهما حتى ليكاد يطفر راقصاً مفتوناً بما يرى. وأما الآخر فينظر إليها شزرا واستخفافاً، بل انه ليسخر من صاحبه، فليس ثمة في الشمس جمال ولا شيء يشبه الجمال!! فمن ذا يستطيع أن يقنع أحد هذين بخطأ رأيه أو بصوابه؟ ولم لا يكون كلاهما على حق؟ وإذا كانت الأهواء والميول والمشاعر متضاربة متناقضة، لا تجتمع في نزعة واحدة، ولا يمكن أن تدور رحاها حول قطب واحد، أفلا يكون شططا منك واعتسافاً أن تقسر تلك المجموعة المتنافرة على أن تلتقي كلها عند حقيقة واحدة؟! ومن ترى يكون حقيقاً بمنصب الحكم بيني وبينك فيما نحن فيه مختلفان؟ كلا! ليس ثمت حقيقة واحدة، بل الحقائق في الدنيا بقدر ما يضطرب فيها من أفراد البشر، فليذهب كل فرد مذهبه في الكون وفي ظواهر الكون، ولا يخشين بأساً من نقد أو تجريح لما يذهب اليه، فهو لا يقل حقاً وصواباً فيما يرى عن أي رجل آخر، بالغاً ما بلغ من العبقرية والنبوغ. . . تلك هي العقيدة التي حملتها طائفة من الناس في أرض اليونان، وأخذت تجوب بها الأنحاء والأرجاء، تذيعها في الناس في ذلاقة وطلاقة وحسن بيان، حتى(45/33)
اجتمع حولهم طوائف الشباب جميعاً، يتلقون عليهم ذلك الشك، ويتعلمون عنهم درائق التشكيك وأساليب المحاورة والمداورة في الخطابة والحوار لقاء أجر يعظم ويضؤل تبعاُ لما يتلقى الشباب من عدد الدروس. . . وإنما أعني بتك الطائفة جماعة السفسطائيين، ولم يكن ذلك الاسم عندئذ يحمل ما يحمله اليوم من تحقير، بل هم جماعة أحبوا الحكمة كما يحبها كل فيلسوف، لولا هذه الزلة التي سقطوا فيها فأسقطت من قدرهم، وهي تقويم الحكمة بالأجر
وأبرز أولئك السفسطائيين رجال ثلاثة: بروتاغوراس وجورجيادس وهبياس، ولقد أنكر ثانيهما وجود الأشياء جميعاً وحتى لو فرضنا جدلاً أن ثمة في الكون أشياء لها حقائق ثابتة، فلا يمكن أن نوقن بأن الصورة الذهنية التي نعرفها لتلك الأشياء مطابقة لها تماماً، فمن الجائز، بل من المرجح، بل من المؤكد أن حقيقة هذا القلم الذي بيدي تخالف في وجوه كثيرة صورته الذهنية التي أحملها له. . . وهب أنك تستطيع أن تصل إلى معرفة مطابقة للواقع فانه يستحيل عليك أن تنقل هذه المعرفة للآخرين، لأنك مضطر إلى التعبير عنها في كلمات، ولا أحسب في الدنيا أحدا يشك في أن اللفظ شيء والمعرفة نفسها شيء آخر وإذن فمهما قلبت الأمر على وجوهه فلن تصل إلا إلى نتيجة واحدة، وهي أنه لا يمكن أن يكون في الوجود حقيقة موضوعية مجردة يجمع عليها، بل الحقائق ذاتية تختلف باختلاف الأشخاص، وإذن فمن العبث أن يستمع فرد إلى رأي فرد آخر، ولا يجوز لك أن تصغي لغير ما تراه وتشعر به، ولا تختار من كل ذلك إلا ما تصيب عنده نفعاً
أجمع السفسطائيون على ذلك، ولكنهم ذهبوا في السياسة مذهبين: ففريق يدعو إلى العودة إلى أحضان الطبيعة واستيحائها فيما يجب أن يرسم للجماعة من نظام وقانون - كما فعل روسو فيما بعد - ولما كانت الطبيعة عندهم تسوى بين الأفراد، لا ترفع أحدا ولا تخفض أحداً، إذن فسحقاً لهذه المدنية التي تجعل من الناس طبقات بعضها فوق بعض، فذلك نظام مفتعل دخيل على طبيعة الإنسان جدير بنا ان ننبذه في جرأة حازمة، ولا ينبغي لنا أن نأبه لهذا القانون الذي تواضعت عليه الجماعة، لأنه من وضع القوى، فرضه على الضعيف فرضاً لا يبرره حق ولا تجيزه عدالة، إنما القانون العادل هو الذي ينزل الأفراد منزلة سواء، ومعنى ذلك أن تكون الديمقراطية مثلا أعلى للحكم.(45/34)
وأما الفريق الآخر، فقد دعا إلى النقيض - كما فعل نيتشه فيما بعد - الست ترى من الناس فيلسوفاً عبقرياً بجانب الغبي الأبله، أليس منهم الضعيف الخائر إلى جانب القوي ذي العود الصلب؟ إذن لم تسو الطبيعة بين الأفراد، كلا ولا الأخلاق ابتكرها القوي إنما هي على النقيض من ذلك، خدعة أوحى بها الضعيف ليحد من قوة القوي وسلطانه. . ولا يتردد هذا الفريق في الدعوة إلى الأرستقراطية في الحكم، وهذا الهجوم العنيف على الديمقراطية وحكمها يصور لنا نهوض جماعة من الأغنياء الأذكياء، أرادوا أن يغتصبوا من الشعب النفوذ والسلطان، بحجة إفلاسه في إدارة البلاد
فأنت تستطيع أن تسخر من مذهب السفسطائيين، ومن حقك أن تهمله اهمالا وان تنبذه نبذ النواة، لانه خطر على الاجتماع، خطر على الأخلاق، خطر على العقائد، خطر على كل نواحي الحياة الإنسانية، لأن قوام هذا اليقين والإيمان في مجموعة من الحقائق التي تفرض على الناس فرضا، سواء صادفت هوى من نفوسهم أم لم تصادف، أما أن يكون الأفراد أحراراً في اختيار الفضائل التي تتفق وأهواءهم فانحلال وفوضى، يقوضان أركان المجتمع في يوم وليلة.
تستطيع أن تقول هذا فيما ذهب إليه السفسطائيون، ولكنك لن تستطيع ان تنكر عليهم أنهم كانوا مرآة مجلوة انعكست عليها صورة الحياة في عصرهم، فقد تعددت العقائد الدينية فشك الناس في صحة الأديان، وقد تعددت الآراء الفلسفية فشك الناس في ثبوت المعرفة. وقد برهنت الديمقراطية في أثينا على أنها عاجزة بعض العجز عن تصريف شئون الدولة فتزعزع الإيمان في أسلوب الحكم
شك في الدين، وشك في المعرفة، وشك في نظام الحكومة، لا يمكن أن يلد إلا طائفة كهؤلاء السفسطائيين، ينكرون الحقائق جملة، ولا يؤمنون إلا بالمنفعة الشخصية والحقيقة الذاتية.
ولكن أراد ربك ألا يطول الأمد لهذا الانحلال الفكري، فسلط عليه ذهناً عاتياً جباراً، ما زال به نقدا وإصلاحاً، حتى أمحى وخلص من شره الانسان، ومن يكون هذا غير سقراط!؟
زكي نجيب محمود(45/35)
4 - بين المعري ودانتي في رسالة الغفران
والكوميدية المقدسة
بقلم محمود احمد النشوى
الجحيم في الروايتين
إذا تحدث الأدباء فيما بينهم عن جحيم دانتي. فإنما يريدون تلك الكوميدية التي لم تقصر نفسها على الجحيم تذكر طبقاته وحراسه ومعذبيه، بل ضمت جوانحها ثلاث نواح: الجحيم ' المطهر أو الأعراف والفردوس ودانتي في كل ذلك يبلغ نهاية الإجادة. بيد أنه في وصف الجحيم كان اكثر إسهاباً وأشد قوة، فطعى اسم الجحيم على الرواية كلها واستأثر بالاسم وحده بين كثير من المتأدبين.
ولكن المعري لم يعن بجهنم كما عنى بالفردوس. ولم يسهب في وصفها كما أسهب في وصف الجنة. ولعله ما كان يريد أن يعرض للجحيم لولا رغبته أن يتم لابن القارح نعيمه. وأن يعظم شكره. فقد قال المعري بعد أن استكمل لابن القارح كل لذائذه في فراديس الجنان: ويبدو له أن يطلع على أهل النار فينظر إلى ما هم فيه ليعظم شكره على النعم بدليل قوله تعالى (قال قائل منهم إنى كان لي قرين. يقول ائنك لمن المصدقين. أئذا متنا وكنا تراباً وعظاما أئنا لمدينون. قال هل أنتم مطلعون. فاطلع فرآه في سواء الجحيم. قال تالله إن كدت لتردين. ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين) فيركب ابن القارح بعض دواب الجنة، ويسير بها صوب الجحيم معرجاً في طريقه على (جنة العفاريت) يلتمس من أشعار أهلها متحدثا (مع الخيثعور أحد بني الشيصبان، ومع أبي هدرش) مارا على الحطيئة عند شجرة قميئة، وليس عليه نور سكان أهل الجنة فيسائله عن سبب دخوله الجنة فيقول له الحطيئة: بالصدق في قولي:
أبت شفتاي اليوم إلاتلكما ... بهجر فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجها شوه الله خلقه ... فقبح من وجه وقب حامله
ثم يغذ في سيره حتى يشرف على جهنم فيرى امرأة تطلع على من فيها. فيقول لها من أنت؟. فتقول: أنا الخنساء السليمة. أحببت أن انظر إلى صخر. فاطلعت فرأيته كالجبل(45/36)
الشامخ. والنار تضطرم في رأسه، فقال لي: صح زعمك في، يعني قولي:
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
ثم يتركها متغلغلا في طبقات الجحيم.
طبقات الجحيم في الروايتين
لم يعن المعري بتقسيم الجحيم إلى طبقات، لكل طبقة من العصاة والمذنبين جزء مقسوم. ولم يسهب في وصف أهوالها وآلامها إسهاب دانتي. بل كان همه لقاء الشعراء وحوارهم فيما نسب إليهم من شعر. وفي تصحيح الرواية، وبيان الوجوه النحوية واللغوية والصرفية. فلم تكد تقع عينه على امرئ القيس حتى يسائله عن إعراب (يوم) وعن تخفيف الياء من (سي) وتشديدها في قوله
ألا رب يوم لك منهن صالح ... ولا سيما يوم بدارة جلجل
ثم يقول: ليت شعري ما فعل عمرو بن كلثوم؟ فيقال ها هو ذا من تحتك ان شئت أن تحاوره فحاوره في (سخينا) من قوله. .
سنعشعة كأن الحص فيها ... إذا ما الماء خالطها سخينا
أمن السخاء. أم من الماء السخين؟. إلى كثير من حوار وجدل، ذلك سبيله، سنفرده بالحديث حين الكلام عن الحوار في الروايتين.
ولقد بذل دانتي مجهودا عظيما في تقسيم جهنم، فقسمها إلى تسع طبقات اختص كل طبقة منها بطائفة من المعذبين، ووصف ما هم فيه من عذاب وآلام وصفا مؤثراً بليغا. ففي الطبقة الأولى رأى الملائكة الذين لم يطيعوا الله ولم يطيعوا الله ولم يطيعوا ابليس حينما تمرد على ربه. انتظارا للنتيجة حتى يتبعوا الغالب في زعمهم؛ ثم رأى خلقاً كثيرا عريت أجسامهم، وانتابتها أفواج من الذباب والزنابير تدمى جلودهم، وتنهل من دمائهم.
وفي الطبقة الثانية رأى المحبين الذين أسرفوا فالقوا أنفسهم في حمأة الخطيئة. ومن بينهم باولو وعشيقته فرنشسكا التي قصصت خبرها في العدد الماضي.
وفي الطبقة الثالثة رأى البخلاء والمسرفين يلعن بعضهم بعضا. ويقول الأولون للآخرين: لماذا أسرفتم؟ فيقول الآخرون: للأولين لماذا قترتم؟. ولن يغنى تخاصم أهل النار عنهم من العذاب من شيء.(45/37)
وفي الطبقة الخامسة يرى الحمقى الذين كان يستفزهم الغضب وهم يضرب بعضهم بعضا. ثم يرى المتكبرين والمتغطرسين في بركة سوداء مترعة بالأوحال والأقذار، وهم يتقلبون فيها خاشعين. ينظرون من الذل من طرف خفي.
فأما الطبقة السادسة فهي مقابر متراصة. تزخر بالأنين وباللهب، وأعدت لمن أنكروا الله ووجوده.
وفي الطبقة السابعة نظر نهرا من دم يغلي يغوص فيه السفاكون، وقاطعوا الطريق.
وفي الطبقة الثامنة رأى رجال الدين المتجرين به. والذين كانوا يدّعون أنهم خلفاء المسيح الذي أحب الفقر وآثره على الغنى. بيناهم يتساقطون على الحطام تساقط الذباب على العسل، والكلاب على الجيف. ورأى المنجمين والمخادعين والمرائين. وهم يلبسون أثواباً باطنها رصاص يشوي الوجوه، وظاهرها ذهب لامع براق جزاء وفاقا على ريائهم. ودهانهم.
أما الطبقة التاسعة فهي زمهرير تجمد ماؤه، وضم في أحشائه إبليس، (ويهوذا الأسخريوطي) الذي نم على مكان السيد المسيح فدل اليهود عليه. ثم الذين خانوا أوطانهم مسهباً في وصف هؤلاء الخائنين. مفتنا في ذكره ما أعد لهم من جحيم ذي غصة، ومن عذاب أليم.
حراس الجحيم
تحدث المعري عن حراس الجحيم في قلة وفي دعابة. ثم ذكر شيئاً قليلاً من أعمالهم ووظائفهم، على حين أن دنتي ذكر لكل طبقة من طبقات جهنم حارساً أو جملة احراس، وأسهب في وصف أعمالهم وما يصبونه فوق رؤوس المعذبين من ويلات وآلام. وما أوجز المعري فيما أحدثك عنه إلا لأن المعري رجل دعابة وظرف، يريد أن يجتذ القارئ نحوه. وان يعلمه كثيراً من قواعد اللغة ومفرداتها دون أن يحس جفاف تلك الأبحاث كما عهدناه يحاول ذلك في (رسالة الملائكة)
وما أسهب دانتي إلا لأنه رجل موتور ممن شردوه ونفوه فهو يريد أن يرى واتريه يصب من فوق رؤوسهم الحميم. ثم هوغرس (الكنيسة) يهوى أن ينفر الناس عن الخطيئة ما استطاع لذلك سبيلا. فالمعري يقص علينا عمل الزبانية بما حدثنا به عن بشار بن برد. وقد(45/38)
أعطاه الله عينين بعد الكمه لينظر ما نزل به من النكال. ولكن بشارا يأبى إلا أن يغمضهما حتى تتوارى عنه الوان العذاب، فتفتحها الزبانية بكلاليب من نار. . . كما حدثنا عن الزبانية مرة أخرى إذ يغضب ابليس من حوار بين الأخطل وبين ابن القارح فيصيح فيهم قائلا: ما رأيت أعجز منكم إخوان مالك! فيقولون: كيف زعمت ذلك يا أبا مرة؟ فيقول؛ ألا تسمعون هذا المتكلم فيما لا يعنيه؟ فقد شغلكم وشغل غيركم عما هم فيه، فلو ان فيكم صاحب نحيزة قوية لوثب وثبة حتى يلحق به إلى سقر. فيقولون: لم تضع شيئاً يا أبا زوبعة ليس لنا على أهل الجنة سبيل. فيشمت ابن القارح في إبليس: فيقول إبليس عليه اللعنة: ألم تنهوا عن الشمات يا بني آدم؟ ولكنكم بحمد الله ما زجرتم عن شيء إلا وركبتموه. .
وكم كان المعري طريفاً حقاً إذ يحدثنا عن نداء ابن القارح لمهلهل أخي كليب حينما يقف في جنبات السعير وينادي: اين عدي ابن ربيعة؟ فتجيبه الخزنة قائلين: زد في البيان: فيقول: الذي يستشهد النحويون بقوله
ضربت صدرها إليّ وقالت ... يا عديا لقد وقتك الأواقى
فيقول له خزنتها. انك لتعرف صاحبك بأمر لا معرفة عندنا به. ما النحويون؟ وما الاستشهاد؟ وما هذا الهذيان؟ نحن خزنة النار. فبين غرضك تجب اليه، فيقول: أريد المعروف بمهلهل التغلبي أخي كليل بن وائل الذي كان يضرب به المثل: فيقولون له: ها هو ذا يسمع حوارك فقل ما تشاء:
ذلك جل ما ذكره المعري عن حراس جهنم لم يسهب فيه ولم يطل
فأما دانتي وإسهابه ووصفه الغريب لكل شيطان من شياطين السعير فموعدنا بالحديث عنه العدد القادم.
يتبع
محمود احمد النشوى(45/39)
في القاهرة. . .
للآنسة فلك طرزى
- 1 -
مصر. .! أي شفاه تلفظ هذه الكلمة ولا تجري عليها ابتسامة وسرور؟. . أي نفس لا تغتبط لرؤية هذه الدرة الثمينة، ولا تنعم بجوها المعتدل ونسيمها العليل؟. . .
أي قلب لا تسحره هذه النسمات يرسلها الربيع في أنحائها فتنتعش الأزهار والرياحين، وتكتسي الأشجار حلتها السندسية البديعة، يداعبها النسيم فترقص اغصانها، وينبعث من حفيفها هذا الأريج العطري، وذلك العبير الذكي، فيشيع في جو القاهرة روح الحياة، ويسري في عروقها دم الشباب ونشاطه وأي إنسان لم تملك عليه القاهرة حسه بسحرها، وتفتنه بطيب هوائها وعذوبة نيلها، وأي قلب لم تستلبه هذه الغادة الحسناء بفتنتها عند إشراق شمسها في الصباح الضاحي الجميل، وعند غروبها غارقة في لجة من دماء الشفق، تقتتل في حمأتها الملائكة والشياطين.
مصر التي حملتني إليها أجنحة الخيال قبل ان تقلني عربة القطار، مصر التي سحرتني الأحاديث عنها قبل أن تأنس العين بمرآها
أجل! رأيتها! وتمتعت بها اياماً، وقضيت فيها اسبوعاً، وتحققت لي برؤياها أمنية من أحب الأماني التي خفق بها قلبي.
مصر العظيمة الجبارة، مصر الساحرة الفاتنة، تبتسم لي وأنا أطل عليها من نافذة القطار بعين الشغف والوله، هي تبتسم بأنوارها الساطعة، وتضحك بإشراقها المهيب في الصحراء القاحلة، وطلعتها الفتية الجميلة بين باسقات النخيل، والسهول المترامية الاطراف، يسقيها النيل الهادئ الوديع رحيقاً سائغاً شهيا، فترتشف منه حياة قوية فياضة، ويتضاعف من مائه نموها وازدهارها
أي عين لا تطيل النظر في ذلك النهر العظيم تستطلعه أنباء الماضي الحافل، وما تحمله هذه الأنباء من الذكريات المفرحة المؤلمة، وما تخفيه موجاته الهادئة من عبارات التقديس والتبجيل وهو يسير رويدا، حاملا أثقالا مرهقة من الأسرار الغامضة؟
هو يسير كما كان منذ آلاف السنين لا تعوق مجراه تقلبات الأجيال ولا نزعات النفوس.(45/40)
لكنه الآن ينظر بعينيه الحزينتين المغرورقتين بالدموع إلى الانقلاب العظيم الذي وقع لبنيه، ويشعر بهذا الألم القتال يحز في قلوبهم ويدمي أفئدتهم.
لقد شاهد النيل العظيم مجد مصر القديم وأبهة الفراعنة، والآن يشاهد ذل بنيه وخضوعهم، يشاهد زمام أمورهم بين أيدي العدو، ويرى مفتاح ملكها الخالد في قبضته، بعد أن كانت تتقلب موجاته في مدارج العز، وتصطفق بين معالم الفرح والرخاء والأبهة التي أحرزها بنوه الأولون. أما الآن فهو يتقلب متهدماً بين الأسى والألم، كالشيخ ثكل أبناءه الواحد إثر الآخر، فهو صامت خاشع، يميد من ألم الحزن على ما أصابه الدهر في بنيه،. . يكتم لواعجه في غوره العميق، ويخفي دموعه الغزيرة بين طيات المياه فتزيدها اندفاعاً وانحداراً، فتبكي مصر نيلها الجبار، ويبكي النيل وطنه العزيز، وتئن مصر في موسيقى موجه الخافت، وتتوسل إلى الله أن يرفع عنها نير العبودية في أناشيده الناطقة الصامتة. .!
أي مصر!. . لقد طبعت في نفسي صورتك الخالدة، ونقش اسمك المقدس على صفحة قلبي بحروف بارزة لا تنال منها الأيام. أي مصر الحبيبة! أي مصر: يا درة الشرق الغالية، ومعبودة الجميع، لقد ملكتني وجعلت من نفسي أسيرة الأبد لحبك وهواك. .!
دمشق
فلك طرزى(45/41)
6 - بديع الزمان الهمذاني
للدكتور عبد الوهاب عزام
ويلحق بالديوان شعره في الرسائل والمقامات وذلك في معظمه قطع قصيرة جيدة
ثم شعر البديع عامة سهل جيد المعاني منقح الألفاظ يتجلى فيه تهذيب الكتاب، إذا إستثنينا الشعر المرتجل وشعر الألغاز ونحوه مما لا يقام له في الأدب وزن، ولكنه لا يبلغ الدرجة العليا إلا قليلا.
وبديع الزمان عند نفسه وعند الناس كاتب يقول الشعر، ولكنه يرى أن البليغ من أجاد الصناعتين: يقول في المقامة الجاحظية: (أن الجاحظ في أحد شقي البلاغة يقطف. وفي الآخر يقف. والبليغ من لم يقصر نظمه عن نثره، ولم يذر كلامه بشعره، فهل تروون للجاحظ شعراً رائعاً؟
نثر الهمذاني
في القرن الرابع الهجري بلغت الكتابة العربية درجة من الصناعة والتأنق لم تخل بسلامتها ولم تذهب بمعانيها. تولاها كتاب قادرون صرفوها في أغراض شتى، واختاروا من الألفاظ والأساليب الجميل المحلى، دون إغرب ولا اخلال بالمعاني. وتناولت الكتابة كثيراً من فنون الشعر، كالمدح والهجاء والغزل والوصف: إلى ما كان لها قبلا من الموضوعات، فاتسع المجال لذوي الفكر الثاقب والقلب الشعار، لم يقيدهم في النثر ما قيد الشعراء من الأوزان والقوافي والاصطلاحات. وكان كثير من الكتاب يلتزم السجع، ومنهم من يكتفي بالازدواج، وقليل منهم يرسل الكلام إرسالا. وفي هذا العصر نبغ أئمة الكتابة كابن العميد والصاحب والصابي والمهلبي وقابوس، والخوارزمي، وبديع الزمان. ولم يكن بديع الزمان كمعظم هؤلاء وزيرا أو ذا منصب، فلم تستغرق كتابته أمور الدولة وكثرت في رسائله الموضوعات الخاصة والعامة. واستبانت نواح من عصره في السياسة والأخلاق، والآداب وغيرها
وله في الكتاب أصحاب المناصب رسالة إلى أبي نصر المرزبان يقول فيها: كنت أطال الله بقاء سيدي ومولاي في قديم الزمان اتمنى للكتاب الخير، وأسأل الله أن يدر عليهم إخلاف الرزق، ويمد لهم أكناف العيش، ويوطئهم أعراف لمجد، ويؤتيهم أصناف الفضل، ويركبهم(45/42)
أكتاف العز، وقصاراى أن أرغب إلى الله تعالى في ألا ينيلهم فوق الكفاية، ولا يمد لهم في حبل الرعاية، فشد ما يطغون للنعمة ينالونها، والدرجة يعلونها، وسرع ما ينظرون من عال، بما ينظمون من حال، ويجمعون من مال، وتنسيهم أيام اللدونة، أوقات الخشونة، وأزمان العذوبة، ساعات الصعوبة، وللكتاب مزية في هذا الباب، فبيناهم في العطلة إخوان، كما انتظم السمط، وفي العزلة أعوان، كما انفرج المشط، حتى لحظهم الجد لحظة حمقاء بمنشور عمالة، أو صك جعالة، فيعود عامر ودهم خرابا، وينقلب شراب عهدهم سرابا، فما علت أمورهم، حتى اسبلت ستورهم، ولا غلت قدورهم، إلا خلت بدورهم الخ
ويجمع نثر بديع الزمان الرسائل والمقامات:
1 - الرسائل
لبديع الزمان ثلاث وثلاثون ومائتا رسالة تناول فيها أغراضاً كثيرة.
والرجل دراك حساس، إذا سلط فكره إلى موضوع أضاءت له جوانبه كلها، ثم وضحت أمامه طرائق البيان، فهو مبين عن كل معنى بطرق مختلفة من التصوير والتمثيل، يسايره القاري فيها. وهو معجب متعجب. انظر قوله في بعض السلاطين: (قد علم الشيخ أن ذلك السلطان سماء إذا تغيم لم يرج صحوه، وبحر إذا تغير لم يشرب صفوه، وملك إذا سخط لم ينتظر عفوه، فليس بين رضاه والسخط عرجة، كما ليس بين عضبه والسيف فرجة، وليس بين من وراء سخطه مجاز، كما ليس بين الحياة والموت معه حجاز، فهو سيد يغضبه الجرم الخفي، ولا يرضيه العذر الجلي، وتكفيه الجناية وهي إرجاف، ثم لا تشفيه العقوبة وهي إجحاف، حتى إنه ليرى الذنب وهو أضيق من ظل الرمح، ويعمى عن العذر وهو أبين من عمود الصبح، وهو ذو اذنين يسمع بهذه القول وهو بهتان، ويحجب بهذا العذر وهو برهان، وذو يدين يبسط إحداهما إلى السفك والسفح، ويقبض الأخرى عن العفو والصفح، وذو عينين يفتح إحداهما إلى الجرم، ويغمض الأخرى عن الحلم، فمزجه بين القد والقطع، وجده بين السيف والنطع، ومراده بين الظهور والكمون، وأمره بين الكاف والنون، ثم لا يعرف من العقاب، غير ضرب الرقاب، ولا يهتدي من التأنيب، إلا لإزالة النعم، ولا يعلم من التأديب، غير إراقة الدم، ولا يحتمل الهنة على حجم الذرة، ودقة الشعرة، ولا يحلم عن الهفوة، كوزن الهبوة، ولا يغضي عن السقطة، كجرم النقطة، ثم أن(45/43)
النعم بين لفظه وقلمه، والأرض تحت يده وقدمه، لا يلقاه الولي إلا بفمه، ولا العدو إلا بدمه، والأرواح بين حبسه وإطلاقه، كما الأجسام بين حله ووثاقه، ونظرت فإذا أنا بين جودين: إما أن أجود بباسي، وإما أجود برأسي، وبين ركوبين: إما المفازة، وإما الجنازة، وبين طريقين: إما الغربة، وإما التربة، وبين فراقين: إما أن أفارق أرضي، أو أفارق عرضي، وبين راحلتين: إما ظهور الجمال، أو أعناق الرجال، فاخترت السماح بالوطن، على السماح بالبدن، وأنشدت؛
إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا ... فلا رأي للمضطر إلا ركوبها
ويقول في رسالة كتبها إلى القاضي أبى القاسم يذم أحد القضاة (فولي المظالم وهو لا يعلم أسرارها، وحمل الأمانة وهو لا يعرف مقدارها، والأمانة عند الفاسق، خفيفة المحمل على العاتق، تشفق منها الجبال، وتحملها الجهال، وقعد مقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين كتاب الله يتلى، وحديث رسوله يروى، وبين البينة والدعوى، فقبحه الله من حاكم لا شاهد أعدل عنده من السلة والجام، يدلى بهما إلى الحكام، ولا مزكي أصدق لديه من الصفر، ترقص على الظفر، ولا وثيقة احب إليه من غمزات الخصوم، على الكيس المختوم، ولا وكيل أوقع بوفاقه من خبيثة الذيل، وحمال الليل، ولا كفيل أعز عليه من المنديل والطبق، في وقتي الغسق والفلق، ولا حكومة ابغض إليه من حكومة المجلس، ولا خصومة أوحش لديه من خصومة المفلس، ثم الويل للفقير إذا ظلم، فما يغنيه موقف الحكم، إلا بالقتل من الظلم، ولا يجيره مجلس القضاء، إلا بالنار من الرمضاء، وأقسم لو أن اليتيم وقع في أنياب الأسود، بل الحيات السود، لكانت سلامته منهما أحسن من سلامته إذا وقع بين غيابات هذا القاضي وأقاربه، وما ظن القاضي بقوم يحملون الأمانة على متونهن ويأكلون النار في بطونهم، حتى تغلظ قصراتهم من مال اليتامى، وتسمن أكفالهم من مال الايامى، وما ظنك بدار عمارتها خراب الدور، وعطلة القدور، وخلاء البيوت، من الكسوة والقوت، وما قولك في رجل يعادي الله في الفلس، ويبيع الدين بالثمن البخس، وفي حاكم يبرز في ظاهر أهل السمت، وباطن أصحاب السبت، فعله الظلم البحت، وأكله الحرام السحت، وما رأيك في سوس لا يقع إلا في صوف الأيتام، وجراد لا يسقط إلا على الزرع الحرام، ولص لا ينقب إلا خزانة الاوقاف، وكردي لا يغير إلا على الضعاف، وذئب لا يفترس عباد الله لا بين(45/44)
الركوع والسجود، ومحارب لا ينهبت مال الله إلا بين العهود والشهود؟ وما زلت ابغض حال القضاة طبعاً وجبلة، حتى أبغضتهم ديناً وملة)
وكتب في كتاب لم يعجبه إنشاؤه وخطه: (الكتاب وصل، حجم هائل، ليس وراءه طائل، وخط مجنون، لا يدري ألف فيه من نون، وسطور، فيها شطور، دبيب السرطان، على الحيطان، ولفظ أخلاط، لا يدركه استنباط، ولا يفسره بقراط، هذيان المحموم، وهوس الملوم، وسوداء المهموم، وقرأت شطر كتاب لم أدر والله عماذا يعبر، عن أمور سقيمة، أو عن أحوال مستقيمة، لا جرم أني ظننت خيره، ولم أبعد غيره، وجوزت السلامة، ولم آمن ضدها، وذهبت مع الظن الجميل اتفاقاً، ثم ردعت القهقري إشفاقاً، فسألت الله لك المزيد إن كان سلامة والسلام)
وكتب إلى أحد أصدقائه يطلب بقرة:
(وقد احتيج في الدار إلى بقرة يحلب درها، فلتكن صغوفا تجمع بين قعبين في حلبه، كما تنظم بين دلوين في شربه، وليملأ العين وصفها، كما يملأ اليد خلفها، وليزن مشيها سعة الذرع، كما يزين درها سعة الضرع، ولتكن عوان السن، بين البكر والمسن، ولتكن طرح الفحل، رموح الرحل، وليصف لونها صفاء لبنها، وليكن ثمنها كفاء سمنها، ولتكن رخصة اللحم، جمة الشحم، كثيرة الطعم، سريعة الهضم، صافية كالجون، فاقعة اللون، واسعة البطن، وطية الظهر، ممتلئة الصهوة، فسيحة اللهوة، لا تضيق بطنها عن العلف، فيؤديها إلى التلف، ترد الهول ولا تخافه، وتشرب الرنق ولا تعافه، واجهد أن تكون كبيرة الخلق، لتكون في العين أهيب، ضيقة الحلق، ليكون صوتها في الأذن أطيب، وإحذر أن تكون نطوحا أو سلوحا، وإياك أن تبعثها ملوحا أو رشوحا، ولتكن مطاوعة عند الحلب لا تمنع نفسها، ولا تكثر لحسها، وداهية في الرعي، لأقرب سعى، حمقاء على الحوض كالنعجة، لا تأمن من البعجة، ألوفة للراعي الذي يرعاها، مجيبة لصوته إذا دعاها، مهتدية إلى المنزل بغير هاد، ذاهبة إلى المرعى بغير قياد، ولا أظنك تجدها اللهم إلا أن يمسخ القاضي بقرة، وهو على رأي التناسخ جائز، فاجهد جهدك، وأبذل ما عندك).
وهو أكتب ما يكون حين يعظ أو يهجو أو يسخر. وللفكاهة في بيانه مجال واسع به يقول في رسالة شفاعة: (مثلي أيد الله القاضي مثل رجل من أصحاب الجراب والمحراب، تقدم(45/45)
إلى القصاب، يسأله فلذة كبد، فسد باليسرى فاه، وأوجع بالأخرى قفاه. فلما رجع إلى مسكنه كتب إليه توقيعا، يطلب حملا رضيعا، كذلك أنا وردت فلا إكرام بإلمام، ولا صلة بسلام، ولا تعهد بغلام، فلما وجدته لا يبالي، بسبالي، كاتبته اشفع لسواي، وهو موصل رقعتي هذه، وله خصم بينهما قصة لا أسأله في البين، إلا إصلاح الجانبين، والسلام)
وله من رسالة إلى فقيه نيسابور في رجل اغتاب البديع، فرد عليه الفقيه: (فان كان لا بد من انتقام واستيفاء، فأعيذك بالله ان تجهل أن آذان الأنذال، في القذال، وهي آذان لا تسمع إلا من ألسنة النعال الأدم، أو ترجمة أكف الخدم، وعلامة فهمها جحوظ العينين، وخدر اليدين. فان تاب، وإلا كررت هذا العتاب).
وله إلى قيس بن زهير: (أعوز الصوف فبعثت إليك بفرو فطفقت تلوم، وظلت تقعد في العتاب وتقوم، واراني ما بعدت في القياس، ولا خرجت عن متعارف الناس، فالصوف نفس الفرو، إلا أنه نسيج، والصوف نفس الفرو إلا انه حيج، فكل فرو صوف، وليس كل صوف فروا، فان أنصفت وجدت الفرو فطرة، والصوف بدعة، وإن نظرت رأيت الفرو صوفا وزيادة، فكان نعمى وسعادة، والفرو وبر في الشتاء ونطع في الصيف، فان قرسك البرد فالبسه وأنت قيس، وان غشيك المطر فاقلبه وأنت تيس).
وبديع الزمان ليس متكلفا في بيانه، لا يحس القارئ جهد في اختيار الألفاظ أو سياق الأساليب، ولكنه يلتزم السجع في معظم كتابته سنة كتاب عصره.
وقد عاب الجاحظ في المقامة الجاحظية بقلة الصنعة في كلامه بعد أن عابه بأنه لا يحسن الشعر قال: (فهل ترون للجاحظ شعرا رائعا؟ قلنا لا. قال: فهلموا إلى كلامه فهو بعيد الإشارات، قليل الاستعارات، قري العبارات. منقاد العريان الكلام يستعمله، نفور من معتاصه يهمله، فهل سمعتم له لفظة مصنوعة، أو كلمة غير مسموعة؟)
ب - المقامات
يقول الهمذاني في رسالة يعيب فيها شعر الخوارزمي: (وما كنت لأكشف تلك الأسرار، وأهتك تلك الأستار، وأظهر منه العار والعوار، لولا ما بلغنا عنه من اعتراض علينا فيما أملينا، وتجهيز قدح علينا فيما روينا، من مقامات الإسكندري من قوله إنا لا نحسن سواها، وإنا نقف عند منتهاها، ولو أنصف هذا الفاضل لراض طبعه على خمس مقامات، أو عشر(45/46)
مفتريات، ثم عرضها على الأسماع والضمائر، وأهداها إلى الأبصار والبصائر، فإن كانت تقبلها ولا تزجها، أو تأخذها ولا تمجها، كان يعترض علينا بالقدح، وعلى إملائنا بالجرح، أو يقصر سعيه، ويتداركه وهنه فيعلم أن من أملى من مقامات الكدية أربعمائة مقامة لا مناسبة بين المقامتين، لا لفظا ولا معنى، وهو لا يقدر منها على عشر حقيق بكشف عيوبه والسلام)
ومثل ذلك في رسالة إلى أبي المظفر بن أبي الحسن البغوي ويقول الثعالبي (فوافاها (يعني نيسابور) في سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة ونشر بها بزه، وأظهر طرزه، وأملى أربعمائة مقامه نحلها أبا الفتح الإسكندري في الكدية وغيرها)
وكذلك يقول الحصري في زهر الآداب أنها أربعمائة مقامة. والذي بأيدينا من هذه المقامات اثنتان وخمسون. فهل ضاعت المقامات إلا هذا المقدار؟ ارجح أنه أملى في الكدية أربعين وحرفت الكلمة إلى اربعمائة، وتتتابع عليها النساخ. وذلك أنه يبعد أن يضيع هذا العدد من المقامات على كلف الناس بها، ولأنه في رواية الحصر عارض بالمقامات الأحاديث الأربعين لابن دريد. ثم هو يقول إنه أملى هذه المقامات في الكدية. ونحن إذا عددنا المقامات التي فيها كدية صريحة وجدناها خمسا وثلاثين. وجائز أن يكون البديع قد اعتبر خمسا أخرى من مقامات الكدية، فان صح هذا فقد أملى أربعين في نيسابور. ثم أملى الأخريات بعد كالمقامات الست التي فيها مدح خلف بن احمد.
يتبع
عبد الوهاب عزام(45/47)
من طرائف الشعر
الأوبة
للأستاذ خليل هنداوي
فرجِّى الخير وانتظري إيابي
إذا ما القارظ العنزى آبا!
- شاعر عربي -
لا ترتقبي إيابه أيتها الحسناء!
فقد انتزعته من ذراعيك عرائس البحر
أغوته بفتنتها وأغرته بروعتها.
لله ما أقسى هذه العرائس الزرق العيون!
- خرافة الأقدمين -
لا تنتظري إيابه أيتها الحسناء
فقد سلبته من ذراعيك عرائس الصحراء
فتنته ببسمتها، وأغوته برقتها.
لله ما أقسى هذه العرائس الشقر الشعور!
- الناظم -
لا تَسُحي الدموعَ حزنا عليه ... فشهيد الصحراء سوف يعود
إنما مثلنا تود غذاءً ... تشتهي القوتَ وهو عنها بعيدُ
مرَّ والشمس للغروب تَهادى ... وتمشَّى في جوفها كخيال
أفق اسعُ تلوح عليه ... صور العابرين مِثلَ الظلال!
أيها الواصلُ الثرى في فلاة ... يملأ الصمت جَّوها والسكون
لا تسر في الفلاة سيراً وئيداً ... تتيقظ عليك منها العيون
لا تسطر على الرمال رسوماً ... لا تعكر فيها صفاء الليالي
صفحاتُ الصحراءِ - لو رحتَ تدري ... صفحاتٌ مقرونةٌ بالجلال(45/48)
ها هنا ليس للحياة مقام ... ها هنا ليس للحياة ربوع
كل شيء مستسلمٌ لفناء ... فتأمل كيف الحياة تجوع؟
حيثما سرت لا ترى من صديق ... مؤنسٍ، غير ظلِّك المشؤوم
لمَ ترتابُ في الرسوم وهذا ... كله وطء رسمِكَ المرقوم
لا خريف الصحراء - إن جاء يوماً ... بخريف، ولا الربيعُ ربيعُ
قد تساوت فيها الفصول، وجاعت ... فتأمل كيف الربيَعُ يجوع
سكنتْ في تلولها غانياتٌ ... باسماتُ الثغور، شُقْر الشعور
نشرها عَّبق الجواَء عبيراً ... فتروَّحْ في الجو نشر العبير
وكأن الواحات فيها حسان ... يترقبن أوبة الأحباب
كلما أقعدَ المسافرَ يأس ... لوحت غادة له بالشراب
لا تروَّعن يا حسان الصحارى ... انه ضارب لكن لقاء
ذرنه يبتغي الطريق قليلا ... أين يرجو في داركن اهتداء
كم شباب في القفر قد عصرته ... وأناس طوتهمُ الصحراءُ
رأت الأرضُ والسماءُ ولكن ... ما استجابت أرض لهمُ أو سماءُ
انها مثل غادة سعرتها ... شهوات الأرواح والأبدان
لا تحاول من الوصال فراراً ... هي مشتاقة إلى إنسان. . .
ان أحبتك يا مسافر فانزل ... في حماها واهَجعْ وخلَّ الإيابا
انها تعصر الضجيعَ ولا تزْ ... دادُ بعد الوصال إلا التهابا
نام لا يرتجى إليك إياباً ... وغفا، لا يعي من الإعياء
أنبئيها يا ريح إن فتاها ... عشقتهُ عرائس الصحراء
لا تسحي الدموع حزناً عليه ... فشهيد الصحراء سوف يعود
أنها مثلنا تود غذاء ... تشتهي القوت وهو عنها بعيد
دير الزور
خليل الهنداوي(45/49)
على مذهب ابن أبي ربيعة(45/50)
ما هو الكون؟!
خلق الله للجمال قلوباً ... اجتباها من صفوة الشعراءِ
سكبَ النور في قلوبهم السو ... دِ فعادت تموج بالأضواء
واستحالت مرائيا يعكس الكو ... ن عليها ما عنده من مَراء
واقفاً ناظراً محيّاه فيها ... في غرورٍ كوقفة الحسناء!
ما هو الكون غير ذاك الضعيف ال ... حَوْل يسطو به على الأقوياء؟
ما هو الكون غير ذاك الذي يش ... فى به الداء، وهو عين الداء؟
غير ذاك الذي عليه تَلاقى ... ضربات السرَّاء والضرَّاء
غير ذاك الذي به تعثر الدُّن ... يا على مرطها من الخيلاء
غير ذاك الذي به الحب والبغ ... ضاء بين الأحباب والأعداء
غير ذاك الذي امتحن اللُّ ... هـ قلوب العصاة والأتقياء
غير ذاك الذي يلوذ به النس ... ل ويُغرَى الآباء بالأبناء
غير ذاك الذي يصير به الكو ... ن نعيما على بساط اللقاء
وهو ذاك الذي يصير به الكو ... ن جحيما إذا طواه التنائي
غير ذاك الذي تجمَّع فيه ... ما وعى حسنه من الأسماء
غير ذلك الذي إليه ومنه ... كل ما في الوجود من أشياء
ما هو الكون غير فتنة حوا ... ء وما في حواء من إغراء؟
ليت شعري أكان للكون معنى ... لو أتى آدم بلا حواء؟!
يا نهوداً كأنهن حِقاقٌ ... من بقايا صناعة القدماء!
تعبت جاذبية الأرض فيها! ... وأنيطت بها نجوم السماء!
وحلال العيون ليس بأشهى ... من حرام النّهود تحت الكساء
وهما خير ما تكشف عنه ال ... حسنُ من فتنة ومن إغواء
غير أن العيون أمضى قِسيَّا ... في شغاف القلوب والأحشاء
غير أن العيون أذكى حريقا ... في الشراسيف والصدور الدواء
غير أن العيون أعصف بالقلب ... وأهدى في مظلم الأهواء
غير أن العيون ألعب بالسّح ... ر وأقوى في البعث والإيحاء(45/51)
غير أن النهود أبهج في العين ... وأندى على القلوب الظِّماء!
مُتعة الطَّرف ما يُمثِله النه ... د من الهمس أو من الإيماء!
رافع الرأس دأبه يتحدّى السِّم ... ثر في عزَّة وفي كبرياء!
شيمة الحر لا يطيق احتمال الضِّي ... م من ظالم من الرؤساء
يكرع الطرفُ جُهده منه في ما ... ء شهى لكن بلا إرواء
سرق الروض من نَدَاه فأخفى ... بعض تفَّاحة من استحياء
هو سر الأسرار يستره الكو ... ن ويبديه في تقى وحياء!
حُلُم في عيون من أسعد الل ... هُ ونار في أنفس الأشقياء!
في فم العاشق المدلَّه شهد ... حضرمي، أو بابليُّ طِلاء
وحياة تمصها شفة الطف ... ل غذاء يفوق كل غذاء
نَغَم كلّه وسحر وشِعر ... ومزيج من الندى والضياء!
عظمت دولة الجمال وعزَّت ... وتعالى ما فيه من أسماء
بعض أسمائه يضيع به الده ... ر فَناءً وماله من فناء
نفذت من أعماقه حكمة البا ... ري وضاعت وساوس الحكماء!
والسعيد السعيد من شمٌ منه ... أرجا من حديقة غناء
والسعيد السعيد من شهد الل ... هـ على لوح نوره الوضاء
رب غاوٍ يلومني في نشيدي ... وهو لا ينتهي عن الفحشاء
خاشع الطرف مطرق الرأس يمشي ... بين خلين سمعةٍ ورياء
يظهر الفكر وهو في السر يغشى ... ما تندَّى له جبين الحياء
وأنا الطاهر السراويل والبُرْ ... د نقيُّ القميص عف الرداء
ليس مني الفسوق، تأباه في جس ... مي دماء الجدود والآباء!
ينهل الحسن من غرامي ولكن ... هو صديان يلتظى من إبائي!
كل حبيّ طهْرٌ وقدْس وتسبي ... ح لرّبي وصيِغةٌ من دعاء
أنا عبد الجمال حرَّرْتُ في مع ... بده مهجتي بلا استثناء
مهرقا في محرابه ذوب قلبي ... ما تراه مضرجاً بدمائي؟!(45/52)
أعبد الله فيه: اقرأ فيه ... آية الاقتدار والإنشاء
إن يكن في الحدود جسمي فروحي ... تتهادى في العالم اللانهائي!
نزيل القاهرة
علي احمد باكثير(45/53)
بين شاعر ومصور
مشروع زواج
بقلم محمد روحي فيصل
جلس الصديقان يتسامران بعد العشاء، وقد انبسطت أعضاؤهما فوق الأرائك الناعمة الوثيرة، يرسلانها على هواهما، ثم يعبثان بما ينشأ عن دخان التبغ في الفضاء من منعرجات وأشكال. . .
وتلك ساعة حلوة عذبة، تنشرح لها الصدور، وتشرق فيها الوجوه، وتنطلق فيها الألسن بالكلام، وتجيش فيها القلوب بنوازي الحياة وشتى العواطف والأهواء، وكلها تنزع إلى الظهور والإفصاح، وتطلب السفور والإعلان من غير التواء ولا تحجب. وكان ضوء المصباح نحيلا شاحباً، يضطرب كالمحتضر على جدران الغرفة الرحبة، ثم لا يكاد يبين ما يزينها: من طنافس مزركشة وأسلحة مفضضة. إنما يبرز إلى النصف بين الظلال الفاحمة رسم امرأة فتية قد اتخذت وضعاً مائلا نحو الأمام كأنما هي تتسمع صاغية، وضاحة المحيا، صبوحة الوجه في عينين زاهيتين، وفم مطبق مرهوب تطفو عليه ابتسامة حيرى ذات معان!! وكان الكرسي الصغير والنعال الدقيق المبعثرة ههنا وههنا توحي للخاطر بوجود طفل وليد في الدار، ومن الغرفة المجاورة كانت تنبعث الحين بعد الحين أنغام شجية، وموسيقى متسقة منسجمة، إذ تهدهد الأم الرؤوم فتاها كي ينام. فيمتلئ الجو بالنشيد روعة وجمالاً، ويشيع فيه عبير اللذة والهناء، فيصيح الشاعر مهتاجاً: (لك الحق يا أخي أن تتزوج وأن تنعم بالزواج، فليست سبل السعادة كثيرة متشعبة. إنها هنا على مقربة منا. . . بربك التمس لي فتاة أتزوجها!)
المصور - أنا ألتمس لك فتاة؟! تالله لن أخوض غمار ذلك أبداً
الشاعر - ولماذا؟
المصور - تسألني لماذا؟ فاعلم أن أصحاب الفن ما ينبغي أن يتزوجوا، وما ينبغي أن يكون لهم في الحياة شركاء
الشاعر - يا للعجب! تقول ذلك ولا تخشى أن يغور نور المصباح وتنقض على رأسك الجدران. إن حياتك الزوجية نصب مائل للسعادة المنشودة والنعيم المقيم! ومثلك فيما تزعم(45/54)
كمثل أولئك الأغنياء المترفين يكنزون المال ويضاعفون الثروة من آلام الآخرين وشقاء العاملين، ويستطيعون نار الشتاء حين يذكرون البؤساء الذين لا مأوى لهم ولا نار عندهم!!
المصور - قل ما تشاء، شبهني بما تهوى، فلن أكون لك إلا الصديق الوفي النصوح الذي يرى الخطر فلا يقف مكتوف اليدين متبلد الحس، جامد الشعور
الشاعر - أراك تسرف في كره الزواج إسرافاً كبيراً مع أني استروح أريج السعادة هنا كما أتنفس الهواء الطلق في الحقول!
المصور - نعم إني سعيد كما تقول، أحب زوجتي حباً جما وأرى فيها وفي ولدي كل جمال الوجود والحياة. لقد كان زواجي مرفأ هانئاً آمنا تحفه المياه الوادعة، أقلني وما زال يقلني إلى ما أصبو إليه من مواطن الراحة والسلام. وإنتاجي أحصب وسما، ولعل خير رسومي قد أبدعتها في عهد الزواج. . .
الشاعر - وما بالك تنأى بي إذن عن عالم السعادة؟
المصور - ها. . . إن السعادة التي أنعم في أحضانها إنما هي أعجوبة من أعاجيب القدر، لا يسمح بها الزمان، ولا تجود بها الطبيعة على الناس جميعا. وأنا كلما أدركت ماهية الزواج فرحت لهذا الحظ الضاحك الذي حباني به الإله الكريم. فحالي تشبه حال من فطن للهوة السحيقة المخيفة بعد أن اجتازها فأعجب بشجاعته ومضاء همته، وشكر الله على سلامته!
الشاعر - وما هي مساوئ الزواج يا أخي؟
المصور - أولى المساوئ وأعظمها أن الأسرة تستهلك المواهب وتميت الإبداع، وهذا أمر له وجاهته بلا ريب في حياة الفن الجميل. يكون الزواج استجابة طبيعية للغريزة الكامنة الحمراء، وقد يعلى شأن بعض الرجال ويوسع إطار خبرتهم، ويدنيهم من الأرض والمدنية، ثم لقد يكون ضرورة من ضرورات المهنة والمعاش. أما الفنانون من شعراء ومصورين ونحاتين وموسيقيين لا يمتزجون بالناس ولا يدخلون المجتمع، وإنما يعيشون على حافة الحياة يرقبونها عن كثب ويتأملون خطوطها وألوانها ثم يسجلون مشاهداتهم ويبدعون آثارهم. فالمتزوجون فيهم على هذا ينبغي أن يكونوا قلائل نادرين هذا (ديلا كروا) العظيم الذي تعجب به وتهيم برسومه قضى عمره الطويل أعزب يدب وحيداً بين جدران بيته. لقد(45/55)
خطرت البارحة على (شانروازى) ومتعت النفس بحديقتها النضرة المتزهرة. إنه ظل عشرين عاماً يغدو بها وبروح لا مؤنس له غير هديل الحمام وتغريد العنادل. ترى ما قيمة إنتاجه لو كان أباً يهتم للكسب والأولاد، يربيهم ويعني بتعليمهم، وقد يمرضون فيسهر على مداواتهم ولا ينام؟!
الشاعر - ذكرت لي ديلا كروا مثلا، فهلا ذكرت فكتور هوجو. . . أتعتقد أن شؤون الأسرة قتلت ملكاته وأخذت عليه سبيل الإنتاج الأدبي الخالد؟
المصور - أنا لا أرى ذلك ابداً، ولكن الفنانين المتزوجين ليسوا كلهم عباقرة تهضم الفن والعائلة قواهم النفسية. . .
الشاعر - ما عجبت لشيء عجبي لحكاية متزوج سعيد لا يحب لغيره إلا العزوبة والوحدة!
المصور - إن الحكم الذي أضعه بين يديك ليس مصدره حياتي الخاصة! إنما كونته عندي تلك الشرور القائمة في كثير من الأسر التي عرفتها واتصلت بها. والباعث على الشرور التباين العقلي والنفسي بين الفنان وزوجه. أتذكر ذلك النحات الماهر الذي ترك الأهل والوطن وهاجر إلى حيث لا يدري مصيره أحد من الخلق؟ لقد كان يعبد مهنته ويفنى فيها وقته وحواسه، ولكن زوجه الذكية الحسناء كانت تريده على أن يحيط حسنها بهالة من الثروة والجاه، فطفق النحات يكد ويعمل طوال عشر سنين، وربما تدفع به وبنفسها في بعض الأماسي إلى الأبهاء الرفيعة الأرستقراطية تدخلهن واحدة بعد أخرى وتذيع فيهن مالها وبهاءها، ولقد تقطع عليه عمله في النهار لتزور ويزور صويحباتها، ثم يرتادان معاً أماكن اللهو ومجالس الأنس. ستقول إنه يستطيع لو شاء ألا يحقق مناها، ولكن الزواج في طبيعته يضطرنا إلى أن نؤثر جانب الرفق واللين على جانب الشدة والعنف. لا أنكر أن هواء البيت إنما نتنفسه على الرغم منا، ولو لم يكن فيه ذرة من القوة والمثل الأعلى لثقل علينا ضغطه وكثافته. إن الفنان ليودع في آثاره كل ما يملك من جهد وفكر، ويجرد لهذا الغرض العزم والإرادة، ولكنه يقف من توافه الحياة موقف العاجز الضعيف، يلين لزوجته حتى المهانة، ويخنس لسلطانها حتى العبودية، تأمره فيمضي في صمت وتقول فيفعل في هدوء. على انه قد يثور إذا اطرد الاستبداد واشتدت العبودية، فهذه العصائب المانعة للنور ان هي عاقته عن الإنتاج الفني لا يلبث ان يطرحها في نفور كما فعل المثال المهاجر، وقد(45/56)
حزنت الزوجة لهذه الهجرة الفجائية فتساءلت (أأكون أنا الجانية عليه؟ هل من إساءة وخزته بها؟) بلى! إنها لم تعمد إلى الإساءة عمداً، وإنما جرت مع طبيعتها الطائشة الغريرة دون ان تفقه زوجها الحساس. فليس يكتفي ان تكون المرأة ذكية حصيفة لتصلح شريكة الفنان في الحياة، بل ينبغي لها في النزعات نكران الذات والتضحية بالنفس، وهذا ما لا تجده عند امرأة جاهلة بهرتها لذاذات الدنيا وغشيتها الأنانية!! إنما يرغب النساء أن يكن رشيقات ساحرات، وأن يتزوجن وجيه القوم كي يظهرن إلى جنبه متأبطات ذراعه. فأما الفنان الصناع فلا يجد متسعاً من الوقت حتى يتبرج مختالا كما يتبرجن مختالات فخورات، أرأيت كيف تشقى الاسر وينتابها الألم؟ أعرفت كيف يسقط الزوج ضحية الجلاد الأعظم. . . وبالأمس زرت (دار حنتى) الموسيقار وكان يسمر مع خواته الكثير، فطلبوا إليه فيما طلبوا أن يعزف على البيان، فقام يرجع لحنا سائغا طرب له الحاضرون وصفقوا أيما تصفيق، ولكن زوجته ما لبثت أن شرعت تتحدث في خفوت، فما زال صوتها يعلو حتى ملأ الغرفة وشغل الناس، فقطع الموسيقار لحنه ثم التفت إلي وهمس في أذني (هكذا تصنع معي على الدوام. إنها لا تطرب للموسيقى.!)
الشاعر - سهوت عن أمر جليل. إن الزواج خطرة هي لحظات الخور والملال، يتشاءم فيها الفنان ويشك في نفسه وفي قيمة فنه، فالمتزوج إنما يرى بقربه قلباً حبيباً يبثه أشجانه وشكوكه. والطفل؟ هذه الابتسامة البريئة التي تتألق على وجه الغض، أليست تعزى الشيخ وتجدد شبابه، ولك ما يخسره الفنانون يربحه أبناؤهم من بعدهم. فهذه الشعرات البيضاء التي تتساقط في المشيب يرونها تنبت سوداء متجعدة على رأس مستدير بديع
المصور - وكيف يستطيع الشيخ الواهن إطعام الطفل الصغير؟
الشاعر -. . . . وعلى كل حال فالفنان إنما خلقه الله للزواج قبل أن يخلقه للفن، فإذا لم يتزوج كان في الدنيا كالمسافر الجواب قد أتعبه التشرد فسكن إلى غرفة من غرف الفندق كتبت عليها هذه العبارة المبتذلة (للإيجار ليلة أو شهر)
المصور - ولكن هذا المسافر المتنقل لن يتذوق طعوم اللذات.
الشاعر - كفى! لقد اعترفت بأن في الدنيا لذات. . .
وبدا للمصور فنهض من مكانه إلى درج رسومه يلتمس منه كتابا مخطوطاً بالياً ثم عاد(45/57)
وقال (أما المناقشة على هذا النحو فلن تفيد أبداً. لقد بسطت لك رأيي ولكنك تأبى إلا الزواج، فهذا كتاب خطته يد متزوج سعيد لابس أسر الفنانين ودرس ما يكابدون من أسقام، ثم صور ذلك تصويراً طريفاً دقيقاً، ولم يطبعه بعد، فاقرأه بإمعان فهو رادك بلا ريب إلى جادة الصواب. . .)
عن (أزواج الفنانين) بتصرف
محمد روحي فيصل
في الأدب الفرنسي(45/58)
- الدوق دي لاروشفوكو
للدكتور حسن صادق
أطاع الملكة مكرها، ثم عاد إلى (فرتي) ينتظر تغير الحال ليحقق آماله الكثيرة. ومات ريشليو في عام 1642، فتحفز لاروشفوكو للمطالبة بثمن عطفه على الملكة ومساعدته إياها. وزعم أنه كان يكره هذا الوزير الذي كسر شوكة النبلاء، فانه أنصفه في مذكراته فقال: (فجعت الدولة في هذا السياسي الكبير. كان عظيماً في مقاصده، ماهراً في إنفاذ خططه، وقد ضمن بأعماله المجيدة الخلود لذكره)
هذا الشاب الخيالي الذي عرف ريشليو كيف يكبح جماحه دون أن يقسو عليه، أصبح أيام الوصاية على العرش يسعى وراء مصلحته الذاتية ليس غير.
الرجل الطموح
لما مات لويس الثالث عشر وأقيمت زوجه آن دوتريش وصية على ابنها لويس الرابع عشر، فرح الملتفون حولها وتطلعت نفوسهم إلى تحقيق مطامعهم على يديها. ورأت هي منهم ذلك فجادت عليهم بالوعود وتركتهم في آمالهم ينعمون، ثم وضعت أزمة الدولة في يد الكاردنيال مازاران صنيعة ريشليو عدو النبلاء والعظاميين ولم تأبه لرغبات لاروشفوكو الذي أظهر الوفاء لها في ظروف كثيرة، وهو يقول في مذكراته عن ذلك: (قضيت عشرة أعوام في خدمتها، وخاطرت بثروتي وحريتي في سبيل راحتها وحريتها حتى قيل عني إني شهيدها. وكثيراً ما قالت لي إنها لا تجد في البلاد ما تكافئني به على ما قدمت من معروف). ولكنها لما ملكت زمام الحكم نسيت قولها تمام النسيان
ولما يئس النبلاء من وعودها، كونوا فيما بينهم جمعية سرية ترمي إلى القضاء على سلطان الوزير مازاران واختاروا الدوق دي بو فور رئيساً لهم. وانضم إليهم لاروشفوكو اسماً دون أن يوافق على سلوكهم وخطتهم، وأصبح البلاط حزبين: حزب الوزير وحزب الدوق دي بوفور. ولأجل اكتساب عضد الملكة الوصية على العرش، تقدمت الجمعية إلى لاروشفوكو أن يرجو من الملكة إصدار العفو عن صديقتها الدوقة دي شفريز حتى تعود إلى البلاد، فاطاع لاروشفوكو ومازال بالملكة حتى أجابت سؤله وأمرته بالذهبا إليها حاملاً(45/59)
هذا الخبر السار، ففرح وقال في نفسه (أجابت هنا الطلب، وستجيب دون شك مطالبي الأخرى)
أسرع إلى مقر الدوقة وأدلى إليها بما حدث في البلاط أثناء غيبتها، ورجا منها أن تصبر على مازاران، فان أرضى رغباتهما وحقق آمالهما تركته وشأنه، وان أبى عليهما ما يطلبان شاكسته
ولكنها لم تكد تطأ أرض باريس حتى نسيت قول لاروشفوكو وحاولت عزل الوزير وإحلال أحد رجالها المسمى شاتونيف محله، وجهرت برغبتها في رد القوة إلى الأسر العظيمة التي تحبذ آراءها وترضى عن خططها. وقبل أن تقدم على عمل جدي، افتضح أمر الجمعية وألقى القبض على رئيسها في 2 سبتمبر عام 1643 وحبس في فنسين، وأمرت الدوقة بالإقامة في تور. أما لاروشفوكو فلم يمس بسوء، وكل ما أصابه في هذه الحادثة أن الملكة أمرت بأن يعرض عن الدوقة ويخلص للوزير. ولكنه لم يذعن لأمرها ولم يجن من وراء ذلك نفعا
واستمر في البلاط إلى عام 1646 كئيب النفس وسط مسرات البطانة ومرحها، وسعى سعي المجد إلى الحصول على إحدى الرتب العسكرية التي رفض قبولها من ريشليو، ولكن سعيه لم يصب غير الفشل. فدفعه اليأس من بلوغ مقاصده إلى الاتصال بالدوقة دي لونجفيل التي تضمر العداوة للملكة. وهذه الدوقة كانت شديدة الكبرياء مولعة بالمجون والاستهتار، وقيل إنها أحبت أخاها الدوق رانجان حباً فيه إثم كبير، وإنها كانت ترى في هذا الحب البغيض طريقة تميزها من (القطيع الإنساني). ولم يحبها لاروشفوكو، بل تصل بها وأظهر كلفه بها ليستخدمها في سبيل اغراضه. وهو لم يعرف الهوى المحرق كما تقول مدام دي سفنييه وقد سمعه سجريه يقول: (لم أعثر بالحب إلافي القصص الخيالية)
وفي أغسطس عام 1648، قامت ثورة في باريس تعرف في تاريخ فرنسا باسم (ومعناها لغة: النبلة التي يستعملها الصغار عندنا في صيد العصفور، وكانت شائعة في فرنسا وقت قيام هذه الثورة فسميت باسم هذه اللعبة)، ثم امتد الاضطراب إلى الريف، وأشعل الفلاحون في (براتو) نار الشغب. وكان لاروشفوكو قد حصل على حكمها بفضل مكانة أبيه، فقمع هذا الشغب قبل أن يستفحل، ونال بعمله هذا إعجاب الوزير مازاران. ولكنه كان يسعى(45/60)
إلى شيء آخر غير الإعجاب بعمله، كان يرغب في الحصول على لقب دوقة لزوجه وعلى الأذن له بدخول فناء قصر اللوفر في عربة كآل روهان (وهم من سلالة ملوك بريتانيا) فلما خيب الوزير أمله، انضم في الحال إلى الثائرين على الرغم من رأي والده وأسرته، وأسرع إلى باريس لمقابلة الدوقة دي لونجفيل التي أعدت خطة لأضرام نار حرب أهلية. وقد حاولت أن تضم إليها أخاها الدوق رانجان الذي أصبح أمير كونديه بعد موت أبيه في عام 1646، ولكنها أخفقت لأن الملكة غمرته بالنعم الجزيلة ثمناً لمساعدته إياها
أخذ كونديه بعضد الملكة وأنقذ البلاط من الثائرين وأصبح صاحب الكلمة النافذة فيه، فألحف في طلب المال لنفسه والمزايا لأصدقائه ومن بينهم لاروشفوكو , وأجابه مازاران إلى ما طلب ولكن النبلاء تقدموا إلى الملكة أن تلغى هذه المزايا فألغتها في 10 اكتوبر عام 1649. وفي ذلك اليوم كتب لاروشفوكو في كراسة يذم الوزير ويسخط عليه لأنه (قاوم طموحه مقاومة عنيفة). وجملته الأخيرة تدل على روح النبلاء في ذلك العصر، وبقيت هذه الكراسة مجهولة من الناس حتى عثر بها فكتور كوزان في أوراق كونررا ونشرها
ولما ضاق الوزير ذرعا بكونديه استعمل الخديعة حتى ألقى عليه القبض هو والدوق دي لونجفيل وقد حريتهما في الهافر، وخافت الدوقة دي لونجفيل أن تصير إلى ما صار إليه زوجها فهربت إلى هولانده بمساعدة لاروشفوكو
وفي 5 فبراير 1650 مات والد لاروشفوكو، فاتخذ من إقامة المأتم ذريعة إلى جمع كثير من النبلاء والفلاحين والجياد (700 نبيل، 800 فلاح، 2000 جواد خطبهم واستوقد حماستهم لمحاربة جنود الملك. ولكن هؤلاء قهروا رجاله وأهلكوا زرعه ودمروا قصره في (فرتى). ويقول أحد أصدقائه أن لاروشفوكو لما بلغه خبر الدمار الذي أصاب القصر الناطق بعظمة أجداده، اعتقد أن الدوقة دي لونجفيل ستقدر له هذه التضحية في سبيلها حق قدرها، وبعث هذا الاعتقاد في نفسه سروراً كبيرا. وقبل انقضاء شهر فبراير هدأت الحال وأطلق سراح كونديه ومن معه، وغادر مازاران البلاد حتى تسكن العاصفة
استرد كونديه حريته ولكنه أضمر الشر للوزير والملكة. ولما بلغ لويس الرابع عشر رشده في 6 سبتمبر عام 1651، وأقيمت لهذه المناسبة حفلة فخمة: في قصر اللوفر لم يحضرها كونديه وأعوانه خشية أن تنال الملكة منهم منالا. وعرفت أخته الدوقة دي لونجفيل ميله(45/61)
إلى إشعال نار الحرب الأهلية مرة ثانية، فشجعته حتى سل سيفه في وجه الملك
يتبع
حسن صادق(45/62)
العُلوم
4 - يسألونك عن الأهلة
للدكتور احمد زكي
(تتمة)
سطح القمر
ثم جاءت الفوتوغرافيا فمكنت الإنسان في ساعة قصيرة مما كان يتطلب منه أياما طويلة، وقدّرته بمجهود فني مركز قليل، على ما لم يكن يقدر عليه إلا بمجرد قاس منهك كبير، وكانت الفوتوغرافيا في منتصف القرن الفائت في أول نشأتها، فكانت الخدمات الأولى التي أدّتها إلى علماء الأفلاك منقوصة مقصورة. ولكن ما لبثت أن تقدمت هذه بتقدم تلك، ورقب بحاث السماء بحاث التصوير فاستفادوا من كل جديد، وغيروا وحوّروا من الطرق المستحدثة حتى تتفق مع حوائجهم، وزادت تلك الحوائج وتضخمت حتى انفردت بمبحث خاص أسموه الفوتوغرافية السماوية هي اليوم من أهم الوسائل وأقرب الوسائط في دراسة كل ما يحدث في العوالم الدوّارة والشهب السيارة، وللتصوير الشمسي في دراسة النجوم والأقمار ميزات غير الميزة الظاهرة ترجع إلى طبيعة العدسات وإحساس الأفلام. فعين الإنسان مثلا إذا حدّقت في شيء مباشرة أو بواسطة منظار فهي لا ترى من هذا الشيء إلا بعضاً صغيراً من كل كبير، لذلك كان الرسامون القدماء يرسمون القمر بأقلامهم من خلال المنظار قطعة قطعة، وخريطة خريطة، ثم يصلون بين هذه الخرائط لتتم الوحدة، وذلك لأن عيونهم لا تستطيع أن تُبَوئر من المنظور إلا منطقة قليلة، أما عين الكمرة فأوسع من عين الآدميّ واشمل، فنظرة واحدة منها تعدل نظرات المئات من الناس. وعين الكمرة يتراكم فيها أثر المنظور بتطاول الزمن، وليس هذا لعين الإنسان، فأنت تنظر الشيء القليل الضياء فلا تراه أبداً أو تراه مبهما، ولا تفيدك إطالة النظر إليه إلا تعب العين فزيادة الإبهام، أما الأثر في الكمرة فكيميائي فللزمن عامل فيه، فكلما زاد التعريض زاد الأثر فبان الخفي واتضح المبهم. وقد رأت الكمرة وترى في السماء أجراما عميت عنها النواظر. وعين الكرة تحس أضواءً من أنواع لا تراها العين، فالعين لا ترى إلا المرئيّ(45/63)
من الطيف، أما فوق البنفسجي وما دون الأحمر فلا ترى منهما شيئاً، وهي أضواء في دراسة السماء لها خطر كبير تضطلع به الكمرة بكفاية محمودة
والقمر أول أجسام السماء التي اتجه إليها البحاث في التصوير الفوتوغرافي، اقترح ذلك أراجوا عام 1840 ولكن انفذه الدكتور درابر في نفس العام، وكانت طريقة التصوير المعروفة عندئذ هي طريقة داجير يستخدمون فيها لوحاً من نحاس مُفضَّض يحسّسونه ببخار اليود والبروم، ونجح بها تصوير القمر لأول مرة نجاحاً خطيراً، ولم يكن خطره في حسن الصورة الناتجة وشدة وضوحها وكثرة تفصيلها، فهي لم يكن لها ذلك، وإنما كان خطره في ان القمر أمكن تصويره من ضوئه، فقد كان الناس في شك من احتواء هذا الضوء على أشعة الشمس التي تؤثر في أملاح الفضة
وجاءت طريقة التصوير بالكلّوديون وهو النتروسليولوز مذابا في كحول وأثير، يضاف إليه يودور الصديوم أو البوتاسيوم مع قليل من البرومور، ثم يُفرش على ألواح من زجاج تغمس في الظلام في حمام من أزوتات الفضة فيتكون عليها بذلك يودور الفضة وبروموره وهما الملحان الحسّاسان.، وكان لا بد من تجهيز اللوح قبيل التصوير مباشرة. استخدم هذه الطريقة كروكس وديلارو فجاؤا بصور أقصر زمنا وأوضح تفصيلا. ثم خطت الفوتوغرافيا خطوتها الثالثة في التقدم فصنعت الألواح من الجيلاتين بدل الكلوديون فخرجت إلى الأسواق ألواح جافة. ثم حلت الأفلام محل الزجاج. ولا دراك الفرق بين طرق التصوير الثلاث الفائتة نذكر أن متوسط المدة اللازمة لتعريض اللوح في طريقة داجير هي نصف ساعة، وفي طريقة الكلوّديون عشر ثوان إلى خمس عشرة ثانية، وفي طريقة الجلاتين ثانية إلى جزء من مائتين من الثانية. والزمن له قيمته في تصوير المتحركات ومنها الأجرام السماوية
وتتخلص نتيجة الفحص البصري والفوتوغرافي في تمييز أشياء ثلاثة على سطح القمر هي أظهر ما فيه
اما الشيء الأول فسلاسل من الجبال متباينة الأشكال، بعضها بالغ العلو طويل السلسلة، وبعضها مفرطح متصل يكون نجادا واسعة، وبعضها متقارب الجبال متجمعها، وبعضها كبير الميل عميق السفح رفيع القمة. وقد توجد في الوديان تلال كالاهرام منثورة مبعثرة،(45/64)
وقد تعلو وتميل بغتة حتى لتشبه أكثر مناطق الأرض وعورة، ومن أغرب ما في تلك السلاسل جسور قليلة العلو إلا أنها مسرفة في الطول تمتد بين الجبال فتربط الكبير والصغير والمجموع بالمنثور.
أما الشيء الثاني فجبال ذات فوهات كالبراكين هي في الواقع أخص مظاهر السطح، وهي فوهات أوسع كثيراً من فوهات البراكين الأرضية، فجبل كوبرنكس يبلغ قطر فوهته فوق الخمسين ميلا، وتختلف تلك الجبال الفوهية في مظهرها، فبعضها فوهته كالحائط المستدير، وبعضها تكسرت فوهته فظهر ما بقي منها كالجبال تجمعت في استدارة حول حفرة الفوهة، وبعضها عمقت حفرته أو ضحلت أو تقورت أو تقعرت، وبعضها انخفض قاع حفرته عن مستوى الأرض بظاهر الجبل، وبعضها قاربه أو علا عنه كأنه فنجان امتلأ، وتعزى أصول هذه الجبال الفوهية القمرية إلى مثل أصول البراكين الأرضية، ومنها ما يركب بعضه بعضا كما تعلو الحلقة الحلقة ولا تطابقها، فيقال إن الأوطأ كانت بسبب انفعال باطني أقدم
ويميز الإنسان على سطح القمر عدا ما فات أخاديد مستقيمة تستطيل في الوديان في اتجاه واحد فإذا انحرفت عنه فعلت ذلك بغتة وسارت في استقامة جديدة، فاذا اعترضها جبل فوهيّ قطعتهن فهي أجدُّ منه ولادة، وإذا اعترضها جبل عصى فقطع اطرادها ظهرت وراءه دون أن يختلف مسارها. أما طول الأخدود الواحد فقد يبلغ المائة ميل، وأما عرضه فقد يزيد على الميلين، وتعزى هذا الأخاديد فيما تعزى إلى انشقاقات حصلت في السطح وهو يبرد وينكمش
وتتميز على سطح القمر أيضاً شعاعات تخرج من فوهات الجبال فتمتد مئات من الأميال لم يهتد الفلكيون بعدُ كل الاهتداء إلى تفسيرها
وكلما تقدم البحث في القمر وزادت معرفة الإنسان بأحواله خاب الرجاء القديم في العثور على أثر من آثار أناسيّ مثلنا تسكن القمر. بالطبع لم يكن مرجواً أن نرى شخص إنسان على القمر لقصور أجهزتنا الضوئية عن إدراك ذلك، ولكن تلك الأجهزة تتبين على سطح القمر أشياء تقل أطوالها عن نصف ميل، وإذن فلو كان على القمر ناس يسكنونه وفاتتنا رؤيتهم فلا أقل من أن نرى آثارهم، فالمدن لابد أن تكبر عن نصف ميل، وهي لا شك(45/65)
تتغير خططها فتضيق وتتسع على الزمن، وتمتد إن شرقاً وإن غربا وإن شمالا وإن جنوبا وقد تطول وقد تستعرض، وقد فاتنا إدراك شيء من ذلك بأقوى المنظارات. هذا على افتراض أن الإنسان الذي يسكن القمر مخلوق على مثال إنسان الأرض في حجمه وجرمه، وهو افتراض لا تعززه طبائع الأمور. فانا نعرف إن الجاذبية على سطح القمر أقل منها على سطح الأرض، فهي تبلغ نحو الثمن، فالرجل منا إذا نط على سطح القمر ارتفع إلى نحو ثمانية أمثال ارتفاعه على سطح الأرض فمن اجل اتزانه يرجح أن يكون جرمه ثمانية أمثال جرمه على الأرض. وحكم مساكن الإنسان على القمر كحكمه، فهي إن كانت فلا بد أن تكون كبيرة ضخمة لتتوافق مع ساكن ضخم كبير ولتثقل فتتزن على سطح القمر فلا تندك من اهتزاز قليل. والمنازل الواسعة تؤلف لا شك مدناً كبيرة مديدة أكبر من مدن الأرض وهذا يسهل علينا مرآها، ولكننا لم نر شيئا. على أن كل الأدلة تقضي بخلو القمر من الماء ومن الهواء، وكلاهما لازم للحياة علت أو سفلت. والحياة كما نعرفها لا تكون إلا في درجات من الحرارة محدودة، فهي لا تزيد كثيراً على الخمسين، ولا تنزل كثيراً عن الصفر، والمعروف عن القمر أن نهاره بخمسة عشر يوماً من أيامنا، يظل فيه في مواجهة الشمس يأخذ من حرارتها فتعدو درجته المائة، يتلوه ليل بخمسة عشر يوماً من أيامنا يبرد فيه برودة دون ما تحتمله الحياة بكثير. فالحياة - كما نعرفها - لم يثبت وجودها على القمر، لا عياناً ولا استنتاجاً، بل ثبت النقيض.
احمد زكي(45/66)
القصص
البلبل والزهرة
لأسكار ويلد
ترجمة الأستاذ محمود الخفيف
صاح الطالب الشاب قائلا (وعدت أنها سوف تراقصني إن أنا أحضرت لها ورداً أحمر، ولكن ليس في حديقتي كلها وردة حمراء).
فسمعه البلبل وهو في عشه على شجرة السنديان وتطلع إليه في دهشة من خلال الأوراق وأردف الفتى قائلاً وقد اغرورقت بالدمع عيناه الجميلتان (لن توجد وردة حمراء في حديقتي كلها! آه. كم تكون السعادة رهينة بأتفه الأمور! لقد قرأت كل ما كتبه العقلاء ووقفت على أسرار الفلسفة ومع ذلك أرى حياتي يكتنفها الشقاء من أجل وردة حمراء)!
وعندئذ قال البلبل (ها قد لقينا في النهاية محبا صادقا. لقد طالما تغنيت بذكره الليلة تلو الليلة ولو لم أكن أعرفه. ولقد طالما تحدثت عنه إلى النجوم. وهأنذا أراه الآن! إن شعره فاحم كزهرة الخزامى، وان شفتيه لتمثلان في حمرتها الوردة التي يطلب، ولكن تواجده قد أحال لون وجهه إلى لون العاج المصفار، كما أن الأسى قد ترك طابعه فوق جبينه).
وتمتم الطالب قائلا (سوف يقيم الأمير حفلا مساء غد وستكون عشيقتي هناك، فان أنا أحضرت لها وردة حمراء فإنها ستراقصني حتى مطلع الفجر، وسوف تسند رأسها إلى كتفي، وتضع يدها في قبضة يدي. ولكن ليس في حديقتي وردة حمراء، وإذا فسوف أنزوي وحيدا، وستمر بي عشيقتي فلا تأبه لي، وإذ ذاك يتحطم قلبي!) وعاد البلبل إلى حديثه قائلا (ها هو ذا محب وفي حقا! انه يشقى بما أترنم أنا به، وان هذا الذي بعد مبعث الجذل عندي أراه عنده مبعث الهم والألم. حقا ان الحب لشيء عجيب! أانه أغلى ثمناً من الزمرد، وأندر من تلك الجواهر المعروفة بعين الهر، ولا يمكن أن يقوم باللآلئ، كما انه لن يعرض في الاسواق، ولن يوجد عند تاجر أو يوزن في ميزان الذهب)
وقال الفتى (سوف تجلس جوقة الموسيقى في البهو، وسوف يعزف أفرادها على آلاتهم، وعندئذ سوف ترقص عشيقتي على نغمات العود والقيثار، وسترقص في خفة حتى لن(45/67)
تمس قدماها الأرض، وسيجتمع حولها رجال الحاشية في ثيابهم الزاهية. أما أنا فإنها لن تراقصني، فليس لدي وردة حمراء أقدمها إليها)، وعندئذ ألقى الفتى بنفسه على العشب وغطى وجهه براحتيه واستسلم للبكاء فتساءلت حرباء خضراء، كانت تجري إلى جواره رافعة ذيلها في الهواء (ما الذي يبكي هذا الشاب)؟ وشاركها في تساؤلها فراش كان يرف في شعاع الشمس. حقا ماذا يبكيه؟ (وأعقبتهما أقحوانة، فهمست إلى جارتها في صوت خافت ناعم قائلة (فيم هذا البكاء)؟
وأجاب البلبل قائلا (انه يبكي من أجل وردة حمراء)
فصاح الجميع في دهشة (من أجل وردة حمراء؟!. يا له من أمر مضحك، وصاحت الحرباء الصغيرة ضاحكة منه وفي عينيها معاني التهكم.
ولكن البلبل كان يفهم سر هذا الحزن فجلس صامتاً على شجرة السنديان مفكرا في الحب وما يكتنفه من أسرار.
وبينما كان غارقا في تفكيره، إذ بدا له فنشر أجنحته ذات اللون البني، وارتفع في الهواء، وعبر الحديقة كما يعبر الطيف حتى وقع بصره على شجرة ورد جميلة، فحط على غصن من غصونها، وصاح بها قائلا
(أعطني وردة حمراء فأغنيك أحسن أغاني)
ولكن الشجرة هزت رأسها قائلة (إن وردي كله أبيض، كزبد الموج في بياضه أو هو أشد بياضاً من الثلج الذي يكلل فتن الجبال. اذهب إلى أختي هنالك حول المزولة وستعطيك ما تطلب)
وطار البلبل حتى أتى تلك الشجرة فصاح بها
(أعطني وردة حمراء فأغنيك أحسن أغاني)
ولكن الشجرة هزت رأسها قائلة (إن ورودي كلها صفراء، تحكي في صفرتها شعر الجنية التي تجلس على عرشها الكهرماني، أو هي اشد صفرة من زهرة النرجس التي يسطع لونها في المرعى قبل أن يأخذها المنجل. ولكن اذهب إلى أختي هنالك تحت نافذة الطالب، وربما منحتك طلبتك، فانطلق البلبل إلى تلك الشجرة فخاطبها بقوله:
أعطني وردة حمراء فأغنيك أحسن أغاني.(45/68)
فهزت الشجرة رأسها قائلة (إن ورودي حمراء، كقدم الحمامة في حمرتها، أو هي أشد حمرة من مراوح المرجان الهائلة التي تتماوج في جوف الخضم، ولكن الشتاء جمد عروقي، والصقيع نثر براعمي، والعاصفة قصفت غصوني، ولذلك فسوف لا ألد وردة هذا العام)
فقال البلبل (ان كان ما أطلبه وردة حمراء واحدة، وردة واحدة فقط. أو ليس من سبيل إلى تلك الوردة)؟
وأجابته الشجرة قائلة (هناك وسيلة إلى مبتغاك، ولكنها جد مخيفة حتى أنني لا أقوى على ذكرها).
ولكن البلبل رد بقوله (هات ما عندك فلن أخاف شيئا)
وحينئذ قالت الشجرة (إذا كنت تريد وردة حمراء فعليك أن تبغيها بألحانك في ضوء القمر ثم تفرغ عليها دم قلبك. عليك أن تغنيني، وصدرك مسند إلى شوكة من أشواكي، وعليك أن تقطع الليل كله صادحاً على أن تدع الشوكة تنفذ إلى قلبك حتى يتدفق دم حياتك في عروقي ويصبح لي)
وصاح البلبل قائلا (كثير أن أقدم حياتي ثمناً لوردة حمراء، وحياة كل مخلوق غالية عنده. لشد ما يبهجني أن أجلس في الغابة الخضراء وأرقب الشمس تجري في مركبها الذهبي، والقمر في مخدعه اللؤلؤي. ما أجمل منظر الزهور في عدوتي الوادي وعلى سفوح التلال، وما ألذ النسيم ينشر في الجو عطره الفياح. على أن الحب أحسن من الحياة، وما قيمة قلب طائر اذا قورن بقلب رجل)؟
ونشر البلبل أجنحته البنية وارتفع في الجو وعبر الحديقة كما يعبر الطيف، حتى أتى الطالب فوجده حيث تركه لما يزل مستلقيا على العشب، ولم تجف الدموع في عينيه الجميلتين، فوجه إليه الخطاب قائلا: (أبشر أيها الفتى ولا تحزن فسآتيك بالوردة الحمراء. سوف أبغيها بأغاني ضوء القمر، وسوف أصبغها بدماء قلبي، وكل ما أطلبه منك في نظير ذلك أن تظل وفياً في حبك، فان الحب أكبر عقلاً من (الفلسفة) وان اشتهر بالحكمة، وأشد سلطانا من القوة وإن اشتهرت باليأس. ان أجنحته حمراء كاللهب، وان جسده مشبع الصبغة من ذلك اللون المتوهج، أما شفتاه فحلوتان كالشهد، وأما أنفاسه فعطرات كالعنبر المتضوع.(45/69)
ورفع الطالب رأسه مصغياً ولكنه لم يفهم ما قاله البلبل لأنه لا يفهم إلا ما يقرأ على صفحات الكتب.
ولكن شجرة السنديان فهمت ما أعيا الطالب فهمه، فاشتد حزنها لأنها كانت تحب هذا البلبل الصغير الذي بنى عشه في أحضانها، ثم توسلت إليه أن يغنيها أغنيته الأخيرة قائلة إنها سوف تعاني آلام الوحشة والعزلة لفقده.
فغناها البلبل أشجى ألحانه، وكان صوته العذب كصوت الماء ينصب من إبريق فضي، ولما فرغ من غنائه نهض الطالب وقد أخرج من جيبه ورقاً وقلما وحدث نفسه وهو يسير في ممرات الحديقة قائلا
(أما ان لهذا البلبل طريقة في لحنه فهذا ما لا سبيل إلى إنكاره، ولكن ليت شعري هل يصحب هذا اللحن شعور؟ أخشى أن يكون هذا الشعور معدوماً، وإذا رجعت إلى الحقيقة فهو كمعظم الفنانين. إن له أسلوباً ولكنه ينقصه الإخلاص لفنه. وانه لن يضحي بنفسه من أجل الغير. ولن يفرك إلا في الموسيقى، وكل إنسان يعلم أن الفن والأنانية صنوان، وعلى أي حال فلن أستطيع أن أنكر عليه ألحاناً جميلة في صوته، ولكنها مع الأسف لا روح فيها وليس ثمة أية فائدة من ورائها).
ودخل الفتى حجرته واضطجع على سريره مفكراً في حبه وبعد هنيهة ظلله الكرى بجناحيه.
ولما أضاء البدر في السماء طار البلبل إلى شجرة الورد، وأسند صدره إلى الشوكة وجعل يغني طول ليلة والشوكة تنفذ في صدره رويداً رويداً، حتى تدفق الدم من عروقه والبدر ينصت إليه في هدوء.
غنى البلبل أولا عن الحب وكيف يولد في قلب كل صبي وصبية، وعند ذلك أسفرت وردة بديعة في أعلى أغصان الشجرة، وكانت تزداد ورقة في إثر ورقة كما كان يرسل البلبل ألحانه لحنا في اثر لحن. وكان لونها أول الأمر شاحبا كلون الضباب الذي يطفو على صفحة النهر، أو كقدم الصبح إذا تقدم يسعى، أو كجناحي الفجر عند طلوعه، كان كلامه حيال الزهرة في مرآة فضية، أو في صفحة بركة ساكنة. ولكن الشجرة أهابت بالبلبل أن يضغط بصدره على رأس الشوكة قائلة: (أقبل بصدرك على الشوكة أكثر مما تفعل أيها(45/70)
البلبل الصغير وإلا أسفر الصبح ولما تتم الوردة.
وأطاع البلبل فاشتد ضغطه على الشوكة، وكانت ألحانه تعلو شيئاً فشيئاً إذ أخذ يغني عن العاطفة، وكيف تنشأ في نفوس الفتيان والأوانس. وهنا تمشت حمرة خفيفة في الوردة، حمرة أشبه بتلك التي تصبغ وجنة العروس عندما يطبع أول قبلة على شفتي عروسه! ولكن الشوكة لم تكن حينذاك قد وصلت إلى قلبه، فبقي قلب الوردة أبيض، فلن يصبغه بالحمرة إلا الدم المنبعث من صميم قلب البلبل ولذلك صاحت الشجرة بالبلبل قائلة: أقبل بصدرك على الشوكة أيها البلبل الصغير وإلا طلع النهار ولما تتم وردتك).
وزاد البلبل الشوكة ضغطا حتى مست قلبه فاشتد ألمه، وكان غناؤه يزداد ارتفاعا كلما اشتدت حدة الألم، كانت ألحانه تتجه اتجاها غير متزن، إذ كان حينذاك يغني عن الحب كيف يصل به الموت إلى الكمال وكيف يضمه القبر، فلا سبيل إلى تغيره في هذا المثوى الأخير.
وهكذا اكتست الوردة لونا قرمزيا، سرى في جميع أجزائها، وكان صوت البلبل المسكين يتضاءل، وكانت أجنحته ترف وقد مرت غشاوة أمام بصره حتى وصل لحنه إلى صوت خافت وأحس بحشرجة في حنجرته.
وأطلق البلبل آخر نغماته فسمعها القمر الوضئ، فنسى مطلع الفجر وتلكأ في صفحة السماء، وسمعته الوردة الحمراء فاهتزت اهتزاز الغبطة، وفتحت أوراقها لنسيم الصباح، وحمل الصدى هذا اللحن إلى الكهف القائم على سفح التل فبدد أحلام الرعاة وأيقظهم من سباتهم، ثم سبح هذا اللحن خلال اليراع المتمايل على ضفة النهر ومن ثم اتخذ سبيله إلى البحر.
وخاطبت الشجرة البلبل قائلة، ها هي ذي الزهرة قد تمت، انظر بعينك إليها ما أجملها، ولكن البلبل لم يجب فقد لفظ أنفاسه وسقط جثة هامدة بين الحشائش، والزهرة مغموسة في صدره. وعند الظهيرة فتح الطالب نافذته وألقى ببصره إلى الحديقة فصاح قائلا (ياله من حظ سعيد ها هي ذي وردة حمراء. لعمري ما رأيت وردة كهذه في حياتي. إن جمالها ليميل بي إلى الاعتقاد بأنه لابد أن يكون لتلك الوردة اسم لاتيني طويل) ثم ذهب إليها فقطفها.(45/71)
ولبس الفتى قبعته، وجرى إلى بيت الأستاذ والوردة في يده وكانت ابنة الأستاذ جالسة لدى الباب تلف خيوطا من الحرير الأزرق وكلبها الصغير نائم عند قدميها فخاطبها الفتى قائلا:
(لقد وعدت أنك سوف تراقصيني إذا أحضرت لك وردة حمراء، انظري إلى هذه الوردة إنها أشد الورود في العالم حمرة سوف تضمينها هذه الليلة على صدرك في موضع قلبك، وعندما ندور معاً في رقصتنا ستحدثك هذه الوردة عن مبلغ حبي لك)
ولكن الفتاة عبست قليلا ثم قالت
(أخشى ألا يلائم لونها لون ملابسي، وزيادة على ذلك فقد أرسل إلى ابن أخي رئيس الحجاب بعض الحلي الثمينة وأظنك تعرف أن الحلي أغلى من الزهور).
وصاح الفتى مغضباً:
(لعمري انك ناكرة للجميل، ثم رمى بالزهرة في الشارع فمرت فوقها عجلة فتلاشت وأجابت الفتاة
(ناكرة للجميل)؟ يا لك من فظ! ولكن قبل كل شيء خبرني من أنت؟ إن أنت إلا طالب فحسب، وما أظنك قد اتخذت يوما رباط حذائك من فضة كما فعل ابن اخي رئيس الحجاب، ثم نهضت واقفة ودخلت المنزل.
وقال الطالب وهو يبتعد عن دارها، ما أسخف الحب، أين هو من المنطق وفوائده؟ إنه لن يحقق شيئاً ما، ولن يحدثنا إلا عما لا يمكن حدوثه، وزيادة على ذلك فهو يجعل المرء يعتقد في أشياء لا ظل لها من الحقيقة، إنه في الواقع أمر غير عملي، وما دامت النزعة العملية هي كل شيء في هذا العصر، فإني سوف اتجه ثانية إلى الفلسفة وأدرس العلوم العقلية.
وعلى ذلك اتجه إلى حجرته وتناول كتاباً كبيرا قد علاه التراب، ففتحه وانكب عليه قارئا.
محمود الخفيف(45/72)
النقد
حول الينبوع أيضاً
إلى الدكتور احمد زكي أبى شادي
أما أنا، فأني أرى اللجاجة ليست تفيد، وما كان مثلي يبغي النغرض، وما كان مثلي يهوى التسرع، وإنما صح ما توقعت ووقعت الواقعة، وإذا أنا أعود فأردد مرة أخرى، ما عرفت الدكتور وإضرابه من إخواننا المصريين، إلا أباة على النقد، يثيرون من أجله المعارك، ويتسارعون بسببه إلى الخصام والنزاع،
فأنا أغتفر للشاعر حدته في الرد، لأن الشاعر أناني بطبعه يأبى أن يسخف له الناس أثره، ويكره من يبخس شيئا من قدره، وأشكر له حسن ظنه بي، ولا أبغي تسجيل هذه الكلمة عليه، ثم أضرب صفحا عن الماضي بأجمعه، وأعيد النظر في ينبوعه من جديد، وأؤكد له أنني قرأته مرة ثانية، وأؤكد له إنني حاولت أن أفهم، وأعوذ باله أن أزعم ان نفسه قد حلت في جسمي، فلست أعتقد بالحلول. ولا أزعم أن عواطفي قد اصطبغت بلون عواطفه فهذا أمر يعرف استحالته من الوجهة (البسيكولوجية) وأسأله العفو والمغفرة إن كفرت بقوله
كن أنت نفسي واقترن بعواطفي ... تجد المعيب لدي غير معيب
أأفرط في أنانية الشاعر، إذ كيف يعقل أن يتشابه الناس تماماً والمادة وفي الروح. وما تشابهوا، لكن الشيء الممكن الذي أستطيع القيام به، هو أنني حاولت أن أوجد التجاوب الروحي بين نفسه وبين نفسي، مع أني لم أحاول أن أخلق مثل هذا التجاوب من قبل، فابن الرومي مثلا، لا يوجد أقل تجاوب روحي بين نفسه وبين نفسي، ولكنني معجب به لا لأنه يضرب على الوتر الحساس من قلبي، ولا لأنه يهيج دفين آلامي وأشجاني، بل لأني أجد في شعره فنا رائعا لا أستطيع إنكاره وبخسه. ولأضرب للدكتور مثلا آخر هو فيكتور هوجو فأنا أرى في شعره رأيا يخالف رأيي في ابن الرومي وربما كانت نفسه أقرب إلى نفسي من نفس بودلير الذي أعجب به إعجاباً شديدا.
فليس من الحتم على قارئ الشعر ألا يستسيغ إلا الشعر الذي تشابهت فيه نفسه مع نفس الشاعر، فقد يحب وقد يكره، ولكن هناك الفن الشعري، وهو الجامعة التي تؤلف بين القلوب، وتوحد بين الأفئدة، وما أظن في الناس إلا الحمقى يهزون أكتافهم إذا قرئ لهم(45/73)
شيء من الشعر الخالد الذي يتسم بصفات الفن الرائع، ولو كان يخالف نظرتهم وفطرتهم:
إن من عادتي يا سيدي الدكتور أن أعمد إلا الأفكار التي تكون طراز تفكيري، والمبادئ التي أستند إليها في تقديري، فأتناولها بين آونة وأخرى بالبحث والمراقبة والتشريح أبتر ضعيفها، وأنعش هزيلها. وأنشط قويها. قلت. . . ربما كان رأيي في شعر أبي شادي من القبيل الضعيف. فلأعد النظر وأؤكد للدكتور أنني كنت قاسياً على نفسي حتى يرضى.
فاللهم جنبني الشبهات، وسدد سبيلي، وحبب إليَّ الحق لأتبعه، ووجه روحي إلى النور لأدرك كنه صفحات الحياة التي تلوح لعيني كروح في ثوب صفيق من المادة. فإذا أبصرت بها واستهوتني اندفعت بكل ما في نفسي من جموح، لادرك سر تلك الروح.
الشعر مادة وروح، وشعر أبي شادي كذلك. فما هي المادة التي تتمثل في شعره؟ لا شك أنها اللغة، واللغة كما أعلم وتعلم هي الأداة المادية التي تشرح دخيلة الروح. ومع أن الدكتور قد جزم بأني لست ممن يصلحون لنقد لغة شعره وقد استحسنها من قبل أسياد كمصطفى جواد وغيره.!! فأنا أسير من حيث بدأت، فليست القضية قضية نحو وصرف وبيان وبديع، بل قضية ذوق شعري ولغة شعرية. وإذا شئت فقل قضية فنية بحتة، ويحسن بأولئك المدرسيين أن يتركوا الساحة قليلا، ويريحوا الناس من الإعراب والبناء التقدير، فهذا أمر تافه يدركه صبية المدارس، وقد أفنى الأقدمون فيه كثيرا من الوقت والجهد، وقد جاء هؤلاء في آخر القافلة
أقع بنظري على قصيدته التي أراد أني يفحمني بها، والتي أراد أن يبهر بها الناس فاقرأ:
نرى في البر الوان التناجي ... وفي البحر المشارف والعميق
أو قوله:
كأن الحسن ذاب بكل لون ... نراه وفي المياه وفي الطريق
اللهم أين كافر بالشعر إن كان هذا من الشعر، وكافر بأقوال مطران إن كان قد استحسن هذا القول مطران، وكافر بالأدب إن كان في رجال الأدب من يستسيغ هذا ويعجب به
أؤكد للدكتور أني غير موفق في انتقاء ما ينتقد. لكنني استعرض هذا وأمثاله. وقد يرى فيه مصطفى جواد أو غير مصطفى جواد منتهى الإجادة والبلاغة: أما أنا، أنا الشاك الذي بم يتكامل التجاوب الروحي بين نفسه وبين نفس أبي شادي، أنا الذي أسجل خطرات تشمئز(45/74)
منها نفس أبي شادي، ما أزال أرى يا للأسف في هذا الشعر وأضرابه ضعفاً شديداً. أرى فيه لغة صحفية ليست لغة فن ولا شعر، أرى الاعياه الذي ما بعده إعياء في التصوير والتعبير! وتبدو لعيني فكرتي التي بسطتها عن لغة الشرع التي أقول فيها. أنا افهم إن الشعر هو التعبير الراقي عن احساسات النفس، (وما كل إحساس يصلح أن يكون شعراً بل الإحسان العلوي أقصد).
وعلى هذا الشكل فهم العرب الشعر. فقالوا عن القرآن إذ سمعوه انه شعر.
ان في اللغة الشعرية سحراً وروعة وفنوناً وموسيقى ونغمات صوتية تراها في شعر امرئ القيس كقوله:
مكر مفر مدبر معاً ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
واراها في شعر عنترة، أو عمرو بن كلثوم، وفي الشعر الغربي ما أكثرها في شعر (ادكار بو أو في شعر (بودلير أو في شعر (فاليري وما كل كلام مفهوم بشعر، ولا يكفي الشاعر أن يميز بين المنصوب والمرفوع، وليس يكفي أن يعرف الشاعر البحر البسيط أو الطويل أو الرجز، كل هذه قشور لابد منها ولا أهمية كبرى لها لبساطتها، إنما بيت القصيد في تلك الروعة وذلك السحر، او في توقيع الموسيقى، وفي تلاؤم تلك النغمات الصوتية، وما في شعر أبي شادي شي من هذا.
. . . لغة الجرائد يا دكتور تعبر عن كثير من الآراء الصائبة والأخيلة الرائعة، ولكنها تفعل فعلها في وقتها ثم تنطوي تحت ذيل الزمن وتموت، وما كان للشعر أن يكون مثلها، إنك لا تستطيع أن ترى في لغة الصحف روعة وسحرا إلا نادرا أو إنك لا تزعم أن فيها فناً أخاذا. أما شعرك يا دكتور فهو شعر عربي كلماته صحفي في فنه وتعبيره، كأني بك تذكر حكاية ذلك الأعرابي الذي دخل إحدى الحواضر فسمع أهلها يتكلمون فما فهم شيئا. انهم يقولون كلاما عربيا ما في ذلك شك. لكن أسلوب التعبير غير عربي، وكلامك يا دكتور في شعرك لا يصطدم مع الفاعل ونائبه والصفة والتشبيه لا نادراً، وجل من لا يسهو، عربي في ألفاظه مفهوم في عسر أو في يسر، لكن أين الفن الراقي في التعبير في مثل قولك؟
هذه الدنيا لأحلام الأديب ... هذه غايات آمال الأريب؟(45/75)
أظن أن صاحب الملل والنحل لو امتد به الأجل ما قال قولته المشهورة (هذا شيء لا يعجز عنه إنسان) إلا في شعر يشابه شعرك. لا عجب يا صاحبي هذا شان البحر، فالبحر لا يقذف بالدر دائما، ولكنه يقذف بالزبد في كل حركة، والإنتاج الفني الذي هو التعبير الراقي عن احساسات النفس لا يأتي عفو الخاطر، فإذا تحدثت إلى سيدي الشاعر عن اللغة أفلا يجدر بي أن أحدثه عن روح الشعر وعن المناسبة الشعرية. وعن الظروف التي تستدعي قرض الشعر.
لا أكتمك يا دكتور أني ممن يلقون بنفسهم بينكم معشر الشعراء، في المتن أو في الهامش، لا أدري، لكني من جماعتكم على كل حال شئتم أو أبيتم، وما أكثر أمثالي بين الشعراء، يكاد أحدهم يبعد عن محراق الفلك الشعري زهاء مائة كيلومتر، ويزعم بعد ذلك أنه من كبار الشعراء. أعذرني فأنا أناني مثلك، وأنا عندما أحدثك عن أنانيتي يجدر بي أن أشرح لك شيئاً من ذات نفسي كشاعر لا كنا قد. . . الموضوعات التي تستدعيني إلى النظم كثيرة يا دكتور، ونفسي دائمة الاضطراب والجموح. دائمة الحركة والثورة، هي متمردة متقلبة، ترى في كل ساعة موضوعات للكتابة، لكنني أكبح جماحها. أحول هذا الشعور الحاد إلى اللاشعوري ليتم نضجه، فإذا فرغت منه انصرفت إلى غيره، ففعلت به ما فعلت بالأول، وأنا بين هذا وذاك أمزج بين الشعور الهادئ المتزن وبين الشعور الحاد الجامح ثم اكتب. وبعد أن أنهي عملي ادفعه واهمله، واشعر ان عبئا قد أزيح عن كاهلي، أقبره لانه لم ينضج، تمر عليه أيام كثيرة أتناوله فيها بالتبديل والتغيير والمسخ، او بالتهذيب والترتيب والتنسيق، ولعلي ما أتممت شيئاً حتى الآن، فترضى عنه نفسي، وكيف أشرح نفسي للناس، وهم اجهل من ان يفهموها على وجهها، وكيف أبرز للناس وما أنا ممن يستطيعون التعبير عن مصائبهم وآلامهم وثورتهم، حسبي أنني لم أعرض شعوري فكيف اعبر عن مشاعر الناس، انهم يطلبون رعداً وبرقاً، وهم على حق فيما يطلبون، فهناك وطن يقتسم، وهناك بلاد يحتلها العدو والغريب، وهناك شرف صار إلى الرغام، وهناك مجد قد أفل، وهناك مجد الأمس وبؤس اليوم، وتاج الاجداد، وقبر الاحفاد، وحق للشاعر أن يرعد ويبرق، وأن يدفع الغمام الساجي المدلهم ليمطر، أما أنا فأني سائر في طريقي، وأرجوا أن أصل إلى ما اصبوا إليه، سأرعد وسأبرق، وسأنفخ في الرمم وسأصيح بالموتى ولكن. . .(45/76)
ليس الآن، عندما تهدأ نفسي من جنون الشباب، عندما يأخذ قلبي في النظر العام الشامل، ففي ذلك الوقت استطيع أن ارضي نفسي وأرضي غيري، أما الآن فلا. وإن الجمهور ليطلب إلى الشاعر بكاء ونواحا، ويحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه ما اكثر شعراء البكاء في بلادنا، أما أنا فلم يبق في عيني دمع انضح به شهوات الناس. أني غدوت كشبح متحرك يراه الناس فيحسبون فيه القوة والجبروت، وأبصره أنا على وجه لا يرونه به. ماذا تبقى يا صاحبي، أنني أرى الناس، بل كثيرة الشعراء في واد، وأنا في واد، إنهم يتكلمون عن السماء وأنا اكلم عن الارض، أنهم يتكلمون على العالم باسره، وانا لا أتتكلم إلا عن (حديقتي). فإذا شعرت بهذا انصرفت إلى ألغازي التي حبرتها، وأوهامي التي نسجتها وصبغتها بألوان الجمال والقوة والحكمة، فتعينني في بلواي، بل كيف اقذف بها إلى الناس. وهيهات أن تلذ الناس، ما أنا طامح في رضاهم، ولا أنا خائف من شرهم، خير لي أن أعيش في حديقتي، أبذر وأقبر وأنتج واقتل، حتى لا تستطيع اليد قتلا، وحتى الضعف اليد عن حفر القبور.
أرأيت يا دكتور كيف أبعد عن الغرض الذي أسعى إليه، بل أرأيت كيف أسرف في الشطط. فقد أرهقتك وأرهقت القراء بهذر من القول لا طائل تحته، وإنما هي أقوال تلوح لذهني فاعلق بها على الرؤى التي تلوح لعيني، ما كان أجدرني يا دكتور إلا اكتب ولا أثير حفيضتك وإلا اضطر نفسي إلى الجواب، ربما كنت بعيداً كل البعد عن مذهبي في الشعر، فأنت تنحو في شعرك ناحية تسميها إنسانية عالمية، وأنا أرى أن الحياة قبل التفلسف، وعلينا أن نعمل للسير قبل الكمال، وأن نعمل للحياة قبل الجمال، وأن نعمل للحركة قبل الفن - إن صح أن هناك فناً - وأن على الشعراء واجباً نحو وطنهم وأمتهم، بل إن عليهم واجباً نحو أنفسهم، ماذا تستطيع النفس المقيدة الملجمة أن تنتج، ربما فهمت قولي يا دكتور وأولته على أني معك على مذهبك. كلا: فأنا لا أرى الشعر كتاريخ لنفس الإنسان: إنني أرى إن الشعر لا يرسم إلا الخطوط الأساسية من نفس الإنسانية جمعاء، وبقية الفنون والعلوم تلبس هذه الخطوط أثواباً فضفاضة من المادة والروح.
إنني استغفر الله يا دكتور، فما أردت سوءاً، وما كنت مغرضاً ولا ناقماً، لكنني من خدام الحقيقة. أريد أن اقبس من نورها ولو نالني من الناس ما اكره، أنا لا أريد أن أبني لنفسي(45/77)
ذكراً على أشلاء الناس، ولكني أبحث عن ضالتي المنشودة
على إنني شاكر لك أن أتحت لي الانطلاق من جمود مميت، ومن حيرة قتالة كنت أعيش في ظلا مهما.
أنني أتسلى لا اكثر ولا اقل، إنني أثير الغبار وسنرى وما ينجلي تحت الغبار.
حلب
(المرتيني)(45/78)
العدد 46 - بتاريخ: 21 - 05 - 1934(/)
مدينة سبأ
للدكتور طه حسين
كان الأديب الفرنسي ملرو نائماً كاليقظان، أو يقظان كالنائم، ولا تجد في ذلك شيئا من الغرابة، فنوم الأدباء البارعين يقظة، لأنه مملوء بالأحلام التي قد تكون من الصدق والدقة، ومن الخصب والإنتاج بمنزلة لا يبلغها الحق نفسه في كثير من الأحيان. ويقظة الأدباء نوم، لأنهم يشغلون فيها عما يحيط بهم من هذه الحقائق الممكنة الواقعة بما يملأ رؤوسهم من هذه الخيالات والأوهام التي تدنو من نفوسهم حتى تصبح كأنها جزء منها، وتبعد عن متناولهم حتى تصبح كأنها النجوم وهم يعجبون بقربها منهم فيطمعون فيها ويطمحون إليها، وهم يشفقون من بعدها عنهم فيحلون في طلبها ويجدون في إدراكها، ويكلفون في بلوغها أعنف الجهد وأشق العناء.
كان الأديب الفرنسي ملرو إذن نائما كاليقظان، أو يقظان كالنائم. كان في ساعة من هذه الساعات الحلوة التي يقضيها الأدباء مستمتعين بلونين من الحياة، أحدهما مختلط مضطرب شاحب، وهو لون الحياة الواقعة. والآخر واضح جلي ناصع، وهو لون هذه الحياة التي يحيونها بين الخيالات والأوهام. وانه لفي ذلك وإذا غانية حسناء رائعة الحسن، جميلة بارعة الجمال، غريبة الزي، لم ير مثلها قط فيمن رأى من غانيات باريس، وفاتنات غير باريس من المدن الأوربية التي زارها بل لم ير مثلها فيما رأى من الصور والرسوم التي تنقل للناس ما حفظته ذاكرة التاريخ القديم والمتوسط والحديث من ملامح الغانيات وأشكالهن وأزيائهن، وكانت تتراءى له من بعيد لا يكاد يراها حتى يفقدها، ولا يكاد يفكر فيها بعد فقدها حتى تتراءى له من جديد، فلا يكاد ينظر إليها حتى تستخفي، ولا يكاد يستأنف التفكير فيها حتى تبدو. وكانت إذا تراءت له ملأت الجو من حوله عبيراً وعرفا لم يحس مثلهما قط فيما أحس من الأعطار المصنوعة ومن الاعطار الطبيعية، ومن شذى الرياض وعرف الغابات، وكانت إذا استخفت ذهب معها هذا العبير، إلا بقية ضئيلة تضطرب في الجو، كأنها البقية الضئيلة من شعاع الأمل. فكانت نفس الأديب الفرنسي ملرو تتعلق بهذه البقية الضئيلة من العبير، كما تهيم بهذا الشخص الجميل الرائع الذي كان يبدو ويستخفي في سرعة كوميض البرق. ولو أن هذا الخيال عرض لرجل مثلك أو مثلي(46/1)
على هذا النحو وهو نائم لأيقظه، أو عرض له وهو يقظان لذاد عنه كل وهم أو خيال، ولدفعه إلى حياة عنيفة متنبهة تشبه الجنون. ولكنه لم يعرض لك ولم يعرض لي، وإنما عرض للأديب الفرنسي ملرو. ولهذا الأديب قوة ساحرة فيما يظهر، تمكنه من مقاومة الحق الذي يوقظ النائمين، ومن مقاومة الوهم الذي ينيم الإيقاظ، وتمسكه في حال بين الحالين، ومنزلة بين المنزلتين، فإذا هو نائم كاليقظان ويقظان كالنائم. وقد دعا إليه سحره هذا، فأعانه السحر على أن يظل على الحدود بين المملكتين مملكة اليقظة، ومملكة النوم. مملكة الحقيقة الباطلة التي يضطرب فيها مثلك ومثلي من الناس، ومملكة الخيال الصادق التي يضطرب فيها الأدباء والشعراء، وظل في مكانه يرى هذه الجنية، ويتنسم عبيرها إذا ظهرت له، ثم يتعلق بما بقى من نشرها ويهيم بخيالها إذا غابت عنه، وكأن هذه الجنية كانت تريد أن تعبث بالكاتب الأديب ساعة من نهار أو ساعة من ليل، وما أكثر ما تعبث الجن بأبناء الإنسان. ولكن الأديب الفرنسي ملرو، كان من البراعة والمهارة، ومن السحر واللباقة، بحيث استطاع أن يعبث بهذه الجنية الماكرة الماهرة، وأن يكرهها على أن تبيح له سرها، وتلقي عنه ما بينها وبينه من الأستار. واكبر الظن أن الأديب الفرنسي ملرو، إنما تعلم هذا الفن الذي يستغوي به الجن من رياضة بسيطة، ما اجدر أدباءنا وشعراءنا أن يتكلفوها ويأخذوا أنفسهم بها، وهي رياضة الصيد في الأنهار والغدران. فهذه الرياضة تحتاج إلى صبر طويل، طويل جداً، والى لباقة ودقة قلما تحتاج إليهما الرياضات الأخرى، وقد يمكث الصائد على شاطئ الغدير ساعات طوالا جداً، ينتظر الصيد فيصيبه أو لا يصيبه، ولكنه لا ييأس على أية حال.
ظل الكاتب الأديب ملرو، في حالة هذه بين الحالين، وفي مقامة هذا بين المملكتين، وظلت الجنية تبدو له فيستقبلها، وتغيب عنه فيتبعها، حتى سئمت منه هذا الصبر، وضاقت منه بهذا الثبات، واستيأست من ترويعه والعبث به، فوقفت منه غير بعيد وحدقت فيه تحديقا طويلا، لو حدقته في رجل مثلك أو مثلي لملأت قلبه رعبا، ولدفعته إلى الجنون دفعا، ولكن الأديب الفرنسي ملرو ثبت لمنظرها الجميل، وتحديقها الطويل، مبتسما في هدوء، ينظر إليها ولا يقول لها شيئا. وأخذت هي تدنو منه وتطيل النظر فيه، وهو ثابت لا يضطرب، ومستقر لا يريم، حتى إذا كانت منه بمكان النجى، سألته في لغة غريبة لم يسمع لفظها قط،(46/2)
ولكنه فهم معناها كما يفهم معاني اللغة الفرنسية حين تلقى إليه. سألته في هذه اللغة الغريبة، وفي ابتسام ليس اقل منها غرابة قائلة من تكون؟ لقد عرضت لكثير مثلك من الناس منذ عشرات القرون، فروعتهم ترويعا على اختلاف أجيالهم وبيئاتهم، وتفاوت درجاتهم في العلم والجهل، وفي الغفلة والذكاء، حتى اتخذت ترويع الناس لذة من أهون اللذات، إذا فرغت مما أنا فيه من أعمال الجد التي تحملني كثيرا من الألم والعناء. حدثني من تكون؟ ولا بأس عليك من أن تجيبني باللغة الفرنسية فسأفهمها عنك، كما تفهم أنت عني الآن هذه اللغة الحميرية، التي لا يتكلمها أحد من الناس في هذه الأيام، والتي يجد علماؤكم في قراءتها وتفسيرها، واستنباط قواعدها وأصولها. حدثني من تكون أيها الفتى الذي عجزت عن ترويعه والعبث به؟ قال الأديب الفرنسي ملرو، وهو ينظر هادئا مبتسما إلى هذه الجنية: بل حدثيني أنت من تكونين؟ فإني لم اعرض لك، وإنما عرضت لي، وإني لم احفل بك، وإنما حفلت بي، وإني لم ادن منك، وإنما دنوت مني، وإني لم أحاول سحرك بلحظ ولا لفظ، ولا حركة ولا عبير، فما ينبغي لك أن تسأليني، وإنما ينبغي لي أن أسألك. ومع ذلك فإني لم أسألك حتى بدأتني بالسؤال، ومع ذلك فإني قادر على أن أعفيك من الجواب وعلى أن أدعك تمضين في طريقك، فما اكثر من يعرض لي من أمثالك، وما اكثر ما أتحدث إليهن وما يتحدثن إليّ، ولئن فاتني أن أعرفك واسمع من أنبائك فقد عرفت من قبلك خيالات أخرى، أستطيع أن أستأنف لقاءها متى شئت، وان أقص عليها من أنباء الأحياء، وتقص على من أنباء الأموات. قالت الجنية أو قال الخيال: ما شد طغيانكم أيها الناس، إنكم لضعاف أشنع الضعف، ولكن المكر يجعل ضعفكم قوة، وذلكم عزة، وجهلكم علما. حدثني يا فتى من تكون؟ وإلا فإني قادرة على أن أسوءك، قال بل حدثيني أنت من تكونين، واستيقني انك لا تقدرين من الإساءة إلي على شيء، بل أنا قادر إن شئت على أن اغلق بيني وبينك الباب، واقطع بيني وبينك الأسباب. وأي شيء ايسر من أن امضي إلى هذه الناحية، فإذا أنا في مملكة اليقظة التي لا وهم فيه ولا خيال، والى هذه الناحية فإذا أنا في مملكة النوم العميق التي لا تستطيع الأحلام أن تدنو منها أو تجد إليها سبيلا. قالت فإني أراك على قوتك ذكيا ماهرا، تحسن الحوار وتعرف كيف تقطع الطريق على خصومك ومحاوريك. ما أرى ألا انك جني قد اتخذت شكل إنسان، وما أرى إلا إننا نستطيع أن نتفق(46/3)
فنعبث بالناس جميعا، ونكيد لهم جميعا، ونخدعهم جميعا ساعة من نهار، أو يوما من أسبوع. قال بل أشهرا كاملة من عام كامل، بل عاما كاملا من أعوام طوال، فحدثيني من تكونين أحدثك من أكون. واعلمي منذ الآن إني اكره ترويع الناس والعبث بعقولهم، فان الرجل الممتاز حقا هو الذي يحسن العبث بعقول معاصريه، فان استطاع مع ذلك أن يعبث بخيالهم وآمالهم وأيديهم وجيوبهم، فهو الرجل العبقري حقا. فحدثيني من تكونين أحدثك من أكون. فقد يخيل إلي أن سيكون لهذه الساعة في حياة الناس شأن. قالت وهي تبتسم ابتساما عريضا، وأنا أيضا أرى هذا. فهل سمعت شيئا من حديث تلك المملكة التي امتلأت بذكرها كتب القصص والتاريخ؟ قال أي مملكة تريدين؟ فما اكثر المملكات اللاتي ملأ ذكرهن كتب القصص والأدب والتاريخ. قالت في شيء من الدل، وهذا العرف الذي يملأ الجو من حولك، والذي يكاد يذهلك، لولا انك رجل ممتاز لا يعرف الذهول إليه سبيلا، ألا يدلك على شيء؟ قال بلى! انه يدلني على انك قد سريت من الشرق، فهذا العرف لا عهد لي بمثله إلا في كتب القصص والتاريخ. ألا تكونين قد أقبلت من بلاد اليمن، تلك التي تحدث عنها القدماء والمحدثون؟ قالت قد عرفتني، فأنا جنية من ارض اليمن، أقبلت اعبث ببعض أهل الغرب، وابحث للجن اليمانيين عن بعض الفرائس، فظفرت بك، قال بل وقعت في يدي، فمن أي بلاد اليمن أقبلت؟ قالت من تلك المدينة العظيمة التي كانت تملكها تلك الملكة القديمة العظيمة. قال ملكة سبأ؟ قالت هي هي!: قال وعلام نستطيع أن نتفق؟ قالت على أن نعبث بالناس شيئا. ثم نهدي إليهم بعد ذلك ما يعوضهم من هذا العبث احسن تعويض. ثم اتصل الحديث بينهما وانقطع، ثم اتصل مرة أخرى وانقطع، ثم اصبح الناس وإذا الأديب الفرنسي ملرو يمر بالقاهرة في طيارة قد أنشئت له، فيقيم في القاهرة يوما وبعض يوم، ثم يفارقها، ثم تمضي أيام ثم يخفق البرق بأنه قد استكشف مدينة سبأ في اقل من تسع ساعات!. طار من جيبوتي فعبر البحر ثم مضى حتى انتهى إلى الربع الخالي، وكانت صاحبته الجنية قد سبقته وضربت له موعدا في تلك العاصمة الجميلة، ورسمت له الطريق التي يجب عليه أن يسلكها رسما دقيقا صادقا، فلما انتهى إلى موعده صور من المدينة ما صور، لم يهبط إلى الأرض، ولكن جنيته صعدت إليه، ودلته على اجمل المناظر واجدرها أن يخلب الناس ويسحر ألبابهم. ثم عاد إلى باريس وقد سبقته إليها الأنباء. والناس من(46/4)
أمره بين الشك واليقين، فكتب المقالات، وألقى الأحاديث ونشر بعض الصور، فأما العلماء فأنكروا، وأي شيء ايسر على العلماء من الإنكار؟ وأما غير العلماء فصدقوا وأي شيء ايسر على غير العلماء من التصديق؟
ثم تنتقل الأنباء من أوربا إلى أمريكا عابرة إليها المحيط، فيضطرب العالم الجديد اضطرابا، وإذا البرنامج كله قد تحقق، دهش الناس ثم اضطربوا، ثم صدقوا، ثم اندفعوا، فكان العبث بالعقول، ثم بالخيال ثم بالأيدي، ثم بالجيوب، فإذا كان شهر نوفمبر، فان البعثة ستعبر المحيط، ثم تعبر البحر أيضا، ثم تمضي في الصحراء، وما اكثر ما في الصحراء العربية الجنوبية من بقايا المدن القديمة التي عرفها الناس والتي لم يعرفوها، ومن يدري!،! لعل هذه الجنية التي تراءت للأديب الفرنسي ملرو، أن تبر بالوعد، وتفي بالعهد، وتهدي إلى العلماء المنكرين وغير العلماء المصدقين، مدينة قديمة فيها من الآثار ما يعوضهم من هذا العبث الذي يخضعون له في هذه الأيام تعويضا حسنا.
لا ينبغي انم ننكر على الأدباء حياتهم هذه التي يمضون فيها مع الخيال والوهم، ويسمعون فيها لأحاديث الجن والشياطين، ويتبعون فيها آمالهم وأمانيهم، فان هذه الحياة لذيذة في نفسها بالقياس إلى الأدباء أنفسهم، وبالقياس إلى الناس حين يسمعون أنباءها. ثم هي في كثير من الأحيان خصبة منتجة، تبدأ بالحلم والوهم والأمل، وتنتهي إلى اليقظة والحق واليقين. لا ينبغي أن ننكر على الأدباء حياتهم هذه وإنما ينبغي أن نتمنى لأدبائنا وشعرائنا حياة مثلها يملؤها الوهم والخيال والأمل، ويملؤها النشاط والجد والعمل والصبر على احتمال الجهد، وعلى احتمال السخرية والاستهزاء بنوع خاص.
طه حسين(46/5)
الزلة الأولى
للكاتب الفرنسي لامنيه
بقلم احمد حسن الزيات
قطعة رائعة التمثيل جليلة المغزى للامنيه، وهو علم من أعلام الأدب الفرنسي، وفيلسوف من فلاسفة المذهب الكاثوليكي، وخطيب بليل اللسان من خطباء الدين والسياسة، ولد سنة 1782 في بلد زعيم البيان الفرنسي (شاتوبريان)، ثم طار في جوه، فنشأ مثله لطيف الوجدان، خصب المخيلة، وثاب الفكر، صحيح الرأي لا يخضع لنظام، ولا يستكين لحادث. دخل الكنيسة راهبا، ثم الجمعية العمومية نائبا، فنصر الله في الأولى والحرية في الثانية. ثم صبا في سياسته إلى الاشتراكية، وفي عقيدته إلى الأرثوذكسية، وحاول أن يقيم المسيحية على دعائم جديدة من الوضوح والبساطة. فلقى في سبيل هذه الآراء الحرة سخط البابا وغضب الكهنوت وعنت الساسة.
أما أسلوبه فخطابي شعري يعتمد على الصور الحية والتشابيه القوية، ويسلك فيه مسلك (بوسويه) في احتذاء الإنجيل، واقتباسه منه أسلوب الرمز والتمثيل.
وهذه القطعة التي ننشرها اليوم تمثل شبق الإنسان إلى شهوة البهيمية وحاله بعدها، فمثل الشهوان كمثل الظمآن يتحرق إلى اللذة الآثمة، كما يتحرق هذا إلى الكرمة اليانعة، ودون هذه اللذة آثام وأجرام ورجس، كالمستنقع الذي يحول بين الظمآن وبين عصير العنب. وهنا يتصارع العقل والهوى، وتوازن النفس بين نتانة الوحل وبين برودة العنب، فيستخف الشهوان بالخطيئة اعتمادا على التوبة، كما يستخف الظمآن بالوحل اعتماداً على الغسل، ولكن هيهات! لابد للجرح من اثر. وللنتن الخبيث من ذفر
قال لامنيه:
برح به أُوار القيظ، وبلغ منه سُعار العطش، فأرسل طرفه في الفضاء، فرأى في حضيض الأكمة كرما تهدلت أغصانه وتدلت عناقيده. فهفا قلبه من الفرح، وتاقت نفسه إلى بلوغ الكرم لينقع بثمره أوامه، وينضح بشرابه كبده، ولكن بينه وبين الأكمة مستنقعا لا مناص من خوضه، وقف موقف الحائر لا يدري أيقدم أم يحجم؟ فتارة تدفعه حرارة الظمأ، وتغريه(46/6)
برودة العنب وطراءة الكرم، وتارة تقعد به وخامة الطين ونتانة الوحل.
فلما لاحه العطش سولت نفسه إليه أن المستنقع قد يكون قريب الغور سهل المعبر، فما الذي يمنعه أن يجرب ما يفعله كثير من الناس؟ على انه لا يلوث غير قدميه، وذلك أذى في جانب ما يبغيه قليل.
أطاع هواه واستجر لشيطانه، فوضع قدميه في النقع حتى غاص فيه إلى ركبتيه. فوقف مترددا مرتابا يداور الأمر في نفسه ويقول: لعل الرجوع أخف مئونة وأحمد مغبة، ولكن الكرمة وعناقيدها أمامه، والريق قد عصب من الظمأ فاه. . . فقال في نفسه: أما وقد بلغت ما بلغت فليس من الرأي أن ارجع فيذهب ذلك العناء باطلا، لا ينبغي بعد هذا أن اكترث لما ألقى من الوحل قل أو كثر، فسأعود نقي الجسم طاهر الثوب إذا ما اغتسلت في أول نهر أجده.
أمضى على هذه الفكرة عزمه وتقدم، فبلغ الطين صدره، ثم عنقه، ثم شفتيه، وما لبث أن طم فوق رأسه، فضاق صدره وحشرجت أنفاسه، وكاد يصرعه الخُناق لولا أن استجمع قواه ونهض نهضة بلغت به جانب الأكمة.
خرج والحمأ المسنون يسيل من أعضائه، فأكل من الشجرة التي اشتهاها حتى اكتظ، ثم نظر إلى نفسه فأخجله ما رأى من بشاعة منظرة وقبح زيه، فخلع ثيابه وطفق يبحث عن ماء رائق يطهر به نفسه، ويذهب عنه رجسه ولكن هيهات أن يتم له ما يريد! انه مهما فعل فان الرائحة الخبيثة باقية تسطع في الأنوف وتدفع في الحلوق.
لقد نفذت أبخرة المستنقع في لحمه وعظمه، ثم أخذت تفوح وتنشر، فكونت من حوله جواً فاسداً عفناً لا يطيق الصبر عليه إنسان، ولا يستطيع الدنو منه أحد.
لقد أراد أن يكون مع الزواحف فليكن كما أراد!(46/7)
سبيل الخلاص من الامتيازات الأجنبية
للدكتور عبد الرزاق احمد السنهوري
أستاذ القانون المدني بكلية الحقوق
- 2 -
ذكرنا في العدد السابق المقترحات الخاصة بالتشريع في المعاهدة التي تعرض الحكومة المصرية على الدول ذوات الامتيازات إبرامها. فننتقل بعد ذلك إلى القضاء ثم إلى الإدارة.
2 - القضاء
نقترح أن تنص المعاهدة على إنشاء محاكم مصرية جديدة تحل محل المحاكم المختلطة، ويتناول اختصاصها ما يأتي:
(1) القضايا المدنية والتجارية فيما بين الأجانب المتمتعين بالامتيازات الأجنبية دون غيرهم، بما فيها قضايا الأحوال الشخصية، وكذلك القضايا المدنية والتجارية ما بين مصري وأجنبي متمتع بالامتيازات الأجنبية. ويستثنى من ذلك القضايا العقارية فتكون من اختصاص المحاكم الأهلية مطلقا، حتى لو كان الخصوم جميعا من الأجانب وتكون العبرة في الاختصاص بشخصية الخصوم الحقيقية، فلا ينظر إلى الصالح المختلط، ولا يعتد بتحويل الحق إلى أجنبي تحويلا صوريا. وينص على جواز الاتفاق مقدما فيما بين الأفراد على التنازل عن اختصاص هذه المحاكم الجديدة، كما ينص على جواز التنازل عن هذا الاختصاص باتفاق الخصوم فيأية حالة كانت عليها الدعوى، ويكون الاختصاص في هذين الفرضين للمحاكم الأهلية.
(2) القضايا الجنائية التي يكون المتهم فيها أجنبيا متمتعاً بالامتيازات، وإذا تعدد المتهمون وكان فيهم مصري كانت القضية من اختصاص المحاكم الأهلية حتى بالنسبة للمتهمين الأجانب، منعا لتضارب الأحكام -
أما تشكيل المحاكم الجديدةفيكون على الوجه الآتي:
(1) محكمة استئناف يكون نصف عدد المستشارين فيها مصريين والنصف الآخر من الأجانب. وتشكل في هذه المحكمة دوائر مدنية وجنائية يكون عدد أعضاء كل دائرة منها(46/8)
ثلاثة (بدلا من خمسة)، ولا يكون تشكيل الدائرة صحيحا إلا إذا كان أحد أعضائها على الأقل مصريا.
(2) ثلاث محاكم ابتدائية في القاهرة والإسكندرية والمنصورة، ويكون نصف القضاة في كل محكمة من المصريين والنصف الآخر من الأجانب، وتشكل الدوائر في هذه المحاكم على الوجه المبين في تشكيل دوائر محكمة الاستئناف. والمحاكم الابتدائية جائزة للمصريين وللأجانب على السواء، فإذا انتخب أجنبي للرياسة وجب انتخاب مصري للوكالة. وإذا جلس في الدائرة اكثر من عضو مصري تكون رياسة الدائرة حتما لمصري. ويكون أعضاء النيابة العمومية كلهم مصريين، عدا النائب العام أما لغة هذه المحاكم الجديدة فتكون اللغة العربية للدوائر التي يرأسها مصري، وإحدى اللغتين العربية أو الفرنسية للدوائر التي يرأسها أجنبي على أن تقرر الدائرة أي اللغتين تستعمل في القضايا المختلفة.
وقد لا حظنا في هذه المقترحات إن بعضها قد أقرته إنجلترا في مفاوضاتها مع مصر، كما في المذكرة البريطانية التي سبقت الإشارة إليها (أنظر الكتاب الأخضر ص9 - ص10) وكما جاء في مشروعات هرست المعروفة. والعض الآخر تحتمه العدالة، ويستوجبه تقدم مصر في مدى ستين عاما انقضت منذ إنشاء المحاكم المختلطة الحالية، مما يقتضي تمصير المحاكمالجديدة مع الاحتفاظ بالعنصر الأجنبي فيها. والفكرة الأساسية في هذه المقترحات أن ينقل اختصاص المحاكم القنصلية إلى المحاكم الجديدة، فلا يعود يوجد من المحاكم في مصر إلا ما كان مصريا. وفي الوقت الذي يتسع فيه اختصاص المحاكم الجديدة على حساب المحاكم القنصلية يضيق فيه هذا الاختصاص لحساب المحاكم الأهلية. فنسترد لاختصاص محاكمنا الأهلية القضايا العقارية، وقد قدمنا أن الامتيازات الأجنبية لا تمنع من ذلك، وان الأجانب لم يسمح لهم بتملك عقارات في البلاد العثمانية إلا بشرط أن يخضعوا لقوانين البلاد ومحاكمها فيما يتعلق بهذه العقارات. ونسترد أيضا ما انتزعته المحاكم المختلطة من اختصاص المحاكم الأهلية من طريق التوسع في التفسير توسعا يصطدم مع النفق القانوني الصحيح. فنقصر كلمة (الأجنبي) على من كان تابعا لدولة متمتعة بالامتيازات، حتى يدخل في اختصاص المحاكم الأهلية قضايا الأجانب غير المتمتعين بالامتيازات وقد اصبحوا الآن كثيرين. وهذا حقنا، لا يجوز إنكاره علينا، ومع ذلك فقد أنكرته المحاكم المختلطة الحالية،(46/9)
ولم يجد في إقناعها تعديل المادة 15 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية بما يتفق مع هذا الحق. ثم نقضي على نظرية الصالح المختلط التي استطاعت المحاكم المختلطة الحالية من ورائها أن تمد اختصاصها إلى قضايا فيها كل المتقاضين مصريين، بدعوى إن هناك مصلحة لأجنبي في الدعوى، ولو كانت هذه المصلحة ليست هي بالذات موضوع النزاع. وطبقت هذا المبدأ على الشركات ولو كانت مصرية، فأدخلتها في اختصاصها مادام فيها مساهم أجنبي. وطبقته كذلك على حجز ما للمدين لدى الغير، فقضت باختصاصها ولو كان كل من الدائن الحاجز والمدين المحجوز عليه مصريا مادام المحجوز لديه أجنبيا. وليس للمحاكم المختلطة في كل هذا سند قانوني إلا نص المادة 13 من لائحة ترتيبها، وهذه لا تعرض إلا لحالة استثنائية لا يجوز التوسع في تفسيرها، ومن باب أولى لا يجوز القياس عليها. ثم نضع حدا للاحتيال على جعل قضية من اختصاص المحاكم المختلطة من طريق تحويل الحق المتنازع فيه إلى أجنبي تحويلا صوريا. ونفسح المجال لاتفاق الخصوم على اختصاص المحاكم الأهلية حتى لو كان بينهم أجنبي، سواء أوجد هذا الاتفاق وقت رفع النزاع أم كان قد تم قبل ذلك، وبهذا نمهد السبيل لمد اختصاص المحاكم الأهلية إلى الأجانب الذين يرتضون هذا الاختصاص.
وراعينا بعد ذلك أن تكون المحاكم الجديدة، وهي مصرية، غير مقصورة في مصريتها على الشكل دون الجوهر، كما هو شأن المحاكم المختلطة الحالية. فطلبنا أن يكون نصف قضاة المحاكم الجديدة مصريين حتى نضمن بذلك أن تكون هناك دوائر، غالبية القضاة فيها مصريون ورئيسها مصري ولغتها العربية، وان يكون نصف أعضاء الجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف - ولها اختصاص تشريعي كما قدمنا - من القضاة المصريين. واجزنا رياسة المحاكم للمصريين وحتمنا أن تكون الوكالة لهم إذا كان الرئيس أجنبيا وبذلك يكون العنصر المصري في المحاكم الجديدة معادلا للعنصر الأجنبي وهذا هو العدل، فان المصالح المصرية التي تقضي فيها هذه المحاكم لا تقل في الأهمية والخطر عن المصالح الأجنبية إن لم تزد عليها. هذا إلى أن المحاكم مصرية، تجلس في ارض مصرية، وتحكم باسم مليك البلاد، وتتقاضى نفقاتها من خزينة مصر، وتنفذ السلطات المصرية أحكامها فإذا طلبنا بعد كل هذا أن يكون نصف القضاة مصريين فلا نكون قد ارتبكنا شططا بل نحن معتدلون، فما(46/10)
زلنا نفسح المجال واسعا للعناصر الأجنبية: نصف القضاة منهم، ولهم أن يرأسوا المحاكم والدوائر، وللدائرة التي تتشكل من غالبية أجنبية أن تتخذ الفرنسية لغة للتقاضي، وهذه الغالبية الأجنبية مكفول توافرها في نصف الدوائر. أليس في كل هذا ضمان كاف نقدمه للأجانب حتى يطمئنوا إلى قضاة المحاكم الجديدة؟
3 - الإدارة
نرى أن تنص المعاهدة على إلغاء كل القيود التي تضعها الامتيازات الأجنبية على سلطة الإدارة المصرية. فيصبح لرجال الإدارة السلطة في القبض على المجرمين الأجانب وتفتيشهم وتفتيش منازلهم ومحال أعمالهم دون تدخل القناصل. ويكفي ضمانا للأجانب أن يجعل هذا من اختصاص رجال ضبطية خاصة تلحق بالمحاكم الجديدة، وتوضع تحت إشراف النائب العام أمام هذه المحاكم، ولا بأس من اختيار هذا النائب من بين الأجانب مادمنا قد نقلنا الاختصاص الجنائي للمحاكم القنصلية إلى لمحاكم الجديدة، على أن يكون النائب العام وحده هو الأجنبي دون سائر أعضاء النيابة، هؤلاء يجب أن يكونوا مصريين كما قدمنا. وإذا كان لابد من تقديم ضمانات أخرى. فلا بأس من إدخال عنصر أجنبي لا يزيد على النصف بين رجال الضبطية القضائية الخاصة التي أشرنا إليها.
ومادمنا قد جعلنا اختصاصات الضبطية القضائية بالنسبة للأجانب في يد هيئة خاصة فيها عنصر أجنبي وهي تحت إشراف النائب العام الأجنبي فانه لم تعد هناك حاجة للضمانات التي تطلبها إنجلترا مما جرت على تسميته (بالبعثة الإنجليزية) في البوليس المصري، وهي البعثة التي ورد ذكرها في المفاوضات التي دارت بين البلدين. كذلك لا حاجة إلى وجود مستشار قضائي ومستشار مالي، فإذا كان لابد من وجودهما وجب تحديد اختصاصهما والمدة التي يبقيان فيه تحديدا ضيقا، بحيث لا يتنافى وجودهما مع سيادة الدولة، ولا يؤيد دعوى الإنجليز في حماية المصالح الأجنبية، ولا يتعارض مع المسئولية الوزارية.
وغنى عن البيان أن الإدارة المصرية تستبقي حقها مطلقاً في إبعاد الأجانب غير المرغوب فيهم عن مصر، فان هذا هو حقها في الوقت الحاضر لم يؤثر فيه وجود الامتيازات الأجنبية ولا قيام المحاكم المختلطة. كذلك يكون للإدارة المصرية وللهيئة التشريعية اتخاذ(46/11)
التدابير اللازمة لمنع التدابير اللازمة لمنع المهاجرة إلى مصر أو تقيدها إذا استلزمت مصلحة البلاد ذلك. وللحكومة المصرية الحرية الكاملة في عقد معاهدات مع الدول بشأن تسليم المجرمين الفارين. كل هذا نذكره لا لأن هناك شكا في الحكومة المصرية تملكه، فانه لا يوجد أحد ينكر عليها هذه الحقوق التي لم تتأثر بالامتيازات الأجنبية، وإنما نقرره هنا لأنه ورد ذكره في مشروعات هرست المعروفة، وكان يراد تضيق سلطة الحكومة المصرية فيه فنرجع إلى الوراء بدلا من أن نتقدم إلى الأمام. هذه هي أسس المعاهدة التي نقترح أن تعرضها الحكومة المصرية على الدول ذوات الامتيازات. وقد راعينا في وضعها ألا تتضمن من المبادئ والأحكام إلا ما أقرته إنجلترا نفسها في المفاوضات التي دارت بينها وبين الوزارات المصرية المختلفة، وإلا ما كان متفقاً مع العدالة وما تستدعيه حالة البلاد من تعديل النظم القائمة. وهذه الأسس هي الحد الأدنى لما تطلبه البلاد في الوقت لحاضر، على أن تسترد الدولة المصرية سيادتها كاملة متى حانت الظروف المناسبة. وإذا كنا في حاجة إلى إقناع أحد بصلاحية هذه الأسس فليست هي الدول ذوات الامتيازات التي تحتاج إلى ذلك، وهي تعرف حق المعرفة أن هذه المطالب، عادلة معتدلة، وإنما حاجتنا هي إقناع الجانب المصري نفسه بالاقتصار على هذه المطالب، بعد أن دوت صرخة الرأي العام تنادي بإلغاء الامتيازات الأجنبية دون الإبقاء على أي اثر منها. على أننا إذا كنا استبقينا بعض هذه الآثار في المعاهدة المقترحة، فإنها لا تبقى إلا في فترة الانتقال من حالتنا الحاضرة إلى حالة أخرى تعود فيها إلى مصر سيادتها الكاملة. ولذلك جعلنا المعاهدة مؤقتة، وأعطينا لمصر حق إلغائها بإعلان يصدر من جانبها. وقد تكون فترة الانتقال هذه ضرورية في الوقت الحاضر، حتى لا نباغت البلاد بتغيير فجائي طفرة واحدة.
فإذا عرضت هذه الأسس على الدول ذوات الامتيازات، فقد تقبلها هذه الدول جميعها، أو قد يقبلها عدد كبير منها (والعبرة بعدد الرعايا لا بعدد الدول) وفي هذه الحالة تعقد المعاهدة مع الدول التي قبلت، ولا نعتد بالأقلية التي لم تقبل، فهذه لا تلبث أن تنضم إلى المعاهدة، كما فعلت فرنسا في سنة 1876. وينتهي الأمر عند هذه الخطوة الثانية. أما إذا لم تقبل الدول هذه الأسس، فعلى الحكومة المصرية أن تخطو في التدابير التي تتخذها الخطوة الثالثة وموعدنا بتفصيلها العدد المقبل.(46/12)
عبد الرزاق السنهوري(46/13)
لا غالب إلا الله. .!
للدكتور عبد الوهاب عزام
ذهبت البارحة إلى مسرح الحمراء. قد سمى الأوربيون كثيراً من ملاهيهم باسم الحمراء بعد أن حرفوه إلى الهمبرا. سألت نفسي في لطريق كيف حرف الاسم هذا التحريف؟ فقالت: إن الزمان ليطمس الأعيان ثم يذهب بالآثار، فما إبقاؤه على الأسماء؟ أشفقت من هذا الحديث أن أتغلغل فيما وراءه من الآم وأحزان، فقلت: فيم الفرار من الكد والعناء إلى هذا الملهى إن بدأت حديثه بالمراثي والمصائب؟
أخذت مكاني بين الجالسين فسرحت طرفي في طراز عربي من البناء والنقش، وإذا منظر يفتح لي من التاريخ فجاجاً ملأى بالأهوال والعبر. لبثت أتأمل البناء متحرزاً أن اجتازه إلى ما وراءه من خطوب التاريخ. ومازالت أصوب النظر واصعده في المسرح حتى جمد البصر على دائرة في ذروته لاحت فيها أحرف عربية، فكنت وإياها غريبين في هذا الجمع (وكل غريب للغريب نسيب) بل كنت وإياها نجيبين في هذا الحفل لا يفهمها غيري، ولا تأنس من الوجوه الحاشدة بغير وجهي. أجهدت البصر الكليل في قراءة الأحرف فإذا هي (لا غالب إلا الله) يا ويلتاه!
شعار بني الأحمر الذي حلوا به قصورهم ومساجدهم.؟ إنها لسخرية أن توضع هذه الكلمة الجليلة في هذه الكلمة في هذا الملهى، وأي جليل من ماضينا المجيد لم يتخذه القوم سخرية؟ قرأت هذه الكلمة فإذا هي عنوان لكتاب من العبر، قلبته صفحة صفحة ذاهلاً عما حولي فلم انتفع بنفسي في مشهد اللهو واللعب، ولم تحس أذني الموسيقي والغناء. أغمضت عيني عن الحاضر لأفتحها على الماضي. وصمت الأذن عن ضوضاء المكان، لتصيخ إلى حديث الزمان.
وناهيك بجولان الفكر طاوياً الإعصار، منتظما البوادي والأمطار، واثبا من غيب التاريخ إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى غيب التاريخ.
شهدت في ساعة جيوش طارق غازية من الزقاق إلى البرتات، وشهدت مصرع عبد الرحمن الخافقي في بلاط الشهداء، وشهدت جلاد الأجيال من المسلمين والأسبان، ورأيت الناصر في حربه وسلمه ملء العين جلالاً ورهبة، وملء القلب عدلاً ورحمة.(46/14)
ورأيت البطل ابن أبي عامر يحالف الظفر في خمسين غزوة، ويبعد المغار حيث نكصت الهمم والعزائم من قبله. ورأيت دولة الأمويين تزلزل فتتصدع فتنهار، وأبصرت ملوك الطوائف يتنازعون البوار والعار، ويؤدون الجزية إلى الفونس السادس صاغرين. ثم سمعت جلبة جيوش المرابطين يقدمها يوسف بن تاشفين، وشهدت موقعه الزلاقة القاهرة، ثم رأيت راية المرابطين تلقف رايات ملوك الطوائف. وهذه دولة الموحدين، وهذا المنصور يعقوب بن يوسف في موقعه الأرك يحطم جيوش الأسبان بعد الزلاقة بمائة عام. ورأيت موقعه العقاب وقد دارت على المسلمين دوائرها. والناصر ابن يعقوب يفر بنفسه بعد أن اقتحمت عليه المنايا دائرة الحراس ورأيت غرناطة وحيدة في الجزيرة يتيمة، قد ذهبت أترابها، وصارت كما قال طارق يوم الفتح: أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، ولكنها على العلات، ورثت مجد المسلمين وكبرياءهم فجالدت الدهر عن نفسها مائتين وخمسين عاما، وحمت حضارة المسلمين على رغم النوائب وكلب الأعداء. ثم رأيت أشراط الساعة - رأيت أبا الحسن وأخاه محمدا يتنازعون السلطان على مرأى من العدو ومسمع، ورأيت أبا عبد الله ينازع أباه أبا الحسن. ذلك الملك المائل، والظل الزائل، ورأيت العراك المديد بين أبي عبد الله وعمه الزغل كما تتناطح الخراف في حظيرة القصاب. وتلك جيوش فرديناند وايزابلا تنيخ على مدينةبعد أخرى، وتدك معقلا بعد آخر، ومالقة تجاهد الكوارث جهاد المستميت، والزغل يشق الأهوال إليها لينقذها، فيقطع أبو عبد الله طريقه ويرد جنده. ومالقة في قبضة العدو، وأهلها أسارى يباعون في الأسواق ويتهاداهم الملوك والكبراء. وهاهو الزغل يسلم وادياش إلى العدو على منحة من الأرض والمال. ثم يعيا بأعباء المذلة والهوان فيهاجر إلى الغرب. ثم شهدت يوم القيامة، الجيوش محيطة بغرناطة وأهلها يغيرون على العدو جهد البطولة والاستبسال والصبر، ثم يغلق عليهم الضعف أبواب المدينة. وهذا من ربيع سنة سبع وتسعين وثمانمائة، وأبو عبد الله يسير إلى فرديناند في كوكبه من الفرسان لا محارباً ولا معاهداً، ولكن ليسلم إليه مفاتيح الحمراء. نظرت الصليب الفضي الكبير يتلألأ على أبراج القلعة، وبكيت مع أبي عبد الله وهو يودع معاهد المجد وملاعب الصبا من الحمراء وجنة العريف. وسمعت أمه عائشة تصرخ في وجهه: (ابك اليوم كالنساء على ملك لم تحتفظ به احتفاظ الرجال) فينهل دمعه، وتتصاعد زفراته على(46/15)
الأكمة التي يسميها الأسبان اليوم (أخر زفرات العربي). وهذا أبو عبد الله وهو الذي باء بأوقار من العار والذل تأبى فيه بقية من الشمم العربي أن يقيم على الضيم فيهاجر إلى المغرب، ويرسل إلى سلطان فارس من بني وطاس رسالته الذليلة المسهبة يدفع عن نفسه ما قرف به في عرضه ودينه. ويشكو إلى السلطان حزنه وبثه ويقول:
مولى الملوك ملوك العرب والعجم ... رعيا لما مثله يرعى من الذمم
بك استجرنا ونعم الجار أنت لمن ... جار الزمان عليه جور منتقم
على رأسي وقلبي بهذه الأحداث الكاربة، والخطوب المتلاحقة، وهالتني هذه المشاهد المفظعة، فخرجت من هذه الغمرة مرتاعاً كما يستيقظ النائم عن حلم هائل.
نظرت أمامي فإذا المسرح، وصعدت بصري فإذا الدائرة: (لا غالب إلا الله.!)
عبد الوهاب عزام(46/16)
الفاشستية ومبادئها القومية والاقتصادية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت مبادئ الثورة الفرنسية روح الحركات الدستورية والديمقراطية التي جاشت بها معظم الأمم الأوربية خلال القرن التاسع عشر، وكانت الحريات الدستورية والديمقراطية إلى ما قبل الحرب هي المثل القومية والشعبية العليا. ولكن الحرب صدعت من صرح المبادئ الحرة والإنسانية، ويثبت إلى الأمم والجماعات الأوربية كثيرا من النزعات الرجعية، فاستردت القومية المتعصبة سابق قوتها وعادت الأحقاد القومية إلى سابق اضطرامها، وشغلت الديمقراطية بخلافاتها ومعاركها الداخلية عن مواجهة الخطر الذي يهددها ولم تلبث الحركة الرجعية حتى أحرزت فوزها الأول بقيام الفاشستية الإيطالية، ثم بقيام حكومات طغيان أخرى في أسبانيا وبولونيا ويوجوسلافيا تحتقر الحقوق والحريات الدستورية وتعمل لسحقها، وان كانت مع ذلك لا ترى بأسا من أن تستتر وراءها وتعمل باسمها في أحيان كثيرة. ولم تكن الفاشستية الإيطالية حين قيامها واستئثارها بمقاليد الحكم والسلطان في إيطاليا، سوى حركة محلية قامت في ظروف خاصة، ولم يكن يقدر لها يومئذ إنها ستغدو ذات يوم فكرة قومية تهب ريحها على كثيرا من الأمم الأوربية الأخرى، وإنها ستغدو نظاما عاما للدولة يطبق اليوم في دولة عظيمة أخرى هي ألمانيا مع خلاف يسير في الوسائل والغايات، وتقتبس منه اليوم دول أوربية أخرى كالنمسا التي أصدرت دستورها الجديد على أساس المبادئ الفاشستية، بل تذاع اليوم دعوته في بلاد ديمقراطية عريقة كإنكلترا يقوم بها حزب يدعوا إلى النظام الفاشستي.
وظفر الفاشستية على هذا النحو يدعوا إلى استعراض المبادئ الجوهرية التي تقوم عليها، والظواهر الخاصة التي تتميز بها. ويجب أولا ألا ننسى إن الفاشستية تشترك مع البلشسفية في الاستئثار بجميع السلطات والسيطرة على جميع موارد الدولة، وان الفاشستية من حيث هي نظام طغيان مطلق تشبه البلشفية كل الشبه. بيد إن هنالك فروقا جوهرية بينهما في الوسائل والغايات سنأتي عليها فيما بعد. ودعامة الفاشستية الأولى هي الفكرة القومية، وعليها تقوم جميع مبادئ هذا النظام، واليها ترجع غاياته؛ فالفاشستية ترى أن (الأمة) هي حقيقة طبيعية تاريخية، مثلها الأعلى هو إن أبناء البلد الواحد اخوة تجمعهم رابطة القومية(46/17)
العامة، ولا تحقق سعادة الأمة بقيام فريق منها ضد فريق آخر ولا طبقة منها ضد طبقة أخرى، بل يجب أن تنظم جميع الطوائف والطبقات والقوى لصالح الأمة المشترك، وباسم الوطن الواحد. وترى الفاشستية إنها جديدة طريفة في جوهرها فهي لا تريد أن تصلح أو تحي نظما قائمة، ولكنها تدعي إنها تقيم حضارة مكان حضارة وتنشيء نظما جديدة لبناء الدولة والمجتمع مكان نظم ذاهبة؛ وعندها إن جميع المبادئ والنظم القديمة قد عفت ولا تصلح بعد للعمل على إحياء الحضارة أو المجتمع، ولا بد أن تقلب من أساسها، وان تبدأ الحضارة والمجتمع حياة فتية جديدة على ضوء المبادئ والنظم الجديدة. والدولة الفاشستية لا تقوم على النظام الرأسمالي، ثم هي لا تقوم أيضا على النظام الاشتراكي؛ فالإنسان لم يخلق في نظرها لكسب المال فقط، ولم يخلق أيضا ليقاتل المحظوظين والمنعمين من بني وطنه، ولكنه خلق ليؤدي واجبا اعظم من ذلك وأسمى هو الواجب القومي.
وإذا كانت الجامعة القومية هي دعامة النظام الفاشستي، فان الفكرة التعاونية هي روح هذا الاتجاه القومي؛ وهي أهم ظاهرة في تكوين الدولة الفاشستية: فالدولة الفاشستية لا تقوم كما تقوم الدولة الديمقراطية على فكرة التنافس الحزبي والطائفي في سبيل السلطة، ولكنها تقوم على تعاون جميع الطبقات والقوى القومية. وقد عرف السنيور موسوليني في إحدى خطبه الأخيرة هذه الفكرة التعاونية في ما يأتي: (إنها هي الأداة التي تسترشد بها الدولة في وضع النظام الأساسي الشامل الموحد لجميع القوى المنتجة بالأمة للعمل على تنمية موارد الشعب الإيطالي وقوته السياسية ورفاهه) وفي قوله (قد أعطى النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي كل ما يمكن أن يعطياه، ونحن نرث من كل منهما كل ما فيه من العناصر الحيوية). ويلاحظ إن الفاشستية لبثت بعد قيامها مدى أعوام قبل أن تضع الفكرة التعاونية موضع التطبيق وتتخذها أساسا لتنظيم الدولة الاجتماعي والسياسي، ففي أبريل سنة 1927 أصدرت حكومة رومة (لائحة العمل) وهي القانون الاجتماعي الأساسي للدولة الفاشستية؛ وفيه تعرف الدولة التعاونية وتشرح نظمها ويشرح قانون العمل المشترك وضماناته والأعمال التعاونية وتربية العمال. وترى الدولة الفاشستية إن العمل ليس مجهود يبذله العامل لكسب قوته، وينتفع به صاحب المال، وليس هو الذكاء أو الجرأة أو الأثرة التي تحرك النظام الرأسمالي، ولكن العمل طبق النظرية الجديدة هو مجموعة صنوف النشاط(46/18)
التي ترمي إلى تنمية موارد الأمة المعنوية والمادية؛ والنظرية الفاشستية تبعد هنا كل البعد عند مبدأ الحرية الاقتصادية وقانون العرض والطلب؛ وتقدم الفكرة المعنوية على كل هذه الاعتبارات، فكل عضو في جماعة عاملة عقلية أو فنية أو مادية إنما هو قبل كل شيء من أبناء الدولة، وهو يدخل بذلك الاعتبار في دائرة القانون الخاص، والقانون العام، بل يدخل في دائرة القانون الدستوري. ولم تقف الفاشستية في تطبيق الفكرة التعاونية عند الناحية الاجتماعية ولكنها خطت في سنة 1929 خطوة أساسية أخرى، فطبقتها من الوجهة الدستورية، وقررت تحويل التمثيل السياسي إلى تمثيل تعاوني؛ وأجريت الانتخابات البرلمانية لمجلس يتألف أعضاؤه من ممثلي النقابات والجماعات التعاونية. وأخيرا منذ أيام قلائل فقط أصدرت الفاشستية كلمتها الفاصلة في النظام البرلماني فقررت إلغاءه وبذلك قضت الدولة الفاشستية على آخر المبادئ والآثار الراسخة التي تقوم عليها الديمقراطية، وأضحت تقوم على مبادئها الخالصة الاجتماعية والسياسية.
وتشترك البلشفية مع الفاشستية كما قدمنا من حيث هي نظام طغيان مطلق، ولكن البلشفية تقف في الطرف الآخر معارضة للفاشستية كل المعارضة في الفكرة القومية. فالبلشفية قبل كل شيء على مبدأ نضال الطوائف والطبقات الاجتماعية، وعلى مبدأ سيادة الكتلة العاملة؛ وترى البلشفية إن التاريخ لم يكن في جميع عصوره سوى نضال بين الطوائف، وإن قوى الأمة الحقيقة ومواردها تتكون قبل كل شيء من العمل أو جهود الكتلة العاملة؛ وشعارها هو سيادة الكتلة العاملة، ولا تتحقق هذه السيادة إلا بسحق الطبقة الرأسمالية؛ وهذا هو الفارق الجوهري بين البلشفية والفاشستية. فالأولى تقوم مهمتها الاجتماعية والاقتصادية على نضال الطوائف، وتقوم مهمة الثانية على الفكرة التعاونية، ولكن البلاشفة يسخرون من هذه الفكرة ويقولون إن تعاون الطبقات ذات المصالح المختلفة مستحيل بطبيعته، وان الطغيان الفاشستي يتخذ من التعاون حيلة لإخضاع الطبقات العاملة، وان هذا التعاون إنما هو تعاون الذئاب مع الأغنام. هذا وثمة فارق جوهري آخر بين النظامين هو أن البلشفية تذهب في برنامجها الهدام إلى حدود بعيدة، فترى إن تحقيق مثلها لا يكون إلا بهدم كل المبادئ والنظم القائمة، واستبدالها بمبادئ ونظم أخرى من تفكيرها وصنعها. ولكن الفاشستية لا تذهب في قصد الهدم إلى هذا الحد، فهي ترى أن تأخذ من النظم القائمة ما(46/19)
يلائم غاياتها، ولا ترى باسا من أن تقتبس من الاشتراكية كما تقتبس من الرأسمالية.
وتستطيع الفاشستية أن تدعي اليوم إنها قد أصبحت حركة عالمية بعد أن لبثت إلى ما قبل عامين حركة إيطالية محلية، فمبادؤها ومثلها السياسية والاجتماعية تسيطر اليوم على أمة عظيمة أخرى هي ألمانيا. وطغيان (الوطنية الاشتراكية) الذي يفرضه الهتلريون اليوم على الشعب الألماني يقوم على نفس الوسائل التي شقت بها الفاشستية طريقها إلى السلطان والحكم منذ اثنتي عشرة عاما. بيد أن الفاشستية الألمانية تنقصها الطرافة، ويغلب فيها التقليد على الابتكار، وتنقصها بالأخص الزعامة الممتازة، وتقدمها بهذه السرعة يرجع إلى وسائل العنف والإرهاب اكثر مما يرجع إلى وسائل الإقناع والتأثير. وهي في جوهرها كالفاشستية الإيطالية تقوم على الفكرة القومية، وحشد أبناء الوطن الواحد تحت لواء واحد؛ ولكنها تذهب في فهم الفكرة القومية إلى حد التعصب الجنسي والديني الواضح، وهو حد لم تبلغه الفاشستية الإيطالية قط، فزعماء الوطنية الاشتراكية الألمانية: اعنيهتلر وزملاءه يمزجون الفكرة القومية بفكرة الجنس والسلالة ويفرقون بين الجنس الآري والأجناس الأخرى، ويقولون إن الشعب الألماني هو شعب آري أشقر يتفوق بالدم والمزايا الجنسية والفكرية على جميع شعوب الأرض، ويشهرون العداء على غير الآريين؛ ومن ثم كانت ثورة الخصومة السامية وطاردة اليهود الألمانيين بحجة أنهم غير آريين وان وجودهم خطر جنسي واجتماعي على الشعب الألماني، وهي حركة تعصب شائن لم تضم الفاشستية الإيطالية في أي طور من أطوارهاوكانت ذريعة سياسية في الواقع رأى الهتلريون في اتخاذها تحقيقا لبعض خططهم السياسية والاقتصادية؛ وتذهب الفاشستية الألمانية إلى ابعد من ذلك فتعتبر جميع الأجناس السامية والشرقية أجناسا منحطة هدامة للحضارة يجب أن يسودها الجنس الآري.
وأما من الوجهة الاقتصادية فأن الفاشستية الألمانية غامضة في وسائلها وغاياتها. فهي تزعم إنها اشتراكية على حين إنها ابعد الأشياء عن الاشتراكية. وهي تعتمد في خططها الاقتصادية على التقليد والاقتباس من الفاشستية الإيطالية؛ فقد أصدرت مثلا قانونا (لتنظيم العمل القومي) على مثل لائحة العمل الإيطالية؛ وجمعت نواحي الإنتاج المادي والفكري في دوائر معينة مقتبسة نظام النقابات الإيطالي. ويعرف الدكتور فدر أحد علماء الوطنية(46/20)
الاشتراكية الاقتصاديين مهمة الحكومة النازية في الميدان الاقتصادي بما يأتي: (إن الوطنية الاشتراكية تعارض فكرة جعل الاقتصاد القومي قوميا. والواقع انهإذا كان من واجب الدولة أن تدير شؤون البلاد الاقتصادية فيجب أن يكون شعارها عدم التدخل في الإنتاج، ومهمة الحكومة الجوهرية هي (التنظيم) فعلى الدولة أن تدير شؤون البلاد دون أن تشترك فيها. وهذا هو الباعث الذي يوجه الاقتصاد الوطني الاشتراكي).
وقد حققت الفاشستية في إيطاليا دولة قوية ومجتمعا جديدا قويا، وبذلت جهودا خليقة بالإعجاب لتنمية الموارد القومية وتنظيم الإنتاج القومي، وبثت إلى الشعب الإيطالي قوى معنوية جديدة، ورفعت هيبة إيطاليا الخارجية. ولكنا لا نستطيع حتى إزاء هذه النتائج البديعة أن ننسى الوسائل العنيفة التي حققت بها الفاشستية سيادتها وسلطانها، ولا نستطيع أن ننسىأنها مازالت تحقق ظفرها على حساب الحريات الدستورية والشعبية. وإذا كانت الفاشستية قد استطاعت أن تسير حتى اليوم في طريق التقدم والظفر، فلسنا نستطيع مع ذلك أن نؤمن بما يقوله زعماؤها ودعاتها من إنها أصبحت تتبوأ مكانتها المستقرة الراسخة بين الأنظمة السياسية والاجتماعية العريقة، وإنها أصبحت نظام المستقبل، ذلك إنها تقوم على كثير من العنف وتغليب الإرادة الفردية والوسائل المصطنعة، ولا تتفق في كثير من مبادئها وغاياتها مع المبادئ والغايات الإنسانية المثلى، وليست من جهة أخرى تتفق مع النزعات الحرة الراسخة التي يمتاز بها التطور السياسي والاجتماعي في عصرنا؛ ومن المحقق انه يوم تبرأ أوربا القديمة من الجراح التي أصابتها من جراء الحرب الكبرى، ومن الفوضى السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي هزت أسس المجتمع الأوربي القديم، فان صرح الفاشستية سيأخذ عندئذ في الانهيار والتطور، وستعود المثل الحرة والدستورية القديمة إلى تبوئ زعامتها وسيادتها في الدولة والمجتمع.
محمد عبد الله عنان المحامي(46/21)
حل العقد بقطعها
بعض مواقف الفصل - فقر العالم إلى العباقرة
الناس مفتقرون في كل حين من الدهر إلى رجال يحلون العقد لا بالنفث فيها كما يصنع أهل السحر والشعبذة، بل بقطعها توفيرا للوقت وكفاية لمؤونة التعب وبرهانا على العبقرية - كما صنع ذو القرنين منذ اثنين وعشرين قرنا. وكما صنع المتنبي منذ عشرة قرون. . وكما صنع لورد كرومر في أواخر القرن الماضي. وكما صنع مصطفى كمال في رواية الأمريكي التائه.
ذلك بان جمهرة الخلق قوالون وبياعو كلام اكثر منهم فعالين سواء في ذلك منهم خاصتهم وعامتهم. فإذا عرضت لهم عقدة مهما يكن موضوعها اشتغلوا بالحرف وعتقه، وعد واعن الروح وجدته. والغالب ان يشكل عليهم فهم الحرف فيروحون يتخبطون فيه وفي تاويله حتى يقوم فيهم من يضرب بالحرف عرض الحائط وينبذ اللفظ ويشرب في قلبه حب الروح ويفقه المعنى فيحل العقدة بأسرع مما عقدت.
ذو القرنين
أما ما صنع إسكندر المقدوني الكبير تلميذ أرسطو طاليس الفيلسوف العظيم في أوائل القرن الثالث قبل المسيح فهو انه زار أحد هياكل آلهة اليونان فرأى عقدة معقودة ومحبوكة، فسأل عنها فقال له الكهنة والمتنبئون والسحرة والنفاثات في العقد: إن من يحل هذه العقدة يفتح آسيا، فجرب فلم يفلح، ولكن أومض في صدره قبس العبقرية التي استمدها من معلمه فلم يلبث أن استل سيفه وحل العقدة بقطعها وترك الذين حوله مصعوقين، وفتح أمامه السبيل إلى فتح آسيا.
المتنبي
وأما المتنبي فحكاية ما صنع مبنية على بيت قاله من قصيدة هي من عيون قصائده. فقد اكثر في زمانه من التبرم بالناظمين الذين سماهم متشاعرين وقال انهم غروا بذمة، ويحذرهم على ذلك الذم لانه داء عضال لهم (ومن ذا يحمل الداء العضالا). وانهم كثيروا الادعاء، إذا برزوا له في نزال عجزوا عن ان يأتوا بشيء، وجاء هو بكل شيء، ولذلك(46/22)
قال (فكم منهم الدعوى ومني القصائد)
ولما اشتدت منافسهم له وابو فراس في جانبهم جمعهم ذات يوم مجلس سيف الدولة، فقالوا فيه ما قال مالك في الخمر وهو ينشد البيت في اثر البيت، وهم يقولون سرقت هذا من هذا القائل، وذاك من ذاك القائل، حتى مل سيف الدولة وضجر وحتى قيل انه رماه بدواة فأدماه، فارتفعت من سويدائه شرارة العبقرية التي ما خانت العبقري مرة، فمد يده إلى حيث استعار سيف الاسكندر، وفك به رؤوس هاته الزعانف ببيته المشهور الباقي على الزمان بقاء قصائده.
ان كان سركم ما قال حاسدنا ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم
ويكفي ثوابا له ان يقوم سيف الدولة عن سريره ويقبله في جبينه، إذ كان هذا البيت أمضى من سيف الاسكندر، وكان في حده الحد بين لعب خصومه وجده، والفارق بين باطلهم وصحيحه، وأغنى عن التمادي في خصومتهم ومماحكاتهم، ورد عداوتهم في نحورهم (وعداوة الشعراء بئس المقتنى) كما قال في أحد أبياته،
وقد اشار إلى هذه الحادثة ببيته الآخر الذي جرى مجرى المثل ككثير من شعره وهو:
أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جراها ويختصم
قال إن شوارد الشعر وقوافيه لا تقلق لي بالا ولا تؤرق لي نوما وإنما يقلقني الحزن على حبيب راحل وتؤرقني الصبابة، فأنشد القصيدة ناعما خلي البال وأنام ملء جفوني على حين ان هؤلاء الأدعياء يسهرون لياليهم مختصمين ولا يفتح عليهم بشيء.
لورد كرومر
قد تعرض في القانون حالات تحسب فيها المحافظة على القانون سخافة وكسره حكمة وعقلا. وقد يقف الجندي في الميدان مواقف يحيد بها عن أوامر رئيسه ويعصاها فيدفع بذلك كارثة كبيرة وبمقتضى الأحكام العسكرية يجب أن يقتل، ولكنه لا يقتل لأنه عاذ بعقله في موقف، طاعة الأمر العسكري فيه خطأ، وعصيانه صواب. والذين عرفوا تاريخ نلسن الشهير عرفوا انه خالف أوامر رؤسائه غير مرة، وان ذلك حال دون ترقيته الترقية العسكرية المعتادة، ولكنه لم يحل دون صعوده إلى أعلى مراقي الشهرة البحرية العالمية على يد عبقريته.(46/23)
كان في القاهرة في أواخر القرن الماضي مطبعة اسمها المطبعة العثمانية فنقل إلى مختار باشا الغازي القوميسير العثماني العالي حينئذ، أن فيها قائمة بأسماء أعضاء حزب تركيا الفتاة في جميع أنحاء السلطنة العثمانية، وكان السلطان عبد الحميد يخشى باس تلك الجمعية وأعضائها الأحرار، ولو عرفهم بأسمائهم لأهلكهم في جملة من اهلك منهم، ولشرد أهلهم وأسرهم كل مشرد، فراى مختار باشا ان الفرصة سانحة للزلفي من مولاه (وتحسين مركزه) فاستعان بالخديو، ورأى الخديو ان الفرصة فريدة (لتبيض وجهه)، في الأستانة فأمر ففوجئت المطبعة واقفل صندوقها الحديدي وختم بالشمع الأحمر انتظار الحكم المحكمة.
والهم الله من اطلع لورد كرومر على المسالة وأخبره بعاقبة وقوع تلك القائمة في يد الأستانة، فأرسل مندوبا من قبله ومعه سيف الاسكندر ففض ختم الصندوق الحديدي وفتحه واخذ جميع ما كان فيه من الأوراق. وبذلك انتهت المسألة وقطعت العقدة. ولو تركت للمفاوضات الدبلوماسية ما انتهت بأنجح من المفاوضات الدبلوماسية في مسألة نزع السلاح الآن!
ولم يسمع بعدها حس ولا ركز في موضوعها، ولا همس هامسكبيرا كان أو صغيرا، سوى احتجاج الصحف على انتهاك حرمة القانون وتدنيس قدس القضاء.
مصطفى كمال
رواية الأمريكي التائه معروفة؛ فر من العدالة الأمريكية إلى فرنسا ومن فرنسا إلى اليونان، لأنه رأى فرنسا خطر عليه واليونان بردا وسلاما على قلبه. فانزل في هذه على الرحب والسعة. فطلبته أمريكا فحكمت محكمة أثينا العليا بان تسليمه لا يجوز في نظر القانون الدولي، إذ ليس بين أمريكا واليونان معاهدة لتسليم المجرمين
فردت أمريكا بأن في أرضها نصف مليون يوناني ففهمت اليونان هذا الوعيد ورأت أن تنذر الأمريكي التائه ففر، ومازال تائها بباخرته حتى مر بالأستانة ووقفت باخرته في مياها. فطلبت أمريكا من تركيا أن تسلمه إليها وبلغ الطلب مصطفى كمال طبعا وقيل له القانون الدولي ثم القانون الدولي.
فسكت هنيئة ريثما راجع في مخيلته حكاية الاسكندر، وحكاية كرومر، وتصور رجال(46/24)
القانون يسهرون ويختصمون على حرف القانون وتفسير القانون، فضحك من منظرهم هذه وقال مع المتنبي
أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جراها ويختصم
ثم جيء إليه بخاتم المارد فسمع هاتفا يقول (لبيك! عبدك بين يديك) فقال مصطفى كمال أتني بسيف الاسكندر. فإذ السيف أمامه، فتناوله وضرب به عقدة القانون الدولي فقطعها. ولو تركها ما حلتها محكمة لاهاي ولاهاواي ولا شنغاي!
ثم أمر فسلم الأمريكي التائه إلى دولته وترك أهل القانون يتشاتمون ويتضاربون ثم ينصرفون.
العالم أحوج ما يكون إلى رجال أمثال هؤلاء يحلون عقد العالم بأعمال توحيها العبقرية، وهو اعظم ما يكون غني عن الذين يقولون مالا يفعلون ويقشرون النعنع والكمون، ويهملون اثقل الناموس الحق والرحمة والأيمان، وينبذون روح القانون ويتعلقوا بحرفه ونصه.
(ن. ش)(46/25)
مختار دائما. . .!
للأستاذ محمود خيرت
ولماذا لا نذكره دائما، وهو الذي بعث الفن القديم من مرقده ورفع عنه غبار الماضي الطويل، ونشره بيننا في زي جديد تحده عليه آثار العصر الحاضر؟ أن هذا الشاب الراحل كان النواة الأولى لفنه. وما أنا بمبالغ إذا قلت إن فن النحت والتصوير كان معدوما من قبله هو وإخوانه (محمد حسن، ويوسف كامل، وعلي الأهواني، وراغب عياد، وعلي حسن، وغيرهم من زينة مصر الآن).
انهم جميعا كانوا من عمد النهضة الحديثة التي انشأ معبدها المرحوم باولوا فورشللا أستاذهم وأستاذي أيضاً. . . وقد كنت أذهب إلى مصنعه وأنا محام فعرفتهم وعرفوني، وكنا جميعا تلاميذه وان كانوا بالمدرسة وأنا في أوقات فراغي بهذا المصنع نجتمع عنده ونذهب منه إلى حيث المرج أو عزبة النخل أو شاطئ النيل أو بعض أحياء القاهرة القديمة نصور وأستاذنا يطوف بنا كالقائد يدلنا على مواضع أخطائنا. وكالأب يتلطف معنا ويغرس حب الفن في نفوسنا. نبغوا وكان على رأسهم تلك الشعلة المتقدة الراحلة. لا زلت أذكره وهو بمدرسة الفنون الجميلة بدرب الجماميز فتى وسيما غزير الدم، مرسل الشعر، حلو الحديث، جم الحياء، عاشقاً. . . ولكن فنه يتلذذ بذكره في كل لحظاته. . . ولازلت اذكر يوم زارني عند الغروب يطلب إلي في لهفة بعض صور لتماثيل غربية عن الحب، فعرضت عليه ما عندي منها. فلما كان اليوم التالي دق التليفون عند الساعة الخامسة صباحا. . . وكان المتكلم هو يذكر أنه لم ينم تلك الليلة كلها، وقد غمره شغفه بوضع تمثال للحب على النحو الذي فكر هو فيه. بل أنه كان يكلمني من المدرسة. . . لأنه لم يستطع صبرا فما كادت الشمس تشرق عن الأفق حتى قصد إليها ووضع فكرته فعلا. وطلب إلي ألا أتأخر عنه لأرى ما وضعه. وكان تمثاله الطيني يمثل فتاة عارية متناسبة الأعضاء جميلة الوجه لها نظرات زائغة، كأنها ترى في الفضاء شبح الحب مقبلا عليها وكأنها تخافه فتدفعه بساعديها الممتدين، وقد ستر موضع عفتها بحمامتين تتناغيان على ما في الصورة المرصودة هنا وقد عنيت بالتقاطها وقتئذ.
كان مختار لا يعرف للنوم معنى ولا لملاذ الحياة طعما، إلا ما كان منها متصلا بفنه الذي(46/26)
يعشقه عشقا ويهيم به هياما، وهي مواهب من تهيئهم الأقدار للنبوغ حتى أنني لما أرسلت بنسخة من تلك الصورة إلى الميسو لابلاني ناظره وأستاذه، وكان وقتئذ بفرنسا بسبب العطلة المدرسية - أرسل يطلب إلي أن افتح عيني مختار إلى الشهرة التي تنتظره وأنه سيكون في يوم قريب فخر مصر، بل فخر العالم كله (هكذا). وعند ذلك أقبلت عليه أزف إليه هذه البشرى، وسلمته ذلك الخطاب الذي يعد أول وثيقة تنبأ فيها أستاذه النافذ البصيرة بما سيكون له من الشأن.
وهكذا اصبح مختار حديث المجالس الفنية في فرنسا حتى اختارته (وهو مصري) مديراً لمتحف جريفين الشهير، وحتى ابتاعت بعض آثاره تزين به متاحفها، وحتى صور لنا آلام مصر وآمالها ونهضتها في تمثاله الخالد.
لم يكن مختار من أولئك القاعدين المقلدين فيسير على أسلوب فالكونيه وكافوفا وكلوريون، أو جيروم وكاريو وبارتولوميه ورودين، فتخرج آثاره موسومة بطوابعهم وتفني روحه الفنية في أرواحهم، وإنما كان نفسا يعز عليها ألا يكون لها شخصية مستقلة متقدة بالأمل، ظمأى إلى النهوض، وثابة إلى أبعد مراتب المجد حتى انه قبل قيامه إلى فرنسا لاستكمال علمه أشار إلى ذلك في شعر قاله ثم بعث به إلى، اثبت منه هذه الأبيات لأن أكثره غير موزون ولا مصقول وان دل على سمو هذه الروح.
وقائله ما بال شعرك مسدلا ... فقلت لها إن الفنون جنون
اعلل نفسي بالمعالي تخيلا ... فياليت آمال الخيال تكون
سأرفع يوما للفنون لواءها ... ويبقى لذكرها بمصر رنين
من ذا الذي يصهر نفسه مثل هذا الهيام الفني ويغمرها مثل هذا الأمل الحبيس في خدر الطفولة والاغتراف من العلم ولا يكون له من هالات الظفر والمجد والشخصية نصيب؟
وإذا كان وهو لا يزال بمصر طالبا لم يرض لتمثاله (الحب) إلا أن يطبعه بصورة خاصة من وحي نفسه وعصاره خياله الذي كان وليد سهره تلك الليلة الطويلة التي مر بنا ذكرها، فكيف لا نلمس هذه الشخصية الناضجة في تمثاله الذي رمز به للنهضة.
ولقد تعاقبت القرون وأبو الهول (ذلك التمثال الصخري القديم) غائر في رمال الصحراء، محدق بنظره في الفضاء، صامت صمت الحجر الصلد الذي نحت منه، حتى هيأت الأقدار(46/27)
لمصر ولدا من أولادها البررة الشجعان يخرجه من صمته ويحركه من سكونه. فمثل لنا مختار إلى جانبه مصرية نبيلةشامخة بنفها تنظر إلى المستقبل في عزم وإيمان كما أنهضه من رمل الأحقاب الخالية كأنه يتطلع مطمئنا إلى هذا المستقبل.
وبعد، فعد معي أيها القارئ الكريم إلى ما ذكرت من ذلك الشعر وهو قوله:
وقائلة ما بال شعرك مسدلا ... فقلت لها إن الفنون جنون
اعلل نفسي بالمعالي تخيلا ... فياليت آمال الخيال تكون
سأرفع يوما للفنون لواءها ... ويبقى لذكراها بمصر رنين
ألا ترى انه خط هذا الشعر السهل بمداد من سائل شعوره الفياض بحب الفن وحب مصر والوعد برفع لوائها خفاقا بين الويه النهضة الحديثة. وفي مكان آخر من هذه القصيدة إشارة إلى ما كان يعانيه من عشيرته في سبيل هذا الحب وهو صابر ثابت سائر في طريقه الذي رسمته له آماله، حتى حققها بعد ان كانت خيالا، وحتى بر بوعده فكان صادقا، وحتى خلدته آثاره بعد موته كما اشتهى. . .
إن مختار كان وحده كوكبا مضيئا سيارا، ولكن شاء الحظ الساخر ألا يتم إلا دورة واحدة من مداره. فهل يكتب لمصر إن يخلفه كوكب آخر يعيد سيرة هذا المدار؟
محمود خيرت بقلم قضايا المالية(46/28)
استيلاء المغول على بغداد
لنصير الدين الطوسي
صفحة تاريخية لم تنشر
ذكر الؤرخون على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم (حادثة سقوط بغداد) على يد المغول وافردوا لها المجلدات الضخام، ولكن الأمر الذي يستحق الاعتبار اكثر من كل شيء هو ان نقرا تفاصيل هذه الحادثة بقلم البحاثة (الخواجه نصير الدين الطوسي) الذي رافق الحملة التترية إلى بغداد وحضر الواقعة بنفسه وكتب ما رآه وما سمعه بدون تحزب كما سيتضح لك من هذه الوجيزة التي أخرجها حديثا من بين رسائل العلامة الطوسي الخطية (رسول النخشبي) أحد كتاب إيران، رأينا ان نرسل بترجمتها للرسالة لأهميتها أولا ولمناسبة ما أورده الأديب فرحان شبيلات في عددي الرسالة 33 - 34 - ثانيا (لما عزم السلطان (هولاكو خان) على أن يلج بلاد الملاحدة (الباطنة) سير من قبله مندوبا إلى الخليفة ليطلب منه النجدة حتى يستأصل بذلك شأفتهم ويمحو سطوتهم فبلغ الرسول الخليفة فحوى الرسالة بقوله يقول السلطان. . (إننا بعاداتنا البدوية وأسسنا القومية نستنجد بموالينا على أعدائنا، وبالنظر إلى الحب والولاء القائم بيني وبينك أرجو معونتنا بخيلك وإمدادنا برجلك، حتى ندرأ شر هذه الفئة الباغية التي أريقت بكيدها الدماء وأزهقت بغدرها أرواح الأبرياء) فاختلي الخليفة بحاشيته وائتمر مع أصحابه، فأجابه الجمع من الجنود والأمراء، بأن (هلاكو) يريد بهذه الحيلة إخلاءبغداد من العدد والعدة لتصبح في وجهه مفتحة الأبواب، خالية من الخيل والركاب، فيستولي آنئذ على المدينة بلا توجس خوف وارتياب، ونمسي على ما فعلنا نادمين. فانصاع الخليفة لرأي الجلساء وتواني في إمداد السلطان ورجع الرسول إلى سيده بخفي حنين.
ولما أن فرغ السلطان من فتح بلاد الملاحدة عائب الخليفة عتابا مرا وانذره إنذارا أليماً، فارتأى الخليفة أن يستشير وزيره - العلقمي - فأشار عليه هذا أن يحمل ما في دار الخلافة من فاخر الأثاث وزخرف الرياش على البغال المسرجة والخيل الملجمة ويقدمها هدية للسلطان، وينجو بهذه الواسطة مما يوشك أن يحدث في ملكه من التدمير والهوان، فقبل الخليفة ما شار الوزير إليه وأمر بتسجيل ما يلزم انتقاءه من الأشياء، وعين لإيصالها نفرا(46/29)
من أركان دولته لعرض المعذرة عند تقديم الهدية، فاجتمع أحد الأمراء المدعو (الدوات دار الصغير) مع عدة من صحبه وقال لهم إن هذه مكيدة أراد بها الوزير قتل أعواننا ونهب أموالنا، فإذا جيء بالأموال إلى ظاهر البلد ننقض عليها برمتها ونستنقذهالتكون ذخرا ليوم شدتنا، فنمى الخبر إلى الخليفة واضطر إلى إبدال الكثير بالقليل، والوافر اليزر، فاغتاظ السلطان وأرسل إليه أن يحضر بنفسه أو أن يبعث إليه أحد الذوات الثلاثة: الوزير أو الكاتب أو سليمان شاه، فتواني الخليفة في إنجاز ما أراد السلطان أيضا، فاشتد من اجله غضب السلطان وعقد النية على فتح بغداد، فأرسلالخليفة الأزبكي مرة وابن الجوزي بن محي الدين مرة فارتدا خائبين. لأن السيل قد بلغ الزبى، وحان الوقت الذي لا ينفع فيه الندم.
ففي شهر شوال سنة 655 هـ نهض السلطان - هلاكو - من همدان موليا وجه شطر قاعدة الخلافة العباسية. على أن الأمير (صوغنجاق) والسردار (تايجنوئين) كانا قد ذهبا مع مقدمة الجيش الأيمن على الميمنة مما يلي أربيل عن طريق جبال (شهر زور) كما أن القائد (دقوق) وزميله (كبد يوقائين) و (انكتانوئين) كانوا على الجناح الأيسر من الميسرة التي زحفت إلى (تكريت) و (بيات) وكان فيلق القلب من الجند السلطاني تحت أمرته الشخصية يسير من كرمنشاه وحلوان إلى بغداد. هذا وقد سار (الدوات دار) من بغداد بجيش الخليفة وأتى إلى بعقوبة فخيم بجوارها. أما السلطان فكان قد أوعز إلى أحد قواده المدعو (تايجورا) أن يعبر دجلة ويدخل بغداد من جانبها الغربي - وقد تخلى هو عن رحله وسرادقه عند ما وصل حلوان وخرج منها بسرية من جيشه، وأول حادث حدث هو أن طلائع الجيش الملكي أسرت طليعة من جند الخلافة، ولما مثلوا بين يدي السلطان اقسموا الإيمان المغلطة على أن يخلصوا الخدمة من يومهم للملك ويؤدوا له ما يجب عليهم من الصدق والامانة، وكان في جملتهم أمير من بقايا الملوك الخوارزشاهية فأرسل هذا كتابا من قبله إلى العسكر العباسي مخاطبا به (قرانسقور) أحد أمراء جيش الخلافة بالعبارة التالية: -
(إنني وإياكم من جنسية واحدة، وأديت الطاعة واتصلت بالخدمة فصرت من المكرمين، فإذا ارتم أن تبرئوا أنفسكم وتشفقوا على أرواحكم فاعتصموا بحبل الطاعة وتمسكوا بذيل العبودية لأني لكم من الناصحين.)(46/30)
وبعدما قرأ (قرانسنقور) الكتاب أجاب الأمير المذكور بما يلي: - (متى صارت لهلاكو تلك المكانة التي يتمكن بواسطتها بلوغ هذه الغايات، ولعمري ان هذه الدولة (العباسية) قد شاهدت كثيرا من أمثاله وأقرانه، هذا وان مجيئه بهذه الصورة إلى بلاد الخليفة وتدميرها بهذه الصفة لدليل على انه يريد في الأرض علوا وفسادا، وان أراد غفران ذنوبه وقبول أعذاره فليرجع إلى همدان حتى أتشفع له بواسطة (الدوات دار) لدى الخليفة ليعفو عما سلف منه)
وبعد ما وقف السلطان على فحوى الرسالة ضحك ضحكة المتهكم وقال (نعم الأمر بيد الله وانه فعال لما يشاء) وبعد ما عبر القائدان دجلة ظن البغداديون إن هذه الجيوش والعساكر ما قطعت النهر إلا تحت قيادة هولاكوخان الخاصة ونمى الخبر إلى (الدوات دار) فقفل راجعا من بعقوبة إلى بغداد، وعبر دجلة فالتقى (بصو غنجاق) الذي كان في مقدمة الجيش المغولي، ووقعت بينهما معركة انكسرت فيهما عساكر (صوغنجاق).
وإلتجأ الأخير إلى الفرار، ولكن الذي حصل لعسكر (الدوات دار) عند اشتباكه بالحرب مع (تايجونوئين) القائد الثاني دعا لضياع النتيجة، ضاقت عليه الأحوال فآب (الدوات دار) راجعا بجمعه المتفرق إلى بغداد.
أما السلطان فامتطى جواده وعبر (ديالى) مع جمع من عسكره إلى أن بلغ ظاهرة بغداد في منتصف شهر محرم سنة ستمائة وست وخمسين، وأرسل (بوقاتيمور) مع جيش ليحط من جانبها الغربي، وأمر أن يقيم الجند حائطا يحتضن المدينة من كل الجهات ثم نصبت عليه المجانيق وهيئت المؤن والمعدات اللازمة للحرب والقتال.
ولما أحس الخليفة بذلك اجتمع بأصحابه ليتشاورا في الخطب، فقال بعضهم إذا أردنا أن نقدم لهم الهدايا الفاخرة ونفتدي المدينة بالدرهم والدينار فعسى أن يحملوا هذا دليلا على الخوف والهوان، والأصلح إيفاد الوزير (صاحب الديوان) مع (ابن الدربوس) بقليل من التحف والرياش فاستحسن الجميع قوله فلما احضر صاحب الديوان وزميلاه إلى السلطان قال: لماذا لم يحضر عندنا (سليمان نشاه) و (الدوات دار)؟ فاجيب بان السلطان كان قد كتب للخليفة أن يبعث واحد من هؤلاء الثلاثة فأرسل الخليفة الوزير الذي هو أكبرهم، فقال السلطان نعم. ولكن أردت ذلك في همدان، وهاأنذا في بغداد، هذا وبعد أحد ورد ظهرت(46/31)
بوادر القتال ظهورا تدريجيا، وابتدأت العساكر المغولية الحرب في 22 محرم وحمل السلطان بنفسه على بغداد من جانبها الشرقي تجاه برج العجم، وحاربت عساكر (كبة بوق) بالسهم والنشاب، وكان القائدان (بلغاي) و (سناي) يتقاتلان في الجانب الأيمن لمدينة. وأما (بوقاتيمور) فانه انهال بجيشه على بغداد من الجانب الغربي في ارض كانت تعرف حينذاك بـ (روضة النقل)، أما (تايجونوئين) و (صوغنجاق) فقد احتوشا المدينة وزحفا عليها مما يلي المارستان العضدي، ودام القتال الشديد لمدة ستة أيام بلياليها، وأمر السلطان أن ترسل ست رسائل بواسطة النشاب لجماعة السادة والعلماء والأركان والمشايخ وغيرهم ليفهموهم بأن الجيوش المغولية لا تتحرش بهم أن القوا السلاحهم وكانوا في حياد. وما بزغت شمس يوم الثامن والعشرين من شهر المحرم إلا وتمكن العسكر المغولي من الاستيلاء على برج العجم، وقبل صلاة ظهر ذلك اليوم تم النصر للمغول باندحار البغداديين اندحاراً عظيماً ووقوع المدينة في قبضة التتر، وكان قد أرسل السلطان وحدات من جيشه للحراسة على دجلة من أعلاها إلى أدناه وللقبض على الذين يريدون الفرار واتفق أن صادفوا ثلاث سفن تحمل أثاث (الدوات دار) وشيئا كثيرا من أمواله وسلاحه وغير واحد من رجاله وصحبه من جملتهم نقيب العلويين، فأوقفوها عن السير برشاشات النفط النارية، ولما تمكنوا منهم قتلوهم جميعا حتى النقيب العلوي وصادروا جميع ما فيها من المحولات، هذا وقد أمر السلطان أهل بغداد ان يشتركوا جميعهم بهدم الدور التي تحيط بالبلد، وبعد ما أعلن السلطان العفو العام استأذن الخليفة السلطان للخروج من بغداد لأنه تحقق من نفسه وجيشه الضعف الكامل وانه باء بالفشل المبين. والخلاصة ان الخليفة قابل السلطان في (باب كلواز) بجمع حاشد من السادة والأئمة والمشايخ والأركان وهذه هي المقابلة التي كانت تعد آخر يوم من أيام الخلافة العباسية.
ثم صدرت أوامر السلطان ان يبادر الجند بنهب المدينة وغزو ما فيها من الأموال. وفي يوم الأحد الموافق لرابع شهر صفر سنة 656 هـ دخل السلطان المدينة وولج القصر العباسي ثم دخل الغرفة التي كانت معدة لجلوس الخليفة عند ما يريد القراءة والكتابة وكان الخليفة حاضرا هناك مع نفر غير قليل من العلماء والإشراف، فتقابل السلطان معهم وتكلم بعد ذلك مع الخليفة وقال له أين الهدايا؟ فأحضرت له فقسها بين رؤساء الجند وقادة(46/32)
الجيش، ووضع السلطان طبقا ملؤه الذهب الإبريز الخليفة وقال له تقدم وكله لسد جوعك، فقال الخليفة ليس هذا مما يأكل الإنسان! فقال السلطان إذن ما ضرك لو كنت قسمته على أعوانك وجيشك ليكون وسيلة لقوة أمرك وداعيا لنصرتك؟ ولم لم تخلع هذه الحدايد التي غلقت بها هذه الأبواب لصنعوا منها سهاما تمنع عبور أعدائك من الجيحون (دجلة)؟ فأجابه الخليفة كل ذلك كائن بتقدير الله، فقال السلطان نعم وغن الذي سيجري عليك يكون بتقديره أيضا. ثم أمر السلطان أن تدخل النساء اللواتي باشرهن الخليفة أو ولده بقصر دار الخلافة، وأذن بدخول الوصائف والخدم أيضا، وأحصيت فكانت (700) امرأة و (1300) وصيف وخادمة. وبعد أسبوع أعلن آلام العام وجمعت الغنائم والأسلاب.
وفي اليوم الرابع عشر من صفر خرج السلطان من المدينة وأمر بإحضار الخليفة بظاهرها فاحضر مع ابنه الأوسط وخمس أو ست من خدمه الخصوصيين فوقعت الواقعة وصار ما صار وانتهت آخر أيام الخليفة العباسي في ذلك اليوم، وفي اليوم التالي قتل نجل الخليفة الأكبر وشتت بعد ذلك شمل الحرم والنساء فتفرقوا أيدي سبأ. ثم أيمر السلطان بعد ذلك بتعمير بغداد ودفن أجساد البشر والحيوانات التي كانت مطروحة في الطرقات بعدما نصب الوزير - ابن العلقمي - للوزارة وصاحب الديوان لديوانه، وأعطى إمارة الجيش لبن الدربوس وسلم إدارة الشرطة في بغداد لرجل يدعى - استونها - وبعد ذلك رحل من بغداد إلى حيث يريد محفوفاً بهالة من النصر،
وكان السلطان قبل رحلته من بغداد سير (بوقاتيمور) بحملة أخرى لإخضاع الحلة وواسط فخضعتا وتوجه (بوقاتيمور) بعد ذلك نحو مدينة (تستر الأهواز) بقصد الاستيلاء عليها ورافقه شرف الدين بن الجوزي إلى هناك.
وأما الكوفة والبصرة فانهما أظهرتا الخضوع بلا أدنى حرب أو مقاومة.
كربلاء
عباس علوان الصالح(46/33)
5 - بين المعري ودانتي في رسالة الغفران
والكوميدية المقدسة
بقلم محمود احمد النشوي
لقد وعدنا في العدد الماضي أن نذكر أحراس الجحيم من الشياطين في خيال دانتي. وفي الحق انه افتن في وصفهم. وجعل منهم أولى أذناب يطوقون بها المعذبين مثنى وثلاث ورباع. وآخرين في صورة كلاب تعددت رؤسها وأفواهها. وجعل منهم من يصرخ ويصيح بصوت تنبو عن جرسه الأسماع. .
جمهرة من المردة استغل الشاعر مواهبه إلى أقصى حدودها في وصفهم محتفلا بذلك الوصف حتى جعل لهم مدينة تخصهم لا يلجها سواهم ففي بعض طبقات الجحيم، وعلى ضفاف نهر اكرونتي يقف الشيطان بزورقه ينقل فيه المعذبين من مكان إلى مكان ضاربا بمجدافه كل من أبطأ به ضعفه أو تمرده. وفي بعض جنباتها يرى الشيطان شربيرو في زي كلب ضخمت جثته، وتعددت رؤوسه وأفواهه ترسل الصراخ والنباح عاليا تنكره الآذان. وفي بعض نواحيها يرى الشيطان بلوطو ملحا في هذيانه بصوته الذي لا تبين نبراته. ويبعث رنينه في القلوب الفرق والرعب والهلع. ثم يحدثنا مرة أخرى عن شيطان له زورق يعبر عليه أهل النار بركة سوداء قاتمة يتقلب في أوحالها وأقذارها المتكبرون والحاسدون. ذلك الشيطان هو حدثنا عن الشيطان مينوتاورو الذي تراءى في ظلمات الجحيم متخذا هيئة ملفقة من الإنسانية والحيوانية نصفه ثور ونصفه ادمي إلى كثير من زبانية ومن شياطين افتن شاعر الطليان في وصفها افتتانا جعله يختصها بمدينة (ديتي تلك التي اشرف دانتي منها على أبراج وقباب يلفحها لهب الجحيم. وينعكس عليها ضوء النيران. ولم يكد يخطو نحوها يريد اختراقها حتى اعتراضه ألف من الزبانية يحتجون على دخوله مدينتهم واختراقه حرمتهم. ولقد كانت الشياطين كلما اعترضته في طريقه أو أرادت إلحاق الأذى به هرع إلى فرجيل فاستنصر به، فأقنعها فرجيل بالإرادة السماوية التي تأمره بالمسير فخلت له السبيل. بيد ان المردة من (ديتي) أبوا إلا إعراضا وعصيانا فأغلقوا من دونه أبوابهم، فوقف الشاعر مشدوها يعجب لمئات الشياطين من حوله. ولثلاث من إناث الجن وقفن فوق اكبر البروج مولولات صائحات. وليس خضابهن الحناء بل(46/34)
يصطبغن بالدماء. وتدور على أوساطهن الثعابين وتنسدل على أعناقهن ورؤسهن الأفاعي مكان الشعر متكاثفة يركم بعضها بعضاً. ولا زال دانتي تحيط به المرعبات من كل الجوانب حتى جاءه ملك كريم أهوى نحو الشياطين بعصاه ففتحت له أبوابها. واخترقها دانتي ذاهبا لطيته واستكمالا لرحلته بين حراس الجحيم وعذاب العاصين مسهبا في الحديث عنهم. بيننا المعري لم يسهب في وصفهم فلم يكن له غرض في ذلك بله الافتتان فيه فهو لم يرد ذكر لعصاة والمجرمين يصف للناس عذابهم عظة وذكرى حتى يفتن في وصف ذلك العذاب. وفي وصف الزبانية والأحراس الموكلين بالعذاب وإنما هو رجل لغة وأدب وشعر. يتلمس الطرق الشائقة ليبرزها طريفة محببة للنفوس. فلم يعرض لخزنة النيران إلا قليلا على حين أنك ترى دانتي همه وصف المجرمين والخائنين: خائني أوطانهم وإخوانهم وأهليهم، معملا خياله فيوصف المعذبين، وفي وصف الموكلين بعذابهم حتى ينفر الناس من الخطيئة، ويتجافوا عن المعصية.
إبليس في الروايتين
ذكر الجحيم يتتبع ذكر إبليس. وإبليس رمز الشر حتى عند عبدة الشيطان، فهم يعبدونه اتقاء لشره. فتحدث عنه المعري ولم يغفل دانتي ذكره. وكلاهما صورة في آلامه وأوصابه وفي عذابه وما يلاقيه. بيد أنك إذ تقرا وصف المعري له تغرق في الضحك وتعلم أي سخرية بلغها أبو العلاء. وأي دعابة اغرق فيها رهين المحبسين. وتعلم من بعد ذلك ان صاحب رسالة الغفران هو اشد كتاب العربية جرأة على ما لم يجروء عليه أحد غيره.
وسأنقل إليك ما ذكره عن إبليس متدرعا بالشجاعة أنا الآخر حتى في النقل، ولولا ان واجب الموازنة يضطرني للنقل. ولولا أن حاكي الخبر ليس بمسؤول عنه، لضربت صفحا عما سطره المعري عن ابليس. فقد ذكره وهو يحاور ابن القارح يسائله عن صناعته ويذم له حرفة الأدب. ويسائله عن أعمى البصرة بشار بن برد ذي اليد عليه كما يقول حين فضله على آدم. ثم يستفتيه في تحريم وتحليل. . وفي أحكامفقه ودين. . .
فدونك ذلك القصص أكتبه واترك للقارئ تفهم ما تحدث به المعري في خلاله. وقال المعري محدثا عن ابن القارح (ثم يطلع على أهل النار فيرى إبليس لعنه الله وهو يضطرب في الأغلال والسلاسل، ومقامع الحديد تأخذه من أيدي الزبانية، فيقول الحمد لله(46/35)
الذي أمكن منك يا عدو الله وعدو أوليائه، لقد أهلكت من بني آدم طوائف لا يعلم عددها إلا الله، فيقول: من الرجل؟ فيقول: أنا فلان ابن فلان من أهل حلب. كانت صناعتي الأدب أتقرب به إلى الملوك، فيقول بئست الصناعة إنها تهب غفة من العيش لا يتسع بها العيال، وإنها لمزلة القدم وكم أهلكت مثلك، فهنيئا لك إذ نجوت، فأولى لك ثم أولى لك، وان لي إليك حاجة فان قضيتها شكرتك يد المنون، فيقول: إني لا اقدر لك على نفع، فان الآية سبقت في أهل النار، اعني قوله تعالى (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا أن الله حرمها على الكافرين) فيقول: إني لا أسألك في شيء من ذلك ولكن أسألك عن خبر تخبرنيه، أن الخمر حرمت عليكم في الدنيا وأحلت لكم في الآخرة، فهل يفعل أهل الجنة بالولدان المخلدين فعل أهل القريات؟ فيقول: عليك البهلة، أما شغلك ما أنت فيه؟! أما سمعت قوله تعالى (لهم فيها أزواج مطهرة وهم خالدون). .؟
فيقول: وان في الجنة لأشربه كثيرة غير الخمر فما فعل بشار ابن برد؟ فان له عندي يدا ليست لغيره من ولد آدم، كان يفضلني دون الشعراء، وهو القائل
إبليس افضل من أبيكم آدم ... فتبينوا يا معشر الأشرار
النار عنصره وآدم طينة ... والطين لا يسمو سمو النار
(لقد قال الحق: ولم يزل قائله من الممقوتين)
في تلك الصورة الهازئة الساخرة يرسم لنا المعري إبليس تضربه المقامع. ويضطرب في الأغلال وهو لا يني يسأل ابن القارح تلك الأسئلة السفسطية من ناحية، البذيئة من ناحية أخرى. ولكن المعري جمع به خياله في تلك الليلة النبوية فتكشف عما ترى
ودانتي بماذا وصف إبليس؟ وماذا تخير له من طبقات الجحيم؟ وعماذا سأله؟
لقد تخيله تعصف به الثلوج في ظلمات السعير. ويهلكه لزمهرير في الهاوية. وهو فيما بين الثلوج والعواصف كطاحونة الهواء تقلبه الرياح كيفما أرادت.
ثم اختار له الدرك التاسع من جهنم وهو اسفل طبقتها واشدها هولا وبلاء.
ولم يسأله في الأدب ولا عن أحد الشعراء ولا عن أحكام تحليل وتحريم. ولم يكن له سعة اطلاع المعري حتى يدخل في نحو ذلك النقاش. بل انساق يعلل ما أحاط به من عذاب اليم(46/36)
بأنه كان ملكا صوره ربه فاحسن صورته، وأعطاه جمالا يفرع فيه كل مخلوق بيد نفسه المليئة شرا وخبثاً جعلته يسرف في الغرور حتى تمرد على ربه فطرده من جنته وبقي طيلة عمره مذءوماً مدحورا وله في الآخرة عذاب شديد.
يتبع
محمود احمد النشوي(46/37)
أيها الشرق. .!
أيها الشرق! يا وطني الكبير،
أهتف بك فتسبق إلى عيني باكية دامية ذليلة، وتتدفق على ذهني ذكريات بعضها شجي يزجي الألم حاداً عنيفا، ويذكي الدم حاراً مستعراً، وبعضها حلو يثمل النفوس بالفخر، ويهز الأعطاف بالإعجاب. .
ولكنك الآن ذليل أيها الشرق! آه لو استطاع هذا القلم الضعيف أن ينفث في نواحيك الإيمان، ويبعث في جوانبك الأمل، لكان سعيداً، أنت يا وطني مهبط الحضارة ومسقط النور، ما في ذلك شك. أنت مجال الأبطال والقوة، ومراد الحكمة والنبوة، ومخرج الدعاة والقادة، هذا حق لا تخلص إليه شبهة، ولا تنصرف إليه ريبة.
ليقل - كبلنج - إن الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان - فلسنا نتوقع من دعاة الاستعمار أقل من هذا. . ولكن الحقيقة تلطم كبلنج وتلزم المكابرين من أمثاله حدود الاقتناع
فان كانت أوربا تفخر بنابليون لأنه عبر الألب وتخطى البرانس، ونلسن لأنه كسب موقعة أو موقعتين، وولنجتن لأنه ذبح مليوناً أو يزيد، فان الشرق ليتية بزغلول لأنه قهر إنجلترا بغير السيف والرمح، وغاندي لأنه هز إنجلترا بغير الحديد والنار، ومصطفى كمال لأنه دوخ في ساح الحرب أصحاب الغازات الخانقة والطائرات المحلقة والمدافع الرشاشة. . .! وإبراهيم لأنه طرق أبواب اليونان مرات وعبث بحبل أولمب مهبط الوحي وملعب الأبطال ومستقر الآلهة!!
وإن كان للغرب أن يفخر بروسو وفولتير وشكسبير وجوت وبيرون، فإن الشرق والعالم يفخر بالأفغاني ومحمد عبده وابن خلدون والمتنبي وفيلسوف المعرة. الشرق غني برجاله قوي بأبطاله، خصب بحضاراته. . . ولكني بعد هذا ومع هذا لا أستطيع إلا الاعتراف بالحق - وليس ينكر الحق إلا الضعاف - والحق أن الشرق كان فتياً فأصابه الكبر، وكان قوياً فأخذه اليأس والخور، وكان عاملاً فجنح إلى الراحة واستراح إلى المسالمة. . . هذا هو المنطق الذي يرضي الله والعقل والناس، والحق إننا نغالي في تقدير ما ضينا ونشغل به عن حاضرنا. وهل أتاك حديث المرأة الصلعاء التي أخطأها الزواج لصلعها فكانت إذا جاءها الخاطب ثم هم بأن ينصرف استوقفته قائلة (ألم تر إلى خالتي إن لها شعراً جميلاً!!)(46/38)
هل لمحت وجه الشبه؟
الشرق محتل كله أو يكاد: تضرب في نواحيه الخيام الدخيلة، وترفرف على سواريه الأعلام الغريبة، وتحلق في سمائه الطائرات الأجنبية. . . وأهل الشرق نيام ضرب عليهم الغفلة وملكهم اليأس واستبد بهم الخور وانشقت بهم العصا.
يا أبناء الشرق! إن أخاف عليكم اليأس أن يدرككم فيشل عقولكم، ويغل أيديكم ويضل هداكم.
أنا أعرف وأعترف أن الغاية بعيدة، وأن السبيل قفر وعر وأن الشرق ضعيف الحول والحيلة، وهذا بعينه ما يلقى في نفسي الجزع ويردني إلى حيرة تشبه أن تكون جنوناً لأني أخاف عليك أيها الشرق أن تلقى عصا لأمل وتغمد سيف العزيمة وترفع الراية البيضاء. . .!
وأخاف عليك ظاهرة أخرى: في الشرق تنشق العصا وتتفرق الكلمة وتشت الوحدة، وتتبدد القوافل في شعاب الجبال فلا تزال كل قافلة تتهادى وحيدة فريدة في الوهاد والنجاد حتى ينال منها الجهد، وتشتبه عليها السبل وتنبت بها الأسباب في صميم الصحراء. .! والعدو على المستشرف يرقب ويغري ويبتسم، حتى إذا ضمن تصدع الشمل وتقطع الأسباب انثنى فهاجم كل قافلة في مواضع الضعف منها، فأطمع الأولى بالرغبة، وقمع الثانية بالرهبة، وأغرى الثالثة بالرابعة. . . حتى يستقيم له الأمر ويخلو له الطريق ويصفو له الجو. أفليس أجمع للكلمة وأضمن للنصر وأحزم للرأي، لو تلافت هذه القوافل كلها في السهل فضمت شتاتها ولمت شعثها ونظمت نفسها في سرب طويل قوي ثم سارت على حداء الأمل وهداية الأيمان. .؟؟
مؤلم هذا الانقسام الذي يشيع في صفوف المجاهدين في بلاد العرب وفي مصر وفي الهند، في الجزيرة ملكان مسلمان يتحاربان وفي مصر أحزاب تتطاحن. وفي الهند طوائف تجور عن السبيل والغاية. والشرقي المخلص الصادق لا يستطيع أن يشهد هذا دون أن يضيق به ويأسف له، ويتمنى على الله أن يكشف عن الشرق هذا البلاء. . .
أيها الشرق. . . أحب أن أعتقد أن سكونك تحفز الأسد قبل أن يقفز، وأحب أن أسمع أن صمتك استقرار العاصفة قبل أن تزأر وتثور وتدوي، وأحب أن لو كان سيرك تسلسل(46/39)
النهر قبل أن يفيض ويطغى فيجترف السدود ويكتسح الحدود ويجتاح العالم. وأحب ألا يأكل بعضك بعضاً، وألا يقضي قويك على ضعيفك، وأحب أخيراً ألا تضيق بالألم وألا يأخذك اليأس، فلا بأس بالمحن لهيب يصفي الروح وينقي الجوهر وينفي العرض، ويذكي الحفيظة ويغلي الدم ويفجر الثورات.
محمود البكري القلوصناوي(46/40)
7 - بديع الزمان الهمذاني
للدكتور عبد الوهاب عزام
(تتمة)
يقول الحصري: إن البديع حاكى ابن دريد. وهي رواية جديرة بالاهتمام. ولست أعرف أين أحاديث ابن دريد إلا أن تكون بعض روايات القالى عن ابن دريد في الأمالي تتضمن هذه الأحاديث أو أشباهها. ومن ذلك ما رواه القالى عن ابن دريد من سؤال إعرابي في المسجد: (قال أبو علي وحدثنا أبو بكر رحمه الله، قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن يونس، قال وقف إعرابي في المسجد الجامع في البصرة فقال: قل النيل، ونقص الكيل، وعجفت الخيل، والله ما أصبحنا ننفخ في وضح، ومالنا في الديوان من وشمة. وأنا لعيال جربة. فهل من معين - أعانه الله - يعين ابن سبيل، ونضو طريق، وفل سنة؟ فلا قليل من الأجر، ولا غنى عن الله، ولا عمل بعد الموت).
وأقرب من هذا إلى المقامات حديث المرأة التي سكنت البادية قريباً من قبور أهلها، وهو مروي عن ابن دريد أيضاً، ووصية رجل أعمى من الأزد لشاب يقوده ويؤيد هذا ما رواه بن خلكان عن المرزباني عن ابن دريد
(وقال المرزباني: وقال لي ابن دريد سقطت من منزلي بفارس فانكسرت ترقوتي فسهرت ليلتي. فلما كان آخر الليل غمضت عيني فرأيت رجلا طويلا أصفر الوجه كوسجا دخل عليّ وأخذ بعضادتي الباب، وقال أنشدني أحسن ما قلت في الخمر. قلت ما ترك أبو نواس لأحد شيئاً فقال أنا أشعر منه. فقلت ومن أنت؟ فقال أنا أبو ناجية من أهل الشام وأنشدني:
وحمراء قبل المزج، صفراء بعده ... أتت بين ثوبي نرجس وشقائق
حكت وجنة المعشوق صرفا فسلطوا ... عليه مزاجا فاكتست لون عاشق
فقلت أسأت، فقال ولم؟ قلت لأنك قلت وحمراء، فقدمت الحمرة ثم قلت بين ثوبي نرجس وشقائق فقدمت الصفرة، فهلا قدمتها على الأخرى؟ فقال ما هذا الاستقصار في هذا الوقت يا بغيض؟
وجاء في رواية أخرى أن الشيخ أبا علي الفارسي النحوي قال أنشدني ابن دريد هذين البيتين لنفسه، وقال جاءني إبليس في المنام وقال أغرت على أبى نواس، فقلت نعم، فقال(46/41)
أجدت إلا أنك أسأت في شيء ثم ذكر بقية الكلام اهـ
فهذه الرواية عن ابن دريد تذكرنا بالمقامة الإبليسية والمقامة الناجية من مقامات البديع.
وكذلك وصف الفرس في المقامة الحمدانية يشبه وصف الفرس في الأمالي. ويمكن إذا أريد، ذكر كل ما يخطر بالبال، أن يقال إن ابن دريد أزدى وعيسى بن هشام كأنه ينتسب إلى الازد في المقامة الفزارية.
وفي كتب الأدب كثير من القصص الصغيرة المصوغة في أسجاع مختارة وكلمات منتقاة. ولكن مهما يقل فبديع الزمان فيما نعرف، مخترع هذه القصص الخيالية التي عرفت في الأدب العربي باسم المقامات، وأما روايات اللغويين فقد رويت على أنها حقائق، وأريد بها رواية اللغة قبل أي شيء آخر، وحديث الراوي فيها مرسل لا صناعة فيه، ولا يقصد في الرواية على حين يستوي في المقامة أو يتقارب من حيث البلاغة والفصاحة حديث عيسى بن هشام وكلام أبي الفتح الإسكندري.
وأما تسمية هذه القصص بالمقامات فلأن أبا الفتح يقوم فيها واعظا أو مستجديا أو محتالا وهلم جرا. وفي القرآن الكريم:
(عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا). وفي شعر لبيد:
ومقام ضيق فرجته ... بلسان وبيان وجدل
وقد استعملت كلمة (مقامة) في معنى مقام. وفي رسائل الخوارزمي (ولكل مقامة مقالة). وفي شرح الشريشي لمقامات الحريري (والمقامات المجالس واحدتها مقامة. والحديث يُجتمع له ويجلس لاستماعه يسمى مقامة ومجلساً، لأن المستمعين للمحدث ما بين قائم وجالس، ولأن المحدث يقوم ببعضه تارة ويجلس ببعضه أخرى قال الأعلم: المقامة المجلس يقوم فيه الخطيب يحض على فعل الخير.)
والهمذاني نفسه يبين ذلك بقوله في المقامة الوعظية (قال عيسى ابن هشام فقلت لبعض الحاضرين من هذا؟ قال شخص قد طرأ لا أعرفه. فاصبر عليه إلى آخر مقامته، لعله ينبئ عن علامته)
يقول الثعالبي إن بديع الزمان أملى المقامات في نيسابور، ويظهر أنه أملى معظمها هناك، وأنه أملى بعد مقامات أخرى كالمقامات الست التي مدح بها خلف بن أحمد أمير سجستان.(46/42)
والحصري يدلنا على تاريخ المقامة الحمدانية يقول إن البديع أملاها في شهور سنة خمس وثمانين وثلاثمائة: وأظنه أملى معظم المقامات قبل هذا
هل ارتجل المقامات؟
يروي الشريشي عن بعض أشياخه أن البديع ارتجل المقامات، وأنه كان يقول لأصحابه اقترحوا غرضاً نبني عليه مقامة فيقترحون ما شاءوا فيملي عليهم المقامة ارتجالا. ولا أحسب هذا حقاً، فبديع الزمان نفسه لم يدع هذا، وقد فخر بالمقامات على الخوارزمي وتحداه أن يأتي بمثلها، ولم يتحد بذكر الارتجال، بل قال انه أملاها والإملاء لا يقتضي ارتجالا.
موضوع المقامات
أراد البديع بمقاماته أن يدل على تمكنه في اللغة ومكانته من البلاغة، وقدرته على تصريف القول في فنون شتى. هذا غرضه الأول، وقد سلك إلى هذا الغرض موضوعات كثيرة
وليست الكدية موضوع المقامات كلها، بل كثير منها لا كدية فيه، وفي كثير منها لا يقف أو الفتح موقف المستجدي إلا في آخر المقامة وبعضها ليس فيه إلا الاستجداء كالمقامة الساسانية والمجاعية والبخارية والمكفوفية.
ومن أغراض المقامات الوعظ كالمقامة الوعظية والأهوازية، وفي بعضها الألغاز كالمغزلية والإبليسية. وبعضها أنشئ للمدح وهي المقامات الست التي مدح فيها خلف بن أحمد: الناجية والخلفية والنيسابورية، والملوكية، والسارية، والتميمية. وبعضها يتضمن الحجاج في المذاهب كالمقامة المارستانية، وبعضها للكلام عن الشعراء ونقد الشعر، كالمقامة القريضية والشعرية والعراقية والابليسية، وبعضها يتضمن حوادث زمانه وأخلاق معاصريه وأحوالهم، كالمقامة الأسدية والخمرية التي نرى فيها أبا الفتح إماماً في مسجد يشم رائحة الخمر من عيسى بن هشام وأصحابه فيزجرهم ويشتمهم، ثم نراه بعد في حانة يلقاه فيها هؤلاء، وكالمقامة الرصافية التي ذكر فيها أصناف اللصوص وحيلهم. وهي تشبه القصيدة الساسانية لأبي دلف الخزرجي، معاصر بديع الزمان.
وهو في هذا الضرب من المقامات كالمقامة المغيرية، والحلوانية، يبين عن علم واسع(46/43)
بأحوال زمانه، ويذكرنا بالجاحظ، والمقامات البشرية والصيمرية أقرب إلى روايات الأدباء، وهو حسن الفكاهة جداً في المقامة المغيرية التي وصف فيها أبو الفتح ضيفه الثرثار، والحلوانية التي يصف فيها اختلاف رجلين في الحمام على أجرة عيسى ابن هشام والحلاق المجنون، والأصفهانية التي وصف فيها الإمام الذي يطيل الصلاة.
وانظر قول عيسى بن هشام فيما أصابه في الحمام: (فأخذنا إلى الحمام السمت، وأتيناه فلم نر قوامه، ولكني دخلته) الخ المقامة الحلوانية
والقصص في المقامات لا تفصيل فيه ولا اتقان، وإنما هو وسيلة إلى مواقف الإسكندري أو عيسى بن هشام، ويحس القارئ بعيب في بعض هذه القصص على قصرها: ففي المقامة الأصفهانية يحدثنا عيسى ابن هشام أنه كان على أهبة السفر فسمع النداء للصلاة، وخاف أن تفوته القافلة، ولكنه آثر أن يصلي فابتلى بإمام مطيل ممل، ثم قام رجل فقال من كان منكم يحب الصحابة والجماعة، فليعرني سمعه ساعة، فلم يستطع عيسى الخروج، ثم قال الرجل قد جئتكم ببشارة من نبيكم لكن لا أؤديها حتى يطهر الله هذا المسجد من كل نذل يجحد نبوءته، قال عيسى فربطني بالقيود، وشدني بالحبال السود. ويدعى الرجل أن معه دعاء علمه إياه النبي في المنام، وأنه كتبه في رقاع فتسابق الناس إلى الرقاع، وانثالت على الرجل الدراهم. وعرف عيسى بعد خروجه أنه أبو الفتح، ولا يخبرنا ما الذي فعل في أمر السفر الذي بدأ المقامة بحديثه. وفي المقامة الفزارية يقول انه لقي الإسكندري في ليلة يضل فيها الغطاط، ولا يبصر فيها الوطواط. ثم يقول آخر المقامة، فحدر لثامة عن وجهه، فإذا هو والله شيخنا أبو الفتح الإسكندري، فكيف عرفه في الظلام؟ وفي المقامة الغيلانية يحدث عيسى بن هشام عن عصمة بن بدر الفزاري أنه لقي ذا الرمة والفرزدق، ولا يقول إنه لقيهما في منام أو لقي شيطانيهما فكيف رأى هذين الشاعرين رجل معاصر لعيسى بن هشام الذي يحدث بديع الزمان.
وأما عيسى بن هشام وأبو الفتح الإسكندري فيقول عنهما الحريري في مقدمة مقاماته: (وكلاهما مجهول لا يعرف، ونكرة لا تتعرف.) وكأنه يريد أن يقول انهما ليسا كأبي زيد السروجي، عيسى بن هشام لا ينتسب إلى بلد، وفي بعض المقامات كلام يمكن أن يؤخذ منه أنه ينتسب إلى الازد، وابو الفتح انتسب في المقامة العراقية إلى عيسى، وهو منسوب(46/44)
إلى الإسكندرية من الثغور الأموية وهي نسبة غريبة. ماذا يريد بالثغور الأموية؟. يرى شارحو المقامات أنها ثغور الأندلس، وكانت بها إذ ذاك دولة بني أمية. وهذا غريب كذلك فما عرف في كتب التاريخ أو تقويم البلدان اسم الثغور الأموية، ولا الظن بالبديع أنه ينسب صاحبه إلى الأندلس ويسميها الثغور الأموية، وهو رجل يكره الأمويين كما يؤخذ من شعره. أرى في المسألة وجهاً آخر لا أجزم به، ولكني أرجحه. ذلك أن تقرأ (الثغور الأموية). نسبة إلى مدينة آمو أو أموية وهي مدينة آمل الشط على نهر جيحون أو نسبة إلى جيحون وهو يسمى أمودريا أي نهر أمو. ويقول ياقوت في معجم البلدان. وهو يعدد المدن التي سميت الإسكندرية: (ومنها الإسكندرية التي على شاطئ النهر الأعظم.) هذا إلا أن يكون البديع نسب صاحبه الذي لا يستقر في مكان نسبة لا يعرفها أحد.
وبعض المقامات لا يسمى فيها أبو الفتح، وان عرف بصفاته كالأهوازية والبصرية، وبعضها يخلو من أبي الفتح اسماً وفعلاً كالمقامة البغدادية والنهدية. وأحياناً يأتي أبو الفتح في آخر المقامة بعد مضي معظم حوادثها كالمقامة الأسدية التي تصف لقاء عيسى بن هشام وأصحابه الأسد، ثم قاطع طريق، ثم لقاء أبى الفتح بعد ورودهم حمص.
أسلوب البديع في نثره
البديع يلتزم السجع إلا قليلاً. وهو في الرسائل اسجع منه في المقامات، وجملة قصيرة وسجعه متقارب. وذلك أحسبه نتاج الطبع الذكي الحساس، الذي يود أن يسمع الأنغام متتابعة رنانة. وذلك ما جعله يؤثر في كثير من شعره الأوزان المجزوءة. وهو في الرسائل يترك السجع أحياناً إلى المزاوجة أو الإرسال كقوله في رسالته إلى أبي الطيب عن الأمير خلف بن أحمد: (فلما ايفع وارتفع، طالبته الهمة العلياء برفض الدنيا حتى يؤدي فرض الله في الحج، فقام عن سرير الملك، إلى سبيل النسك، فحج البيت، ودرس العلم حتى علم ناسخ الكتاب ومنسوخه، ومباحه ومحظوره الخ) وكذلك في المقامات يترك السجع أحياناً ولا سيما في رواية عيسى بن هشام
وقد يأتي بثلاث سجعات متواليات أو أربع، بل يتابع في الرسائل عشر سجعات أحياناً كقوله: (ونادمته والمنادمة رضاع ثان، وطاعمته والمواكلة نسب دان، سافرت معه والسفر والأخوة رضيعاً لبان، وقمت بين يديه والقيام والصلاة شريكا عنان، وأثنيت عليه، والثناء(46/45)
من الله تعالى بكل لسان، وأخلصت له والإخلاص محمود من كل إنسان. ثم أربع سجعات أخرى على هذا الروي
وقد يجعل السجع مركبا على رويين في أربع فواصل أو ست كقوله في رسالة خلف بن أحمد: (وكأن هذا العالم قد أحسن عملا فجعل هذا الملك ثوابه. وكأن هذا الملك قد أساء مثلاً، فجعل هذا العالم عقابه)
وقوله: فكان ما أضعناه، كإنا زرعناه فأنبت سبع سنابل، وكان ما فقدناه، كإنا أقرضناه هذا الملك العادل
وقد يسجع في أثناء الجملة قبل تمام المعنى كقوله (حقاً أقول أن التمرة، بالبصرة، اقل خطراً من البذرة، بهذه الحضرة، وإني أيد الله القاضي على قرب العهد، بالمهد، قطعت عرض الأرض، وعاشرت أجناس الناس)
ومما يكثر في نثر البديع تحليته بالشعر، وقد قال الثعالبي في ذلك: (ويوشح القصيدة الفريدة من قوله، بالرسالة الشريفة من إنشائه، فيقرأ من النظم والنثر، ويروي من النثر والنظم. وهو لا يكتفي بتفصيل نثره بأبيات من الشعر، بل يصل النثر بالشعر حتى يتوقف معنى كل منهما على الثاني، كرسالته إلى الخوارزمي التي ذكرناها فيما تقدم، وكقوله في مدح أبي جعفر الميكالي:
ولو نظمت الثريا ... والشعر بين قريضا
وكامل الأرض ضربا ... وشعب رضوي عروضا
وصغت للدر ضدا ... أو للهواء نقيضا
بل لو جلوت عليه ... سود النوائب بيضا
أو ادعيت الثريا ... لأخمصيه حضيضا
والبحر عبد لهاه ... عند العطاء مغيضا
لما كنت إلا في ذمة القصور، وجانب التقصير.)
ومن أحسن افتنانه في ذلك المقامة الوعظية التي لاءم فيها بين المنثور والمنظوم أحسن ملاءمة.
ويجد قارئ الرسالة والمقامات قطعاً من تحداها في الأخرى فمقامة الوصية التي يوصى(46/46)
فيها تاجر ابنه معظمها في إحدى رسائله وبعض المقامة النيسابورية ومعظم العلمية، في رسالة إلى أبي القامس الكرجي التي وصف فيها بعض القضاة. وبعض المقامة الملوكية التي مدح بها خلف بن أحمد في رسالة يمدح فيها الملك نفسه.
وكذلك نجد في الديوان والرسائل والمقامات وصف وقائع واحدة، كلقاء الأسد في الديوان والمقامة الاسدية، وقطع الأعراب طريقه في هذه المقامة والرسائل. وذلك يثبت أن المقامات تمثل كثيراً من حوادث زمانه.
نشأ البديع في عصر بلغ فيه الأدب العربي أوجه، وازدهر فيه الأدب الفارسي، وقد عرفنا أنه ترجم كثيراً من الأبيات الفارسية في ديوانه. فهل ظهر أثر الفارسية في معانيه وألفاظه؟ أثر قليل.
فمن المعاني الشائعة في الأدب الفارسي قوله (أو لم يكفنا الجرح حتى ذر عليه الملح) وقوله (أنا العبد قرطك في أذنه مطيعاً وطوقك في عنقه) فهي عبارة فارسية شاعت حتى كنى عن العبودية بالحلقة في الأذن. وقوله: (هيفاء لا تسع العيون جمالا) فتسع هنا تشبه كنجد بالفارسية
ومن الألفاظ الفارسية أو العربية المستعملة على الأسلوب الفارسي قوله في مدح السلطان محمود:
إذا ما ركب الفيل ... لحرب أو لميدان
رأت عيناك سلطانا ... على كاهل شيطان
ففي هذا إشارة إلى قصة طهمورث والشيطان.
وقوله:
عند فديتك جدي ... شويته بمضيره
فان أتيت فخير ... وأن أبيت فخيره
فالخيرة فارسية معناها الحيرة أو اللغو. ولذلك قال الصديق الذي أرسل إليه هذان البيتان: لا نبيع الخير بالخيرة وأجاب الدعوة. وقوله:
يا بن النبي كفاني ... من الثناء وبسي
بسي بمعنى حسبي، وهي كلمة بس المستعملة في العامية المصرية.(46/47)
وقوله في الديوان:
فان مددت يدي يوما فلا رجعت ... حتى يعود على شسته النوق
والشست سية القوس، والنوق تعريب نوك أي السهم.
وقوله:
والدهر لونان في تصرفه ... يضرب بالبيدق الغرازينا
وفي الرسائل الباغ بمعنى البستان، وكتخداي الخلق، وزرق بمعنى نفاق، وقلب بمعنى زائف، والسياسة في معنى العقوبة، وقوله (فان كان قد عرض في البين عارض العين.) فاستعمال البين هذا الاستعمال ترجمة كلمة (درميان). وحصار بمعنى قلعة وغير ذلك.
هذا ما وسعه المقام في الإبانة عن سيرة الهمذاني وأدبه. ولا بد من ترتيب الرسائل ترتيباً تاريخياً لتفصيل سيرته ومعرفة تطور أسلوبه. وحسبنا الآن ما قدمنا عن هذا الأديب العظيم الذي أخترمتهالمنية في سن الأربعين، ولو عمر لكان عسى أن يكون له في الأدب العربي آثار أبعد شأوا، وأعظم خطرا وأسير ذكرا من آثاره التي أوحت إلى معاصريه أن يلقبوه (بديع الزمان).
عبد الوهاب عزام(46/48)
هانيبال يرثي أخاه
للأستاذ فخري أبو السعود
بينما كان هانيبال في جنوب إيطاليا غازياً سار إليه أخوه بمدد فقابله الرومان في الشمال فقتلوه، وبعثوا برأسه إلى أخيه
رويد الليالي قد خَضَدْنَ قناتي ... ويا طالما استعصت على الغمزات
سلام على عهد العظائم والعلا ... وتلك الفتوح الغُر والغزوات
وأيام ألهو بالمدائن زاحفا ... وأهزأ بالأوعار والفلوات
لِيَهْن بني روما صعود نجومهم ... فَنَجْمِيَ هاوٍ حالك الظلمات
اتانِيَ منهم جحفل بعد جحفل ... فمزقتهم في خالد الوقعات
وشردتهم عن معقل إثر معقل ... وروَّيت من قوادهم أسَلاَتي
وبات حماهم مستراد فوارسى ... ومعهد لذاتي ومُرْ تَبَعاتي
فَثَّلوُّا أكاليلى وحلوا عزائمي ... بمصرع نَدْبٍ خائض الغمرات
طلوُبِ عظيمات زعيم كتائب ... ركوب مشقات قريع كماة
رضى السجايا ثابت الجأش باسل ... كريم المحيا ناضر القسمات
فهل علموا لادرَّ درُّ أبيهمُ ... بأي صفات أوقَعُوا وسِمات؟
أذَلوا أجلَّ الهام غرد أو عفرَّوا ... بساقي تراب أشراف الجبهات
فأصبح من بعد الأمارة جسمه ... أنيس ذئاب أو سمير بُزاة
وأدْلوّا بهذا الرأس فهو مُخَبِّري ... بتصويح مجدي وانطواء حياتي
أخَيَّ جَنىَ ظلما عليك تجبري ... وُغلوّاهُ أطماعي ولؤم عداتي
فداؤك أعضائي، لقد كنت ساعدي ... فبان، فقلبي دائم الحسرات
وكنت أليفي مذ شببنا وصاحبي ... وكنت خدين اللهو والصبوات
وكانت تهاب الأُسد بأسك قانصا ... وترمي مصيبا أبعد الفلوات
وكنت مبائي إن ألمَّتْ ملمة ... ومرجع أسراري وكهف شكاتي
وكنت ظهيري في مُغار وملحم ... ويوم طرادٍ هائج الهبَوات
وكنت ملاذ الروح واللب والنهى ... وكنت سراج الرأي في الشبهات(46/49)
أخيَّ وهل مثلُ الأُخوة نعمة؟ ... وهل بعدها من لُحمة وسداة؟
فديتك منهوبَ الترائب مثخَنا ... بكف الأعادي داميَ الطعنات
تنوشك منهم عصبة بعد عصبة ... خضيبَ العوالي ثائرَ الفتكات
سيبكي فؤادي يوم رزئك موجعا ... واسقي قديم العهد بالعبرات
مصابك أو هي مِرَّني وأغصني ... وزهدني في العيش والمتُعات
وأبدي لعيني آخر المجد والعلا ... فعفت طلاب المجد والعظمات
فلا طال عيش آض بعدك موحشا ... كبيت خلاء مقفر العرصات
سوى ريثما أشفي من الروم غلت ... وأنهل من تلك الجموع ظُباتي
ويبكي حسامي مصرعَ الفضل فيهمُ ... ويأخذ من أبطالهم بِتِرات
فخري أبو السعود(46/50)
تذكار الشاعرة الكونتس دي نواي
للأستاذ خليل هنداوي
- 2 -
الحب والموت في شعرها
لم تذهلها هذه الطبيعة التي فنيت في حبها وجنحت الويها كل ميولها وأهوائها عن كل شيء، كما كانت تقول (إن نظرات الغابات والغدران والحقول أشد تأثيراً في نفسي من نظرات الإنسان) ولكنها سرحت في عوالم غير هذه العوالم: في عالم الحب، وعالم الموت والفناء.
يقول (جابر يول) (لم أجهل إلا يوما واحدا إن هذه الهائمة بالأزهار والأعشاب قد جحدت العالم كله لتقود نفسها إلى حب شهواني)
(ماذا يهمني إذا تلاشى اليوم عالم من الوجود؟
(فالزمن يستطيع أن يلد - ما ظلت حيا - صيفا جديداً)
وهي في هذه الخطرة غادة فاسقة متوهجة، تتبع ملذاتها الفانية برغبة عارية، وفي عينيها رواقان يظهران ويختفيان. يقولا ن (تعال، تعال، تعال!) وهادنت الساعة التي كانت ترتقبها لتنعم فيها بالرجل الذي توهجت للقائه. وهذه هي نفس الروح الأولى بما يغشاها من ذهول ووثوب، لا تهيم - في هذه المرة - في وجه الطبيعة، ولكن في وجه الإنسان، وعناق الإنسان
ولكن ما عسى يكون هذا الحب؟ إذا كانت الشاعرة تتخيل أن الحب بعد أعوام طافحة بالخداع والافتتان والزهو يغدو الوسيلة الوحيدة لتوليد الجشع النفسي الباعث على امتلاك الوجود!
(إن الوجود النقم الذي لا يأنس أبدا. . . .
أستميله إلي، وأطوي نفسي في حناياه. . .
حين يلتف ذراعاي على جسد نقي لامع كالصيف)
وهل يكون هذا الجسد إلا جسد من تحنو عليه ويبهجها البلوغ إليه؟(46/51)
ألا أيها الوجود! إنما يدرك الناس باللذة الملتهبة نفسك التي لا نهاية لها.)
أحب منها هذا الارتباك بعد العناق ممثلا في قولها:
(إن نفسي خارجة عني، واللانهاية تملأ روحي روعة، فهل أراني متحدة معك. أم ممتزجة معها؟
إنني أحس قلبي، في جنح الليل الثائر. . . مؤتلفا مع النجوم.)
وهذا الاعتراف من والهة تؤمن بأن (اللذة لا تكمل الرغبة) أوه وهي مخدوعة بعمر السرور القصير، تاوى إلى جنات أحلامها الزاهية وتقول
(هذه كلها ستبقى عندما الحلم يفر،
هذه التي سنقدم لها في أعماق الليالي شفاهنا مغشاة بالظل، ونفتح لها أذرعنا مغمورة بالحلم.)
إلا تتجلى في هذه المقاطيع ذات الروح التي تجلت في مقطوعات الحدائق!
(عندما يطغى على الألم من وجهك الساطع
عندما لا يقدر قلبي المستعبد على مغادرتك
أحلم بأن ورائي - مغاني بعيدة وسفنا وموانئ، ومدنا أنيسة ما زالت تبهر لبى
ورغبتي الضالة تؤمن بأنها لا تقدر أن تحيا بعيدة عن هذه الشواطئ أنا في غنى عن كل شيء حين أترنم بها)
وقد يتجهم في وجهها كل وجوه الحب فتضمر الانتقام من الرجل، أو تغفي عنه. وتهيم في الحياة معتزلة بنفسها،
(أنا أعلم أن الهواء جميل، وأن هذا الفضاء هو الذي يسطع وأن لمعات النهار لا تهب على منك
وأسمع كبريائي يقول لي
أيتها الغادة العزيزة، أنا حماك الغيور إلى الأبد)
ولننظر إلى هذا الكائن المحبوب! كيف أرضى نفسه وأحب نفسه، وكيف طغى عليه القلق؟
(أيها الكائن العزيز الذي بكيته. . .
هل أستطيع أن أغفر لنفسي القاسية قعودها عنك هادئة يوم انتابك الألم)(46/52)
يقول (جابريول): وفي ديوان (دي نواى) شعر مجوني شهواني لم تصنفه قلبها امرأة، تبرز فيه الحواس متيقظة، تتروح وتتلمس وتتذوق، شعر امرأة تتنشق وترشفها، وتتروح الطيوب العابقة من بلاد المشرق.
(عبير المسك، والأرز والورد يضمحل مع الرياح
والحب يعيده وينشره بأنامله الإلهية في جوف أريكة ملتهبة)
شعر امرأة وصفت العناق بكلمات رقيقة، لها وسوسة القبل وحلاوة العناق.
(وأنا لا أزال أرتقبك لأتذوق هذا السكر الفاسق.
أحلم بنظرتك الطافحة حبا، وبذراعيك العاريتين، وبعطفك الجميل الذي يطير عذبا. . .
ومن مقاطيعها الخالدة ما أوحاه إليها الموت، والموت عندها هو البلد المجدب، حيث لواء الحب فيه غير خفاق. وهذه الفكرة قد تحتلجها كثيرا وتحملها على استحضار الأسقام حين يغيض ماء الشباب، كأنها وثنية يروعها القبر الذي يمثل لها ساحة العدم، وطالما ذكرت الموت فثارت، وهاج قلبها واحتد عقلها وأعلنت حواسها العصيان على (عالم النسيان)
(أيها الموت! أيها السر الجديد! أيها الدرس الذي لا يتبدل.)
ولكن امرأة حية مثلها (ما خلقت لتموت) فكم مرة أعلنت بصفاء نفسها - في أشعارها - أنها لا تريد أن تموت. . . فهي طورا تجرب أن تستأنس بالعدم بواسطة الملاصقة.
(أيها الوجود الذي همت فيه كثيرا
سيأتي يوم تغتمض فيه عيناي. . .
فأحلم، وأنا ملتهبة معتزلة. بآخر شيء على العارض تهافت عليه ناظري عند الرحيل)
وتارة تعلل نفسها بإمكان التقمص والاستحالة.
(أيها الوهم المشتت! ألا تسمع صوت الأرض التي تشق؟)
مثلها كمثل الوثنيين الذي يكتبون ويعلمون (ألا شيء سيحيا بحرارة عروقه). وراء ذلك كله تعتمد على خلودها الأدبي الذي يقدر على استنقاذها من الردى.
(أكتب لليوم الذي أحول فيه رفاتا.
ليعرف الجيل القادم مبلغ ارتياحي للهواء والهناء. اكتب لأكون محبوبة بعد الموت.
إذا ما تلا أحد الفتيان ما كتبته، يحس قلبه يخفق، ويرتعش ويضطرب.(46/53)
وإذا به يحملني في صدره، ويؤثرني على غاداته. . . .)
دير الزور:
خليل هنداوي(46/54)
حول السلم الموسيقي
طالعت في مقال لحضرة الأستاذ مدحت عاصم نشر بالعدد 44
من مجلة الرسالة أن المسافة بين درجتين متتاليتين في السلم
الغرب المقرب تساوي 1615. ولما كانت القيمة الحقيقية
لهذه المسافة ليست وإنما هي أي الجذر الثاني عشر للنصف
ويساوي 0. 9438 (مقربا إلى أربعة أرقام عشرية) على حين
أن 1615 تساوي 0. 9375 ولما كانت فكرة الجذر الثاني
عشر للنصف فكرة أساسية في السلم المقرب الذي يشير إليه
حضرته، بل هي أساس التقريب في بناء السلم بواسطتها أمكن
توحيد المسافة بين الدرجات المتتالية وجعلها جميعاً متساوية،
على حين أن النسبة 1615 إنما تنطبق على السلم الدياتوني
قبل تعديله إلى السلم المقرب في أواخر القرن الثامن عشر،
فلذا رأيت أن أكتب منبها على ذلك.
وقد أشار الأستاذ عاصم في نفس المقال إلى تسمية الدرجة السابعة في السلم بالدرجة الحساسة قال (وان كنت لا أدري مصدر هذه التسمية - وأحسب علماء النغم أنفسهم لا يستطيعون لذلك تفسيراً دقيقا.)
والدرجة الحساسة التي تشير إليها حضرته وهي التي تعرف أيضا بالدرجة المؤدية أو الموصلة إنما سيميت بالحساسة أو الموصلة باعتبار الوظيفة التي تؤديها في التأليف الموسيقي، أو بعبارة أخرى مركزها النسبي في السلم وعلاقتها بالدرجة الأساسية أو الـ ومن المعلوم في التأليف الموسيقي أن الدرجة السابعة تجيء سابقة مباشرة ومؤدية أو(46/55)
موصلة إلى الدرجة الأساسية كما يحدث عند نهاية كل قطعة موسيقية تقريباً، فمثلا الفالس برييانت لشوبان (نمرة 2 من المؤلف نمرة 34)
فإذا علم أن القطعة درجتها الأساسية هي الـ أو الـ فان الدرجة السابعة وهي أو الصول الحادة كما يظهر بوضوح تؤدي أو توصل إلى الدرجة الأساسية في الختام أو الـ النهائية. أما فكرة الحساسية فناشئة عن إننا إذا وقعنا مجموعة النوتات أو الـ المشتمل عل الدرجة السابعة، فإننا نشعر بحساسية خاصة للصوت الحادث أو شعور بتوقع حدوث صوت آخر هو النهائي المشتمل على الدرجة الأساسية.
هذا وقد لاحظت بعض ملاحظات أخرى في المقالين السالفين لحضرته في هذا الموضوع منها وصف حضرته في المقال الثاني (المنشور في 29 يناير) لسلم فيثاغورس بأنه أقدم سلم عرف في التاريخ، مع أننا إذا ضربنا صفحاً عن موسيقى الأمم القديمة كالصين والهند، فان اقدم سلم عند الإغريق هو السلم الدوري ويليه في القدم السلم الفيثاغورسي. ولعل منشأ الخطأ في ذلك يرجع إلى ما حدث في القرون الوسطى من خطأ في هذه الأسماء يرجع إلى امبروز اسقف ميلانو الذي صار بعد ذلك بابا لروما، وسمي باسم جريجوري فانه أصدر أمرا بتجديد السلالم الموسيقية ورد فيه خطأ وخلط كثير في أسمائها.
محمد مصطفى شريف(46/56)
الدوق دي لاروشفوكو
للدكتور حسن صادق
ورأى لاروشفوكو أن يرضي الدوقة فانضم إلى أخيها ودارت رحى القتال. وفي 7 أبريل عام 1652 انتصر جيش الملك في (بلنو) وأثناء ذلك عاد مازاران إلى فرنسا وبدأ يستخدم الحيلة والدهاء في إخماد الثورة، وعرف لاروشفوكو أن الدوقة أعرضت عن حبه وكلفت بالدوق دي نيمور فآلمه ذلك جد الألم. وقد ذكرت حفيدة الدوقة في مذكراتها أن لاروشفوكو كان شديد الرغبة في قطع هذه الصلة والخلاص من هذا القيد. واستدلت على صحة قولها بإحدى مواعظه: (لما نمل الحب، نغتبط إذا خان الحبيب عهد وفائه، لأنه بعمله هذا يحلنا من عهد وفائنا له). ولكن الغيرة بقيت تخز قلبه زمناً طويلاً لأنها كما قال في موعظة أخرى: (تولد مع الحب ولا تموت في كل حالة معه)
نال إعراض الدوقة منالا كبيرا من كبريائه، ولكنه استمر في القتال يشد أزر أخيها. ثم حدثت موقعة حي سان انطوان، وقتل فيها كثير من النبلاء، وأصيب لاروشفوكو برصاصة في وجهه كادت تقضي على بصره، فنقل إلى مستشفة لبانكور وكان هذا آخر عهده بالحرب الأهلية، وجنبته هذه الإصابة عار الاشتراك مع كونديه في قيادة جيش من الأسبان ضد بلاده
ونذير بهذه المناسبة أن عهد الحرب الأهلية من أسوأ العهود التي مرت بها فرنسا، فقد أظهر النبلاء أثناءه نزقا كثيرا، ونبغوا في فن الدسيسة، وكشفوا عن الأثرة المتأصلة في نفوسهم، وجمعوا كل وطنيتهم في مصالحهم الذاتية، وتكالبوا على متع الحياة في جشع وضيع، وكاد بعضهم لبعض في سبيل الألقاب والرتب، وأسالوا الدماء، وأسلموا البلاد للفوضى تفتك بها دون أن يروعهم وازع نفساني. كان كونديه ولاروشفوكو ومن إليهما في ذلك العهد قطاع طرق ورؤساء مناسر، تنهب وتحرق وتهتك الأعراض في مرح وحشي. واهتبل النبلاء فرصة الاضطراب فعاشوا في البلاد ذئابا إقطاعيين، وساءت حال الفلاح حتى عزت عليه اللقمة التي تحفظ ذماءه، وامتلأت السجون بالبائسين الذين عجزوا عن دفع الضرائب الباهظة المفروضة عليهم، ورأت باريس في عام 1652 مائة ألف جائع يهيمون في طرقاتها ويستجدون أهلها وهم في أسمال بالية. ولهذه الأسباب فرح الشعب لما(46/57)
استتب الأمر للملك، ونظروا إلى استبداده نظرهم إلى نعمة هبطت عليهم من السماء.
وأثر هذه الحرب الأهلية المادي ليس بأقل سوءا من أثرها المعنوي، فقد دفعت الناس في طريق النفاق والخيانة والأثرة الجامحة، وكان من نتائجها أن يتهافت النبلاء المتكبرون على قدمي الوزير مازاران يرجون ويستعطفون في ذلة وخنوع
ولم تنتج هذه الحرب أثرا طيبا إلا في الأدب والفنون، وتعتبر نهايتها فاتحة العهد الأدبي الحافل الكبير الذي صقلت فيه العبقرية الفرنسية، وأصبح الأسلوب فيه عذبا نقيا، والتعبير لاذعا دقيقا. وكثير من الذين حملوا السيف وخاضوا غمار هذه الحرب شاهدوا صروحا أدبية خالدة، بعد أن لاحظوا أهواء الناس ورأوهم في ثوبهم الحقيقي. ومن هؤلاء هذا الكاتب الذي نتحدث عنه
وفي 21 أكتوبر عام 1652 أصدر الملك لويس الرابع عشر العفو عن لاروشفوكو، وسمح له بالعودة إلى باريس، ولكنه لم يعد إليها إلا بعد وقت طويل قضاه في الريف هادئا يفكر في آماله الضائعة، وأحلامه المتداعية
الشيخ الفيلسوف
لما فشلت ثورة الأمراء واستتب الأمر للملك لويس الرابع عشر، عرف ضروب الأهواء التي تتلاعب بنفوسهم، واستغلها استغلال رجل قدير، وجاد على هؤلاء السادة العظماء بأنواع الإحسان الوفير حتى أحالهم إلى ندماء متواضعين، استكانت الأهواء الجامحة بعد انتصار الملكية، فأخلد الناس إلى السكينة، وعادت الحياة إلى مجراها النمطي، وبدأت النساء ينشدن في (الصالونات) أو بين جدران الأديرة ضروب الانفعال التي كن يجدنها في نكبات الحرب الأهلية. ولم تعد تفكر الطبقة العالمية إلا في قهر (الضجر) مرض الأغنياء الذين لا يعملون، الذي استحوذ عليها. يدلنا على ذلك قول مدام دي مننون: (إني عاجزة عن أن أبين مبلغ الضجر الذي يعذب العظماء الاغنياء، والمشقة التي يلاقونها في قضاء يومهم)
وفي ذلك الوقت عاد بيت رامبويية إلى فتح أبوابه، ولكنه لم يلق الإقبال الذي اعتاده قبل الحرب الأهلية، لأن ربة البيت المركيزة دي رامبويية كانت في الثانية والسبعين من عمرها، واضمحلت قواها الذهنية، وتفرق أثناء الاضطراب الذين كانوا يترددون عليه، ثم(46/58)
ظهرت في باريس (صالونات) أخرى أهمها صالون الآنسة دي مونبانسييه، والآنسة دي سكودري، والكونتس دي لافاييت، وصالون الدقو دي لاروشفوكو، الذي بدأ بعد الشغب يبحث عن السعادة في الأدب والفكير، ثم صالون المركيزة دي سابيله.
وكان كل صالون يميل إلى نوع خاص من الأدب. فصالون الآنسة دي سكودري يميل إلى وضع المعاني الغزلية الرائعة في شعر قصير، وصالون الآنسة دي مونبانسييه يحب الصور الشخصية، وصالون المركيزة دي سابليه يتعشق عمل المواعظ، أما بيت رامبوييه فكان مولعاً بالأدب وفروعه جميعها
وفي أحد الأيام، وكان ذلك في عام 1658، طلبت الآنسة دي مونبانسييه من الحاضرين في مجلسها أن يرسموا صورهم كتابة في مقالات موجزة. ثم تناولت القلم ووصفت على القرطاس أجزاء وجهها، ثم قوة ذهنها، ثم أهواء نفسها وميولها وأخلاقها. وقلدها جميع الحاضرين ومن بينهم لاروشفوكو. ثم جمعت هذه الصور ونشرت في عام 1659 وكانت صورة لاروشفوكو الممهورة بالحروف الأولى من اسمه أول عهد الجمهور الفرنسي بكتابته. وسنذكر نبذا من هذه الصورة عند الكلام على أخلاقه وميوله
وكانت جماعة المركيزة دي سابليه يعالجون في صالونها الموضوعات الجدية، ويتحدثون عن ديكارت والمنطق والأهواء الإنسانية، وقبل أن يتفرقوا يحاول كل منهم أن يضع خلاصة المناقشة في جمل قصيرة فصيحة، أي يضعها في حكم أو مواعظ. وانتشر هذا الميل إلى الحكم حتى بلغ الريف. وفي عام 1660 كتب لاروشفوكو من (فرتى) إلى المركيزة يقول (هل لاحظت أن الميل إلى كتابة حكم ومواعظ يعدي كالزكام؟ هنا في الريف كثير من الناس انتقلت إليهم العدوى وشغفهم هذا الميل حبا). وصالون هذه المركيزة هو الذي ملك على لاروشفوكو عقله ولبه، واستأثر به دون الصالونات الأخرى
وفي عام 1661 أصيب بمرض النقرس، فلازم بيته في شارع السين بباريس، وجعله (صالونا) يجتمع فيه عظماء الفرنسيين وأدباؤهم. وفي هذه السنة اعتزلت الدوقة دي لونجفيل الاجتماع واتجهت إلى العبادة والتكفير عن سيئاتها، بعد أن هجرها صاحبها الدوق دي نيمور، ومات قتيلا في مبارزة وقعت بينه وبين الدوق دي بوقور
وكان لاروشفوكو قد بدأ يكتب مذكراته بعد أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها في لهجة(46/59)
المؤرخ الرزينة، ويذكر فيها الأسباب التي حملته على الاشتراك في هذه الحرب ويردها كلها إلى نكران الجميل الذي بدا له من الملكة آن دوتريش والدوقة دي شفرير والدوقة دي لونجفيل. وأطلع عليها أحد أصدقائه في عام 1662 فنصح له بعدم نشرها حتى لا يغضب الملك والأشخاص الذين ورد ذكرهم فيها، فقبل نصحه، ولكن صديقاً آخر نقلها مشوهة دون أن يعلم المؤلف ونشرها في هولانده في عام 1664، فأثارت لغطا كثيرا. ويقول الدوق سان سيمون: (لما اطلع أبي على هذه المذكرات ملكته سورة الغضب، وتوجه في الحال إلى المكتبة التي تبيعها، وكتب على كل عدد منها عنوة واقتدارا (كذب المؤلف) وكاد الملك يتدخل في الامر، ويسئ إلى لاروشفوكو لولا حظوة ابنه البكر فرنسوا السابع لدى مولاه.
يتبع
حسن صادق(46/60)
العُلوم
العقل البشري
للدكتور عبد الفتاح سلامه
العقل ثلاثة أقسام:
1 - العقل المميز
2 - العقل الواعي أو الشعوري أو العقل الظاهر
3 - العقل غير الواعي أو اللاشعوري أو العقل الباطن، ' والعقل غير الواعي يحتوي على قوى عقلية وأفكار مستترة ليست ظاهرة للجزء المجاور له المسمى بالعقل الظاهر. والفكرة المستترة فيه والتي تنضج بالنسبة إليه، يرسلها إلى العقل الظاهر لتحويلها من مجرد فكرة إلى حركة أو عمل، هذا إذا وافق عليها ذلك العقل الظاهر.
والعقل الظاهر هو ذلك الجزء من العقل الذي نعي به كل ما حولنا من ظروف وأحوال، فيختار منها ما قد يبدو له مهماً ويبت فيه إن أمكنه، وهو يتلقى أفكار العقل الباطن لينفذها أو يناقشها ويبت فيها كذلك إن أمكنه، وإلا فانه يعرض ما عسر عليه على العقل المميز.
وسواء أكان العقل الظاهر أو التمييز هو الذي بت في أمر ما فان ذلك يعتبر تجربة يصح القياس عليها، فترسل هذه التجربة إلى العقل الباطن فتسجل وتبقى فيه إلى الوقت المنسب إذ يطلبها أحد العقلين في أي ظرف يحتاج فيه إليها.
على أن تسجيل التجارب والأفكار ليس هو العمل الوحيد للعقل الباطن، بل إن هناك عملا آخر يقوم به، وهو إنه قد يكون له رأياً مستقلا من الأفكار المسجلة عنده، أو قد يوازن بين هذه الأفكار المسجلة ويستخلص منها رأياً يود إثباته أو تنفيذه فيعرضه على العقل الظاهر كما سبق أن بينا ذلك.
ولأجل أن يكون الفكر الذاتي ناضجاً تماماً يجب أن يعرض على العقل الظاهر ثم على العقل المميز حتى تتم له صفة الصحة، فيعتقد الإنسان به تمام الاعتقاد، وهذا هو الطريق الطبيعي للأفكار الذاتية التي لا تسبب أي مشقة للإنسان.
وهناك أفكار ذاتية أخي لا يمكن بأي حال عرضها على الجهات الرئيسية من العقل فتبقى في العقل الباطن، ذلك لأن هناك ما يمنع العرض على العقل الظاهر، وقد يكون هناك(46/61)
أيضا ما يمنع العرض على العقل المميز. وأما المانع في الحالتين فهو الضمير الذي يقوم بالمحافظة على تقاليد المجتمع وواجباته من جهة، وبالمحافظة على الدين وتعاليمه من جهة أخرى
والفكرة الذاتية التي لم تتمكن من الوصول إلى العقل الظاهر تبقى في العقل الباطن كوحدة قائمة بذاتها. ذلك لأن الضمير طردها من الجهات الرئيسية من العقل، فلا هي نفذت كما يريد العقل الباطن ولا هي نوقشت حتى يتضح له فسادها فيتركها، وهذا هو السر في تشبث العقل الباطن بالأفكار التي لا يوافق عليها الضمير الديني أو الاجتماعي أو الأخلاقي وفي عمله على تنفيذها بأي شكل كان، ولما كان ذلك التنفيذ محالا بفعل الضمير فان العقل الباطن يتخيل تحقيق هذه الفكرة المحرمة عليه، وهذا التخيل يسبب في كثير من الأحوال حركات جسمانية أو ألفاظاً تنم عليه. والحركات والألفاظ ليست إلا نتيجة تخيل تحقيق فكرة مكبوتة في العقل الباطن، وعلاقة هذه الحركات والألفاظ بالفكرة هي علاقة الصورة أو الخيال الذي يستمد وجوده من وجود جسم آخر قد لا يكون ظاهرا للعيان. وهكذا نرى أن الفكرة الذاتية نفسها وهي التي سببت الحركات والألفاظ لم تتمكن من الوصول إلى الشعور أو التمييز، أي إن الإنسان لا يدري عنها شيئاً مطلقا
ولتسهيل فهم علاقة أقسام العقل الثلاثة ببعضها نشبهها بثلاث غرف متصلة مع بعضها ببابين، وأمام كل باب حاجب يصرح أو لا يصرح بالدخول، وإذا عرفنا أن الحاجب قد يتجاوز مهمته بان يمنع من الدخول من يجب أن يدخل، فإننا نجد أن الضمير قد يغالي في منع مرور الأفكار الذاتية من قسم عقلي إلى القسم الأعلى المجاور له فتبقى الفكرة الذاتية كما قدمنا مصدراً لحركات وألفاظ وعواطف قد تأخذ صفة أعراض الأمراض العصبية، على حين أنه لو سمح لها بالمرور لعرفها العقل الظاهر ولناقشها العقل المميز وبث فيها على أساس سليم فتصبح غير قادرة على إيجاد ما كانت تسببه
على أن هذه الحركات والألفاظ لا يمكن لها الحدوث إلا في غياب التمييز، لأن هذا الأخير كثيراً ما يترك القيادة الفعلية في الإنسان إلى العقل الظاهر، وهذا بدوره كثيراً ما يتأثر في تصرفاته برغبات العقل الباطن وأفكاره، ويكون العقل الباطن إذن هو القائد الأعلى في غياب التمييز أو في حالة ضعفه لسبب ما، ولما كانت الأفكار الذاتية هي من عمل العقل(46/62)
الباطن، ولما كان هذا الأخير محدود التمييز فهو عرضة للخطأ في تقديره لحقيقة الامور، وينتج من ذلك أنه كثيراً ما تكون الأفكار الذاتية مخطئة، ولما كانت هذه الأفكار هي التي تقود الإنسان غالباً - في غياب التمييز - فانه من الجلي أن يكون الإنسان العادي عرضة للخطأ في كثير من تصرفاته، وأن يكون الإنسان العصبي عرضة لأن يسبب لنفسه ولمن حوله شتى المتاعب
وإذا كان العقل الباطن محدود التمييز لانه لا يأبه بالحقائق فانه غزير الخيال واسع الحيلة في هذا الباب. ولك خيال عنده حقيقة وإن خالف الواقع، وهذا ما حدا بفرويد أن يقول بان هناك حقيقتين: الحقيقة الواقعية والحقيقة النفسية، وإذا كان الإنسان العادي يعيش في الحقيقة الواقعية فان الإنسان العصبي يعيش في الحقيقة النفسية - أي فيما يصور له الخيال، وهناك أمر آخر يقوم به العقل الباطن، وهو تسجيل الأفكار والتجارب والمعلومات على قواعد الاصطحاب والقرينة أي أن الأشياء المماثلة أو المخالفة لبعضها مسجلة مع بعضها أو بالقرب من بعضها
وتبدأ الأفكار الذاتية والاصطحاب في الظهور عند الإنسان من يوم ولادته، فالجوع يسبب الرغبة في الأكل، والوالدة تطعم طفلها، وهكذا تنشأ فكرة عند الطفل بأنه في حاجة إلى شخص آخر يمده بما يشبع جوعه، ويتعود الطفل سماع صوت معين ورؤية شخص معين يطعمه ويسهر عليه ويسبب له الشعور بالراحة والسرور والاكتفاء، فيصحب ذلك الصوت المعين وهذا الشخص المعين بالسرور والاكتفاء، وهكذا ينشأ الاصطحاب عند الطفل، وهذا يفسر خوف الطفل وبكاءه عند شعوره بانفراده، واطمئنانه وسروره عند رؤيته لوالدته أو عند سماعه صوتها
وإذا عرفنا أن حواس الجسم خلقت لتحمي وجوده، وعرفنا ان العقل هو القائد المدبر لهذه الحماية، وانه من اجل ذلك يسجل عنده الحوادث الماضية كتجارب يستنير بها في أي موقف من مواقفه، وان هذه التجارب وان لم يذكرها الإنسان مسجلة في الجزء اللاشعوري من عقله، مهما طال عليها القدم. إننا إذا عرفنا ذلك أمكن لنا أن نفهم ما قد يبدو لنا غريباً، فقد يسيء إلينا في طفولتنا بعض أشخاص ذوي خلقة معينة، وقد ننسى هؤلاء الأشخاص بالذات ولكننا لا ننسى ان نقابل اي شخص يماثلهم في الخلقة بالكراهية، ذلك لاصطحاب(46/63)
الخوف والخطر لهذا الشكل المعين، وهذا يفسر أيضا قول البعض انه يمقت فلانا من أول ما يراه، ولكنه لا يعرف سبب ذلك
على ان هذه الفكرة الذاتية كثيراً ما تتعدى الحاضر إلى المستقبل، فقد تجلس في المقهى على ان تغادره في ساعة معينة فيشغلك الحديث مع جارك، وتنسى كل شيء، ولكن لا تلبث ان تذكر ميعادك في الوقت المناسب فتستأذن لتلبيته، أو قد تنما على أن تستيقظ في ساعة معينة فيكون لك ما تريد. ذلك لانه في اللاشعور قد تكونت عقيدة بأنه من مصلحة الإنسان أو من مصلحة وجوده ان يذهب إلى الميعاد في ساعة معينة، ولهاذ ترى اللاشعور يذكر الشعور باستمرار بالموعد، فهو بين آونة وأخرى يقذف بفكرة الموعد أمام الشعور، وقد لا يأبه الشعور إلى هذا التذكير، لأن الوقت لا يزال مبكراً، ولكن اللاشعور يستمر في التذكير بين آونة وأخرى حتى يحل الموعد فيتذكره الإنسان إذا كان متيقظاً، أو ينتبه من نومه إذا كان نائماً
وكما إن الأفكار الذاتية قد تكون مخطئة فكذلك الاصطحاب قد لا يكون على أساس سليم. ومحاولة تصحيح خطأ الاصطحاب أو توجيه اللاشعور إلى الأفكار والعقائد الصحيحة هو في الواقع واجب على كل إنسان يود أن يحيا حياة عقلية سليمة
وإذا كنا قد أثبتنا أن العقل الباطن هو الذي يقوم بمهمة التخيل فان الجزء الشعوري من العقل هو الذي يقوم بتنفيذ كل ما يوحي به العقل الباطن في غياب التمييز، لأنه يعتقد أن كل ما يوحي به العقل الباطن مهم لاستكمال النقص الموجود في الجسم. وهو في تنفيذه لرغبات العقل الباطن قادر كل القدرة على عمل ما قد يبدو مستحيلاً لأول وهلة، لأن الشعور لا يسيطر فقط على حركة الإنسان الظاهرة، بل يسيطر أيضا على كل الأعضاء الداخلية للجسم. فيكفي أن يخيل العقل الباطن السفر لأجل أن ينفذ الشعور ذلك السفر. ويكفي أن يتخيل العقل الباطن الشفاء لأجل أن ينفذ الشعور الشفاء أيضاً. وهذا هو الأساس في الإيحاء بأنواعه
هذا إلى أن الشعور تتمثل فيه غريزة التغذية، وهي التي تهيئ للجسم أسباب المأكل والمشرب والدفء. . . الخ. وهكذا يتبين أنه إذا كانت كل الجهود التي ترمي إلى حفظ النفس وجعل الجسم كاملاً سليماً ممثلة في العقل الظاهر. ولما كان الإنسان قليل العقلان في(46/64)
هذا السبيل فيكون الطمع والحسد والغيرة والمغالاة في جمع المال. ولما كانت كل من هذه الجهود ترمي الى تفكك المجتمع وانحطاط الأخلاق فإننا نجد أن المجتمع قد حاربهما لشيئين:
أولا: من الطفولة إلى إكمال الدراسة نجد أن الأب والمدرس والدين يتعاونون على كبح هذه الرغبات بما يخونه من تعاليم، ثم ينسى الإنسان الأب والمدرس وتبقى التعاليم في العقل بصفة ضمير أو وازع نفساني يحض على الخير وترك الشرك.
ثانياً - إن ما يلاحظه الإنسان في الحياة من احتقار الهيئة الاجتماعية لكل من يحاول إشباع رغبة محرمة يجعل الشعور، وهو الذي يهمه حفظ الجسم وسلامته من الامتهان، يقف في وجه العقل الباطن أو يقلل من مغالاتها هي الأخرى في تنفيذ رغباتها. وهي تقف هنا أيضاً في وجه العقل الباطن باسم الضمير الإنساني النبيل في الظاهر.
والواقع أن خوفها مما حدث لغيرها هو الذي يجعلها تقف هذا الموقف وهكذا يبدو أن الضمير مفيد للهيئة الاجتماعية، وهذا هو الواقع ولكن إلى درجة محدودة. لأن ذلك الضمير إذا كان قوياً أكثر من اللازم فانه يمنع الرغبات من المثول أمام التمييز أو الشعور فتبقى في العقل الباطن دون أن تنفذ، ولما يقتنع العقل الباطن بضرر تنفيذها بعد. وهنا كثيراً ما تنشأ الأمراض العصبية. والطريق الوحيد لإقناع ذلك العقل والتغلب عليه هو عرض رغباته على الشعور أو العقل المميز لمناقشتها والبت فيها
والعقل المميز هو القوة الاختيارية، أي التي توازن بين كل شيء وتختار التصرف الذي يتراءى لها، وهي موضع الذكاء في الإنسان
ويجب أن نذكر أن الضمير لا يمنع كل رغبات العقل الباطن من الوصول إلى الشعور ثم إلى التمييز، بل بالعكس فانه يسمح للكثير منها بالوصول إلى التمييز نفسه، ولكنه يقف أمام رغبات معينة فيمنعها من طريقها إلى الشعور. وهذه الرغبات المعينة الممنوعة هي التي تسبب الأمراض العصبية واما هذه الرغبات المعينة فإننا سنذكرها بشيء من الإسهاب بعد أن نتكلم عن قصة أوديب الملك، وعما يسميه -
والعقل بأقسامه الثلاثة ما هو إلا شيء معنوي أو بمعنى آخر هو وظيفة يقوم بها المخ الذي يتكون من جزأين - الأول وهو القشرة السنجابية الرمادية، يتكون من مجموعة من خلايا(46/65)
عصبية متصلة ببعضها تمام الاتصال، والثاني وهو الجزء الأبيض المكون من خيوط دقيقة تقوم بمهمة أسلاك التلفون، وتوصل الخلايا مع بعضها كما توصل بين الخلايا وأجزاء الجسم المختلفة.
والخلية العصبية هي وحدة المخ التي تساهم في تكوين العقل بأقسامه الثلاثة، ففي كل خلية جزء من المعلومات والإحساس والتمييز الخ. والعقل التام أو قيام المخ بوظيفته كما يجب لا يمكن أن يكون إلا عن طريق الاتصال الكلي بين جميع الخلايا، وبهذا يمكن تبادل المعلومات والإحساس والتمييز بين الخلايا فيؤدي المخ وظيفته على أحسن حال. وكلما كان هناك ما يمنع اتصال الخلايا كان هناك أيضاً فكر غير ناضج ورأي غير معقول. وليست فائدة الاتصال بين الخلايا مقتصرة على تبادل المعلومات. إذ أن تسجيل التجارب والأفكار يحدث بواسطة هذا الاتصال على قواعد الاصطحاب والقرينة فالمعلومات المتشابهة أو المتضادة تسجل في خلايا متجاورة أو متباعدة، ولكنها متصلة ببعضها
ولما كان المخ البشري من الوجهة التشريحية الميكروسكوبية متماثل من جميع الوجوه - سواء في ذلك المخ الزنجي ومخ الرجل الأبيض، وسواء في ذلك أفتى وأغبى رجل - فإن اتصال الخلايالا يتوقف على كثرة أو قلة الخيوط الدقيقة، أو على مقدار تفرع هذه الخيوط كما يتوقف على العوامل النفسية والعقلية الأخرى
فالعوامل النفسية إذن هي التي تمنع الاتصال بين الخلايا. وأكثر هذه العوامل هو ما يكون بفعل المشادة بين اللاشعور والشعور، أو بمعنى أدق بين اللاشعور والضمير - أو بين ما يسميه فرويد وهو يقصد بكلمة لبدو كل الجهود التي ترمي إلى إشباع شهوة النفس وبكلمة الجهود التي ترمي إلى حفظ النفس وجعلها ملائمة لمقتضيات الوسط الذي تعيش فيه
هذه المشادة بين اللاشعور والضمير هي التي خلقت العواطف في الإنسان وخلقت فيه التردد وعدم البت في الأمور، وهي التي كثيراً ما تحول دون تمام الاتصال بين الخلايا، فيكون الفكر والرأي والتصرف غير ناضجة من الوجهة العقلية السليمة. وهي أيضا التي تمهد السبيل إلى الأمراض العصبية المختلفة
وليس هذا الاتصال المباشر بالخيوط الدقيقة - هو الاتصال الوحيد بين الخلايا. فان هناك اتصالا آخر غير مباشر وهو اتصال يمكن تشبيهه بالاتصال اللاسلكي بين المحطات(46/66)
المختلفة
هذا الاتصال الأثيري قد يكون موجودا، ولكنه نادر وقليل الحدوث بين خلايا المخ الواحد، وهو مع ذلك شائع وكثير الحدوث بين الخلايا التي لا تنتمي إلى مخ واحد. وهذا هو سبب ما نسميه توارد الخواطر وسبب الرؤيا الصادقة. ومن منا لا يذكر انه أراد مرة أن يقول كلمة فسبقه مخاطبه بقولها؟ ومن منا لا يذكر انه كان يتكلم مع صديقه عن شخص ثالث، فإذا بهذا الشخص الثالث يحضر على الأثر؟ ومن منا لا يذكر انه رأى شيئاً في الرؤيا فإذا به يراه في اليقظة في اليوم التالي؟
وهكذا نرى أنه قد يكون لكل رؤيا تفسيران - التفسير الأول وهو الثابت في جميع الرؤى هو التفسير التحليلي الذي سبق أن تكلمنا عنه. وأما التفسير الثاني الذي يتعلق بحوادث اليوم الأول أو الأيام القليلة التي تلي ليلة الرؤيا فانه، فضلا عن كونه قليل الأهمية في الغالب لا يمكن معرفته قبل حدوثه بالفعل، فهو نادر الحدوث، أي أن الرؤيا التي لها تفسير من هذا القبيل قليلة ونادرة. فالتفسير التحليلي إذن هو الأهم وبواسطته يمكن معرفة رغبات الإنسان الكامنة فيستدل على مواطن المرض العصبي ويستأصل من جذوره
هذا وقد حاول الكثيرون التخلص من الأفكار الذاتية المخطئة بطرق شتى
1 - الإيحاء
2 - الإيحاء الذاتي
3 - الجمع بين الطريقتين السابقتين وهي طريقة (وهي التي يسميها '
4 - التنويم المغناطيسي. وعيبه أنه يؤثر تأثيرا بيناً في شخصية النائم. على أن هذه الطرق الأربعة مع إمكان نجاحها في الحالات البسيطة، فهي كثيراً ما تفشل، ذلك لأنها لا تؤثر إلا في الحركات والألفاظ أو الأعراض العصبية الأخرى التي سببتها الأفكار الذاتية الكامنة، ولكنها لا تؤثر في هذه الأفكار نفسها. ولذا فان هذه الأعراض قد تختفي لتحل محلها أعراض أخرى أخف أو أشد منها على حسب الظروف. ولو تسنى معرفة هذه الأفكار أو الرغبات الكافية لعرضت على العقل المميز وبت فيها ولخرجت إذن من العقل الباطن وأصبحت غير قادرة على ما كانت تسببه قبل ذلك
وفيما بعد سنتكلم عن الإيحاء والتنويم والاتصال الأثيري والتحليل النفسي مع شيء من(46/67)
الإسهاب. ولا بأس الآن بعد أن وصلنا إلى هذا القدر من البحث من أن نشير إلى الروح وما هي، فقد تعرض لها الكثيرون في العصور المختلفة. فمن قائل إنها في الدم، ومن قائل إنها في القلب. وربما يظن الإنسان أنه قد توصل إلى معرفتها، وأنها هي التي تتجلى في الاتصال الأثيري السالف الذكر، والواقع أنها بعيدة عن متناول يده الضعيفة، فهو لم يعرف بعد جميع أسرار المادة التي يراها حوله في كل مكان. وأولى له أن يعرف هذه الأسرار قبل التطلع إلى معرفة الروح. والروح من أمر الله
عبد الفتاح سلامه(46/68)
القصص
مغامرات آخر بني سراج
لشاتو بريان
'
تلخيص وتحليل ونقد
بقلم الآنسة سهير القلماوي ليسانسييه في الآداب
بنو سراج في التاريخ
إذا كان تاريخ سقوط غرناطة يحفه الكثير من الغموض والكثير من النقص واللبس، فلا غرو إذا كان تاريخ بني سراج كله غموض وإبهام، وكله لبس ونقص. لا نجد كتاباً يذكر عن بني سراج شيئاً كافياً، ولا نجد كاتباً ينتهي في أمرهم إلى ما ينتهي إليه غيره، هذا إذا ذكروهم وما أقل ما ذكروا.
فإذا بدأت بقولهم إن بني سراج اسرة، تجد خلافاً في هل عرفوا في التاريخ كاسرة حقاً، أو أن التاريخ لم يعرف منهم إلا فرداً واحداً؟ وهم بعد يختلفون في حقيقة اسمه. وإذا ثنيت بقولهم نشأوا في غرناطة وجدت من يقول إنهم نشأوا في قرطبة، ثم رحلوا عنها إلى غرناطة. وهكذا يستمر الخلاف في كل خطوة من خطى الكلام على بني سراج.
ولكن برغم هذا كله يمكن أن نستخلص من كلام المؤرخين في شأنهم ما يلي: إنهم أسرة عرفت في غرناطة أواخر أيام بني الأحمر وكان هلاكها على يد أحدهم: أما أبو الحسن علي، وأما أبو عبد الله. وكان لهم يد في الخلافات الأخيرة التي وقعت بين أفراد الأسرة الحاكمة. وهم مشهورون بعد بخلافاتهم مع بني الزغري أو الزغبي، ونجد تأييدا لذلك كتاباً إسبانياً ألف حوالي سنة 1595 عنوانه (تاريخ عصابات الزغري وبني سراج والحروب الأهلية في غرناطة)
كذلك شهر بنو سراج بقصد الفتك بهم، فقيل أن بني الزغري كادوا لهم عند أبي عبد الله ففتك بهم. أما المكيدة نفسها فبعضهم يكتفي بالإشارة اليها، والبعض الآخر يتخذ الأسطورة(46/69)
المشهورة في الفتك بهم كحقيقة تاريخية فيرويها. وفيما بعد تفصيل لتلك الأسطورة
أما شانوبريان مؤلف القصة المشهورة باسمهم، فالظاهر انه كان يرى فيهم أسرة من أشراف غرناطة حاربهم الأسبان فقتلوهم وشردوهم، والدليل على قولي هذا إن بطل القصة آخر سلالة بني سراج جاء إسبانيا للانتقام من سلالة السيد الأسبان لأنهم شردوا أجد اده وقتلوهم: ولو صحت لديه الأسطورة المشهورة لجاء ابن حامد منتقماً من سلالة بني الأحمر لا من سلالة الأسبان.
ننتهي من كل هذا إلى ان بني سراج اسم يذكر مقروناً بذكر سقوط غرناطة وببني الأحمر. إما مآلهم وإما حقيقتهم فشيء يحفه الكثير من الغموض ويحيط به سياج من الأساطير يخفي الكثير من الحقيقة.
بنو سراج في الأساطير
إذا كان التاريخ لم ينصف بني سراج فان الأساطير أنصفتهم كما أنصفهم الفن في الأدب والغناء.
تتعلق ببني السراج أسطورتان مهمتان، وكلتا الأسطورتين كانتا منبعاً للأدب أو للقصص بنوع خاص.
أما الأولى فهي الأسطورة التي تروي في سبب الفتك ببني سراج وهي أن أبا عبد الله بلغه حب أحد بني سراج لأخته زريده، فثار ثائره، وجمع الحاسرة كلها في مكان من الحمراء وأحرقهم أو قطع رؤوسهم جميعاً، ومازال صدى أصواتهم يرن في جنبات الحمراء شاكياً من ظلم مالا قوه. ويلمح كاتب مقال بني سراج في دائرة المعارف الإيطالية شبهاً عظيماً بين هذه القصة والقصة التي تروي في الشرق عن سبب الفتك بالرامكة، مما يجعله يرجح ان قصة بني سراج هذه ما هي إلا أسطورة غريبة صيغت على نسق الأسطورة الشرقية، فبنو سراج وزراء بني الأحمر، والبرامكة وزراء بني العباس، وفتك بالبرامكة الرشيد، لان جعفراً البرمكي أحب أخته العباسة، وكذلك فتك أبو عبد الله بالسراجيين لأن أحدهم احب أخته زريدة. ثم يقول كاتب المقال، واسم وهو اسم غريب في الأسماء العربية ما هو إلا تحريف تحكمي لاسم زبيدة زوج الرشيد.
ومما يبعد هذه الأسطورة عن التاريخ أن مؤرخاً عربياً واحدا لم يذكرها وان كان الأسبان(46/70)
اكثروا من ذكرها في مؤلفاتهم.
وأما الأسطورة الثانية التي تتعلق ببني سراج فهي الأسطورة المذكورة في كتاب لانطيونو فالجانس اسمه تاريخ بني سراج وظريفة، ألفه سنة 1551 وقد استقاه من كتاب لا يعرف مؤلفه اسمه ' ويروي فيه قصة ابن دريز الرامي الذي تزوج سراً من ظريفة ابنة قائد قرطبة والذي أسره قائد الأنتقيرة. ولما صاحبته زوجه عن طيبة خاطر إلى السجن أخذت القائد شفقة على حالها المحزنة، وعلى حبهما وإخلاصهما، وطلب إلى أبيه أن يعفو عنهما، وحصل منه على أمر بإطلاق سراحهما. وقد رويت هذه القصة برقة زائدة حتى إن يقول، يظهر إنها كتبت بريشة من جناح أحد الملائكة واشتهرت هذه القصة شهرة عظيمة واعجب بها وذكرها في دون كيشوت. كتابه ديانا. واستخلص من موضوعها روايته. . . . وكانت القصة باختصار موضوعاً لعدة قصص من اشهرها أجملها ما رواه ' روايته
هاتان هما الأسطورتان، وما تفرع عنهما، ولكن موضوع بني سراج أنفسهم غير متأثر بأسطورة معينة من الأسطورتين كان وحياً للموسيقى المشهور شروبيني فقد وضع فيهم أوبرا مثلت في باريس سنة 1381 ووضع كلامها ولا تزال بعض ألحانها مشهورة إلى اليوم
كذلك نجد ذكرهم عند شعراء العرب، فهم يذكرون كثيراً، مثلا فيما ألف حول سقوط قلعة الحامة من شعر وغناء.
كذلك أنصفت الأساطير بني سراج كما أنصفهم الأدب والغناء.
قصة شاتو بريان
هؤلاء هم بنو سراج كما يعرفهم التاريخ وكما تعرفهم الأساطير ولكن الذي رفع ذكرهم ليس التاريخ أو الأساطير، وإنما هي قصة ألفها الكاتب الفرنسي المشهور شاتوبريان، وهي قصة (مغامرات آخر بني سراج). وليست القصة عن بني سراج أنفسهم كما يدل عنوانها، ولكن المؤلف اتخذ لقصته بطلا ادعى انه آخر سلالة هذه الأسرة، ولا يغير من القصة لو كان هذا البطل آخر سلالة أي أسرة عربية أخرى شهدت سقوط غرناطة وأصابها ما أصاب العرب جميعاً إذ ذاك.
كيف استقى المؤلف قصته(46/71)
عاش شاتوبريان في شمال فرنسا، ولكنه عرف بكثرة الرحلات واتساع نطاقها، كما عرفت أسرته كلها بولعها بالرحلات والمغامرات، وقام شاتوبريان نفسه بعدة رحلات، فقد سافر إلى امريكا، وكانت تلك الرحلة من أهم ما انتفع به في كتابه الذي رفع ذكره وهو أثالا. كذلك عاش زمناً في لندره، حيث كتب الكثير من مؤلفاته، ورحلاته هذه لم تمل عليه أدباً فحسب، وإنما وصفها في كتب عدة غير مشهورة.
ولكن هناك رحلة خاصة هي التي أوحت إليه بتلك القصة التي نحن بصدد الكلام عنها، فقد تواعد وإحدى صديقاته على زيارة الحمراء وما حولها في غرناطة. وفعلا تقابلا هناك وزارا معاً الحمراء وما جاورها. وكان من أثر هذه الزيارة ان كتب القصة في نفس تلك الأمكنة التي يصفها. في الحمراء وما جاورها.
هذا ما أوحى إليه بالقصة. وأما مادة القصة فقد استقاها من كتاب أشرنا إليه آنفاً وهو (تاريخ عصابات الزغري وبني سراج والحروب الأهلية لغرناطة) ألف هذا الكتاب حوالي سنة 1595 ولكنه ترجم إلى الفرنسية وطبع في باريس ثلاث طبعات، الأولى سنة 1606، والثانية سنة 1698، والثالثة سنة 1809، وإذا عرفنا أن شاتوبريان مات سنة 1848 عرفنا انه كان يمكنه الاطلاع على كل هذه الطبعات الثلاث للترجمة الفرنسية فوق إن إحداها طبعت في شبابه، فلا غرو أن لفتت نظره. وهذا الكتاب الذي ألفه مستقى من ومن قصص العامة مسيحية وإسلامية حتى أن بعضها منقول نقلا. أضف إلى كل هذا أن أوبرا في بني سرا مثلت سنة 1813 فكانت حافزا للمؤلف ولا شك على تأليف قصته
ملخص: القصة
أما القصة نفسها فتتلخص في ان ابن حامد هاجر من قرطاجنة إلى غرناطة شوقاً إلى رؤية آثار أجداده وآخذاً للثأر ممن فتكوا بهم. وأثناء زيارته لتلك الآثار التي كانت تثير أشجانه، لمح أسبانية فتعرفها ثم احبها وأحبته. وزارا معاً قصر الحمراء، ولكن كل واحد منهما أصر على دينه، وأصر على ألا يتزوج صاحبه إلا إذا بقى على دينه. وكان ابن حامد يعرف أن صاحبته من أسرة أسبانية عريقة، ولكن لا يعرف عن هذه الأسرة شيئاً. وكانت إدماء تعرف أن صاحبها من أشراف العرب الذين هاجروا إلى المغرب، ولكنها لم تعرف لأسرته(46/72)
اسما.
ويضطر ابن حامد إلى ترك غرناطة ليودع والدته قبل فراقها الحياة، فيودع إدماء ويقسمان على الإخلاص والوفاء. ثم يعود إليها بعد أن فارقت أمه الحياة فيجدها كما أمل: وفية مخلصة ثابتة على دينها
ولكن يظهر لابن حامد منافس في حب إدماء هو صديق أخيها الفارس الفرنسي لوترك ويعرض عليها أخوها الزواج من لوترك فترفض وتعترف له بحبها لابن حامد، فيثور أخوها ويطلب ابن حامد للمبارزة فيتبارزان ويجرح ابن حامد. وتأتي إدماء إلى ميدان المبارزة في صحبة لوترك، وتحاول إصلاح الحال بين أخيها ولوترك من جهة، وبين ابن حامد من جهة أخرى، ولكنها لا تفلح، ويصر ابن حامد على أن يحترم دون كارلوس أخاها ويحتقر لوترك حبيبها ويكرههما الاثنين.
وعند الغروب بينما كان ابن حامد سائراً سابحاً في أفكاره، إذ تنبه على صوت الناقوس يدعو النصارى إلى صلاتهم، فيدخل الكنيسة على إله النصارى وهو إله أيضا أن يحل ما تعقد في رأسه من أفكار. فيرى في الكنيسة (لوترك) راكعاً يصلي، فيهم بالخروج وإذا به يفاجئ إدماء داخلة تصلي أيضاً، فيظن هو إنها آتية للقاء لوترك، ولكنها تنفي عنه الظنة قائلة (أنا أعلى من أن أغشك) ثم تشتكي له ما تلاقيه وتفهمه أنه بتنصره يبرئها من سقامها وآلامها، فيخرج ابن حامد من الكنيسة وهو مصمم على أن يتنصر في الصباح.
وفي المساء سار إلى دون كارلوس فوجده قد سبقه إلى بيت لوترك، فسار إليه هناك فوجد أن لوترك يقيم حفلا في هذا المساء، وبدأ القوم يغنون بمفاخر قومهم كعادتهم في حفلاتهم، وغنى دون كارلوس فعرف ابن حامد من غنائه أنه أحد سلالة السيد الأسباني الذي جاء ينتقم من سلالته لأجداده بني سراج. وهنا كشف ابن حامد لهم عن حقيقته، فخيره دون كارلوس بين المبارزة وبين التنصر والتزوج بإدماء. وكان الخيار عليه صعباً، فحكم إدماء، فكان حكمها أن (عد إلى صحرائك)
ظلت إدماء بلا زواج طول حياتها تندب السراجي، وضم السراجي قبر لا زال معروفاً إلى الآن في المغرب بقبر آخر بني سراج
هذه خلاصة القصة ونلاحظ عليها ما يلي.(46/73)
1 - إن القصة كلها لا أصل لها في التاريخ. ويقول صاحب مقال بني سراج في دائرة المعارف الإيطالية أن ليس لها من الحقيقة سوى الاسم، بنى سراج.
2 - إن الفكرة الدينية كانت عنصرا هاما في الموضوع، وهي دائما عنصر هام في روايات شانو بريان حتى قصته التي رفعته إلى أوج الشهرة وهيمبنية على الفكرة الدينية.
3 - تعد القصة من مؤلفات شاتو بريان الثانوية، قلما يقرؤها إلا من كان معنيا بشؤون الشرق والشرقيين. ولكنها برغم هذا من القصص التي تترك في نفس القارئ أثرا بينا، لا من حوادثها فقط ولا من شهامة إبطالها فحسب، ولكن من هذا كله ومن الوصف الدقيق الذي تمتاز به.
4 - أبطال القصة مرتفعون بشهامتهم وشرفهم ارتفاعا لا يقربهم إلى نفس القارئ، ومما ساعد على بعدهم عن قلب القارئ قلة التحليل النفساني الذي يصل بالقارئ إلى معرفة هؤلاء الأبطال معرفة تقربهم منه، وهو وان كان قد عمد إليه في بعض الأحيان فلا انه لم يوفق فيه. فشخصية ابن حامد وهي أهم شخصية في القصة لا تجد لها تحليلا كافيا ولا تتبينها إلا إذا أسبغت عليها الكثير من خيالك الخاص.
5 - والمحادثات التي تجري في القصة متكلفة بشكل غريب، وكان أبطالها كلهم ينشئون رسائل أو ينمقون مقالات، وكان لكل هذا أثره البين في إلباس هذه الشخصيات لباساً غامضاً لا يتنوع بتنوع الأشخاص.
6 - كان المؤلف في قصته وصافاً اكثر منه مؤلفاً قصصياً، والظاهر أن موضوع القصة وأشخاصها لم يهم المؤلف قدر ما أهمه وصف الحمراء وما جاورها.
الترجمة لشكيب أرسلان
ترجم القصة الفرنسية الكاتب المعروف شكيب أرسلان، ولكن الترجمة حرفية، وقد أخلت حرفيّها بكثير من معانيها، وجعلت لها صبغة غريبة لغرابة تراكيبها وتعابيرها. ولو عمدت إلى نقل المواضع التي أفسدتها الترجمة الحرفية لاكترث وأمللت
وقد خلى المترجم ترجمته بأبيات شعر كثيرة مقتبسة غير التي اضطر إلى نظمها ترجمة للأصل الفرنسي الشعري، وكانت هذه الأبيات المقتبسة مما ساعد كثيراً على عدم الانسجام في القصة، فهي وان كانت في نفس المعنى المساقة فيه، إلا ان بعدها عن روح القصة(46/74)
وجوهاً جعلها كالأنغام الناشزة في الموسيقى.
وأخيراً لم يكن للمترجم فضل في تلك الترجمة إلا نقل صورة مهما تكن حالها لقصة يجب ان يطلع عليها كل قارئ لتاريخ الأندلس، وأما فضله حقاً فهو في الذيل الذي أتبعه قصته وهو ما لا نتعرض له.
سهير القلماوي(46/75)
الكتب
ديوان الأعشاب
لمحمود أبو الوفا
حديث عن الشعر وعن الديوان
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
في إحدى زياراتي للأستاذ مصطفى صادق الرافعي رأيت على مكتبه (ديوان الأعشاب) الذي أخرجه الشاعر المعروف الأستاذ محمود أبو الوفا، فاكبرت أن أجد هذا الديوان حيث وجدته، ولكن الأستاذ أثنى عليه وعلى صاحبه، ثم قال: هلم نقرؤه معاً، وبعد أن استوفيناه، نقلت عنه هذا الحديث للرسالة الغراء، قال:
(أبو الوفاء شاعر ملء نفسه، ما في ذلك شك. مذهبه الجمال في المعنى، يبدعه كأنما يزهر به، والجمال في الصورة يخرجها من بيانه، كما تخرج الغصون والأوراق من شجرتها. وله طبع وفيه رقة، وهو يجري من البيان على عرق، وسليقته تجعله ألزم لعمود الشعر وأقرب إلى حقيقته، حتى إنه ليعد أحد الذين يعتصم الشعر العربي بهم، وهم قليل في زمننا، فإن الشعر منحدر في هذا العصر إلى العامية في نسقه ومعانيه، كما انحدر التمثيل، وكما انحدرت أساليب الكتابة في بعض الصحف والمجلات.
وللعامية وجوه كثيرة تنقلب فيها الحياة، ومرجعها إلى روح الإباحة الذي فشا بيننا، ونشأ عليه النشء في هذه المدينة التي تعمل في الشرق غير عملها في الغرب، فهي هناك رخص وعزائم، وهي هنا تسمح وترخص، في ظل ضعيف من العزيمة. وإهمال البلاغة العربية الجميلة كما هي في قوانينها، ليس إلا مظهراً لتلك الروح تقابله المظاهر الأخرى، من إهمال الخلق، وسقوط الفضيلة، وتخنث الرجولة، وزيغ الأنوثة، وفساد العقيدة، واضطراب السياسة، إلى ما يجري هذا المجرى مما هو في بلاغة الحياة المبينة كالمرذول والمطرح والسفساف في بلاغة الكلام الفصيح. كل ذلك في مواضعه تحلل من القيود وإباحة وتسمح وترخص، وكل ذلك عامية بعضها من بعض، ولك ذلك لحن في البلاغة والخلق والفضيلة والرجولة والأنوثة والعقيدة والسياسة.(46/76)
والشعر اليوم أكثره (شعر النشر) في الجرائد، على طبيعة الجرائد لا على طبيعة الشعر. وهذه إباحة صحافية غمرت الصحف، وأخضعت أذواق كتابها لقوانين التجارة، فانهم لينشرون بعض القصائد، كما تنشر (الإعلانات) لا يكون الحكم في هذه ولا هذه لبيان أو تمييز أو منفعة، بل على قدر الثمن أو ما فيه معنى الثمن.!
ومن مادية هذا العصر وطغيان العامية عليه، إننا نرى في صدر بعض الجرائد أحياناً شعراً لا يكون في صناعة الشعر ولا في طبقات النظم أضعف ولا أبرد منه، ولا أدل على فساد الذوق الشعري، ولكنه على ذلك الأصل الذي أومأنا إليه يعد كلاماً صالحاً للنشر، وان لم يكن صالحاً للشعر.
وهكذا أصبحت العامية في تمكنها تجعل من الغفلة حذقاً تجارياً، ومن السقوط علواً فلسفياً، ومن الركاكة بلاغة صحفية، ومتى تغير معنى الحذق، وداخلته الإباحة، ووقع فيه التأويل، وأحيط بالتمويه والشبه - فالريبة حينئذ أخت الثقة، والعجز باب من الاستطاعة، والضعف معنى من التمكين، وكل ما لا يقوم فيه عذر صحيح، كان هو بطبيعة التلفيق عذر نفسه.
وأكثر ما تنشره الصحف من الشعر هو في رأيي صناعة احتطاب من الكلام. . . وقد بطل التعب، إلا تعب التقشش والحمل، فلم تعد هناك صناعة نفسية في وشي الكلام، ولا طبع موسيقي في نظم اللغة، ولا طريقة فكرية في سبك المعاني؛ وبهذه العامية الثقيلة أخذ الشعر يزول عن نهجه، ويضل عن سبيله، ووقع فيه التوعر السهل. . . والاستكراه المحبوب. . . وصرنا إلى ضرب حديث من الوحشية. هو الطرف المقابل للشعر الوحشي في أيام الجاهلية. فما دام الكلام غريباً، والنظم قلقاً، والمأتى بعيداً، والمعنى مستهلكاً، والنسج لا يستوي، والطريقة لا تتشابه - فذلك كله مسخ وتشويه في الجملة، وإن اختلفت الأسباب في التفصيل، وإذا كان المسخ جاهلياً بالغريب من الألفاظ، والنافر من اللغات، والوحشي من المعاني، وكان عصريا بالركيك من الألفاظ، والنازل من التعبير، والهجين من الأساليب، والسخيف من المعاني ثم بالسقط والخلط والاضطراب والتعقيد، فهل بعض ذلك إلى من بعضه؟ وهل هو في الشرع الجميل إلا كسلخ الإنسان الذي مسخه الله فسلخه من معان كان بها إنساناً، ليضعه في معان يصير بها فرداً أو خنزيراً ليس عليه إلا ظاهر الشبه، وليس معه إلا بقية الأصل؟(46/77)
فالفردية الشعرية، والخنزيرية الشعرية، متحققتان في كثير من الشعر الذي ينشر بيننا، ولكن أصحاب هذا الشعر لا يرونهما إلا كمالا في تطور الفن والعلم والفلسفة. وأنت متى ذهبت تحتج؟؟؟ الشعر من قبل الفلسفة، وتدفع عن ضعفه بحجة العلم، وتعتل ليصحح فساده بالفن - فذلك عينه هو دليلنا نحن على أن هذا الشعر فردي خنزيري، لم يستو في تركيبه، ولم يأت على طبعه، ولم يخرج في صورته؛ وما يكون الدليل على الشعر من رأى ناظمه وافتنانه به ودفاعه عنه، ولكن من إحساس قارئه واهتزازه له وتأثره به.
والشاعر أبو الوفا جيد الطريقة، حسن السبك، يقول على فكر وقريحة، ويرجع إلى طبع وسليقة، ولكن نفسه قلقة في موضعه الشعري من الحياة؛ وفي رأيي أن الشاعر لا يتم بأدبه ومواهبه حتى يكون تمامه بموضع نفسه الشعري الذي تضعه الحياة فيه. والكلام يطول في صفة هذا الموضع، ولكنه في الجملة كمنبت الزهرة لا تزكو زكاءها، ولا تبلغ مبلغها إلا في المكان الذي يصل عناصرها بعناصر الحياة وافية تامة، فلا يقطعها عن شيء ولا يرد شيئاً عنها؛ إذ هي بما في تركيبها وتهيئتها إنما تتم بموضعها ذا لتهيئته وتركيبه. فان كانت الزهرة على ما وصفنا، وإلا فما بد من مرض اللون، وهرم العر، وهزال النضرة، وسقم الجمال.
ولولا أن الحكمة وفت الأستاذ أبا الوفا قسطه من الألم، ووهبته نفساً متألمة حصرتها في أسباب ألمها حصراً لا مفر منه - لفقدت زهرته عنصر تلوينها، ولخرج شعره نظماً حائلاً مضطرباً منقطع الأسباب من الوحي؛ غير أن جهة الألم فيه هي جهة السماء اليه؛ ولو هو تكافأت جهاته المعنوية الأخرى، وأعطيت كل جهة حقها، وتخلصت مما يلابسها - لارتفع من مرتبة الألم إلى مرتبة الشعور بالغامض والمبهم، ولكان عقلا من العقول الكبيرة المولدة التي يحيا فيها كل شيء حياة شعرية ذات حس.
ولكن مادامت الحياة قد وزنت له بمقدار، وطففت مع ذلك وبخست، فقد كان يحسن به أن يقصر شعره على أبواب الزفرة والدمعة واللهفة، لا يعدوها، ولا يزاول من المعاني الأخرى ما ضعفت أداته معه أن تتصرف، أو انقطعت وسيلته إليه أن تبلغ. ويظهر لي أن أبا الوفا يحذو على حذو إسماعيل باشا صبري، وهو شبيه به في أنه لم تفتح له على الكون إلا نافذة واحدة؛ غير أن صبري أقبل على نافذته ونظر ما وسعه النظر، أما أبو الوفا(46/78)
فيحاول أن ينقب في الحائط ليجعلها نافذتين. . . .
أما انه ليس من الشعر أن تنزل الحيرة الفلسفية عن منزلتها بين اليقين والعقل، أو المشهود والمحجب، أو الواقع والسبب، أو الرسم والمعنى - فتنقلب حيرة معاشية تسم الأشكال والمعاني بسمتها المادية الترابية، وتقع في الشعر فتقحم بين شعر القلب العاشق، وشعر الفكر المتأمل - شعر المعدة الجائعة، وتضع بين أشواق الكون شوقها هي إلى الطعام والثياب والمال. . . .
على أنه كان الأمثل في التدبير، والأقرب إلى طريقة النفس الشاعرة أن يصرف أبو الوفا هذا الشعور المادي الذي يتلذع به فيحوله فيجعله باباً من حكمة السخر الشعري بالدنيا وأهلها وحوادثها، كما صرفه ابن الرومي من قبل فأخطأ في تحويله، فجعله مرة بابا من المدح والنفاق، ومرة باباً من الهجاء والإقذاع.
ولو بذل الشاعر أبو الوفا مجهوده في ذلك، واتهم الدنيا ثم حاكمها، ونص لها القانون، وأجلس القاضي، وافتتح المجلس، ورفعها قضية قضية، ثم أخذها حكماً حكماً، تارة في نادرة بعد نادرة، ومرة في حكمة إلى حكمة، وآونة في سخرية مع سخرية - إذن لاهتدى هذا المتألم الرقيق إلى الجانب الآخر من سر الموهبة التي في نفسه، فأخرج مكنون هذه الناحية القوية منها، فكان ولا ريب شاعر وقته في هذا الباب، وإمام عصره في هذه الطريقة.
على أن في صفحات ديوانه أشياء قليلة تومئ إلى هذه الملكة، ولكنها مبثوثة في تضاعيف شعره، والوجه أن يكون وجهه في تضاعيفها. وإنه ليأتي بأسمى الكلام وأبدعه، حين يعمد إلى ذلك الأصل الذي نبهنا إليه، فيصرف لهفة نفسه إلى بعض وجوهها الشعرية، كقوله في (حلم العذارى) وهي من بدائعه ومحاسن شعره:
هاهما عيناك تغري ... ني على شتى الظنون
فيهما بحر وموج ... وسهول وحزون
ووضوح وغموض ... واضطراب وسكون
ومعان بينات ... ومعان لا تبين
وتهاويل فنون ... من رشاد وجنون(46/79)
وأشعات حيارى ... من منى أو من حنين
ليت شعري أي سر ... خلف هاتيك الجفون
آه إن السر أنبا ... عنه ذان الطائران
حينما مالا على غص ... نيهما يعتنقان. . .
(فهذه أبيات في شعر الجمال كالمحراب ملؤه عابده. . . اهـ)
محمد سعيد العريان خريج دار العلوم(46/80)
العدد 47 - بتاريخ: 28 - 05 - 1934(/)
الامتيازات والأدب!
الأدب عبير الروح، وشعاع النفس، ونضح العواطف. يتأثر حتما بما ينال أولئك من تطور الحياة، وتغير الناس، وتقلب الزمن؛ فهو يطيب أو يخبث، ويضطرم أو يخبو، ويمر أو يحلو، تبعاً لما يعرض للروح والنفس والعاطفة من أحوال الضعف أو القوة، والفساد أو الصلاح، والانحطاط أو السمو.
فالأدب العربي كان صادقاً حين فاض بالبطولة، وزخر بالحماسة، وجاش بالعزة، في عهوده الأولى أيام كان يمده العرب من قوتهم بالروح، ومن سلطانهم بالنبل، ومن حريتهم بالكرامة.
والأدب العربي كان صادقاً حين لج في الضراعة، وضج بالشكوى، وأن من الألم، وتحدث عن فسوق الخُلق المنحل، وإيمان القلب المستذَل، وضلال النفس المريضة في مذاهب القِحة، في عهوده الأخيرة أيام وهنت عزائم الملوك، ووهت دعائم الملك، وتخلت يد العرب عن زمام الدنيا، فوقعت الفوضى، وحدث الخلل، ولجأ الناس بعضهم إلى الله وراء شيوخ الطرق، وبعضهم إلى الشيطان وراء قطاع الطريق!
والأدب العربي الصادق اليوم في الإبانة عن هذا الشك المخامر في قدرتنا على التفكير الأصيل، واضطلاعنا بالأمر الجليل، واستقلالنا بتبعات الرأي وتكاليف الحياة. فان اعتقادنا الإيحائي المزمن بتفوق الأوربي وامتيازه سلب من نفوسنا الثقة، ومن قلوبنا الايمان، ومن عقولنا الاصالة، ومن شعورنا السمو، وتركنا كالعبد المملوك لا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على مولاه، ينقل فيما يقول عن لسانه، ويصدر فيما يعتقد عن قلبه.
فأديبنا يجهل اللغة العربية كل الجهل، ويعلم اللغة الأوربية كل العلم، لأنه إذا تكلم بها أو كتب فيها شعر بذلك الامتياز الذي يلازم أهلها في بلاد الشرق. وأديبنا يقرأ الأدب الأجنبي ويغفل الأدب العربي، لأن هذا أدب قوم كانوا يلبسون العمائم، ويأكلون بالأيدي، ويجلسون على الوسائد، ويقولون له نحن أجدادك! وذلك أدب قوم يلبسون البرانيط، ويأكلون بالشوْك، ويجلسون على الكراسي، ويقولون له نحن أسيادك.
وأديبنا يعمى عن مناظر بلده، ومحاسن طبيعته، ومفاخر قومه، ومآثر شرقه، ثم يفتح عينيه بكلتا يديه ليستشف من خلال السطور السودّ قناطر (السين) وشعاف (الألب) وخمائل (التيرول) لأن هذه ذكرها جوته ولامرتين وبيرن، وتلك إنما ذكرها البحتري والرضي(47/1)
وشوقي!
زارني ذات يوم شاعر من شعراء الشباب، وفي يده قصيدة يريد نشرها بالرسالة، وكان موضوع القصيدة كما يقول: تصوير منظر قروي في ريف مصر: مشرق الشمس في القرية أو مغربها لا أذكر. فلما نظرت إلى الصورة - وأنا قروي - أنكرت ما رَسم فيها من الخطوط، ووضع بها من الألوان، وحشد إليها من الطبيعة. فقلت له: يغلب على شعوري أنك ترجمت. فقال وهو يعقد من التيه عنقه: ثق أنها من وحي خاطري وفيض لساني. فقلت له: إذن ما هذه النواقيس التي ترن في الأبراج؟ أفي قريتكم كنيسة؟ فقال كلا، وإنما آثرت رنين الناقوس على أذان المؤذن، لأني أجد للأجراس والأبراج من الروعة والشاعرية ما لا أجده للمئذنة والمسجد. فألطفت للفتى في الاعتراض والاعتذار مخافة أن يرميني في سره بالجمود والتأخر!
كذلك قدم إِليّ كاتب من ناشئة الكتاب قصة مصرية، سمى أشخاصها: جان، وألبير، ولورا، وهيلين. لأنه يجد هذه الأسماء في الحوار والحديث أرق وأعذب من علي، وإسماعيل، وسعاد، وفاطمة!
فالأدب المصري الحديث، كالمجتمع المصري الحديث، يقوم على موت الشخصية، وفناء الذات، ونسيان التاريخ، ونكران الأصل، فهو يستلهم المطابع الأوربية، ويخضع قريحته للقرائح الأوربية، ويعقد لسانه بالألسن الموهوبة منها، فيحكى ما تقول في لعثمة نكراء من أثر العقدة، وهو لو وضع عن كاهله نير الامتياز، وفهم هذه الكلمة المخزية على المجاز، فأخذ عن طبعه، وترجم عن طبيعته، لفجأ الغرب بأدب قدسي الإلهام، سحري الأنغام، شرقي الروح، مصري الطابع، يحل أهله من أدب العالم ما أحل أدبُ الهند إقبالا وطاغور!
إن الطبيعة المصرية أولى أن تلهم الشاعر تأمل الصحراء، وأحلام النخيل، وابتسام الصحو، لا أن تلهمه ما تلهم الطبيعة الإنجليزية من أمثال (الملاح التائه)، و (الزورق الحالم)، و (وراء الغمام)! فان الفن لا يخضع خضوع العلم للعقل المشترك والوطن العام، وإنما يخضع قبل كل شيء لطبائع الاقليم، وخصائص البيئة، ومنازع الشخص، فإذا استنزل شعراؤنا الشبابُ على خواطرهم هذا الوحي الغريب، فذلك أثر ما نشكوه من هذه العبودية العقلية التي ضربت على الآذان، وغلبت على الأذهان، وجعلتنا للأجانب في كل(47/2)
شيء تبعاً.
فمتى يعلم المصري أن له مجداً يجب أن يعود، ووطناً ينبغي أن يسود، وصوتاً يحق أن يسمع، وأدباً يصح أن يحتذى، وتاريخاً يليق أن ينشر، وحقاً على أرضه تؤيده الطبيعة ويقره القانون ولا ينكره عليه إلا جبنه وذله؟!
أحمد حسن الزيات(47/3)
إنصاف المترجم
للدكتور محمد عوض محمد
أتى على المترجم حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً. وقد طال هذا الحين وامتد، حتى كدنا نظن أن ليس لليله المدلهم من آخر. وإن من الناس لمن يظن أن المترجم ذو مكان تافه يسير، وأن سيبقى مكانه مدى الدهر تافهاً يسيراً.
ولقد طالما أصغى المترجم إلى هذه الإشارات والعبارات، التي تنزله من عالم الأدب والكتابة أصغر المنازل. فيلقاها حيناً بالامتعاض، وحيناً بالاستسلام؛ وقد بات في حيرة من أمر نفسه، فجعل يدعو نفسه أحياناً المترجم، وأحياناً المعرب، لعل في هذه ما يحسن من شأنه ومن حاله؛ ثم يتواضع أحياناً فيكتفي بأن يقول: نقله عن الفرنسية. . . فلان، ويوصى الطابعين بأن يكتبوا اسمه بحروف صغيرة ضئيلة. . . وليس هذا كله بمغن عنه شيئاً، فليس الزهو بنافعه، ولا التواضع بمانعه.
وبالرغم من أن حاله باعثة حقاً على الرثاء، مثيرة حقاً للدموع والبكاء،؛ فأنا قلما نجد له بين الورى منصفاً. كأنما أجمع الناس على ظلمه واضطهاده. وما كفاه السهر الطويل المضني، والانكباب على البحث والتنقيب عن الألفاظ والعبارات، وإجهاده الفكر في فهم ما لا يفهم. وإنقاذ ما لا يمكن إنقاذه؛ حتى إذا ما أتيح له بعد لأي وعناء، وأن يخرج مترجمه إلى عالم الكتب، جعل يتقدم به إلى القراء، في حياء وتردد؛ كأنما ارتكب وزراً يريد أن يعتذر منه؛ ويسبق الناقدين إلى النقد فيقول لكل من يراه - بل ولكثير ممن لا يراه - إن الترجمة تشويه على كل حال!. . وهو يريد بهذا أن يستل سخيمة الناقدين، وأن ينتزع حمة العقرب أو على الأقل يهدئ من ثورتها. وشأنه في ذلك كشأن الطبيب الذي يطعمنا للجدري، فيعطينا المرض في شكل صغير لكي يدرأ عنا الخطر الكبير. .
لكن هذه الحيلة لا تجديه نفعاً؛ وهذا الاعتراف ليس بمنجيه من العذاب. فلا يلبث الناقدون أن يتناولوا المترجم بالتأنيب والتجريح، وترجمته بالتنكيل والتعذيب؛ ويمطرونه النقد المرير أينما ذهب، وحيثما نزل؛ في مجالس الأدب وفي غير مجالس الأدب؛ وفي الصحف السيارة وغير السيارة؛ ومن النقد ما يلقى إليه مشافهة، ومنه ما يلقى إليه كتابة.
هذا يتهمه بعدم الأمانة لأنه تصرف في اللفظ من أجل الحرص على المعنى: فالويل له(47/4)
كيف يتصرف في اللفظ وهو أثمن شيء في الوجود! والآخر ينعته بالجمود وبالتمسك بالحرف وبالحرص على اللفظ، حتى جاءت ترجمته في حاجة إلى ترجمة: لا هي عربية فتفهم، ولا أعجمية فتتفهم. ويقول الثالث: أجل وإن المترجم لذو شخصية ضعيفة ضئيلة، حتى لقد غمرته شخصية المؤلف وطغت عليه ومحته محواً تاماً. فقارئ الترجمة لا يجد فيها سوى روح المؤلف، أما المترجم فلا روح له! ويقول رابعهم مداعباً: إن هذه الترجمة والأصل كالزنجية الشوهاء وخيالها في الزفت! ويقول الخامس: ما كان أغنى قراء العربية عن ترجمة مثل هذا الكتاب، فياله من مجهود ضائع! ويقول السادس وهو يتكلف الظرف: إن هذه الترجمة لكتاب (هملت) من الإبداع بحيث يجب أن تترجم مرة أخرى إلى الإنكليزية! ليرى شكسبير كيف يجب أن يكتب (هملت)!
ثم من بعد هذا كله فما هو في نظر الجميع سوى مترجم! رجل أعوزته المقدرة على الابتكار، فانصرف إلى النقل! فهل يكون لمثل هذا في عالم الأدب أو العلم مكان؟ وأين هو من زيد وعمرو وبكر الذين ألفوا وصنفوا مجلدات فتحت في العلم أبواباً وطرقاً وشوارع؟ حتى إن منهم لمن يبيع لتلاميذه الملزمة الواحدة بعدة دراهم!
ينصت المترجم المسكين لكل هذا وهو مطرق الرأس مغمض الطرف، وقد أخذ الندم يأكل قلبه وكبده ورئتيه. وهو على هذا يعلم أنه ليس شراً من أولئك المؤلفين، وأنه لو شاء أن يسلك السبيل التي سار فيها زيد أو بكر لما كان من الصعب عليه أن يجمع الفصول من بعض الأسفار؛ ثم يسئ وضعها وترتيبها، ويعرضها على أنها من مؤلفاته القيمة، ومن بنات أفكاره ودلائل إعجازه. ولكنه آثر أن يسلك سبيلاً غير ذي عوج، وأن يعمل في وضح النهار. في زمان ساد فيه الالتواء والظلماء.
لا شك أن المترجم المسكين مهيض الجناح، مهضوم الحق، وقد بلغ من هوان أمره على بعض الناشرين أنهم ربما نشروا الكتاب، ولم يعنوا حتى بذكر اسم المترجم!
ومع ذلك فلقد يلقى المترجم من حين إلى حين منصفاً يكون بمثابة جزيرة من الأمل وسط هذا البحر الفسيح من القنوط! ومن أحسن ما يذكر في إنصاف المترجم ما قاله الأستاذ طه حسين في مقدمة الترجمة العربية لكتاب هرمن ودروتيه. وقد جاء في كلامه العبارة الآتية:
(إن الذين يترجمون آيات الأدب والفن والفلسفة ينسون أنفسهم، ويمحون شخصياتهم،(47/5)
ويقنعون بمكان المترجم، الذي ليس هو بالقارئ المستريح، ولا المنتج النابغة، لكنه صلة بين الرجلين: لا حظ له من راحة الأول، ولا حظ له من مجد الثاني، وإنما هو خادم مخلص أمين؛ يرفع القارئ إلى حيث يذوق جمال الفن وجلاله، وحين يشق لآثار النابهين من الأدباء والفلاسفة طرقاً جديدة. . . هذه منزلة المترجم يراها الناس يسيرة، وأراها عظيمة جليلة الخطر. وحسبك أنها هي التي تحقق الصلة القوية بين الأجيال والشعوب. فتزيل ما بينهم من الفروق وتدني بعضهم إلى بعض).
هكذا أنصف الأستاذ طه حسين المترجم؛ وردّ إليه شيئاً من حقه المضيع. ويحق للمترجمين أن يغتبطوا بأن قد صدر لصالحهم في هذا الأسبوعِ حكم آخر من ناحية لم يكونوا يتوقعون منها كل هذا العطف. وألذ النعماء ما جاءك من حيث لا تحتسب. ذلك أن القضاء المصري قد قضى في هذا الأسبوع - ولا راد لما قضى - بحكم لعله أكبر غنم يستطيع المترجم أن يظفر به. وهانحن أولاء نثبت هذا الحكم هاهنا بنصه وفصه:
(إن ما يلاقيه المترجم من صعوبة وعناء النقل من لغة إلى لغة، وإصلاح في عباراتها يستلزم كداً وعلماً معاً؛ حتى لقد يفضل المترجم أن يكون صاحب تأليف، أو أن يصرف وقته في التأليف بدل أن يصرفه في الترجمة والنقل، لأنه في التأليف مطلق، ما يريد من المعاني، ويضيف ما يريد من الألفاظ، ويقدم ويؤخر، ويحذف ويثبت على حسب ما يرى. أما في الترجمة فنجده مقيداً بما ينقل من نظام وترتيب، واثبات وتقييد. ولابد له من أن يدرك المعنى إدراكاً واضحاً، يلبسه زيه من الألفاظ والجمل في اللغة التي ينقل إليها، كما يكون أميناً في نقله، صادقاً في ترجمته. ولا يكون أهلاً لذلك إلا إذا ملك ناصية اللغتين، وعرف فيهما الشارد والوارد، وأدرك دقائق كل منهما: من معان خفية، وأسرار في التراكيب. وأن تكون نفسه قد مرنت على هذه الصناعة، ووقف على أسرارها، واتخذ له طريقة واضحة فيها. وإن كثيراً ما تزل أقلام المترجم الأمين، الذي يريد أن ينقل من قلب الشاعر كما يقولون، فناهيك بما يلاقي من تعب وكد في معرفة غرض الكاتب، فيلتجئ إلى معاجم اللغة؛ يقلب صفحاتها ويرجع إلى عبارات كبار الكتاب وأساليبهم، لعله يصل إلى معرفة مثل هذا التعبير، أو ما يقرب منه، أو يعثر على شرح له في كتب الأدب. ولقد يقطع المترجم أياماً في البحث عن كلمة واحدة!. . . وإنَّ هناك في الترجمة عقبات منشؤها(47/6)
خفاء المعنى، أو غرابة اللفظ، تظهر في بلاغة الكاتب. وتمكنه من امتلاك نواصي الأساليب، بعبارة يسهل إدراك معناها، ولكن يصعب على المترجم نقلها ووضعها في قالب آخر. . .)
ذلك هو الحكم القاطع الذي صدر في إحدى القضايا منذ بضعة أيام، وإن صدوره هو الذي حملنا على كتابة هذا المقال! ولعل مثل هذا الحكم هو أعظم حادث في عالم الأدب - على الأقل في عامنا هذا - فليغتبط المترجمون، فإن لهم من هذا الحكم سيفاً بتاراً يقطعون به رأس الجحود والنكران. وليحذر الذين يضعون من مرتبة المترجم بعد اليوم - فليس حكم القضاء بالشيء الذي يجوز معه العبث أو المراوغة؛ فليبادروا بالتوبة وبالتكفير عن سيئاتهم الأولى، ويعترفوا صاغرين بما للمترجم من المنزلة العالية والمقام الرفيع.
وأنتم معشر المترجمين، هلموا اليوم فشمروا عن ساعد الترجمة وأقبلوا عليها إقبال من يعرف مالها من جليل الخطر، وما عليكم من رسالة تؤدونها في أمانة وإخلاص جديرين بذلكم الحكم الباهر. .
محمد عوض محمد(47/7)
سبيل الخلاص من الامتيازات الأجنبية
للدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري
أستاذ القانون المدني بكلية الحقوق
تتمة البحث
الخطوة الثالثة
تتصل الحكومة المصرية في هذه الخطوة بالحكومة الإنجليزية لتتفاهم معها على الأسس الآتية:
(أولاً) تنفيذ إلغاء المحاكم المختلطة بعد انقضاء السنة من نشر المرسوم
(ثانياً) إعلان من جانب الحكومة المصرية وحدها بإلغاء الامتيازات
(ثالثاً) إحلال نظم جديدة محل النظم التي تغلى، وتصدر هذه النظم بتشريعات مصرية داخلية لا بمعاهدات دولية
(رابعاً) إعلان من جانب الحكومة الإنجليزية، باعتبارها دولة من الدول ذوات الامتيازات، وباعتبارها حليفة مصر إذا كانت المحالفة قد عقدت بين البلدين، بتأييد الحكومة المصرية فيما اتخذته من التدابير.
ولا شك في أن الدول ذوات الامتيازات، إذا حسبت حساباً لاحتمال تفاهم مصر مع إنجلترا على هذه الأسس، تكون أسلس قياداً في مفاوضاتها مع الحكومة المصرية أثناء الخطوة الثانية، وقد يؤدي ذلك إلى نجاح المفاوضات.
أما إذا لم تنجح، وكان لابد من اتخاذ الخطوة الثالثة، فان النظم الجديدة التي تحل محل النظم الحالية تكون بوجه عام هي النظم التي اقترحت مصر على الدول إدخالها بموجب معاهدة في الخطوة الثانية مع الفروق الآتية:
(أولاً) تقام هذه النظم الجديدة بمقتضى تشريعات مصرية داخلية، وبعد تبادل مذكرات مع الحكومة الإنجليزية في مسائل معينة.
(ثانياً) فيما يتعلق بالتشريع: تعلن مصر الدول أن كل تشريع مصري، مالي أو غير مالي، يسري على الأجانب سريانه على المصريين، وأن السلطات المصرية من هيئات قضائية(47/8)
وإدارية، ستقوم كل في دائرة اختصاصها بتطبيق وتنفيذ التشريعات المصرية على الأجانب كما تطبقها وتنفذها على المصريين. وتعلن الحكومة المصرية في الوقت ذاته أنها لا تنوي سن تشريعات تتنافى مع المبادئ العامة التي يقرها العالم المتمدين في التشريع، وأنها تقبل رفع الأمر إلى محكمة لاهاي في كل تشريع تنفذه على أجنبي كان متمتعاً بالامتيازات إذا أنكرت دولته أن هذا التشريع لا يتنافى مع المبادئ المذكورة وطلبت رفع الأمر إلى هذه المحكمة.
(ثالثاً) فيما يتعلق بالقضاء: تستصدر الحكومة المصرية تشريعات داخلية لإقامة محاكم يكون اختصاصها هو نفس الاختصاص الذي جعلناه للمحاكم الجديدة فيما تقدم. أما تشكيلها فيراعى فيه أن يكون ثلثا القضاة من المصريين، والثلث الباقي من الإنجليز، وأن يكون رئيس كل محكمة مصرياً والوكيل إنجليزياً، وأن يكون رئيس كل دائرة مصرياً، ولغة التقاضي هي العربية، عدا الدائرة التي يجلس فيها الوكيل فإنه يرأسها وتكون لغتها هي الفرنسية، وتحال إليها القضايا التي يكون فيها الخصوم جميعهم من الأجانب. وتتبادل الحكومتان المصرية والإنجليزية مذكرات بهذا المعنى، لا يكون من شأنها أن تغل يد الحكومة المصرية عن تعديل أو إلغاء التشريعات الصادرة بإنشاء هذه المحاكم متى رأت ضرورة لذلك.
ونحن نؤثر هذا الحل على حل آخر يقضي بجعل المحاكم الأهلية هي المختصة بقضايا الأجانب، لأن ذلك يقتضي أن يدخل قضاة من الإنجليز في المحاكم الأهلية، ونحن لم نصل إلى تمصير هذه المحاكم تمصيراً تاماً، وجعلها مقصورة على القضاة المصريين إلا بعد جهد وعناء، فالأولى إذن إبقاء العنصر الأجنبي بعيداً عن المحاكم الأهلية حتى تسلم لها مصريتها الكاملة. ونقيم لقضايا الأجانب محاكم أخرى يدخل فيها العنصر الأجنبي. ولا يغيب عن البال أن هذه المحاكم الأخرى رهن بمشيئة مصر، فهي قد أنشئت بتشريع مصري يمكن تعديله أو إلغاؤه في الظرف المناسب.
(رابعاً) فيما يتعلق بالإدارة: تستصدر الحكومة المصرية تشريعاً داخلياً كذلك بما كانت تنوي الاتفاق عليه مع الدول بمعاهدة، ويكون العنصر الأجنبي في رجال الضبطية القضائية من الإنجليز والنائب العام إنجليزياً. وتتبادل الحكومة المصرية مع الحكومة(47/9)
الإنجليزية مذكرات بهذا المعنى، مع احتفاظ الحكومة المصرية بحقها في تعديل هذا التشريع أو إلغائه إذا دعت الحال لذلك.
هذه هي الخطوة الثالثة. وبديهي أنه لا يقدر لها نجاح إلا إذا وصلت مصر إلى الاتفاق مع إنجلترا على الأسس المتقدمة. فإذا ما وصلت إلى هذا الاتفاق استطاعت أن تواجه الدول ذوات الامتيازات بالأمر الواقع، وإنجلترا من ورائها تؤيدها في ذلك ولا تستطيع هذه الدول أن تقوم بأكثر من احتجاج ليست له قيمة عملية، ولا تملك إلا أن تأسف على الفرصة التي ضاعت منها برفضها الاتفاق مع مصر عندما فاوضتها الحكومة المصرية.
وقد يقال: ولكن مالنا لا نجعل هذه الخطوة الثالثة هي الثانية، فلا نحاول الاتفاق مع الدول، ونتفاهم مع إنجلترا رأساً على الأسس المتقدمة فنكسب بذلك أن تكون النظم الجديدة قد أقيمت على تشريع مصري داخلي بدلا من معاهدة دولية، ويكون القضاة المصريون أوفر عدداً وأقوى نفوذاً؟ قد يكون هذا صحيحاً من الناحية النظرية، أما من الناحية العملية فيظهر لنا أن موقف الحكومة المصرية في اتخاذ الخطوة الثالثة يكون أشد قوة أمام الرأي العام الدولي إذ لم تخط هذه الخطوة إلا بعد إخفاقها في الخطوة الثانية وفشلها في الوصول إلى اتفاق عادل مع الدول. ثم إن إنجلترا تكون أقوى حجة في تأييد مصر، بعد أن تكون هذه قد أعذرت إلى الدول وأقامت الدليل على تعنتها. هذا إلى أنه قد يكون خيراً لمصر أن تعقد معاهدة مع الدول لتعديل نظام الامتيازات من أن تلجأ إلى التفاهم مع إنجلترا ولها مركز خاص في مصر كما لا يخفى. على أنه إذا أظهرت إنجلترا استعداداً للتفاهم معنا على الأسس المتقدمة دون أن يسبق ذلك مفاوضات مع الدول، فلا بأس علينا من السير في هذا الطريق، بشرط ألا يكون هذا التفاهم من شأنه أن يثبت لإنجلترا حقاً في حماية المصالح الأجنبية في مصر والتدخل في شؤوننا الداخلية تحت هذا الستار.
أما إذا لم نوفق في هذه الخطوة إلى التفاهم مع إنجلترا على ما قدمناه من الأسس، ووقفت هذه الدولة إلى جانب الدول ذوات الامتيازات فلا يبقى إلا أن نخطو الخطوة الرابعة، وهي الخطوة الأخيرة.
الخطوة الرابعة
في هذه الخطوة يجب أن نعتمد على أنفسنا: على قوة الرأي العام وعلى الحيوية الكامنة في(47/10)
الأمة. فإنه لا يوجد شعب يريد الحياة عزيزة ويذل. ونحن قد تلطفنا في المسلك وتدرجنا في السير ولم نخط خطوة إلا بعد أن ألجأتنا إليها الضرورة الملحة. فليس أمامنا بعد ذلك إلا إحدى سبيلين:
إما أن نعلن إلغاء الامتيازات الأجنبية بعد إلغاء المحاكم المختلطة، دون حاجة إلى التفاهم مع إنجلترا على ذلك. والقانون والعدالة في جانبنا، فأن هذه الامتيازات في أساسها التاريخي وفي تطبيقاتها الحالية جائرة لا تتفق مع أبسط مبادئ العدالة، وهي تصطدم مع مستلزمات السيادة الداخلية للدولة. وهي فوق ذلك يجب أن تسقط بانفصال مصر عن تركيا. وقد تخلصت منها بالفعل البلاد التي انفصلت عن الترك. ثم إنها مبنية على معاهدات بالية يجب أن تلغى طبقاً لمبدأ تغير الظروف، وهو مبدأ معروف في القانون الدولي أيدته المادة التاسعة عشرة من عهد عصبة الأمم.
هذا إلى أنه لا توجد دولة بليت بامتيازات كالتي بلينا بها إلا عمدت إلى إلغائها، رضيت الدول الممتازة أو لم ترض، وقد فعلت ذلك اليابان وتركيا وفارس والصين. فنحن الدولة الوحيدة المتمدينة التي ظلت فيها الامتيازات الأجنبية مترعرعة حتى الآن، ولسنا دون هذه الدول مرتبة في المدنية، ولا عذر لنا في الأحجام عن إلغائها إلا إذا كنا مقتنعين بأننا أضعف من هذه الدول عزيمة وأقل استحقاقاً للحياة. أما إذا صحت عزيمتنا على إلغاء الامتيازات أمكننا أن ندخل النظم التي أشرنا إليها بتشريعات داخلية دون اتفاق مع إنجلترا على ذلك، على أن يكون كل هذا موقتاً حتى يحين الوقت المناسب لإلغاء هذه التشريعات، وإرجاع الأمور إلى نصابها، وتوحيد المحاكم في البلاد.
وإذا ضعفنا عن هذا الموقف الحازم، فأمامنا سبيل أخرى: ننفذ إلغاء المحاكم المختلطة، وليس للدول علينا من سبيل في هذه الحالة إلا أن تطالب بإرجاع الامتيازات الأجنبية كما كانت قبل قيام هذه المحاكم أما في التشريع فنستمسك بحقنا في سريان التشريع المصري في المواد العقارية على الأجانب دون حاجة إلى موافقة الدول، بما في ذلك الضرائب العقارية. وأما في القضاء فتسترد المحاكم الأهلية لاختصاصها القضايا التي يكون المدعى عليه فيها مصرياً، وقضايا الأجانب غير المتمتعين بالامتيازات سواء أكانوا مدعين أم مدعى عليهم. ونحن، حتى إذا لم نضف إلى هذه القائمة جميع القضايا العقارية ولو كان(47/11)
الخصوم فيها أجانب متمتعين بالامتيازات، لا نكون قد استرددنا أقل من ثلاثة أرباع القضايا التي هي الآن من اختصاص المحاكم المختلطة. أما الربع الباقي فلا يهمنا منه إلا عدد قليل من القضايا يكون المدعي فيها مصرياً، فعليه أن يتحمل عناء مقاضاة الأجنبي في قنصليته. على أن عناء المصري لا يزيد على عناء الأجنبي إذا دخل هذا في خصومة مع أجنبي من جنسية أخرى فإن المدعي في هذه الحالة يقاضي المدعى عليه في قنصليته، وهذا يستتبع كثيراً من الفوضى يكون الأجنبي ضحية لها قبل المصري
قد يعترض على هذا الحل وعلى الحل الذي قبله بأن الأجانب سيبقون في مركزهم متعنتين لا يقبلون أي اتفاق على تعديل النظم القائمة، وإذا اقتضى الأمر أن يسحبوا أموالهم من مصر فعلوا ذلك، فتصبح البلاد في فقر مدقع، وتقع في أزمة أشد خطراً من أزمة الامتيازات الأجنبية. نحن نعتقد أن في هذا القول مبالغة كبيرة، فليس من اليسير على الأجانب أن يسحبوا أموالهم من بلد يستغلونها فيه على خير وجوه الاستغلال وأكثرها كسباً. ثم هم إذا فعلوا فلا يكون ذلك إلا تدرجاً، لأن من الأموال الأجنبية في مصر ما لا تمكن تصفيته إلا بعد مدة طويلة. أفلا يكون من الخير لمصر في هذه الحالة أن تنتهز هذه الفرصة التي سنحت فيحل أبناؤها شيئاً فشيئاً محل الأجانب في الميادين المختلفة التي أخلاها هؤلاء، وتستبدل بالأموال الأجنبية أموالاً مصرية؟ على أن هذه المسألة يجب أن تنتقل من رجال القانون إلى رجال الاقتصاد، فيبحثوها بحثاً دقيقاً على أساس اقتصادي صحيح. أما نحن فنعتقد أن خطر سحب الأموال الأجنبية من مصر خطر موهوم ولا نقيم له وزنا.
ومن ذلك نرى أنه إذا عدمنا الوسائل وأعوزتنا الحيل، لجأنا إلى هذا الحل الأخير، فألغينا المحاكم المختلطة، ورجعنا إلى نظام الامتيازات القديم، وهذا خير من بقاء المحاكم المختلطة معقلاً للامتيازات الأجنبية، تنتقص من سيادة البلاد، وتمتهن من كرامتها، ونحن عاجزون عن دفع هذا البلاء عنا كما أثبتت ذلك الحوادث الأخيرة. ولقد كانت الامتيازات الأجنبية في عصر إسماعيل بيتاً متهدماً يتداعى للسقوط، فأراد إسماعيل ونوبار أن يهدما البيت بإنشاء (محاكم الإصلاح)، فإذا بهما يرممانه بجدر سميكة من هذه المحاكم، حتى بقى متماسكاً صلباً زهاء الستين عاما. وقد آن لأبناء هذا الجيل أن يدخلوا البيت حتى يثبتوا فيه(47/12)
القدم المصرية، وإلا وجب عليهم أن يتركوه يتهدم.
عبد الرزاق السنهوري(47/13)
مملكة في الصخر أو بلاجيوس
للأستاذ محمد عبد الله عنان
منذ ثلاثة أعوام، في منتصف أبريل سنة 1931، انهار صرح الملوكية الأسبانية، واختتم أقدم العروش الأوربية حياته الطويلة الحافلة، وطويت من التاريخ صفحة يشغل تاريخ العرب والإسلام منها حيزاً كبيرا. ذلك أن الملوكية الأسبانية التي شهدنا سقوطها بالأمس، هي نفس تلك الملوكية التي سحقها العرب يوم فتحوا الأندلس (92هـ - 711م)، والتي استأنفت بعد ذلك حياتها ضئيلة متواضعة في قاصية أسبانيا الشمالية وفيما وراء الصخر، ثم لبثت تنمو بطيئة ولكن ثابتة حتى رسخت دعائمها في هاتيك الهضاب؛ وبدأت بعد ذلك معركة الحياة والموت مع تلك المملكة الإسلامية التي قامت في أسبانيا على أنقاض مملكة القوط النصرانية، ولبثت مدى قرون طويلة تطاولها وتجاهدها، حتى آذنت دولة الإسلام في الأندلس بالاضمحلال؛ وما زالت المملكة النصرانية في نمو مستمر، والمملكة الإسلامية في ضعف مستمر، حتى غدا الإسلام محصوراً في مملكة غرناطة الصغيرة، ثم حلت المعركة النهائية؛ وظفرت الملوكية الأسبانية بتحقيق برنامجها القديم وغايتها الخالدة، فانتزعت غرناطة معقل الإسلام الأخير، وقضت على دولة الإسلام بالأندلس (897هـ - 1492م).
وقد نشأت الملوكية الأسبانية الذاهبة في ظروف كالأساطير، ونشأت في نفس الوقت الذي افتتح فيه العرب أسبانيا، وسحقوا دولة القوط القديمة. ففي موقعة شريش التي مزق فيها جيش القوط، وقتل آخر ملوكهم رودريك (لذريق) (92هـ)، فرت شراذم قليلة من الجيش المنهزم إلى الشمال، واختفت فيما وراء تلك الجبال الشمالية التي وقف عندها تيار الفتح الاسلامي، واجتمعت بالأخص في هضاب كانتابريا (نافار وبسكونية) في الشرق، وفي هضاب استوريس في الغرب؛ واجتمع فل النصارى في الهضاب الشرقية تحت لواء زعيم يدعى الدوق بتروس، واجتمع في الهضاب الغربية، في جليقية تحت لواء زعيم يدعى بلاجيوس أو بلايو. وكان بتروس ينتمي إلى أحد الأصول الملكية، وكان من قادة الجيش في عهد وتيزا ملك القوط، ثم في عهد خلفه ومغتصب ملكه رودريك. أما بلاجيوس أو بلايو فيحيط الغموض بأصله ونشأته، ولكن يبدو مما تنسبه إليه الرواية من ألوان الوطنية والبسالة والبطولة أنه كان رفيع المنبت والنشأة؛ وتقول بعض الروايات أنه ولد الزعيم(47/14)
فافيلا الذي قتل الملك وتيزا في هضاب جليقية، وأنه كان لذلك من خاصة الملك رودريك وقادته. وتعرف الرواية الإسلامية بلاجيوس وتحدثنا عنه وتسمية (بلاي)، وتصفه أحياناً بأنه أمير أو ملك، وتنعته غالباً بأنه (علج من علوج النصارى)، وتتبع أخباره مع المسلمين ولكنها لا تلقي ضياء كثيراً على أصله، أو أحوال مملكته الصغيرة. ذلك لأن المسلمين لم ينفذوا قط إلى ما وراء الهضاب الوعرة التي امتنع بها هذا الزعيم وفله، والتي نشأت فيها جذور المملكة النصرانية الشمالية التي غدت غير بعيد خطراً على دولة الإسلام في أسبانيا. ومن الغريب أن راوية نصرانيا كبيراً معاصراً هو (ايزيدور الباجي) وهو حبر عاصر الفتح الإسلامي وكتب روايته في منتصف القرن السابع ووصل في كتابتها حتى سنة 754م، لم يذكر لنا في روايته شيئاً عن قيام تلك المملكة النصرانية الصغيرة في الشمال، ولا عن زعيمها أو ملكها بلاجيوس، ولا عن غزوات المسلمين لها، مع أن ايزيدور يتتبع أخبار الغزوات الإسلامية كلها منذ الفتح حتى منتصف القرن الثامن، سواء في أسبانيا أو في مملكة الفرنج، ويقدم إلينا عنها كثيراً من التفاصيل والملاحظات الهامة. وقد يرجع ذلك إلى أن ايزيدور، وهو يقيم في الجنوب في مدينة باجة، كان يجهل قصة هذه المملكة النصرانية الشمالية الناشئة، ولكن ما نراه من عنايته بتدوين أخبار الغزوات الإسلامية في فرنسا، وأخبار مملكة أكوتين، يحملنا على الاعتقاد بأنه لم يكن يجهل أخبار مملكة جليقية النصرانية، وهي أقرب إليه من فرنسا، وأن أسباباً أخرى لعلها ترجع إلى انتماء أميرها بلاجيوس إلى حزب رودريك الذي كان يبغضه المؤرخ هي التي حملته على إغفال أخبارها.
وعلى أية حال فان الرواية الإسلامية تذكر لنا كيف نشأت المملكة النصرانية الأسبانية في الهضاب الشمالية بعد أن سحقت في موقعة شريش، فقد لجأت شراذم قليلة من القوط عقب الفتح إلى الجبال الشمالية، وامتنعت في مفاوز جبال استوريس كما قدمنا؛ وقامت إمارتان نصرانيتان صغيرتان في كانتابريا وجليقية. وكانت إمارة كانتابريا التي أسسها الدوق بتروس، لوقوعها في الطرف الغربي من جبال البرنيه (البرت) في سهول نافار وبسكونية عرضة لاقتحام الفاتحين حين سيرهم إلى فرنسا وحين عودهم منها. ولكن إمارة جليقية كانت تقع في أعماق جبال استوريس الوعرة، بعيداً عن غزوات الفاتحين، وسميت جليقية(47/15)
لأنها قامت على حدود الولاية الرومانية القديمة التي كانت تسمى بهذا الاسم. ففي هذه الهضاب النائية المنيعة اجتمع بلاجيوس وصحبه، وعددهم لا يتجاوز بضع مئات حسبما تقول الرواية، ولجئوا إلى مغار عظيم يقع في آكام كافادونيا، وتحيط به وديان سحيقة خطرة، ويعرف في الرواية الإسلامية باسم (الصخرة). ويقول لنا ابن خلدون في الفصل الذي يخصصه (لملوك الجلالقة) إن هذه الإمارة الصغيرة التي كانت مهد المملكة النصرانية لا تمت بصلة إلى القوط، وأن ملوك الجلالقة ليسوا من القوط، لأن أمة القوط كانت قد بادت ودثرت لعهد الفتح الإسلامي، بيد انه يصعب علينا أن نقبل هذا الرأي على إطلاقه، فمن المحقق أن فلول النصارى التي لجأت إلى الشمال كانت مزيجاً من القوط والأسبان المحليين، ولكن الظاهر مما انتهى إلينا من أقوال الروايتين المسلمة والنصرانية أن الزعماء، ولا سيما بلاجيوس كانوا من القوط، وأن ملوك الجلالقة يمتون إلى القوط بأكبر الصلات.
ولم يعن المسلمون بادئ بدء بهذه الشراذم الممزقة، وكان إغفال أمرها من أعظم أخطاء الفاتحين، بيد أنه لما كثرت ثورات النصارى في الشمال، وبالأخص في بسكونية، (أو بلاد البشكنس) اهتم ولاة الأندلس بقمعها وتأمين الولايات الشمالية؛ وسير الحر ابن عبد الرحمن الثقفي وآلي الأندلس سنة 718م (98هـ) جيشاً إلى الشمال لإخضاع النصارى. فاجتاح المسلمون بلاد البشكنس وهضاب استوريس، وأوفدوا حليفهم الأسقف اوباس، وهو أخو الملك وتيزا، إلى بلاجيوس ليقنعه بالتسليم وعبث المقاومة، فأبى بلاجيوس، ونفذ المسلمون إلى أعماق الجبال، وحاولوا عبثاً أن يستولوا على مراكز العدو، وحالت بينهم وبينه الوديان السحيقة والآكام الرفيعة؛ وحصر بلاجيوس وأصحابه مدى حين، وقطعت عنهم المؤن، وتساقطوا تباعاً من الجوع حتى لم يبق منهم على قول الرواية سوى ثلاثين رجلاً وعشر نساء. وتزعم بعض الروايات النصرانية أن بلاجيوس كر على المسلمين، وأنهم هزموا هزيمة شنيعة وفقدوا ألوفاً كثيرة، ووقع أوباس أسيراً في أيدي مواطنيه فعاقبوه على خيانته بالموت.
ولما رأى المسلمون وعورة الهضاب وقسوة الطبيعة ارتدوا عن جليقية محتقرين شأن هذه الشرذمة الممزقة الجائعة؛ فقويت لذلك نفس بلاجيوس وأصحابه، وانضم إليه كثير من(47/16)
النصارى في كانتابريا وسهول جليقية، واختاروه ملكاً عليهم لما رأوا من بسالته وبراعته وقوة عزمه؛ وألفى بلاجيوس الفرصة سانحة لتوطيد سلطانه وتوسيع أملاكه، فأخذ يغير على الأراضي الإسلامية الشمالية، وبدا لحكومة الأندلس خطر هذه العصابات الجبلية التي أخذت تنظم إلى قوة يخشى بأسها؛ ولكن اضطراب الشئون الداخلية حال مدى حين دون مطاردتها وغزوها.
وفي سنة 112هـ (730م)، في عهد أمير الأندلس الهيثم ابن عبيد، بعث حاكم ولاية البرنيه، عثمان بن أبي نسعة الذي تعرفه الرواية النصرانية باسم منوزا أو منوز، جيشاً إلى جبال استوريس لغزو جليقية وسحق أميرها بلاجيوس؛ ولكن بلاجيوس استطاع أن يصمد للمسلمين كرة أخرى وأن يهزمهم هزيمة شنيعة. ولما رأى بلاجيوس منعة معقله وقوة عصبته، اخترق بسكونية، وهاجم قوات ابن أبي نسعة في الوقت الذي كان يتأهب فيه للسيراليه، ومزق بعض وحداتها، ثم ارتد إلى هضابه فاستعصم بها. ولما اضطربت شئون الأندلس بعد مقتل أميرها عبد الرحمن الغافقي وارتداد جيشه في بلاط الشهداء (114هـ - 732م)، وشغل الولاة برد جيوش الفرنج عن الأراضي الإسلامية في سبتمانيا، كثرت غارات العصابات الجليقية على الأراضي الإسلامية في شمال نهر دورو (دويره) وفي منطقة استرقة، وعانى المسلمون في تلك الأنحاء كثيراً من عيث النصارى؛ ولم تسعفهم حكومة قرطبة بالمدد والعون، لاضطرام الأندلس بالفتن ونشوب الحرب الأهلية بين مختلف الزعماء والقبائل. وكانت سلطة الحكومة المركزية ضعيفة في تلك الأنحاء النائية، وكان سكانها ومعظمهم من البربر يكثرون من الخروج والثورة سخطاً على العرب واستئثارهم بالحكم والسيادة. وكان النصارى من رعايا حكومة قرطبة يدسون الدسائس ويرتكبون شتى الخيانات، ويشجعون بذلك بلاجيوس وعصاباته على الإغارة والعيث في أراضي المسلمين؛ وكانت الإمارة النصرانية الناشئة تنمو خلال ذلك ويشتد ساعدها، ويهرع النصارى إلى لواء بلاجيوس من مختلف الأنحاء.
واستمر بلاجيوس في حكم إمارة جليقية زهاء تسعة عشر عاماً، وتوفى سنة 737م. ولكن بعض الروايات النصرانية تضع تاريخ وفاته بعد ذلك، فتقول إنه لبث حتى ولاية عبد الرحمن بن يوسف الفهري للأندلس (127 - 138هـ) (745 - 755م)، وإن الموقعة(47/17)
التي نشبت بين عثمان بن أبي نسعة وبلاجيوس كانت بين سنتي 746 و751، وهي رواية ظاهرة الضعف. لأن عثمان ابن أبي نسعة قتل سنة 114هـ (732م)، والرواية الإسلامية واضحة دقيقة في ترتيب الوقائع والتواريخ في هذا الموطن. وخلف بلاجيوس ولده فافيلا، ولكنه توفى بعد حكم لم يطل أمده سوى عامين (سنة 739م). وكان الدوق بتروس أمير كانتابريا قد توفى في ذلك الحين أيضاً، وخلفه ولده الفونسو دوق كانتابريا، ونمت هذه الإمارة النصرانية الصغيرة أيضاً واشتد ساعدها، وقويت أواصر التحالف بينها وبين جليقية بتزوج أميرها الفونسو من ابنة بلاجيوس واسمها اورموزنده أو هرمزنده؛ فلما توفى فافيلا ولد بلاجيوس، اختار الجلالقة الفونسو دوق كانتابريا ملكاً عليهم، واتحدت الأمارتان، وقامت منهما مملكة نصرانية واحدة، هي مملكة ليون النصرانية أو مملكة جليقية في الرواية الإسلامية، تمتد من بلاد البشكنس شرقاً إلى شاطئ المحيط غرباً، ومن خليج بسكونية شمالا إلى نهر دويرة جنوبا، وتشمل مناطق شاسعة من القفر والهضاب الوعرة، وتحتجب وراء الجبال بعيدة عن سلطان المسلمين وغزواتهم.
ويعتبر الفونسو دوق كانتابريا، أو الفونسو الأول (الكاثوليكي) مؤسس المملكة النصرانية الشمالية، واصل ذلك الثبت الحافل من ملوك قشتالة الذين لبثوا قروناً يدفعون حدودهم إلى الجنوب في قلب المملكة الإسلامية، ثم انتهوا بافتتاحها والاستيلاء على غرناطة آخر معاقلها (1492م)؛ وحكم الفونسو في ظروف حسنة، فقد كانت الحرب الأهلية تمزق الأندلس، وكان أمر الولايات الشمالية فوضى، والضعف يسود المسلمين في تلك الأنحاء. وكان ثمة منطقة عظيمة من القفر والخراب تفصل بين جليقية وبين الأراضي الاسلامية، فاجتاحها الفونسو بجموعه وقتل من بها من المسلمين القلائل، ودفع النصارى إلى الشمال. ولما حصل القحط بالأندلس (سنة 133هـ - 750م)، واشتد عصفه بالولايات الشمالية الغربية، جلا كثير من المسلمين عن تلك الأنحاء، واشتد ساعد النصارى فيها، ورفعوا لواء الثورة، وفتكوا بالمسلمين، ونادوا بالفونسو ملكاً عليهم؛ وانتهز الفونسو هذه الفرصة فغزا استرقة واستولى عليها من يد المسلمين واستولى على كثير من البلاد والضياع المجاورة وضمها لأملاكه (136هـ - 753م). وهكذا نمت تلك المملكة النصرانية التي نشأت في ظروف كالأساطير، واتسعت حدودها، واشتد بأسها بسرعة مدهشة، ولم يأت منتصف(47/18)
القرن الثامن حتى بدأت تناهض الإسلام في الأندلس وتغالبه؛ ولم يأت عهد الناصر لدين الله حتى كان وجودها خطراً على الدولة الإسلامية ذاتها؛ وحتى بدأت بين الإسلام والنصرانية في الأندلس معركة الحياة والموت. وسطع الإسلام في الأندلس واستعاد منعته وبهاءه مدى حين، أيام الناصر لدين الله، ثم في أيام الحاجب المنصور؛ واضطرمت فورة الإسلام أيام المرابطين، ثم الموحدين؛ ولكنها كانت جميعاً فورات مؤقتة، وكانت أسباب الانحلال التي سرت إلى الدولة الإسلامية تعمل عملها ببطء؛ ثم سطعت دولة الإسلام في مملكة غرناطة الصغيرة مدى حين، ولكن المعركة لم تكن متكافئة بعد، وكانت مملكة قشتالة النصرانية تسير ثابتة مطمئنة إلى تحقيق بغيتها الخالدة: استعادة الوطن القديم كله من يد الفاتحين.
محمد عبد الله عنان المحامي(47/19)
الحياة بعد الموت
ما هو الموت؟
رأي السير اوليفر لودج
حديث الحياة بعد الموت ألذ الأحاديث، ولا سيما إذا أنبأك به خبير يبني ما يقول على أساس علمي. ومن هؤلاء الخبيرين السير أوليفر لودج العالم الطبيعي الإنجليزي. وليس المراد بالطبيعي هنا ما يفهم عادة من هذه اللفظة، أي العالم الدهري المادي الذي ينسب إلى الطبيعة الجامدة ما ليس لها ويحلها محلاً أرفع من العقل، والذي شعاره وشعار طغمته (نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) بل المراد بالطبيعي في هذا المقال العالم الذي تفرغ لدرس نواميس الطبيعة وكشف النقاب عن أسرارها وحل ألغازها بانياً ذلك كله على البرهان العلمي
رأيت للسير أوليفر لودج مقالاً في مجلة إنجليزية عنوانه (ما هو الموت). وسأحاول تلخيصه بهذا المقال تاركاً للقراء الحكم فيه وما يستسيغون منه
مهد لموضوعه بمقدمة وجيزة عن كون الموت موضوعاً يدخل الغم على النفوس لأنه سفر مجهول وفرقة لا لقاء بعدها على هذه الأرض. ثم قال ما خلاصته.
إذا شئنا أن نفهم ماهية الموت وجب أولاً أن نعرف ما هي الحياة. وتعريف الحياة ليس بالأمر السهل. فإننا نعرف شيئاً عنها - نعرف أنها ليست صورة من صور الطاقة بل أنها مبدأ للهداية والإرشاد. وتستخدم لذلك الطاقة والمادة ولا يلوح أنها شيء طبيعي البتة
نحن نعيش في فرن من الطاقة المنبثقة من نور الشمس، ولنا قدرة على توجيهها وإدارتها. والدليل على أن الحياة ليست طاقة هو أن في وسع البذرة مثلاً أن تخرج أجيالاً لا يحصى عددها
والحياة تحدث أشياء لا يمكن أن تحدث بغيرها من الصدفة البحرية إلى الكنيسة الكاتدرائية. وذلك بتداخلها هي والمادة، وهذا التداخل أوجب تجهيزها بجسم مادي
وماذا نعني بالجسم؟ نعني به طريقة للظهور أو أداة. فقد يكون للموسيقار موسيقى في روحه، ولكنه يحتاج إلى آلة لإظهارها. فالجسم للنفس كالقيثارة للموسيقار
نحن بنينا الجسم طبقاً لأعمال طبيعية وبلا علم منا، وصففنا دقائق الطعام على شكل(47/20)
خاص. ولا ريب أن للشكل معنى
والعنصر الطبيعي والعنصر العقلي متفاعلان. فهل يحتمل أن العنصر العقلي الذي يدبر ويريد ويرجو ويرسم الخطط ويحب، محصور في طريقة ظهوره وعمله وحركته، ومقصور على مركب كيميائي معين، وخصوصاً المركب المعروف باسم البيومن (المادة الزلالية التي توجد فيها نطفة الحياة أو البروتوبلازم). فكرة على غاية من السخافة
إننا نعرف العنصر العقلي على هذه الصورة المعينة، ولكن قد تكون له صور وأشكال لا عداد لها ونجهلها الآن
ونحن مجهزون بآلة نسميها الجسم، وهذا الجسم مصنوع الآن من المادة. ومن السهل تصور صنعة من أشياء أخرى
ولكن هذه العلاقة علاقة المادة بالعنصر العقلي أو النفسي الذي يتسلطن عليها ويستخدمها يمكن فصلها وإنهاؤها، وهذا الفصل والإنهاء هو الموت، فالموت إذاً هو افتراق النفس عن الجسد، ولكنه ليس فناء واضمحلالاً، بل فرقة وخروجاً عن (علمنا الحاضر)
ويقول البيولوجيون الذين درسوا هذه المسألة إن الموت ليس أمراً لازماً للجسم كله، بل إن الخلايا الأخيرة خلايا التناسل لا تموت. والحييوينات الدنيا ذات الخلية الواحدة خالدة. فقد تقتل ولكنها لا تموت بل تنقسم قسمين وأكثر، وتبقى تتقسم وتستمر حية.
أما الأحياء العليا مثلنا ففيها خلايا أخرى غير الخلايا الخالدة، وهذه الخلايا هي التي تموت. ولما كانت تزيد كثيراً على الخلايا الخالدة، فأنها تزول بالتفاعل الكيميائي الحادث في الجسم بعد انفصال الروح عنه، وبذلك يزول الجسم أي أنه يتحول على طول المدى. وقد عرف الشعراء ذلك فقال شكسبير:
(أضجعت هنا في الأرض، ولتنبت أزهار البنفسج الربيعية من لحمها الجميل غير الفاسد)
وقال تنيسن: وليصنع من رماده بنفسج بلاده)
لكن الميت ليس هنالك، بل هو ذلك الذي مر في الجسم ورحل. فلا نخش لفظة الموت. ولا فائدة من القول أن لا موت. بل الموت موجود والمسألة مسألة تفسير وتأويل، فإذا قلت أن لا موت عنيت أن لا فناء. إذ الموتى لم يموتوا، بل لا يزالون أحياء عند ربهم يرزقون كما قال تنيسن، وليست حياتهم الثانية كالحياة الأولى ولكنها حقيقية مثلها(47/21)
يخبرنا الذين رحلوا عنا (يشير إلى ابنه رايموند الذي قتل في الحرب وقال انه ناجاه وكتب مجلداً كبيراً عنه وعن مناجاة الأرواح) بأن لهم أجساماً غير عادية، لكنها محسوسة وجامدة مثل الأجسام الأولى بل أحسن منها.
ويقولون إنهم مسرورون، وانهم لا يحبون العودة إلى الأرض مهما أعطيتهم. وانهم حولنا وأكثر دخولاً وخروجاً معنا مما يخيل إلينا. وكل ما هناك انهم لا يقعون تحت حواسنا
الحياة متصلة غير منقطعة، والموت لا يغير أحوال هذا الكون لانه شيء داخلي يتعلق بالفرد، وليس الموت سوى تغيير في نظره إلى الكون وفي إدراكه لما فيه. فقد كان يدرك نظاماً معيناً فإذا مات أدرك نظاماً آخر. ونحن نسمى ما وراء القبر العالم الثاني أو الحالة المستقبلة، وأما الكون فواحد ولكن هناك حاجزاً. ونحن نعرف الآن ونُعرف على جانب من هذا الحاجز، فإذا متنا عرفنا الجانب الآخر وعُرفنا فيه. وربما عُرفنا ما هناك وعرفنا بجلاء لا يقل عما نعرف ونُعرف هنا
إن في الكون عالماً آخر بل قد تكون هناك عوالم كثيرة غير التي قدرت لنا معرفتها، وليس عالم حواسنا سوى جزء صغير من ذلك الفلك المدار
وقد تسألني: وكيف عرفت أن أولئك الراحلين لا يزالون باقين. فأجيبك بأني لا أرتاب في ذلك لأني أتصل بهم كثيراً. وأنت لا تستطيع أن تشك في وجود الذين تخاطبهم بالتليفون أو اللاسلكي. وليست الحياة شيئاً يفنى ولكنها تظهر بمظاهر شتى، وهذه الحياة الدنيا هي أحد تلك المظاهر
وسنلبس في العالم الآخر أجساداً ونتخذ أشكالاً يمكننا التعارف بها. وإذا نظرنا إلى المسألة بعين العلم الباردة (أي الخالية من العواطف) وجدنا أن هناك حقائق كثيرة تؤيد البقاء بعد الموت، وأنا مقتنع بها بالبرهان التدريجي. ولست أنتظر أن يؤمن كل أحد على قولي هذا، ولكنني أؤكد تأكيداً علمياً أن الحياة شيء دائم، وأنها والمادة تتداخلان زمناً وتتفاعلان، ثم تطلق المادة إلى محيط آخر وبيئة أخرى
وتسألني هل الحياة القادمة أكثر سعادة من الحياة الحاضرة؟ فأجيبك بأن ذلك يتوقف على ما نصنع هنا، وعلى انتهازنا للفرص التي تعرض لنا في هذه الحياة.
ولقد تعودنا المظهر المادي هنا حتى بات يصعب علينا تصور مظهر آخر، بل أن بعضنا(47/22)
لا يستطيعون أن يتصوروه. أما أنا فأستسهل هذا التصور، لأننا في علم الطبيعة نبحث في أشياء كثيرة لا تقع تحت الحس، ولكنها مع ذلك حقيقة كالتي نشعر بها بحواسنا، بل ربما كانت أقرب إلى الحقيقة منها. فإننا جعلنا نحلل المادة وندرس طبيعتها حتى ليصح القول أننا مع كثرة تحليلنا لها نكاد لا نعرف شيئاً عنها
ولو أمكننا أن نرى المادة المحيطة بنا، يعني العلم، لم تظهر لنا كما تظهر عادة - أي جامدة ومحسوسة بل تظهر مثل المجرة كثيرة الثقوب والمسافات الشاسعة بين أجزائها. ففي داخل الذرة أماكن خالية. والدقائق قليلة متباعدة كالسيارات في النظام الشمسي
إنما الحياة في هذه الدنيا تجربة كبيرة، ونحن موجودون هنا لنجرب ونمتحن. ومصائر الوجود في الأبد وفي عين الخالق مفتوحة أمامنا، وهي أبعد مما نستطيع تصوره. وليس الوجود الحاضر على هذا السيار، سوى قصة قصيرة، ومخاطرة وقتية، وسفر زائل، يتبعها ذلك السفر السامي الطويل
فلا تخف لأن الخوف قطعة من العذاب (والمحبة الكاملة تزيل خوفنا) وهذا الكون تحكمه المحبة الكاملة. وهذه هي رسالتي. فلنغن مع المرنم صاحب الزبور (سبحي الرب أيتها السموات واسجدي له)
(ق. س)(47/23)
صورة من الثورة الفرنسية
مدام رولان 1754 - 1793
بقلم عبد الرحمن فهمي ليسانسيه في الآداب
مدام رولان، أنقى شخصيات الثورة الفرنسية، لا تزال تدوي كلماتها الأخيرة وهي تصعد درجات المقصلة في كافة الأرجاء.
وهي مانون ابنة مثال باريسي يدعى فيلبون، وكانت غرفتها ملاصقة (لاستيديو) النحت، تقضي فيها وقتها منهمكة في قراءة تراجم أبطال التاريخ. أبكاها يوماً أنها لم تكن رومانية أو اسبرطية، وقد جهلت أنها سوف تواجه أزمة لم يواجه مثلها أحد ممن كانت تحلم أن تكون مثلهم من أبطال التاريخ.
وكان يسرها كثيراً فوق قراءة الكتب اصطحاب أمها لها إلى حديقة النبات أو اللكسمبورج في باريس، عشقت القرية، ويدل على ذلك قولها (إنني أحب هذا السكون الذي لا يعكر صفوه غير صياح الديكة، وأشعر بالراحة التي تشعر بها شجرة ينقلونها من صندوق ضيق محدود إلى حقل واسع فسيح) وأحبت الرسم الذي يأخذك منه سحره وقوته. غير أنها لم تواصل عمل أبيها في النحت طويلا، لأنها مالت إلى العلوم، فكانت تنمي بما تقرأه وتلحظه من تجارب الحياة عقلا ناضجاً خدمت به الصالح العام.
أدخلت وهي في الحادية عشرة من عمرها ديراً تعرفت فيه بصديقتين حميمتين توثقت بينهن عرى الصداقة وهما: هنريت وصوفي كانيت. وبعد أن خرجن من الدير ورجعن إلى دورهن بقى الاتصال بينهن وثيقا، وذلك ما حدا بجدة مانون إلى أن تقول لها (ستنسين صديقتيك حالما تتزوجين) وسنرى مقدار صحة هذه الملاحظة من جانب الجدة العجوز.
ورسائل مانون أحسن وسيلة نرى منها صورة واضحة لشباب هذه الفتاة، فقد تحول اهتماماً بالدين إلى تعشق الفلسفة، ساعدها على ذلك عقل جبار يغلي كالمرجل ولا يستريح. وقد انتقت من بين خطابها العديدين رجلاً توهمت أنها تميل إليه، وهو مؤلف فيلسوف يدعى لابلانشير، ولكن سرعان ما ألقت عن نفسها هذا الميل واطرحته جانباً، غير واجدة فيه مثلها الأعلى. وكانت جد كلفة بكتابات روسو، وقدر لها أن تراه، وقد وصفت درجات سلم داره (. . . كما لو كانت درجات سلم معبد).(47/24)
من هذه الرسائل نرى في مانون فتاة متحمسة ذكية، حية نشطة، محبة للاطلاع، قوية الذاكرة، وقد أثرت وفاة أمها في حياتها فخبا نورها قليلاً بتأثير الصدمة والحاجة إلى المال بعد ذلك.
إلا أن القدر خط صفحة جديدة في حياتها، فأن شخصاً يكبرها بعشرين سنة تمكن من أن يكسب عطفها الدائم نحوه ومحبتها الثابتة له، وهذا الشخص هو السيد رولان المفتش العام للصناعات، وزفت إليه وهي في سن السادسة والعشرين، وانتقلت معه إلى ليون.
وكان لأسرة رولان نخبة طيبة من الأصدقاء المثقفين الوطنيين الذين غالبا ما كانت تراسلهم مدام رولان راغبة بذلك تحسس الطريق نحو المجتمع الباريسي الساطع، فأن أسعد أوقاتها هي تلك التي كانت تقضها في غرفة الموقد بين ابنتها الصغيرة تعلمها حياكة قطعة من قماش وبين زوجها يدرس أوراقه على مكتبه، على حين تطرق أذنها فرقعة النار في الموقد وصوت الصقيع يصدم النافذة. وصفت في رسائلها حبها الشديد لتغيير فصول السنة واختلاف مواسم الزراعة في الحقول، ولم يعل على حبها لفترة تقضيها وسط الطبيعة الهادئة أي حب آخر
غير أن هذا السلام لم يدم طويلا، فإن الحكومة في فرنسا كانت سيئة في هذا الحين، والأرستقراطية المترفة فوق القانون، والفوضى ضاربة بجرانها على ربوع المملكة، أما الشعب الجائع فالويل له إن نبس أحد أفراده ببنت شفة ضد النظام القائم، وكانت تكفى إشارة بسيطة أو تلميحة سريعة لطرح المحتج في أعماق السجون. ورمت أسرة رولان وأصدقاؤها بأنفسهم في أحضان الحركة التي قصد بها إسقاط النظام الإقطاعي ومساوئه، وأصبحت مدام رولان: هذه المرأة الجميلة الملتهبة، روح حزب الجيروند الذي عمل على تشييد عهد الحرية على أساس معتدل
وبدأت الثورة الفرنسية عام 1789 وعهد إلى رجال حزب الجيروند عام 1792 بالحكم، ولكن اعتدالهم وإظهار استيائهم من مذبحة سبتمبر ورفضهم التصويت ضد إعدام الملك أتاح الفرصة لنجاح المتطرفين فقضوا على المعتدلين - منشأ الثورة ومنبعها - وصعدوا على أنقاضهم إلى منصة الحكم. وفي عام 1793 أعدم الملك ومعظم الجيرونديين وبدأ عهد الإرهاب برعاية اليعاقبة أكثر متطرفي الثورة شدة وعنفا.(47/25)
عندما كانت السلطة في يد الجيرونديين عهد إلى السيد رولان بوزارة الداخلية، فكانت زوجته هي التي تحضر أوراقه الرسمية، وأصبحت بعد أن كانت تحرر إلى أصدقائها أمثال صوفي وهنريت تراسل البابا والملك برسائل يستعين بها المؤرخ الذي يكتب عن هذا الفصل من تاريخ فرنسا، ولو كانت مدام رولان رجلا أو لو سمح للمرأة في ذلك الوقت بلعب دور صريح على مسرح الحياة العامة لاختلف تاريخ الثورة الفرنسية عما هو عليه الآن.
وقد انتقلت مدام رولان من مسكنها المتواضع إلى الدار الفخمة التي كان يقطنها الوزير الخطير نكر، ووافقتها حياتها الجديدة كل الموافقة، إلا أنها لم تؤثر في خلقها السامي وطبيعتها البسيطة. وكانت تمد السماط للوزراء جميعاً مرة كل يوم جمعة، فإذا انصرفوا خلعت عنها ملابسها الرسمية، وانكبت على مكتبها تعمل بجد ونشاط فائقين.
وتمتاز من الجميع بهدوئها الظاهر، يكفي من جانبها كلمة هادئة تلقيها لتقضي بها على الاختلاف الحاد في الآراء، وغالباً ما أرسلت شعاعاً منيراً يستضيء به القوم في نقاشهم فتحلُ العقد وتفك الطلاسم.
وكثيراً ما دعاها المجلس الوطني ليمطرها أعضاؤه وابلا من الأسئلة كانت تجيب عليها جميعاً في اعتدال ووضوح وصراحة غير هيابة ولا وجلة، ولم تخف قط على حياتها، إنما كان إشفاقها دائماً على وطنها، وقد رأت بنظرها الثاقب وعقلها الفطن الناضج أنه ليس بين الجيرونديين رجل واحد يمكن أن يعهد إليه بأمر البلاد، وأنه لا يوجد بين اليعاقبة المتطرفين اثنان يمكن أن يثق أحدهما بزميله.
وسرعان ما تحقق تشاؤمها عندما تمكن اليعاقبة بقيادة مارا ودانتون وروبسبير من إسقاط الجيرونديين، وأدانوا أسرة رولان فيمن أدين من المعتدلين، فهرب رولان وقبض على زوجه، ثم أخلى سبيلها ليقبض عليها مرة أخرى بعد ساعة من إخلاء سبيلها ألقيت في أعماق السجون متهمة بأشنع التهم وأسفلها، ولكنها في السجن كما هو الحال في أي مكان آخر استطاعت أن تغزو القلوب، وصار حراسها طوع إرادتها ورهن إشارتها. ويشير صديق لها اعتاد زيارتها في سجنها (بأنها كانت تحدثه في شجاعة الرجل العظيم بصوت عذب كالموسيقى) إلا أنها كانت تخلو بنفسها تستند إلى النافذة وتمضي الساعات الطوال.(47/26)
وبعد أن كانت ترى في فرنسا مهداً للإخاء والحرية والمساواة، أصبحت تجد فيها كابوساً ثقيلا ومجزرة يذبح فيها أبناؤها بتهمة حانق أو شكوى حاسد، ولم تسد شهوة الدم وجشع السفاكين ما كان قائماً ليل نهار من قتل النفوس بالمقصلة والرصاص والإغراق.
وقد ذكرت في آخر رسائلها أنها (تحب ضوء الشمس ودارها وزوجها وابنتها المحبوبة وخادمتها الوفية) وتركت لابنتها صحفاً جمة من رسائل الحنان الأموي ملأى بالنصائح الغالية والكتاب الآتي أحد هذه الرسائل التي كتبتها في سجنها إليها:
(لست أدري يا عزيزتي إن كان يسمح لي بمقابلتك أو الكتابة إليك مرة أخرى أو لا. تذكري أمك دائماً. وهذا أحسن ما يمكن أن أقوله لك. ولقد عهدتني سعيدة لشعوري بتأدية الواجبات الملقاة على عاتقي، ولاستطاعتي خدمة الذين يعانون آلام الحياة ومساعدتهم؛ وهل الحياة إلا هذا؟ لقد وجدتني أذعن للقدر إذ يسوقني إلى الأسر، ولست مجرمة أستحق هذا، إلا أن الذكرى الطيبة والماضي الحسن والأعمال الجليلة هي كل عزائي، وبمثلها يستطيع المرء أن يحتمل مساوئ الحياة وتقلبات القدر. إن ما أتمناه هو ألا يقدر لك مثل ما قدر لي من المشاق والمتاعب وهناك ما لو استطعت اتباعه تفاديت به قسوة الحياة وحميت نفسك من مساوئها، ألا وهو العيش المنتظم الذي لا فراغ فيه؛ فهو حارس من كل خطر؛ وهو حاجة تبحث عنها النفس وحكمة يسعى إليها العقل، ليكون صاحبهما جاداً محترماً في حياته. فكوني عند حسن ظن أبويك بك، فقد تركاك مثلا جميلا، ولو استطعت أن تستغلي هذا المثل للوصول إلى ناحية الكمال أمكنك أن تحيي حياة نافعة).
زارتها في سجنها يوماً هنريت كانيت، وطلبت إليها أن تبدل لباسها وتسرع إلى الهرب، وتبقى هي في مكانها، إلا أن مانون رفضت طلب صديقتها في إباء وشمم، قائلة لها (ولكنهم يقتلونك إن فعلت ذلك) وبعد خمسة أشهر من سجنها استدعيت للمحاكمة، وكيلت لها التهم الشنعاء، فوقفت تدفعها عن نفسها باكية ساخطة. وفي اليوم التالي في 8 نوفمبر سنة 1793 سيقت إلى المقصلة، ولما رأت الشجاعة تخون جلادها حثته على أن يؤدي واجبه، وقد ظهرت وهي على شفا حفرة الموت نبيلةً في لباس أبيض ناصع يدل على طهرها. وشعرها الأسود الفاحم مرسل حتى وسطها، ينبعث من عينيها البراقتين شعاع الشجاعة والنبل.(47/27)
وبينا هي على درجات المقصلة إذ عنت لها أفكار فطلبت قرطاساً وقلماً لإثباتها، إلا أن طلبها رفض. ولن نعرف بطبيعة الحال ماهية هذه الأفكار التي نادتها ساعة الموت فلم تتمكن من تلبيتها.
بعد أسبوع من إعدام مانون عثر رجل على جثة قائمة إلى بعض الأشجار وقد امسكها بالشجرة سيف قد نفذ إليها من قلبه وعند قدمه ورقة خط عليها ما يأتي: (أنا رولان، لم أترك فرصة تمر دون اقتناصها في سبيل إسعاد وطني. أقدمت على إزهاق روحي لا من خوف ولا وجل، ولكن احتجاجاً على إعدام زوجي. فرغبت عن الحياة التي دنستها الجريمة).
حقاً إن هذه الصورة تمثل نهاية قاسية لفصل مزعج من فصول التاريخ الإنساني.
عبد الرحمن فهمي ليسانسيه في الآداب(47/28)
فن التصوير عند العرب
للأستاذ محمود خيرت
ضرب العرب بسهم وافر في الأدب والاجتماع والفلسفة والسياسة والفلك والكيمياء والطب وتخطيط البلدان وغير ذلك، فكانت مدنيتهم رائعة لم ينكرها المنصفون من علماء الغرب الذي نقلها وبني عليها
والى جانب هذه الفنون فن الزخرفة والعربيات التي يقوم أساسها على نبات عرف العرب كيف يبرعون في تعديد أوضاعه الهندسية براعة أثارت إعجاب هؤلاء العلماء الذين شهدوا لهم أيضاً بعلو كعبهم في فن الإنشاء والعمارة كما تنطق به جوامع القاهرة وقصر الحمراء بالأندلس وغيرها مما يعد من أعاجيب الآثار.
نعم، إن الطراز العربي غير مبتكر ابتكاراً لأنهم حين هبطوا إلى مصر والأندلس ووقعت عيونهم على آثار الفن البيزنطي فيهما استخلصوا منه عنصراً لطرازهم، وحسبهم أنه مع تصويره للروح العربية جمع بين المقدرة والحسن والرشاقة.
وهكذا برهن العرب على مقدرتهم الفنية وعلى تسامحهم واحترامهم تلك الآثار فلم يعبثوا بها كما فعل (الانكوكلاست) أولئك النساك المتطرفون بآثار بيزنطة لما سيطروا على الحكم بها في القرن التاسع وصدر القرن العاشر، إذ قضوا على الفن المسيحي فهشموا تماثيله وشردوا فنانيه حتى قصد بعضهم إلى اكس لاشابيل للخدمة في بلاط الملك شرلمان.
تلك هي شهادة أولئك العلماء في العرب بالنسبة لفني الزخرفة والإنشاء والعمارة، ولكن الذي نعرض له اليوم هو، هل زاول العرب أيضاً فن التصوير، وهل برعوا فيه كما برعوا في غيره؟ وهل كان من بينهم أساتذة مهرة كالذين ظهروا في أوروبا من عصر النهضة إلى الآن؟
أكثر الباحثين يذهبون إلى أن التصوير كان محرماً على المسلمين، وأن هناك أحاديث نبوية بهذا المعنى منها حديث: (أن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون).
وقبل أن نطرق هذا البحث نلفت النظر إلى مبلغ تبجح الغربيين بأنهم هم المنفردون بفن التصوير والأساتذة المبرزون فيه، لأن فن قدماء المصريين ما كان ليتجاوز مجرد التخطيط، على حين أنهم هم الذين اهتدوا إلى فكرة الظلال بأنواعها مما جعلهم يخرجون(47/29)
الصور ناطقة بأصولها المأخوذة عنها. ولكنها دعوى تستوقف نظر الباحث هنيهة، لأن الفرس لم يفتهم أيضاً وضع هذه الظلال وكتبهم المصورة بمختلف دور الكتب شاهدة بذلك. بل إن مما لا يصح أن يفوتنا ما جاء بكتاب كليلة ودمنة بالصفحة 64 طبعة سنة 1924 الأميرية، وهو: (. . . كالمصور الماهر الذي يصور على الحيطان صوراً كأنها خارجة وليست بخارجة، وأخرى كأنها داخلة وليست بداخلة) مع أن هذا الكتاب ترجمة ابن المقفع عن نسخة فارسية ترجمت بدورها عن أصل هندي قديم كما يفهم مما جاء بصدر هذا الكتاب. وإذن فالفضل الأول لابتكار الظلال التي هي الوسيلة كلها إلى استنطاق الطبيعة، إنما يرجع إلى الشرق وحده، لأن الوصف الذي نقلناه عن كليلة ودمنة لا يخرج عنه أحدث تعريف للرسم عند الغربيين، وهو إيجاد أنجاد وأغوار على سطح أملس بحيث إذا مررت بيدك من فوقه لا ترى لذلك أثراً.
ولقد كان انفراد الشيعيين على ما يظهر دون السنيين بهذا الفن مما ساعد على الاعتقاد بتأثير تلك الأحاديث الشريفة وفهمها على غير حقيقتها.
وأغلب الظن أن هذه الأحاديث لم تقصد إلا التماثيل مما كان شائعاً في الجاهلية بشيوع الوثنية وقضى الإسلام عليها لتنافرها مع أصول التوحيد. ومما يجعل هذا الفهم أقرب إلى الحقيقة ما رواه المسيو ال. جاييت في كتابه عن الفن الفارسي في باب التصوير من أنه كان بدمشق والقاهرة وبغداد مدارس راقية خاصة بالتصوير كان يقصدها الطلاب من كل صقع، وأنه كان هناك أساتذة بارعون يلقنونهم بها أصول هذا الفن كانوا محل إعجاب الخلفاء والسلاطين والوزراء، وكثيراً ما زينوا لهم قصورهم بصور حائطية
ويؤيد هذا ما جاء بخطط المقريزي بالصحيفة 318 من الجزء الثاني طبعة بولاق فقد قال عن جامع القرافة (جامع الأولياء في عهده) إن: (موقعه كان يعرف في القديم عند فتح مصر بخطة المغافر، بنته السيدة المعزية سنة 366، وهي أم المعز بالله نزار ولد المعز لدين الله على نحو بناء الجامع الأزهر، وأن بابه الذي يدخل منه، ذا المصاطب الكبير الأوسط، تحت المنار العالي الذي عليه، مصفح بالحديد إلى خط المقصورة والمحراب من عدة أبواب عدتها أربعة عشر بابا مربعة مطوبة الأبواب قدام كل باب قنطرة قوس على عمودي رخام ثلاثة صفوف، وهو مزوق باللازورد والزنجفر والزنجار وأنواع الأصباغ،(47/30)
وفيه مواضع مدهونة، والسقوف مزوقة ملونة كلها، والحنايا والعقود التي على العمد مزوقة بأنواع الأصباغ من صنعة البصريين وبنى المعلم المزوقين شيوخ الكتامي والنازوك.)
ثم قال:
(وكان قبالة الباب السابع من هذه الأبواب قنطرة قوس مزوقة في منحني حافتيها شاذوران مدرج بدرج وآلات سود وبيض وحمر، وخضر وزرق وصفر، إذا تطلع إليها من وقف في سهم قوسها شائلاً رأسه إليها ظن أن المدرج المزوق كأنه من خشب كالمقرنص. وإذا أتى أحد قطري القوس نصف الدائرة ووقف عند أول القوس منهما ورفع رأسه رأى ذلك الذي توهمه مسطحاً لا نتوء فيه وهذا من أفخر الصنائع عند المزوقين. وكانت هذه القنطرة من صنعة بني المعلم، وكان الصناع يأتون إليها ليعملوا مثلها فما يقدرون. وقد جرى مثل ذلك للقصير وابن عزيز في أيام البازوري سيد الوزراء الحسن بن علي بن عبد الرحمن، وكان كثيراً ما يحرض بينهما ويغري بعضهما على بعض لأنه كان أحب ما إليه كتاب مصور، أو النظر إلى صورة أو تزويق. ولما استدعى ابن عزيز من العراق أفسده، وكان قد أتى به في محاربة القصير، لان القصير قد يشتط في أجرته ويلحقه عجب في صنعته وهو حقيق بذلك لأنه في عمل الصورة كابن مقلة في الخط. وابن عزيز كابن البواب وقد أمعن ذلك في الكتاب المؤلف فيه، وهو طبقات المصورين المنعوت بضوء النبراس وأنس الجلاس في أخبار المزوقين من الناس
وكان البازوري قد أحضر بمجلسه القصير وابن عزيز، فقال عزيز أنا أصور صورة إذا رآها الناظر ظن أنها خارجة من الحائط، فقال القصير، ولكن أنا أصورها فإذا نظرها الناظر ظن أنها داخلة في الحائط، فقال هذا عجب، وأمرهما أن يصنعا ما وعدا به فصورا صورة راقصتين في صورة حنيتين مدهونتين متقابلتين، هذه ترى كأنها داخلة في صورة الحنية، وتلك ترى كأنها خارجة من صورة الحنية. . . . فاستحسن البازوري ذلك، وخلع عليهما ووهبهما كثيراً من الذهب.
وكان بدار النعمان بالقرافة من عمل الكتامي صورة يسوف عليه السلام في الجب وهو عريان، والجب كله أسود إذا نظره الإنسان ظن أن جسمه باب قد دهن بلون الجب. وكان هذا الجامع من محاسن البناء. وكان بنو الجوهري يعظون بهذا الجامع على كرسي في(47/31)
الثلاثة أشهر فتمر لهم مجالس بهجة تروق وتشوق)
وقد أشار أيضاً إلى اللوح الحائطية التي من تصوير أبي بكر المحتسب سنة 365 في أول عهد الدولة الفاطمية، وكذلك إلى صور احمد بن يوسف المشهور بالأوسطي (أي الفنان) وكذلك صور محمد بن محمود. وإنه كان في عهد السلطان بيبرس رجل اسمه ابن دايا كان يشتغل بالسياسة والتصوير، حتى أنه لما عين بأمر السلطان سفيراً لدى بركه الأمير المغولي حمل إليه ثلاث لوحات من عمله تمثل مواسم الحج بمكة
نخرج من رواية المقريزي هذه بأن فن التصوير لم يكن متداولاً عند الفرس وحدهم، بل عند العرب أيضاً، وأن أساتذته كانوا مهرة تدل آثارهم كالشازوران الذي بأحد طرفي القنطرة والراقصتين، على إلمامهم بفن المنظور والتأليف كما في صورة يوسف عليه السلام وهو في الجب. وأن هؤلاء المصورين وإن كانت أكثر آثارهم حائطية، إلا أنهم فكروا أيضاً في التصوير فوق لوحات مستقلة كما رأينا عند الكلام على ابن دايا، وأن هؤلاء الفنانين كانت لهم مكانة في نفوس السلاطين والوزراء، كما أن العناية بآثارهم بلغت حداً بعيداً، حتى أنها كانت تزين بها الجوامع مما يدل على أنهم كانوا لا يأخذون بحرفية الأحاديث، ولكن بالغرض منها
أما كتاب ضوء النبراس الذي بحث في سيرة أولئك المصورين فلا ندري إذا كان من وضع المقريزي أو وضع غيره، لأن ذلك غير واضح في عبارته، وعلى كل حال فإن فقدان هذا الكتاب مما يدعو إلى الأسف الشديد.
محمود خيرت بقسم قضايا المالية(47/32)
الموسيقى الشرقية
بقلم منير الجم الطرابلسي
- 1 -
اطلعت بالأمس على مقالين ممتعين في (الرسالة) الغراء حول فن الموسيقى: أحدهما للأستاذ قدري حافظ طوقان، والآخر للأستاذ عبد العزيز البشري، فسرني منهما أن يطريا فن الموسيقى العربية، ويتغنيا بعبقرية من اشتغلوا بهذا الفن الجميل من قدامى ومحدثين؛ أقول وأؤكد القول: بأنني جد مغتبط بمقاليهما كعزاء للفن المغبون. . .
ولقد رغبت ان أشاركهما فيما أبدياه من العواطف السامية نحو موسيقانا، فكتبت في عجالتي هذه نبذة عامة عن تطور الموسيقى الشرقية في العهد الأخير، وما طرأ عليها من الإصلاح والتجديد، كموسيقى يغار على الفن، ويؤدي نحوه الواجب المحتوم
- 2 -
كانت الموسيقى في جميع العصور مقياساً لروحية الأمم، ورمزاً لأخلاقها ورقة طباعها، وإذا كان للشعر والأدب والنحت والتصوير وغيرها من الفنون منزلة سامية في النفوس، فللموسيقى رتبة أسمى وأعلى، وإذا كان لهذه الفنون أياد بيضاء على تهذيب الطباع الإنسانية، وصقل عواطفها، فأحر بالموسيقى أن تنال السبق في هذا المضمار، إذ تتعدى ذلك إلى شفاء بعض الأمراض، وطرد الهموم من النفوس، ومعالجة الحيوان والتلطيف من شراسته ووحشيته، فاسمها مقرون على الدوام بالروعة والاعتبار. . .
نشأت الموسيقى في دورها الأول مع الإنسان الساذج المقلد لمظاهر الطبيعة الفاتنة، فاندفع بميله الغريزي، وعواطفه الكامنة لإتقان هذا التقليد المستحب اللذيذ، حتى انقلب على مر العصور إلى فن جميل له مكانته بين الفنون.
عنيت الأمم الغابرة من مصريين ويونان ورومان، وصينيين وهنود ويابان وفرس وعرب بالموسيقى عناية قصوى جعلتها تتطور في أحضانها بخفة ولباقة، حتى وصلت إلينا بحلة قشيبة؛ وما أن افترق الشرق عن الغرب حتى كانت موسيقى الشرق غير موسيقى الغرب؛ طارت الأولى في سماء الروح والعواطف، ثم ما لبثت أن هبطت قليلا، فلا هي بالهابطة(47/33)
ولا هي بالصاعدة، متقلقلة بين الصعود والهبوط؛ وأما الثانية فلا تزال جادة في طريق المجد، تقطع مراحل وأشواطاً من التقدم، وغدت لدى الذوق الغربي أسمى وأشهى ما يلذ للسمع ويستطاب.
- 3 -
بعد أن انتقلت الموسيقى إلى العرب برعوا فيها، وجددوا ما بلي منها، وبقيت في عهدهم زاهية ببغداد ومصر والأندلس وغيرها من البلاد العربية حتى دالت دولة العرب، فقبعت في زاوية الإهمال حقبة من الزمن، تترقب من ينتشلها من وهدتها، ويقيلها من عثارها بعد ذاك العز والمجد، حتى قيض لها منذ قرون تقريباً من يذود عن حقها المهضوم ويرفع من شأنها ولو قليلا أمثال الأساتذة المرحومين: عبده الحمولي، والشيخ يوسف المنيلاوي، ومحمد عثمان، وعبد الحي حلمي، والشيخ سلامة حجازي الذي نبغ في الغناء المسرحي وانفرد به، وكذلك احمد الليثي، وأمين بنايه، وإبراهيم سهلون، وغيرهم من عظماء الفن، ومشاهير الملحنين والعازفين الذين نهضوا بالموسيقى العربية نهضة مباركة لا بأس بها، وخاصة في قسم الغناء والإنشاد؛ ثم كان منهم النابغة المرحوم الشيخ سيد درويش الذي يعد من المجددين، وإليه يرجع الفضل في تعديل فن الغناء العربي تعديلا لطيفا، وهو الذي عنى بنغمة (الحجاز كار كردي) التركية، واستعملها في كثير من أغانيه وأدواره الخالدة، فزاد الفن بذلك عذوبة ورقة، وكان بحق آية في العبقرية والنبوغ. . . وأخيراً جاء نابغتنا الشاب الأستاذ محمد عبد الوهاب وأمثاله، وهو مجدد بكل ما في الجدة من معنى، وقد أضاف إلى الفن ما أضاف من عبقرية فذة تتجدد، ونبوغ مضطرم يزكو، ولنا كبير أمل بجهوده الفنية التي ستسمو إن شاء الله بالموسيقى إلى أقصى مراتب النجاح.
مازال الأستاذ محمد عبد الوهاب يخدم الفن خدمة يشكر عليها ويثاب، فجدد منه أصولاً، وأصلح فيه أنواعاً، ثم أضاف إليه أقساماً طريفة من الأنغام الإفرنجية، إلى غير ذلك من التجديد الموافق للذوق الشرقي والعربي، وغدت اسطوانات أغانيه تسمع حتى في بلاد أوربا بكل إعجاب، يشاركه في هذا التجديد نخبة صالحة من غواة الفن، وجمعيات ونواد فنية أسست في مصر وسوريا وغيرهما، يجاهدون جميعاً في تعزيز الموسيقى الشرقية لتستعيد مكانتها الأولى، ويكون لها الصدر في الموسيقى العالمية(47/34)
- 4 -
هذا في مصر وسوريا وبعض البلاد العربية الأخرى، وأما في البلاد التركية، فقد وجدت الموسيقى الشرقية منتجعاً خصباً، فتطورت في سنين قلائل، حتى لتضاهي كل موسيقى عالمية، والحق يقال: أن للأتراك فضلا كبيراً على هذا الفن، فقد اخترعوا أنغاماً لم تكن تعرف من قبل، وحسنوها وهذبوا كثيراً من الألحان، وجعلوا في موسيقاهم أنواعاً منوعة من القطع الفنية الخالدة، ونبغ لديهم عظماء أفذاذ، أمثال الأساتذة المرحومين: حافظ، ومونلا عثمان، وقره قاض القديم، ووسيلاكي المغني المشهور، وعثمان بك، وعاصم بك، والطنبوري جميل بك، و (الكمنجاتي) طاتيوس، وواسلاكي، وغيرهم ممن أكسبوا الفن كنوزاً ثمينة لا تقدر، وقد جاء من بعدهم مجددون معاصرون فأدخلوا تحسينات جمة عليه، ولقحوا بعض أقسامه وأجزائه بشيء من الأنغام الإفرنجية اللطيفة، كما أنهم أضافوا فن تأليف الأصوات على فرع من موسيقاهم، ولا سيما دار الفنون والموسيقى في الأستانة، التي تعد في طليعة المجاهدين في سبيل ترقية الموسيقى الشرقية وتعزيزها.
وأما في بلاد فارس والهند والصين وغيرها، فالموسيقى مازالت مهملة أو كالمهملة، إلا في بلاد اليابان وشرقي الصين فآخذة في التقدم السريع، غير أن الموسيقى الغربية طغت عليها، وتكاد تكون معها في صراع عنيف، حيث لكل منهما أحزاب ومشايعون، والغريب في الموسيقى الشرقية هناك أنها تكاد تضارع الأنغام العربية والتركية في اللهجة والأصول، فقد ذكر صديق لي أنه كان منذ بضع سنوات في بلدة شنغاي من أعمال الصين الشرقية، وبينما كان ماراً في حي صيني سمع أنغاماً عربية من مقام (الحجاز) فظن لأول وهلة أن العازف على الآلة ربما كان عربياً، وفرح لهذه المصادفة، ورغب أن يجتمع به، ولشد ما كانت دهشته حينما وجده صينياً عريقاً في الصينية، لا يدري من أمر العرب شيئاً، مما يدل على أن لإيحاء الشرق على سكانه في كل صقع أثره الشديد حتى بموسيقاه العذبة.
- 5 -
يعيب الغربيون موسيقانا بالجمود والتشابه والتكرار، ويتهموننا بقلة الأنواع الموسيقية، وعدم تأليف الأصوات، وإدماجها في القطعة الموسيقية جملة واحدة ولئن كان هذا النقص(47/35)
معيباً في موسيقانا، فإن قليلاً من الجهد والعناية يذهب به، وأنني لأرى أن هذا النقص الذي نعنيه لم يحصل من التهاون والإهمال، بل هي طبيعة الشرق الهادئ توحي لموسيقاه ألطف الأنغام الفردية العذبة.
إنني لا أنكر على الغرب محسناته في موسيقاه، كلا، ولا أنكر عليه التجديد الفني الذي أضافه عليها، فجعلها في مراتب سامة تفوق حد الإبداع، كلا، ولا أنكر عليه أيضاً استفادة الموسيقى الشرقية والعربية من هذا الرقي والتجديد، ولكن ذلك لا يمنعني من الجهر بجمال الموسيقى الشرقية اللطيفة إذا ما بذلنا في سبيلها جهداً ومثابرة وإخلاصاً، ولا سيما وهي العذبة بأنغامها، الزاخرة بألحانها، الطافحة بأسمى العواطف والشعور. .!
- 6 -
إننا إذا دققنا في الأنواع الموسيقية لدينا وجدناها ضئيلة جداً بالنسبة إلى غزارتها في الموسيقى الغربية، يؤيد ما يعيبنا به الغربيون وهي على التقريب كما يلي: الموشحة، الليالي، الدور، القصيدة، الغناء المسرحي، الطقطوقة، المواليا.
فالموشحة: - قطعة غنائية من أرقى أنواع الغناء، إذا ما كانت متينة اللغة والمعنى، وليس كما يمسخها بعض المغنين بلغة ركيكة، وألفاظ سمجة، وتطويل جاف ممل. . .
الليالي: - (يا ليل يا عين) فهذه لا حدود لها، تابعة لشعور المغني أو العازف، وسمو إحساسه في الأنغام، وقدرته على الانتقال بينها بلباقة وأصول، حتى ينتهي إلى ما بدأ منه، وإذا كانت لموسيقانا مزية تنفرد بها، فتكون من هذه الناحية، إذ يعجز غيرها عن ترديد (الليالي) الإلهامية، وعزف (التقاسيم) الروحية ارتجالاً، ما لم تكن مسجلة ومخطوطة، أو محفوظة من سابق عهد.
الدور: - قطعة غنائية مركبة من جزأين: الأول يسمى (مذهب)، والثاني (دور) وفي الأخير تتعدد الأنغام اللذيذة المثيرة للطرب والسرور، وما زالت الأدوار لها مكانتها في الموسيقى العربية، وهي آخذة في التقدم والرقي، من متانة في اللفظ، وطرافة النغم، مما يجعلها في الصف الأول.
القصيدة: - قطعة شعرية تنشد بألحان معينة، وتكون عذبة مطربة إذا كانت محتوية على معان سامية وأنغام مؤتلفة، وقد أصبحت في الآونة الأخيرة من الأنواع الراقية نظماً ونغماً،(47/36)
يعالجها الشعراء والموسيقيون بكل همة ونشاط.
الغناء المسرحي: - قطعة غنائية تمثيلية، لها أصول خاصة في الغناء، بحيث تتناسب الأنغام مع معاني كل جزء منها، وتوافق الغرض المقصود؛ فالعتاب - مثلاً - في بيت شعري له نغم يناسبه، وكذا الاستعطاف له لحن يوافقه، وتزيد بذلك وضوحاً وتأثيراً في النفوس؛ وقد عني الشعراء والموسيقيون بهذا الضرب من الغناء، فنظموا ولحنوا قطعاً تناسب المقام أمثال المرحوم أمير الشعراء شوقي بك، والأستاذ محمد عبد الوهاب، وغيرهما من غواة الفن، وهواته ومجدديه.
الطقطوقة: - قطعة غنائية حاوية على مذهب ودور بسيط، فالمذهب هو القطعة الأولى منها اللازمة للدور في نهاية كل جزء من أجزائه، ولغتها على الغالب عامية، وهذا هو موضع العيب الفاضح فيها.
المواليا: - وهو في نظري أشد جموداً من غيره، حيث الركاكة في الألفاظ، والترادف في المعنى الواحد للعشق والهيام المبتذل، ولا يخرج عن كونه أنيناً متواصلاً، ونواحاً مؤلماً، لا أثر للحياة فيه، وموجباً للحزن والأسف الشديد؛ ولدينا اليوم أيضاً نوع اسمه (المونولوج) أو (الغناء الوجداني) الذي اقتبس أخيراً من موسيقى الغرب، وقد برع فيه الأستاذ محمد عبد الوهاب وأبدع فيه أيما إبداع.
- 7 -
إن الأصوات تختلف في سيرها أثناء العزف أو الغناء، فتكون أنواعاً متنوعة يسمى كل منها نغماً، فالأنواع الموسيقية الآنفة الذكر يتركب مجموعها اليوم من أنغام كثيرة اختصر على أهمها:
(1) نغمات السيكاه (2) نغمات العشيران (3) نغمات العجم عشيران: - أوج - عراق (4) نغمات الراست: راست، نهاوند، حجاز كار، حجاز كار كردي (5) نغمات الديكاه: البيات، حجاز، صبا، عشاق، بيات شورى (6) سيكاه (7) جهار كاه (8) حسيني، إلى غير ذلك من الأنغام الكثيرة المستعملة في الموسيقى العربية.
وأما الأنواع الموسيقية لدى الأتراك فقريبة الشبه من العربية غير أن الأنغام لديهم أكثر وأغزر، زادت في مادة الموسيقى الشرقية زيادة تذكر، وخاصة عنايتهم الفائقة بتأليف(47/37)
القطع الفنية التي تعزف على الآلات، فهي بحق قطع خالدة جديرة بالإكبار والإعظام؛ ولقد استفادت الموسيقى العربية من هذه القطع الفنية الطريفة والأنغام الإضافية العذبة، ما جعلها مدينة إلى الموسيقى التركية مادة ومعنى، والأنواع المعروفة لدينا من هذه المعزوفات الفنية هي: البشرف، والسماعي، والدولاب فالبشرف: قطعة فنية غزيرة بالأنغام المنسجمة، مركبة من جزأين أو ثلاثة أجزاء أو أربعة، والجزء الواحد يسمى (خانه)، تعزف على الآلات الشرقية بواسطة (النوته) الرموز الاصطلاحية ضمن قوانين وأوزان محكمة كأوزان الشعر لا يمكن للعازف أن يشذ أو يخرج عنها، ويكون عزفها عادة أبطأ من (السماعي)، وهي على أنواع من الوزن والقياس والعزف، لا مجال لذكرها الآن.
وأما (السماعي) فهو كالبشرف في أنغامه وتركيبه، غير أنه أصغر منه في مجموعه وأسرع في العزف، وله أوزان ومقاييس تختلف عنه، وأما (الدولاب) فهو قطعة فنية صغيرة بأوزان معلومة، تعزف عادة قبل الشروع في الغناء تمهيداً للنغم المنوي التغني به؛ وتوجد غير ذلك ضروب مختلفة، مقتبسة أصولها من الضرب: في الرقص والتمثيل والوصف. . . الخ كالفالس - مثلاً -، والبولكة، والمارش من القطع الفنية المصورة لنوازع النفس، ومظاهر الطبيعة الفاتنة، ووحي جمالها السامي تصويراً دقيقاً موافقاً بعد تعديلها للذوق الشرقي؛ ومن جملة ما اقتبس من الموسيقى الغربية: الرموز أو العلامات الموسيقية (نوته) التي تكتب بها المعزوفات الفنية، فخدمت الموسيقى الشرقية خدمة جلى، وكان لها الأثر الظاهر في تقدمها وحفظ كنوزها من الفناء. . .
- 8 -
وأما الآلات المستعملة لدينا في الموسيقى الشرقية عامة فهي: العود، والقانون، والطنبور، و (الكمان) والناي، والمزمار، والدف؛ والطبلة، ويوجد آلات شرقية وعربية غير هذه كثيرة ولكنها مهملة، أو غير صالحة لعزف القطع الفنية؛ ثم أضيفت آلات حديثة من الموسيقى الغربية خاصة لعزف قطع (الهارموني) زيادة في التحلية عند اللزوم، أو لعزف القطع الحماسية. . . . في المعسكرات الحربية كالبيانو والكمان الأكبر والساكسوفون والفيفرا إلى غير ذلك من الآلات الوترية، والنفخية والهوائية، التي ليس لها - ويا للأسف أسماء عربية حتى اليوم!!(47/38)
وعلى هذا فالموسيقى الشرقية على العموم لا تزال بحاجة إلى جهود جبارة، وعزائم صادقة، وهي في دور نهضة مباركة تبشرنا بمستقبل قريب باهر.
حماه:
منير الجم الطرابلسي(47/39)
6 - بين المعري ودانتي في رسالة الغفران
والكوميدية المقدسة
بقلم محمود احمد النشوي
الوطنية لدى الشاعرين
كأني بالمعري يختص رسالة غفرانه بخيال النعيم والجحيم. ومساجلة الشعراء والأدباء، والنحاة والرواة. ثم بالرد على ابن القارح والحديث عن بشار والمتنبي وصالح بن عبد القدوس والحلاج والصناديقي وغيرهم من المتأهلين والمتزندقين مما بدأه ابن القارح بالحديث عنهم في رسالته. فلم يكن في كل مواقف (رسالة الغفران) ما يثير في نفسه الحنين إلى الوطن، ولو أن موقفاً من مواقف رسالته ذكره بالوطنية أو تعمد هو أن يخلق المواقف في تضاعيف كلامه للحديث عن الوطن وآلامه كما كان يفعل دانتي لأرانا ضروباً من الحماس للوطن والتفاني في سبيله. . .
المعري رجل يريد أن يداعب وأن يسخر. يريد أن يذكر للناس غريب اللغة ونحوها وعروضها. ثم هو يخاطب صديقاً له فلم يكون ثمة مجال لذكر الوطن أو الحديث عن الوطنية. ولكن دانتي كان أهم أغراضه في رسالته بكاء الوطن. وإثارة الحمية في النفوس للأخذ بناصر الشعب الذي تمزقت أوصاله، ولعبت به الحروب الأهلية شنيع الألاعيب. فكنا نتلمس الوطنية في كل خطوة من خطوات دانتي. . ونفقد ذلك في رسالة الغفران. فهل ضعفت نزعة الوطنية عند المعري؟ ألم يطرب للمعرة والشام ولتلك الربا والبطاح؟ لقد كان أبو العلاء يطرب لدياره وبلاده. وكان مغرماً أشد الغرام بوطنه ومنبته. فنحن نراه يكره الخلود ويشيح عنه بوجهه إن كان مع الخلود انفراده عن أهله ووطنه. ثم هو يسخط على السحائب إن اختصته بغيثها ولم تهطل على كل بلاده تبل ثراها وتحيي مواتها فيقول:
ولو أني حبيت الخلد فردا ... لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا نزلت علي ولا بأرضي ... سحائب ليس تنتظم البلادا
ثم يتمنى النعيم لوطنه وإن فاته نعيمه. وتنزع نفسه أن يعود لبلاده وإن كان في يوم الحشر، ويوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت فيقول:(47/40)
فيا وطني إن فاتني بك سابق ... من الدهر فلينعم لساكنك البال
فإن أستطع في الحشر آتك زائرا ... وهيهات - لي يوم القيامة أشغال
ثم نراه يقيم في بغداد والكرخ، وبين الرصافة والجسر، تلك التي شفه الحنين إليها منذ نعومة أظفاره. وكان يتكلف بها في شرخ الشباب، فحققت له الكهولة أمنيته. قال:
كلفنا بالعراق ونحن شرخ ... فلم نلمم به إلا كهولا
بيد أنه لم تكد تمر عليه بضع ليال حتى حن لوطنه وتمنى قطرة من ماء المعرة يطفئ بها ظمأه فقال:
فيا برق ليس الكرخ داري وإنما ... رماني إليه الدهر منذ ليال
فهل فيك من ماء المعِرة قطرة ... تغيث بها ظمآن ليس بسال؟
لقد كان أبو العلاء يذكر وطنه كلما لمع السراب إبان الظهيرة وكلما جن عليه الليل واحتوته الظلمات، ويستعذب ماء بلاده وإن كان آسناً. عن ماء الكرخ وإن كان كالصهباء. فيقول:
إذا جن ليلى جن لبى وزائد ... خفوق فؤادي كلما خفق الآل
وماء بلادي كان أنجع مشربا ... ولو أن ماء الكرخ صهباء جريال
ولم يكف المعري أن يصدح بذكر بلاده وحده، بل أشرك معه نياقه تلك التي تمنت قويقا والصراة حيالها. والتي كانت تطرب لضوء بارق الشام وأن تعالي عن مستوى نظرها حتى ليسرها أن تقطع رؤوسها وترفع فوق أسنة الرماح لتشيم بارق الوطن، والتي كانت تتلو زبوراً في الحنين إليه، مترنمة بقصائد أودعتها كل أشواقها لديارها فقال:
تلون زبوراً في الحنين منزلا ... عليهن فيه الصبر غير حلال
وأنشدن من شعر المطايا قصيدة ... وأودعنها في الشوق كل مقال
. . ولقد كان المعري يستطيب الحديث عن بغداد وعما يحف بها من المشاهد. فيقول:
هات الحديث عن الزوراء أو هيتا ... وموقد النار لا تكرى بتكريتا
ويجعل حفظ عهود أهلها من صلواته فيقول:
أعد من صلواتي حفظ عهدكم ... إن الصلاة كتاب كان موقوتا
ويتمنى أن تكون العراق تربته. وبها منيته. فيقول:
وكان اختياري أن أموت لديكم ... حميداً فما ألفيت ذلك في الوسع(47/41)
فليت حمامي حم لي في بلادكم ... وحالت رمامي في رياحكم المسع
وجعل الإماء الوكع من بغداد أفصح من فصحاء البادية طبعوا على البيان واللسن. فقال:
وما الفصحاء الصيد والبدو دارها ... بأفصح قولاً من إمائكم الوكع
وتمنى أن يأتي على ما في دجلة من ماء شرباً وجرعاً ليطفئ غلة حنينه نحو العراق فقال:
ألا زودوني شربة ولو أنني ... قدرت إذا أفنيت دجلة بالجرع
ويرجو أن يعود إلى بغداد والكرخ، والرصافة والجسر، وألا يكون سيره عن ديارهم كرأي الملحد لا يرجو معادا ولا ينتظر إياباً للحياة، بل رأى المؤمن يثق بالرجعى فيقول:
فلا كان سيري عنكم رأي ملحد ... يقول بيأس من معاد ومرجع
ثم يألم من الليالي التي تضن عليه بالرجوع إلى بغداد، فيقول:
أظن الليالي. وهي خود غوادر ... بردي إلى بغداد ضيقة الذرع
ثم يدعو بالسلامة والنجاة لعارض تحدوه بوارقه يؤم الكرخ فيقول:
يا عارضا راح تحدوه بوارقه ... للكرخ سلمت من غيث ونجيتا
ثم يستسقى لدجلة ويفي بعهده فيحرم على نفسه شرب مياه الأنهار من بعده كما حرم طالوت على قومه الشرب من النهر الذي ابتلاهم به ربهم فقال: إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني. وذلك حين يقول أبو العلاء
سقيا لدجلة والدنيا مفرقة ... حتى يعود اجتماع النجم تشتيتا
وبعدها لا أريد الشرب من نهر ... كأنما أنا من أصحاب طالوتا
ذلك هو طرب المعري للعراق وتعلقه بدجلة، فهل أنساه حب المعرة نعيم بغداد؟. وهل أنساه حب الشام حب العراق؟ كلا! فقد كانت لدى المعري وطنية يراها في كل شيء من حوله حتى في النياق تتلو زبور الوطنية. وإنجيل الشوق إليها، وإن لم يذكر ذلك في رسالة غفرانه، ولم يتخيل عذاباً أليما لخائني أوطانهم كما تخيل دانتي الذي افتن في وصف هذا الصنف من الناس وتخير لهم أٍفل دركات الجحيم. وأشدها هولاً وإيلاما.
وموعدنا بالحديث عن وطنية دانيت العدد القادم
يتبع(47/42)
محمود احمد النشوى(47/43)
أعيان القرن الرابع عشر
للعلامة المغفور له أحمد باشا تيمور
مقدمة بقلم الأستاذ احمد أمين
أهبت في مقال سابق بالرسالة، إلى الشيوخ والشبان أن يجدوا في تقييد ما عرف من العصر السابق لعصرنا من ترجمة لرجاله، وتدوين لأحداثه، وأشرت إلى أن كثيرين من عظماء شيوخنا أمثال أستاذنا أحمد لطفي السيد بك، والأستاذ إبراهيم الهلباوي بك، والسيد محمد الببلاوي، وسعادة احمد زكي باشا، وفضيلة الشيخ محمد بخيت، والأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار، والصحفي العجوز وأمثالهم، قد شاهدوا من عظماء الناس في مصر، ووقعت لهم من الحوادث، ومر أمامهم من المناظر ما لو دون لكان ثروة لا تقدر، ولكان حلقة اتصال بين ما دونه المؤرخون قبلنا كالجبرتي، وما يراه جيلنا. وقلت إن في نفوسهم كثيراً من المعلومات تضيء السبيل للجيل الناشئ، وإن من الخسارة العظمى أن نسكت عن تدوينها، وألا نسرع في تقييدها، فعلى هؤلاء السادة أن يدونوا في ذلك مذكراتهم، وعلى الشبان أن يلحوا في رجائهم، وأن يستملوهم ما في ذكرياتهم، ضنا بتاريخ أمتهم، وحرصاً على فائدة الجيل المقبل
وقد سرنا أن يقوم صاحب السعادة احمد شفيق باشا بنشر مذكراته، وفيها كثير من المعلومات القيمة التي تلقي نوراً على تاريخ الجيل الماضي؛ وحبذا لو نحا نوه بقية رجالاتنا، فيكملوا النواحي الأخرى الاجتماعية التي لم يتصل بها شفيق باشا، فكل عظيم من هؤلاء العظماء كانت له نواح اجتماعية خاصة هو بها أكثر علماً وأوسع معرفة.
ويظهر أن هذه الفكرة نفسها كانت عند المرحوم احمد تيمور باشا، فقد بدأ بترجمة رجال القرن الرابع عشر، ولكن مع الأسف الشديد لم يتمه، وقد طلبت من صديقي الأستاذ محمود تيمور أن يتفضل فيسمح لي بالاطلاع على ما دونه في ذلك المرحوم والده، فقبل رجائي وأعارني الجزء الخاص بذلك - فإذا هو مجلد قد دون فيه بخط المؤلف اثنتان وسبعون صفحة، وقد ترجم فيها لأربعة وعشرين رجلاً من أعيان القرن الرابع عشر الهجري باعتبار الوفاة، وإن كان أكثر حياتهم في القرن الثالث عشر
وأكثر من ترجم لهم المؤلف من الأدباء كعبد الله نديم والشيخ شهاب، والشيخ على الليثي،(47/44)
أو من العلماء كالشيخ الأشموني والشيخ المهدي العباسي، والشيخ حسن الطويل، والشيخ أبي خطوة، والشيخ حسونة، لأن المؤلف رحمه الله كانت حياته حياة علم وأدب، فعني بمن تتصل بهم حياته، وقد ترجم أحياناً لرجال السياسة كسلطان باشا، والغازي احمد مختار باشا
وقد أفاض المؤلف في بعض التراجم فخرجت كاملة مستوفاة كترجمة عبد الله نديم وسلطان باشا، وبعضها قاصرة كترجمة الغازي مختار باشا، وكل التراجم - مع ذلك - ذخيرة أدبية وتاريخية هامة، وفيها من المعلومات مالا نجده في سواها، ومن من المؤلف أعلم برجال هذا العصر وشيوخه؟
من أجل هذا اقترحت على صديقي الأستاذ الزيات أن تنشر هذه التراجم تباعاً في الرسالة حتى ينتفع بها جمهور القراء - ولا يفوتني أن أنبه أن أربعا من هذه التراجم الأربع والعشرين قد نشرت في مجلة الهلال الغراء، ولكني لا أرى بأساً من إعادة نشرها حتى تكون المجموعة عند قراء الرسالة كاملة.
احمد أمين(47/45)
عبد الله نديم أفندي
هو عبد الله بن مصباح بن إبراهيم، الأديب الألمعي، والخطيب المفوه، نادرة عصره، وأعجوبة دهره. ولد أبوه ببلدة الطيبة بمديرية الشرقية في شهر ذي الحجة سنة 1234هـ ثم انتقل إلى ثغر الإسكندرية، فكان في مبتدأ أمره نجاراً للسفن بدار الصناعة، ثم اتخذ له مخبزاً لصنع الخبز، ومات بالقاهرة في 4 رجب سنة 1310. وولد المترجم بالثغر المذكور في عاشر ذي الحجة سنة 1261 ونشأ في قلة من العيش، ومالت نفسه إلى الأدب، فاشتغل به واسترشد من أهله وطالع كتبه، وحضر دروس الشيوخ بمسجد الشيخ إبراهيم باشا، وكان قليل الاعتناء بالطلب، غير مواظب على الدرس، إلا أن الله وهبه ملكة عجيبة وذكاء مفرطاً، فبرع في الفنون الأدبية، وكتب وترسل، ونظم الشعر والزجل، وطارح الإخوان وناظر الأقران. ثم بدا له أن يتعلم صناعة للكسب، فتعلم فن الإشارات البرقية، واستخدم في مكتب البرق ببنها العسل، ثم نقل إلى مكتب القصر العالي، سكن والدة الخديو أيام ولاية ابنها إسماعيل باشا، وبقى به مدة عرف فيها كثيراً من أدباء القاهرة وشعرائها، مثل الأمير محمود سامي باشا البارودي، ومحمود أفندي صفوت الساعاتي، والشيخ احمد وهبي. ثم غضب عليه خليل أغا، أغا القصر، وكان في سطوة لم يبلغها كافور الأخشيدي، فأمر بضربه وفصله. فضاقت به الحيل ورقت حاله، حتى توصل إلى الشيخ أبي سعدة عمدة بداوي بمديرية الدقهلية، وأقام عند يقرئ أولاده، ثم تشاحنا وافترقا على بغضاء. واتصل بالسيد محمود الغرقاوي، أحد أعيان التجار بالمنصورة فأحسن منزله، وفتح له حانوتاً لبيع المناديل وما أشبهها. فكانت نهاية أمره أن بدد المكسب ورأس المال، وجعل يجوب البلاد وافداً على أكابرها، فيكرمون وفادته ويهشون لمقدمه، لما رزقه من طلاقة اللسان، وخفة الروح، وسرعة الخاطر في النظم والنثر، فيطوف ما يطوف ثم يأوي إلى دار الغرقاوي بالمنصورة، إلى أن ورد طندتا سنة 1293، واتصل بشاهين باشا كنج مفتش الوجه البحري إذ ذاك، ولاتصاله به سبب لا بأس من ذكره: وهو أن الباشا المذكور كان بينه وبين الشيخ محمد الجندي أحد العلماء بالمسجد الأحمدي صحبة وتزاور، وكان الشيخ يحب الغناء ويطرب له، ولذلك كان يستحضر فتى حلاقاً حسن الصوت ليغني له في داره، فأمر مرة أن يغني بحضرة الباشا، فغنى بقول المترجم:
سلوه عن الأرواح فهي ملاعبه ... وكفوا إذا سل المهند حاجبه(47/46)
وعودوا إذا نامت أراقم شعره ... وولوا إذا دبت إليكم عقاربه
ولا تذكروا الأشباح بالله عنده ... فلو أتلف الأرواح من ذا يطالبه
أراه بعيني والدموع تكاتبه ... ويحجب عني والفؤاد يراقبه
فهل حاجة تدني الحبيب لصبه ... سوى زفرة تثنى الحشا وتجاذبه
فلا أنا ممن يتقيه حبيبه ... ولا أنا ممن بالصدود يعاتبه
ولو أن طرفي أرسل الدمع مرة ... سفيراً لقلبي ما توالت كتائبه
وكان كثيراً ما يتغنى بها، فطرب الباشا طرباً شديداً، واستظرف قائل الأبيات وتمنى رؤيته، فأرسلوا له بالحضور. فلما حضر إلى طندتا، وواجهه استقبح صورته، إلا أنه أعجبه ظرفه وأدبه ومال إليه، فاتخذه نديماً لا يمل، ورفيقاً حيث حل. فلما استقرت به النوى وملأ يده من الباشا، استعداه على أبي سعدة الذي كان يقرئ أطفاله، وادعى أنه أخر له ثلاثين ديناراً من أجرة التعليم، فأمر الباشا بأشخاصه إلى طندتا، وألزمه أن يدفع للمترجم مائة جنية، فدفعها عن يد وهو صاغر. وكان مجلس شاهين باشا محط رجال الأدباء ومنتجع الشعراء والندماء، لا يخلو من مطارحات أدبية ومساجلات شعرية، وللمترجم بينهم المقام الأعلى والقدح المعلى. وحسبك ما وقع له من طائفة (الأدباتية) وهم مشهورون بالقطر المصري يستجدون الناس في الطريق بإنشاد الأزجال والضرب على الطبل، وأغلب أزجالهم مرتجلة في مقتضى الحال. فكان للمترجم معهم يوم مشهود ذكره في مجلة الأستاذ
ثم اتصل المترجم بالبيك التتونجي فجعله وكيلا على ضياعه، وما زال حتى لحق بالإسكندرية مسقط رأسه ومنبت غرسه، وكان منه ما سنقصه عليك
تلك خلاصة ترجمته في أول أمره ومبتدأ خبره، وكان القطر المصري في تلك الأثناء في اضطراب وهرج ومرج من اختلال الأحوال وفساد الحكام واعتلاء الإفرنج على الأهلين، وقد سئم الناس حكم إسماعيل باشا وتمنوا زوال دولته، فلما وفد المترجم على الثغر رأى لفيفاً من الشبان ألفوا جمعية سموها (بمصر الفتاة) يتآمرون فيها سراً خوفاً من بطش الخديو، فعرف منهم البعض، واشتغل بالكتابة في صحب الأخبار، فأعجب الكتاب بمقالاته، واقتدوا به في تحسين الإنشاء، وكان سقيما منحطاً في ذلك العهد. ثم سعى مع جمع من(47/47)
الأدباء فألفوا جمعية سموها (بالجمعية الخيرية الإسلامية) سنة 1296 آخر سني إسماعيل باشا في الحكم وجعلوه مدير مدرستها. ثم عزل الخديو وتولى ابنه توفيق باشا، ففرح الناس وظنوا انفراج الأزمة. وجد المترجم واجتهد في إنجاح مسعاه في الجمعية حتى حمل الخديو على زيارة مدرستها، فزارها يوم امتحان تلاميذها، وجعلها في حماية ولي عهده عباس بيك، وأنعم لهم بالمدرسة البحرية يدرسون بها، وأجروا عليها من الحكومة مائتين وخمسين ديناراً في السنة مساعدة. وطفق المترجم يؤلف القلوب ويحض الأهلين على الالتئام بالمقالات والخطب ينفثها قلمه ولسانه، وألف قصة تمثيلية سماها (الوطن وطالع التوفيق) وأخرى سماها (العرب) شرح فيهما ما كانت عليه حالة القطر وما طرأ عليه، ثم مثلهما هو وتلاميذه بأحد ملاعب لثغر بحضور الخديو، فكان لهما تأثير كبير في النفوس، واشتهر المترجم وعلا كعبه، ولهج الناس بذكره، ثم طرأ فساد على الجمعية سبوه إليه فانفصل منها، وكان شرع في إنشاء صحيفة سماها (التنكيت والتبكيت) مزج فيها الهزل بالجد، ظهر أول عدد منها في 8 رجب سنة 1298، وظهر في أثناء ذلك وميض الثورة العرابية من خلل الرماد، فوافقت هوى في نفس المترجم لميله إلى الشهرة وبعد الصيت، فضموه إليهم وشدوا أزرهم به، فملأ صحيفته بمحامدهم، ودعا إلى القيام بناصرهم، وخطب الخطب المهيجة ونظم القصائد الحماسية، وندب الوطن ورثاه، وحض على الاجتماع والتكاتف ونبذ أضاليل الإفرنج، فأثرت قالته في النفوس وأشربتها القلوب، وادعى الشرف وانتسب إلى الإمام الحسن السبط رضي الله عنه، والله أعلم بتلك النسبة، فقد رأيت كثيرين ممن عرفوه ينكرونها. ثم أوقف صحيفته بعد أن ظهر منها ثمانية عشر عدداً آخرها تاريخه 23 ذي القعدة سنة 1298 وكانت أسبوعية تظهر يوم الأحد. وانتقل إلى القاهرة وهي جذوة من نار، وغير اسم صحيفته بأمر عرابي باشا كبير الثوار فسماها (الطائف) تيمناً باسم بلدة بالحجاز مشهورة، وتفاؤلاً بأنها تطوف المسكونة كما جابتها جوائب احمد فارس. واسترسل المترجم مع رجال الثورة حتى صار جذيلها المحك، وعذيقها المرجب، ولقبوه بخطيب الحزب الوطني. وقام سراة القطر وأعيانه يعقدون المجتمعات ويولمون الولائم للعرابيين ويدعون المترجم للخاطبة، فكانت له بها المواقف المشهودة، والأيام المعدودة، حتى استفحل الأمر وقامت الحرب بالإسكندرية بين الإنكليز والمصريين يوم الثلاثاء 25(47/48)
شعبان سنة 1299. فسافر المترجم إليها مع جماعة من رؤساء الجند وبات بها ليلة، ثم لحق بعرابي باشا وقد انهزم إلى كفر الدوار، ثم انتقل معه إلى التل الكبير وهو ينشئ صحيفة الطائف بالمعسكر فيضمنها أخبار الانتصار ويحشوها بالأكاذيب تهدئة للأفكار، حتى وقعت الهزيمة الكبرى على المصريين بالتل الكبير، ففر عرابي باشا وعلي باشا الروبي ومعهما المترجم إلى القاهرة يوم الأربعاء 29 شوال من السنة المذكورة، واتفقوا على إرساله إلى الإسكندرية بكتاب يطلبون به العفو من الخديو فسافر به يوم الخميس، ولما وصل إلى كفر الدوار بلغه القبض على زعماء الثورة ودخول الإنكليز القاهرة. فعاد إليها ليلا وبقى في داره بجهة العشماوي إلى الصباح، وخرج مع والده وخادمه فركبوا عجلة وقصدوا بولاق، ورآه شاهين أفندي فؤاد المفتش بالمصرف العقاري، وهو من مماليك عباس باشا وآلي مصر فظنه غير مطلوب، قال ولولا ذلك لقبضت عليه. فلما وصلوا إلى بولاق ودعه أبوه واختفى هو وخادمه ولم يظهر لهما أثر، فأقام مختفياً نحو تسعة أعوام لا يهتدي إلى مكانه، وقد أعيى الحكومة المصرية أمره حتى جعلوا ألف دينار لمن يرشد إليه، وبثوا عليه العيون فلم يظفروا منه بطائل، فلما أعيتهم الحيل حكموا عليه بالنفي مدة حياته من القطر المصري، ويئس أصحابه من وجوده، وأشيع القبض عليه وخنقه سراً، ومنهم من أشاع موته حتف أنفه، ومنهم من أشاع هربه إلى بلاد الإفرنج، فعد اختفاؤه من الأمور الغريبة، ولا غرو فأمره غريب من أوله.
القبض عليه
وكان يتردد على بلدة الجميزة (مركز السنطة) رجل يقال له حسن الفرارجي كان منتظماً في العسكر، ثم استخدم جاسوساً سرياً، فأبصر رجلاً أنكر حاله لما رآه عليه من سيما الاختفاء، ورجح أنه عبد الله نديم، فكتب إلى الديوان الخديوي ينبئهم بوجود رجل من العرابيين مختف بالجميزة، وأسرع إلى ديوان الداخلية فأوضح لهم أمره فأعطوه ورقة بحليته، فلما تحقق منه أخبرهم به، فأمروا بالقبض عليه، وحضر من المديرية محمد أفندي فريد وكيل (الحكمدار) ومعه نفر من الشرطة ستروا ملابسهم بثياب أخرى، فأحاط بعضهم بالبلدة متفرقين، وصعد وكيل الحكمدار مع الآخرين على تل مشرف على أفنية الدور، وأحسن المترجم بتلك الحركة، فأوجس في نفسه خيفة، وأراد الانتقال إلى دار أخرى فأخذ(47/49)
عيبته على، كتفه وصعد على سطح المكان فأبصره الذين على التل، فصاحوا وصوبوا بنادقهم عليه، وأمروه بالنزول فنزل، ثم أحاطوا بالدار، وطرقوا الباب طرقاً عنيفاً وأيقن المترجم انه مأخوذ لا محالة، ففتحه لهم، وواجههم متجلداً، فسأله محمد أفندي فريد عن اسمه فقال له: سبحان الله أتجهل اسمي وأنت مأمور بالقبض عليّ، أنا عبد الله نديم ذو الذنب العظيم، وعفو مولاي الخديو أعظم، سلمت أمري لله، فقبضوه هو وخادمه وأعماهم الله عن كتبه وأوراقه، ولولا ذلك لأصابه شر عظيم بسبب أهاجيه القبيحة في الخديو وأسرته، وكان القبض عليه في 29 صفر سنة 1309، ولم ينل الواشي به شيئاً من الجعل لفوات الأجل المضروب للمكافأة، ثم استاقوهما إلى المركز، وسألوه عمن اختفى عندهم، فلم يقر بأحد، وسألوا خادمه وضربوه، فأقر بالبعض ونقلوهما إلى المديرية بطندتا، فسجنا بعض أيام، ووكيل النيابة بالمحاكم يوالي سؤالهما، وانتهى الأمر بعفو الخديو عنه وعمن آواه ونفيه خارج القطر.
نفيه
فاختار يافا ثغر القدس الشريف ووصلها في غروب يوم الجمعة 12 ربيع الأول، ونزل عند السيد علي أفندي أبي المواهب مفتيها، ولما دخل دارهوعرفه بنفسه قام واعتنقه وضحك وبكى. فأقام عنده شهراً، ثم اتخذ له داراً وعرفه أعيانها وفضلاؤها، وأكرموه وواسوه جزاهم الله خيراً. ثم رحل رحلته إلى نابلس وسبطيه وقلقيلا وغيرها من البلاد الفلسطينية. واجتمع بطائفة السامرة واطلع على كتبهم ومعتقداتهم كما رأيته بخطه في كتابه أرسله لأحد أصدقائه في مستهل رمضان. ولم يزل مقيما بيافا حتى مات الخديو وتولى ولده عباس باشا في جمادى الثانية، فعفا عنه وأباح له العود إلى مصر. قال في آخر ذلك الكتاب (عزمنا على الحضور بعد العيد إن شاء الله تعالى، فإن موسم سيدنا موسى الكليم يعمل في نصف شوال، ولا أحضر حتى أزوره مرة ثانية فإنه صاحب الأمر بالعفو عني، وإن كان الظاهر خلافه، وذلك أني عند دخولي حضرته الشريفة أنشدته في الحال:
رجوتك يا كليم الله حاجا ... أرجيها وقد حققت فضلك
فقل لي مثلما لك قبل أوحى ... اله الخلق قد أوتيت سؤلك
فرأيته ليلا يقول لي (قم روح) ثلاثاً، وكانت ليلة 3 رجب وهو تاريخ صدور الأمر).(47/50)
انتهى ما نقلته من خطه.
عودته إلى القاهرة
ولما عاد إلى مصر استوطن القاهرة، وأنشأ مجلة الأستاذ في شهر صفر سنة 1310، فبرزت موشحة ببديع مقالاته وغرر أزجاله وموشحاته. وبدت الوحشة في أثناء ذلك بين الخديو والإنكليز، وكان ما كان من عزله صنيعتهم مصطفى فهمي باشا كبير الوزراء ومعاكستهم فيما يريدون. فقام المترجم يستنهض الهمم ويحض على موازرة الخديو ونبذ طاعة سواه، وكتب في ذلك المقالات الطويلة بالأستاذ حتى أحفظ الإنكليز وخشوا من اتساع الخرق لمكانته السابقة من النفوس، وسعى حساده بما سعوا ولفقوا ما لفقوا، فأوقفوا مجلته في شهر ذي القعدة من السنة المذكورة وأعادوه إلى يافا منفياً بعد أن أعطوه أربعمائة دينار، وأجروا عليه خمسة وعشرين كل شهر، واشترطوا أن لا يكتب بشأن مصر كلمة، ولم ينفعه الخديو لقصر يده.
نفيه إلى يافا
فلما استقر المترجم بيافا لم يسلم من السعاية به لدى السلطان، فأمر بإبعاده فعاد إلى الإسكندرية متحيراً، ولقد لفظته البلاد لفظ النواة، فسعى له الغازي احمد مختار باشا وساعده حتى قبله السلطان المعظم عبد الحميد بدار السلطنة، واستخدمه في ديوان المعارف ووظف له خمسة وأربعين ديناراً مجيدياً في الشهر، فأمضى بها بقية أيامه شريداً عن وطنه بعيداً عن أهله وخلانه حتى اشتدت عليه علة السل، فلقي حمامه في الرابع من شهر جمادى الأولى سنة 1314
وفاته
ودفن بمقبرة يحيى أفندي في بشكطاش، وضاعت مؤلفاته ودواوينه ولم يظهر منها إلا جزء من (كان ويكون) كان يطبعه ذيلاً للأستاذ، وكتاب آخر نسبوه إليه اسمه (المسامير) محشو بالهجو القبيح في الشيخ أبي الهدى الصيادي نزيل دار السلطنة، فمضى وكأنه لم يكن رحمه الله رحمة واسعة. ومن تألم بعين الاتعاظ في تقلب الأحوال بالمترجم، وما ذاقه من حلو الزمان ومره، وقاساه مدة الاختفاء ثم النفي حتى مات غريباً طريداً، حق له العجب(47/51)
وعرف كيف يعبث الزمان بأهل الفضل من بنيه.
ونشأ المترجم فقيراً كما قدمنا، وعاش في قلة فإن أصاب شيئاً بدده بالإسراف، وكان في أول أمره يرتدي الثياب الإفرنجية المعلومة، فلما ظهر بعد الاختفاء لبس الجبة والقفطان واعتم بعمامة خضراء إشارة إلى الشرف، وكان شهي الحديث حلو الفكاهة، إذا أوجز ود المحدث أنه لم يوجز، لقيته مرة في آخر إقاماته بمصر، فرأيت رجلاً في ذكاء إياس، وفصاحة سحبان، وقبح الجاحظ. أما شعره فأقل من نثره، ونثره أقل من لسانه، ولسانه الغاية القصوى في عصرنا هذا، وقد انتخب أخوه عبد الفتاح أفندي جملة صالحة من مقالاته جمعها في كتاب سماه (سلافة النديم) فارجع إليه إن شئت.
ونحن ذاكرون من شعره ما يحتمله المقام، فمن ذلك مرثيته في الخديو محمد توفيق باشا وقد أشار إليها في كتاب أرسل به من يافا في 16 جمادى الثانية سنة 1309 يقول فيه (غمني وكدرني موت الحضرة الخديوية لأمور: (أولاً) فلعفوه عني وإحسانه إليّ، (ثانياً) لسابقة معروفة معي وتوجهاته السابقة، (ثالثاً) لصغر سنة، (رابعاً) لصغر سن أنجاله، (خامساً) لصغر سنة حرمه وما تقاسيه من حزنها عليه لما كان بينهما من شدة الألفة والمحبة (سادساً) لأنه كان برزخاً بين مصر وبين نكبات إنكلترة وغيرها والله تعلى يجري الأمور على السداد، وسأبعث بمرثية رنانة لحضرة ولدي مصطفى بك ماهر رئيس ترجمة ديوان الحربية ليطبعها وينشرها على حدتها) انتهى ما نقلته من خطه، ولم أقف إلا على ثلاثة أبيات منها ذكرها المترجم بالأستاذ وهي:
ما للكواكب لا ترى في المرصد ... والكون أصبح في لباس أسود
عم الكسوف الكل أم فقد الضيا ... أم كلنا يرنو بمقلة أرمد
وتاريخها
فملائك الجنات قالت أرخوا ... توفيق في عز النعيم السرمدي
1309
ومن مختار شعره قوله من قصيدة لم نعثر منها إلا على هذا القدر
سيوف الثنا تصدا ومقولي الغمد ... ومن سار في نصري تكلفه الحمد
ومنها(47/52)
ومن عجب الأيام شهم أخو حجا ... يعارضه غر ويفحمه وغد
ومن غرر الأخلاق أن تهدر الدما ... لتحفظ أعراض تكفلها المجد
ويقال أنه نظمها بحضرة شاهين باشا تبكيتاً لمن زعم قصور الشعراء عن معارضة أبي الطيب المتنبي في قوله:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدواً له ما من صداقته بد
قلت: بين القولين فرق ظاهر للمتأمل، وأين الثريا من يد المتناول؟ ومن شعره قوله أيام اختفائه، وكتب بها إلى صديق له يسليه على نازلة نزلت به:
يا صاحبي دع عنك قول الهازل ... واسمع نصيحة عارف بالحاصل
اجهل تجد صفو الزمان فإنه ... من قسمة الفدم الغبي الجاهل
ودع التعقل بالتغفل يستقم ... أرم المعاش فحظه للغافل
وارض البلادة تغتنم من بابها ... مالاً وجاهاً بعد ذكر خامل
وإذا أبيت سوى العلوم فلا تضق ... بحروب دهر لا يميل لفاضل
قلب تواريخ الأولى سبقوا تجد ... دنياك ما قيدت بغير الباطل
تجد الأفاضل في الزوايا كلهم ... حال الحياة وبعدها بمحافل
العلم ستر كالسحاب به ترى ... شمس الحقيقة خلف ذاك الحائل
هل أبصرت عيناك ديواناً به ... مدح البليغ جميل سعد حافل
إن قلت أي، فاذكر لنا من ناله ... أولا، فعش كالناس في ذا الساحل
ضدان لا تلقاهما في واحد ... مال الغبي وحكمة للكامل
ثم ذيلها بنثر أضربنا عن ذكره. ومنه قوله وضمنها كتاباً كتبه مدة اختفائه لأحد أصدقائه:
وبعد فهذا شرح حالة غائب ... عليه من اللطف الخفي ستور
تدور به الأهوال حول مدارها ... فيصبر والقلب الرضى صبور
عسى فرج يأتي به الله إنه ... على فرجي دون الأنام قدير(47/53)
كيف تهدى العروس إلى زوجها في حضرموت؟
مشهد من رواية شعرية تحت الطبع باسم (همام أو في عاصمة
الأحقاف)
للشاعر الحضرمي على أحمد باكثير
ساحة كبيرة أمام بيت العروس (حسن). فيما بعد منتصف الليل يرى هناك جمهور من النساء يصطففن لزفها إلى بيت (همام) تتوسطهن (حسن) عليها غطاء لا ترى منه. تحيط بهن الوصائف بأيديهن الشموع والمصابيح. تتقدمهن القينات بأيديهن الدفوف وهن يتغنين بينما الجمهور يتحرك ويتجه في سير بطيء إلى جهة بيت (همام):
القينات:
نحن نزُفُّ الشَّمسا ... والشمسُ في ضُحاها
فما أجلَّ عُرْسا ... يغمره سناها!
الجمهور:
نحن نزُفُّ الشَّمسا ... . . . . . .
. . . . . . . . ... . . . . . . .
القينات:
نحن نزف الحيا ... نحن نزف المُنى!
نحن نزُفُّ الضِّيا ... نحن نزف السَّنا
الجمهور:
نحن نزُفُّ الشَّمسا ... . . . . . . .
. . . . . . . . ... . . . . . . .
القينات:
يا عُصبة الغواني ... هلمَّ للتطريبِ!
اشدُون بالأغاني ... واهِتفن بالنسيبِ
واضمِدْن بالأماني ... دواميَ القلوبِ!(47/54)
الجمهور:
نحن نزُفُّ الشَّمسا ... . . . . . . .
. . . . . . . . ... . . . . . . .
القينات:
حيِّين بالسَّلام ... هذا الشُّعاع المسكُوبْ
وافنأْنَ بالأنغام ... كل حزين منكوبْ
الجمهور:
نحن نزُفُّ الشَّمسا ... . . . . . . .
. . . . . . . . ... . . . . . . .
القينات:
روائحُ الجِنَانِ ... تعبَقُ من هذي الدُّورْ
كأنما المغاني ... أمسَتْ مراقِصَ الحُورْ!
الجمهور:
نحن نزُفُّ الشَّمسا ... . . . . . . .
. . . . . . . . ... . . . . . . .
القينات:
نحن نزفُّ الملَكْ ... في صورة الإِنسانْ!
يجلو ظلام الحلَكْ ... ويقَشع الأحزانْ
فهل لديكم فلَكْ ... بنورِه يزْدَانْ؟!
الجمهور:
نحن نزُفُّ الشَّمسا ... . . . . . . .
. . . . . . . . ... . . . . . . .
القينات:
يا قمر السماء ... غُضَّ الجفون أغْضِ!
بالذِّكر والأسماء ... عوَّذْتُ بَدْرَ الأرض(47/55)
الجمهور:
نحن نزُفُّ الشَّمسا ... . . . . . . .
. . . . . . . . ... . . . . . . .
(على مقربة من بين (همام))
القينات:
سُقْنَ إلى هُمامِ ... جمالَ هذا النّادي
واحدُونَ للضِّرْغامِ ... لباةَ هذا الوادي!
الجمهور:
نحن نزُفُّ الشَّمسا ... . . . . . . .
. . . . . . . . ... . . . . . . .
(في الطابق العلوي من دار الزوج (همام) حيث تستقبل نسوة الدار النسوة اللاتي زففن العروس. تنحاز نسوة الدار إلى جهة، ونسوة الزفاف إلى جهة، والقينات في الوسط يضربن بالدفوف.)
القينات:
ألْيُمْنُ والإِقبالُ ... والسَّعد والسعادَةْ
للمُعْرِسَيْنِ فالُ ... والفضل والزيادة
شاعرة نسوة الزفاف ثم سائرهن:
نحن نزف الحُسْنا ... نحن نزف بٌلْقَيْس
نحن نزف لُبْنى ... فهل لديكم من قَيْس
شاعرة نسوة الدار مجيبة، ثم سائرهن وهكذا في باقي الأبيات:
هُمامنا كالمأمو ... ن إن زففتُم بُوران
وإن تكُن بُلقَيساً ... فإنّه سُليمان!
نسوة الزفاف: النَّصر للعروسَهْ
نسوة الدار: بل هو للعروسِ
نسوة الزفاف: للدُّرَّة النفيسة(47/56)
نسوة الدار: للجوهر النفيسِ
نسوة الزفاف:
للحُرَّة المَصُونهْ ... وربّة الجمالِ
للدرة المكنونهْ ... واسطةِ اللآلي!
نسوة الدار:
لِمَفْخَر المدينهْ ... لسيِّد الرجالِ
الناسُ يعرفونهْ ... بِكرَم الخِلال!
نسوة الزفاف:
النُّورُ والشُّعاعُ ... ووَهَجُ الشُّموسِ
والجوهر اللَّمّاعُ ... وحَبَبُ الكؤُوسِ
جميعُها أشياعُ ... لهذه العَروسِ!
نسوة الدار:
المجدُ والكمالُ ... وكرم الأخلاق
والقولُ والفعالُ ... وحَسَبُ الأعراقِ
جميعهنَّ آلُ ... عروسِنا الغَيْداق
القينات:
كِلا العَروسَيْن زَيْن ... للمجد والعلاءِ
فلا تفاضِلْنَ بيْن ... سراجَي السماءِ!
أين المجرّة؟ أين ... كواكب الجوزاءِ؟
أصوغهنَّ لِذَيْن ... تاجَيْنِ بالسَّواء
القينات ثم الجميع بصوت واحد:
يا رب بارِكْهُما ... في ذا الزواج السَّعيدْ
واجعلْ زمانَهما ... كأنّه يوم عِيد
وانفحمها بالوَلَدْ ... مثل دراري النجومْ!
في ظل عيش رَغَدْ ... وفي صفاء يدومْ(47/57)
على أحمد باكثير(47/58)
في الأدب الفرنسي
4 - الدوق دي لاروشفوكو
للدكتور حسن صادق
ومن يوم أن غشى صالون المركيزة دي سابليه، شعر بميل شديد إلى كتابة الحكم والمواعظ، وبد في هذا النوع من الأدب ربة البيت وجاك إسبريه. وهذا أول نجاح صادفه في حياته وبعث السرور في دخيلته. وكان من القواعد المألوفة في هذه المجالس أن الإنسان إذا أراد أن يكتب للجمهور، وجب عليه أن يستنير برأي زملائه. وقد ذكر ذلك سجريه فقال: (كان من الواجب على الذين يكتبون للجمهور أن يطلعوا أصدقاءهم على ما يكتبون لإصلاحه وتهذيبه. وقد اتبع الدوق دي لاروشفوكو هذه القاعدة في مذكراته وفي مواعظه. فكان يرسل إلى ما يكتبه ويسألني أن أحتفظ بالكراسات خمسة أو ستة أسابيع حتى يتسنى له إنعام النظر فيها. ومن هذه المواعظ ما تغير أكثر من ثلاثين مرة)
وكثيراً ما كان يستشير المركيزة ويسألها أن تبدي رأيها فيما يكتب، ومما يثبت ذلك أنه كتب إليها في أحد الأيام يقول: (لا يصح أن تسمى هذه المواعظ بهذا الاسم إلا إذا وافقت عليها. إنك لا تستطيعين إنكارها، لأن الكثير منها يرجع إليك). وقد بلغ من اهتمام المركيزة بهذه المواعظ أنها نقلتها وأطلعت عليها كثيراً من أصدقائها في غيبة المؤلف وجمعت آراءهم في أسلوبها ومعانيها.
وقضى عام 1664 في مراجعة كل مواعظه وتهذيب أسلوبها وعاونه على ذلك جاك إسبريه والمركيزة دي سابليه. وفي عام 1665 ظهر الكتاب، أي في السنة التي ظهرت فيها قصص لافونتين المشهورة. وهذا الشاعر سيكون موضوع حديثنا في المقال الآتي
وعقب نشر هذه المواعظ، اتجهت المركيزة إلى العبادة وتوددت إلى الدوقة دي لونجفيل، فأعرض عنها لاروشفوكو بعد هذه الصلة الوثيقة التي استمرت خمسة أعوام. ثم شاء القدر أن يقضي أعوامه الأخيرة في هدوء وسعادة، فساق إليه الكونتس دي لافاييت تخلص له الود والوفاء وتهدهد نفسه الحزينة في شيخوخته
وفي عام 1667 خاض غمار الحرب لآخر مرة في حصار ليل على الرغم من مرضه. ثم اشتدت عليه وطأة الداء فكف عن زيارة البلاط وراض نفسه على أن يقضي بقية أيامه في(47/59)
الراحة العذبة بجانب صديقته التي شهد لها بوالو بالتفوق في الأدب والنبوغ في الكتابة
وكان يجتمع في بيته الكتاب والشعراء. فكورني قرأ في صالونه قصة (بولشيري)، وراسين قصة (اسكندر)، وبوالو كتابه (الفن الشعري)، وموليير (النساء العالمات) هذه الكوميديا المشهورة التي قيل في ذلك الحين إنها سخرية من مدام دي سفنييه ومدام دي لافاييت.
وشغل أعوامه الأخيرة في تنقيح كتابه الصغير (مواعظ). فالطبعة الأولى في عام 1665 وبها 307 مواعظ، والطبعة الثانية في 1666 وبها 302 موعظة، والثالثة في عام 1671 وبها 341 موعظة، والرابعة 1675 وبها 413 موعظة، والخامسة في عام 1678 وبها 504 مواعظ، وفي هذه السنة الأخيرة نشرت حكم المركيزة دي سابليه وكتاب جاك إسبريه (شوائب الفضائل الإنسانية)
وماتت زوجه في عام 1670 فعاشت معه مدام دي لافاييت لا تفارقه إلا لماما، وبفضلها خفت لهجة المواعظ القاسية في طبعتي عام 1671 وعام 1678. ويصح أن نطبق عليها جملة الشاعر الألماني الأكبر (جوت) التي قالها عن (مدام دي ستيل) إنها تحيل المرارة إلى عذوبة). ساعدته على تنقيح مواعظه، وساعدها على كتابة قصصها وعلى الأخص قصتها المشهورة التي خلدت ذكرها وهي (الأميرة دي كليف). وقد اعترفت بذلك وقالت (استفدت من عقله، ولكني أصلحت قلبه). أصلحت قلبه لأنها أخلصت له الحب وهيأت له أسباب السعادة
وفي شهر يونيو عام 1672 جرح ابنه الأكبر في موقعة الرين جرحاً بليغاً وقتل فيها ولده الرابع والكونت دي سان بول ابنه غير الشرعي من الدوقة دي لونجفيل، فانتابه حزن أليم. وذكرت مدام دي سفنييه هذه الحادثة لابنتها في إحدى رسائلها (كنا عند مدام دي لافاييت لما بلغه ما أصاب أولاده، فسالت دموعه من أعماق قلبه على خديه. . . رأيت قلبه عاريا في هذا الظرف القاسي فعرفت فيه قلب رجل شجاع ثابت الجنان راجح العقل وافر الحنان)
ولما ماتت أمه في عام 1678، وكان يحبها حباً شديداً، كتبت مدام دي سفنييه إلى ابنتها تقول: (رأيته يبكي في حنان جعلني أعبده)
وبكاؤه أولاده وأمه شيء عادي لا يستحق الذكر. وإنما ذكرته مدام دي سفنييه لأن الناس(47/60)
اعتقدوا أن هذا الرجل الذي أنكر العواطف الإنسانية في كتابه، غليظ القلب عار من العواطف، فأرادت أن تمحو ما وقر في أذهانهم وتبرهن لهم على خطأ اعتقادهم
وذات مرة فاجأته مدام دي سفنييه (متلبساً بالحنان) إذ سمع قصة تدل على الشجاعة ونبل العاطفة في أشد المواقف هولاً فبكى. وفي هذا تقول: (إنه يبكي نفسه بإعجابه بنبل هذه العاطفة) وأوحت إليه هذه القصة إحدى مواعظه: (يشعر الإنسان بأن له نصيباً في الأعمال الجميلة إذا مدحها بقلب خالص)
وقبل موته بقليل عرض عليه (هويه) أحد معلمي ولي العهد الدخول في مجمع العلماء، فاعتذر من القبول بالمرض. ولكن (هويه) يقول في مذكراته إن سبب رفضه يرجع إلى خجله الشديد في حضرة الجمهور
وفي أوائل شهر مارس عام 1680 استبد به الداء، فعاده جميع الأطباء النابهين، ثم دعي (تالبوت) الطبيب الإنجليزي المشهور لعلاجه، ولكن الطب عجز عن قهر المرض. وفي 15 مارس كتبت مدام دي سفنييه إلى ابنتها تنبئها بحالة الدوق وتظهر لها إعجابها بهدوء نفسه واطمئنانه إلى لقاء الموت
وفي يوم 16 مارس استوفى أنفاسه ليلا بين ذراعي بوسويه، وهو في السابعة والستين من عمره، أي بعد موت الدوقة دي لونجفيل بعام، وبعد نشر قصة مدام دي لافاييت (أميرة دي كليف) بعامين وقد خلف لأولاده ديناً كبيراً على الرغم من ثروته الهائلة. ولكن ابنه الأكبر فرنسوا السابع نال بحكمته عطف الملك وحبه، وأصلح بمعونته ما أفسده أبوه
صفاته
ذكرنا في تاريخ حياته أنه وصف نفسه كتابة في صالون الآنسة دي مونبانسييه، ونشر هذا المقال عام 1659، فكان أول عهد الجمهور بآثار هذا الكاتب الأدبية. وقد استهله بوصف دقيق لقامته وشعره ورأسه وأسنانه، ثم قال: (يحمل وجهي سمة الحزن وطابع العزة، وهذا ما يجعل الناس يعتقدون خطأ أن من طبعي ازدراءهم. ومزاجي تستقر فيه الكآبة وتألفه، ولم يرني أحد من الناس أضحك أثناء ثلاثة أعوام أو أربعة إلا ثلاث مرات أو أربع، ويخيل إلي أني كنت أحتمل اكتئاب مزاجي وأجد فيه بعض الراحة والهدوء لو لم يستطب صحبتي اكتئاب آخر يملأ مخيلتي ويستبد بفكري، ويجعلني أقضي جل وقتي إما صامتاً(47/61)
حالما وإما متكلما دون أن ألقى بالي إلى ما أقول)
وليس من العسير أن نجد سبب هذا الاكتئاب الآخر، فإن ذكريات الحرب الأهلية تركت في نفسه أثراً أليما، وولدت في دخيلته الاكتئاب الباطني الذي غمر (مواعظه) فبدت للناس قاتمة حزينة.
يتبع
حسن صادق(47/62)
العُلوم
النظريات الحديثة في تعيين الجنس ذكر أم أنثى
بقلم منير غندور ليسانسييه في العلوم
عندما يولد الطفل يكون قد حدد مصيره، ذكراً كان أم أنثى، من تسعة أشهر، منذ تألفت أول خلية من خلايا الجنين بالتحام خلية كبيرة تقدمها الأم وتسمى بويضة، مع خلية أخرى من الخلايا الكثيرة العدد التي يقدمها الأب، وتسمى خلية منوية (سبارماتوزيد ثم تتضاعف الخلايا وتنمو سائرة في أحد اتجاهين.
ولكن تحت أي تأثير تأخذ الخلية الأولى الاتجاه الأول أو الثاني؟ ترون هنا أهمية معرفة ما يدخل من عوامل لتعيين جنس الجنين من الناحية العلمية البحتة ومن الناحية التطبيقية أيضاً، إذ لا يخفى أنه لو توصلنا إلى معرفة العوامل التي تجعل الذكر ذكراً والأنثى أنثى وطرق استعمالها حسب مشيئتنا (فنوصي) على ذكر أو على أنثى حسب الحاجة لقلبنا النظام البشري الحالي.
إن علم (البيولوجيا) توصل اليوم إلى معرفة هذه العوامل وأزاح كل غطاء عنها، ولكن رجاله لا يزالون يكررون التجارب ليتمكنوا من استخدام هذه العوامل حسب مشيئتهم. وهذه التجارب التي أجريت أخيراً في هذا الصدد، وقد خصها مسيو جان روستان بكلمة أجملها فيها، هي التي بعثتني على الكتابة في هذا الموضوع لأبين العوامل التي تدخل في تعيين الجنين والاتجاه الذي يأخذه علماء البيولوجبيا الحديثين في تجاربهم هذه.
لنأخذ الخلية الأولى المكونة للجنين: لقد أصبح أكيدا اليوم أن هذه ستكون ذكراً أو أنثى تحت تأثير (الكروموزومات) وهذه عبارة عن ذرات متناهية الصغر توجد في نواة كل خلية. وفي الجنس البشري يوجد ثمان وأربعون (كروموزوم) عند المرأة، 46 متشابهة ثم اثنان متشابهان، ولنسمهما وعند الرجل 46 متشابهة ثم اثنان يختلف كل واحد منهما عن الآخر، ولندعهما
أما البويضة و (السبارماتوزيد) فهما لا يحتويان إلا على نصف عدد الكروموزومات الذي تحتويه الخلايا العادية فكل بويضة تحتوي على + 23 أما السبارماتوزيد فـ 50 % من مجموع عدده تحتوي على + 23 و 50 % على + 23.(47/63)
إذاً بين السبارماتوزيدات التي يقدمها الأب نوعان مختلفان، نوع يحتوي على + 23 ونوع يحتوي على + 23. وعلى حسب ما تلتقي البويضة بالنوع الأول أو الثاني يكون الكائن الناتج أنثى (بويضة مع سبارماتوزيد) + 23 أو ذكراً (بويضة مع + 23) وفي مجموع الكروموزومات التي يقدمها الأب 50 % من + 23 و 50 % من + 23 فللكروموزوم الأول إذا نفس الإمكانية التي للثاني للالتحام مع البويضة وهما يخضعان في التحامهما مع البويضة، تارة هذا وتارة ذاك للمصادفة في الأعداد القليلة. في الإعداد الكبيرة لقانون - الاحتمال - ونحن نرى أن نسبة عدد الذكور للإناث في العالم يخضع تقريباً لنسبة 12 (أعني في المواليد). أما وجود المذكار (المرآة التي عادتها ولادة الذكور) والمثناث (المرأة التي عادتها ولادة الإناث) فهذا لا يعني أكثر مما يعنيه الحصول في لعبة (الروليت) مثلاً على نفس اللون مرات عديدة متتابعة. إذ نسبة مجيء اللون الأول واللون الثاني تبقى خاضعة في الأعداد الكبيرة، 500 ألف مرة مثلا، إلى نسبة12.
إذاً لقد قال العلم كلمته في هذا الموضوع.
القسم الثاني من هذا البحث هو أن نستطيع إدخال النوع الذي بالتحامه مع البويضة يعطي ذكوراً وحده، والنوع الذي يعطي إناثاً وحده.
أما إدخال الخلايا المنوية الاصطناعي فهذا ما يستطيع أن يقوم به المتمرنون عند الحيوان كما عند الإنسان مع قليل من الاحتياط. ولكن فصل النوعين عن بعضهما لم يتم إلى الآن برغم كل ما أجرى من محاولات.
وأول ما يتبادر إلى الذهن إمكان وجود فرق في الحجم بينهما فنستطيع حينها أن نفصل الأول عن الثاني بسهولة. ولكن شيئاً من هذا لم يلاحظ. وهناك فكرة بثها وقال بتحقيقها عالمان روسيان هما: وهي افتراض أن الكروموزومات تحمل كهربائية على سطحها، كأكثر الذرات الحية المعلقة في وسطها الطبيعي، وأن هذه الحمولة الكهربائية هي سلبية عند نوع وإيجابية عن النوع الثاني. وفي هذه الحالة يكون من السهل فصل هذين النوعين عن بعضهما بمجرد تأثير مجرى كهربائي.
طبق هذا الافتراض على كروموزومات الأرنب، وكانت النتيجة أن الكروموزومات التي وجدت على القطب الإيجابي أي المكهربة سلبياً أدخلت لعشر أرنبات والعشرة أعطت(47/64)