عرض تافه لا يمس الجوهر والصميم، وأما الحد الفاصل الذي يميز دولة من دولة، فهو أساس بنائها الاجتماعي. هل يقوم علت النزعة الحربية أم يصطبغ بصبغة الصناعة، وبعبارة أخرى تنقسم نظم الاجتماع نوعين: جماعة تعيش من أجل النزال والقتال، كما كانت الحال في نظام الاقطاع، وجماعة لا تجد في الحياة هدفا تتجه صوبه وتحيا به ومن أجله سوى العمل، فتلك تحارب من أجل الحياة، وهذه تعمل من أجل الحياة.
وللدولة الحربية صفات تلازمها، منها ان السلطة تتركز في قبضة الحكومة وحدها، ويغلب أن تكون حكومة ملكية لا تدخر وسعا للتفريق بين الشعب الواحد إلى طبقات بعضها فوق بعض، فتكون الحرب والفروسية صناعة الأشراف، وللسوقة الصناعة وفلاحة الأرض. . . كذلك تعظم في الدولة الحربية سيطرة الرجل في الأسرة، ذلك لأن الرجال هم عماد الحروب، وأين منزلة الرجل في حومة الوغى من منزلة المرأة قابعة في عقر دارها؟! ويمقت سبنسر هذا الضرب من الاجتماع الذي تدور حياته حول قطب الحرب، لأن مصلحة الفرد تذوب وتتلاشى في صالح المجموع، ولأن الدولة لا تقوم الا على القتل والسرقة، ونحن إن كنا نصم الإنسان الأول بالوحشية لأنه كان يلتهم لحوم البشر، فما أجدرنا أن نزدري هذه الدول الني تأكل شعوبا بأسرها في وجبة واحدة! ويعتقد سبنسر ان رقي الإنسانية مرهون بإلغاء الحروب، وهو لا يرى سبيلا لتحقيق هذا المثل الأعلى سوى أن تقطع الأمم شوطا بعيدا في الصناعة لأنها تعمل على المساواة والسلام، وهي تقسم السلطة بين أعضاء المجتمع جميعا ولا تركزها في أيدي الحكومة وحدها، وفضلاً عن ذلك فهي تشحذ العقول وتدفعها إلى الابتكار، وهو المعول الهدام الذي يكفل لنا تحطيم التقاليد الوراثية التي تقوي من شوكة الحكومة. . . وستصبح الوطنية في ظل الصناعة حبا للوطن لا كراهية الأوطان الأخرى، ثم إذا اطرد نموها، فستؤدي حتما إلى ازالة الحواجز الجمركية التي تفصل الدول بعضها عن بعض، وعندئذ تورق دوحة السلام وتمتد فروعها حتى يتفيأ ظلها أبناء الإنسانية جميعا. . . وإذا ما خفقت راية السلام وأمحت الحروب، زالت دولة الرجل، ولا يعود له في أسرته سلطة الحجاج التي ينعم بها، ويرتفع قدر المرأة حتى تقف معه كتفا إلى كتف، لتشابه ما يؤديان من عمل، وعندئذ فقط يتحقق تحرير المرأة الذي تنشده.(32/32)
ولما كانت الصناعة تستقي ماء حياتها من العلوم، فلا ريب في أن تقدمها وانتشارها ينتجان تربية التفكير العلمي وصحة الاستنتاج للأسباب والمسببات، ولن يلجأ الإنسان بعدئذ إلى قوى الطبيعة الخارقة والأبالسة والشياطين يعلل بها أحداث الحياة. . . وفوق هذا كله سينقلب التاريخ رأسا على عقب، فستزدهر صحائفه بذكر الرجال العاملين بدلا من الملوك المحاربين، وسيفسح في مجاله للمخترعات والأفكار. . . سيزداد الشعب سلطانا وقوة، وتتقلص سطوة الحكومة وتنكمش، وسيبطل ذلك الوهم العتيق البالي الذي يفرض على الفرد أن يحيا من أجل دولته، وأن يضحي بنفسه في سبيلها، وسيعلم الناس حقا ان الدولة إنما وجدت وأنشئت لصالح الفرد، وان كان هذا هكذا فلا يجوز أن تضحي الحياة من أجل العمل، بل يجب أن يكون العمل أداة تستغلها الحياة في تحقيق السعادة والهناء.
تطور الأخلاق
على أي أساس نشيد مبادئ الأخلاق؟ وبأي مقياس نزن الخير والشر؟ أما سبنسر وأتباعه فلا يترددون لحظة في إخضاع الأخلاق، كأي شيء آخر، إلى قوانين التطور وانتخاب الطبيعة، وبعبارة أخرى يريدون أن نلقي بزمام الإنسان فقي يد الطبيعة نفسها تختار من أخلاقه ما تشاء. وقد ناهضهم طائفة كبيرة من العلماء والكتاب، يربأون بأخلاقنا التي تواضع المجتمع عليها أجيالا متعاقبة، أن توضع بين مطرقة الطبيعة وسندان التطور، يفعلان بها كيف شاء لهما الهوى وفي ذلك يقول هكسلي: إن علم الحياة لا يصلح دليلا خلقيا بأية حال من الاحوال، اذ كيف نترك مصيرنا في كف الطبيعة العمياء، وهي كما قال عنها تنسون الشاعر الإنجليزي (ملطخة بالدماء ناباً ومخلباً)!! نعم، كيف نذر الطبيعة تصب في قوالبها ما يطيب لها من أخلاق وهي كثيراً ما تمجد الوحشة والمكر والخداع وتمقت الرحمة والعدل والحب؟!
ولكن تحدث بهذا المنطق لغير سبنسر! لابد أن تخضع مبادئ الأخلاق للانتخاب الطبيعي وتنازع البقاء، وليبق من أخلاقنا ما يصمد لهذه التجربة القاسية، وليفن منها ما تذروه هذه الريح العاصفة. . . الأخلاق - كأي شيء آخر - تعود على الإنسان بالخير أو بالشر بمقدار ما تساوق أغراض الحياة (والخلق السامي هو ذلك الذي يسير مع الحياة ويشاطرها فيما ترمي إليه) فلنقبل من الأخلاق ما يلائم الحياة، ولنرفض منها ما يعترض سبيلها(32/33)
ومجراها، أو بعبارة أخرى يجب أن تكون الأخلاق بحيث تعاون الفرد على البقاء في مضطرب الأهواء المختلفة المتنازعة التي تصدر من أعضاء المجتمع. ولما كانت هذه الملاءمة بين الفرد والمجتمع تختلف باختلاف الزمان والمكان، كانت بالتالي فكرة الخير تختلف عند الشعوب أوسع اختلاف. ويرى سبنسر أن الطبيعة قد زودتنا بمقياس دقيق نميز به الطيب من الخبيث، وهو مقياس السرور والألم، فإذا صادف سلوكنا من أنفسنا ارتياحا ورضى، كان ذلك دليلا على ملاءمته للحياة الكاملة، لان ذلك الاطمئنان الباطني علامة على أن الطبيعة قد اختارت ذلك السلوك ليكون سبيلا إلى حفظ الحياة. فأنت تستطيع إذن أن تفرق بين الخير والشر، بما يبعثه العمل المعين من سرور أو الم لأنهما دليل ساقته الطبيعة نفسها للتفريق بين هذا وذاك.
نعلم مما تقدم أن الأخلاق يختلف لونها باختلاف البيئة الطبيعية أو الاجتماعية، لأن الأولى صدى الثانية وانعكاسها، ولما كان نظام المجتمع في العصور الوسطى أخذ يتطور في كثير من أسسه وقواعده، كان حتما أن ينشأ عن هذا التحوير انقلاب في فكرة الأخلاق. فقد كانت أكاليل المجد والفخار لا تعرف موضعا غير هامة الفرسان المقاتلين، فأما هؤلاء الذين يقضون نهارهم في الزراعة والصناعة فعبيد أرقاء حقب عليهم الذلة والهوان، ولكن وجهة النظر أخذت تتطور منذ حلت الصناعة ورسخت قدمها، لانها تعتمد كما قدمنا على القوة العقلية، فأضحى العمل أشرف ما يمارسه الإنسان. لأنه عماد المجتمع وسنده. . . ولما كان هذا العمل لا ينمو ولا يستقيم إلا تحت ظل العدالة، وهذه بدورها لا تورق أو تزدهر إلا في جو من الحرية؛ كانت هذه الحرية أول واجب في عنق الدولة، وقد عرف سبنسر العدالة بان: (كل إنسان حر في أن يفعل ما يشاء، على شريطة ألا يتعارض ذلك مع حرية إنسان آخر له ماله من حقوق). ولا يستقيم هذا النص مع نزعة الحرب، لانها تعبد سلطان القوة وتفرض الطاعة العمياء، ولكنه شرط أساسي لنجاح الصناعة لأنها تعتمد على السلام والحرية في الراي والابتكار.
تلك هي حقوق الإنسان الأساسية عند سبنسر. حق الحياة وحق الحرية، فأما شكل الحكومة فلا يقيم له وزنا، فلتكن ملكية مطلقة أو دستورية أو ما شئت من نظم، فما لنا ولها ما دمنا نتمتع بالحرية والحياة؟ وفي هذا يسخر سبنسر من النساء اللائي يلححن في طلب الحقوق(32/34)
السياسية، لأنها في رأيه وهم باطل لا يسمن ولا يغني من جوع، فضلاً عن أنه يتوجس من المرأة خيفة ان هي وثبت إلى مقاعد النيابة والحكم، اذ يخشى ان تدفعها غريزة الإيثار إلى تقوية الضعيف الذي يجب أن يرك للطبيعة تسحقه، فلا تذر من الاحياء غير الاقوياء، نعم يجب أن تتحكم الأنانية وان تظل أساسا لأعمالنا بحيث لا تلين لعاطفة الإيثار، فهي أسبق منه إلى الوجود، وهي أصلح للحياة والبقاء. . . . وهل الإيثار إلا أثرة في لبه وصميمه! أليست الأبوة حباً صريحاً للنفس؟ والوطنية ما هي؟ ألا تراها أثرة مجسمة؟ فأنت لا تنتصر لهذه البقعة من الأرض إلا لأنك تعيش بين أرجائها!
وخلاصة الرأي عند سبنسر أن المثل الأعلى للأخلاق هو مزيج متزن بين الاثرة والإيثار_الإيثار الذي يشبع الأنانية ويغذوها.
زكي نجيب محمود(32/35)
في تاريخ الأدب العربي المصري
ابن قلاقس 532 - 567هـ (1138_1172م)
- 1 -
في ثغر الإسكندرية، مهبط الوداع واللقاء. حيث تجلب السفن قوما وتذهب بآخرين، وتحمل أناسا إلى أوطانهم، بينما تذهب بغيرهم إلى بلاد غير بلادهم وآل غير آلهم، وحيث البحر الأبيض يحمل عبابه السفن، مهتدية بمنار الثغر، فتحط اليه أو ترحل عنه، وفي رابع ربيع الآخر عام اثنين وثلاثين وخمسمائة ولد لعبد الله بن مخلوف بن علي ولد سماه نصبر الله، وكناه أبا الفتوح، ولقبه الناس بعد ذلك بالقاضي الاعز، وشهر في كتب الادب بابن قلاقس، وأرجح ما نراه سببا لكنيته الأخيرة أن أحد الأجداد في عمود نسبه يسمى بقلاقس، فحمل حفيده الشاعر النسبة إليه، (وقلاقس بقافين. الأولى مفتوحة والثانية مكسورة جمع قلقاس، وهو معروف) ولسنا ندري السبب الذي من أجله سمي جده بهذا الاسم.
ولد هذا الطفل الذي كان على ما يظهر نحيفا ضئيل الجسم، وظلت صفة النحافة ملازمة له، لم تبرحه طوال حياته حتى قال حينما كبر يحدثنا أن ضآلة الجسم لا تحول بينه وبين العلا:
جوهر المرء نفسه وبها الفض ... ل، وما غير ذاك فهو فضول
والصغير الحقير يسمو به الس ... ير فيعنو له الكبير الجليل
فرزن البيدق التنقل حتى ان ... حط عنه في قيمة الدست فيل
ويروي بعض الرواة أنه لم تكن له لحية، ولكن شعره يحدثنا أنه كان خفيف العارضين يقول:
لا تغرنك اللحى من أناس ... درجوا كالحمير تحت المخالي
ولئن خف عارضاي فاني ... لا أبالي بكل وافي السبال
يلبس على رأسه عمامة كالتاج، وذلك كل ما تستطيع ان تصل اليه إذا أردت أن تعرف شيئا عن خلقه وزيه، فإذا أردت أن تدرس أسرته وأن تعرف شيئا عن أبيه وأمه فانك غير مهتد إلى ما يشفي غليلك، اللهم الا أنه يرجع في نسبه الاول إلى قبيلة عربية هي قبيلة لخم ان صح ما يقوله النسابون عن نسبه.(32/36)
- 2 -
الحياة العملية لابن قلاقس يشوبها العموض، فلسنا ندري على وجه اليقين كيف تعلم، ولا ماذا تعلم، ولا على يد من تخرج، وان كنا نعلم انه درس في الازهر، وربما يكون قد طالت مدة دراسته حتى صح أن ينسب ويقال له الأزهري، كما إننا نعلم أنه صحب الشيخ الحافظ أبا طاهر أحمد بن محمد السلفي وهو أحد الحفاظ الذين رحلوا في طلب الحديث، ولقي المشايخ الأعلام ودرس الفقه على مذهب الشافعي، ثم ألقى عصا التسيار بالإسكندرية، حيث قصده أهل العلم من البلاد النائية، ويقال أنه لم يكن في اخر زمانه مثله، ولقد بنى الوزير المصري وزير الظاهر العبيدي له مدرسة بالإسكندرية وكل أمرها إليه، فقام بأعبائها.
أتصل ابن قلاقس بهذا العالم وانتفع بصحبته كثيرا، وان شعره الذي مدحه به يدلنا على ما كان بينهما من أواصر المودة وقوة العلاقة، كان السلفي رجل حديث فلا بد أن يكون ابن قلاقس قد درس عليه الحديث، وكان رجل فقه ولغة وأدب فلا بد أن يكون صاحبنا قد تأثر بفقهه وأدبه، وإذا كان الشاعر يهضم دراساته كلها ثم تأبى إلا أن يظهر أثرها في شعره فكذلك كان صاحبنا؛ فانك ترى في شعره بعض اصطلاحات علمية تدلنا على دراسته وما تلقاه، وأتنصت إليه يقول:
البدر في العرض الضياء وأنت قد ... جمعت بجوهر ذاتك الاضواء
ألا يذكرك ذلك باصطلاح المتكلمين حينما يتحدثون عن العرض والجوهر والذات، ويقول:
وأنت ورثت الأكرمين علاهم ... وعالت على قوم سواك الموارث
ويقول:
ملك شاعر الحماسة يأبى ... أن يمل التسهيم والتقسيما
فهو يشير إلى الميراث والعول والتسهيم والتقسيم التي هي من الاصطلاحات الفرضيين واستعمالاتهم، ويقول:
وجدي بنحوك لا عطفا ولا بدلا ... فانظر إليه تجده الكل توكيدا
ويقول:
خفضت بها الأشعار حتى كأنها ... وإن رفعتني الآن من أحرف الجر(32/37)
ويقول:
وأحسن بالرفع رفع الحدي ... ث وإظهاره للجوى المضمر
فهو في كل هذه الأبيات يشير إلى قواعد النحو من عطف وبدل وتوكيد وخفض ورفع وحروف جر وإظهار وإضمار، وهي كلها اصطلاحات نحوية تلوكها ألسنة النحاة، كما كان في البيت الاخير يحدثنا عن رفع الحديث الذي هو من مصطلحات المحدثين كما قال:
لوارث الحمد يرويه ويسنده ... إلى مناسب أجداد وآباء
إذ هو يشير إلى الرواية والإسناد اللذين يجريان على ألسنة المحدثين. ويقول:
حيث الدماء عقار يستحث على ... ما شئت من رمل للخيل أو هزج
ففي رمل وهزج تورية ببحري الرمل والهزج اللذين يعرفهما علم العروض ويقول:
وأراك تريف الجمال بوجهه ... فانظر إلى ألف العذراء ولامه
تلك هي العلوم التي نستطيع استنباط أنه درسها من شعره، واذا شئت أن تجملها قلت إنه درس الدين وعلومه واللغة العربية وعلومها كما أنه قد أخذ بحظ كبير من دراسة أدب الشعراء الغابرين وحفظ الكثير من أقوالهم، يدلنا على ذلك معارضته لهم في أشعارهم وقصائدهم واقتباسه الكثير من أفكارهم وتعبيراتهم، وإن شعر شاعرنا ليدلنا حقيقة على اطلاع واسع وثقافة متغذية بأشعار السابقين له: جاهليين وإسلاميين، وسوف نتحدث بعد عن اقتباسه ومعارضته حينما نحدثك عن شعره. قلنا انه صحب الحافظ السلفي، ونقول، ان التاريخ لم يحفظ من أسماء أساتذته إلا هذا الاسم، وقليا ان العلاقة التي كانت بينهما متينة العرى وثيقة الصلة تلمسها في شعره، وتقرؤها في المدح الذي يفيض قداسة وحبا، كما تلمس فيه بلك الدرجة العظيمة التي وصل اليها السلفي، وتلك المنزلة السامية التي كان يضعه فيها أهل عصره، وحسبك أن تسمع قوله فيه:
نجم علا نوره فكاد بأن ... تقبض بالضوء عين من جحده
سائل به من رمته هيبته ... فمات من خوفه، وما عمده
ألم تزره كواكب ضمنت ... رجم شياطين كيده المرده
وأصبح العاضد الإمام به ... في دولة بالسعود معتضده
وابتسم الثغر عن مفضله ... بما ارتضى الله جده ودده(32/38)
خر له الناس ساجدين فلو ... شئت عددت النجوم في السجده
وشعره فيه كثير جدا يوجد في ديوانه، وكان السلفي كثيرا ما يثني عليه، ويقدره حق قدره.
- 3 -
عاش ابن قلاقس طوال حياته في عهد الدولة الفاطمية، تلك الدولة التي جعلت مصر سيدة لإمبراطورية ضخمة تمتد من المحيط الأطلسي إلى نهر الفرات، غير أن شاعرنا كان في آخر عهودها، وبعبارة أخرى كان في عهد ضعفها وانحلال قواها، إذ لم يكن الأمر والسلطان فيها للخليفة: يصرف الأمور ويدبر الشئون؛ ولكنهما كانا في أيدي الوزراء يفعلون ما يفعلون، ويدعون ما يدعون، ويولون الخلافة من يشاءون، فقام التنافس على الوزارة. كل يرجوها لنفسه ويصرف في سبيل نيلها ما شئت من مال وجند، مما كان مدعاة لأن توجه مصر قواها إلى نصر بعض بنيها على بعض لا إلى عدو آخر مغير، ولهذا كان تاريخ الدولة الفاطمية في آخر عهدها تاريخا للنزاع الذي كان قائما حينذاك بين الوزراء، ولعل ضعف سلطة الخليفة في أكثر المدة التي عاشها ابن قلاقس هي التي لم تدعه إلى السعي للاتصال به، بل هو لم يتصل بأحد من رجال السياسة المصرية المبرزين إلا بشاور الذي تغلب على خصمه رزيك وانتزع منه الوزارة، ولا زال الغالب يجد النصير ويجد المادح؛ لهذا تسمع ابن قلاقس يقول له:
يا آل شاور أنتمو دون الورى ... للملك كالأرواح في أشباحه
والى معاليكم إشارة خرسه ... والى أياديكم ثناء فصاحه
ويقول حينما انتصر على بني رزيك:
بك الاسلام قد لبس الشبابا ... وكان سناه قد ولى فآبا
وهز الملك عطفيه بملك ... تقلد فهمه، وكفى، ونابا
وقد لبست به الدنيا حلاها ... جلاها حسنها خودا كعابا
وقالوا: أطول الاملاك باعا ... فقلت: نعم، وأنداهم جنابا
سلوا عنه بني رزيك لما ... أفاد الحرب منهم والحرابا
فان جعلوا الظلام لهم مطيا ... فكم جعل النجوم لهم ركابا
ليهن الملك أن أمسى مصوناً ... عشية راح غيرهم مصابا(32/39)
وكذلك له شعر يحدثنا عما قام بين شاور وشيركوه الذي قدم لمساعدته ثم أبى شاور أن يفي له بما عاهده فاضطر شيركوه إلى الانسحاب من مصر مؤقتا؛ ويقول في ذلك ابن قلاقس:
عارض الصفح في يديك الصفاحا ... ورأى البأس أن تطيع السماحا
فرفعت الجناح عن جارم الذن ... ب بعفو خفضت منه الجناحا
ووضعت السلاح حين أراك ال ... حزم والرأي ان وضعت السلاحا
أي ثغر سما اليه أبو الفت ... ح فلم يبتدر اليه افتتاحا
بخيول طارت بأجنحة النص ... ر فراحت بها تباري الرياحا
شاركت شيركوه في النفس والما ... ل وصاحت به فصاحا فصاحا
طلب الأمن، فاستجيب، وما يع ... رف منك الطلاب إلا النجاحا
بعد ما ضيق الحمام عليه ... سبلاً غودرت لديه فساحا
فليطل تعدها الفخار، فقد را ... ح طليقا لبيضكم حيث راحا
وبغير شاور لم يتصل شاعرنا بسياسي مبرز في السياسة المصرية اللهم إذا استثنينا القاضي الفاضل الذي توصل بجده ومهارته إلى أن يثب على كرسي ديوان الإنشاء عوضا عن الموفق بن الجلال الذي كان أستاذا له، وكان يشغل هذا المنصب قبله، وإذا أنت قرأت شعر ابن قلاقس في مدح القاضي لحظت فيه تأنفا واجتهادا في استعمال المحسنات اللفظية، ولا غرو فالقاضي الفاضل زعيم طريقة عرفت به وعرف بها: هي طريقة الجمال والتزيين اللفظي، فكان من حسن الذوق أن يجتهد مادحه في السير على نهجه واتباع مذهبه لان في ذلك إذاعة لطريقة يريد أن يذيعها، ويقولون: إن أول قصيدة قالها فيه هي التي أولها:
ما ضر ذاك الريم ألا يريم ... لو كان يرثى لسليم سليم
ومنها:
من لفظه راح، وأخلاقه ... روح، وتلك الدار دار النعيم
فارشف بأسماعك من قهوة ... ما أحدثت من ندم للنديم
بلاغة جرت جريرا، ولم ... تدع حطاما بيد ابن الحطيم
رأى به الديوان ديوانه ... مطرزا باسم شريف وسيم(32/40)
وقال يا عبد الحميد ادرع ... من بعد هذا اليوم ثوب الذميم
علامة السؤدد معروفة ... جسم نحيف وعلاء جسيم
وله فيه مدح كثير، وثناء على أخلاقه، وطريقة انشائه، وصاحبنا مع فخره بشعره يقف أمام القاضي الفاضل فيقول له:
أتينا بقرى الأشعا ... ر نهديها إلى المدن
إلى من بحره الزا ... خر لا يعبر بالسفن
إلي من لفظه يط ... رب كاللحن بلا لحن
وهذان العظيمان شاور والقاضي الفاضل أكبر من اتصل بهما شاعرنا في الديار المصرية.
يتبع
أحمد محمد بدوي(32/41)
من طرائف الشعر
الى زوجي الفاضل
قصيدة طريفة من الأدب النسوي الجميل
للسيدة منيرة توفيق حرم الصاغ محمد ماهر رشدي مأمور بندر
الزقازيق
طالَ السهادُ وأرّقت ... عيني الكوارثُ والنوازل
لما جفاني من أح ... بُّ وراحَ تشغلهُ الشواغل
وطوى صحيفة حبنا ... وأصاخ سمعاً للعواذل
يا أيها الزوج الكري ... م وأيها الحب المواصل
ما لي أراك معاندي ... ومعذبي من غير طائل
لم ترع لي صِلةَ الهوى ... وهجرتني والهجرُ قاتل
هل رمُتَ ان تغدو طلي ... قاً لا يحولُ هواكَ حائل
أو رمتَ غيري زوجةً ... يا للأسى مما تحاول
ان تبغ مالاً فالذي ... تدريه انَّ المال زائل
أو تبغ أصلا فالتي ... قاطعتها بنتُ الأماثل
أو تبغ حُسناً فالمحا ... سنِ جمةَّ عندي مواثِل
أو تبغِ آداباً فأش ... عاري على أدبي دلائل
أنا ما حَفِظتُ سوى الوفا ... ءِ ولا ادَّخرت سُوى الفضائل
وأنا وَلي شرفُ العفا ... فِ أُعَدُ مفخرة المنازلْ
فَجَزَيتني شرَّ الجزا ... ءِ وكنتَ فيه غيرَ عادِل
أنسيتَ عهداً قد مضى ... حُلوِ التَّواصُل والتراسل
أيام تبذل من وسا ... ئل أو تنِّمقُ من رسائل
وتبثُ معسولَ المُنَى ... وتمدُ أسباب التحايُل
ولبِثتَ تُغريني بما ... تبديه من غرِّ الشمائل(32/42)
فحسبتُ أن الدهر أن ... صفني وأن السعد ماثل
ظناً بأنك لم تكن ... لا بالعَقوق ولا المُخاتل
ماذا جرى فهجرتَني ... والحُب شيمته التساهل
عاشَرت أهل السو ... ء فاقتنصوك في شر الحبائل
ومَضيتَ تطلب بينهم ... عيش المقيدَّ بالسلاسل
ورضيت هجر حليلةٍ ... لمَّا تزل خير الحلائل
والله ما فكرت يو ... ما في جفاكَ ولم أحاول
فجفوتَ يا قاسي الطبا ... ع ولم تُدار ولم تجامل
فاعلم بانك قاتلي ... والموت فيما أنت فاعل
أين المسائل والموا ... صل في العشي وفي الاصَائل
أين المودةُ في الهوى ... بيني وبينك بالتبادُل
أين الحديثُ العذبُ من ... ك وأين ولَّى سحرُ بابِل
أني أسائلُ أين عه ... دك في الهوى إني أسائل
أعلمت ما فَعل النوى ... بي من ضنى أم أنت ذاهل
فاربأ بنفسِكَ وانهها ... وارجع إلي زين العقائِل
منيرة توفيق
الذكرى
للشاعر الدمشقي أنور العطار
تهبطُ الذكرى على قلبي فيحيا ... ثم تنأى عن حِماهُ فيموت
غَلبَ اليأسُ على مأمله ... وطوى ضجته الكبرى السكوت
فهو كالبلبل غنَّى بُكرةً ... ولدى الامساء وافاه الخفوت
رُبَّ ذكرى غلغلت في ساحه ... هي عندي أبد الآباد قوت
نعشَت رُوحي منها نفحةُ ... مثلما ينعشك المسكُ الفَتيت
يا سرباً لم أزل أنشُدُه ... طول عمري وهو عن عيني يفوت(32/43)
بينما الأمر جميع فإذا ... عشيَ المنضورُ منهوبٌ شتيت
وحياتي نهرٌ معتكرٌ ... غيبته فلوات ومرُوُتُ
أعشبَ الشوكُ على أعطافه ... ولقد يزهو بها آسٌ وتوت
الدنا بعدكِ قفرٌ وحشةٌ ... ما بها مأوى لقلبي ومَبيِتُ
خلتِ الأكوانُ من بهجتها ... وامحت منها صفاتٌ ونُعُوت
لا تظني شجوها يكرُبني ... إني في الألم العاتي ربيت
كلُ ما لاحَ لعيني رائعاً ... هو عندي بعد ما غبت مقيتُ
زهِدَ القلبُ الأماني كلها ... وثوى يصدفُه عنها القُنوتُ
غير ذكرى صورةٍ اعبُدها ... أنا منها في عذابِ ما حَييت
الرّزايا رصَّنتني خِبرةً ... والرزايا قد تربى وتقيتُ
كلما حرَّقني جرحُ الهوى ... صاح قلبي: إن جرح الحبِ صيت
يالهٍّم مُستفيض إن يغِب ... ملكوتٌ منه يطلعُ ملكوت
لكِ في قلبي طيفٌ ماثلٌ ... هو في عيني تمثال نحيت
غلَّف الأجفان ما يبرحُها ... مُشرِق الساحة بحلوه الثُبوتُ
الم أكن أرضى بأفراح الورى ... وأنا اليوم بأوجاعي رضيت
تُنشد الروحُ إذا طفت بها ... وإذا غِبت تولاَّها الصُموت
أنا كالشارد من فرطِ الأسى ... مضنَّى هم على العيشُ مُميِت
نَسَج الدهر لحظِّى دارة ... رُبما أربت عليها العنكبوت
الأماني الحائرة
لله كم من أمان بت أرقبها ... فيها يحاربني دهري وأيامي
تراكمت فهي أكوام مكدسة ... ليست تعد بأقلام وأرقام
أحدث النفس عنها كل آونة ... وما أحدثها في غير أوهام
لهفي عليها وقد راحت تقاذفها ... يد المقادير من عام إلى عام
ما أن نظرت اليها وهي حائرة ... إلا أنثنيت بقلب صارخ دام
الا تحقق لي الايام أمنية ... حتى أودع أشجاني وآلامي(32/44)
لكم أجِّمعُها حولي وأندبها ... بكل أنشودة حرَّى، وأنغام
مأرب كبياض الفجر باسمة ... حفت بعاثر جد غير بسام
يا حسنها من أمان لو يحققها ... دهري، وما رجفت أضغاث أحلام
دار العلوم العليا
محمد برهام
الساعة
وآلة تقطع الأيام سائرة ... لا تبصر العين من تسيارها أثرا
أرى عقاربها اللاتي، تدور بها ... عقاربا كل حين تلدغ العمرا
كأنها تبصر الأوقات راسمة ... لها وما ملكت كفا ولا بصرا
تهاجم العمر دوما وهي ساكنة ... والعمر يركض منها خائفا حذرا
نعدها من جماد وهي مدركة ... من وقتنا ما اختفى عنا وما ظهرا
تطوى السنين وتجري وهي ثابتة ... وتمنح الناس - لكن لم تفه - عبرا
فأن يكن أي سير في المكان يرى ... ففي الزمان مسير جاوز النظرا
ان صاغها من جمادات حجى بشر ... فقد ترقت فأضحت ترشد البشرا
كأن دقاتها في كل آونة ... دقات قلب خفوق بالنوى صحرا
كأن في جوفها قلاب الزمان غدا ... يدق مستعجلا من نفسه ضجرا
يقطع الخفق منه كل آونة ... جزءا فتحسبه بالخفق منتحرا
بالخفق نحيى وذاك الخفق ينقصنا ... جزءاً من العمر من أرواحنا أنبترا
كأن دقاتها في السير حشرجة ... للدهر يلفظها جزء قد أحتضرا
كأنما هي أنفاس يرددها ... دهر تأوّه أو ذو علة زفرا
كأن توقيعها المرنان وقع خطى ... للدهر في موكب نحو الفنا عبرا
يبغى الفرار من الساعات عقربها=خوفا على العمر ممن تتلف العمرا
لكن يعود اليها مكرها جزعا ... كساكن قفصاأو موثق أسرا
ليت القلوب من الساعات قد وقفت ... أو ليت عقربها الجرار قد كسرا(32/45)
حتى تمر بنا الأوقات سانحة ... ما أن نحس لها طولا ولا قصرا
وكي تمر بنا الأوقات عابرة ... جسر الحياة وهذا البرزخ الخطرا
ما العمر إلا منام طال أم قصرا ... فلا تقطع مناما في الرقاد سرى
من يصح من نومه لم يلقى غير أسى ... وفاز بالسعد من في حلمه سكرا
دمشق
أحمد صافي النجفي
قصر الأحلام
في عالم الأحلام قد ... شاهدت أعجب الرؤى
رأيتُ قصراً شاهقاً ... بين الكواكب استوى
أبراجه من ذهبٍ ... مؤتلقٍٍ مثل الضحى
أشجاره تحكي الزمر ... دً الكريم في النقا
ينبوعه يرسل ما ... ءً كاللجين في الصفا
بلغته في مركب ... يجره بعض القطا
ثم دخلتُ ساحةً ... كهالةٍ من السنى
تضم حوراً قد رفا ... ن في الحرير والحُلى
وقيل لي ذلك قص ... ر الخلد لو شئت البقا
أصحابه قد وهبوا ... صعدا على طول المدى
لكن حبيبي لم أجده ... بين هاتيك الدُمى
فعدتُ أدراجي الى ... دنيا الزوال والفنا
أبحث عن خليّ بها ... هناك في عشّ الهوى
حسين شوقي
يا أم. . .
قد مزّقتْ صدرَها النبالُ ... وهَّدها السُّقم والهُزالُ(32/46)
لبيكِ يا مصرُ، لا تراعى ... فِدًى لك المالُ والرجالُ
يا أم لا تجزعي، فأنَّا ... نَقضي، ليبقى لك الجلالُ
من نيلك الكوثر أحتسينا ... سُلافة سكرها حلالُ
تطوف بالفكر في فجاج ... يقصرعن نقشها الخيالُ
وتدفُع الروح في صعيد ... من عالم الوَهم لا ينالُ
أروع ما قد لمست فيه ... حرية صاغها الجمالُ
لبيكِ يا أُم هاكِ قلبي ... آليتُ لن يَهَدأ النضالُ
هيا إلى الموتِ يا فؤادي ... أو يُصرع الظلمُ والظلالُ
ما أكثر الأُمنيات عِندي ... تجري وما ضمها مجالُ. . .
يضيقُ دهري عن رجائي ... ايسرُ ما أنشُدُ المُحَالُ. .!!
مختار الوكيل(32/47)
بين الشك والأيمان
(شيللر)
للأستاذ خليل هنداوي
تتمة ما نشر في العدد الماضي
- 3 -
في عام 1790 كتب شيللر إلى صديقه (كاربز) الأمين (ما أحوجني إلى رفيق يقيم معي، ويقدر على إسعادي، وتبديد وحشتي ونفي همومي وتجديد أيامي) وكأن الأقدار رغبت في تحقيق رجائه فوهبته امرأة ما كان أدناها من هذا الصاحب الذي تمناه، وفيها يقول (غوته) إن الجمال النقي يرتسم على ملامحها، وأشعة الظهر تلمع في عينها. هي كثيرة الإحساس بكل ما هو خير وجميل في الحياة، وتغلب على مشاعرها الرقة والإيناس. وكان تأثير هذه الصاحبة الأمينة في حياة شيللر شديدا، فقد نفحت روحه بالأمل الذي هو سر الحياة، وكتب إليها قبل زواجه منها (أصبحت أرى نفسي متفتحة لكل ما هو خير وجميل. قد وجدت نفسي. . .) وبعد زواجه كتب (الآن غلب على مزاجي الاعتدال. وأيامي تنقضي خالية من ثورة الأهواء، صافية هادئة. وقد عدت إلى أعمالي بنفس ملؤها الطمأنينة كعادتي السابقة) وهذا الذي عرفناه ثائراً، شاكاً، ناقماً على نفسه وعلى الناس تميل روحه للاستسلام وتغلب عليه السكينة، فإذا ما عراه داء شكر ربه لأن يداً فوقه تبدي له من العطف أضعاف ما يحس من الألم. وقد منحته السماء طفلاً فقال (أحس بأنني أرى مشعل حياتي الذي بدأ ينطفئ، يشتعل في غيري. إنني راض عن القدر) ويتجه قلبه إلى أمه الكهلة التي يضطرم قلبها عليه حباً وحناناً فكتب إليها (كل ما يجعل حياتك سعيدة يجب أن يكون لك يا أماه! وأن الواجب يقضي علي أن أنقذ روحك من كل ملل. بعد تلك الأتعاب التي أرهقتك يجب أن يكون مساء حياتك صافياً هادئاً. . . .)
استشاره رجل يريد أن يقبل على ذلك العلم الخطير (الفلسفة) فراح يصرفه عنه بقصيدة تصف مخاطر هذا العلم وطريقه الملتوية.
هل أنت متأهب مع سلطان برهانك الكئيب؟
هل أنت ناضج الفكر لتظهر في الهيكل الذي يحرس. . . كنزه الخطير.(32/48)
وهل أنت شاعر بما سترى؟ وبأي ثمن سوف تشتريه؟
وهل أنت موقن بأنك تبذل شيئا لا تملكه لقاء شيء أكيد؟
وهل تحس أن قواك كافية لمعركة هي أشد المعارك هولا! تلك المعركة التي تثور بين القلب والروح والعاطفة والفكر؟
وهل تملك جرأة وشجاعة تسعفانك في قتال (ثعبان) الشك الخالد، الكامن في داخلك؟
ألا فر، وأمعن في الأرض فراراً، إذا لم تكن واثقا كل الثقة بالدليل الذي تحمله في صدرك. فر من هذه الشواطئ المغرية قبل أن تلتهمك الهاوية. . . كثيرون هم أرادوا أن يمشوا نحو النور فوقعوا في ظلمات فوقها ظلمات.
ألا أن الطفولة تؤول حقا بصاحبها إلى نور الشفق!)
أن هذه المقطوعة تبين أن الشاعر قد نقم على الفلسفة وسئم معنوياتها. واستغنى عن هدايتها. وكان موفقا كل التوفيق في ممثليه مخاطرها.
ولكن هل كانت الفلسفة كلها شكا يعذب ويؤلم؟ هل تكون الحياة - وجميع أبوابها مغلقة - إلا هذا الشك المؤلم؟
والشاعر يبدي رأيه أكثر وضوحا في هذا النوع من الفلسفة في مقطوعته (صورة ساييس المحجوبة)
وهذه هي المقطوعة:
هجر الدار، ولم يعبأ بما ... ستذوق النفس من برح الألم
جاعلاً وجهته مصر، لكي ... يفهم الأسرار ممن قد فهم
هذه (ساييس) قد أرخت على ... وجهها ألف حجاب تلتثم
كل من يطلب يوماً ان يرى وجهها ... يبلى بأنواع السقم
لم يزد صاحبنا الا جوى ... زاد في القلب لهيبا وضرم
غافل الكهان عنها ليلة ... وتوارى تحت أسدال الظلم
رفع الأستار عنها ورأى. . . ... (هل رأى حين رأى غير عدم)؟
لم يقل عما رآه وثوى ... بخشوع تحت أقدام الضم
فبراه السقم حتى شفه ... وتردى جسمه حتى انهدم(32/49)
قال: ويل للذي يطلبها ... بطريق منكر: ثم وجم!
وفي هذه القصيدة غموض يحاكي غموض الحقيقة. والفقرة الأخيرة منها تدل على ما ساور الشاعر من الندم الممض والألم العنيف. ولكن لماذا الندم؟ هل على معرفة الحقيقة؟ ولكن هل هي الحقيقة الكامنة وراء الحجاب عرفها؟! كنا نود أن نعرفها كما عرفها، ونتذوق بعد ذلك ما تذوق الرجل في سبيل معرفتها - ولكنني أخشى من إن الرجل لم ير - وراء التمثال_إلا ما يحمل عادة التمثال! والوثنيون إنما يعبدون من التمثال ما نسجت قلوبهم وراء ملامحه من أقداس وطهارة. ولو أنهم تمثلوا ما يعبدونه بعقولهم لما رأوا إلا حجارة مسندة لا تضر ولا تنفع. وهؤلاء وغيرهم ممن ينشأون في كل عصر إنما يعبدون ما تصوره لهم قلوبهم وترسمه نفوسهم، وهل تساوي اثنان من شريعة واحدة في عبادة واحدة؟ ذلك يتمثل في صلاته شيئاً لا يتمثله الآخر، مع أن الصلاة واحدة والوجهة واحدة. وسر هذا الخلاف يعود إلى ما يتمثله هذا القلب المباين لذلك القلب في كثير من ضروب التفكير والشعور. وما أكثر أولئك الذين إذا منعتهم عن عبادة تمثالهم المقدس! وأريتهم حقيقة عارية، تقتل أمانيهم وتهدم حياتهم، فيودون لو بقوا في جهالتهم سادرين ناعمين!!
هذه الحقيقة التي تكاد تمثلها هذه النقطة هي حقيقة العدم! ولكن هل أراد الشاعر أن يصل إلى هذه الحقيقة؟ انه وصل إليها طوعاً أو كرهاً، ولكنه ندم لانه أضاع قيمة حياته! وهو إنما يريد أن يعرف شيئا من الحياة هو أقدس وأسمى من حقيقة الفناء!
ما كان أدنى شيللر بهدوئه وكآبته الصامتة في أيامه الأخيرة من هذا الرجل الذي أخذ يتلاشى بعد معرفته الحقيقة، فقد أخذت حوادث الدهر وصور الموت تجوز إلى نفسه، وهذه مقطوعة (الناقوس)
(في فناء الكنيسة تتهادى رنات الناقوس! تلك الرنات العالية التي ترافق أغاني القبر. تنبئ عن عبور المسافر الذي مضى إلى ملجئه الأخير. وا أسفاه!! هذا المسافر هو زوجة عزيزة! أو أم اختطفها الموت من حضن زوجها، ومن بين أولادها الذين منحتهم السعادة والغبطة، وأرضعتهم بمحبة ورفق. هذه الروابط الجميلة تقطعت إلى الأبد
لأنها نزلت إلى مثوى مظلم عميق. . . هذه الأم!)
كانت هذه القصيدة بعد ثلاثة أعوام لسان حال شيللر في الحوادث التي تتالت عليه، فقد(32/50)
غادرت أمه الوجود، هذه الأم التي كانت كلما ازدادت عمرا، ازدادت عطفاً على ولدها. كتبت له في كتابها الأخير (لا يوجد ولد - كمثلك - في الوجود) وأخذت صورة ولدها قبل أن يغتالها الموت وضمتها إلى صدرها ضماً شديداً، وأشبعتها لثماً وتقبيلاً، وماتت يشرف على قبرها صليب حجري نقش عليه هذه الكلمة (أم شيللر)
أما الشاعر فقد تسرب إليه اليأس، وزادت عليه الأسقام حتى خرب صدره وخارت قواه وفسدت رئته. وهو_برغم ذلك_يريد أن يغلب على هذه المحن ناظراً إلى غده الزاهي. ولكن المرض المبرح ضن عليه بكل شيء حتى بنعمة الأمل. ففي شتاء عام 1805 استسلم للألم صامتاً راضياً هادئاً. ولكن ثورة الشك في اللحظات الأخيرة طغت على نفسه وروحه، أقلقها تساؤلها عن العالم الثاني، سمعه بعض عواده في أغرأقة من إغراقات الحمى يهتف (أهنالك جحيمك؟ أهنالك سماؤك؟ ولكن السكون المغمور بالملل والتعب غلب عليه فاستسلم، وما الموت إلا استسلام، وفي الأمسية الأخيرة سألته أخته القائمة على سريره (والآن كيف أراك؟ فأجابها بصوت خافت: (أراني دائما أكثر هدوءاً) فكانت هذه الجملة هي آخر ما لفظت شفتاه، ثم سكنت ملامحه، وارتعش رأسه ارتعاشة واحدة، ثم سكن منه كل شيء وهو في الخامسة والأربعين.
ما كان أقدس هذه الكلمة؟ وما كان أكبرها باعثا للهدوء في النفوس المضطربة. ولكننا لا نعلم: أهو هدوء الإيمان، أم هدوء الملل والقنوط.
هذه الكلمة وحدها تمثل كل حياة الشاعر وهي:
(أراني دائماً أكثر هدوءاً)
دير الزور
خليل هنداوي(32/51)
العلوم
نباتات التربة المجهرية
للأستاذ يونس سالم ثابت مدرس النبات بكلية العلوم
لا شك في أن التربة هي مصدر الحياة، واليها المرجع، وهي ليست
آهلة فقط بمختلف النبات الذي نراه في غدونا ورواحنا، ولكنها تعج
بكثير من دقيق النبات الذي لا يرى إلا بالمجهر.
وتنتمي النباتات المجهرية في التربة إلى الطحالب والبكتيريا والفطر، فالطحالب تحتوي أجسامها على مادة الخضير (الكلوروفيل) وهي المادة التي تكسب النبات اللون الأخضر والتي تساعده على أخذ المجهود اللازم لنموه من غاز الكربون الجوي عند تعرضها لضوء الشمس.
وطحالب التربة صغيرة الحجم مختلفة الشكل بسيطة التركيب تنتشر على سطح الأرض وتكسيها أحيانا لوناً أخضر أو بنياً داكناً وقد تعيش داخل التربة بعيدة عن ضوء الشمس، وفي هذه الحالة تستمد غذاءها الكربوني من مصادر غير الهواء الجوي.
والطحالب تساعد كثيراً على تهوية الأرض فعندما تقوم بعملية التمثيل الكربوني تأخذ غاز ثاني أكسيد الكربون من التربة وتطرد غاز الأؤكسيجين وبذلك تصبح التربة أكثر صلاحية لنمو الكائنات الأخرى - ويشاهد ذلك بنوع خاص عند زراعة الأرز. فقد شوهد أن وجود كميات وافرة من الطحالب في مياه حقول الأرز يجعل الماء مشبعا بالأوكسجين، ووفرته ضرورية لتنفس جذور الأرز. فإذا قلت كميات الطحالب قل المحصول.
والطحالب تزيد المادة العضوية في التربة وتقوم أحيانا بتفتيت الصخور.
أما البكتيريا فيظن كثير من الناس أنها ان هي إلا كائنات
مجهرية تسبب معظمها أمراضاً، فهي كثيرة الضرر قليلة
الفائدة، ولكن الحقيقة هي أنها في التربة على عكس ذلك حيث
نرى إن نفعها فيها أكثر من ضررها. والبكتيريا أجسام دقيقة(32/52)
جداً لا يرى أكبرها حجماً إلا بالمجهر حيث يكون طوله
حوالي 1100 من المليمتر. وهي تختلف في الشكل من كرية
إلى عضوية أو حلزونية وكثيراً ما توجد لها أهداب غاية في
الدقة تساعدها على الحركة.
والبكتيريا تقوم بأعمال شتى في التربة، فمنها ما يحول المواد العضوية نباتية كانت أو حيوانية إلى مواد أخرى بسيطة التركيب. ومن بين هذه الأخيرة غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينتشر في الجو، وكذلك غاز النشادر ذو الرائحة النفاذة الخاصة، وغاز النشادر لا يصلح غذاء لمعظم النباتات الخضراء وعلى ذلك يقوم نوع خاص من البكتيريا بتحويله إلى حمض الازوتوز، وهذا المركب الأخير يتناوله نوع خاص آخر من البكتيريا ويحوله إلى حمض الأزوتيك، وأملاح هذا الحمض (الازوتات) هي الغذاء الصالح للنبات الأخضر.
وكذلك يعلم الزارع تعد طول تجربته أن نباتاً كالفول أو البرسيم أو الترمس وأشباهها إذا زرع في أرض زاد من خصوبتها، ولذلك فهو يراعي دائماً هذه الظاهرة عند ترتيب الدورة الزراعية للمحاصيل. أما سبب ازدياد الخصوبة فهو ناتج من نشاط نوع من البكتيريا تسمى بالبكتيريا العقدية ينفذ من التربة إلى أنسجة جذور نبات الفول مثلا ويعيش هنيئا في تلك الأنسجة.
وهذا النوع يمتص غذاءه الكربوني من الجذر وغذاءه الأزوتي من الهواء الجوي الذي يوجد بين الأنسجة أي أنه لا يتغذى من الأزوت الموجود في التربة. وتكون نتيجة هذه العملية ظهور انتفاخات صغيرة أو عقد على جذور الفول. فبعد الحصاد تتحلل الجذور بما عليها من العقد فتزداد في التربة كمية الازوت المركب.
أما الفطر فهو عبارة عن خيوط دقيقة متفرعة لا لون لها تعيش بين أنسجة النبات الراقي أو بين المواد العضوية الموجودة في التربة وهي منتشرة في الطبقات السطحية ويقل وجودها في الطبقات العميقة. والفطر تقوم بتحويل المواد الكربوادراتيه (كالخَلَوُوز وغيره) إلى مواد بسيطة التركيب، واليها فقط يعزى مثل هذا العمل النافع في الأراضي الزراعية.(32/53)
وفضلا عن ذلك فهي تقوم بتحويل المواد العضوية الازوتية إلى مواد أبسط منها تركيباً كالنشادر. وتساعد أيضا على إذابة المادة المعدنية الموجودة في التربة وربما فاق عملها في هذه الناحية عمل الشعيرات الجذرية في النباتات الراقية.
وهناك ظاهرة أخرى أخذت تثير كثيراً من الاهتمام في السنين الأخيرة وهي أن بعض الفطر الموجود في التربة يكون مع جذور بعض النباتات أجساما غريبة تسمى جذورا فطرية وهذه تتكون من أنسجة الجذور ومن خيوط الفطر.
ويعيش كلا الفردين (الجذور والفطر) عيشاً رغداً ما داما مجتمعين ولكن في كثير من الأحيان لا ينمو أحدهما نموه العادي إذا أقصته الظروف عن رفيقه. ويقوم الفطر في الجذر الفطري مقام الشعيرات الجذرية أي أنه يمتص المادة المعدنية من التربة ويرسل بها إلى الجذر وفي مقابل ذلك يمد الجذر خيوط الفطر بالمادة العضوية اللازم لها. فنرى اذن أن المنفعة بينهما متبادلة. فضلاً عن القيام مقام الشعيرات الجذرية فأننا نجد أن كثيرا من خيوط الفطر تهضمه خلايا الجذر وبذلك يكون الفطر مورداً داخليا لغذاء الجذر.
يونس سالم ثابت(32/54)
شذرات
صعدة في الجو جديدة
في عام 1932 أطلق ريجنر بالونات من المطاط تحمل أجهزة علمية تسجل من ذات نفسها فبلغ علوا قل الضغط عنده إلى 22م. م. وصعد البالون الروسي الحديث يحمل بروكوفييف ورفاقه فبلغ حسبما قدروا علوا قدره 61000 قدم أي ما يعدل ضغطا قدره 50 م. م.
وفي الخريف الماضي ارتفع أمريكيان ببالونهما إلى ضغط قدره 645 م. م. أما البلجيكيون كوسينس وكبفر فأقل ضغط سجلوه بلغ 83م. م. واليوم تأتي الأخبار بان محاولة جديدة ستكون يرجى فيها الصعود إلى أعلى من 68000 قدم وهي الطبقة التي بلغها الروس.
في الصعدات القديمة كان الطائرون يغلقون أنفسهم في حجيرات مكورة محكمة السد. أما في هذه المحاولة الجديدة فسيركب الطائرون في سلة البالون العادية المفتوحة ولكنهم سيلبسون بذلة من المطاط الرخص تغلف أجسامهم تغليفاً تاماً فلا تتصل بالجو الذي يبلغون. وبما أن هذا الجو سيكون قليل الضغط وبما أن هذا سيؤدي إلى انتفاخ تلك البذلات لما بها من هواء صعدوا به من سطح الأرض لذلك ستتفرع تلك البذلات من تعض هوائها، وذلك إلى الضغط الذي يحتمله جسم الإنسان في أثناء تنفسه من الأكسجين. والطائر على هذا الحال سيستطيع الحركة والتنقل في شيء كثير من الحرية واذن سيتمكن من معالجة أجهزته وتسجيل ملاحظاته عن الجو بها وهي ذات مساس بالجو نفسه لا محجوبة عنه كما كان الحال في الصعدات السابقة. وباستخدام السلة المفتوحة مكان القارب المغلق الثقيل سيخف الوزن كثيراً فيزيد لاشك العلو الذي يرجى بلوغه.
ومما يذكر عن الرحلة الروسية أنهم اكتشفوا أن تركيب الهواء في تلك الطبقات العالية هو نفسه الهواء على سطح الأرض، وأن الرطوبة نقصت على حدود الاستراتوسفير 42 في المائة وقد كانت 92 على سطح الأرض، وفي الصعدة الجديدة المزمعة سيحملون معهم جهازاً لقياس الطيف لتسجيل نور الشمس هناك وضوء السماء وجهازاً لتقدير حرارة الشمس وأجهزة لأخذ عينات من الهواء وكمرات وكل هذه الأجهزة لتشغل بالأيدي الطليقة في الجو الطلق لا في داخل الحجيرة الحبيسة كما كان الحال. ولكن مما يؤسف له ان العين(32/55)
والأذن لابد من تغطيتهما فلا ترى الأشياء ولا تسمع إلا من وراء الزجاج. فاللون البنفسجي الغميق الذي رآه الطيارون البلجيكيون والروس سوف لا يراه الطيارون الجدد إلا من دون الزجاج.
ولعل أرجى ما يرجى في هذه الرحلة الجديدة سيكون مما اقترحه الدكتور لوسينس من استخدام خزانة ولسن في أخذ صور فوتوغرافية لأشعة ب العالمية هذه الأشعة الأخيرة لا يزال مجهولاً.
أزمة الضباب
من متاعب الملاحة الضباب لا سيما في البحار الشمالية، ومن آخر ما حاولوا في التغلب على مصاعبه: استعاضة الكمرة
عن العين رجاء أن تنفذ عين الكمرة في طبقاته الكثيفة إلى أبعد مما تصل عين الإنسان. ففي الأيام الأخيرة ركبوا في السفينة الأمريكية الكبيرة (منهاتن كمرة تحس أفلامها أشعة ما دون الأحمر، وفي هذه الكمرة وسيلة مكنية تتوضح الصورة بها وتتثبت من نفسها فتخرج تامة كاملة بعد دقيقة من كشف الكمرة. والى الآن لم تصادف السفينة العظيمة المذكورة حالة جوية لإجراء التجارب المقصودة، فإذا هي صادقت هذا الجو فلا شك أن النتائج ستكشف القناع عن الدرجة التي بها يستطيع الملاحون الاهتداء بالكمرة مكان العين والنهار حالك والبصر كليل.(32/56)
العالم المسرحي والسينمائي
كلمة صريحة حول الإعانة الحكومية للمسارح
لناقد (الرسالة) الفني
لم تكن للحكومة - إلى سنوات قلائل - أية صلة بالمسرح المصري
وبالعاملين فيه. وكانت دار الأوبرا الملكية ملحقة بوزارة الأشغال
فكأنها كانت في نظر الحكومة بناية من المباني لا داراً للفنون والآداب.
وبقي الأمر على هذا المنوال حتى وزارة الوفد الأولى التي كان يرأس
المغفور له صاحب الدولة سعد زغلول باشا فرأى مرقص حنا باشا
وزير الأشغال أن يولي المسرح في مصر قسطاً من عنايته واهتمامه،
فكانت المباراة الأولى التي اشترك فيها مديرو الفرق والممثلون
والممثلات، وكانت هذه المباراة هي أول اتصال مباشر بين الحكومة
والمسرح.
وقد ذكرنا في كلمة لنا (حول أزمة المسرح في مصر) كيف اضطربت سياسة الحكومة في اتصالها بالمسرح فعدلت عن طريقة المباراة بعد أَن أقامتها عامين متواليين على ما نذكر إلى سياسة الإعانة السنوية، وألفت في وزارة المعارف - بعد أن الحقت بها دار الأوبرا وأصبحت هي الوزارة المشرفة على الشؤون الفنية - لجنة تتفقد المسارح وتقدر للفرق وللممثلين المبالغ التي تمنح لهم في حدود الإعانة المقررة.
وسارت الوزارة في هذه الخطة سنوات برغم ما ظهر من فسادها وعدم جدواها، وبرغم صيحات الاستنكار التي رددها الكتاب والنقاد طوال هذه السنين. ويكفي أن نلقي نظرة عجلى على حالة المسرح المصري اليوم لنرى أن النقاد كانوا على حق في انتقاد هذه الطريقة، فلقد سار المسرح من سيء إلى أسوأ في هذه السنوات الأخيرة رغم ما بذلته الحكومة من إعانات سنوية، فلو أن هذه الطريقة كانت مجدية لاعانت على النهوض بالمسرح وعلى انتشاله من الهوة التي تردى بين جنباتها، ولكن حال المسرح قبل الإعانة(32/57)
كان خيراً منه بعدها، وفي ذلك ما يدعو للعجب حقا ولكنها دلالة حاسمة على أية حال على فشل طريقة الإعانة.
وكأن الوزارة ولجنة الإعانة تنبهتا أخيراً إلى هذه الحقيقة بعد أن ظهر جليا أن الإعانة لم تثمر الثمرة المنشودة، وأن المسرح قد هوى إلى الحضيض وانصرفت الجماهير عنه حتى اضطرت الفرق إلى إغلاق دورها حيال الكساد الذي منيت به. تنبهت الوزارة أخيراً إلى الحق إذ صدمت بالواقع الملموس فرأت أن تعدل عن خطتها القديمة إلى خطة أخرى، وقد نمى الينا أن لجنة الإعانة في اجتماعها الأخير في الأسبوع الماضي فكرت في تكوين فرقة من جميع المشتغلين بالمسرح من رجال وسيدات تحت اسم فرقة اتحاد المسرح المصري) وقد عرضت الفكرة على مديري الفرق الذين حضروا الجلسة فوافقت أغلبيتهم عليها وأبدوا استعدادهم للانضمام أليها وشكلت لجنة فرعية لتضع تفاصيل المشروع بالاتفاق مع مديريالفرق على أن يبداء في الحال وعلى أن تختص وزارة المعارف هذه الفرقة بالإعانة السنوية كلها.
ونحن نسجل هنا أولا عدول الوزارة عن خطتها القديمة، وهذا اعتراف صريح منها بفشلها، وهي خطوة طيبة على أية حال. أمافكرة تأليف فرقة تضم جميع المشتغلين بالمسرح فمن العسير أن نكون لها أو عليها قبل أن نطلع على تفاصيل المشروع وعلى النظام الذي سيوضع لهذه الفرقة. والفكرة من حيث هي لا بأس بها، بل لعلها العلاج الوحيد لانتشال المسرح من الوهدة التي سقط فيها، وتضافر هذه القوى مجتمعة له خطره ولا شك، وهذه الفرقة إن تحقق وجودها ستجذب الشعب ايها ما في ذلك ريب، وستكون تحت تصرفها بطبيعة الحال طائفة صالحة من الروايات لتمثلها. وأعني الروايات ألا نموذجية التي ترجمها بعض الأدباء تحت إشراف الوزارة عن شاكسبير وابسن وموليير وراسين وغيرهم من أقطاب الفن المسرحي في العالم، كما أن مبلغ الإعانة سيكون العماد الذي يمون الفرقة بما تشاء من وسائل الاستعداد المسرحي في المناظر أو الملابس أو الأدوات المسرحية جميعا على اختلافها وتنوعها. وفي النهاية نستطيع أن نقول أن هذه الفرقة تتوافر بين يديها من القوى المادية والمعنوية، ما ينهض بها إلى الذروة الفنية التي نطمع فيها وينشدها أنصار المسرح وهواته في مصر.(32/58)
قلنا أن الفكرة من حيث هي فكرة حسنة لا بأس بها في مجملها، ولكنها ككل فكرة في العالم قد لا يعدو جمالها الخاطر والفكر فإذا لم تخرج للناس في ثوب القشيب الذي يلائم جلالها وخطرها بدت شوهاء ووئدت في مهدها وكان الفشل نصيبها المحتوم وهذا ما نخشاه.
على أن الزوارة إذا أخذت بالحزم ووضعت لهذه الفرقة نظاماً داخلياً محكماً يضع الكل على قدم المساواة وعهدت بتنفيذه إلى أيد مخلصة قديرة لا تعرف الأغراض سبيلاً أليها ولا الأهواء مدخلاً إلى قلوبها، وأعلنت أنها ستأخذ بالشدة والعنف كل من يحيد عن هذا النظام وتقصيه عن العمل وتحرمه حرماناً مطلقاً من إعانتها، لو أحس القوم هذه النية الصادقة وهذه الإرادة القوية والعزم النافذ من الوزارة، لسارت الأمور على أحسن ما يرام ولرجونا لهذه الفكرة النجاح والتوفيق. وأخوف ما نخافه أن تلين قناة لجنة الإعانة ويجد فيها البعض مغمزا يهدمون عن طريقه هذه الفكرة، أو لعلهم ينتظرون حتى يخرج المشروع إلى حيز الوجود وتبدأ الفرقة عملها فيضربون ضربتهم.
على أن من الخير أن تعلن الوزارة من الآن في لهجة حاسمة إنها عدلت نهائيا عن خطتها القديمة ولن تتبع سياسة توزيع الإعانة بين مديري الفرق والممثلين بأية حال؛ وأن هذه الفرقة (فرقة اتحاد المسرح المصري) هي التي ستخصها بإعانتها كلها، فإذا لم تتألف هذه الفرقة فلن ينال أحد مليما واحدا من الوزارة. وأني لأعتقد - في رأيي الضعيف - أن كلمة كهذه من الوزارة سيكون لها صداها في جميع الأوساط، وستكون من أكبر العوامل في إنجاح المشروع، وأشد ما أخشاه أن تنكص لجنة الإعانة، إذ تصطدم في خطاها الأولى لتحقيق مشروعها الجديد ببعض العقبات فتفضل العافية والراحة على الجهد ومقاومة الصعاب، وتقرر صرف الإعانة على النحو المتبع في السنوات الماضية. وأن تفعل لتكونن قد أجرمت في حق الفن وفي حق هذا البلد الذي يطمع أن يكون له من مظاهر الثقافة الحقة ما لغيره من سائر البلدان.(32/59)
سيناريو سينمائي
لبيت أمير الشعراء أحمد شوقي بك
نظرة، فابتسامة، فسلام ... فكلام، فموعد، فلقاء
من وضع ناقد (الرسالة) الفني
1 - منظر مقرب لعدسة منظار. . يظهر في العدسة شبح فتاة جالسة، المنظر يبتعد قليلا قليلا فتظهر أجزاء المنظار المختلفة.
2 - الضوء نهارا. . منظر مستدير لفتاة على شرفة منزل جالسة مطرقة ورأسها إلى الأرض تطرز. . . المنظر يبدو أولا من بعيد جداً. . ثم يقترب ويقترب حتى يملأ الشاشة.
3 - شاب وراء نافذة وهو مغلق الشيش وينظر من خلفه بحذر وبلهفة. . بيده منظار.
4 - كيوبيد إله الحب معه جعبة سهامه. . يخرج سهما ويرشقه.
5 - الشاب لا يزال ينظر من خلف الشيش. يتراجع قليلا إلى الوراء ويضع يده على قلبه.
6 - الفتاة لا تزال تطرز. . تستريح وتضع الشغل جانبا. . ترفع رأسها. . تظهر علائم الخجل على وجهها. . تجمع شغلها في ارتباك ظاهر وتجري مسرعة إلى الداخل.
7 - الفتاة من الداخل أمام شباك الشرفة وهي تقفله. . . . قبل أن ترد المصراع نهائيا تنظر إلى الخارج نظرة أخيرة في خلسة وحذر. . فجأة ترد المصراع في غضب ظاهر ولكنه مفتعل. . . بعد قفل المصراع تعطي ظهرها له وتقف مسندة اليه. . . النور كله محصور في الوجه. . . على ملامح الوجه الاستنكار ولكن في شيء من مظاهر الطفولة. . . يخف هذا الاستنكار شيئاً فشيئاً ويتحول بعد قيل إلى شيء من الرضا. . .
تبتسم. . . يضاء الجسم كله. . . تظهر عند قدميها وردة. . تنظر اليها على مهل. . . تنحي وتأخذها. . . تتأملها. . . تشمها. . . تقبلها. . . فجأة كأنها خجلت من نفسها فتضع الوردة في صدرها وتجري حيث تختفي.
8 - باب الشرفة حيث كانت الفتاة واقفة. . . النور يغمره. . . يخفت النور قليلا قليلا. . . يظهر شبح كيوبيد يبتسم. . . يأخذ سهما من جعبته ورشقه في الاتجاه الذي سارت فيه الفتاة. . . النور يخفت قليلا قليلا. . . المنظر يبتعد ويرى كيوبيد يضحك في انشراح.
9 - على شاطئ النيل. . . أناس متفرقون. . . قليلون. . . شبان. . . فتيات. . . يمشون(32/60)
على مهل. . . يتنزهون.
10 - الفتاة آتية من بعيد مع طفل صفير يشبه كيوبيد. . . تقف أمام النيل ساهمة
11 - الشاب قادم من بعيد يمشي على حذر كأنه يتبع إنسانا ما. . . يسرع في مشيته. . . يتمهل. . . ينظر أمامه. . . كأنه رأى من يريد فيسرع في المشي
12 - الفتاة تتحرك وتمشي على مهل. . . والى جانبها الطفل. . . تلتفت فجأة خلفها. . . ثم يظهر عليها الارتباك. . . تمسك بيد الطفل وتسرع في المشي. . . يسقط منديلها من يدها دون أن تشعر.
13 - المنديل على الأرض. . الشاب يسرع لالتقاطه. يقف لحظة. . . ويسرع في المشي.
14 - الفتاة والطفل. . يمشيان بشيء من العجلة. . . الشاب يتقدم نحوهما في هيئة المتردد. . الفتاة تنظر خلفها. . . فتراه. . . يزيد ارتباكها تريد المضي في سيرها. . . الشاب يسرع أليها. . . يمد يده بالمنديل. . . الفتاة تنقل النظر بين الشاب وبين يده الممدودة بالمنديل. . . تمديدها على مهل لتأخذ المنديل. . . تحني رأسها علامة الشكر. . . الطفل يتقدم نحو الشاب ويمسك بيده ويجره للمشي معهما. . الثلاثة يمشون سويا. . . الارتباك ظاهر على الشاب وعلى الفتاة بينما يضحك الطفل الصغير في خبث. . . يمشون صامتين. . . يبدأ الشاب بالحديث مع الفتاة. . . كلمات قليلة. . . ترد عليه ورأسها إلى الأرض. . . يمشون قليلا وهم يتحدثون. . . يظهر عليهم التبسط في الحديث. . تظهر الألفة. . فجأة تقف الفتاة وتمد يدها مودعة للشاب الذي يمد يده. . بالسلام. . الطفل يمد يده للشاب مسلما. . الشاب ينحني ويقبله. . تمضي الفتاة مع الطفل. . . الشاب واقف في مكانه يتبعهما بنظراته. . . تختفي الفتاة والطفل.
15 - الشاب وحده واقف يفكر. . . يبتسم. . . ينظر أمامه. . . يمشي في هدوء
16 - الوقت ليل. . . ضوء القمر يغمر كل مكان. . . حديقة زاهرة. . . النسيم يميل الأغصان في لطف. . . صوت غناء هادئ جميل من بعيد. . . يتخلله صوت خرير مياه
17 - الفتاة في شرفتها واقفة ورأسها مسند إلى النافذة وعيناها تنظران في الفضاء. . . ضوء القمر يغمرها
18 - نافذة يلمع من ورائها نور كهربائي. . . يطفأ النور ويعم الظلام(32/61)
19 - الفتاة في موقفها في المنظر (17) تستيقظ من غفوتها وأحلامها وتنظر أمامها. . . إلى بعيد. . . نظرة ساهمة حالمة. . . تتقدم إلى سلم الشرفة
20 - سلم الشرفة الهابط إلى الحديقة. . . الفتاة تنزل عليه بهدوء وحذر وهي تتلفت خلفها
21 - أقدام رجل تمشي في الحديقة على مهل. . . تمشي. . . تقف. . . تدور. . تمشي
22 - أقدام سيدة تمشي على مهل. . . تقف. . . تتقدم منها أقدام الرجل. . . الأقدام الأربعة أمام بعضها على مسافة قصيرة. . . تقترب. . . تقف وهي مواجهة. . تتقدم أقدام الرجل إلى محاذاة أقدام السيدة. . . وقوف لحظة. . تمشي الأقدام الأربعة معا. . . يسمع صوت ناي من بعيد. . . خرير مياه
23 - مقعد حجري وسط الحديقة تحت خميلة جميلة. . يظهر خلفه سور الحديقة. . . القمر يعمر المكان بالنور. . . الأقدام الأربعة متجهة نحو المقعد. . . تظهر تحته وكأن صاحبيها جالسان عليه
ٍ24 - في الشارع. . . إلى جانب سور الحديقة خفير يمشي ذهابا وإيابا. . . ينظر إلى داخل السور. . . يمعن النظر باهتمام شديد. . . يبتسم. . . يبتسم ببلاهة مضحكة. . . يبتعد على مهل. . . وهو ينظر خلفه ويبتسم ويبرم شاربه
25 - لأقدام تحت المقعد. . . تتساقط عليها بعض الورورد منثورة ورقا.
26 - كيوبيد من بعيد يضحك وهو سعيد جداً وظاهر عليه الفرح الشديد. . . المنظر يقترب رويداً رويداً. . . جعبة سهامه إلى جانبه على الأرض. . . يمد يده فيأخذها. . . يحملها على كتفه. . يمشي. . . يختفي. . . الضوء يخفت قليلا قليلا.
محمد علي حماد(32/62)
التناسل في فيراكروز
في ديسمبر سنة 1932 صدر قانون الأنسال في مقاطعة فيراكروز بالمكسيك، وهي أكثر المقاطعات سكانا. وبهذا القانون تأسس مكتب للتناسل وصحة العقول، واندمج في مصلحة الصحة فاكتسب بذلك من قوة الحكومة والسلطان الشيء الكثير. وبتأسيسه افتتحت مراكز لضبط النسل وتعقيم من ليسوا أهلا للأنسال، سواء لضعف في الأبدان أو العقول. وهذا الإصلاح حلقة في سلسلة بدأها حاكم تلك المقاطعة منذ تولاها، فقد أغلق (الصالونات) وجعل تعليم التناسليات إجبارياً في المدارس، وعلاج الأمراض الجنسية كذلك، وأمر الأطباء أن يتدخلوا في الزواج قبل أن يتم، وفي الطلاق كذلك، فيكون له قوة على العقد وقوة على الحل إذا تعارض ما انعقد والصالح الخاص أو العام. وهكذا نجد من الأمم الأقل من هو أسبق إلى الإصلاح وأجرأ عليه من الأمم ذات القدم الراسخ في الحضارة والمكان المستقر من المدنية.
القصص
عنترة
مأساة شعرية في خمسة فصول لفخر الشرق المرحوم شكري
غانم
ترجمة الأستاذ محمد كامل حجاج
ينتمي هذا الشاعر العبقري إلى أسرة عظيمة لبنانية، وقد نبغ في الشعر الفرنسي وله ديوان فرنسي ظهر حوالي سنة 1900، وروايتان مثلتا بالاوديون سنة 1905 في فصل واحد وهما (وردة) أو (زهرة الحب) و (ربع ساعة من الف ليلة وليلة) ورواية قصصية كبيرة تسمى (دعد) وأهم رواياته التمثيلية عنترة وقد أبت عليه قوميته إلا أن يبتدئ بتمثيلها على مسرح شرقي فاختار الأوبرا الملكية المصرية ولحسن حظه كانت فرقة الكوميدي الفرنسية في ذلك الوقت مؤلفة من أعظم الممثلين الذين يسود على مجموعهم الانسجام والتوافق وفي مقدمتهم الممثلة القديرة مرجريت مورينو وقد تقدمت بها السن إلى أن أصبحت تمثل دور(32/63)
العجائز وقد قامت بدور عبلة، وداراجون وقد توفي بالانفلونزا منذ بضع سنين وقد قام بدور عنترة، ومونتو وقد مثل دور وزر المعروف بالأسد الرهيص.
ومن الغريب المدهش أنهم حفظوا الرواية وأخرجوها وأعدوا مناظرها في خمسة عشر يوماً وقد سحروا الجمهور بابداعهم النادر وكانت الرواية موفقة من جميع الوجوه.
اشتهرت مورينو بحسن القائها ونبرات صوتها الموسيقي وكانت تلقي الشعر بسهولة وهي تقلد ساره برنار وتضيف إلى ذلك قدرا كبيرا من شخصيتها الخاصة وعواطفها المتأججة وحركاتها الخالية من كل تكلفن، ورشاقتها النادرة وظرفها في الحديث. وقد مثلت دور ابن نابوليون في النسر الصغير وروكسان في سيرانو دوبرجيراك. وقد فتنت النظارة في هذه الروايات الثلاث ولم يستطع أحد من الأجواق أن يحرز هذا النجاح من سنة 1909 إلى الآن.
مثلت رواية عنترة للمرة الأولى بمسرح الأوبرا الملكية. ثم مثلها مسرح الاوديون بباريس في 12 فبراير سنة 1910 فلاقت إعجابا شديداً ونجاحا باهراً وقرظتها أغلب الجرائد الفرنسية الشهيرة مثل الفيجارو والجولوا والاكلير والدييا والطان واللبيرتيه ومجلة التياتر المصورة والاوبنيون كما قرظتها وذكرت ملخصها دائرة معارف لاروس في ملحقها الشهري سنة 1910. وهي تستحق أكثر من هذا لبلاغتها النادرة وتفكيرها العميق وتحليلها الأخلاقي ومناقشاتها الطلية وعواطفها المشتعلة ورقتها ومواقفها الفنية الرائعة.
ومن سمو أخلاق شاعرنا النابغة ونبل عواطفه أنه أنبأ في القطعة التي أوردناها عن اقتراب ظهور النبي (ص) وما سيكون له من شأن خطير كما نوه بإعجابه الشديد ببلاغة القرآن بعبارة تستعصي بلاغتها على أي شاعر مع أنه مسيحي فجزاه الله خيراً ورحمه رحمة واسعة.
المنظر الثالث من الفصل الرابع
عنترة. ثم شيبوب. ووزر بن جابر الملقب بالأسد الرهيص
(يدخل عنترة في الحال)
هل هو عربي؟ لا. . . كان الخائن مختبئا في الظلام وراء هذه الصفاة كالذئب، ولا بد أن يكون أجنبياً(32/64)
(يسمع صوت شيبوب من بعيد)
هاهو شيبوب، هل يقوده؟ لأني أرى شبحين
شيبوب (يتكلم بصوت مرتفع)
تقدم!
(ثم ينظر شيبوب وهو يجر وزرا من يده)
لقد قطع الخوف ساقيك! وعز عليك البقاء فودع اذن الحياة
(مخاطبا عنترة الذي يقترب منهما)
لا جدال ولا ريب! فانه يستر وجهه! وعيناه لا تخترقان حجب الظلام إلا لرمي السهام، وسيطفئ الموت شعلتيهما بعد قليل
(يجره بجانب عنترة وهو جالس على صخرة وكان شيبوب يتكلم وهو سائر حتى يصل إلى عنترة)
لا تبصران الصخور ولا الخمائل ولا الجحور حتى أنني كدت أن أحمله
عنترة - لكنه يحسن الهرب!
شيبوب - لا، انه لم يهرب وكان جالسا على مقربة من صفاة، وقد طعن نفسه بسهم عندما اقتربت منه؛ وترى هنا قليلا من الوضوح فانظر!
(ثم يزيح شيبوب اللثام عن وجهه ويحدق فيه)
آه! وزر!!
عنترة - وزر! أتحلم؟ كلا!
شيبوب - هو بعينه
عنترة - الفارس المختال الذي عرفته من قبل؟ (ثم يحدق به هنيهة) نعم نعم، كيف تكون خائنا؟ أقبلت في الليل الدامس لتقترف إثما ملؤه النذالة والصغار، ولم ير مثله في البلاد العربية! هل بلغت بك السفالة أن تفعل فعلتك هذه؟ ماذا عملت بقناتك وحسامك؟ لقد أحسنت بستر وجه دمغ بميسم النذالة والجبن. ما أبشع هذا الوجه الدميم. أتنهض وترفع عينين باردتين ملؤهما الخجل والخزي؟ أم يتلهفان لاقتراف جرم آخر؟ تكلم.
وزر - عيناي فارغتان وقد استعضت عنهما بقلب مليء حقداً!(32/65)
عنترة - ولم؟ وعلى من تحقد؟
وزر - لا تتجاهل وما هو إلا عليك!
شيبوب - ماذا تقول؟
عنترة - دعه! ويلزم أن يوضح هذا الرجل. أجب!
وزر - أنظر إذن! هاهو جوابي! هاتان العينان الخامدتان المفقوأتان كأنهما حجران أسودان كئيبان! آه! إنك تسميني النذل يا عنترة وما النذل الا أنت!
شيبوب - قد بلغ السيل الزبى!
عنترة - (وهو يزيح شيبوب عن وزر)
إنني أجهل أمرك، ولقد أسرتك من قبل وأنا راع صغير الشأن وأنت فارس مدجج بسلاحك ثم سافرت في مساء ذلك اليوم وسلمتك إلى غيري ولا أعلم ما فعلوا بك في غيبتي وأنت أسير
وزر - ألم تك أنت الذي أمرت أن يفقأوا عيني؟
عنترة - (وقد غير لهجته شيئاً فشيئا)
كلا! فاني لا أعرف أن أسيء إلى ضعيف. أما كنت أستغرب ما حصل لك منذ هنيهة؟ وكيف لي وأنا الذي ما زلت أحارب ورائدي الشرف ومبدئي النبل أن تعزو ألي هذا الجرم الفظيع دون عذر أو مبرر. أو يتهمني به عدو مقهور موتور نهش صدره الحسد. إنني فتنت بالحروب وهي صناعة كثير من الملوك ذوي الحول والطول وغيرهم من السادة الأمجاد الذين لا يستطيعون أن يشقوا لهم طريقا إلى الأفئدة ويعتقدون أنهم بالغوها بظبأ البيض الصفاح، وهذا خطأ ظاهر وما فتئ الإنسان عرضة للخطأ
أيترك الإنسان حنقه ليبطش بالمقهورين ويخفي أرواحهم من أعماق جفونهم ويسلبهم حقهم في هذا النور حتى يجعلهم أمواتا وهم أحياء كلا! ثم كلا! وأقسم بهذا الهلال الصيرفي الذي بزغ في السماء، انني لا أستطيع أن أقترف مثل هذا الإثم. إنهم يريدون أن يلوثوا اسمي بمثل هذه الريبة ويجردوني من الخير الوحيد الذي يقود إلى المجد والفخار وهو الطيبة. . . فهل تثق بي إذن؟
وزر - أثق؟. . . نعم!. . . أود أن لا أثق، إنني أبحث في قلبي وأفتش في ذاكرتي لان(32/66)
عندي أسبابا أخرى أهم وأقوى تبرر بغضك!. . . مهلا!. . . (يناجي وزر نفسه على مسمع من عنترة) (ان كان ترك لك عينيك ولم يكن لك جلاداً فهل كف أن يكون خائناً لكل عربي نحب حريته واستقلاله. انه يريد أن يبيع ويسلم بلاده إلى الفرس)
(ثم يوجه الكلام إلى عنترة) وهذا ما أعرفه منذ أكثر من عامين، لقد كبر وعظم جرمك حتى برر كل اعتداء واغتيال وسحب ذيل النسيان على الجريمة التي كنت ضحيتها، والعربي لا يحفل بفقد عينيه ومته في سبيل إنقاذ بلاد العرب!
عنترة - هل نصبت نفسك حكما؟
وزر - (وقد اطمأن شيئا فشيئا) لقد حكمت نفسي بكل الوسائل من سلاح وقول وكل ما يصلح للقتل والانتقام، أما تراني ادن جريئا سفاحا؟
عنترة - عجبا لك! كيف يعرفون أن يشوهوا الحقيقة الحسناء! يخفون صورة الجمال تحت كثيف البراقع والأصباغ كالعجائز ينقشن وجوههن بالوشم ويتكحلن ويصبغن خدودهن بالحمرة. يريدون أن يزيدوا الجمال حسنا فيشوهونه. يجب أن تغمره الشمس وهو في صحة عربة فيتركونه في بساطته ووداعته ويزيلون هذه الصبغة الدميمة التي تحجبه.
أصخ لي يا وزر: فاني سأجعل جمال الحقيقة ولونها الوضاح يخترقان جسمك إلى أن يبلغا نفسك السوداء وسوف أقتل فيك الريب والشك بكلمة: أما كنت فيما مضى صديقا للملك المنذر
وزر - أنا؟
عنترة - نعم أنت! وتعلم جيدا مقاصد هذا الملك
وزر - (بلهجة مرة)
عنترة - ما هو الآن بحلم
وزر - وكيف؟
بلى، وهي وحدة العرب في يد ملك فرد، وهذا صحيح، ولكن ذلك لم يكن إلا حلما لذيذا
عنترة - لقد تخلص وتحرر من نير الفرس وسأنضم إليه الآن. . .
وزر - تنضم إليه؟
عنترة - وستظهر حكمة فرد آخر كطلوع الفجر ويؤيده الله بقوته فينشر قوله الأبدي. إلا(32/67)
تشعر بالأرض وهي تميد قبل انتشار هذا القول الذي سيمليه على الناس رب قوي عظيم. لقد زلزلت الأرض زلزالها واهتز النخل في الصحراء من عبث رياح السماء اللواقح، وأصبحت آمال الإنسان تتتابع مسوقة بنسيم الصبا كأسراب هائلة من نبات الهديل تنشد أيكا تحط عليه لتريح أجنحتها المتعبة فلا تعثر عليه. تسير تلك الأسراب حيارى مترددة لا رائد لها إلا المصادفات: ولكن المغرب سيتوهج شفقه بزخرفه وقد اقترب الزمن الذي ستتصل فيه الأرض بالسماء حتى يسمع أهل الدنيا كلام الله الكريم، كلاما ذهبيا في إطار الألفاظ اللجينية، وستهب قبائل العرب من كل فج عميق من فيافيهم المترامية الأطراف وقت طلوع هلالهم الفضي المتألق. . .!
(ينوه في هذه الفقرة عن ظهور النبي (صلى الله عليه وسلم) ونزول القرآن)
وزر - أواه! إنني لاشعر باستنارة إمارتي بالسوء باحمرار الفجر وضوء اللهب! صبت عليكم اللعنات يا من خدعتموني! لقد قطع سهمي خيط حياته الذي تتعلق به آمال أسلافنا وهذا الخيط الذي انتظمت فيه حبات المستقبل! يا لكم من خونة مجرمين! وان قبره ستدفن فيه بلادي! عفوا وغفرانا!
عنترة - لقد عفوت عنك وسامحتك ولكن هذا الجرم سيقع على من حللوه وأن إثمك قد خط فوق الرمال وسرعان ما تمحوه الرياح، ولكن المجرم المحرض سيلاقي جزاءه في القريب العاجل إن امبد الأجل، وإني أحمد الله وأمجده وآمل أنيكون الجرح خفيفا. . .
وزر (بلهجة قوية وأنفاس مضطربة)
ماذا تقول! هل أصابت طعنتي؟
عنترة - لقد أصابت ذراعي وليس لها أقل تأثير
وزر (وهو هائج)
انها لعظيمة خطيرة! فاسحقني بحجر من هذه الأحجار كما تسحق العقارب والأفاعي! ادفعني بقدمك بكل ازدراء واحتقار فأنني لا أستحق أية رحمة ولا شفقة! إنني لتعس شقي! وإن جرمي لعظيم لم يخط فوق الرمال. لقد نقش نقشا عميقا فوق جسمك الكبير الذي يماثل النحاس بصلابته بآلة الحقد والحفيظة! فاسحقني سحقا!
عنترة - ولم هذا اليأس؟(32/68)
وزر - إنني خائف!
وزر - هل أسود الجرح؟
شيبوب (وهو يزيح الثوب عن الجرح) نعم قد اسود!
وزر - (وقد كشف عن صدره لشيبوب) انظر هل اسود جرحي مثله؟
شيبوب - لا يفترق عنه
وزر - (وهو خائر القوى) هذا هو المنظر! ولا يغني حذر من قدر، أي عنترة! قد اشتريت جرمي بحياتي وأني أريد نجاتك ولا أستطيعها لأن سهمي يحمل السم الزعاف بين أسنانه. . .
شيبوب - ويل لك من شقي! ألا تجد له دواء؟. . .
وزر - هيهات هيهات!
شيبوب - ولو يقف سير السم
وزر - لا ينجع فيه دواء
شيبوب - ولكن الأدوية كثيرة جداً
وزر - كلا! إن سمي لا دواء له وهو يندفع كالسيل وهو هو الذي يقتلني. أنني أعالج سكرات الموت يا عنترة فاصفح عني وسامحني!
عنترة - مت بسلام واطمئنان!
وزر - ما العمل الآن؟ ويل لي من شقي! لقد نسيت! أسرع عنترة وفوت مالك وزوجك ورجالك من هذا المضيق، فان عمارة الوغد الذي قادني إلى هذا المكان يتربص لقتلك. . . ومعه مائتان. . . وسيمرون من هنا
عنترة - إنني مازلت قويا قائما على رجلي فقل لي أين هم؟
وزر - كلا، فلات ساعة لحاق يا عنترة والأفضل الهرب. . .
عنترة - الهرب؟
وزر - ليس لك! فلا فائدة لك منه ترتجى. . . ولكن الآخرين فهربهم وإن ساعدك لكفيل بتهريب زوجك وعشيرتك. . . فعجل دون أن تنتظر أن يكفر موتي عن حياتي. . . شيبوب - اواه؟ إنك لن تموت(32/69)
عنترة - لم يرد الموت ان يدركني في الحروب!
شيبوب (مهددا جثة وزر) ويل لك أنها الخائن!
عنترة - (يمنعه) ولم هذه الإساءة للموتى؟ فلينم بدعة وسلام! وان موتي لم يختلف عنه في الأجل والشكل وسيموت كلب ضال وهو في عنفوان قوته دون أن يثب الوثبة الهائلة ليصل إلى الماء وينهل الحياة. ولما شحب لونه وأسلم روحه الصغير ومن يعلم لأي جلاد؟. . مات من غلته أمام خرير الماء. كلا فاني سأثب هذه الوثبة مهما حل وحصل! وسأحيا!!! وسأحيا!!! إذ لابد أن أحيا. أوقد النار يا شيبوب واصهر حد السيف أو الرمح فان السم مهما بلغ أمره فلا يقوى على الحرق إذا ما تعدى الجرح وان مت فسأموت مختالا فخورا. ويخيل ألي وقتئذ إنني قتلت بالحديد
(وقد أسرع شيبوب في إيقاد النار بقطع من الخشب ثم وقعت عيناه على جثة وزر) ولكن الآخر مات بنفس الجرح وقد سرى السم في جسمه واصبحت جثته بمثابة نذير! إلهي انما أنا عبدك وخادمك! إنني أسعى وأعمل لك فلا تمتهني هذه الميتة بل على الأقل في الموضع الذي ينتظرني فيه الحصار! يالهذه الجثة! إنني وجل! وعيناي تطرفان أمام الموت كما تطرف أجفان المولود الجديد من الضوء. ما انتابني قط الخوف فكيف حل بي الآن. وإذا كان الإنسان في الحروب مقداما فهل يكون دائما في كل المواقف؟
(ثم يسوق الكلام إلى شيبوب) هل تمكنت من مشاهدة عبلة وتطمينها؟
شيبوب - إنها نائمة وتنتظرك وهي واهية القوى من وعثاء الرحيل والتأثر والفضل لسلمى في تهدئتها
عنترة - ما أعزك علي يا عبلة
شيبوب - لقد احمر النصل
عنترة - يجب أن تضع النصل المصهور في الجرح دون اضطراب وارتعاش فان حياتي معلقة به
شيبوب - وا أسفاه! ستتألم كثيرا
عنترة - كلا! احرق! احرق فاني لا أحب أن أموت (ثم يعري عنترة كتفه فيكوي شيبوب الجرح)(32/70)
ثم ينزل الستار
الفصل الخامس
عنترة وشيبوب
يأتيان من المعسكر والوهن باد على عنترة وهو متوكئ على كتف شيبوب
شيبوب - نعم، لقد بدد صوتك الشك عندهم والباقون سيستعدون لموالاة سيرهم
عنترة - ولكن هذا يوم الراحة الذي وعدوا به
شيبوب - لم أقل عنه شيئا البارحة، وقد أرجأت البت فيه إلى هذا الصباح
عنترة - ألا يدهش أحد من هذا السفر السريع؟
شيبوب - كلا وفضلا عن هذا فلا يعلم القريبون منا ولا البعيدون بمصابك. . هل تشعر بتحسن؟
عنترة - إن نسيم الصباح يطفئ قليلا الحمى؛ والكي وحده الذي يؤلمني هل دفن ميت البارحة؟
شيبوب - أجل، هناك بجانب تلك الخميلة
عنترة - ان الموتى مهما بلغ أمرهم لهم الحق في الراحة. ولننتخب الآن المكان الملائم لمشروعي. . . هناك! لا. . بل بجانب تلك الهاوية فاتها مكان مكشوف قليلا. . . ويجب أن يتمكن العدو حينما يصل من رؤية عنترة حيا أو ميتا. والآن أيها الرفيق والأخ يجب أن نفترق في هذا المكان ولنرجع من هذا الطريق الذي كان بالأمس طريق الأمل؛ أما أنا فسأتمم حياتي وواجبي
شيبوب - ألا تريد إذن أنوب عنك
عنترة - ولم يا شيبوب يحدث موتي ارتباكا في سير الأمور؟ وتصيح عبلة وسط هذا الاضطراب دون أن تتمكن من الوصول إلى الملك؟ لا! بل يجب أن ينفع حتفي رجالي وعشيرتي ومجدي ويترك نقطا من الابريز الوهاج في صفحات تاريخي!
شيبوب - ولكنني سمعت أن المنذر من علماء الطب فتعال! تعال! ومن يدري؟
عنترة - لقد فات الوقت، إذ بيننا وبين المنذر ثلاثة أيام ولقد مات وزر بسرعة ولا مرد للقضاء(32/71)
شيبوب - نستطيع أن نؤخره بجهد عظيم!
عنترة - لا يمكن تأخير ساعة الموت، ولم هذا الجشع الذي ينقص الكرامة ويسقط الاعتبار. وصباح حافل بالحوادث خير من يوم عظيم خال. . . . . . . . . . . . . . . . .
أتبكي؟ ومتى كانوا يبكون فارسا سقط عن جواده في ميدان المجد والفخار؟
شيبوب - إني أبكي قومنا جميعا، أبكي بلادك وأمتك وكل ما سيموت بموتك. عفوك اللهم وغفرانك!
عنترة - إن مستقبل الأمة والبلاد لا يتوقف على فرد ولو كان فارس الزمان أو كان ملكا دانت له الدنيا من أقصاها إلى أقصاها ولا شيء يقف تقدم أمة. انني أراها ترقى وتتقدم من المشرق إلى المغرب في ازدهاء كسف الكوكب الذهبي في فلكه. ولا يهم النسور المختالة حتى الخطاطيف ريشة تزيد أو تنقص من أجنحتها القوية!
شيبوب - كلا يا عنترة! فان هذه الفكرة لا تنطبق على ذويك!
عنترة - حتى ذوي! إذ سيكون ألمهم شديدا ينفذ إلى سويداء قلوبهم. وكل شيء في الدنيا يتألم حينما يولد أو يخلق حتى الحبة تتعفن قليلا قبل أن تنبت وما الحياة إلا ثمرة شجرة الموت. اذهب وارحل فلربما رأيتني في يوم قريب وسأظهر لك مرة ثانية في الخيط الأسود الذي يخطه موتى في الموضع الذي مر فيه الزارع. وستنبت تحت قدميه الحبة التي بذرها
سافر واسهر عليها واحرسها أيها الصديق والحارس الأمين، ومن يدري ماذا سيكون شان المولود الذي ستلده
شيبوب (وهو ناظر إلى جهة المعسكر) اذهب وكن على رأس الجند ومر من المضيق!
(عبلة آتية من المعسكر وهي تعدو وشيبوب وراءها. أواه) (عنترتي لقد فهمت كل شيء وحدثني به قلبي. لا تمكر على فان قلبي لقلب بطلة ولو انه تألم كثيرا ولكنه يستطيع أن يستمر في ألمه
(ثم تقع على قدميه)
إنني لا أتألم إذا شاطرتك حظك، أما أنا ظل ارتبط بظلك؟(32/72)
عنترة (وقد غالب آلامه)
هذه زهرتي المسكينة قد أضجعها إعصار وهي مثقلة بماء السماء. انهضي فان الشمس ستشرب وهي منحنية عليك عبرات حبك. لقد بدد الحديد المصهور كل خوف أني لاشعر بخفة وطأة الموت وأكاد أفلت من مخالبه. وانك تستطيعين يا عبلة أن تذهبي وأنت مطمئنة مرتاحة البال (ثم يقول بلهجة حنان وتأثر) هذا واجب عليك، وان لك غرضا يجب أن يكون نصب عينيك ستبتهج له نفسك وهو أمل عظيم يتوج المرأة ويولد الغد من أسراره الخفية. . . وحبذا لو نضجت ثمرة حبنا يا عبلة. وان مت وجب عليك أن تضاعفي حبك لهذا المخلوق الصغير (ثم يبتسم) ولكن ما العمل؟ وكأني أحزنك وأقطب جبينك واسعد عبراتك، ولكن كل شاعر حزين الفؤاد ولو من غير ما داع ولا سبب
عبلة (تنهض وهي منهوكة القوى مصعدة الزفرات) سأرحل ولكنك لا تخدعني، واعلم أن كل لحظة أو خطوة تبعدني إلى الأبد عن وجهك ونظرك المملوء بالعطف والحنان، ولا تقل عنك شجاعتي وسأذهب طائعة، وأتمنى أن ألد ولدا يثأر وينتقم لأبيه! وإني أحب الحياة لأجلكما وهل يساعدني الحظ على نيل هذه الأمنية؟
عنترة! إنني كالسكران من هذه الضحية وذلك الألم. فالوداع الوداع! وآمل أن لن تلين عبراتي من قناتك (ثم يتعانقان)
عنترة_الوداع الوداع يا ابنة الأمير النبيل سلالة الأبطال الأماجد الذين يقابلون الأهوال بعيون كعيون النسور القشاعم، أن دم أسلافك لا يكذب كما يصدق دم راعيهم القديم الذي نال الشرف اليوم
(ثم يصطحب شيبوب عبلة)
اذهبي ولن ترحلي وحدك يا عبلة، ان نفسي لتشيع خطواتك وسأجعل نصب عيني الساعات والأيام التي نسجت منذ طفولتنا خيوط حبنا وسأبذرها في الهواء لتكون ذرات حياتي هذه لك بمثابة حرس عظيم! ثم أحرسكم جميعا فيما بعد من أعالي السماء
(ثم يعود إليه شيبوب)
شيبوب - يا لك من مسكين.! يجب أن تلحق بها في أقرب وقت. هيا بنا فأنني تام العدة والسلاح، وهذه آخر واقعه أخوضها ويلزمني أن أستعد لها كالفوارس البواسل وأتلقى(32/73)
الطعنات إلى أن أقع مضرجاً بالدماء
شيبوب! يا أخي وزميلي في الحروب! لنتعانق دون ضعف أو أسف لا يجدي ولا ينفع، وعيون جامدة لا تعرف أن تدمع
(ثم يطيع شيبوب إشارة عنترة وهو يكظم زفراته ويذهب)
سأموت الآن بغير شهود ونعم ما فعلت. أنني أستطيع الآن أن اعبر آلامي ويتسنى لعيني أن تبكيا دون أن تسيل عبرات الآخرين. لقد خارت قوي ولكني ضاعفت قواكم ولن يرى أحد منكم ضعفيوآلامي. (ثم يخترق شعاع من الشمس المشرقة سحب الضباب المربد وينير وجه عنترة)
والشمس لا تفترق عنا إذ تولد ثم يراها الناس وهي تموت. أيتها الشمس اذهبي إلى ذوي وانضمي إلى موكبهم وقولي لهم بأني أحميهم في الحياة والممات. الوداع يا أمان الحب والمستقبل الزاهر أواه! أنني اشعر أن البرد يغير علي شيأ فشيأ وقد اضطربت عيناي، ماذا دهاني! هل هذه وطأتك أيها الموت! مهلا مهلا! فاني أنا الذي أهاجمك واشد عليك دون وجل. لامتط الجواد والريح في يدي كما كنت من قبل! سأجبرك أن تخضع لامري وسيقود ذراعي سيرك الأعمى الأحمق
(ثم يعلو جواده وهو في الرمق الأخير) والآن تفتح روحي جناحيك فطر وحلق. يخيل إلى أني أنام نوما هادئا وأرى سربا من الطير آتيا من الشرق!. . . يقترب مني ويحيط بي ثم يذهب ويعود. ولكنه حياتي بأجمعها التي تضمني كأكفان نسجتها الأيام التي عشتها. أيام الأمل والحب والحرب، أن الماضي يعرض أمامي وأرى أول الكفن: أي أيام الطفولة! إن خيوطك لمن خز وعسجد وانت وحدك اللامعة الزاهية! إننا ننسج بأيدينا أكفاننا، وهذا كفني يطويه الموت بإصبعه! وهو يدفنني في طيات حياتي!. . . لا تتحرك يا عنترة. . . بجب ان يراك العدو حينما يقبل مستعدا للكفاح. . .
(ثم يسلم النفس الأخير ويميل رأسه ويبقى جسمه منتصبا معتدلا مستندا ذات اليمين إلى رمحه وذات اليسار إلى الصخور القائمة وفي هذه الآونة يأتي الرجال شاهرين رماحهم وسيوفهم وعلى رأسهم عمارة بن زياد فيلمح على حين غفلة عنترة وقد أضاء وجهه شعاع الشمس المشرقة فلمع سلاحه وهو راكب جواده)(32/74)
عمارة - آه! إنه لحي لم يمت!
الباقون (وهم يولون الأدبار مذعورين) حي!
ينزل الستار
محمد كامل حجاج(32/75)
الكتب
أهل الكهف
قصة مسرحية للأستاذ توفيق الحكيم بحث وتحليل ونقد بقلم
الأديب عبد الرحمن صدقي
تتمثل حياة الشرق في كتابين: القرآن الكريم، وحكايات ألف ليلة وليلة. فالأول يهدي إلى ما يجب أن يكون، والثاني يصور ما هو كائن واقع. يعالج أحدهما من طريق الوحي الديني علائق الإنسان بالله والمحدود باللا محدود وموقف البشر حيال المسائل الخالدة التي تفوق مداركه ولا تني تعذبه. ويستعرض الآخر لعياننا وأخلادنا صوراً حية تترى وتترى، مؤنسة كل الايناس مؤثرة أبلغ التأثير، لزحمة الحياة، والوان المجتمع على اختلاف شياته وتعدد أصباغ نسيجه، وأنماط الناس، ومطالب العيش، ودوافع الغرائز المعقدة المتضاربة، ومسارب الأحاسيس العميقة الغامضة.
وقد عمد الأستاذ الحكيم إلى هذين المرجعين من الحكمة الإلهية ومن الحكمة البشرية. فاستوحى من الأول قصته المنشورة عن أهل الكهف، واستأنف من الثاني قصته التي لم تنشر بعد عن شهرزاد. فكان اختيار المؤلف (الحكيم) أول عناصر نجاحه.
وسيقصر كلامنا هنا بطبيعة الحال على القصة المنشورة (أهل الكهف)
عمل الفنان
لأجل أن نرد ما لقيصر لقيصر وما لله لله، نسوق ملخصا لشرح البيضاوي للسورة الكريمة. وظاهر من هذا الشرح أنه كل ما اعتمد عليه مؤلفنا في قصته التمثيلية البعيدة الغور.
هم فتية من أشراف الروم، أرادهم دقيانوس الجبار على عبادة الأوثان والشرك بالله؛ فأبوا وهربوا إلى الكهف، وقد مروا في هربهم بأحد الرعاة فتبعهم وتبعه كلبه، وكان دخولهم الكهف غدوة وألقى الله عليهم سباتا سنين عدة: اختلف الناس في عدتها، فقالوا ثلاث ماية، وزادها غيرهم تسعا، والله أعلم بما لبثوا. وظلوا على الحال التي كانوا بها تحسبهم أيقاظا وهم رقود وكلبهم باسط ذراعيه بالوضيد. ثم قضى الله انبعاثهم، فانتبهوا ظهيرة وظنوا أنهم(32/76)
في يومهم أو اليوم الذي بعده، فلما نظروا طول أظفارهم وأشعارهم التبس عليهم الأمر وأعياهم علمه. فأخذوا فيما يهمهم، وبعثوا أحدهم إلى المدينة ليأتيهم بطعام على أن يتخفى ولا يشعر بهم أحدا لخوفهم أن يظهر رجال دقيانوس عليهم فيرجموهم أو يرغموهم على الشرك. فلما دخل المبعوث السوق وأخرج الدراهم وكانت مضروبة باسم دقيانوس اتهموه بأنه وجد كنزا فذهبوا به إلى الملك وكان نصرانيا موحداً، فقص عليه القصص. فقال بعضهم ان آباءنا أخبرونا أن فتية فروا بدينهم من دقيانوس فلعلهم هؤلاء. فانطلق الملك وأهل المدينة من مؤمن وكافر وأبصروهم وكلموهم. ثم قالت فتية الكهف للملك نستودعك الله ورجعوا إلى مضاجعهم فماتوا. فدفنهم الملك في الكهف وبنى عليه بيعة. والأقوال مختلفة في عددهم فمنهم من قالوا ثلاثة رابعهم كلبهم، ومنهم من قالوا خمسة، ومن قالوا سبعة. ويروى أن أسماءهم يمليخا ومكشلينيا ومشينيا وهؤلاء أصحاب يمين الملك ومرنوش ودبرنوش، وشاذنوش أصحاب يساره، وكان يستشيرهم. والسابع الراعي الذي وافقهم واسم كلبه قطمير. واسم مدينتهم أفسوس وقيل طرسوس.
هذه هي المادة الأولية التي أتيحت للمؤلف فانظروا كيف صارت في يديه، وكيف نحت فيها هذه المجموعة من التماثيل الحية وأقام منها هذا الأثر القصصي.
لقد شاء له الفن أن يأخذ بقول الزاعمين أن فتية الكهف ثلاثة وآثر الاقتصار عليهم حتى لا يتوزع اهتمام القارئ أو الناظر، فيضعف التأثير وتقل المتعة فحسب الفن اثنان من مستشاري الملك والراعي. وارتأى أن تتقدم السن بأخذ هذين المستشارين ويكون الوزير الأول، أما الثاني فيكون فتى في ميعة الشباب وريعانه. ثم يشاء الفن القدير أن يجعل للوزير زوجة وولدا ً كان يخفي أمرهما، وأن يجعل للفتى حبيبة في الخفاء هي ابنة الملك ووحيدته. وقد اعتنق الرجل دينه الجديد حباً في زوجته المسيحية، كما أن حب سليلة الأباطرة للفتى المسيحي حبب اليها دينه. فإذا فأما من سباتهما وقد تفترت من طول الرقاد أوصالهما، كان لهما من العلائق القلبية ما يذكرانه فتنازعهما النفس إلى طلب الخروج من الكهف، ويختلفان فترى الفتى نزقاً كعادة العاشق المشوق، أما الزوج فحذر كظيم شأن رب الأسرة المسئول. ويشاء الفن أيضا أن تكون ابنة الملك في عصر انبعاثهم شبيهة كل الشبه بابنة دقيانوس حتى يطول وهم صاحبها وأما الراعي فلا تطول خديعته، فما هو إلا أن(32/77)
افتقد غنمه فلم يجدها، ورأى أبناء هذا الجيل على غير عهده بهم سمتا ولهجة وزيا، حتى اتضحت له الحقيقة، وثقلت عليه الحياة فعاد زاهدا فيها إلى رقدة الكهف. ثم تبعه الوزير ثاكلا متفجعا باكيا وقد علم موت زوجته ومصرع ولده كهلا منذ دهر طويل في حومة الوغى وميدان الشرف. وأخيرا الفتى العاشق وقد تبددت أحلامه، وبدت لناظريه هوة الزمن السحيقة تفصله عن المرأة التي يحبها.
وهكذا دخل الفن على العبرة القصصية فخرج منها - كما يرى القراء - بآية فنية.
التحقيق التاريخي
لم يقصد المؤلف بروايته وجه التاريخ. ولا أظن به طمعا في أن يكون مؤرخاً. وهيهات أيضا لكاتب هذه السطور أن يدعي لنفسه هذه الدعوى العريضة. بيد أنه لما كانت القصة التي نحن بصددها لها صلة بالتاريخ، فلا مراء في أن الدراسة التاريخية هي على الأقل من مستلزماتها.
ولقد راجعت القليل من المراجع في التفسير، ومن معاني التاريخ الموضوعة في العربية، ثم انتقلت إلى غير الكتب العربية مما هو موضوع في تاريخ الإمبراطورية الرومانية ونشأة المسيحية بغض النظر عن مؤرخي الكنيسة ورجالها. فإذا مؤلف أهل الكهف لم يسلم من نقص في هذه الجهة وأخطاء قد لا يكون لها خطر في صميم الفكرة، بيد أنه كان من المستحسن على كل حال تداركها ولو تكلف قاصنا المسرحي اليسير من العناء في التحقيق التاريخي
فقد زعم أن العاهل دقيانوس هو صاحب عصر الشهداء أي ديوقلاسيانوس لتقارب النطق واحتمال التحريف في تعريب الاسماء الأعجمية عند العرب. والحقيقة أن دقيانوس هو ذوقيوس كما يلفظها البعض أو دسيوس عاهل الرومان الذي حكم من عام 249 إلى عام 251 بعد الميلاد. وكان مع بسالته وحسن تدبيره شئون الملك شديداً على النصارى، فنقض ما كانوا فيه من أمان وسكينة، وأجمع العزيمة على سحق المسيحية. فكان شديد الكراهية للبطارقة وكان كل مؤمن في ملكه الواسع رهنا بالسجن والتعذيب، وقد شاع لعهده التفنن في التعذيب بالجوع والعطش. واشتد اضطهاداته في سنة 250 ميلادية فلم تعد وقائع مفردة بل أمور عامة وتدابير منظمة. ولعل فتية القصة هربوا إلى الكهف في هذه السنة(32/78)
ثم إن أكبر فتية الكهف هو مكسلمينا. والأجدر بالمؤلف اتخاذه بدلا من مرنوش. كما أن أجملهم وأجلدهم تمليخا فلا محل لإطلاق اسمه على الراعي وحسب الراعي أن يدعى راعيا
كذلك لا نستسيغ تسمية الوادي الذي به الكهف في ظاهر المدينة بالرقيم. لأننا أميل إلى قول المفسرين بأن الرقيم إشارة إلى لوح من الحجر أو الرصاص عمد إليه رجلان مؤمنان من بيت الملك، فكتبا فيه شأن الفتية ورقما أسماءهم وأنسابهم، وأودعاه في تابوت من نحاس مختوم بخاتم من فضة، وجعلاه على باب الكهف
وأما المدينة التي كانت مسرحا لوقائع القصة فليست طرطوس كما استحسن المؤلف استنادا إلى قول في البيضاوي بل هي مدينة كما ذكر ذلك البيضاوي نفسه وعليها أجمع المؤرخون والمفسرون من المسلمين ورجال الدين من النصارى، ولا عبرة بوهم واهم من المفسرين زعم (أن مدينة أفسوس هي طرطوس وكان اسمها في الجاهلية أفسوس فلما جاء الإسلام سموها طرطوس) فقد ساقه إلى هذا الخلط جهله بتلك المدينة الداثرة إطلاقا، واقتصار علمه على طرطوس التي فتحها العرب، ولقد عمد في حيرته إلى قطع العقدة بدلا من حلها، فقطع بأن المدينتين واحدة، وشتان مابينهما في موقعها الجغرافي وماضيهما التاريخي
ومدينة أفسوس قديمة، وبها للمشركين هيكل لإحدى آلهتهم أرتميس (أو ديانا وحرم لتمثالها المقدس. وهذه الربة هي الأم العذراء للحياة والانتاج. وكان لأهل المدينة ولع بعلوم السحر والكهانة حتى بعد انتشار النصرانية فيها. وقد اشتهرت بأوليائها وشهدائها. وقد زعم القوم أن مدينتهم كانت الموطن الأخير لمريم العذراء وأنها دفنت بها، ومع هذا فأن اعتقادهم في أرتميس الأم العذراء أيضا لم يزل قائما قويا. وقد كان من حق أفسوس على الأباطرة الرومان أن تكون أول مدينة ينزل بها ولاتهم على آسيا وأن يتقلدوا فيها مقاليد الولاية. وأفسوس معروفة بكثرة ما خلفته من نقودها المضروبة المتنوعة وما على سكتها من بديع النقوش وطوابع الحكام.
وأخيراً يحسن تعيين الملك الذي ابنعث على عهده أهل الكهف وهو إمبراطور الدولة الشرقية المسيحي تاودوسيوس الصغير 2وحكمه من عام 408 إلى عام 450 ميلادية.(32/79)
وكانت قد فشت في زمانه بين الناس بدعة القائلين ببعث الارواحدون الاحساد، فجاءت معجزة الكهف تفنيداً لهم وآية على قدرته تعالى وكان هذا الملك في أول حكمه قاصراً يدير الدولة باسمه القاضي أنتيميوس ثم تولت القوامة عليهأخته بولكيريا فدرج بعنايتها على الصلاح ودماثة الخلق والنزاهة وحسن الفكر والروية. وبولكيريا أسم تاريخي يصلح بدلا من بريسكا في رواية المؤلف بعد تبديل بسيط
ونقف عند هذا الحد لنقول أن الرواية لا تخسر بهذا التحقيق التاريخي شيئا. ولعل الأستاذ الحكيم لو اطلع على معظم التفاسير والتواريخ من عربية وغير عربية في هذا الموضوع وحوله، لصدقنا فيما نذهب إليه من أن روايته الكبيرة تكسب عظمة من وجود هذه المواد في يدي صناع مثله، وأنه كان بهذا التشبع بالتاريخ قميناً بأن يفرغ عليها إلى جانب ذلك السنا الفلسفي والضرام العاطفي والروح الإنساني لوناً محليا ظاهراً يصبغها في غير تكلف منه أو تعمل، بطبيعة المناخ الآسيوي، وبذلك المزيج من الحس الوثني، والتصوف المسيحي.
(له بقية)
عبد الرحمن صدقي(32/80)
العدد 33 - بتاريخ: 19 - 02 - 1934(/)
في الأقصر. . .
لا تجد في معبد الأقصر ما تجد في معبد الكرنك من ذلك الاستغراق الذهني الذي يمحو الوجود من ناظرك، ويعفو الحاضر في خاطرك، ويحييك مع أمينوفيس ورمسيس في دهر واحد! فأن هذا المعبد يقع في جبهة المدينة ونزهة الناس فلا تنفك وأنت فيه بين نظرة خادعة من مفاتن النهر، وزفرة صادعة من بواخر كرك، ولفظة صاخبة من لغط المار؛ ولن تستطيع وعيناك تضطربان بين الهيكل والكنيسة والمسجد وقصر السلطان وونتر بلاس، ان تحصر ذهنك في موضع، وتقصر فكرك على موضوع. فكل صورة من هذه الصور الموائل يمثل فكرة وييسجل نهضة ويؤرخ حقبة؛ أما معبد الكرنك فظل بنجوة من تيار الزمن الجارف، ينعم بسكونه الشعري في اعتزاله، ويتمتع في جوه الفرعوني باستقلاله
فتننا سحر الأصيل عن شعر المعبد، فذهبنا فيي طريق السلطان حسين نشهد أروع مجالي الجمال في الطبيعة. ومن حدثك أن بلداً من بلاد الله غير مصر يتمتع في يناير بدفء يستجيش العرق والبهر، وضوء يغمر القلب والنظر، وصحو يدوم النهار والليل، فهو ولا ريب لم ير الأقصر! وأي منظر تألقت به قدرة الله، وتأنقت فيه يد الطبيعة، كمنظر الغروب في طيبة؟ فالشمس المصرية تغرب في جلال وراء الجبل، وأشعتها الفاترة قد تجمعت حولها من سهول الوادي، فلم يبق منها الا غرر تلمع في أجنحة الطير وسعف النخل ورؤس الهضاب، وشفقها الوهاج قد شب في أطراف السلسلة اللوبية حريقا بارد اللهيب ايذانا بالمغيب، والمشتون من سراة أوربا وأمريكا يطالعون في شرفات الفندق أجمل ما خطته يد البارئ المصور في صفحة الوجود، وأنا وأصدقائي الثلاثة نسير الهويني على الشاطئ الضاحك، يشيع في دمائنا مجد هذا الماضي، وفي أعصابنا عظمة هذا الوادي، وفي أخلاقنا صراحة هذا الجو، وفي مشاعرنا جمال هذه الطبيعة، فنكاد من فرط الزهو نقول لمن نلقى من السائحين االغربيين: نحن تلية هذا المجد، وصنيعة هذه الشمس، وصورة هذا الجمال، فهلا تروننا اخلص الناس جوهرا. واصدقهم مظهرا، وازكاهم أرومة؟
وكان حديثنا في هذه الساعة الجليلة نغمة منسجمة في هذا اللحن السماوي الذي تنشده الكائنات كل يوم عند الغروب، وما ظنك بحديث نقي الحواشي يشققه أستاذ في كلية الآدب، واستاذ في كلية العلوم، واستاذ في كلية الحقوق، وكاتب صغير من كتاب الرسالة؟(33/1)
كان صباح اليوم العيد موعد (المقابلة الملكية) فعبرنا النهر في رهط من أطباء المؤتمر، ووقفنا بالضفة الأخرى نتحسس الآثار الهوالك، فلم نجد أمامتا غير الحقول الزمردية تكسو السهل، والجبال الوردية تسد الأفق. وكانت هذه الضفة الخلاء في دهرها الغابر حيا من أحياء طيبة يسكنه محنطو الجثث وصناع المومياء، فما كان يومئذ يموت انسان أو ينفق حيوان الا أتوابه هذا الحي فيمضي فيه أهله (عملية) الخلود!!
انطلقت بنا السيارات بين الزروع الخضر أرتالا يسفى بعضها الغبار في وجوه بعض، فمررنا بالقرنة وقد خرج أهلها في زينتهم يعيدون فوق المقبرة! وأكبر الظن أنهم بقايا ذلك الحي البائد، فهم يسكنون الجحور كبنات آوى، وينبشون القبور كلصوص الموتى. وينحتون التماثيل كصانعي الآلهة، ويخدعون بالتمائم كدهاة الكنهة!
وقفت بنا الحقول فجأة، ثم أسلتنا الى قفز من الأرض بعضه مرمل وبعضه مترب، فسرنا فيه بين أعلام من الحجارة المنضودة، حتى دفعنا الى شعب في الجبل تكثر على جانبيه الغيران الموحشة والفجوات العميقة، فنحسبها بادئ ذي بدء من أثر الوحوش الحافرة، ولكنك تدرك بعد هنيهة أنها من أثر الانسان الذي نكبت به هذه الأرض منذ أربعة آلاف سنة فلم يرفع معموله عنها الى اليوم!!
شقها فدفن بها الملوك! ثم شقها فسلب فيها الملوك! ثم هو يشقها اليوم دائبا ليخرج منها الملوك!
أخذت طراءة النسيم تتخلف عنا رويداً رويداً حتى انقطعت، وهب يناوحنا من فجاج الوادي الملكي جو ثقيل كجو مايو، وأصبحت سلسلة الجبال فوقنا بعد ان كانت أمامنا، ثم انعطفت الطريق الصاعبد بغتة فاذا السيارة أمام باب من الخشب، وبواب من الناس، وقائل يقول: هنا جبل الخلود وحرم الملوك ومثوى توت عنخ آمون!!
الجبل من أعلاه إلى أسفله قطعة واحدة من الحجر الجيري الصلد لا تجد فيه صدعا ولا فرجة! نقرت يد الانساان القديم في أصله فتحة مربعة دخل منها الدليل ودخلناها على أثره، فاذا سلم حادر يهبط بك قليلاً أو كثيراً الى بئر عميقة تضلل اللصوص: ثم يعود فيهبط الى قاعة فسيحة تجمع أشتات المتاع، ثم يعود فيهبط الى حجرة تضم جثمان الملك! وسقوف الحجر محلاة بصور من جماعات الكواكب، وجدران الانفاق مغشاة بسور من كتاب(33/2)
الموتى: فالبرزخ الفاصل بين الحياة الفانية والحياة الباقية مصور كله في وضوح ودقة! فهنا الميزان، وهناك الصراط، وهنالك المطهر، وفيما بين ذلك عقبات هائلة وحيات قاتلة لا يفلت منها الا من حمل جواز الأمان وعرف كلمة السر!!
وقفنا حيال فرعون وهو راقد في أكفانه الذهبية رقدة الضراعة والهون! يشمت به الفناء، ويسخر منه البقاء، ويصيح في أذنيه القدر:
لقد علوت في الأرض، وغلوت في الجبروت، وسخرت الزمان لتخليدك، والانسان لتمجيدك، ثم كانت عاقبتك يا فرعون هذه العاقبة المضحكة!! فصاحب اذنك خادم حقير، وكبير أمنائك (ترجمان) أجير، وشعبك العابث يحضر (التشريفة الكبرى) يوم العيد في غير حلة رسمية، ولا هيئة جدية، وجلالتك الالهية كلها لم تقو إلا على الدود، ولم تحظ إلا ببسمة ساخرة من ثغر الخلود!!
أحمد حسن الزيات(33/3)
السياسة وعلم الاجناس
للدكتور محمد عوض محمد
يود الذين يشتغلون بعلم من العلوم لو أدرك الناس ان لكل علم حرما يجب ألا يدنو منه غير أهله إلا بشيء كثير من الحذر. ومع ذلك فان من الشائع المألوف ألا يكتفي للناس بالدنو والاقتراب من حرم هذا العلم أو ذاك، بل ان الكثيير منهم ليقتحم عليه الباب ويخترق الساحة، ويستبيح الحمى. في غير رفق ولا حذر، ودون ان يستأذن أو يسلم
وهذا الاعتداء قد يكون من عامة الناس وجهلتهم. فلقد ترى الواحد من هؤلاء يصف للمريض الدواء الشافي والعلاج الناجع في جرأة قلما نراها في الطبيب المحنك الذي وعى في صدره طب الأولين والآخرين. ولكن هذا الاجتراء على حرم العلم قد يكون أيضا - ويا للاسف - من رجال ينتسبون إلى الثقافة وإلى العلم، وربما رأينا المثقف يعتدي - فيي جرأة واعتداء بالنفس - على حرمة علم لم يدرسه ولم يلم به، فيتحدث عنه حديث من أحاط بأطرافه وتوفر على درسه.
ولعل هؤلاء أشد خطراً من جهلة الناس وعامتهم. لأنهم مثقفون، ولأنهم ألموا ببعض العلوم إلماماً حسنا. فأكسبتهم ثقافتهم وعلمهم مكانة بين الناس ومقدرة على الافصاح عن آرائهم ليست للأمي الجاهل، فهم اذا تحدثوا عن علم غير ما اختصوا بدراسته، أخذ الناس عنهم أقوالهم من غير جدال، لما لهم من المقدرة في البيان ومن المكانة في النفوس.
والذين راقبوا هذه الظاهرة بين رجال الثقافة قد أدهشهم أن يروا هؤلاء يتكلمون في جرأة وفي ثقة، عن أمور لا يتحدث عنها الاخصائيون الا في حذر شديد. فيصدق فيهم المثل الانكليزي:
(يمعن السفهاء في الجري والاندفاع، حيث تخشى الملائكة أن تمشي الهويني)
أثارت هذه الخواطر في نفسي مقالة للدكتور أحمد زكي في الرسالة عنوانها (العنصرية) وقد رأينا فيها ما يعانيه علم جديد وهو علم الأجناس من رجال السياسة ممن لن يلموا به إلماماً صحيحا، ولا جشموا أنفسهم مشقة مطالعة سفر واحد مما ألف فيه. وقل أن يكون بين العلوم علم لقي من هذه الناحية مثل ما لقيه علم الأجناس.(33/4)
فلقد كان من الشائع جدا أن المتكلم عن الأجناس البشرية يخلط بين الثقافة واللغة والدين في تقسيم الناس إلى أجناس، وبين صفاتهم الجثمانية البحتة كاختلافهم في اللون والقامة وشكل الرأس والشعر. . وهي الصفات التي يجب أن تكون الأساس العلمي الاكبر - بل الوحيد - لتقسيم الناس إلى أجناس.
هذه الاختلافات الجثمانية أمرها قديم جداً. وللأسف لم ينشأ علم ولا علماء يعنون بمعالجة هذا الموضوع ودراسة السلالات البشرية دراسة علمية صحيحة إلا في عصر حديث جداً، ومما يؤسف له أن كثيرين ممن أوتوا حظا وافراً من الثقافة لا يزالون - بسبب حداثة هذا العلم - جاهلين حتى بمبادئه الأولية.
ولهذا قد نرى كثيرا من المسئولين من رجال الأدب والسياسة ينطق بألفاظ وعبارات عن الأجناس وأهميتها وأفضلية جنس على حنس في صور لا تنم عن دراسة حقيقة للسلالات البشرية ولعلم الأجناس.
واختلاط السياسة بعلم الأجناس من أيسر الأمور. فان الدول كثيرا ما تصبح في مقام المنافسة والمناظرة من أجل استنهاض همة الناس أو تقوية الروح القومية فيهم. فليس أسهل للوضوال الى هذه الغاية من أن يفهم الناس أن سلالتهم أعظم السلالات، وجنسهم ارقى الأجناس. وقد يتدخل رجال العلم في هذا الأمر، وينزلون عن عرش علمهم الى درك المنافسات القوية. وهذا أمر يستدعي الأسف، ولكنه كثير الحدوث، ولم تختص به المانيا النازية: كما يزعم خصومها. بل إن أشهر الكتاب فيه من غير الألمان
إن علم الأجناس لا يرى فضلا لسلالة على سلالة ولا لجنس على جنس. حتى إن بعض المؤلفين (راجع مثلا كتاب وقد يخصص جزءا غير قليل من كتابه في دحض الآراء الشائعة عن الأجناس، فهو لابد له أن يهدم الخطأ قبل أن يبنى الصواب.
الاجناس كلها متساوية في نظر العلم، ولكن أكثر الناس قد وقر في نفسه غير هذا. ومن قديم الزمان جداً يفخر كل شعب بأنه هو الشعب الأعظم. وما سواه أمم بربرية. وهذا بالطبع لم يكن سوى صورة من صور الأثرة القومية. فاليونان كانوا يقسمون سكان العالم الى قسمين: اليونان والأمم البربرية. وهكذا يقول هرودوت في مقدمة كتابه إنه سيقص فيه الحوادث العجيبة التي حدثت للهلينيين (اليونان) وللأمم البربرية.(33/5)
وكذلك كان الرومان يعتقدون أن ما سواهم شعوب بربرية. ومن الغريب أن أهل الصين أيضاً كانوا الى منتصف القرن التاسع عشر ينظرون الى الانكليز ومن اليهم بأنهم بربرة. والكلمة الصينية التي تفيد هذا المعنى: معناها الحر في الاشخاص الذين يجلسون القرفصاء على الأرض: أي أنهم من الوحشية بحيث لا يتخذون كراسي لجلوسهم. وهكذا كان كبار رجال الدولة الصينية يخاطبون سفراء الملكة فكتوريا وكانوا يدعونها ملكة البرابرة حتى لقد كان هذا مما أحفظ الأنكليز؛ وكان من جملة الأسباب التي دعت الى اثارة حرب الأفيون.
ولئن كان الجرمان يفخرون بجنسهم اليوم. فكذلك كان يفعل الروس قبل الحرب، فقد كانوا يمجدون الجنس السلافي ويزعمون أنه أرقى الأجناس جميعاً.
ولعله ليس في العالم شعب قد غلا - من هذه الناحية - الغلو كله مثل الشعب اليهودي، الذي لم يكتف بأن ينادي بأنه الشعب المختار، بل لقد أصبحت هذه العقيدة جزءا من الدين اليهودي لا سبيل الى فصلها عنه.
هذه النعرات القومية، قد تكون من ضروريات السياسة، ومن وسائل النهوض بأمة في وقت من الاوقات. ولكن الواجب يقضي علينا بأن نفرق صريحا بين صيحات السياسة ونظريات العلم.
هنالك نظرية أو رأي اثنولوجي خاطئ شاع في الزمن الحديث، ولا يستند على أساس على ولا تاريخي، بل يحلو لأصحابه أن يتجاهلوا التاريخ تماما. وهذا الرأي هو القائل بأن الجنس الشمالي أو التيوتوني - الذي يمتاز بالشقرة والقامة الطويلة والعيون الزرقاء، وغير هذا من الصفات الجسدية - هو أرقى السلالات البشرية. وأنه لولاه لما كانت حضارة ولا رقى في أي عصر من العصور.
هذا الرأي الجرئ لا يجوز ان ينسب الى الالمان ولا الى الهتلريين، بل ان المؤمنين به في أمريكا مثلا أكثر من القائلين به في المانيا. ومن الغريب أن أول من قال بهذا الرأي الكونت جوبنو الفرنسي في كتابه:
'
وفي هذا الكتاب يزعم المؤلف ان التيوتونيين هم أرقى الاجناس البيضاء جميعا، وأفضل(33/6)
السلالات البشرية على الاطلاق من حيث قدرتهم على خلق الحضارة بجميع عناصرها المادية والأدبية.
وقد شاع كتاب جوبنو هذا في وقت كانت فيه المنافسة بين فرنسا وألمانيا بالغة منتهى الشدة (بين عام 1860 وعام 1870) ولما كان أكثر الشعب الفرنسي من غير التيوتونيين، وأكثر الالمان منهم فقد كان كتاب جوبنو هذا بمثابة الفضل الذي شهدت به الاعداء.
وقد رد على جوبنو ودحض مزاعمه كثير من الكتاب، ولكنا لا نزال الى وقتنا هذا نرىة كتبا تنشر في انكلتره وفي أمريكا خاصة، ولكها في تمجيد الجنس التيوتوني وتفضيله على سائر الاجناس. ومن شاء الاطلاع على شيء من هذا فليراجع كتاب الاستاذ ماديسون جوانت وعنوانه وكتاب الاستاذ ماكدوجال وهو من كبار علماء النفس في الولايات المتحدة وعنوانه
وكلاهما ينادي في مؤلفه بضرورة الحرص على الجنس الشمالي والاكنار منه لانه العماد الاكبر لحضارة أمريكا؟
ومن الغريب أن الولايات المتحدة حين سنت قانون المهاجرة منذ نحو عشر سنين سمحت بالمهاجرة الى بلادها لعدد عظيم من سكان البلاد التي يسود فيها الجنس التيوتوني. مثل اسكندناوه والمانيا وانكلترة وهولندة. ولم تسمح الا بعدد قليل من المهاجرين من الأقطار الأخرى.
وهذا مثال خطير لتطبيق نظرية لا تقوم على أساس في مسألة دولية خطيرة. وبرغم الاحتراس الشديد الذي يبديه علماء الأجناس أنفسهم، لا نزال نرى الكثيرين يتحدثون في موضوع الأجناس من غير تدبر ولا حذر.
محمد عوض محمد(33/7)
قيمة الثقافة
للأستاذ أحمد أمين
للثقافة قيمة مالية مقررة. فالليسانس والدكتوراه والدبلوم وما الى ذلك
من الأسماء، هي عنوان للثقافة، أو بعبارة أخرى تتويج لمجهود سنين
قضيت في تحصيل العلم، وتأتي (المالية) بعد فتقدر هذه الدرجات
بالجنيه والمليم، وتجعل لكل منها قيمة مالية خاصة، ولها العذر في أن
تخالف بين الدرجات، وتسوى بين حاملي الدرجة الواحدة وإن اختلفوا
في مقدار الثقافة، لأنه لم يخترع الى الآن مقياس دقيق يوزن به الفكر
ومقدار استعداده وزناً صحيحاً. ولو اختراع هذا الميزان لألغيت
الدرجات، واكتفى بوزن الكفايات؛ ولكن من لنا بذلك وقد عجزت
المدنية الحديثة عجزاً تاماً عن اختراع هذا الميزان.
وللثقافة كذلك قيمة اجتماعية، فالثقافة ترفع من كان من طبقة وضيعة، الى ان يكون أحياناً مساوياً لمن كان من طبقة رفيعة، فحامل الشهادة العليا يرى نفسه - وقد يرى الناس معه - أنه صالح لأن يتزوج من طبقة راقية، مهما كان منشؤه ومرباه. وقديماً قال الفقهاء في (باب الزواج): إن شرف العلم فوق شرف النسب - والمثقف الراقي له الحق أن يكون عضواً في الأندية الراقية من غير أن يسأل عن نسبه وحسبه - بل له أن يُدِلّ على أبناء الطبقة الأرستقراطية إذا نال درجة لم ينالوها، وعرف من أنواع الثقافة ما لم يعرفوا، وله من حرمة الناس في المجتمعات والأندية ما لا يناله غير المثقفين، وإن كانوا من بيت خير من بيته، وفي نسب خير من نسبه.
ولكن لا أريد أن أتحدث في شيء من هذا ولا ذاك، فليست تعنيني الآن الناحية المالية للثقافة، ولا الناحية الاجتماعية لها - وإنما أريد أن أتسأل: ما القيمة الذاتية للثقافة؟ إن المال واحترام الناس عرض خارجي، فما القيمة الثابتة التي تتصل بنفس المثقف ولا تفارقها في فقر أو غنى، وفي جاه وغير جاه؟(33/8)
أهم قيمة - في نظري - لثقافة المثقف هي كيفية نظره الى هذا العالم. ذلك بأن عيون الناس في نظرها الى الأشياء وحكمها عليها ليست سواء، فعيونهم الحسية وإن اتفقت في الحكم على الألوان بالسواد والبياض والحمرة والصفرة، وإن اتفقت في الحكم على الأبعاد قرباً وبُعداً، وإن اتفقت في الحكم على الأحجام كبراً وصغراً، فان العيون النفسية لا تتفق في نظرها ولا حكمها، فالشيء في نظر الأبله غيره في نظر الفيلسوف، وبين هذين درجات لا حدّ لها، وليس للشيء الواحد معنى واحد، بل معان متعددة تتسلسل في الرقي، والناس يدركون من معانيه بحسب استعدادهم وثقافتهم وأذواقهم.
وقد حكموا أن عيسى عليه السلاام مرّ هو وأصحابه بجيفة فقالوا: ما أخبث رائحتها! وقال هو: ما أحسن رياض أسنانها! ونظر الرجل العادي الى حديقة مزهرة غير نظر الاديب الفنان، هذا ينظر اليها فيقرأ فيها من المعاني والجمال ما يمتزج بنفسه، ثم يسيل على قلمه كأنه قطع الرياض - وذاك ينظر اليها نظرة مبهمة، لا تُسفر عن معنى، ولا تُعْرف لها وجهة، نظرة بليدة جامدة، لا يسعفها ذوق ولا تخدمها قريحة.
ومثل هذا في كل شيء يعرض على العين، فكل شيء في السماء وفي الأرض لا يحمل معنى واحدا بل معاني متعددة، وقيمة الثقافة ان تنقل العين من أنظار سخيفة ومعان وضيعة الى أنظار بعيدة ومعان سامية. فالاديب اذا لم ينظر في المرأة الا الى حسن جسمها وتناسب أعضائها لم يكن أديباً مثقفاً وقلنا له كما قال المتنبي
وما الخيل الا كالصديق قليلة ... وان كثرت في عين من لا يُجرّب
اذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيب
ففرق كبير بين ان تنظر الى المرأة كشيطان وان تنظر اليها كأنسان وان تنظر اليها كملك - وفرق كبير في كل شيء في الوجود يعرض على أنظار الناس
وكل انسان له نظراته في العالم من اسفل شيء إلى أرقى شيء، من مادة تحيط به ومال يعرض عليه وأعمال تتعاقب أمام نظره واله يعبده - هو في كل ذلك قد يكون سخيفا في نظراته، وضيعا في رأيه، وضيعا في حكمه وقد يبلغ في ذلك كله من السمو منزلة قل أن تنال. وعمل الثقافة ان تنتشله من تلك النظرات الوضيعة الى هذه النظرات السامية
وليست نظرات الانسان الى الحياة قوالب من طوب، كل قالب مستقل بنفسه، محدود(33/9)
بحدوده، انما هي كسائل لطيف اذا لوَنْتَ نقطة منه بلون مشع اللون في سائر السائل، واذ سخنت جزءا منه وزع حرارته على السائل كله حتى يتعادل - بل الرأي والنظرات ألطف من ذلك وأدق وأرق. فاذا رقى النظر الى شيء أثر ذلك رقيا في سائر النظرات. فكل نظرات الحياة متأثرة بنظرك الى نفسك والعكس، بل نظرك الى الله تعالى متأثر بنظركُ الى عالمك المحيط بك - وهذا ما يجعل الثقافة في أية ناحية من النواحي الأدبية والعلمية يؤثرا أثراً كبيراً في النواحي الأخرى حتى ما تظن أن ليست له صلة به. وقد أصاب صديقي يوما اذ كان يقول (ان رقى الامة في الموسيقى وتذوقها الصوت الجميل والغناء الجميل يجعلها تتعشق الحرية وتأنف الضيم وتأبى المذلة) فمحيط المخ والعقل والشعور محدود، كل ذرة فيه تتأثر بأقل شيء وتؤثر بما تأثرت - والفكرة الجديدة قد تدخل في الفكر فتقلبه رأساً على عقب وتجعل من صاحبه مخلوقاً جديداً يقل وجه الشبه بينه وبين ما كان من قبل، فتجعله في أعلى عليين أو أسفل سافلين.
ان كان هذا صحيحاً، وكانت قيمة الثقافة الذاتية في مقدار ما رفعته في المثقف من وجهة النظر الى الاشياء وتقويمها قيما جديدة اقرب الى الصحة، أسلمنا ذلك الى نتائج خطيرة - فدين خير من دين بمقدار ما تحاول تعاليمه من رفع مستوى النظر الى الله تعالى والى الحياة - وعلم خير من علم باعتبار ما يؤدي اليه من نظر راق صحيح - وثقافة الانسان لا تقدر بمقدار ما قرأ من الكتب وما تعلم من العلوم والآداب ولكن بمقدار ما أفاده العلم، وبمقدار علو المستوى الذي يشرف منه على العالم، وبمقدار ما اوحت اليه الفنون من سمو في الشعور وتذوق للجمال.
أحمد أمين(33/10)
بل. . . صفحة بيضاء!
للأستاذ حسن جلال
كتب الأستاذ الكبير - أحمد أمين - تحت عنوان (صفحة سوداء) مقالا عن مصر كما يراها بعض مؤرخي العرب.
فكمع كثيراً مما قاله القوم في المصريين وفي طبيعة بلادهم. وكيف أن أرض مصر (تولد الجبن والشرور الدنيئة في النفس حتى أن الأسد لم تسكنها - وهي إذا دخلت أرضها ذلت ولم تتناسل! وكلابها أقل جرآة من كلاب غيرها من البلدان، وكذلك سائر ما فيها أضعف من نظيره في البلدان الأخرى) أهـ
وقد تفضل الأستاذ فرد على هذه التهم ولا سيما التهمة المسندة إلى كلاب مصر فانه أبدع في تفنيدها وأشاد بذكر أرمنت وما يستطيع أن يفعله كلابها بجلد المؤرخ الذي فرط منه ذلك القول ونحن نشكره هنا. . بلسان أرمنت وما فيها!
ولكن بقيت بعد ذلك تهمتاه نريد أي نقول نحن أيضاً فيهما كلمتين: أما التهمة الأولى فهي الخاصة بأرض مصر وأن الأسد لا تسكنها، وأنها إذا سكنتها ذلت ولم تتناسل فيها لأنها ترث الجبن عن هذه الأرض، وهذا قول عجيب، فكأن التناسل من أعمال الشجاعة في نظر ذلك المؤرخ الذي يحيط علمه الواسع ولا شك بما قال الشاعر من أن
(بغاث الطير أكثرها فراخا)
والحقيقة الواقعة أن التناسل لا دخل له بالقوة ولا بالضعف ولا بالجبن ولا بالشجاعة. على أننا نكتفي في هذا الصدد بأن نحيل حضرة المؤرخ المحترم - كما يقول البرلمانيون - الى حدائق الحيوان بالجيزة فهي كفيلة وحدها بالرد على دعواه. وفي (بيت الأسود) فيها من الاشبال الكثيرة التي نبتت على أرض مصر وتحت سمائها ما يكفي لتنفيذ مزاعمه!
والآن بقيت تهمة أرض مصر بأنها تفسد أهل مصر وتجعل ما في مصر أضعف من نظيره في البلدان الاخرى. وهذا ما نريد أن نقول فيه كلمة قصيرة. ونحن نطمع في أن يتصدى للادلاء بالقول الفصل في هذا الموضوع رجال هم أقدر منا على ذلك بحكم عملهم ووقتهم واطلاعهم. على أنا نرى الموضوع لا يكفي فيه رد واحد يطلق في صحيفة واحدة ثم تنطوي الصفحة وينسدل الستار، ونبقى نحن على ما عشنا فيه من الاتهام بالذل(33/11)
والضعف حتى من بعض مؤرخي العرب كأن لم يكفنا ما نلقاه نحن وهم على يد الافرنج من التجني إذ يقولون عنا - ويقصدون بهذه اللفظة المفردة كل ما تنطوي عليه الفاظ الوحشية والهمجية والتأخر من المعاني!
ولعل الوقت الحاضر أنسب الاوقات للأكثار من البحث في هذا الموضوع ورد الحق الى نصابه والأشادة بمكانة المصري ومقدرته وما يمكن أن يأتيه من جلائل الأعمال لو تهيأت له الظروف. فلقد رأينا أخيراً أن هذه الدعوى التي رمانا بها مؤرخو العرب وغيرهم قد بات يحلو ترديدها في قم بعض المصريين أنفسهم عن يقين منهم بصحتها. وتلك آفة الآفات والنكبة التي ما بعدها نكبة لهذه البلاد، فان الايحاء أفعل من السحر. وانك لتستطيع أن تستأنس النمر الشرس لو أتيح لك أن تفهمه أنه هر أليف، ثم تمضي تردد على سمعه هذا القول الهراء. فلينظر الذين يحلو لهم ترديد مثل ذلك القول المنكر إلى أين يهبطون بأنفسهم وبجيلهم يهرفون بما لا يعرفون!
لقد قالوا إن الشعب المصري شعب ذليل بحكم سمائه وارضه. كذبوا، فان سماء مصر وأرضها لا تنبتان الذل وانما تنبتان العزة والقوة والقدرة على الاستذلال. وإني لأستنكف أن أذكر الفراعنة في هذا الصدد حتى لا يقال احتمى بمجد أمة ماضية، ولاذ بعزة قوم غابرين. ولكني أكتفي بأن أنظر الى ما عليه مصر الآن. فان هذه البلاد العجيبة لما ينقض على نهضتها الأخيرة ربع قرن، ومع ذلك برز من بين أبنائها أبطال عالميون في مختلف ميادين الحياة. لقد ظهر فيها اسماعيل سرى المهندس، وعلى ابراهيم الجراح، وخليل عبد الخالق البيولوجي، ونبتت فيها لطفية النادي الطيارة، ومحمود مصطفى المصارع، وسيد نصير الرباع، ونشأ بين أرضها وسمائها طلعت حرب المالي الكبير. ولست أذكر رجالا ظهروا في مستهل هذه النهضة ففتحوا الشام وهزموا الوهابين واستعمروا السودان. فكل أولئك وغيرهم ما كادوا يلجون ميادين أعمالهم حتى تخطوا كل قرنائهم في أنحاء العالم. وحملوهم على التنحي لهم عن الصدر فتبوأوه ورفعوا راية مصر عالية فوق رؤوس الجميع.
فما هو مدلول هذه الظاهرة عند كل ذي عينين غير أن الأمة التي أنجبت كل هؤلاء الأبطال في جيل واحد - وفي هذه الظروف القاسية التي تجتازها مصر الآن - لا يمكن(33/12)
أن يكون معدن أهلها كمعدن أهل غيرها من بلاد الله. وأنها لابد تمتاز على من عداها في حسن فطرتها وقوة ملكاتها وسلامة استعدادها.
ولئن كانت قد طغت على هذه البلاد موجات من الضعف والتأخر فهذه هي سنة الطبيعة في كل شيء. فما من شعب يدعى اضطراد سيره في سبيل التقدم والرقي منذ خلقه الله، وأنه لم يطرأ عليه من عوامل الضعف ما جعله فريسة لغيره من الشعوب (وتلك الايام نداولها بين الناس)
ولئن صح ما يقال من أن دولا كثيرة استعمرت مصر، فصحيح أيضاً أن مصر من دون البلاد التي استعمرت كانت هي التي تأكل مستعمريها وتطبعهم بطابعها قبل أن تنطبع هي بطابعهم!
لقد حكم الاتراك مصر واشتهرت تركيا بفخامة مساجدها وعظمة قصورها. وأن هذه المساجد وتلك القصور لتشهد للصانع المصري بأنه هو الذي زينها ووشاها، ورفع سمكها وسواها.
ولقد ولى (محمد على الكبير) أمر مصر ولم تك إلا نفخة قوية من صدره الشديد حتى انجاب عن جمرة مصر رمادها الذي خلفه عليها عجز المماليك، فتوهجت هذه الجمرة ونضنض لهيبها ثم اشتعل واندلع لسانه طويلا فلف فلسطين والشام والحجاز والسودان وكاد يحرق استامبول نفسها، وروعيت أوربا من طغيانه نحوها، وأشفقت على سلطانها في الشرق أن تلفحه هذه النار، فاجتمع العالم الغربي كله ليقف في وجه مصر ليكبح جماح المصريين يوم أن أفاقوا من سباتهم وتفتحت أعينهم من جديد على النور!
هذا هو الشعب المصري الذي لا يمكن إلا أن يكون عظيما لأن العظمة في دمه ولحمه. في ماضيه وحاضره. في أرضه وسمائه!
وحق مصر: لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا!
حسن جلال(33/13)
فضائح المالية العليا في فرنسا
للاستاذ محمد عبد الله عنان
(تتمة)
حدثت في فرنسا، مذ كتبنا مقالنا الاول، تطورات سريعة خطيرة لم تكن في حساب أحد؛ فان وزارة مسيو شوتان أو وزارة (الفضيحة) لم تستطع أن تواجه غضب الرأي العام أو أن تهدئ روعه؛ ووقعت في باريس وفي الأقاليم مظاهرات ومصادماات دموية خطيرة قتل فيها مئات وجرح ألوف: وشحنت حامية باريس بالجند المدجج تحوطا للطوارئ، ولاح مدى لحظة أن فرنسا ستغدو فريسة الحرب الأهلية، أو يتحكم فيها النظام الجمهوري لتقوم مكانه دكتاتورية مطلقة. ولكن وزارة دالاديية استقالت في الحال؛ واستدعى مسيو دومرج رئيس الجمهورية الاسبق ليؤلف وزارة ثقة قومية، وقد وفق مسيو دومرج الى تأليف وزارته من شخصيات قوية بعيدة عن ريب الفضائح الأخيرة، وهدأ الرأي العام نوعا، ووقفت المظاهرات مؤقتا. ولكن فرنسا ما تزال مترقبة جزعة، ومن المستحيل أن يتنبأ انسان بما قد يقع بعد هذا الهدوء المؤقت من الحوادث أو التطورات.
كانت فضيحة ستافسكي المالية التي فصلنا حوادثها وظروفها روح هذه التطورات الخطيرة وباعتها الأول. ويندر أن نجد في صحف التاريخ الحديث جريمة أو جرائم مالية كالتي ارتكبها ستافسكي، تحدث في سير الحياة العامة لامة عظيمة كفرنسا مثل هذه الآثار الفادحة، فتهدد سلامة نظام عريق بأسره كالنظام الجمهوري، وتدفع شعباً عظيماً إلى نوع من التوراة أو الحرب الاهلية. ولكن فضائح ستافسكي كانت في الواقع وصمة للنظام باسره، وكانت دليلا ساطعاً على أن عوامل الفساد والانحلال قد سرت الى جميع واحي الحكم والادارة والحياة العامة الفرنسية كلها، وقد شهد الشعب الفرنسي في روعة وسخط كيف يكشف التحقيق تباعا عن أن من بين وزرائه وحكامه وقضاته ونوابه رجالا يلحق الريب بذممهم ونزاهتهم، وكيف أن المجرمين الذين يدبرون اغتيال أموال الشعب يستطيعون بالرشوة أن يشتروا أولئك الذين اختارهم الشعب للسهر على أمواله ومصالحه، وأن يستظلوا بحماية أولئك الذين عهد اليهم بقمع الجريمة، وان يجعلوا من القانون والقضاء اداة مشلولة. وقد رأينا مما تقدم كيف أن ستافسكي، وهو متهم بعدة جرائم نصب وتزوير،(33/14)
استطاع مدى ثمانية أعوام أن يتفادى نظر القضاء لقضيته، وان يفوز بتأجيلها تباعا عشرات المرات، وانه لبث أعواما يمرح في جرائمه واختلاساته مع أنه معروف لدى دوائر البوليس، ولم تكن جرائمه سراً من الاسرار، فأي دليل أسطع على فساد القضاء وتدهور القانون والأمن والنظام؟
وقد حاولت وزارة مسيو شوتان التي ظهرت في ظلها هذه الفضائح ان تقمع الفساد بسرعة، فأبعد منها الوزيران اللذان اتجهت اليهما الشبه، وهما مسيو دالامييه وزير المستعمرات ووزير العمل السابق، ومسيو رينالدي وزير الحقانية، وقدمت الى البرلمان مشاريع قوانين بمعاقبة الرشوة والمواظفين المرتشين بأشد العقوبات، وقبض على مدير البوليس القضائي وبعض زملائه ليحقق معهم، وقبض على النائبين جارا وبونور اللذين ثبت انهما تلقيا مبالغ طائلة من الافاق ستافسكي وعاوناه في مشاريعه لدى الرجال المسؤلين، وأحيل عدة قضاة من رؤساء الدوائر وأعضاء النيابة الى المحاكمة التأديبية لأنهم تهاونوا في نظر قضية ستافسكي فتركت معلقة عدة أعوام دون أسباب معقولة، ولكن هذه الاجراءات كلها لم تقنع الشعب ولم ترضه. وبدا للشعب بحق أن الجريمة أوسع مدى مما ظهر، وأن الداء أشنع وأبعد أثراً مما صور، وكان من اصراره وسخطه واضطرامه ان استقالت الوزارة (الملوثة) واستقالت من بعدها وزارة دالالدييه، لأنها تستند الى نفس الأحزاب التي ينتمي اليها الرجال (الملوثون)؛ وجاشت باريس وفرنسا كلها بموجة ثورية، كادت تكتسح في طريقها كل شيء لولا أن تذرع الرجال المسئولون ببقية من الشجاعة والحزم، وتقدم الرئيس الشيخ دومرج ليضطلع بأعباء الحكم في هذا المأزق العصيب؛ فألف وزارة ثقة قومية ارتضتها البلاد واستطاعت أن تبث نوعاً من الطمأنينة.
والآن لنعد الى ستافسكي بطل هذه الفضائح المروعة التي كادت تبث الى فرنسا ضرام الحرب الأهلية
لقد شرحنا فيما تقدم طرفا من الحياة المالية العجيبة التي خاض غمارها هذا الافاق البارع، وكيف انه ارتفع من العدم الى صف أعظم رجال المال، وانشأ شركات وبنوكا عديدة، وانتهى بأن انشأ بنك التسليف البلدي في بايون، واتخذه مع شركائه اداة لاصدار سندات مزورة بمئات الملايين كان يستولي على قيمتها ويبددها على بذخه ولهوه، وشرحنا طرفا(33/15)
من الوسائل والاجراءات التي كان يتبعها لاختلاس هذه المبالغ الطائلة، وكيف اكتشف أمره أخيرا وقبض على شريكه ومساعده الاول تسييه مدير بنك بايون، فبادر بالاعتراف وقص على المحققين كيف كان هذا الاختلاس الهائل يدبروينفذ مدى هذه الاعوام، والقى كل مسئولية فيه على ستافسكي وزعم أنه ضحية نفوذه وإكراهه المعنوي.
وكان اكتشاف الحادث في يوم 22 ديسمبر، ففي نفس اليوم غادر ستافسكي مسكنه الفخم بحي الشانزليزيه بباريس وودع زوجه وولديه، وقال انه مسافر الى فينا لاعمال هامة. ثم اختفى في نفس الوقت الذي صدر فيه أمر قاضي التحقيق بالقبض عليه، وابلغ هذا الامر الى جميع مراكز البوليس والنيابة في فرنسا، والى جميع سلطات الحدود، وطير الامز بواسطة الراديو واللاسلكي الى جميع البواخر الراسية في الثغور الفرنسية والمسافرة في عرض البحر، فلم يكن ثمة وسيلة لأن يغادر ستافسكي فرنسا أو يجتاز الحدود الى أي بلد أجنبي، وأطلقت في أثره مئات من رجال البوليس السري في جميع المواطن التي يظن أنه قصد اليها، ولكن ستافسكي ظل مختفياً عن العيان، ولم يظفر انسان بأثره، وأصرت زوجته على أنها لا تعرف شيئاً عن مصيره ومكان اختفائه ولم تهتم قط بأن تعرف شيئاً عن اعماله المالية.
على أن ادارة البوليس كانت على ثقة من أن ستافسكي لم يغادر فرنسا وأنه لا زال مختفيا بها بمعاونة بعض أصدقائه وقد اسفرت تحرياتها المتواصلة في النهاية عن تأييد هذه الحقيقة، واستطاع بعض رجال البوليس السري بعد أسبوعين من البحث والتنقيب أن يعثروا بآثار بعض أصدقاء ستافسكي في مدينة (شوموني) احدى مدن الجنوب الجبلية، وأجتمعت لديهم القرائن والأدلة على أن الهارب قد التجأ الى هذه الناحية القاصية. وكان ستافسكي قد فر الى هذا المكان بمعاونة اثنين من موظفيه السابقين الذين كان يغدق عليهم عطفه وعطاءه، واستاجر له أحدهما في (شوموني) منزلا صغيراً منعزلا باسم مستعار، ولجأ اليه ستافسكي مع صديقيه باسم مستعار أيضا، ولزم غرفته ولم يغادرها، فحاصر رجال الشرطة هذا المنزل بعد أن وثقوا من أنه هو المقصود، وأن ستافسكي موجود فيه بلا ريب. ثم صعد بعضهم الى الطابق الأعلى، وطلبوا الى ستافسكي أن يسلم نفسه، وكان معتصما بغرفته، فلم يجبهم أحد، فاستمروا في البهو الخارجي حينا يطلبون التسليم دون(33/16)
جدوى. وأخيراً دوت من الغرفة المحصورة طلقة نار، وهوى جسم على الارض، فكسر رجال البوليس باب الغرفة في الحال، فالقوا ستافسكي بعينه ملقى على الارض مضرجا بدمه في النزع الاخير وقد اخترقت الرصاصة رأسه. وكان ذلك في الثامن من شهر يناير الماضي.
هذا هو البيان الذي قدمته إدارة البوليس عن مصرع ستافسكي بطل الفضيحة الكبرى، ورددته معظم الصحف الفرنسية. ولكن ثارت حول هذا البيان ريب وشكوك خطيرة، وأنكرت بعض الدوائرصحته، وأكدت أن ستافسكي لم ينتحر، ولكن البوليس قتله قتلاً لكي يخرس بذلك لسانه الى الأبد فلا يفضيي إلى المحققين بشيء من الاسرار التي يعرفها، ولا يفضى بالاخص باسماء شركائه ومنهم كثير من الرجال المسئولين، وبذلك يسدل الستار على أهم جوانب الفضيحة. وقد رددت هذه التهمة بقوة، وقذف بها في مجلس النواب في وجه الوزارة، وأهتم لها الرأي العام. ويدلل أصحاب هذا الاتهام على صحته بقرائن شتى، منها أن ستافسكي لو كان ينوي الانتحار لانتحر منذ البداية، ولم يتكبد مشاق الفرار والاختفاء وان رجال البوليس حينما داهموه في مخبئه انتظروا نحو ساعة قبل أن يحاولوا القاء القبض عليه، وأن رئيسهم اتصل أثناء ذلك تليفونيا بادارة البوليس في باريس مع أنه كان يحمل أمراً صريحاً بالقبض على ستافسكي، ثم يقولون أيضاً إن ستافسكي ترك بعد مصرعه طريحاً ينزف الدم منه نحو ساعة ونصف ساعة قبل أن يسعفه الطبيب وسمح للمصورين أن يصوروه وهو في هذه الحالة الخطرة، وأن المقصود بذلك كله أن يهلك ستافسكي قبل أن يستطيع الافضاء بشيء وهذه أقوال لها قوتها بلا ريب. ونحن من جانبنا نرجح مقتل ستافسكي لا انتحاره، خصوصاً وانه ثبت من التحقيق أن البوليس كان يتستر على ستافسكي، وان بعض أكابر ادارة الشرطة الباريسية وفي مقدمتهم مسيو جيشار مدير البوليس القضائي كانوا يتلقون منه الاعانات الطائلة، هذا الى أن الاختام القضائية لم توضع على مسكن ستافسكي الباريسي، وعلى مكاتبه الا بعد عدة أيام من فراره، ولما فتشت لم توجد بها أوراق تفيد التحقيق في شيء:
هكذا كانت خاتمة سرج ستافسكي أعظم أفاق ومختلس في العصر الحديث، بيد أن هذه الخاتمة لم تنجع شيئا في تهدئه اضطراب الرأي العام، ولم تفعل سوى أن أثارت على(33/17)
وقائع الفضيحة وظروفها ظلاماً جديداً. هل قبض على جميع المجرمين المسئولين عن تبديد أموال الشعب بهذه الجرأة المثيرة؟ أم بقى الاكابر المرتشون المتسترون كالعادة في الظلام؟ هذا ما يتساءل الشعب الفرنسي عنه اليوم. والظاهر أن الشعب الفرنسي لم يقنع بأن ما اتخذ من اجراءات القبض والتحقيق يكفي للقمع ذلك الفساد الذي يقضم النظم والحياة العامة كلها. فقد سقطت وزارة دالادييه أمام غضب الشعب وسخطه، ولكن وزارة دومرج التي قامت مكانها ما تزال تصطدم بهذا السخط، وما تزال العاصمة الفرنسية تضطرم بمختلف المظاهرات، وما يزال العاصمة الفرنسية تضطرم بمختلف المظاهرات، وما يزال الجو فياضاً بمختلف الاحتمالات والرأي العام لا يقف عند المطالبة بمعاقبة المجرمين المغتالين لأموال الشعب أياً كانت مراكزهم وصفاتهم، ولكنه يطالب أيضاً بتطهير الحياة اللعامة من تلك الاادرلان المشينة ووضع الضمانات الكفيلة بطمأنينة الشعب على أمواله وثقته بأن وزاءه ونوابه وموظفيه ليسوا شركاء للصوص والمختلسين، بعد أن دل التحقيق في كل فضيحة من هذه الفضائح المالية الكبرى أن هنالك وزراء ونوباً ومواظفين يشتركون مع اللصوص والمختلسين، ويمرحون معهم في تبديد اموال الأرامل وصغار المودعين والمستشمرين، ويعانونهم في اجتناب سطوة القانون والعدالة. والواقع أن هذه الفضائح المالية الشاملة لم تبق في فرنسا حوادث فردية، بل غدت ظاهرة قوية في سير الحياة العامة. واذا تتبعنا تاريخ الجمهورية الثالثة وجدناه فياضاً بتلك الكوارث المالية الفادحة التي يدبرها افراد اذكياء بمعاونة الرجال المسئولين، وتسفر دائماً عن اختلاس مئات الملايين ونكبة مئات الالوف. وقد كانت هذه الحوادث في بدء الجمهورية الثالثة تعتبر من مخلفات الامبراطورية، لانها ظهرت وتفاقمت في أواخر عهدها، وان توطد النظام الجمهوري سوف يقضي عليها ويطهر الحياة العامة من ادرانها. ولكنها استمرت تتعاقب قوية مروعة في ظل الجمهورية؛ ودلت كثرتها وتفاقمها في الاعوام الاخيرة، حسبما بينا، على أن النظام الجمهوري او بعبارة أخرى على أن الديموقراطية تحتضنها وتسيغها. ويخشى اليوم أولئك الذين يقدسون النظم الديمقراطية، أن هذا الفساد الدفين الذي لم توفق الحكومة الديمقراطية الى قمعه، قد يصرف الشعب عن عبادة الجمهورية والديمقراطية، ويجعله أكثر قبولا لقيام النظم الفاشستية والطغيان المطلق. والديمقراطية تعاني اليوم ازمة(33/18)
شديدة، بعد أن سحقت في ايطاليا والمانيا؛ وهي تهتز اليوم في فرنسا ويخشى ان تنهار دعائمها اذا لم تتداركها الايدي القوية الماهرة، بيد أنا نستطيع أن نقول ان تطور الحوادث الأخيرة في فرنسا كان ايضاً ظفراً حقيقياً للديموقراطية فقد استطاع الشعب بقوة رأيه وارادته أن يسقط في اسابيع قلائل وزارتين لم يثق بهما ولم يرتض حكمها: وان يقدم الدليل القوي على انها ما زال في ظل الديمقراطية سيد نظمه ومصايره.
محمد عبد الله عنان(33/19)
حول الغموض والوضوح أيضاً
للاستاذ عباس فضلي خماس
(هل يحسن بالشعر أن يكون واضحا حتي لا خلاف فيه أم أن
بعض الغموض فيه مغتفر بل مطلوب) - ط. ح -
يذكر قراء الرسالة ان الدكتور طه حسين كان قد عقد فصلاً ممتعاً حول غموض الشعر ووضوحه، وكان خلال بحثه يرمي الى غاية، وهي ان الشعر الغامض قد ينطوي على ابداع فني. ويذكرون ايضا انني علقت على الموضوع بكلمة ذهبت فيها الى ان الجمال والغموض لا يجتمعان في صعيد واحد، وانتهيت الى ان كل بديع في هذا الكون من منظر الى صوت الى شعر يلازمه الوضوح كيفما تكيف وتطور أو تصور، وأن الوضوح هو جوهر الجمال.
وكان لي من تعليقي على مقال الدكتور غرض جوهري لم يخف على القارئ الاديب كما كان لي من ورائه امل في ان ينشط الادباء للكتابة حول الموضوع بالنظر لما أعتقده فيه من خطورة. وقد تحقق شيء من هذا الأمل بتعليق الاديب الفاضل شوقي ضيف على مقالي حول الغموض والوضوح بما يعرفه القراء الذين تتبعوا هذا البحث.
يتساءل الدكتور طه حسين (هل يحسن بالشعر ان يكون واضحاً حتى لا خلاف فيه).
نعم يحسن بالشعر ان يكون واضحاً حتى لا خلاف فيه اذا كان هم الشاعر ان يضمنه صوراً جميلة، وسوانح رائعة، لأن القارئ لا يستطيع ان يتبين الصورة الجميلة اذا كانت مغمورة في حجب الغموض الكثيفة ولا تتأثر نفسه بروعة السوانح الفكرية، والخوالج النفسية اذا كانت متلفعة من الشعر الغامض بأستار مظلمة.
الشعر الفاظ وتعابير، يستعين بها الشاعر على وصف مشاهد الكون وتصوير الحادثات، والانفعالات والانطباعات النفسية المتكونة من تأثير المحيط الخارجي في نفسه. فهو اذن وسيلة وليس غاية. والشعر بالفاظه وتعابيره واصطلاحاته واوزانه وقوافيه للشاعر كالقيثارة أو الكمان أو البيان للموسيقى. يجلس الموسيقى على شاطئ بحر في ليل عاصف، فتتأثر نفسه بصفير الرياح وهزيم الرعد وتلاطم الامواج، فيحاول ان يصور تأثير نفسه(33/20)
بانغام يتخيلها اولاً، ثم يؤلف بين متصاعداتها ومُتنازلاتها، ويوفق بين تموجاتها مستعيناً بآلاته الموسيقية حتى يهتدي الى تأليف قطعة موسيقية تتضمن من الانغام، ما لو سمعها الانسان لشعر بنفس التأثير الذي تأثر به الموسيقي ولخيل اليه انه في مجلس ذلك الموسيقي من شاطئ البحر في تلك الليلة:
ويجلس الشاعر مجلس هذا الموسيقي، ويتأثر بنفس ما تأثر به زميله، فيحاول ان يصف تأثره ويصور انفعالات نفسه بتخير الألفاظ والتعابير التي تحمل تلك التأثيرات الى نفوس السامعين ليجسم لهم الخيال المتولد من تأثير هذه الالفاظ والتعابير، صفير الريح وهزيم الرعد، كما يجسم لهم شعور الاستيحاش من الظلام الذي يشمل الطبيعة في ذلك الموقف
هذا اذا كان الأول يملك من الآلات الموسيقية ومن القابليات الفنية الخاصة بالموسيقى ما تمكنه من بلوغ غاية نفسه.
واذا كان الثاني ذا نفس شاعرة حساسة دقيقاً في تصوره، متقنا في تصويره، مالكاً زمام الالفاظ والتعابير يحسن استعمالها في مواطنها، حاذقاً في أسلوبه، عالماً بنفسيات الناس وما تتأثر به والى غير ذلك من الصفات التي يجب ان تتوفر في الشاعر.
فاذا لم يتصف الموسيقى بما مر ذكره، أسمعنا ولا شك قطعة مزعجة في نغماتها، لا تناسب ولا وئام بين تموجاتها، فلا تولد في النفس التأثير الذي قصد الموسيقى اليه. وكذلك االشاعر اذا لم تتوفر فيه الصفات التي ذكرنا بعضها انشدنا كلاما غامضاً لا نكاد نتبين منهقصده، واذا لم يتبين الانسان قصد الشاعر بما نظم فأين يا ترى يكون موضع الجمال ومحل الابداع، وموطن الروعة من شعره؟
لكي يفلح الشاعر في وصف الجمال او القبح وتصوير اللذة او الالم وغيرها من الحادثات النفسية يجب ان يكون صافي الذهن والنفس، واضحاً في تعابيره واصطلاحاته. استعرض مناظر الكون جمعاء، تحت نور الشفق القاني الأدكن، وتحت أشعة الهاجرة المتوهجة، أو تحت نور الأصيل الذهبي الفاتح، وتحر الجمال وابحث عن الروعة في هذه المناظر، تجد نفسك مهتدياً اليهما دون أي عناء، وتراك تنجذب الى مواطنهما كما تنجذب الفراشة الى الورود والازاهير الزاهية بالوانها الفياحة باريجها.
فالجميل يكهرب حواسك، والبديع يمغطس مشاعرك، فيجذبك اليه فتنجذب. وما ذلك الا(33/21)
للتناسب الظاهر بين اجزائه وللنظام المسيطر على تراكيب تلك الاجزاء والاشكال، وهذا هو سر الوضوح.
استعرض دواوين الشعر ديواناً، واقرأ قصائدها واحدة بعد واحدة، تجد نفسك تعرض عن قراءة بعضها بينما تقبل على قراءة بعض آخر، ابحث في نفسك عن سبب اعراضك وتلمس دواعي إقبالك، تجد أنك في الحالة الأولى لا تستطيع أن تهتدي تحت جنح ظلام الغموض الى الجمال واللذة اللتين تنشدهما نفسك كما تجد أن نور الوضوح في الحالة الثانية ينير نفسك فتهتدي الى الجمال وتلمس اللذة.
اما أن يكون هناك غموضان أو نوعان من الغموض كما يرى الاديب الفاضل شوقي ضيف، فهذا ما لا أتفق معه عليه ولا إخال أحداً من الأدباء يوافقه في مذهبه.
فالكلام إما أن يكون واضحاً وإما غامضاً، ولك ما نرى أو نسمع أو نلمس، وكل ما تتأثر به أنفسنا بطريق الحواس: إما أن يكون واضحاً بتأثيره في النفس، وإما أن يكون غامضاً، ففي الحالة الأولى تتلذذ به لأن نفسنا تستطيع أن تلمس جماله، وتعانق ابداعه، وتحتضن روعته، وفي الحالة الثانية نشمئز منه وننفر؛ فنفسنا لا تتأثر به، لأنها لا تلمس منه إلا شيئاً واحداً، وهو الألم الذي تعانيه من معالجة حل رموزه وطلاسمه. فاذا كانت ثمة نتيجة من قراءة الشعر الغامض، فهي ليست حينئذ لذة من تلمس أثر جمال أو روعة، وإنما هي شعور بألم الخيبة، ولذة الراحة بعد العناء.
ومثل الذي يعالج استنباط المعنى أو الغرض من الشعر الغامض، كمثل من يتوهم أن في بقعة من الأرض ركازاً، فيظل ينبش أرض تلك البقعة الى أن يعييه الاجهاد، ولما لم يجد ما يتوهم وجوده يطرح بمعوله جانباً وهو يلهث كما يطرح بنفسه على الأرض وهو غير مفلح إلا بشيئين: ألم، ولذة. أما الأول فناشئ من شعور الخيبة في العثور على كنزه الموهوم. وأما الثاني فشعوره الناشئ من لذة الراحة بعد التعب والعناء.
أما الأديب الفاضل شوقي ضيف فقد أوجد غموضين (فجلل) الغموض الأول (من حنادس الليل بحجب وأستار) فجعله بذلك مشتملا على ظلام موحش وحلوكة دامسة. أما الثاني فقال عنه إنه غموض جميل (لا تنفر منه النفس ولا تستوحش، وإنما تقبل عليه وتهش له وتجد فيه لذة ومتاعاً كبيراً، ثم راح يشبه غموضه الجميل بالظلال التي لا (تحجب النور)(33/22)
وارتأى أنه لا يحول بين المرء وبين التأثر الجميل بالقطعة الشعرية، وأنه منار للاعجاب ومبعث للسرور، وما إلى ذلك.
والعجيب كل العجب أن الأديب الفاضل لم يبتعد كثيراً عن غموضه الجميل الذي شبهه بالسدول الرقيقة التي يرخيها الضباب على الطبيعة، حتى أخذ يسرد لنا أسبابه وبشرح علته، فقال: إن كثيراً من الغموض يرجع أسبابه الى فقر اللغة وقصورها في الافصاح عن عواطف الشعراء وميولهم؛ ثم أردف هذه الأسباب بأخرى وهي تعقد الحياة النفسية وإبهامها وغموضها، ثم انتهى الى أن هذا الغموض سيظل مسيطراً على الشعر حتى تتضح الحياة النفسية.
أما قصور اللغة في الافصاح عن بعض الحوادث النفسية الدقيقة فأمر لا ننكره ولا ينكره أحد من الناس، ولكن ذلك لا يعني بأن الشعر الغامض يجب أن يكون منطوياً على جمال رائع، وفن بديع، ولا يسوغ لنا أن نعتبر الكلام المرتبك الغامض شعراً كما أنه لا يجوز لنا أن نعتبر الناظم الذي لا يوفق لتصوير خوالج نفسه وعواطف روحه وانفعالاته شاعراً مبدعاً
واذ القيت نظرة متأمل الى ضروب الشعر الوجداني والعاطفي تبين لك أن بين هذا الشعر ما قد تمكن من أن يصف لك أعمق العواطف البشرية وأدقها بأبرع اسلوب وأتم بيان، ومنه ما كان بالفاظه وتعابيره أشبه بالاحاجي والالغاز منه بالكلام المفهوم
وقد يجوز أن تجيش في نفس الانسان بعض الخواطر البديعة والمشاعر الرائعة، وقد يجوز أن يحتدم جيشانهما في أعماق نفسه فيضطرب شعوره بها ويظهر هذا الاضطراب ويفيض من جوانحه الى جوارحه فيصبح على أشبه ما يكون بثورة نفسية، ولكنه مع ذلك لا يستطيع أن يظره لغيره، ما تكنه نفسه لأنه ليس بشاعر ليتمكن من التوفيق بين الكلمات والتأليف بين التعابير والمصطلحات اللفظية التي تحمل الى نفوس الناس وافهامه ما خالج نفسه وما أثار شعوره وإحساسه، أو لأنه ليس برسام ليستطيع أن ينقل بريشته الوان تلك الصور والأشكال التي تأثرت بها نفسه، أو لأنه ليس بالفنان الذي يستطيع أن يستخدم وسائل فنه لتصوير ما جاشت به نفسه ووصف ما اضطرب له حسه.
فان شعوره ولا شك يبقى مطموراً في باطنه، ولا يمكن البتة أن يتأثر احد سواه بما تأثر به(33/23)
هو، ومثل الشاعر الغامض الذي ينظم قصيدة فيقرأها الناس ولا يفهمون ما اراد بها وما قصد، فيضطرون الى ان يسألوا منها عن مراده وقصده - كمثل كل انسان اعتيادي بما يشعر به تجاه مظاهر الكون وحوادثه.
والسبب الثاني الذي اورده الاديب الفاضل شوقي ضيف على غموض الشعر هو تعقد الحياة النفسية وابهامها، ولعله قاصد بهذا التعقد والابهام عجز الانسان عن تبين ماهية بعض من ميول نفسه ونزعاتها ورغباتها وانفعالاتها و. . . الخ
نعم ان الحياة النفسية معقدة بالرغم من مجهودات البشر العلمية في تحليلها الى ابسط ما يمكن، وستظل معقدة بل سيزيد تعقدها وابهامها كلما تقدمت جهود الانسان العقلية في البحث عن كنه النفس واسرار حوادثها.
اما ان يظل الشعر يلازمه الغموض ما دامت الحياة النفسية غامضة فهذا حكم غير صائب، ولعل الاديب الفاضل قد تورط اضطرار في هذا الحكم وذلك لأنه ضيق على نفسه بيده مجال البحث فناط بالشعر وحده دون سواه من الفنون الجميلة اماطة اللثام عن اسرار هذه الحياة النفسية.
لا يا أخي شوقي! ما كان الشعر في جميع أدوار حياته، ولن يكون وحده الكفيل الضامن للنهوض بهذا العبء الثقيل، فقد وجدناه في سالف العصور ونجده الآن يمد يده الى اخوته، الفنون الجميلة مثل الرسم والنحت والموسيقى حتى الرقص يستعين بها على بلوغ هذه الغاية.
فهناك بعض الحوادث النفسية لا يستطيع الشعر أن يصفها بما لديه من وسائل، وتستطيع ريشة الرسام أن تبرزها واضحة، فعدم استطاعة الشعر في مثل هذا الموقف يجب ألا نعتبره عجزاً منه وتقصيراً بل هو في الحقيقة تكليفه بالخروج عن نطاق اختصاصه وقابليته كما أن هناك بعض الخوالج النفسية يعجز عن ابلاغها إلى النفوس كل من الشاعر والرسام والمثال والموسيقي، ولكن راقصة رشيقة فنانة تتمكن بحركات خاصة أن تعبر عنها وتجسم تأثيرها في النفوس.
فمطالبة الشعر وحده يكشف أسرار الحوادث النفسية ووصفها وتصويرها على اختلاف أنواعها وضروب تأاثيراتها هو السبب الذي حدا ببعض المفكرين أن يرموه بعلة الغموض،(33/24)
هذه العلة التي راحوا بعد اختراعها يتحرون بين طياتها الجمال الموهوم والابداع المزعوم.
بغداد
عباس فضلي خماس
في محكمة التاريخ(33/25)
الوزير مؤيد الدين بن العلقمي
هل غدر بأمته وخليفته؟
إن موضوع الخيانة العظمى التي تتهم جمهرة المؤرخين هذا الوزير بها موضوع دقيق، اذ ليس لدى من يعرض لهذا الحادث التاريخي المهم الادلة الكافية التي تخرجه بنتيجة حاسمة لا جدل فيها ولا مغالطة، وكيف يتسنى لكاتب ان يصل لحقيقة تحيط بها الشكوك وتكتنفها الظنون؟ لأن ما يظهره بعض من كتبوا او قل تعرضوا لهذا الأمر الخطير من ميل مع هوى النفس وخضوع للعواطف يزيد في التحير والتشكك. زد على هذا وقوع هذا الحادث في فترة فوضى واضطراب استولى الرعب فيها على مشاعر الناس، وكيف لا وهي فترة تقتيل وتشريد وتحريق وتدمير. وفي احوال كهذه يجب الشك، ويلزم الحذر والتنبه لاكثر ما يروي عما يقع عادة في خلال هذه الاحوال المضطربة، لأن الفزع والذعر يخرجان المرء عن الطبيعة الهادئة المتروبة التي تتطلبها رواية الحوادث ولا سيما الهامة منها، فالاضطراب والتشويش صنوان متعانقان فضلاً عن رواج سوق الشائعات، ولا سيما الباطلة منها في اوقات الانقلابات والاحداث السياسية المهمة، وسأضع الآن بين أيديكم ما تقوله المصادر الأولية عن هذا الحادث، مبتدئاً بالمصادر حسب اوليتها، وبعد ان افرغ من ذلك سأحاول جهدي المقابلة بين المصادر، ثم نقد مواطن الضعف في كل مصدر. وأبدأ بما يقوله ابن الطقطقي في صدد الكلام عن مخامرة الوزير (ونسبة الناس انه خامر. وليس ذلك بصحيح. ومن أقوى الأدلة على عدم مخامرته سلامته في هذه الدولة، فان السلطان هلاكو لما فتح بغداد وقتل الخليفة سلم البلد الى الوزير وأحسن اليه وحكمه، فلو كان قد خامر على الخليفة لما وقع الوثوق اليه).
وبعد أن ينتهي من هذا البرهان يذكر لنا روايته عن تصلب الوزير واصراره على عدم الخروج الى هلاكو. ويروي المؤرخ هذه الرواية عن ابن أخت الوزير، ومألها أن الخليفة طلب وزيره وقال له (قد أنفذ السلطان بطلبك، وينبغي أن تخرج اليه، فخرج الوزير من ذلك، وقال يا مولانا اذا أخرجت فمن يدير البلد ومن يتولى المهام؟ فقال له الخليفة لابد من أن تخرج. قال فقال السمع والطاعة، ثم مضى الى داره وتهيأ للخروج ثم خرج. . فلما حضر بين يدي السلطان وسمع كلامه وقع بموقع الاستحسان. . . . فلما فتحت بغداد(33/26)
سلمت اليه والى علي بهادر الشحنة فمكث الوزير شهوراً ثم مرض ومات رحمه الله في جمادي الأولى سنة ست وخمسين وستمائة)
اما ابو الفدا فيقول في كلامه عن استيلاء التتر على بغداد وسبب مجيئهم (ان وزير الخليفة مؤيد الدين بن العلقمي كان رافضياً، وكان اهل الكرخ ايضاً روافض، فجرت فتنة بين السنية والشيعة ببغداد على جاري عادتهم فامر أبو بكر ابن الخليفة وركن الدين الدوادار العسكر فنهبوا الكرخ وهتكوا النساء وركبوا منهن الفواحش فعظم ذلك على الوزير ابن العلقمي وكاتب التتر واطمعهم في ملك بغداد) وبعد ان يذكر ما وقع بين جند الخليفة وجند السلطان وتغلب السلطان وتقدمه لحصار بغداد (خرج مؤيد الدين الوزير ابن العلقمي الى هولاكو فتوثق منه لنفسه وعاد الى الخليفة المستعصم وقال إن هلاكو يبقيك في الخلافة كما فعل بسلطان الروم ويريد ان يزوج ابنته من ابنك أبي بكر، وحسن له الخروج الى هلاكو فخرج اليه المستعصم في جمع من اكابر اصحابه فانزل في خيمة ثم استدعى الوزير الفقهاء والاماثل فاجمتع هناك جميع سادات بغداد والمدرسون، وكان منهم محي الدين بن الجوزي واولاده وكذلك بقى يخرج الى التتر طائفة بعد طائفة، فلما تكاملوا قتلهم التتر عن آخرهم)
ويجيء بعد ابي الفداء ابن الوردي وهو يأخذ عن ابي الفدا احياناً بالحرف، ولولا انه ذكر اشياء لم يذكهرا ابو الفدا لاغفلت ذكره، وهو بعد ان يذكر ما ذكره ابو الفدا عن فتنة بغداد وما ارتكب من الامور الشنيعة، وان ابن العلقمي ارسل الى هولاكو يستقدمه
يورد نص الرسالة التي ينفرد بذكرها فيقول (وكاتب التتر واطمعهم في بغداد وطمع الخبيث الغوي في اقامة خليفة علوي) (قلت) وكتب ابن العلقمي وكتب ابن العلقمي الى وزير اربل يطلعه على ذلك في رسالة (منها) أنه قد نهب الكرخ المكرم وقد ديس البساط النبوي المعظم وقد نهبت العترة العلوية واستؤسرت العصابة الهاشمية وقد حسن التمثيل بقول شخص من غزيه
امور تضحك السفهاء منها ... ويبكي من عواقبها اللبيب
قد عزموا على نهب الحلة والنيل، بل سولت لهم أنفسهم أمراً فصبر جميل.
أرى تحت الرماد وميض نار ... ويوشك أن يكون لها ضرام(33/27)
ومنها:
وزير رضى من حكمه وانتقامه ... بطى رقاع حشرها النظم والنثر
كما تسجع الورقاء وهي حمامة ... وليس لها نهى يطاع ولا أمر
(فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون)
ووديعة من سر آل محمد ... أودعتهاا إن كنت من أمنائها
فاذا رأيت الكوكبين تقارنا ... في الجدي عند صباحها ومسائها
فهناك يؤخذ ثار آل محمد ... وطلابها بالترك من اعدائها
وكن لما أقول بالمرصاد، وتأول أول النجم واحرص) ثم يقول في شأن الرسول وكيف أرسل بالرسالة الى هلاكو (فارسل ابن العلقمي الى التتر أخاه يستدعيهم فساروا قاصدين بغداد في جحفل عظيم (قلت) أراد ابن العلقمي نصرة الشعية فنصر عليهم، وحاول الدفع عنهم فدفع اليهم، وسعى ولكن في فسادهم، وعاضدو لكن على سبي حريمهم وأولادهم، وجاء بجيوش سلبت عنه النعمة، ونكبت الامام والأمة، وسفكت دماء الشيعة والسنة، وخلدت عليه العار واللعنة) ثم يقول عن عاقبة الوزير: وفيها أي في سنة 656هـ (توفى. . . والوزير المتبر مؤيد الدين محمد بن محمد العلقمي الرافضي، قرر مع هلاكو أموراً فانعكست عليه وعض يده ندماً وصار يركب اكديشاً فنادته عجوز يا ابن العلقمي هكذا كنت تركب في أيام المستعصم؟ ووبخه هلاكو آخراً فمات غماً وغبناً لا رحمة الله ومات ابنه بعده) أما صاحب فوات الوفيات فيذكر ان الوزير ظل مخلصاً للأستاذه حتى وقع بينه وبين الدوادار ما وقع من اختلاف، فعضدت الحاشية الدوادار فضعف أمر الوزير فرفعته الضغينة والحقد ان يسعى في ادالة الدولة فأخذ (يكاتب التتر الى ان جرأ هلاكو على أخذ بغداد وقرر مع هلاكو أموراً انعكست عليه وندم حيث لا ينفعه الندم، وكان كثيراً ما يقول. وجرى القضاء بعكس ما املته، لأنه عومل بانواع الهوان من اراذل التتر والمرتدة) ثم يستمر ابن شاكر في حديثه فيروي لنا كيف ابلغ الوزير رسالته الى التتر، فقد ابتدع خطة جهنمية قد لا تخطر لانسان فيقول المؤرخ (وحكى انه لما كان يكاتب التتر تحيل الى ان أخذ رجلاً وحلق رأسه حلقاً بليغاً، وكتب ما اراد عليه بالابر ونفض عليه الكحل وتركه عنده الى ان طلع شعره وغطى ما كتب فجهزه وقال اذا وصلت مرهم بحلق رأسك ودعهم(33/28)
يقرأون ما فيه. وكان في آخر الكلام (قطعوا الورقة) فضربت عنقه وهذا غاية في المكر والخزي) أما عن نهاية الوزير فيروي انه مات بعيد استيلاءالتتر على بغداد بتأثير الغنم والغيظ على ما أصابه من التتر في سبيل انتقامه من الدوادار ومشايعيه ويقول ابن خلدون في كلامه عن هلاكو (وقصد قلعة ألموت وبها صاحبها علاء الدين فبلغه في طريقه وصية ابن العلقمي وزير المستعصم ببغداد في كتاب ابن الصلايا صاحب اربل يستحثه للسير الى بغداد ويسهل عليه امرها لما كان ابن العلقمي رافضيا هو وأهل محلته بالكرخ، وتعصب عليهم أهل السنة بان الخليفة والدوادار يظاهرونهم، وأوقعوا باهل الكرخ وغضب لذلك ابن العلقمي ودس الى ابن الصلايا باربل وكان صديقاً له بان يستحث التتر للملك بغداد، وأسقط عامة الجند يموه بانه يصانع التتر بعطائهم، وسار هلاكو والتتر الى بغداد) وبعد أن يذكر فظائع التتر ببغداد وما قتلوا من أنفس أحصى عددها فبلغ المليون والثلاثمائة ألف يقول (. . . واستبقى ابن العلقمي على الوزارة والرتبة ساقطة عندهم فلم يكن قصاى أمره الا الكلام في الدخل والخرج متصرفاً من تحت آخر أقرب الى هلاكو منه فبقى على ذلك مدة ثم اضطرب وقتله هلاكو)
ويقول دحلان في كلامه عن مجيء التتر (وكان من أعظم الاسباب أن ابن العلقمي وزير المستعصم كان رافضيا وكان يريد نقل الخلافة من العباسيين الى العلويين فكاتب التتر وأطمعهم في ملك بغداد. . أما ابن العلقمي فلم يتم له ما أراد وذاق من التتر غاية الذل والهوان، فان هلاكو استدعاه بين يديه وعنقه على سواء ما فعله مع أستاذه، ثم قتله شر قتلة، وقيل إ ' نه مات حتف أنفه غماً وكمداً)
فرحان شبيلات
الجامعة الامريكية (بيروت)(33/29)
خواطر
للاستاذ أديب عباسي
1 - الفضيلة سياج من شوك ليس له باب، يجد الداخل اليه والخارج منه صعوبة على السواء.
2 - كثيرون يخلقون عندما يموتون.
3 - مساوئ المرء تدفن معه.
4 - بعض الناس كالموائع يتشكلون دائماً بشكل الاناء الذي يوضعون فيه.
5 - كلما دنت النفوس من الأرض هان قطافها - شأنها شأن الثمر.
6 - أفراح الحياة واتراحها ممتزج بعضها ببعض. لهذا كان من المستحيل أن ينال امرؤ حظاً من الحياة خالصاً من الاتراح، أو خالياً من الأفراح.
7 - أكثر الذين يظنون انهم يحبون غيرهم لا يحبون في الحقيقة غير نفوسهم.
8 - يحب الرجل الانكسار في المرأة لأنه تعود اذلالها.
9 - من لا تحفزه همته الى الاهتمام بنفسه لا يستطيع احد ان أن يحمله على ذلك.
10 - من الناس من يخلقون اذناباً؛ ومن العبث المسرف أن تجعلهم رؤساء.
11 - ليس آلم للنفس من رؤية الرذيلة في ثياب الفضيلة والذئب في ثياب الحمل.
12 - المتكبر كالرابية الجرداء.
13 - يحب الشهرة جميع الناس، ولكن العاجزين يتظاهرون بالرغبة عنها.
14 - شر الناس واشدهم خطرا هم اولئك الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، لأن من بدت للناس سريرته هان عليهم اتقاؤه مهما كان شره.
15 - ينعم الجاهل بجهله كما ينعم الحكيم بحكمته.
16 - ضعيف الأرادة كالمريض المدنف عرضه لتغيرات البيئة.
17 - كثير الكلام كالصبي لا يستطيع ان يعطيك فكرة محبوكة الاطراف.
18 - تحب المرأة في الرجل الصفات التي هي خلو منها وكذلك الرجل، فكانهما فهما قصد الطبيعة فامتزجا على هذا النحو ليخرجا المخلوق الكامل.
19 - الجهل صحراء محرقة لا يعيش فيه الا من تعوده.(33/30)
20 - الضمير الحي كالابرة لا تستطيع ان تمعن في الضغط عليه.
21 - المصائب الكبرى تبتلع الصغرى.
22 - كلما كثرت اغلاط المرء قل اهتمامه بها.
23 - من حرص على اخفاء عيوبه فقد قلل منها.
24 - الفن هو فن على قدر ما يستولي علينا ويستغرق حواسنا ومشاعرنا.
25 - رحب الصدر كالبحر مهما جاش وأزبد يبقى في موضعه.
26 - المتكبر كالرجل فوق الجبل يرى الناس صغاراً وهم يرونه صغيراً.
27 - ما أغرب ما تكون حياة المرء لو عمل بكل ما يفكر به.
28 - اذا فقد الذئب أنيابه صار حملا.
29 - النبع العميق لا تعكره الحصاة الصغيرة.
30 - الأمل يزيد القوي قوة والضعيف ضعفاً.
31 - من لا يقتنع بالحق لا يستطيع أن يقنع به أحداً.
32 - الوضيع كالدخان لابد عائد الى مصدره الوضيع مهما ارتفع.
33 - بعض الناس (كديك) الهواء يميلون دائماً حيث تميل الريح
34 - من تكلف الصدق فقد كذب.
35 - نزعة الدفاع عن النفس يذكيها ويغذيها فينا الشعور بالنقص والحرمان من جهة، وما فطرنا عليه من حب للكمال وكره للنقص من جهة أخرى. ومن هنا كانت هذه النزعة بين الناس في هذا الحد من الشيوع.
36 - من الناس من اذا أعياه الارتفاع الى مستوى الأغيار حاول النزول به الى مستواه.
37 - ان العبقري كالمصباح القائم على عمود عال يرى ويلاحظ من بعيد، ولكنه في الوقت ذاته يبدي للمشاهدين كل ما يحيط به ويرتكز عليه.
38 - المرأة كالأطفال تأسرها الروايات المغرقة في الخيال. وهذا ليس أمراً عارضاً: إنما هو تعبير صامت عن شعورها بالضعف ومقياس لمقدار ما تشتهيه من قوة ونفوذ، فتعوض عن ذلك بطريق الخيال.
39 - ان الميل الذي يظهره البعض الى الزهد والتقشف قد لا يكون له من أساس إلا طلب(33/31)
المتعة من جهة، والعجز عن نيلها من جهة أخرى، فينطبق عليهم مثل الثعلب والعنب.
40 - ان الخطيب الذي يهبط كلامه الى قرارة النفوس هو الخطيب الذي يقول: (نحن) ولا (أنتم).
41 - العبقري جبل شاهق بين سلاسل من التلال المطمئنة. فيشعر أوساط الناس - الذين يقيسون اقدارهم الى قدره - بأنوارهم تكف وأقدارهم تتضاءل. ومن هنا ترانا الى تضخيم سيئات العبقري أميل، وبتشويه سمعته أعلق، كأننا ننتقم منه لعزَّتنا الجريحة
43 - لا يوصف العبقري بالاعتدال (والاعتدال دائماً النزول على حكم الأكثرية). ومن هنا يجده العبقري من تأييد شديداً وعداء شديد. فهو في آرائه ونزعاته وأخلاقه ينحاز غالباً الى أحد طرفي المبالغة. وهو - لذلك - ييوافق فئة أشد الموافقة ويخالف فئة أشد الخلاف.
44 - لا ترسل الطبيعة العبقري برقا يردد صدى اصوات الجمهور، انما ترسله نوراً وهداية يؤتم به ويهتدي بهديه.
شرق الأردن
أديب عباسي(33/32)
يوم سقراط الأخير في منزله
للآنسة اسماء فهمي
تهمنا ناحية خاصة من تعاليم الفيلسوف سقراط، التي سجلها أفلاطون في (الجمهورية) وهي رأيه في تعليم النساء؛ فقد كان يقول بوجوب تعليم الممتازات منهن تعليما لا يختلف عن تعليم الرجال الممتازين، لاعدادهن لتولي منصب الحكام الفلاسفة في المدينة النموذجية، إذ لا يرى اختلافاً جوهرياً بين استعداد المرأة واستعداد الرجل. يرى سقراط هذا الرأي في وقت انحطت فيه مكانة المرأة في أثينا وأصبحت لا تمتاز من الأرقاء إلا قليلاً؛ وبالرغم من أنه كان يعيش مع زوجة يضرب بها المثل في شراسة الطباع ورعونة الخلق. وهذا لا شك برهان قوي على استقلال رأي الفيلسوف وسموه على الآراء السائدة، والمؤثرات الخارجية،
واعترفاً بفضل سقراط على المرأة سأبين فيما يلي ما عاناه من عنت زوجه (زانتيب) في يومه الأخير بداره قبل القبض عليه، مستعينة بالرواية التي وضعها عن حياة الفيلسوف.
في صباح يوم راق جوه، وسطعت شمسه، آثر سقراط البقاء في منزله على غير العادة، فلم يخرج للحوار والمجادلة في أسواق أثينا، وإنما جلس على مقعد خشبي عتيق في فناء داره التي كانت يستعملها غرفة استقبال - وأخذ يخصف حذاءه؛ ولعل ذلك ما منعه عن الخروج ذلك اليوم؛ وتلك عملية كانت تجدد ولا شك كل بضعة أسابيع، لأن الفيلسوف كان لا يستعمل شيئاً أكثر من نعليه سوى لسانه!
وبينما هو على تلك الحال، ولحيته الطويلة البيضاء المرسلة تكاد تخفي الحذاء وتعوق سير العمل، اذ بزوجته زانتيب تنقض عليه انقضاض الصاعقة وتفاجئه قائلة:
- أنت هنا يا سقراط؟
- نعم: ييا زانتيب، ولكن لا أفهم المقصود من تلك العبارة. .؟
- وما الذي تفهم من شئون الحياة؟ سأفرغ من اعداد طعامك بعد دقائق. .
- حسن جدا.
- الطعام المعتاد طبعا.
- جميل للغاية.(33/33)
- أحقاً ما تقول؟! لو كنت تعمل عملاً شريفاً وتحصل منه على بعض النقود مثل سائر الرجال المجدين لما أصبحنا في حاجة لأكل العيش والعدس يوماً بعد يوم.
- إن من لا يسأل غير الكفاف يا زانتيب يكون بلا شك أعظم الناس شبها بالآلهة!
- أبق هذا الهذيان حتى تكون مع صحبك الأعزاء. أما انا فلا تهذ معي. . .
- لقد خلق كلانا محبا للكلام!
- لقد خلقت محباً لذاتك، وتلك هي مصيبتك.
- ربما.
- أيهمك أمري أو أمر اللأطفال؟ لو كنت تفكر فينا حقاً لما جننت لدرجة أنك أصبحت تناصب الحكومة العداء،
- ما الذي سيحل بي؟
- أريد أن أعلم - عندما يلقونك في أعماق السجون؟
- عندئذ تصبحين أسعد حالاً.
- وكيف ذلك؟ هل لي أن أسأل؟
- إن أصدقائي لا يفتأون يقدمون الى نقودا. . .
- (زانتيب مقاطعة) وأنت دائماً ترفضها.
- بالتأكيد! أما أنت فسوف لا ترفضينها!
- هل تريد ان أموت جوعاً؟ أما عن اصدقائك فاني أبغضهم جميعاً ما عدا (السبياديس) الانيق. اني لا أستغرب ان يقتل الشبان الموسرون أوقاتهم في المجادلة في أمور تافهة، ولكن الذي استغربه هو عدم ترك الرجل الفقير لتلك الأمور لمن هم فوقه مرتبة.
- لقد اشتغلت بجد في شبابي
- وانفقت كل ما جمعت على الناس! آه لقد نفد معين الصبر معك!
- لقد لاحظت ذلك
- آه. كم أود أن تغتاط وتفقد حلمك معي! انني كمن يحاول إيقاد خشب مبتل.
- لا تحاولي ذلك
- سحقاً لك! أعازم على الدخول أنت؟(33/34)
- سريعاً
- سوف لا تجد من الطعام غير الماء البارد
- هو كل ما أريد
(يسمع طرق على الباب)
زانتيب: - من الطارق؟ إذا بقيت هنا للكلام فقد لا تجد طعاماً مطلقاً. (تخرج)
سقراط: يفتح الباب ويدخل (مليتاس) الشاعر
سقراط: أنك لتفاجئني!
مليتاس: أتسمح لي بالبقاء دقائق معدودة؟
سقراط: بالطبع. ولكنك منذ ثلاثة أيام قلت إنك سوف لا تكلمني أبداً
مليتاس: لقد كان ذلك هياجاً سخيفاً. لقد كنت على صواب وكنت أنا على خطأ وقد جئت لأقر بذلك الآن بجانب غرض آخر
سقراط: وما هو الغرض الآخر؟
مليتاس - أن أسأل عما اذا كان في إحضاري صديقين من أصدقائي للحديث معك عمل خارج عن حدود الحرية المألوفة.
انهما يتلهفان لمعرفتك
سقراط - بابي لكل وارد مفتوح. من هما؟
مليتاس - أنيتاس الدباغ، وليكون الخطيب من ذوي المستقبل الباهر في السياسة. ولقد سنحت لهما الفرصة الآن طبعا.
سقراط - الآن؟ ولم الآن؟
مليتاس - أحقا إنك لم تسمع بعد؟
سقراط - لم أخرج اليوم من منزلي قط.
مليتااس - إذن أنا الذي سأزف اليك النبأ السار: لقد سقطت الحكومة الاستبدادية وقامت مكانها حكومة ديمقراطية.
سقراط - معنى ذلك نفي عدد جديد من الناس على ما أعتقد.
مليتاس - معناه أنك أصبحت بعيداً عن الخطر الآن.(33/35)
سقراط - نعم! ولكني واثق من إغضاب الحكومة الحاضرة كما أغضبت السالفة.
مليتاس - وهل نسيت أن لك عدداً كبيراً من الأصدقاء في أثينا؟
سقراط - لي أضعاف أضعافهم من الاعداء.
(يسمع طرق على الباب)
مليتاس - ها هما ذان قد حضرا
سقراط - من أعدائي؟
مليتاس - كلا. كلا. بل قل أصدقاءك الجدد (يدخل أنيتاس الدباغ وليكون الخطيب)
مليتاس - ها قد أتيتما. هذا أنيتااس الدباغ وليكون الخطيب
سقراط - اجلسا على الرحب والسعة.
ليكون - ان من دواعي فخاري أن أتعرف اليك الآن
أنيتاس - وإنه ليسرنا نجاتك المدهشة.
ليكون - قد تتساءل عن سبب زيارتنا لك الآن؟
سقراط - صدقت.
ليكون - إننا ديقراطيان متحمسان
أنيتاس - ونعد الديمقراطية النوع الوحيد من الحكومات الذي يرضى أفراد الشعب الذين يحترمون أنفسهم ويعتزون بالكرامة.
ليكون - وإنه ليسرنا أن سقراط العظيم يوافقنا في الرأي
سقراط - ان نوع الحكومة لا يفضل أي نوع آخر، بل كل شيء يتوقف على الأشخاص الذين يحكمون بالفعل.
مليتاس - ولكنك بالطبع تؤيد المبادئ الديمقراطية؟
سقراط - هل لليكون أن يعرفني ما هي لأنه كما يبدو أكثر احتمالا لغباوتي من غيره؟
ليكون - الديمقراطية هي الحكومة القائمة على رغبة الشعب، هي المبنية على المساواة المطلقة بين الافراد.
سقراط - عظيم جداً. . . ولكن هل لي أن أسأل بعض الاسئلة بحسب طريقتي المعروفة.
زانتيب (من الداخل) سقراط! سقراط!(33/36)
سقراط - هي زوجتي تعلن اعداد الطعام
ليكون - اذن يجب أن نستأذن للخروج
سقراط - انني أفضل الحديث على الطعام.
مليتاس - اذن سل ما تشاء.
سقراط - سأبدأ بسؤال ليكون. اتسلم مبدئياً بمقتضى ما لديك من التجارب أن التجارب مثلا ليست من الأمور الهينة وكذلك إدارة الجيش.
ليكون - بالتأكيد.
سقراط - وأن ادارة الحكومة يدخل ضمنها التجارة والجيش والزراعة وأشياء أخرى صعبة الحصر؟
ليكون - بالطبع
سقراط - وأن من الضروري أن يديرحكومة كهذه كثيرة الفروع مختلفة الاغراض أعقل الأفراد؟
ليكون - بالضرورة.
سقراط: وهؤلاء يختارون بالتصويت العام. أليس كذلك؟
ليكون: هو ما تقول
سقراط: وانت تقول إنه لابد من اشتراك الافراد في الحكومة اشتراكاً مبنيا على المساواة في التصويت ماداموا يتساوون في الدفاع عن الأوطان؟
ليكون: مازلت محتفظاً بنظريتي.
سقراط: ومعنى ذلك أن الفرد الغبي له سلطة تعادل سلطة الرجل الذكي، والنتيجة تكون اختيار افضل الرجال؟
ليكون: (بغضب) إننا نعتمد على الاجماع الذي لا يضل:
انيتاس: وما الذي ترمي اليه من محاورتك هذه؟
(تدخل زانتيب)
زانتيب: بمثل هذا الاهمال تعامل الزوجة الصالحة التي تجهد نفسها في طهي العدس؟ ألا فاشهدوا أيها الرفاق على عقوق الأزواج!(33/37)
هيا انهض معي وإلا كيف يكون الانتقام
سقراط: معذرة أيها الرفاق فانا ذاهب معها! (يخرجان)
مليتاس: ألم اقل لكما إنه عدو للحكومة والشعب؟ اذهب يا انيتاس وأحضر من يتولى القبض عليه فهو كما تبين لكما خائن للحكومة وكثيراً ما عاث في الارض وأفسد عقائد الشيوخ والشبان.
(يخرج انيتاس)
(يدخل سقراط)
سقراط - أين انيتاس وكيف يخرج غير مسلم؟
ليكون - لقد كلب إلى أن أعتذر اليك إذ تذكر موعداً أنساه إياه حديثك العذب الطريف. . الآن وقد استنرت بآرائك في السياسة فهل لي أن أطلب هدايتك في الدين؟
مليتاس - حذار يا ليكون فسقراط معروف بكفرانه بالآلهة
سقراط - تلك أكذوبة لفقها كتاب الكوميديا.
ليكون - أنت غير ملحد إذن؟
سقراط - يلزمنا أن ننظف أدمغتنا كل عاام كما ننظف دورنا من سقط المتاع
مليتاس - وما هو سقط المتاع يا ترى؟
سقراط - آراء ماتت أو آخذة فيي التعفن والاضمحلال.
(تدخل زانتيب)
زانتيب - لقد برد طعامك، فما الفائدة من كل ذلك الهذيان؟
إن العدس لا يؤكل الآن
سقراط - لا بأس فلا حاجة لي به
زانتيب - أتقول لا حاجة لك به بعد أن تعبت في إعداده لك؟
حسنا هاك جرة من الماء البارد هي كل ما ينبغي أن تأكل جزاء وفاقا (تلقي الجرة في وجهه)
(يسمع طرق على الباب)
زانتيب - تسير نحو الباب وتفتحه قليلا ثم ترده بسرعة صارخة وتكر راجعة(33/38)
زانتيب - الجنود! الجنود بالباب يا سقراط. . . اني أرى الشر في وجوههم أي زوجي العزيز. . لقد جاءوا في طلبك ولا شك. ألم أقل لك أن كف عن النقد والجدل. . آه (تبكي) (يشتد الطرق) ولكنك لم تنهرني ابداً ولم تضربني كما يفعل الرجال غلاظ القلوب مغفلة يا زوجي العزيز. واحزناه. . انك لم تذق طعاماً منذ ظهر أمس (تدخل الجنود)
سقراط - مهلا ايها الجنود. . انا قادم اليكم. . . وداعا يا زانتيب. . لا تجزعي فسيرعاك الله في غيبتي. . . واذا ماا ذكرتني فاذكري انني لم أعبأ قط بالحياة ولا بالموت بل بالحقيقة التي سأعذب ولا شك من أجلها. . . .
زانتيب -: ترتمي على مقعد وتنتحب. . .
اسماء فهمي
(2 - ابن قلاقس
532 - 567هـ (1138 - 1172م)
لشاعرنا مذهب في الحياة، اختاره لنفسه، وارتضاه كطريقة يسير عليها، ذلك المذهب هو اختلاس الفرصة، وانتهاز غفلة الزمان، فهو قد آمن بأن الدهر لا يحسن مرة الا أساء أخرى، ولا يمد يداً الا انتزاع بشماله ما قدمه بيمينه، فهو متقلب متلون كالحرباء، وإذا كانت تلك حالة الدهر، فمن الخير للمرء أن ينتهز الفرصة التي تسنح له، فلا يدعها تفلت من يده، ولينل فيها اللذة التي تهيأت له، إذ انه من الخير للمرء ألا يدع نفسه فريسة الدهر فيزيد السهام سهماً، والجراح جرحاً، وأولى له أن ينتهز غفلة الدهر فاذا نامت عينه، تمتع ما دامت تلك العين غافلة، واستمع إليه حين يقول:
واعطف على خلس اللذات مغتنماً ... فالدهر في حربه تلوين حرباء
أما اختلاس اللذات من الناحية الدينية فهو يطمئنك عليها ويخبرك أن هناك الها رؤوفاً رحيماً لا يضن عليك بالعفو إن أنت اقترفت جرماً ثم عدت إليه لابساً التوبة مرتدياً ثياب الاستعطاف، فلا بأس عليك من ذنب، ولا ضير عليك من اقتراف معصية، فاقترف، واعترف، فثم كريم يهب الأقتراف للاعتراف ولقد كان من وسائل سروره التمتع بالغناء، والانصات إلى مغنية جميلة رخيمة الصوت تطربه وتسره، حتى أصبح له بسبب هذا(33/39)
الولوع اذن غنائية هيأت له أن ينتقد المغنيات اللاتي لا يجدن من الغناء ولا يحسن الا مد الصوت ولو كان متنافراً، ولا يجدن اتفاق النغمات، ولا ندري إن كان شاعرنا قد اتخذ الخمر وسيلة من وسائل تمتعه بالحياة ولهو فيها، أو أن لهجة بها وتغنيه بذكرها، وتفننه في وصفها، كان ناشئا عن تقليد لا عن عاطفة نحوها، وبعد فماذا كان موقف ابن قلاقس إزاء الحياة العلمية؟ وما مذهبه الذي اختطه لنفسه؟ وهل كان موفقاً في اختياره هذا المذهب؟
- 5 -
إن كنت تبغي وطنا ... من العلا فاغترب
فالسمر في غابلتها ... معدودة في القضب
على أن أسعى وما ... على نجح الطلب
تلك هي عقيدته في الحياة العملية، وذلك هو مذهبه الذي اختاره وارتضاه، فهو لا يرى العلا تنال إلا بالبعد عن الوطن والتغرب عن الآل، ففي ذلك نيل الأمل وبلوغ المأرب. ولعل ولادته في ثغر الاسكندرية لها اثر في ذلك، على أنه بالرغم من هذا لا يرى التغرب إلا وسيلة من الوسائل للوصول إلى أطماعه، فأن أخفقت فأن ذلك الاخفاق لا يفت في عضده ولا يضعضع من قوته، فعليه أن يسعى، وما عليه نجح مطالبه، وشاعرنا لم يكن في مذهبه ذلك مشرعاً فحسب أو قانونياً يلقى القانون إلى الناس، ولا يتبعه بعمل بل كان قوله ذلك معبراً أصدق تعبير عن حياته العملية كلها، فتاريخه ينبئنا أنه كان كثير الحركات والأسفار، لم يقتصر على التنقل في وطنه، بل غادره إلى بلاد غير بلاده وآل غير آله
رحل إلى صقلية في شعبان سنة ثلاث وستين وخمسمائة، وصقلية جزيرة قرب ايطاليا كانت تابعة للفاطميين حينا من الزمن طويلا، إلى أن تغلب عليها روجر النورماندي، وانتزعها من أيديهم، وجعلها إمارة مستقلة، وكان بتك الجزيرة أيام وصل اليها شاعرنا قائد يسمى أبا القاسم بن حجر، فاتصل به اتصالا وثيقاً، ومدحه مدحا كثيراً، وتوثقت بينهما الصلة، حتى ان شاعرنا ألف له كتابا أسماه الزهر الباسم في أوصاف أبي القاسم، ويقال إنه قد أجاد فيه، ولكن الكتاب لم يصل الينا، وعبثت به يد الزمان، وظل شاعرنا لدى أبي القاسم حول عامين، أراد الرجوع بعدهما إلى بلاده، وكان في زمن الشتاء، فردته الرياح إلى صقلية، فكتب إلى أبي القاسم المذكور:(33/40)
منع الشتاء من الوصو ... ل مع الرسول الى دياري
فأعادني وعلى اختيا_ري جاء من غير اختياري
ولم يقتصر شاعرنا في رحلاته على صقلية، بل ذهب الى بلاد المغرب ومدح صاحبها عبد المؤمن بقصيدة قوية الأسلوب، قوية المعاني، تدلنا على عظمة من قيلت فيه. وانصت اليه يقول:
عظمت قيمتها مذ علقت ... بأمير المؤمنين الأعظم
كعبة المن التي من زارها ... بات في أمن حمام الحرم
قبلة الدين التي حج لها ... خلقه: من كافر أو مسلم
قائد الجيش الذي من راعه ... باسمه قبل التلاقي يهزم
يا إماما خضع الدهر له ... فأطاعته رقاب الأمم. . . الخ.
ثم عاد الى وطنه، ولكنه لم يستقر به المقام طويلا حتى دفعته النوى إلى بلاد اليمن، ودخل مدينة عدن، واتصل بأبي الفرج ياسر بن بلال وزير البلاد اليمنية، فأحسن الوزير صلته، وأجزل عطيته، ثم فارقه عائداً إلى الديار المصرية فانكسر المركب به وغرق جميع ما كان معه بالقرب من دهلك، فعاد الى ياسر، ومدحه بقصيدة بدأها بقوله:
صدرنا وقد نادى السماح بناردوا ... فعدنا إلى مغناك، والعود أحمد
وجاذبنا للأهل شوق يقيمنا ... وشوق لمغنينا عن الأهل يقعد
ثم أنشده قصيدة أخرى يصف فيها غرقه، وما أصابه في البحر
غير أن هذا الحادث لم يجعله يسخط على السفر والاغتراب كما قد يظن، فقد رأيناه بعد أن نجا يكرر مذهبه ويؤكده، ويقول
سافر إذا ما رمت قدرا ... سار الهلال فصار بدرا
والماء يكسب ما جرى ... طيباً، ويخبث ما استقرا
وبنقلة الدرر النفيس ... ة بدلت بالبحر نحرا
مما يدلنا على قوة عزمه، وتغلغل مبدأ السفر والارتحال في فؤاده، ولقد هداه حادث الغرق إلى أنه من الخطا تشبيه ممدوحه بالبحر إذ يقول:
وغلطت في تشبيه ... بالبحر فاللهم غفرا(33/41)
أو ليس نلت بذاغني ... جما، ونلت بذاك فقرا؟!
ولعل شاعرنا حينما ألقت به يد الأمواج إلى جزيرة دهلك لم يأنس بالمقام فيها، ولم يجد من حاكمها مالك بن شداد براولا رحمة، لذلك هجاها، وصورها بصورة جهنم بدليل أن خازنها مالك (ودهلك جزيرة بين بلاد اليمن وبلاد الحبشة) وظلت أيدي النوى تتقاذفه حتى ألقت به في عيذاب، وهي بليدة على شاطئ بحر جدة يعدى منها الركب المصري المتوجه إلى الحجاز عن طريق قوص، وهناك وافته منيته بعد أن بلغ من العمر خمساً وثلاثين سنة.
بالرغم من كثرة أسفار شاعرنا، وكثرة تنقله بين الأوطان المختلفة كان حنينه وشوقه الى مصر لا يفتران: ففي صقلية يذكر مصر، وفي غيرها يذكر مصر، ويذكر آله وقومه، ويذكر ما كان له في تلك الديار: من صحب وأصدقاء فيحن إليهم ويقول:
يا إخوتي، ولنا من ودنا نسب ... على تباين آباء وأجداد
متى تنور آفاق المنارة لي ... بكوكب في ظلام الليل وقاد
متى تقر ديار الظاعنين بهم ... والدهر يسعفهم بالماء والزاد
ويقول مخاطباً أبا القاسم بصقلية:
وعليك السلام مني، فاني ... عنك غاد أو رائح أو ساري
شاقني الأهل والديار وذو البعـ ... د معنى بأهله والديار
وتلك حالة طبيعية يمسها الرجل المفارق لوطنه، فهو يحن إليه دائماً، ويشتاقه دائماً
(البقية في العدد القادم)
أحمد أحمد بدوي(33/42)
من طرائف الشعر
ذكرى الحج
للأستاذ الحاج محمد الهراوي
حَدّا بِي الى أُمِّ القُرَى شوقُ هائِم ... مُدَلِّةِ قلبٍ حوْلَ مكة حائم
وَلِهْتُ بها ما بين نومٍ ويقظةٍ ... وقلبي يقظانُ الهوى غيرُ نائم
فان نمتُ لم تبرح تُخَيِّلُ لي الرْؤَى ... وإن أصْحُ لم يَبرَحْ تخيُّل واهِمِ
فذلك شأني ثم لَجء بيَ الهوَى ... الى أن رأيتُ الحجَّ ضربةَ لازِم
حططتُ برحلي فوق ناحيةِ السُّرَى ... وطرتُ بشَوْقي فوقَ ذاتِ القوادِم
لعلِّي، وفي برديَّ حُوبة آثمٍ ... أُطهِّرُ عن بردىِّ حوبةَ آثمِ
ويُطمعني في الله أنىَ من مِنىً ... قريبٌ، وأني من سُلالةِ هاشمِ
أُمَسِّحُ بالأركان وجهي مُعفّراً ... وأهمى عليها من دموعي السواجم
أطوفُ وأسْعى بين مَرْوةَ والصَّفا ... وآوى الى رُكنٍ من البيت عاصمِ
وأرجعُ مملوء الجوانح خَشيْةً ... من الله في يومٍ من الهَوْل قادِمِ
فَيَاهلْ أتى صَحْبي بَمسْرَح لهوْهِم ... مَتَابى، وأني قارعٌ سِنَّ نادِمِ
فلم أرَ مثلَ الدينِ أدعى الهُدَى ... ولا مثلَ حجِّ البيت أهدْىَ لجارمِ
وما أبتغي إلا المْثَوبةَ مخلصاً ... ودعوةَ ربِّ البيتِ تحتَ المحارِمِ
أقول: إلهي أنتَ أدرَى بأمَّتي ... وكم نزَلتْ دْهراً على حكم غاشم
تركتُ ورائي أُمةً لم تكن تَني ... عن الحقِّ جُهْداً، أو تهى في العزائم
فياربِّ يا حامي حِمَى البيتِ لا تُبِحْ ... حِمى مِصرَ للعادِينَ من كلِّ ظالم
وياربِّ إنَّ الشرقَ بات بأهلهِ ... كبيرَ الأماني طامحاً للعظائم
يريد حياةَ العزِّ وهو مُسالِمٌ ... ويأبى عليه الجَوْرُ عَيْشَ المُسالم
فياربِّ أيِّدْهُ على الحقِّ ما سَعَى ... الى الحقِّ وارفعْ عنه نِيرَ المظالِمِ
بلادي وقوميي فوقَ ما جئتُ أبتغي ... لنفسي، وما أرجو لها من مغانِمِ
وياربِّ إن كانت لنفسي حاجة ... فحاجةُ نفسي منكَ حُسْنُ الخوَاتِمِ(33/43)
سبيكة الشعر
إن كنتِ أهديتني من شَعرك الغالي ... سبيكةً جددت عهد الهوى الخالي
فقد وهبتك يا دنياي مرتضياً ... قلباً يفيض بأحلامي وآمالي
قلبي لديك. فهلاً ... رويته من نهرك؟
كما تروْي عيوني ... بالدمع غاليَ شَعرك
وهل يجود الزمانُ ... بالقرب بعد النوى؟
فتلقي العينانْ ... ونستعيد الهوى
مازالت أندب والأحشاء ثائرة ... عهوده كلما مرَّت على بالي
ولا أرى بعد ما هاجرتِ مرغمة ... إلا عذاب فؤادي أو ضنى حالي
ولم تعد لي دموعْ ... إلا دماء الفؤاد
أبكي بها في الضلوع ... عليه بعد البعاد
يا ضيعة العمر إلا ... في وكرك الفتان
وبؤسَ للقلب إن لم ... ينل لديك الأماني
مناي في الحب أن نقضي الحياة كما ... كنا: أليفين في حِلٍّ وترحال
أسقيك كأس الهوى والحب متروعة ... وأستقى من رضاك المسكر الحالي
محمد فريد عين شوكه(33/44)
عالم الهوى
للشاعر الوجداني أحمد رامي
يا طيورْ ما الذي هزك للشَّدو الجميل ... في سكَون الليل أو صفو السَّحَر
يا زهورْ ما لأغصانك في الروض تميل ... في ضياء الشمس أو نور القمر
يا غديرْ ما لأمواهك في المرْج تسيل ... ضاحكاتٍ بين أفنان الشجر
قالت الطير أما تلقى الربى ... يتباهي الزهر فيها بالجمال؟
وانثنى الزهر مجيبا هل ترى كيف يجري الماء ما بين الظلال؟
ومضى الجدول مختالا وقال ... قد غذانى النهر بالعذب الزلال
تعشق الطير الزهور ... والجنى يهوى الغدير
والغدير ... يستقى الماء من النهر النمير
كل من في الكون يَغْنى ... من هواه بنصيب
وأنا قلبِيَ يَهْنا ... برضى قلبِ الحبيب(33/45)
وحشة
للاستاذ محمود الخفيف
// ليس يمحو الوجدَ من قلبي الحزين ... كلُّ ما في الكون من آي الجمال
يتأسى كل قلب بعد حين ... ما لقلبي بات مفقود المثال؟!
شفه طول الحنين ... وتباريح الخيال
واغتدى بعد اليقين ... بين يأس واحتمال
أظلم الكون وقد كان سناه ... مشرقا في النفس اشراق الأمل
نبه القلبَ لأكدار الحياه ... وحشة تبعث في قلبي الوجل
حار قلبي في هواه ... والهوى أصل الخبل
ويحه ماذا دهاه ... فبكى بعد الجذل؟
تبسم الأزهار للصبح الوليد ... وتغنى الطير الحان السَّحر
ويلوح النور في الأفق البعيد ... فيهز البشر أعطاف الشجر
والندى در نضيد ... فوق أكمام الزَّهر
هل يرى قلبي الشريد ... حسن هاتيك الصور؟
تشرق الشمس لا أرى معنى ... يبهج النفس من معاني ضحاها
لا، ولا البدر اذ يسير الهويني ... باعث في النفس أحلام مناها
واذا العصفور غنى ... ذكرت عيني بكاها
واذا الغصن تثنج ... هيج النفس شجاها
تدمع العين برغمى أن أرى ... في ظلال الريف مغنانا الوسيم
كان مرعى اللهو فيه ناضرا ... عاطر الأنفاس مطلول الأديم
مالعيني لا ترى ... حسن مرآه القديم؟
يتراءى مقفرا ... والأسى فيه مقيم!
أسأل الدوحة عنها ذاهلا ... وأطيل السير في جنب الغدير
ثم أمضي بعد حين قافلا ... تخفق اللوعة في قلبي الكسير
أتناجى قائلا ... بين دمع وزفير(33/46)
كيف ولى عاجلا ... ذلك العيش الغرير؟
صرت لا أقوى على غشيانه ... ان في مرآه الوان الشجن
وكأن الورق في أفنانه ... تشتكي مثلي تصاريف الزمن
هل سوى سلوانه ... لفؤادي من سكن؟
أو سوى هجرانه ... لغريب في الوطن؟
زمن الوصل تقضى مثلما ... يتقضى في الكرى حلم بديع
وتولت بهجة العيش كما ... يسقط الزهر اذا ولى الربيع
ويح نفسي أكلما ... ذكر الشمل الجميع
بات مضنى هائما ... ذلك القلب الصديع
أترى تذكر (أيدا) عهدنا ... أم تناسته وقد طال الغياب
نفِس الدهر علينا صفونا ... وكذا الدهر نعيم وعذاب
كم حبسنا دمعنا ... ما شكا البينَ الصحاب
وارتقبنا يومنا ... في وجوم واكتئاب
اقرإي هذا وحسبي سلوة ... أن ترى عيناك هاتيك الدموع
خانني عزمي ففاضت عنوة ... وأخو الشوق لدى الذكرى جزوع
فاغفري لي صبوة ... لم تجئ بعد شروع
ولقلبي وثبة ... أشفقت منها الضلوع(33/47)
الى السيدة منيرة توفيق
من الآنسة خيرية أحمد
ناحت مطوَّقةٌ فأشْ ... جتْ كلَّ طير في الخمائلْ
وبكت لها مقَل السحا ... ب بأدمع تجري هواطلْ
شكتِ الحنين إلى الحلي ... لِ من الجوى والوجد ماثلْ
صَدَقَ الهوى بفؤادها ... فبكت وصِدق الحب قاتلْ
زَيْنَ العقائل والفضا ... ئلِ في المنازل والمحافلْ
أخت الفصاحة والسما ... حة والرجاحة في الشمائلْ
لو كنت في عصر الأوا ... ئل كنت مَفخْرَةَ الأوائلْ
زَفَرَات أختك قد عَلَمتْ ... لأَساكِ تَغْلي كالمراجلْ
عَجبَي لزوجك كيف غير ... رَ عَهْدَه بعد التواصلْ
وأدال من حَكَم الهَوَى ... والحب خصم لا ينَازَلْ
هل في البرِّيةِ للوفِيّـ ... ةِ والحبيبة من مُعادِلْ
هل للخلالَ الباهرا ... تِ وللفضائل من مماثل
ولَرُبَّ رأيٍ قد رآ ... هـ الزوج حقاً وهو خائلْ
وتعدُّد الزوجات في الـ ... أُسْرَات مهزلة المهازلْ
أصل العداوة والشقا ... قِ وباب مشكلة المشاكلْ
والحق سيفٌ لو تجرَّ ... د نصلهُ ماضٍ وقاصلْ
وأخال أنكِ تحليـ ... ن وأنَّ هذا الحلمَ زائلْ
سيعود زوجك للوئا ... م وليس عند الخلف طائلْ(33/48)
واليها أيضاً
من الآنسة ناهد محمد فهمي
إن طال سهُدُكِ فاشتكي ... لله زوجا غيرَ عادل
إني أرى بين السطو ... رِ دُموعَ قلبِكِ كالجداول
تجري بألحان الأسى ... وخريرها يشجى العقائل
لا تيأسى فلرَّبما ... عاد العَقوق الى التواصُل
وترَفَّقى في لومه ... فلرافق من شيم الأماثل
وتساهلي فيما جنى ... لا شيء ينفع كالتساهل
وتدرَّعي بالصبر في ... كل الكوارث والنوازل
كم من ضحايا للرجا ... ل وكم نعاني من رذائل(33/49)
مذهب (السمبوليسم)
أو
الشعر الرمزي
للاستاذ خليل هنداوي
المدرسة الرومانتيكية والبرناسية. حقيقة المذهب الرمزي. الشعر الرمزي كالاحلام الشعر الرمزي والموسيقي. الشعر الرمزي والطبيعة
(شغل الرسالة - في الايام الاخيرة - ما شغلها من (بول فاليري). وكان من (مقبرته البحرية) مجال فسيح لبحث الوضوح والغموض في الشعر، وقد رأيت ان أرضح مذهب أصحاب المدرسة الرمزية بهذه المقالة، ثم اتلوها بصور سشعرية مختارة لهم).
المدرسة الرومانتيكية والبرناسية
لم يكد يوارى جثمان الشاعر (هينو) في الاثرى حتى قامت مدرسة شعرية جديدة هي مدرسة (السمبوليسم) تنازع المدرسة (البرناسية) التي نازعت بدورها المدرسة (الرومانتيكية)
المدرسة الرومانتيكية جعلت موضوعها الفني عواطف الشاعر نفسه، فترى الواحد من شعرائها ينظرم وينظم، وهو يحدثك عن نفسه، ويقصيك عن نفسه، يحسب نفسه اللعالم الأكبر الذي ينطوي على كل شيء، فاذا أنّ وانتحب عجب من للناس كيف لم يسمعوا أنينه ولم ينتحبوا؟ ونراه اذا عرض عليك عواطفه رقق ديباجته، وبهرج اللوانه، وذوب نفسه، لأن قاعدة هذه المدرسة توجب على الشاعر ان يكون متأثراً حتى يستطيعه ان يؤثر في غيره. فجاءت المدرسة البرناسية تنعى على أصحابها ضيق عقولهم وقلوبهم، وتنتقد هذا المذهب الذي يتغنى على ضرب واحد لا يتغير له لحن ولا وتر، ولا يسمع سامعه الا رنة ناقوس واحد. فكان جدال عنيف وكان نقد صارم، فاضاع الشعر الوجداني كثيراً من قيمته. وذهب زمان كان يؤله الناس فيه هذا النوع من الشعر لأنه - كما يعتقد أصحابه - هو شعر الرقة، وشعر الجمال. وقد لا يمكننا القول بأن أصحابه لم يحسوا الجمال، وغاية الادب - مذ كان الادب - الحج الى مجالي الجمال. ولكن كثيرين ممن يتمثلون الهدف(33/50)
ويعينون موقع الهدف، ويسعون بشوق ولهفة، تسعى بهم اقدامهم ويا للاسف الى غير الهدف. وللجمال طريق يختلف عن طريق هؤلاء القوم الذين اتخذوا طريقهم اليه: طريق الالحان المشوشة التي تخلقها العواطف الثائرة. ومتى كانت مقاييس العواطف ثابتة وموازينها صادقة؟ وحقيقة هذه الالحان أنها تصور أهواء النفس، ولا تصور شيئاً من مجالي الفن والجمال. فكانت غاية المدرسة البرناسية أن تحول أذهان الناس عما اعتقدوا، وأن تصف الجمال - بالفن الذي لا يتصل بمشاعر النفس، ولا يتعلق بأهواء النفس، ولكن هذه المدرسة لقيت فشلها، وكان يقدر لها الفشل، وهي لما تدرج من مهدها لولا ثبات أصحابها، واحترام الاندية الأدبيه لهم. وتحوير هؤلاء لبعض قواعدهم. فالفئة التي سئمت الحان النفس والوجدان سأما بعثها عليه المغالاة والتصنع، راعها أن يطلبوا منها أن تقطع كل صلة بينها وبين النفس، ليتسنى لها أن تدرك الجمال بدورها كما أدركوه هم بدورهم. ولكنهم (أصحاب المدرسة البرناسية) لم يستطيعوا أن ييقطعوا هذه الصلة، لان الانسان لا يستطيع أن يؤدي لغته الشعرية، وأن يفهم اللغة الشعرية الا بنفسه. وهل يستطيع أحد أن يفهم ملامح التمثال دون أن يمر بهذه الملامح على نفسه التي تدرك منها ما تدرك. وقد يكون هذا الادراك هو الادراك الصحيح للتمثال وقد لا يكون، ولكنه لم يكن - في الحالين - الا تعبير النفس والعاطفة العميقة. ولذلك لم يحفل الناس بهذه المدرسة الا كحفلهم بشيء جديد له منظر جديد وروعة جديدة ولو كان هذا الشيء قبيحاً. حتى اذا شبعوا من هذه المنظر الجديد والروعة الجديدة صدفوا بوجوههم عنه، وعاودوا النظر في الأفق البعيد، لأنهم لم يقعوا على غايتهم في هذا الأفق الخادع.
وهذا (بول فرلين) أحد شعراء هذه المدرسة لم يستطع أن يثابر على النظم وهو خارج عن نفسه، فتمرد على احساسه وتمرد احساسه عليه، فعاد يترجم عن مشاعره مضطراً، لأنه لم يقدر على كبحها، ولكن بأسلوب غير الأسلوب (الرومانتيكي) لأن فلسفته العميقة ساعدته على خلق فنه ولغته. فنزل الى أعماق النفس، وهبط الى حيث تكمن المشاعر (في الخليات المظلمة) فأيقظها وأحيياها وأدناه من عالم النور والحركة، بعد أن كان يغمرها الظلام والسكون.
حقيقة المذهب الرمزي:(33/51)
كان (ديكارت) يزعم خطأ يوم قال: بان لا مستقر في الدماغ الا للافكار الواضحة، وخلا هذه الافكار لا تقوم الا المادة الجامدة التي لا تحتوي على شيء، ولكن الفلسفة الحديثة نقضت هذا الرأي، وأثبتت ان هنالك في الدماغ مجموعة من احساسات وافكار وعواطف، كلها واضحة بادية، ووراء هذه المجموعة مجموعة عواطف نائمة ضعيفة، حتى لكأنها تحيا بنصف شعور! وهذه العواطف قد لا يأبه بها الانسان الا اذا نزل اليها وتنبه لها، ولكن الانسان - في أغلب الاحيان - ينقاد لها على غير وعي، ويقبل حكمها وهو جاهل مصدر الحكم، ويتبع ما أغرته به وهو غافل عن مكمن هذا الاغراء.
مع هذه العواطف القائمة تحيا كل ميولنا الفنية، واحساساتنا الشعرية، ونحن لا نكاد نشعر بها. فنقرأ المقطوعة الجميلة، فتتيقظ هذه الميول وتستفيق هذه الاحساسات، لهوى جاء في هذه المنقطوعة كان سبب يقظتها، فتهب وتظهر وتتوارى وترتخي وتشتد حسبما تشاء. فاذا عرجنا بهذا الهوى على المنطق والعقل تبدل الحكم وتغير الوضع، وجاءت النتيجة: اما مؤيدة لهذا الهوى أو ذاهبة به. على ان هذه الاحساسات نفسها تبقى مبهمة، متدثرة بشيء من الغموض والخفاء، لا يدرك من أين بدأت وانتشرت، والى أين تناهت وتلاشت.
أليس من واجب الشعر اذا ان يعبر عن هذا الهوى وهذا التناقض في الاحساسات التي لا تحصى؟ فاذا كان النثر الواضح المنطقي العقلي واجبه ان يعبر عن أفكار ظاهرة، وعواطف بادية، ومواضيع يراد تقسيمها الى فصول واجزاء لكي تدنيها من الافهام فان الشعر واجبه ان يعبر عن ذلك الاحساس الباطني الذي يكمن الجمال في حناياه.
إن (البرناسيين) وصفوا الجمال للجمال نفسه لا لغاية. وخده والفن للفن لا لحاجة. (ولكن الرمزيين) اعتبروا هذه المذهب وما قبله من المذاهب لا يصلح منها شيء للشعر، اذ - في الامكان - تحويل ما رصفوه القول ونظموه الى نثر لا يذهب ببهجة معانيهم. وانصرفوا هم الى انفسهم، وفي انفسهم تلك العوالم الواسعة الطافحة بالاحساسات المبهمة، والاهواء المظلمة. لا يرسل اليها احد عقله حتى تتلاشى، ولا تلين للتعابير الواضحة لأنها تذهب بمعناها. والاحساس الحقيقي هو الاحساس الذي يختلج في النفس دون ان يستطيع البيان أن يعبر عنه. ولهذه الاحساسات - كما للصور الخيالية - رسائل لا يمكن أن تقيدها الاغلال المنطقية، والقيود الشعرية التقليدية. وهذه الرسائل التي تستعين - بالاحساس وحده(33/52)
- لتفهمها، ولا تستعين بالدماغ الذي يفككها ويقضي على روعتها، هذه الرسائل هي الشرع الحقيقي وهذه الاحساسات الباطنة هي التي حدت (بالرمزيين) الى أن يعالجوا اعمق عالم مظلم في أنفسنا، ويعبروا عن هذا العالم تعبيراً شعرياً.
أجمع علماء النفس على أن العقل الواعي ما هو الا مظهر حقير من مظاهر العقل الباطن الكامن في (اللاشعور) وهذه العقيدة الفلسفية اضطرت الشعراء والفنانين الى الانطلاق من قيد العقل الذي لا يحكم الا بوعيه، ولا يخضع الا لحكمة، وقالوا ان العقل الواعي بما فيه من أفكار واضحة انما وجد لكي نستخدمه في حياتنا العملية والتفكيرية. ولم يوجد ليكون معبراً عن الحياة الشعرية، إذ يجب على الشارع أن يرتفع عن هذه العوالم المتجسدة، ويخوض في البقاع التي يتلاقى فيها النور بالظلمة، والبيان بالغموض والشعور باللاشعور.
الشعر الرمزي كالاحلام:
لا نكاد نجهل نصيب الرؤى التي تطرقنا في أحايين وأحايين. فنمت أحلام واوهام وحوادث تبدو وتتوالى لا يدفعها جهد، ولا يربط ما بينها منطق. تظهر كقوة خفية لا يمكن تعليلها ولا تحليلها على أن بعض هذه الاحلام قد يجيء عذبا لذيذاً يسعد النفس بما يجمل اليها من أوهام، أليس من هذه البعض تلك الاحلام التي تغنى بها الشعراء لانها مثلت الهم أطياف الاحباب؟ فودوا لو ان حياتهم الحقيقية تكون صورة من حلم لأن شعورهم الجائع النائم مثل لهم - بدوره - هذه الأحلام. ولكنه تمثيل، ليس له تعليل وهكذا قد تاتي الصور الشعرية ممائلة لهذه الصور الوهمية، صورة أو صوراً تتتالى، يحدوها وهم لا حقيقة له، ولا يمازجها شيء من الشعور؛ ولكنك تتلوها وتتلوها، فيخيل اليك أنك دخلت في عالم جديد تلمس فيه هذه الصور، فترى بعينيك ما يجب أن يرى وتسمع بأذنيك ما يجب ان يسمع. وقد تستقرئ هذه الصور الوهمية، وتحس مواضع التخلخل فيها والاضطراب المنطقي والتباين العقلي، وتشعر بأن المطابقة فيها مفقودة، والتناسب معدوم. تستقرئ هذا كله وتستوضحه بأجمعه، ثم يخيل اليك ألآن هذه الصور الوهمية انما هي حقييقة، وأنها باعثة فيك ما تريد من اسباب الرضا والسرور.
وقف الشاعر (كارنور راميورد) شعره على التعبير عن مثل هذه الصور الوهمية، قد ولد في مدينة مكتظة بالمصانع تقلق آلاتها الراقدين والساهدين؛ وكان يرى - برغم ذلك -(33/53)
موطناً يستسلم فه الى أحلامه التي تحمله الى عالم الغيب والذهول، حتى أصبح يرى في الحانة معبداً. وفي كثير من مقطوعاته كـ (سفينته الضالة) جاء بأفكار غامضة كل الغموض، وتعابير مبهمة كل الابهام. لأن الشاعر يخلق لنفسه الحروف والكلمات التي يراها مؤتلفة مع نفسه، ولكن فقدان التسلسل المنطقي يرخي على المقطوعة سدول الغموض، حتى لينتقل الابهام من الأفكار والمعاني الى الصور الشعرية وإذ ذاك يغدون القارئ شبيها بمتدحرج اصابه دوار في بصره شغله عن التأمل والتفكير.
الشعر الرمزي والموسيقى:
الموسيقي قبل كل شيء! الموسيقى دائماً وأبداً
ليكن شعرك شيئاً يطير من النفس صاعداص الى سماوات أخرى.
(بول فرلين)
الفن الشعري: - أنت تعلم ذلك التأثير الذي تثيره في النفس الواعية تلك الألحان الشائعة، لبحر يهدر، أو لجدول يخر، أو لنغمة تعلو من آلة موسيقية. فهذه الالحان لا تكلم العقل رأساًن وانما تكلم - قبل عقلنا - احساساتنا. فيخيل الينا أننا منطلقون منعتقون لأننا لم نتأثر بالعقل والمنطق. فتحملنا هذه الألحان ونحن كسالى هامدون، الى عالم ملؤه الراحة والسكون.
وقد فهم الرمزيون هذه الوشائج النفسية العميقة فأعلنوا - وفي طليعتهم - (فرلين، وراميون وملارمي) أنهم سيتخذون من الكلمات ألحاناً موسيقية، وأنهم سيعنون بوقعها قبل عنايتهم بمعانيها! فكانت هذه الثورة ثورة منتجة للغة، لأنها تهذبها وترفقها وتجملها، ولكنهم - كما أحسنوا في مواطن كثيرة - قد كبوا في مواطن كثيرة، لأنهم استعملوا كلمات غريبة ليس لها معنى يميزها، أو ميسم يسمها، واستخدموا ألفاظاً مجهولة لا تدرك إلا في معاجمهم الرمزية، حتى دعاهم هذا الى الاستخفاف بقيمة الكلمة والنص عن معناها، والالتفات الى وقع موسيقاها؛ ولم نكن لننكر ان القوم أحسنوا كل الاحسان في انعتاقهم من القواعد التقليدية، وعروجهم بالشعر الى مرابع خصبة ندية. فاللغات لا تزال قاصرة، لا تحدد كل كلمة مدلوها الذي وضعت من اجله. ولا تزال تضيق عن استيعاب ما يجود به عالم النفس(33/54)
الأكبر من الخواطر الكامنة. ولكن هذا القصور لا يحمل القادر على توسيع شقة الابهام. وترك الامر فوضى بين الأفهام، فان في استطاعة الشاعر أن يتخير الكلمة الواضح معناها، والحسن، وسيقاها، وهو بعد ذلك لا يخسر من معناه ولا من مبناه شيئاً.
فاذا تلونا مقاطيعهم فلنقلها كموسيقى، فانها قد تلذنا لو كنا خلقنا شعراء. وتولد فينا تأثيراً عميقاً يحملنا - على غير وعي منا - الى عالم يزداد وضوحاً أو غموضاً حسب بيان الشاعر.
الشعر الرمزي والطبيعة
التفت شعراء الرموز الى أنفسهم، ولاحظوا دقائق الحياة الباطنة ونواحيها الغامضة، ولم يعنوا كثيراً بالظواهر الخارجية
نظروا إلى عرم الساعة الهاربة، والفصل الغابر، والزمن السائر، ولجب الحياة العاملة ولا انتهاء لها، والانحلال والتركيب اللذين لا ينتهيان في هذه اللحظة وفي قلب هذه الحركة وصفوا صور المادة وشرائع الطبيعة الخفية، قرأوا حقائق الاشياء كانها تتلاشى بين تبدل المظاهر وبقاء أسبابها. والطبيعة ما هي الا صورة متحركة ورمز مستور مقيد محصور. ورأوا من جهة أخرى ان فهمنا للاشياء ما هو الا صورة من صور احساسنا، فكأنها تحيا فينا، أو قل هي نحن. وأنا كلما نظرت للاشياء شعرت بنفسي وأحسسة بحياة عقلي. وما تنظيمي للناظر التي رأيتها ثم نظمي شعراً لهذه الاحساسات الا اباحة منى بجانب او بجوانب من إسرار نفسي. ولكن، أليست الطبيعة كلها رمزاً لحياتي ووجودي؟ أليس هذا الرمز هو اللذي يؤلفغ بين النفس والطبيعة؟
ان الفنان الرمزي لا يجعل همه ان ينقل صور الطبيعة نقلا ويعرضها على الناس، انه يفسر ويؤول قبل كل شيء ما يراه، ويعطيك ما أوله بتعابير ملؤها الرموز والكتابات، وعليك ان ترى وتؤول وتفهم هذه التعابير، لأن فنان يود الايراك عبداً للراحة، والفتور. هو يريد ان يطربك بموسيقاه فتطرب، ولكن موسيقاه، تغرى الأرواح. فتذهب روحك على أثره. وانت تعلم وقد لا تعلم! حتى تجوز ما يقدر لها ارتفاعها من مراحل. وان في هذا السفر تعباً ولكنه تعب فيه لذة المستكشف فاذا كان يطيب لك ان تجول في بقعة غريبة تطلع على مجاهلها وتفرح بما تجد، فجدير بك ان تكون اكثر طرباً، وقد وقعت على بقعة(33/55)
نفسية مجهولة تستكشف مخبوءاتها؛ وتقف على مكنوناتها
كتب (ملارمي) جواباً على سؤال (ان البرناسيين يأخذون الشي بتمامه ويبدونه للعين، مع أن تعيينك للشيء هو حذف ثلاثة ارباع لذته، لأن اللذة الحقيقية تكمن في الاستكشاف التدريجي. وفي التنويه الذي ينطوي على السحر الذي ألف عالم الرموز.
ولكن هذا الفن الشعري الذي كانت له مآثره كانت له عيوبه أيضاً، فأصحابه وهم ينطقون عن الغامضن والمبهم، وقعوا في التعابير المظلمة، فجاء شعرهم محاطاً بحجب كثيفة لا تزيحها الا أيديهم.
على أن الشعر الرمزي - برغم هذه الأخطار والاخطار - قد فتح في الأدب عالماً اتسع للاوهام والحقائق الخفيية، وانشأ روحاً جديداً للعاطفة الشعرية التي تعددت وتتعدد من أجلها المذاهب، وهي واحدة لكنها غامضة لم تزل وراء الرموز
دير الزور
خليل هنداوي
-(33/56)
العُلوم
مطالعات واشتات
للدكتور أحمد زكي
انقلاب اللاسلكي: الانسان في كثير من أموره يبدأ صغيراً ثم
يطلب الكبر، يطلب العظمة في الضخامة والقيمة من الجرم.
ولكنه جرى على غير ذلك في اللاسلكي، فهو ابتدأ في الاذاعة
بالموجات الطويلة العظيمة، ثم أخذ بالموجات الأثيرية
الصغرى طولا فالصغرى، ثم بالمتوسطة فالتي دون ذلك
فتقسمت الموجات الى طويلة وهي التي تزيد على 1000
متر، ومتوسطة وهي التي بين الألف والمائة، وصغيرة وهي
التي بين المائة والعشرة، وزائدة الصغر وهي التي دون ذلك.
وقد يختلف اللاسلكيون في هذا التدريج وهذه التسمية، ولكن
هذا لا يؤثر في الحقيقة الراهنة وهي ان استغلال هذه
الموجات بدأ بالكبيرة ثم بالتي دونها. وكانت الشركات الكبيرة
تعتقد انه لا حاجة بها الى الموجات الصغيرة حتى قام الهواة
في بقاع الأرض المختلفة على الاذاعة والاستقبال، معاً بتلك
الموجات، وأخذوا في التغيير في أجهزتهم والتبديل في
طرائقهم حتى وقفوا على أحسن الشروط لحسن الارسال(33/57)
والاستقبال وكشفوا عن ميزات لهذه الموجات الصغيرة ليست
للكبيرة؛ فمن ذلك ان الصغيرة تحمل الأصوات الى السامع
خالصة من هذه الطقطقة والخرفشة وذلك الضجيج والعجيج
والنشوز الملح الذي يؤذي الأذن ويحرج الصدر ويذهب بصبر
الانسان. ومنها أنهاا تنفذ في الأجواء الى مسافة ابعد وعلى
حال أشد حتى لتلف الكرة الأرضية لفاً. لذلك ما لبثت
السلطات اللاسلكية التجارية أن أغارت على هذه الموجات
فاستلبتها واحتفظت للهواة بموجات دون تلك أكثر صغراً
يجرون فيها ما شاءوا من التجارب فقصر الهواة عملهم على
هذه فأتقنوه كساالف دأبهم، فتجددت الاغارة عليهم فاستبلت تلك
الموجات أيضاً، وارتد الهواة الى الوراء، إلى موجات أمعن
في الصغر. ولكن يظهر أن الشركات اللاسلكية عرفت من
مزايا هذه الموجات ما سوغ لها أن تقوم في العلانية قليلا وفي
السر أكثر بدراسة هذه الموجات لتسبق الهواة، وهم الذين كان
لهم فضل السبق الى كشف فضلها. وقد جاء في الاخبار.
الحديثة أن شركة مركوني قامت في الخفاء منذ أكثر من
شهرين بدراسة موجات طولها أصغر من متر واحد وانها(33/58)
نجحت في استخدامها نجاحاً كبيراً، وانها ترجو من وراء ذلك
أن تحدث في الاذاعة التجارية انقلاباً خطيراً.
بدأت بتلك التجارب في (بيت مركوني) على نهر (التمس) فكانت تذيع من هناك الرسائل لتستقبلها مستقبلات متنقلة في مقاطعة (كنت) بانجلترا وقد تمكن السناتور مركوني بهذه الاشعة التي يسمونها بالمجهرية من الارسال الى أبعد من 180 ميلا، والهوائي المستخدم فيها لا يزيد طوله على ثلاث بوصات، والقوة الكهربائية اللازمة للمحطة المرسلة لا تزيد على تلك التي تلزم لأضاءة مصباح كهربائي.
وستكون هذه الطريقة الصغيرة الجديدة شديدة النفع في القريب العاجل في المواصلة بين مراكز الشرطة والاسعاف، وبين بيوت الأعمال الكبيرة وفروعها، فان الجهاز نفسه يكاد يحمل في الجيب، وقد اتضح أن هذه الطريقة المصغرة أيسر في نقل الصور من الطرق الكبيرة والقديمة، أو التي سنسميها قريباً بالقديمة، فقد جربها السناتور مركوني فعلاً في ذلك فنقل بها صورة بلغت مساحتها خمسة أقدام في خمسة كانت غاية في الوضوح ومثلاً في البيان.
وهذه الموجات الضئيلة لا تتأثر بالجو ولا بالضباب، وفوق ذلك لا يمكن استراق السمع منها. ويقول العارفون أنه قد لا تمضي بضع سنوات حتى تصبح الموجات الطويلة اثراً بعد عين
دقات قلب سكنت
الدكتور (هـ. و. كروك) طبيب يسكن (في أكستر) من المدن الغربية الجنوبية في انجلترا، لا يزال الى اليوم رائحاً غادياً في مطالب العيش، ولكن قلبه لا ينبض بالحياة منذ ثمانية أعوام. وليس هو بالرجل الكسول الخامل فهو يشتغل في الاسبوع ستة أيام كاملة ويسوق سيارته بنفسه، وهو يعلم وهو الطبيب ان قلبه سكنت ضرباته الى الأبد، ولا يزعجه ذلك ولا يهمه، فأنت تراه ينعم بالدنيا كغيره من الأصحاء، وهو اذا ذكر قلبه اهتم به اهتمام العالم بظاهرة غريبة يحملها بين جوانحه كأن من حسن حظه ان استأثرته الطبيعة بها.
بدأت قصة هذه الحال في سنة من سنوات بعيدة اذ كان (المستر كروك) يدرس الطب في(33/59)
مستشفى (جاي) بلندن، فأصابته حمى روماتزمية أخذت تنتابه ثم تذهب عنه فيصح، فتعود اليه المرة بعد المرة، فكان من آثارها اتساع صمامات قلبه فأصبحت لا تنفتح ولا تنغلق كعادتها اذ تدفع الدم كالمضخة فتجريه في الجسم، وبانعدام هذه الانفتاح وذلك الانغلاق، انعدم الصوت الذي نسمعه وهو دقة القلب.
حدث ذلك له في مرضه الأخير عام 1926، وكانت حاله لاا رجاء فيها، وكتم عنه الأطباء أمره خشية أن يدرك خطره فينزعج ويصدمه الخبر السوء، فييكون في ذلك قضاؤه. ودخلوا عليه مرة يفحصونه فأزعجهم أن وجدوه يأخذ سماعة من تحت وسادته يستمع بها الى قلبه. ولكنه ما لبث أن ذكر لهم أنه لم يفتر عن الاستماع الى قلبه كل يوم، وأنه يعلم ما آل اليه. وعقب على ذلك في كثير من البشر وشئ من المزح أنه معجب بنفسه مغتبط بان يقدم لهم وللطب حالة نادرة لذيذة ممتعة للفاحص والمتقصى وقد اتصل بالدكتور في الأسابيع الماضية متصل يستخير عن صحته فذكر له أنه صحيح لا يحسن علة ولا يشكو ضيقاً، وان عضلات قلبه اشتدت سد النقص الذي طرأ على صماماته، وانه ينعم بالحياة كنعمة المستخبر. وهكذا الطبيعة تحاول دائماً أن تصحح أخطاءها، فتصيب مرة وتعجز مراراً.
البيض المحفوظ:
كل كائن حي يفسد على الزمن، وكل نتاج من كائن حيي تظل فيه الحياة حيناً، ثم يعتريه الفساد كذلك. وتدخل في هذه الأنتجة اللحوم والخضروات والحبوب وما اليها. وكان المعروف أن البرودة تطيل من صلاح هذه الأطعمة، والحرارة تعجل فسادها؛ فعمدت المصانع الى استخدام الكهرباء والكيمياء في بناء الخزانات الباردة، منها الصغير الذي يستخدم في المنازل والمعامل، ومنها الكبير الذي يبلغ القصور حجماً؛ وقد أفادت هذه المبردات التجارة فوائد كبيرة أدت إلى انتشارها انتشاراً واسعاً وعمدوا فيها عمدوا اليه البيض يحتفظون به في تلك الخزانات، ولكن التجربة دلت على أن البيض في اختزانه يفقد الشيء الكثير من جدته رغماً من برودته. ويرجع هذا الى تغيرات فسلجية وبيلجية تحدث طبيعة في داخل البيضة من العسير الشاق إيقافها بالتبريد.
وقد ظهر في دورية (الصناعات اللغذائية) وصف لطريقة جديدة يختزن بمقتضاها البيض(33/60)
مبرداً ولكن في جو من غاز الكربون أعني ثاني اكسيد الكربون فيخرج بعد أشهر ثمانية صبيحاً لا يمكنك تمييزه من البيض الطازج، وتفصيل ذلك أن البيض المختار يوضع في خزانات مختومة في حجرة لا تزيد حرارتها على الصفر. ثم تفرغ الخزانات من الهواء وتملأ بغاز الكربون حتى يزيد ضغطه قليلاً على الضغط الجوي، وذلك خشية أن يكون في الخزانة ثقب غير منظور فيتسرب اليها منه الهواء. وغير هذا يجعلون على ظاهر الخزانات أنابيب للتبريد تجعل حوائطها أبرد من جوفها ليتكثف بخار الماء داخلها على تلك الحوائط. فلا يسقط على البيض، فأنه ان فعل ذلك اثر على قشر البيض بما يحتويه من غاز الكربون الذائب فخشنه وحببه. ويظهر من هذا الوصف أن النفقة لابد كبيرة، ولكنهم يقولونإن البيض المحفوظ بهذه الطريقة يباع في أشهر القلة بأثمان تزيد على النفقة زيادة مربحة.
كمرة تبلع:
ولكنها بالطبع صغيرة لكي تمر في الحلقوم فالمرئ ثم تستقر في المعدة فتصور ما فيها. وهي على شكل اسطوانه طولها بوصتان وقطر قاعدتها خمسة أثمان بوصة. وتتصل بها انبوبتان أحداهما لتوصيل التيار الكهربائي الى مصباح وامض تحمله الكمرة، والأنبوبة الأخرى لتحمل السلك المتصل بغطاء العدسة يفتحها ويغلقها وهي في جوف الانسان. استخدمت هذه الكمرة في لندن فلقطت 16 صورة من جدران المعدة في 20 ثانية.
وهذا لا شك فتح جديد في تشخيص امراض المعدة، فاننا اذا عجزنا عن نزعها من الجسم كما تنزع اجزاء المكنات لفحصها واصلاحها بعدسة العين فلا أقل من أن نراها وهي في مكانها بعدسة الجماد. ومن عجائب ما تستخدم فيه الكمرات مما يتصل بالطب ما قرأته أخيراً عن مريض في البرازيل أصابه في عينه مرض أعجزّ الأطباء. وكان لابد من تشخيصه عاجلا والا فقد المنكود بصره. وفي وقت غاية في القصر صوروا عيني المريض وأبرقوا بالصور على اسلاك التلغراف الى برلين الى احد الأخصائيين، وما لبث هذا الأخصائي في فحصها وعاد فأبرق الى البرازيل بالداء والدواء وبهذا نجا المريض من ظلام ليل دائم
أحمد زكي(33/61)
الثعبان والانسان
للدكتور حسين فرج زين الدين
دكتوراه في التاريخ الطبيعي من فينا
من رسالة قيمة وضعها في (الحيات المصرية) سننشر بعض فصولها تباعاً
لعل من يزور حدائق الحيوانات بالجيزة لا يستوقف نظره شيء اكثر مما تستوقفه تلك الحيات السجينة في بيوتها الزجاجية، فهي على الرغم من جمال منظرها وما هو معروف من نعومة ملمسها تبعث في النفس شيئاً من الاشمئزاز والكراهية، وعلى الرغم من سجنها والامان من شرها يهتز القلب فزعاً منها، ولعل السر في ذلك تلك الاعتقادات السائدة التي تناقلها الناس جيلاً بعد جيل عن فتكها وخيانتها حتى جاء ذكرها في كثير من تشبيهات الكتاب وخيال الشعراء. كما ورد ذكرها في الكتب السماوية
وقد يكون ذلك راجعاً الى شكلها الطبيعي ووقوفها شاخصة لا تغمض ولا تطرف وحركات السنتها الدائمة السريعة، واعتقاد الناس خطأ أنها أعضاء اللدغ منها فترى أثر الخوف منها شديداً في نفوس الكبار الذين عرفوا شيئاً عنها، ولكن الاطفال الصغار لا يدركون قليلاً ولا كثيراً من امرها، وكذلك صغار القردة قد ترى الافاعي زاحفة فلا تخشى ان تقترب منها وتلمسها وتعلب بها، وقد ايد هذه المشاهدة البحاثة ميتشل في تجارب عدة قام بها، وقد أثبت كل من العالمين & بعد بحثهما في أفاعي الهند والصين انها على ضخامتها تفزغ من الناس، وتفر منهم ولا تحاول ايذاءهم الا محرجة مضطرة للدفاع عن نفسها، غير ان ذلك لم يقلل من اعتقاد الناس بخطرها، وليس هذا عجيباً منهم فانها كانت دائماً موضع اهتمام عظيييم. كثر ذكرها في الكتب السماوية وفي الديانات على اختلافها، وفي الكتب الادبية والعلمية، فهناك حية آدم عليه السلام، وعصا موصى وثعبان كليوبطرة، وترى اسكليبوس إله الطب عند اليونان يحمل عصاً ملتفة عليها أفعى، وابنته هيجياً إلهة الصحة ترى دائماً معها أفعى تقدم اليها الماء، وقد صنع عقداً لألهة مينرفا من صور الأفاعي، وإن رأس ميدوزا إلهة الانتقام معصوب بها؛ وكان قدماء المصريين يعبدون الناشر المصري المعروف، وكان من الخرافات السائدة في الشعب في ذلك العهد، ان هذه الأفاعي الخطرة تختلط بالناس في بيوتهم وتعيش بينهم على العسل والنبيذ لا تمسهم بسوء. . ويروي أنها(33/63)
ظلت على هذه الولاء للناس حتى كان لأحد التجار طفل فعدا عليه يوماً ثعبان صغير فلدغه فمات؛ ولما عادت أم الثعبان وعلمت بجريرة ابنها قتلته ارضاء لآل الطفل. ومنذ ذلك اليوم هجر الأفاعي البيوت الى الخلاء، وساجلت ابناء آدم العداوة، وأضحت لدغتها قاتلة. ومنذ ذلك اليوم أيضاً جعلت الأفعى رمز القوة، ووضعت على تيجان الملوك القدماء.
وروي بلوتارك المؤرخ الروماني ان قبيلة السلر وهي من القبائل البائدة، كانت في رجالها مناعة طبيعية موروثة ضد سم الحيات، وكانوا يحافظون على طهارة أصلابهم ونقاء دمائهم المحافظة كلها فلا يسمحون لنسائهم أن يتزوجن أو يتصلن أي اتصال برجال من غيرهم، وكانوا يستوثقون من هذه الطهارة بان يطلقوا الحيات السامة على أولادهم حين ولادتهم فان قتلت واحداً منهم تبينوا خيانة أمه.
ومن الحيات المعروفة في الهند ذات النظارة وتسمى الناشر الهندي، وفي الاساطير التي تروي عنها ان الأله بوذا هبط مرة الى الارض على شكل انسان ونام في الهواء فجاءت هذه الحية ونشرت عليه عنوقها فأظلته من الشمس فجزاها على ذلك بان آمنها من شر المخلوقات جميعاً، وبعد حين ذهبت اليه تقتضيه وعده وتشكو اليه الطيور الجوارح واضرارها بها فوهبها تلك النظارة تمتاز بها لدى الطيور فخشاها ولا يصل اليها اذاها.
ومن الروايات الشائعة التي يتناقلها سكان الجمهورية الفضية ان البقرات التي يقل ادرارها تكون قد رضعتها الحيات، بل يعزون ضعف بعض أطفالهم الى أن الحيات تمر ليلاً بأمهاتهم فترضع ثديهن.
ويعتقد الناس أن في الحواة سحراً أو قوة خارقة يسلطونها على االحياة. ففي الهند مثلا يمر الحااوي بالناشر الهندي ومعه عصا ومزمار، فيظل يداعبه باالعصا والحية تعضها، وبعد ان ييكون قد أجهده التعب يرمز له فيهدأ ويسكن فييظن االنااس أن الثعبان لا يلدغ االحاوي خوفاً منه والواقع أنه يكون أفرغ سمه حين عض العصا كماا يحسبون أن للقيثارة أثرا في تهدئته، والحقيقة اانه التعب الذي اضناه.
وكذلك نرى حواتنا في مصر يطوفون بأنواع من الحيات يحملونها عادة في جراب من الجلد ويلعبون بها العاباً مختلفة فيطوقون بها بعض النظارة أو يضعون رؤوسها في أفواههم أو يمزقونها بااسنانهم أو يتركونها تشرب من اناء ثم يشربون منه، ومنهم من(33/64)
يدرب بعض القردة على اللهو بها وقذفها على الناس ويوهمون العامة ان ذلك راجع الى سر الولاية الرفاعية فيهم، والحقيقة ان بعض هذه الحيات ليس ذات خطر مطلقاً كالدساس الذي يعتقد الناس ظلماً انه اشد انواعها خطراً، وكأنواع الارقام وكبعض الحيات الاخرى الخطرة المنزوعة الانياب، ولا يعرف غير الحاوي سر ذلك.
وقد حدث في المنيا في مايو سنة 1931 ان احد هؤلاء الحوّاة الرفاعية كان ينزع أسنان ناشر فأفلت من يده ولدغه فمات. وحية الناشر محفوظة الى الآن في المستشفى االاميري هناك
اما الطريقة التي يستخدمها هؤلاء الناس في امساك الحيات فانها ترجع اولاً الى الذعر الذي يعتري الحية عندما يفاجئها مفاجئ غريب فانها تقف بغتة بتأثير الحركات العكسية فيها، ثم الى خفة حركة الصياد في القبض على رقبة الحية، وفي تحريك عصاه، والى قوة تأثيره النفسي وشعرو الحية بهذه القوة كقوة التنويم المغناطيسي. والدليل الآتي يؤيد صحة هذه النظرية. وذلك أنه قد تقدم أحد الاشخاص وكان يخاف من الحيات فامسك دساساً فعضه، ثم تقدم آخر لا يخشاها ولا يخاف منها وأمسك الحية، فلم تحرك ساكناً وكلاهما لا يدين بمذهب الرفاعية.
وعلى ذلك لا يجوز أن تعزى قوة الحواة الى شيء من السحر أو الولاية، ولا أدل على ذلك من أن أهالي البرازيل وعمال حديقة الحيات الشهيرة عندهم يمسكون بأنواع الحيات، ومنها ذات الجرس المخيف دون أن يمسهم سوء، وهم ليسوا أتباعاً ولا ينتسبون للرفاعي.
وقد شاءت حكمة الله أن يسلط بعض المخلوقات الحية على بعض حتى لا تزدحم بها الأرض أو يطغى جنس منها على غيره من الأجناس، ولهذا نرى رحى الحرب دائرة بين هذه المخلوقات منذ نشات الدنيا فبينما نرى الطيور الجوارح وغيرها مسلطة على الحيات فلا تكاد تراها حتى تنقض عليها وتمزقها تمزيقاً فلا تحميها منها لدغاتها ولا سمومها، تجد هذه الحياة بدورها مسلطة على الضفادع والسحالي وصغار الطير والثديات، ولا ينجو من شرها الانسان نفسه، فكثيراً ما تعدو عليه وعلى أطفاله وعلى ما يربى من طيور وثديات نافعة كما تفعل الأرقام في مصر والبواء في الهند والبرازيل وهناك الحيات المائية الشرهة التي تفتك بالاسماك، ويكثر فتك أنواع من الحيات بالانسان فان للغريبة والناشر في الهند(33/65)
وذوات اللاجراس في أمريكا والابتر والناشر في افريقيا لا ينهض بعبء احصائها العادون.
ولكنها الى جانب هذه الاضرار لا تخلو من فائدة، فهي تقضي في الهند على الفيران التي هي من أكبر العوامل في نقل عدوى الطاعون فتقلل بذلك انتشاره وتحمي البيوت والمزارع من هذه الفيران كذلك بخاصة الغيطية منها، وبعض الحيات تأكل الديدان الضارة، وهناك أنواع ضخمة تؤكل لحومها ويصنع من جلودها أجود أنواع الأحذية وحقائب السيدات.(33/66)
العالم المسرحي والسينمائي
(فلم عيون ساحرة)
لناقد (الرسالة) الفني
عرض في الاسبوع الماضي فلم (عيون ساحرة) للسيدة آسيا في دار سينما فؤاد، وبرغم الدعاية الواسعة النطاق التي استمرت أشهراً طويلة قبل عرض الفلم، والضجة التي قامت أخيراً بسبب تعنت قلم المراقبة من أصحاب الفلم، وعدم اجازة بعض مراقفه والسماح بعرضها، على رغم كل هذا لم يلق الفلم من اقبال الجمهور ما ينبئ عن نجاح كبير، وهو ما يؤسف له حقاً أشد الأسف، فان صناعة الافلام المصرية في أشد الحاجة الى التشجيع والمؤازرة ليشتد ساعدها وتمضي في طريقها بخطى ثابتة نحو الرقيي والكمال.
يمتاز هذا الفلم من سابقيه بانه نحا في فكرته وفي اخراجه منحى جديداً لم نألفه بعد في أفلامنا المصرية التي كانت في الأغلب تدور فكرتها حول مواضيع مصرية بعضها عادي لا غناء فيه، وبعضها فيه من المحاولة والجهد ما يدل على رغبة صادقة وفي التجديد والابتكار، وان قعدت الوسائل المحدودة والجهود الشخصية التي لا تقوم على أساس صادق في العلم أو التجربة بأصحاب هذه الافلام عن تحقيق ما يطمعون فيه من التقدم والتجديد.
فكرة الفلم معقدة بعض التعقيد، أو قل أنها كانت من العمق بحيث أصبح من العسير على الجمهور ان يلمسها أو يفهمها للوهلة الاولى، والى هذاعزو انصراف الجمهور عن الاقبال عى مشاهدة هذا الفلم. والواقع ان الفلم لا تنقصه عوامل الاغراء التي تدفع الجمهور عن حضوره فمن مناظر جميلة خلابة، وجو يكنفه غير قليل من الرهبة والغموض، وحيل سينمائية لم يألفها جمهورنا في الافلام المصرية، الى غير ذلك من دواعي الاقبال. ومع هذه كله فالواقع ان الفلم لم يصادف نجاحاً كبيراً. وأرجح ان السبب الاول في هذا هو عدم تفهم الجمهور لفكرة الفلم وعدم تتبعه لها في مشاهده المختلفة.
على ان اصحاب الفلم، على ما أظن، قدروا ان نفس هذه العوامل مع الغموض الذي يسود الفلم والفكرة الغريبة التي يعرضها، هي التي ستدفع الجمهور الى التزاحم على مشاهدته؛ فكانوا في تقديرهم مخطئين. وأمثال هذه كثيير مألوف في عالم السينما في اروبا وامريكا على السواء، وكم من افلام أنفق عليها آلاف الجنيهات واشترك فيها أقطاب السينما من(33/67)
ممثلين ومخرجين، وقدر لها النجاح، ثم لم تصادف اقبالا من الجماهير فتكبد أصحابها خسائر جسيمة. ولكن ما كان اغنانا نحن في مصر، وما زلنا في خطانا الاولى في هذا الميدان المترامي الاطراف الوعر المسالك، عن ان نجازف منثل هذه المجازفات الخطرة ولما تنضب بعد بين أيدينا المواضيع التي يصح ان نستمد منها مادة لأفلامنا المصرية.
على أن المخرج لم يفلح في خلق الجو الغامض المخيف الذي يسود مثل هذه الافلام، ولذلك كانت مشاهد الفلم - وليست لها تلك الروعة التي تناسب الفكرة - تقابل من الجمهور بكثير من عدم الاكتراث والمبالاة. على أن المحاولة في ذاتها محاولة جريئة مبتكرة - من ناحية الفلم المصري على الاقل - وقد أراد المخرج أن يسير فيها على نمط بعض الافلام الغربية التي من هذا النوع كفلم (فرنكشتين) ولكن لم تسعفه تجاربه وخبرته من الناحية المعنوية، ولا ما تحت يديه من عدد وآلات من الناحية المادية. على أننا نرجو الا تثبط هذه التجربة - وما كانت لها من نتائج تدعو حقا الى اشد الاسف - عزائم السيدة آسيا وتثنيها عن متابعة جهودها، ولعل فلمها القادم يكون أحسن حظاً وأكثر نجاحاً ورواجاً.
ذكرنا أن بالفلم مشاهد رائعة الجمال من تلك الحدائق الغناء والقصور الانيقة والرياش الفاخر مما يعطي لمشاهدي الفلم في الخارج فكرة طيبة عن هذه البلاد، وعن مفاتنها ومغانيها، وينفع في الدعاية لمصر نفعاً لا شك فيه. وقد تقف مميزات الفلم عند هذه الحد فأننا اذا شئنا أن نتحدث عن بعض نواحيه الفنية وجدنا فيها نقصاً كبيراً لعله واضح ملموس حتى لا يخطئه أقل الناس خبرة بمثل هذه الشئون. فالصوت لم يكن حسن الالتقاط ولا دقيقة، والجمل مقطعة تقطيعاً غريباً حتى لتمر الثواني بين الكلمة والكلمة في الجملة الواحدة، وربما اقتضى الموقف ان يلفظها الممثل في تدفق وحرارة، فهذا التقطيع يفسد وقعها ويضيع علىالمشاهد الأثر الذي كان يجب أن تخلفه في نفسه. وصوت الآلات الموسيقية كان أشبه برنين الاواني النحاسية منه بوقع المثاني والمثالث كما يقولون احياناً. . . وكانت (خشخشة) الصوت وما فيه من عيوب واضحة تذكرني بتك الآلة المعلونة (الراديو) التي تزعجني في المنزل اي ازعاج، وقد عدت اليوم شديد الاعجاب بها والرضاء عنها.
كذلك كانت الاضاءة، إلا في بعض المشاهدة الخارجية التي تغني فيها أشعة الشمس(33/68)
الساطعة عن الآلات التي قد لا تستخدم على الوجه الأكمل.
وللمرة الأولى - على ما أذكر - تغني السيدة آسيا، ولست ممن ينصح لها بالغناء، على الأقل حتى تجد الآلات اللاقطة التي لا تشوه الصوت وتجعله بحيث يصادف وقعاً حسناً في الأذن، وارتياحاً في نفس المتفرج. وعلى كل حال فما أظن ان أفلام السيدة آسيا - مهما أكثرت فيها من المشاهد الغنائية - ستعد في يوم من الأيام من الأفلام الموسيقية، فالخير لها أن تقتصد في هذا أو تعدل عنه بالمرة.
بذل ممثلو الفلم جهداً كبيراً في أداء أدوارهم على أحسن وجه ممكن، على أن الحظ خانهم في كثير من المشاهد، ولم يصادفوا التوفيق الذي كانوا أهلا له، ونلاحظ على أحمد افندي جلال أنه كان كثير التقيد في حركاته، كثير الاضطراب فيها، حتى في المشاهد العادية التي تخرج عن دائرة السحر ووقوعه تحت تأثير دليله. ولو ترك نفسه على سجيتها، وكان في دوره أكثر بساطة وأقل تكلفا لكان خيراً مما رأيناه.
بقى أن نقول ان الحوار في الفلم لم يكتب بشييء من العناية، والنقص فيه واضح جداً. كما أن تقطيع الفلم لم يخل من الارتباك والاضطراب، وما نجد غناء فيي تفصيل كل هذا.
وفي النهاية أظن من االخير ومن التشجيع للسيدة آسيا على مداومة الجهد والعمل، أن نشكر لها ما بذلت وما حاولت، وان نرجو لها في الأفلام القادمة ما تصبو اليه من النجاح والتوفيق. فان أخطأها الحظ اليوم، فما نظنه يخطئها في المرات المقبلة.(33/69)
على مسرح الاوبر الملكية
تعمل على مسرح دار الاوبر الملكية هذه الايام فرقة غنائية فرنسية تضم بعض ممثلي دار (الاوبرا) في باريس (والاوبرا كوميك). وقد جرت التقاليد ان تشغل هذا الفصل من موسم الاوبرا في مصر فرقة ايطالية، وقد حرم الجمهور بذلك من الفن الموسيقي الايطالي على ماله من القدر والقيمة الفنية التي يعرفها عشاق الفن الموسيقي الغربي، واتيحت لنا هذا الموسم فرصة للتمتع بهذه الاوبرات العظيمة التي وضعها كبار الملحنين الفرنسيين.
ومن الاوبرات التي تعرضها هذه الفرقة (تاييس) و (مانون) و (لاكميه) و (كارمن) و (صيادو اللؤلؤ) و (فرتر) (وحياة البوهيميين) و (فاوست) وكلها من أشهر الاوبرات المعروفة، وبعضها مأخوذ من قطع أدبية لها طرافتها ولها قدرها في عالم الادب كفاوست وفرترلجيته، وتاييس لاناتول فرانس، ومانون للأب بريفو
وقد شاهدنا من هذه الاوبرات (تاييس) و (كرمن) و (مانون) ولمسنا عن كثب ما بذله أقطاب هذه الفرقة الغنائية من جهد، ومقدرتهم في اداء الاوبرا روحت عن نفوسنا كثيراً مما نعانيه من الغصص لما يلحق مسرحنا المصري من الركود بل العدم.
على أن من الحق أن نذكر بهذه المناسبة أن مناظر دار الاوبرا وملابسها أصبحت قديمة بالية على ضخامة ميزانية الدار التي لا يخصص منها الا القليل للنواحي النفية الخالصة، وقد كان هذا سبباً في الا تبرز هذه الاوبرات في المستوى الفني الحق الذي يضفي عليها جلالا وروعة، ولهذا يحسن المتفرج كثيراً من النقص، ولا تخرج الرواية بذلك في الثواب الفني اللائق بها، ومن الواجب ان نذكر أن دار الاوبرا لا تستطيع بمعداتها اليوم أن تجاري وسائل التجديد في الفن المسرحي الحديث، ومن الخير الا تكون دارنا الرسمية للفنون في مستوى أقل من الواجب، وفي مرتبة أقل من مثيلاتها من دور الاوبرا في العالم.(33/70)
الحركة المسرحية والسينمائية في الخارج
هوليود
تعد هوليود للسنة الجديدة نرنامجاً حافلاً بروايات من أفلام أكبر الكتاب العالميين المعروفين. وستخرج شركة مترو جلدوين ماير روايتي (النور الذي خفت) و (كيم) لرديارد كبلنج شاعر الامبراطورية البريطانية كما يسمونه.
وستخرج رواية (ما تعرفه المرأة) للكاتب الانجليزي الشهري باري، وتقوم بالدول الأول فيها هيلين هايز. كما تعد رواية (صور من المستقبل) للكاتب المعروف ولن للظهور على الشاشة الفضية، وقد سبق أن أخرجت له روايتي (جزيرة الدكتور مورو) و (الرجل الذي لا يرى). وسيرى رواد السينما رواية (دنيا جديدة عظيمة) من قلم ألدس هكلي الذي يعد من أعظم كتاب العصر الحديث.
وتستعد شركة راديو لاخراج راوياة برناردشو (تلميذ الشيطان) ويقوم بالدور الأول فيها جون باريمور الممثل السينمائي الشهير
وقد قبل هرلاميل لدويج الكاتب المعروف وصاحب التراجم الشهيرة أن تقتبس من كتابه عن نابليون رواية للشاشة الفضية، وسمثل دور نابليون فيها ادوارد روبنسون من أقدر ممثلي شركة وارنر السينمائية. وقد عاد لدويج أخيراً من هوليود وذكر لبعض الصحفيين أن من عزمه أن يضع كتاباً عنها قائلاً: إن للمدن كما للاشخاص شخصياتها الملاءى بالفواجع والمهازل على السواء.
برلين
دعا الهر هتلر زعيم حزب النازي ورئيس الوزارة الالمانية أنى أوندرا الممثلة السينمائية الشهيرة وزوجها ماكس شملنج الملاكم المعروف لتناول الشاي في قصره الخاص بمناسبة مبارحتهما المانيا الى أمريكا.
باريس
ايفون برنتان من أشهر ممثلات المسرح الباريسي وقد دعيت لزيارة لندن لتمثل رواية كتبها خصيصاً من أجلها مستر نويل كوارد الكاتب الانجليزي المعروف ومؤلف رواية(33/71)
(كفلكاد) الشهيرة. والرواية من نوع الاوبريت وقد عرضت على مسرح (ماجستي) وربما انتهزت بعض الشركات السينمائية في انجلترا فرصة هذه الزيارة وتعاقدت مع الممثلة على الظهور في عدة أفلام غنائية ناطقة.
لندن
ارتفعت الشكاية في لندن من أصحاب المسارح والممثلين ومديري الفرق من الضريبة التي فرضتها الحكومة على المسرح، وعقدت اجتماعات كحثيرة للاحتجاج على هذه الضر يبة واستطاعت سيبل ثورنديك الممثلة الانجليزية الشهيرة بما لها من المكانة والاحترام في جميع الأوساط أن تطلب من بعض أعضاء مجلس العموم البريطاني ممن يعنون بهذه المسائل عقد اجتماع خاص في إحدى غرف المجلس للبحث في هذا الموضوع. وتم الاجتماع خاص في إحدى غرف المجلس للبحث في هذا الموضوع. وتم الاجتماع منذ أمد قريب وحضرته سيبل ثورنديك وباحثت الحاضرين من النواب في أمر هذه الضريبة وقد وعدوها بعرض الأمر على المجلس في القريب العاجل.
قامت شركة جومون الانجليزية للسينما بتجربة هي الاولى من نوعها. والغرض منها تقريب السينما الى العميان وحثهم على مشاهدتها وأعدت الشركة ثلاث حفلات للعميان عرضت فيها فلم (انا كنت جاسوسة) وكانت الحركات السينمائية يتولى اذاعتها علىالحضور احد موظفي الشركة بواسطة ميكروفون خاص دجون أن يحول ذلك بينهم وبين سماع محاورات الفلم وحديث أبطاله. وقد نجحت التجربة وخرج الحضور مسرورين من هذه النتيجة التي قبرب اليهم احدث ما وصلت اليه المدنية الراهنة من وسائل الرفاهية والمتعة.
وبهذه المناسبة نذكر ان بعض المسارح تعد في صفوفها الامامية سماعات خاصة يستطيع بواسطتها الصم أن يسمعوا ما يلقى على المسرح اثناء التمثيل.
نيويورك
عمت البطالة المشتغلين بالمسرح في امريكا كغيرهم من أصحاب المهن والحرف الحرة، واشتدت الأزمة حتى أغلقت كثير من المسارح أبوابها، وأعلنت بعض الاندية الفنية(33/72)
وجمعيات الهواة أنها على وشك الافلاس ان لم تمد لها الحكومة يد المعونة، وخفضت المسارح مرتبات ممثليها بنسبة كبيرة، وتدفع نقابة الممثلين في نيويورك مرتبات من صندوق التوفير للممثلين العاطلين، وقد بذلت في هذا السبيل في العام الماضي 40. 000 جنيه، وأعدت هذه السنة مطعماً خاصاً لاطعام ثلثمائة من الممثلين العاطلين يتناولون فيه طعام الغداء كل يوم مجاناً.(33/73)
القصص
قصة مصرية
المعلم لوقا. . .
اجتاز الترام الميادين والشوارع، وأخذ ينساب بين الحقول في الطريق إلى الأهرام؛ وكان القمر قد نفض الغيوم عن وجهه، وبدا سافرا يضحك للحقول، ويحنو على النباتات المرتجفة في نسيم الليل، ويناغي الأغصان المشرئبة اليه من أعالي الأشجار، فانبسطت أسارير (المعلم لوقا) سائق المركبة، وفارق العبوس وجهه الهزيل اليابس، وأخرج علبة سعوطه وأدناها من أنفه، ييلتمس الصحو والانتعاش.
لم يكن الرجل في حال حسنة، لأن الليلة باردة قارسة البرد، وهو مسن، ليس في هيكل من اللحم ما يقي عظامه المقرورة، ولو كان معافى لما شكى، لكنه مريض، مبهور الأنفاس من السعال، معصوب الرأس، يحرك عينيه بعناء كأن السعال قد شدهما في محجريهما بخيوط قوية. . . ما كان أحوجه أن يأوى الى فراشه! لكنه آثر أن يشتغل الليلة، ليظفر بيوم راحته في الغد، لأن الغد (عيد الميلاد) وهو يريد أن يبقى في البيت مع زوجته (كتُّورة) وابنته (ياسمينة) يستقبل المهنئين بعودة الأيام، والمتمنين أن يمضي الحول، فاذا بياسمينة أم لطفل جميل.
وإذ ذكر (عم لوقا) فناته ابتسم، ونظر في ساعته يتعجل ميعاد العودة، ثم أرسل بصره في الطريق أمامه، وابتدأ يغرق في تأملاته: كم له من السنين وهو يقف هذه الوقفة؟!. . إنه الآن شيخ! كان فتى عندما ارتدى سترة (المصلحة) للمرة الاولى. كان وجهه ناضراً، وشاربه أسود مفتولا! وكان له حاجبان جميلاً! وكان شعره مرتباً معطراً!. . أما الآن فقد صار يابس الوجه! ظهر الشيب في حاجبيه، وعبثت بجمالهما الأيام! ولم تعد رأسه معطرة مزينة، بل استغنت عن المطر بأرد الصابون؛ ولم يعد للمشط معها شأن، لأن شعرها قد انتحل، ولم تذر الأيام منه غير بقايا مبعثرة متباعدة. . . وندت عن صدره آهة طويلة وهو يغمغهم: (ما أعجب أمر الحياة!!).
واكتابت نفس (لوقا) واشتد عليه صداعه، واستيقظ سعاله، فاضطربت الصور في مخيلته، وانهدت قواه، ولم يعد يملك كل وعيه، وصار يستقبل بذهول هذه الأصوات المنصبة في(33/74)
أذنيه من ضجيج العجدلات، وصريرا لآلة، وهمهمة الأشجار في أذن الليل. . . فلما وصل التراتم الأهرام تهالك في مقعده، وأغمض عينيه وهو يتحسس بيده جبهته الملتهبة، ويحدث نفسه: لا بأس. سأقضي العيد مع ياسمينة، وارتسمت فوق شفتيه ابتسامة سعيدة، ورقص شاربه الفضي.
حاول لآن ينام ريثما يحين وقت العودة، لكن الالم كان يحتدم في جمجمته، ويتردد في عظامه فيعيده إلى اليقظة. . . وأخيراً آثر أن يفكر، وأن يرسل روحه في ماضيه.
واضطربت مقلتاه خلف جفنيه المقفلين! فقد ذكرلا (آلة القيادة). آلته المحبوبة، التي يحركها فتندفع المركبة، وتشق الطريق وهي تغنى بعجدلاتها فوق القضبان!. . واشتاقت يده أن يلمسها، ويشركها سعادته بالعيد، فمد نحوها يديه، ما أعزها عليه! أليست رفيقة حياته، وعشيرته الدائمة، كزوجته كتورة سواء بسواء!.
وتقلصت ابتسامته عن شفتيه!. ذكر سيئات آلته، وانها لم تكن له مطيعة ولا موانية في بعض الاحيان. وبدت امنام عينيه صور أشلاء مبعثرة، وطربوش فارق جبهة هشمتها العجلات. ودم قان يبلل الحصى ويصبغ القضبان!. . وذهب يستر عينيه بيده المرتجفة النحلية، فقد ذكر موقفه في قفص الاتهام، في محكمة الجنايات، والنائب يحدث المستشارين قائلاً: كان الصبي وأخته في طريقهما إلى المدرسة عندما دهمهما هذا الرجل الشرير المستهين بالارواح من العدل أن ينال أقصى القصاص.
لقد برأته المحكمة. (ومضت عشر سنوات) لكنه يشعر للآن أنه مذنب. وأنه قد ارتكب خطأ ما. وخيل اليه ان الصغيرين ينظران اليه بعيون بريئة عاتبه مملوءة بالألم. وأن أبويهما يجدد ان الحزن في العيد ويذهبان الليلة الى الكنيسة في ثياب سوداء يلتمسان العزاء ويسألان النعيم لولديهما والسلوان لأكبادهما الحرى، فانسابت الدموع من بين جفنيه وبللت وجهه النحيل، وغمغم بصوت حزين (رحماك يا رب)
وارتد فكرة من هذه الجولة في الماضي. وذكر أن (ياسمينة) تنتظره ليشاطرها طعام العيد ورأى مائدة شهيةـ متعددة الالوان عقب أيام الصوم. وما تنالو فيها من طعام غليظ مجهز بالزيت، فسال لعابه. وبدأت اساريره تنبسط. . وبدأ يصفح عن آلته العزيزة وما فعلت طالما مكرت به كتورة واذنبت اليه وسامحها فلا ضير ان سامح آلته المحبوبة.(33/75)
وأخذ القمر يغالب الغمام ثم احتجب، وأظلمت الدنيا وامتدت ظلمتها الى روح (المعلم لوقا). . عاد فذكر شيخوخته، وان الحياة ستتبرع له بأيام أخرى قليلة إن كانت كريمة. من يدري قد لا يأتي عليه عيد جديداً. . قد تقضى (ياسمينة) العيد الآتي وحدها، وتشتمل بثوب أسود، وترسل أثوابها الزاهية الملونة الى المصبغة: ويطفئ الحزن لمعان عينيها، ويذهب ببهجة قلبها، وتصير ابنة يتيمة منكرة!. .
نشر يديه في الهواء كأنه يحاول ان يحميها، ثم سقطت يداه فوق ركبتيه، وانتابته رعدة، وأخذ السعال يصخب في صدره. ففتح عينيه وأخذ يحدق في الظلام وقديمم وجهه شطر الصحراء ورأس نفسه يرتقي الاهرام كما كان يفعل ايام الشباب! وخلال انه جالس على القمة يستعرض الحياة من هناك، ويرسل بصره من مكانه العتيد في القفر البعيد الممتد!. . هو واحد من هذه الهوام الزاحفة على ظهر الارض يسحقها الموت بقدمه وهي تسعى، فتضير نسياً منسياً كهذه الحشرة التي يدوسها عابر السبيل!.
وبدت له الحياة متعبة ثقيلة لا خير فيها. . . ما اشبه برجل سائر على الرمال، تائه ضال، يسير نحو مصير مجهول تضربه الشمس، ويقرسه البرد، وتروعه وحوش الفلاة. . . يسير ويسير، وهو ينشد الواحة. ويحتمل الصعاب والمشاق على أمل أن يستريح عليها راحة الأبد، ولا يعود يخشى عرياً ولا جوعاً. . .
ماذا كسب من حياته!. . لا شيء. عمل، وعرق، وخبر. . . ليست هناك مسرات. ولد وتألم، سيموت. لم يبق غير المرحلة الاخيرة. . .
وحدق في الآلة التي امامه، وهي جالسة صامتة، تنتظر يده لتدور، وتفنى الوقت في الدمدمة. لم تعد جميلة في عينيه! ود لو يحطمها! رأى نفسه عبدا لها مربوطا بها يطوف واياها حول المدينة كما تطوف البقرة الذلول حول الساقية كل النهار. أي فرق بينهما!. . بل انه اسوأ منها حالاً! هي تعمل لقاء حفنة من الشعير، وهو يعمل لقاء أجر لا ينيله بين الناس الترف الذي نالته بين البهائم. . .
ماذا أصاب من حياته!. . تنبهت روحه، وأحس كأنه قد حمل على كتفه من ركبوا معه طيلة مدة خدمته. ذكر مركبة الدرجة الأولى التي تكون الى ظهره اذ يقود الترام. وذكر المترفين الذين يصعدون اليها. ناس من طينة غير طينته. ليسو قوما مملقين متعبين مثله(33/76)
أيديهم ملساء ناعمة لم يجر عليها العمل الشاق. وجباهم منبسطة مطمئنة لم يبللها عرق الكفاح، وليس على وجوهم ثوب الذل الذي نسجه على وجه الضنك والزمان اللئيم. . ذكر كبرياء بعض السادة وعجرفة بعض السيدات. وخشيتهن على أثوابهن الجميلة أن تمسها سترته الخشنة أو يداه الشقيتان.
ذكر كم منهم ومنهن يندفعون الى باب المركبة وهو يهم بالمسير فتكاد أقدامهم تزل، فيقتحمونه بأبصارهم وتزدحم أفواههم بكلمات الازدراء والتحقير، ويصعقونه بأبصارهم الآلهة وهم يصرخون (يا اعمى) بينما يقيدون (نمرته) في مذكراتهم ذات الجلد الجميل المزركش، ليبلغوا شكواهم الى الشركة، حتى تجزيه بخصم بضعة أيام من راتبه!. . كم من الأيام عمل بلا اجر، بفضل هذا العنف من الناس! كم غضب ويئس وطاش حلمه. ورد لو يقتاد المركبات الى النيل لينتقم ويستريح. . عاد الى حلق المعلم لوقا طعم المرارة الذي يغص به المضطهد والمظلوم. وامتدت انامله المرتجفة الى القطعة النحاسيةالمعلقة بياقته. وقد نقشت عليها (نمرته) فأحسن كأنه مسجون محكوم عليه بالعمل الشاق مدى الحياة، وغمغم. (يا رب رحماك!. .)
ونظر في ساعته. . . بعد قليل سيعود الى القاهرة. سيجمع في طريقه الخارجين من المسارح والصالات. عشاق مسرات الليل زبائنه الدائمين، وشر الراكبين. رحم الله ايام الماضي! لم يكن الناس قد تعلموا الافراط في السهر، فلم يكن الطريق يزدحم عندما ينشطر الليل. وكان يسوق بسرور واطمئنان لا يخشى شيئاً، لأن الطريق خال والناس في مضاجعهم يستقبلون احلام الفجر. . أما الآن فيجب ان يجلو أعصابه ويشحذ حواسه، ويلزم جانب الحيطة والحذر، لأن الحانات بدأت ترفض المتهالكين على الشراب، وتطرد النائمين فوق الموائد. وهم الآن مبعثرون في الطريق يترنحون وقد يحلو لبعضهم أن يداعب السائق، أو يغني وهو جالس بين القضبان!.
وقد بدأت الصالات والمراقص تلفظ روادها. دور الدعارة تتقيأ من ابتلعتهم أول الليل. والفتيات خارجات من دور السينما في رفقة الفتيان! في ذراع كل فتاة شاب! والذراع حار! لا تحلو لهم إلا حفلات الليل! تنهد (المعلم لوقا) وهو يفكر ويحدث نفسه: رحم الله ايام زمان! أيتغير الناس هكذا! أين جيل (كتورة) وعهد الحرائر! أين الثياب الفضفاضة! أين(33/77)
البرقع الابيض. واليشمك، والحبرة! ذهبت الحشمة وولى الوقار الادبار من (بر مصر)!. . ولم يعد النساء يعنين بصيانة أجسامهن من عبث الناظرين لا يرى فقدت هيبتها وأصبحت وسيلة بنات البلد لهز الاارداف!. .
ومض السخط في عيني (المعلم لوقا) وحوقل وهو يعيد في ذهنه صورة هؤلاء الفتيان الذين وقفوا بجانبه بالأمس بعد منتصف الليل. كانت رائحة الخمر تنبعث من أفواههم، والكلمات البذيئة تتكاثر عند شفاههم كما يتكاثر الذباب عند الأقذار. كانوا يتهامسون متهكمين بطربوشه الباهت الملوث، وكيف اسودات حافته. . . وأخذ يجذب شعرات شاربه بعنف وأنامل متوترة!. .
واتسعت حدقتاه فجأة!. . صور عنيفة كانت تخطر أمام عينيه! ذكر أنداد هؤلاء الغلمان من أربعة عشر عاماً خلت. . كانوا رجالا بأرواحهم فتياناً بأجسادهم. لأن الزمان كان يخلق في الفتيان جهد الرجال. كانت الأرواح كاملة النمو تامة النشاط. لم يكونوا يتحدثون عندما يقفون خلفه عن الفتيات والموادات، لأن حديثاً آخر كان يشغلهم. ولم تكن تنبعث من أفواههم رائحة الخمر بل قد كانت تقبل الى قفاه اذ يتناقشون أنفاس حارة، نرسلها صدور ألهبها الشوق للحرية. لم يكونوا ضاحكين ساخرين، بل قد كانوا أغلب الوقت حزانى واجمين، ينظرون في صحف الليل فيصمتون ويطيلون الصمت، وهم يحدقون في أعمدة الصحيفة بيضاء لا كتابه فيها، لأن يداً تحب مصر تبعثر الحروف المصفوقة حتى لا تستيقظ الأرواح لكن الأرواح يقظي متنبه، تقرأ الحديث، وتعلم الخطب وإن لم يكن كتوباً!. .
لم يكونوا يتهكمون به، بل قد كانوا يحدثونه عن مصر الفتاة، والمستقبل، والأيام الآتية!. . ويناشدونه ان يلبي داعي الوطن يوم يطلب الوطن المضني دماء بنيه يجدد بها الحياة.
وازدحمت أمام عيني (المعلم لوقا) الصور المجيدة. وبكى كأن العام 19، والتلاميذ عائدون من مدارسهم يملأون الترام ويكونون مواكب جميلة متنقلة هاتفة للحرية! وهو القائد لهذه المواكب لانه السائق، قائد فخور تياه، لا يزعجه رفيف الرصاص، تطلقه أيد أثيمة. مشتاقة لابادة الارواح. دائبة على صراع الأحرار. وتمثل في ذهنه صورة الفتيان وهم يسقطون مجندلين يهزون الأعلام في أيديهم وهم يتخبطون في دمائهم. وذكر كيف غلى الدم في(33/78)
عروقه فقفظ من الترام وتلقى العلم عن أحد الشهداء وذهب يعدو في الطرقات يزأر بأن الحياة لمصر والنيل لبنيه!. . وأحسن بدم البطولة يعود فيجري في عروقه، ويجدد في صدره الحياة، فشمخ بأنفه، وصعر خده، وابتسم ابتسامة استحمت في الدمع المتهاطل من عينيه، ودس يده في جيبه يلتمس علبة سعوطه وأفرغ ما فيها في أنفه وهو يغمغم! (ياما شافت العين يا لوقا. .)
وكأن صدره لم ييحتمل هذا الأنفعال فاستيقظ سعاله، وأخذ يعبث بانفاسه في غير رحمة ولا هوادة، حتى اغرورقت عيناه وانصدع جنباه. هي نزلة شعبية مزمنة مضت سنين وهو يتطبب، وينفق في الادوية نصف اجره الضئيل على غير جدوى. ولم تكن النوبات بادئ الأمر حادة هكذا ولكن مهنته هي التي قضت عليه استقبال هواء امشير البارد وهواء بؤونه الناري هو ما أحدث هذه التهيجات بصدره واتلف رئتيه. . كم هم بترك العمل، ثم كان يذكر حاجة عياله للقوت. فيعود وهو ناقم. يعود لخدمة سيد يرى أرواح خدامه أرخص من أن تفتدى بالواح من الزجاج تقيهم تغيرات الجو! ليس أمامه الا ان يخضع، ويحتمل، ويدفع ثمن قوته من حياته، وينفق سلفا أيامه الآتية ليتقي غوائل الجوع في الغد القريب!. .
ولم تتركه غلته ليفكر، وبدأ يسعل من جديد. . وتنهد. . لو كان له أولاد لكان الآن في دفء الفراش. رجل سيء البلخت. دفنهم بيده اربعة. غيبهم التراب وهم في سن الشباب ليتهم ماتوا صغارا كاخواتهم الآخرين قبل ان تتعلق روحه بهم ويحبهم حبا مفرطا كانت يد المنون تقصفهم كما تقصف الريح السنابل وقد بدأت تمتلئ بالقمح. .
واشتد البرد، وازداد الليل حلكة، وساد الارجاء صمت عميق، وأخذ الرجل ينتفض، خيل إليه أن أولاده الأربعة يحيوطون به، جالسين في اكفنمهم لا تبين منهم غير وجوهم الشاحبة، وانهم يعتبون عليه اهماله في علاجهم، وعدم مواظبته في السهر عليهم في مرضهم، وأمضه هذا الخاطر وأقلق روحه، وذهب الشك الماكر يعذبه، وذهب الوهم يصور له انهم يحتضرون الساعة بين يديه، وانه يسبل أجفاههم، ويطبع على جباههم القبلة الاخيرة.
كان يحسب أن الجراح قد اندملت، وأن يد النسيان قد مسحت الاحزان عن صدره، فاذا بالذكرى تمزق هذه الغشاوة الرقيقة التي نسجها الزمان وإذا بالجراح تتفتح، وإذا به يحسن(33/79)
ان بين جنبيه كبداً قد اخترمها الأسى، فلم يبق منها غير قطعة كالاسفنج راوية من قيح الحزن وصديده.
ووضع يده على جنبه يلم بها حشاه الممزق، وأخذ يبكي. . يبكي؟!. كيف! لم يكن يبكهم وقد كان الحزن جديداً، لأنه كان وقتذاك رجلا قوياً. وكان يزعم أن البكاء للاطفال والاحتمال للرجال، لأن الرجل كفؤ لحمل اثقال الهموم. بل قد كان ينكر على زوجته أن تعول ونتحب، ويطلب منها أن تكون امرأة صبوراً قوية، وكم اختطف حزام من وسطه وانهال عليها بالضرب الموجع - لترأفبنفسها! فما باله الآن يبكي وقد صار شيخاً؟! ان الاطفال اضراب للشيوخ في الابانة عن عواطفهم!.
وأهمته هذه الفكرة، وأزعجه أنه صار ضعيفاً يضطهده الحزن فلا يستطيع حبس دمعه، وكتم أنينه وحدث نفسه: (والله طيب يا زمان! بقيت عيل يا لوقا! فين عزم الرجال!. .)
وصعب عليه الامر فاستخرط في البكاء وأخذ ينشج نشيجاً عالياً. وإذ هو في بكائه فاجأته نوبة السعال، وكانت هذه المرة قوية مجتاحة متلفة. . وأحس (المعلم لوقا) كأن روحه تتسرب من بين جنبيه. وكان أعضاؤه ترتجف وتتشنج، وأنفاسه تختلج في صدره اختلاجاً قوياً. ثم أخذت حركته تهدأ، ورعدته تسكن، وأنفاسه تعود الى الخمود.
وشعر (لوقا) في تلك الآونة بشوق شديد لياسمينة، وخيل له أنها مقبلة اليه فابتسم، ومد نحوها يديه، ثم سقطت يداه الى جانبه، ومال عنقه الى كتفه. .
وأزف وقت العودة، وذهب (الكمساري) يتفقد صاحبه، وهمس في أذنه: لوقا. كل عام وأنت طيب. الدنيا برد. سوق بسرعة هلكنا. يتوب علينا!. .
كان لوقا فاتحا عينيه يحدق في الفضاء، لكنه لم يجب رفيقه، فاغتاظ، وظنه لا يحفل بحديثه فلكزه واذا به يتداعى بين يديه. .
وظهر له ما خفى من أمر زميله، وحدق في عينيه فلعم أن (المعلم لوقا) قد أنتهى أمره مع الحياة فاسبل جفنيه. ومزق السكون صوت ينادي: (لا حول ولا قوة الا بالله. . . انا لله وانا اليه راجعون!. .
كانت (كتورة) تغط في النوم، وكانت الأبنة جالسة في ثوب العيد تنتظر أباها وقد لعب القلق بفؤادها، فلما قرع الباب تهلل، وجهها وهتفت وهي تضع يدها على المزلاج: (ابي،(33/80)
كل عام، وانت بخير).
ولم يجب أبوها، لأنه كان نائماً على كتف رفيقه. وكان يبدو على وجهه ان نعاسة عميق، وانه لن يستيقظ سريعاً، وحدق ياسمينة في وجهه لعله يلين ويستيقظ، فلم تظفر بغير تلك الابتسامة الواضحة على شفتيه، كان كان سعيداً، موفور السرور بالوصول (الى الراحة)
يوسف جوُهر عطية(33/81)
الكتب
2 - أهل الكهف
قصة مسرحية للاستاذ توفيق الحكيم
بحث وتحليل ونقد بقلم الأديب عبد الرحمن صدقي
ألوان التفكير:
لا نقصد الى استقصاء ألوان التفكير في الرواية. فالتفكير العميق المنساب في غير للجب ولا عنف هو من أظهر مميزاتها. وقلما تخلو منه صفحة من صفحاتها. والقارئ المطلع على الادب العالي في الأمم الراقية يألف هذه الأفكار، ولا يجد هذه المناحى من التفكير غريبة عنه. وانما براعة هذا المؤلف المسرحي حق براعته في أنه لا يشعرك بأن له فكرة، أو انه يفكر ويتفلسف. وانما هي وقائع الحال ناطقة، وهذا الذي تسمعه هو ما يجري على لسان الحال، وتنطلق به كل نفس على سجيتها في مثل هذه الملابسات
فالرواية فلها فكرة عامة خرج بها المؤلف من بعث هؤلاء الذين بعثوا. وفيها تشاؤم متغلغل خفي نكتفي بالتنويه به تاركين للقراء اكتناهه.
كما أن كل فصل من الفصول الأربعة يكاد يكون له فكرة خاصة يدور على محورها. فهو يعرض في الفصل الاول للأيمان وصنوفه: فثمة ايمان الراعي الموروث في رسوخه وبساطته من غير تحليل ولا تعليل، فهو ايمان التسليم الخاشع والعاطفة الجميلة الساذجة. فاسمع اليه يروي يوم أن ذهب الى المدينة في بعض شأنه، فلمح خارج أسوارها راهباً يتكلم في جميع صغير بين خرائب قديمة تخفيهم عن الأعين؛ فاقترب وأصغى اليه، فاذا به كأنما انقلب إنساناً آخر. فلما سأله صاحباه في الكهف عما كان يقوله الراهب؛ قال: (لست أذكر شيئاً مما قال، لكني لن انسى ما شعرت به إذ ذاك، إحساس لم يعترني في حياتي من قبل إلا مرن إذ كنت أهبط الجبل ساعة غروب، فأشرقت على منظر بالخلاء لم ار اجمل منه، فلبثت ليلتي أفكر وأستذكر أين رأيت هذه الصورة من قبل؟ أفي االطفولة؟ أفي الاحلام؟ أم قبل أن أولد؟. إن هذا الجمال على غرابته ليس مجهولا مني. وقمت في الفجر فذكرت صورة البارحة، وفجأة برقت في رأسي فكرة: هذا الجمال كان موجوداً دائماً منذ(33/82)
الازل، منذ وجدت الخليقة. هذا الاحساس بعينه هو ماشعرت به وأنا أصغي الى الراهب. إن كلامه الذي أسمعه لاول مرة ليس مع ذلك جديداً عندي. أين سمعته ومتى؟ أفي الطفولة؟ أفي الحلم؟ أقبل أن ولدت؟ وتولدت في نفسي عقيدة أن هذا الكلام هو الحق، إذ لا أتصور بدء الوجود بدونه ولا انتهاءه بدونه. . .)
أما المستشاران فهما بطبيعة تعليمهما وحداثة عهدهما بالعقيدة يؤمنان ايمان العقل والمنطق. بلا شأن لله فيما وقعا فيه بل هما اللذان أوقعا نفسيهما في التهلكة. وهما يفكران في أمرّهما أكثر من تفكيرهما في الله. واذا صليا له فلكي يسألانه الخير - هذا لامرأته وولده وذلك لحبيبته. والحب يبتلع كل شيء حتى الايمان لانه ايمان أقوى من كل ايمان. وما دام الله قد خلق للناس قلوبا فقد نزل عن بعض حقه عليهم. . . واذا هما قابلا بين ايمانهما هذا وايمان الراعي قدرا في تحليل وتعليل أن صاحبهما خلى، فما يضيره أن يمنح قلبه كله لله أو للشيطان
ثم ايمان المرأة، فقد كان حسب ابنة الملك أن تسمع الفتى الذي تحبه يقول لها وهي في ثياب بيضاء تخطر في بهو الأعمدة في هدأة الليل وسكون القصر (إنك ملك من ملائكة السماء) وأن تعلم منه ان هذا في المسيحية اسم لمخلوقات أسمى وألطف من مخلوقات الارض، حتى رضيت نفسها عن المسيحية وارتاحت لها بحافز ما في الاحياء عامة وفي المرأة خاصة من الانانية الكامنة.
ويأتي الفصل الثاني فتراه يعالج في مطلعه طبيعة المرأة. فهي أبداً امرأة، قديسة كانت أو غير قديسة، ملكة أو من بنات السوقة فاذا قيل ارتباط بعهد مقدس لم يخطر لها انه مع الله بل حسبته مع من يختاره قلبها. فقلب المرأة يتسع دائماً لله وغير الله. ولعل اللقديسة كانت تفضل أن تكون امرأة لو أنها استطاعت.
والفصل الثالث عن الزمن. فالمؤلف يشعرك بأنه لا حقيقة المزمن خارج شعورنا وأنه على قدر تطور شعورنا تكون حركة الزمن. فكل واحد من أهل الكهف لم يشعر بشقة الزمن الذي غبر حتى أحس بالشقة السحيقة بينه وبين من حواليه في الشعور. والذي أطال وهم أصغر فتية الكهف أنه التقى بمن تشبه حبيبته، وتكاد تكون مثالا لتقمص روحها، فلم يصدق دورة الزمن حتى حدث له ما حدث. ثم اسمع لقائل منهم يقول: (حياة جيدة! إن(33/83)
مجرد الحياة لا قيمة لها. ان الحياة المطلقة المجردة عن كل ماض وعن كل صلة وعن كل سبب لهي أقل من العدم بل ليس هناك قط عدم. ما العدم إلا حياة مطلقة)
والفصل الأخير يعرض لحيرة العقل في الحد بين الوهم والحقيقة، وما يعترض المعرفة الصحيحة من عقبات لقيام العواطف االداخلية والمؤثرات الخارجية، وكيف اختلاط الحقيقة بالوهم بحيث يرفع الخيال عالم الواقع ويجمل الحلم عالم اليقظة، كما يفعل الفني بمادته من الحياة فيسبغ عليها من عبقريته معنىً فنياً من جمال أو فظاعة لم يكن لها.
أسلوب التأليف
المؤلف خبير بالقصة المسرحية، وما يدخل هذه الصناعة من التفنن والاحتيال. فلم يغفل عن شيء فيه تقويه العمل والحركة في روايته. وقد بث في اثناء كل فصل من فصولها المفاجأة بعد المفاجأة فكلما استقرت حواسك وألفت من القصة مسلكاً، ابتدهك بما يجدد اهتمامك ويفززك، فلا يدركك فتور ولا ركدة. والعجب أنك على عرفانك بوقائع القصة المروية فأنه يسوقها في نظام يجعل شعورك بها جديداً، ولا يسردها سرداً في نفس واحد، بل يفرط عقدها حبة حبة بين حين وآخر في ظرفها الملائم وموقعها المناسب، فاذا كل واقعة تفعل في نفسك كأنه اول عهد لك بها. كما أنه لا يفتأ يستغل كل جزء منها في أصغر تفاصيله ويستنبطه حتى أخر قطرة فلا يتركه بعده الامصاصة جافة. ومؤلفنا من طبيعة ذهنه الاستطراد والتنقل من فكرة ومن أحساس الى إحساسن تتداعى جميعها في سبحات حالمة دون ان يكون سياقها منبتاً وعراهاً متفككة ومن ديدنه أحياناً تكرار الجمل وترديد الخواطر في مواضع تشعرك بتعلق القوم بأمل ضعيف واه يعيدون فيه ويستأنفونه محاولين بهذا إقناع أنفسهم. ثم ان عنده مقدرة بارزة الأثر في تعقيد المواقف وخلق سوء التفاهم بحيث يتكلم كل فريق ويتصرف بما يفهمه اللآخر على غير الوجه المقصود وإن كان يحتمله منطوقه. وله هنا وهناك فكاهة دقيقة تجمع في بعض الاحايين بين الفكه والفاجع ويتجاور فيها الدمع والابتسام.
وعبارة الكاتب فيها قصد وايجاز تغنى بالاشارة عن الافاضة وتنطوي على ايحاء يفتح للقارئ نوافذ وكواء على آفاق وأجواء. وفيه شاعريه غنية تمده بالجميل قالباً ودلالة. فيقول مثلا عن أساطير الأمم أنها ضمير الشعب. ويقل على لسان أحد فتية الكهف وقد برم(33/84)
بالحياة في هذا الوسط الجديد (إلى الكهف، الكهف كل ما نعرف من مقر في هذا الوجود، الكهف هو الحلقة التي تصلنا بعالمنا المفقود) وعلى لسان آخر منهم (أننا أشباح لسنا ملك الزمن. إنما نحن ملك التاريخ. وقد هربنا منه. فالتاريخ ينتقم).
كذلك قصة أورشيما فهي في ذاتها جميلة رائعهة ويزيد في روعة جمالها موضعها من قصة أهل الكهف لما بينهما من مقابلة، ولو أنه يخشى ألا يكون للرومان والمسيحيين الأوائل علم بأساطير اليابان في عزلتها العتيدة.
وإلى هذا ملكة في التصوير ملحوظة. وأبرع مثال عليها وصف الراعي لاحساسه بالغربة في هذه البيئة المستحدثة:
(آه لو تعلمان ما رأيت الآن في شارع بطرسوس، إن كانت هذه بعد مدينة طرسوس (لو رأيتماني وقد أحاطت بي ناس في ثياب غريبة وعلى وجوههم ملامح غريبة. وأينما سرت فهم في إثري بنظراتهم المستطلعة الحذرة. وكأنهم يتفحصون امري تفحص من يحسبني من عالم الجن. لا أستطيع مخاطبة أحد منهم، وإن فعلت فلا أحسبني اجد مجيباً بل نظرت صامتة مفزوعة. . . بل إني سمعت اثناء هذا نباحاً خافتاً مخنوقاً، فأنتبهت فألفيت كلبي قطميراً كذلك قد أحاطت به كلاب المدينة، وطفقت ترمقه وتشمه كأنه حيوان عجيب. وهو يحاول الخلاص من خناقها ولا يجد الى ذلك سبيلا وجرى المسكين أخيراً الى جدار قريب ووقع تحته اعياء ورعباً، والكلاب في أثره، حتى وقفت منه على قيد خطوة. تعيد النظر اليه، ويريد بعضها الدنو منهه لمعاودة شمه فيقصيها الحذر. . هذا أنا، وهذا كلبي قمطير في هذه الحياة الجديدة.
وله أيضاً زكانة لأدراك العواطف المركبة وتحليلها، كاستمتاع برييسكا بعنف فتى الكهف في كلامه معها يحسب أنها وحنثت بعهده، فهي وإن صدمها عنف هذا الخطاب الا أنه يشعرها بأنها محبوبة - ولو وهما، يشعرها بعاطفة الحب التي تعيش كل امرأة في انتظارها
كذلك له توفيقات عجيبة نذكر منها على قبي المثل أنه يجعل الراعي أول من استيقظ من أهل الكهف كعادة الرعاة في التبكير ويتلوه مرنوش لأنه أكبر الصاحبين سنا والمرء يقل نومه كلما تقدم به العمر، وأخيراً مشلينيا لأنه فتى والفتيان نومهم عميق. وتجتزئ لضيق(33/85)
المقام بهذا المثل. ولا نحسب أن المؤلف حسب لكل هذه التوفيقات حساابها الدقيق ودبر لها التدابير. ولكنها - فيما نعلمه عن المؤلف - الهام ذوقه الفني. وان هذا الذوق الفني العميق الشعور هو فيما يكتب هايه ومسدد خطاه
الختام
فقصة الكهف قد استوفاها مؤلفها الشاب من ناحية التأليف المسرحي ورسم الشخصيات وعمق التفكير وجمال الحوار. ولا شك أن القارئ لا يفرغ منها حتى يقول: هذا الفتى فنان حتى أطرقاف أنامله.(33/86)
العدد 34 - بتاريخ: 26 - 02 - 1934(/)
(أسبوع جول رومان
للدكتور طه حسين
يستطيع هذا الأديب الفرنسي الكبير أن يقول لنفسه منذ الآن ولمواطنيه إذا عاد إليهم بعد أيام انه شغل المثقفين من سكان مصر أسبوعاً كاملاً بل اكثر من أسبوع، ويستطيع أن يقول لنفسه ولمواطنيه انه شغل هؤلاء المثقفين من سكان مصر شغلاُ لذيذاً مريحاً ممتعاً لا ألم فيه ولا جهد ولا عناء، وإنما فيه الحديث الحلو، والحوار العذب، والتفكير الخصب، والإعجاب بمظاهر الجمال الفني الرفيع وقد يكون مسيو جول رومان من هؤلاء الأدباء المتواضعين الذين يسرهم ما يلقون من نجاح فيتحدثون به إلى أنفسهم والى الناس، وينعمون به إذا تحدثوا إلى أنفسهم أو إلى الناس. وقد يكون من أصحاب الكبرياء التي تدعو أصحابها إلى العجب والتيه والخيلاء فيزدهيهم النجاح ويدفعهم الفوز إلى أن يفاخروا ويكاثروا ويستطيلوا على المنافسين، وقد يكون من أصحاب هذه الكبرياء التي تدفع أصحابها إلى ان يستغنوا بأنفسهم عن كل شيء وعن كل انسان. والى ان ينظروا إلى الناس في شيء من الازدراء الرحيم، فلا يزدهيهم إعجاب الناس بهم، ولا يسوؤهم اعراض الناس عنهم، ولا يستخفهم من الناس شيء، لأنهم لا ينتظرون من الناس شيئاً، وإنما ينتظرون من أنفسهم كل شيء؛ وأكبر الظن ان جول رومان ليس من هذه الطبقة بين طبقات الأدباء، فقد رأيته شديد العناية بما يكتب عنه في مصر او يقال فيه، ورأيته شديد الحرص على ان يتبين ذلك ويحصيه ويتفهمه. ثم سمعته يتحدث في بعض محاضراته عما قال هذا الناقد أو ذلك في هذا الكتاب أو ذاك من كتبه التي أذاعها في الناس، بل سمعته يتحدث في بعض محاضراته بأنه إذا اصدر كتاباً من الكتب التي يصور فيها حياة الأفراد والجماعات كانت عنايته برأي هؤلاء الأفراد وهذه الجماعات في كتابه أشد جداً من عنايته برأي النقاد والزملاء. وقد قص علينا في ذلك قصصاً طريفة، وكان ظاهر السرور والرضى حين كان يقص علينا هذه القصص لأنها كانت تصور مقدار ما ظفر به من التوفيق إلى رضى الأفراد والجماعات الذين وصفهم في كتبه وأسفاره. وقد حدثنا بأنه يلهو أحياناً بالمقارنة بين ما يكتب إليه القراء وما يكتب عنه الناقدون، وبما تنتهي إليه هذه المقارنة من بعد النقاد عن الحق والإنصاف وتورطهم في الخطأ واللجور، ومن إصابة القراء لمواضع الصدق وحسنالتقدير. وإذا لم يكن جول رومان من أصحاب الكبرياء(34/1)
الطاغية المعتصمة بنفسها المتعالية عن الناس، فليس من شك في انه سيغتبط ويبتهج حين يعلم أنه قد شغل المثقفين في مصر أسبوعاً أو أكثر من أسبوع، ولم يثر في نفوسهم الا حباً له وإعجاباً به وعناية بآثاره، وجداً في قراءتها أو الاستمتاع بما فيها من جمال. نعم وسيبتهج ويغتبط حين يعلم ان المثقفين من أهل مصر قد نظروا إلى هذا أسبوع الذي أقامه بينهم محاضراً متحدثاً كأنه عيد من أعياد الثقافة العليا، خلصت فيه نفوسهم من أثقال الحياة اليومية وأعبائها وتكاليفها وما تثيره من الخصومات وما تبعته من الهموم التي تضعف القلوب، ومن الأحزان التي تميت النفوس، ومن المشاغل التي تنحط بالعقول عن مكانتها وتبتذلها ابتذالا.
بدئ هذا الأسبوع حين ألقى جول رومان محاضرته الأولى في مدرسة الليسيه الفرنسية، وختم حين ألقى محاضرته الأخيرة في قاعة الجغرافية مساء الخميس الماضي، وكان في محاضرته الأولى يتحدث عن وطنه فرنسا ورأى الأفراد والشعوب فيه، وكان في محاضرته الأخيرة يتحدث عن نفسه وعن كتابه الأخير، وعن رأي الناس من مواطنيه ومن غير مواطنيه فيه وفي هذا الكتاب. وكان فيما بين ذلك يتحدث عن العقل وعما أحدث في حياة الناس السياسية من خير، وما ينتظر أن يحدث في مستقبل حياتهم من خير. وكان فيما بين ذلك أيضاً يتحدث إلى الجماعات والأفراد أحاديث خاصة في موضوعات مختلفة من الأدب الفرنسي والأجنبي، ومن السياسة والفلسفة والاقتصاد. وكانت أحاديثه ومحاضراته كلها متعة عالية ممتازة للذين استمعوا منه وتحدثوا إليه. ذلك إن جول رومان ليس أديبا عادياً من هؤلاء الأدباء الذين ينتجون الآثار الأدبية القيمة دون أن يمتازوا بأكثر من قدرتهم على الإنتاج وبراعتهم فيه إنما هو أديب ممتاز حقاً. ولعل خير ما يميزه من الأدباء انه من هؤلاء الأفراد القليلين الذين جعلت نفوسهم مرآة صافية شديدة الصفاء. تنعكس فيها صور الحياة التي تحيط بها، فإذا وصلت إليها استقرت فيها. وما تزال الصور تتبع الصور دون أن يطغى بعضها على بعض أو يفسد بعضها جمال بعض وإذا أنت أمام نفس من أغنى النفوس، أمام نفس لا تصور فرداً ولا بيئة، إنما تصور شعباً كاملاً، وإنما تصور خلاصة كاملة لأرقى ما تصل إليه الثقافة في عصر من العصور. فالذين كانوا يسمعون من جول رومان أو يتحدثون إليه إنما كانوا يسمعون من العقل الفرنسي كله،(34/2)
ويتحدثون إلى العقل الفرنسي كله، ولا تظن إن في هذا النحو من القول غلوا أو ميلا إلى الإسراف، إنما هو الحق كل الحق، والاقتصاد. ذلك أن جول رومان لم يكد يبلغ رشده الأدبي كما يقول حتى رأى نفسه أكثر من فرد، ورأى مطمعه الأدبي أكثر من مطمع الفرد، ورأى انه إذا كتب فلن يستطيع ان يكتب كما تعود الناس أن يكتبوا في هذه الموضوعات المحصورة، وفي هذه الإطارات الضيقة المحدودة. وإنما هو ان كتب فسيصور الجماعات، وسيصورها في إطار واسع مخالف لما ألف الكتاب أن يتخذوا من الإطارات والحدود. رأى أنه لا يستطيع أن يتخذ الفرد من حيث هو فرد موضوعاً لأدبه، وإنما الجماعة هي موضوع هذا الأدب فهو شاعر الجماعات إن نظم الشعر، وهو واصف الجماعات أن كتب القصص، وهو مصور الجماعات ان عالج التمثيل. ولم يكد يكتب وهو في العشرين في اوائل هذا القرن حتى ظهرت هذه الخصلة في آثاره ظهوراً بينا وفرضت نفسها عليه فرضا، وأحس هو ذلك وشعر به، وإذا هو ينظم صفته هذه تنظيماً ويصوغها صيغة المذهب الأدبي ويدعو إلى هذا المذهب ويجاهد في الدعوة اليه، وإذا هو على شبابه صاحب مدرسة لها تلاميذ ولها أنصار، وإذا مدرسته لا تلبث أن تتجاوز حدود فرنسا بل حدود اوربا فتكسب الأنصار والتلاميذ في المانيا وانجلترا وامريكا. ثم تتقدم به السن ويمضي في انتاجه الأدبي شعراً وقصصاً وتمثيلاً، وكلما مضى في هذا الإنتاج زاد امتيازه وضوحاً وجلاء ولان مذهبه واشتدت مرونته. وإذا جول رومان منذ أعوام يفرض نفسه على الأدب الفرنسي ثم على الأدب الحديث فرضاً ويصبح من اظهر الممثلين لحياة الأدب الفرنسي في هذا العصر الذي نعيش فيه. فليس غريباً إذن أن يكون حديثه حديث الشعب الفرنسي المثقف كله، لأنه قد وعى هذا الشعب كله وصوره واختصر خلاصته كلها في نفسه، فهو يتحدث بها وهو يتحدث عنها وهو يصورها في حديثه أجمل التصوير وأروعه وأبلغه تأثيراً في النفوس. وقد عالج جول رومان من فنون الأدب الشعر وعالج القصص وعالج التمثيل. وكان قبل هذا كله أستاذاً للفلسفة. مر بالسوربون طالباً وتخرج من مدرسة المعلمين العليا، وعلم في المدارس الثانوية. وليس هنا بالطبع موضوع الدرس لشعره وقصصه وتمثيله فذلك شيء لا يتسع له فصل في صحيفة بل لا تتسع له فصول، وإنما تتسع له كتب وأسفار(34/3)
ولكن من الخير أن ندع الآن شرع جول رومان لأنه هو نفسه قد انصرف عن الشعر أو كاد، وأن نقف وقفة قصيرة عند تمثيله ووقفة أقصر منها عند قصصه وعند كتابه الاخير بنوع خاص. ولعل أظهر ما يمتاز به تمثيل جول رومان أنه أقرب التمثيل الفرنسي الحديث إلى تمثيل موليير، فموضوعاته فرنسية ولكنها من دون إطارها الفرنسي تتجاوز فرنسا وتصبح موضوعات إنسانية عامة لا تقف عند بيئة خاصة ولا عند زمان بعينه، وإنما تتجاوز الزمان والمكان المعينين إلى جميع الازمنة والأمكنة. فقضته الدكتور كنوك ليست نقداً لطبيب بعينه، ولا لطبيب فرنسي ولا لطبيب في القرن العشرين وإنما هي نقد للون من الوان حياة الأطباء في كل أمة وفي كل عصر وفي كل مكان. ولا يكاد يعرف التمثيل الفرنسي بعد الحرب فوزاً كالفوز الذي أدركته هذه القصة التي لا أتردد في أن أراها آية من آيات التمثيل الحديث.
وقصته التي تسمى مسيو لترودك، وقصته الأخرى التي تسمى زواج لتروادك لا تصفان أستاذاً بعينه من أساتذة الجغرافية، وإنما تصفان لونا من حياة الاستاذ الذي تطغى عليه ظروف الحياة فتخرجه عن الدرس إلى الحياة العامة، وتعرضه لألوان من المحن والخطوب تثير الضحك ولكنه الضحك الذي يثيره موليير، والذي يمتلئ بالعبر والعظات. وقد هممت أن أسأل جول رومان لماذا اختار لهاتين القصتين بطلا من أساتذة الجغرافية، دون أساتذة التاريخ أو العلم الطبيعي أو الفلسفة. واكبر الظن أن هذا الاختيار ليس نتيجة المصادفة، ومن يدري لعله كان يضيق باستاذ من أساتذته الذين تعلم عليهم وصف الارض وتقويم البلدان في المدرسة أو الجامعة. وليس أقدر من جول رومان على تشخيص الجماعات ومحو ما بين أفرادها من الفروق، وجعلها شخصاً واحداً يشعر ويعمل ويتكلم ويصدر في هذا كله عن نفس واحدة، والذين يقرأون زواج لتروادك يرون أنه وفق في ذلك إلى أقصى حدود الاتقان.
أما كتابه الاخير الذي لم نتفق أمس - وكنا كثيرين - علىترجمة دقيقة لعنوانه، والذي أسميه كما سماه صديقي هيكل، الاخيار من الناس، فاعجوبة القصص الفرنسي في هذه الايام. أخذ يظهر منذ أعوام. وظهر منه الجزء الخامس والسادس في هذا العام. والناس يتساءلون كم تكون أجزاؤه؟ وجول رومان يأبى أن ينبهم بعدد هذه الاجزاء اشفاقا عليهم(34/4)
وعلى نفسه من السأم والخوف فيما يقول، وأكبر الظن أنه لا ينبئهم بعدد هذه الاجزاء لأنه هو لا يعرف كم تكون وقد زعم بعض نقاده في النوفيل لترير منذ أسابيع أنها قد تنيف على العشرين وتمنى
ناقد الطان ان تبلغ الخمسين، والله يعلم ماذا يتمنى جول رومان. وأكبر الظن انه لا يتمنى الا أن تستقيم له الطريق، ويمضي القلم في يده حتى يتم شيئاً لا يستبينه هو في نفسه إلى الآن.
وقد حدثنا جول رومان عن كتابه هذا أحاديث ضاق بها توفيق الحكيم، لأنه لا يحب أن يتحدث الكتاب عن أنفسهم وعما يكتبون. ورضيت عنها أناكل الرضى لأن الكتاب إذا بلغوا منزلة جول رومان كان من حقهم ان يتحدثوا عن أنفسهم. ولست ادري لم يباح للكتاب ان يتحدثوا عن ان
وعلى نفسه من السأم والخوف فيما يقول، وأكبر الظن أنه لا ينبئهم بعدد هذه الاجزاء لأنه هو لا يعرف كم تكون وقد زعم بعض نقاده في النوفيل لترير منذ أسابيع أنها قد تنيف على العشرين وتمنى
ناقد الطان ان تبلغ الخمسين، والله يعلم ماذا يتمنى جول رومان. وأكبر الظن انه لا يتمنى الا أن تستقيم له الطريق، ويمضي القلم في يده حتى يتم شيئاً لا يستبينه هو في نفسه إلى الآن.
وقد حدثنا جول رومان عن كتابه هذا أحاديث ضاق بها توفيق الحكيم، لأنه لا يحب أن يتحدث الكتاب عن أنفسهم وعما يكتبون. ورضيت عنها أناكل الرضى لأن الكتاب إذا بلغوا منزلة جول رومان كان من حقهم ان يتحدثوا عن أنفسهم. ولست ادري لم يباح للكتاب ان يتحدثوا عن انفسهم إلى عشرات الالوف في الكتب، ويكره منهم ان يتحدثوا إلى المئات في قاعة من قاعات المحاضرات، واحب ان يعلم توفيق الحكيم، وان يعلم جول رومان أيضاً اني لم أومن بكل ما سمعت من هذا الحديث فالاديب يحدثنا بأنه تصور موضوع كتابه تصوراً دقيقاً كل الدقة، محدداً من جميع الوجوه ولم يبدأه حتى وضع له برنامجاً مفصلاً أدق التفصيل، ولما كان من المستحيل ان يعرض علينا الصورة التي في نفسه، والبرنامج الذي رسمه لكتابه على الورق، فاني اسمح لنفسي بأن اشك في هذا الحديث. وإنما هو خيال يتلهى به الكاتب الاديب، على حين انه في حقيقة الامر لا يتصور كتابه الا تصوراً مجملاً تفصفه الظروف، وتفصله لمزاولة والكتابة بنوع خاص. ذلك ان موضوع الكتاب ليس من هذه الموضوعات التي يمكن ان ترسم في دقة وضبط، فجول رومان يريد ان يصف الجماعة الانسانية، فحدثني كيف تستطيع ان تحدد هذه الجماعة او ان تحدد ما تريد ان تصف من أمرها تحديداً دقيقاً، بل ان تص ذلك بالفعل إنما يريد جول رومان أن ينشئ اثراً كالذي أنشأه بلزاك أو زولا أو رومان رولان. ولكن من الذي يستطيع ان يقول ان هؤلاء الناس قد رسموا موضوعاتهم رسماً دقيقاً قبل ان يبدؤا في كتابتها. إنما الشيء القيم الذي تحدث به الينا جول رومان هو مذهبه في الاستعداد لكتابة، فهو لا يسلك طريق غيره من الذين سبقوه فيحصى ويستقصى ويكتب المذكرات ويجمعها ويرتبها ثم يعود اليها كلما هم بالكتابة في موضوع من الموضوعات، وإنما هو يحيا في جميع البيئات التي يريد أن(34/5)
يصورها، يحيا فيها كما يحيا أهلها، حتى يصبح واحداً منهم، ثم يرسل خياله على سيجيته فيكتب، حتى إذا أتم الكتابة عاد إلى هذه البيئة فقارن بين الصورة وبين الاصل وانتهى في أكثر الاحيان إلى الرضا عن هذه المقارنة
على أن التصوير الصحيح لمذهب جول رومان في الاستعداد لهذا الكتاب هو الذي تقرأه في المقدمة فهو تصوير معقول لا يتجاوز حدود الممكن المألوف، وهو في الوقت نفسه تصوير يبين ما في هذا الكتب من الابتكار. فالكتاب لا يدور حول شخص بعينه ولا حول حادثة بعينها، وإنما هو قصص كثيرة مختلفة لبيئات كثيرة متباينة، تنشأ هذه القصص في وقت واحد أو في أوقات متقاربة ثم تمضي كل واحدة منها في طريقها التي رسمت لها فتلقى أحياناً وتفترق أحياناً، وتتوازى أحياناً، ويضاد بعضها بعضاً أحياناً أخرى والله يعلم ولعل جول رومان يعلم أيضاً إلى أن تنتهي وكيف تنتهي آخر الامر
وقد بدأت هذه القصص في اكتوبر سنة 1908 وحدثنا جول رومان انها تنتهي في سنة 1933 الا أن يطرأ ما يغير هذا الميعاد. فالكتاب اذن محاولة جديدة لوصف الجماعة الانسانية وصفا قصصياً رائعاً في ربع قرن، وتريد أن تعلم بالطبع هل وفق جول رومان إلى ما أراد، وتريد أن تعلم مقدار ما في هذا الكتاب من روعة وجمال. فالذي أستطيع أن أقوله هو أن كتاباً آخر لم يظفر بمثل ما ظفر به هذا الكتاب من الاعجاب بعد كتاب مرسيل بروست في هذا العصر الذي نعيش فيه. فاذا اردت ان تتبين جماله وروعته فالسبيل إلى ذلك ان تقرأه، وانا واثق بانك لن تأسف على ما تنفق في قراءته من الوقت أو الجهد.
طه حسين(34/6)
صندوق الكتاكيت
للاستاذ أحمد أمين
كان أمس، من أيام الشتاء المشهودة: ريح صِرّ، وليل قَرّ، حتى خَصِرَت اليد، وقفقفت الأسنان، ويبست الأطراف، وتجلّى (أمشير) بأجلى ما وسم به من هَوَج ورَعَن. حتى لو كان طفلاً لسال لعابه، أو رجلا لسقطت عنه االتكاليف.
ثم انجلى الليل عن صبح بديع: سماء صافية، وشمس مشرقة، حاولت أن آتي لهما بتشبيه جديد، فكانت الشمس في السماء أجمل من كل تشبيه قديم وحديث.
غادرت حجرتي إلى حديقتي الصغيرة المتواضعة فوجدت خادمي قد سبقت، فاخرجت صندوق الكتاكيت إلى الشمس لينعم ما فيه بحرارتها ودفئها - وقع عليه نظري، وصادف ذلك مني تفكيراً في موضوع للرسالة.
شعرت إذ ذاك بشخصيتين من نفسي تتناظران مناظرة عجيبة عنيفة اسجلها للقراء:
لم لا يكون (صندوق الكتاكيت) موضوعاً طريفاً؟
إنه مووضوع تافه لا يليق بأستاذ في جامعة، ولا بمدرس، ولا بمساعد مدرس - إن الجامعيين وأمثالهم يجب أن تكون موضوعاتهم في أعلى السماء، أو أعمق الأرض، ويجب أن تصبغ بصبغة ميتافيزيقية، ويكون فيها الجوهر والعرض، والكمية والكيفية، والأنِّيّة والعلية. أما صندوق الكتاكيت فموضوع يثير الهزؤ والسخرية، ويستخرج من النفس عاطفة الازدراء والاحتقار.
ليس ذلك بصحيح، فكل شيء في الحياة موضوع أدب، وخير الأدب ما مس الحياة الواقعية، واستخرج من تافه الاشياء فكرة بديعة، أو رأياً طريفاً. لقد قال تعالى (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما، بعوضة فما فوقها، والكتكوت خير من البعوضة من جميع الوجوه، فالبعوضة منبع ألم، والكتكوت منبع لذة - والبعوضة إذا كبرت كانت أقوى على اللدغ وأقدر على الايلام، بنفسها وبمنتجاتها، والكتكوت إذا كبر كان دجاجة أو ديكاً، يسيل لعاب الانسان إذا تصوره على مائدة أنيقة، أو تخيّله وقد أنضجه طاه ماهر.
وضب الله الذباب مثلا فقال تعالى (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباّ ولو اجتمعوا له، وان يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه، ضعُفَ الطالب والمطلوب) وأين(34/7)
الذباب من الكتكوت؟ وقد سميت في القرآن الكريم سور منه بالبقرة والنحل والنمل والعنكبوت.
وقرأت لأديب كبير لا أذكره الآن مقالا بديعاً في زنبار أراد أن يخرج من شباك فاصطدم بزجاجة، وحاول مراراً أن يخرج فلم يستطع، فاستخراج الكاتب من ذلك قطعة فنية طريفة في الحرية والاسترقاق، وكيف يبحث الزنبار عن حريته فلا يجدها، ثم هو لا ينساها مهما صادفه من عقبات، وتحمل من آلام.
وكتب فيكتور هوجر قصة طريفة عن برغوث أنقذ أمة من الأمم سلط عليها حاكم ظالم لم تستطع حمله على العدل ولا إبعاده عن الحكم.
وبعد هذا وذاك كتب مستشرق كبير معاصر كتاباً جمع فيه ما قيل من الأدب العرب في البراغيث واقترح عليه مستشرق آخر أن يسمي الكتاب (صيحة المستغيث من البراغيث) إلى ما لا يعد ولا يحصى.
إذن فنظرتك في اختيار الموضوع وأنه يجب أن يكون (أكاديمياً)، وأن يعنون عنواناً ضخماً يستعمل في اختياره كل ضروب التكلف والتعمق والفلسفة، نظرة أرستقراطية بغيضة يجب أن تتخلص منها وتهزأ بما جرى عليه العرف فيها.
على هذا النحو ظلت الشخصيتان تتناظران، وظللت أصغي اليهما وأقيد أفكارهما، إلى أن طال الاخذ والرد، وأشفقت على القراء من استرسالهما في الجدل، وحاولت أن أبتعد عن الصندوق، وأهرب من الموضوع فلم أستطع.
أيها الكتكوت! فيك كل معاني الحياة ومشاكلها ومظاهرها. فاسمك - أولا - كتكوت ويجمع على كتاكيت، ولم أدر من أين أتى لك بهذا الاسم، فقد راجعت القاموس المحيط ولسان العرب، وغيرهما من كتب اللغة، فلم أجد فيها هذا اللفظ للدلالة عليك، ولا يستعمله الا أهل مصر. أما أهل الشام والعراق فلا يعرفونه - أتعمدت اللغة إهمالك لحقارتك؟ ذلك ما لا أظن، لأني أعلم أن اللغة ديمقراطية تعنى بالجليل والحقيرعلى السواء، بل اللغة العربية مفرطة في الديمقراطية فقد وضعت لأتفه الأشياء أسماء تعد بالمئات، واحتقرت أشياء عظيمة فلم تضع لها اسماً للآن كالراديو والبيانو ومئات من المخترعات الحديثة، بل هم وضعوا لك اسماً آخر هو (الفرخ) ولكن الفرخ غير مقصور عليك، شاركك فيه كل صغار(34/8)
الطيور حتى استعملوه أحياناً في صغار الشجر والنبات، على انهم وضعوا لك اسم (الفروج) فلم يطلقوه على غيرك من صغار الحيوان ولكنهم أشركوا معك فيه نوعاً من أقبية وأمثالها ولعل العامة كانوا أنصف لك فوضعوا لك اسماً خاصاً، ومن أولى التخصص منك؟
ولكن - مع كل هذا - لا أدري من اين أتى اسمك (الكتكوت) فسأتركك لعلماء اللغة والاشتقاق ومقارنة اللغات، من سريانية وآرامية وفارسية وعبرية، لعلهم يجدون لك أصلاً - وعلى كل حال فقد أثبتَّ أن فيك مشكلة من مشكلة الحياة العظمى، وهي مشكلة اللغة، وستثبت مشكلة أخرى أعظم من هذا وأعقد فهب أن علماء اللغة استنكروا هذه الكلمة فأين سلطانهم على لفظك الذي تداولته العامة ونطقت به قروناً.
فهل إذا صدر قرار بمحو هذه الكلمة لأنها ليست عربية يسمع ويطاع. على أي وجه من الوجوه أنت مشكلة حتى في اسمك هذه هي الخادم قد رمت الحب للكتاكيت، فلا تسأل عما كان بينها من خصام ونزاع، ومباراة وسباق وضرب وطعان
وهل الانسان الا هذا - وهل تاريخ حياته الا نزاع وصراع وقد عبروا عن ذلك أصدق تعبير فقالوا، ان الحياة جهاد - أو ليس أكبر باب من كتب التاريخ هو تاريخ الحروب والفتوح، واعلان الحرب، ومعاهدات الصلح. وكل الفرق بينك ايها الكتكوت وبين الانسان أنك استعملت في جهادك ونزاعك منقارك الوديع وجسمك اللين الغض وجاء الانسان الراقي فاستعمل في الحصول على غذائه الكذب والخديعة والرياء والنفاق، واستعمل في مدافعة خصومه كل طر الكيد والدهاء، واستخدمت الجماعات في حربها كل أنواع المدمرات والمهلكات - وقد أعطى الانسان عقلا أرقى من عقلك لينظم عيشه فأفسده، ولينظم السلم فنظم الحرب، وليعاون أخاه فعاداه.
- أيها الصندوق!
فيك تنازع البقاء وبقاء الاصلح، فيك استكانة الضعيف وغلبة القوى، فيك الضعيف يكره العراك، وفيك القوي يصول ويجول، ويدعو إلى النزال - فيك الجمال وفيك القبح
- استأنست ايها الكتكوت بالانسان صغيراً، ثم علمتك التجارب ففررت منه كبيراً.
وكنت مادة صالحة للغذاء كما كنت مادة صالحة للادب، فمن قديم استعيرت منك الاستعارات اللطيفة، والابيات الجميلة، فقد قال الشاعر(34/9)
أرى فتنهة هاجت وباضت وفَرّخَتْ ... ولو تُرِكَتْ طارت اليها فراخها
وفي حديث عمر. يا أهل الشام تجهزوا لأهل العراق فان الشيطان قد باض فيهم وفرخ
ثم قالت العامة (الكتكوت الفصيح من البيضة يصيح) وأخيراً، فيك سر الحياة الغاض - كيف دبت الحياة فيك يوم كنت بيضة، وكيف تطورْتَ جنيناً، وكيف نبض قبلك لاول مرة، وكيف خرجت إلى هذا الوجود، وكيف تموت ولم خرجت، ولم تموت؟ لو أفصحت لنا عن كل هذه الاسرار لكشفت سر الوجود، ولما كان هناك مجال لفسلفة ولا حكمة ولكنك أعجزت الفلاسفة، إذا كتمت سرك بين جناحيك فهامت الفلاسفة علىوجوهها، وارتبكت في تفكيرها.
إذن فيك ايها الصندوق الصغير، كل ما في العالم الكبير، من معاني الحياة وغوامضها وأسرارها، وفيك كل مظاهر الانسان على تبجحه وغروره - وفيك ما حير العقول قروناً، وأجهد الفكر أجيالاً - وهل العالم الا لغز، لو حل جزؤه لحل كله.
أحمد أمين(34/10)
صفحة من تاريخ افغانستان المعاصر
لمناسبة حوادثها الاخيرة
للاستاذ محمد عبد الله عنان
في الثامن من نوفمبر الماضي سقط نادر شاه ملك أفغانستان السابق قتيلاً برصاص طالب أفغاني في احدى حدائق كابول اثناء حفلة رياضية كان يشهدها الملك القتيل، فخسرت أفغانستان بذهابه أميراً قوياً حازماً لبث مدى أربعة أعوام يشرف على مضايرها ويعمل لتنظيم شئونها وتوطيد سلامها في ظروف عصيبة.
وكانت أفغانستان قبل أن يتبوأ عرشها نادر خان قد اضطرمت باحدى هذه الثورات القومية التي يتميز بها تاريخا منذ أواخر القرن الماضي، والتي تدفع بها دائماً إلى فترة من الفوضى الخطرة، وتجعل من عرشها مثار معارك طاحنة بين الزعماء والمتغلبين، ومن استقلالها هدفاً تعلم السياسة الاجنبية ما استطاعت للنيل منه؛ وكان عرشها بعد أن غادره الملك السابق أمان الله في صيف سنة 1929 فراراً من نقمة شعبه قد تداوله اثنان في بضعة أشهر، أولهما عناية الله أخو أمان الله الأكبر، والثاني حبيب الله أو باشا سقا، الزعيم الثائر: وكانت أفغانستان تمزقها الحرب الاهلية حينما جاء اليها نادر خان وزير الحربية السابق في أواخر سنة 1929 من مقامه في أوربا، وانتزع كابول من يد الثائر وقبض عليه وأعدمه، ثم نادى بنفسه ملكاً، واستطاع في أشهر قلائل أن يقمع الفوضى وأن يعيد إلى أفغانستان نوعاً من السكينة والاستقرار.
ولم يكن مقتل نادر شاه (نادر خان) مفاجأة ولا حادثاً غير عادي في تاريخ أفغانستان الحديث؛ فعرش أفغانستان يرتجف دائماً فوق بركان من المنافسة الدموية؛ وقد قتل في الفترة الأخيرة من ملوك أفغانسان عدة، أولهم حبيب الله خان الذي قتل سنة 1919. ولو لم يبادر الملك السابق أمان الله بالفرار لكان نصيبه هذا المصير الدموي. بيد أن هذا العرش الخطر ما فتئ يغري زعماء القبائل والاسر الأفغانية؛ وتخشى أن تعود هذه المعركة الخالدة على العرش فتضطرم غير بعيد في أفغانسات، وان كان الامير الفتى ظاهر شاه ولد نادر شاه قد جلس على العرش غداة مقتل أبيه، واتخذت في الحال كل أهبة لاخماد كل نزعة للخروج والثورة. فقد كان نادر شاه يحكم أفغانستان مدة الأعوام الاربعة الماضية بقوة(34/11)
وذكاء، ولكنه لم يستطع رغم عزمه وحزمه أن يخمد كل عوامل الانتقاض والفوضى التي تضطرم بها أفغانستان منذ أواخر عهد الملك أمان الله؛ وقد نشبت في عهده غير ثورة أخمدت دائماً في سيل من الدماء، ومازال الملك السابق أمان الله يتربص فرص العودة إلى عرشه، وما زالت تؤازره في أفغانستان بقية من أنصاره، هذا إلى أن القبائل الافغانية القوية في الشرق والشمال الشرقي مازالت تعيش في نوع من الاستقلال الاقطاعي، وتتردد بين تايد العرش والخروج عليه حسبما تملي عليها مصالحها أو حسبما توجهها المؤثرات الاجنبية في كثير من الاحيان.
والحقيقة أن أفغانستان تجد نفسها منذ نحو قرن من مركز حربي وسياسي يكاد يحرمعليها الحياة الهادئة. فهي تقع بين الهند البريطانية من الشرق، وبين التركستان الروسية من الشمال، وتكون بذلك ملتقى الجذب بين سياستين استعماريتين قويتين تتنازعان السيادةوالنفوذ في أواسط آسيا، وتلتقيان دائماً في ذلك الاقليم الجبلي الوعر، الذي يحد نفوذهما ويفصل بين أراضيهما، اعني أفغانستان. والشعب الافغاني لا يتجاوز أربعة ملايين جلهم من القبائل الجبلية، ولكنه شعب قوي بخلاله الطبيعية ونزعته العسكرية يعتصم دائماً بهضابه الوعرة، ويحرص على استقاله أيما حرص. وإذا كان تجاذب السياستين البريطانية والروسية يعرض افغانستان بين آن وآخر إلى تيار النفوذ الأجنبي، فان أفغانستان من جهة أخرى تتخذ من هذا التجاذب أداة لتدعيم استقلالها، وتجعل منه دائماً وسيلة لاقامة التوازن بين السياستين المتنافستين. بيد أن السياسة البريطانية التي تقدر أهمية افغانستان في حماية حدود الهند الشمالية الغربية من الغزو الروسي، تحرص دائماً على أن تكون راجحة النفوذ والكلمة، ولا تترد في تأييد هذا التفوق في السهر على مصاير أفغانستان بالقوة القاهرة. وأفغانستان تعرف أنها لا تستطيع أن تتخلص من هذا النفوذ دون أن تعرض استقلالها للخطر؛ وقد أنست هذا الخطر في تاريخها الحديث غير مرة إذ غزتها الجيوش الانجليزية في سنة 1838، ثم في سنة 1878؛ وعرض استقلالها للضياع في المرتين. وما زالت السياسة البريطانية إلى يومنا تقوم بدورها التاريخي في السهر على توجه شئون أفغانستان وتطوراتها.
ونستطيع أن نرجع من مرحلة التاريخ الأفغاني المعاصر إلى أواخر القرن الماضي، أو إلى(34/12)
عهد الأمير عبد الرحمن خان الذي تولى العرش عقد تطورات الحرب الأفغانية الإنكليزية الثانية، سنة 1884؛ فقد استطاع هذا الأمير القوي لأول مرة أن يحطم سلطة القبائل الاقطاعية، وان يخضعها لصولة العرش، واستطاع أن ينشئ لأفغانستان جيشاً نظامياً حسناً، وان ينظم الضرائب والموارد العامة؛ وتمتعت افغانستان في عهده بعد طويل من السكينة والاستقرار في ظل ادارة قومية صارمة. ثم توفى عبد الرحمن سنة 1901 وخلفه على العرش ولده حبيب الله خان. واستطاعت السياسة البريطانية في تلك الفترة ان توطد نفوذها في أفغانستان؛ وكان حبيب الله برغم حرصه على استقلال افغانستان الداخلي، يصانع السياسة البريطانية ويتقي اثارتها ما استطاع؛ وفي عهده بلغ النفوذ البريطاني ذروته في توجيه سياسة افغانستان الخارجية، ولا سيما في علائقها مع روسيا القيصرية، وتضاءل النفوذ الروسي إلى أعظم حد ولما نشبت الحرب الكبرى حافظ حبيب الله على صداقته مع بريطانيا العظمى، وقاوم كل مسعى بذلته المانيا لتحريض افغانستان على نقض هذه الصداقة، ثم تُوفي قتيلاً في أوائل سنة 1919، فخلفه اخوه نصر الله؛ ولكن ثورة نشبت بقيادة امان الله ثالث اولاد حبيب الله انتهت بعزله. وتبوأ أمان الله العرش في ربيع هذا العام وهنا كان تطور حاسم في تيار النفوذ الخارجي؛ وانتهزت روسيا السوفيتيه، هذه الفرصة لتسترد نفوذها الذاهب، فعاونت امان الله على انتزاع العرش من عمه، واستعملت كل وسيلة لمقاومة النفوذ الانكليزي والقضاء عليه؛ وذهب امان الله في خصومته للانكليز االى حد أنه دفع بجنده إلى اجتياز الحدود الهندية، ولكن الانكليز ردوها في الحال وعبروا الحدود الافغانية إلى (دكا) وأرغموا امان الله على عقد الصلح، ولكن بشرط أن تعترف انكلترا باستقلال افغانستان (اغسطس سنة 1919).
وكانت روسيا من وراء أمان الله تؤيده وتوجه خططه؛ وكانت انكلترا من جانبها تقدر هذا العامل الجديد في تطور حوادث افغانستان، وتتحاشى الاصطدام بروسيا السوفيتية، وتعمل لاتقاء دسائسها ما استطاعت، وأفغانستان من جانبها تجني ثمرة هذا النضال بين الدولتين الخصيمتين. بيد أن السياسة البريطانية لم تعدم وسيلة للاتفاق مع امان الله؛ ففي سنة 1921 عقدت في كابول معاهدة انكليزية افغانية جديدة، تعترف انكلترا فيها باستقلال افغانستان الخارجي والداخلي؛ وتعترف افغانستان فيها بالحدود الهندية الافغانية القائمة؛(34/13)
وتنص على تبادل التمثيل السياسي والقنصلي؛ وتخول لافغانستان الحق في ان تستورد من انكلترا ما يلزمها من الاسلحة والذخائر معفاة من الرسوم. وفي سنة 1923 عقدت بين الدولتين معاهدة تجارية. ومع أن العلائق بين انكلترا وأفغانستان لبثت عاديةودية، فان النفوذ الانكليزي لم يعد إلى سابق تمكنه واستئناره، واستمر النفوذ الروسي متفوقاً في افغانستان مدى حين.
وقضت افغانستان فترة من الاستقرار والسكينة، توطدت فيها شئونها الداخلية وعلاقتها الخارجية. وفي سنة 1927 قرر الملك امان الله أن يقوم مع زوجته الملكة ثريا برحلة رسمية في بعض الدول الاوربية؛ فغادرا أفغانستان في شتاء هذا العام، ومرا في طريقهما بمصَر، وانفقا فيها بضعة أسابيع، واستقبلا اينما حلا بمنتهى لاكرام والحفاوة؛ ثم سافرا إلى أوربا وزارا ايطاليا وفرنسا وانكلترا والمانيا، وتسابقت الدول في الاحتفاء بهما واغداق الهدايا عليهما، كما تسابقت في التقرب إلى امان الله ومحاولة الحصول منه على بعض المزايا السياسية والتجارية، ولكن امان الله لم يتورط في التعاقد واكتفى ببذل الوعود. ثم غادر المانيا إلى روسيا، واستقبله
؟؟؟؟ حلفاؤه البلاشفة أعظم استقبال، وعقدت اثناء مقامه بموسكو معاهدة افغانية روسية تجارية جديدة. وأبدى امان الله اثناء رحلته اهتماماً عظيماً بمظاهر الحضارة الغربية، ولم يخف اثناء تجواله نيته في الا قتباس منها لبلاده بأعظم قدر، والعمل على تجديد افغانستان ودفعها إلى طريق الحضارة الغربية باسرع ما يستطاع، ولم تخف زوجته الملكة ثريا نيتها في العمل على تعليم المرأة الافغانية وتحريرها، وكان لهما في ذلك تصريحات رنانة مازلنا نذكرها. واستمرت الصحف الاوربية مدى حين تفيض في رحلة الملك الشرقي وفي اخباره وأعاله وأقواله، وفي برنامجه الاصلاحي، وفي آحوال أفغانستان وشئونها وأهميتها الحربية والسياسية. بيد أنه لو حط مذ قصد أمان الله إلى موسكو فتور الصحافة الغربية في الحديث عنه، ولوحظ بنوع خاص أن الصحف البريطانية أخذت تحمل على سياسته، وتنتقد زيارته لموسكو وتورطه في محالفة البلاشقة. ولم يكن حديث الصحف البريطانية عبثاً، وإنما كان دلالة اتجاه جديد في السياسة البريطانية كما سنرى.
عاد امان الله إلى افغانستان بعد أن زار تركيا وفارس، وعقد مع كل منهما معاهدة صداقة،(34/14)
وتأثر ايما تأثر بما رأى في تركيا من مظاهر التجديد الاوربي. ولم يضع وقتا في تنفيذ برنامجه الاصلاحي: وكان برنامجاً شاملاً تناول نظم الحكم، كما تناول كل نواحي الحياة القومية. فاما في نظم الحكم فقد ألغي أمان مجلس الحكم القديم الذي يضم زعماء الدين ومشايخ القبائل بمجلس تمثيلي يؤلف بالانتخاب، وأدخل نظام الوزارة الحديث، والغي سلطات الاشراف وزعماء الدين، وفرض الضرائب العامة المنظمة والخدمة العسكرية الاجبارية على كل أفغاني. وكان أمان الله في الناحية الاجتماعية أشد جرأة واندفاعاً وقد خيل له أنه يستطيع بقوة التشرع العاجل أن يخلق من افغانستان العصور الوسطى، أمة جديدة تتمتع بمظاهر التمدن الحديث. وكانت زوجة الملكة ثريا، وهي امرأة سورية لاتفهم روح الشعب الذي رفعت إلى عرشه، تدفعه في ذلك الطريق بعنف فاصدر طائفة من القوانين الاجتماعيةالجديدة ترى إلى تحرير المرأة وسفورها، والغاء تعدد الزوجات، ورفع سن الزواج، والزام الافغانيين بلبس القبعة والثياب الاوربية على نحو ما فعل مصطفى كمال بالترك، وأرسل إلى أوربا بعوثاً من الشباب والفتيات ليعلموا في معاهدها. وكان الشعب الافغاني يشهد هذا الانقلاب في دهشة وروعة ولا يكاد يصدق أنه المقصود بهذه الاجراءات، وفي افغانستان أمة قديمة تغلب فيها البداوة، ولم تخرج بعد من غامر القرون الوسطى، وللتقاليد الدينية والاجتماية فيها ايما هيبة ورسوخ، فوقعت هذه السياسة الجريئة في الشعب الافغاني وقع الصاعقة، وثار سخطه لهذا الاجتراء على تقاليد القرون، وقابل زعماء الدين والقبائل تلك المحااولة لسحق سلطانهم القديم بمنتهي الانكار والمقاومة، ولم تمض أشهر قلائل حتى سرى ضرام الثورة إلى ذلك الشعب المضطرم المتأهب ابداً للثورة وتحطيم أية سلطة مطلقة تحاول ارغامه على ما لا يرضى.
نشبت الثورة بسرعة لأسباب وعوامل لم تتضح تماماً. ولا ريب أن تطرف الملك أمان الله في تطبيق برنامجه الاصلاحي كان عاملاً هاماً في نشوبها بين القبائل الاقطاعية القوية التي أدركت خطر السياسة الجديدة على نفوذها واستقلالها المحلى، ولكنه لم يكن كل شيء، فقد نشبت الثورة بادئ بدئ في الولايات الشرقية المجاورة للسند، ولا سيما منطقة جلال أباد، وهي منطقة يسود فيها النفوذ البريطاني، ثم امتدت بسرعة مدهشة برغم ما بذله أمان الله لحصرها واخمادها. وقد كانت السياسة البريطانية تأخذ دائماً على أمان الله تأثره بنفوذ(34/15)
السوفييت ومحالفته إياهم، وترى في زيارته لموسكو وتقوية صلاته بالسوفييت تحدياً لا تحمد عواقبه. وللسياسة البريطاينة دائماً أثرها في تطورات أفغانستان الحاسمة، والمرجح انها لم تكن بعيدة عن ذلك الانفجار الذي فوجئ به أمان الله وكان خطراً على عرشه وشخصه. وقد استطاع أمان الله أن يهزم الثوار بادئ بدء، واعتقد مدى لحظة أنه سيد الموقف، ولكن الحوادث تفاقمت بسرعة وامتدت الثورة إلى الجيش، وزحف الثوار على العاصمة الأفغانية، فبعث الملك بزوجه وأسرته إلى قندهار، وفر الأجانب من كابول على متن طيارات بريطانية أرسلت من الهند، وحاول أمان الله عبثاً أن يهدئ الثورة بالغاء القوانين الجديدة التي أصدرها، فلما رأى أنه فقد كل أمل في الاحتفاظ بعرشه وسلطانه، نزل عن العرش لأخيه الأكبر عناية الله، وفي صعب، ولم يجرؤ على مواجهة الحوادث، فغادر بدوره ذلك العرش الخطر وفر ناجياً بنفسه، ودخل الزعيم الثائر باشه السقا كابول ظافراً، وتربع على العرش باسم حبيب الله. (أوائل سنة 1929) ولما رأى أمان الله تطور الحوادث على هذا النحو عاد فاسترد تنازله. وجمع فلوله وحاول السير إلى كابول، ووقعت بينه وبين خصومه معارك عديدة انتهت بهزيمته، فانسحب من الميدان أخيراً وفر مع زوجه وأسرته في مايو سنة 1929 عن طريق الهند، ثم جاز إلى أوربا منفياً طريداً، واستقر برومه، يرقبت مجرى الحوادث في أفغانستان، ونسمع صوته كلما اضطرمت أفغانستان بحادث جديد. وكان آخر العهد بتصريحاته في أوائل نوفمبر الماضي، حينما قتل المرحوم نادر شاه، فقد صرح يومئذ لبعض الصحف الكبرى أنه لا يتأخر عن العودة إلى أفغانستان، وتبوئ العرش إذا دعاه الشعب الأفغاني، ولكن الشعب الأفغاني لم يقم بمثل هذه الدعوة، وقد تبوأ ظاهر شاه ولد الملك القتيل العرش غداة مقتل أبيه.
(لها بقية)
محمد عبد الله عنان(34/16)
من هم اخوان الصفا؟
للأستاذ أديب عباسي
أصل التسمية - نشأة الجميعة - طبقاتها - تأثيرها - رأي الناس فيها - رسائل الاخوان اجمالا
قد أظهر كولد زهير ان (أخا الصفا) تعني - حسب الاصطلاح العربي - يا أخا المروءة ويا أخا العرب، وهكذا لا تكون لعبارة (اخوان الصفا) أية دلالة أو نسبة إلى أخوية من الاخويات على نحو ما يفهم من الاخوية حسب الاصطلاح الحديث. على أن (دي فو) في كتابه ' يتساءل هل لهذا الاسم علاقة بكلمة فيلسوف كما ترد في اصطلاح الفيثاغوريين ويقول: ان كلمة (أخ) تقابل الشطر الأول من لفظ (الفلسفة) (فيلو) وكلمة (الصفا) تقابل معنى ومبنى الشطر الثاني منها (صوفي) وعليه يكون معنى الاسم محبي الحكمة.
هذا عرض موجز لرأيين مختلفين في أصل تسمية الاخوان هذا الاسم لمستشرقين غربيين. وثم رأي آخر لاخوان الصفا أنفسهم في أصل هذه التسمية لا نعتقد أن باحثاً من الباحثين فطن اليه أو تنبه له، فقد جاء في الجزء الرابع من رسائل الاخوان (ص 373) ما يأتي: -
(وانما سمينا رسالتنا هذه رسالة السحر ليستدل اخواننا على الأسرار الخفية وليكونوا إذا بلغوا معالي العلوم ذوى غنى عن الحاجة إلى من سواهم في جميع ما يحتاجون اليه من أمر معيشة الدنيا. فاذا وصلوا إلى هذه المرتبة صح لنا أن نسميهم باخوان الصفا. واعلم يا أخي ان حقيقة هذا الاسم هي الخاصة الموجودة في المستحقين له بالحقيقة لا على طريق المجاز). ويقول أيضاً (ج: 4 ص373 - 74): -
(واعلم يا أخي أنه لا سبيل إلى صفا النفس إلا بعد بلوغها إلى حد الطمأنينة في الدين والدنيا جميعاً. وهو أن يعرف الانسان بحسب قدرته توحيد الله جل جلاله. . . وبعد ذلك ما يكون به صلاح معيشة الدنيا والغناء فيها عن الحاجة إلى من عدم هذه الصناعة. ومن لا يكون كذلك فليس هو من أهل الصفا. لانه لو كان من أهل الصفا لكان بصفائه عمن دونه الغناء).
لنا من جميع ما تقدم إن (إخوان الصفا) كما يعرفون أنفسهم - هم هؤلاء الذين حذقوا علوم(34/17)
الدين والدنيا معاً واستغنوا بها عن الحاجة إلى من سواهم
وأخيراً نود ان نشير إلى رأي أورده المستشرق كولو نلينو في كتابه (علم الفلك عند العرب في القرون الوسطى) يفسر فيه معنى هذه التسمية بالرجوع إلى عبارة وردت في اول باب (الحمامة المطوقة) من كليلة ودمنة. على اننا لدى رجوعنا إلى القطعة من الرسائل: ص 53) لم يتبين لنا أن حادثة الحمامة المطوقة كما وردت في كتاب كليلة ودمنة هي أصل التسمية. وذلك أن أخوان الصفا كعادتهم في التمثيل لكل فكرة - قد أوردوا هذه القصة لبيان فائدة التعاون فحسب. بيد أنه قد يكون في غير الموقع الذي يشير اليه المؤلف من الرسائل ما يقوي هذا الرأي، ولكن المؤلف لا يشير الا إلى ما تقدم
هذا وقد قامت جميعة اخوان الصفا حوالي سنة 373هـ. وكان مركزها العام مدينة البصرة وقد ذكر المؤرخون خمسة بالاسم من أعضاء هذه الجمعية وهم: ابو سليمان محمد بن مشعر البيستي ويعرف (بالمقدسي) وابو الحسن علي بن هارون الزنجاني وابو أحمد المهرجاني والعوفي وزيد بن رفاعة.
وكانت جماعة الأخوان تتالف من اربع طبقات: الطبقة الأولى وتتالف من الاحداث الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والثلاثين. ويفرض على افراد هذه الطبقة الطاعة التامة واسلاس القياد لرؤسائهم ومعلميهم. والطبقة الثانية تتراوح اعمار افرادها بين الثلاثين والاربعين. ويسمح لهؤلاء بالاطلاع على العلوم الدنيوية دون العلوم الدينية. ثم الطبقة الثالثة واعمار الداخليها تقع بين الاربعين والخمسين. وهؤلاء يسمح لهم بالاطلاع على شرائع العالم المقدسة، أما الطبقة الرابعة فأعضاؤها يكونون ممن اربت سنهم على الخمسين. ويسمح لهم في هذه الطبقة بالوقوف على سر الأشياء الصحيح والنفوذ إلى لباب المسائل كما يتسنى ذلك للملائكة. غير انه ليس لدينا ما يثبت ان اخوان الصفا راعوا هذه التقسمة مراعاة دقيقة، فلم يسمحوا لهذه الطبقات ان يتداخل بعضها ببعض
وقد اوجب القائمون بانشاء هذه الجمعية ان يكون لأخوان الصفا (حيث كانوا من البلاد مجلس خاص يجتمعون فيه في أوقات معلومة لا يداخلهم فيه غيرهم، يتذكرون فيه علومهم ويتحاورون اسرارهم، كذلك اوجبوا ان تكون مذاكراتهم - على قدر ما يستطيعون في علم النفس والحاس والمحسوس والنظر في الكتب الألهية والعلوم الرياضية وهي العدد(34/18)
والهندسة والتنجيم والتاليف (يقصد تأليف النسب الموسيقية)
وكانوا يحتاطون ما امكنهم الاحتياط في اختيار الأعضاء الجدد: فلم يكن يسمح لأحد بالدخول في هذه الجمعية الا إذا كان ناصع الصحيفة لا غبار على أخلاقة ولا ريبة في سلوكه، وكانت اجتماعاتهم تعقد سراً في بيت رئيسهم زيد بن رفاعة.
أما غاية أخوان الصفا فيلخصها ابو حيان التوحيدي بقوله: - (وكانت هذه العصابة قد تألفت بالعشرة، وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهباً زعموا انهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله. وزعموا انه متى انتظمت الفلسفة الاجتهادية اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال)
هذا هو ظاهر الغرض من تأليف هذه الجمعية والدعاية لها ولكننا نعتقد ان وراء هذا الغرض اغراضاً أخرى نحن مبينوها فيما بعد في فصل خاص
أما تأثير هذه الجمعية فقد اقتصر بوجه عام على العامة وأشباه العامة. والظاهر أن أخوان الصفا لم يكونوا يطمعون في أكثر من ذلك. وهم - لذلك - قد وضعوا رسائلهم بلغة بسيطة سهلة بعيدة عن الاعتياص والغموض اللذين يرافقان عادة الكتابات الفلسفية، ومما توسلوا به لتقريب مذهبهم إلى افهام الجمهور اكثارهم من ضرب الأمثال وسرد الحكايات. فكان ذلك كله مقروناً إلى بساطة التعبير وجلاء العبارة، داعياً إلى تهافت العامة على دراستها وان جاء ذلك بعد حين من تأليفها. أما الطبقات الراقية فلم تر في هذه الرسائل ما يروي الغلة أو يملأ الفراغ الذي كان تحسه النفوس إلى الفلسفة في جميع فروعها أنئذ، واليك ما يصفها به أحد المعاصرين وهو أبو سليمان المنطقي قال: -
(وحشوا هذه الرسائل بالكلمات الدينية والامثال الشرعية والحروف المحتملة والطرق المموهة. وهي مبثوثة من كل فن بلا أشباع ولا كفاية. وفيها خرافات وتلفيقات، فنصبوا ما أغنوا، وغنوا وما أطربوا، ونسجوا فهلهلوا، ومشطوا ففلفوا. وبالجملة فهي مقالات مشوقات غير مستقصاة ولا ظاهرة الأدلة والاحتجاج) (تاريخ مختصر الدول لأبي الفرج ص: 309)
ورأى الغزالي في هذه الرسائل لا يخرج عن معنى ما تقدم فهو يقول: -
(. . . فلو فتحنا هذا الباب وتطرقنا إلى أن يهجر كل حق سبق اليه خاطر مبطل لزمنا أن(34/19)
نهجر كثيراً من الحق، ولزمنا أن نهجر كثيراً من آيات القرآن. . . لأن صاحب كتاب اخوان الصفا أوردها في كتابه مستشهداً بها ومستدرجاً قلوب الحمقى بواسطتها إلى باطله (المنقذ من الضلال ص 27)
من هنا لا نرى ما يراه (لان بول) من أن هذه الرسائل كانت تمثل الفلسفة العربية حين ألفت أصدق تمثيل، فان كتاباً يكتب بلغة شبيهة بالعامية وللعامة، ويصفه أبو سليمان المنطقي والغزالي بما وصفاه، لا يمكن أن يكون ممثلا للفلسفة العربية في ذلك العصر ورسائل اخوان الصفا هذه تبلغ واحدة وخميسن رسالة عدا الرسالة الجامعة. والشك يحوم حول مؤلفيها. فمن قائل أنها من تأليف جعفر الصادق، ومن قائل أنها من كلام بعض متكلمي المعتزلة، ولكن السائد اليوم هو أن كتابات زيد بن رفاعة كانت نواة هذه الرسائل. والأربعة الذين يذكرون معه كانوا يساعدونه في التأليف وانضاج الرأي. وقد كان لتأليف الرسائل على هذا النحو من التعاون أثر كبير في اسلوبها واختلاف قيم اجزائها، فهي في مواطن قوية الفن غزيرة المادة، وفي مواطن اخرى مهلهلة الأسلوب سطحية المباحث. وهذا التباين الملحوظ في مراد هذه الرسائل يثبت لنا أن مؤلفيها كانوا على تفاوت في ثقافتهم.
على ان من هذه الرسائل ما انفرد بكتابته شخص واحد من هذه الجماعة دون غيره. ومن هذه الرسائل رسالة الحيوان. فاطراد الافكار وتسلسل المعاني، ووحدة السياق التي تلحظ في هذه الرسالة يجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأنها لكاتب فذ منهم. وهذه الرسالة في رأينا - هي أقوى هذه الرسائل واعلاها نفساً وأسدها منطقاً، وقد عرضت هذا الرأي على الأب انسطاس الكرملي منذ سنوات فجاءني منه حينها ما يلي: -
(رسالة الحيوان هي - كما تقول - لكاتب واحد منهم اقواهم عبارة واصفاهم فكراً واحسنهم منطقاً. لكن الظاهر ان بعض الأخوان نظروا فيها واحكموا تنفسيقها، واظهروا فيها حذقهم) وحضرة الأب - على ما أفهمني - يدرس رسائل أخوان الصفا منذ سنة 1917
ولعل الغرض الخاص الذي ألفت من أجله هذه الرسالة كان انتقاد المجتمع اذ ذاك على لسان الحيوان كما فعل بعض أدباء الغرب في عصور التضييق على الحريات الفكرية. فأخوان الصفا في هذه الرسالة ينطقون الحيوان بما لا يستطيعون الجهر به من عبارات(34/20)
كلها تقريع للحكام ورجال الدين والقضاء في ذلك العصر (انظر ص 154 - 55، 233 - 34)
أما المصادر التي استقى منها إخوان الصفا فهي عديدة ومتنوعة، وذلك انه لم يكن يمنعهم عن النقل من أي مذهب أو دين أو فلسفة مانع، كانوا يرون أن في كل مذهب أو دين أو فلسفة قسطاً من الحقيقة؛ وإذن ليس ثمة مانع من الانتفاع به أقصى ما يكمن الانتفاع. وعلى هذه المبدأ يبنى فلسفتهم الانتخابية. في هذه الرسائل من الافلاطونية الحديثة، وفيها من الفيثاغورثية، وفيها من مذهب وحدة الكون (البانثيزم) وفيها من أفلاطون وأرسطو، وفيها من الديانات الهندية والزردشتية واليهودية والمسيحية.
شرق الاردن
أديب عباسي(34/21)
حجاج الخضري
للاستاذ محمد فريد أبو حديد
قد تكلم المتكلمون في وصف أهل مصر فأكثروا في وصفهم من المبالغات، وذهبوا في التعميم مذاهب مختلفة، فمنهم من أغرق في المحدح حتى لم يترك فضيلة الا وصفهم بها، وهؤلاء قد غاب عنهم من وجه الحق مثل ما غاب عن الفريق الآخر الذي أغرق في الذم والتجريح. وقد تناول أفاضل كتاب الرسالة هذا المعنى فضربوا فيه بسهم.
ولعمري أنه لم يخطئ كاتب خطأ كتاب العربية قديماً إذا هم تناولوا قوماً بالوصف، فانهم إذا وقعت أنظارهم على جماعة أو عاشروا فئة من الناس وصفوها وصفاً يخيل إلى من يسمعه أو يقرؤه أنه وصف شامل لكل أهل البلد، أو أنه سمة ثابتة لكل الجنس، في حين أنهم إنما كانوا يصفونه من اتفق لهم الامتزاج به أو من ألفتهم الظروف في سبيلهم.
إن العالم الذي يحاول وصف الشعوب إنما يصل إلى حكمة على مميزات الشعب بعد أن يدقق في بحثه ويفحص من أفراد الجنس عدداً يستطيع بعد فحصه أن يقول بحق إنه قد عرف نسبة محترمة من أفراد ذلك الجنس، فاذا ما قال إنه رأى في ذلك الجنس صفة لازمة يشترك فيها الافراد جميعاً أو أغلبهم كان ذلك الحكم جديراً بالوثوق والتصديق. وشعب مصر إذا ذكره الذاكرون إنما يعني به شعب تلك الأرض الممتدة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وليس من السهل على أحد أن يصف مثل ذلك الشعب بوصف شامل يعم أفراده جميعاً، أو يصدق على أغلبهم. فأمثال ابن خلدون والمقريزي ممن وصفوا أهل مصر إنما يصفون من رأوه من أهل الدولة أو من الأعيان أو من أهل العلم، وهؤلاء ان صدقت علهيم كلمة أو شملهم وصف لم يصح أن يكون وصفهم وصفاً لبعض الأمة فضلاً عن كلها. وذلك لان أغلب أهل هذه الطبقة في مصر لم يكن في تلك العصور من جرثومة البلاد وأبناء شعبها الصميمين، بل كانوا أخلاطاً من مشرق الأرض وغربها قد اجتمعوا فيها بين مجندين في جيشها أو غالبين على حكومتها أو مقربين في بلاط حكامها الاجانب، أو علماء يجمعهم الاسلام من كل الامصار والأقطار في صدره الرحب السمح.
ولقد أهمل مؤرخو مصر ذكر ابناء البلاد الصميمين اهمالا يكاد يكون ازدراء لهم واحتقاراً لشأنهم، إذ زعموا أن مهمة المؤرخ محصورة في حدود رجال الدولة وأهل الحكم ومن(34/22)
يلحق بهم أو يطيف بأبوابهم من رجال الدين والعلم. غير أنا نجد بين حين وحين اسماً من اسماء الدهماء والعامة يذكره المؤرخ عفوا، وهو امل في نظرنا على صفة أهل مصر من تلك الأعلام العالية والاسماء الضخمة التي ملأ قدماء المؤرخين كتبهم بوصفها، وبنوا عليها أحكامهم لان تلك الاسماء المشهورة لم تكن في أغلب الاحوال من أهل وان كانت من أهل مصر، فهي غير جديدة بأن نتخذها أساساً للحكم على أهل مصر. واني ذاكر هنا اسماً من هذه الاسماء المتواضعة لعلي أبين من وصفه ان شعب مصر الحقيقي كان فيه رجال، وان البطولة كانت تسري في عروق عامته الذين لم يحظوا بتخليد التاريخ.
كان من أهل مصر في اول القرن التاسع عشر رجلاً متواضع الصناعة اسمه حجاج. وقد كانت صناعته بيع الخضر فكان اسمه يذكر دائماً مع اسم صناعته، فكان الجبرتي رحمه الله يذكره إذا ذكره بسام (حجاج الخضري)
وكان العصر الذي فيه حجاج عصراً فذاً في تاريخ مصر منذ عهد الفتح العربي الأول. فقد اعتاد اهل مصر منذ قرون طويلة ان يتركوا أمر السياسة والحكم والحرب لمن غلب على البلاد من الدول أو من الجماعات وتمادوا في ذلك الاعتياد حتى صارت عقيدتهم أن الحكم واجب على غيرهم، وان واجبهم الابتعاد عنه وعما يستلزمه من نضال ومغامرة. غير ان غزوة الفرنسيين هزت البلاد هزة عنيفة تصدعت لها العقائد الثابتة. فاذا بأهل مصر يرون الجنود الاجنبية تطرد جنود السلطان الذين اعتادوا الخضوع لحكمه وتشتت شمل المماليك الذين قضوا الاحقاب يتصرفون في أمور البلاد تصرفاً مطلقاً، فأصبحوا وجهاً لوجه أمام حالة جديدة لا تدعمها عقائدهم الاولى ولا عاداتهم الموروثة.
وبدأت روح أهل مصر تتنفس، وبدأت حواسهم تتنبه، فاذا بهم يثورون على الفرنسيين في شوارع القاهرة وأزقتها مرتين في مدى سنتين، وإذا هم يلقون اعداءهم المسلحين وهم لا يحملون الا الهراوي والحجارة، ويحتمون منهم وراء متاريسهم وخنادقهم يقيمونها في عرض الطرق وعند مداخل الميادين. وكان حجاج الخضري من زعماء تلك الثورة الشعبية وأبطالها، فيمز نفسه بقوة الجسم ورباطه الجأش وثبات الجنان، حتى صار أبناء البلد ينظرون اليه نظرهم إلى القائد المحبوب الموثوق به، يهرعون اليه عند الكوارث ويصرخون باسمه عند الهيعات. ثم خرج جيش الفرنسيين وعاد الحكم إلى السلطان(34/23)
وولاته، ولكن مصر شهدت عقب ذلك أشد تطاحن على الحكم والسلطة بين الزعماء والهيئات، حتى انتهى الامر بتطلع مؤسس الدولة العلوية المجيدة إلى الملك.
انتهت هذه الاثناء زعامة الشعب المصري المتنبه إلى الزعيم الجليل السيد عمر مكرم، وهو الصديق الحميم لمحمد علي باشا، وكان حجاج هذا من صفوة أعوان وأشجع جنوده، فعندما تخاذلت جنود الاتراك عن نصر محمد علي باشا في نضاله مع منافسية قام السيد عمر مع أهل مصر الصميمين بحصار القلعة حتى اضطروا القائد المنافس إلى التسليم، وكانوا لا يرجون من جهادهم ذاك مالاً ولا عطاء، بل كانوا يرابطون ويحاصرون ويحاربون من أجل الوطن وحده. وكان حجاج الخضري أظهر الزعماء الشعبيين في هذا الوطن. قال الجبرتي في يومياته:
(فأرسل (أي السيد عمر مكرم) إلى من بالنواحي والجهات وأيقظهم وحذرهم فاستعدوا وانتظروا وراقبوا النواحي، فنظروا إلى ناحية القرافة فرأوا الجمال التي تحمل الذخيرة الواصلة من علي باشا إلى القلعة، ومعها أنفار من الخدم والعسكر وعدتهم ستون جملاً، فخرج عليهم حجاج الخضري ومن معه من أهالي الرميلة فضربوهم وحاربوهم وأخذوا منهم تلك الجمال)
واستمر نضال حجاج على رأس هؤلاء الجنود المصرين الخلص حتى تم الامر بانتصارهم وتوليه محمد علي باشا على مصر، وجاء فرمان السلطان مقرأ بالأمر الواقع، وعند ذلك خرج موكب النصر المصري وعلى رأسه قواده المظفرون: وقال الجبرتي في وصف ذلك:
(اجتمع الناس، وطرائف العامة، وخررجوا من آخر الليل، وهم بالاسلحة والعدد والطبول إلى خارج باب النصر. . . وكثير من الفقهاء العاملين رؤوس العصب، واهالي بولاق ومصر القديمة والنواحي والجهات. . . وكبيرهم حجاج الخضري وبيده سيف مسلول وكذلك ابن شمعة شيخ الجزارين وخلافه، ومعهم طبول وزمور والمدافع. . . إلى ان وصلوا إلى الازبكية فنزلوا بيت محمد علي باشا، وحضر المشايخ والاعيان وقرأوا المرسوم). وبذلك تم انتصار الشعب، واخذ يتطلع إلى الحكم والسياسة. وما كان ذلك ليرضى الجنود الاتراك الذين تعودوا ان يكونوا سادة غير منازعين. فلما انتهى النضال الكبير بدأ التنافس والتنازع بين أهل مصر وبين الجنود. وكان حجاج ممثل ذلك التنازع(34/24)
والتنافس. قال الجبرتي في بعض يومياته بعد ذلك (وقع بين حجاج الخضري والعسكر مقاتلة جهة طيلون وقتل بينهم اشخاص) فرأى أهل الحكم أن يعودوا بذلك الشعب إلى هدوئه الأول، وسكينته القديمة، فبدأوا ينزعون منه السلاح بعد أن انقضت الحاجة إلى حمله. فغضب الناس لذلك حيناً، غير انهم أرغمو على الاذعان فأذعنوا. ولكن نفس حجاج الخضري لم تذعن بتلك السهولة بل قاوم وناضل وكابر. قال الجبرتي في وصف ذلك.
(وفيه بنى حجاج الخضري حائطاً وبوابة على الرميلة عند عرصات الغلة) ولكن ايستطيع فرد أن يقاوم دولة ولو كان من بناتها؟ لا، فان حجاجاً لم يستطع الا الهروب من القاهرة التي جال فيها تلك الجولات، ولجأ إلى جيش الالفي بك، وكان عند ذلك مرابطاً بجيشه يترقب الغرر، ويتحين الفرص، جاثماً طوراً عند إطفيح بالصعيد ومرة عند دمنهور بالبحيرة.
غير ان المقام لم يطلب لذلك البطل المصري في جيش الالفي بك وكيفل يطيب له المقام، وهو ابن البلد الصميم، يقيم بين جيش من المماليك يشمخون عليه بأنوفهم، وهو المعتز بكرامته الذي يرى نفسه مثيلاً وكفؤاً لهم؟ قال الجبرتي في وصف ذلك:
(وفيه أيضاً حضر حجاج الخضري الرميلاتي إلى مصر، وقد كان خرج من مصر بعد حادثة خورشيد باشا خوفاً من العسكر وذهب إلى بلدة بالمنوات. ثم ذهب عند الالفي، وأقام في معسكره إلى هذا الوقت، ثم ان الالفي طرده لنكتة حصلت منه، فرجع إلى بلده، وأرسل إلى السيد عمر مكرم فكتب له أماناً من الباشا، فحضر بذلك الأمان وقابل الباشا وخلع عليه ونادوا له في خطته بأنه على ما هو عليه من حرفته وصناعته ووجاهته بين اقرانه.)
غير أن نفسه لم تكن لترضى بعد ذلك بالبقاء في صفوف العامة الذين قضى عليهم أن يعودوا إلى انزوائهم واكتفائهم بالعيش العادي، فاختفى مرة أخرى من القاهرة، ولا ندري بعد ذلك له مقراً.
أقتله الجنود انتقاماً من كبريائه؟ أهرب إلى وطن غير مصر؟
لنسا ندري غير ما قاله الجبرتي (وفيه اختفى حجاج الخضري أيضاً بسبب ما داخله من الوهم والخوف من العسكر) اللهم ان في صفوف الابطال أفذاذاً لم يسمهم التاريخ ولمتعهم ذاكرة الأحفاد ليؤدوا اليهم ما يستحقون من الاجلال. . . ولئن كان حجاج الخضري أحد(34/25)
هؤلاء، فقد حفظ لنا المؤرخ المصري اسمه في عرض حديثه، وهو يمر به مروراً سريعاً. غير أني أتجه إلى ذكراه بقلب خاشع تملؤه دعوات الترحم، وتتردد فيه أسمى عواطف الاجلال والتبجيل.
ألا يستطيع مصري أن يقول عند قراءة سيرة حجاج إن في المصري أنفة وعزة؟ وإن له نخوة وسطوة؟ وإن بين جنبيه همة وقوة. . .؟
محمد فريد أبو حديد(34/26)
والبيئة أيضا. . .
أما لهذا الليل من آخر. . .؟
للدكتور محمد عوض محمد
من الموضوعات التي لابد أن تمر بنا جميعاً - الموازنة بين الوراثة والبيئة. هذا الموضوع بمثابة المطية الذلول التي لا يتحرج أضعف الناس وأصغرهم من أن يمتطيها. ثم يخيل إليه الوهم أنه أضحى فارساً من كبار الفرسان! ولقد طالما نشاهد صغار الناشئين وقد جلسوا على المنابر. ووقف هذا لينتصر للوراثة ويراها كل شيء. وذلك لينتصر للبيئة ويدعى لها كل شيء، وقد لا يكون للمتكلمين بعد إلمام صحيح بعنى الوراثة او البيئة.
ولا بأس بهذه الأشياء، ما دام يراد بها العبث البريء، وتمرين الطلاب على الحوار. ولكن كلام الاحداث فيما يجهلونه قد يغدو ويا للاسف - عادة تلازمهم مدى الحياة. وقل أن يوجد بين الموضوعات ما يتطلب الدقة في الفهم، والتأني في الحكم كموضوع الوراثة اوالبيئة.
فأما الوراثة فيراد بها ما يرثه الناس عن آبائهم وأجدادهم من الصفات التي اختصت بها سلالتهم التي ينتمون اليها. فتأثير الوراثة هو تأثير الجنس والسلالة والقائلون بالوراثة يزعمون ان هذا الشعب راق لانه من جنس راق، والآخر منحط لان جنسه منحط. وأما البيئة فهي ما ينشأ بينه الانسان من أرض وسماء، وهواء وماء، وجبال وأنهار، وصحارى وبحار وما اليها. ولهذه في نظر القائلين بالبيئة الاثر الاكبر في رفع قوم وخفض قوم، واعزاز شعب واذلال آخر.
ولقد حاولت في كلمة سابقة ان أضرب بعض أمثلة للضلال الذي يخبط فيه كثير من الناس حين يتكلمون عن الاجناس في غير تدبر ولا حذر. وهممت ان أكتب كلمة ثانية لأضرب أمثلة أخرى للضلال الذي يخبط فيه الناس حين يتكلمون عن تأثير البيئة ثم جاءت كلمة الاستاذ حسن جلال فحفزتني إلى المضي في هذا السبيل ان في شرائع كثيرة من الدول ما يضمن مجازاة من يمارس الطب إذا لم يكن من أهل الطب، ولكن ليس في الشرائع - وياللاسف - ما يكفل معاقبة من يمارس التاريخ وليست له دراية بالتاريخ، أو يمارس الجغرافيا وليس له كبير المام بالجغرافيا، وهكذا الحال في كثير من فروع العلم. فاستطاع ان يقتحم هذه الميادين من ليست لديه العدة اللازمة لها وهكذا رأينا اناساً يحكمون بين(34/27)
الاجناس ويرفعون جنساً على جنس، وسلالة فوق سلالة، دون ان يأخذوا العدة لمثل هذا الحكم بدراسة الشعوب والاجناس في كل مرة وفي كل زمن كذلك ما ينبغي لأحد أن يحكم في تأثير البيئة: في تأثير الهواء والماء والارض والسماء في أخلاق الناس وطباعهم، الا إذا درس كل بيئة على سطح الأرض، وقارن بين المتشابه وغير المتشابه، ووازن بين المتفق والمختلف، بحيث يستطيع أن يدرك ما إذا كانت البيئات المتشابهة قد أكتسبت أهلها خلالا متشابهة. وأن هذا التشابه سببه طبيعة الاقليم لا أي سبب آخر قد يكون خافياً.
ومع هذا فان الذين صناعتهم دراسة البيئات الطبيعية هم عادة أرهد الناس في اصدار تلك الأحكام القاسية الشاملة كأن يقال مثلاً: إن سكان هذه البلاد جبناء لأن أرضهم سهلة منبسطة! وسكان ذاك القطر بخلاء لأن بلادهم جبلية! وأهل هذا الاقليم بلهاء لأن هواءهم حار رطب؛ وأولئك كذابون حانثون لان مناخهم متقلب لا يستقر على حال.
ان هذه الآراء لها للأسف صورة خلابة تسترعي الذهن وتلفت النظر. وفي عالم سكانه لا يلذلهم اجهاد الفكر وانعام النظر فيما يلقى اليهم من المتكلم - كثيرا ما تسير تلك الأحكام وتشتهر بين الناس وترسخ في؟؟؟؟؟؟؟ وقد لا يكون في بعض هذه الأحكام ضرر كبير ولكن الخطب المؤلم ما ذكره الاستاذ حسن جلال من أن أناساً يقال لهم أنتم اذلة لأن هواء بلادكم يقضي بهذا، وقد كتب عليكم الذل سرمدا إلى يوم القيامة، فيصدقون ما يقال لهم ويؤمنون به. مع انه ليس في العالم أمة إلا ويصح أن يقال لها مثل هذا الكلام في وقت من الأوقات.
كتب أحد الجغرافيين الامريكان، واسمه إلسودث هنتنجتن يصف تأثير الهواء في الناس فقال: إن المناخ الذي يلائم حياة الأنسان أكثر من سواه، ويساعد على النشط والجد والرقي في سلم الحضارة هو مناخ بلاد اليابان (في الجزء الجنوبي منها). وبعض جهات الجزر البريطانية ثم تكون ملاءمة كل إقليم آخر للانسان بقدر ما بينه وبين هذه الجهات من المشابهة.
هذا ما ذكره ذلك الكاتب الجغرافي العصري، ومن المفيد أن نقارن هذا الحكم بما ذكره ابن خلدون في مقدمته عن الأقاليم السبعة وملاءمتها للأنسان. وقد ذهب هذا الكاتب الاجتماعي العربي إلى أن الأقليم الرابع هو أطيب الاقاليم جميعاً، وأكثرها ملاءمة للعمران، وسكانه(34/28)
أرقى حضارة من سكان سائر الأقاليم. أما ما يليه شمالاً وجنوباً فدونه منزلة، وما يلي ذلك اقل صلاحاً نظراً لشدة الحرارة أو لشدة البرودة. .
والاقليم الرابع الذي عناه ابن خلدون هو الواقع بين دائرتي العرض الثلاثين والاربعين. . . وفيه الاندلس وبلاد المغرب وايطاليا ومصر وسوريا والعراق وايران. وقد ذكر ابن خلدون صراحة أن الاقليم السادس قليل العمران. وهواؤه لا يبعث على الحضارة. مع ذلك ففي هذا الاقليم السادس بالذات يقع معظم بريطانيا العظمى علام يدل هذا كله؟
إنه يدل دلالة صريحة على أن كلا الكاتبين لم يبن حكمه على فهم صحيح لطبيعة الهواء وتأثيره في العمران. بل كل ما فعله أن نظر إلى العالم الذي يعيش فيه، والى الأفكار المختلفة التي نالت في عصره حظاً وافراً من الحضارة. وحكم بأن هواءها أحسن الأهوية، وأقليمها أطيب الأقاليم. رأى ابن خلدون أن العمران في عصره واقع في بلاد كلها في الاقليم الرابع، فحكم بأنه أكثر الاقاليم ملاءمة؛ ورأى هنتنجتون ان انكلتره واليابان في مقدمة دول العالم اليوم فحكم بأن هواء انكلترة خير هواء. ومتى أتيح للأقطار الاستوائية - أن تنهض قريباً أو بعيداً، فسيرى الناس ابن خلدون آخر ينادي بكل جرأة أن الأقطار الأستوائية، المغضوب عليها في الوقت الحاضر - هي أبدع وأزهى وأزهر الأقاليم ذات الحضارة والعمران.
ومن غريب أحكام ابن خلدون ما ذكره في حكمه على أهل السودان بأنهم موصوفون بالخفة وكثرة الطرب وحبهم للضحك بسبب حرارة الهواء، ولو بقى ابن خلدون إلى وقتنا هذا لأدهشه أن يعلم أن من أكثر الناس خفة وضحكاً الاسكيمو سكان الجهات القطبية! وشبيه بهذا ما ذكره المقريزي في حكمه على أهل مصر مما ذكره الاستاذ أحمد أمين: من أن البيئة المصرية قد أثرت تأثيراً سيئاً في كل ما بمصر من إنسان وحيوان. ومما ظنه حجة علينا أن الأسد لا يعيش في مصر. وهذا صحيح. ولو كان الأسد في مصر يوما من الأيام لكان العمران وحده كفيلا بابادته والقضاء عليه كله أبيد التمساح من نيل مصر. ولكن من يخبر المقريزي رحمه الله بأن بلاد الانكليز ليس فيها أسد، وليس فيها من الوحوش الضارية سوى الانسان. وكذلك الحال في الجزء المتمدن من أمريكا وفي معظم أوربا؟
تلك العبارة البادية السخف هي من فصل طويل للمقريزي مملوء بالعبارات الكثيرة في ذم(34/29)
مصر وهوائها ومائها وأهلها وفي ذم اخلاقهم وأجسامهم وطبائعهم. . وكلها عبارات لا تزيد قوة على العبارة السالفة.
ولقد يجوز لكاتب أن ينقد أخلاق المصريين وأن يرميهم بصفات الضعف إن شاء، أو الجبن أو الانهماك في الشهوات. ولكن ليس لأحد ان يرجع شيئاً من هذا إلى طبيعة الأرض أو الماء أو الحراة. فيضل ويضل. وأولى بهؤلاء القضاة أن يبدأوا بدراسة لكل اقليم وطبيعة كل بلد من بلدان العالم إذن لعلموا أن كثيراً مما يتهم به أصل مصر - صدقاً أو كذباً - شائع فاش في أقاليم تختلف عن مصر كل الاختلاف، وهنالك أقاليم لا يقل هواؤها حرارة عن هواء مصر، وأرضها سهلة كارض مصر، تعيش فيها شعوب لا يشك أحد اليوم في رقيها وتفوقها.
ومن الأمثلة الشائعة في تأثير البيئة ما يقال من أن المناظر الطبيعية تخلق الشعراء وتوحي بالشعر والموسيقى. وقد زار أحد كتاب الامريكان بلدة ستراتفورد حيث ولد شكسبير، فصور له الخيال الجامح أن مثل هذه البيئة - والتي ليس لها في الواقع ما يميزها - هي الجديرة بأن توحي إلى رجل مثل شكسبير تلك الدرامات الخالدة، والقصائد الرائعة. . ولولا جهل هذا الأمريكاني لعلم أن شكسبير لم يقض في هذا الأقليم غير زمن الحداثة. ولم يكتب فيه شيئاً بل قضى معظم حياته في لندرة تلك البلدة المظلمة التي لا يمكن أن توحي من تلقاء نفسها بشيء جميل.
واذا سلمنا بأن المناظر الطبيعية الجميلة تثير الخيال وتبعث الشعر في النفوس، فاننا سنلاقي من غير شك صعوبة عظيمة في تعليل تلك الظاهرة الغريبة وهي قلة نبوغ الشعراء الفحول في سويسرة التي لا يضاهيها في أوروبا بلد في أنهارها الجارية، وجبالها الشامخة، ومناظرها الرائعة.
أليست الحقيقة اننا نتورط كثيراً، ونندفع في الاستدلال والاستنتاج، ونقضي بأحكام شاملة واسعة من غير حذر ولا تدبر، بل وأحياناً من غير فهم لما نريد الخوض فيه؟!
من الثقافة العربية القديمة
النار(34/30)
عقد الجاحظ فصولا ممتعة على النيران، في نهاية الكتاب الرابع وبدء الخامس من الحيوان، ذكر فيها نيران العرب والعجم، فحدث أخبارها وأبدى آثارها وأشعارها
وإنا نتكلم الآن عن النار ونشوئها، فنورد قول طائفتين تختصمان فيها جمعناه من شتات، واختصرناه بعد افاضة.
النار
النار اسم للحر والضياء، فاذا قالوا أحرقت أو سخنت فانما الاحراق أو التسخين هو للحر، دون الضياء.
والحر جوهر صعاد كالضياء، وإنما يختلفان في الصعود لاختلاف جوهرهما، والضياء أحث صعودا لا يعلى. ألم تر إلى النار إذا أطفأناها من أتوان وجدنا أرضه وهواءه وما يلابسه حاراً، ولم نجده مضيئاً.
مستقر النار ونشوؤها:
النار التي تقدح من عودين أو حجرين أين تستقر؟ أهي في العودين كامنة تبرز بالقدح فهي من عناصر العود أو الحجر؟ أم تتراءى أنها خرجت منهما، والحق أنها ليست فيهما، بل تحدث من غير العود والحجر عند قدحهما - كلا الرأيين له فرقة تميل اليه وتؤيده بكل وسعها واليك أقوالهما:
نظرية الكمون:
يرى فريق أن النار كامنة في الحطب والحجر وغيره لأنها أحد عناصره، ويمنعها من الظهور البرد المضاد للحر والمكافئ له. فان نحن قوينا النار الكامنة إما بنار أخرى خارجية أو بتوهين البرد المانع كحك العودين اللذين يضعف البرد فيهما - ظهرت النار الكامنة، وتغلبت على البرد ونفته.
فالنار التي نراها هي نار العود تسعرت بعد كمونها، وانتصرت على مكافئتها. واعلم أن (احراقك للثوب والحطب والقطن، إنما هو خروج نيرانه منه ليست أن ناراً جاءت من مكان فعملت في الحطب، ولكن النار الكامنة في الحطب لم تكن تقوى على نفي المانع ضدها عنها فلما اتصلت بنار أخرى واشتدت منها قويتا جميعاً على نفي ذلك المانع. فما(34/31)
زال تجزأ الحطب وتجفف وتهافت لمكان عملها فيه). (وإن من ينكر أن في الحجر ناراً كامنة، كمن ينكر الزيت في الزيتون، والدهن في السمسم، والدم في الانسان، ويقول بحدوث ذلك عند رؤية الانسان لها).
بل تتوسع هذه الفرقة في تطبيق نظريتها، فعندها أن حرارة الأيام ليست من الشمس، وإنما النيران الكامنة في العالم تظهر بتقوية الشمس لها وتغليبها على مانعها، بل تطفر من كمون الحرارة إلى كمون السم، فنتزعم أن في كل بدن سماً كامناً، له مانع يمنعه من ظهور أعراضه - وليس سم الأفعى الذي يتلف البدن - لأنه ليس يقتل متى مازج بدناً لا سم فيه؛ ولكن الذي يقتل السم الكامن في الأبدان، متى أعانه سم الأفعى وقواه على مانعه.
البراهين على كمون النار:
لو كانت العيدان كلها لا نار فيها، ما كان ظهورها في بعض العيدان أسرع منها في البعض الأخر؛ لكنها كانت كذلك - لأن مانعها أضعف في بعضها عن بعض، فيكون ظهور نيرانه أسرع، فالمرخ والعفار أفضل العيدان، كما أن الحجارة تختلف في الأسرار، وأكثرها ناراً حجر المرو - وقد تحتك عيدان الأشجار في الغياض فتلتهب النار - وقد تقدح النار من الساج إذا اختلط بعضه ببعض في السفينة عند تحريك الأمواج لها، ولذلك أعدوا الرجال يصبون عليه الماء صباً، ولم صار لبعض العيدان جمر باق، وبعضها له جمر سريع الانحلال، وبعضها لا جمر له؟ ولم صار البردي مع هشاشته ويبسه ورخاوته لا تعمل فيه النيران؟ فهل اختلفت تلك الا على قدر ما يكون فيها من النار وعلى قدر قوة الموانع وضعفها؟
ولا يسكت هذا الفريق دون أن يؤيد كلامه بآي الكتاب.
قال تعالى (أفرأيتم االنار التي تورون، أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون) تقول كيف قال (شجرتها) وليس في تلك الشجرة شيء وجوفها وجوف الطلق في ذلك سواء، وقدرة الله على أن يخلق النار عند مس الطلق كقدرته على أن يخلقها عند حك العود، وهل يريد سبحانه في هذا الموضع الا التعجيز من اجتماع الماء والنار؟ ويقول تعالى: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فاذا أنتم منه توقدون) فهل تجد لذكر الخضرة الدالة على الرطوبة معنى، الا ذلك التعجيز؟(34/32)
نظرية الاستحالة
تنكر هذه الفرقة أن النار كامنة في العود، وكيف تكمن فيه وهي أعظم منه؟ ولا يجوز أن يكمن الكبير في الصغير، ولكن العود إذا احتك بالعود حمى العودان، وحمى من الهواء المحيط بهما الجزء الذي بينهما، ثم الذي يلي ذلك منهما، فاذا احتدم رق ثم جف ثم التهب، فانما النار هواء استحال.
والهواء في أصل جوهره جسم رقيق خوار، جيد القبول، سريع الأنقلاب، فالنار التي نراها اكثر من الحطف إنما هي ذلك الهواء المستحيل، وانطفاءها بطلان تلك الأعراض الحادثة للهواء. ينقلب الهواء إلى نار، لأن طبعه قريب منها، فالنار يابسة حارة، والهواء رطب حار، والماء رطب بارد. فالهواء وسط بين النار والماء يجمع بينهما، وقد ينقلب كل منها إلى ما يقاربه. فيجوز ان ينقلب الهواء ناراً، وينقلب الهواء ماء، ثم ينقلب الماء أرضاً، ولابد في الانقلاب من الترتيب والتدريج.
البراهين على انكار الكمون:
نرى براهين هذه الفئة سلبية، فهي تنكر الكمون باعتراضاتها على النظرية، وإن كانت لا تتقدم بحجج تؤيد الاستحالة، فترى المناظرة تنتقل إلى تأييد الكمون وإنكاره. تقول هذه في الانكار.
ان هذا الحر الذي رأيناه قد ظهر من الحطب، ولو كان كامناً فيه لكنا وجدناه بالمس كالجمر المتوقد، فان قلتم كان يمنعه برد مكافئ كامن مثله - فأين ذلك البرد؟
لا يخلو الحال من أمرين: إما بقى بعد الأحراق، وإما خرج عند الأحراق. فان كان باقياً في الرماد استلزم ان يكون الرماد أبرد من الثلج، وإن كان خرج مع الحر، وأخذ كل وجهته - فقد كان ينبغي له أن يخمد ويهلك مالاقاه، كما أحرق الحر وأذاب كل مالاقاه ولما وجدنا جميع أقام هذا الباب لم تتحقق، علمنا أن النار لم تكن كامنة في الحطب.
ونشعر بقيمة هذا الاعتراض، إذا لاحظنا قول الفريق الأول في أن النار تنفي المانع الذي هو البرد، ولم يقل تفنيه وتبطله - إذن فالبرد موجود عند الاحراق، يقع عليه أحد الفروض السابقة.(34/33)
بعد هذا أخذت كل فرقة تنتصر لنفسها بنقض قول خصيمتها وإنا نمسك عند هذا المقدار.
احمد احمد التاجي(34/34)
في محكمة التاريخ
الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي
هل غدر بأمته وخليفته؟
- 2 -
مناقشة المصادر
المصادر كما رأيت قسمان: قسم يبرئ الرجل مما نسب اليه، وآخر لا أقول يتهمه بالغدر والمخامرة، بل يلصق الخيانة به لصقاً دون تحرز او تشكك، ويمثل القسم الأول ابن الطقطقي وحده، ويمثل القسم الثاني ابو الفدا وابن الوردي والكتبي ابن خلدون ودحلان، فهؤلاء متفقون في الجوهر مختلفون في الاعراض. والآن أحو ل شطر انتباهي نحو ابن الطقطقي لأنه أول من كتب عن الحادث، ولأنه المؤرخ الأوحد الذي يحاول ان يبرئ ساحة الوزير من تلك التهمة الشنعاء، فيقول بصراحة إن ابن العلقمي لم يخامر، ويؤيد مدعاة باستبقاء هلاكو للوزير وتسليمه الأمر اليه بعد فتح بغداد، الا ان ما نعلمه من كلام ابن خلدون يدحض حجة ابن الطقطقي من حيث يؤيدها، فابن خلدون يذكر كما يذكر ابن الطقطقي أن هلاكو استبقى الوزير في دست الوزارة الا انه يزيد على ابن الطقطقي فيقول (والرتبة ساقطة عندهم فلم يكن قصارى أمره الا الكلام في الداخل والخرج متصرفا من تحت آخر أقرب إلى هلاكو منه) ثم لابن الطقطقي حجة أخرى براءة الوزير هي انه يستبعد على هلاكو ان يبقى على الوزير فيما لو كان الوزير غدر باستاذه، وهذا في الحقيقة استنتاج ضعيف جداً، يرده ما يقع تحت ابصارنا اليوم من استعانة المستعمرين بطبقة خاصة من الناس يسمونهم عادة بالمعتدلين، لكنهم في الحقيقة الخونة الخارجون على مبادئ الأمم النزاعة إلى استقلالها واستغلال مواهب ابنائها وماذا يضير هلاكو ان هو استبقى ابن العلقمي؟ وهل بلغ هلاكو من سموا النفس، وحب الصادقين والمخلصين تلك المنزلة التي تخوله ان يقتل من يخرج على هذه المبادئ، حتى ولو كان الخروج في مصلحة هلاكو؟؟ فعدم قتل هلاكو لابن العلقمي لا يؤخذ حجة على سلامة نيته في دولة المستعصم، بل على العكس من ذلك يمكن اعتباره كدليل إعلى إدانة الرجل وممالأته لاعداء الخلافة المتبرين.(34/35)
ثم هناك أمر يسترعي الانتباه، وهذا الأمر هو تصدي ابن الطقطقي لنفي التهمة، وتصريحه بأن هنالك من يتهم الوزير بذلك. فهذا يؤيد المصادر الأخرى التي تقول بمخامرة الوزير، ذلك لأنها لم تختلق هذه التهمة اختلاقاً، فقد ذكرها من تقدمها لكن وجهته سلبية، وأعني به ابن الطقطقي، ولذا فانا أظن أنت عرض المؤرخ لنفي الاتهام له تفسيران إما أن يكون المؤرخ يعلم حقيقة أن هناك مخامرة، فعمد إلى نفيها اضلالاً لمن بعده، أو أن شائعات قوية راجت عن خيانة الوزير إن صدقا وإن كذبا، فتصدى صاحب الفخري لدحضها وتكذيبها لغاية في نفسه أو لغير غاية. وأنا أرجح أن تعرضه لهذا الموضوع كان سبباً في رواج تلك الشائعات. أما لأي الغايتين فلا أراني قادراً على تحديد ذلك، هذا من جهة، ومن جهة ثانية دعهنا نسلم بأمانة ابن الطقطقي وحرصه على الحقيقة وتباعده عن التشيع!!. . . الخ.
ها هنالك الا أن كل هذا ينقصه أمر مهم في النقد التاريخي، ذلك الأمر هو أن ابن الطقطقي ينقل لنا عن الوزير ما قاله أو حدثه به ابن أخت الوزير، وفي هذا كفاية لتقليل أهمية ما يرويه المؤرخ، ولا سيما في موضوع اتهامي له علاقته الشديدة بالشرف والشهامة، وهذان يهمان ابن الأخت بقدر ما يهمان خاله، فاي اعتبار بعد هذا يبقى لما يرويه ابن الطقطقي؟؟؟
أما ما يقوله ابن الوردي فهو في الحقيقة رد فعل لما يقوله ابن الطقطقي، فهذا يشتد في الدفاع عن الوزير، وذاك يشتد في اثبات الجريمة عليه، وقد ذهب الغلو بابن الوردي مذهباً شططا فخرج عن كياسة المؤرخ وحياده، وأنسته العاطفة الجامحة وظيفته والموقف الذي يجب أن يقفه كل مؤرخ، فنعت الرجل بالغوي ولعنه، وبخل عليه بالترحم الذي يستمطر عادة على العصاة والمجرمين، وقد ذكر أشياء لم يذكرها أحد ممن تقدمه ولا من تأخر عنه، فمع أنه ينقل عن ابي الفدا، فقد ذكر أموراً لم يذكرها أبو الفداء نفسه، وأهم هذه الأمور نص هذه الرسالة التي يزعم أن ابن العلقمي أرسلها إلى التتر وهي رسالة طويلة. وقد جئت على ذكرها فانا أشك في نص الرسالة وويلح على الشك حتى يميل بي إلى الجحود والانكار، وذلك لسببين: الأول انفراده بذكرها، والثاني أسلوب الرسالة والكفلة البادية في لهجتها ثم الجمع بين شعر من هنا وهناك لا رابطة بينه، ولا سيما الابيات التي تجعل الاتراك (ويريد بهم المغول وهذا يدل على تدقيق المؤرخ!) طلاب ثأر آل محمد، ثم أمره(34/36)
هلاكو أن يتأول أول النجم وإيصاءه هلاكو بالحرص الذي ليس له معنى فلا أدري ما عسى الوزير يريد بحضه هلاكو على تأول النجم والحرص، والذي يزيد في غرابة هذه الرسالة هو استنهاض ابن العلقمي لهلاكو بذكر ما أصاب العترة العلوية والعصابة الهاشمية، وماذا يفهم هلاكو من هذا؟ فهو لم يكن شيعياً ليتأثر بهذه اللهجة الشيعية، ولا نعلم حقاً هل أسلم هلاكو أم بقى على وثنيته، فقصة موته ودفنه تؤيد أنه لم يسلم، أو إذا كان أسلم فأن الاسلام لم ينفذ إلى قراره نفسه، ولم يتأثر به التأثير الذي يعطف على الشيعة ويثير فيه عاطفة دينية تحفزه لمهاجمة بغداد، ثم ان دحلان يصف التتر وصفا لا يطابق روح الرسالة التي يذكرها ابن الوردي، فيقول دحلان (وكان ذهاب الخلافة بدخول التتر بغداد وهم قوم كفار خرجوا من الصين وتغلبوا على ممالك الاسلام وكانوا يقتلون الرجال والنساء والصبيان، ويأكلون كل شيء حتى الكلاب والحشرات، ولا يعرفون نكاحاً ولا يحرمون شيئاً، وكان ابتداء خروجهم في أول القرن السابع، وظهر امرهم في سنة سبع عشرة وستمائة على الامصار والمدائن والقرى، إلى ان استولوا على بغداد وازالوا خلافة بني العباس، فهل ترى بعد هذا ان في كتاب ابن العلقمي المزعوم ما يلائم طبائع قوم كهؤلاء، وهل فيه ما يستثير حماسهم؟ اني لا أرى شيئاً من ذلك، فلو جاء في الكتاب ما يتفق مع عقيلة اولئك البرابرة كذ كرغنى المملكة، وسهولة اقتحامها والى ما هنالك من مغريات، لكان في ذلك ما يدفعنا إلى الترجيح بأن هذا النص الذي يورده ابن الوردي قد يكون النص الحقيقي لكتاب الوزير إلى هلاكو ان صح ان الوزير ارسل كتاباً، اما وفحواه ما عرفنا فانا استبعد جداً ان يكون هذا النص صحيحاً، ثم هنالك اختلاف بين المصادر بشأن شخصية الرسول وكيفية الارسال، فابن الوردي يقول بأن الوزير ارسل أخاه، وصاحب القوات يذكران الوزير (تحيل إلى ان اخذ رجلا وحلق رأسه حلقاً بليغاً وكتب ما اراد عليه و. . .)، أما ابن خلدون فيذكر وصية أوصاها الوزير لصديقه ابن الصلايا صاحب اربل، ليستحث التتر على المسير إلى بغداد، وهذامعقول جداً، وليس فيه ما يدعو إلى التشدد في عدم احتماله أو تصديقه، ولا سيما ونحن نعلم ان ابن العلقمي لم يكن راضياً عن الدولة التي استبد بأمورها الدوادار ذلك السني المتشدد في سنيته، والحق انني مستريح لما يذكره ابن خلدون لأنه منطقي يستسيغ الاعقل قبوله، ولأن الرجل لم يظهر أقل تحيز أو(34/37)
ميل وكذا أبو الفدا فقد ألفيته فيما كتبه شريفاً مترفعاً عن الهوى وليس هذا بالكثير على ذلك الملك المؤرخ. اما دحلان فيريد ان يقول لنا ان لمجيء التتر اسباباً كثيرة، من اعظمها رسالة الوزير لهلاكو ولكن ما يؤسف له انه لا يذكر سبباً واحداً من هذه الأسباب الكثيرة. أما أنا فلا أعتقد أن وصية الوزير ان ثبتت هي التي جاءت بالتتر وحدها، وإنما قد تكون عاملاً قوياً في تسهيل الاغارة على بغداد، وآسف أني لا أعرف الكافي عن تاريخ التتر ليتسنى لي تعداد بعض الاسباب التي حفزتهم لشن غارتهم الشعواء، واخيراً وبناء على ضعف حجة وكيل الدفاع ابن الطقطقي وتكانف بقية المصادر - على ادانة الوزير - أراني مضطراً اضطراراُ علمياً سليماً من الغاية، وبعيداً عن الهوى، ومبنياً على ما أوصلني اليه استقصائي أن أرجح غدر الوزير بدولته وخليفته متبعاً في ذلك ابن خلدون بأن ذلك وقع على يد ابن الصلايا الذي يظهر انه اتصل بالتتر فحسن لهم مهاجمة بغداد بشتى الطرق، وذلك بعد أن ضاق الوزير ذرعاً بالدوادار وولي العهد واشياعهما السنيين وبعد أن قاست الشيعة نكبات وويلات وفضائح في العرض وخسائر في المال أخرجت الوزير عن تعقله، وجعلته يتناسى كل شيء في سبيل الانتقام أولا وانقاذ الشيعيين ثانياً، فلم يجد امامه أوفق من الاستعانة بالمغول الذين لم تكن بغداد غريبة عن الاستعانة بهم، فقد سبق للخليفة العباسي أن استعان بجنكيز خان على شاه خوارزم، وقد أصاب بغداد من جراء استغاثة الوزير بهلاكو ما أصاب المشرق وبخارى يوم استعان الخليفة بجنكيز على الشاه.
فرحان شبيلات
الجامعة الامريكية (ببيروت)(34/38)
3 - ابن قلاقس
532 - 567هـ (1138 - 1122م)
- 6 -
لابن قلاقس ديوان شعر يحدثل جامعه أول ما يحدثك أن هذا الشعر
ليس كل شعر ابن قلاقس، لأنه حذف منه ما لا يليق بهذا الشاعر من
غث القول وسخيفُه، وهي فكرة خاطئة تضر بتاريخ، ولا تفيده؛ إذ من
الخير لنا أن نرى جميع مظاهر التفكير للشاعر، سواء أكانت جيدة أم
غير جيدة، غير أننا اليوم وقد ذهب ذلك الشعر الضعيف، ليس لنا إلا
أن نتحدث عن هذا الشعر الذي بين أيدينا، وأهم ما يميزه خصائص
ثلاث: أولها الغرابة في كثير من الأحيان، تلك الغرابة التي تستدعي
منك مزيد العناية والاهتمام، فأنت إذ تقرأ شعره لا تقرأه مارا عليه أو
مسرعاً في تلاوته، ولكنك تقرأ محترساً منتبهاً، موجهاً كل همك إلى
تفهم ما يريده، وفهم ما يقصده؛ ولست أدعى أن ذلك محمدة في الشعر،
أو فضيلة بها يمتاز، ولكنني أزعم أن الذي أوقع شاعرنا فيها هو
غرامه الذي لا حد لله بالمحسنات اللفظية والجمالي البديعي، مما
يدعوك إلى أن تقرأ القصيدة مرة ومرة حتى تفهمها، وتدرك سر
معناها، على أنه لم يكن في كل شعره كذلك، بل هو في كثير من
الأحيان يترقرق عذوبة، ويسيل لينا ولطفاً، واستمع اليه يقول:
كان الشباب الغض ليـ
_ لا فاستنار الشيب فجرا
ولئن تقلب بي الزما(34/39)
_ ن كما اشتهى: بطنا وظهرا
فيما قتلت صروفه
= وقتلته جلداً وخبراً
غاض الوفاء، وفاض ما
_ ء الغدر أنهاراً وغدراً
فانظر بعينك هل ترى
= عرفا، ولست تراه نكراً
خلق جرى من آدم
= في نسله، وهلم جرا
ومروعي بالبحر يحـ
_ سب أنني أرتاع بحرا
أو مادري أنيي بتسـ
_ هيل المصاعب منه أدري؟!
ثاني الخصائص التضمين والاقتباس، وهما إن دلا فانما يدلان على ثقافة واسعة، واطلاع على الشعر عظيم، وشاعرنا قد أخذ كثيراً من معاني السابقين وصاغها في شعره، فاذا أنت سمعت قوله:
والماء يكسب ما جرى
= طيباً ويخبث ما استقرا
وعاد إلى ذهك قول البديع: وهو الماء إذا طال مكثه، ظهر خبثه، وإذا سمعت قوله:
وبنقلة الدرر النفيـ
_ سة بدلت بالبحر نحرا
خطر ببالك قول صرد:
قلقل ركابك في الفلا
_ ودع الغواني للخدور
فمحالفو أوطانهم(34/40)
= أمثال سكان القبور
لولا التنقل ما ارتقت
= درر البحور إلى النحور
بل هو يتعدى ذلك أحياناً إلى المعارضة، وقد استطعنا أن نعرف أنه قد أخذ من ابن الرومي وابن المعتز والمتنبي وغيرهم، وكان أكثر من عارضهم البحتري فهو قد عارضه في قصيدته السينية بتلك القصيدة التي يهنئ فيها بمولود ويقول:
كوكب لاح بين بدر وشمس
= فسرى بالسرور في كل نفس
وتشبهه به جعله يقع أحياناً في سوء التخلص الذي كان البحتري يقع فيه كثيراً كما شابهه أيضاً في الفخر بشعره والمغالاة في التحدث عن قوته وجماله، ولسنا ننسى بعد أقوال البحتريي مفاخراً بشعره بعد إلقاء قصيدته، وها هو ذا ابن قلاقس يقول عن شعره:
أين أمثال ما أقول؟. وقولي
= بات يقتاد شارد الأمثال
وهو قد عارض كذلك بعض قصائد جاهلية وأموية واقتبس منها، مثل قصيدة: قربا مربط النعامة مني، وقصيدة: حننت إلىي ريا، وغيرهما.
ثالثة الخصائص ولوع بالمحسنات اللفظية والجمال البديعي، وبخاصة الجناس والتورية، شأنه في ذلك شأن الشعراء المصريين واستمع إليه يقول:
أمنا في فنائكم الليالي
= فلا طرق الفناء لكم فناء
ويقول:
وكيف لا يحب القلب الذي فعلت
= يد الصبابة فيه فوق ما يجب
وكثيراً ما تسمعه يقول: حجاباً وحجاباً، أو إجلاء وإجلابا، أو إرغادا وإرغابا، كما كان له كذلك ولع خاص بالاستعارة المكنية التي يثبت فيها للشبه خاصة ولازماً للشبه به فكثيراً ما تسمع منه ثغر المزن، ووجنات الورد، وجبين الخطب، ومعاطف الطرب، وغير ذلك.(34/41)
شعر شاعرنا جار على القوانين النحوية والصرفية لا يشذ عنها، ولا يخرج عليها، اللهم إذا استثنينا قطعة لهمزة الوصل أحياناً وأخذه بمذهب: وحملت زفرات الضحى، ذللك المذهب الذي يسكن عين جميع المؤنث السالم حينما تكون الفاء مفتوحة وهو لا يلجأ إلى ذلك إلا مضطراً مكرهاً، كما أنه لم يلجأ - وعلى الأقل في هذا الشعر الذي بين أيدينا - إلى أساليب العامة إلا في النادر الأٌل كقوله:
يبكى به الاقلام نفلا محرفا
= تموت معانيه عليه من الضحك
ويحسن بنا أن نقول: إن ابن قلاقس كان ينظر إلى الشعر نظرته إلى شيء يثير العاطفة، فالشعر ليس كاملاً مزخرفاً فحسب، ولكنه قول يثير في النفس عاطفة تدعو إما إلى الزهد في الدنيا أو الاقبال على لذتها وحسنها وجمالها.
أهم ما طرقه ابن قلاقس من الاغراض المدح، والغزل والوصف، والعتاب والرثاء والهجاء، وهي كلها من أنواع الشعر الغنائي الذي لا قصص فيه ولا تمثيل، ومدح شاعرنا أكثر هذه الأنواع وأوفرها قد أخذ بحظ من الجمال وحظ من الرقة، تقل فيه المغالاة والاغراق، وشاعرنا ينظر إلى شعر المدح نظرته إلى العقد الذي يربط محاسن الممدوح؛ وينظمها في قرن واحد، ولولا الشعر لظلت هذه المحاسن متفرقة غير مجتمعة، فهو يقول:
وما الشعر الا سلك منتثر العلا
= ينظم فيه درها المتبدد
ويقول:
إذا ما المجد لم يضبط بشعر
= فقد أضحى بمدرجة الضياع
غير أننا نتساءل: أكان شاعرنا يتكسب بشعره؟ وإذا كان فماذا كان نصيبه من ممدوحيه؟ أما أنه كان يتكسب بشعره فاننا نراه يقول
تأبى له الهمة أن
= أجعل شعري مكسبي
غير أننا بالرغم من ذلك البيت نكاد نوقن بأن شعره كان وسيلة من وسائل كسبه، يدلنا عليه(34/42)
أولا تلك الرحلات التي رحلها في الشرق والغرب، ولا بضاعة معه الا شعره، وثانيا تلك القصائد التي فيها يقاضي ممدوحيه بالعطايا والهبات ويبدي لهم فيها فقره وحاجته، بل إن بعض قصائده تدل على أن بعض ممدوحيه قد جعل له راتباً يتقاضاه.
(لها بقية)
أحمد أحمد بدوي(34/43)
من طرائف الشعر
عبرات منظومة
للأستاذ عبد العزيز البشري
أتى على الأستاذ البشري سبع وعشرون سنة لم يقل فيها بيت شعر، حتى فجعه الموت في صديقه الدكتور حلمي المنشاوي وهو في ريق شبابه ومشرق نبوغه، فرثاه بهذه القصيدة الباكية.
حلا الدمعُ بعدك والعيشُ مَرْ ... فخطبك جلَّ عن المصطبر
وما خيرُ هذي الحياة وقد كنـ ... ت ملء الفؤادِ ومِلء البصر
فان كان لابَّد من لُبثةٍ ... فما هي إلا الدُّمَى والصور
وأما الهناء وأما النعيـ ... مُ فذلك عفَّى عليه القدر
وهل كان يضح زَهرُ الربى ... إذا لم يباكرْهُ فيها المطر؟
وما لذَّة السمع للسامعيـ ... ن وما من حديثٍ ولا من سمر
ويا وَيحَ من أمعنوا في الفلا ... ةِ إذا الليل جَنَّ وغاب القمر (
بنفسي هذا الفتى الأَرْيحـ ... يُّ النجيب النجيد الأبيُّ الأبّر
جميل المحيَّا، نبيل الخلا ... لِ، كريمُ الفعالِ، صدوقُ النظر
شديدُ الحياء، عظيمُ الوفاءِ ... يرى الشرَّ شرَّ الهناتِ الكُبَر
أمين لغيب الصديق، نصيـ ... حٌ رفيقُ المقالِ إذا ما حضر
له شيمةٌ كعبير الورود ... ورُوحٌ كمثل نسيم السَحَر
جلا هذه النفس من صاغها ... وطهرها من خبيث الوضر
وما كان يعلو الغبار السما ... ء أو يسكن التُّربُ جوف الدُّرَر
أحلمي، رويدك ماذا جرى؟ ... تحدّث، فدأبكِ صدقُ الخير
لقد كنت نعم الفتى المرتجى ... فديتك والأمل المدّخر
صليبَ القناة، خضيب الحصاة ... رحيبَ الأناةِ عزيزَ النَفر
فتىَّ العزيمة ما تنثنى ... ولو ذا دون المهام الحجر؟؟؟؟؟؟؟؟؟
بعيد المطالب، رحبَ المنى ... وَصولَ الجهاد، دؤوب السَّهر(34/44)
ترجِّى وترجىَ لجلىَّ الامور ... فماذا دعاك لهذا السفَر؟
لكم صادَ فيك أبوك المنى ... دراكا وصارعَ فيك الغيَر
وَضنِّ على الدهر أن يعتريك ... بما يعتري العالمين الدَهر
ولو قد ترقرق ماءُ الحياة ... لدَى المشتري مانى أوفَر
ولو كان يرضى الفدى مهجة ... لشدّ على قلبه واعتصر
ولكن تغلب عزمُ الزمان ... على عزمه والقضاءُ انتصر
أحافظُ، ذلك حكم الاله ... وهل لامريٍ دونه من مفَرّ؟
فلم يبق إلا الرضى بِالقضا ... أعانك من قد بلا واختبر(34/45)
خيالة!
للشاعر الدمشقي انور العطار
خَيَالة للغابِرِ الدَّفِينِ ... في ظلُمَات الأبد الجَبِينِ
تَحْسِرُ عن فؤادها الطَّعِينِ ... تفيض بالدموع والأنينِ
تَطْفَحُ بالآمالِ والحنِينِ ... جَبَّارَةٌ في جسَدٍ وهُونِ
مَفجُوعةٌ بالأمل الثَّمينِ ... ليس لها في الكون مِنْ مُعين
يَرْثِى لها في الحالكات الجُونِ ... ما انْتَابَها من دهرها الخَؤوُن
قد امْتَطَتْ أجنحةَ الظُّنونِ ... فاستترَتْ فيها عن العيُونِ
ثم توَارت في دُجَى المَنونِ ... سادِرَةً في ظلها الأمين
هادئةً تَنْعَمُ بالسكونِ ... وصورةٍ لشاعرِ الغصوُنِ
أمْعَنَ في النُّوَاحِ والرَّنِينِ ... لم تَمْحُهَا آلهة الجفونِ
مِنْ ساحِ قلبٍ وَجِعٍ ضَمينِ ... مفجَّعِ الأحلامِ كلَّ حِينِ
فهل لِتِرْبِ الشَّجْوِ مِن خدَيِن ... يقْبَلُ منه صفَقةَ الغَبِينِ
وخافقاً يَمُوجُ بالشجون ... ومقْلةً فيَّاضةَ الشُّؤُونِ
هَدَّيِةٌ مِنْ شاعر مَحزُونِ؟(34/46)
أعداء لا أضياف
للاستاذ فخري ابو السعود
أانا نقرِئُ القومَ السلاما ... ويبغون العداوة والخصاما
ونكرمهم مجاملة وودا ... ولم نر فيهُمُ الشيمَ الكراما
ونرعاهم بموطننا حُلولا ... ولم يرعْوا لمواطننا ذماما
ونمنحهم قِرَى العربيِّ جوداً ... قعوداً بين أظُهرِنا قيِاما
وقد أمسَتْ عُروبَتُنا لديهم ... ونسبتنَا إلى الأَجواد ذاما
وندعوهم ضيوفاً في ذَرانا ... لهم حقُّ النزيل إذا أقاما
وما للضيف حقُّ مِن مضيفٍ ... إذا نبذ الحياَء والاحتشاما
ونزعمنا مُضيفيهمْ وهذىً ... خديعةَ من تخادعَ أو تَعامى
هُمُ ساداتنا فيما ادْعَوْهُ ... ولم نَكُ عِندَهم إلأ سَوَاما
أمهما تلقِ أوُربَّا بِرذْلٍ ... إلى مصرٍ تطاوَل أو تَسامى؟
وندعوهم أُخوَّتَنا ونبغى ... لِوُدِّ الشرق والغرب التئاما
وهم يَترفعون عُلا ونبْلاً ... وقد شطروا الورى آراً وَساما
فمهلاً معشر الدُّخَلاء مهلا ... إلامَ نسيخ كيدكمُ إلاما!
إلام نَرى الدخيلَ لمصر حرباً ... وما تمسى له إلا سلاما؟
لكم منا غدٌ صعبٌ عصيبٌ ... وإن نِلتم بِيوِمكُمُ المراما
فضوليُّون أنتم لا ضيوف ... ثَقلْتم في منازلنا مُقاما
مَننتم أن مَنحتم شعبِ مصر ... كِساءً أو شرابا أو طعاما
وما رُمتم بذلك غير مالٍ ... حلالا نلتموهُ أو حراما
به أعليْتُمُ في مِصرَ دوراً ... وأحرزتم بها الضيعَ الجِساما
ولم تَسعَوْا لها الا ابتدارا ... إلى الفرَص السوانح واغتناما
زعمتم مالكم دمَ مِصر يحيا ... به أبناؤها عاما فعاما
وما أموالكم إلا بلاءٌ ... تسرَّبَ في دم الوادي سماما
وداء في مفاصله عياءٌ ... مَشَى يبرى المفاصل والعظاما(34/47)
مُصابُ النيل أنتم لو علمتم ... وأوَّلُ راشقٍ فيه السهاما
ولولا كم لما أمسى أسيراً ... مَهيضاً في الحوادث مستضاما
بنى مصرٍ! بغى اللؤماءُ بغياً ... علاَمَ نطيق بغيَهم علاما؟
هُمُ الأعداءُ لا الأضياف فينا ... فلا نَخدعْ بمكذوب الأسامى
أخو الافرنْج إن تكرِمْهُ يشمخْ ... عليك وان تقوِّمْهُ استقاما
يخال الجودَ في الأجواد ضعفاً ... وأنىَّ شَامَ بارقةً ترامَى
فلا تنسَوْا مقالا من حكيمٍ ... وقدِمْا أحكم العربُ الكلاما
يحذرُ مَن أراد ندًى وبراً ... عواقبَ بِرِّهِ القومَ اللئاما
تجافَوْا من تجافىَ عن هوانا ... ولا ترَعْوا لمصغرنا مقاما
أشِلّوا عن تجارتنا يديْهِمْ ... فقد ملكوا بها منا الزماما
وقدُّوا عن معاصمنا امتيازاً ... يُكبِّلنا به القوم اهتضاما
حبَوْناهم به أمس اختياراً ... فغلُّونا به اليوْمَ التزاما
ولم أرَ مثله ذلا وعاراً ... وعَبناً للعدالة واختراما
كانا ما تشرعنا وعنا ... هُمُ قبسوا القضاء والاحتكاما
جزَوْنا عن قديم الفضل شراً ... وجازَونْا عن الوُدَّ انتقاما
أذاقونا المَذَلَة في حمانا ... وإن نَصمِت أذاقونا الحِمَاما
خداع الحياة
حَطَّمْتُ قِيثاري وعِفْتُ الهوى ... وضِقت ذرعاً بالأماني العذابْ!
واعْتَضْتُ عن شدوِى بلحن الأسى ... والشَّجْوُ يطَغى في ظلال الشبابْ!
وما مَلٍ أشرق، ضاحي السَّنا ... مْضرَ الأفياء، رحْبَ الجنَابْ
ألمَّ بالرُّوحِ، كطيف الكرَر ... لاحَ لعينٍ، ثم ولى وغابْ
والهَفَتى! إنَّ حياةَ الورى ... حُلْمٌ عميقٌ مستفيض الشعاب
ولُمْعَةُ الآماال خَدَّاعةٌ ... كخُلَّبِ البرقِ، يَشيها الكِذاب
يخالها المحزونُ ماء الحيا ... فانْ دنا لم يُلْفِ غيرَ السَّرابْ
لا تَعشَقِ الدنيا وإنْ زانها ... فيْئٌ ظليلٌ، وغصونٌ رِطابْ(34/48)
لذَّاتها محفوفة بالأسى ... وساحُها زاخرةٌ بالصِّعابْ
تغرِيكَ بالزُّخرُفِ، لكنها ... تَسقيكَ سُمَّا في تمير الشَّراب
يا قلبُ قد أُصليِتَ حَرَّ الجوَي ... وذقتَ في عيشك مُرَّ العّذاب
يا ليت شِعرِي هل تَلَذُّ الصِّبى ... أم يَنتحيِك الموت نَضْرَ الاهِابْ؟
كمْ في الثرى من حدَثٍ رائعٍ ... طوتْهُ كفُّ الدهر جمَّ الرِّغاب
وعاشقٍ، أحلامُهُ طَلْقةٌ ... ثَوَى مَغيظَ القلبِ تحتَ التراب
كلَ مَشيدٍ من قصور المنى ... مضطَّربُ الأُسِّ، وشيكُ الخرابْ
دمشق
حلمي اللحام
في مرقص مقنع. .
بنت السَّرِىِّ ذهبت ... لمرقص مقّنع
تبحث فيه عن فتى ... في مالها لم يطمع
حتى إذا ما ظفرت ... بذي الحديث الممتع
ورقصا وشربا ... نَخْب الزواج المزَمع
وظن أن نال المنى ... (ذاك الغلام المدِّعى)
انتزع القناع عن ... وجه كوجه الضفدع
فأدبرت مسرعة ... فتاتنا في جزع
قائلة في حسرةٍ ... يا ليته لم يرفع!
حسين شوقي
الى السيدة منيرة توفيق
أفصحت في شكاتها وأفاضت ... عن جوى القلب في بديع النظيم
حرُةٌ عفَّة الازار تناجي ... هاجر العش في بيان الحكيم
ايهذي الورقاء كفي عن الشجـ ... ووعيشي بذكريات القديم(34/49)
وانظميها روائعاً تملأ الكو ... ن ففي الشعر راحة المكلوم
واملأي الوكر بهجة واستعيضي ... بجمال الآداب خير نديم
وابلغي النجم بالأماني فما لليأ ... س من مطمح خلال النجوم
أيها الطائر الذي هجر الوكـ ... ر ولم يعن بالفؤاد الرؤوم
أجزاء العفاف يا صاح هجر ... وجزاء الوفى عيش المضيم
منحتك الفؤاد ملكا حلالا ... وحبتك الوفاء فعل الكريم
اسئمت النعيم ام شمت برقا ... خلبا من عواذل وخصوم
لا تصخ يا أخيَّ سمعاً لقوم ... ينفثون الشقاق نفث السموم
يبذرون الشقاء في منبت السع ... د ويسقونه بماء الحميم
إن في زوجك الجمالَ جمال النف ... س يسمو على جمال الأديم
وأرى وجهها ولم أحظ باللق ... يا خلال السطور جد وسيم
ولقد خصهَّا الاله برأي ... يا أخا الرأي في الحياة قويم
حبذا العيش في جوار مصون ... ذات قول مهذَّب مستقيم
عُدْ اليها أخيَّ زوجاً عطوفاً ... رحم الله كل قلب رحيم
عُدْ إلى زوجك الأمينة والْثِمْ ... جبهة النُّبل والوفاء العظيم
قد أهابت وقد هجرت حماها ... بك للعود للهناء القديم
فاحْبِهَا الحبَّ والوفاء وعيشا ... في حمى السعد في صفاء النعيم
أحمد يحيى وصفي
واليها أيضاً
رقَّتْ برِقّتكِ الشمائلَ ... وجمعتِ أشتات الفضائل
أدب وعلم ضُمِّنا ... حِكَمَ الأواخر والأوائل
ظرْفٌ ولطفٌ أنسيا ... ني سِحْرَ هاروت وبابل
لكِ من كمالكِ غنْيةٌ ... عن قاطع وُدِّا وواصل
أولستِ مخلصة؟ فما ... لكِ تأسفين على المخاتل؟!(34/50)
لا تعجبي من ميله ... فالدهر يا اختاه مائل
إن الألى شغلوه عن ... ك لَبَيْن سافلة وسافل
لاطفتِهِ حتى استطا ... ل فجرّبي معه التثاقل!
كل السعادة في الحيا ... ة عقيلة في بيت عاقل
؟؟؟
محمد جاد الرب(34/51)
صور مختارة من الشعر الرمزي
للأستاذ خليل هنداوي
جيفة
للشاعر الفرنسي بودلير
أتذكرين ما رأينا في صباح ذلك النهار الجميل في منعطف سبيل!؟
جيفة مطروحة فوق الحصا ... صعد الساقان منها في الهواء
كفتاة سعرتها شهوة ... نضحت منها جراثيم البلاء
كانها مسترسلة للمجون في ذلك الرقاد!
ناضية ثيابها عن جوف طافح بريح الفساد!
تبسط الشمس عليها نورها ... لاذعا تنضجها قبل المساء
نثرت اوصالها ترجعها ... بعد تفكيك عُراها، للفضاء!
زهرة فتحها برد الندى ... هكذا تنظرها عين السماء
وهي اذ تنشق ما تبعثه ... تنشق السمَّ زعافا والوباء
وللذباب حول هذا الجوف النتن دويٌ وطنين! والديدان تزحف في مساربه كالكتائب السوداء فائرة، او كالموجة القائمة تتقلب على هذه المزق المتناثرة.
موجة نازلة صاعدة ... زفرة بين هبوط وارتقاء
حيث يحيا الجسم تكراراً بها ... مبدعا منه جسوما من هباء!
والاجواء كانت تردد موسيقاها الغريبة، كخرير الماء الراكد، وعويل الريح الكئيبة، أو كترجيع الحبوب ترتل في المذراة الحانا متناسقة عجيبة، والأشكال كلها قد عفت وامحت رسومها لا يستطيع الفنان ان يعيدها سيرتها الاولى الا إذا اكمل نسجها وتأليفها بالذكرى
كلبة ترمقنا نافخه ... شقيت فينا شقاء الضعفاء
ترصد الفرصة كي تنهشها ... وترى في لحمها البالي شفاء
وغداً! يا نجمتي! يا منيتي! ... يمسح الموت على هذا البهاء
عندما تغدين في جوف الثرى ... جيفة تنثرها أيدي الفناء
تحت أعشاب وأزهار نمت ... تخذت من جسمك الغض غذاء(34/52)
حيث يمشي الدود في أحنائه ... آكلا باللثم منها ما يشاء!
خاطبي الدود! وقولي للبلى ... إنني أنقذت من حب عفاء
كنهىَ الساميِ الالهيِ الذي ... ابداً يبقى قريناً للبقاء(34/53)
عالم النسيان
للشاعر بول فدر
(السكر الأكبر)
(هل أناا يا خوس أوياان؟
أسكر باالفضاء، وأطفئ لهيب روحي؟؟؟ الليالي
ألا فلتجر السماء في، ولأمتزج أنا فيها، فاتحاً فمي لعالم الذي ترتعش كواكبه.
لقد قضى (بيرون ولامرتين وهيغو وشيللى، وهم سكارى بالفضاء والسماوات الساطعة بالنجوم.
لا يزال - هنالك - الفضاء، يجري حراً طليقاً، حملني اليه
دون أن تعصف بي النشوة،
لا أزال ظمآناً. . .)
(بول فدر)
لا تلمني إن نسيت الموعدا ... أنا في النسيان أحيا أبدا
لو سرى النسيان في أوراحهم ... لرأوا مثلي حياة رغدا. . .
كل شيء - غير نفسي - ثابت ... لم تزعزعه أعاصير الغيَر
أي خطب لشموس خلدت؟ ... غير سخر من عذابات البشر
ما الذي يجديك إن قلت لنا؟ ... إنها واقفة، أو سائره
فعذابي في وجودي واحد ... وعلى الروح تدور الدائره
أيها الخافق! قد أضنيتني: ... ما الذيي يجديك نوح أو أسى؟
ناح من قبلك حتى صَمتوا ... وتولوا كسحابات المسا
عابر تمحو له آثارَه ... كلما خطط أمواجُ القدر
أنت تبغي أن تبِّقى أثراً ... فماضِ! لا يبقى على الرمل أثر
أيها العابر! ما ذنبك أن ... جاءك الشك وما ذنبي أنا؟
إن يكن كل يقين خادعاً ... فاتبعني تعلن الشك هنا. . .(34/54)
نبتغي الراحة في أفيائه ... كيف نبغي راحة في قلق؟
ربة تصبغ أثواب الدجى ... حيلة منها، بلون الشفق
عذلوا الذاهل عنإحساسه ... لو دروا في أمره ما عذلوا
قل لهم! لو ذهلوا عن وعيهم ... لاستطابوا عيشهم إذ ذهلوا
أسلموني لشعوري المبهمِ ... أنا أحيا فيه بشعوري المبهم
أخبروا الليل بأن يغمرني ... فهنائي في الظلام المظلم
في اعتزالي عالم أسكنه ... وصلت أجزاءه أخيلتي
كم إله! ماله في يقظتي ... أثر، سامرني في عزلتي؟
كلما أغمضتُ عيني انفتحت ... لعيون النفس أكوان الأمل
كم رجاء كان يناى فدنا. . . ... وحبيب كان يعصى فوصل. . .
كلما أطبقت جفني انبعثت ... ذكرياتي مثل أشباح الدجحى
عانق الشك يقيني ضاحكا ... والتقى اليأس صديقاً بالرجا(34/55)
الغابة المفجوعة
للشاعر بودلير
(رسائل)
(الطبيعة هي معبد يضم دعائهم حية يخرج منها في بعض الاحيان كلمات مبهمة، يمر فيه الانسان بغابات من الرموز تنظر اليه نظرات أنيسة.
الطيوب والألوان والألحان تتجاوب كالاحداء الطويلة التي تمتزج بعيداً في وحدة عميقة مظلمة واسعة كالليل وكالضياء)
أزهار الشقاء
(بودلير)
بدَّل النهر هواه ... إذ تولاه الضجر
قال يا (سلمى) تعالَىْ ... أنا لا أهوى الشجر
قد مشى الجهم لديه ... مثلما يمشي القمر
ليس للنهر اختيار ... في الذي شاء القدر
هجر الطير مروعا ... عشه بين الغصون
صاحِ! هل تسمع في الغاب سوى همس الكون؟
وشكاوى طرحتها ... الآن عشاق البشر
عطلت فيها نجاوى ... كل طير وزهر
وشجيرات تعرّت ... بعد ذيَّاك البهاء
فهي لا ترجو حياة ... بعد موت الأصدقاء
لا عصافير تغنى ... لا ازاهير تفوزح
كل ما يلقاك منها ... جسد من غير روح
ايها المقسم عهد الحب ... ب في هذا المقام
احترم حزن ذويه ... وامض عنهم بسلام
بين أيدينا زهور ... قد مشى فيها الذبول(34/56)
هل وقت عهد هواها؟ ... هل أتمت ما تقول؟
كل شيء فيه ذكرى ... حيثما هبت تروع
هي أولى من هوانا ... لو عرفنا بالخشوع
قل لمن تعطيك خداً ... تجتني منه القبل
أعلى زهر ذوي تغ ... رس أزهار الأمل؟
لحظة تاس فتنسى ... بعدها ارماسها
وإذا الغابة تحيى ... في الهوى أعراسها
وتناست كل صرف ... مثلما تنسى الطيور
دائرات الدهر تجري ... وهي نشوى بالسرور
حزنت يوما ولكن ... نسيت احزانها
هل بامكان الفتى ين ... سى الاسى نسيانها؟
إنما الانسان لو تع ... لم اشقى الكائناتْ
ليته كالغاب لا يح ... فظ تلك الذكريات
ليس ما في الكون الا ... صورة من مظهري
ذكرتني بوجودي ... وروت عن معشري
في غروب الشمس لغز ... لرجاء يلتوي
في ذيول الزهر رمزٌ ... لغرام ينطوي
كل شيء - فيه - يحيا ... كالضمير المنفصل
فيَّ - ما اعظم روحي - ... كل شيء يتصل
دير الزور
خليل هنداوي(34/57)
العُلوم
مطالعات وأشتات:
ذكاء القردة
للدكتور احمد زكي
وكيل كلية العلوم
نبدـ بالتعريف - حضرتها قردة، مخلوقة من مخلوقات الله ولا تحقير لخلقه، ولدت في ليلة اسودّ أديمها بمقدار ما ابيضّ نجمها، وغاب نحسها وتراجع بؤسها، على حين حضر نعيمها وأقبلت بركتها، ليلة من تلك الليالي الاستوائية الجميلة في دَغَل من أدغال الكمرون الفرنسية على الشاطئ الغربي من القارة الأفريقية، وأصبح فتحت عينيها ترى وضح النهر لأول مرة، وأدبر النهار عن ليل ازدهرت نجومه فرفعت عينيها إلى
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
في السنة الثالثة. وكانت وهي طفلة تحتضن كل من تلققى من معارفها، أما الآن فهي ترغب عن ذلك كثيراً وتطلب الاستقلال وتود أنت تسير وحدها وتتفقد ما حولها بنفسها، وتختبر الأشياء بيدها وعينها، الا أن هواها لا يستقر طويلاً على شيء واحد. وقد استقام عوده واعتدل قَوامها وزادت خُطاها ثباتاً واتزاناً. وكان شعرها يطول إلى جانبي رأسها حتى ليهبط دون ذقنها، أما الآن فقد قصر قصراً كبيراً. وكان جلد يديها ورجليها ووجهها قائماً فأخذ يتبقع بالسواد، وكانت صورتها الشمسية تخرج بيضاء وهي تخرج اليوم سوداء.
ومهما كان التغير في جسمها كبيراً فان التغير في عقلها وادراكها اكبر، فهي تستطيع الآن ان تسلي أصدقاءها بما تصنع، وتحبسهم الساعة والساعتين وهم مغتبطون؛ وهي كذلفك مغتبطة، كأنها تحس أنها بذلك تقيم الدليل على ان معشر الشمبازي لهم من الفطرة والذكاء حظ لا يقصِّر كثيراً عن حظ الانسان منهما.
كانت في أفريقيا لا تعرف القيد، ولكن بارتحالها عن تلك الأراضي الواسعة الطلقة، وبنزولها في باحة المدنية كثيرة الحدود، كثيرة الفروض، كثيرة القيود أصبح لابد من القيد.(34/58)
فكان في أول الأمر من الكتان، ولكن التجربة دلت على قلة غَنائه لان ميمي كانت تطلق نفسها منه بالشد والعض، فابدل بسلسلة من الحديد من سلاسل الكلاب المعروفة وهذه لم تكن بأكثر كافية، فما لبثت ميمي أن فطنت إلى أن الشد الأقوى يفتح حلقاتها. فزاد سيدها الجديد سمكاً. فاتجه نظر صاحبتنا إلى الطوق، وكان تارة من حبل معقود وتارة من جلد مشدود، أما الحبل فقد عرفت بالمران كيف ترخي عُقدة ثمتتَبع ذلك بعضه حتى ينقطع، وأما الجلد فعرفت بالتجربة المتَدَهَة أن الريق يليّنه فكانت تبله وتشده وتمططه حتى يتسع فتخرج رأسها منه
وأفادها ذلك التفننَ في حل العُقَد حتى برعت في أساليبه. ربطوها إلى حبل طويل، وربطوا الحبل إلى سارية وعدقوه عندها عقَداً كثيرة، ثم أطاالوه بعد السارية إلى حيث لا يهتدي إلى طرفه الآخر. نظرتُ إلى العقدة الأولى في تأمل ولن تبلث أن هجمت عليها بأسنانها ويديها فأوسعتها سعة كبيرة ثم نفذت بجسمها منها رويداً رويداً. وأخذت تنظر إلى العقدة الثانية في تأمل جديد لم يطل كثيراً وفعلت بها كفعلتها الأولى، وهكذا حتى انحلت العقد جميعها عن السارية. ولما أعادوا عَقد الحبل حول السارية أعادت ميمي حله في نصف دقيقة وهي في غبطة من ذلك كبيرة وسرور بيِّن، والنظارة في مثل سرورها وغبطتها وحاولت مراراً ان تعقد عقدة في حبل بنفسها، ونجحت في ذلك مرات، الا أن طريقتها إلى ذلك كان يعوزها التهذيب فقد كان فيها التواء وتنكّب عن المقصد الأمَم والغرض القريب. فكانت في ذلك كالطفل الانساني يبلغ ما يريد ولكن في قليل من الرشاقة اللباقة
وميمي على صغرها قوية شديدة، فانثى الشمبانزي عند استكمال نمائها تَعدِل في القوة من الرجال الأشداء الثلاثة والاربعة. وصاحبتنا بلغت الثلث من نمائها الكامل، وفي اذرعها دقة، وفي طباعها رفق، قد يخاعانك في تقدير وقتها. جاء الشتاء فاحتبسوها في صندوق من الخشب المتين فأخذت تهز حيطانه في طلب الرياضة لبدنها، وأعجبها صوته على أرض البدروم فزادت في هزه بكل حولها، فكان لابد من تعزيز جوانبه، فلما لم ينفع ذلك علّقوا الصندوق من السقف بسلسلة فأخذت تؤرجحه حتى دنا من مصباح الكهرباء المعلق فأخذت به، فكان لابد من استدعاء الكهربائي لنقل موضعه. ونظرتْ فأبصرت عدّاد الغاز فزادت في التأرجح حتى بلغت الحائط وأمسكت بالخّزان فخلعته على متانته وثنت(34/59)
الأنبوب، وكان إلى جانبه نار موقدة فحالت العناية دون انثقابه. ولما أعجزتها حوائط الصندوق أخذت تدفع سقفه حتى انفتح ففرّت منه. وأرادت ربه الدار أن تتلَفن إلى زوجها ولكن ميمي كانت قد عمدت إلى التلفون فانتزعت أسلاكه، وجاءت إلى سيدتها تحتضنها اغتباطاً وشكراً على انفكاكها. وذهبت إلى المطبخ فوجدت الخادم تغسل الصحون فأرادت عونها وتنقلت بينها برفق غريب فلم ينكسر منها شيء. وكان التليفون أثناء ذلك قد أُصلح فجاء رب البيت أمين المتحف على عجل فخطب رضاء ميمي وأطعمها ألواناً مستطاتبة رضيت بعدها ان تنفاد وتتقيد بعد انطلاق وكان لرب الدار أطفال، وكانت لهم درَاجات من ذات العجلات الثلاث يركبونها في ساحة البيت، فكانت ميمي تركب مع أحدهم وتمسك الدرّاجة فتوجهها يمنة ويسرة. وأرادت أن تركب الدراجة وحدها ولكن قصرت رجلاها عن بلوغ مواطئ الأقدام منها، فاشترى لها رب الدار دراجة على قدّها وأجلسها عليها فأمسكت مقابضها بيديها وأمسكت كذلك مواطئها برجليها، وهما كاليدين يقبضان على الأشياء، ولكنها لم تدر في بادئ الأمر كيف تدفع الدراجة بضغط موطئ واحد دون الآخر في الآن الواحد، ولكنها بالمران اليسير عرفت ذلك. وكانت تنسى فترفع قدميها إلى المقبضين فكان لابد من ربطهما إلى الموطئين، ولكنها عافت ذلك فكانت تهوى باليد اليهما لتحل الرباط فيصيح بهارب الدار عاتبا فتقلع. وأراد أن يعوّدها الاستقامة في السير، فكان يحمل في يده خوخة أو عنبة أو طعاماً تراه مختارا ويقف به بعيداً ثم يلّوح لها به وهي على الدراجة، فكانت في بادئ الأمر تنزل عنها فيعتب عليها فتعود إلى الركوب، وكان همّها أن تصل إلى الفاكهة من أقرب طريق فاستقام سيرها وكذلك طال. وأراد أن يعلمها كيف تنعطف فكان يلّوح لها بالثمرة حتى إذا قاربته انزاح يميناً فتمر بدراجتها في استقامة إلى جانبه فلا تنال الثمرة فتصرخ وتدمدم لهذا الخداع، ولم تفطن إلى تحريك المقابض إلى اليمين. فأتى بابنه يحركهما لها فعرفت ذلك، وحرصت على القوت الشهي المغري فتعلمت كيف تيمل
وكانت أحياناً يفوتها أن تنعطف فتصل بدراجتها إلى مأزق كحائط أو ركن فتمد رجلها تدفع الحائط فتبعد عنها قليلاً، ثم تُسيّر الدراجة إلى الأمام وهي تنعطف حتى تصل إلى موضع أخلص من الحائط، فتدفعها مرة أخرى فتبعد عنها وهكذا حتى تخلص من المأزق تماماً وقد نفذ صبرها. ولكنها تعلمت أن تنزل عن الدراجة فتحملها إلى الخلاص، فكانت تفعل ذلك(34/60)
في سرعة الرقة كلما تأزّقت وهي غاضبة وكان يجتمع أطفال الجيران على دراجاته ويسيرون بها في الطريق صفاً يحملون الاعلام ويزأطون يوفرحون، فتتقدمهم ميمي على دراجتها تتعرّف لهم المسالك وهي مثلهم زائطفة فرحة مغتبطة حتى لتحسبها منهم لولا مظهرها
وكان أمين المتحف يصطحبها معه إلى مقر عمله في سيارته فكانت تتشبث باصطحاب دراجتها فلا تنزل عند باب المتحف حتى تخف اليها فتركبها داخل المتحف. وكان غرائبها انها كلما وصلت إلى طَبق الحديد الذي يغطى انابيب المجاري بأرض المتحف تترّجل حتما وتجرّ دراجتها عليه ثم تركبها بعد تخطيه مع انه في استواء الأرض لا يحسه الراكب وظهر منها هذا الشذوذ عينه لما سارت في الطابق الأعلى فانها كانت كلما صادفت في بلاط الارض صفاً اسود تخطته راجلة وكانت تأكل مع صاحبها في مطعم المتحف ظهراً فتسير اليه بالدراجة وتذهب إلى مكانها دون تلكع فيهيجها صوت الآكلين وقرع الصحون وشميم الاطبخة فتصرخ فيبتهج لصراخها أصدقاؤها الكثيرون من حولها. وتدور بعينيها تطلب حاملات الطعام فاذا بصرت بهن هزت جسمها سروراً وتلفظت بالرضاء، فاذا استقر الطعام أمامها رفعت شوكة أو ملعقة من ذات نفسها، وقد تخطئ فترفعها بيسارها فتنقلها إلى يمينها ولكن بعد امساكها بفمها. وهي تأكل البسائط، فتأكل الخبز والزبد واللبن والبطاطس والسبانخ والفول الأخضر والخس والطماطم والفواكه وشيئا من اللحم أحياناً، واختصاراً كل ما كان يأكله الناس. وهي تحب الحلوى كائنة ما كانت ساخنة أو مثلوجة وإذا انتهت من الطعام بسطت منديلها فمسحت به وجهها وتشرفت ميمي بدعوة من رئيس المتحف الأمريكي العام للتاريخ الطبيعي في وليمية رسمية كبرى، فذهبت في سيارة إلى بؤرة المدنية لأول مرة، فاخترقت الطرقات العظيمة على أضوائها الشديدة وزينات مسارحها الباهرة، في جو ملئ بنغم الاوتار ونفخ المزمار وأدخنة السجائر والسيجار وأبواق السيارات وضجيج الحجيج من أهل اللباس الأنيق والزِّيِّ الرشيق والذوق الرفيع. فأهاجت ميمي كل تلك المظاهر لاشك ولكنها صمّمت كأنما تفكر في موطنها الافريقي. وجاء أوان النزول من السيارة فخفَّت ميمي إلى درّاجتها وسارت بها عَبْر البهو إلى قاعة الطعام الكبرى فاتخذت مجلسها بين الضيوف، وجاءتها الصحفة بعد الصحفة. فأكلت بأدب من كل(34/61)
لون. وجاء دور الكلام فأصغت كأنه تستمع للخطباء فلم تنبس بكلمة ولم تطرف بعين الا عندما جاء المصورون يصورونها على ضوء المغنسيوم فانها اخذت تَطْرِف لكل صورة حتى استتموا عشراً. وانتصفت الليل فانفض الجمع وهم معجبون بميمي. وقال قائل منهم ما إلى هذا الحد يبلغ الأطفال من الأدب والكمال
احمد زكي(34/62)
البريد الأدبي
استقبال الكاتب الفرنسي جول رومان
في نادي القلم المصري
احتفل نادي القلم المصري في مأدبته إلى أقامها في مساء الاربعاء الماضي باستقبال الكاتب الفرنسي النابه جول رومان ضيف مصر والقى الدكتور طه حسين باسم نادي القلم هذه الكلمة تحية للكاتب الكبير
كلمة الدكتور طه حسين
سيداتي وسادتي:
سمعتم مني في المرة الماضية أني لا أحب الخطب في مثل هذه المجامع. وأني أوثر أن تكون مجامع حديث وسمر، وأن تكون مجامع نستريح فيها من عناء ما نتكلف أثناء النهار من الجد والبحث والقراءة والكتابة، وأوثر ان تكون هذه الاجتماعات كالساعات التي يظفر فيها الطلاب، بالراحة أثناء النهار، ولكني مضطر هذه الليلة إلى ان اتحدث اليكم قليلاً، وثقوا بأني لن اطيل. والذي يسرني ان اتحدث فيه اليكم، وواثق أنكم جميعاً تشاركوني فيه هو ان النادي - نادي القلم الذي أنشأناه - يظهر انه موفق، وان التوفيق قد كتب له منذ اجتماعاته الاولى فاذا ذكرتم اننا في اجتماعنا الماضي قد استقبلنا كاتباً من أكبر الكتاب الانكليز هو مستر هتشنسن وإذا لاحظتم اننا نستقبل الآن كاتباً من أكبر الكتاب الفرنسيين هو مسيو جول رومان عرفتم ووافقتموني على ان نادينا من حقه ان يتغبط بهذا البدء السعيد
واني لسعيد هذه الليلة بان أحيي ضيفنا تحية ملؤها الحب والاكبار. فالذين يقرأون كتبه لا يستطيعون إلا أن يتبينوا هذه العواطف القوية التي يثيرها في نفوسهم، وهي ليست الا عواطف محبة واكبار. فهو ليس من الكتاب الذين يبهرون الناس بحسن الفاظهم وروعة صياغتهم وإنما هو كاتب قبل كل شيء يصل إلى قلب القارئ. ويرفعه إلى ارقى ما يستطيع ان يرقى الانسان اليه من المثل الاعلى والكمال
والذين سمعوا منك محاضرتيه القيميتين في الليسيه والجمعية الجغرافية لا يستطيعون الا(34/63)
أن يقدموا اليه تحية خالصة هي تحية العقل للعقل، وتحية القلب للقلب، فلاول مرة نستطيع ان نسمع في مصر بين المحاضرين الذين يفدون اليها من الخارج ما يرفعنا من هذه الحياة اليومية إلى حيث يستطيع العقل ان يستريح، والذين سمعوه قد ذكروا أن المحاضرات ليست ميداناً للمسابقة في السماع، بل هي أيضاً مكان يستطيع ان يلتقي فيه المفكرون بالمفكرين وان يتحدث فيه الانسان إلى الانسان بما تعانية الانسانية من الآلام
وأذا كنا نستقبله ونحييه الآن فانما نستقبله ونحييه ككاتب من أكبر كتاب فرنسا الذين يمثلون العقل الفرنسي الحديث والادب الفرنسي الحديث، ثم اني لا أستقبله بهذه الصفة وحدها وإنما استقبله باعتباره كاتباً انسانياً فيه كل مميزات العقل الفرنسي، وكل مميزات الكتاب الفرنسيين واليونانيين القدماء، ثم هو لا يمثل ذلك كله، وإنما يمثل المثل الاعلى للانسانية كلها
فاذا حييته الآن فأنما احيي فيه العقل الفرنسي من جهة والمثل الاعلى للادب الانساني من جهة أخرى. . .
نهض مسيو جول رومان والقى الكلمة الآتية:
كلمة مسيو جول رومان
سيداتي وسادتي، واسمحوا لي أيضاً أن أقول زملائي وإخواني الاعزاء
إني لسعيد بأن امثل بينكم هذا المساء، وأقول لكم كيف تأثرت بما حيا بي به الكتاب المصريون من الرعاية والحفاوة، وأعرب عن شكري للكتاب المصريينالذين عنوا باستقبالي. وطبيعي أن يستحق هذا الشكر كتاب مصر - فالكتاب في كل بلد هم أهل الشكر. ثم إني لسعيد بان أكون الليلة في قلب نادي القلم المصري، ذلك النادي الفتي، بل أحدث مراكز القلم في العالم سنا، انني عضو قديم في نادي القلم، وقد اشتركت في تاسيس النادي الفرنسي، وكنت دائماً مندوب فرنسا في جميع مؤتمرات القلم الدولية؛ ولقد شهت أخيراً كل ما يهدد مجمع القلم من الصعاب وخيبة الأمل، حتى لقد خيل الينا أن مجمع القلم سيقضي نحبه. وكنا في العام الماضي في مؤتمر القلم الدولي بمدينة راجوزا نتخبط في معترك من الآراء والأفكار المضطربة. اجل، كاد مجمع القلم يذهب في راجوزا ضحية المثل الأعلى. ولم تكن الآراء المضاربة تضطرم حول مهنة القلم ذاتها، ولكنها كانت آراء(34/64)
إنسانية هامة رباه، إن هذا الموت لم يقع، ولكن حدث بتر ولعله بتر احتياطي؛ وسف يقوم المجمع من عثرته كرة أخرى، واني لانتهز هذه الفرصة لاقول لكم واذكركم بان العضوية في مجمع القلم تحتم بعض التعهدات نحو الانسانية عامة، أجل، لسنا كتاباً نتحدث عن مهنتنا فقط، ولسنا نريد الاجتماع للحديث والسمر فقط. بل نحن أيضاً رجال نخدم العقل والضمير ونعرف ما تفرضه علينا مهنتنا. وأبدع ما في مهنتنا أننا نقدم بعض الواجبات بعيداً عن مصالحنا الشخصية، ولما كنا خدام العقل فانا نتضافر على اداء الواجب ولا نعبأ بالأعتبارات السياسية ولا نخضع لحزب من الاحزاب، بل نحتفظ بالحق والواجب ولا نخضع لأي نظام سياسي لا يعترف بحق العقل والذهن، وكلما هدد المثل الأعلى وجب على أندية القلم في العاالم كله أن تثور على هذا الوعيد. إن سلطتنا ليست وهيمة؛ ولست أبالغ فأقول إننا نستطيع أن نقف البحر؛ ولكني أذكر لكم شيئاً مما حدث في راجوزا فقد تحدثنا عن سياسة الحكومة الالمانية في اضطهاد رجال الفكر، وتحدثنا من هذه المدينة الصغيرة بالتليفون مع المسئولين في المانيا عدة ساعات، واستطعنا أن نحمل الحكومة الالمانية على أن تخفف مسلكها نوعا ما وأن تمنع بعض الاعتداء على الفكر
سيداتي وسادتي: لست أعلم ما يخبئ المستقبل، فأنا نخاف كثيراً ونؤمل كثيراً، ولكي لست متفائلاً، فانا لم نخرج بعد من غمار الأزمة ونحن في غمر الصعاب، ولكني أعتقد وأكرر أن أعظم جريمة يرتكبها خدام العقل هي ان يعتقدوا في القدر الذي لا يخدم العقل، أجل إن أعظم جريمة نرتكبها هي أن ننحني أمام العاصفة فالخطر الذي نواجهه هو خطر انساني من علم الانسان، اراده ودبره الانسان، فنحن نستطيع ان نقاوم مقاومة انسانية، ويجب أن يعتمد علينا في كفاح هذه المصائب التي تهدد الانسانية وفينا نحن رجال الفكر والقلم تتمثل تلك القوة التي تحمي الانسانية من التدهو النهائي
واني لأرفع قدحي نخب مصر التي استقبلتني، ونخب فرنسا التي أمثلها كمندوب متواضع بل ونخب جول رومان
الاكاديمية الفرنسية والنساء
كانت وزارة المعارف الفرنسية قد رشحنت الكاتبة المعروفة مدام كوليت عضواً بالاكاديمية الفرنسية، ولكن بعض المغرضين لم ينضروا إلى هذا الترشيح بعين الارتياح، وحملوا على(34/65)
الفكرة حملات شعواء في الصحف والمجلات الادبية مستنكرين منح مقاعد الاكاديمية للنساء في الوقت الذي يضن بها فيه على نوابغ الكتاب والشعراء مثال: جيد وستراتي وجوليان بندو وغيرهم
وقد انضم إلى هؤلاء الساخطين بعض الشيوخ من اعضاء الاكاديمية ممن لا يزالون يرون ان المرأة الفرنسية لم تصلح بعد للاشتراك في الهيئات النيابية او المجامع العلمية والأدبية الرسمية.
ازاء هذا المعارضة القوية، عدلت وزارة المعارف عن رأيها وقررت اخيراً منح هذا المقعد لفرنسوا مورياك الناقد والكاتب المسرحي المشهور، والذي سبق ان أخرجت له في مصر رواية (المسحور) على مسرح الاوبرا الملكية في عام 1924 ورواية (بلانشيت) على مسرح رمسيس.
وقد فكرت بعض الاديبات الفرنسيات في تأسيس أكاديمية للآداب والفنون تكون خاصة بالنساء فقط، وسوف يفتح باب الاشتراك فيها لجميع الكاتبات والصحفيات من الجنس اللطيف بدون تمييز بين الجنسيات والاديان.
انتحار روائية انجليزية
اشتهرت دورثي ادوارد الروائية الانجليزية بأقاصيصها الصغيرة التي كانت تودعها نظرياتها الخاصة عن الحياة العصرية، ونالت من وراء ذلك شهرة أدبية واسعة، خاصة في الولايات المتحدة، وطبع بعض رواياتها أكثر من مائة طبعة وذلك وهي لم تتجاوز العقد الثالث من العمر.
وقد وجدت جثتها في صباح ذات يوم ملقاة إلى جانب السكة الحديدبالقرب من كيارفلي بانجلترا، ويستدل من التحريات التي أجراها بوليس سكوتلانديارد على أن الكاتبة بعد أن زارت لندن، وحضرت بضع حفلات موسيقية استقلت القطار حيث عثر على جدثتها في صبيحة اليوم التالي ولا يعلم ان كانت قد تعمدت الانتحار أم سقطت اثناء اجتيارزها عربات القطار في الليل.
وتقول مجلة (جون أوف لندن) أن روية دورثي الاخيرة (نفسية في مرقص) قد ترجمت إلى معظم اللغات الحية وبلغ ما بيع منها زهاء النصف مليون نسخة!(34/66)
الكاتب لنمسوى هرمان بير
توقى أخيراً الكاتب النمسوي الكبير هرمان بير في الحادية والسبعين من عمره! ولد في لنز سنة 1863، ودرس في فينا وبرلين. وكان (بار) منذ أربعين عاماً من زعماء الأدب الالماني الحديث؛ وكان بالأخص من مؤسسي الحركة الادبية التي عرفت في أواخر القرن الماضي باسم (النمسا الفتاة) وكان من زعمائها مع بار، ارثر شتزلر وفون هو فمانشتال. وظهر بير في مستهل حياته الادبية بالتأليف المسرحي واختص منه بناحية (الكوميديا)؛ ومثلت رواياته في أشهر مسارح فينا ولاقت في أوائل هذا القرن شهرة واسعة، ثم اشتغل بار بالنقد الادبي والصحافة. واشترك مدى أعوام في تحرير جريدة (دي تسايت) (الوقت) النمسوية ثم في جريدة (نويه فينر جورنال)؛ وكان يختص بكتابة النقد الادبي والتاريخ. وتزوج بير من الفنانة الشهيرة أنا ملدنبورج، وهي موسيقية ومغنية بارعة اشتهرت في حفلات سالزبورح برائع فنها ورخيم صوتها. ولما انتقلت أناملدنبورج إلى ميونيخ لتعمل في مسارحها تبعها زوجها وغادر موطنه، وأقام معه في ميونيخ وقضى فيها أعوامه الأخيرة حتى توفى
ومن أشهر قطعة التمثيلية (الاتفاق) (1911) وفيها يعالج فكرة اجتماعية هي تسامح الزوج المنبوذ نحو خيانة زوجته واعترافه بحبها الآخر كوسيلة لاستثارة عطفها واستعادة ودها و (الغبي والعاقل) (1912) وفيها يعالج فكرة الحكمة وهل هي اتباع الواجب أم اتباع الهوى. ومن أشهر رواياته (نماذج للحب) (1929)
حق المؤرخ في التصوير والتفسير
هل يحق للمؤرخ أن يكون حراً في تصويره وتقديره للشخصيات المعاصرة التي يعرض لها؟ هذه مسألة طرحت أخيراً على القضاء الفرنسي لمناسبة ظهور كتاب جديد للمؤرخ الفرنسي الشهير (رايمون ريكولي) عن (الجنرال جوفر) القائد العام للجيش الفرنسي في أوائل الحرب الكبرى، وقد تناول المؤرخ حياة الجنرال جوفر والحوادث العسكرية التي خاضها وعلق عليها بآرائه وتقديراته. فرأى القائد لانرزاك ولد الجنرال جوفر ان في الصورة التي يقدمها مسيو ريكولي، وفي بعض آرائه وتعليقاته اخطاء ومآخذ تعتبر سباً(34/67)
لذكرى والده، ورفع أمام محكمة السين قضية مدنية يطالب فيها مسيو ريكولي بالتعويضات
وقد أثارت هذه القضية اهتماماً كبيراً. وانتهت بعد مرافقات ومذكرات طويلة بانصاف التاريخ والمؤرخ. ومن رأى المحكمة أن مسيو ريكولي لم يتعد حقوق المؤرخ وانه لم ينشر وقائع مزيفة أو مشوهة، وانه في تقديره وتعليقه لم يتجاوز ما هو حق للمؤرخ في عرض التاريخ وكتابته. ولهذا رفضت قضية القائد لانرزاك.(34/68)
القصص
قصة في رسالة
سيدي الطبيب:
إن المصادفات المشئومة والحظوظ السيئة، ساتقتك الي وعرفتك بي، ما كنت أظن أن أمراً تافهاً ستكون نتيجته وخيمة إلى هذا الحد!
قبل أيام وقفت عجلة كبيرة مملوءة بالأثاث أمام الدار المواجهة لدارنا، فرغبت أن أعرف وأنا في نافذتي أولئك الذين سيكونون جيراننا في هذا الصيف، فرأيتك عاري الرأس تأمر وتنهي وتساعد الخدم كلما قضت الحاجة بذلك، ثم رفعت رأسك نحو نوافد غرفتي: وكانت - ياللأسف - نافذتي مفتوحة، فرأيتني - ويا ليتك لم ترني - أجل، رأيتني وأنا أبتسم، وكنت السبب في تلك الابتسامة، لأن انهماكك في تفريغ العجلة وأوامرك التي لا حد لها ولا نهاية كانت مضحكة جداً. فالذنب إذا ذنبك وتبعته عائد عليك. ثم رأيتني مرة ثانية وأنت ترسل ستائر نوافذ بيتك، في تلك الأثناء وجهت بصرك نحو نوافذنا وابتسمت لي فهذا ذنب ثان كان منك، كنت أظن أن هذه الأشياء تافهة في ذاتها وأنها لن تبقى راسخة في مخيلتك عالقة بذهنك، ولكني في ملاقاتي الثالثة علمت أنك أعطيت ذلك من الاهتمام شيئاً كثيراً.
أظن أن ذلك كان بعد عشرة أيام، خرجت مع والدتي من البيت فرأيتك مقبلا من الشارع الذي أمامنا، ولكنك في هذه المرة لم تبتسم لي - وياليتك أبتسمت - ولو فعلت ذلك لما اكترثت بل كنت أعدك ككثير من الرجال الذي يبتسمون لكل انثى يصادفونها في طريق. انك لم تبتسم بل اصفر وجهك، وفي أقل من ثانية لم يبق فيه أثر للدم كأنه انسحب ليجتمع في قلبك فقط. ما هو سبب ذلك؟ ولماذا اصفر وجهك؟ كان يجب أن تلحظ أن حالة كهذه أمام الفتيات توجب لهن القلق وتسبب الاضطراب، وهذا الذنب الثالث أوجهه اليك أيضاً، بعد أن مررت قالت والدتي: (أليس هذا الرجل هو الطبيب الذي سكن أمامنا؟) ولا أدري لماذا كذبت عليها وقلت (لا أعرف) مع أني كنت أعرف جيداً أنك في هذا الصيف نزيل الدار التي امامنا.
وكانت مقابلتي الرابعة لك في النزهة، وفي هذه المرة لم يبخل بالابتسام فقط بلبخلت بالنظر أيضاً، يالله ما أشد أصفرار وجهك إذ ذاك! كلما ذكرت حالتك تلك، شعرت بحس(34/69)
غريب، وألم لا أدري مصدره، فاني لم أفعل شيئاً يوجب اضطرابك ولا أرى على أدنى تبعة يمكن ان يتحملها وجداني.
فقررت بعد ذلك أن أبالغ في الاحتياط، وأشتد في الحذر وبخاصة منك، لأن ابتسامة عن غير قصد ولا رأى أخذت موقعاً مهماً أرعبني، فقررت أنه يجب أن يقف الأمر عند هذا الحد.
ولكنك لم تقف عند هذا الحد، ولم تلحظ أن الفتاة التي ابتسمت لك عن غير قصد، وابتسمت لها لم تكن إلا طفلة لا شابة، وانها تود الآن أن تصلح خطأها.
كلما قرع جرس الباب، وكلما حدثت ضوضاء أمام الباب برز خيالك من وراء زجاج النوافذ، لقد طرأ عليك وعلى أحولك تبدل هائل خلال هذه الخمسة عشر يوماً، كنت ترى مطرقا حزينا عميق الافتكار، تمشي بطيئا جدا كأن المشي السريع سيقطع سلسلة أفكارك، تقف أمام داركم وتلمس زر الجرس الكهربائي وتلتفت نحو نوافذنا، وتنظر نظرة استرحام تدل على أن كل ذلك كان من تلك الطفلة البريئة صاحبة تلك الابتسامة.
ثم مرضت، وأخذ القدر يمشي بك نحو الهاوية التي كنت أحترس منها، لما علمت أن والدتي تود أن ترسل اليك لتعودني مانعت وطلبت طبيباً غيك، ولكني غلبت على أمري، ولو رأيتني حينذاك لعلمت جيداً كيف كنت أخشاك. لما دخلت عليّ لفحصي كنت مضطرباً أصفر الوجه، وكل ما كنت أتمناه أن يجس نبضك جاس حينما أمسكت أنت يدي لتعد نبضي. . . كنت تسعى لأخفاء اضطرابك وتخلط كلامك بالنكت اللطيفة، وتظهر عدم الاكتراث، ولكن كان تكلفك ظاهراً وكان مثلك في ذلك كمثل المغني الذي يغني أنشودته على غير توقيعها. كنت في كل مرة تدخل علي عائداً أكثر اضطراباً وأشد يأساً وتألماً من المرة السابقة، وأرى ورد خديك قد صار بهاراً كأنني كلما تقدمت نحو الصحة تقدمت أنت نحو المرض، وأخيراً بعد أن انتهى المرض ومضى دور النقاهةقلت لي بلهجة مملوءة بالحزن العميق الشامل جميع انحاء فؤادك (انك لست بحاجة بعد اليوم إلى المعالجة) وكانت نغمة صوتك تحمل معنى (إنني أنا المحتاج إلى العلاج).
إن تلك العلاقات التافهة البرئية التي بيننا كان يجب أن تقف عند هذا الحد، ولكننك أنت أبيت إلا أن تسير في هذا الطريق وأنت لا تعلم أتصل إلى نهايته أم لا؟ ان تبعة ما فعلته(34/70)
بعد رؤيتك لي وأنا مريضة عائدة عليك كما كانت عليك تبعة الذنوب التي كانت قبل المرض.
لقد شاهدتك البارحة وأنت جالس على كرسي في غرفتك تراقب نافذتي وأنت مشغول عن كل ما حولك إلا عن نافذتي كأن عينيك لا تشاهدان إلا ما وراء زجاجها، فسمعت صوتاً ساعدني على فهمه سكون الليل وهدوءه، سمعت صوت زوجك تناديك قائلة (لماذا لم تدخل إلى الغرفة؟) فأجبتها بحدة جواباً ظهر لي منه انك تألمت لهذا السؤال الذي قطع تلك اللذة التي كنت تشعر بها وأنت منفرد عن بقية أفراد الأسرة، قلت لها (إذا كنت تريدين النوم فنامي، إني أود أن أبقى في الشرفة).
لا أدري لماذا أكتب اليك كل هذا؟ وربما كان ذلك لتبرئة نفسي من تبعة ما كان، إني لا أدري كيف عزمت وقر رأيي على كتابة هذه الرسالة، ولست أدري ما الذي يمنعني من تمزيق تلك الورقة التي أحررها اليك؟ أنت ترى اني لم أجد جواباً لهذه الاسئلة، ولكني أرى اني تابعة لحسن خفي يسوقني لارسال هذا الكتاب اليك. تصور فتاة نشأت بين دلال الأم وعطف الأب، تقضي أكثر ليلها في مكتبة والدها تتلسى بقراءة الحكايات، وأكثر أيامها تمضي في السينما تبكي من الفواجع التي تصورها اللوحة الفضية، لا هم لها ولا غم، ولكنها تتألم الألم الناس وتحزن لحزنهم. ثم تذهب إلى مخزن الازياء فاذا عادت بما تحب قدمت إلى والدها أوراق الحساب ذات الارقام الضخمة. لم تفكر في حياتها كلها بشيء غير هذا، ولم يطرأ على حياتها طارئ الا ان شاباً ابتسمت له وهو يأمر وينهي خدمه وهم ينقلون الاثاث إلى المنزل الذي امام دارها، ثم ابتسم لها وهو يرسل سجف نوافذ المنزل، أليس الأمر حتى الآن طبيعياً؟ ولكن هذا الشاب لم يتلق هذا الابتسام كأمر طبيعي، بل ظل يراقب النافذة وهو مضطرب حائر، ثم بعد كل ذلك يرمى داخل مظلتها المغلقة وهو يمر من جانبها كتاباً من غير أن تشعر بذلك والدتها التي بجانبها، ان هذه الأشياء اخذت تخرج عن الحد الطبيعي، لذلك أصبحت الفتاة الشابة ترى أن الضحك ليس أمراً طبيعياً.
ما أشأم تلك المصادفات التي القتك في طريقي، وما أضل الافكار التي أوحت اليك وضع الورقة في مظلتي؟ ما هو الشيء الذي خولك حق رمي ورقة إلى فتاة لم تر ولو في المنام من يؤذيها أو يلعب بشعورها؟(34/71)
كنت حتى اللحظة أشعر نحوك بشيء لا أدري ماذا أسميه؟ أشعر بشيء شبيه بالرحمة والعطف، ولكني منذ سمعت صوت الورقة وهي تقع في مظلتي نفرت منك نفوراً شديداً.
لقد شعرت بحس قوي يدفعني إلى أن أفتح مظلتي وأرمي تلك الورقة في الأرض، ولكني لا أدري لماذا لم أنفذ هذا العزم؟ لقد تغلب علي حب الاطلاع، وأردت أن أعلم ما الذي كتبته لي في كتابك. هل قدرت عظم ذنبك وأنت ترمي ورقتك في مظلتي؟ هل قدرت حرج موقفي في تلك الدقيقة؟ وهل قدرت أنها جناية غير قابلة للغفران؟
إن ما يشع في عينيك من النجابة ومااا يقرأ فيهما من آثار العفة يشهد بانك كنت تحت تأثير غفلة خضعت لها عن غير ارادة منك.
حينما بلغت البيت ذهبت توا إلى غرفتي وفتحت رسالتك فلم فيها ولا كلمة واحدة تثقل على سمع فتاة مثلي.
فرأيي السابق فيك كان صحيحاً. لقد أثبت لي ذلك كتابك ذو الصحائف الأربع الذي لا يحتوي على معنى تفيده جملة مركبة من أربع كلمات، فما الغاية إذن من كتابته اليّ؟ هل أظهرت لك رغبتي في الاطلاع على أنك لست سعيداً في حياتك؟ وهل طلبت منك ان تكتب اليّ ذلك في صحائف أربع؟ قرأت كتاتبك المرة تلو المرة ولم أفهم له غاية. فقلت في نفسي: إنه يعلن لي حبهن ولكن زوجته؟. . . أولاده؟. . .
في مساء أحد الأيام كان الأولاد يلعبون أمام الدار، فشاهدت ابنتك الصغيرة ذات الوجه الجميل والشعر الاشقر المحيط بوجهها احاطة الهالة بالقمر تصفق طرباً وتصيح: هاهوذا والدي قد جاء وتركض نحوك، فاذا أنت تقطب حاجبيك وتأمرها بالابتعاد عنك، وترفع عينيك نحو نافذتي، فعادت الصغيرة كئيبة حزينة، لا يقدر يراعى أن يصف لك نفوري منك وكرهي لك في تلك الدقيقة، اذن أنت في شغل بي حتى عن أولادك فأنت تنظر اليهم بقسوة وتعاملهم معاملة سيئة؟ إن حالتك هذه كافية لتشرح لي الآلام التي سببتها لتلك الاسرة التي أنت ربها.
قلت في نفسي مادمت سبباً في نفوره من زوجته وأولاده فالواجب ان تقف هذه المسألة عند هذا الحد. أخذت كتابك حينذاك وقرأته في انعام مرة أخرى، فخطر ببالي ان ارسله إلى زوجتك، ولكني عدلت وانقلب ذلك النفور الذي كنت أشعر به منذ لحظة إلى رحمة من(34/72)
أعماق قلبي.
وفي صباح اليوم الثاني بينما انا خارجة من البيت، ولم أكن اسدلت النقاب على وجهي شاهدتك تنزل مسرعاً من الدرج فالتقت العين بالعين، خانتك قواك عند ذلك، ولولا استنادك إلى الجدار لوقعت على الأرض لا محالة. فشعرت أن مهمتي تجاه هذه الحال شاقة جداً وانه يجب ان اشفق عليك وعلى زوجك وأولادك لا أن احقد عليك.
أعترف لك انك بارع جداً في ارسال الرسائل، اني بعد أن قرأت رسالتك الأخيرة التي وجدتها بين زجاج نافذتي وبين القفص الخشبي، تلك الرسالة التي حتى الآن لم اكتشف كيفية وصولها اليّ ولم اعلم بأية وطريقة وضعت، شعرت بأن دافعاً اهم من السابق يدفعني للكتابة اليك، لا لأجلك بل لأجل تخليص زوجك من مصيبة محتملة الوقوع، ولمنع هذه الاضحوكة من ان تتحول إلى فاجعة كبرى.
في كتابك هذا تبحث عني وتعلمني أن مصادفتك لي كانت سبباً في شقائك، وانك تحبني حباً بغير امل، واني كدرت حلو معيشتكم وأنك حتى الآن كنت سعيداً بحياتك مع زوجك وأولادك، وأن حبك لي حول نعيم حياتك في البيت إلى جحيم، وأنك ستكون ضحية هذه الصدفة، إلى آخر ما في كتابك من كلمات. . . .
اني واثقة كل الثقة من أنك الآن خجل بكل ما تحويه هذه الكلمة من معنى لكتابتك هذه الجمل وهذه العبارات تصور أنك ستترك زوجك أرملة، وأولادك يتامى من أجل ابتسامة من فتاة غرة، وفي هذا منتهى الغرابة. . . .
أيقنت الآن اني سأكون سبب فاجعة كبرى، فالواجب يقضي عليّ أن أقف امام تلك الكارثة، وهو الذي اضطرني أن التجئ إلى هذه الوسيلة وهي الكتابة اليك، انت تعلم يقيناً انها جرأة من فتاة مثلي، ولكن. . . ولكن الوجدان. . . .
تبحث أيضاً في كتابك عن اشياء كثيرة كلها متقاربة وتقول ان حبك لي جعل بينك وبين زوجك واولادك فراغاً لا يسده شيء؛ وانك الآن بعيد عنهم بعد الارض عن السماء، وان كان جسمك قريباً منهم متصلاً بهم، وانك حاضر الجسم بينهم لكنك غائب القلب والعقل عنهم؛ وان كل ذلك سيكون سبباً لفرارك من هذه الحياة التي أصبحت في نظرك جحيما.
أنا اعلم انك تبحث لي عن هذه الأشياء كلها، ولست أعلم لذلك سبباً، وإذا كان الأمر كما(34/73)
ذكرت في كتبابك، فالفرار الفرار مني. . .
إن حياتك في هذين الشهرين الأخيرين تمر من أمامي كما تمر الصور على اللوحة الفضية امام الجمهور النظارة فامتع النظر بها فأرى ان الشقاء في حياتك سرى إلى حياتي ايضاً، وتلونت حياتي بلون حياتكم الأسود، لقد كنت سعيدة أنا أيضاً حتى قبل شهرين من الزمن، لقد كنت مرحة مرح الصبا والشباب، وليتك تعلم مقدار حزني وألمي وبؤسي، لأنني كنت سبباً في شقائكم اذن انا من حيث لا ادري ولا أشعر كدرت صفو حياتكم، وبدلت سرورها شقاء، وقلبت نعيمها إلى جحيم، وصفاءها إلى كدر وبهجتها إلى عبوس. آه ما اتعسك ايتها الزوجة؟ ليت شعري كم من الدموع ذرفت، ومن الزفرات صعدت بسببي؟. . .
اسائل نفسي عن الاسباب التي اضطرتك إلى المجيء هنا، وساقتك إلى السكنى في هذا المصيف؛ فتقول لي ربما كان سبب ذلك ان هذه الزوجة مصابة بفقر دم، او أحد الأطفال مبتلى بمرض ثقيل، فاضطر ذلك الاسرة كلها إلى نزول هذا المكان طلباً للعافية وتخلصاً من الاسقام، فاذا كان الأمر كذلك فقد حضرتم هذا المكان في طلب الصحة والعافية ففقدتم معهما السعادة العائلية، نعم ويا للاسف ان قطرة من السم وقعت صدفة واتفاقاً في حياتكم السعيدة فسممتها وجعلتها جحيما. . .
اتمتلك في بيتك مطرقاً حزيناً غريقاً في بحر الافكار تسألك زوجتك (ما بك أيها الرفيق؟ وبماذا تفكر؟) فلا تجيبها بل تبقى في حزنك واكتئابك، ثم تتبرم من كثرة الاسئلة وتؤلم زوجتك ببضع كلمات فيكسر قلبها وتبكي تلك الليلة في فراشها بكاء مراً، تبكي بصوت خافت خشية ان تسمعها، ولكنك تشعر بذلك وتشفق عليها، فتقبلها تنسيها كل ما بها من الم وهم وتذهلها عن كلما كان.
ولكن بعد ذلك يعود اليك ضجرك وحزنك، فتعامل زوجك وأولادك بقسوة وخشونة ما كنت تعاملهم بهما من قبل.
ويخطر ببالي أشياء اخرى يقشعر بدني لهولها وسوء أثرها في زوجك واولادك، إذا كان الامر كذلك فالفرار الفرار مني. . .
أنتم أتيتم إلى هذا المصيف لتجدوا فيه الصحة والسعادة، ولكنكم لم تجدوا غير العلة والشقاء، فالفرار الفرار من هنا. . .(34/74)
لقد جمعتني المصادفة بزوجك، فليتك تعلم مقدار ما كان لها في قلبي من محبة، وفي نفسي من مكانة، كلما تمثل لي وجهها الشاحب ومحياها الجميل المرسومة عليه آثار الحزن العميق؛ تألمت لها وأشفقت عليها كأنها أختيي، فيالله من سوء ما جنيت عليها وهول ما سقت اليها من العذاب على غير علم مني بذلك ولا رغبة فيه ولا قصد اليه.
أتمثلها واقفة أمامك مع أولادها تنظر اليك نظرة الاسترحام والاستعطاف والدموع ملء محاجرها، ولسان حالها يقول: (لماذا أدرت عنا وجهك وطويت دوننا كشحك؟ لماذا تغير قلبك علينا منذ شهرين؟).
أكتب اليك ولا أدري كيف أرسل اليك هذه الرسالة، ولا أعلم ما الذي سيكون من أثرها في نفسك؟ يخيل إلى أنها ستصل اليك وزوجك نائمة في فراشها وحولها أطفالها يغطون في نومهم، فاذا وقعت في يدك جلست االى منضدتك ونشرت الكتاب عليها وجعلت رأسها بين كفيك ثم اخذت تقرؤها. . ولعلك لا تنتهي من قراءة الصفحة الأولى حتى تشعر بأن غشاء الغفلة الذي يغشى عينيك اخذ ينقشع عنهما، وتعلم يقيناً انك كنت تابعاً لحس غير ثابت الأساس، أجل! كنت تابعاً لذلك الحس محاطاً به مغلوباً له خاضعاً لسلطانه مشغولاً به عن كل ما يجب عليك، كانك كنت جاهلا حتى الآن ان من العيب على المرء ان يسير وراء عواطفه وان ينقاد لها فتسوقه إلى المهاوي.
في تلك اللحظة تشعر انك لا تزال تحب زوجك واولادك فتتحرك الشفقة في قلبك وتترك العنان لدموعك فتجري. . أجل أترك لها العنان تنسيل فوق تلك الورقة التي كلفت أن تخبرك بانتهاء تلك الرؤيا المخيفة. . .
آه. إني لا أجد ملجأ يلجأ اليه المرء لتطهير قلبه مثل دموعه، يخيل إلى أنك الآن تبكي، أليس كذلك؟ إبك ما ساعدتك الدموع وأسعفتك الجفون: وغداً، أجل! غداً ستأخذ أسرتك وتهرب مني. أجل خذها ثم الفرار الفرار.
والآن أتمثلك وقد نهضت عن كرسيك مطمئن القلب؛ وقد اخذت الورقة بيدك وأحرقتها بنار الشمعة المضاءة أمامك، ثم مشيت على رؤوس أصابع رجليك، وخرجت من غرفتك نحو غرفة زوجك وأولادك، وأنت حذر كل الحذر أن توقظهم بوقع قدميك، ثم طبعت قبلة طويلة على جبين كل من زوجتك وإبنك وإبنتك.(34/75)
كن على ثقة ان في الدار التي أمامكم قلباً يتمنى لك السعادة من الصميم، ويطلب لتلك القبلة الدوام إلى ابد الابد، اجل! ان هناك قلباً يخفق طرباً لرجوع السعادة إلى عشكم.
حلب
فتاة الفرات(34/76)
العالم المسرحي والسينمائي
حول أزمة المسرح
بين مديري الفرق والممثلين
تفيض منذ أسابيع انهار الصحف من يومية واسبوعية بالحديث عن المسرح المصري ومشكلته القائمة من سنوات لمحاولة انهاضهوبعثه من جديد، وخلقه خلقاً آخر يقيل من عثرته ويبعث فيه دم الحياة والقوة، ويرفعه من هذه الهوة العميقة، وقد رددت الصحف صدى الشكوى الحارة مما آلت اليه حالة المسرح خاصة في هذا الموسم اذ اغلقتاكثر دور المسراح أبوابها وفض مديرو الفرق فرقهم التمثيلية بعد عمل لم يدم الا اسابيع. وكان الموسم يمتد كل عام اشهراً طويلة وتشتد فيه المنافسة والتشط الحركة، وتمثل عشرات الروايات بين مترجمة او مؤلفة ويقبل الجمهور على الملاعب مرحباً بما يبذل بين يديه من جهد وما يرى من آثار فنيه لها اقيمة ولها خطرها
كنا وكان الحال على ما ذكرنا حتى سنتين او ثلاث فخمدت هذه الجذوة، وفتر هذا النشاط، وانصرفت الجماهير بعضها الىصناديق الليل كما يسمونها في باريس، وبعضها إلى دور السينما، وطالعنا هذا الموسم بما طالعنا به من الكساد وسوء الحال وغلق دور التمثيل ابوابها ولما تكد تبتدئ العمل.
ولم يفت لجنة تشجيع التمثيل في وزارة المعارف ان تتنبه إلى ما وصلت اليه حال المسرح فاسرعت بعقد جلساتها ونشطت للعمل نشاطاً ملحوظاً، وارسلت لمديري الفرق جميعاً تسألهم رأيهم فيما يعيد على المسرح حياته ونهضته. وكان أن اقتراح تاليف فرقة من جميع المشتغلين بالمسرح تمدها الوزارة بالاعانة وتشد ازرها
ويتكاتف الجميع على العمل معاً في سبيل غاية واحدة الا وهي انتشال المسرح والنهوض به.
قبل مديرو الفرق - أو أغلبهم على الأصح - هذا الاقتراح ورحبوا به، وألفت لجنة فرعية من أعضاء لجنة تشجيع التمثيل لتضع بالاتفاق مع مديري الفرق تفاصيل هذا المشروع للبدء في تنفيذه في الحال. وعقدت اجتماعات عدة لذلك، تبودل فيها كثير من الاقتراحات والآراء، وظن في وقت من الأوقات أن الأمور تسير سيرها الطبيعي، وأن المشروع أوشك(34/77)
على التمام. ولكن ظهر أخيراً أن مديري الفرق يعجزون اللجنة بطالباتهم، وأن قبولهم المشروع لم يكن الا تظاهراً منهم بالتمشي مع اللجنة في الاقترح الذي لقي عنده ترحيباً وتشجيعاً على أن يقفوا في منتصف الطريق ويعودوا إلى طلباتهم الاولى من أن توزع الاعانة عليهم كما جرت العادة كل سنة دون قيد أو شرط
فشل مشروع اللجنة إذا أزاء هذا التشبث أو قل هذا التعنت من مديري الفرق الذين رفضوا التعاون معها، ووقفت اللجنة حيرى وإذا بفريق كبير من ممثلي المسرح المشهود لهم بالكفاءة والمقدرة يؤلفون من بينهم اتحاداً ويتقدمون للجنة يعلنون أنهم يرحبون بمشورعها، وإذا كان مديروا الفرق قد ابوا التعاون معها على استعداد للعمل ولا ينقصهم الا أن تعينهم اللجنة وتمدهم بالمال.
كان هذا هو الموقف الطبيعي الذي لا يمكن أن يكون للممثلين غيره ومديرو الفرق قوم لديهم من المال ما يقوم بالأود ويسد الحاجة، ولأغلبهم من موارد العيش غير العلم في المسرح ما يجعلهم لا يحسون ضيقاً إن لم يكفل لهم كثيراً من الرفاهية والنعيم؛ ولكن الممثلين حالهم يختلف عن هذا كل الاختلاف فمهنتهم هي كل شيء لهم؛ ومنها موردهم الوحيد الذي يعيشون عليه وهم واسرهم ومن يلوذ بهم من الاهل والزوج والولد. لذلك كان من الطبيعي جداً وقد تخلف مديرو الفرق عن العمل أن يتقدم الممثلون؛ والاولون؛ والآخرون المجموع والكثرة، ورحبت اللجنة بهذا الأتحاد ووعدته بالمعونة وشد الأزور إذا توفرت فيه أشياء حددتها اللجنة كما طلبت من أفراده ضمن ما طلبت ان يتخذوا لهم مسرحاً خاصاً للعمل عليه.
ويسرنا أن أفراد هذا الاتحاد حققوا كثيراً مما طلبته اللجنة وانهم مجدون في تحقيق الباقي مما لم تسعف به الظروف المؤاتية وضيق الوقت، واتصالهم باللجنة مستمر وقد يكتب لمشروعه النجاح والتوفق وهو ما نؤمله ونرجوه مخلصين.
على أن الصحف طالعتنا هذا الأسبوع بنبأ اتحاد اجديد ألفه فريق آخر من الممثلين يقولون أن عددهم يبلغ المائة أو يزيد. وتقدم الاتحاد الجديد إلى اللجنة بما تقدم به اتحاد الذي يسبقه وما ندري ما سيكون موقف اللجنة حاله، ولكن ظروف تكوين هذا الاتحاد وجملة عارضة جاءت في نشرته الاولى وبعض ما أحاطه من ملابسات لا تخفى على الاعين المتنبهة(34/78)
الفاحصة، كل هذا يجعل الاتحاد الجديد مشكوكاً في جديته وفي الغرض الذي قام من أجله، فاذا قلنا أنه تألف للكيد للاتحاد الأول، وان يد مديري الفرق ليست غريبة عنه، لعلنا لا نكون مخطئين، ولعلنا لا نكون قد جاوزنا كثيراً حقيقة الامر والسر فيه.
على أن هذا لا يهمنا في الواقع كثيراً وان كان يؤلمنا ان نرى زملاء بعضهم حرباً على بعض، ولو حسنت النيات وتصافت النفوس لانضم أفراد الأتحاد الثاني إلى زمالائهم الذين كانوا قبلهم اتحاداً، ولما كان ثمت معنى لهذه التفرقة التي لن يكون لها اثر من نفع ان لم تنبت الفشل وتبذر الشقاق والخصام.
على أننا لم نكتب كلمتنا لنقف من الممثلين موقف الواعظ الناصح، فليتدبروا شأنهم على النحو الذي يحلو لهم، ولكن نريد أن نقول للجنة، لجنة تشجيع التمثيل، أن ليس في تنحيي مديري الفرق ما يجد من جهودها او يدفع بها إلى الفشل مادام أن الممثلين قد تقدموا للعمل مجدين مخلصين، وامامها السبيل واضحة إن أرادت أن تكون نواة صالحة للعمل المسرحي الحق، وفي وسعها أن تشرف على العمل وتشترط به من الشروط والقيود ما يحقق رغباته وينهض بمشروعها إلى الغاية التي تنشدها وننشدها جميعاً. وها هي فرصة سانحة تعرض لها فلعلها تنتهزها في حزم وعزم، ولعلها أخيراً لا تحجم عن العمل الجدي الصريح، وثمت بارقة من أمل لعل فيها الخير ولعل في ثناياها تحقيق أملنا الواسع في اقالة عثرة المسرح.
محمد على حماد(34/79)
في الكتب
أبو علي عامل الأرتست
مجموعة اقاصيص مصرية
تأليف الأستاذ محمود تيمور
عرض ونقد وتحليل
لا يمكن لآي نقادة أن يتكلم عن أقاصيص تميور، أو أن يتعرض لدراستها دون ان يفكر في الصفات الأساسية التي تقوم عليها، أو التي أمكسبتها هذا الطابع الخاص، وهي: الباسطة والصدق والانسجام. وبودي أن أتحدث أولاً عن (طابع الصدق) فهي اظهر المميزات التي يتسم بها أدب تيمور، وهي تكاد تكون سجية طبيعية عنده.
يرجع طابع الصدق ففي أقاصيص محمود تيمور إلى أنه يعيش في عالم عواطفه فطرية، فهي تملي عليه هذه الصور البيسطة التي يرسمها بريشته الصغيرة من غير أن تحجب عنا ظلال الألوان: (فام زيان) هي المرأة التي تعمل أجيرة في البيوت وفي الغيطان، لا ترى على وجهها عبوسة اليأس ولا ثورة السخط، فهي راضية عن حياتها قانعة بالقرب من حفيدها الصغير (الغالي)، تنهك قواها نهاراً في الخبازة، وتسهر ليلاً أمام مصباحها تخيط له الجلابيب والطواقي، والصغير في حجرها، تهزه وتغني له أغنيات المستبقل بصوت كله نواح وشجون، معددة له صفاته حينما يصير رجلا، له شارب غزير مفتول كشوارب الحكام، وطربوش أحمر فاتح اللون كطربيش الامراء، وحذاء ذو صرير عال كأحذية الجنود. و (الشيخ جمعه)، هو الرجل العام الفيلسوف السعيد بايمانه، المنعم بخيلاته يروي لك في بساطة فطرية، قصة سيدنا سليمان وما جرى له مع النسر الهرم الذي عاش الف الف عام وحكاية السيد البودي الذي حارب الجيوش قبل ان يولد، وخرافة مدينة النحاس والسندباد وطير الرخ وغيرها. و (عم متولي)، وهو بائع الفول السوداني الذي ما يكاد ييؤوب من جولاته العديدة بين شوارع الحلمية وحارة نور الظلام، وتؤويه ليلا حجرته الضيقة القذرة حتى يخرج من صندوقه سيفاً دقديما، هو الأثر الباقي من ايام عزه الاولى، يضعه على ركبتيه ثم يسبح في تأملاته اللانهائية، حتى إذا ما مرت بخاطره ذكرى العهود(34/80)
الخولي، حين كان يحارب في صفوف (المهدي) في السودان، أخرج السيف من غمده فاذ بالسلاح قد علاه الصدأ وبعد ان يهزه في يده مراراً كأنما هو يحارب عدوا في الهواء، يصيح صيحات خافتات، منادياً الجيش ليتقدم إلى الأمام، ثم يصحو بعد برهة من خيلاته، فاذا الميدان حجرته المظلمة المقفرة ذات المصباح الزيتي الباهت النور، وإذا الجيش أوهام في أوهام وإذا جلبة المهزومين وصياح المنتصرين سكون في سكون! و (صابحة) هي تلك الريفية الساذجة التي تعلم في منزل حسن أغا حيث التقت هناك بخادمة عبد السميع فتعارفا وتحابا وأظهرا رغبتهما في الزواج، ولكن لما ذهب إلى اهلها ليخطبها لقي منهم كل صد واعراض لأنه فقير، فلما أتاها بعد شهور بالمهر سألته ففي ريبة من أين له هذا المال؟ حتى إذا ما أيقنت بانه اختلسه من أموال سيده احتقرته وأشاحت بوجهها عنه، وضحت بغرامها في سبيل الوفاء لمخدومها ولم ترض ان تتقبل مهرها نقوداً مسروقة، لأن الله لي يبارك في مثل هذا الزواج!
أليست كل هذه الشخصيات تبدو أمامنا ساذجة في تصورتها وفي نواحي تفكيرها؟ كما انها تدلنا تماماً على البيئة الفطرية التي يشهدها تيمور ويخالطها لينقل صورها الينا، فهي كما يوقول عنها العلامة الانجليزي كرنكو: كالتصوير الفني، تصور حقيقة الحياة كلما هي
وقد يرجع طابع الصدق أيضاً في أدب تيمور، إلى أنه تعود استعمال الالوان الطبيعية في لوحته. فلذا لتملح ان فنه خال من سيطرة الافكار الغريبة غير المألوفة، فهو لا ينقب مثلا عن الفساد الجنسي الذي أصبح الادب القصصي الحديث يعج به، ليقدمه إلى القارئ كما يثير ميوله فيفوز برضائه واعجابه! كلا! فان السجية الطبيعية التي اتصف بها، تكاد ترشدنا إلى أنه فنان بطبعه. لا آلة صماء. يصور أمامنا كل ما يجس به وما يراه حوله، ونحن حين نقرأ وصفه لأحدى شخصيات أقاصيصه، نراها ظاهرة في وضوح وجلاء، ونكاد نحس بان الحياة تدب في هذا الوصف دبيب الكهرباء، فهو كما يقول عنه الدكتور ويدمار، المستشرق السويسري: يتغلغل في أعماق نفس الموصوف: لكي يبرز عقيلته الحقيقة
يدين محمود تميور بالمذهب الواقعي ولكنه كثيراً ما يحيد عنه ويخرج عن قواعده المرسومة، وحجته في هذا، هي ان الفنان يجب الا يقيد نفسه بمذهب واحد لا يخرج عن(34/81)
دائرته ففي ذلك تعجيز له، إذا انه يجب أن يكون مطلق الحرية في التعبير عن احساسه، وما المذاهب الا قوانين وحدود وضعت للدراسات الادبية، ولكنها لم توضع للكاتب، لانه فنان بطبعه، يكتب باحساسه ووجدانه وبصيرته، وهذه لا تعرف شيئاً اسمه المذاهب.
وفي الواقع نجد ان المذهب الواقعي الاصيل، مذهب جامد جدا، وقد لطفه وغيره الكتاب الواقعيون بعد زولا، إذا انهم لم يستطيعوا ان يسيروا على مقتضاه، وقد رأينا زولا نفسه، بالرغم منه، يخرج عليه بدون أن يشعر، فزولا كاتب عبقري، كان يكتب مدفوعاً بوحي والهام، وقد عارض نفسه وكذبها كثيراً في مؤلفاته.
ولذلك لا نصف فن تيمورد (بالواقعية)، وإنما تصفه (بالصراحة)، وأهم مميزات الصراحة، حصر الذهن في هذا الموضوع والتخلص من الشعور الرقيق المصطنع ومن الخيال المترامي الاطراف، فهو قبل أن يكتب ينظرا ولا إلى الاشياء نظرة ثاقبة، يحاول أن يصفها كما هي دون اسراف في العواطف أو تعمق في الخيال، أو التجاء إلى الغموض، وبدون أن يسمح لشخصيته أن تحول بينه وبين موضوعه، فأقاصيصه هي هي تلك البطيعة المصرية البسيطة، التي جلبت على الخير والقناعة والايمان بقضاء الله، وفنه عبارة عن مرآة تنعكس عليها الحياة المصرية كما هي، دون زخرفة أو تجميل، ولا عدسات تواجه هذه الحياة فتظهرها على غير حقيقتها.
وقد ينظر بعض النقدة إلى أن العواطف الفطرية والبساطة الادبية التي تتسم بها أقاصيص تيمور، لا نتفق ولاجادة الفنية أو النزعة الانسانية التي هي إحدى دعامات الادب الحديث، على ان بساطه تيمور هي السرف في قوتها وتأثيرها، فهي تمشى مع الفن جبناً إلى جنب، وقد يكون هذا من الغرابة بمكان، فانك في (العودة) وهي أولى أقصوصات الكتاب، تلمح أثر هذه الروح.
للكلام بقية
محمد أميين حسونة(34/82)
العدد 35 - بتاريخ: 05 - 03 - 1934(/)
زمزم. . .
كان المصري إذا ذكر بالأمس زمزم ذكر البيت الذي تتهافت على ضوئه أمانيه وأحلامه، والنبع الذي تسكن على برده (لواعجه) وآلامه. أما اليوم فبذكره فيجد في نفسه بجانب شعوره الديني اللطيف شعوراً آخر له كذلك لطفه وقداسته: ذلك هو شعوره الوطني بالمستقبل المشرق والكرامة العزيزة والحياة المستقبلية (لأن زمزم لم يعد في ذهنه مقصور الدلالة على البئر المقدسة، وإنما أصبح يدل أيضاً على الحجر الأساسي لمجده البحري، والمظهر الحقيقي لوجوده الدولي، والسفينة الأولى من أسطوله المدني الأول (
والأسطول المصري كلمة نسيتها مصر منذ أودت بأسطولها الدول الغوادر في أمواه (نافازين)، فشواطئ رمسيس وكليوبطرة،
وزمزم. . .
كان المصري إذا ذكر بالأمس زمزم ذكر البيت الذي تتهافت على ضوئه أمانيه وأحلامه، والنبع الذي تسكن على برده (لواعجه) وآلامه. أما اليوم فبذكره فيجد في نفسه بجانب شعوره الديني اللطيف شعوراً آخر له كذلك لطفه وقداسته: ذلك هو شعوره الوطني بالمستقبل المشرق والكرامة العزيزة والحياة المستقبلية (لأن زمزم لم يعد في ذهنه مقصور الدلالة على البئر المقدسة، وإنما أصبح يدل أيضاً على الحجر الأساسي لمجده البحري، والمظهر الحقيقي لوجوده الدولي، والسفينة الأولى من أسطوله المدني الأول (
والأسطول المصري كلمة نسيتها مصر منذ أودت بأسطولها الدول الغوادر في أمواه (نافازين)، فشواطئ رمسيس وكليوبطرة، ومواني المعز وصلاح الدين، ظلت بعد إبراهيم حمى مباحا للسفائن الأجنبية، ترسى عليها بالذل والقهر، أو بالغلاء والفقر، أو بالسم والرذيلة (ثم لا تجد بين حنايا المرفأ الرءوم باخرة مصرية واحدة تشعرها ذل الغربة، وتذكرها واجب الدِّخالة، فكانت مياهنا كما كانت أرضونا مرتعا غريض الكلأ تخور فيه السوائم الغريبة خُوار الكفر والبذاء، لا خوار الشكر والثناء، ونحن أصحاب البلد لا تجد في هذا الطغيان سيادة المالك، ولا عزة الوطني ولا سلطان الدولة (
فلما تكشفت جهودنا القومية المنتجة عن بنك مصر، صمد هذا الناشئ الجبار بحزم الكهول وعزم الشباب إلى الميادين المالية الأجنبية فاقتحم حصونها المنيعة، وسرى في هيكل هذا البلد العليل الواهن سريان البرء، يحرك كل عضو من أعضائه بشركة من شركاته: فصاول في حي المال بنوك الدول، وطاول في (ألماظة) مطار الإنجليز، ونازل في (المحلة) مناسج (لنكشير)، وزاحم في كل سوق نتائج كل شعب (ومشت أعراض السلامة من الصدر إلى الثغر، فقامت شركة مصر للملاحة تعيد سلطاننا على البحر، وتعلن استقلالنا إلى الخارج، فأنشأت (زمزم) وأخواتها الثلاث على أحكم ما يقول الإنشاء، وأضحك ما يمكن الابتداء، وأفخم ما يكون التأثيل
وكان الأسبوع الماضي (مظاهرة كبرى) للاستقلال الأكبر ((
نزل طلعت حرب وصحبه العاملون يغزون الماء، بعد ما غزوا الأرض والسماء، فخفقت الأعلام الخضر على سواري زمزم، وتهللت الجباه الغر على سواحل مصر، وشعرت المواني الثلاثة المحتلةأن في أحضانها اليوم وليدا من أهلها صريح النسب، تضطرم في(35/1)
أحنائه رجايا الشعب، وتسفر على وجه مخايل الأمل، وتبسم في طريقه مضاحك الفوز (
واختلفت الظنون الفواجر على خواطر السفن الغربية فتساءلت: إلا يكون هذا المشروع الجديد كألف مشروع قديم لمعت كلمع الشرار ثم خبت سراعا إلى الأبد؟ إلا تكون زمزم هذه التي تختال على الماء في صلف وكبرياء، نواة من النوى للعجُف لا يرسخ لها أصل، ولا يسمق لها فرع؟ أيستطيع الأسطول المدني المزعوم أن يجوب مسارب البحار وليس من ورائه أسطول حربي يرصد طريقه ويمنع جانبه؟
وكانت هذه الأسئلة المتشائمة تَرْفَضُّ صاغرة خجلى عن جوانب الباشا وهو على ظهر زمزم في عبوسه الرهيب وسكونه المهيب ونظرته النافذة، يحيل المتسائل المتشكك على الماضي المجيب والواقع المقنْع فيرى الفَلك الداوي الذي يديره برأيه، ويسيره بيده، شمسه بنك مصر، وتوابعها شركاته الميمونة.
وهنالك الجواب الذي يُبكم الحاسد، ويفحم الشامت، ويقوم حجة بتراء على رشد النهضة الاقتصادية في مصر
إن شركات بنك مصر هي وحدها الجانب الجدِّي في حياتنا الهازلة، تقوم على الحاجة الداعية، والكفاية الفنية. والإرادة القوية، والإدارة الحازمة، والغاية النزيهة، والإيمان الصادق، والخير العام. وهذه الأساس الثوابت أكثر مما يلزم لقيام العمل، فكيف يقع في البال أن يتحكك بها الفشل، أو ينال منها الكيد، أو تطير في جنباتها الشبُّهَ؟
إن أرجل الجنود الإنجليزية جعلت ثكناتنا أجنبية، ولكن رءوس الأموال الأوربية جعلت مصرنا غير مصرية، وإن أساطيل بنك مصر الآلية والهوائية والبحرية هي التي سترد مصر إلى أهلها من غير حرب ولا عنف ولا خصومة
لقد كانت الوحدة الأولى من أسطول الشعب هي زمزم، وكانت الوجهة الأولى لزمزم هي جُدَّة، وكان أمس الأول موعد إبحارها من السويس بالحجيج الأول! فليت شعري أي نوع من الشعور يشيع في نفس المصري المسافر على زمزم حين يرى قطعة من أرض مصر تسير به على الماء حتى شاطئ جدة، يعلن المؤذن فوق منارتها كلمة الله، وينشر العَلَم فوق ساريتها مجد الوطن، ويجد المصري على ظهرها قومه ولغته ودينه وكرامته وراحته وأنسه!(35/2)
ذلك شعور لا يتصوره ولا يصوره إلا شاعر كتبت له السعادة أن يتذوقه!! فلعل في الحجيج من يسعفه الإلهام فينفح قومه وأود به بهذه النفحة السماوية، تمجيداً لأول نهضة مصرية زكت في الأرض، وأول باخرة مصرية جرت في البحر، وأول حِجة (مصرية) صعدت إلى السماء!
احمد حسن الزيات(35/3)
غرائب الألقاب
للأمير العالم مصطفى الشهابي
عضو المجمع العلمي العربي بدمشق
ما أشد غرور الإنسان في هذه الحياة!! وما اكثر تعلقه بالأوهام! ولكم حوى هذا الكون الأحمق في طياته من غرائب ومهازل! ولعل من أغربها أهكومة الألقاب الجوفاء في أيامنا هذه. فلقد اقتبسنا الميل إلى تلك الألقاب عن الفرس والترك في الأيام الخوالي، ثم لما ضعف سلطاننا اتخذناها ألهية نلهو بها عن الملك المضاع، حتى تأصل هذا الميل فينا واستشرى، وصرنا نسمع بأسماء وألقاب يضحك منها العاقل: كصمصام الدولة، وغضنفر الملة، وأسد الدين، وغير ذلك مما يذكرنا بصاحب البيت الأتي:
(ألقاب مملكة. . .)
ومن النكات المستملحة أن رجلا من الصق الناس بي وازهدهم في الألقاب، زار مصر أخيراً فحار الناس بماذا يلقبونه: فواحد زعم انه صاحب السمو، وثان قال انه صاحب السعادة، وثالث ادعى انه صاحب العزة. ولقد والله اخطأ الثلاثة واتاهوا عن محجة الصواب. فالرجل ليس بصاحب سمو، بل هو كسائر الناس صاحب انخفاض. . . لأن كل دقيقة تمر من العمر تدنيه وتدنينا من حفرة منخفضة، سنصير إليها عما قريب، وسنغيب فيها شئنا أم أبينا، وذلك بعد ان نحمل على الآلة الحدباء المعروفة التي قال فيها الشاعر:
كل ابن أنثى وان طالت سلامته ... يوما على آلة حدباء محمول
وليس الرجل بصاحب سعادة، بل نحن كلنا أصحاب شقاء في هذه الحياة الفانية. وما هي السعادة يا صاح؟ وأين هي؟ لقد سلخت من العمر أربعين حجة وأنا أفتش عنها بلا طائل. تنورتها تارة بالكهرباء، وطورا بالسراج وفتيلته. . . وتحريتها بالعين وبالمجهر. وغشيت لأجلها كل المجتمعات، وتلمستها لدى كل الطبقات. وعدت في آخر طوافي وأنا أشقى من صاحبنا حنين، لأن هذا أضاع البعير لكنه فار بخفيه، وهما شيء لديه، أما أنا فلم أجد لدى أحد من السعادة ما يساوي خفاو أحداً لا خفين. وسأظل أفتش عن هذا الخيال الذي علقته الناس، مشبها في استقصائه صاحب البيت الآتي، وقصته يعرفها بعض الأدباء:
من لي بهاتفة يوما وقد سالت ... أين الطريق إلى حمام بنجاب(35/4)
أما الإدعاء بأن الرجل صاحب عزة، فهذه ثالثة الأثافي. فالعزة لله وحده. أما صاحب عَزة (بفتح العين) فهو شاعر غزل، اسمه كثير، وهو زير نساء، وصاف لمحاسن ربات الحجال. أحب عزة وعشقها وشبب بها، وقال فيها البيت المشهور:
هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزة من أعراضنا ما استحلت
والبيت المفجع الآتي:
وما كنت أدري قبل عزة ما البكا ... لا موجعات القلب حتى تولت
وقد هلك كثير وهلكت عزة منذ قرون، فكيف يكون رجلنا صحبها. . . مع هذا فهو قد فاته الغزل، وعداه التشبيب، وتدلف إلى الكهولة، فلا هو من أصحاب عزة ولا عزمة من صواحبه. . .
والخلاصة أن البلاد العربية، ولا سيما مصر والشام والعراق، أسرفت في النعوت والألقاب، خلافاً لما نراه في كثير من أنحاء أوربا. ورحم الله زماناً كان فيه ملك الخلفاء يمتد من الهند إلى بحر الظلمات، مع هذا كان عمالهم يخاطبونهم بمثل قولهم إلى فلان أمير المؤمنين من عامله على كذا) والحكومة إذا لم يكن الحاكم ففيها كمصعب في البيتين الآتيين:
إنما مصعب شهاب من الله ... تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك قوة ليس فيه ... جبروت ولا به كبرياء
فهل من مشتر للألقاب كافة؟ (حتى التي فاتت القلقشندي في صبح الأعشى. . .) بحكمة يفيدنا إياها، أو بسر صغير من أسرار هذا الكون يرفع لنا الستار عن غوامضه؟(35/5)
عمر بن عبد العزيز يصلي
للآنسة سهير القلماوي
وليس هو عمر بن عبد العزيز الخلفية الأموي المشهور بعدله وتقواه، وإنما هو طفل مصري في الثانية من عمره، لا يقل عن الخليفة شهرة ولا منزلة في نفوس عارفيه. ولئن كان عمر الخليفة حقق للعرب المثل الأعلى للخلافة، فان عمر الطفل حقق لعارفيه المثل الأعلى للطفولة. فليست طفولته خفة وجمالا ومرحا وطهرا، وإنما هي إلى جانب هذا كله يشوبها القليل من الجد والتفكير، وغير القليل من التقوى والدين.
ولعل أهم ما يربط عمر الطفل بعمر الخليفة، غير الاسم، مظهر التقوى والدين. ومظهر الدين غريب عند أطفالنا المصريين اليوم، فقلما نجد طفلا يعرف من أمر دينه ما يجب أن يعرفه أو يؤمن به. أضف إلى هذا أن سن عمر لا تسمح له بالكلام الواضح ولا بالفهم والأفهام، ولكنها، وهنا موضع الدهشة، سمحت له بفهم لروح الدين وتقدير لها عجيبين. ولعلك تدهش كل الدهش إذ ترى عمر يسحب أي غطاء فيفرشه على الأرض، ويجلس القرفصاء لينزع ما يسميه (ألْبِبِسْ) أو ما نسميه نحن (الشبشب) ثم يرفع يديه إلى أذنيه ويتمتم بكلمات لا تفهمها مهما حاولت، ولكنه يتمتمها في حرارة وحمية غريبتين، ويوالي بعدها حركات الصلاة المعروفة من سجود وركوع. والغريب أنه يقوم بصلاته في حمية وحماسة، قلما تجدهما عند أي طفل في أي حال من حالاته، وقد تضطره الحمية أحياناً في السجود إلى ضبط رأسه ضبطاً مؤلماً يصيح بعده (بخ) بصوت فخم عال ملؤه الجد والخشوع. و (بخ) هذه عنده هي (الله أكبر) عندنا. يكفي أن تقول له صل يا عمر، ليسحب أقرب غطاء وينزع في سرعة حذاءه، ويبدأ الصلاة كأشد ما يمكن أن يكون حمية وحماسة. هو لا يعرف للصلاة وقتا، وإنما يصلي كلما ذكر أو ذكر. ولعلك تظنه بعد كل هذا مازحا أو غير مقدر قدسية العمل الذي يقوم به. كلا. فكفى أن تفلت منك ضحكة مهما يكن مبعثها ليكون نصيبك (زغرة) متوعدة، ثم لينالك بعد فراغه من الصلاة كل ما يمكن أن ينزله بك من عقاب. حاول ما شئت أن تخرجه من صلاته فلن تظفر بشيء، وإن استعملت معه القوة واضطرت طفولته الضعيفة أن تخضع لها، فهناك يكون لك الويل والثبور، هناك الضرب واللكم وشد الشعر، وكثير جداً العض والمؤلم القاسي.(35/6)
مرض عمر يوما فخفتت أصوات البيت، وأصبح وجوه جواً حزيناً كئيباً، أصبح كل شيء باهتا صامتا. وانطرح عمر على ذراع جدته في استسلم هادئ حزين. وعيناه الزرقاوان تدمعان قليلاً من فرط الحمى، وخداه تلتهبان من حرها، والتف أهل البيت حوله وكلهم واجم حزين، يحس أن روحه معلقة تنتظر وترتقب، وتخاف كل الخوف من احتمال يبعده العقل ويقربه الحب والشفقة. وتناول عمر الدواء من يد جدته في ألم وحزن، ثم أغمض جفنيه واستسلملنوم بدأ مضطربا، ثم ما لبث أن هدأ قليلا قليلا. ونام عمر زهاء الساعة هادئا، وقام بعدها وقد خف عنه الألم، وأحس أن الداء فارقه تماما. فما كان منه إلا أن سحب غطاء منضدة الدواء غير مبال بما سقط أو تكسر، ثم فرشه وقام يصلي: يركع ويسجد ويصيح (بخ بخ) في حرارة وحماسة. لم ينس عمر أن يشكر الله في مرضه لأنه أنعم عليه بفترة هدأ فيها ألمه فاستراح.
هذه صورة لك يا عمر من صور طفولتك، لست أعرف أين يضعها لك الزمان بين صورك الماضية وصورك المستقبلة. ولكن خالتك تشفق على هذه الصورة البريئة الحلوة الطاهرة من النسيان، فسجلتها لك لتذكرها أيام تحلو لك ذكريات الطفولة. ترى استقابلها بابتسامة كابتسامة الطفولة فرحة مرحة؟ أم بابتسامة أخرى ستعلمها لك الأيام؟(35/7)
صفحة من تاريخ أفغانستان المعاصر
لمناسبة حوادثها الأخيرة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 2 -
غادر أمان الله ميدان الحوادث في أفغانستان في ربيع سنة 1929 كما قدمنا، وفر مع زوجه وأسرته مثقلا بما يدخر الأمراء الطغاة مثل هذا اليوم من مال مغتصب؛ ولكن الملك الجديد باشا السقا أو حبيب الله لم يستطع أن يبسط سلطانه على غير كابول وضواحيها، ولبثت أفغانستان تضطرم بالحرب الأهلية، وزعماء القبائل القوية ولا سيما الشنوارى وغلزة يتطلع كل منهم إلى الملك. عندئذ ظهر في ميدان الحوادث رجل لم يكن له في بدء الفتنة من الأمر شيء، وكان يقيم منذ حين بعيداً عن وطنه في معزل عن الحوادث. ذلك الرجل هو الجنرال نارد خان. وكان من قبل وزيراً للحربية وقائداً عاماً للجبيش في حكومة الملك أمان الله. ولكنه لما رأى اندفاع أمان الله في سياسته الطائشة، استقال من منصبه وعين سفيراً لأفغانستان في باريس، وأبعد بتلك الوسيلة عن طريق أمان الله. فلما نشبت الثورة وتفاقم خطر الحرب الأهلية لبى نادر خان داعي الوطن وعاد إلى أفغانستان ليحاول إخماد الفتنة وإنقاذ أفغانستان من عواقب ذلك النزاع الخطر، ولكنه ألفى الموقف مستحيلا؛ فاعتزم أن يخوض المعركة وأن يحاول سحق ذلك الزعيم المتغلب الذي أثار هذا الضرام، وجعل من أفغانستان مسرحاً لجريمة والفوضى؛ فحشد أنصاره وفاوض زعماء القبائل القوية. ومنالمعقول أيضاً أن تكون السياسة الإنجليزية قد أدت مهمتها التاريخية في هذا النزاع، وأمدت نادر خان بالمعاونة المطلوبة لأنها رأت فيه زعيماً مستنيرا متزناً، ولأنها تحرص دائماً أن يستتب الأمر في أفغانستان لأمير يؤثر التعاون مع بريطانيا العظمى. وعلى أي حال فقد استطاع نادر خان أن يشق طريقه، وأن يهزم قوات المتغلب والثوار في عدة معارك؛ ثم زحف أخيراً على كابول ودخلها في أكتوبر سنة 1929، وقبض على حبيب الله وأمر به فأعدم رمياً بالرصاص؛ وقبض على زمام السلطة في كابول. بيد أنه لم يكن سيد الموقف بعد، لأن الثورة لبثت تضطرم في مختلف الأنحاء. وكان نادر خان كما قدمنا من معارضي سياسة التجديد الأوربي التي كان لها شأن في إضرام الثورة، فالعلن مرة(35/8)
أخرى أنه سيعمل على احترام أحكام الشريعة الإسلامية وتقاليد البلاد وحمايتها من كل انتهاك وعبث؛ وأخذت الثورة تهدأ شيئاً فشيئاً، ونادر خان يصرح أنه لا يبغي العرش وأنه يتركه للرجل الذي تختاره أفغانستان. على أنه لم يك ثمة شك في نتيجة هذا التطور، فقد انتهى نادر خان بارتقاء العرش بعد ذلك بأيام قلائل (15 أكتوبر) على يد جمعية وطنية من الزعماء نادت به ملكاً وأيدته معظم العناصر القوية في البلاد.
وقد ولد السردار محمد نادر خان في سنة 1883 من والدين ينتمي كلاهما إلى أصل ملكي. وظهر منذ فتوته بالبراعة، الحربية وتولى منذ سنة 1919 قيادة حرب الاستقلال الأفغاني في صف الملك أمان الله، ولبث مدى أعوام شخصية بارزة في حياة أفغانستان العامة؛ ولكنه أبى التعاون مع أمان الله مذ رأى تطرفه واندفاعه. وتولى نادر خان الحكم في غمار من الصعاب، ولكنه أبدى منتهى الاعتدال والكفاية والحزم؛ وألغى جميع الإجراءات المتطرفة التي اتخذها أمان الله؛ ورد أحكام الشريعة كما كانت، ونظم علائق أفغانستان مع الدول؛ وكان بريطانيا العظمى أول الدول التي اعترفت بحكومته؛ واهتم نادر خان بإصلاح الجيش وتقويته، ولبث يعمل في مثابرة وجلد حتى عادت السكينة إلى البلاد واستقر الأمر في نصابه نوعا. ولكن بعض القبائل القوية ولا سيما قبيلة الشنوارى لبثت محتفظة بموقفها من الاستقلال عن كل سلطة. ولم تمض أشهر قلائل حتى عادت لثورة والقلاقل العنيفة تهدد سلام البلاد وأمنها؛ فعاد نادر خان الكفاح؛ وكانت تعترضه صعاب فادحة مالية وغيرها. واستمر الثورة تخبو وتضطرم في أفغانستان مدة الأربعة أعوام التي حكمها نادر خان. بيد أنها كانت ثورات محلية؛ ولم تتخذ ذلك العنف الذي تتحول معه مصاير أفغانستان إلى وجهة جديدة؛ وكان نادر خان دائماً رجل الموقف؛ وبذل نادر خان جهوداً صادقة لإصلاح نظم الحكم والادارة، وجرى في الحكم على نظام الوزارة الحديث، وأنشأ مجلساً تمثيليا (برلمانا) يقوم بمهمة التشريع بإشرافه، ولزم جانب الاعتدال في سياسة الإصلاح، ورد المرأة الأفغانية إلى حجابها ومنزلها، ولم يحاول أن يغير بالعنف شيئا من تقاليد البلاد الدينية أو الاجتماعية؛ وسار بأفغانستان في طرق التقدم والتوطد رغم القلاقل التي كانت تعترض سبيله من آن لآخر، وعادت السياسة البريطانية فوثقت علائقها مع أفغانستان، وقامت السفارة البريطانية في كابول مرة أخرى، وطبقت المعاهدة المعقودة بين البلدين منذ(35/9)
سنة 1921. وبالجملة فقد بدأت أفغانستان على يد هذا الأمير القوي الحازم مرحلة من الاستقرار والتقدم وكان مقدار ان تطول وان تثمر خير النتائج لو لم يذهب نادر خان فجأة ضحية الاغتيال السياسي.
لم يكن مقتل نادر شاه مفاجأة كما قدمنا، فقد رأينا أن عرش أفغانستان يقوم على بركان مضطرم من المنافسة الدموية، ورأينا كيف يذهب معظم الجالسين عليه ضحية الغدر والغيلة. ولم تتضح العوامل والظروف الحقيقية التي ذهب ضحيتها نادر شاه بعد وضوحاً كافياً يسبغ عليها للون التاريخ الحق. ولكنا نستطيع أن نتتبع هذه العوامل في معترك البغضاء السياسية والشخصية التي تتربص منذ بعيد بنادر شاه وأسرته، وإليك خلاصة ما يقال في اصل الجريمة وأسبابها
كان غلام نبي بين زعماء أفغانستان المقربين إلى الملك أمان الله ومن اكبر معاونيه. وكان يشغل منصب سفير أفغانستان في باريس أيام حكم الملك أمان الله، ويشغل أخوه غلام صادق منصب سفير أفغانستان في برلين. وهو من أسرة (تشركي) القوية، فلما سقط أمان الله وتولى نادر خان، أقيل غلام نبي وعين مكانه في سفارة باريس السردار شاه والي خان أخو نادر شاه، ثم أقيل أخوه غلام صادق بعد ذلك من سفارة برلين وعين مكانه أخ للملك أيضا هو السردار محمد عزيز خان.
ولبث غلام نبي حينا في أوربا ثم عاد إلى أفغانستان بشفاعة آخي الملك والي خان وبعد وعد ملكي بالأمان. واستخدمه نادر شاه في مهام عسكرية وسياسية في بعض الاقاليم، ولكن غلام نبي كان يضطرم بأطماع خفية، وكان يبث دعوة الثورة ضد نادر شاه خفية ويدعو لصديقه السابق أمان الله، ووقف نادر شاه على طرف من مساعيه فاستدعاه إلى كابول واستدرجه على مجلس عقده في قصره بضاحية (الارج) التي تضم القصور والقلاع الملكية، ولما ظهر نبي خان أمامه أبرز له بضع الوثائق التي تثبت خيانته، فحاول غلام نبي الجدل والمكابرة، ولكن نادر شاه كان قد أعد العدة للتخلص منه وفي الحال ظهر عدة جنود مدججين بالسلاح وانقضوا عليه وقتلوه خنقا أمام عيني الملك. وأخفى نبأ موته حتى عقد نادرشاه في اليوم التالي محكمة من الرؤساء اجتمعت سرا وقضت بإعدام غلام نبي جزاء خيانته، ثم نشر نبأ إعدامه بعد ذلك في الجريد الرسمية، وعلمت أسرة (تشركي)(35/10)
أسرة غلام نبي القوية - بمصرع زعيمها، وأقسمت بالانتقام
وكان ذلك في الثامن من نوفمبر سنة 1932، أي لعام بالضبط قبل مقتل نادر شاه. وعلى أثر ذلك قبض على كثيرين من أسرة غلام نبي وأتباعه. وكان ممن قبض عليهم بسبب الحادث عامل جنان من أتباع غلام نبي وولده، وهو طالب في السابعة عشرة من عمره يدعى عبد الخالق، فاعتقل الفتى أياماً ثم أطلق سراحه بشفاعة وزير المعارف لأنه طالب مجد متفوق في الألعاب الرياضية ولم تلحقه أية شبهة. وكان الفتى عبد الخالق هذا هو قاتل نادر شاه في المستقبل
أقسمت أسرة (تشركي) بالانتقام وعملت له، وظهرت البوادر الأولى لانتقامها المبيت في يوليه سنة 1933، في برلين حيث قتل السردار محمد عزيز خان أخو الملك نادر شاه وسفير أفغانستان في برلين، قتله طالب أفغاني من حزب (أفغان الفتاة) الذي يناصر سياسة الملك أمان الله، واتجهت الريب يومئذ إلى غلام صادق أخي غلام نبي الذي كان يشغل من قبل منصب سفير أفغانستان في برلين وعرضت أسرة غلام نبي في كابول بسبب هذا الحادث إلى مطاردات واضطهادات جديدة، وازداد الملك نادر شاه ريباً فيها وحذراً منها، وازدادت الأسرة ظمأ إلى الانتقام.
وكان الفتى عبد الخالق أثناء ذلك متصلاً بأسرة غلام نبي التي يعمل لديها أبوه، وكانت الأسرة تبث إلى كل من يتصل بها روح البغض لنادر شاه والنقمة عليه. وهنا تروي قصة غرام وانتقام خلاصتها أن الفتى عبد الخالق هام بحب سيدة رائعة الحسن من سيدات أسرة غلام نبي، وأنها شجعته وبادلته الهوى، وأغدقت عليه كل عطفها وحنانها، وكانت أبواب القصر تفتح لعبد الخالق صباح ومساء، ويلتف حوله سيدات الأسرة جميعاً، ويبذرن في نفسه المتيمة الهائمة ضرام البغض والنقمة، وكانت صاحبته الحسناء تملك عليه كل حسه وتفكيره، وتصور له المستقبل بديعاً فياضاً بالآمال الكبيرة، وذا قتل نادر شاه وعاد أمان الله، فأن أسرة تشركي تعود إلى سابق مجدها ونفوذها، ويغدو عبد الخالق وأسرته من ذوي النفوذ والغنى.
ولم تمض أشهر قلائل حتى نضج المشروع، ولم يبق على عبد الخالق إلا أن يتحين فرصة التنفيذ. وسنحت هذه الفرصة في اليوم الثامن من نوفمبر، وكان قد تقرر أن تقام في هذا(35/11)
اليوم مباراة في الكرة بين فريق المدرسة الفرنسية الأفغانية، وفريق المدرسة الألمانية الأفغانية التي ينتمي عبد الخالق إلى طلبتها ويعمل عضواً في فريقها الرياضي. كذلك تقرر أن يرأس الملك نادر شاه الحفلة ويتولى توزيع الجوائز على الفائزين، وأقيمت المباراة في إحدى ساحات الحدائق الملكية في (أرج) في عصر هذا اليوم. وقصد الملك نادر شاه مع ولده ظاهر شاه وعدة من الأكابر إلى الخيمة الملكية لمشاهدة المباراة، وفي أثناء سيره خرج من صف الطلبة المجاور له طالب يرتدي ثياب اللعب، واقترب منه بسرعة ورفع يده وأطلق ثلاث رصاصات متواليات، فوضع الملك يده على قلبه وسقط صريعاً على الأثر، وكان هذا الطالب هو عبد الخالق. ووقع الحادث بسرعة مدهشة، وذهب دوي الرصاص في الضجيج والهواء فلم يفطن له أحد. وساد الهرج وقبض على المعتدي وتمت المأساة.
هكذا تروي العوامل والظروف التي دبر فيها مقتل المغفور له نادر شاه، وهكذا توصف الصورة التي تمت الجريمة وقد كان للحادث دوي عميق؛ وكان مدبرو الجريمة يؤملون على ما يظهر أن يحدث موت نادر شاه اضطرابا وقلاقل ينتهزها خصوم الملك القتيل لإضرام الثورة؛ وكانت بوادر الثورة تبدو في الجنوب منذ حين؛ ولكن السردار محمودوزير الحربية وأصغر أخوة الملك القتيل أبدى منتهى الحزم والسرعة في تلافي هذا الأثر، فلم تمض ساعة واحدة على مقتل نادر شاه حتى كان قد استدعى الوزراء والقادة والزعماء إلى القصر، ونادى في الحال بظاهر شاه ولد الملك نادر شاه الوحيد ملكا على أفغانستان مكان أبيه؛ وحياة الزعماء والقادة والضباط في الحال بلقب الجلالة. وقد أبدى السردار محمود في ذلك تضحية وحكمة سياسية بعيدة المدى، لأنه من حق اخوة الملك طبقا لقانون العرش الأفغاني أن يرثوا العرش؛ ولكن السردار محمود أدرك في الحال ما قد تثيره مسألة العرش بين أخوة الملك الثلاثة وبين المتطلعين إلى العرش من الاضطراب الخطر على سلام البلاد؛ وجاء رفع ظاهر شاه إلى العرش حاسماً لكل خلاف وجدل وفي الحال زج الفتى القاتل إلى قلعة القصر، ووجد معه على ما يقال صور الغادة الحسناء التي حرضته فقبض عليها، وقبض على كثيرين من أسرة غلام نبى رجالا ونساء وأطفالا، وقبض على كثيرين من زملاء عبد الخالق في المدرسة وعلى بعض المدرسين، بل وعلى وزير المعارف؛ وهبت على العاصمة الأفغانية ريح من الروع والرهبة؛ ومازالت أقبية(35/12)
السجن الملكي غاصة بالمقبوض عليهم ولا يعلم حتى اليوم من زهق منهم ومن باق على قيد الحياة
وملك أفغانستان الجديد جلالة ظاهر شاه في العشرين من عمره وهو ولد نادر خان الوحيد، ولكن له أربع شقيقات هن بالتعاقب: الأميرة زهرة وهي في السابعة عشرة، والأميرة زينب وهي في الخامسة عشرة، والأميرة سلطانه وهي في الرابعة عشرة والأميرة بلقيس وهي في الثانية عشرة، وقد تلقى ظاهر شاه بعض تربيته في فرنسا، وأقام هنالك نحو ثمانية أعوام، وهو ذو آراء وتربية عصرية ويجيد اللغة الفرنسية فضلا عن الفارسية والأوربية (الهندية).
وقد كان منذ حين، أثناء حياة والده يتولى بعض الوزارات والمهام الرسمية طبقا للتقاليد أمراء الأسرة الملكية؛ وهو بعد الملك غازي، ملك العراق أحدث ملوك الشرق والغرب سنا.
وقد مضى إلى اليوم زهاء أربعة أشهر مذ تولي ظاهر شاه عرش أفغانستان دون أن نسمع بحدوث اضطرابات أو قلاقل جديدة، والظاهر أن حكومة الملك الجديدة تقبض على ناصية الموقف، وأن بوادر الثورة التي كانت على أهبة الانفجار قد أخمدت أو اختفت إلى حين وأن الشعب الأفغاني يؤيد القابضين اليوم على زمامه. وهكذا تتحطم آمال المتطلعين إلى العرش وفي مقدمتهم الملك السابق أمان الله مرة أخرى.
ونحن نغتبط إذ نرى أفغانستان تجوز أزمتها الخطيرة بمثل هذه السرعة، ونرجو أن تظل هذه الشقيقة الشرقية النابهة متمتعة بالاستقرار والسكينة، بعيدة عن كيد السياسة الأجنبية ومطامعها؟
محمد عبد الله عنان(35/13)
من أحاديث القهوة:
في الحب. . .
. . . ولم تكن إلا سنة واحدة حتى تمزق ذلك الثوب. وبدت من ورائه امرأة كهذه المئات من النساء: نبصرهن كل يوم فلا نكاد نحس بهن ولا يهجن فينا شعوراً
وكيف تبدلت؟ ألم يكن يهيم بها ويراها جميلة فتانة؟
بلى. ولكنه كان يراها جميلة لأنه يحبها. والمرء - كما يقول ده كارت - يرى من يحب جميلا، ولا يحب من يراه جميلا، وإذا هو أحب امرءاً أسبغ عليه من خياله ثوبا يراه به أجمل الناس
- وذلك الحب المضطرم، الذي كان يخفق به قلبه في صدره. وبه تجري دماؤه في عروقه؟. . أليس عجيباً أنه قد مات؟ أليس لها هاتان العينان العميقتان كالبحر. الصافيان كأديم السماء. . أليس لها ذلك الجسم الأبيض الغض، أليس لها تلك الرشاقة الفاتنة، فكيف إذن يسلوها ويموت حبه إياها؟
- قد مات هذا الحب. لأنه لم يكن عذريا صافيا. وهي جميلة لا تزال، ولكنه شبع منها كما يشبع الإنسان من الطعام مهما لذ وطاب. ولو تنزه حبه عن مأرب الجسم، وعقد الصلة بين الأرواح لكتب له بالبقاء.
وكان الأستاذ صالح عاكفا على نار جيلة لا يتكلم، فرفع رأسه وقال:
- أي بقاء؟ أسمعت أن حبا كتب له البقاء، إن الحب يا صاحبي كالزهور العطرة ينعشك عطرها ويعجبك لونها ولكنها لا تعيش طويلا. ثم ما هو هذا الحب العذري الذي تتحدث عنه؟ انه لا يوجد إلا في مكانين: القاموس، وأدمغة أمثالك من الناس!
وأقبل على نار جيلته يصلحها ويدعو لها بجذوة من نار. ولم يلق بالا لجواب فوزي، فجذبه من طوقه وصاح به:
- إلا تسمع؟ أنت دائماً هكذا. . . تريد ان تتكلم ولا تتنازل للإصغاء.
فاصلح ثيابه باسما وقال له:
- ولماذا تريد أن أصغي إليك؟
- لأنك مخطئ. . . مخطئ. . . أريد أن أوضح لك الحقيقة.(35/14)
- أشكرك، لا أريد أن توضح لي شيئا
بل ستسمع وأنفك راغم: إن من الحب حبا لا يفكر فيه الإنسان في شيء من اللذاذات الجسمية، بل ليس فيه مكان، فهو اتصال في الأرواح وتمازج، هو ان يفنى كل من المحبين في الآخر!
- شيء جميل. من أين تعلمت هذا؟ أمن شعر المجنون، أم من قصص لامارتين؟
- من أي كان؟. . ماذا يهمك أنت؟ لماذا تتهكم دائماً؟
- ذلك لان لامارتين نفسه كان من أجرأ الناس على اللذة الجسمية وأشدهم تهالكا عليها، وما كتب قصصه بهذا الأسلوب الفاتن الممتع! إلا ليسخر منك ومن أمثالك
- أنا عرفت هذا الحب بنفسي
- وأنا أيضا قد عرفته، انه حب لا تجد فيه الرغبة الجنسية سبيلا إلى الظهور فتبقى مخبوءة في قرارة النفس، حتى إذا اتسع السبيل ظهرت على أتمها، ولو انه كان خاليا منها لأحب الرجل أخته الجميلة!
- شيء فظيع. . . إن طبيعة الإنسان تأباه
- نعم تأباه لان الطبيعة تفهم الحب على انه لون من ألوان الصلة الجنسية، بل هو المخدر الذي ابتدعته الحياة لتمام هذه (العملية) اللازمة لبقاء الجنس البشري. ثم. . . تصور فتاة جميلة تحبها حباً عذرياً. . هل تصورتها تماما
- نعم.
- وتصورت انك تحبها لنفسها لا لجسمها، ولا تطمع منها إلا بهذه الصلة الروحية؟
- نعم.
- وانك ستقيم على هذا الحب؟
- نعم. . وماذا بعد؟
- تصورها الآن وقد أصابها مرض عضال، بدد محاسنها، وبتر أعضاءها. وجعلها قطعة من اللحم المنتن، هل تبقى على حبها؟
- نعم، إنني أشفق عليها وأحميها
فضحك الأستاذ صالح وقال:(35/15)
- ها أنت قد اعترفت. . إن الشفقة شيء غير الحب. . أرأيت كيف اتضحت الحقيقة؟
وأراد فوزي وقف الجدال فقال:
وصديقنا جميل. . . ماذا فعل بعد ذلك؟ قد أضعت علينا قصته.
أعاد إلى زوجته الجاهلة القذرة التي تلقاه وعلى يديها أثر الصابون وفي ثيابها رائحة البطيخ؟. . كيف يطمئن إليها، ويأنس بها بعد أن عرف لويزا؟
فقال صالح:
- إن يكون للويزا جمال الأصباغ والعطور - والثياب الشفافة - والأعضاء العارية - فان لهذه الجاهلة القذرة، جمال الإخلاص والأصباغ والعطور تهيج من نفوسنا مكان الشهوة، أما الإخلاص فيهيج منها مكان الروح
- ما هي الروح وما هي الشهوة؟. . إني لم افهم! أتريد أن تقول إن هذه المرأة التي لا تعرف كيف تتحدث إلى صديقنا جميل. ولا تدري كيف تسايره في شارع أو تصحبه إلى سينما، ولا تدرك أفكاره ونفسه، توائم روحه ويراها جميلة أكثر من لويزا؟. . مستحيل!
- قد تكون دونها جمالا ورشاقة، ولكنها امرأة شرقية تفنى في زوجها: تعيش من أجله. وتقف حياتها على راحته وتسهر عليه لينام، وتحرم على نفسها الطيبات لتوفر عليه ماله، وإذا رأته محتاجا نزعت حليها من نحرها وأخذت لقمتها من فيها لتسد حاجته، وإذا مرض فدته بنفسها. وإذا أصابه مكروه طارت نفسها عليه شعاعا، ثم هي الراضية أبداً، القانعة بالقسط الأقل من حبه أو من ماله، أحب هذه العاهرة وانتزع المال من فم زوجته ليصبه على قدميها. ونال زوجه بالأذى من أجلها، فما شكت ولا حملت له كرها ولا حقدا، ثم هي تفرغ عليه من الإجلال ما يجعله معصوما عن الزلل والخطأ، أفتقيسها بتلك؟
- هاها. . إنها لا تصلح خادما. فليضح بها من أجل لويزا.
- إنها هي الزوجة يا سيدي
- وإذا كانت هي الزوجة؟ إن الحب الذي عقدته الطبيعة بين قلبيهما أوثق وأقدس من الزواج الذي عقده إنسان!
فألقى صالح أنبوبة النرجيلة من يده. وصاح به في شدة وغضب:
- أنا لا أستطيع أن اسمعهذه الآراء التي تنسف حياتنا من أساسها، وإذا هي صحت في(35/16)
المجتمع الغربي، فما كانت لتصح عندنا، ومن الجنون أن نقيس عن الغرب كل ما يأتينا به، فنلبسه وهو ثوب فصل لغيرنا، فيجيء واسعا نضيع فيه، أو ضيقا يتمزق من دوننا. . إن الحب الذي تعقده يد الشهوة، ويعيش في جو مشبع بالرذيلة، ويولد في ليلة ليموت في أسبوع لا يمكن أن يكون أوثق ولا أقدس من الزواج الذي ينشئ إنساناً كاملاً من نصفي إنسان! وإذا جعلنا الحب أساس الحياة، لما عرف امرؤ اباه، ولما بقيت زوجة لزوجها؟ لأن القلوب تنقلب والمرأة التي تحبك اليوم قد تحب في غد غيرك، والقلب الذي يميل إليك قد يميل عنك، افنهدم الحياة يا سيدي من أجل خاطر هذه (المودة)،. . (مودة الحب)، ونقتل زوجاتنا الوطنيات الشريفات، أمهاتشعب المستقبل. من أجل خاطر هؤلاء (الارتستات) اللاتي يبعث بهن إلينا الغرب فيما يبعث به إلينا من سموم ومهلكات. . أليس خيرا لنا أن يقال انا رجعيون من أن نشهد بناتنا وأخواتنا عاريات على الشواطئ في الصيف، ونساءنا مهجورات باكيات في البيوت وفي الشتاء، وأبناءنا ناشئين بين الألم والرذيلة، والسفالة والشقاء؟
ألا إن الحب لذيذ ممتع، والمدنية ساحرة فاتنة، والتجديد ضروري واجب. . . ولكن يجب أولاً أن نحيا. . . . . وكان جميل قد وصل فانقطع هذا الحديث، وأخذوا في حديث آخر
دمشق
علي الطنطاوي ليسانسييه في الحقوق(35/17)
محجر الطور
مقدمة
تستعد وزارة الداخلية في مثل هذه الأيام من كل سنة أي في موسم الحج لاستقبال الحجاج مصريين وأجانب عند عودتهم من البلاد المقدسة في الحجاز بعد تأدية فريضة الحج فتوفد موظفين مؤقتين يبلغ عددهم كثرة وقلة تبعاً لعدد الحجاج ولمدة العمل في محجر الطور، وتستغني عنهم عند الانتهاء من الغرض الذي من أجله توفدهم إليه، وتنتدب كذلك موظفين ملكيين وعسكريين للغرض نفسه يعودون إلى مقر وظائفهم عند نهاية الموسم.
الموظفون
يحيا المحجر وينتعش مدة الموسم وبعد ذلك يكاد يكون ساكنا لقلة الحركة فيه ويحييه الموظفون ثم الحجاج فيصبح مملوءاً بالسكان عامراً بالحركة والتجارة.
ويرأس الموظفين جميعاً مدير المحجر وهو موظف كبير بوزارة الداخلية ينتقل إليه في موسم الحج، وكان إلى سنة 1931 سعادة الأمير الاي محمد بك المسيري، والموظفون أما تابعون للإدارة نفسها وإما تابعون لمصلحة الصحة، ويدير هؤلاء طبيب كبير هو طبيب أول المحجر. والموظفون أما منتدبون كموظفي وزارة الداخلية ولأطباء وكضباط الجيش والبوليس وجنودهم، وإما معينون تعيينا مؤقتا يستغني عن خدمتهم بعد انتهاء الحج، والمفروض في جميع الموظفين انهم لراحة الحجاج وخدمتهم والسهر على سلامتهم وصحتهم
باخرة الحجاج
تمكنت من فحص البواخر التي كانت تنقل الحجاج عامي 1929 و 1931 وخرجت بنتيجة ثابتة هي أن معظم هذه البواخر لا يعتني أصحابها براحة الحجاج بالدرجة الثالثة بل انهم يعاملون فهيا معاملة خالية من روح العدل، فهم مكدسون في عنابرها تكديسا، وقل ان يدخلها ضوء الشمس فتنبعث منها راحة كريهة تكاد لا تحتمل يلاقون صعوبة كبيرة في الحصول على الماء العذب ولا يوجد في الباخرة كلها - وقد تحمل في بعض الأحيان الفي حاج - سوى طبيب واحد يهمل أغلب الأوقات الغرض الذي من أجله انتدبوه له وإني(35/18)
كمصري مسلم أود أن يتلافى هذا النقص في بواخرنا الوطنية الجديدة
الاجرآت الأولية
إذا وصلت باخرة تحمل حجاجها إلى ميناء الطور يكون كل شيء معداً لاستقبالها ويقابل المدير ومساعدوه وكبير الأطباء ومساعدوه الباخرة وتفحص عموميا، حتى إذا لم يكن هناك ما يشتبه فيه من الأمراض المعدية سمح للحجاج بالنزول فينزلون ومعهم متاعهم، وتبقى الباخرة أن لم تكن عائدة إلى جدة ثلاثة أيام يقوم عمال الصحة خلالها بغسلها وتعقيمها، أما إذا وجد مريض أو أكثر فان رجال الإسعاف يحملونهم بعد أن يودعوا متاعهم وما لهم بيت المال إلى المستشفى، وغالبا يشفون إلا إذا كتب عليهم أن يتوفوا في هذا المكان.
المباخر
هي ثلاث مباخر، والمبخرة هي الصلة بني الاسكلة ونفس المحجر ولا يسمح لحاج ما أن تطأ قدمه أرض المحجر قبل أن يبخر وتعقم الأدوات التي معه والتي يرى رجال الصحة ضرورة تبخيرها، اللهم إلا في أحوال نادرة جداً يسمح فيها لبعض الحجاج من الطبقة الأولى إلا تجري له عملية التبخير ويأخذ الطبيب مسئولية ذلك على عاتقه
والحمامات التي يغتسل بها الحجاج في المباخر قسمان: أحدهما للرجال والآخر للنساء بطبيعة الحال، ويعطى لكل حاج رقماً يحمل مثله الكيس الذي به أدوات الحاج المراد تعقيمها حتى لا تختلط أدوات هذا بأدوات ذاك.
ويبدى المحجر اهتماماً خاصاً نحو ماء زمزم الذي يجلبه معه الحاج تبركا به له ولأهله الذين لم يسعدهم الحظ بالزيارة ويحمله في صفائح مقفلة أو في زجاجات أو أوان جلدية، وفي كثير من الأحيان يخبئه الحاج خوفاً من أن يعثر عليه رجال المحجر لأنهم يببدونه في الحال إن كان في زجاجات أو في جلد لتعذر تعقيمه عندئذ ويعقمون الصفائح
وكنت أدهش كثيراً عند ما أرى الحجاج المصريين يتمسكون بحيازة هذا الماء، وكنت أفهمهم انه كان سبب عدوى الكوليرا في مصر عاما ما، وقد زادت دهشتي عندما وجدت الحجاج الأجانب أشد تمسكا به يكادون يبذلون كل ما معهم من قوة في سبيل حيازته حتى لقد رأيت رجلا يبكي بكاء الثكلى عندما كسرت له زجاجات قذرة كان يحمل فيها هذا الماء،(35/19)
وكم كان فرحه شديداً عندما أحضرت إليه زجاجات بدلها بها ماء من الصنبور على أنه ماء زمزم
الحزاء
الحزاء مكان يقضي فيه الحجاج أيام الحجر الصحي، وهي ثلاثة أيام في العادة، إلا إذا اشتبه في نظافة الحج، فان الأيام تزيد زيادة يقررها مجلس الإدارة. والحزاء يسع عدداً كبيراً، وهو مقسم إلى عنابر فسيحة ينزل كل عنبر في الغالب حجاج قرى متقاربة أو مراكز متجاورة، وبالحزاء غرفتان أو أكثر لحجاج الدرجة الأولى، يؤجر السرير فيها مدة الحجر بجنيه واحد، ويشرف على كل حزاء موظف من الداخلية وآخر من الصحة، الأول يراقب الحجاج ويراقف التاجر الذي يبيعهم الأشياء ويطعمهم، فيمنعه من الغش ومن بخس الميزان، ثم هو يسمع شكايتهم ويعمل على إرضائهم. والموظف الثاني يراقف نظافة الحزاء ويأخذ عينات من براز كل حاج لفحصها بالمعمل، ويصرف الأدوية ويبلغ عن المريض.
ولكل حزاء بوابة يحرسها جندي شاكى السلاح لا يسمح لأحد بالدخول إليه أو الخروج منه إلا للموظفين الذين يقومون بأعمال تستوجب دخوله أو الخروج منه، على أن يكون بيدهم تصريح خاص بذلك. وبالجملة فيجمع الحزاء كل أنواع الراحة التي يتطلبها الحاج حتى لينتقل إليه كل يوم في ساعة خاصة عاملا البريد والبرق لتوزيع الرسائل وإرسالها.
والحزاءات عشرة من خلفها عشرة أخرى هي بمثابة حزاءات احتياطية أقل تنظيماً من الأولى ينزل بها الحجاج إذا كثر عددهم فامتلأت بهم دون أن تسعهم جميعاً.
بيت المال والمستشفى
بيت المال اسم يطلق على مكتب أعد لحفظ أمتعة وأموال من توفى من الحجاج في الأحوال النادرة ومن يدخل منهم المستشفى بسبب المرض، فإذا كان المتاع لمتوفى قيد في سجل خاص وأعطى رقماً ليرد إلى ورثته بمعرفة القانون، ويحفظ متاع المرضى إلى أن يشفوا ويخرجوا فيعاد إليهم.
وتقع المستشفيات في طرف المحجر بعيدة عن الحركة والضوضاء، ولا يسمح إلا لسيارات(35/20)
الإسعاف التي تحمل المرضى باجتياز خط المستشفيات حتى لا يقلق المرضى، ويبدي المحجر عناية بالغة بزائري المستشفيات يستحق عليها الشكر والجزيل، وهي أما عادية للمرضى العاديين، وأما خاصة بالأمراض المعدية الخطيرة وهذه لا يسمح بدخولها لغير المرضى إلا للطبيب الخاص ولمساعديه وهي بعيدة عن المستشفيات الأخرى تكاد تكون منقطعة عن كل ما عداها.
وفي حيز المستشفيات يقع المعمل وهو معد بأحدث أنواع الفحص الميكروسكوبي والبكتريولوجي وبأفران الزرع وعمل الأمصال وغير ذلك مما يحتاج إليه الحال كثيراً في هذا المكان، وفي الحقيقة إن في هذا المعمل وفي هذه المستشفيات لرحمة كبيرة للحجاج وطمأنينة وسلام لمصر والعالم الإسلامي لأنها تفحص الحجاج وتطمئن على سلامتهم وتعزل المصابين منهم إذا وجدوا وتكافح أمراضهم وتعمل على عدم نشر العدوى، ويدل على ذلك الاهتمام ان المعمل يفحص عينات برازية لكل حاج متى استقر في حزائه وقد تتكرر عملية الفحص مرتين أو أكثر للتأكد من نظافة الحج، ولا يقتصر غرض المستشفى على الحجاج - ولو أنه أنشئ من أجلهم. - ولكنه يتعداه أيضاً إلى من يمرض من الموظفين والجند والخدم.
توفير أسباب الراحة
الحاج وإن اشتد شوقه إلى أهله وبلده وعمله وكان يحلم بالطبل والزمر اللذين ينتظرانه في محطته أو في حيه، ويتخيل الوفود التي تأتي إليه متبركة به ويتصور أحباءه وهم يتقبلون منه هداياه من مسبحة وعقال وخاتم وملفعة وغير ذلك من صنع الحجاز ويود لو تحمله طائرة إلى مقره بعد المتاعب التي تحملها في الصحراوات والبحر والانتقال والسفر - يكون على رغم هذا كله مبتهجا في أيام الحجر الصحي، لان أسباب الراحة متوفرة له فهو مطمئن على نفسه من الوجهة الصحية، لان المحجر كفلها له، ومتاعه وماله في مأمن حريز، ومأكله وشرابه نظيفان يعتني رجال الإدارة والصحة بهما عناية فائقة. . متاعه يحمل إليه من غير أجر، ولو كان فقيرا لا يملك معه مالا فان ببيت المال يتكلف بإطعامه حتى يعود إلى وطنه، وكم من شكاوى تافهة يبلغها الحاج إلى المدير - وكان في السنتين اللتين كنت بالمحجر فيهما صاحب العزة المسيري بك - فكان يهتم عزته بها اهتماماً كبيراً(35/21)
إرضاء للحاج وإراحة له
وفي المحجر آلة للإضاءة بالكهرباء وأخرى لتكرير المياه وعمل الثلج، وبه (مطعم) يديره متعهد يوقع على اتفاق بينه وبين المسئولين على تحديد الأثمان وجودة الأصناف وعدم استعمال الغش.
المحجر
محجر الطور لابد أن يكون من أشهر محاجر العالم، وموقعه صحي لأنه في وسط مساحة هائلة من الفضاء يهب عليه هواء الصحراء الجاف ونسيم البحر العليل، وله بوابتان رئيسيتان: إحداهما تصله ببلدة الطور والأخرى بتلال طور سيناء.
وغير ما ذكرت من أقسام المحجر أعدت فيه أبنية مريحة لسكنى الموظفين، ويصرف أمين المخزن لكل موظف الأدوات التي يحتاج إليها مدة العمل على أن تكون عارة يردها عند نهاية المأمورية.
وقد أعد لعمل المحجر زورقان بخاريان، وزوارق أخرى عادية وأكثر من سيارتين للركوب وعربات (اللوري) للنقل وسيارات الإسعاف.
وينتدب في كل موسم فصيلة من جنود الجيش على رأسهم ضابط عظيم برتبة البكباشي يحرسون المحجر بالمناوبة ويسهلون كثيراً من أعماله، هذا عدا ضابطين من البوليس يقومان بتحرير المحاضر وتحقيق الشكاوى.
ويقوم متعهد خاص بتوريد عدد من الخدم يكون هو مسؤولا عن سلوكهم لحمل أمتعة الحجاج ولنظافة أقسام المحجر ولخدمة الموظفين:
والأطباء يكفون العمل وهم بنسبة طبيب واحد لكل حزائين غير أطباء المستشفيات وغير طبيبة للسيدات.
والموظفون ينقسمون من حيث العمل أقساماً: فمنهم من يفرز أجوزة السفر وهي (الباسبورتات) ويوزعها على أصحابها بعد التوقيع اللازم عليها، ومنهم من يراقب أمتعة الحجاج حتى لا تختلط أو تفقد، ومنهم من يتولى خدمتهم مدة الحج في الحزاء وغير ذلك من الأعمال الكثيرة اللازمة.
عيون موسى(35/22)
إذا خلا المحجر من الحجاج - وقد يخلو منهم مرة أو مرتين خلال الموسم - تفتح بواباته ويتصل من به ببلدة الطور حتى يحين ميعاد إغلاقه مرة أخرى عند ورود حجاج.
والطريق إلى عيون موسى طويل تتخلله كثبان رميلة ونباتات صحراوية تنتهي ببستان عظيم من أشجار النخيل والكروم يحيط به سور باللبن. وعيون موسى يحيط بها جدران وسقف يقولون ان الخديو إسماعيل أمر بإقامتها، وتصب العين ماءها الفاتر الشفاف الكبريتي في حوض مساحته متران ونصف متر مربعة، وهي كدير الطور من الأماكن التي يزورها بعض من السائحين والمسافرين.
عبد الرحمن فهمي
ليسانسييه في الآداب(35/23)
فلسفة الكون عند إخوان الصفا
للأستاذ أديب عباسي
خلق الكون - خلق الإنسان - غاية الوجود - معنى البعث - العقاب الذاتي
في رأي الإخوان أن الكون وما فيه من أجرام وأفلاك سماوية وأحياء وكائنات أرضية مشتق جميعاً ومنبثق من الله، ولكنه انبثاق متسلسل غير مباشر، وأول ما انبثق منه هو العقل الكلي أو القوة الإلهية
المؤيدة للنفس الكلية، ثم النفس الكلية السارية في جميع الأجرام السماوية والأحياء الأرضية. وهذه النفس الكلية هي بطبيعة الأمر أحط من العقل الكلي، لأنها منبعثة منه، ولأن وجودها متوقف عليه. (ولهذه النفس الكلية قوتان ساريتان في جميع الأجسام: إحدى قوتيها علاَّمة، الأخرى فعَّالة. فهي بقوتها الفعالة تتم الأجسام وتكملها بما تنقش فيها من الصور والأشكال، وبالقوة العلامة تكمل ذاتها (أي النفس الكلية) بما يظهر من فضائلها من حد القوة الكامنة إلى حد الفعل).
ويرى إخوان الصفا أن ظهور الإنسان نتيجة لرغبة النفس الكلية في الحصول على المعرفة التامة التي هي من صفات العقل الكلي. ولهذا فان هذه النفس الكلية تنزل إلى الأرض وتنتشر على سطحها بهيئة أنفس جزئية. إلا أن هذه الأنفس لا يمكنها أن ترقى إلى مستوى العقل بدون معونته وإرشاده. ومن أجل هذا ينزل العقل إلى الأرض، فيساعد النفوس إذ يحل فيها ويظهر بهيئة العقول الإنسانية. بيد أنه لما كانت النفوس دائمة التغير كثيرة التحول وكان العقل ثابتاً لا يعتريه النقص أو يعتوره التغير أصبح العقل يحل في هذه الأنفس الجزئية حلولا متعاقبا. وهو عند هذا الحد من الحلول يدعى العقل الناطق. وهي الذي يرسل الأنبياء ويبعث الرسل ليؤدوا رسائله إلى العالم أما النفس الكلية فهي إذ تحل في الأجسام بشكل أنفس جزئية تأخذ على عاتقها تفسير ما عمى على الناس فهمه وغاب عنهم علمه من رسائل هؤلاء الأنبياء والرسل.
فإذا أحسنت هذه الأنفس الجزئية الاسترشاد بنور العقل وأفسح لها البقاء زمناً كافياً تنال فيه حظا وافياً من فنون الحكمة والتهذيب تضحي أهلا للاتحاد بالنفس الكلية. وإذا حمُ القضاء انطلقت هذه الأنفس من أجسادها (التي هي بمنزلة الرحم للجنين) وعند ذلك ترتقى إلى(35/24)
الملأ الأعلى لتتحد بالنفس الكلية.
هذا هو معنى المعاد في نظر إخوان الصفا: وهو الاتحاد بالنفس الكلية ثم بالله في اليوم الأخير، ومن هنا أصبح مثل الحياة الأعلى للإخوان (التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسانية) على أن نظر إخوان الصفا إلى الحياة هذا النظر - نظر من لا يرى فيها إلا أنها سبيل أو جسر يمر عليه الناس إلى الحياة الأخرى - لم يحملهم على احتقارها أو التقليل من شانها والزراية عليها (لان الحياة الدنيوية سبب للموت. والإنسان ما لم يدخل في هذا العالم لا يمكنه أن يموت، فإذا وجد الإنسان تكون حياته سبباً لموته، وموته سبباً لحياته الباقية أبد الآبدين) بل هم يرون أنه كلما مد في أجل المرء ازداد حكمة ومعرفة، وبالتالي دنوا من الله. ومن هنا لم يتشدد إخوان الصفا ولم يغالوا في الأنحاء على الجسم الإنساني والانتقاص من أسباب متعته مغايرين في هذا لفيفا كبيراً من المذاهب الشرقية التي جعلت دأبها حرمان الجسم الإنساني من كل لذة جمسانية أو متعتة حسية.
والصورة التي خلفها لنا إخوان الصفا عن جهنم هي صورة هينة لا تبعث الرعب في النفوس ولا ترعد لها الفرائص، فجهنم الإخوان هي هذا العذاب النفسي الذي يسلط على النفوس لدن يحال بينها وبين ما تهوى وتحب. وذلك أن أنفس الأشرار (إذا فارقت أجسادها بقيت مسلوبة آلات الحس الخمس التي كانت تتناول بها الملاذ الجسمانية وصارت بعد ذلك ممنوعة عنها بعد ما اعتادتها بطول التدريب وعند ذلك يكون مثلها مثل من سملت عيناه وصمت أذناه وسد منخراه وأخرس لسانه وشلت يداه واشتد شوقه إلى لذاته، وهكذا يكون حكم نفوس الكفار إذا فارقت أجسادها وسلبت منها آلات الحس وحيل بينها وبين شهواتها. . وتكون هائمة في الجو دون فلك القمر (المسافة بين فلك القمر ومركز الأرض هي عندهم منطقة جهنم) وتطرح بها أمواج الطبيعة في بحر الهيولى إلى كل فج عميق وهي مشتعلة فيها بنيران شهواتها، وتكون معذبة بذاتها من وزر سيآتها وسوء عاداتها.
هذا مجمل رأي الإخوان في مسائل الخلق وغاية الوجود والثواب والعقاب وهو رأي نحوا فيها منحى بعض المذاهب الفلسفية القديمة كالأفلاطونية الحديثة ومذهب وحدة الوجود وما إليها مما تأثر به فلاسفة الإسلام وظهر واضحا جليا في كثير مما كتبوا ودونوا.
شرق الأردن(35/25)
أديب عباسي(35/26)
استدراك
في خاتمة حياة حجاج الخضري
تساءلت في خاتمة مقالي السالف عن (حجاج الخضري) عما آل إليه أمر هذا البطل المصري أقتل انتقاماً من كبريائه، ام هاجر إلى بلد غير مصر؟ وقد تفضل العلامة المفضل الاستاذ شفيق غربال فأرسل إليَّ ما جاء في تاريخ الجبرتي خاصا بخاتمة حياة ذلك الرجل في حوادث رمضان سنة 1232 من الهجرة.
فقال الجبرتي: (في ليلة الخميس 17 منه (أي رمضان) طلب المحتسب حجاج الخضري الشهير بنواحي الرميلة فأخذه إلى الجمالية وشنقه على السبيل المجاور لحارة المبيضة، وذلك في سادس ساعة من الليل وقت السحور وتركوه معلقا لمثلها من الليلة، ثم أذن بدفنه فأخذه أهله ودفنوه. وحجاج هو الذي تقدم ذكره غير مرة (وهنا ذكر بعض حوادثه) ثم حضر إلى مصر بأمان ولم يزل على حالته في هدوء وسكون ولم يؤخذ في ذلك بجرم فعله يوجب شنقه بل قتل مظلوما لحقد سابق وزجرا لغيره)
وقد بادرت بإرسال هذا التحقيق شاكراً للأستاذ غربال بحثه وفضله معيداً ترحمى على ذلك البطل المصري الشهيد؟
محمد فريد أبو حديد(35/27)
حوار الفلاسفة
للأستاذ زكي نجيب محمود
ومن أحق من الفلاسفة بالبعث العاجل والنشور السريع؟ وهل تظن أن تلك القبور الضيقة المقفرة تستطيع أن تضم في جوفها هذى العوالم الفسيحة العامرة حينا طويلا من الدهر؟ أفتظن أن تلك الأجداث الشرهة التي لا تنفك فاغرة الأفواه تلتهم الفريسة تلو الفريسة بقادرة على سحق هذي العقول الجبارة، وأثارتها نقعا تسفيه الريح مع الهباء؟ أم كنت تحسب أنهم بشر كالذي عهدت من بشر؟ كلا! فاولئك الفلاسفة جبابرة عتاة، لا تكاد تتلقاهم يد الموت حتى تسلهم إلى حياة الخلود والبقاء، وعندئذ يلتئم الصدع الذي ضربه الدهر بينهم، فتأتلف منهم القلوب وتمتزج النفوس، كأنما دفعهم الله إلى الوجود كتلة واحدة منذ الأزل، فنثرتها يد الدنيا وفرقت أجزاءها على تعاقب الدهور، ثم عادت اليوم سيرتها الأولى، وحدة متحابة مآخية.
ولست بهذا الحديث أفترى منكراً من القول: إنما أقص عليك حديثاً تحدر من الشفاه واهتزت به الآذان فأسوقه إليك كما وقع:
هناك في الملأ الأعلى، انعقدت طائفة من الفلاسفة بالأمس القريب، ولم يكد جمعهم يستوي فوق الأرائك، حتى نهض من الحضور أقدمهم عهدا بدار الخلود - سقراط - وأخذ يشير بيمناه إلى الجلوس واحداً فواحدا، في تؤدة هادئة رزينة، فيعرفهم بأسمائهم التي أطلقت عليهم في دار الفناء، ولم يكن ذلك تعريفاً لهم بمجهول فهم عصبة واحدة منذ الأزل، ولكن خشية أن تكون شواغل الأرض قد محت سالف الذكرى:
هذا سبينوزا صاحب وحدة الوجود، وهذا ليبنتز الذي كان للناس بشيرا بما في الكون من خير، وهذا فولتير عظيم الساخرين، وهذا روسو نصير الطبيعة. وهذا شوبنهور صاحب إرادة الحياة. وذلك نيتشه صاحب أرادة القوة. . . فتباسم الفلاسفة، وأجالوا الأنظار لكي تتعرف الوجوه. أما ليبنز، فقد ثبت بصره في فولتير، وأخذ يحدق به في شيء من القلق، ما لبثا أن التقت منهما النظرات، فأرسلها فولتير ضحكة رقيقة وقال:
- فولتير - أراك يا عزيزي قلقا نابيا، لا بطمئن بك المكان ولا تطمئن إليه؟
ليبنتز - كلا! بل أنا موفق مجدود، إذ ضمني وإياك مجلس واحد، فما زلت أتمنى ذلك(35/28)
وأرجوه، مذ جاءني نبأك، وعلمت عنك تلك الطعنات الدامية التي صوبتها نحو رأيي في العالم وخيره
فولتير - أوه! لقد أنسيت كل شيء. . وكأنما أذكر الآن حلما مبهما يجول في حنايا الرأس. . . ها هوذا ينجلي ويتضح. . . لقد ذكرت! فأنت الذي زعمت يوما أن تلك الحياة الفانية مفعمة بالخير مترعة بالآلاء والنعم، وأنه لم يكن في الإمكان أبدع مما كان!. .
هذا كثير - لعمر الحق - أن يقال في عالم سداه الشر ولحمته البؤس والشقاء!
ليبنتز - أليس الله، وهو رب الكون وخالقه، حكيما عميق الحكمة، خيرا واسع الخير؟ وصور لنفسك هذه الحكمة المطلقة فقد تآزرت مع ذلك الخير الأسمى في خلق العالم ثم حدثني كيف يكون. أليس من المحقق أن يجيء العوالم؟ هذا حق لا ريب فيه، لأن الله تعالى يصدر عن منطق مستقيم يتفق مع كماله ولابد لذلك المنطق الكامل إن ينتج عالما أدنى ما يكون إلى الكمال لأنه إذا خلق عالما دون المستطاع، كان في عمله ما يمكن تهذيبه واصلاحه، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
فولتير - أما أن في العالم شرا فحقيقة فوق الجدل، وإذن فاختر لنفسك واحدا من اثنين لا ثالث لهما. إما أن يكون الله قادراً على ان يرفع عن العالم السوء والشر ولكنه لا يريد، وإما انه يريد ولا يستطيع، وكلا الفرضين شر من أخيه! لك أن تقول عن العالم ما تشاء؛ أم أنا فقد كنت في تلك الحياة الدنيا شقيا بائسا، قرحت كبدي الكوارث، وكلم فؤادي العنا والألم، ومع ذلك فقد كان لزاما عليَّ ان أحيا!! وأحسب أنني لم انفرد بذلك العبء الثقيل، فلست أشك في أن الأحياء جميعاً قد عانت من الشر ما عانيت. . تذكر يا عزيزي ليبنتز ذلك العقاب الكاسر، وهو ينقض على فريسته الوديعة المطمئنة، فينهشها بمنقاره المرهف العاتي، وعبثا ترتعش منها الفرائص وترتجف الأعضاء، وعبثا تصيح، فصيحات الغوث ذاهبة في الفضاء والعقاب ماض لا يحول نابا ولا ينزع مخلبا، وعندئذ هبط على العقاب نسر جارح مزق منه الأشلاء ونثر الدماء، وأخذ يلتهم طعامه هنيئا ولولا أن صائدا من الأنس قد كمن له في الغاب، وما هي إلا لحظة حتى أرسل إليه قوسا كانت تحمل حتفه سهمها، فلما ان جاء ذلك الإنسان الظافر إلى حومة الوغى، ودارت رحى الحرب، داهمه الردى، فانقلب صريعاً يسبح في لجة من الدماء البشرية فيرطم جسدا هنا وشلوا هناك!!(35/29)
وتدور عجلة الدهر فإذا الإنسان الشامخ بأنفه قد بات طعاما تتخطفه العقبان والنسور!! تلك هي أسطورة الحياة يا عزيزي.
حلقات متلاحقات من عذاب مر أليم، تنتهي بالحياة إلى الموت والفناء. . مأساة ترتعد من هولها الفرائص، وتطير منها النفوس شعاعاً، أفتزعم بعد هذا أن شقاء الفرد سبيل إلى سعادة المجموع وتصيح بصوتك المرتعش المتهدج ان ليس في الأماكن أبدع مما كان؟ لعمري انك لفي ضلال بعيد، إلا أن الكون بأسره لينهض الآن لسانا ناطقا بإنكار ما تقول، بل لكأني ألمح قلبك الذي تحمله بين جنبيك، ينبض في ثورة وجموح ليرد ما يفيض به رأسك من خداع. أليس من سخرية الدهر وعبث القدر ان تكون الحياة لغزا مغلقا من دون البشر، وأن يكون الإنسان وهو صاحب الدار دخلا لا يعلم من أمرها شيئا، فلا يدري أني جاءت به الحياة، ولا أين يذهب به الموت؟ بارعاك الله! لله ما أمرك حياة تلك التي كتب علينا أن نحياها حينا من الدهر، وعجيب الأمر أن ترى من الأقوام الغافلين من تنطلق ألسنتهم بحديث السعادة والخير؟!.
عفواً أصدقائي، فإنما تحدثكم الآن ما أثخنته الحياة في نفسي من جراح دامية لم تزل عندي عميقة الأثر قوية الذكرى.
سبينوزا - أي عزيزي فولتير! هون على نفسك الامر، فليس الفرد إلا جزءاً من كل عظيم، وانك لتبتغي شططا إذا أردت أن يصغي الوجود بأسره إلى صالح الأفراد، وهي متنازعة متنافرة. ان في ذلك لشراً وفوضى. فلست أرى في الكون إلا قانونا خالداً وصوراً فانية، وحسبه دقة وكمالا أن يسير ذلك القانون في استقامة لا التواء فيها ولا شذوذ، أما هذه الصور المادية الزائلة التي تروح وتغدو، فلا يضير الكون في كثير أو قليل أن تشعر بألم أو سعادة! وهل تستطيع أن تحدثني عن الشر والخير ما هما؟ انهما لفظان قد اصطلح عليهما البشر، وليس لهما في عالم الحقيقة وجود. . .
خذ قلماً وقرطاسا، وارسم طائفة من المثلثات المختلفة نوعا وحجما ثم امح منها ما تريد، وارسم سواها أو لا ترسم شيئاً، والبث هكذا ساعة من زمانك، غير في أوضاعها وبدل في أشكالها ليكون لك في النهاية زخرف جميل. . . هب تلك المثلثات كائنات شاعره يتعاورها السرور والألم، وأنك علمت أن واحداً منها غاضب لأنه جاء من الزخرف في مكان(35/30)
منحرف، وان ثانياً بائس مسكين لأنه لا يتمتع بأضلاعه الثلاثةتامة كاملة، وثالثاً يعاني مرارا الألم لان الممحاة قد أتت عليه فأزالته من الوجود. . . فماذا أنت قائل إزاء تلك الأهواء المتنازعة؟ انك لن تفهم لها معنى، لأنك تنظر بمنظار اخر أعم وأشمل.
نيتشه - أؤيد سبينوزا فيما يقول، ولست أفهم هذا التفريق بين الخير والشر، فكلاهما خير للبشر، ولو لم يكن الشر خيراً لما صمد في معترك التنازع على البقاء، بل محى من الوجود منذ أمد بعيد.
فولتير (يضحك) - هل أتاكم حديث الواقعة التي نزلت بلشبونة، إذ زلزلت الأرض زلزالها فأردت ثلاثين ألفا من رجالها؟ ويأبى القدر إلا أن يمعن في السخرية، فيجمع عدة من هذه الألوف بين جدران بيت من بيوت الله، فينقض على البؤساء ذلك البناء المقدس وهم يؤدون الصلاة!! ثم يعلن القساوسة في جرأة وقحة بأن الكارثة إنما جاءت جزاء وفاقا لما قدمت أيديهم من ذنبوب!!!
روسو - وهل تريد ان تلقى التبعة على غير الإنسان؟ فلو هجر المنازل وطلق المدن إلى حيث الطبيعة الطلقة الطاهرة، لما تهدمت فوق رؤوسهم جدران ولا ركمت سقوف!
فولتير - هل جاءك يا عزيزي روسو نبأ الفتى كانديد؟
ذلك الصبي الألماني الذي لبث يأخذ العلم عن أستاذ فيلسوف؟ لقد أبى الدهر عليهما حياة هادئة، فأرسل عليهما المصاب في اثر المصاب حتى اضطر إلى الرحيل إلى لشبونة، وكأنما أراد الدهر إلا يغمض عنهما جفنا، فكانت تلك المأساة المروعة التي حصدت الأحياء حصداً بالألوف؛ ولكن الفتى وأستاذه قد أفلتا من يد الموت، والتقيا في فزع ورعب، وبيناهما في سمر الحديث، يرويان ما صادفا من هول، إذا بامرأة عجوز تجيء إليهما من أقصى المدينة، فنقص عليهما ما لاقته من هول تشيب له ناصية الطفل الرضيع، (ولقد حدثتني النفس مائة مرة بان ألقى عبء الحياة عن كاهلي، ولكن على الرغم من ذلك قد أحببت الحياة!!. . .)
تبت يدا الإنسان، إنه لفي ضلال مبين، أترون كيف ينوء تحت أثقال الحياة، ثم يقبل راضيا أن يظل ذلك العبء فوق كاهله، مع انه يستطيع أن يلثقه إلى الأرض بعزمة واحدة؟! ولأعد بكم إلى حديث الفتى كانديدن فقد أرهقته محاكم التفتيش، ففر هاربا إلى(35/31)
بارجواي بأفريقيا، ولم يكد يجوس خلال أرضها حتى أبصر - ويا لهول ما أبصر! - أبصر رجلا يضم أعواد القصب مرغما، وهو يئن من فداحة الألم، كان يعمل مبتور الساق والذراع، ولابد أن يعمل في جد وإلا فضربات السياط - سياط الشركة الأوربية التي تستغله وتستذله - مسلطة فوق ظهره، ولا يدثره غير أسمال قذرة بالية. . . وهكذا كان كانديد، كلما قلب صفحة من كتاب الدهر ألفاها مترعة بالعناء والأذى، وما أحسب الجدران والسقوف قد اقترفت من ذلك العدوان شيئا.
ليبنتز - ومن ذا الذي يود أن يعيش في علم لا ألم فيه ولا عناء؟ أليست المرارة القليلة ألذ مذاقاً وأشهى طعاما من السكر الحلو؟ وهل الشر إلا سبيل للخير؟ فلعلك لو علمت مبعث الشر لخففت من هذه الغلواء، فقد خلق الإنسان مغلولا بطائفة من أصفاد المادة، ولكنه فطر على أن يجاهد في تحطيمها ما استطاع ليصل إلى مرتبة الكمال، ومبعث الشر جميعا هو ذلك الجهاد العنيف الشاق الذي يبذله الإنسان في هذه السبيل، وإذن فليس الشر مقصوداً لذاته، وإنما هو سلم للصعود إلى الكمال.
شوبنهور - لست أرى إلا أن الإنسانية مدفوعة أمام إرادة الحياة دفع الخراف، ولقد زودتها بجعبة من الرغبات تلهب ظهرها وتستحثها على السعي كلما أبطأ بها المسير، وفي تلك الرغبات سم الإنسان الزعاف، لأنه كلما حقق واحدة قامت في سبيله عشرات، والحياة لا تمنحنا أمنية إلا كما يلقى الجواد بإحسانه إلى السائل المحروم، فهو يضر كثيرا ولا ينفع قتيلا، لأنه يطيل في أجل بؤسه يوما آخر. . سر أنى شئت تجد بين الأحياء تنازعا وتنافرا، حرب ضروس وقتال طاحن، وفيم الحرب والقتال؟ لكي يقيموا حياة كلها تعب وشقاء أمدا قصيرا من الدهر. فلو أننا أدركنا رجحان العناء على الجزاء، لعلمنا كم نبذل الثمن باهظا لقاء أنفاس معدودات! الحياة هي الشقاء والشقاء هو الحياة، وجدير بك - أي عزيزي ليبنتز - أن تنقح من عبارتك بحيث تكون: (ليس في الإمكان أسوأ مما كان) لقد كان خيرا لنا ألف مرة إلا تكون! ومن ذا يحدثني عن مهزلة الحياة: فيم بقاؤها وما غرضها؟ ولشد ما يدهشني على الرغم من ذلك أن أرى الكائنات بأسرها تتشبث بالحياة، وتبذل في حراستها كل ما تستطيع، كأنما هي ذخر ذو غناء! إلا من يحدث الناس عني أن يكتموا الأنفاس دفعة واحدة لكي يردوا للحياة كيدا بكيد؟(35/32)
تقدمت من سقراط في بصر خافض وأدب خاشع، وسألته أن أطلع قراء الرسالة على حديثهم ذلك، فخشي أن ينسب القراء إلى كاتبه بعضه أو كله، فطمأنته بأن القراء في مصر على كثير من الذكاء
زكي نجيب محمود(35/33)
فرعون حزين!
للأديب حسين شوقي
كنا نظن أن الآلهة ينعمون بالسعادة الكاملة، ولكننا مخطئون لأن فرعون حزين برغم أصله السماوي. . أجل فرعون حزين، لهذا خرج إلى السطح الكبير يستنشق نسيم الليل العليل ويلقي نظرة على السماء التي أخذت تتلألأ أمامه، وقد بدت نجومها تشاهد الملك العظيم الذي ملأ صيته أنحاء العالم ببأسه وجبروته. . ثم أخذت النجوم تتساءل: لماذا كان فرعون حزيناً؟ لماذا؟ أليس قادراً على كل شيء، ألم يشد لنفسه بالأمس رمسا فخما متينا يضمن له الحياة الثانية التي سيكون فيها كذلك عاهلا كبيرا لقرابته الوثيقة بالآلهة آمون وهوروس وشركائهما؟ لماذا إذن كان الملك حزيناً؟ قالت إحداهن متفلسفة: لأنه لم يعرف الحب؛ فتساءلت أخرى: وهل الحب على هذا القدر من الخطر؟ فأجابت الأولى: أجل! هو سر الوجود لذلك العالم الأزلي وتعزية أهله. . ولكنها لم تتم كلامها لأن نجما آخر قاطعها قائلا: وما صورة الحب! وما مادته قالت: ليست له صورة، وما هو بمادة. . لحسن حظ البشر، لأنه لو كان مادة لاكتنزه الناس كالذهب من زمان بعيد في خزائن بنك فرنسا أو بنك الاحتياطي الأمريكي. .
أجل! فرعون كان حزيناً لأنه لم يعرف الحب! لقد صدقت تلك النجمة في زعمها، لأن علاقته بمن حوله من الناس لم تكن إلا علاقة رسمية، بل كانت علاقة السيد بالخادم، أستغفر الله! بل علاقة الإله بالعبد! ما زوجه الملكة فهو يجلها ويقدرها ولكن لا يحبها لأن اقترانه بها فرض عليه فرضاً منذ الحادثة للدم الإلهي الذي يجري في عروقها. هي أيضاً. .
كم يود فرعون أن يجب! ولكن يحب من؟ انه يستعرض في مخيلته نساء القصر. . أجل! لقد وجد ضالته! سيحب تلك الجارية الآشورية الحسناء التي أرسلها إليه ملك أشور في جوار أخر - على سبيل الهدية تملقا لفرعون وطمعاً في كسب صداقته. . هي فتاة حسناء يذكر أنها لفتت أنظاره مرة وهو يجتاز إحدى ساحات القصر. . ولم يكد فرعون يدعوها حتى كانت الجارية بين يديه ساجدة ترتعد خوفا أمام العاهل الأكبر! ثم طلب منها فرعون أن تنهض من الأرض ففعلت وهي لا تعرف إن كانت في حلم أو في يقظة. . ثم تشجعت(35/34)
ورفعت نظرها إلى ذلك الوجه العلوي الذي قلما وقعت عليه عين البشر انه وجه جميل ناعم (غير ما كانت تظنه). خلعت عليه سيماء النبل الموروث قرون طويلة من العز والسلطان. . ثم اقترب منها فرعون فوضع يده على شعرها الفاحم الجميل وحاول ان يبتسم، ولكن تقاطيع وجهه التي فقدت مرونتها من زمان طويل، منذ الطفولة خانته إذ كان وجهه قناعا أكثر منه وجهاً!
ثم حاول أن يقول لها كلمات عذبة رقيقة مغرية. . مما نسميه نحن معشر البشر غزلا، ولكنه لم يستطع، فقد عى لسانه! فما كان من فرعون أمام ذلك إلا إن أومأ إلى الجارية في بأس وقنوط لتنصرف موليا عنها وجهه. . وا أسفاه! ان فرعون لا يستطيع ان يحب، فالحب للبشر. . أما هو فهو اله عابس قلبه من الصوان الأصم
في محكمة التاريخ(35/35)
قضية ابن العلقمي الوزير
للسيد مصطفى جواد
ذكر بعض أصحاب مؤيد الدين محمد بن أحمد بن العلقمي الأسدي الوزير أنه سمعه يوما ينشد من شعره:
كيف يرجى الصلاح من أمر قوم ... ضيعوا الحزم فيه أي ضياع؟
فمطاع الكلام غير سديد ... وسديد المقال غير مطاع
وقال شمس الدين محمد بن عبد الله الكوفي الواعظ في دولة المستعصم بالله:
يا عصبة الإسلام نوحوا واندبوا ... أسفاً على ما حل بالمستعصم
دست الوزارة كان قبل زمانه ... لابن الفرات فصار لابن العلقمي
وفي سنة (655) هـ (رحل السلطان هولاكو قان) من همذان نحو العراق، فلما اتصل ذلك بالخليفة المستعصم شاور وزيره مؤيد الدين ابن العلقمي في ما ينبغي فعله فأشار عليه ببذل الأموال وحملها إليه مع التحف الكثيرة والأشياء الغريبة والاعلاق النفيسة، فلما شرع في ذلك ثناه الدويدار الصغير وغيره، وقالوا له (ان غرض الوزير تدبير حاله مع السلطان هولاكو) فوافقهم واقتصر على انفاذ شيء يسير مع شرف الدين عبد الله بن الجحوزي فلما وصل إليه أنكر ذلك وأرسل إلى الخليفة يطلب إما الدويدار وإما سليمان شاه الايواني، وإما فلك الدين محمد بن الدويدار الكبير الدين الطبرسي فلم يفعل، وأرسل شرف الدين بن الجوزي أيضاً يعتذر عن ذلك، فسار السلطان حينئذ نحو بغداد)
قال عبد الرزاق بن الفوطي بعد سقوط بغداد في أيدي التتر (ثم دخل الخليفة المستعصم بغداد يوم الأحد رابع صفر ومعه جماعة من أمراء المغول وخواجه نصير الدين الطوسي وأخرج إليهم من الأموال والجواهر والحلي والزركش والثياب وأواني الذهب والفضة والاعلاق النفيسة جملة عظيمة، ثم عاد مع الجماعة إلى ظاهر سور بغداد بقية ذلك اليوم، فأمر السلطان هولاكو بقتله فقتل يوم الأربعاء رابع عشر صفر ولم يهرق دمه بل جعل في غرارة ورفس حتى مات ودفن وعفى أثر قبره
وسبب هذه القتلة أن بعض الناس المسموعي الكلمة الاقلاء العلم قال لهولاكو: لو أصاب الأرض قطرة من دم الخليفة لانقلبت الدنيا بأهلها، فجارى هولاكو هذه العقيدة وان لم يوقن(35/36)
بها لوضوح بطلانها
ووضع المغول السيف في أهل بغداد يوم الاثنين خامس صفر سنة 656، وما زالوا في قتل ونهب وأسر وتعذيب الناس بأنواع العذاب، واستخراج الأموال منهم بأليم العقاب مدة أربعين يوماً، فقتلوا الرجال والنساء والصبيان والأطفال، فلم يبق من أهل بغداد ومن التجأ إليهم من أهل السواد إلا القليل، ماعدا النصارى فانهم عين لهم شحان حرسوا بيوتهم والتجأ إليهم خلق كثير من المسلمين فسلموا عندم، وكذلك دار الوزير مؤيد الدين بن العلقمي فانه سلم بها خلق كثير، ودار صاحب الديوان (ابن الدامغاني) ودار حاجب باب النوبى (ابن الدوامى) وما عدا هذه الأماكن فانه لم يسلم فيه أحد إلا من كان في القنى والآبار، وأحرق معظم بغداد وجامع الخليفة المعروف اليوم بجامع سوق الغزل وما يجاوره، واستولى الخراب على بغداد، وكانت القتلى في االدروب والأسواق كالتلول، ووقعت الأمطار عليهم ووطئتهم الخيول، فاستحالت صورهم وصاروا عبرة لمن يرى، ثم نودي بالأمان فخرج من تخلف وقد تغيرت ألوانهموذهلت عقولهم لما شاهدوا من الأهوال التي لا يعبر عنها بلسان وهم كالموتى إذا خرجوا من القبور يوم النشور، من الجوع والخوف والبرد، وضرورة الاستنباط توجب الرجوع فنقول: قال عبد الرزاق بن الفوطى (فلما كان اليوم الرابع عشر من المحرم خرج الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي إلى خدمة السلطان هولاكو في جماعة من مماليكه وأتباعه وكانوا ينهون الناس عن الرمي بالنشاب ويقولون: (سوف يقع الصلح إن شاء الله فلا تحاربوا) هذا وعساكر المغول يبالغون في الرمي. وعاد الوزير إلى بغداد يوم الأحد سابع عشر المحرم وقال للخليفة: (وقد تقدم السلطان هولاكو أن تخرج إليه، فأخرج ولده الأوسط أبا الفضل عبد الرحمن في الحال فلم يقتنع به، فخرج هو والوزير ثامن عشر المحرم ومعه جمع كثير فلما صاروا ظاهر السور منعوا أصحابه من الوصول معه وأفردوا له خيمة وأسكن بها)
وأمر هولاكو بإجاعة المستعصم، فلما اشتد عليه الجوع أمر أن يقدموا له جملة من الجواهر والحلي والأعلاق النفيسة في أواني الذهب والفضة التي أخذها من دار خلافته) فاستغرب الأمر وقال: قد علمتم أن هذا ليس مما يؤكل ولا يغني من جوع) فأرسل إليه هولاكو (لم لم تجند به الجنود ولم تدفع به عن نفسك فلات ساعة مندم) ولسرد أخبار الجنود نقول: قال(35/37)
عبد الرزاق في حوادث سنة 640 ما صورته: (في شعبان حضر جماعة من المماليك الظاهرية والمستنصرية عند شرف الدين إقبال الشرابي للسلام عليه - على عادتهم - وطلبوا الزيادة في معايشهم وبالغوا في القول وألحوا في الطلب، فحرد عليهم وقال: (ما نزيدكم بمجرد قولكم بل نزيد منكم من نريد إذا أظهر خدمة يستحق بها ذلك) فنفروا وخرجوا على فورهم إلى ظاهر السور وتحالفوا على الاتفاق والتعاضد. . .)
وقال في حوادث سنة 649 (وفيها فارق كثير من الجند بغداد لانقطاع أرزاقهم ولحقوا ببلاد الشام) وقال في حوادث سنة 655 ما نصه (وكان الخليفة قد أهمل حال الجند ومنعهم أرزاقهم وأسقط أكثرهم من دساتير ديوان العرض فآلت أحوالهم إلى سؤال الناس وبذلك وجوههم في الطلب بالأسواق والجوامع ونظم الشعراء في ذلك الأشعار، فمما قاله المجد النشابي:
يا سائلي ولمحض الحق يرتاد ... أصخ فعندي نشدان وإرشاد
واسمع فعندي روايات تحققها ... دراية وأحاديث واسناد
فهم ذكى وقلب حازق يقظ ... وخاطر لنفوذ النقد نقاد
عن فتية فتكوا بالدين وانتهكوا ... حماه حملا برأي فيه إفساد
وكان خواجه نصير الدين محمد الفيلسوف الطوسي قد بعث - وهو في قوهستان - بقصيدة إلى المستعصم بالله يمدحه فيها ويطلب إليه الزلفى من دار خلافته، فاطلع عليها مؤيد الدين محمد بن العلقمي وأبقاها عنده وكتب إلى شمس الدين محتشم قوهستان من بلاد إيران يحذره ارتحال نصير الدين من بلاده مع احتياجه إليه في النجامة والتدبير، وإنما فعل ابن العلقمي ذلك خوفاً من ان يعرف المستعصم فضل نصير الدين الطوسي وعلمه فيستوزره مع كونهما شيعيين من فرقة واحدة، فوشى به هذا المحتشم إلى أمام الباطنية الإسماعيلية و (علاء الدين محمد بن الحسن الإسماعيلي) فاعتقله هذا في قلعة (ألموت) ولما فتح هولاكو هذه القلعة خرج نصير الدين وحضر بين يدي هولاكو فعظم موقعه في نفسه وأنعم عليه واستوزره وصار لأسرته شأن عظيم، وكان المنتظر من نصير الدين حين قدم بغداد مع هلاكو ان يبطش بابن العلقمي لإساءته إليه تحريضه عليه، ولكنه كان متعصبا للشيعة مغالياً في حبهم، حتى أنه أنقذ ابن العلقمي من الموت بأن رغب إلى هولاكو في العفو عنه،(35/38)
ومن الحق أن ابن العلقمي لم يخن ولم يهن في خدمة المستعصم، فلما فتحت بغداد ورأى زوال الدولة العباسية ووزارتها من المحققات؛ سعى في تنجية نفسه من الموت وداره من التحريق ودار كتبه المحتوية على عشرة آلاف مجلد من النهب، فاستشفع بنصير الدين الطوسي إلى هولاكو وأوصل إليه كتاباً فيه (ملحمة) من ملاحم الشيعة تثبت صلاح أعماله ووجاهة فتحه لبغداد، فقد قال قطب الدين الحنفي (إن مجد الدين بن طاوس وسديد الدين يوسف بن المطهر الحلي أرسلا كتاباً إلى هولاكو على يد ابن العلقمي يروونه عن علي بن أبي طالب - رض - صورته (إذا جاءت العصابة التي لا خلاق لها لتخربن يا أم الظلمة ومسكن الجبابرة وأم البلايا، ويل لك يا بغداد وللدور العامرة التي لها أجنحة كالطواويس، تنماثين كما ينماث الملح في الماء. ويأتي بنو (قنطورا) مقدمهم جهوري الصوت لهم وجوه كالمجان المطارقة وخراطيم كخراطيم الفيلة لم يصل إلى بلدة إلا افتحها ولا إلى راية إلا نكسها، فلما وصل الكتاب إلى هولاكو أمر أن يترجم له، فلما قرأه أمر لهم بسهم الأمان وسلموا بذلك من القتل والنهب)
قال عبد الرزاق بن االفوطي بعد وقعة بغداد (وأما أهل الحلة والكوفة فانهم انتزحوا إلى البطائح بأولادهم وبما قدروا عليه من أموالهم وحضر أكابرهم من العلويين والفقهاء مع مجد الدين بن طاوس العلوي إلى حضرة السلطان هولاكو وسألوه حقن دمائهم فأجاب سؤالهم وعين لهم شحنة، فعادوا إلى بلادهم وأرسلوا إلى من في البطائح يعرفونهم ذلك، فحضورا بأهلهم وأموالهم وجمعوا مالا عظيما وحملوه إلى السلطان هلاكو فتصدق عليهم بنفوسهم، وكان أهل الكوفة والحلة والسيب يجلبون إلى بغداد الأطعمة فانتفع الناس بذلك، وكانوا يبتاعون بأثمانها الكتب النفيسة وصفر المطعم وعيره من الأثاث بأوهى قيمة فاستغنى بهذا الوجه خلق كثير منهم
ولو كان ابن العلقمي قد خان المستعصم ومالأ هولاكو عليه لخشى هولاكو غدره وخاف خيانته ولم يوله الوزارة الإقليمية فانه لما رحل عن بغداد عائداً إلى بلاده فوض أمرها إلى الأمير (علي بهادر) وجعله شحنة بها والى الوزير مؤيد الدين بن العلقمي وصاحب الديوان فخر الدين بن الدامغاني ونجم الدين أحمد بن عمران الباجسري ونجم الدين عبد الغني بن الدرنوس وشرف الدين العلوي المعروف بالطويل فتوفى ابن العلقمي بعد فتح بغداد بثلاثة(35/39)
أشهر وذلك في مسهل جمادى الآخرة، فأمر هولاكو أن يكون أبنه عز الدين أبو الفضل وزيراً بعده
ولقائل أن يقول: إن الخيانة أنالته الوزارة الإقليمية فنقول له: قد قيل هذا، وزعم أن هولاكو قتله لخيانته، وقال له (إنا لا نأمنك وقد خنت خليفتك) ولقد كان هولاكو حذراً من الخونة مسارعاً إلى سفك الدماء، فهو إن لم يكن حرياً أن يقتله - على ظن خيانته فأنه يطرحه ويستذله فلا يوليه من ملكه شيئاً، وأن مؤرخا يبتدع قتل هولاكو لابن العلقمي لسهل عليه أن يخونه ويفجره ويسند إليه ما يشاء، ولكن الحق غير ذلك
ولى هولاكو تاج الدين بن الدرامى صدارة الأعمال الفراتية فتوفى في شهر ربيع الأول فجعل ابنه مجد الدين حسيناً عوضه وأقر أقضى القضاة نظام الدين عبد المنعم البندنيجى على رتبته وجعل لفخر الدين الدامغاني وزارة الإقليمية وجعل نجم الدين أحمد بن عمر ان المذكور ملكاً علىالأعمال الشرقية وهي الخالص وطريق خرسان والبدنيجين وأشركه مع ابن العلقمي وابن الدامغاني في الحكم فهل كل هؤلاء خونة غدرة؟ وقد يرد هذا القول بأن هولاكو لم يقتل هؤلاء الخونة لأن هوى الشعب فيهم، وضلعه معهم، فنقول: إنه قتل جماعة صبراً وهم من عظماء الشعب فيهم محيي الدين بن الجوزي الحنبلي أستاذ دار الخليفة وأبناه شرف الدين عبد الله وجمال الدين بن عبد الرحمن مؤلف مناقب بغداد وشيخ الشيوخ صدر الدين علي بن بالنيار وشرف الدين عبد الله بن أخيه وبهاء الدين داود بن المختار والنقيب شمس الدين علي بن مختار وشرف الدين محمد بن طاوس العلوي وتقي الدين عبد الرحمن بن الطبال وأكثر أمراء الترك
ومن اغرب سخرية المؤرخين أنهم أشكركوا في الخيانة تاج الدين أبا المعالي محمد بن الصلايا العلوي ناظر إربل، ولقد قال ابن الفوطي يذكر المتوفين من الأعيان بعد وقعة بغداد (وتوفى تاج الدين أبو المعالي محمد بن الصلايا العلوي ناظر إربل، قتل بحبل سياه كوه وكان قد قصد حضرة السلطان هولاكو بعد وقعة بغداد ليقر رحاله فأمر بقتله، وكان كريما جواداً فاضلا متدينا يبالغ في عقوبة من يفسد أو يشرب الخمر وليس عند المؤرخين دليل على خيانة ذلك الرجل العلوي الصالح واتهام ابن العلقمي - وان ورد في تاريخ ابن خلدون وفوات الوفيات وتاريخ أبي الفداء وغيرها - فان مصدره واحد هو سوء الظن به(35/40)
والحقد عليه، حتى أن ابن الفوطي لما كتب الحوادث الجامعة قال (ذكر من توفى من الأعيان بعد الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي في جمادي الآخرة ببغداد وعمره ثلاث وستون سنة، كان عالماً فاضلا أديبا يحب العلماء ويسدي إليهم المعروف، وتوفى علم الدين أحمد أخوه بعده) ووجد في الحاشية تعليق على هذا القول صورته (إلا أن خيانته لمخدومه تدل على سوء أصله) فان كانت مؤلفات ابن الفوطي بقيت على التسويد - كما ذكر العماد الحنبلي في شذور الذهب - فيظهر لنا ان المؤلف قد أثرت في نفسه إشاعة تهمة ابن العلقمي فاستدركها على نفسه مع عدم اقتناعه بصحتها في أول التأليف وبقي هذا الاستدراك مشيراً إلى ضعف الاتهام وصعوبة أمره على الإفهام.
ولم تكن حملة هولاكو على بغداد إلا حملة صليبية شرقية، فقد ذكر ابن العبري أن المسيحية انتشرت بين المغول في القرن السابع للهجرة، وأن جنكيز خان قد أوحى إليه بمحاربة الدول المسلمة، وأن امرأة هولاكو مسيحية، ويتضح ذلك من كتاب هولاكو إلى الملك الناصر ونصه كما في مختصر الدول:
(يعلم الملك الناصر أننا نزلنا بغداد في سنة ست وخمسين وستمائة وفتحناها بسيف الله وأحضرنا مالكها وسألناه مسألتين فلم يجب لسؤالنا، فلذلك استوجب منا العذاب - كما قال في قرآنكم -: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وصان المال، فآل الدهر به إلى ما آل، واستبدل بالنقوش النفيسة، نقوشاً معدنية خسيسة، وكان ذلك ظاهر قوله تعالى: (ووجدوا ما عملوا حاضراً)، إننا قد بلغنا بقوة الله الإرادة، ونحن بمعونة الله في الزيادة، ولا شك أنا نحن جند الله في أرضه خلقنا وسلطنا على من حل عليهم غضبه، فليكن لكم في ما مضى معتبر، وبما ذكرناه وقلناه مزدجر. . فان أنتم أطعتم أمرنا وقبلتم شرطنا كان لكم مالنا وعليكم ما علينا. . . فالله عليكم يا ظالمون، هيئوا للبلايا جلباباً، وللرزايا أتراباً، فقد أعذر من أنذر، وأنصف من حذر، لأنكم أكلتم الحرام وحنثتم بالأيمان، وأظهرتم البدع واستحسنتم الفسق فأبشروا بالذل والهوان فاليوم تجدون ما كنتم تعملون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، لقد ثبت عندكم أننا كفرة، وثبت عندنا أنكم فجرة، وسلطنا عليكم من بيده مقاليد الأمور مقدرة، والأحكام مدبرة. . . فسارعوا إلينا برد الجواب بتة، قبل أن يأتيكم العذاب بغتة، وأنتم تعلمون)(35/41)
ونقلنا في ما سبق من المقالة أن النصارى ببغداد سلموا من القتل والنهب والسلب وكل الأذى، وعين لهم أمراء من المغول يحرسون بيوتهم، وقال ابن الفوطي (وتقدم للجاثليق بسكنى دار علاء الدين الطبرسي الدويدار الكبير التي على شاطئ دجلة فسكنها ودق الناقوس على أعلاها واستولى على دار الفلك التي كانت رباطاً للنساء تجاه هذه الدار المذكورة، وعلى الرباط البشيري المجاور لها وهدم الكتابة التي كانت على البابين وكتب عوضها بالسرياني)
وقال في أخبار من عين في المراتب بعد الوقعة الهولاكية ببغداد (وعز الدين بن أبي الحديد كاتب السلة فلم تطل أيامه وتوفى، فرتب عوضه ابن الجمل النصراني) وعرض بهذه الغزوة الصليبية شمس الدين الكوفي إذ قال يرثي بني العباس:
ربع الهداية أضحى بعد بعدهم ... معطلا ودم الإسلام منسفك
ومما زاد شراسة هولاكو على المستعصم أن أحد أبناء عمه من السلاطين وهو بركة خان، كان قبل وقعة بغداد قد أسلم وراسل الخليفة المستعصم وصادقه، فاشتدت العداوة بينه وبين هولاكو من جهة السياسة والملك، ومن جهة الإسلام والوثنية وحماية النصرانية، وكان بركة خان مستوياً على شمال ارمينية وشمال جبال القبق (قفقاسية)، فلما سمع بنكاية هولاكو جد في محاربته وشرد بجنوده في وقعات عدة، كانت عاقبة أخرهن ان مات هولاكو كمداً وأسفاً لانكسار جيوشه، وانتفع مماليك مصر بهذه العداوة.
القاهرة
مصطفى جواد(35/42)
4 - ابن قلاقس
532 - 567هـ (1138 - 1122م)
(تتمة)
أما ما صادفه من ممدوحيه فهو السعة والرخاء والعطاء الجم، وان كنا لا نشك في انه قد أصابه الاخفاق أحياناً كثيرة مما دعاه إلى ان يقول:
فان ألمت بك الزرايا ... أو قرعت بابك الخطوب
فجانب الناس وادع من لا ... تكشف إلا به الكروب
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
ولا نشك كذلك في أن الوشاة كثيراً ما كانوا يسعون بالإفساد بينه وبين الممدوحين، وكثيراً ما كان هو يتنصل من دعاويهم وأقاويلهم، ويحسن بها أن نورد قطعة صغيرة من نماذج شعره في المدح، قال:
وهنيئا له أبا القاسم الند ... ب نهانى، فما أقول الهناتا
هو بحر وما يكدره الحا ... سد إن بات فيه يلقى القذاتا
ساقني فضله فأسكنني الدو ... ر وأسكنته أنا الابياتا
واقتسمنا، فكان عارض غيث ... عشت في ظله وكنت النباتا
كرم ينجز العداة وسلطا ... ن على رسمه يبذ العداتا
أما غزل شاعرنا فهو أقل شعره جودة وجمالاً: ذلك أنه قد تعمد فيه الإكثار من المحسنات اللفظية، مما دعا إلى غرابة الشعر واحتياجه إلى فهم وتثبت وروية، والغزل إن لم يكن معناه سريعاً إلى القلب يسبق لفظه إلى الفهم يصبح ثقيلاً على النفس ليس له حظ من جمال الشعر، فضلا عن أن المعاني التي كان يجيء بها معان صغيرة لا تحتاج إلى كل هذا التكلف، ويعد من أجمل ما قاله في الغزل قوله:
سددوها من القدود رماحا ... وانتضوها من الجفون صفاحا
يالها حالة من السلم حالت ... فاستحالت ولا كفاح كفاحا
صح إذ أذرت العيون دماء ... أنهم أثخنوا القلوب جراحا
عجبا للجفون، وهي مراض ... كيف تستأثر العيون الصحاحا(35/43)
آه من موقف يود به المغ ... رم لو مات قبله، فاستراحا
وجناح النوى تضم ظباء ... لم تخف في دم الأسود جناحا
وهي تدلك على قصر باع شاعرنا في فن الغزل، وقد يكون ذلك راجعاً إلى أن عاطفته التي ينبعث منها الغزل كانت قفراء مجدبة، إذ هو ليس إلا رجل عمل وأسفار.
أما الوصف فهو كثير في شعره، وهو يصف لك ما رآه وشاهد في مصر وفي غيرها من تلك البلاد التي رحل اليها، ولقد كان للنيل ولمنارة الإسكندرية حظ في وصفه، وهناك منظر من طبيعة مصر قد رسمه شعرا يوم قال:
أنظر إلى الشمس فوق النيل غاربة ... واعجب لما بعدها من حمرة الشفق
غابت وأبدت شعاعاً منه يخلفها ... كأنما احترقت بالماء في الغرق
وفي الحق انه منظر يثير في النفس حب الجمال وحب الطبيعة. ذلك المنظر هو منظر غروب الشمس حيث تختفيي وراء الأفق تاركة وراءها حمرة الشفق بازغاً بعدها الهلال. كما كان لوصف أسفاره، ووصف ماركبه في تلك الأسفار حظ أي حظ في شعره، فوصف لنا الفرس، ووصف لنا السفينة، ووصف لنا ما كان يلاقيه في سفره، ولعل من أجمل ما قاله في الوصف تلك القصيدة التي يصف لنا فيها سفرة من أسفاره، ويحدثنا عن البحر وهدوئه ثم عصفه وارعاده، ثم يعطف على السفينة فيصفها، ثم على إخوانه فيتشوق إليهم، قال:
لو لم يحرم على الأيام انجادي ... ما واصلت بين اتهامي وانجادي
طوراً أطير مع الحيتان في لجج ... وتارة في الفيافي بين آساد
والناس كثر ولكن لا يقدر لي ... إلا مصاحبة الملاح والحادي
أقلعت والبحر قد لانت شكائمه ... جداً، وأقلع عن موج وإزباد
فعاد لا عاد ذا ربح مدمرة ... كأنها أخت تلك الريح في عاد
ونحن في منزل يسرى بساكنه ... فاسمع حديث مقيم داره غادي
لا يستقر لنا جنب بمضجعه ... كأن حالاتنا حالات عباد
فكم يصعر خد غير منصعر ... وكم يخر جبين غير سجاد. . . الخ
أما حين يحدثنا عن الطبيعة ويصفها فهو يشعرك أنه تلميذ لابن المعتز لكثرة تشبيهاته(35/44)
وتضمين معانيه. وان شئت أن تتأكد من ذلك فاقرأ قوله:
سرت وجبين الجو بالطل يرشح ... وثوب الغوادي بالبروق موشح
وفي طي أبراد النسيم خميلة ... بأعطافها نور الربا يفتح
تضاحك في مسرى العواصف عارضاً ... مدامعة في وجنة الروض تسفح
وتروي به كف الصبازند بارق ... شرارته في فحمة الليل تقدح
تفرس منها البدر في متن أشقر ... يلاعب عطفيه النسيم فيرمح
باقي أغراض الشعر التي طرقها قليلة، ولكنه في هجائه قصير موجع بالرغم من ندرة الهجاء في شعره، ورثاؤه قليل كذلك، وهو لا ينسى فيه المحسنات اللفظية والجمال البديعي، أما عتابه فقليل كذلك، وهو يشتد ويوجع فيه ثم يلين ويرق، بعد أن يكون قد أوجع، واسمعه يعاتب.
أقبل بوجهك إني عنك منصرف ... فما أقول لسؤالي؟ وما أصف؟
خدعت فيَّ وغرتك الضراعة بي ... ومال تيهاً بك الإعجاب والصلف
وكان من سيئاتي أنني أبداً ... إليك في سائر الحالات أختلف
إلى أن قال:
أنت الكريم وقد قال الألى مثلا ... إن الكرام إذا ما استعطفوا عطفوا
متى أقول: صباح لاح شارقة ... فضم رحلك وارحل أيها السدف
تلك أهم أغراض الشعر التي طرقها ابن قلاقس
لم يعمر شاعرنا طويلا كما ذكرت، بل مات وهو في سن الخامسة والثلاثين، ويخيل إلى أن الهرم أصابه سريعاً حتى صح له أن يقول وهو في سن الثلاثين:
مدت إلى الأربعو ... ن يداً وقد قهقرت عشرا
فكنت تراه في سن الثلاثين كأنه قد أوفى على الأربعين، ولعل الشيب قد لحقه سريعاً، فمضى يذم الشيب ويتحسر على فقد الشباب شأن كل شاب يريد أن يتمتع بالحياة فيلحقه الشيب، ويغير على لمته.
أحمد أحمد بدوي
المدرس المنتدب بثانوية نابلس(35/45)
من طرائف الشعر
الضمير
قطعة اخرى من روائع الأستاذ أحمد الزين
// لا تسلني عن صاحبي ونصيري ... لم أجد في الدهر غيرَ ضميري
صاحبٌ أمرُه لديَّ مطاعٌ ... يا له من مصاحب وأمير
هو صوت السماء في عالمَ الأر ... ض ورُوحٌ من اللَّطيف الخبير
وشعاعٌ تذوب تحت سناه ... خدعُ العيش من رياءٍ وزور
هو سرُّ يحار في كنهْه اللبْ ... بُ وتَعيا به قوَى التفكير
مبلغُ العلم أنه رُوحُ خير ... باطنُ الشخص ظاهرُ التأثير
كلُّ حيٍّ عليه منه رقيبٌ ... حَلَّ من قلبِه مكانَ الشعور
حلَّ حيث الأهواءُ تنزو إلى الاث ... م وتهفو إلى مَهاوِي الشُّرور
جامحاتٍ أعيت على الدين كبحاً ... رغمَ إنذارِها بسوء المصير
ثم صاح الضميرُ فيها نذيراً ... فأصاخت إلى صياح النذير
هو رُوحٌ من الملائك يسمو ... بسليل الثرى لعالَمِ نور
قد تولّت بالأنبياء عصورٌ ... وهو باقٍ على توالي العصور
حافظاً في الزمان ما خلَّفوه ... قائماً في الصدور بالتذكير
حاملا من شرائع الخير كتُبْا ... قدِّسَتْ من صحائفٍ وسطور
ليس يعفو عن الهناة وإن ها ... نت ملِحٌّ في اللّوم والتعذير
هو إن شئت كان جنّةَ خلدٍ ... وإذا شئتَ كان نار السعير
عاجِلُ الشرِّ وهو يأمر بالخي ... ر قديرٌ لم يعَفُ عفوَ القدير
فَتحَصَّنْ ما شئت منه فلا ين ... جيك حِصنٌ من شره المستطير
هو مِثلُ القضاء يغشاك لا تُع ... يه لو كنتَ في خوافي النسور
وتضرَّعْ بما تشاء فلن تجْ ... ديَ نفعاً ضراعة المستجير
لا تحاولْ خداعه بالمعاذي ... ر فليس المِسيءُ بالمعذور
لا تجادل في حُكمِه فهو حتم ... لا يُردّ الذي قضى من أمور(35/47)
لا يدارِي ولا يداجي صديقاً ... ناقدٌ للأمور نقدَ بصير
مُرهَف الحِسِّ ليس يُعييه غيبٌ ... يَسمع الهمسَ في حنايا الصدور
يبذلُ النصحَ لا يمنْ بما يُس ... دي ولا يبتغي ثناَء شَكور
لم يَدَعنى إلى هوى النفس في الأم ... ر ولم يَستعِن برأي مُشير
ليس لي دونه من الرأي إلا ... ما يراه الهوى بعين الغرور
كم حَملتُ الآلام فيه وسخَط الن ... اس حتى فقدتُ وُدَّ عشيري
ليس يزكو غَرسُ المودَّة في النا ... س بغير النفاق والتغرير
لم يَدَعْ لي صدقُ المقال صديقاً ... فلأعِشْ قانعاً بوُدِّ ضميري(35/48)
أطلَّ من حرم الرؤيا فعزاني
مهداة إلى روح الدكتور أديب مظهر
للشاعر اللبناني بدوي الجبل
منازل الخلد لا أرباع لبنان ... وفتنة السحر لا آيات فنان
جنان لبنان حسبي منك وارفة ... فيها النديان من روح وريحان
شب النبيون في أفيائها وحبت ... فيها خيالات إنجيل وقرآن
يغفو بها الفجر في أحضان مورقة ... مديدة الظل سكرى الآس والبان
سقته من خمرها قبل الكرى عللا ... فبعض أحلامه أحلام سكران
ودغدغته فللاغصان هينمة ... كأنها بث غيران لغيران
وما تنبه حتى راعه وهج ... والشمس حلى ربى خضر وأفنان
صحبت فيك شبابي والهوى ومنى ... لعس الشفاء وظلا غير ضحيان
فأسبغى نعمة النسيان تغمرني ... عسى يخفف من بلواى نسياني
أمسيت لا الصغر المعسول أسعدني ... ولا الجنون جنون الحب واتاني
ألح بي السقم حتى لا يفارقني ... وراح ينسج قبل الشيب أكفاني
عفىَّ على نزوات النفس جامحة ... إلا اهتزاز خليع الحسن نشوان
وصبوة للعيون النجل هانئة ... من الشباب بظل العاطف الحاني
يثير بي كل حسن فتنة وهوى ... فما أمر بماء غير صديان
ويا ربى الحسن في لبنان هل عريت ... مخضلة الدوح من ظل وأغصان
ومن لباناتى السكرى مصرعة ... من الوانى بين أفياء وأفنان
ويا ربى الحسن هل من نفحة جميلة ... شذا النهود لصادى القلب حران
وهل صباك نموم العطر ناقلة ... بعدي أحاديث أذيال وأردان
ويا ربى الحسن في لبنان هل ثملت ... بعدي الرياحين من صهباء نيسان
ويا ربى الحسن في لبنان ما انبسطت ... يمنى الهجير على أفياء لبنان
مدى ظلالك يينعم في غلائلها ... صرعى الردى من أحبائي وإخواني
النائمين بظل الأرز ينشدهم ... رواية الدهر في نعمى سليمان(35/49)
أما البلابل فلتؤنس قبورهم ... من كل ثاكلة في الدوح مرنان
أعيذ بالحب والذكرى هوى نفر ... بيض الوجوه من النعماء غران
قد صور الوحي ألوان النعيم على ... مثال ما فيك من حسن وألوان
خيال ولدانه والحور منبعث ... عن فيض سحرك في حور وولدان
وزاد فيها خلودا ما عنيت به ... أشهى الأماني في حكم النهى الغاني
لا يعذب الوصل إلا أن يخامره ... خوف المحبين من نأى وهجران
ولا هناء بنعمى لا تخاف لها ... فقدا ولا تبتلى منها بحرمان
لو يعلمون هنات النفس ما خلعوا ... قدس الخلود على نعمى وأحزان
فالنفس موحشة من رغبة وهوى ... نعمى الجنان وبؤسى النار سيان
وأصبح الكون لغوا لا حياة به ... من رغبة في مجاليه وغنيان
ما للخلود وما للحسن يزعمه ... هيهات عرى من حسن وإتقان
يضفى الجمال علىالايام مقتدرا ... من (التحول) ذو عز وسلطان
عنى له الكون مأخوذا بفتنته ... من أنجم ومكانات وأزمان
وعاطفات وأرواح وأخيلة ... تغزو الوجود وآراء وأديان
وربما فقهت من أمره عجبا ... قبل الهداة عصا موسى بن عمران
كفرت بالروح بعد الريب آونة ... وكان زلفى إلى نجواه كفرانى
ورحت أعبده بالحان مجتليا ... آيات قدرته في خمرة الحان
وقرب القوم ما شاءوا لمذبحه ... فما تقبل منهم غير قربانى
أعلنت حين أسروا أمرهم فرقا ... يا بعد ما بين إسرار وإعلان
إن الخلود وما تروى مزاعمهم ... عن السعادة في الفخري نقيضان
ان الفراديس في سر الخلود غدت ... وكل أو إليها رازح وان
مل المقيمون فيها من هناءتهم ... كما يمل السقام المدنف العانى
تمضي العصور عليهم وهي واحدة ... أليوم كالأمس فيها ضاحك هاني
تزجى السآمة تفكيراً وعاطفة ... إلى عقول وأهواء ووجدان
لا يرقبون جديدا في خلودهم ... لرث من قدم العهد الجديدان(35/50)
ولا يحبون لكن تلك طائفة ... من ماجنات خليعات ومجان
ولا يناجون في أحلامهم أملا ... محببا بين إنكار وايقان
ولا يحسون لا حزنا ولا جذلا ... فالقوم ما بين مشدوه وسهوان
يا شقوة النفس تخلو بعد أن عمرت ... من حسرة ولبانات وأضغان
وضيعة القلب لا تأوي إليه منى ... كالنحل تاخذ من روض وبستان
من كل من أبلت الأدهار جدته ... فما يحركه إحماض رضوان
ينادم الحور لكن غير مغتبط ... ويشرب الراح لكن غير ظمآن
لود في كل ما تجريه من عسل ... ومن خمور ومن در وعقيان
هنيهة من شقاء يطمئن بها ... إلى مناجاة آلام واشجان
إذا تذكر دنياه هفا ولعا ... إلى حبيب وصهباء وندمان
وراح يبحث في المجهول عن أمل ... وعن شفاء وعن أهل وخلان
لعل بين زوايا النفس قد تركت ... ثمالة من حبابات وتحنان
أما الغواني فصخر لا يحركها ... نجوى محب ولا تدليل ولهان
لا تعرف الحب إلا محض تلبية ... لعابرين من الأبرار فتيان
ولا تجن إلى روح وعاطفة ... فالحب في ملكوت الخلد جثماني
خبا لهيب المنى في روحها فغدت ... وحسنها في حلاه حسن أوثان
حتى الخلود عليها فهي شاكية ... إلى الأنوثة ذاك الخائن الجانيي
وللخلود على أهل الجحيم يد ... تجزي على الدهر إحسانا بإحسان
الكافرون لطول العهد قد ألفوا ... بقاعها نضج أرواح وأبدان
وقد تزف بها - والحفل محتشد ... سجينة من ضحاياها للسجان
فأصبحت وهي من ماء ومن مدر ... شيطانة تتصبى كل شيطان
وربما صحبوا فيها زبانية ... بعد القلى - إلف أخدان لأخدان -
لا يأملون ولا تشكو جسومهم ... من اللظى فهي نيران بنيران
مليحة الدل من غسان لا بليت ... شمائل الصيد من أقيال غسان
أتأذنين بإنشاد فما جليت ... إلا لحسنك أشعاري وأوزاني(35/51)
طوفت في هذه الدنيا على مهل ... طواف أشعث ماضي العزم يقظان
تظلني مصر أحيانا وآونة ... أعاقر الكأس في جنات بغدان
وقد صحبت شعوب الأرض من عرب ... شم الأنوف إلى روم وكلدان
مفتشا عن (عزاء النفس) لالعبى ... أدى إليه ولا حلمى وعرفانى
مسائلا عنه حتى قد عييت به ... ارث الفلاسف من هند ويونان
فما رأيت له عينا ولا أثراً ... ولا أفاد طوافي غير خذلانى
اذا ندبت جهودي وهي ضائعة ... أطل من حرم الرؤيا فعزانى
ثم انثنيت وركبي جد متئد ... من الونى ورفيقي جد حيران
والبيد أوسع من صدر الحليم مدى ... وللسراب بها آلاف غدران
ظمأى حيارى خلف الركب طائفة ... حمر اللواحظ من أسد وذئبان
فأيقن القوم بالجلى وقد صمتوا ... لهيبة الموت وهو المقبل الدانى
حتى إذا اليأس لم تترك مرارته ... إلا بقية صبر غير خزيان
لاحت خيامك بالصحراء مؤنقة ... أبهى وأزين من عرش وايوان
فكبر الركب مرتاحا إلى أمل ... عذب المجاجة حالى الوشى ريان
مبادراً للظلال الخضر قد كسبت ... نثير ورد ونمام وسوسان
فما فتحت جفوني وهي دامية ... من الرمال. أعان الله أجفاني
حتى لمحتك خلف السجف ضاحكة ... إلى جوار وحجاب وغلمان
فقرت النفس لا شكوى ولا تعب ... ولا لجاجة إيمان ونكران
وأبصرت بعد طول البحث غايتها ... فأذعنت لهدأها أي إذعان
فقبلت شفة حمراء دامية ... واهتز من نشوات اللثم نهدان
سر السعادة في الدنيا وإن خفيت ... تجلوه منك على الأكوان عينان
آمنت بالحب ما شاءت عذوبته ... آمنت بالحب. فهو الهادم الباني
بدوي الجبل
السائلة الحسناء(35/52)
قربت حسناء مني ودنت ... وهي في ثوب من الأسمال بال
لمحتني عينها عن كثب ... فأتت تطمع مني في النوال
سألتني درهما في ذلة ... قلت صوني الحسن عن هذا السؤال
بسؤال الناس قد أرخصته ... إن هذا الحسن - لو تدرين - غال
لم أكد أنطق حتى أطرقت ... وجرى في خدها الدمع وسال
ثم قالت وهي ترنو في أسى ... أيها اللائم أشفق في المقال
يعلم الله باني صنته ... لم أفرط أبدا فيه بحال
صنته جهدي وما أرخصته ... إنما قد أرخص الفقر الجمال
محمد برهام(35/53)
الحمد لله!
للسيدة منيرة توفيق
فتيات مصرَ تحيَّةً ... أنتنَّ ربَّات العزائم
إني أديِنُ بعَطْفِكُ ... نَّ، وشُكْرُكُنَّ عليَّ لازم
شكرِي إلى (خيريَّةٍ) ... و (لِنَاهِدٍ) ذاتِ المكارِمْ
قد شَدَّتَا أزْرِي، فيا ... لِيرَاعَتَيْنِ من الصَّوارم!
واهْتَاجَتَا فسمعتُ زَأ ... رَ الأُسْدِ في سَجْع الحمائم
سِربُ الظِّبى شَهَرَ الُّظبي ... في وجه جنديِّ الملاحم
وهناك حين رأى الوغَى ... ألقَى السِّلاحَ ولم يقاوِمْ
فأتى إليَّ يمدُّ كَفْ ... فَ مُصَافِحٍ سَمْحٍ مُسالِمْ
ومضَى يجدِّدُ عهدَنا ال ... ماضى، وصَفْوُ العيش قائمْ
والحرُّ يَرجِع حين يَعْ ... لمُ أنه في الحقِّ آثمْ
يا سيداتي الفضْلَيَا ... تِ لَكُنَّ حقُّ الشكرِ دائمْ
قد عاد لي زوجي الكري ... مُ، وجاَء يقرَعُ سِنَّ نادم
من بعد ما قَدَّرْتُ أنْ ... نَ رُجُوعَهُ أضغاثُ حالم
هي عَضْبةٌ سِحْرِيَّةٌ ... أدَّت إلى حُسنِ الخواتم
فعلَتْ به ما ليس تف ... علهُ العزائم والتَّمائم
فليطمئنَّ اليومَ في ... دار الخلود (أمينُ قاسم)
وليَهْنأ النيلُ العظي ... مُ بما لديه من كرائم
أنتنَّ ذخْرُ النيلِ في ... يوم العزائم للعظائم
والله يشكرُ سعْيَكنْ ... نَ لِرَدِّ أنواع المظالم
اللقاء الصامت
أيقنت انك مثلي جد مولعة ... يوم اللقاء فزال الخطب أو هانا
قد كنت أخشى بعادي يوم فرقتنا ... لكن حمدت بعادي يوم لقيانا
شربت فيه كؤوس الهم مترعة ... وذقت فيه من التسهيد ألوانا(35/54)
حتى إذا كان يوم العيد عاودني ... بشرى كان لم يكن في البعد ما كانا
ونحن إن لم يخل العرف أعيننا ... فحسبنا العين في تخفيف بلوانا
محمد مصطفى الطحلاوي(35/55)
في الأدب الفارسي
منطق الطير
القصة الصوفية الخالدة
للدكتور عبد الوهاب عزام
فريد الدين العطار، شاعر صوفي عظيم من شعراء القرن السادس الهجري، وهو أحد الثلاثة الذين انتهت إليهم الإمامة (بين شعراء الفرس المتصوفين) والآخران مجد الدين سنائى الغزنوي، ومولانا جلال الدين الرومي
وللعطار من المنظومات الصوفية زهاء أربعين، بعضها يحتوي على عشرة آلاف بيت. وهو أحد المؤلفين الذي حالت كثرة مؤلفاتهم دون معرفة آرائهم معرفة بينة.
وأعظم منظوماته وأسيرها وأدخلها في الشعر، منظومة سماها (منطق الطير) وتعرف أحيانا باسم (هفت وادي) أي سبعة الأودية. وهي زهاء 4600 بيت، قص فيها اجتماع الطير وتساؤلها عن ملكها وتعريف الهدهد اياها بهذا الملك ومكانه ووصفه الطريق إليهن ثم توليه قيادة الطير التي رضيت بالسفر الشاق إلى ديار العنقاء واجتيازه بها سبعة أودية، وما أصاب سفر الطير حين بلغ غايته: ويتخلل هذا قصص عديدة يفصل بها السياق، ويبين بها بعض مقاصده.
وأنا أجمل لقراء الرسالة هذه القصة على طولها في صفحات قليلة، وعسى أن أستطيع من بعد نقلها كلها إلى اللغة العربية:
يبدأ العطار كتابه بحمد الله وتمجيده والثناء عليه، بكلمات هي غاية ما بلغته فلسفة الصوفية، ثم يثني بفصل عنوانه (نعت سيد المرسلين وخاتم النبيين ويطيل فيه ما شاءت بلاغته وأيمانه، ثم يثلث بمدح الخلفاء الراشدين على نسقهم في الخلافة، وينعى على أهل العصبية الذين يفرقون بين صحابة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ويذكر ست قصص لتأييد رأيه
ثم يشرع في مقصوده بعد هذه المقدمة التي تستغرق ستمائة بيت ويعالج الموضوع في خمس وأربعين مقالا وخاتمة.(35/56)
يبدأ بوصف اجتماع الطير، ويذكر فيما يذكر منها الهدهد والببغاء، والدراج والبلبل والطاوس، والفاختة والقمري والبازي. ويصف شكل كل طائر وطباعه.
اجتمعت الطير فتشاكت ما هي فيه من الفرقة والفوضى، وفقد رئيس يجمع كلمتها ويهديها السبيل، على حين لا تخلو أمة من ملك فانبرى الهدهد يخطب فيذكر خبرته واعتزاله الناس، وجده في طلب الحق، وصحبته سليمان بن داود، وأنه طوف الأرض سهلها وحزنها، وخبر قاصيها ودانيها. ثم قال: عرفت أن لنا ملكا، ولكن عجزت عن المسير إليه وحدي، فان تعاونا استطعنا أن نبلغ مكانه. إن لنا ملكا اسمه سيمرغ وراء جبل اسمه جبل قاف، هو منا قريب ونحن بعيدون. هو في حرم جلاله لا يحيط البيان بوصفه، ودونه آلاف من الحجب - واستمر الهدهد يفيض في وصف السيمرغ، حتى راع السامعين بيانه. قال: وأول عهد الناس به أنه كان طائراً في ظلمات الليل فوق بلاد الصين فسقطت من جناحه ريشة، فقامت قيامة الامم، وأعجب الناس بما فيها من الألوان العجيبة والنقش، وتعلم كل منها فناً. ولا تزال هذه الريشة في الصين، ومن أجل هذا جاء في الأثر: (أطلبوا العلم ولو في الصين) ولو لم يظهر في هذا العالم نقش هذه الريشة ما كان في العالم أحد منكن أيتها الطير.
فلما سمعت الطير بيان الهدهد، هاجها الشوق إلى السيمرغ وأزمعت الرحلة إليه، ثم ذكرت ما في الطريق من أهوال فبدا لبعضهن أن يؤثر العافية، فادعى كل لنفسه عذرا:
قال البلبل: أنا أمام العاشقين؛ ملأت القلوب وجدا بأغاريدي، فكيف أستطيع مفارقة حبيبي الورد.
وقالت الببغاء: إن جمال هذا الريش أغرى بي الناس، فحبسوني في الاقفاص، فقاسيت الغم الطويل والألم الممض، حسبي ما قاسيت على أنى لا أستطيع أن أطير تحت جناح السيمرغ.
وقال الطاوس: كنت مع آدم في الجنة فطردت منها، وكل همي أن أعود إليها ولست بعد قادرا على مصاحبة السيمرغ
ويذكر البط طهارته وعيشه في الماء وزهده، ويعتذر بأنه لا يستطيع مفارقة الماء والعيش على اليبس. ويعتذر الحجل بأنه ألف الجبال فلا يستطيع أن يبرحها. وتعتذر الصعوة(35/57)
بضعفها، والبازي بأنه لا يود أن يترك مكانه من أيدي الملوك. وهلم جرا
يجادل الهدهد هذه الطيور ويرد عليها أعذارها، ويرشدها إلى الخير، ولا يألو في النصح لها. فتطيف الطيور بالهدهد تسأله: كيف يقطع هذا الطريق البعيد، وماذا يصلنا بهذا الملك العظيم، في أسئلة كثيرة، فيوبخهن على التواني في الطلب، والركون إلى الدعة، والوجل من لقاء الشدائد. ثم يقول مبينا نسبة الطير إلى السيموغ انه تجلى كالشمس من وراء الحجب، آلاف الظلال على الأرض وما الطير إلا هذه الظلال. ثم يقول: ان العشق إذا صدق استهان العاشق كل شيء في سبيله، واقتحم كل عقبة إلى حبيبه.
(وهنا يستطرد الشاعر إلى قصة الشيخ صنعان الذي أخرجه العشق عن طوره. وهي قصة عجيبة تستغرق أكثر من 200 بيت ولا يتسع لها المجال هنا، ولا يحسن إجمالها)
هاجت الطير شوقا، وأجمعت على أنه لابد لها من أمير تطيعه على اليسر والعسر، واتفقت على أن يقرع بينها، فأصابت القرعة أجدرها بالإمارة وهو الهدهد.
فوضع التاج على رأسه وتقدم، واجتمعت إليه أسراب الطيور فأشرف بها على طريق موحشة مقفرة، فسأله سائل ما لهذى الطريق مقفرة؟ قال إن الناس تجنبوها إشفاقا وخوفا. وحكى أن أبا يزيد البسطامي خرج إلى البرية في ليلة مقمرة والناس نيام، فراقه جمال الليل وتهويده. وعجب كيف خلا هذا المقام من المشتاقين، فسمع مناديا يناديه، ان الملك لا يأذن لكل إنسان أن يسلك طريقه، وأن عزتنا أبعدت السائلين عن بابنا.
ثم تقدمت الطير (فرأت طريقا ولا غاية، والما ولا دواء، هنالك تهب ريح الاستغناء، فينحنى لها ظهر السماء، هنالك صحراء لا يعبأ فيها بطاووس الفلك، فكيف بطير هذا الدنيا)
فلما هال الطير ما رأت، حفت من حول الهدهد فقالت؛ إنك طوفت في الآفاق وعرفت كل شيء، فارق المنبر لنسألك عما حاك في صدورنا، فلابد أن نطهر قلوبنا من الريبة. صعد الهدهد وشدا بعض الطير بالحان هاجت الطير وأذهلتها. ثم تواترت الأسئلة فكان أول سؤال أن قال طائر: أخبرني أيها الإمام كيف فضلتنا جميعا. وكيف كان هذا التفاوت بيننا وبينك؟ قال الهدهد: منحتني هذه الدولة نظرة من المليك. إنها دولة لا تنال بالطاعة، فكم أطاع إبليس. لا أقول إن الطاعة لا تجب، فعليك الطاعة. لا تفتر عنها ساعة ولكن لا(35/58)
تقدمها ثمنا. امض عمرك في الطاعات حتى تصيبك من سليمان نظرة. ثم سئل الهدهد عشرين سؤالا أجاب عنها مفصلا مسها ضاربا الأمثال. وكان السؤال التاسع عشر: ما الهدية اللائقة بتلك الحضرة التي نؤمها: وكان جواب الهدهد: لا تحمل شيئا فهنالك كل شيء، وليس خيرا لك من الطاعة والعشق.
والسؤال العشرون يفتح القسم الثاني من الكتاب، وهو الذي يصف الأودية السبعة التي تعترض السائرين إلى حضرة السيمرغ: سأل سائل، كم فرسخا مسافة هذه الطريق. قال الهدهد: أمامنا سبعة أودية لا تعرف مسافاتها، لأن أحداً لم يرجع منها فيخبر عنها. أمامنا أودية الطلب، والعشق، والمعرفة، والاستغناء، والتوحيد، والحيرة، والفقر والغناء.
البقية في العدد الآتي
عبد الوهاب عزام(35/59)
العُلوم
في البحوث الروحية
للأستاذ عبد الغني علي حسين
خريج جامعة برمتجهام
- 3 -
أمامي الآن ذلك الكتاب الصغير (كيف ثبت لي خلود النفس البشرية) لذلك العالم الكبير (سر ألفرلدج). كتاب خليق بأن يفتح لرجال العلم ميدان بحث جديد لا يمكن التكهن بمدى اتساعه، فهو يلفت النظر بشدة إلى حقيقة كبرى، تتراءى من وراء ظواهر غامضة، لم يلتفت إليها العلم حتى الآن لما يحف بها من دجل يبدو معه البحث فيها عاراً ومنقصة.
لقد كمن الرجل في ظل العلم بشتى الصور في كل العصور. وقديماً بينما كان آباء الكيمياء الحديثة - جابر بن حيان الصوفي، وأبو بكر الرازي ومن أخذ عنهما من الفرنج - يستنبطون المركبات الجديدة، ويستقطرون الزيوت والحوامض، كان أخوهم الدجال، يزور عباد المال موهماً إياهم باسم الكيميا إن في مقدوره قلب رصاصهم ذهبا، ثم يذهب عنهم وقد استلب ما كان لديهم من ذهب وترك رصاصهم كما هو، فينتبهون بعد فوات الوقت إلى أن الذي يعرف سر صنع الذهب من الرصاص لا يكون بحاجة لعرض خدماته على الناس.
ولكن إذا اجتمع العلم والدجل في ميدان، فهل للعلم أن يهرب؟ كلا. بل عليه أن يغزو.
سلخ لدج في بحوثه تلك زهاء الأربعين عاما، وكون فيها رأياً نهائياً لم يتحول عنه قيد أنملةَ منذ كونه، ولم يفرط في إذاعته وبسطه بمختلف التواليف في صراحة تامة، ومع شيء من التضحية أيضا، فقد تعرض اسمه الضخم للتجريح، وعقله الكبير للاتهام.
قلب معي صفحات تاريخ العلم الحديث. هل ترى نظرية ضخمة جاءت وليدة ساعة أو يوم؟ من المعلوم المشهور أن دارون قضى عشرين عاما تختمر نظريته في ذهنه، وهو يقدم على البوح بها ثم يحجم، ولما أذاعها أخيراً قوبلت بوجوه مستطيلة، وأفواه فاغرة، ولم تتخذ سبيلها إلى عقول الناس بعد إذاعتها إلا ببطء شديد، ولا يزال لها إلى اليوم أعداء(35/60)
متحمسون.
أغلب الظن أننا اليوم أمام نظرية علمية جديدة من هذا الوزن الثقيل، سيتفسر بها الكثير مما يحير اللب اليوم، وحيره في كل العصور، بل ربما أفضت إلى تفسير كل شيء على أساس جديد. نظرية روحية سيقال إن بطلها ألفر لدج. والحقيقة أن النظرية الضخمة لا يتفرد بتشييدها عادة عقل واحد مهما تجبر، وهذه النظرية قد ساهم فيها آخرون لن تكون جهودهم منسية، نخص بالذكر منهم (كروكس) و (ولاس) من علماء الجيل السابق، والعالم الفرنسي المعاصر (شارل ريشيه).
ولكن إذا كانت هناك حقيقة ظواهر من هذا النوع، ينتفي عنها الدجل، وتشعر بأقل أمل في الوصول إلى كشف خطير كالذي يجاهر به لدج، فلماذا نرى جمهور رجال العلم يغمضون عنها عيونهم، ويضعون أصابعهم في آذانهم كلما صاح فيهم لدج وأهاب بهم؟ هل يعقل أن يوجد ميدان بحث كهذا، جليل النفع، خطير الغاية ثم لا يلجه من العلماء إلا الشاذ النادر، وترفض الاعتراف به المجامع العلمية، وتظل قاعات البحث في الجامعات خالية من كل أثر له؟ لقد عهدنا رجال العلم ككلاب الصيد، تشتم ريح الفريسة من بعيد، فلماذا نرى منهم البرود والجمود في هذا الموضوع؟
هي حال غريبة حقا. ولكن يظهر أن صيحات لدج قد بدأ صداها يدوي في الآفاق العلمية. فقد جاء في عدد 23 ديسمبر سنة 1933 من مجلة نايتشر الإنجليزية (مجلة علمية يعرفها كل مشتغل بالعلوم تمثل الرأي العام العلمي أصدق تمثيل) مقال من قلم التحرير الذي يرأسه (سر رتشارد غريغوري) بعنوان (العلم والبحوث الروحية) نقتطف منه ما يلي: -
(إن الظواهر غير العادية، التي تشاهد في حالة النوم المغنطيسي وفي حالات الذهول والكتابة الأوتوماتيكية ونحوها، قد أصبحت الآن جديرة بالتفات الباحثين من حملة الدرجات الجامعية. . . . إن الحاجة إلى البحث الصريح الجريء في تلك الظواهر لتزداد يوما عن يوم. . . . من الواضح الجلي أن تبعة عدم الوصول إلى تعليل لتلك الظواهر تقع على عاتق الهيئات العلمية الرسمية. . . . تلك الظواهر الغامضة الخارقة للعادة قد أصبحت من مواد البحث الجدي في كثير من المراكز العلمية بأوربا وأمريكا، وقد حان الوقت على ما نظن لأن تعد العدة لمثل هذا البحث في بريطانيا. . . . لا يتسربن إلى الذهن أن أي جامعة(35/61)
تعترف بهذا الموضوع الواسع الغامض، ستجد في الخطوة التي خطتها مساسا بكرامتها، بل العكس، ستكون إرادتها الحرة في خدمة العلم وتقدمه سبباً في ازدياد قدرها كمركز للتقدم المستنير.)
نغمة جديدة، واتجاه فيه الخير حتما، سواء أأفضى إلى النتيجة المتوقعة أم إلى غيرها، لأن نتائج البحث العلمي الصحيح لها دائما قيمتها. والآن نورد مثالا من المشهدات التي تعرض كثيرا للعلماء القليلين المشتغلين اليوم بهذه البحوث.
في سنة 1903 تلقى السر ألفر لدج من صديقه الأستاذ شارل ريشيه رسالة فحواها أنه في الليلة التي قتلت فيها ملكة الصرب وأخواها في بلغراد كان الأستاذ ريشيه مجتمعا بوسيط وبعض الأصدقاء في جلسة روحية بباريس، وكانت حروف الهجاء تملى عليهم بطرقات على المائدة. فبعد ورود عدد من الرسائل العادية بدا من القوة المتسلطة على المائدة اهتمام وإلحاح، وأمليت الحروف الآتية بطرقات أعلى من المعتاد عندئذ توقع ريشيه أن تكون الرسالة باللاتينية، واستمر الإملاء وجاءت الحروف الآتية ولم يجد ريشيه في الرسالة أي معنى، ولكنه استمر في التدوين آليا، وكانت الحروف الباقية ولم يكن يفهم من هذه الرسالة سوى أنها تشير إلى عائلة ما. ثم لاحظ ريشيه بعد ذلك أنه يمكن تقطيعها إلى كلمات هكذا (بانكا الموت كامن للعائلة.)
هذه الرسالة وردت في يوم الأربعاء 10 يونية سنة 1903 الساعة 10 والدقيقة 30 مساء. وبعد يومين كانت الصحف الفرنسية غاصة بخبر مقتل الملك إسكندر وزوجته الملكة (دراجا) وأخويها في بلغراد. ومن بين ما ذكرته الصحف ان والد الملكة توفى من عهد غير بعيد وكان اسمه (بانسا) وقد دهش الأستاذ ريشيه عندما رأى هذا الاسم في الصحف. ولاحظ اتفاقه مع الكلمة الأولى غير المفهمومة في الرسالة والخطأ الوحيد هو إملاء بدلا من
وبالبحث علم ريشيه ان القتل حدث بعد منتصف الليل بقليل، فهو في وقت ورود الرسالة لم يكن قد وقع بعد. ثم علم ريشيه ان الساعة 10 والدقيقة 30 في باريس توافق منتصف الليل في بلغراد. وهو الوقت الذي غادر فيه القتلة فندق (لا كورون دي سريا) لارتكاب الجريمة المروعة. إذن فكلمة تناسب الظروف تماما، إذ تشعر بقط يتحفز للوثوب على(35/62)
فأر. ولم تكن لتناسب الظرف لو أن الرسالة وردت بعد حدوث القتل، أو وردت قبله بزمن طويل
وفي يوم الخميس 11 يونية الساعة 2 مساء ورد الخبر إلى باريس ولم يطللع ريشيه على تفاصيله إلا يوم الجمعة.
تلك هي الرسالة وظروفها. والطريقة التي أخذت بها تعد أبسط تجربة روحية. وهي أن تجلس عدد من الأصدقاء أو الأقارب حول منضدة: ويكون بينهم وسيط، ثم يضعوا أيديهم على المنضدة بخفة، فتسمع على المنضدة طرقات لا شأن لأي واحد من الحاضرين بأحداثها. عندئذ تتلى الحروف الأبجدية فتسمع طرقة عند النطق بكل حرف ما عدا الحرف المراد إملاؤه، فيدون، وبعد الانتهاء تقسم الحروف إلى كلمات.
كيف نعلل حدوث هذا الطرق على المائدة؟ أقرب تعليل له هو أن الوسيط يحدثه بطريقة شعوذية لا يتبينها الحاضرون. ولكن لو سلمنا بأن الوسيط هو الذي يحدثه عمد، كيف نعلل ورود رسالة كهذه التي ذكرناها؟ كيف علم الوسيط بوجود المؤامرة لاغتيال الأسرة المقتولة وحلول وقت التنفيذ؟ إن سر هذه المؤامرة كان بطبيعة الحال مصونا أشد صيانة، ولولا ذلك لحبطت، فبعيد أن يكون الوسيط على علم بها وهو في باريس.
يعلل لدج هذه الظاهرة بأن واحداً ممن ماتوا وكانوا يشاركونه هو وريشية بحوثهما قد انتهز هذه الفرصة ليضع أمام ريشيه دليلا على الاتصال الروحي.
أما ريشيه فمع اعتقاده بانتفاء الشعوذة من هذه المشاهدة ومثلها بالنسبة لما يتخذه من التحوطات، لا يذهب في تفسيرها فذهب لدج بل يعزوها إلى انتقال الفكرة من عقول القتلة في هذه الحالة إلى عقل الوسيط بطريق التلباثي، ثم طرق المائدة بقوة مستمدة من العقل الباطن للوسيط.
ريشيه يرى وجوب البحث الجدي في تلك الظواهر، وجمع المشاهدات ووصفها بدقة علمية، ولكنه لا يرى التعجيل بنسبتها إلى مصدر روحي ولدج يرى أن مشاهداته الخاصة قد تركته على تمام اليقين من وجود المصدر الروحي. أما الذي لا خلاف بينهما عليه، فهو أن هناك ظواهر نفسية وآلية شاذة غريبة تتطلب جيوشا من الباحثين.
عبد المغني علي حسين خريج جامعة برمنجهام(35/63)
بين الضحك والبكاء
للدكتور احمد زكي
يسر الإنسان لأمر، لمنظر واقع حاضر يُمتْعُه، أو لذكرى طيبة ماضية يسترجعها، أو لفكرة يؤلفّها خياله لا تتصل إلى الكائن الراهن بسبب، فلا يلبث أن ينتقل هذا السرور الذي بروحه إلى جسده، والوجه أكثر أجزاء الجسد تخصصّاً في إظهار الآثار الروحية، والكشف عن انفعالات النفس الخبيثة، وهو يفعل ذلك بقبض العضل وبسطه، وتقصيره وتمديده، وبالتأليف في كل هذا بين مجموعات منه متخالفة. فقد تنبسط الأسارير، وقد تفتر الشفاه، وقد تنفتح انفتاحاً ويصحبها انطلاق الهواء من الرئة واندفاعه إليها بسرعة تزيد على سرعة الزفير والشهيق كثيراً فتحدث القهقهة. وقد ينقلب سرور النفس إلى ثورة تعم الجسد كله.
وقد حاول كتاب تفسير الضحك. قال أحدهم إنك تنظر لرجل تزل قدمه في الطريق فينقسم إلى أجزاء ثلاثة أو أربعة فتضحك لأنك تقرن نفسك به دون قصد، فتحس بالتفوق والعلو، فيسرك (المجد الذاتي الباغت). وردّ (شوبنهور) أسباب الضحك إلى تناقض بين أجزاء الصورة أو تعارض غير مألوف بين معاني الفكرة الواحدة، على أن يكون إدراك ذلك سريعا. وقال (برجسن): إن سبب الضحك أن تتعطل في المضحوك منه الإرادة اليقظة الموجهِّة القاصدة، فيأتيأفعالا لا هيمنة للعقل عليها، ومثل ذلك الزَّلَق وما يحدث من الغافل الذاهل، ومن السكران الذي فقد السيطرة على أعضائه. كل هذه لا شك أسباب تكون للضحك، ولكن لا شك أيضاً أن هناك أسباباً عديدة أخرى ليس من السهل الميسور تحديدها أو تعريفها.
وبقدر ما تتعد أسباب الضحك تتعدد أنواعه، فالضحكة قد تضيق وقد تستعرض، وقد تسرف في الضيق كما تسرف في الاتساع، وقد تتخذ أوضاعا عدَّة بين هذا وذاك، وهي في جميعها ضحكة بسيطة خالصة نشأت عن سرور بسيط خالص. ولكن قد تكون الضحكة عن ألم شديد وحزن عميق يحدث في النفس توتّرا لابد من إرخائه، وتأزّما لابد من تفريجه، وتركزاً في طاقة البدن لابد من تخفيفه، وضغطاً حاراً تحسه في القلب أو بين الأضلاع لابد من انطلاقه، فان كان معتدل الكم انطلق من مخارجه المعتادة، ومن الشؤون في(35/65)
العيون، وان ضاقت عنه تلك المخارج أو عزَّت طلب سبلا غير معتادة فكان حزناً ضاحكاً، فالضحكات كالدمعات إن اختلفت أصولها فقد اتحدت مراميها
وكما يضحك الباكي فكذلك يبكي الضاحك، فالضحك والبكاء صنوان. كلاهما فيض الكأس عند الامتلاء، كلاهما فضل الطاقة الفسلجية الخبيثة كالتي يفيض بها جسم المحموم عندما تنكسر حمّاه عن قطرات تبكيها مسامّ الجسد العديدة. فان أنت سررت وضاق صدرك بالسرور فلا تكتمه بل أضحك وازأط، وان أمكنك فابك، يسترح جسمك وينتعش ويستفق. وان أنت اهتممت أو حزنت أو داخلك الوجد المضني فابك وأفض وافتح شئونك وُسْعَها، وان أمكنك فاضحك وازأط كذلك، وأنا ضمين لك بالعزاء وبالشفاء
والضحكة قد تمتزج بها عواطف أخرى لا تمت بسبب إلى السرور أو إلى الحزن، فقد تكون ضحكة هازئة، أو ضحكة مرة حاقدة، أو ضحكة غَزِلة
والإنسان في عالم الحيوان أكبر ضحاك، وربما كان هو الضاحك الوحيد، ويقول بعض العلماء الخبثاء إنه أكبر مضحوك منه كذلك ومن الضحك ضحك مَكنْىَ آليّ تثيره الدغدغة وان شئت (فالزغزغة) ولا أظنها كلمة تضيق بها صدور العرب وان ضاقت عنها المعاجم. وهذا الضحك الآليّ لا يعوزه السرور الذي يصطحب الضحك التلقائي ولذا يعود الطفل إلى طلب الدغدغة وقد كان أباها. وذلك لما وجد فيها من الغبطة.
وكذلك الحيوان يتدغدغ فيحس في الدغدغة سرورا وغبطة. ولكنه لا يضحك ولا تجري دموعه منها. فمن الثعابين أنواع إذا مسحتَ أظهرها بأناملك في لطف ورفق سرها ذلك فاستكانت، وان سكتَّ عادت في خشوع تطلب المزيد.
وفي جزيرة سيلان يمسكون التماسيح بالحيلة، وحيلتهم في ذلك الدغدغة. يلوّحون للتمساح بالطعم في الماء، حتى إذا استدرجوه إلى المياه الضحلة، أتاه المروّض فتمتم بعض التعاويذ، حتى إذا اقترب منه دق رأسه بعصا دقا خفيفا متتابعا، حتى إذا تلهَّى تجرأ الصيّاد فركب كتفيه وأخذ يمسح بالأصابع جلده الأسفل اللين، بينما اليد الأخرى تشده بالحبال وفي الملايا يستخدمون نفس الحيلة في أسر نوع من السمك ويسمونه (السمك الأحمق) وهو سمك كبير يعيش على بعد من سطح البحر يتراوح بين العشرة الأقدام والعشرين، وهو يرقد ساكنا فإذا تحقق السّماك من وجوده غاص من قاربه إليه في سكون، وأسرع فوضع(35/66)
يده تحته وأخذ يدغدغه دون زعانفه، فلا يلبث أن يدخل السمك في شبه سكرة من السرور العميق فينقاد طوعا إلى سطح الماء حيث القارب وهو يحتضن الكف التي تدغدغه. ثم يسير به القارب برجاله إلى المياه الضحلة من الشاطئ. فإذا حانت الساعة انهالوا عليه بكل سكين جارح، ومقصل حاد فقتلوه. وكم قتلةجاءت من بعد سرور، وكم لذة خلفت حسرات.
احمد زكي(35/67)
القصص
قصة مصرية
الخبز الرخيص
. . . وفتح الفتى عينيه - وكان يغمضهما كأنه يحلم - وألقى نظرة أخرى على ورقة من ورق الرسائل الأزرق منشورة أمامه.
ولم يكن يدري كم من الوقت مر عليه وهو - على حالته هذه - أمام مكتبه، والقلم في يده، وعيناه مغمضتان، ورأسه يحس انه يوازن كرة الأرض ويدور دورانها.
واعتمد بجبينه على راحة يده اليسرى، وأرسلها نظرة تائهة إلى الفضاء الذي يمتد أمام نافذته، وأخذ يستعيد ذكريات ساعات قريبة:
تذكر انه كان جالسا يقطع ساعة من ساعات الفراغ والوحدة المملة بالقراءة والتفكير، فسمع الجرس يدق خمس دقات - تتصل ثلاثتها الأولى وتقفوها دقتان منفصلتان - فأسرع إلى الباب يفتحه، وقد افترت شفتاه عن ابتسامة للوجه الذي سيطالعه، إذ كانت هذه الدقات سراً بينه وبين فتاته اصطلحا عليها، رفقا بأعصابه التي لم تكن تتحمل، حين يكون في انتظارها، أن يدق الجرس ثم لا تكون هي الطارقة.
دق الجرس دقاته الخمس، ولكنه حين فتح الباب تقدمت إليه فتاة أخرى - لا عهد له بها - تبتسم ابتسامة ناقصة، فحار في تعليل هذا ولم يكد يبدأ التفكير حتى تقدمت إليه صاحبته - وكانت تختفي وراء مصراع الباب المقف - وهي تقول ضاحكة: (أقدم لم صديقتي فتحية) فمد لها يده يحييها، ونظر لفتاته عاتبا وهو يقول: (يا شقية! متى تدعين هذا العبث؟)
وجلسوا ثلاثتهم وجعل الفتى يضحك ويتحدث كما هي عادته مع صديقته وصاحبتها، إلا انه كان يخيم على مجلسهم شيء من الفتور لم يكن يدري له سببا. وكان يبدو على وجه الفتاتين كثير من التردد والانتظار، ففترت رغبته في الحديث وودلو يعلم ماذا تكون النهاية
وكانت كلمات تحار على شفتي فتاته أمضها كتمانها، فقامت وخطت خطوتين إلى النافذة، وأطلت منها وعادت إلى حيث كان جالسا وعلى محياها دلائل العزم والتصميم وقالت:
- حقي! (وهذا اسم الفتى) هات ورقة وقلما!
- ماذا تصنعين بهما(35/68)
- لا تسألني!
وألقت نظرة إلى صديقتها وقدم لها هو ورقة من ورق الرسائل الأزرق وقلما فقالت:
- اجلس هنا.
وأشارت إلى المكتب فجلس وهو لا يدري ماذا يراد به. فقالت:
- أكتب ما أملي عليك (وأخذت تملي)
2. 5 متر كريب ستان أسود، 5 أمتار كريب جورجيت أسود. حذاء أسود رقم 37 (أنيسيال) حرف (ل) وقالت كأنما تحدث نفسها:
- يكفي حرف واحد باسمي أنا (وكان اسمها ليلى!)
والتفتت إلى صديقتها قائلة: ماذا غير هذا؟
وقبل أن تجيبها قالت وكأنما تحدث نفسها مرة أخرى. . . كفى!
فرفع إليها (حقي) عينين حائرتين يسائلها ماذا تعني فقالت:
- سوف آتي يوم الثلاثاء القادم فأجدك اشتريت هذه الأشياء. إني اترك الاختيار لذوقك - ثم قالت:
- سوف ترى كيف أبدو في هذه الملابس.
فحاول أن يبتسم، ولكن شفتيه لم تنفرجا، وحاول أن يعلل مسلكها فلم يهتد إلى تعليل. ترى ما الذي دعاها لان تطلب منه هذا، وقد كانت ترفض أن يهدي إليها شيئا مخافة أن يسألها ذووها عن مصدره؟ ثم هذه الطريقة التي طلبت بها ما طلبت. إنها لم تعجبه بل ومالنا لا نقول إنها ساءته وأمضته أيما مضض.
وحاول أن يستبقيها حين همت بالرحيل ولكن الأعذار تسابقت إلى شفتيها. . . وساءل نفسه - وهو يسير معها إلى الباب يودعها وصديقتها - بماذا تراها تعلل مسلكها إن سألها عنه؟ ولم يجد جوابا، وانتهى إلى أنها وضعت نفسها في مأزق سوف لا تدري كيف تخرج منه.
ووقف في أعلى الدرج يتابعها بنظراته وهي تهبط، وطافت برأسه حكاية الغزال والثعلب فهم ان يصيح بها. لم لم تفكري في الطلوع قبل ورود الماء؟ ولكن ارتد عن هذا وعاد إلى مكتبه يفكر(35/69)
وهذا هو بعد فترة - لم يكن يدري مداها - قضاها شبه حالم في تأمل لم يخرج منه بطائل، ثم إنه حين فتح عينيه وعاد بعض الشيء إلى حالته الطبيعية تبين أنه كتب في غير وعي على الورقة الزرقاء - التي لا تزال منشورة أمامه - باللغات التي يعرفها (أبدا. . . ابدأ. هذا لن يكون. .!) ذلك بأنه كان قد انتهى إلى ما يشبه التصميم على إلا يلبي طلب الفتاة، وعلى أن يقطع علاقته بها وان لم يكن يدري سبب هذا على التحقيق.
وجاء المساء فتوفر الفتى صدر ليلته على التفكير في فتاته وكأنما زايلته نفسه وقفزت إلى كتفه، وصارت تسائله وتحاوره وتضحك منه ساخرة. قالت له نفسه:
- تريد أن تهجرها؟ أتراك تعني ما تقول؟ أتراك تستطيع أن تنسى؟ فمط شفتيه وهز رأسه وأقفل عينيه وهو يقول:
- النسيان؟ لقد جربته في الماضي ونجحت التجربة فمالي لا أحاول مرة أخرى؟
- أية مغالطة! انك لم تنس أبدا. لقد كنت تخدعني وتتناسى. ومع ذلك حاول هذه المرة أن تنسى: العينين الباسمتين دائما، العميقتين اللتين لم تكن تمل أن تحدق فيهما، والشفتين اللتين كانتا نفتران عن بسمات تسير على ضوئها أياما. . والقبلات التي كنت تقول إنها تعوض كل مفقود وتأسو كل جرح، وتعزى عن كل مصاب!
- كفى! كفى! دعينا من هذا!
- هي! لقد كنت ظننتك نسيت! وفي الحق مالنا ولهذا! أنت تريد أن تهجرها فهل بحثت عن سبب أطمئن إليه)
- كأنك لا تعرفينني! إن اقتل قلبي، ولا أجرح كبريائي.
- كبرياؤك؟ ماذا مسها؟
- لم أكن أظن أن فتاتي - كمن سبقنها - تريد أن تتقاضاني ثمن العاطفة كأن حناني لم يكن ثمنا كافيا!
- أي سبب؟! إنك لتتجنى عليها. لعلك تفيء إلى الحق فتعترف أنها نزوة تلك التي أصابتك.
- وما يهمني؟ أليست النزوة مع عطلها عن الأسباب سببا في حد ذاتها؟ وللنزوات أحيانا أسباب نتجاهلها. قل لي ألم تكن تحب صاحبتك؟(35/70)
- لست أدري. وإنما كل الذي أدريه أني كنت أكون سعيداً بجانبها، وان نظراتها كانت تسحرني، وأن بسماتها كانت تضيء ظلمات وجداني.
- ولم لم تصل حياتك بحياتها؟ ألم يكن هذا يكفي؟
- كان ينقصني أن أعلم اليقين أنها تريدني إرادة قوية جارفة تطغى في نفسها على كل ما عداها.
- إنها تريدك. وإلا فما الذي دعاها أن تبقى على علاقتها معك؟
- هيه، كثيرات يبعن أنفسهن أو يعرضنها سلعة يتقاضين في مقابلها خبزاً. ويا ما أرخصه من ثمن!
أنت تشك إذن؟
- وأريد أن يمحى الشك بأن أراها تهزأ بكل شيء وتستبيح كل شيء في سبيل ان تبقى على أنا
- أية أنانية! وماذا يغريها بهذا؟
- وماذا يضيرها؟
- ماذا يضيرها؟ إنها فتاة. ومن حقها أن تشك وأن تظن انك تريد أن تلهو بها وأن تلعب.
- إذن أنفض يدي منها!
- وتبقى هكذا فارغ القلب دائما؟
- ذلك أجدى من أن املأه عاطفة قد تكون مسمومة فتقتله. . . وقلب فارغ خير من لا قلب!
وعاد إلى نفسه أو عادت إليه، فخفف كثيرا من ثورته على فتاته وعزم على أن يجيبها إلى ما طلبت، وان يتخلى عنها في رفق، وأن تكون هكذا نهايته معها
ومرت سنتان. . .
وذات ليلة بينما كان يقفل نافذته لينام، راعه السكون المخيم على الطريق، وما هي إلا لحظة حتى خرقت حجب الصمت دقات ساعة في منزل قريب. . . تن. تن، حتى أكملت إحدى عشرة دقة وهو في مكانه ذاهل واجم. وان صوت الجرس في الظلام والسكون ليدخل على النفس شيئا كثيرا من الرهبة والكآبة، وهكذا أنسته هذه الدقات برنينها المكتوم(35/71)
نفسه لحظة أو بضع لحظات فوقف في مكانه يفكر على هذا النحو
هذه الساعة ألقت بحلقات من سلسلة الزمن إلى ظلام الماضي وعمقه، وهذا هو مبعث الكابة التي تدخلها على النفس دقاتها في السكون والظلام.
أهكذا تمر الساعات والأيام؟ هذا عام ثان يكاد ينتهي ولما تعد فتاتي، ترى ماذا صنع الله بها؟ اني لأتمثلها الآن وهي تهبط الدرج لآخر مرة في خطوات غير متزنة. إنها لم ترفع عينيها. أترى لم تكن تفكر في (الطلوع) مرة أخرى؟ أم ان القدر الأعمى لم يكن انبأها، وإنما سارت واضعة ذراعها تحت ذراعه إلى حيث لم تكن تدري؟
من كان يدري؟. . حين ألقت بها المصادفة في طريقي، شعرت إني وجدت فيها الإجابة على نداء نفسي الذي كانت تهتف به منذ فجر الشباب. لقد وجدت فيها ريا أطفأ ذلك اليهام إلى المجهول الذي كان يجعل العالم أمامي كوادي التيه أسير فيه على غير هدى.
وغابت عني فعدت إلى عالمي القديم صفر اليدين إلا من ميت الآمال!
ومرت سنون ثلاث. . وذات يوم كان (حقي) يسير في شارع فؤاد فلمح اسم صديقه إبراهيم. . . المحامي، على لوحته النحاسية - بين لوحات أخرى تحمل أسماء كثيرين اغلبهم أطباء - معلقة على باب العمارة، وفجأة خطر له أن يزور هذا الصديق في مكتبه.
ولم يكد يتخطى الباب الكبير حتى وجد فتاته. . . ليلى! نعم هي كما كانت دائما. . . وجدها واقفة تتسلى بقراءة البطاقات الموضوعة على صناديق البرد في مدخل العمارة، وكأنما كانت تنتظر أحداً.
والتقت نظراتهما، وحار فيما هو فاعل، ولكنه لم يدر إلا وقد تقدم إليها وهو يقول:
ليلى -! لم لم تأت يوم الثلاثاء الماضي؟ كنت مريضة؟ هذا هو عذرك الدائم.
وكان يوم الثلاثاء الذي يعنيه قد مرت عليه سنون خمسة! ولكنه حين أخذ يدها بين يديه يشد عليها نسى أنه لم يرها طوال هذه المدة وهكذا شعرت هي الأخرى، وكأنما هذه السنين قضياها كأهل الكهف نياما!
وأغمضت عينيها وكأنما أرادت أن تكر بالذاكرة إلى هذا الماضي البعيد وقالت وهي تبتسم:
- كلا لم أكن مريضة ولكن حدث أن أمي خرجت معي ولم يكن في إمكاني أن أستصحبها في زياراتي لك. قال:(35/72)
- حاجاتك لا تزال في درج مكتبي. كنت انتظر دائما دقات الجرس الخمس، فأذهب لأقابلك بها على الباب.
لقد اشتريتها إذن! لم أكن أحسب أنك تعتقد أني كنت جادة فيما طلبت. . . هي صديقتي التي أغرتني. . . تجربة لعاطفتك نحوي. ولكني أخطأت في السماع اليها، وخفت ان أنا عدت إليك أن تعتقد اني إنما أعود لأسألك ما طلبت
ودارت الدنيا أمام عينيه، وقال لنفسه (ما أكثر ما يخطئ الإنسان التقدير!)
وفجأة رآها تتركه - وقد عراه ارتباك ظاهر - وتنظر إلى الباب حيث وقفت عربة، نزل منها شاب ناداها باسمها فهزت رأسها تجيبه، ودارت بنظرها إلى يمين المدخل منادية يا حقي!
وأصابته رجفة إذ سمعها تلفظ اسمه، ولكنها كانت تنادي طفلا - في نحو الرابعة من عمره - لم يكن القي بباله إليه. وأجابها الطفل متسائل - ماما؟
فمدت يدها إلى الطفل ورفعت نظرها إلى الفتى كأنما تسأله أن كان قد فهم شيئاً.
وركبت الفتاة والشاب والطفل العربة، وانطلقت بهم ووقف (حقي) يتبعها بنظره ويصغي لوقع أقدام جيادها على الأرض، ويسمعه دون كل ما عداه من ضجة الطريق الصاخبة، حتى لم يبق منه غير صدى يرن في الأذن رنينا.
وحينئذ أحس كأنما بدأت الأرض تميد. . .
مصطفى حمدي القوني(35/73)
الى خراسان
للأستاذ الرحالة محمد ثابت
من رحلة قام بها الأستاذ سنة 1933 إلى تركية والعراق وأفغانستان
إلى بحر الخزر
قمت من طهران شمالا صوب بحر الخزر، مسافة ستين فرسخاً أو نحو أربعمائة كيلومتر، كانت المناظر في النصف الأول منها مألوفة:
ربى تتوسطها هوى من ارض مهملة، وما كدنا نوغل في النصف الأخير حتى زادت عقد الجبال في صخرها الاغبر المنحل وغالبه من الجير الذي اسود بمضى السنين، وكثرت الالتواءات الأرضية وزادت طياتها وأخذ الطريق يعلو ويهبط ويلتوي على نفسه مرات متعاقبة في وعورة لم نعهدها من قبل. بعد ذلك بدأت صفحة الجبال المعقدة تتغير معالمها إذ كساها الشجر القصير في تفرق أعقبه تلاصق عاجل، وما نشعر إلا ونحن نوغل في غبابة كثيفة ذكرتني بمناطق الغابات الافريقية، وكنا بجانب وادي نهر يسمونه (النهر الأبيض) يتلوى ليات متعاقبة وسط تلك الجبال اللا نهائية، وكان ماؤه آسنا إذ يفيض بالماء إبان الشتاء حين تكثر الثلوج التي تكسو تلك الجبال - جبال البرز - ولقد ظلت المناظر رائعة ساحرة خلاف ما عهدناه في ربى إيران المنفرة التي عريت عن النبت، ونضبت مياه مسايلها، وكانت بعض الوهاد وما يزينها من قرى صغيرة أشبه ببلاد اسكندناوه وسويسرة، علىأن الشجر مختلف إذ لم أر للصنوبر من أثر حتى في أعالي الذرى، وكله من أشجار المناطق الحارة تكثر حوله الطفيليات والأعشاب المتسلقة التي تسد الغابة سداً ولذلك يطلق عليها القوم كلمة (جنجل) الإنجليزية، وكلما قاربنا بلدة (الرشت) بعدت الجبال وانفسح السهل وغص بالقرى والمزارع التي شهرت من أجلها البلدة وبخاصة في الأرز والطباق، وهذه الناحية أشهر بلاد فارس الزراعية. أخيراً دخلنا الرشت التي كانت عاصمة بلاد الديلم قديما، وهي اليوم عاصمة مقاطعة (جيلان) الفارسية فبدت مدينة عامرة أخف روحا من طهران نفسها، وقد حاكت المدن الأوربية، ويظهر أنها تأثرت طويلا بالروس يوم كان لهم النفوذ في هذه المنطقة، لذلك كانت جموعهم كثيرة، نساء ورجال واللغة الروسية يعرفها الجميع إلى جانب لغتهم الفارسية. وغالب البيوت من طابق واحد تظهر وكأنها أقيمت كلها(35/74)
من جديد، وهي ذوات سقوف متحدرة يكسوها الآجر الأحمر خلاف ما شاهدنا في سائر جهات فارس، ذلك لان مطر المنقطة غزير يفوق مقداره المتر، ويعزى إلى رياح شمالية غربية سائدة تهب من بحر الخزر على تلك المرتفعات فتدفعها مطرا وتسكو ذراها ثلجا، وتزيدها في الشتاء أعاصير البحر الأبيض التي تندفع من بحر قزوين إلى بحار الهند الدافئة خفيفة الضغط ويظل المطر زهاء ثمانية شهور ولم تخل السماء من الغيوم وكان الجو أميل إلى الرطوبة حتى في هذا الفصل الجاف، لذلك قل بها التراب الذي كان ينغصنا في بلاد فارس كلها، وكان جوها لطيفا محتملا عن جو طهران، إلا إذا انكشفت الشمس فعندئذ يصبح الحر شديدا. على أن الجهة تعرف بكثرة الأوبئة والحميات بسبب الحرارة والرطوبة معا، وقد زادها حرا أنها على منخفضات بحر الخزر التي تنخفض عن مستوى البحر بنحو خمسة وعشرين مترا لذلك يجري القول على لسانهم: ماذا أذنب فلان حتى يولى حاكما على الرشتت. على أن حظي كان موفقا إذ كانت أيامي هناك أجمل أيام قضيتها في إيران كلها. وفي المدينة مجموعة من متنزهات منسقة تقوم به المقاهي، وفيها تسمع الموسيقى الشجية وقد اختلطت الأنغام الفارسية بالروسية، وكلاهما مما تستريح له آذاننا.
أقلتنا السيارة إلى بهلوي على شاطئ بحر الخزر - ولا يسمونه هناك بحر قزوين أبداً - فكان الطريق يمتد أربعين كيلومترا وهو يتولى وسط الإحراج المغلقة يؤمها النمر والحيوان المفترس ومن أعجب ما رأيت فيها الكروم البرية التي كانت تنمو في كل أرجائها ومنها نقلت كروم أوربا. اخذ الشجر ينضمر ويندر كلما قاربنا البحر ثم انعدم، وأضحت السهول تكسى ببساط من خضرة إلى البحر، وكانت بيوت القوم أخصاصا من الأعواد والخشب يكسوه القش الثقيل في شكل مخروطي أو متحدر السقوف، كأنها مساكن الغابات الاستوائية على ضاف فكتوريا نيانزا. والقوم يستأصلون الاحراج في مسافات يزرعونها من الأرز والطباق والقطن والكتان، والعمل يقع كله على السيدات اللاتي كن يظهرن في ملاءات بيضاء ناصعة وقد استرعى جمالهن نظري، فهو مخالف للسحن الفارسية البحتة ويظهر أن اختلاط الروس بالفرس هناك اكسب أولئك جمالا عالج كبر الأنف الفارسي، وأشرب اللون الفارسي الأبيض بعض الحمرة الروسية الجذابة، والناس في تلك الناحية يمونون أنفسهم بكل شيء من عمل أيديهم حتى الملابس ينسجونها من القطن والكتان والحرير - وهم(35/75)
يربون دود القز بكثرة
دخلنا بهلوي فكانت بيوت الفقراء اخصاصا، على نمط تلك التي في الغابات، يحفها سور من غاب، وعلى البحر أقيمت الميناء بروافعها وبواخرها وزوارقها، وتلك الناحية يسمونها (غازيان) وإذا ركبت البحر أقبلت على شبه جزيرة تبدو عليها المباني الفاخرة والشطآن المنسقة، وهذه هي بهلوي أو أنزيلى القديمة، ركبت البحر إليها في ربع ساعة، وإذا بها آية في التنسيق والنظافة، بيوت فخمة، وطرق مرصوفة، ومتنزهات عدة، وقد مدت على شواطئ البحر الحدائق والمقاهي، فكنت وأني في إحدى مدن الرفييرا تماما. وفي الحق أن تلك الناحية من فارس فريدة، تختلف عن سائر جهات فارس في كل شيء: في طبيعة الأرض، وفي الجو، وفي النبت، وحتى في أهلها فهم أكثر نشاطا وجمالا. أما الناحية الخلقية فهي هنا أكثر فساداً، ولا شك إن للإباحية الروسية أثراً كبيرا في هذا
ولقد حققت حلما طالما جال بخاطري هو أن أركب بحرر الخزر - بحر طبرستان قديما - وأطوف بسواحله ذات الطبيعة المختلفة من غابات كثيفة تغص بها سواحله الجنوبية، إلى غابات جبلية في غربة، إلى كلأ وعشب صحراوي في شرقه، إلى أرض ملحة مهملة في شماله. لكن الشبح الروسي لم يتح لي التجوال كاملا فلبثت اليوم كله أجول في مياهه الفارسية، وقد كان ماؤه هادئا، على أنه إبان العواصف يعلو موجه ويضطرب، وقد تذوقنا ماؤه فإذا به نارد الملح على خلاف ما عهدت، فخلنا أن ذلك راجع إلى قرب المصاب العذبة. لكن القوم يعرفونه أميل إلى العذوبة في كل أرجائه وأيدوا رأيهم بكثرة أسماكه نوعا وعدداً. ولذلك كانت مصائده هامة للدولتين الفارسية والروسية، حتى أضحى السمك الغذاء الرئيسي، فهو والأرز عماد الطعام، وقد كان لهما أثر حسن في أجسام الأهلين، فهي ممتلئة ولم أعثر على القامات الطويلة والأجساد السمينة إلى في تلك الناحية من فارس كلها
اصحبنا يوم الجمعة والجو جميل، والسماء تنتثر بالغيوم بعد أن أمضينا ليلتنا في نزل (سافوى) في الرشت، وهو يطل على ميدان البلدية، تمتد منه الطرق المستحدثة، تزينه المتنزهات، والمنظر من شرفه النزل رائع: السماء تنقشها السحب، والخضرة تمتد إلى الآفاق، والمباني حولنا أنيقة، وجماهير الناس في أنظف ثيابهم - لأن يوم الجمعة يوم الراحة القومية. يروحون ويغدون في كثرة تسترعي النظر ولا يخلو الجمع من طائفتين(35/76)
الغانيات في ازرهن السوداء المهفهفة والمتسولين الذين يمسكون بتلابيبك ويصيحون في نغمة البائس المستميت، واكّفهم مبسوطة وكثير منهم من يظهر في هندام نظيف ووجه مشرق، يدل على أنهم على شيء من اليسار، لكن التسول أضحى في القوم عادة متأصلة ذميمة. وكثير من مباني الرشت وبهلوي بالخشب لكثرة الغابات حولهما، لذلك ترى في كل برجاً عالياً يظل فيه الرقيب صباح مساء لينذر بالحريق إذا ما بدا دخانه أو لهيبه في أية ناحية من البلدة.
قمنا مودعين تلك المنطقة البديعة التي تصلح للراحة في الربيع والخريف. وأخذت سيارتنا تشق الخضرة التي زادت كثافتها تدريجا، وبعد ثلاثين كيلومتراً بدت جبال البرز، أعني أن السهول تمتد إلى بحر الخزر سبعين كيلومترا؛ وكانت الأشجار الكثيفة تغطى الجبال إلى أعلى ذراها، والربى تبدو مدرجة الواحدة وراء الأخرى، وسحاب السماء يكاد يلامسها وإن لم يبد للثلج فوقها من أثر. وكانت طيات الوديان بمائها الشحيح تختفى وراء النجاد تارة ثم لا تلبث أن تتكشف في مباغتة تقر لها العين. وكان المنظر العام ونحن وافدون من الرشت أروع منه لمن يدخل البلدة قادماً من طهران. وظل جلال الغابات حولنا زهاء خمسة وعشرين كيلومتراً، ثم ندر الشجر وانعدم فجأة، وأضحت عقد الجبال قاحلة منفرة مسافة ذرعها سبعون كيلومترا، كان الطريق فوقها طيات قاسية رهيبة، خصوصا في ضوء القمر الشاحب، وفي سكون الليل الرهيبة.(35/77)
العالم المسرحي والسينمائي
بين مسرحي الدرام والكوميدى في مصر
لناقد (الرسالة) الفني
لعل من أعجب ما يلاحظه المتصل بالمسرح المصري في العشر
سنوات الأخيرة اتصالا وثيقا أن المسرح الهزلي - الكوميدي - كان
أكثر توفيقا ونجحا فمن المسرح الجدي - الدرام - وأقوى على مغالبة
الأزمات والعقبات التي عرضت في السنون الأخيرة وأودت بالفرق
التمثيلية إلى الدرك الذي وصلت إليه.
وأغرب من هذا وأبعث على العجب أمن مسرح الدرام بدأ غنياً فافتقر، بينما أن مسرح الكوميدي بدأ فقيراً ثم اغتنى. وما نعني هنا هذا العرض الزائل وهذه الدريهمات التي تأتي بها الظروف أحيانا، وتذهب بها الظروف أحيانا أخرى، وإنما نعني في حديثنا عن الفقر والغنى الناحية المعنوية والفنية لكل منهما.
فمنذ عشر سنوات أو قبل ذلك بقليل، كانت فرقتا الأستاذ جورج والأستاذ عبد الرحمن رشدي تنهضان بعبء العمل المسرحي على أكفأ ما يكون، وتغذيان جمهورهما بأنفس الروايات المترجمة أو المؤلفة على السواء، وكانت الفرقتان تضمان مجموعة من خيرة ممثلي وممثلات المسرح في مصر، وكان الإقبال على حفلاتهما ليس بالقليل وحلت الفرقتان لأسباب عارضة لسنا بصدد تفصيلها هنا وتألفت على أنقاضهما فرقة رمسيس التي اجتمع لها من أسباب القوة والبروز ومقدمات النجاح والنصر ما لم يجتمع لفرقة قبلها، فالمال جم وفير، وثمت مسرح خاص أنيق، ونخبة من أحسن الممثلين والممثلات، ومجموعة منتقاة من أجود الروايات، وقبل كل هذا الرغبة القوية في العمل الفني الحق، والإرادة التي لا ينقصها الحزم، ونشطت الصحافة إذ أحست هذه الجهود الجبارة تبذل في سبيل الفن فأفردت صحفنا اليومية الحديث عن مسرح والتمثيل أبوابا خاصة بل صحائف كاملة، وكان ذلك حدثا جديداً في عالم الصحافة، وتفرغ كثير من الأدباء للكتابة عن التمثيل ونظمت لأول مرة في تاريخ المسرح حركة النقد تنظيما واسع النطاق، وقصارى القول أن(35/78)
مسرح الدرام في ذلك الوقت كان غنيا بل طائل الثراء بالجهود التي تضافرت لإنعاشه وبعثه وخدمته الخدمة الحقة التي تعلي من شأنه وترفعه إلى المنزلة التي هو جدير بها، ولم يكن ينقصه إقبال الجمهور الذي تدفق وحيا القائمين بهذه النهضة المباركة تحية طيبة مباركة.
كان ذلك منذ عشر سنوات، أي في مستهل افتتاح مسرح رمسيس الذي يؤرخ ظهوره عهدا جديدا في تاريخ المسرح في مصر، ما في ذلك شك، ولا من الاعتراف به بد. ولكن انظر اليوم أين نحن وأين مسرح الدرام، واين تلك النهضة التي بدأت قوية وسطعت كالشهاب اللامع. ثم إذا بجذوتها تنطفئ على الأيام رويداً رويدا، وتنحدر من قمتها الباذخة سنة بعد أخرى حتى إذا هي اليوم في أسفل الوادي، بل في هوة سحيقة وا أسفاه، وفي حال تدمع لها العين ويدمى لها الفؤاد.
ها هي فرقتنا الجدية تغلق دورها وتعلن فشلها، ويتفرق أفرادها يطوقون الأبواب كبائس في يوم عيد يرى الناس في زينتهم ونعيمهم وهو مملق مسكين، كده الضنى وأجهدته الحياة، وأسلمته صروف الأيام إلى المسغبة والعوز، ويخفض جناح الذل من الحاجة ويستعدى على مطالب العيش وقوت الأهل إحسان المحسنين وبر الكرام العاطفين
كان مسرح الدرام كما رأيت، وحاله اليوم كما ترى، كان غنيا وافر الغنى، فأصبح فقيرا شديد الفقر، كان رفيع العماد شامخ الذرى فإذا هو اليوم أنقاض وخرائب وموحشة.
لكن مسرح الكوميدي حاله غير هذه الحال، ولشد ما يختلف في نشأته وكيانه وتطوره عن مسرح الدرام! فبينما كان هذا قوياً زاخرا بفرقة العاملة وبمن تضم من أفراد مشهود لهم بالمقدرة والكفاءة، كان الآخر لا يزال في مستلهل حياته ومطلع فتوته يلجأ إلى دور صغيرة ضيقة من التجاوز في التعبير أن نسميها مسارح، وكان لا يضم إلا قلائل جمعتهم وحدة الغاية والميول فتكاتفوا على العمل سويا في النوع الذي وجدوا من أنفسهم ميلا إليه ومن استعداهم كفاء له. وأخرجت بعض روايات جورج فيدو المؤلف الفرنسي النابه الذكر فلقيت نجاجا كبيرا وبدأ مسرح الكوميدي ينتعش قليلا قليلا ولكنه لم يحرز التوفيق كله إلا في فرقة مسرح الاجبسيانه - رنتانيا اليوم - حيث بدأت الروايات الاستعراضية الكبرى والتي كانت تمثل كل منها الأسابيع والأشهر المتوالية بنجاح عظيم يفوق الحد والجمهور تكتظ(35/79)
بأفراده كل يوم مقاعد الملعب حتى ليس ثمت موضعا لقدم.
على أن مسرح الكوميدي طحنته الأزمة وحدت من جهوده غير أنه قاومها طويلا وثبت للعاصفة المجتاحة. والفرقة الوحيدة التي استمرت إلى اليوم على العمل هي فرقة للكوميدى، كما أننا نجد فرقة ثانية للكوميدى تؤلفه في هذا الموسم وتلقى نجاحا كبيرا في الوقت الذي تغلق فيه فرق الدرام أبوابها وتنصرف عنها الجماهير. وبينما نسمع صرخات مديري الفرق الدرام يستغيثون بلجنة تشجع التمثيل ويطلبون منها المدة والمعونة، نجد مدير فرق الكوميدي يعتمدون على محض جهودهم وعملهم، فان مدتهم اللجنة ببعض المال فلا بأس، وان طوت عنهم معونتها فلا بأس أيضا، وهم مستمرون على بذل ما في وسعهم لاكتساب رضى الجمهور وضمان إقباله وتشجعه.
أليس هذا الموقف جديراً بالتأمل والدرس؟ قل في تعليله ما تشاء وقل في أسبابه ونتائجه ما تقول، ولكن تبقى بعد ذلك الحقيقة الواقعة المنسوبة لا غناء في تجاهلها ولا نفع يرجى في التغاضي عنها وعما في طياتهم من معان هي خليقة بكثير من العناية والفحص. فإذا أبيت إلا أن أدلي بدلوي في الدلاء وإلا أن اذكر لك مرجع هذا في رأيي فلعلي لا أكون قد جاوزت الحق والواقع إذا قلت أن مسرح الدرام لم يعمل على التقرب من الجمهور ولا على أن يدوم له الطعام الذي يسيغه ذوقه، بينما عمل مسرح الكوميدي على هذا فنجح من حيث أخفق الأول
غلبت على مسرح الدرام الروايات الإفرنجية المترجمة وهي بشخصياتها وجوها، وعادات أبطالها وأخلاقهم، وبيئتهم وتصرفاتهم وكل ما يتصل بهم بعيدة عن ذوق الجمهور المصري، وقد تكون بعيدة أيضاً عن فهمه وإدراكه، غريبة عنه بكل ما فيها ومن فيها، ولكل شعب ذوقه الخاص ولذلك كان لكل أمة مسرحها الخاص، والمسرح في كل بلد يمثل الوسط الذي يعيش ويترعرع فيه، ولا تكاد تقحم المسرح الفرنسي في إنجلترا، ولا المسرح الإنجليزي في فرنسا، ولست كل الروايات الصالحة للعرض هنا، تصلح للعرض هناك، وقد تجد نماذج تنال النجاح والتوفيق في البلدين ولكنها الاستثناء الذي يثبت القاعدة ولا ينفيها. لهذا فشل مسرح الدرام لان الرواية المترجمة غلبت عليه.
والحال على النقيض في مسرح الكوميدي حيث لا تجد إلا الرواية المصرية، ولا(35/80)
الشخصيات المصرية الصميمة التي تعرفها وتحبها وتعيش معها في جوليس بالغريب عليك وفي بيئة أنت بها جد عليم. وقد افلح مسرح الكوميدي في خلق نماذج من الشخصيات المصرية قد تبدو عليها مسحة التجسيم والتهويل، أو فهي نماذج (كاريكاتورية) ولكنها مصرية قبل كل شيء، ثم هذه هي صنعة الفن الكوميدي أولا وآخراً، وعرف مسرح الكوميدي إجادة من بعض الممثلين لم يبلغها اندادهم في مسرح الدرام، لأن الأول عرف التخصيص، واعني أن من بين ممثليه أفراد تخصصوا في إخراج شخصيات معينة فأجادوها وبحكم المران والاستمرار، وتوغلوا في صميمها فأخرجوا منها الطريف المبتكر. وهذه (المصرية) التي غلبت على مسرح الكوميدي كانت العامل الأول في نجاحه.
على أن شعب هذا الوادي، شعب سهل لين، محب بفطرته للمرح يعب فيه بنهم وقابلية، ولعل في هذا أيضاً بعض السبب في إخفاق مسرح الدرام ونجاح مسرح الكوميدي ومن الخير أن نعرف للمسرحين ما أديا من رسالة الفن وأن نذكر لكليهما ما كان له من إحسان أو أساءة، فالمسرح المصري يقف اليوم بمجموعة مفترق الطرق فأما إلى الصدر وأما إلى القبر، ومن أوجب الواجبات في هذه الفترة الدقيقة من حياة المسرح أن نذكر للمحسن إحسانه وأن نعدد للمسيء نقصه وعيوبه، فيمضي الأول في طريقه مجداً عاملا، ويصلح الثاني من نفسه أن أراد إلا يتخلف عن زميله أو يدرك غباره.
محمد علي حماد(35/81)
الحركة المسرحية والسينمائية في الخارج
باريس
مثلت أخيراً على مسرح (جمناز) رواية جديد لهنري برنشتين المؤلف المسرحي المعروف باسم (الرسول) وقد أدار المؤلف موضوعه حول فكرة غريبة، وكأنه يرد أن يقول أن:
زوجة ابتعدت سنة عن زوجها الذي تعبده يمكن أن تسلم نفسها لشاب جاء من عند الزوج كرسول يحمل لها حبه وغرامه، وهي إذ تسلم نفسها للرسول يخال لها أنها إنما تستسلم للزوج نفسه. وهذا غريب والفكرة كما ترى يحوطها الغموض والإبهام. ولعل برنشتين يريد أن يضع في علم النفس قاعدة جديدة.
واليك تلخيص موجز للقصة: سافر مسيو نقولا - الزوج - إلى أفريقيا ليبني لنفسه مستقبلا جديدا في ميدان العمل وليحصل على ثروة وفيرة يسعد بها زوجته الشابة التي يعبدها. ولم يكن له حديث في غربته إلا عن زوجته ماري وعن حبه لها ويجلس الساعات الطوال مع زميله جلبرت يتحدث عنها حديثاً مسهبا وانتهى الأمر بان أحب جلبرت هذه المرأة. . والأذن تعشق قبل العين أحياناً. .
ويذكرنا هذا الموقف بشبيه له في رواية ألمانية معروفة تدعى (كارل وأنا). ويحدث أن يصاب جلبرت بما يقعده ويضطره إلى العودة إلى وطنه، وفي باريس يلتقي بماري الزوجة الأمينة على شرف زوجها والتي رفضت بأباء ما أظهره لها كثير من الرجال من الحب والهوى. ولكن ماري هذه سرعان ما تصبح عشيقة جلبرت، لا لأنه يحبها ويتطلبها، ولكن لأنها تحس فيه حرارة حب زوجها لها وحنينه إليها. يرجع الزوج فجأة وعلى غرة من العاشقين ويكتشف ما بينهما من صلات فيكون بينه وبين زوجه مشهد رائع ويعلنها بالانفصال النهائي. ثم يزمع السفر والعودة إلى أفريقيا وإذ يهم بالرحيل تقدم ماري، ويعلم الزوج أن جلبرت انتحر لأنه أدرك أن المرأة لم تحبه أبداً وإنما تحب فيه زوجها الغائب ويقبل الزوج هذا التفسير الغريب
هوليود
تتجه أنظار شركات السينما في هوليود نحو الروايات الأدبية الكبيرة التي دبجتها يراعة كبار الكتاب العالميين. وقد ذكرنا قبلا ان بين برنامج السنة القادمة روايات من أقلام(35/82)
برناردشو وإميل لدويج وولز وغيرهم. ونذكر اليوم ان جان هارلو الممثلة الشقراء الفاتنة أغرمت بدور بورشيا في رواية (تاجر البندقية) لشاكسبير وتنوي إخراجه على الشاشة، وميرنا لوي تحب أن تظهر في رواية أبسن المعروفة (ببيت الدمية) وجون باريمور يستعد لإخراج (هاملت) ومن المعروف أنه مثله على المسرح ونال فيه نجاحا كبيراً، وشارلي شابلن أيضاً من هواة هذا الدور وقد فكر في تمثيله في وقت من الأوقات كما فكر في تمثيل دور (نابليون).
وستمثل كي فرانسيس دور مدام دي بارى المرأة الشهيرة في تاريخ فرنسا. وتظهر جلوريا سوانسون في دور جوزفين أمام أدوارد روبنسين في رواية (نابليون) التي اقتبست عن الكتاب الذي وضعه أميل لدويج عن إمبراطور فرنسا العظيم
لندن
أقامت جريدة (ايرا) الإنجليزية المسرحية مسابقة لتتعرف رأي قرائها في أحسن رواية ظهرت في إنجلترا في العشر سنوات الأخيرة، وفازت بالأولوية رواية (سان جون) لبرناردشو وقد نالت 16 درجة، وتلتها رواية (نهاية الرحلة) للكاتب المسرحي شريف ونالت 8 درجات، وهناك بعض الروايات الشهيرة جاءت في الرتبة الخامسة والسادسة ومنها (طريق للحياة) لنويل كوارد. ونذكر بهذه المناسبة أنها مثلت أخيرا سبعة أسابيع على أحد مسارح نيويورك بلغت أرباح مؤلفها في خلالها 20. 000 جنيه.
2 أبو علي عامل أرتست
تأليف الأستاذ محمود تيمور
عرض ونقد وتحليل
ولتيمور موهبة فائقة في وصف آلام الناس ونزعاتهم في الحياة، دون ان يترك في نفس القارئ شعوراً بالكآبة أو الانقباض، وقليلون من الكتاب من لهم مثل هذه القدرة، فهم إذا تعرضوا لوصف الآلام أسرفوا في عواطفهم وشعروا بالكآبة والضجر وحملوا القارئ على أن يفقد حيوتيه، أما الوصف في أقاصيصه فقد يكون أقرب إلى فلسفة الجمال منه إلى استدرار عواطف الرحمة والإشفاق(35/83)
على ان هناك صفتين أخريين نلمحهما دائماً في أدب تيمور: أولاهما تغلب عاطفة الخير في أقاصيص على عاطفة الشر، وقد يعود هذه إلى أنه يرى الحياة من جانب واحد هو الخير، وبنظرة ثابتة هي الاطمئنان، وهو من هذه الناحية يشبه دكنز، عندما أراد أن يرسم لنا صورة مكويرومسترمل، جعلهما ينجحان في استراليا، مع أن شخصيتهما لا تدع أمامنا مجالا للشك في أنهما خرجا ليلاقيا الخيبة
وقد تدفعه عاطفة الخير إلى ان يحجب نور الحقيقة عن نظر القارئ، وعندما يريد ان يصارحه بهذه الحقيقة، تراه يشير إليها من طريق خفي وبدون ان يعلق عليها بقلمه، كما في أقصوصه (جحيم امرأة)، فأنه بدلا من ان يصارحنا بحقيقة الخواجة نعوم وموقفه من خيانة زوجته، نراه يلجأ إلى التستر والتلميح، خاصة عندما ناوله عبد السميع مبلغ الثلاثين جنيها بحجة أنها ثمن لأسهم شركة يريد أن يؤسسها، مع أن فطنة القارئ تكاد ترشده إلى ان هذا المبلغ لم يك إلا ثمناً لثلاثين ليلة قضاها العاشق المضطهد في أحضان الزوجة العابثة!
والصفة الثانية التي يريد أن نتحدث عنها، هي تلمذته على أدب المرحوم محمد تيمور أخيه وتأثره الشديد بفنه، وهذه الصفة البارزة تدفعنا إلى أن نقارن بين أدب الأخوين فالفرق بينهما واضح جداً
كان فن المرحوم محمد تيمور يقوم على ميزات ثلاث: اللغة والمحاورة وبناء هيكل الرواية، وكان يؤمن بان الفن هو مرآة الطبيعة فيجب ان ننقل إليه الطبيعة كما هي من غير تجميل، ومن اجل هذا وكان ينتصر للعامية ويرى انه يمكن ان نعبر بها عن كل ما يراد التعبير عنه، ولذا جاءت لغة الحوار في رواياته طبيعية لا أثر للصناعة أو التكلف فيها، وكانت نظرته للحياة اكثر إدراكاً فكان يستوضح مظاهرها ويدور في أعطافها ليستمد فنه من جميع نواحيها، انه ليخيل إلينا ونحن نطالع إحدى رواياته انه قد تقمص بطلها
أما محمود تيمور، فبالرغم من طابع الصدق الذي يتسم به أدبه وجذوة الحياة التي تشتعل في جوانب أقاصيصه، فأنا نكاد نشعر كنقدة - بأنه يبخس المتكلم حقه ولا يعطيه الحرية التامة في أن يعبر عن أفكاره وميوله باللغة التي توافق مزاجه وتلائم بيئته، والقصصي العبقري، هو الذييحس بالحوادث تجري حوله، فلا يكتفي بأن ينقل إليها صورها ويصبها(35/84)
في القالب الفني، بل عليه إلى جانب هذا إلا يجعل أشخاصه جامدين، وان يعطيهم الحرية في أن يعبروا عن احساساتهم باللغة التي توافقهم وتتلاءم مع طباعهم، فالنفن هو كل شيء في القصة واليه يرجع عامل نجاحها أو سقوطها!
وإني أثبت بهذه المناسبة رأيا أبداه المستشرق الروسي كراتشقوفسكي عن فن محمود تيمور القصصي، إذ قال: ليست أقاصيصه إلا درساً بسيكولوجيا وتحايلاً لأحوال النفس وتطوراتها في الشخص الواحد مع بعض الدرس للأشخاص المجاورين له في البيئة، ومزية التركيز وقلة الحركة فيها يجعلها تؤثر في النفس أحياناً تأثير الدراما المسرحية المحزنة.
أما (حسن أبو علي) فقصة شاب مأفون مهرج، هوى التمثيل وتأليف الروايات المسرحية، فترك علمه والتحق بإحدى الغرف التمثيلية لاشباع نهمته الفنية، وهي نزعة كانت سائدة عند الكثيرين من شبابنا إثر ترددهم على دور التمثيل، أما الآن فليطمئن بال الأستاذ تيمور ولان السينما قضت على هذه النزعة في النفوس!
والقارئ يشعر بعد مطالعته لهذه القصة، بروح التهكم المر والسخرية اللاذعة التي لجأ المؤلف اليها، في تصوير هذه الشخصية المشعوذة التي انبعث حبها للتمثيل. ولم يكتف المؤلف بان يقسو على بطله يعذبه في الحياة من أجل الفن وفي سبيله، وأن ينسب إليه موت عمه ليتخذ من هذا وسيلة لإظهار مواهبه الفنية، وأن يدفعه إلى ارتقاء منبر المساجد ليعظ الناس في يوم الجمعة كأنما هو على خشبة المسرح، وأن يتسلط عليه فيدفعه أيضاً إلى أن يبدد الثروة الضئيلة التي تركها عمه، فيشيد بها مسرحا يهدمه المتفرجون على رأسه في ليلة الافتتاح! لم يكتف المؤلف بهذا كله بل نراه قد أجهز عليه بنفس القسوة وحكم عليه بالموت!
وبعد فقد فرض الأستاذ تيمور هذا اللون من الأقاصيص على القارئ وروى ظمأ المتعطشين إلى القصة في مصر والذين كانوا لا يقرأونها إلا باللغات الإفرنجية أو مترجمة إلى اللغة العربية فهل تراه وفق في عمله؟ لا شك في أنه وفق إلى حد بعيد، يدلنا على هذا ان أكثر أقاصيصه مترجم إلى اللغات الحية وأن الأستاذ شادة مدير دار الكتب المصرية السابق ألقى عنها محاضرة نفيسة في مؤتمر المستشرقين السابع عشر وأن مجموعة(35/85)
أقاصيص (أبو علي عامل أرتيست) هي المجموعة السابعة التي يقدمها الأستاذ تيمور إلى قراء العربية!
محمد أمين حسونة(35/86)
العدد 36 - بتاريخ: 12 - 03 - 1934(/)
في ملعب الكرة
للدكتور محمد عوض محمد
. . . وفي ذلك اليوم ذهبت بصديقي إلى ملعب الكرة. . . لم أذهب به إلى دور العلم أو إلى حلقات الأدب، حيث ينصت إلى لجاج الفقهاء، وحوار الأدباء؛ فلقد طَعِمَ من هذا الغذاء الدسم الشهر كله: وشهد المعركة الطاحنة بين اللائحة والشرعة، وبين الأريكة والسرير؛ وبين الفنون الرفيعة والغليظة؛ وبين الفتوة والمروءة، وبين الكوفة والبصرة، وبين المستشرقين والمستغربين. . .
انتزعتك يا صديقي من بين هذا كله. فلعمري لقد آن لك أن تمسح عن جبينك المجهد المعنى عرق النحو والصرف والفقه، وأن تزيل عن عينيك ما علق بهما من قذى البحث العميق، عن اللفظ الدقيق والمعنى الأنيق: ذلك البحث الذي طالما ما أضناك وأذواك؛ ثم عدت منه صفر اليدين، أو رجعت بشيء زهيد لا يطفئ غلة، ولا يغني من جوع.
فتعال اليوم نتبوأ هذا المقعد العالي، ونشرف منه على هذا الميدان الفسيح، كما يشرف النسر من ذروة الطود. ولنرقب ما يجري بين أيدينا من الحوادث الجسام. . . أراك تبتسم ابتسامة الشكل أو الإنكار، كأنما تظن أن ما يجري هنا ليس إلا ضرباً من العبث واللهو؛ فلا وأبيك لن تبرح حتى تشهد في هذا المعلب من دروس الحكمة ومن عبر الحياة، ومن المعاني البديعة العميقة، ما لم تجده بعد في الكثير من أسفار أصحابك الخالدين. . .
وها هم أولاء اللاعبون قد أقبلوا، فدوى رعد الهتاف والتصفيق، أرأيت هذه الأجسام الفتية التي أفعمت صحة وقوة، والتي لا تكاد تستقر في مكان مما بها من نشاط ومرح ولكنها قد تثبت في موقفها حينا فكأنها الجبال الرواسي. ثم تنقض على الأثر كأنها صخور تهوي من قمة طور؛ أو تندفع طائرة كما تندفع السهام عن القِسِيِّ. وهي بعد هذا كله لا تشكو كلالا ولا ملالا، كأنما يتفجر نشاطها من ينبوع لا يغيض. . إن هذه السيقان التي تراها تحمل تلك الأجسام ما نمت هذا النمو ولا اكتسبت تلك القوى في يوم أو بعض يوم. . بل هي ثمار المران الطويل شهوراً وسنين. وليس من هؤلاء الفتيان من لم يأخذ نفسه بأنواع من الجد والدأب وبالحرمان من ضروب اللهو والعبث، كي يبلغ هذه المرتبة العالية من القوة ومن الرشاقة؛ ومن جمال الفتوة، والرجولة الصحيحة.(36/1)
حدثني بالله! ألا ترى في النظر إلى هذه الأجسام القوية الفتية متعة للنفس وللحس، بعد الذي شاهدته من تلك الأجساد المترهلة ومن تلك البطون الناتئة، والمبات المترامية على الصدور، والأقفاء المطوية في ثنايا عديدة، مديدة والسيقان الغلاظ التي لا تستطيع المضي ميلا أو بعض ميل. ألا أن عيوننا لتقذى برؤية هؤلاء الأسبوع كله. فلينعم طرفنا اليوم بمنظر الصحة الدافقة والقوة الباهرة. . بعد هذا فلتضف فصلا جديدا إلى كتاب الفتوة، فصلا تبنيه على المشاهدة والعيان إلا على الأخبار والأقوال. . .
إن الرياضة قد أدبت هؤلاء الفتيان فأحسنت تأديبهم. . . أنظر إليهم كيف تركوا ضيوفهم يسبقونهم إلى الملعب. وفي إثرهم ينزل أصحاب الدار على مهل، كأنما يمشون على استحياء. وهم على هذا كله خصوم، ستدور بينهم معركة لا هوادة فيها ولا لين. ولا محاباة فيها ولا مداراة: معركة سيبوء فيها الضعيف بالخزي والخسران، ويرقى النصر بالمنتصرين إلى أعلى مراتب السمو.
هذه المعركة هي بيت القصيد. وإن في صورها العديدة لما ينشرح له الصدور وتطمئن القلوب. . . فها هنا معركة تنشب بين فريقين قد تكافأ في العدة، وتماثلا في العدد. فلن يكون الفوز فيها إلا للجد والجلد، للبراعة والأقدام. . . ونحن في عالم طالما نشهد فيه تألب الأقوياء على الضعفاء، وطغيان جيوش الظلم على جنود الحق. . واستبداد الكثرة الغاشمة التي تزهى بعدتها وعديّدها، ويحلو لها أن تمعن في الجور وتسرف في العدوان. فما أسعدنا اليوم إذ نتناسى ذكر هؤلاء حينا، لكي تنعم أبصارنا بشهود معركة نظيفة بريئة بين أكفاء وأنداد. .
أجل، وانك لتهتز طربا إذ ترى هذه المعركة تدور رحاها بين يديك في وضح النهار. معركة ليس فيها خفاء ولا لبس. الميدان كله أمام أعينا - من أدناه إلى أقصاه - نتأمل كل ما يجري فيه ولا يخفى علينا من أمره شيء. . . فلننس الآن - ونحن ننظر إلى هذه الحرب الطاهرة - تلك المعارك الغريبة المريبة، التي تدبر في الخفاء وتنمو في الظلام. وتنصب فيها الحبائل، ويشتد فيها الكيد، ويتناسى فيها الشرف. وتحنث فيها الإيمان، وتخان فيها العهود. والتي لا يحلو فيها الطعن إلى على غرة، ولا يتحارب فيها إلا بأسلحة الجبن. . . هذه - ويا للأسف! - معارك قد امتلأت بها حياة الناس فلنستعن على نسيانها الساعة(36/2)
بهذه المعركة النبيلة، التي بين أيدينا، والتي تبدأ جهاراً، وتجري جهاراً، وتنتهي جهاراً. . . وعلى كل لاعب رقباء من هذه الآلاف المؤلفة، التي احتشدت اليوم لكي ترقب حركات كل لاعب وسكناته. والويل لمن يحيد عن الصواب لمحة العين، فيستثير من آلاف الأفواه صيحات الإنكار والاستهجان.
أجل وإن لهذه الحرب الضروس لقواعد وشروطا قد نصت عليها قوانين مقدسة الرعاية، ولن ترى في العالم كله قانونا ينفذ في شدة وصرامة، وفي قوة وحزم، كما ينفذ هذا القانون، الذي ليس في تنفيذه تسويف ولا (تأجيل). بل سرعان ما يلقى الآثم جزاء اثمه، قبل أن يتحول عن مكانه، وها هنا الحكم النزيه اليقظ الذي يحصي الصغيرة والكبيرة، ولا يعرف المحابات ولا المداراة. . فإذا كنت - يا صديقي -! قد أهمك وأحزنك إن رأيت العدل يصرع والقانون يداس بالنعال في مشارق الأرض ومغاربها، فلتسر الهموم عن نفسك برؤية هذا الحكم العدل، الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم، والذي يرى القوي المدل بقوته ضعيفا عاجزاً، حتى يقتص منه ويرده إلى جادة الصواب.
والآن، ألست تراك شديد الإعجاب بما تراه الساعة في الفريقين من عزيمة وثبات ودأب لبلوغ الغاية، ومضي لما وطنوا النفس عليه. فلقد يخطئون الهدف المرة بعد المرة. من بعد ما أجهدوا قواهم سعيا وطلبا. ولكنهم يعودون بعد الإخفاق إلى السعي والعدو، لا تنيهم العقبات إلا ريثما يتأهبون لاجتيازها. ولا يرتدون لحظة إلا ليأخذوا العدة للتقدم. وكأنما لا يعرفون طعم اليأس، ولا يؤثر فيهم الإخفاق، فهم أبداً كموج البحر لا يتراجع إلا ليدفع، ولا يضعف إلا ليشتد.
وها قد انقضت الساعتان كأنهما لحظتان. ففي وسعك الآن أن ترجع إلى أسفارك وأخبارك، ونحوك وصرفك. وأحسبك الآن قد آمنت إن هذا الميدان البريء لا يخلو من الحكمة والموعظة الحسنة. اجل وانك لتحدثك نفسك الساعة بمثل الذي تحدثني به نفسي
ليت لعب الحياة كان جداً، ... ويا ليت جدها كان لعبا!(36/3)
في الجو. . .
للدكتور طه حسين
أما في العصور القديمة حين كان الإنسان رشيدا حذرا يطلق خياله إلى أبعد مدى ممكن، لأن إطلاق الخيال لا يضر ولا يخيف ولا يرسل عقله وجسمه إلا في أناة وبمقدار، لأن إرسال العقل والجسم بغير حساب قد يؤدي إلى ما لا يحب، أما في تلك العصور فقد كان الناس يطيرون في الخيال. يطيرون مجازا لا حقيقة، وقد تتحدث أساطيرهم بأن منهم من حاول أن يطير حقا، فلما ارتفع في الجو دنا من الشمس فذابت أجنحته التي اتخذها من الشمع ولم يلبث هو أن هوى إلى الأرض فاندق عنقه، ولقي من الموت جزاء على هذه الجراءة التي سمت به إلى أرقى ما يجب أن يسمو إليه الناس. فقد خلق الناس ليمشوا على الأرض لا ليطيروا في الجو، فمن عدا منهم طوره أو تجاوز حده لقي هذا الجزاء الذي لقيه طائر الأساطير اليونانية حين أذابت أجنحته الشمس، أو ما لقيه طائر الأخبار العربية حين كان جسمه اثقل من خياله فلم يكد يسلم نفسه إلى الهواء حتى خانه الهواء وأسلمه إلى أمه الأرض فدقت عنقه أولاً. ثم حنت عليه بعد ذلك كما تحنو الأم الرؤوم على ابنها العزيز.
كان ذلك في العصر القديم حين كان خيال الإنسان اكبر من عقله. وأشد من اجتراء على الطبيعة وما يلبث فيها من المصاعب والعقاب وكان أسلافنا من أدباء العرب وشعرائهم محبين للأناة، يطيرون ولكن دون أن يفارقوا أماكنهم، تطير نفوسهم وقلوبهم شوقا إلى من يحبون، وتطير نفوسهم وقلوبهم فرقا ممن يكرهون، وقد تطير أجسامهم إلى ساحة الحرب وميادين القتال حين يأتيهم الصريخ ويبلغهم فزع المستغيث. ولكن أجسامهم كانت تطير دون أن تفارق أقدامهم الأرض، كانوا يسرعون في العدو فيحسبون إنهم يطيرون، ولعل منهم من كان يطير في الجو، ولكن على ظهر ناقة أو جمل. فكان يباعد بين قدميه وبين الأرض، ولكنه كان يتخذ بينه وبين الأرض سببا على كل حال. ومنهم من كان يسعده الحظ وتواتيه الثروة فيطير على ظهر فرس أو جواد، ويحسب مع ذلك أنه يطير حقاً، وربما عبث به الوهم ولعب به الخيال فظن حينا أنه يطير، وظن حينا آخر أنه يسبح في الماء، أما الآن فلست أدري أضعف الخيال أم لم يضعف، ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو ان العقل والجسم أخذا يسابقان الخيال فيسبقاه في كثير من الأحيان، فلم يبق الطيران في(36/4)
الجو حلما ولا وهما ولا نبأ من أنباء الأساطير، وإنما أصبح أداة يسيرة من أدوات الانتقال. وكان منذ أعوام أداة مقصورة على أصحاب الجرأة من الفنيين، ثم تجاوزهم إلى أصحاب الجراءة والسعة من المترفين وفارغي البال، ثم تجاوزهم إلى أصحاب الثروة الذين يحبون السرعة ويستطيعون الانفاق، ثم أخذ منذ حين ينزل ويتدلى دون أن يفارق الجو، ولكنه ينزل ويتدلى على كل حال حتى بلغ أمثالك وأمثالي من أهل الطبقات الهينة اليسيرة المتواضعة التي يسمونها الطبقات الديمقراطية. وأصبح الطيران في هذه الأيام أداة من أدوات الانتقال قد يعجز العمال عن استخدامها، ولكن أهل الطبقات الوسطى لا يعجزون عن ذلك ولا يترددون فيه، والغريب انه بعد أن تقدم أو تأخر في أوربا وأمريكا إلى هذا الحد وصل إلى مصر واستقر فيها، ان صح إن الطيران يستطيع أن يستقر. وصل إلى مصر واصبح أداة للانتقال يستخدمها المصريون الذين عرفهم الزمان ببغض السرعة وحب الأناة والحرص على الثبات والاستقرار. أليس آباؤهم قد بنوا الأهرام. ومع ذلك فقد أخذ المصريون يطيرون، ولم يقتصر الطيران على الرجال في مصر، بل تجاوزهم إلى النساء فهن يطرن أيضا وهن يسابقن في الطيران، وهن يسبقن الطائرين، وقد كان مكتوبا عليهن أن يلزمن الدور ويعكفن من وراء الخدور. ولكن ماذا نصنع وقد ارتقى العقل حتى سابق الخيال، وارتقى الجسم حتى استطاع أن يطير ويبلغ آماداً وبيئات لم يكن يبلغها من قبل إلا الخيال والوهم. وأغرب من هذا وذاك إن الطيران قد هان ولان وسهل أمره وابتذلت قيمته حتى أصبح مباحا لقوم ما كان ينبغي أن يباح لهم لولا أن الفساد قد دب إلى كل شيء وتسلط على كل شيء وأصبح الناس ينظرون فلا يعرفون أين يعيشون، ولا كيف يعيشون.
وهؤلاء القوم الذين سخر لهم الطيران في آخر الزمان هم الأدباء. والأدباء المصريون، أرأيت إلى أديب عربي يطير؟ أين نحن من أيام طرفة بن العبد، وعلقمة بن عبدة، وزهير، وغيرهم من الشعراء الذين كانوا إذا حز بهم الأمر وألح عليهم الهم وعبث بهم شيطان الشعر يعمدون إلى نوقهم فيركبونها ثم يخرجون بها في الصحراء ليسلوا عن أنفسهم همها، وليتلقوا عن شياطينهم ما يريدون أن يوحوا إليهم من جد الكلام وهزله. ثم يعودون وقد فتنوا بهذه النوق وقالوا في وصفها ما لا نزال نتكلف في فهمه وتفسيره ضروب المشقة وألوان العناء.(36/5)
كذلك كان يفعل أسلافنا من شعراء الجاهلية والاسلام، أما الآن فصديقنا الأستاذ عبد العزيز البشري يطير لا بالخيال ولا بالعقل ولا على جناح الفلسفة، وإنما يطير حقا، يطير من هليوبوليس إلى الإسكندرية، ثم يتحدث عن طيارته كما كان يتحدث طرفة عن ناقته، أو كان يتحدث صاحب العرداة عن عرادته، أو كما يتحدث أبو نواس عن ناقته في تلك الأبيات التي يحسن الأستاذ عبد العزيز البشري خاصة إنشادها وتوقيعها، يتحدث عن هذه الطيارة حديثا أي حديث، حديثا ساحراً حقا، باهراً حقا، نشرته الأهرام في الصيف فأعجبت به حتى لم أنسه إلى الآن على كثرة ما قرأت منذ الصيف، حديثا لا تكاد تمضي فيه حتى تحس كأن الأستاذ يعرف طيارته كما كان طرفة يعرف ناقته، ومع ذلك فما أظن أن للأستاذ علما مفصلا بهذه الشياطين التي تطير بالناس في الجو منذ طغى العلم الحديث. ولكن للبيان سحراً ينطق صاحبه بالأعاجيب، وما دام الأدباء وقد أخذوا يطيرون، وما دام الطيران قد أصبح أداة، من أدوات الانتقال فلابد من أن تتغير لغة الناس بعض الشيء، ولابد من أن يلتمس المبالغون لأنفسهم ألفاظا أخرى يعبرون بها عن السرعة حين يريدون أن يصفوا السرعة، فقد كانوا يطيرون شوقا حين كان الطيران أمراً مستحيلا، أما الآن فيجب أن يجدوا للشوق أداة ينتقل بها غير الطيارة، وبيئة ينتقل فيها غير الجو.
وقد أخذ الأدباء الأوروبيون يسلكون الطريق الطبيعية إلى هذه الغاية، وأول ما كان ينبغي أن يفعلوه من ذلك إنما هو تسخير الطيارة للأدب بعد أن سخرت للعقل والجسم، ولعقول الأدباء وأجسامهم بنوع خاص، أخذوا يفهمونها ثم يصفونها ويعبرون عنها تعبيراً أدبيا بعد أن كان وصفها والتعبير عنها مقصورين على العلماء الذين يخترعون، والعمال الذين ينفذون، والصناع الذين يعالجون أجزاء الطيارة في كل ساعة من ساعات النهار. ثم لم يكتف الأدباء بالفهم والوصف والتصوير فيما يكتبون من المقالات، وما ينظمون من القصائد وما يذيعون من الأحاديث، ولكنهم تجاوزوا ذلك فاستغلوا الطيارة في فنون الأدب كلها. فما الذي يمنع أن تكون الطيارة موضوعا يلهم أصحاب القصص، ويلهم أصحاب التمثيل، وإذا كان من الحق أن الناس يأتلفون ويختلفون وتثور بينهم عواطف الحب والبغض فتؤثر في حياتهم أبلغ الأثر وأعمقه، وتلهم القصاص أن يصوروا من ذلك ما يريدون، فإذا بعضهم يصور من ذلك ما يقع في قطار، وبعضهم يصور من ذلك ما يقع في(36/6)
سيارة، وبعضهم يصور من ذلك ما يقع في عربة تجرها الخيل، أقول إذا كان من الحق أن كرسي البريد وعربة الخيل والسيارة والقطار والزورق والسفينة الشراعية والسفينة البخارية، كل ذلك قد الهم الأدباء في الشعر والنثر والقصص والتمثيل، فما الذي يمنع الطيارة أن تلهم الأدباء في هذه الفنون جميعا، ومن الذي يستطيع أن يزعم أن الطيارة أقل قدرة على الإلهام، وأقل حظا من الفصاحة وسحر البيان من هذه الأدوات التي ذكرناها آنفا. ومن الذي يستطيع أن يزعم أن الأدباء الذين سخروا للأدب كل هذه الأدوات يعجزون عن أن يسخروا للأدب هذه الأداة الجديدة التي تطير بأجسام الناس بعد أن طارت صورتها بما كان لهم من عقل أو خيال.
الطيارة قادرة على الإلهام، والأدباء قادرون على أن ينطقوها رغم أنفها سواء أكان لها أنف أم لم يكن. وتستطيع أن تنظر في الآداب الأوربية الحديثة فسترى أن الأدباء قد أغنوا فنون الأدب وأضافوا إلى ثروته الضخمة ثروة أخرى قيمة حين اتخذوا الطيارة أداة من أدوات القصص. وأنا زعيم بأنك بدأت القصة التي أنشأها الكاتب الفرنسي كيسل منذ أعوام وسماها اكيباج فلن تستطيع أن تدعها حتى تتمها، ولن تتردد في أن تعترف بأنها من خير ما انتج القصص الحديث. وليس لهذه القصة موضوع إلا اختصام جنديين من جنود الطيران في الجيش الفرنسي أثناء الحرب حول امرأة كانت زوج أحدهما فاحبها الآخر وهو لا يعرف زوجها. ثم جمع الطيران بين الزوجين فاحب كل منهما صاحبه حبا عميقا، ثم ظهر لهما أنهما يحبان امرأة واحدة. وصور أنت لنفسك كيف تنتهي القصة، ولكن يجب أن تعلم أن الطيارة هي الأداة التي بها تنتهي القصة والتي عليها تقوم القصة.
وإذا استطاعت الطيارة أن تدخل فن القصص، فما الذي يمنعها أن تدخل في فن التمثيل وأن تلهم الممثلين أو كتاب التمثيل آيات بينات وقد فعلت. وقد بلغت من الإجادة في ذلك أمداً بعيداً حقا، تستطيع أن تقرأ إن لم تستطيع أن تشهد هذه القصة التمثيلية الممتعة التي وضعها الكاتب الفرنسي المعروف فرنسيس دي كروا وسماها أو طيران العرس، فسترى اتقانا في الأداء، واتقانا في العرض، واتقانا في تصوير الصراع بين هذه العواطف الجديدة التي استحدثها الطيران في نفوس الناس لا عهد للأدب بمثله من قبل، وسترى من هذه القصة التمثيلية ومن تلك القصة الأخرى أن الطيران لم يكد يوجد لنفسه بيئة خاصة(36/7)
من الذين يحبونه ويتخذونه صناعة أو لهوا حتى أوجد لهذه البيئة أخلاقها الخاصة وعواطفها الخاصة ولغتها وأساليبها في الحسن والشعور ومذاهبها في التعبير والتصوير.
ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد بل تجاوزه إلى شيء عظيم الخطر حقا، لست أدري أنافع هو أم ضار، ولكن من الذي يستطيع أن يقيد العقل والخيال بما ينفع أو بما يضر. وإذا كان الرقي العلمي قد انتهى بالناس إلى حيث يتنافسون الآن في اختراع أدوات الموت والتدمير وما يمحو الحضارة محوا ويرد الإنسان إلى شر ما عرف من أطوار الوحشية، فما الذي يمنع الرقي العلمي من أن يدفع بالطيران إلى ما يفسد العلم إفسادا ويجعله أداة من أدوات الشعوذة والتضليل؟
لست ادري أعرفت إن كاتباً فرنسيا شابا هو الأديب ملرو قد مر بمصر منذ أسابيع، فقد طار هذا الشاب من مصر إلى غرض لم يرد أن يعينه، ولأمر لم يرد ان يدل عليه، ثم أصبحنا اليوم وإذا الصحف تنشر رسائل برقية تنبئ بأن هذا الكاتب الشاب قد طار إلى بلاد العرب وتغلغل في أحشائها، ولكن من فوق، لأن أحشاء البلاد العربية خطرة تهضم الذين يقتحمونها هضما. قالت الرسائل البرقية إن هذا الكاتب الشاب قد استكشف شيئا عجيبا وطار فوق أخطار جسام، استكشف مدينة سبأ التي تحدثت عنها التوراة وتحدث عنها القرآن وامتلأت بأنبائها كتب التاريخ والأساطير، وليس من شك في أننا سنقرأ تفصيلا واسعاً لهذا الاستكشاف، ولكن الشيء الذي لا اشك فيه هو أننا سنقرأ كتابا لهذا الأديب الشاب عن مدينة سبأ هذه. وسيكون هذا الكتاب من أقوم الكتب الأدبية، وسيكون على كل حال من أروجها أكثرها انتشارا، ولن يكون حظه من الرواج والانتشار أقل من حظ القصة التي وضعها الكاتب الفرنسي بييربنوا وسماها الأطلنطيد والتي فتحت لصاحبها أبواباً ثلاثة: باب الثروة وباب الشهرة وباب المجمع اللغوي. سمع بييربنوا بأحاديث القارة الموهومة اتلنتيس وسمع باستكشافات الجغرافيين للصحراء الكبرى، فزعم ان صاحبه قد ذهب يستكشف فانتهى إلى بقية من هذه القارة، ولقي هناك الملكة انتنيا من سلالة نبتون إله البحر. ثم وصف شخصها وقصرها وبيئتها وصفا رائعا عجيبا، وسمع الكاتب الشاب ملرو أحاديث سبأ وقصة بلقيس، وسمع أحاديث المستكشفين الذين يتجشمون الأهوال لاستكشاف البلاد العربية. ووجد الطيارة فطار مستكشفاً، والله يعلم هل عبر البحر إلى بلاد العرب،(36/8)
وهل وصل إلى طرف من أطراف الربع الخالي حقا. ولكن مما لا شك فيه أنه وجد مدينة سبأ، ومن يدري لعله رأى ملكتها، وتحدث إليها ولو بالإشارة من طيارته، ولعل الملكة أن تكون قد شغفت به، ولعله هو أن يكون قد فتن بما رأى من حسنها البارع. ولعله قد انصرف عنها بعد أن ألقى إليها بقلبه من أعلى الجو، فهو مضطر إلى أن يعود إليها ليلتمس قلبه هناك حيث ألقاه في ذلك القصر الممرد من قوارير، والذي يقوم في تلك المدينة العظيمة التي ترتفع أسوارها الشاهقة في طرف من أطراف الربع الخالي. وسيكون حظ هذه القصة المنتظرة كحظ تلك القصة التي فرضت بييربنوا على الأدب الفرنسي فرضا.
رأيت أن بييربنوا قد استغل الاستكشاف العلمي للصحراء فدل الناس على بقية القارة المفقودة، وأن ملرو قد استغل الاستكشاف الجغرافي والطيارة، وسيدل الناس على ما بقى من ملك السبئيين.
أما بعد فإنا نبحث منذ قرون عن مدينة ضائعة في الصحراء يقال أنها تنتقل من مكان إلى مكان يحسبها بعضهم من الذهب والفضة، ويحسبها بعضهم من النحاس والحديد. وهي إرم ذات العماد. ويقول بعضهم أنها ليست إلا هرما من هذه الأهرام التي تقوم في الجيزة، والتي تستكشف من حولها المقابر والتماثيل والأدوات المختلفة. ولدينا طيارون، ولدينا طيارات. فهل نستطيع أن ننتظر من أديب من أدبائنا وليكن صديقنا عبد العزيز البشري أن يطير مع بعض شبابنا البارعين في هذا الفن لعله ان يعثر - إن أمكن أن يعثر الناس في الجو - بهذه المدينة القديمة العظيمة إرم ذات العماد؟ وليس عليه بأس إن لم يجدها أن يخترعها اختراعا وأن يزعم لنا انه وجدها كما فعل بييربنوا وكما سيفعل ملرو. وليس ينبغي أن نخاف من صديقنا عوض وأصحابه الجغرافيين فان الكاتبين الفرنسيين لم يحفلا بأعلام الجغرافيا في السوربون.
طه حسين(36/9)
الإحسان
للأستاذ احمد أمين
لا أطيل على القارئ، فإني أريد بالإحسان التصدق على الفقراء، ومعونة الضعفاء والمرضى، ولست أرى لفظا أدل على المعنى من الإحسان، وإن لم يرضه المتشددون في الألفاظ.
ربما كانت فضيلة الإحسان من أكثر الفضائل تقلبا مع الزمان، وتغيرا في أفهام الناس، فكم بين ما كان يفهمه حاتم الطائي من نحر الجزور وانهابها الناس، وبين ما وضع من النظم الحديثة للإحسان من فروق ومباينات!
فنظام المعيشة من قديم ينتج غنيا مفرط الغنى، وفقيرا مفرط الفقر، كما ينتج:
أعمى وأعشى ثم ذا ... بصر وزرقاء اليمامه
فذوو السعادة يَضْحكُو ... ن وغيرهم يبكى ندامه
ولم يخلق للآن نظام يعدم هذه الفروق أو يقلها من غير أن يستتبع خطراً أعظم، وداء أعضل.
فاهتدى الناس لتلطيف هذه الفروق إلى المناداة بالكرم والفخر به، ولست أدري أكان أول من نادى به الأغنياء اتقاء لخطر الفقراء، أم الفقراء تعطيفاً لقلوب الأغنياء
وأتت الأديان تدعو إلى الأخُوَة، وخاصة بين أهل الدين الواحد، وتجعل من مستلزمات هذه الأخّوة عطف الغني على الفقير وإشراكه في جزء من ماله، واستتبع ذلك وجود الأديار في النصرانية والتكايا في الإسلام
وكما أنتجت النظم معونة للفقراء وسداً لحاجات المعوزين أنتجت عند بعض الناس تراخيا في العمل، وميلا إلى الكسل واتخاذ الاستجداء حرفة، والتكدي صناعة.
وكثرت جيوش الفقراء فلم تكف النزعات الدينية لسد حاجاتهم، فتدخلت الحكومات تحمل بعض العبء فبنت المستشفيات وأنشأت الملاجئ وما إلى ذلك.
وأتت المدنية الحديثة فأخذت تقوَّم الفضائل من جديد، واستخدمت العلم في هذا التقويم كما استخدمته في كل شيء وكان مما نظمته طرق الإحسان، بل جاء قوم من الفلاسفة متأثرين بمذهب النشوء والارتقاء. وبنظرية الانتخاب الطبيعي وعلى رأسهم (هربرت سبنسر)(36/10)
يطبقون هذا على الإحسان ويرون أنه رذيلة لا فضيلة، وأن العجزة ومن إليهم لا يستحقون هذه العناية، إنما العناية يجب أن تتجه إلى الأقوياء وإلى خير العناصر، ويجب أن ينتخب من المجتمع خيره وأقوه، فنوجه إليه العناية ونأخذ بيده، وبعد أجيال سيفنى الضعفاء ويبقى الأقوياء فيسعد مجتمعهم - نفعل في ذلك ما نفعل بالزهور والأشجار، نهمل الذابل والضعيف فيفنى، ونستولد القوي الجيد فيبقى إلى آخر ما قالوا. ومن حسن الحظ لم تلق نظريته هو وأمثاله نجاحا، فإنها نظرية تقضي على خير ما في الإنسان من عاطفة نبيلة نحو الناس، وكيف يقضى على العجزة والفقراء ونظام الحياة يخلق منهم كل يوم خلقاً جديداً وجيشاً كبيراً لو لم يُعْن به لاكتسح الأغنياء، ولثار ثورة لا يعلم مداها إلا الله.
إنما كتب النجاح لقوم آخرين من الأدباء والعلماء لم يحاولوا أن يمنعوا الإحسان، ولكن حاولوا أن ينظموه، لم يشكوا في قيمته، ولكنهم آمنوا بضرر فوضاه، واستعانوا بما وصل إليه العلم كما استعانوا بمنهاج البحث الجديد، فدرسوا الفقر وأسبابه وطرق الإحسان وما يتلاقى منه مع أسباب الفقر وما لا يتلاقى، ووفقوا في ذلك إلى حد كبير وان لم يصلوا إلى الغاية، وعلى ضوء هذه الدراسة سنت القوانين وأنشئت النظم، وظلت قوانين تنظم والنظم تعدل، حسب مقتضيات الأحوال إلى اليوم.
فمن أشهر القوانين القانون الإنجليزي للفقراء الذي وضع سنة 1601 ونقح سنة 1834 والتزمت فيه الحكومة بمساعدة الفقراء والعاطلين
ومن أشهر النظم المعروفة نظام (همبرج) الذي وضع للفقراء والعاطلين، وهو يتلخص في تأسيس مكتب رئيسي في المدينة للنظر في شؤون الفقراء وتنظيم الإحسان وتقسيم المدينة إلى أقسام، وتعيين مشرف على الفقراء في كل قسم وظيفته إعانة العاطلين على وجود عمل لهم، ودراسة أسباب الفقر في الأسر ووصف العلاج لها، وإنشاء مدارس صناعية لأولاد الفقراء ومستشفيات لمرضاهم، ويقضي بمنع الإحسان يداً بيد إلى الفقراء، إنما يعطى الإحسان لهذه الجمعية، فهي أدرى بطرق إنفاقه - وكان من أثر هذا النظام قلة عدد الفقراء وتنظيم معيشتهم، وقد أدخلت عليه تعديلات قليلة ثم عمم في مدن كثيرة في أوربا.
ونشأت في أمريكا جمعيات على هذا النظام وسعت بعض أغراضها - من ذلك أنها رأت أن أكبر مساعدة ليس إعطاء المال للفقراء ولكن إيجاد العمل لهم، كما جعلت من أهمم(36/11)
أغراضها ترقية المعيشة الاجتماعية في منازل الفقراء والعناية بحالتهم الصحية، وبتعويدهم العادات الصالحة للعيش، ووجهت أكبر همها إلى العناية بأطفال الفقراء حتى لا ينشئوا كآبائهم، فكان لدى الجمعيات سجل للفقراء والعاطلين في كل حي، ومجمل عن سبب فقر كل أسرة وحالتها وما بذل من العناية لها، والاتجاه الذي اتجهوه في معالجتها، وبذلك أسس الإحسان على الأسس العلمية.
لعل أهم ما حدث من الانقلاب في تصور الإحسان أنه كان يفكي في عده فضيلة أن يخرج الإنسان عن شيء من ماله أو جهده ابتغاء ثواب الله، لا يبالي بعد ذلك أين وقع ماله: أعلى غني وقع أم على فقير، أكان فيه صلاح للفقير أم إفساد له؟ فيكفي أن يجود بقرش ليحسب له عند الله عشرة أو مائة، فجاءت الدعوة الحديثة تطلب أن ينظر في الإحسان إلى المحسن إليه لا إلى المحسن، فليس من العمل الصالح في شيء أن تعطي حسبما اتفق، بل يجب أن يكون عطاؤك لإصلاح الهيئة الاجتماعية التي أنت فيها، ولا يكون ثوابا عند الله إلا إذا نظر فيه هذا النظر، ولا يعد فضيلة حتى يكون القرش الذي يعطى يقصد فيه رفع مستوى الأمة، فإذا كان الإحسان يزيد حال الأمة سوءا عد رذيلة لا فضيلة، وعد من أتى به مجرما لا محسنا، وبعبارة أخرى أن هذا النظر الحديث يتطلب أن يشعر المحسن بالتبعة أو المسئولية، فمسئولية المحسن أن يعطي الفقراء وأن يتساءل عن إعطائه هل أفاد من أحسن اليه؟ وهل أفاد الأمة بعمله أو لم يفد؟
كان لهذا النظر نتائج لها قيمتها - منها تحريم الإحسان الفردي، وهو أن تكون علاقة المحسن بالفقير علاقة مباشرة، وإنما يجب أن توسط في ذلك الجمعيات والهيئات التي عرفت حالة الفقراء ودرست شؤونهم، واهتدت عن طريق دراستها إلى نوع ما يصلح لهم، فمن شاء الإحسان فعليه أن يتبرع لهذه الجمعيات وهي التي تتولى الإنفاق - ومنها تحريم التسول في الشوارع والطرق، لأن المتسول لم يثبت للجمعيات صحة دعواه وعلة فقره. إن كان وليس التسول حرفة مشروعة، ولكن إذا أثبت عدم صلاحيته للعمل وعجزه عن العيش وجب على الأمة إعانته، والجمعيات أقدر على تعرف هذا - وكان من مقتضى هذا النظر أيضا أن الهيئات التي وكل إليها هذا الأمر لا يصح أن تكتفي بإعطاء المال إلى الفقراء، بل يجب أن تعالج الأمر بشتى الوسائل حسب حالة كل فقير. فمن كان سبب فقره أن لا(36/12)
عمل له مع قدرته سعت له في إيجاد عمل، ومن كان سبب فقره مرضه عالجته، ومن كان سبب فقره إدمان مخدرات أو سوء عادات نظرت في وسائل إصلاحه، كذلك أهم عمل تعمله أن ترعى أبناء الفقراء حتى لا يكونوا فقراء المستقبل. فتنشئ لهم المدارس لا ليتعلموا فيها تعلما نظريا لا يسمن ولا يغني من جوع، ولكن تعلما صناعيا يبعث فيهم روح الاعتماد على النفس، ويفتح لهم السبل لتحصيل العيش - بهذا وأمثاله عولج الفقر في أوربا وأمريكا، فان كان بعد ذلك عاطلون لم يكن سبب عطلهم راجعا إليهم، وإنما يعود إلى نظام العمل والعمال وسوء الحالة العامة، وجب أن تضمن الحكومات لهم ما يقيم أودهم حتى يعودوا إلى عملهم.
ونحن إذا نظرنا - في ضوء هذه النظريات وكيف طبقت - إلى حالة الشرق وجدنا عجبا، وجدناه لا يزال على حالته الأولية، سواء في ذلك أغراض المحسنين أو تطبيق الإحسان.
لدى الشرق أموال كثيرة تبرع بها أهلها للخير، لدينا أموال الأوقاف الخيرية، ولدينا أموال النذور، ولدينا تبرعات المحسنين، إلى كثير من أمثال ذلك، ولكن أكثرها لا يقع موقعا حسنا عند الله وعند الأمة، وكأنه يصب في البحر صبا أو يدفن في الأرض دفنا، على أن المال الذي يدفن أو يلقى في البحر ليس له من الضرر أكثر من فقده، ولكن ضرر الإنفاق على غير مستحق يزيد الأمم بلاء والحال سوءا
وأهم ما استوجب هذه الحالة الأسيفة في نظري شيئان - أولهما - احترام إرادة الواقف والمتبرع. فالفقهاء يرون أن شرط الواقف كنص الشارع، والواقف لا يعلم تطور الأمة ولا مطالبها ولا حاجاتها التي تختلف باختلاف الزمان - قد كان كثير من الواقفين لا يفهمون فمن وجوه البر إلا الوقف على الحرمين والمساجد والتكايا والتصدق بالخبز على المقابر، فأصبح الناس اليوم يفهمون أن من وجوه البر كذلك إنشاء المستشفيات والمدارس والملاجئ، وسيفهمون قريبا أن من وجوه البر إعانة جمعيات التأليف وإعانة الفلاحين ليحصلوا على الماء النقي، وليستضيئوا بالنور الكهربائي، وسيجدّ غير ذلك من ضروب الخير، وسيرون أن الوقف على مسجد إذا كان المسجد قد وُقف عليه من قبل ما يكفيه ليس وجها من وجوه الخير، وسيرون ان أموال النذور تلقى في صناديق الأضرحة ليست تنفق على المعوزين والمحتاجين، فليس التبرع بها إحسانا.(36/13)
كان الواجب من عهد بعيد أن تحترم إرادة الواقف والمتبرع في رغبته في الخير فقط، ولكنا لا نحترمها في وجوه الخير التي يراها هو إذا رأينا أنها ضارة أو رأينا أن الأمة أحوج إلى الصرف في وجوه أخرى - رحم الله حسن باشا عاصم، فقد كان له موقف في ذلك من أبدع المواقف - تبرع محسن ببناء مدرسة، ووقف عليها الأوقاف التي تلزمها، وأتبعها للجمعية الخيرية الإسلامية، وكان حسن عاصم مديراً للمدارس ثم أراد الواقف أن يدخل ابنه في المدرسة، وكانت سنة تزيد على السن المقررة شهوراً، فأبى عليه ذلك وقال: انه تبرع بمدرسة فله الشكر، ووقف عليها أوقافا فله من الله الأجر، ولكنه يريد أن يبطل قوانيننا فليس له في ذلك حق.
قد يكون من المعقول أن نقبل إرادة الواقف في أوقافه الأهلية. أما الخيرية فيجب أن تخضع كل الخضوع لمصلحة الأمة. لا أظن الواقفين إذا بعثوا من قبورهم ورأوا تطورات الأمم إلا مؤيدينا في رأينا وراجعين عن رأيهم. والأمر الثاني وهو متصل بالأول، أن أموال الخير تصرف حسبما اتفق لا خضوعا لدراسة اجتماعية ولا تحريا لوجه الإنفاق ولا للمنفق عليهم، فكيراً ما يحرم البائس المحتاج ويعطى الغني المبذر، وكثرا ما يحرم العائل لا يجد قوته وعياله، ويعطى المدمن ينفقها في كيوفه
ان فوضى الإحسان في الشرق سبب من أسباب شقائه، ولو نظمت لكانت من أكبر العوامل في نهوضه وصلاحه
لا أمل في هذا الإصلاح حتى ينشط رجال الأمة وشبانها للخدمة العامة، وان يمتلئوا عقيدة بضرورة المساهمة في الإحسان بالمال وبالنشاط، وأن يطالبوا مطالبة حارة بتنظيم الإحسان حتى يؤدي غرضه على أكمل وجه مستطاع، إذن لرأينا البؤس في الأمة يتضاءل إلى حد كبير، ويحل محلة كثير من الرخاء، ولرأينا المال - الذي يضيع في الشرق سدى - وقد أصبح دعامة للإصلاح، وسببا من أكبر أسباب النهضة الحديثة.
احمد أمين(36/14)
حوادث النمسا
النمسا الجمهورية في خمسة عشر عاما
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 1 -
في الثاني عشر من فبراير المنصرم اضطرمت النمسا فجأة بضرام حرب أهلية خطيرة، واتجهت أنظار العالم إلى هذا الحدث الأوربي الجديد ترتقب آثاره في سير الشئون الدولية. وكانت المعركة عنيفة هائلة ولكن قصيرة المدى، لأنها لم تطل سوى ثلاثة أيام وكانت حاسمة النتائج والآثار سواء في الموقف الداخلي أو في سير السياسة الأوربية العامة.
ويرجع هذا الفصل السريع الحاسم إلى عزم الرجال الذين يشرفون اليوم على مصاير الجمهورية النمسوية، وعلى رأسهم الدكتور انجلبرت دولفوس المستشار (رئيس الحكومة) الفتي. وقد تولى الدكتور دولفوس الحكم منذ عامين (في أواخر مايو سنة 1932) في ظروف صعبة تزداد كل يوم حرجاً؛ وفوجئ غير بعيد بخطر السياسة العنيفة التي اتخذتها الوطنية الاشتراكية الألمانية أو السياسة الهتلرية إزاء النمسا، ومحاولتها أن تقضي على استقلالها وأن تجعل منها ولاية ألمانية؛ وأنفق العام الماضي كله في قمع الاعتداءات المنظمة التي يدبرها الوطنيون الاشتراكيون (النازي) النمسويون بوحي ألمانيا وإرشادها؛ وأبدى حزماً وشجاعة نادرين في الدفاع عن استقلال النمسا، ومقاومة ضغط السياسة الهتلرية، واستطاع حتى اليوم أن يقضي على كل مشاريعها ومحاولاتها. بيد أن هذا الخطر ما يزال قائماً داهما.
وكان ثمة خطر آخر تواجهه حكومة الدكتور دولفوس وتخشى منه على النظم القائمة وعلى سلام البلاد ذلك هو قوة الديمقراطية الاشتراكية النمسوية وتغلغلها في مرافق البلاد. وكانت الديمقراطية الاشتراكية تؤيد الحكومة في نضالها ضد الخطر الهتلري، ولم يك ثمة خلاف في جبهة السياسة النمسوية من هذه الناحية؛ ولكن المعركة الخالدة بين الجبهة الاشتراكية والجبهة المحافظة كانت تجثم دائماً وراء هذا التفاهم المؤقت على مقاومة الخطر المشترك؛ وتلك هي المعركة التي انفجر بركانها في الثاني عشر من فبراير لأسباب وظروف ما تزال(36/15)
غامضة. وقد استطاعت الحكومة ومن ورائها القوى المحافظة أن تخرج من هذا الصراع ظافرة، وأن تقضي - مؤقتا عل الأقل - على الديمقراطية الاشتراكية النمسوية. ولكن ماذا سيكون بعد هذا الظفر وبعد اختفاء الديمقراطية الاشتراكية من ميدان كان لها فيه منذ قيام الجمهورية النمسوية أيما شان؟ لقد كانت الديمقراطية الاشتراكية سند حكومة الدكتور دولفوس في نضالها ضد الخطر الهتلري، فالآن وقد حطمت هذه القوة، فان مهمة الدكتور دولفوس تغدو أصعب وأشق. بيد أنه يصعب علينا أن نقول اليوم كلمة حاسمة في نتائج هذه المعركة. وسنحاول في هذا البحث أن نستعرض تاريخ الجمهورية النمسوية منذ قيامها، وأن نشرح العوامل والظروف الداخلية والخارجية التي تقلبت فيها، والقوى السياسية والاجتماعية التي تتجاذبها، والاتجاهات المختلفة التي تسيرها في ميدان السياسة الدولية.
قامت الجمهورية النمسوية في الثاني عشر من نوفمبر سنة 1918، على أنقاض البقية الباقية من إمبراطورية النمسا والمجر القديمة، وكانت إمبراطورية النمسا والمجر تسير قبل ذلك بعامين أو ثلاثة في سبيل الانحلال والتفكك. وكان الإمبراطور الشيخ فرانز يوسف الذي سهر على وحدتها ومصايرها نحو سبعين عاما قد توفى في نوفمبر سنة 1916، والحرب الكبرى في إبان اضطرامها والإمبراطورية القديمة تواجه أخطار الهزيمة والتفكك؛ فخلفه حفيد أخيه الأرشيدوق كارل؛ ولم تمض أشهر قلائل حتى أخذت بوادر الإعياء والهزيمة تبدو قوية على الجيش الإمبراطوري. وأخذت القوميات والأجناس القديمة التي تتألف منها الإمبراطورية أعني المجر والتشك والسلوفاك والبولونيين والصربيين والرومانيين، تتحرك في سبيل التحرر والاستقلال. وفي أكتوبر سنة 1918، أعلنت تشيكوسلوفاكيا نفسها بمؤازرة الحلفاء جمهورية مستقلة برئاسة الدكتور مازاريك؛ وفي نفس الوقت أعلن الصرب والكروات خلع الإمبراطور كارل، ونادوا بأنفسهم مملكة مستقلة هي مملكة الصرب والكروات والسلوفين، أو مملكة يوجوسلافيا وملكها بطرس الأول ملك صربيا. وقامت خلال ذلك ثورة في بودابست، وأعلنت المجر انفصالها عن الإمبراطورية وقيامها دولة حرة مستقلة. وبذلك انتهت إمبراطورية آل هبسبرج القديمة. وفي أوائل نوفمبر ثارت مدينة فينا بدورها وطالبت الجموع بإقامة الحكم الديمقراطي، فلم ير(36/16)
الإمبراطور كارل سوى التنازل عن عرشه والانسحاب؛ وأعلن قيام الجمهورية النمسوية في 12 نوفمبر؛ واجتمعت في الثالث عشر جمعية وطنية تولت مقاليد الحكم، وانتدبت حكومة مؤقتة على رأسها الدكتور رنر الزعيم الاشتراكي، ودخلت النمسا في طور جديد من تاريخها.
ويقرر الدستور النمسوي الجديد الذي بدئ بتنفيذه في نوفمبر سنة 1920 أن النمسا جمهورية اتحادية تتكون من ثمان ولايات والعاصمة فينا. وهذه الولايات هي النمسا السفلى والنمسا العليا، وسالتسبورج، وستريا، وكارنتيا، والتيرول، وفورا لبرج وبور جنلند. ونظام الحكم نيابي ديمقراطي، قوامه جمعية وطنية هي (الناسيونال رات) وتؤلف بالانتخاب العام، وتتولى التشريع؛ ومجلس الاتحاد (البند سرات) وينتخب من أعضاء المجالس الاتحادية، وسلطاته استشارية فقط، وينص الدستور على إلغاء جميع الامتيازات والألقاب الخاصة وعلى ضمان الحرية الدينية، وعلى المساواة المطلقة في الحقوق والواجبات بين جميع السكان. وللجمهورية رئيس ينتخب لمدة أربعة أعوام ولا يجدد انتخابه أكثر من مرة. ويبلغ سكان النمسا نحو ستة ملايين ونصف
وقد حددت علائق الجمهورية الجديدة بدول الحلفاء، ومركزها الدولي بمعاهدة سان جرمان التي عقدت في سبتمبر سنة 1919. وكانت النمسا تريد يومئذ بعد أن فصلت عن باقي أجزاء الإمبراطورية القديمة أن تنضم إلى ألمانيا؛ ولكن الحلفاء عارضوا في ذلك أشد المعارضة. ونصت المعاهدة على اقتطاع جزء من التيرول النمسوي وضمه إلى إيطاليا، وعلى اقتطاع بوهيميا الألمانية وضمها إلى تشيكوسلوفاكيا ونصت على تنازل النمسا عن جميع حقوقها في مصر ومراكش والصين؛ وحددت عدد الجيش النمسوي بثلاثين ألفا ووضعت قيودا شديدة على التسليح الجوي؛ ونصت على حماية الأقليات، وعلى إلزام النمسا بنصيب من تعويضات الحرب.
بدأت النمسا حياتها الجديدة في غمار من الصعاب، وكانت النظم الاجتماعية والاقتصادية القديمة قد انهارت وساد الانحلال واليأس جميع الطبقات والأفراد، فكان على النمسا الجمهورية أن تخلق لنفسها حياة اجتماعية واقتصادية جديدة، وأن تبرز من أنقاض الماضي المجيد إلى ميدان الكفاح الشاق. وكانت الكتلة الديموقراطية الاشتراكية هي صاحبة الكلمة(36/17)
في توجيه مصاير النمسا الجديدة، فهي التي تولت الحكم على أثر انهيار الإمبراطورية وهي التي عقدت معاهدة الصلح، وكانت أغلبية في الجمعية الوطنية التي وضعت الدستور (سنة 1919) حيث بلغ عدد النواب الديموقراطيين الاشتراكيين 70 والاشتراكيين المسيحيين 64 والوطنيين الألمان وحزب الفلاحين، وغيرهما 30؛ وقد كان هذان الحزبان القويان القديمان، أعني الديموقراطيين الاشتراكيين، والاشتراكيين المسيحيين، هما اللذان يتنازعان الحكم والسلطان في الجمهورية الجديدة، والحزب الأول يمثل طبقات العمال وأصحاب المهن والحرف وله مثل اشتراكية قوية. والحزب الثاني يمثل أصحاب الأملاك والأموال والفلاحين، ذوي المبادئ والآراء المحافظة، وتغلب عليه نزعة دينية قوية. وقد لبث تيار الديموقراطية الاشتراكية غالبا زهاء عامين، وتولى زعيمها الدكتور رنر رآسة أول حكومة جمهورية في سنة 1918، ولما أجريت الانتخابات العامة للمرة الثانية خرج الديموقراطيون الاشتراكيون بأغلبية جديدة حيث بلغت كراسيهم ثمانين مقابل 61 كرسيا للاشتراكيين المسيحيين وعاد الدكتور رنر فتولى رئاسة الحكم على قاعدة الائتلاف مع الاشتراكيين المسيحيين. وكان الائتلاف يومئذ ضرورة تمليها الظروف العصيبة التي تجتازها النمسا، وكان في كثير من الأحيان ضرورة دستورية أيضا، لأن الأغلبية الحاسمة لم تكن لأحد الحزبين وكان العمل التشريعي يتطلب التفاهم والمهادنة. وفقدت الديمقراطية أغلبيتها سنة 1920، وتولى الاشتراكيون المسيحيون الحكم على يد زعيمهم المونسنيور أجناس سيبل، وهو حبر وعلامة في القانون الدولي، ولكن الديموقراطيين الاشتراكيين لبثوا أقلية قوية تناهض الأغلبية وتملي عليها إرادتها في كثير من الأحيان. وكان اكتساح الحزبين القويين للميدان الانتخابي على هذا النحو يحرم الطبقات الوسطى من أن تمثل تمثيلا قويا، ويجعل ميدان النفوذ والكفاح قاصرا على معسكرين يمثل كل منهما ناحية متطرفة من المثل والمبادئ، بيد أن الطبقة الوسطى كانت أكثر ميلا إلى ناحية الديموقراطية منها إلى الناحية الأخرى.
وأنفقت الجمهورية النمسوية أعوامها الأول في معالجة المشاكل التي خلقتها الحرب وفروض الصلح، وشغلت حينا بمسألة النقد وتدهوره. وكان المونسنيور سيبل رجل الموقف، فاستطاع بكثير من البراعة والجلد أن يعالج مشكلة النقد بالالتجاء إلى عصبة(36/18)
الأمم، واستقر النقد النمسوي منذ سنة 1923، وأخذت النمسا تسير في طريق الانتعاش الاقتصادي، وعولجت عدة مشاكل اقتصادية واجتماعية مثل: مسألة الأجور وتنظيمها، ومسألة المساكن وحماية المستأجرين، ومسألة التأمينات والمعاشات، والتشريع العملي والاجتماعي. وبذل المونسنيور سيبل لتنظيم النمسا الجديدة جهودا تخلق بالإعجاب. وكان يعتمد في سياسته أثناء هذه الأعوام على جبهة موحدة من حزبه، أعني الاشتراكيين المسيحيين والأحزاب الصغيرة الأخرى، ولكن الديموقراطيين الاشتراكيين كان لهم دائما في سير الشئون نفوذ قوي، بل كان هو الغالب في معظم الأحيان، وكانت جهودهم خلال هذه الأعوام تتجه إلى تقوية حقوق الطبقات العاملة وتوطيدها، وإلى مقاومة أصحاب الأموال والصناعات الكبرى والكتلة المحافظة من الملاك ورجال الدين. وكانت أهم المسائل السياسية التي واجهتها الجمهورية خلال هذه الفترة مسألتان: الأولى، مسألة التيرول الجنوبية، والثانية مسألة الاتحاد مع ألمانيا (الانشلوس)، فأما الأولى فترجع إلى أن معاهدة سان جرمان قضيت بفصل قسم كبير من أراضي التيرول الجنوبية عن النمسا وضمها إلى إيطاليا، وفيها نحو مائتي ألف نمسوي. وعبثا حاولت النمسا أثناء مفاوضات الصلح أن تقنع الحلفاء بتعديل هذا النص والإبقاء على حدود النمسا الطبيعية. وقد ازدادت هذه المسألة أهمية وخطورة حينما اشتدت وطأة النظم الفاشستية على أهل التيرول وأخذ السنيور موسوليني في حرمانهم شيئا فشيئا من أخص حقوقهم القومية والجنسية، وفرض عليهم اللغة الإيطالية في المدارس والكنيسة ولم يدخر وسيلة لسلخهم عن الكتلة الجرمانية وإدماجهم في الكتلة الإيطالية. عندئذ حاولت النمسا أن ترفع صوتها بالاحتجاج على هذه السياسة، وقامت الصحف النمسوية والألمانية عامة بحملة شديدة على ما تنزله الفاشستية بأهل التيرول من ضروب الظلم والإرغام؛ ولوح الرجال المسئولون في النمسا وألمانيا بإمكان طرح المسألة على عصبة الأمم تطبيقا لما تنص عليه معاهدات الصلح المختلفة من حماية الأقليات القومية. ولكن السنيور موسوليني أنكر هذه التهم، وسخر من تدخل العصبة ونوه بما تسبغه الحكومة الإيطالية على رعاياها الجدد من ضروب الرعاية والمعاونة، وأكد أن التيرول الجنوبية ضرورية لسلامة إيطاليا، وأن إيطاليا لن تنزل عنها قيد ذرة. وانتقد الشعب النمسوي موقف المونسنيور سيبل في هذه المسألة ورماه بالتردد والضعف، ولكن(36/19)
سيبل لم ير سبيلا للعمل الإيجابي إزاء وعيد موسوليني: ولم تستطع النمسا أن تحمل إيطاليا على تغير شيء من سياستها وخططها في التيرول، ولبثت المسالة مثاراً لسوء التفاهم بين البلدين مدى حين، وما زالت على حالها لم يتخذ بشأنها أي إجراء لإنصاف أهل التيرول.
وأما المسألة الثانية وهي مسألة اتحاد النمسا مع ألمانيا فقد لبثت مدى أعوام ظاهرة بارزة في السياسة النمسوية. وهي أمنية قديمة لدعاة الجامعة الجرمانية ترجع إلى أواخر القرن الماضي، وكانت قبل الحرب من غايات السياسة الألمانية، ولكنها لم تتخذ في النمسا الإمبراطورية أية أهمية، ولم يكن لها سوى أنصار قلائل بين شبيبة هذا العصر، فلما انتهت الحرب بانهيار الإمبراطورية القديمة وتمزيقها، وفصلت النمسا عن باقي وحداتها وشعرت النمسابمخاطر ضعفها وعزلتها عن باقي الكتلة الجرمانية، ورأت في اتحادها مع ألمانيا شقيقتها الكبرى خير سبيل لضمان مستقبلها السياسي والاقتصادي وأعربت النمسا فعلا عن هذه الأمنية لدول الحلفاء على يد مندوبيها في مؤتمر الصلح تطبيقا لمبدأ الرئيس ولسون في حرية تقرير المصير، ولكن الحلفاء عارضوا في تلك الخطوة أشد المعارضة كما قدمنا، لأن اتحاد الأمتين الجرمانيتين على هذا النحو يقوي ساعد الكتلة الجرمانية في أواسط أوربا، ويجعلها اشد خطراً وأبعد نفوذاً، ولما بدأت النمسا الجمهورية حياتها الجديدة، وآنست كل ما يعترضها من الصعاب السياسية والاقتصادية المترتبة على فصلها وعزلتها وتمزيق معاملاتها وعلائقها القديمة، عادت فكرة الاتحاد مع ألمانيا تبدو لها كعلاج ناجع، وكان الفريق المتطرف من أنصار الفكرة يرى أن يكون هذا الاتحاد تاما من جميع الوجوه السياسية والاقتصادية أو بعبارة أخرى يكون نوعا من الاندماج العام، ويرى الفريق المعتدل أن يكون هذا الاتحاد اقتصاديا قبل كل شيء يقرن بتوحيد الخطط السياسية العامة، ولكن تبقى النمسا محتفظة بشخصيتها واستقلالها الداخلي. بيد أن الفكرة كانت تلقى على وجه العموم تأييداً كبيراً من الشعب النمسوي، وكان أنصار الجامعة الجرمانية في البلدين يروجون لها بالدعاية الواسعة، وكانت تقام من أجلها المظاهرات في العاصمة النمسوية من آن لآخر، وتشجعها الحكومات النمسوية المختلفة. وكانت الديموقراطية الاشتراكية مع ذلك تشك في قيمة هذا الاتحاد وتخشى منه على مستقبلها وحقوقها إذا ما انتهى بالقضاء على(36/20)
استقلال النمسا بيد أنها لم تعارضه بطريقة إيجابية، وكانت تؤيد جانبه الاقتصادي على الأقل، خصوصا وقد كانت الديموقراطية الاشتراكية الألمانية يومئذ صاحبة النفوذ والسلطان في ألمانيا. واتخذت أول خطوة عملية لتحقيق مشروع هذا الاتحاد في سنة 1931 حيث عقدت النمسا مع ألمانيا اتحاد اقتصاديا جمركيا، وكان المفهوم أنه أول مرحلة فقط، ولكن دول الحلفاء، ودول الاتفاق الصغير، احتجت كلها على هذا الاتحاد بمنتهى الشدة. وانتهى الأمر بسحبه وإلغائه، وأدركت النمسا مرة أخرى أنه لن يسمح لها بالاندماج في الجامعة الجرمانية الكبرى.
وكانت فكرة الاتحاد النمسوي الألماني ما تزال قوية في النمسا حينما تولى الوطنيون الاشتراكيون الحكم في ألمانيا في يناير سنة 1933 وأخذوا يعملون لتحقيق برنامجهم، والمعروف أن العمل على تحقيق وحدة الشعوب الجرمانية في مقدمة المبادئ التي يحتويها برنامج الهرهتلر، وليس من ريب في أن ضم النمسا لألمانيا هو أهم عناصر هذا المشروع، وكان المفهوم أن ظفر الوطنية الاشتراكية بالحكم في ألمانيا يقرب أمد هذه الغاية، ولكن سرعان ما ظهرت الوطنية الاشتراكية الألمانية في ثوبها الحقيقي، مسرفة في العنف والطغيان وسرعان ما أخذت الحكومة الهتلرية تتدخل في شئون النمسا وتعاملها بخشونة وغلظة كأنها ولاية تابعة لألمانيا. وهنا أدرك الشعب النمسوي حقيقة لم يقدرها في البداية حق قدرها، وهو أن أنصار الجامعة الجرمانية لا يفهمون من الاتحاد إلا أنه قضاء على كيان النمسا كأمة مستقلة أو بعبارة أخرى ضم النمسا لألمانيا كولاية ألمانية. وشهد الشعب النمسوي في دهشة وسخط كيف تتجنى ألمانيا الوطنية الاشتراكية على النمسا، وكيف يحاول الدعاة الهتلريون أن يضرموا في النمسا نار الحرب الأهلية لكي تقضي على وجودها، وشهدت الديموقراطية النمسوية من جهة أخرى كيف قضى الهتلريون على الديموقراطية الألمانية في غمر من العنف المثير: عندئذ انهارت في الحال فكرة (الاتحاد) (الأنشلوس)، وظهرت للشعب النمسوي في روعة خطرها وخطئها، وقضت حكومة الدكتور دولفوس ومن ورائها سواد الشعب ترد عدوان ألمانيا الهتلرية، وتعمل لحماية الاستقلال النمسوي بكل ما وسعت من جهود.
للبحث بقية(36/21)
محمد عبد الله عنان
-(36/22)
حجر رشيد والقلم الهيرغليفي
للاستاذ عبد الفتاح الزيادي مدرس التاريخ والجغرافية بدار العلوم
تعإلى الله كان السحر فيهم ... أليسوا للحجارة منطقينا
(شوقي)
إن هذا الحجر وثيقة تاريخية خطيرة أدت إلى فك رموز الكتابة الهيرغليفية (المقدسة) ففتحت ما غلق من تلك المدينة المصرية القديمة التي ترعرعت على ضفاف النيل ودنت قطوفها حتى عمت جهات البحر الأبيض الشرقية.
قد هذا الحجر من صخر البازلت، وهو نوع من الحجارة البلوتونية السوداء المعروفة بصلابتها، وهو يرى الآن قائما في الطرف الجنوبي من غرفة الآثار المصرية بالمتحف البريطاني. أطلق عليه المؤرخون هذا الاسم بعد العثور عليه في مكان قريب من مصب النيل الغربي بالقرب من موضع رشيد. وقد قرر بعض المؤرخين انه كان ملقى على الأرض وقت أن عثر عليه، وقرر آخرون انه وجد مبنيا داخل جدار قديم كان نابليون قد أمر ثلة من جنوده بهدمه ليعزز ذلك الحصن الذي عرف بعد ذلك باسم حصن (القديس جوليان)
أما الذي عثر عليه فهو الضابط (بوسار) من فرقة المهندسين الذين رافقوا نابليون في حملته على مصر في أغسطس سنة 1799 ورقي عقب ذلك إلى رتبة جنرال (قائد)
لما لاحظ (بوسار) ما على وجه الحجر الأملس من الخطوط والنقوش الغريبة أيقن إنها لابد أن تكون خطوطا من قلم خاص، وسرعان ما كاشف رئيسه الجنرال (منو) بما لاحظه، فأمره هذا بنقل الحجر إلى منزله بالإسكندرية، فنفذ بوسار الأمر وظل الحجر زمنا في بيت (منو) لا يعلم أحد من أمره شيئا حتى ادعى (منو) ملكيته واعتبره جزءا من متاعه الخاص
ولما علم نابليون بما كان من أمر هذا الحجر أصدر أمره للجنرال (منو) بنقله إلى القاهرة فصدع منو بالأمر، ونقل الحجر إلى (المعهد الوطني) الذي أسسه نابليون في المدينة، وما ذاع خبر نقله حتى تهافت عليه جمهور العلماء المرافقين لنابلون فأثار دهشتهم، وأصبح منذ ذلك الحين موضع اهتمامهم واهتمام العاهل العظيم الذي رأى ضرورة فك طلاسم ما عليه من النقوش. أمر نابليون بأن تطبع من تلك الرسوم نسخ توزع على طوائف العلماء في(36/23)
أوربا، واستقدم لهذا الغرض اثنين من مهرة الطباعين في فرنسا، وهما مارسل وجالان. أما الطريقة التي اتبعاها في نقل النقوش فهي تتلخص في أنهما نشرا على وجه الحجر مداد خاصا. ووضعا أدراج الورق فوق الحجر ضاغطين عليه بمضغط من مطاط حتى انطبعت الرسوم واضحة، ثم وزعت النسخ المطبوعة على علماء العاديات الشرقية في أوربا تنفيذاً لأمر نابليون، وقد اختص (المعهد الوطني بباريس) بنسختين وضعتا موضع بحث وتنقيب قام به العلامة (دوتيل)
وصول الحجر إلى إنجلترا
بعد أن أحرز (السير رالف ابركرمبي) الإنجليزي النصر في مصر بهزيمته الجنود الفرنسية سنة 1801 أبرمت معاهدة بين الإنجليز والفرنسيين تنص المادة السادسة عشرة منها على أن يسلم الفرنسيون حجر رشيد مع آثار مصرية أخرى عظيمة الخطر كانت في حوزتهم إلى الجنرال هاتشنسون في أواخر أغسطس من هذه السنة عينها، وتنفيذا لهذه المعاهدة شرع هاتشنسون يتسلم الآثار المصرية بدون كبير معارضة ويرسلها إلى إنجلترا. ولما حان تسليم حجر رشيد إليه لاقى صعوبات جمة، إذ أن الفرنسيين كانوا قد أسرعوا عقب هزيمتهم إلى نقل هذا الحجر إلى الإسكندرية وأخفوه في منزل الجنرال منو مدة من الزمن بعيدا عن أعين الرقباء، فلم يقف هاتشنسون له على أثر، إلا أنه في سبتمبر سنة 1801 عادت إنجلترا إلى طلبه على يد الماجور جنرال تيرنر تنفيذاً لشروط المعاهدة المذكورة، ملحة في ضرورة تسليمه، فلم ير الفرنسيون بدا من التنازل عنه والأسف يملأ قلوبهم وأبحر به تيرنر على الباخرة (الأجبسين) ووصل بورتسموث في فبراير سنة 1802. وفي 11 مارس أودع الحجر إحدى غرف جمعية الآثار بلندرة، وبقي فيها بضعة شهور فحص في أثنائها جماعة من علماء المشرق، وعلماء الإغريق ما عليه من النقش، وفي يوليه أمر رئيس الجمعية بصنع أربعة نماذج من الجبس على مثاله لجامعات أكسفورد وكمبردج وأدلبره ودبلن وطبع نسخاً من هذه النقوش وأرسلاها إلى جامعات أوربا ومكتباتها الشهيرة ومجامعها العلمية. وفي أواخر هذه السنة نقل الحجر من غرفة جمعية الآثار إلى المتحف البريطاني حيث نصب وعرض للجمهور لمشاهدته بين بقية التحف الأخرى.(36/24)
وصف الحجر
إن حجر رشيد كما كشف قطعة غير منتظمة من صخر البازلت يبلغ طوله نحو ثلاثة أقدام وتسع بوصات، ولا يتجاوز عرضه قدمين وأربع بوصات. أما سمكه فلا يزيد على إحدى عشرة بوصة. وليس في الإمكان تحديد الجزء الناقص منه تماماً، إلا أنه من الهين أن نحكم أنه كان أطول مما هو الآن بنحو اثنتي عشرة بوصة، ويغلب على الظن أن الطرف العلوي منه كان مقوسا. وواجهة الجزء المقوس كانت محلاة بنقوش تحوي صورة القرص ذي الأجنحة لهوروس اله أدفو. وفي أسفل القرص ذي الأجنحة كنت ترى صورة الملك واقفا مع الملكة في حضرة جمع من الآلهة. وليس من الصعب أن نتصور أن هذا الحجر وهو منصوب في المعبد بجانب تمثال الملك الذي صنع تخليداً لذكراه كان من أبرز الآثار وآخذها بالألباب وأكثرها استرعاء للنظر.
أما النقوش على الحجر فقد كانت مرسومة بلغتين مختلفتين المصرية والإغريقية. وكان يعبر عن اللغة المصرية بنوعين من الكتابة: أولهما الهيرغليفي وهو القلم العتيق المستعمل منذ عهد الأسرات الأولى في تدوين كتاب الموتى والمراسيم المختلفة. وثانيهما الديموطيقي أي القلم العامي وهو المحرف عن القلم الهيراطيقي الذي كان مستعملا في نشر الأعمال الأدبية من تأليف وغيره.
وقد بطل استعمال الخط الهيرغليفي والديموطيقي عندما دخلت الديانة النصرانية في البلاد المصرية، وحلت محلهما حروف الهجاء القبطية المركبة من ألف باء اليونانية، ومن ستة حروف توافق بعض أصوات مصرية، وليس في اليونانية ما يعبر به عنها
أما الكتابة الإغريقية المنقوشة على صفحة الحجر فقد كانت عادية ومماثلة لما تحويه المخطوطات اليونانية القديمة. ويلاحظ أن القسم الهيرغليفي على الحجر مكون من أربعة عشر سطرا فقط على حين إن ما يقابله من الإغريقي مكون من ثمانية وعشرين سطر بينما يتألف الديموطيقي من اثنين وثلاثين سطرا
مجهودات العلماء في فك رموز حجر رشيد
أثارت النقوش التي على الحجر حركة عنيفة من الترجمة والبحث بين العلماء، وكان(36/25)
ستيفن وستن أول من وضع ترجمة القسم اليوناني ثم ألقى هذه الترجمة أمام جمعية العاديات بلندرة سنة 1812. وقام دوتي بنقل هذا الجزء إلى الفرنسية فإذا به شكر وتمجيد مرفوعان من كهنة الإسكندرية إلى بطليموس ابيفانس
وقام بدراسة الرموز الديموطيقية العالمان الشهيران سلفستردي ساسي وأكربلاد السويدي، ونجح هذا في توضيح ما يرادف بالديموطيقية أسماء الاسكندر والإسكندرية وبطليموس واسيس وأسماء الأعلام الأخرى، ورتب حروف هجاء مستعملة في القلم الديموطيقي مازال العلماء يعولون على معظمها، وأكثرها موافق للصحة والضبط. وقد وجه هذان العالمان اهتماما خاصا بالخانات الملوكية وأوضحا ما يقابل ذلك في الهيرغليفية
وفي سنة 1818 كتب الدكتور توماس ينج في دائرة المعارف البريطانية عن نتائج دراسته الشخصية في فك رموز الحجر، ونشر جريدة (قائمة) تحوي كثيراً من الحروف والمقاطع الهيرغليفية. ويعتبر الدكتور ينج بحق أول من أدرك فكرة القاعدة الصوتية في قراءة الهيرغليفية وطبق هذه القاعدة على حله بعض الرموز.
ظلت أبجدية ينج رهن التحول والتغير إلى أن ظهر العلامة شامبليون، وهو من أبرز العلماء في جمع طلاسم القلم الهيرغليفي اشتغل منذ نشأته بدراسة اللغات الشرقية، واستوعب بنوع خاص آداب اللغة القبطية من الكبت الدينية والأناشيد الكنسية التي نشرها أقباط مصر أتباع القديس سان مارك بالإسكندرية، وقد استطاع شامبليون بمعونة اللغة القبطية أن يدرك القيمة الصوتية لكثير من العلامات المقطعية.
وفي سنة 1822 نشر جريدة (قائمة) بالحروف والمقاطع الهيرغليفية، وأصلح بهذا بعض الأخطاء التي وردت في جريدة ينج، وقد شفع هذه الجريدة ببيان قواعد النحو عند المصريين الأقدمين فكان شامبليون أول من أدرك أن الهيرغليفي يحوي علامات تدل على أفكار ومعان مستقلة بالفهم يمكن التلفظ بها. وقد ضمن أول نتيجة ظهرت من أعماله في رسالة بعث بها إلى المسيو داسيه السكرتير الدائم في جمعية النقوش والآداب، وطبعت هذه الرسالة وقابلها الناس أولا بشيء من الاستنكار، ولكنه أزال الشك عندما نشر كتابه خلاصة قواعد الكتابة الهيرغليفية موضحا في هذا الكتاب أن الصيغ النحوية في الهيرغليفية توافق المصطلح عليها في اللسان القبطي. بهذا المجهود الجبار أصبح من السهل ترجمة الخطوط(36/26)
وقراءتها فلا نكون مبالغين إذا قررنا أن شامبليون هو الذي وقف على كنه أسرار الهيرغليفية وفتح الباب على مصراعيه للباحثين بعده:
ماذا على حجر الرشيد؟
إن المسطر على حجر رشيد هو صورة من القرار الذي أصدره مجلس الكهنة المصريين المجتمعين في ممفيس للاحتفال بإحياء الذكرى الأولى لتتويج بطليموس ابيفانس ملك مصر في ربيع سنة 196 ق. م. والصورة الأصلية للقرار كانت بالقلم الديموطيقي. أما الهيرغليفي واليوناني فكلاهما مترجم عن هذا الأصل. وتاريخ القرار هو اليوم. الرابع من الشهر الإغريقي (أبريل) وهو الموافق لليوم الثامن عشر من الشهر القبطي أمشير، ويتألف هذا القرار من فقرتين تحوي الفقرة الأولى ألقاب بطليموس الخامس، وتنوه بما يتحلى به الملك من الورع والتقوى وخشية الآلهة وحبه لمصر والمصرين - أما الفقرة الثانية فهي تعداد للنعم التي اسبغها الملك على البلاد وما أسداه للدين من خدمات. ويمكن تلخيص هذه النعم فيما يأتي:
1 - هبات مالية وعطايا من قمح للمعابد والهياكل - 2 - حبس أموال على المعابد والأعمال الدينية - 3 - نقص الضرائب الحكومية إلى النصف - 4 - التنازل عن بعض الديون التي للحكومة على الأهلين - 5 - إطلاق سراح المسجونين الذين قضوا معظم المدة في السجون - 6 - العفو عن العصاة والسماح لهم بالعودة للبلاد والإقامة فيها - 7 - ضرورة إرسال سرية عسكرية برا وبحرا ضد أعداء البلاد - 8 - محاصرة بلدة ليكوبوليس وفتحها - 9 - تجديد هياكل العجل ابيس ومعابده والحيوانات المقدسة الأخرى ووقف أموال عليها.
واعترافاً بهذه المبرات التي أسداها الملك بطليموس الخامس قد قرر المجلس العام للقساوسة تخليد ذكرى الملك والإكثار من إقامة حفلات الذكرى، وتتلخص قراراته فيما يأتي:
1 - صنع تماثيل لبطليومس بوصفه (منقذ مصر) تنصب في المعابد ليقوم الكهنة والناس بعباداتها.
2 - صنع صورة ذهبية لبطليموس تحفظ في صناديق ذهبية توضع جنباً لجنب مع توابيت الآلهة وتحمل في المواكب والاحتفالات معها. 3 - أن تكون الأيام الخمسة الأولى(36/27)
من شهر توت أعياداً متصلة تقدم فيها القرابين ويلبس الناس فيها أكاليل الغار. 4 - إضافة هذا اللقب الجديد إلى ألقاب الكهنة (كهنة الإله المحسن الوهاب بطليموس ابيفانس الذي ظهر على الأرض) ونقش هذه العبارة على خاتم كل كاهن وتسجل في كل وثيقة دينية. 5 - للجنود أن يستعيروا من المعابد الصناديق التي تحوي صور بطليموس ويحملوها معهم إلى ميادين الحرب تبركا بها. 6 - كتابة صورة من القرار على حجارة من بازلت بلغة الآلهة (الهيرغليفية) وبلغة الأدب (الديموطيقية)، وكذا باليوناينة ويكون من بينها حجر كبير يقام في الهيكل الأعظم جنباً لجنب من تمثال بطليموس (الإله المخلد في المعابد).
عبد الفتاح الزيادي(36/28)
رسالة الشعر
ليس الشعر صنعة يمكن كل إنسان احترافها، ولا أداة يستطيع كل
شخص امتلاكها، وإنما هو رسالة يلهمها الشاعر، فإذا هو قد تبدل من
نفسه نفسا أخرى، تنظر إلى العالم نظرة جديدة، تغير قيم الأشياء في
رأيه، وتعدل أقدارها، نظرته لا تقف عند القشور، ولا تنحجز عند
اللفائف، وإنما تنفذ إلى اللباب، وتتغلغل إلى صميم الجوهر، وما تزال
هذه النظرة ترقى بإحساسه وتسمو بقلبه، حتى ترفع له الحجب عن
الجمال الهاجع في الكون، وتكشف له الأستار عن سحره البديع وسره
العجيب، فيخر ساجدا أمام عرشه مفتونا بحسنه، مأخوذا بروعته، وما
هي إلا عشية أو ضحاها حتى يحس بشعور غامض غريب، وحال
نفسية شاذة، لا يزالان يتضخمان في نفسه، ويتبلجان في قلبه، حتى
ينحسرا عن رسالة شاقة ممتعة معاً، هي رسالة الجمال، فيترجح بين
سترها ونشرها، ويتردد بين إخفائها وإعلانها. بيد أن رسل الوحي لا
تمهله ولا تتركه، بل تتبعه وتقلقه، وما تزال به حتى يذعن إلى تلبيتها،
ويستجيب إلى دعوتها، فيتناول قيثارته السحرية، ويوقع للناس عليها
أفكاره الغنائية اللذيذة، ويرتل عليها أناشيده العذبة الجميلة، محاولا بكل
جهده أن يطلعهم على هذه المعاني الموسيقية التي هي لباب كل شيء
في هذا الكون، وصميم كل موجود في هذا العالم، وكل ما سواها إنما
هو قشور وأغلفة، فان جمال الطبيعة ونظام الكون إنما يتألفان من
شيء يشبه النغمات الموسيقية وما بينها من ائتلاف وانسجام، ووحدة
ووئام، بل هو النغمات الموسيقية نفسها وما تحمل من رنة وجمال، وما(36/29)
تغشى من حسن وجلال. ولقد اهتدى أحد فلاسفة اليونان القدماء
ببصيرته النافذة إلى معرفة هذا السر الموجود في كل كائن فقال: إن
للأفلاك موسيقى تنظم حركتها ودورانها، وتحفظ توازنها وبقاءها،
وأكبر ظني أن اليونان شعروا منذ القدم بهذا الحقيقة الجميلة، وربما
كان هذا الشعور هو السبب في نبوغهم في فن الشعر، وتفوقهم على
العالم فيه، فقد نظروا إلى الطبيعة نظرة جمة الضياء، غزيرة الشعاع،
فتبينوا باطنها وكشفوا داخلها، وعرفوا أن الموسيقى هي قلبها بل هي
جمالها وجلالها، فأخذوا يقتربون منها، يحاولون أن يعرفوا أسرارها
ويمثلوا نغماتها، فكانت هذه المثل العليا في فن الشعر التي لا يزال
شعراء العالم يحتذونها حتى الآن.
والمعاني الموسيقية التي يغنيها الشاعر لا ينقلها إلينا من الطبيعة نقلا وإنما يمزجها بقلبه، ويخلطها بدمه، ثم يقدمها إلينا فتؤثر فينا تأثيراً جميلا، لأنها تصدر عن القلب، وكل ما يصدر عن القلب يؤثر في القلب، ولكن جماعة من النقاد زعمت أن الشاعر لا يرينا شيئاً أكثر من الواقع الخارجي نفسه، وكل ما يملك تلقاءه إنما ينحصر في كشف حقائقه، وكأنهم أبوا إلا إن يفسروا كل شيء في الوجود تفسيراً ماديا فأنكروا الخيال وأنكروا المثال، وما عرفوا أن في الوجود شيئاً آخر ليس حقيقة مقيدة، ولا مادة محسوسة، وإنما هو نور يشع على وجه الطبيعة، فيشرق على قلوب الشعراء، ويختلط بما فيها من نعمة وبؤس، وشقاء وسعادة، وبكاء وفرح، ويمتزج بما يسري في روعهم من خطرات وأفكار وخوالج وآراء، فإذا هو نغم مزيج من الإنسان والطبيعية، وغناء خليط من قلبه وقلبها، بل من خياله وجمالها.
وقد يكون من الجحود أن نقول إن الشعر من الأعمال الموضوعية التي لا يتبين لصاحبها فيها أثر، والتي يقتصر فيها على إبداء الملحوظات وذكر التنبيهات، فان الشعر ذاتيا أكثر(36/30)
منه موضوعيا وداخليا أكثر منه خارجيا، وهو يعني بتقديم شخصية صاحبة قبل عنايته بتقديم الموضوع الذي يحاول الكلام فيه، وما التصويرات والأفكار الشعرية إلا الواقع كما نحلم به ونتخيله، لا كما نراه ونشهده، ولو كانت مهمة الشعر هي نقل ما في الطبيعة لكان تكراراً قليل القيمة، ولو كانت هي فكرته عن الجماللكان أقل قيمة وأدنى درجة، وإنما تتركز مهمته السامية في أنه الحلقة الربطة بين الطبيعة في أجمل مظاهرها وأسمى معانيها وبين روح الإنسان، وإذن فالشعر لا يبتغي نقل حقائق الأشياء ولا إظهار جانب الحق وتزيف الباطل منها، فان لذلك لساناً خاصاً يقوم به. ونحن لا ننكر أن الشاعر يحب الحقيقة فان الحقيقة في ذاتها محببة إلى كل نفس ولها سلطان على القلوب لا يمكن أحد أن يجحده، ولكنا نقول إننا لا نريد من الشاعر بيان الحقائق، وإنما نريد منه تحديثنا عن الجمال المستتر في الكون، وتمثيل الموسيقى التي تؤلف بين أجزائه ووحداته، وينبغي أن ننبه إلى أن الشاعر يعرف الحقيقة معرفة أخرى غير المعرفة التي يعرفها الرياضي والرجل العادي، وكأني بالشعر ينظر إلى الأشياء من جهة خاصة به، وينظر إليها العلم من جهة ثانية، والدين ينظر إليها من جهة ثالثة، وقد ينظر إليها الشعور العام من جهة رابعة، أما هؤلاء الذين ينطقون عجبا قائلين أي حق هذا بينما يقرأون شعر الشاعر إنما هم لا يعرفون كيف يستفيدون من الفن الاستفادة الصحيحة، ولا ينتفعون بها الانتفاع الواجب وهم يضيعون أوقاتهم من حيث لا يشعرون، وإلا لو كان الأمر كما يظنون لانقلب الشعر إلى صور من الحجج والبراهين
على أن الحقيقة الواحد ة قد تتبدل من حين لآخر أمام الشاعر الواحد، ويتبين هذا من أننا نلاحظ إن الشاعر المحب إذا كان مسروراً بش للطبيعة وبش للسماء، وتخيل كأن كل شيء يحدثه ويضاحكه فالريح تسر إليه باسم حبيبته، والنجوم ترنو إليهبعين الحنان والعطف، وكل شيء في الطبيعية يداعبه ويفاكهه، أما إذا كان مخزوناً فان هذه الحقائق والأخيلة تتغير في رأيه، وتختلف في نفسه فالريح تسخر من تأوهاته، والنجوم القاسية تنظر إليه من غير تقدير ولا عناية، وكل شيء حوله مغاضب له ساخط عليه
قد يقول قائل إن الشعر يقوي ويوضح الاحساسات ويوسع الخيال، ونحن نوافق على ذلك ونزيد أن الشعر قد يعمل على تنظيم ما يضطرب في عقول الآخرين، وانه قد يوقظ العقل(36/31)
ويوسعه بترقية الاحساسات وكثرة الأفكار التي يلقيها إليه، ولكننا ننكر أن هذه هي غايته السامية، فليست رسالة الشعر هي التثقيف كما قال هورس، فللتثقيف أداة خاصة به والشعر لا يزاحمه فيها، وما جاء من ذلك إنما آتى عن طريق غير مباشر في عرض الرسالة وأدائها، ولعل أعظم برهان على ذلك أننا لا نسمع لشعر الشاعر، ولا لغنائه لأنه أكثر تفكيراً، ولكن لأنه أكثر حساسية وأوفر شعوراً، والذين يفهمون الشعر على أنه فلسفة أو أخلاق أو يحاولون فهمه على هذا الأساس، إنما هم مخطئون في معرفة رسالته، فالشعر لم يرسل ليكون لسانا للفلسفة، ولا أداة للأخلاق، وأما هذه الأفكار التي قد نعثر بها عند بعض الشعراء فنظنها فلسفة أو أخلاقا، فهي ليست من هذا الطراز الذي نعهده عند الفلاسفة، ولا من المبادئ التي نعرفها عند الأخلاقيين، وفهمها على هذا النحو خطأ من أساسه، ونسيان لرسالة الشعر وغايته.
والشعر لا يخضع لقانون خاص كقوانين العلم، ولا أصول ثابتة كأصول الدين، وإنما يحتاج إلى قوة التأثير التي تربط بينه وبين قلوبنا وتصل بينه وبين أفكارنا، وذلك لأنه صلة بين صاحبه وبين قارئيه، وبمقدار تلك الصلة من القوة والضعف تكون منزلته العلو والإسفاف وقد نستطيع أن نقول إن التأثير هو كل شيء في الشعر، وهو سر خلوده، وسبب بقائه على وجه الدهر، وما الشاعر العظيم إلا الذي يشعر الأشياء التي تلمس قلوب الناس وتؤثر فيها تأثيراً عميقاً، ولقد كان قلب شاكسبير - كما يقول الإنجليز - كأنه مخلوق من قلب الإنسانية ذاتها، لأنه كان يتحدث فيلم بخطرات القلوب وخلجات النفوس، ولقد كان لسانه - كما يقولون أيضا - كأنه يحفظ كل الكلام الأنساني، لأنه كان يعبر فيحسن التعبير ويؤثر فيجيد التأثير
وإنه من الحق هنا أن نذكر أن معظم شعرائنا لا يتناولون بشعرهم ما يتصل بحياتنا اتصالاً مباشراً، ولا ما يؤثر فيها ولو تأثيراً بعيداً، كأنهم في شغل عنها أو في غفلة عن أمرها، ولهذا فشعرهم لا يقع منا إلا موقع الطنين الممقوت والضوضاء الكاذبة، فهو شعر لا يمتزج بالنفوس، بل لا يتصل أي اتصال بالقلوب، وما أشبهه بمدينة منهدمة لها سور لا يكاد يقوم فلا هي تجذب العيون، ولا هو يعطف القلوب، وأكبر ظني أن هذا الخطأ الفاحش في فهم رسالة الشعر جاء هؤلاء الناس من أنهم يعيشون معيشة فنية صرفة فهم لا يستمدون فنهم(36/32)
من الطبيعة التي ينظرون إليها، ولا يتخذون ألوانه من الحياة التي يحيون فيها، وإنما يجذبونه جذبا من دواوين أسلافهم، ويسلبونه سلبا من موضوعاتها وأساليبها، وكأنهم جهلوا أن الشعر هو نفس صورة الحياة معبرة في حقيقة الجمال الخالدة، وموسيقاه المؤثرة.
شوقي ضيف(36/33)
سياسة أمريكا النقدية
الرئيس روزفلت والدولار
يتتبع الرأي العالمي سياسة روزفلت الاقتصادية والنقدية بمنتهى الاهتمام. وما زالت مشكلة الدولار الأمريكي في مقدمة المسائل العالمية لما للدولار من عظيم الارتباط بسير النقد في كثير من الأمم ومن عظيم الأثر في سير التجارة الخارجية العالمية لأن أمريكا من اعظم الدول المصدرة في العالم. وفي مصر تعنينا مسألة الدولار بنوع خاص لما لها من أثر كبير في سير أسعار القطن. وقد قرأنا في هذا الموضوع مقالا للعلامة الاقتصادي الأمريكي الدكتور ايرفنج فيشر في مجلة الأمريكية فرأينا أن نلخصه لقراء الرسالة فيما يأتي:
قال الرئيس روزفلت في 3 يوليو الماضي ما يأتي: (إن الولايات المتحدة الأمريكية تبحث عن الدولار الذي يكون له بعد جيل من عصرنا من قوة في الشراء وفي أداء الدين ما للدولار الذي نؤمل أن نحصل عليه في القريب العاجل)
ويتفق جميع علماء النقد الذين درسوا هذه المسألة مع العلامة مينارد كينس في إن الرئيس روزفلت (مصيب كل الإصابة) ومع ذلك فان أغلبية الشعب الأمريكي لم تقتنع فيما يظهر بهذه الحقيقة. بيد أنه من الخطر أن تترك المسائل الفنية لحكم الجمهور. ويعتمد الرئيس روزفلت في عمله على مؤازرة اثنين من أعظم خبراء النقد في العالم هما: الدكتور وارنز الأستاذ بجامعة كورنل، والدكتور هارفي روجرز الأستاذ بجامعة ييل
ونرى عند تحليل كلمات الرئيس روزفلت إن سياسته النقدية تقوم على غايتين: الأولى هي رفع مستوى الأثمان، والثانية هي الاستقرار أو تحديد مستوى الأثمان. وقد قال الرئيس روزفلت فيما يتعلق بالمسألة الأولى ما يأتي:
(إن الحكومة تنوي أن تعمل على رفع أثمان الحاجات إلى حد يمكن أولئك الذين اقترضوا مالا من أن يؤدوا ذلك المال بنفس نوع الدولار الذي اقترضوا به، ونحن لا نريد أن نمكنهم من الحصول على دولار يكون من الرخص بحيث يمكنهم من الأداء بأقل مما اقترضوا، ونريد بعبارة أخرى أن نصلح خطأ ارتكب لا أن نحدث خطأ جديدا في الناحية الأخرى)
وإذا كان التضخم النقدي أمرا لا يرغب فيه، فكذلك التمسك النقدي مما لا يستحب. ونستطيع أن نقول إن التدهور الاقتصادي الحاضر يرجع في معظمه إلى التمسك النقدي.(36/34)
وهو (تمسك) في الدين، والدين والتمسك يتفاعلان معا. وقد كان عبء الدين الذي تواجهه الأمة فادحا، فادى ذلك إلى تدهور البيع، ونقض الودائع في البنوك بسبب تصفية القروض، وكان هذا الانكماش في تداول النقد، والهبوط في البيع، سببا في هبوط مستوى الأثمان ورفع قيمة الدولار من حيث القوة الشرائية بما يبلغ 81 في المائة، وهذا يعني إن كل دين كانتقيمته ألف دولار، اصبح يعادل 1810 دولارات، وكان هذا اصعب واشق في الأداء
وقد كان هذا المجهود الذي بذل في أداء الدين سببا في نقص ودائع البنوك، ومن ثم في زيادة الديون، وكلما حاول الشعب الأمريكي أن يتخلص من دينه كلما شعر أن عبء الدين يزداد، وذلك لأن الدين يجب أن يقاس بقيمة السلع الحقيقية. وهذا هو لغز الركود التجاري. فنحن قد أدينا في الظاهر 20 في المائة من ديوننا، ولكننا في الحقيقة زدنا هذه الديون 40 في المائة بما بذلناه في سبيلها مدى أربعة أعوام من السلع الحقيقية
وللمسألة وجوه كثيرة يثيرها خصوم الرئيس روزفلت. أولها إن هذا التضخم النقدي هو تضخم غير محدود. والواقع ليس كذلك بل ليس في أمريكا رجل مسئول يقوم بالتضخم غير المحدود، وكل ما هنالك هو انه يراد أن يسير التضخم إلى الحد الذي يتدارك فيه أثر (التمسك).
ثم يقال انه حتى لو أريد ضبط هذا التضخم، فأنه سيفلت من كل ضبط، ويضربون لذلك مثل ألمانيا التي انتهت سياسة التضخم فيها بكارثة نقدية، وان مثل هذا التضخم يحدث بنوع خاص بواسطة الأوراق النقدية الحكومية. ولكنا قد جزنا في أمريكا هذه التجربة مرتين: الأولى سنة 1865، والثانية أثناء الحرب. وقد استطعنا في كلتيهما أن نوقف سيل التضخم، بل وان نصل إلى نوع من (التمسك)
ويقال أيضا إن كل رفع الأثمان بالطريقة النقدية هو عمل مصطنع، نظراً لأن الأثمان يحددها قبل كل شيء قانون العرض والطلب. وهذا غير صحيح. فان أسعار القطن مثلا لا تتأثر فقط بعرض القطن وطلبه، ذلك أن طلب النقود وعرضها أيضاً عامل مهم، فإذا قايضت قطنا بفضة، وارتفع سعر القطن المقوم بالفضة، فلا يمكن أن ننسب هذا الارتفاع في الثمن لأسباب تتعلق بالقطن وحده. ذلك أن القطن في هذه الحالة يرتفع بالنسبة للفضة، وتنخفض الفضة بالنسبة للقطن، والعرض والطلب كلاهما مهم. وكذا سعر كل سلعة يتأثر(36/35)
بعرض النقود وطلبها. ولا يمكن في الواقع أن يقوم عرض القطن وطلبه بالنقود دون أن نرجع إلى قوة النقود في الشراء. وهذه القوة تمثل في كل ثمن وكل مساومة. بيد أن هذه الحقيقة تنسى دائماً. فإذا حدث هبوط عام في أسعار الحاجات كما هو حادث منذ أعوام، فان الناس لا يفهمون السر في ذلك إلا أنه يرجع إلى وفرة الإنتاج. ولكن هذا الهبوط يرجع في الواقع إلى قلة النقود أكثر مما يرجع إلى وفرة الإنتاج.
ويقولون أيضا إن مثل هذا الاستقرار في الأثمان لا قيمة له بل هو ضار. والوقائع تثبت غير ذلك، وفي رأيهم أن الاستقرار الحقيقي لا يمكن إلا أن يكون بالنسبة للذهب، وأنه يجب علينا أن نعود إلى معيار الذهب بأسرع ما يستطاع، وهذا وهم. ذلك أننا إذا كنا على عيار الذهب، فأنا نعتبر أن معيار النقد يجب أن يكون هو الذهب وإننا سنعود إليه. ولكن إذا كانت دولة أخرى تتبع معيار الذهب فأنا نشكو من اضطراب القطع بين البلدين. وقد كان المستطاع حينما كانت ألمانيا وروسيا تجوز كل منهما عملية التضخم الكبرى. أن ينشأ بينهما معيار ثابت للقطع؛ ولكن ذلك لا يعني ثبات المارك أو الروبل، ولكن معناه انهما قد خفضا معاً، وكذلك لو قام بيننا وبين فرنسا مثلا معيار ثابت للقطع، وبقينا معاً على عيار الذهب، فليس معنى ذلك أن الدولار أو الفرنك ثابتان؛ ولكن معناه انهما قد ارتفعا معاً في الأعوام الأخيرة، وما نريده هو تثبت الفرنك والدولار، أو المارك والروبل، بالنسبة للسلع والأشياء الحقيقية وبالنسبة لقوة الشراء التي تعبر عنها النقود
لقد اتبعت أمريكا سياسة الذهب، ولكنها تركت معيار الذهب في الأثمان، فكان من نتيجة ذلك أن وقف هبوط التجارة الأمريكية وهبوط الأثمان.
وللرئيس روزفلت في ذلك سلطة هائلة، فهو إذا قرر أن يخفض الدولار إلى نصف قيمته الأصلية كما هو مخول له، فمعنى ذلك أن الأربعة بلايين دولار من الذهب التي تملكها أمريكا تصبح في الحال ثمانية بلايين إذا أوقفنا شراء الذهب من الخارج.(36/36)
3 - التفاؤل والتشاؤم وهل لهما أسباب تاريخية
بعض غرائب الخرافات عند الغربيين والشرقيين
أيام الأسبوع
إن فكرة التشاؤم من بعض أيام الأسبوع سائدة عند الأمم الغربية، ويعتقدون بعدم التوفيق ونجاح الأعمال فيه، فيوم النحس عند الفرنسيين هو يوم الأربعاء، وعند الألمان يوم الاثنين، وعند الإنجليز يوم الثلاثاء، حتى أن عدد الذين يركبون القطار المترو الذي يسير تحت الأرض قليل جداً بالنسبة إلى عدد الركاب في الأيام الأخرى من الاسبوع، ويعتبر الأميركيون يوم الجمعة من أسوأ أيام الأسبوع. وبعضهم يعتقد أن أقبح الأيام يوم الأربعاء، وأغرب من هذا أن عالماً أمريكياً يدين بهذه الفكرة ويؤيدها. وأحسن الأيام عند الأميركيين هو يوم السبت فتجدهم يقيمون فيه حفلاتهم.
وكان المغفور له السلطان حسين كامل يتشاءم بيوم الاربعاء، ولا يحب أن يقرر فيه قراراً ما. ومما يروى عنه في هذا الصدد انه لما أراد أن يعين لنفسه طبيباً خاصاً سأل الأطباء الذين كانوا يتولون معالجته عن أسم الطبيب الذي يشيرون عليه باختياره، فذكروا له اسم الدكتور محمد شاهين باشا وكيل وزارة الداخلية للشؤون الصحية الآن فدعاه إلى مقابلته، وبعد ما حادثه مليا أبلغه أنه يرغب في تعينه طبيباً خاصاً له، ثم صرفه بعد ما طلب منه أن يعود إليه في اليوم التالي ليصدر قرار تعيينه.
ولم يؤجل رحمه الله قرار التعيين إلى الغد إلا لأن المقابلة كانت يوم الأربعاء فلم يشأ أن يصدر القرار في ذلك اليوم، وخصوصا أن القرار كان لأمر متعلق بصحته.
وكان أهالي جزيرة مدغشقر حتى عهد قريب يقتلون الأطفال الذين يولدون في أيام الأسابيع المحسوبة شؤما. وكانوا يرمون جثثهم في البحر تيمنا.
ولم يبين أحد من الباحثين حتى الآن سبب التشاؤم من بعض أيام الأسبوع، وربما يرجع هذا التشاؤم إلى عقائد فاشية عند القدماء، ثم انقطعت الثقافة بينهم وبين أسلافهم فلا يمكنهم التفسير على وجه سديد.
كسر المرآة(36/37)
من الخرافات السائدة بين الناس عامة والنساء خاصة التشاؤم من كسر المرآة. والأصل في ذلك أن الإنسان القديم كان يحسب أن ظله جزء منه، وإن إيذاء الظل هو إيذاء له لأنه بمثابة الروح منه. وكلمة ظل عند بعض الأمم في آسيا تعني الروح. وكان الإنسان قبل اختراع المرآة ينظر صورة ظله على أسطح مياه الأنهار والبحيرات وغيرها، وذلك لأن الزجاج لم يكن قد عرف بعد. وما زلنا نرى في (المندل) بعض آثار هذه الخرافات القديمة. فأن هناك اعتقاداً بأن من ينظر في كوب به ماء ثم تتلى عليه الرقي يرى أشياء خفية لا يراها غيره. واكثر ما يكون الخطر من المرآة في الوقت الذي يكون أحد في المنزل في النزع الأخير أو قد توفى من وقت قريب لأن الموت عندئذ يرفرف بجناحيه على المنزل، فليست رؤية الظل (الروح) مما تؤمن عاقبته. ولذلك كثيرا ما يقلب الناس مراياهم في ذلك الوقت العصيب. والأصل كما قلنا هو خوف الناس من تعرض أرواحهم أي ظلالهم للأذى أو الموت كما يتوهم المتوحشون القدماء إن الظل هو الروح
السلم
مما يتشاءم منه الغربيون المشي تحت أو وراء السلم، وقد ذكرت مجلة إنجليزية محادثة بين سيدة وصديقتها عن خرافة السلم:
السيدة - أنا لا امشي تحت سلم مطلقا لاعتقادي أن ذلك شديد الخطر.
صديقتها - أنت بلهاء فأني أضع أطراف أصابعي الصغيرة معاً واثني الثلاث الأخر في راحة اليد وابسط الإبهامين ثم أقول (ماجنوم بونوم) وامشي رابطة الجأش تحت السلم فإذا فعلت مثلي مررت من دون أن يلحق بك أذى.
وقد ألقت المس (واليس) إحدى مدرسات لندن محاضرة يوم 19 يناير سنة 1928 عن منشأ الخرافات السائدة بين الشعب الإنجليزي فقالت: إن خرافة السلم يرجع تاريخها إلى أزمنة العقاب بلا محاكمة قانونية فكان المحكوم عليهم يشنقون بتعليقهم على سلم إذا لم تكن شجرة في مكان التنفيذ، وكان كل شخص يتفق وجوده وراء السلم مستهدفاً لخطر الاتهام بالاشتراك مع المشنوق في جرمه.
إبراهيم تادرس بشاى(36/38)
تعد ذنوبي. . .
يصدق الشطر الأول من بيت أبي العلاء المشهور على الشرق في موقفه اليوم من الغرب. سواء أصدق الشطر الثاني أم لم يصدق، ولا يسع الشرقي في بلاد الغرب إلا أن يتمثل به ما بين آن وآخر. فالشرق كما قال الاستعماري كلبنج ما زال شرقاً والغرب غرباً وكلاهما جاهل بالآخر، والغرب أجهل بصاحبه. الشرق مخدوع في الغرب يحسبه أرقى مما هو عليه، والغرب مزدر للشرق يظنه أحط مما هو في الواقع.
صورة الشرق في ذهن الإنجليزي وإن يكن متعلما صورة خيالية. تحوي أمراء مترفين عائثين ورعايا كادحين مخشوشنين. صحارى وغابات تجيش بغوائل الوحش والإنسان. ورجلا أبيض ينشر الخير والبركات ويبدل الشرور منافع محتسبا لا يبغي غير وجه المدنية ورضى الانسانية. فان جاء أحد أبناء تلك البلاد يفهم ذلك الواهم أن تلك الصورة القصصية التي ربما انطبقت على بعض نواحي الهند في غابر الأيام لا تنطبق على الشرق اليوم. وأن الشرقيين ليسوا موغلين في الجمود والتشبث بالقديم كل ذلك الإيغال، وإنما هم فضلا عن عراقة حضارتهم يسعون جهدهم - وقد ظهرت مدنية أوربا على غيرها من المدنيات - أن يأخذوا بأسبابها ويسايروا عصرها، إذا أراد الشرقي أن يشرح ذلك للإنجليزي الذي لم يبرح بلاده انصرف عنه معرضا. لأنه يراه يفسد عليه صورته المحبوبة التي يألفها ولا يريد فراقها
ومهما أطنب الإنجليزي في روعة الشرق وثروته ولآلائه وفتنته. ومهما ود لو تتاح له مشاهدة كل ذلك فانه يعود - إذا ما تأمل الصورة الموصوفة - إلى نفسه مغتبطا ويحمد الله من صميم قلبه على أن خلقه إنجليزيا مسيحياً لا عربياً مسلماً ولا هندياً بوذياً، وقدر له أن يقضي حياته في ربوع المدنية لا بين أكناف الهمجية
فلا عجب أن ينظر الإنجليزي إلى نزلاء وطنه - ولا أقول ضيوفه - من الشرقيين نظره إلى أطفال كبار جاءوا ليتلقوا في بلاده طرق الحياة وسبل المدنية، ويتوهم أنهم حين وطئوا أرضه طرحوا عاداتهم وتقاليدهم وأزياءهم المتأخرة جانبا، واستبدلوا بها الطرق الإنجليزية الراقية، وبدءوا حياة جديدة، ولا عجب ان يضمر لهم كثيرا من الازدراء وغير قليل من الكراهية.
قابلت في بعض جولاتي في إنجلترا إنجليزيا يعمل في السودان كان يقضي عطلته في(36/40)
بلاده. فسألني في غضون الحديث. كيف ترى إقامتك في إنجلترا؟ قلت: أين هي من إقامة الأوربي في مصر؟ قال: ماذا تعني؟ إن الإنجليز يحبون المصريين ويرحبون بهم في منازلهم، قلت: لا أرى دليلاً على ذلك. وليست تخدعني المجاملة الظاهرة عما تكن النفوس من ترفع تارة وكراهية أخرى. قال: كيف؟ هل لقيت سوى حسن المعاملة حيثما ذهبت؟ قلت هبني لم ألق سواها فما ذاك إلا لأني رجل مهذب أحترم نفسي وأرعى حق غيري، فمن له بمخاشنتي وهذا محملي؟ فمضى في مكابرته الإنجليزية التي تعمى عن الحقائق من أجل أغراضها عماية عجيبة
ومضى زمن، وكنت أحادث طالبة إنجليزية بيني وبينها صداقة وثيقة فقالت: كم زوجا لك في مصر؟ قالتها بلجهة بن الجد والمزاح وقدماً قال شاعرهم شكسبير: كم من حقيقة أودعت نكتة، وأذكرني الخوض في هذا الشأن حديث ذلك الإنجليزي، فأردت ان أستوثق منها صراحة عن حقيقة رأي الإنجليز في الأجانب وشعورهم نحوهم، قالت أتروم الحق! قلت الذي لا غبار عليه والذي لن يغضبني مهما قسا
قالت: فأما إذا تروم الحق، فالإنجليز لا يحبون الأجانب عامة لأنهم يعدون أنفسهم سادة العالم، ولا يقيمون كبير اعتبار لما جاء من خارج جزيرتهم، ثم هم أشد نفوراً من الشرقيين الملوني البشرة لأنهم شديدو البعد والاختلاف عنهم، ولأنهم في الغالب غير مسيحيين، ومن لم يكن مسيحيا فهو في نظرهم لا يؤتمن، ثم إن المعروف بينهم عن الشرقيين أنهم شهوانيون، وأنت تعلم ما يقال عن مسائل الحريم وتعدد الزوجات، وأخيراً لأن من يفد إلى هذه البلاد من طلابهم هم عادة صفوة شباب بلادهم، وهم لذلك يفوقون أقرانهم الانجليز، ولذا ينقم عليهم طلاب الذكور خاصة
وكنت وعدت مخاطبتي ألا أغضب، فلم أشأ أن أفند لها هذه الأوهام، ولا سيما وقد عزتها إلى غيرها في لهجة من هي براء منها، فلم أقل لها إن القول بسيادة الإنجليز للعالم فيه ادعاء وتغرير، فتلك السيادة إن صحت لا يتمتع بها وبما تجره من منافع مادية سوى طبقة محدودة من الإنجليز، بينما سواد الشعب لا يمتاز كثيراً من سواد الشعوب الأخرى من نواحي التعلم والثراء والخضوع لتحكم الطبقة العليا، وإن المسيحية ليست أسمى ولا أطهر من الإسلام والبوذية دين الملايين من الشرقيين، وإن الإنجليز وإن رموا غيرهم بالشهوانية(36/41)
يقارفون مثل ما يقارف غيرهم لأنهم آدميون مثلهم، لم تكن لذكر هذا وذاك جدوى فلم أذكره وإنما شكرت الطالبة على بيانها الواضح المفيد المليء بالعبر
وذكرت هذا كله حين قرأت كلمة الدكتور عوض التي سماها (جريمة) فقلت: صدق الدكتور الفاضل، ولكنه ذكر جريمة واحدة، ولنا غير جريمة سمرة البشرة جرائم أخرى عديدة. وذنوبنا تعد عند قوم كثيرة.
فخريي أبو السعود(36/42)
ابن سينا
(انه من أشهر مشاهير العلماء العالميين)
(سارطون)
مقدمة:
ما أقل الذين يعرفون أن ابن سينا اشتغل في الرياضيات والفلك، وأن له فضلا كبيراً في علم الطبيعة وقد يكون لهم بعض العذر إذا علمنا أنه كان فيلسوفاً وطبيباً، وان شهرته في هاتين الناحيتين ومؤلفاته الكثيرة فيهما جعلت الناس لا ترى عبقريته في النواحي الاخرى، وسيقتصر بحثنا في هذا المقال على مآثر ابن سينا في الرياضيات وعلم الطبيعة، وقد نأتي عرضا على بعض آثاره في الفروع الأخرى من المعرفة. وهو أبو علي الحسن بن عبد الله بن سينا ويلقب بالشيخ الرئيس، ويعرف عند الإفرنج باسم ويقول عنه بعض فلاسفة الغرب انه أرسطو الإسلام وابقراطه، وهو أيضاً من العلماء العالميين المشهود لهم بطول الباع في كثير من العلوم والفنون. ولد في خرميشن من ضياع بخارى سنة 371هـ - 980م وتوفي في همدان سنة 428هـ - 1037م. اشتغل ابن سينا في الرياضيات والفلك وعلم الطبيعة وكان له بها ولع خاص، وكذلك في الفلسفة والموسيقى والطب والمنطق، وله في هذه كلها مؤلفات قيمة يعد بعضها من موسوعات العلوم وتشهد له بعبقريته ونبوغه، وقد نقلت هذه المؤلفات إلى اللاتينية وكان لها تأثير عظيم في نهضة أوربا الحديثة.
منشؤه
كان والد الشيخ الرئيس من بلخ، انتقل إلى بخارى في أيام نوح بن منصور سلطان بخارى، واشتغل والياً في إحدى قراها خرميشن، وبعد حين رجع إلى بخارى حيث تولى تهذيب ولده، فاحضر معلما ليدرسه القرآن الكريم والأدب وعلم النحو، وصادف ان جاء إلى بخارى عبد الله الناتلي، ونزل في دار الشيخ الرئيس فاستفاد منه كثيراً، ثم اخذ ابن سينا يقرأ الكتب بنفسه ويطالع الشروح فقرأ كتب هندسة اقليدس، وكتب المجسطي والطبيعيات والمنطق وما وراء الطبيعة، فخرج من ذلك واقفاً على دقائق علم الهندسة بارعاً في الهيئة محكما علم المنطق، مبرزاً في علم الطبيعة وعلوم ما وراء الطبيعة، ولم(36/43)
يكتف بذلك، بل عكف على دراسة الطب وقراءة الكتب المصنفة فيه، ويقول عن (نفسه) في هذا (ثم رغبت في علم الطب وصرت اقرأ الكتب المصنفة فيه، وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة، فلا جرم أنني برزت فيه في اقل مدة، حتى بدأ فضلاء الطب يقرأون على علم الطب؛ وتعهدت المرضى فانفتح علي من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف) واشتهر كثيرا في هذا العلم وطار اسمه في الآفاق حتى دعاه الأمراء لتطبيبهم، ووفق في مداواة الأمير نوح والأمير شمس الدولة، والأمير علاء الدولة ونجح في معالجتهم فسروا منه كثيراً وأنعموا عليه وفتحوا له خزائنهم ودور كتبهم، وفي هذه وجد مجالا كبيراً لتتم دراساته وللتعمق في مختلف فروع المعرفة، ويقال إن ابن سينا لم يكن منقطعاً انقطاعاً تاماً للعلم والتأليف، بل كان في كثير من الأحايين يعين والده في أعمال الدولة
وبعد وفاة والده (وكان إذ ذاك في الثانية والعشرين من عمره) ترك بخارى ورحل إلى جرجان حيث كان يقطن فيها رجل اسمه ابو محمد الشيرازي اشتهر بميله وشغفه بالعلم، فتعرف إليه ابن سينا وقويت بينهما وشائج الصداقة حتى اشترى الشيرازي للشيخ داراً في جواره وأنزله فيها، وفيها ألف الشيخ الرئيس كثيراً من مؤلفاته القيمة: ككتاب القانون الذي هو من أهم المؤلفات الطبية ومن المؤلفات النادرة التي تشمل على أساس علوم الطب، وقد بقى كتاب القانون منهلا عاماً يستقى منه الراغبون في الطب قروناً عديدة. ولم تطل إقامة الشيخ كثيراً في جرجان (لاسباب سياسية) بل اضطر إلى تغير موطنه مراراً، فاتى همذان حيث استوزره الأمير شمس الدولة، ولكن الظروف حالت دون بقائه كثيراً في الوزارة فان الجند طلبوا قتله، ولم يرض بذلك الأمير وأنقذه منهم بعد عناء، وبعد وفاة الأمير شمس الدولة وانتقال الملك إلى ابنه كاتب ابن سينا سرا علاء الدولة أمير أصفهان (لأعراض شمس الدولة عنه) يطلب الانضمام إلى جانبه، واكتشفت هذه المكاتبة وعوقب من أجل ذلك بالسجن، ولكن بعد عدة أشهر قضاها فيه فر إلى اصبهان حيث رحب به الأمير علاء الدولة، وبقى في معيته إلى أن وافته منيته في همذان، وكان قد رجع اليها مع علاء الدولة في احدى غزواته لها.
آثاره
قسم ابن سيناء العلوم في كتاب الشفاء إلى ثلاثة أقسام:(36/44)
العلوم التي ليس لها علاقة بالمادة أو علوم ما وراء الطبيعة، والعلوم التي لها علاقة بالمادة وهي الطبيعيات
والعلوم الوسط وهي التي لها علاقة تارة بعلوم ما وراء الطبيعة وطوراً بالمادة وهي الرياضيات، وفي بعض المواضع نراه قد جعل الرياضيات نوعاً من الفلسفة ونسب إليها بعض أشياء تبحث في غير المادة، وقد اتبع الطريقة اليونانية في بحوثه عن العدد، وقد كان فكر ابن سيناء يمثل المثل الأعلى للفلسفة في القرون الوسطى وله فيها آراء ونظريات لا تزال تدرس في جامعات أوروبا. وهو وإن اعتمد كثيراً على فلسفة أرسطو واستقى كثيراً منها، قد أضاف إليها كثيراً وأخرجها بنطاق أوسع ونظام أتم. وهو من الذين قالوا بإنكار تحول المعادن بعضها إلى بعض مخالفاً بذلك آراء أكثر علماء زمانه، وفي رأيه أن المعادن لا تختلف باختلاف الأصباغ بل تتغير في صورتها فقط، وكل معدن يبقى حافظاً لصفاته الأصلية وقد قال في ذلك (نسلم بإمكان صبغ النحاس بصبغ الفضة، والفضة بصبغ الذهب إلا أن هذه الأمور المحسوسة يشبه ألا تكون هي الفصول (أي الخواص) التي تصير بها هذه الأجساد أنواعا، بل هي أعراض ولوازم والفصول مجهولة: وإذا كان الشيء مجهولاً فكيف يمكن أن يقصد تصد إيجاد أو إخفاء)
واستنبط ابن سينا آلة تشبه آلة الورنية أل وهي آلة تستعمل لقياس طول أصغر من اصغر أقسام المسطرة المقسمة ولقياس الاطوال بدقة كبيرة، ودرس دراسة عميقة بحوث الحركة والإيصال والقوة والفراغ، واللانهاية والحرارة والضوء، وقال بأن سرعة النور محدودة، وعمل عدة تجارب في إيجاد الوزن النوعي لمعادن كثيرة وقال بان شعاع النور يأتي من الجسم المرء إلى العين وفي كتابه الشفاء بحث في الموسيقى وقد أجاد فيه لدرجة كبيرة، وقد فاقت أبحاثه فيها أبحاث الفارابي وشرح طريقة إسقاط التسعات وتوسع فيها، ألف في المعادن ومؤلفه كان النبع الذي استقى منه علماء طبقات الارض في القرن الثالث عشر للميلاد. ويقال ان ابن سينا خرج مرة في صحبة علاء الدولة وقد ذكر له الخلل الحاصل في التقاويم المعمولة بحسب الأرصاد القديمة، فأمر الأمير الشيخ بالاشتغال بالرصد وطلق له من الأموال ما يحتاج إليه وهذا (طبعاً) ساعده على التعمق في علم الهيئة، وفي كشف بعض حقائق هذا الكون وفي إتقان الرصد (ووضع في حال الرصد(36/45)
آلات ما سبق إليها)
مؤلفاته وانتقالها إلى الغرب
على رغم المتاعب التي انتابته والمشاغل الكثيرة التي كانت تشغله وبرغم تعدد انتقاله من محل إلى آخر، تمكن من وضع مؤلفات قيمة عديدة يربو عددها على المائة، وهذه هي التي جعلت سارطون وغيره من علماء الإفرنج يضعونه في مصاف العلماء العالميين ومن كبار حكماء الشرق. ومن أهم مؤلفاته:
كتاب الشفاء وهو في ثمانية عشر مجلداً، وتوجد منه نسخة كاملة في أكسفورد، ويحتوي على فصول في المنطق والطبيعيات وما وراء الطبيعة، ترجم بعضها حنا الأسباني وكنديسالينس إلى اللاتينية، وقد اختصر ابن سينا هذا الكتاب في كتاب سماه (النجدة) ترجمه إلى اللاتينية كآرام باسم
وله أيضاً كتاب القانون في الطب وهو من أشهر مؤلفاته ويتكون من أكثر من مليون كلمة ترجمه جيرارد اوف كريمونا إلى اللاتينية، وبقيت ترجمته هذه المعتمد عليها والمستعملة في الجامعات والكليات حتى منتصف القرن السابع عشر للميلاد، وكتاب المختصر للمجسطي، وكتاب المجموع، وكتاب الحاصل والمحصول ويتكون من عشرين مجلداً، وكتاب الارصاد الكلية، وكتاب النجاة وهو ثلاثة مجلدات، وكتاب القولنج، وكتاب لسان العرب، ورسالة الآلة الرصدية، وهذه الآلة صنعها في أصبهان عند رصده لعلاء الدولة، ورسالة غرض قاطيفورياس، وكتاب الأجرام السماوية، وكتاب الإشارة إلى علم المنطق، وكتاب أقسام الحكمة وكتاب النهاية واللانهاية، وكتاب في أبعاد الجسم غير ذاتيه له، وكتاب مختصر أقليدس، وكتاب الأرثماطيقي والموسيقى. وقد أورد في كل من مؤلفاته في الرياضيات زيادات رأى ان الحاجة اليها داعية. ففي اقليدس أورد شبهاً وفي الارثماطيقي أورد خواص حسنة في الموسيقى أورد مسائل غفل عنها الأولون، وكتاب المجسطي وقد أورد فيه عشرة أشكال من اختلاف النظر، وأورد في آخره أشياء لم يسبق إليها وله رسائل أخرى في الحساب، وله أيضاً فيه وفي الهندسة ابتكارات كثيرة، وكتاب مختصر في ان الزاوية التي من المحيط والمماس لا كمية لها، وكتاب المدخل إلى صناعة الموسيقى وكتاب كيفية الرصد ومطابقته مع العلم الطبيعي وكتاب الحدود، وله خطبة في أنه لا يجوز أن(36/46)
يكون شيء واحد جوهراً وعرضاً ومقالة في خواص خط الاستواء، ومقالة في هيئة الارض من السماء وكونها في الوسط، وكتاب تدبير الجند والمماليك والعساكر وأرزاقهم وخراج الممالك وفوق ذلك له شعر رقيق وأشهر قصائده قصيدة نظمها في النفس يقول عنها ابن أبى أصيبعة إنها من أجل قصائد ابن سينا وأشرفها، وقد ترجمها فانديك إلى الإنجليزية
نابلس
حافظ قرى طوقان(36/47)
من طرائف الشَعر
عد إلينا
قطعة من البحر المديد
يا غريباً راح يطوي القفارا ... أين تمضى؟ هل كرِهت الديارا؟
أختياراً تقطع الأرض سيراً، ... أم طريقٌ سرتَ فيها اضطرارا؟
ولأَمرٍ في النهُّى مستقرٍّ ... بِتَّ تغشى الأرض داراً فدارا؟
أم لسِر غامض لست تدري ... كنهه أبعدَ عنك القرارا؟
أم لخطب داهمٍ قد تمادى ... بك حتى رحت تبغي الفرارا؟
إن تكن تبغي مراماً عزيزاً ... فلماذا أُصْلِىَ القلب نارا؟
ولماذا بعدَ نأي وهجرٍ ... لا تَنى للغائبين ادِّكارا؟
ودموعٍ مذرفات حنينا ... حائراتٍ في جفون حيارى!
عد إلينا آمناً مطمئنا ... تلقِ خِلاً ذا وفاءٍ وجارا!
يا غريباً راح يطوي القفارا ... عد إلينا وادن منا مزارا!
م. ع. م
وادي الأحلام
للشاعر الدمشقي أنور العطار
(يا آلهة الشعر! تأملي ضحيتك)
(الفونس دو لامارتين)
يا وادَي الأحلام فيك التقت بيضُ الأماني بأغاني المُهودْ
ليت فؤادي بلَّ منك الصدى ... وليت أيامَك يوماً تعودْ
يا مُقلَةَ الدهر أطيلي الكَرى ... وباركي الحُلْمَ لقلبي العميدْ
ومهِّدي للروح رحبَ المَدى ... فقد يضيقُ اليومَ عنها الأبيدْ
أُلحُلْم يُشْجيِني تَذكارُهُ ... إنْ زارني في غير يومِ سعيدْ(36/48)
يا مُقلةَ الدهرِ توارَىْ وما ... ألهاكِ عَمْن تاه في ذا الوُجودْ
لا تفجعي بالله تِرْبَ المنى ... فَمُبتَغى الأمِلِ سُؤْلٌ زهيدْ
توردُهُ الأطماعُ سبْلَ الردى ... فيُرمِضُ القلبَ العذاب الوكيد
يرضى من المغنم لو آب من ... آمالهِ وهو الحريب الشريدْ
لا يملك الأحلامَ من يأسه ... وماله عن ظلها من محيدْ
إنْ تستفيقي من دياجي الكَرى ... يَنهدُّ في نَعماهُ قصري المشيدْ
ففيه أحلامي في مهدها ... تَنعَمُ في الدنيا بعيشٍ رغيدْ
تَغمسُ في قلبي أفواههَا ... وتَسلب العين شعاع الخلودْ
غذاؤها من كبِدي ماؤها ... ولهوهُا من مَدْمَعي بالعقودْ
تزين بالأزهارِ تاجَ الصبا ... كموْجة الأطفال في يومِ عيدْ
ترى إذا ما نهِلتْ في غدٍ ... هل توِدعُ المبثوثَ عقداً فريدْ
أم تنثُرُ الأشعارَ في روضها ... فتخطفُ الأطيار منها القصيدْ
تَصوغُهُ والزهرَ أغرودةً ... فتانةً يصبيك منها النشيدْ
تُحِسُّ منها خطراتِ المُنى ... تَرُودُ بالرُّوح المطافَ البعيدْ
تُعيدُ للقلب كُنوزَ الهوى ... وكَنْزُها ليس له من مُعيدْ
وإنْ أضاعتْهُ فما ذنبُها؟ ... الطفلُ يُؤذيه المتاعُ النضيدْ
أهَبْتُ بالأحلام أنْ مهِّدِى ... لِيَ الاماني، والنعيمَ العتيدْ
والحُبَّ، والشِّعْرَ وعهدَ الصِّبا ... والعيش نَضراً، والخيالَ الوليدْ
لا أرتضِي بالنَّزْرِ منها ولا ... أطمعُ إلاَّ في الشُّعاع المديدْ
فأمعنَتْ في ضحكها واغْتَدَتْ ... تَسْخَرُ من آمال غِرٍّ عنيدْ
فخِلتُ أنَّ الضحكَ منها رِضىً ... وضِحكةُ الهازئِ نارُ الوعيدْ
لقيتُها في سكَرَات الرُّؤَى ... تَنْشُدُ أيامي وتبكي الوُعُودْ
تجُود للدهرِ بأحلامها ... وهْوَ بما تطلبُهُ لا يِجودْ
تبوحُ بالأسرار في سَهْوِها ... وسِرُّنا قد وثَّقَتْهُ العُهُودْ
درَيْتُ في عُزْلتها ما مَشَى ... في خافقٍ واهٍ وفكرٍ كَدُودْ(36/49)
ورُحْتُ أبكي أملا لامعاً ... أنأتْهُ عنِّي عاثراتُ الجدُودْ
يا طيفَها جدَّدْتَ عُمْرَ الأسى ... ونِلْتَ من قلبي المنالَ الشديد
نضَّرْتَ يا غامضُ تَذْكارَها ... وحِصنْكَ الممنوعُ جَهْمُ الوصيِد
أيَّتها الذكرى أثَرْتِ الجوى ... فهل لما تذْكِينَهُ من مزيد؟
علاَمَ زرْتِ اليومَ خِلَّ الشجا ... إيناسكِ الطَّائف يضنيِ الوحيد
أبليْتُ في ذكراكِ نضْرَ الصِّبا ... وعهدُكِ الآيِبُ غضُّ جديد
مَلَّ صراعَ العيشِ نَدْمانُه ... وضجَّ من قفر الحياة الجليدْ
يخبط في يهماَء مستْعديا ... على معَنِّيه العزيزَ الحميدْ
يَصرُخُ إن مَرَّ بصحرائها ... ماذا نلاقي في ظلامِ اللحودْ
خذ بي أيَا غيبُ إلى مأمنٍ ... يزيح عن روحي عبء القيودْ
فنادت الأقدار في جرْيها ... لما يَحِنْ أن يستريح الطريدْ
نجوز دنيانا سِراعا ولا ... نستطيع أن نمشي مشياً وئيدْ
فهل ترى نقعد في ساحها ... أم ليس للرائد يوماً قعودْ
السير يضنينا وما نأتلى ... نَشقُّ في الأطواد سُبْل الصعودْ
تمضي بنا الأيام في فسحةٍ ... راعبةٍ ليس لها من حدود
حتى إذا ما العمرُ أمضى بنا ... مطافهُ ثم طوانا الهمُودْ
عدنا إلى كون بعيد المدى ... يطيبُ للمتعَبِ فيه الرقودْ
هناءة الأيامِ ممزوجةٌ ... بالصاب والعمر خيالُ الهجودْ
أفراحُنا يمشي عليها الأسى ... ولهوُنا يغتالُ منا الجهودْ
نضيعُ في غيهب هذا الرَّدى ... ولا يردُّ النوْحُ منا الفقيدْ
لا تحسدنْ بالله عِقدَ الهوى ... كم في وصال الحبِّ عاشت صدودْ
ولا يهولنّكَ شكُّ الورى ... رُبَّ يقينٍ فائضِ من جحودْ
قال شبابي لِنَؤوِم الصبا: ... كيف تمتعْتَ بنضر السعودْ
فقال: في الغفلة عن عالمٍ ... ما فاز بالمأمول منه الرشيدْ
هاتِ أغانيَّ وعَدْ بالمنى ... وانهبْ خطى العمر فكلُّ يبيدْ(36/50)
وانس الورى وانشر على ما مضى ... من نعمة النسيان ضافي البرودْ(36/51)
بائعة الزهر
جاء ظبي يبيع زهرا جنيا ... زاد حسنا بروعة التنضيد
قال هلا اشتريت مني زهرا ... ضم أبهى شقائق وورود
قلت أبغي شراء أجمل زهر ... وسأسخو له بكل نقودي
قال لي فاشتر الشقائق تحكي ... أكؤس الخمر أو خدود الغيد
قلت لا، قال فاشْرِ ورداً زهيا ... هو بين الأزهار بيت القصيد
قلت لا، قال فاشر - إن كنت تشري ... زنبقا يزدهي ببيض البرود
قلت لا، قال لي أذن فاشر فلا ... قد حبوه لون الصباح الجديد
قلت لا، قال فاشتر النرجس الحا ... وي لتبر في فضة كالجليد
قلت لا، قال فاشر أساً فلم أقـ ... بل فأغضي طرفاً ومال بجيد
قال دعني لم يبق عنديَ زهر ... قلت باق لديك زهر الخدود
قال زهر الخدود: كم ذا يساوي؟! ... لست ادري: فقلت كل وجودي
قال ما تستفيد من زهر خد ... نلته في وجودك المفقود؟!
قلت في البيع أستفيد هياما ... هو عندي يفوق كل مفيد
أن أسمى اللذات ما تنتهي بي ... لفناء ما فوقه من مزيد
لذة السكر تبلغ الأوج لما ... فيه يغدو الرشيد غير رشيد
أن أقصى حدود سيرىَ أني ... أتخطى في السير كل الحدود
دمشق
احمد الصافي النجفي(36/52)
في الأدب الفارسي
2 - منطق الطير
القصة الصوفية الخالدة
للدكتور عبد الوهاب عزام
والشاعر في وصف هذه الأودية يذهب مع الشعر المذاهبَ البعيدة، فيملؤها جميعاً بالأهوال والدموع. ولست أدري أكان الهدهد حازماً حين وصف الأودية هذا الوصف المروع. وهذا أجمال وصفها:
1 - في وادي الطلب، يعترض السالك عقاب كثيرة: ويلقى من النص والتعب ما يضنيه، ولابد له أن يفرغ من كل ما يربطه بهذا العالم، ويطهر قلبه من علائق هذه الأرض. فإذا تم الطهر أصاب القلب شعاع من النور الإلهي فيتضاعف طلبه ألف مرة، وإذاً يذهب قدما لا تثنيه الأخطار والأهوال
2 - وأما وادي العشق: فهو النار يمضي فيه العشاق كاللهب مضطرما ثائراً ولا يفكر في العواقب، لا يعرف الكفر والدين، ولا الشك واليقين، الخير والشر سواء عنده، كلا بل لا خير ولا شر إذا اضطرم العشق. هناك القلب خفاق يحترق ويذوب ليرجع إلى مكانه كالسمكة أخرجت من البحر إلى الصحراء. هنا لكم العشق نار والعقل دخان، فأما جاء العشق فر العقل مسرعا.
3 - ثم وادي المعرفة: الذي لا أول له ولا آخر. هنالك تتشعب السبل، وكل يسلك الطريق الذي يستطيعه، وكيف ترجو أن يسير الفيل والعنكبوت معاً في هذا الطريق الوعر. إنما سير كل سالك على قدر كماله، وقربة بمقدار حاله. هنا لكم المعرفة متفاوتة، فهذا يجد المحراب، وذاك يجد الصنم، إذا أضاءت شمس المعرفة من ذلك الفلك العالي أبصر كل بمقداره. وكل ما يرى فهو وجه الحبيب؛ وكل ذرة محله. آلاف الأسرار تتألق كالشمس من وراء الحجب هناك الظمأ الدائم إلى الكمال. . الخ
4 - وادي الاستغناء
مى جهد أزبى صرصرى ... ميزند برهم بيكدم كشورى(36/53)
هفت دريايك شمر آنجابود ... هفت أختريييك شرر آنجابود
تعصف من الاستغناء ريح صرصر تدمر في كل خفقة إقليما، وهنالك سبعة الأبحر غدير، وسبعة الكواكب شرر، والجنات السبع جيفة، وسبع النيران قطعة من برد. يقول العطار: (يا عجباً! إن النملة هناك تربو قوتها على مائة فيل، وإن غراباً لا يشبع بمائة قافلة.
لو سقطت آلاف الأرواح في هذا البحر ما كانت إلا قطرة واحدة في بحر لا ساحل له. ولو هوت الأفلاك والأنجم ما كانت إلا كورقة سقطت من شجرة. . الخ
(يريد شاعرنا أن يشرح ما يدركه السالك في هذه المرحلة من استغناء الله عن العالم وصغر هذه العوالم كلها وضآلتها في جانب الحقيقة الكبرى. ويبين أن الأشياء هناك لا تقاس بمقاييسنا)
5 - وادي التوحيد
هناك كل عدد يصير واحداً في واحد فيتم الاتحاد، ولكن هذا الواحد ليس كالواحد الذي يذكر في العدد، هو وراء العد والحد (كلام يذكرنا بكلام فيثاغورس في نشأة العالم من الواحد). هنالك لا أزل ولا أبد. وان يضع الأزل والأبد فلا شيء بينهما فكل الأشياء كانت وستكون عدما.
(ومعنى هذا الكلام - فيما أظن - أن الله هو الحقيقة التي لا يحدها الزمن، وكل ما عداها، مما يقاس بالماضي أو الحاضر عدم، فلا شيء قائم إلا هذه الحقيقة).
6 - وادي الحيرة
هناك يلاقي السالك أضدادا ونقائض تلوح له كلما اختلفت على نفسه الأحوال والادراكات. وهو بين هذا وذاك يفقد نفسه. لا يستطيع أن يهب قلبه لهذا الجلال ولا أن يمنعه. ولا يقدر على أن يسير وحده أو يتبع غيره. فهو نفور من الخلق ومن نفسه، لا مسلم ولا كافر، لأن دين الحيرة لايحد، ولا يعرف الحب ولا البغض، ولا التقوى ولا الفسوق، لا هو خير ولا شرير، ولا موقن ولا مرتاب، ولا هو عزيز ولا ذليل. لا هو كل شيء ولا هو شيء، ولا هو كل ولا جزء من كل.
يقول العطار: (فان يسال السالك هل أنت موجود أم لا؟ أأنت في العالم أم خارجه؟ أظاهر أنت أم خفي؟ أفأن أم باق، أم لست فانيا ولا باقيا، أم أنت فان وباق في وقت واحد؟ فلن(36/54)
يكون جوابه: إلا (لا أدري شيئاً ولا أدري أنني لا ادري. أنا عاشق ولكن من؟ لا أدري)
ويضرب العطار مثلاً بنت ملك أحبت خادماً واستحيت أن تظهر حبها للخادم. فأوحت إلى جواريها فيسقينه حتى سكر، ثم أتين به اليها، فلما صحا بعض الصحو فتح عينيه فرأى جمالا باهراً في مكان يسحر الألباب، وشم رائحة ذكية، وسمع موسيقى مطربة. فأحب الخادم الفتاة، فلما غلبه النوم حمله الخدم إلى مكانه، فلما استيقظ ذكر ما رأى ولكن كيف ومتى وأين؟ قال له الناس إنه حلم، ولكنه لم يستطيع أن يقول أكان هذا حلما أم يقظة، ولا أن يعرف أكان سكران أم صاحيا:
(فهذا المثل يوضح مقصد الشاعر فالسالك في هذه المرحلة تلوح له أشياء من عالم الغيب ثم تختفي عنه حين يرجع سيرته الأولى من هذه الحياة)
7 - وادي الفقر والغناء
وهو آخر الأودية: هو وادي الدهشة والصمم والبكم أو الغشية، هنالك آلاف آلاف الظلال تحمي في الشمس. إذا ماج البحر الكلى فكيف يبقى النفس على صفحة الماء. وكل من فقد نفسه في هذا البحر فهو في فناء وسلام أبدا.
يضرب الشاعر أمثالا ليبين الكلام عن هذا الوادي كدأبه في الفصول كلها، ومما ضرب هنا مثل الفراش الذي اجتمع ليلة واتفق على طلب الشمعة، فقالوا لابد أن يذهب بعضنا ليراها ويصفها لنا قبل الذهاب؛ ذهبت فراشة إلى قصر فرأت نور الشمعة منبعثاً منه فرجعت تصف الشمعة لأخواتها، قالت فراشة عارفة: ما لهذه علم بالشمعة قط. فانبعثت فراشة أخرى قاصدة مكان الشمعة فاقتربت ثم اقتربت حتى لم تطق حرها فانثنت إلى صاحباتها تصف ما عرفت من أسرار الشمعة، فقال الخبير: أيها الأخ ما هذا إلا كلام كالذي سمعنا من قبل. ذهبت ثالثة سكرى من الشوق راقصة مرفوفة، فألقت بنفسها في نار الشمعة فأخذتها النار من كل جهة فاحمرت كالنار. فلما رجعت رآها في لون النار وضوئها فقال هذه عرفت الشمعة إنما يدرك المحبوب بالفناء فيه: الخبير العارف
كل هذا يقوله الهدهد على منبره والطير مصيخات إليه. فلما سمعت الطير مقاله أخذها الغم ووجمت وعرفت إن لا طاقة لها بهذا ومات بعضها في مكانه، ثم بدأن الطيران فلقين في الطريق ما لا قبل بوصفه، وانتهى قليل منها إلى الغابة، وهلك أكثرها في الطريق! فمنها(36/55)
غارق في البحر، ومنها ضال في الفيافي، ومنها هالك عطشا على قني الجبال، وبعضها هلك في وهج الشمس، وبعضها سقط إعياء وبعضها شغلته عجائب الطريق فوقف. وبعضها وجد ما يلهو به فركن إلى الدعة وآثر الراحة. وبعضها أصابته مصائب أخرى.
لم يبلغ الغاية من تلك الآلاف المؤلفة إلا ثلاثون طائراً (سي مرغ) بلغت وبها من النصب والإعياء والآلام ما بها. فماذا وجدن؟ وجدن حضرة لا يدركها الوصف ولا ينالها العقل. وأين برق الاستغناء يومض فيحرق مئات العوالم في لمحة. وأين آلاف الشموس وآلاف الكواكب حائرة كالذرات. فقالا بعضهن لبعض: وا أسفا على ما تحملنا من مشاق السفر. إن مائة فلك هنا كذرة من التراب. فما وجودنا أو عدمنا نحن في هذه الحضرة؟ بقين في حسرة ينقص الحزن منهن حتى خرج عليهم حاجب العزة. قال: أيتها الحائرات المضنيات من أين جئتن ولماذا؟ ما اسمكن، ماذا سمعتن، ومن أخبركن أن قبضة من العظام مثلكن تستطيع أن تعمل شيئا، قالت الطير: جئنا هنا ليكون السيمرغ ملكنا. وقد طال الطريق وكنا آلافا فما بقى إلا ثلاثون. جئنا من أرض بعيدة راجين أن يؤذن لنا في هذه الحضرة، لعل الملك يرضى عملنا فتنالنا نظرة من رحمته
قال الحاجب: أيها الحيارى ما أنتن ما وجودكن وعدمكن عند الملك المطلق الباقي؟ إن مئات آلاف من العوالم لا تزن شعرة أمام باب هذا الملك، هلم فارجعن أيتها المسكينات.
قالت الطير: إن هوانا على هذا الباب عز، وسنبقى هنا نحترق كالفراش علىالنار، أذن لنا بالدخول أم لم يؤذن، ولن نيأس من رحمة الملك. فخرج عليهن حاجب الرحمة وفتح الباب لهن وتقدم يرفع الحجب مئات من الحجب كل لمحة، فانبعث النور في الأرجاء ويبدأ عالم التجلي. فدخلت الطير وأجلست على أرائك القرب
ماذا أصاب الطير من بعد؟ أعطى كل طائر ورقة ليقرأهافقرأ كل ما قدم من عمل حتى غشى عليه حياء وخجلا. ثم محيت الأعمال وأنسيت فلم تذكر الطير شيئاً. ثم أضاءت شمس القرب محرقة كل روح وحينئذ راين السيمرغ. وما اعجب ما رأين. كن إذا نظرن إلى السيمرغ يرَين (سي مرغ) وإذا نظرنا إلى أنفسهن (سي مرغ=ثلاثين طائرا) رأينا السيمرغ، وإذا نظرن إلى أنفسهن والسيمرغ معاً رأين سيمرغا واحدا. فبلغت بهن الحيرة مبلغها. فسألن فقيل لهن: إن هذه الحضرة مرآة فمن جاء هنا لا يرى فيها إلا نفسه. فقد(36/56)
جئتن ثلاثين طائراً (سي مرغ) فرأيتن في المرآة سيمرغ، ولو جاء أربعون أو خمسون لانكشف الستر كيف تدركنا الأبصار. كيف تنال الثريا عين. النملة. ليس الأمر كما علمتن ورأيتن، ولا كما قلتن وسمعتن. ولكنكن خرجتن من أنفسكن فهاهنا مكانكن. فامحين فيه وضاع الظل في الشمس (بلغت الطير مقام الفناء وهو عند الصوفية أن يتجرد الإنسان من نفسه، ويخضع صفاته للصفات الإلهية ويرجع كما يقولون قطرة في البحر تموج بموجه. ويقول أبو سعيد في تعريف الفناء: إنه فناء الشعور بالبشرية - ولأجل توضيح لغة العطار الشعرية أنقل الجملة الآتية من كشف المحجوب:
(الفناء درجة من الكمال ينالها الأولياء الذين تحرروا من آلام المجاهدة، وخرجوا من سجن المقامات والأحوال، وانتهى طلبهم إلى الكشف، فرأوا كل ما يرى وسمعوا كل ما يسمع، وعرفوا كل أسرار القلب، ولكنهم أدركوا نقص كشفهم هذا فأعرضوا عن كل شيء، وفنوا فيما رغبوا إليه وفي هذه الرغبة فقدوا كل رغباتهم)
وراء هذه الحال حال أخرى يسميها العطار وغيره من الصوفية (البقاء في الفناء) ويقول عنها كتابنا هذه العبارة العجيبة. وهو يعترف أنها حال لا تشرح إلا بالتمثيل)
فلما مضى مائة آلاف من القرون، القرون التي لا زمان لها. أرجعت الطيور الفانية إلى نفسها فلما رجعت إلى نفسها رجعت إلى البقاء بعد الفناء
(وتأويل هذا بكلام الصوفية الآخرين: أن الإنسان يفنى عن نفسه - عن إرادته ورغباته وشهواته الخاصة فيبقى في الله، يريد من اجل الله، ويرغب في الله ويفعل كل شيء غير غافل عن الله طرفة عين هذه خلاصة ما في الكتاب - كما فهمته - والكتاب في حاجة إلى بحث مفصل، ولعله يتاح من بعد.
ثم يختم العطار (منطق الطير) بقوله:
قد عطرت يا عطار آفاق العالم، وهجت العشاق في كل مكان، تارة تنفث العشق المطلق، وتارة تغنى أغاني الحب لمن عشق، ففي شعرك كنز العاشقين وزينة لا تفنى للوالهين. فقد ختم عليك (منطق الطير) كما يحيط بالشمس ضوؤها.
عبد الوهاب عزام(36/57)
العُلوم
عمل التطور
للسر ارثر طمسن
ترجمة بشير الياس اللوس
الغربلة والانتقاء
تنشأ خلال عملية التطور العظيمة تنوعات جديدة لا يخلد منها إلا القليل، لان التناحر على البقاء يعمل على انتقاء أصلح التنوعات الجديدة. ويظهر أن هذه هي الطريقة الأساسية في التطور العضوي. وأهم ما يجب أن نبحث عنه الآن هو: هل التغيرات الطارئة على حياة الفرد كنتيجة مباشرة لمميزات خاصة في البيئة أو الغذاء أو العادات يمكن أن تنتقل بدرجة ما إلى الأحقاب التالية؟ إذ لو لم تكن قابلة للانتقال والتسلسل ولو بدرجة ضئيلة على الأقل إذن لما كان لها آية أهمية من الوجهة السلالية. فالوراثة إذن هي إحدى صفات التطور. إنها (منخل) آخر. ويمكننا أن نقول عندئذ إن عملية التطور العضوي ما هي إلا عملية انتخاب وتثبيت الصالح وإهمال الطالح.
أصل النشآت الجديدة
من أعقد مشاكل علم الحياة معرفة كيفية نشوء التنوعات الجديدة. ففي القرن السابع عشر ظهرت في إحدى حدائق مدينة هيدلبرج نبتة جديدة ذات أوراق غريبة مبتورة الشكل سميت ودعيت تنوع - الـ من النوع - الـ ومن خصائص هذه النبتة أنها أصلية - وظلت كذلك منذ ذلك العهد. هذا مثال من التنوعات الجديدة التي دامت. ولكن المهم هو كيفية نشوء هذه النبتة.
وحدث في زمن شارل الأول ملك إنكلترا إن رجلا فرنسياً يدعى (جيان نوكاري كان مصابا بعاهة (العمى الليلي)، - أي عدم القدرة على الرؤية في الضياء الضعيف. وترجع أسباب هذه العاهة إلى نقص في شبكية العين - وقد حفظ سجل عائلة هذا الرجل إلى الآن ودرس بإمعان فعُرف إن في كل جيل وراثي كان بعض الأفراد من عائلته مصابين بتلك العاهة. وعندما يتزوج أحد أفراد نسله المبرئين من المرض بامرأة من عائلة أخرى أو(36/58)
بالعكس كانت العاهة تنقطع لأن جميع أفراد النسل يسلمون منها. ولكن عندما يتزوج فرد مصاب من عائلته بفرد سليم من عائلة أخرى كان يستمر هذا المرض في عدد معين من النسل الجديد. أن ميزة العمى الليلي هذه توضح لنا ما يسمى بالوراثة المندلية ولكننا قد نتساءل أولا كيف ابتدأ (العمى الليلي).
لماذا يختلف أفراد العائلة عن بعضهم؟ كيف نستطيع تعليل بعض الحوادث العرضية كالقطط العديمة الأذناب والعجول العديمة القرون والعصافير البيضاء والصبير العديم الشوك والبرتقال العديم البذور. الخ. كيف تنشأ كل هذه الشواذ؟
الوراثة
تتمثل الميزات الوراثية في البويضة والحيوان المنوي بطريقة لا نفهمها فمن الجرثومة الأولى تظهر الميزات التي تختص بها الكائنات وتميزها عن بعضها؛ وفيها العناصر التي تكون الوراثة الطبيعية للنوع. ولكن هذه العناصر قد تتحول نحو جهة معينة أثناء النمو. والواقع إننا نعلم في بعض الحالات وخاصة في الحيوانات الدنيا كالأسماك بين الفقريات - إن نمو بعض الخصائص يتوقف على انتقالات المخلوق الحي وبيئاته. وبكلام آخر أن العناصر أو العوامل الوراثية هي بذور حية يجب الاعتناء بزرعها. فما الجسم النامي إلا بذرة الأولين، والآن نعلم انه عند نضوج الحجيرات الجرثومية (التناسلية) وتلقيح البويضة من قبل الحيوان المنوي (وهذه هي بداية حياة الفرد) توجد فرص عديدة واحتمالات شتى لاختلاط الميزات الوراثية. ومن المؤكد إن التبادلات والتوافقات & التي تنشأ بهذه الطريقة تخلق التنوعات الكثيرة خلال النمو.
الكاليدوسكوب الحي
إذا أمعنا النظر في أشكال الحيوانات وصورها لا نقع على اثنين يتشابهان تشابهاً تاماً، وهذا يذكرنا بالكاليدوسكوب الذي يعطينا مختلف الصور والأشكال بتحريك القطع الزجاجية الملونة فيه، وربما كانت الجرثومة كالايدوسكوبا حياً فقد تتأثر أحياناً بعوامل الغذاء والمحيط وعادات الوالدين وقد يؤثر عليها تغيير المناخ، أو قد تتغير من نفسها محدثة ترتيبات جديدة لعناصرها. ولما كانت الجرثومة حية فهي جسم عضوي مضمر أو بعبارة(36/59)
أخرى (هي مخلوق حي كامن في حجيرة واحدة) وقد أشرنا فيما سبق إلى تعدد الفرص في امتزاج العناصر الوراثية عند نضوج حجيرات التناسل وتلقيحها.
التغايرات والنشآت الجديدة &
كثيراً ما يكون الطفل شديد الشبه بأحد والديه في بعض الأوجه على الأقل. وقد يرث بعض الخصائص عن أبيه والبعض الآخر عن أمه وهذا ما دعا دارون إلى اعتبار تلك التغايرات كمواد أولية للتطور. وقد عثر على مجموعات من الأحافير تظهر التغير من شكل إلى آخر وتوحي لنا بفكرة (التقدم بعلاوات تدريجية) أو التقدم (بالاختزالات) وهناك احتمال حدوث تغير خاص في جهة معينة الأمر الذي يجعل هذه التطورات كالفصول المتابعة في النمو الفردي
بيد أن هناك نوعا آخر من التغير اكثر تعقيداً وهو (النشوء الفجائي) كالشعر المجعد والشعر الآنقري والنبوغ الموسيقي والرياضي والصفصاف الباكي والديك الطويل الذنب والفيل الأبيض. وقد قارن السر فرنسيس غالتون التغايرات الصغيرة بذبذبات جسم كثير الأوجه مرتكز على أحد سطوحه والنشوء الفجائي بانقلاب الجسم كله على سطح جديد. ومن أبرز خصائص النشوءات الفجائية أنها تتوارث وتظهر بوضوح في النسل المولود من أبوين فيهما نفس تلك الخصائص. فإذا تزوج النابغ بنابغة كان النسل حاوياً لنوابغ عديدين، ولكن في حالات كثير يجب أن يلاحظ إن النشوء الفجائي يظهر غالباً بشكل نقص في التركيب - أي عدم وجود ميزة معينة في النباتات، أو قرون في الأبقار، أو أذناب في القطط. ويقال عنه في مثل هذه الحالات انه نشوء فجائي سلبي بينما قد تظهر الميزة الشاذة بشكل إيجابي أي بإضافة ميزة جديدة لم تكن موجودة في الوالدين ولا في أسلافهما.
الانتخابات الطبيعي
إن أساس نظرية التطور الداروينية هو: (انتقاء الأصلح من النشوءات الجديدة بعد التجربة والاختبار). وقد أجرى العالم الطبيعي الإيطالي (سسنولا تجارب على الجراد المصلي أو فرس النبي وهي حشرة غريبة توجد على ضربين أخضر وأسمر كل منهما ملائم للمحيط الذي يعيش فيه. ربط (سسنولا) الضرب الأسمر بخيط حريري على نبتة ذابلة(36/60)
فتخلصت الحشرة من أعدائها، وكذلك ربط الضرب الأخضر على نبتة خضراء فسلمت من الأعداء أيضاً. ولكن عندما ربط الحشرات السمراء على نبتة خضراء والخضراء على نبتة ذابلة، سرعان ما اجتاحتها الطيور عن آخرها. فلو أصبحت إيطاليا مثلا بقعة جرداء إذن لانقرض الجراد الأخضر فيها عن آخره، ولبقى الجراد الأسمر فقط، والعكس بالعكس. هذا مثال لما نسميه بالانتخاب الطبيعي أو ما نعبر عنه بغربلة الطبيعة
الانتخاب الصناعي
رأى دارون أن يستعمل تعبير (الانتخاب الطبيعي) تمييزا له عن الانتخاب الصناعي الذي يقوم به الإنسان فإذا أعجب المربي بضرب جديد أزوجه بآخر يشابهه على قدر المستطاع، ويبادر إلى النسل فيغربله منتزعاً الضروب التي لا يريدها ومحافظاً على الضروب التي يريدها. وهكذا نستطيع أن نميز عمليتين مزدوجتين في الانتخاب الصناعي وهما: (1) تزاوج الأفراد المتشابهة المرغوب فيها (2) إقصاء الأفراد غير المرغوب فيهم
ولكن ترى من يقوم مقام المربي المنتخب في حقل الطبيعة، للإجابة على هذا السؤال يمكننا أن نستعين بالفكرة التي أدخلها (دارون) و (ولس) في نظرية التطور وهي فكرة الانتخاب الطبيعي التي تعني غربلة الطبيعة للنشآت الجديدة خلال التناحر على البقاء.
التناحر على البقاء
لقد استعمل دارون هذا التعبير بمعنى واسعي ومجازي فشمل اتكال البعض على الآخر، وعلى الأخص نزوع الفرد إلى الحياة وتكثير ذريته. فلكي نفهم فكرة دارون يجب أن نشاركه في نظريته الواسعة لأنه عنى بالتناحر على البقاء أكثر من نضال مستميت في سبيل الغذاء.
تميل المخلوقات الحية إلى التكاثر، ولكثير منها نزعة شديدة للحياة لا تقف مطامعها عند حد فهي عاصية متمردة تستنكر التغيرات المقيدة لحريتها في البيئة التي تعيش فيها. وفي وسط هذه الميول والنزعات يجري التناحر على البقاء - أو التصادم بين العضويات الحية وحواجز بيئاتها. على أن ذلك النزاع المستمر قد يؤدي إلى فناء البعض، ولكنه قد يؤدي أيضاً إلى التعاون بين أفراد البعض الأخر، وقد يكون لأجل التوطن والحصول على الغذاء(36/61)
ولكنه قد يؤول أيضاً إلى التنعم والترف، وقد يكون لأجل التمتع الفردي أو لتكوين رابطة عائلية يقوي الحب أواصرها، وقد يؤدي إلى استعمال الأسنان والمخالب ويؤول إلى النفع العام، وأخيراً يسقط في ساحة ذلك النضال المستميت ضعاف المخلوقات ومهازيلها فيثبت القوي ويفنى الضعيف والطبيعة خالدة فوق الجميع.
الانتخاب الجنسي
لكي نهيئ مرجا صالحاً يجب أن نقتلع منه الدغل ونبقى العشب الأخضر فقط. كذلك تنتقي الطبيعة الصالح وتقضي على الطالح. على أننا نحتاج إلى نوع من السماد يغذى العشب ويقويه دون أن يفيد الدغل الضار وهكذا يتغلب العشب على تلك الأدغال. إن هذا يشبه ما نسميه في الطبيعة بالانتخاب الجنسي لأن كثيرا من المخلوقات لا تنجح في الحياة لقوتها ومهارتها بل لكثرتها غالبا - وقد تكون القوة والمهارة مرافقتين للكثرة أيضاً.
لقد علق دارون أهمية كبرى على الانتخاب الجنسي، أي ذلك التناسل الذي يصحبه تفضيل الأنثى للذكر الذي يروق في عينيها أكثر من غيره: إما لجماله أو لرشاقته أو لقوته، أو لجمال صوته أو لغير ذلك من الصفات المستملحة. وكان رأي دارون أن شغف الأنثى بتلك الصفات حملها على محاولة استهواء الذكر بما اكتسبته أثناء التطور من جمال قد ورقة صوت، تلك الميزات التي يهتم بها الذكر هياما عظيما.(36/62)
مطالعات وأشتات
للدكتور احمد زكي
لبن الحمام
سمعنا بلبن الإنسان وتذوقناه كلنا، وسمعنا بلبن الأبقار والجاموس وشربناه لا شك جميعا، وبلبن الماعز ولبن الجمال، ولا ريب أن منا عدداً غير قليل أسعدته المصادفات بتذوقهما واستمرائهما، حتى لبن الحمير يدخل في دائرة ما عَرَفنا أو سَمِعنا في الحياة، ومن الناس من يحدثك عن فوائده وأسراره بأحاديث حارّة لا تتشكك بعدها في صفاته وآثاره. وغير هذه الحيوانات عدد كثير تهيئ اللبن لصغارها طعاماً سائغاً تستحضره من غذائها إذ يجري في دمها فتستخلصه منه مجموعةٌ من الغدد أُسميت بالثُّدِيّ. أما لبن الحمام، وهو طائر يبيض، فلم يسمع به الكثير، ولكنه مع ذلك حقيقة، فهو إفراز كاللبن تفرزه الحمامة قبيل أفراخ بيضها، وتستمر في إفرازه أياماً عبد إفراخه، وتطعم به صغارها وهن ضعاف عراة، وهذا اللبن ثخين يضرب لونه إلى البياض، ويحتوي الدهنَ الذي تحتويه الألبان، وكذلك يحتوي زلالها، فيبلغ مقدار دهنه ما بين 25 إلى 29 في المائة، ويبلغ زلاله ما بين 13 إلى 14. 5 في المائة وهذان يبلغان في لبن البقر نحواً من 3. 7 في المائة و 3. 5 في المائة على التوالي.
فلبن الحمام إن خالف ألبان الأبقار فهو يشبه لبن الأرنب في مقدار دهنه وزلاله، غير أنه لبن يعوزه سكر الألبان وكل سكر غيره.
والحمام لا يحضر لبنه في ثديه، فليس له ثدي، وإنما يفرزه في حويصلته
ومن الغريب أن الذكر يفرز اللبن كما تفرزه الأنثى، وهذه ظاهرة لا ينفرد بها الحمام، فقد عُرفت من الحيوانات الثدييّة أنواع تتعادل ثدي إناثها وذكروها حجماً، ويشتركان كليهما في تغذية الوليد الرضيع. حتى الوَطواط يُظن إن ذكره يساعد أنثاه في الإرضاع أحيانا.
والرجل ذو ثديين هما فيك وفيّ منضمران، ولكن قد عُرف من البشر رجال تضخمت ثدِيّها حتى كانت كالنساء وقطر اللبن منها وسال. والفسلجيون لا يعدون هذه الظاهرة فلتات من الطبيعة وإنما هي لديهم شارة إلى أن الحيوانات في أبان نشوئها كان يشترك جنساها بالسوية في تغذية الرضيع وإنجاده كما اشتركا في إيجاده. ثم تلا هذا أن تخصصت الأنثى(36/63)
بذلك في الأكثرية العظمى من المملكة الحيوانية. وقد حدث في بعض الأسماك أن قام الذكر بذلك بالحضانة وأُعفيت الأنثى.
شرارة هائلة
من المعروف المألوف الآن أن الذرَّة الواحدة من ذرات الأجسام تحتوي على نواة يدور حولها عدد يزيد وينقص من وحدات كهربائية تسمى بالكهارب، هي نفس الوحدات التي يتركب منها تيار الكهرباء. ومن المعلوم كذلك أن الأبحاث في ذرات العناصر من بعض وسائلها إصابة الذرَّة بمقذوفات من تلك الكهارب يحّضرها الباحث من الكهرباء نفسها ويسلطها على الذرّة المبحوثة فيتطاير عنها من كهاربها ما يتطاير ثمَ يمتحن ما ينتج عن ذلك من إشعاع.
وقوة تلك القذائف تتوقف على الضغط الذي يدفعها في طريقها، ويسمى هذا الضغط في لغة الكهربائيين (بالفلتجة) ويقاس (بالفلت). وضغط الكهرباء في أكثر منازل القاهرة يبلغ مائة (فلت) أو يزيد قليلا. وهو ضغط كاف لحاجات البيت، ولكنه غير كاف لتمزيق الذرَّة.
وقد كان وصل العلم من عهد قريب إلى توليد كهرباء استاتيكية ضغطها 800000 فلت، ولكن جاءت الأخبار من المعهد الصناعي بماساشوست بأمريكا بان الدكتور (فان دي جراف) وهو أحد الفيزيائيين فيه قد توصل إلى تدبير جهاز يتولد به تيار متواصل من الكهرباء ضغطه 10000000 فلت. ويتركب المولِّد من قطبين كبيرين متماثلين هما في الواقع كرتان عظيمتان لّماعتان من الألمنيوم قطرهما 15 قدما تحملهما اسطوانتان جوفاوان عازلتان قطرهما 6 أقدام وارتفاعهما 25 قدما. ويحمل الاسطوانتين عربتان ثقيلتان تسيران منفصلتين على قضيبين حديديين تبلغ مسافة ما بينهما 14 قدمان وبذلك يمكن التقريب بين القطبين والتبعيد بينهما. وهما يسكنان الآن بيتا وسيعا كانت تسكنه المناطيد. ويُشغِّل الجهاز بادارة أحزمةُ مغلقَة عديدة من الورق تصعد وتهبط في دورانها داخل الاسطوانة على حذاء طولها، تتصل عند قاع الاسطوانة بالمحركات التي تديرها، وتتصل من أعلى ببكرات مثبَّتة في وسط الكرة، فإذا بلغت أجزاء الحزام الدوَّار بَكرَتَه وهو متكهرب مسّ عندها فرشة فأعطاها حمولته من الكهرباء فأوصلتها إلى الكرة المعدنية وهي على ضغط 2000 فلت. ولكن لا تلبث أن تأتي الأحزمة بحمولات غيرها فِعلَ الساقية المصرية فتزيد شحنة(36/64)
الكرة زيادة كبرى. وذلك بَينما الكرة الأخرى في القطب الآخر جادَّة في جمع شحنة مثل هذه في الكبر ولكنها تخالفها في النوع، فان كانت إحداهما سالبة كانت الأخرى موجبة. فإذا بلغ اختزان الكهرباء في كل منهما ضغط قدره 5000000 فلت أخذ القطبان في التفريغ الكهربائي تحت ضغط 10000000 فلت ولما كان التفريغ تحت هذا الضغط الهائل لا يُؤمن جانبه على المشتغلين بالجهاز من البحّاث فقد أنزلوهم منه آمن منزِل: ذلك جوفه في الكرة المعدنية نفسها، وسيكون بها نور وآلات وأجهزة، أي ستكون معملا فيه كل ما يطلبه الرجال للعمل، وستشحن أجسامهم بالكهرباء والجهاز دائر إلى أقصى القطبين، ولكنهم معزولون عن الأرض فلن يصيبهم أذى.
قماش جديد:
ويصنعونه من القطن والكتان. وخلط القطن بالكتان في النسيج أمر معروف، فهم يجمعون خيوط هذا إلى خيوط ذلك، أو يُسدون بهذا ويلحمون بذلك. ولكن الطريقة الجديدة تتضمن إحالة القطن إلى مادة كالفالوذج، وإحالة الكتان إلى مادة فالوذجية مثلها، ثم خلط الاثنين بنسب تتفاوت لأغراض تتفارق، ثم ضغط المخلوط في ثقوب رفيعة يخرج منها وقد جف خيوطاً بين القطن والكتان تغزل ثم تنسج منها الأثواب. وسنرى في القريب بشائر هذا الأثواب تباع في الأسواق بأثمان يقولون عنها إنها أغلى من القطن بقليل ولكنها أرخص من الكتان بكثير.(36/65)
القصص
الصديق الصدوق
للأديب الإنجليزي المعروف أوسكار وايلد
في صباح أحد الأيام أطل من جحره فأر ماء عجوز، ذو عينين لامعتين كالخرز، وشارب خشن أسمر، ذنب كأنه قطعة طويلة من المطاط الأسود، وكان يسبح حوله في الغدير أفراخ من البط ومعهم أمهم البيضاء الناصعة ذات السيقان الحمراء تعلمهم كيف يقفون في الماء على رؤوسهم، وتقول لهم من حين إلى حين (لا يمكن أن تعيشوا في جمعية راقية وانتم غير قادرين أن تقفوا في الماء على رؤوسكم.) ثم تريهم كيف يكون ذلك؛ ولكن الأفراخ لم يصغوا إليها، لقد كانوا صغاراً لا يدركون فائدة الحياة في الجمعية.
صاح فأر الماء العجوز - ما أعقهم من أولاد، أنهم ليستحقون الموت غرقا.
أجابت البطة - ليس الأمر كذلك، إن لكل امرئ بداية. . وإن الآباء ليصبرون طويلا.
فأر الماء - آه. . أنا لا أعلم شيئاً عن عواطف الآباء، إنني لست رجل أسرة، فلم لم أتزوج ولم أفكر قط في الزواج. الحب جميل إجمالا، ولكن الصداقة أسمى بكثير. في الحق أني لا أعرف ما هو أشراف ولا أندر من الصديق الصدوق.
سأل الطائر الصغير الملقب بالتفيفحة، وكان جالساً على شجرة الصفصاف وقد سمع المحادثة (ولكن بالله عليك قل لي ما رأيك فيما يجب أن يكون عليه الصديق الصدوق؟)
البطة - نعم هذا ما أردت أن أعرفه - وسبحت إلى نهاية الغدير ووقفت على رأسها.
صاح فأر الماء - ما أسخفه من سؤال! إني أريد من صديقي الصدوق أن يضر نفسه لينفعني.
قال العصفور الصغير وهو يطير فوق عسلوج ذهبي ويصفق بجناحيه الرقيقين (وماذا تفعل أنت مقابل ذلك؟)
أجاب فأر الماء - لا أفهم ما تعني.
العصفور - دعني أقص عليك حكاية في هذا الموضوع.
فأر الماء - وهل يدور حولي محور هذه القصة - إذا كان كذلك فأنا أصغي إليك لأني جد مولع بالقصص الخيالية.(36/66)
العصفور - إنها تناسبك، وطار هابطا وحط على الشاطئ وأخذ يقص حكاية الصديق الصدوق.
الطائر الصغير - كان يعيش في أحد الأزمنة شاب نبيل يدعى (هانس)
فأر الماء - هل كان مشهوراً.؟
الطائر - كلا ما أظن أنه كان مشهوراً، اللهم إلا بقلبه الرحيم ووجهه الضحوك البشوش المستدير، لقد عاش في كوخه الحقير وحيدا وكان يشتغل كل يوم في حديقته التي لم يكن في القرية حديقة تدانيها في الجمال، فيها كان ينمو الزهر المنثور والورد الأحمر والورد الأبيض والأصفر والزعفران الليلكي والذهبي والبنفسج الأرجواني والريحان والياسمين وهكذا كنت تجد دائماً في الحديقة ما يقر العين وينعش الفؤاد.
وكان (لهانس) الصغير أصدقاء كثيرون، ولكن (هيو) الطحان الضخم الغني كان أكثر هؤلاء الأصدقاء وفاء وتضحية وقد بلغ من وفائه (لهانس الصغير) أنه لم يكن يمر بحديقته دون أن يعطف على الحائط ويقطف باقة أزهار كبيرة أو يجمع حزمة من الحشيش النظيف، وإذا كان الفصل فصل الأثمار ملأ جيوبه بالبرقوق والكرز.
وكان الطحان يقول: يجب أن ترتفع الكلفة من بين الأصدقاء الأوفياء، فيؤمن هانس الشاب على أقواله ويبتسم ويأخذه العجب كلما فكر أن له صديقا يحمل مثل هذه الأفكار النبيلة.
وكان الجيران أحياناً يتساءلون مستغربين: كيف أن الطحان الغني لا يعطي هانس شيئاً مقابل ما يأخذه منه في حين أن لديه مئات من أكياس الدقيق مخزونة في مطحنته وعنده ست بقرات حلوب، وقطيع كبير من الغنم المكسو بالصوف، ولكن (هانس) لم يزعج نفسه بمثل هذه الافكار، ولم يكن ليسره شيء بقدر ما كان يسره أن يصغي إلى الأقوال الغريبة التي كان يذكرها له الطحان عن تضحيات الصديق الصدوق.
وكان هانس الصغير يشتغل في حديقته ويعيش جد سعيد خلال أيام الربيع والصيف والخريف، ولكن حين يأتي الشتاء وليس لديه ما يبيعه من أثمار وأزهار كان المسكين يتألم كثيراً من البرد والجوع، وكثيراً ما كان يذهب إلى فراشه دون أن يتناول شيئاً من الطعام اللهم إلا قليلاً من التين الجاف أو شيئاً من الجوز اليابس، وفي الشتاء أيضاً كان دائم الوحدة لان الطحان لم يكن يأتي ليراه في ذلك الفصل أبداً.(36/67)
- ليس من الخير أن أذهب وأرى (هانس الصغير) (والثلج لا يزال على الأبواب) هذا ما كان يقوله الطحان لزوجه حين يكون الناس في اضطراب، علينا أن ندعهم فلا نزعجهم بزياراتنا هذا رأيي في الصداقة، واكبر ظني إني على صواب، لذلك فأنا سأنتظر قدوم الربيع وعندئذ أذهب لزيارته، وسيكون عندئذ قادراً على أن يقدم لي سلة كبيرة من أزهار الربيع!
أجابت الزوجة وهي ترتمي على المقعد الكبير إلى جانب النار - في الحق أنك كثير الاهتمام بغيرك، إنه ليسرني أن أسمعك تتكلم عن الصداقة دائماً. . إنني على يقين أن رجل الدين نفسه لا يتكلم بمثل كلامك الممتلئ علماً وحكمة.
قال أصغر أولاد الطحان - ولكن لا نطلب (لهانس الصغير) أن يصعد إلينا - إذا كان هانس الصغير في ضيق فأنا سأقدم له نصف ما عندي من ثريد، وأريه أرنبي الصغير.
صاح الطحان - يالك من ولد غبي. حقاً إني لا أعلم ما فائدة إرسالك للمدرسة، يظهر انك لا تتعلم شيئاً؛ لماذا؟ إذا أتى هانس الصغير إلى هنا ورأى نارنا الموقدة وطعامنا اللذيذ ودننا الكبير الطافح بالنبيذ الأحمر عندها يأخذه الحسد، والحسد هو أفظع خلة يمكن أن تشوه طبيعة الإنسان، أنا خير أصدقائه وسوف أظل أرعاه بعنايتي وأحول دون دخوله في أية تجربة، وبالإضافة إلى ذلك فان هانس إذا جاء إلى هنا فقد يطلب مني أن أقرضه قليلا من الدقيق، وهذا ما لا أستطيعه، الدقيق شيء والصداقة شيء آخر ولن يجتمعا. لماذا! لأن الكلمتين تختلفان في التهجية ولكل منهما معنى خاص. كل إنسان يوافقني على ذلك (. .
قالت الزوجة وهي تملأ كأسها بالجعة الدافئة: إن ما تقوله هو عين الصواب. .
أجاب الطحان - يحسن بعض الناس التمثيل، ولكن قل من يجيد منهم الكلام، وهذا يعني إن الكلام أصعب من التمثيل وهو كذلك أجمل بكثير. ثم نظر بجفاء إلى ولده الصغير الذي جلس إلى المائدة منكمشاً مطرقاً برأسه، خجلا من نفسه.
سأل فأر الماء العجوز - أهذا ختام القصة؟
أجاب العصفور - طبعاً لا. هذا أولها. . .
فأر الماء - أنت إذن من الرواة القدماء، إن الرواية البارعة في هذه الأيام يبدأ روايته من نهايتها ثم يسير بالسامعين إلى بدايتها، تلك هي الطريقة الحديثة، لقد سمعتها من فم ناقد كان(36/68)
يسير منذ يوم برفقة شاب حول البركة، لقد تكلم بحماس جعلني أوقن بأنه على صواب خصوصاً وقد كان أصلع الرأس يضع على عينيه منظارين أزرقين. ولكن أرجوك أن تستمر في قصتك.
قال العصفور وهو يقفز حيناً على إحدى ساقيه وحيناً على الأخرى: وكان الطحان عندما ينتهي الشتاء وتبدأ أزهار الربيع تتفتح عن أكمامها الباهتة الصفراء يقول لزوجته بأنه ذاهب ليرى هانس الصغير
صاحت زوجته - ماذا! ما أطيب قلبك! انك دائم التفكير في الآخرين. هل أذكرك أن تأخذ السلة معك لتملأها بالأزهار.
وهكذا ربط الطحان شراع الطاحونة وهبط التل وبيده السلة
الطحان - صباح الخير، هانس الصغير.
قال هانس وهو متكئ على معوله ضاحكاً مل شدقيه: صباح الخير
الطحان - كيف أمضيت أيام الشتاء؟
هانس - بخير انه لكرم منك أن تسأل عني، كانت أياماً شديدة، ولكن ها قد أتى الربيع وأنا سعيد حقاً وأزهاري أخذت تتفتح.
الطحان - طالما تحدثنا عنك أيام الشتاء وتساءلنا كيف يكون حالك؟
هانس - هذا لطف منك، لقد كدت أظن وبعض الظن إثم انك نسيتني!
الطحان - هانس إني معجب بك. الصداقة لا تنسى أبداً وهذا هو سرها العجيب. . كم تبدو زهورك جميلة!!
هانس - حقا إنها لها منظراً بديعاً ومن حسن حظي أن لدي كثيراً منها، سأحملها إلى السوق وأبيعها إلى ابنة شيخ القرية وأبتاع بثمنها عربة يد.
الطحان - تبتاع عربة يد! ما أحسبك تعني أنك قد بعت عربتك، انه يكون إذن تصرفاً منك خاطئاً. .
هانس - هذا هو الواقع الذي أكرهت عليه. انك تعلم أن الشتاء كان على جد صعب، وإني لا أملك ما ابتاع به خبزاً، فاضطررت بادئ الأمر أن أبيع أزرار بذلتي يوم الأحد، ثم بعت سلسلتي الفضية فغليوني الكبير، وأخيراً بعت عربتي ولكنني مصمم أن أعود فأشتري هذه(36/69)
الأشياء كلها.
الطحان - هانس. سأقدم لك عربتي. صحيح إنها بحاجة إلى إصلاح، وقد ذهب أحد جانبيها وفي دولابها عطل بسيط. ولكن ساقدمها لك على رغم ذلك، فأنا أعلم أن هذا كرم عظيم مني، وان كثيرين من الناس سيظنون بي الغباوة لتفريطي في العربة، ولكني لست كباقي الناس، أنا أرى في مثل هذا الكرم روح الصداقة.
هانس الصغير - حسناً حقاً انه لكرم منك وطفح وجهه الضحوك المستدير سروراً. . إنني أصلحها بسهولة لان عندي لوح من خشب.
الطحان - لوح من خشب أنا بحاجة إليه لان في سقف مخزن لحاصلات ثقباً كبيراً. انه لمن حسن الحظ انك نوهت لي بهذا اللوح الخشبي، عجيب حقاً، كيف ان العمل الصالح يلد دائماً عملا صالحاً لقد أعطيتك عربتي، والآن فانك تقدم إلي لوحك. نعم إن العربة أثمن بكثير من لوح الخشب ولكن الصداقة الحق لا تهتم بمثل ذلك، أرجو أن تحضره حالا.
هانس - بالتأكيد. وجرى إلى السقيفة وأخرج اللوح.
قال الطحان وهو ينظر إلى اللوح - انه ليس كبيرا جداً، إني لأخشى أن لا يبقى منه شيء لتصلح به العربة بعد أن أسقف مخزني ولكن ذلك ليس خطأي، والآن وقد قدمت لك عربتي الصغيرة، فأني متأكد بأنك ستقدم لي زهوراً مقابل ذلك. هذه هي السلة وإني أذكرك أن تملأها جيداً
قال هانس الصغير متألما - أملأها جيداً. .! (لان السلة كانت كبيرة جداً، وقد أردك انه أن ملأها فسوف لا يبقى لديه ما يأخذه إلى السوق، بينما هو يرغب أن يعيد أزراره الفضية)
أجاب الطحان - ما كنت أظن بعد أن أعطيتك العربة انه كثير على أن أسألك قليلا من الزهور. قد أكون مخطئاً ولكني اعتقد إن الصداقة، الصداقة الحق يجب أن تبتعد عن كل أنانية
صاح هانس الصغير - يا صديقي العزيز، يا أخلص صديق. لك الأمر على كل ما في حديقتي من أزهار، أني لأرغب في أفكارك السديدة أكثر من أزراري الفضية، وجرى فقطف كل زهوره الجميلة وملأ بها سلة الطحان.
الطحان - وداعاً هانس الصغير وصعد التل ولوح الخشب على كتفه والسلة الكبيرة في(36/70)
يده.
هانس - مع السلامة.
في اليوم الثاني كان هانس ينصب العليق حينما سمع صوت الطحان يناديه من الطريق فقفز عن السلم، وجرى إلى الحديقة وتطلع من أعلى الحائط لرأى الطحان وعلى ظهره سلة كبيرة ملآنة بالزهور
الطحان - عزيزي هانس الصغير هل تحمل لي هذه السلة إلى السوق؟
هانس - إنني كثير الشغل اليوم. على أن أنصب كل العليق واسقي كل الزهور واحزم كل الكلأ.
الطحان - حسناً. أظن انه ليس من حسن الصداقة أن ترفض طلبي
صاح هانس - آه لا تقل ذلك إنني لا أحب أن أعادي العالم أجمع، ثم جرى فأحضر قبعته وسار ينوء بالسلة الكبيرة
لقد كان يوماً لافحاً، وكان الطريق يعج بالغبار، وقبل أن يصل هانس إلى الكيلومتر السادس كان قد بلغ به التعب مبلغاً عظيماً وكان عليه أن يستريح، ولكنه استمر يسير بشاعة إلى أن وصل السوق بعد ان انتظر قليلا استطاع أن يبيع الأزهار بسعر جيد، حينئذ عاد إلى البيت حالا دون إبطاء لانه خاف إن هو تأخر قليلا أن يلقى اللصوص في الطريق.
قال هانس الصغير لنفسه وهو ذاهب للفراش (حقا لقد كان يوماً مزعجاً متعباً، وعلى كل فأنا مسرور لأني لم أرفض طلب الطحان وهو أخلص صديق إلي، وعدا ذلك فهو سيعطيني عربته)
وفي صباح اليوم الثاني نزل الطحان مبكراً ليأخذ زهوره، ولكن هانس الصغير كان لا يزال في فراشه من أثر تعبه.
الطحان - قبل كل شيء انك كسول جداً والكسل خطيئة عظيمة، وأنا لا أحب أن يكون أحد أصدقائي كسولا بليداً. لا ينبغي أن تتأثر من صراحتي، تأكد إني ما كنت لأرميك بهذه الكلمات الجارحة لو لم اكن صديقك، كل شخص يستطيع أن يقول كلاماً ليناً ويذكر أموراً مبهجة ويصانع ويخادع ولكن الصديق الصدوق يقول دائماً أقوالا لا تسر ولا يهمه أن هو(36/71)
آلم صديقه.
قال هانس وهو يفرك عينيه ويرفع عنه اللحاف - أنا متأسف جداً لقد بلغ من تعبي إن زعمت إني أستطيع البقاء في الفراش ولو قليلاً، والإصغاء إلى غناء الطيور. هل تعلم إني حين أصغي إلى الطيور اشتغل بنشاط عظيم؟
قال الطحان وهو يربت على ظهر هانس الصغير - أنا مسرور من ذلك، لأني أريدك أن تأتي إلى الطاحونة حالما ترتدي ثيابك وتصلح لي سقف مخزن الحاصلات. مسكين هانس الصغير! لقد كان في نيته أن يذهب ويشتغل في حديقته لأن أزهاره لم تسق منذ يومين، وهو في نفس الوقت لا يحب أن يرفض طلب الطحان صديقه الصدوق، قال هانس بصوت المتهيب الخجل - هل تظن إني أكون مذنباً إذا اعتذرت لك بقولي: أني مشغول
أجاب الطحان - ما أظن إني طلبت منك أمراً خطيراً ثم اذكر إني سأعطيك عربتي وطبعاً إذا رفضت فأنا سأذهب بنفسي وأصلح السقف.
صاح هانس - آه ليس من الضروري. . وقفز من الفراش وارتدى ثيابه وصعد إلى مخزن الحاصلات حيث اشتغل هناك طيلة النهار حتى إذا غربت الشمس جاء إليه الطحان ليرى مالذي صنع.
صاح الطحان بصوت رقيق هل رتقت خرق السقف يا هانس الصغير؟
أجاب هانس - تماماً ونزل عن السلم
الطحان - آه لا يوجد عمل ألذ من العمل الذي يقوم به المرء للغير.
قال هانس وهو يمسح جبينها - بالتأكيد، إنها لفائدة عظمى أن أسمعك تتكلم، فائدة عظمى، ولكني أخشى أن لا يقدر لي أن أحمل مثل هذه الأفكار التي تحملها
الطحان - إنها ستأتيك ولكن بعد عذاب أعظم. عندك الآن تطبيقات في الصداقة وبعد أيام ستعرف نظرياتها أيضاً
هانس - سأعرف حقيقة نظريات الصداقة؟
الطحان - أنا لا أشك في ذلك، ولكن الأحسن الآن وقد أصلحت السقف أن تذهب إلى البيت وتستريح لأني أريدك منك غداً أن تسوق غنمي إلى الجبل. مسكين هانس لقد خشي أن يجيب بشيء، وفي صباح اليوم التالي أحضر الطحان غنمه إلى الكوخ فسار بها هانس(36/72)
إلى الجبل وقد كلفه أخذها والعودة بها يوماً كاملاً، وحين عاد كان منهوك القوى فنام على مقعد ولم يستيقظ حتى ساعة متأخرة.
قال - سأتمتع بيوم مبهج في حديقتي وذهب في الحال ليشتغل لكن لم يستطيع أبداً أن يرعى زهوره لأن صديقه الطحان كان يأتيه دائماً ويرسله في مهمات طويلة أو يحضره ليساعده في المطحنة.
ومع الأيام كان هانس الصغير يزداد حزناً على زهوره، ولكنه كان يعزى نفسه بأن الطحان صديقه الصدوق.
وهكذا كان هانس يشتغل للطحان، وكان الطحان يذكر له كل الأقوال الجميلة عن الصداقة فكان ينقلها إلى دفتره ويراجعها في المساء شأن التلميذ المجتهد
وقد حدث في مساء أحد الأيام وقد كان هانس الصغير جالساً إلى جانب الموقد أن سمع صيحة شديدة عند الباب، وكان ليلة مزعجة الريح تصفر فيها وتزمجر حول البيت، فظن هانس أن الصوت صوت العاصفة ولكن حين أعقب الصرخة الأولى ثانية فثالثة قال هانس لنفسه! انه مسافر مسكين، وجرى نحو الباب فإذا بالطحان يحمل فانوساً بإحدى يديه وعصا ضخمة بالأخرى
صاح الطحان - عزيزي هانس الصغير، إنني في قلق عظيم لقد، سقط ولدى الصغير من أعلى السلم وأنا ذاهب إلى الطبيب، ولكنه يسكن في مكان بعيد جداً. ولقد فتقت لي هذه الليلة الرديئة فكرة حسنة وهي أن تذهب أنت بدلا عني. انك تعلم أني أريد أن أعطيك عربتي، ولذلك فأرى من العدل أن تقوم لي بخدمة مقابل ذلك.
صاح هانس الصغير - بالتأكيد. إن قدومك إلى كرم منك وسأنطلق حالا. ولكن يجب أن تعيرني مصباحك لأن الليلة مظلمة وأخاف أن أقع في الوادي.
أجب الطحان - إنني آسف جداً. انه مصباحي الجديد وخسارتي تكون عظيمة إن حدث له أي حادث.
صاح هانس الصغير - حسناً، لا بأس سأذهب بدونه وتناول معطفه الكبير وطاقيته القرمزية الدافئة، ولف لثاماً حول عنقه ثم سار. .
يا لها من ليلة مرعبة. . لقد بلغ من حلكة الليل أن هانس لم يكن يرى إلا بشق النفس،(36/73)
وبلغ من قوة الريح أنه ما كان يقف إلا بكل صعوبة، وعلى كل فقد كان شجاعاً، وبعد مسير ثلاث ساعات وصل منزل الطبيب. فطرق الباب.
صاح الطبيب وهو يطل من نافذة غرفة النوم - من أنت؟
- أنا هانس الصغير يا دكتور.
- ماذا تريد يا هانس الصغير؟
- لقد سقط ابن الطحان من أعلى السلم ويرجوك أن تأتي حالا.
قال الدكتور - حسناً وأعد جواده وفانوسه ونزل إلى الطابق السفلي وسار في اتجاه منزل الطحان. وهانس الصغير قد دلف وراءه ولكن العاصفة أخذت تزداد قسوة وشدة، وأخذ المطر يتدفق كالسيل ولم يستطع هانس الصغير أن يرى أين يسير أو كيف يتبع الجواد، وأخيراً ضل الطريق وهام في المستنقع الممتلئ بالحفر العميقة، وهنالك غرق هانس الصغير المسكين.
وفي اليوم الثاني وجد بعض الرعاة جثته طافية في بركة كبيرة من الماء فجاءوا بها إلى الكوخ.
خرج كل الناس في جنازة هانس الصغير لانه كان مشهوراً لدى الجميع وكان الطحان أول المؤبنين.
قال الطحان - وحيث إني كنت أصدق أصدقائه فمن الحق أن أتقدم الجميع، وهكذا سار إلى صدر الحفل في معطف طويل أسود وكان بين الفينة والفينة يمسح عينيه بمنديل كبير
قال حداد حين انتهت حفلة الدفن والجميع في الفندق يشربون النبيذ المعتق ويأكلون الكعك المحلى - بالتأكيد أن موت هانس الصغير خسارة عظيمة للجميع.
أجاب الطحان - خسارة عظيمة لي بوجه التخصيص، لماذا؟ لأني كنت أريد أن أتفضل عليه بعربتي. والآن فأني لا ادري ما الذي افعله بها، أنها دائماً في وجهي في البيت وهي في حالة من العطل لا تساوي معها شيئاً إذا عرضت للبيع، سوف أحتاط بعد اليوم فلا أتبرع بشيء، بالتأكيد إن المرء يضره أن يكون كريماً.
قال فأر الماء بعد تردد طويل - حسنا.
قال العصفور - حسناً. تلك نهاية القصة(36/74)
سأل فأر الماء - ولكن ماذا حدث للطحان؟
أجاب العصفور - حقاً لست أعلم ولا يهمني أن أعلم
فار الماء - إذن فأنت بطبيعتك بعيد عن الإحساس.
العصفور - أخشى أن لا تكون أدركت مغزى القصة.
صاح فأر الماء - لم!. ماذا؟. .
العصفور - لم تدرك المغزى.
فأر الماء - هل تريد أن تقول إن القصة لها مغزى
العصفور - بالتأكيد.
قال فأر الماء بلهجة الساخط - حسناً حقاً. . أظن أنه كان يجب أن تخبرني بذلك من قبل. . بالتأكيد كنت لا أصغي إليك وضرب الماء بذنبه، ورجع إلى جحره.
سألت البطة التي جاءت على أثر ذلك مجدفة - كيف رأيت فأر الماء، أن له ملاحظات بديعة.
أجاب العصفور - أني لأخشى أن أكون قد أزعجته، فقد قصصت عليه قصة ذات مغزى.
شرق الأردن
بشير الشريقي
المحامي(36/75)
الأدب والفن في حياة ملك بلجيكا الراحل
هذا الملك البطل قد أصبح بعد حياته حيا بين أبطال الأساطير وزاده مصرعه الفاجع عظمة على عظمته. وهو ملقى مضرجاً بدمه الغالي على أطراف الصخور المسنونة
ولم يكن ألبرت الأول ملكاً عظيماً فحسب، بل كان أيضاً رجلاً عظيما. وله قبل الحرب صورة تمثله والشاعر الأديب فرهيرن في وسط الأسرة المالكة في جو ديمقراطي، والأنجال إلى المائدة، والجميع يسمرون تحت المصباح وقيثارته الملكية ترسل أنغامها بعد العشاء.
ولم يكن هناك أثر للمراسم وأوضاعها التقليدية في علاقة صاحب التاج بالعلماء والكتاب وأهل الفن من أبناء البلاد. فقد كان يعلم حق العلم أن الفكر كالبطولة فله النصيب الأوفر في توثيق وحدة البلاد وجعلها موضع احترام العاملين وإعجابهم. ولقد استنهض الهمم لتوفير عتاد من مال الأمة مرصود على البحث العلمي، كما أنه فكر في تأسيس مجمع للغة والأدب، ومنح الأديب الروائي ماترلنك رتبة الكونت، ورفع لفيفا من الرسامين والمثالين ومهندسي العمارة إلى رتبة البارونات. وظلت الآداب والفنون مدى ربع القرن الذي حكمه عزيزة الجانب، تزداد مكانتها رفعة، وتستمتع بحرية لا عهد بها من قبل.
فالحق أنه أول ملك على بلجيكا بدت منه الشواهد الجمة على عناية حقيقة بالجانب الأدبي في بلاده. فأن والده العظيم ليوبولد الثاني مع مناداته بأن الأدب هو زهرة المدنية الرفيعة، لم يؤثر عنه قط متابعة جهد الأدباء وتشجيعهم، وهم أولاء الذين شقوا الطريق للشباب البلجيكي ولهم الفضل الكبير على كتابها المشاهير أمثال فرهيرن وماترلنك
ولئن كان الملك البرت قد تخرج على الأخص في العلوم، وانصرفت ميوله في الغالب الأعم إلى الرياضيات وتقدم الصناعات ودراسة المسائل الاجتماعية والاستعمارية، فانه لم يخل قط من الاهتمام بالفن وإن كان تذوقه للتصوير لم يكن بالغا، ورأيه في الموسيقى أقرب إلى القائل إنها (ضوضاء كبيرة النفقة). وأما الأدب فكان اكثر متعة به. وهو على كل حال من مدمني القراءة والاطلاع، وثقافته واسعة، وشوقه إلى المعرفة متنبه على الدوام. ولا نقول أنه كان يطرق آفاق التأليف الأدبية مستكشفا، وإنما كان يحب الوقوف على ما يشغل الناس من المؤلفات ويهتم بمن يأتي بين المؤلفين بالجديد. وهو من أول المشتركين في مجلة (مركير دفرانس) الأدبية لأول إنشائها وجنوحها وقتئذ في الأدب إلى(36/76)
مذهب الرمزيين. كما أنه من أشد القراء عناية بتتبع آثار بول فاليري القلمية، وقد حضر في بروكسل تمثيل بعض روايات بول كلوديل سفير فرنسا في بلاده، ولم يكن حضوره مجرد مجاملة للسفير بل تكريما أيضاً للأديب.
وكثيراً ما أعرب الملك عن إعجابه بالأدب الفرنسي. وكانت إحدى المناسبات السانحة عندما جاء مسيو بول كلوديل إلى قصر (ليكن)، وهو على مسيرة عشرين كليومترا من بروكسل، لتقديم أوراق اعتماده فاستقبله الملك في حجرة المكتب الفسيحة الجنبات العالية السمك، حيث كان يحب الجلوس محفوفا بكتبه التي لا تقل في عددها عن ثلاثين ألف مجلد، وأدواته وأجهزته العلمية. وحياه الملك بالفرنسية بلهجة فلمنكية لها رنة ثقيلة حلوة قائلاً (هذا سفير الفكر الفرنسي). ولحظ السفير الأديب أحد مؤلفاته على مكتب الملك
كذلك كان الأدب الإنجليزي محبباً اليه، وقد نوه بذلك ذات مرة في خطب ألقاه بعد الحرب في قاعة بلدية لندن في أثناء حفلة أقامتها له جمعية الأدب الملكية.
ولا شك في أن هذا الملك الجندي، المعدود بين أكبر هواة الرياضة وتسلق قمم الألب، كان يؤثر الزيارة لأحد المصانع أو المعامل أو النزول في أحد المناجم، على زيارة معرض للتصوير، وأن استماعه إلى العمال في عملهم أحب إلى نفسه من أحاديث أبناء الفن المنمقة في ردهات المعارض يوم الافتتاح. غير أنه كان يستفسر من هؤلاء وهؤلاء، ويهتم بكل شيء شوقاً منه إلى المعرفة وقياماً بالواجب، ولما أن أقيمت سراي الفنون الجميلة في العاصمة تجاه القصر الملكي أو بعبارة أدق، أقرب ما يكون إلى مواجهته - أصبح الملك من أخلص المترددين عليها. ولقد يزور المعرض في الصباح الباكر زيارة الجيران وهو يلبس قبعة من اللبد عريضة الحافة، وفي رقبته ربطة معقودة على نحو ما يفعل الفنانون. ويطوف به الأستاذ الفنان (إنسور) وهو في مثل رداء مولاه، يشرح له الألواح والصور أكثر من ساعتين. والملك مطيع له، مصغ إليه. والجمهور لا يكاد يتنحى بعيداً عنهما، يتبعهما ويتابعهما بعيون ملؤها الإجلال والمحبة. وفي كل لحظة يقف الملك مقترباً من كل لوحة يدقق فيها نظره القصير ويسائل مرشده الشيخ مبتسما.
كذلك كان من آونة لأخرى ينزل إلى قاعة الموسيقى مزدانة بالأزهار والتحف الفنية ليستمع إلى الموسيقى ولا سيما موسيقى فاجنر، فقد كانت عند أثيرة. ولقد قال ذات مرة(36/77)
بمناسبة هذا الموسيقار الألماني (إن الموسيقى لأقوى من كل تدابير السياسة في تأليف الشعوب).
وأكثر من هذا وذاك كانت رعاية الملك والملكة وأمارت عطفهما القلبي على الأدباء خاصة. ولم يعزب بعد عن الأذهان أنه في زيارته الأخيرة لفرنسا منذ شهور. رأس حفلة العشاء التي تقيمها (مجلة العالمين) وقد سره من الحفلة أن استطاع مطارحة الأدب مع طائفة من الكتاب واستدلوا من حديثه على واسع إلمامه بالأدب الفرنسي الحديث
وقد كانت آخر إمضاءات ملك بلجيكيا يوم السبت قبل ذهابه إلى النزهة المشئومة، هو إمضاؤه الذي مهر به أمره الكريم بمنح رتبة ضابط من طبقة التاج للمؤرخ الفرنسي (شاتيل) لنشره كتاباً عن جهود بلجيكا في فرنسا أثناء الحرب. ولقد قدم لهذا الكتاب مقدمته المسيو دومرج الذي هو اليوم رئيس الوزارة الفرنسية.
ثم إن هناك فوق ما تقدم سمات اعمق في الإنسانية وأرفع نذكر منها إن الملك كان في عصر أحد الأيام في قصر (ليكن) مع ماترلنك مؤلف قصة العصفور الأزرق الخالدة فبادره ببساطه وعلى غير انتظار (يا مسيو ماترلنك. أتريد تقبيل أولادي؟)
وكانت صلته بالشاعر البلجيكي (فرهيرن) صلة حميمة. فلما أن قضى الشاعر نحبه ذهب أحد أصدقائه النواب إلى الملك يلتمس منه أن يرأس الاحتفال بنقل رفاته إلى الضريح الفخم الذي أعدوه. فقبل الملك في الحال عن طيبة خاطر. ولما أراد النائب شكره اعترض قائلا (ليس لك أن تشكرني. فان مجد فرهيرن في غير حاجة إلينا. بل نحن امرأتي وأنا - اللذان نتشرف بالاشتراك في هذا الاحتفال)
فكيف لا تكون هذه نفس فنان أديب شاء صاحبها أو لم يشأ وهذا المتسلق وحده إلى القمم، المغرم بدوار الارتفاع المشغوف بالطبيعة؛ من يكون إن لم يكن شاعراً حالما؟
عبد الرحمن صدقي(36/78)
المؤتمر الدولي الثاني عشر لنادي القلم العالمي
يقام في صيف هذا العام بين السابع عشر والثاني والعشرين من شهر يونيه القادم في مدينتي أدبنورج وجلاكسو (اسكتلنده) المؤتمر الدولي الثاني عشر لنادي القلم، وتمثل فيه جميع مراكز القلم في أنحاء العالم. وقد أرسلت الدعوة إليه إلى مختلف المراكز، وسيمثل كل مركز عضوان بصفة رسمية، وأعضاء غير رسميين يشهدون الأعمال والجلسات إذا شاءوا. وينزل المندوبون الرسميون ضيوفا على نادي القلم الاسكتلندي الذي يتولى تنظيم المؤتمر والدعوة إليه؛ ويقام لهم استقبال غير رسمي في أدنبورج في 17 يونيه؛ ويشتمل البرنامج فضلا عن الأعمال والمداولات الخاصة بشؤون الكتاب والمؤلفين، على تنظيم استقبالات ورحلات مختلفة في أدنبورج وجلاسكو وبعض مشاهد اسكتلنده التاريخية. وقد دعي نادي القلم المصري، أسوة بمراكز القلم الأخرى، إلى شهود المؤتمر واختيار مندوبيه الرسميين وغير الرسميين.(36/79)
العدد 37 - بتاريخ: 19 - 03 - 1934(/)
(شهرنا الخالد. . .!
شهرنا الخالد في تقويم الدهر مارِس! فيه كما يقولون ألغيت الحماية، وأعلن الاستقلال، وصدر الدستور!
وفيه كما نقول استيقظ أبو الهول، وشبت ثورة النهضة. وتنافس في الجهاد النساء والرجال، وتعانق على الوداد الصليب والهلال، وتسابق إلى الخلود الشيوخ والأطفال. وسالت أنفس الشباب ضحايا على مذبح الحرية!!
وفيه كما تقول الطبيعة تتجدد الحياة، وتهتز الأرض، ويورق الشجر السليب، ويمرع الوادي الجديب، وينشد الربيع الباكر أناشيد الجمال والحب والأمل!!
ولكن خمسة عشر عاماً طوالا أتت على مارسنا الأول فجعلت ما قالوه كلمات ميتة، وما نقوله ذكريات خافتة، وما تقوله الطبيعة حديثاً مُعادا!
فالحكومة تدفع الحكومة، والذكرى تتبع الذكرى، والربيع يعقب الربيع، ونحن لا نزال في الموقف الأول، يتدفق علينا الزمن، وتُغَّبر في وجوهنا الشعوب، كأنما خرجنا عن مدارج القافلة، أو رمى بنا التيار في حواشي الوجود!
من الذي نضح القبس بالماء، وشغل المسامع عن نداء الشهداء، وحول وجه النهضة إلى الوراء، واعترض مجرى الحياة المصرية طول هذه الحقبة؟ ستقول خدعة السياسة، وشهوة الحكم، وفتنة المال، ونكسة المرض، ولكنك لو عبرت عن ذلك كله بانحلال الخلق لكان اجمع لأسباب الأمر، وأبلغ في إجمال الحقيقة، فان التكالب على سلطان الحياة وزهرة الدنيا يصدر في الغالب عن حمية ورجولة، ولكن ما نحن في اليوم من تحكيم الهوى، وتغليب الأثرة، وهوان الغرض، وفساد الضمير، وفجور الخصومة، لا يوائم فطرة الله، ولا يلائم طبيعة التقدم
على ان السفينة التي يصارعها الموج فتضطرب، ويعصف بها النوء فتجور، سيظل لها (مارس) منارا في مرفأ السلام يرسل الهدى للجائر، ويلقى السكينة في المضطرب.
سنذكر دائماً مارس من عام 1919 حين عصفت في الرؤوس نخوة العزة، ونَزَت في القلوب ثورة الحفيظة، وأعلنت مصر مرة أخرى بعد (عرابي) أن لها مثلا تتبعه، وماضياً تعيده، ومستقبلاً تعدُّه، وأمراً في أرضها تدبره، وحكماً في سياستها تصدره. ويومئذ كان للربيع معنى الربيع! هبت رياح آذار فألوت بحطام الشتاء والخريف، وسرت في البلاد(37/1)
نسائم الروح الخالق والسر البديع، وجرت على الثرى المقدس دماء الضحايا الأُوَل فتفَّطر بالنبات البهيج، وبدت على الوجود المصري مظاهر الشباب من الرونق والصفاء والجدة والقوة، وتمردت على الطغيان المسلح نفوس شيَّعها الإيمان بالحق، وحطمت أسلاك البرق ودمرت طرق الحديد لتقطع ما بينها وبين جنود الذل، وأجبرت الغاصب الغاضب على أن يحترم رأيها في الشيخوخة الاسيرة، وعزمها في الشبيبة الثائرة، واتسع نطاق الأفق للقلوب التي حصروها بالكبْت، وانكشف رقيع السماء للأبصار التي عقدوها بالأرض، وفتح التاريخ للشعب المجيد، كتاب العهد الجديد، وكادت تتوالى صفحاته لولا أننا من الحلفاء وكالحلفاء، ربحنا الحرب وخسرنا الصلح!
يعود مارس فيعود العقل العازب، وينتبه الضمير الغافل، ويستطيع كل امرئ أن ينظر إلى الوراء فيرى ماذا ترك، والى الأمام فيرى ماذا قدَّم، ثم يجيب أطياف الشهداء وهي تطوف ساهمة الوجوه أمام الأزهر، وحول ابن طولون، وخلال المقبرة الموحشة، تسائل كل عابر: ماذا صنع الأحياء بعهود الموتى، وكيف حال المعيدين على لحوم الضحايا؟
يعود مارس فيودع في أوائله الشتاء، ويستقبل في أواخره الربيع، ونحن وان تلكأ بنا الحظ البليد خمسة عشر عاما لابد موفون على ربيع النهضة! وان في هبَّة الشباب من غفوته المريبة، ومعالجته الأمور من جهاتها المنتجة، واضطرام الشعور القومي في ذكرى مارس، وإطباق الرأي العام على وخامة الحال، لبشيراً بتوافي النفوس على الخير، وتواطئها على الجد، وتعاونها على الإصلاح
ليس في منطق الأشياء ولا من سنة الوجود، أن يجتمع لمصر ما لم يجتمع لغيرها من أسباب الطموح ووسائل الصعود، ثم تظل في ساقة الركب الأممي تمشى ظَلعاء إلى أمدها المرسوم وغايتها المرجوة، إنما هي عوائق تقيمها الذئاب ليُفردوا بها الحَمل الغافل عن القطيع! وان في هذه الذكريات العزيزة الطيبة حافزاً للهمم الوانية، وموقظا للضمائر الغافية، ومهُيباً بشوارد الأنفس إلى سواء السبيل.
احمد حسن الزيات
(محاضرة الآنسة مي
للدكتور طه حسين(37/2)
لا اعرف شيئاً يحتاج إلى أن يقام عليه الدليل، والى أن يتكلف أصحاب المنطق والنظر له الحجج والبراهين، كالبديهيات التي يخيل إلى الناس أنها أوضح من أن تحتاج إلى دليل، وأبين من أن تحتاج إلى دليل، وأبين من أن تحتاج إلى أن تكد في إثباتها العقول، وقد زعموا لنا أن بعض أصحاب الرياضة يشك في أوليات الرياضة، ومن يدري لعل شكهم هذا ينتهي إلى أن هذه الأوليات بعيدة كل البعد عن أن تكون من الأوليات!. كنت أفكر في هذا كله أمس، حين كنت أذهب إلى الجامعة الامريكية، لأسمع للمحاضرة التي كانت الآنسة الجليلة (مي) تريد أن تلقيها، لأن موضوع هذه المحاضرة كان يدعو إلى مثل هذا التفكير، فقد زعموا لنا أن الآنسة كانت تريد أن تظهر فضل المرأة على الحضارة الإنسانية، وأعترف بأني لم اشك في يوم من الأيام ولا في لحظة من اللحظات بأن للمرأة على الحضارة الإنسانية فضلا لا يجحد، كما أن للرجل على الحضارة الإنسانية فضلا لا يتاح الشك فيه إلا لأمثال هؤلاء الرياضيين الذين لا يجزمون بأن الأربعة إذا قسمت على اثنين كانت نتيجة القسمة أثنين، وكنت اسأل نفسي عما تريد الآنسة (مي) أن تقول لتبين لنا فضل المرأة على الحضارة الإنسانية، فذلك شيء لا يحتاج إلى أن يقول فيه قائل، أو إلى أن يثبته مثبت، ولكن ما رأيك في أني سمعت المحاضرة، وانصرفت إلى داري وأنا أشك شكا عظيما في أن للمرأة فضلا على الحضارة الإنسانية؟ وأسأل نفسي عما أرادت الآنسة (مي) إليه بمحاضرتها القيمة الممتعة، أرادت أن تقنعنا بان للمرأة فضلا على الحضارة؟ أم أرادت أن تشككنا في ذلك؟ وتبسط عليه سلطان الريب في نفوسنا، ومن يدري لعل أديبا من الأدباء البارعين أن يفكر ذات يوم في أن يثبت فضل الرجل على الحضارة فينتهي في نفسي إلى ما انتهت إليه الآنسة (مي) أمس من إثارة الشك والريب.
وإذن أنا مقتنع بان الحضارة الإنسانية قد أنشأت نفسها وليس للرجل عليها فضل، ولا للمرأة عليها فضل، وإنما هي صاحبة الفضل عليهما جميعاً لأنها أنشأتهما إنشاء، ومتعتهما بما ينعمان به من لذات الحياة وآلامها، فهما ينعمان بالآلام كما ينعمان باللذات، وآية ذلك أن الآلام تلهمهما روائع الشعر والنثر والفن، وتحيي في نفوسهما من الفضائل، وجميل الخلال ما يملؤها متاعاً ولذة وشعوراً بالكرامة، وأملا في المستقبل وحباً للحياة، فالرجل والمرأة إذن ينعمان بالآلام كما ينعمان باللذة، ولعل أديباً من الأدباء الذين لهم حظ الآنسة (مي) من(37/3)
البراعة وانهم لقليلين يستطيع أن يقنعني كما أقنعتني الآنسة أمس بان ليس للرجل على الحضارة فضل، كما أنه ليس للمرأة على الحضارة فضل، وإنما الفضل للحضارة عليهما جميعاً. أنبأتنا الآنسة أمس بان المرأة وحدها هي التي أنشأت الحضارة إنشاء وأعانتها على التطور والرقي، وابتكرت ما يزينها من العلوم والفنون والآداب، فأما أن المرأة أنشأت الحضارة إنشاء فشئ فيما يظهر لا سبيل إلى الشك فيه، لان كتب الدين كلها تنبئنا به، فلولا أن حواء أغواها الشيطان فأكلت من الشجرة، وعضت تلك التفاحة لما طرد آدم وزوجه من الجنة، ولولا انهما طردا من الجنة لما هبطا إلى الأرض، ولولا أنهما هبطا إلى الأرض لما عملا فيها، ولولا أنهما عملا فيها لما كانت الحضارة، وإذن فالحضارة أثر من آثار حواء، لأن حواء هي التي أكلت من الشجرة، وهي التي جرت على نفسها وعلى زوجها هذه العقوبة، وإذن فنحن الرجال ننعم بالحضارة راغمين، ننعم بها لأن خطيئة أمنا حواء قد أكرهتنا عليها إكراها، ولكن حواء لم تأكل من الشجرة لأنها اشتهت ما كانت تحمل الشجرة من التفاح، وإنما أكلت من الشجرة لان الشيطان هو الذي دلها على الشجرة، وزين لها التفاحة، وحببها إلى قلبها ودفعها إلى أن تأكلها دفعاً، والغريب أن حواء لم تأكل من الشجرة وحدها، وإنما أكل معها زوجها، وأكبر الظن انهما اقتسما التفاحة نصفين، فذهب كل منها بأحد شطريها، فالحضارة إذن ليست أثراً من آثار حواء وحدها، وإنما هي أثر من آثار حواء وآدم أيضاً، وإذن فلنا نصف الحضارة وللنساء نصفها، ولكن النساء لا يكرهن الظلم ولا يأبين التجنى، وأعظم من هذا أن أبانا آدم وأمنا حواء إنما دفعهما الشيطان إلى هذه التفاحة، فلما أكلا منها بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، ثم طردا منها طرداً، فليست الحضارة إذن من آثارهما.، إنما هي اثر من علم الشيطان، والشيطان رجيم، فلترجم معه الحضارة
وليت شعري أمما تتمدح به المرأة، أنها قد أنشأت الحضارة على هذا النحو، وأقامت بناءها الشاهق على الخطيئة، وبدأتها هذا الابتداء السيء الذي هو إعراض عن أمر الله، وإقبال على أمر الشيطان، أليس من حقنا نحن الرجال أن نلوم المرأة، ونغرق في لومها لأنها لم تستطع أن تقاوم الشيطان ولأنها دفعتنا إلى هذه الحضارة الآثمة دفعاً؟ ومن يدري لو أن أمنا حواء لم تقترف هذا الإثم، ولم تتورط في هذه الخطيئة، ولم تفتتن بحديث الشيطان،(37/4)
ولم تتهالك على طعم التفاحة وريحها ولونها أيضاً، من يدري لعلها لو لم تفعل شيئاً من ذلك لنشأنا نشأة أخرى
ولعل هذه النشأة الأخرى أن تقيم لنا حضارة اطهر من حضارتنا هذه وأنقى وأشد امتناعاً على الآثام وبعدا عن السيئات، بل ليس من شك في أن أمنا حواء لو أطاعت أمر الله، وعصت أمر الشيطان لعصمتنا من الشر، وبرأتنا من النكر، وحمتنا من كل ما نتعرض له من ألوان الغي والبغي والضلال والفساد، فلم تحسن أمنا إلينا إذن بإنشاء الحضارة، ومتى كانت إطاعة الشيطان إحسانا؟
ولكننا نحن الرجال نحب العدل ونكلف بالرحمة. ونكره الطغيان، ولا نريد أن تستقل المرأة بوزر هذه الحضارة، وتحتمل وحدها آثامها واثقالها، فنحن نشاركها في هذه الآثام والأثقال، لأننا نعترف بان أمنا لم تأكل التفاحة وحدها، ولو قد أكلتها وحدها لطردت من الجنة وحدها، ولو قد هبطت إلى الأرض وحدها لما استطاعت أن تعمل ولا أن تجد، ولا أن تنشئ حضارة ولا أن تعيش، فهي محتاجة إلى الرجل لتحسن، وهي محتاجة إلى الرجل لتسيء، لم تعش في الجنة وحدها قبل الخطيئة، ولم تهبط إلى الأرض وحدها بعد الخطيئة، وإنما عاشت في الجنة مع الرجل، وهبطت إلى الأرض مع الرجل، أطاعت أمر الله مع الرجل، وأطاعت الشيطان مع الرجل، وأكلت التفاحة فهوت مع الرجل، ونحن الرجال اكرم مما تظن الآنسة مي، واحب للرحمة واحرص على العدل. فنحن لا نحمل أمنا حواء شيئاً من الأثم، وانما نحمل هذا الإثم كله أبانا آدم، ولا بأس عليه من ذلك فقد تلقى من ربه كلمات بعد ذلك فتاب عليه، ذلك أن حواء لم تخلق من الطين مباشرة كما خلق آدم، وإنما خلقت من آدم، فآدم هو الذي سبقها إلى الوجود، وهو الذي سبقها إلى الحياة، وإذا كانت قد خلفت منه، فقد اخفت عنه هذا الضعف الذي حبب إليها التفاحة، ودفعها إلى الخطيئة، ثم إلى إنشاء الحضارة، فما في طبيعتها من الضعف مستمد من الرجل، وما في طبيعتها من القوة مستمد من الرجل، وإذن فليست هي التي تحتمل وزر التفاحة، وما نشأ عنه من الآثار، وإنما يحتمله آدم، ثم يحتمله بعده أبناؤه من الرجال، أرأيت يا آنسة أننا اكرم مما تظنين، واحرص على العدل مما تظنين؟ ليست الحضارة خيرا، وإنما هي شر لأنها من عمل الشيطان، فنحن نرفع عن النساء أثقالها، ونحمل عن النساء أوزارها، وأي شيء(37/5)
نستطيع أن نبخل به لحماية النساء من كل شر، ووقايتهن من كل وزر، كلا، للمرأة على الحضارة فضل عظيم، وهو أنها لم تنشئها وإنما أحتملتها، ولم تقترف إثمها وإنما خففت هذا الإثم وهونت علينا احتمال أثقاله، وأعانتنا على ما تكلفنا الحضارة في كل يوم من البأساء والضراء، أليس هذا خير من إيثار السبق، وهذه الرغبة في التفوق التي تظهرها المرأة في هذه الأيام، وأغرب من هذا أن الآنسة مي تحدثت إلينا أمس بأننا مدينون للمرأة وللمرأة وحدها باعتدال القامة، واستقامة القدود، والمشي على رجلين بعد أن كنا نمشي على أربع! ومع أنني لا اعرف كيف استطاعت المرأة أن تقوم قاماتنا وتعدل قدودنا وتقيمنا على رجلين بعد أن كنا نمشي على أرجلنا وأيدينا، مع أني لم اعرف هذا، ولن أستطيع أن اعرفه فيما يظهر لأني لم أفهم نظريات التطور، وأنا يائس من فهمها بحمد الله، فإني قد غمرتني الحيرة أمس حين سمعت هذا الكلام، فهل كنا نمشي على أربع بعد أن هبطنا إلى الأرض؟ أم هل كنا نمشي على أربع قبل أن نخرج من الجنة؟ فان تكن الأولى فلم مسخ آباؤنا، وقد كان أبونا آدم وأمنا حواء يمشيان على رجلين لهما قامة معتدلة وقد مستقيم، وان تكن الثانية فلم يكن إذن أبوانا على صورتنا هذه التي نعرفها، إنما كانا يمشيان على أربع، لم يكن رأساهما إلى السماء، إنما كان رأساهما إلى الارض، فنحن خير منهما حالا، وأجمل منهما شكلا من غير نزاع، ومصدر هذه الحيرة فيما يظهر هو أن الآنسة (مي) أرادت أن تجمع بين العلم والدين، وما أصعب الجمع بينهما في كثير من الأحيان! فالدين فيما يظهر لا يرضى لنا أن نكون من نسل القردة، والعلم أو بعض العلم على أقل تقدير لا يكره أن نكون من نسل القردة أو غير القردة من الحيوان، والآنسة (مي) تريد أن نكون من نسل القردة وان نكون من نسل آدم وحواء، وليت شعري كيف كان شكل آدم وحواء في رأي الذين يريدون أن يجمعوا بين الدين وبين مذهب أصحاب التطور؟ أما أنا فقد قلت وما زلت أقول، أني لم أفهم نظرية التطور وليس يعنيني أن أفهمها لأني أوثر أن أكون من سلالة رجل خلق معتدل القامة مستقيم القد يمشي على رجلين، أوثر ذلك على أن أكون من سلالة القرد أو غيره من الحيوان الذي يمشي على أربع، وينظر إلى الأرض لا إلى السماء، ولعل أجمل ما كان في المحاضرة آخرها، ` وهو هذه الأسطورة المصرية الجميلة التي تحدثنا بأننا مدينون لحياة لامرأة هي ايزيس التي بكت فجرى من دموعها النيل، هذا عندي أجمل(37/6)
ما كان في المحاضرة وأظرفه، ولكنه من الأسف الشديد ككل شيء جميل، وككل شيء ظريف، لا يثبت للنقد والتحليل في هذه الحياة الدنيا، فمن يدري من تكون ايزيس، وأين كانت وكيف كانت، ومن يدري لعل النيل لم يجرر من دموع هذه الإلهة الرحيمة في رأي الأساطير، وإنما هو ينبع من تحت العرش كما يقول بعض الصالحين، والشر كل الشر ما يقوله العلماء، وويل للناس من العلماء! فهم يزعمون أن النيل ينبع من تلك البحيرات التي مهما تعظم ويرتفع شأنها عند العلماء والشعراء فهي بحيرات حقيرة لا تعدل دمعة من دموع ايزيس، ولا تعدل قطرة من هذا الماء السلسبيل الذي يجري تحت العرش
احسن الله جزاء الآنسة مي، فقد أمتعتنا أمس، أمتعتنا إلى غير حد، فكاهة حلوة، وحديث عذب، وصوت حلو. ولكني أخشى أن تغضب الآنسة، وويل لي منها إن غضبت، ومن يدري لعلها قد غضبت منذ قرأت السطر الأول من هذا الكلام، وإذن فأنا أشهد قراء الرسالة جميعاً على أني معتذر إليها أصدق الاعتذار وأخلصه، ضارع إليها أن تغفر لي هذه الهفوة، هفوة التحدث عن محاضرتها القيمة على هذا النحو، ولكني لست وحدي ملوماً في ذلك، فهي التي ألهمتني هذا الحديث، وقد زعمت لنا أمس أن نابليون كان يقول في كل شيء (فتش عن المرأة) فإذا لم يكن بد من أن يلام أحد على هذا الحديث فالآنسة (مي) هي الملومة، ولكني أحتمل عنها هذا اللوم كما احتمل أبونا آدم عن أمنا حواء إثم التفاحة، واعتذر إليها من هذا الحديث وهي بطبيعتها أرحم وأدنى إلى الحنان من أن تأبى قبول المعذرة.
طه حسين(37/7)
المادة لا تنعدم
للأستاذ احمد أمين
هكذا يقول علماء الكيمياء ويشرحون قولهم، ويبرهنون عليه. ويرون أن المادة تتغير وتتحول وتعود إلى عناصرها الأولى ولكن لا تنعدم، والعالم كله كساقية جحا، تغرف من البحر وتصب في البحر، فقد يحترق هذا المكتب الذي أمامي لا قدر الله، ولكنه سوف لا ينعدم، بل يتحلل إلى عوامله الأولية. وسيتغذى منها النبات ويتكون منها خشب جديد، قد يكون مكتب المستقبل.
قال الكميائيون ذلك، وقصروا قولهم على المادة لأنها مادة عملهم وموضع تجاربهم.
ولو عرض لهذا فيلسوف واسع النظر غير محدود البحث لقال (لا شيء ينعدم)
إن الأعمال من خير وشر لا تنعدم، بل تنمو وتتحول، وتؤثر وتتأثر، ولكن على كل حال لا تنعدم، إن كذبة واحدة تكذبها على أولادك في بيتك، ومن غير أن تعيرها اهتماماً لا تنعدم، فسوف تبيض وتفرخ وتنتج كثيراً من أمثالها، وسوف يكذب أولادك وستخرج الكذبة من حجرتك إلى سائر بيتك، وستخرج من بيتك إلى المدرسة، وستخرج من المدرسة إلى مصالح الناس ومعاملتهم فكيف تنعدم
قد يدق العمل ويصغر حتى لا تراه أعيننا. ولا تسمعه آذاننا، ولا تشعر به نفوسنا، ولكنه موجود، يعمل عمله في هذا الوجود، ويفعل وينفعل، ويتسع نطاقه، ويعمل في دوائر مختلفة قد لا تخطر بالبال، وما أظنك تجهل أن حصاة ترميها في البحر الأبيض المتوسط لابد أن يتأثر بها المحيط الأطلنطي، وان لم تر ذلك عيوننا. والدليل على ذلك بديهي، فلو كبرت هذه الحصاة ملايين المرات، أفلا تؤمن بهذا الأثر؟ إذن فآمن بأن هذه من تلك وعلى نسبتها ومقدار حجمها، وجزء من ألف من الشعرة له ظل حقيقي وان لم تره عيوننا، ولولا ذلك لما كان لألف ألف شعرة ظل، ولما كان لثوبك الذي تلبسه ظل
وعملك الخير مهما صغر له أثره في أمتك مهما صغر، أعلنته أو أسررته، نجحت فيه أو فشلت، علم الناس أنك مصدره أو لم يعلموا، وهل مقياس رقى الأمة وانحطاطها إلا عبارة عن عملية حسابية مركبة من جمع وطرح؟ جمع لما صدر منها من حسنات، وطرح لما صدر من سيئات - لتكن هذه العملية أشد ما تكون من صعوبة، ولتحتج إلى ما شئت من(37/8)
آلاف دقيقة للجمع والطرح، فان رسم الحل لهذه المسألة في منتهى البداهة
وليس الأمر قاصراً على الأعمال، فإذا قلنا (الأعمال لا تنعدم) فهو تكرير لقول الطبيعيين (المادة لا تنعدم) وهل الأعمال إلا نوع من المادة؟
بل الأفكار والآراء من هذا القبيل، فالفكرة لا تنعدم، والرأي لا ينعدم، فإذا دعوت إلى فكرة أو جهرت برأي، فقد أخرجت إلى الوجود خلقاً جديداً ينطبق عليه القانون العام، قد ينجح الرأي وتعتنقه الأمة، بل ويعتنقه العالم وتظهر آثاره في أعمال الناس وحياتهم ونظامهم، فتسلم معي بأنه لم ينعدم ولكنه قد يفشل، وقد يستعمل الناس في اضطهاده وحربه كل أنواع الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، والرفيعة والوضيعة، حتى يختفي ولا يظهر في الوجود، فتظن إذ ذاك انه انعدم، وهو ظن غير موفق، فقد يخفى ليعود إن كان صالحاً، ولكن كان قبل أوانه فيستتر وينكمش، ويبقى حياً يتغذى في الخفاء وتنميه الأحداث، حتى إذا تم نموه وتهيأ الناس له برز إلى العيون ثانية أو ثالثة وهو أشد على مقاومة الحرب، وأقوى على مصارعة الباطل، حتى يكتب له النجاح - وحتى إذا كان الرأي فاسداً سيئاً لا يصلح لحال ولا لمستقبل فليس مما ينعدم، إنما هو يتحول ويتحور كلوح خشب لا يصلح بحالته أن يكون شباكاً فينجر، أو لوح زجاج ليس بالحجم الذي تريده فيصغر، أو حديدة لا يناسب شكلها وحجمها فتوضع في قالب جديد بعد أن تصهر، وهكذا في الرأي يغير ويعدل، ويطعم بآراء أخرى حتى يخرج خلقاً آخر، ولكنه في كل ذلك لا ينعدم وفرق كبير بين أن تقول: فشل الرأي وفشل المشروع، وأن تقول انعدم الرأي وانعدم المشروع. فالفاشل موجود والمعدوم معدوم. وشتان بين الموجود والمعدوم. فالرأي الفاشل أو المشروع الفاشل شيء حي قد تلقى درسا من الفشل ليصبح بعد رأياً قويماً ومشروعاً ناجحاً، وهذا لا ينطبق على المعدوم
بل أذهب إلى ابعد من ذلك، وأرى أن العارض يمر على النفس، أو الخاطر يخطر بالذهن، لا يضيع ولا يذهب سدى ولا ينعدم، وإنما هو دخان قد يكون بعدُ سديما، ثم قد يكون السديم كوكبا يلمع أو نجما يتألق، وقد يكون على العكس من ذلك صاعقة تحرق، أو وميضاً خلباً يبرق، وعلى الحالين فسيكون مولوداً جديداً، شقياً أو سعيداً، أليس كثيراً مما يعترينا من حزن يسبب الكسل والخمول والملل، أو فرح يدعو إلى العمل، سببه طائف مجهول طاف(37/9)
بالنفس، وخطرة متنكرة خطرت لها، فغيرت حالها وكيّفتها تكييفا خاصاً في هذا الوجود؟ أو ليس كثير من الآراء التي أسبغت على هذا العالم نعماً، وكثير من المشروعات التي عم الناس خيرها أو شرها بدأت خطرة ثم كانت فكرة، ثم أصبحت بعدُ عملاً أو خيراً، أليس مما يكوّن الإنسان خطراته، فهو خيّر أو شرير بخطراته، وهو بائس أو منعدم بخطراته، ولو كشف عنا الحجاب لقرأنا في صفحات الإنسان خطا عميقا خطته في نفس الإنسان خطراته وآراؤه، وهو أدل على الإنسان من مظاهره الكاذبة، ومناظره الخارجية الخادعة، (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) كل هذه الخطرات قد تتحول وتتغير ولكن لا تنعدم
وعلى الجملة فان قال علماء الكيمياء إن المادة لا تنعدم فكل ما في الوجود يقرر أن (لا شيء ينعدم). إن كان هذا حقاً فويل للخيّر يقعده عن الخير انه لم ير بعينه آثار عمله، وويل للخيّر صرفه عن خيره نكران الجميل وجحد المعروف، وويل للمجد عدل به عن جده أن لم يسبح الناس باسمه، ويشيدوا بذكره، ومرحى لمن كان مبدؤه (الخير للخير، ولا شيء ينعدم).(37/10)
بعد حوادث النمسا
النمسا الجمهورية في خمسة عشر عاما
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 2 -
أنشأت الديموقراطية الاشتراكية الجمهورية النمساوية الجديدة، وتولت زعامتها وقيادتها أثناء عقد معاهدة الصلح (معاهدة سان جرمان) وتسوية المشاكل الأولى التي خلفتها الحرب، ولكنها لم تتمتع طويلاً بالأغلبية البرلمانية وسلطان الحكم، ففي سنة 1920 خرج الاشتراكيون المسيحيون بأغلبية في الانتخابات، واختتم الدكتور رنر زعيم الديموقراطية وزارته الثانية، وألف الاشتراكيون المسيحيون أول وزارة لهم برآسة الدكتور (مير) ومن ذلك الحين تتعاقب الوزارات الاشتراكية المسيحية في حكم النمسا، أحياناً مستقلة دون ائتلاف، أحيانا مؤتلفة مع الديموقراطيين الاشتراكيين أو الأحزاب الصغيرة الأخرى (مثل الألمان الوطنيين والزراع) وفي العام التالي اشتدت دعوة الانضمام إلى ألمانيا (الانشلوس) في بعض نواحي التيرول، واشتدت الأزمة المالية، فاستقالت وزارة (مير) وألف الدكتور شوبر وزارته الأولى في يونيه سنة 1921ٌ ولكن الوزارة الجديدة لم تستطع أن تغالب الأزمة المالية، وارتفعت الأثمان واشتد الغلاء ووقعت كارثة النقد، فاستقالت وزارة شوبر، وألف المونسنيور سيبل وزارته الأولى (مايو سنة 1922)، وأبدى في معالجة الموقف كثيراً ` من الشجاعة والبراعة، واستطاع أن يحمل عصبة الأمم على الاهتمام بمتاعب النمسا، وأن يجعل من المسألة النمساوية مسألة أوربية، واستطاع بالأخص أن يعالج مسألة التضخم، وان يعيد الاستقرار إلى النقد، فهدأت النفوس وانتعشت الآمال نوعا، وبذل المونسنيور سيبل جهوداً تخلق بالإعجاب في سبيل توطيد شئون الجمهورية الجديدة، وتذليل مشاكلها الداخلية والخارجية، ولكنه اضطر إلى الاستقالة على اثر محاولة الاعتداء على حياته في نوفمبر سنة 1924 وألف الدكتور رامك بالاتفاق مع الديموقراطيين الاشتراكيين وزارة ائتلافية، استمرت في سياسة الإصلاح المالي، ثم استقالت في أواخر سنة 1926 حين اشتدت الأزمة المالية كرة أخرى، وألف المونسنيور سيبل وزارته الثانية(37/11)
(في نوفمبر). وخرج الديموقراطيون الاشتراكيون على الائتلاف ونظموا معارضة قوية. وفي أثناء الانتخابات العامة التي وقعت في أبريل سنة 1927، بث زعماء الديموقراطية الاشتراكية وعلى رأسهم الدكتور أوتو باور، والهر كارل سايتز حاكم فينا ضد الحكومة وحزبها وأنصارها دعوة شديدة في العاصمة والاقاليم، ونضم اعتصاب عام شديد الوطأة ولكن الحكومة ثبتت أمام العاصفة، وأخفقت هذه المحاولة الأولى
وفي منتصف يوليه سنة 1927 وقع صدام دموي خطير بين الكتلة المسيحية الاشتراكية (الحكومة)، والديموقراطية الاشتراكية. وتفصيل ذلك أن بعض الفلاحين المنتمين إلى (جماعة هتلر) أطلقوا النار على جماعة من الديمقراطيين الاشتراكيين في قرية شاتندورف، أثناء اجتماع انتخابي عقدوه، فقتلوا رجلاً وطفلين، فقبض على الجناة متلبسين بجريمتهم وأحيلوا على المحاكمة، وثار الاشتراكيون لذلك الاعتداء، ولكن المحكمة قضت ببراءة المتهمين فاضطرم الاشتراكيون لذلك غضباً وسخطاً، ورموا الحكومة بالتأثير في القضاء، ونددوا بتحيز القضاء (البورجوازي)، وهرعت ألوف مؤلفة من العمال إلى قلب مدينة فينا لتتظاهر احتجاجا على الحكم. وكان ذلك في ضحى يوم 15 يولية، وأبدى بوليس فينا يومئذ - وعلى رأسه مديره الهر شوبر رئيس الوزارة السابق - في معاملة المتظاهرين صرامة. ووقعت أول مصادمة بين المتظاهرين والبوليس أمام دار البلدية (الرات هوس) وعندئذ تحول من المتظاهرين إلى وزارة الحقانية وأضرموا النار في جنباتها، ولما اشتد ضغط الجموع، أطلق البوليس النار على المتظاهرين، فقتل منهم نحو ستين بينهم عدد من النساء والاحداث، وكان يوماَ عصيباَ ساد فيه الروع والحزن مدينة فينا. ومما يجدر ذكره أن المتظاهرين، لم يكونوا مسلحين يومئذ، واعتذر البوليس عن تصرفه بان المتظاهرين بدءوا بإطلاق النار، ولكن البوليس لم يقتل منه سوى رجل أو اثنين؛ ولم تعرف الحقيقة قط، وأدركت الديموقراطية الاشتراكية من ذلك اليوم أنها تواجه جبهة لا يستهان بقوتها، وأنها تخوض معركة الحياة والموت مع القوى الخصيمة لها.
والواقع أن حوادث 15 يولية كانت ذات نتائج حاسمة في سير السياسة الداخلية النمساوية. فقد رأت الديموقراطية الاشتراكية أنها أضعف الحزبين، وأخذت تعمل لتقوية نفسها وتسليح أنصارها، ورأت الكتلة المحافظة، كتلة الملاك وأصحاب الأموال التي تؤيد حزب الحكومة(37/12)
- المسيحيين الاشتراكيين - أن تنشئ لها قوة خاصة تستعين بها على مقاومة الديموقراطيين الاشتراكيين؛ وهكذا أنشئت جماعة (الهايمفر) - الشهيرة - ومعناها (الدفاع الوطني) - في خريف سنة 1927، لتكون قوة دفاعية للمحافظين والملاك. وتولى تنظيمها وزعامتها سيد من أبناء الأسر النبيلة القديمة هو البرنس أرنست فون شتار همبرج، وقامت جماعة الهايمفر مشبعة بروح الفاشستية الإيطالية، ولكنها أعلنت أنها مخلصة للنظام الجمهوري، وأنها تعمل فقط لحماية النمساويين من خطر الطغيان الاشتراكي أو الماركسي (نسبة إلى ماركس)، ونظم الاشتراكيون من جانبهم قوتهم العسكرية المعروفة (بالشوتسبند) أو رابطة الدفاع الجمهوري وهي القوة التي أنشأوها وسلحوها منذ حين ليعتمدوا عليها في مقاومة خصومهم وفي حماية أنفسهم ومصالحهم، وتولى تنظيمها وقيادتها قائد قديم هو الجنرال كرنر، وأصبحت النمسا تموج بهذين المعسكرين المسلحين الخصيمين، ولم يمض بعيد حتى اشتبك الهايمفر مع خصومهم في ضاحية (فينر نويشتات) وهي مركز المعسكر الاشتراكي (في أكتوبر) واضطرت الحكومة أن ترسل قوة كبيرة من الجيش لحسم النزاع والمحافظة على النظام، واحتج الاشتراكيون بقوة على قيام (الهايمفر) واتهموا أصحاب الأموال باستخدامهم لإرغام الاشتراكيين والطبقات العاملة على التنازل عن حقوقهم، وبدا خطر الحرب الأهلية داهما، وحاول زعماء الفريقين التفاهم والمهادنة، واقترح البعض نزع سلاح الفريقين، ولكن هذه الجهود السلمية ذهبت عبثا.
ولبث المونسينور سيبل في منصة الحكم حتى صيف سنة 1929 وكانت مسألة الاتحاد مع ألمانيا (الانشلوس) من أهم المسائل السياسية التي شغلت الأحزاب والرأي العام يومئذ، وكانت الديموقراطية الاشتراكية، كما قدمنا تعارض في هذا الاتحاد أشد المعارضة، وكان المونسنيور سيبل ينكره ويأباه في خطبه الرسمية، ولكنه لم يفعل شيئاً ضده من الوجهة الرسمية، ولم يقبل أن تدخل النمسا في حلف سياسي أو اقتصادي مع أية دولة من الدول الوسطى التي تعارض ألمانيا. وفى شهر أبريل استقال المونسنيور سيبل فجأة، واستطالت الأزمة الوزارية نحو شهر، ثم قامت وزارة الهر شتيروفتز أخيراً بتعضيد المونسنيور وحزبه المسيحي الاشتراكي، ولكنها لم تلبث سوى أشهر قلائل، تقدمت خلالها جماعة (الهايمفر) تقدماً كبيراً وزاد أنصارها بكثرة، ولا سيما في التيرول والنمسا السفلى،(37/13)
واضحت قوة كبيرة يخشى بأسها، وأخذ المونسنيور سيبل وحزبه في تأييدها واضطرت وزارة شتيروفتز تحت ضغط الهايمفر أن تجري عدة إصلاحات دستورية، ولما زاد ضغط الهايمفر وصخبهم ووعيدهم استقالت وزارة شتيروفتز (سبتمبر): واتفقت الآراء على ترشيح الهر جان شوبر مدير بوليس فينا ورئيس الوزارة السابق؛ فألف وزارته الثانية، على قاعدة الائتلاف والتفاهم مع الديموقراطيين الاشتراكيين. وكان الديموقراطيون يضطرمون نحوه سخطاً منذ حوادث يوليه. ولكنهم اضطروا إلى مهادنته والتعاون معه نظراً لتفاقم خطر (الهايمفر) واشتداد بأس المحافظين. ولم يكن الهر شوبر من خصوم الهايمفر، وكان يرى بالعكس أن يصانعهم ليكسبهم ويأمن جانبهم وليوجه حركتهم إلى ما يدعم غاياته السياسية، وأعلنت الوزارة الجديدة أنها لن تدخر وسعا في تأييد النظام والأمن وقمع كل محاولة للعبث بهما. فاستقرت الأمور نوعاً وعادت الثقة والطمأنينة، وأثبتت الحكومة أنها تملك ناصية الموقف غير مرة كلما حدث احتشاد أو تظاهر من جانب الهايمفر أو خصومهم الاشتراكيين، وأبدى الهر شوبر بالأخص براعة في تسيير السياسة الخارجية وفي توطيد الثقة الدولية بالنمسا وحمل عصبة الأمم على معاونتها.
وفي نوفمبر سنة 1930 وقعت الانتخابات العامة وخرج الديموقراطيون الاشتراكيون بأغلبية نسبية تفوق الأغلبية التي فاز بها المسيحيون الاشتراكيون، ولكنها لم تكن كافية لأن يعود الديموقراطيون إلى الحكم، واستقالت وزارة شوبر، وقامت وزارة ائتلاف برياسة الدكتور أندر يؤازرها المسيحيون والهايمفر وكتلة شوبر المستقلة، وتولى هر شوبر وكالة الوزارة ووزارة الخارجية وكان هو الروح المسير لهذه الوزارة، وخصوصاً في الشئون الخارجية، وفي مارس من العام التالي عقدت النمسا مع ألمانيا مشروع اتحاد جمركي نمساوي ألماني، فاحتجت عليه دول الحلفاء بشدة، وكذلك دول الاتفاق الصغير، واعتبرته مقدمة لتنفيذ مشروع الاتحاد النمساوي الألماني (الانشلوس)، وطالبت بإلغائه لأنه يخالف معاهدات الصلح وتعهدات النمسا إزاء عصبة الامم، فاضطرت النمسا أن تنزل عند إرادة الحلفاء في ذلك، وأن تحيل الاتفاق الجمركي إلى محكمة العدل الدولية الدائمة لتقضي بعد ذلك ببطلانه. ووقعت خلال ذلك كارثة (كريديت انشتالت) وهو أعظم بنوك النمسا وظهر عجز جسيم في موارده وكاد ينهار بناؤه فساد الذعر المالي وكادت النمسا تنحدر إلى هاوية(37/14)
الخراب المالي، وتصدع بناء الوزارة لأنها لم تقو على معالجة الازمة، ووضعت الدول ذات الشأن شروطاً شديدة لإعانة النمسا وإقراضها، ومنها الإشراف على مالية النمسا على يد لجنة دولية، فاستقالت الوزارة في يونيه، وبعد مفاوضات معقدة خلفتها وزارة ائتلاف أيضاً على رأسها الدكتور بوريش، وعاد هر شوبر فتولى وكالة الرئاسة والخارجية وعنيت الوزارة الجديدة بمسألة الإنقاذ المالي وتوطيد الميزانية، واستطاعت بعد جهود عديدة أن تصلح الموقف نوعاً، وأن تدبر مسألة القروض المالية مع الدول ذات الشأن، وعالجت أيضاً مسألة المرتبات وإعانة العاطلين.
ووقعت في 13 سبتمبر محاولة عنيفة قامت بها عصابات الهايمفر في ولاية ستيريا دبرها الدكتور فريمر. واستولى الهايمفر خلالها على عدة مبان ومدارس حكومية، فجردت حكومة فينا في الحال على الثوار قوة كافية وانهارت المحاولة في الحال وفر مدبرها الدكتور فريمر، وكانت هذه أول محاولة من جانب الهايمفر للتطلع إلى السلطة، ولكنها كانت محاولة ضئيلة، ولم يبد من الشعب عندئذ أنه متحمس في تأييد الهايمفر. واستمرت وزارة بوريش في كرسي الحكم حتى مايو سنة 1932 ثم استقالت. وهنا قامت وزارة على رأسها رجل لم يعرف من قبل كثيراً في ميدان السياسة هو الدكتور انجلبرت دولفوس، وهو من رجال الاقتصاد، وكان قد تولى وزارة الاقتصاد في الوزارة السابقة، ولكنه لم يعرف من قبل ذلك بأي نشاط سياسي. وهو من رجال الحزب المسيحي الاشتراكي، قوى الإيمان والنزعة الدينية، ولم يكن يوم توليه الرآسة قد جاوز الأربعين بعد، وكان المقدر أن هذه الوزارة الجديدة ستكون وزارة إدارية على الاغلب، وانها لن تعمر طويلاً.
ولكن الدكتور دولفوس لا يزال يشرف على مصاير النمسا منذ عامين، ولا يزال يواجه الصعاب والأزمات المختلفة بجلد وشجاعة تخلقان بالإعجاب. ولم تلق النمسا الجمهورية من الأزمات العصيبة الداخلية والخارجية مثل ما لقيت في العامين الأخيرين، ولكنها استطاعت حتى اليوم أن تجوز هذه الصعاب، وأن تحافظ على كيانها السياسي والاقتصادي. وبدأ الدكتور دولفوس بالعمل في سبيل الإنهاض الاقتصادي، وانتهى في ذلك بعقد بروتركول لوزان على يد عصبة الأمم لمعاونة النمسا المالية والاقتصادية. ولكن هذه الخطوة أثارت معارضة شديدة من جانب الديمقراطيين وباقي الأحزاب المعارضة، ولم(37/15)
تستطع الحكومة أن تحصل على الأغلبية البرلمانية اللازمة إلا بصعوبة؛ وطالب الديمقراطيون بإجراء انتخابات جديدة؛ فعارض الدكتور دولفوس في ذلك متذرعاً بحاجة البلاد إلى السكينة والعمل الهادئ، وسعى إلى الاتفاق مع جماعة الهايمفر ليكسب عونهم في البرلمان على أن يضم واحد منهم إلى الوزارة وكان الهياج الحزبي يشتد في كل يوم، إذ قويت دعوة أنصار الجامعة الألمانية (الهتلريين)، ووقعت بينهم وبين الديمقراطيين مناوشات دموية، فاستدعى الدكتور دولفروس زعيم الهايمفر في فينا الماجور فاي وهو جندي قديم ذو مواهب ممتازة واسند إليه وزارة الأمن العام، فعمل على ضبط النظام بعزم وقوة، ولما افتتحت الدورة البرلمانية في أكتوبر ظهرت شدة المعارضة، وانضم الهتلريون إلى الديمقراطيين في معارضة الوزارة متهمين إياها بالخضوع للسياسة الفرنسية، وتحرج الموقف البرلماني شيئاً فشيئاً حتى عدا مستحيلاً؛ وعمد الدكتور دولفوس من جانبه إلى العمل المستقل؛ وأخيراً استقال رئيس البرلمان وأعضاء مكتبه، فشل بذلك العمل البرلماني، وألقى المستشار نفسه طليقاً من إشراف المعارضة، واتخذ لنفسه سلطة شبه دكتاتورية.
(للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان(37/16)
تحديد الزمن عند قدماء المصريين
للأستاذ عبد الحميد محمود سماحة
مفتش مرصد حلوان
لا شك في أن الكثير من الظواهر الفلكية كان من أهم العوامل الرئيسية في تكوين العقل البشري منذ أقدم العصور، ثم في بناء المدنيات المتعاقبة في التاريخ.
فظهور الشمس في ناحية ما من السماء، وارتفاعها عند الظهر نحو السمت، ثم انحدارها في الناحية المقابلة غرباً، واختفاؤها بعد ذلك كل يوم دون انقطاع، وما تجليه أثناء النهار من النور والدفء، وما يسببه اختفاؤها في أثناء الليل من الظلام والبرد؛ ثم ظهور القمر في ليال معدودة مبدداً حلكة الظلام؛ وشروق النجوم الثابتة من حيث تشرق الشمس، ومغيبها من حيث تغيب؛ وتلكم الكواكب السيارة التي تتحرك وسط النجوم الثابتة؛ وهذه المذنبات التي كانت تفاجئ الناس بظهورها ثم تفاجئهم ثانية باختفائها؛ وما كان يروعهم من كسوف الشمس وخسوف القمر؛ كل أولئك أو بعضه لا شك قد أيقظ انتباه (الإنسان الأول) كما تدل عليه آثار العصر الحجري
وتاريخ أقدم المدنيات يدل على مقدار ما كان لهذه الظواهر الفلكية المتعددة من الأثر في بناء هذه المدنيات نفسها؛ فعلى ضفاف النيل - حيث أشرقت على العالم أولى المدنيات - نجد في آثار أجدادنا ما يؤيد هذا الزعم
ولكي نستطيع ان نحكم بالدقة على مبلغ ما وصلوا إليه في هذه الناحية دون تورط في المديح أو مبالغة، لا نرى مندوحة من أن نذكر القارئ بالعقائد الرئيسية الثلاث عندهم، وهي التي صبغت بها مدنيتهم في جميع مظاهرها:
فالأولى - الشمس وهي الإله المعبود (رع)
والثانية - النجوم - منازل المباركين
والثالثة - النيل - النهر المقدس - الذي لم يزل يفيض على جوانبه الخير والبركات
ولما كان أهل مصر منذ القدم يعيشون على فلاحة الأرض، كان لزاما عليهم معرفة الوقت الذي يفيض فيه النهر المقدس ليربطوا تبعاً لذلك أزمنة الحرث والبذر والري والحصاد. ومن المصادفات الموفقة أنهم لاحظوا أن فيضان النيل يأتيهم عندما يرون الكوكب الألمع(37/17)
سوثيس (الشعري اليمانية) يشرق لأول مرة قبيل شروق الشمس؛ ومن ثم اتخذوا الفترة الواقعة بين فيضانين متتاليين يحددها تحديداً فلكياً رؤية هذا الكوكب مرتين متتاليتين قبيل شروق الشمس وحدة للزمن. ويقول الأستاذ برستيد أن أول سنة حددت في التاريخ على هذا الأساس الفلكي - بل إطلاقا - هي سنة 4241 قبل الميلاد. غير انهم قاسوا هذه الفترة بخمسة وستين وثلاثمائة يوم. ذلك لأنهم فيما اتفق عليه اكثر المؤرخين كانوا رجالا عمليين اكثر منهم نظريين، فلم يأبهوا بأكثر من ذلك لدراسة حركة الشمس لاستنباط وحدة للزمن أدق من هذه التي كفتهم حاجتهم في تحديد أعيادهم الدينية ومواسمهم الزراعية؛ ولو أنهم فعلوا لوصلوا من غير شك إلى نتائج لا نستطيع ان نتكهن بمدى تأثيرها في المدنية، ولكننا نعتقد عند ذلك بإمكان تأسيس مدينة نظرية في مصر قبل اليونان حيث نشأت الفلسفة النظرية ومبادئ العلوم الحديثة.
دعت الحاجة بعد ذلك فيما اقتضته مرافق الحياة عندهم وما وصلوا إليه من درجة في المدنية أن يقسموا اليوم نفسه إلى اقسام، فاستخدموا الساعات الشمسية والمائية. وتدل آثارهم على أنهم استعملوا منها أنواعاً متعددة نقتصر هنا على وصف أهمها:
فالصورة (2) هي ساعة شمسية يرجع عهدها إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وتتكون من قضيبين متعامدين ب ب توضع بحيث يكون مواجهاً قبل المشرق قبل الظهر وقبل المغرب بعده وظل على ب ب يبين الوقت أثناء النهار. ولقد قسموا الفترة بين شروق الشمس حين يكون الظل أطول ما يمكن والظهر حين لا ظل إلى ست ساعات ومثلها بعد الظهر.
والصورة (3) هي نوع آخر من الساعات الشمسية استخدمت لتعين الوقت في القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وهي لا تختلف كثيراً عن المزاول الشمسية المستعملة إلى وقتنا هذا. وقد اكتشفت ببلدة جيزار في جنوب فلسطين.
والصورة (4) هي إحدى أنواع الساعات المائية وجدت في معبد الكرنك، ويرجع تاريخها إلى عهد امنحت الثالث (1400 قبل الميلاد) وهي مصنوعة من المرمر ومزينة من الخارج برسوم الكوكبات والكواكب السيارة مع إلاهي الشمس والقمر، وصورة الملك بين آلهة الشهور الاثني عشر. وهذا النوع من الساعات عبارة عن إناء مملوء ماء ينصرف من(37/18)
ماسورة صغيرة في القاع. وقد جعل شكل الإناء بحيث يحدث تصرف كميات متساوية من الماء في أزمنة متساوية انخفاضات متساوية في سطح الماء
وفي أنواع أخرى من الساعات المائية كان يصب الماء من مصدر خارجي، وفي هذه الحالة يبين الوقت ارتفاع سطح الماء في الإناء
وربما كان أهم الاكتشافات العلمية في هذا الصدد تلك الآلة الزوالية الصغيرة التي ابتاعها الأستاذ برستيد من أحد تجار العاديات بلندن سنة 1923 لسببين:
الأول - إن الصانع الحقيقي لها هو الملك العظيم توت عنخ أمون نفسه كما تدل عليه الجملة الهيروغليفية المنقوشة على جانبيها (صنعتها بيدي)
الثاني - لأنها أقدم آلة فلكية عرفت في التاريخ، فقد دلت أبحاث الأستاذ جورج هيل على أن تاريخ استعمالها يرجع إلى حوالي سنة 3000 قبل الميلاد
وقد كانت تسمى هذه الآلة عندهم (مرخت) ومعناها آلة القياس، ولا يتسع المقام هنا لوصف طريقة استعمالها، ونكتفي بالإشارة إلى أنها تشبه - من هذه الناحية - الآلة الرئيسية في المراصد الحديثة المعروفة بالمنظار الزوالي. وبواسطتها يمكن تحديد الوقت برصد عبور النجوم على مظمار معلق من إحدى نهايتها.
ولا يفوتنا أيضاً أن نذكر أن آلة أخرى من هذا النوع أقدم من هذه التي ابتاعها برستيد توجد في ` متحف العاديات ببرلين
ويقول الأستاذ بورخات إن تاريخ استعمالها يرجع إلى عهد امنحتب الثالث
فليت شعري هل ترانا جديرين بهذا التراث العظيم. . . .؟؟!!
عبد الحميد محمود سماحه(37/19)
من صور الحياة في دمشق
الشيخ عيد السفرجلاني
للأستاذ على الطنطاوي
. . . رفع الشيخ صوته مرة ثانية يأمر التلاميذ بالانصراف ولكنه لم يسمع لهم ركزا، فنظر فإذا المقاعد كلها خالية، وإذا آخر تلميذ قد بلغ الباب الخارجي، ثم قفز فرحاً مسروراً، وغاب في منعطف الطريق، وعم المدرسة السكون. . .
تنفس الشيخ الصعداء، وألقى عصاه جانباً، ثم تمدد على كرسيه المستطيل، يستريح من العناء الذي حمله في نهاره، وكأن هذا السكون العميق، وهذه الصفرة التي تبعثها في الغرفة أشعة الشمس المحتضرة قد ملأ نفسه كآبة ورهبة، فاغمض عينيه، وأسلم نفسه لخيالاتها:
أحس كأن هذه السجف التي أسدلها دون الماضي، ترتفع سجافاً سجافاً، وان هذا الماضي البعيد الذي لفه في ثوب النسيان، وألقى به في هوة العدم، قد استفاق في نفسه مرة واحدة، ثم عاد يكرر عليه كما يكر (شريط السينما)، ولكنها سينما حياة طويلة، مرت عليه كأنما هي يوم واحد أو بعض يوم، سبعون عاماً مرت به في لمحة عين، فلم يأخذ بصره فيها إلا العمل المستمر في تعليم صبيان دمشق، سبعون عاماً لم يسترح في خلالها إلا أيام الجمع، ثم يعاود عمله منذ الصباح السبت، هادئاً راضياً نشيطاً. . .
عادت به الذكرى إلى ذلك اليوم الذي بدأ فيه حياته التعليمية، وكان غض الشباب، يقطع مرحلة (العشرين)، وكان يوماً بعيداً طوى فكره الوصول إليه ثلاثة أرباع القرن، وأدار الفلك راجعاً سبعين دورة. . . يا لقدرة الفكر البشري! كيف يدير الفلك كما تدير الإصبع عقرب الساعة تقديماً وتأخيراً؟
كانت المدرسة التي استأجرها غرفة واحدة، في (المناخلية) قبالة الباب الحديدي الذي بقى مع قطعة من السور، تراثاً لدمشق المفتحة الأبواب لكل طامع، من دمشق المنيعة المتحصنة بسورها وقلوب أبنائها من كل طامح، وفي هذا الباب نفحة من نفحات الغساسنة (العرب الخلص) يحسها من يجوزه، كما يحسن من يدخل من الباب الشرقي روح خالد بن الوليد، بطل عصره، واينبال العرب، وكما يحس من يمر من باب الجابية روح أبى عبيدة بن الجراح، ولم يكن هذا الباب معروفاً بباب المناخلية كما يدعي اليوم، بل كان يدعى بالباب(37/20)
المسدود، وقد كان قبل أن يسد الباب الرسمي الملوك الغساسنة، وكان يقابل قصر البريص، حيث كان الغساسنة الكرام الحسب الشم الأنوف:
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل
ذكر كيف لبث نهاره كله منفرداً لم يجئ إليه تلميذ واحد، وكيف أسرع المساء بالعودة إلى داره. قبل أن يقفل العسس أبواب دمشق، وبواباتها التي كانت تغلق منذ العشاء، أيام كان الناس جادين مستقيمين لا يعرفون ملاهي الغرب ورذائله، ولا يعرفون أحياء الليل في الفاحشة، وقتل النهار في الكسل. وكيف كان قوى الأمل، جم النشاط، لا يخالط اليأس قلبه، فلم ينثن عن عزمه. وغداً في اليوم الثاني إلى مدرسته التي أنشأها في البلد الذي لا يعرف القراءة إلا اثنان في الألف من سكانه. . . فجاءه خمسة تلاميذ، وشرع يعمل
لم يكن الشيخ يحمل شهادة، ولم يكن في دمشق كلها من يحمل شهادة البكالوريا أو الكفاءة، ولكنه قد أتقن العلوم الإسلامية والعربية، وثابر سنين طويلة على (الطلب) حتى ألم بالثقافة العامة المعروفة في زمانه إلماماً حسناً. وانصرف للتعليم ابتغاء لمثوبة الله، وأجابه للرغبة القوية الجامحة. فلما جاءه هؤلاء التلاميذ، رأى فيهم تحقيقاً لحلمه فأكب على تعليمهم وتهذيبهم
- أحسن الله لأولئك التلاميذ! لقد كانوا أشرافاً عاملين، ثيابهم كاملة. وحركاتهم وأفعالهم فياضة بالرجولة، وحياتهم مقصورة على البيت والمدرسة، لا تعرف الرذيلة الغربية طريقاً إلى نفوسهم، ولم يكن الغرب قد غزانا بأزيائه وملاهيه وأبنائه، وأبنائنا الذين علمهم العلم والعقوق. وأعطاهم السلاح ولقنهم كيف يقتلون به (التقاليد) الشرقية الشريفة، فكانوا بمنجى من هذا كله.
لقد هاجت الشيخ ذكرى أولئك التلاميذ الذين أصبحوا اليوم شيوخاً ومات منهم من مات، وقارن بينهم وبين تلاميذ اليوم المتأنثين المتخنثين الذين يتقنون التجمل ويغوصون في الملاهي القذرة إلى أعناقهم فاسترجع وهم بالبكاء. وازدحمت في ذاكرته الصور المؤلمة، فرأى كيف كان يتلقى الفوج من تلاميذه أطفالاً، فيعلمهم ويربيهم، ويجعل منهم شبانا عاملين، ثم يودعهم بعد أن يوليهم من نفسه أسمى ما يولى والد ولده، فيغادرون المدرسة، ليدخلوا الحياة، ويرتقون من مقاعد النظارة إلى خشبة المسرح، ويحسبون أن هذه الشهادة(37/21)
غاية العلم، وهي فاتحته، وانهم إذا نشروها، طويت لهم المراتب إلى الصدر وقدم لهم من كل شيء ما يشتهون، لا يدرون أن للحياة فناً غير فن الكتب، وفى العلم آفاقاً لا تحيط بها المدرسة. . . وكيف كان يلبث الأيام الطويلة يستوحش بالمدرسة والمنزل، ويحس بالفراغ في قلبه بعد أن اقتطع منه كل فوج قطعة ويتألم ويجفوه النوم. فلا يعلم إلا الله بألمه. ثم يستعين بالله ويستأنف العمل مع تلاميذه الجدد. ويحاول أن يجد فيهم بدلاً مما فقد، حتى إذا أنضجت الثمرة خرجت من يده. وكان حظه من هؤلاء حظه ممن سبقهم: ينسونه مذ يتخطون بأقدامهم عتبة الباب، وينصرفون عنه إذا لمحوه في طريق، مصعرين خدودهم، شامخين بأنوفهم - وهم التجار الأغنياء، أو الموظفون الكبار، أو الوجهاء الكرام - على هذا الشيخ المسكين (معلم الكتاب)
- أحد عشر ألف تلميذ. . . أحد عشر ألف. . . علمتهم وأفنيت فيهم حياتي، فضاع تعبي فيهم أدراج الرياح. . . يا الله! وفتح عينيه فوقع بصره على مرآة كانت إلى جانبه فنظر فيها وأطال النظر كأنما قد انتبه الآن إلى لحيته البيضاء الناصعة، والى سنيه التسعين فاسترجع مرة ثانية. . . وسأل الله حسن الخاتمة
- سقياً لتلك الأيام الهنيئة. حين لم يكن في دمشق إلا هذه المدرسة. ومدرسة الشيخ الصوفي، أما الآن فالمدارس تعد بالمئات، ولكن الناس لا يميلون إلا إلى المدارس الأجنبية، إنهم يضنون على مدرسة كهذه المدرسة تقدم أبناءهم لفحص الرسمي العام، وتحفظ لهم دينهم ووطنيتهم بعشرين قرشاً في الشهر، ثم ينفقون مائتين وثلاثمائة في المدارس الفرنسية أو الإيطالية أو الإنجليزية، ليعود اليهم أبناؤهم فرنسيين أو طلياناً أو إنكليز. . . آه، الحمد لله على كل حال الحمد لله. . . إننا نجد ثمن الخبز.
وانتبه فإذا الباب يقرع قرعاً متواصلا
- ادخل، تفضل. . . ممن هذا الكتاب؟
- من وزارة المعارف
قرأ الشيخ الكتاب أولا وثانياً، وقرأه مرة ثالثة، فغشيت وجهه سحابة أليمة من الغم، ثم قام إلى مكتبته صامتاً، فأخرج من قراراتها دفتراً كبيراً مسح الغبار عنه، وأخذ يقلبه يفتش عن هذا الاسم، بين أحد عشر ألف اسم حواها هذا الدفتر، فلما وجده تناثرت الدمع من عينه.(37/22)
وارتمى على كرسيه محطماً.
- أهذه خاتمة المطاف؟. إه. . الحمد لله على كل حال. . الحمد لله لك يا رب. . انه تلميذي علمته ومنحته قسطاً من قلبي، وعلمت أباه من قبله، وعلمت أبنه من بعده، ولكن لا بأس، إن أمور المعارف بيده. ومن حقه ان يفعل ما شاء، وعاد فقرأ الخطاب للمرة الرابعة: (. . . ولأنكم لا تحملون شهادة تخولكم حق إدارة مدرسة ابتدائية لا نرى بداً من أن. . .)
كنت منذ عامين محرراً في الجريدة الوطنية الكبرى (الأيام) فجاني يوماً ناع، فنعى إلى الشيخعيد السفرجلاني. واخبرني أن هذا منصرفه من دفنه، فبلغ بي الألم مبلغه، وجعلت مقالي في ذلك اليوم عن الشيخ. ولما قدمته لرئيس التحرير. قال لي أحد الرجال الكبار في دمشق، وكان في غرفة الرئيس ما نصه بالحرف:
بلا مسخرة، شيخ كتاب مات!
قلت: ولكنك يا سيدي تلميذه
- وإذا كنت تلميذه؟. . شيخ كتاب!
وبعد يا مولاي الشيخ:
لا تأس على أن ذهبت في غير ما ضجة ولا صخب، وأن قد سكنت قبراً في (الدحداح) لا يمتاز من مئات القبور التي حوله ولا تحيط به النصب والنقوش، وان الناس لم يأبهوا لك كثيراً، ولم يقيموا لك الحفلات، ويلقوا على قبرك الخطب. . . فأنت أشرف وأجل من كل هؤلاء الصاخبين الضاجين، ومجدك الصامت الذي بنيته في سبعين سنة لبثت فيها مناراً للعلم - وهادياً ومرشداً. أسمى من مجد هؤلاء الذي ينبى على خطبة جوفاء، أو ليلة في السجن ظلماء، أو مقالة في صحيفة رعناء.
وان كنت شيخ الكتاب، فذلك فخر لك، وحسبك فخراً أن الذين سرقوا مجدك ومجد أمثالك - هم - كما هي سنة الحياة - أشد تلاميذك حماقة وجهلاً، وأقلهم استقامة وشرفاً، وانهم ما قفزوا إلى هذه المراتب، إلا ليجحدوا فضلك وفضل أمثالك، ويسخروا منك ومن أمثالك، هي سنة الحياة، يعمل أناس ليجني الثمرة آخرون يا مولاي الشيخ:
نم مستريحاً في ظلال الخلد، فأنت أبو النهضة العلمية في دمشق، أنت صفحة من تاريخها الحديث، أنت معلم كل من قرأ في دمشق كتاباً أو خط بقلم(37/23)
عليك رحمة الله وبركاته.
علي الطنطاوي(37/24)
الابتكار في الأدب
يرى بعض أدباء الغرب أن للمصور المجيد، والشاعر المبدع والموسيقى الماهر موهبة عجيبة تعرف بالعبقرية، تعمل مستقلة عن الزمان والمكان، وأن كل ما يحتاجه الفنان الموهوب إنما هو الإلهام مع قليل من الإقدام، فألق به كما يقولون في جوف المحيط أو في وسط الصحراء ودعه يتجه نحو الفن فسيعاون الإلهام عبقريته على إنتاج الجيد وإبراز المعجز من الفن والأدب.
ولكن الحقيقة أقسى من وهمهم هذا، فالواقع أنه ليس هناك فنان يعمل مستقلاً عن الزمان والمكان. ولو أخذنا طائفة من الكتب الأدبية الرائعة في أي عصر من العصور، وقرأناها مع إلمام تام بالكتب التي سبقتها مباشرة لحكمنا مضطرين بأنه لا يوجد كاتب - مهما علا قدره - يتهيأ له وجود مستقل عن حدود زمانه ومكانه الضيقين، إذ الكتاب ما هم إلا أجسام مختلفة تسكنها روح واحدة هي روح العصر الذي يعيشون فيه كما يقول البحاثة الإنجليزي بتركونل وكذلك الحال في الموسيقى والتصوير.
وحقاً إن الكاتب الكبير قد يطبع العصر الذي يعيش فيه بطابعه الشخصي وينحو بجمهرة المتأدبين نحواً لم يعهد قبله، وحينئذ يلقبه معاصروه بالمجدد أو الثائر، ولكنه على ذلك يساير التيار الزمني ويتأثر ببيئته إلى حد كبير. وقد اعتاد مؤرخو الأدب الإنكليزي تقسيمه إلى عصور حسب الشخصيات البارزة في كل عصر ملاحظين هذه الحقيقة المقدمة. فهناك عصر شوسر، وعصر شكسبير، وعصر ميلنون، وعصر دريدن، وعصر بوب، وعصر جونسون، وعصر وردزورث، وعصر تينسون. وكلها شخصيات متفوقة تزعمت الأدب في عصورها وسلكت به مسالك مختلفة. ولكنا نراهم كثيراً ما يتأخرون بالعصر عن صاحبه ويدخلون فيه بعض مشاهير الأقربين ممن سبقوه ملاحظين تأثره بهم وتأثيرهم فيه، وتمثيل الجميع لأزمنة متشابهة. وكأنهم بهذا يقررون أن الابتكار الأدبي بمعناه الصحيح لا يتيسر لأي أديب.
وبعد هذا، له العظمة الأدبية تساوي الجدة الأدبية؟
الإجابة عن هذا الاستيضاح تدعو إلى التفكير وإنعام النظر. . . فقد اعتاد جل نقاد العربية أنهم إذا أرادوا بحث أثر أدبي أخذوا ينظرون إلى ما فيه من الأفكار والأخيلة: الجديدة هي فيذكر صاحبها بالفضل؟ أم سبقه بها غيره فيرمى بأنه دعى؟ وليس من فضل - عندهم -(37/25)
للكاتب الذي يتعرض لما يتعرض له غيره ولو في إيراد مغاير ومن ناحية مباينة. وقديماً عدوا سرقات المتنبي. وفي العام الماضي ثاروا على الأستاذ المازني لأن فكرته في رواية له وافقت بعض الشيء فكرة رواية لمؤلف غربي.
والحق انهم مخطئون في هذا أو مسرفون، وأنه إن لم يكن بد من الحكم حسب الجدة، فعليهم أن ينظروا إلى أسلوب الأداء نفساً أهو جديد أم مستعار. فان كان جديد ألا يحرم صاحبه من فخر الإبداع الأدبي بل يجب أن يعترفوا له بالتفوق على صاحب الفكرة نفسا إذا صاغها صياغة أدق من صياغة سابقة وأكمل، لأنه حينئذ يكون قد أتى بما عجز عنه الأول. ولعل هذا الذي كان بعض المتقدمين يعنيه بقوله: إن المعاني معلومة للجميع وإنما المعول على النظم. هذا هو المقياس المستقيم وبه قدر المنصفون من النقاد الإنجليز حينما حكموا بأفضلية وصف العنكبوتة لبوب على وصفها لدريدن، وإن كان الأول مديناً بالفكرة التي قام عليها الوصف للثاني.
ومن الأمثلة القوية التي يصح الاستشهاد بها في هذا الموضوع شكسبير أعظم الشعراء السكسونيين، والذي لكتابته المنزلة التالية لمنزلة الكتاب المقدس في الأدب الإنجليزي. ولست أستشهد برواياته التاريخية يوليوس قيصر، وانطونيو وكيلوباتره، وكور يولينوس التي استعار أصولها بل بعض أخيلتها مما كتبه المؤرخ الشهير فلوطرخ وإنما أورد رواية أخرى لا تمت للتاريخ بنسب، وتعد من رواياته القيمة التي ألفها في عهد نضوجه الأدبي وهي رواية الليلة الثانية عشرة فقد أخذ حوادثها كلها عن رواية إيطالية، ومع ذلك لم يقل أحد إن شكسبيير لم يكن مبدعاً في هذه الرواية أو أنها ليست من مفاخرة الأدبية.
ومن المفيد أن نذكر خلاصة كل من الروايتين حتى يتبين القارئ مدى الاستعارة. فملخص الرواية الإيطالية وقد ألفت سنة ألف وخمسمائة وسبع وثلاثين أي قبل تأليف رواية شكسبير بنحو سبعين سنة واسمها جلينجاناتي ' , هو ما يأتي: فابرييتو وليليا. أخ وأخت فرقت بينهما ثورة روما في سنة 1527 دفت المقادير بليليا إلى مودينا مقر فلامينيو الذي كان بينه وبينها علاقة غرام سابقة فتنكرت في زي شاب ودخلت في خدمته فوجدت أنه نسى حبها وتعلق بسيدة من أشراف مدينته تدعى إيزابلا. ليليا كشاب جذاب كانت تحمل رسائل الغرام من سيدها فلامينيو إلى إيزابلا. إيزابلا لم تتأثر بتوسلات فلامينيو ولكنها(37/26)
أحبت ليليا - وهي رجل في اعتقادها - حباً عميقاً. فابرييتو يصل إلى مودينا ولأمر ما يلقى إيزابلا فتتم بين الاثنين مراسيم الزواج وهو في اعتقادها ليليا شقيقته. تظهر الحقيقة بعد هذا فينتقل حب إيزابلا في سهولة من ليليا إلى شقيقها ويتزوج فلامينيو من حبيبته الأولى ليليا.
وخلاصة رواية شكسبير ما يأتي: الدوق أورسينو يقيم بايليريا، وقد وقع من وقت طويل في حبال غرام نبيلة من نبلاء مدينته تدعى أوليفيا. أوليفيا لا تبادله الحب بل تنتهز فرصة موت شقيقها، وتعلن أنها سوف لا تسمح لأي خطيب بالاقتراب منها وأنها ستمكث في حداد على أخيها سبع سنين. وهنا نرى فيولا توأم شاب من نبلاء ميسالين يدعى سيبستيان، ظن أنه توفى أثناء عاصفة هبت على سفينة كان هو واخته من بين راكبيها، ونجت فيولا بفضل ربانها على الشاطئ المقابل لايليريا، ولما علمت فيولا بأمر أورسينو وكانت تحبه لما تسمعه عنه، فكرت في العمل عنده كأمين، وتنكرت في زي أخيها وقدمها إلى قصر الدوق أحد رجال حاشيته. اطمأن الدوق إليها وأطلعها على حبه أوليفيا واستخدمها في استعطافها، وعندما تراها أوليفيا لأول مرة تفتن بها وتطلب إليها أن تزورها ثانية بحجة أخبارها بسبب رفض طلب اورسينو، وفي المقابلة الثانية تصدم أوليفيا ببرود فيولا التي أظهرت لها أوله غرامها به. فيولا وهي غير قادرة على كشف سرها لأوليفيا تتركها معلنة أنها سوف لا ترجوها في أمر سيدها ثانية. وبعد وقت قصير يأتي سيباستيان الذي يشبه أخته مشابهة تامة حتى أنه لا يميز بينهما إذا ما تشابه لباسهما فتدفعه الحوادث إلى منزل أوليفيا ويتم بينهما عقد الزواج ثم يكشف السر فلا ترى أوليفيا بأساً من استمرار العقد ويتزوج أورسينو فيولا التي كانت تحبه حباً جماً
نعم قد استعار شكسبير حوادث روايته من تلك الرواية السابقة على النحو الذي رأينا، ولكنه صاغها صياغة أخرى وخلقها خلقاً جديداً فأفاض عليها من قريحته الخصبة وخياله الواسع أفكاراً وصوراً كسبتها بهاء وجلالا حرمتهما الرواية الإيطالية - فهي على استعارة حوادثها جديدة قوية لأنها في أسلوب جديد وهو أسلوب شكسبير القوي الذي امتاز به من غيره. فليس للنقاد أن يطلبوا من الأديب أن يكون أول عابر للسبل التي يسلكها، أو أصيلا في الموضوعات التي يطرقها، أو مبداعاً للحوادث التي يدور حولها، وإلا كان طلبهم من(37/27)
ناحية أخرى أن يمعن في الاطلاع على الآداب الماضية، وتفهمها عديم الغناء القليل النفع، ومن غير المعقول أن يكون الأدب الحديث غير قائم على الآداب الماضية؛ كما انه من غير المعقول أن تكون المدنية الحديثة غير قائمة على المدنيات السابقة. اللهم إذا كان أدباً متأخراً لا يمثل العصر الذي قيل فيه.
والذي يؤاخذ به من يريد الاشتغال بالأدب أشد المؤاخذة هو ألا يكون مبتكراً في أسلوبه، أو بعبارة أخرى أن يكون أسلوبه مرقعاً من أساليب أدباء آخرين يحتذيهم وينحو منحاهم، ويا ليته يبلغهم. . . هذا لا سواه هو الادعاء الأدبي. فلا فرق بين الأديب المحسوب على الأدب بالنسبة إلى مأثور القول، إلا أن الأوليخضعه لطبيعته ويتصرف فيه حسب مزاجه الخاص. أما الثاني فيضعف أمامه أو تضعف طبيعته - ضعفه أمام المعبود المقدس فلا يستطيع أن يتناوله بتبديل أو تحوير
وعمل الأديب الحق يشبه تماماً عمل النحلة التي تحيل بطبيعتها الحلوة ما تمتصه من مختلف الأزهار إلى عسل مصفى لا تتبين فيه الأصول التي أخذ منها.
السيد محمد نوفل(37/28)
حنين المهد إلى الطفولة
للآنسة أسماء فهمي
درجة شرف في الآداب
يكاد يكون الحنين إلى (المنزل الأول)، غريزة من الغرائز الإنسانية، تزداد قوة ورسوخاً كلما توغل المرء في عبور مرحلة الحياة. . . ولعل أعذب ذكريات الشيخ الفاني المثقل بتجارب الحياة أياماً قضاها على شاطئ اليم يلهو مع الصغار ويجمع الأصداف ويلقى الشباك للأسماك أو يصنع دوراً وقباباً من الطين والرمال، ثم يهدمها ليعيد بناءها. . بل إن الفتى اليافع ليتضاءل أمام عينيه ما يستمتع به من قوة ومرح وصفاء عندما تستعرض مخيلته صور عهد الطفولة المليء بالسذاجة والحركة المتواصلة والمرح البريء. . . وقد ينشأ المرء وضيعاً في كوخ حقير ثم يرتقى سلم العلياء ويسكن القصور ذات الحدائق الغناء ومع ذلك تتوق نفسه للحج إلى مهد الطفولة وتستحيل في نظره خشونته نعومة وقبحه حسناً وجدبه رخاء. . .
وهذا الحنين هو أساس الوطنية ونواة إعزاز القومية لا تخلو منه إلا القلوب الصماء المجردة من العطف والوفاء فلا بدع إذن أن يحط الركاب الشاعر الفياض العاطفة إذا مر بأطلال الديار ليذرف دمعة أو ليستعيد ذكرى أو ليرسل نجوى قبل أن يستأنف المسير ويخب الخطى به عشرا. . .
ولعل أشد الحنين هو حنين ذلك الذي ينتزع انتزاعاً من بين أحضان مهد طفولته ويقصى عنه قوة واقتداراً، ثم يشغل هذا المهد العزيز الوثير أعداؤه المغتصبون بينما هو لا يجرؤ أن يحاول منه اقترابا، إذ تحول بينهما الاستحكامات والحصون فلا يجد من وسائل الاتصال غير الذكرى والخيال. . . ولكن الذكرى التي لا أمل يصحبها ويجلوها تصبح كرياح القيظ اللافحة تحرك الأشجان كما تثير الرياح الرمال. . . والحنين يبعث الذكرى التي هي رمز الوفاء. . . .
إذن فبأجنحة الذكرى أحلق فوق مهد الطفولة المقدس - فوق ربوع السودان. . تلك الربوع التي كانت ميداناً لبطولة الأجداد والآباء، منذ عهد الفراعنة قبل أن تصبح مهداً لبراءة الطفولة ومرحها الفياض(37/29)
هنالك في إحدى بقاع السودان عند ملتقى النيل الأبيض بالأزرق قضت فتاة سني الطفولة التي مهدت لها الطبيعة هناك كل وسائل اللهو والنعيم، فحبتها ببساط لا نهاية له من الرمال الذهبية تنطلق فيه انطلاق الظبي في الفلوات. . كما زودتها بأشجار باسقة من دوم ونخيل وساسبان كانت رؤوسها حصناً منيعاً للطفلة التي كانت تهرع لتسلقها بمهارة القردة وخفة النسانيس إذا أصابها ذعراً أو لحقها وعيد! ولطالما وجدت الطفولة في أمطار السودان الغزيرة وسيوله المندفعة التي تكتسح الدور والأشجار والناس ما يثير اللذة والخوف معاً. . ومن ثوران الزوابع والعواصف التي كانتتنافس السيول في الجبروت وكثرة الأسلاب، كانت تستمد الطفولة الطليقة نوعاً من التسلية الممزوجة بالدهشة، وتنصت باهتمام إلى دوي العواصف وقصف الرعود التي تعلمت كيف تأنسن بها بعد أن تغلق الأبواب والنوافذ دونها! والحر على شدته وقسوته لا يضير الطفولة، لأنها بالنهار تلهو برؤية الطيور الفاتنة التي تنطلق أمامها مداعبة ومحاورة، فتطلق على ذات الريش الأخضر منها (عصافير الجنة) والأحمر (عصافير النار) وان كانت لا ترعى حرمة الأولى ولا تخشى حرارة الثانية! بل تجد في اللحاق بها دون جدوى. . على أنها سرعان ما تشعر بالجهد فتتجه دون ندم إلى مداعبة الغزلان الوديعة الجاثمة في الظل أو معاكسة الببغاء الثرثارة أو القردة والنسانيس المتمردة. . التي قلما تخلو منها حديقة من حدائق منازل السودان. . . وفي الأصيل عندما يهب عليل النسيم وتنخفض جذوة الحرارة ويسمع نعير السواقي يمتزج بأغاني السودانيين الرقيقة على ضفاف النيل، وتمتطى صهوة مهر أو حمار وتندفع بين الأدغال بمحازاة النهر العظيم بينما تتناثر عليها سلاسل ذهبية من أشعة الشمس المائلة للغروب. فتطل عليها من بين غصون الشجر مودعة وتكر راجعة إلى حيث تجتذبها أصوات الرفاق اللاعبين فوق بساط الرمل الوثير. . وسرعان ما تنبثق النجوم في القبة الزرقاء. . ويتهادى القمر حتى يستوي على عرشه المتلألئ في صدر السماء. . بينما تتعالى تهاليل الأطفال البيض منهم والسود سواء. . لأن الطفولة تسمو فوق فوارق الألوان والأديان والأجناس. .
وهكذا كان يسود التفاهم والوئام بين الطفولة والطير والعجماوات والأشجار والعواصف والأمطار والناس - في حين كانت رتع آمنة في ذلك الفضاء غير المحدود الذي حبب إليها(37/30)
الحرية المطلقة طبعها على الصراحة وجعلها تهيم بالجمال في شتى نواحيه. . .
ولكن ما هي إلا عشية أو ضحاها حتى زلزلت الأرض زلزالها وقبض (سنخاريب) على معول يهدم به وكر السعادة. . . فاستفاقت الطفلة مذعورة في أحد أيام شتاء سنة 1924 ونظرت حولها فكادت تنكر الدار التي بها ترعرعت إذ هنا وهناك تكدس أمامها الأثاث في غير نظام وعهدها بدارها نموذج التنسيق والجمال. . . وإذا بالأم تقبل مرتجفة واجمة وتنادي الطفلة بصوت تخنقه العبرات أن أسرعي فقد أزف وقت الرحيل عن الديار نعم، وا أسفاه. . . لقد حل بالمصريين في السودان عام 1924 ما دهى بني إسرائيل في أورشليم في القرن السادس قبل الميلاد على يد الكلدانيين. . . ولم تطلب الطفلة إيضاحاً لأنها أدركت بغريزتها حدوث أمر جلل. . وهل بعد الطرد والتشريد من الديار من مصاب؟. . تركت الطفلة حجرتها في صمت رهيب، وسارت حتى بلغت حديقة الدار الفسيحة فأطلت على النيل برهة امتزجت فيها دموعها بمياهه، ثم توغلت بين الأشجار التي طالما احتمت برؤوسها كلما توعدتها أمها بالعقاب وتعلقت بغصونها، وأخذت تقبلها قبلات الامتنان والوداع. ومازالت تسير حتى بلغت مكان طيورها وحيواناتها العزيزة ووقفت أمامها في خشوع فأقبلت إليها النسانيس وتعلقت بشعرها ونظرت في وجهها كما لو كانت تستفهم سبب وجومها، واقتربت منها الغزلان وقد كان عهد الطفلة بها شدة النفور والابتعاد فوقفت أمامها كتمثال. ولم تكد الطفلة تجثو على قدميها لتعانق أعزاءها العناق الأخير حتى أقبلت الأم مهرولة، وجذبتها معلنة قدوم العربات. فاستسلمت الطفلة استسلام اليائس، على أنها سرعان ما وقفت عن المسير وأجهشت بالبكاء إذ تذكرت أنها تركت وراءها عصافيرها المحبوبة دون ماء أو غذاء، ولكن الأم رغم تأثرها العميق لم تدعها تفلت من يدها إذ كان عليها أن تحلق القطار.
بمثل هذه العجلة المؤلمة ختمت حياة الطفولة الرغدة في السودان وبمثل هذه القسوة انتزعت الطفلة البريئة من بين أحضان المهد الرؤوم دون إنذار. . فلا غرو أن يتضاعف حنينها إلى المهد المغتصب الذي له فوق قداسة ذكريات الطفولة السعيدة قداسة الماضي التليد: ماضي البطولة وبذل النفوس من أجل الخلود. . .
أسماء فهمي(37/31)
ذكرى. . .
// لم يطل ليلى ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيف ألم
. . . ولكنه لم يكن طيف غرام ولا خيال غانية، ولم يكن صدا هذا الذي عقد طرفى بالنجم، ولا بعدا هذا الذي أغرى بي الهم، ولكنها ذكرى!
كن ما استطعت قوي العزم، عصي الدمع. فسيصهرك الأسى وسيقهرك الدمع، سيلاحقك هذا الطيف، ستستبد بك هذه الذكرى
مصر في أمر مريج: رجال هنا وبنود، ورصاص هناك وجنود، هنا حق مغلوب أبي، وهناك باطل ظلوم قوي، هنا رجال أقوياء بحقهم يزيدهم الإيمان غلوا؛ وهناك رجال أقوياء بسلاحهم يزيدهم الظلم عتوا، ولكن الحق من روح الله فهو نصيره، والباطل من عمل الشيطان فالخذلان مصيره.
الشوارع يومئذ تزخر بأمواج المتظاهرين الثائرين، الشباب دائماً في الطليعة، الرايات الخضر تتردد خفاقة بين أحضان الريح، الموسيقى تعزف أنشودة (الحرية أو الموت) الصليب والهلال يتعانقان بعد أن محت وحدة الألم ما أقره في الأذهان المريضة صاحب (فرق تسد)، السيدات يلوحن من النوافذ بالمناديل والأعلام، ويهتفن في اتصال وانفعال. . بل إني لألمح فتاة شقراء يلفها العلم الأخضر تتقدم الصفوف، وتهتف في صوت حزين رهيب تخنقة العبرات ونبرات طويلة حلوة (شجرة الحرية تروي بالدماء - في سبيلك يا أماه نستشهد)
لقد كنت تلميذاً صغيراً يومئذ، ولكن اسماً وتاريخاً ما زالا محفورين في قلبي. أما التاريخ فهو 19 مارس 1919 وأما الاسم فهو (مصطفى ماهر أمين) الطالب بالسعيدية!! لقد كان مصطفى يقود الصفوف، وصدى المدافع يصم المسامع، والهول يأخذ على الناس كل طريق، وقد انبثت أسباب الموت في كل مكان، وتقسم الجنود الشوارع ينثرون على الجموع رشاش الهلاك، مصائب بعضها فوق بعض
ولكن مصطفى ماض في عزم، راض في ايمان، يحمل العلم عاليا خفاقاً، ويحتمل الألم راضياً فخوراً، عيناه تشعان نوراً وصدره يلتهب نارا وسعيرا، شفتاه تقذفان شرراً، ووالله ما رده اليأس ولا الخوف، ولا صده العنف ولا الضعف، يسوقه الإيمان ولا تعوقه النيران، يدفعه الإخلاص ولا يمنعه الرصاص: رجل والرجال في الدنيا قليل، وهناك. . . عند(37/33)
شجرة الحرية سالت دماء الرجال والرجال في مصر كثير، وفي لهيب المجد تراكم الوقود من الجنود، وعلى مذبح الفداء تزاحمت من الضحايا الوفود.
طلعت الجنود الإنجليزية من إحدى المنعطفات وراحت مناجل الموت تحصد زرع الوطن، والشباب مع ذلك يستبق إلى الحتوف كلما ذاب صف تقدمت صفوف، ثم سقط مصطفى فتدفقت لرفع العلم ألوف. ويلاه! ما أمر الذكرى ولكن ما أحلاها!! لقد رأيت مصطفى قبل أن يسلبه ملك الموت سر الحياة: عيناه تبسمان في رضا وإيمان، الألم يمزق ضلوعه، الدم يدفق من فمه، شفتاه تهمسان بكلمات خافتة، اكبر اليقين أنها تسبيح بمجد الوطن.
ورأيت الضابط الإنجليزي الذي صرعه بمسدسه على خطوات منه، ورآه كذلك مصطفى، فكأن رؤيته له حلت عقدة من لسانه فهتف (فداء الوطن - لتحيى مصر) ثم أغمض مصطفى عينيه ونقل إلى المستشفى حيث استرد الله فيه وديعته.
هذه هي الذكرى التي حطمت أعصابي أمس، وأزجت إلى روحي الحزن، وكلفتني قطرات من الدمع، ولكني رغم كل شيء لم أتمالك أن ابتسمت من خلال الدموع، لأن في مصر رجالا يعرفون كيف يستحب الموت. حين تكون في الموت حياة. . .
لست أشك أن ذكرى مصطفى - أول الشهداء - قد مست من قلوبكم مكامن الحسرة، بل إني لا أغلو إذا قلت إن غير قليل منكم ترجحت في عينه دمعة أو دمعتان وجرت في عروقه هزة عنيفة، بل سأمضي إلى أبعد من هذا، فازعم ان بعضكم سيقاسي الذي قاسيت من سهد وجهد في دفع الأرق!
أيها الناس! اذكروا (مصطفى ماهر أمين) فقد مات لتحيوا! أيها الوطن! اذكره فقد جاد بدمه لتكتب به سطوراً في صفحة الحرية والمجد والخلود، والجود بالنفس أقصى غاية الجود
أيها الخلود! سجل اسمه في سفر الأبطال الخالدين
أيتها الجنة: التي أعدت لمن أحسن عملا. أعدي له مكاناً بين الشهداء والصديقين. . .
وأنت يا رب. أكرم مثواه وابسط عليه جناح رحمتك، فقد مات في الشباب
محمود البكري القلوصناوي(37/34)
في الأدب العربي
شوقي
1351هـ - 1932م
للأستاذ عبد العزيز البشري
هو أحمد شوقي بك بن أحمد شوقي بك. ولد بالقاهرة ونشأ فيها. وقد حدث عن نفسه في مقدمة الطبعة الأولى لديوانه (الشوقيات) قال: (سمعت أبي يرد أصلنا إلى الأكراد فالعرب، ويقول إن والده قدم هذه الديار يافعاً يحمل وصاة من أحمد باشا الجزار إلى والي مصر محمد علي باشا. . . فادخله الوالي في معيته، ثم تداولت الأيام، وتعاقب الولاة الفخام. وهو يتقلد المراتب العالية، ويتلقب في المناصب السامية، إلى أن أقامه سيعد باشا أميناً للجمارك المصرية). ثم ذكر طرفاً عن سيرة جده لوالدته إلى أن قال عن نفسه: (أنا إذن عربي، تركي، يوناني، جركسي).
وقد كفلته من المهد جدته لأمه، وكانت في يسر ونعمة، على حين أتلف أبوه ما ورثه عن أبيه. ولقد كانت جدته تيك من وصائف قصر الإمارة في عهد إسماعيل. قال: (حدثتني (يريد جدته) إنها دخلت بي على الخديو إسماعيل، وأنا في الثالثة من عمري، وكان بصري لا ينزل عن السماء من اختلال أعصابه، فطلب الخديو بدرة من الذهب، ثم نثرها على البساط عند قدميه، فوقعت على الذهب اشتغل بجمعه والعب به، فقال لجدتي اصنعي معه مثل هذا فانه لا يلبث أن يعتاد النظر إلى الأرض. قالت هذا دواء لا يخرج إلا من صيدليتك يا مولاي. قال جيئي إلي به متى شئت.
فلما بلغ الأربعة أدخل في مكتب الشيخ صالح، وكانت نشأته في خط الحنفي، وقد جاز بعد ذلك متفوقاً بارعاً مرحلتي التعليمين الابتدائي والثانوي. فلما تقدم إلى مدرسة الحقوق اعتل ناظرها عليه لصغر سنه. على انه دخلها ودرس بها عامين. وكان قد أنشئ فيها قسم للترجمة، فعدل إليه ولبث فيه سنتين أخريين، وأحرز الإجازة النهائية. وألحقه المرحوم الخديو توفيق بمعيته. ثم أشخصه على نفقته إلى فرنسا ليدرس الحقوق والآداب الفرنسية، على أن يقضي عامين في مدينة (منبلييه)، وعامين في باريس. حتى إذا أحرز الشهادة(37/35)
النهائية رأى والي الأمر أن يظل في فرنسا ستة أشهر أخرى ففعل، وعاد بعدها إلى مصر، وتولى منصبه في معية الأمين.
وفي سنة 1896م ناب عن مصر في مؤتمر المستشرقين الذي عقد في جنيف من أعمال سويسرا.
وما برح شوقي يتدرج في المناصب حتى تولى رياسة القلم الإفرنجي في المعية الخديوية. ولما نشبت الحرب الكبرى أزيل عن منصبه. ثم رؤى له أن يغادر البلاد، فاختار برشلونة من أعمال أسبانيا مثوى له ولأسرته. ولم يؤذن له في العودة إلى مصر إلا بعد أن استقر السلام العالمي.
ولقد رأيت أن أكبر منصب سما إليه شوقي في معية الخديو هو رياسة القلم الإفرنجي، على أن نفوذه وسلطانه لقد تجاوزا شأن هذا المنصب إلى حد بعيد، فلقد نال من الحظوة عند ولي الأمر ما لم ينله من قبل أحد. فكانت داره (كرمة ابن هانئ) مثابة طلاب الحاجات، ومورد المستشفعين من كل ناحية، صغار الناس وكبارهم في هذا بمنزلة سواء. فلقد كانت إشارته حكما، وطاعته عند أكثر الحكام من بعض المغانم
ولقد كانت مصر إلى ذلك العهد تابعة للدولة العثمانية، فكان شوقي كثير الاختلاف إلى الآستانة، فلا يكاد يدخل الصيف من العام إلا وهو على جناح السفر إليها، فلا يلقى من أولياء الأمر هناك إلا الإجلال والنزول في منزل الكرامة. ولقد انتهى إلى الخليفة في إحدى السنين خبر مقدمه فأمر بان يقيم ما أقام هناك ضيفاً على مقام الخلافة. وأنعم عليه بالرتبة الأولى من الصنف الثاني وهو يتقدم بها على بعض من يحملون لقب الباشوية. كما انعم عليه بكبار الأوسمة من الدولة العلية، ومن ألمانيا (قبل الحرب) ومن الدولة السورية.
وكان، رحمه االله، شغفاً بالسياحة في الغرب وفي بلاد الشرق القريب، ولكنه في مؤخرات عمله قصر سياحاته على البلاد السورية واللبنانية، فيلقى من أعيانها وأدبائها أبلغ العطف وأعظم الإكرام.
وفي سنة 1927 عقد في مصر مؤتمر لتكريمه اشترك فيه عنق من رجالات مصر وعلمائها وأدبائها، وحضر إليه عدد غير قليل من أعيان الأدباء في الأقطار العربية. وتوجت حفلة التكريم برعاية حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم فؤاد الأول حفظه(37/36)
الله لقد عاش شوقي مبجلا عالي الاسم، رفيع المنزلة. فلما قبض إلى رحمة الله تعالى أقامت له وزارة المعارف بالاشتراك مع طائفة من أعيان أهل الفضل والأدب حفلة تأبين دعت إليها كبار العلماء والأدباء في الأقطار العربية. وشرفها جلالة الملك المعظم بنائب عن ذاته الكريمة. وقد أقيمت هذه الحفلة في دار الأوبرا الملكية في شهر ديسمبر من السنة التي قبض فيها.
وبعد، فقد تقلب شوقي من أول نشأته في النعمة، وأصاب ما شاء من متع الحياة، ولو قدر لخلق من الناس أن يدركوا كل مناهم، وأن يبلغوا الحياة مدى أشرها، لكان شوقي من أحد هؤلاء
وإذ قد عرفت هذا فلا يتعاظمنك ما ترى من شيوع الترف في شعره، فلا تقع من تشبيهاته، في غير المآسي، إلا على كل فاخر ثمين
صفاته وأخلاقه
كان شوقي ذكيا وافر الذكاء، حيا جم الحياء، لا يتبسط في الحديث إلا إذا خلا له وجه صديق أو صديقين. ولعل بعض ما حمله على هذا أن طلاقة لسانه لا تكافئ فصاحة قلمه، ولا تواتي مطالب عقله، يكره الدخول في زحمة الناس، وينفر من شهود الحفل الجامع؛ إلا أن ينقبض في ركن من ملهى أو ملعب، وادع النفس، هادئ السعي. لا تراه يعنف، وقل أن يستفزه الغضب. عطوف شديد العطف، رحيم كثير الرحمة. ينفر من ذكر المآسي ويفر من رؤيتها فراراً. على أنه مع هذا قد راض نفسه على الصبر على المكروه، ودربها على الرضا بالقضاء واقعاً حيث وقع. فإذا لحقه المكروه راح بذهنه يستخرج من بعض نواحيه خيراً. فان تعذر عليه استراح في النهاية، إلى أن الله تعالى إنما دفع به ما هو أكره.
وهو دائم الاعتداد بما يعتريه من النعماء، فإذا دقت وصغرت جعل يجلها ويعظم، ولو بالتخييل، من شأنها. وعلى الجملة فان هذا الرجل لو انحدرت عنه كل نعمة لعاش من رضاه في أوسع نعمة. وعلى هذا لقد كان من أقل الناس شكوى من زمانه. ولعل أوجع ما شكى فيه قوله
أحرام على بلابله الدو ... ح حلال الطير من كل جنس؟
وهذا قاله وهو منفى من وطنه. ولقد جعل الله النفي من الوطن عديلا للقتل والصلب(37/37)
وتقطيع الأطراف. قال جل مجده: (إلا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض). وأي رجل هذا المنفى من وطنه؟ هو الذي يقول في هذا الوطن من القصيدة نفسها:
طني، لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي!
ولقد كان شوقي شديد الإيمان بالله تعالى وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر. ولم تحص عليه في هذا الباب زلة لسان أو عثرة قلم، وكان شديد الحنين إلى السيد المسيح صلوات الله عليه، دائم الذكر له في شعره ما واتته المناسبة. يذكره في عطف وشوق ولهفة، وإذا ذكرت ما ركب في طبع هذا الشاعر من الرقة والرحمة والحنو ودعة النفس أدركت الوجه في إيثاره لاسم هذا النبي الكريم بكثرة الإشادة والترديد
على أن شوقي. على شدة إيمانه هذا، كان في شباب السن مستهتراً بلذائذ الدنيا، مسرفاً في الإصابة مما يطيب له منها، لا يتأثم في هذا ولا يتكلف مداراة الناس، فبلغ فيه حداً يشبه الإباحية، ولكنه حين لحقته السن، قصر متعته على شهود (السينما) وحضور مجلس الغناء، وله من بلائه في النضح عن دولة الإسلام وفي مدحه لسيد الأنام أعظم رجاء في كرم العاقبة وحسن الختام ولقد قال في (نهج البردة)
إن جل ذنبي عن الغفران لي أمل ... في الله يجعلني في خير معتصم
وهو بعد هذا مفتن بأجمع معاني الكلمة، يكلف بفنه إلى حد الافتتان، بل إنه لا يكاد يرى الرجل كل الرجل يتمثل إلا في الشاعر.
ولا يرى للحياة في جميع صورها غاية إلا قرض الشعر. انظر كيف يقول على لسان إحدى من ينسب بهن:
جاذبتني ثوبي العصى وقالت: ... أنتم الناس أيها الشعراء!
ولقد كان إلى هذا شديد التمكن من نفسه حتى ما يرى في الدنيا شاعراً يباريه أو يتعلق بغباره.
شاعريته
لم يطاول شوقي في قرض الشعر ولم يجهد فيه؛ بل لقد جاء به فتى؛ وأطلقته قريحته الغضة عالي المعنى، فخم اللفظ؛ متلاحم النسج، ومدج الخديو توفيقاً وهو لما يزال طالباً(37/38)
حدثاً، ونشرت مدائحه يومئذ في (الوقائع المصرية) وارتفعت من قورها إلى ولي الأمر. فدل هذا على أن فيه طبيعة؛ وانه أوتى الموهبة. ثم لقد كشف الزمن عن ان تلك الموهبة من الضرب الرفيع الغالي الذي يضن بنفسه على الأجيال
ولا شك في أن المواهب الفنية لا تعلل. فان حاولت أن ترد هذا إلى أنه قد دخل في أصله العنصر العربي، فهذه ملايين الخلق من خلص العرب، لم يقولوا الشعر ولم تنتضح به ألسنتهم، وأكثر من عالجوه منهم لم يرتفعوا إلى شيء من حظ شوقي، وإن أنت رددته إلى أنه جرى في أعراقه الدم اليوناني، فهذه الملايين من اليونان الخلص لقد تعذرت عليهم ملكة الشعر فلم يجيئوا منه بجيد ولا برديء
نعم، لقد يكون للعنصر وللدم دخل في توجيه شاعرية الشاعر، وتكوين عقليته وفي تصوير منطقه، وتلوين عاطفته، والذهاب بنزعته مذهباً خاصاً. ونحو ذلك. أما أن ذلك مما يخلق الموهبة خلقاً، فهذا مالا يكون.
شعره
تقدم لك في أثناء هذا الكتاب صفة الشعر في العصر الحديث (من الحملة الفرنسية). وكيف كان يغلب عليه الضعف والإسفاف، والدوران في فنون من الأغراض لا غناء فيها لمطالب العاطفة، ولا لحاجات المجتمع. ولقد نجم شوقي أول ما نجم والكثرة الغامرة من جمهرة الشعراء على هذا؛ على أنه من يمن طالعه أن تقدمه إلى قرض الشعر أفذاذ ثلاثة: عبد الله فكري، ومحمود سامي البارودي، وإسماعيل صبري. فدلته الموهبة عليهم، وعدل من فوره إلى احتذائهم، وانتهاج طريقهم في تجويد الشعر باصطفاء اللفظ، وإحكام الصياغة، والاحتفال للمعاني، وعدم استهلاكها في سبيل البديع، صنع أكثر من يقوم في العصر من الشعراء.
ولقد كان في صدر شبابه كلما قرض قصيدة أو نظم مقطوعة من الشعر عرضها على إسماعيل باشا صبري، وهو شاعر قد بلغ الغاية من دقة الذهن، وكمال الذوق، ورهافة الحس، فلا يزال يعالج معه ما عسى أن يقع من قلق في اللفظ، أو انحراف في المعنى، أو نشوز على مواقع الجمال. وتلك كانت سنة كثيرة من الشعراء من قديم الزمان.
وشوقي، فوق هذا، كان شديد الاكباب على قراءة الكتب بوجه عام، وكتب الأدب على وجه(37/39)
خاص، ودواوين الشعراء على وجه أخص. ومن أعظم من عنى بقراءة دواوينهم، واستظهار أشعارهم، وانتهاج طرائقهم، ومباراتهم في منازعهم. أبو نواس، وأبو تمام، والبحتري، والمتنبي. وقد نضح أربعتهم على شعره، فكان أثر كل منهم فيه بينا. وإنك لتلمح فيه حلاوة أبي نواس ودقة وصفه، وتصرفه في فنون الغزل، وإشادته بمجالس اللهو، وافتنانه في الخمريات، كما تلمح فيه احتفال أبي تمام للمعاني الرفيعة والارتصاد لإصابتها مهما جشمه ذلك من إعنات اللفظ وجلجلة الصياغة. ولقد تلمح فيه هلهلة البحتري، وإحكام نسجه، وبراعة نظمه. أما أثر المتنبي في شعره ففيما ترى من شيوع الحكمة والإكثار من ضرب المثل
ولا يذهب عنك أن هذا الكلام ليس معناه أن شوقي إنما هو مستعير منهم ومقلد لهم. بل الغرض أنه استظهر أشعارهم فاتصلت بذوقه، وجرت في عروقه، وخالطت طبعه فنضحت على قلمه.
والواقع أنه إذا كانت أشعار هؤلاء الشعراء وغيرهم من العناصر التي دخلت على شاعرية شوقي وجلته في هذه الصورة، فانه مما لا شك فيه أن للرجل شخصيته القوية الخاصة به، والتي ينفرد بها عن سائر من عداه من الشعراء، حتى إنك لو عرضت شعره على أهل البصيرة من نقدة الكلام لما ترددوا في نسبته له وإضافته إليه، شأن غيره من فحول البيان. واعلم ان احتفال الشاعر للمعاني حتى ليقلق الألفاظ في سبيلها لا ينافي اجتماعه في بعض الأحايين لاحكام النسج وتجويد الصياغة. والشاهدة على هذا ما نرى في شعر أبي تمام والبحتري كليهما.
ولا شك أيضاً في أن من العناصر التي دخلت على شعر شوقي فذهبت به هذا المذهب حذقه اللغة االفرنسية، وسعة اطلاعه فيها على أدب الغرب، وترويه عيون بلاغاته. ومن الحق أن يذكر له في هذا المقام، أنه كثيراً ما مس فمن معاني القوم أو لمحها في شعره، ومع هذا لقد جلاها عربية خالصة لا تنشز على الذوق العربي، ولا يجد هو فيها ريح الاستعجام. وإذا ذكرنا أن شوقي من أوائل من ارتصدوا لهذا وعالجوه في العصر الحديث، فجاء به عربياً خالصاً في مثل هذا اليسر، قدرنا بمبلغ كفايته وتبريزه في فنون البيان.
كذلك من العوامل التي لها أثر واضح في شعر شوقي نشأته في بيت الملك، ومقامه في(37/40)
بطانة الأمراء وظهارتهم، ودخوله في أدق الأسباب السياسية في مصر، سواء ما اتصل منها بالدولة المحتلة (إنجلترا) أو بالدولة المتبوعة يومئذ (تركيا).
وفي الغاية، لا تنس أثر سياحاته الكثير في بلاد الغرب، وفي بلاد الشرق القريب، ومخالطته لأصناف الخلق، ووقوفه على طباعهم وأخلاقهم ومأثور عاداتهم، وما تجلى من صور الطبيعة في بلادهم، وغير ذلك مما لا يتهيأ لكثير من الشعراء.
وبعد، فمما لا يعتريه الريب أن شوقي يعد بحق، من أعظم أقطاب الشعراء في العالم العربي كله؛ بل إن بعض النقدة ليتخطى به القرون فيصله بأعلام الشعراء في أزكى عصور العربية وأنضرها بياناً
ولقد تصرف شوقي في كل فن، وجال في كل غرض، وأصاب من كل مطلب، فبذ وبرع. وعارض متقدمي الشعراء ومتأخريهم فما قصر ولا تخلف. ولقد ظل جيلا ونصف جيل يرسل غالي الشعر، ما وقع في البلد من حدث إلا جلجل بالقريض، ولا كانت الجلى في رجاً من أرجاء العالم إلا نظم ما تتقطع من دونه علائق الأقلام.
وهنا ينبغي أن يذكر له ولصاحبه حافظ ابراهيم، عليهما رحمة الله، انهما من أوائل من بعثوا الشعر في الأغراض العامة، وخاضوا به في المسائل الاجتماعية، فأغنوا وأجدوا، وأصبح أثرهم في هذا الباب ثابتاً على وجه الزمان.
ومن خصائص شوقي في شعره أنك قد تراه يمدح أو يرثى أو يتصرف في غير هذين الفنين من فنون القريض، ولكنه لا يفتأ ينحرف عما هو بسبيله إلى ضرب مثل أو إجراء حكمة فيها كل النفع لو قد أخذ بها الناس.
وهو طويل النفس جداً حتى لقد يبلغ بالقصيد المائة، وقد ينيف عليها في غير قلق ولا إسفاف. ولقد بلغت قصيدته (كبار الحوادث في وادي النيل) مائتين وتسعين بيتاً أكثرها من مصطفى الشعر ومتخير الكلام.
وله مقطوعات شعرية يرجعها بعض حذاق المغنين اليوم ومن شعره الذي لو تقدم به الزمان لكان حقيقاً بان يتغنى به أمثال إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق قوله من قصيدة (لبنان):
دخل الكنيسة فارتقبت فلم يطل ... فأتيت دون طريقه فزحمته(37/41)
فازور غضباناً وأعرض نافرا ... حال من الغيد الملاح عرفته
فصرفت تلعابى إلى أترابه ... وزعمتهن لبانتى فأغرته
فمشى إلي وليس أول جؤزر ... وقعت عليه حبائلي فقنصته
قد جاء من سحر الجفون فصادني ... وأتيت من سحر البيان فصدته
لما ظفرت به على حرم الهدى ... لابن البتول وللصلاة وهبته
وديوان شوقي رحمه الله يقع في أربعة أجزاء، طبع منها اثنان. وله غيره من الشعر كتاب (عظماء الإسلام)، وكشكول جامع لقصائد لم تنشر، وقصائد سهلة للأطفال والأغاني، وربما استغرق هذا الكشكول ثلاثة أجزاء. وله في النثر كتاب (اسواق الذهب) جارى فيه الزمخشري رحمه الله في كتابه (أطواق الذهب) وله روايات شعرية وهي: على بك الكبير، وكيلوبترا، ومجنون ليلى، وقمبيز، وعنترة، وله روايات أخرى نثرية منها: لا دياس، وورقة الآس، ومذكرات بنتاؤر، وأميرة الاندلس. ومن هذا تدرك مبلغ إنتاج الرجل وسخاء ذهنه من يوم نجم إلى أن أدركته الوفاة.(37/42)
من طرائف الشعر
إلى الشتاء
للأستاذ محمود الخفيف
أيها الراحل العنيد وداعا ... قد سئمناك من زمان بعيد
كم تظاهرت بالرحيل خداعا ... فظننا خطاك تمضى تباعا
فإذا أنت مقبل من جديد!
طال شوقي إلى الربيع فهيا ... يا شتاء حويت كل عجيب
مذ تراأيت مكفرا عتيا ... تنذر الناس بكرة وعشيا
بضحى شاحب وليل كئيب!
حين أقبلت يا شتاء علينا ... في بنود من السحائب سود
جئت قبل الأوان تسعى إلينا ... وتوغلت في الربوع لدينا
بين دمع الحيا وضحك الرعود
هازئا بالغصون ألقيت حلاها ... وتعرت على امتداد الضفاف
ولَّه الطير عريها فتراها ... نازحات تغربت عن حماها
في فروع الكروم والصفصاف
وترى كل جدول أو غدير ... ناضب القاع بعد طول امتلاء
يشتكي الجدب في زمان مطير ... ويطيل السكوت بعد خرير
قبل لقياك كان حلو الغناء
شبح أنت يا شتاء مخيف ... ماثل الطيف دائماً في خيالي
قارس البرد زمهرير شفيف ... عاصف أينما حللت عنيف
هيكل قدّ من سواد الليالي
لست أنساك حين لحت عشاء ... فوق كوخ تناوبته الرياح
لم يجد ساكنوه منك وقاء ... فتراهم أذلة أشقياء
ما دجا الليل أو تراءى الصباح
لست أنساك إذ تمثلت يوما ... شبحا لاح في زوايا الطريق(37/43)
أورئته الحياة بؤساوهما ... شاحب الوجه زاده الجوع سقما
ناحل الجسم في كساء عتيق
أنت كالدهر قُلَّبِيٌّ كذوب ... لا يروق العيون منك صفاء
هادئ تارة وطورا غضوب ... يعقب البشر ان صحوت قطوب
مثلما يعقب النعيم شقاء
أيها المُؤْذِني بليل رهيب ... وصباح مجلل بسواد
ونهار هامي الدموع كئيب ... لست أقسى إساءة من حبيب
لج في الصد بعد طول وداد
يا شتاء شيعته في جفاء ... لست أقسى من الجهول الظلوم
لست أقسى عداوة من مراء ... أو جحود فؤاده من عداء
مشرب اللون من سواد الغيوم(37/44)
الجندي القديم
للأستاذ فخري أبو السعود
لقد كان يوما شديد الأياد ... رشيق القوام نضير الصِّبا
يقضِّى مع الصحب ساعَ السرور ... وينهب والغيدَ صَفوَ الهوى
وتحلو أحاديثه للرفاق ... إذا جمعتهم كؤوس الطلى
فَنَبَّهَهُ ذات يوم نداءٌ ... إلى الحرب يدعو فلبَّى النِّدا
لِيحمى أوطانه في الحماةِ ... ويدرأ كيد عدوِّ طغى
ويَدفَعَ عن أرضه فهي كهف ... الحضارة طرَّا ومأوى العلا
ويقتحم الموت من أجلها ... ويَلقى الحديد ويَصلى اللظى
ويأخذ بين الصفوف مكان ... الأُلَى طحنتهم تروسُ الرحى
فقاسى أذلاها وأهوالها ... ودافع ما شاء أو لم يَشا
وصادف في كل يومِ حماماً ... وذاق من الخوف ألْفَىْ رَدَى
فإذ كادت الحرب أن تنجلى ... ويَطرِحَ الجند ذاك العنَا
وآن له أن يعود قريراً ... لأوطانه بعد طول النوى
أُتيح له قاذفٌ فرماه ... بمارج نارٍ إليه هوى
فطاح بساق له بعد ما ... تراءى قريباً بعيد المنى
ولم يَدرِ ثَمَّتَ مَنْ ذا رماه ... ولم يدر واتِرُهُ مَن رمى
وأيَّ فؤادٍ دَهى فأثارَ ... به الحسراتِ طِوالَ المدى
وما اجتمعا قبلها في مكان ... ولا التقيا بعد ذاك اللقا
ولكنها محن ثَمَّ تهوى ... على خائضيها هُوِىّ القضا
فآب بساقٍ إلى قومه ... وقد غُيِّبَتْ أختها في الثرى
فقلده الحاكمون وساما ... وأثنوا عليه جزيل الثنا
وقالوا افتدَى وطناً غاليا ... بِعضوٍ ثمين فنعم الفدى
وأجرَوْا عليه الكفاف جزاءً ... على ما سعى وعلى ما جنى
وعاد إلى داره مفردا ... يقَضِّي الحياة إلى المنتهى(37/45)
ذوى عوده وانحنى رأسه ... وجلل فوديه شيبٌ بدا
بجانب موقده يصطلى ... بياضَ النهارِ وشِطْرَ الدجى
وحيداً فبالصحب عنه اشتغال ... بِرَوْم الصفاء ونَشْدِ الغنى
يدخن مسترسلا في الخيال ... ومستغرقا في قديم الرُّؤَى
ويَذْكرُ وسْطَ دُخَانِ الطباق ... دُخَانَ الحروبِ ونارَ الوغى
وكيف ألمَّتْ به الغاشياتُ ... فخاض دُجاها وكان الفتى
وكم كرَّ بين صفوف العدوِّ ... فأوْقعَ في القومِ ثم انثنى
ويروى وقائعه الرائعات ... لأَيٍّ أصابَ وأيِّ رأى
ويسردهن عليه مراراً ... وهيهات يسأم مما روى
ويسردهن على نفسه ... إذا هو لم يلق سمعا وعى
فان راح يبغي الرياضة يوماً ... ويبعث بالسير مَيْتَ القوى
فصاحبه كلبه في المسير ... وعكازتاه بحيث مضى(37/46)
آذار أمي
للأستاذ زكي المحاسني
أستاذ الآداب العربية بتجهيزية دمشق ودار المعلمين
الورد لا وردي ولا زهري ... زهر الربيع الفائح النَّشْر
غنيت والأحزان مائجة ... تهتاج مثل البحر في صدري
أهل الهوى قاموا لنزهتهم ... دوني وهم يدرون ما عذري
وأتيت مهدوماً منهنهة ... عيني بكاً ودنوت من قبر
فنثرت أساً فوقه وهمي ... دمعي على أوراقه الخُضر
أمي بهذا القبر هادئة ... وأنا فُجعت بها على الدهر
مَثَّلتُ آذاراً لا نعته ... بالشعر فاستعصى على الشعر
فوصفته بالوهم أهمسُه ... معنى أدقَّ كلمعة الفكر
ناجيت فيه الريح صافرة ... والغصن منعطفاً على النهر
ورأيت في غلوائه أسفاً ... كم يزهد الإنسان أو يغري
وأصخت للأطيار فاندفعت ... كفى على قارورة الخمر
أسكرت آلامي لأسكنها ... يا ليت لا تصحو من السكر
شرْخ الشباب حملت رائقة ... وغداً يسير بمهيع العمر
هو مثل آذار على سَفرِ ... لكن بلا عَوْد من السَّفر
آذار سرُّ الحب في يده ... أفضى به في مطلع الزهر(37/47)
حب جديد
قفوا دون هذا الحب لا تتركوا له ... سبيلا إلى نفسي فإني مغلق
فقد أوصدت قلبي هموم تجمعت ... على دورة الأيام لا تتفرق
رأيت الهوى يسعى بوجه مخادع ... ويلقى شباكا علني أتعلق
يلوِّح باللذات تلويح غادر ... وما أعجب اللذات: تسقى وتحرق!
ففيها حياة عذبة، ثم مرة ... مقيدة يوما وفي الغد تطلق
ويرقص فيها الموت رقصا مروعا ... وينهل منها الخير، والشر يورق
يطل عليها الشعر بالوحى من عل ... ويرتع فيها الفحش يشدو وينعق
ويحنى لها الدهر المراوغ هامه ... وفي مقلتيه بسمة تتألق
فقلت له: عني! وحسبي ما مضى ... وحسبك أنى هيكل متمزق
ملكت جناني مرة بعد مرة ... فكنت شبابي تستبيح وتسحق
ولم الق إلا ذلة ومهانة ... ولم تك تصغى للشكاة وتشفق
فدعني إلى من لم يكابدك عمره ... فلن يفتن التجريب حسن مزوق
باريس
حسن عارف(37/48)
قلبي!
كان كالخيمة في أعلى الجبل ... كل ريح بالهوى مرت عليها
وإذا هبت لها ريح الأمل ... مرةً لم تنعطف يوماً إليها
وأنا في جوفها أقضي الحياه ... حائرا ما بين يأس ورجاء
كلما افترَّت من الريح شفاه ... خفت أن يقضى علينا بالفناء
وانقضى في خيمتي عهد الصِّبى ... ناعماً بين أمانٍ ووعود
تتهادى فوقها ريح الصَّبا ... في حنان مثل أنفاس الوليد
كلما مرت بها تلك الرياح ... قبَّلتها قبلة الأم الحنون
فتُرى كالطير يهفو بالجناح ... بعض حين ثم يغشاها السكون
قلت يا بشراي لَو مر الشباب ... مثلما مر الصِّبى حلو المصير
فإذا أيامه بحر عبُاب ... ثائر اللجة مرهوب العبور!
وأتى في عهده يوم عصيب ... كالح الوجه كأشباح الكهوف
طالع الناس بإنذار رهيب ... فقضوه هربا تحت السقوف
وأنا في خيمتي نهب الشجن ... قلق الأحشاء كالطير الذبيح
مرغم! مالي سواها من سكن ... تفزع النفس له أو تستريح
وجميع الكون حولي مُغرَقٌ ... في سكون ليس يدري شاطئيه
وظلام الكون جهمٌ مطبقٌ ... عمى الناظر فيه عن يديه
وإذا ريح على البعد تثور ... في جنون يملأ الجو دويا
ألهبت قلبي بسوط كالسعير ... ثم ألقته أباديدَ عليا
ويح للقلب الذي كان صبيا ... يستقى في الحب كأس الأمل
خانه الحبُّ فأراده فتيا ... ليت شعري من ترى يحييه لي؟
فريد عين شوكة(37/49)
في الأدب الألماني
الشاعر نوفاليس
1772 - 1801
للأستاذ خليل هنداوي
غالى قوم في نعتهم (نوفاليس) بنبي المدرسة الرومانتيكية الألمانية، وقد كان لنوفاليس تأثير واضح في تشييد دعائم هذه المدرسة في عصر كان الأدب الألماني فيه حائراً تتهاداه السبل، وتتقاذفه الشكوك. ولكن هذا التأثير لا يجعل من نوفاليس نبياً قدسي الآيات، ولعله كاد أن يكون نبياً وفوق النبي لهذه المدرسة، ولو لم يقتطف الموت زهرة صباه عاجلا قبيل أن تتفتق، لكن قلبه النضير، قلبه الشاب استطاع أن يسبح في عوالم الشعر. ويعود - بعد طوافه - غنياً بما جمع والتقط وكثير ما هم النبغاء الذين تنبغ قلوبهم قبل ان تنبغ أعمارهم، ويفيض عبيرهم قبل أن تتفتح أزهارهم، ويمضون سراعاً وهم في مقتبل العمر، وقد تركوا وراءهم دوياً لا ينسى ابد الدهر، شأن شيللي وكيتس ونوفاليس. لكل نابغة - في مقبل عمره - مثال من النوابغ المعجب بهم، يتأثر به ويتشيع له ويترسم خطواته. وكان (شيللر) مثل (نوفاليس) الأسمى، كان مثله في البراعة والعظمة والكمال. وشيللر هو الذي أحيا في نفسه هذه الميول، ودفع به إلى الحياة الشعرية،
خبت في نفسه هذه الميول، ثم ما لبثت أن هبت ثانية على أثر مطالعته كتب (ويلهلم مستر) وعكوفه على هذه الكتب يتلوها تلاوة وجد وهيام، فطبعت في نفسه لحناً رومانتيكياً وولدت عنده حقائق عميقة محاطة بالرموز، ولكن هذه الميول ظلت هامدة ساكنة لا يقوي شيء على إظهارها، حتى عرضت لعينيه غادة أحلامه متمثلة في (صوفيا الصغيرة) التي لا تتجاوز الاثني عشر ربيعاً. فخطبها فكان له ذلك، ولكن القدر كان قاسياً، فانتاب الفتاة داء لم يمهلها إلا قليلاً، فتيقظت ميوله واهتاجت عواطفه، وبكاها ما شاء له البكاء، ينظم فيها الشعر ويجعلها مثله الأعلى في الوجود. ويعتقد أنها حية في نفسه لم ينهبها موت، وإنما الميت هو نفسه، وأنها سبقته إلى ذلك العالم تدعوه إليها. فيسأل: (هل في استطاعة الإرادة البشرية التي تحول وتبدل ما تشاء في هذا العالم أن تجوز أبواب الأبدية؟. .(37/50)
ويقول: (أود أن أموت، لا موت ذلك الكائن البالي الذي عافته الطبيعة، أود أن أموت كالعصفور المتنقل الذي يسعى وراء أقطار جديدة، أو أن أموت فرحاً كالشعر الفني) وبهذه العاطفة التي تجعل تشاؤمه مضيئاً كتب (أغانيه لليل) بأسلوب شعري منثور، لم ينقصه الوزن شيئاً من روعة معانيه، ولم يضع نثره من العاطفة الشعرية. يغلب على أغانيه شيء من الطرب القائم، يناضل به صاحبه الشقاء. هذا هو الطرب الذي خفف من شقائه، وهذه هي الفتوة التي كانت تزين له الأحلام وتنقله من حياته هذه إلى حياة اكثر سعادة وأحسن أملا.
أراد (نوفاليس) أن يطرق عالم الفلسفة فغلب عليه خياله، وتبدو في كتابه (الأغاني) و (الدفتر اليومي) فكرته التي تدور حولها فلسفته، وهذه الفكرة يريد من ورائها ان يفرض سلطة الروح بدون واسطة على المادة وعلى الاشياء، كما هو الحال في العلم الذي يسيطر عليها، وهذه الفكرة هي (علم السحر) ويعتقد أن إزاء فن المنطق الذي يعتمد على الأقيسة العقلية والبراهين الفكرية فناً هو أسمى منه، يدعوه (عالم الوهم) وهذا الفن هو أن نعرف كيف نستنتج بصورة نفسية فنا نعمل به على تحقيق أحلامنا وأوهامنا، وغير مغنيك شيئاً أن تسأل (نوفاليس) عما ينتج من هذا الفن من فائدة، فانه يطلب إليك إزاء إلحاحك الكثير أن تغادره سعيداً في أقطار أوهامه وأخيلته، وهذا المعتقد الفلسفي قد أثر تأثيراً واضحاً في روحه الشعرية، وما كانت هذه الروح إلا أثراً من آثار هذا المعتقد الذي يشيع في كل جوانب نفسه، فيحس في نفسه ميولا عميقة لا تقل غموضاً عن جوهرنا الذاتي، لا أسماء لها ولا القبض عليها بمستطاع، فيوجب على الشعر أن يوقظ فينا مثل هذه الميول، لأن الشعر هو لسان باطني، وتعبير تحدث به النفس ذاتها، وعليها أن تنفر كثيراً من الصيغ الواضحة كل الوضوح لأن كل وضوح وكل حد تحمل عليه النفس يحدد آفاق النفس التي يجب ألا تحد.
الموسيقى هي الفن الأول، والشعر هو أولى الفنون كلها بالتقرب من فن العزف والضرب على الأوتار، وكما أن الشعر يهتك الأستار ويهبط علينا بالأسرار، فالموسيقى تحمل إلينا معاني الطبيعة الخفية المستورة وتعبر لنا عن نفس الطبيعة، ونفس الطبيعة عنده هي الشيء الغريب، والشاعر هو الذي يعطل فينا ملاحظتنا العادية للاشياء، ويرينا الخليقة كما(37/51)
تبدو للأنظار في الوهلة الاولى، هو يعجبنا ويذهلنا وهو بعد ذلك عندليب مترنم.
هذا هو مذهب (نوفاليس) في الشعر أعلنه يوم كانت المدرسة الرومانتيكية في بدء عهدها. وعده بعض أنصار هذه المدرسة نبياً للمدرسة، على ان هذا المذهب الذي جاء به لو حلله النقاد وعمل على مقارنته بالمذاهب الرمزي لرأى أنه أدنى إلى الرمز منه إلى المذهب الرومانتيكي، لأن صاحبه رمزي وأكثر تمسكاً بالرموز من أصحابها بها. ولكن ذلك الجيل كان يجهل بواعث الرموز، وفلسفة ذلك الجيل لم تصل إلى تقرير المشاعر الباطنية في النفس تقريراً علمياً. فلم ير ذلك الجيل إلا أن يحشره مع المدرسة االرومانتيكية، وإن لم يكن منها.
أليس نوفاليس هو الذي يعلن أن هنالك ميولا خفية لا تسمى هي ما يجب على الشاعر أن يوقظها ويخرجها بلغة لا يفسدها الوضوح، وهذا المذهب نفسه هو الذي إلى (الرمزيون) على أنفسهم أن يظهروه. وجعلوا أصحابه أصحاب مدرسة جديدة في الشعر. ولم ينس نوفاليس تأثير الموسيقى في الشعر، فأوجب على الشاعر أن يكون نظمه وإيقاعه للألفاظ إيقاعاً موسيقياً، لأن الموسيقى لغة النفس
ولكن تلك الفاجعة التي نزلت به في مطلع صباه، جعلت منه شاعراً متألما يتغنى بألمه، ويأبى أن يظهر والألم غالب عليه فيضحك للألم ويطرب للشقاء، ويرشف دموعه ناعما كما يرشف الطائر الظمآن دماءه، وفي هذه المجالي تسمع نفسه تشكو وصدره يزفر، وترى عينيه محدقتين في العالم الموهوم الذي تصوره وشاء أن يسكنه
روح (نوفاليس) الرومانتيكية تبدو في رواياته التي كتبها لنفسه، لأنه لم يستطع أن يدخل إلى العالم ويعاشر سكانه ويعرف أهواءهم، لأنه شاعر غني يريد أن يوزع ما لديه بعد أن ضاقت جوانب نفسه بكنوزها، هو لا يأخذ ولكنه يعطي. وهكذا نرى (نوفاليس) شاعراً في رواياته، شأنه أن يجود وأن يعطى. .
وضح مذهبه الشعري جليا في روايته (هنري دوفتر ينجين) التي جاءت ناطقة عن نفسه. نوفاليس الذي فقد (صوفيا) وهام بعدها هيام الجنون، قد وجدها مرة ثانية حية في (جوليا) فأحب هذه وكأنه يحب صوفيا، وخطبها كأنه يخطب صوفيا فأطفأ هذا الحب الجديد كل ما لقي من كآبة وسأم. وأخذ يستقبل الحياة بقلب يخفق مرحا. ويشيع عهده الأول ليدخل في(37/52)
عهد ثان طافح بالأمل والرجاء.
بدأ يكتب روايته هذه، ولكن القدر لم يشأ له أن يكملها. فألف جزأها الأول، وترك بعده مقطوعات منثورة قد تتم معنى روايته وتظهر الغاية التي سلك إليها. يبدأ جزؤها الأول بحلم وينتهي بقصة، وكلا الحلم والقصة جزءان متلائمان منتظمان يعبران عن نفسية البطل (وبطل القصة) خلق شاعراً، ونشأ تحت رعاية والديه، يقضي وقته متأملا متنقلا في مروج الخيال. دون أن تحول حوائل بينه وبين ما يصبو إليه.
رأى في حلمه الزهرة الزرقاء، وهي مثل حياته الأعلى، ورأى انه إذا أرادها لنفسه، فمن الواجب عليه أن يهجر وطنه، ويسيح في أقطار الأرض وبقاع العالم. فأطاع هذا الهاتف النفساني، وسار في الأرض يتأمل في أقطار تقع عليها عيناه. وفي طريقه التقى بالساحر الشاعر (. . .) وهو الذي ألقى عليه بعض فصول ممتعة في الفن، وأفهمه مخاطر الهيام، وأدلى إليه بفائدة التأمل والتمحيص. وكان لهذا الشاعر الساحر ابنة جميلة، ما أن وقع عليها نظر هذا الهائم حتى جن بها، واعتقد أنها هي (الزهرة الزرقاء) التي وجدها في حلمه. فشغف بها شغفاً شديداً، ولكن المنية داهمتها فقضت نحبها - وهذه الجميلة لم تكن إلا (صوفيا) محبوبة نوفاليس الأولى - ثم واصل الشاعر الفتى سياحاته في الأرض، ما زاده موتها إلا كلفاً وهياماً
ثم تأتي أجزاء الرواية المنثورة فنفهم منها أن البطل سيعرج على إيطاليا ويعرج على اليونان، ثم يسيح في بلاد المشرق. ثم يجتمع بالشاعر الساحر، فتقوم - هنالك - مجادله شعرية فنية ثم يتعرف الشاعر الفتى إلى فتاة تمثل (الزهرة الزرقاء) وتحل محل الأولى - وهذه الجميلة الثانية هي (جوليا) محبوبة نوفاليس الثانية. - فتجدد له حياة زاهية الألوان. وتبنى له من الأرض الغبراء سماء ساطعة الأضواء. فيرى الشاعر في وجهها وجه الأولى، وهما متحدان مقترنان في وجه واحد سام كامل، وهكذا تنتهي سياحة الشاعر.
والشاعر بعد أن ساح في أقطار الارض، وبعد أن تعرف إلى صور كل شيء، لم يبق له وراء ذلك لا أن يطوي نفسه، ويدخل إلى عالم نفسه - كما يقول نوفاليس في إحدى مقطوعاته - (ألا إن كل شيء يقودني إلى نفسي!) وهذه هي الفكرة التي بنى عليها نوفاليس روايته.(37/53)
فالرواية لا تتخذ لها أجواء إلا أجواء النفس، وهي ضعيفة بحقيقتها واسعة بخيالها، تمتزج خيال الشاعر ولا تلائم حقيقة الفيلسوف. قد اجتمع فيها كل ألم الشاعر وآماله. وكل ما اعتقد ويعتقد من قواعد في الشعر والفن. وهذه الرواية هي أدنى إلى القصيدة الشعرية منها إلى القصة التي تعتمد على الألوان الخارجية. وهي قصيدة طويلة عميقة الخيال، بعيدة الغور، تصل إلى أعماق الباطن والنفس، يظهر فيها نوفاليس الشاعر وراء الشخصية المبهمة التي تلبس بها. تلك الشخصية التي تستفزها الأحلام وتهيجها الآمال وتفهم الجمال الكلي الذي لا يموت بموت الملامح.
روح وادعة تنظر إلى الوجود بعين الأمل والرضا، يريد صاحبها ان يحمل شقاءه كصديق، ولا يريد أن يوليه مملكة قلبه وعقله كالغالب يعيث فيها فساداً. لأنه يرى نفسه مرتاحة بهذا النزر من الشقاء قال عنه (فردريك شيلجل) (وكان لا يجد أثراً للسوء والشر في الوجود، وكان يعتقد أن كل شيء يستعد ليدخل في حياة ذهبية) ونوفاليس يقول عن نفسه (انو الطبيعة حبتني هذه النعمة، نعمة النظر إلى سمائها ولألائها بعين المرح والسرور) وهذه الكلمة تبدي لنا الحساس (نوفاليس) العميق في الطبيعة، وتفهمه لدقائق أشيائها. هو إحساس لا تغلب عليه العاطفة الهوجاء. ولا تصدمه الحقيقة السائدة في الوجود، وكيف نريد أن نقيد أو نحدد إحساسه وهو الذي آمن بالأحلام ليستطيع أن يكيف الطبيعة كما تبتغي أحلامه. . وهو يبغي أن يحيا في الطبيعة كما يريد لا كما تريد هي. .! ولكن هذا المرح لم يكن مرحاً هائجاً ثائراً، بل كان مرحاً ساكناً هادئاً، يتمشى بين ثناياه ألم عميق إذا تعمق الناقد في باطنه تبينت له تلك السحابة القائمة، وتلك الظلمة الفاحمة. وقد تكون سحابة قاتمة لكنها موشاة بألوان الشفق الوردي: يبدو احمرارها للعين ويتوارى سوادها. وقد تكون ظلمة فاحمة ولكن أشعة قمر مستور يغمرها بشعاع باهت ينيرها ولكن لا يظهرها.
هذا هو (نوفاليس) الذي غادر الوجود ولما يبلغ التاسعة والعشرين، قد غالى قوم في تقديسه حتى نعتوه (بنبي المدرسة الرومانتيكية). وغالى قوم في بخسهم قيمته، فقالوا ان فنه هو مجموعة أحلام صبيانة. والناقد الحق هو الذي لا يغالي في الأمرين. ينظر إلى الأولين فيدرك أنهم أرادوا لو انفسح عمر الشاعر لكان منه ذلك النبي المزعوم. وينظر إلى الآخرين فيدرك أن مقاييسهم كانت قاسية، تريد من الشعر مالا يريد الشعر من نفسه، فيقف(37/54)
بينهما موقفا وسطا ويقول: كان نوفاليس شاعراً تلاه ناس، وسوف يتلوه ناس، لأنه كان شاعر النفس والعاطفة العميقة والأحلام والرموز.
وهنالك - العدوى الفلسفية - وهي اشد سرياناً في الفلسفة منها في الأدب، فان جل البارزين واللامعين في العصر الحاضر إذا حككت مذاهبهم قليلا رأيت فيها كثيرا من مذهب أساتذتهم اللامعين - في العصر الماضي - فمثل هذه القربى يجب ان تظهر وان تحلل، لأن قرابة الفلسفة قرابة جامعة بين الفلاسفة هي أشمل من قرابة الأدب بين الأدباء.
هذه كلمة يتقبلها الأستاذ الأديب ممن لا يحمل له إلا المحبة والإخلاص
دير الزور
خليل هنداوي(37/55)
إلى الأستاذ زكي نجيب محمود
آخذ الرسالة بيدي، وأفتح عيني على أسماء كتابها، فأفرح كلما وقعت على اسم قام بيني وبينه شيء من التفاهم الروحي، وهذا التفاهم هو الذي يدفعني - في كل رسالة - إلى النظر لهذا الاسم، والتحري عنه بين الأسماء. فإذا لم أجده غلب على نفسي شيء من المرارة، لأنني أحببت هذا الاسم وأحب أن أراه في كل رسالة.
بين هذه الأسماء - اسم الأستاذ زكي نجيب محمود - الذي خص الرسالة بصفحات لامعة من تاريخ الفلسفة الفكرية، وقرب كثيراً من أبعادها، وحلل كثيراً من مذاهب أصحابها. وهذه المقالات سدت فراغاً كبيراً في الأدب العربي، وعرفت أهله بأقطاب الفلسفة الغربية بصور واضحة بليغة، هي أوجز ما تكون سطوراً، وأملأ ما تكون أفكاراً.
هذا الاسم أطرب له، وأهفو إليه كلما وقعت عليه، ويستولي على شيء من الخيبة إذا لم أجده بين الأسماء. لأنه أصبح عزيزاً عليّ، لا أريد ان يغيب عني، مهما كانت عوامل هذا الغياب.
إنني أعجبت - بمقالاته الفلسفية - كما أعجب بها كثيرون، وقد رأيت أن هذه المقالات قد تكون أكثر فائدة لو كان يربط ما بينها وحدة متماسكة متراصة، وأريد من وراء ذلك أن يدرس الكاتب العصور الفلسفية دراسة تنتظم فيها دراسة الأشخاص والأفكار والأيام والعصور - أدبية كانت أو فلسفية - لها تأثيرها في الأشخاص كما لها تأثيرها في المذاهب، وخير حل لهذه النقطة - والأمر أمر الكاتب - أن يبدأ بدرس الحركة الفلسفية من بدء نهضتها وثورتها ويأتي على أصحابها ويصف تأثيرهم وتأثير مذاهبهم في التطور الفكري، مع شيء من المقارنة بين المذاهب المتباينة، ومثل هذا الدرس يجعل - للمقالات - وحدة يفتقر إليها من ود أن يقف وقوفاً تاماً على تطور الحركة الفلسفية عند الغربيين، وهذه الوحدة هي لازمة - في اعتقادي - وقد تكون الزم من الوحدة في الأدب لان الأدب الحاضر يستطيع أن يحيا إذا قطع كل أواصره مع الأدب القديم، ولكن الفلسفة - ومسائلها الحاضرة هي ذات مسائلها الماضية - يخطئ من يريد أن يتفهم تطورها الحديث قبل ان يقف على تطورها القديم.(37/56)
العُلوم
ملاءمة الكائنات الحية لبيئاتها
للأستاذ احمد عبد اللطيف النيال
مدرس النبات بكلية العلوم
تختلف الحيوانات والنباتات بالنسبة لبعضها اختلافا عظيما حسب المناطق والأجواء التي تعودت الحياة فيها. فكل كائن نشأ في بقعة اعتاد هو وأسلافه عليها وتدرع لها بخواص تكفل له المعيشة في تلك البقعة على أصلح حال ممكنة.
يعتقد أغلب العلماء الطبيعيين أن الكائنات الحية جميعها نشأت من اصل واحد وفي بيئة واحدة هي الماء. وهذا الكائن الأولى يسهل علية تهيئة نفسه للمعيشة في أي وسط يوجد فيه. تكاثر هذا الكائن ولما أن ضاقت به بيئته نزح إلى غيرها طلباً للمعيشة والغذاء. فلكي ينجح وينمو ويتكاثر لابد له أن يتأهب ويحور نفسه بطرق توافق بيئته الجديدة , استمر هذا الانتقال تدريجياً أعني من وسط مائي صرف (ويغلب أن يكون ذلك الوسط بحراً) إلى نصف مائي ثم إلى أرضي، ومن هذا إلى المياه العذبة والى الهواء. ومن المحقق أن هذا الانتقال قد تدرج على كر العصور والأحقاب في ملايين السنين. وفي أثناء هذا الصراع في سبيل الحياة كانت تنقرض هذه الكائنات التي جمدت أمام بيئتها الجديدة، وعجزت عن الملاءمة بين تركيبها وما يحيط بها - على حين نجح غيرها تدريجياً، وتشعبت أفرعه التي انتشرت في أنحاء المعمورة، وباين بعضها بعضا تبايناً عظيماً وفقدت كل شبه لأصلها ولأقاربها. ويمكن تقدير مدى نجاح الكائن الحي وسعة انتشاره بقدرته على الملائمة بينه وبين الوسط الذي يحتويه.
وقد اجتهد النبات في تكوين غذائه بنفسه واتخذ الأرض أصلا ثبت فيها والهواء وسطا تفرع فيه. ولكي يقوم بكل عمليات الحياة ولوازمها اختص كل جزء منه للقيام بوظيفة خاصة. إذ ضربت جذوره في الأرض لمسافات مختلفة وارتفع ساقه في الهواء لحمل أفرعه حيث تنوعت كذلك لحمل الأوراق التي تفرطحت وتركزت فيها مادته الخضرية لتمكنه من الحصول على أكثر كمية مناسبة من الأشعة الضوئية ومن الغازات الجوية.(37/57)
ولكي يقوى على حمل ذلك الحجم العظيم تكون له هيكل داخلي (الخشب) ليحفظ قوامه من فعل الرياح
أما الحيوان فقد سلك طريقاً آخر لم يجتهد في تحوير نفسه لتكوين غذائه (ولربما اجتهد ولم يفلح) ولكنه طمح إلى أخذه قهراً ممن هو قادر على تكوينه وهو النبات فتركز جسمه ليشغل حجاً صغيراً يمكنه من الوصول إلى غايته وتحورت أجزاؤه إلى أعضاء للحركة تمكنه من الانتقال من مكان إلى آخر. وتناسبت أعضاؤه الداخلية لكل هذه التحورات حتى تقوم بأصلح ما يمكنها القيام به
وتحورات النبات عديدة جداً شملت كل عضو من أعضائه ولكني سأقتصر على ذكر أهمها بالأجمال
نشاهد النباتات التي تعيش على الأرض تختلف عن مثيلتها التي تعيش في الماء، ونسمي الأولى أرضية والثانية مائية، والنباتات الأرضية تختلف باختلاف أنواع الأراضي التي تنبت فيها، فمن صحراوية إلى صخرية إلى تلك التي تنبت في أرض خصبة. ثم إن نباتات المناطق الحارة تختلف عن نباتات المناطق المعتدلة
فنباتات الصحراء مثلا كونت لها جذوراً امتدت امتدادا عظيماً حتى يمكنها أن تجمع ما يلزمها من الماء والغذاء. وضمرت أفرعها وأوراقها لتقتصد بقدر الإمكان ما تفقده من الإسراف في ماء النتح ولقد تحصن بعض النباتات الصحراوية بشكل آخر إذ كون له مخازن مائية يملؤها وقت الكثرة ليتصرف فيها حين الضرورة والقلة، وعلى العكس من ذلك تحورت النباتات المائية لأنها محاطة بغذائها فاضمحلت جذورها لعدم الحاجة إليها وتكاثرت أفرعها على قدر غذائها، وتوسطت بين هذين - النباتات التي تعيش في الأراضي الخصبة إذ تناسبت أجزاؤها امتداداً وترفعاً
أما تأثير الأجواء فله أهمية عظمى في تكييف النبات جملة وأعضائه خاصة. ولقد كان انقلاب الجو وتغييره في الأزمان الغابرة سبباً من أسباب انقراض الكثير من النبات كما كان سبباً في تكاثر بعضها الآخر
سلك الحيوان مسلك النبات وتبعه أينما حل وانتشر في مختلف البقاع وتكيف حسب بيئته. وأهم أعضائه التي تأثرت أعضاء التنفس والحركة. فأعضاء التنفس يمكننا القول إجمالا(37/58)
أنها اتخذت نوعين رئيسين لبيئتين متباينتين هما: الماء والهواء، فالحيوانات التي تعيش في الماء كالأسماك تتنفس بواسطة الخياشيم التي تستخرج غاز التنفس من الماء. والتي تعيش على الأرض أو في الهواء تتنفس بواسطة الرئة، والحيوانات البرمائية كالضفادع جمعت بين هذين العضوين (الخياشيم والرئة) فتستعمل الخياشيم في أطوارها الأولى والرئة بقية حياتها
أما أعضاء الحركة فقد تحورت كذلك حسب حاجة الحيوان، فما عاش في الماء تفرطحت أرجله فصارت كالزعانف يستعملها للسباحة ولموازنة جسمه، وتفرطح ذيله كذلك ليستعمله دفةلحركته كالأسماك والحوت. ومن الحيوانات التي عاشت على سطح الارض ما تعود الجري فاستطالت أقدامه وقويت عضلاتها. ومنها ما كانت طبيعته الوثب فتستطيل خلفيتاه فقط. وما اعتاد الحفر قويت أماميتاه، والحيوانات التي عاشت وسط الأشجار كالقردة استطالت أيديها لتتمكن بذلك من الانتقال من فرع إلى آخر بسهولة وسرعة.
أما ما اتخذ الهواء وسطاً لسيره فتكونت له أجنحة تحمله في ذلك الوسط. وقد اختلفت الأجنحة حسب قوة طيران الحيوان، فأحسنها أجنحة الطيور ثم الوطاويط ثم القوارض الطيارة وأمثالها التي تطير مسافات قصيرة، وأقلها الأسماك الطيارة
ولذلك تغير شكل الحيوان الخارجي وتركيبه الداخلي. فالأسماك وأمثالها اتخذت شكلا مستطيلاً مدبباً وتكونت لها مخازن هوائية داخل جسمها تغير حجمها كيف شاءت فترتفع وتنخفض في الماء حسب رغبتها. والحوت تكون في رأسه تجويف عظيم مملوء بالزيت زيادة على تكوين مادة دهنية تحت جلده. هذه المواد الزيتية والدهنية أقل كثافة من الماء فتساعد على تقليل الثقل النوعي للحيوان
والطيور وأمثالها تحورت نحو تقليل وزنها بتكوين أكياس هوائية كثيرة تخللت كل جزء من جسمها حتى عظامها زيادة على الريش والزغب ومحو الأسنان وتقليل الزوائد وتكييف الشكل الخارجي العام بطريقة مناسبة
يظهر مما تقدم كيف اتخذت الكائنات أشكالاً عديدة تضمن لها النمو والتكاثر في الوسط الذي وجدت به، ولكن إذا لاءم الكائن بيئته لدرجة الكمال كان ذلك سبباً من أسباب انقراضه وتلاشيه إذا حدث تغير عم البيئة التي يعيش فيها ككثير من الزواحف الجسمية(37/59)
المنقرضة وغيرها. ولقد كان الفيل في العصور الماضية يقطن سيبريا وشمال الروسيا حينما كانت تلك البقاع دافئة فلما انخفضت حرارتها نزح إلى أسفل نحو خط الاستواء حتى وصل الآن إلى تلك المنطقة في بقعتين فقط هما: الهند ووسط أفريقيا، وانمحى بتاتاً من كل البقاع التي مر بها تاركاً آثاره ومعالمه، وقد ثبت ذلك بصفة قاطعة، فقد وجدت آثاره في مصر (بالفيوم) وفي سيبريا حيث يستخرج منها سن الفيل المنقرض ويستعمل في أغراض صناعية
وهناك حيوانات ذات قدرة على المعيشة في مختلف البيئات كالفأر والعصفور الصغير فأنهما منتشران الآن في جميع أنحاء العالم، مثلهما مثل الكائنات التي قاومت الانقلابات، الجيلجية في العصور الماضية فعاشت وأنتجت كائنات الأجيال التالية، وقد حدث في بعض جزر المحيط الهندي والهادي أن انتابتها براكين دمرت ما عليها من حيوان ونبات ما عدا القليل الذي أصبح أصلا نتجت منه الأجيال التي تكاثرت بتلك البقاع بعد ذلك
وإذا جفت البحر في منطقة ما، انقرضت الكائنات التي تعيش فيها، فمناحم الزيوت والأسمدة التي بمصر على ساحل البحر الأحمر كانت مغطاة بالمياه ثم جفت فماتت حيواناتها وتراكمت وتغطت بطبقات أرضية وتحللت أجسامها وتكونت منها الزيوت والأسمدة المختلفة التي تستخرج الآن من تلك البقاع
ومناجم الفحم أصلها غابات ناضرة نمت في العصور الغابرة، فلما انتابها تغيير فجائي في بيئتها سقطت وتغطت وتحللت وتكونت منها المناجم التي يستخرج منها الفحم الآن
وكثيراً ما انتاب سطح الأرض من الانقلابات ما غير معالمها فكان رائع التأثير على الكائنات التي تعمرها. فيأخذ بعضها في الانقراض ولكن لا يلبث أن يتكاثر ما يفلت من هذه الكوارث فيعمر البسيطة كرة أخرى فسبحان من يبدأ الخلق ثم يعيده.
أحمد عبد اللطيف النيال(37/60)
القصص
ليلة ضائعة
مسرحية ذات فصل واحد
تأليف شارل كليرك
ترجمة فتحوح نشاطى
أشخاص الرواية
ممثلة التراجيديا العظيمة: راشيل. الشاعر ألفريد دي موسيه. لوردي برانكور. ايفون: وصيفة الممثلة
تقع حوادث الرواية حوالي سنة 1840 في باريس
(يمثل المنظر صالون استقبال صغير في قصر الكونت دي كاستلان أعد لتستعمله الممثلة الكبيرة مقصورة مسرحية. عند رفع الستار تدخل راشيل حاملة باقة فخمة من الزهور يصحبها دوي التصفيق والهتاف فقد ألقت في حفل أرستقراطي حاشد قصيدة رائعة للشاعر الخالد الفريد دي موسيه: ليلة ضائعة. ولا تكاد تخفت عاصفة التهليل حتى يسمع من بعيد عزف كمنجة حنون)
المشهد الأول
راشيل - ايفون
راشيل (لوصيفتها) لا أحد! هل تسمعين؟ لا أستقبل أحداً! سنرحل على أثر انتهائي من تمثيل مشهد (هرميون). .
ايفون - (ملحة) ولكن. . . معالي الوزير سيدي الكونت دي شاتل جاء قصداً خصيصاً ليحظى برؤية راشيل العظيمة على انفراد
راشيل - لا حد
إيفون - (قارئة البطاقات المشبكة بباقات الزهور) واللورد بروجهام؟ أيمضي إلى حال سبيله؟ والكونت دي موليه الذي لا يجازف ببطاقته إلا داخل باقات ملكية؟
راشيل - (ضجرة) أرغب ألا أرى أحداً الليلة!(37/61)
إيفون - كيف يا سيدتي؟ أتراك تبدلت نفسك؟ أقدر لنا أن نلقى معبودة فرنسا وقد عادت نافرة ملولا تزهد في بخور الإعجاب الذي طالما نشقته وهي نشوى بعطره المتصاعد؟ هل أضحى الظفر أو هي جاذبية من أن يستوقف خاطرك الحزين؟
راشيل - (وقد ارتدت لباس هرميون) لا أراك مصيبة في فهمي يا ايفون - يشوقني حقيقة في المسرح إعجاب الجماهير التي تؤخذ بنبرة هرميون الصادقة وإشارتها البسيطة - لكن هنا، في قصر آل كاستلان، داخل هذه الصالونات الصاخبة التي يتناوب تمثيلي فيها عزف الموسيقى! هنا حيث لا يحتفون براشيل ولا يمجدونها الا لأنهم يرونها عن كثب. هنا حيث أستبين في العيون الشاخصة إلى شهوة ملحة أكثر مما ألمح فيها إعجاباً خالصاً!
ايفون - كفى إذن عن أن تكوني فتية وجملية!
راشيل - لقد عدت برمة بهذه الجمهرة من العشاق المتزاحمين حوالي كالفراش! أتدرين ما الذي يجذبهم اليّ؟ انه المجد. . . مجدي الذي صنعته بيدي مفرقي! هل دار في خلد واحد منهم أن يجازف بعاطفة حنون نحوي أيام كنت أسابق ظلي على الطريق الموحشة، في الريف عارية القدمين، وحيدة، بائسة؟ أمضي بهذه الزهور بعيداً عني. . . أريحي عيني من مرأى هذه البطاقات. . . جميعها. . . جميعها. . . أريدني الليلة سيدة نفسي! (لنفسها وقد جلست إلى مرآة الزينة بينما ترتب الوصيفة باقات الزهور)
لم يجيء موسيه حتى الآن! أن سهرة نسائية شغلته ولابد عن الحضور لسماعي وأنا القي قصيدته. . . إيه! أراني أسعى وراء أحلام طائشة! لننس الناسي!
(طرقة خفيفة على الباب) من الطارق أيضاً؟
ايفون - إنها تلميذتك، مدموازيل دي برانكور التي تستأذن راشيل - هي. . . بلا شك. . . على الرحب والسعة. . . فلتدخل. . .
المشهد الثاني
راشيل - لوردي برنكور ثم يعد حين الوصيفة
راشيل - (للور) أنت هنا يا عزيزتي لور؟
لور - نعم يا صديقتي العظيمة - أكاد أكون من الأسرة.
فصاحب القصر الكونت دي كاستلان قريبي. لكم رددت في حداثتي أشعار فلوريان تحت(37/62)
هذه الصورة الخطيرة التي تمثل أحد أجداد هذه الأسرة الكريمة، فقد جذبني المسرح إليه منذ ذلك العهد البعيد
راشيل - (مجاملة في عطف) وما زالت تتألقين في سمائه!
لور - بفضل تعاليمك الغالية التي تسدد خطواتي المتعثرة! أعلم أني تلميذة جهول، غير أني أرحب دائماً بانتصاراتك الباهرة واصفق لها من كل قلبي! شد ما أعجب بك الحضور الليلة!
راشيل - لا تخادعي نفسك! لقد أعجبوا بي ولكنهم لم ينظروا إلا إليك! لو أني أكثر أنوثة وأقل ولوعاً بفني لحسدتك على سنيك التسع عشرة المتألقة!
لور - شبابي اعجز من أن يسامي عبقريتك! أنت يا من تجمعين إليك أرواح الجماهير لتمضي بها نحو المثل العليا! أنت التي لم يعوزك لتتسنمي قمة المجد - أكثر من ليلة صغت إليك فيها باريس. ثم توجتك أميرة للمسرح! أنت يا من تبعث مواهبك الفذة كورنيل حياً بعد راسين، والتي ينحني العالم مشدوهاً أمام نبوغك المشرق! أي حلم!
راشيل - (في حرارة) الحلم جميل نعم. . . لو يدوم ولو لم تبدده ريح النسيان العاتية! أسفاه! من يمجدونني اليوم هم أول من يمزقونني غداً! ولا أعود أجد بعد قليل بين آلاف المعجبين غير شاعر واحد يصون مجدي من البلى: هو الذي سمعته من هنيهة
لور - موسيه؟ إن الأشعار الجديدة التي أنشدتها منذ حين ستبقى عزيزة على من صفقوا لها معجبين. أكاد أسمعها تتغنى في حافظتي فهي لعذوبة معانيها وروعة صورها أقرب إلى الذاكرة وألصق بالفكر: الشاعر الحالم وسهرة الكوميدي فرنسين؛ العنق الرشيق الناصع الذي ينوه بفرعة الفاحم، والذي يبصر به الشاعر فجأة وهو يستعرض الوجوه بمنظاره، فيستوقف منه النظر والفكر حتى ساعة الرحيل، الصورة الخيالية الباهرة التي تبارى في رسمها شاعران كبيران، والتي استلهم فيها موسيه بيتين من شعر الشاعر شنييه. . .
راشيل - (تردد الأبيات المعنية) (تحت رأسك الظريف يتثنى عنق بض، رشيق (يكاد لفرط بياضه أن يكسف نصاعة الثلج)
لور - يظهر لي أن لغزاً دقيقاً يستتر خلف هذه (الليلة الضائعة) وأكاد أفترض لحظة أن راشيل ربما كانت تعرف العابرة الجميلة التي تراءت للشاعر المحبوب(37/63)
راشيل - (مرحة) أبدا! لم أمثل في حياتي أدوار العجائز اللاتي يعمد إليهن أبطال الروايات للمارة! فيم إذن تحلم الفتيات الطائشات؟ ثم ما يدريك أن موسيه ما زال يذكر للآن تلك الرؤيا الخفية التي مرت به كومضة البرق الخاطف؟ هذا الرأس الجميل الذي لمحه موسيه ليلة في مسرح إن هو في عرفي إلا خيال شاعر! وما احسب موسيه متأثراً إلا بروعة الأبيات التي خطها يراعه للخلود!
لور - تتهمينه بما هو براء منه. . . واعتقد. . .
راشيل - ليكن، أخطأت! انتشى إذن وحدك بهذه القصة الوجدانية الخيالية فهي من سنك!
لور - ولكنك لم تبلغي العشرين بعد!
راشيل - القلب الذي يسيطر عليه الفن يذوي قبل الأوان ويعود يؤمن بالأشعار الجميلة اكثر مما يؤمن بأحلام الشاعر
الوصيفة (داخلة) يطلبونك يا سيدتي
راشيل - في الحال. . . أنا على استعداد
(تخرج الوصيفة)
لكن، يا للفوضى!
لور - (وهي تقترب من مرآة الزينة التي وضعت أمامها الممثلة العظيمة حليها بين عقود وخواتم) اطمئني! آخذ على عاتقي ترتيب كل شيء!
راشيل - امضي إذن واثقة بسلامة حلي من الضياع؟
(تخرج)
المشهد الثالث
لور - ثم - الزائر
لور - (لنفسها وهي تجرب الحلي التي تجمعها) تروقني هذه اللآلئ الصافية. . . هذا الخاتم في إصبعي يغريني بالزهو والعجب. يا لدنيا المسرح العجيبة! ترى ما الذي حل براشيل هذا المساء. تبدو لي كئيبة، متجهمة! أيكون لانقباضها علاقة بهجمات ذلك النقادة الظالم الذي ادعى أنها خيبت آمال اصدقائها في رواية (با يزيد)؟ على أن هذا محض افتراء! فما رأت عيني سلطانة أروع وأجمل منها في دور (روكسان)! لقد دافع عنها(37/64)
موسيه. وأحسن صنعا فالجمال حقيق بكل تقديس وعبادة!
(يدخل الزائر فلا تلحظه لور وقد جلست مدبرة للباب. الزائر غاية في التأنق يلبس (فراك) السهرة والصديرى الأبيض)
الزائر - مساء الخير يا راشيل!
(تلتفت لور فيتولى الزائرعارض من الدهشة، رجة نفسانية يكبحها في الحال) أنت!
(يملك روعة وقد تبدلت لهجته) أوه! عفوا! مدموازيل! ما كنت أتوقع. . . ودهشتى لا تحد. . . طرقت متطفلا ودخلت دون استئذان. . .
لور - أبدا يا سيدي. . . لكن راشيل تمثل الآن مشهد هرميون فعجل إن شئت مشاهدتها
الزائر - هل أنشدت بعض أشعار؟
لور - نعم، ارق وأعذب قصائد الوجدان، أبيات شجية للشاعر موسيه، تلتها علينا من لحظة قصيرة بين الإعجاب والتهليل ذكرى (ليلة ضائعة)، عمل أستاذ قدير!
الزائر - قرأت أخيراً هذه الأشعار الجديدة وتمنيت لو أسمعها لكني وفدت متأخراً، أنا أيضاً أعد موسيه شاعري المفضل. يشوقني فيه فنه الساحر: ذلك المزيج البارع من الحنان الصادق والأسى العميق!
لور - حرمت على مطالعة (قصص إيطاليا) غير أني نعمت بقراءة (فانتزيو) وشاركت (فينون) أحلامها الذهبية! لكن لنعد إلى قصيدة الليلة. آه! يا سيدي لو تدري كم أجهدت ذهني في التقصي عن مجهولة الليلة الضائعة أهي كميل أم سيسيل؟ من تكون يا ترى تلك الفتاة الصبوح ذات العنق الناصع. من؟
الزائر - إنها العذراء الفاتنة التي تشبه الاثنين على غير علم منها!
لور - (متابعة فكرتها) وهكذا قدر للملهمة أن تجهل القصة الرائعة التي الهمتها! لو أنها تكشفت هذا السر لعادت به جد فخورة!
الزائر - تظنين؟
المشهد الرابع
المذكوران. الوصيفة.
الوصيفة - أوه! عفواً! جئت أبحث عن فراء سيدتي (تبصر بالزائر) أنت مسيو دي(37/65)
موسيه؟ وما وقوفك هنا؟ تعال: كيف؟ يمجدون راشيل. وتهجرها؟
موسيه - أسير إليها في الحال. . .
الوصيفة - عجل فقد تكاثر من حولها الإعجاب! (تخرج)
المشهد الخامس
موسيه - لور
موسيه - (للور وقد بهتت مأخوذة حيرى) ثقي أني ما استرقت سرك إلا بالرغم مني، فلولا هذا اللقاء العزيز الذي لم يكن ليؤمله قلبي لقدمت إليك نفسي لأول بادرة. إن العابرة المجهولة التي تطوف في سماء قصيدي قمين بك أن تعرفيها. تأملي هذه المرآة. . . المجهولة الجميلة أنت! كنت ترتدين تلك الليلة ثوباً وردياً، وكنت قد وصلت متأخراً إلى المسرح - فجأة - بينما كنت أجيل بصري في أرجاء تلك الصالة التي استحوزت عليها سخرية (ألسست) اللاذعة فجعلتها تضج بالضحك والإعجاب - لمحتك في مقصورتك. . .
لور - (في خفر صادق) أمسك ياسيدي. . . لا تزد حرفاً ارجوك. . . أرى لزاماً على أن أفارقك. . . فما أخالك إلا شاعراً بالضيق الذي طوح بي إليه اعترافك. إنني جد خجلة. . .
موسيه - وأنا جد سعيد. هذه الليلة الهانئة تبدد جهمة الليالي العاصفة التي تملأ قلب الشاعر بالشك المقيت! أن أشعاري التي تحبينها هي صفوة ما كتبت، ولقد بت أستحسن ما تفضلين في قصائدي من شعر طهور ورؤى علوية ما دام قلبك العذري خفق لها خفقة الإعجاب. نعم، صدقيني يا آنسة. نينيت ونينون أختان لك. أراهما على صورتك. لهما عيونك وصوتك. إني لم اعد أستطيع أن افصل عن خيالي الفني هذه الأبيات التي رسم لك فيها شينيه صورة مخلدة (تحت رأسك الظريف يتثنى عنق بض رشيق)
(يكاد لفرط بياضه أن يكسف نصاعة الثلج)
لور - عندما أنشدتنا راشيل هذه الأشعار تأثرت بها نفسي أقل بكثير مما تأثرت الآن، لقد تجلت لي فجأة بهجتها السحرية! وهأنذا استعيد ذكرى تلك السهرة التي قضيتها بالكوميدي فرنسيز في أدق تفاصيلها ولأول وهلة تتضح في عيني معالم قصيدتك وتتناسق. أذكر وقد جلست محازاة والدتي أني شعرت بنظرة ملحة تحوم حولي مرتقبة نظرتي. يا للعجب! بينا كنت أغرب في الضحك غرامية عجيبة؟ هل متفكهة بمشهد (اورونت) لم يهجس ببالي أني(37/66)
كنت أحيا قصة كنت تتابع الرواية أنت الآخر.
موسيه - ما كنت أرى إلا إياك! لقد تبعتك في فترة الاستراحة القصيرة وحمت حواليك أتملى محاسنك الغضة، وإذ أنت توشكين العودة إلى مقصورتك سقطت منك عفواً مروحتك فخففت التقطها وقدمتها إليك واجف القلب واليد، تذكرين؟
لور - (حالمة) نعم أذكر تلك الليلة تعاودني اللحظة كالذكرى السعيدة!
موسيه - ليلة أقل سحراً وقداسة من التي تعود بك إلى مازجة جميع أعطار العالم بعطرك الشذى! أنت وأنا يا للغبطة! ومع ذلك ما أراني أجتزئ أن أصعد فيك بصري يا مليكة العطور والزهور! ألا ليت الزمن الحاني يقف بنا متمهلاً! يا للساعة السعيدة التي يرود الحب فيها حوالينا موحياً إلى قلوبنا العطشى أن تعتصر خمرته الإلهية مذكراً إيانا أن الحياة حلم غامض لا مغزى له إلا عند من جمعوا شتيت آمالهم في يوم هني!. . . أرى الدنيا تتداعى حواليك ولا أبصر في وهيج المصباح الذي ينير بقربك آنية شفافة. غير عينيك النجلاوين وشفتيك اللتين تفوقان زهر الربيع نضارة وبهاء! أحبك
لور - (مقاطعة) أخشى هذه الكلمة. . . أخشى ألا تكون منبثقة من أعماق قلبك وأن تكون مخادعي بها وأنت تخدع نفسك، ألم ترددها من قبل على راشيل؟
موسيه - احبك! أنا لا أدري عنك شيئاً، ومع ذلك فقد ملأ طيفك النوراني سماء خيالي في كل وقت. هي انت، هي صورتك التي كانت تتبدى لي في ليالي سهادى، وأنت في الحق خيالي الشعري تجسم حيا! كل ما أعجبك في أعمالي الأدبية، هي أنت! لكم تشفعت بك واستنجدت في أيامي العصيبة المحمومة. كنت أرتقبك كما يرتقب الغريق صخرة النجاة، وكما كانت ليالي المدلهمة تتشوق لمطلع فجرك! أحبك!
لور - الآن اصدق. وبودي لو أصارحك بما يجيش في صدري من أمان خفية لكن وا أسفاه! أما زلت حرة؟ لا ادري. شت فكري! كيف يمكنني ان أكون لك بينما أرى كل شيء يفصلنا؟ لقد تم اختيار أهلي. . فهل يحق لي أن أخالف الرغبة الوالدية فأتصرف بنفسي كما يحلو لي؟
موسيه (محزونا) نعم أنت محقة. . . أحس يدك ترتجف اكثر مما يجب بين يدي كي لا أردها إليك في الحال! وا أسفاه! حرمت حتى هذه التعزية، الأخيرة واراني ملوماً إذ تجرأت(37/67)
على الكلام دون ان استوثق من اني اطرق قلباً خالياً. فهل تتجاوزين عن نزوتي المختبلة؟
لور - (مادة له يدها) إنسني!
موسيه - وهل يرتجى فيك نسيان؟ أتموت الذكرى التي قدسها الألم كما تغيب لؤلؤة داخل علبتها الذهبية؟ إن الألم المقدس الذي يحيى ميت الإرادة ويشحذ الهمة الشماء، الأم الذي يرهف قوى النفس ويصمد لحوادث القدر كالسنديانة في مهب العواصف، ذلك الألم الإلهي الذي يغسل الأفئدة المجدودة، أحسست به اليوم لأول مرة! بفضلك سأدين لك آخر الدهر يبعث قلب جهله الكل وظنوا ماء الحياة فيه قد نضب!
لور - (بعطف) الوداع!
موسيه - لا لا ترحلي بهذه السرعة! سينتهي حلمي بعد حين غير تارك في قرارة نفسك سوى ذكرى عفيفة! انك إذ تلمسين مدى سلطان محاسنك البريئة على، لا تتنزلين عن جزء من طهارة قلبك! هل تروح زنبقة الوادي أقل نصاعة، لأن ظلال السحر تطيف بجمالها الفتان؟ قد تمسى أحزاني أهون حملا لو أضاءتها مثل هذه الساعة الحنون! أبقى، أرجوك! فلن تخجلك بعد ارتحالي، نجوى هذا القلب الذي باح رغماً عنه بكل ما يكن لن تصدقي بعد اليوم جميع ما يذاع عني ما دمت تحتفظين إلى الابد بذكرى اللحظة التي تنسمت فيها زهرة القبلة على شفتيك بينما كان في مكنتى وقد استشعرت رجفة يدك في يدي ان اقطف تلك الزهرة العلوية!
لور - (مبتعدة عنه) أقبلت راشيل! ترى. هل أملك الوقت الكافي لابثك عميق اضطرابي؟ وا أسفاه! لابد لي من اصطناع الابتسام وتكتم عذوبة هذه العاطفة الوليدة! أخشى أن يخونني ثبات جأشي!
المشهد السادس
المذكوران - راشيل ثم الوصيفة
(راشيل للوصيفة من الخارج) سأتناول الطعام في البيت. إني أتهالك من فرط الإعياء!
(تبصر بموسيه)
يا للمفاجأة! انت. موسيه؟
موسيه - (مقبلا يدها) نعم، قدمت متأخراً. كنت مرتبطاً بسهرة ولم استطع الفرار. . .(37/68)
سوف أشرح لك
راشيل - (متخابثة) ولكني حذرت كل شيء أيها العزيز!
موسيه - ترينني شديد الأسف. سامحيني.
راشيل - سامحتك. وهل أملك أن أكون صارمة حيال الصديق الشاعر المحبوب الذي تقودني حكمته وينير مجدي حماسه؟ لقد هبت ذئاب النقد تتواثب حوالي شخصي الضعيف فلم ألق غيرك يثبت إيماني بنفسي. ترى، أهي الصداقة التي أملت عليك موقفك إزائي أم اليقين؟
موسيه - الاثنان معاً. ثقي أني ما كتبت غير ما يجول بخاطر باريس جميعا! إنما أنت عنوان فخرنا، بك ننفس ونزهو على العالمين! إلا دعى الحمقى الأغرار يتزاحمون عليك رجاء النيل من عزيمتك: لن ينتزعوا من ذكرياتنا الحية (هريميون) ولا (مونيم) ولا اللهب المشبوب الذي يتطاير من هذا القلب الفتى الخفاق! اندبي يا أميرة المسرح (بايزيد) الملك بييروس، فكل دمعة منك ترتفع بمجدك الناشئ وبفننا المسرحي أكثر ألف مرة مما نفيده من نقد جميع الناقدين!
راشيل - أشكرك وأومن بقولك. كنت الليلة في حاجة ماسة إلى كلمة مشجعة، إلى شعاع من الأمل. سأدرس (فيدر) عقب عودتي إلى المنزل. هذا الدور معقد أحلامي! قرأته عشرين كرة بعيني التلميذ، وأطمح في تمثيله وشيكا
لور - تعملين الليلة؟ ولكنك لم تستريحي اليوم!
موسيه - (للور) الفن طاغوتنا!
راشيل - اذن، فلا تحرر من ربقته. لور محقة. موسيه. . . أدعوك إلى العشاء معي. سوف نتذاكر الماضي العزيز: عشاءنا الأول الذي كان غاية في الفقر والظرف. أتذكر تلك الليلة البوهيمية التي خدمتك فيها بنفسي أثر عودتنا من الكوميدي فرانسيز؟ قرأنا، ليلتها فصلين من (اندروماك)، بعد أن تناولنا، فرحين، شايا ممزوجا بالروم! تعال: سنعيد السيرة من جديد. . . وأكرم وفادتك. . . خيرا من الماضي!
موسيه - (وقد لحظ القلق يستولي على لور) صدقيني. لم انس راشيل الناشئة وتغريني هذه الدعوة الحبية، لكني لا أجد الليلة من نفس حافزاً للهو والمرح، خصوصاً وقد وعدت(37/69)
بالسهر على مقال يرتقبونه من زمن مديد. . . خذلني تكاسلي مرات عديدة فلا أرى الهرب من الواجب، مرة أخرى!
راشيل - يا للعذر الواهي! وإن أضعت أيها العزيز ليلة أخرى!
موسيه - (شاخصا إلى لور) لا. بت والأسف يحز في نفسي على بعض (الليالي الضائعة)
راشيل - (تتطلع نحو الاثنين ثم تقول وقد فهمت كل شيء) الليالي الضائعة؟ أو أثق أنت من ضياعها؟ أراهن انك التقيت بالعابرة المجهولة وأن قلب عذراء في العشرين سيحلم الليلة بالأبيات الخالدة التي ألهمتك إياها إحدى هذه الليالي الضائعة، لقد اهتدت فطرة ذلك القلب السليمة إلى ما تبقى في نفسك من صدق ونبل وحنان وإني لا بصر وأنا أهتك سرك - بموسيه مجهول ربما كان هو موسيه الحقيقي!
موسيه - (في تأثر بالغ) مساء الخير يا راشيل!
(يقبل يد الممثلة ثم ينحني طويلا أمام لور التي تكتفي بكلمة تعبر له عن شدة تأثرها واغتباطها برفضه قضاء السهرة في مرح)
شكرا
(يخرج موسيه)
راشيل - (للوصيفة) على بمعطفي!
(تخف إلى لور التي تابعت الشاعر بعيونها وتقول)
أما أنت يا صغيرتي لور فصدقيني: لك أن تفاخري بهذا الحب!
(ثم لنفسها في أسى مرير)
لم يناجني موسيه قط بمثل هذه النجوى القدسية!
- ستار -
(النقد
قصة خسرو وشيرين
والشعر المرسل
بقلم احمد حسن الزيات(37/70)
ألقي إلينا في البريد رواية شعرية في خمسة فصول، بعنوان (قصة خسرو وشيرين) لا تحمل اسم ناظمها، ولا عنوان طابعها، ولا تتسم بشيء من السمات الدالة على الشخصية، فكأنها الوليد البريء جاء لِغِيَّة فألقى على مدرجة الطريق، متروكا لرحمة القدر أو قسوته.
الرواية جليلة الموضوع، نبيلة المغزى، جميلة النسج، ينم سياقها وحوارها على قلم مدرب، وفكر ناضج، وثقافة عالية، فلا يمكن أن يكون المؤلف قد أرسلها غفلا، فرارا من تعقب الدين أو القانون أو الأدب أو الفن، إنما علة هذا التخفي على ما يظهر من المقدمة تمكين الناقدين من الرأي الحر والحكم الصريح في قضية الشعر المرسل.
فان المؤلف كما تدل المشابهة القوية بين ما نشر من هذا الشعر في (الرسالة) وبين ما جاء منه في هذه الرواية، زعيم القائلين به والقائلين فيه، فهو بذلك يضع المثل أمام القراء والشعراء ليقطع حبل الجدل، ويخرج من النظر إلى العمل، ويجعل الدفاع عن هذا المذهب لقوة الحياة فيه، ومبلغ الفائدة منه.
أضف إلى ذلك إن المؤلف يدرك نبو هذا الشعر في ذوق الجمهور فهو يريد أن يوسع له في مجال القول، ولا يجعل لاعتراضه أو امتعاضه حدا من الصداقة أو المجاملة. قال الأستاذ في المقدمة:
- (أرجوك العفو أيها القارئ عما يمكن ان تتحمله في قراءة هذا الـ. . . (ماذا أسمي هذا؟ أظن خير تسمية ان أسميه المطبوع). وأنك إن قرأت منه كلمة واحدة أو سطراً واحداً ثم رميته كارها كنت عندي معذوراً، فهذا ما توقعته، ولا عجب في الأمر إذا كان متوقعاً ولست عندي معذوراً فحسب، بل انك جدير بشكري، إذ أنك قرأت منه شيئاً في حين أن كثيراً من الناس إذا وقع لهم مثل هذا المطبوع لا يقرأون منه حرفاً بل يقلبون صفحاته تقليباً سريعاً، ثم يرمون به إلى أقرب موضع، ولكنهم مع ذلك لا يترددون في ان يبدوا رأياً في عيوبه أو محاسنه إن تكرموا. وأما إذا أنت صبرت أيها القارئ فقرأت سطرين أو ثلاثة من هذا المطبوع، ثم قذفت به حيث أردت لم تكن في ذلك بالمعذور، بل كنت متفضلا مضحياً من أجل مجاملتي مع أنك لا تعرف من أنا، وفي هذا أدب عظيم وكرم مطبوع، وأما إذا كنت قد بلغت من قوة ضبط النفس ورياضتها على المكاره بحيث استطعت ان تثبت على القراءة حتى أتيت إلى آخر كلمة، ثم تركت لنفسك العنان بعد طول كبحها(37/71)
وحبسها فانطلقت تصخب وتشتم وتنادي بالويل والثبور - إذا فعلت ذلك كنت في نظري بطلا من أبطال العزيمة وقوة الاحتمال. على أنك لو فعلت ذلك لم يمسسني منك أذى وان بلغت في ثورتك مبلغاً مخيفاً، لأني قد توقعت مثل ذلك فأخفيت نفسي حتى لا تتحرج فيما تفعل، فلعلي إذا أظهرت لك شخصي بدوت لك صديقاً أو ممن يمتون إليك بسبب فتجاملني أو تكظم غيظك عليّ، فيكون في ذلك أذى لك لا أرضاه. فافعل ما بدا لك أيها القارئ. ولا تتورع فان أحجارك أو سهامك لن تصل إليّ).
ذلك ما بدأ به المؤلف الفاضل مقدمة الرواية، ومن وراء سطوره كما ترى إغراء بالقراءة. وتحريض على النقد. وعتاب ساخر لمن يقول في الشيء بغير علم. ويحكم عليه من غير خبرة.
فإذا علمت بعد هذا انه لم يعرض روايته في السوق، وإنما أهدى ما طبع منها إلى الأصدقاء والأدباء ازددت يقيناً بأنه لا يريد غير محاكمة المذهب، وسواء بعدها أكنت له أم عليه.
على ذلك نصارح الأستاذ برأينا في الشعر المرسل، ونحن أشد ما نكون اطمئناناً إلى رضاه، ووثوقا بحسن ظنه.
لقد قرأت الرواية وحاولت أن أوفق بين شعرها المرسل وذوقي المقيد فلم أفلح. فالأبيات تطربني بأجزائها المتسقة، وألفاظها المختارة ومعانيها السامية. ولكن أواخرها النواشز تتناكر مع الطبع والسمع فتذهب بحلاوة سياقها وعذوبة موسيقاها. اقرأ معي قوله في الفصل الأول ص14
شيرين:
جئت حينا هنا، فألفيت أرضا ... غير ما اعتدت إذ تكون بجنبي
كان لون الزهر غير بهيج ... وخرير الماء غير جميل
وقوله في الفصل الثاني على لسان خسرو ص41
خسرو:
لا أرى في الأنام أحرى بسخر ... من معنى بكاذبات الأماني
من يكن همه التماسا لرزق ... لم يجد في طلابه أسقاما(37/72)
قد يهيم الفقير بين الفيافي ... في التماس الاحطاب والأعشاب
فإذا فاز بعد جهد جهيد ... برغيفين لم يعكره هم
غير أن الذي يحاول مجداً ... يدع النوم والسلام ويأبى
ثغرة الابتسام حتى إذا ما ... طالعته المنى رآها سرابا
وقوله في أول الفصل الخامس على لسان جنديين يهيئان مجلساً في بهو القلعة لخسروا السجين ص103
الأول: إن في الفقر سلوة يا صديقي.
الثاني: فتمتع به وحيداً هنيئاً إنني لا أراه إلا عذاباً.
الأول: قد أمنا في الفقر غدر الليالي.
الثاني:
هل ترى تلك نعمة ان أمنا ... إذ بلغنا الحضيض؟ أي أمان!
الأول:
ليس في الفقر لو علمنا شقاء ... أنا إن جعت كان حسبي رغيف،
وإذا ما تعبت نمت عميقا ... لا أبالي إذا تعريت صيفا
وشتائي لباسه جلد شاة
الثاني:
لا تبالي إذ كنت فرداً وحيداً ... ليس يبكي الأطفال حولك جوعا
كن كما شئت، عش فقيراً، فإني ... حانق حاقد على إملاقي
الأول:
يا صديقي أكنت ترضى بعز ... ثم تهوى إلى قرار سحيق؟
سل عن المجد والعزازة كسرى، ... بعد أن ذاق ذلة المأسور
الثاني:
ان قلبي يسيل هما إذا يا ... من كسرى يختال في الأسر كبرا.
الأول:
حسبه شقوة إذا كان قوم ... مثلنا يرحمونه في شقائه. . .(37/73)
يا صديقي لا تغتر بلباس ... للامع قد يكون ستراً لبؤس.
ماذا تجد في حسك من هذا الشعر؟ ألا تجد في ذوقك المطبوع على نغم القوافي العربية نفوراً من هذه الفواصل المتدابرة؟ لقد كان هذا النشوز يخف لو راعى الأستاذ الشاعر اتحاد الأصوات في أواخر الأبيات كقوله مثلاً على لسان سرجيس:
قد علمنا أن الحياة غرور ... ثم لا نستطيع غير الغرور
جعل الله في النفوس نزوعا ... لاضطراب الحياة رغم العقول
فان بين الغرور والعقول مزاوجة تلطف من وقعمها على الذوق الحساس والعادةالموروثة: ولكن أين هذا وذاك من قوله في ختام الفصل الخامس على لسان شيرين (ص129)
أيها الذاهب الشهيد بنفسي ... ما أصابتك من جروح دوامي
قد أسالوا الدم الزكي. وأني ... تنفع المدنف الدموع الهوامي؟
ذهب اليوم صاحب وحبيب ... كان من هذه الحياة نصيبي
فجعوني به، فكيف حياتي ... بعد أن غاب عن حياتي حبيبي
شيرويه (يرى شيرين فيظهر التألم)
وا أبي! صرعة العظيم قضاء ... عرفته النجوم منذ القديم.
قد أراد القضاء ما كنت أخشى، ... ما احتيالي في الكائن المحتوم؟
شيرين: (لشيرويه)
أنا أبكي والدمع حسبي، فمالي ... حيلة في المصاب غير دموعي
ليس لي الصولجان والسيف حتى ... أندب الملك بانتقام وجيع.
شيرين:
دع لمثلي الدموع، فهي دوائي ... من شجون لواعج وكلوم
فجعوني بصبيتي تحت عيني، ... وأسالوا دماء قلب سقيم
ثم ضحوا بصاحبي وحبيبي، ... وا فؤاداه للصريع الكريم!
أسعفي يا دموع قلبي حتى ... أجد الطب في الهلاك الرحيم
ففي هذه الأبيات اشتد التأثير في الموقف، وقوى الشعور في الأشخاص، فغلبت القافية إرادة الشاعر، وجاء المنظر الختامي حجة عليه ونقضاً لما عاناه من ترويض الآذان على الشعر(37/74)
المرسل
إنما يتميز الشعر من سائر ضروب الكلام بخصائص ثلاث: موسيقية شديدة الحساسية، وصعوبة عسيرة التذليل، وقدرة على تثبيت الفكرة بلفظها في الذاكرة. فالشعر المرسل يستطيع أن يدرك شيئاً من الموسيقى إذا زاوج الشاعر بين أواخر الأبيات، واستفاد من الحرية التي أعطيها، فتخير الألفاظ، وعدل الأقسام، وألف الألوان، وحرك المعاني، ونوع الصور، وأخشى بعد ذلك كله ألا يرتفع عن النثر البليغ المحكم. ولكن الصعوبة التي تلقى الشاعر في كل بيت عند القافية فيسلط عليها ذهنه وفنه وذوقه ولغته حتى يفجأ أذنك - وهي تنتظر في غير صبر - بتلك الحيلة الفنية، واللفتة الذهنية، والكلمة الصادقة الموسيقية، لا تجدها في غير الشعر المقفى
كذلك يعجز الشعر المرسل عن أن يهيئ للذاكرة في التمثيل - على الأخص - ما تهيئه لها القافية من (نقط الارتكاز) وعلائم الطريق حتى لا تجور ولا تضل.
على أن تسهيل الشعر بإلغاء القافية يخمد الذهن ويجدب القريحة، لان الصعوبة ترهف الفكر فيدق احساسه، وتوقظ العقل فيزيد انتاجه، وتبعث الفن فيحيا بين الهام الشاعر وإعجاب القارئ
والواقع أن القافية لم يشكها شاعر مطبوع ولا ناظم مطلع، فان الطبيعة الغنائية للشعر العربي من جهة، ووفرة الثروة اللفظية للشاعر من جهة أخرى، تجعلان القافية من أخص لوازم الشعر واسهل ضروبه. ولك في الأراجيز القديمة، والموشحات الحديثة، وسائر ما استحدث المولدون من الأنواع القائمة على موسيقى القافية دليل ناهض على ما نقول.
فإذا وقع شاعر اليوم في رهق من بناء القافية لقلة محصوله من اللغة، أو لمعالجته التمثيل والقصص الطويل، كان له في تنويعها مندوحة عن هذا النوع الذي تذبذب بين النظم والنثر، فوقف من الأذن موقف الغصة من الحلق، بذلك استطاع البستاني أن يترجم الإلياذة، وتسنى لشوقي أن يبدع في مآسيه.
هذه كلمة موجهة نفتتح بها المعركة الأخيرة بين الشعر المقفى والشعر المرسل، فان رواية (خسرو وشيرين) مع ملاحظة التحفظ في عرضها، جاءت بعد المقالات التي نشرت بالرسالة أشبه برواية (هرناني) حين كتبها (هوجو) على المذهب (الرومانتيكي) بعد أن دعا(37/75)
إليه في مقدمة (كرومويل) وفاتحة (الشرقيات) فجعلها هو وأنصاره المعركة الفاصلة بين هذا المذهب والمذهب (الكلاسيكي).
أما الحديث عن موضوع الرواية، وتصوير أشخاصها، وعرض مواقفها، وتسلسل حوادثها، وتدرج العمل فيها، فله فرصة أخرى نرجو أن تحين.(37/76)
العدد 38 - بتاريخ: 26 - 03 - 1934(/)
(عيد الأضحى. . .
. . . وفي مارس أيضا يقبل عيد الأضحى أو يوم الله، بعد ما أقبل عيد الضحايا أو يوم الوطن! والإيمان بالله وبالوطن أسمى شواعر النفس، والتضحية لله وللوطن أصدق شعائر الإيمان، والاحتفال بيوم الله ويوم الوطن أقدس مظاهر الإنسان، وعيد الأضحى أجل أعياد المسلمين خطراً، وأبلغها في حياتهم أثراً، وأبلجها في نفوسهم دلالة. تجمعت فيه مبادئ الإسلام وغايته كما تتجمع صور الوجود في العين، ومحاسن الربيع في الزهرة. فهو موجة من النور الهادئ الهادي في خِضَمِّ الزمان المضطرب، وفترة من السلام الإلهي بين خطوب الجهاد المضطرم، ونفحة من النعيم السماوي تَنْدى لها القلوب اليابسة بالوداد المحض والبر الخالص، وسبب من الروح المؤاخي يصل بين الغنى والفقير بالإحسان، وبين القوي والضعيف بالرحمة، وبين القريب والبعيد بالمودة، وبين الله والإنسان بالصلاة، وبين المسلم والمسلم بالحج!!
الأعياد الدينية واحات في صحراء الحياة، يستريح إلى نبعها الحرَّانُ واللاغب، ويطمئن إلى ظلها الهيمان والشارد، ويجد الكاسف المعمود في نسيمها النديِّ بَرد السرور ونشوة العافية، ويذهل السائر المجهود برهة من العمر عن مخاطر الطريق ومكايد الرفاق ومساوئ القافلة، ويذكر ان له عواطف صالحة طغت عليها المنافع، وقرابة واشجه قطعت بينها المطامع، وصلات شابكة أوهنتها الجفوة، وتبعات واجبة أعجزه عن حملها كلال الضمير، وغاية إلى الخبر المطلق أضله عن سبيلها غرور الحياة.
عيد الأضحى هو عيد الأسرة والأمة والملة، يفيض المسرة والبهجة على البيت، ويجدد المودة والألفة في الوطن، ويسفر بالتعارف بين وجوه الاخوة في عرفات،
فإذا رده اليوم فساد العيش في المدينة إلى ما نعرف من خروف يذبح ولا يُضحي، ومساجد تؤذن بالمدافع والمآذن ولا تجاب، وبيوت تُفتح للتهاني ولا تزار، وأيام كنقاهة المريض كلها خمود ونوم وأكل، فأن له في القرية صورة لا تزال منذ الطفولة في ذهني فتانة الجمال أخاذة السحر شديد الروعة:
لا يكاد يفرغ القرويون من صلاة المغرب ليلة العيد حتى ترى طريق المقبرة يسيل بالفوانيس الشاحبة الخافتة. ثم تنتشر آخر الأمر على وجوه القبور انتشار الحبُاحب، وتنتقل القرية الحية إلى القرية الميتة فتقضى موهنا من الليل في الاستعبار والاستذكار والقراءة،(38/1)
ثم يعودون وقد كفاهم (الفقهاء) مئونة ما حملوا من الكعك والفاكهة، فيقطعون الهزيع الثإني من الليل في طسوت الحَّمام أو في دار المزين! والغسل بالماء الساخن لا يعرفه الفلاحون الا ليلة العيد وليلة الزواج ويوم الموت، ثم يُعدون زينة العيد فيكوِّرون العمائم ويصبغون الاحذية، ومن لا يحسن لوث العمامة، أو لا يملك علبة (الورنيش)، ذهب بطربوشه أو بحذائه إلى قريبه أو جاره، والقرية كلها أسرة واحدة يكمل بعضها نقص بعض، فإذا فرغوا من ذلك ناموا على هدهدة الأحلام ومناغاة المنى، وتركوا النساء أمام المواقد ينضجن الخبر ويطهين اللحم ويصنعن الحلوى حتى الصباح!
تشرق شمس العيد على القرية في غير وجهها المألوف، فلا النور كان باهرا كهذا النور، ولا الشعاع كان ساحرا كهذا الشعاع: وتستقبلها القرية في غير زيها المعروف، فلا الوجوه كانت ضاحكة كهذه الوجوه، ولا الجلابيب كانت ناصعة كهذه الجلابيب ولا العمائم كانت زُهْرا كهذه العمائم، ولا الدروب كانت مطرزة بألوان الربيع كما هي اليوم!!
لا يتخلف عن صلاة العيد من أهل القرية غير النساء! أما الرجال فهم صفوف وراء الأمام يؤدون الصلاة، وأما الأطفال فهم وقوف على الأبواب يشهدون الخطبة! ثم تقضي الصلاة فيقبلِّون الخطيب جميعاً، ويقبل بعضهم بعضا، ثم يذهبون رَتَلاً جميل النسق إلى المقبرة، ويرجعون من طريق أخرى إلى الحارات المكنوسة المفروشة، فيجلسون أمام المنازل إلى الطعام الشهي الفاخر، يتبادلون الألوان، ويتهادون الصحاف، ويتركون على موائدهم محلا رحيبا للفقير!
تُرفع (الصواني) وتوضع القهوة، ثم يقوم العمدة في أهل حارته فيزورون الحارة الأولى، فيهنئون ويجلسون ريثما تدار القرفة وتوزع السجائر، ثم يقومون جميعاً إلى الثانية فالثالثة فالرابعة وهلم جراً إلى آخر البلد، وكلما مروا بحارة أخذوا أهلها إلى الأخرى، حتى تجتمع القرية كلها آخر المطاف لدى العمدة فيقضون في مجلسه أكثر اليوم.
ذلك أمر الكهول والشيوخ، أما الشباب والأيفاع فيطوفون زمرا بالبيوت يهنئون الصبايا وأيديهن لا تزال في الطعام، فيطبعن بالقبلات الخلية على الخدود البرنزية خاتما رقيقا من (الدمعة)، ويرسمن بالانامل المخضبة على الثياب البيض طغراء جميلة من الدسم، ثم ينصرف بعد ذلك الشباب إلى لعب الكرة في ساحة البيْدر، والاطفال إلى الاراجيح على(38/2)
أشجار الترعة! تلك صورة العيد في القرية رسمتها بغير ألوانها الزاهية، وجلوتها في غير إطارها المذهب، فبالله ربك! أهي على علاَّتها اخلق بالإنسان واقرب إلى الدين وأشبه بالخلق، أم هذه الصورة التي تراها اليوم في شوارع المدينة وجوامع المدينة وقصور المدينة؟!
نسأل الله مخلصين أن يعيد هذا العيد على الأمة المصرية والدول العربية والممالك الإسلامية ونحن وهم على خير من هذه الحال!
احمد حسن الزيات(38/3)
النقد والطربوش وزجاج النافذة
للدكتور طه حسين
وتستطيع ان تضيف إلى هذه العنوانات عنوانات أخرى، فهناك أزقة ضيقة شديدة الضيق، ملتوية شديدة الالتواء، قد كثر على ارضها الوحل، حتى ان الذي يمشي فيها لينزلق، أو يمشي مشية مسلم بن الوليد في بيته المشهور:
إذا ما علت منا ذؤابة شارب ... تمشت به مشى المقيد في الوحل
وقد أمطرت سماؤها أو نوافذ ما يقوم فيها من الدور ألوانا من المطر، منها السائل ومنها اليابس، نستغفر الله، بل قد صبت سماؤها أو نوافذ ما يقوم فيها من الدور ألوانا من البلاء، منها مرق الفول النابت، وماء المخلل، وفيها أشياء أخرى جامدة كانت تهوى على الرؤوس، وربما مست العيون، وربما دخلت الأفواه ووصلت إلى الحلوق فانعصرت فيها انعصاراً، وأذكت فيها لهيبا ونارا، وقد كان في هذه الأزقة مارد من مردة الجن أو مردة الإنس، له صدر عريض قد انتفش فيه شعر الطويل حاد كأنه الأسنة، يصطدم به الرجل القصير فإذا هذا الشعر الطويل الحاد يداعبه ويلاعبه، فيبعث بوجهه، ويدخل في أنفه وفي فمه وفي عينيه. وقد كان في هذه الأزقة غلام شرير، لسانه عذب، ويده مرة، وقد كان في هذه الأزقة شاب ظهر الغباوة والبله، خفي المكر والغدر، شديد البأس والبطش، يخيف من ليس من شأنه أن يخاف، ويضطر اثبت الناس قلبا وأشدهم استهزاء بالحياة إلى أن يعدو عدو الشنفري وتأبط شراً وابن براق، حتى يدفع إلى دار من الدور، ثم إلى بيت من بيوت هذه الدار، فلا يدخل هذا البيت من بابه كما أمر الله أن تؤتى البيوت، وإنما يدخله من إحدى نوافذه. وفي هذه الأزقة شيخ وقور، ظاهره يخيف، وباطنه فيه الرحمة واللين، وفيه الرفق والدعة، وفيه الأدب وحسن الذوق.
كل هذه الأشياء، وكل هؤلاء الأشخاص، يمكن أن تضاف ويمكن أن يضافوا إلى هذه العنوانات التي قدمتها بين يدي هذا الكلام، ولكني لم أضفها تحرجاً من الإطالة وإشفاقا من الإطناب، وإيثارا للإيجاز البليغ.
وأنا أستطيع بعد أن وضعت هذا العنوان وأتبعته بهذا الكلام، أن أتحول بك إلى ما شئت أنت أو ما شئت أنا من الموضوعات فأتحدث إليك فيه حديثا طويلا أو قصيراً، وأعرض(38/4)
عليك فيه صوراً جميلة أو دميمة، وأثير في نفسك به عواطف هادئة أو جامحة، وأرسم على وجهك به ابتساما وضحكا، أو عبوساً وتقطيباً، حتى إذا بلغت من هذا كله ما تريد أنت، أو ما أريد أنا، أو ما نريد جميعاً، ذكرت النقد والطربوش وزجاج النافذة. واعتقدت أنا أو خيلت إليك إني أعتقد، واعتقدت أنت أو خليت إلى انك اعتقدت، واعتقد صديقي الأستاذ المازني، أو خيل إلى نفسه والينا أنه يعتقد، أني قد أمتعت الرسالة وقراء الرسالة بفصل قيم أو غير قيم، قوامه الحديث عن النقد والطربوش وزجاج النافذة!.
وتسألني ما بال الأستاذ المازني يقحم هنا إقحاما، وما خطبه مع النقد او الطربوش وزجاج النافذة ومرق الفول النابت، وماء المخلل، وما يتبع هذا كله من الأشياء والأحياء؟ فأجيبك بأن هذا السؤال لا ينبغي أن يساق إليّ، وإنما ينبغي أن يساق إلى الأستاذ المازني، فهو الذي تحدث عن هذا كله، وهو الذي أثارني إلى أن أتحدث عن هذا كله، وليس من شك في أن الأستاذ المازني سيقول في دعابته الحلوة الظريفة، وما أنت وجر الشكل، وما لك تدخل بيني وبين النقد والطربوش وزجاج النافذة، وما يتصل بها من الملحقات؟. ولكن الأستاذ يوافقني أو لا يوافقني - فهذا سواء - على أنه صاحب فن، وعلى أن أصحاب الفن إن كتبوا لأنفسهم فهم ينشرون للناس، وعلى ان صاحب الفن لا يملك أثره الفني بعد أن يلقيه إلى الناس. وعلى أن من حق الناس إذا ألقى إليهم شيء أن يتناوله كما يحبون، يعجبون به أو يسخطون عليه، يرغبون فيه أو ينصرفون عنه، يحمدونه أو يسلطون عليه اللوم.
وإذن فقد ألقى إلينا الأستاذ المازني فصله الممتع البديع الذي أثارني إلى أن أتحدث إليك عن النقد والطربوش وزجاج النافذة، أو إلى أن أتحدث إليك عن الأستاذ المازني نفسه من وراء هذه الأشياء التي لا تحصى، والتي لا أكره تكرارها، وما أظنك تكره تكرارها، وهي النقد والطربوش وزجاج النافذة والأزقة وما يتراكم على أرضها من الوحل، وما تصبه سماؤها من السائل والجامد، ومن يمشي بين ذلك من الأشرار والأخيار.
وللأستاذ المازني مع هذه الأشياء كلها، ومع هؤلاء الناس كلهم، ومعك أنت، ومعي أنا، قصة طريفة ظريفة، خليقة أن تقص، وخليقة أن تثير الإعجاب. فهل تدري ماذا دفع الأستاذ المازني إلى أن يتحدث عن هذه الأشياء، وعن هؤلاء الأشخاص، فيثيرني إلى أن أتحدث عنه، وعنها، وعنهم؟ هو شيء يسير، يسير جداً، هو أنه أديب يقرأ في الكتب،(38/5)
ويكتب في الصحف، وينقد الكتاب والمؤلفين. وقد تتغير الأزمنة وتتبدل ظروف الحياة وترقى الأجيال بعد انحطاط، ولكن هناك شيئاً لا يتغير ولا يتبدل في حقيقة الأمر، وهو أن الأدب محنة يمتحن بها الأدباء، ونقمة يصيب الله بها هؤلاء الذين يمنحهم شيئاً من حسن الذوق والقدرة على فهم الأدب وتقريبه إلى الناس. وقد امتحن الله صديقنا المازني ووفر له من نقمة الأدب وبلائه حظاً عظيماً، فجعله شاعراً مجيداً وكاتباً بارعاً، وناقداً مسموع الكلمة، مهيب الجانب، مقدور الرأي، لا يصدر كتاب إلا أراد الناس أن يعرفوا رأيه فيه وحكمه عليه. وكان صاحب الكتاب نفسه أحرص الناس على ذلك وأشدهم طلبا له وإلحاحاً فيه. والكتب تمطر على الأستاذ المازني، ويمطر معها طلب النقد وطلب التقريظ، والنقد والتقريظ يحتاجان إلى القراءة والدرس. وإذن فالمازني المسكين مصروف عن نفسه وعن فنه وعن كتبه، إلى هؤلاء الناس الذين يكتبون، والى هؤلاء الذين يقرأون. ومن هنا ومن جهات أخرى أيضاً كان المازني شقياً بالأدب، وأن كان الأدب سعيداً بالمازني، وأي دليل على شقاء المازني بالأدب وسعادة الأدب بالمازني، أقوى من هذه القصة التي أحدثك عنها الآن؟
فقد اخرج كاتب من الكتاب كتاباً من الكتب، وأهداه إلى الأستاذ بالطبع. وعرف الناس أن هذا الكتاب قد أهدى إليه فأخذ الناس ينتظرون، وأخذ صاحب الكتاب بنوع خاص ينتظر، فلما طال الانتظار كان الطلب، ولما كان الطلب ولم يجد شيئاً كان الإلحاح. واضطر المازني إلى أن يذعن، وأكره المازني على أن يكتب، ولكنه كان قد أرسل الكتاب إلى من يجلده. فلما اشتد عليه الإلحاح ذهب في طلب الكتاب من المجلد. فدفع إلى رحلة غريبة، والى استكشاف أغرب. دفع من هذه الأحياء المتحضرة التي تتسع فيها الشوارع، وتجري فيها السيارات، وتنتشر فيها الشرطة، والتي لا تتغطى أرضها بالوحل، ولا تمطر سماؤها مرقا ولا مخللا، إلى أزقة ضيقة ملتوية فاسدة الهواء، تعيش فيها أجيال من المردة والشياطين، وفي هذه الأزقة عرف المازني الخوف والفرق، وعرف الهرب والغلو فيه، وعرف كيف يكون وقع الأحجار على الأجسام، وكيف يكون وقع الشتائم في النفوس. ثم عرف كيف يفقد الناس طرابيشهم، وكيف ينظرون إليها وهي تهان وتمرغ في الوحل تمريغاً، ثم عرف كيف يدفع الهاربون إلى اقتحام الدور والاستخفاء في البيوت وقد غاب(38/6)
عنها أهلها. ثم عرف قصة الرجل الذي ذهب يطلب كتاباً ففقد طربوشه وعاد صفر اليدين.
والغريب أن هذه الرحلة الهائلة وما امتلأت به من الأخطار كانت كلها في القاهرة، وفي ساعات قصيرة، ولست أدري فيم يحتاج الذين يحبون الأخطار إلى التماسها في الصحراء أو في الجبال أو على الذين يحبون الأخطار إلى التماسها في الصحراء أو في الجبال أو على البحر المحيط، مادام الانتقال من حي من أحياء القاهرة إلى حي آخر، خليقا أن يرينا من الهول والخطر مثل ما رأى صديقنا الكاتب الأديب ومن هنا نستطيع أن نفهم ضيق المازني بالأدب والأدباء، وبالكتب والمؤلفين وتضرعهم المتصل إلى الله أن يعفيه من هذه الصناعة التي يشقى بها، ولكنها تسعد به وتسعد الناس أيضا. ولكن الأستاذ المازني يتساءل في شيء من الحيرة أيجب أن يقرأ ما يريد هو أم يجب أن يقرأ ما يريد الناس؟ وإذا سمح لي بأن أجيبه فإني أرى أنه ملزم بان يقرأ ما يريد، وبأن يقرأ ما يريد الناس، مادام قد أقبل على صناعته هذه راضيا بها أو مكرها عليها، ولكن السؤال الذي أحب أنا أن أسأله هو. هل يظن الأستاذ المازني أنه أبرأ ذمته أمام القراء وأمام المؤلف بهذا الفصل البديع الذي كتبه منذ أيام، فحدثنا فيه عن النقد والطربوش وزجاج النافذة، وعما تحمل الأرض من وحل، وما تمطر السماء من مرق؟ فان كان يظن أنه قد أرضى قراءه وصاحبه بهذا الفصل فقد أصاب وأخطأ في وقت واحد: أصاب لأن الفصل بديع، وأخطأ لأنه لا يغني من النقد شيئاً، فلن يعفيه صاحب الكتاب من الإلحاح عليه، ولن يدعه حتى يقول إنه قد قرأ هذا الكتاب فرضى عنه أو سخط عليه.
وسؤال آخر، أحب ألا يغضب صديقي المازني حين أسوقه إليه. ما باله يطغى على نفسه ويسرف عليها في الطغيان، ويصورها هذا التصوير الذي لا يلائمها بحال من الأحوال، والذي لا نحبه لها؟ فهل من الحق أنه هياب إلى هذا الحد؟ كلا، ولكنه يحب أن يعبث بنفسه فيسرف في العبث، وأكبر الظن أننا ان حدثناه في ذلك ضاق بنا وضجر، وشكا من هؤلاء الطفيليين الذين يدخلون بين الناس وبين أنفسهم، وقال إذا لم يكن لي الحق في أن اعبث بنفسي فلمن يكون الحق في أن يعبث بها إذن؟ أما أنا فأجيب الأستاذ بأن هذا الحق ليس مباحاً لاحد، ولكن الناس يستبيحونه لأنفسهم، سواء أرضى الأستاذ أم لم يرض، وأنا أتحداه، وأطلب إليه، أن يريني كيف يستطيع أن يمنع الناس من أن يتناوله بما يحبون من(38/7)
ألوان النقد والعبث لا بما يحب هو، كيف يستطيع أن يمنع الناس من ذلك دون أن يخرج عن طور الكاتب الأديب؟ وإذن فما له يظلم نفسه هذا الظلم، ويلح عليها بهذا العبث الذي لا قصد فيه، أم هل ضاقت الدنيا بالأستاذ كما ضاقت بالحطيئة ذات يوم فيما يقال فهجا نفسه، لأنه لم يجد من يهجوه، أم هل كره الأستاذ الأخذ والرد، وضاق بالحوار والجدال، وكره أن يذكر الناس فيغريهم بذكره، فآثر أن يذكر نفسه هذه المسكينة التي لا تجد من يدافع عنها ويحميها من صاحبها الطاغية. فان تكن هذه فقد أخطأ المازني، فهأنذا أدافع عن المازني برغم المازني. أخشى ألا يكون لشيء من هذا كله أصل ولا فرع كما يقولون، وان يكون المازني قد أراد نفقد الكتاب الذي طلب إليه نقده، فمضى به الخيال ومضت به الدعابة إلى هذه الأزقة الضيقة الملتوية، يبحث فيها عن الكتاب وصاحب الكتاب، فلم يفد إلا أن فقد طربوشه وأضاع على صاحبه الشيخ زجاج نافذته، ولم يجن لنفسه ولا لصديقه المؤلف شيئاً. وويل للكتاب وللمؤلفين من دعابة المازني ومجونه، وويل للكتاب والمؤلفين من الغاز المازني ورموزه، بل ويل للمازني نفسه من طغيان خياله وجموحه، فان في هذا الجسم النحيل الضئيل جسم هذا الرجل الهادئ الوديع ماردا كالمردة وشيطاناً لا كالشياطين.
أما بعد، فلنذكر النقد والطربوش وزجاج النافذة، وما يتصل بها من الأشياء والأشخاص، لنختم المقال كما بدأناه، وليعلم المازني أنا لم نتحدث عنه، ولم نشر إليه، ولم نفكر فيه، وإنما تحدثنا عن كتاب نقد، وطربوش فقد، وزجاج حطمه فتى من الفتيان تحطيماً.
طه حسين
(والراديو أخيراً!
للأستاذ احمد أمين
نشأت في حي وطني، لم يأخذ من المدنية الحديثة بحظ قليل ولا كثير، يعيش أهله عيشة وادعة هادئة بطيئة، لم تتغير عن معيشة القرون الوسطى إلا قليلاً، ولم تنقطع الصلة بينهم وبين آبائهم وأجدادهم، إذا عرضت عليهم صفحة من حياة مصر قبل بضع مئات من السنين فهموها حق الفهم، وقرأوها في أنفسهم وفي معيشتهم، فكانت الصلة بيني وبين سكان القاهرة في عهد الفاطميين أو الأيوبيين أو المماليك أقرب من الصلة بين ابني وعهد(38/8)
إسماعيل. فالحياة في السنين الأخيرة غيرت سكان المدن تغييراً كبيراً، ونقلتهم نقلة مفاجئة سريعة، حتى ليحملق الطفل في عينك استغراباً إذا حدثته بحديث يتصل بالحياة الاجتماعية في عهد جده أو جدته، ويرى كأن الدنيا خلقت خلقاً جديداً.
كانت حارتنا تمثل طبقات الشعب المختلفة، يسكنها البائع المتجول، يظل نهاره وشطراً من ليله متنقلا من الحارات والشوارع، ينادي على البلح في موسم البلح، والخيار في موسم الخيار. وأسرته وأقاربه يعيشون جماعات في بيت كبير عيشة بائسة تعسة، كل جماعة في حجرة.
وطائفة من الموظفين من رئيس قلم في وزارة الأوقاف، وكاتب في وزارة الأشغال يمثلون، الطبقة الوسطى في حياتهم الاجتماعية والمدنية.
وبيت أرستقراطي واحد كان ربه نائب المحكمة الشرعية العليا، وكان متقدماً في السن، عظيم الجاه، وافر المال، له الخدم والحشم، ويرهبه الكبير والصغير، وله عربة فخمة، تضرب خيولها الأرض بأرجائها فتملأ القلوب هيبة، وكان كل سكان الحارة يسمونه (الشيخ) من غير حاجة إلى ذكر اسم، فالشيخ ركب، والشيخ جاء، وعند بيت الشيخ - وكان الشيخ نعمة على الحارة، فلا تستطيع امرأة أن ترمي ماء قذراً أمام بيتها خوفاً من الشيخ، ولا يستطيع قوم أن يرفعوا أصواتهم في السباب والنزاع خوفاً من الشيخ. ولذلك امتازت حاراتنا من مثيلاتها ومما يجاورها بالنظافة والهدوء.
كان بين سكان الحارة رابطة تشبه الرابطة بين أفراد القبيلة، يعتز الأولاد بحارتهم ويهتفون بها في النداء، ويكون بينهم وبين أولاد الحارة الأخرى منافرة فيحتكمون إلى القوة، ويعتزون بالناشئ الشجاع يظهر بينهم يذود عنهم، ويجلب الفخر لحارتهم - ويرعى سكان الحارة حق الجوار بأدق معانيه، يعودون أحدهم إذا مرض، ويهنئونه إذا عوفي، ويواسونه في مأتمه، ويشاركونه في أفراحه، وهم في ذلك سواسية، لا يتعاظم غني لغناه، ولا يتضاءل فقير لفقره.
وكان لكل بيت من بيوت الطبقة الوسطى منظرة (مندرة) يتبادلون الاجتماع في أحدها. فيسمرون فيها السمر الحلو اللطيف، وأحياناً يحيون الليلة في سماع قرآن أو حفلة طرب، ولحسن حظي كان بجوار بيتنا موظف في الأوقاف يهوى الناي ويتقنه، فكان كثيراً ما(38/9)
يحيي أصدقاؤه في منظرته حفلات شقية بديعة، إليها يعود الفضل فيما لي من إذن موسيقية وميل لسماع الغناء والافتنان به.
كان من المناظر التي لا أنساها طائفة من الرجال، قد لبس كل منهم على جلبابه الأزرق ميدعة من الجلد، يحمل القربة على ظهره ويمشي بها في ركوع، وهم يغدون في الحارة ويروحون، ينادي أحدهم بعد أن يفرغ قربته في الزير (سقّا عَوّض) وهي كلمة كنت أفهم منها المناداة على الماء ولكن ما كنت أفهم معناها تفصيلا. بل ربما لم أفهمه إلى الآن. فإذا سمعته سيدة أطلت من الشباك وأمرته أن يأتي لها بقربة حلوة أحياناً، ومالحة أحياناً، وربما تصنعت في مناداتها فرققت من صوتها، وتدللت في نغمتها، فكانت فتنة للسامعين.
وكثيراً ما طال النزاع بين السقا وربة البيت: فهو يقول ان القرب صارت سبعاً وهي تأبى إلا ستاً، ويطول الحوار والجدل والقسم بالإيمان، وأحياناً يتفادى السقا هذا الجدل بطريقة من طريقتين. إحداهما أن يوزع خرزاً من نوع خاص على صاحبة البيت عشراً عشراً، أو عشرين عشرين وكلما أتى بقربة أخذ خرزة، فإذا فرغ الخرز علم أنه تم العدد فأخذ حسابه. وثانيتهما انه كلما أتى بقربة خط على الباب بحجر أبيض خطاً - ولم يكن يعرف الطباشير ولا كتابة الأرقام - وأحياناً يتهم السقا ربة البيت بأنها مسحت خطاً، وأحياناً تتهمه هي أنه خط خطين لقربة واحدة، فإذا تكرر مثل ذلك ابى السقا في معاملة هذا البيت إلا أن يأخذ نصف القرش ثمن القربة الحلوة قبل أن يتحرك من مركزه أمام باب الحارة
وفي يوم من الأيام حول سنة 1900 رأيت الحارة قد مزقت وحفرت فيها الحفر طولاً وعرضاً، ومُدّت المواسير وأدخلت في بيتنا الحنفية واستغنينا عن السقا، وأراحنا الله من سماع النزاع حولنا، وأصبح الماء في كل طبقة من بيتنا، في أسفله وأوسطه وأعلاه، وشعرت أن البيت قد دبت فيه الحياة. فالله يقول (وجعلنا من الماء كل شيء حي) وما أنس لا أنس خادماً أتت منزلنا إذ ذاك من قرية من قرى الفلاحين فعَجبَتْ أشد العجب من الماء يخرج من الحائط ثم لا ينقطع إلا إذا شئنا، وحارت في تعليل ذلك، وأظنها حائرة إلى اليوم إن كانت على قيد الحياة.
وألفنا الماء يخرج من الحائط، وذهب الألف بالعجب، ولكن ظللنا نستضئ بالجاز، وهو ما يسميه سادتنا العلماء زيت البترول، وكان لمضايقاته أشكال من العذاب وألوان، فيوماً(38/10)
ضُرِبْتُ لأني أرسلت لأشتري زجاجة لمبة فكسرت مني في الطريق، وكثيراً ما فسد مفتاحها فإذا أدرناه يميناً أخذ يرتفع اللهب ثم يرمينا بالهباب، وإذا أردناه شمالاً أخذ يهبط حتى لا نرى. وهكذا دواليك، حتى يضيق الصدر ونذهب إلى النوم قبل الموعد - وكثيراً ما نكون في سمر لذيذاً وحديث ظريف أو قراءة مُلِحةّ، ثم نسمع الزجاجة كسرت فينكسر قلبنا لأن الوقت ليس وقت بيع وشراء، أو ننظر فإذا الجاز قد فرغ ولا جاز لنا!
ثم رأينا الأسلاك تحزم البيت، وتحزم كل حجرة فيه وتدخل بيتنا الكهرباء فندير المفتاح يميناً فتضيء الحجرة ونديره شمالاً فتظلم - وأبى الله إلا أن يرزقنا هذه المرة أيضاً بخادم خطبت في قريتها وأرادت السفر لتتزوج، فطلبت منا أن نعطيها لمبة من اللمبات الكهربائية أو لمبتين لتنيرها في حجرتها ليلة زفافها - وكان لهذه الخادم فصل اظرف من هذا وألطف، فقد نظرت أول ما أتت من قريتها إلى السقف فلم تر فيه عروقاً تحمل ألواح الخشب (لانه كان من الأسمنت المسلح) فصعدت إلى السطح لتحقق الأمر لعل السقف مقلوب، وان العروق من فوق والأخشاب من تحت، فلما لم تر عروقاً فوق ولا تحت، أحست بالخيبة في تعليلها، وفوضت إلى الله أمرها!. .
ثم دار الزمن دورته وإذا بعامل يأتي ليحزم البيت من جديد، وإذا بالأسلاك تمد وعدة صغير تركب وجرس يدق وإذا بالتليفون، وإذا بنا نتصل بمن في القاهرة وضواحيها بل بمن في أنحاء القطر ويتصل بنا من أحب، وأحسست إذ ذاك أن البيت قد استوفى حظه من الحياة كما يستوفيها الجسم الحي الراقي من شرايين وأوردة على أدق ما تكون من نظام - وكان لي مع التليفون متاعب أود أحياناً أن لو كان لم يكن، وأحياناً محامد احمد الله ان كان - فقد كنت قاضياً، وبيتي وحده من بيت القضاة فيه تليفون يصلني برئيس المحكمة، فقد يتغيب قاض فجأة عن الجلسة فيدق التليفون - آلو - انتدبناكم اليوم لمحكمة العياط، ومرة أخرى لمحكمة الصف، وقد يكون اليوم ثقيلاً، حر يذيب رأس الضب، وأو برد يقفّ منه الجلد - على كل حال - فكثيراً ما كان نذيراً بشر، وكثيراً ما كان بشيراً بخير.
وأخيراً أتى العامل أول أمس يزيد الأحزمة حزاماً ولكنه في هذه المرة حزام ناقص - خط رأسي وخط أفقي، وآلة لا يأبه لها النظر، وفي ذلك سر عجب، هذا هو الراديو - فيه علم إن شئت، وفن إن أردت، وناطق إن أصغيت، وساكت إن أعرضت، ومتحدث بكل لسان،(38/11)
وواصلك بكل مكان - إن شئت معلماً فمعلم، أو غناء فمغن، أو فناً ففنان - يهزل حيث تحب الهزل، ويجد حيث تهوى الجد. يمتاز عن التليفون بأن التليفون طالب ومطلوب، فإذا كان طالباً فقد يفجعك بخبر، أو يوقظك من نوم، أو يحملك مطلبا يشق عليك، أو يصلك بمحدث يثقل على نفسك، ثم تريد أن تتخلص منه فلا تستطيع، فقد لزم الأمر، وحم القضاء. أما الراديو فليس إلا مطلوبا، هو عبد مطيع، وخادم أمين، إما ساكت أو متكلم بما أحببت، نديم ظريف، جهينة أخبار، وحقيبة أسرار، ترياق الهم، ورقية الأحزان، قد تكون له مساوئ لم أتعرفها فان جربتها فسأحدثك عنها بعد.
أين أنت أيتها الخادم التي عجبت من حنفية الماء، وأين أنت أيتها الأخرى التي عجبت من مصباح الكهرباء، لو كنتما اليوم في بيتنا لشاركتكما العجب، ولوقفت معكما حائراً من العلم الحديث، والفن الحديث، ولانفردت عنكما بالحزن العميق على أن ليس لنا من هذه المخترعات إلا المشاركة في الاستهلاك لا في الإنتاج، وإننا، في مواسير - الماء ومصابيح الكهرباء وآلات الراديو والتليفون - وما إلى ذلك من شؤون المدنية، لنا أن نشتري وليس لنا أن نبيع، ولنا أن نكون من النظارة ولكن ليس لنا أن نكون من الممثلين، ولنا أن نستورد ولكن ليس لنا أن نصدر.
إن كنت أيها الراديو قد دخلت البيت أخيراً فلست آخر ما يدخل، فهم يحدثوننا عن سلك آخر سيدخل قريباً يحمل الصور كما تحمل أنت الصوت، فان كنا الآن نسمع لك فسنسمع بعد ونرى - ومن يدري! لعل أسلاكاً أخرى تدخل توزع الحرارة والبرودة بقدر، وأسلاكاً وأسلاكاً - بل لعل هذه الأسلاك لا تعجب الجيل القادم فيراها بعد ان يتحرر رمزاً لعصر بغيض أولع الناس فيه بالقيود حتى سلسلوا بيوتهم بهذه السلاسل، وسيهزأون بهذا النوع من الحياة الساذجة التي تستعين على الرغبات بالمواسير والأسلاك - وسينظرون إلينا كما ننظر نحن إلى سكان ما قبل التاريخ، وسيعجبون إذا فرحنا باتصالنا بأهل الأرض مع انهم اتصلوا بأهل السماء ,. وستعود البيوت من غير أسلاك، ولكنها وافيه بالمطالب التي نستمتع بها، والتي نحلم بها، والتي لا يقدر خيالنا الآن حتى على الحلم بها، ويخلق ما لا تعلمون.
أحمد أمين(38/12)
بعد حوادث النمسا
النمسا الجمهورية في خمسة عشر عاما
3 - الحرب الأهلية وما بعدها
للأستاذ محمد عبد الله عنان
أخذت الحياة البرلمانية في النمسا تنحدر منذ أوائل العام الماضي إلى معترك من الصعاب والعواصف، وألفت حكومة الدكتور دولفوس نفسها في مأزق صعب. ولم يك ثمة بد من أن تنتصر المعارضة - أعني الديموقراطية الاشتراكية - إذا تركت الأغلبية البرلمانية في سبيلها وخصومتها، أو تتوسل الحكومة لبقائها بوسائل أخرى. ولكن وقعت في يوم 4 مارس أزمة برلمانية الفت الحكومة فيها فرصتها ووسيلتها، وذلك أن مناقشة عاصفة حدثت في البرلمان في ذلك اليوم حول تصرف نائب اشتراكي اتهم بأنه وضع ورقتين في صندوق التصويت، واشتد القذف والاتهام والهرج من الجانبين، فاستقال الدكتور رنر رئيس المجلس واستقال الوكيلان، ومن ثم غدا انعقاد المجلس مستحيلاً، إذ لا يستدعيه للانعقاد طبقا لنص الدستور سوى الرئيس أو أحد وكيليه؛ وقدمت الوزارة استقالتها للرئيس ميكلاس فأبى قبولها، وفوض لرئيسها ان يعمل بقوانين الطوارئ، وبذا اتخذت الوزارة صبغة دكتاتورية، واستطاعت أن تصدر بعض القوانين الاستثنائية التي رأت ان الحاجة تدعو إليها مثل رقابة الصحافة، ومنع الاجتماعات والمظاهرات السياسية الخطرة على النظام؛ بيد ان الوزارة ما لبثت أن اضطرت أن توجه كل جهودها لمقاومة خطر آخر. أخذ يشتد شيئاً فشيئاً وينذر مصاير النمسا بشر العواقب؛ ذلك أن الوطنية الاشتراكية الألمانية أخذت منذ استيلائها على مقاليد الحكم في 30 يناير (سنة 1933) تتدخل في شئون النمسا بطرق ووسائل عديدة، وبث الدعاة الهتلريون في جميع أنحاء النمسا دعوة شديدة لتحقيق مشروع الاتحاد النمسوي الألماني (الانشلوس). وضم النمسا لألمانيا كما نعلم غاية جوهرية من غايات الوطنية الاشتراكية الألمانية سجلت في برنامج الهر هتلر منذ إنشاء الحزب الوطني الاشتراكي، وعبر عنها (بتحقيق وحدة الشعوب الجرمانية)، وقد شرحنا فيما تقدم كيف نشأت فكرة اتحاد النمسا مع ألمانيا وتطورت. وكانت الفكرة ما تزال قوية في النمسا(38/14)
لدى الكتلة المحافظة حينما ظفرت الوطنية الاشتراكية بتولي الحكم في المإنيا، ولم يكن يعارضها سوى الاشتراكيين الديموقراطيين؛ ولكن السياسة العنيفة الهوجاء التي اتبعتها حكومة برلين إزاء النمسا، كانت كما قدمنا سبباً في انهيار مشروع الوحدة، وكشف عدوان الوطنية الاشتراكية وصلفها وتجنيها في الحال للشعب النمسوي عن فداحة الخطر الذي يهدد استقلاله وكيانه، وأيقن ان هذه الوحدة لا تعني في نظر برلين سوى خضوعه وعبوديته، وثارت حكومة فينا ومن ورائها الشعب كله ضد هذا التجني، وأبدى الدكتور دولفوس حزما وصرامة في قمع الدعوة الوطنية الاشتراكية التي تنظمها حكومة برلين وتمدها بالمال والنصح، وأجاب الهتلريون بتدبير سلسلة من الاعتداءات والحوادث الجنائية، ولا سيما في فينا وسالزبرج (شهر يونيه). وأجابت حكومة برلين على ذلك بمنع السياح الألمان من زيادة النمسا، وفرضت غرامة فادحة للتصريح بهذه الزيارة، وساءت العلائق بين فينا وبرلين إلى أعظم حد، وشغلت وزارة دولفوس بذلك الخطر الجديد الذي يهدد أمن النمسا وسلامتها، ولم تدخر وسعاً في مقاومته، وأيدها في ذلك خصومها الديموقراطيون الاشتراكيون لأنهم أدركوا الخطر الذي يهدد الديموقراطية إذا ظفرت الوطنية الاشتراكية في النمسا؛ وعمد الدكتور دولفوس إلى العمل السياسي، فزار رومة ولندن وباريس ليثير قضية النمسا باعتبارها مسألة أوربا الوسطى، وليبين أن استقلاها مسالة دولية تهم قضية السلام الأوربي كله؛ فنجحت مساعيه في هذا الشأن؛ واستطاع أن يغنم مؤازرة دول الحلفاء ضد السياسة الألمانية، وأن يحصل على تعديلات هامة في النصوص العسكرية لمعاهدة سان جرمان، إذ سمح للنمسا أن تزيد جيشها ووسائلها الدفاعية؛ وتولى الجنرال فاجوان وزير الحربية وزعيم الحزب المسيحي الاشتراكي (بعد وفاة المونسنيور سيبل) تنظيم القوات الجديدة، ونظم قوات الهايمفر أيضاً لتعاون في تأييد النظام، واستطاع الدكتور دولفوس بكثير من الحزم والشجاعة والجلد أن يحبط تحريضات الدعوة الألمانية ودسائسها، وكاد يفقد حياته في ذلك السبيل، إذ أطلق عليه الرصاص من أحد الدعاة الهتلرين وأصيب إصابة خطيرة (في 3 أكتوبر) ولكنه نجا، ولم يزده الاعتداء سوى شجاعة وإقدام في مقاومة الخطط والدعوات الهتلرية ومطاردة أنصارها في جميع أنحاء النمسا.(38/15)
في أثناء هذا الصراع كانت الديموقراطية الاشتراكية ترقب مجرى الحوادث. وكانت الخصومة الخالدة بين الديموقراطية والكتلة المحافظة (الاشتراكيين المسيحيين والهايمفر) ما تزال قائمة، ولكن الديموقراطيين الاشتراكيين كانوا يؤيدون الحكومة في قمع الدعوة الوطنية الاشتراكية، ويشتركون معها في خصومة الجبهة النازية (الوطنية الاشتراكية) لأنها خطر فادح على مثلهم وكيانهم، بيد أنهم لم يهادنوا الحكومة في غير ذلك، ولم يتركوا فرصة لمعارضتها والعمل على إسقاطها؛ وكانت الحكومة من جانبها تخشى خطط الديموقراطية ومفاجآتها، خصوصاً مذ تذرعت بالسلطة الدكتاتورية، ورفضت إجراء الانتخابات وإعادة الحياة النيابية، كانت المعركة دائمة مستمرة بين الجبهتين اللتين تشغل خصومتهما حياة الجمهورية منذ قيامها، ولكنها كانت في الأشهر الأخيرة معركة تربص وأهبة، وكان من الممكن بل من الطبيعي أن يقع الصدام بينهما من آن لآخر، كما وقع دائماً خلال الأعوام الأخيرة، بيد أنه لم يكن يتوقع أحد أن تضطرم بينهما معركة الحياة والموت في مثل هذه الظروف العصيبة، ولم يكن يتوقع أحد بالأخص أن تلقى الديموقراطية النمسوية حتفها في تلك المعركة وأنت تختفي من ميدان الحوادث بمثل هذه السرعة.
ولقد شهدنا منذ أسابيع قلائل فقط تلك المعركة الهائلة وتتبعنا حوادثها السريعة بمنتهى الروع والدهشة؛ كانت مفاجأة لم تتضح حتى اليوم ظروفها وبواعثها الحقيقية. ونكتفي بان نقدم هنا خلاصة وجيزة عن تلك الحوادث التي لا تزال ماثلة في الأذهان: ففي ظهر يوم الاثنين الثاني عشر من شهر فبراير، ذهبت سرية من رجال البوليس لتفتش دار العمل (مركز الديموقراطيين الاشتراكيين) في مدينة لنتز عاصمة النمسا العليا، فأطلق الجند الديموقراطيون (الشوتسبند) النار على البوليس القوا عليه القنابل فقتل عدة من رجاله؛
فأرسلت الحكومة في الحال عدداً كبيراً من الجند، ونشبت المعركة الأولى في لنتز بين الديموقراطيين وجند الحكومة، والظاهر أن هذا الحادث الأول كان إيذاناً بنشوب المعركة العامة. ففي نفس الوقت قطع العمال في فينا التيار الكهربائي فعطلت المواصلات، وأعلن الاعتصاب العام؛ وكان ذلك بدء الحرب الأهلية فأعلنت الحكومة القانون العسكري وحشدت القوات بسرعة البرق في كل ناحية، ولم يأتي المساء حتى كانت مدينة فينا تضطرم بلظى معارك هائلة؛ وتحصن رجال الشوتسبند في مساكن العمال الكبرى، ولا سيما في كارل(38/16)
ماركس هوف، وأوتاكرنج وسيمرنج وفلوريتسدورف، وغيرها من ضواحي المدينة الآهلة بالعمال، وأصلوا جند الحكومة وابلا من الرصاص والقنابل، وأطلقت قوات الحكومة المدافع الكبيرة على معاقل الاشتراكيين؛ واستمرت المعارك في اضطرامها وشدتها حتى يوم الأربعاء. ووقعت مثل هذه المعارك في عدة مدن في الاقاليم، ولا سيما بروك وشتير وجراتز واشترك جنود الهايمفر مع قوات الحكومة؛ وأبدى الاشتراكيون شجاعة وبسالة نادرتين في الدفاع عن معاقلهم وأنفسهم؛ واستعملت الحكومة منتهى الشدة والعنف؛ وقبضت على الموظفين الاشتراكيين وعلى أعضاء المجلس البلدي؛ وقررت حل الحزب الاشتراكي الديموقراطي ومصادرة مراكزه وأوراقه وأمواله وصحفه وكل مؤسساته، وصدرت أحكام الإعدام ونفذت على كثير من الاشتراكيين، ولم يأت مساء الخميس 15 فبراير أي لرابع يوم فقط من بدء القتال حتى كانت قوى الاشتراكية الديموقراطية قد حطمت في كل ناحية، وغدت فلولا ممزقة؛ وقبض على عدة من زعمائها مثل رنروسايتز وسفر، وفر الزعيمان باوروديتش إلى تشكوسلوفاكيا؛ وانتهت تلك المأساة الدموية بمقتل ألفين وجرح آلاف من الجانبين؛ واختفت الديموقراطية الاشتراكية من الميدان، واختتمت حياتها القوية الحافلة بسرعة، وقضت الكتلة المحافظة (الاشتراكيون المسيحيون والهايمفر) على خصومها الخالدين لتنفرد بالأشراف على مصاير النمسا
ولقد كان سحق الديموقراطية عملا في منتهى الجرأة والخطورة من جانب الدكتور دولفوس وزملائه وخصوصاً لما اقترن به من العنف والضحايا الفادحة. ومن الصعب أن نقول اليوم كلمة حاسمة سواء في المسئولية أو النتائج؛ فأما من حيث المسئولية فان حكومة فينا ترجعها جميعاً إلى الاشتراكيين، وتقول انه يبدو من اضطرام الثورة في معظم أنحاء النمسا في وقت واحد، ومن شدة المقاومة التي بذلها الاشتراكيون، ووفرة الأسلحة والذخائر التي وجدت لديهم، ومناعة الأبنية التي اعتصموا بها، أن الثورة كانت مدبرة، وأن الديموقراطية الاشتراكية كانت تتأهب للقيام بضربة عنيفة للاستيلاء على مقاليد الحكم؛ بيد أنه يقال في ذلك أيضاً إن الحكومة دلت على مثل هذه الأهبة، وأن ما أبدت من الشدة والعنف في قمع الحركة، ومن قسوة وإفراط في إراقة الدم، ومن تصميم على سحق الديموقراطية الاشتراكية لا إخضاعها فقط، يدل على أنها عملت بتدبير وقصد وتتهمها بعض الدوائر الخارجية فوق(38/17)
ذلك بأنها كانت تعلم في ذلك بوحي من السياسة الإيطالية. وأما من جهة النتائج فان الديمقراطية الاشتراكية كانت سنداً قوياً للحكومة في كفاحها ضد الدعوة الهتلرية، وكانت بطبيعتها هي الصخرة التي تتحطم عليها محاولات الوطنية الاشتراكية الألمانية، فالآن وقد سحقت، فانه يخشى أن لا تستطيع الكتلة المحافظة ان ترد بمفردها عدوان السياسة الألمانية، ومحاولات دعاتها في الداخل؛ واختفاء الديمقراطية الاشتراكية من الميدان يشجع الحركة الفاشستية على الظهور، وقد اشتد ساعدها الآن بالفعل وأضحى لأنصارها (الهايمفر) كبير نفوذ وسلطان في الحكم وفي تسيير الشئون العامة، والهايمفر يملون اليوم إرادتهم على حكومة فينا، وليس بعيداً أن يتحركوا غداً لانتزاع الحكم. بيد أن (الهايمفر) ما زالوا يؤكدون خضوعهم للدستور وولاءهم للحكومة؛ وقد نفوا غير مرة بلسان زعيمهم البرنس شتارهمبرج ما ينسب إليهم من التأثر نوحي السياسية الايطالية؛ وصرح البرنس شتارهمبرج غداة سحق الاشتراكية، بان الفاشستية النمسوية تقتبس حقيقة من مبادئ الفاشستية الإيطالية ولكنها ليست مقلدة عمياء، بل هي تفكر وتعمل طبقاً لظروف النمسا وحاجاتها؛ ولخص برنامج حزبه فقال: أن الهايمفر ابعد ما يكون عن فكرة إرهاق الطبقات العاملة، ولكنهم يعملون لجمع كلمتها حول مثل اجتماعية مشتركة؛ والهايمفر مخلصون لمبدأ الجامعة الجرمانية، ولكنهم أيضاً مخلصون لمبدأ الاستقلال النمسوي، ولا يقبلون بأي حال أن تبسط ألمانيا سيادتها على النمسا، ولا أن تبذل النمسا ذرة من استقلالها في سبيل إرضاء ألمانيا. وهم ينكرون مبادئ السياسة الهتلرية كلها لأنها تنافي مثلهم النصرانية هذا وليس هنالك في الآونة الحاضرة ما يدل على أن الهايمفر يفكرون في القيام بأية حركة لمقاومة الحكومة، وكل ما هنالك بالعكس يدل على أن التفاهم تام بين الفريقين.
وقد اتخذت مسألة استقلال النمسا عقب الحوادث الأخيرة أهمية خاصة، ولا سيما لما تبين من أن النازي النمسويين (الوطنيين الاشتراكيين)، سواء داخل النمسا أو في ألمانيا حيث يحتشد منهم عدة آلاف يتربصون الفرص لتنفيذ خطط حكومة برلين، ويدبرون الوسائل لإحداث انقلاب يمكنهم من انتزاع الحكم. وحكومة برلين هي التي تقوم في الواقع بتنظيم هذه الحركة كلها، وقد انتدبت لذلك عدة من الدعاة والمحرضين على رأسهم الدكتور هابخت، وحشدت من اللاجئين النمسويين قوة عسكرية كبيرة تهدد من آن لآخر باقتحام(38/18)
الحدود والزحف على فينا. وقد غدت مسالة استقلال النمسا مسألة دولية، وانتهت المساعي التي بذلتها حكومة فينا في ذلك السبيل بأن أعلنت إيطاليا وفرنسا وبريطانيا العظمى في تصريح رسمي بأنها ترى وجوب المحافظة على استقلال النمسا كشرط لاستتباب السلم في أوربا، وأبدت إيطاليا اهتماما خاصاً بمقاومة مشاريع السياسة الألمانية لأنها تهدد سلامة حدودها الشمالية ومصالحها في أوربا الوسطى، وتوترت العلائق من أجل ذلك بين ألمانيا وإيطاليا. وانتهت الجهود التي بذلها السنيور موسوليني في ذلك السبيل بأن عقد أخيراً في رومة ميثاق سياسي اقتصادي بين إيطاليا والنمسا والمجر يرمي إلى توحيد الجهود السياسية والاقتصادية بين الدول الثلاث في سبيل رد أي اعتداء يوجه إلى حقوقها أو مصالحها.
وكان من أثر ذلك أيضاً أن قويت الدعوة إلى إعادة الملوكية في النمسا كوسيلة لتقوية استقلالها والقضاء على أسباب الخلاف الداخلي فيها، وليس في معاهدة الصلح (سان جرمان) ما يمنع عودة آل هبسبورج إلى النمسا وعودة العرش النمسوي، ولكن الحلفاء كانوا يعارضون دائماً في هذا العود، بيد أن الفكرة تلقى اليوم قبولا في كثير من الدوائر التي كانت تنكرها من قبل، وقد نشطت هذه الدعوة أخيراً في النمسا، وأقيمت عدة اجتماعات من أنصار الملوكية تحت رعاية الحكومة، وقيل إن الرئيس ميكلاس ينوي الاستقالة من منصبه قريباً ليمهد إلى هذا العود، ولا يوجد في النمسا من يعارض الفكرة الآن بعد ذهاب الديموقراطية الاشتراكية؛ وهي بالعكس تلقى تأيداً من الحزب المسيحي الاشتراكي (حزب الحكومة) ومن حلفائه الهايمفر. ويرى أنصار الفكرة أن عود الملوكية خير وسيلة للقضاء على مشاريع السياسة الألمانية في ضم النمسا (الانشلوس) وأما في الدوائر الخارجية فان إيطاليا وفرنسا اللتين كانتا تعارضان من قبل في هذا العود أشد المعارضة، لا تريان اليوم بأسا منه، وفي وسع فرنسا أن تذلل معارضة حليفتها تشيكوسلوفاكيا وفي وسع إيطاليا أن تذلل معارضة صديقتها المجر، وعندئذ تغدو مسألة عود آل هبسبورج إلى عرش النمسا مسألة تخص النمسا وحدها، وتتوقف على إرادة الشعب النمسوي وحده
(تم البحث)(38/19)
محمد عبد الله عنان(38/20)
التفاؤل والتشاؤم
وهل لهما أسباب تاريخية؟
بعض غرائب الخرافات عند الغربيين والشرقيين
- 4 -
الملح
من الخرافات او بالأحرى من العادات السائدة التي نشترك نحن والمتوحشون فيها عادة أكل الخبز والملح فنتفاءل من الملح لأنه علامة الولاء والصداقة والإخاء.
وفي مصر عادة، وهي انه إذا وقع طفل على الأرض رشوا في المكان الذي وقع فيه شيئاً من الماء مذاباً فيه الملح. وهذه العادة شائعة بعض الشيوع حتى اليوم بين الطبقات المتوسطة والوضيعة
ويتوهم الفرنجة أنه إذا حدث لا قدر الله وانقلبت المملحة على مائدة الطعام كان ذلك نذير شؤم، إلا إذا اخذ أحد أصحاب البيت شيئاً من الملح المقلوب على طرف ملعقة وألقاه من فوق كتفه اليسرى وهو ينطق بكلمة (ستستروم).
وان أهل العصور الغابرة كانوا إذا أرادوا هدم بناء لتطهيره من دنس أو لعنة رشوا على أرضه الملح قبل أن يشيدوه ثانية.
ويقول التاريخ أن امرأة لوط تحولت إلى تمثال من ملح، ويقال أن الأقدمين كانوا يعاقبون أرقاءهم المكلفين بنقل الملح بالإعدام لو سقط منهم شيء منه على الأرض.
ويذكر كذلك أيضاً أن بعض حكومات أوربا كانت توزع الملح مجاناً على الأسر التي لا يزيد عدد أفرادها على اثني عشر شخصاً، ويعتقد نساء الفرنجة أن سقوط الملح على الأرض نذير شؤم وسوء.
أما أصل الاعتقاد فيرجع إلى تأثير الملح في حياة الإنسان وغذائه ولأن الملح كان من اندر الأشياء وجودا عند المتوحشين وانهم مولعون به، يقفون الخصام أحياناً لكي يقايضوا بأي شيء لأجله. يذهب أحدهم إلى تخوم القبيلة الأخرى فيضع ما عنده من سلع ثم يتركها ويعود في اليوم التالي فيجد بدلاً منها ملحاً يحمله إلى أهل قبيلته، وقد كان القدماء يحتاجون(38/21)
إلى الملح اكثر منا لان معظم قوتهم كان من النبات لا من الحيوان. ولذلك كانوا إذا اكرموا ضيفاً قدموا له أشهى ما عندهم للنفس وأغلى ما يمكنهم الحصول عليه وهو الملح، وبقيت هذه العادة إلى وقتنا هذا، وكذلك لأنه يستعمل في كثير من الأحوال الدينية عند المسيحيين، فهم يذيبونه في الماء المقدس وكذلك يضعون قليلاً منه على طرف لسان الطفل في حفلة العماد
الخبز المرتد
من الخرافات التي شاعت في فرنسا ان الفرنسيين يتشاءمون من أكل الخبز المرتد إلى المخبز، وذلك أن الخبازين كانوا يحجزون للجلادين خبزهم الخاص بهم ويضعونه في مكان منعزل، فإذا أتم العامل صنعه أخذه صاحب المخبز ووضعه في مكانه الخاص ريثما يأتي الجلاد فيأخذه، وكان هذا الخبز يسمى الخبز المرتد.
السن
من الخرافات الفاشية أن يرمي الفتى سنه في عين الشمس من وراء ظهره.
وأن بعض طلبة جامعات أمريكا وأوربا إلى يومنا هذه يحتفظون بضروس العقل المقلوعة في جيوبهم ويحرصون على حملها معهم إلى قاعة الامتحان في نهاية كل عام.
أما عادة إلقاء السن في عين الشمس فمعروفة عند العرب، وقد ذكرت في أشعارهم، كما هي معروفة عند فتياننا وفتيان الغربيين، بل وفتيان المتوحشين. ومن عادات هؤلاء أن يأخذ الوالد سن ولده فيضعها في أصل شجرة كبيرة ويدعو لولده بأن يبلغ في الرفعة والقوة مثلما بلغت هذه الشجرة، ومن عاداتهم أيضاً أن ينزعوا سناً أو سنين للشاب عندما يتناول سر الرجولة أي عند ما يسمح له بأفعال الرجال.
وقد تكون عادة إلقاء السن السائدة الآن بقية من بقايا العصور الغابرة حين كان قلع السن بشير الرجولة، فالصبي يتفاءل بقلع سنه كأنه يرى في ذلك دليلاً على انه اقترب من الرجولة، وقد يتساءل القارئ الآن: لماذا يقلع رجال القبيلة سناً أو سنين للشاب الذي يريد الدخول في زمرتهم؟ والجواب أن هذا القلع يجري على سبيل تجربة الشاب من حيث القدرة والجلد على تحمل الآلام(38/22)
يتبع
إبراهيم تادرس بشاي(38/23)
في علم النفس
الأحلام والتحليل النفسي
بين فرويد وابن سيرين
للدكتور عبد الفتاح سلامه
إن الذي حدا بي إلى البحث عن الأحلام وما تدل عليه، هو في الواقع رغبتي في إظهار فضل ابن سيرين على هذا الفن الذي يدعى فرويد أنه هو الذي أنشأه وأوجده، في حين أنه لم يصل إلى شهرته العظيمة في التحليل النفسي إلا بعد أن ترسم خطى ذلك المفسر العربي العظيم واقتفى أثره.
فتفسير الأحلام والتحليل النفسي هو في رأيي من عمل الأقدمين، وإذا قلت الأقدمين فإني أقصد بذلك الشرق، وهو لا يمت إلى الغرب بصلة، اللهم إلا صلة النقل ومحاولة فهمه والاستفادة منه.
ولابد لي قبل الموازنة بين ابن سيرين وفرويد من أن اشرح نظرية فرويد في تكوين الرؤيا وكيف يتصدى هو إلى تفسيرها. وكذلك سأشرح رأي ابن سيرين وطريقته في التفسير، وسيظهر جلياً كيف أن الأولى هي وليدة الثانية إن لم تكن هي هي مع قليل من التحوير، وسأبين أيضاً كيف تدل الرؤيا على حوادث المستقبل في بعض الأحيان.
تتلخص نظرية فرويد في أن الرغبة أو الأمل الذي لم يتحقق هو الذي ينبه العقل إلى العمل والتخيل أثناء النوم، وتكون النتيجة أن العقل يتخيل أن رغبته قد تحققت، أو بمعنى آخر فان الرؤيا قد تعتب حارساً للنوم، وظيفته أن يجعل النوم هادئاً مطمئناً، لأنها تخيل إلى الإنسان أن رغبته قد تحققت فلا داعي إذا إلى التفكير. ويقول فرويد أيضاً: إن بين رغبات الإنسان مالا يتفق ونظام المجتمع فقد تتمنى نفسه شيئاً محرماً يقف ضميره دون تحقيقه، فتتحين النفس فرصة يضعف فيها الضمير فتحقق رغبتها، ومن الناس من يضعف ضميره في اليقظة فيحقق رغبته المحرمة بالفعل ومنهم من لا يضعف ضميره إلا إذا نام إذ يتخيل تحقيق رغبته الملحة، وذلك في الرؤيا أي في وقت يكون الضمير فيه نائماً أو ضعيفاً فلا منع إذن ولا تإنيب، ويقول فرويد إن هذه الرغبات لا يعرف الإنسان عنها شيئاً(38/24)
مطلقاً مع أنها ليست غريبة عنه، وذلك لأن الضمير يطردها من العقل الواعي أو ما يسمونه العقل الظاهر.
ومع غياب هذه الرغبات عن الوعي فهي ممثلة في العقل الباطن، ممثلة فيه كأفكار كامنة، وأنها سبب الرؤيا وسبب مباشر لكل الأمراض العصبية التي يسميها فرويد يقول أيضاً إن المريض إذا صبح على بينة من أفكاره ورغباته الكامنة فانه يوجه إليها قوته العقلية المميزة ويضعها في ميزان النقد والتقدير، وبهذا فقط يتخلص من مرضه العصبي الذي يسبب له ولأسرته كل أنواع المتاعب. هذا في الواقع هو الذي حفز فرويد إلى دراسة الأحلام لأنها في نظره وسيلة من الوسائل التي توصل إلى كشف الرغبات الخفية للنفس. وفيما يلي طائفة من الأحلام التي حللها فرويد.
1 - رأت آنسة كأن أخاها في دولاب مقفل وكان تفسير فرويد أن الآنسة تود ألا يتدخل أخوها في شؤونها - ذلك لان وجود الأخ في الدولاب المقفل رمز لعدم قدرته على رؤيتها، وبالتالي رمز لعدم إمكان انتقادها أو التدخل في شؤونها
2 - زوجة رأت أنها اشترت ثلاث تذاكر لها ولزوجها لحضور حفلة تمثيلية وأنها اشترت هذه التذاكر الثلاث بفرنك ونصف وأنها اشترت التذاكر قبل ميعاد التمثيل بثلاثة أيام خوفاً من نفاذ التذاكر، وأنها حضرت إلى صالة المسرح قبل رفع الستار بساعة خوفاً من الزحام، ولكنها لما دخلت مع زوجها وجدت كراسي كثيرة خالية، وهذا معناه أنها ما كانت لتخسر شيئاً لو أنها لم تتعجل في شراء التذاكر ولا في التبكير في الحضور، وأخبرها زوجها وهو يلاطفها في المسرح بأن صديقتها فلانة وزوجها قد اشتريا تذاكر ولكنهما لم يحضرا، ولما سألها فرويد علم منها ما يأتي. صديقتها المذكورة في الرؤيا أصغر منها بثلاثة أشهر هي لم تتزوج إلا بعد زواج صاحبة الرؤيا بعشر سنين، ولأجل تفسير هذه الرؤيا المعقدة تجد أن فرويد قد حاول تحليلها بطريقة الرموز على الوجه الآتي
الحفلة التمثيلية رمز لحفلة الزواج، والرقم 3 رمز للرجل وهو الزوج في هذه الحالة، وإذا عرفنا أن المرأة هي التي تدفع المهر عند الإفرنج وأنها اشترت ثلاث تذاكر بفرنك ونصف، كان معنى ذلك أنها دفعت مهر زوجها رخيصاً فهي غير سعيدة في زواجها، وما كان أسعدها لو أنها تأخرت في الزواج كزميلتها التي تزوجت من رجل أشجع وأحسن من(38/25)
زوجها وذلك بفضل تريثها حتى جمعت مهراً لائقاً برجل كريم
من هذين المثالين نرى أن فرويد قد استعان في تحليله النفسي بالأحلام وأنه فسر هذه الأحلام بواسطة أسئلته لصاحب الرؤيا وبواسطة فكه الرموز بهذه الأحلام.
أما هذه الرموز فهي موجودة، في اللغة، موجودة في الشعر موجودة في الأمثلة السائرة، وفي الحكم المنثورة، وفي كلام العامة، والخاصة وفي كل شيء. فالشمس والقمر قد يكونان رمزاً للوالدين أو رمزاً للملوك. وصغار الطيور قد تكون رمزاً للأطفال والأبناء. وهكذا يقول فرويد إن لكل أمة رموزها الخاصة وهو على حق، لأن لكل أمة لغتها الخاصة وآدابها وأمثلتها. وبعد، أفليست هذه الطريقة هي طريقة ابن سيرين في التفسير وقد كان يسأل صاحب الرؤيا ملياً في النهار وهو يقول في كتابه إن الرؤيا قد تأتي عن رغبة في النفس كأن يرى الإنسان نفسه مع من يحب أو قد يرى الأكل أمامه إذا كان جائعاً، وأما الرموز عند ابن سيرين فهي كثيرة ليس لها حصر، وليس له مثيل في هذا الباب وقد أخذ هذه الرموز من القرآن كالآيات الآتية
(واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) وقوله تعالى في النساء (بيض مكنون) وكان يأخذ رموزه أيضاً من الحديث كقول النبي (صلى الله عليه وسلم) (رفقاً بالقوارير) يعني النساء - وقد كان يأخذ رموزه أيضاً من الأمثلة المبتذلة كقول إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام (غير اسكفه الباب) أي طلق زوجتك وكقول لقمان لابنه (غير فراشك) يعني زوجتك أيضاً وفيما يلي طائفة من الرؤى التي فسرها ابن سيرين
1 - جاءت امرأة إلى ابن سيرين فقالت: رأيت كأن في حجري لؤلؤتين أحدهما أكبر من الأخرى وقد طلبت أختي مني إحداهما فأعطيتها الصغرى - فقال ابن سيرين تعلمت سورتين من القرآن إحداهما اكبر من الأخرى وقد علمت أختك الصورة الصغرى
2 - جاء رجل إلى ابن سيرين وقال: رأيت كأن ثورا عظيما خرج من جحر صغير وأراد أن يرجع إلى الجحر فلم يتمكن من ذلك. فقال ابن سيرين هي الكلمة العظيمة تخرج من فم الرجل ثم يندم عليها.
وظاهر هنا أن ابن سيرين قد رمز للسورة باللؤلؤة وللكلمة بالثور وللفم بالجحر وبديهي أنه - تمشيا مع عادته في التفسير - قد سأل أصحاب الرؤيا عما في أنفسهم قبل إيضاحه لهم(38/26)
ما تدل رؤياهم عليه، وهناك طائفة أخرى من الأحلام قد فسرها أبن سيرين وفي تفسيره لها شيء من التنبؤ وهاك بعض الأمثلة:
1 - جاء رجل إلى أبن سيرين وقال رأيت كأني البس خاتماً جميلاً فصه من ياقوت فقال تتزوج من امرأة جميلة غنية أي أنه حمل المعنى على المستقبل
2 - جاءت إلى أبن سيرين امرأة وكان زوجها غائباً وقالت له: رأيت كأن أسكفة الباب العليا سقطت على السفلى، فقال أبن سيرين سيعود زوجك، وهنا أيضاً حمل المعنى على المستقبل
ونحن من جانبنا لا نتعرض لموضوع التنبؤ الآن لأننا سنوفيه حقه فيما بعد، ونكتفي بذكر رؤيا عظيمة تدل على مبلغ تضلع العرُب في تفسير الأحلام. فقد حدث المنصور أنه رأى في منامه صورة ملك الموت وسأله عن مدة عمره فأشار بأصابعه الخمسة، فاحتار المنصور في تأويل رؤياه لانه لا يعلم هل سيموت بعد خمسة أشهر أو خمس سنين، ولكنه سأل الأمام أبا حنيفة، قال له انه يشير إلى الآية (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت) فكأن ملك الموت يريد أن يذكره بالخمسة أشياء التي لا يعرفها غير الله ومن ضمنها وما تدري نفس ماذا تكسب غدا
هذا هو تفسير أبي حنيفة، ولعمري لا يمكن لفرويد ان يزيد شيئاً على هذا التفسير، اللهم إلا إذا قال كعادته إن هذه الرؤيا تمثل محاورة بين النفس والضمير، فالنفس ترغب في معرفة عمرها والضمير بصورة ملك الموت يقطع عليها هذه الرغبة قائلا إن ذلك من علم الله
وإنني مع اعترافي لفرويد بالنبوغ في التحليل النفسي بواسطة الأحلام، وأنه هو الذي نبه العصر الحديث إلى أن الأحلام لها مغزى يجب أن نعرفه إذا أراد أن نعرف حقيقة أنفسنا، وان التحليل النفسي هو الطريقة المثلى لعلاج الأمراض العصبية علاجاً أكيدا. أقول مع اعترافي بكل هذا فإنني اشعر بأن هذا العصر الحديث مدين لابن سيرين ومفسري العرب لأنهم هم الذين أثاروا الطريق لفرويد حتى وصل إلى هذه الشهرة العالمية العظيمة، ومن الغريب أن فرويد في كتبه العديدة لم يذكر كلمة عن ابن سيرين.(38/27)
وقبل أن أتكلم عن علاقة الرؤيا بالمستقبل أود أن أذكر هنا رؤيا أخرى مما طلب إليّ تفسيره
1 - شاب موظف متزوج وله أطفال رأى كأن في بيته فراريج صغاراً داس على فروج فمات
هذه رؤيا ظريفة وصغيرة ولكنها تدل على معنى كبير لان الفراريج رمز للأطفال، فهل من المعقول أن والداً يود موت طفله بيده؟ فقد يبدو ذلك محالا، ولكن الواقع أن الأسئلة قد جعلته يعترف بأنه ليس سعيدا في حياته الزوجية، وأنه يتمنى لو لم توجد هذه الرابطة: رابطة الأطفال بينه وبين زوجته
إذن تريد النفس ألا يكون هناك أطفال، ولكن الضمير يقف حائلا دون ظهور هذه الرغبة فتكتفي النفس بتمني موت طفل واحد ولكن تحت ستار آخر غير ستار كراهية الزوجة، وهذا الستار هو أن ذلك الطفل مريض مرضاً خطيراً وخير له أن يموت من أن ويواجه الدنيا في المستقبل ويده اليمنى مشلولة. ذلك الذي يتمنى موت طفله لان يده اليمنى مشلولة يقول أيضاً بأن بعض الأطباء قر بأن الشلل موضعي وان الشفاء ممكن لو عنى به العناية اللازمة إذن فليست هي الشفقة التي تدفعه إلى تمني موت طفله إذ أنها بالعكس تدفعه إلى معالجة ذلك الابن المرموز له بفروج صغير في الرؤيا، وعلى هذا فالوضع الظاهري للحالة هو التخلص من الابن شفقة به، والوضع الحقيقي هو انه يرغب في الانفصال عن زوجته فترغب نفسه موت أطفاله في هذا السبيل
إلى هنا نقف برهة عن سرد أمثلة أخرى لانه قد يتبادر إلى الأذهان السؤال الآتي
إذا كان فرويد قد تتبع طريقة ابن سيرين في تفسير الأحلام فلماذا نرى هذا الفرق العظيم في نتيجة التفسير؟ ففرويد مثلاً يقول لصاحب الرؤيا إن عندك رغبة في كذا، ولكن ابن سيرين يقول لصاحب الرؤيا أنت حدث لك كذا أو سيحدث لك كذا؟
أما كشف حوادث الماضي فان ذلك ممكن لمحللي النفس كما كان ممكنا لابن سيرين، ولكنهم لم يكتفوا بالكشف عن حوادث الماضي بل تخطوها إلى معرفة رغبات النفس التي اقترنت بهذه الحوادث، والذي يعنيني هنا هو تعرض ابن سيرين لحوادث المستقبل.
والواقع أن ابن سيرين كان أستاذاً في الإيحاء الذي يسمونه كما كان أستاذاً في التحليل(38/28)
النفسي
وفي كتابه نرى كيف يختار الوقت والمكان اللذين إذا عبر فيهما يكون اقرب إلى الخير منه إلى الشر، وكيف يدعو الله قبل سماع الرؤيا لجلب الخير ودفع الشر وتأكيده في كتابه بان على المعبر أن يختار الكلام المبشر بالخير، لان أول تعبير في نظره هو الذي لابد من وقوعه
إذن فالإيحاء هو الذي أوجد الفرق بين ابن سيرين وفرويد، ففي رؤيا ابن سيرين التي قال فيها لصاحب الخاتم أنك ستتزوج امرأة جميلة غنية لو قصت هذه الرؤيا على فرويد لقال لصاحبها إن عندك رغبة في أن تتزوج بالمرأة الجميلة الغنية التي تعرفها. وفي رؤيا ابن سيرين التي قال فيها لصاحبتها إن زوجها سيحضر لأن اسكفة الباب العليا قد اجتمعت على أسكفة الباب السفلى لو عرضت هذه الرؤيا لفرويد لفسرها بأن الزوجة عندها رغبة في رجوع زوجها، وربما قال لها كثير من ذلك لما في اجتماع رمزي الزوجين من معان. والفرق واضح بين الطريقتين، فكلمة ستتزوج تحمل الرغبة في الزواج والإيحاء بالزواج في نفس الوقت، ولما كان الناس يعتقدون في ضرورة تحقيق التعبير فان ذلك الرجل الذي أوحى إليه بالزواج لابد انه سيتزوج ويكون بذلك قد حقق لابن سيرين تفسيره.
وهكذا يتبين لنا أن فرويد قد أدخل تعديلا مهما على تعبير الاحلام، فهو يسأل صاحب الرؤيا عن نفسه وهو يفك الرموز بطريقة ابن سيرين، ولكنه لا يوحي إلى صاحب الرؤيا بأي فكرة بل يكتفي بإظهار الرغبة النفسية الخفية له، ويقول إن إظهار هذه الرغبة كاف لأن يفكر صاحب الرؤيا في رغبته فيتناولها بالنقد والتقدير، وبذلك فقط قد يوافق على رغبته وينفذها إذا لم يكن هناك مانع عائلي أو اجتماعي وإلا فانه يكبت هذه الرغبة أو قد يسمو بها، وهذا ما يسميه فرويد أي أنه يوجهها وجهة شريفة سامية، وبقى علينا أن نجيب على سؤال واحد وهو هل تدل الرؤيا على حوادث المستقبل؟ والجواب على ذلك هو أن الرؤيا قد تدل على المستقبل في بعض الأحيان. وأما كيفية ذلك فسنخصص له بحثاً آخر فيها بعد، بعد شرح أقسام العقل المختلفة التي تعتمد رؤيا المستقبل عليها.
دكتور عبد الفتاح سلامة
طبيب مستشفى برقاش ووردان(38/29)
بمناسبة قصة خسرو وشيرين
كلمة في الشعر المرسل
للأستاذ مؤلف خسرو وشيرين
لقد تكرم الأستاذ اللوذعي صاحب الرسالة بكلمة نقد قيمة في قصة خسرو وشيرين تناول فيها قالبها أو رداءها من الشعر المرسل، وكان على عادته في كتابته قاصداً قوياً مهذباً.
ولقد أدهشني وأيم الحق أن رأيت بالرسالة الغراء كلمة في تلك القصة، وذهبت نفسي توغل في هزة من الطرب أنستها ما يجب عليها من وزن القول والقصد فيه.
وذلك لأنني منذ أخرجتها بعثت بها إلى أساطين الكتاب والأدباء وكبار المحررين، وانتظرت أن يقرأها بعضهم فيقول فيها كلمة، إما أن تكون كلمة نقد مر يظهر ما فيها من تفاهة وسخف، وإما أن تكون كلمة نقد هين يتعاقب فيها الاستهجان والاستحسان. وما كنت انتظر أن يقذف بالقصة في زاوية الإهمال لأن صاحبها لم يكتب عليها اسمه، أو لأنه لم يلح في طلب التقريظ، أو لأنه لم يلتمس إعانة أو حماية من أحد. فلما مضت أيام ولم أجد ذكراً لها على لسان ولا في صحيفة، طويت ذكراها في ثنايا الماضي وأنسيت نفسي إياها، وقلت ألتمس التعزية لنفسي، أنها لم تكن جديرة لا بالثناء ولا بالذم، فلعلها في نظر الأدباء أقل من أن يحكموا عليها بالسخف والسقوط. هكذا قلت لنفسي ورضيت القول على شدته، لأنني كنت دائماً أتهم نفسي بأنني كسائر المؤلفين موصوف بالعمى والغباء، فكم رأيت من المؤلفين من أسمعني قوله، فجال في فكري عند سماعه أن أقول له (أسأت)، ولكني ضعفت عن قول ذلك اللفظ فقلت له (أحسنت). فصدق ما قلته وذهب عني قرير العين موقنا أنه مؤلف مجيد موفق، وذلك العمى الخاص بالمؤلفين شبيه بما يصيب الآباء في حكمهم على أبنائهم. قيل ان أعرابياً فقد ابنه مرة، فمر الصبي بقوم فرأوه شبيها بالجعل القبيح، ثم مر الأعرابي بهم فسألهم عن ابنه فقالوا له صفه لنا، فقال لهم: (كأنه دنينير) أي كأنه دينار صغير من حسنه، وتردد بريق الجمال في وجهه ونفاسته. وهو على ذلك لم استبعد أن أكون كأحد هؤلاء المؤلفين البغيضين، وحمدت الله على أن وفقني لفكرة إخفاء اسمي عن الناس حتى لا تنالني معرة (قصة خسرو وشيرين!)
قلت لقد دهشت إذ رأيت في الرسالة كلمة عن تلك القصة، ولا سيما وهي كلمة من قلم(38/31)
أستاذ أديب وكاتب أريب، لا أظنه يخدع عن غث القول وسمينه. ولما رأيته يتناول القصة في أول ما قاله بالثناء زدت عجباً، إذ كيف تكون تلك القصة جديرة بتقدير أديب كبير، ومع ذلك تجد من سائر الأدباء مثل هذا الإهمال. وكيف لا تستحق من الأدباء كلمة وقد استحقته من مثل الزيات كلاماً، حسبي إذن اندفاعاً مع هزة الطرب التي استخفتني، وذهبت باتزان قولي عندما قرأت مقال الرسالة في قصتي، فقد كنت أوثر أن الزم القصد في قولي، ولولا أن رأيت شيئاً لم أتوقعه فانطلق قلمي برغمي.
حسبي إذن لوما للأدباء والأساتذة، فلعل لهم العذر فيما كان، ولعلي أخطأت فهم قصدهم وعذرهم فما أكثر مشاغل الحياة وما أثقل أعباءها، وأولى بي أن آخذ الناس كما أجدهم ولا أعتب على أحد منهم شيئاً.
أما شعر المرسل فقد رأيت الأستاذ الجليل قد وضعه تحت ضوء قلمه الوهاج فأعشى وهجه العيون وكاد يحجب ما دونه. لا فائدة هنا في أن يدافع أحد عن أسلوب من القول، ولا فائدة في أن يحاول حمل الناس على تذوق ما يحلو في ذوقه، فهذا شيء من العبث وضرب من طلب المحال، غير إني أرى من حقي أن أبين للناس كيف يجب أن يكتب الشعر المرسل الذي كتبت فيه قصتي (خسرو وشيرين) فان وحدة هذا الشعر هي الشطر الواحد، وليس البيت المكون من شطرين.
لقد تعارف شعراء اللغة العربية على وحدات متعددة لشعرهم، فأكثر القصيد وحدته البيت المكون من شطرين كما هو معلوم، والرجز وحدته الشطر الواحد مع مراعاة انتهاء كل وحدتين منه بقافية واحدة، وهناك المثلثات والمربعات والمخمسات على ما هو معروف. وأما الشعر المرسل فوحدته كما تقدم الشطر الواحد. وأما حكمة ذلك فلا فائدة من بيانها. فان اختيار أوزان الشعر المرسل واختيار جعله من شطرات مفردة لم أصل إليها إلا بعد درس واختبار ومحاولات تجريبية كثيرة. غير أن بيان أسباب ذلك الاختيار لا يجدي نفعاً، إذ أن تلك الأسباب مهما تكن وجيهة فإنها لا يمكن أن تحمل الناس على استحسان شيء لا يبدو لهم مستحسناً.
ولهذا أكتفي بأن أقول إن من يحاول أن يكتب الشعر المرسل أو يقرؤه يحسن به أن يجعل وحدته الشطر الواحد، وان يكتفي بما في الوزن من الموسيقى بغير ان يقف عند آخر(38/32)
الشطر إلا إذا كان المعنى ينتهي إليه.
ولم يلجأ أحد في لغة من اللغات إلى الشعر المرسل لكتابة الأغاني، وهذا ما لا يراد به في اللغة العربية. فالأغاني وكل ما يعبر عن العواطف الثائرة التي تهز القلوب هزة وقتية قصيرة لا ينفع فيها الشعر المرسل. أقول هذا وأكرره كثيراً حتى لا ينزعج الأدباء من دخول هذا الباب في اللغة العربية. وما أنا ممن يحاولون هدم القديم إذ إني أفاخر بذلك القديم وقد تقدمت بي السن إلى حدود القدم، فلست ممن يتعلقون بالهدم، ولست ممن لا يحرصون على كنوز القرون المتعاقبة، بل أجد من نفسي أشد الحرص على تلك الكنوز، وذلك لما استمد منها من لذة وحكمة. وإنما اقصد إلى أن أفتح باباً جديداً كان إلى الآن مغلقا وهو باب القصة الشعرية أو الملحمة الطويلة، وفي مثل هذه الأبواب كانت القافية غلا يقيد المعنى، ويغير مجاريه، حتى أن شعراء اللغات الأخرى رأوا أنفسهم مضطرين إلى الاستغناء عن القافية والاكتفاء بموسيقى الوزن. ولو فعل البستاني مثل ذلك في ترجمة الإلياذة ولو فعل شوقي مثله في رواياته المسرحية لكان لعملهما شأن آخر، ولصارت الإلياذة العربية اليوم في متناول المتأدبين سهلة لينة، ترسم صورة الإلياذة اليونانية الأصلية، وليست كما هي اليوم، فالقطع الشعرية الطويلة تكون طللا يابساً غيرمتناسق، ولو كانت أجزاؤه من قطع مرمرية بديعة، فانك عندئذ إذا نظرت في القطعة الصغيرة منها أعجبتك ولكنك إذا تابعت النظر إليها لتراها مجتمعة راعك منظر غير متآلف وحركات جامدة غير متوثبة مع الحياة. لست ادعى إنني أحسنت، ولكني أقول قول الواثق أن الشعر المرسل يكون أداة إصلاح وسعة في اللغة العربية إذا وجد من يحسن القول فيه. وإذا أنا ضربت من قولي مثلا له فلست أضربه على أنه قول حسن، ولكني اضربه على سبيل العرض للطريقة: وهانذا مختار قطعة من مواقف خسرو وشيرين، وارجو أن تكتبها الرسالة الغراء كما أردتها أن تظهر - أي أن تكون وحدتها الشطر الواحد.
وقف بعض قواد الملك كسرى في أيام مجده وجبروته يتحدثون ويتذمرون، فأقبل عليهم شاعر البلاط (مهمند) فقطع عليهم حديثهم فدخلوا في حديث دعابة مع الشاعر، والقواد هم (أسفاذ) و (تخوار) و (حراز).
حراز (ضاحكا)(38/33)
أوه. مهمند؟ كيف حال الزمان؟
(يعودون إلى الهدوء)
مهمند مثلما كنت دائماً. أتغدى
ثم أغفو، وبعد ذلك أصححو
ثم أغفو، وبعد ذلك أصحو.
(يضحكون)
حراز سرك الله، نعم تلك حياة.
(لتخوار) يا صديقي تخوار. نعم الحياة.
(لاخوانه) هل سمعتم مقال مهمند يوما؟
تخوار: أنا بالحرب عالم، غير إني
لست بالشعر عالما يا صديقي.
حراز: (لمهمند) قل لنا من بديع شعرك شيئا
مهمند: لست يا سيدي أحب كلامي
(يشير حراز إشارة عدم التصديق)
لا تكذب فإنما هو رزقي
وسبيل الأرزاق غير حبيب
بائع الزهر ذاهل عن شذاه
لا يرى في الزهور إلا بضاعة.
حراز غير أن الزهور لم تك يوما
غير محبوبة الشميم. أعدلى
ذلك الشعر اذ خرجنا لنلهو
يوم عيد النيزوز
مهمند كان جميلا
ذلك اليوم كم ضحكنا. ولكن. . .
(يهز رأسه كمن يتذكر شيئا يأسف على فواته)(38/34)
حراز كم ضحكنا. أعده يا مهمند
مهمند (ينشد) من أراد الصدق فليسمع ومن شاء السرور
ذقت ما في الدهر من حلو ومن مر مرير
وعرفت الناس عند اليسر والأمر العسير
كنت أبكي إن بكى لهفان ذو قلب كسير
ولكن ضل فؤادي في فنون وغرور
فإذا بي بعد ان شيبنيي مر الدهور
لا أرى في الناس ذا حظ سوى الفدم الغرير
كن إذا شئت حمارا مرحا بين الحمير
وإذا شئت فأسرج راكبا فوق الظهور
ساخرا منها إذا أعجبها السرج الحرير
فأضل الخلق عقل فوق رجلين يسير
حراز (يضحك بصوت عال)
كن إذا شئت حمارا مرحاً بين الحمير
(يضحك مهمند والحضور)
(لتخوار) أترى أن يكون هذا صديقي؟
تخوار (ضاحكا) لا أرى أن أكون هذا.
حراز (فأسرج)
راكبا فوق ظهرها يا صديقي
تخوار (ضاحكا) لا أرى في الركوب بأساً إذا ما
كان لابد من ركوب الحمير.
حراز (لاسفاذ) ليت شعري مإذا تحب؟
اسفاذ (متكلفا الضحك) (أراني)
لا احب الحمير -
مهمندلم أر يوما(38/35)
سيدا طيبا تواضع حتى
رضيت نفسه بهذا. ولكن
كلنا يرتضى الركوب. وعندي
أن أحلى الحياة عيش الحمير
(يضحكون)
حراز كيف هذا مهمند؟
مهمند نعم الحياة!
كل ارض خضراء مرعى مباح
لم يعكرهم الحياة صفاها.
حيث سارت رأيت محلا ومأوى
وإذا شاءت النهيق وصاحت
لم توار النهيق خشية بطش
حراز أنت مهمند احكم الشعراء.
كم من الناس من يود نهيقا
ثم يخشى فيكتم الأنفاسا.
ولعل أعرض على قراء الرسالة في مرة أخرى قطعة ثانية تصف موقفاً آخر ليروا في ذلك القول رأيا
وإني أرجو أن تتكرم المجلة الأدبية الغراء بنشر مقالي هذا خلوا من الامضاء، إذ إني أرجو أن يبقى كاتب (خسرو وشيرين) في تحجبه، فإنما المقصود أن يرى الأدباء رأياً في القصة وشعرها المرسل فحسب.(38/36)
1 - تولستوي
اجتماعياته
عشق تولستوي المدنية الاوربية، فطاف في أنحاء أوربا وأعجبه منها تقدمها الآلي ونظامها المتسق. وبهره فيها حركتها الدائمة ونشاطها المتجدد.
ولكنه ما لبث أن نفذ إلى أعماقها. وكفاه أن يرى في تجواله رجلا يشنق في باريس أم المدنية على مرأى ومسمع من الجماهير حتى ينقلب ساخطا متذمراً متشائماً. وحتى يرجع إلى روسيا غضبان أسفا، فيهاجم الحضارة الحديثة في سخرية لاذعة وتهكم مر.
تناول تولستوي الناحية النفسية من المجتمع. وأخذ يصورها بقلمه الماهر تصويراً دقيقاً.
فبين أن حياة العامل اليوم أشقى بكثير من حياة الرقيق بالأمس. فقد كان يؤمن هذا إيماناً لا يخامره الشك انه خلق عبداً. وأن الله أراد أن يكون هناك أحرار وعبيد. وكان يوقن أن لا مرد لأمر الله، وفي هذا الإيمان تعزية. وفي هذا الاعتقاد سلوة. .
أما العامل الحر اليوم فقد علموه المساواة، فلا نبيل ولا حقير. ثم هو يرى أن عليه أن يتعب، ولهم أن يستريحوا. ومن واجبه أن يشقى، ومن حقهم أن يسعدوا
وهو ولا شك غير راض بهذا ولا قانع، ولابد له أن يتساءل لماذا يشقى؟ وهو منته إلى الشك في عدل هذا العالم وإنصاف القائمين بأموره.
وفي هذا الشك. وفي ذاك التساؤل تعس ليس بعده تعس، ثم رجل الطبقات الوسطى لا تقل حالته النفسية عن حالة العامل تناقصاً واضطراباً: إذ يرى عجبا، يرى قوما إذا ما أجادوا التمليق وأحسنوا الاحتيال وداسو على الشرف والكرامة ارتفعوا على أكتاف الغير وتولوا قيادة الأمم، ثم طائفة أخرى تتمسك بالأمانة وتتعلق بالشرف. وهي أبية لا تقل ذكاء ولا مهارة عن الأولى ولكنها مهما كدت وجدت فنصيبها في الحياة القدح المنيح، ثم هو متعجب لماذا يجب عليه أن يؤدي ضرائب ثقيلة على نفسه لتتمتع بها قلة مستهترة. وماذا يحمله على محاربة الموت في ميدان القتال، ما دام الغنم كله راجعاً إلى القواد والساسة!؟ ويزيده شقاء على شقاء انه مضطر إلى مجاراة العالم في نظمه وأساليبه، وهو يحمل لها بين طوايا نفسه انتقاماً مراً. ورجال المناصب وقادة الأمم من ساسة وحكام لهم آمال عريضة ومبادئ قويمة. ولكنهم إذا ما تولوا الحكم وقبضوا على أزمة الأمور انتهوا إلى منهاج من سبقهم(38/37)
واضعين مبادئهم في أحد أدراج مكاتبهم التي يستريحون إليها!
ويمتد هذا التناقض إلى نفسية الأمم كمجموعة. فليس أعجب من أمم مسيحية تعتنق ديناً يدعوها ألا تقابل الشر بالشر وأن تدير الخد الأيسر لمن يلطم الخد الأيمن. وهي لا تتورع عن قتال دام تعد له أشد الآلات فتكا لإهانة تافهة، أو لطمع أشعبي في قطعة أرض أو تصريف محصول.
فرق بعيد إذن بين ما يعتقد البشر وبين ما يعملون. وبون شاسع بين ما يؤمنون انه واجب أن يكون، وما هو كائن بالفعل، وفي هذا سر الشقاء والبؤس الذي يسود العالم.
كان من نتيجة هذا الخلاف بين ما تراه ضمائرنا وما تعلمه أيدينا أسوأ العواقب. فالنظم والأوضاع الاجتماعية الحديثة لا تستند إلا إلى القوة. ولا تقوم إلا بالعنف.
فليس من حكومة تستطيع أن تدبر أمر دولة دون أن يكون من ورائها شرطة تجبر الناس على الطاعة. وليس من قانون يسري إلا إذا اعتمد على قوة تنفيذية تضطر الناس إلى الإذعان له، وليس من عمل يدار إلا إذا تحكم أصحاب رؤوس الأموال في العمال، ويتجلى هذا العنف في أبسط نواحي الحياة الاجتماعية أو أكثرها تعقيداً من العلاقات العائلية إلى العلاقات الدولية، فلا يتاح لأسرة أن تستمر إلا إذا استبدت المرأة بالرجل أو الرجل بالمرأة، ولا يمكن لنزاع إن يحسم بين دولة وأخرى إلا إذا أريقت الدماء وأزهقت الأرواح
ولو ترك الناس وضمائرهم لما جبيت الضرائب، ولما لفت الجيوش، وما كان ليخطر ببال إنجليزي أن يقتل فرنسيا، ولا فرنسي أن يستعبد سوريا
ولو كان الأمر شورى والمبادئ التي نودي بها من مساواة وإخاء حقيقة واقعة لما وجدنا طبقة حاكمة وأخرى محكومة. وما كان يتاح لأحد أن يسعد ولآخر أن يشقى.
ونحن نحس كل هذا ونشعر أن ما نعمله مساقون إليه سوقا ومدفوعون إليه دفعا. وإنا لا نستطيع مع الأنظمة الحالية صبراً، ولكن لسنا من الشجاعة الأدبية بحيث نجهر بضرورة تغيير نظام العالم وبوجوب قلبه رأساً على عقب.
لقد أصبحت المدنية الحالية نسجاً مهلهلاً ونظاماً معطلا لا يصلح لما يجيش في نفوسنا ويجول في عقولنا. وأمست رياء وخداعا تتدثر بمسوح كهنوتي لتخفى فجورها وشراستها. فهي إن استعبدت الأمم فلكي تأخذ بيدها إلى الرقي! وهي إن لجأت إلى القوة في هذا(38/38)
السبيل فذلك عمل إنساني نبيل.
نعم. لقد أصبحت النظم الحالية من سياسية واجتماعية واقتصادية نظماً عتيقة لا تشرف الإنسانية في قليل أو كثير.
ولكن. أي نظم تستبدلها بها. وعلى أي صورة تكون هذه النظم هذا ما بحثه تولستوي، وكان من نتيجة بحثه أن وصل إلى رأي قاطع
- 2 -
ولم يكن رأي تولستوي خيالاً أو أديالاً يستحيل تحقيقه، ولم يتطلب من البشر أن ينسوا بشريتهم ليصبحوا ملائكة.
وهو لا يقول لك أكثر من أن تتبع التاريخ لتتبين بنفسك مجرى الإنسانية إلى أين تسير وفي أي اتجاه تتجه.
لقد أتى على العالم حين من الدهر كان فيه أسراً وعشائر. وكانت الأسر في تطاحن وتناحر، يعتقد أفراد كل أسرة أن سعادتها في التغلب على الأسر الأخرى. ثم ظهر لهم أن لا ثمرة يجنونها من قال طويل ممل. فاندمجت الأسر في قبائل.
وبدأت القبائل دوراً آخر من أدوار التاريخ سودت صفحاته بحروب الغلبة والثأر. ثم ما لبثت أن تحققت بدورها أن سلامها في تعاونها فاتحدت القبائل. وكان من نتيجة اتحادها هذه الدويلات التي عظمت حتى سميت بعد بانجلتره وفرنسا والولايات المتحدة. . . في تتبعك لهذا الأدوار استكشاف لسر الإنسانية. فهي تتجه إلى الوحدة. وتسعى إلى الالتئام فليس من المستحيل أن تصبح الدول دولة واحدة. وبذا تنقطع من صفحات التاريخ سلسلة المجازر البشرية.
قد تقول أن هذا حلم فيلسوف وخيال شاعر. وأن ليس من الوطنية مفر. ولا من الحرب بد، وأن الشقاء والبؤس من لوازم هذا العالم. ليس في الإمكان أبدع مما كان.
ويضحك منك تولستوي. ويقول إن ما تحسبه اليوم قد حسبه أجدادك من قبل. فالأثيني ما كان يخطر بباله أن يتعاون مع أخيه الإسبرطي تحت علم واحد متناسياً أحقاده مضحياً بمصلحة مدنيته في سبيل اسم أجوف دعوه اليوم دولة اليونان
وانجلتره التي يضحي الإنجليزي من أجلها بنفسه وماله. لم يكن لها من قبل وجود. وما(38/39)
كان يتصور الاسكتلندي أو الارلندي قبل بضع مئات من السنين أن يأتي وقت يتنازلان فيه عن استقلالهما الشخصي وتقاليدهما الموروثة وليصبح لهما وطن مشترك، وعنوان واحد، والرقيق كان يحسبه البعض منذ مائة سنة ضرورة من ضروريات الحياة وقانوناً طبيعياً إرادة الله وليس إلى تغييره من سبيل.
وأين الرقيق اليوم؟
وهكذا، فما تتخيله اليوم من أن اتحاد البشر أمر محال وأن إلغاء الحروب خيال بديع سيصبح بعد غد حقيقة واقعة
وشقاؤك آت من أنك تؤمن بضرورة هذا الاتحاد، ولكنك تحكم باستحالته. وسعادتك لن تتحقق إلا إذ اعتقدت بإمكانه فتعمل له
هذا اليوم الذي تختفي فيه الوطنية لتحل محلها الإنسانية. وتتنازل فيه الدول عن بعض حقوقها لتعيش في هدوء وسلام هو الضالة التي يجب أن ننشدها وهو الغاية التي يجب أن نقصدها. ثم هو النهاية التي لا شك إنا واصلون إليها.
كيف يتحقق هذا الحلم الجميل؟ ذلك ما يجيبك عنه تولستوي مرة أخرى.
(البقية في العدد القادم)
شهدي عطيه الشافعي(38/40)
بديع الزمان الهمذاني
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
القرن الرابع الهجري
سيطر على النصف الشرقي من العالم الإسلامي في القرن الرابع ثلاث دول كبيرة ودول أخرى صغيرة:
سيطر بنو بويه على غربي إيران وجنوبها وعلى العراق العربي فسيطروا على الخلفاء العباسيين في بغداد.
وكان ما وراء النهر وخراسان وسجستان في سلطان السامانيين ثم قامت الدولة الغزنوية في أواخر هذا القرن فورثت ملك السامانيين كله. وانتقصت ملك بني بويه وزحزحتهم تلقاء المغرب ثم أوغلت في المشرق ففتحت الهند.
وكان في طبرستان وجرجان الدولة الزيارية التي أقامها في أوائل هذا القرن مرداويج بن زيار. وكان بنو باوند في طبرستان ايضاً.
وفي سجستان امراء من نسل يعقوب بن الليث الصفار ومنهم الأمير خلف بن أحمد (344 - 399).
عاش أحمد بن الحسين بديع الزمان الهمذاني في عهد أربعة الملوك الأخيرين من بني سامان إحدى وثلاثين سنة. وفي عهد جماعة من ملوك بني بويه أعظمهم عضد الدولة (367 - 372) ومؤيد الدولة وفخر الدولة (366 - 387) ومجد الدولة أبو طالب رستم (387 - 420) وشمس الدولة أبو طاهر (387 - 412).
والذين كان لهم سلطان على همذان والبلاد التي أقام بها الهمذاني هم مؤيد الدولة وفخر الدولة وابناه مجد الدولة وشمس الدولة. ولمؤيد الدولة وأخيه فخر الدولة وزر أبو الفضل بن العميد والصاحب ابن عباد.
وعاش البديع في عهد شمس المعالي قابوس بن وشمكير من الزياريين وفي عهد سبكتكين وابنه محمود من الغزنوية، وخلف ابن أحمد من الصفارية وثارت حروب كثيرة بين هؤلاء(38/41)
الملوك اضطربت لها البلاد وشقى بها الناس.
وكانت هذه الدول تتنازع مجد العلم والأدب كما تتنازع السلطان وكانت للأدب في النصف الثاني من القرن الرابع محافل: حول ملوك السامانية في بخارى وحول وزراء البويهيين في الري واصفهان وجرجان، وحول شمس المعالي قابوس بن وشمكير في جرجان وطبرستان وحول السلطان محمود الغزنوي في غزنة وأخيه نصر في نيسابور، والمأمونية في خوارزم.
ومما يؤثر من تنافس هذه الدول في العلماء والأدباء أن نوح ابن منصور الساماني كتب إلى الصاحب بن عباد سرا يستدعيه ليستوزره فاعتذر. وأن السلطان محمودا كتب إلى المأمون أمير خوارزم ليرسل إليه ابن سينا والبيروني وأبا سهل المسيحي الفيلسوف وأبا الحسن الخمار الطبيب، وأبا نصر العراق الرياضي، فمنهم من رضى بالمسير إلى محمود ومنهم من فر. وكان إلى جانب الملوك والوزراء رؤساء وبيوت يؤمهم الأدباء ابتغاء الحظوة عندهم
وإذا اتخذ الثعالبي والبيروني مثلاً لأدباء هذا العصر وعلمائه عرفنا توليه الأدباء وجوههم شطر هذه الدول:
الثعالبي أهدى كتابه لطائف المعارف إلى الصاحب بن عباد والمبهج والتمثيل والمحاضرة إلى شمس المعالي قابوس وسحر البلاغة وفقة اللغة إلى الأمير أبي الفضل الميكالي والنهاية في الكتابة ونثر النظم واللطائف، والظرائف إلى مأمون بن مأمون أمير خوارزم: وغرر أخبار ملوك الفرس وسيرهم إلى نصر أخي السلطان محمود، والبيروني أقام في خوارزم عند المأمونية ثم سار إلى شمس المعالي وقدم إليه كتاب الآثار الباقية ثم قصد السلطان محمودا فلزمه وقدم إليه كتابه عن الهند. وقدم كتاب التفهيم في علم النجوم الذي ألفه بالعربية والفارسية إلى سيدة من خوارزم اسمها ريحانة ثم قدم القانون المسعودي في النجوم لمسعود بن محمود وكتابه في المعادن إلى السلطان مودود بن مسعود.
- 2 -
وقد نفقت سوق الآداب في القرن الرابع ونبغ كثيرون من أعلامه ولا سيما كتاب الرسائل
وحسبنا أن نذكر من الكتاب ابن العميد وابن عباد وأبا إسحاق الصابي، وأبا الخوارزمي(38/42)
والعتبى وعبد العزيز الجرجإني وبنى ميكال، وشمس المعالي قابوس وأبا هلال العسكري، وابن نباتة الخطيب، والحسن بن علي التنوخي ومن الشعراء: المتنبي والمعري والحمداني والرضي ومهيار، وابن نباته السعدي، وأبو الفتح البستي، والببغا، والنامي، والناشي، والزاهي، وغير هؤلاء من شعراء اليتيمه وكتابها.
همذان
مدينة في ناصية الجبال يشرف عليها جبل أروند في سهل خصب، ويؤخذ من أخبار الكتب الفارسية والعربية أنه كان لها شأن عظيم في حقب مختلفة قبل الإسلام وفي العصر الإسلامي. .
وهي هكمتانة في الآثار الفارسية القديمة، وأهيمتا في التوراة، واكبتانا عند كتاب اليونان والرومان.
واجمع الكتاب على وصفها بشدة البرد، وأكثر الشعراء في هذا قال ياقوت: (لما قدم عبد الله بن المبارك همذان أوقدت بين يديه نار فكان إذا سخن باطن كفه أصاب ظاهرها البرد وإذا سخن ظاهرها أصاب باطنها البرد فقال:
أقول لها ونحن على صلاء ... أما للنار عندك حر نار؟
لئن خيرت في البلدان يوما ... فما همذان عندي بالخيار
ثم التفت إلى ابن أبي سرح وقال يا أبا عبد الله وهذا والدك يقول
النار في همذان يبرد حرها ... والبرد في همذان داء مسقم
والفقر يكتم في بلاد غيرها ... والفقر في همذان مالا يكتم
وقال ياقوت: (ولا شك عند كل من شاهد همذان بأنها من أحسن البلاد، وأنزهها وأطيبها وأرفهها، وما زالت محلا للملوك ومعدنا لأهل الدين والفضل، إلا أن شتاءها مفرط البرد بحيث قد أفردت فيه كتب، وذكر أمره بالشعر والخطب.)
وأما أهلها فكأنهم عرفوا بالغلظة، وبديع الزمان يعتذر في بعض رسائله عن سوء فعله بأنه همذاني المولد. وينسب إليه في ياقوت:
همذان لي بلد أقول بفضله ... لكنه من أقبح البلدان
صبيانه في القبح مثل شيوخه ... وشيوخه في العقل كالصبيان(38/43)
وفي مناظرة رواها ياقوت بين همذاني وعراقي يقول العراقي للهمذاني: (ثم فيكم أخلاق الفرس، وجفاء العلوج، وبخل أهل أصبهان، ووقاحة أهل الري، وقذارة أهل نهاوند، وغلظ طبع أهل همذان).
ويقول ابن فارس كما في ابن خلكان:
سقى همذان الغيث لست بقائل ... سوى ذا وفي الأحشاء نار تضرم
وما لي لا أصفي الدعاء لبلدة ... أفدت بها نسيان ما كنت أعلم
نسيت الذي أحسنته غير أنني ... مدين وما في جوف بيتي درهم
ومما يستأنس به هنا قوله في مدح خلف بن أحمد:
أبادية الأعراب أهلك إنني ... ببادية الأتراك نيطت علائقي
وقوله في القصيدة نفسها:
إذا اقتضت منى خراسان لفظه ... أماطت العرب در المخانق
وكذلك رسالته إلى أبي عامر الضبي رئيس هراة في عيد السدق وهو ليلة الوقود عند المجوس، وفيها يبين فضل العرب على العجم في أسلوب تتجلى فيه العصبية
ويظهر أن أسرته كانت ذات مكانة في همذان، فهو يقول في رسالة إلى أبي بكر الخوارزمي حين لم يحسن لقاءه بنيسابور:
(فلو صدقته العتاب، وناقشته الحساب، لقلت إن بوادينا ناغية صباح، وراغية رواح، وناسا يجرون المطارف، ولا يمنعون المعارف.
وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل
ولو طوحت بأبي بكر أيده الله طوائح الغربة، لوجد منال البشر قريباً، ومحط الرحل رحيبا (وأجابه الخوارزمي بقوله:) فاما القوم الذين صدر سيدي عنهم فكما وصف، حسن عشرة، وسداد طريقة، وكمال تفصيل وجملة، ولقد جاورتهم فأحمدت المراد، ونلت المراد،
فان كنت قد فارقت نجدا وأهله ... فما عهد نجد عندنا بذميم
وفي رسالة إلى وزير الري يقول (وورائي من أخوالي وأعمامي من مواقف خدمة مشهورة، ومقامتهم مشكورة، وبهم حاجة إلى فضل عونه)
- 3 -(38/44)
في النصف الثاني من هذا القرن عاش الهمذاني، فنبين سيرته وأخلاقه ثم ننظر مكانته من أدب هذا العصر
أ - أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد بن بشر الصفار المعروف ببديع الزمان الهمذاني، ولد في همذان 13 جمادي الثانية سنة 358 من أسرة عربية:
ذلكم بأنه يقول في رسالة إلى الفضل بن أحمد وزير السلطان محمود، (إني عبد الشيخ واسمي أحمد، وهمذان المولد، وتغلب المورد، ومضر المحتد،) وكأنه يريد أن يقول إنه مضري الأصل، ولكن أسرته عاشت في تغلب. وفي رسالة إلى الشيخ أبي القاسم يعتذر عن التخلف عن الحضور بالزكام، ويقول عن رجل أسمه أبو الحسن يظهر أن اسمه سقط من الرسالة: (وما أشد استظهاري بخلافته وإن لم يكن من ولد العباس والله يبقيه علما للفضل) فيقول أبو القاسم في الجواب. (والشيخ أبو الحسن فوق شروط الخلافة، فان كان المستخلف تغلبيا، جاز أن يكون الخالف كسرويا)
فالتغلبي هو الهمذاني نفسه. ودليل آخر أنه كتب إلى القاضي أبا الحسين علي بن علي: (أنا أمت إلى القاضي أطال الله بقاءه بقرابة، إن لم يكن عربياً فأبي وأبوه إسماعيل، وعمي وعمه إسرائيل، الخ)
ب - ويؤخذ من رسائله بعض أخبار أسرته: يؤخذ منها أن أبويه عاشا إلى أن كبر وترك همذان، وأن أخاه أبا سعيد كان صغيراَ حين بداء هو أسفاره. ويؤخذ من معجم الأدباء أن أخاه أبا سعيد كان مفتي همذان، ويؤخذ من رسائل أيضا أنه كان له ابن صغير أسمه أبو طالب، وأن أحد أعمامه لحق به في أسفاره، وعاش معه عشر سنين.
ويفهم من رسائل كثيرة أن أباه أرسل إليه أول الأمر مالا وأمره أن يرجع إلى همذان، ولامه على طول غيبته، وأنه هو أرسل إلى أبيه مالا من بعد وسأله أن يلحق به، وأن أباه وعده ذلك ثم لم يفعل حتى غضب البديع، وكتب إلى أخيه أبي سعيد دون أبيه. ومن رسائله إلى أبيه: (كتابي أطال الله بقاء سيدنا من بوشنج، لك أسوة بيعقوب في ولده، إذ ظعن إليه من بلده. وليس العائق سور الاعراف، ولاجبل قاف، فلم لا ينشط؟ والله لا يضيع بذلك المكان درهماً إلا عوضه دينارا، ولا يعدم هناك دارا إلا أفدته ديارا. . .
وقد رسمت لموصل كتابي هذا أن ينقده مائة دينار بشرط أن يخرج وأن يرتب له عمارة(38/45)
شتويه تسعه. فالشيخ الفاضل العم فليتفضلا، وليقوما ويرحلا، ويستصحب الأخ أبا سعيد، وليأتني بأهله أجمعين، الخ. . .)
وفي رسالة أخرى يذكر أنه غاب عن أبيه احدى عشرة سنه ص (160)
وأما أمه فلا أجد ذكرها في الرسائل، وفي الديوان له: (وله يجيب والدته:
وعجوز كأنها قوس لام ... خلقوها من نبعة شر خلق
كاتبتني شوقا إلى وقالت ... أخذ الله يا بني بحقي
قلت لا أستطيع ترك بلاد ... قد وفى الله في ثراها برزقي
وهي أبيات إن صحت فلا تشهد لبديع الزمان بالبر.
ويظهر من بعض رسائله أيضاً أنه طلب إلى صهره أن يرسل امرأته وابنه أبا طالب. على أن في الكلام غموضاً. (وقد طالت مراجعات الشيخ في حديث أبي طالب الخ ص199 إلى آخر الرسالة).
ج - نشأ أحمد بن الحسين في هذه الأسرة. وكان كما يقول الثعالبي مقبول الصورة، خفيف الروح، وكان أعجوبة في الحفظ والبديهة والارتجال، له أخبار في هذا لا تكاد تصدق، وسنعود إليها عند الكلام على أدبه، ويخبرنا الثعالبي أنه أخذ اللغة عن أحمد بن فارس، ونحن نجد في الرسائل رسالة إلى أستاذه هذا جواباً عن رسالة ذم فيها الزمان، وقد مدحه ببعض شعره. ويقول الهمذاني في رسالة إلى أبيه عن أخيه أبي سعيد:
(وبلغني انه ابتدأ بمجمل اللغة، فأين بلغ منه، والشيخ لا يحمل عليه بعويص اللغة حتى يعلم سهلها، ولا يأخذه بما أخذني به، فالعمر لا يتسع للعلوم أجمع.)
وقد درس الحديث، ويقول ياقوت في معجم الأدباء نقلا عن شيرويه بن شهردار مؤرخ همذان: (وكان أحد الفضلاء والفصحاء متعصباً لأهل الحديث والسنة، ما أخرجت همذان بعده مثله، وكان من مفاخر بلدنا، روى عنه أخوه أبو سعيد، والقاضي أبو محمد عبد الله ابن الحسين النيسابوري.) ونجد عصبيته لأصحاب الحديث في رسالة كتبها إلى أحد القضاة يقول فيها: (ماله ولأصحاب الحديث الخ الرسالة) ص105
سفره من همذان
فارق همذان سنة 380 وهو ابن اثنتين وعشرين سنة: وورد حضرة الصاحب فتزود من(38/46)
ثمارها وحسن آثارها، كما يقول الثعالبي.
وفي الديوان أنه قدم إلى الصاحب وله 12 سنة، فهذا كان قبل رحيله عن همذان، ويؤيده ما رواه الثعالبي عن الهمذاني قال: (لما أدخلني والدي إلى الصاحب ووصلت مجلسه، واصلت الخدمة بتقبيل الأرض، فقال لي: يا بني اقعد، إلى كم تسجد، كأنك هدهد) وفي إحدى قصائده ما يدل على أنه ذهب إلى الصاحب أكثر من مرة.
وتعجب لاختياري ان رأتني ... أرى بحراً وأمتاح الركايا
سأنتاب الوزير فان أتيحت ... زيارته وساعدت القضايا
أعاود ورده والعود خير ... وارجع أن للرجعى مزايا
ولا ندري ما كان بينه وبين الصاحب، ولكنا نراه يذكر في قصيدة ان الصاحب أوعده وهدده:
أكافي الكفاءة استبق مني ومن دمي ... حشاشة مجد في البلاد مشرد
أفي موجب الفضل الذي أنت أهله ... توعد مثلي أم قضية سؤدد
أبعد مقاماتي لديك وهجرتي ... إليك وإنفاقي طريفي ومتلدي
وجوابة للافق فيك طردتها ... غدت بين منثور وبين مُقَصَّدِ الخ
وأظنه أراد هجاء الصاحب في قوله من قصيدة يمدح بها خلف ابن أحمد:
وليل كذكراه معناه كاسمه ... كدين ابن عباد كادبار فائق
جرجان
يقول الثعالبي: (ثم قدم جرجان وأقام بها مدة على مداخلة الإسماعيلية والتعيش في أكنافهم، والاقتباس من أنوارهم، واختص بأبي سعيد محمد بن منصور أيده الله تعالى، ونفقت بضائعه لديه، وتوفر حظه من مادته المعروفة في إسداء المعروف والافضال على الأفاضل. .
فلما استقرت عزيمته على قصد نيسابور أعانه على حركته، وأزال علله في سفرته، فوافاها سنة 382، ونحن نجد في رسائله رسالة إلى أبي سعيد الإسماعيلي يذكر أن الأعراب قطعوا عليه الطريق إلى نيسابور وسلبوه كل ما معه.
(يتبع)(38/47)
عبد الوهاب عزام(38/48)
من طرائف الشعر
رب زهر يشوكني وهو غرسي
للأستاذ الحوماني
مدرس الآداب في كلية طرابلس
(قطع الناظم شطراً من حياته مهاجراً بين أوربا وأميركا من الغرب ثم بين العراق ومصر وسائر الأقطار العربية من الشرق: فالقصيدة التالية تمثل حياته المشردة ماثلة بين آلامه في الحياة وحنينه إلى وطنه وهو يطوف في الغرب، معارضاً بها قصيدة أمير الشعراء التي عارض بها قصيدة البحتري في إيوان كسرى)
ربما أنضج التجارب درسي ... لثلاثين من سني وخمس
ولقد تكشف الغطاء ليومي ... عن مآتى غدي بصيرةُ أمسي
قد لفظت الحياة يشقى بها الحرْ ... رُ وتتْرى منها يدا كل جِبْس
إذ بلوت الورى ثلاثين عاما ... وخد نياي من يراع وطرس
بين جهدين من يد ولسان ... تحت ليلين من غموض ولبس
كم أطوف البلاد شرقا وغربا ... فوق ظهرين من سفين وعنس
أيُّ جد يُغريه بي أيُّ عِزَّ ... تترامى إليه آية نفسي
البواديُّ في العراق أقضَّت ... مضجعي في الشآم فوق الدمقس
غرست مضجعي قتاداً وقالت ... لأماني هوِّني وتأسي
يصبح الزهر ناضراً وعلى ما ... يحبس الدمع في فؤادك يمسي
قد نزلت العراق أحسب إني ... نازل في العراق دارة قدس
ووردت الشآم تبحث عينا ... ي بها عن طبابة المتحسِّي
فإذا القول فيهما دار ملك ... وإذا الفعل ثم داره فلس
لا يغرنك في الشآم رجال ... موَّهوا بالرياء وجه الفرنسي
ربما أثرت العيون من الكح ... لِ وخلف الجفون منبت ورسي
كم أذود الكرى وأنشد عزى ... بين ناب من الزمان وضرس(38/49)
وأعاف المبيت بين نهود ... وشفاه من الكواعب لعس
ضاق بي مهيع الفضاء فلا أص ... بح إلا على قذًى حيث أسمي
همّتي همّتي ففيم نواحي؟ ... في طلاب العلى ونفسي نفسي
رب يوم ذممته تحت ليل ... طالعتني من أفقه ألف شمس
احرقوني بعد الممات إذا لم ... يُبن من دارة الكواكب رمسي
أتحدى إصلاح شعبي ولما ... تعد كفاي لعبة المتخسي
يتمشى إليه بي من أبي الحا ... رث قلب يحدوه جسم ابن عرس
في رؤوس مما أخفِّض شم ... وطباع مما أذلل شُمْس
هزت الصم صرختي فلماذا ... لم تعٍ الإذن منهم غير همس
لِمَ، لم يسمعوا وهم غير صم ... لِمَ لم ينطقوا وهم غير خرس؟
ربما أرجفوا بقولي وقالوا ... وهم الساخرون، عنتر عبس
وكذا الشعر لم يصب غير قوم ... قد أصيبوا من الجنون بمس
وإذا الجد لم يهب بكم أوفي ... ت على العز من حقائف وُعس
فاعجبوا للأريب وهو أريب ... وارداً في حياته ورد خمس
وحياة الأديب بارق سعدٍ ... يتحداه من طوالع نحس
أمل في الحياة أبرق فارفضَّ ... ت عز إليه من سحابة يأس
لا ألوم الصديق أن يتناسى ... سالفات العهود فالبعد ينسي
نكث العهد من حدبت عليه ... رب زهر يشوكني وهو غرسي
ولقد ينكر الصحيح علاجاً ... هام فيه والنبض تحت المجس
كم طباع تشف عن زهرها الغض ... ض جسوم تضاءلت تحت طلس
ولكم تلمس الخشونة فيها ... بأكف ممن تصافح مُلس
شر ما في الأنام نعمى مليك ... هي في شعبه عصارة بؤس
وكذاك الحياة سفر شواظٍ ... يتراءى للغر مُذهب طرس
عُرس قائم على اسِّ رزءٍ ... ورزايا قامت على أسِّ عرس
لا تهن أن قعدت اعزل والخبّ (م) ... من الشعب قائم فوق كرسي(38/50)
رب نادٍ ملء الصدور به ذك ... ر ابن هند ونهج حيدر منسي
كيف بالشعب ان يُبل وقد أو ... رده الجهل آسياً غير نطس
ومن الهون في الحياة على الحر (م) ... خضوع الكريم للمُستْخَسَ
أيها الشعب، والسلاسل ضاقت ... بك ذرعاً، أما تحس بنهس؟
عمرك الله! لا يقيم على الضي ... م خسيس الحياة غير الاخس
وأذل الشعوب شعب تحدَّى ... ذروات العلى على يد نِكس
قد يشيد الجبان صرحاً ولكن ... هيكلا قائماً على غير أس
اطرحوا الجهل ساعة وتعالوا ... أبصروا في البحار جنة انس
بحر علم يطغى بهم فوق شم ... من جبال الحديد في البحر ترسي
قل لمن حاول الزعامة قبلا ... بجدا نائل وشدة بأس
أخفقت بعدكم شجاعة عمرو ... وندى حاتم وحكمة قس
أفأستعرض الحياة (بنويرك) (م) ... (وفي لندن) وغوطة مرسي؟
ما الذي تبلغ البراعة من عد (م) ... السها وهي في أنامل خمس
يعجز الحصر ما أحس واضعا ... ف خوافيه لم يقع تحت حسي
عرفوا الله كيف يعبد في القل ... ب دماً فائراً وعزة نفس
عبدوه منزهاً لا إلى (اللورد) ... هووا ركعاً ولا (للبرنس)
عبدوا الحق قوة تتلظى ... في أنوف أُسد خفَّان حُمْس
عبدوه فوق الطروس يراعاً ... وخميساً يموج تحت الدرفس(38/51)
ليلة داجية!
للأستاذ خليل هنداوي
وليلة داجية، والهوى ... كل مناه ليلة داجية
ان كنت لا تدرك سر الدجى ... فاسأل بأسرار الدجى غإنية
طوراً نذوَّقت الهوى قبلةً ... أبعثُها في الفسحة السارية
ويرجع الليل صدى قبلتي ... مصحوبة بقبلة ثإنية
وتارة تشدو فتجلو المنى ... بنغمة ساحرة شاكية
فيسمع الليل لألحانها ... وليلتي إذانها واعية
تقول هبَّت عيون الهوى ... قلت الهوى عيونه ساهية
إن الهوى نسيان ما ينقضي ... كأننا في عزلة نائية(38/52)
الصوفي المعذب
. . هذه الذرَّةُ كم تح ... مل في العالم سراً
قف لديها وامتزج في ... ذاتها عمْقا وغبورا
وانطلق في جوِّها المم ... لوء أيمانا وبرا
وتنقَّلْ بين كبرى ... في الذراريّ وصغرى
تر كل الكون لا يَفْ ... تُرُ تسبيحاً وذكرى
وانتش الزهرةَ والزه ... رةُ كم تحمل عطرا
نُدِّيت واستوثقت ... في الأرض أعراقاً وجذرا
وتعَرَّت عن طرير ... خَضل يفتأ نضرا
سلْ هزار الحَقْل من أَن ... بته ورداً وزهرا
وسل الوردةَ من أو ... دعها طيبا ونشرا
تَنظرِ الروح وتسمعْ ... بين أعماقك أمرا
الوجودُ الحق ما أو ... سعَ في النفس مداهْ
والسكون المحضُ ما أو ... ثق بالروح عراه
كل ما في الكون يمشي ... في حنَاياه الأله
هذه النملة في رق ... تها رجعُ صداه
هو يحيا في حواش ... يها وتحيا في ثراه
وهي إن أسلمت الرو ... حَ تلقتها يداه
لم تَمت فيها حياةُ ال ... له إن كنت تراه
أنا وحدي كنتُ أس ... تجلي من العالم همسهْ
أسمع الخطرةَ في الذَّ ... ر واستبطئ حسه
واضطراب النورفي خف ... قته أسمع جرسه
وأرى عيد فتى الور ... د وأستقبل عرسه
وانفعالَ الكرم في قف ... صته أشهد غرسه
رب سبحانك إن ال ... سكون لا يقدرُ نفسه
صغت من نارك جنِّي ... هـ ومن نورك إنسه(38/53)
رب في الإشراقة الأ ... ولى على طينة آدم
أمم تزخر في الغي ... ب وفي الطينة عالم
ونفوس تزحم الما ... ء وأرواح تحَاوَم
سبح الخلق وسبح ... تُ وآمنت وآمنْ
وتسللت من الغي ... ب وآذنت وإذن
ومشى الدهر دراكا ... رَبِذَ الخطو إلى من. .؟
في تجلياتك الكب ... رى وفي مظهر ذاتك
والجلال الزاخر الفي ... اض من بعض صفاتك
والحنانِ المشرق الوض ... احِ من فيض حياتك
والكمال الأعظم الأع ... لى وأسمى سُبُحاتك
قد تعبدتك زلفى ... ذائداً عن حرماتك
فنيت نفسي وأفْ ... رغتُ بها في صلواتك
ثم ماذا جد من ... بعد خلوصي وصفائي
أظلمت روحيَ. . ما عد ... تُ أرى ما أنا راء
أيهذا العِثْيَرُ القا ... ئم في صحو سمائي
للمنايا السودِ آما ... لي وللموت رجائي
آه يا موتَ جفوني ... آه يا يوم قضائي
قفَ تزودْ أيها الجب ... ارُ من زادي ومائي
واقترب إن فؤادي ... مثقلٌ بالرجاء
يا نعيما مشرق الصف ... حة يسّاقط دوني
نضِرتْ في قربة نف ... سي وزايلتُ غضوني
فمشتْ غائلةُ (الش ... ك) إلى فجر يقيني
قضت اللذة فاستر ... جعها لمحُ ظنوني
واستردَّ النعمة الكب ... رى من الدهر حنيني
من ترى استأثر باللذ ... ذة واستبقى جنوني؟(38/54)
إذني. . . لا ينفد اليو ... م بها غير العويلْ
نظري. . . يقصر عن كلْ ... لِ دقيق وجليل
غاب عن نفسي إشر ... اقك والفجر الجميل
واستحال الماءُ فاستح ... جر في كل مسيل
رجع اللحنُ إلى أو ... تاره بعد قليل
واختفى بين ظلام ال ... مزهر الكلّ القليل
أم درمان
التيجاني يوسف بشير(38/55)
إلى جانب المدفأة. . .
تَميلُ روحي على لَظَاها ... لِتحتَسي خمرةَ الشتاء
// لِسانَها شِمُت والشفاها ... في شُعَلةٍ وقدُها شفائي
حَبَّبْتِ لي النارَ، فهي عندي ... غِذاءُ جسمي، وأمْنُ روحي
أوَدُّ تقبيلها لأهدي ... لها القرابين عن جروحي
نيرَانها رقصهُا غريبُ ... كَمُجْهدٍ هدَّه الدوارُ
ولحنُها وقْعُهُ مُريب ... يُنْبئُ عن ضَعفه اصفرارُ
أَعدْتِ لي رونق الحياةِ ... يا واحةَ التائهِ الشرِيدْ
وقدْتِ قلبي إلى النجاةِ ... بدِفئك المنقذِ السعيدْ
كم أشتهي أن أضُمَّ ناركْ ... إلى السعير الذي بصدري
ما أسعدَ القلبَ في جِواركْ ... حتى ولو بِعتُ كلَّ عمري. .!
مختار الوكيل(38/56)
العُلوم
بيت يهم بالسجود
للدكتور احمد زكي
تتداعى البيوت الكثيرة في كل زمان وفي كل مكان، فلا يسمع بها إلا الجيران، وان تضمّن سقوطها قتل الأنفس والتمثيل بالابدان، فقد يخرج خبرها عن دائرة الجيرة إلى دائرة المدينة وقلما يتعدى حدود القطر والأمة. ولكن بيتاً في مدينة (برانتفورد) بكندا همّ بالسجود أو كاد، أو خيل أنه نوى الصلاة أو أوشك أن ينويها، فاهتزت أسلاك العالم تُبرق بالنبأ إلى أدانيه وأقاصيه، وحظ البيوت كحظ الرجال، رجل يمرض فيموت فلا يجد من يلف عليه كفناً، أو يستر له في التراب شلوا، ورجل يمرض فيتأوّه خفيفاً، فتتردد آهته عاليةً في كل بوق من أبواق الإذاعة، ويتأوه معه العالمون.
على انه لا بدع أن تعطف الأسلاك البرقية على هذا البيت، وان تضطرب باضطرابه، فهو بيت أسرتها العتيق، مسقط رأسها ومهد طفولتها , وفيه وفي المدينة التي حوله كان لعبها ولهو صباها. ذلك البيت هو بيت (جراهام بل) الذي فيه وُلد أول تلفون عرفه الناس، وفيه امتد أول سلك بأول صوت لإنسان.
شكا هذا البيتُ العتيق الأرض التي حملته نصف قرن، لا عن نكران ولا جحود، ولكنه إلفُ هذا الهواء. . . فلم يكد ينطق بالشكاة حتى أشكاه أهله، فامتدت إليه أيد حريصة تنقله حجرا حجرا برسمه ووضعُه، إلى أرض أشدّ، ومنزلٍ آمن
ولد اسكندر جراهام بل عام 1847 في أدنبره عاصمة اسكتلانده، وتعلم في جامعتها، ثم انتقل إلى جامعة لندن ودرس فيها، ثم ساءت صحته فطلب العافية، فنزح مع أبيه إلى كندا عام 1870. ثم انتقل بعد ذلك إلى (بُسنن) بالولايات المتحدة ولم يكن اختراعه التلفون اتفاقه من اتفاقات الحظ المجدود ورمية من غير رام، وإنما كان نتاج دراسة طويلة منظمة وبحث دقيق وصبر شديد. كان أبوه عالماً في السمْعيَّات، فاشترك الاثنان في دراسة الطريقة التي بها ينتج الكلام من فم الإنسان، وفي النغمات الموسيقية للأحبال الصوتية التي بحلقه، وفي مخارج الحروف والأصوات في مختلف اللغات، وفتج الابن مدرسة لتخريج معلمين يعلمون الصمَّ الكلام، وكان دَرَس الكهرباء، واتصل بالفزيائي العالم (هِلْمهولتز)(38/57)
فكان من الطبيعي أن يربط بين الكهرباء والصوت، فكان أن طلب مع فزيائيّ عصره تسخيرّ الكهرباء في حمل الصوت فسبقهم سبقاً قريباً، وحمل اختراعه إلى دار التسجيل، وحمل الأستاذ (اليشاجراي) اختراعاً مثله إلى دار التسجيل ولكن (بل) سبق (جراي) ببضع ساعات، فكان له السبق، وكان له وحده من بعد ذلك تمجيد القرون
والآن مضت سنوات كثيرة على ذلك، وتبع المختْرعَ الأول مخترعون عديدون، قام كل بنصيبه في تنمية التلفون وتمديده، وأولدوا منه التلفون اللاسلكي، واستعان المولود والوالد على ربط الأرض الدوّارة، مشارقها بمغاربها، ويابسها بمائها وسهولها بأحزانها، فأعْدَما بذلك من قيود الإنسان قيدَ الزمان وقيد المكان. فأنت تستطيع الآن وأنت في بيتك أن تتصل في ساعة بنحو أربعين مليون مشترك مفرَّقين في نواحي الأرض المترامية. وقد يقال إن في هذا الكفاية، ولكن الإنسان أمّال لا يفتأ يطلب المزيد. مثال ذلك أنه تضجرَّ من عاملات التلفون ومن إعناتهن، فذهبن، وأصبح التلفون في كثير من البلاد يعمل من نفسه بدون عاملة، ولا تمضي سنوات حتى يعم هذا النظام الجديد العالم كله. وشكا طالب الترنكِ الزمن الذي يقضيه في الانتظار ليتصل بألمانيا أو امريكا، فأصغى العلم إليه، وعن قريب ستتمكن من مخاطبة تلك البلاد والاتصال بها بعد برهات قصيرة من اعتزامك ذلك وشكا رؤساء الأعمال العالمية الواسعة أنهم كثيراً ما يريدون استشارة مرءوسيهم أو وكلائهم أو شركائهم في البلاد المختلفة فيضطرون إلى مكالمة واحد ثم ثان ثم ثالث، وذلك في الأمر الواحد، ثم يجدون بعد ذلك أنهم محتاجون إلى مراجعتهم، وسألوا ألا من سبيل إلى اجتماعهم جميعاً في مؤتمر واحد على التلفون، فقال العلم نعم، وفعلا جُرّبت دعوة أمثال هذه المؤتمرات في إنجلترا، وتحدث المؤتمرون كما لو اجتمعوا في حجرة واحدة على مائدة واحدة. وساعد على هذا النجاح بالطبع أن هؤلاء القوم إذا تناقشوا تكلم منهم واحد فقط واستمع الباقون
وهناك مطالب أخرى، وتكهنات أخْرى، وآمال واسعة ترمي كلها إلى تمكين الإنسان وترفيه. فمن المحتمل القريب الآن ان يتخاطب اثنان فيمتعان السمع والبصر، أما السمع فسمع الكلام، وأما البصر فبصر محيّا من تستمع له تُلقي صورته على لوحة أمامك. على أن هذا إن أمتع أناساً فسيزعج لا شك أناساً آخرين. فليست كل الوجوه يُستحب مرآها. وغير هذا فأنت اليوم تخاطب من تشاء وأنت على أي حال تشاء من لباس أو هيئة، أما(38/58)
غدا ومحدّثك يراك فلابد من استواء الهندام والهيئة المحترمة، وغدا ستضطر إذا أردت تبليغ أسفك لشيء أو حزنك على حادثة أن تتكلف الأسف والحزن لا في صوتك فحسب، بل كذلك في وجهك، وهذا لا شك يزيد في عَنَت الحياة
على ان العلم حسب حساب كل هذا، وعرف ضعف النفوس الإنسإنية كما عرف قوتها، وعرف كذلك ان تقويم المعوج وتكسير الصحيح لا يقع في اختصاصه، لذلك ستجد في الجهاز الجديد زراً صغيراً، تديره شمالا فتحتجب، وتديره يميناً فتْسفِر، فدونك ما شئت من سفور أو حجاب.
احمد زكي(38/59)
4 - في البحوث الروحية
للأستاذ عبد المغني علي حسين
منذ أسابيع، وجهت إحدى المجلات المصرية إلى عدد من النوابغ المصريين استفتاء في دعوى مخاطبة الأرواح أيصدقونها أم يكذبونها، فأعرب البعض منهم عن تشكك في صحة الدعوى أو نفي لها للأسباب الآتية: -
1 - إن الدعوى لا تقوم على أساس علمي.
2 - إن واحدا من كبار الباحثين الروحيين غرق في حادث الباخرة (تيتانيك)، فلم لم تنبئه الأرواح بالحتف الكامن له في عرض المحيط؟
3 - لم نسمع بان ساسة الدول وقادة الجيوش قد استخدموا الأرواح في استطلاع ما يضمره خصومهم السياسيون والحربيون
4 - لم نسمع بأن رجال الأمن قد استغلوا مخاطبة الأرواح في كشف خفايا الجرائم وتعقب المجرمين.
هذا مجمل الاعتراضات. ولكن مع احترامي لقائليها، لست أراها تذهب بعيداً في نفي دعوى المخاطبة. أما القول بأن الدعوى لا تقوم على أساس علمي فقول غامض. وما هو يا ترى المقصود بالأساس العلمي؟ إذا كان المراد أن المخاطبة لم تأت كنتيجة منطقية أو رياضية لإحدى النظريات القائمة في العلوم الطبيعية فالاعتراض صحيح، إذ المفروض أن المخاطبة مشاهدة تجريبية مستقلة لا تقوم على نظرية علمية سابقة. ولكن من قال بأن النظريات العلمية السابقة يجب أن تكون أساس كل حقيقة علمية جديدة؟ إن أساس الأسس العلمية هو المشاهدة والتجربة لا النظريات العلمية السابقة.
في ساعة من ساعات التجلي السماوي، جلس (جيمس واط) يرقب إبريق الشاي وهو على النار يغلي ويئز، ورأى البخار يدفع الغطاء من آن لآن فيفتح فرجة يهرب منها، فتملكت (واط) فكرة استغلال قوة البخار المحبوس، ومال على هذا المبحث بكل ما أوتي من ذكاء، وجد في تهذيب ما سبق في هذا الميدان من محاولات ساذجة، فوضع أساس صرح ضخم من البحوث والمخترعات، وحمل البخار الناس في البر والبحر وطار بهم في جو السماء؛ فهل كان اكتشاف قوة البخار بادئ ذي بدى نتيجة لنظرية علمية سابقة؟ كلا. لقد كان(38/60)
مشاهدة تجريبية مستقلة.
وفي ساعة من ساعات التجلي السماوي، تنبه وليم جلبرت من أهالي كلشستر بإنجلترا، إلى أن الكهرباء (الكهرمان) المدلوكة بالصوف تجتذب خفاف القش، وقصاصات الورق، وكان جلبرت ذكي الفؤاد بحاثة، فجرب وجرب، ووضع أساس كل ما نعرف اليوم عن الكهرباء، وما ننعم به من مخترعاتها وبدائعها ومعجزاتها، فكشف الكهرباء أيضاً لم يكن قائما على نظرية علمية سابقة، بل كان مشاهدة تجريبية مستقلة.
القول إذن بأن مخاطبة الأرواح لا تقوم على أساس علمي هو على الأقل قول غامض. أما بقية الاعتراضات فليس لها من الخطر ما لهذا الاعتراض الأول. وهي تفاصيل لا أرى التعجل بالخوض فيها، ولعلها تتعلق بالأرواح ذاتها، وما تستطيع وتحب أن تفعله وما لا تستطيعه أو لا ترى في فعله خيرا. وإذا انجلت هذه البحوث عن إثبات علمي لوجود العالم الروحي، وعن تقوية للأيمان بأوتاد من العلم اليقيني، فكفى بذلك نفعا، بل ذلك هو النفع كله، وهو اللباب الدسم، أما ما زاد عليه فألياف تافهة.
هذا الاعتراضات إذن قد أدلى بها على عجل. ولكن كما أنها لا تذهب بعيداً في نفي دعوى المخاطبة فكذلك ردودي هذه لا وزن لها كإثبات لصحة الدعوى. إذ الحقائق العلمية لا تقوم على الجدل الكلامي، وإنما الوسيلة إليها هي البحث التجريبي.
فهل ثمة بحث تجريبي جدير بالاعتبار يجري في هذا الموضوع؟ في العواصم بأوربا وأمريكا مجامع لهذا الغرض، أعضاؤها من المثقفين المفكرين، بينهم المحامي والطبيب والمربي والموظف والصحافي والأديب، وعدد صغير من أساتذة الجامعات وأفراد من العلماء الأفذاذ. تستحوذ هذه المجامع على وسطاء
يزعمون فيهم الإخلاص وطهارة الطوية، ويدونون تجاربهم في سجلات، وينشئون لإذاعتها المجلات. وقد يختلفون في تفسير الظواهر، ولكنهم مجمعون بادئ ذي بدء على صحتها، وانتفاء الدجل منها، وأنها مفتاح ما استغلق من خصائص العقل البشري ومدى علاقته بمحيط المادة
ولكن جمهور المفكرين لن يطمئنوا تماماً إلى حكم هيئات كهذه في موضوع خطير كهذا. قد يسلم الجمهور بأن في الأمر ما يستحق البحث، ولكن البحث الذي يرضيه يجب أن يكون(38/61)
بين جدران الجامعات. الجمهور يعتبر هؤلاء الباحثين ثائرين على العلم الرسمي، ينشئون داخل مملكته دولة يحكمون فيها باسمه، مع أنه - بحق أو بغير حق - لا يعترف بدولتهم ولا بأساليب حكمهم. ولكن لما كان رجال من وزراء البلاط العلمي قد انضموا إلى الثوار فقد جل الخطب عن السكوت؛ وها نحن أولاء نتساءل إلى متى تتحمل الهيئات العلمية الرسمية تبعة شذوذ الموقف؟ ولماذا لا تجلب على الموضوع بالخيل والرجل، فأما أن تهلكه وإما أنت تضمه تحت جناحها؟
العلم لا يعترف إلى اليوم إلا بشيئين - المادة وما يحرك المادة من قوى آلية. ولكن الروحيين ينادون بأن في الكون أيضاً قوى خفية ذات عقل وإرادة تؤثر في المادة في بعض الظروف. هل لهذه الدعوى من الحق نصيب؟ سؤال ملح موجه إلى الهيئات العلمية الرسمية.
ويخيل إلينا أن العلم الرسمي قد بدأ يصغي إلى السؤال. فقد تألف بلندن في الأيام الأخيرة مجمع جديد للبحث الروحي، أعضاؤه من صميم رجال العلم، يرأسه البروفسور جرافتون أليوت سميث عضو المجمع العلمي البريطاني والعالم العالمي في الأنثروبولوجيا (علم أصل الإنسان) وأستاذ التشريح بجامعة لندن. . أعلن هذا الرئيس تأليف المجمع بخطاب أرسله لمحرر مجلة اللانسيت (مجلة للعلوم الطبية) ونشر في عدد 13 يناير من تلك المجلة، وفيما يلي ترجمته: -
سيدي:
صحت كلمة عدد من رجال العلم على تأليف مجمع للبحث في الظواهر المسماة عادة بالروحية أو غير العادية، وذلك بالوسائل العلمية التجريبية المتبعة في علوم الطبيعة والفزيولوجيا. يحدث كثيراً أن يدعى رجال العلم لإبداء رأيهم في تلك الظواهر فيعجزون عن الإتيان بحجج مستقيمة تبرر موقفهم السلبي، والأولى بهم لكي يكون موقفهم أكثر التئاما مع الروح العلمية أن يتقدموا لبحث تلك الدعاوى بالوسائل العلمية المعروفة بدلا من أن يقتصروا على نفي وجودها، والمجمع الجديد ينوي القيام بهذه المهمة تلبية لنداء مجلة (نايتشر) في مقالها الرئيسي بعدد 23 ديسمبر سنة 1933 قال مستر جيرالد هيرد عضو اللجنة الاستشارية لمجمعنا في كلمة إذاعها باللاسلكي يوم 5 يناير، إن الوقت قد حان ليتنبه(38/62)
العلم الرسمي إلى وجود ظواهر تشذ عن القوانين المعروفة في العلوم الطبيعية، ولا تلتئم مع أي نظام مادي، ولا يصح إغفالها بعد اليوم، منذ أربعين عاما كان رجال الطب ينكرون الدعاوى الغريبة التي جاء بها التنويم المغنطيسي، ولكن التجربة والاختبار أثبتا صحة تلك الدعاوى وأهميتها، وها هو العلم اليوم في موقف مشابه لموقفه ذاك منذ أربعين عاما. عندما كنت طالب طب بالسنة النهائية، كان زملائي من الطلبة يسخرون مني لمجرد قراءتي كتابا في التنويم المغنطيسي، ولكني نجحت في إقناعهم بصحة التنويم بأن نومت كبير الساخرين مني. قد أورد مستر هيرد في خطابه المذاع باللاسلكي طرفا من تلك الظواهر النادرة الغامضة التي يزعمون حدوثها. ظواهر فيها المجال واسع لكل باحث كفء في علوم الطبيعة والفزيولوجيا والسيكولوجيا. إن لدى العلم اليوم لأجهزة ووسائل للبحث غاية في الدقة لم تكن موجودة منذ ثلاثين سنة، مثل تصوير الأشعة فوق البنفسجية ودون الحمراء، ومثل أشعة إكس والحاكي ومضخم الأصوات وأشرطة السينما وغيرها مما لم يكن يعرفه الذين بدأوا البحوث الروحية أمثال كروكس وريشيه ولدج. لن نبدأ البحث متأثرين باعتقاد في الأرواح ولا بأي اعتقاد آخر. وسنسير على النمط الجامعي كما هو الحال في معامل البروفسور وليم مكدوجال بأمريكا وفي جامعات أخرى بأوربا. وسنعامل بكل اعتبار أولئك الذين يسمون بالوسطاء. وسيضطرب هذا المجمع في مستهل حياته حتى يكون مستقلا في ماليته، ولكن رجال العلم ليسوا دائماً ذوي مال، ومعلوم أن بين الأثرياء اليوم من يهمهم جدا تشجيع هذه البحوث، فلعلهم يجودون بسخاء لإقامة المجمع على دعائم مالية ثابتة. ونزولا على إرادة البروفسور مزيزرهاريس، الذي أكد لي أنه يعبر عن رغبة باقي زملائه من أعضاء المجمع قد قبلت أعباء الرياسة، ولكن ليس معنى هذا القبول أنني أعرف الكثير في هذا الموضوع، بل معناه إني أتعهد بان أجعل البحث جديا وبعيدا عن كل تحيز.
هذا خطاب رئيس المجمع الجديد، وقد أدلى إلى الصحف اليومية الإنجليزية بأحاديث لا تخرج في معناها عما بهذا الخطاب
عبد المغني علي حسين
خريج جامعة برمنجهام(38/63)
القصص
دار الإصلاح
للدكتور محمد عوض محمد
كنا نتذاكر حديث الحسن الموهوب والمجلوب. فقلت لصاحبي: رحم الله ذلك الشاعر العربي القديم، الذي كان ينادي بأنه ليس ممن يخدعه مظهر الجمال، ولا يستهويه طلاء مصطنع، أو رواء متكلف، ولا يفتنه حسن مجلوب بتطرية. أو جمال مشتري من دكان العطار. وكأني أراه إذ يجلس على دكة أمام داره يتأمل الوجوه الحسان إذ تروح وتغدو، فإذا رأى وجهاً عليه من التجمل أكثر مما به من الجمال، أقبل على جلسائه ضاحاً، وأنشدهم من شعره أبياتاً ساخرة، يختمها بالسؤال المشهور:
(وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟)
وكان يلقي السؤال فلا يسمع من جلسائه سوى الاستنكار. . . ذلك أن الناس في ذلك الزمان قد حكموا على العطار المسكين حكماً قاطعاً، بأنه عاجز كل العجز أن يصلح ما أفسده الزمان. . . . وأكبر ظني أن العطار نفسه - وان أنكر هذا الحكم جهاراً - قد آمن به سراً.
فقال صاحبي: غير أن هذا الحكم الصارم ما هو إلا كسائر الأحكام، عرضة لأن يتغير ويتبدل، حين يتغير الزمان والمكان، ولم يبق لدي اليوم شك في أننا بتنا في زمن قد علت فيه دولة العطار، وتألق نجم عزه، وأصبح قادراً على أن يثبت أن في وسعه إصلاح ما أفسده الزمان.
فأنصت إليّ كي أحدثك عن (دار الإصلاح). فان حديثها طريف معجب. . قصدت في الصيف الماضي إلى بلاد الإنكليز، وقضيت شطراً من الزمن في عاصمتهم، وأنت تعلم أن من عادتي أن أقضي الصيف في مدينة النور، غير إني اضطررت هذا العام أن أستبدل بها مدينة الظلام. ولا احسبني آسفاً على زمني الذي قضيته هناك.
أما الدار التي أدعوها (دار الإصلاح) فقد كان من أمرها إني ذهبت ليلة ألتمس ملهىأقضي فيه المساء. فجعلت أطوف بشوارع لندن ذات الطول والعرض، متنقلا بين اكسفورد ستريت إلى شافتسبري أفنيو، إلى بيكاديلي، إلى لستر سكوير. . متأملا المسارح ظاهراً،(38/65)
ومستفسراً عما اشتملت عليه باطنا، حتى وقعت عيني على مسرح (الحمراء)، فأعجبني منه ذلك الظهر الشرقي المتقن، كما أعجبني ما بداخله من نقوش عربيه بديعه، فيها ما يكفي لتبرير ذلك الاسم الأندلسي. وكانت به عندئذ جماعه من الراقصين الروس وهم حديث الأندية في لندن في ذلك الوقت. فلم يطل ترددي وبادرت بشراء تذكره
ونعمت ليلتي تلك بمشاهدة رقص عجيب، والأنصاب إلى نغمات موسيقية شائقة. فلقد نبغت تلك الجماعة في محاكاة الموسيقى الدقيقة العويصة بحركات جسديه ناطقة. وفي ترجمة النغمات المطربة المشجية إلى وثبات وخطوات واهتزازات، تكاد تفوقها شجواً وطرباً وإبداعاً. ولست أنسى حتى الساعة كيف مثلوا لأعيننا (الحظ) بحركات الراقصين والراقصات على عزف الآلات، فكنت كأنما أرى بعيني - مجسما أمامي - كيف يقبل الحظ، فإذا السعادة قد ملأت الكون، وإذا الوجوه تطفح بالبشر، وإذا السرور باسط جناحيه، ثم نراه بعد ذلك مدبرا، فإذا السرور قد استحال حزنا، وإذا العالم قد امتلاء هموما وشجنا. . . ولا حاجة بي إلى الإفاضة في ذكر ذلك الرقص، الذي لم يكن له صله بدار الإصلاح، لولا أنني في فترات الاستراحة كنت أنظر في كراسة اشتريتها قد اشتملت على برنامج الحفلة، وعلى كثير من الإعلانات. وكانت الفترات طويلة فأعدت قراءة هذه الكراسة مرارا. ولم يفتني مما بها شيء. وقد لفت نظري إعلان بها عن (دار الإصلاح): فرأيته يزعم أنها دار معجزات، تدخلها العجوز الشوهاء، فتخرج منها غانية حسناء. .
وكأن ليس بالعالم دمامة مهما قبحت، ولا سحنة مهما انقلبت، إلا وفي وسع أصحاب هذه الدار أنيحيلوها إلى حسن باهر وجمال بارع، ويزعمون أن ليس الإصلاح لديهم من سبيل الترقيع الذي يزيد القبيح قبحاً،
والدميم دمامة. بل هو إصلاح شامل كامل، يلف المرء من قمة رأسه إلى أخمص قدمه. . . قرأت هذا كله فابتسمت ابتسامه الساخر. وعند مغادرتي المسرح هممت بأن ألقي بهذه الكراسة بعيدا، ولكني لم افعل، بل طويتها باعتناء ووضعتها في جيبي. وكأنما كنت حريصا ألا يضيع مني عنوان تلك الدار. . فمن يدري لعلي يوما أن تثور نفسي على هذه الصورة التي صحبتني كل هذه السنين فأريد ان أستبدل بها صوره أحسن منها. .
ومضت على تلك الليلة أيام قلائل. وإني لجالس في صباح يوم أطالع (التيمس) في شيء(38/66)
من الكسل، إذا بصاحبة الدار تعلن ألي أن صديقاً يريد أن يراني. وكانت دهشتي غير قليلة حين رأيتني أصافح صديقي عيسى الذي تركته في القاهرة، وكنت احسب أن بيني وبينه أقطاراً وبحاراً. . . (عجبا ما الذي أتى بك؟) فحدثني أنه قضى أياماً في البحث عني، حتى اهتدى بعد لأي إلى مكاني. . . ولقد غادر مصر فجأة حين نصحه أصدقاؤه أن يلتمس علاجا في هذه البلاد لتلك الحال القاسية التي لم يعد يطيقها. . ذلك ان المسكين قد زاد وزنه، واكتسى اللحم والشحم طبقات بعضها فوق بعض.
فقلت له حييت أيها الصديق، وأيا كانت الدوافع التي جاءت بك إلى هذه الديار، فإنها من غير شك دوافع قوية حتى تستطيع ان تحرك هذا الجسد العظيم - فمرحبا بك على كل حال. . . ولست أدري يا عيسى هل يتاح لك أن تظفر ببغيتك في هذه البلاد. إننا قد سمعنا من قبل عن معجزات الأنبياء رضوان الله عليهم الذين استطاعوا أن يبرئوا الأكمه والأبرص، وأن يحيوا الموتى بإذن الله.
ولكن لم نسمع بعد بالأنبياء الذين يستطيعون أن يجعلوا منك شابا رشيق القوام.
قال أحسبك قد نسيت أننا في زمن العلم والاختراع، وفي عصر الكهرباء والبخار. ولو انك تذكر هذا لما استكثرت على العلم الحديث هذه العملية اليسيرة التي تدعوها معجزة.
قلت حقا إن في عصرنا لمعجزات كبرى. فلقد استطاع البخار أن يحملك من غير عناء كبير، حتى أبلغك هذه الديار. ولكن قل لي بأبيك، أليس من نكد الدنيا على الحر إن مثلك لا يدفع ثمنا لنقله من مصر إلى لندن اكثر مما يدفعه مخلوق ضئيل هزيل مثلي، ولو كان في العالم إنصاف لاقتضوك الثمن أضعاف مضاعفة. فان عشرة من أمثالك على ظهر باخرة، لخليقون أن يحولوها عن مجراها فتشرق بدلا من أن تغرب، وتميل إلى أفريقية بدلا من أن تتجه نحو لندن فقال انك ما زلت في ضلالك القديم، ولم تلطف حلاوة هذه البلاد عن طبعك الحامض. . فاعلم إذن أن الأمر عكس الذي توهمت. فان أصحاب البواخر يغتبطون لوجود الركاب ذوى الوزن الثقيل، لأن هذا مما يجعل السفينة تمشي في رزانة واتزان. ولو لم يتح لهم أمثالى، لاضطروا أن يستعيضوا عنا بعدد عظيم من أكداس الرمل يجعلونها في قاع السفينة. . . والآن هلم بنا ننطلق إلى إحدى تلك الدور التي يدعونها معاهد الجمال. فقد سمعت أن في هذه المدينة منها عدداً ليس بالقليل. وأفهمت انهم يستطيعون أن يحيلوا المرء(38/67)
إلى أية صورة شاء.
عند ذلك ذكرت الليلة التي قضيتها في (الحمراء). وتناولت تلك الكراسة. وقلت لصاحبي - وأنا أحاوره - لست أدرى أيليق بنا أن نسمي تلك الدور معاهد الجمال. أو ليس الأقرب إلى الصواب أن ندعوها معاهد الدمامة؛ إذ لا يؤمها من الناس إلا من كان مثلك يحاول إصلاح ما أفسده الدهر. . وأنيلهذا السبب قد سميتها دور الإصلاح، وقد ألقت المصادفات في يدي إعلاناً عن واحدة من تلك الدور. ولست أضن عليك بأن أصحبك إليها. . .
وقفت بنا السيارة أمام دار في حي (سوهو) لا ينم ظاهرها المتواضع عن باطنها الفخم. وكان استخراج عيسى من بطن السيارة ليس بالأمر اليسير. ولقد نفحت السائق نفحه حاتمية جعلته يغص الطرف عما عانته سيارته من جهد ومن عناء. وقد علمتني التجارب أن الدراهم خير لجام للأفواه في لندن كما في سائر البلدان.
ودخلت إلى دهليز الدار أجر معي هذا الكتيب العظيم من اللحم والشحم. فأسلمنا الدهليز إلى فناء في جوانبه أرائك وكراسي، وقد طلب إلينا أن نجلس قليلا ريثما يؤذن لنا. فاخترت لعيسى من الكراسي أصلبها عوداً وأشدها مراسا. وجلسنا نتأمل فيما حولنا فرأينا فناء مفروشا بشيء كثير من الذوق وحسن اختيار للألوان، وكان يغلب فيه اللون الأزرق والأحمر، وعلى الأرض وفوق الجدران بسط وطنافس شرقية. وفي أحد الأركان موقد لم يكن به نار، بل كان مستوراً بغطاء مزخرف، وفي هذا الفناء خمسة أبواب يفضي كل منها إلى حجرات عديدة، وفي ناحية منه سلم ينتهي إلى الطوابق العليا
فقلت لصاحبي محاورا: إن اليوم لشديد الحرارة، وأراك أخذت تتصبب عرقاً. فعسى هذا الحر أن يذيب قليلاً من هذا الشحم لكي تقل نفقات (الإصلاح). . على إني لو كنت مكانك لادخرت هذا العرق إلى حين تلقي المدير الأعظم لهذه الدار. فانه سيفاجئك بامتحان عسير، لم يكن ليخطر لك ببال. علمت أنهم سيطلبون إليك أن تجلس على كرسي واطئ، وأن تضع رجلك اليسرى على اليمنى، وتلفها حولها لفا محكما، وأن تميل برأسك إلى الأمام حتى تمس به ركبتيك؟ ثم تستلقي على ظهرك من غير حراك، ويؤتي بدبابة متينة فيمرون بها على بطنك ذهاباً وإياباً. أجل، هذا وأمثاله من الأمور التي ليس لك عنها مفر. فاستبق عرقك إذن، فانك في حاجة إليه. ولا تظن أن في قولي هذا غلوا. فان الإصلاح ليس(38/68)
بالشيء الهين. . . سل المصلحين قديما وحديثا ينبؤك أن إصلاح بني الإنسان من أشق الأمور. . وناهيك بالجوع الشديد الذي لابد لك أن تشقى به بضعة أشهر، تحرم فيها الطعام والشراب إلا قليلا. فلا يكون لك مندوحة عن أن تأكل من لحمك ودمك كما يفعل العشاق.
وعلى ذكر العشاق، لقد هممت أن أقترح عليك العشق علاجا شافياً مما ألم بك، فلقد يزعمون أن الهوى باعث على النحول والانضمار. - خصوصاً إذا بلغ المرء فيه مرتبة الشغف والهيام والوله - ولقد هممت أن أسألك أن تعشق لكي تكتسب النحول والرشاقة. ولكني راجعت نفسي وذكرت أن الحب لن يصيب أمثالك، فانه سيلقى من دون قلبك هذا السور المنيع من الدهن والدسم، الذي لا تنفذ منه سهام الحب، ولا تخترقه قنابل الغرام. . . وأي حب يحترم نفسه يرضى أن يسكن مثل هذا المنزل؟ إذن لم يبق بد من تلك الطريق الوعرة التي تساق إليها الساعة.
هذا وقد جعلت أتأمل فيما حولنا من الناس، فإذا هم مجموعة من الكائنات ما كنت أحسب أن في العالم حجرة تستطيع أن تضمهم جميعاً. قد كان عن يميني زنجي مفلفل الشعر أسود البشرة. وعن يساري رجل من المغول أفطس الأنف، أصفر الجلد مائل العينين؛ وكان هناك نساء ورجال. ليس فيهم من لم يرزق من شذوذ الخلق طرافة نادرة وتحفة عجيبة. وقد جاءوا جميعاً ينشدون (الإصلاح).
ولم يطل جلوسنا، حتى ذهبوا بنا إلى إحدى الحجرات، فإذا نحن أمام امرأة نصف، مليئة القوام، مستديرة الوجه، ضاحكة السن، قد قصت شعرها الأسود الحالك قصا محكما. بحيث أصبح رأسها المستدير أشد استدارة. ولم تكد ترانا حتى هشت لنا وبشت. وقالت: أما صاحبك فلست بحاجة لأن أسألك ما خطبه. . . وأما أنت فما أكاد أتبين ما تشكوه. . . لعلك تشكو اعوجاجاً قليلاً في الأنف. فان به ميلا يسيرا عن (السمترية). . . وعلاج هذا أمر هين. فان لدينا عدداً من الجراحين ذوي أيد صناع، لا هم لهم في الحياة غير تقويم ما اعوج من الأنوف. وتخفيض ما نتأ منها وما برز، ورفع الأفطس منها وإعلاء شأنه بين الملأ، ولقد يصادفون، في هذا السبيل عقبات لكنهم يتغلبون عليها، برغم أنفها. . .!
وأعجب شيء لدينا رجل من الصين ذو أنف شديد الفطس حتى لا تكاد تراه، وكأنما الناس قد اتخذوا وجهه مقعداً أو متكأ، وكنا أول الأمر عاجزين عن معالجته بما لدينا من الآلات،(38/69)
لكنا الآن قد اتخذنا له آلات خاصة، ولا شك عندنا في النجاح العاجل فيخرج هذا الصيني من معهدنا بأنف معتدل جميل، يستطيع أن يشق به لنفسه طريقا في الحياة. . أما أنت فخطبك يسير جداً. . . حدق في وجهي!. . إن ميل أنفك عن السمترية لا يتجاوز الخمس درجات. . .
هكذا أخذت تحدثناً هذه المرأة. ولكني كنت راضياً عن أنفي، ولم يكن لي في إصلاحه مأرب. . فسألتها أن تعني بصاحبي، وتبذل له كل ما في دارها العظيمة من وسائل الإصلاح؛ حتى يعود رشيقاً نحيل القوام. فنادت خادماً وسألتها أن تذهب بصديقي إلى المكتب الثاني عشر. فانطلقا وبقيت مكاني، لا أدري ما أفعل. . فقالت اجلس فان صديقك سيعود بعد لحظة.
فأستطيع متى وصلني التقرير عنه أن أخبركما عن مدة العلاج والأجر الذي نتقاضاه. إن معهدنا هذا قد اشتهر أمره حتى بات كعبة القاصدين من أطراف العالم. أما أنتما فلا أشك في أنكما من أهل مصر. فقد أصبحت لكثرة ما رأيت من الوجوه لا يكاد يخفى على أمر أحد. إن علم الجمال العملي قد ارتقى، حتى أصبح لدينا علاج ناجع لكل شائبة تشوب الجسم وتنقص من حسنه. ولدينا أقسام تعني بالقوام، وأخرى بالشعر وبالوجه وبسائر الجوارح والأعضاء. ولدينا قسم جليل الشان همه أن يكسب الكهول من رجال ونساء رونق الصبي ومظهر الشباب، وكم من غانيات قد خرجن من هذا المعهد، وقد لبسن فيه حلل الجمال والدلال. . .
عند ذلك قاطعتها وقلت لها متحمساً: بالله لا تذكري الغانيات، فإنما الغانية هي من تستغني بطبع جمالها عن التطبع، وبحسنها الموهوب عن المجلوب. . .
قالت: ذلك المذهب القديم أيها الصديق. أما غانية اليوم فهي التي تستطيع إنفاق قدر زهيد من المال في هذا المعهد النافع، فتصيح من الغواني الحسان.
قلت: هذا لعمري مذهب أخرق، وخداع تخدعون به الناس.
قالت: لعلكم متى رخص الجمال، وأصبح في متناول النساء جميعاً، أن تتوبوا - معشر الرجال - إلى رشدكم، فلا تعبدوا جمال الجسد تلك العبادة المزرية. ولعلكم أن تفكروا قليلاً في جمال الروح. . .(38/70)
وأظنني قد أفحمني هذا الرد. فقد سكت لحظة لا أحير جواباً، ورجع عيسى وبيده ورقة، تناولتها وقرأتها، وقالت: ان (إصلاح) صديقك سيتم في مدى شهرين، وسيكلفه هذا الإصلاح خمسين جنيهاً.
قال صاحبي: ولقد رجعت منذ أسابيع، ومعي عيسى وقد غدا فتى رشيقاً نشيطاً، وسيماً قسيماً. . . ألست ترى الآن أن دولة العطار قد ارتقت، وأنه قد استطاع أخيراً أن يصلح ما أفسده الدهر؟
قلت: بلى، ولكن ألست ترى أنك قد بالغت في تنميق قصتك وتزويقها؟
قال: وهل تحسبني من أولئك الطعام الذين يقصون عليك الحديث كما جرى؟
قلت: معاذ الله أن تكون منهم. على إني سأذكر دائماً ما قالته لك تلك المرأة فانه سيجيء يوم لا يأبه الناس فيه لجمال الجسد ويلتمسون فيه جمال الروح، وعندئذ قد يكون لمثلك ومثلي في الحياة شأن غير هذا الشأن.(38/71)
شهر بالغردقة
للأستاذ الدمرداش محمد
مدير إدارة الامتحانات والسجلات بوزارة المعارف
1 - في الطريق إلى الغردقة
بعد أن اجتزنا أبا زنيمة في طريقنا إلى دير سانت كاترين في سيناء شتاء سنة 1931 وصلنا إلى ربوة تشرف على البحر، وكانت الشمس عندئذ تؤذن بالمغيب آخذه في الاحتجاب وراء جبال صحراء العرب على الشاطئ الآخر لخليج السويس، فبدت هذه الجبال وقتها والشمس وراءها واضحة جلية برؤوسها العالية مرصوصة في خط طويل مواز للبحر، وكان جبل الشايب بهامته الشامخة في الوسط أبرزها ارتفاعاً أعظمها جلالا وفخامة - كان المنظر بديعاً أثار في نفسي رغبة شديدة لزيارة هذه المنطقة، إلا أن تنفيذ هذه الرغبة لم يكن حينئذ بالأمر السهل، فالشقة بعيدة، والانتقال إليها فيه صعوبة ونفقة كبيرة، فمكثت انتظر الفرصة إلى أن سنحت صيف هذا العام بعد ذلك بسنتين، فقد تفضل صديقي العالم النابه الدكتور محمد عبد الخالق بك، فدعاني لمرافقته في رحلة علمية إلى الغردقة على البحر الأحمر، حيث مكننا شهرا كاملاً كانت كل أيامه بركة على العلم وعلينا. فالأبحاث العلمية الطريفة والتجارب الدقيقة التي قام بها الدكتور عبد الخالق بك على أسماك البحر الأحمر وحيواناته ملأت نتائجها مجلداً ضخماً كما ضاق عن نماذج الأسماك والطفيليات التي جمعها ما كان معنا من صناديق وحقائب. ثم كانت رحلاتنا العديد إلى البحر والبر، فمن مناطق المرجان العجيبة إلى المنشآت العظيمة لشركة البترول بالغردقة، وشركة الفوسفات بسفاجة، ثم إلى الكتلة الجرانيتية الهائلة لجبل الشايب ثم اختراق السلسلة الجبلية الوعرة إلى قنا على النيل.
كل هذا وغيره سأحاول أن أصفه في ايجاز، راجيا أن أوفق في رسم صورة تقريبية لمعالم هذه المنطقة المنعزلة التي لا نعرف عنها الكثير ولا القليل
كان فجر يوم الخميس 6 يوليه سنة 1933 موعدا للقيام بالرحلة، فأقلتنا السيارة من القاهرة إلى السويس عن طريق الصحراء، فبلغناها ضحى، ثم توجهنا إلى ميناء الزيت إحدى(38/72)
نواحي ميناء السويس حيث كانت باخرة الزيت أرتيناشل راسية فنقلنا إليها ما أحضرناه من متاع وأجهزة، وقبل الظهر بنصف ساعة وصل الربان وأعطى إشارة القيام، فسارت بنا الباخرة نحو الجنوب وسط جو هادئ وبحر ساكن، وبعد قليل دعينا لتناول الطعام مع الكابتن بيس ربان السفينة فتلقانا في حجرة المائدة مرحباً وتبسط معنا في الحديث وأفاض بكلام رقيق تتخلله النكتة الرائقة والفكاهة الحلوة، وبعد أكلة شهية اجتمعنا على السطح، وأخذنا نشاهد معالم الشاطئ من خلجان وجزر ومنارات وجبال، وفي الأصيل تناولنا الشاي، وعند الغروب تعشينا ثم قضينا سهرة لطيفة في لعب ومسامرة.
كان الوقت صيفاً، فنمنا على السطح، واستيقظنا في اليوم التالي مع بزوغ الشمس، وكانت السفينة تسير عندئذ أمام رأس محمد، الطرف الجنوبي لسيناء، ثم أخذ البحر أمامنا في الانفراج
وبعد قليل اختفى الشاطئ الشرقي عن الإبصار، ثم مال بنا الطريق نحو الجنوب الغربي، ودخلنا مضيقاً واسعاً في الغرب من جزيرة شدوان، وعند الساعة العاشرة صباحاً لاحت في الأفق معالم الغردقة، نقط بيضاء وخطوط سوداء، عبارة عن خزانات الزيت وأبراج الآبار - وقبيل الظهر مرت الباخرة أمام الطرف الشمالي لجزيرة الجفاتين، ثم دخلت الميناء بسلام ورست حذاء رصيف خشبي يحمل أنابيب كبيرة تتصل بالشاطئ، وذلك للشحن والتفريغ: شحن الباخرة بالزيت، وتفريغ الماء العذب منها
يشرف على الميناء أما الرصيف منزل إنيق، يقيم فيه مدير الشركة، وخلفه على ربوة عالية خزان ضخم (فنطاس) يسيل الزيت الخام منه إلى أحواض الباخرة عند الشحن - وعلى مسافة قليلة من الميناء مكاتب مصلحة الحدود يرفرف على ساريتها العلم المصري الكريم
نزلنا إلى البر وركبنا السيارات، فانطلقت بنا إلى محطة الأحياء المائية على عشرة كيلو مترات جهة الشمال، والطريق إليها مرصوف ينحني في أوله ليدور حول تل عال مشرف على البحر، ثم يستقيم ويخترق منشآت شركة الزيت: فأبراج عالية هنا وهناك على اليمين وأخرى على اليسار، ومساكن العمال والمسجد والكنيسة، ومكتب البريد، ومكاتب الشركة ومصانعها ثم (فيللات) الموظفين والنادي كلها منثورة في فضاء واسع تتخللها الشوارع(38/73)
المنتظمة، والحدائق النضرة بهندسة جميلة تجعلها شبيهة بمباني مصر الجديدة
وصلنا المحطة بعد نصف ساعة، ونزلنا ضيوفاً على الدكتور كرسلاند مديرها فتفضل ودعانا للطعام، ثم بعد ذلك انتقلنا إلى الاستراحة التي أعدت لإقامتنا
2 - في محطة الأحياء المائية
محطة الأحياء المائية شيدتها الجامعة المصرية على البحر الأحمر منذ ثلاث سنوات لتمكين علماء البيولوجيا من اجراء أبحاثهم المتعلقة بالأحياء البحرية في نفس المواطن التي تعيش فيها.
وتشغل مباني المحطة بقعة واسعة من الشاطئ على بعد خمسة كيلو مترات من مباني الشركة، وقد بلغ ما أنفق على تشييدها وإعدادها حتى العام الماضي نحو خمسة عشر ألفاً من الجنيهات. وكل مبانيها من الخشب على شكل الأكشاك مقامة بالقرب من البحر أو داخله فيه فمنزل المدير والمكتب والاستراحات ومنازل الموظفين والعمال على الشاطئ في ثلاثة صفوف تواجه البحر، ثم المعامل وقد أقيمت داخل البحر على مسافة مائتي متر من الأرض تصل إليها على رصيف مبنى في الماء
وقد لوحظ في اختيار المكان وقوعه بالقرب من منطقة بحرية غنية بالمرجان، كما أن قربه من شركة الزيت كفل للمحطة الحصول على الماء العذب الكافي للشرب وللتجارب العلمية، وكذلك حاجات المعيشة كما جعل اتصالها بالسويس بواسطة السفن ميسورا مرة كل أربعة أيام - ويؤتي بالماء العذب وبالأطعمة على اختلاف أنواعها من السويس في بواخر الشركة كما يؤتي أحياناً بالطيور والخضراوات من قنا في السيارات - وتدير الشركة مصنعاً للثلج ومخبزاً كامل المعدات. وبالجملة فان أسباب المعيشة بالغردقة موفورة لدرجة كبيرة تنسيك انك تعيش في منطقة كانت من ثلاثين سنة مضت بلقعاً لا تجد فيه غير بعض أكواخ حقيرة يسكنها جماعة من صيادي السمك المساكين الذين يجوبون الشاطئ المصرية في طلب الرزق عن طريق الصيد أو تهريب الممنوعات.
(يتبع)
الدمرداش محمد(38/74)
العالم المسرحي والسينمائي
فلم (الاتهام)
لناقد (الرسالة) الفني
في الأسبوع الماضي عرض فلم مصري جديد، هو ثالث الأفلام المصرية التي عرضت هذا الموسم، ونعني به فلم (الاتهام) لشركة فنار فلم، التي دعت رجال الصحافة لمشاهدته في حفلة خاصة قبيل عرضه على الجمهور.
ولعل هذا الفلم هو أول شريط مصري نجد فيه موضوعاً، أو حادثة إذا شئت، محبوكة الأطراف، منسجمة الوضع، تسير من البداية إلى النهاية في تسلسل طبيعي معقول، فخلا بذلك مما كان يؤخذ على الأفلام المصرية عامة من تفاهة الموضوعات التي تعرضها وعدم استقامة الحادثة وارتباكها، مما كان يجعل هذه الأفلام تافهة من الناحية الفنية القصصية، ويجعل الارتباط بين مشاهدها المختلفة مضطرباً يتلمسه المشاهد تلمساً ويكاد لا يفهمه، وفي ذلك ما يقلل من قيمة الفلم نفسه، بل يجعله فاترا مملولا ليست فيه هذه الحرارة التي تدفع المتفرج إلى تتبع مشاهدة والاندماج فيها والتأثر بها.
ففلم الاتهام، سد من هذه الناحية نقصاً كبيراً، وتضمن حادثة وموضوعاً يستطيع أن يلمسهما المتفرج في غير عناء ولا مشقة، ويمهد سياق الحادثة من ناحية أخرى، بوقائعها المتتالية، مشاهد تمثيلية رائعة لأبطال الفلم يظهرون فيها مقدرتهم الفنية.
على أن الموضوع ليست له هذه القيمة الفنية التي نعلقها عليه، ولكنه فاز برضاء الجمهور بفضل هذه المفاجآت السينمائية التي تجعل المتفرج لا يمل العرض، ومن المعروف أن القصة، مسرحية كانت أم سينمائية، إذا لم تثر اهتمام المتفرج سقطت. وفي فلم (الاتهام) هذه المفاجآت التي تجعل المشاهد طول مدة العرض متيقظ الحواس والمدارك لا يفوته منه مشهد إلا ويثير اهتمامه بما يليه، ومن هنا نجح الفلم هذا النجاح الملحوظ الذي يستحق عليه أصحابه كل شكر وثناء. ونريد أن نخص بالذكر هنا السياق الفني البديع الذي ظهرت به حادثة القتل والسر فيها، فقد بقى محتفظاً به إلى اللحظة الأخيرة، إلى ساحة المحكمة حيث المتهمة في القفص وكل الأدلة تقوم على إدانتها، وفجأة تظهر الحقيقة، ويعترف المجرم بجرمه، ويرى المشاهد كيف ارتكبت الجناية، فيكون لذلك تأثيره في نفسه. وهذا(38/76)
المشهد هو أبدع مشاهد الفلم ولا شك من الناحية الفنية السينمائية، وقد أحسن حبكه وعرضة بمهارة تدل على كثير من الحذق والدراية بأصول الفن السينمائي
اشتركت نخبة طيبة من الممثلين والممثلات في القيام بأدوار هذا الفلم وعلى رأسهم السيدة بهيجة هانم حافظ وقد نزلت إلى ميدان العلم الحر بنفس ملؤها الثقة وروح مفعمة بالأمل والرجاء، وقد حققت الأيام ما كانت ترجوه لنفسها من نجاح، وللفن الذي قصرت عليه جهودها من توفيق وفوز.
ظهرت السيدة بهيجة هانم لأول مرة على الشاشة الفضية في دور (زينب) في الرواية المعروفة بهذا الاسم للدكتور محمد حسين هيكل بك ونجحت في دورها نجاحاً شجعها على تكوين شركة سينمائية، هي شركة (فنار فلم) التي تقدم ذكرها والتي يتولى إدارتها الأستاذ محمود حمدي بكفاءة نادرة جعلتها في مقدمة شركاتنا السينمائية المصرية. وقد أخرجت هذه الشركة قبل اليوم فلم (الضحايا)، وهذا الفلم (الاتهام) هو فلمها الثاني. وقد قامت السيدة بهيجة بدوري البطولة في الفلمين. وكان توفيقها فيهما كبيراً إلى درجة تغبط عليها حقاً، فهي تلجأ في مواقفها على الشاشة إلى البساطة التي هي ميزة الممثل الماهر الذي لا تحس في تمثيله تكلفاً أو تصنعاً، بل يعيش في دوره ويندمج فيه حتى ليتلاشى الممثل ولا يبقى إلا هذا الشخص الذي تراه على الشاشة بطلا من أبطال الحادثة.
والسيدة بهيجة (فوتوجينك) فلها هذا القوام المتسق البديع، وهذه القسمات والملامح الواضحة التي تظهر على الشاشة فاتنة أخاذة وعين (الكاميرا) دقيقة قوية تسجل الهنات والصغائر وتجسمها، ولا تعوض الكفاية هذا النقص الذي يبدو في صورة الممثل أو الممثلة، والسيدة بهيجة من هذه الناحية كثيرة التوفيق، توفرت فيها كل الشروط التي تؤهلها للتمثيل السينمائي، وللنجاح فيه، سواء من ناحية المقدرة الفنية والاستعداد لإخراج الشخصية التي تمثلها إخراجاً دقيقاً ماهراً، أو من ناحية التصوير والظهور على الشاشة في صورة بديعة فاتنة. وللسيدة بهيجة فوق هذا صوت متزن النبرات حلو النغم، سلس الأداء، سمعه الجمهور في هذا الفلم لأول مرة، لأنه أول فلم ناطق تشترك فيه
ولعل من الخير ان نذكر هنا ان السيدة بهيجة اشتهرت وعرفت قبل عملها في السينما بموهبتها الموسيقية، وقد نالت سنة 1930 دبلوماً في الموسيقى من باريس، ومن المعروف(38/77)
أنها وضعت موسيقى جميع الأفلام التي اشتركت فيها، وقد سجلت هذه الألحان على الاسطوانات الغنائية. وهذه الأنغام الساحرة التي سمعها الجمهور أثناء عرض أفلام (زينب) و (الضحايا) و (الاتهام) هي من وضع السيدة بهيجة. ولها في هذا الفلم الأخير مقطوعات عديدة تعد من أحسن ما وضعت والفت إلى اليوم.
ونحن نسجل هنا مغتبطين هذا النجاح العظيم الذي نالته في فلمها الجديد بتمثيلها وموسيقاها، ونرجو أن يكون لهذا الإقبال من الجمهور على مشاهدة الفلم صداه في القريب العاجل فترى قريباً فلما جديداً لها
قامت السيدة زينب صدقي بأحد الأدوار الأولى في الفلم، والسيدة زينب ممثلة معروفة لها على المسرح شهرة بعيدة، وقد أخرجت كثيراً من الأدوار الفنية الدقيقة التي يعد نجاحها فيها دليلا ساطعاً على مقدرتها الفنية وكفايتها الفذة، فليس عجيباً أن توفق هذا التوفيق في دورها في هذا الفلم، تمثيلا وأداء وحركة
وقام الأستاذ زكي رستم بدور شوكت المحامي قريب بهيجة الذي يحبها، ويقتل في سبيلها، ثم يترافع عنها محاولاً إنقاذها، وقد كان في كل مواقفه مبدعاً موفقاً، خصوصاً في موقفه الأخير عند اعترافه بجرمه الذي يعد من أبدع المشاهد التمثيلية في القصة بما أبداه هذا الممثل الكفء من الحرارة ومهارة الأداء، وتدفق العاطفة، واتزان الصوت والحركة، وزكي هو الأخر من ممثلينا البارزين على المسرح وله أدواره المعروفة وكفايته التي لا تنكر.
هؤلاء الثلاثة هم أبطال فلم، وقد عاونهم مجموعة كبيرة من الممثلين الأكفاء الذين أجادوا مواقفهم إجادة كبيرة، وفي المقدمة الأستاذ محمود حمدي الذي مثل دور وكيل النيابة وألقى كلمة الاتهام وهو يتمتع بصوت جهوري ممتلئ قوي النبرات، يترك في نفس المتفرج أثراً بليغاً، ومن ممثلي الفلم أيضاً حضرات عزيز فهمي، وحسن كمال، ومنير أبو سيف، ومنير فهمي، وعبد القادر المسيري، ولطفية الصغيرة، وقد كانوا جميعاً كثيري التوفيق في أدوارهم المختلفة
ولا يسعنا في النهاية إلا أن نهنئ شركة فنار فلم على شريطها الجديد وعلى ما نال من نجاح واقبال، ونرجو أن يكون هذا حظها على الدوام في أفلامها المقبلة.
محمد على حماد(38/78)
حول ابن سينا
للدكتور محمد خليل عبد الخالق
اطلعت في عدد الرسالة رقم 36 بتاريخ 13 مارس سنة 1934 صحيفة 419 على مقال للأستاذ حافظ قدري طوقان عن ابن سينا، عدد فيه مؤلفاته، وبين اكتشافاته الهامة في العلوم المختلفة، وأود أن ألفت النظر إلى أن ابن سينا أول من اكتشف الطفيلية الموجودة في الإنسان المسماة الآن بالانكلستوما، وكذلك المرض الناشئ عنها المسمى بالرهقان أو مرض الانكلستوما. وقد كان هذا الاكتشاف في كتابه (القانون في الطب) في الفصل الخاص بالديدان المعوية. وهذه العدوى تصيب الآن نصف سكان العالم تقريباً. وقد بلغ ما كتب عن هذا المرض من المقالات والكتب إلى سنة 1922، 50. 000 مرجع عنيت بجمعها مؤسسة ركفلر بأمريكا. وقد سمى ابن سينا هذه الطفيلية باسم (الدودة المستديرة) وقد كان لي الشرف في سنة 1922 أن قمت بفحص ما جاء في كتاب (القانون في الطب) عند الديدان المعوية، وأمكنني أن أقوم بتشخيصها بدقة، وتبين من هذا أن الدودة المستديرة التي ذكرها ابن سينا هي ما نسميه الآن بالانكلستوما، وقد أعاد اكتشافها دوبيني في إيطاليا سنة 1838، أي بعد كشف ابن سينا عنها بتسعمائة سنة تقريباً.
وقد أخذ جميع المؤلفين في علم الطفيليات بهذا الرأي في المؤلفات الحديثة، وكذلك مؤسسة ركفلر كما يرى من المراجع المذكورة بعد. ولذلك كتبت هذا ليطلع عليه الأدباء، ويضيفون إلى اكتشافات ابن سينا العديدة هذا الاكتشاف العظيم لمرض هو من الأمراض الأكثر انتشارا في العالم الآن.
المراجع
1 - الدكتور محمد خليل سنة 1922
مرجع قديم عن الطفيليات الطبية مترجم عن مؤلف للطبيب العربي ابن سينا مع ترجمة حياته باختصار (بالأنجليزية) - مجلة أمراض البلاد الحارة، وعلم الصحة بلندن مجلد 14 عدد 6 مارس سنة 1922 صحيفة 63 - 67
2 - الدكتور محمد خليل سنة 1924
رسالة أثرية في العلقات الطفيلية التي تصيب الإنسان (بالعربية) - المجلة الطبية المصرية(38/80)
مجلد عدد 7 سبتمبر سنة 1924 ص403 - 411
3 - مؤسسة ركفلرر سنة 1922
المراجع الخاصة بمرض الرهقان (الانكلستوما) (بالإنجليزية) ص11 من المقدمة.
4 - فاوست سنة 1929
علم الديدان البشرية - فيلادليفيا - صحيفة357(38/81)
العدد 39 - بتاريخ: 02 - 04 - 1934(/)
المصري الغريب في مصر!
للدكتور طه حسين
هو مختار رحمه الله. فقد كان في حياته مرآة صادقة كل الصدق لنفس مصر الخالدة التي لا تحد ولا تحصر. كنت تجد في هذه المرآة صوراً صادقة لنفس مصر القديمة، ولنفس مصر الإسلامية، ولنفس مصر هذه التي يكونها هذا الجيل، ولآمال مصر ومثلها العليا بعد أن يتقدم الزمان ويتقدم، وترث أجيال أخرى ارض الوطن عن هذه الأجيال التي تضطرب فيها الان.
كان مختار هذه المرآة الصافية المجلوة التي تنعكس فيها حياة مصر على اختلاف أزمنتها وما يحيط بها من الظروف، فكان من هذه الناحية اشد أبناء مصر اتصالا بها وقربا منها وتمثيلاً لها. ولكنه على ذلك كان غريباً في مصر أثناء هذه الأسابيع التي ختمت مساء الثلاثاء حين ختمت حياة مختار. اقبل من أوربا فلم تكد الصحف تتحدث عن إقباله، ولم يكد يخف للقائه من أصدقائه إلا نفر قليلون. وأقام في مصر مريضاً مكدوداً يلح عليه الألم والسقم فلا يكاد يذكره من المصريين الذين كانوا يعجبون به ويحشدون له ويهتفون باسمه ويعتزون بمجده ويرفعون رؤوسهم بآثاره إلا نفر يحصون، ولعلك إن أحصيتهم لم تبلغ بهم العشرين، أخشى ألا تبلغ بهم اقل من هذا العدد اليسير , ثم اشتد عليه المرض والجأه إلى المستشفى فلم تكد الصحف تتحدث عن ذلك إلا حديثاً يسيراً جداً. وخف أصدقاء مختار إلى المستشفى يسألون عن صديقهم ويريدون لقاءه فحال المرض بينهم وبين اللقاء. أعلن إليهم أن الحجاب قد ألقى بينهم وبين هذا الصديق وان كانت الحياة ما تزال تتردد في جسمه النحيل. ثم اصبح الناس يوم الأربعاء وإذا نعي مختار يملأ القاهرة ويقع من نفوس أهلها موقع الألم اللاذع والحزن الممض. ثم أمسى الناس يوم الأربعاء، وإذا جماعة من خاصة المصريين وقليل من الأجانب عند محطة القاهرة يستقبلون جثمان مختار، ثم يسعون معه إلى المسجد. ثم يفترقون ويمضي مختار إلى مستقره الأخير، ومن حوله قل في إحصائهم ما شئت فلن تستطع ان تبلغ بهم نصف المئة. ثم يصل مختار إلى قبره، ثم يهبط مختار إلى هذا القبر، وهؤلاء الأصدقاء قائمون قد ملكهم وجوم عميق لا يقطعه إلا هذا الصوت الرفيق المزعج، صوت المساحي والمعاول وهي تسوي القبر عليه، وتقطع ما بقى بينه(39/1)
وبين الحياة من اسباب، والا هذا النداء الذي يتردد بين حين وحين عنيفاً يتكلف الرفق، طالباً الماء الذي يحتاج إليه في تسوية هذا القبر، وإقامة هذا السد بين صاحبه وبين الحياة، وإلا هذا اللغط الذي يؤذي الأسماع، وكان من حقه أن يكون موسيقى عذبة رقيقة تأسر القلوب الجريحة وتهدئ النفوس الثائرة، وترد الجازعين اليائسين إلى ما ينبغي لهم من الإذعان لقضاء الله والرضى بحكم الله. وهو لغط هؤلاء القراء الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب، وقد كره الله أن يلوي الناس ألسنتهم بالكتاب، لانه كتاب مبين مستقيم لاعوج فيه ولا التواء. وانما فيه هداية للعقول وشفاء لما في الصدور. ثم ينقطع كل صوت، ويتفرق هؤلاء الأصدقاء يحملون في قلوبهم ما يحملون من حب ووجد، ومن أسى ولوعة، يحملون هذا كله لينغمسوا به في هذه الحياة التي تنتظرهم على خطوات قليلة قصيرة من مستقر الموتى.
وكذلك انتهت قصة مختار مع انتهاء النهار يوم الأربعاء، وكذلك أسدل ستار الموت على حياة مختار في الوقت الذي أسدل فيه ظلام الليل على حياة الأحياء. وما اكثر ما تنتهي قصص الناس في كل يوم، بل في كل ساعة، بل في كل لحظة. وما اكثر ما يسدل ستار الموت حين تشرق الشمس أو حين تغيب، فلا نحس ذلك ولا نلتفت إليه، لان الذين تختطفهم المنية أو تحصدهم في جميع الأوقات قوم مجهولون لم تميزهم الظروف أو لم تميزهم أنفسهم، فهم يمضون دون أن يحسهم أحد كما يقبلون دون أن يحسهم أحد. ولكن مختار كان غريباً حقاً في آخر حياته، وكان غريباً حقاً في أول موته، وأي عجب في هذا؟ لقد آثر حياة الغربة منذ أعوام، فكان لا يزور وطنه إلا لماما، ولقد تعود الجفوة من مواطنيه. واكبر الظن أن ذلك كان يؤذيه، ولكنه كان اكرم على نفسه من أن يشكو أو يظهر الألم. ولقد سمعنا انه احتمل المرض شجاعا، واستقبل المرض شجاعا، لم يدركه جزع ولا فرق. ولو انه رأى بعد ان مات كيف ودعه مواطنوه لما اثر فيه ذلك اكثر مما أثرت فيه جفوة مواطنيه قبل أن يموت. ولعله كان يألم لذلك في قرارة قلبه الممتاز، ثم لا يظهر من ألمه شيئاً كما كان يفعل أثناء الحياة، إنما نحن الذين ينبغي لهم أن يألموا اشد الألم، وان يحزنوا اشد الحزن، وأن يستشعروا شيئاً غير قليل من اللوعة والحسرة وخيبة الأمل حين ترى هذا العقوق، وحين نقدر أثره في نفس صديقنا الراحل العزيز. فقد كنا ومازلنا نتحدث(39/2)
بأن مختاراً هو الذي رد إلى مصر بعض حظها من المجد الفني، وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختاراً قد مكن مصر من أن تعرب عن نفسها وعما تجد من الألم والأمل بلسان جديد لم تكن تستطيع أن تصطنعه من قبل، وهو لسان الفن. وكنا ومازلنا نتحدث بأن مختاراً قد انطق مصر بهذه اللغة التي يفهمها الناس جميعاً وهي لغة الجمال، لغة الفن، بعد أن كانت لا تنطق إلا بهذه اللغة التي لا يفهما إلا جيل بعينه من الناس، وهي لغة الكلام. وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختاراً قد جدد في مصر سنة كانت قد رست ومضت عليها قرون وقرون. وهي سنة الفن، وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختار قد لفت الأوربيين إلى مصر، أقام لهم الدليل على أن مطالبتها بالاستقلال لم تكن عبثاً ولا لغواً، وإنما كانت نتيجة لحياة جديدة، ونشاط جديد، وقد لفت مختار الأوربيين إلى ذلك في اشد الأوقات ملاءمة، في وقت الثورة السياسية. وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختاراً على حداثة عهده بالفن كان اسبق المصريين إلى إعجاب أوربا، ألم يعرض آثاره في باريس؟ ألم تتحدث صحف الفن عن مختار قبل أن تتحدث صحف الأدب عن كتابنا وشعرائنا؟ ألم تستقر أثمار مختار في متاحف باريس قبل أن تستقر آثار كتابنا وشعرائنا في مكاتبها؟ كنا نتحدث بهذا كله، وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختاراً قد ردإلى المصريين شيئاً غير قليل من الثقة بأنفسهم، والأمل في مستقبلهم والاطمئنان إلى قدرتهم على الحياة الممتازة الراقية. كنا وما زلنا نتحدث بهذا وبأكثر من هذا، ومع ذلك فقد قضى مختار آخر حياته شريداً أو كالشريد. وقد قضى مختار آخر أيامه في مصر منسياً أو كالمنسي وقد عبرت جنازة مختار مدينة القاهرة يطيف بها جماعة من الخاصة ليس غير!! نستغفر الله بل مرت جنازة مختار أمام التمثال الذي صنعه بيديه كما تمر أمام أي شئ لم يظهر على التمثال ما يدل على الحزن أو ما يدل على الاكتئاب، أو ما يدل على الشكر أو عرفان الجميل. وعبرت جنازة مختار مدينة القاهرة تجهلها الحكومة المصرية أو تكاد تجهلها، لم يمش في جنازة مختار ولم يقم على قبر مختار وزير العلوم والفنون. ولم يلق أحد على قبر مختار كلمة الوداع، وإنما كان الصمت يشيعه، وكان الصمت يواريه التراب. وكان الصمت يودعه حينما تفرق من حوله الأصدقاء. ولو قد مات مختار في بلد غير مصر لكان موته شأن آخر. ولو قد كان مختار فرنسيا أو إنكليزيا أو إيطاليا وأدى لبلده مثل ما أدى لمصر لقامت الدولة له بشيء آخر غير الإهمال(39/3)
والإعراض. إذن لكانت جنازته رسمية تنفق عليها الدولة، ويمشي فيها رجال الدولة، ويخطب فيها كبار الدولة، ولكن مختاراً نشأ في مصر، وعمل في مصر، ومات في مصر فحسبه ما أتيح له يوم الأربعاء من توديع الذين كانوا من أصدقائه وأحبائه ليس غير.
ولا ننس ان رئيس الوزراء قد تفضل فندب من مثله في جنازة مختار. وهذا، وبالسخرية الأقدار، كثير جداً ينبغي أن يشكر لرئيس الوزراء. فقد ينبغي أن لا ننسى أن مختارا لم يكن من أنصار السياسة الرسمية، ولا من الذين يستمتعون بعطفها وحبها ورضاها، فكثير أن يتفضل رئيس الوزراء فيندب من يمثله في جنازة هذا المعارض وان كان صاحب فن، وأن كان قد انفق حياته كلها لمصر لا لحزب من الأحزاب ولا لجماعة من الجماعات. لا اكذب المصريين أن لنا في مثل هذه الأحداث والخطوب مواقف لا تشرفنا ولا تلائم ما نحب لأنفسنا من الكرامة، ولا تشجع العاملين على أن يعملوا. ومن الذي نسى موت الشاعرين العظيمين حافظ وشوقي وموقف السياسة منهما. ذهب المعارضون بحافظ، واستأثر المؤيدون بشوقي، ثم ذهب المعارضون بمختار منذ أيام، وضحى بالأدب والفن في سبيل الأهواء والشهوات، وظهر المصريون في مظهر العقوق الذي لا يليق بالشعب الكريم. لا اكذب المصريين انهم في حاجة إلى أن يرفعوا أنفسهم أمام أنفسهم وأمام غيرهم عن هذه المنزلة المهينة، انهم في حاجة إلى أن يرفعوا الأدب والعلم والفن عن أعراض الحياة، وأغراض الخصومة السياسية، لان في الحياة أشياء أرقى واطهر واكرم من السياسة وخصوماتها، والأدب والعلم والفن أول هذه الأشياء.
لقد هم أصحاب حافظ أن يخلد واذكر حافظ فلم يوفقوا. وهذا حافظ يخلد ذكر نفسه - ولقد هم المستاثرون بشوقي من رجال السياسة الرسمية أن يخلدوا ذكر شوقي فلم يفلحوا. وهذا شوقي يخلد ذكر نفسه. فهل بين المصريين من يهمون بحماية آثار مختار من الضياع وبتخليد ذكر مختار، وهل هم إن فعلوا موفقون إلى ما يريدون؟ أم هل تدخل السياسة في أمر مختار فتفسده كما أفسدت أمر حافظ وشوقي؟ سؤال مؤلم، ما كان ينبغي أن يلقى، ولكن انظر جوابه لن يكون طويلا، ولعله لا يضيف ألما إلى ألم، وحزنا إلى حزن.
طه حسين
-(39/4)
كاظم باشا الحسيني
بقلم احمد حسن الزيات
حنانيك يا رب أفي الساعة التي يضطرب فيها البحر ويحار المركبويبعد المرفأ، يموت الربان ويختفي القطب؟ وفي الساعة التي يستحر فيه النضال بين حق العرب وباطل اليهود، وبين إيمان فلسطين وطغيان الإنجليز، يسقط القائد ويهبط العلم؟! وفي كل يوم تتجاوب أصداء الأسى في أقطار العروبة على بطولة تؤدى، أو زعامة تخلو، أو نبوغ ينطفئ أو ألفة تفترق أو وحدة تشت؟!
لا باس بالألم يجمع شتى القلوب على الإحساس المتحد، وبالخطب يروض رخو المغامز على المقاومة الشديدة، وبالموت يبعث ضارع النفوس إلى الحياة العزييزة، اما المدامع التي تجدب المشاعر، والشدائد التي توهن العزائم، والمنايا التي تقبر الأماني، فإزراء من الشر المحض والعذاب الخالص كابدتها الأمة العربية واسفاه في مصارع سعد وفيصل وكاظم؟!
روع العرب في عيد التضحية والتلبية مصاب فلسطين في حياة نهضتها وسر وحدتها وروح ثروتها المغفور له موسى كاظم باشا الحسيني، فضجت المآذن بالنعي، وفاضت الصحف بالرثاء، واضطربت الألسن بالأسف، ونال الناس من الجزع الطبيعي ما ينالهم حين يرون الركن يميل، أو النظام ينقطع، أو الدليل يغيب؛ وتساءلوا عن مصير فلسطين المعذبة بعد شيخها الذي أخلصت جوهره السنون، أحكمت رأيه السن، وشيعت قلبة العقيدة وأعلنت صوته النزاهة وقدست شخصه التضحية، فجهل الحزبية، وأنكر الطائفية، وسل أحقاد الصدور، وأذهب تنافس الأسر، وعّبأ الأمةالمغزوّة في دار أمنها، ثم قادها زهاء خمسة عشر عاما في المفاوضات بلندن، وفي المظاهرات والمؤتمرات بفلسطين، لا يقطعه يأس، ولا يردعه وعيد، ولا يخزله طمع، ولا يقعد به عبء السنين التسعين عن قيادة الشباب إلى صراع حامٍ دامٍ بين حق اعزل وباطل مسلح!! لو كانت قضية فلسطين قضية رياسة وسيادة وغلب لكان في كل مكان سبيل إلى الخلاف ودليل إلى الفرقة، ولكنها قضية الحياة والموت: وللحياة طريق تهدي إليها الفطرة، وقافلة تدل عليها الطبيعة: فالأمر من هذه الناحية مختلف بين فلسطين وبين العراق ومصر.
ولا ريب أن المستقبل الذي يتمثل لشباب فلسطين في ابشع صوره سيذهلهم عن نعرة(39/6)
العصبية، ويلهيهم عن شهوة الخصومة، فلا يرون إلا عدوا واحداً هو الواغل المقتحم، ولا يستمعون إلا قولا واحداً هو قول زعيمهم الخالد وهو يجود بنفسه:
(. . . قضية العرب في فلسطين أمانة في ذمتكم فجاهدوا في سبيلها، فإن فعلتم أرحتموني في قبري).
عزى اله الأمة العربية اجمل العزاء عن فقيدها الغالي، وأحيا في خواطر أبنائها النبلاء مثله العالي، وجعل رضوانه عليه ثواب ما بذل في سبيله من ماله وجهده ونفسه.
الزيات(39/7)
رسالة الربيع
للأستاذ عبد الحميد العبادي
لو تمثل هذا الربيع لكان إنسانا، ولكان شابا رائع الشباب، مشرق الطلعة، حلو الشمائل، معطاء اليدين، يملأ العيون والقلوب مهابة وجمالا. أفلا يرى القارئ تصديق هذا التصوير فيما يأخذه الحس والشعور من الطبيعة في أيامنا هذه من اعتدال جو وانبعاث شمس، وإيراق شجر، وتفتح زهر، وترنم طير، وتتابع خير؟ أفلا يرى أن كل مظاهر الطبيعة قد غدت ولسان حالها يصيح بمن يمر: ألا تراني فتفهم حكمة الخلق العجيب؟ ولكن وا رحمتاه للناس! انهم عن هذه الدعوة الكريمة في شغل شاغل، (وكآي من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) لقد شغلوا بالعرض عن الجوهر، وبالسفساف الحقير عن الجميل الجليل. انهم يوشكون أن تموت قلوبهم ويغول نفوسهم الصفق بالأسواق.
رحم الله أسلافنا الأقدمين وآباء الأولين. لقد كانوا اقرب منا إلى الطبيعة، وأبر بهذا الربيع واحسن استقبالاً له. فالمصريون القدماء على شدة تفكيرهم في الحياة الآخرة، لم يهملوا الأخذ بأسباب التمتع في الحياة الدنيا. كانوا كلفين بالطبيعة، وحياة الطبيعة. وهل شئ أبهج للخاطر واسر للقلب من الطبيعة وحياة الطبيعة؟ لقد فتنوا بنهرهم المتدفق الوقور فقدسوه وعبدوه، وكلفوابالزهر حتى لقد اتخذوا منه رمزاً وشعاراً لملكهم السياسي، فكانت الزنبقة رمز مملكتهم الجنوبية، وزهرة النيلوفر رمز مملكتهم الشمالية. وصاغوا تيجان الأعمدة التي تنهض بعمائرهم على مثال برعمة السدر، والنيلوفر، ورؤوس النخيل. وكانوا يحتفلون لمقدم الربيع احتفالاً بقيت لنا منه آثار نلحظها في عيدنا الطبيعي الوحيد المعروف (بشم النسيم).
وكان الفرس القدماء من اشد خلق الله حباً للزهر والماء والجو الطلق، لذلك جعلوا (النيروز) الذي هو أول الربيع اعظم أعيادهم، واسبغوا عليه هالة من التقديس والإجلال، فزعموا أن الله فرغ فيه من خلق الخلائق، وانه يقسم فيه السعادة لأهل الارض، ولذلك سموه (يوم الرجاء)، ولفرط شغفهم بالربيع كانوا إذا هجم الشتاء ألح على بلادهم المطر والبرد والثلج إعتاضوا عن مناظر الربيع الطبيعية بصور لها قد وشيت بها بسطهم(39/8)
وسجادهم الشهيرة بحيث إذا جلسوا عليها للطرب والشراب خيل إليهم انهم في روضة معطرة من رياض الربيع. وان من يطالع الأدب الفارسي جملة يجده عبقا بعبير الورد والزنبق والبنفسج والياسمين وغيرها من فنون الرياحين، أما العرب فربيع بلادهم هو حياتها على الحقيقة دون المجاز، فإذا اقبل عرفوه بتألق البرق وجلجلة الرعد، بالغيوث الهاطلة والأودية السائلة، فإذا كان ذلك اخضرت المراعي واعشوشبت الوهاد والنجاد، ونعم بآثار ذلك كله الإنسان والحيوان. وكان ملوك بني أمية جريا على مقتضى غريزتهم البدوية إذا اقبل الربيع برزوا إلى بادية الشام فقضوا شهوره في قصور اتخذوها لذلك خاصة. ولا تزال آثار تلك القصور ماثلة إلى اليوم. فلما اختلط العرب بالفرس اخذوا عنهم عادة الاحتفال بالنيروز الفارسي. فكان عمال بني أمية على المشرق إذا اقبل النيروز جلسوا للناس جلوسا رسميا عاما يتقبلون فيه تهانئهم به وهداياهم. ولما قامت الدولة العباسية اصبح النيروز من أعياد الدولة الرسمية، وصار له شأن أي شان، بل لقد اشتقوا منه عيدا رسميا خاصا بالخلفاء وأسموه (نيروز الخليفة) يقول البيروني (انه كان يقع فيه ببغداد من رش الماء وحثو التراب والملاعب ما هو مشهور) وهذا من قبيل النوروز القبطي، الذي يتحدث عنه المقريزي في خططه، ومن قبيل ما يفعل في أعياد المرافع المشهورة في بعض بلدان أوربا لعهدنا هذا والمعروفة (بالكرنفال).
وقد افتن شعراء العرب في وصف الربيع ولنيروز وآتوا في ذلك بالبديع المطرب من الشعر , ولا يزال ما قاله الطائيان في هذا الصدد هو المقدم والمحتذى سواء اكان ذلك من الناحية الفلسفية التي ينتحيها أبو تمام أم من الناحية الفنية التي ينتحيها البحتري.
قال أبو تمام يصف الربيع من قصيدة يمدح بها الخليفة المعتصم بالله العباسي: -
أربيعنا في تسع عشر حجة ... حقا لهنك للربيع الأزهر
ما كانت الأيام تسلب بهجة ... لو أن حسن الروض كان يعمر
أو ما ترى الأشياء إن هي غيرت ... سمجت وحسن الأرض حين تغير
يا صاحبي تقصيا نظريكما ... تريا وجوه الأرض كيف تصور
تريا نهارا مشمسا قد شابه ... زهر الربى فكأنما هو مقمر
دنيا معاش للورى حتى إذا ... حل الربيع فإنما هي منظر(39/9)
أضحت تصوغ بطونها لظهورها ... نورا تكاد له القلوب تنور
من كل زاهرة ترقرق بالندى ... فكأنها عين إليك تحدر
تبدو ويحجبها الجميم كأنها ... عذراء تبدو تارة وتخفر
حتى غدت وهداتها ونجادها ... فئتين في حلل الربيع تبختر
مصفرة محمرة فكأنها ... عصب تيمن في الوغى وتمضر
وقال البحتري مخاطبا الوزير الفتح بن خاقان:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبه النيروز في غلس الدجى ... أوائل ورد كن بالأمس نوما
يفتقها برد الندى فكأنه ... ينث حديثا كان قبل مكتما
ومن شجر رد الربيع لباسه ... عليه كما نشرت وشيا منمنما
أحل فأبدى للعيون بشاشة ... وكان قذى للعين إذ كان محرما
ورق نسيم الريح حتى حسبته ... يجييء بأنفاس الأحبة نعما
وبعد: فأن لكل ظاهرة من ظواهر الطبيعة رسالة بليغة تؤديها إلى النفوس الشاعرة والفطر السليمة. فليت شعري أية رسالة يحملها الربيع إلى ذوي القلوب الواعية منا؟ قابل أيها القارئ بين الشتاء والربيع، بين رقدة الطبيعة ونهضتها، وان شئت، فبين موتها ونشورها، فستجد هذه الدورة على قصر أمدها قد تضمنت حكمة الحياة كلها. وإلى هذه الحقيقة يشير الربيع في رسالته إلى الناس!
(أن الطبيعة أيها الناس هي الأول والآخر، والأصل والمال من طيباتها تبنون ابدانكم، ومن جمال منظرها وروعة سحرها نمت عواطفكم وألهمتكم فنونكم وآدابكم. ومن تصرف سنتها واختلاف مقاديرها يسرا وعسرا، أملا وباساً وعافية وبأسا ألهمتهم عقائدكم ومللكم. ومن دقة هذه السنن واطرادها استبنتم أصول شرائعكم ونظمكم، ومن الصبر لأحكامها تكونت أخلاقكم فان تكن أجسامكم قد ضويت، وعواطفكم قد خبت، وعقائدكم قد وهت، وشرائعكم قد قست، وأخلاقكم قد رثت، فما ذلكم إلا لأنكم عققتم أمكم الحنون، وجفوتم ظئركم الرءوم. فإلى الطبيعة ايها الناس، إلى الطبيعة فهي وحدها الكفيلة بإزاحة عللكم، وجبر مصابكم. وهي القادرة على أن تنشئكم نشأة أخرى، وتبعثكم خلقاُ جديداً.(39/10)
الرجوع إلى الباطل خير من التمادي في الحق. . .!
صفحة من حياة تشليني
للدكتور محمد عوض محمد
(بنفيتو تشليني من كبار رجال الفن الإيطالي في عهد النهضة، ولد في مدينة فلورنسا عام 1500 وتوفي بها عام 1571 وقد نبغ أولا في صياغة الذهب والفضة صوراً وتماثيلا غاية في الدقة والجمال. وبعد ذلك استطاع النبوغ في صناعة التماثيل من الحجر والبرونز، وقد عاش في روما وباريس حيث دعاه فرانسوا الأول ليعمل عنده، وقضى الشطر الأخير من حياته في وطنه فلورنسا، وله مؤلفات في الفنون التي مارسها، وله كتاب ضمنه مذكرات عن حياته الحافلة بالحوادث وعلى إحدى هذه الحوادث قد بنيت القصة التالية)
الرجوع إلى الباطل، خير من التماديفي الحق. . .
ذلك هو الدرس القاسي الذي ألقاه القضاء الساخر والقدر الجائر على فنان فلورنسا العظيم بنفنيتو، تشليني، في يوم بدأ ضاحكا وانتهى عابسا متجهماً. . .
ذهب الفنان إلى الحجرات الخاصة في قصر دوق فلورنسا، ليشرف على الأعمال الفنية التي كلف القيام بها: من تزويق وتنميق في الجدران والاثاث، وتحلية بالذهب والفضة، ومن نقوش بديعة وتماثيل بارزة. . . ولم يكن في فلورنسا كلها فكر ابرع، ولا يد اقدر من فكر بنفنيتو تشليني ويده، ذلك الرجل الذي لم يكفه أن نبغ في صياغة الذهب والفضة والأحجار الكريمة، فآتى في هذا الضرب من الفنون بالرائع الساحر، بل أراد أن ينافس المثالين والنحاتين في صناعة التماثيل الضخام، ينحتها من الصخر أو يصبها من البرونز. فكان له ما أراد، وبات نابغة زمانه في الصناعتين الدقيقة والجليلة.
وكان يحلو لدوق فلورنسا أن يمر به وهو يتشغل وعماله في الجناح الخاص بقصر الأمير، فيتحدث إليه عن الفن وعن رجاله وأنصاره. ويناقشه في رأي ارتآه الفنان أو خطة أراد رسمها. وكان بنفنيتو حلو النادرة، سريع البادرة، في شئ من غرور النوابغ وغطرسة الواثق بنفسه.
وفي اليوم الذي نحن في صدده، جاء الدوق فتحدث إليه قليلا، ثم عاد لينظر في بعض أمور الدولة. . . وسألت الدوقة عن تشليني، فقيل لها انه جالس وحده يشرف على الأعمال(39/12)
التي يقوم بها في جناح الأمير الخاص، فلم تمض لحظات حتى كانت الدوقة جالسة تتحدث إلى تشليني وتطري ما قام به من أعمال الزينة في قصر الأمير، ثم أرته عقداً من اللؤلؤ يشتمل على ثمانين لؤلؤة وقالت: أيعجبك هذا العقد؟ قال انه لعقد جميل يا مولاتي! قالت فأني أريد أن يشتريه الدوق لي. فلابد لك أن تقول له ما شئت في مدحه والإشادة بذكره، وان تبالغ في إطرائه ما استطعت إلى ذلك سبيلا. كان تشليني يظن أن الدوقة قد اشترت العقد وقضى الأمر. ولهذا بادر إلى مدحه وإطرائه، أما الآن - واللآلئ لم تشتر بعد - فقد رأى واجبا عليه أن يطلعها على ما يراه فيها من عيوب، ولم يكن في فلورنسا كلها اقدر منه على نقد الجواهر واللآلئ، ولا ابصر بمواضع العيوب منها.
فقال مولاتي! حسبت العقد ملكاً لك فبادرت إلى مدحه فإما وأنت تهمين بشرائه، فإني أرى لزاما علي أن أطلعك على ما به من عيوب بينة تحط من قدر هذه اللآلئ. ومن اجلها لا أستطيع أن أنصحك بالشراء.
قالت: لقد رضي التاجر صاحب هذه البضاعة أن يبيعنا إياها بستة آلاف دينار. ولو لم تكن تلك العيوب الطفيفة التي تذكرها لما رضي بأقل من اثني عشر ألفاً.
فجعل تشليني يبذل النصح الثمين. ويقول للسيدة الكريمة أن هذه اللآلئ لو كانت خالية من كل عيب، وبالغة أقصى غاية الكمال، لما جاز لأحد أن يدفع فيها اكثر من خمسة آلاف. فأما وقد اشتملت على هذه النقائص فأنها لن تساوي نصف هذه القيمة. وفوق هذا كله، فأن اللآلئ ليست كالأحجار الكريمة نفاسة وقيمة. إنما القيم النفيس هو الماس، والياقوت، والزبرجد، والعقيق، والفيروز، هذه هي الأحجار الكريمة التي تزداد على مدى السنينرونقا وبهاء. أما اللآلئ فليست سوى قطع من محار البحر، وعظام السمك، لا تلبث أن تفقد بهجتها ورونقها بعد سنين قلائل! لكن الأميرة كانت صلبة كصلابة الماس، وقد وطنت النفس على حيازة هذا العقد. وفي رأسها عينا امرأة قد بهرهما لمعان اللؤلؤ. فأوحتا إلى قلب المرأة الذي بين جوانحها، فإذا القلب قد اشتهى ذلك العقد، واتخذ لحيازته إرادة لا تثني، ورغبة لا تقبل الجدل، ورأى تشليني انه غدا بين نارين، فأما أن يغضب الأميرة أو يخدع الدوق. . .
فقالت له: هون عليك الامر، فانا الضمينة بأن الدوق لن يمسك بسوء، بل وستنال أجرك(39/13)
منى يوم تغدو هذه اللآلئ لي. وقد وطنت النفس على إحرازها. فاذهب بها الآن إلى الدوق. وأطنب في مدحها ما استطعت.
كان من اكبر ما يفخر به تشليني الصراحة والأمانة، ولقد طالما جنيت عليه الأولى، وأفقدته الثانية شيئاً كثيراً من المكسب والمغنم؛ ومن قبل ما جنت عليه صراحته يوم كان في بلاط فرنسوا الأول ملك فرنسا. فرأى نفسه فجأة وقد غضبت عليه مادام (ديتامب) معشوقة الملك، أصبحت له عدوا عنيدا، لا تجدي مع عدواتها صداقة أحد، حتى ولا صداقة الملك نفسه. . . فلم يلبث أن اضطر إلى مغادرة اكبر ملوك العالم أغناهم وأسخاهم. والآن أيغضب الدوقة العظيمة، دوقة فلورنسا! من اجل كلمة تريد أن يقولها، فيرتكب في فلورنسا - وطنه العزيز - ما ارتكبه في فرنسا من قبل؟ ويفقد ما ناله في قصر الدوق من حظوة ومن مقام رفيع؟
تناول العقد، ومشى به إلى الدوق - وقد عزم على أن يقول كلمات قلائل يمدح بها العقد، ولعل الدوق أن يغفر له هذه الخطيئة من اجل الأميرة. . فلما رآه الدوق قال - ما الذي جاء بك يا بنفنيتو؟ قال - عقد جميل من اللؤلؤ أردت أن انصح مولاي بشرائه فأني ما رأيت عمري ثمانين لؤلؤة كريمة قد نظمت في عقد بمثل هذا الحسن الباهر، وهذا التنسيق البديع.
قال الدوق - ما أنا بالذي يشتري لآلئ مثل هذه، فلقد رأيتها من قبل، فلم يرقني منظرها ولا حسنها. وما هي بالنادرة كما تزعم ولا النفيسة!
قال - عفواً يا مولاي! أنها وأيم الحق دررغوال، ولا أعرف أن عينا رأت عقداً منظوما كهذا العقد، حوى دررا كهذه الدرر! قال الدوق - والله يا بنفنيتو! لو إن هذه الدرر من النفاسة بحيث تذكر لما ترددت في شرائها؛ فإنني في حاجة أبداً لإحراز هذه الجواهر الثمينة، حبا في إحرازها، وإرضاء للأميرة زوجي، ولكي تكون هذه الكنوز ذخراً لأبنائنا وبناتنا، وأنا اعلم انك ابصر الناس بهذه الأمور، وأن عينك لن تخطئ في نقدها وتقديرها. كذلك اعلم انك رزقت الصراحة في القول، والأمانة في النصح، فاصدقني الخبر، ولا تخشى بأسا! هل تنصح لي حقاً بشرائها؟
أصغى تشليني إلى كلمات مولاه، فكأنما سقط عن كاهله عبء ثقيل. لقد كان يمدح تلك(39/14)
اللآلئ بلسانه ويلعنها بقلبه. وكان يعلم وهو يطريها أن هذا المدح يذري به كفنان له رأيه السديد في تقدير الجواهر، ويذري به كرجل أتخذ الأمانة والصدق شعارا. لهذا انكشفت عنه الغمة حين سمع الدوق يناشده الصدق والصراحة، وقال: أني لأخشى يا مولاي - إن صدقتك الخبر عن هذه اللآلئ - أن يشتد علي غضب مولاتي الدوقة، وتصبح لي من ألد الخصوم، فاضطر إلى مغادرة فلورنسا - وطني المحبوب - مرة أخرى. واليوم قد تقدمت بي السن فأن مغادرة الوطن علي شئ عسير. فاستحلف مولاي أن يحميني سخطها؛ إذا لم يضمن لي رضاها! ولقد وعدتني مائتي دينار إن أنا استطعت إقناع مولاي بشراء تلك اللآلئ. وقد كان خوفي من غضبها اكبر من طمعي في جائزتها. أما الآن وقد ناشدني مولاي الصدق، فإني لا يسعني إلا أن اخلص في النصح: إن شراء هذه اللآلئ بذلك الثمن صفقة خاسرة. فإنها لا تساوي اكثر من ألفي دينار؛ فإذا كان لا بد من شرائها فلا يدفع الأمير فوق هذا القدر درهماً واحداً.
قال الدوق - كن مطمئناً! إن الدوقة لن تعلم شيئا مما قلته لي الان، ولن يمسك منها آذى. وسأذكر لك أبداً هذا الإخلاص في النصيحة!
عند ذلك دخلت الأميرة؛ وقد ظنت أن قد مضى من الزمن ما يكفي لإقناع زوجها بشراء العقد. وأن قد آن لها أن تضم صوتها إلى صوت الفنان فقالت:
- عسى أن يكون مولاي قد راقه هذا العقد النفيس فأنه قلما وقعت عين على عقد يضاهيه حسنا ورونقا، وما اشد رغبتي في اقتنائه وادخاره!
- لست ارغب في شرائه.
- لماذا يضن علي أميري الكريم بهذا العقد الثمين؟
- لأني لا أريد أن تذهب أموالي هباء.
- أيظن مولاي إن أمواله تذهب هباء، حين يقتني بها درراً غالية كهذه الدرر التي قل ان يكون لها في العالم نظير؟ كيف وان بنفينتو نفسه - الذي يضع فيه مولاي بحق كلثقته - قد رآها فبهرته وسحرته، وقال إن الأمير لو دفع في هذه اللآلئ ستة آلاف دينار لكانت صفقة رابحة.
قال الدوق: إن بنفينتو لم يقل شيئا من هذا. بل لقد ذكر لي الساعة إنها لآلئ خسيسة؟ وان(39/15)
شراءها مضيعة للمال. انظري أنت إليها! إنها ليست مستديرة، وليست متساوية في أحجامها. وكثير منها قديم فقد الرونق الحسن. تأملي في هذه. . . وهذه. . . كلا. . أني لن ارمي بأموالي من اجل هذه السفاسف.
دهش تشليني حين سمع الدوق يخاطب زوجه بهذه الصراحة ويفشي لها سره، ولم تمض لحظات على ائتمانه عليه.
ونظرت إليه الدوقة نظرات تلتهب فيها نار الغيظ. ثم خرجت من الحجرة وهي تهز رأسها هزة الثائر المتوعد. فاستولى الرعب علىالفنان وجعلت الحجرة تدور أمام عينيه. وكاد ان يغشى عليه.
وعاد في ذلك المساء إلى داره مهموما منكس الرأس. . . وقد هم ان يعد العدة لمغادرة فلورنسا ليلتمس الرزق في غيرها من المدائن. . . ولكنه رأى أعماله التي اخذ ينشئها، وعز عليه أن يتركها لتهمل وتنسى. أو ليتناولها أعداؤه بالمسخ والتشويه. وعز عليه خاصة ذلك التمثال الضخم الذي أوشك أن يتمه، والذي يمثل فرساوس قابضاً على رأس الميدوزا - وهو يعد اليوم من أبدع مخلفات عهد النهضة - اجل، عز عليه أن يترك أعماله هذه التي يوشك أن يتمها. ويوشك أن يزداد بها صرح الفن علواً وشموخا.
لو إن هذا الحادث جرى له في شبابه لبادر إلى مغادرة المدينة في ساعته تلك، أما اليوم وقد نيف على الخمسين فقد رأى ان يتريث قليلا، لعل الدوق أن يستطيع حمايته ونصره، وان يصلح ما بينه وبين الأميرة.
وفي اليوم التالي غدا تشليني إلى قصر الدوق لعله يلقاه كسابق عادته. ولكنه لم يكد يبلغ القصر، حتى لقيه اعوان الدوقة، واضطروه لان يعود أدراجه بعد أن نال منهم شئ كثير من الإهانة والعنت. واضطر الفنان ان يلزم داره أياما لا يكاد يجرؤ على مغادرتها. ومن قبل كان الدوق يأمر حجابه بأن يفتحوا له أبواب القصر في أي وقت شاء، وألا يحولوا بينه وبين الأمير. أما اليوم فان الدوقة قد أمرت بعكس هذا. وأمرها النافذ. . .!
وزار تشليني أحد الأصدقاء، فأنبأه بان الدوق قد اشترى ذلك العقد! اجل، ولقد دفع فيه ستة آلاف من الدنانير الذهبية راضيا طائعا. . . ذلك أن الدوقة حين أعيتها الحيل. أمسكت العقد بيدها، وجثت بين يدي زوجها، وتناثرت من جفونها دررغوال كانت اكثر بهاء واشد(39/16)
وقعاً في نفس الأمير من درر ذلك العقد! وقالت له وهي تنتحب، إنها إذا حرمت ذلك العقد فقد حرمت كل سعادة، وقد كتب عليها الشقاء والذل مدى الحياة. وسيعلم الناس جميعاً أن الأمير زوجها العزيز، وسيد أمراء إيطاليا، الذي تفتديه بروحها، قد بخل عليها بعقد من اللؤلؤ. وإنها لن تطيق الحياة متى علم الناس بما هي فيه من هوان وبلاء!. . . عند ذلك أمر الدوق - لساعته - بشراء تلك اللآلئ. . . ولم يكد يفعل حتى رقا دمع الأميرة أبرقت اساريرها، وابتسمت عن لؤلؤ آخر، كان فيه للملك خير عوض عن اللؤلؤ الذي اشتراه.
ومضى تشليني إلى القصر، وهو لا يكاد يصدق ما سمعته أذناه. فراه الدوق مقبلا، فأمر بان يؤتى به إلى حجرته. فلما مثل بين يديه، قال من غير تلطف ولا مجاملة:
ويحك يا بنفنيتو أيها الشقي! كيف بلغت بك الجرأة أن تغضب الدوقة مولاتك، التي طالما أيدتك ونصرتك؛ فجعلتي اعرض عن شراء تلك اللآلئ النفيسة! يالك من شقي لا يعرف معنى للوفاء والإخلاص! اذهب أيها التعس الآن إلى حجرة الأميرة، واجث على قدميك بين يديها. واسألها الصفح والمغفرة عن جريرتك. وارجع إلى الحق أيها الجاهل. فان الرجوع إلى الحق فضيلة. . . وعساها تصفح عنك وتعفو عن خطيئتك!
وفتح تشليني عينين ملؤهما الدهشة والحيرة
- مولاي أي حق. . .!
- لا تنبس أيها الشقي بكلمة. واذهب الساعة فافعل ما أمرتك به. ومضى تشليني مطرقاً برأسه يمشي في بطيء شديد ليلتمس من مولاته الصفح. لان الرجوع إلى الحق فضيلة. . .!؟(39/17)
أزمة الديمقراطية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
هل آن لشمس الديمقراطية أن تغرب؟ هذا سؤال يطرح منذ أعوام في معرض البحث والجدل، ولكنه يغدو اليوم اشد خطورة، ويشغل جميع الأذهان والضمائر الحرة: فالنظم الديمقراطية تتحطم تباعا في أمم كانت بالأمس اشد الأمم تعلقا بالنظم والمثل الديمقراطية، والحكومات الدستورية تختفي. تباعا من الميدان لتقوم مكانها حكومات طغيان شامل، والحريات السياسية والاجتماعية القديمة تخنق وتختفي لتستأثر بها وتتصرف فيها أحزاب وجماعات سياسية جديدة تقوم مبادؤها ودعوتها على القوة القاهرة، والديمقراطية تهتز اليوم حيثما استطاعت أن تبقى وتتسرب إليها عوامل الوهن والفساد: فهل يكون ذلك إيذانا بأن صرح الديمقراطية غدا على وشك الانهيار، وان الديمقراطية تسير إلى مصرعها النهائي في المستقبل القريب؟ هذا ما يتنبأ به أصحاب النظريات والمثل الجديدة القائمة على الطغيان الشامل، والقومية المتطرفة، وإنكار النظم البرلمانية، وخضوع الفرد المطلق، والإيمان بالقوة المادية: أو بعبارة أخرى هذا ما يقوله دعاة الفاشستية والوطنية الاشتراكية الألمانية.
والحقيقة أن الديمقراطية تجوز اخطر أزمة عرفت في تاريخها. ويجب قبل كل شئ أن نعرف الديمقراطية بإيجاز، فهي في الأصل كلمة يونانية معناها (قوة الشعب)، وهي مبدأ سياسي اجتماعي يقوم على المساواة التامة بين الأفراد في الحقوق والواجبات، وغايتها الجوهرية أن يشترك الشعب كله في إدارة الدولة أو بعبارة أخرى أن يحكم نفسه بنفسه: والنظم البرلمانية اظهر وسائلها لتحقيق هذه الغاية. والديمقراطية الأوربية الحديثة ترجع إلى الثورة الفرنسية. ولكنها لم تستطع ثباتا في البداية، واستمرت نحو نصف قرن تناضل في سبيل مثلها، ولم تتوطد وتزدهر إلا في أواخر القرن التاسع عشر، بيد إنها لم تتقدم إلا في غرب أوربا. أما في شرق أوربا ووسطها، فقد كانت الملوكيات القديمة في روسيا وتركيا والنمسا والمجر وألمانيا تطاردها وتخمد مثلها بكل ما وسعت. ثم كانت الحرب الكبرى، فانهارت الملوكيات القديمة الطاغية، وقويت المثل والمبادئ الديمقراطية، وظفرت الديمقراطية، بإقامة نظمها في الجمهوريات الجديدة الفتية في روسيا، والمانيا، والنمسا،(39/18)
وتشيكوسلوفاكيا، وبولونيا. أما اليوم فماذا بقى لها من هذا الظفر؟ لقد كان ظفر الديمقراطية في روسيا كالبرق الخلب، وكان اسماً بلا مسمى فلم تمض اشهر قلائل حتى قام طغيان البلشفية مكان الطغيان القيصري القديم، يخمد جميع الآراء والحريات الخصمية؛ ولم تثبت الديمقراطية طويلا في بولونيا، حيث وثبت العسكرية وفرضت سلطانها على الجمهورية الجديدة، واتخذت من الحياة النيابية ستارا تملي من ورائه إرادتها. أما في ألمانيا والنمسا فقد استطال هذا الظفر أعوام طويلة؛ واستطاعت الديمقراطية أن تنشئ الجمهورية الألمانية مكان الإمبراطورية القديمة، وان توطد دعائم الحريات الديمقراطية، وان تقود مصائر الشعب الألماني خلال الأزمات والخطوب التي تعاقبت من جراء الحرب والهزيمة مدى أربعة عشر عاما، ولكنها سقطت أخيرا صرعى الاشتراكية الوطنية والطغيان الهتلري، ومهدت لمصرعها بخلافها الداخلي؛ ومنذ أسابيع فقط لقيت مصرعها في النمسا بعد أن أقامت فيها الجمهورية، وتولت حكمها وقيادتها في أعوامها الاولى، ولبثت خمسة عشر عاما قوية مرهوبة الجانب. وإما في إيطاليا التي تمتعت منذ وحدتها بالحريات الديمقراطية في ظل الملوكية الدستورية، فقد غاضت الديمقراطية عقب الحرب بضربة سريعة، وقامت فيها الفاشستية منذ اثني عشر عاما تخمد كل الحقوق والحريات القديمة، وتتحدى الديمقراطية في العالم كله، وتنوه بقواها السياسية والاجتماعية، وتسير في ميادين السياسة والاقتصاد من ظفر إلى ظفر، وتقدم القدوة والإرشاد لكل نزعة أو حركة طغيان مماثلة.
فالديمقراطية تجوز في الواقع مرحلة عصيبة ربما كانت نذير انحلالها ومصرعها النهائي. بل إنها في البلاد التي ما زالت فيها راسخة وطيدة الدعائم تتخبط في غمار من الصعاب؛ وتفسح بأخطائها وعثراتها لخصومها مجال الاتهام والانتقاص. ففي فرنسا، مهد الديمقراطية الحديثة، تشتد الحملة على النظم الديمقراطية والحياة النيابية لما كشفت عنه الفضائح المالية الأخيرة (فضائح ستافسكي) من فساد شنيع يتغلغل في صميم الحياة العامة، ويصم الحكومات الحزبية والهيئات النيابية بتهم الرشوة واختلاس أموال الشعب، ويصم القضاء والبوليس بفساد الذمة والتستر على الجناة؛ ويقول خصوم الديمقراطية من الملكيين والفاشست، إن مثل هذه الجرائم لا يمكن أن ترتكببمثل هذه الجرأة وهذا الإغراق إلا في ظل الحياة السياسية الحزبية وفي ظل نظام تكسب فيه النيابية عن الشعب بقوة المال(39/19)
والنفوذ، وغدت فكرة الدكتاتورية من الحلول المحتملة التي تطرح اليوم في فرنسا كوسيلة لانتشالها من هذه الفوضى، وغدت هيبة الديمقراطية هدفا لأشد الحملات. وفي إنكلترا اعرق الأمم الأوربية في النظم والحريات الديمقراطية، يهمس اليوم بكلمة الدكتاتورية، وتلقى المبادئ الفاشستية قبولا من الشباب الإنكليزي، ويوجد اليوم في إنكلترا بالفعل حزب فاشستي صغير لم يحرز بعد أهمية سياسية، ولكنه يعتبر رمزاً حياً لأثر الفاشستية في إنكلترا. ولم تحرز الديمقراطية في الأعوام الأخيرة إلى جانب هذه الأزمات والخطوب أي ظفر أو تقدم حقيقي إلا في أسبانيا، حيث سقطت الملوكية القديمة، لتقوم مكانها جمهورية جديدة مشبعة بأبعد المثل والأمانيالديمقراطية: بيد ان الجمهورية الفتية ما زالت تعاني صعابا وأزمات تكاد تصدع بناءها فماذا يكون مصير الديمقراطية إزاء هذه الخطوب؟ يقول أنصار الفاشستية والطغيان أن الديمقراطية لا تستحق الحياة لأنها برهنت منذ الحرب أنها ليست أهلا لحكم الشعوب في ظروفها واتجاهاتها الجديدة، وأنها دفعت الحريات السياسية والاجتماعية إلى حدود الفوضى، وسخرت الشعوب لاهوائها؛ وان الحياة البرلمانية أصبحت مظهراً من مظاهر التمثيل النيابي، ولا تعبر عن إرادة الشعب الحقيقية، وإنها تغدو في كثير من الأحيان عقبة في سبيل الأداة الحكومية تمنعها من العمل المجدي. وقد يجد أنصار الفاشستية في تاريخ الحكومات الديمقراطية ما بعد الحرب كثيراً مما يؤيد هذه التهم، ولكنهم يخلطون دائما بين المبادئ والديمقراطية وبين الصور المختلفة التي تطبق بها هذه المبادئ. فهذه المطاعن قد تلحق بعض النظم ووسائل الحكم التي تقوم على الفكرة الديمقراطية، ولكنها لا يصح ان تنسب إلى الفكرة ذاتها، وإذا كانت الأحزاب والحكومات الديمقراطية قد ارتكبت كثيراً من الأخطاء في ألمانيا وإيطاليا، وإذا كانت توصم اليوم في فرنسا بكثير من العيوب والتهم، فإنها ما زالت في إنكلترا والسويد مثلا تعمل في ظل الملوكية بقوة وبراعة وتدلل على أنها امثل طرق الحكم المستنير العادل. والفاشستية لا يمكن أن تزعم أنها بريئة من العيوب، فهي أولاً ابعد صور الحكم عن تحقيق العدالة وصون الحرية، لأنها تقوم على القوة المادية ولا تعف عن ارتكاب أشنع وسائل العنف تحقيقاًلسيادتها، ويكفي ان نسير في ذلك إلى ما ارتكبه الفاشستية الإيطالية في أعوامها الأول من الجرائم والاعتداءات المثيرة، وما استعمله من وسائل البطش والإرغام(39/20)
قبل أن تثبت أقدامها وتفرض إرادتها على الشعب الإيطالي، ويكفي أن نستعرض ما ارتكبه الاشتراكية الوطنية الألمانية مذ ظفرت بالحكم من ضروب السفك والعنف والانتهاك والمطاردات السياسية والدينية الوضيعة، لتفرض مبادئها وإرادتها على الشعب الألماني، وهذه الوسائل الهمجية التي تلجأ إليها الفاشستية دائما في تحقيق سيادتها حيثما استطاعت أن تشق طريقها لا يمكن أن ترتفع من الوجهة المعنوية إلى مستوى المثل الرفيعة والوسائل السلمية الحرة التي تقوم عليها الديمقراطية وتعمل في ظلها. وما يلاحظ إن الفاشستية شعوراً منها بهذا الضعف المعنوي تحاول أحياناً أن تستتر وراء بعض المظاهر الديمقراطية، فنرى الفاشستية الإيطالية مثلا تحتفظ بالبرلمان حينا وتبقى على بعض صور الحياة النيابية، وتستخدم فكرة النقابات؛ ونرى الفاشستية الألمانية (الاشتراكية الوطنية) تجري الانتخابات وتتظاهر باستفتاء الشعب في الحصول على تأييد أغلبيته الساحقة لتحقق بعض أغراضها السياسية. وقد تتفوق الفاشستية على الديمقراطية أحياناً بالعمل السريع وتحقيق بعض المظاهر والغايات السياسية والاقتصادية التي عجزت الديمقراطية عن تحقيقها، كما حدث في إيطاليا مثلا حيث حققت الفاشستية الإيطالية كثيراً من الأغراض والنتائج العملية القيمة، ولكن هذا النجاح المادي يحقق في معظم الأحيان على حساب الحريات والحقوق الشعبية، وليست وسائله مما يحمد دائماً.
لقد انتصرت القوى الرجعية على الديمقراطية في إيطاليا وألمانيا والنمسا: وقد تنتصر في غيرها غدا، وربما بقيت الديمقراطية أعواما أخرى تعانيالضعف والانحلال. ولكن هذه الفوضى الرجعية لا تقوم على مثل راسخة، ولا تستمد بقائها إلا من القوة المادية وهي في الغالب وليدة ظروف وعوامل مؤقتة، فمتى تطورت هذه الظروف والعوامل فقدت أسباب الحياة ,. والتاريخ يعيد اليوم نفسه في أوربا القديمة. ففي أوائل القرن الماضي، على اثر انتهاء الحروب البونابارتية، اجتمعت كلمة العروش الأوربية القوية على سحق جميع النزعات والحركات الحرة، والتمست لذلك عقد محالفة عرفت بالمحالفة المقدسة (أواخر سنة 1815) عقدت بين قياصرة روسيا وألمانيا والنمسا، واتخذت في المبدأ صبغة ميثاق للعمل على تأييد السلام، وإقامة العدل، وبث الإخاء، ولكنها نظمت وعقدت في الواقع للتعاون على إخماد الحركات الحرة التي آخذت تضطرم من غرب أوربا إلى شرقها، وتبدو(39/21)
في مطالبات عنيفة بالحريات الدستورية. وكانت الحروب البونابارتية قد شغلت أوربا حينا عن التفكير السياسي وخبت الريح الحرةالتي إثارتها مبادئ الثورة الفرنسية، ولكن الجيوش الفرنسية الغازية كانت تحمل أينما حلت طرفا من هذه المبادئ، فلما هدأت العاصفة التي أثارها نابليون، عادت الأفكار الحرة والأماني الدستورية تشق سبيلها في معظم الأمم الأوربية، ومن ثم كان اجتماع العروش القديمة على مقاومتها وسحقها. وقد انظمت معظم الدول الأوربية إلى المعاهدة المقدسة، وطبقت غير بعيد في ألمانيا والنمسا حيث قيدت حرية الصحافة، وفرضت الرقابة الرسمية على الجامعات، ولكن هذه الجبهة القوية التي نظمها الطغيان لمقاومة الحريات الشعبية لم تغن شيئاً، ولم يمض ربع قرن آخر حتى كانت معظم الدول الأوربية تضطرم بالفورات والثورات التحريرية، وكانت القوى الرجعية ترغم بذل المنح الدستورية المختلفة. وقد استمر هذا الصراع بين الطغيان والديمقراطية طوال القرن التاسع عشر، وانتهى بظفر الحريات في معظم الأمم الأوربية.
ونحن اليوم نشهد هذا الصراع كرة أخرى. ولكنه يتخذ اليوم صورة جديدة. فالقوى الرجعية لا تستند اليوم إلى العروش والحق الالهي، ولكنها تتشح بأثواب شعبية، فالفاشستية تزعم في إيطاليا وألمانيا أنها تقوم بإرادة الشعب وتسير طبقاً لها؛ وتخشى أن تبدو مجردة في ثوبها الحقيقي؛ وهذا دليل على أنها رغم ظفرها المؤقت ما زالت تخشى قوة الديمقراطية الخفية. ونحن ما زلنا نؤمن بمستقبل الديمقراطية وقوتها. وإذا كانت الديمقراطية قد استطاعت أن تصمد طوال القرن الماضي لجميع القوى الرجعية التي هاجمتها وقاومتها مع أنها لم تكن قد استكملت يومئذ كل نموها وقوتها، فأنها اليوم قد رسخت مبادؤها ومثلها في جميع الأمم الأوربية وأقامت لها صروحا قوية شامخة، وأضحت قوام الحياة العامة في كل بلد، لا يمكن أن تستكين طويلا إلى عدوان الطغيان، ولا بد ان تنهض غير بعيد من عثرتها، وتستعيد كل قوتها وسلطانها، يوم تنفض عنها غبار هذه المفاسد الشكلية التي أسبغت ريبا على هيبتها، ويوم تنبذ ذلك الخلاف الذي فت في قواها ومكن لخصومها.
محمد عبد الله عنان(39/22)
مضى عام
للآنسة سهير القلماوي
تسارعت الأيام في سيرها الآلي المنظم السريع. الأيام الطويلة المملة، والأيام القصيرة الطائرة، كلها غرقت في بحر الفناء على ألا تعود. وانقضى العام فإذا الذكرى تتهادى حتى تقف أمامي، ثم تمد يدها لتأتي بأجزائهاالمنزوية في مخيلتي تستكمل بها صورتها المؤلمة. فإذا الصورة هي هي كما كانت منذ عام، وإذا الألم لها وان خففه سلطان الزمان الذي لا يقهر، إلا انه ما زال لاذعاً مذهلا عن كل شئ سواه.
كان صباح العيد منذ عام، فاجتمع أفراد الأسرة كلهم في بيت الوالدين، اجتمع الأخوات والاخوة، والأزواج والأولاد والأخوال والأعمام، واصطفوا جميعا على مائدة الإفطار، وكلهم وجوههم مشرقة مستبشرة. وكانت هي بينهم - ومتى لم تكن بينهم ولو بجسدها - ولكنها كانت تفكر وتقدر. تضحك معهم وتبتسم لابتسامهم، ويشرق وجهها لإشراق وجوههم: ولكن نفسها كانت تتألم يائسة، وعقلها مرتبك، يقدر ويفكر، ويقرر وينثني عما قرر، ثم يعود فيقرر ثانية، فإذا القرار هو هو. وتقلب الاحتمالات والمنتظرات، تستعرض في خيالها الساعات المقبلة، وقد نظمتها حسبما ظنت ان ستكون. ماذا لو نفذت قرارها؟ ثم تعود فتنثني عنه من جديد؛ لم يرقها ما قدرت، ولكن أي مخلص غيره؟ وأخيراً، لا بد من القرار الأول، لابد منه.
لم يلاحظ عليها الحضور شيئاً، فقد كانت الحركة التي تأتيها في رواحها ومجيئها لخدمتهم - لان أمور المنزل أصبحت كلها لها بعد زواج أختها - التي كانت تساعدها كثيراً على إخفاء ما بها. وانتهى الإفطار فانتشروا في الدار، وأصوات الأطفال المرحة الصاخبة تملأ إسماعهم. وانتهزت هي الفرصة وصعدت إلى حجرتها. خافت أن تعود إلى التفكير فترتبك من جديد، ولقد سئمت الحيرة ولا بد ان تنجو منها، لقد كانت تلهب رأسها.
وصعدت وراءها أختها تناديها، ونادتها فإذا بها قادمة نحوها تصرخ وتتأوه، ووجهها اغبر قاتم، وجسمها يتلوى من الألم، ويداها على معدتها تضغطان بعصبية وتقلص، فصاحت أختها ما بك! ما بك؟ وضمتها إلى صدرها تسندها من الوقوع فوقعتا على الدرج معا. وهزتها ثانية ما بك؟ فتمتمت بصعوبة مريرة متألمة (شربت سما).(39/23)
كلمتان هما آخر ما نطقت، كلمتان قلبتا العيد مأتما، كلمتان حولتا شابة مليئة بالحياة والنشاط إلى جثة هامدة لا تحس ولا تشعر واجتمع الأهل والصحب والخلان حول ضحية العيد، منهم من أسعفه البكاء فبكى، ومنهم من حيرته الفاجعة فذر بلسانه بأسبابها وصاح يستلهم الجثة جواباً عما حير فكره وصدع قلبه. ومنهم من وجم يستعرض في وحدته صورا تتتالى فلا تشعر ارتباطا في تتاليها ولا أثراً لمرورها في مخيلته. وأخيراً منهم من اختل توازن أعصابه وفقد القدرة على حكمها، فراح لسانه ينطق بكل ما يمر في خاطره المضطرب المحموم وفي الصباح جاءتها صديقاتها بورودهم البيضاء وكأنهم آتون لعرسها، ثم أودعوها حفرة ضيقة وعادوا جميعا وكل منهم يظن انه في حلم مروع يتلمس اليقظة منه فلا يصحو. ومتى كانت الحياة إلا رؤى تتتابع! رؤى نراها أفرادا فنختلف في حقيقتها، ورؤى نراها جماعة فنجمع على حقيقتها؟
أودعوها حفرتها، أودعوها سرى معها، ولكن متى دخل لسان الناس أفواههم؟ متى استراح لسان الناس في اشد المواقف استدعاء للاستراحة؟ هل احترموا جلال الموت؟ هل خشعوا أمام فجيعة مريرة للأسرة بأجمعها؟ كلا! لم يخلق اللسان إلا للكلام، فإذا سكت لم يحقق الغرض من خلقه، وإذا لم يحقق جزء من المخلوقات الغرض من خلقه فقد اختل نظام الكون كله!
وفي العيد تجتمع الأسرة لا على مائدة الإفطار وإنما حول قبرها في مدينة الأموات الهادئة، وهناك تناديها فلا تجيب كما كانت تفعل منذ عام، وهناك تبكيها فلا تشاركها شعورها كما شاركتها الابتسامة والفرح منذ عام، وإنما ترفرف روحها من عليائها رائحة غادية لا ترتبك ولا تضطرب، فليس لديها ما تخفيه وقد حجبها الفناء بأستاره الكثيفة المظلمة.
سهير القلماوي(39/24)
التطور وروح الدين
للأستاذ محمود الشرقاوي
(إنا وجدنا الشارع قاصدا لصالح العباد. والأحكام العادية تدور معه حيثما دار. فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة. فذا كان فيه مصلحة جاز)
(الشاطئ)
لكل دين من الأديان روح تسيطر على مجموعة، وتتمشى في أصوله وفروعه. وتميز دعوته وتربط أحكامه جميعاً، وتساوق بين أجزائه وتوجه تيارها إلى غاية خاصة،
والإسلام يمتاز من جميع الأديان بأنه دين عام خالد لا دين بعده ولا رسالة. فهو لذلك قد جمع الله فيه كل ما تحتاج إليه البشرية من الأصول لجميع ظروفها وأحوالها وأزمانها وأماكنها، والحياة البشرية متغيرة سريعة التحول والانقلاب والسير في طريق التطور من حال إلى حال ومن قديم إلى جديد، وبالأخص في عصرنا هذا الذي تضاعفت فيه سير الحضارة، واختلطت الشعوب والأفكار واستولى على الإنسانية كلها ما يشبه الحمى في سرعة التحول والانتقال
فهل روح الإسلام وغايته العليا تعارض سير الحضارة وتقدم العالم؟ وتلزم البشرية بالوقوف عند حال واحد لا تتعداها إلا إذا تركت الدين واستعاضت عنه بأشياء مدنية لابد منها لاستكمال الحياة البشرية واطراد السير فيها والتطور من حال إلى حال؟ أم أنافأجيب بان الإسلام لا يتعارض بتاتاً مع سير البشرية وتحولها. وانه دين لين واسع الافق، نستطيع ان نوفق بين روحه وبين كل مظهر من مظاهر الحضارة، وان تجد في نصوصه ما يساير الأطوار المختلفة التي تتخطاها البشرية في عصورها المتباينة، وهذا ما أريد أن اكتب عنه في هذا الفصل،
ويجب أن نلتفت إلى الفرق بين (روح) الدين وغايته. وبين أحكامه الفرعية وتطبيقها، والفرق بين الدين كشعور وعقيدة وإيمان، والدين كتقاليد وأشخاص دينيين ومظاهر كنسية للحكم والسيطرة. فروح الدين وجوهره هو الشيء الخالد الباقي الذي لا يتعارض مع أي عصر. والذي تجد فيه كل حضارة وكل أمة في كل زمان ما يتفق مع احتياجاتها ويعينها ويسددها في سبيل الغاية العليا والكمال البشري الذي تسير إليه، روح الدين وجوهره هو(39/25)
الشيء لذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وعلى هذا الفهم نستطيع ان نجد في نصوص الدين الإسلامي وفي تاريخه أشياء تؤكد لنا انه دين يستطع أهله أن يجدوا فيه كل ما يتفق مع مظاهر الحضارة التي تغمرهم وتجذبهم إليها وتستولي عليهم وعلى جميع الدنيا طوعاً أو كرهاً.
وهذه أشياء اذكرها تؤيد ما أقول وتفصح عما أريد:
هذه المسايرة للزمن، وتطبق الأحكام على ملائمات الأحوال والظروف واختلافاتها. مع المحافظة على جوهر النصوص وروح الدين. نجدها عند شخصيات في قلوبها بصيرة للوقوف على مراميها أدراك الغاية منها وعدم التقيد بحرفيتها، ونجدها في بيئة تختلف عن البيئة التي عرفنا فهمها لهذه النصوص ودرسنا ما قالته فيها وما استرشدت فيه بحاجاتها العقلية والمدنية ومميزاتها الجغرافية والتاريخية.
فمثلا إذا كنا في عصر هين لين نحتاج فيه إلى زيادة الإنجاب والنسل، نجد روح الإسلام ما يشجعنا على التكاثر والتناسل والنماء. وان كنا في عصر عسير محرج ضيق نحتاج فيه القصد في الإنجاب والالتفات فيه إلى الكيفية لا إلى الكمية. فنجد من روح الإسلام ما يجعلنا نخفف من نسلنا ونتقلل على ما نريد. بل نمتنع منه إذ نريد نجد صحابيا جليلا وحاكما قادرا يبيح لنا التقليل من النسل. بل يوشك أن ينهانا عن العيال: (يا معشر الناس: إياكم وخلالا أربعة، فأنها تدعو إلى النصب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة، وإلى المذلة بعد العزة، إياكم (وكثرة العيال) وإخفاض الحال. . . الخ).
وإذا كنا في عصر يتشدد أهله في علاقاتهم الزوجية ولا يمتهنون رباط الأسرة، ويعرفون ان ابغض الحلال إلى الله الطلاق، فنحن نستطيع ان نجد في أحكام الإمام والخليفة عمر بن الخطاب ما يجعل الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع ثلاثا، وإذا كنا في عصر مثل عصرنا الحاضر وهنت فيه العلاقات الزوجية واضطرب رباطها وأصبحت ألفاظ الطلاق على كل لسان، فنحن نستطيع ان نجعل الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع طلقة واحدة، ونجد في نصوص الإسلام ما يتيح لنا ذلك كما وجدنا ما أباح لنا الأول: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر الصديق وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: ان الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة. فلو(39/26)
أمضيناه عليهم؟ فأمضاه عليهم) وهذا ما فعلناه نحن في مصر،
وإذا كنا في إقليم وفي مجتمع يلزمنا عمرة خاصة للرأس. وكان غيرنا من المسلمين في إقليم أو مجتمع يلزمهم عمرة للرأس خاصة غير عمرتنا، أو يجعلهم يسيرون حاسرين، تجد من روح الإسلام ما يجعلنا نلبس ما نشاء. ويجدون هم من روح الإسلام ما يجعلهم يلبسون ما شاءوا أو يحسرون كما يشاءون: (كل ما شئت واشرب ما شئت ما اخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة)
الإمام الشاطئ من اعلم الرجال في أصول الدين. ومن أبرعهم وأوسعهم ذهنا في تطبيق النصوص الدينية والموازنة بينها وبين الأحوال. وله كلام يجب على كل رجل من رجال الدين ان يتدبره ويعتبره، لما يدل عليه من فهم جيد لروح الإسلام ومسايرته لكل عصر وكل حضارة. وطواعية أحكامه ونصوصه لان توافق كل حضارة وكل جيل.
يقول الشاطئ: (. . . والسكوت عنه من الشارع لا يقتضي مخالفة. ولا يفهم الشارع قصداً دون ضده وخلافه فإذا كان كذلك رجعنا إلى النظر في وجوه المصالح. فما وجدنا فيه مصلحة قبلناه أعمالا للمصالحالمرسلة. وما وجدنا فيه مفسدة تركناه أعمالا للمصالح أيضاً. وما لم نجد فيه هذا ولا هذا فهو كسائر المباحثات أعمالا للمصالح المرسلة أيضاً).
ويقول (إن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات. واكثر ما علل فيها بالمناسب الذي ان عرض على العقول تلقته بالقبول، ففهمنا من ذلك ان الشارع قصد فيها اتباع المعاني لا الوقوف مع النصوص).
وللشاطئ أشياء في غاية الجمال والإبداع من هذا الفهم الواسع المحيط. وهذه النظرة الشاملة النافذة إلى جوهر الدين وحقيقته الواعية لروحه الكلي الشامل، على رأس هذا الفصل فقرة هي الدستور الذي يجب ان يستوحيه كل مفكر ديني.
يقول الشاطئ أيضاً: (قد تكون العوائد ثابتة وقد تتبدل ومع ذلك فهي أسباب لأحكام تترتب عليها. . . والمتبدلة منها ما يكون متبدلا في العادة من حسن إلى قبح وبالعكس. مثل كشف الرأس فانه يختلف بحسب البقاع في الواقع. فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد الشرقية. وغير قبيح في البلاد المغربية. فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحاً في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح، واعلم بان ما جرى ذكره هنا من(39/27)
اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد، فليس في الحقيقة باختلاف في اصل الخطاب. لان الشرع موضوع على انه دائم أبدى لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية).
ويقول سيدنا عمر بن الخطاب عن الرمل في الحج: (فيم الرملان ألان والكشف عن المناكب، وقد اظهر الله الإسلام ونفى الكفر وأهله. . .؟).
وسرق جماعة لحاطب بن أبى بلتعة ناقة لرجل من مزينة. فلما أرسلوا إلى عمر بن الخطاب اقروا على سرقتها، فأمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم. ثم ردهم وقال: (انهم يجيعونهم حتى أن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له، ولم يقطع أيديهم).
ولما جاءت المجاعة والقحط في سنة 18 هـ أيام خلافة عمر بن الخطاب لم يقطع أيدي السارقين.
نحن نستطيع ان نسير مع كل حضارة. وان نأخذ عن حضارة الغرب ما يفيدنا وينعشنا ويلقح حياتنا باللقاح المجدد، ولا نجد في روحالإسلام ما يصدنا عن ذلك.
ولكن المشكل هو في وجود الرجال الذين يفهمون روح الدين بالعقل اليقظ الواسع الحر العارف حاجات العصر وتيارات الحضارة والذهن البشري.
محمود الشرقاوي عالم من الأزهر(39/28)
الإسماعيلية الملقبون بالحشاشين
مقدمة
هذا بحث موجز لطائفة الإسماعيلية التي عرفت أخيرا عند أهل التاريخ بطائفة الحشاشين، والتي تركت في تاريخ الإسلام في القرن الرابع الهجري أثرا كبيراً، وتاريخ الإسماعيلية قديم يرجع إلى عام ثمانمائة وأربعين للميلاد، بعد ان أنتشر الدين الإسلامي وساد كثيراً من الأقاليم والبلاد، فقام بانتشاره دعاة في أقاصي الجهات وأدانيها يحاولون الحط من قدر الرسول، ويخترعون الأحاديث الملفقة اختراعا يقلل من هيبة الدين الإسلامي، وينزل به من مستواه الرفيع، وكان انشط أولئك القوم وأكثرهم تحمسا (ابن ديصان) ويقال انه الجد الأعلى لعبد الله المهدي الفاطمي صاحب الدعوة بأفريقية، فقد كان يكره بني العباس ويود لخلافتهم الزوال، فبث دعاته في بلا د الفرس حوالي عام840 م حيث تبعه خلق كثير، وألف كتابا في الزندقة سماه (الميزان) وألف ممن تبعوه عصابة سرية نسبتنفسها إلى إسماعيل بن جعفر الصادق فسميت بالإسماعيلية، ثم انتشر اتباعه بمرور الزمن في جزيرة العرب والشام وأفريقية، وظلوا نحو قرنين ونصف قرن، تسري تعاليمهم في جسم الدولة الإسلامية كسريان السم في العروق، حتى جعل منهم الحسن (ابن الصباح) أخيراً عام تسعين وألف للميلاد طغمة سياسة تقلب الممالك وتخرب العامر من الديار، وتسفك الحرام من الدم، وتعمل في مختلف البلدان سلبا ونهباً وقتلاً، وتدمن تعاطي الحشيش حتى لقبوهم بالحشاشين وسماهم الفرنجة وأطلقوا هذا الاسم على كل قاتل سفاك، وبقوا على تلك الحال حتى قضي عليهم عام 1256م، أي سنة 654 هـ بوفاة خليفة الحسن ابن الصباح الأخير ركن الدين بن محمد، ولا يزال للإسماعيلية إلى يومنا هذا اتباع ومريدون، ولكن شتان بين مالهم الآن وما كان لهم في تلك القرون الغابرة من قوة وسلطان، وهم متفرقون في فارس والهند، وزعيمهم آغا خان الهندي الثري المعروف.
وقد كان لتلك الطائفة عدا اسم الإسماعيلية أسماء أخرى فسموا بالقرامطة نسبة إلى قرمط إحدى قرى البحرين التي تفشى فيها مذهب ابن ديصان في القرن الثالث الهجري بدعوة من رجل يقال له حمدان قرمط، يقول ابن خلدون (وكان من هؤلاء الإسماعيلية القرامطة واستقرت لهم دولة بالبحرين، وكان من أسمائهم (الباطنية) وذلك لأنهم كانوا يبطنون(39/29)
دعوتهم وينشرونها متكتمين في عهد المستضيئ العلوي لابنه نزار، وقيل إنما سموا بذلك أيام الحاكم بأمر الله العبيدي الذي انشأ في القاهرة في القرن الثالث الهجري مدرسة سماها دار الحكمة كان الطلاب يعلمون فيها معنى مكتوما لمتن القرآن، وسواء أكان السبب هذا أم ذاك، فالتسمية راجعة إلى تكتم القوم في دعواهم وتعاليمهم. وكان من أسمائهم أيضاً اسم الحشاشين، وقد لقبوا به اخيراً، واطلق على طائفتهم التي عاشت أيام الصليبين. وسنذكر فيما بعد اثر ذلك المخدر عندهم، وكيف استغلوا فعله في قضاء مآربهم. وسموا كذلك بالفدائية لأنهم كانوا يجعلون انفسهم، وخاصة في عهدهم الأخير، فداء لرئيسهم ينفذون أوامره ولو أدى ذلك إلى التضحية بالنفس في سبيله. والمصادر الشرقية تطلق عليهم غالبا اسم الإسماعيلية والملاحدة والنزارية. وهذه الأسماء الكثيرة هي لطائفة واحدة تعددت باختلاف الملابسات والظروف. فهم إسماعيلية نسبة إلى إسماعيل بن جعفر، وهم فدائية لأنهم يضحون بأنفسهم فداء لرئيسهم، وهم ملاحدة لأنهم عند البعض ينكرون الإله، وهم قرامطة نسبة إلى قرمط وهكذا. . غير ان اسم الحشاشين هو الذي عرفوا به آخر أمرهم.
مذهب الإسماعيلية
كان للسريان الفضل في نشر الفلسفة اليونانية، وخاصة مذهب الأفلاطونية الحديثة في العراق وما حوله، وقد ترجموا الكتب من اليونانية إلى السريانية فانتشرت فيما بين النهرين، وكان من اشهر رجال الدين والأدب من السريان الذين عرفهم المسلمون برديصان أو ابن ديصان، وقد توفي سنة 222م وله مذهب ديني يجمع بين اليونانية والنصرانية ينكر فيهبعث الأجسام ويقول إن جسد المسيح لم يكن جسما حقيقيا بل هو صورة شبهت للناس أرسلها الله تعالى. وله تعاليم أخرى بقيت بعد الإسلام. ومنها استمد الرافضة بعض أقوالهم. وقد انتسب إليه بعضهم كأبي شاكر الديصاني الذي بعث دعاته في بلاد الفرس والعرب والشام وجمع حوله اتباعا وأنصارا نسبوا أنفسهم إلى إسماعيل بن جعفر الصادق فسموا بالإسماعيلية وهم غلاة الرافضة. يقول ابن خلدون (افترق الرافضة فرقتين: الاثنا عشرية والإسماعيلية، تلك بعض تعاليمهم أول أمرهم وقد انقلبوا أخيرا إلى فرقة سياسية تعمل على هدم الخلافة العباسية، ولم يعد لهم (مذهب) بالمعنى الصحيح يدعون إليه، وكانوا في العراق يطلق عليهم اسم القرامطة حتى تولى زعامتهم الحسن بن الصباح فلقبوا بعده(39/30)
بالحشاشين، ونحن نجمل تاريخهم قبل زعامته التي بدأت عام 483 هـ وانتهت عام 518 هـ.
بدء القرامطة:
كان لبدء ظهورهم في البحرين على يد رجل يعرف بيحيى بن المهدي نزل في قطيف على رجل يدعى علي بن المعلي بن حمدان مولى الزيادين، وكان يغالي في التشيع، فاظهر له يحيى انه رسول المهدي، وكان ذلك سنة 281 هـ؛ وذكر انه خرج إلى شيعته يدعوهم إلى أمره وان ظهور المهدي قريب، فأرسل علي بن المعلي إلى شيعته من أهل القطيف فأقرأهم كتاب يحيى الذي زعم انه من المهدي فأجابوه، وكان فيمن أجابه أبو سعيد الجنابي الذي تولى الزعامة فيما بعد وخلفه فيها ابن الصباح، وظل يحيى يغيب عنهم ثم يعود إليهم، وفي كل مرة يطلب منهم المال زاعما انه يذهب به إلى المهدي. وفي عام 289 ظهر بالشام رجل قرمطي اسمه ذكرويه بن نهرويه يدعو إلى مذهب القرامطة، ولقبه اتباعه بالشيخ، وزعم انه من أحفاد إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، واستفحل أمره فسير إليه المعتضد جندا ظفروا باتباعه واسروا رئيسهم أبا الفوارس. وهنا نذكر ما دار بين أبي الفوارس والمعتضد حين جاءوا إليه به لنتبين شدة القوم وجرأتهم على خلفاء العباسيين، يقول ابن الأثير (فأحضره (المعتضد) بين يديه وقال له اخبرني، هل تزعمون إن روح الله وأرواح الأنبياء تحل في أجسادكم فتعصمكم من الزلل وتوفقكم لصالح العمل؟ فقال له يا هذا إن حلت روح الله فينا فما يضرك، وان حلت روح إبليس فما ينفعك، فلا تسأل عما لا ينفعك وسل عما يخصك، فقال له وما تقول فيما يخصني؟ قال أقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبوكم العباس حي، فهل طلب بالخلافة أم هل بايعه أحد من الصحابة على ذلك؟ ثم مات أبو بكر فأستخلف عمر وهو يرى موضع العباس ولم يوص له، ثم مات عمر وجعلها شورى في ستة انفس ولم يوص له ولا ادخله فيهم، فماذا تستحقون الخلافة وقد اتفق الصحابة على دفع جدك عنها. فأمر به المعتضد فعذب وخلعت عظامه ثم قطعت يداه ورجلاه) فهذا الكلام وتلك اللهجة التي يخاطب بها أحد زعماء القرامطة خليفة المسلمين تدل دلالة واضحة على استبسال القوم وجرأتهم في الإفصاح عن آرائهم ومذهبهم، وقد ظل القرامطة بعد المعتضد في حروب مع(39/31)
المكتفي ومن بعده من الخلفاء طوال القرنين الثالث والرابع إلى قبيل منتصف القرن الخامس يهزمون ويهزمون، حتى دوخوا الدولة وشقيت بهم الناس، وعانت الدولة العباسية في سبيل قمع حركتهم جهدا كبيراً، وشغلوا بحركاتهم الهجومية جانبا عظيما من وقت الخلفاء فحشدوا لهم الجيوش يقاومون دعوتهم الجريئة وخروجهم عليه، وكثيرا ما انهزمت جيوش الخلفاء أمام جيوشهم واستماتتهم في الدفاع، وكم من غنائم ظفروا بها وأرواح أودوا بأصحابها، وكم من أسرى قتلوهم وصفدوهم بالأغلال. واظهر ما في تاريخهم في تلك السنوات العديدة أعمالهم الوحشية واتخاذهم القتل والتعذيب وسيلة إلى دعوتهم ونشر مذهبهم، وأشنع من ذلك اعتداؤهم على قاصدي بيت الله يقتلونهم ويسلبونهم أموالهم وينشرون الرعب في القلوب حتى قل زائرو الكعبة وانقطعوا عن الحج في بعض السنين، وقد سودوا صحيفتهم بالاعتداء على الحجر الأسود ونقله إلى أحد حصونهم حيث بقي فيه نحو اثنتين وعشرين سنة.
هذه الفئة التي أجملنا تاريخها إلى عام 436 وفيه أوقع صاحب ما وراء النهر بجموعهم وكتب إلى سائر البلاد بقتل من فيها منهم والذي أسرفنا في إجماله حتى لا يمل القارئ من تفصيل الحروب وكثرة المواقع، هذه الفئة هي التي ازدادت شوكتها قوة وأمرها خطرا وسدرت في أعمال القتل والنهب وأمعنت في تعاطي الحشيش واستمرت خداع الناس وفتنتهم عن دينهم، وذلك بظهور الحسن ابن الصباح وتوليه زعامتها عام 483 هـ فجعل منها عصابة سياسية مجرمة ديدنها أن تعيث في الأرض فسادا تقتل وتنهب وتقلق الوادعين. تلك هي طائفة الحشاشين في نهاية القرن الخامس الهجري وقبل أن نشرح أعمالها نتكلم عن زعيمها هذا وكيف وصل إلى زعامة القوم فهوى بهم إلى الحضيض الأسفل من الأخلاق والسلوك.
محمد قدري لطفي ليسانسيه في الأدب(39/32)
2 - تولستوي
اجتماعياته
- 3 -
لن يحقق هذا الحلم مؤتمرات تعقد ومعاهدات تمضى أو نظم تعدل
وقوانين تفرض.
وان مؤتمرا يجتمع ويتلوه مؤتمرات أخرى لا تحل مشاكل العالم. وان سكنت ألم الإنسان إلى حين، والمعاهدات قصاصات ورق لا تغير شيئا ولا تدفع مضرة، ولا يخفف من البؤس الواقع حزب اشتراكي يتولى أو حزب محافظ يتحكم. فليس معنى ذلك إلا إن طبقة حلت محل أخرى. وأفراداً استبدل بهم أفراد. وليس معناه إلا أن يبقى النظام الحالي بضرائبه المرهقة وحواجزه الجمركية المشتطة وميزانيته العجيبة ينفق ثلاثة أرباعها على أعداد الجيوش وتجهيز الحروب.
إن الإصلاحات التي تفكر فيها الجماعات الحديثة من تحديد ساعات العمل أو تنظيم علاقات المالك والأجير على ما فيها من الفائدة لا تجتث الشر من أساسه. فكيف الطريق إذن؟
أثورة دموية لا تبقي ولا تذر؟ تراق فيها دماء الطبقة الحاكمة ويزهق فيها أرواح الأغنياء؟
ولكن تولستوي كان آخر من يدعو إلى العنف وآخر من يفكر في مقابلة الشر بالشر. إن التعاون لا يمكن أن يقوم على سفك الأرواح. والرخاء من المستحيل أن يعتمد على أسنة الحراب. وما كانت الإنسانية التي بشر بها تولستوي ليكون الطريق إليها مغطى بالدماء حافلاً بانين المجروحين وجثث القتلى.
لقد قامت الثورة الفرنسية باسم اشرف المبادئ الإنسانية وعلى أكتاف اشد الناس حماسة وإخلاصا. وحسب الناس إن نوراً جديداً قد اشرق يلوح بالسلام المنشود والهناء الدائم. ولكن الثورة الفرنسية لم تنجح كثيرا. ولم تفعل رغم الادعاءات العريضة التي بشرت بها إلا أن تحل طبقة محل طبقة أخرى وتستبدل اسما باسم وملكية بجمهورية.
وفشلها راجع إلى إنها قامت على العنف وإراقة الدماء. إن الشر لا يجب أن يقابل بالشر،(39/33)
وإن اكبر ما يعاب على المجتمع الحالي اعتقاده إن الثورة الدموية هي الطريق للخلاص، وان الحرب شر لابد منه. وان القتال قانون طبيعي لولاه لازدحم العالم بالسكان ولما وجدوا قوتا يكفيهم. وليس اسخف من هذا الزعم زعم. فان اشد ما يعتز به الفرد هو حياته، واقدس واجب لديه هو المحافظة على هذه الحياة والعمل على إبقائها. واكبر أمنية للإنسان هو الخلود أو العيش إلى أطول العمر، فتناقض إذن إن تزعم أن قانون الحياة هو الموت أو إن من الضروري أن يقتل الأخ أخاه.
لقد دعا تولستوي إلى السلام والأخاء الإنساني. وأهاب بالإنسانية القضاء على التسلح والمقاومة.
وقد يبدو إن هذا أمر ثانوي لا علاقة له بإصلاح العالم. ولكن ليعتقد الأفراد جميعا أن الشر هو في الحروب. وان بؤس الإنسانية راجع إلى العنف والاستبداد، وليؤمنوا بالسلام وضرورته، وستسقط بطبيعتها جميع النظم القائمة. فلن تقوم حكومة من الحكومات إلا إذا استندت إلى إرادة الشعوب، ولن يوضع قانون إلا إذا رغب فيه الأفراد. ولن تسير دفة العمل من الأعمال إلا إذا كان قائما على التعاون والاشتراك. ولن تجد نزاعا بين دولة وأخرى إلا ويفض في بضعة أيام عن طريق التحكيم. فتولستوي يرى من العبث التفكير في كيف تكون الحكومة. أو على أي أساس تشرع القوانين. إذ الحكومة لديه ليست إلا مجموعة أفراد والقوانين ليست إلا من وضع بضعة أفراد. والدولة لا معنى لها إلا بمجموع أفرادها!
ففي إصلاح افرد وحده. وفي الارتفاع بعقليته والسمو بنفسيته أساس المدنية المستقبلة. ماذايجدي أن تصلح من شان حكومة، إذا كان القائمون بها هم هم لم تتغير نفوسهم.
لن يجدي هذا نفعا. ولكن يكفي أن يعتقد كل فرد بوحشية الحروب في سبيل قطعة ارض أو من اجل شهرة وطنية كاذبة. ويكفي أن يمسي هذا الاعتقاد عملا حتى يشرق الصباح عن اختفاء اله الحرب من الأرض
ويمكن - إذا آمن الناس بضرر الفروق الاجتماعية بين الطبقات وما يساعد على إبقاء هذه الفروق من قانون الوراثة ونظام الملكية - أن تختفي الملكية فجأة وتحل المساواة بين البشر.(39/34)
ولا شك انه لو أيقن كل إنسان أن سعادته في خدمة اكبر مجموعة إنسانية يستطيع خدمتها لانهارت من أساسها ما نسميها الوطنية التي تراق من اجلها الدماء وتزهق تحت علمها ملايين الأرواح. ويجر باسمها الخراب والدمار والارتباكات المالية الاقتصادية.
فلتقم الشعوب. لا بل لتقم طائفة منها تعلن أن كفاهم رياء وخداع، وانهم لن يخضعوا إلا لما توحيه إليهم ضمائرهم، ولن يعملوا إلا ما تحتم عليه مبادئهم. فلا يذهبون إلى قتال يعتقدونه شرا ولا ينفذون قانون لا يرون فيه خيرا. ولا يدفعون ضريبة لا معنى لها. ولاشك أن كل مساوئ العهد الحالي تصبح في خبر كان.
إن للرأي العام قوة عظيمة تسير الحكومات والدول. فإذا ما أراد الرأي العام شيئا فهو واصل إلى ما يريد. والرأي العام ساخط متذمر من النظام الحالي وهو يريد أن يعمل شيئا، ولكن لا يعرف ما يريد ولا يدري ماذا يعمل.
قد تسأل: ومن له الشجاعة ليقوم بهذه الدعوى ومن له الاستعداد لما قد تجره عليه من اضطهاد وسجن وتشريد؟
ولكن تولستوي يعجب: لماذا تنتظر الإنسانية منقذاً من السماء أو مسيحاً يهبط إلى الأرض.
إن نفسية الجماعات الحاليةلا تحتاج إلا إلى بضعة أفراد بل فرد جريء يرشدها إلى طريق العمل حتى تقوم قومة رجل واحد.
- 4 -
إن صلاح نفوس الأفراد وتربيتهم من اخطر ما يدعو إليه تولستوي، وهذه التربية أما أن تتناول الصغار أو الكبار. فهي للكبار بث العقيد الإنسانية فيهم وإقناعهم أن لا فائدة تعود عليهم من حرب ضروس، والإهابة بهم إلى نبذ العنف وإحلال الوئام والصفاء.
وأما تربية الصغار فهي اجل واعظم شانا.
ولقد سدد تولستوي إلى التربية الحديثة سهاما مسمومة. وكال لها تهما شنيعة، وليس يعنيه من أمر المدرسة علوم تحشى بها أذهان الطلبة المساكين ولكن يعنيه روح التربية.
فالتربية الحديثة تساعد أحط الغرائز على الظهور والنمو، فهي تبث التنافس والغيرة والحقد في نفوس الأطفال وتشبعهم بفكرة العقاب والثواب، وتلقى في روع الطفل الأنانية وحب الفوز على أكتاف إخوانه من التلاميذ. فهو يهنأ على تقدمه عليهم، ويكافأ إذا بذهم وفاقهم.(39/35)
وهي فوق ذلك تربية عسكرية تهمل شخصيات الأطفال إهمالا وتزعم أنها مستطيعة أن تشكل عقليات متغايرة تشكيلا واحدا. وهي مضطرة في سبيل هذا ان تخضعهم لنظام معين وتجبرهم بالقوة على التزام حركات خاصة والجلوس في غرف ضيقة مما ينفر الطفل من المدرسة والمدرسين، ومما يكبت فيه ميوله الطبيعية ومواهبه.
إن الطفل له شخصية قائمة، وليس يتاح لأي مدرس أن يفهمه على حدة فيعرف ما يلائمه وما لا يلائمه. والمدرسة الوحيدة التي يمكن ان ينال فيها الطفل تربية صحيحة هي البيت.
نعم هي منزله. حيث يجد الحنو والشفقة الأبوية. وهي مسكنه حيث تراعي ميوله وحيث يفهمونه فهما حقا. وبذا يرفع تولستوي من شأن التربية المنزلية ويجعلها في المكانة الأولى. وقد جره هذا، إلى البحث عما إذا كان البيت والعائلة الحالية يصلحان مكانا لتربية الأطفال.
وجوابه أن لا.
فنظام الزواج الحالي نظام عتيق فاسد، والعلاقات العائلية اليوم كبقية العلاقات لا تستند إلا على الرياء والعنف. فالمال يتحكم تحكما في العلاقات الزوجية. والرجل الغني هو كل شئ في الزواج الحديث. مهشما كان أو مريضا، ضعيفا أو منحطا. فهو يرحب به لانه ذو مال، ولأنه اقدر من غيره على الأنفاق. والفتاة الحديثة لا تكاد تفهم مهمتها التي خلقت من اجلها والزوجات يرون فالالتصاق بالبيت عارا أو تأخرا. بل يحسبن في الأطفال عبئا لا يتفق والسهرة ومحال الرقص. ولا ينسجم والرقة والأناقة. ومن هنا دعا تولستوي إلى هدم نظام الزواج هدما يتناول الأساس فالأم كما يرى تولستوي يجب ان تختار لابنتها زوجا قوي الجسم ممتلئ الصحة محبا للعمل ناسية مكانته الاجتماعيةغير ناظرة إلى جيبه انتفخ بالأوراق المالية إن لم ينتفخ.
والزوجة يجب ان تؤمن بأن عظمتها في المنزل، وفي إنشاء طفلها الذي قد يتحكم يوما في مصير العالم. وهي إذا كانت قد تلقت أرقى العلوم فلكي تحسن إدارة بيتها. وهي ان درست ووفقت في الدرس فلكي تجيد تربية طفلها. فالمرأة في يدها مستقبل هذا العالم.
ولكن أي أمرأة؟ ليست هي هذه المرأة المستهترة، ليست هي سيدة الصالونات. ولكن ربة البيت والأم الرحيمة تنشئ أطفالها على حب السلام وحب الآخرين. وتربي فيهم كراهية الشر ومقت العنف.(39/36)
لقد نادى تولستوي بكل هذا في إخلاص وإيمان وبعد تفكير طويل وتدبر ليس بالقليل، وقد توافق دعوته وقد لا توافق. وقد تحسبها الحكمة بعينها أو خيالا متطرفا. ولكن لا يسعك إلا أن تعجب بالرجل أو تعجب باخلاصه، وان تجد أيضاً في دعوته الحق أو بعض الحق.
ولعلك تشتاق بعد هذا إلى معرفة شئ عن حياة تولستوي أو فهم الظروف التي أحاطت به فخلقت منه رسول السلام والإنسانية على الأرض. هذا ما قد نكتب فيه مرة أخرى.
شهدي عطية الشافعي بكالوريوس آداب(39/37)
من طرائف الشعر
الربيع الباكر
للأستاذ محمود الخفيف
قادني الشوق إلى واد مريع ... أسفرت فيه بواكير الربيع
وانجلى آذار بسام الضحى ... كابتسام الزهر في زهو وديع
ألبس الزهر أكاليل الندى ... ودعا الطير فلبى منشدا
وترى الأغصان مالت طربا ... وانثنى الجدول تيها وبدا
ضاحك الصفحة مطلول الأديم
مجتلى للعين منظور البطاح ... باسم الضفة عن وشى الصباح
سالت الألوان في قيعانه ... وارتدت آكامه أبهى وشاح
وسرت في وجوه ريح الصبا ... تنشر المكنون من سر الربا
تملأ الكون حديثا عطرا ... كحديث النفس في زهو الصبا
أو كصافي الشعر يرويه النديم
يتبدى الكون موفور الرواء ... رفرفٌ خُضْر ووشى ونماء
وصفاء شاع في أركانه ... عرف القلب به معنى الصفاء
وفضاء تنعم النفس به ... يذَهْل المعجب عن إعجابه
يقف الشاعر في أحضانه ... موقف الصوفي في محرابه
غارق الأحلام في فيض النعيم
فطن القلب إلى معنى الحياة ... في مجاليه وإشراق ضحاه
ثم في بعث كساه حسنه ... أينما دُرت بعينيك تراه
ومراح جال فيه طالما ... علق القلب به مستسلما
غرقت عيناي في لجته ... فكأني فيه اروي حلما
عن ربا الخلد ومرآها الوسيم
هذه الزهرة في نضرتها ... تحسر الألحاظ في وجنتها
خلص الحسن لها فابتسمت ... بسمة الحسناء في خلوتها(39/38)
تعشق الكون وتهوى نوره ... أو لم توح إليه سِحرَهُ؟
فتجلى حسنه في حسنها ... وحبته من شذاها نشرَه
فلريَّا نفحه عنها نميم
منظر الطير على أفنانها ... يملأ السمع صدى ألحانها
نسيت نفسي به أتراحها ... وتمشي البرء في وجدانها
وخرير الماء في ظل الشجر ... كغناء العود في ليل السمر
نغمات كأحاديث الهوى ... أو أغاني الصيف في ضوء القمر
تَدْرأ السقم عن القلب السقيم
يا فراشاً رفّ في جنب الغدير ... دائم الوثوب على العشب النضير
هجت أشواقي إلى عهد مضى ... أين منى عيشه الحلو الغرير؟
حينما كنت صبيا لاهيا ... لن تراني ذات يوم وانيا
عن طِلاب اللهو في ظل النخيل ... أعشق الريف ضحوكا حاليا
مشرق الضحوة خفاق النسيم
يا ربيعا أشرقت ألوانه ... وتعالت في الضحى ألحانه
يا زمانا راقت الدنيا به ... وسرى في جوها ريحانه
ايه يا عهد الصبا المقتبل ... أنت رمز الحب، روح الأمل
رفل الدهر به في نعمة ... وتحلى الكون بعد العَطل
بنثير من حلاوه ونظيم
شاعر يتلو الورى آياته ... يُستنزل الإلهام من ساحاته
عبقري دق في تصويره ... وسمى بالشعر عن غاياته
شعره يا حسنه في فيضه ... في سماء الكون أو في أرضه
قد وعاه القلب ألحانا على ... سرحة فينانة في روضه
ملكته فهي منه في الصميم
هي دنيا من ربيع زاهر ... وضحى ضاف ونشر عاطر
ملأت قلبي وعيني بهجة ... سوف يبقى وحيها في خاطري(39/39)
سوف يبقى حسن هاتيك الرؤى ... حلما يذهب عن قلبي الأسى
كلما مثلته في خاطري ... نسى القلب به حر الجوى
فهو من ذكراه في ظل عميم(39/40)
آذار أغنية الربيع
(مهداة إلى سر شوقي)
لشاعر الشباب السوري أنور العطار
هَلمَّي انظري قٌبلاَتِ الربيع ... على مِعطفِ السَّهل والرَّابيَهْ
سَرَتْ في السموات أنفاسهُ ... فعطَّرَت الحقلَ والسَّاقيَهْ
وآذارُ يلعبُ فوقَ المروج ... كما تلعب الطِّفلةُ اللاهِيَةْ
يُعانقُها وهو جمُّ الحنين ... فتُغريه بالمقلة الرَّانِيهْ
ويلقي عليها وِشاحَ الخلود ... وألوانَهُ العذبةَ السَّابيهْ
ويَبعثُ فيها شُعاعَ الهوى ... فتهتزُ من وَهْجِهِ صابِيَهْ
تألَّقَتِ الأرضُ من وَشيْهِ ... فلم تَبْقَ زاويةٌ خاليَهْ
وقد زيَّنَ الغابُ أفياءه ... باحلى مَطارفِهِ الكاسيَهْ
خمائله من نسيج النعيم ... تأرَّجُ بالنَّفحدةِ الذاكيهْ
جِواءٌ من الطَّيْرِ طفَّاحَةٌ ... تُنغِّمُ رائحةً الذاكيهْ
كأنًّ النَّسيمَ أخو سَكْرةٍ ... تَعَايَا من الخمرةِ العانِيَهْ
تَعاشِيبُ ناهلةٌ بالطُّيُوبِ ... مَفضَّضةُ الثَّوْبِ والحاشيَهْ
كأنَّ على الأرضِ عُرْساً يُقامُ ... فتمشي إليه الدُنَا حابِيَهْ
تعالَتْ إلى الله أفراحُه ... تَمَايَدُ حافلةً حانَيهْ
وهبَّتْ مواكبُهُ الضاحكاتُ ... تجدَّدُ أعيادَها الباهيهْ
رياحينُها قد ملأنَ الفضاء ... ولم تخْلُ من عِطْرِها ناحيهْ
ففي الجِّو ذابت أغاني الطيور ... بهَيْنَمةِ النَّسمْةِ السَّاليهْ
وفي الحقل ثار ضجيجُ القطيع ... حنيناً لِزَمّارَة الرَّاعيهْ
تذوب من الحب أنغامُها ... فتخفت من ناره الصَّاليهْ
بَرَاها الهوى وطوت سَّره ... فبان من النغمة الفاشيهْ
فيالك عُرسا بهيَّ الإطار ... جديد الرُّؤَى والمنى الهانيهْ
هلَّمي افتحي كوة للربيع ... لنشرب فرحتهُ ثانيهْ(39/41)
فقد ملت الروح عبء الظلام ... وحنَّت إلى البسمة الضاحيهْ
أكان سجوُّكِ غير الرقادِ ... تغلغل في المقلة الساهيهْ
وأغفل بين شعاب الجفون ... تصاوير من مهجةٍ باكيهْ
يبين على صفحتيها الأنين ... وتخشعُ فيها الرُّؤَى جاثيهْ
توهجُ من ماسها في العيوُن ... روايات أحزانها الطاغيهْ
هلميِ اقرأي خافيات الحظوظ وما تضمرُ العيشةُ الباغيهْ
وَنُوحي على حُلُمُ مورِقٍ ... تبددَ في السكرةِ الغاشيهْ
سيمضي الشَّبابُ كأنْ لم يكُنْ ... سوى ذكرةٍ حُلوةٍ ساجيهْ
تُجددُ أحلامُهُ الغابرات ... وترجعُ نشوتهُ الماضيهْ
كأنَّ لهُ ملعباً سامراً ... تناستهُ أيامُهُ الخاليهْ
تَموجُ بأفيائه النُّعميَاَتُ ... وتلمعُ فيه المنى الغاليهْ
بَدَا والحياة على جانبيهِ ... تتيهُ بأحلامها الغاويهْ
محِفَّةُ آذارَ تلقي عليه ... أزَاهيرَها الثّرَّةَ الغانيهْ
تعاَلى نُوثَّق عهود الهوى ... ونسرُدْ حكاياتها النائيهْ
ونوقظْ لياليَها الغالياتِ ... ولولا الهوى لم تكن غاليهْ
أقاصيصُ ملء الرّبا والوِهادِ ... تناثْرنَ من أكبُدٍ شاكيهْ
ارِجْنَ وعَطَّرنَ هذا الفضاء ... كما تأرَجُ الزهرةُ الناميهْ
ولقِّنَ منه معاني الحياةِ ... وأدركن من دائه ماهيهْ
رُويدَكِ ولنْستمعْ سرَّهُ ... فأن له ألسُناً حاكيهْ
وإن له سِيرَاً جمةً ... تناقُلها الأنفُسُ الصاغيهْ
تعالى إلى الصدرِ تلقىْ به ... شكايات أضلاعه الحانيهْ
وأوجاعَ خافِقهِ المستهام ... وإرنانَ أفيائه الواهيهْ
فلا البثُّ يُهدئُ تَحنانَهُ ... فيرتاحَ من شجوهِ ثانيهْ
ولا الحبُّ يُوليه بعضَ المنى ... فيفرحَ بالمِنحة الراضيهْ
ويشدْوُ الأغاريد ضاحكةً ... فتحيا بها المهجُ الداميهْ(39/42)
ولما اقتسمنا دموعَ العيونِ ... تفردتُ بالدَّمعة القاسيهْ
فلا هي تسكنُ شِعب الجفونِ ... فتخفى ولا هي بالهاميهْ
أطلتِ رُنُوِّكِ نحو السماء ... وأطرقت راهبةً خاشيهْ
فهل تبحثين عن الغائبين ... ومن غاص في اللجة الطاميهْ
فرابتْكِ ضفَّة هذي الحياة ... وخِفْتِ من الضِّفَّة التاليهْ
فنُحتِ وصحتِ النجاةَ النجاة ... وأين النجاةُ من الهاويهْ
هنالك لا النور ضافي الجناح ... ولا الطير صادحة شاديهْ
خَلَتْ من بهارج هذا الوجود ... وأحلامه الحلوة الزاهيهْ
سوى موجةٍ من بنات السماء ... تحومُ بأرجائها عاريهْ
يُشِعُّ على جانبيْها الخلودُ ... وما ضَمَّ من صُوَرٍ ساميِهْ
كأن عليها إطارَ النَّعيم ... وغِبْطَتَهُ اللذَّةَ الشَّافِيَهْ
حنانَيْكِ لا تسبْحَي في الدموع ... ولا تَرْهبي الراحةَ النَّاجِيَهْ
فما إنْ تَقِي من إسارِ الرَّدَى ... إذا حُمَّ يومُ النوى واقِيَهْ
وليسَ تَرُدُّ عليكِ الدموعُ ... سوِى حزُقْةٍ مُرَّةٍ وارِيًهْ
ورُبَّتَ أُمْسيَّةٍ بَرَّةِ ... ترِفُّ بها الذِّكَرُ القَاصيَهْ
جلسْتُ على جَنَباتِ الغدير ... أُشَيِّعُ أموَاهَه الجاريهْ
أُرَدِّدُ أشعاريَ النَّائياتِ ... واستَقبلُ الفكَرَ الآتيهْ
وتشدُو الطيورُ أغاريدَها ... فألقطُ من فمِها القافيهْ
وَدِدْتُ من الغَيب كُلَّ الوداد ... لو أنيَّ لأشعارها راويهْ
ويُوحى المَساءُ إلى خاطري ... هوَاجسَ غامضةً خابيَه
موَشَّحَةً بِطُيُوفِ العَفَاءِ ... كأنَّ بها جِنَّةً بادِيَهْ
فأُصغِي إلى همْسِهِ المستَطَاب ... وأسمعُ ألحانَهُ الخافِيَهْ
أعُبُّ لذَاذاتِه الطَّافحاتِ ... وأكْرَعُ سَكْرَتَهُ الصَّافيهْ
وأنسى مَتاعبَ هذا الوجود ... وعِيشِتَه الوَحْشَةَ الجافيهْ
وغيبوبة مثل كهف النُّسور ... تضيع بها الأنفسُ الرائيهْ(39/43)
توشِّحُها مائجات الغيومِ ... وأطياف أجْنُحِهَا الضافيهْ
رقيتُ أعاليَها مُفْرَداً ... ورُوحيَ سَبَّاقة حاديهْ
وخَلَّفْتُ جسمي في الهامدات ... تُطيف به الصورُ الفانيهْ
وأطلتُ من فرجات الضباب ... على عالم الرمّم الباليهْ
تجردتُ من صفة الهالكين ... وَمُتعتُ بالصفة الباقيهْ
وقد غبتُ عني كأنْ لم أَكُن ... سوى نفحة سمحةٍ عاليهْ
وأنسيتُ أني ابنُ هذا التَّرابِ ... وَضجعته الُمَّرة الطاغيهْ
بكاءً على أملٍ لامعٍ ... تَطايَرَ في الفنية الصَّاحيهْ
وغلغل في عالم غامضٍ ... أمانيه ساخرةٌ هاذيهْ
هَلمي افتحي كوَّةً للضِّياءِ ... لننسى بها الكوَّةَ الدَّاجيهْ
فليس لنا أملٌ في الرَّبيع ... وَنفحته العذبة السَّاريهْ
وما العُمْرُ غيرُ ربيع الشبابِ ... ربيع الهوى والرُّؤى الوافيهْ
تجوسُ به الذكريات العذابُ ... وَيغمُرُهُ الحبُّ والعافيهْ
إذا طاحَت مسالي الوُجودِ ... وغابت مفاتنه الحاليهْ
وَصار إلى عالم موُحشٍ ... كصحراء خاليةٍ خاويهْ
أسيتُ لِعمرٍ تولى سناهُ ... كايماضة الشعلةِ الوانيهْ
فيا لك من عمرٍ ضائعٍ ... كما تُنثرُ الباقةُ الذاويهْ
هوى النجمُ من شرفات الحياة ... فأمست على إثرْه هاويهْ
. . . أفاتَك أني جمُّ الجروح ... أعيشُ على يَدِكِ الآسيهْ
فوليتِ عني وخلفتني ... احنُّ إلى الساعة القاضيهْ
. . . أموت وقيثارتي ما تزال ... تنوح على مهجتي الصاديهْ
أنور العطار(39/44)
في الأدب الفرنسي
بيير كورني
للدكتور حسن صادق
حياته وعلاقاته ورواياته
نتحدث في هذا المقال عن عبقرية شعت في معاصريها الحرارة والنور، عن شعلة وهاجة فيها جمالوانسجام، وفي جوهرها هدى وسلام، عن مدرسة عالية تتعلم القلوب فيها السمو والشجاعة، وتتهيأ النفوس فيها للعفة والنبل والصفاء، عن مدرسة علمت الفرنسيين نفاسة الإرادة وبطولة الواجب وجمال التضحية. وسنجعل موضوع المقالات التالية عن عظماء الكتاب الفرنسيين في القرن السابع عشر وهم: بسكال ولاروشفو ولافونتين وموليير وراسين وبوسويه وفنلون ولابروبير وسان سيمون ومدام دي سفنييه.
إذا ولد ابن ملك دقت النواقيس وأطلقت المدافع إيذاناً بمولده، وفرض على الشعب أن يبتهج إن كان شقيا، أو بعث الفرح في نفسه إن كان مجدودا سعيداً. وإذا ولد عبقري، جهل الناس أمره ولم يعرف حقيقته إلا الله الذي يسم جبينه بطابع إلهي ويعين مهمته العالية بين البشر. وبعد أن تكشف العبقرية عن نفسها ويسود مجدها، يبحث الناس في ظروف مولدها وفي حوادث شبابها عن الإمارات العظيمة التي تدل على مستقبله. وكذلك ولد بيير كورني في 6 يونيو عام 1606 بمدينة وارن. ولم يسطع في ذلك اليوم نجم في السماء جديد أو يحدث على سطح الغبراء حادث خارق يعلن إلى الناس مجيء رجل عظيم.
أحبه والداه حباً شديداً، وربياه على التقوى والفضائل، ولم يجدا فيه ما يدلهما على أن اسمه سيكون يوما في شعفة المجد الفرنسي. وما بلغ اشده ادخله أبوه مدرسة يديرها الجوزيت فتلقى فيها تربية قوية صلبة وتعليما متينا. ولم ينس قط لهذه المدرسة الأثر الجميل الذي خلقته في نفسه الغضة. ثم أراد له أهله أن يكون من رجال القانون فكان، إرضاء لهم دون ان يشعر بميل إلى ما أصاروه إليه.
نال إجازة الحقوق في 18 يونيو عام 1624 وترافع أمام القضاء، ولكنه لم يصيب غير الفشل الممض لانه كان خجولايشعر في حضرة الناس باكتئاب بطني يغمز عليه الحيرة(39/45)
والاضطراب، ويسلط على لسانه الحبسة والحصر. وفجاة حدثت مصادفة سعيدة أظهرت عبقرية هذا المدره الصغير. كان له صديق عزيز عليه يحب فتاة، وقد طلب منه هذا الصديق أن يصحبه في زيارته لها فأجاب سؤله. ولما تكررت هذه الزيارة أدرك كورني أن الفتاة أخذت ترنو إليه دون صديقه، فكف عن زيارته لها لانه بالطبع وفي كريم. هذا الحادث دفعه إلى كتابة قصة مسرحية فكاهية سماها (ميليت) مستمدا قواعد الفن من نفسه وذوقه، ثم سافر إلى باريس وفي جيبه فصول القصة الخمسة، ولم يجرؤ على تقديمها لممثلي (بيت بورجوني) المهرة النابهين، وهو المسرح الوحيد الذي كان موجودا في ذلك العهد. فقدمها في تواضع إلى ممثلين مغمورين فقراء، كانوا يحاولون تكوين فرقة وإنشاء مسرح صغير في شارع (بتي بوربون).
مثلت هذه القصة في عام 1629 ودرت على المسرح الصغير رزقاً كبيراً. ولكن الجمهور الذي اعتاد رؤية القصص التمثيلية المقتبسة أو المنقولة عن (لوب دي فيجا) الأسباني وغيره والزاخرة بالدسائس والعقد، وجد قصة (ميليت) سهلة بسيطة طبيعية، ولم ير في مؤلفها شاعراً كبيراً.
ثم وضع كورني في عام 1632 قصة فكاهية أخرى اسماها (كليتاندر) وقال عنها بعد وضعها ان كل ما هو محتمل فيها الأسلوب ليس غير.
بعد هذه القصة يئس من الحصول على نجاح يرضيه في الكوميديا وشعر في الوقت نفسه بيقظة العبقرية التراجيدية في نفسه، فاستعار من (سنيكا) الحكيم الروماني موضوع قصة سماها (ميديه) أخرجها في عام 1635، فأصابت بعض النجاح ولفتت نظر ريشيليه الوزير الفرنسي المعروف، وكان هذا الوزير يتعشق المسرح والتأليف المسرحي واليه تنسب قصص أربع غيبت كلها في تضاعيف النسيان. ويقال انه لم يكتسب هذه القصص وإنما كان يضع خططها ويشرف على كتابتها.
وبهذه المناسبة نذكر أن مجد ريشيليه الأدبي هو في إنشاء مجمع العلماء (الأكاديمي فرانسيز): ففي عام 1629 اتفق جماعة من الأدباء على أن يجتمعوا مرة في الأسبوع عند أحدهم للبحث والمناقشة في الموضوعات الأدبية. هذه النواة المكونة بادئ ذي بدء من تسعة أشخاص، كبرت سريعا إذ انضم إليها أخصاء الكردينال ريشيليه. ثم اتصل خبرها بهذا(39/46)
الوزير فرأى في الحال بمهارة رجل الدولة الفائدة التي تجنى من إنشاء هيئة تضم رجال الادب، يجيزها أمر ملكي وتكون تحت رعايته، فيضع بذلك يده القوية على جميع العقول الكبيرة في فرنسا كما كاد يضعها على النبلاء والعظماء. وقد تم له ما أراد وصدر الأمر الملكي في عام 1635.
اتجه نظر ريشيليه إلى كورني كما قلنا، ورآه جديراً بالعمل معه في تصنيف قصصه المسرحية، فعرض عليه رغبته في الانضمام إلى (جماعة المؤلفين) وكانت مكونة من أربعة أشخاص يكتبون باسم الوزير. قبل كورني ذلك لانه شعر بالحاجة إلى عضد قوي يعبد له الطريق، واندمج في هذه العصبة الصغيرة، ولكنه كان حريصا على الاحتفاظ بكنوز عبقريته لنفسه.
وفي أحد الأيام طلب إليه الوزير أن يضع الفصل الثالث لإحدى قصصه وفقاً للخطة التي رسمها له فلم ويوافق كورني على هذه الخطة، ودهش الوزير من جراته واسترد منه شرف العمل معه، وقال عنه: (ليس فيه روح العمل برأي غيره!) أي ليس فيه روح الخضوع والذلة.
نالت هذه الصدمة من نفس كورني منالاً كبيراً فعاد إلى روان ليجد بين أحضان أسرته متلمسا من ألم الفشل، واعتزم العدول عن التأليف المسرحي وهجر الشعر. ثم قابله ذات يوم مصادفة كاتب سر قديم للملكة (ماري دي مدسيس) يسمى (شالون) فنصح له بأن يدرس بإمعان شديد المسرح الأسباني، ولفت نظره إلى موضوع (السد) وكان قد عولج في أغان وطنية إسبانية وفي قصتين من نوع التراجيدي: أحدهما (لدون جوان ديامانت) والأخرى (لجيلهم دي كاسترو).
قرأ كورني القصتين، وخلال غرابة التركيب وضعف الأسلوب استخلص حدثاً درامياً، ومواقف رائعة، وأفكار خلابة: استخلص من التراب تبراً نقياً، فوضع أول قصصه الخالدة وهي (السيد) المشهورة، اول درة في تاج المسرح الفرنسي في عام 1636.
وقد أثارت هذه القصة في نفس ريشيليه الغيرة والحسد، ولكن كورني تعزى بتصفيق الإعجاب الذي ناله من فرنسا كلها، وبلغ من نجاح هذه القصة أن اصبح الناس يقولون: هذا جميل كالسيد. وانتشرت هذه الجملة حتى عدت من الأمثال العامة. وقد سخر (بوالو)(39/47)
الشاعر والناقد الفرنسي في ذلك الوقت من حسد ريشيليهفقال: (عبثا يثور وزير على السيد، فكل باريس تنظر إلى شيمين بعيني رودريج (شيمين بطلة القصة ورودريج بطلها، وكان بينهما حب شديد رائع). ولكي يطفئ ريشيليه غلة حسده أوعز إلى مجمع العلماء ان يسفه القصة، فأعلن مكرها إن موضوع القصة تافه، وهذا مديح افلت من فم المجمع خلسة، لان كورني استطاع بعبقريته أن يجعل من الموضوع التافه قصة رائعة استدرت إعجاب الناس في عصره واستهوت نفوس الأجيال المتعاقبة.
وقال اكثر خصوم كورني لؤما إن الجمال الذي يعجب به الناس في القصة لا يد لكورني فيه، وإنما هو (لدى كاسترو) الأسباني. وقد نال هذا القول من نفس كورني اكثر مما نال منها رأي مجمع العلماء الذي دحضه وسحقه نجاح القصة في طول البلاد وعرضها. فبحث في التاريخ القديم عن موضوع يخلق منه قصة هامة، فعثر في (تيت ليف) المؤرخ الروماني المشهور على تاريخ الموقعة التي حدثت بين آل هوارس وآل كورياس. واخرج من هذا الموضوع قصته العظيمة (هوارس) في عام 1640. وفي السنة عينها اخرج قصة (سنا) أو رحمة أغسطوس التي نالت اكبر قسط من النجاح، وفي عام 1643 اخرج (بولكيت) و (بومييوس) و (الكذوب) وكلها قصص خالدة أبلغته قمة المجد والعظمة. وعقب قصة (السيد) منح الملك لويس الرابع عشر والد كورني لقب الشرف ووثائق النبل، ثم دخل الشاعر مجمع العلماء في عام 1647.
استمر بعد هذه القصص التي ذكرها والتي بنت مجده على أسس متينة، يصف القصص التمثيلية واخرج كثيرا منها، ولكنها لم تبلغ الدرجة العلية التي بلغتها القصص السابقة وفي عام 1652 اخرج للناس قصته (برتاريت) فلم تنجح.
اشتد عليه هذا الفشل الأليم وهو الشاعر الكبير الملحوظ المنزلة فلزم الصمت سبع سنوات قضاها في روان مع زوجه (وكان قد تزوج في عام 1641) وأولاده الثلاثة. ثم شاءت المصادفة أن يزور (موليير) الشاعر وفرقته روان ويمثلون فيها بعض كوميدياته. ولما شاهد كورني التمثيل انتعش في دخيلته الحنان إلى المسرح. فعاد إليه في عام 1659 أمام جيل جديد من النظارة بقصته (أوديب) فقوبلت مقابلة حسنة. ثم اخرج بعده عدة قصص ولكنها فشلت كلها. ويقال إن سبب الضعف الذي ظهر في قصصه الأخيرة يرجع إلى(39/48)
إفراطه في العمل وإجهاده القريحة والعجلة في التأليف، لانه كان في حاجة شديدة إلى المال بعد ما استنفذت تربية أولاده كل موارده المالية. ولكن الحقيقة انه كبر ومالت قوة ذهنه إلى الاضمحلال والركود. يدل على ذلك قوله: (شعري ذهب مع أسناني) نعم استطاع هذا الشعر أن يستريح بعد كثير من الآثار الخالدة التي تقص على القرون غرام رودريج وبطولة هوارس ورحمة أغسطوس واستشهاد وبوليكت. وفي الوقت الذي بدء فيه نجم كورني بالافول، كان نجم راسين يعلو ويسطع ويزدهي الناس إعجاباً وطرباً. وفي عام 1670 عرضت هنرييت أخت زوج لويس الرابع عشر على كورني ان يضع تاريخ (برينيس) في قصة تمثيلية. وكان راسين فيالخفاء يراجع هذا الموضوع وهي تعلم ذلك. وأخرج الشاعران القصة في وقت واحد فنجحت قصة راسين نجاحا كبيرا وسقطت قصة كورني سقوطا مروعاً وفي عام 1683 باع كورني منزله في روان إذ استبد به العسر. وكان لويس الرابع عشر قد قرر له معاشا سنويا قدره 2000 دينار بعد وساطة الشاعر شابلان ذي الحظوة لدى الملك. ودفع هذا المعاش بغير انتظام ثم الغي. وقد شعر (بوالو) بحالة كورني فقابل الملك ورجا منه أن يدفع المعاش للشاعر المسكين بانتظام فقبل رجاءه. ومن حسن حظه انه مات في ليلة أول أكتوبر عام 1684 بعد أن ذاق مرارة الفاقة في شيخوخته، والشقاء هو الفدية الضرورية للعبقرية.
وقد قام مجمع العلماء بنفقات دفنه، وكان مديره إذ ذاك القسيس (دي لافو) ولا تنتهي مدة عمله إلا في أواخر أكتوبر من ذلك العام. وجرت العادة ان يؤبن مدير المجمع، العضو الذي يموت. وكان راسين هو الذي سيعين مكان القسيس ولذلك حدثت بينهما مشادة إذ كان كلاهما يريد أن يحظى بهذا الشرف. وتمت الغلبة في النهاية للقسيس. ثم عين (توما كورني) عضواً في مجمع العلماء بعد موت شقيقه، فأهتبل راسين هذه الفرصة وأثنى أجمل الثناء على ذكرى منافسه العظيمة. وان خطبته في ذلك المقام لهي فخر لعبقرية الميت وكرم الحي. وسنذكر نبذة من هذه الخطبة القيمة عند الكلام عن حالة المسرح الفرنسي قبل كورني.
مكانته ومواهبه ومذهبه
كان حساد هذا الشاعر العظيم كثيرين. فلما مات لم يروا فيه غير الشاعر العبقري الذي(39/49)
خلق أروع القصص، وجاءهم بآيات في البلاغة بينات، ووضعوه في مكانة أعلى من المكانة التي كان يشغلها أيام مجده. ومن الغريب أن مدينة روان لم تقم تمثالا لأشهر أبنائها إلا في عام 1834!
وكان معاصروه من كبار الأدباء لا يستطيعون إنكار قوة ذهنه وعذوبة شعره ومتانة قصصه. ومنهم لابرويير وبوالو ومدام دي سيفنييه. وهذه كانت تصيح في كل مجلس قائلة: (ليحيى صديقنا القديم كورني! إن كتبه آثار أستاذ لا يجارى ولا يقلد! إنها الذوق السليم نفسه!). وكان هو نفسه يؤمن بعبقريته ويتحدث بها في عزة الرجولة وصراحة كريمة تفضل التواضع المصطنع الذي لا يخدع أحدا ولا يخفى ما وراءه من زهو خلق. وقد بقي وفيا لخلقه المزيج من البساطة والكرم والخجل والشجاعة والوداعة والسمو، حتى استوفى أنفاسه.
ونستطيع أن نقول أن كورني قلب كبير ونفس جميلة. والدليل القوي على ذلك هو ما تركه لنا من الآثار الجليلة، وكل العواطف السامية التي يجدها القارئ في قصصه، مصدرها قلبه ونفسه ليس غير.
كانت الأخلاق في عصره هابطة، والبطولة نادرة؛ فلما جاء عمل على إيصال القليل من حرارة الشعلة التي تحركه إلى خمود معاصريه، فتنبهت قلوبهم وهبت تخفق على توقيع ألحانه.
يقال دائما أن الشاعر لا يصور إلا معاصريه، وان كورني استمد موضوعاته من العادات والأخلاق التي كانت تحت بصره. هذه قاعدة صحيحة بالنسبة للاخرين، ولكنها لا تنطبق على كورني لانه كان يصور الناس كما يجب وكما لا يجب ان يكونوا، أي كان يصورهم على طراز نفسه العالية.
ومن يقرأ كتب هذا الشاعر يجد أن الرغبة في جعل الإرادة تتغلب على كل الصعاب والعقبات من عناصر البلاغة الخاصة بكورني، ويجد أن أبطاله سواء أكانوا يريدون قهر أنفسهم أم قهر غيرهم، يبذلون جهدهم في إقامة الدليل الذي يبرر إرادتهم وعملهم. وهم يشرحون حساسيتهم في شعر له نغمات الناي الساحرة، ويعبرون عن أرادتهم في لهجة خطابية. ولذلك يلذ لهم الحوار الطويل والمنطق السليم الذي يؤرث إرادتهم الخائرة،(39/50)
والبرهانات القاطعة التي تنتصر على ترددهم. وهم فوق ذلك وفي كثير من الأحايين يريدون ان تقر ضحاياهم أعمالهم وتوافق عليها. وكذلك نجد (رودريج) في قصة السيد يريد أن يجعل صاحبته (شيمين) تؤمن بأن قتل أبيها الكونت (دي جورماس) كان واجبا عليه. ونجد في قصة هوارس انه أراد أن يجعل (كورياس) يؤمن بان من واجبه قتله. وكذلك في (سنا) تحاول (راميلي) صاحبه (سنا) أن تجعل الإمبراطور (أغسطوس) يعتقد ان واجبها يأمرها بتدبير مؤامرة لاغتياله.
قلنا إن كورني كان عييا في حضرة الناس، ولكنه كان خطيبا بلسان أبطاله وفي كل قصة نجد ان الحوادث هي نتائج قرارات الأبطال ومشيئتهم. ففي هوارس وسنا مثلا لا يحدث حدث إلا برغبة أبطال القصة، فالإمبراطور أغسطوس بعد أن عرف إن صديقه سنا يأتمر به ليقتله كان في مقدوره إذا أراد، أن يعاقبه بدلا من الصفح عنه، فالإرادة في مسرح كورني هي نابض الحركة الوحيد، لانه كان يعتقد إننا في الحياة سادة حظوظنا. وهذا ما يجعل لهذا المسرح قيمة خلقية فريدة، وان جعل الفعل الدرامي معلقا على مشيئة الابطال، لهو في الحقيقة تخفيض لنصيب الظروف أي تبرئتها مما نتهمها به. وليس هذا حقيقة خالصة، ولكن كورني أراد بذلك أن يرغب الناس عن التواكل والاستسلام ويربي فيهم الاعتماد على الإرادة ولكي نحكم حكما صحيحا على كورني، يجب ان نضع نصب أعيننا دائما انه المؤسس الحقيقي للتراجيدي الفرنسية. كثير غيره جاءوا بعده، متزودين بدروسه ومنهاجه، فماثلوه أو بذوه، ولكنه بقى أستاذ هذا النوع. انه هو الذي ابتكر استعطافا جديدا يقوم لا على الفزع والشفقة، ولكن على الإعجاب، الإعجاب بالمواقف، والإعجاب بالخلق، والإعجاب ببطولة الواجب وروعة التضحية. وهو الذي حدد شكل التراجيدي الفرنسية وجعلها (قضية أخلاقية توضع بواسطة العرض، ثم تحصل المناقشة فيها بواسطة انقلابات الحال ثم تحل في الختام) وعبقريته هي التي جعلت الترجيدي تحليلا نفسيا لشهوة من الشهوات تتدرج في طريقها حتى تصل إلى العنف والحدة ثم إلى النتائج الأخيرة.
اثر كريني في التراجيديا والادب
كانت الترجيديا قبل كورني محاورات طويلة. وكان واضعوها يصورون الوالد والولد والزوج في ظروف شخصية خاصة محدودة. ولكن كورني صورهم بطريقة عامة أي(39/51)
صور المثل الأعلى للوالد والولد والزوج.
قال (سانت بيف) بحق (إن كورني هو الشاعر الجدير بأن يعاصر الفيلسوف (ديكارت). كان الفيلسوف يبرهن على وجوده بالفكر فيقول: (أني أفكر، إذن أنا كائن، وكان الشاعر يبرهن بالفكر على الحساسية المحركة والحياة، فكل شخص في قصصه يقول أني أفكر، إذن أنا شاعر حي).
وكل ما يعاب على كورني انه لم يصور المرأة في قصصه تصويرا طبيعيا. وذلك لانه لم يحب قط، ولم يسبر غور القلب النسوي، وكل أبطاله النساء لا تمت إلى الطبيعة إلا بصلة ضعيفة لانه خلقهن من إدراكه لا من تجربته وملاحظاته.
كان كل همه أن ينتج الإعجاب بالفضائل. وقد بلغ غايته بجعل الواجب يناضل الهوى ثم ينتصر عليه. أي انه بلغ غايته بتصوير البطولة احسن تصوير. وهذه الغاية أرغمته في بعض الأحايين على أن يبالغ في قوى أشخاصه ويعلو بهم فوق الضعف الإنساني ليحيلهم إلى أبطال.
وقد اعجب (فولتير) في القرن الثامن عشر بكورني إعجابا شديداً، حتى انه تبنى بنت أخته وزودها بمهر ثم زوجها. ونشر كتب كورني وشرحها، وقال في المقدمة: (الشرح الوحيد لكتب كورني يجب أن يكون بكتابة هذه الكلمات في اسفل كل صحيفة: جميل. جليل. إلاهي!).
وطبعي أن ينهض كورني بالمسرح الفرنسي لانه جاء في عصر زاهر مهيأ لهذا النهوض. إن المسرح من انفع وأنبل ما ابتكر العقل الإنساني لتهذيب العادات وصقل الخلق. لا يمكن أن يصل إلى كماله إلا عند ما تبلغ الجماعة نفسها قمة مدنيتها. ولهذا يتكون الفن الدرامي دائما في بطء بينما يظهر الشعر الحماسي والغنائي في طفولة الأمم بقوة اكثر مما يظهر في عصر نضجها. لان شعراء الملاحم والغناء يستطيعون أن يسلموا أنفسهم إلى جرأة عبقريتهم، وبهذه الجرأة يسبقون القرون. أما شعراء الدراما، ومهمتهم كما نعلم تهذيب الجماهير وإشعال الحماسة في نفوسهم، فأنهم مرغمون على أن يلائموا عبقريتهم مع عادات العصر الذي يعيشون فيه. ولذلك نرى أن الجماعة التي تبلغ شأوا بعيدا في المدينة، لا يشغل المسرح من أدبها إلا مكانا ثانويا. فإذا اقتربت من نضجها، اخذ المسرح مكانه في(39/52)
الصف الأول من مدرسة الإدراك. وهذا ما حدث في فرنسا في القرن السابع عشر، وما حدث في بلاد الإغريق قبل أن يأتيهم سفوكليس وأوربيدس واريستوفان واسنحيلوس. فقد كان للفرنسيين جودل وبايف وهاردي قبل ان يكون لهم كورني وموليير وراسيين.
وإلى القارئ نبذة من خطبة راسين التي استقبل بها (توما كورني) لما صار عضوا في مجمع العلماء تلخص رأي هذا الشاعر في حالة المسرح الفرنسي قبل كورني ورأيه في كورني نفسه: (أي اضطراب وأي شذوذ يسود المسرح قبل كورني! كان الذوق مفقودا ومعرفة الجمال المسرحي مجهولة. وكان الجهل المعيب يجمع بين المؤلفين والنظارة. وكانت جل الموضوعات تحمل سمة الهوس، وعارية من الصدق. وكانت الألفاظ نفسها اكثر قبحا من الحوادث. وخلاصة القول، إن قواعد الفن حتى قواعد النزاهة والأدب كانت فريسة الفتك والعدوان، في هذه الطفولة أو على الأرجح وسط هذا العماء الذي كان يخيم على الشعر الدرامي في بلادنا، جاء كورني. وبعد أن جاهد وناضل الذوق الدميم مزوداً بسلاح العبقرية ومعتزاً بقراءة القدامى، أظهر على المسرح العقل تحف به أبهة اللغة وروعة البيان، فطغى صوته على صوت منافسيه فأخفاه. ولما يئسوا من بلوغ مكانته عمدوا إلى تسفيه كتبه، وحاولوا أن ينالوا بالنقد الطائش من جدارته، ولكنهم فشلوا وحاق بهم مكرهم السيئ. السيد وسنا وهو راس، ملأت الأسماع وهزت أوتار النفوس وترجمت إلى عدة لغات، ستظل حية على مر العصور في أفواه الناس، كورني فن وقوة وبراعة، وخصوبة ونبل وعظمة).
هذا كلام راسين الذي كان ينافس سلفه، وهو قول حق. وعند ظهور كورني، كان قد مضى على الناس ما يزيد على مائة عام وهم يعالجون التفكير ويتألفون الشعر والنثر دون أن ينجحوا النجاح المرجو. وعبثا نهبوا مؤلفات الأقدمين ومسخوها، وعبثاً سرقوا من لوكريس وفرجيل وهوراس وسنيكا أو من الإيطاليين والأسبان. وعبثا انتحل كتاب النثر لأنفسهم من سيسرون وبلوطارخوس. ثم جاء كورني وديكارت فحررا اللغة والفكر الفرنسي من ربقة الإغريق والرومان، فهما أول من أعطى للأدب الفرنسي صبغته الخاصة وطابعه القومي. فالسيد و (رسالة في المنهج) لديكارت يعينان عهدا جديداً في تاريخ الأدب والفكر الفرنسي. فقد كسرا أغلال اللغة وكانت أسيرة في أطلال اللاتينية، وأنقذا الفكر من محنته وكان يريد(39/53)
ذلك ولا يستطيعه. وبفضلهما وجد في أوربا كلها بين كل الذين يقرأون ويكتبون أداة عامة جديدة للتفاهم. هي لغة ديكارت وعلى الأخص لغة كورني التي سادت من عام 1648 تحرير معاهدات التحالف والصلح، وأصبحت آخر الآمر اللغة الوحيدة تقريبا للأدب والفلسفة والعلم. وكما يفخر الرومان بان عصر أغسطوس انتج هوارس وفرجيل، كذلك يفخر الفرنسيون بان عصر لويس الرابع عشر اكبر ملك حكمهم، انتج اكبر شاعر لهم هو كورني.
ونختم هذا المقال بكلمة نابليون: (القصة التمثيلية تشعل النفس، وتسمو بالقلب، وتخلق دون ريب أبطالا. وإني اجهر بأن فرنسا تدين لكورني بجزء كبير من أعمالها المجيدة. إن القصص التمثيلية مدرسة عالية لعظماء الرجال، ومن واجب الملوك تشجيعها ونشرها. ولو كان كورني حيا في زمني لجعلته أميراً).
وما قيمة اللقب الرسمي في جانب اللقب الذي ناله من الشعب وهو كورني العظيم؟! ولماذا وهبه الشعب هذا اللقب؟ لانه جاءهم بقصته السيد، وهي الحب في اجمل اثوابه، وبقصته سنا، وهي السياسة في أسمى اشكالها، وبقصته بولكيت، وهي الدين في أروع مظاهره، والحب والسياسة والدين هي (ثالوث) القلب الإنساني.
حسن صادق(39/54)
البؤساء
لفكتور هوجو
في سنة 1862 اخرج فكتور هوجو روايته الخالدة (البؤساء) وكان قد لبث مدى ثلاثين عاما يفكر في أن يكتب كتابا في صنوف البؤس التي يعانيها الشعب ويستجمع له شوارد نظرياته الأخلاقية والسياسية فلم ينضج مشروعه إلا بعد أعوام طويلة من التأمل والبحث، وكان مشروع كتابه الأول يتألف من أربعة أقسام بسيطة هي:
قصة قديس (وهو الراهب ميريل) وقصة رجل (وهو جان فالجان) وقصة امرأة (وهي فانتين) ثم قصة دمية (وهي كوزيت).
ونظم فكتور هوجو هذه الأقسام الأربعة في سلك رواية طويلة متناسقة ساحرة البيان والمعنى، تثير في كل موقف من مواقفها وكل صفحة من صفحاتها أسمى العواطف الانسانية، وتبعث فيه كوامن الإشفاق على جان فالجان الذي دفعه البؤس وحده إلى سرقة رغيف من الخبز، والذي ينبض فيه قلب رجل خير كريم مخلص، والإشفاق على فانتين تلك الفتاة المسكينة التي أغويت ثم نبذت والتي تبيع حتى شعرها وأسنانها لتطعم ابنتها، ولا تبيع شرفها إلا نزولا منها على حبها الأموي، والإشفاق على تلك الصغيرة المسكينة التي تعاني على يد أسرة تاردييه أمر ضروب الاضطهاد والذلة، ثم الإشفاق والحب نحو البؤساء والمساكين الذين يمثلهم القس ميريل، وصلابة الواجب الذي يفهم على غير وجهه في شخص الشرطي جافير.
وهيكل القصة الأولى مؤثر، فهو يتلخص في مكث جان فالجان بالمنفى وفي تحريره، وفي توبته وعيشته رجل خير محب للإنسانية في معمل الزجاج، ثم موت العاملة فانتين، ودخول ابنتها كوزيت في أسرة تاردييه، ثم قضية شان مايتو واتهام جان فالجان لنفسه وتسميه باسم مادلين، ثم أعادته إلى المنفي حيث يفر فيطارده الشرطي جافير ويلتجئ إلى محلة (بتي بكبيس). وتسير القصة بعد ذلك في نسق رواية بوليسية يتخذ معظم أشخاصها أسماء مستعارة وتكثر فيها المفاجئات الغريبة وتأخذ القارئ أخذا عنيفا بمواقفها الشائقة.
وقد عنى فكتور هوجو بأن يلزم جانب الحقيقة دائما في قصته وان يقدم فيها لقارئه أشخاصا حقيقين وأوصافا دقيقة، وحوادث معقولة، فأما القس ميريل فهو يمثل شخصية(39/55)
حقيقية عاشت وعرفها فكتور هوجو ودرسها منذ سنة 1829 وهي شخصية المونسنيور ميوليس أسقف (ديني). المونسنيور ميوليس قد آوى ذات يوم مجرما بائسا يدعى بيير موران وحمله على التوبة وانتهاج سبيل الخير. وقد وقعت معظم الحوادث التي يقصها فكتور هوجو حقيقة في أسقفية (ديني)، سنة 1806، وهي حوادث يلخصها الواعظ إنجيلان فيما يأتي: - (في ذات يوم من أيام سنة 1806، دخل بيير موران وهو مجرم افرج عنه، مدينة ديني نحو الساعة الخامسة مساء بعد أن قطع يومه سائراً، وكان في السادسة والعشرين من عمره، فلما رده جميع أصحاب الفنادق، وأنهكه الجوع والتعب، قصد بناء على نصح سيد عجوز، باب الأسقفية وطرق الباب طرقا عنيفاً، فلبث الأسقف هادئا، ونزلت خادمته روز شاحبة مضطربة وهي تقول - رباه! من ذا الذي يطرق بهذا العنف؟ ودخل بيير موران، ولم يكن في هيئته ما يطمئن؛ ومع ذلك فقد كان يبدو عليه الوجل والحيرة وعذاب المسبغة، وكان وجله يتعارض مع كتفيه العريضين ووجهه القوي، وكأنهم جبينه ينضح عرقا؛ فراعه محيا القس الوديع وغمغم بعبارات لا تفهم، فهدأ القس روعه وخاطبه بتلك البساطة التي تذهب إلى أعماق النفس؛ وقدم إليه العشاء وهيئت له غرفة للنوم. . .) وشعر بيير موران انه قد تغير وغدا شخصا آخر، فدخل ممرضا بمستشفى متنقل؛ وكان قويا متين البنية مثل جان فالجان، فكان يؤدي عمله كالابطال، وحمل بين يديه ضابطا جريحا، ثم عاد بعد ذلك إلى منزل القس واحب ابنة أخته وخادمته روزالي، ولكنه لم يجرؤ على طلب يدها، فأختفى وقتل في موقعه واترلو ولم يقتصر فكتور هوجو على أن يتحرى الحقيقة بالنسبة لأبطال روايته، ولكنه ذهب إلى تحريها في أوصافهم وأخلاقهم وفي الأوساط والبيئات التي عاشوا فيها مستندا في ذلك إلى وثائق دقيقة. وتبدو عنايته الشديدة بالبحث والدرس حينما يقص حوادث موقعة واترلو، فقد زار مسرح الموقعة الشهيرة ودرس خططها وأماكنها واوضاعها، ورجع في حوادثها إلى تواريخ العصر وسيره ووثائقه.
والحقيقة ان (البؤساء) اكثر من رواية واعظم من قصة؛ (فالبؤساء) بموضوعها وأوصافها قصيدة رائعة للبؤساء، ترتفع إلى السمو، وتشدو فيها العواطف البشرية، ويمثل شدوها في صورها؛ هي تنبؤ بليغ حي، هي نوع من الوعظ الدنيوي يضطرم بنبرات رسول؟(39/56)
العلوم
ماء جديد
للدكتور أحمد زكي
الماء من اقدم أشياء هذا الوجود، فهو لاشك سبق الإنسان وسبق الحيوان، ولاشك سبق النبات، أليس من الماء كل شئ حي؟ هكذا قالت الكتب السماوية، وعليها آمنت الكتب الفلسفية فالعلمية. وقد أدرك خطر الماء الحكماء في العصور الخالية، فعدوه رابع أربعة من جواهر حسبوا الكون بما فيه تكون منها، ومنها فحسب، بنسب تكبر وتصغر فيتألف منها الجسم الذي ترى بخواصه التي تعرف. وجرت على هذه العقيدة قرون تلتها قرون. حتى جاءت الكيمياء الحديثة بعناصرها ومركباتها، وجاءت بجزيئاتها وذراتها، فأفسدت على الحكماء حكمتهم، وطاحت بالأصول الأربعة التي فرضوها على الوجود، وأثبتت إن الماء مركب من عنصرين الأيدروجين والأوكسجين، بنسبة وزنية ثابتة. نعم قد يتغير الماء لونا وطعما وكثافة، فقد يتملح وقد يتطين وقد يتغوز، فالغازات تذوب بالماء كما تذوب الأملاح، ولكن إيت بالماء من الأرض أو من السماء، على أي حال تشاء، ثم رشحه من أوساخه، وقطره ليخلص من املاحه، واتبع لنقائه أموراً أخرى عديدة تجدها في مفصلات الكيمياء، ثم حلله تجد نسبة الأيدروجين الذي فيه إلى الأوكسجين ثابتة لا تتغير.
هذه بديهة من بدائه الكيمياء، فرغ منها العلماء من زمن، أو حسبوا انهم فرغوا منها. بديهة تسئمك قراءتها بلا شك، كما تسئمني أنا كتابتها، لولا إن البدائه كثيراً ما تنتابها الشكوك فتعكر عليها الهادئ في هذا الوجود المضطرب، حتى بدائه العلم.
إن الأيدروجين أخف الغازات المعروفة، وذرته أخف الذرات. ومن اجل هذا اتخذ وزن ذرته وحدة تقاس بها ذرات العناصر جميعاً. ولكن هذه العناصر إن اتحد بعضها بالأيدروجين فأمكن إيجاد ذرته، فأن الكثير منها لا يتحد به وإنما يتحد بالأوكسجين، فيمكن عندئذ احتساب وزن ذرته منسوبة إلى ذرة الاوكسجين، ولكن المراد نسبتها إلى الأيدروجين حتى يكون اصل النسب واحد، فكان لابد من احتساب كم من الأيدروجين يتحد بكم من الأوكسجين واحتساب ذلك بدقة كبيرة لان هذه النسبة سيتوقف عليها ضبط نسب أخرى عديدة.(39/58)
اتجه الكيمياويون إلى احتساب هذه النسبة الخطيرة، وهي النسبة التي يتكون بها الماء الذي تشربه واشربه، وفي كل عقد وفي كل عام يخرج الباحثون بنسب متقاربة كل التقارب، إلا أن بينها فروقا صغيرة لا تفتأ تظهر عند الحساب! خطأ في الميزان يا صديقي، وفرق لابد منه مادامت يد الإنسان العاجزة تقوم بهذه التقارير، وأجهزته الناقصة هي كل حيلته في الوصول إلى بغيته. حسنوا الأجهزة، ودققوا في صنع الموازين، واتخذوا كل حيطة إنسانية لمنع الخطأ أن يتسرب، ولكن هيهات ان تتفق الأرقام الناتجة.
حتى كان يوم قريب قدروا فيه هذه النسبة من جديد، فتبين لهم من الأسباب ما حملهم على الاعتقاد ان الخطأ ليس في التقدير، ولا عجز في الإنسان ولا في نقص أجهزته، ولكن في الفرض الأساسي الأول: إن ذرة الأيدروجين ثابتة الوزن، وان ذرة الأوكسجين ثابتة الوزن.
عرفت الكيمياء في السنوات الحديثة، إن العنصر الواحد قد تتشكل ذرته من تشكل واحد. فالزئبق والكلور والبروم والكربتون والزينون وكثير غيرها لكل منها شكلان فأكثر تتفارق في الوزن تفارقا صغيرا وتتقارب في الخواص تقاربا كبيرا. وإذن فلم لا يتشكل الأيدروجين أو الأوكسجين أو كلاهما مثل هذا التشكل؟ لم لا يكون للأيدروجين ذرتان، ذرة خفيفة وذرة ثقيلة، وإذن لم لا يكون للماء جزيئان، جزئ خفيف وآخر ثقيل، اعني لم لا يكون الماء مائين، ماء ثقيل يليق بالحلاقيم الغليظة للجنس الخشن من الرجال، وماء خفيف يتفق والجنس اللطيف من الآلي يدميهن الحرير ويؤذيهن النسيم.
العلم يتخيل فيخال، وإذا بالخيال حقيقة. وتلك الحقيقة أتثبتها الأستاذ لويس وذلك بأن أمر التيار الكهربائي في الماء يحلله على ما هو معروف إلى عنصريه، فأثبت إن الأيدروجين الخفيف هو الذي يصعد من الماء أولا، وانه عندما يتحلل اكثر الماء تتبقى منه بقية صغيرة هي الماء الثقيل الذي يحتوي الأيدروجين الأثقل. أعيدت هذه التجربة بصورة أكبر فنتج عنها ماء ثقيل أكثر تركزاً. وخالوا أن الذي يأتي به التحليل بالكهرباء يأتي به التقطير بالنار، فقطروا الماء فحصلوا على نفس النتيجة. كم من ألوف حللو الماء، وكم من ألوف قطروه في الأجيال المنصرمة، وفاتهم جميعا كنه ما يصنعون.
ومن الغريب أن هذا الماء الجديد سم. نعم سم برغم ان الماء اصل الحياة. وضعوا فيه(39/59)
فراخ الضفدع فماتت في ساعة، ووضعوا فيه سمكا فمت في ساعتين، ووضعوا فيه دودا فمات في ثلاث. ولكن بالطبع كان هذا (الماء الثقيل) مركزا تركيزا كبيرا، فقد كان تركيزه 92 في المائة. ولما أضافوا إليه (الماء الخفيف) حتى بلغ تركيزه دون الثلاثين في المائة عاشت فيه كل هذه الأحياء (والماء الكثيف) يوجد في الماء الشرب العادي بقدر جزء واحد في كل 25 ألف جزء أو نحو ذلك. فهو لا اثر له في الإنسان. بل على النقيض قد يكون فيه نفع له. أليس كثير من العقاقير كالزرنيخ والأستركنين سما زعافا. ومع هذا يعطى للمرضى بمقادير صغيرة فيكون فيه الشفاء من أدواء؟ على أن اثر هذا الماء الجديد في الأحياء الراقية ومنها الإنسان لم يمتحن بعد، فالحصول على المقدار الكافي منه لا يزال عملا عسيرا.
ويختلف (الماء الثقيل) في خواصه الطبيعية عن الماء العادي، فهو لا يتجمد على درجة الصفر المئوي بل في نحو درجة 4، وهو لا يغلي على المائة بل على نحو درجة 101. فإذا ذكرنا أن درجة الصفر ودرجة المائة إن هي إلا درجات اصطلاحية، تعريفها أنها درجة تجمد الماء ودرجة غليانه على التوالي، حق لنا أن تبتسم ابتسامة خفيفة لما حاق بعلم الحرارة من إخلال بأساسات مقاساته، وقد كان عدها الفيزيائيون ثابتة تزعزع الجبال وهي لا تتزعزع.
ونال الفيزيائي غير هذا إخلال جديد في أساس أوزانه. فالجرام ما هو؟ أليس هو وزن سنتيمتر مكعب من الماء ولكن أي ماء، ثقيلة أم خفيفة؟ على أن هذه إختلالات لا تؤثر في حوائج العلم العادية، ومطالب الحياة الجارية، فعين الإنسان قاصرة، ترى الكون كتلا كبيرة ولو ظنتها جسيمات صغيرة، ويده تحس الكون كذلك كتلاً، وانفه يشم الكون أجمالا لا تفصيلا، وأذنه تسمع أنغامه وتظن أنها تستطيع إدراكها نغمة نغمة، ولو إن كل نغمة منها أنغام تحتوي انغاماً، وهو مستمتع في كل هذا بقصور حواسه، قانع برؤية الوجود غبشا وضبابا، مادام لا يحس انه غبش وضباب، فلننس ما كان من تحقيق العلماء وتدقيقهم، ولنشربه زلالا سائغا خفيفه وثقيله، وعلى الدنيا وعلى العلماء العفاء.
احمد زكي(39/60)
القصَص
قصة شابة ريفية
المجنونة
للأستاذ علي الطنطاوي
قالت ربة المنزل، وقد حف بها أولادها وأحفادها، وجلسنا نحن على مقعدين نصبوهما لنا في صدر الغرفة:
قالت أصغوا ألي فأني قاصة عليكم الليلة قصة واقعة. شاهدت حوادثها بعيني رأسي. ولا يزال أشخاصها أحياء يرزقون، وليس كل ما تمتاز به أنها واقعة، ففي الواقع كثير من التوافه، ولكنها تمتاز بأنها مؤثرة وان فيها عبرة.
كنت صغيرة لا أكاد أدرك. . .
إذن فالقصة منذ ستين سنة على الأقل!
فرمت المرأة صديقي بنظرة تأنيب على هذه الإهانة التي تلقاها بها، واستمرت في حديثها:
. . . كنت بنت سبع سنين يوم دخل (رظا) أفندي البلد. وأني لا ذكر ذلك بوضوح على الرغم طفولتي وقدم العهد. . . لان بلدنا كان يومئذ معتزل العالم، وكان مرور الجند في البلد. أو زيارة غريب أو سفر أحد الفلاحين إلى دمشق، يعد حادثا تاريخيا يلهج به الفلاحون شهورا. ويتخذون منه مادة لأحاديثهم في أسمارهم، وكان اليوم جمعة فلم يرع الناس وهم منصرمون من الصلاة إلا شبح شخص يلوح في الحرة المحيطة بالبلد، ثم يبدو واضحاً وإذا هو رجل طوال منحن يمسك بيمناه عصا طويلة قد علق بها صرة كبيرة، ويجر بيسراه طفلة له، وكانا يجدان عناء في تسلق هذه الصخور والقفز على هذه الأحجار السوداء الحديدة الجوانب، حتى أن الطفلة سقطت اكثر من مرة. فكان الرجل يقبلها، ويصب في أذنها كلمات حلوة معسولة، ويشير لها إلى البلد، فتعاود المسير يحفزها أمل بارق، في ظلام من اليأس تجمع الناس في رحبة البلد، ينظرون إليهما، وتطوع فريق منهم للأخذ بأيديهما ومساعدتهما، واخذ رجل حماره ليركبهما، وعمد آخر إلى شئ من الخبز والجبن وقمر الدين فأخذه إليهما زاعما إنما قد حطمهما الجوع، وحملت امرأة جرة ماء(39/61)
مؤكدة أن ليس بهما جوع ولا تعب. ولكن الضرب في هذه الحرة المحرقة ثلاث ساعات من الكسوة إلى زاكية، ثلاث ساعات في هذه الظهيرة اللاذعة قد قتلهما عطشا.
ولم تشأ المحدثة أن تثبت هذه المناسبة دون أن تعظ أولادها وتصف لهم جلال الأخلاق الماضية وجمالها فقطعت قصتها وقالت:
أرأيتم؟ هكذا كان الناس: يساعدون الغريب يواسونه بنفوسهم، لا كما تصنعون انتم اليوم.
فقلت: ولكن الرجل؟ هل أكل ما حملوا إليه من طعام؟
قالت: كلا، كان مريضا فلم يأكل شيئا. أما البنت فقد كانت سابغة لاغبة. فأكلت وشربت ثم نامت مكانها من التعب.
حملوا الرجل وابنته إلى دار الشيخ، وكان المرض والضعف قد بلغا بالرجل. فأرادوه على الطعام ليشتد أزره فأبى. فعرضوا عليه الدواء الذي يتخذونه لمثل علته فرفض أيضا: - لا أريد. لا أريد شيئا. لا تفكروا في. أني ميت. قد انتهيت، ولكني موصيكم بهذه الطفلة فهي أمانة في أعناقكم. . لقد غالبت الموت حتى بلغت بها هذه القرية، قد حملتها فوق ما يطيقه إنسان، لقد جابت معي البلاد كلها من القسطنطينية إلى هنا، من القسطنطينية إلى زاكية في ست سنين لم نذق فيها ليلة هناء واحدة.
وأطبق عينيه وفمه. وسكت، وحاولوا أن يفهموا منه شيئا آخر فلم ينبس. واعترته حال غريبة لم اكن اعرف يومئذ ما هي، ولكني فهمت منها، ومن صوت الرجل الذي خرج خافتا رهيبا كأنه خارج من قبر، ومن وجهه الشاحب المخيف، وأنفاسه المتقطعة ولهجته الغريبة، انه ليس كمن أرى من رجال، وان له شأنا. . . ولكني لم استطع البقاء اكثر مما بقيت فعدت إلى الدار كيلا تضربني أمي.
وفي الصباح سمعت إن الغريب قد مات - مات ليلة قدومه كأنما قد طوف في بلاد الله هذا التطوف لينام إلى الأبد على هذه الحجارة السوداء، ويستمتع بحلم طويل اثر رحلة شاقة!
بقيت الطفلة وحيدة فكفلتها زوجة شتيوي، وكان شتيوي من شيوخ البدو المقيمين في هذا البلد. وكان غنيا موسرا، ولكن زوجه عاقر لم تأته بولد طيب صالح يعلمه الفروسية والرمي، ويستخلفه في أهله وماله، على الرغم من أنها راجعت الأطباء والمنجمين والمشايخ والمشعوذين في دمشق وفي قطنا، واصطنعت عشرات الأدوية والتمائم فلم ينفعها(39/62)
ذلك كله فتيلا. فيئست. . . ولما كفلوها هذه الطفلة تلقتها بسرور. واتخذتها ابنة لها. . .
كانت الطفلة في التاسعة من عمرها يوم مات أبوها. فلم تلبت في بيت شتيوي سنين حتى نمت واكتملت، وغدت اجمل فتاة في البلد، ولكنها كانت غريبة عن نساء البلدة فهي شقراء، لها عينان زرقاوان، وجسم متناسق جميل، كأنما هي إحدى الفتيات اليونانيات اللاتي عرفناهن في حي المهاجرين في دمشق.
بل كأنما هي ديان، غادية إلى الصيد!
وكانت تجول كل يوم في هذه الصخور؛ لا كما يجول نساء دمشق إذ يمشين متباطئات متكاسلات نصف ساعة في طريق المنشية، أو في شارع بغداد، ثم يعدن في عربة، بل كما يجول الراعي النشيط ساعتين أو ثلاث تقفز فيها كما تقفز الغزال الشارد، كأن لها خفته وملاحته.
وكانت غريبة في طباعها وأخلاقها، كما كانت غريبة في شكلها، وصورتها، فلما اكتملت أنوثتها وتفتحت زهرة الحب في قلبها، لم نجد لها قاطفا، إذ لم يكن في الناس من يجرؤ على الزواج بفتاة لقيطة لا تعرف أسرتها ولا يعلم نسبها، فضلا عن إنها تقرأ، وإنها قد قرأت كل ما كان مع أبيها من كتب وحفظت ما فيها من كفر وترهات.
كانت الفتاة تعود إلى البيت حينما تعود الشمس إلى خدرها، فتملأ البيت طربا ومرحا، فلما كان ذلك اليوم الذي قلب عليها حياتها، لم تعد إلا في ظلمة الليل، وكانت تهبط الصخر بحذر تحمل شيئا ثقيلا حتى بلغت الدار فولجتها وقد أنهكها التعب، ولكنها كانت هاشة باشة ككل فتاة في السابع عشرة من عمرها، فوضعت حملها برفق على إحدى الأرائك، وقالت لامها في سذاجة:
هاك زوجي، وجدته طريحا عند الصخرة الشرقية. وقد أغمى عليه من هذا الجرح، ستعنين به اجمل عناية حتى إذا ما شفي تزوج بي. . . أليس كذلك؟
فهزت المرة رأسها وقد حدثها قلبها وقلب المرأة (ترمومتر) الحياة - بكارثة، ولكنها لم تجد مجالا للقول فانصرفت إلى العناية بالجريح - وكان ضابطاً ألمانيا جميلا قد خرقت صخرة قذاله وشجته شجا عميقا. ودعت المرأة زوجها فشرع يعالجه بالبلسم والحراقة وما إليها من الطرق البدوية التي قلما تخطيء في مثل هذه الحالات. والفتاة متعلقة به تسأله عن مبلغ(39/63)
الأمل في شفائه، وترجوه ألا يدخر وسعا في معالجته، لأنها تود شفاءه ليكون لها زوجا، ولما تمت العملية ألقت المريض على سريرها. وألحت على الرجل وزوجه أن يدعا خدمته لها. ففعلا.
جثت أمام السرير كما يجثو العابد في صلاته. وراحت تتأمل وجهه وعينيه المغمضتين في ذهول عميق ونشوة غريبة. وتجرؤ أحيانا على مس شعره الأشقر المتهدل على العصابة مسا رقيقاً، كما يمس المرء شيئا يقدسه ويخشاه ثم تقبض يدها في سرعة. . .
نديدة! نديدة!
نعم يا بابا
ألم تنامي بعد؛ دعي المريض فانه لن يفيق من غيبوبته قبل الصباح
نعم سأنام
ولكنها لبثت جاثية أمام السرير
لبث الرجل وزوجه ينصحانها. يحاولان أن ينزعا غرس الحب من قلبها قبل أن يقوى ويشتد، فكانت تعرض عنهما وتعيد أبداً كلمتها الأولى: هذا هو زوجي.
مر على هذه الأمسية عشرون يوما لم تفارق فيها الفتاة الضابط ولم تعد تجول كما كانت ولم تعد تفكر في شئ. . . وكان الناس يتساءلون عن صلة هذا الإفرنجي الكافر بأسرة شتيوي، فإذا قيل لهم انه مريض وانهم يعالجونه. انصرفوا إلى أعمالهم ساخرين.
وصحا الضابط وذكر كيف خرج يتصيد فجره الصيد إلى هذه القرية، وكيف زلت قدمه فوقع من ذروة الصخرة، وأحس بالدم الحار يسيل على عنقه، ثم لم يعد يذكر شيئا. . . إلا انه فتح عينيه فوقعتا على عيني فتاة جميلة، حسبهما في الوهلة الأولى، عيني زوجته الفاتنتين الزرقاوين، وانه وجد نفسه على سرير نظيف محاطا بالعناية والعطف، وانه لبث ينظر إلى الفتاة في صمت وخشوع وشكران نظرات طويلة، ثم مد يده إلى يدها الرخصة اللينة فأخذها إلى فمه، ليخط عليها أول كلمة من القصيدة التي تضطرم بها نفسه، قصيدة الشكر للجميل، والشوق للجمال، وان الفتاة لازمته بعد ذلك ملازمة الظل، وحرصت على سروره وهنائه، فكانت تحدثه أطيب الأحاديث البدوية وألذها، فكان يجيبها بعناء ومشقة، لضيق العربية عليه، ويعجز ان يأتي بالكلمة المناسبة فيأتي بها بالألمانية فتفهمها الفتاة(39/64)
وهي لا تعرف من الألمانية كلمة، كأنما هي في قلبه، أو كأنما هو - وذلك اصح - في قلبها، ولكن شيئا من ذاك لم يتجاوز في رأيه صلة المجاملة والمتعة بالجمال.
أما الفتاة المتفتحة للحب فقد كانت ترى في هذا كله علامة على الحب الصادق الذي كانت تتوق إليه وتحلم به. وقد ابتغى لها الضابط شتى المعاذير في هذا الموقف حينما اخبره به الشيخ شتيوي، وأعطاها كل الحق في أن تحب. أما أن تصر على اتخاذه زوجاً لها وهو الرجل الألماني المتزوج، وهو الموظف الذي لم يبق من إجازته غير أسبوعين. فأمر مضحك لم يستطع برغم احترامه لشتيوي وشكره إياه إلا أن يتلقاه بقهقهة طويلة مجلجلة.
ما هي جريرتي إذا هي قد أحبتني؟ لم أني أشجعها على هذا الحب. ولم اقطع لها أي وعد بالزواج. وما وقفت منها إلا موقف الرجل المهذب الشاكر. ففسرت ذلك بأنه الحب.
ولكنه تألم إذ يحمل إلى الفتاة التي حملت إليه البرء والحب الألم واليأس. وجرب الإعراض والإساءة إليها علها تنساه. وتنقطع هذه الصلة بينهما من غير أن تخلف وراءها قلبا داميا. فلم يفده ذلك شيئا، وازداد حب الفتاة اضطراما. فأزمع السفر مضطراً وأزف الوداع فتعلقت به وأبت أن تفارقه. وأعرضت عن كل نصيحة، ولم تنفع فيها موعظة ولا زجر. فاقتربت زوجة شتيوي من الضابط وهمست في أذنه كلاما فعاد طلقا مستبشراً. فامسك بيدي الفتاة بحنو وقال لها:
ساعود لأتزوجك. فدعيني اذهب لأعد عدة الزواج. سأعود. . . فتركته الفتاة مصدقة ووقفت على الصخرة التي لقيته عندها تبكي وتشير إليه بمنديلها حتى اختفى. فعادت إلى البيت تقول لامها:
لقد وعدني ان سيعود. سيتزوجني!
نعم سيعود!
مر شهران تصرّم فيهما صبر الفتاة. فكانت تمضي نهارها حيال خريطة قديمة كانت بين كتب أبيها تنظر فيها. وتحاول أن تعرف أين تقع ألمانيا من وجه الأرض، وكم هي المسافة إليها. ولكنها لم تكن تعرف شيئا عن البحار ولاعن الوسائط النقلية. فكانت تصوراتها لا تعدو أن تكون أحلاما مبهمة.
وكانت تبكي بكاء خافتا وهي مكبة على الخريطة. وتستعيد في نفسها صورة الضابط(39/65)
وصوته وحركاته. ثم تعاود البكاء والنشيج، أما هو فقد نسيها. ولم يذكر اسمها إلا مرة واحدة. في كتاب أخرجه عن الشرق.
وقطعت المرأة حديثها لان الباب قد انفرج عن عجوز منحنية على عصا طويلة تصرخ صراخا مزعجا. وتهذي بكلمات مبهمة. ووراءها سرب من الصبيان يقرعون بأيديهم الحجارة ويصيحون مج. . مج. . مجنونة! مج. . مج. . مجنونة!
فلما نجت منهم، ألقت بنفسها على عتبة الباب، وجلست تبكي بكاء أليما. . .
فهمست في أذن ربة الدار:
من هذه المجنونة؟
إنها صاحبة القصة يا سيدي. .!
دمشق
علي الطنطاوي(39/66)
2 - شهر بالغردقة
للأستاذ الدمرداش محمد
مدير إدارة الامتحانات والسجلات بوزارة المعارف
مدير المحطة الدكتور كرسلاند كما أسلفنا وهو عالم بيولوجي له خبرة حسنة بحياة المرجان وأجناسه وتطوراته، وهو في العقد السادس من عمره، طويل القامة، صحيح الجسم، وسيم الوجه، لطيف المعشر، إذا تكلم رفع صوته لثقل في سمعه، وهو جم النشاط تجده في المعمل، ثم تراه في المكتب، ثم تلقاه في الطريق، ثم تعثر عليه في الجراج، ثم تبصره في البحر، ثم تعلم انه في مركز الشركة ينظم وسائل نقل الماء مثلا، وهكذا فهو حركة دائمة تلقاه في كل مكان. ولعل من احسن فضائل الرجل حبه الشديد للمحطة ورضاه التام عن حالة العزلة التي يعيش فيها.
كان الجو طوال المدة التي مكثناها بالغرفة معتدلا، فلم تتعد درجة الحرارة في معظم الأيام درجة الثلاثين على الترمومتر المئوي، مع جفاف شديد في الهواء قل أن تجده على شواطئ البحار، ونسيم البحر دائم الانطلاق، وأحيانا يشتد حتى لينقلب في بعض الليالي إلى ريح عاصفة، تثير الأمواج وتهز البيوت وتقلق المضاجع.
وماء البحر بالقرب من الشاطئ دافئ لا يجد فيه الكثيرون ممن ألفوا الاستحمام في الشواطئ المصرية الشمالية متعة البحر ولذته، كما إن السباحة فيه أحيانا غير مأمونة العاقبة لوجود سمك القرش بكثرة في هذه الجهات.
كان الباعث للرحلة عمل مباحث واسعة النطاق على الطفيليات التي تعيش في اسماك البحر الأحمر، وقد استحضر معه الدكتور عبد الخالق بك جميع ما يلزم لهذا البحث من أجهزة علمية ومواد كيميائية، ملأت صندوقين كبيرين من الخشب، وعقب وصولنا وضع الدكتور الخطط الكفيلة بتحقيق الغاية على الوجه الذي أراده، فكان صيادو المحطة يخرجون كل يوم للصيد في قواربهم الصغيرة (الهورى) ويعودون بها عند بزوغ الشمس موقرة بأنواع السمك المختلفة بين صغير وكبير، وعند وصولها يستقبلها الدكتور ومساعدوه، ويشرعون في الحال في ترتيبها إلى فصول ثم تشق بطونها وتفحص محتوياتها بالمجهر بالعناية والتدقيق وطول الأناة التي يستلزمها البحث العلمي.(39/67)
وكانت هذه العمليات المتشعبة وما تستلزمه من كتابة أسماء وتدوين مشاهدات، وضبط أسماء الأنواع وقيد الصفات ورسم الأشكال وحفظ العينات والنماذج، تستغرق اليوم كله، وأحيانا شطرا من الليل، ومع تشابه هذا العمل وتكرار اليوم بعد اليوم فأنه لم يزد الدكتور إلا إمعانا في البحث، وتوافرا عليه من غير كلل أو ملل، فيذهب إلى معمله مع بزوغ الشمس. ولا يفارقه إلا إذا خيم الظلام، وكثيراً ما كان يعود إليه بعد العشاء، مستضيئا بنور شمعة أو مصباح ضئيل لأكمال بحث النهار: همة عالية تدلك على أن الشهرة العلمية لا تأتي الناس عفوا، بل هي غالبا نتيجة الكد والمثابرة والتدقيق والاستقصاء.
3 - اسماك البحر الأحمر
اشتهر البحر الأحمر منذ القديم بالغنى في أنواع للسمك وأجناسه ومقاديره، فهناك في بطن الماء ثروة هائلة لمن يسعده الحظ فيكشف عن وسيلة للتغلب على شعب المرجان التي تحول حتى الآن دون استغلال هذا المورد الخصب استغلالا واسع النطاق.
أما عن الأنواع والأجناس فتبارك الله مبدع الكائنات: سمك صغير رقيق بطول العقدة، ووحش بحري هائل، بطول أربعة امتار، وسمك عريض الفك جاحظ العينين مبطوط الرأس، وآخر استطال فمه كأنه الحربة غارت عيناه وبرزت وجنتاه، وسمك ناصع البياض مع تناسب في الوجه ورشاقة في القد حتى كأنه شركسية من أهل الشمال، وآخر اسود الجلد غليظ الوجه ضائع الشكل حتى كأنه زنجية من خط الاستواء، وسمك مقوس الظهر مدكوك الرأس حتى كأنه القزم، وسمك ممشوق القامة طويل الذيل ممطوط الرأس حتى كأنه العملاق، وسمك رفيع طويل كأنه الثعبان وآخر ممدود الرأس مجنح الزعانف كأنه الطير، وسمك كالصندوق شكلا وهيئة، وسمك على شكل الفرس القافز، وآخر على شكل قطعة من الصخر في اللون وعدم الانتظام، وسمك احمر ذهبي واصفر واخضر وازرق واسمر، وسمك مخطط بخطوط سوداء وبيضاء أو سوداء وصفراء، أو حمراء وزرقاء، أو جمعت هذه الألوان بالطول أو بالعرض، وسمك هادئ وديع، وآخر هائج عنيف، وسمك سام يلسع بإبرة مثبتة في جسمه أو على ظهره أو في طرف ذنبه كأنه العقرب، وبعض هذه الأنواع مسلح بزوج من هذه الإبر واحدة على كل جانب، وسمك يغطي جسمه زغب صغير سام من مادة صلبة كأنه الشوك وهكذا، وقد عددنا من هذه الأشكال مائة وخمسين نوعا وهو(39/68)
قليل من كثير يقطن الأبعاد والأعماق، ولهذه الأنواع أسماء دارجة يعرفها الصيادون، وقلما يخطئون في التمييز بينها مع وجود تشابه كبير بين بعض هذه الأنواع. وهاك بعض الأسماك التي تعيش في منطقة الغردقة بالقرب من الشاطئ نذكرها على سبيل المثال لا لغرابتها فحسب بل لدلالتها: الحجم والجلخ والبشراكة والمعجبية وشك الزور والقضبة والدراك والبومة والسيبيا.
ومن العجيب أن اكثر هذه الأنواع تفقد ألوانها البراقة الجميلة بعد إخراجها من الماء بقليل وتصطبغ بلون اسمر قاتم - وسمك القرش اكبر حيوانات المنطقة واشدها بأسا، وهو كبير الرأس عظيم الجسم واسع الفم حاد الأسنان تهلع من رؤيته الأسماك ويخافه الصيادون، ومنه نوع يهاجم الإنسان ويحاول اختطافه، وربما ينهش منه ساقا أو ذراعا - ومن الغريب ان سمكة صغيرة بطول القدم تعيش طفيلية عليه فيحملها على رأسه لاصقة بجلده تتغذى من فضلات طعامه وهو بذلك راض مسرور.
(4) في حقول المرجان
يفاخر الدكتور كرسلاند بحديقته المرجانية ويشيد بذكرها ويشوقك لزيارتها فكنت أصغي لوصفه الشعري وأنا بين الشك واليقين إلى أن رأيت حديقته بل بساتينه بعيني فقلت في نفسي تالله لقد قصر الرجل، فحديقته اجمل وأبدع مما وصف:
ركبنا (لنش) المحطة صباح أحد الأيام فخرج بنا إلى عرض البحر على مسافة أربعة كيلومترا، ثم وقف بنا أمام جزر متتابعة متلاصقة عنها فجوات كأنها بحيرات، ويغطي سطح الجزر ماء البحر على عمق قليل، فنزلنا من اللنش وأخذنا نخطو فوقها ونحن غائصون في الماء إلى ما فوق الركب، وبعد سير شاق فوق العشب لم يتجاوز بضع دقائق وصلنا إلى شاطئ غاطس تتكسر فوق حوافيه أمواج البحر بشكل يهيج يسر الخاطر، وبعد خطوات أخرى أشرفناعلى جرف مواجه للأمواج يغوص في الماء بأنحدار، ولم تكد تقع عيوننا على سطح المنحدر حتى أرسلنا صيحات الدهش والتعجب: منظر ملك علينا المشاعر، فقاع البحر قد كسته لمسافة كبيرة خمائل كثيفة ذات الوان زاهية جميلة بين حمراء وخضراء وزرقاء وصفراء وسمراء، وقد امتدت على الجوانب وفوق المرتفعات وبين الصدوع على أشكال متباينة متآلفة تخالها خمائل الأزهار في بستان الأمير وقت(39/69)
الربيع.
يتبع
الدمرداش محمد(39/70)
النقد
كتاب النثر الفني في القرن الرابع
تأليف الدكتور زكي مبارك
للأستاذ أحمد أمين
إن كان أخي (المازني) قد استطاع بلباقته أن يكتب عن هذا الكتاب مقدمة بلا موضوع، فلا حاول في مقالي هذا - لموازنة - أن اكتب عنه موضوعا بلا مقدمة، وان هو وقف الكلام عند محاولته أن يأخذ الكتاب من المجلد، فلأصل ما قطع واكتب من حين تسلمت الكتب من المجلد.
أول ما يطالعك من الكتاب شكله وحجمه، فيعجبك شكله، ويبهرك حجمه، وما ظنك بكتاب طبع في دار الكتب على ورق جميل في جزأين يقعان في نحو ثمانمائة صفحة من القطع الكبير؟
ثم المقدمة، وفي الحق أنها لم تعجبني كثيرا، فقد تحدث المؤلف فيها عن نفسه طويلا (فالكتاب أول كتاب من نوعه) (والكتاب أول منارة أقيمت لهداية السارين في غيابات لك العهد السحيق) (والمؤلف أول من كشف النقاب عن نشأة النثر الفني في اللغة العربية وقهر المستشرقين ومن لف لفهم) وهكذا يمضي المؤلف في تعداد أولياته وهي طريقة لا استحسنها ولا أستسيغها، وأظن أن كثيرا من القراء لا يستحسنونها كذلك ولا يستسيغونها، فخير للمؤلف أن يتوارى وراء ما كتب، ويدع الناس يحكمون له أو عليه لا أن يتقدم هو بالحكم لنفسه، ويقطع الطريق على القراء والنقاد، ويعجبني في ذلك ما نقله المؤلف عن نفسه في ثنايا الكتاب عن أبي هلال قال (ومن صفات الشعر التي يختص بها دون غيره أن الإنسان إذا أراد مديح نفسه فانشأ رسالة في ذلك أو عمل خطبة فيه جاء في غاية القباحة، وان عمل في ذلك أبياتا من الشعر احتمل) نعم إن المؤلف لم يرتض هذا الرأي، وأباح إذا جرى مجرى الدفاع والمفاخرة، ولكن الكتاب ليس موضوع دفاع ولا مفاخرة، وإنما هو موضوع تقرير لحقائق يراها ويعرضها على القراء، ثم قد يخالفونه فيها وقد يوافقون، وقد يقدرونها تقديرا عاليا وقد لا يقدرونها. وعلى كل حال فلهم القول الفصل لا(39/71)
للمؤلف، فمن المؤلفين من لم يعجبهما ألف ولم يرقه ما كتب، وإنما كتب الخلود لما قدره الناس لا ما قدره المؤلف - شعر المؤلف بذلك وأراد أن يعتذر عنه (بأنها ثورة نفسية، انطقه بها ما رآه في زمانه من غدر وعقوق) ولكن هل هذا القول يداوي الجرح ويبرئ المرض؟ أخشى أن يحمل الناس على الإلحاح في العقوق والإمعان في الغدر، لان النفس مولعة أبدا بكراهية الحديث عن النفس، ومن طبيعتها أن يحملها إمعان المادح في مدح نفسه على إمعانها في التنكر له وجحد فضله، بل أخشى أن يكون هذا بعينه هو السبب في الغدر والعقوق، فقد اعتادت النفوس ان تقابل الإفراط بالإفراط والغلو بالغلو.
إن يكن المؤلف قد خانه التوفيق في المقدمة فقد صحبه إلى درجة كبيرة في الكتاب، فهو نتيجة مجهود صادق وبحث طويل شاق، أتي فيه بالمقدمة في الموازنة بين الشعر والنثر، ثم تطور النثر من عصر النبوة إلى القرن الرابع، وتكلم في نشأة النثر الفني، والسجع واطواره، وخصائص النثر في ذلك العصر وانواعه، ثم اشتهر الكتاب في كل نوع ونماذج من كتابتهم، وتحليل لأثارهم.
وطريقة بحثه في كل ما بحث سليمة، جارية على الأسلوب الحديث في العرض والنقد واستقصاء ما في الوسع في الرجوع إلى المصادر ومقارنة بعضها ببعض، والشجاعة في إبداء الرأي، والقارئ قد يخالفه في بعض ما قالوا يرى رأيا غير ما ذهب إليه، ولكنه على كل حال يقدر ما بذل المؤلف في تكوين رأيه وتأليف حججه. ثم هو قد وفق إلى آراء جديدة له الفضل في استكشافها ولفت النظر إليها، وآراء صقلها وعرضها في حلة جديدة. وإني إن احترمت الكتاب من الناحية العلمية والعقلية، فإني ناقده من جهة الذوق، وذلك أن الدكتور زكي مبارك كلما رايته أو استحضرت صورته، أشع علي معنى غريبا يصعب تصويره، وربما كان اقرب تصوير له رجل يمسك بيسراه كتابا قيما فيه علم غزير، وأدب وفير، وبيده اليمنى عصا اشهرها، ثم هو يطلع الناس على ما في كتابه من طرف فمن هم أن يفتح فاه بنقد أو مخالفة قنعه بما في يمناه، بل قد يؤمن من الناظر بما يعرض عليه، فلا يعجبه الاستسلام وهذا الإيمان فلا يزال يهيجه حتى يبدأ بالمخالفة أو يظن انه سيبدأ بالمخالفة فيشهر عليه العصا، بل قد يكون السالك على علم بذلك فيتنحى عن كتابه وعن عصاه ويتنحى ناحية أخرى فيسرع الدكتور ليسد عليه المسلك ويأبى أن يفسح له الطريق(39/72)
حتى ينظر في الكتاب، فإذا نظر فالنتيجة محتمة، وإذا لم ينظر فالنتيجة هي هي ايضا، وهي العصا.
هذا ما كان يشعه على الدكتور زكي، فلما قرأت كتابه النثر الفني تأكد هذا المعنى وتجسم، وما ادري أقرأت الكتاب بهذه العين التي تكونت، أو قرأته محايداً وقراءته زادت هذا المعنى وضوحا.
تجلى هذا المعنى في انه يعرض آراء قيمة وأفكارا عنى بدرسها ثم إذا به يطفر فيحتك بمؤلف أو كاتب فلا ينقده نقد عالم لعالم ولكن نقد مصارع لعالم. إن شئت فأنظر إليه وهو يعرض لرأي الأستاذ مرسيه - أستاذه وشيخ المستشرقين في فرنسا - إذ يقول (وهناك رأي مثقل باوزار الخطأ والضلال وهو رأي المسيو مرسيه ومن شايعه) ثم تقرأ رأي الأستاذ مرسيه ومن شايعه، فإذا هو رأي جدير بالاحترام باعث على التفكير، صالح لحسن التقدير، وهبه كان رأيا سخيفا وفكرا تافها، وقولا لا يؤبه له، فليست هذه لغة العلماء في النقد، ولا طريقتهم في الرد.
نعم قد يكون نقدهم في بعض الأحيان لاذعا، ولكنه - على كل حال - يصاغ بلباقة، وقد جرى المؤلف على هذا السنن مع الأستاذ مرسيه وغيره مما لا شأن لنا بتفصيله، ومما يزيد الأمر عجبا انه شديد قاس في بعض النقد - كما رأيت - ولطيف لبق في البعض الآخر، ولا ندري من الناحية العلمية لم كان لطيفا لبقا هنا، وقاسيا صارما هناك، فقد قلبنا الأمر على وجوهه فلم نجد ذلك يرجع إلى قوة رأي مخالف وضعفه، ولا قوة الحجة وضعفها، إلا أن يكون لشيء غير الرأي وغير العلم وهذا ما لا أدريه.
كذلك آخذ عليه أشياء لم تتفق والذوق قرأتها فضربت أذني وانقبض خاطري. مثال ذلك ما جاء في صفحة 9 و 13 وذيل ص 60 و 61 وذيل 65 الخ.
ثم هندسة الكتاب لم تخل من نقد ولم يشع فيه التناسق، فحجرة صغيرة وحجرة كبيرة، بل وحجرة لم تكن كان يجب ان تكون، وباب كبير وباب صغير، وقد يكون هذا معقولا إذا دعاه الحال واقتضاه المقام، ولكن لم يكن كذلك في هذا الموقف، فقد تحدث مثلا عن المقامات ونشأنها فأفاض وانفق عن سعة، ولم يحدثنا كثيرا عن رسائل إخوان الصفا ونشأتها. قد يتبادر إلى الذهن انه عنى بالمقامات لأنها الصق بالأدب، ولم يعن برسالة(39/73)
إخوان الصفا لأنها ادخل في الفلسفة والعلم، ولكنه في الكتاب تعرض للأسلوب العلمي كما نعرض للأسلوب الأدبي. على أن في رسائل إخوان الصفا نواحي أدبية عديدة اقر بها المؤلف فأقتبس منها رسالة الإنسان والحيوان، وقد اعتذر عن ذلك بأن الباحثين أطالوا فيها القول قديما وحديثا، وهو عذر لا نوافقه عليه بحال، فمجال القول في إخوان الصفا ذو سعة. وإلى الآن لم تبحث الرسائل بحثا وافيا، ولم يقل فيها ما يشفي النفس ويثلج الصدر.
وفيما عدا ذلك فالكتاب قيم، يقف القارئ على أشياء كانت دفينة، وآراء نظمت كانت شتيتة، ويلفت نظر الشباب إلى جمال في الأدب العربي كان قد عفى عليه الزمان، ويعبر عن ذلك كله بلغة العصر فيقربه من نفوسهم، ويحببه إلى أذواقهم، ويفتح أبوابا لبحث العلماء وتفكيرهم فله على ذلك الشكر.
شهرزاد
رواية للأستاذ توفيق الحكيم
كلمة تحليلية بقلم: عبد الرحمن صدقي
هي تحفة فنية أخرى للأستاذ الحكيم. وهي أدق في ذوقها الفني وارق، وهي ارهف في الحس والطف، وجوها الشرقي أمتع منظرا وأوقع سحرا، وروحها الصوفي اعرق تأصلا واعمق سراً.
ونحن نعرف الأميرة شهرزاد، تتمثل فيها عبقرية القصص وروح السمر، ونتمثلها بأحاديثها المشوقة المتنوعة الأفانين، وحكاياتها الممتعة التي لا ينضب لها معين، بين يدي الملك الآسيوي شهريار وقد تحجر قلبهوغلظ طبعه، تتنقل به ليلة بعد ليلة مأخوذا مدهوشا من قطر إلى قطر في أجواء شتى وآفاق سحيقة، من أنحاء فارس، إلى بلاد الصين أو الهند العجيبة، إلى وادي مصر الخصيب، بين أجناس البشر المختلفة الألوان، وبين طبقات المجتمع ونماذج الأفراد على تفاوت الطبائع والدرجات، من ملوك ومماليك، وسراة وصعاليك، وتجار وحمالين، وصاغة وصيادين، ومقاحيم يجوبون القفار ويركبون أهوال البحار، وفوق ذلك بين عناصر طبيعية وغير طبيعية، إنسية وجنية. رحلة كقصيدة (الاوديسة) شائقة طويلة، طافها الملك شهريار وهو في المقصورة مضطجع يصغي إلى(39/74)
شهرزد في كل مساء في ألف ليلة وليلة.
هذه الرحلة المعهودة للملك شهريار، لم يعرض لها مؤلفنا العصري. وإنما خلص منها رحلة باطنة للرجل شهريار، هي رحلة النفس تحركت فجازت أطوارا بعد أطوار.
فلقد كان شهريار عبد الجسد يبني كل ليلة بعذراء يستمتع بها وفي الصباح يقتلها، وكذلك كان ليلة استقبل شهرزاد يشتهي منها المتعة بالجسد الغض. حتى إذا سمعها تحدثه حديثها الساحر الممتع وتفتح له خزائن القصص والخيال والشعر، تفتحت مغاليق قلبه الموصد وتحرك جامده وارتجفت نياطه، فإذا هو يحبها وإذا بهذا الجسد الشهواني يحبها حب القلب والوجدان. غير أن نار العاطفة بدورها لم تلبث مشبوبة طويلا حتى تصفت إلى نور هادئ شاحب، فإذا هو لا يأمن للشعور بل ينشد المعرفة، وإذا به لا يريد لوقفة عند الظواهر والاعراض، بل الغوص إلى الجوهر ولب اللباب، ولا يريد الاحتباس في الحدود الضيقة بل الانطلاق، إلى حيث لا حدود، فهو فكر محض يجوله التأمل النظري والتجريد الفلسفي.
وهذه الأطوار النفسية الثلاثة التي اتفقت لشهريار على إناء متفرقة، يجلوها أيضاً المؤلف على مسرح قصته في آن واحد موزعة على شخوص ثلاثة: فهذا العبد اسود اللون وضيع الأصل قبيح الصورة رمز للشهوة الحيوانية، تلقاه شهرزاد في حلك الظلام، وتلزمه ألا يطرقها إلا خفية مع الليل، وتستكره معه العلن وتحذوه من أن يدركه الصباح فيقتل. وهذا الوزير الفتي، مثال الجمال في الخلقة والخلق، يحب شهرزاد كما يحب رجل جميل امرأة جميلة، فهي معبودته لا عشيقته، وقد بلغ التسامي بعواطفه منتهاه، فلم يعد غير قلب شاعر. وهذا الملك قد أفادته حكايات شهرزاد حبرة، وكشفت لبصيرته عن أفق للتأمل بلا حد، ونقلته كالطفل من طور اللعب بالأشياء أو التعبد لها إلى طور التفكير فيها، فهو اليوم فكر شارد أبداًينقب عن الكنه ويطلب المجهول:
أما شهرزاد فهي كالطبيعة لا رفيع عندها ولا وضيع، وهي كالطبيعة تتراءى لهؤلاء الثلاثة فيرى كل فيها مرآة نفسه. فهي عند العبد حس مادي ولذة مشبعة، وهي عند الوزير مثال أعلى للجمال قلبا وقالبا، وهي عند الملك سر عميق ينطوي على نواميس خالدة تجري على مقتضاها حركات الحياة وسكناتها ويتحدى لغزها المعرفة.
ومن عجائب الاتفاق إن هذه المعاني التي اقتضت القصة الرمزية اجتماعها في شهرزاد،(39/75)
لها سندها المفعم في الحكاية الأصلية:
فشهرزاد إلى كونها مثل غيرها من بنات حواء تخضع لمطالب المرأة الجسدية. فأنها ابنة وزير، كريمة المحتد، كما يدل اسمها نفسه في الفارسية، وقد شاء لها طيب أرومتها أن تتقدم طواعية ليتزوج منها الملك الغشوم قاتل زوجاته، وان تجعل مختارة جيدها الغض عرضة لسيف جلاده، مفادية بحياتها على ضعف الأمل إنقاذا للعذارى من هذا الحيف الراصد لهن. ثم هي لا محالة بطبيعة التربية في القصور ذات ثقافة عالية، وحذق لفنون الأدب والشعر، وعلم بالتواريخ ومضارب الأمثال والعبر. فليس هنالك تجوز معتسف في تصويرها جامعة للجسد المنعم النضير والقلب الفياض بالشعور والفكر الواعي المحكم بالتدبير.
ولقد احتاط المؤلف لرموزه هذه من ان تظهر مجرد رموز متحركة تشخص لما وضعت له في خطى آلية وعزيمة صماء حديدية:
فأضفى عليه مخايل الأحياء من تردد وتشكك، ونوبات ضعف وانتكاس، لما هو مركب في الطبيعة البشرية من العوامل المتضاربة، والدواعي المتداخلة، بحيث إذا صحت الغلبة لإحداها فأن المغلوبة لا تنعدم، بل لها في النفس بين الفنية والفنية تخبط المقيد، وانتفاض المضغوط عليه. فترى الوزير وان كان في حبه للملكة شهرزاد عذريا طاهرا يحفظ لصديقه الملك غيبته، ويرعى حرمته، ويذكر مودته، فانه ليضطرب اشد الاضطراب عند خلوتها به، كما يسوؤه أن تعطف على صديقه وزوجها ايسر العطف ويتجرع المرارة من غيرته الخفية. كذلك ترى شهريار وقد باشرت الحسيات حواسه حتى مل جوارها، وتشبعت بالعواطف مشاعره حتى لفظها ومجها، وتعالى عن كل ما هو حس وشعور يعود في فترة يأس من المعرفة إلى شهرزاد، يسكر عطشه من كأس ثغرها اللؤلؤي، ويستظل من رمضائه بعناقيد غدائرها المتهدلة، ويوسد رأسه المتصدع حجرها، ويريدها على ان تنشده شعراً، أو أغنية، أو تقص عليه قصة.
وما تبدلت الرموز غيرها من اجل هذا، وإنما هي عوارض من إمارات الضعف البشري، ثم تستأنف هذه الرموز البشرية سيرتها المرسومة، ودرتها المقدورة في افتنان وروعة.
ولقد اختار مؤلفنا للقصة بداية اصلح منها مدخلا للراوية من حيث تهيئة الجو والدلالة على(39/76)
المعنى. فثمت طريق قفر والليل حالك، وإلى ناحية منزل منفرد على بابه مصباح مضيء. وفي هذا الموقف يقفك المؤلف على سحر الساحر، وضعف الجسد، وسطوة الشهوة باللمسات الأولى من ريشته:
الساحر (يقود جارية إلى المنزل): ماذا يقول لك هذا الغريب الأسود؟
الجارية: يسألني عن سر فرح المدينة، فأجبته هو عيد تقيمه العذارى للملكة شهرزاد.
الساحر: وما لفرائصك ترتعد؟
الجارية (همسا): لست ادري!
الساحر: ألم أحذرك أن تقربي هذا العبد الهرم، فأن في عينيه نظرات الفجرة؟
الجارية (همسا): ليس هرماً
الساحر: بم تهمسين كمن به مس؟ هاتي يدك ولندخل. لعلك ارتعت من فبح هذا الرجل؟
الجارية (همسا): ليس قبيحا
(يدخلان المنزل. يظهر العبد يتبع نظراته الجارية. . .)
العبد: ما اجمل هذه العذراء! وما اصلح جسدها مأوى!
صوت (من خلفه): مأوى؟ أللشيطان؟ أم للسيف؟
العبد (يلتفت): أهذا أنت؟
الجلاد (يظهر): عرفتني
ثم لا يطول بك الانتظار في هذا الموقف بمسمع من هذه الكلمات المتقطعة المتبادلة حتى تعلم كل ما طرأ على حياة شهريار الذي كنت تعرفه، من تغير بعيد الأثر، وما يحيط به اليوم من ملابسات وظروف، وحتى تتسلم بين أصابعك أطراف خيوط القصة جميعها، وتتابع في لذة مشوقة حركات نسجها سداة ولحمة.
وترى كيف يعارض حائك القصة بين شهرزاد وقلب الوزير المتأجج في منظر، وبينها وبين عقل الملك السابح في زرقة أحلامه الصافية في منظر، ثم بينها وبين العبد الأسود في منظر. وهو في خلال هذه المناظر وما بينها يداول الخيوط المختلفة الأصباغ فيخرج لنا منها نسيجا خسرواني الوشى، ساحر الألوان كقوس الغمام. حتى إذا أزف الختام أبى المؤلف (الحكيم) على العبد قتله استرخاصا له وكرامة للمنية أن تكفر عن خسته، بل ادخر(39/77)
المصرع الفاجع للوزير الذي ضاق الواقع عن قلبه الكبير، أما شهريار فقد ذهب في سفر بعيد مجهول.
ولئن كان المؤلف قد نحا نحو الرمزيين في قصته، إلا انه لم يصنع منها لغزا مغلقا ولا شبه مغلق، ولا هان عليه أن يترك رموزها على قرب منالها وقلة تعويضها - للقراء، وبخاصة الذين ألفوا نحوها في التأليف الغربية ليستنبطوا استنباطا، بل اثر ان ينص على تفسيرها نصا في ظهر سطوره أثناء الحوار، فلا يدع لأحد دون فهمها على وجهها حجة.
وقد اصطنع صاحبنا ما يصطنعه أهل مذهبه من أساليب العرض والكتابة. فشخوصه معروفة النظائر في الواقع، ولكنها تبدو لعياننا من مادة اشف من مادتنا، وتروح وتجئ في جو أخف مما نعيش فيه. فكأنما هي من عالم الأحلام نحسها بالحس الباطن، وكأنها لا تتحرك بمحرك فيها من إرادتها بل تحركها قوة مستعلية عليها خارجة عنها، فهي مسوقة من حيث لا تدري إلى حيث لا تدري ولا طاقة لها على التوقف والمغالبة. ثم هنالك السحر والكهانة، والفلتات المنبئة، وأحاسيس النفس السابقة المؤذنة بوقائع غامضة لاحقة. وهذه جميعا مفرغة في سياق شعري يتمشى فيه النغم، وتنتظم الموسيقى نسقه من مبدئه إلى منتهاه، ويعتمد على الإشارة المقتضبة والتلبيس ويتجنب البسط والتقرير، وتتكرر فيه العبارة الواحدة مرات وتكثر فيه الكلماة البارعة والكنايات المحجبة.
شهرزاد: أترى شيئا في ماء هذا الحوض. أليست عيناي أيضاً في صفاء هذا الماء؟ أتقرأ فيهما سرا من الأسرار؟
شهريار: تبا للصفاء وكل شئ صاف. . .! لشد ما يخيفني هذا الماء الصافي. .! ويل لمن يغرق في ماء صاف. . .!
شهرزاد: ويل لك يا شهريار
شهريار: الصفاء. . .! الصفاء قناعها
شهرزاد: قناع من؟
شهريار: قناعها هي، هي، هي. . .
شهرزاد: إني أخشى عليك يا شهريار.
شهريار: قناعها منسوج من هذا الصفاء. السماء صافية، الأعين صافية، الماء الصافي،(39/78)
الهواء، الفضاء، كل ما هو صاف! ما بعد الصفاء؟؟ إن الحجب الكثيفة لاشف من الصفاء!
فلنسجل إذن لمؤلفنا المسرحي النجاح مرة أخرى مغتبطين، ولنردد قولنا فيه واثقين (هذا الفتى فنان حتى أطراف أنامله)
عبد الرحمن صدقي
اتحاد الممثلين
لناقد (الرسالة) الفني
في مساء السبت الماضي ابتدأ اتحاد الممثلين، عمله على مسرح الهمبرا برواية (هرناني) لفكتور هيجو وترجمة الأستاذ خليل مطران، وهي من الروايات الأنموذجية التي ترجمت تحت إشراف وزارة المعارف.
وقد ذكرنا في كلمتنا عن (مديري الفرق والممثلين) إن اتحادا قويا متنا تألف من بين ممثلي الدرام في مصر، من الأكفاء الذين شهد لهم الناس بالمقدرة، وتقدموا للجنة تشجيع التمثيل في وزارة المعارف يعرضون عليها تحت إشرافهاوبالشروط التي ترتضيها. وذلك بعد إن فشلت الجهود التي بذلت مع مديري الفرق، وبعد أن تعنت هؤلاء مع اللجنة وأرادوا ان يملوا عليها شروطهم.
ذكرنا هذا واهبنا باللجنة أن تنتهز الفرصة السانحة فتمد يدها حازمة قوية لهذا الاتحاد وترحب به ولا تضن عليه بالمساعدة المادية التي يستحقها. ويسرنا أن اللجنة كانت عند حسن ظننا بها، وان كلمتنا وجدت منها آذانا صاغية، فقررت ان تمد يدها إلى هذا الاتحاد في سخاء وكرم، وان تعينه على العمل في خطاه الأولى فوضعت تحت تصرفه بضع مئات من الجنيهات يعد بها الوسائل الضرورية ليبدأ العمل على بركة الله.
واتحاد الممثلين اليوم لا ينقصه الرجال الأكفاء ولا المخرج النابه. ولا المال المعين، ولا يعوزه تعضيد الصحافة وتشجيع الكتاب والنقاد، وبالجملة وفرت كل وسائل العمل التي تكفل النجاح فالاتحاد يحمل عبئا عظيما ومسؤولية خطيرة أمام هذا البلد وان الأنظار لترعاه من كل مكان تترقب خطاه وتنظر ماذا هو صانع بالأمانة التي رضي بحملها وبالثقة التي وضعت فيه وبالآمال العريضة التي نيطت به فهو لا ريب الأمل الأخير في إنعاش(39/79)
المسرح في مصر وإنهاضه إلى المستوى الجدير به. وإنها لتجربة لها ما بعدها، فإن فشلت فليس لنا ألا أن ننفض الأيدي جميعا من المسرح ونتركه للقدر يبعثه حين يشاء، في جيل غير هذا الجيل، وما نتحدث عنه بعد اليوم أن تحدثنا إلا كما نتحدث عن عزيز قضى، أو حلم تبدد.
لو تحقق النجاح لهذه التجربة لسارت القافلة على بركة الله إلى غاية الطريق، ولا استطعنا أن نطالب الوزارة بمزيد من المعونة. ثم لعلنا ننتهي إلى لفت الأنظار إلى العناية بالفن عناية مجدية فتكون لنا الفرقة الرسمية، ويكون لها مسرح خاص مزود بأحدث مبتكرات الإخراج المسرحي، ويقوم فيه معهد الفن من جديد لتلقي أساليبه ودرس وسائله، وتنهض بكل هذا ميزانية من آلاف الجنيهات كما هو الحال في سائر الممالك الحية وتنشط حركة التأليف وتخرج الرواية المصرية إلى النور، وترفع عنا وعن المسرح هذا الخمول الذي نعانيه.
بقي أن نقول أن الاتحاد خطا خطوة طيبة بطلبه من الأستاذ زكي طليمات أن يتولى إخراج رواياته وقد لبى الأستاذ طليمات هذه الدعوة بصدر رحب ونفس مطمئنة.
إن المسؤولية الكبرى التي يحملها الاتحاد إنما يحمل العبء الأكبر فيها فناننا النابه، وهذه المادة التي بين يديه مادة ثمينة في يد الصناع الماهر، ولا شك إننا سنلمس اثر جهوده واضحا، وسنكون سعداء إذ نتحدث إلى قرائنا عن هذا الجديد الذي بتنا نرقبه طويلا.
سينجح فأننا وسيكتب له الفوز، وستخفق لنجاحه وفوزه قلوب، بعضها من الفرح وبعضها من الحسد، قلوب تفرح لأنها ترى المسرح ينهض ويشتد عوده بعد أن طال احتضاره وركوده، وقلوب تتآكل ألماً لان هذا النجاح يفوت عليها كثيرا من المآرب الشخصية والمنافع العاجلة أو يقضي على ادعاءات كانت تصك بها مسامعنا طوال هذه الأعوام.
محمد علي حماد(39/80)
العدد 40 - بتاريخ: 09 - 04 - 1934(/)
في الحال الحاضرة!
(في الحال الحاضرة) عنوان عزيز عليّ وعلى اخويّ طه حسين ومحمود زناتي! نذكره في مقام الأنِس وساعة التنادر فيفجر الضحك من صدورنا المكبوتة، ويرجع بنا مقتحما تيار الزمن الدافق إلى العهود النفّاحة النضيرة من شبابنا الأول! يرجع بنا إلى بقعة من بقاع الأزهر العتيق، خفت فيها الدوي الهادر قليلا، وتهادنت بها أرواح العلماء فلا تشتجر في لفظة، ولا تختصم في (قولة)، ولا تزدحم على اعتراض، وإنما تسكن إلى هؤلاء الأيفاع الثلاثة ومن اخذ أخذهم سكون الطير المروعة إلى سلام الأيكة المنعزلة، لأنهم كانوا قليلا ما يرغبون في إثارة القلاقل وإهاجة الفناقل، على هذه الأرواح الآمنة البرة. إنما كان وكدهم أن يجتزئوا من علوم الفقه بقسمة القدر، ثم ينصبوا لعلوم اللسان فيدرسوا الادب، ويقرضوا الشعر، ويحاولوا الكتابة، ويتعرفوا إلى العلم الحديث في دور الكتب، ويطلوا على العصر الحديث من نوافذ الصحف، ويقفوا على البرزخ الممدود بين دنيا الأزهر ودنيا الناس، ينزعون إلى الحياة الحاضرة المتجددة نزوع اسماك البحيرة الأسنة إلى البحر الزاخر المزبد.
كان أستاذنا المرصفي يطبعنا في النظم على غرار (الحماسة)، وفي النثر على غرار (الكامل)، ويزين لنا أن ننظم معلقة كطرفة، أو ننشئ خبرا كأبي عبيدة، ولكنا كنا نجلس على ذلك البرزخ بعيدا عن هتاف الأشباح، نراقب سير المدينة، ونرامق حياة (الأفندية)، ونحاول العبور فيتساءل صديقاي:
- فيم ننظم؟
- في مدح الخديو
- وفيم نكتب؟
- في الحالة الحاضرة
ونكرر كل يوم هذين السؤالين، وهذين الجوابين، حتى استطعنا أن نجد كلاما في مدح الخديو فقلنا ونشرناه.
أما هذه (الحال الحاضرة) فكانت معاياة لم نجد لأمرها مطلعا ولم نقف في وصفها على حيلة! لان مدلولها يومئذ كان غامضا في أذهاننا غموض الجبر! فالقرويين يعيشون على نمط الفراعين، والأزهريون يعيشون في عهد الأيوبيين، والقاهريون يعيشون على حال(40/1)
المماليك، وهذا الذي نسميه الحال الحاضرة ما كان يذكر إلا في مكاتب الصحف، ولا يعرف إلا في بعض دواوين الحكومة!
عبرنا البرزخ، وتعاقبت الأعوام على ذلك العهد تعاقب الموج، فبعضها هادئ وبعضها مضطرب، فأما محمود فظل على حدود الماضي، وأما طه فظفر إلى آماد المستقبل، وأما أنا فبقيت في الحاضر بين الصديقين، سأحاول أن اقضي عنهما هذه الدين، فاكتب اليوم الموضوع الذي وسمنا بالعجز عنه طوال ربع قرن!!
حالنا الحاضر محنة من محن الانتقال، وخدعة من خدع الاستقلال، وفتنة من فتن الباطل! فهي راكدة ركود العفن، واقفة وقوف الحيرة، لا تستطيع أن تجد لها في لغة التطور اسما ولا صفة! فلا هي سبيل نهضة، ولا هي دليل يقظة، ولا هي مظهر امتعاض! وكأنما تقطعت وشائج الاجتماع بين الطبقات والجماعات والأسر، فتناكر الناس، وتدابر الأهل، ودار كل امرئ على نفسه!
فالفلاح كما كان منذ أجيال، لا يكاد ينزع يده من الأرض، ولا يرفع طرفه إلى السماء، ولا يتبين وجهة الدنيا، ولا يتصور غاية الحكم، ثم يحول عليه الحول فلا يجد نقودا في جيبه، ولا سروراً في قلبه!
والعامل على أسوا مما كان: يقاسي العطلة، ويعاني الفاقة، ويشكو الامية، ويستغله الأجنبي بما دون القوت، ثم لا يجد في بلده العين التي تكلؤه، ولا اليد التي تحميه، ولا النور الذي يهديه، ولا الروح الذي يسيره!
والشاب في لبس من أمره! يتعلم ولا يعرف لأي عمل، ويتقدم ولا يدري لأي غاية؟ ويقولون له كن عزيزاً في بلدك، سيدا في دارك، متصرفا في أمرك، ثم يخضعونه للامتيازات فتكسر من نخوته في المجتمع، وتغض من كرامته في القضاء، وتهجم على ثروته في التجارة، ويفور شبابه الحين بعد الحين فيكفه الهوان الغالب والقيادة المترددة.
والأدب يعتمد في سلطانه على الدعوى والوقيعة، وينقل في أحكامه عن النكران والحقد، ويتفرق شيعا وطوائف، لا ليعدد مذاهب القول، ويجدد طرائق البيان، ولكن ليخلق الخصومة بين الكهول والشباب، ويؤرث العداوة بين الشعراء والكتاب!
والساسة تراشق بالتهم، وتقاذف بالعيوب، وتحتكم إلى الخصم، وتحول مجرى الجهاد،(40/2)
وتزهق روح النهضة، وتشوه آمال الأمة بالمطامع السود والأهواء الأثيمة.
والحكومة تنبعث من أدراج مكاتبها العليا روائح كريهة تسور في الانوف، وتاخذ بالأنفاس، وتفسد الجو على هذه الأمة المسكينة!!
هذه هي العناوين الصغيرة لهذا العنوان الكبير، والعناصر الأولية لهذا الموضوع الخطير، أجملناها في رأسه قبل أن ينزل بنا التفصيل إلى ذيله! على نحو ما يصنع المعلمون من الكتاب، أو المنشؤن من الطلاب، جمعا لتشتيت الرأي، وتصويراً لهيكل الفكرة.
فليت شعري يا هداة الأمة ماذا كنا نقول لو قدر لنا أن نكتب هذا الموضوع حين اقترحناه منذ خمس وعشرين سنة؟!
احمد حسن الزيات(40/3)
كرستينا ملكة السويد 1626 - 1686
للدكتور محمد عوض محمد
هذه الصورة - التي عرضتها أمام أهل القاهرة إحدى ممثلات السينما في شيء كثير من الإسراف الذي يعشقه رواد الملاهي، وفي شيء كثير من الانحراف عن حقيقة التاريخ التي قلما يعبأ بها أصحاب القصص، ومؤلفو المسرحيات - هي من تلك الصور التي تتجاوز في حقيقتها وفي طبيعتها مذاهب الوهم ومسابح الخيال. وحسب كل إنسان أن تعرض أمامه الصورة كما كانت لا كما يتوهمها القصصيون.
ليس لكريستينا مكان بين كبار الملوك، ولكن لها شخصية قوية غريبة تستفز لتصويرها كل من يهوى الشيء النافر الغريب الشاذ.
ولدت في أول الربع الثاني من القرن السابع عشر، وكان مولدها في شهر كانون الأول: في عنفوان الشتاء القارس، حين يصبح الهواء زمهريراً والماء جمدا. ويوشك الدم أن يتجمد في عروق الناس والحيوان. . . وكان حقيقا بمن يولد في هذا الشهر أن يكون في طبعه تؤده وبرود، ورزانة وهدوء. . . غير أن ابنه جوستاف اودلف، ما كانت تعرف الهدوء ولا البرود، بل كانت كتلة من الشرر المتطاير واللهيب المندلع.
وسيظن الناس إننا نعبث حين ندعي أن لشهر كانون تأثيرا فيمن يولدون فيه. ولنسلم لهم أن في هذا الزعم ما فيه من عبث، وان شهر المولد ابعد الأشياء من أن يؤثر فيمن يولد فيه. ولكن، بعد التسليم بهذا أنستطيع أن ننكر ما للبيئة من تأثير لا يحد، وقضاء لا يرد، وأفعال لا تعد؟ كيف والبيئة هي الركن الركين في فلسفة الفلاسفة وعلم العلماء؟
ولقد ولدت كرستينا تحت سماء اسكندناوية مكفهرة تغشاها السحب، وتكتنفها الغيوم، في بلاد تجمد أنهارها في الشتاء، فلا تجري فيها قطرة ماء، وتجمد البحار فلا تستطيع السفن حراكا؛ ويتساقط الثلج، ويتراكم أكداسا فوق أكداس، فلا ترى العين حيثما نظرت سوى هذه الكتل البيضاء، تكسو الشجر والحجر، والحقول والدور. . . ويبرد الهواء حتى ليكاد النفس أن يجمد حين يغادر الشفتين، ويعجز النبات عن النمو، فيبقى في الثرى هامدا جامدا، ينتظر ربيعا لا يجيء إلا أخيرا، وصيفا لا يدوم إلا زمنا يسيرا أما الخريف فما له هنالك من مأرب سوى أن يمهد للشتاء السبيل؛ وكثيرا ما يندمج فيه، ويصبح ويمسي جزءا منه.(40/4)
وكان خليقا بمن يولد في هذه البيئة - إذا كان هنالك معنى لما يقوله أصحاب مذهب البيئة - أن يكون هادئ الطبع، لا يصدر في أعماله إلا عن تؤدة وترو، بعيدا عن طيش أهل الشرق وخرقهم الذي اكتسبوه من حرارة هوائهم، كثير التبصر في العواقب، والادخار للمستقبل المظلم كظلام الشتاء؛ مولعا بالعدل بعيداً عن الاستبداد والظلم اللذين هما من خصائص الشرقيين، أهل البلاد الحارة، لأن العدل نتيجة الروية والأناة وقلة الاندفاع، وهذا كله من المزايا التي يمنحها الله لعباده الذين يعيشون في بيئة باردة.
وكأنما أرادت كرستينا أن تقلب هذه السنن جميعا فتجعل عاليها سافلها، فإذا هي وسط هذا الجليد والزمهرير شعلة من نار لا تخبو، ولهيب متقد لا يهدأ، وإذا في طبعها اندفاع وعنف، وإذا هي شديدة القلق، بعيدة عن الهدوء والاستقرار. . . مسرفة مبذرة تبذيرا أفقر الدولة، جائرة في الحكم حتى لقد مالت إلى النبلاء ميلا شديداً، ومنحتهم موارد الدولة وغمرتهم بالهبات. . شديدة الغرور حتى لقد كانت تضع التاج تحت قدميها، وتزعم أنها تفخر إذ تطأ برجلها ما يجلل هام الملوك، وقد نسيت أن ممن حمل ذلك التاج أبوها العظيم جوستاف ادولف. . . وعلى حدة ذكائها النادر لم تستطع أن تفهم إنها مهما عظمت فإنما عظمتها الحقيقية في عظمة بلادها. . . فكانت لا تعنى إلا بأبهة الملك، وبمظاهر العظمة دون حقيقتها، ومن اجل أبهة الملك أرسلت في طلب ديكارت المسكين، وألحت عليه في أن يقيم بقصرها في أستكهولم لكي يدارسها العلم والفلسفة. فجاء الفيلسوف العظيم وقضى نحبه بعد ثلاث سنين قضاها في بلاد لا يلائمه هواؤها ولا جوها.
وكانت متكبرة اشد الكبرياء، غيورة لا تطيق أن يعرف لأحد فضل، أو يشتهر له بين الرعية ذكر، حتى لقد أساءت إلى الوزير القدير اكسنستيرنا، الذي لم يكن في البلاد في أوربا كلها اقدر منه. . . وكانت جامحة في شهواتها اشد الجموح، منغمسة في اللذات انغماسا يزري بالمتوحشين من أهل أفريقية، ومع ذلك فما هي من أهل الشرق ولا من أهل أفريقية، بل من ذلك الجنس الشمالي التيوتوني الذي اشتهر بالاعتدال وبرود الطبع، كما اشتهر بالشعر الأشقر والعيون الزرقاء. . . فكأنما أرادت كرستينا أن تصفع أصحاب مذهب البيئة باليمن، وأصحاب مذهب الوراثة بالشمال.
لكن البيئة والوراثة ليستا بالشيئين الوحيدين، اللذين خرجت عليهما كرستينا وطعنتهما في(40/5)
الصميم؛ بل لقد خرجت أيضا على المؤدبين ونظرياتهم وعقائدهم. . اختاروا لتعليمها وتأديبها رجلا من كبار المؤدبين. فلقد توفي أبوها جستاف ادولف في حومة الوغى، بين قعقعة السلاح وهزيم المدافع، في حرب الثلاثين عاما، ولم تكد الفتاة أن تبلغ السادسة من عمرها.
ولم يكن للعرش وارث سواها فحاول المؤدبون أن ينموا فيها طباع الملوك وأخلاق الرجال، فإذا هي لا تعرف سوى أهواء النساء وميول النساء. وإذا فيها كل ما في المرأة المسرفة من تعسف وتسرع، وعناد كعناد الأطفال، وتطرف، ومتابعة للشهوات، وأرادوا منها أن تناصر المذهب البروتستنتي، الذي مات أبوها في الدفاع عنه، والذي بلغت السويد ما بلغته من العظمة بالذود عن حوضه فإذا كرستينا لا تعبأ بالدين البروتستنتي، ولا يهمها أن تمضي البلاد في تلك الحروب الدينية، بل لقد انتهى بها الأمر إلى نبذ البروتستنتية تماما والميل إلى الدين الكاثوليكي. ولم تكد تبرح البلاد بعد اعتزالها الملك حتى اعتنقت الكثلكة وتركت البروتستنتية غير آسفة عليها، وغير مكترثة لذلك التراث الديني المجيد الذي ورثته. بل لعل السبب أو بعض السبب الذي دفعها إلى اعتزال الملك حب ذلك الدين الكاثوليكي الذي أشربت بغضه وعدواته منذ الطفولة
وبذل المؤدبون كل جهودهم لكي يلقنوها منذ طفولتها كيف تسوس البلاد. وكيف تضطلع بأعباء الملك. وكيف تملا العرش المجيد كما كان يملؤه أبوها. وأن تكون العناية بشئون الدولة. صغيرها وجليلها، همها الوحيد الذي لا يصرفها عنه شيء.
لكنها لم تكد تكبر وتتولى الحكم، حتى كانت شديدة التبرم بالدولة وبأعمال الدولة، وبالحكم ما يفرضه عليها من أثقال وأعباء، ومن عناية بأمور تافهة: مسئمة مملة: وهي التي تريد أن تنصرف إلى لذات الجسد بالانغماس في الشهوات، وإلى لذات العقل بالتحدث إلى الفلاسفة، فكانت تتهرب من الاضطلاع بذلك العبء، البغيض وتفر منه ما استطاعت إلى الفرار سبيلا. . وذلك زمن مقاليد الأمور فيه كلها بيد الجالس على العرش، فكان الفرار داعيا إلى إهمال شئون الدولة ونقضا لمصلحة البلاد.
ومع ذلك فقد كانت كرستينا تحسب نفسها عظيمة، بالغة أقصى حدود العظمة، حتى لقد قالت وهي تناجي ربها: (اللهم لقد جعلتني من العظمة بحيث لو أحرزت ملك الأرض(40/6)
جميعا ما رضيت به!). .
ورأت من العظمة أن يحيط بها جيش عرمرم من أولئك الناس الذين يدعون النبلاء، وهم طائفة ممن لا غناء فيهم، يعيشون عيش الحشرات الطفيلية، بما تدره عليهم من مال لم يكدحوا لجمعه واكتسابه. وكان يلذ لها أن يحدقوا بها ليمطروها ما شاءت من رياء العبودية، وثناء التزلف. . وأعجبها منهم هذا كله، فجعلت تزيد في عددهم وتخلق منهم قبيلا بعد قبيل، حتى باتوا ضعف ما كانوا في عهد أبيها، وكان بدلا لهم أن يعيشوا عيشة البذخ والترف، فجعلت تمنحهم الأراضي والضياع بإسراف وتبذير منقطع النظير، حتى استنفذت ثروة الدولة في إشباع هذه الحشرات النهمة، وأسلمت بلادها إلى الإفلاس.
وكان من العظمة أن تشجع العلم والتعليم، وجنت البلاد من هذا بعض الخير، ولكنها غلت، فأرادت أن يكون بلاطها مأوى العظماء من رجال الفلسفة والعلم. فكانت تنفق من اجل هذا المأرب، إنفاقا مسرفا لكي يقال إنها حارسة العلم وصديقة العلماء، وأعجبها أن يقصدها السفراء من أقاصي الممالك، وأنيكيلوا لها المدح والاطراء، ولم تلبث أن بات لهؤلاء الغرباء من النفوذ عليها ما ليس لأحد من وزرائها وبني وطنها. وبينما هي تسمح لهؤلاء أن يستميلوها إلى المذهب الكاثولكي، ويخرجوها عن دين آبائها، إذا هي تنفر من مستشار دولة الأمين ووزيرها المحنك أكسل أكسنسترنا محبب إلى الناس، ولأن الشعب يرى فيه خادمه المخلص، المتفاني في خدمته.
كانت كرستينا بلا شك، من أولئك الملوك الذين لا يستطيعون أن يفهموا أن عظمتهم لا قيمة لها إلا إذا استمدوها من عظمة امتهم، وانهم لن يعلو لهم شأن إلا إذا علا شأن دولتهم. فما كان بمجديها أن تكون عظيمة وأمتها حقيرة، غنية وأمتها فقيرة. ذات صولة وقوة، وأمتها لا حول لها ولا قوة. فما لبثت أن أفنت موارد البلاد، واستنفدت خزائن دولة كانت تعد في طليعة دول ذلك الزمن. .
وأراد المخلصون من رجال الدولة أن تتزوج ملكتهم، لكي يضمنوا لعرش الدولة وريثا يجري في عروقه دم أسرة فازا، يرجون - ويلحون في الرجاء - أن تتخذ لها شريكا في حياتها. وكان حديث الزواج هذا أبغض الأشياء إليها، ولم يكن نفورها من الزواج عن تعفف، بل لأنها كانت ترى في الزواج أغلالا تكبح جماحها، وتثني من عنانها، وهي التي(40/7)
تريد أن تبقى حرة طليقة. فلما اشتد إلحاح رجال القصر عليها. طلبت من البرلمان أن يكون ابن عمها شارل جستاف هو وارث العرش من بعدها.
وفي عام 1654 - ولم تكد كرستينا أن تبلغ الثامنة والعشرين تنفس شعبها الصعداء، لان ملكتهم قد اعتزلت الملك وغادرت البلاد، وليس من السهل أن نقدر الدافع الأكبر الذي دفعها إلى سلوك هذا السبيل، فقد كانت هنالك بواعث شتى تعتلج في صدرها، فمن شعب مضطرب ثائر على تبذير ملكته، إلى بغض شديد لتلك التكاليف المضنية التي يستلزمها الاضطلاع بالحكم، إلى رغبة شديدة كانت تدفعها لأن تعيش في جنوب أوربا، وأن تعتنق الدين الكاثوليكي. ولعل أقوى دافع لها إلى اعتزال الملك أنها كانت تريد أن تبهر ملوك العالم حين يرون ملك في ريعان شبابها تنزع عن جبينها التاج وتلقي به في ازدراء واحتقار.
وقد تم لها ما أرادت، فغادرت وطنها، ومعها ثروة حسنة لم تلبث أن أتت عليها، واعتنقت دين الكاثوليك. واتخذت لها في روما قصرا عاشت فيه زمنا عيش الإسراف الذي لا يعرف حدا.
وزارت فرنسا مرتين، في المرة الثانية أدهشت وأغضبت ولاة الأمور حين أمرت رجالها بقتلعشيقها مونالديسكي. فاضطروها إلى مغادرة فرنسا والعودة إلى روما.
لقد كانت المقادير ارحم بكريستينا والطف، لو أنها وافتها منيتها بعد أن نزلت روما، وبعد أن نفذت ثروتها، ولكن الأجل قد تراخى بها حتى بلغت الستين، وكان الشطر الأخير من حياتها مفعما بالألم والشقاء. وعادت إلى وطنها حين بلغت الأربعين تحاول عبثا أن تسترد الملك فلن تلقى سوى الأعراض والنفور. ورجعت إلى روما حيث قضت بقية العمر، وقد نسيها العالم وأهملها الناس، وظلت تعيش عيشة الضنك والضيق وجل رزقها مما يجود به عليها البابا من الهبات حين امتنعت عنها الموارد وتقطعت بها الأسباب.
محمد عوض محمد(40/8)
نعمة الألم
للأستاذ أحمد أمين
لندع الآن جانبا وصف ما كان من الخلاف بين علماء النفس في أن الألم شعور موجب، أو لذة سالبة، ولندع كذلك بحوثهم الطويلة في تقسيم الألم إلى أنواع: فنوع منه كالذي نشعر به عند وجع الأسنان، ونوع كالذي نشعر به عند الفشل في محاولة، ونوع كالذي نشعر به عند مواجهة ما نكره الخ.
ولندع أيضا بحوث علماء الأخلاق في أن الإنسان في جميع أفعاله يطلب اللذة، ولا يطلب شيئا غيرها، ويهرب من الألم ولا يهرب من شيء غيره، وانه حين يفر من اللذة فإنما يفعل ذلك لطلب لذة أكبر منها، وانه حين يتحمل الألم فإنما هو يفر من ألم اكبر منه، أو يتطلب بألمه لذة أكبر مما تحمل - ولندع التعرض لما قام حول هذه النظرية من نزاع.
لندع هذا كله، ولننظر إلى أثر اللذة في الحياة العامة وأثر الألم فيها، فيخيل إلي إنا مدينون للألم بأكثر مما نحن مدينون للذة، وإن فضل الألم عل العالم أكبر من فضل اللذة
إن شئت فتعال معي نبحث في عالم الأدب، أليس أكثره وخيره وليد الألم؟ أوليس الغزل الرقيق نتيجة لألم الهجر أو الصد أو الفراق؟ ذلك الألم الطويل العريض العميق تتخلله لحظات قصيرة من وصال لذيذ، وليس هذا الوصال اللذيذ بمنتج أدبا كالذي ينتجه ألم الفراق، وإن الأديب كلما صهره الحب، وبرح به الألم، كان أرقى أدبا وأصدق قولا، وأشد في نفوس السامعين أثراً، ولو عشق الأديب فوفق كل التوفيق في عشقه، وأسعفه الحبيب دائما، ومتعه بما يرغب دائما، ووجد كل ما يطلب حاضرا دائما لسئم ومل، وتبلدت نفسه، وجمدت قريحته، ولم يخلف لنا أدبا ولا شبه أدب، ولو كان مكان مجنون ليلى عاقل ليلى كسائر العقلاء - وإنما فضل المجنون لآن نفسه كانت أشد حسا وأكثر ألما.
ولولا علو همة المتنبي ما كان شعره، وما علو همته؟ أليست كراهية الحياة الدون، والألم من أن يعد من سقط المتاع، والتطلع لان يكون له الصدر أو القبر؟ وعلى هذا المحور دارت حياته، ودار شعره، ولو نشا قانعا لما فارق بلدته، ولكان سقاء كأبيه يروي الماء ولا يروي الشعر.
وما قيمة المعري لولا ألمه من الفقر والعمى - لو كان غنيا بصيرا لما رأيت لزومياته، ولا(40/9)
أعجبت بكلماته، ولكان إنسانا آخر ذهب فيمن ذهب - إنما خلده ألم نفسه، وأبقى أسمه قوة حسه.
ولو شئت لعددت كثيراً من أدباء العرب والغرب أنطقهم بالأدب حينا ألم الفقر، وحينا ألم الحب، وحينا ألم النفي، وحينا ألم الحنين إلى الأوطان، إلى غير هذا النوع من أنواع الآلام.
نعم قد أجدت اللغة العربية على الأدب كثيرا - لقد أنتجت لهو امرئ القيس وطرفة، وخمر أبي نؤاس، وفخر أبي فراس ومجون الماجنين، وفكاهة العابثين، وكان غنى ابن المعتز ولذته ينبوعا صافيا لحسن التشبيهات، وجمال الاستعارات - وخلفت لذة هؤلاء أدبا ضاحكا، كما خلف الألم أدبا باكيا. خلفت اللذة أدبالمسلاة (الكوميديا) وخلف الألم أدبالمأساة (التراجيديا) ولكن أي الأدبيين أفعل في النفس، وأيهما أدل على صدق الحس، وأيهما أنبل عاطفة، وأيهما أكرم شعوراً، أي النفسين خير؟ أمن بكى من رؤية البائسين، أم من ضحك من رؤية الساخرين؟ أمن رأى فقيرا فعطف عليه، أو هزأت فضحك منه؟!
على أني أخشى أن تكون اللذة التي أخرجت الأدب الضاحك ليست إلا ألما مفضضا أو علقما (مبرشما) أليست خمر أبي نواس محورها (وداوني بالتي كانت هي الداء)؟ أو ليس قد هام بها لأنها (لو مسها حجر مسته سراء)؟ فهو يهيم بالخمر فرارا من ألم الدنيا ومتاعب الحياة؟
ولو فتشت عن دخيلة ابن المعتز، لرأيت ألما قد بطن بلذة وجحيما في شبه نعيم.
ثم تعال معي إلى الحياة الاجتماعية، فخير الأمم من تألم للشر يصيبه، والضر يلحق به، وهل تحاول أمة أن تصلح ما بها إلا إذا بدأت فأحست بالألم، أو ليس من علامة تماثل المريض للشفاء أن يحس بالألم بعد الغيبوبة - ثم من هو المصلح؟ أليس اكثر قومه لما مما هم فيه. أو ليس هو أبعدهم نظرا، واصدقهم حسا. دعته رؤية ما لم يروا، وإحساسه ما لم يحسوا، أن يكون أعمق منهم ألماً وأشد منهم سخطاً، فلم يسعه إلا أن يجهر بالإصلاح وان يتحمل منهم عن رضى ما يصيبه من ألم، لأن ألم نفسه مما يرى بهم، أكبر من أي ألم يناله منهم؟ - وما الوطنية؟ ليست شعورا بألم يتطلب العمل؟
ومن نعم الله أن أوجد أنواعا من الألم هي آلام لذيذة تتطلبها النفوس الراقية وتعشقها. ولو(40/10)
عرض عليها أن تعوض عنها لذائذ صرفة لما قبلتها. فلو عرض على الفيلسوف المتألم لذة غنى جاهل لرفض في غير تردد، ولو خير المصلح المجاهد، ينغص عليه قومه، وينغص عليه غير قومه، وينغص عليه بعد نظره، وينغص عليه قوة شعوره ما اختار من حياته بديلا - ذلك لأن آلامه سرى فيها نوع من اللذة لا يدركه إلا العارفون، واصبح يهيم بهذا الألم اللذيذ. ويرى اللذة الصرفة لذة أليمة - وكل ميسر لما خلق له.
أكره من الألم أن يكون ألماً يائسا، فهو يسلم للضعف فالموت، وأحب الألم الأمل فهو أبعث للقوة والحياة.
وتعجبني اللغة العربية إذ اربت في اللفظ بين الألم والأمل، وباعدت بين الألم واليأس، فاللهم لا تحرمني من الألم، ولكن قدر أن يكون ألماً لذيذاً.
احمد أمين(40/11)
سحب في بلاد العرب
الحرب بين نجد واليمن
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كان الخلاف يشتد منذ حين بين زعيم الجزيرة العربية، جلالة ابن السعود ملك نجد والحجاز وسيادة الإمام يحيى حميد الدين ملك اليمن. وكانت آمال العرب والمسلمين قوية في أن تنتهي الزعيمان بالمفاوضة والحسنى إلى حسم الخلاف القائم بينهما، وأن يبذل كل ما في وسعه لاتقاء حرب أهلية تشقى الجزيرة بعواقبها. ولكن العرب والمسلمين فجعوا أخيرا في هذه الآمال، فوقع الخطب ونشبت الحرب في جزيرة للمرة الثانية خلال بضعة اشهر. وكانت قد نشبت في الخريف الماضي بين القوات اليمنية والنجدية لنفس الخلاف الذي يثيرها اليوم؛ ولكنها أخمدت بسرعة وتغلبت الروية والحكمة يومئذ؛ وكان لصوت العرب والمسلمين أثره في ذلك؛ فعاد الزعيمان إلى التفهم والمفاوضة، وعقد مؤتمر نجدي يمني ليبحث وجوه الخلاف، وليحاول الوصول بها إلى تسوية مرضية ولكنه لم يوفق في مهمته لتمسك كل من الفريقين بوجهة نظره فكان تفاقم الخلاف، وكانت الحرب.
وهذا الخلاف الذي يضرم الحرب في جنوب الجزيرة العربية قديم يرجع إلى أعوام بعيدة. ومنشؤه مسألة الحدود بين البلدين وتنازع السيادة بينهما على المناطق والأراضي الواقعة بين الحجاز واليمن، وهي تشمل ولاية عسير الواقعة في جنوب الحجاز وشمال اليمن، ومنطقة نجران الواقعة شرق عسير جنوب شرقي الحجاز وشمال شرقي اليمن. وقد كانت السيادة في عسير حتى سنة 1922 مقسمة بين قبائل بني شهر القوية في قسمها الشرقي، وبين الأدارسة في قسمها الغربي وهو لمعروف بتهامة؛ ففي سنة 1922 اجتاحت القوات السعودية منطقة عسير الشرقية، وحطمت قبائل بني شهر واستولت على أراضيها حتى بلاد اليمن وضمتها إلى نجد. ولما استولى ابن سعود على الحجاز سنة 1925 رأى أن الاستيلاء على تهامة ضروري لتأمين حدود الحجاز الجنوبية، ورأى الأدارسة أن القوات النجدية تطوق بلادهم من الشرق والشمال فآثروا التفاهم مع ابن السعود والاستظلال بلوائه، وعقد زعيمهم السيد الحسن الأدريسي اتفاقا مع ملك نجد توضع عسير تهامة بمقتضاه تحت حماية نجد وإشرافها (سنة 1926)؛ وأستمر الأدارسة في حكم البلاد تحت(40/12)
إشراف مندوب من قبل ملك نجد؛ ولكن هذا الوضع الشاذ كان مثارا لمصاعب وخلافات لا نهاية لها؛ واضطر السيد الأدريسي في النهاية أن يتخلى عن مهمة الحكم والإدارة وأن يفوض الأمر إلى ملك نجد؛ وشعر ابن سعود انه لا ستطيع المحافظة على عسير إلا إذا ضمها إلى أملاكه، فأعلن في سنة 1930؛ ونزع الأدارسة كل سلطان حقيقيي، وبذلك امتدت حدود المملكة السعودية إلى شمال اليمن، وزادت بذلك أسباب الاحتكاك بينهما. وكانت هذه الأسباب قائمة منذ استولى ابن سعود على أراضي بني شهر (عسير الشرقية)، وأشرفت بذلك على منطقة نجران التي يدعى إمام اليمن إنها من ملحقات مملكته وأن قبائلها تلتمس حمايته، ويدعي ابن سعود أن قسمها الشمالي داخل في أراضيه. ولكن استيلاء ابن سعود على أمارة الأدارسة كان أبعد في استياء الإمام وتوجسه من إشراف (الأخوان) على حدوده الشمالية. وكان للإمام من قبل نفوذ قوي على الأدارسة، وكانت عرى التفاهم والتحالف بينهما قوية متينة، وكان يرى دائما انه أولى وأحق بضم هذه المقاطعة إلى أملاكه من منافسة القوى الذي قصد إليها من قلب الجزيرة، واستطاع في أعوام قلائل أن يدفع حدود أملاكه حتى البحر الأحمر غربا واليمن جنوبا، ولكن الإمام لم يكن في ظروف تمكنه من الإقدام على هذه الخطوة لأنه في الوقت الذي استولى فيه ابن سعود على عسير كان مشغولا بخصومته مع الإنكليز على بعض المناطق اليمنية الجنوبية المجاورة لعدن، وقد احتلها الإنكليز بحجة إنها اختارت الحماية الإنكليزية، وأغارت أسرابهم الجوية على اليمن مرارا وألقت قنابله على صنعاء عاصمة اليمن، ولم يستطع الإمام يومئذ أن بفعل شيئا لمقاومة الغزو السعودي في عسير.
تلك هيأسباب الخلاف الجوهرية بين اليمن والمملكة السعودية. وقد استطاع ابن السعود والإمام أن يتغلبا مدى حين على بواعث الخصومة، وان يتذرعا بالروية والتفاهم، وان يحسما أسباب الخصومة في كثير من المواطن؛ بل لقد انتهى التفاهم بينهما إلى أن عقدا معاهدة صداقة وحسن جوار في سنة 1931 تعهد فيها كل منهما بمراعاة المودة والصداقة وتسليم المجرمين من رعايا الفريق الآخر، وتبادل حقوق التوطن والإقامة بالنسبة لرعايا الدولتين، ولكن هذه الجهود المحمودة في سبيل الوفاق والتفاهم لم تنجح على ما يظهر في حسم أسباب الخلاف الحقيقي؛ واستمرت بواعث الاحتكاك على مسائل الحدود تنفجر من(40/13)
آن لآخر. وفي سنة 1932 انتفض الأدارسة على عمال الحكومة السعودية، واضطرمت في عسير ثورة خطيرة وهوجمت القوات السعودية بشدة، وأصيبت بخسائر فادحة، وردت عن بعض المواقع الهامة، فبادر ابن المسعود بإرسال النجدات القوية إلى عسير، أخمدت الثورة بعد خطوب، وفر الزعماء الأدارسة إلى اليمن، والتجئوا إلى حماية الإمام. واستشعر ابن السعود على ما يظهر ريبا من موقف الإمام إزاء هذه الثورة، وفي أنها ليست بعيدة عن وحيه وتدبيره ومؤازرته المعنوية على الأقل، خصوصا وقد رفض ما طلبه ابن السعود من تسليم الزعماء الأدارسة بالاستناد إلى المعاهدة المعقودة؛ عندئذ عاد الخلاف بين الملكين إلى اشده، واخذ كل منهما يحشد قواته على الحدود. ومع ذلك فقد حاولابن السعود أن يبذل مجهودا أخيراً في سبيا الوفاق والتفاهم، فأرسل إلى الإمام وفد للمفاوضة، ولبث الوفد السعودي في صنعاء عدة أسابيع دون أن يوفق إلى مفاوضة الإمام والتفاهم معه؛ وقيل يومئذ أن الوفد وضع بأمر الإمام أو بأمر ولده سيف الإسلامفي حالة اعتقال. وعلى أي حال فقد فشلت هذه لمحاولة، وتفاقم الخلاف حين تقدمت القوات اليمانية شمالا في مقاطعة نجران، واستولت على بعض مواقع في جنوب تهامة، واشتبك الفريقان يومئذ في بعض المعارك المحلية؛ واستشعر العالم العربي والإسلامي خطر هذه الحرب الأهلية فرفع صوته يحذر الزعيمين من عواقبها، ويناشدهما حقن الدماء واتقاء الشر، فوقفت الحرب يومئذ في بدايتها، أصغى الفريقان مدى حين لهذا النداء الحكيم.
ولكن الحرب تعود فتضطرم اليوم بين زعيمي الجزيرة العربية ويعود الخطر فيهدد مستقبل الجزيرة بشر العواقب. واشد ما نخشى أن تكون المطامع والدسائس الاستعمارية جاثمة وراء هذه الحرب الأهلية تنفح النار فيها، وتترقب من خلالها فرص التدخل. ذلك أن المملكة السعودية بلغت من الضخامة والقوة حدا أضحى يشغل السياسة البريطانية. والمملكة السعودية (نجد وملحقاتها) تجاور بحدودها جميع مناطق النفوذ البريطاني في شبه الجزيرة؛ فهي تجاور العراق من الشمال الشرقي، وتجاور شرق الأردن وفلسطين من الشمالالغربي، وتجاور الكويت وعمان من الشرق، وتشرف على حضرموت من الجنوب؛ وقد دلل ابن السعود في أكثر من فرصة على قوته ومنعة مملكته التي تشمل جميع أواسط الجزيرة من شرقها إلى غربها ودلل بالأخص على أنه شديد الحرص على سلامة حدوده وأراضيه لا(40/14)
يغضى عن أية محاولة تقوم بها السياسة البريطانية لتوسيع نفوذها داخل الجزيرة، وقد رفض مرارا ما عرضته بريطانيا من الاتفاق معه على استثمار مواد الحجاز الطبيعية، أو منحه قرضا يمكنها من التدخل في شؤون مملكته؛ وعلائق ابن السعود حسنة مع روسيا السوفيتية، والتجارة السوفيتية متفوقة في الحجاز، وهذا ما لا يرضي بريطانيا. وابن السعود يدعي ملكية العقبة وما حولها من الأراضي التي تحتلها بريطاني، ويهدد بالإغارة عليها من حين لآخر، حتى أن بريطانيا اضطرت أن تنشئ لها في العقبة مركزا بحريا ومركزا للطيران الحربي. فهذه العوامل والظروف كلها تحمل السياسة البريطانية على التوجس من صديقها القديم ابن السعود ومن ازدياد قوته ونفوذه داخل الجزيرة، هذا وأما اليمن فهي محطأنظار السياسة الإيطالية، لأن موقعها على الضفة الشرقية من البحر الأحمر تجاه مستعمرة إريترية الإيطالية الواقعة على ضفته الغربية يجعل لها في نظر إيطاليا أهمية خاصة. وقد توثقت العلائق بين اليمن وإيطاليا منذ سنة 1928 وزار رومه يومئذ وفد يمني برئاسة سيف الإسلام ولد الإمام، واستقبل بمنتهى الحفاوة؛ وعقدت بين اليمن وإيطاليا معاهدة تجارية اقتصادية. وتقربت روسيا السوفيتية من اليمن أيضا وعقدت معها معاهدة ودية تجارية (سنة 1929) وكان ذلك عاملا في جزع السياسة البريطانية وتطور سياستها نحو اليمن. ذلك أن بريطانيا تجاور اليمن في عدن اعظم مراكزها البحرية في البحر الاحمر، وتحتل إلى جانب عدن عدة مناطق أخرى تجاور اليمن من الجنوب الشرقي وينازعها الإمام في ملكيتها. وكان الخلاف قويا مستمرا بين الإنكليز والإمام منذ أعوام طويلة، والسياسة البريطانية تتردد بين خصومته وصداقته، وتحاول إرغامه من وقت لآخر بتنظيم الغارات الجوية على أراضيه، أن يعترف بملكيتها للمناطق التسع التي تحتلها. فلما أتجه الإمام نحو السياسة الإيطالية، وظهرت روسيا السوفيتية في الميدان تتقرب إلى اليمن، خشيت السياسة البريطانية عواقب هذه الخصومة، فعادت إلى مصانعة الإمام، ودارت بينهما مفاوضات انتهت أخيرا بعقد كعاهدة يمنية بريطانية تعترف فيها بريطانيا العظمى باستقلال اليمن، وتسوي فيها بعض المسائل المعلقة بين الفريقين، وتنظم علائقهما. فهذه العوامل والظروف كلها مما يحمل على الاعتقاد بأن اضطرام الخصومة بين الإمام وابن السعود زعيمي الجزيرة العربية ليس مما يعنيهما وحدهما، وأن نشوب الحرب بين اليمن(40/15)
والمملكة السعودية مما يثير أشد الاهتمام من جانب السياستين البريطانية والإيطالية؛ ومن الصعب أن نحاول الآن أن نلتمس ما قد يكون لإحدى هاتين السياستين أولهما معا عناصر الوحي أو التأثير في سير الظروف والحوادث التي أدت إلى هذه الأزمة الخطيرة في علائق زعيمي الجزيرة العربية؛ ولكن الذي لا ريب فيه أن السياستين البريطانية والإيطالية ترقب كل فرصها خلال هذه الحوادث، وتبذل وسعها للاستفادة منها، ودفعها إلى الطريق الذي يتفق مع مصالحها وغاياتها
وليس هنا مقام التحدث عن المسؤولية، عمن ترجع إليه التبعة في وقوع هذه الحرب التي تهدد مصاير الجزيرة العربية بشر العواقب، فلكل من الفريقين المتخاصمين وجهة نظر، ولكل أسبابه التي يستند إليها في تأييد موقفه. ويكفي أننا سردنا الحوادث والظروف التي أدت إلى هذا الموقف. وهي كما يرى القارئ حوادث وظروف تجتمع وتتهيأ منذ عدة أعوام، ثم اشتدت وتفاقمت في العامين الأخيرين. بيد أننا لا يسعنا إلا أن نعرب عما يخالجنا ويخالج العرب جميعا والمسلمين جميعا من الأسف والجزع لاضطراب أفق الجزيرة العربية بهذا الحدث الخطير الذي لا تقتصر عواقبه على المملكة السعودية وحدها أو على اليمن وحدها، ولكنها تلحق القضية العربية بأسرها. ونحن على يقين من أن جلالة عبد العزيز بن السعود، وسيادة الإمام يحيى يدرك كلاهما خطورة لموقف ويود أن يتقيه بكل ما وسع؛ ولقد برهن كلاهما خلال الأعوام الأخيرة في اكثر من موطن على انه يؤثر التذرع بالروية والحكمة ويؤثر الصفاء والسلام، وقد استطاعا حتى اليوم أن يتجنبا كارثة الحرب؛ فمثل هذه الحرب مهما كانت نتائجها بالنسبة للمملكة السعودية أو اليمن لا يمكن إلا أن تكون شرا على مستقبل الجزيرة العربية؛ وما تزال ثمة فرصة للمهادنة والتفاهم، فهلا بذل زعيما الجزيرة مجهودا أخيرا لتدارك الخطب وحقن الدماء، فيحققا بذلك رجاء كل عربي وكل مسلم، ويعيدا بذلك إلى الجزيرة سلامها وأمنها؟
محمد عبد الله المحامي(40/16)
فلسفة القصة
ولماذا لا اكتب فيها. .؟
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
سألت الأستاذ مصطفى الرافعي، لماذا لا يكتب في القصة، ولماذا يخلو أدبه منها؟
- فأجاب:
(لم اكتب في القصة إلا قليلا، إذا أنت أردت الطريقة الكتابية المصطلح على تسميتها بهذا الأسم، ولكني مع ذلك لا أراني وضعت كل كتبي ومقالاتي إلا في قصة بعينها، هي قصة هذا العقل الذي في رأسي، وهذا القلب الذي بين جنبي.
(شاع أدبالقصة في اوربا، وطغى عندهم على المقالة، والكتاب وديوان الشعر جميعا، فقام عندنا المتابعون في الرأي، والمقلدون في الهوى، والضعفاء بطبيعة التقليد والمتابعة - قاموا يدعون إلى هذا الفن من الكتابة، ولا يرون من لا يكتب فيه إلا مدبرا عن عصره وأدبعصره. ولا جرم إذا كانوا هم أنفسهم مدبرين عن الحقيقة ومعنى الحقيقة. وأنت متى كان وجهك إلى الباطل وظهرك إلى الحق، فمهما تقدم في رأي نفسك فإنما تتأخر في رأي الحق، وكلما قطعت إلى غايتك رأيت الذي وراءك مختلفا متراجعا بمقدار ما أبعدت كأنه في أمس، وكأنك في عد، ولا يوم بينكما يجمع منكما ما تفرق.
(أنا لا اعبأ بالمظاهر والأعراض التي يأتي يوم وينسخها يوم آخر. والقبلة التي اتجه إليها الأدب إنما هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها، فلا اكتب ما يبعثها حية ويزيد في حياتها وسمو غايتها، ويمكن لفضائلها وخصائصها في الحياة، ولذا لا أمس من الآداب كلها إلا نواحيها العليا - ثم انه يخيل إلى دائما أني رسول لغوي بعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه، فأنا أبداً في موقف الجيش (تحت السلاح) له ما يعانيه وما يكلفه وما يحاوله ويفي به وما يتحاماه ويتحفظ فيه، وتاريخ نصره وهزيمته في أعماله دون سواها. وكيف اعترضت الجيش رأيته فن نفسه، لا فنك أنت ولا فن سواك، إذ هو لطريقته وغايته وما يتأدى به للحياة والتاريخ (وقد عابني مرة أحد الكتاب بأني (لا اكتب في الدراما) فلو أن هذا الكاتب وقف على شاطئ المحيط وجعل يتهكم بالأسطول الإنجليزي فيزري عليه انه ليس شيوعيا ولا بلشفيا، فما عسى أن يقول الأسطول إذا هو أجابه إلا أن يقول شيئا كهذا:(40/17)
تبارك من صنع هذا الإنسان مدفع لحم لإطلاق الكلام الفارغ.
(أنا من اجل ذلك لا أزال إلى الآن مع الأدب العربي في فنه وبيانه اكثر مما أنا مع الحكاية ولغتها وعواطفها، فأكبر عملي إضافة إلى الصور الفكرية الجميلة إلى أدبنا وبياننا متحاشيا جهد الطاقة أن أنقل إلى كتابي دواب الأرض أو دواب الناس أو دواب الحوادث، فان الكتب ليست شيئا غير طبائع كتابها تعمل فيمن يقرؤها عمل الطباع الحية فيمن يخالطها. والرواية إذا وضعها كاتب فاجر، فهي عندي ليست رواية بل هي عمل يجب أن يسمى في قانون العقوبات (فجورا بالكتابة).
(أن اكثر ما تراه من القصص، وبخاصة هذه التي غمرت الكتابة عندنا - إنما هي صناعة لهو، ومسلاة فراغ، وهذا قد يكون له وجه في علاج الحياة العملية، وفي تخفيف حطمة الاجتماع في أوربا وأمريكا، ولكن ما موضعه عندنا في الشرق، والشرق إنما تعمل في نهضته لمعالجة اللهو الذي جعل نصف وجوده السياسي عدما، ولملء الفراغ الذي جعل نصف الحياة الإنسانية موتا؟ هذا الضرب من القصة هو لرجالنا ونسائنا إذا قراؤه وتلهو به أشبه بإدخال أولئك الرجال والنساء - إدخالهم وإدخالهن على الكبر - في مدارس رياض الأطفال.
(الأطفال يستلذون الحكاية بالفطرة لأنها تجيئهم بالدنيا التي يعسر أن يذهبوا إليها أو يغامروا فيها، وتهيئ لهم أن يشعروا خيالهم قوة الخلق فتكون لذتهم على مقدار من بعد هذه الدنيا عنهم وعلى مقدار مثله من طبيعة العجز في خيالهم، وهذا الضعف في الناحيتين هو بعينه الذي يجعل لأكثر القصص شأنا عند سخفاء الناس وفراغهم، وأهل الحمق فيهم، يسعرهم شهوات وخيالات وأوهاما من الباطل، فذلك أذن ليس أدبا يكتب ويقرأ، بل هو بلاء اجتماعي يطبع ويوزع في الناس. . .
ألا ترى أن تلك الروايات توضع قصصا، ثم تقرأ فتبقى قصصا؟ وان هي صنعت شيئا في قرائها لم تزد على ما تفعل المخدرات تكون مسكنات عصبية إلى حين ثم تنقلب بنفسها بعد قليل إلى مهيجات عصبية؟!
وأنا لا أنكر أن في القصة أدبا عاليا، ولكن هذا الأدب الغالي في رأيي لا يكون إلا بأخذ الحوادث وتربيتها في الرواية كما يربى الأطفال على أسلوب سواء في العلم والفضيلة.(40/18)
فالقصة من هذه الناحية مدرسة لها قانون مسنون وطريق ممحصة، وغاية معينة، ولا ينبغي أن يتناولها غير الأفذاذ من فلاسفة الفكر الذين تنصبهم مواهبهم لإلقاء الكلمة الحاسمة في المشكلة التي تثير الحياة أو تثيرها الحياة، والأعلام من فلاسفة البيان الذين رزقوا من أدبهم قوة الترجمة عما بين النفس الإنسانية والحياة، وما بين الحياة وموادها النفسية في هؤلاء وهؤلاء، تتخيل الحياة فتبدع أجمل شعرها، وتتأمل فتخرج أسمى حكمتها، وتشرع فتضع اصح قوانينها.
(وأما من عداهم ممن يحترفون كتابة القصص فهم في الأدب رعاع وهمج كان من اثر قصصهم ما يتخبط فيه العالم اليوم من فوضى الغرائز - هذه الفوضى الممقوتة التي لو حققتها في النفوس لما رايتها إلا عامية روحانية منحطة تتسكع فيها النفس مشردة في طرق رذائلها
إذا قرأت الرواية الزائفة أحسست في نفسك بأشياء بدأت تسفل، وإذا قرأت الرواية الصحيحة أدركت من نفسك أشياء بدأت تعلو. تنتهي الأولى فيك بأثرها السيئ، تبدأ الثانية منك بأثرها الطيب، وهذا عندي هو فرق ما بين فن القصة، وفن التلفيق القصصي!!
هذا هو رأي الأستاذ الرافعي ننشره على اصله، لينظر فيه الكثير من شبابنا الناشئين، الذين أقبلوا على كتابة القصة، لعل فيه ما ينفعهم ويفيدهم، ويمهد لهم سبيل الكمال في إنتاجهم.
اسعد حنا(40/19)
الإسماعيلية
الملقبون بالحشاشين
أين نشأ ابن الصباح
ورد فيما مضى ذكر لدار الحكمة وهي المدرسة التي أنشأها في مصر الحاكم بأمر الله العيدي في القرن الثالث الهجري لتعليم مذهبه التوحيدي، فلما مات أبو طاهر الجنابي عام 332هـ وهو الذي خلف أبا سعيد الجنابي كانت هذه المدرسة قد زهت وأفلحت فلاحا عظيما، وكان أساس التعليم فيها قلب الخلافة العباسية وزوال دولتها، وكان الدخول فبها مباحا لكل راغب، ويلقي العلوم فيها شيوخ تصرف لهم المرتبات والمكافآت العظيمة من أموال الدولة، وكانت علوم هذه المدرسة تسعة كلها دينية منقولة عن مبادئ أبن القداح (القداح هو ولد ديصان واسمه عبد الله ولقب بالقداح لأنه كان يعالج العيون بقدحها، وكان أبوه قد علمه الحيل، واطلعه على أسرار نحلته ومخاريقه، فلما مات خلفه أبنه، وكان يدعو إلى ظهور المهدي في ذلك الزمان في اليمن، وهو المذهب الذي تفشي في البحرين في القرن الثالث الهجري كما ذكرنا)
وكانوا فيالدور الأول من هذه العلوم يعمون على الطالب ويشوشون عليه تشويشا مخيفا ويلقنونه معنى مكتوما لمتن القرآن، وفي الدور الثاني يفرضون عليه إيمانا وأقساما يقسم بها ويبالغ في حفظها، ثم يعلمونه الأئمة المقامين من الله تعالى الذين هم في مذهبهم أصل كل معرفة، فإذا بلغ الطالب الدور الثالث علموه، عدد هؤلاء الأئمة الذي لا يتجاوز سبعة، وإذا بلغ الدور الرابع علموه انه منذ خلق الله العالم وجد سبعة متشرعون الاهيون هم الرسل. السبعة المعروفون في مذهبهم بالنطقاء، وكيفية إقامتهم لتلك الشرائع. فإذا بلغ المرتبة الخامسة علموه أن لكل واحد من هؤلاء السبعة اثني عشر رسولا للدعوة إلى الإيمان الصحيح، وإذا بلغ السادسة علموه السنن الإسلامية، ولقنوه أن كل الشرائع الدينية المشروعةيجب أن تكون خاضعة للشرائع العمومية والفلسفة، معولين في ذلك على فلسفة إفلاطون وأرسطو وفيثاغورس، وهي عندهم رأس كل تعليم، وإذا بلغ المرتبة السابعة انتقل من الفلسفة إلى الأسرار، وفي الثامنة كانوا يثقفون عقله بتعليم أشياء من مراتب الأنبياء والرسل، ويلقنونه وجوب إنكار وجود الجنة والنار، ويبطلون الأعمال ويقولون أن(40/20)
ليس على الأعمال ثواب ولا عقاب لا في الدنيا ولا في الآخرة. ثم يدخل الطالب في الدور التاسع وفيه ينقاد الانقياد الأعمى لشيخه فلا يخالف له أمرا ولا يعصي له كلمة ولو أدت إلى الموت.
ونظرة إلى هذه التعاليم ترينا مقدار مخالفتها للدين الإسلامي، فأن منها ما لو آمن به المسلم لكفر، ونتبين منها الكراهة لبني العباس والتشويش على الطالب بتلقينه معنى مكتوما لمتن القرآن حتى يتيسر لهم التوفيق بين إنكار الجنة والنار، وما ورد في ذلك الكتاب المقدس عن وجودهما بأصرح عبارة. ثم هذا إلى ذكر المشرعين الإلاهيين والرسل الذين يدعون إلى الدينالصحيح، وما في ذلك من التشكك في صحة النبوة والدعوة إلى الارتياب فيها وقصر الصحة على أولئك الرسل وحدهم.
في هذه المدرسة التي ذكرنا تعاليمها الخبيثة درج زعيم الحشاشين، وعلى هذه المبادئ التي تناقض الدين نشأ ابن الصباح. فلا عجب إذن أن فعل ما سنراه من المنكرات، ولا عجب أن تكون هذه الأفعال نتيجة سيئة لإنكار الحساب والجزاء والعقاب. وإذا كان الشخص الناشئ على هذه التعاليم خطراً على الدين والأخلاق فماذا يكون إذا شابه ابن الصباح فيما كان عليه من دهاء وعلم وحذق؟! لكإن ابن الصباح اصلح نفسية تلائم هذه المدرسة واخصب عقلية لغرس تعاليمها.
كيف تولى ابن الصباح أمر الإسماعيلية
لا يقول ابن الأثير (وكان الحسن من تلاميذ ابن العطاش الطبيب الذي ملك قلعة أصبهان، ومضى ابن الصباح فطاف البلاد ووصل إلى مصر، ودخل على المستنصر صاحبها فأكرمه وأعطاه مالا، وأمره أن يدعو الناس إلى إمامته، فقال له الحسن فمن الإمام بعدك؟ فأشار إلى ابنه نزار وعاد من مصر إلى الشام والجزيرة وديار بكر والروم ورجع إلى خراسان، ودخل كشغر وما وراء النهر يطوف على قوم يضللهم. فلما رأى قلعة (آلموت) واختبر أهل تلك النواحي أقام عندهم وطمع في غوايتهم ودعاهم في السر، واظهر الزهد والورع ولبس المسوح فتبعه أكثرهم، والعلوي صاحب القلعة حسن الظن به، وجلس إليه وتبرك به. فلما احكم الحسن أمره دخل يوما على العلوي في القلعة، فقال له ابن الصباح: أخرج من هذه القلعة، فضحك العلوي وظنه يمزح، فأمر ابن الصباح أصحابه فأخرجوه إلى(40/21)
دامغان، وأعطاه ماله وملك القلعة).
هذا الدهاء الذي اتصف به الحسن كان من اكبر العوامل التي ساعدته على تسليم الرياسة الكبرى للإسماعيلية، والى جانب هذا الدهاء انصراف الخلفاء من بني العباس في وقته عن الشؤون العامة وعجزهم عن تحصين إمامتهم، وضبط خلافتهم لاسترداد الملك للعجم من الديلم والسلاجقة فباتوا لا يقدرون على كف الغوائل عنهم، والإسماعيليةينتشرون في أنحاء الشرق القاصية.
وبعد استيلاء الحسن على قلعة آلموت في ولاية جيلان بفارس وهي أقوى القلاع زادها قوة واحكم تحصينها وجعلها تحت دولةالإسماعلية، فعظم أمره بين اتباعه ولقبوه بالشيخ وهو اكبر ألقابه، وقد كانت له ألقاب أخرى منها الرئيس والسيد.
وبعدان تولى الرياسة كثر اتباعه وانقادوا له الانقياد الأعمى فأتخذ منهم أداة للظلم والطغيان فارهب بهم الخلق والملوك والسلاطين وحاربهم هزمهم، وقد قام بترتيب الطائفة إلى ثلاث مراتب: الدعاة وهم الداعون إلى مذهب الطائفة، والرفاق وهم الذين اعتنقوا المذهب وخضعوا لسلطة الرئيس، والفدائية وهم عدة الرئيس خاصة يسيرهم كما يشاء، وكانوا يربون في بيوت الرؤساء منذ نعومة أظفارهم يلقنون طاعة الرئيس والتضحية بالنفس في سبيل إنفاذ أوامره، ويفهمون أن الواحد منهم قد علقت سلامته بفداء روحه ويصور لهم العذاب في ابشع صورة أن خالفوا للرئيس أمرا، والنعيم في أشهى مظاهره أن هم تفانوا في خدمته. وهنا تظهر صولة القوم وخداعهم فقد كانوا كي يحققوا الفدائية ما يعدونهم به من النعيم مقيم ينشئون الحدائق الغناء والبساتين الفيحاء يحيطونها بالأسوار العالية ويضعون فيها من الصناعات ما حسن تنسيقه مما يبهر الأنظار ويخلب الألباب ويجعلون فيها كل أنواع الفاكهة والأزهار والورود والرياحين تتدفق فيها الشلالات الجميلة وسط المزروعات الخضراء والمروج الفيحاء، وينبعث من أرضها ماء الينابيع والنافورات، ويخصصون أمكنة من تلك الحدائق تكون مجالس فاخرة وأروقة مزخرفة بالخزف والصيني والفرش، والبسط والطنافس والرياش ويودعون فيها الأواني الفضية والذهبية والبلورية المموهة بالذهب الخالص يزين ذلك كله اجمل العذارى، واظرف الولدان في ثياب ارق من نسيج العنكبوت يروحون في تلك الحدائق ويغدون كالأطيار الجميلة تنتقل(40/22)
من دوحة إلى دوحة، يغرون الناظرين بالتيه والدلال، وبالجملة فقد جعلوا من تلك الحدائق فتنة لاتباعهم، فذا فاز أحد الرفاق على الآخر في إظهار منتهى الطاعة للرئيس والخضوع لأوامره خضوعا تاما وكتم السر والاحتفاظ بالعهود، أعطوه من الحشيش ما يذهب معه لبه، ويفقده صوابه. ثم أرسلوه إلى تلك الحدائق الساحرة حيث يفيق بين مظاهر الجمال ويغمر بأنواع الملذات ويتركونه ساعة يعطونه بعد مضيها الحشيش مرة أخرى حتى إذا غاب عن صوابه أعادوه إلى مكانه الأول.
وهناك يمنونه بالعودة إلى تلك الجنان أن هو زاد في طاعته، وبلغ في التفاني والولاء أقصى ما يستطيع.
وبعد أن تفشت هذه التعاليم أباح الرؤساء لتابعيهم كل أنواع الملذات وأطلقوا لشهواتهم العنان، وأباحوا لهم زواج الأخوات وكل من يحرم الدين الزواج منهن، وعكفوا على تعاطي الحشيش وأدمنوا في ذلك وأسرفوا، حتى انقلبت تلك الطائفة التي تدعى أن لها تعاليم دينية راقية وأنها تدعو إلى الإيمان الصحيح إلى فئة طاغية مجرمة تحلل المحرمات وتحض على المنكرات. وترى في القتل عملامشروعا يثاب عليه فاعله.
ولما قامت الحروب الصليبية كان للحشاشين فيها يد سوداء، وقاموا في أثنائها بأفظع الأعمال الوحشية، فأطلق الفرنجة اسم وهو تحرف لكلمة حشاشين وجعلوه لكل قاتل مجرم. ويروي المؤرخون لأولئك الحشاشين من فظائع الأعمال ما يعطينا عنهم صورة بشعة رسمت بلون الدماء الحمراء، ووضعت في إطار من عظام القتلى وأشلائهم، فيقول المسعودي وأبو الفداء انه بلغ من جرأة الحشاشين انهم كانوا يخطفون الناس من الشوارع والحارات بأغرب الطرق، وكان الرجل يتبع خاطفه في سكون وخشوع، والويل له أن أبدى مقاومة أو تحرك لسانه طلبا للنجدة، فانه أن فعل استقر خنجر الفداوي في قلبه، وكان إذا غاب أحدهم ساعة عن أهله تحققوا انه قد خطف وقتلفيقيمون عليه الأحزان، وصار الناس يلبسون الدروع تحت الثياب مخافة الفدائية، وكان من دهائهم تعليم اتباعهم المهن كالطباخة والحلاقة والخياطة ودسهم في بيوت الأمراء يقومون فيها بالخدمة الجاسوسية. يقال أن أحد السلاطين أرسل يوما إلى شيخ الجبل يدعوه إلى الطاعة والكف عن إيذاء الناس. فقال الشيخ للرسول: أمخلصون انتم لسلطانكم؟ فأجابه كلنا نفتديه. فقال له قل(40/23)
لسيدك موعدنا يوم كذا، وقل له أن يضم إلى مجلسه اخلص المخلصين له، وكان عند السلطان غلامان لا يطيق فراقهما لحظة، فلما حل اليوم اقبل الشيخ في قلة من أصحابه مدججين بالسلاح فجعل يحادث السلطان فقال السلطان للشيخ سألت عن إخلاص قومي وكفايتهم، وأني مريك الآن ما لم تراه، وكان المجلس غاصا بالقواد والوزراء، فرمى السلطان بخنجره من شرفة المكان إلى الوادي فترامى القواد لإحضاره فهلكوا جميعا. فقال الشيخ نعم القوم قومك. فقال السلطان وهل أنت على مثل ذلك من قومك؟ قال لي كلام أقوله لمولانا في خلوة. فأخرج السلطانكل من كانوا عنده عدا الغلامين، فنظر إليهما الشيخ وقال يا عبدي مولانا إذا قلت لكما أن مولاكما هذا يهدد شيخكما ويفسد عليه أمره، فماذا تفعلان به؟ فاستلا سيفهما ولوحا بهما على راس السلطان وقالا نقتله، فدهش السلطان وحار في أمره ثم التفت إلى الشيخ يقول انصرف فأنت في حل مما تفعل. . .
وقد توفي الحسن ابن الصباح عام 518 هـ وتولى الزعامة بعده نحو سبعة من الرجال نجد ترتيب زعامتهم في دائرة المعارف الإسلامية مادة وقد ظلت الزعامة في طائفة الحشاشين قائمة في قلعة آلموت حتى 654 هـ أي نحو قرنين لم يبطل لهم فيهما شر، ولم يكفوا في أثنائهما عن أذى إلى جانب إفساد الأخلاق بتعاطي الحشيش وتحليل المنكرات وإباحة الملذات.
وكان من اكبر دعاتهم في أفريقية رجل خرج من صنعاء يقال له أبو عبد الله احمد بن محمد بن زكريا، ويعرف بالشيعي يبعث الدعوة للمهدي. أما مصر فلم يكن لهم فيها حوادث أو وقائع، اللهم إلا تلك الخرافات يرويها الناس عنهم كقصة الشاطر حسن وشيخ الفداوية. أما القبة الموجودة الآن في العباسية والتي يزعمون إنها للفداوية فقد كانت قبة للصلاة بناها الأمير يشبك بن مهدي الداودار عام 884 هـ في ولاية السلطان قايتباي، وقد تداعت فرممها الأمير حسين كتخدا ثم رممها ديوان الأوقاف الخيرية عام 1317 هـ في عهد محمد توفيق باشا.
ولا يزال للإسماعيلية إلى وقتنا هذا صوت كدبيب النملة، وزعيمهم آغاخان الذي عرف واشتهر بوفرة ماله لا بزعامة لتلك الطائفة الموزعة بين الهند وفارس. والظاهر أن القوم قد غيروا ما عرف به سلفهم من قبيح العادات والتقاليد، وإلا لما استطاعوا الإقامة بين(40/24)
الحكومات التي تنبهت وتوصلت إلى طرق من الرقابة على الناس مباشرة، وقد انصرف القوم عن نشر دعوتهم واكتفوا بعقيدتهم والحياة فيما هم فيه من يسر البيع وربح لتجارة، وما كان القرن العشرين ليتسع لمثل دعوتهم.
لك شأنالإسماعيليةعامة والحشاشين خاصة، وتلك مكانتهم التاريخية طوال أيام الدولة العباسية، وهي وان كانت مكانة لا يحسدون عليها لما قامت عليه من شر ونكر إلا أن التاريخ سجل يحتفظ بين طياته حوادث الأيام والناس لا يفرق بين مخازيها ومفاخرها. فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض؟
محمد قدري لطفيليسانسيه في الآداب(40/25)
حول الشاعر كورني
عزا الدكتور الفاضل حسن صادق في مقاله عن كورني ضعف رواياته الأخيرة إلى اضمحلال قواه الذهنية من اثر الهرم، والحقيقة أن كورني بالغ في مبدئه الذي يعني بتصوير الأشخاص كما يجب أن يكونوا فجاءت شخصيات قصصه الأخيرة خارجة عن حدود المعقول، وذلك ما أرى كان السبب الأول في سقوط رواياته
وقد جاء في المقالة أيضا: قال فولتير (الشرح الوحيد لكتيب كورني يجب أن يكون بكتابة هذه الكلمات في اسفل كل صحيفة: جميل. جليل. الاهي!) وهذه الكلمات على ما جاء في كتب الأدب الفرنسية قيلت في راسين لا في كورني، وذلك اقرب إلى العقل لان فولتير كان يعجب بمبدأ راسين الذي يريد تحليل نفس الإنسان كما هو لا كما يجب أن يكون، اكثر من إعجابه بمبدأ كورني الذي تعرض له بعض كتبه بالنقد اللاذع.
صلاح الدين وصفي
كتاب النثر الفني
حضرة الأستاذ محرر الرسالة:
قرأت في باب النقد من العدد الماضي مقال الأستاذ الجليل أحمد أمين في نقد كتاب (النثر الفني في القرن الرابع) وسرني أن اظفر من مثل هذا الباحث الفاضل بمثل ذلك الثناء، وقد رأيت من باب الدعابة أن اعد سطور ذلك المقال. فرأيت خمسة منها تمهيدا، وخمسة وستين في نقد طريقة المؤلف في الحديث عن نفسه ومصاولة ناقديه، وثلاثة عشر في نقد هندسة الكتاب، ثم رأيت مع السرور الفائق ثمانية عشر سطرا كلها ثناء صرف على المؤلف وعلى الكتاب، ومن النادر أن يظفر مؤلف بثمانية عشر سطرا كلها ثناء على كتاب جديد من رجل كالأستاذ احمد أمين.
وكتابي كما تعلمون يقع في نحو ثمانمائة صفحة، وملام الأستاذ احمد أمين لا ينصب على اكثر من صفحتين يمكن حذفهما بسهولة في الطبعة المقبلة إن شاء الله
ويقول الأستاذ:
(وأني وإن احترمت الكتاب من الناحية العلمية والعقلية فأني ناقده من جهة الذوق)
ثم أشار إلى كلمات وهوامش جمح فيها القلم، وهو ينقد بعض العلماء، وصح لدي بعد(40/26)
التأمل أن مجموع ذلك يزيد عن عشر كلمات سأحذفها في الطبعة المقبلة، لأنها ضربت أذني وانقبض منها صدري كما ضربت أذن الأستاذ وانقبض منها صدره.
وعجب الأستاذ من أن يراني قاسيا في بعض النقد، ولطيفا لبقا في البعض الآخر، وتمنى لو يعرف لم كنت لطيفا لبقا هنا، وقاسيا صارما هناك؟
وتفسير ذلك سهل: فأن الأدب يأخذ وقوده أحياناً من الأعصاب والاحاسيس، وقد تتمثل للنفس ظلال من إحدى المعارك الأدبية فتثور تعصف، وتمضي حينا في هدوء فلا يفيض عنها غير اللباقة واللطف
والى حضرة الأستاذ تحيتي واحترامي
زكي مبارك(40/27)
إخوان الصفا والإسماعيلية
للأستاذ أديب عباسي
علاقتهم بالإسماعيلية - تشيعهم - دعوتهم إلى الإمام المنتظر
يقول كازنوفا المستشرق الفرنسي الكبير ما معناه:
(أنني على أتم الثقة من أراء أخوان الصفا هي برمتها أراء الإسماعيلية. ومحور هذه الآراء هو الاعتقاد بعودة الإمام الذي سوف يملأ الأرض سعادة، وقدر اتهم القرامطة والحشاشون من قبل أعدائهم بالكفر، لكن ليس لهذه التهمة ظل من الحقيقة. فان الرسالة الجامعة، وهي خلاصة هذه الفرق، ليس فيها شيء من ذلك. فمذهبالإسماعيليةوما تفرع منه هي في اصلها بريئة من كل ما نسب أليها، واكرر القول هنا بأن النزعة التي تسود أراءالإسماعيليةهي الاعتقاد بوحدة الكون (البانتيزم). وهو مذهب يقاوم الإلحاد وإنكار الخالق مقاومة عنيفة.
(والنتيجة التي انتهيت إليها هي أن هذه المذاهب هي مثل من أمثلة التاريخ التي تبين كيف أن المذهب يكون نقياً، ولكن في أيدي ذوي الأطماع يصبح آلة للفتك والتدمير) (نيكلسن ص371)
نقلنا هذه القطعة عن المستشرق الفرنسي لكي نبين أننا لا نسيء إلى إخوان الصفا إذ نسبهم إلىالإسماعيلية، ولكن ما هي طبيعة هذه النسبة وما هو مقدارها؟ هذا ما يجيب عنه اولياري بقوله (هناك ما يغري بالظن أن حركة الإخوان حركة إصلاح من جانب بعضالإسماعيليةالذين أرادوا الرجوع إلى تعاليمالإسماعيلية القديمة) وأل ما يلحظ من أوجه الشبه بين الإسماعيلية وإخوان الصفا الأسلوب الذي جروا عليه في نشر دعوتهم والدعاية لمذهبهم وهو أسلوبالإسماعيلية المعهود - أسلوب التدرج في بث الفكرة والتلطف في عرضها على الناس. فأخوان الصفا كل الإسماعيليةيوصون (بأنه ينبغي لمن حصلت له هذه الرسائل من إخواننا الكرام أن يدفع منها إلى كل من يستحق ما يقرب من فهمه، وما يعلم انه يصلح له أو يليق بمرتبته أولا فأولا. فكلما ارتفعت نفسه في العالم إلى درجة درجة وانتهت إلى مرتبة في المعرفة رقي إلى ما بعدها ورفع إلى ما يتلوها (ج 4 ص288).(40/28)
ومن أبوب التشابه بين الجماعتين اتفاقهما اتفاقا كليا في مذهب الحلول. فهو في رسائل الإخوان كما في تعاليمالإسماعيليةالمحور الذي تدور حوله هذه الرسائل والتعاليم.
ووجه آخر من اوجه التشابه هو تفسير القرآن تفسيرا غير ما يدل عليه ظاهر اللفظ. وهذا الأسلوب هو أسلوب الباطن الذي جرى عليه الشيعة ومن تفرع منهم. واليك ما يقوله إخوان الصفا في هذا الشان: -
(واعلم أن للكتب الإلهية تنزيلات ظاهرة وهي الألفاظ المقروءة المسموعة، ولكن لها تأويلات خفية باطنة: وهي المعاني المفهومة المعقولة. . . وفي استعمال أحكامها الظاهرة صلاح للمستعجلين في دنياهم، وفي معرفتهم أسرارها الخفية صلاح لهم في أمر معادهم.) (ج4 ص189).
هذه بعض اوجه الشبه بينالإسماعيليةوإخوان الصفا من حيث المعتقد وطرائق النشر والدعاية. على أن ثمة وجهين آخرين للشبه بينهما: هما التشيع لآل البيت والدعوة إلى الإمام المنتظر أو المهدي. أما أمر التشييع فظاهر من قولهم: -
(ومن الناس طائفة ينسبون إلينا أجسادهم وهم براء منا ويسمون أنفسهم العلوية وما هم من العلويين، ولكنهم في اسفل السافلين لا يعرفون من امرنا إلا نسبة الاجساد، ولا من القرآن إلا اسمه، ولا من الإسلام إلا رسمه (ج4 ص195). وهم لا يذكرون الإمام إلا مقرونا بأفخم النعوت كقولهم (وأيضا من الآراء الفاسدة رأي من يرى أن بارئه وألهه روح القدس قتله اليهود. . وهكذا أيضا حكم من يرى ويعتقد أن الإمام المنظر الفاضل الهادي مختف لا يظهر من خوف المخالفين) (ج4 ص76 - 87).
ومثله قولهم: (واعلم يا أخي أن أقوى ما يكون فعل إبليس في دور الشهر (دور الشهر في مصطلحات الشيعة هو الزمن الذي لا يكون فيه إمام. وهو الفترة بين الإمام الواحد والذي يليه). وذلك لأن حجة الله على أرضه وخليفته على عباده يكون مختفيا مستوراً، وأن كانتأنواره تضيء في نفوس العارفين به) (ج4 ص355).
ما تقدم لا يدع مجالا للشك في تشيع إخوان الصفا وإيمانهم بالإمام المنتظر. ولكن لنا أن نسأل هل وقف إخوان الصفا عند حد النظر من الإيمان بالإمام المنتظر أو هم تخطوا ذلك إلى بث الدعوة له والتعريف به؟ نعتقد أن في القطعة التالية إيضاحا لذلك وذلك حيث(40/29)
يقولون: -
(وقد أخذناك أيها الأخ لأمر فيه قربة إلى الله تعالى ونصرة للدين. فكن واثقاً بما اخترناك، وسر على بركة الله وحسن توفيقه، متوكلا عليه في نصرته وتأييده إلى أخ من إخواننا الفضلاء، وتلطف في الوصول إليه وبشره بما ألقيناه من الأسرار في شأنه.: وعرفه بان إخوانه الذين وجهوك إليه لهم مجلس يجتمعون فيه يتذاكرون العلوم ويتحاورون الأسرار. فتذاكروا يوماً فيما بينهم من حوادث الأيام وتغييرات الزمان وما تدل عليه دلائل القرآن من تغيير شرائع الدين والملل، وتنقل الملك والدول، من أمة إلى أمة ومن بلد إلى بلد، ومن أهل بيت إلى أهل بيت وقد اعتبرنا بهذه الوجوه التي ذكرناها حتى عرفنا (صاحب الأمر) بصفاته والسنة والشهر الذي يكون فيه الحادث (ج4 ص224 - 25).
ما تقدم لا يدع مجالا للريب في أغراض إخوان الصفا السياسية، وهي نشر الدعوة وأعداد الأفكار لظهور أحد المهديين.(40/30)
بين المعري ودانتي
بقلم محمود النشوي
في رسالة الغفران والكوميدية المقدسة
في سماء الأدب العربي تتألق رسالة الغفران لأبي العلاء المعري. وفي سماء الأدب الطلياني تتألق الكوميدية المقدسة لشاعر الطليان دانتي اليجييري وفي كل منهما خيال يقرب من الخيال الآخر حتى ظن كثير من الأدباء أن شاعر الطليان سرق شاعر العرب. وان خيال المعرة انتقل إلى فلورنسا. وسواء لدينا أسرق دانتي فكرة المعري أم هي المصادفة أتاحت لكل منهما ما أتاحته للآخر، ففي كل من الروايتين حوار مع أهل الجنة وأهل النار، وفي كل منهما رحلة في دركات الجحيم، وفي طبقات الجنة، سنعرض لذلك كله بالموازنة والتحليل ما اتسعت لنا صفحات الرسالة الغراء.
التعريف بالشاعرين
في سنة 973 م ولد أبو العلاء المعري في سنة 1059 انتقل إلى قبره بعد أن عمر ستة وثمانين عاما، ولم يكد يناهز الرابعة من عمره حتى أصابه الجدري فذهب بعينيه.
وكأن الله أراد أن يعوضه عما فقده من حاسة البصر، فرزقه حافظة تعلق بها الكراريس العدة إذا تليت عليها مرة واحدة وكأني به استوعب ما احتوته قريته المعرة من العلوم والمعارف فرحل إلى العواصم الإسلامية يرتشف منها مناهل العلم، فزار حلب وإنطاكية وطرابلس الشام واللاذقية وبغداد، إلى أن بلغ من العمر سبعة وثلاثين، فزهد في الدنيا واعتزل الناس في منزله بالمعرة. وقضى بقية حياته رهين المحبسين: العمى والمنزل، فأوحت إليه عزلته ما ظهر في لزومياته وفي رسالة الغفران.
وأما دانتي فولد في سنة 1265 وتوفي سنة 1321 بعد أن عاش ستة وخمسين عاما.
ولقد كان جده كاتشا جويدا المسلمين في صفوف الصليبين لاغتصاب بيت المقدس تحت آمرة الإمبراطور كوناردو الثالث. وكأني به اشتد على المسلمين في حربه، فانعم عليه ذلك الإمبراطور بلقب فأما والده فقد كان من غمار الناس ودهمائهم لم يترفق بدانتي حينما توفيت أمه بل تزوج امرأة تدعى لابا أذاقته الآم الحياة وهو في عهد الطفولة، حتى إذا اشتد(40/31)
ساعده قليلا هرع إلى مدارس الفرنشسكان يتعلم الدين قليلا من الهندسة والحساب، متتلمذا للقديس فرانشسكودي اسيزي، ولا يزال يتشرب روحه وتعاليمه حتى أدركه دور المراهقة فوقع في إشراك من الغرام امتدت نحوه من الفتاة بياتريشي تلك التي ألهبت شاعريته، وكان لها اثر كبير في كوميديته المقدسة، ثم توفيت تلك الحبيبة في سنة 1289 فزادت الآم. غير أن نجمه بدأ يتألق في سماء السياسة فاختير عضوا من ستة أعضاء يحكمون في مدينة فلورنسا التي كانت تعصف بها الحروب الأهلية. والأمر ما اغتاظ منهم البابا بونيفاشيو عليهم شقيق ملك فرنسا كارلودي فالوا فأخذ مدينتهم، وفر دانتي مع الهاربين بعد أن حكموا عليه بالموت حرقا سنة 1301، ولولا ذلك الهرب لنفذوا في حكمهم ثم صادروا أملاكه ونفوا ولديه جاكر وبيترو ولا زالت البلاد تتقاذفه حتى مات شريدا طريدا سنة 1321 بعدنفي قارب العشرين عاما.
أسباب تأليف الروايتين
فأما رسالة الغفران فهي رد على رسالة ابن القارح التي أرسلها إلى المعري
وابن القارح هو علي بن منصور الحلبي، ولقبه دوخلة، خدم أبا علي الفارسي في صباه وقرأ عليه بعض كتبه، ثم جاء إلى مصر يؤدب ولدّي الحسين بن جوهمه القائد بمصر. وكان له شعر من نوع ضعيف كمدحته للحاكم بأمر الله الفاطمي التي يفتتحها بقوله
أن الزمان قد نصر ... بالحاكم الملك الأغر
وكان فيه شيء من ذكاء. وشيء من دعابة أملت عليه دعابته أن يرسل لأبي العلاء رسالة فيها لهو، وفيها سخر، وفيها حوار للشعراء والمتزندقين والمتألهين. وفيها أسلوب معري يكثر من ذكر الآيات القرآنية يوردها أدلة على مالا تدل عليه إلا قليلا، أو من طريق بعيد، أو لا تدل عليه بالمرة. وفيها كثرة الجمل الإعتراضية بالدعاء للمخاطب والإسهاب في الترضي والترحم وفي اللعنة، مما لم نعهده في كتاب غير رسالة الغفران وغير رسالة ابن القارح تلك التي بدأها بقوله (كتابي أطال الله بقاء مولاي الجليل، وجعلني فداءه على الصحة والحقيقة، وليس على مجاز اللفظ، ومجرى الكناية) ثم يروي عن صاحب الزنج انه خطب في زنوجه قائلا (أنكم قد أعنتم بقبح منظر، فأشفعوه بقبح مخبر. اجعلوا كل عامر قفرا، وكل بيت قبرا.) ثم يروي لأبي العلاء أن رجلا دفع إلى صديق له جارية وأودعها(40/32)
عنده ثم ذهب في سفره. فقال المودع لديه بعد أيام لمن يأنس به وتسكن نفسه إليه. يا أخي ذهبت أمانات الناس: أودعني صديق لي جارية في حسابه أنها بكر. . فجربتها فذا هي ثيب!. ثم يعيب على الراوة تصحيفهم قول علي كرم الله وجهه تهلك البصرة بالريح فهلكت بالزنج، كما تحدث المعري عن الرواة وتصحيفهم وتحريفهم.
ثم تحدث عن المتنبي، وانه كان مغرما بتصغير كلماته فصغر أهل الزمان حينما قال
أذم إلى هذا الزمان أهليه
فانحنى عليه بالأئمة فقال (وما يستحق زمان ساعده بسيف الدولة أن يطلق على أهله الدم) ثم تحدث ابن القارح عن المتنبي وعن سجنه في بغداد فقال: (إن المتنبي اخرج من الحبس في بغداد إلى مجلس أبي الحسن علي بن عيسى الوزير رحمه الله، فقال له: أنت احمد المتنبي؟ فقال أنا احمد المتنبي. ثم كشف عن سلعة على بطنه وقال: هذا طابع نبوتي وعلامة رسالتي. ثم تحدث عن ابن الرومي وعن طيرته. وعن أبي تمام، وان الحسن بن رجاء بلغة انه لا يصلي، فوكل به من يلازمه فلم يره صلى يوما واحدا فعاتبه، فقال يا مولاي: قطعت إلى حضرتك من بغداد فاحتملت المشقة وبعد الشقة، ولم أره يثقل عليّ. فلو كنت اعلم أن الصلاة تنفعني وتركها يضرني ما تركتها: قال الحسن: لأردت قتله فخشيت أن يحمل على غير هذا فتركته.
ثم تحدث عن الذين ادعوا الألوهية كالقصار الأعور الذي اتخذ له وجها من ذهب وخوطب برب العزة، والصناديقي الذي خوطب بالربوبية وكوتب بها، وكانت له دار يجمع إليها نساء البلدة كلها ويدخل الرجال عليهن ليلا
ثم ذكر الحلاج وانه كان يخاطب الله بقوله
يا جملة الكل لست غيري ... فما اعتذاري إذاً آليا
ثم تحدث عن المتزندقين فذكر بشارا وان المهدي قتله على الزندقة. وعن صالح بن عبد القدوس وأن المهدي قتله لأنه قال
ولو إني أظهرت للناس ديني ... لم يكن لي - في غير حبسي - أكل
وذكر الوليد بن يزيد وأن انه رمى المصحف بالنشاب وخرقه، وأن الحجاج كانوا يطوفون بالكعبة فيقولون (لبيك اللهم لبيك: يا قاتل الوليد بن يزيد)(40/33)
ثم ذكر أبا عيسى بن الوليد، وانه برم بشهر الصيام ونذر إلا يعود إلى صومه فقال:
دهاني شهر الصوم لا كان من شهر ... ولا صمت شهرا بعده آخر الدهر
ثم يختم ابن القارح رسالته بأنها استحسنت منه وكتبت عنه. ثم يسأل المعري أن يجيب عنها ليذيعها في حلب وغيرها من الأفاق فيبطئ المعري في الرد ثم يجيب بأنه كفيف البصر مستطيع الكتابة بغيره، أن غاب الكاتب فلا إملاء. .
ثم يبدأ الرد سالكا سبيلا عبّدها له ابن القارح. وأثار من نفسه حنينا للسير على منهاجها، والاتجاه مع تيارها. ولكن المعري أرانا أفانين من الخيال، واطلاعا في اللغة وفي التاريخ، مما لا يمثل به ابن القارح إلا كما تمثل الذرة بالجبل، أو الحلقة في الفلاة.
يتبع(40/34)
5 - التفاؤل والتشاؤم وهل لهما أسباب تاريخية؟
بعض غرائب الخرافات عند الغربيين والشرقيين
الرقم 13
إن كثيرا من الغربيين يعتبرون أن رقم 13 يحمل الويل والدمار في طياته، كما يعتقدون المصريون في العدد (11) أما 3 و 7 فهما رمز السعادة عند بعض الغربيين.
ومن الغريب أن رقم 13 تناول العلماء وذوي الثقافة ولملوك والعظماء كما سرى بين الجهلاء وتناوله بعض الحكومات ايضا، فهم يتوّقون هذا الرقم في الولائم والحفلات وبعض الفنادق وغيرها فيقفزون في عدد الغرف الفنادق وغيرها من 12 إلى 14 حتى لا يتشاءم النازل بالفندق من هذا الرقم.
ويتفق في بعض الشهور السنة أن يطابق يوم الجمعة الثالث عشر من الشهر فيتطير الواهمون من هذا التطابق ويتوقعون الشرور والأخطار العظيمة، لان هذا الرقم دليل على الشؤم عندهم فيملأ نفوسهم رعبا فضلا عما يعرف به يوم الجمعة من النحس.
والأسرة المالكة في إنكلترا تتقي ذكر الرقم لمذكور، ومحال أن تضم المائدة الملكية على 13 مدعوا.
وفي عام 1912 حينما دعا المستر جون وارد جلالة ملك إنكلترا الحالي جورج الخامس إلى مأدبة غداء في بستان (شلتن) كان عدد المدعوين 13 فجاءوا بالرابع عشر.
ومما يحكى عن ملكة رومانيا ماري إنها تتشاءم من رقم 13 أسوة بكثير من الغربيين، وقد حدث عند زيارتها لأهرام الجيزة ومعها كريمتها الأميرة اليانا عام 1930 حادث يدل على مبلغ تشاؤمها من الرقم 13.
شاهدت الملكة عمال الحفر الذي كان يديره هناك الأثري المعروف المستر فيرث، وعند انتهاء الزيارة دعاها إلى الغداء، وما كادت ماري تستعد للجلوس على المائدة حتى شاهدت أن عدد المدعوين 13 فاكفهر وجه الملكة فجأة، واعتذرت بالمرض إلا أن المستر فيرث أدرك حقيقة الأمر بسرعة خاطره فبادر بإصلاح هذا الخطأ ودعا ضابطا مصريا ظريفا للجلوس على المائدة حتى يكون العدد 14 فلم تتردد الملكة عندئذ في قبول الدعوة.
وكان إمبراطور ألمانيا السابق غليوم يحذر هذا الرقم ويتشاءم منه، ويقال انه رفض أن(40/35)
يعلن الحرب عام 1913 لان السنة تنتهي بالرقمين المشؤمين.
وكان بسمارك يكره الخرافات إلا انه كان يبغض الرقم 13 بغضا عظيما، وما حاول أن يهم بأمر ذي بال في يوم 13 منأي شهر، وكذلك المستر تشرشل الوزير الإنكليزي وهو سليل آل مرلبورو أعرق الأسر الإنكليزية نسبا.
ولكن الرئيس ويلسون يعتقد أن الرقم 13 هو عدده الجالب لليمن والسعد، ومن دلائل حب الرئيس ويلسون للرقم 13 انه وصل إلى ثغر برست بفرنسا يوم الجمعة 13 ديسمبر عام 1918 ليحضر مؤتمر الصلح وانه أودع 26 فقرة (2 في 13) وأتمها يوم 13 فبراير سنة 1919 ودعا لمائدة عيد ميلاده 13 مدعوا فقط.
ولم يكن الرئيس ويلسون بالرجل الوحيد الذي احب هذا الرقم، فان المستر لويد جورج رئيس حزب الأحرار بإنجلترا وقف عام 1924 في حفلة انتخابية وقال أن الرقم 13 هو رقمه المحبوب.
ودعا أحد رجال الأعمال بإنكلترا بعض خلانه ليتناولوا معه طعام العشاء، فلما جلسوا إلى المائدة فطن أحدهم إلى أن عددهم 13 فتشاءموا وأرسلوا الخدم في اصطياد أي رجل ليأكل معهم، ولم يتناولوا الطعام حتى انتظموا على المائدة أربعة عشر.
ويتشاءم المركيز نيجرو توكمبيازو العضو الإيطالي في صندوق الدين برقم 13 تشاؤما كبيرا، ويروي عنه قبل شيوع السيارات انه كان يمتنع عن ركوب مركبة رقمها 13 أو مؤلفة من مضاعفات 13 كأن يكون رقمها 26 أو 39 الخ. . .
وحدث لما زار الدكتور أميل لدويج الكاتب والمؤرخ الألماني الشهير القطر المصري أن أدب له أحد الأصدقاء مأدبة عشاء ودعا إليها 14 شخصا، وفي أخر لحظة تخلف أحدهم عن لحضور فأبت سيدتان أن تجلسا إلى المائدة لان عدد المدعوين اصبح 13 فجيء بمائدة صغيرة وضعت على مقربة من المائدة الكبيرة، وجلس إليها اثنان من المدعوين لكي يصبح عدد الآخرين 11.
ويرد الباحثون في الضائقة الاقتصادية التي غشيت العالم من أقصاه إلى أقصاه إلى أسباب شتى إلا أن أحدهم في نيويورك قال أن السبب فيضائقة عام 1930 هي عام 1930 وحجته الدامغة هي أن مجموع أرقامه 13، ولكن مرت سنوات وما تزال الأزمة المالية(40/36)
باقية حتى الآن. ولكي يزيد الجمهور اقتناعا وبرهانا بتأييد ذك رجع إلى سني الضنك المشهورة في القرن الحالي فإذا هي كما يلي
سنة 1903 ومجموع أرقامها 13، سنة 1912 ومجموع أرقامها 13، سنة 1921 ومجموع أرقامها 13، سنة 1930 ومجموع أرقامها 13.
ولكن هدئ روعك أيها المتشائم فسوف تمر 96 سنة قبل أن تأتي سنة أخرى مجموع أرقامها 13 وهي سنة 2029.
ومن الشواهد التي يستندون إليها أن كلا من نابليون بونابرت وهنري الرابع ولدا في 13 من الشهر، فنفي نابليون في مثل هذا اليوم وقتل هنري الرابع أيضا في مثله.
وتمتنع الأسر الإفرنجية بتاتا عن سكنى المنازل المرقمة بالعدد 13 ولا يستأجر الأمريكي غرفة رقمها هذا الرقم في أي فندق أو باخرة.
وقد اتفق مدير وبعض المستشفيات على حذف رقم 13 من مستشفياتهم، فهم لا يضعونه على غرفة لمريض أو سرير خشية تأثر المريض من الوهم الناشئ عنده من التشاؤم. وشوهد في إيطاليا أن الفنادق لا تضع ذلك الرقم على الغرف، وذلك لتذمر المسافرين وامتناعهم عن النزول في الغرف التي يوجد بها الرقم المذكور، وإدارة سكة حديد لندن والشمال الشرقي قد ألغت هذا العدد من مركبات النوم.
وأدرك الوهم اصحب البواخر فوضعوا عدد 12 13
منها يثبت أن الناس اصبحوا يخشون الرقم المذكور حتى أن أحد شوارع لا يحمل رقم 13 وان حكومة فرنسا إذا وضعت الأرقام على المنازل ووصلت إلى المنزل الذي ينبغي أن يوضع عليه الرقم 13 لا تكتب عليه هذا الرقم وإنما تضع عليه رقم 12 والى جانبه لفظة مكرر تخلصا من شؤمه.
ووقف أحد المجرمين إمام القاضي فقال اقسم أن شؤم عددي هو الذي يسوقني هنا دائما، فسأله وما ذلك الرقم؟ قال ما وقفت متهما إلا وكان المحلفون 12 والقاضي واحداً وما الـ 12 والواحد إلا 13 وهو الرقم اللعين. . .
ولكن هناك حوادث أبدل النحس فيها بالسعد، ولو أن الرقم 13 كان موجودا. فقد اتفق أخيرا أن وقع بناء مدخنة داخل أحد منازل مدينة بريتون، وكان في المنزل ثلاثة عشر(40/37)
ساكنا فلم يصيب أحد منهم بسوء، مع أن قطع الحجارة وجدت على الوسائد بجوار النائمين.
واشترى بعضهم منزلا فلما رأى أن رقمه 13 جعله 12 وما مر يومان حتى سرق المنزل برغم العدد السعيد الميمون مع انه ما سرق يوم كان شؤما.
وقد عمدت إحدى السفن الكبرى إلى وضع علامة 1 بجوار العدد 12 للدلالة على الغرفة 13 وبذلك تريح فكر المسافر الذي يكون نصيبه تلك الغرفة.
وقد علل الكاتب الاجتماعي الإنكليزي هـ. ج. ولز شؤم هذا الرقم (بأنه لا يقبل القسمة) على أن حين غيره من الأرقام التي قبله أو بعده تقبل القسمة، وبعبارة أخرى نقول أن الإنسان الأول كان رديء الفهم في الحساب لا يعرف الكسور، ثم هناك أشياء لا يمكن كسرها فإذا كان عدد السبايا 13 حدثت المشاجرات بين أفراد القبيلة من اجل امرأة تزيد في حظ أحدهم أو تنقص، في حين أن الأرقام الأخرى لم يكن فيها ذلك.
ويقال إن الخرافات التي نسجت حول الرقم 13 مصدرها عشاء السيد المسيح الأخير مع تلاميذه الأثني عشر، وجلسوا على مائدة واحدة فكان جموعهم ثلاثة عشر، وكان واحد من التلاميذ خائنا هو يهوذا الأسخريوطي الذي سلمه. لذلك كان الناس يتشاءمون من الجلوس ثلاثة عشر شخصا على مائدة واحدة، لان ذلك نذير شؤم بسوء أو موت يقع لأحدهم خلال سنة على الاكثر، ثم سرى التشاؤم من الرقم 13 حتى شمل كل شيء ولم يقتصر على مائدة الطعام.
الهلال
جميع الأمم تقريبا تتفاءل بالهلال الجديد، وكثيرا ما يرى الناس في مصر وغير مصر قد تهللت وجوههم استبشارا لرؤية الهلال في أول الشهر القمري وهم يدعون الدعوات.
وان العامة في مصر يتناولون قطعة من العملة الفضية ويديرونها نحو الهلال لأول ولادته تيمنا، ولا يصنعون مثل ذلك في الذهب لأنهم يتطيرون به، وهكذا يفعلون في الشام ويزيدون عليه أن يتمتم الواحد بعبارة مثل قوله (يهلك ويستهلك، ويجعلك علينا شهرا مباركا)
وفي إنكلترا يتشاءمون من النظر إلى الهلال المولود حديثا من وراء زجاج النوافذ.(40/38)
والمرجح أن الإنسان الأول كان يعتقد انه إذا ظهر القمر جديدا وجب عليه أن يخرج إلى العراء للترحيب به بوسائل كانت معروفة عنده وكان لا يلزم منزله وينظر إليه من ثقوب الجدران ولا عوقب على ذلك
وان الإنسان نظر إلى القمر من زمان بعيد نظرة التفاؤل والاستحسان، والإنسان الأول معذور في تفاؤله بالهلال الجديد إذ هو يعيش في خطر المداهمة والغارة، فالهلال يكشف له عن ظلمات الليل ويؤمنه بعض التامين، لذلك كان القمر من اقدم الإله التي عبدها الناس بل أقدمها. وان العرب اشتقوا لفظة تهلل من الهلال، ولا نزال نرى كثيرا من الأعياد حتى الأعياد المسيحية تقرر تبعا لأوجه القمر.
(تم البحث)
إبراهيم تادرس بشاي(40/39)
2 - بديع الزمان الهمذاني
للدكتور عبد الوهاب عزام
تكلم الأستاذ في المقالة الأولى عن الحال السياسية والأدبية في القرن الرابع، وعن أسرة بديع الزمان وسيرته إلى أن رحل إلى نيسابور.
وقد وقع خطأ مطبعي أثناء ترتيب المقالة فوضعت الأسطر من الثالث إلى الحادي والعشرين من صفحة 501 النهر الأيمن في غير مكانها، وكان ينبغي أن توضع بعد السطر التاسع من النهر الأيسر في الصفحة نفسها
فهذا الإسماعيلي هو، فيما يظهر أحد هؤلاء الإسماعيلية الذين اكرموا مثواه في جرجان.
وفي رسالة إلى أبيه يقول (وقد كان رسم أن اعرفه سبب خروجي من جرجان، ووقوعي في خراسان، وقد كانت القصة أني لما وردت من ذلك السلطان حضرته التي هي كعبة المحتاج. لا كعبة الحجاج ومشعر الكرام، لا مشعر الحرام، ومنى الضيف لا منى الخيف، وقبله الصلات، لا قبلة الصلاة، وجدت فيها ندماء من نبات العام، اجتمعوا قبضة كلب، على تلفيق خطب، أزعجني من ذلك الفناء، واشرف بي على شرف الفناء، لولا ما تدارك الله بجميل صنعه وحسن وقعه، ولا اعلم كيف احتالوا، وما الذي قالوا، لكن الجملة أن غيروا السلطان وأشار على أخواني، بمفارقة مكاني، وبقيت لا اعلم أيمنه اضرب أم شآمة، ونجدا اقصد أم تهامة،
ولو كنت من سلمى أجا وشعابها ... لكان لحجاج عليّ دليل
قد علم الشيخ أن ذلك السلطان سماء إذا تغيم لم يرج صحوه. وبحر إذا تغير لم يشرب صفوه، وملك إذا سخط لم ينتظر عفوه فليس بين رضاه والسخط عرجه، كما ليس بين غضبه والسيف فرجه
ونظرت فإذا أنا بين جودين، أما أن أجود ببأسي، وإما أن أجود برأسي، وبين ركوبين إما المفازة وإما الجنازة، وبين طريقين: إما الغربة، وإما التربة، وبين فراقين: إما أن أفارق أرضي أو أفارق عرضي، وبين راحلتين إما ظهور الجمال، أو أعناق الرجال، فاخترت السماح بالوطن، على السماح بالبدن، وأنشدت:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً ... فلا رأى للمضطر إلا ركوبها(40/40)
ولست ادري من هذا السلطان. واحسبه فخر الدولة ابن بويه، وأما شمس المعالي فلم يكن سلطانا في جرجان ذلك الوقت
في نيسابور
ورد نيسابور فكتب إلى أبي بكر الخورزمي، وهو شيخ أدبائها وأحد أغنيائها (أنا لقرب الأستاذ أطال بقاءه (كما طرب النشوان مالت به الخمر) ومن الارتياح للقائه، (كما انتفض العصفور بلله القطر) ومن الامتزاج بولائه، (كما التقت الصهباء والبارد العذب) ومن الابتهاج بمرآه (كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب) فكيف نشاط الأستاذ لصديق طوى إليه ما بين قصبتي العراق وخراسان، بل ما بين عتبتي نيسابور وجرجان، وكيف اهتزازه لضيف في برده جمال، وجلدة حمال.
رث الشمائل منهج الأثواب ... بكرت عليه مغيرة الأعراب
وهو أيده الله ولي إنعامه، بإنفاذ غلامه إلى مستقري لأفضي إليه بسري، أن شاء لله تعالى)
ويؤخذ من كلام البديع انه ذهب إلى دار الخوارزمي فلم يحسن لقاءه، أو لم ترض نفس الهمذاني بهذا اللقاء فكتب إليه (الأستاذ أبو بكر والله يطيل بقاءه أزرى بضيفه أن وجده يضرب إليه آباط القلة في اطمار الغربة فأعمل في رتبته أنواع المصارفة، وفي الاهتزاز له أنواع المضايقة من إيماء بنصف الطرف، وإشارة بشطر الكف، ودفع في صدر القيام، عن التمام، ومضغ الكلام، وتكلف لرد السلام، وقد قبلت تربيته صعرا، واحتملته وزرا، واحتضنته نكرا، وتأبطته شرا، ولم آله عذرا، فأن المرء بالمال، وثياب الجمال، ولست مع هذه الحال، وفي هذه الأسمال، وأتقزز صف النعال، فلو صدقته العتاب، وناقشته الحساب، لقلت أن بوادينا ثاغية صباح، وراغية رواح، وناسا يجرون المطارف، ولا يمنعون المعارف وفيهم مقامات حسان وجوههم=وأندية ينتابها القول والفعل
ولو طوحت بأبي بكر أيده الله طوائح الغربة، لوجد منال البشر قريبا، ومحط الرحل رحيبا، ووجه المضيف خصيبا، ورأى الأستاذ أبي بكر أيده الله في الوقوف على هذا العتاب الذي معناه ود، والمر الذي يتلوه شهد، موفق أن شاء الله تعالى) فرد الخوارزمي رداً حسنا
وسعى سعاة السوء بين الرجلين. ثم جمع بينهما الشيخ أبو الطيب فلم يحمد ذلك الاجتماع.(40/41)
ثم كانت بينهما المناظرة الأولى في دار السيد أبي علي أحد الكبراء في نيسابور، فتناظرا في ارتجال الشعر مناظرة ظهر فيها غلب البديع وقد غضب من قطع الخوارزمي إنشاده عليه فصمت برهة، يقول الهمذاني: (ثم عطفت عليه وقلت يا أبا بكر أن الحاضرين قد عجبوا من حلمي، أضعاف ما عجبوا من علمي، وتعجبوا من عقلي، اكثر مما تعجبوا من فضلي، وبقى الآن أن يعلموا أن هذاالسكوت ليس عن عي، وان تكلفي للسفه اشد استمرارا من طبعك، وغربي في السخف امتن عوداً من نبعك، وسنقرع باب السخف معك، ونفترع من ظهر السفه مفترعك، فتكلم الآن. فقال لي أنا قد كسبت بهذا العقل دية أهل همذان مع قلته، فما الذي أفدت أنت بعقلك مع غزارته، فقلت: أما قولك دية أهل همذان فما أولاني أن لا أجيب عنه، لكن هذا الذي تمتدح به وتتبجح وتتشرف وتتصلف، من انك شحذت فأخذت، وسألت فحصلت واجتديت فاقتنيت، فهذا عندنا صفة ذم يا عافاك الله.
ذهب البديع إلى بيت الخوارزمي واصطلحا. ثم شاع بين الناس أن البديع غلب، فكتب الخوارزمي إليه يتهمه بأنه شاع هذا الكلام، ويقترح مناظرة أخرى، فكانت المناظرة الثانية في بيت الشيخ أبي القاسم الوزير. وحضرها عظماء نيسابور، وكانت مباراة الارتجال والترسل والنحو واللغة، وقضى بالفلج للهمذاني فلما خرج لقيه الناس بالتقبيل ولم يستطع الخوارزمي الخروج حتى جنه الليل.
وفي رسائل الهمذاني تفصيل المناظرة التي قضت له بالفلج. وينبغي أن لا ينسى القارئ أن هذا قول أحد الخصمين، ولست اتهم الهمذاني بالكذب الصراح، ولكني لا أبرئه من محاباة نفسه. ثم ينبغي أن نتذكر أن الخصمين ليسا سواء: أحدهما شيخ طائر الصيت يخشى أن يؤخذ عليه ما ينقص من قدره، والأخر شاب طامح إلى الصيت يريد أن يبني مجده على هزيمة قرنه، وهو لا يخسر كثيراً إن غلب، وهذا مظنة أن يستعظم الحاضرون ظفر البديع ولو كان قليلا وهفوة الخوارزمي ولو كانت مما يغتفر أمثالها. ثم أظن أن بعض النيسابوريين كانوا يحسدون الخوارزمي، ويودون أن يذهب بمجده ذلك الضيف الشاب الجميل الطلعة، الخفيف الروح.
وكان الخوارزمي، فيما يظهر متكبرا ذا جفاء، قليل الوفاء:
قال الصاحب بن عباد حين جاءه نعيه:(40/42)
أقول لركب من خراسان قافل: ... أمات خوارزميكم؟ قيل لي نعم
فقلت اكتبوا بالجص من فوق قبره ... ألا لعن الرحمن من كفر النعم
ويقول أبو سعيد الخوارزمي:
أبو بكر له أدب وفضل ... ولكن لا يدوم على الوفاء
مودته إذا دامت لخل ... فمن وقت الصباح إلى المساء
ثم لم تكن المناظرة في صميم الأدب من الشعر والترسل، بل كانت في البديهة والارتجال والحفظ. قال الهمذاني وهو يتحدى خصمه: (ومثال أن أقول لك اكتب كتابا يقرأ منه جوابه هل يمكنك أن تكتب؟ أو أقول لك اكتب كتاباً على المعنى الذي اقترح لك، وانظم شعراً في المعنى الذي اقترح، وافرغ منهما فراغا واحداً. هل كنت تمد له ساعداً؟ وأقول لك اكتب كتابا في المعنى الذي أقول وأنص عليه، وانشد من القصائد ما أريده من غير تثاقل ولا تغافل، حتى إذا كتبت ذلك قرء من آخره إلى أوله، وانتظمت معانيه إذا قرء من أسفله هل كنت تفوق لهذه الغرض سهما أو تجيل قدحا أو تصيب نجحا، أو قلت لك اكتب كتابا إذا قرء من أوله إلى أخره كان كتابا، فأن عكست سطوره مخالفة كان جوابا الخ، وقد أجاب الخوارزمي على هذا كله بقوله: (هذه الأبواب شعبذة) وهي أن لم تكن شعبذة فهي ليست من الأدب، وأن دلت على توقد الذكاء وسرعة البديهة.
ولست أقول أن البديع ليس أعلى من الخوارزمي في الأدب مقاما. ولكن أقول ما غلب بديع الزمان أبا بكر الخوارزمي هذه الغلبة التي تصورها رسائل الهمذاني ويرويها الأدباء.
اغتيط بديع الزمان بنيسابور ولقي من سراتها حفاوة وإكراما يقول في رسالة إلى أبيه عن صديق كان قد وعده اللحاق به: (وكان سألني أن أرود له منزلا وماؤه روى، ومرعاه غذى وأكاتبه لينهض إليه راحلته. فهاك نيسابور ضالته التي نشدتها، وقد وجدتها، وخراسان منيته التي طلبتها وقد أصبتها. وهذه الدولة بغيته التي أردتها، فقد وردتها، فان صدقني رائداً، فليأتني قاصدا. . . وأما أنا وأخباري بهذه الناحية فمتقلب في ثوب العافية، موقر بهذه الحضرة مرموق بعين القبول)
وقد كتب كثيرا من رسائله إلى جماعة من رؤساء نيسابور وهي تدل على ما كان بينه وبينهم من مودة. وفي نيسابور لقي بني ميكال ومدحهم. وفي رسائله واحدة إلى أبي جعفر(40/43)
الميكالي يشكو فيها تقصيره في تعظيمه: (وهل كنت تلا ضيفا هداه منزع شاسع، وأداه أمل واسع، حداه فضل وان قل، وهذا رأي وأن ضل، ثم لم يلق إلا في آل ميكال رحله، ولم يصل إلا بهم حبله، ولم ينظم إلا فيهم شعره، ولم يقف إلا عليهم شكره. . . ودخلت مجلسه وحوله من الأعداء كتيبة فصار ذلك التقريب ازورارا. وذلك السلام اختصارا، والاهتزاز ايماء، والعبارة اشارة، ويقول في رسالة أخرى إليه: (واعرفه إني ما اطوي مسافة مزار إلا متجشما ولا أطأ عتبة دار إلا متبرما. ولست كمن يبسط يده مستجديا، أو ينقل قدمه مستغذيا. فان كان الأمير الرئيس، أطال الله بقاءه يسرح طرفه في طامح أو طامع، فليعد للفراسة نظراً) ثم ينقلب عتابه هجاء فيقول في رسالة إلى ابن ميكال (اشهد لئن صدق البحتري في اللامية، لقد صدق الأعشى في الصادية، وان وصف الدريدي في المقصورة، فلقد تغير الأمر عن الصورة، وان كان كالآخر الأول فما أحوج الكتب المقراض، وأكذب السواد على البيض - إلى أن يقول: اللامية قول البحتري:
ثلاثة عجب تنبيك عن خبري ... فيها وعن خبر الشاه ابن ميكال
والصادية قول الأعشى:
كلا أبو بكر كان فرعى دعامة ... ولكنهم زادوا وأصبحت ناقصا
يريد الهمذاني أن يقول أن بني ميكال كانوا كما قيل فيهم ولكن هذه الرئيس من بينهم قصر عن شأوهم.
ونجد الهمذاني في نيسابور يكتب إلى الشيخ العميد مستنجزا وعده في توليته بعض الأعمال: (فهل للشيخ أن يلطف بصنيعته لطفا يحط عنه دون العار، وسمة التكسب والافتقار، ليخف على القلوب ظله، ويرتفع عن الأحرار كله، ولا يثقل على الأجفان شخصه بإتمام ما كان عرضه عليه من اشغاله، ليعلق باذياله، وليستفيد من خلاله، فيكون قد صان الفضل عن ابتذاله، والأدب عن إذلاله، واشترى حسن الثناء بجاهه كما يشتريه بماله)
وفي نيسابور أملي المقامات. وسيأتي الكلام فيها.
يتبع
عبد الوهاب عزام(40/44)
من طرائف الشعر
يريد الحب أن نضحك
للأستاذ إيليا أبو ماضي
تعالى نتعاطاها ... كلون التبر أو اسطعْ
ونسقي النرجس الواشي ... بقايا الروح في الكأس
فلا يعرف من نحن ... ولا يبصر ما نصنعْ
ولا ينقل عند الصب ... ح نجوانا اسلي الناس
تعالى نسرق اللذا ... ت ما ساعفَنا الدهر
وما دمنا وما دامت ... لنا في العيش آمال
فان مر بنا الفجر ... وما أيقضنا الفجر
فلا يوقضنا علم ... ولا يوقضنا مال
أراد الله أن نعش ... قَ لما أوجد الحسنا
وألقى الحب في قلب ... ك إذ ألقاه في قلبي
مشيئته وما كانت ... مشيئته بلا معنى
فان أحببتِ ما ذنب ... ك أو أحببت ما ذنبي؟
دعي اللاحي وما صنَّفَ ... والقالي وبهتانهَ
وللجدول أن يجري ... وللزهرة أن تعبقْ
وللأطيار أن تشتا ... قَ أيَّاراً وألوانه
وما للقلب وهو القل ... ب أن يهوى وأن يعشق
تعالى أن رب الحب ... يدعونا إلى الغاب
لكي يمزجنا كالما ... ء والخمرة في الكأس
ويغدو النور جلباب ... ك في الغاب وجلبابي
فكم نصغي إلى الناس ... ونعصي خالق الناس؟
يريد الحب أن نضحكَ ... فلنضحك مع الفجر
وأن ترقص فلنرقص ... مع الأمواج في النهر(40/46)
وأن نهتف فلنهتف ... مع البلبل والقمري
فمن يعلم بعد اليوم ... ما يحدث أو يجري؟
تعالى قبلما تسكُ ... ت في الروض الشحارير
ويذوي الحور والصفصا ... ف والنرجس والآس
تعال قبلما تطمر ... أحلامي الأعاصير
فتستيقظ لا فجر ... ولا خمر ولا كاس
-(40/47)
إليه!
أحب ولو لم أحظ منك بنائل ... وحسبي من حبي تعلل آمل
كتمت شكاتي عنك حتى حسبتني ... بما رحت ألقى في الهوى غير حافل
وبي من تباريح الهوى ما أعادني ... بزفرة محزون وأنة ثاكل
لكَم بت ظمأنا لريقك صاديا ... فأُوردْتُ دون العذب مرّ المناهل
وقد كانت الدنيا كأرحب ما ترى ... فصيرتها بالهجر كفة حابل
أعدلاً تبيت الليل جذلان هانئاً ... وأقطع هذا الليل جمَّ البلابل
لشد الذي لاقيت من عنت الهوى ... وأن كان في بردي له صبر باسل
وأقسمت لا أشكو صدودك بعد ما ... تبينت أن القول في غير طائل
فكن كيفما تبغي فلست مباليا ... أأشفقت أم أثقلت بالهم كاهلي
محمد برهام(40/48)
كيف تشكو؟
كيف تشكو إلىَّ زيداً وعمرا ... إنما كل ما أتوه صوابُ
إن دنياك قوةٌ فكن الذئ ... ب وإلا تخاطفتك الذئاب
إن عيش القوى رغد هنيٌّ ... وحياة الضعيف فيها عذابُ
لا تقل لي الضميرُ والعهد والعدْ ... ل كلام منمق مستطاب
فارْم عنك القشور وانفذ إلى اللب ... بّ يطالعك بالمفيد اللباب
في قرار الكأس التي ضمت الشه ... د تفاني سم زعاف مذاب
ووراء العيون تطفحُ بالبش ... ر قلوب بالغدر ملأى صلاب
فادَّرع للحياة عزما من الفو ... لاذ وانهد فالعيش ظفر وناب
حمص (سوريا)
صفي قرنفلي(40/49)
ذكرى العيد
فراقٌ إلى غير اللقا لا يرده ... بكاء ولا وجد ولا حر أنفاس
ولا نظرة قبل الوداع أفدتها ... ولا دمعة تذري لدى الراحل الناسي
حلفت يمينا بالصبابة والهوى ... لقد ضيعتْ أوفى محب من الناس
وخلَّت فؤاداً لم يخفَّ لغيرها ... طعينا ولا يشفيه طبٌ ولا آس
خفوقا وقد شدت عليه أضالعي ... وليس له من بينهن مواس
كنجم بدا في حندس الليل مفرداً ... يطل على جيش من الليل فراس
وخلفت نفسي في الأسى لا تريمه ... ووجدٍ مُلِحٍ ظلمه فادح قاسٍ
كشاةٍ أضلت صحبها وتخلفت ... بيداء تعدوا بين هم ووسواس
كذلك ذكرى العيد من قاتل الهوى ... وكان نديمي كل عيد وإيناسي
إذا العيد لم يحمل إليَّ حديثها ... ونشراً زكيا دونه عابق الآس
فما العيد إلا مأتم متجدد ... يهدم قلبي أو يقطع أنفاسي
شرق الأردن
حسني فريز(40/50)
الشعراء الرمزيون
1 - بول فرلين 1844 - 1896
للأستاذ خليل هنداوي
شخصية هذا الشاعر شخصية غريبة، قد اصطلحت عليها أعاصير الحياة، وانحطت عليها الآلام، وهي خلال ذلك تبعث بالألم، وتنشد الشقاء خاليا من الحان الشقاء.
كانت حياته الأولى حياة هادئة كالسماء الصافية لا يغشى أديمها شيء. ثم بدأت سحائب سوداء قاتمة تحتشد من كل صوب لتحجب هذا الصفاء، واستطاعت أن تحجبه، واستطاعت أن تعكر عليه صفاءه. وتجعل حياته الجميلة مأساة عاشت مع نفسه. وترددت أنفاسه في هذه المأساة التي عصفت به وعصف بها!
رحم الله أبا نواس. فقد كان يدعو الندامى والشاربين إلى أن يغبطوه على سكره كلما شرب، لأنه يرى في سكرته نشوتين، ويقول لنداماه: تسكرون انتم سكرة واحدة، وأنا اسكر سكرتين.
لي نشوتان وللندمان واحدة!
وكذلك كان (بول فرلين). فسكره كان متصلا، وذهوله الروحي كان متصلا، يقتله السكر الأول ولكن السكر الثاني يحييه. ولعله كلما توغل في السكر القاتل زادت محبة الحياة عنده في السكر المحيي، فألح عليه أصدقاؤه أن يتحرى المرأة فتحرى فوجدن وشفع له جمال نفسه عن دمامة وجهه. ولكنه لم يجد الشفاء المرتجى في المرأة، فذهب يتحرى، ولعله تمثل أن شفاء نفسه في صديق يفهمه، ولعله اعتقد انه وجده في الشاعر الرمزي (ارتور راميورد) فمال إليه ميلا غريبا. . وفتحت قصائده مغاليق نفسه، فاتصلا بضعة اشهر ثم انفصلا، ولعل أمر انفصالهما كان كأمر اتصالهما، لان الأرواح قد تتجاذب وقد تتدافع. ولكن هذا الانفصال لم يكن إلا إلى حين، لان (فرلين) الضعيف كتب إلى صديقه يدعوه، فلبى الصديق نداءه، وعاد إليه يقضيان - في بلجيكا - حياة تضل فيها الظنون، وتحلق فيها الأوهام. ولكن أمد هذه الصداقة لم يطل. وليته مات موتاً، ولكنه انقطع انقطاعا. فأن (فرلين) عقب سكرة عنيفة قد اقتفى اثر صديقه في الطريق. وأطلق عليه رصاصة جرحته جرحا بليغا. شاء ذلك (فرلين) السكير. وشاءت ذلك نفسه الذاهلة الغلبة على نفسه الواعية،(40/51)
ولعل مبعث ذلك كله هو الخمر! فلبث عامين يتخبط في سجن (بروكسل). حتى إذا انطلق من السجن عاد إلى ميدان الحياة يغامر فيه، ويطلب لنفسه منفسحا، فشغل مناصب علمية في أقطار مختلفة، ثم لجأ إلى باريس. لا يحمل إلا قلبه الشاعر! وقلب الشاعر أرجوحة تترجح بين الشقاء والهناء، فعزاه عن خطوبة انه طفق يرى كوكب مجده يسطع ويتألق، وان أصدقاءه المعجبين به يشيعون ويظهرون، فلتفن كل آلام الحياة أمام هذا الأمل المشرق، ولتقو ما شاءت أشواك الألم ما ظللت هذه الزهرة حية لا تقدر على خنقها.
أما مجده الشعري الذي خلقه من بعده، فهو يتجلى في مذهبه الرمزي الذي لم يتكلفه تكلفاً. وإنما كان برموزه يساير روحه التي تأنس بالغموض والإبهام، وتأوي إلى عالم ملؤه الأوهام والأحلام.
جرب (فرلين) جل المذاهب الشعرية الشائعة في عصره، فسمع الحان (الرومانتيكيين) وطرب لها، ولكنه فر عاجلا وأبى أن يظهر مرارته بهذه الألحان، فأتى المدرسة (البرناسية) ووجد فيها ضالته، فنظم قصائد كثيرة خالية من ميول النفس واهوائها، وهو القائل:
(أليست من رخام (فينوس ميللو))؟
فقد فرض على قلبه أن يكون من رخام أيضاً يوم يتلمس هذا الجمال الرخامي.
ولكن (فرلين) المتقلب لا يجد أن هذه المذاهب تستطيع أن تتسع لنفسه الفياضة، فهو يحس - في نفسه ميولا غامضة تتمشى، ونزوات مبهمة تتهادى، فأي فن رخامي يقدر على بيانها؟ فمال عن المدرسة (البرناسية) ومشى وراء الشاعر (بودلير) مشية المحترس فاخذ من (بودلير) كثيراً. وولد شعر (بودلير) في نفسه كثيراً وأيقظ في نفسه كوامن كان يحسها، ولكن لا يجد إلى الإفصاح عنها سبيلا.
وبعد أن رأينا (فرلين) يصارع أصحاب الشعر العاطفي الشخصي نراه غدا أوضح الشعراء شخصية وعاطفة في شعره، ونرى قصائده الأخيرة إنما هي رسالات حقيقية يمكننا أن نعتمد عليها في درس شخصية الشاعر، تلك الشخصية المعقدة الجوانب التي اجتمعت فيها مذاهب متباينة وميول من الحياة متنافرة، وصدر من اجتمعت فيه هذه المذاهب وهذه الميول نراه طوراً كالرخام تمر به وتضج وتثور فلا يحسها، وطوراً تمر به مر النسيم(40/52)
فيتأثر ويهيج، و (فرلين) الرخامي القلب الذي كان يصف الأشياء وصفا متجردا عن الأهواء يصبح شاعراً محللا نفسياً، نزل إلى أعماق النفوس، وصف الكآبة العميقة المتمددة في حناياها، ووصف التأملات المشوشة يوم تعبس، وأحلامها المتبدلة حين تطرب. كل ذلك وصفه بعبارات تتمشى مع حركات النفس، وتنسجم مع ألحانها متوافقة متلائمة، ووراء هذه العبارات إحساس حي دقيق، ولكنه إحساس لا يظهر فيه الشقاء واضحاً منتصراً غالباً على كل شيء، ولكنه ذلك الإحساس المفعم بالظلمة والمغشي بالإبهام، كأنما يسري الساري فيه في جو مبطن بالضباب، والشاعر بين حقيقة حياته المظلمة الممقوتة وبين تلك التعازي التي كان يرسلها فنه وإحساسه أحلاماً جميلة ملونة، كان يمشي بفنه، ويحلق في افقه، مبدعا ذلك الشعر الذي دعاه معاصروه بحق (بالشعر الرمزي) وأضافوا لحنه الجديد إلى ألحانهم الشعرية.
(وفرلين) بعد هذا كله أبدع شعراً جديداً البسه مطارف فن جديد، وخلق للشعر لغة جديدة اجمع النقاد على أنها أسمى لغة شعرية، ولم يكن (فرلين) بنفسه إلا أنشودة جديدة مرت على أوتار قيثارة الشعر.
مختار من شعره
- 1 -(40/53)
أغنية الخريف
تجرح تلك الأنات الطويلة
التي ترسلها قيثارة الخريف. . .
وتبعث في نفسي الكلال والفتور
تدق الساعة! فتطفح نفسي بالذكريات القديمة!
فتبهت ملامح وجهي، وتضيق أنفاسي!
وتذرف عيناي الدموع.
استسلم إلى رياح الخريف!
فتحملني مثلما تبتغي. . كما تحمل الزهرة الذاوية!
- 2 -(40/54)
القمر الأبيض
هذا هو القمر اللجيني يسطع في الغابة،
وتحت كل فرع، ومن كل غصن
يتعالى صوت هاتف (يا محبوبتي!)
هذا هو الغدير الرقراق كالمرآة المصقولة،
تسبح فيه خيالة الصفصافة السوداء
حيث تبكي الريح
ألا فلنحلم. . . هذه هي ساعتنا
والهدوء الشامل قد غمر الكون،
كأنما تنزل من اللانهاية المشرقة ألوانها
إلا إنها الساعة المنتظرة. . .
- 3 -(40/55)
منظر
والبلبل القائم على الغصن يخال نفسه
ساقطا في الماء يخشى على نفسه
الغرق وهو في ذروة السنديانة
(سيرانو)
تموت ظلال الشجر على صفحة الساقية التي غمرها الضباب
كما يموت الدخان.
بينما الحمائم في الفضاء تبث الشكاوي
وترسل النجاوى بأمان
أيها المسافر! إن هذا المرأى الحائل
ليبعث في نفسك الحؤولة
ويغادرها تحت الظلال العالية، كاسفة كئيبة
آمالك الغرق التي تموت،
- 4 -(40/56)
من السجن
السماء - هنالك - لامعة زرقاء. .
وشجرة - هنالك - تهتز غصونها في الفضاء
الناقوس تتهادى دقاته في الأجواء
والعصفور يرسل شكواه نشيدا وغناء
إلاهي! إلاهي! إن الحياة - هنالك - يحفها الهدوء والسكينة
وهذه النأمة الخفيفة - هي أصوات المدينة،
يا أيها الساكن - هنالك - تبكي البكاء الطويل!
قل: ماذا تصنع أنت بشبابك الجميل
- 5 -(40/57)
جرين
إليك هذه الثمار، وهذه الأزهار!
إليك هذه الأوراق، وهذه الأغصان!
إليك قلبي، الذي لا يخفق إلا من أجلك،
لا تمزقه بالله يداك الناعمتان البضتان
ولتقبل هديتي الوضيعة عيناك الجميلتان!
وصلت إليك! وعلى جبيني تتألق قطرات الندى
التي جمدتها ريح الصباح
تألمي لي! فأن شقائي الذي يسكن تحت قدميك،
يحلم بتلك الثواني العزيزة التي ستزمع الأرواح.
دعي رأسي على صدرك الساطع،
ترى فيه أصداء قبلاتك الأخيرة،
دعيه يسترح من العاصفة الثائرة
وذريني يطبق جفني الكرى حيث أنت تهجعين. . .
- 6 -(40/58)
كآبة
تهوى الكآبة على قلبي كما تهوى على المدينة ماء السماء!
فما عسى تكون هذه الكآبة التي غمرت قلبي! وما هذا الشقاء؟
آه! أن وقع المطر على الأرض والسقوف يبهج الفؤاد
الذي اعتاده سأم. . . آه يا أغنية الشتاء!
تهبط الكآبة والشقاء القاتم، بدون سبب على هذا القلب الساهم.
فعلى أي عهد ضائع أكتئب؟
ألا أن هذا الحداد بغير سبب.
ألا أن هذا هو العذاب الأكبر!
يكتئب فؤادي
وينتابه الأسى، دون أن يعتاده حب أو يهيجه بغض
وهو لا يعلم - بعد ذلك - لحزنه سبباً!
دير الزور
خليل هنداوي(40/59)
5 - في البحوث الروحية
للأستاذ عبد المغنى على حسين خريج جامعة برمنجهام
لهذه البحوث جانب علمي وجانب ديني. أما الجانب الديني فقتله بحثا جهابذة من المصريين، وأما الجانب العلمي فأمنية هذا القلم الضعيف أن يبسط ما تم منه، ويتتبع عن كثب ما يستجد فيه، ومن وراء هذا القلم نفس تتمنى لو أن بمصر معهدا لهذه البحوث، فلعل الأماني تحققها الأيام.
وللبحوث الروحية أيضا جانب تاريخي، إذ الظاهر الروحية لم يخل منها عصر من العصور، عرفها سقراط، وأندفعت بتأثيرها جان دارك، ومارسها الكهنة والسحرة، دع جانبا وحي الأنبياء ومعجزاتهم، وكرامات الأولياء، وما أدى ويؤدي إليه التصوف. ليست الظواهر الروحية بمكتشف جديد، وإنما الجدي هو أن يفلحها العلم الحديث بمحراثه التجريبي البطيء الأكيد.
هل الحياة بعد الموت إحدى الحقائق الكونية، أم كل ما يقال عنها توهم وإيهام؟ وإذا كانت تلك الحياة حقيقة واقعة فما القوانين الطبيعية التي تربطها بهذه الحياة؟ وما العلاقة بين الجسم المادي الذي نعيش به هنا والجسم الروحي الذي نعيش به بعد الممات؟ وكيف ينشأ وينسلخ هذا من ذاك؟ سيخيل إلى القارئ أن المبحث عبث، والمطلب مستحيل، ولكن عددا من رجال العلم قد أوغلوا في هذه السبيل، ووصلوا إلى نتائج حاسمة، ونبشوا في صخرة الموت الصماء ثغرة يضع انفه فيها كل يوم باحث جديد، وقد تتسع يوما ما لكل الأنوف.
الجسم البشري يتألف من كهاب سالبة وموجبة، والتمثال الحجري يتألف من نفس تلك الكهارب. ولكن الجسم البشري يحس ويتصور ويتذكر ويفكر ويريد. فما السر في أن كهارب الجسم البشري حية عاقلة، وكهارب التمثال ميتة خاملة؟
هناك رأيان. أحدهما أن ظواهر الحياة في الجسم الحي ليست سوى نتائج طبيعية لترتيب كهاربه على نسق خاص، أو هي، بصيغة أخرى، نتائج آلية لتركيب الكيميائي. ذلك أن المادة بمفردها تكون ذات خواص معينة، فإذا اتحدت بمادة أخرى نتج مركب تختلف خواصه عن خواص المادتين اختلافا بيناً.
فالأيدروجين مثلا غاز خفيف، تصعب اسلته، والأوكسجين غاز يتوهج فيه القبس المتقد،(40/60)
ولكن إذ اتحد الأوكسجين بالأيدروجين نتج الماء، وشتان بين خواص الماء وخواص كل من الأيدروجين والأوكسجين. وخذ مثالا آخر: الكلور غاز يعافه الانف، متلف، مهلك، سم زعاف، والصوديوم فلز نشيط قوي الفعل، ولو وضع الإنسان حبة منه في فمه لنسف حلقه نسفا، ولكن إذا اتحد الكلور بالصوديوم نتج جسم لطيف، يصلح المعدة، والدم، هو الملح الذي به نأتدم، وبدونه لا نستمرئ الطعام. فأصغر تعقيد كيميائي في تركيب المواد يحدث اكبر تغيير في خواصه، فلعل كل ظواهر الحياة، على غرابتها، ليست سوى خواص طبيعية وكيميائية للمركب المعقد المسمى بالبروتوبلاسم
هذا الرأي الكثرة من علماء البيولوجيا. وأصحاب هذا الرأي لا يرون البعث من الممكنات، وعندهم أن الرجل إذا مات، وتفككت ذرات جسمه، فصعد بعضها في الجو بهيئة غاز، ورسب الباقي في التربة بشكل ملح، وشتت الريح الغاز فيالقارات الخمس، وأسلمت التربة الملح إلى جذور النبات، فقد عاد الرجل كأن لم يكن، وبعثه من جديد رجع بعيد، وليس له روح إلا بقدر ما يكون للملح روح بعد تحليله إلى الكلور والصوديوم.
ومن زعماء هذا الرأي سر آرثر كيث، أستاذ البيولوجيا وعضو المجمع العلمي البريطاني، فهو يقول: -
(. . . إذا كنا نخلد فإنما نخلد في أبنائنا وذرارينا. . . قبل أن نتساءل عن كنه الحياة وإمكان استمرارها بعد الممات، يحسن أن نقول ما هو الموت. إذا وجد الطبيب قلب مريضه سكت، ولم يبق لتنفسه مد وجزر، قرر أن الموت حل بساحته. ولكن ليس هذا بصحيح، إذ لو هيأ الطبيب في الحال جهازاً يدفع دماً طازجا مشبعا بالأوكسجين في الأوعية الدموية لمخ الميت، لاستعاد هذا وعيه وذاكرته، وقدر على التفكير، ونطق بالكلام، وبقى كذلك ما بقى في عروق مخه دم صبيح. فإذا أوقف الدم عشر دقائق دخلت خلايا المخ في موت لا حياة بعده، ولكن خلايا القلب تظل حية، بحيث لو اقتطع وأحيط بوسائل خاصة عاد يدق كما كان يفعل بين ضلوع صاحبه، أما خلايا الشرايين فتعيش بعد الوفاة أربعين ساعة. الموت لا يحدث دفعة واحدة بل بالتدريج، وخلايا الجسم تموت فرادى كما يموت السكان في قرية جائعة - الضعيف يموت أولا والقوي يعيش بعده إلى حين. لو كان الموت كما يقول سر أليفر لدج هو خروج روح من الجسم لحدث دفعة لا بالتدريج. . . لا يستطيع(40/61)