الجناح الذي قبل المعاهدة وعمل لتنفيذها قابضاً على ناصية الحكم بزعامة مستر كوزجريف رئيس الحكومة الارلندية مدى أعوام، ولبث فريق الأقلية بزعامة مستر دي فاليرا موضع الاضطهاد والمطاردة، وسارت دولة ارلنده الحرة في الطريق الذي رسمته معاهدة لندن، والتحقت بعصبة الأمم منذ عام 1923. ولكن حزب السين فين الجمهوري لم يفتر عزمه ولم يتحول عن سياسته، وكان الاضطهاد الذي يلاقيه من عوامل تقويته وازدياد أنصاره، وجاءت الانتخابات سنة 1927 مؤيدة لقوته ونفوذه، فنالت الحكومة فيها أقلية، ونال الجمهوريون أغلبية، ولكن الرئيس كوزجريف استطاع ببعض التدابير السياسية والبرلمانية أن يحتفظ بالحكم أعواما أخر. وفي فبراير سنة 1932 حصل الجمهوريون على أغلبية جديدة، فانسحب كوزجريف، واستولى الجمهوريون بزعامة دي فاليرا على الحكم؛ وبدأ عهد جديد من النضال الرسمي بين إنكلترا وارلنده هو الذي نشهده اليوم.
ويجب أن نذكر كلمة عن دي فاليرا زعيم ارلنده الحالي. فقد ولد ايمون دي فاليرا سنة 1882 في نيويورك من أب إسباني وأم أيرلندية، ودرس في معاهد ارلنده، وتخصص في العلوم الرياضية ونال عدة إجازات جامعية، وتولى التدريس حيناً، ثم انتظم في الحركة الوطنية وخاض غمار السياسة، وانضم إلى حزب السين فين، وظهر في زعامته بسرعة، وكان من زعماء ثورة سنة 1916، فأسر وقضي عليه بالإعدام وخفف الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة. ثم أفرج عنه عند صدور العفو العام في سنة 1917 وعاد فتزعم حركة السين فين وأصبح قائدها ورأسها المدبر، وانتخب رئيساً (لجمهورية ارلنده) فاعتقل ثانية، ثم فر في سنة 1919 إلى أمريكا وعاد بعد عامين إلى ارلنده، واشترك في مفاوضات معاهدة لندن، ولكنه لم يقبل النتائج التي انتهت اليها؛ وشهر الخصومة على المعاهدة منذ عقدها؛ وأعلن الثورة على دولة ارلنده، فقبض عليه في أغسطس سنة 1923، وافرج عنه بعد عام، فعاد إلى النضال السياسي، ودخل البرلمان سنة 1927 على رأس كتلة جمهورية قوية، وتولى رياسة الحكومة الارلندية منذ أوائل سنة 1932.
وأبدى دي فاليرا مذ قبض على ناصية الحكم عزمه على تنفيذ البرنامج القومي الجمهوري، وخلاصته العمل على تحقيق الاستقلال التام لارلنده الموحدة في ظل النظام الجمهوري؛ وإلغاء كل ما فرض عليها من رسوم التبعية البريطانية. ذلك لأن معاهدة لندن شطرت ارلنده(24/20)
إلى شطرين: ارلنده الشمالية أو ألصتر وأعمالها، وقد بقيت في حوزة بريطانيا العظمى؛ ويبلغ سكانها مليون وربع نسمة؛ وتشمل أغنى بقاع ارلنده وبها أهم المراكز الصناعية وهي بروتستانتية المذهب. وارلنده الجنوبية وهي التي تناولتها المعاهدة وجعلتها دولة حرة؛ ويبلغ سكانها ثلاثة ملايين؛ وهي بلد زراعي؛ وتسودها الكثلكة. فمعاهدة لندن تمزق الوحدة الارلندية في الواقع. ولكن يرد على ذلك أن ارلنده الشمالية قد استعمرها الإنكليز منذ بعيد وهي تود البقاء كجزء من المملكة المتحدة، وهذا ما لا يسلم به الشعب الارلندي.
واما فروض التبعية البريطانية التي يراد إلغاؤها فهي: (1) يمين الولاء والطاعة للتاج البريطاني (وقد ألغي، بالفعل بقانون أصدرته حكومة دي فاليرا) و (2) استئناف أحكام المحكمة الارلندية العليا إلى مجلس الملك الخاص و (3) حق الحاكم العام في تحديد الأبواب التي تنفق فيها الأموال العامة، وحق التصديق على القوانين. وأخيراً يراد إلغاء الديون الزراعية التي تلزم ارلنده بأدائها لإنكلترا، وتراها ارلنده ظالمة مرهقة ولا يحق أداؤها لأن الأراضي التي تؤدى عنها ملك للشعب الارلندي.
وقد شهدنا الفصل الأول من هذا النضال الذي تشهره اليوم ارلنده على بريطانيا العظمى حينما قدم دي فاليرا قانون إلغاء يمين الطاعة إلى البرلمان الأرلندي، وامتنع عن أداء الأقساط الزراعية وقام بين البلدين من جراء ذلك جدل سياسي عنيف، واتخذت بريطانيا اجراءات اقتصادية شديدة ضد ارلنده؛ وعمد دي فاليرا إلى المثل. واليوم نشهد فصلاً آخر؛ فان دي فاليرا يريد إعلان الجمهورية في ارلنده؛ وقد وجه بالفعل مذكرة رسمية بذلك إلى الحكومة البريطانية يطلب فيها إيضاح موقفها فيما لو تم هذا الأجراء، فردت عليه الحكومة البريطانية بأنها لا ترى إبداء الرأي في احتمالات لم تقع وتستبعد وقوعها لأنها تكون خرقا للمعاهدة المعهودة.
ولكن دي فاليرا ماض في طريقه، مصر على سياسته، وإن كان يجد معارضة لهذه السياسة من فريق كوزجريف، وفريق الجنرال (أو دوفي) (القمصان الزرقاء) اذ يخشيان عواقب هذا العنف على مصير ارلنده ومصالحها الأقتصادية، وهذه المصالح أشد ما تكون ارتباطاً ببريطانيا العظمى وتوقفاً عليها.
فهل ينجح دي فاليرا في تحقيق برنامجه القومي المتطرف، وإنشاء ارلنده الجديدة مطلقة(24/21)
الاستقلال والحرية في ظل النظام الجمهوري؟
هذا ما سيكشف المستقبل القريب عنه.(24/22)
ذات القميص الأزرق أو فتاة الريف
عيني على رمانتي صدر! ... أو مهجتي يا عين لا أدري
يا للبروز أدق ما وجبا ... يا للحجاب أرق ما حجبا!
أفذاك غصن أثمر العجبا؟
أم أنت يا قرويةٌ تسري ... مثل النسيم على قرى مصر
هذا جمالك صنعه اللهِ ... آهٍ لفتنة سحره آهِ!
يا سمرةً في وجهك الباهي!
سحرت عيون البيض والسمر ... وهفا الجميع للونكِ (الخمري)
هذا قوامكِ يا أبنة الريف ... أخزى قدود الخرَّد الهيف
في إسكندرية أو بني سويفِ
أو في (الزمالك) أو على الجسر ... والنيل تحت عيوننا يجري
هذا قميصك ساذج حال ... لون السماء بلونه الغالي
عند الضحى أو في الدجى الخالي
بنت الطبيعة أنت والدهر ... والشمس والجنات والنهر
أغرى قميصك فنَّ (مختار) ... فبرزت فيه بثوبك العاري
يمناكِ توقظ ذلك الضاري
بو الهول كان كمُغرَق البحر ... فإذا بكفك طلسم السحر
ما عبقرية حسنك البادي! ... شبه المهاة وأنت في واد
تصحين قبل الطائر الشادي
وعلى ضفاف الترعة الخُضر ... تردين بين عرائس الفجر
لو تعلمين لكدت تلقينا ... شغفاً بنفسك بين أيدينا
كالورد يعتنق الرياحينا
والأختُ عند مغيب القبر ... ألقت بروعة ذلك الصدر
لكننا نهفو اليك هوى ... لا الطرفُ زاغ ولا الفؤاد غوى
يا للجوى إن كان ذاك جوى!
أو يا لصَون الطرف عن عهر! ... حاشا لنا وحيائك العذري(24/23)
يا بنت (قاسم) حيثما كنتِ ... أنت الوحيدة بنته أنتِ
ما عز قط سواكِ من بنتِ
لم تسفرين وأنت كالبدر؟! ... علّمت حتى ربة الخِدر
ماذا أصابك حين أسفرت؟ ... جارت عليك الأرض أم جرتِ
أم من سفورك قد تأخرت؟
أم أخرتك طبيعة الخير؟ ... وغريزة في العيش كالطير
يا أختَ أين شعاعك الماضي؟ ... وحمية خلقت لإنهاض؟
لم يبقى منها غير أنقاض
من أطفأ اللهب الذي يسري ... في الليل مثل محلِّق النسر؟
أيزيس أنتِ وأنتِ نفريتي ... لكِ في ذرى التاريخ ما شيتِ
يا جذوةً من غير كبريتِ
دفنوكِ تحت ركائم الغمر ... حتى نسينا حمرة الجمر
يا أختَ هبّي فانفضي عنك ... رَجَماً أحالك حالة الضنكِ
سيبث في أرواحنا منكِ
فإذا أعيدت شعلة الصدر ... فهناك حقَتَ ليلة القدر
كوني فتاة الغاب والأسدِ ... يا بنت مصر الروح والجسدِ
وتضرمي فينا إلى الأبدِ
شعلاً تفك سلاسل الأسر ... وتنير فوق الكوخ والقصرِ
قليوب. ابراهيم ابراهيم علي المحامي(24/24)
أمريكا بين الحظر والإباحة
في اليوم الخامس من هذا الشهر ختمت في أمريكا تلك المحاولة الخطيرة التي أطلقوا عليها بحق (التجربة النبيلة): أي محاولة تحريم الخمور في جميع الولايات المتحدة بأمريكا، والأن ونحن نشهد ختام هذه التجربة يجمل بنا أن نقف لحظة لنفكر في أمرها، كيف بدأت وكيف انتهت، فإننا ونحن نعيش في أقطار إسلامية يحرم دينها شرب الخمر ويحظر بيعها وشراءها، لا يجوز لنا أن نمر بهذا النبأ الخطير كأنه أحد الأنباء العادية. بل يجمل بنا أن ننعم النظر فيه قليلا.
ليست الولايات المتحدة دولة كسائر الدول، بل يميزها أمور عديدة:
منها حجمها الهائل، فانها تكاد تعدل أوربا في المساحة. وهي وحدها
عالم قائم بذاته. ثم سكانها، وهم يربون على مائة وعشرين مليونا من
الناس، أكثرهم يمت إلى أصل سكسوني، ولكن بينهم جماعات كبيرة
من الاسكندنافيين واللاتين والسلاف وخليط من شعوب الأرض جميعاً،
هذا عدا الزنوج الذين يزيدون على عشرة الملايين، وقد جيء بهم فيما
مضى عبيداً لكي يعملوا في الحقول، ثم أصبحوا اليوم (أحراراً) لهم من
الوجهة النظرية، ما لغيرهم من الحقوق.
ثم هنالك أمر آخر يميز نظام الحكم في الولايات المتحدة، وهو أن لكل من الثماني والأربعين ولاية التي تتألف منها الدولة نصيباً كبيراً من الاستقلال الداخلي، ولهذا كانت في الولايات المتحدة دائماً سلطتان: السلطة المحلية ومركزها عاصمة كل ولاية، والسلطة الاتحادية ومركزها واشنطون. وهي التي تدير الأمور التي تهم الدولة كلها. ونظراً لحرص كل ولاية من الولايات على حقوقها واستقلالها، فان دستور أمريكا يوضح تماماً ما هو داخل في اختصاص الحكومات المحلية، وما هو داخل في اختصاص الحكومة الاتحادية كل هذا لابد لنا من تذكره كي نستطيع أن ندرك الصعوبة التي كابدتها حكومة أمريكا من أجل تنفيذ قانون التحريم. فان هذا القانون بقي حبراً على ورق، لأن معاقبة المجرمين من أجل جرائم التهريب والاتجار في الأشياء المحرمة كان من اختصاص كل ولاية وليس من(24/25)
اختصاص الدولة. وهذا يفسر لنا أن مجرما خطيرا مثل آل كابوني لم تستطع الدولة أن تحاكمه من أجل الجرائم العديدة التي ارتكبها في سبيل تجارة الخمور المحرمة، بل حاكمته من أجل تقصيره في دفع ضريبة الدخل. اذ كان من اختصاص الدولة أن تحاكمه من أجل هذا الجرم الخفيف نسبياً، لا من أجل الجرائم الكبرى التي هي من اختصاص الولاية.
ولابد لنا أن نتساءل عن المؤثرات والقوة التي دفعت بالولايات المتحدة نحو التحريم، اذ ليس من السهل أن نفهم هذا الانقلاب الهائل في الرأي العام، فان الأمة التي نادت بالحظر الشديد في سنة 1919 هي بعينها التي تنادي اليوم بالإباحة. إن هذا القانون لم يفرضه الحكام على الناس فرضا، بل لقد فرضته الأمة على نفسها بعد انعام النظر وطول التجربة. وقد كانت في الولايات المتحدة قوى كثيرة تعمل بنشاط لتحريك الرأي العام وتحويله نحو التحريم. وهذه القوى كانت موجودة دائماً تنتظر الفرصة الملائمة، وكان لها تأثيرها قبل سنة 1919. ونرى هذا واضحاً في أن اكثر من الثلاثين ولاية قد حرمت الخمر من تلقاء نفسها قبل سنة 1919. ولكن هناك فرق كبير بين أن يحرم الشيء في كل ولاية على حدة، وبين أن يحرم بقانون من الدولة؛ ففي الحالة الأولى تراعي كل ولاية مصلحتها الخاصة ويسهل عليها تعديل وإلغاء الأحكام، ويمكن لمن لا يرضيه قانون أن ينزح إلى ولاية مجاورة (وهذا هو الحال مثلاً فيما يتعلق بقانون الطلاق). أما قانون الدولة فيفرض على جميع الولايات بمجرد موافقة ثلثيها. فيفرض على الراغبين والكارهين على حد سواء، ويصبح كل فرد ولا مفر له من الإذعان أو العصيان، ثم تجرد جميع قوى الدولة لتنفيذ هذا القانون بكل ما تقدر عليه الدولة من الشدة والصرامة.
ولهذا كله فان تحريم ثلاثين ولاية للخمور لم يكن له تأثير ذو شأن، ولكن التحريم في الدولة كلها كان حادثاً ذا شأن خطير.
كان اهم الراغبين في التحريم رجال الصناعة في الشمال، ورجال الزراعة في الجنوب. فالأولون (ويمثلهم المستر هنري فورد) قد رأوا أن الخمر تذهب بقوى العمال وتضعف صحتهم وتقلل من جهودهم، فلا يستطيع صاحب المعمل أن يحصل من عماله على الجهود التي يرجوها في مقابل الأجور التي يدفعها. أما أصحاب الزراعة في الجنوب فيعتمدون في زراعتهم على الزنوج، وهؤلاء كانت تذهب الخمر بألبابهم وتقعدهم عن العمل، وتتركهم(24/26)
في حالة زرية. والزنجي أقل قدرة على ضبط نفسه والوقوف في الشراب عند حد. وكان هناك غير هؤلاء جماعات من محبي الخير الذين يكرهون الخمر لذاتها، ويريدون أن يخلصوا الناس من شرورها، مؤمنين بأن في هذا رفعاً لشأن بلادهم، وإعلاء لكلمتها، ويمثل هذه الجماعة المستر جون ركفلر الصغير وزمرته. وقد انتشر في الولايات المتحدة قبل التحريم نوع من الحانات أطلقوا عليها اسم الصالون قد أصبح على مضى الزمن بؤرة فساد وموبقات. وقد كبر بغض الناس لهذه الصالونات حتى دفعهم إلى المطالبة بالتحريم. مع أن إبطال هذه الأماكن قد لا يستدعي هذا العلاج الصارم.
بذلت هذه الجماعات كلها جهوداً جبارة ومالأ كثيرا من أجل استمالة الرأي العام. وساعدتهم الحرب العامة التي استدعت تحريم الخمر في بعض الولايات، والتقليل من شربها في البعض. وتم لهم النصر في يناير سنة 1919 حين حرمت الخمر في جميع الولايات بإجماع 46 ولاية من الثماني والأربعين التي تتألف منها الدولة، وحرم بيعها وصنعها والاتجار بها واستحضارها من الخارج. وجهزت الدولة جيشا هائلا وأسطولاً قوياً لتنفيذ هذا القانون. الذي أعطى شكل تعديل في الدستور وأطلق عليه اسم التعديل الثامن عشر، ومن الغريب أن دستور الولايات المتحدة لم يعدل يوما بمثل هذا الإجماع وهذا الاقتناع وتلك الأكثريات الساحقة.
لقد وصفت الولايات المتحدة بأنها معمل هائل للتجارب الاجتماعية، ولكن لا يعرف في تاريخ العالم كله تجربة اجتماعية ضخمة كهذه التي أقدمت عليها أمريكا في تلك السنة. فان المعمل الذي أجريت فيه هذه التجربة ليست بلدا صغيرا كفنلنده، بل دولة مساحتها تزيد على ثلاثة الملايين من الأميال، وسكانها يربون على المائة والعشرين مليوناً مختلفي الجنس والثقافة والميول. وان البلاد الإسلامية نفسها هي أولى من أي بلد في العالم بإجراء مثل هذه التجربة لم يعرف عنها يوماً أنها حاولت بذل مثل هذا الجهد في أي عصر من العصور من أجل تنفيذ أحكام الشريعة.
ولهذا دهش العلم كله يوم أقدمت الولايات المتحدة (حرة مختارة) على هذه التجربة الخطيرة. وإننا اليوم (وقد أصبحنا عقلاء بعد أن وقعت الواقعة) نستطيع أن نقول أنه كان الأفضل أن تترك مسألة الإباحة والتحريم إلى كل ولاية تتصرف فيها بما تشاء بدلا من أن(24/27)
تصبح مسألة الدولة بأجمعها، ولكن في سنة 1919 لم يكن من شك في أن أكثرية الأمة في جانب التحريم. وقد أقدم نحو ثلاث وثلاثين ولاية على تحريم الخمر.
على كل حال سارت التجربة في طريقها أول الأمر، وأنظار العالم كله تتطلع إلى أكبر دولة في العالم، وهي تحاول اكبر تجربة اجتماعية في التاريخ. وكان الكثير من الناس يبدي عطفهم على أمريكا وكأنما الكل واثق من نجاح التجربة في النهاية برغم ما قد تلاقيه من الصعوبات، وجعل بعض المصلحين يحلمون بان سنّّة التحريم ستنتشر من الولايات المتحدة إلى سائر الأقطار.
ولكن كانت هنالك قوى تعمل للشر، وإن لم يتوقع احد أن سيكون لها كل هذا الخطر، فنهضت هذه القوى الشريرة لتنظيم الاتجار بالخمور بكافة انواعها؛ مما قد يصنع خلسة في داخل البلاد أو يستورد من الخارج. وسرعان ما أنشئت أساطيل لا عمل لها غير هذه التجارة المحرمة؛ واتسع نفوذ هذه الجماعات حتى أصبح لها نفوذ كبير (بل أحياناً النفوذ الأكبر) في كل ولاية، حتى كانت لها الكلمة النافذة في تنصيب رجال الحكم. وانتشر الأجرام بين هذه العصابات ومن يعترضها في أعمالها، وكذلك فيما بين العصابات المتنافسة نفسها؛ وأصبح أمرها حديث النوادي والصحف وموضوعاً للصور السينمائية؛ وبطريق العدوى تجاوز الأجرام دائرة تجارة الخمور، إلى الأجرام في نواح أخرى كالاختطاف والسلب والنهب وما إلى ذلك.
بات من الواضح للعالم كله أن تلك التجربة الهائلة قد فشلت فشلاً تاماً. فأن الحصول على الخمر برغم التحريم كان أمرا في غاية السهولة. ولئن كانت الحانات القديمة (الصالونات) قد أغلقت، فقد نشأ مكانها حانات خفيفة اشد خطرا واكثر وزرا. وهذه أطلقوا عليها اسماً غريباً وهو ويؤكد أكثر الكتاب أن شرب الخمر في زمن التحريم كان أوسع انتشاراً مما كان عليه قبل التحريم.
وبرغم فشل التجربة الذي كان واضحاً لكل ذي عينين، بقي في الولايات المتحدة جماعات كثيرة تنادي باستمرار التحريم، وبتجديد المراقبة والضرب على أيدي المجرمين. غير أن هذه الجماعات أخذت تضعف على مضي الزمن. حينما انتشرت في طول البلاد وعرضها جرائم منكرة من نوع اختطاف طفل لندبرج، فأيقن الناس أن التحريم قد أوقع البلاد في(24/28)
حال من الفوضى والاختلال هي شر من الخمر التي أريد تحريمها.
ومن أكبر مظاهر التحول في الرأي العام ذلك الخطاب الشهير الذي كتبه المستر جون ركفلر الصغير في صيف سنة 1932 يبدي فيه أسفه الشديد لأنه (وهو من اكبر دعاة التحريم) مضطر إلى الاعتراف بان التجربة النبيلة قد فشلت فشلاً محزناً.
وهكذا أخذ الرأي العام يتحول حتى استطاع المستر فرانكلين روزفلت أن يستميل الأمة إلى صفه، حينما أعلن في شجاعة وصراحة أن من مبادئه إلغاء التحريم. ومنذ انتخب للرآسة في أوائل هذا العام وهو يسير بالبلاد نحو الإلغاء حتى تم له في أول هذا الشهر ما أراد، بأن حصل على موافقة ست وثلاثين ولاية على إلغاء التعديل الثامن عشر.
والأن وقد انتهى التحريم، فما عسى أن يكون المستقبل؟
إن الذين نادوا بإلغاء التحريم، لم يفعلوا ذلك برغبتهم في شرب الخمر وحبهم لها؛ بل أن أكثرهم قد فعل ذلك أملاً في أن الإباحة تقضي على تلك الشرور التي ولدها التحريم. فتنتهي بانتهائه. ولكن من الصعب أن يتنبأ المرء بشيء. فأن بضع عشرة سنة تقضيها عصابات الأجرام في نشر الأجرام والفساد في جميع أنحاء البلاد، لا يتصور أن تنتهي آثارها في عشية أو ضحاها. ومما لاشك فيه أن البلاد اليوم في حال انتقال شديد الخطورة فقد تفيق بسرعة من تأثير هذه السنين العصيبة، وقد تبقى تحت ظلها القاتم زمناً طويلاً، خصوصاً إذا ذكرنا أن عدد الذين يشربون الخمر قد ازداد ولم ينقص أثناء التحريم. وأن الإباحة الجديدة لابد ان تؤدي زمنا ما إلى الإسراف في أمر محبوب كان ممنوعا فاصبح مباحا. ومن غير شك أن الحكومة تعزي نفسها بانها ستجني من الإباحة ضرائب تقدر بنحو خمس مائة مليون دولار. (أي نحو مائة مليون جنيه).
على كل حال لا يستطيع المرء أن يملك نفسه من الأسف الشديد على فشل هذه التجربة الشريفة التي لم تكن ترمي إلا إلى اشرف المقاصد واسماها وهو إعلاء شأن الإنسان وإسعاده.
م. ع. م(24/29)
وحدة الوجود. . .
كثير من المناحي الفكرية، والمذاهب العقلية، والطرائق الرياضية، ترمي إلى (وحدة الوجود) وكلها تتباين في طرق التفكير، ونهج الفلسفة، ولكنها متفقة مجمعة على حقيقة واحدة، تلك الحقيقة هي أنه بين غير المتناهي والمتناهي علاقة يتأدى بها إلى اتحاد الطرفين.
وكما اتفقت تلك الفرق في اختلافها على هذه الحقيقة، اتفقت في وجهة النظر التي سارت بهم على ضوء المقدمات حتى انتهت بهم إلى هذه النتيجة، فهم متحدون في المصدر والمورد مختلفون في الطريق الذي بينهما.
فالكثرة الغالبة من فلاسفة الصوفيين في الإسلام يعتبرون أن الحق موجود قبل كل موجود (وهذا صحيح) ثم يقولون وقد وجدت الكائنات بعد أن لم تكن، ولما كان غير معقول أن يوجد شيء من لا شيء لزم بالبداهة أن يكون الوجود هو عين الموجود، وأن ليس وجود إلا وجود الحق يصور أحوال ما هي عليه الكائنات، فالله ظاهر في المظاهر، والمظاهر هو على ما هي عليه.
وهذا بعينه هو ما انتهى اليه (هيراكلت) الفيلسوف اليوناني إذ استنتج أن الكائن الإلهي يتخلل صور الأشياء المتناهية، والمتناهي نفسه لا يوجد إلا في الله.
وتكاد تكون عين ما وصل اليه (تولاند) أول من أطلق اسم الاتحاد في أوربا. حيث زعم أن العالم ليس منفصلاً عن الله الأ في وهمنا فقط.
وقديما تساءل الناس من اين جاءت الروح، ومم نشأ الجسم؟ ثم قالوا إذا كان واجب الوجود غير متناه وجب إلا يوجد شيء خارجاً عنه، لأن غير المتناهي يستغرق كل موجود.
وإذا تقرر أن الأرض وما تتبع ليست إلا مجموعة صغيرة حقيرة من مجاميع لا عدد لها تسير بقانون في فضاء لا يتناهى.
إذا تقرر هذا جاء العقل فقال إن شيئين غير متناهيين لا يوجدان معا، فإذا كانت الكائنات غير متناهية، والخالق غير متناه، وجب أن أحدهما هو الأخر.
وعلى ضوء هذا الفكر مشى العقل طفلاً يحبو إلى الاتحاد، فلما أن شب واستطاع أن يمشي على ساقي الاعتقاد بافتراض الشك جرى إلى المذهب ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
سرى هذا المذهب إلى الإسلام في القرن الثالث، ومشت به الفلسفة ممثلة في أساطين(24/30)
الفكر، وكبار الصوفيين، وإذ كانت الفكرة جديدة، وكل جديد (في الغالب الأعم) منظور اليه بنظرات الخوف والحذر، إذ كانت الفكرة كذلك لقى أصحابها الشيء الكثير من الإيذاء فقتل البعض، ومثّل به، وربما حرقت جثث البعض وهرب البعض إما من وجوه أولئك المتفقهين، وإما من النظرية ذاتها، وعمد البعض إلى الرمز في الكتابة يعبر به عما يريد في عبارة مشكلة مطاطة تلين مع التأويل والتخريج، فخرجت في تأليفهم كثير من المعميات، يقول بعضهم: جلست عن ابن سبعين من وجه النهار إلى آخره، فجعل يتكلم بكلام تعقل مفرداته، ولا تعقل مركباته. . .
وغلبت هذه الدندنة في كتبهم الكبيرة، فأنت إذا قرأت الفتوحات لابن عربي أو الفصوص مشيت في سهل وحزن، ومرت بك مأمن ومجاهل، ومثل هذين فيما قلنا كثير من كتب رجالات التصوف القدامى.
وتبدو هذه الظاهرة قوية في أشعارهم، لأن النثر يبنى على البسط والإيضاح الذي لا يقبله كله الشعر، ولهذا عمدوا إلى النظم فألقوا فيه بآرائهم ملفوفة رمزية لتقبل التأويل كلما حزبهم من المتفقهة حازب.
لم نستطع ان نتعرف بالضبط متى نشأت (وحدة الوجود) إطلاقا، ولا أين، أما الكيفية فمنطق الصوفيين فيها أبلج. وقديماً كان لوحدة الوجود أثر كبير في الأديان القديمة (غالبها) فمست خرافات الهند القديمة أطرافها مساً رفيقا وشديدا على اختلاف الأساطير بعدا عنها وقربا منها، وذهب بعض اليونانيين القدماء إلى أن اصل العالم يجب أن يكون مادة لا وصف لها، ولا تقبل الفناء، وأشرنا إلى قولهم أن غير المتناهي يستغرق كل موجود.
وتلك هي بعينها فكرة ابن سبعين ومنطقه القائل: أن واجب الوجود كلي وممكنة جزئي، ولا وجود للجزئي إلا في كلي، كما لا يتحقق وجود الكلي إلا بجزئياته.
ولابن عربي في الباب تسع وعشرين ومائة في ترك المراقبة؛
لا تراقب فليس في الكون إلا ... واحد العين، فهو عين الوجود
ويسمى في حالة بالَه ... ويكنى في حالة بالبعيد.
وشعر الصوفية طافح بالوحدة الوجودية منغمس فيها في تلميح أو تصريح، ومازال القوم يرددون قول الغزالي، أو ما قيل انه قاله (ليس في الإمكان أبدع مما كان) وقالوا بعيداً عن(24/31)
التأويل نعم. لأن المخلوق صورة الخالق وليس أكمل منه تعالى.
ووقف لهم جماعة بالمرصاد توفروا على تفنيد أقوالهم، ومناقشة آرائهم، ثم التشهير بهم، والنيل منهم، وهذا ابن تيمية يعلن عليهم في الفتاوى حربا شعواء، وقديما قال، ما أظن الله بغفل عن المأمون لأباحته الفلسفة (!!).
عرج قوم بالفلسفة في أيام العباسيين على الدين وحاولوا أن يوفقوا بينهما، فرجعوا يحملون عبء الهزيمة ثقيلا، ومشت وراءهم الحكمة القائلة (سلم وأنت أعمى) تلوح لهم ظافرة بهم، ظاهرة عليهم.
وجاء صاحب جلاء العين فكان كابن تيمية فيما أراد وقال، ثم جاء صالح المقبلي في كتابه العلم الشامخ فسخر بهم، وفسق كلامهم، وعراه من الحقيقة، وامتدت كلماته إليهم فأصابت منهم مقاتل.
أعيا المتصوفون أمرهم فقام الجيلي يقول: (صح لنا هذا كشفاً فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر).
وبدهي ان دعوة الجيلي هذه كاذبة، وإلا فما هذا المنطق يقدمونه بين يدي كل قضية؟ وما هذه المقدمات التي تتكئ عليها النتائج؟
على أنهم لم يعدموا نصراء يدافعون عنهم ويدفعون، وهذا القزويني يعقد في كتابه (درر الفرائد) باباً في ذكر مصطلحات القوم. قال: أتطمعون في فهم كلامهم وهو انما يعرف بالذوق لا بالمنطق؟ (من ذاق طعم شراب القوم يعرفه. .) ثم أخذ يفسر رموزهم، ويستدل عليها فناقض نفسه.
ويقول غلاة المنتصرين: إذا ظهر كلام الصوفية خارجا عن ظاهر الشريعة فهو مقول في حال سكرهم، والسكران سكرا مباحاً غير مؤاخذ، فان لم يكن كذلك فلابد أن يكون له تأويل ظاهر، فان لم يكن فله تأويل باطن لا يعلمه إلا الله والراسخون.
فأنت ترى أنهم يريدون أن يبرئوهم (إذا كان هناك جرماً) على أي حال، ومهما كانوا، ولنا عليهم أن نقول لو كان كلام الصوفيين موافقا للشريعة الظاهرة ففيم الرمز وفيم الإبهام؟
وبعد، فهذا مذهب وحدة الوجود في اظهر مناحيه، ولعلي مستطيع أن أعود اليه فيما بعد؟
طاهر محمد أبو فاشا(24/32)
الشافعي واضع علم أصول الفقه
للأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرزاق. أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية
الآداب
- 2 -
والمروي عن الشافعي: انه قال: انه حمل إلى مكة وهو ابن سنتين من غزة أو عسقلان.
وفي كتاب (معجم الأدباء) لياقوت: وفي رواية أن الشافعي قال: ولدت باليمن فخافت أمي على الضيعة فحملتني إلى مكة وأنا يومئذ ابن عشر أو شبيه ذلك. وتأول بعضهم قوله (باليمن) بأرض أهلها وسكانها قبائل اليمن، وبلاد غزة وعسقلان كلها من قبائل اليمن وبطونها.
قلت: وهذا عندي تأويل حسن إن صحت الرواية وإلا فلاشك انه ولد بغزة وانتقل إلى عسقلان إلى أن ترعرع، ج6ص318.
ويقول ابن حجر في توالي التأسيس ص49: (والذي يجمع الأقوال أنه ولد بغزة عسقلان، ولما بلغ سنتين حولته أمه إلى الحجاز ودخلت به إلى قومها وهم من أهل اليمن، لأنها كانت أزدية، فنزلت عندهم، فلما بلغ عشراً خافت على نسبه الشريف أن ينسى ويضيع فحولته إلى مكة).
وليس من رأيي التوفيق بين الروايات المتضاربة قويها وضعيفها على هذا الوجه، فتلك طريقة ليست من التمحيص التاريخي في شيء، بل يجب تخير الروايات الصحيحة السند التي يرجحها ما يحف بها من القرائن والذي تدل عليه الروايات الراجحة أن الشافعي ولد بغزة ومات فيها أبوه كما مات بها من قبل هاشم جد النبي عليه السلام. ثم حملته أمه إلى عسقلان وهي من غزة على فرسخين أو أقل. وكان يرابط بها المسلمون لحراسة الثغر منها. وكان يقال لها (عروس الشام) وفي كتاب (أحسن التقاسيم) للمقدسي المعروف بالبشاري: (أن خيرها دافق، والعيش بها رافق).
وكل هذه الاعتبارات جديرة بأن تجعل الأيم الفقيرة تختارها سكنا لها ولطفلها اليتيم الغريب.
فلما بلغ الطفل سنتين وترعرع وأصبح يحتمل السفر حملته أمه إلى مكة لينشأ بين قومه(24/34)
من قريش، ولعلها كانت تريد أن تستعين على تكاليف العيش بما ينال الطفل من سهم ذوي القربى باعتباره مطلبياً.
على أن حظ الطفل من خمس الغنائم لم يكن ليرفه من عيشه فنشأ في قلة من العيش وضيق حال. قال الرازي:
(وذكروا أن الشافعي رضي الله عنه كان في أول الزمان فقيرا، ولما سلموه إلى المكتب ما كانوا يجدون أجرة المعلم، وكان المعلم يقصر في التعليم إلا أن المعلم كلما علم صبيا شيئا كان الشافعي رضي الله عنه يتلقف ذلك الكلام، ثم إذا قام المعلم من مكانه أخذ الشافعي رضي الله عنه يعلم الصبيان تلك الأشياء، فنظر المعلم فرأى الشافعيرضي الله عنه يكفيه من أمر الصبيان أكثر من الأجرة التي يطمع بها منه، فترك طلب الأجرة واستمرت هذه الأحوال حتى تعلم القرآن كله لسبع سنين) ص15و16.
ويروى عن الشافعي: انه كان يحدث عن طفولته فيقول: (وكانت نهمتي في شيئين؛ في الرمي، وطلب العلم. فنلت من الرمي حتى كنت أصيب من عشرة عشرة. وفي رواية من عشرة تسعة، وسكت عن العلم، فقال عن بعض من كان يستمع اليه: أنت والله في العلم أكثر منك في الرمي).
ويروى عنه أيضا: أنه قال: كنت ألزم الرمي حتى كان الطبيب يقول لي: (أخاف أن يصيبك السل من كثرة وقوفك في الحر) تاريخ بغداد ج6 ص59، 60.
ويظهر: أن حب الرماية لم ينزعه من بين جوانب الشافعي جلال السن وجلال الإمامة.
(عن المزني قال: كنت عند الشافعي فمر يهدف، فإذا رجل يرمي بقوس عربية، فوقف عليه الشافعي وكان حسن الرمي فأصاب سهاما، فقال له الشافعي: أحسنت، وبرك عليه، قال لي: ما معك؟ فقلت: ثلاثة دنانير، فقال: أعطه إياها واعذرني إذ لم يحضرني غيرها (توالي التأسيس) ص67.
قال الشافعي: (لما ختمت القرآن دخلت المسجد أجالس العلماء وأحفظ الحديث والمسألة، وكان منزلنا بمكة في شعب الخيف، وكنت فقيرا بحيث ما أملك ما أشتري به القراطيس، فكنت آخذ العظم أكتب فيه وأستوهب الظهور من أهل الديوان وأكتب فيها) - الرازي ص16.(24/35)
أبيات للمنفلوطي
كان المرحوم السيد مصطفى لطفي المنفلوطي يجلس في جمع من أصدقائه منهم: المرحوم حافظ إبراهيم وإمام العبد والشيخ الكاظمي والشيخ منصور، وكان هذا الشيخ من أشهر لاعبي الشطرنج لا يكاد يبزه أحد وكان مجلسهم في مقهى (كتكوت) (بحي الحسين).
فحدث يوما أن تغلب غلام في الرابعة عشرة من عمره على الشيخ منصور فكانت هذه الحادثة موضوع تنادر الجماعة مدة طويلة وقد قال كل منهم فيها شعراً فمما قاله المنفلوطي هذه الأبيات:
وظبيٍ سقيم الطرف حلوٍ مهفهفٍ ... تُميت وتُحيي كيفما شاَء عيناهُ
يداعب في الشِّطرنج كلَّ ملاعب ... فلا ينثني إلا وقد قتل الشاهُ
فو الله ما يدرى الحروبَ وإنما ... رماه بسهمي مقلتيهِ فأرداهُ(24/37)
في الأدب العربي
الطبيعة في شعر ابن خفاجة
- 3 -
وصف الآلات والأدوات: - كان علينا أن ننتقل بك في هذا الفصل إلى وصف الخمر ووصف مجالسها في شعر ابن خفاجة، وأن نريك الطبيعة الماثلة في ذلك النوع من الشعر؛ ولكنا رأينا أن نذكر شيئا عن تشبيهه الآلات والأدوات، ووصفه للخيل والذئاب، قبل أن نذكر لك شيئا من أقواله في الخمر، ومن تشبيهه إياها، خوفا عليك من أن تنتشي وتطرب فلا تعود تصغي إلينا.
وهو في وصفه السيف والرمح والقوس والكأس والزورق، وفي وصفه للفرس الأشقر، والكلب والأرنب، لا يخرج في كل هذا عن الطبيعة في شيء، ولا يشبه تلك الأدوات إلا بما يماثلها في الطبيعة. فيقول في السيف:
ومرهف كلسان النار منصلت ... يشفى من الثار أو ينفى من العار
فهو يشبهه بلسان النار الملتمع. ثم يقول:
تخال شعلة نار منه طائرة ... في عارض من عجاج الخيل موار
يمضي فيهوى وراء النقع ملتهباً ... كما تصوَّب يجري كوكب سار
وهو يشبه قول بشار:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوي كواكبه
ويقول أيضاً في وصف كأس أهديت اليه:
ومثلك مد يمين الندى ... بعلق يطيل عنان النظر
بأزرق سالت به صفرة ... كما طرز البرق ثوب السحر
يقول إنه كأس ازرق قد سالت به صفرة فبدا كسماء أبرقت في ليل مظلم.
ويقول كذلك في الرمح:
وأسمر يلحظ عن ازرق ... كأنه كوكب رجم وقد
يعتمد العين اعتماد الكرى ... وينتحي القلب انتحاء الكمد
فان السمرة والزرقة وكواكب الرجم المتوقدة والكرى والكمد كلها صور لأشياء طبيعية،(24/38)
شبه بها عود الرمح الأسمر، وسنانه الأزرق، ولمعانه وقت الطعن.
وأجمل ما قاله في وصف الإله وصفه القوس فهو يقول:
عوجاء تعطف ثم ترسل تارة ... فكأنما هي حية تنساب
وإذا انحنت والهم منها خارج ... فهي الهلال أنقض منه شهاب
فلم يخرج في تشبيهها ووصفها عن حيوان الطبيعة وعن أفلاكها.
ويقول في صفة كلب وأرنب:
وأطلس ملء جانحتيه خوف ... لأشوس ملء شدقيه سلاح
فهو يشبه الأرنب الهاربة امام الكلب بالذئب للتشابه الموجود بين لونيهما، وللتشابه الموجود بين حاليهما، لأن الذئب يهرب من وجه الكلب، ويعبر عن الكلب بالأشوس، وهي حال ضم الجفنين للتحديق والنظر، ويشبه انيابه التي كشر عنها بالأسلحة التي يحملها الصياد.
ويقول في صفة فرس أشقر عليه حلى لآلئه:
بسام ثغر الحَلْي تحسب أنه ... كأس أثار بها المزاج حبابا
فهو يشبهه بكأس من الخمر قد مزجت بالماء فبدت صفراء اللون وطفا عليها حباب ابيض.
واقرأ هذه المقطوعة في وصف نزهة ركب اليها زورقا:
وانساب بي نهر يعب وزروق ... فتحملتني عقرب وحباب
نجلو من الدنيا عروساً بيننا ... حسناء ترشف والمدام رُضاب
ثم ارتحلت وللسماء ذؤابة ... شهباء تخضب والظلام خضاب
تلوى معاطفي الصبابة والصبا ... والليل دون الكاشحين حجاب
حيث استقل الجسر فوق زوارق ... نسقت كما تتراكب الأحباب
لم تستبق وكأنها مصطفةً ... دُعم تنازعك السباق عِراب
فقد شبه أولاً الزورق الأدهم بالعقرب لانحناء مقدمه إلى الأعلى، وانحناء متوسطه إلى الأسفل، وشبه ماء النهر الثائر المائج المزبد بالحباب. ثم شبه ثانية اصطفاف الزوارق باصطفاف الخيل العراب للسباق.
إلى هنا انتهى كلامنا عن وصف ابن خفاجة للآلات والأدوات، وقد أريناك تشبيهاته وأوصافه التي أتى بها ولم يخرج فيها عن حبيبته الطبيعة التي يرى بها كل ما موجود،(24/39)
وكأنه لا يرى في الحياة إلا الطبيعة، فلا يتكلم إلا عنها ولا يشبه إلا بها.
فان كان البحتري قد أثر فيه حب علوة الحلبية فقال الشعر الغنائي الرقيق، ورسم الصور الشعرية الجميلة، وأخذ في كل هذا على نفسه ألا يبوح باسمها.
وسميتها من خشية الناس زينباً ... وكم سترت حباً عن الناس زينب
فان ابن خفاجة أثرت فيه الطبيعة فهام بها وأحبها حتى كان يذكرها في شعره واصفاً أو متغزلاً، صاحياً أو نشوان.
وكأنه وهو نشوان أقدر على وصف الطبيعة والتشبيه بها، أو كأن حبه لها يهيج فيه قريحته الشعرية حين يجلس إلى الشراب ثم لا يرى بداً من ذكرها لأنه مفتون بجمالها مسحور بمناظرها.
أقواله في الخمر: - يصف ابن خفاجة الخمر ويصف كؤوسها ويشبهها فيتفنن في التشبيه والوصف، فإذا أردنا أن نقايس بينه وبين أبي نواس في وصفها، فهو بلا شك دون منزلة أبي نواس. لأن أبي نواس يقصد إلى الخمر قصداً، فينشئ القصيدة على ذكرها ويجعلها موضوعاً من الموضوعات الشعرية، ولكن ابن خفاجة في مقطوعاته التي يذكر فيها الخمر يجعلها أحد المواضيع التي ينشئ فيها المقطوعة. فأكثر مقطوعاته الخمرية ينشئها على ذكر نزهة جميلة مع إخوان صدق في ظلال الأدواح يشربون ويسمرون، أو على ذكر مجلس إخوان وأصدقاء يقرضون الشعر ويصفون فيه مجلسهم واعتكافهم على الخمر، أو يصف الخمر أثناء تغزله، وفي كل مقطوعة من مقطوعاته التي فيها للخمر ذكر لا نرى الأ البيت والبيتين. قال من وصف يوم أنس وفكاهة:
وجاء بها حمراء أما زجاجها ... فماء، وأما ملؤه فلهيب
فهو يقول: انها خمرة حمراء كأنها لهيب النار المتوقدة في كأس كأنه الماء صفاء وشفافية:
ويصف الخمر بيد حبيب له فيقول:
مشمولة بينا ترى في كفه ... ماء، ترى في خده الهوبا
فهو يقول: انها باردة الطعم لهبوب الشمال عليها كأنها الماء صفاء، وانه محمر الخدين كأنهما لهيب نار مستعرة، وقال ايضاً:
فجاءت بحمراء وقادة ... تلهب في كأسها كوكبا(24/40)
فقد شبهها بالكوكب المتوقد وهو يشبه قول ابي نواس:
إذا عب فيها شارب القوم خلته ... يقبل في داج من الليل كوكبا
ويشبهها بالفرس الأشقر فيقول:
وقد جاء من كاس السلافة أشقر ... يسابقه من جدول الماء أشهب
ويقول في وصفها أيضاً وهو يتغزل:
حيا بها ونسيمها كنسيمه ... فشربتها من كفه في دره
منساغة، فكأنها من ريقه ... محمرة، فكأنها من خده
إلى هنا لا نرى في وصف ابن خفاجة الخمر وفي تشبيهه إياها شيئاً يخرج عن الطبيعة؛ فقد شبهها بلهيب النار المشتعلة وشبه كأسها بالماء الصافي الرائق، ثم شبهها بالكوكب المتوقد، ثم شبهها بالفرس الأشقر للونها الأشقر، ثم شبهها وقال انها منساغة فكأنها من ريق الحبيب الخصر العذب، وإنها حمراء كأنما قد عصرت من خده الوردي.
واقرأ هذه المقطوعة يداعب بها الساقي الأسود، وانظر كيف يصف الخمر الحمراء والكؤوس البيضاء، ثم ينبري فيصف لنا المكان الذي جلسوا به، والوقت الذي شربوا فيه، ولاحظ إذا شئت تشبيهاته وأوصافه التي لا يخرج بها عن مناظر الطبيعة وعن أوصافها:
رب ابن ليل سقانا ... والشمس تطلع غره
فظل يسود لونا ... والكأس تسطع حمره
كأنه كيس فحم ... قد أوقدت فيه جمره
إلى أن يقول:
فظلت آخذ ياقو ... تة واصرف دره
حتى تثنيت غصنا ... واصفرت الشمس نقره
وارتد للشمس طرف ... به من السقم حسره
يجول للغيم كحل ... فيه وللقطر عبره
فهو يقول: إن عبداً اسود يسقينا منذ طلوع الشمس، وكأنه وهو يدير علينا الخمر في كؤوسها الحمراء كيس من فحم قد أوقدت فيه جمرة ملتهبة، وظللت على هذه الحال أتناول الكأس مملوءة حمراء كالياقوتة وأعيدها فارغة بيضاء كالدرة، حتى تثنيت من شدة السكر(24/41)
كالغصن تثنيه الرياح، وحتى اصفر لون الشمس وارتد طرفها إلى الغروب كما يرتد طرف الناعس من النعاس، وكانت الغمامة دكناء كأن بها كحل كاحل، وكانت ممطرة كأنها عين باك مستعبر.
وقال أيضا يصف متفرجا. ويصف في أثناء ذلك الخمر:
ومجر ذيل غمامة قد نمقت ... وشى الربيع به يد الأنواء
ألقيت أرحلنا هناك بقبة ... مضروبة من سرحة غناء
وقسَمت طرف العين بين رباوة ... مخضرة وقرارة زرقاء
وشربتها عذراء تحسب أنها ... معصورة من وجنتي عذراء
حمراء صافية تطيب بنفسها ... وغنائها وخلائق الندماء
أدلب. عبد الرحمن جبير(24/42)
من طرائف الشعر
وداع
للشاعر الوجداني الرقيق أحمد رامي
أيها الفُلك على وشك الرحيل ... إن لي في ركبك الساري خليل
رقرقت عيناي لمّا ... قال لي حان الوداع
وبكى قلبي ممّا ... ذاع في الكون وشاع
غابت الشمس وراء الأفقِِ ... ثم ذابت في مسيل الشفق
لهف نفسي! كاد يخبو رمقي
حين حيانّي حبيبي ... وتبادلنا الوداع
وانطوى منه نصيبي ... عند تصفيق الشراع
أيها الفلك على وشك المغيب ... قف، تمهل! إن لي فيك حبيب
لا أذوق النوم حتى نلتقي ... والضحى يغمر وجه المشرق
فأحييه بقلب شيّق
شارحاً وجدي شاكياً ... سهدي في الدجى وحدي
وأناجيه بحبّي ... بين ضمٍّ واعتناق
ناسياً الأم قلبي ... طول أيام الفراق(24/43)
الشعر والشاعر
للدكتور عبد الوهاب عزام
سيدي صاحب الرسالة:
خطرت لي خطرة من الشعر في احدى الليالي منذ سبع سنين فأخذت القلم وكتبت الأبيات الآتية، ثم ألقيتها بين أوراقي. وكنت أقلب أوراقا منسية منذ أيام فعثرت عليها، وتذكرت اذ ذاك قوله تعالى: (وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت.) فأردت أن أحمل صاحب الرسالة تبعتها فأرسلتها اليه، وله الخيار أن يئدها كما كانت، أو ينشرها:
هو وحيٌ في شعاع القمر ... يملأ القلب ضياء وسلاما
أو حديثُ في حفيف الشجر ... أفشت الريح له سرّاً فهاما
أو بكاء في حنين الوتر ... ملأ الأنفس وجداً وغراما
هو طل الفجر فوق الزَهر ... يملأ الروض دموعا وابتساما
ثم يبدو مثل قَدحْ الشرر ... بين خفق القلب والهّمِ صداما
أو تراه كالوصايا العشر ... بين ومض البرق والرعد كلاما
ذلك الشعر إذا ما تَرجما ... عن خفايا وحيه اللفظُ المبين
رب شعر وحيه قد كُتما ... أبلغ الأشعار ما لا يستبين
يخلق الشاعر خلقاً آخراً ... من خيال حائر فيه المدى
يجعل الليل غراباً طائراً ... خاف نسر الصبح لما أن غدا
ويرى النجم شريداً حائراً ... هام يبغي في الدياجي موردا
ويفيق الناس عنه ثائراً ... فيرى القصة خلقاً مسعِداً
يبرأ الأبطالَ فيها ساحراً ... فتراهم في البرايا خُلَّدا
مثلا في البِرِّ يبقى سائراً ... أو حليف اللعن يبقى أبدا
كم هدى الشاعر قبلا أمما ... وحدا فيها إلى العز المكين
وبنى للمجد فيهم سلّما ... فاستقاموا للمعالي صاعدين
وجه من يهواه روض ناضر ... أٌلِّفتْ فيه من السحر معاني
ومن الطرة ليلٌ كافر ... ضُلِّلَتَ فيه دموع وأماني(24/44)
دولة الحسن، عليها ساهر ... نابل من طرفه والحاجبان
ومن البحر جحيم ساجر ... ومن الوصل فراديس الجنان
غضبة الشاعر ليل زافر ... جلل الأرض بنار ودخان
ورضا الشاعر صبح سافر ... ملأ الأرض بنور وأمان
يصبغ العالم ما شاء كما ... لعبت باللون أيدي الراسمين
فإذا شاء أراه مأتما ... وإذا شاء فعُرس الفرِحين
ويلف السحب من نيرانها ... في إهاب الغيظ والحقد المكين
ويسل البرق من أجفانها ... سيف ثأر مٌصلتاً للظالمين
ويقود المزن من أرسانها ... بيد الريح شمالا أو يمين
ويعد الرعد من تحنانها ... حين يروي الأرض بالغيث الهتون
أو يرى فيه صدى طغيانها ... ردّدته رهبة للسامعين
ويقيم الطير في أفنانها ... شاديات باكيات كل حين
ويرى النهر دموعا ودما ... من عراك الدهر والقلب الحزين
أو يرى الصفحة سرا محكما ... نسجته الريح بين الناسجين
ويرى الورد ضحوكا طًربا ... إذ تُحليه من الطل درر
فإذا الورد ذوى واكتأبا ... وإذا الطل هو الدمع انتثر
ويرى البانة قدّا معجبا ... ماس في الروض دلالاً وخطر
ويرى الجدولِ صّلا هاربا ... في ظلال الأيك أعياه الوزَر
ويظن الريح دارت لعبا ... في ذرى الأشجار تلهو بالطرر
ويخال الطير غنّى مطربا ... يقرأ الحسن بصفحات الزهر
ضاق هذا العيش إلا حلما ... راق في الأهوال نومَ الكادحين
تضحك الآمال فيه كلما ... أبكت الآلام عيش البائسين
صاح والشاعر في نظراته ... يخرق الستر إلى سر الضمير
فيرى الآمال في طياته ... ودبيب الحزن فيه والسرور
يكشف المحزون في أنّاته ... اذ يراه الناس في ثوب الحبور(24/45)
ويجلي الخبِّ من سوءاته ... وجميع الناس منه في غرور
ويرى المحسن في هيئاته ... حين يُخفى فضله كل كفور
فشعاع الشعر في وهجاته ... كاشف للناس عن ذات الصدور
يقرأ الشاعر ما قد أبهما ... في ضمير الدهر آلاف السنين
ويرى الغائب مشهودا كما ... يَصُر الهدهد بالماء المعين
أو تراه مثل باز مدمر ... ملأ الدَّوح صياحا وصيالا
يجهد الشاعر طول العُمر ... فيرى الآمال يأسا ومحالا
فتراه مثل ليث هيصر ... عض في الأسر قيودا وحبالا
أو تراه كحمام هَدِر ... رتّل الحزن نشيدا فأطالا
ثم يلهو بجمال الزهَر ... فَكأنْ في الصدر غما ووبالا
فتراه عَنْدَليبَ الشجر ... واصفا في الروض حسنا وجمالا
صاح ما الشعر سبيلا، إنما ... هو صهر القلب في نار الشجون
صاح ما الشعر كلاما، انما ... هو ذوب النفس أو ماء العيون(24/46)
في سينما الحياة
للأستاذ الشيخ إبراهيم الدباغ
// ليس المعين على بغى بمشكور ... ولا القوي على ظلم بمنصور
قل للألى ضربوا من حكمة مثلا ... للقوم والقوم عند الأفك والزور
تغاير الناس في سعي لمهلكة ... وما لهم من حذار عند تحذير
إني أراهم وقد أنذرتهم طمسوا ... نهج الهدى أين أنذاري وتبشيري؟
أنا الرشيد ولي في كل مملكة ... أمرأ جرد فيه سيف مسرور
يبقي على الخير من قول ومن عمل ... حر فيمحق فيها كل شرير
وأنشر العدل أعلاما إذا خفقت ... أمنت من كل مطوي ومنشور
واجعل الدين والأخلاق لي هدفا ... الدين ديني والدستور دستوري
يا سائلي عن هوى نفسي وبغيتها ... من الحياة وقد غصت بتكدير
هواي تحرير أهل الأرض من ملأ ... من الهداة وأقطاب الدساتير
فكل نفس لها من سعيها أمل ... ولن تنال مناها دون تحرير
هل تمنع النفس من آمالها جدة ... لغيرها وهي منه دون تقدير
يا ثاني الغصن دع للغصن نضرته ... وخل قامته من ذام تكسير
وخل للروض والأغصان زينتها ... وغادها بين مشموم ومنظور
كم وردة جرحت جان بشوكتها ... وزهرة مزقت أحشاء هيصور
روض الحياة وروض الموت أجدره ... بالحر ما كان بيتا غير مهجور
ورد الحياة ابتدر من صفوها خلسا ... البؤس في السوق والآلام في الدور
والأرض شر مقيل للنسور إذا ... طغت وأشقى مراحا للزرازير
تضرى الذئاب وتبدو في مصاولة ... في مسك شاة توارت خلف تحضير
ينام حارسها عنها فينذره ... موت، ودنياه منها أجر ناطور
وللحياة نوال من سلامتها ... لو انها لم تشب صفوا بتكدير
تحلو وتبنى بها اللذات ما هدمت ... منها وتدرك تدميرا بتدمير
في سينماها خيال من حقيقتها ... فردية حولها شتى التصاوير(24/47)
طلاسم تحت ارقام يفسرها ... عيث الخرافة في لوح الفوازير
فيا حقول (ابيقور) وشيعته ... لا ضقت ذرعا بقطعان الخنازير(24/48)
في الأدب الغربي
مارسلين أو (مدام ديسبور دفالمور) 1786 - 1895
للأستاذ خليل هنداوي
في الحياة أزاهير تقضي أعمارها منثورة هنا وهنالك، لا يكاد يشعر إنسان لها بوجود، متواضعة في أرضها، منعزلة عن الأعشاب الطويلة والأزهار المنتصبة. تعطر الفضاء بانفاسها، فهو أنم عليها من الصبح!
وهنالك شعراء يعيشون في أجواء عواطفهم في عزلة نائية عن الناس، إذا ترنموا فإنما ليطربوا أنفسهم، وإن بكوا فإنما يبكون لتصيب أدمعهم زهرات أمانيهم، كما تصيب الروضة قطرات الطل، هؤلاء لا يعرفهم الناس لأنهم ما شاؤا أن يعرفوهم، فهم (وأنفسهم تسكب الألحان) كالأزاهير المنسية، وقد ملأت الفضاء أريجا.
ومن هؤلاء الشعراء صاحبة هذه الترجمة وهذا الشعر الوجداني، من شاءت ان تقضي حياتها هامسة بأنغام نفسها، ليس في قلبها وبين الوجود إلأ ترجمان الحس والعاطفة:
هذه هي مارسلين. . .
ولدت في (دواى) في بيت تسود جوه روح الفاقة، ويغلب على قلوب أصحابه شيء من الأيمان الذي يضحي بكل شيء إلا بنفسه، فيبعث هذا الأيمان في صدورهم من الراحة والطمأنينة والرضا ما لا تبعثه مظاهر الثروة الضخمة، على أن (أمها) جربت أن تنقذ الأسرة من مرارة الفقر، فركبت وابنتها إلى (بوردو) حيث تنتظرها ثروة قريبة. فاتخذت مارسلين الصعود إلى المسرح مهنة، ترضى بأجرها اليسير، ولكن الحظ أبى إلا أن يسود الصفحة الأخيرة، لأن هذه الثروة الموهومة قد تدهور أمرها قبل أن يدركا قريبتها، فأصابت أمها (حمى صفراء) أودت بحياتها، فآبت الابنة على الأثر، وعوامل اليأس والخيبة تطغي عليها.
الحياة!! كيف تعمل على تأمين أسبابها؟ فتذرعت (بالخياطة) مهنتها الأولى، وامتزجت مع الممثلين والممثلات، تقف عليهم صناعتها، فجدد هذا الاختلاط رغبتها الباطنية في العودة إلى المسرح، فعادت اليه ونالت كثيرا من مظاهر الاستحسان والتصفيق على مسرح الفنون في (روان) ولكن ما عسى تجديها هذه المظاهر؟ وهي التي كتبت في مذكراتها (ما أكثر ما(24/49)
تنهمر عليّ باقات المعجبين بي؟ وأنا أكاد أموت جوعا دون أن أصارح أحداً بأمري).
ثم كفلها أحد اصحابها، فألحقها بمسرح جديد، لا يتجأوز أجرها فيه الثمانين (فرنكا) طيلة الشهر. وفي عام (1817) شاهدها عارفوها في (بروكسل) متأبطة ذراع الممثل (فرانسوا بروسير) مرتبطين برابطة الزواج، وما حل عام (1823) حتى كفت مارسلين عن الحياة المسرحية، وسعت وراء نفسها مستلهمة ما توحيه اليها، بعد أن تلمست شيئاً غير قليل من الظفر الشعري في ديوانها الأول (أغاني ومراثي) ولكن حياتها ظلت (برغم عوامل المدح الطافية عليها) طافحة بالكآبة، وقد أصابها الدهر بابنتيها خلال حياتها، ثم غزاها سرطان داخلي لم يمهلها كثيرا. ومارسلين على رغم هذه البواعث على الياس والقنوط لبثت صامتة راضية بأحكام القدر، لا تلوث ديوانها بشيء من الهجو لمعاصريها وأصدقائها، وذلك ما دعا (أناتول فرانس) إلى القول عنها أنها حقاً امرأة قديسة.
اما مارسلين فقد كان وجهها المشرب بشيء من الصفرة جميلاً جذابا، ونفسها مشبوبة العواطف، متعددة اللواعج، وحيثما قلبت في ديوانها تبد لك آثار هذه النفس المشتعلة التي تذوقت الحب، ورضيت به مرهقا للروح، ومنهكا للقوى. لأن الحب عندها هو ربيع الحياة. . وقد حار النقاد في العاشق الذي ظلت مارسلين تلهج باسمه وبصفاته في قصائدها حتى أدركها الموت، وطبيعي أن يجر خلاف النقاد إلى اعتبارنا هذا الاسم المتردد اسما شعرياً ترمز به صاحبته إلى اسم حقيقي.
اما موقف معاصريها من نقاد وأدباء فقد اعترف أكثرهم بما يثور في صدر مارسلين من عاطفة متقدة يؤول اليها سر براعتها الشعرية. (ولسانت بوف) فصول درس بها فن الشاعرة. رفعت كثيراً من قدرها وبراعتها، أضف إليها فضولًا ومقاطيع متعددة لكبار الأدباء يرفعون بها شهرتها: وهذا (شيرر) يقول (ان مجد مارسلين شيء لا جدال فيه لأنه مجد كثير الإحساس) وهذا (اميل مونتيكو) يكتب في (معرض العالمين) ان مكان الشعر العطفي يقاس بمقياس العاطفة الشخصية، فان مارسلين هي اكبر شعراء العاطفة على الإطلاق.
والشاعر (ملارمي) كانت تستخفه اسباب الطرب عند ما يتلو على أصدقائه قصيدة مارسلين الخالدة (حياة اليمام وموته) وأي قلب (أوتى الحاسة الفنية) يسعه الأ يحس هذه(24/50)
العاطفة التي يتغلغل فيها معنى الشعر الحقيقي، ورحم الله (اناتول فرانس) فقد كان يستظهر قصيدتها الإكليل المنثور ويقول عنها انها من قصائد العبقرية النادرة.
وديوان مارسلين يطفح بروح المرأة المحبة التي يخرجها الحب عن نفسها، وهو أثر واضح لدرس نفس المرأة وترددها وضعفها حين تطغي عليها عاطفة الحب، لأن مارسلين لم تتقيد بالتقاليد التي لو لم تعمل على قتل عاطفتها لخففت من عوامل بؤسها وحدتها، وجدير بأدبنا أن يطلع على مثل هذا الشعر، وعلى مثل هذا الحب، وعلى مثل هذه العاطفة.(24/51)
العلوم
حقيقة التطور
للأستاذ السر آرثر طمسن
ترجمة بشير الياس اللوس
يرى علماء التطور ان الأصناف المختلفة للنباتات والحيوانات الوحشية انحدرت في أسلاف أبسط تركيبا وأعم صفات، وقد جرت عملية التطور هذه في وقت طويل جدا وبتأثير عوامل مشابهة للعوامل المؤثرة في الوقت الحاضر، ونشأت خلال تلك العملية تنوعات جديدة تدرجت في سلم الارتقاء، فعاش منها من استطاع ان يكيف نفسه للمحيط، وانقرض الأخر الذي لم يستطع ذلك.
نظرية التطور في الوجهة المنطقية
وهنا ينشأ هذا السؤال: ما هو نصيب نظرية التطور العامة من الإثبات المنطقي إذا لم نبحث الآن في العوامل التي لعبت دورا مهما في هذه العملية؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال يجب ان نعترف أن هذه النظرية لايمكن إثباتها تجريبيا كنظرية الجذب، ولا نستطيع البرهنة عليها كي نبرهن على صحة نظرية حفظ الطاقة فهي تتناول الماضي السحيق، ويمكن وضعها من الوجهة المنطقية في صعيد واحد مع الفرضية السريمية التي تخبرنا عن تكوين الشمس وسياراتها. لا يستطيع أحد أن يعكس الشريط الكوني ليرينا عن كثب الحوادث التي جرت في سالف العصور، ومع ذلك يجب ان نتذكر ان في السماء سدماً تسلك نفس السبيل الذي يظن الفلكيون أن السديم العظيم سلكه في العصور القديمة فولد نظامنا الشمسي الحاضر. وهكذا نعثر في التطور العضوي على عمليات جارية تمثل ما حدث في القديم كنشوء الطيور في أرومة الزحافات، أو نشوء البرمائيات في الأسماك.
كيف نشأ عالم الحياة
أن الجواب العلمي الوحيد لهذا السؤال يستمد عناصره من التطور الذي يقرر اساليب التغيير والتطوير. نشأت جميع افراد المملكة الحيوانية بطريقة مماثلة لنشوء أنسال الحمام الداجن المعروفة من حمام الصخور - الذي لا يزال يعشش على الجروف حول بريطانيا(24/52)
العظمى، وكذلك نشأت افراد المملكة النباتية بطريقة مشابهة لنشوء كرنب الحدائق والقرنبيط والخضراوات من الكرنب الوحشي النابت في السواحل البحرية. وهكذا تتضمن فكرة التطور العضوي العامة نوعا من البرهان يستند على المقابلة والمشابهة. إذن فتلك الحالات القليلة التي يعلمها الإنسان عن نشوء حيواناته ونباتاته الداجنة تنير له طرائق العلم بحدوث النشوءات العظيمة خلال العصور السحيقة في القدم.
لذلك لا نرى مسوغا لما يطلب من الأدلة على التطور ما دام يمكن اتخاذ كل حقيقة من حقائق علوم التشريح والفسلجة والمتحجرات والأجنة دليلاً قويا على التطور إذا ألممنا بشيء كاف منها. وكل ما في الأمر أنه يجب أن نفتش عن حجة تمهد لنا سبيل الاهتداء إلى كيفية استعمال حقيقة التطور لفهم جميع المغلقات والألغاز التي نجابهها في درس البيولوجيا.
أثر الإنسان في التطور
كان لدارون ولع شديد بدرس مساعي الإنسان لتدجين الحيوانات والنباتات وتربيتها على السواء، وغير خاف علينا ما وصلت اليه جهود الإنسان في الحصول على ضروب متعددة من الحمام الداجن وذلك مهد لدارون أن يضع فكرته على النمط الأتي: لما كان في وسع الإنسان أن ينشئ في زمن قصير أنسالاً عديدة قويمة التهذيب فلماذا لا يعقل أن الطبيعة قامت بذلك العمل نفسه في زمن طويل جداً؟ وكيف يقوم الإنسان بتلك العملية؟ لاشك أنه ينتقي الأنواع التي تروقه أو تلائم حاجاته ويدعها تتزاوج مع بعضها على قدر الإمكان ويستأصل من النسل الجديد الأفراد التي لا يرغب فيها ومن ثم يقوم بتهذيب وتربية الأفراد التي يريد الاحتفاظ بها، فعمليته تقوم على أمرين مهمين: الاستئصال والتوليد. فيستأصل الرديء ويولد الجيد. وبسعيه المتواصل في (عملية الانتخاب الصناعي) هذه وصل الإنسان إلى نتائج مدهشة، فكان له ضروب عديدة من الخيول والمواشي والكلاب والحمام والدجاج الخ، وضروب كثيرة من النباتات كالحنطة واللفت والبطاطا والورد والبانسيه الخ. . . ومن السهل أن تذهب إلى المعارض الزراعية لتحصل على أمثلة واضحة من التطور لا تزال تعمل بقوة.
لاشك أن هناك أمثلة عديدة أكثر تعقيداً من نشوء الحمام لأنه يصعب علينا عندئذ تحديد(24/53)
الأسلاف الوحشية كمعرفة أصل الكلاب مثلا. ولكن ذلك لا يقلل شيئا من قوة الحجة القائلة إذا تمكن الإنسان من إيجاد ضروب عديدة من الحيوان والنبات في وقت قصير فكيف لا تستطيع الطبيعة ذلك في وقت طويل جداً؟. . . والآن يجب إلا نغفل عن أمرين مهمين: أولهما أن الإنسان لا يبتدع الضروب الجديدة بل ينتظر ظهورها، وثانيهما أن القوى المؤثرة في الطبيعة التي تماثل عمل الإنسان في الاستئصال والتهذيب هي التناحر على البقاء ونزوع المخلوق إلى الحياة.
مصدر القوة
عندما يمضي العالم الطبيعي في تمحيص انواع مختلفة من الحيوانات القريبة من بعضها حسب الظاهر يجد تغايرات مدهشة جداً، وسرعان ما يلاحظ أن بعض العضويات وحتى بعض الأعضاء هي أكثر عرضة للتغاير من البعض الأخر. وتدلنا جميع الحقائق المستقرأة بالمشاهدة على أن قابلية التغيير هي من أميز صفات الكائنات الحية. والواقع إننا لا نستطيع ان نجد طائرين يتشابهان تشابها تاما بحيث يعسر علينا تفريق أحدهما عن الأخر. فالأخوان يختلفان عن بعضهما بالرغم من تولدهما من أرومة واحدة. ويذكر لنل البروفسور لوتسي انه رأى في متحف (ليدن) نحوا من 200 ضرب من طيور الباز لا يوجد بين اثنين منها تشابه تام. وكذلك نعرف عن بعض المرجان المركب أن بنية الأفراد فيها تختلف باختلاف الأغصان في المستعمرة الواحدة. على أن مصدر التغيير كائن في الماكينة العضوية دفين بين تضاعيفها. ويجب على الباحث ان يميز الفروق الخارجية التي يمكن إرجاعها إلى خصائص المحيط أو الغذاء عن الفروق الداخلية أو الموروثة التي يظهر انها تتقدم من الباطن، ويطلق على الأخيرة فقط تعبير (التغايرات) أو (التغيرات الفجائية) إذا نشأت بصورة فجائية.
ارتقاء الحياة
من المحتمل أن كائنات حية كانت تعيش على اليابسة وفي المياه إلى مدة تزيد على المائة مليون سنة، ولكنها لم ترتق في ذلك الوقت كثيرا لأسباب ترجع أولاً إلى المحيط. إن تقدم الحياة مشهد بليغ وصفه لوتز وهو احد علماء الحياة ايضا، بقوله (انه كالنغمة المطربة(24/54)
التي يعلو صوتها كلما تقدمت واقتربت من السامع).
لم توجد خلال عصور عديدة حيوانات عظمية أو فقرية بل أن جميع الحيوانات التي كانت عائشة آنئذ كانت رخوة لا عظمية أو لا فقرية. ولكن الأسماك كانت موجودة في البحار السيليورية ومرت عصور عديدة ظهرت خلال أحدهما وهو العصر الرملي الأحمر القديم البرمائيات بعد أن اجتازت خطوات من التطور عظيمة كاكتساب الأصابع والرئتين الحقيقيتين والأوتار الصوتية واللسان المتحرك والقلب الثلاثي المخادع الخ. . كان هذا التقدم واضحا ولو ان هذه الحيوانات ظلت ضفدعية الخواص حتى عندما وصلت عصرها الذهبي في العصر الفحمي
وبعد مضي عصور أخذت الزواحف الملونة تظهر في العصر البرمي والتي نرى فيها التغاير والتنوع والتقدم بمقاييس كبيرة. فبعضها كانت بحرية وبعضها برية وبعضها هوائية والبعض الأخر يعيش بين الأشجار. وكان بعضها عظميا هائلا والبعض الأخر صغيرا دقيقاً. وهكذا حصلت تنوعات كثيرة بين الزحافات القديمة. على انها جميعا لم تكن قد وصلت إلى درجة تامة في النمو العقلي بل كان فيها استعداد عظيم لذلك. ويظهر ان كثيرا منها اصبح في منتهى الاختصاص كالتنين الطائر أو البتيرودكتل لأنها انقرضت بدون أن ترقى أكثر من ذلك.
ان بعض الزحافات القديمة لا تزال متمثلة بالتماسيح والضبياب وفصائل اخرى موجودة في الوقت الحاضر، ولكن البعض الأخر أصبحت أنسالاً منقرضة وأفضت غيرها إلى نشوء الطيور واللبائن وهما الصنفان اللذان نستطيع إرجاعهما إلى الأجداد الداينوسورية ولكن الحقيقة التي نعتقدها هي أنه في خلال العصور ظهرت صنوف تدرجت في سلم الارتقاء حتى وصلت إلى الإنسان وهو أرقى الحيوانات في الوقت الحاضر. يضاف إلى هذه الحقيقة العظيمة جميع السلالات النسبية المحفوظة بين الصخور كسلالات الخيول والفيلة والجمال والتماسيح. ومن ينقب يقرأ سجلات التطور بين ثنايا الصخور.(24/55)
هل للعلم قيود ترفضها الأخلاق؟
للدكتور هنسن أسقف درهام بإنجلترا
ترجمها بتصرف الدكتور أحمد زكي
(بدا شيء من القلق في منطوقات رجالات العلم ارتاع له الناس. وكيف لا يرتاع الرجل العادي وقد أنذر رؤساء ثلاثة لرابطة العلوم البريطانية في سنوات ثلاث متعاقبة بالخطر الذي يحيق بالمجتمع المتدين من جراء التقدم السريع الجاري. أن رجل العلم في العصر الحالي كساحر للقرون الخوالي يبعث الشياطين فلا يلبث أن تفلت من قبضته، وتتحرر من سلطته، فتعبث في الكون إفسادا وتخريباً) من خطبة قريبة.
العقل العلمي
كلنا متفق على أن العقل العلمي يجب أن يكون خلوا من كل غرض، بعيدا عن كل شهوة، إن هَوِى صاحبه فلن يتأثر بهواه، وإن أبغض فلن يتأثر ببغضه، فهو عقل يطلب الحقيقة للحقيقة وحدها، وهو يطلبها في هدوء وثقة واتِّزان ورجاحة، لا يزعجه اصطخاب تثيره التقاليد حوله، ولا يهزه اضطراب يبعثه العرف السائد من جراء ما تكشفه له، وهو يطلبها في قناعة وعفة ونبل، فلا تحدثه نفسه بما قد تؤدي له الحقيقة المكشوفة من نفع، وما قد تدر عليه من مال، وهو يطلبها لحاجة شديدة في نفسه تدفعه دفعا إلى علم ما لم يعلم، كما يندفع الهالك الظمآن إلى الرِّي والماء، وهو لا يفرق بين الحقيقة الصغيرة الحقيرة، والحقيقة الكبيرة الهامة، ولا بين الحقيقة تأتيه هوناً، وبين الحقيقة يأتي بها الجهد الجهيد، فلكل مكانه من الخريطة العامة، وهي لا تتم إلا بتمام أجزائها، وهو لا يجد لنفسه عوضاً كافياً من هذه الجهود، ولا جزاء وفاقاً على متاعب البحث ومصابرة التنقيب، كالعلم الذي تحصله تلك الجهود والأبحاث. وبعد فليس بمستغرب أن من يطلب العلم لذاته دون مراعاة شيء غيره ولا مجاملة أحد سواه يصطدم بكل سلطان قوي الدعائم قديمها، ومن ذلك سلطان الدين.
العلم والدين
وقد اشتبك الدين والعلم في معارك بدأت في أواخر العصور الوسطى وامتدت إلى وقتنا(24/56)
هذا. ولاشك أن من أكثر اسباب هذا العراك سوء فهم للدين، وعدم التمييز بينه وبين علم اللاهوت التقليدي الموروث. وقد خلف لنا هذا العراك سجلات عديدة من مساجلات ومناظرات امتلأت بها رفوف عديدة بدور الكتب، ولكنها لا تجد الآن قارئا إلا دارسا متشوقاً يأتي اليها الفينة بعد الفينة، مناظرات لم تولد غير كراهات غاشمة أفسدت الأذهان وأساءت إلى التفكير الخالص في كلا المعسكرين على السواء، نظر فيها رجال الدين بأعينهم إلى الوراء، إلى السنوات الزاهرة الذاهبة حين المجد للدين وحده، والجبروت للعقيدة وحدها، والسلطان الذي لا يدافع لرجال الكنيسة وحدهم بلا منازع ولا متحدٍّ، فعز عليهم أن يسلموا كل هذا وان يعترفوا للعلم بكثير أو قليل.
على أن الخصام الذي بين العلم والدين قل في العصور الحديثة، أو على الأقل هدأت حدته، وذلك أن أهل اللاهوت تعلموا ولو في كثير من التباطؤ، وأذعنوا ولو في كثير من التلكؤ، واهتدوا أخيراً إلى التوفيق بين تعاليمهم وتعاليم العلوم الطبيعية من فلك وجيولوجيا حتى علم الحياة وكان أصعبها توفيقاً.
العلم والأخلاق
وما دام العلم يشتغل بملاحظة حقائق الوجود عن كثب، وبتدوين أحداث العالم المادي في أمانة ودقة، وما دام يخرِّج النتائج من الفروض تخريجاً صحيحاً، فقد جاز أن يصطدم بعقائد المسيحية التقليدية، وقد أصطدم فعلاً. وليس من الضروري (ما حبس نفسه في هذه الحدود) أن يصطدم بالأخلاق ما توجبه وما ترتضيه. ولكن عندما يبدأ العلم يطبق طرائقه التطبيقية على جسم الإنسان وبدنه فانه بذلك يخرج عن حدوده الأولى، ويبدأ يمس رأي الناس في أنفسهم وأعمالهم، وبدل أن يكون الخصام بين العلم والدين، يصبح خصاماً بين العلم وقانون الأخلاق العام وهو قانون يشد أجزاء المجتمع بعضها إلى بعض، كما يشد الملاط آجرَّ البناء، وعند ذلك يصبح قانونا مزعزع الأساس مشكوكا في سلطانه، ويصبح قضاؤه غير مبرم. ثم يتقاصر ظله ويتقاصر حتى يصبح عبداً للعلم خاضعا لنتائجه، مأموراً بعد ان كان آمراً؛ وعندئذ ينظر الإنسان بعين جديدة إلى الطبيعة البشرية، ويصبح الواجب البشري ذا سيطرة، ولكنها محدودة مشروطة.
وهُنا يتساءل: هل يكون للمعمل فتأوي أخلاقية خاصة يتحلل بها أصحابه من القانون(24/57)
الأخلاقي العام الذي يتبعون أوامره ونواهيه عن طيب خاطر حيثما ساروا في الدنيا الوسيعة حتى إذا هم دخلوا المعمل أغفلوها جميعا؟ أيجوز استخدام التجربة، ذلك السلاح الرهيب دون مراعاة صالح غير صالح المعرفة للمعرفة ذاتها؟ إلا ينقلب رفض العلم لمراعاة اعتبارات الحياة الأخرى سببا إلى اقتراف كثير من الأثام؟ وجملة الأمر هل تتقيد الطريقة العلمية بقيود خلقية أم تترك طليقة؟ وإذا هي تقيدت فما هي تلك القيود؟
قال هكسلي: (إن كل الفلسفات وكل الأديان تقريبا متفقة على أن الحقيقة والجمال والخير غايات ثلاث يطلبها الإنسان لذاتها دون ما عداها؛ أو على الأقل تتفق الفلسفة والأديان على ذلك نظريا، أما عند التنفيذ فتظهر اختلافات وتلوح مصاعب).
ومع ذلك فهكسلي لا يتنازل عن شيء للتنفيذ، ولا يجود بشيء مما يتطلبه العمل من الضرورات. فهو يقول: كثيرا ما يقال إن من الأشياء ما يعلو على الفحص والتمحيص لقداسته، ولكن الرغبة الشديدة في المعرفة الخالصة إذا ملأت رأس الإنسان لم تجز له تمحيص كل شيء فحسب، بل تحتم عليه ان يتتبع مباحثه غير آبه لأي المواضع قادته، غافلا عن كل صفات الأجسام المبحوثة ما دامت قابلة للبحث والفهم، فأن العقل الممحص لا يرى أن بحث الشيء يمنع منه قدسيته، وفضلا عن هذا فان التجربة دلت على أن المعرفة التي تنال من أجل نفسها عن هذا الطريق، تقع من النفس منزلة لا تنزلها هي نفسها لو أنها أصيبت عن طريق غير هذا.
قال هكسلي ذلك وهو يعرض للدين أكثر من عرضه للخلق، ولكن كلامه يمكن تمديده حتى يسع الأخلاق. وهكذا يصبح السؤال: هل يصح لنا أن نفترض أن (الغايات الثلاث التي يطلبها الإنسان لذاتها دون ما عداها) متوافقة في جوهرها كل التوافق حتى أن من يطلب الواحدة يحصل في النهاية على الجميع. يقول عميد كاتدرائية سانت بول: (يجب علينا إلا نفارق بين القيم الثلاث أو نخاصم بينها. فكلنا نتسلق الجبل في طريقنا إلى الله. ولكن من طرق ثلاث تؤدي كلها إلى قمة الجبل. ومن المحتمل أن نجد من هذه الطرق واحدة هي أيسرها في الصعود).
أنا لا أعُنى الآن بالنهاية التي تؤدي اليها القيم الثلاث، ولكن عنايتي الحاضرة بالنتائج العملية التي تنشأ عنها. أن استعارة العميد نفسها تتضمن انفصال الثلاث في سبيلها من(24/58)
الجبل، وهذا الانفصال هو بيت القصيد. فلنسلم جدلاً بأن النزاع القديم بين الفن الجميل والأخلاق أكثره سوء في فهم هذا، أو فهم ذلك، أو فهمهما كليهما، ولكن السؤال: هل للفنان أن يغمض بحق عينه عن الاعتبارات الخلقية وهو يعمل في دار فنه؟ هل دراسة الفن للفن قضية رصينة مقنعة؟. . .
شرائط العلم ثلاث
أنا أقول إن الطريقة العلمية مشروطة بشرائط ثلاثة، أولها الواجب الذي تفرضه الأخلاق على دارس العلم بحكم رجولته، ذلك الواجب الذي لا يستطيع أن ينسخه أي مأرب من مآرب العلم مهما كان. وثانيهما قيود لا بد من تقيد الطريقة العلمية بها، تحتمها حقوق أولئك الذين تؤثر فيهم تلك الطريقة، وثالثهما قيود يفرضها نوع النتاج المقصود من التجربة.(24/59)
القصص
من غير عنوان
للقصصي الروسي تشيكوف
كانت الشمس في القرن الخامس عشر تشرق كل صباح وتغرب كل مساء كما هي اليوم. وحينما تقبل أشعتها الأولى ندى الأرض تنفض هذه عنها غبار الكرى، وتشيع في الدنيا البهجة وتحلو الأماني! وتعود الأرض في المساء إلى سكونها ثم تغوص في غياهب الليل. وقد ترى أحياناً سحابة راعدة تلوح، ويقصف الرعد وهو يزمجر، أو تهوى نجمة من شاهق وهي وسنانة، أو يقبل راهب حثيث الخطى شاحب اللون ليخبر رفاقه بأنه رأى نمراً قريبا من الدير. كان هذا كل شيء، ثم تعود ثانية الأيام تشابه الأيام، والليالي تحاكي الليالي.
كان الرهبان يصلون ويعملون: أما رئيس الدير فيعزف على الأرغن، ويقرض الشعر اللاتيني، ويؤلف النغم الموسيقى. وكان للكهل الحلو الوديع ذكاء نادر وسجايا حميدة. فهو يعزف على الأرغن ببراعة، حتى أن معظم الرهبان القدماء الذين يضعف سمعهم كلما قربت نهاية حياتهم ما كانوا يستطيعون أن يحبسوا دموعهم كلما هفا صوت أرغنه من صومعته. وعندما يتكلم ولو عن الشؤون العامة كالشجر والوحوش الضارية والبحر الخضم، لا يسمعه إنسان دون أن ترى دمعة تترقرق في عينيه، أو بسمة ترتسم على شفتيه، فيخيل اليك أن الأنغام التي تتجاوب في الأرغن هي بعينها التي تعتلج في نفسه. وحينما يهيجه غيظ متمكن، أو يأسره فرح شديد، أو يتحدث عن أشياء مروعة تأخذه نشوة قوية، ويتسايل الدمع من عينه اللامعة، وتضرج وجهه الحمرة، ويدوي صوته كالرعد. هنا يحس الرهبان المستمعون أن أرواحهمتذيبها عظمته وأنها تفنى فيه. لقد كانت قوته في هذه الدقائق العظيمة العجيبة لا تحد، فلو أمر شيوخ الدير أن يقذفوا بانفسهم في البحر لاستبقوا اليه مسرعين.
كان موسيقاه وصوته وشعره الذي يمدح به الله منبعاً لسرور الرهبان لا ينضب. ففي مدة حياتهم الرتيبة تنقلب الأشجار والأزهار والربيع والخريف إلى أشياء مملة، ثم يقلقهم هدير اليم الزاخر، ويصبح شدو الطير مملول النغم مرذول الجرس. ولكن سجايا رئيسهم كانت(24/60)
لهم بمثابة القوت المحيي والقوة المجددة.
كرت السنون ومازالت الأيام تشابه الأيام، والليالي تحاكي الليالي وما دنا من الدير أحد اللهم إلا ضواري الوحش وجوارح الطير. وكانت أقرب المساكن الإنسانية بعيدة جداً. ولا تصل اليها من الدير أو تصل إلى الدير منها حتى تعبر صحراء ذرعها مائة ميل.
والذين يجرءون على القيام بهذا هم أولئك الذين لا يجعلون للحياة قيمة ولا يقيمون لها وزناً، والذين نبذوها وراءهم ظهرياً ونفضوا أيديهم منها جملة. يولون وجوههم شطر الدير وكأنهم يسيرون إلى القبر.
ولشد ما كانت دهشة الرهبان عند ما قرع بابهم في ليلة من الليالي رجل برهن لهم على أنه من سكان المدينة: وكان هذا الرجل أكثر الناس ارتكاباً للإثم وحبا للحياة. وقبل أن يصلي أو يرجو رئيس الدير أن يباركه طلب طعاما ونبيذا.
فلما سألوه عن سبب قدومه من المدينة إلى الصحراء قص عليهم قصة طويلة: خرج يطلب الصيد ومعه شراب كثير فضل الطريق، وعند ما أشاروا اليه أن الواجب عليه أن يمسي راهباً أجابهم في ابتسام: (لست لكم بصاحب!)
شرب واكل ملء بطنه، ثم رفع بصره إلى الرهبان الذين يقومون بخدمته وهز رأسه لائماً وقال:
(إنكم معشر الرهبان لا تعملون شيئا، كل ما تعنون به هو طعامكم وشرابكم، هل هذه هي الطريقة لخلاص أرواحكم؟ فكروا الآن! بينما أنتم تعيشون في هدوء هنا، تأكلون وتشربون وتحلمون بالخيرات والبركات إذا بإخوانكم هناك قد كتب عليهم عذاب الجحيم، انظروا ما الذي يحدث في المدينة! بينما بعض الناس يموتون جوعا، إذا بالآخرين لا يعرفون أين يبذرون الذهب، ينغمسون في الدعارة ويهلكون فيها كما يهلك الذباب في العسل، ثم لا صدق ولا إخلاص بين الناس. من الذي يجب عليه انتشالهم مما هم فيه؟ أأنا الذي أروح صريع الكأس من الصباح إلى المساء؟ هل أنعم الله عليكم بالخلاص، ومنَّ عليكم الحب، وحباكم بالقلوب الرحيمة، لتجلسوا هنا بين هذه الجدران الأربعة ولا تعملون شيئا؟!).
ومع أن كلام الرجل السكير كان ينطوي على الجرأة والقحة فقد أثر تأثيراً غريبا في رئيس الدير فنظر هو والرهبان بعضهم إلى بعض ثم قال رئيسهم بوجه شاحب (إخواني انه(24/61)
محق. فصحيح أن الحماقة والضعف البشري جرفا الإنسانية التعيسة في تيار الجحود والإثم فأهلكاها وقضيا عليها. وها نحن أولاء لا نريم من هذا المكان كأن لا عمل لنا ولا واجب علينا. لماذا لا أذهب إليهم فاذكرهم بالمسيح الذي نسوه؟).
نالت كلمات رجل المدينة من نفس رئيس الدير، ففي اليوم التالي أمسك بعكازه وودع إخوانه، وركب الطريق إلى المدينة، فأمسى الرهبان لا ينعمون بموسيقاه ولا بحلو حديثه ولا برائع قريضه.
ترقبوه شهراً ثم شهرين فما عاد، وأخيرا في نهاية الشهر الثالث سمعوا نقر عصاه المألوف فخف الرهبان لملاقاته وأمطروه بالأسئلة، ولكنه بدلا من مشاركتهم في حبورهم بكى بكاء مراً وما نبس ببنت شفة. رأى الرهبان أنه أصبح نحيلاً وأن أعراض الكبر قد بدت على ملامح وجهه.
فما تمالك الرهبان وقد رأوا منه ذلك أن أجهشوا بالبكاء وسألوه عما يبكيه، فما أجابهم بكلمة وغادرهم موصدا عليه بابه ومكث في صومعته. لبث فيها خمسة أيام ما شرب فيها شرابا ولا طعم طعاما ولا عزف على الأرغن. ولما طرق الرهبان عليه بابه وألحوا عليه في الخروج ليشاركوه في أساه كان جوابه الصمت العميق.
خرج من معتكفه أخيرا وجمع حوله الرهبان وأخذ يقص عليهم ما حدث له خلال الشهور الثلاثة التي خلت والدمع ينضح وجهه والألم يأكل قلبه، ثم هدأت نفسه وتهللت أساريره حينما أخذ يصف لهم رحلته من الدير إلى المدينة. غنى الطير وخر الجدول على جوانب الطريق، وجاش صدره بالأماني الحلوة والآمال المعسولة. شعر بانه جندي يتهيأ لاقتحام الموقعة والوصول إلى النصر المحقق. سار حالما يقرض القصيد ويصوغ النشيد، وسرعان ما وجد نفسه في نهاية الرحلة. على أن عيونه أومضت باللهب، ونفسه جاشت بالغضب، وصوته ارتعش عندما بدأ يحدثهم عن المدينة والإنسانية. ما كان رأى ولا تخيل قبل اليوم كل ما رآه وأحصاه في قلب المدينة. رأى وفهم لأول مرة في حياته سلطان إبليس وسيادة الجور وضعف القلب الإنساني الخاوي. هنا خمسون أو ستون رجلا جيوبهم مترعة بالمال يقصفون ويشربون النبيذ دون حد. أخذوا وقد تملكتهم نشوة الراح يرفعون عقائرهم بالغناء الساقط، وينوهون في شجاعة بأشياء جارحة لا يجرؤ إنسان يخاف الله جل سلطانه أن(24/62)
يشير اليها. فهم أحرار سعداء شجعان لا يخافون الله ولا يخشون الجحيم ولا يهابون الموت. يقولون ويفعلون ما يشاءون، ويذهبون إلى حيث تسوقهم رغباتهم الجامحة.
اما النبيذ فصاف صفاء الكهرمان! وهو أيضا ذكي الرائحة لذيذ الطعم، لأن كل من يعب منه يطفح وجهه بالبشر ويرغب في الشراب ثانية. وهو يجزى على ابتسام بابتسام، ويتهلل غبطة كأنه يعرف أي ضلال جهنمي يختبئ تحت حلاوته.
غلى مرجل غضبه، وبكى أحر البكاء وأشجاه. ثم استطرد يقص عليهم ما رأى: (وقفت امرأة نصف عارية على منضدة وسط القاصفين، ويصعب عليكم أن تتصوروا شيئا اكثر فتنة وسحرا منها، صبى ناصر زاهر، وشعر طويل جثل، وعيون سوداء لامعة، مكتنزة محمرة، ثم سفاهة وجرأة وقحة. هذه البهيمة تبتسم فتفترعن عن أسنان بيضاء كالبرد كأنها تقول: (انظروا إني جميلة، ومستهترة. . . .) وتتدلى من عاتقها الملابس الحريرية البديعة المشجرة. على أن جمالها لا تخبئه ملابس، لأنه بشره يفسح لنفسه الطريق بين طيات ثوبها. . . . كأنه الأعشاب الصغيرة وهي تشق لنفسها الطريق في الأرض زمن الربيع. وتشرب المرأة التي لا تستحي النبيذ، وتغني الأغاني، ثم تستسلم بعد ذلك للمعربدين. . . .).
لوح الرجل الكهل بذراعيه حانقا ثم استمر يصف لهم سباق الخيل، وصراع الثيران، والملاعب، وحوانيت الفنانين، حيث يعرض هيكل المرأة العارية مرسوما بالزيت أو منحوتا من الصلصال.
كان الرجل في حديثه لسِناً ملهماً جهوري الصوت حلو الجرس كأنه يعزف على آلة موسيقية لا تقع عليها العين. والرهبان ذاهلون عن أنفسهم غائبون عن رشدهم وقد أسرتهم كلماته وسحرهم بيانه، فهم يلهثون من فرط السرور. ولما فرغ من وصف إغواء إبليس وفتنة الفسوق وسحر المرأة لعن إبليس ثم غادر المكان واختفى وراء بابه.
فلما خرج من صومعته في صباح اليوم التالي لم يجد راهبا واحدا في الدير. فقد انطلقوا جميعاً مسرعين إلى المدينة!!
محمود البدوي(24/63)
صديقها عشيقها
رواية مصرية عصرية في فصل واحد
للكاتب الروائي الأستاذ محمد خورشيد
أشخاص الرواية
فايد بك عمره 28 سنة. فتى راق وارث بيت مجيد وثروة واسعة
إحسان بك25 سنة. صديق فايد ذكي متهكم ماكر
مختار بك60 سنة. أعزب. صديق حكمت الصدوق
حكمت هانم27 سنة. أرملة رجب باشا. فتاة راقية غنية
سميرة هانم25 سنة. صديقة حكمت من عهد الدراسة
خادم فايد بك. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
غرفة المكتب بمنزل فايد بك يصلها في الصدر ببهو المنزل، وإلى اليسار باب آخر يفضي إلى باقي الغرف. إلى اليمين مكتب فاخر ومكتبة زاخرة بالكتب المجلدة تجليدا ثمينا، وأمامهما كنبة لثلاثة، وأمام هذه الكنبة منضدة عليها صندوق سجاير ومنفضة من الفضة، وحولها كراسي، جميع القطع من خشب (الموجنة) مكسوة بالقطيفة الحمراء. وفي وسط الغرفة سجادة، والطابع العام الأناقة واجتناب الكظة وحسن الجمع بين الألوان.
الوقت عصر.
المنظر الأول
(يرفع الستار عن مختار وإحسان واقفين في جهة اليمين بين الكراسي وفايد واقفا جهة اليسار قريبا من باب مفتوح قد وقف بعتبته خادم).
فايد: (يخاطب الخادم) ضع الملابس التي ذكرتها لك في الصندوق، ولما تصل إلى الأشياء الصغيرة: أربطة الرقبة والمناديل وما يشابهها، اخبرني لأجيء واختار منها ما أريد.
الخادم: سمعا وطاعة سيدي. (يخرج ويغلق الباب خلفه).
فايد: (وقد ذهب إلى حيث إحسان ومختار) أهلا مختار بك! مساء الخير! مساء الخير يا إحسان! تفضلا.
(يردان تحيته ثم يجلس ثلاثتهم. يقدم فايد صندوق السجاير فيأخذ كل منهما سيجارة(24/64)
ويشعلها، ويأخذ هو سيجارة لنفسه ويشعلها.)
(يبدأ مختار الحديث فيقول:)
مختار: أخبرني إحسان بك أنك ستسافر هذا المساء إلى استامبول، فاستغربت، أولا لأنك كنت قد قررت إلا تسافر هذه السنة، وثانيا لأن فصل الصيف أوشك أن ينتهي. نحن الآن في أواخر شهر يوليه، خير إن شاء الله! ما الداعي للسفر بغتة؟
فايد: شعوري بضعف، وحاجتي إلى تبديل الهواء.
إحسان: لا ضعف هناك ولا خلافه. لابد أن هناك سبب تخفيه وأظنني أدركته.
فايد: (ينظر إلى إحسان نظرة عتاب ويقول:)
قد يعتقد مختار بك الآن ان لسفري سببا أخفيه، مع أن الحقيقة هي ما ذكرت. نعم كنت قررت إلا أسافر هذا العام، ولكن حر الصيف فوق المألوف فأضعفني وشعرت بضرورة الفرار منه، لذلك عزمت على السفر إلى استامبول لأمكث بها شهري أغسطس وسبتمبر، ثم أعود في أوائل أكتوبر حين يصبح جو القاهرة محتملا. وقد حجزت لي محلا بالباخرة التركية التي ستبرح الإسكندرية غدا. . .
مختار: ومنعك استعدادك للسفر عن الحضور ليلة أمس لقضاء السهرة بمنزل حكمت هانم، فسألتني عنك فأجبتها انك لابد حاضر، ولكنك كذبتني ولم تحضر.
فايد: أرجو المعذرة، كنت عازما على الحضور ولكن خانني الوقت. فلم أكد أفرغ من ترتيب أموري مع الكاتب والخدم أثناء غيابي عنكم حتى كان الليل قد انتصف.
مختار: كنت أظنك مغتبطا بصداقة حكمت هانم التي رحبت بك وخصتك بكثير من عطفها، وكانت دائما تدعوك إلى سهراتها البديعة البهيجة. كنت أظنك مثلي قد بلغ بك الإخلاص في الود إلى درجة لا تستطيع معها فراقها، ولكن يظهر أن قلبك لم يقدر صداقتها كما يقدرها قلبي، لذلك سمح لك أن تسافر وتحرم رؤيتها شهورا عدة، بينما لا يمكن لقلبي أن يسمح لي أن احرم منها يوما واحدا. ولكن لا بأس في ذلك، فلكل منا ميله وشعوره، وكل ما ألومك عليه أنك لم تحضر عندها ليلة أمس ولم تستأذن منها في السفر. لا تؤاخذني يا فايد بك. أنا الذي عرفتك بها وقدمتك اليها كولدي العزيز وأنت تعلم مكانتها عندي.
فايد: إني آسف اشد الأسف لأني لم أتمكن من الذهاب اليها ليلة أمس وتوديعها وشكرها(24/65)
على ما غمرتني به من عطف، وسأمر اليوم في طريقي إلى المحطة وأترك لها بطاقة اذكر فيها أسفي وشكري ووداعي.
مختار: هذا حسن، ولكن الأحسن منه أن تذهب اليها بعد نصف ساعة. لأنها ستنتظرني للشاي في الساعة الخامسة والنصف والسعة الآن الخامسة: فتعال بعد نصف ساعة نشرب الشاي معها ثم تستأذنها في السفر وتنصرف. لديك من الوقت متسع، فان القطار الذي سيقلك إلى الإسكندرية يتحرك في تمام الساعة السابعة.
فايد: أسفي لا يقدر! لأني في انتظار من لابد لي من مقابلتهم قبل سفري. أرجو أن تشرح لها عذري، وان تحتفظ لي بصداقتها التي لها عندي أرفع منزلة. وإن وجدت بعد عودتي أن مكانتي عندها لم تتغير، أعدك إني حينئذ أبذل قصارى جهدي لأكسب عطفها ورضاها.
مختار: ليكن، سأجتهد في فعل ما تريد.
إحسان: تصريحك يا مختار بك بأن لابد لك أن تراها كل يوم يبرهن على أن لصداقتها مكانة رفيعة عندك.
مختار: صداقتها هي غاية حياتي، هي قوتي، هي هنائي. نتقابل كل يوم اما للغداء أو للشاي. هذا إذا لم أقض سهرتي في مجلسها السعيد.
إحسان: أقديمة معرفتك بها؟
مختار: عرفتها منذ خمسة أعوام عندما تزوج منها صديقي المرحوم رجب باشا، فاستولت على قلبي بصراحتها وسامي عواطفها. فلما توفي الباشا زوجها شاركتها في أحزانها، وبذلت جهدي في التخفيف من آلامها. ودأبت على خدمتها في خضوع وإخلاص حتى اتخذتني صديقا لها وكشفت لي عن قلبها فرأيت العفة والكمال والطيبة وحسن الخصال والعطف والحنان، والآن مضى على عامان وأنا سعيد بصداقتها واثق من إخلاصها ووفائها.
إحسان: إلا ترغب هي في الزواج؟
مختار: كلا. وقد صرحت لي انها ستبقى وفية لذكرى من أحبته وأحبها ولن يكون لها زوج غيره.
إحسان: إذن لابد لها من عشيق تهواه.(24/66)
مختار: ما هذا الكلام؟! حكمت هانم يكون لها عشيق؟! هي مثال العفة والفضيلة؟!. . .
إحسان: لكنها يا بك في عنفوان الشباب وكمال الصحة. وللحب على الشباب نفوذ، كما أن للطبيعة على الصحة سلطانا.
مختار: الصداقة عندها قهرت الحب، والعفة تغلبت على الطبيعة.
فايد: إحسان يجهل قوة الصداقة وسلطانها على القلوب. أنه فتى مادي، فلا تتعب نفسك معه.
إحسان: على كل حال لا يستطيع مختار بك أن ينكر انها ذات دلال. وإني وإن لم أكن من أخصائها لي بها معرفة، وقد سبق أن زرتها ورأيت بعيني دلالها.
مختار: لا أنكر انها ذات دلال، ولكن دلالها حلو: دلال كله طيبة، دلال خلا من المكر والخداع. دلال النساء قوامه الدهاء عادة، دلال يخفي أغراضاً مقصودة، دلال أثيم، دلال مصطنع؛ اما دلال حكمت هانم فقوامه الصراحة، لا غرض له سوى ملاطفة الأخصاء. دلال بريء، دلال طبيعي. خلقت ذات دلال فلا يجوز لإنسان أن يلومها على دلالها، كما لا يجوز له أن يلوم وردة على عطرها.
إحسان: أن إعجابك بها لا حد له، لكن أصغ لي. كل فتاة في مثل جمالها ودلالها لابد أن يكون لها عشاق كثيرون، فكيف تعتقد انها بغير عاشق؟.
مختار: قد يكون لها عشاق، لكني واثق من انها لم تعشق أحداً منهم. الا تعلم يا إحسان بك أن ذوات الدلال لا يفرطن في عفتهن مطلقا. وأن كل واحدة منهن تسعى بدلالها وراء غرض واحد، هو أن تحوز الإعجاب وتستثير الرغبة. لذلك لا تجود حتى بقبلة واحدة لتبقى دائما موضع الإعجاب ومثار الرغبة.
إحسان: نظريتك غريبة أتحرم نفسها الحب لتبقى مرغوبا فيها؟
مختار: شاءت المقادير أن تتكلم ذوات الدلال على عتبة الحب والباب المغلق!
إحسان: وان فتح الباب؟
مختار: لا يفتح لهن أبدا!
إحسان: لنفرض انه فتح
مختار: تكون معجزة(24/67)
إحسان: فلتكن. ألا تعلم يا مختار بك أن الحب قادر على هذه المعجزة؟ الحب هو الذي يشفيها من الدلال.
مختار: سبحان الله يا إحسان بك! قلتلك إنها لا تحب ولن تحب، وستبقى وفية لذكرى زوجها الذي أحبته، إني أكثر علما بها وبعواطفها منك ومن كل الناس. لقد استعاضت عن الحب بالصداقة، ووجدت خلا وفيا وصديقا صدوقا. يا للساعات السعيدة التي نقضيها معاً!! ساعات تتجلى فيها الصداقة بأعلى واجمل معانيها. ذكاؤها وسرعة خاطرها لا يعادلان جمالها ودلالها، حديثها ينم عن طيبة قلبها ووفائها، ولصوتها رنات عذبة هي أشبه بنغمات روحانية تبعث الأمل في الفؤاد. إذا تحاورنا تتم فكرتي بنفس الألفاظ التي تحوم حول شفتي، أو تجيبني بما يولد في نفسي طائفة من الأفكار الطريفة. نصف كلمة منها تنبئني أكثر من جملة من غيرها، لأننا تعودنا أن نفكر معا. تعلم كل ما يجيش بصدري من شعور. وأدرك كل ما يتخلل نفسها من إرادة. نحن مخلوقان يتمم كل منا الأخر.
إحسان: لا نزاع في ذلك. صداقتكما لا ينكرها إلا مكابر.
فايد: ولا نزاع في أن الصداقة عاطفة اثبت من الحب، لأنها ترتكز على أنقى ما في النفس على الجزء الروحاني منها.
مختار: (وقد نظر إلى ساعته): أزف الوقت. اسمح لي يا فايد بك. أريد أن اذهب إلى مكتبة سكر لاشتري كتابا طلبته مني حكمت هانم ثم آخذه معي اليها. سأحضر إلى المحطة هذا المساء لوداعك.
فايد: (وهو يشيعه إلى الباب). لا تكلف نفسك. أرجوك
مختار: لا. . . . هذا واجب.
إحسان: (وقد لحق بمختار ومد له يده). إلى الملتقى
مختار: (وقد اخذ يده) إلى الملتقى.
(ثم يحيي إحسان قائلا: إلى هذا المساء. . . (يخرج)
المنظر الثاني
فايد، إحسان
إحسان: يا له من غبي! غبي تماما سابح في خياله، غارق في أحلامه(24/68)
فايد: ما لك وما له؟ دعه في اعتقاده. صداقة حكمت هي نبراس حياته. في سنه تلعب الصداقة دورا هاما.
إحسان: دورا يعمي! النهاية، دعنا منه. . بلغني انك غاضبتها. أصحيح؟
فايد: غاضبت من؟
إحسان: غاضبت الحبيبة المحبوبة، غاضبت حكمت هانم.
فايد: كيف علمت ذلك؟
إحسان: كل القاهرة تعلم ذلك. كل القاهرة إلا واحدا. . . سعادته. (وهو يشير إلى الباب الذي خرج منه مختار)
فايد: كل القاهرة؟ اشكرها على اهتمامها بشأني. آه! فهمت الآن لماذا أتيت. جئت تدرس نفسي لترى وقع الألم عليها. لكن يا عزيزي، صدقني إني لا أتألم. لا أتألم الآن. ربما تألمت غدا. وربما بعد ساعة، لكن الآن لا اشعر بأقل ألم. بلغ ذلك من فضلك كل القاهرة.
إحسان: يصل!. . .
فايد: بل إني أشعر بسعادة. نعم إني لسعيد الآن. حريتي ردت إلى. أصبحت طليقا اذهب حيث أشاء متى أشاء ومع من أشاء. أصبحت غير مضطر إلى تقديم بيان عن جميع حركاتي وسكناتي يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة غير مقيد بموعد لا يمكنني أن اخلفه ولا أن أتأخر عنه، لا. . . لا. . . كنت مستعبدا!. . .
إحسان: ضعفك أمامها هو الذي مهد لها سبيل التسلط عليك، أين ذهبت قوة إرادتك؟
فايد: ألمن يحب قوة ارادة؟ لابد انك أحببت يا إحسان وتعلم. . .
إحسان: أحببت مرة واحدة. كنت في الخامسة عشرة من عمري. والتي أحببتها كانت خادمة في بيتنا تدعى خضرة. عيناها الناعستان سحرتا فؤادي. خصرها النحيل أطار لبي، فأصبحت طوع أمرها، تسلطت علي ففقدت إرادتي. صدقت يا فايد! يستحيل على من أحب ان يعصي لحبيبته أمراً. لكني كنت في دور المراهقة، ومنذ أصبحت رجلا لم أحب مطلقا.
فايد: ذلك من حسن حظك.
إحسان: ربما! لكني على كل حال لست فارغا للحب. . . مثلك. إني اهتم كثيرا بالعلوم والفنون الجميلة.(24/69)
فايد: الحب علم وفن وله فائدته وجماله.
إحسان: أبداً لا فائدة من الحب ولا جمال، اللهم إلا إذا اعتبرت الألم فائدة والمنكر جمالاً.
فايد: وماذا يدري عن الحب من تنحصر معرفته به في حبه لخادمة؟ مسكين يا إحسان! لم تحب فتاة راقية. لم تحب على الأخص فتاة تبادلك الحب. وإلا لعرفت أن الحب هو هبة النفس كلها. . . كلها. . . بلا ترو ولا تبصر. هو اندماج تام لنفسين. هو ائتلاف كامل لقلبين. هو صلة بديعة عذبة تمزج بين روحين وتشرق عليهما لا يفصلهما شيء مطلقا.
إحسان: كيف؟ والشرائع والعادات؟
فايد: الحب يثور على كل شيء. ينسف كل شيء كما يغفر كل شيء.
إحسان: والضمير والواجب؟
فايد: من أحب لا يعقل
إحسان: هذه فوضى.
فايد: هذا هو الحب (يدخل الخادم من الباب الذي إلى اليسار قائلا:)
الخادم: وضعت الملابس جميعها. ليتفضل سيدي فيختار أربطة الرقبة والمناديل ما شاء.
فايد: انتظرني من فضلك يا إحسان. سأعود اليك بعد قليل
إحسان: وهو كذلك.
(يخرج فايد من الباب الذي إلى اليسار ويتبعه الخادم)(24/70)
العالم المسرحي والسينمائي
فلم (الوردة البيضاء)
لناقد (الرسالة) الفني
- 2 -
أفضنا في الأسبوع الماضي في الحديث عن موسيقى عبد الوهاب في فلمه الأول (الوردة البيضاء) لأنها العماد القوي الذي رفع هذا الصرح الشامخ عاليا وأناله هذه المكانة الرفيعة من النجاح والتقدير. وهذه الألوف التي تزاحمت لمشاهدة الفلم انما جذبتها موسيقى عبد الوهاب وألحانه القوية الفياضة التي يصوغها من روحه فتخرج ملؤها الحياة، تعمر جوانبها، وتفيض في نواحيها، وكأن عبد الوهاب يضع فيها من نفسه ومن حاسته، ويفرض عليك عند سماعها ألوانا شتى من العواطف والاحساسات لا قبل لك بدفعها أو الفرار منها، وانك لتسمع الحان هذا الشاب بقلبك وجوانحك قبل أن تسمعها بأذنك.
شغلتنا موسيقى عبد الوهاب إذن عن الحديث في النواحي الأخرى من الفلم، وما ينبغي أن نغمط الممثلين الأكفاء الذين اشتركوا في تمثيل هذا الفلم ما أبدوه من الكفاية في أدوارهم جميعا. ونبدأ بالأستاذ محمد عبد القدوس (خليل أفندي) وكيل الدائرة، فقد كان الممثل الكامل، وليس للناقد عليه من سبيل، إذ أدى دوره على أحسن ما يكون، في بساطة وسهولة ويسر، وفي كثير من الدقة والأمانة للشخصية التي يمثلها، وهو ما اشتهر به عبد القدوس في تمثيله السهل الممتنع. وعبد القدوس لا يمثل، ولكنه يعيش الدور الذي يقوم به. وهذا هو المثل الأعلى لفن التمثيل.
والأستاذ سليمان نجيب في دور (إسماعيل بك) والد رجاء كان كثير التوفيق في مشاهده المختلفة، غير أن نزعته المسرحية كانت تبدو واضحة في حركاته وإشاراته وحديثه. ولو حاول قليلا أن يتخلص منها لما كان ما نأخذه عليه. ويبدأ سليمان جملته قوية، في صوت مرتفع واضح، وما يزال يخافت بها حتى يتلاشى صوته في النهاية فلا نسمع الكلمات الأخيرة التي تخرج أشبه ما تكون بالهمس أو المناجاة. وهذا العيب لا يغتفر في المسرح فمن باب أولى في السينما. على أن مظهر سليمان نجيب بقامته المديدة، وطلعته الوضاحة،(24/71)
وأناقته المعروفة، مما يكسبه دائما طابعا خاصا يجعله بارزا، ويكسب الشخصية التي يمثلها اهمية خاصة، ويحيطها بجو ملائم لها مما من الترف والنعيم. وسليمان يعد بحق في مرتبة الممثلين المجيدين بين الهواة والمحترفين على السواء. وكم كنت أود أن أراه في موقفه من جلال عندما يطلب منه قطع علاقاته بابنته رجاء، خيرا مما رأيته، وقد كان ذلك في وسعه.
وشخصية (شفيق بك) التي مثلها الأستاذ زكي رستم مضطربة بعض الشيء، وأنت لا تستطيع أن تفهمها من سياق القصة تمام الفهم، ويبدو التناقض في تصرفات هذا الشخص وفي أعماله طول الرواية، وتستطيع أن تقول عن شفيق بك انه رجل لا طعم له ولا لون، وهذه الشخصيات التي لا تجد لها معالم أساسية واضحة من الصعب أن تحاسب الممثل على أدائها حسابا دقيقا. على أن زكي رستم استطاع بجهده انه ينقذ بعض المشاهد. وليس الذنب ذنب الممثل إذا كان المؤلف لم يخرج الشخصية واضحة محدودة المعالم والمظاهر.
وقد أدى الأستاذ توفيق المردنلي دوره (ناظر العزبة) بتوفيق يغبط عليه، وكان فيه طبيعيا لا تلمح في مشاهده أثراً للتكلف، بل كان صورة صادقة للفلاح المصري الطيب القلب السليم الفطرة الصادق في خدمه مولاه، وبرغم قلة مشاهده استطاع أن يبرز شخصيته ويجعل منها مكانة واضحة.
مثلت الآنسة سميرة خلوصي دور (رجاء) وهي المرة الأولى للآنسة التي تظهر فيها على الشاشة، كما أنه لم يسبق لها مران على مهنة التمثيل، وإنها ولا شك خطوة جريئة أن تمثل دورا له هذه الأهمية في الفلم، ولا يكاد يخلو منه مشهد من مشاهده. ولذلك كان التقصير الذي يبدو من الآنسة انما يلام عليه المخرج، وهو في هذه الحالة المسئول الأول عن رجاء، لأنه هنا يعمل في عجينة لدنة يشكلها كيف شاء، ويدربها جهد ما تستطيعه مقدرته، وما تتحمله موهبتها واستعدادها. وقد استطاعت الآنسة سميرة أن تجتاز بعض مشاهد الفلم موفقة، كما بدت في مشاهد اخرى كالطفل الخائف الذي ينفذ أوامر بنصها خوفا من (العلقة) التي تنتظره إذا حاد عن هذه الأوامر قيد شعرة. ولذلك كانت تبدو حركاتها أحياناً وفيها بعض التكلف، وتحس باضطرابها تحت نظرات المخرج الواقف لها بالمرصاد في احدى الزوايا. وبرغم كل هذا نستطيع أن نقول انها نجحت في دورها ووفقت في اداء بعض(24/72)
مشاهده توفيقا كبيرا. وفي صوت الآنسة رنة مستحبة، عذبة الوقع في الأذن، ساعدتها كثيرا على أن تجد لها مكانا رفيعا في قلوب النظارة، فكسبت بذلك عطفهم وإعجابهم، وبين الاثنين خطوة قصيرة المدى، وأريد أن أهنئها على ذوقها السليم في اختيار ملابسها التي ظهرت بها في الفلم: كلها أنيقة بديعة التنسيق تناسب جسمها وتلائمه.
قامت السيدة دولت بدور زوجة إسماعيل بك والد رجاء. وكان من سوء الحظ ان بدت ممتلئة الجسم إلى درجة كبيرة أضاعت عليها كثيرا من رشاقتها المعروفة، ولم يبذل المخرج جهدا في ملافاة هذا العيب. والسيدة دولت ممثلة معروفة، فلست بحاجة إلى الإفاضة في هذه الناحية، غير إني آخذ عليها أنها أسفت بشخصيتها كثيرا في المشهد الذي تشتم فيه (رجاء) فقد أتت فيه من الحركات ما لا يتفق والاحترام الذي نحمله لشخصية الدور، وما لا ترتجله سيدات الطبقة الراقية مهما كانت الظروف.
ولا أنسى الأستاذ ادمون تويما في مشهده القصير الذي قام فيه بتمثيل دور المستأجر الأصم، فقد كان من مشاهد الفلم الموفقة. أخطاء الإخراج كثيرة في الفلم، وعلى الأستاذ محمد كريم أن يتقبل نصيبه من اللوم بشجاعة وسعة صدر، فلا يزال إلى اليوم في خطاه الأولى، ونرجو له إذا تفرغ لدراسة هذا الفن، فن الإخراج السينمائي بنواحيه المختلفة وأبوابه المتعددة، أن يكون في المستقبل أكثر توفيقا وإلماما بعمله.
أول ما آخذه على المخرج أن مشاهد (جلال) وخصوصاً الغنائية منها لم تظهر في المستوى الفني الذي كان يجب أن تظهر فيه، وقد حد بذلك من حرية عبد الوهاب ولم يهيئ لبعض أغانيه الجو الذي يلائمها فيزيدها جلالاً وسحراً ويضاعف تأثيرها في النفوس، وشتان بين المشهد الختامي والمشهد الذي يغني فيه عبد الوهاب (جفنه علم الغزل) وبين مشاهد (يا وردة الحب) و (سبع سواقي) ومشهدي التخت.
وقطعة النيل كان في مقدور المخرج النابه أن يستفيد مما فيها من حركة وحوار ووصف، وكان يمكنه أن يخرج منها مشهداً رائعاً. فالنيل في ضوء القمر على مقربة من الأهرام، وبعض المراكب الشراعية تسير على مهل، ورجاء وجلال في قارب منها، وفي خلوة رقيقة بين أحضان الطبيعة، هذا وأنغام اللحن الشجي تنساب في مثل رقة النسيم وخرير الماء؛ فأية روعة كانت تكون لهذه القطعة؟ ولكن المخرج حبس جلالاً بين اربعة جدران(24/73)
وهو يغني أنشودته الجميلة، ولم يحاول حتى أن يستفيد من وجود (رجاء) في الغرفة المجاورة، فقد كان في وسعه أن يتنقل بين الغرفتين، فنرى جلالاً يغني، ثم نرى (رجاء) مأخوذة بسحر صوته، وتبين على وجهها ملامح الانفعال والنشوة والطرب، مما يكسب القطعة حياة. وأي فارق بين هذا المشهد كما أخرجه كريم وبين أن نسمع هذا اللحن من الحاكي؟!
وفي مشهد (يا وردة الحب) اضطر عبد الوهاب أن يقف ويدور، ويجلس تارة على الكرسي، وتارة على المنضدة. وأن يتكلف في الجملة كثيراً من الإشارات والحركات حتى ينتهي من اللحن، كما أن إنشاده لقطعة (سبع سواقي) في مكتب العمل لم يكن طبيعيا مطلقا، وكان يمكن أن يهيأ الجو المناسب للقطعتين.
وإني لأعنى اكبر عناية بمشاهد الغناء في الفلم لانها الأساس فيه. ولذلك أطلت الحديث عنها عامدا. وكنت أود أن تكون عناية الأستاذ كريم بها اكبر، وتوفيقه في إبرازها أقوى واظهر. وقد كانت ميداناً صالحاً لإبراز الكفاية والموهبة والذوق الفني للمخرج.
ومما يعاب على الفلم القفزات التي فيه من ناحية الحوادث، والتي لم يمهد لها المخرج تمهيدا كافيا، ثم بساطة الإخراج في مجموعه مما يجعله اقرب إلى تسجيل الحوادث على طريقة مخبري الجرائد اليومية منه إلى الإبراز الفني الصحيح الذي يطبع الرواية بطابعه، ويجعل لها قيمة فنية تكسبها ذاتية خاصة. وكان في الوسع الاستغناء عن بعض مشاهد الفلم واختزال البعض الأخر. وكان يفيد ذلك في اضافة مشاهد جديدة تستقيم بها الحادثة، أو إطالة بعض المشاهد الموجودة التي تبدو كأنها مبتورة.
ومن المشاهد التي ضاعت تماما وكان يمكن أن تكون من المشاهد الفنية القوية التي لا ينساها المتفرج ابدا، مشهد إسماعيل بك عند زيارته لجلال يطلب منه كوالد قطع صلاته برجاء.
ولست أدري كيف غابت أهمية هذا المشهد عن المخرج، مع انه يكاد يكون أهم مشاهد الرواية، وهو نقطة التحول فيها. كان مشهدا فاتراً عليه مسحة التكلف وقد يكتفي مخرج نابه قدير بخلق موقف كهذا في سياق القصة ليبني عليه مجده وشهرته، وليضفي عليه من فنه حياة وقوة، لما فيه من أهمية الحادث وصراع العوامل المختلفة، مما يجد فيه المخرج(24/74)
مجالاً لإبراز كفايته.
وكان يستطيع المخرج بفنه وبما يظهره في ثنايا المشهد من العراك القوي العنيف بين إسماعيل بك وجلال وما ينتاب كلا منهما من مختلف عوامل النفس، وشتى الانفعالات، واضطراب جلال وألمه الدفين، وقسوة إسماعيل بك وإلحاحه إلى غير ذلك من المواقف التمثيلية التي يخلقها المخرج، كان يستطيع بذلك أن يقوي نقطة الضعف في الرواية من قبول جلال للتضحية دون مسوغ أو مبرر، بل كان يمحوها محوا، ويخلق الرواية خلقا جديدا.
ولم يلاحظ المخرج التلاؤم بين الأضواء والأشخاص في بعض مناظر الفلم، كما فاته أن يلائم بين ملابس الممثلين وألوان المنظر والأثاث، كما أن ساعات الليل والنهار امتزجت امتزاجا كبيرا بحيث كان يصعب علينا أحياناً أن نحددها: فترى مثلا ضوء النهار، ثم مصباحا كهربائيا منارا في نفس الوقت.
وقس على ذلك كثيرا من الأخطاء المنثورة هنا وهناك، على أن هذا الفلم يعد خيرا من فلمي (زينب) و (أولاد الذوات) اللذين إخرجهما كريم من قبل فلنهنئه إذن.(24/75)
الحركة المسرحية والسينمائية في الخارج
فينا
يعد ماكس رينهاردت من اشهر رجال المسرح في العالم اليوم، وقد عرف بنظرياته الحديثة في الفن والإخراج المسرحي. ووضع احد كبار النقاد كتابا عن فنه ومسرحه يقع في عدة اجزاء، ويعتبر من اهم المراجع في الفن المسرحي الحديث. وكان لرينهاردت مسرحه الخاص في ألمانيا وإلى جانبه مدرسته لتلقى أصول الفنون الجميلة، وشهرتها معروفة في العام اجمع، وقد اضطر إلى هجر عمله في ألمانيا عقب قيام الحركة الهتلرية الأخيرة التي ناصبت اليهود العداء.
ورينهاردت يهودي، وهو يقيم الآن في فينا وسيبرحها قريبا إلى باريس للإشراف على إخراج احدى المسرحيات المعروفة. ثم يقصد استكهلم فكوبنهاجن، وسيخرج في كل من المدينتين بعض الروايات المسرحية. وفي مارس القادم سيرجع إلى فينا للعمل في احد مسارحها الكبرى ثم يبرحها إلى أمريكا في رحلة يطوف فيها اشهر مدنها. وقد أرسل اليه السنيور موسوليني ليتفق معه على ان يتولى إخراج رواية (المائة يوم) في أمريكا. وهي الرواية التي كتبها السنيور موسوليني عن نابليون وظهرت في جميع عواصم أوروبا في الشتاء الماضي وتدور المفاوضات مع رينهاردت، على أن يتولى إخراج رواية (المحراث والنجوم) للكاتب المعروف سان أوكنزي في كوبنهاجن في موسم الشتاء الحالي.
ميلان
وضع رينالتو ليللي من الكتاب المعروفين في إيطاليا درامه غنائية، تدور حوادثها حول حياة ريشارد وجنر الموسيقار الشهير. وقد اقتبس لها كثيرا من الحان وجنر في أوبراته المعروفة.
دون كيشوت
تعد قصة (دون كيشوت) لسرفانتس الكاتب الأسباني الشهير من احسن القطع الأدبية المعروفة، ولها شهرتها ومكانتها في العالم اجمع، وقد ترجمت إلى جميع اللغات وأخرجت في العام الماضي على الستار الفضي، ومثل فيها شاليابين المغني الروسي الشهير (دون(24/76)
كيشوت) وعمل من الفلم عدة نسخ بلغات مختلفة. ولقي نجاحا كبيرا عند عرضه في عواصم أوربا، غير ان النقاد في لندن اختلفوا في الحكم عليه، فناقد السنداي اكسبريس يرى ان الفلم ليست له قيمة فنية. ويقول سيدني كارول من النقاد المعروفين في سنداي تيمس انه ممل، وان المخرج فشل في اخراجه، بينما يعده ناقد نيوز كرونكل من احسن الأفلام العظيمة التي أخرجت على الشاشة. وقال بعض النقاد ان هذه القصة لا تصلح للعرض على الشاشة، لان قوتها وبلاغتها في اسلوب الكاتب وفي دقة وصفه، وهو ما لا تستطيع السينما ان تنجح في إخراجه.
لندن
تعمل الآن على مسرح (دوق أوف يورك) فرقة من الممثلين الألمان اليهود من اللذين طردوا من ألمانيا عقب قيام حركة هتلر الأخيرة، وتعرض الفرقة اشهر روايات شيلر وزدرمان المؤلفين الألمانيين الشهيرين، وقد اهتم النقاد الإنجليز بالكتابة عن هذه الفرقة وعن رواياتها. ونالت حفلاتها كثيرا من النجاح.
هوليود
يخرج الآن في هوليود فلم بطله الهر هتلر رئيس الحكومة الألمانية وزعيم حزب النازي. وقد أطلق على الفلم اسم (كلب أوربا المجنون) ويمثل دور البطل فيه شخص لم يسبق ظهوره على الشاشة الفضية ويشبه الهر هتلر تمام الشبه.(24/77)
الكتب
على هامش السيرة
تأليف الدكتور طه حسين
للدكتور محمد عوض محمد
إذا ذكرت كلمة (السيرة) في هذه الأقطار الفسيحة التي يظلها الإسلام، فإنها لن تنصرف إلا إلى معنى واحد، إلى سيرة واحدة: هي سيرة محمد بن عبد الله. . وهيهات أن يكون في الدهر كله سيرة أطيب نشرا وأعذب ذكراً من سيرة هذا النبي الأمي، الذي نشأ وسط الصحراء المقفرة المظلمة فلم يلبث أن ملأ العالم خصبا ونورا.
وإني إذ اجلس لأقول كلمتي الضعيفة في هذا الكتاب الذي بين يدي تعود إلى خاطري ذكرى عهد بعيد، حين كنت اطلب العلم في مدرسة المعلمين، وكنت اكثر من الاختلاف إلى دار الكتب المصرية؛ حيث اعتكف على مطالعة الأسفار التي لها صلة بسيرة هذا النبي الكريم. وكنت اكثر على الخصوص، من مطالعة ما كتبه المستشرقون عن الإسلام، وعن الرسول عليه السلام. فكنت أحياناً أجد ما يطفئ الغلة، وتبرق له الأسارير، وينشرح له الصدر. فانطلق إلى الدار راضيا، تملأ قلبي الغبطة والسرور. وأحياناً كنت (يا للأسف!) أقرأ ما يبعث في القلب حنقا وكمدا، فانصرف إلى منزلي حزينا كئيبا مكلوم الفؤاد. ولست ادري تماما ما الذي كان يجذبني إلى كتب المستشرقين في تلك السنين، مع انها كتبت في لغة غير لغتي، وكنت أجد في مطالعتها عسرا ومشقة. . . لعلي كنت اقبل عليها اذ يشوقني الإنصات إلى شهادة غير المسلمين بفضل الإسلام، لكني كنت ارجح الآن هناك سبباً آخر أدق وأخفى، وهو إني كنت التمس سيرة محمد بن عبد الله في تلك الكتب غير العربية لان ما كتب فيها (على علاته) سهل التناول، منسق الوضع، ولهذا لم تنته أيام دراستي في ذلك العهد حتى طالعت، مثلا، مؤلفات السيد أمير علي الإنكليزية ولم استطع أن اقرأ جزءاً واحداً من سيرة ابن هشام. وكان اكبر ما ينفرني من هذه الكتب القديمة ذلك الإكثار من الأسانيد، وإدخال الحديث في الحديث، بحيث يختلط الكلام على غير من تعود مطالعة هذه الأسفار.(24/78)
ولقد شكوت إلى الأستاذ طه حسين إني بت مضطرا، قبل ان ابدي رأياً في كتابه الجديد، إلى مطالعة هذه الأسفار القديمة وإني ساعياً بكل هذه الأسانيد الطويلة العريضة، وهذه الأخبار المتداخل بعضها في بعض. وما أظن دراستي القاصرة ستساعدني على تذوقها والاستمتاع بها.
فقال الأستاذ: إن ألذ شيء عندي في كل ما أطالع واقرأ هو هذه الأسانيد التي تنفر منها. وليس شيء احب إلي من أن أنصت إلى الخبر أو الحديث وأتتبعه من أول الرواية إلى أخرها.
فعجبت أولاً كيف يتسنى لإنسان ذي ذوق سليم أن تحلو له قراءة العنعنات التي لا تكاد تنتهي. لكني لم البث أن أفهمت أن المرء متى عرف الرواة جميعا وعلم من أمر كل منهم شيئاً، فان هذه الأسماء تصبح مجرد أسماء، بل أشخاصاً تعرفهم يتحدثون اليك، وتعلم أيهم تستطيع أن تركن إلى كلامه وروايته.
وبعد ان شرح لي الأستاذ هذا الأمر الذي أشكل علي، تبينت، أو على الأقل ثبت لدي ما كنت أتوهمه من أمره وما أكاد أثبته، ان ثقافة الدكتور طه حسين الحقيقية هي ثقافة أزهرية متينة قوية الأسس، ضخمة الدعائم، وطيدة الأركان. وان ليست ثقافته الغربية، التي نسمع عنها الشيء الكثير، إلا رواء وطلاء أن بهر العين منظره فانه لا يذهب إلى غور بعيد. وقديما قال نابليون في الروس: انك إذا حككت الروسي بدا لك التتري، وفي وسعنا أيضا ان نقول إذا حككت طه حسين، برفق، بدا لك الأزهري القح الصميم بكل ما تحمله هذه الكلمة من فضل وعلم.
وقد استطاع طه حسين (على غير عمد) ان يصرف الناس عن حقيقة أمره بحديثه عن اليونان والرومان والسكسون واللاتين، واثارته هذه الزوابع التي برع في إثارتها أثناء كلامه عن اشخاص مثل ديكارت وليبنتز وبودلير، وعن التجديد، وما أدراك ما التجديد. فلعل أصدقاء طه حسين ان يحمدوا للشخص الضعيف كاتب هذه السطور أن كشف لهم أمر صديقهم ما خفي طوال هذه السنين.
وبعد، فان بين يدي كتاباً ليس موضوعه جديداً على قراء هذه الصحيفة. فان الفصول الثلاثة الأولى قد ولدت مع الرسالة، وظهرت في إعدادها الأولى، واعرف ان الكثير من(24/79)
قرائها قد راقهم من الموضوع جدته وطرافته، ولست اشك في ان يهم شوقا للاستزادة من تلك الفصول. فها هو قد أتمها اربعة عشر فصلا، وما ظن، وما أرجو، أن سيقف بها عند هذا الحد.
ان كتب الدكتور طه حسين من صنفين: الأول كتب أدبية بحتة والثاني كتب في نقد الأدب وفي تاريخه. وهو نفسه ينعت هذين النوعين بالأدب الإنشائي والأدب الوصفي، ويمثل الأول كاتب مثل شكسبير، ويمثل الثاني كاتب مثل سنت بوف. وأولى بنا أن ندعو النوع الأول بالأدب؛ والثاني بالنقد والضرب الأول هو الأسمى والأشرف، وكثير من الناس يستطيع أن يستحسن أو يستهجن وأن يبحث ويقرر. أما الابتداع فلم يتح إلا لقليل من الناس. ولقد حاول سنت بوف أن يكون شاعرا فلم يأت بعظيم، فانقلب إلى النقد ولسان حاله يقول: من استطاع فليكتب، ومن لم يستطع فلينتقد!
في هذه العبارات شيء من التحامل على الناقدين، وقد أوردناها على هذه الصورة عمدا لأننا نريد أن نتحامل على طه حسين الكاتب الناقد، وأن ننتصف منه لطه حسين المؤلف الأديب. فقد رأينا في الأستاذ أحياناً ولعاً بالانصراف إلى النقد وإلى المؤلفات النقدية مثل حديث الأربعاء وحافظ وشوقي والأدب الجاهلي. ولقد تعجبه هذه الضجة التي تبعثها كتاباته، ويغتبط بهذا العثير الذي يثيره في الفضاء ويملأ به الجو حيناً من الزمان. والحقيقة التي نرجو أن يدركها الأستاذ قبل فوات الأوان هي أن الصفحة الواحدة من كتاب (الأيام) أبقى على الزمن من كتاب الأدب الجاهلي كله.
ليس لطه حسين إذن في الأدب البحت سوى كتب ثلاثة: (الأيام) و (في الصيف) و (على هامش السيرة) الذي بين أيدينا.
ويمتاز هذا الكتاب الجديد من سابقيه بأن المؤلف لم يلجأ هنا إلى حوادث حياته الخاصة، بل انصرف إلى الأخبار القديمة، فالتمس وحيه بين صفحاتها. . والذي يدهش له القارئ أن يرجع إلى تلك الكتب القديمة ثم يعود إلى (هامش السيرة) فيرى امامه شيئا مبتدعا مخترعا، وجدة جذابة، وطراقة معجبة. ومع هذا كله لا يرى خروجا عن الأصول التي استوحاها المؤلف واستلهمها.
اعتمد طه حسين على الكتب القديمة كما اعتمد شكسبير على قصص فلوطرخوس وأمثاله،(24/80)
وشتان بين السبيل التي سلكها شكسبير وبين الأصل الذي استرشد به. . وكذلك كان طه حسين يتناول الحادث الذي يمر به قارئ السيرة عجلا، دون ان يلفت نظره منه شيء، يتناوله ثم يأخذ في تصويره وتحليله وإبرازه وإظهاره وتقليبه على نواحيه، حتى يثب امام العين وثوبا، ويبدو ما في الحادث البسيط من حكمة وشعر، ومن قوة وسحر. واكبر شيء ساعد طه على تأليف كتابه هذا مقدرته على تبين الموقف الذي ينطوي على شيء كثير من الحكمة ومن الشعر، فيختار هذا الموقف ثم لا يزال به بصقله ويجلوه حتى يبديه للعين رائعا مجسما ملموسا. وقد خدمه التوفيق في الكتاب كله، فان الفصول، وان تفاوتت أحياناً، فإنها جميعا تشهد بحسن الاختيار، والإبداع في التصوير.
وقد أصبحت أشخاص هذا الحديث، وليست أسماء مجرة وألفاظاً مسطورة؛ بل كائنات حية بارزة نكاد ان نحسها ونراها تتحرك بين أي أيدينا: وقد أبدع طه أيما إبداع في وصف شخصية عبد لمطلب ووصف حياته منذ أن اخذ في حفر زمزم، إلى التقائه بابرهة الأشرم، إلى رقاده رقدة الموت بين الأبناء والأحفاد. يصف طه هذا كله فنرى الصور امام أعيننا ماثلة قوية لا لبس فيها ولا إيهام.
في الكتاب الشيء الكثير الذي يستثير الإعجاب ولكن اكبر ما يعجبنا فيه هذا الإبداع في تصوير الأشخاص عامة وشخص عبد المطلب خاصة، ثم هذه الحياة التي تنتظم المناظر والمواقف، بحيث يرى القارئ نفسه وقد نقل نقلا إلى ذلك الزمن وتلك الأمكنة.
وقف المؤلف في هذا الكتاب على (هامش) السيرة. لم يقف في وسطها ولا بعيدا عنها بل على هامشها. وقد كان من حسن التوفيق أن اختار هذا الموقف الذي مكنه من أن يبتعد عن السيرة أحياناً إذا دعا إلى ذلك داع: ثم يعود اليها بعد أن يطوف بالأفاق، معرجا على بلاد الروم والأحباش واليمن. وقد اضطر إلى أن يبتعد عن السيرة قليلا لكي يشرح لنا ماذا دعا ابرهة الأشرم إلى الإغارة على البيت الحرام في العام الذي قدر للعالم فيه أن يستقبل اكرم أبنائه وأشرفهم. فلقد جاء ابرهة من الحبشة إلى اليمن لكي يؤدب يهود اليمن على اضطهادهم للمسيحيين اللذين استوطنوا بعض جهاتها. . . وهذا كله اضطر المؤلف إلى أن يرينا كيف حلت اليهودية محل الوثنية، وكيف انتقلت اليهودية إلى بعض نواحي جزيرة العرب وكيف حملها (تبع) ملك اليمن وإلى صنعاء إلى اليمن. ثم كيف اخذت النصرانية(24/81)
تنتشر وسط الاضطهاد والمذابح، في مختلف الأنحاء: في مصر وبلاد الحبشة وفي نجران من بلاد اليمن. وكيف قام يهود اليمن فذبحوا نصارى نجران. وجاء الأحباش إلى اليمن ليثأروا من اليهود. وكيف بقى ابرهة الحبشي حاكما على اليمن، ثم حاول أن ينشر النصرانية فيها وفيما جاورها من الأقطار. وهكذا اقبل على الحجاز بجيشه وفيلته. وأراد أن يدمر الكعبة فرده الله ودمره هو وجنوده. وفي تلك السنة ولد الصبي اليتيم محمد بن عبد الله.
كان لابد للمؤلف أن يبتعد عن السيرة قليلا، لكي يشرح لنا كل هذه الحوادث، واضطر لان يقوم بهذا الشرح في خمسة فصول (من السادس إلى العاشر)، تحس أثناء قراءتها أن المؤلف يكتب في شيء من السرعة والإيجاز، كأنما يخشى أن يطول غيابه عن مكة وأهلها، وعن السيرة وما يحيط بها. فهو يريد أن يسرع بالعودة اليها. وهو لهذا إلى أن مضطر يلخص الحوادث، على خطورتها (تلخيصا) ويكتفي في بعض المواضع بأن يلم بها إلماما. ولقد هممت بأن أؤاخذه على هذا لولا أني ذكرت أن المقام لا يحتمل الإطناب، وأن الإسراف في نقش الإطار يحجب جمال الصورة ويضعف تأثيرها.
برغم ذلك كله فأن في هذا الوصف العجل للحالة الروحية في الشرق قطعا هي آية في دقة الخيال والتصوير. وإن كان لابد من الاستشهاد فلنذكر للقارئ على سبيل التمثيل تلك القطعة التي يعرض علينا فيها آلهة اليونان فيرينا أوبولو والمريخ وأرتيمس وأثينا، وقد اجتمعوا لينظروا فيما عساهم يفعلون؛ فلم يلبثوا أن أجمعوا أمرهم على أن يرحلوا عن الديار التي سادوا فيها زمنا طويلا، وتحكموا في أهلها قرونا، وقد آن لهم أن يتراجعوا أمام هذه الآيات السماوية الجديدة التي محتهم ونسخت دينهم.
بمثل هذا الحوار الشعري الجميل يصف لنا المؤلف كيف زالت الوثنية اليونانية وحلت محلها اليهودية والنصرانية. وهذه القطعة وحدها تشهد بأن المؤلف قد رزق النصيب الأوفر من خصوبة الخيال، والمقدرة على إلباس الحادث العادي ثوباً شعرياً رائعاً.
وهناك فائدة أخرى استفادها المؤلف في موقفه (على الهامش) ذلك أنه استطاع إلا يتقيد بالترتيب الزمني للحوادث؛ فإذا بدا له أن يسهب في وصف شخصية راقته وأعجبته اندفع في وصفها إلى النهاية، لا يلفته عن ذلك حادث أو خطب. فقد اعجب، مثلا، وحق له ان(24/82)
يعجب، بشخصية أم أوفى حاضنة النبي، فلم يزل يصف حياتها منذ ولادة محمد بن عبد الله إلى أن شهدت عهد أبي بكر وعمر وعثمان، ثم يعود بعد ذلك إلى حديث الرضاعة ووفاة عبد المطلب.
وهذه الخطة التي الزم بها المؤلف نفسه قد تبدو غريبة وربما اعترض عليها بانها تدفع بالقارئ من أول السيرة إلى عصر الخلفاء الراشدين ثم تعود به مرة اخرى إلى بدء السيرة. ولا تزال بالقارئ هكذا ذهابا وإياباً، ومع أن لهذا النقد وجاهته التي لاشك فيها، فان للمؤلف عذره بان الذي يريد ان يكتبه ليس حديث السيرة بالذات بل دراسات مستقل بعضها عن بعض، وفي وسع القارئ أحياناً أن يطالع الفصل متقطعا من الكتاب فلا يكاد يفتقر إلى ما سبقه.
بقيت كلمة لا بد منها عن أسلوب الكاتب، أي عن طريق الأداء عن المعاني والإبانة عما في صدر المؤلف.
ان لطه حسين من السيطرة على اللغة العربية التي لا تضارعها لغة في قوتها وفصاحتها، كما لا تضارعها لغة في شدتها ومنعتها، أن لطه حسين من السيطرة على هذه اللغة وعباراتها المتينة الرصينة ما لا يعرفه إلا اللذين عاشروه من كثب وراقبوه وهو يعمل في قوة ونشاط. ومتى وفق إلى اختيار الموضوع الذي يرضاه؛ وهداه خياله الواسع إلى طريقة معالجته، فقد هان الأمر وسهل كل شيء ومضى في الإملاء كما يتدفق النهر الجاري.
غير إننا إذا كنا نشكو شيئا فأنا نشكو هذه القوة بعينها. وهذه السيطرة التي تطغى أحياناً فتدفع بالكاتب إلى التعسف، وإلى الابتعاد عن الطريق التي يسلكها الناس جميعا، انظر اليه مثلا اذ يحدثك عن الدمع الذي يتساقط غزيرا من العينين فيقول لك أنها دموع غلاظ. ويكفي أن يعلم طه ان الناس جميعا يقولون دموع غزار، لكي يقول هو دموع غلاظ.
هذا الشيء، والقليل مثله مما قد يصادفنا في الكتاب، سنة من سنن القوة والسلطان رأيناها من قبل في مثل ابي تمام وابي الطيب المتنبي الذي كان يتعمد قول الشيء الغريب النافر ولأنه قوي ولأنه مدل بقوته، ولأنه لا يبالي بالأرض ومن عليها. وما احسن المثل العامي الشهير (العافية هبله!).
على أن المؤلف في هذا الكتاب قد أدى معانيه بلغة فيها بلاغة وإبداع يفوقان حتى الذي(24/83)
ألفناه منه وتعودناه. والسبب في هذه الإجادة سهل إيضاحه: فأن الموضوع الذي يعالجه هنا موضوع عربي صميم، والبيئة عربية خالصة. والمتكلمون من قريش وغير قريش من الناطقين بالضاد. وهذا كله قد أتاح للمؤلف فرصة لأن يتدفق نهره العربي الفصيح الذي لا تشوبه عجمة اللاتين ولا التواء السكسون. فانطلقت سليقته العربية حرة طليقة واكبر الظن أنه هو ليس مدركا لهذا الأمر. ومع ذلك فأن في الكتاب قطعا قد بلغت في الأسلوب الشعري منزلة يصعب أن نجد لها ضريباً. حقيقة أن أمثال تلك القطع ليس في كل مكان من الكتاب، ولكنها في كثير من المواضع، بحيث يصبح من العبث أن نستشهد هنا بقطعة أو قطعتين. ولابد للقارئ من الرجوع إلى الكتاب كله. ولابد له من قراءته في تأمل وتمهل وتذوق لهذه الفصول الرائقة التي يسمو فيها النثر حتى يضاهي الشعر، ويؤثر في النفس تأثيراً شعريا خالصا.
وللمؤلف شغف بالوضوح والبيان، فهو لا يحاول أن يستر معنى ولا فكرة بستار أو غشاء. وما حاجة الوجه الجميل إلى الستر؟ فهو ليس من عشاق الغموض، بل انه ليسرف في حبه للوضوح والجلاء إسرافا، ولهذا نراه يكثر من هذا التكرار الذي يعرفه قراؤه دون أن يدركوا له سرا. بل ربما لم يدرك هو نفسه سر هذا التكرار. وقد يعده الناس من ضرورات النثر المنسجم ولهم في هذا بعض الحق؛ ولكن أكبر الحق في هذا أن الذي يدفعه إلى تكرار لفظ من آن لآن هو رغبته في أن يفهم عنه ما يقول من غير لبس ولا إبهام.
والآن، وقد أوشك هذا النقد أن يختم، يتردد في النفس سؤال: سؤال من ذلك الطراز الذي يدفعنا اليه الفضول الأدبي. وهو من أي انواع الأدب هذا الكتاب الذي بين أيدينا؟ اهو رواية قصصية تاريخية؟ اهو من نوع المقامات أم مجرد مقالات؟
ولست ادري ما ولع النقد بتصنيف كل شيء وتسمية كل أثر؟ ولئن كانت الفاكهة لذيذة شهية، فهل يضرنا أن نجهل اسمها؟ أن الفكر البشري ما برح مولعا بأن ينسج على غير منوال. لكن إذا اجتهدنا أن نجد لهذا المؤلف شبيها بين المؤلفات، فلعل اقرب شيء يشبهه هو تلك الملاحم التي تصف العصور الغابرة، وتجمع بين القوة والإعجاز.(24/84)
العدد 25 - بتاريخ: 25 - 12 - 1933(/)
رمضان
نعم رمضان! ولا بد من رمضان بعد أحد عشر شهراً قضاها المرء في جهاد العيش، مستكلِب النفس، مستأسِد الهوى، متنمر الشهوة، ليوقظ رواقد الخير في قلبه، ويرهف أحاسيس البِر في شعوره، ويُرجع روحه إلى منبعها الأزلي الأقدس فتبرأ من أوزار الحياة، وتطهر من أوضار المادة، وتتزود من قوى الجمال والحق ما يُمسكها العامَ كله على فتنة الدنيا ومحنة الناس.
فرمضان رياضة للنفس بالتجرد، وثقافة للروح بالتأمل، وتوثيق لما وَهى بين القلب والدين، وتقريب لما بعد بين الرأفة والمسكين، وتأليف لما نفر من الشمل الجميع، وتنديةٌ لما يبس من الرحم القريبة، ونفحة من نفحات السماء تفعِم دنيا المسلمين بعبير الخلد وأنفاس الملائكة!
ورمضان كله عيد وطني شامل، تفيض بالسرور أنهاره، وتغرق في النور لياليه، وتفتَرُ بالأنس مجالسه. فالرجال يحيون أماسيه في محافل القرآن أو منازل اللهو النزيهة، والنساء يوزعن الوداد والأنس على الأبهاء الكثيرة، والأطفال الهازجون يزينون الطرقات بفوانيسهم الملونة الصغيرة، والبيوت الباقية على العهد تتقرب إلى الله بالذكر والصدقات، والمساجد المقفرة طول العام تعج بالوعظ والصلوات، والمآذن الحالية بالمصابيح، الشادية بالتسابيح، ترسل في أعماق الأبد نور الله وكلمته!
وكل شيء في رمضان جذلان مغتبط، ما عدا الرومي في الحان، والشيطان في كل مكان!
ورمضان مظهر قومي رائع، يعيد إلى القاهرة عز القرون المواضي، فيصبغ لونها الاوربي الحائل بصبغة الشرق الجميلة، ويرفع صوتها الخافت بشعائر الصوم الجليلة، ويبرز شخصيتها الضائعة في زحمة الاجانب بالمظاهر الرسمية للحكومة، والتقاليد العرفية للشعب. وما أروع القاهرة في سكتتها عند الإفطار، وجلبتها عند السحور، وهزتها ساعة انطلاق المدفع!
ورمضان بعد ذلك كله رباط اجتماعي وثيق، يؤكد أسباب المودة بين أعضاء الأسرة بالتواصل والتعاطف، وبين أفراد الأمة بالتزاور والتآلف، وبين أهل الملة بذلك الشعور السامي الذي يغمرهم في جميع بقاع الأرض بأنهم يسيرون إلى غاية الوجود قافلة واحدة، ممتزجة الروح، متحدة العقيدة، متفقة الفكرة، متشابهة النظام، متماثلة المعيشة.(25/1)
ولكن رمضاننا الأول واأسفاه لم يخفَّ على طبع المدينة الحديثة! فرمته بقلة الإنتاج وكثرة الإهلاك وشل الحركة وقتل الصحة، ونفته إلى إحياء العمال وقرى الفلاحين، واتخذت لنفسها من بقاياه رمضان آخر رقيق الدين، خفيف الظل، باريسي الشمائل، يبيح النظرة المريبة والكلمة العارية والأكلة الدسمة والسيجار الغليظ، ولا يسألهم من ظرفه إلا إن يجعلوا العشاء عند الغروب وبعد طلقة المدفع! وإذا كان في بيوت المحافظين قارئ يقرأ القرآن، وذاكر يذكر الله، فليكن في بيوت المتجددين (راديو) يرجِّع أصوات الغناء، وحاك يردد أهازيج الرقص!
وهكذا تُجِدُّ الليالي ونحن نلعب! كأنما كتب علينا أن نأخذ الحياة من جانبها الفضولي العابث فنتأثر بها ولا نؤثر فيها، وكأنما همنا ان نعيش صعاليك على تقاليد الامم دون أن تميزنا خصيصة من قومية، ولا شعيرة من عقيدة! وكأنما الشعائر التلمودية القاسية عاقت اليهود عن المغامرة والنبوغ والتقدم!
أما رمضان القرية فلا يزال يحل من أهلها محل النور من العين والمهجة من القلب! تجسمت في خواطرهم صورته حتى جعلوه رجلا له حياته وعمره وأجله. . يذكرونه على شهرين من مقدمه. فيحسبون حسابه! ويهيئون أسبابه، حتى إذا دب إليهم من غيوب الآباد دبيب الهرم سُلسِلت الشياطين، وأُرسِلت الأملاك. وهبطت الأرواح، ودرَّت أخلاف الخير، واغدودقت أصول النعم! هنالك يملك القرية شعور تقي هادئ خاشع، فلا تعود تسمع لغواً في حديث، ولا عنفاً في جدل، ولا بغيا في خصومة! فإذا أذهل أحدهم الغضب فرفع صوته ندم عجلان واستغفر ثم قال: اللهم إني صائم! ذلك لأن رمضان يُرجع الفلاح نقيا كقطرة المُزن، طاهراً كفطرة الوليد، فلا يقتل ولا يسرق ولا يشهد الزور ولا يقول الهُجر ولا يأتي المنكر. وما أجمل أن ترى فاتك الأمس ناسك اليوم! يمشي من البيت إلى المسجد في ثوبه النظيف وئيد الخطو، غضيض الطرف، ولا تترك المسبحة يده، ولا يفتر عن التسبيح لسانه، فإذا قابل القروية الجميلة وعلى رأسها الجرة، اتحد جمالها في نظره، بجمال الخير في نفسه، فأمعن في التسبيح واستغرق في الله، لأن إبليس في رمضان سجين، وباب الغواية مغلق!
يقضون صدر النهار في تصريف أمور العيش، ثم يجلسون على المصاطب في أشعة(25/2)
الأصيل الفاترة يستمعون القصص أو الوعظ. حتى إذا تضيَّفت الشمس جلسوا في الطريق أمام بيوتهم فمدوا الموائد على الأرض، ودعوا إليها عابري السبيل وطالبي الصدقة، ثم لا يلبث الأخاء المحض أن يجعل الموائد المتعددة مائدة واحدة، يصيب منها من يشاء ما يشاء!
أما ليلهم فاستماع للقرآن، واستقبال للإخوان، ومسامرة مشتركة ساذجة تجمع أفنانا شتى من شهي الحديث، وكلما انقضى نهار من رمضان تَغَضَّن سرار من وجوه القوم، حتى إذا لم يبق إلا الأربعة الأخيرة تمثلوه محتضرا يكابد غصص الموت، فندبوه في البيوت والمساجد، ورثوه على السطوح والمآذن، وبكوه يوم (الجمعة اليتيمة) أحرَّ بكاء.
فإذا كان المغرب الأخير ولم يبق من رمضان إلا بقية روح، خامرهم الخوف من انطلاق الشياطين السجينة، فجلس الصبيان على أبواب الغرف يكررون البسملة ويضربون حديدا بحديد، ليحفظوا البيت من دخول شيطان مَريد!
ذلك رمضان كما تدركه الفِطر السليمة والقلوب المؤمنة، وهو وحده الباقي لفلاحنا من غفلات العيش ولحظات السعادة! ولكن وا أسفاه! لقد أفسدت الأزمنة رمضان القرية، كما أفسدت المدنية رمضان المدينة!
احمد حسن الزيات(25/3)
وقفة على جسر إسماعيل
للأستاذ عبد الحميد العبادي
إذا حق لبغداد أن تباهي في غابر أيامها بلدان العالم بجسرها الأكبر الذي كان معقوداً فوق دجلة، والذي يقول فيه علي بن الجهم:
عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وإذا كانت (فروق) عاصمة الترك من آل عثمان تذوب حياء وخجلا كلما أنشد قول شوقي في جسرها المتهدم المتساقط:
أمير المؤمنين رأيت جسرا ... أمر على الصراط ولا عليه
فمن حق القاهرة أن تسحب الذيل تيها وافتخارا بجسر إسماعيل فهو من غير شك أعظم من جسر بغداد وأروع، وهو لم يظفر بمثله بلد عظيم ظل متبوع مصر أحقابا طوالا.
أنشدتك الله أيها القارئ، إلا ما وقفت مرة بذلك الجسر في أي وقت شئت، وعلى أي حال كنت. قف بكرة، أو ضحى، أو أصيلا. قف في الهزيع الأول أو الثاني من الليل. قف صيفا، أو خريفا، أو شتاء، أو ربيعا. قف فتى مقتبل السن، أو كهلا قد توسط الحياة، أو شيخا نالت منه السنون، فأنا زعيم لك بأنك وأجد جمالا يملأ الجوارح، وحسنا يستغرق العقل. هنا الجمال! هنا الروعة! هنا الفتنة! هنا قطعة من رياض الجنة، أهبطها الله الأرض ثم أباحها الناس جميعا، يستمتع بها الغوي والمهتدي، والمقتصد في أمره، ومن كان على نفسه مسرفا. جسر رشيق التكوين، موزون الأبعاد، يساير الشمس من مشرقها إلى مغربها، والقمر من لدن بزوغه إلى أفوله. فان غابت الشمس وأبطأ القمر فللمدلج الساري عوض عنهما في السرج الوهاجة القائمة على جانبيه ترسل نورا هادئا لينا لا يفرق البصر ولا يحسره. حتى كأن الكواكب قد دنت فتدلت، فاختار منها مهندس ذلك الجسر ما شاء، ثم نظمه سمطين على حافتيه.
ثم هولا تهدأ عنه الرجل ساعة من ليل أو نهار. ففي النهار ترى أفواج الساعين في الأرض تتدافع فوقه بالمناكب والمراكب. فإذا تصرم النهار، وطفلت الشمس للغروب، رأيت المستروحين المتنزهين يغشونه زرافات ووحدانا، يلتمسون طيب الهواء، وجمال المنظر، وبهجة الخاطر. فإذا اختلط الظلام وأرخى الليل سدوله بات الجسر مسترادا ومذهبا(25/4)
لقصاد الجزيرة من العابثين اللاهين، والعشاق المدلهين. سيماهم حديث مغمغم، ورؤوس متساندة وأصابع مشتبكة، وخطى مضطربة، قد لفهم الليل من نور القمر أو المصباح في مثل الكلة المخرمة تبين ما اشتملت عليه وتستره، وتخفيه وتظهره، على أن كلا آمن مطمئن كأن تلك الأسود المقعية عند طرفي الجسر أرصاد موكلة بحراسة الجسر ورواده.
ثم ارم ببصرك ذات اليمين وذات الشمال. فهذا النيل اكثر انهار الأرض بركة، وأحفلها بالذكرى، ينساب مترفقاً، يصافح متنه نسيم الشمال فيحيله وشياً منمنماً، وتصب عليه الشمس أشعتها الفضية والذهبية فتحيله تارة لجيناً سائلا وأخرى ذهبا مذابا. حتى إذا غربت الشمس وتألق الأفق وانعكست فيه صور النجوم والمصابيح التي تكتنفه من كل نواحيه، رأيت المجرة بين يديك، إن شئت خضتها خوضا، وان شئت لججت فيها تلجيجا.
وهذه الجزيرة تعترض الأفق الغربي بنخلها الذاهبة في السماء، وأشجارها الجاثمة على الأرض، وبنورها الضاحك وطيرها الصادح كأنما هي حجة بليغة على ما بقبالتها من معاهد وديار يهيب بها كل ما حولها أن (ليس هذا بعشك فادرجي) ومع ذلك فقد أعدت هذه الدار والمعاهد عدوى الحسن المجسم أمامها فأكسبتها رقة مدنية، وخلعت عليها مسحة من جمال تعرفها في الدار والديار.
كل جزء من أجزاء هذا المنظر الفخم يسر إليك نجوى، ويتلو عليك نبأ. فهذا الجسر يصور لك الحياة معرَّفة بين نكرتين، ومعلوما بين مجهولين. وهذه الخلائق التي تتصرف فوقه آناء الليل وأطراف النهار، عملا، واستراحة، ولهوا، كأني بها تحدثك بأن لا بأس علينا من أعمالنا متى صدرت مطاوعة لحاجات نفوسنا. وهذه الجزيرة التي يبدو لك بالنهار نخلها وشجرها عرائس تونق العين وتفتن القلب، فإذا أظلم الليل تراءت فوق الأفق شخوصا وأشباحا توحشك وتروعك، كأني بها تفضي إليك بان للظواهر دون الحقائق الأثر الأقوى في توجيه حكمنا على الأشياء. وهذه الثكنات الغاصة بالجند والملأى بالسلاح، ما عبرتها وما بيانها؟ استمع إليها تخبرك لمن كانت أمس، ولمن هي اليوم؟ وتنشدك قول شجرة عدي بن زيد:
رب ركب قد أناخوا عندنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال
عصف الدهر بهم فانقرضوا ... وكذاك الدهر حالا بعد حال(25/5)
أما النهر الدافق، والجو الرائق، والنجوم اللامعة، والشمس الساطعة، فتلك كلها السنة تهتف بأن العزة والدوام لله وحده.(25/6)
الأحنف بن قيس
للأستاذ احمد أمين
ضئيل الجسم، صغير الرأس، متراكب الأسنان، مائل الذقن، ناتئ الوجنة، غائر العينين، خفيف العارضين، أحنف الرِّجل، ليست خصلة تدل على قبح المنظر إلا وهو آخذ منها بحظ، تنبو عن مرآة الإحداق، وتتفادى من شخصه الأبصار، وهو مع هذا سيد قومه، سيد تميم، وهي ما هي في العظمة، إن غضب غضب لغضبته مائة ألف سيف لا يسألونه فيم غضب. خطير النفس، بعيد المرمى، ما زال يسود حتى بلغ مرتبة لا يسمو إليها أمل، ومنزلة لا يتعلق بها درك، إذا أوفد وال وفداً إلى خليفة فالأحنف أحد الوفد أو رئيسه وخطيبه، وإذا اختلف الأمراء على الخلافة فالأحنف من أول من يفكرون في اصطناعه، وإذا حزب الأمر، وعظم الخطب، فالأحنف من يفزع إليه في المشورة. دوى اسمه بين المسلمين في الأحداث الأولى للإسلام، وخرج منها على كثرتها وتعقدها واضطراب الأهواء فيها، نقي السيرة، يقر بعظمته من كان له ومن كان عليه، وظل اسمه علما رفيعا في نواح مختلفة على مر الأزمان، إن أُرِّخت الحروب الإسلامية فأحد قادتها وغزاتها، وإن ذكرت الأخلاق فأحد أشرافها ونبلائها، وان أرخ الأدب والخطب والحكم والأمثال فهو ابن بجدتها.
ولد قبل الإسلام ولكن لم ينل شرف الصحبة لرسول الله (، ووقف من أول أمره وهو فتى موقفا يدل على قوة عقله وصدق نظره، فان رسول الله (أرسل رجلا إلى بني سعد رهط الأحنف فجعل يعرض عليهم الإسلام، فقال الأحنف لقومه: إنه يدعو إلى خير، ويأمر بخير، فلم لا نجيب دعوته، وسرعان ما ساد تميما وهي قبيلة من أعز القبائل وأقواها وأشرفها، كانت تسكن مساحة كبيرة من جزيرة العرب تشمل نجداً وجزءاً من البحرين وجزءاً من اليمامة، وانقسمت تميم لكثرتها إلى فروع كثيرة كانت تتعادى أحيانا وتتحالف أحيانا، ولذلك لم يكن عجيباً أن يتهاجى الفرزدق وجرير شر هجاء، وكلاهما من تميم، ولكنهما من فرعين مختلفين. حاربت تميم نفسها ومن حولها في الجاهلية، وشغلت حروبها أياما كثيرة من أيام العرب. وكان لتميم راية في الحروب خاصة على صورة العقاب، كما كانت راية بني أسد على صورة الأسد، ثم أسلمت وحسن إسلامها، ولكنها ارتدت أيام الردة(25/7)
إلى أن ردها خالد ابن الوليد إلى الطاعة، وكفرت عن ردتها بما بذلت من جهود في الفتوح، حتى إذا تم الفتح سكن بعضها الكوفة وبعضها البصرة، وكان الأحنف بن قيس سيد تميم البصرة. وقد ظلت تميم في الإسلام وفيها من ألوان البداوة، ومن هذا النوع من البداوة ما بدا من نزعتهم الخارجية، فقد كثر الخوارج من تميم، وكان قطرىّ بن الفُجاءة وكثير ممن تبعه من الازارقة من قبيلة تميم.
وأنجبت تميم كثيرا من نوابغ الشعراء لا يعنوننا الآن، كما أنجبت كثيراً من السادة والأشراف والعظماء، وكانوا سلسلة كسلسلة الذهب متصلة الحلقات يتعلم بعضهم من بعض خلق السيادة كما يتعلم العلم على الأساتذة، وكان أستاذ الأحنف ابن قيس في السيادة (قيس بن عاصم) المنقري التميمي الذي قال فيه رسول الله (لما رآه (هذا سيد أهل الوتر) وقد قيل لقيس هذا: صف نفسك، فقال أما في الجاهلية فما هممت بملأمة، ولاحُمتُ على تُهمة، ولم أر إلا في خيل مغيرة أو نادي عشيرة، أو حامي جريرة، وأما في الإسلام فقد قال الله تعالى (ولا تزكوا أنفسكم) وقد نزل في البصرة كتلميذه الأحنف، وتعلم الأحنف من الحلم، ولما مات قال فيه القائل:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما
وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدَّما
خلف الأحنف قيسا في السيادة، وكان أبو موسى الاشعري واليا على البصرة فبعث بوفد منها إلى عمر بن الخطاب فكان الأحنف أحدهم وخطب بين يدي عمر يسترعيه النظر لأهل البصرة. فاعجب به عمر وقال (هذا والله السيد!) فدوت هذه الكلمة في الأنحاء.
أكثر الواصفون في ذكر الأحنف ومزاياه وسيادته، والسيادة أنواع، وقد ترى لكل سيد طعماً لا تجده في سيد آخر، ولكل سيد نقطة تتركز فيها عظمته قد لا يشترك فيها سيد آخر، فسيدٌ عظمته في شجاعته، وسيد عظمته في سخائه وسيد عظمته في قول الحق يجهر به والسيف على رأسه، فان نحن سئلنا عن مركز العظمة في الأحنف، فعظمته كانت تتركز في خصلتين تتصل إحداهما بالأخرى اتصالا وثيقا: انه منح نظرا صائبا يتعرف به المحاسن والمساوئ، ومعالي الأمور وسفسافها، وقلَّ أن يخطئ في ذلك، ثم منح إلى ذلك إرادة قوية يحمل بها نفسه على ما أدرك من معال ومحاسن مهما كلفه من مشقة وحمله من جهد، فلو(25/8)
علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه؛ وهي (كما ترى) نقطة ارتكاز يحمل فوقها كثير من الفضائل، على حين أن نقطة الارتكاز عند كثير من السادة لا تتحمل إلا فضيلة واحدة.
وهذا يفسر كل ما روي عن الأحنف، كان لا يعبأ بالمال، وكان لا يعبأ بالحياة، وكان يفر من الشرف والشرف يتبعه، وكان يخضع للحق إذا لزمه خضوع الذليل المستخدي، وإذا كان الحق بجانبه دافع عنه دفاع المستأسد الضاري، يقف أمام علي وأمام معاوية وأمام زياد بن أبيه فيجهر بالحق الصريح من غير مجمجمة ولا مواربة ولا يبالي ما بعده.
تولى في زمن عمر بن الخطاب فتح خراسان فدوخ الفرس وملكهم يزدجرد ولقي من الحروب ما تشيب من هوله الولدان، ولكنه صبر وظفر، وأنجد ملك الفرس الترك وأهل فرغانة والصغد فلم يكن فيهم أمام الأحنف وجنده غناء.
ووقف الأحنف العربي البدوي وليد الصحراء في شملته يطارد يزدجرد المتوج ربيب النعمة، وعصارة المدنية، وسليل الأكاسرة، ونتاج الحروب المنظمة بين فارس والروم، في العدد والعديد، والجنود والبنود، فظفر التميمي بسيد فارس وطارده حيثما حل حتى جاوز حدود بلاده وخرج منها لا إلى رجعة، (وأقبل أهل فارس - كما يقول ابن الأثير - على الأحنف فصافحوه ودفعوا إليه الخزائن والأموال وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم، على أفضل ما كانوا عليه زمن الأكاسرة، واغتبطوا بملك المسلمين)
فلما نشبت الحرب بين علي ومعاوية رأى الحق في جانب علي فانضم إليه بقومه، وأعان عليا بسيفه ورأيه، فاشترك معه في حرب صفين ونصحه إلا يكون أبو موسى الاشعري حكما، وظل مخلصاً له العمل والقول حتى قتل علي. ودانت البلاد لمعاوية فأطاع معاوية في شمم وإباء، فقد دخل عليه يوما فقال له معاوية: أنت الشاهر علينا سيفك يوم صفين، فقال له يا معاوية لا تذكر ما مضى منا، ولا ترد الأمور على أدبارها، فان السيوف التي قاتلناك بها على عواتقنا. والقلوب التي أبغضناك بها بين جوانحنا، والله لا تمد إلينا شبراً من غدر إلا مددنا إليك ذراعا من ختر، وان شئت لتستصفين كدر قلوبنا بصفو من عفوك. فقال له معاوية فإني أفعل، ثم استرضاه ومن معه.
ولما أراد معاوية أن يبايع لأبنه يزيد أخذ الناس يتكلمون مدح يزيد والثناء عليه، ويمدحون معاوية على عمله والأحنف ساكت، فقال له معاوية، مالك لا تتكلم يا أبا بحر وكانت كنيته(25/9)
فقال قولته المشهورة: (أخاف الله إن كذبت وأخافكم إن صدقت) فكانت كنايته أبلغ من التصريح.
ويظهر أنه بعد أن قتل علي رأى من المصلحة للمسلمين أن يشايع الأمويين، فان هذا أقرب إلى الوحدة وأدعى إلى الألفة حتى مع ما هم فيه من ظلم أحيانا وطغيان أحيانا، يدل على ذلك تاريخه وقوله فقد استنصر به الحسن بن علي علىمعاوية فلم يجبه وقال (قد بلونا حسنا وآل حسن فلم نجد عندهم ايالة الملك ولا مكيدة الحرب) وكان بينه وبين عبد الله بن الزبير جفاء. فلم يشايعه في الخروج. ورأيناه ينصح قوما من تميم أرادوا أن ينضموا إلى ابن الزبير إلا يفعلوا.
ولكنه كان يطيع الأمويين وولاتهم طاعة الحازم العاقل، ينقدهم فيما يرى ويمحضهم النصح في صدق وإخلاص، وله كموقف مع زياد من خير المواقف أثراً في تاريخ الإسلام، فقد هم زياد أن يقتل الموالي لكثرتهم ومزاحمتهم العرب فاستشار الأحنف فقال، إن ذلك ليس لك، إن رسول الله (لم يقتل من الناس من قال لا إله إلا الله وشهد أن محمدا رسول الله وانهم غلة الناس، وهم الذين يقيمون أسواق المسلمين، أفتجعل العرب يقيمون أسواقهم قصابين وقصارين وحجامين؟ فأذعن زياد لرأيه ونزل على إشارته، ويقول الأحنف انه ما بات ليلة أطول منها خشية أن ينفذ زياد فكرته.
ووقف في البصرة موقفا بديعا يصلح بين القبائل المختلفة المتعادية من الازد وبكر وعبد القيس، ويبذل من ماله ديات لما يقع من القتل حتى يلتئم صدعهم ويجتمع شملهم ويعيشوا في البصرة عيشة هادئة مطمئنة.
لقد عابوا عليه انه ذُكر أمامه الزبير بن العوام عندما ترك القتال يوم الجمل ومر ببني تميم فعابه الأحنف وقال جمع الزبيريين الناس يقتل بعضهم بعضا ويريد أن ينجو إلى أهله! فتبعه رجل سمع هذا القول فقتله، فقال الناس إن الأحنف قتل الزيبر بكلامه.
كما عابوه بأنه كان سميعا مطيعا لجاريته (زبراء) حتى كان الناس يكنون عن وقوع الحرب بقولهم (غضبت زبراء) لأنها إذا غضبت غضب الأحنف، وإذا غضب الأحنف شرعت الأسنة وانتضيت السيوف.
ولكن أي عظيم لا يعاب؟ وكفى الأحنف نبلا أن كانت عيوبه من هذا القبيل لا تخدش شرفا(25/10)
ولا تجرح عرضا
وللأحنف ناحية أخرى بديعة هي ناحية أدبية غزيرة أمدت كتب الأدب العربي بغذاء صالح قوي، هو ما روي عنه من جُمل حكيمة جمعت إلى حسن اللفظ وقوته، جودة المعنى وصحته، ونضحت عليها صفات الأحنف النبيلة الشريفة وكانت خلاصة لحياة حافلة بالتجارب. كانت هذه التجارب والمعاني في دماغ ارسطو اليوناني الفيلسوف فصاغها صياغة علم وفلسفة، وكانت في دماغ الأحنف بن قيس العربي البدوي فصاغها في شكل حكم وأمثال وجمل موجزة، تحمل معاني
غزيرة، فكان لكل مزايا منهجه في النظر ومنهجه في القول
لقد وصل الأحنف في الإسلام ما بدأ به أكثم بن صيفي من الحكم في الجاهلية، وزاده الإسلام غزارة وفيضا، وكانت حياته العملية من حروب واتصال بالسلطان والولاة وخبرة بالناس ونزاعهم وأنظارهم، وسيادته وكثرة سؤال الناس له عما سوده مددا صالحا يستقي منها حكمه وأقواله، من مثل قوله: (انصف من نفسك قبل أن يُنتصف منك، ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة، شريف من دنئ، وبر من فاجر، وحليم من أحمق. لا خير في قول إلا بعقل، ولا في منظر إلا بمخبر، ولا في مال إلا بجود، ولا في صديق إلا بوفاء، ولا في حياة إلا بصحة وأمن ومن حق الصديق أن تحتمل له ثلاثاً: ظلم الغضب، وظلم الدالة، وظلم الهفوة، الخ وله أقوال في الولاة وفي الصداقة وفي السؤدد وفي مكارم الأخلاق ملئت بها كتب الأدب، تدل على صدق نظر، وصحة التجربة، وقدرة على صياغة ذلك في جمل رصينة
من أجل هذا كله نال عند الناس منزلة قل أن يطمع فيها طامع، يعجب الناس بعقله حتى يقول سفيان: ما وزن عقل الأحنف بعقل أحد إلا وزنه، ويعجبون بسيادته وهيبته حتى يقول القائل:
إذا الأبصار أبصرت ابن قيس ... ظللن مهابة منه خشوعا
فلله الأحنف قائدا في الحروب لا يبارى، ولله الأحنف سيدا في قومه مطاعا، ولله الأحنف حكيما مجربا، ولله الأحنف بليغا مفوها، ولله السعدية إذ رثته فقالت: (نسأل الله الذي ابتلانا بموتك، وفجعنا بفقدك أن يوسع لك في قبرك، وأن يغفر لك يوم حشرك، فلقد عشت مودوداً(25/11)
حميدا، ومت سعيداً فقيدا، ولقد كنت رفيع العماد، وارى الزناد، ولقد كنت في المحافل شريفا، وعلى الأرامل عطوفا، ومن الناس قريباً، وفيهم غريبا، وإن كانوا لقولك مستمعين، ولرأيك متبعين. رحمنا الله وإياك.)
لقد عمر طويلا ومات سنة 69 هـ ودفن بالكوفة فرحمة الله عليه.(25/12)
فلسطين
بقلم كنيث وليمامس
سياسة الانتداب في فلسطين سياسة غير عملية، وقد فشلت. وسوف تعاني بريطانيا العظمى منها المتاعب ما بقيت تسير عليها.
هذا رأي وضعي، واقعي، تنبؤي معا، والحقائق أسهل الأشياء إثباتا. وقليل من الإنكليز العارفين بالمسألة الفلسطينية يجادلون في هذه النبوءة. وقد جاءت حوادث أكتوبر الماضي مؤيدة لها. بيد أنه لم تقم قرينة حقيقية على أن سياسة الانتداب مذ بدئ بها سنة 1920 قد قبلتها أغلبية السكان الفقراء، بل لقد غص العرب دائما بذلك العهد الذي احتواه الانتداب بالعمل على تسهيل إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين؛ وليست هناك وسيلة أو ظاهرة من الفوائد المادية التي تزعم الصهيونية أنها تغدقها على فلسطين يمكن أن تحمل العرب على قبوله، فالعرب لا يريدون الانتداب بكل بساطة.
ولكن الساسة الإنكليز لا يؤمنون بهذا، أو على الأقل يتظاهرون بعدم الأيمان به، ويقولون إن عرب فلسطين أقلية ضعيفة ممزقة، وليس لها مميزات عقلية من الوجهة السياسية، ومن هم حتى يجرءوا على مقاومة الانتداب الذي أخذته بريطانيا العظمى على نفسها، والذي حصلت من أجله على مصادقة عصبة الأمم. ثم يقولون إن العرب شعب مشاغب، يشغفون بالتظاهر وإرسال الوفود السخيفة إلى لندن، ويقولون أخيراً: نحن نعرفهم جيداً، فاحكموهم بحزم، ودعوهم يستفيدون من الذهب اليهودي، والزمن كفيل بانضوائهم إلى رأينا.
ولكن ساستنا يخففون من غلوائهم أحيانا، فقد صرح وزير المستعمرات في 31 اكتوبر الماضي بقوله: (أريد أن أتحدث إلى الشعب الفلسطيني بجلاء. إن الانتداب يحمل واجبا للعرب واليهود، وسوف نؤدي هذا الواجب تاما عادلا دون خوف أو تحيز. . . وسوف تضع السياسة البريطانية نصب عينها دائما أن تعمل على خير فلسطين كلها). ولا يستطيع وزير المستعمرات أن يزعم أن في كلماته طرافة، فهي على صحتها ودقتها خالية من التعمق وبعد النظر. وقد قال مثلها كل وزير للمستعمرات، ولم تثمر كلها شيئا. ولماذا؟ لأنك لا تستطيع اليوم أن تخدع العرب بالوعود والشروح، فهم يعرفون كل تدليل يمكن أن تقدمه الدولة المنتدبة أو الصهيونية لتأييد التعاون بين العرب واليهود في فلسطين، أو القول بأن(25/13)
قيام الوطن القومي اليهودي في أرضهم فيه خير لهم.
وقد نفهم وان كنا لا نستسيغ ما نفهم، أن يلقي كل وزير للمستعمرات كلما وقع اضطراب في فلسطين، نفس الكلمات القديمة، أقول لسنا نسيغ هذا، لأن الحقيقة الواضحة هي أن السياسة البريطانية في فلسطين قد أظهرت أنها تتأثر بعوامل الخوف والتحيز، فكل إنسان يذكر كيف أن الاضطرابات التي وقعت في ايرلنده بعد الحرب قد انتهت بعقد المعاهدة الإنكليزية الأيرلندية، وكيف أن ثورة العرب في الجزيرة (العراق) قد أحدثت تغييرا جوهريا في السياسة البريطانية في العراق، وكيف أن الاضطرابات التي وقعت بمصر بعد الحرب قد انتهت بإعلان استقلالها سنة 1922 (تصريح فبراير) وهكذا. الواقع أن السياسة البريطانية تقلبت في فلسطين تقلبا ظاهرا ومن الصعب أن نقول إن الإدارة العسكرية التي قامت في فلسطين منذ الهدنة إلى سنة 1920 رحبت بالصهيونيين الذين سمح لهم بدخول فلسطين تطبيقا لعهد بلفور، فقد كان عطفها على العرب ظاهرا، ولكن حكومة لندن لم تكن تعنى كثيرا بشأن العرب، وكانت بالعكس تعنى ليل نهار بأماني الصهيونيين ومقاصدهم. وكان مستر لويد جورج وقت رآسته للوزارة قبل الحرب، قد عقد الصداقة مع الدكتور ويزمان الزعيم الصهيوني، فادى ويزمان للحلفاء خدمة جليلة باختراع المفرقعات القوية، وكانت هذه الصداقة نواة تصريح بلفور واصله، حسبما يصرح مستر لويد جورج في مذكراته.
ويمضي الكاتب بعد ذلك في الحديث عن الإدارة الإنكليزية في فلسطين، فيقول أن عهد السير هربرت صمويل أول مندوب سام كان حسنا، وانه ترك فلسطين سنة 1925 في حالة يسر وان لم ينجح في إقناع العرب بقبول الانتداب. ولم يعن خلفه اللورد بلومر بالمشكلة السياسية، ولكنه عني بالعمل على توطيد أركان الأمن والسلامة. وسادت السكينة في عهده حتى أنه نصح بتخفيض عدد القوات المحتلة. بيد أن هذه السكينة ترجع إلى اغتباط العرب بما آلت إليه الصهيونية من الاضطراب، وما عانته من أزمات جعلت اليهود يغادرون فلسطين بكثرة. وفي عهد خلفه السير جون تشانسلور وقعت اضطرابات سنة 1929، فاقتضت تعزيز القوات المحتلة وإرسال لجنة برلمانية للتحقيق (لجنة شو)، ولجنة لبحث مسألة الأراضي والهجرة. وألقت تقارير اللجنتين ضوءا جديدا على قضية العرب؛(25/14)
ونوهت بضرورة إعادة النظر في طبيعة الانتداب وتوجيه السياسة البريطانية في فلسطين توجيها واضحا. ولما صدر الكتاب الأبيض سنة 1930، شعر العرب أن قضيتهم تسير في سبيل الفوز.
ثم يقول: ولكن اغتباط العرب بالكتاب الأبيض لم يطل أمده؛ فقد بذلت الصهيونية جهودا عظيمة مقرونة بالوعيد لنقض الكتاب الأبيض، فعاد مستر مكدونالد يفسر الكتاب الأبيض في خطابه الشهير إلى الدكتور ويزمان في فبراير سنة 1931؛ فكان الكتاب مثلا محزنا جديدا على ضعف الحكومة في المسألة الفلسطينية. وليس مثل هذا الضعف مما يرضي، بل ليس عادلا ولا متفقا مع الكرامة. ولن يستتب السلام في فلسطين إلا إذا أعيد النظر في مسألة الانتداب؛ ومن الواجب أن توضع سياسة جديدة على أسس التصريحات الرسمية السابقة في الموضوع، وتجري عليها كل الوزارات البريطانية، ويجب أن يستشار زعماء الأحزاب البريطانية الثلاثة، وان يقنعوا بضرورة إخراج المسألة الفلسطينية من معترك السياسة الحزبية؛ والسير فيها على خطة لا يحيد أحد عنها. ولا يستطيع سياسي بريطاني أن يزعم أنه قد وضعت بعد قاعدة لسياسة مرضية في فلسطين؛ والأمر يقتضي شجاعة أكثر لمواجهة الحقائق، فزمن المعجزات في فلسطين قد مضى.
واستمرار السياسة الحاضرة ليس في صالح اليهود ولا العرب ولا الإمبراطورية البريطانية. فانظر إليها من الوجهة اليهودية مثلا: هل يبقى الانتداب إلى الأبد؟ وهل نتصور أن يقنع الصهيونيون إلى الأبد بالاعتماد على الحراب البريطانية؟ لا ريب أن الدولة المنتدبة لم تكسب عرفان الشعب اليهودي بسياستها في فلسطين
أما معارضة العرب للانتداب فلا حاجة إلى ذكرها، ويزعم البعض أن هذه المعارضة من تدبير أقلية مغرضة من (الافندية) الذين يفقدون نفوذهم السابق بين الفلاحين بسبب ازدياد الرخاء الذي يحدثه الصهيونيون. وهي قصة سخيفة، لا يؤمن بها غير أولئك الذين يعتقدون بقيامأية ثورة شعبية في أي بلد. وسواء أكان الحكم الذاتي نعمة أم لا، فلا ريب أن عرب فلسطين قد تطلعوا إليه، ولكن على غير طائل. ثم إنا نجد الدليل على أن العرب إنما يعارضون سياسة الانتداب في مظاهرات اكتوبر الماضي التي لم توجه إلى اليهود كما كان يحدث من قبل، ولكنها وجهت إلى الدولة المنتدبة ذاتها.(25/15)
وإذا لم تتفق الأحزاب البريطانية على اتباع سياسة جديدة في فلسطين، فان خير سبيل تسلكه الحكومة البريطانية هو أن تتقدم إلى عصبة الأمم، وتقترح عليها أن ترد إليها الانتداب الذي منحته. وهو رأي سيعترض عليه بمنتهى الشدة، وينعت بالخيانة، وضياع الهيبة. ولكن الهيئة تعرف أن الانتداب (قسم 2) يراد به السير بالشعوب ذات الشأن إلى الاستقلال. وإذا لم يكن ثمة ريب في أن على بريطانيا واجبا أدبيا في حماية اليهود الذين دخلوا فلسطين، فان أولئك اليهود لا يقيمون أي دليل على انهم يستميلون أهل البلاد، فهل تحمل بريطانيا في مثل هذه الحالة واجبها إلى الأبد؟
وإذا القي مثل هذا الاقتراح إلى عصبة الأمم فهي إما أن ترد بان تطلب إلى بريطانيا استئناف سياسة الانتداب، وهنا تستطيع الدولة المنتدبة أن تضع بنفسها شروطها، وأما أن تقبل العصبة نزول بريطانيا عن الانتداب. ولو قبلت العصبة هذا النزول فماذا يكون؟ هل في ذلك ما يضير الإمبراطورية البريطانية؟ إن الصهيونيين يتحدثون كثيرا عن أهمية فلسطين للدفاع عن قناة السويس، ولكن الدفاع عن القناة إنما يكون على يد القوى المعسكرة على ضفافها، ثم يقولون إن ميناء حيفا الذي افتتح منذ أسابيع سيغدو قاعدة عظيمة للأسطول البريطاني. ولكن أين هي القوات البحرية التي يمكن أن تهاجم الأسطول البريطاني في مياه الليفانت؟ والخلاصة أن الحاجة اشد ما تدعو إلى انتهاج سياسة عملية حقيقية في الشرق الأدنى. فقد خرجت العراق من الدائرة الإمبراطورية، وما اتخذ هنالك من الإجراءات لضمان المواصلات الجوية يمكن اتخاذه في أي مكان آخر، وسوف تحذو سورية عاجلا أو آجلا حذو العراق. والبلاد العربية في تقدم، وهذا التقدم يزيد المسألة الفلسطينية تعقدا، فإذا لم يمكن الاحتفاظ بالانتداب طبق شروطنا المعدلة، فليس من الحكمة أن نحتفظ به. فلسنا بسياستنا الحاضرة نكسب عرفان اليهود ولكنا نكسب غضب العالم الإسلامي، والعالم العربي بوجه خاص.(25/16)
التفاؤل والتشاؤم وهل لهما أسباب تاريخية؟
بعض غرائب الخرافات عند الغربيين والشرقيين
على الرغم من انتشار الحضارة في مدن الغرب والشرق وتأصل المدنية والمعرفة فيهما منذ عشرات السنين فلا يزال الكثيرون في بعض مناحي تفكيرهم واعتقاداتهم مقيدين بأغلال خرافية يؤمنونبالتفاؤل والتشاؤم على نفس النمط الذي كان يعتقد به من عاشوا في عصور ما قبل التاريخ وبعده.
ما اعجب هذا الإنسان. .! خضعت له عناصر الطبيعة وطمأنت من كبريائها أمام جبروته، ودفع بسفينته إلى المحيطات الثائرة تشق عبابها آمنة لا تهاب غدرها، وبعقله الجبار دانت له العلوم وتفتحت الأسرار، ومع ذلك ما زال هذا الإنسان على ما بلغ منسيادة ومدنية وحضارة وثقافة يستمسك ببعض الأوهام الخرافية التي استمسك بها أسلافه وقد كانوا اقل منه حضارة وتعلما واستنارة، وسيظل عبدا لها مهما قرأ وتثقف.
إن الحضارة لن تقضي على الخرافات مطلقا، وكل ما هنالك أن الناس يستبدلون خرافة بخرافة تحت ضغط المدنية، ولكنالأساس واحد والأصل لا يتغير.
من العجب أن الغربيين يعتقدون أن الشرق (مهد الخرافة) وان أهله هم اكثر الشعوب تعلقا بالخرافات وإيمانا بها، ويعزون هذا التعلق وذاك الإيمان إلا أن هؤلاء لا يزالون في ضلالات الجهل. ومعنى ذلك أن الغرب بما وصل إليه من الحضارة ورقي العلم والأدب قد تجرد عن مثل هذه الأوهام، ولكن الواقع غير ذلك فما زال قوم منهم من أرقى الطبقات يعتقدون أحط الخرافات التي لا تقوم على أساس علمي.
ولئن صدق هؤلاء المتقولون وانتحلوا للشرقيين عذرا من الجهل فماذا يقولون عن أنفسهم وهم الذين يدعون سيادة الشرق استنارة وحضارة. . .؟!
فقد سألت إدارة إحدى كليات المعلمين لمقاطعة (ونكونسن) الأمريكية 488 طالبا أن يذكروا الخرافات التي يعرفونها والتي سمعوا بها، فأجمعت ردود الطلبة على خرافات بلغت زهاء 1225 خرافة.
وهناك في الغرب طائفة من الكتب بمختلف اللغات مقصورة على البحث في الخرافات والمعتقدات المختلفة.(25/17)
يقول الدكتور كلارك ويسلر وهو من العلماء العاملين في متحف التاريخ الطبيعي في نيويورك: (يظهر أن المدنية وقد درجت وتطورت من مهد الجهالة لا زالت ذات صلة بطريقة التفكير التي تسيطر على العقول البدوية في الجاهلية الأولى، فالسحر والخرافات يلعبان الى الآن دورا كبيرا في الحياة العصرية).
ويقول أحد علماء النفس من الفرنسيين: (إن الخرافات لم تنج منها أمة في الزمن الغابر ولا في العصر الحاضر وإن تأصل عادة التفاؤل أو قلة ظهورها لا علاقة لها بحالة الشعوب ومبلغ رقيها وتقدمها في الحضارة.)
ووجه الدكتور ا. باودن مدير كلية المعلمين بولاية (مكسيكو) الجديدة بالولايات المتحدة وأحد كبار علماء النفس الأمريكيين سؤالا إلى جمهرة من الناس ولفيف من المعلمين هذا نصه:
إذا كنت ذا تعلم جيد وصحة طيبة تشتغل بجد وضميرك مرتاح. . . أتظن أن هناك قوة تحيد بك عن سوى الصراط وتميل بك قسرا إلى تغيير سبيلك المرسوم؟) فكانت إجابة 77 في المائة من تلك الجمهرة من الناس (نعم) و 62 في المائة من المعلمين.
فزهاء ثلثي الأمريكيين تقريبا من المعلمين يؤمنون بالتفاؤل والتشاؤم.
إن للبيئة والإقليم والدين شيئا من التأثير في الطباع وفي الأجسام، ولكن التأثير الأعظم للوراثة.
للخرافات الشائعة أصول تتفق وعقلية الإنسان الأول، وسبيلنا إلى فهمها أن نعرف أحوال المتوحشين الآن وعقائدهم وكيفية تعليلهم للأشياء والحوادث، لأن المشابهة تكاد تكون تامة بين المتوحش الذي يعيش الآن في أواسط أفريقيا واستراليا، وبين الإنسان الأول، بل يمكننا أن نقول إن المتوحشين هو أسلافنا المعاصرون الآن.
إن معظم الخرافات التي ترجع إلى التفاؤل والتشاؤم ليست كلها ناشئة عن أسباب تاريخية وحوادث وقعت في الأزمنة الماضية، فكم من خرافات عاشت دهورا بلا سبب، ويرجع هذا إلى ما جبل عليه الإنسان من سرعة تصديقه بكل ما يسمعه.
لا تجد أمة تخلو من اعتقادات خرافية راسخة في عقول أهلها ولكن بعض الخرافات تكاد تكون شائعة بين معظم الشعوب، وقد جمعنا في هذا المقال من أوثق المصادر طائفة من(25/18)
الخرافات الكثيرة الشيوع مع تعليل اصلها وفقا لآراء الباحثين.
البوم
أول ما يلفت النظر من الخرافات هو البوم، فمعظم الناس يتشاءمون منه، ويقولون إن رؤيته تجلب المصائب وتجر النوائب، فهو طائر الشؤم وناعي الخراب، وان الأوربيون يتشاءمون من صوت البوم ويتطيرون منه أيضا. فالمشهور عنه انه يتخذ الأماكن الخربة المهجورة والمحال المظلمة مأوى له، ولذلك قرنت في ذهن الإنسان صورة الخراب مع البوم، ومن هنا نشأ التشاؤم، وهو يقيم في الأماكن الخربة ليأكل ما يجده من الفيران والجرذان والحشرات والبعوض وغيرها.
إن البوم غالبا يعشش في أجواف الأشجار، ولكن بعضها يعشش بين الصخور وعلى الرمال وفي البيوت الخربة ومن ذلك قول بعضهم:
يا قصر جمع فيك الشؤم واللؤم ... متى يعشش في أركانك البوم
ومن أنواع البوم الهامة وهي مشهورة في قصص العرب؛ والصدى وهو الوارد في قول توبة:
ولو أن ليلى الاخيلية سلمت ... عليّ ودوني جندل وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
وقد جاء في كتاب سراج الملوك إن عبد الملك بن مروان أرق ليلة فاستدعى سميراً له يحدثه، فكان فيما حدثه به أن قال يا أمير المؤمنين (كان بالموصل بومة وبالبصرة بومة، فخطبت بومة الموصل إلى بومة البصرة بنتها، فقالت بومة البصرة: لا افعل حتى تجعل لي صداقها مائة ضيعة خراب، فقالت بومة الموصل: لا اقدر على ذلك الآن ولكن إن دام والينا سلمه الله علينا سنة واحدة فعلت لك ذلك.)
الغراب
ومن الخرافات الشائعة التشاؤم من الغراب، ويعرف في الشام بالزاغ والقاق، وفي العراق بالزاغ والغراب.
وكان الرومانيون يقولون: إذا طار الغراب عن يسار إنسان أنبأ بالشر وجلبه عليه. وانه(25/19)
يسبق المقاتلين إلى ساحة الوغى ينتظر وقوع القتلى. وإذا طار فوق بيت فلا بد أن يموت أحد فيه. وإذا وقع به أذى انتقم ممن آذاه ولو بعد موته. وكثيرون من الإنجليز يعتقدون أن نجاحهم في الدنيا نتج عن حمايتهم لغراب عشش في بستانهم، وانه إذا قتل قصدا فلا بد أن يموت أحد من الأسرة على اثر ذلك. ويقول أهالي اسوج إن الغربان التي تنعق في المستنقعات ليلا هي أرواح القتلى الذين قتلوا غيلة، ولذلك حمي الغراب من الأذى في كثير من البلدان الشمالية.
وكان العرب يتشاءمون من الغراب، قال أبو الفرج المعافى ابن زكريا في كتاب الجليس والأنيس: (كنا نجلس في حضرة القاضي أبي الحسن فجئنا على العادة فجلسنا عند بابه وإذا إعرابي جالس كانت له حاجة فوقع غراب على نخلة في الدار فنعب ثم طار، فقال الإعرابي: إن هذا الغراب يقول أن صاحب هذه الدار يموت بعد سبعة أيام، قال فزجرناه فقام وانصرف ثم خرج الأذن من القاضي إلينا، فدخلنا فوجدناه متغير اللون مغتماً، فقلنا له مالخبر؟ قال رأيت البارحة في النوم شخصاً يقول:
منازل عباد بن زيد ... على أهليك والنعم السلام
وقد ضاق صدري لذلك. فدعونا له وانصرفنا، فلما كان في اليوم السابع من ذلك اليوم دفن)
قال القاضي أبو الطيب الطبري: سمعت هذه الحكاية من لفظ شيخنا أبي الفرج المذكور.
وقال يعقوب بن السكيت: (كان أمية بن أبي الصلت وهو شاعر مسيحي مشهور من فحول شعراء الجاهلية، في بعض الأيام يشرب، فجاء غراب فنعب نعبة، فقال له أمية: بفيك التراب! ثم نعب أخرى فقال له أمية: بفيك التراب! ثم اقبل على أصحابه وقال: أتدرون ما يقول هذا الغراب؟ زعم أني اشرب هذه الكأس فأموت، وأمارة ذلك انه يذهب إلى هذا الكوم فيبتلع عظما فيموت. قال فذهب الغراب إلى الكوم فابتلع عظما فمات، ثم شرب أمية الكأس فمات من حينه)، وهذه الحكاية من أقاصيص العرب.
والتشاؤم من الغراب ربما يرجع إلى سواده، والسواد رمز للحزن حتى أن العرب يسمون السود منهم (أغربة العرب) مثل عنترة وغيره؛ ويقول محيط المحيط: إن الحاتم أي الغراب الأسود سمي كذلك لأنه يحتم بالفراق في اعتقاد العيافة، وزاد على ذلك قوله: إن الغراب سمي غراب البين لأنه إذا بان أهل الدار للنجعة وقع في موضع بيوتهم فتشاءموا به(25/20)
وتطيروا منه، فقالوا في المثل أشأم من الغراب إذ كان لا ينزل منازلهم إلا إذا بانوا (أي بعدوا) عنها. وربما يرجع أيضا إلى علاقة لفظية بين اسمه وبين الغربة والغراب أي النزوح عن الوطن والأهل والأحباب.
وعلل الجاحظ تطير العرب من الغراب في كتاب الحيوان فقال: (وأصل التطير إنما كان من الطير إذا مر بارحا أو سانحا (أي عن اليمين أو عن اليسار) ورآه المتطير يتفلى أو ينتف ثم صاروا إذا عاينوا الأعور من الناس أو البهائم أو الأعضب أو الأبتر زجروا عند ذلك وتطيروا كما تطيروا من الطير، فكان زجر الطير هو الأصل اشتقوا منه التطير ثم استعملوا ذلك في كل شيء، والغراب لسواده إن كان اسود، ولاختلاف لونه إن كان أبقع، ولأنه غريب يقطع إليهم، ولأنه لا يوجد في موضع خيامهم يتقمم إلا عند مباينتهم لمساكنهم ومزايلتهم لدورهم، ولأنه ليس من شيء من الطير اشد على ذوات الدبر من ابلهم من الغربان؛ ولأنه حديد البصر قالوا عند خوفهم من عينيه الأعور، كما قالوا غراب لاغترابه وغراب أبي لأنه عند بينونتهم يوجد في دورهم.
وقال ولإيمان العرب بباب الطيرة عقدوا الرتائم وعشروا (أي نهقوا عشر مرات) إذا دخلوا القرى تعشير الحمار. والغراب اكثر من جميع ما يطير به في باب الشؤم. لكنهم لم يكونوا في ذلك سواء، بل نفى بعضهم التطير، قال سلامة بن جندل:
ومن تعرض للغربان يزجرها ... على سلامته لابد مشؤوم
وقال غيره:
يا أيها المزمع ثم انثنى ... لا يثنك الحادي ولا الشاحج
بينا الفتى يسعى ويسعى له ... تاح له من أمره ذائج
إبراهيم تادرس بشاي(25/21)
فلسفة ديكارت
للأستاذ زكي نجيب محمود
تمهيد
وثبت الفلسفة في عهد الإغريق وثبة جريئة، كانت من غير شك شذوذا نابيا لا يستقيم مع طفولة العقل عندئذ، ولا يتفق مع سير الإنسانية الوئيد المتثاقل. وما ظنك بثلاثة من قادة الفكر وأفذاذهم البارزين الذين لا تزال فلسفتهم إلى هذا اليوم موضوعا للبحث والدرس، واغلب الظن أنها ستظل موضوعا للبحث والدرس إلى غد وبعد غد! ما ظنك بهؤلاء الجبابرة ينشرون تلك الفلسفة العالية وذلك الفكر الرفيع في أوساط من الناس يستحيل على عقولهم الفجة الساذجة أن تتسع لأشباهها، أو قل لا تدنو من عشر معشارها! ما ظنك بسقراط وأفلاطون وأرسطو، أولئك العباقرة الفحول ينتجون هذه الفلسفة في القرن الخامس قبل ميلاد المسيح، أي منذ خمسة وعشرين قرنا!
لم تسغها العقول وقتئذ، إذ لم تقو على هضمها وتمثيلها، فكان طبيعيا أن يكون نصيبها الطي والإهمال، حيث استقرت في بطون أسفارها قرونا وقرونا، تنتظر العقل الناضج الرشيد، تنتظر هذه الإنسانية المتلكئة في سيرها حتى تسمو وترتفع إلى حيث هي، وعندئذ تستطيع أن تنشر صفحاتها المطوية وتخرج إلى شمس كنزها الدفين.
ولكنها وقفت تنتظر حينا طويلا من الدهر حتى سئمت الانتظار! وحق لها أن تمل وتسأم، فقد أقبل الناس على عصر بل عصور، اصطلح المؤرخون على أن يطلقوا عليها اسم العصور الوسطى كانت مظلمة شديدة الظلام، تتخبط في ديجور من الجهل، لا يكاد ينفذ فيه قبس واحد من نور، كأنما أصاب الدهر سنة من النوم أو إغفاءة من السهو، فبدل في مواضع الأزمان، حيث قدم ما كان يجب أن يؤخر، وأخر ما يجب أن يقدم!! في تلك العصور سيطرت الكنيسة على العقول إلى أقصى حدود السيطرة، وحرمت على الناس كل ضرب من ضروب التفكير الحر الطليق، كما حضرت عليهم كل دراسة لا تمت إلى الدين بسبب وثيق. اسمع إلى البابا غريغوري الأكبر، رئيس الكنيسة الأعلى، كيف ينحو باللائمة المرة، والتقريع اللاذع، على رجل من رجال الدين، وشى به إليه انه يصرف شطرا من زمنه في قراءة الآداب القديمة فيقول:(25/22)
(لقد وصل إلى علمنا ما نخجل لذكره، ذلك انك تدرس الآداب القديمة لأصدقائك فامتلأ قلبنا غضبا منك، وازدراء بك، وحسرة عليك، فان لسانا ينشد مديح المسيح، لا يستطيع أن يتغنى بالأدب القديم)
ولكن هيهات أن تصاب الإنسانية بالجمود دون أن تمضي في سبيلها قدما، لا تتقهقر خطوة إلا لكي تتحفز للوثوب الفسيح، فبالرغم من هذا الستار الصفيق الذي اسدلته الكنيسة في العصور الوسطى دون العقول، لتحول بينها وبين التفكير في مظاهر الوجود، فقد نفذ إلى النفوس بصيص من نور، فساورها القلق من هذا الاستسلام المطلق للكنيسة ورجالها. وهنا بدأ الشك يتسرب إلى العقيدة الراسخة شيئا فشيئا، حتى قال (ابيلار) في جرأة الثائر: (يجب إلا نؤمن بمذهب لأنه من عند الله، بل لأن الدليل العقلي قائم على صحته. فان الشك يدعونا إلى البحث، والبحث يوصلنا إلى العلم الصحيح)
ثارت النفوس إذن ثورة عنيفة هدامة، وتناولت بالتحطيم تلك الأغلال الثقيلة التي فرضتها عليهم الكنيسة فرضا؛ والتي كبلت عقولهم حينا طويلا، فحبست عنها الحياة والنور: وكانت فورة الغضب حامية جارفة، اكتسحت أمامها الحدود والسدود، وقوضت العقائد المتأصلة في النفوس، وزلزلت بمعول الشك تلك الآراء التي بلغ يقينها درجة تدنو من التقديس. كانت العصور الوسطى تفرض على ساكنيها التسليم بكل شئ، فجاءت هذه النهضة الفكرية تحتم الشك في كل شئ::
ولم يكن ذلك الشك هداما وكفى، لم يكن يريد أن يقوض البناء، ثم يهمل أنقاضه مركومة بغير تشييد، كلا بل أراد أن يهدم باطلا ليقيم صرح الحق قويا متينا. ذلك ما قصدت إليه الفلسفة في فجر العصر الحديث، ولكن أين عساها أن تجد اللبنات التي تقيم بها ذاك الحصن الجديد؟ أتلتمس ذلك في فلسفة العصور القديمة، أم تلتمسه في فلسفة العصور الوسطى؟ لقد مزجت بينهما جميعا، وكان لها من هذا المزيج ما تريد. فقد كان القدماء ينشدون الحكمة الفلسفية، أو أن شئت فسمها حكمة دنيوية، وكان أهل العصور الوسطى يبحثون عن الحكمة اللاهوتية، فجاءت الفلسفة الحديثة واعترفت بالمطلبين، ثم ألفت بينهما، واتخذت منهما غرضا واحدا. فكان لابد لها أن تأخذ بالحياتين الأولى والآخرة في وقت معا. لابد لها أن تميل بأسرها نحو هذه الحياة الواقعة، وأن تتجه بكليتها نحو الغريب(25/23)
المرقوب على السواء.
فقد كانت الوثنية الأولى تعتد بالعالم الكائن فحسب، وكانت مسيحية العصور الوسطى تعنى بالعالم الآخر فحسب، ثم تبع ذلك مرحلة انتقال ظهرت فيها النزعتان جنبا إلى جنب: النزعة الوثنية المطبوعة بالطابع الدنيوي، والنزعة الدينية الزاهدة في الحياة الدنيا، ثم جاء العصر الحديث فكان ما أسلفنا من تآلف بين الوجهتين،، وجمع كل رجل في نفسه كلا الجانبين. وذلك إنما يكون بأن نخلق من روحك عالما تعيش فيه عيشة مطمئنة راضية، لا تقف عند الحياة الدنيا محصورا في حقائقها المحسة الضيقة، وكذلك لا تقصر نفسك على الحياة الروحية، فتمر عليك الحياة، أو على الأصح تمر أنت على الحياة، دون أن تشق عبابها وتخترق غمارها. لا تنصرف بالأولى عن الآخرة، ولا تصدفنك الآخرة عن الأولى. لا تعن بالجسد وتهمل الروح، ولا تعن بالروح وتزدري الجسد، بل أجمع بينهما في وحدة متآخية، وأنا أظن أن ذلك ما يدعو إليه الإسلام في الحديث النبوي الشريف: أعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، وأعمل لأخرتك كأنك تموت غدا. . . مزج بين الروح والمادة، بين الدين والدنيا.
نعم ينبغي ألا تكون ماديا فتنكر هذه القوة التي يفيض بها الوجود، كما يجب ألا تكون صوفيا زاهدا، يزوّر عن هذه المادة التي تملأ جوانب الكون. ولتكن (أيها الإنسان) موضعا يتصافح عنده الطرفان المتخاصمان، ونقطة يلتقي لديها الشطران النقيضان. . . ألست تريد أن تمجد الطبيعة المادية إلى أقصى حدود التمجيد، مفتونا بدقائقها المتناغمة؟ ثم ألا تريد أن تكون مع ذلك لاهوتيا يعبد الروح الأعلى الذي يستغرق الوجود بقوته؟ أو بعبارة جلية موجزة، ألا تريد أن تسرح فكرك في الطبيعة وما فوق الطبيعة على السواء؟ أذن فأبحث الإنسان: تناول الإنسان بالتحليل والدرس، فهو جماع الحكمتين، وملتقى الجانبين. التمس عنده الطبيعة المادية في أدق ترتيب وأحكم تصوير، والقوة الروحية في أروع مظاهرها وأسمى مجاليها. أنه الإنسان الذي أنزله الله في الأرض، ليكون لسانا ناطقا بحكمته، وترجمانا يفصح عن قوته، ورسولا أمينا يصل ما بين الله والعالم المادي، وأذن فقد بات طريق الفلسفة واضحا معبدا. . . فإذا أرادت الحق، فلتبدأ سيرها من النفس، نفس الإنسان، ثم تسلك سبيلها، راسخة القدم موطدة اليقين، حتى يصل بها البحث إلى معرفة الله والعالم(25/24)
المادي. . . لقد انعكس الوضع، وانقلب المنطق نتيجةً لمقدمة، فقد كانت الفلسفة في بادئ أمرها. تفتح سيرها ببحث القوة والمادة، أعني الله والطبيعة، لكي تنتهي إلى الإنسان؛ أما الآن فهي تبدأ جهادها بدراسة النفس الإنسانية ثم تنتقل منها إلى العالم الخارجي.
بذلك الشك حطمت الفلسفة الحديثة كل ما نزل عند القدماء منزلة اليقين، وعلى هذا الأساس الجديد من توحيد المادة والروح في الإنسان، واختصاصه بالبحث أولاً، ثم الانتقال منه إلى العالم الخارجي، قام البناء الجديد.
وكان أول من وطد ذلك الأساس وشيد عليه البناء فيلسوفنا رنيه ديكارت
فلسفته
1 - العقل يثبت وجود نفسه:
أن هذا الرأس الصغير الذي تحمله فوق منكبيك، ليفيض بالآراء ويزدحم بالعقائد، وتعمره شتى المعلومات، التي تقطر إلى ذهنك من هنا وهناك. فهذه الطائفة من المعارف قد رأيتها بعينيك وتلك سمعتها بأذنيك، وثالثة لم تسلك إلى ذهنك طريق الحواس، ولا أوحي إليك بها إنسان آخر، إنما نبعت من نفسك الباطنية، فأنت توقن ولا ريب أن النار محرقة لأنك لمستها بيديك، ولا يخامرك شك في أن رجلا أسمه نابليون كان يعيش في أوائل القرن التاسع عشر، لأن إجماع الرواة يؤكد ذلك، ولا تتردد في أن تحكم بأنك ما دمت موجودا في حجرتك، يستحيل أن تكون أنتفي نفس الوقت جالسا في المقهى، لأن عقلك يعلم ذلك بالضرورة. . . وهكذا تستطيع أن تستعرض معلوماتك جميعاً، فتراها قد سلكت إليك هذا الطريق أو ذاك، فهي إما نفذت إليك من الخارج بواسطة الحواس، أو لدنية نبعت من ضرورة عقلية، ومع ذلك فكثرتها الغالبة تقع عندك موقع اليقين الذي لا يحتمل الشك والجدل.
ولكن ألا يجدر بك أن تثوب إلى نفسك فتعسر معها الحساب على هذا الاطمئنان السريع والتصديق العاجل بصحة هذه الحقائق مع أنها قد تكون خطأ كلها؟ أليست هذه الحواس التي تركن إلى أمانتها، خادعة في كثير من الأحيان، فتوهمك مثلا أن القمر لا تعدو مساحته القرص الصغير، وهو ليس كذلك؟ وهذا العقل الذي تعتمد على أحكامه، ألا يقدم لك صورا وأفكارا بعضها وهم خاطئ؟ هذا صحيح لا ريب فيه. فأفرض منذ الآن أن تطمئن(25/25)
إلى ما يقدمانه إليك من الحقائق، تقبلها بالشك ولا تجزم بصحتها، وإذن فهذه معلوماتك جميعا قد هدمت من أساسها. . . فما يدريك أن هذه الأجسام المادية موجودة حقيقية؟ وما يدريك أن الله موجود؟ ثم ما يدريك أنك أنت نفسك موجود؟ ستقول العقل أو الحواس: كلا، لا تفعل. فقد تبين لك أنهما كثيرا ما يكونان مبعث الخطأ والزلل، ولا يحتمان الحق واليقين. . إذن فلا تتردد في أن تنزع من نفسك جميع العقائد والآراء والأفكار، وأفرض أن كل ما يصادفك باطل ليس له وجود، ولا تصدق ما تمدك به الذاكرة الكاذبة والحواس الخادعة؛ وأدَّع أن الجسم والصورة والامتداد والحركة والمكان كلها من خلق الخيال. فما الذي يبقى من الحق بعد؟ لا شئ: اللهم ألا حقيقة واحدة، ستصمد لهذا الشك الجارف، وتظل ثابتة لا تميل أمام عاصفة الأفكار والجمود، لا بل تزداد يقينا كلها أمعنت في الشك والإنكار، تلك هي أن هناك شخصا يشك!. . أرفض الحقائق، وشك في صحتها ما وسعك الرفض والشك ولكنك لن تستطيع أن تشك في أنك تشك.
نعم مهما شككت فلست أنكر أني أشك، ولما كان الشك ضربا من ضروب التفكير، أذن فلا شك أني أفكر. وبديهي أي لو لم أكن موجودا لما فكرت، وأذن فأنا موجود وليس في وجودي شك
(أنا أفكر فأنا إذن كائن) تلك هي القاعدة الأساسية التي اتخذها ديكارت أساسا قديما أقام عليه فلسفته بأسرها. ويلاحظ أن إثبات الوجود هنا لا ينصب إلا على العنصر المفكر من الإنسان ولا يتعداه إلى الجسم، ذلك لأنه أثبت وجوده بناء على وجود تفكيره، أي عقله، ولم يقم الدليل بعد على وجود الجسم. ولكن مالنا وللجسم الآن؟ هانحن أولاء قد حصلنا على العقل وأيقنا بوجوده، وهو أساس المعلومات جميعا، وحسبنا ذلك لنهتدي عن طريقه إلى معرفة الحقائق التي ننشد، وهكذا بدأ ديكارت بالشك إلى حيث انتهى إلى اليقين. وقد قال قائل: (كلما فكرت ازددت شكا) فعارضه ديكارت بقوله: (بل كلما شككت ازددت تفكيرا، وازددت بالتالي يقينا بوجودي).
حقا لقد انتزع ديكارت من غمار الأنقاض التي ركمها الإنكار والشك، يقينا لا يأتيه الباطل، ذلك أنه هو موجود لا ريب في وجوده. ثم يقرر أن كل حقيقة يستطاع إثباتها بمثل هذا اليقين القاطع، لا يجوز له أن يتردد في اعتبارها حقا لا يقبل الشك. ثم يستطرد قائلا أن(25/26)
الإنسان يخرج إلى هذا العالم وفي فطرته طائفة من هذه الحقائق اليقينية الثابتة التي تحتمل الإنكار أو الشك، وهي لا تأتي عن طريق التحصيل، كالحقائق الرياضية مثل2و2 تساوي4، فهذه حقيقة مؤكدة، وليست تجيئك عن طريق الحواس، إنما هي مفطورة فيك منذ الولادة، وقل مثل ذلك في كل البديهيات العقلية كأن تقول أن الجزء أصغر من الكل وما إلى ذلك مما هو معروف معلوم.
2 - إثبات وجود الله
يتضح مما سبق أن ديكارت بعد أن أنكر كل شئ، عاد فأثبت وجود نفسه، ثم أتبع ذلك بالاعتراف بوجود بعض الحقائق الفطرية الثابتة، كالتي قدمناها مثلا. . . . فنحن إذا زعمنا أن شيئا لا يستخرج من لا شيء، فإنما نقرر حقيقة لا تقل يقينا عن حقيقة وجود العقل المفكر، لأنها واحدة من تلك البدائة التي لا تحتمل الرفض والإنكار. إذ لا بد أن يكون الفرع مستغرقا في أصله، والنتيجة في مقدمتها. ومن ذا الذي يستطيع أن يصدق أن الجبل الشامخ قد خرج من ذرة حقيرة، وأن البحر الخضم قد اشتق من قطرة صغيرة؟. يستحيل أن يكون ذلك لأن الذرة لا تلد إلا ذريرة أصغر منها، بناء على البديهية التي أسلفنا ذكرها وهي أن شيئا لا ينشأ من لا شيء
أذكر هذه البديهية جيدا، ثم أستعرض ما يحويه رأسك من صنوف المعارف، قلب النظر فيما يدور بخلدك من أفكار، فماذا ترى؟ ترى أن لكل فكرة أصلا أعم منها وأشمل، وهذا طبيعي لأن الصورة لا يمكن أن توضح أكثر من أصلها، أو قل تجيء على مثاله على أكثر تقدير، كذلك ترى أفكاراً فطرية نشأت معك منذ ولدت ولم تستمدها من العالم الخارجي. ولكنك في هذا البحث الذي تستعرض به أفكارك وتردها إلى أصولها، ستصادف بينها فكرة ممتازة، هي فكرة الكائن اللانهائي، أي أنك تتصور كائنا لانهاية له ولا حدود، فمن أين جاءتك هذه الصورة؟ يستحيل أن تكون قد سبقت من فطرتك، لأنها أوسع منك، فأنت على نقيضها كائن محدود، وبديهي - كما أسلفنا لك القول - ألا تجيء الصورة أشمل من أصلها، ومحال أن يتفرع شيء من لا شيء، وبالتالي محال أن يتفرع الكائن اللانهائي المطلق من كائن نهائي محدود. تستطيع أن تعترض على هذا القول بأن تزعم أنك قد تستخرج من الواحد الصحيح عداً لانهائيا بالطرح المستمر، فتسير في العد سلبا، ناقص(25/27)
واحد، ناقص اثنان، ناقص ثلاثه. . . . . ناقص لا نهاية. وبذلك تكون قد حصلت على عدد غير محدود من رقم محدود. ولكنك نسيت حين تقدمت بهذا الاعتراض، إنها عندئذ تكون سلبية، في حين أني أتصور لا نهاية إيجابية، كالمكان اللانهائي والزمان اللانهائي وما إليهما.
أتستطيع أذن أن تحدثني من أين جاءتك هذه الفكرة، بعد أن وثقت معي أنها لم تتفرع عن فطرتك؟ لا أحسبك مترددا في أن توافق ديكارت فيما ذهب إليه من أن هذه الفكرة اللانهائية الكاملة لا يمكن أن تنبعث عن الطبيعة البشرية الناقصة، بل لابد لها من أصل يوازيها كمالا وعظمة، لضرورة التكافؤ بين العلة والمعلول، ومن هنا أصبح حتما علينا أن نسلم بوجود اله جامع لكل صفات الكمال، وهو الذي خلق في الإنسان هذه الفكرة وألهمه إياها، وأذن فالله موجود وليس في وجوده شك.
3 - إثبات وجود العالم الخارجي
لقد رأيت فيما سبق كيف حمل ديكارت معول الشك، وقوض به كل فكرة ورأي، وأنكر الوجود بأسره، بل وأنكر نفسه، خشية أن يكون مخدوعا متورطا في خطأ أوحى به إليه فقابله بالتسليم، ثم سار في طريق المنطق السليم حيث انتهى إلى إثبات وجوده، ثم رتب على وجود نفسه وجود الله، وهاهو ذا يستنتج من وجود الله وجود العالم الخارجي. . . أليس الله هو ذلك الكائن اللانهائي، المطلق القوة، الذي لا تحده الحدود؟ أليس هو علة وجود نفسه وهو خالق الكون؛ أذن فلا ريب في أنه كائن كامل لا تشوبه شائبة من نقص، لأنه ما دام قادرا، مطلقا في قدرته، فمن الطبيعي أن يكون عمله مثلاً أعلى للكمال، لأن ذلك في حدود استطاعته، وما دام حائزا ضروب الكمالات المختلفة، فهو إذن متصف بالصدق الذي لا يخالطه ذرة من خداع، ومعنى ذلك أنه يستحيل على الله أن يكون سببا في تضليل الإنسان وخداعه. فقد منحنا عقلا مفكرا، وضمن لنا أن نصل به إلى معرفة الحق إذا أحسن استعماله، فلا نعتبر حقا ألا ما يحكم العقل بصحته حكما يقينا قاطعا لا يقبل الشك.
وإذن فقد أصبح من اليسر أن نقيم الدليل على وجود العالم الخارجي، فقد كنا شككنا في وجوده، لجواز أن تكون عقولنا خادعة تصور لنا الباطل حقا، فأما وقد أقمنا الدليل على وجود الله، وأثبتنا له جميع صفات الكمال، ومن بينها الصدق، فيجب ألا يعثر بنا الشك في(25/28)
وجود الكائنات الخارجية، إذ لو كانت وهمية، لترتب على ذلك أن يكون الله خادعا، لأنه هو الذي أمدنا بتلك العقول الخادعة، وهو الذي يصدر لنا جميع ما ندرك، وإذن فالعالم الخارجي موجود وليس في وجوده شك.
ولنوجز ما أسلفنا في حلقات منطقية متتابعة، نقول: أنا أفكر، فأنا موجود، وليس في وجودي شك. ومادمت أشتمل على فكرة الكائن اللانهائي، وهذه لا يمكن أن تشتق من طبيعتي المحدودة، فلا بد أن تكون ناشئة عن سبب خارجي يتكافأ معها، وهو الله. ومادام الله حائزا لجميع ضروب الكمال، فيستحيل عليه أن يضللنا، ولابد أن يكون ما وهبنا من عقل أداة صالحة، وأن ما ندركه حق واقع، وإذن فهذا العالم الخارجي الذي تصوره لنا عقولنا موجود لا ريب في وجوده، وبعبارة أوجز، نقول إن ديكارت بدأ بإثبات نيته، ثم رتب عليها وجود الله، ثم استنتج من وجود الله وجود العالم الخارجي.
4 - ولكن ما هو لك العالم الخارجي؟ ومم يتكون؟ يحدثنا ديكارت أننا نستطيع أن نرد مظاهره إلى أصلين، أو فكرتين وهما الامتداد والفكر، أو بعبارة ثانية القوة والمادة. فهما شطران منفصلان لا يعتمد الواحد منهما على الآخر بأية حال من الأحوال، وهذا هو مبدأ ثنائية الوجود، أي شطر الكون إلى عنصرين متميزين، أما أحدهما وهو المادة وصفته المميزة هي الامتداد طولا وعرضا وعمقا، إذ لا نستطيع أن نتصور مادة بغير امتداد. وأما الثاني وهو العقل، فخاصيته المميزة هي الفكر، فهو يفكر تفكيرا متصلا لا ينقطع لحظة، كما ينبعث الضوء عن الشمس والدفء عن الحرارة. أي أنه في وعي مستمر دائم، حتى أن ديكارت لم يستطع أن يتصور الجنين وهو في أحشاء أمه بغير تفكير! ويظهر من هذا أن خلافا جوهريا يفصل بين شطري الوجود: المادة والروح، وبالتالي بين جسم الإنسان وعقله، فهما نقيضان مختلفان في الجوهر والعرض على السواء، وان كان ذلك كذلك، فكيف أمكن اتصالهما، وكيف يؤثر أحدهما على الآخر؟ هنا لا يتردد ديكارت في أن ينكر العلاقة بين عنصرين هما على أشد ما يكون التباين بينهما، ويعتقد أنها إرادة الله وحدها التي تشرف عليهما، وتدبر حركاتهما: فأما الجسم فخاضع لما تخضع له كل الأجرام المادية الاخرى من قوانين، وليس للعقل من القوة ما يستطيع بها أن يدفع الجسم إلى الحركة، اللهم إلا إذا وافقت إرادة الشخص إرادة الكائن الأعلى. إذن فالوجود عند ديكارت ينحل إلى(25/29)
عنصرين أساسيين، أو مادتين أوليتين، فكل أجزاء المادة، كائنة ما كانت صورها، مركبة من مادة متجانسة. وكل ما يحتوي عليه الوجود من قوة، أو بعبارة أخرى من روح، أو بعبارة ثالثة من عقل، فهو مركب من مادة متجنسة كذلك. ويشرف على العنصرين أو المادتين اله قادر حكيم.
ومما يجدر ذكره أن سبينوزا، وقد جاء على أثر ديكارت، لم يطمئن إلى هذا التقسيم الذي لا مبرر له، وصهر الجميع في وحدة متجانسة لا إنفصال فيها ولا اختلاف. وقد عجب من ديكارت، وتساءل: لماذا تقصر القوانين الآلية على الجسم وحده دون الروح؟ أما هو فلا يحجم عن أن يمد من نطاقها حتى تشمل العناصر الثلاثة: الله والعقل والمادة، استغفر الله، بل ليس ثمت عند سبينوزا من تثليث للعناصر، إنما الجميع عنصر واحد متجانس، يسير وفق قانون شامل لا يتبدل ولا يفنى.(25/30)
جواب رسالة حزينة
للأستاذ مصطفى كامل
أترى في الناس أحداً ينفر من إنسان كان مريضاً بداء خبيث ثم بريء منه؟ وإن نفراً يقره الناس على هذا الخوف السخيف أم يستحمقونه؟ ثم مالفرق بين المرض الجسماني وبين السقطة الخلقية وكلاهما مرض قد يبرأ منه المريض؟
ثم ما ذنبه؟ أيمكن أن إنساناً يطلب المرض بمحض اختياره أم ترى أن المريض ضحية بائسة لا تتمنى على الله شيئا في الدنيا إلا البرء منه؟ ولو أن إنسانا ترك لمناه وهواه لما طلب إلا أن يكون صحيح الجسم سليم النفس
ثم ما فضل السليم على المريض أو الذكي على الغبي؟ وما فضل الكريم على اللئيم؟
هل يمكن أن يكون أحد من الناس من عمل نفسه، أم هو من عمل الأسلاف والبيئة والأجواء والتعليم والثروة وظروف الحياة؟ أليس الفرد نتاج ملايين من العوامل المتفاعلة التي تكوننا وتجعلنا في الصورة التي نحن عليها؟
أترى أحداً استطاع أن يكون ملكا ولم يرض، أو نبيا ولم يفعل؟ أو ثريا ولم يقبل؟ فوالله لو أن أمور الدنيا في مكنة الناس لكانوا ملائكة جميعاً
طبعت على ما فيَّ، غير مخير ... هواي، ولو خُيرت كنت المهذبا
كلما عرضت لي في أمور الحياة مثل حال هذه الفتاة، خطرت ببالي جملة رائعة ما أزال أذكرها (لبول بورجيه) في كتابه (التلميذ) قال: (أيمكن أن نحترم لاعب الروليت الذي يلعب عشر مرات متوالية على الأحمر والأسود، ألا إنما الفضيلة والرذيلة هما الأحمر والأسود، والفتاة الشريفة، واللاعب المحظوظ سواء في المواهب)
ألا إنما الفاضل من الناس فاضل بسبب الظروف التي عصمته، والمجرم من الناس مجرم بسبب الظروف التي أضعفته.
ولو أن المجرم وضع مكان العالم الورع الشريف وله نفس العوامل في الماضي، ونفس الحوادث في البيئة وأوضاع الحياة، لما كان إلا الرجل الفاضل الورع الشريف، ولو أن امرأة شريفة عرضت لها نفس عوامل المرأة التي سقطت لما ظلت امرأة شريفة، وإذن فما فضل إنسان على إنسان؟ الا أننا كلنا من عمل ما لا نملك في نفوسنا مما قد يرجع إلى ما(25/31)
قبل وجودنا.
لقد كنت في إحدى القهوات مرة، فلمحت مربياً معروفاً خالس الناس وأخفى بيبة منسية في جيبه، وهو مع ذلك رجل معروف كان يجب أن يكون له من تربيته حصانة فلا يتدنى، ومن رزقه حائل فلا يسفل، ولو لم يكن من ظروف هذا الرجل ما يحميه من الإسفاف لما كان إلا من طريدي القانون.
وإذن فما ذنب مريض قد مرض برغم انفه، ثم بعد ذلك قد بريء، ومع ذلك فما معنى أن نجعل الماضي رجسا للحاضر ودنسا للمستقبل، لقد مات هذا الماضي ولم تعد له من علامات الحياة وا أسفاه إلا ذكريات من عمل الرؤوس وخيالات النفوس.
ليمض هذا الصديق في حبه، فليس في الدنيا كافة ما يعدل القلب المفعم بالحب بهجة ولذة وسعادة، ولينبض قلبه بهذا الحب قبل أن تسكن نامته، وليملأ بيته وعشه الجميل قبل أن يوحش قبره، ولينعم حياته بالأمل والحب والجمال قبل أن تجف الحياة.(25/32)
الشافعي واضع علم أصول الفقه
للأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرزاق. أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية
الآداب
- 3 -
وكان الشافعي في أول أمره يطلب الشعر وأيام الناس والأدب. قال الشافعي: (وخرجت من مكة، يعني بعد أن بلغ قال: فلزمت هذيلا بالبادية أتعلم كلامها وآخذ اللغة وكانت أفصح العرب) ابن حجر ص50.
ثم توجه الشافعي إلى الفقه يدرسه وقد اختلفت الروايات في سبب توجهه إلى الفقه أو تكاد ترجع كلها إلى نصح الناصحين له: إن يصرف جهده وذكاءه في علم تكمل به سيادته من غير خطر على دينه ولم يكن يومئذ إلا الفقه سبيلا إلى ذلك
ويعبر عن روح الوقت من تلك الناحية: ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخه عن أبي يوسف قال: قال أبو حنيفة: لما أردت طلب العلم جعلت أتخير العلوم وأسأل عن عواقبها فقيل لي: تعلّم القرآن، فقلت: إذا تعلمت القرآن وحفظته فما يكون آخره؟ قالوا: تجلس في المسجد ويقرأ عليك الصبيان والأحداث ثم لا تلبث أن يخرج فيهم من هو أحفظ منك أو يساويك في الحفظ فتذهب رياستك، قلت: فان سمعت الحديث وكتبته حتى لم يكن في الدنيا أحفظ مني، قالوا: إذا كبرت وضعفت حدثت واجتمع عليك الأحداث والصبيان ثم لم تأمن أن تغلط فيرموك بالكذب فيصير عاراً عليك في عقبك، فقلت لا حاجة لي في هذا، ثم قلت: أتعلّم النحو، فقلت: إذا تعلمت النحو والعربية ما يكون آخر أمري؟ قالوا تقعد معلما واكثر رزقك ديناران إلى الثلاثة، قلت وهذا لا عاقبة له، قلت: فان نظرت في الشعر فلم يكن أحد أشعر مني، ما يكون من أمري؟ قالوا: تمدح هذا فيهب لك ويحملك على دابة أو يخلع عليك خلعة، وأن حرمك هجوته فصرت تقذف المحصنات، فقلت: لا حاجة لي في هذا قلت: فأن نظرت في الكلام فما يكون آخره؟ قالوا لا يسلم من نظر في الكلام من شنعات الكلام فيرمى بالزندقة، فأما أن يؤخذ فيقتل، وأما بسلم فيكون مذموما، قلت: فأن تعلمت الفقه؟ قالوا: تسأل وتفتي الناس وتطلب للقضاء وإن كنت شابا، قلت: ليس في العلوم شيء أنفع من هذا، فلزمت الفقه وتعلمته) - تبييض الصحيفة - ص11و12(25/33)
وتفقه الشافعي أول أمره على (مسلم بن خالد الزنجي) مفتي مكة سنة 180هـ 796م مولى بني مخزوم، وقد اختلف النقاد في أمر مسلم فقيل: ثقة وقيل ضعيف وقيل: ليس بشيء، وقال البخاري: منكر الحديث
ونقل: انه كان يرى القدر ولعل هذا هو سر تضعيفه
ويقولون: أن مسلم بن خالد الزنجي قال للشافعي: أفت يا أبا عبد الله فقد آن لك أن تفتي، وكان الشافعي حينئذ دون عشرين سنة.
وأخذ الشافعي في مكة عن: (سفيان بن عيينة الهلالي) المتوفى سنة 198هـ 813م أحد الثقاة الأعلام، روي عن بعضهم: أنه اختلط سنة 197هـ 812م.
ثم رحل الشافعي إلى المدينة ليطلب العلم عن (مالك بن أنس) فقرأ الموطأ على مالك بعد أن حفظه عن ظهر قلب في مدة يسيرة وأقام بالمدينة إلى أن توفي (مالك) سنة 179هـ 795م.
وخبر رحلته إلى مالك مروي على وجوه مختلفة تتفق كلها في أن الشافعي كان فقيرا لا يملك نفقة السفر على فرط شوقه إلى الأخذ عن إمام دار الهجرة.
ثم يسر الله له أسباب الرحلة، وأحسن مالك لقاءه لما تفرس من نجابته وفضله.
وتلقى الشافعي في المدينة عن غير مالك كإبراهيم بن أبي يحيى الذي يقول الرازي: اتفقوا على أنه كان معتزليا.
وخرج الشافعي إلى اليمن بعد موت مالك.
(قال الشافعي: لما مات (مالك) كنت فقيرا، فاتفق أن والي اليمن قدم المدينة فكلمه بعض القرشيين في أن أصحبه فذهبت معه واستعملني في أعمال كثيرة وحمدت فيها والناس أثنوا علي) الرازي ص 18.
وكادت الولاية تشغل بالشافعي عن العلم حتى نبهه بعض شيوخه فانتبه
قال الشافعي: كنت على عمل باليمن واجتهدت في الخير والبعد عن الشر، ثم قدمت المدينة فلقيت ابن أبي يحيى وكنت أجالسه، فقال لي: تجالسوننا وتسمعون منا فإذا ظهر لأحدكم شيء دخل فيه. ثم لقيت ابن عيينة فقال؛ قد بلغنا ولايتك فما أحسن ما انتشر عنك، وأديت كل الذي لله عليك ولا تعد(25/34)
قال الشافعي رضي الله عنه: موعظة ابن عيينة أبلغ مما صنع ابن أبي يحيى - الرازي ص 20
وقد أخذ الشافعي عن جماعة من أهل اليمن منهم مطرف بن مازن الصنعاني المتوفى سنة 191هـ 806م
وقد كذبه يحيى بن معين وقال النسائي ليس بثقة، وقال غيره كان قاضي صنعاء، وكان رجلا صالحا وعمرو بن أبي سلمة المتوفى سنة 214هـ 829م وهو صاحب الاوزاعي
ويقولون إن الشافعي جمع كتب الفراسة من اليمن واشتغل بها حتى مهر فيها
ارتفع شأن الشافعي في اليمن (ثم أن الحساد سعوا إلى هارون الرشيد، وكان باليمن واحد من قواده فكتب إليه يخوّفه من العلويين وذكر في كتابه: إن معهم رجلا يقال له: محمد بن إدريس الشافعي يعمل بلسانه ما لا يقدر المقاتل عليه بسيف، فإن أردت أن تبقي الحجاز عليك فاحملهم إليك. فبعث الرشيد إلى اليمن وحملوا الشافعي مع العلوية إلى العراق) الرازي ص18.
وتلك هي المحنة التي اقتضت دخول الشافعي العراق. وفي حديث هذه المحنة اختلاف كبير وقد يكون أسلم هذه الروايات من الحشو وأدناها إلى الاعتدال والقصد: ما رواه ابن عبد البر في كتاب (الانتقاء) قال:
حمل الشافعي من الحجاز مع قوم من العلوية تسعة وهو العاشر إلى بغداد وكان الرشيد بالرقة، فحملوا من بغداد إليه وأدخلوا عليه ومعه قاضيه (محمد بن الحسن الشيباني) وكان صديقا للشافعي وأحد الذين جالسوه في العلم وأخذوا عنه فلما بلغه أن الشافعي في القوم الذين أخذوا من قريش بالحجاز واتهموا بالطعن على الرشيد والسعي عليه، اغتم لذلك غما شديدا: وراعى وقت دخولهم على الرشيد قال: فلما أدخلوا على الرشيد سألهم وأمر بضرب أعناقهم: فضربت أعناقهم إلى أن بقى حدث علوي من أهل المدينة وأنا، فقال للعلوي: أأنت الخارج علينا والزاعم أني لا اصلح للخلافة؟ فقال العلوي: أن أدعى ذلك أو أقوله قال: فأمر بضرب عنقه، فقال العلوي: أن كان لابد من قتلي فأنظرني أكتب إلى أمي بالمدينة فهي عجوز لم تعلم بخبري، فأمر بقتله فقتل.
ثم قدمت و (محمد بن الحسن) جالس معه فقال لي مثل ما قال للفتى فقلت: يا أمير(25/35)
المؤمنين لست بطالبي ولا علوي وإنما أدخلت في القوم بغياً علي؛ وإنما أنا رجل من بني المطلب بن عبد مناف بن قصيولي مع ذلك حظ من العلم والفقه والقاضي يعرف ذلك. وأنا محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان ابن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف. فقال لي: أنت محمد بن إدريس؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين قال: ما ذكرك لي محمد بن الحسن ثم عطف على محمد بن الحسن فقال: يا محمد ما يقول هذا هو كما يقوله؟ قال: بلى وله من العلم محل كبير، وليس الذي رفع عليه من شأنه، قال: فخذه إليك حتى أنظر في أمره، فأخذني محمد وكان سبب خلاصي لما أراد الله عز وجل منه ص - 97 - 98.
ويقول ابن حجر في كتاب (توالي التأسيس) ص71 (وأما الرحلة المنسوبة إلى الشافعي المروية من طريق عبد الله محمد البلوي فقد أخرجها (الابرى) و (البيهقي) وغيرهما مطولة ومختصرة وساقها (الفخر الرازي) في مناقب الشافعي بغير إسناد معتمدا عليها وهي مكذوبة وغالب ما فيها موضوع، وبعضها ملفق من روايات ملفقة، وأوضح ما فيها من الكذب، قوله فيها: أن أبا يوسف ومحمد بن الحسن حرضا الرشيد على قتل الشافعي، وهذا باطل من وجهين: أحدهما أن أبا يوسف لما دخل الشافعي بغداد كان مات ولم يجتمع به الشافعي
والثاني أنهما كانا أتقى لله من أن يسعيا في قتل رجل مسلم لاسيما وقد أشتهر بالعلم، وليس له إليهما ذنب إلا الحسد على ما آتاه الله من العلم، هذا ما لا يظن بهما وان منصبهما وجلالتهما، وما أشتهر من دينهما ليصد عن ذلك.
والذي تحرر لنا بالطرق الصحيحة: أن قدوم الشافعي بغداد أول ما قدم كان سنة 184هـ800م. وكان أبو يوسف قد مات قبل ذلك بسنتين، وأنه لقي محمد بن الحسن في تلك القدمة، وكان يعرفه قبل ذلك من الحجاز وأخذ عنه ولازمه.
وممن أخذ عنهم الشافعي في العراق (وكيع بن الحراح بن مليح الرؤاسي أبو سفيان الكوفي الحافظ) المتوفى سنة 190هـ 805 - 806م و (حماد بن أسامة الهاشمي الكوفي) المتوفى سنة 210هـ - 852م، و (عبد الوهاب بن عبد المجيد البصري) المتوفى سنة 194هـ 809 - 810م. وقد قرأ الشافعي كتب (محمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة 189هـ(25/36)
804 - 805م ولازمه وأخذ عنه.
ولم نر فيما بين أيدينا من تراجم الشافعي ذكر مدة مقامه في بغداد في هذه القدمة.
وقدم الشافعي بعد ذلك إلى بغداد سنة 195هـ 810 - 811م فأقام سنتين واشتهرت جلالة الشافعي رحمه الله في العراق وسار ذكره في الآفاق وأذعن بفضله الموافقون والمخالفون. وعكف عليه للاستفادة منه الصغار والكبار من الأئمة والأحبار من أهل الحديث والفقه وغيرهما، ورجع كثيرون منهم عن مذاهب كانوا عليها إلى مذهبه وتمسكوا بطريقته كأبي ثور وخلائق لا يحصون. . . . وصنف في العراق كتابه القويم ويسمى (كتاب الحجة) ويرويه عنه أربعة من جلة أصحابه وهم: أحمد بن حنبل، وأبو نور، والزعفراني، والكرابيسي) (شرح المذهب للنووي) ج1 ص9
ثم خرج الشافعي إلى مكة وعاد إلى بغداد في سنة 198هـ 813 - 814م وأقام بها أشهراً، ثم انه خرج إلى مصر في هذه السنة كما في معجم الأدباء ويقول ياقوت في موضع آخر (ويقال: إن الشافعي رضي الله عنه قدم إلى مصر سنة 199هـ 814 - 815م في أول خلافة المأمون وكان سبب قدومه إلى مصر أن العباس ابن عبد الله بن العباس بن موسى بن عبد الله بن العباس استصحبه فصحبه وكان العباس هذا خليفة لأبيه على مصر) ج6 ص 394. وفي شرح المهذب: (وقال الربيع قدم الشافعي (مصر) سنة مائتين ولعله قدم في آخر سنة تسع جمعا بين الروايتين)
وصنف كتبه الجديدة كلها بمصر وسار ذكره في البلدان وقصده الناس من الشام والعراق واليمن وسائر النواحي للأخذ عنه وسماع كتبه الجديدة) ص9
وفي ابن خلكان: (ثم عاد إلى بغداد سنة ثمان وتسعين ومائة فأقام بها شهراً ثم خرج إلى مصر وكان وصوله إليها سنة تسع وتسعين ومائة وقيل إحدى ومائتين)
وأقام الشافعي بمصر إلى أن مات سنة 204هـ و819 - 820م كان في آخر عمره عليلاً شديد العلة من البواسير حتى قالوا: أن صدره أصبح ضيقا، وأنه كان يقول أني لآتي الخطأ وأنا أعرفه يعني ترك الحمية
وفي كتاب (توالى التأسيس) لابن حجر: (قلت: قد اشتهر أن سبب موت الشافعي: أن فتيان بن أبي السمح المالكي المصري وقعت بينه وبين الشافعي مناظرة فبدرت من فتيان بادرة(25/37)
فرفعت إلى أمير مصر فطلبه وعزره فحقد ذلك فلقي الشافعي ليلا فضربه بمفتاح حديد فشجه فتمرض الشافعي منها إلى أن مات ولم أر ذلك من وجه يعتمد) ص86
لم تقتل الشافعي شجة (فتيان) المزعومة إنما قتل الشافعي ما بذله من جهد عنيف في السنين الأربع التي أقامها بمصر ما بين تأليف وتدريس ومناظرة وسعي في بث مذهبه ومدافعة كيد خصومه، هذا إلى مرضه المنهك، وقد كان في ذلك العهد مصابا بنزيف من الباسور.
قال الربيع تلميذه: (أقام الشافعي ههنا أربع سنين فأملى ألفا وخمسمائة ورقة، وخرج كتاب (اللام) ألفي ورقة وكتاب (السنن) وأشياء كثيرة كلها في مدة أربع سنين، وكان عليلا شديد العلة. . .) ابن حجر ص83، وكان يلازم الاشتغال بالتدريس والإفادة في جامع عمرو. .
(وكان يجلس في حلقته إذا صلى الصبح فيجيئه أهل القرآن فيسألونه، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه عن معانيه وتفسيره، فإذا ارتفعت الشمس قاموا واستوت الحلقة للمناظرة والمذاكرة: فإذا ارتفع النهار تفرقوا وجاء أهل العربية والعروض والشعر والنحو حتى يقرب انتصاف النهار ثم ينصرف إلى منزله) ابن حجر ص92
واخرج أبو نعيم من طريق ابن حسين البصري سمعت طبيبا مصريا يقول: ورد الشافعي مصر فذاكرني بالطب حتى ظننت أنه لا يحسن غيره، فقلت له أقرأ عليك شيئا من كتاب أبقراط فأشار إلى الجامع فقال أن هؤلاء لا يتركونني. ابن حجر ص66
وقد يكون الشافعي درس الطب فيما درسه من العلوم في العراق حينما جاءها أول مرة
وقد يكون درس علوم التنجيم أيضا هناك، وأنهم ذكروا أن الشافعي اشتغل بعلوم التنجيم؛ وكل ذلك يدل على ما كان شغف للإمام بالعلم كله.
وقد يكون هذا الجلوس المتوالي في الجامع من أسباب ما أصيب به الإمام من المرض. وذكر الأستاذ مصطفى منير أدهم في رسالته ورحلة الإمام الشافعي إلى مصر، أن أهل الإمام ذهبوا إلى الوالي في صباح الليلة التي توفي فيها، وكان الوالي هو محمد بن السري بن الحكم، وطلبوا إليه الحضور لتغسيل الإمام كما أوصى، فقال لهم الوالي: هل ترك الإمام دينا؟ قالوا نعم، فأمر الوالي بسداد ذلك الدين كله، ثم نظر إليهم وقال لهم هذا معنى تغسيلي له ص41.(25/38)
وان صحت هذه القصة التي لم يذكر راويها لها استنادا فهي تدل على أن الشافعي خرج من الدنيا فقيراً كما دخلها فقيراً ولسنا نشك في أن الشافعي مات فقيراً، لكنا نشك في أمر استدانته، فقد روي ابن حجر في (توالي التأسيس) عن ابن أبي حاتم عن أبيه عن عمرو بن سواد السرحبي قال: قال لي الشافعي أفلست ثلاث مرات فكنت أبيع قليلي وكثيري حتى حلي ابنتي وزجتي ولم أستدن قط ص67.
وتزوج الشافعي (حميدة) بنت نافع بن عنبسة بن عمرو بن عثمان ابن عفان فولدت له (أبا عثمان محمدا) وكان قاضيا لمدينة حلب (وفاطمة) (وزينب).(25/39)
في الأدب العربي
الطبيعة في شعر ابن خفاجة
- 4 -
ثم لاحظ في هذه المقطوعات أنه يتعرض للمكان الذي شرب عنده الخمر بالذكر، فيصفه ويصف الغمامة الدكناء والشمس المريضة: فإذا لاحظت ذلك فانك لابد واجد الاختلاف البين بين خمريات أبي نواس المطولة وبين خمريات ابن خفاجة القصيرة. فلعلك ترى أن ابن خفاجة لا يجعل الخمر ولا غيرها موضوعا يقول فيه الشعر، ولكنه يجعل مناظر الطبيعة ومتفرجاتها موضوعاً يتكلم عنه ويصفه، ثم يتعرض في أثناء وصفه إياه إلى الخمر الحمراء والى كؤوسها البيضاء بالوصف، ويتعرض إلى الساقي والشاربين بالذكر، فيكون من ذلك صورة قوم عاكفين على الشراب في أخريات النهار أو في رائعة الصباح على ضفاف الجداول في ظل الأدواح وبين العرار والاقاح.
هذا هو الفرق، تدركه حين تعلم أن أبا نواس كان مغرما بالخمر وان ابن خفاجة كان مغرما بالطبيعة، وان أبا نواس كانيقصد إلى الخمر قصدا فينشئ القصيدة فيها، وان ابن خفاجة كان يقصد الى الطبيعة قصداً فينشئ المقطوعة فيها، وحين تعلم أن أبا نواس في خمرياته يقصد إلى خمارة البلد فيدخلها ويشرب ويصف مجلسه فيها والخمر التي يتناولها والكؤوس التي يرشف منها، وان ابن خفاجة كان يقصد إلى المتفرجات والمناظر فيصفها ويصف مجلسه فيها، وحين تعلم أن أبا نواس كان يشرب ويكثر من الشرب في الحانات أو في المنازل في كل وقت حتى يسكر وتميل به الكأس، وان ابن خفاجة لا يشرب إلا حين يدعوه جمال المنظر ورقة النسيم واعتدال الإقليم.
فأبو نواس حين يصف الخمر كابن خفاجة حين يصف الطبيعة، وابن خفاجة كأبي نواس في الإقلاع عن الخمر وفي التوبة عنها يحسنان وصفها ويجيدانه: فيقول أبو نواس:
وقلت لساقيها أجزها فلم أكن ... ليأبى أمير المؤمنين واشربا
فجوزها عني سلافا ترى لها ... إلى الأفق الأعلى شعاعا مطنبا
إذا عب فيها شارب القوم خلته ... يقبل في داج من الليل كوكبا
ويقول ابن خفاجة:(25/40)
يا حبذا نادى المدام ومجتلي ... سر السرور به ومسلى الأنفس
ولئن كففت عن المدام فان لي ... نفساً تهش بصدر ذاك المجلس
لولا الحياء من المشيب لقبلت ... ثغر الحباب به وعين النرجس
فهو يتأوه ويقول: يا حبذا نادى المدام حيث السرور وحيث الطرب، ولئن كنت قد كففت عن الشراب وأقلعت عنه فأن لي نفساً تهش إليه مع الصدور، وتحن إليه على البعد، ولولا حيائي من المشيب لقبلت ثغر الحباب، وحضرت مجالس الأحباب، ويقول كذلك:
صحا عن اللهو صاح عافه خلقا ... فقام يخلع سربالا له خلقا
وعطل الكأس من شقراء سابحة ... ألا كفاها بريعان الصبا طلقا
ورب ليلة وصل قد لهوت بها ... مغازلا فلقا أو شاربا شفقا
فهو يقول: لقد صحوت عن اللهو وعفته. وقمت أخلع سرباله الخلق الرث، وقد عطلت الكأس من الخمر الشقراء بعد أن كانت في ريعان الصبا طليقة غير معطلة، ومقربة غير مبعدة، وموصولة غير مقطوعة: إلى هنا يمسك نفسه عن تذكر الماضي ولكنه بعد ذلك لا يرى بداً من ذكره فيقول، ورب ليلة قد أجتمع لي فيها خمر حمراء ووجه جميل، فكنت أقضيها بين مغازلة صباح وضاء، وبين رشف شفق أحمر.
وهو في القطعة الأولى جعل لأحباب ثغراً وأنه لولا المشيب لقبله، وفي القطعة الثانية شبه الخمر بالشفق الأحمر؛ والثغر والشفق منظران من مناظر الطبيعة.
هذا ما وعدناك به في هذا الفصل، فهل ارتحت إليه وهل أعجبت بشعر ابن خفاجة حين يذكر الخمر ويذكر معها جمال الوقت واعتدال الزمان فيسكرك بوصفه الخمر ويطربك بوصفه الطبيعة: (له رشفها دوني ولي دونه السكر)
وكأني بك تتمايل من شدة الطرب وتترنح من شعر ابن خفاجة كما ترنح العباس بن الأحنف حين سمع قول ابن الدمينة يتشوق إلى نجد:
إلا ياصبا نجد متى هجت من نجد ... لقد زادني مسراك وجداً على وجد
إذا كان ذلك فاسمع إذن هذه المقطوعة في الخمر:
ندى النسيم فما ارق وأعطر ... وهفا القضيب فما أغض وانظرا
فزففتها بكراً إذا قبلتها ... ألقت على وجهي قناعا احمرا(25/41)
ورفلت بين قميص غيم هلهل ... ورداء قد تمزق اصفرا
والريح تنخل من رذاذ لؤلؤاً ... رطبا وتفتق من غمام عنبرا
الطبيعة في الغزل: -
قرأت قولنا في خمريات ابن خفاجة ورأيت أقواله في الخمر، ولابد لنا حتى تزول عنك تلك النشوة التي أصابتك من جمال وصفه ومن جودة تشبيهه من أن نورد على مسامعك هذه الأبيات:
وابتع بكيس كأس مشمولة ... واسحب ذيول اللهو واخلع وهب
واستضحك المجلس عن قهوة ... قد نبهت للصبح هدءا فهب
نارية اللذعة نورية ... في صفرة فاقعة أو صهب
وهز من عطفيك عن نشوة ... غضا إذا ما نفس الصبح هب
بأبيض كالماء مستودع ... ما شئته من أحمر كاللهب
لو ذاب هذا لجرى فضة ... أو جمدت تلك لكانت ذهب
فإذا صحوت من نشوتك فاصغ إذا شئت إلى قولنا في غزله والى وصفه الطبيعة في ذلك الغزل.
وانك بعد أن نورد على مسامعك غزله الرقيق ووصفه الأعضاء وتناسقها، والليالي وجمالها، والطيف وزيارته، ستجد في كل هذا وصفا للطبيعة لم يبلغه الكثير من أساطير الشعر. قال يتغزل:
فتق الشباب بوجنتيها وردة ... في فرغ أسحلة تميد شبابا
وضحت سوالف جيدها سوسانة ... وتوردت أطرافها عنابا
بيضاء فاض الحسن ماء فوقها ... وطفا به الدر النفيس حبابا
فهو يقول: إنها شابة فتق الشباب بوجنتيها وردة حمراء، كأن قامتها الهيفاء شجرة الأسحل تميد نضارة وشبابا، وكأن سوالف جيدها البلوري سوسانة، وكأن أطراف أصابعها عناب، وهي إلى ذلك بيضاء كأنما الحسن ماء فاض فوق جسمها فطف عليه حباب أبيض: يشير بذلك إلى أنها مطوقة بقلادة من الدر. ثم يختم تغزله بهذه الأبيات:
بين النحور قلادة تحت الظلا ... م غمامة دون السحاب نقابا(25/42)
نادمتها ليلا وقد طلعت به ... شمسا وقد رق الشراب سرابا
وترنمت حتى سمعت حمامة ... حتى إذا حسرت زجرت غرابا
ثم اقرأ قوله:
ومهفهف طاوى الحشا ... خنث المعاطف والنظر
ملأ العيون بسورة ... تليت محاسنها سور
فإذا رنا وإذا مشى ... وإذا شدا وإذا سفر
فضح الغزالة والغما ... مة والحمامة والقمر
ولاحظ بعد ذلك ما يمكنك أن تلاحظه: فلعلك ترى أن غزل ابن خفاجة لا يشابه غزل غيره من الشعراء: فهو غزل أشبه شيء بوصف مناظر الطبيعة: فهو حين يقف أمام محبوبته فيتغزل بها يكون كأنه واقف أمام منظر من مناظر الطبيعة، وكأن غرامه بالطبيعة وبمناظرها يغلب على شعره حتى في أوقات الغزل، فيشبه حمرة وجنتيها بالوردة الحمراء، وقامتها بشجرة الأسحل، ثم يرى من سوالفها السوداء فوق جيدها البلوري، ومن أطراف أصابعها التي خضبتها الحناء ما يذكره بالسوسن والعناب، ويشبه حسنها بالماء الصافي، وقلادتها اللؤلؤية بالحباب، وفي القطعة الثانية يشبه محبوبه بحيوانات الطبيعة: يشبه رنوه بالغزالة، ومشيه بالغمامة، وشدوه بالحمامة، ووجهه السافر بصفحة القمر المنير،
ولعلك تلاحظ أيضا أن غيره من الشعراء يقف في غزله موقف الولهان فيمعن في وصف محبوبه. وفي وصف حاله، ثم ينبري فيبدي شكواه ويتألم ويتوجع ويصف عاطفته المهتاجة ونفسه الملتاعة.
ألا ترى إلى ابن الدمينة كيف يبث في مقطوعته لواعج نفسه وكيف يبوح بوجده الذي يسره لمحبوبه حين يهب عليه ريح الصبا فيذكره بديار الحبيب:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد ... لقد زادني مسراك وجداً على وجد
أإن هتفت ورقاء في رونق الضحى ... على فنن غض النبات من الرند
بكيت كما يبكي الوليد صبابة ... وشجوا وأبديت الذي لم تكن تبدي
وقد زعموا أن المحب إذا دنا ... يمل وان النأي يشفي من الوجد
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خير من البعد(25/43)
على أن قرب الدار ليس بنافع ... إذا كان من تهواه ليس بذي ود
وانظر إلى البحتري كيف يبكي على فراق علوة الحلبية بما يثير العواطف والشجون:
قضت عقب الأيام فينا بفرقة ... متى ما تغالب بالتجلد تغلب
فإن أبك لا أشف الغليل وإن أدع ... أدع لوعة في الصدر ذات تلهب
ألا لا تذكرني الحمى أن ذكره ... جوى باطن للمستهام المعذب
أتت دون ذاك العهد أيام جرهم ... وطارت بذاك العيش عنقاء مغرب
ويالائمي في عبرة قد سفحتها ... لبين وأخرى مثلها للتجنب
تحاول مني شيمة غير شيمتي ... وتطلب مني مذهبا غير مذهبي
وما كبدي بالمستطيعة للأذى ... أسلو، ولا قلبي كثير التقلب
ولما تزايلنا من الجزع وانتأى ... مشرق ركب مصعد عن مغرب
تبينت أن لا دار من بعد عالج ... تسر، وأن لا خلة بعد زينب
ولكن ابن خفاجة لم يكن له من ذلك حظ قليل ولا كثير لأنه لم يكن له حبيب يبكي على فراقه ويطلب الشفاء مما قد ساهمه حبه ولم يكن له من لائم يلومه ويكلفه ما لاطاقة له به.
يكلفني عنك العذول تصبراً ... وأعوز شيء ما يكلفنيه
وإنما كانت حبيبته الطبيعة، والطبيعة ماثلة في كل مكان وزمان قريبة الوصال هينة اللقاء، ولأنه كان يرى أن كل ما في الحياة مجلس إخوان ود في بستان أو على ضفة جدول يقرضون الشعر، ويرشفون الخمر، ويمتعون أنظارهم بجمال الطبيعة الساحر، فلم يك في غزله إلا وصافاً للطبيعة، ولم يك في غزله ولهان، ولم يكن في غزله مفحشا. هذه ملاحظات قليلة خلاصتها انه لم يتفنن في غزله تفنن المحبين المغرمين أمثال ابن الدمينة والبحتري وغيرهما، ولم يفحش في غزله فحش أبي نواس.
أدلب. عبد الرحمن جبير(25/44)
من طرائف الشعر
بعد 25 سنة
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
تذكر الشاعر الكبير أخاه المرحوم عبد الغني الزهاوي فهاجته الذكرى ودفعته إلى زيارة قبره فبكى عليه ما شاء له الحزن أن يبكي، ثم نظم قصيدته هذه متأثرا كأن أخاه قد مات بالأمس
أخي إلى الموت سلكْ ... أخي قضى، أخي هلكْ
دار عليه بِرَحا ... هـ طاحناً له الفلك
أخي عن النور تولَّى ... راحلا إلى الحَلَك
ليس طريقا للرجو ... ع ماله أخي سلك
ما دلَكتْ شمس النها ... ر إنما أخي دَلك
أخي أخي أني أنا ... ديك ولا جواب لك
أخي أخي ماذا من ال ... أسباب عني شغَلك
ليت إله الطب وا ... فاك فدواى شللك
قد زرتُ قبرك الذي ... ترابهُ قد شملك
من ذا بهذا الجدَث الفد ... نك أخي قد جعلك؟
من ذا عن الحراك في ... هذا الحفير كبَّلك
درستَ يا قبر وقد ... زرتك ابكي طلَلك
لم يبق غيرُ الحزن لي ... أما دموعي فهي لك
كيف وجدت يا أخي ... في جوف قبرٍ منزلك!
وعندما دخلت من ... هـ البابَ من ذا استقبلك؟
من ذا نضا عنك الثيا ... بَ البيضَ من ذا دلّلك؟
من ذا من الأموات حيّا ... ك ومن ذا قبّلك؟
والخير أن تجهل في ... ملحودة مستقبلك
لا تخشَيَن من أبدٍ ... سوف يلاقي أزَلك(25/45)
مالي أراك ذا صُمو ... تٍ غير مُبدٍ جذَلك
آخرك المثير لل ... حزن ينافي أوّلك
ابكي عليك كلما ... ليَ الخيال مثلك
ابكي لذكراك كما ... بكيتُ يوم مُتَّ لك
ابكي خلالك التي ... سمت وابكي جُمَلك
يا يوم في صبحك أظ ... هرت لعيني طفَلَك!
يا موت أشرعتَ على ... صدر شقيقي أَسَلك
يا ليل أحزاني من ... بعد أخي ما أطولك!
ويا نهار كنت بساماً ... فمن ذا بدلك؟
يا طرف اهرِق من دمو ... عك البواقي وشلك
يا همُّ إنَّ ما جرى ... من ادمعي ما غسلك
يا قلبُ لا يرجع مَن ... أحببت فاقطع أمَلك
يا شعر قل مؤرخا ... (عبد الغنيّ قد هلك)
(1326)(25/46)
غربة النبوغ
للعالم الشاعر الأستاذ احمد الزين
مَن لثاوٍ في الأهل يشكو اغترابه ... سئم العيش عَذبه وعذابَه
ودَّ لو تطفئ المنون وميضاً ... من حياةٍ بُرُقُها خلابة
راحَ في الليل يعِقد الأمل الضخ ... م فلمّا بدا الضياءُ إذابة
كلَّ يوم أمانيُّ تَفنى ... ورجاءٌ تُذوي الليالي شبابه
تتهاوى الآمال منه فتهوى ... فَلَذاتٌ من نفسه الوثابة
جحدوا عنده المواهبَ حتى ... لم يبالوا أن يجحدوا وهّابه
يرسلُ النّورَ في عيون الخفافي ... ش فتأبى العيون إلا احتجابه
ويسوق اللحن الشجيَّ إلى الص ... م فتأبى الأسماعُ إلا نُعابه
ويفيض العذبَ الشهيَّ على أف ... واه مرضى لا تستسيغ شرابه
ولكم نفحةٍ من الروض صدّوا ... عن شذاها واستروحوا أحطابه
أكثر الإنس لا تحس لديه ... من صفات الإنسان إلا إهابه
حاملٌ في أديمه نفسَ عَجما ... ء وفي الشكل مشبهٌ أضرابه
يالجهدٍ قد كان يذكو التهاباً ... أخمد الغبنُ والعقوق التهابه
وفؤادٍ قد كان مَهدَ الأماني ... صار لحداً تسقى الدموعُ ترابه
وذكاءٍ يُجزى عليه جحوداً ... حين يجزي الغبيُّ منهم ثوابه
ونبوغٍ يضيع بين جهولٍ ... وحَسودٍ بالضغن ضل صوابه
تملأ الشمسُ عينه فيراها ... وعليها من الحقود ضبابه
كم دعىٍّ قلدتموه خطير الأم ... ر فيكم وذدتمو أربابه
وغبيٍّ يحيا سعيداً ويعزو ... ن إليه من كل فنٍّ لبابه
حين يشَقَى أخو الذكاء ويطوي ... فيكُم العمرَ حاملا أوصابه
لم ينافق فيستحقَّ لديكم ... رَغَدَ العيش مُحكِماً أسبابه
علَّموه الرياَء ممّا علمتم ... وخداعَ النهي فيَقرع بابه
بل دَعوه وشأنه لن تروه ... بائعاً نفسه ولا آدابه(25/47)
إن سفك الدماء أوهى حسابا ... من دم الفضل تَحملون حسابه
إنما العبقري روحٌ من الل ... هـ أمينٌ يوحي إليكم كتابه
إن قتل النبوغ قتلٌ لشعبٍ ... وعناد لله فيمن أنابه
-(25/48)
ساجعة
وساجعة في السدر والليل ساكن ... سوى نسمة في الروض تستقبل الفجرا
ترجع أنات الحنين بغصنها ... فتحسب رجع الصوت من شجوها جمرا
وتدعو جناحا لا يلبي نداءها ... أبى البين إلا في مفاصله كسرا
يرف الخميل الطلق غصناً وزهرة ... فما نظرت غصنا ولا رمقت زهرا
إذا ذرفت من لاعج الشوق دمعة ... أجابت هواها في محاجري الأخرى
وما خضبت كفا ولكن أدمعاً ... تكفكفها ردت أناملها حمرا
هو البين يا ورقاء كدر صافياً ... من العيش فاستبدلت من حلوه المرا
تعالي خذي حر الأسى عن مجرب ... حوى اللحظ أسيافاً وعالية سمرا
له كبد كالربع ضاعت سطوره ... سوى أثر فيهن لم يبلغ السطرا
تظل عيون الشوق تنشد رسمها ... إذا ما دعتها في جو انحى الذكرى
وعين هتون الدمع غشى جفونها ... قروح على أيامها أبداً عبرى
جفاها الكرى إلا غراراً فنومها ... كحسو القطا تلوى مناقيرها ذعرا
يزيد محولا خدها كلما همت ... وما أن عهدت الجدب لا يحمد القطرا
سقا الريف من (دمياط) هتان ديمة ... وحيا الصبا فيه ملاعبنا الخضرا
تركت بنانا في رباها مخضبا ... كأن على أطرافها الورق النضرا
عجبت لنفسي يوم ودعت كيف لم ... أمت شجنا أو تحترق كبدي الحسرى
علي شرف الدين. دبلوم دار العلوم(25/49)
مختارات من شعر الشاعرة الفرنسية مارسلين
ترجمة الأستاذ خليل هنداوي
- 1 -
حياة اليمام وموته
يا بنات الهديل!
ايه! لله دركن فانتن ... اللواتي تحسن حفظ الوداد
المعري
هذا هو شأن الورشان الأمين بين سراب اليمام!
يطير في الغابة، لا يستهويه القعود، ليظل هافياً حول محبوبته.
ولا يقدر على أن يأوي الا إلى الوكنة التي سكن فيها الهواء،
حيث جناح محبوبته الملتهب يدفئ جسده دائماً
دعواالقلبين المؤتلفين يخفقا ويضطرما،
فما حياتهما الا خيط ذهبي تربطه عقدة سرية،
بربكم! لا تفصلوا بينهما! فانهما يموتان
هما لا يبغيان الا قليلا من ساري الهواء، وقليلا من وارف
الظل، ومتكأ على ساقية ندية تروِّح عن قلبيهما!
ولا يريدان - من كل السماء والأرض - الا عشا جميلا مظلما
يتقاسمان فيه أسباب الحياة، ويواري سعادتهما.
إذا لم تعد عيناك تلمحان - يمامة الغابة - يلمع نصفها الأبيض في الفضاء
وهي تجوز عبر الشاطئ، فلا تقل: هجر أحدهما رفيقه
فانهما - وهما يحبان دائما - لم يعرفا الحب الا مرة واحدة.
دع شكوك نفسك واتبع آثارهما الضائعة
فانك واجد في الوكنة - في الضريح الصامت -
أربعة أجنحة مسوطة تغمر قلبين هامدين(25/50)
سيضطرمان حبا في السماء!
- 2 -
اليقظة
هل في استطاعتي أن أتذوق النوم الشهي، على هذا السرير القصبي؟
أنا أشعر بالهواء يطيب شذاه حين يهفو من حولك
لأن تغرك زهرة طافحة بالعبير!
فتعال يا كنزي! ولا تضرم سواي!
وتيقظ! ألا تتيقظ!
لكن هذه النفحة الغرامية
هذه القبلة التي أتمناها، لا أجرؤ على طبعها على شفتيك،
وهي تضاعف لي أيام حياتي إذا سمح بها قلبك،
ولكن نعاسك يطول! وأنت تميتني
وأنا لا أجرؤ على طبعها!
تعال! إننا سنجد ظلا وارفا تحت شجرات الموز
والعصافير ستستأنف تغريدها إذا لمحتنا غارقين في الحب
والشمس غلبت عليها غيرتها، فتوارت وراء الغيوم
وأنا لا أبحث عن نور الضحى الا في عينيك!
ألا تعال! وابسط على الحب نوراً
لا لا! أنت لن تنام، أنت تقاسمني لواعجي
وقبلاتك هي الأرى الذي تمنحه لنا الأزهار،
لماذا يتنهد قلبك؟ هل تفتش عن نفسي؟
إن نفسي تطفو على ثغري، وتهم بان تجفف دموعك،
ألا وارني تحت الأزهار!(25/51)
من الأدب الغربي
الشعر
محاضرة للشاعر الكبير (بول فاليري). عضو المجمع
الفرنسي
مترجمة بقلم الأديب عبد الرحمن صدقي
(منذ أسابيع عرض الدكتور طه حسين على صفحات هذه المجلة لرأي (فاليري) في الشعر، ومنذ أسبوع حاضر فيه جمهرة حاشدة من سامعيه، ونحن ننتهز هذه المناسبة لترجمة محاضرة للشاعر الفرنسي عن الموضوع بعينه إتماما للفائدة. ولما كان موضوع البحث دقيقا فقد حرصنا على دقة الأصل، ولم نستحل لأنفسنا - بحجة التوضيح والتبيين - تحريف الكلم أو الإضافة إليه أو الاقتضاب منه. ويعذر القراء إذا نحن أوصيناهم أيضا بالتدقيق في مطالعته واكتناه مراميه.) المترجم.
جئنا اليوم نحدثكم عن الشعر فهو موضوع العصر. وعجيب أن عصراً يجمع بين العمل واللهو المسرف معا - وقد يعد بعيداً عن سبحات التفكير والتأمل النظري عامة - يهتم هذا الاهتمام كله بالشعر، ولا يقف عند الشعر ذاته، بل يتعدى اهتمامه أيضا الى نظرية الشعر.
إذن: أستبيح لنفسي اليوم أن أسبح قليلا في النظر التجريدي، وعذري أني بهذه السبيل أستطيع الإيجاز في القول.
وأنا مقترح عليكم فكرة عن الشعر، ونيتي مجمعة على ألا أذكر غير ما كان من قبيل المقررات البحتة، وما كان في إمكان الناس أجمعين أن يلحظوه في أنفسهم أو بأنفسهم أو على الأقل يجدونه باستدلال هين ميسور.
وسأبدأ من البداية. والبداية (في هذا المعرض من الآراء في الشعر) هي بالضرورة تناول الاسم نفسه بالنظر. كما يجري على الألسنة في الكلام المعتاد.
كلمة الشعر
نعرف لهذه الكلمة مدلولين، أعني وظيفتين بينهما فرق بعيد، فهي تعني أولاً نمطاً من(25/52)
الخوالج النفسية، أو حالة عاطفية خاصة تثيرها أشياء شتى أو ظروف جد مختلفات.
فنحن نقول عن منظر من المناظر الطبيعية أنه شعري. ونحن نقولها عن طور من أطوار الحياة، وأحيانا نقولها عن شخص. ولكن هناك محملاً آخر لهذا اللفظ. ومدلولاً ثانياً هو أخص من الأول. والشعر على هذا الوجه الثاني يذهب بأذهاننا الى أحد الفنون، الى صناعة عجيبة غرضها أن تعيد كرة أخرى إنشاء هذه العاطفة التي يدل عليها الوجه الأول للفظ. فاستعادة العاطفة الشعرية عند القصد وبواسطة افانين اللغة دون الظروف الطبيعية التي تولدت فيها عفوا، هو مطلب الشاعر، وهو هو الفكرة المقترنة بكلمة (الشعر) في مفهومها الثاني، وفيما بين هذا التصور وذاك يوجد من العلائق والفروق مثل ما بين أرج الزهرة وبين عملية الكيميائي العاكف على تأليف العطر من كافة الأجزاء.
على أن الناس يخلطون في كل لحظة بين هاتين الفكرتين، فتنجم من ذلك طائفة من الأحكام والنظريات فضلا على المصنفات، فاسدة في أساسها للإطلاقها كلمة واحدة على شيئين هما على ارتباطهما جد مختلفين.
العاطفة الشعرية
ولنجعل أول كلامنا على العاطفة الشعرية! أي عن الحالة العاطفية الأصلية.
تعرفون ما يخالج معظم الناس من شعور يتفاوت قوة وصفاء. بين يدي مشهد طبيعي رائع، فمناظر الغروب؛ والليالي القمراء، والأحراج الشجراء، والبحر، تطربنا وتحرك عواطفنا، وعظائم الأحداث وأزمات الحياة النفسانية، وأشجان الحب، وتذكر الموت كلها مناسبات أو أسباب مباشرة لما يقع في الوجدان من تجاوب وأصداء داوية، بالغة في الشدة أو غير بالغة، قوية التنبه أو ضعيفته. وهذا اللون من خوالج الإنسان يتميز من سائر خوالجه الاخرى. فبم يتميز؟ ذلكم ما يعنينا بحثه في مطلب اليوم، فيهمنا أن نقابل بكل ما يستطاع من الوضوح بين العاطفة الشعرية والعاطفة العادية، والتفريق بين هذين عمل جد دقيق. إذ هما لم ينفصلا قط في الحياة الواقعة. فتجد الانفعال الشعري الأصلي مشوبا على الدوام بالحنو أو الأسى، بالغيظ أو الوجل أو الأمل، ولا تبرح مصالح الشخص وعلائقه الخاصة متحدة بهذا (الإحساس بالكون) الذي يتميز به الشعر.
الإحساس بالكون(25/53)
قلت (الإحساس بالكون) وأعني أن الحالة أو العاطفة الشعرية قوامها (فيما أرى) إحساس ناشئ متولد، أو بعبارة أخرى، ميل الى الإحساس (بعالم) أو نظام مستكمل من النسب، ذواته وكائناته، وحوداثه وفعاله، وان شابهت واحدة واحدة ما يعمر به عالم الحس ويتألف منه وهو العالم المباشر الذي هي مستعارة منه، إلا أنها ذات صلة محكمة لا يحدها الوصف بأساليب حساسيتنا العامة ونواميسها. ومن ثم فهذه الذوات وهذه الكائنات المعهودة تتغير قيمها ومعانيها بوجه من الوجوه. فهي تتداعى وتتوارد ويلابس بعضها البعض على وجه يخالف كل المخالفة ما يجري في الأحوال العادية. فإذا هي (مدوزنة) إن جاز لي هذا التعبير، وإذا هي قد أصبحت متناسبة القياس متجاوبة.
وعالم الشعر بهذا الوصف فيه مشابه كبيرة بعالم الحلم.
صورة الشعر وأطياف الحلم
وإذ تطرقت كلمة (الحلم) الى مقالي، فإني أذكر لكم في كلمة عابرة انه في العصور المتأخرة من عهد مذهب المجازيين في الكتابة حدث خلط جل خطبه وإن هان تفسيره بين تصور الناس للشعر وتصورهم للحلم! فليست الأحلام ولا حالة النفس الحالمة شعرية بالضرورة. وهي قد تكون كذلك. ولكن صوراً تكونت بالمصادفة لا يمكن أن تكون صوراً ذات سياق وانسجام الا بالمصادفة.
بيد أن (الحلم) لشيوع معالجتنا له وتكرارها يساعد على تفهيمنا كيف أن الوجدان يمكن أن تطغى عليه وتفعمه وتجبله مجموعة من شتى ما تحدثه الانفعالات والمدركات العادية. فهو يضرب لنا مثلا متعارفاً عن (عالم محصور) تتراءى فيه سائر الأشياء الواقعة وتشكل بتشكل حساسيتنا العميقة، وعلى هذا النحو تقريباً تستقر الحالة الشعرية في أنفسنا وتنمو وتتحلل، أي أنها لا تجري بالضبط على قياس، وإنها متقلبة وغير اختيارية وسريعة العطب. وإننا نفقدها كما نحصل عليها عرضا. وفي حياتنا فترات لا ينجلي فيها هذا الإحساس الشعري، ولا تتبدى فيها هذه التوليدات المحببة، بل لا يخطر لنا إمكانها في بال، فالصدفة تهبنا إياها والصدفة تستردها منا.
الخلود رسالة الفن(25/54)
ولما كان الإنسان إنسانا بما له عزيمة وقدرة على استنقاذ ما يهمه من حكم العفاء الجاري على الأشياء، واحتفاظه بما ينقذ وإصلاح حاله وإقامة صرحه، فقد صنع الإنسان لهذه العاطفة الرفيعة ما صنعه أو عالج صنعه لسائر الأشياء التي يدركها الزوال مأسوفا عليها. فبحث واهتدى الى الوسائل التي يثبت بها وينتحي بسرها كيف يشاء أجمل أطواره النفسية وأصفاها، والتي يستطيع بواسطتها أن يعرض وينقل ويصون على تطاول الحقب أنماط أريحيته وهيامه وجيشان وجدانه. ثم كان من حسن العقبى أن اختراع وسائل البقاء هذه أتاح للإنسان الفكرة والقدرة معا على تعهد ما تمن به سليقته عليه أحيانا من قطع الحياة الشعرية بما ينميها اصطناعيا ويزيد في زينها وغناها. فتعلمّ أن ينتشل من مجرى الزمن وان يستخلص من الظروف هذه التواليف وهذه المدركات العجيبة العارضة التي قد كانت ذاهبة بلا رجعى لو لم يبادر فينا الكائن المتفنن الأريب الى معونة الكائن الوقتي ويسعف بمخترعاته النفس المحسة.
ولقد نشأت الفنون طراً لكيما تخلد أو تبدل (كل فن بحسب جوهره) لحظة من لحظات النعيم الزائل الى حقيقة راسخة من لحظات ممتعة لا انتهاء لها. فالعمل الفني ليس الا أداة مادية لهذا الإكثار أو التوليد المستطاع.
اللغة
والموسيقى والتصوير والعمارة أساليب شتى تتناسب مع اختلاف المعاني. وهي كلها وسائل لإنشاء عالم شعري أو لإعادة إنشائه، وهي تهيؤه بحسن التنظيم للبقاء، وتفسح بالعمل المدبر نطاقه وتوسع رحابه. إلا أن أقدم هذه الوسائل وأقربها مساساً وإن تك أشدها تعقدا هي اللغة. ولكن اللغة، بسبب طبيعتها المجردة وتأثيرها على الأخص في الفكر تأثيرا غير مباشر، وبسبب نشأتها الأولى ووظائفها في الشئون العملية، تورد الفنان الذي يمارس تنسيقها وصرفها الى الشعر مورداً معقداً عجيب التعقيد.
وما كان يكون في الدنيا شعراء لو أن الإنسان تمثل في وعيه المشكلات المطلوب حلها. (وما كان إنسان يستطيع تعلم المشي لو أستلزم المشي منه أن يتمثل ويستحضر في خاطره صوراً واضحة لجميع العناصر في أقل خطوة من خطاه)(25/55)
ولسنا هنا - بحمد الله - في مقام قرض الشعر، بل نحن إنما نعالج النظر في الأشعار كأنها شيء مستحيل صنعه، وذلك لكي نكبر جهود الشعراء إكبارا صافيا مبينا، ولكي ندرك مبلغ أقدامهم وكدهم وركوبهم الصعاب، ونتصور فضائلهم، ونعجب فلا نقضي العجب من قوة فطرتهم.
وسأحاول بوجه الإجمال أن أعطيكم فكرة عن هذه الصعاب:
ذكرت لكم منذ هنيهة أن اللغة آلة وأداة، أو بالأحرى هي مجموعة أدوات وعمليات صاغها العمل وسخرها لخدمته. فهي وسيلة جافية غليظة لا محالة، يستخدمها كل شخص، ويوقفها لحاجاته الراهنة، ويمسخها بحسب الظروف، ويطابق تفصيلها على كيانه الجسماني وتاريخه النفساني.
وأنتم تعرفون ما نسلطه على اللغة أحياناً من التجاريب والمحن. فان المدلولات ومعاني الكلمات وقواعد تأليفها ومخارجها وتقييدها هي ألد عيب لنا وآلات تعذيب معا. ولا مشاحة أننا نراعي بشيء من الاعتبار ما يقرره المجمع اللغوي، ولا مشاحة أن رجال التعليم ونسق الامتحانات وعلى الأخص غرور الناس يقيم بعض الحوائل دون تصرف كل فرد في اللغة على هواه. فضلا عن أن الطباعة في العصور الأخيرة كانت عاملا قويا للمحافظة على أوضاع الكتابة.
ومن ثم أبطأت الى حد ما تعديلات الإفراد، إلا أن أهم مزايا اللغة عند الشاعر هي كما لا يخفى خواصها أو طاقتها الموسيقية من ناحية، ومن الناحية الاخرى مدلولاتها المعنوية التي لا حصر لها (وهي القائمة على تكثير المعاني المشتقة من معنى واحد). واللغة من هاتين الناحتين أقل امتناعا على هوى الإفراد وابتكاراتهم وتصرفاتهم ونزعاتهم. وإن لهجة كل شخص وذخره الوجداني الخاص ليدخلان على تداول اللغة عنصر لبس، ومظان وهم، ومكامن بغتة، كلها لامناص منها ولا معدى عنها. وأرجو أن تلقوا بالكم جيدا الى هذين الأمرين: أولهما أن اللغة فيما عدا استعمالهافي أبسط لوازم العيش وأعمها ليست على الإطلاق أداة تحديد، بل هي على النقيض من ذلك، وثانيهما أنه فيما عدا بعض الاتفاقات التي لا تجيءإلا في النادر جدا وفيما عدا بعض تعابير ميمونة مفلحة اقترنت بقالب مفرغ محسوس، فليس في اللغة ما يجعلها وسيلة للشعر(25/56)
وجملة القول أن حظ الشاعر العاثر المتناقض قد فرض عليه أداة شائعة الاستعمال ممتهنة ليستخدمها في أغراض غير اعتيادية وغير عملية. فلا مندوحة له من استعارة هذه الوسائل وهي نكرات إغفال كأرقام التعداد، ليؤدي بها مطلبه من سمو بالنفس وتعبير عن أخص ما فيها وأزكاه.(25/57)
العلوم
هل للعلم قيود تفرضها الأخلاق؟
للدكتور هنسن أسقف درهام بإنجلترا
ترجمها بتصرف الدكتور أحمد زكي
(قيد الكاتب البحث العلمي في المقال السابق بقيود ثلاثة، أولها الواجب الذي تفرضه الأخلاق على دارسالعلم بحكم رجولته، وثانيها شروط تحتمها حقوق أولئك الذين تقع عليهم التجربة العلمية ذاتها، وثالثها أمور يفرضها نوع النتاج المقصود من التجربة)
القيد الاول
أما فيما يختص بالقيد الاول فلا حاجة بنا فيه الى الإفاضة الكثيرة. ان البحث العلمي يتطلب المزاج العلمي، وان يباشره الباحث بإخلاص للحقيقة، وولاء مطلق لها، وإغفال تام لصالح الباحث ونفعه الشخصي، واستسلام صريح للعمل المضني، واحتمال غير شاك للآلام في سبيل الطلب.
ورجل العلم لا يدعي حظا من العلم أكبر مما بين يديه، ولا يحاول أن يفيد من جهل الجمهور بعلمه ومن ثقة اعتاد أن يوليها العلماء ضرورة أو اختيارا، وهو لا يستخدم سلطان العلم فيما يحط ويزري، ويعمل كل هذا لأنه واجبه الواضح البين باعتباره إنسانا، ولأنه في علميته لا يستطيع أن يتنصل من إنسانيته، فمُثل الإنسان العالية هي مُثل العالِم العالية، والغايات النبيلة لهذا هي عينها غايات تلك، وموقف الاثنين جميعا من الواجب العام هو الذي حدّث عنه غلادستون حين قال: (أنا لا أبالي أن أسأل كم في الناس سَقَط، وكم فيهم من حُثالة هربت من الأخلاق فحاق بها ما حاق. . . وإ ' نما أنا اعتقد أن الواجب قوة حيّة، تصحو معنا في الصباح، وترقد معنا في الليل، وتصحب كل عمل يصدر في يقضتنا عن ذكائنا الإنساني. الواجب ظل يتبعنا إنما سرنا في مدارج الحياة، ولا يتركنا إلا عندما نغمض الجفن الى الأبد عن نور هذه الشمس)
إن إخضاع العلم للأخلاق بهذا المعنى مبدأ اعترفت به الدنيا قديما وآمنت عليه القرون. وضع أبقراط حلِفه المشهور وحدّد به مسلك الطبيب، واحترمته الأجيال على السواء،(25/58)
فاحترمه العرب المسلمون، واحترمه إليهود، واحترمه المسيحيون، ولا يزال الى يومنا هذا أول عمل يأتيه الطبيب قبل ممارسة طبه. وهو عهد لا يختص به علم الطب وحده، فكل شعبة من شعب العلم لا شك تقبل ما يتضمنه من هيمنة الخُلُق على جميع مناشط الإنسان.
القيد الثاني
الى هذا الحد ليس هناك خلاف، فليس من ينكر أن العلم لا يستطيع تحرير رجاله باعتبارهم أناسي من الشروط الأخلاقية التي تضبط سائر الرجال والتي بدونها تضيع ثقة الناس بالناس. ولكن عندما ننتقل من رجل العلم الى طريقته ندخل أرض الفتاوى والمحللات، وهي دائرة يكثر فيها الجدل ويطول الحجاج، وهنا قد يسرف العلم ويغلو كما أسرف الدين من قبله وغلا. فالعلم الحديث يشغل من الدنيا الحديثة مكانا أشبه بالمكان الذي كان يشغله الدين في العصور الوسطى من الدنيا القديمة، ففي تلك العصور كان التفكير الإنساني ينبت في أرض طينتها دينية، وهي اليوم طينة علمية. كان هوى الناس في الدين وكان تقديسهم لقساوسته، فصار اليوم هو أهم للعلم وتقديسهم لأساتذته. ومن طلب الدليل على ذلك وجده في الذوق العام، فعظات الأحبار لا تقرأ إلا قليلا، وكتب رجال العلم المبرزين تشترى بكثرة وتطلب بلهفة.
وهنا يتساءل المرء، وقد نزل الدين عن عرشه للعلم، أيخضع هذا المتوج الجديد للغواية كما خضع المتَّوج القديم، وهل يستدرج استدراجه ليؤول الى مثل مآله. ليس في التاريخ ما هو آلم من تاريخ (الافتاء) في النصرانية، ولا أزرى منه ولا أكثر تحييرا وإرباكا، وهو مع ذلك موضوع للمتأمل خصيب. انه مليء بمناقضات من الجسامة بحيث لا يتصورها العقل. أنحى القديس بول على الفتوى التي تقول (دعونا نفعل الشر ليكون منه الخير) ومع هذا لم يؤثر هذا الأنحاء شيئا في أفعال القسيسين ولا في نظريات الأخلاقيين، وكان كل سؤالهم (في أي الظروف والى أي حد يجوز لنا فعل الشر ليحصل منه الخير؟)
هل يكون من العلماء يسوعيون كما كان من أهل الدين يسوعيون؟ وهل يكون لهؤلاء ناقد ساخر في القرن العشرين كما كان لأولئك في شخص بلايز باسكال في القرن السابع عشر؟ كان من مبادئهم أن لا عهد لهرطيق، ولا ذمام لزنديق، وان الكذب والتزييف مباحان في سبيل حماية العقيدة وانتشارها، وان التعذيب والقتل مشروعان في صالح الكنيسة، هذه(25/59)
ومبادئ أخرى قبلها رجال مسيحيون استحلوا بها أشنع الجرائم التي سجلها مداد واحتواها قرطاس.
فهل يتطور العلم في هذه الناحية مثل تطور الدين؟ هل يسيطر الاعتبار الخلقي على الطريقة العلمية، أم هل يتغلب صالح العلم المزعوم على هذه الاعتبارات جميعا؟ هذا هو المحور الذي يدور عليه كثير من النقاش الذي يمس التجارب العلمية الحديثة، ومنها تشريح الحيوان الحي الذي كثر اللغط فيه وتطاول الحجاج في السنوات الأخيرة. قال قوم انه عمل حلال أمَنّ عليه القانون واطمأن فيه الى أن العلماء إنما يأتونه خدمة للمعرفة، وقال آخرون انه عمل محرم، تحرمه الإنسانية لأنه يتضمن ألماً لحي، وقال غير هؤلاء: إن تحليله وتحريمه منوطان بمقدار الألم الذي يعانيه الحيوان. والحق أن المسألة لها طرفان أولهما يتعلق بالغرض الذي من أجله يجري التشريح. وثانيهما يتعلق بالحي الذي يشرَّح. أما الغرض فيجب أن يكون من الكفاية بحيث يتزن مع التضحية ويستأهل الآلام. جميل أن نصيح (أن العلم للعلم)، ولكن هل نقبل هذه الجملة على إطلاقها أم لابد من الحذر الشديد عند تطبيقها؟ أي المعارف يجب أن نقصد إليه، وهل كل معرفة جديرة بالعرفان؟ يفرّق الأستاذ (وايتهد) بين الطلب يطلبه المرء في سبيل العلم، والطلب يطلبه حلاً لقضية رخيصة أخطرها بالبال الخيال السائب اللاهي. أما فيما يتعلق بالحي الذي يشرح، بالحيوان الأعجم الذي ينطق، فأمره يتوقف على النظرة التي ينظرها به الإنسان، وهنا نجد العلم الحديث نفسه سلَّح أعداءه في هذا الصدد بسلاح قاطع ماض، فان البيلجة الدرونية أزالت الحاجز الذي وضعته الفلسفة بين الإنسان والحيوان، واعتبرت الحياة العضوية ظاهرة فردة واحدة مهما اختلفت أوضاعها وتعددت مظاهرها، وبهذا استوى الإنسان بالحيوان أو قارب، وبهذا جاز على الإنسان ما يجوز على الحيوان، والإنسان يأبى تشريح الإنسان حيا، فلا بد أن يأبى تشريح الحيوان حيا. أم هو يجيز التشريح على إطلاقه ثم يتنصل منه باعتبار ان الإنسان له (شخصية) تكسبه حقوقا لا تكون لغيره من الحيوانات لانعدام (الشخصية) فيها.
أن الغرض مهما طاب ومهما خطر لا يبرر التجربة التي تخل بمسلك الإنسان الخلقي.
حكوا فيما يحكى عن الإمبراطورفردريك الثاني انه دعا رجلين الى الغداء وأطعمهما حتى امتلأ، وبعث بأحدهما لينام، وبعث بالآخر ليصيد، وفي المساء أمر فشق بطناهما ليعلم أيهما(25/60)
أسرع هضما، الذي نام فاستراح، أم الذي ظل نهاره يجري وراء الصيد؟ وقضى أطباؤه بالفوز للذي نام. لا يقول أحد أن رغبة فريدريك في المعرفة لم تكن مشروعة، ولا أن اتجاهه الى تحقيقها بالتجربة العلمية لم تكن محمودة، ولكن الذي يدم ان التجربة لم تخضع لشروط المسلك الخلقي العام.
القيد الثالث
قرأت حديثا مقالا افتتاحيا في (مجلة تحسين النسل) تناول فيها محررها موضوع الدعوى الحديثة في استكشاف طريقة علمية جديدة يتعين بها النسل قبل ولادته. فبعد أن تشكك الكاتب في المكتشف قال:. . ومهما يكن من الأمر فلا بد ان نتهيأ لأن نسمع يوما ما بأن قد انكشفت طريقة صحيحة مؤكدة للتنبؤ بالنسل أو التحكم فيه. فان وقع هذا، وهو لابد واقع وإن تأخر يومه، فقد وقعت اكبر ثورة في تاريخ البشر، فعندئذ يتجه الناس لا محالة في الانسال اتجاهاً يخل التوازن بين الذكر والأنثى اختلالا لن نختلف في نوعه وان اختلفنا في مقداره، فيصبح عدد الذكور عشرة أضعاف الاناث أو خمسة عشر أو عشرين ضعفا، وعندئذ كيف تكون الحال، لا أجسر أن أقول، ولا يجسر ذو الخيال الرائع ان يقول، وحسبنا أن نقدر أن أول ما يذهب من مُثُل الإنسان عفة المرأة وحرمة الزوجية، فهل من الحكومات حكومة تنظر الى الغد فتعد لهذا الانقلاب عدته؟ لعل أقرب من ذلك أن نرجو أن يتفق البيلجيون فيما بينهم، أن يتفقوا من الآن، على أن يحفظوا هذا السر عن الناس إذا هي تمخضت عنه الأبحاث، لأنه حدث سيكون أوخم عاقبة على المجتمع مما عرف من الأحداث. بالطبع ما من سر إلا افتضح على الأيام، ولكن سيكون قد انقضت مهلة قبل افتضاحه قد تمكِّن أولي الأمر وذوي السلطان من رفع الحواجز وإقامة السدود في وجه هذا السيل الداهم
فلنفترض ان ما يقوله المحرر حق، وان العلماء باتوا على مقربة من كشف هذا السر، وأن هذا السر إذا انكشف للناس فعلوا كالذي خاله الكاتب، فما يكون موقف العالم البيلجي عندئذ وما واجبه؟ أينصرف عن أبحاثه خشية ما تجره نتائجها؟ أيقف في السبيل وقد قارب النهاية احتفاظا بالعفاف الجنسي، ام يقول ان المنشط العلمي من حقه أن يتحلل مما قد لا تستطيع أن تتحلل منه مناشط الحياة الاخرى، وأنه رجل علم فهو بمعصم من المبدأ القائل(25/61)
بأن الرجال مسؤولون عن أعمالهم وما يصدر عنها من شر تأكدَ أو ترجّح.
أن التقدم الحديث في العلم يتجه اتجاهات لم تكن قديما في الحسبان. حتى أن أكثر المفكرين تفاؤلا، وأسرعهم إجابة إذا دعا العلم، بدءوا يتشككون في تفاؤلهم الكثير، ويرتابون في فرضهم القديم، أن زيادة المعرفة لن يكون منها غير خدمة الإنسانية، والسيطرة على الطبيعة لن يكون منها غير خير المجتمع. قال السير الفريد ايونج
(ائذنوا لي كدارس قديم للميكانيكا التطبيقية أن أعبر عن بعض خيبة أحس بها الآن، وأنا في اعتزالي منتحيا مع النظارة جانبا من الطريق أتفرج على موكب العلم يسير في عظم وفخامة، وأتسلى مع المتسلين بركائب المخترعات تتعاقب في أبهة وضخامة. الى أين يسير هذا الركب الكبير؟ وما أثره الأخير في مستقبل الأسرة الإنسانية؟. . لاشك أنه يحمل للإنسان هدايا تجعل حياته أملأ وأوسع وأصح وأغنى وأهنأ، تلك الهناءة التي تجلبها المادة الجامدة. ولكن كثيرا مما أهداه المهندس الباحث أسيء استخدامه ويساء وبعضه يحمل في أحشائه مآسي لم تنمخض عنها الأيام بعد. إن الإنسان لم يتهيأ بعد أخلاقيا ليتقبل تلك المنح الكبرى)
وجملة الأمر أن العلم وبال على الإنسانية إذا هو أطلق من القيود التي تضبط مسلك الإنسان بقصد إسعاده فردا ومجتمعا.(25/62)
العالم النسائي
نظرة في الحركة النسائية
للآنسة أسماء فهمي. درجة شرف في الآداب
بدأت النهضة النسائية في أوائل هذا القرن، إلا أنها لم تصبح (حركة) إلا عند نشوب الثورة المصرية سنة 1919 إذ نشطت المرأة نشاطاً كبيرا وسرت إليها روح الحماس الفياض فلبت نداء الوطن، وساهمت بنصيب وافر في الحركة السياسية، فاشتركت في المظاهرات معرضة حياتها لما كان يتعرض له الرجل من مخاطر، والفت اللجان لبث الدعوة الوطنية وتنظيم حركة المقاطعة، وظهرت في الاجتماعات الهامة. ولكم كانت لها مواقف مشهودة في تلك النهضة المباركة!
ولما هبطت درجة الحماس القومي بسبب الانشقاق بين صفوف العاملين أخذت الحركة النسائية تتجه اتجاها جديدا فاهتمت العاملات بتحسين مركز المرأة الاجتماعي، وعلى ذلك تألف الاتحاد النسائي سنة 1923 تحت زعامة السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي، ووجه عناية كبيرة إلى المشاكل الاجتماعية التي تمس المرأة كمسألة الطلاق وتعدد الزوجات وعدم تحديد سن الزواج للفتيات، ونجح في حمل البرلمان على الاهتمام بتلك المسائل. كذلك ظهر في ذاك الوقت من بين النساء من تطالب باشراك المرأة في التمثيل النيابي.
على أن تلك البداية الحسنة سرعان ما تعرضت للضعف بدورها وانكمشت في دائرة محدودة لا تتناسب مع مطامع المرأة بدل أن تنمو وتتسع ويصبح لها فروع تهتم بمعالجة نواحي النقص كلها، فلم نعد نسمع تلك الأصوات الجريئة الفتية التي تدافع عن قضية المرأة، كما أفلس معظم الجمعيات النسائية التي كان ازدهارها قصير المدى، وهكذا خلا الميدان مرة أخرى ولم يبق إلا عدد قليل من المجاهدات يثابرنشأن الأبطال متجاهلات المتاعب والنقد.
ولكن ذلك السكون في ميدان النهضة لم يكن إلا كسكون الطبيعة في الشتاء الذي فيه تتجدد القوى برغم التجرد والعراء، فقد دخلت الحركة النسائية على الرغم ذلك السكون الظاهر في طور خطير هو طور الانتقال الهام الذي فيه اتسع نطاق تعليم المرأة فانتشرت مدارس البنات ووحدت مناهج تعليم الذكور والإناث بعد بصلاحها وتوسيعها، فأصبحت الفتاة التي(25/63)
كان تعليمها قاصرا على مبادئ القراءة والكتابة وقشور اللغات وبعض الفنون المنزلية تتعلم كما يتعلم الفتى، بل وتفوقه في الإقبال على العلم واستساغته.
وفي سنة 1928 سمح للبنات الحاصلات على شهادة إتمام الدراسة الثانوية بدخول الجامعة المصرية. بينما كثرت إرساليات البنات في تلك الفترة إلى الخارج للتخصص في مختلف العلوم والفنون.
وما زالت حركة تعليم البنات سائرة بنشاط رغم سوء الحالة الاقتصادية وما يوضع في طريقها من عقبات، وهذا لاشك أعظم انتصار اكتسبته المرأة، وأقوى سلاح في يدها، ولم يبق إلا أن تستغله إلى أبعد مدى ممكن.
والآن وقد تكاثر عدد المتعلمات وظهر من بينهن من يمتزن برغبتهن الحارة في الاصلاح، فستنتعش ولاشك الحركة النسائية. وان احتفاء زعيمة الاتحاد النسائي بأولى خريجات الجامعة المصرية والجامعات الأخرى في 16 ديسمبر سنة 1933 لمبشر بقرب الوصول إلى هذه الغاية، إذ لا يفيد الحركة النسائية أكثر من جمع تلك العناصر النشطة مبدئيا تحت سقف واحد وأحداث التعارف بينهن وتشجيعهن وتذكيرهن بحقوقهن وواجباتهن نحو المجتمع، وبنات جنسهن، وبالجملة أصبح لدى الحركة النسائية أهم العناصر الأساسية اللازمة للنجاح، وهي الشعور بالنقص، والرغبة في الإصلاح، وعدد لا بأس به من السيدات الناهضات، كما أن لديها أيضا مؤازرة عدد كبير من أفاضل الرجال.
على أن مجرد وجود تلك العناصر لايكفي لاحداث الأثر المطلوب بل لابد من اتحاد تلك العناصر واستغلال جهود الناهضات بان تصبح لهن جماعات منظمة، فالحركات القوية الناضجة ذات الأثر الخالد والمشروعات العظيمة قامت بواسطة الجماعات والتعاون، لا بمجهود الأفراد. والحركة النسائية في حالتها الراهنة الخاملة أحوج ما تكون إلى مثل تلك الجماعات المنظمة التي تدرس وجوه النقص في مركز المرأة وتبسط فيها الآمال والآراء، وتكون نواة لظهور الخطيبات والباحثات اللاتي يوجهن أذهان الناشئات إلي مكانتهن الهامة في الحياة، والى أهمية عهد الانتقال الذي يجتزنه، وإلا أصبح تطور المرأة تطورا غير واع شبيه بتطور النبات والحيوان: يسير بمحرك التقليد لا بناء عن التفكير والانتخاب والتفضيل. والواقع أصبح يخشى طغيان عامل التقليد على الحركة النسائية بسبب قلة(25/64)
المرشدات والباحثات فكثير من النساء اللاتي سفرن مثلا واختلطن بالرجال فعلن ذلك تحت تأثير (الموضة) وتقليد الغربيات لا بمقتضى مبادئ ثابتة ولا بناء عن تدبر وتفكير. والنهضة إن لم تبن على مبادئ متينة ويكن لها مثل أعلى يوجهها في اتجاه خاص فلا أمل في بقائها، لأنها عرضة للتقلبات والأهواء كسحابة الصيف.
ثم أنه لا يمكن لغير تلك الجماعات المنظمة القوية القيام بأعباء قضية المرأة والدفاع عن حقوقها أمام التقاليد الجائرة، فالمرأة في مصر ما زالت محرومة من حقوقها السياسية، تلك الحقوق التي تمتعت بها المرأة المصرية في أقدم العصور، وتستمتع بها المرأة في كثير من الأمم الراقية لخير المجتمع. ثم هناك التشريع الذي لم يتطور مع روح العصر، والذي يعطي الرجل امتيازات يستعملها بمثابة سلاح يشهره في وجه المرأة كلما هزته شهواته ونزعاته، وهناك أيضا القيود التي تغل تقدمها العلمي، فلم تفتح أمامها بعد جميع أنواع التعليم والدراسات. هذا الحق الذي سلم به شيخ الفلاسفة سقراط الذي تعد تعاليمه لب النهى والحكمة. والذي نأخذ عنه وعن تلاميذه كثيرا من مبادئ السياسة والاجتماع والأخلاق.
كل هذه الأشياء التي تعدها المرأة حقا طبيعيا لها والتي لم تحصل عليها بعد، تبين بجلاء مبلغ خطورة القضية ومبلغ الحاجة إلى توحيد الصفوف وإنهاض جميع الهمم، فالمرأة في الواقع لم تقطع إلا جزءا يسيرا من مرحلة شاقة طويلة، فالأمل معلق على تكوين تلك الجماعات القوية التي بيدها مستقبل المرأة.(25/65)
أم عربية
للآنسة سهير القلماوي. ليسانسييه في الآداب
مكة أرض الله المقدسة في حصار الكعبة بيت الله الحرام يروح فيها الجند ويجيئون. ألوية هنا ورماح هناك، أسلحة وآلات وجنود داخل المدينة، قائدهم رجل في السبعين هو عبد الله بن الزبير خليفة الحجاز. وجنود حول المدينة كفاهم قوة انهم جند الشام، وكفاهم رهبة أن قائدهم شاب في الثلاثين هو الحجاج بن يوسف الثقفي. جو مكة كله هلع والتياع وكأنما كل شيء يوحي إلى أهلها إن استسلموا فالحرب ضروس والموت على الأبواب.
ماجت مكة بكثرة الوافدين عليها ليؤدوا فريضة الحج. ولكن جند الشام لم يترك مكانه، وجند مكة لم يبرح محاصرا لا يستطيع خروجا. لم يستطع الحجاج ولا جنده الطواف بالبيت بل ظلوا محرمين مكانهم لابسين الدروع فوق الإحرام ولم يستطع ابن الزبير الخروج إلى عرفة فنحر هديه في مكة. جاء جند الشام فافسد على الحجاز كل شيء، سلي الأمن أهلها، وشوه شعائر الدين المقامة بها، وبشرها بأفول مجدها السياسي بتحول مركز الخلافة عنها. الشام الفتية جاءت لتضطر الحجاز الهرمة إلى أن تقنع بما يقنع به الهرم من الحياة.
هدأت الحركة في مكة بعض الشيء منذ رجع الحاجون إلى أوطانهم. ولكن نفوس أهلها في حركة وأي حركة، هلع وخوف وقلق. لقد طال بها الحصار وضاقت نفوس أهلها فلا يستطيعون احتمال المزيد، طال الحصار واشتد الضيق، وصعب الامتحان وكلما صعب الامتحان قل عدد الناجحين: كل يوم يسير فوج إلى القائد الشاب طالبا الأمان. التفت الزبير فإذا هو قليل الأعوان قليل العدة، شيخ تربطه بالحياة خيوط واهية. ما مصيره؟ الموت. وما مصير آماله وهي آمال قطر وآلام شعب؟ ألم يكد يتم له الأمر لولا ظهور مروان في الميدان؟ ألم يكن العراق خاضعا له بآلام بعد أن قتل مصعب المختار؟ ولكن مصعبا قتل، وبقتله أفلتت العراق من يد الزبيريين، وغدا سيقتل هو ويفلت الحجاز من يد الزبيريين بعد أن لم يبق بها إلا هو.
(أما والله إنا لا نموت حتف انفنا كميتة آل أبي العاص، وانما نموت فعصا بالرماح وقتلا تحت ظلال السيوف)(25/66)
هكذا خطب الناس بالأمس لما نعى إليه أخوه مصعب. هو لا يخاف الموت، وإنما آمال لا يمثلها إلا هو، آمال كاد أن يصل إليها وما زال يأمل في الوصل إليها، آمال شيعة له في جميع الأقطار العربية، من يقوم بها من بعده؟
خمسون ليلة وأهل مكة يعانون من الحصار كل ضيق. لابد من انفجار، لابد من حدث حاسم، فلقد كادت أن تزهق الأرواح. جند الشام لا يضيرهم استمرار الحصار، ولكن أهل مكة، أهله وشيعته ورعيته يعانون من الأهوال. صمم ابن الزبير على القتال، أبناء حمزة وحبيب لا يزالون معه، فتيان من خيرة الفتيان أحدهما يقود فريق، والآخر يقود الفريق الآخر. وخرج ابن الزبير من بيته في الليلة الخمسين ليلقي على ابنيه تعاليم معركة الغد.
(حمزة!. . حمزة!. . حبيب!. . حبيب!. .)
ولكن أحدا لم يجب. وبدأت الحقيقة تتكشف لناظره الحزين قليلا قليلا، فإذا هي أبشع مما كان يقدر. حمزة وحبيب ابناه تركاه في هذا الضيق! والى أين؟ إلى عدوه، إلى من حاصره، وأذاقه هو وأعوانه كل كرب وضيق. وتلاشت صورة القلة من أل أعوان أمام هذه الخيبة. أي ألم؟ أي يأس؟ أي حسرة؟ لم يعد شيء يرجى.
بينما اليأس يحرق قلب الشيخ حرقا إذا بعروة الزبير يناديه. ماذا يريد منه عروة؟ عروة يناصر عبد الملك وهو في أمان من هذا الحصار وهذا الجند. ماذا يبغي عروة منه في ساعة اليأس هذه. عروة رسول أمل جديد جاء ليعرض عليه الأمان بشروط مرضية. هم يعطونه كل ماله: املاكه، سلامته، حريته التامة، كل شيء إلا الخلافة. وفي ساعة اليأس يرى اليائس بصيص النور ضياء ساطعا وهاجا، ولكن السن أملت عليه التدبر فليترو قليلا وليستشر. ولكن من يستشر؟
في ركن من أركان بيت عبد الله بن الزبير قبعت عجوز في المائة من سنها عجوز لها من تجارب الحياة ذخر ثمين، ولها من الصحة ورجاحة العقل رغم هرمها ما شهرت به، ولكن لها فوق هذا كله منزلة في نفس عبد الله لم يبلغها أحد. هي أمه هي أسماء بنت أبي بكر الصديق. فليستشرها هي.
واقترب الابن من أمه الوالهة التي جثم الحزن على قلبها طويلا. لقد فجعت حديثا في ابنها مصعب بعد أن ملأ ذكره الآفاق، بعد أن استولى على قطر من أهم الأقطار العربية وهو(25/67)
العراق، بعد أن قاتل فقتل في ميدان الجهاد كريما شريفا شهما شهيدا. ولكن حزنها لم يشفع لها لدى الدهر فما زال الدهر يلوح لها بين حين وآخر، يسلب ابنها عبد الله أعز أولادها وأطيرهم ذكرا وأكثرهم جهادا. دنا ابنها منها وسألها:
- كيف تجدينك يا أماه؟
- إني لشاكية
فقال لها وكأنه يحدث نفسه اليائسة:
- إن في الموت راحة. فأجابته:
- لعلك تمنيه لي وما احب أن أموت حتى يأتي على أحد طرفيك، إما قتلت فاحتسبك، وإما ظفرت فقرت عيني بك.
صدمه جواب أمه، وكأنما كان جواباً عما أتى يستشيرها فيه، كيف يسألها؟ ولكنها لا تعرف عما عرضوه عليه شيئا، وفي صوت متهدج قال لها:
- أماه لقد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ولم يبق معي إلا اليسير، ومن ليس عنده أكثر من صبر ساعة. والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا. . فما رأيك؟ وجاشت في صدر الأم عواطف ونوازع شتى كلها تتزاحم فلا يتاح لأحدها فرصة التغلب أو الظهور - حنان، شفقة، خوف، شجاعة، حب لولدها، حب لوطنها، حب لربها وللحق ولرسول الحق ولتعاليم الحق. ظلت كل هذه تتصارع في صدر العجوز صراعا عنيفا، وظلت الأم تعاني آلام هذا الصراع حينا وآلام الهزيمة لكل عاطفة تهزم منها، كل عاطفة جزء منها فصراعها يؤلمها وهزيمتها تكاد تقتلها.
ولكن حميتها العربية انتصرت أخيرا وتغلبت من كل هذه العواطف: العواطف الخلقية بأسماء بنت أبي بكر الصديق.
وفي صوت ملؤه اليقين قالت لولدها:
- أنت اعلم بنفسك، إن كنت تعلم انك على حق وإليه تدعو فامض له، فقد قتل عليه أصحابك ولأتمكن من رقبتك غلمان بني أمية، وان كنت إنما ردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قتل معك. . كم خلدوك في الدنيا؟ القتل أحسن.
القتل أحسن ولكن ماذا بعد القتل؟ لن يتورع الجبار من ارتكاب شيء، لن يردعه دين ولن(25/68)
يردعه خلق، فقال وكأنما الحقيقة تمثلت له قبل وقوعها.
- أماه! إني أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي
ورفعت ستر المستقبل المغيب عن عين الأم فرأت ابنها مصلوبا، وتمثل لها ما سيلاقيه المصلوب من احتقار وتشهير وضحك واستهزاء، ولكن الحق. الحق وروح من سفكت دماؤهم في سبيله أملت عليها الجواب
- الشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ. فامض على بصيرتك واستعن بالله.
سرت روح الأم إلى ابنها فقشعت من صدره كل يأس وكل خوف، وظلت كلماتها تتردد في نفسه كوجيب قلبه، القتل أحسن، القتل أحسن، حلت الشجاعة محل اليأس، وحل جلال الحق محل الخوف من الموت والمثلة. لم يعد يألم لشيء إلا لتلك الثكلى التي ستفقده بعد فقد أخيه بالأمس.
- أماه إني مقتول يومي هذا فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر لله، إن ابنك لم يتعهد إيثار كفر ولا عمل بفاحشة، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في امان، ولم يتعهد ظلم مسلم أو معاهد، ولم يبلغني ظلم من عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شيء عندي آثر من رضى ربي.
ثم رفع رأسه إلى السماء قائلا:
- اللهم لا أقول هذا تزكية لنفسي ولكن أقول تعزية لأمي حتى تسلو عني
خيم الصمت على الأم وولدها وقد أحست أنها ستراه لآخر مرة كما أحس هو بذلك. وترقرق الدمع حارا ملتهبا في عين العجوز. الدمع الذي ظل محتبسا من أهوال الأيام الأخيرة انفجر في الموقف الذي يجل عن كل دمع.
بدأ ابنها يحس شيئا من الإحجام بعد أن صمم على القتال والاستشهاد، وخاف أن يستولي عليه هذا الشعور إن لم يسرع بتنفيذ ما صمم عليه. وكأن الأم ما زالت بروحها تدفعه إلى الاستشهاد كما حضته بقولها منذ قليل فأسرع نحو الباب بعد أن قبلها قائلا
- (أماه لا تدعي الدعاء لي)
- (لا ادعه لك أبدا) وكأنها تريد أن تذكره فقالت
- (فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق)(25/69)
خرج ابن الزبير من عند أمه فإذا الفجر لاح والمؤذن يدعو إلى الصلاة فليذهب إلى المسجد إذن، عسى أن يبعث الله إلى القلب طمأنينة يجتاز بها قلاقل اليوم
صلى ابن الزبير صلاة حارة أرسل بها إلى ربه ما وسعه من الشكوى، وما استطاع من الرجاء، وأحس بان روحا من العالم الأعلى حلت في نفسه من جديد، فلم يعد شيخا ضعيفا بل أصبح شابا مندفعا في ميدان الاستشهاد.
ظل ابن الزبير بعد الصلاة في المسجد طويلا ترن كلمات أمه في أذنه حينا، ويصلي إلى ربه حينا آخر فيقول:
يا رب إن جنود الشام قد كثروا ... وهتكوا من حجاب البيت أستارا
يا رب إني ضعيف الركن مضطهد ... فابعث إلي جنودا منك أنصارا
لم يطل الزمن بابن الزبير حتى هاجمه جند الشام من كل فوج. لاذ بأستار الكعبة ملاذه وملاذ غيره من قبل، ولكن الحجاج لا يردعه عن غايته رادع مهما عظم، فرمى الكعبة بالمجانيق وحميت المعركة الفاصلة لا بين المؤمنين والمشركين وإنما بين المؤمنين يمثل كل فريق منهم رأياً جديداً وسياسة جديدة. كانت معركة بين سياسة الشام الفتية، وسياسة الحجاز الهرمة، بين الخلافة كما كانت، وبين الخلافة كما تكون، بين النظم السياسية القديمة، وبين النظم السياسية الحديثة، هي معركة القديم والحديث يكررها التاريخ فلا يمل من تكرارها. معركة القديم والحديث، هل يفوز بها إلا الحديث.(25/70)
القصص
صديقها عشيقها
للكاتب الروائي الأستاذ محمد خورشيد
رواية مصرية عصرية في فصل واحد
- 2 -
المنظر الثالث: إحسان وحده
إحسان - (يقف ويسير على المسرح ذهابا وإيابا وهو يقول)؛ صدق فايد لم تحبني إحدى الفتيات الراقيات مع إني أجيد مغازلتهن. كما إني لم احب فتاة أبدا. . نعم لم احب حبا حقيقيا. . أريد أن احب فتاة راقية وان تبادلني الحب. نعم أريد ذلك. . . أريد أن أتذوق الحب مرة. . . مرة واحدة. . لأتذوق الاندماج والائتلاف والاتصال البديع و. . . نعم يجب أن أحب. . . لكن من؟. . . من التي سيقع عليها اختياري؟
(يفتح الخادم الباب الذي في الصدر ويقول لفتاة رشيقة تدخل منه إلى المسرح):
الخادم - تفضلي يا هانم، سيدي إليك سيحضر حالا.
(عندما يراها إحسان يقف ويلتفت إلى الجمهور ويقول): هاهي التي يجب أن احبها وتحبني. (ثم يسرع إليها)
المنظر الرابع
إحسان وسميرة
إحسان - أهلا. أهلا سميرة هانم. كنت مشتاقا إلى رؤيتك (ويقبل يدها)
سميرة - كيف حال إحسان بك؟ أين انت؟ لم انقطعت عن زيارتي؟ لم أرك منذ زمن طويل. ما السبب؟
إحسان - إني أتألم
سميرة - ممه؟
إحسان - من القسوة
سميرة - والحنان؟(25/71)
إحسان - قد زال
سميرة - من أين؟
إحسان - من قلبك
سميرة - قلبي أنا؟
إحسان - نعم قلبك
سميرة - قلبي يحمل لك اخلص صداقة
إحسان - الصداقة هي نصف الطلب
سميرة - آه، له نصف آخر؟
إحسان - طبعا وهو النصف المهم
سميرة - لكن الصداقة أهم والاهم يفضل المهم
إحسان - الصداقة أهم من الحب في أي شرع؟
سميرة - في شرع العقلاء
إحسان - وفي شرع المجانين؟
سميرة - يتساويان
(وتشير بإصبعين متلاصقين وتضحك)
إحسان - أبدا في كل شرع الفرق بين الحب والصداقة كالفرق بين الليل والنهار
سميرة - خصصت الليل بالحب والنهار بالصداقة، يالك من حاذق ماهر!
إحسان - ليس في قولي مكر أو حذق. صداقتك سوف تملأ نهاري ولكن ليلي سيبقى خالياً. وما أطول الليل الخالي من الحب!
سميرة - كفى مغازلة لا طائل تحتها يا إحسان بك. إني احب زوجي كما تعلم
إحسان - لكنك تحبينه منذ أربعة أعوام يا هانم. هذا كثير. . كثير
سميرة - أربعة أعوام كثيرة؟ والذين مضى على زواجهم عشرون عاما؟. . .
إحسان - على زواجهم لا حبهم. . . أما أنت فقد تزوجت منذ أربعة أعوام، وللآن لا تزالين تحبين زوجك. هذا شيء كثير يا هانم، غريب لا سابقة له. . الحياة الزوجية تصبح على مر الأيام فاترة مملة محتاجة إلى نجدة من الخارج تنعشها وتلهب حرارتها التي(25/72)
ضعفت
سميرة - لي صديقة تزوجت قبلي وللآن لم تضعف حرارة حبها لزوجها
إحسان - هذا لا يمكن. حرارة الشمس نفسها قد ضعفت عما كانت عليه
سميرة - من قال ذلك؟
إحسان - علم الفلك
سميرة - ضاحكة: دعنا منه انه كعلم الركة لا أول له ولا آخر (يدخل فايد من باب اليسار قائلا)
المنظر الرابع
فايد. إحسان. سميرة
فايد - مساء الخير يا هانم. أرجوك المعذرة. كنت أتمم عملا مستعجلا، والآن تجديني تحت أمرك
سميرة - مساء الخير فايد بك. أريد محادثتك على انفراد
إحسان - اسمح لي بالانصراف يا فايد إني على ميعاد
سميرة - إلى اللقاء يا صديقي
إحسان - سأحضر إليك غدا يا هانم، لنتمم حديثنا وسوف أقنعك (يقبل يدها)
سميرة - إني قانعة بحبي لزوجي. ولا أستطيع أن اصدق نظرياتك
إحسان - أنا طويل البال يا هانم. والأيام بيننا، إلى اللقاء يافايد (يصافحه)
فايد - متى أراك؟
إحسان - سأعود بعد ساعة (يخرج)
المنظر الخامس: فايد وسميرة فايد - تفضلي اجلسي يا هانم (تجلس ويجلس هو قريبا منها)
سميرة - إني آتية من عند حكمت. أتعلم أنها حزينة؟
فايد - وأنا لست بفرحان
سميرة - أنت تغضبها كثيرا ولا تشفق عليها
فايد - هي تغضب من لاشيء، دعيك من غضبها ماذا قالت لك؟
سميرة - تخاصمتما أول أمس فخرجت غاضبا ولم تعد إليها حتى الآن.(25/73)
فايد - نعم تخاصمنا ولكن هل تعلمين فيم كانت الخصومة؟
سميرة - فيمه؟
فايد - كانت في أني ذهبت إلى الجزيرة الصغيرة
سميرة - ولم ذلك؟
فايد - الجزيرة الصغيرة من الأمكنة المحرمة علي لأنه يحتمل أن أقابل فيها إحدى الغانيات الجميلات فتفتنني رؤيتها أو إحدى الهوانم المستهترات فأهيم بحبها
سميرة - ومن قابلت بالجزيرة الصغيرة؟
فايد - لم أقابل أحدا. إنما حدث بينما كنا أنا وإحسان في طريقنا بالسيارة إلى فدق مينا هاوس أن رجاني أن نعرج على صابر بك في ذهبيته ونأخذه معنا، وذهبية صابر راسية بالجزيرة الصغيرة فخشيت إن أنا صرحت لاحسان بان حكمت تأبى علي الذهاب إلى الجزيرة الصغيرة أن يهزأ بي ويجعلني مضغة في الأفواه، لأنه كما تعلمين مستهزئ متهكم. لذلك اضطررت رغما عني أن أجيب رجاءه وأذهب معه. ولكن إحدى صديقات حكمت كانت لسوء الحظ تتنزه هناك في تلك اللحظة فرأتني وأخبرتها. هذه كل جنايتي التي تخاصمنا من أجلها. عندما ذهبت إليها أول أمس أمطرتني وابلا من الأسئلة فأخبرتها بالحقيقة كما ذكرتها لك، لكنها لم تصدقها وصممت على رأيها أني إنما كنت على موعد مع فتاة لي بها علاقة، وطلبت مني أن أذكر اسمها، فأقسمت أن لا علاقة لي بغيرها وأني لا أحب سواها. أخذت ألاطفها وأهدئ روعها حتى خيل إلي إني أفلحت في إقناعها، لكنها ما لبثت أن عادت تلح على أن اذكر لها اسم الفتاة فعدت أقسم وأؤكد وهي مصرة لا تتحول حتى عيل صبري ولم أتمالك نفسي فتخاصمنا وخرجت غاضبا. هذه حال لا تطاق. تغضب من لاشيء. لا تصدق لي كلاما، ترتاب في كل أعمالي. تشك في جميع أقوالي.
سميرة - إنها تحبك وهي ككل امرأة تحب، مستبدة غيورة
فايد - لكن يا هانم للغيرة حدود
سميرة - آه لو رأيتني مع زوجي في مطعم أو في دار تمثيل أراقب حركاته في يقظة، وأتتبع نظراته باهتمام، حتى إذا ما أتى بحركة (أشتبه فيها) أو رمى ببصره جهة معينة يتحول في الحال نظري إليها، والويل له لو كانت هناك امرأة، أغمره بأسئلة لا تنتهي، لا(25/74)
أصدق له كلاما، وأستمر اسأل وأحقق وأقول وأعيد حتى أنغص عليه عيشه، لكنه برغم كل ذلك الرجل الوحيد الذي أحببته والذي لا أزال أحبه، أسبب له الحزن والكدر ثم أعود فأتودد إليه وأسترضيه حتى إذا ما عانقني ألجأ إلى صدره وأنا أسعد المخلوقات، كلنا هكذا عندما نحب صدقني.
فايد - (لا يجيب وإنما يطرق برأسه إلى الأرض)
سميرة - لا يجوز لعاشقين أن يفترقا من اجل نزاع غرامي
فايد - لا. يجب أن نفترق أو تغير طبعها
سميرة - وكيف تغير طبعها وهي تحبك؟ انك لا تطلب من سيارة ألا تسير، فكيف تطلب من امرأة ألا تغير؟ يجب أن تتساهل يا فايد بك؟. يجب على الرجل أن يتحمل فايد - تحملت كثيرة سميرة هانم سميرة - تحمل هذه المرة أيضا
فايد - هي التي أرسلتك أم حضرت من تلقاء نفسك؟
سميرة - هي التي أرسلتني ولكنها رجتني أن أخفي عنك ذلك، إنها تحبك وتتألم لبعدك. لا تكن قاسياً
فايد - لست بقاس يا هانم
سميرة - حكمت لا مثيل لها ذكاء وظرفا وطيبة ووفاء
فايد - إني واثق من ذلك
سميرة - إذن. . . اذهب الليلة إليها وصالحها
فايد - سأسافر الليلة إلى استامبول
سميرة - تسافر؟. . تسافر دون أن تقابلها وتودعها؟
فايد - يجب ألا أقابلها الآن. أريد أن أفكر على انفراد في حبنا. . في مستقبلنا
سميرة - لكنها ستحزن. . . أيرضى قلبك أن تسافر وتتركها هكذا حزينة؟
فايد - قلبي مطمئن عليها لأني سأتركها معك. أخبريها أني مازلت احبها وان غيبتي لن تطول
سميرة - لا يمكنني. لتعلم بسفرك من غيري. ولكن ماذا أقول لها؟ إنها في انتظاري
فايد - (يفكر قليلا ثم يقول) قولي انك لم تجديني(25/75)
سميرة - حسن. افضل أن اكذب عن أن ابلغها ما يحزنها، مع السلامة يا بك، عد إلينا سريعا (وتقف)
فايد - (ويقف ويقول) سلمت يا هانم، وشكرا على جميل سعيك (يقبل يدها)
سميرة - حكمت صديقتي من عهد الدراسة ولها مكانة خاصة (تقول وذلك وهي خارجة مع فايد)
المنظر السادس: فايد وحده
(يعود فايد ويجلس إلى المكتب ويرتب أوراقا في أدراجه وهو يقول) ستحزن كما قالت سميرة، ستحزن لأنها تحبني، إني واثق من حبها. . وأنا احبها. . آه لو لم تكن غيورة. . تباً للغيرة كم تعذب وكم تشقي!. . إنها الآن تتعذب. . وأنا. . امصيب أنا في سفري أم مخطئ؟
هل في استطاعتي البقاء شهرين بعيدا عنها محروما من رؤية وجهها النضر وعينيها الناعستين وفمها العذب؟. . . أخشى ألا أستطيع. . أشعر أني لا أستطيع. . لقد منعتني عزة نفسي عن العودة إليهما مغتنما فرصة إرسالها سميرة. . أصبحت ولابد لي من السفر. . نعم لابد. . ما باليد حيلة. (هنا تدخل حكمت؟)
المنظر السابع
فايد وحكمت
فايد (يقف ويسير إلى حكمت قائلا (أنت؟ أنت؟)
حكمت - نعم أنا، جئت لأنك رفضت المجيء عندي. جئت عندما علمت من سميرة بنبأ سفرك، ولم تمنعني عزة نفسي. أحقا ستسافر الليلة؟
فايد - نعم
حكمت - لو لم أجيء كنت سافرت دون أن تراني؟
فايد - كنت سأكتب إليك واشرح. . .
حكمت - (متهكمة) مادمنا قد تقابلنا تكلم. قل ما كنت ستكتب، أشرح كما تشاء، كن مطمئنا لا نزاع ولا خصام. ولو أن النزاع قد اصبح من مستلزماتي أني أصبحت أنغص عليك(25/76)
عيشك
فايد - لقد نقلوا إليك الكلام محرفا كالعادة. عزمت على السفر دون أن أحظى برؤيتك خوفاً من نفسي لا منك(25/77)
النفس والرقص
للكاتب الشاعر الفرنسي العظيم بول فاليري
ترجمة الدكتور طه حسين
استكشف صديقي الدكتور محمد عوض محمد في نقده القيم الظريف لكتابي على هامش السيرة أن وراء هذا الطلاء الرقيق الذي أظهره من الثقافة الغربية أزهريا قحا. فحق عليّ أن أهنئه بهذا الاستكشاف وأن اشكره له، فقد دلني على نفسي أظهرني على حقيقة أمري. ولعله يأذن لي في أن اهدي إليه هذه الترجمة اعترافاً بفضله ومكافأة له على جهده الخصب العظيم.
وأحب أن اقدم بين يدي هذه الترجمة ملاحظات لابد منها
الأولى: إنني حرصت اشد الحرص على أن تكون الترجمة دقيقة تشبه الحرفية، لأنقل إلى القراء صورة إن لم تكن مطابقة فهي مقاربة لما أراد الكاتب أن يقول
والكاتب نفسه غامض. فهذا النحو من الترجمة يزيده غموضا ولكني سأجتهد في توضيحه بتعليقات قصيرة تبين ما يريد.
الثانية: أن الكاتب زعيم من زعماء الرمزيين فهو يطلب الاستعارة والمجاز فالتشبيه والتمثيل، ويبعد فيها ويصل بهذا الأبعاد إلى إشراك القارئ معه في لذة التفكير والاستنباط، فلا ينبغي إذن أن يضيق القارئ بما سيرى من غرابة، وإنما يجب عليه أن يصبر على هذه الغرابة ويروض نفسه على مواجهتها حتى يألفها ويطمئن إليها فيصبح صديقا للكاتب ومحبا لآثاره.
الثالثة: إن هذا الكتاب حوار بين سقراط واثنين من تلاميذه في آخر وليمة من ولائم العشاء، فليلاحظ القارئ هذا وليلاحظ أن سقراط وأصحابه كانوا وثنيين، فهم يتحدثون لغة الوثنيين، يذكرون آلهة عدة، لا إلهاً واحداً.
الرابعة: أن عنوان هذا الكتاب وموضوعه قد يؤذيان سمع المتحرجين من الشرقيين، ولكنهما لا يؤذيان سمع الفرنسيين، ومن المحقق أن بول فاليري لم يكتب كتابه لنا، ولو أنه فكر فينا وقدر أنا قد نترجم كتابه لكان من الممكن أن يتخذ لكتابه موضوعا وعنوانا غير الرقص. ومن يدري لعله كان يحس أن الأسباب بينه وبيننا مقطوعة غير موصولة، وانه(25/78)
قد يعجز عن أن يكتب لنا، وقد نعجز نحن عن أن نقرأه.
وليس هذا الكتاب ما يسوء، وليس فيه ما يغضب المتحرجين، إنما هو أثر من الآثار الفنية أراد صاحبه أن يصور في وضوح وقوة ما بين النفس والجمال الخارجي من صلة. فهو إلى أن يكون رسالة في علم الجمال أدنى منه إلى أي شيء آخر.
والآن نستطيع أن نأخذ في الترجمة.
أركسيماك - أي سقراط إني أموت!. . اعطني شيئا من الروح! صب لي الفكرة!. . قدم إلى انفي ألغازك الحادة! هذا الطعام الذي لا رحمةفيه يتجاوز كل رغبة معقولة في الطعام، وكل ظمأ جدير بالثقة!. . يالها من حال، حال الذين يعيشون بعد جيد الألوان ويرثون عنها هضما!. . لم تعد نفسي إلا حلما تصنعه المادة التي تجاهد نفسها! أيتها الألوان الجيدة المسرفة في الجودة إني آمرك أن تمضي!. .
وأحزناه! مازلنا منذ وجبت الشمس فريسة لخير ما يوجد في الأرض، هذا الخير الهائل يضاعفه امتداد الزمان، يثقل محضره على النفوس حتى أني لتهلكني رغبة شاذة في أشياء جافة، خالصة للعقل. . . إيزن أن أجيء فأجلس إلى جانبك أنت والى جانب فيدر، موليا ظهري في جرأة لهذه اللحوم التي تتجدد دائما، ولهذه الأقداح التي لا تنضب، دعني أمدد لكلماتك، هذه الكأس العليا كأس عقلي، ماذا كنتما تقولان؟
فيدر - لم نكن نقول شيئا بعد. إنما ننظر إلى أمثالنا يأكلون ويشربون.
اركسيماك - ولكن سقراط لا ينقطع عن التفكير في شيء ما. . . . وهل استطاع قط أن يخلو إلى نفسه وأن يظل صامتا إلى أعماق النفس! لقد كان يبسم في حنان لشيطانه على الحافة المظلمة لهذه المأدبة. بم تغمغم شفتاك أي سقراط العزيز؟
سقراط - هما تقولان لي في هدوء أن الرجل الذي يأكل هو أعدل الناس. . .
اركسيماك - هذا هو اللغز وهذه هي شهوة العقل التي خلق اللغز ليثيرها.
سقراط - تقولان أن الرجل الذي يأكل يغزى ما فيه من خير وشر. كل لقمة يجدها تذوب وتتفرق في جسمه تقدم قوة جديدة إلى فضائله، كما تقدم قوة جديدة إلى رذائله دون تمييز وتنقسم في بعض الأنحاء بين الشهوة والعقل، وهي تقيم أود آلامه كما تنمي آماله. يحتاج إليها الحب كما يحتاج إليها البغض. وان فرحي وحزني وذاكرتي وهمي لتقتسم كما الاخوة(25/79)
ما في اللقمة من غذاء. ما رأيك في هذا يا أبن اكومين؟
اركسيماك - رأيي إني أرى ما ترى
سقراط - يالك من طبيب! لقد كنت أعجب في صمت بأعمال كل هذه الأجسام التي تتغذى. كل واحد منها يعطي على غير علم لما فيه من قدرة على الحياة، أو جرثومة للموت، حظه العادل من الغذاء. هي لا تعرف ما تأتي ولكنها تأتيه كأنها الآلهة.
اركسيماك - لقد لاحظت منذ زمن بعيد أن كل ما يمتزج بجسم الإنسان يمضي بعد ذلك بوقت قريب كما يريد القضاء. كأن برزخ الحلق عتبة للضرورات الجامحة والألغاز المنظمة. هنا تنقطع الإرادة وينتهي الميدان المحقق للمعرفة. ولهذا أعرضت في ممارسة فني عن كل هذه الأدوية المضطربة التي يفرضها عامة الأطباء على مرضاهم المختلفين وأخذت نفسي في غير تسامح بأدوية بديهية مرتبة كل واحد منها بازاء الآخر
فيدر - ما هذه الأدوية؟
اركسيماك - هي ثمانية؛ الحار والبارد، الحمية ونقيضها، الهواء والماء والسكون والحركة؛ هذه هي.
سقراط - أما النفس فليس لها إلا دواءان يا اركسيماك
فيدر - وما هما؟
سقراط - الصدق والكذب.
فيدر - وكيف ذلك؟
سقراط - أليست الصلة بينهما كالصلة بين اليقظة والنوم؟ الست تلتمس اليقظة وصراحة الضوء حين يؤذيك حلم رديء؟ أليست الشمس نفسها تبعثنا من مراقدنا؟ أليس حضور الأجسام الصلبة يقوينا؟ ثم على العكس من ذلك ألسنا نطلب إلى النوم والى الأحلام أن تفرج همومنا وان تقف آلامنا التي تتبعنا في عالم النهار؟ وإذن فنحن نهرب من أحدهما إلى الآخر وندعو النهار في أثناء الليل. ثم ندعو الظلمة حين نستمتع بالنور، تشوقنا المعرفة، ويسعدنا الجهل، نبحث فيما هو موجود عن دواء لغير الموجود، ونلتمس فيما لا وجود له راحة مما يوجد، يتلقانا الحق الواقع تارة، ويتلقانا الوهم تارة أخرى. والنفس في آخر الأمر لا حلية لها إلا في الصدق الذي هو سلاحها، والكذب الذي هو وقاؤها.(25/80)
أركسيماك - حسن! حسن!. . ولكن ألا تظن أي سقراط العزيز أن لخاطرك هذا نتيجة
سقراط - أي نتيجة
أركسيماك - هذه: وهي أن الصدق والكذب يرميان إلى غاية واحدة. فشيء واحد يستطيع من طريقين مختلفين أن يجعلنا صادقين أو كاذبين، وكما أن الحر والبرد يهاجماننا حينا ويحمياننا حينا آخر، فان الصدق والكذب والإرادرت المختلفة التي تلائمهما، تنفعنا حينا وتضرنا حينا
سقراط - ليس شيء أوكد من هذا ولا حيلة لي فيه. إنما هي الحياة تريد هذا، وانك لتعلم اكثر مني إن الحياة تستخدم كل شيء. كل شيء حسن عندها يا أركسيماك، ثم هي لا تنتهي بشيء إلى غاية ما، ومعنى ذلك أنها لا تنتهي إلا إلى نفسها. أليست هي هذه الحركة الخفية التي تحولني دائما إلى نفسي بفضل كل هذه الحوادث التي تطرأ ثم تردني سريعة إلى شخص سقراط لألقي نفسي فيه ثم لأكونه لأني أتخيل أني سأعرفه من غير شك - إنما هي امرأة ترقص ولو استطاعت أن تمضي في وثبتها حتى تبلغ السحاب لتنزهت عن أن تكون امرأة، وكما أننا لا نستطيع أن نمضي إلى غير نهاية لا في الحلم ولا في اليقظة فهي أيضا تعود دائما إلى نفسها وتخرج عن أن تكون ثلجا منثوراً أو أن تكون طائراً، أو أن تكون فكرة، أو أن تكون أي شيء أراد المزمار أن تكونه لأن الأرض التي بعثتها تدعوها وتردها متعبة إلى طبيعتها الأولى طبيعة المرأة، ثم إلى صديقها.
فيدر - يا للمعجزة!. . . يالك من رجل عجيب. . يكاد ما أرى أن يكون معجزة حقا! لا تكاد تنطق حتى تخلق ما لابد منه. . . لا تستطيع الصور التي تحدثها أن تبقى صورا. . انظر محققا كأنما فمك الخالق قد انشأ النحلة والنحلة. انظر إلى الجوقة ذات الأجنحة تتألف من الراقصات الشهيرات!. . . إن الهواء ليدوي مرجعا ما سيتكشف عنه فن الرقص!. . . كل المشاعل تستيقظ! وغمغمة النائمين تتحول، وعلى الجدران التي يهزها اللهب المضطرب تذهل وتشفق الظلال العريضة ظلال السكارى. . . انظر إلى هذه الفرقة التي تجمع بين الخفة الظريفة والجد الحازم! - هن يدخلن كأنهن الأرواح
سقراط - لله ما أوضح هؤلاء الراقصات؟. . يالها مقدمة حية رشيقة لأفكار أدنى إلى الكمال!. . أن أيديهن لتنطق وكأن أقدامهن تكتب - كم من دقة في هذه الكائنات التي تجتهد(25/81)
في أن تستخدم موفقة مالها من قوى ناعمة. كل مصاعبي تهجرني، وليست هناك الآن مسألة تجهدني، إنما أطيع سعيدا حركة هذه الأشكال! إنما اليقين هنا لعب، كأنما المعرفة قد وجدت نفسها، وكأنما العقل يستجيب فجأة للجمال الظريف الذي لا تكلف فيه انظر. إلى هذه الفتاة أشدهن نحافة وأكثرهن فناء في الاستقامة الخالصة. . . من تكون؟ أنها لصلبة في عذوبة، وأن مرونتها لتعجز الواصفين. . إنها لتسلم أنها لتستعيدانها لتؤدي الوزن في دقة حتى لو أغمضت عيني لرأيتها كما هي بمسعى أني لاتبعها، إني لأجدها وليس إلى أن افقدها من سبيل ولو قد سددت أذني ونظرت إليها كما هي وزن وموسيقى لكان المستحيل ألا اسمع القيثارة!
فيدر - هي رودبيس هذه التي تخلبك
سقراط - إذن فما اجمل اتصال أذن رودبيس بكعبها. . . ما أدقها. . . إنها لترد إلى الزمن الشيخ شبابه
اركسيماك - كلا يا فيدر!. . . . . رودوبيس هي هذه الأخرى التي تلاطف بطرفها إلى غير حد في عذوبة وسهولة.
سقراط - وإذن فمن هذه النحيفة ذات المرونة الشاذة؟
اركسيماك - هي رودينا
سقراط - ما أجمل اتصال إذن رودينا بكعبها!
اركسيماك - على أني اعرفهن جميعا واحدة واحدة وأستطيع أن اسميهن لكما فأسماؤهن تنتظم انتظاما حسنا في شعر قصير يسهل حفظه: نبس، نفويه نيما - نكتيريس، نيفيليه، نيكتيس - رودوبيس، رودينا، بتليه. . . أما هذا الراقص القصير الدميم فيسمى نتاريون. ولكن ملكة الجوقة لم تدخل بعد.
فيدر - ومن تملك على هذه النحل؟
(يتلى) طه حسين(25/82)
العدد 26 - بتاريخ: 01 - 01 - 1934(/)
الرسالة في عامها الثاني
في مثل هذا الأسبوع من عامنا المنصرم أخذت الرسالة طريقها الصامت إلى المطبعة. ثم خرجت منها إلى الناس تخطو خُطى الوقار في عِطاف الحشمة، لا يَجذب الطرف ظاهرها المتبرج، ولا يخلب اللب باطنها الفكِه. وكانت منذ انطلاقها من عقال التردد نتظنن في عواقب الجرأة على لقاء الجمهور بهذا المزاج في هذا الزي، فلا تدري أيصّدق ظنّها أم يكّذبه، ويحقق أملها أم يخيبه.
فلما بش لها بشاشة الزهر، وأقبل عليها إقبال الدهر، تبدلت لهذا الشعب الكريم صورة مكان صورة، ونشأت عنه فكرة بدل فكرة، وأيقن الذين رموا عقليته بالاعتلال، وثقافته بالهزال، وأدبه بالعبث، إن وراء هذا المظهر المزور عقلا قويما يلذه التفكير، وذوقا سليما يروقه الجد
والواقع أن الرسالة كانت صرخة الحق في ضجة الباطل، دلت على العمق الصحيح لثقافة الكتاب، والاتجاه الصادق لهوى القراء، والمستوى الحق لرقي الأمة، وكان لها أن تزعم - إذا استجازت الفخر - بأن مجموعتها سجل مضبوط لألوان الأدب العربي في هذا العصر
لم تلبث الرسالة على قرب عهدها بالوجود ان عقدت أسباب المودة بينها وبين القلوب العربية في أقطار الأرض، فظلوا يخالصونها الولاء، ويصادقونها النصح، ويواضعونها الرأي، ويربأون بها أن تسف أو تخف أو تشغل مكانا منها بإعلان؛ وظلت هي على العهد الذي قطعته تتحرى وجوه الرشد وتتوخى سبيل القصد، وتحدوا أهواء النفوس إلى الغاية التي يتوافى عليها الاخوة، وتلتئم عندها الوحدة، والله يعلم ما لقيت الرسالة في طريقها من عنَت الشهوات، ورَهَق الحوادث، فما خنست لها همة، ولا انقبضت لها عزيمة، لان المؤمن الصادق لا يُفْتَن عما يعتقد، ولاَ يُخدع عما يرى، ولا يُؤفك عما يقصد
لم تكن الرسالة متجنيَة على الحق يوم أخذت على نفسها الموثق بأداء هذا الواجب، فأن القائمين بها كانوا يعملون من دلائل الحال ان الأدب الصحيح الناضج إنما يتجلجل داويا في أعماق أهله، ثم لا يجد السبيل إلى الخارج لتسلط الوساوس التي ذكرناها في صدر العدد الأول من الرسالة. فكان كل أديب موهوب يقصر الحان قلبه على سمعه، كأنه الينبوع الشادي في خلوة الوادي، لا يقع شدوه في إذن، ولا يتصل نشيده بنشيد.
فكان سبيل الرسالة إذن أن تضم الأشتات إلى الأشتات، وتوفق بين الأصوات والأصوات،(26/1)
ثم تؤلف من هذه الآلات المفردة جوقة موسيقية متحدة تسكب في مسامع الوجود، أناشيد الخلود!
ولانت للرسالة بحمد الله أعطاف الأمور فنجحت في هذا التوفيق، وكانت كما ترى في فهارس سنتها الأولى صدى حاكيا لتلك الأصوات الصوادح بالمجد العربي والأدب العربي في العراق وسورية ولبنان وفلسطين ومصر والسودان والمغرب
نضّر الله بالحمد وجوه اؤلئك الأدباء البررة الذين استجابوا دعوة الوطن الأكبر فساهموا في تبليغ الرسالة، وأعانوا على تأدية الأمانة، وأضافوا خيرهم الفَمْر إلى تراث آبائنا الخالد!
في السنة الأولى للرسالة هنات يصيبها المتعقب ويُخْطِئها الكريم، ولم يكن في مقدور المبتدئ ولا تقديره أن يتسلف النظر إلى كل الطوارئ، وقد اكتسبنا بفضيلة الصبر خبرة في العمل وقدرة على صعابه، نرجو أن يظهر أثرهما في هذه السنة، فيحسن الطبع، ويجود الوَرق، ويدق التصحيح، وتتسع الأبواب، ويكبر الحجم، ويكمل النقص، وتزداد في كل ذلك العناية
وقد استقبل القراء صدور الرسالة أسبوعيا بأريحية السرور وهزة الأمل، واستهال الأمر بعض الأصدقاء فأشفقوا على الرسالة أن تقوض العجلة ما بنته الروية من هيكلها المتين وسَمكها العالي
وأنا لنشكر للمتفائلين الفرح، ونحمد للمتشائمين الخوف، ونؤكد لهؤلاء أن الرسالة تمضي بعون الله قُدُما إلى الغاية، فلا يمكن أن تهبط عن مستواها، ولا أن تقصر عن مداها وأنا لنجدد للقراء عهد الرسالة ونحن أقوى ما نكون اعتماداً على فضل الله، واطمئنانا إلى عطف الأمة، واتكاء على عون الشباب، واعتداداً بإخلاص العمل
وإذا كنا قد قطعنا موفقين أول العهد، والرسالة رسالة فرد، والمجهود مجهود نفر، فكيف يتلكأ الحظ ويتعثر الأمل، وقد أصبحت الرسالة رسالة أمة، والمجهود مجهود شعب؟!
احمد حسَن الزيات(26/2)
النفس والرقص
للكاتب الشاعر الفرنسي العظيم بول فاليري
ترجمة الدكتور طه حسين
اركسيماك - هي المدهشة، هي البالغة غاية الإبداع في الرقص (اتكتيه)
فيدر - ما أعرفك بهن!
اركسيماك - لكل هؤلاء الحسان أسماء كثيرة أخرى بعضها يأتيهن من الاسرة، وبعضها يأتي من الاخصاء
فيدر - أنت أخص هؤلاء الأخصاء!. . تعرفهن اكثر مما ينبغي!
اركسيماك - أنا اعرفهن اكثر جدا من المعرفة الحسنة، ومن بعض الأنحاء أحسن مما يعرفن أنفسهن. أي فيدر! الست أنا الطبيب؟ عندي وبي تستحيل أسرار الطب كلها، أسرارا تشترى بها كل أسرار الراقصة! هن يدعونني لكل شيء، يدعونني لالتواء القدم، وللدمل، والذهول، ولما يمس القلب من حزن، وللأحداث المختلفة التي تصيبهن من الصناعة (وهذه الأحداث الجوهرية التي تنتج في سهولة من مهنة شديدة الحركة) وضبقهن الخفي، حتى الغيرة سواء أكان مصدرها الفن أو الغرام، وحتى للحلم. . أتعلم انه يكفي ان يسررن إلى ببعض ما يقلقهن من الأحلام لاستنبط من ذلك ان في بعض أسنانهن فساد؟
سقراط - يالك من رجل خليق بالإعجاب يعرف الأسنان بالأحلام! أتظن إن أسنان الفلاسفة كلها فاسدة؟
اركسيماك - لتحمني الآلهة من عض سقراط؟
فيدر - دع هذا وانظر إلى هذه الأذرع والسوق التي لا تحصى! عدد ضئيل من النساء يظهر ألف شيء ألف مشعل، ألف رواق معمد قليل البقاء، عروشا، عمدا. . الصور تذوب تنمحي. إنما هي جماعة من الشجر حسان الغصون يهزها نسيم الموسيقى! أترى يا اركسيماك أن هناك حلما يصور من الألم واضطراب العقل اكثر مما يصور هذا الذي نراه الآن؟
سقراط - ولكن هذا الذي نراه إذا حققت ابعد الأشياء عن الحلم أي فيدر العزيز
فيدر - ولكني أنا حالم. . حالم بالعذوبة تضاعف نفسها بنفسها إلى غير حد بما يكون بين(26/3)
هؤلاء العذارى من التلاقي ومن تبادل الصور. حالم بهذا التماس الذي لا يوصف والذي يحدث في النفس بين الأزمنة، بين بياض الأذرع واشتباكها بمقدار، وأصوات هذه الأنغام المؤتلفة الخافتة والتي يظهر عليها كل شيء كأنه مصور محمول. تنفس اختلاط هؤلاء الفتيات الساحات كأنه شذى مسكي مركب، ويهيم محضري في هذا الظرف المختلط حيث تضل كل واحدة منهن مع رفيقة ثم تظهر مع رفيقة أخرى
سقراط - إن نفسك لمفتونة باللذة، إن ما تراه لنقيض الحلم لا أثر للمصادفة فيه. . ولكن نقيض الحلم ما هو يا فيدر؟ إنما هو حلم آخر! حلم تنبه ويقظة يحلمه العقل نفسه! - وماذا يمكن أن يحلم العقل؟ لو حلم العقل صلبا قائما مثلج العين مطبق الفم كأنه سيد شفتيه - فالحلم الذييراه هل يكون إلا شيئاً كالذي نراه الآن - هذا العالم من القوة الدقيقة والتخيل المتعمد في عناية وإتقان! حلم، حلم، ولكنه حلم يملؤه التناسق كله نظام، كله فعل وغناء. . من يدري أي القوانين المقدسة تحلم هنا الآن وقد اتخذت وجوها نضرة واتفقت على أن تظهر للناس كيف تستطيع الأشياء الواقعة وغير الواقعة والمعقولة ان تمتزج وتأتلف حسب ما لآلهة الفن من مقدرة؟
اركسيماك - من الحق يا سقراط ان كنز هذه الصور لا يقدر. . ألا تظن أن فكرة الآلهة هي بالضبط ما نرى وان هذا التشابه الفخم إلى غير حد. هذا التداور والتقابل والتقاطع التي لا تنتهي والتي تظهر لأعيننا ينقلنا إلى عالم المعرفة الإلهية؟
فيدر - ما أجمله ما أظرفه هذا المعبد الصغير الوردي المستدير الذي يؤلفنه الآن والذي يدور في بطء كأنه الليل! انه ليتفرق فتيات أن الأردية لتتطاير وكان الآلهة قد غيروا من تفكيرهم
اركسيماك - إن الفكرة الإلهية الآن هي هذه الجماعات الكثيرة المختلفة الألوان من الوجوه الباسمة. أنها تبدئ المعاد من هذه الحركات الحدة وهذه العَواصف اللذيذة التي تتألف من جسمين أو ثلاثة أجسام ثم لا تستطيع أن تفترق. . لقد وقعت إحداهن فيما يشبه الأسر فلن تخرج من سلاسلهن السحرية!
سقراط - ولكن ماذا يصنعن فجأة؟. . . إنهن ليختلطن، ثم يمضين مسرعات!. . .
فيدر - هي يطرن إلى الأبواب، ينحنين ليستقبلن(26/4)
اركسيماك - أي اتكتيه! أي اتكتيه!. . . يا للآلهة!. . اتكتيه الخافقة!
سقراط - ليست شيئاً.
فيدر - هي طائر صغير
سقراط - شيء لا جسم له!
اركسيماك - شيء لا ثمن له!
فيدر - أي سقراط! كأنها تطيع إشكالا لا ترى!
سقراط - أو تذعن لقضاء جليل!
اركسيماك - أنظر! أنظر! أترى أنها تبتدئ بمشي الاهي؛ مشي يسير مستدير. . تبتدئ بأرقى ما عندها من الفن، تمشي في يسر على ما انتهت إليه من القمة! طبيعتها الثانية هذه أبعد ما تكون عن طبيعتها الأولى، ولكن يجب أن تشبهها، حتى تخدعنا عنها.
سقراط - إني لاستمتع إلى أقصى حد بهذه الحرية. أن صاحباتها الآن لمستقرات كأنهن مسحورات. وأن الموسيقيات ليسمعن لأنفسهن دون أن يحولن أبصارهن عنها. . . يمتزجن بها كأنما يلححن في كمال التوقيع.
فيدر - إحداهن كأنها المرجانة الوردية قد انعطفت على نفسها وهي تنفخ في قوقعة عظيمة.
اركسيماك - صاحبة المزمار هذه العالية في الطول ذات الفخذين النحيفتين كأنهما المغزلان، قد لفت إحداهما على الأخرى، ومدت قدمها الظريفة التي تخفق إبهامها بوزن الموسيقى. . . أي سقراط ما ترى في هذه الراقصة؟
سقراط - أي اركسيماك هذه المخلوقة الصغيرة تدعو إلى التفكير. . أنها تجمع على نفسها أنها تحتمل جلالا كان مفرقا فينا جميعا وكان يحل غير مشعور به كل الذين يشتركون في هذا اللهو. مشى يسير، وإذا هي الآهة، وإذا نحن جميعا كأننا الآلهة!. . . مشى يسير ايسر التسلسل كأنها تأجر الفضاء بأعمال جميلة متساوية وتضرب بعقبها حركات كالدنانير ذات الرنين. كأنما تعد وتحصي في قطع من الذهب الخالص ما ننفقه نحن غافلين نقدا عاديا من الخطوات حين نسعى لأي غاية من الغايات
اركسيماك - أيها العزيز سقراط. إنها تعلمنا ما نعمل، مظهرة لنفوسنا في جلاء ما تأتي(26/5)
أجسامنا من الحركات، تظهر لنا ساقاها حركاتنا كأنها المعجزات. ثم هي تدهشنا بمقدار ما ينبغي أن ندهش
فيدر - في أي شيء تمتاز هذه الراقصة عندك بشيء سقراطي، فتعلمنا من المشي كيف نعرف أنفسنا بأنفسنا خيراً مما كنا نعرفها،
اركسيماك - في هذا بالضبط وهو أن خطواتنا تبلغ من اليسر والألف حدا لا نشرفها معه بملاحظتها في أنفسنا ومن حيث هي أعمال غريبة إلا أن يكون أحدنا مقعداً أو مريضاً فيضطره العجز إلى الإعجاب بها - وإذن فهن يحملننا كما يعرفن، ونحن نجهلهن، وهن يختلفن باختلاف الأرض والغاية والأخلاق والأحوال بل وضوح الطريق، ونحن ننفقهن في غير تفكير.
ولكن انظر إلى هذا المشي التوقيعي الكامل. تمشيه اتكتيه على ارض لا عيب فيها، وهي حرة صريحة تكاد تكون مرنة تضع في تناسق على مرآة قوتها قدميها متتابعتين، عقبها يصب جسمها نحو مقدمة رجلها، ثم تمر رجلها الأخرى فتتلقى الجسم وتصبه إلى امام، وهكذا على حين تخط قمة رأسها البديعة في الحاضر الأبدي جبهة موجة متثنية
وإذا كانت الأرض هنا كأنها مطلقة قد برت من كل عوج مفسد للتوقيع أو دافع إلى التردد فهذا المشي العظيم الذي لا غاية له إلا نفسه، والذي برئ من الوان الفساد على اختلافها يصبح نموذجا عاما
(انظر أي جمال، أي أمن شامل للنفس ينشأ من طول خطواتها الفخمة، هذه الخطوات الممتلئة ملائمة لعددها الذي يلائم الموسيقى ولكن عدد الخطوات وطولها ملائمتان من ناحية أخرى لقوام الجسم
سقراط - انك لتحسن الحديث عن هذه الأشياء أيها الخبير اركسيماك حتى أنى لمظطر إلى أن أرى كما تتفكر. إني لأنظر إلى هذه المرآة التي تمشي وتثير في نفسي شعور السكون لا اعني إلا بما لحركاتها من المساواة. . .
فيدر - إنها لتقف بين محاسنها التي لا تنتهي. .
اركسيماك - ستريان!
فيدر - إنها تغمض عينها. .(26/6)
سقراط - إنها كلها في عينيها المغمضتين وحيدة مع نفسها في إفناء عنايتها الخاصة. تشعر كأنها أصبحت شيئاً حادثا جليلا.
اركسيماك - انتظرا، ان. . . الصمت الصمت!
فيدر - يالها لحظة حلوة! هذا الصمت تناقض. كيف السبيل إلى إلا أصبح. الصمت!
سقراط - لحظة عذراء حقا. ثم لحظة نحس فيها كأن شيئا يجب ان ينقطع في النفس وفي الانتظار وفي الجماعة. . شئ ينقع ولكنه في الوقت نفسه كأنه يتصل.
طه حسين(26/7)
كلمات في الحياة
من الأدب العربي والأدب الغربي
للأستاذ احمد أمين
إنما الحياة الدنيا لعِبٌ ولهوٌ
(قرآن كريم)
خطَّ رسول الله (ص) خطا وقال هذا الإنسان، وخط إلى جانبه خطا وقال هذا أجله، وخط آخر بعيداً عنه وقال هذا الأمل، فبينما هو كذلك إذ جاءه الأقرب.
(حديث)
لما رجع رسول الله (ص) من غزوة غزاها قال: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)
الدنيا حلم، والآخرة يقظة، والموت متوسط، ونحن في أضغاث أحلام.
(الحسن البصري)
الدنيا شوك، فانظر أين تضع قدمك
(حكيم)
الدنيا بيت له بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر
(حكيم)
أدرْها علينا مُزَّةً بابِلِيَّةً ... تخَيَّرَها الجاني على عهد قَيْصرا
فما الطَّيْشُ إلا أن تراني صَاحيِاً ... وما العيش إلا أن ألَذَّ فأسكَرَا
(أبو نواس)
هل العيش إلا أن تَرُوح مع الصَّبَا ... وتغدو صريعَ الكأس والأعين النُّجْلِ
(صريع الغواني)
أصاحِ هي الدنيا تشابه مَيْتَةً ... ونحن حواليها الكلابُ النوابح
(أبو العلاء المعري)
وما العيش إلا عِلَّةٌ برؤها الرَّدَى ... فَخلَّ سبيلي أنْصَرِفْ لِطِيَاتي
(أبو العلاء)(26/8)
وما الأرض إلا مثْلنُا، الرَّزْقَ تبتغي ... فتأكُلُ من هذا الأنام وتشربُ
(أبو العلاء)
عاقر الخمر فإنها مُلْكُ محمود، واسمع القيثارة فإنها لحن داود، ولا تذكر إلا الحاضر فذلك هو المنشود.
(عمر الخيام)
خذ كأسا وإبريقا وتجول في الرياض الناضرة على شاطئ الأنهار، فان هذا الفَلَك طالما جعل من قدود الغانيات كؤوسا، وجعل منها أباريق
(عمر الخيام)
ليست الحياة أن تتنفس، ولكن أن تعمل
(ليكوغوس)
إن الحياة طويلة لمن عرف كيف يستخدمها
(سينكا)
إذا أردت أن تعيش سعيداً فعش ليومك
(بلوتوس)
إنما يسيطر على الحياة الحظ لا الحكمة
(بوبليوس سيروس)
الحياة نسيج آراء
(ماركوس أوريليوس)
الحياة دمعة منسكبة تبتلعها الأرض
(اليارذي)
كثير من الناس لا يتمتعون بالحياة لأنهم لا يجدون نقطةَ تَوَازُنِها
(تارشتي)
حياة الإنسان كاليوم، فجره ميلاده وصباحهِ طفولته، وظُهْره إيقاعه، وغروبه موته
(بوب كليمان)
الحياة سباق إلى الموت(26/9)
(دانتي)
حياة الإنسان تكيَّفُها عواطفه
(بلزاك)
الحياة أُغْنِية وكل نَفْس لحن
(لامارتين)
الحياة أن تستخدم كل أعضائك ومشاعرك وملكاتك وكل قوة فيك حيى تشعر أقصى شعور بوجودك
(روسو)
أكثر الناس يستخدمون شطر حياتهم لتنغيص الشْطر الآخر
(لابرويير)
الحياة بين أن تحارب وأن تستعد لان تحارب
(أري شفر)
الحياة حروفُ تعجب واستغاثة وندبة، ومجموعة من آه والله وأخّ وبخ
(بيرون)
وسئل فيلسوف ما رأيك في الحياة فهز كتفيه وانصرف لوجهه
الحياة عمليات حسابية مختلفة الأرقام نتيجتها صفر دائماً
أحمد أمين(26/10)
إلى سيدي الأستاذ العبادي
وقفة أخرى على جسر إسماعيل
أما أنا فقد وقفت أيضا بالجسر ولكني أشهد أنه لم يثر في نفسي إلا الأسى وحده، ولقد قطعته غير مرة ذهابا وجيئة، أرسلت الطرف في كل طريق، واسترسلت في التفكير العميق، لعلي أجد شيئا يرفع عن نفسي الحزن، أو يدفع إلى حسي قليلا من السرور، فارتد إلى البصر دامعا وهو حسير
لست أنكر ان الجسر كان يوما مهبط الفخر ومسقط السحر ولكن متى؟
ذلك يوم كانت أسده طليقة من إسار الذل، أما اليوم وهي غريقة في
بحاره فليس يستطيع السائر هناك أن يمسك دمعه أن يهلك لوعة
سيدي: اسمح لي أن أقول إن وقفتي بجسر إسماعيل أعقبتني ندما وألما، وأنها ردتني إلى شيء من الحسرة والحيرة لا حد له، فلقد كنت أسمع في همس موجه، وجرس لجة، طنين تلك الأرواح الهاتفة من الماضي الزاخر بالمجد، وأنين هاتيك الأشباح الطائفة من الشهداء تبكي أسى على استقلال زال، واحتلال ما حال. . .
سيدي، لقد كان لي فيما رأيت من منظر النهر ما أغرقني في فيض من الهم، فأغرقت في تفكير مرير ولم أفق إلا على صوت - البوري - فرفعت رأسي إلى المعسكر الأحمر وتحاملت على نفسي ومضيت دامع العين دامي القلب
واليوم قرأت مقالك فانسابت الذكريات سراعا تباعا فنكأت الجرح بعد أن كاد يندمل، وطاب لي أن أمسح حول هذا الجرح فوجدت في ذلك شيئا من اللذة مصدرها الثقة في الله والأمل في المستقبل، وأنا الآن أكتب إليك هذا في الثالثة صباحا بينما تقرع إذني طرقات متواليات من طبلة (السحور) فتشيع في نفسي ألوانا من الإيمان، وتجعلني أرفع يدي إلى السماء في ضراعة وأهتف:
(اللهم لا تمتني قبل أن أشهد مصر حرة)
البكري القلوصناوي
الجامعة المصرية. كلية الحقوق(26/11)
الحبس=الإعدام
للأستاذ حسن جلال
من أنباء الصحف اليومية:
(أن المدعو محمد فضل الله الحمري دخل ذات ليلة بيته فوجد أحد أصدقائه ويسمى محمد خليفة الكاجاوي مع زوجته فأخرج مديته وأغمدها في صدره فقضى عليه لساعته، فقبض عليه رجال البوليس وحقق معه، ثم أحيل إلى المحاكمة الجنائية وشكلت له محكمة وطنية برياسة المستر بمفري المفتش بمديرية غرب كردفان وعضوية الشيخ بانقا مهيدي والشيخ الشرقاوي حماد عبد الكريم، ولما سئل الجاني اعترف بجريمته وقال أنه ارتكبها عامدا بسبب ما أثار حفيظته من تلك الفعلة الشنيعة التي ارتكبها المجني عليه، فأصدرت المحكمة أخيرا حكمها وهو يقضي بإعدام القاتل محمد فضل الله الحمري.)
والذي يلفت النظر إلى هذا الخبر أن مثل هذه الفعلة الشنيعة إذا قابلها الزوج في مصر بمثل ما قابلها به (المدعو) محمد فضل الله الحمري لا تصدر المحكمة - أخيرا - حكمها عليه بالإعدام بأي حال من الأحوال، لان المادة 201 من قانون العقوبات المصري تنص على ما يأتي:
(من فاجأ زوجته حال تلبسها بالزنا وقتلها في الحال هي ومن يزنى بها يعاقب بالحبس بدلا من العقوبات المقررة في المادتين 198 و200
أما المادة 198 المشار إليها فهذا نصها.
(من قتل نفسا عمدا من غير سبق إصرار ولا ترصد يعاقب بالإشعال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة. .) والمادة 200 نصها كالآتي:
(كل من جرح أو ضرب أحدا عمدا أو أعطاه مواد ضارة ولم يقصد من ذلك قتلا ولكنه أفضى إلى الموت يعاقب بالإشعال الشاقة أو السجن من ثلاث سنوات إلى سبع. . .)
والمفهوم من مقارنة هذه المواد أن الأصل فيمن قتل نفسا عمدا ولكن من غير أن يكون قد بيت النية على قتله بل يكون القتل قد جاء مثلا نتيجة مشادة أو مشاجرة أو نحوهما - الأصل فيمن فعل ذلك أن يكون جزاؤه الإشعال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة. كما أن الأصل فيمن ضرب أنسانا ولم يكن يريد قتله ولكن الضرب أفضى إلى موته يكون جزاؤه الأشغال(26/13)
الشاقة أو السجن. .
بيد أنه روعي بعد ذلك أن الشخص الذي يفاجئ زوجته بين أحضان رجل آخر فيعتدي على غريمته بالقتل أو بالضرب الذي يفضي إلى موته لا يمكن أن تعتبر جريمته مثل جريمة غيره. ولوحظ أن الظروف الخاصة بهذه الجريمة تبرر وقوعها نوعا ما، ولذلك خفف الشارع على مرتكبها في العقاب وجعل جزاءه الحبس بدل الأشغال الشاقة أو السجن. .
على أن هناك نصا آخر في قانون العقوبات المصري تصح الإشارة إليه في مثل هذا المقام وذلك هو نص المادة 57:
(لا عقاب على من يكون فاقد الشعور أو الاختيار في عمله وقت ارتكاب الفعل إما لجنون أو عاهة في العقل وإمالغيبوبة ناشئة عن عقاقير محددة أيا كان نوعها إذا أخذها قهرا عنه أو على غير علم منه)
وأول ما يتبادر إلى الذهن أن الرجل الذي يفاجئ زوجته وشريكها في حالة تلبسهما بالجريمة المنكرة فيقتلهما لابد ان يكون قد فقد شعوره نوعا ما، فلماذا لا تطبق عليه المادة 57 ويعفى من العقاب بتاتا؟
والجواب على ذلك أن المادة 57 قيدت فقدان الشعور المنصوص عنه بقيدين. فما لم يكن فقدان الشعور بسبب (الجنون) أو بسبب (العقاقير المخدرة) فلا يقبل كظرف مانع من العقاب وعذر الشارع في هذا التقييد واضح، وهو الإعفاء من العقوبة لو جعل نتيجة مطلقة لفقدان الشعور لوجد الدفاع عن المتهمين ما يقوله دائما في كل جريمة قتل لأثبات أن المتهم ما أٌدم على فعلته إلا بعد أن افقده الشر شعوره إما لاحتدام الخصومة بينه وبين غرمائه، وإما لأن المنهم حصل له من الاستفزاز ما لم يعد يدرك معه ما يفعله، وإما لغير ذلك من الأسباب
ولسنا الآن بصدد البحث في المادة 57 ولكننا ألممنا بها لما لها من المساس بموضوعنا من قريب أو من بعيد.
ولنعد إلى المقارنة بين مركز الزوج في حكم القانون المصري وفي حكم القضاء السوداني، فقد رأينا أن الفعلة الواحدة لا تذهب بصاحبها في مصر إلى ابعد من الحبس بينما هي في(26/14)
السودان قد ساقت صاحبها فعلا إلى المشنقة، هذا هو الذي أردنا ان نوجه نظر القارئ إليه ليتمعن فيه ويستخلص لنفسه منه ما شاء
أما الأسئلة التي تهاوت على رأس كاتب هذه السطور عند مطالعة الخبر في الصحف فهذا بعضها:
1 - ماذا كان يجب على الزوج أن يفعل بدلا من أن يغمد مديته في صدر (صديق الطرفين)؟!
2 - إن كان لابد من ارتكاب جريمة قتل (حتى يسلم الشرف الرفيع من الأذى) فمن هو أحق الثلاثة بالمدية تغمد في صدره؟
أهي الزوجة الخائنة، أم هو الصديق الغادر، أم هو الزوج الخائب؟
2 - هل يمكن أن يكون الزوج (غير فاقد الشعور) وفي حالة (جنون) فعليه إذا ما وقعت عينه على هذا المشهد؟
3 - هل يكونمن المستحسن إعادة النظر في أمر العقوبة التي يجب توقيعها على الزوج القاتل في مثل هذه الأحوال؟
5 - هل يفهم من حكم المحكمة السودانية الوطنية أن الزوجة في السودان هينة على زوجها وعلى المجتمع إلى حد يجعل غيرة الرجل عليها أمرا غير معقول. وذياده عن نكبة شرفه فيها أمرا غير مقبول؟
الخ. . . الخ. . . . .
حسن جلال(26/15)
المقامة الهرمية بين الهرم الأكبر وناطح السحاب
للدكتور محمد عوض محمد
أصبح عيسى بن هشام شيخاً فانياً خَرِفا، لم يبق منه الدهر سوى جلد ذابل، على عظم ناتئ. غير أن مر السنين لم يَزِده إلا ولعا بسرد القصص ورواية الأخبار:
لكن حديثه أصبح كحديث كل شيخ يَفَنٍ كبير، قد اشتمل على شيء
كثير من الخرافات والخيال. مما يجهد العقل، ويعيا به اللب، ويكاد
حبل الفهم أن يْنبَتَّ دون إدراكه.
أنْصِتْ إليه اليوم إذ يتحدث إلى جُلاسَّه عن الهرم الأكبر وناطح السحاب فيقول:
كان الهرم الأكبر راقداً، غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه. وقد وسد رأسه ترابا لينا ورملا ناعما. وقد وُطَّئ له الفراش. ومهُدَّ له الثرى. فمضجعه سهل وثير ويغشاه لحاف غليظ تِرب، قد أكل عليه الزمان وشرب. لكنه كان يجد تحت هذا الغطاء الكثيف الراحة والدعة، وهما أجل ما يتمناه.
ولهذا بقى راقدا غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه عصفت به العواصف، وأهابت به الأحداث. وثارت من حوله الأعاصير. واهاجت الرياح رمال الصحراء حتى امتلأت بها طباق الهواء. واحتجبت النجوم عن العيون، ولمع البرق وقصف الرعد، وملئت السماء حَرَسا شديداً وشهُبُا. . . ثم زلزلت الأرض زلزالاً عنيفاً مخيفاً. فمالت إلى اليمين ثم مالت إلى اليسار! وأخذت ترتجف وترتعد، وتعلو وتهبط.
فهل حرك الهرم الجاثم؟ هل فتح جفنا أو حرك طرفا؟ هل أيقظته هذه القوارع الملمة والكوارث المحدقة من كل جانب؟
انه بقى راقداً، غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه
وفي يوم من أيام البلاء أتى إليه رجل فرنسي قصير القامة، دميم الصورة. مُقَشَّر الوجه. قد ملأ الغرور قلبه، وأعمى الوهم عينيه. . جاء هذا الفرنسي فنصب مدافعه أمام الهرم وصوبها إلى رأسه، يريد أن يوقظه من رقاده الطويل. فجعل يلقي بقذائفه: قنبلةً خلف قنبلة، وقذيفة إثر قذيفة.
فهل تحرك الراقد أو التفت؟(26/16)
إنه - والله! - لم يزد على أن رفع الرأس قليلا، وبصق في وجه ذلك المغرور. ثم عاد إلى سباته العميق.
وظل راقداً، غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه.
ولهذا الغطيط الدائم ضوضاء هادئة حينا، عنيفة أحيانا وقد ألفتها الأسماع فهي قلما تزعج أحداً أو تقلق كائنا. . غير أن أبا الهول قد أصبح ذا مِزَاج عصبيً حساس. وقد استيقظ مرة فخيل إليه أنه لم يعد يطيق تلك الضوضاء. فالتفت مرة إلى الهرم في ليلة حالكة الظلام، وخاطبه بصوت أجش، فيه حدة وفيه عنف وشدة. وقال: أما كفاك رقاداً أيها الشيخ الهرم، الذي طال نومه وأظلم يومه، وخمد فهمه، وطاش سهمه؟ ألم يأن لك أن تفيق، وتكف عن الغطيط؟ لقد فضحني في الملأ الأدنى وفي الملأ الأعلى بنخيرك هذا الذي ليس له غاية، ورقادك الذي ليس منه إفاقة. حتى أصبحت مضرب الأمثال في الكسل والجمود وغدوتَ لي سُبَّةً وعارا. . فوا الذي نفس خوفو بيده، لولا بقية حلم ووقار لَلَكْزُتك لكزاً، أو سفعتك سفعا ولأطرت النوم عن عينيك أنهضتك من هذا الرقاد الشائن. . .
قال عيسى بن هشام: هكذا أهاب أبو الهول بالهرم، هكذا صاح المسكين، وأمعن في الصياح، حتى انتفخت أوداجه، وجاشت مناخره، واحمرت عيناه وجف ريقه. . فلا والله ما تحرك الهرم ولا تحول. وما زاد على أن تثاءب، ثم عاد إلى سباته العميق.
وهكذا ظل راقداً، غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه
حتى إذا كان الشتاء الماضي شهد العالم مشهداً غريبا، وحادثا عجيبا: ذلك أن الهرم تحرك. . أجل وأبيكم - بل وأبي أنا أيضا - لقد تحرك الهرم، ومدَّ يده إلى عينيه فدلكْهُما دلكا عنيفا، ومسحهما مسحا شديداً. . ثم رفع رأسه قليلا. . وأخذ يحرك شفتيه بالكلام، فإلى من كان يتحدث؟. .
ذلك هو السر الخطير، والخطب الكبير! إنه كان يتحدث إلى بعض نواطح السحاب. . .
ولا تعجبوا أنْ وُفَّق هذا الناطح إلى إيقاظ الهرم، حين أعيت فيه سائر الحيل. ذلك أن النظير أبداً يجذب النظير، والحجر العظيم يلين للحجر العظيم، ولا يفل الحديد إلا الحديد، وسيد أبنية الغرب جاء قاصداً سيد أبنية الشرق، لا زائراً أو حاجا، بل سائحا ومطلعا. فأبى السخاء الشرقي والكرم الشرقي إلا أن يتحرك له الهرم الأكبر بعض الشيء، ويكرم وفادته(26/17)
بعض الشيء.
ولو تبين الهرم حقيقة أمر هذا الزائر وما امتلأ به قلبه من غرور؛ لأشاح عنه بوجه، وأعرض عنه كل الإعراض. ولعمركم ولعمري! متى جاء من الغرب شيء يسر القلب؟
سعى هذا الناطح إلى الهرم سعيا حثيثا. فلم يزل يسبح فوق البحار، ويجتاز القفار حتى أسْلمه طول المسير إلى رحاب الهرم الكبير. وربما سألوني لماذا جشم الناطح نفسه كل هذا العناء، وسط هذه الصحاري المحرقة المُنْصبة. وهو ربيب النعمة، حليف النعومة، ولقد تحسبون أنه ما جاء إلا ليلتمس الحكمة من منبع الحكمة، أو يطلب النور من حيث يطلع النور. أو يبغي إيقاظ الهرم الراقد، إذ عز عليه أن يطول رقاده. . ولكن الحق انه ما جاء لشيء من هذا كله. بل ساقه إلى الهرم الأكبر ذلك الفضول، ذلك الشغف بالاطلاع والاستطلاع، والذي هو من غرائز العجماوات. . ثم لكي يستطيع ان يقول للنواطح الأخر إنه طاف بالهرم الأكبر وحظي بالمثول بين يديه، بل قد يزعم أنه غالبه فغلبه، وسابقه فسبقه
لم يكد يستقر المقام بناطح السحاب حتى انفتح منه الطابق الأعلى، وأخذ يخاطب الهرم وفي صوته تلك الغنةَّ التي امتاز بها أهل امريكا، كأنما يسدون أنوفهم إذ يتكلمون. . وقال له: عم صباحا يا عزيزي أبا الأهرام. إن الهواء ها هنا جاف حار، وقد طال سيرى في البيد، وبلغ مني الظمأ، ولا أجد في هوائكم سحابا يجلل هامتي، ويبرد أو أمي
قال الهرم: عم صباحا ناطح السحُب! هل لك في الجلوس لتستريح قليلا من قطعك البحار في القفار؟
قال: هيهات لمثلي الجلوس! أني لا أقضي حياتي جاثما فوق أديم الثرى، بل ناهضا قائما، أحمل هذه الطباق السبعين بين جدراني.
قال الهرم: أجل وفي طيها هذه الكائنات الغربية من كل ما هب ودب!
قال: إن في باطني، وبين جوانحي إحياء ملؤها الحركة والنشاط، أما أنت فلم تشتمل إلا على أجساد هامدة.
قال الهرم: تأدب يا ناطح! إن جسد خوفو الذي أضم بين جوانحي لأعز على الدهر من كل هذه الأحياء التي انطوت عليها طباقك السبعون.(26/18)
قال: ان بلادك تحيا حياة جمود.
قال الهرم: ليست حياة الجمود بِشَرَّ من جمود الحياة
قال الناطح: أرجوك ألا تكلمني، بلغة الكهان القدماء واذكر أننا في عصر البخار والكهرباء، وفي القرن العشرين بعد الميلاد. لا قبل الميلاد منذ أربعة آلاف من السنين، كان فرعونكم يسأل كاهنه عن الأمر العويص. فلا يحير الكاهن جوابا. فيُلْجئه العجز إلى هذه العبارات المبهمة والاسجاع الغامضة. أما أنت فما أخرك أن تخاطبني بلغة العصر، وان تحدثني في صراحة ووضوح.
قل لي: انك لست إلا قبرا. ومع ذلك فأنت رمز لهذه الأمة القديمة. فكيف ترضى أمة حية ان يكون رمزها الذي يدل عليها قبراً من القبور.
قال الهرم: أنا رمز الخلود، رمز البقاء: رمز السَّرْمَدية التي تنتظم الوجود. ما هذه الآلاف السنين التي تذكرها غير حباب يطفو على موج الأثير الأزلي، وما أنت والنواطح أمثالك، وما بخارك وكهرباؤك سوى ذرات في هباء تذروها رياح الأبد. وما كيانكم وأقداركم وحظوظكم سوى اهتزازات في أطراف جناح الدهر الخفاق. .
لقد شغلتكم الحياة عن التفكير في الحياة. وأعماكم النور عن رؤية ما وراء النور، وألهاكم الوجدُ عن حكمة الوجود. . ولعمرك ماذا تستطيع في الدهر، وماذا تنال من الأزل شرارة لا تكاد تذكو حتى تخبو، ولا تكاد تبدو حتى تختفي؟
فأطرق الناطح مليا ثم قال: ان الحياة أعز لدي من سر الحياة، والوجود أحب إلي من حكمة الوجود. فدعني من أزليتك وأبديتك! ان ساعة واحدة من حياتنا الأمريكية الممتلئة حركة وجدا ونشاطا، أشهى إليَّ من آلاف السنين أقضيها مثلك رابضا فوق التراب في همود وخمود، وسبات ورقاد. إنني ضَحَّيتُ بالدهر من أجل الساعة، وأعرضت عن الأزل من أجل اللحظة.
قال عيسى بن هشام: ولم يكن الهرم يوما ممن يُطيلون الجدل، فحينما أبصر في محدثه كل هذا التمادي والغرور أعرض عنه لحظة. ثم حدجه بنظرات حداد. فإذا المغرور يرتعد وينتفض، ولم يكن إلا مقدار ما يسقط الشهاب، أو يلمع البرق، فإذا الناطح تندك أركانه، ويتداعى بنيانه، وتتساقط طباقُه السبعون بعضها فوق بعض، فأضحى هشيما منثورا. وأثراً(26/19)
من بعد عين.
أما الهرم الأكبر فلم يلبث أن عاوده السكون وغشيه الهدوء، وكأني سمعته حين أغمض عينيه ينشد شعرا غريبا، بل أكاد أجزم أني سمعته يتمتم، في صوت غامض مبهم، بهذه الأبيات الغامضة المبهمة:
العيش مستعذب عذاب ... والعمر تلهو به سراب
والناس تبني. وما بناءٌ ... إن كان في أسه الخراب؟
في إثر فوج يروح فوج ... فهل لذى روحة إياب؟
مهدٌ يضم الورى ولحد ... فهل هما البدء والمآب؟
الناس تجري على سفين ... في بحر وهْم له حباب
فلا سرور ولا صفاء ... ولا انتحاب ولا اكتئاب
ولا شقاء ولا نعيم ... ولا ابتعاد ولا اقتراب
للمرء من دهره سؤالٌ ... ما بالهُ راعه الجواب؟
ثم عاوده سباته العميق. وظل راقدا غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه.
لم يكد عيسى بن هشام أن يبلغ هذا الموضع من حديثه، حتى هاج سامعوه وماجوا. وأخذوا يتصايحون ويتصارخون، وقال قائل منهم: اشهد يا ابن هشام لقد أدركك الخرَف ولم تعد تحسن الحديث. فما أحراك أن تمتنع عن التحدث إلى الناس! أو تكف عن الإدلاء بمثل هذه الترهات. أو قل إنك رأيت هذا في المنام، وإنه أضغاث أحلام.
ثم انصرفوا. ولبث عيسى بن هشام في مكانه، حزينا كئيبا، يندب جده العاثر، وبأسف على مجده القديم، حين كان يتحدث، فترهف لحديثه الإذان، وتميل نحوه الأعناق. ولا يكاد الناس يملكون أنفسهم من الإعجاب.(26/20)
علم النفس والتربية والأخلاق عند إخوان الصفا
فلسفة اللذة والألم - كيف تحس وكيف تتجمع التذكارات في الدماغ غاية التربية - الطفل صحيفة بيضاء - واجبات المتعلم والمعلم - فعل البيئة - الوظيفة بحسب الاستعداد. . . منشأ الأخلاق التساهل - أسباب التعصب - فوائد التعصب - الدين العملي - اختبار الأصدقاء. . .
في رأي الأخوان أن الحيوانات في اكثر الأحيان تحس باللذة والألم (لأن أبدانها مركبة من الأمهات الأربعة ذات الطباع المتضادة: وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. وهي دائمة التغيير والاستحالة والزيادة والنقصان. فهي تخرج المزاج تارة من الاعتدال إلى الزيادة في أحد الأخلاط والطباع، أو إلى النقصان في واحد منها. واللذة هي رجوع المزاج إلى الاعتدال بعد أن يكون خارجا عنه. فمن أجل هذا لا يحس الحيوان باللذة إلا بعد أن يتقدمها ألم. وكل محسوس يخرج المزاج عن الاعتدال فأن الحاسة تكرهه. وكل محسوس يرد المزاج إلى الاعتدال فأن الحاسة تحبه)
تأمل هذه الأفكار فأن لها - على سذاجتها - حظاً كبيراً من الصدق والإصابة.
أما كيف تصل المحسوسات إلى الدماغ فهو انه ينتشر في مقدم الدماغ عصبات لطيفة لينة، وتتصل بأصول الحواس وتتفرق هناك وتنسج في أجزاء جرم الدماغ كنسيج العنكبوت. فإذا باشرت كيفية المحسوسات من أجزاء الحواس، وتغير مزاج الحواس عندها وغيرتها عن كيفياتها، وصل ذلك التغيير في تلك الأعصاب التي في مقدم الدماغ فتتجمع كلها عند المخيلة كما تتجمع رسائل أصحاب الأخبار عند صاحب الخريطة الذي يوصل تلك الرسائل كلها إلى حضرة الملك. ثم ان الملك يقرأها ويفهم معناها ثم يؤديها إلى القوة الحافظة لتحفظها إلى وقت التذكار.
هذا رأي الأخوان في تفسير الإحساس واختزان التذكارات في الدماغ. وللقارئ أن يتناول كتابا في علم النفس الحديث ليرى كيف يفسرون هذه الظواهر النفسية كالإدراك والإحساس والتذكر، ثم ليقابل ذلك بما يبثه إخوان الصفا من رأي صائب في هذه القطعة الطريفة الساذجة. بيد إنني لا احب أن يستقر في روع القارئ أن رسائل الأخوان كلها أو جلها على هذا النحو، وفي هذا الحد من الابتكار والإصابة. فان فيها من السخف والضحولة الشيء الكثير. ولهذا كان حتما على المطالع لهذه الرسائل ان يوطن النفس على ما فيها من تجاوز(26/21)
بين الفكرة الملهمة العميقة والفكرة الغثة المضحلة إذا شاء أن يمضي في هذه المطالعة ويواصل المجهود إلى النهاية.
أما التربية فغايتها ومثلها الأعلى، في رأي الأخوان، هما الغاية والمثل الأعلى اللذان كانا لها في القرون الوسطى حينما كانت الأديرة والكنائس وما إليها هي معاهد التثقيف الوحيدة في أوربا. ولعلك تعلم ان نظرية القرون الوسطى هذه هي أن هذه الحياة دار فناء، والآخرة دار بقاء، فالسعيد السعيد هو الذي كانت حياته عدة وسلماً يرقى عليها مبراً من كل وزر إلى دار البقاء. واليك ما يقوله الإخوان في هذا الشأن، وان لم يكن صريحا في الدلالة على قصدهم كل الصراحة، قالوا:
(وأما رتبة الإنسانية التي تلي رتبة الملائكة، فهي أن يجتهد الإنسان ويترك كل عمل أو خلق مذموم ويكتسب أضداداها من الأخلاق الجميلة حتى يكون إنسانا خيراً فاضلا. فإذا فارقت روحه جسده عند الموت صارت ملكا بالفعل، وعرج بها إلى ملكوت السماء، ويرى أخوان الصفا - كما رأى غيرهم - أن الطفل صحيفة بيضاء قابلة لكل ما يطبع عليها من تأثيرات. ومتى لوثت هذه الصحيفة مرة أو سودت كان من الصعب جلاؤها وإماطة السواد عنها (لانه إذا كتب فيها شيء حقاً كان أم باطلا فقد شغل المكان ومنع أن يكتب فيه شيء آخر ويصعب حكه ومحوه)
لهذا فالإخوان لا يطمعون في إصلاح المشايخ الهرمين (الذين اعتقدوا من الصبي آراء فاسدة وعادات رديئة وأخلاقا وحشية. فأنهم يتعبونك ولا ينصلحون، وان صلحوا قليلا فلا يتعلمون. ولكن عليك بالشباب السالمي الصدور الراغبين في الآداب المبتدئين بالنظر في العلوم
وهم يحددون واجبات المتعلم والمعلم تحديداً صريحاً إذ يقولون: (ان ما يحتاج إليه المتعلم من الأخلاق الجميلة والخصال الحميدة هو فصاحة اللسان والتواضع للمعلم والتعظيم له ومعرفة حقه. أما المعلم فواجب عليه الشفقة على تلاميذه وعد الضجر من إبطاء فهمهم، وقلة الطمع في اخذ العوض، وقلة المنة عليهم)
ويدرك أخوان الصفا ما لفعل الوسط والقدوة من أثر في تربية الطفل فيقولون:
(وأعلم أن كثيراً من الصبيان إذا نشأوا مع الشجعان والفرسان يتخلقون بأخلاقهم ويصيرون(26/22)
مثلهم. وهكذا أيضا كثير من الصبيان إذا نشأوا مع الصبيان والمخانيث فانهم يكتسبون أخلاقهم، وعلى هذا القياس يجري حكم سائر الأخلاق التي ينطبع عليها الصبيان منذ الصغر)
وإخوان الصفا يوصون بأن يدأب المعلم (ولفظهم صاحب الشريعة) في دراسة تلاميذه والتفطن إلى احوالهم، والانتباه إلى أخلاقهم وسجاياهم واحداً واحداً (حتى يعرف كل واحد منهم، ما اسمه وما نسبه وما صناعته وما هو سبيله في أمر معاشه وما هو الغالب عليه من الطبع الجيد والرديء وحتى يثق بهم علما ويتبين منازلهم، ويستعين بكل واحد منهم في العمل المشاكل له، ويستخدمه في الأمر اللائق به)
تقرأ هذا فيخيل إليك أن إخوان الصفا مطلعون على فلسفة التربية الحديثة التي تصر على وجوب دراسة الطلاب دراسة دقيقة منظمة تقضي إلى فهم كفايات كل طالب ليعطي من الدروس والأعمال ما يتلاءم وأعظم هذه الكفايات بروزاً وأكثرها خيراً مأمولا.
والأخلاق عند إخوان الصفا خاضعة لفعل الوراثة ولفعل الوسط الطبيعي والوسط الاجتماعي ولشيء آخر هو فعل الكواكب فيهم يقولون:
(اعلم يا أخي إن أخلاق الناس وطبائعهم تختلف من أربع جهات: أحدها من جهة أخلاط أجسامهم ومزاج أخلاطها، والثاني من جهة ترب بلدانهم واختلاف أهويتها، والثالث من جهة نشوئهم على ديانات آبائهم وعادات معلميهم وأساتيذهم ومن يربيهم ويؤدبهم، والرابع من جهة موجبات أحكام النجوم في أصول مواليدهم، وقد تكلم إخوان الصفا في الأخلاق كثيراً ولا نستطيع أن نعطيك رأيهم إلا في النذر القليل.
يعجبك حقا من إخوان الصفا اقتناعهم اقتناعا عميقا بفائدة التساهل. فلسفتهم الانتخابية قد بنوها على هذا المبدأ. فالأديان والشرائع كلها عندهم سواء. وليس لدين فضل على دين إلا بمقدار ما فيه من صدق وإصابة. ولذا فهم ينصحونك بان تخضع دائما للحق وتحترمه أنى كان مصدره. واليك ما يوصون به:
(لا تتمسك بما أنت عليه من دين ومذهب واطلب خيراً منه، فأن وجدت فلا يسعك الوقوف على الأدون، ولكن واجب عليك الأخذ بالأخير. ولا تشغلن بذكر عيوب مذاهب الناس، ولكن انظر هل لك مذهب بلا عيب؟(26/23)
وهم يعتقدون أن للتصلب في الرأي والتعصب للعقيدة أسبابا جمة منها: (شدة تعصب المرء فيما يعتقده بقلبه من غير بصيرة، وأخرى إعجابه بنفسه في اعتقاده، وأخرى اعتقاده أصولا خفي فيها خطأه بين ظاهر الشناعة في فروعها. ولهذا فهو يلزم هذه الشناعات في الفروع مخافة أن تنتقض عليه الأصول، فيطلب لها وجوه المراوغة عن إلزام الحجة عليه: تارة بالشغب، وتارة يموه وتارة يروغ في الجواب والإقرار بالحق ويأنف أن يقول: (لا أدري)
على أن أخوان الصفا لا يمقتون التصلب في الرأي كل المقت لأنهم يرون فيه فوائد تغطي على بعض مضاره. يرون أن اختلاف العلماء في آرائهم وتعصبهم لها يدعوان إلى شحذ الافكار، لان كل فريق يحاول أن ينصر مذهبه على مذهب غيره مما يدعو إلى الغوص على المعاني الدقيقة، والنظر إلى الأسرار الخفية، فيكون ذلك سبباً في يقضة النفوس.
كذلك هم يرون أن اختلاف العلماء يدعو لي نشر معائبهم، إذ يكون هم كل واحد تبيان مساوئ الآخر وإظهار رذائله، فيكون ذلك حاثاً للجميع على ترك الرذائل.
ويرون أيضاً أن هذا الاختلاف في الآراء والمذاهب يوجد مضطرباً أوسع في أمور الدين وممارسة شعائره.
وقد قادهم تساهلهم إلى هذا الدين العملي: وهو اعتبارهم: أن العبادة ليست كلها صلاة وصوماً، بل عمارة الدين والدنيا معاً، لان الله يريد أن يكونا عامرين)
وللإخوان رأي جميل في اختيار الأصدقاء والوفاء للصداقة الصادقة فيقولون:
(ينبغي لك إذا أردت أن تتخذ صديقاً أو أخاً أن تنتقده كما تنتقد الدراهم. واعلم بأن إخوان الصدق هم نصرة على دفع الأعداء، وسلم للصعود إلى المعالي، فان غبت حفظوك، وإن تضعضعت عضدوك. والواحد منهم كالشجرة المباركة تدلت أغصانها بثمرها إليك، وأظلتك أوراقها بطيب رائحتها، وسترتك بجميل فيئها. فإذا أسعدك الله يا أخي بمن هذه صفته فابذل له نفسك ومالك وق عرضه بعرضك، وافرش له جناحك، وأودعه سرك، وإن هفا هفوة فاغفرها له، وإن زل زلة فصغرها في عينيه).
هذا بعض ما في رسائل الإخوان من طرافة في التفكير، وهدى في البحث، وجدة في التعليل والتفسير. وعسى أن يتاح لهذه الرسائل من يكشف كشفاً أعم وأشمل عما استتر فيها(26/24)
من لؤلؤ وغاب من در.
شرق الأردن
أديب عباسي(26/25)
من الأدب الفارسي
إيوان كسرى بين التاريخ والشعر
للدكتور عبد الوهاب عزام
المدائن أو مدائن كسرى اسم لطائفة من المدن قامت على جانبي دجلة في عهد الدولة الساسانية. أعظمها على الشاطئ الشرقي طيسفون، وتخص باسم المدائن في التاريخ الإسلامي. وهي محلتان: المدينة العتيقة إلى الشمال وهي مدينة قديمة قامت قبل عهد الساسانيين وكان بها القصر الأبيض الذي بناه بعض المتأخرين من الاشكانيين أو الأوائل من الساسانيين، والمحلة الجنوبية تسمى اسفانبر وكان بها القصر الذي عرف عند العرب باسم (إيوان كسرى) ويظن أن بانيه سابور الأول (241 - 272 م)
وقد اضمحلت المدائن على مر الزمان حتى لم يبقى منها في القرن السابع الهجري إلا قرية صغيرة حملت هذا الاسم العظيم، يقول ياقوت: (فأما في وقتنا هذا فالمسمى بهذا الاسم بليدة شبيهة بالقرية بينها وبين بغداد ستة فراسخ. وأهلها فلاحون يزرعون ويحصدون والغالب على أهلها التشيع على مذهب الإمامية) وليس في موضع المدائن الشرقية اليوم إلا قرية صغيرة جداً فيها مسجد سلمان الفارسي رضي الله عنه على نحو 30 كيلو إلى الجنوب الشرقي من بغداد.
وعلى مقربة من هذه القرية التي تسمى (سلمان باك) أي سليمان المطهر، يرى اليوم (طاق كسرى) وهو الذي سماه العرب والفرس في العهد الإسلامي إيوان كسرى أو إيوان المدائن. وهو بقية من بنية عظيمة بناها سابور الأول وعمرها كسرى أنوشروان وتدل الخرائب حول هذا الطاق أن البناء كان 400 متر في عرض 300، ويظن أن البناء كله بقى إلى عهد العباسيين، وأن المنصور أو الرشيد حاول أن يهدمه ثم كف عنه. ثم تعاورته غير الزمان حتى لم يبق منه في القرن السابع الهجري إلا الإيوان. يقول ياقوت في الكلام عن الإيوان: (رأيته وقد بقى منه طاق الإيوان حسب) وقد بقى هذا الطاق وجناحان من البناء على جانبيه يمتدان زهاء مائة متر إلى زمن قريب. ثم انقض الجناح الشمالي (5 أبريل سنة 1888 م) وبقى الإيوان وجناحه الأيسر. وظاهر من بقية هذا الجدار أن علوه كان نحو 25 مترا وأن القصر كان ذا ثلاث طبقات. وقد سقط بعض سقف الطاق وجداره(26/26)
الخلفي وبقى معظم العقد والجداران الجانبيان في علو وجلال يرتاع لهما كل زائر، وقد زرت بقية الأحداث من هذا الإيوان يوم الاثنين 22 رمضان سنة 1349 في بعثة كلية الآداب من الجامعة المصرية فشهدت جلاد الزمان والإنسان، وتخيلت الطاق نسرا قشعما أنحت عليه الخطوب فحصت ريشه وذهبت بجناح، وهاضت الآخر ولكنه بقى متجلدا مستكبرا يقلب عينيه في لوح الجو محاولا أن يسمو إلى ملكه الواسع في عنان السماء. وصدقت قول البحتري:
فهو يبدي تجلدا وعليه ... كلكل من كلاكل الدهر مرسى
وأما القصر الأبيض أو أبيض المدائن فقد هدم في عهد المكتفي بالله العباسي سنة 290 وبنى بأنقاضه قصر التاج، ولكن كثيرا من المؤخرين يخلط بين الإيوان والقصر الأبيض كما يتبين من معجم البلدان وغيره
رويت في إيوان كسرى أشعار ذكر بعضها ياقوت في معجم البلدان. ومنها بيتان خطهما على الإيوان الملك العزيز جلال الدولة البويهي:
يا أيها المغرور بالدنيا اعتبر ... بديار كسرى فهي معتبر الورى
غنيت زمانا بالملوك وأصبحت ... من بعد حادثة الزمان كما ترى
وأعظم ما نظم في الإيوان قصيدتان: قصيدة البحتري وقصيدة فارسية نظمها الخاقاني الشاعر الفارسي المتوفى سنة 595 والبحتري يذكر في قصيدته ثلاثة أسماء: أبيض المدائن، والإيوان. والجرمان. والظاهر ان ابيض المدائن في شعره غير الايوان، وإن خلط المؤرخين بينهما، وكأن هذا الخلط كان بعد عصر البحتري وبعد أن هدم الخليفة المكتفي القصر الأبيض سنة 290. فالبحتري يصف في قصيدته أبنية عدة لا بناء واحدا.
وقراء العربية يعرفون سينية البحتري، فلا حاجة إلى إثبات بعضها هنا. وحسبي أن أترجم قصيدة الخاقاني. ويرى القارئ أن الشاعر اقتصر منها على الرثاء والبكاء ولم يصف وصف البحتري وقد حذفت منها بضع أبيات بنيت على جناسات، ورموز مألوفة في الفارسية ولا يمكن نقلها إلى العربية نقلا معجبا:
هيا أيها القلب المعتبر أنعم النظر، فما إيوان المدائن إلا مرآة العبر. عرج عن طريق دجلة إلى المدائن للذكرى، وأسل على تراب المدائن دجلة أخرى. إن دجلة لتبكي حتى تحسبها(26/27)
مائة دجلة من الدمع القاني - وانه لدمع نقطر به الاهداب نارا. هذه دجلة تضرم قلبها الحسرات، فهل سمعت بماء تحرقه الجمرات؟ أسعد دجلة بالبكاء كل حين، واجعل لها زكاة من دمعك وان يكن البحر يأخذ الزكاة منها. لو مزجت دجلة آهاتها بحرقة قلبها لا نقلب نصفها جمدا، ونصفها للنار موقدا هلم فناد الإيوان بلسان الدمع حينا بعد حين فلعل قلبك يستمع جواب الإيوان الحزين. ان هذه الشرفات لا تفتأ ترسل إليك العظات فأصخ واحسن الاستماع إليها: إنها تقول: أنت من التراب، ونحن هنا من ترابك، فامنحنا بعض خطواتك، ولا تبخل علينا بعبراتك. إن برءوسنا صداعا من نعيب البوم فهات من دمعك الجلاب، وخفف عنا هذه الهموم. قد كنا مجالس للعدل وقد أصابنا من جور الزمان ما ترى، فكيف بقصور الجائرين ماذا أعد لها من النوائب؟ ما الذي نكس هذا الإيوان الذي يحاكي الفلك؟ احكم الفلك الدائر، أم قضاء مدير الفلك القادر؟
أيها الضاحك من عيني الباكية! تقول ما يبكيه ها هنا. إن العين التي لا تبكي هنا جديرة أن يبكى عليها. هلم فتمثل الإيوان والكوفة معا، ثم سعر من القلب تنورا وأفض من العين طوفانا. . . ذلك الإيوان الذي نقشت خدود الرجال على تراب عتبته جدارا من الدمى والصور. وتلك هي السدة التي كان يقف بها ملوك الديلم وبابل، والهند والتركستان. تصور ذلك العهد، وانظر بعين الفكر تر الصفوف مترادفة، والمواكب متزاحمة.
لا تعجب فليس عجبا أن ترى في بستان هذه الدنيا أسراب البوم بعد البلابل، وزفرات البكاء بعد ألحان الغناء. . . . سكرى هذه الأرض، فقد شربت مكان الخمر دم قلب أنوشروان في كأس من رأس هرمز. تقول أين ذهب أصحاب التيجان واحدا إثر واحد. فانظر فهذه الأرض حبلى بهم إلى الأبد. . . ان دم قلب شيرين هذه الخمر التي تشربها، وهذا الدن الذي يضعه الدهقان ماء برويز وطينته. كم ابتلع هذا التراب من أجساد الجبابرة ثم لا يزال نهما لا يشبع. .!!
إن القادمين من السفر يأتون بالهدايا لإخوانهم. وهذه القصة هدية إلى قلوب الأخوان. يا خاقاني استجد العبرة على هذه الأبواب ليقف الخاقان مستجديا على بابك. اهـ
عبد الوهاب عزام(26/28)
الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية
1 - كيف نشأت بعد الحرب
للأستاذ محمد عبد الله عنان
شهدت أوربا في العصر الأخير طائفة من الحركات والثورات القوية، السياسية والاجتماعية، التي قلبت نظم الحكم والمجتمع، وغيرت مناحي التفكير والعواطف، وأثرت في سير السياسة الدولية اعظم تأثير
ولا ريب أن الثورة الفاشستية الإيطالية، والثورة الوطنية الاشتراكية الألمانية أو الحركة الهتلرية أو النازية، هما اعظم هذه الحركات والثورات البعيدة المدى والآثار في مصاير أوربا القديمة والمجتمع الأوربي القديم. والثانية وليدة الأولى في معنى من المعاني، وشبيهتا في بعض الغايات وفي كثير من الوسائل والإجراءات. ولكنها تختلف عنها في البواعث والظروف التي نشأت فيها، وفي الغايات الجوهرية التي تعمل لها، ثم تختلف عنها في طوالعها، وفي الآثار التي أحدثتها ومازالت تحدثها في سير السياسة الدولية وفي الرأي العالمي
ولعل اعظم ما تتفق فيه الحركتان الإيطالية والألمانية انهما عملتا معا لسحق الشيوعية، ولتحطيم النظم الدستورية والديمقراطية كلها، والقضاء على الحريات العامة وكثير من الحريات الفردية بوسائل متماثلة ولغايات متماثلة. وقد كان تفاقم الفوضى الاشتراكية والشيوعية في إيطاليا عقب الحرب الكبرى اكبر عامل في وثوب الفاشستية الإيطالية. ولكن اكبر عامل في وثوب الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية هو معاهدة الصلح (معاهدة فرساي) وما فرضته على ألمانيا من صنوف التمزيق والذلة والمغارم، وما بثته شروطها وفروضها الفادحة في الشعب الألماني من يأس وتفكك وانحلال. ويكفي أن نذكر أن معاهدة فرساي قضت باقتطاع الألزاس واللورين، ووادي السار، وسيليزيا العليا، ودانتزج، وقسما من شلزقيج من ألمانيا؛ وقضت بإنشاء الممر البولوني داخل أرضها ليمزق بروسيا الشرقية إلى شطرين؛ وقضت بتجريد ألمانيا من سلاحها وسحق عسكريتها التاريخية، وتحطيم أسطولها الضخم وجعلها من حيث الدفاع القومي كأصغر دولة ثانوية؛ وقضت على ألمانيا بتحمل مسئولية الحرب الكبرى ومن ثم بإلزامها بتعويضات مالية فادحة استنزفت مواردها(26/29)
وقوى شعبها، واحتل الحلفاء من اجل ذلك بعض مناطق الرين الألمانية مدى أعوام، وجردت ألمانيا من جميع مستعمراتها. واستمر الحلفاء بعد الحرب مدى أعوام يعاملون ألمانيا بمنتهى العسف والشدة والكبرياء؛ ولم يكن لألمانيا في تلك الأعوام العصيبة سلاح تشهره للمقاومة أو الاحتجاج المجدي ولم يكن في وسعها إلا التسليم واللاذعان في معظم الأحوال
لبثت ألمانيا مدى أعوام وهي تتخبط في غمر من الصعاب والأزمات الفادحة. ثم كانت نكبة هبوط المارك سنة 1923، وجاء التضخم النقدي كالسيل فقضى على معظم الثروات، وقضى على الطبقات الوسطى بنوع خاص، ودفعها إلى حضيض البؤس والفاقة، وبث إلى التعامل فوضى لم يسمع بها؛ وهبت على الشعب الألماني ريح قوية من الدمار واليأس كادت تذهب بما بقى له من أمل وقوى معنوية وكانت الدعوات الثورية التي تثب دائماً في غمر اليأس والانحلال تعمل من جهة أخرى عملها، فاشتد ساعد الشيوعية، واخذ شبح البلشفية يساور ألمانيا ويهدد مصايرها، وكان الشعب الألماني في تلك الأيام السود يعيش في نوع من الاستسلام لا يكاد يرى طريقا للخلاص من هذه المصائب المتعاقبة والظلمات الكثيفة
ولكن ألمانيا استطاعت منذ سنة 1924 أن تشعر بشيء من الأمل والثقة، ذلك أن الحلفاء أنفسهم أدركوا أن العمل عل إرهاق ألمانيا وخرابها لا يعاون ألمانيا على الوفاء بشروط الصلح بل يدفعها إلى براثن البلشفية المتحفزة. والبلشفية خطر داهم على كل الدول الغربية. وألمانيا هي حاجزه من الشرق. ثم أن فرنسا اقتنعت مذ أقدمت على احتلال وادي الروهر في خريف سنة 1923 لكي ترغم ألمانيا على أداء أقساط التعويضات، أنها ارتكبت خطأ فادحا ولم تفعل سوى أن أثارت في المانيا التي جنحت عندئذ إلى المقاومة السلبية روحا جديدا من النضال والتضامن، وان باقي الحلفاء ولاسيما إنجلترا لا يؤيدونها في هذه السياسة العنيفة، وإنها ستتحمل وحدها تبعات سياسة خطرة، وهنا تبدأ مرحلة جديدة في تاريخ ألمانيا المعاصر، وتنحسر الظلمات من حولها نوعا، وتجد في تلك الآونة العصبية رجلها المنقذ في شخص الدكتور جوستاف شتريزمان الذي تولى رآسة الحكومة عندئذ (أغسطس سنة 1923) ثم غادر الرآسة بعد قليل ليتولى وزارة الخارجية في(26/30)
الحكومات المتعاقبة مدى أعوام. وكان شتريزمان سياسيا وافر البراعة، استطاع أن يقود ألمانيا خلال هذه الغمار الكثيفة بذكاء وجلد، وان يحررها من كثير من فروض معاهدة الصلح، وكانت مسألة مسئولية الحرب التي سجلت على ألمانيا في معاهدة فرساي واتخذت أساسا لفرض التعويضات والمغارم الفادحة علها موضع الجدل المستفيض، وكانت الوثائق والمذكرات والبحوث المختلفة في ألمانيا وإنجلترا وأمريكا تلقي عليها الضياء تباعا، ويبدو للرأي العالمي شيئا فشيئاً ان القول بمسئولية ألمانيا وحدها عن إثارة الحرب، نظرية خاطئة مغرضة، فكان الأساس الذي بني عليه إلزام ألمانيا بتعويضات الحرب ينهار شيئا فشيئاً، وبذا أعيد النظر في مسألة التعويضات وسويت لأول مرة بمشروع داوز ثم بمشروع يونج، وكانت ألمانيا تظفر في كل خطوة بتخفيضات وتسهيلات جديدة، ولكن المغارم التي بقي على ألمانيا أن تؤديها لبثت مع ذلك فاتحة تحطم موارد أغنى الشعوب. وفي سنة 1925، انتهت جهود شتريزمان الجلدة إلى عقد ميثاق لوكارنو بين ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا وبلجيكيا وبه ضمنت سلامة فرنسا وحدود ألمانيا الغربية كما قررتها معاهدة الصلح ضمانا متبادلا تشترك في تأييده كل الدول الموقعة، أكدت ألمانيا بذلك إنها تركت التفكير نهائيا في مسألة الألزاس واللورين وصفا الأفق الدولي بذلك نوعا، ودخلت ألمانيا عصبة الأمم في سبتمبر سنة 1926 - وجلست في كرسيها الدائم إلى جانب أعدائها بالأمس، وبدأ عهد جديد من التفاهم والتقرب من بين فرنسا وألمانيا، وكان شتريزمان رجل ألمانيا في تلك المراحل، كما كان استريد بريان رجل فرنسا. وكان كلا السياسيين العظيمين يؤمن بقضية السلام وعقد الوفاق والتفاهم بين الأمتين. واستمرت هذه السياسة حتى توجت بظفر جديد لشتريزمان: هو حمل فرنسا على الجلاء عن مناطق الرين المحتلة في خريف سنة 1929 قبل الموعد الذي حددته المعاهدة. وكان ذلك آخر ظفر للسياسي العظيم، إذ توفي بعده بقليل في أكتوبر سنة 1929
وكانت وفاة شتريزمان خسارة فادحة لألمانيا إذ فقدت بذهابه اعظم سياسي أخرجته بعد الحرب وضربة جديدة لسياسة الوفاق والتفاهم التي جرت ألمانيا عليها مدى أعوام وجنت ثمارها كما تقدم. وقد حاول الساسة الذين خلقوا شتريزمان في تولي مصاير ألمانيا مثل فون ملير زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي ثم بريننج، ان يتابعوا سياسته ولكن دون نجاح.(26/31)
أولا لان حالة الاستقرار النسبي الذي تمتعت به ألمانيا بضعة أعوام اخذ يضطرب نظراً لاشتداد ساعد الحركات والأحزاب المعارضة لهذه السياسة، وتفكك الأحزاب التي تناصرها، ونهوض الحركة الوطنية الاشتراكية بالاخص، وثانيا لان نفوذ بريان في فرنسا اخذ في الضعف، أخذت الجبهة التي كانت تناصره تشعر بعقم سياسته أخذت الجبهة العسكرية القوية من جهة أخرى تقاوم كل تساهل جديد مع ألمانيا، وتندد بخطر هذه السياسة على سلامة فرنسا. وتفي بريان بعد ذلك بعامين (أوائل سنة 1933) وكان اضطراب أفق السياسة الأوربية يزداد شيئاً فشيئاً. وظهرت ميول ألمانيا قوية في التحرر من أغلال معاهدة الصلح في مسألة التعويضات. ونزع السلاح، ومسائل الحدود التي تعتبرها ألمانيا جوهرية، لسلامتها، أصرت فرنسا على التمسك بنصوص المعاهدة بحجة المحافظة على سلامتها، وبدأ عهد من النضال الواضح بين الدولتين هو الذي نشهده اليوم في ذروة عنفه وأهميته.
هذه خلاصة موجزة لتاريخ ألمانيا بعد الحرب، وهذه هي نفس الحوادث والظروف التي نشأت في مهادها الحركة الوطنية الاشتراكية. فمنذ نوفمبر سنة 1918، أعني مذ نشبت الثورة التي انتهت بإعلان الجمهورية واختفاء الإمبراطورية من الميدان. وقيام الحكومة الشعبية الأولى برآسة ايبرت لتقبل شروط الهدنة؛ ومذ عقدت الجمعية الوطنية في فيمار (6 فبراير سنة 1919) لتضع دستوراً ديمقراطيا لالمانيا؛ ظهرت في الميدان أقلية تصم بالخيانة العظمى تلك الكتلة الاشتراكية الديمقراطية التي أيدت الثورة واستولت على مقاليد الحكم، وقبلت الهدنة ثم معاهدة الصلح. وكان قوام هذه الأقلية بالأخص جمع من القادة والضباط القدماء أنصار الإمبراطورية: وكانت أثناء تلك الأزمات العصيبة التي غدت ألمانيا فيها فريسة الحرب الأهلية بين الديمقراطيين والشيوعيين بينما كان العدو الظافر يملي عليها شروطه ويثقل كاهلها بفروضه وأغلاله، ترقب مصاير ألمانيا في غمر من الحسرات واليأس؛ ولم تكن يومئذ قوية ولا ومنظمة، ولكنها كانت منذ الساعة الأولى تتلمس السبل لإنقاذ ألمانيا مما اعتقدت أنه منحدر الخطر والانحلال. وكان مركزها بالأخص في بافاريا، في مدينة ميونيخ التي لم يجرفها تيار الدعوة الاشتراكية كما جرف العاصمة البروسية (برلين). وكان التمزق الذي يسود جبهة اليسار (الديمقراطية(26/32)
والشيوعية) يفسح بعض الأمل لهذه الجبهة (الوطنية) الناشئة. ففي مارس سنة 1920 بدأت أول محاولاتها على يد الجنرال فون لتفتز والدكتور فون كاب واستولت على مقاليد الحكم، ولكنها لم تثبت سوى أيام قلائل؛ وفشلت هذه الوثيقة الأولى ولكنها كانت بداية ذلك الصراع الذي شهرته الجبهة الوطنية المحافظة على الجمهورية الفتية؛ وكانت بالأخص دليلا على أن الجمهورية ليست من المناعة بحيث يستحيل غزوها وتحطيمها.
وكان بين الجماعات الوطنية المحافظة التي اتخذت ميونيخ مركزاً لها، حفنة من الرجال المغمورين عرفت باسم (حزب العمال الألماني) وزعيمها صف ضابط فتى يدعى (ادولف هتلر). وكانت تضم ستة رجال فقط في سنة 1919 حين انضم إليها هتلر. ويقول لنا هتلر في كتابه (جهادي)، انه حين هبط ميونيخ في ذلك الحين لم يكن ينوي أن ينظم إلى أي حزب قائم، بل كان يريد أن يؤسس لنفسه حزبا جديداً، ولكنه انضم إلى هذه الجماعة المتواضعة، وغدا منظمها وزعيمها ومن ذلك الحين يظهر اسم هتلر على مسرح التاريخ الألماني المعاصر، كزعيم وداعية وطني متطرف، وتسير عصبته المغمورة إلى ميدان الحوادث والظهور، وتزداد في العدد والنفوذ بسرعة، وتشق طريقها بعزم وجلد
ويجب قبل أن نتقدم في تتبع هذه الحركة الوطنية المحافظة أن نعرف القارئ بادولف هتلر، ذلك الفتى المغمور الذي شاء القدر أن يغدو اليوم زعيم المانيا، وسيدها المسيطر على مصايرها
ولد أودلف هتلر سنة 1889 في بلدة براونا ومن أعمال النمسا العليا على مقربة من الحدود البافارية في أسرة نمسوية متواضعة، فهو إذن نمسوي الجنس والنشأة. وكان أبوه موظفا صغيراً في الجمارك، فتلقى تربية عادية. وتوفي والداه قبل أن يتجاوز الحداثة. وفي السابعة عشرة ألقت به يد القدر إلى العاصمة النمسوية فنزل بها وحيداً بائساً لا عائل له، أو على قوله: (لا يحمل سوى حقيبة من الملابس، ولكن يحمل في قلبه عزما لا يقهر) وأراد هتلر أن يدرس التصوير فلم يوفق لفقره؛ ورمت به المقادير إلى صناعة البناء يدرسها ويكسب منها قوته: فاشتغل مدى حين صبي بناء يعيش في ضعة ومسغبة، فلما لم يبسم له الحظ في العاصمة النمسوية، نزح إلى ميونيخ يبحث وراء طالعه؛ ولما نشبت الحرب الكبرى التحق بفرقة بافارية بإذن خاص من حكومته. وقاتل مع الجيش الألماني في(26/33)
الميدان الغربي، وظهر بأقدامه وشجاعته وكوفئ بوسام (الصليب الحديدي). وأصيب في أواخر الحرب من الغازات الخانقة فحمل عليلا إلى ألمانيا: ولزم فراشه حتى انتهت الحرب وعقدت الهدنة. ويقول لنا هتلر انه بكى حزنا وتأثرا حينما سمع بخبر الهدنة. كما أنه شكر الله حين نشبت الحرب، وما كاد يبرأ من علله حتى عاد إلى ميونيخ وانضم إلى أولئك الستة الذين أطلقوا على أنفسهم (حزب العمال الألماني)، فلم يلبث أن غدا قائدهم وزعيمهم، واتخذ للجماعة اسما آخر هو (حزب العمال الوطني الاشتراكي الألماني)
محمد عبد الله عنان(26/34)
في طريق المنفى
للأديب حسين شوقي
هي ذكرى مؤلمة من ذكريات الصبي حدثت في بداية الحرب العالمية.
عند مغادرتنا محطة القاهرة في طريق المنفى، جاء أقاربنا يودعوننا وكانوا يعتقدون أن الحرب سوف تنتهي قريبا لأن الفيالق الألمانية المظفرة كانت وقتئذ عل أبواب باريس، فكان من المفروض أن فرنسا سوف تضطر إلى التسليم، وعلى هذا نرجع من المنفى بعد أشهر قليلة، ولكن اخطأ مع الأسف هذا الحساب لأننا بقينا في الخارج خمس سنوات، كما أن بعض هؤلاء الأقارب الأعزاء أدركتهم المنية قبل عودتنا إلى الوطن. قصدنا بعد ذلك السويس حيث ركبنا سفينة أسبانية قادمة من جزر الفلبين، وتقصد برشلونة (أسبانيا)، ولم تكن السفينة متينة ولا كبيرة، ولكن لم يكن لنا وقتئذ الخيار في ركوب سفينة أخرى وقديما قالوا ان المضطر يركب الصعب من الأمور وهو عالم بركوبه، وفوق هذا لم تشفق أمواج المحيطات الهندية على هذه السفينة في طريقها إلى السويس، فخلفتها في حالة سيئة.
انقضت الأيام من الرحلة في هدوء تام، وقد تعرفت أسرتي بمعظم المسافرين وأغلبهم أسر ألمانية ونمساوية اعتقل رجالها في مصر. وكم كان محزناً حال هذه الأسر وهي مدفوعة إلى مصير مبهم مجهول بلا مال ولا نصير! ولولا أمل هؤلاء القوم في النصر لما استطاعوا أن يصبروا على ما كانوا فيه من بؤس وشقاء.
أما أنا فقد تعرفت على الفور (قبل أقاربي) بالركاب الذين هم من سني، لأن الديمقراطية الحق هي التي تسود علاقات الأطفال
وكنا - هؤلاء الأطفال - وأنا - بطبيعة الحال غير شاعرين بالمأساة الكبيرة التي تمثل على مسرح العالم، بل العكس كانت فرصة لنا لنمثل معارك كالتي كانت ناشبة بين الألمان وخصومهم
ولكننا كنا نجد بصعوبة من يرضى منا ان يقوم بدور العدو لأن هذه الوقائع كانت دائما تنتهي بفوز ألمانيا، وبضرب الجنود المفروض أنهم أعداء ضربا مبرحا. وكان معنا على ظهر السفينة قسيس ألماني منفي من مصر، وكان يلومنا على عملنا ويدعونا إلى المحبة والوئام، ولكن لعمري هل كان الكبار وقتئذ ينصتون إلى مثل هذا القول حتى ينصت إليه(26/35)
الصغار؟
وكان على ظهر السفينة - غير هذه الأسر الألمانية - عشيقان أسبانيان قادمان من الفلبين، وكانت حالهما أشبه بحالنا - معشر الأطفال - في عدم الاكتراث بما يقع في الدنيا من حوادث جسام، إذ كانا يقضيان الأيام في غزل متواصل، كان لهما على ظهر السفينة كرسيان طويلان متلاصقان، فكنت إذا مررت أمامها قطعا الغزل، فإذا انصرفت استأنفاه، فأغضبني هذا التصرف منهما، وأقسمت أن أفاجئهما متلبسين بالجريمة، من اجل هذا وضعت كرسي بالقرب منهما ثم اضطجعت عليه، وغطيت وجهي بشال من الصوف متظاهراً بالنوم، فلما أستأنف العاشقان الغزل فزعت من مقعدي فجأة وضحكت ضحكة عالية لأنني كنت أرقبهما من ثقب صغير أحدثته بأسناني في الشال!
ثم كان هناك راكب اختل عقله من طول السفر، إذ مضى عليه أربعون يوما وهو في السفينة، وكانوا يسمحون له بالنزهة على ظهر المركب في حراسة بحار حتى لا يلقي بنفسه في اليم، ولكن جنون هذا المجنون كان من حسن حظنا هادئا. وكان بعضهم يزعم أن مثل هذا الجنون وقتي يذهب لدى نزول صاحبه على الأرض. ثم كانت معنا في السفينة شحنة من الثيران مرسلة إلى أسبانيا ليمثل بها - المسكينة - (في الكوريداس)، ولكن قبل وصولنا إلى برشلونة بيوم، هبت عاصفة شديدة لم أذكر أني شاهدت في حياتي مثلها، فكانت أمواجها الصاخبة تهاجمنا، وكأنها في بأسها قبائل الهون المتوحشة، وكانت تصيح أثناء الهجوم صياحا شديدا، فإذا كان غرضها إذ ذاك أن ترعبنا فأنها أدركت حقاً بغيتها، إذ كانت حالنا جميعاً سيئة جداً كما أن أضلاع سفينتنا كانت تئن من جراء هذه الصدمات أنين الشيخ الهرم عند أزمة (لومباجو) حادة. . . وقد أمر القبطان بإلقاء الثيران في البحر حتى يخفف عبء المركب، ولا زلت أذكر ذلك المنظر البشع برغم عهده البعيد! كان يلقى بالثيران الواحد تلو الآخر وهي تصرخ كأنها تشهد السماء على جبروت الإنسان!
وقد أخرتنا هذه الزوبعة - التي ما زالت إلى اليوم أعجب من نجاتنا منها - يوما كاملاً عن ميعاد الوصول. .
ولما بلغنا في النهاية برشلونة، وتراءت لنا المدينة عن بعد، لم يكن فرحنا إذ ذاك يقل عن فرح (كرستوف كولومب) حين شاهد (سان سلفادور). . وقبل أن ينزل إلى البر، اقترب(26/36)
مني أحد أصدقائي الصغار، وهمس في إذني قائلا: أتعلم لماذا نجونا من العاصفة؟ ان القسيس كان يصلي من أجلنا طول الليل. فلما نقلت هذا الحديث إلى والدي ابتسم وقال: بل هي دعوات جدتك يا بني!. . أما أنا فأرى ان العناية لم تشأ ان يموت هذا الشاعر قبل أن يتم رسالته، ويغني على قيثارته حضارة العرب الفخمة بالأندلس!
حسين شوقي(26/37)
الشافعي واضع علم أصول الفقه
للأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرزاق أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية
الآداب
- 4 -
أ - الدراسات الفقهية إلى عهد الشافعي. ب - أهل الرأي وأهل الحديث. ج - الشافعي بين أهل الرأي وأهل الحديث وآثاره وكتبه. د - وضع الشافعي علم أصول الفقه
أ - الدراسات الفقهية إلى عهد الشافعي
1 - كان التشريع في عهد النبي عليه السلام يقوم على الوحي من الكتاب، والسنة. وعلى الرأي من النبي ومن أهل النظر والاجتهاد من أصحابه بدون تدقيق في تحديد معنى الرأي وتفصيل وجوهه وبدون تنازع ولا شقاق بينهم
ومضى عهد النبي عليه السلام وجاء بعده عهد الخلفاء الراشدين من سنة 11م5هـ - 632 إلى سنة 40هـ - 660 وقد اتفق الصحابة في هذا العهد على استعمال القياس في الوقائع التي لا نص فيها من غير نكير من أحد منهم، وفي هذا العهد أخذت تبدو الصورة الأولى من صور الإجماع بما كان يركن إليه الأئمة من مشاورة أهل الفتوى من الصحابة، وكان أهل الفتوى من الصحابة يومئذ وهم المعتبرون في الإجماع قلة لا يتعذر تعرف الاتفاق بينهم في حكم من الأحكام
ولم يكن يفتي من الصحابة ألا حملة القرآن، الذين كتبوه وقرءوه وفهموا وجوه دلالته وناسخه ومنسوخه، وكانوا يسمون (القراء) لذلك، وتمييزاً لهم، عن سائر الصحابة بهذا الوصف الغريب في أمة أمية - لا تقرأ ولا تكتب -
ثم كان عصر بني أمية من سنة 40هـ - 660م إلى سنة 132هـ - 749م وتكاثر الممارسون للقراءة والكتابة من العرب، ودخلت في دين الله أمم ليست أمية فلم يعد لفظ القراء نعتا غريبا يصلح لتمييز أهل الفتوى ومن يؤخذ عنهم الدين، هنالك استعمل لفظ العلم للدلالة على حفظ القرآن ورواية السنن والآثار وسمي أهل هذا الشأن (العلماء) واستعمل لفظ (الفقه) للدلالة على استنباط الأحكام الشرعية بالنظر العقلي فيما لم يرد فيه نص كتاب ولا سنة(26/38)
وسمي أهل هذا الشأن (الفقهاء) فإذا جمع امرؤ بين الصفتين جمع له اللفظان أو ما يراد فهما
وفي طبقات ابن سعد (كان ابن عمر جيد الحديث غير جيد الفقه، وكان زيد بن ثابت فقيها في الدين عالما بالسنن
وقد كان كثير من الصحابة والتابعين يكره كتاب العلم وتخليده في الصحف كابن عباس، والشعبي، والنخعي، وقتادة، ومن ذهب مذهبهم، وهؤلاء كلهم عرب طبعوا على حفظ جبلة العرب
قال ابن عبد البر: من كره كتاب العلم إنما كرهه لوجهين:
أحدهما - ألا يتخذ مع القرآن كتاب يضاهي به، ولئلا يتكل الكاتب على ما يكتب فلا يحفظ فيقل الحفظ. (مختصر جامع بيان العلم ص24)
ولما انقرض عهد الصحابة ما بين تسعين ومائة من الهجرة وجاء عهد التابعين، انتقل أمر الفتيا والعلم بالأحكام إلى الموالي إلا قليلا (عن عطاء قال: دخلت على هشام بن عبد الملك فقال: هل لك علم بعلماء الأمصار؟ قلت: بلى قال: فمن فقيه المدينة. قلت: (نافع) مولى ابن عمر، وفقيه مكة (عطاء بن رياح) المولى، وفقيه اليمن (طاوس) بن كيسان المولى، وفقيه الشام (مكحول) المولى، وفقيه الجزيرة (ميمون) بن مهران المولى، وفقيها البصرة (الحسن، وابن سيرين) الموليان، وفقيه للكوفة (إبراهيم) النخعي الغربي، قال هشام: لولا قولك عربي لكادت نفسي تخرج) مناقب الأمام الأعظم للبزاز جـ1 - ص57
عندئذ تضاءلت النزعة العربية إلى خطر التدوين وصارت كتابة العلم أمراً لازما (عن سعد بن إبراهيم قال: أمرنا عمر بن عبد العزيز المتوفى سنة 101هـ - 720م بجمع السنن فكتبناها دفترا دفترا فبعث إلى كل بلد له عليها سلطان دفترا) مختصر جامع بيان العلم ص33
وقد بدت مخايل نهضته في التشريع الإسلامي منذ ذلك العهد فحصل تدوين بعض السنن وبعض المسائل ولم يصل إلينا من تلك المدونات إلا صدى
ويقول (جولد زيهر) في مقاله عن كلمة (فقه) في دائرة المعارف الإسلامية: (وينبغي ألا يعطى كبير ثقة لما نسب لهشام بن عروة من أنه في يوم الحرة حرقت لأبيه كتب فقه، ولا(26/39)
يمكن أن يتصور بحال أنه في ذلك العهد البعيد كانت توجد كتب بالمعنى الصحيح وإنما هي صحائف متفرقة، وتوفي عروة سنة 94هـ - 712 التي كانت تسمى (سنة الفقهاء) لكثرة من مات فيها من الفقهاء)
وبالجملة: فانه إذا كان دون شيء لضبط معاقد القرآن والحديث ومعانيها في عهد بني أمية، فان التدوين في الفقه بالمعنى المحدث لم يكن إلا في عهد العباسيين.
هذا هو الرأي الذي كان مقررا بين الباحثين لكن (جولد زيهر) يذكر في المقال الذي أشرنا آنفا ما يأتي: (وقد اكتشف (جرفيني) بين المخطوطات القيمة في المكتبة (الامبروزية) بميلانو الخاصة ببلاد العرب الجنوبية مختصرا في (الفقه) اسمه (مجموعة زيد بن علي) المتوفى سنة 122هـ - 740م وهو منسوب إلى مؤسس فرقة (الزيدية) من الشيعة، وعلى ذلك تكون هذه المجموعة أقدم مجموعة في الفقه الإسلامي، وعلى كل حال ينبغي أن يوضع هذا الكتاب موضع الاعتبار فيما يتعلق بتاريخ التأليف في الفقه الإسلامي. وإذا صح: أنه وصل إلينا من بطانة (زيد بن علي) وجب أن نعترف بأن أقدم ما وصل إلينا من المصنفات الفقهية هو من مؤلفات الشيعة الزيدية
على أن البحث الذي أثير لتعيين مركز هذا الكتاب بين المؤلفات الفقهية لم يكمل
ومن أسف ان هذا البحث لم يثره مسلمون ولا أثير في بلاد أسلامية
وقد ذكر صاحب (الفهرست) عند الكلام على (الزيدية) ما نصه: الزيدية الذين قالوا بإمامة زيد بن علي عليه السلام، ثم قالوا بعده بالإمامة في ولد (فاطمة) كائنا من كان بعد أن يكون عنده شروط الإمامة، وأكثر المحدثين على هذا المذهب مثل: (سفيان ابن عيينة) و (سفيان الثوري). . . ص187
وعلاقة هذين الإمامين بنهضة الفقه عند أهل السنة تجعل للبحث الذي يشير إليه (جولدزيهر) شأنا خطيرا
وجاء عهد العباسيين منذ سنة 132هـ و749 - 750م وشجع الخلفاء الحركة العلمية وأمدوها بسلطانهم، فكان طبيعيا ان تنتعش العلوم الدينية في ظلهم، بل كانت حركة النهوض أسرع إلى العلوم الشرعية لأنها كانت في دور نمو طبيعي وتكامل
وهناك سبب آخر يذكره (جولدزيهر) في كتابه (عقيدة الإسلام وشرعه) هو: أن حكومة(26/40)
الأمويين كانت متهمة بأنها دنيوية فحلت محلها دولة دينية سياستها سياسة ملية
كان العباسيون يجعلون حقهم في الإمامة قائما على: أنهم سلالة البيت النبوي، وكانوا يقولون: انهم سيشيدون على أطلال الحكومة الموسومة عند أهل التقى بالزندقة نظاما منطبقا على سنة النبي وأحكام الدين الإلهي
ويلاحظ أن المثل الأعلى للسياسة الفارسية، وهو الاتصال الوثيق بين الدين والحكومة، كان برنامج الحكم العباسي
(وقد اقتضى ضبط أمور الدولة على منهاج شرعي، جمع الأحكام الشرعية، وتدوينها)(26/41)
مِن طرائف الشِعر
نشيد النيل
للأستاذ محمود الخفيف
طالما سرت وقد طاب النسيم ... في بهاء الصبح أو صفو الأصيل
أجتني اللذات من روض النعيم ... حيث يجري النيل في الوادي الظليل
وأرى الشاطئ رفَّاف الأديم
يسحر الأعينَ مرآه الوسيم
سندس طلق وماء سلسبيل
مسرح للعين والقلب معا ... رائق الآصال وضاح البُكَر
قامت الأطيار فيه سُجَّعا ... وزكت فيه أفانين الزَّهَر
وبسلط الروض يبدو ساطعا
يمرح الشاعر فيه راتعا
بين دوْح ونخيل ونَهَر
ينجلي النيل لديه رائقا ... رائع الأقبال موفور الجلال
كجنين الصبح يبدو مشرقا ... في معاني الحسن مفقود المثال
ساقه الله فراتا دافقا
طافح البشر نميرا مونقا
آية في الكون من آي الجمال
يا وريد القلب في الوادي الخصيب ... أنت يا من وهب الوادي ثراه
سر تدفق أيها النهر الحبيب ... يا عبابا يبهر الفكرَ مداه
يا جديدا وهو للدهر ضريب
يتجلى فيك لي معنى عجيب
فطن القلب إليه فوعاه
أنت كالمصريِّ في نزعته ... زاخر بالخير فياض المعين
خالد تحكيه في فطرته ... وداع تنساب في خفض ولين(26/42)
حالم كابنك في رقته
ولقد تحكيه في غضبته
باعتكار ثم تصفو بعد حين
أنت في الوادي تراث الأزل ... لم تنل منك تصاريف الزمن
وستبقى مستدام الأجَلِ ... ليس يعروك فناء أو وَهَن
ذاكراً للناس عهد الأول
باعثا في مصر روح الأمل
حافزا للجد أشبال الوطن
إيه يا رمز المعالي والخلود ... قد شهدت المجد والدهر غلام
وصحبت العز في كل العهود ... في هجير الحرب أو ظل السلام
قِرَّ عينا أيها النهر الودود
قد صحونا بعد أن طال الهجود
وجمعنا بين رأي واعتزام
أيها النيل سلام عاطر ... ما أضاء الصبح أو أمسى المساء
لك يا نيل وفاء ظاهر ... وصفاء لم يكدره الجفاء
قد دعانا منك عزم صابر
لا روانا بعد فيض غامر
ان صدفنا اليوم عن هذا الدعاء
تحية الرسالة في مستهل عامها الثاني
للأديب فخري أبو السعود
حيَّ الرسالة في أولى مراحلها ... وودِّع العام عنها خير توديعِ
أوْفَتْ على عامها الثاني فلا برحت ... تسير للنُّجح سيراً غير مقطوع
تحية الشعر يهديها لأروعَ ذي ... ماضٍ مكينٍ وفضل غير مدفوع
صافي النسيج إذا ما راح يحْكِمُه ... ورصّع اللفظ فيه خير ترصيع(26/43)
عف المقالة لم تهمم يراعته ... يوما بهجوٍ ولم تعمد لتقريعِ
ضمتْ جهابذةَ الفصحى رسالتُه ... في حُسنِ سمْطٍ نضيدِ النَّظم مجموع
ومهَّدتْ لحصيف النقد مخلصه ... ونَوَّهَتْ برصين الشعر مطبوع
فجال فيها جِيادُ النثر واستَبَقَتْ ... ورَّجع الشعر فيها أي ترجيع
وصال فيها أساطينٌ الو هِمَم ... مِنْ كلْ ذي قلم للعلم مشروع
يُبَسطَّون بها للدرس منهجه ... على طراز عزيز النَّدِ ممنوع
أئِمة الضادِ من عِشرينَ تَعْرِفهمْ ... في منتدًى للحجى والفضل مرفوع
قد أترعها بنبع من قرائحهم ... ومِن مَعين اللغى الأخرى بينبوع
ترضي صحافة مصر عن رسالتهم ... وعن جهاد لها بالنجح مشفوع
قد احتوتْ في قليل من صحائفها ... كل الفنون وجابت كل موضوع
وأشرقت كلْ شهر مرتين لنا ... واليوم تشرق فينا كل أسبوع
حلم
للشاعر الدمشقي أنور العطار
ذَوبْتُ في رَوْعهِ الامْسَاء أتْرَاحى ... وَصُغْتهَا نَغَمَات ذَاتِ أفْرَاح
أعيِذٌ أشعْارٍيَ الضَّحَّاك مَبْسِمُها ... منْ كُلِّ مُسْتَرْسِلِ الأعْوَالِ نَوَّاح
مَا قيمةُ العَيش نمضيهِ مُرَوَّعةً ... أحْلاَمُنّا بخَيّالاَت وأشْبَاحِ
يَسْمُو بِكَ الكَونُ إمَّا زدّتَهُ مَرحاً ... وَالكَوْنُ ملكُ لعُوبِ الْحُلْم مِمْراحِ
إِغْفَاءةٌ تَعْدلُ الدُّنْيَا بمَا نِهلتْ ... أفْيَاؤهِا مْن نَعِيِمٍ غَيْرِ مِنْجَاحِ
فَغطَّ فيِ حُلْمِكَ الفِضِّيِّ مُطَّرحاً ... إِسَار عَيْش طَويل الهَمِّ مِلْحَاحِ
فقِي غيَابَتِهِ تغفى موَاجُعنا ... كَأنَّمَا قَد مَحَا آثَارَهَا مَاحِ
يا غيْبُ! مهدِّ لِرُوحي فيكَ معتكَفا ... رحبَ الاعاليلِ خصْباً جِدَّ مَنَّاحِ
مُجنَّح الحُلْم مبثوثَ الأطار رُؤىً ... كالفجرِ ما بينَ تعتيمٍ وإِصباح
يُعِله النورُ أو تَعرى مَحِفته ... كأنها زهرةٌ في كف سباح
تِغيم بالزَّبد الواهي غِلالتُها ... فتنجلي عن جبينٍ مُشْرقٍ ضاح(26/44)
وإِن تَضِع في مطافٍ جاهد عسِرٍ ... تظفرْ بفيءٍ وأمواهٍ وأرواح
هذى سماؤك فانظمْ في روائِعها ... شعرَ الخلودِ بتَبيانٍ وأفصاح
يعيرُك الشفق الرَّجراج قافيةً ... من كل مؤتلق الألوانِ لماح
ففي الغيوم أناشيد وأخيلةٌ ... صبَيغةٌ بسَناً كالفجرِ وضَّاح
يا زورقَ الشعرِ جُزْ يَمَّ الدنى فرِحا ... لأنتَ في غُنيةٍ عن كل ملاَّح
رُبَّانكِ الحبٌ، لا تثنيه غاشيةٌ ... عن السُرى في سماء ذاتِ ألواح
الخلود
للأستاذ خليل هنداوي
وساقية راعها قائل ... (نجئ، ونذهب كالساقيه)
فقالت - واَلمها قوله ... متى أدركت روحه شانيه؟
خرجْت من الأرض دفَّاقة ... وودَّعتُ أرض الحمى باكيه
ما كان معنى خريري سوى ... بكائي على نفسي الفانيه
هويتُ إلى البحر مضطرة ... لي الله من قطرة هاويه!
فما غمرتني - سوى برهة - ... من البحر أمواجه الطاغيه
فحُمَّلْت فوق متون السحاب ... وعدت إلى وطني ثانيه
فِأدركتُ بخلود الوجود ... فتسمعني إذن واعيه
وقد أدرك الروض هذا الحديث ... فلم يبك أزهاره الذاويه
وقد فهمتهُ طيور المروج ... فما أسلمت روحها شاكيه
وان تبك لا تبك إلا على ... مظاهرَ قد بُدِّلت ثانيه
مظاهر تسمو بقدر الطموح ... وتسفل في الأنفس الدانيه
فمن وردة رجعت شوكة ... ومن شوكة. . . وردة ساميه
ومقياس ذلك في رغبة ... تقود إلى المثل العاليه
رويداً! فأنت هنا خالد ... تروح وترجع كالساقيه. .
دير الزور(26/45)
احب السماء
أحبُّ السماَء إذا ازَّينتْ ... بأنجهما وأطل القمرْ
وماجتْ بموكبها في الظلام ... كبحرٍ تَلاَمَحُ فيه الدُّرَرْ
أحِبُّ السماَء إذا أبرقتْ ... بليلٍ وجَلْجَلَ فيها السحابْ
وغارت بها الانجم الزاهراتُ ... كما غَيَّبَ الهامدينَ التراب
وعمَّ الدُّجَى واكفهرَّ الغمامُ ... كوجهٍ تلبَّدَ فيه الأَسَى
وهَبَّتْ تعربد ريح الشتاءِ ... وضَلَّ شريدُ القضاء الحمَى
أحبُّ السماء إذا ما الربيعُ ... كساها من الورد أبهى وشاح
وأضحت مجالا لأنفاسه ... ومهداً عليه الأصيلُ استراح
حمص
رفيق فاخوري
الوردة الذابلة
قالت وقد ألفْت على وجها ... لفحة سقم لم تكد تنجلي
إن تذبل الوردة ظلّت لها ... بقيةٌ من عطرها الأوّل
قلنا وطيّ النفس ماطْيها ... لو شاءت الوردة لم تذبل
لو شاءت الوردة كنا لها ... ندى إذا الأنداء لم تنزل
لو شاءت الوردة كنا لها ... شوكا يقيها عبثَ الأنمل
لو شاءت الوردة كنا لها ... أرضا مُوَّطاة على جدول
لو شاءت الوردة كنا لها ... شمسا تريقُ الضوء في معزل
فظلّ للوردة ما أُعطيت ... من ناضر الحسن وغالي الحلي
لكنها اختارت لها مغرسا ... بمثلها في الورد لم يجمل
حيث الثرى سمُّ وحيث الندى ... هم وحيث الضوء لم يُرسل
فكان حقا أن ترى حسنها ... يذوي وأن لا تُعجب المجتلى(26/46)
وإن تعّزتْ ببقايا الشذى ... فهو عزاء الكحل للأحوال
محمود عماد(26/47)
استدراك
كتب إلينا الأديب محمد حسنين احمد يلاحظ على عبارة وردت في مقالة (فلسطين) المنشور في العدد الماضي بقلم مستر كنيث وليمامس، يستفاد منها أن مستر لويد جورج كان رئيسا للوزارة البريطانية قبل الحرب، ويقول ان الحقيقة ليست كذلك، والواقع ان هذه العبارة وردت بنصها في مقال الكاتب الإنجليزي ونقلتها الرسالة مترجمة كما وردت. وهي سهو من الكاتب بلا ريب، لان لويد جورج كان قبيل الحرب وزيرا للمالية في وزارة مستر اسكويث، ثم كان في بداية الحرب وزيرا للذخائر في هذه الوزارة أيضا ولم يتول الرياسة إلا في ديسمبر سنة 1916. والمرجح ان كاتب المقال يقصد (أثناء الحرب) (لا قبل الحرب)
العلوم
في النبات، وحشة وأنيسة
للدكتور أحمد زكي
كلما كثر السكان وضاقت المناطق العامرة بالناس، نزحوا عن أوطانهم طلب الوسعة في الأرض وما يستتبعها من الوسعة في العيش، والاستعمار دأب الإنسان من قديم. إلا أن صفات العصر وأساليب الوقت في مرافق الحياة كانت تؤثر فيه فيتئد حينا ويسرع حينا. فلما كانت الدواب وسيلة التقلب في جَنَبات اليابسة، والشراُع حامل الإنسان على ظهر المائعة ودفاع الإنسان لما يلقى من وحش جائع وناب كاشر سيفاً ورمحا، وأدائه في تذليل الأرض مِعولا وفأسا، وسقايته لها رهينة بما يجد عفوا من نبع يتفجر أو نهر يزخر، أو مطر يهطل حينا ويمتنع حينا، وعلمه بزراعتها علما يسيرا علمته إياه التجربة المبتَدَهة والأخطاء المتكررة، كان استعماره للأرض بطيئا، وانتشار الجنس الإنساني على هذه الكرة محدودا. وكان يزيد في بطئ استعماره وقلة انتشاره ما في طبيعته من حب ارتباط بأرض ألفها ومهابط اعتادها، وذكرى لماضيه أوثقها بحاضره، وعادة يسرت حاضره فأمل اضطرادها في تيسير مستقبله، أما وقد تغيرت صفات العصر وتبدلت أساليب العيش، فأصبح البخار دابته على اليابسة والمائعة، والبنزين مطيته يشق به الأرض ويفلق الهواء،(26/48)
واصبح دفاعه الحديدَ الصارخ والجمر الطائر، وأداته في تذليل الأرض المكنات الكثيرة تديرها الأكف القليلة، وسقايته لها ترتبط بإرادته أكثر من إرادة الماء، وترتهن بهندسته أكثر نم ارتهانها بالأمطار والانواء، وصار علمه بزراعتها علماً غزيراً علمته إياه التجربة المقصودة والأبحاث المنتظمة، فقد أسرع الاستعمار إسراعا لم يعهده التاريخ، حتى ليُنذر بأن لا تبقى رقعة من الأرض لا تطؤها قدم مستعمر. حتى الروابط التي كانت تربط الإنسان بأرضه الأولى، فتمنعه، أن ينزح النزحة الأولى، قد هانت بسهولة المواصلات وسرعتها لانه إذا هو استبدل جديداً بقديميستطيع الآن إلى حد كبير ان يجمع بين موطن عتيق وموطن مستحدث، ويمد خيوطه طويلة ميسورة إلى سلف وراءه وخلف أمامه، ويؤلف في سهولة بين ما استدبر من أمسه واستقبل من غده
جميلٌ أن يرى الإنسان الحضارة تعم الأرض، ومعجبٌ مُزهٍ أن تلفّ العمارة المعمورةَ لفَ الهواء لها، ولكنها خسارة كبرى كذلك أن تذهب هذه الحضارة والعمارة بكل حيوان يَستْأنس، وبكل نبات لا يخضع لترويض الإنسان. لقد ضاع من أمثال هذا الحيوان ما ضاع، أو قلّ حتى إذن بالضياع، وانقرض من النبات ما انقرض، أو إذن بالانقراض وارتفعت أصوات في العصور القريبة تنبه إلى ذلك وتطلب حماية المستوحش من الحيوان، والنبات على السواء، وانعقدت أخيرا بلندن جمعية غرضها حماية الأصقاع الأفريقية الوسطى من التعمير وحفظها من عبث المدينة، وصيانتها صيانة الأثر الحي الخالد، وهي صيانة بالسلب، وحفظبالترك، فلا تكلف دينارا ولا درهما. وفي الحق كيف تجوز علينا صيانة المعابد ورعاية الهياكل والاعتزاز بصحاف من خزف ودوارق من صلصال وهي جميعا من صنع الإنسان المتحضر، فلا تزيد أعمارها عن قليل من آلاف السنين، ثم لا نصون آثارا أذهب من هذه في القدم وأبعد في العراقة من الإنسان. تلك يستعاض عنها إذا افتقدت، ويقام على أنقاضها إذا تهدمت، أما هذه فما ذهب منها فلغير رجعة، وما فني فلغير إيجاد. تلك تعيدها الصناعة، وهذه لا يعيدها إلا الخلق، والخلق ليس من عمل الإنسان.
وفوق هذا فالحيوان المستوحش والنبات البريّ، ان رثت صلتهما بالإنسان في نظام الخليقة العام. وتباعدت منابتها عن منبتة في جدول الاجناس، فان بينهما صلات قريبة وبين ما(26/49)
استأنس الإنسان منهما فكل حيوان مستأنس كان متوحشا يوما ما ونحن الذين أنّسنَاه، وكل نبات كان مستوحشا كذاك يوما ما ونحن الذين ألفناه، ولا يزال يوجد في الوحشي من الحيوان والنبات أشباه ونظائر لتلك التي تعيش بيننا في رخاوة ودعة، ولكن هذه النظائر كانت قليلة فزادت قلَّة، وهذه الأشباه كانت نادرة فزادت ندرة، فإذا نحن إذنا للعمارة أن تمتد بلا حدّ فقد قطعنا آخر الخيوط الواهنة التي تربط حاضر الأحياء بماضيهم، وطمسنا في رقعة الأحياء الخانات القليلة الباقية التي فاتها الطمس، وجئنا على آخر الأدلة الحية على أصل الإنسان والحيوان والأواصر التي بينهما
متى كان تأنيس النبات وأين كان؛ ومن أول من قام به - كلها أسئلة لا يستطيع إجابتها إلا بالحدس والظن وإعمال الخيال. والخيال إذا أصاب مرة أخطأ مرارا، ولكن مما لا شك فيه أن هذا كان والإنسان في حداثته الأولى، قبل التاريخ المعروف، وقبل العصور التي سّجل أحداثها الحجر. ففي مقابر المصريين فيما قبل عصر الأسر وفي العراق في منازل عريقة في القدم. وكذلك في الحفائر عن بقايا سكان مناطق البحيرات السويسرية والإيطالية كشفوا عن حبوب من القمح في درجة عاليه من التقدم النباتي ما كان يبلغها لولا تدريب سبق، طال حتى ضاع أصله في الأحقاب القديمة وامتد إلى الوراء حتى اختفى في حلوكة العصور الأولى. ان مكتشفات الإنسان كثيرة واختراعاته الخطيرة عديدة، وكلها كان لها نصيب في تقدم الانسان، وقد تختلف في المفاضلة بين هذا المخترع وذلك المبتدع، ولكن قليل من يماري في أن أكبر اكتشاف وأخطر ابتداع ساق قدم الإنسان إلى أول الدرجات من سلم الرقيّ الذي نراه اليوم، ذلك الاكتشاف الذي امحي أصله بإمحاء الحياة الأولى، وضاع سره مع سر الإنسان القديم، ذلك إمكان تأنيس النبات - تلك الحقيقة التي فطن إليها آباؤنا الأولون من أن بعض النباتات يمكن ترويضها وتمريضها وتَنْشِئتها وهدهدتها فتعطي ثمرات كثيرة وغلاّت وفيرة تكون غذاء مأمونا مضمونا يسكن الإنسان إليه في المكان الواحد العام بعد العام؛ لا يقلقه الترحل ولا تتلاقفه السهول والجبال. تلك الحقيقة التي خلقت أولى الصناعات وأكثرها تأصلا وعراقة، تلك الزراعة التي كانت وما زالت أس المدنيات جميعها،
إن النباتات القابلة للتأنيس قليلة، وقليل من هذه ما يعطي حبا أو ثمراً يصح أن يتخذ غذاء(26/50)
أساسيا كافيا للإنسان، وهذه متفرقة على سطح البسيطة، وهي كالحيوان لها مواطن خاصة من سطح الأرض، فمنها الأفريقي والأسيوي والأمريكي، وفي هذه المواطن دون سواها نشأت المدنيات البائدة، حتى ليكاد الفكر والبحث يردّ كل مدنية قديمة إلى حب أساسي، وكل حضارة بائدة إلى ثمر أصلي. فالمدنيات الأمريكية قبل كولومبس تركزت في الأصقاع الاستوائية وامتاز كل منها بغلة كانت أساسا لمدنية، فغلة المكسيك الذرة، وغلة بوليفيا واكوادور وبيرو البطاطس، فحضارة المكسيك العتيقة التي كشفت عنها الحفائر الحديثة حضارة ذرويه، وحضارة أمريكا الجنوبية بطاطسية
وليس معنى هذا أن تلك البلاد لم تنتج من النباتات غير الذرة والبطاطس، فقد أنتجت أنواعا من الخضر والفواكه لكنها ثانوية في تغذية الإنسان. وفي الدنيا القديمة، أو التي لا نزال نسميها الدنيا القديمة على الاعتبار الخاطئ، ان أمريكا لم يكن لها حياة مسرفة كذلك في القديم قبل أن (اكتشفها) كولومبس، تركزت فيها المدنيات حول المناطق التي تنتج أغذية أساسية لحياة الإنسان. وهي القمح والشعير والقرطم والشيلم وتنبت فيما حول البحر الأبيض المتوسط وآسيا الصغرى والجانب الجنوبي الغربي لآسيا، والأرز في الهند والصين. ولا نزال اليوم نجد نوعا من الأرز البري ينبت (شيطانيا) في الهند وفي جنوب الصين؛ وهو لا شك جَدٌّ لأنواع الرز الحديثة. كذلك نجد في آسيا الصغرى وفي الجنوب الغربي لآسيا أنواعا من النبات تمتّ إلى القمح والشعير والقرطم بوشائج من الرحم على بعدها بيِّنة واضحة
ومن المدهش أن نباتات أمريكا فيما قبل (كولومبس) أي عام 1500 ميلادية تختلف كل الاختلاف عن نباتات الدنيا القديمة. فلم يكن بينهما نبات مشترك واحد. كان في أمريكا الذرة والبطاطس والبطاطا وأنواع من الفول والطماطم والفلفل والفول السوداني والأناناس والجوافة والكاكاو وغير هذه من أجناس أخرى غير مشهورة لدى الناس. ولم يكن في أمريكا في تلك العهود من حيوانات الدنيا القديمة غير الكلب. وكان في الدنيا القديمة من النباتات المستأنسة القمح والشيلم والشعير والقرطم والدخن، والأرز وكلها حبوب أساسية في تغذية الانسان، واللفت والبصل والسبانخ والخس والحمص والعدس والسمسم وغيرها
قال العمدة النباتي (ألفونس دي كندول) في كتابه الأثري (أصل النباتات المزروعة) عام(26/51)
1882: (وفي تتبع تاريخ هذه النباتات لم أجد أثرا لصلة كانت بين سكان الدنيا القديمة وسكان الدنيا الجديدة فيما قبل العصر الكولومبسي) وقال العالم الأحدث فافيلوف (1931): (ان الزراعة في أمريكا قبل العهد الكولومبسي نشأت نشوءاً مستقلا عن الزراعة في الدنيا القديمة، فإذا نحن قلنا مع أغلب البحاث ان سكان أمريكا القديمة أتوا من آسيا وجب أن نقول أيضا أنهم أتوا فارغة أو طابهم من كل نبات أسيوي. ومعنى هذا إن النبات في الدنيا الجديدة استأنست عن أجناس وحشية نبتت في تلك الأصقاع ذاتها) ولكن لما فتح كولومبسي أمريكا للعالم القديم، وصح عند الناس أن بلداً كبيرا واسع الغنى خبيئ الثورة قد انكشف، ركبوا إليه أفواجا بأهلهم ومتاعهم وحملوا معهم ما عرفوا من الحيوان وما ألفوا من النبات وبذوره. وبذلك نقلوا المستأنس من الحيوان والنبات إلى ذلك البلد الجديد، ورجعوا إلى بلدهم القديم بنبات تلك القارة الجديدة الواسعة وبحيوانها. ودارت الأفلاك بالسنوات والأحقاب. والإنسان دائب في مزج أحياء المشرق بأحياء المغرب غير متعمد ذلك ولا قاصد إليه، حتى ضاعت المواطن الأولى لتلك النباتات وأمحت قوميتها، وتأقلمت فاستترت سيماء الأجنبية منها، واستعربت فاختفت مظنة العجمة فيها. أو استعجمت فذهبت العروبة عنها، فالمصري يزرع الذرة والبطاطس ويحسب أنها مصرية وهي أمريكية، والأمريكي يزرع الأرز والموز وجوز الهند ويحسب أنها أمريكية وهي أسيوية. وما جرى بين أمريكا والدنيا القديمة جرى لا شك بين تلك القارات فيما بينها وبين أصقاع القارة الواحدة
اختلطت نباتات الأرض فاستبهمت أصولها، وانتشرت حيواناتها في البلاد فأصبحت كل أرض بلدها، فهل يكون للإنسان، وهو جنس واحد من الحيوان. مثل هذا المآل؟
احمد زكي(26/52)
البلجاء
للآنسة سهير القلماوي ليسانسييه في الآداب
ظلت العراق شوكة في حلق الدولة الأموية إلى أن جاءها منه ما قوض أركانها وهدم سلطانها. وظلت العراق موطنا لكل خارج على الدولة الأموية تأوي كل من يرى فسادا فيما آلت إليه الحال وكل من يحس سخطا على القائمين بالأمور. آوت العراق أهم فرقتين كانتا ساخطتين على خلفاء بني أمية وسياستهم وهم الشيعة والخوارج.
كان هم كل وال جديد على العراق أو أحد مصريه الكوفة والبصرة، أن يحارب هاتين الفرقتين حربا تختلف قوة وضعفا باختلاف شدة معارضتهما أيام ولايته وباختلاف طبيعته الشخصية وما تحتمل تلك الطبيعة من منظر سفك الدماء وإزهاق الأرواح
ما كاد العراق يتنفس في شيء يسير من الراحة بعد موت زياد حتى ابتلاه معاوية بمن هو إلى السر أسبق ولو في تهور، وإلى سفك الدماء أسرع ولو في ظلم وعدوان - ابتلاه بعبيد الله بن زياد
أما الشيعة فكانت تصطنع الاستكانة شيئا ما، وما زال عهدها بزياد قريبا وما زال مقتل حجر بن عدي وصحبه يتمثل لها فترتجف لهوله القلوب ويثور من اجله في النفوس شيء من السخط. ولكنه سخط مستسلم أو قل هو سخط يستعد ويدبر للثورة والانتقام
وأما الخوارج فما زالت دعوتهم قوية لا تعرف تسترا ولا رفقا كانت شعلة تحرق ما يقف في طريقها كانت نارا مقدسة من الإيمان الجارف القوي تلهبه القلوب وتلهبه الضحايا البريئة الطاهرة التي كانت تقدم في كثير من التنكيل والإسراف قربانا على مذبحه.
أصبحت البصرة منذ مقدم ابن زياد مرجلا يغلي بما فيه من خوف وقلق واضطراب، كل يتستر بعقيدته، يجتمع وصحبه ولكن في حذر كل الحذر. كل يبث دعوته ولكن في حيطة دونها كل حيطة. عرف أهل البصرة في وإليهم الجديد نوعا من البطش قلل في نظرهم شيئا من بطش زياد على قرب عهدهم به. هذا البطش الجديد لم يكن يقف عند حد، لم يكن يعرف شيئا من الأناة في تنفيذ اشد العقوبات وانكاها، لم يكن يعرف هوادة ولا تريثا وإنما كان قوة تكتسح أمامها كل شيء، لا تعرف إلا إنها قوة وإلا إنها يجب ان تندفع.
نال الخوارج من هذا البطش ومن هذا النكال النصيب الأوفر فقد قتل منهم عدد غير قليل(26/53)
ولم يكن قتلا عاديا وإنما كان قتلا يقصد به الردع والإرهاب كأشد ما يمكن ان يكون الردع والإرهاب كان صلبا، كان تقطيعا للأيدي والأرجل في الساحات العامة، كان قتلا لا ككل القتل، كان القتل صبرا ولم تكن الضحايا فرادى وإنما كانت جماعات.
عرف الخوارج منذ أول ظهورهم بشجاعة نسائهم وجهادهن معهم. ويذكر الخوارج في تاريخهم عددا غير قليل ممن استشهدن وحاربن بل ممن قاتلن وتبارزن في سبيل نصرة المذهب الجديد. ولقد غاظ زياد أمر هؤلاء النسوة، ماذا يفعل بهن لقد نهى الرسول عن قتل نساء المشركين أثناء حروبه معهم فكيف بنساء المسلمين. ولكن أمر هؤلاء النسوة لم يكن يسيرا. لقد كن ينشرن الدعوة فتسير كالنار في الهشيم لابد لهن من عقاب رادع، لابد لهن من شيء فوق طاقتهن حتى يعدن إلى ما خلقن له حتى يدعن الجهاد لمن هم به أولى وعليه أقدر. وتذكر فعل الوالي قبله. لقد قتل زياد خارجية وعراها وعراها في الميدان العام فلم تظهر خارجية بعدها أمرها أيام زياد. لقد خفن العار وإن لم يخفن الموت. أتتحسبن انه لن يقدر على هذا، كلا فوالله لو ظفر بإحداهن ليجعلها عبرة لمن بعدها.
وبسط هذه القلاقل كان أبو بلال مرواس زعيم الخوارج إذ ذاك يجتمع بصحبه كل مساء يتدارسون مذهبهم ودينهم ويتدبرون حالهم وما يستطيعون أمام هذا السلطان العاتي. يفكرون في أمور الدولة وأعمال الوالي الجديد ويدبرون خططا جديدة لبث الدعوة وتيسير السلطان لمذهبهم.
كان بين هؤلاء الصحب امرأة تعرف بالبلجاء فإذا ما جلس أبو بلال جلست إلى جواره تستمع إلى حديثه في شغف وتلتقط الكلام من فم هذا الذي كادت تؤلهه الجماعة كأنما كلامه قطرات ماء وكأنما إذنها قد أعياها طول العطش. وكان أبو بلال سمح الطبع قوي الإيمان فاستراح لقرب تلك السامعة، وحفظ لها في قلبه مكانة عظيمة. لقد أعجبه منها إيمانها وتعلقها بالمذهب، تسأل عما أشكل عليها فيه فلا تمل سؤالا. ولم يكن هو ليدخر جهدا حتى يوفق في إجابتها إلى الجواب المقنع الشافي.
ظلت البلجاء هكذا زمنا إلى ان آمنت بالمذهب الجديد إيمانا لا يرتضى سكوتها وهدوءها. فبدأ الإيمان يملي عليها العمل والتضحية في سبيله شأن كل إيمان يتم نضوجه ويعم القلب نوره. قامت البلجاء بدورها تبث الدعوة بين أهل البصرة فيلبي دعوتها الكثير. ولكنها ما(26/54)
زالت تختلف إلى مجلس أبي بلال بعض الليالي تأنس بالشيخ وبصحبه فينمو إيمانها في هذا الجو المشبع إيمانا ويقوى جلدها على احتمال أتعاب النهار وأخطاره
جلس أبو بلال ذات ليلة وانضم حوله الصحاب متشوقين إلى سماعه، فما عرفوا لديه إلا الصواب، متلهفين إلى حجمه وآيات إيمانه، فقد كانت لقلوبهم وعقولهم خير غذاء في هذا الجو المكفهر المضطرب. ولكنه ما كاد يلتئم جمعه ويبدأ حديثه حتى قام إليه أحدهم وهو غيلان بن خرشة الضبي وقال: (يا أبا بلال أني سمعت الأمير البارحة عبيد الله بن زياد يذكر البلجاء واحسبها ستؤخذ.)
وجم المجلس وفكر الشيخ طويلا. فالبلجاء كانت من خير أعوانه، وكان الذين دخلوا على يديها في المذهب الجديد غير قليلين، فلابد إذن أن ابن زياد عرف هذا ولابد أنه بعد أن عرف قدر وفكر، ولابد انه من بعد أن قدر قرر، ويا عظم ما قرر! وتنازعت نفسه عوامل عدة ولكن أقواها كان الخوف على البلجاء، خوف العار لا خوف القتل.
ولم يستمع القوم لأبي بلال هذا المساء فقد كان فكره مشغولا وعقله مضطربا. ينتظر البلجاء فلا تأتي، ويطول الانتظار. وما كاد المجلس يخلو حتى عدا إليها مسرعا. وفي الطريق قدر رغم إسراعه وفكر. ماذا يقول لها؟ ثم يصحها؟ لقد كان يذكي إيمانها كل يوم فيسره هذا الإذكاء، أيطفئ اليوم هذا النور بيده أو يداريه فيحجب شعائه، ولكن بطش زياد عظيم وانه لجبار عنيد.
وصل إلى بيت البلجاء فوجدها قد آوت إلى فراشها من تعب النهار ولكنها ما كادت تسمع صوت أبي بلال في الفناء حتى قامت إليه مسرعة وقلبها يكاد يحطم صدرها من اضطرابه ما سر هذه الزيارة المتأخرة؟ وماذا عند أبي بلال وقد آوى الناس إلى فراشهم إلا القليل؟ ولكن أبا بلال لم يطل عليها الاضطراب فقد قر رأيه ولم يعد لديه إلا قولا واحد يقوله لها
- إن الله قد وسع على المؤمنين بالتقية فاستتري فان هذا المسرف على نفسه، الجبار العنيد قد ذكرك.
وكان موقف البلجاء جليا واضحا فلم يكن ذكر ابن زياد لها أمرا مستبعدا ولم يكن خوف أبي بلال عليها شيئا غير منتظر ولكن ألام يدعوها أإلى اليقين وهل عرف التقية ذوو الإيمان القوي؟ ورنت في إذنها الآية (إلا من اكره وقلبه مطمئن بالإيمان) أي رحمة، أي(26/55)
شفقة، أي تقدير للإنسان أي فهم لضعفه ولنواري ولكن الإيمان النار القوية الملتهبة ما هذه الحشرات التي تدنو منها الخوف؟ أخوف الموت؟ أعار التعرية؟ والنار القوية تحرق كل حشرة تدنو منها فتزداد بهذا الاحتراق قوة ولهبا وهؤلاء الذين دعتهم فلبوا أيشهدون خبو هذه النار التي مسهم شررها فآنسوا إليه؟ كلا كلا وايم الله!
- أن يأخذني فهو أشقى أما أنا فما احب أن يعنت إنسان بسبي.
السوق هائجة مائجة والناس تروح فيها وتغدو وعلى وجوههم غبرة قاتمة حاسرة. كل وجه عليه مزيج من علائم الحزن والاضطراب والاشمئزاز والسخط ماذا في السوق ما الذي يثير كل هذه العوامل في نفوس الناس فتغير من ملامحهم تغييراً أليما منكرا:
جاء أبو بلال إلى السوق والفى القوم على تلك الحال ولكن لم يتساءل فقد وجد أبصارهم عالقة بشيء منصوب عن بعد فما لبث أن رفع هو بصره إليه، مإذا؟ أجسد امرأة قطعت يداها ورجلاها؟ ومن تكون تلك التي أثارت حفيظة الأمير فنكل بها هذا التنكيل البشع؟ الجواب يضطرب في صدره ولكنه لا يقوى على تصديقه والمرء إزاء المصائب اعزل لا سلاح له إلا محاولة إنكار الواقع أيكون حلما؟ أأكون مخدوعا؟ والمصائب ثابتة في عالم الحقيقة تهزأ بهذا الإنكار.
دنا أبو بلال من أحدهم وفي نفسه أمل ضعيف خائر وهمس في إذنه من تكون؟
- البلجاء
واقترب أبو بلال من الجسد المنصوب وعيناه عالقة به ونفسه كليمة حسرى. ما اعجب الحياة وما أمر هزء الحقيقة إذا ما انتصرت على كل إشفاق من حقيقتها.
وأملت البلجاء على أبي بلال درسا عوض كل ما ألقاه عليها من دروس. ما هو؟ ما قيمته؟ وما قيمة تعظيم الجماعة إياه امام هذه في عليائها؟ ما أعظمها! ما اجلها! وما أحلى رضائها عن نفسها! وعض الشيخ على لحيته وقال لنفسه:
لهذه أطيب نفسا عن بقية الدنيا منك يا مرداس.
سهير القلماوي(26/56)
العَالم المسرحيّ والسّينمائِي
أزمة المسرح في مصر
لناقد (الرسالة) الفني
أصيب المسرح المصري في السنوات الأخيرة بضربات شديدة قضت عليه أو كادت. وانه ليحتضر الآن. ولا مفر من أن نشيعه عاجلا أو آجلا إلى مثواه الأخير لنعيد خلقه من جديد إذا وسعتنا الحيلة، وتوفرت الوسيلة، وتهيأت الأسباب التي تؤدي بنا إلى هذه الغاية.
وانظر كيف أصبح اليوم، وماذا كان بالأمس، وها نحن أولاء في أواخر ديسمبر والموسم المسرحي لم يبدأ إلا منذ أيام، ويالها من بداية فاترة لا تبشر بخير ولا تسفر عن عظيم. ولا نرى من الفرق القديمة إلا فرقة رمسيس، ثم إن هناك فرقة دار التمثيل العربي التي ألفت هذا الموسم وما نظن أن العمر سيمتد بها كثيرا لفقرها المادي والمعنوي وان كنا نرجو مخلصين للأستاذ عزيز عيد كل توفيق ونجاح، فقد خدم المسرح في السنوات الأخيرة خدمات كثيرة لا شك في قيمتها ونفعها، ولقد كان وما يزال من أهم العوامل البارزة في المسرح.
وهذا الفشل الذريع الذي أصيب به المسرح يرجع إلى عوامل عدة، يتصل بعضها برجال المسرح أنفسهم، وبعضها بالحكومة والبعض الآخر بظروف لم يكن في الوسع التغلب عليها إلا بتضافر القوى والجهود وهو ما لم يحدث مع الأسف.
وأعتقد مخلصا ان رجال المسرح هم الذين يحملون العبء الأكبر من المسئولية في هذا الانحطاط الذي وصلت إليه حالة المسرح اليوم. وأذ أقول رجال المسرح إنما اعني في المقدمة مديري الفرق لأنهم الرءوس المفكرة والأيدي العاملة، ثم هم الممولون الذين يتحكمون في كل شيء بحكم سيطرتهم المإليه فعليهم تقع التبعة الكبرى، ولا مناص لهم من مواجهة الحقائق والاعتراف بخطئهم.
قام نزاع شديد بين النقاد وبين مديري الفرق حول تقدير ذوق الجمهور الفني وتذوقه لبعض الأنواع من الروايات وإقباله عليها. فمديرو الفرق يقولون أن الميلودراما هو النوع المفضل عند الجمهور وان الروايات الفنية التي يطلب النقاد تمثيلها، لا يتذوقها المتفرجون ولا يقبلون على مشاهدتها الإقبال الذي يضمن لمدير الفرقة نفقاته التي تكبدها فضلا عن الربح(26/57)
الذي ينتظره كغيره من أصحاب رءوس الأموال. وطال النزاع بين الفرقين وكل يصر على رأيه، على أن مديري الفرق اندفعوا يخرجون على مسارحهم الروايات الميلودرام المليئة بالمشاهد المفزعة، المثيرة للأعصاب، وحذرهم النقاد من مغبة الأمر ولكنهم مضوا في طريقهم غير آبهين لشيء.
والآن. . . ها هو الزمن يقول كلمته الحاسمة في الحكم على الفريقين أيهما كان أهدى سبيلا وأبعد نظرا، وهذا الفشل الذي مني به المسرح أخيرا دليل صادق وحجة قاطعة على إن مديري الفرق كانوا على ضلال، وان النقاد كانوا على حق في تحذيرهم. فلو أن الجمهور كان يتذوق حقا الميلودراما لكان مديرو الفرق اليوم من أثرياء العالم المعدودين، فقد ظلوا لا يخرجون إلا هذا النوع من الروايات، ولكان حال المسرح اليوم غير هذه الحال، ولكن هذا الفشل الذي أصيب به المسرح، وصيحات الاستغاثة التي يصم بها مديرو الفرق آذاننا، دليل قاطع على انهم لم يجدوا في الميلودراما كنز قارون الذي كانوا يتوهمون.
على أن جريرة مديري الفرق لم تقف عند هذا الحد فقد أبعدوا عن المسرح خير الكتاب والأدباء الذين خدموا هذا الفن الجليل منذ نشأته بأقلامهم وروايتهم فرفعوا من شأنه، ووجهوا أنظار الشعب إليه، وجعلوا له مكانة محترمة ومنزلة سامية في النفوس، وانفض هؤلاء الكتاب عن المسرح وما يزال مكانهم شاغرا إلى اليوم، وخسر المسرح بابتعادهم خسارة لا تعوض.
ومن الحق ان نذكر ان الحكومة ينالها من المسئولية فيما يصل إليه حال المسرح الشيء الكثير، فسياستها حياله كانت دائما سياسة ملؤها التردد والحيرة، وطابعها البارز الاضطراب والفوضى. فقد بدأت بأن أقامت مباراة للمثلين، ثم أوفدت أحد المبرزين فيها في بعثة فنية إلى أوربا؛ وكان المظنون أنها ستتبع هذه الخطة الحميدة في السنين التإليه، ولكنها عدلت عنها حتى اليوم وبقى الأستاذ زكي طليمات عضو البعثة الوحيد. على ان الوزارة عدلت عن طريقة المباراة السنوية وألفت لجنة تمر على دور التمثيل طوال السنة وفي نهايتها توزع مبالغ متفاوتة من المال على مديري الفرق وعلى الممثلين في حدود المبلغ المخصص لذلك.(26/58)
وقامت الوزارة بإنشاء معهد لفن التمثيل، ثم ما لبثت أن الغته واستعاضت عنه بما سمته قاعة المحاضرات، ووضعت في السنة الماضية شروطا دقيقة لتوزيع إعانتها السنوية على مديري الفرق ولكنها لم تتقيد هي نفسها بالشروط التي وضعتها.
ولا ننسى قبل كل شيء أن ننوه بالمبلغ الضئيل المخصص لاعانة المسرح المصري إذ لا يتجاوز عشر المبالغ التي تصرف على دار الأوبرا وتقدم للفرق الأجنبية التي تفد للتمثيل على مسرحها في موسم الشتاء.
من هذا، ودون أن ندخلفي تفصيلات دقيقة أخرى، نرى مبلغ التردد وعدم الاكتراث في سياسة الوزارة حيال فن التمثيل حتى هذه المبالغ الضئيلة التي تقدمها للممثلين كل سنة على سبيل (الإعانة) لم يكن لها أثر، لضآلتها أولا، ولان الوزارة لم تشرف على نفاقها ثانيا، ومن يدرينا لعلها صرفت في أغراض شخصية لا تتصل بالفن في كثير ولا قليل؟
ومن العبث على ما أرى أن نطيل الحديث مع الوزارة فأنها إلى اليوم لم تنظر إلى المسرح وإلى فن التمثيل نظرة جدية، وأغلب الظن أنها إذ تقدم هذه المبالغ الزهيدة لرجال المسرح في نهاية العام تقول: (إنما نطعمكم لوجه الله، لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) وما دام هذا هو يقين الوزارة فكل حديث معها عبث محض وضياع للوقت فيما لا طائل تحته.
بقيت بعد ذلك بعض الظروف الطارئة التي كانت عاملا من العوامل التي ساعدت على اشتداد أزمة المسرح، منها هذه الأزمة التي اكتسحت مصر في السنوات الثلاث الأخيرة وشدت عليها الخناق، ومنها طغيان السينما الناطقة ونجاحها هذا النجاح الباهر الذي نراه ونلمسه كل يوم، ثم رخص الأجور في دور السينما عنها في المسارح مع فخامة ما نراه هناك على الشاشة الفضية، وضآلة ما نشاهده هنا.
ولعل من اشد العوامل التي كان لها اكبر أثر في المستوى الذي هبط إليه المسرح إخراج الأفلام المصرية وما لاقته من النجاح والإقبال مما ساعد أصحابها على موالاة الجهود وزيادة الإتقان في العمل ولفت أنظار الآخرين إليها، حتى رأينا بعض مديري الفرق أنفسهم ينصرفون إلى هذه الناحية الجديدة ويخصصون لها من المال والجهد أضعاف ما ينفقون في مسارحهم.
والجهد الذي يجب أن يبذل للنهوض بالمسرح لابد من أن يتناول كل هذه النواحي التي(26/59)
الممنا بها في مقالنا وكل هذه العوامل المختلفة إذا أردنا أن يكون لعملنا أثره ونفعه المنتظر، فمن الخير أن يعود مديرو الفرق إلى رواياتهم الأولى التي كانوا يغذوننا بها من سنوات، والتي عدلوا عنها لغير علة إلى توع الميلودرام الذي يقوم على محض الافتعال وارتجال المواقف الكاذبة ارتجالا قد يكون له أثره الوقتي، ولكن سرعان ما ينقضي دون أن يخلف في نفس المتفرج شيئا له قيمته أو خطره،
ومن الخير أن نجتذب كبار الكتاب والأدباء ليعودوا إلى خدمة المسرح والكتابة له كما كانوا يفعلون
ومن الخير أن تجد الوزارة في موقفها حيال المسرح وترصد لأعانته ألوف الجنيهات سنويا على أن تشرف عليه إشرافا فعليا وتتحرى أوجه الصرف بحيث لا تتعدى النواحي الفنية التي يكون لها أثرها في تقدم المسرح والنهوض به
على أن المسرح يتطلب دما جديداً يغذيه وينشر فيه روحا فنية خالصة، أساسها الثقافة والموهبة والدراسة الحقة، وقد كان معهد فن التمثيل هو النبع الذي سنستقي منه هذا الجديد، فإذا أصرت وزارة المعارف على غلق أبوابه فلنفكر إذن في إيفاد بعثات فنية إلى أوربا من الشبان الذين تؤهلهم لذلك ومواهبهم الشخصية وميولهم، على أنه يجب قبل هذا أن تعد سياسة إنشائية إيجابية لخدمة المسرح يقوم بتنفيذها أعضاء بعثتها عندما يرجعون، أما أن يعودوا ليأكلوا أنفسهم من اليأس وخيبة الأمل وتجاهل الوزارة لثقافتهم واستعدادهم، وعدم إفساح المجال أمامهم للعمل، فهذا يكون عبثا وسخفا وخير للوزارة أو تكتفي بعضو بعثتها الذي لم تحاول أن تستفيد من كفاءته واستعداده، ولا خير لها ولا للمسرح في أن تزيد صفوف الساخطين المتذمرين
الحركة المسرحية والسينمائية في الخارج
لندن
يعد الآن في لندن فلم سينمائي عن (مارشال هول) من أشهر رجال المحاماة والقانون في إنجلترا، وهو الذي تولى الدفاع عن قاتلة المرحوم علي فهمي كامل وفاز لها بحكم البراءة، وسيتولى خراج هذا الفلم المخرج العالمي هتشكوك(26/60)
يعد الآن تحت إشراف مصلحة البريد في إنجلترا فلمان الأول ترى فيه كل الخطوات التي يمر بها خطابك من ساعة ان تكتبه حتى يصل إلى يد مرسله وسيكون هذا الفلم شاملا لكل التحسينات التي أُدخلت من عهد حمل البريد بواسطة العربات التي تجرها الجياد إلى العهد الحاضر، ويعرض مختلف الطرق التي كانت تستخدم لهذا الغرض بكل تفصيلاتها. أما الفلم الثاني فسيكون خاصا بإظهار شبكة الأسلاك التلفونية التي تربط بريطانيا ويبلغ طولها 9 , 000 , 000 ميل وترى فيه كل العمليات والخطوات التي تتخذ أثناء المحادثات التلفونية وقد أعلن مدير مصلحة البريد في إنجلترا انه يسترشد في إعداد هذين الفلمين بآراء لجنة من رجال الفن السينمائي الأخصائيين
والآن. . . هل لنا أن نقترح على مصلحة البريد المصرية إعداد فلم يجمع بين هذين الغرضين بمناسبة انعقاد مؤتمر البريد الدولي في القاهرة وتعرض فيه الطرق التي كانت تستخدم في نقل البريد في مصر في عهودها المختلفة؟!
مستر دنيس جوزيف كلارك من اشهر رجال المسرح في إنجلترا وله صيت ذائع في أوربا كلها، وهو يدير عدة مسارح في (بركنهد) كما يتولى بنفسه إخراج بعض الروايات المسرحية ثم هو فوق ذلك عضو المجلس البلدي في بركنهد منذ أربع وعشرين سنة، وقد عرض عليه حزب العمال الإنجليزي ان يتولى منصب محافظ بركنهد بمناسبة انتهاء مدة المحافظ السابق. ومن عادة الأحزاب الإنجليزية أن يتولى أحدها كل عام مهمة اختيار المحافظ الجديد على التناوب، وكان من حق حزب العمال هذا العام اختيار المحافظ، على إن أعضاء هذا الحزب تنازلوا عن هذا الحق، الذي يسمح لهم بطبيعة الحال أن ينصبوا رجلا من أنصارهم إذا وافق مستر كلارك على إسناد المنصب إليه مع انه من حزب المحافظين. ولا شك أن تنازل حزب العمال عن حقه وتنصيب رجل في هذا المركز الكبير من غير رجال حزبه شرف عظيم لمستر كلارك وشهادة لها خطرها بما له من المكانة والاحترام، وقد كان هذا الحادث مثار اهتمام الصحف الإنجليزية، كما أثار عاطفة الفخر والكبرياء في الأوساط المسرحية في إنجلترا وعده رجال المسرح الإنجليزي من دواعي مجدهم الفني وسيقيمون حفلة كبيرة لتكريم الرجل
باريس(26/61)
انتهى موريس روستان نجل أدمون روستان الشاعر الفرنسي المعروف من وضع رواية مسرحية عن (أسكار وايلد) الكاتب الإنجليزي الشهير. وليس بين شخصيات الرواية سيدات وسيقوم الممثل الفرنسي كونيه بوييه بتمثيل دور البطل
بودابست
(مجموعة اللآلئ) أسم لاستعراض مسرحي حديث أخرج أخيراً في بودابست اشترك فيه أكثر من ثلاثمائة قروي بملابسهم الوطنية الزاهية الألوان وبرقصاتهم الريفية الجميلة مما جعل الإقبال على هذا الاستعراض منقطع النظير. وبرغم ضخامة عدد الممثلين والممثلات وتكاليف الاستعراض من مناظر وملابس وغيرها، فسيجني مدير المسرح ربحا طائلا لأن هؤلاء الريفيين الهواة لا ينظرون إلى الناحية المادية ولا يأبهون لمسألة المرتبات التي يتقاضونها إلى جانب الفخر الذي نالوه بظهورهم على المسرح ولجدة الحادث بالنسبة لهم. ولعلها المرة الأولى التي تحاول فيها مثل هذه التجربة فتلقى هذا النجاح الكبير. ولا شك أن رواد المسرح سعداء بهذه الفرصةالتي أتيحت لهم مشاهدة رقصات حقيقية. يرقصها أصحابها لا ممثلين يدربون عليها، فلا يجيدونها مهما بذلوا من مقدرة كما يجيدها أصحابها أنفسهم. وأثناء الرقص يلقي هؤلاء القرويون أناشيد القرية وأغانيهم الساحرة ليكون لها أشد وقع في النفوس(26/62)
القصص
قصة شاءول بن شمويل اللاوي
للأستاذ محمد فريد أبو حديد وكيل مدرسة القبة الثانوية
قد كان لي ولع بالتجوال في البراري، ففيها كان الهواء مما يلذ امتلاء الصدر منه، وفي سمائها صفاء يروق الأبصار لا تدانيه زرقة البحر إلا في أيام الخريف الوادعة، ورمال الصحراء أخاذة باللب في لآلائها واختلاف لون حصاها، فإذا ما جرت عليها قطرات من الغيث في الشتاء غسلت عنها ما يغشاها من التراب، فإذا هي تزري باليواقيت وللآلئ، وإذا أسعد الإنسان الحظ فجاس خلال تلك الرمال في عقب سيل لا تزال منه بقية تجري في جدول رأى منها المعجب والفاتن حتى ليتمثل العذراء الحإليه وقد راعها ذلك الحصى فلمست جانب عقدها النضيد. وقد جمع حب ذلك التجوال بين قلوب مختلفة الأصول متباينة الطباع، يرضعون جمعيهم معا من ثدي تلك الطبيعة الجميلة حتى لقد نما في قلوبهم إخاء هو أقوى من الإخاء المعتاد إذ قد عرف كل منهم أخاه وكشف عن مخبوئه في تلك المعاشرة الطويلة، واعتاد كل منهم أن يكون مستعدا لان يبذل كل شيء حتى حياته ذاتها في سبيل الإخلاص لصديقه. لا عجب أن تكون الصحراء مهد جلائل الأمور!
وقد قصدت يوما مع صديق من الانجليز، وهو ممن يهيمون بالصحراء هياما، وقصدنا معا إلى برية سيناء نقطع الفيافي بمركبة القرن العشرين ونطوي أميالها مرحلة بعد مرحلة، فكانت صحبة عجيبة من كل الوجوه.
قلت له في فترة من فترات ما بين التفكير المتصل: كأني بك من أبناء الصحراء يا مستر لي. فأن حبك للصحراء وصبرك على مشتقاتها ينمان عن بدوي في اصله)
فقال لي باسما (إن البدوي وجواب البحار أخوان، فإذا لم يكن في دم البدوي فان في بغير شك دما من جوابي البحار)
قال لي ذلك وهو يحدق بنظرة في ناحية من الصحراء إلى يسارنا ونحن نطوي مراحلها، ثم قال لي:
انظر إلى هذا الموضع. كأني به فناء بيت من بيوت الجان، إنني اشعر بانجذاب عجيب نحوه. ألا ترى أن نقف هنا قليلا؟ أن التمتع بالصحراء لا يكون إلا إذا سرنا فيها كما كان(26/63)
يسير البدو على الإبل أو الحمير أو ما سوى ذلك من وسائل السير الوئيد. أما هذه السيارات السريعة فليست هنا إلا دخيلة غريبة. إنها تدخل السرعة والعجلة والقلق إلى ارض خلقها الله لتكون وادعة متئدة مطمئنة
قال هذا وعرج إلى الموضع الذي أشار إليه وأوقف دولاب السيارة والقينا عصا السير وجلسنا إلى جانب صخرة قائمة كأنها المائدة، واعددنا عدة الطعام إذ كان وقته قد أظلنا، وكان سمرنا على ذلك الطعام حديثا أوحاه إلينا الموضع. وأي حديث لمن يسير في برية سينا أقرب من حديث قوم موسى؟ لقد كان المكان يوحى به وحيا فاستغرق خيالنا حتى كأننا كنا نعيش في ذلك الوقت ونحس بما كان ينبض به قلب أهله
كان ذلك الموضع متسعا من الأرض تحيط به تلال من كل نواحيه إلا من جهة الغرب المائل إلى الشمال، وكان متدرجا في العلو من خارجه إلى داخله، ولا يكاد تمر عليه ساعة من النهار وليس في ناحية منه ظل ممتد. وكانت الرياح كلها محجوبة عنه إلا الرخاء التي تتهادى إليه من الشمال الغربي. فجلسنا به جلسة هنيئة زادت حديثنا اطمئنانا واستغراقا.
وخاطبت صاحبي في شيء من الدعابة قائلا (كم شهدت هذه البقعة من مناظر جليلة! أترى قد شهد موضعنا هذا بعض مواقف بني إسرائيل يحرجون صدر موسى بذكريات عدس مصر وفولها؟ فأجاب صاحبي (لقد كنت أفكر في هذه اللحظة في أن مكاننا هذا لابد قد وطئته أقدام من خرجوا من مصر مع موسى) وكنا قد فرغنا عند ذلك من أكلنا فقمنا نمشي رويدا ونتحدث. وحدث أن ضربت بقدمي حجرا من الأحجار على عادة كانت بي منذ صغري كنت اعتدتها في عبث الصبا، وما كان اشد عجبي إذ رأيت أن ذلك لم يكن حجرا بل كان قطعة من عظام جمجمة آدمية.
إذن لقد شهد ذلك الموضع حادثة إنسانية! وإذن فان لذلك الموضع قصته! فوقفت حيث كنت وملت إلى الموضع لأفحص موضع تلك العظمة فإذا بي أبصر عظمة أخرى قد طمرها الرمل. فتناولت حجرا وجعلت أحفر ما حولها لاستخرجها فرأيتها تتصل بهيكل إنساني. فاعتراني انقباض شديد، واسترجعت ثم ألقيت الرمال التي كنت استخرجتها لكي أعيد لتلك العظام مدفنها، وفيما أنا في ذلك إذ بدا لي سطح من الخشب الصقيل. فتركت ما كنت فيه وأقبلت على ذلك الخشب أفحص أمره، وإذا به غطاء صندوق صغير طوله نحو نصف(26/64)
متر في عرض اقل من ذلك بقليل وعمق أقل من عرضه، وكان صديقي عند ذلك قد بدأ يقبل على مساعدتي إذ رآني قد عثرت على شيء يستحق الاهتمام، فاستخرجنا الصندوق من مكانه ونفضنا عنه الرمال، ونزعنا عنه غطاءه فإذا فيه مجموعة من الجلود الرقيقة وقد دب إليها شيء من الفساد من اثر البلى. وكانت على تلك الجلود كتابة يميل لونها إلى السواد، وكانت بقلم غريب
انتهى بنا السير بعد ذلك إلى غايتنا، ثم عدنا وكان ذلك الصندوق قطب حديثنا في رجعتنا إلى القاهرة. ففرضنا فيه الفروض المختلفة وتناقشنا في قيمة ما فيه حتى بلغنا نهاية رحلتنا، فكان أول هم لنا أن نطرق باب صديق من علماء الآثار ليساعدنا على كشف ما وراء ذلك الطلسم.
نظر صديقنا العالم إلى صحيفة منها نظره الفاحص ثم قال: (إن هذا خط كاتب مصري. وهذا المداد مما كان يستعمله الكتاب في عصر الإمبراطورية الثانية في المحابر النحاسية التي كانوا يضعونها في مناطقهم. وهذا هو الحرف (الديموطيقي) الذي كانوا يكتبون به في الدواوين عند ذلك
قال هذا ونظر إلى أول سطر من الصفحة طويلا ثم علت وجهه ابتسامة الظفر وقال: (لم يكن كاتب هذه السطور مصريا بل هو (شاءول اللاوي) أحد بني إسرائيل الذين خرجوا مع موسى من مصرفي أيام (منفتاح) فرعون مصر، وقد كتبها بلغة قومه العبرانيين كاتب بارع
ولأخذ يترجم لنا الصحائف واحدة بعد واحدة فإذا هي آية العجب وفريدة الصدف وها هي:
(أنا شاءول بن شمويل بن شمعون اللاوي من عشيرة اللاويين قادة إسرائيل وساداتهم. كنت بمصر مع قومي وكنا في أرض جاشان مهد أبي وجدي، والأرض التي دفنت فيها عظامهما. كنت في أول الأمر صاحب خاتم الأمير (راحا ترع) ثم حدثت الحوادث المشئومة المعروفة فطردت كما طرد كل قومي من خدمة المصريين، ووضعت على رقابنا العبودية. وكنت أنا ممن حشروا لعمل اللبن من الطين لبناء مدينة (بيثوم) تسوقنا سياط المقدمين ورؤساء العمل ذوي الأيدي الصلبة والقلوب التي مثل خشب السنط.
وكانت مشقة العمل تزيد من يوم إلى يوم، وكلما مر شتاء علينا جاء شتاء آخر أشد منه برداً، فامتلأت نفوس الشعب الإسرائيلي من الغيظ والحقد. وبدءوا يسأمون حياتهم،(26/65)
ويتخلصون منها بضرب المقدمين ورؤساء العمل المصريين. وكان الذي يضرب منهم أحد هؤلاء يموت تحت السياط، وهذه ميتة أهون من الحياة الشاقة التي كان أبناء إسرائيل يحيونها.
وقد جاء رجل من أولاد عمي بني لاوي اسمه (موسى) كان هاربا من مصر من زمن. وقد عرفته كما عرفه كثيرون من أبناء أعمامي. وكان رجلا رحيما يبكي كلما رأى أحد بني إسرائيل يضرب ويصيح وتجري الدماء من جسمه، فكان في أول الأمر يزورنا في الليل ليواسينا، ولا يظهر في النهار مخافة أن يراه أحد فيعرفه، فاحبه الشعب المسكين وصار كل فرد منه يرضى أن يقتل في سبيل حمايته. وأقام سنين وهو على تلك الحال، وجعل يفهم الشعب أن وراء البرية أرضاً فسيحة يقدر أن يعيش فيها حراً ويجد فيها ماء وطعاماً. ولكن الشعب كان يخاف من البرية ولا يرضى أن يخرج من أرض مصر التي فيها عظام آبائه.
ولكن فرعون مصر عرف من جواسيسه أن هناك رجلا عبرانيا يحرض العبرانيين على العصيان والخروج. وقال له خدمه وعبيده إنه السبب في تجمع الإسرائيليين وتجمهرهم ومطالبتهم بعبادة إلههم على طريقتهم الخاصة. وقالوا له ان العبرانيين يتظاهرون بأنهم يريدون أن يسمح لهم بالخروج إلى البرية لتقديم الضحايا لألههم بعيداً عن أرض مصر، والحقيقة أنهم يريدون الذهاب إلى أرض الفلسطينيين والحيثيين لمساعدتهم على غزو مصر
فقال لهم فرعون: (وماذا ترون؟) فقال له عبيده (نرى أن تشغلهم وتضيق عليهم الخناق، فمر بمنع التبن عنهم حتى يضطروا لجمع الأعشاب الجافة ليصنعوا بها اللبن وطالبهم بأن يقدموا كل يوم ما اعتادوا ان يقدموه من قبل من اللبن اللازم للبناء)
فأمر فرعون بذلك ومنع خدمه من صرف التبن للشعب المسكين، وطالبهم بأن يقدموا له كل يوم نفس المقدار الذي كانوا يصنعونه من قبل من اللبن، مع قيامهم بجمع الأعشاب الجافة لاستعمالها بدل التبن الذي منع عنهم. فكان هذا الأمر غير ممكن. فعصا الشعب وامتنع وتجمهر وصاح بفرعون وخدم فرعون. وكان ابن عمي موسى يحرضا على العصيان ويأمرنا بالخروج معه إلى البرية، ولكنا كنا نخاف من ذلك فالموت مخيف وإن كانت العبودية صعبة.
وكثر التعذيب والضرب والقتل فينا حتى أننا ضجرنا وفزعنا، وسمعنا كلمة موسى وقمنا(26/66)
لنخرج إلى البرية جميعا نساؤنا وأطفالنا على الحمير، وقد لبس النساء الحلي التي استعرنها من جاراتهن المصريات. وفي الليلة الموعودة خرجنا نغطي وجه الأرض نحو البرية.
وكان الخوف يملأ قلوبنا من جنود فرعون أن تلحق بنا، فعبرنا إلى الصحراء من أقرب طريق، وخضنا في البحر بإذن الله وبركة ذلك الرجل المبارك (موسى). وتنفسنا الصعداء عند العيون التي حولها النخيل، عندما رأينا جيش فرعون قد عجز عن اللحاق بنا وعاد أدراجه بعد أن غرق منه عدد كبير. ويقال ان فرعون نفسه كان من الذين غرقوا في المياه. غير أن الحرية لا تعطي طعاما ولا ماء. فلما أكلنا الزاد الذي كان معنا بدأنا نفكر في موقفنا، وخرجنا إلى (موسى) نطلب منه أن يعطينا خبزا ولحماً.
أعطانا موسى كل ما معه، وقال لنا اقتصدوا ولا تأكلوا كثيرا ولكنا لم نقدر أن نمنع الأطفال والنساء من الأكل والشرب، ولم نقدر أن نمنع بكاءهم عندما نفذ ما كان معنا من الزاد، فقمنا بعد أسبوع من الجوع والعطش وطلبنا من (موسى) أن يطعمنا. وصرخنا له (أعدنا إلى مصر. أعدنا إلى العبودية. الإنسان قد يحيا مع العبودية. ولكنه يموت حتما بلا طعام. نريد الحياة ولو مع العبودية. لا نريد الموت في هذه الحرية وسط الصحراء).
لقد غضب موسى وظهر عليه الغيظ، وكلمنا كثيرا ولكن لم يكن لقوله ذلك الأثر الذي اعتدنا أن نجده في نفوسنا عندما كنا نسمع ألفاظه. وزاد صراخنا وعزم بعضنا على الرجوع.
وفي الصباح التالي ذهبنا إلى موسى لنخبره بأننا سنعود إلى مصر لنأكل من طعامها، فوجدناه يصلي ثم أقبل علينا ووجهه يتهلل وقال (اذهبوا إلى ذلك الوادي) وأشار بيده إلى جهة الشروق. (وهناك تجدون كثيرا من الحب على الأرض. فاطحنوه وكلوا منه فانه مثل الحنطة إذا عجنت بالزيت) ثم أشار إلى السماء وقال (انظروا إلى هذه الطيور الكثيرة الآتية من البحر. أنها تقع على الأرض عند أول وصولها إلى البحر فاذبحوا منها وكلوا فان هذا رزق حلال قد أرسله الله إليكم)
سرنا بعد ذلك في البرية نأكل من هذا الطعام ولكنا كنا كل يوم أشقى مما كنا في اليوم الذي قبله. فأين طعام مصر؟ وأين زيتها الكثير وأعشابها الخضراء المسمنة؟ وأين ماؤها العذب.(26/67)
وخيراتها العميمة؟ حقا لقد كنا فيها معذبين، وكنا عبيداً نسام الخسف والذلة، ولكن الجوع والموت كانا أفظع في نظرنا من الذل. أقمنا أكثر من سنة في البرية ننتقل من مكان إلى مكان ومن واد إلى واد حتى ذهبنا إلى (رفيديم) في جوار الجبال العإليه التي تغطيها ثلوج الشتاء وقد بلغ بنا الحنين عند ذلك إلى مصر مبلغا عظيما وأشتد غضبنا على ذلك الزعيم الذي أخرجنا منها.
فهل الحرية تستحق أن نسعى إلى الفقر من أجلها؟ وهل الذل والعبودية يستحقان أن يهرب منهما إلى الموت؟ لقد كرهنا كل شيء في تلك البرية حتى اسم الحرية، وذكرنا مصر بالحنين بما كان فيها من طعام وشراب، حتى لقد بلغ بنا الحنين إليها ان نحن إلى ما كان فيها من ذل وخسف، ثم حننا إلى النيران التي كنا نوقدها ليلا ونرقص حولها فرحا في أعياد (رع) و (هاتور) لا بل لقد مالت قلوبنا إلى تلك الآلهة المرحة، ووددنا لو أقيمت لنا تماثيلها الذهبية لنعبدها بدل الآله الذي لا نراه ولا تقام له الأعياد المرحة على شراب البلح والحنطة.
فما كاد (موسى) يصعد على عادته إلى الجبل العالي الذي تغطي قمته الثلوج حتى اجتمعنا وصرخنا إلى (هرون) وتجمهرنا واجتمعنا حوله، فلم يستطيع أن يمنعنا من أن نصور تمثالا (لأبيس) من الذهب الخالص، وأقمنا حوله الأعياد والأفراح ونادينا بالعودة إلى مصر. غير أن (موسى) عاد بعد قليل فرآنا على تلك الحال فغضب وحطم التمثال، وأوقع بالرؤساء، ولم يقدر أحد منا أن يقاوم أو يراجع.
وجعل يعنفنا على ما ارتكبناه من الذنب العظيم، وكنا لا نستطيع أن نرفع أعيننا نحوه. وكأنه أراد أن يعاقبنا على ذلك عقاباً شديداً فما مضت أيام حتى أمرنا بالتأهب لغزو بلاد (مواب). بلاد مواب؟ أنستطيع أن نحارب جنود (مواب)؟ وهل خرجنا من مصر لكي نحارب؟ أي معنى لهذه الحرية وأي معنى لهذا الخلاص؟ إننا لم نفهمه ولم نفكر في شيء سوى ما كنا فيه من الحرمان. أنحارب، لا، لا إننا لن نستطيع الحرب مع أحد فلنعد إلى مصر
غضب (موسى) غضباً شديداً وصاح بنا (أيها العبيد، انكم قد نشأتم في الذل وعشتم في الخسف، ان دمكم قد تلوث بالعبودية فليس يحمى وليس يغضب. إنكم لا تعنون إلا بالطعام،(26/68)
كلوا واشربوا وعيشوا في الذل والخسف؛ فما أنتم إلا مثل الأنعام لا تعبئون إلا بما يملأ بطونكم. لقد حكم على جيلكم أن تظلوا عبيدا لا تهتمون إلا ببطونكم حتى تنقرضوا ويفنى كل جيلكم، فإذا نشأ جيل آخر لم تسممه العبودية استطاع أن يفهم الحرية والكرامة ستبقون في البرية أربعين عاما حتى يموت آخركم فيها، ثم ينهض الجيل الجديد الذي يقدر له أن يفهم حياة الأحرار ويغزو معي بلاد مواب) سمعنا ذلك القول ولم نستطع جوابا، ولكن قلوبنا كانت تغلي من الغيظ، ولم يكن موسى سوى أبن عم لي أنا شأول بن شمويل اللاوي. فذهبتّ تلك الليلة إلى مضجعي ولم أستطيع أن أجد النوم، وسألتني امرأتي أن أخبرها بما يقض مضجعي فأخبرتها. فقالت لي لماذا لا نعود إلى مصر؟) ولم أكن أنتظر أكثر من ذلك، فعولت على الخروج ليلا والعودة إلى مصر في الطريق الذي أتينا منه. وفي الليلة التإليه كنت في طريقي إلى بلاد فرعون. قضيت في سيري هذا ثلاثة شهور من هلال أول السنة إلى هلال الشهر الثالث، وكانت هذه الشهور الثلاثة عقابا عادلا على كل ما وقعت فيه من البطر والاعتداء لقد هربت خوفا من الجوع وعدت بنفسي لكي أعرض ظهري إلى سياط عبيد فرعون وأضع يدي في قيود الذل والظلم لكي أشبع جوعي، وأطعم امرأتي وأبنائي، ولكني لم أجد ما ابتغيت. فقد قبض علي (منحوتب) قائد رميد وأرسل أبنائي وامرأتي ليكونوا عبيدا لفرعون، ووضعوني في السجن لانتظر الموت، وهنا في هذه الحجرة أبقاني في انتظار حكم فرعون.
وإني في هذه الحجرة المظلمة أجلس الآن في انتظار الهلاك، ويمر بخاطري كل ما حدث في حياتي من الحوادث، يمر كل ما كان في أيامي الماضية كما تمر حوادث الماضي أمام عين الغريق إذا اشرف على الموت وقد رأيت أن أكتب قصة تلك الحياة لكي أخلف صرخة لمن يجئ بعدي. لقد كنا نهرب في كل أيامنا من الموت، وهاهو يجئ أخيراً ويلحق بنا مع طول هربنا منه. ونرضى بالذل في سبيل الحياة، ونرضى بالعبودية والخسف في سبيل الحصول على القوت، مع أن الحياة لا تستحق أن يحياها الإنسان إذا كانت حياة ذل وعبودية. ها قد تنبهت أخيرا إلى أن (موسى) كان عظيما حين دعانا إلى البرية وفضل الجوع والموت على حياة الشبع والذل. ولكن كنا قد مشى دم العبيد أجيالا في دمائنا، فلم يحم ذلك الدم في عروقنا غضبا للكرامة والحرية، ولم نفهم صرخة زعيمنا على وجهها، بل(26/69)
اندفعنا وراءه هربا من ألم السياط؛ فلما رفع عنا ألم السوط عدنا إلى بذل أنفسنا الذليلة. لقد أحرجنا صدره كثيرا بنفوسنا الوضيعة، وهربت أنا منه خوفا من الموت والجوع وفضلت أن أعود إلى ذلي في مصر لكي اشبع بطني، فوجدت الذل والأسر، ولكني لم أجد الطعام الذي يملأ البطن. وهاأنذا انتظر الموت الذي استحقه. حقا لقد فهمت الآن قول موسى إذ قال لنا عند سفح جبل سيناء إننا من جيل مسمم، وانه سيصبر حتى يهلك ذلك الجيل كله في البرية، حتى ينهض جيل جديد يفهم معنى الحرية الكرامة. إنني الآن اسمع ضجةعند باب سجني وهاهو مفتاح الباب يصر في ثقبه)
إلى هنا انتهت القصة التي عثرنا عليها في الصحراء وحقا قد كان ذلك المكان الذي عرجنا إليه جديرا بأن يكون طلل بناء قديم حصين، لم يبق منه اليوم إلا تلال الرمال، ولا تزال تحتفظ بالروح الرهيبة التي خلفتها حوادث الماضي في ثنايا الأطلال.(26/70)
صديقها عشيقها
رواية مصرية عصرية في فصل واحد
للكاتب الروائي الأستاذ محمد خورشيد
(تتمة)
حكمت - (في عطف) لا تمكث مرة أخرى يوما كاملا بعيدً عني ولا تحرمني رؤيتك المحبوبة. اني أحبك يا فريد من أعماق قلبي. أحبك بكل ما أملك من قوة وعاطفة.
فايد - قلبي يؤمن بحبك ويترك لقلبك تقدير حرارة، حبه ومن القلب إلى القلب رسول
حكمت - (تقترب منه وتحوطه بذراعيها في حنان وتقول) ألم تكن لنا ساعات، هنيئة ذكراها السعيدة لا يمكن أن تزول؟
فايد - نعم. نعم
حكمت - تعال اجلس بجانبي ولا تتكلم، لأن صمت المحبين هو نغمة الحب. فلنستمع ترنيم قلوبنا في سكون.
(يجلسان متقاربين برهة ثم يتعانقان، وبينما هما يتبدلان القبلات إذا بالباب يفتح ويدخل مختار فيراهما على هذه الحال فيقف مصعوقا. فيفترقان ويقفان، تتقدم حكمت إلى مختار وتقول.)
المنظر التاسع
حكمت، فايد، مختار
حكمت - لا تلمني يا أعز الأصدقاء. كن كريما وسامحني. لم أتمكن من الدفاع عن صداقتنا القديمة لأني فوجئت بهجوم حب جديد أخذ بمجامع قلبي. غلب سلطانه عزيمتي. قهرت قوته إرادتي. فأصبحت لا حول لي ولا قوة، وخضعت لأمره ومن يتحكم الحب فيه يصبح غير مسئول. . . فعفوا فعفواً. أعذرني يا صديقي وكن رحيما.
مختار - أني مذهول. حكمت هانم أنبل وأشرف فتاة تأتي إلى عشيقها كأي النساء؟! أراها بعيني بين ذراعيه؟ تصرح أمامي بشدة حبها له، تعترف لي بأنها ضحتني أنا صديقها الوفي لأجله هو؟ كنت أعلم أن أغلب النساء يفعلن ذلك، ولكن أنت! أنت! ما كان يخطر ببالي. أفكرت فيما سيذيعه الناس عنك؟ (إلى فايد) وأنت وادعاؤك السفر. لم كل هذا(26/71)
الخداع؟. أهذا جزائي أنا الذي احبك وأعزك كولدي؟ ألا يؤنبك ضميرك على تلويث سمعتها.؟
فايد - (يقترب منه ويقول) تأن ولا تلم. إني عند حسن ظنك بي لقد أحببت حكمت واحبتني، وعقدنا النية على الزواج فلا خوف على سمعتها.
حكمت - لكن يا فايد. . .
فايد - (يقاطعها قائلا) تمهلي، سأقول ما يجب، وما أقوله سيكون. أريد ألا يكون بحبنا ما ينتقد (يقول ذلك وهو ينظر إليها نظرة كلها رجاء) لم ادع السفر يا مختار بك. أني سأسافر فعلا ولكن لست مسافرا وحدي. سنسافر معا. وما أخفيت عنك أمر سفرها الأبناء على طلبها خشية ان تحزن لفراقها. وقد اتفقنا على أن نبادر بالكتابة إليك بمجرد وصولنا إلى أستانبول لنخبرك بكل ما حدث. وبما ان القدر شاء غير ما شئنا وحضرت والتقينا، فهاأنذا قد أخبرتك بالحقيقة كلها.
مختار - (لحكمت) أحقا ما يقول؟
حكمت - (تنظر إلى فايد وتقرأ في عينيه الرجاء الحار فيقول) نعم
مختار - إذا ستسافرين معه وتتركيني. ألا تفكرين؟ ألا تفكرين قليلا فيما ستكون عليه حياتي أثناء غيابك؟
فايد - لم يبق أمامنا سوى ساعة واحدة. سأذهب إلى منزلك لأحض خادمَك على الإسراع في الحقائبِ لا تطيلا الحديث. فالوقت قد أزف. (ويخرج)
المنظر العاشر
حكمت، مختار
مختار - إذا ستسافرين معه وتتركيني عرضة للهلاك! إلا تعلمين ان حياتي رهينة تلك اللحظات التي كنا نقضيها معا يوميا في هناء الصداقة والوفاء تلك اللحظات افقدها وكانت كل ما احب في الحياة، ستتركني فريسة للوحدة القاتلة، للحزن المؤلم المضني
حكمت - هدئ روعك يا صديقي. لا تدع الوهم يتغلب عليك. تنبه للحقيقة. ليس بها من الخطر ما تراه، ولن يكون لها من العواقب ما تخشاه. سأعود إليك بعد غياب قصير، وستعود لنا أيام الصفاء.(26/72)
مختار - أيام الصفاء. تعود لك وله لا لي أنا. صفاء أيامي كان في صداقتك التي فقدتها إلى الابد، لأنك أعطيته كل ما بنفسك ولم تبق منه على شيء، والبرهان استخفافك بمصابي وعدم رثائك لحالي.
حكمت - لا تحور الحقيقة ولا تبالغ. لم يغضبك حبي له؟. أيمنع ذلك أن يكون لي أصدقاء؟ كل خطأي ينحصر في أنني لم أشترك في أمر الزواج. وما منعني إلا عطفي عليك وخوفي على أعصابك من تأثير المفاجأة. والآن وقد وقعت برغم تدبيري فتأثيرها هو الذي أذهلك
مختار - أنا الذي أذهلته المفاجأة أم أنت التي أذهلك الحب حتى أصبحت لا تعين ما تقولين؟ أينحصر خطأك حقا في أنك لم تستشيريني في أمر الزواج؟ أين ذهبت تصريحاتك بأنك لن تحبي ولن تتزوجي أبداً وأنك ستظلين وفية لذكرى حبك الأول؟ وماذا فعلت بتأكيدك لي أن صداقتنا قد أخذت بمجامع قلبك فأصبح لا يرضى عنه بديلا؟
حكمت - نعم لقد أخطأت ولكن. . . النهاية سامحني يا صديقي. . . المسامح كريم
مختار - أنا لا أسامحك أبداً
حكمت - أتوسل إليك
مختار - أبداً أبداً
حكمت - حسن! أفضل أن أتركك غاضبا على أن أتركك متألما (وتسرع بالخروج)
مختار - (يبقى في ذهول لحظة وهو لا يكاد يصدق أنها خرجت ثم يصرخ): حكمت. حكمت هانم حكمت هانم (ويندفع نحو الباب ويفتحه ويلقي نظرة سريعة ثم يعدو إلى المسرح قائلا) ذهبت لقد ذهبت.
(ثم يتمالك نفسه ويقول في هدوء أولا ثم في انفعال):
حقا أن من تصل به السذاجة إلى حد أن يؤمن بصداقة امرأة ليستحق درساً قاسياً كهذا ان المرأة لا تتخذ لنفسها صديقا إلا إذا خلا قلبها من الحب، ولا تزيد صداقتها عن سد الفراغ بين حب انتهى وحب منتظر. صديقها عشيقها. هذه هي الحقيقة.
ينزل الستار(26/73)
الكتب
هدية الكروان
مجموعة أشعار للأستاذ عباس محمود العقاد
كلمة تقدير ونقد للأديب عبد الرحمن صدقي
بات العقاد يصغي لهتفات الكروان في الليالي الحسان السواحر، ويتطلع إلى مجال الربيع من زهر وعطر، ويتملى بجمال الحياة من حب وحسن، ويخف لشباب النفس من عطف وبشر. ومن هذه جميعا اقتبس مجموعة أشعاره الجديدة (هدية الكروان). وهي وان لم تكن جميعا منظومة في مناجاة الكروان، إلا أنها في موسيقيتها كأنما تعارض الكروان وتساجله.
هذه خلاصة قولي في الديوان الأخير. وهذه الخلاصة نفسها مقتبسة من مقدمة الديوان نفسه نظما ونثرا! ولا عجب فالعقاد جبار لا يكاد يدع بعد مقاله مجالاً لقول قائل
ولقد عرض الشاعر في مقدمته المنثورة لطائره الصيدح في كلمات مشرقة ناصعة البيان، رخيمة الحواشي مصقولة الأطراف كحب الجمان، غنية بالمعاني الصادقة. قال:
(تسمعه الفينة بعد الفينة في جنح الليل الساكن النائم البعيد القرار، فيشبه لك الزاهد المتهجد الذي يرفع صوته بالتسبيح والابتهال فترة بعد فترة، ويشبه لك الحارس الساهر العساس الذي يتعهد الليل بالرعاية بين لحظة ولحظة. وينطلق بالغناء في مفاجأة منتظرة أو انتظار مفاجئ فلا تدري أهي صيحة جذل أم هي صيحة روعة وإجفال. ولكنك تشعر بالجذل والروعة والإجفال تتقارب وتتمازج في نفسك حتى لا تتفرق. كأنك تصغي إلى طفل يرتاع وهو جذلان، ويجذل وهو مرتاع، ويطلب الخطر ويشتهيه لأن الخطر في حسه طرافة وحركة، فهو من عالم التفاؤل والإقبال لا من عالم التشاؤم والنكوص
(ويطلع عليك بهتافه من هنا وهناك وعن اليمين وعن الشمال وعلى الأرض وفوق الذرى. فيخيل إليك أنك تستمع إلى روح هائم لا يقيده المكان ولا يعرف المسافة، أطلقوه في الدنيا على حين غرة فسحرته فتنة الدنيا وخلبته محاسن الليل فهو لا يعرف القرار ولا يصبر في مطار)
(فأنت تتلقى من صوت هذا الطائر الأليف النافر عالما من معان وأشجان يتجاوب فيها(26/74)
تقديس المصلي القانت وحدب الحارس الأمين وروح الطفولة ومناجاة الخطر المقبول وهيام الروح المنهوم بالحياة والجمال: عالم لا نظير له فيما نسمع من غناء الطير بهذه الديار)
هذا الوصف الرائع من العقاد لا يفوقه موسيقية وجيشانا، ولا يدق عنه معنى واحساسا، ولا يزيد عليه تصرفا وافتنانا إلا نظم العقاد.
وأشعار (هدية الكروان) كسابقها في وحي الأربعين، تنزع إلى الموسيقى في تقطيع أوزانها وعذوبة نظم ألفاظها ولطف وجدانياتها. تخلق حولك جوا من الموسيقى الرفيعة الساحرة تشيع روحها وتشيع حتى تملأ عليك الفضاء وتملك منك المشاعر، وحتى لتحس ان الموسيقى ليست لشعره أداة تعبير فحسب، بل هي عنصره الصميم
وأظهر ما تظهر هذه الميزة في أنشودة (ما احب الكروان) فقد افترق الشاعر وصاحب له فتراه يواعده النجوى واللقاء على البعد عند سماعها هتفات الكروان:
ما أحب الكروان!
هل سمعت الكروان؟
موعدي يا صاحبي يوم افترقنا ... حيث كانت جيرة أو حيث كنا
هاتف يهتف بالأسماع وهنا ... هو ذاك الكروان! هو هذا الكروان!
الكراوين كثير أو قليل ... عندنا او عندكم بين النخيل
ثم صوت عابر كل سبيل ... هو صوت الكروان! في سبيل الكروان
لي صدى منه فلا تنسى صداك ... هو شاديك بلا ريب هناك
فإذا ما عسس الليل دعاك ... ذاك داعي الكروان، هل أجبت الكروان؟
مفرد لكنه يؤنسنا ... ساهر لكنه ينعسنا
واحد أو مائة ترجعه ... عندنا أو عندكم مطلعة
ذاك شيء واحد نسمعه ... في أوان وبيان، هو صوت الكروان
واحد بين عصور وعصور ... نحن نستحي به تلك الدهور
لم يفتنا غابر الدنيا الغرور ... في أوان الكروان، ما احب الكروان
وقد ألم الشاعر ببضع لمسات من ريشته المنغومة في خفة وإيجاز بليغ بحركة الكروان(26/75)
وطفراته في مطاره، وسرعة انتقاله هنا وهناك في الفضاء الداجي، فلا تكاد تسمعه من بعيد إلا ويصبح أقرب قريب، ولا تكاد تقول مع الشاعر: هو (ذاك) الكروان حتى تردف كما أردف: هو (هذا الكروان وحتى تجمل معه هذين معاً فتقول: هو صوت عابر كل سبيل
ولما كانت هذه الأنشودة من مستوحيات الإلهام في لحظاته النادرة، فقد اجتمع فيها ما توسع الشاعر في تنويعه وترجيعه في غيرها من القصائد الجزلة والأناشيد المطربة. وتطيب لنا الإشارة إلى مواضع هذا الترجيع تنويها بطبيعة الشاعر المطبوع الذي يعيش في معانيه! وتعيش معانيه في منبت مريع التربة خصيب فهي لا تني فيه أبداً متفتحة نامية، وأنفاسها أبداً خفاقة مرددة، وحرارتها أبداً مذكوة متجددة.
فلا غرو إذن إذا رأيت هذه الإشارة إلى طفرات الكروان يرددها الشاعر بين آن وآن، موضحا موكداً:
بينا أقول هنا، إذا بك من هنا ... في جنح هذا الليل أبعد باعد
لوددت يا كروان لو ألقيت لي ... صوتين منك على مكان واحد
وكما المع الشاعر في أنشودته إلى أنك لا تدري عند سماعك هتافات الكروان المتقطعة المنتقلة المتشابهة، أهو واحد أو مائة، فقد ترنم بهذا المعنى في مقطوعة صغيرة هزجة النبرات متجاوبة الأصداء
ألف صدى لهاتف ... منفرد على الذرى؟
أم ألف شاد رددت ... هتافها مكررا؟
أم ذاك روح أطلقو ... هـ في الدنى محيرا
فردوها مستغربا ... وطافها مستبشرا
فلا يقال مقبل ... حتى يقال أدبرا؟
هن كراوين الليا - لي أو فقل هو الكرا
وفي عزلة هذه الليالي الساجية يساهر شاعرنا هذا الطائر الساهر، ويأنس به ويصغي لدعواته، وقد يهفو أحيانا على جناح الفكر، فيذكر الطيور المغردة في الفجر فيجري على لسانه:
لهجت طيور بالضحى وتكفلت ... بالليل حنجرة المغني الخالد(26/76)
ثم تأخذ الشاعر النشوة وأي نشوة، ويهز أعطافه الطرب وأي طرب، فيغني طائره المغني أمتع الغناء وأعذبه:
الليل يا كروان=بشراك طاب الأوان
بشراك؟ بل أنت بشرى ... تهفو لها الإذان
ان كان في السمع طيف ... فأنت يا كروان
صوت ولا جثمان ... لحن ولا عيدان
كأنه هاتف في ... فضائه حيران
أو رجع صوت قديم ... يعيده الحسبان
ليل الطبيعة صمت ... وأنت فيه لسان
وظلمة الليل سر ... فاقرأه يا ترجمان
واملأ من الليل نفسا ... عزيزة لا تهان
لا هتفة فيه تبقى ... إلى غد أو إذان
الليل يا كروان ... والعالم الغفلان
ونسمة الصيف تسري ... وفي يديك العنان
والصبح أول مرسى ... يرتاده الركبان
الليل يا كروان! ... الصبح يا كروان!
وهنا يحسن بي الصمت هنية تاركا في سمعي ومسامع القراء، وفي نفوسنا المتضعضعة السكرى جميعا، هذه الأصداء المشجية والمعاني السرية المجلوة
ننتقل بعدئذ إلى بقية الديوان، لا للكلام عنه - فأن الشعر الغنائي حظه الأجدر به الإنشاد والتطريب، لا المبالغة في الدرس والتنقيب - وإنما لنومئ إيماءة المعجب المسحور بطرف البنان، إلى بعض المقطوعات الغرر الحسان، أمثال: - جمال يتجدد - بما فيه من فلسفة للحب عميقة الأثر غنية. .، - واليوم الموعود - للمحب المشوق إليه شوق لاعج يتعجله الأيام، ولو اختلت سيرة الشموس، وانفرط نظام الدهر. . . .، و - الثوب الأزرق - وهو آية في الطلاوة وظرف الهندام وملاحة القالب،. . . و - الحب المثال - وقد خلعت المحبة بقدرتها الخالقة على كيان المحبوب شتى السمات والشكول، كلما اقترح الخيال المتفنن،(26/77)
وهفت بدوات الهوى المتقلب، وخيلت مقادير الأحلام. .، و - قبلة من غير تقبيل - ما للمجتمع عليها من رقابة، ولا له إليها من سبيل. . .، وذلكم الإحصاء المنمق البديع بعنوان - تسلم - وبمقتضاه يسلم الشاعر المهجور محاسن الدنيا ومجالي فتنتها لهاجره، ويسردها بين يديه، في يوم عودته كما خلفها يوم قطيعته، فالشاعر لم يفد منها متعة ولا معنى، ولم يعرف لها استعمالا، كأنما كانت الدنيا هامدة واقفة الحركة أثناء هذه الغيبة المريرة. .، ثم - حلم اليقظة - و - كلماتي - و - بلدي - و - سريان روح - و - صنوف الحب - وهذه جميعا كما ترى أغاني حب ترى فيها الشاعر عاكفاً على الجمال كأنه العابد المتبتل، يمسح بيده الملتهبة على تمثاله، ويتدله في لثمه وتقديسه، ومع هذا الاستغراق من الشاعر في حسه، وتهالكه على حبه، فليس في غزله أثر للترقق المخنث، والاسترخاء المهين والتباكي الهازل، كما أن هذه العبادة الوثنية في الشاعر للأشكال المحسوسة والصور المفرغة، مقرونة على الدوام بالتصعيد المعنوي والتجريد الروحي، فلا محسوس عنده إلا يشف عن معنى ويقوم رمزا على فكرة، ولا معنى عنده إلا يبرز في محسوس ويتجسد فيه
وهاكم ما يقوله صاحبنا نفسه في ما يسميه - الفن الحي أو الحياة الفنية -:
خذ من الجسم كل معنى، وجسم ... من معاني النفوس ما كان بكرا
حبذا العيش يبدع الفكر جسما ... ويرى للحياة فناً وشعرا
ويرى الفن كالحياة حياة، ... ويرى للحياة فناً وشعرا
ضل من يفصل الحياتين جهلا، ... واهتدى من حوى الحياتين طرا
ونحب، ونحن بمعرض الإشارة إلى أغاني الغزل، أن نعرض تحت أنظار شاعرنا الكبير أن بعض المقطوعات كالمنديل والفنجان والرقية وساعي البريد لا تقع في نفوسنا موقع سائر أغانيه، ولسنا نجهل أن من بين شعراء الشرق والغرب من عالجوا أمثال هذه العادات الشعبية والمواضيع الدارجة في شعرهم ولكنها بعد دون العقاد، وتناولها على هذه الصورة فيه ترخص ظاهر
ونزيد بهذه المناسبة - أن بالديوان منظومة عن البيرة على لسان طفل، وهي في وهمنا وبحسب ذوقنا محسوبة على الفكاهة ولا فكاهة فيها، وليست من الفكاهة في قليل ولا كثير،. ونحن نعرف للعقاد غيرها كثيرا أبدع في نوعه منها وأفكه، وقد ترفع الأستاذ عن(26/78)
نشرها وحق له هذا الترفع.
ونحسب في تعليل ما تقدم أن سهولة النظم، وسرعة استجابة اللفظ، ولين أداة التعبير في قبضة صناع اليدين مثله، جعلته ينظم كل خاطرة ترد على ذهنه في شتى المناسبات. ولو أنه يعاني في النظم صعوبة وعنتا لأدخر الجهد الناصب لما هو أولى به من موضوعات وأحاسيس احتضنها ورخم عليها طويلا كعهدنا به أبدا. على أنه من حق الشاعر الكبير الذي يرضينا بنيف ومائة وخمسين صفحة أن يكون له رأيه وحريته في بضع صفحات، إذا هي لم ترعنا فلعلها ترضي الآلاف من قرائه ذوي الفضل، وترضيه هو من ناحية فنية لم نعرفها بعد، أو لما يعلق بها عنده من ذكريات شخصية غإليه
بقيت كلمة إعجاب بقصيدتين إلى صديقين يوجه في إحداهما تهنئة وفي الأخرى تقريظا وفي هذه الأخيرة يقول في وصف نفس صديقه:
جبلت كالفراش في أمة الط - ير خفوقاً بين الندى والضياء
واستوت في الحياة فوق جناح ... مستطار الخطى رقيق الغشاء
ولا شك في انه لم توصف نفس بأجمل من هذين البيتين بغض النظر عمن قيلا فيه
كما ان قصائد (تجريبي) و (يوم شتاء) و (القديس) تلفت قارئ الصفات والتأملات كل منهما بصفة متميزة، لاسيما (القديس) فهي مطوية على ليل سر عميق. وأخيراً (ليالي رأس البر) وهي من القصائد الخوالد تنبه فينا تلك الحالة النفسية الغامضة، التي نحس فيها اتصال مشاهد هذا العالم المشهود بمعاني العالم المستور، وقد اختار لها الشاعر وزناً طويلا، وقافية كأنفاس الحالم الممدودة فكأنما يسري القارئ منها في عالم النسيان والرضوان
حقاً هو كتيب صغير ولكنه ديوان كبير
عبد الرحمن صدقي
المآسي في الجمال والشعر والحب
للأستاذ الحوماني
قبل أن أتحدث عن هذا الكتاب القيم يجدر بي أن أتقدم بالشكر إلى الأستاذ الجليل صاحب(26/79)
الرسالة فقد هداني به إلى نوع من الأدب طالما تمنيت أن يجري على لسان عربي وإلى لون من الجمال والفن كثيراً ما نزعت نفسي إليه، حتى ألقيته اليوم بين دفتي هذا السفر الجليل.
ترى الكتب أنماطا مختلفة، فمنها ما يعتمد على زخرف القول ويستند إلى الدجل والتمويه، فلا تكاد تظهر حتى يذهب الزمان بما حوت من بهرج زائف، فتصبح كأن لم تكن بالأمس، كالفقاقيع لا تكاد تظهر حتى تنطفئ. ومنها ما يصدر عن القلب فيفيض بخلجات النفي، ويجيش بنزعات الوجدان ويزخر بخطرات الضمير: ومصير هذا النوع إلى الخلود، لأنه والحياة شيء واحد فيبقى ما بقيت الحياة.
وكتاب الأستاذ الحوماني من هذا النوع الخالد فهو مرآة صافية رفعها الكاتب الفذ فانعكست فيها الطبيعة، بما حوت من ضروب الفن وضروب المذاهب.
يقع بصرك على الكتاب فتحس أن له شخصية ممتازة، فهو مطبوع طبعا جيداً، وهو كما ترى من عنوانه سلسلة من المآسي، ولقد حليت زوايا غلافه بخطوط عريضة سوداء قوية الإشارة واضحة الدلالة، وتوسطت هذا الغلاف الأنيق صورة نقشتها ريشة ماهرة لفتاة بارعة الجمال تنحدر الدموع من عينيها الواسعتين الضارعتين وقد اشتبكت يداها على صدرها في شكل يحرك القلب ويثير الشجن. أما الوجه فانه مزيج مدهش من الجمال البارع والعفاف الوادع والالم اللاذع، وتحت هذه الصورة نقش اسم (أمل) بطلة القصة ومحور الجمال فيها.
وهي قصة قوية إذا بدأتها فلن يشغلك عنها شاغل ولن تضعها حتى تتمها، وهي إلى جانب ذلك مؤثرة إلى أقصى حدود التأثير، لا يتمالك ذو العاطفة الحساسة دمعة حين قراءتها ومؤداها أن خالدا ذلك البطل العربي، رحل عن بلاده الشام حين عافت نفسه الأبية أن تقيم على الضيم، فهبط الحجاز وأقام هناك زمناً في ضيافة عربي كريم هو الشيخ أبي وسيم، ولقد كان هناك موضع حفاوته وحفاوة ابنه وسيم. وسرعان ما أحب وسيما واحبه وسيم.
ماتت زوجه وهو بعيد عنها وبقيت ابنته أمل تعاني بؤس الحياة، وكانت تحب ابن عمها (ناظما) وكان يحبها، ولكنه كان فتى طائشا يطلق العنان لشهواته ويفهم من الحب غير ما تفهم أمل، فحبب إليها المجون ورغبها في التبرج والخلاعة، ولكنه فشل في إغرائها ورحل(26/80)
إلى بيروت حيث اللهو والمجون فلما علمت بذلك ابنة عمه تبعته لترى بنفسها ما ينغمس فيه من المفاسد، فرأته هناك من حيث لا يراها يغازل فتاة من بنات الهوى تدعى جوزفين فبرح بها الألم وكتبت إليه تلومه، ولكنه رد عليها ساخرا، وكرر الدعوة إليها لتحيا معه هذه الحياة. وفي تلك الأثناء كان أبوها في طريقه إلى بلده دمشق فقضى نحبه على مقربة من العقبة، ولقد ترك خطابين أحدهما لابنته والثاني لوسيم، وأوصى بأن يسلما إليهما في وقت واحد، وهرعت أمل إلى قبر أبيها هالعة جازعة والتقت هناك بوسيم واكبا على القبر يبكيان فلما أفاقا وجد كل منهما في صاحبه ضالته فربط الحب قلبيهما برباط وثيق. وحملها وسيم إلى التهامي. وأخذ ناظم يرسل إليها الخطابات يستحلفها ويعلن التوبة بين يديها فسافرت لتراه قبل موته وهو على فراش المرض فلم تكد توافيه حتى اسلم الروح وبكته ابنة عمه ولبست الحداد وأقامت بدمشق أياما. وهنا شبت نار الحرب بالبلاد العربية واشترك فيها وسيم، وجعل يدون مذكراته عن حبه ويشاء القدر الساخر أن يذهب ضحية الزلزال وهو يبحث عن أمل بعد أن وضعت الحرب أوزارها فحملت مذكراته إلى أمل البائسة.
أخاف أن يذهب هذا التلخيص بجمال القصة وأدعو الشبان مخلصا إلى قراءتها في إمعان. فليس جمالها في حوادثها فحسب بل فيما، تفيض به من دروس وعبر، وأحاديث عن الجمال والشعر والحب ووصف شائق للكون والطبيعة، كل ذلك في تعمق وخبرة وبعد نظر أما أسلوب الحوماني فهو ذلك الأسلوب العربي المتين، دقيق العبارات موسيقي الوقع مشرق، الألفاظ؛ قوي المبنى، واضح المعنى حتى ليعد في ذاته ناحية هامة من نواحي الجمال في الكتاب ولو ضيق المقام لأوردت بعض عبارته على أنني لو فعلت ذلك لاضطررت إلى إيراد الكتاب كله، فهو قطعة متسقة من الفن.
أما بناء القصة فقد سار فيه المؤلف على نهج فريد، فابتدأه بأن ترك كل فرد يتناجى ونفسه بعيدا عن بقية الأشخاص، ثم أخذ بعد ذلك يسرد الحوادث حتى اختتم الكتاب، بمذكرات وسيم وبتلك المفاجأة المؤلمة التي حملتها فريدة الوصيفة إلى سيدتها أمل. ولقد أضاف هذا إلى الكتاب قوة ونجاه من السامة الملل.
وأني أتقدم بخالص التهنئة إلى الأستاذ الحوماني راجيا إياه ان يزيد الأدب من نفثاته(26/81)
الرائعة التي تعد مفخرة للعربية وأهلها
محمود الخفيف
الوصية
هذه القصة التمثيلية التي تقع في فصل واحد ذي ثلاثة مناظر والتي ألفها ج. م. باري، قد نقلها إلى العربية الأستاذ خطاب عطيه
أما القصة فهازلة، تريك رجلا يصطحب زوجته إلى مكتب محام ليوصي لها بكل ما يملك بعد موته، مع انه لا يملك شيئا. ولكن شاء الدهر أن تنمو ثروة الرجل وتطرد في النمو، وكلما ازدادت نماء سارع إلى تعديل الوصية حتى تلائم موقفه الجديد، وظل كذلك يحرص على تأكيد الوصية بما له إلى زوجته حتى رزاءه القدر بموتها! وإذن فلابد أن يقلب الوصية رأسا على عقب، ولكن من ذا عسى أن يظفر بتلك الثروة الضخمة؟ انه يفكر أن يوصي بها إلى ستة رجال كانوا قد نازلون في ميدان الجهاد فصرعهم! ولكن ظرفا طارئا قد انعرج به عن هذا التفكير السقيم، واعتزم من فوره أن يبذلها في سبيل المرضى الذين يذهبون ضحية الفقر والإهمال. وهكذا أراد الكاتب إلا تكون الوصية لأشخاص الفناء، بل انتهى بها إلى عمل الخير لأنه خالد لا يزول
والأستاذ خطاب يشكر لنقله هذه القصة إلى العربية لأغذاء قراء العربية بمحصول جديد، كما أعان طلاب السنتين الرابعة والخامسة الثانويتين لأنها مقررة في منهجهم الدراسي. ولكن هل يسمح لنا بأن نأخذ عليه عبارته الركيكة الضعيفة التي بلغت من الإسراف في الركة والضعف حد الارتباك والتعقيد وحتى تمنيت في كثير من المواضع أن يكون إلى جانبي الأصل الإنجليزي لأستعين به على فهم الترجمة العربية! ولا شك في انه قد أساء بذلك بعض الشيء إلى الأدب الذي نقل عنه واللغة التي نقل إليها
ز. ن. محمود(26/82)
العدد 27 - بتاريخ: 08 - 01 - 1934(/)
لطيفة النادي. . .!
منذ أسابيع استشهد في ميدان الطيران حجاج ودوس! فتقاطرت في هذا المكان عبرات الأسى سوداء من هذا القلم، وتصاعدت زفرات الأسف حارة من هذه الصحيفة، وقلنا أن الأمة التي لم تكد تأخذ بأسباب الطيران حتى يسبق إلى الشهادة في سبيله فتيان من فتيانها، ويبادر إلى خوض أهواله فتاة من فتياتها، لا يستطيع أن يكسر من ذراعها حادث، ولا يتكاءدها في طريقها إليه عقبة.
كنا نقول ذلك والقدر الذي فتح لهذين الفتيين في السماء باب الخلود، كان يشق لهذه الفتاة في الأرض طريق المجد! فماكاد يعثر بنا الحظ في الجو الُمِضَّب الغريب، حتى نهض عجلان في جونا الضَّحيان العجيب، وكان يوم نهوضه الأغر يحلق في سماء مصر الجديدة ثمانية وعشرون من نسور أوربا القشاعم! يستعدون للسباق في سمائنا المشرقة الطليقة، ويستَنوَّن للرهان استنان الجياد العتيقة، ويظنون أن مصر التي فكرت في الطيران آخر الأمم لا يمكن أن تكون إلا مطارا لكل طائر، ومائدة لكل زائر! أما أن تكونِ قرنا يغالب، وموتورا يطالب، فذلك ما لم يقع في وهم ولم يَدُر في خَلَد! ولكن مجدنا الذي تحدى القرون وغبَر وجه الفلك لا يزال جياش الغضب على غدرة الجو بشهيديه في فرنسا! فهو يُدمَث لنسوره مثوى الضيافة، ويعقد غيب ضميره على الثأر، ولا يثأر إلا بطريقة تليق بماضيه ونزكو بأصله!! نفث في روع حمامة من حمائم الوادي أن تسابق هذه النسور في حَلبْة الهواء إلى الأمد! فصفَّت الحمامة المصرية في الجو جناحها الهشّ وريشها الناعم، ثم نظرت نظرة التحدي إلى النسور المحوّمة، فتوقدت صدور الكواسر غضبا من هذه الجرأة، وشق على ملوك الهواء وجبابرة السماء أن يشعروا بهذه الحمامة وقالوا ممتعضين: ريشة تواثب الريح، وهامة تعاجز الثور، ونملة تناجز القدر! وقال (ضيوفنا) الأعزة أصحاب (النشرة البذيئة)، والفخر المتعصب يثنى اعناقهم، والزهو الساخر يلوى أشداقهم: (يا لغَرور (أبناء العرب)! متى دخلت (الحمير) مضامير السباق؟ ومتى سامت وحوش (البهائم) سوابح الطير! ألم تكفهم فضيحة (الجنديين القذرين) حجاج ودوس؟
وكانت عيون مصر حينئذ تشخص إلى السماء مغرورقة بالأمل، ومحركات الطوائر الدولية تهزم في الجو الصافي هزيم الرعود، والأجنحة المعدنية تضرب في الهواء الساكن إلى الإسكندرية، ولطيفة النادي تتقدم بطائرتها الصغيرة السرب المتعاقب المثار إلى قصبات(27/1)
السبق!! ثم غابت الأصوات في مطاوي الفضاء، واستولى على المطار اللجِب سكون وصمت، حتى إذاأزف موعد الرجوع سَرَحت العيون في الجو، وسبحت النفوس في الخيال، وتجاذبت أمم أوربا حبل الأمل في الظفر! هل هي فرنسا؟ هل هي إنجلترا؟ هل هي المانيا؟ ولم يقل أحد لا منا ولا منهم هل هي مصر؟ ولكن القدر على الغيب منا ومنهم قالها! وكان الجواب الحاسم عند لطيفة النادي!
من كان يخطر بباله منا - ولا أقول منهم - أن الآنسة لطيفة بنت الخدر العربي، وذات الخفر المصري، تباري أساطين الطيران ذوي الماضي البعيد والمران الطويل والخبرة الواسعة وهي لم تقض في علاج هذا الفن غير ستة شهور، فكيف يقع في الظن أن تسبق سابقهم وتهبط الأرض قبله بدقيقة كاملة؟
هنالك طفر المصريون من الفرح، وماد الأجانب من الذهول، واقبل المحكمون على الطائرة المُجَليَّة، يعصرون يدها من الإعجاب والدهشة، ويقولون والعرق البارد يتألق فوق الجباه الزٌّهر، كما يتألق رشح الرطوبة فوق الرخام الأبيض، يا آنسة قبلنا سبقك موضعاً ورفضناه شكلاً!! لان هناك على ساحل البحر (خيمة) أخرى لم تدوري حولها، والخطأ خطأ المنظمين لأنهم لم يضعوها في مكانها!
ثم منحوا المصلى الفرنسي جائزة المال، ومنحوا السابقة المصرية جائزة الشرف! وهل تبتغي مصر غير ذلك؟ ليقل لنا أصحاب (النشرة البذيئة) ما رأيهم في هذا الشعب؟ إلا يرون أنهم جحدوا فضله كما غمطوا حقه؟ إلا يجدربربائب المدنية وللعلم أن يفهموا أن عجز القيادة وتردد السياسة وطغيان الدخيل، إنما تخمد الشعور إلى حين، وتضعف الأخلاق إلى حد؟ وأن الأمم الحرة بطبيعتها، لا تلبث أن تنفي الزغل عن حقيقتها، فتظهر مجلوة الصفحة نقية الأديم؟ أفلا ينظرون إلى المصري في الميادين الحرة كيف سبقت قدمه وعلت يده؟ ألسنا في الرياضة والسباحة والغناء والأدب والطب أبطالا عالميين أو شبه عالميين؟
أن أسوأ الآراء الأوربية في مصر ربما كان عن المرأة، فانتصار البطلة لطيفة في هذا الميدان الخطير يصحح الخطأ في العقول المنصفة، ويُقر الحق في النفوس الكريمة،
افتحوا لنا باقوم طريق الحياة، وأفسحوا لنشئنا مجال العمل، وخلوا بين نفوسنا وبين الحرية، ثم انظروا بعد ذلك ماذا يفعل الفتى، كما رأيتم بعيونكم ماذا فعلت الفتاة!(27/2)
احمد حسن الزيات(27/3)
من دار إلى دار
للدكتور طه حسين
قال أستاذ البيان لتلميذه: زعموا أن البيان يعين صاحبه على أن يؤدي المعنى بعبارات مختلفة فيها الحقيقة والمجاز، وفيها التشبيه والاستعارة، وفيها الكناية والتمثيل وفيها ما نعلم وما لا نعلم من الوان الجمال اللفظي، هذه التي عن قصد، وتأتي على غير عمد، كأنما يوحي بها إلى الكتاب المبين. ولكنك تعلم أنا لا نذهب في فهم البيان هذا المذهب، ولا نقصد به إلى هذا النحو، وإنما نذهب به مذهبا اعم من هذا واشمل، كان يذهب إليه القدماء حين كانوا يتخذون البيان وسيلة إلى أداء ما يعرض للكاتب من الأغراض والمعاني في أشد الألفاظ ملاءمة لأغراضه ومعانيه، ولعلك تذكر انهم كانوا يذهبون في تعليم الطلاب فن البيان مذهبا طريفا كثيرا ما كان يضيق به المتكلفون من أصحاب الأخلاق، والذي لا يعلمون إلا ظاهرا من الفلسفة. قال التلميذ: نعم هو هذا المذهب الذي كان يحمل الأستاذ على أن يطرق أمام تلاميذه ويحمل تلاميذه على أن يطرقوا أشد الموضوعات تناقضا وأعظمها اختلافا فيؤدوها كأنهم يؤمنون بها أقوى الايمان، ويقتنعون بها أشد الاقتناع. وكانت هذه بدعة استحدثها السوفسطائية ثم ورثها عنهم أصحاب البيان فلم يغيروها، وإنما أمعنوا فيها إمعانا. وكتاب أرسططاليس في الخطابة حافل بذلك. وقد أبلى الجاحظ في هذا النحو من تعليم البيان بلاء حسنا، وقد ألف أساتذة اللغة والبيان في هذا النحو من الأدبكتبا لا تخلو من لذة ومتاع، فيها مدح الشيء الواحد وذمه، وفيها مدح النقيضين وذم النقيضين، وفيها. . . . قال الأستاذ حسبك، فقد أرى أن أشهر الصيف وما كان فيها من ارتحال وطواف، ومن اختلاف البيئات عليك وترامي أطراف الأرض بك لم تنسك ما أنفقنا فيه من أشهر الربيع من الدرس والبحث، فأنا نريد الآن أن نبتدئ من حيث انتهينا، ونمضي من حيث وقفنا، ونعود إلى ما كنا فيه من التمرين. فاختر لنا موضوعا واحدا يثير الضحك ويثير الرثاء. يثير الشماتة ويثير الرحمة. يبعث في النفوس مرحا وابتهاجا ويملا القلوب كآبة وحزنا، وهو على ذلك كله واحد لا يتغير، وإنما يتغير وجهة النظر إليه ونحو التفكير فيه، وأن الشيء الواحد قد يخالف نفسه ويباينها باختلاف الجهات التي تنظر إليه منها، والطرق التي تسلكها إلى فهمه والوصول إليه. قال التلميذ فأني لست في حاجة إلى أن أجد(27/4)
وأكد، أو ألتمس واختار، لأن الموضوع ماثل أمامي شهدته أمس فأثار في نفسي هذه العواطف، المختلفة، وبعث في قلبي هذه الألوان المتباينة من الشعور، وكان المتعمقون في البيان يسرفون على أنفسهم وعلى تلاميذهم وعلى الفن حين كانوا يجتنبون ما يحدث بين أيديهم من الحوادث، ويختلف عليهم وعلى أمثالهم من الخطوب، ويلتمسون الموضوعات من عند أنفسهم يخلقونها خلقاً، فيصيبون حيناً ويخطئون أحيانا، ويعيشون في عالم الخيال على كل حال، مع أنهم لو نظروا فيما حولهم من الأحياء والأشياء لما احتاجوا إلى هذا الكد والجد، ولما بعدوا بأنفسهم وتلاميذهم عن مواضع الحق والصدق والصواب، ولما نقلوا الأدبمن هذا العالم المعروف الذي يضطرب فيه إلا الوهم، ولما قطعوا الصلة بين الأدب الذي يجب أن يكون صورة الحياة وبين الناس الذين يجب أن يتخذوه مرآة يرون فيها أنفسهم وحياتهم كما هي أو كما يحبون أن تكون، أو كما يكرهون أن تكون قال الأستاذ: هات موضوعك ولا تمعن في الاستطراد، فقد علمت وقد أنبأتك بأني علمت أن أشهر الصيف لم تنسك دروس الربيع. قال التلميذ: فان الموضوع الذي شهدته أمس موضوع ويثير من المعاني ما لم تشأ، ويلهم ما أحببت من الخواطر ما لا تحب، يبعث الابتسام أن شئت أن تبتسم، ويبعث العبوس أن أحببت أن تعبس، وقد يكرهك على الابتسام وأنت عابس، وقد يكرهك على العبوس وأنت مبتسم، وقد لا يقف بك عند الابتسام، بل يغرقك في الضحك إغراقا، وقد لا يقف بك عند العبوس بل يدفعك إلى البكاء دفعاً، وقد يقفك من الابتسام والعبوس ومن الضحك والبكاء موقفا بين ذلك، فيه هدوء وعجب، وفيه رضى وسخط يضطربان في النفس ولا تظهر آثارهما على الوجه قال الأستاذ كفكف من هذا السيل اللفظي المتدفق، واقصد بنا إلى ما نريد. فقد علمت أن أشهر الصيف لم تنسك دروس الربيع في المعاني، وقد علمت أيضا إنها لم تنسك دروس الربيع في الألفاظ، وقد علمت أنك ما زلت قادراً على أن تجيد هذا الفن الذي يمكن الكاتب أو المتكلم من أن يقول فيطيل دون أن يؤدي معنى أو يدل على شيء. قال التلميذ: وكأنك تنكر هذا الفن أو تسخر منه أو تزعم أن جمال الكلام لا يأتي من الكلام نفسه، وأن الألفاظ ليست على حظ من الجمال الذاتي الذي يأتي من اتساقها والتآمها وانسجامها، قال الأستاذ: دعنا من كل هذا العبث واقصد بنا إلى ما نريد فقد نعود في يوم آخر إلى حديث الألفاظ والمعاني وما يجب(27/5)
أن يكون بينهما من صلة، وما يجب أن يقسم بينهما من الجمال.
ولكن اذكر أن كنت نسيت أنك شهدت أمس موضوعا واحداً يثير الضحك ويثير الرثاء فحدثني عن هذا الموضوع، كيف أثار الضحك؟ وكيف أثار الرثاء؟ قال التلميذ: وكيف أنسى موضوعاً لا يمكن أن يعدو عليه النسيان؟ وما رأيك في أديب خلق ليكتب، ويقول فيقضي عليه فجأة إلا يكتب ولا يقول؟ خلق ليفكر ويرقى بتفكيره إلى السماء فيجذب إلى الأرض جذباً، ويكره على البقاء فيها إكراها، ويؤخذ بالحياة مع أهلها أخذاً، خلق ليقرأ فيقضى عليه فجأة إلا يقرأ، خلق أطول الناس بالكلام لساناً، وأجرأهم بالقلم يداً، وأسرعهم إلى المعاني نفسا، وأخصبهم بالخواطر ذهنا: فيعقد لسانه وتغل يده وتقيد نفسه ويجدب ذهنه. خلق واضح الجبين باسم الثغر مبسوط الأسارير، تضطرب في نفسه الغنية معان غزيرة فيظهر اضطراب هذه المعاني على وجهه، فإذا هو متحرك الهيئة دائماً لا تكاد تنظر إلى محياه حتى ترى له شكلا جديداً يصور معنى جديداً، يضطرب في تلك النفس التي لا تهدأ ولا تستقر فيقضي على هيئته أن تسكن، وعلى وجه أن يتخذ صورة بعينها جامدة مستقرة لازمة لا تتحرك ولا تنتقل ولا تزول.
قال الأستاذ وماذا تنكر من أمر هذا الأديب؟ إنما هو صورة من صور برومثيوس الذي كان حركة متصلة منتجة خصبة، سريعة لبقة، تعلم الناس في غير انقطاع. وتسلك إلى تعليمهم كل السبل، وتبتغي إليه كل وسيلة، حتى لم تتحرج من أن تختلس نار الآلهة اختلاساً فتهديها إلى الناس وتمنحهم بذلك الحضارة والعلم والفن وتغنيهم أو تكاد تغنيهم عن (زوس) وأصحابه من سكان الأولمب، فغضب عليه زوس وضاق به وأزمع أن يعاقبه على ما جنى، فشده إلى صخرته تلك في القوقاز وقضي عليه أن يظل طوال الدهر مغلولا. وقد كانت الحركة جوهره عاجزاً، وقد كانت القدرة حقيقة لا يملك لنفسه ولا للناس شيئاً، لا يدفع عن نفسه ولا عن الناس شيئاً، يزوره النسر الذي وكل به من حين إلى حين، فينهش كبده نهشاً، وهو يرى ذلك ويألم له أشد الألم ولا يستطيع له دفعاً، يدعو الحرية فلا تستجيب له، لأن زوس قد كفها عنه، يدعو الموت فلا يستجيب له، لان الأقدار قد كتبت له الخلود. وقد صور ايسكولوس حال برمثيوس هذا تصويراً بديعاً ألهم من جاء بعده من الكتاب والشعراء، والمثالين والمصورين والموسيقيين. وقد أثار ايسكولوس في تصويره ضحك(27/6)
الذين قست قلوبهم، ورثاء الذين رقت نفوسهم كما أثار معاني أخرى أقوم وأخصب وأبقى من الضحك والرثاء. قال التلميذ: لم أقصد إلى برومثيوس ولم أفكر فيه، وهل تضن أني رأيته أمس ولم أذهب إلى القوقاز وإنما أنا معك في القاهرة، ولعلي أن ذهبتإلى القوقاز فلا أرى الصخرة ولا قرينها فلم يحدثنا عنهما أحد من الذين زاروا تلك البلاد بعد ايسكولوس. قال الأستاذ فهي صورة من صور برومثيوس قصدت إليها واتخذتها نموذجا لهذا النحو من البيان كما كان يفعل القدماء. قال التلميذ لم أفكر في برومثيوس ولم اقصد إلى تقليد ايسكولوس، وإنما هو شيء شهدته أمس. قال الأستاذ وماذا شهدت؟ قال التلميذ شهدت صديقنا فلانا وقد أرادت له ظروف الحياة أن ينتقل من دار إلى دار. قال الأستاذ وقد اغرق في الضحك ما ابعد هذه الصورة التي تحدثني عنها من تلك الصورة التي كنت أذكرك بها! وأين يكون صديقنا فلان حين تنقله الظروف من دار إلى دار، من برومثيوس حين يشده كبير الآلهة إلى صخرة القوقاز، قال التلميذ فقد أثار صديقنا فلان في نفسك الضحك لأن صورته ذكرتك بتلك الصورة الضخمة العظيمة التي نصبها أبو التراجيديا للناس فلما انحدرت منها إلى هذا الشخص الضئيل النحيل الذي كان يقيم في طرف من أطراف القاهرة فأنتقل إلى طرف آخر لم تملك نفسك أن أغرقت في الضحك إغراقا. ومع ذلك فلو قد رأيته أمس كاسف البال كئيب الوجه محزون القلب معقود اللسان مقيد الرجل مغلول اليد، محصورا بين طائفة من الأثاث وأدوات البيت، مختلفة اشد الاختلاف، متباينة اشد التباين، فيها الكبير والصغير، فيهاالأنيق والدميم، قد جمعت حوله تجميعا، وكدست حوله تكديسا، وقد وضع هو بينها وضعا على كرسي أو شيء يشبه الكرسي، وقيل له أقم لا ترم حتى يأذن الله أو يأذن العمال لك بالانتقال، وهو مقيم لا يريم، لا يستطيع أن يقول شيئا، ولا ينبغي أن يقول شيئا، لأنه لا يفهم مما حوله شيئا، يريد أن يخلو إلى نفسه ويعيش مع خواطره، وإذا هو مصروف عن ضميره صرفا بهذه الأصوات العنيفة المختلفة التي تأخذ من كل مكان، والتي تؤلف من حوله نوعا فجا فظا غليظا من الموسيقى، فيه أصوات العمال على اختلافها، واصطدام الاثاث، ووقعه على الأرض، وهذا الصوت الذي يغيظ ويهيج الأعصاب ويأتي من جر الأشياء على الخشب حينا وعلى الحجر حينا آخر، وخفق الأقدام وتداعي الخدم، وتناهي الحمالين وما شئت مما يحصر وما لا يحصر، من هذه(27/7)
الضوضاء الغريبة التي يمتلئ بها البيت حين تفارقه الحياة، ويمتلئ بها البيت حين تدخله الحياة.
قال الأستاذ محزونا مشفقا، وكم قضى المسكين من وقت على هذه الحال؟ قال التلميذ يوما كاملا نصفه في ذلك البيت الذي كان يخلو، ونصفه في هذا البيت الذي كان يعمر. ولقد فهمت أن اتحدث إليه في الانتقال من دار إلى دار، وأن اذهب معه مذهب الادباء في هذا الحديث، فأخذت أذكر له وقوف الشعراء على الاطلال واحيائهم لما يثير هذا الوقوف في نفوسهم من الذكرى وما يسفح على خدودهم من العبرات، وذهبت اروي له: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل. . وانشده: لخولة اطلال ببرقة ثمهدي. . واتغنى له بدمنة ام اوفى. . واروى له ما قال ذو الرمة في ربع مية. واستطرد به إلى ما قال أبو تمام في عمورية بعد أن دمرها المعتصم تدميرا. فلم أجد منه نشاطا ولا انبساطا وإنما قال في صوت المحزونولهجة المتعب المكدود وما أنا وذاك؟ لقد تنقلت في حياتي بين دور كثيرة من حوش عطى، إلى درب الجماميز، إلى شق الثعبان، إلى مونبلييه، إلى باريس، إلى السكاكيني، إلى الحوياتي، إلى هليو بوليس، إلى الزمالك، فأقسم ما وجدت ساعة الانتقال لحظة من هذه اللحظات الحلوة التي يغنيها الشعراء غناء جميلا في شعر جميل اودع فيها دارا احببتها وبلوت فيها الحلو والمر من الوان الحياة، واستقبل فيها دارا لا اعرفها ولا أ ' رف ما ستتكشف لي فيها الايام عنه من الاحداث والخطوب. إنما هو الضجيج والعجيج وازدحام الادوات والاثاث، وصياح العمال والحمالين وخفق الاقدام، وجر الاثقال، ومجلس ضيق كهذا المجلس الذي ترى وساعات طوال ثقال كهذه الساعات التي رأيت، ثم وصل لما انقطع من الحياة، وسعى فيما أهمل من العيش، وانغماس في هذه الحركات العنيفة التي لا موضع فيها للشعر ولا مكان فيها للغناء. هنالك عدلت به عن النحو من الأدبالنو آخر. فأخذت اتحدث إليه عن قول ابي تمام
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الاول
كم منزل في الارض يألفه الفتى ... وحنينه ابدا لاول منزل.
واخذت أساله عن احب منازله إليه وآثرها عنده فلم يحتج إلى تفكير ولا تقدير، وإنما قال في صوت حزين يشوبه الابتسام احب دار واثرها عندي إنما هي تلط التي درجت فيها(27/8)
طفلا في قرية من قرى الريف، وهذه الدار التي نشأت فيها شابا في حوش عطى، ثم هذه الدار التي أقمت فيها طالبا للعلم في شارع من شوارع الحي اللاتيني في باريس ولكن بشرط إلا أعود إلى الاقامة والحياة في وحدة منها، هي حبيبة إلى كريمة اثيرة عندي حين اذكرها وحين ألم بها الألمامة القصيرة اليسيرة، فأما أحب الدور إلى وآثرها عندي الآن فهي هذه التي تراها مضطربة مختاطة مملوءة بالضجيج والعجيج والصياح من كل نوع، وتراني فيها اسير سجيا بين هذه الادوات المختلطة المكدسة حولي لا أستطيع حركة ولا انتقالا لانها ستستقيم لي بعد أيام، وستحمل الي فيها ساعات الحياة من الوان العيش ما لم اذق بعد. ويكفي أن اذكر تلك الدور كلها وكيف انتقلت من احداها إلى تلك التي تليها حتى انتهيت إلى هذه الدار لتعلم اني كغيري من الناس خليق إلا امنح تلك الدور من نفسي إلا هذه الدار الذي يقترن بالذكرى، مومن يدري لعلي أن انتقل من هذه الدار التي تراها إلى دار اخرى أوثرها عليها واختصها بالتفضيل، إنما نترك في كل دار نسكنها قطعة من قلوبنا، ولكنك تعلم أن قلوبنا لا تنقص بما نفرق من أجزائها بين الدور، وإنما تكمل وتستكثر من الثروة بهذه الذكريات التي نحملها معنا إلى أن يأتي هذا اليوم الذي ننتقل فيه إلى منزل آخر لا نؤثره ولا يؤثرنا، لا نحبه ولا يحبنا، لا نسعى إليه ولا يسعى الينا، وإنما نكره عليهاكراها، ويكره هو علينا اكراها. . .
هنالك أحسست مرارة الحديث فهممت أن اتحول بصاحبي إلى حديث آخر، ولكن أمور الدار وترتيبها كفتني مؤونة هذا. الانتقال، فقد اقبل المقبلون يرفعون هذا وذاك، يتصايحون ويتبادلون بينهم الامر والنهي. قال الأستاذ لا بأس بهذا الموضوع ولكن على أن تعالجه علاجاً آخر وتعرضه عرضاً فنيا يثير الضحك ويثير الرثاء وإنما يأتي ذلك حين تقصد إليه قصد صاحب الفن وتبث فيه جزءا من اجزاء نفسك يمنحه شيئا من الحياة.
طه حسين(27/9)
ملق القادة
للأستاذ أحمد أمين
لست أعني بهذا العنوان أن يتملق الجمهور لقادتهم فيظهرون لهم الود
والعظام بحق وغير حق، فذلك شيء قليل الخطر، فاتر الأثر، وإنما
اعني أن يتملق القادة للرأي العام فيسيرون على هواه ويجرون مجراه،
ويأتون ما يحب، ويذرون ما يكره، فهذا هو الداء الدَّوىّ والعلة الفادحة
ومن أسوأ ما أرى في الشرق في هذه الأيام هذه الظاهرة: ظاهرة أن يحسب القادة حساب الرأي العام أكثر مما يحسب الرأي العام حساب القادة هذه الظاهرة جلية واضحة في قادة العلم، فهناك أوساط تقدس العرب كل التقديس، وتعتقد أنهم في حكمهم عدلوا كل العدل، ولم يظلموا أي ظلم، فقادتهم يتملقونهم ويستخدمون معارفهم للوصول إلى هذه النتائج التي ترضيهم، سواء رضى العلم أم لم يرض، وسواء أوْصَل البحث إلى هذه النتائج أو إلى عكسها، وهناك أوساط تعبد كل غربي من عادات وتقاليد وآداب، فقادتهم يختارون اللفظ الرشيق، والأسلوب الأنيق لتأييد هذه الآراء، ولا عليهم في ذلك أن كانوا يحقون الحق أم يؤيدون الباطل
وهي ظاهرة في قادة الأدب، فأن أحب الجمهور روايات الحب والغرام ألفّوا فيها أكثر منها، وأن أدركوا أن تصفيق الجمهور يكون أشد، كلما كان الحب احد، تسابق الأدباء إلى أقصى ما يستطيعون من حدة وعنف، ومهروا في أن يستنزفوا دموع المحبين، ويهيجوا عواطفهم، ويصلوا إلى أعماق قلوبهم، وأن كره الناس أدب القوة من الأدباء، هو سمج، وهو جاف، وهو لا قلب له، وأن كان الجمهور لا يقبل إلا على الأدبالرخيص فكل المجلات أدب رخيص، لانه كلما أسرف في الرخص غلا في الثمن، وأن بدأ الجمهور يتذوق الجد تحولوا إلى الجد وداروا معه حيث دار
وهي ظاهرة في دعاة الإصلاح، فهم يرون - مثلا - أن الشباب قوة فوق كل قوة، وهم عصب الأمة الكسير الحياة، وفي استطاعتهم أن يرفعوا من شاءوا إلى القمة ويسقطوا من شاءوا إلى الحضيض، فهم ينظمون لهم الدار في مديحهم وإعلاء شأنهم، وملئهم ثقة(27/10)
بأنفسهم، فهم رجال المستقبل وعماد الحياة، وهم خير من آبائهم، وستكون الأمة في منتهى الرقى يوم يكونون رجالها - وقد يكون هذا حقا، ولكن للشباب أغلاطه الجسيمة التي تتناسب وهمته، وله غروره واندفاعه، وله تهوره وإفراطه في الاعتداد بنفسه - فكان على المصلحين أن يكثروا القول في المعنيين على السواء، فيشجعوا وينقدوا، ويبشروا وينذروا، ويرغبوا ويرهبوا حتى تتعادل قوى النفس، وحتى يشعروا بمحاسنهم ومساويهم معا - ولكن هؤلاء القادة - مع الأسف - وقعّوا فقط على النغمة التي تعجب الشباب وتحمسهم ولم يجرءوا أن يجهروا بعيوبهم، ولا أن يقولوا ولو تلميحا - في مواضع النقص من نفوسهم - فكان لنا من ذلك شباب استرسلوا في الأيمان بقول الدعاة إلى أقصى حد، واعتقدوا انهم كل شيء في الحياة وانهم فوق أن يسمعوا نصيحة ناصح أو ناقد - وكان هذا نتيجة لازمة بعد أن وقف القادة منهم هذا الموقف - وقد يكون هذا رد فعل للماضي أيضا - فقد كان طالب العلم في الجيل السابق يقدس قول أستاذه، وهو وأستاذه يقدسان ما في الكتاب الذي يتلى، وكان الشاب يجل الشيخ في قوله وفعله، ولا يرى أن له صوتا بجانب صوته، ولا رأيا بجانب رأيه، فكان سلوك هذا الجيل انتقاما من الجيل السابق، وذهابا في الإفراط يعادل إفراط آبائه، ولكن أظن أنا وصلنا إلى حد يجعلنا نفكر جديا في تثبيت هذه الذبذبة ووقفها الموقف الحق
أن وقوف القيادة من الجمهور موقف الملق قلب للوضع، فالعالم إذاقال برأي للناس لم يكن لعلمه قيمة، والمصلح إذادعا إلى ما عليه الناس لم يكن مصلحا
إني أفهم هذا الوضع في التاجر يسترضي الجمهور لأن نجاحه في تجارته يتوقف على رضاهم، وأفهم هذا في المعنى يقول ما يعجب الناس لأنه نَصَب نفسه لإرضائهم، واستخرج إعجابهم، ولكني لا أفهم هذا في قائد الجيش، فان له مهمة أخرى، وهي أن يظفر بخصمه، فلو كان همه أن يسترضي جنده لا أن ينتصر على عدوه لما استحق لقب القيادة لحظة، ولكان الوضع الحقيقي أن الجند هم القادة والقادة هم الجند
كذلك الشأن في قائد العلم وقائد الأدب، والمصلح الاجتماعي فلكل منهم غرض يرمي إليه في علمه أو أدبه أو إصلاحه، وله خطة يريد أن يحمل الناس عليها رضوا أم كرهوا
بل لا يعد المصلح مصلحا حتى ينبه الناس من غفلتهم، ويحملهم على أن يتركوا ما ألفوا(27/11)
من ضار، أو يعتنقوا ما كرهوا من صالح وهو في أغلب أمره مغضوب عليه ممقوت، واصطلاح الجمهور والمصلحين ليس علامة تبشر بخير، بل هي في الغالب تدل على تراجع من المصلح وانتصار للعامة وقد كان المصلحون في الشرق إلى عهد قريب أشد الناس تعبا في الحياة، وأكثر تبرما بالجمهور وأقربهم إلى عهدنا جمال الدين ومحمد عبده وقاسم أمين، لقوا في دعوتهم من العذاب الوانا، ولم يوفوا حقهم إلا بعد أن وافاهم الموت، أما اليوم فلست أرى حركة عنيفة بين القادة والرأي العام، ولا بين المصلح ومن يراد اصلاحه، وربما كان سبب ذلك أن القائد ينظر إلى نفسه أولا وقبل كل شيء وآخر كل شيء، قصد إلى أن يصفّق له أكثر مما قصد لخدمة الحق، وقد وصل إلى درجة من إعجاب الجمهور يريد أن يزيدها أو يحتفظ بها، قد خلع ثياب القائد، وارتدى لباس التاجر، يبحث عما يعجبهم ليقول فيه شعره أو يكتب فيه مقالته، أو يطنب في وصفه، ويبحث عما يسوءهم ليحمل عليه حملة شعواء بقلمه أو لسانه كما يبحث تاجر الأزياء عن آخر طراز في الزي يقبل الناس على شرائه
تلك أشد حالات الانحطاط في القيادة، فأول درس يتلقاه القائد أن يكون قليل الاهتمام بشخصه، كثير الاهتمام بالغرض الذي يرمي إليه في الإصلاح، سواء أكان إصلاحا لغويا أو أدبيا أو اجتماعيا أو دينيا، وأن ينظر إلى كل ما يجري حوله في هدوء، لا يسره إلا أن يرى الناس اقتربوا من غرضه ولو بسبه، ويضحي بالشهرة فتبعته الشهرة، ويضحي بالحظ فيخدمه الحظ، بل سواء عليه عُرف أم لم يعرف، وسواء عليه لعن الحظ، بل سواء عليه عُرف أم لم يعرف، وسواء عليه لعن أم كرّم، ما دام سائرا على المنهج الذي رسم، لا يشعر بأريحية إلا أن يصل إلى غرضه، أو يقرب منه، يحب المنتصرين لرأيه ويرحم الناقمين عليه، يرفض أن يلبس تاج الفخر إلا أن يكون من نسيج ما سعى إلى تحقيقه - أن كان هذا أول درس يتعلمه القائد فهو آخر درس أيضا.
أخشى أن يكون قادة الرأي فينا قد ملوا المقاومة فاستسلموا، وأن يكون قد استصعبوا الغاية فاستناموا، وأن يكونوا قد وقفوا مترددين قليلا بين عذاب الضمير وعذاب المعارضة فاحتملوا الأول، وأن يكونوا لطول ما لقوا قد رغبوا عن النظر إلى الأمام والتفتوا وراءهم إلى الرأي العام فساروا أمامه في الطريق الذي يحبه هو لا الذي يحبونه هم، أن كان هذا(27/12)
فيالها من هزيمة.
أنى لنا بقادة في الرأي لا يتملقون إلا الحق.(27/13)
الحرية
للأستاذ الشيخ إبراهيم الدباغ
غلت فغلى في كل حي وجيبها ... ولست لها! أن كان غيري مجيبها
صريع هواها لا يواسى بنظرة ... وجرحى أساها لا يلين طبيبها
بدت واختفى فيها جمال تزينه ... فهبت أعاديها ونام حبيبها
وكم مزقت ستر العفاف لصونها ... بحر يناجيها وعبد يعيبها
حديقتها قد فتحت كل زهرة ... تضل النهى أنفاسها وضروبها
شكت غربة في أهلها ولداتها ... وأمسى على بلواه يبكي قريبها
وكم أكلت نيرانها قلب جاحد ... وإني لأرجوا أن يزيد لهيبها
وكم عملت في نفس حر ومنصف ... وحسب الأماني أن يخف شبوبها
يشرفها في كل شروق شروقها ... وتغرى بها في كل غرب غروبها
مطالعها في الشرق والغرب لم تعد ... إلى الأفق حتى ضاق ذرعا رقيبها
تعود منها المستبدون هدنة ... وسلما، وردتهم لرشد حروبها
وكم من غراب ناعب في رياضها ... صباحا وقد أحيا الدجى عندليبها
سقاها الحيا بالأمس واليوم عذبت ... فيا ليت شعري في غد ما يصيبها!
وهل للعوالي رغبة في مثوبة ... تبارك معطيها وجل مثيبها
وكائنْ لها من مهجة مثل صخرة ... تذيب الليالي والليالي تذيبها
مضت في الكرى واستعجلت يقظة الوغى ... وساحتها أم فأين ربيبها؟
ممنعة لا تبتغي عند أمة ... موزعة أهواؤها وقلوبها(27/14)
وأخيراً النون
للعلامة الشيخ عبد القادر المغربي عضو مجمع اللغة العربي الملكي
كان بيني وبين بعض الفضلاء نزاع طويل حول كلمة (انسكلوبيدي) اليوانانية الأصل واختيار كلمة عربية تقوم مقامها
والانسكلوبيدي لفظ وضعه الإفرنج للدلالة على المعجم الذي يتضمن كل فن ومطلب من مطالب ثقافات الأمم، ومقومات حضارتها: ففيه كل شيء ما عدا اللغة، فان كلماتها تكفل ببيانها معجم آخر يختلف اسمه باختلاف اللغات.
ولما وضع العلامة البستاني معجمه العربي الجامع لكل فن ومطلب وضع له اسما عربيا مفردا، ثم بدا فغيره إلى اسم آخر مركب من كلمتين. وتتابعت الأسماء والأوضاع على هذا النمط.
(1) الكوثر؛ بطرس البستاني (سورية) سنة 1876م
(2) دائرة المعارف؛ بطرس البستاني (سورية) سنة 1876م
(3) لغات تأرخية وجغرافية؛ أحمد رفعت أفندي (الأستانة) سنة 1882م
(4) مصور دائرة المعارف؛ علي سيدي ومحمد عزت وعلي رشاد (الأستانة) سنة 1914م
(5) موسوعة؛ إبراهيم اليازجي (سورية)
(6) كنز العلوم واللغة؛ فريد وجدي (مصر) سنة 1907
(7) دائرة معارف القرن العشرين؛ فريد وجدي (مصر) سنة 1923
(8) محيط المعارف؛ أمر الله أفندي (الأستانة)
(9) معلمة؛ الأب انستاس الكرملي (بغداد)
(10) النون
واشتد الجدل في اختيار أفضل هذه الكلمات وأحقها بالقبول، ثم اتفقنا على إهمال ما كان مركباً منها كدائرة المعارف، أما المفردات فالكوثر لا تدل على المراد من (الانسكلوبيدي) كما لا يخفي، و (موسوعة) مختلف في أصلها وسلامة عروبتها، فلم يبق إلا كلمة (مَعْلمَة) التي تدل على معنى (وعاء العلم)
ثم عادت المناقشة فاشتدت حول قبول (المعلمة) وعدم قبولها، وحجة رافضيها إنها إنما تدل(27/15)
على كتاب فيه علم ولا تدل على معنى الشمول والإحاطة كما هو المقصود من فرد هذا الاعتراض بان (المعلمة) تدل على معنى الكثرة لكونها مصوغة على وزن مَأسَدَة و (مسَبْعَة) ومَذَبَّة، و (مَقشأة) و (مَلَصَّه) أي أرض كثرت فيها الأسود والسباع والذباب والقِثَّاء واللصوص. وقال الأب أنستاس (المْعلمة) فيكون قد أراد إنها كتاب كثر فيه العلم.
فبقى بعض الأخوان مصراً على رفض (المعلمة) مستدلا بان كلمة (مسبعة) وأخواتها الدالة على الكثرة إنما هي صيغ خاصة وقعت للعرب في وصف الأرضيين والأماكن وحدها، حتى أن ابن سيده عقد لهذه الكلمات في مخصصه - جزء 3، ص 205 - بابا عَنْوَنَه بقوله (باب مفَعْلة من صفات الأرضين). فكيف يصح لنا أن نجعلها من صفات الكتب؟ فلم يبق إلا أن تكون صيغة - معلمة - كصيغة - مقلمة - بالقاف بمعنى وعاء الأقلام. وهذا يضعف من أمر اختيارها لتحل محل - انسكلوبيدي -
فقال بعض الأخوان: أن الياس بك القدسي (عضو مجمعنا العلمي العربي بدمشق) كان أشار بوضع كلمة (النون) في مقابل الانسكلوبيدي مستدلا بما جاء في معجم المستشرق المشهور (كازيمرسكى) مترجم القرآن إلى الافرنسية - من أن (النون) في اللغة العربية تكون بمعنى (الانسكلوبيدي) الأعجمية.
فعجبت من قوله، لأن (النون) أن كان المراد بها حرف الهجاء فلا علاقة لها بمعنى (الانسكلوبيدي) وأن كان المراد بها كلمة (النون) التي من معانيها السيف والحوت والدواة فأنها أيضا لا علاقة لها ظاهرة بالانسكلوبيدي
ولم يتيسر لي أن أراجع معجم (كازيمرسكى) العربي الفرنسي، حتى وقعت لي نسخة منه منذ أيام، فوجدته يقول ومن معاني (النون) خلاصة جميع العلوم ولم يذكر كازيمرسكى صراحة أن النون تطلق على الانسكلوبيدي، فعلمت أن الياس بك (رحمه الله) إنما استنتج كلمة الانسكلوبيدي من قول (كازيمرسكى) استنتاجا. فبقى عالقا في حفظه أنه من قول (كازيمرسكى) نفسه. وحق له هذا الاستنتاج لأن كلمة (النون) إذاكانت بمعنى خلاصة علوم البشر كانت جديرة بان تطلق على الكتاب الذي يضم بين دفتيه خلاصة علوم البشر.
وقد ازددت حرصاً على معرفة المصدر الذي اعتمد عليه كازيمرسكى فيما ذهب إليه. فلم أظفر بشيء في المعاجم اللغوية العربية، لكني رأيت (السيد الجرجاني) يقول في كتاب(27/16)
التعريفات ما نصه: (النون هو العلم الإجمالي. يريد به الدواة، فان الحروف التي هي صور العلم موجودة في مدادها إجمالا. وفي قوله تعالى (ن. والقلم) هو العلم الإجمالي في الحضرة الاحدية. والقلم حضرة التفصيل اه)
ففي هذا القول رموز لغة وتفسير وعقيدة وتصوف، ألف بينها لحام دقيق يمكن تفكيكه على هذه الصورة:
أن حرف (ن) في الآية أريد به إجمال أو خلاصة للعلم البشري وأن (القلم) الذي ذكر بعد (ن) هو الكفيل بتفصيل ذلك العلم الإجمالي. وأن حرف (ن) إنما جاءه معنى العلم الإجمالي من كونه حرفاً من حروف الهجاء. وحروف الهجاء يتركب منها جميع الكلام الذي يدل على علوم البشر التي إنما يصورها الكاتب بمداد الدواة. فعلوم البشر مدمجة في الدواة، والدواة رمز يذكر بمجموع علوم البشر وثقافاتهم في التمدن القديم، كما أن (المطبعة) رمز يذكر بمجموع علوم البشر وثقافاته في التمدن الحديث
ثم تراجع كتب اللغة والتفسير فنجد بعض المفسرين يفسر (ن) في آية (ن، والقلم وما يسطرون) - بحرف النون الهجائي، كما فسروا بقية الحروف الهجائية في مفتتح السور الأخرى. ونجد الحسن البصري يفسر (النون) بالدواة. فتفطن إلى أن الحسن رضى الله عنه لم يرد بالنون حرف النون الهجائي، وإنما أراد كلمة (النون)، ولكن الحسن البصري السلفي العظيم الذي عاش مع فصحاء العرب وبلغاء الصحابة رضوان الله عليهم - يفسر (النون) بالدواة من دون أن يكون له دليل يستند إليه نبحث فنجد أن الحبر ابن عباس رضى الله عنه يفسر النون في الآية بالحوت وهو سمكة البحر، كما هو أحد معانيها اللغوية. فنتفطن أيضا إلى أن تفسير (النون) بالدواة - وهو ما ذهب إليه الحسن البصري - إنما من جهة تفسير ابن عباس لها بالحوت
ويبقى في المقام إشكال: وهو ما هي علاقة الحوت بالدواة؟ نراجع المفسر النيسابورى فنجده يقول في صدد تفسير الآية: انه بروي عن بعض الثقات أن أصحاب السحر (ويريد بهم أصحاب الصناعات الخفية أو الدقيقة) يستخرجون من بعض الحيتان شيئاً أسود كالنقس (أي الحبر) أو أشد سواداً منه يكتبون به أهـ
ولا يخفي أن الأخطبوط أو غيره من حيتان البحر يستخرج منه سائل كان الأقدمون(27/17)
يعالجونه ويَليقونه بما يجعله صالحاً للكتابة به
وهكذا نرى ابن عباس يفسر النون في الآية بالحوت، ولكن أي حوت؟ ذهب بعض المفسرين الذي يحبون الأغراب في كلام الله تعالى إلى أن المراد به (الحوت) أخو (الثور) اللذان كانا وما زالا يَنُوآن بحمل الارضين السبع!!
غير أن الحسن البصري رضى الله عنه ما كان من قصاص المساجد أن يذهبوا في تفسير الوحي الإلهي هذا المذهب في الأغراب والتهويل. إذ أن التسامح في ذلك بقصد التأثير في نفوس الدهماء من العامة إن سر عاجلا فانه يسوء آجلا.
وهذا ما حمل الحسن البصري على تفسير (النون) بالدواة تأييداً لابن عباس رضى الله عنه في تفسيره للنون بالحوت.
أما إطلاق (الحوت) وْإرادة الحبر منه فله شواهد كثيرة من اللغة العربية التي يتسع صدرها لأمثال هذا الإطلاق. بل ربما كان له شواهد أيضا في اللغات الأخرى، وها نحن اليوم نقول فيتيل (المدينة الفرنسية) ونريد ماءها المعدني الذي ينبع فيها - وكولونيا (المدينة الألمانية) ونريد ماءها المعطر الذي يصنع ويجلب منها - وجنيه (بلاد غينيا) ونريد الدينار المصري الذي استخرج ذهبه من معادنها - ويقول العرب (نون) أي الحوت، ويريدون الحبر الأسود الذي يستخرج سائله - وأنزل القرآن بلغة العرب وعلى مناحيهم في أساليب البلاغة، فافتتحت السورة بالقسم على براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما قاله المشركون فيه وتنبيه المخاطبين إلى عظيم فضل الله على البشر مذ هداهم إلى التسطير والكتابة، والى استخدام أدواتها من حبر وقلم. فكان ذلك سبباً لما بلغوا إليه من علم وحضارة وثقافة.
ولم أرد أن أحقق هنا معنى الآية الكريمة، ولا ما هو الأصح المعتمد في تفسيرها، فان ذلك مبين في تفسيري على (جزء تبارك) المهيأ للطبع - وإنما أردت أن أبين المصدر الذي استقى منه (كازيمرسكى) القول بان النون تدل على خلاصة علوم البشر حتى رأى الياس بك القدسي إنها تصلح لان تقوم مقام الانسكلوبيدي
ولا سيما أن في الإمكان تناول مشتقات مختلفة منها: فيقال مثلا (نّون تنويناً) (منّون) (منّونون) وتؤنث فيقال (النونة) الفرنسية (والنونة الألمانية) والنونة العربية وينسب إليها فيقال فلان صاحب نون ونوني(27/18)
دمشق
المغربي(27/19)
الفن والروح
للأستاذ الحوماني أستاذ الأدبالعربي بكلية طرابلس
الفن في الأثر بدعة، وفي المؤثر بدعة وإبداع
فهو في قول إحدى جواري العباسيين وهي تقلب تفاحة أهداها إليها سيدها
يا رب تفاحة خلوت بها ... تشعل نار الهوى على كبدي
لو أن تفاحة بكت لبكت ... من رحمتي هذه التي بيدي
هو بدعة أنشأها الفكر بين عاطفة الحب ودقة التصوير، وإما الفن في الشاعرة نفسها فهو بدعة الجمال وإبداع الخيال
ففي الطبيعة في الإنسان جمال تام، وفي غيره جمال ناقص
والفن في الزهرة مثلا شكل ولون وعطر، إذاصح أن العطر في الزهرة مقابل الروح في الفنان، وهذه كل ما في الزهرة من جمال، ولكن الفن فيك - إلى هذه الثلاثة - فكرة تخلق الزهرة في نفسك جميلة الشكل واللون والعطر
الفن في المرئيات نتيجة الفكر والجوارح، وإما هو فيما وراء ذلك فقد يكون وليد الفكر كالفن في الشعر، وقد يكون نتاج الفكر والجوارح أيضا كالموسيقى والخطابة ونحوها
تستطيع أن تتصور حبيبك تصورا تاما، وإما أن تصفه للسامع وصفا دقيقا، أو أن تتناول الريشة وترسم ما تتصور فذلكما ليس في طوقك ما لم تكن فنانا في الشعر والرسم. من ذلك يتضح لديك الفرق بين العلم والفن، فنواة العلم أن تتصور، وإما نواة الفن فأن تتصور ثم تتصور. فتصورك المسألة علم، ثم تصورك إياها فن. من ذلك تدرك فضل الفن على العلم وأنه احفل منه بالخلود
فالأثر الذي ينشأ عن الفكر وهو يكشف عن حقيقة ستار الجهل هو دون الأثر الذي ينشأ عن الفكر وهو يخلق الحقيقة خلقا
فليس للحكمة أن تهب الخلود للشعر وهو عار عن الفن، ولعل النظم الفصيح القاصر على الحكمة بعيد عن حظيرة الشعر للفرق بين قوله:
كبير النفس تلقاه ... هزيل الجسم من سقم
وقول الآخر في معناه:(27/20)
إذا سمنت همة في الضلوع=فآيتها البدن الناحل
فليس الجمال في بيان أن هزال الجسم في عظام الرجال ينم على كبر نفوسهم، فقل من تأخذه الروعة لهذه البيان، إذ هو حقيقة مجردة، والعلم بالحقيقة المجردة أزلي في النفوس، ولكن إلباس هذه الحقيقة لونا من الخيال يجعلها حقيقة ثانية لم يسبق لها وجود في النفس فتظهر بها في مظهر الروعة والجلال.
فقد لحظ الفكر في البيت الأخير بعد تصوره المعنى الحقيقي الثابت وهو استلزام كبر النفس إجهاد الجوارح، واستلزام هذا نحول الجسم. . . لحظ الفكر ما يقابل النحول وهو السمن، فشاء أن يجعل السمن الذي هو مقابل النحول علة له وهو من الغرابة بمكان، ثم لحظ الهمة التي هي مناط الطموح المفضي إلى إجهاد النفس فاسند إليها السمن بجامع العظمة بينه وبين الكبر، فصح له إذ ذاك أن يعلل به النحول، فكان من المجموع ذلك خيال يوهم النفس انه حقيقة جديدة فيستهويها بما يبتدعه من خلق ما لم يكن وإيهامها انه قد كان
وإما الفكر في البيت الأول، فقد مر بالحكمة فأبرزها عارية من جمال الفن، فكانت بعيدة عما يصعد بها إلى سماء الشعر، ثم يطبعها على مرآة النفس حية خالدة
فالشعر البسيط المعنى، هو بجمال فنه اعلق بالنفس الشاعرة منه بجلال معناه، وهو بعيد عن جمال الفن
والنفس بطبعها ميالة إلى البحث عما تجهل (حب الاستطلاع) من اجل ذلك يستهويها الغريب فتعلق به حتى إذا الفته وأحاطت به هجرته وملت صحبته، فهي والحقيقة الراهنة قيد حواسها، تتشوف إلى ما وراء الحقيقة، فإذا أخفقت فزعت إلى الفكر فراح يعبث بها ويملأ زواياها إعجابا بما يصوره من أخيلة تتراءى لها حقائق جديدة
فإذا علمت أن الحياة إنما هي حكمة وفن، وأن الحكمة نواميس يسنها في الطبيعة المبدع الأول، وفي الاجتماع المبدع الثاني، وأن الفن هو ما فيهما من جمال، وأن مناط هذه الحكمة العقل، والعقل عرضة للزوال، ومناط ذلك الفن الروح، والروح الخالدة؛ إذا علمت ذلك علمت أن الفن إنما هو قوام الحياة الأسمى، فلم نكن لنرتاد المروج والحدائق لو لم تؤخذ العين بسحر ما في زهورها وشجرها وثمرها من جمال الفن، ولا لندخل منزلا لم تسبغ عليه يد الفن جمالا يستهويك بين آرائك تتخللها المناضد، تعلوها الآنية على احدث فن(27/21)
يجلل الجدار بالرسوم، والأرض بالفراش والرياش
وقد يستهويك ما تسمع وترى من جمال الفن فيك فيخلق فيك فكرة الإبداع، فيسوغ لك إذ ذاك أن تقول: أن الفن في الأثر بدعة وإبداع ايضا، على انه إبداع الفن في النفس، يؤول إلى إبداع النفس في الفن آخر الأمر
ثم أن للفن في المسموع لطف وقع على السمع، وبعد اثر في أعماق النفس، لن يتوفر في الفن المنظور من حيث تراك وأنت تسمع الصوت الجميل فتهتز، تتصور جمال العازف وهو بعيد عنك بجسمه، وقريب منك بروحه الموقعة على الأوتار ينقلها إليك الحاكي، أو يبعثها إلى روحك توقيع الفنان من وراء الستار، فيتوفر لديك مؤثران: الفن الذي نحسه، وجمال الفنان الذي تتخيله ضرورة انك لا تلحظ الصوت وأنت ترى الشخص الجميل، بينما لا تسمع الصوت الجميل إلا وتتصور جمال الشخص من ورائه
الروح في الفن
في كل كائن ثلاث ميز: جنسه، ونوعيته، وذاته؛ ففي الإنسان مثلا ما يميزه من العجماوات وهي إنسانيته، ثم ما يميز من غيره من أبناء نوعه وهي شخصيته. والشخصية هنا هي ما يميز الشخص من أفراد نوعه في شكله لا في روحه، فالروح لا تلمس إلا بآثارها، ولا يمكن للرسام وهو الشاعر الصامت أن يصورها وهي متصلة بالروح (سر الحياة الغامضة) ولكنه يستطيع إبراز شخصية النوع كآثار النفس الناطقة لما يدل عليها من أمائر تبدو على أسرة الوجه، ورسم الأعضاء على كيفية تشير إلى النفسيات بما عودت الناظر عليه في حقيقة الحي قبل رسمه
فريشة الرسام لا تتناول رسم الأعضاء بما يميز الشخص في جنسه أو نوعه فحسب حتى تتناول شخصيته أي تميزه من غيره من أفراد نوعه، ومناط التفاضل بين أولي الفن إنما هو في إبراز هذه الشخصية مشفوعة بميزة النوع
فإذا لم تقرأ في الرسم ما يقفك عل خصائص نوعه كآثار النفس الناطقة في الإنسان من حيث تفكيره وعواطفه، ثم نسبة هذه الخصائص الكلية في النوع إلى الخصائص الجزئية في الشخص، فلن تستطيع أن تقف من هذا الرسم على روحتلمس من وراءها جمال الفن فيه(27/22)
فالروح في فن التصوير هي أن تجمع إلى خصائص النفس النوعية فيما تصور خصائصها الشخصية التي يمتاز بها الفرد من غيره من أبناء نوعه
فإذا توفرت هذه في الرسم خلق في نفسك - وأنت تراه - الروعة بما يمثل لك من حقيقة في الخارج حتى كأنك تلمسها بروحك
وهكذا هي - أي الروح - في تصوير الأشياء: جمال في الرسم يلمسك حقيقة ما أوخذ عنه لما تجدك معه معجبا بما تنصفح من خيال رائع
أما الرسوم الخيالية (كاريكاتور) كرموز الآلهة وصور الشياطين ونحوها فمناط الإبداع فيها انفعال نفس الناظر إليها بما خلقت له كالجمال والحب والخير والشر في رسوم الآلهة، وكالإرهاب والتفكهة والحمل على السخرية فيما عداها من الرسوم فروح هنا هي تأثير الرسم في النفس بما رسم له ليصح معنا أن الروح في كلا الأمرين: نقل الحقيقة وخلقها، إنما هي إلماس الرائي حقيقة ما ينقل الراسم أو حقيقة ما يتخيل والروح الفنية تختلف باختلاف فنونها، فالروح في فن الرسم هي غير الروح في فن النظم، والروح في هذين غيرها في فن الموسيقى، فهي في الرسم منتزعة من المرسوم، وإما في المنظوم فهي منتزعة من الناظم. إذ الشاعر يصور غيره في طريقه إلى تصوير نفسه، وإما الرسام فيصور نفسه في طريقه إلى تصوير غيره، فنظم الشاعر مرآة تريك نفسه ونفس الرسام مرآة تريك رسمه
وبأوضح من هذا إنك وأنت تدرس فن الرسم تتلمس روح الفن من حيث اتصالها بالمرسوم قبل الراسم، وفي درسك فن الشعر تتلمس روح الفن من حيث اتصالها بالشاعر قبل ما يشعر به، من أجل ذلك تراك شديد الحرص على معرفة الشاعر لدى سماعك قطعة من شعره هي غاية في الإبداع، بينما ترى الصورة الجميلة على الجدار فتفتتن بها من حيث فنها، ثم لا تجدك شديد الميل إلى معرفة من أبدعها. فلحاظك الشاعر وهو يستهويك بشعره، فوق لحاظك الرسام وأنت تعجب بما يرسم
على أن الفرق بين روحي فن الرسم وفن الشعر جد دقيق، لدقة الفرق بين الرسام والشاعر، ولعل الرسام شاعر صامت
فالرسام وهو يصور لك الحقيقة في الخارج تصويرا حقا هو ابلغ أثرا في الفن منه وهو(27/23)
يخلق حقيقة ما يرسم، وإما الشاعر فمناط خلوده أن يخلق ما يصوره من الحقائق، لما مر بك من أن الفن إنما هو إبداع، على أن كليهما مبدع كما سيجيء
فليس للفنان في الرسم مهما أبدع في خلق الصور الخيالية (كاريكاتور) ما للفنان في الشعر وهو يتخيل فينتزع لك من الصور الحقيقة صورا خيالية يوهمك إنها حقيقة جديدة
وإذا قصرنا إبداع الفنان في الرسم على تصوير الحقيقة الخارجية تصويرا بالغاً فليس معنى ذلك أن الفنان لم يأت بجديد فيكون هذا القول معارضاً لما سبق من أن الفنان يخلق الحقيقة خلقا، لانا نعتبر تصويره البالغ للحقائق هو خلقا جديدا لها، إذ يوهمك انه عين ما يصور من حقيقة، فيكون هذا الإيهام إبداعا يشير إلى حقيقة ثانية خلقها فكر الفنان.
فالحقيقة التي يخلقها الفنان إما أن تكون متحققة في الخارج مادة وشكلا ثم يصورها لك بشكلها ومادتها حتى كأنك تحس بها حقيقة فيثير فيك الإعجاب لما يوهمك من إنها هي فكأنما قد خلقها خلقا، أو أن الحقيقة التي يخلقها هي نفس الإيهام مشفوعا بما يبعثه فيك من الروعة ولإعجاب
وأما أن تكون تلك الحقيقة المخلوقة متحققة في الخارج مادة لا شكلا كالخيال الذي يبدع الشاعر فانه ينتزع من صور الحقائق الخارجية حقيقة جديدة يوهمك إنها موجودة في الخارج كما في قول ابن خفاجة في نارنجة
وحاملة من بنات القنا ... أما ليد تحمل خضر العذب
وتندى بها في مهب الصبا ... زبرجدة أثمرت بالذهب
فالزبرجد والأثمار والذهب كل منها موجود في الخارج، ولكن الشكل الذي أبدعه الخيال منها وهو أثمار الزبرجد بالذهب هو غير موجود في الخارج ولكنه من خلق الخيال.
فالإيهام أذن لا يفارق الفن في الشعر والرسم، فمناط الإعجاز في فن الرسم هي الحقيقة الأولى، ومناط الإعجاز في فن الشعر هي الحقيقة الثانية، وقد يعجز الشاعر في تصويره ما في الخارج من حقيقة كما قد يعجز الرسام في إبداع ما يخلق من حقيقة ليس لها وجود في الخارج
والروح في فني الشعر والموسيقى مصدرها واحد وهو العاطفة، على أن الروح في فن الرسم مصدرها الفكر والخيال، والفرق بين الروح الشعرية وروح الفن الموسيقى هو أن(27/24)
مظهر هذه هو الصوت من حيث توقيعه وترجيعه، ومظهر تلك هو اللفظ من حيث يبعث في نفسك ما انفعلت به نفس الشاعر وهو يلفظه، وهذه الروح التي نفرق بينها وبين روح الفن الموسيقى، إنما هي الروح التي تقابل الفن والعلم في الشعر لا الروح التي هي داخلة في قوام الفن في الشعر، فان في الشعر روحين أحدهما داخلة في قوام الشعر وهي هذه المعبر عنها بالتأثير النفسي المنتقل باللفظ من نفس الشاعر إلى نفس السامع أو المطالع كما تنقل الأوتار تأثيرات الموقع عليها إلى سامعها
وثانيتهما داخلة في مفهوم فن الشعر وهي المعبر عنها بالذوق الشخصي في الشاعر ينقلها اللفظ من حيث تصويره للحقائق منقولة أو متخيلة، وهذه تتفق مع الروح في فن الرسم من حيث المصدر، فكلتاهما تصدر عن الفكر والخيال
فالروح في فن التصوير تتفق مع الروح في فن الشعر من حيث مصدرهما وهو الخيال والفكر , وتختلفان من حيث إعجازهما في الإبداع؛ فالأولى إنما تعجز في نقل الحقائق، والثانية إنما تعجز في خلقها
والروح الشعرية التي تقابل العلم والفن تتفق مع الروح في فن الموسيقى من حيث المصدر الذي هو العاطفة، وتختلفان من حيث المظهر، فان مبعث التأثير في نفسك من الأولى هو الصوت من حيث التوقيع والترجيع، ولا مدلول له إلا انفعال النفس من ورائه، وإما مبعث التأثير من الثانية فهو اللفظ من حيث نقله التأثير إليك بواسطة حروفه لا صوته
فمدلول الصوت طبيعي من حيث يتناول ما يختلج في الصدر بلا واسطة، ومدلول اللفظ وضعي يتناول روح اللافظ بواسطة مدلوله الخارجي
فلا بد لنا أذن من العود إلى أن نعيد قولنا في الشعر من أنه علم وفن وروح، فقوام العلم الفصاحة، وقوام الفن الخيال، وقوام الروح العاطفة
الحوماني(27/25)
الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية
2 - مرحلة الكفاح وبداية الظفر للأستاذ محمد عبد الله عنان
لم يشهد التاريخ الحديث ثورة ضئيلة في نشأتها، عظيمة شاملة في
نتائجها كالثورة الوطنية الاشتراكية الألمانية؛ فان تلك الجماعة
المغمورة التي قامت في ميونيخ باسم حزب العمال الوطني الاشتراكي
بزعامة ادولف هتلر والتي لم تتجاوز السبعة، كانت أول حجر في
صرح الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية التي أخذت
تغمرألمانيالأعوام قلائل من ظهورها، والتي تواجه اليوم مصير الشعب
الألماني.
قامت هذه الجماعة في ميونيخ سنة 1919 على نحو ما بينا وانتظم فيها الضابط الصغير والبناء النمسوي السابق ادولف هتلر، ليتولى بعد قليل زعامتها وتنظيمها، فماذا كانت ترجو وعلام كانت تعتمد؟ من الصعب أن نعتقد أن هذه الزمرة من رجال لا ماضي لهم ولا عصبة، وليست لهم أية كفاحات خاصة، كانت يوم انتظامها تؤمل أن تفوز في ميدان الكفاح السياسي بتلك السرعة المدهشة، لتفرض برنامجها بعد ذلك على الشعب الألماني كله. ولكن تأذى لا ريب فيه أن ظروف ألمانيا عقب الحرب الكبرى، وما سرى إليها من عوامل الانحلال واليأس والفوضى، كانت تفسح مجالا للظهور والمغامرة؛ وكانت أية دعوة إلى الخلاص والنهوض والأمل تلقى في هذه الغمار المظلمة قبولا.
وقد كانت الحركة الوطنية المحافظة التي كانت ميونيخ مهدا لها، تتخذ شعار العمل على إنقاذ ألمانيا من ويلات الهزيمة، ومن براثن الفوضى الاشتراكية والشيوعية؛ فكانت عصبة هتلر تحمل لواء هذه الدعوة، وتعمل في جو من العطف الذي يتمتع به أبان اليأس العام كل من ألقى كلمة الخلاص والأمل. وفي هذا الجو استطاع هتلر أن ينظم حزبه وأن يجمع له الأنصار. وكانت المهمة شاقة، ولكن هتلر استطاع بكثير من العزم والمثابرة والجلد أن يحول عصبته الصغيرة إلى حزب سياسي هو: (حزب العمال الوطني الاشتراكي(27/26)
الألماني). ووضعت مبادئ الحزب الأساسية في فبراير سنة 1920 في ميثاق وطني يتألف من خمس وعشرين مادة ترمى إلى أغراض خمسة: (الأول) الاستيلاء على الحكم والسلطة. (الثاني) سحق الحركة الماركسية (الاشتراكية والشيوعية). (الثالث) صبغ ألمانيا كلها بالصبغة الوطنية الاشتراكية. (الرابع) تحقيق وحدة الشعوب الجرمانية (المتكلمة بالألمانية). (الخامس) تنقية الجنس الألماني وتطهيره من كل شخص يجري في عروقه دم يهودي أو دم آخر غير آري. ولهذه الغاية الأخيرة التي صيغت في المادة الرابعة من الميثاق، أهمية خاصة؛ لان فكرة الإيثار الجنسي لم تبد من قبل في برنامج أي حزب من الأحزاب السياسية بمثل هذه الصراحة؛ وسنرى إنها غدت منذ استيلاء الحزب الوطني الاشتراكي على السلطة من أخطر المشاكل الاجتماعية والسياسة التي تواجهها ألمانيا، والتي مازالت تعاني من جرائها كثيرا من المتاعب والصعاب.
سار الحزب الوطني الاشتراكي الجديد في طريق التقدم بسرعة، ولقي برنامجه كثير من العطف والتأييد؛ وألفى في حوادث سنة 1923 (مثل نكبة العملة واحتلال الروهر) وما بثته في ألمانيا من البؤس واليأس مهادا خصبة لدعوته، وبلغ أعضاؤه يومئذ نحو ألفين. وأيده جماعة كبيرة من القادة والضباط القدماء وعلى رأسهم الجنرال لودندورف؛ وأيده كثير من رجال المال والصناعة الذين خشوا عواقب تقدم الحركة الشيوعية ولم يدخروا وسعا في مقاومتها؛ وأخذ هتلر يجمع الأنصار حول علمه ذي الصليب المدبب (سفاستكا) وانشأ لحزبه قوة شبه عسكرية لتحفظ النظام أثناء الاجتماعات وغيرها من المناسبات وهي التي غدت فيما بعد جناح الهجوم الشهير وانشأ حرسا من خاصة أعوامه وأنصاره لحمايته وحماية زعماء حزبه وهو المعروف بفرقة الحماية وبهذا اتخذ الحرس الوطني الاشتراكي لونا عسكريا قويا؛ وألفى هتلر في هذا الوقت نفسه (ربيع سنة 1923) في حوادث بافاريا فرصة للقيام بأول محاولة عنيفة. وكانت بافاريا تضطرم يومئذ بحركة رجعية قوية ترمي إلى إسقاط حكومة برلين الجمهورية وإعادة الملكية في بافاريا، على رأسها فون كار رئيس وزارة بافاريا السابق والجنرال فون لوسوف مبعوث (الريخ) - حكومة برلين - العسكري والكولونيل سايزر مدير البوليس. فتفاهم زعماء هذه الحركة مع الجبهة الوطنية الاشتراكية التي يتزعمها هتلر ولودندورف لان الحركتين ترميان إلى غرض واحد؛ واتفق الفريقان(27/27)
على أن ينظما الزحف على برلين وإسقاط الحكومة؛ ولكن فون كار تخلى عن الوطنيين الاشتراكيين في آخر لحظة، ونظم هتلر وأصدقاؤه الحركة وحدهم، وبدأ الثورة بأن أطلق رصاص مسدسه على سقف محل للبيرة في ميونيخ في اجتماع حافل، وأعلن أن الثورة الوطنية قد بدأت ضد (حكومة برلين اليهودية). ولكن السلطات البافارية كانت على أهبة؛ فقتل عدة من رجال النازي، وجرح الكابتن جيرنج أخص أصدقاء هتلر وساعده الأيمن ولكنه حمل خلسة إلى إيطاليا؛ وقبض على هتلر ولودندورف. وصدر قرار بحل الحزب الوطني الاشتراكي ومنع اجتماعاته - نوفيمبر سنة 1923 - . وبرئ لودندورف ولكن هتلر قضى عليه بالسجن في قلعة لخمسة أعوام - أبريل سنة 1924 - . وزج إلى قلعة لانجسبرج فبقى فيها ثمانية أشهر كتب أثناءها كتابة المعروف (جهادي) وفيه يقص حياته ويشرح مبادئ الحركة الوطنية الاشتراكية وغايتها ويرد على خصومه اليهود. وهو مؤلف لا طرافة فيه ولا قوة، ولا ينم عن مواهب فكرية أو أدبية ممتازة، بيد أنه ينم عما تضطرم به نفس هتلر من عزم وجلد. ثم أفرج عنه. وكان حزبه قد تفرق؛ ولكنه عاد إلى جمعه وتنظيمه بنفس عزمه وهمته، وظهر يومئذ في الجماهير بمقدرته الخطابية وذلاقته وقوة تأثيره. وكان هذا التأثير ومازال اعظم خواصه ومواهبه. وكان يعمل عمله في صفوف الشباب بنوع خاص، إذ كان هذا الشباب الطامح يعانى من صفوف الشقاء واليأس والفاقة أشدها، ويتطلع دائما بحماسة ولهفة إلى طريق الخلاص المنشود. وظهر تقدم الدعوة الوطنية الاشتراكية واضحا في انتخابات مايو 1924، إذ نال حزب هتلر نحو مليوني صوت تخوله في الريخستاج 32 كرسيا. ثم فتر هذا التقدم خلال الأعوام التالية، أولا لتحسن الأحوال الداخلية ولا سيما الحالة الاقتصادية وانتعاش الآمال نوعا، وثانيا لان الحكومة المتوالية أخذت تشتد في مقاومة الحركة لما رأته من تقدمها وخطورتها. بيد أن الحزب الوطني الاشتراكي استمر في كفاحه، وعادت دعوته بعد وفاة شتريزمان وانهيار سياسة الوفاق واضطراب حكومة برلين من جراء ذلك، تسري في الجموع بسرعة، حتى بلغ أعضاؤه في سنة 1931، أربعمائة ألف؛ ونال في انتخابات ديسمبر سنة 1930 نحو ستة ملايين ونصف مليون صوت تخوله في الريخستاج 107 كرسيا؛ ووصل ذروة ظفره في انتخابات يوليو سنة 1932 حيث نال نحو أربعة عشر مليون صوت تخوله 230(27/28)
كرسا، وهو ما يقرب من خمس أعضاء الريخستاج، وأضحى بذلك أقوى الأحزاب البرلمانية، وقوى أمله في انتزاع الحكم. ورشح هتلر نفسه في ذلك الحين لانتخاب رآسة الجمهورية ضد المارشال هندنبورج فلم يفز المارشال أمام منافسة القوى إلا في الدورة الثانية. وبذلت حكومة فون بابن القائمة وقتئذ جهودا عنيفة لوقف تيار الحركة الوطنية الاشتراكية، وحلت الريخستاج وأجرت انتخابات جديدة في نوفمبر سنة 1932، فنال الوطنيون الاشتراكيون فيها مع ذلك 196 كرسيا. وأضحى الرئيس هندنبورج وحكومة برلين أمام الأمر الواقع؛ وأضحى واضحا انه لا يمكن لأية قوة أن تقف في وجه هذا التيار الجارف، وأن الوسائل المصطنعة لا تجدي في المقاومة، وأن السلطة صائرة إليه بلا ريب. وكان الرئيس هندنبورج قد دعا هر هتلر عقب انتخابات يوليه ليفاوضه في إمكان اشتراكه في الحكم، ولكن هر هتلر أصر على تولى السلطة كاملة غير منقوصة. وهذا ما أباه الرئيس هندنبورج مدى حين. وكان المارشال يبدي في الواقع تردداً في الثقة بالوطنيين الاشتراكيين ويخشى وجودهم في الحكم وقد ظهر ذلك واضحا في موافقته على حل البرلمان أكثر من مرة خلال أشهر قلائل، وفي تفويضه للهر فون بابن ثم من بعده للجنرال فون شليخر، أن يتذرع بالسلطة المطلقة وأن يحكم بمقتضى قوانين الطوارئ، وذلك لأن أحداً منهما لم يتمتع بثقة الريخستاج، ومع ذلك فانه لم يمض على انتخاب البرلمان الجديد شهران حتى كانت حكومة فون شلخير في دور النزع وحتى كان الرئيس الشيخ يفاوض هتلر في تولى الحكم. وقد كان هذا التطور الفجائي في موقف المارشال ومستشاريه مثار دهشة عامة، خصوصاً إذا ذكرنا أن الحزب الوطني الاشتراكي لم يكن يومئذ في ذروة قوته، ولم تكن له في البرلمان سوى أقلية، وكانت قد نضبت موارده وخبت قواه. ومن الغريب أن يكون رجل هذا التطور ومدبره فون بابن لم يدخر أثناء حكومته وسعا في سحق هتلر وحزبه وقد فسر هذا التطور يومئذ بان استدعاء هتلر إلى الحكم لم يكن إلا وسيلة لتحطيم نفوذه وتمزيق حزبه، وأن هذا الاضطلاع بأعباء الحكم ومسئولياته سيصهره ويكشف عن ضعفه، وانه من جهة أخرى لن يتمتع بالسلطة كاملة، وستتخذ الضمانات الكفيلة بكبح جماحه ومنعه من إطلاق العنان لمشاريعه المتطرفة التي كانت تعتبر يومئذ خطرة على مستقبل ألمانياومصالحها ومركزها الدولي. وعلى أي حال فقد وقع الانقلاب(27/29)
الحاسم أخيراً، وعهد المارشال هندنبورج إلى الهر أدولف هتلر بتولي رياسة الحكم في 30 يناير سنة 1933 ودخل الوزارة معه من أقطاب حزبه الكابتن جيرنج وزيراً للداخلية. ولكن أعطيت وكالة الرياسة ورآسة وزارة بروسيا للهر فون بابن، ووزارة المالية لزعيم الحزب الوطني الهر هوجنبرج، ووزارة الخارجية للبارون فون نويرات ووزارة الدفاع لقائد مسئول مباشرة لدى الرئيس هندنبورج، وبذاأعطيت السلطات الهامة لرجال يثق المارشال بفطنتهم واتزانهم وحسن تقديرهم
على أن هذه الضمانات التي أريد أن يحاط بها حكم الوطنيين الاشتراكيين كانت نظرية، وكان هر هتلر بالعكس يعتقد أن هذه الخطوة إنما هي تحقيق للشطر الأول من برنامجه، وهو الاستيلاء على السلطة؛ ويجب أن يكون هذا الاستيلاء عمليا كاملا. وسرعان ما تدفق تيار الوطنية الاشتراكية منذ المساء الذي تقلد فيه الزعيم (أي هتلر) رآسة الحكم، وهرعت فرق الهجوم ذوي الأردية السمراء آلافا مؤلفة تحي الزعيم في مكتب الرآسة وتهتف له حتى منتصف الليل. ومنذ تلك الليلة ظهر الحزب الاشتراكي في ذروة قوته، وشعر زعماء ألمانياالسابقين وشعر الشعب الألماني كله بان عهدا جديدا سيفتتح. ثم توالت الحوادث بسرعة فوقع حريق الريخستاج في 27 فبراير؛ وكان الريخستاج قد حل مرة أخرى لان هتلر لم يثق بمجلس ليست له فيه اغلبية قوية، ولم يرد أن يبقى تحت رحمة حلفائه اعضاء الحزب الوطني وحزب الوسط الكاثوليكي؛ وتحدد للانتخابات الجديدة يوم 5 مارس فوقع حريق الريخستاج قبله بأيام قلائل، ونسبت الحكومة الجريمة إلى الشيوعيين واتخذتها ذريعة لسحق كتلة اليسار أعني الديمقراطيين والشيوعيين فقبضت على زعمائهم وصادرت مراكزهم وأموالهم وطاردتهم بمنتهى العنف والشدة؛ وصرح الهر هتلر وزملاؤه يومئذ بان لديهم الأدلة الحاسمة على أن الجريمة إنما هي بدء فقط لثورة دموية مخربة واسعة النطاق يدبرها الشيوعيون لقلب الحكومة. ولكن حريق الريخستاج لبث مع ذلك حادثاً غامضا مريبا ولم يقتنع الرأي الخارجي بهذه التأكيدات؛ ووجهت بشأنه شكوك وتهم خطيرة إلى الحزب الوطني الاشتراكي ذاته وعلى أي حال فقد ساعد هذا الحادث على ظفر الهتلريين في الانتخابات فخرجوا بأغلبية قوية وفاز الديمقراطيون مع ذلك بنحو مائة وثلاثين كرسي والشيوعيون بنحو ثمانين وعقد الريخستاج الجديد في 23 مارس؛ ولم يشهد(27/30)
النواب الديمقراطيون والشيوعيون لأنهم كانوا جميعا في السجن أو المنفى، وفي هذه الجلسة حصل الهر هتلر على تفويض بالحكم المطلق والتشريع لمدة أربعة أعوام، ولم يبق له حاجة بعد ذلك إلى موافقة الرئيس هندنبورج أو توقيعه، وتحققت بذلك الدكتاتورية المطلقة التي ينشدها الحزب الوطني الاشتراكي، ولم يمض سوى قليل حتى انتزع هتلر الوزارات التي كانت بيد حلفائه وشغلها بأصدقائه ومعاونيه، وتوارى جميع الزعماء والقادة الآخرين من الميدان؛ وأضحى هتلر سيد ألمانياالمطلق ومن ورائه حزب زاخر قوامه اليوم خمسة ملايين.
(يتبع)
محمد عبد الله عنان(27/31)
مشكلات التاريخ
نكبة البرامكة
للسيد مصطفى جواد
لعل أغرب ما وهم المؤرخون فعمي عليهم سبب تدمير الرشيد للبرامكة
أنهم عدوا بني برمك دعاة للعلويين ومذيعين لمذهب التشيع في البلاد،
والمشكلة التاريخية إذا استبهم جانب منها تشعب فيها الظنون واختلفت
الآراء واضطربت الأحكام. ولو علم المؤرخون أن البرامكة كانوا
يتقربون إلى الرشيد بالسعي على العلويين والسعي بهم وتبغضيهم
لوجدوا إلى سبب تلك الفتكة الهاشمية سبيلا، وعلى الجلية دليلا،
ولعلموا أنهم لما حق عليهم العذاب دمرهم الله تدميرا،
لم يكن استئثارهم بالحكم وحده سبب هلاكهم، ولا غزارة ثرائهم مدعاة إلى النقمة عليهم، ولا الزواج الذي اختلقته الشعوبية موجبا لاستئصالهم، ولا إلحادهم منبها على عقابهم، وإنما الندامة التي ندمها الرشيد بعد أن استدرجوه إلى تشريد بني عمه العلويين واستحلال دمائهم الزكية وتعذيب الأبرياء منهم العذاب الهون؛ لم يكن الرشيد ملحداً حتى لا يندم، ولا بليداً حتى لا ينتبه، ولا شقيا حتى لا يتوب، ولا مقصراً حتى لا يتدارك. من شفيعهم إليه وقد ولغوا في دماء بني علي وطلبوا الزلفى بتعذيبهم، وأعلوا مراتبهم بخفض العصبية الهاشمية واجتثاث الشجرة النبوية؟ ولقد جرؤوا بالحادهم وسوء سيرتهم أن (جعفرهم) حز رأس حبيسه العلوي (عبد الله الشهيد بن الأفطس) في يوم النوروز، وأهداه إلى الرشيد في طبق الهدايا، فلما رفعت المكبة من فوق الطبق ورأى الرشيد في الطبق رأس ابن عمه استعظم ذلك، فقال له جعفر: ما علمت أبلغ سرورك من حمل رأس عدوك وعدو آبائك إليك، وكان الرشيد قد حبسه عند جعفر وأمره بان يوسع عليه. وقال ذات يوم: اللهم اكفنيه على يدي ولي من أوليائي وأوليائك، فلم يجد هذا الشقي الكفاية إلا بقتله صبراً لا سيف معه يذود به عن نفسه، ولا بنو علي حوله يحيطونه ويكلأونه، ولا شفيع يرد عنه لؤم الزنادقة، وهو(27/32)
الذي شهد وقيعة (فخ) متقلداً سيفين ينفح عن حق كان يراه مبزوزاً، ويكافح عن سيد كان يرى نفسه محلاً عن مكانته، فلما أسر أخذه الرشيد وحبسه عند جعفر - على ما قدمنا - فضاق صدره بالحبس وكتب إلى الرشيد رقعة يشتمه فيها شتما قبيحا، فلم يلتفت إلى ذلك لأنه عالم بالعزة العلوية والاستبسال الهاشمي، ولم يأمر إلا بالتوسيع عليه والترفيه عنه، فكان من أمره مع جعفر ما كان.
وقال السيد نعمة الله الجزائري في سبب هلاك البرامكة على يد الرشيد (وقد ذكرنا أن السبب فيه ظاهرة حكاية العباسة أخت الرشيد، وإما السبب الحقيقي فهو دعاء أبي الحسن الرضا - ع - على آل برمك في موقف عرفة لأنهم سعوا بالكاظم - ع - وكانوا أقوى الأسباب في شهادته وهذا التعليل وأن أورده الجزائري على حسب اعتقاده وتربيته الدينية؛ ففيه رد شديد على القائلين بأن هوى البرامكة كان مع العلويين؛ وبلغ الطيش ببعضهم أن جعلوا كل حركة للفرس دعوة للعلويين وطلاباً بحقهم، وانتصاراً لهم، ونشراً لمذهبهم، وأين الزندقة من صريح الإسلام؟
وقال بهاء الدين أبو الحسن علي بن فخر الدين عيسى الأربلي الكردي في ترجمة الإمام موسى بن جعفر الكاظم ما صورته (وكان السبب في قبض الرشيد على أبي الحسن - ع - وقتله ما ذكره أحمد بن عبيد الله بن عمار عن علي بن محمد النوفلي عن أبيه. . عن مشايخهم قالوا: كان السبب في أخذ موسى بن جعفر - ع - أن الرشيد جعل ابنه في حجر جعفر بن محمد بن الأشعث فحسده يحيى بن خالد بن برمك على ذلك وقال: إن أفضت إليه الخلافة زالت دولتي ودولة ولدي، فاحتال على جعفر بن محمد - وكان يقول بالإمامة - حتى داخله وأنس به، فكان يكثر غشيانه في منزله فيقف على أمره ويرفعه إلى الرشيد ويزيد عليه في ذلك بما يقدح في قلبه، ثم قال لبعض ثقاته: أتعرفون لي رجلا من آل أبي طالب ليس بواسع الحال يعرفني ما أحتاج إليه، فدل على علي بن إسماعيل بن جعفر بن محمد، فحمل إليه يحيى بن خالد مالا، وكان موسى - ع - يأنس بعلي بن إسماعيل ويصله ويبره، ثم أنفذ إليه يحيى بن خالد يرغبه في قصد الرشيد ويعده بالإحسان اليه، فعمل على ذلك، فأحس به موسى - ع - فدعا به وقال له (إلى أين يا ابن أخي؟) قال إلى بغداد. قال وما تصنع؟ قال علي دين وأنا مملق، فقال له موسى: أنا أقضي دينك وأفعل لك واصنع.(27/33)
فلم يلتفت إلى ذلك، وعمل على الخروج، فاستدعاه أبو الحسن - ع - وقال له: أأنت خارج؟ قال: نعم لابد لي من ذلك، فقال له: انظر يا ابن أخي واتق الله ولا توتم أطفالي: وأمر له بثلثمائة دينار وأربعة آلاف درهم. فلما قام من بين يديه، قال لمن حضره: والله ليسعين في دمي ويوتمن أولادي. فقالوا: (جعلنا فداءك، وأنت تعلم هذا من حاله وتعطيه وتصله؟ قال: نعم، حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله - ص - أن الرحم إذا قطعت فوصلت فقطعت قطعها الله، وإنني أردت أن أصله بعد قطعه، حتى إذا قطعني قطعه الله، قالوا فخرج علي بن إسماعيل حتى أتى يحيى ابن خالد فتعرف منه خبر موسى ابن جعفر - ع - فرفعه إلى الرشيد، وسأله الرشيد عن عمه فسعى به إليه وقال له: إن الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب وأنه. . .) حتى قال (ثم خرج يحيى بن خالد على البريد حتى وافى بغداد، ثم دعا السندي بن شاهك فأمره في موسى بن جعفر بأمره فامتثله، وكان الذي تولى به السندي قتله جعله سما في طعام قدم اليه، ويقال إنه جعله في رطب فأكل منه موسى وأحس بالسم ولبث بعده ثلاثاً موعوكا ثم مات في اليوم الثالث. . . واخرج ووضع على الجسر ببغداد. . . فأمر يحيى بن خالد أن ينادي عليه عند موته: هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت فانظروا إليه)
فهذا الدليل الثاني على خطأ من نسب البرامكة إلى التشيع والإمامة، فلقد كانوا حربا على الإمامة وعيونا على التشيع وراءها الفتك والزندقة، ومحاربة الإسلام بلأمته، ونقل علي بن عيسى الأربلي المذكور أن محمد بن الفضل قال: (لما كان في السنة التي بطش هرون فيها بالبرامكة وقتل جعفر بن يحيى وحبس يحيى بن خالد ونزل بهم ما نزل كان أبو الحسن (علي بن موسى الرضا) واقفا بعرفة يدعو ثم طأطأ رأسه فسئل عن ذلك فقال: إني كنت ادعوا الله على البرامكة فقد فعلوا بابي ما فعلوا، فاستجاب الله لي فيهم اليوم فلم يلبث إلا يسيرا حتى بطش هرون بجعفر وحبس يحيى وتغيرت حالهم)
فهذا الخبر كالذي أورده السيد نعمة الله الجزائري مضارة بن برمك لبني علي، ولكنه أقدم منه نقلا - كما نعرف من تاريخ المؤلفين - وكلاهما نظر فيه نظراً دينيا، ومع ذلك يدلان على كره الإمام الثامن من الأئمة الاثنى عشر للبرمكة ودعائه عليهم ريه، وقال محمد تقي التبريزي (من الأغلاط المشهورة ما اشتهر من أن البرامكة كانوا من المتشيعة حتى أن(27/34)
أيدمر بن علي الجلدكي، ذكر في كتاب نهاية الطلب في شرح المكتسب بتقريب: أنه كان سبب بطش هرون الرشيد بهم ما اشتم منهم أنهم يريدون تحويل الدولة من آل العباس إلى آل علي، وذلك كله غلط نشأ من قلة التتبع، فان البرامكة - لعنهم الله - هم الذين سعوا في قتل موسى عليه السلام فان يحيى بن خالد هو الذي بعث علي بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن أخي موسى على السعاية بموسى عند هرون لداع دعاه إلى ذلك مذكور في كتب الأخبار، والفضل بن يحيى هو الذي بعث بالسم إليه فقتله بأمر هرون وبيد السندي بن شاهك، بل روى أن يحيى لم يكتف بذلك حتى أراد أن يغري هرون بقتل الرضا، فقال هرون: أما يغنينا ما صنعنا بأبيه؟ أتريد أن نقتلهم جميعا؟ وقد رواه الصدوق في العيون (عيون اخبار الرضا) عن صفوان بن يحيى وذكر في آخره أن البرامكة كانوا متعصبين على أهل بيت رسول الله - ص - مظهرين العداوة لهم، وبالجملة الذي يظهر من الأخبار المعصومية أن الله لم يغير ما بالبرامكة من النعمة إلا من جهة سعيهم ومباشرتهم قتل موسى، فكيف يجري فيهم هذا الاحتمال؟) عن صحيفة الأبرار (396: 2)
وهذه شهادة من أقوى الشهادات، فان محمد تقي التبريزي هذا شيخي المذهب فارسي الأصل والبرامكة من جنسه، ولكن الحق عزيز على أهله فلا يضيعونه ولا يفارقونه، وحل هذه المشكلة التاريخية (إن البرامكة إذ أدخلوا الرشيد سياسة البغي واستدرجوه إلى قسوة الحكم وقتل السادة الأبرار الأبرياء من بني عمه تلقفهم بالرأي الحازم الحاسم ووضع فيهم السيف وعراهم بالمصادرة والعذاب، فعفى على آثارهم وبئست عاقبة القوم المكذبين بالدين الساعين في قتل السادة العرب وحفظة الإسلام وأهل الهدى والتقوى، ولو لم يكن لهم من المساعي الخبيثة النتائج إلا قتلهم موسى بن جعفر لاستحل خليفة الزمان قتلهم، فكيف وقد ضحوا بكثير من العلويين وغيرهم من بهاليل العرب؟ فالرشيد أذن قد ندم على ما كان من الغفلة وأسف على أرواح أولئك الأبرياء وفطن لما يريد بنو برمك به وبالإسلام وسادات العرب، فانتقم وتدارك واستغفر، وهل من دليل على ذلك أقوى من قوله ليحيى - وقد نقلناه (أما يغنينا ما صنعنا بأبيه؟ أتريد أن نقتلهم جميعا؟) ومن أنه لما أرسل مسروراً الخادم لقتل جعفر بن يحيى قال له جعفر: بم يستحل أمير المؤمنين دمي؟ فقال له مسرور (قال أمير المؤمنين: بقتلك ابن عمه عبد الله بن الحسن بن علي بغير إذنه. فهذا دليل أصرح ما يكون(27/35)
على الندم والتوبة وبه تسقط آراء كثير من المؤرخين في نكبة البرامكة، وحسبنا بهذا أننا كشفنا غمة تاريخية بالأدلة الناطقة والبراهين الصادقة، فاستقام بها مجرى من مجارى التاريخ كان متعرجاً ملتويا لا تطرد فيه الحوادث ولا تسترسل فيه الآراء
مصطفى جواد(27/36)
حول (الوضوح والغموض)
عقد الأستاذ عباس فضلي فصلا طويلا تحت هذا العنوان، تكلم فيه عن غموض الشعر وأسبابه وقيمته، وانتهى في حزم إلى أننا يجب أن نرفض كل شعر غامض لأن الغموض والجمال لا يجتمعان في صعيد واحد، ويظهر أن الأستاذ إنما يريد هذا النوع من الغموض، الذي يتجلل من حنادس الليل بحجب وأستار، فإذا أعملنا فيه عقولنا وأجهدناها ما وسعنا الأعمال والاجهاد، لم نتبين شيئا غير الظلام الموحش، والحلوكة الدامسة، وليس هذا هو الغموض الفني أو الشعري الذي يجعله الدكتور طه حسين سببا من أسباب جمال الشعر، وإنما يريد الدكتور - فيما أفهم - غموضا آخر جميلا، لا تنفر منه النفس ولا تستوحش، وإنما تقبل عليه، وتهش له، وتجد فيه لذة ومتاعا كبيراً، وهو أشبه ما يكون بالظلال لا تحجب النور ولكن ترسله بقدر، ومهما كثر هذا الغموض وفاض فلن يحول بيننا وبين التأثر الجميل بالقطعة الشعرية وما يغمرها من سحر وإبداع، بل ربما كان هو مثار إعجابنا وتقديرنا، ومبعث سرورنا وغبطتنا، هو غموض حقا، ولكنه غموض ذو بهجة، تقر به النفس، ويسر به الذهن، وما أشبهه بهذه السدول الرقيقة التي يرخيها الضباب على الطبيعة، فلا يزيدها إلا سحراً وجمالا، ولا يزيدنا إلا إعجابا واستحسانا.
وهذا الغموض الشعري له أسباب مختلفة، ولعل كثيراً منها يرجع إلى فقر اللغة وقصورها في الإفصاح عن عواطف الشعراء النفسية، وميولهم، ورغباتهم، فكثيرا ما تعجز اللغة عن أداء المعاني التي تضطرب في صدورهم، وحتى هذه الألفاظ التي ظفرت بالإفصاح عن بعض هذه المعاني، لم توفق في القيام بمهمتها الشاقة توفيقا كبيرا، وذلك لأن المعاني تفصح عنها لا تخضع لشيء خاص محدود يعرفه الجميع، فالمعاني ليست مادية محسوسة، وإنما الألفاظ هي المحدودة بحروف معدودة وفراغ مخصوص، ومما يزيد الموضوع خطرا، أن كل كلمة من هذه الكلمات التي يستعملها الشعراء تعبر عند كل واحد منهم عن حالة مخصوصة لا يشركه معه فيها أحد مشاركة تامة، وما هذه الكلمات إلا حيل وتدابير يستعملونها للإفصاح عن هذه المعاني التي تزفر بها نفوسهم، ولا شك في أن بها كثير من التسامح، كما أن بها كثيرا من الإبهام والغموض، ويخطئ كثيرا من النقاد فيظنون أن لا خلاف بين الحياتين العقلية والنفسية، الواقع أن هناك اختلافا كثيرا، فالحياة العقلية قد درست واستطاع العلماء أن يعرفوا مقدماتها وطرق استدلالها، فكان علم المنطق، أما الحياة(27/37)
النفسية فلا تزال على أشد ما تكون إبهاما وغموضا، ولهذا كان تحليل الحادثة الشعرية إلى عناصرها، من إحساس، وشعور، وخيال، وعاطفة منشأ غموض كثير ينتشر بين أجزاء القصيدة الواحدة، ومن هنا كان الخلاف كثيرا ما يقوم بين النقاد في فهم القطع الشعرية المختلفة، لأنهم لا يعتمدون على مبدأ معروف للمناقشة والمقارنة، فهم لا يستنيرون بتحليل واضح سابق مشابه للحوادث الشعرية التي يتناقشون فيها، وعلماء النفس أنفسهم يقولون أن الشعور مصدر الإبهام، فما بالنا بالحياة النفسية كلها وما تنطوي عليه من رغبات وعواطف، وميول وشهوات، لا سبيل إلى حدها وحصرها، وإذا كانت هذه هي الحياة النفسية وهي على أشد ما تكون التواء وتعقدا أفلا نسمح لما يخرج منها أن يحمل شيئا من آثار إبهامها ما دام جميلا نشغف به، ونعجب بحسنه وجماله
والواقع أن الأمر لا يحتاج منا إلى إصدار حكم ليفارق الشعر الغموض ويقاطعه، بل إن ذلك يرجع كما رأينا إلى الحياة النفسية ذاتها، وسواء أرضينا أم غضبنا فيستمر الغموض مسيطرا على الشعر حتى تنضج الحياة النفسية، ولا سبيل إلى هذا الإيضاح الآن وتاريخ الشعر يؤيد أن هذا الغموض لازم الشعر منذ نشأته الأولى، فقد كان الإنسان - قبل أن يتحول محيط عواطفه إلى جليد تسطع عليه أشعة الأفكار والألفاظ - يعبر عن هذه الحياة الصاخبة في نفسه بأصوات مبهمة، ولما أخذت الأفكار والألفاظ تقوم بتجسيم هذا التعبير رأى الشاعر الأول إنها عاجزة عن القيام بمهمتها قياما تاما فأضاف إليها الوزن الشعري عله يكمل بنغماته المعنى الذي يريد الإفصاح عنه، وللموسيقى الشعرية شأن كبير في الشعر، وذلك لأنها إذا ارتقت إلى أسمى درجاتها، استطاعت أن تؤثر في نفوس السامعين بدون حاجة إلى فهم الأفكار التي تحملها، فلا يكادون يسمعونها حتى يجدوا لذة جميلة لا يستطيعون أن يرجعوها إلى مصدر سوى هذه النغمات السحرية التي يبثها الشاعر في آثاره الشعرية
وغموض الشعر لا يأتي دائما من الشاعر وشعره بل كثيرا ما يأتي من القارئ وقراءته، فالناس يختلفون في فهم القصيدة بل في فهم البيت الواحد، ولا سبيل إلى كبح جماح هذا الخلاف، لأنه يرجع إلى حوادث سيكولوجية، فأن كل صورة في الشعر أو فكرة فيه حين ينقلها من عالمها الخارجي إلى عالمنا النفسي الداخلي تصادف مناطق من الشعور تختلف(27/38)
باختلاف القراء، ولهذا ينتهي كل قارئ غالبا إلى صورة أو فكرة لا يشترك معه فيها غيره، ولكي يكون حكم القارئ للشعر صحيحا، يجب أن يكون ماهرا، في إخراج نفسه من كل ما يؤثر فيه، بارعا، في فهم الحالات العقلية التي تلائم الموضوع الشعري الذي يقرأ فيه، كما يجب أن يتخلى عن كل النزاعات فلا يؤثر شيئا لقدمه، وبقائه، ولا يحتقر شيئا لجدته وحداثته
والإبهام كثيرا ما يأتي مما ترمز إليه الفكرة الشعرية، لان الفكرة الفنية لا تلهم القارئ دائما برموز محدودة، فمثلا إذا صور إنسان فتاة رامزا بها إلى الأنوثة ولم يعرف الناس ماذا أراد، رأيتهم يختلفون فيما بينهما اختلافا شديدا، هذا يقول إنه يرمز إلى الجمال، وذاك يقول إنه يرمز إلى الدلال، ويقول ثالث بل إلى الجلال، وقلما يهتدون إلى الرمز الحقيقي الذي أراده الرسام لصورته، وكذلك المناظر الطبيعية فهي لا تملي علينا فكرة محدودة، وهذا هو الذي يجعلنا نقول إن الإنسان يرى من الجمال في المرة الثانية ما لم يره في المرة الأولى، أي إنها توحي ألينا بألوان مختلفة من الأفكار العذبة والصور الساحرة، كلما نظرنا إليها وأمعنا فيها، وليس الأمر كما يظن الأستاذ فضلي من أنه يرجع إلى أننا لا نفهم الجمال مرة واحدة، إذ الجمال ليس مسألة حسابية يعوزها الفهم، ولا تمرينا هندسيا ينقصه البرهان، وإنما هو معين لأفكار كثيرة، لا مقطوعة ولا ممنوعة، ولن ينضب من هذه الأفكار الساحرة إلا إذا فنيت لا - قدر الله - حياتنا النفسية، ويتبين جمال إطلاق الشعرية من قيود التحديد في كثير من الآثار الشعرية، كما نجد في رواية هملت، فأن الناس يختلفون اختلافا كثيرا في شخصية هملت نفسه، ولا يكاد ينتهون إلى رأي واحد معين، ولكنهم مع ذلك يتفقون على أن هذه الرواية من أعظم أعمال شكسبير إن لم تكن أعظمها، وربما كان يستحسن - لهذا السبب - أن يعتمد الشعر على الإيجاز حتى يصبغ أفكاره بشيء من الإبهام والغموض يسمح لنا أن نستوحي من أفكاراً مختلفة جميلة، ولا يضع الإيجاز من قيمة الشعر بل هو على العكس يرفع منه ويسمو به إلى الأفق الأعلى، وإنما الذي يضع منه حقاً هو الإطناب الذي لا يزال بالفكرة حتى يظهرها عارية أمامنا، فسرعان ما نبتذلها ونحتقرها
وإذن فالغموض الشعري يجب أن نقدره التقدير اللائق به، فلا نغالي في ازدرائه وتحقيره، يجب أن نعرف أنه من أهم أسباب جمال الشعر وحسنه، ومن يدري؟ ربما كان من أهم(27/39)
أسباب خلود الشعر وبقاءه، فان الآثار الشعرية تشرق عليها الحياة في العصور المختلفة، بينما تبلى القطعة العلمية بمرور الزمن، وتنطمس معالمها، وأكبر ظني أن هذا يرجع إلى وضوح القطع العلمية، فالشيء الذي يتضح أمام الإنسان لا يفكر في ترديده وتكرار النظر فيه. وأي حاجة تستدعي ذلك؟. أما الآثار الشعرية فإنها لا تنضج أمام الإنسان جملة واحدة، ولهذا نحن نقرأها مرة ومرتين وثلاثاً، وقد نحفظها ونكررها ولا نحس بضجر ولا بملل، بل نحن نجد في ذلك لذة مغرية ومتعة طيبة
والغريب كل الغرابة أن الأستاذ فضلي يدعي (أن كل بديع في هذا الكون من منظر إلى صوت إلى شعر يلازمه الوضوح كيفما تكيف وتطور وتصور) ثم ينتهي إلى أن (الوضوح هو جوهر الجمال) وما أعرف أن أحداً يستطيع أن يوافق الأستاذ على دعواه، بل إن نقاد الفنون المختلفة يكادون يجمعون على أن الوضوح إذا عرض للآثار الفنية أفقدها كثيراً من روعتها وجمالها، والدلالة على ذلك كثيرة فنحن نعجب بنور القمر أكثر من إعجابنا بنور الشمس، وما هذا إلا لأن نوره أكثر إبهاما وأوفر غموضا، وكذلك نحن نعجب بالمناظر الطبيعية تتراءى لنا في ثياب أضواء الفجر الغامضة، أكثر من إعجابنا بها وهي متبرجة في أضواء الهاجرة، ونحن أيضا لا نطلب في الموسيقى انكشافا ولا وضوحا فمشاعرنا تتهيج بالسماع فقط، وليس من الضروري أن نفهمها، بل إن كثيرين يتأذون من فهمها، ويقلقون من وضوحها، والشعر لا يخرج عن بقية الفنون الجميلة، فهو كلما كان أكثر وضوحا، كان أقل قيمة وأدنى درجة لأنه لا ينطق حينئذ إلا بظاهر من القول وضحل من التفكير، نعم هناك مسألة مهمة يجب أن يأخذ الأدباء لأنفسهم الحذر من شرها، وذلك أن كثيرا من شعرائنا افسدوا أذواقنا في حكمنا على الشعر فجعلونا نضن أن بين الجمال والوضوح علاقة وثيقة، لأننا نجدهم يحسون بالضوء أكثر من إحساسهم باللون أو أي شيء آخر، فإذا وصفوا لنا روضا لم يشاءوا أن يصفوه إلا والسماء مصحية، وقرص الشمس يلتهب التهابا، وقلما تحدثوا بشيء عن هذا الروضإذا تنفس الصبح أو بزغ القمر، ولو تدبر شعراؤنا لعرفوا أن الجمال لا يبدوا عاريا مكشوفا أمام العيون، وإنما يتخذ دائما سرابيل تقيه شر الوضوح والابتذال سواء في الطبيعة، أو في الشعر، أو في أي شيء آخر.
شوقي ضيف(27/40)
بكلية الآداب(27/41)
مدينة زائفة!
للدكتور عبد الوهاب عزام
قال صاحبي، وأنا أسايره في شارع الكورنيش ليلة من ليالي الصيف: (ما أجمل هذه المدينة! أنظر هذا المهيع الممهد ما بين رأس التين والمنتزه مشرفا على لجة يمعن فيها البصر والفكر إلى غير غاية. وأنظر هذه الأبنية الهائلة الشامخة تزحم السحاب بذراها، وتقابل السماء بمثل نجومها، وتنسج في الأمواج أشعتها، وتأمل هذا العقد من المصابيح الكبيرة، يطوق هذا الخليج الجميل. والسيارات تطوي الأرض ذات اليمين وذات الشمال، فيها المصطافون قد أخذوا من الحياة متعتها، واهتبلوا من الأيام فرصتها، والحان الموسيقى تتدفق من هذه الأندية والمراقص فتموج في الهواء، حتى تختلط بأمواج الدأماء. وهذا البحر الزاخر من الناس، والمحافل المزدحمة بشتى الأجناس يحوطها النظام، ويهيمن عليها القانون والسلطان، ويرقبها الشرط والعسس، كل آخذ بحقه مأخوذ بعدوانه، يا أخي لقد استبحر العمران، وشمل الناس الأمان، وأمكنهم العيش السعيد، واسلس لهم الزمان العصى، وأطلعت لهم المدنية من النعيم ألوانا، وأنبتت لهم من اللذات أفنانا - يا أخي إنها لمدينة. . .
ثم صمت صاحبي، وتمادى بنا المسير حتى ملنا ذات الشمال إلى محطة الرمل فمررنا بباب القنصلية الايطالية، فرأيت بجانب الجدار شبحين ضئيلين فاقتربت أنعم النظر فيهما فإذا طفلان نائمان، جلس أحدهما القرفصاء واعتمد بجانبه على الجدار، وتمدد الآخر على الأرض عرضة لأقدام السابلة، قلت: وا رحمتاه! طفلان شريدان ألجأهما الشقاء إلى هذا الجدار! ويعلم الله ما بهما من السغب والنصب وما لقيا في يومهما وأمسهما، وما يلقيان في غدهما. قال صاحبي: (لا تعجب فأمثال هذين كثير يعثر بهم السائر حيثما ذهب) فأنقلب الأسى في نفسي غضبا على صاحبي قلت: (أرأيتك مدينتك هذه العظيمة، وطرقها المعبدة، وقصورها الشاهقة، ومصابيحها المتلألئة، وسياراتها الخاطفة، ومصطافيها الناعمين، ومراقصها اللاهية، وأنديتها الحافلة!! - أرأيتك القانون والسلطان، والنظام والشرطة والعسس، وهذا العمران المستبحر، والسعادة التي شملت الناس، وألوان النعيم التي طلعت بها المدنية، والعيش الخفض، والزمان المواتي، ومدنيتك الرائع الفاتنة! أليس في هذه(27/42)
المدينة العظيمة لهذين الطفلين سعة؟ أليس في هذا العمران لهذين الطفلين مأوى؟ أليس في هذه القوانين لهذين الطفلين حماية؟ أليس في هذا النظام لهذين الطفلين موضع؟ أليس في هذه المدنية لهذين الطفلين لون واحد من الحياة؟ أليس في هذه القلوب لهذين الطفلين مرحمة - يا صاحبي! حسبك حسبك! لا تحدثني عن المدنية ونعيمها، لا تخدعني بالمدنية وقوانينها!
أنها لمدنية زائفة!
عبد الوهاب عزام(27/43)
عام جديد!
بين عام مضى وعام آتى ... موقف للمنى والذكريات
يهتف الشيخ بالقديم وداعاً ... ويحي الجديد في السنوات
ويرى الكهل في الشباب مراحا ... حفلا بالجمال والصبوات
لم يزل طيره على الفنن المن ... ضور يدعو إلى متاع الحياة
ويغني الشاب بالأمل المعسو ... ل دنيا خلابة البسمات
أيها العام ما حسابك أيا ... مٌ تقضت في يقظة وسبات
رب يوم يمر في البؤس عاما ... وسنين تمر كاللمحات
أيها العام كن على مصر خيرا ... طال عهد الشقاء والأزمات
فانشر النور والسلام على الوا ... دي وأطلق سواحر النغمات
يس عبد الله(27/44)
الشافعي واضع علم أصول الفقه
للأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية
الآداب
- 5 -
أ - الدراسات الفقهية إلى عهد الشافعي. ب - أهل الرأي وأهل الحديث
ج - الشافعي بين أهل الرأي وأهل الحديث وآثاره وكتبه
د. وضع الشافعي علم أصول الفقه
وفي صدر العهد العباسي تمكن الاستنباط واستقرت أصوله وجعل لفظ (الفقه) ينتهي بالتدريج إلى أن يكون غير مقصور على المعنى الأصلي أي الاستنباط من الأدلة التي ليست نصوصاً واصبح المعنى الأول للفقه هو: (الأحكام الشرعية العملية المأخوذة من أدلتها التفصيلية) نصوصا كانت أو رأياً وسمي أهل هذا الشأن بالفقهاء ونشأ التأليف في الفقه بهذا المعنى وانقسم الفقه إلى طريقتين طريقة أهل الرأي والقياس، وهم أهل العراق، وطريقة أهل الحديث وهم: أهل الحجاز
ب - أهل الرأي وأهل الحديث
ومقدم جماعة أهل الرأي الذي استقر المذهب فيه وفي أصحابه هو: (أبو حنيفة) المعتبر أبا لمذهب أهل العراق، أسسه وأعانه على تأسيسه تلميذاه الجليلان: (أبو يوسف) القاضي المتوفي سنة 182هـ - 797م و (محمد بن الحسن) الشيباني المتوفي سنة 189هـ - 804 م
ولئن كان حماد بن سليمان الكوفي المتوفى سنة 120هـ - 737 و738 م هو أول من جمع حوله طائفة من التلاميذ يعلمهم الفقه. مع ميل غالب للرأي. وكان (أبو حنيفة) من هؤلاء التلاميذ فان حماداً لم يترك آثراً علميا مكتوبا. أما أبو حنيفة فيقول صاحب (الفهرست)؛ وله من الكتب (كتاب الفقه الأكبر) - كتاب رسالته إلى اليسقى - كتاب العالم والمتعلم - رواه عنه مقاتل - كتاب الرد على القدرية - والعالم براً وبحراً، شرقا وغربا، بعداً وقرباً، تدوينه رضى الله عنه) ص 202
ويذكر الموفق بين أحمد المكي الحنفي في كتابه (مناقب الأمام الأعظم) آثر أبي حنيفة في(27/45)
الفقه بقوله جـ1 ص 136، 137: (وأبو حنيفة أول من دون علم هذه الشريعة، لم يسبقه أحد ممن قبله لأن الصحابة والتابعين لم يضعوا في علم الشريعة أبوابا مبوبة ولا كتبا مرتبة إنما كانوا يعتمدون على قوة فهمهم وجعلوا قلوبهم صناديق علمهم فنشأ أبو حنيفة بعدهم فرأى العلم منشرا فخاف عليه الخلف السوء أن يضيعوه ولهذا قال - صلعم -: أن الله تعالى لا يقبض العلم انزاعا ينتزعه من الناس وإنما ينتزعه بموت العلماء فيبقى رؤساء جهال فيفتون بغير علم فيضلون ويضلون فلذلك دونه أبو حنيفة فجعله أبوابا مبوبة وكتبا مرتبة. فبدأ بالطهارة ثم بالصلاة ثم بسائر العبادات على الولاء ثم بالمعاملات ثم ختم بكتاب المواريث
وإنما ابتدأ بالطهارة ثم بالصلاة لأن المكلف بعد صحة الاعتقاد أول ما يخاطب بالصلوات لأنها أخص العبادات واعم وجوبا، وآخر المعاملات لأن الأصل عدمها وبراءة الذمة منها وختمه بالوصايا والمواريث لأنها آخر أحوال الإنسان فما احسن ما ابتدأ به وختم وما أحذقه وأفهم وأفقه وأمهر وأعلم وأبصر
ثم جاء الأئمة من بعده فاقتبسوا من علمه واقتدوا به وفرعوا كتبهم على كتبه، ولهذا روينا بإسناد حسن عن الشافعي - رح - أنه قال في حديث طويل: (العلماء عيال على أبي حنيفة في الفقه)
وروى عن ابن سريج - رح - أنه (سمع رجلا يتكلم في أبي حنيفة فقال له يا هذا مه، فان ثلاثة أرباع العلم مسلمة له بالإجماع والرابع لا نسلمه لهم،
قال: وكيف ذلك؟ قال: لان العلم سؤال وجواب، وهو أول من وضع الأسئلة فهذا نصف العلم، ثم أجاب عنها فقال بعض: أصاب، وبعض: أخطأ، فإذا جعلنا صوابه بخطئه صار له نصف النصف الثاني والربع الرابع ينازعهم فيه ولا يسلم لهم. . . ولأنه - رح - أول من وضع كتابا في الفرائض وأول من وضع كتابا في الشروط. والشروط لا يستطيع أن يضعها إلا من تناهى في العلم وعرف مذاهب العلماء ومقالاتهم لأن الشروط تتفرع على جميع كتب الفقه ويتحرز بها من كل المذاهب لئلا ينقضها حاكم بنقض أو فسخ. . . وقد قيل بلغت مسائل أبي حنيفة خمسمائة ألف مسألة وكتبه، وكتب أصحابه تدل على ذلك)
وجملة القول: أن مذهب أهل الرأي هو الذي رتب أبواب الفقه، وأكثر من جمع مسائله في(27/46)
الأبواب المختلفة وكان الحديث قليلاً في العراق فاستكثروا من القياس ومهروا فيه فلذلك قيل: (أهل الرأي)
وإنما كان أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق لأن المدينة دار الهجرة، ومأوى الصحابة ومن انتقل منهم إلى العراق كان شغلهم بالجهاد وغيره من شؤون الدولة أكثر.
ومذهب أهل العراق كان يقصد إلى جعل الفقه وافيا بحاجة الدولة التشريعية فكان همه: أن يجعل الفقه فصولا مرتبة يسهل الرجوع إليها عند القضاء والاستفتاء، وكان همه أن يكثر التفاريع حتى تقوم بما يعرض ويتجدد من الحوادث. لا جرم كان مذهب أهل الرأي مذهب الفضاء، وكان أئمة قضاة كأبي يوسف، ومحمد. وكان أهل الحديث يعيبون أهل الرأي بكثرة مسائلهم وقلة رواياتهم
وسئل رقبة بن مصقلة عن أبي حنيفة فقال: (هو أعلم الناس بما لم يكن، وأجهلهم بما قد كان، وقد روى هذا القول عن حفص بن غياث في أبي حنيفة: يريد أنه لم يكن له بآثار من مضى) عن كتاب مختصر جامع بيان العلم
ويروى ابن عبد البر في كتاب (الانتقاء) ص 147 (عن الحكم بن واقد قال: رأيت أبا حنيفة يفتي من أول النهار إلى أن يعلو النهار، فلما خف عنه الناس دنوت منه فقلت: يا أبا حنيفة لو أن أبا بكر وعمر في مجلسنا هذا ثم ورد عليهما ما ورد عليك من هذه المسائل المشكلة لكفا عن بعض الجواب ووقفا عنه. فنظر إليه وقال: أمحموم أنت؟ يعني مبرسما)
أما أهل الحديث - أهل الحجاز - فإمامهم (مالك بن أنس) وكانت طريق أهل الحجاز في الأسانيد أعلى من سواهم وامتن في الصحة لاشتدادهم في شروط النقل من العدالة والضبط، وتجافيهم عن قبول (المجهول الحال)، في ذلك
وكتب (مالك) كتاب (الموطأ) أودعه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه ورتبه على أبواب الفقه
وفي كتاب (تبيض الصحيفة): أن (مالكا) في ترتيبه للموطأ متابع لأبي حنيفة، ومن العسير إثبات ذلك، فان أبا حنيفة ومالكا كانا متعاصرين، وإن تأخر الأجل بمالك وأقدم ما حفظ من المجاميع الفقهية المؤلفة في عصور الفقه الأولى بين السنيين هو (موطأ مالك)
ويقول صاحب الفهرست في سرد كتب مالك:. . وله من الكتب؛ كتاب (الموطأ - كتاب(27/47)
رسالته إلى الرشيد - ص 199
وكانت وجهة أهل الحجاز كوجهة أهل العراق تدوين الأحكام الشرعية مبوبة مرتية، إلا أن اعتماد أهل الحديث على السنة أكثر من اعتمادهم على الرأي، بل هم كانوا يعتبرون الرأي ضرورة لا يلجأون إليها إلا على كره وعلى غير اطمئنان
وقد روى عن مالك: انه قال في بعض ما كان ينزل فيسأل عنه فيجتهد فيه رأيه: (أن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) مختصر جامع بيان العلم ص 192
وكان أهل الحديث يكرهون أن يتكاثر والناس بالمسائل كما يتكاثر أهل الدرهم بالدراهم، وكانوا يكرهون السؤال عما لم يكن، قالوا: إلا ترى أنهم كانوا يكرهون الجواب في مسائل الأحكام ما لم تنزل، فكيف بوضع الاستحسان والظن والتكلف وتسطير ذلك واتخاذه دينا!
وفي (الانتقاء): قال (الهيثم بن جميل): (شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: (لا أدري)
ولم يكن أهل الحديث مع ذلك ينكرون اجتهاد الرأي والقياس على الأصول في النازلة تنزل عند عدم النصوص)
ح - الشافعي بين أهل الرأي وأهل الحديث
ظهر الشافعي والأمر على ما وصفنا من نهضة الدراسة الفقهية في بلاد الإسلام نهضة ترمي إلى الوفاء بالحاجة العلمية في دولة تريد أن تجعل أحكام الشرع دستوراً لها
ومن انقسام الفقهاء إلى أهل رأي يعتمدون في نهضتهم على سرعة إفهامهم ونفاذ عقولهم وقوتهم في الجدل. وأهل حديث يعتمدون على السنن والآثار ولا يأخذون من الرأي إلا بما تدعو إليه الضرورة
كان أهل الرأي يعيبون أصحاب الحديث بالإكثار من الروايات الذي هو مظنة لقلة التدبر والتفهم (حكي عن أبي يوسف قال: سألني الأعمش عن مسألة وأنا وهو لا غير، فأجبته، فقال لي: من أين قلت هذا يا يعقوب؟ فقلت: بالحديث الذي حدثتني أنت. فقال يا يعقوب أني لأحفظ هذا الحديث من قبل أن يجتمع أبواك ما عرفت تأويله إلى الآن. مختصر جامع بيان العلم ص 182
فأصحاب الحديث كانوا حافظين لأخبار رسول الله، إلا أنهم كانوا عاجزين عن النظر(27/48)
والجدل، وكلما أورد عليهم أحد من أصحاب الرأي سؤالا أو أشكالا بقوا في أيديهم متحيرين. الرازي ص 38
هم ضعاف في الاستنباط وفي القدرة على دفع المطاعن والشبهات عن الحديث
(يتبع)(27/49)
صفي الدين الحلي
677 - 750هـ
(شاعر أتى بما أخجل زهر النجوم في السماء، كما قد أزرى بزهر الربيع في الأرض)
هكذا يصف (ابن شاكر) صاحب فوات الوفيات بلبل الحلة وحماة والقاهرة: صفي الدين. وكأنه إذ يفاخر به الطبيعة في جمال أرضها وسمائها على ما حوى ذلك الجمال من نور وشذا وألوان وسحر، يريد أن يسجل لنا باعترافه دليلا دامغا على أولئك الذين يزعمون أن الأدبالعربي قد أخذته الصيحة يوم حطم التتار عرش المستعصم في بغداد!
نعم هناك أناس يعتقدون أن الأدبالعربي بعد سقوط بغداد قد أجدبت أرضه وهوت نجومه، فأصبح لا ينتج إلا دنئ النبات، ولا يستضئ إلا بخافت الذبالة، وإنه قد ظل عن منابع الوحي فانزوى تحت قبة ذلك العصر المظلم المغمور الذي يسمونه عصر المغول والأتراك أو عصر الدول المتتابعة، ولكن هذا الزعم مبني على نظرية مخطئة ذاعت في مبدأ دراسة الأدب، ثم أخذت معاول الآراء الحديثة تهدمها من كل جانب، وهي التي كانوا يعبرون عنها بقولهم الأدبظل السياسة، فحيثما ولت السياسة وجهها تبعها خيالها، وكلما ألم بها سقم تقاسمته مع خدينها، ولهذا جعلوا عصور الأدبمن حيث القوة والضعف مطابقة التقسيم لعصور السياسة، كأن الأدبشخص قابع تحت عرش الملك يحين أجله إذا انقض عليه العرش فهشم أضلاعه!
لم يمت الأدببعد أن ماتت بغداد، وإنما ألجأته السياسة فقط إلى الفرار من مجال الفوضى والوهن، فهام على وجه قليلا، ثم ألقى العصا في معاقل حصينة يستطيع فيها أن ينصب رايته وينشر بساطه بعد ذلك اللغب والإعياء. كانت هذه المعاقل منبثة في الأقطار العربية ولكنها ترجع جميعا إلى ثلاثة مراكز قوية: مصر كما تمثلها القاهرة، والشام كما تمثلها حماة، وجزيرة العراق كما تمثلها ماردين. وبين هذه المراكز ظل الأدبالعربي يتنقل طليقا حيا معلنا عن نفسه بأفذاذ نوابغ لا يقل بعضهم عن أعلام العصر العباسي في ريعان شبابه، ومن هؤلاء أبن نباتة المصري وصلاح الدين الصفدي، وابن حجة الحموي، وعلاء الدين بن الأثير، وصفي الدين الحلي الذي نتكلم اليوم عنه من حيث هو شاعر.
نشأ صفي الدين بالحلة من مدن العراق مهد الوحي الشعري الغامر شاعرا بفطرته: يحب الشعر ويطرب لما فيه من موسيقى وانسجام، فأكب على حفظ كثير من مقطوعاته وهو لم(27/50)
يزل بعد غلاما غض الإهاب، وأخذ ينظم كثير من مقطوعاته وهو لم يزل بعد غلاما غض الإهاب، وأخذ ينظم من أمثاله ما توحيه خواطره وميوله في غير تصنع أو كلفة كما يقول هو عن نفسه (كنت قبل أن أشب عن الطوق، وأعلم ما دواعي الشوق، بهجا بالشعر نظما وحفظا، متقنا علومه معنى ولفظا، وامقا بسبك القريض، كارها للكسب بالتقريض) فكانت هذه الفطرة أول عامل في إيجاد تلك القوة الشعرية النابغة، وأكبر مؤثر في توجيه نفسه بعد إلى التفني بالعواطف الصادقة الطبيعية المتصلة بأعماق النفس ورغبات الحياة. ثم اجتمع له عامل آخر شحذ هذه الفطرة وعاونها على السير في اتجاهها وهو ولادته من أسرة راقية ذات قدم في المجد نفخت فيه من روح العظمة فجعلته يهتف بمآثرها ويغرد بمفاخرها، وربته كما ينشأ ولد النبلاء آخذا بقسط وافر من الثقافة العربية السائدة في ذلك الوقت، أو بالأحرى من الثقافة العباسية، لأن تراث الفكر العباسي كان لا يزال هو المثل الرفيع الذي يحتذيه كل من أراد أن يرتوي من مناهل العلم والأدب بالرغم مما أصابه من القضاء السياسي. وإلى هذين العاملين كان هناك سبب ثالث ساعد كثيرا في بناء ذلك الصرح الشعري الباذخ وهو ما ألجأته الحياة إليه من التنقل بين عواصم البلاد العربية: فقد فارق الحلة وهي مسقط رأسه حول عام سبعمائة من الهجرة إلى (ماردين) اكبر قلاع الجزيرة حيث نزل على صاحبها الملك المنصور نجم الدين غازي ثم أبنه الملك الصالح، وهما من أمراء البيت الأرتقي الخاضع لسيادة مصر في عهد السلاطين، ورحل بعد ذلك حول عام 727 إلى مصر نفسها فنزل بالملك الناصر قلاوون، ثم عاد إلى حماة بالشام فاتصل بالسلطان المؤيد عماد الدين الأيوبي وهو المؤرخ الشهير بأبي الفداء وابنه الأفضل، وقد كانا واليين من قبل سلطان مصر أيضا، وذهب إلى الحجاز مرارا لأداء فريضة الحج والزيارة، فكان لهذه الرحلات آثار قوية في إحياء شعره واستغلال قريحته وفي تنمية ثقافته ومقدرته الأدبية. وإذا كان الرجل قد اجتمع له نقاء الغاية ورقي الأسرة وملاءمة البيئة فماذا تنتظر من إلا أن يكون شاعرا فحلا يرفع منار الأدبويحتل له من الخلود مكانا؟!
هكذا كانت دواعي الشعر مهيأة لصفي الدين، فأخذ يصعد إلى قمته حتى أشرف على الغاية وصار أمير الشعر بلا منازع في أقطار الشرق ما عدا مصر التي كانت معتزة إذ ذاك بأميرها الذي لا يباري وهو: (ابن نباتة)، ولما كان العصر الذي نشأ فيه الحلي هو الوارث(27/51)
لآثار الفكر العباسي بالعراق، وثمرات العصر الأيوبي بمصر، فقد ظهرت طوابع هذين العهدين في شعره، واصبح مرآة حاكية لصورتيهما، ونستطيع على ضوء هذا الحكم أن نعرف الخصائص التي تميز بها شعره من ناحية الأسلوب وناحية المعاني.
أما أسلوبه فقد كان على نمط كبار الشعراء العباسيين في العصر الثاني متين الديباجة شديد الأسر مصوغا من الألفاظ القوية الرنانة المألوفة التداول، إذ كان يواجه كثيرا من عنايته إلى الناحية اللفظية، ويأبى إلا أن يعارض المتنبئ والطغرائي والحمداني وأضرابهم من الفحول، فلا يقصر خطوه عن مداهم ولا يقع دون علاهم. وقد احتذى مع ذلك طريقة القاضي الفاضل التي نشرها بمصر وسرت منها إلى الأدبالعربي جميعه، فملأ شعره بالطباق والجناس والتورية والاقتباس وغيرها من أنواع الصناعة البديعة حتى كاد أسلوبه يعد مثلا كاملا لهذه الطريقة، وأوشك كل محسن بديعي على كثرة فروع هذه الأنواع أن يأخذ حظه من شعره.
ومن الحق أن نقرر أن هذه الظاهرة كانت تعد في ذلك العصر من الأمثلة العليا للشعر، بحيث تقاس منزلة الشاعر بقدرته على تطبيقها واستخدامها في كلامه وخلق المناسبات لها كلما استطاع، كما يتضح لنا ذلك من كتب النقد التي ألفت حينذاك، كخزانة الأدبلابن حجة الحموي، والوافي للصفدي وغيرها، ولهذا لا يجوز لنا أن ننظر إلى تلك الصناعة نظرة فتور أو سخط، بل على العكس ينبغي أن نحكم على كل شاعر بروح عصره ونقيسه بمقياس زمانه لئلا نصدم القديم بالجديد، ونخلط الماضي بالحاضر. وعلى هذه القاعدة يمكننا أن نحكم لصفي الدين بأنه شاعر قدير مفتن استطاع أن يتلاعب بالألفاظ في مجال البديع بمهارة يفوق بها كثيرا من نابهي الشعراء الذين عاصروه أو سبقوه، بل أن الباحث العصري قد لا يملك نفسه أحيانا من الإعجاب بهذه الصناعة التي ينعى عليها لما يبدو له من لطف التقابل والتطابق واللمح والإيماء في معان منسجمة وخيال منتظم. وإذا شئت فانظر إلى قوله:
وما ذاك إلا أن يوم وداعنا ... وقد غفلت عين القريب على رغم
ضممت ضني جسمي إلى ضعف خصرها ... لجنسية كانت له علة الضم
ربيبة خدر يجرح اللحظ خدها ... فوجنتها تدمى وألحاظها تدمى(27/52)
إذا ابتسمت والفاحم الجعد مسبل ... تضل وتهدي من ظلام ومن ظلم
تغزلت فيها بالغزال فأعرضت ... وقالت لعمري هذه غاية الذم
وكم قد بذلت النفس أطلب وصلها ... وخاطرت فيها بالنفيس على علم
فلم تلد الدنيا لنا غير ليلة ... نعمت بها ثم استمرت على العقم!
وقد بلغ من قدرته وتجليته في هذه الحلبة أنه ألف قصيدة طويلة عدتها مائة وخمسون بيتا تشتمل على مثل هذا العدد من أنواع البديع المختلفة كأنها كتاب علمي وضع لضبط هذا الفن بالقاعدة والمثال، ومع ذلك فهي قطعة أدبية قيمة تجمع بين الغزل الرقيق والمدح الرائع والاستعطاف والوصف في سياق مخاطبة الرسول (ص) الذي يتوسل إليه الشاعر بعد مرض عضال شفاه الله منه! ومن أبياتها هذه الأربعة التي جمع فيها أنواع التوشيح والمقابلة واللف والنشر والتذييل والالتفات:
هم أرضعوني ثدي الوصل حافلة ... فكيف يحسن منها حال منفطم؟
كان الرضا بدنوي من خواطرهم ... فصار سخطي لبعدي عن جوارهم
وجدي حنيني أنيني فكرتي ولهي ... منهم إليهم عليهم فيهمُ بهمِ
لله لذة عيش بالحبيب مضت ... فلم تدم لي وغير الله لم يدم!
ومع أن صفي الدين عارض كثيراً من الشعراء في العصرين الجاهلي والأموي، وشاهد كثيرا من مظاهر حياتهم في البادية أثناء رحلاته الطويلة، فإننا لم نره يتناول الأوصاف الجاهلية الغربية أو يختار غير الشائع في عصره من الألفاظ السهلة الجارية على الألسن الفصيحة، متأثرا في ذلك شعراء العصر الأيوبي في مصر، وأن كان لم ينزل معهم إلى الذوق الشعبي العام، فكأنه وقف وسطا بين الأسلوب القديم الغامض، والأسلوب الحديث الواضح، ومن أجل موقفه هذا رماه أحد النقاد في عصره بسهم حاد إذ عاب عليه ضعف شعره من الوجهة اللغوية وقلة استخدامه للألفاظ الغربية، فأخذ يرد عليه بهذا البيان القوي الحاسم:
إنما الحيزبون والدردبيس ... والطخا والنقاخ والعلطبيس
والحراجيح والشقحطب والصع ... قب والعنقفير والعنتريس
لغة تنفر المسامع منها ... حين تروى وتشمئز النفوس(27/53)
وقبيح أن يذكر النافر الوح ... شي منها ويترك المأنوس
أين قولي: هذا كئيب قديم ... ومقالي: عقبقل قد موس؟
لم نجد شاديا يغني: (قفا نب ... ك) على العود إذ تدار الكؤوس
لا ولا من شدا (أقيموا بني أم ... ي) إذا ما أديرت الخندريس
خلي للأصمعي جوب الفيافي ... في نشاف تخف منه الرءوس
إنما هذه القلوب حديد ... ولذيذ الألفاظ مغناطيس
فهذه دعاية ثائرة للتجديد تدل على أن شاعرنا لم يكن يحب التقليد الأعمى للأقدمين، وإنما يرى من الواجب أن تتحول اللغة إلى أشكال شتى بحسب ما يقتضيه العصر ما دامت محافظة على قواعدها الأساسية، وقد ذكرنا أن هذه الدعوة ليست إلا صدى لمذهب الشعر المصري سرى في بلاد الشرق العربي حين كان منضويا تحت لواء مصر السياسي والاجتماعي في عهد الأيوبيين والسلاطين.
(يتبع)
ضياء الريس(27/54)
مِن طرائف الشّعر
وصف القلب
وهي قطعة من عبقريات الوصف ورائعة للعالم الشاعر الأستاذ احمد الزين
مَن لقلبٍ بين الجوانِح عانِى ... جَمَع اليأسَ والمنى في مكانِ
شاعر في الضلوع يَخفق بالمع ... نى فيعيا عنه بيانُ اللسّان
كم خيالٍ له يضيق به اللف ... ظُ فيسمو إليه بالخفقان
وأمانيَّ فيه كالزَّهر منها ... ما ذَوَى والقليلُ في رَيَعان
فهو راثٍ لما ذَوَى من أماني ... هـ ومستبشرٌ بباقي الأماني
باكياً شجوَه وآناً نراه ... يتغنى بأعذب الألحان
فهو كالعُود في يد الدّهر يشدو ... بالذي شاء دهرهُ من أغاني
قَطَعَ العيشَ بين خوفٍ وأمنٍ ... ورجاءٍ ناءٍ وآخَرَ داني
فتراه حينا يَلجّ به الوج ... دُ وحينا يلوذ بالسُّلوان
وتراه يَسيل كالماء لطفا ... وتراه كالنار في الثَّوَران
صامتٌ وهو لا يِني عن حديثٍ ... مطمئنٌ في ثَوْرَةِ البرْكان
يا لسلطاِنه القويَِّ ولا شَيْ ... ء عليه في الأرض ذو سلطان
لا تلمني إذا تبعتُ هواه ... هو بعضي وآخِذٌ بعِناني
كم حداني إلى هوًى لم يَدَعني ... فيه أُصِغي لفكرتي وَجناني
قادني للهوى ولو كان يدري ... ما يلاقيه في الهوى لنهاني
لَجَّ فيه فكان شرّا عليه ... ليتني قد عصيته إذ عصاني
عَصَفَ الحُبُّ بالقلوب فقلب الْ ... لَيْث في حرِبه كقلب الجبان
مُضْغةٌ في الضلوع يؤلمها المَسُّ ... غدت نهبةً لصَرف الزّمان
فوق موجِ الآلام تذهب حَيْرَى ... كسفين تسرِى بلا رُبّان
فهي بين الأحزان تفَنَى ويحييها ... خيالُ التعليل والنَّسيان
جَل من صاغَها مُيولا وأهوا ... ءً ولم يَعْدُ طينةَ الإنسان
وبَرها من الملائكُ نُورا ... تتراءى في صورة الجُثْمان(27/55)
فهي بين الضّلوعِ لا تملأ الكفَّ ... وفيها صحيفةُ الأكوان
موعظة الغاب!
للأستاذ خليل هنداوي
رحتُ للغاب، عليِّ أتسلى ... عن حظوظ ساءت بمرأى الغاب
هائم الروح في ضواحيه، ناس ... حزني، حاسد طيور الروابي
تملأ الجو بالغناء، ونفسي ... لحنها لحن شقوة واكتئاب
والأزاهير ناشرات شذاها ... في ربيع من الهوى والشباب
قلت يا روحيَ الكئيب تعزَّىْ ... واستراح، يا فؤاد، بعد العذاب
وانف عني يا غاب بعض شقائي ... وأرِحْ عانياً من الأتعاب
قال ليْ الغاب وهو يسخر مني ... والصدى كان منه رجع جوابي:
(أنا أشكو الذي تشكَّيت منه ... من قضاء يرمي بِزرُق الحراب)
(لا سلام - كما تصورت - عندي ... كلنا في تنازع وغلاب)
(لا يغرنْك ما ترى من سكون! ... ضمَّ هذا الكون كل اضطراب)
(ذاك معنى الحياة في كل صُقع ... من لحوم النعاج قوتُ الذئاب)
(لا تغرنْك زهرة في ربوعي ... تتسامى فوَّاحة الاطياب)
(لا يغرنْك طائر راح يشدو ... في الروابي بلحنه المطراب)
(فارتقب! هل ترى يُتمّ غناه؟ ... والقضاء القاسي له في ارتقاب)
(لو تأملتَ في ربوعي لأبصر ... ت نضالا في الطير والأعشاب)
(كم زهور راحت ضحايا زهور! ... وعقاب فريسة لعقاب؟)
(فصراع الحياة فوق التراب ... وصراع الحياة تحت التراب)
قلت يا غاب! ما رأيتك تشكو ... أنت راض عن القضاء المرابي
قال هل تنفع الشكاة فأشكو ... قَدر لا يرى طريق الصواب!
فتعلم مثلي السكوت فأني ... قاهر بالسكوت كل مصاب
أعطه ما يريد، فهو عنيد ... لا يُداري، وفز ببعض الرغاب(27/56)
عدتُ والهم عالق بفؤادي ... عدت والغاب زاد في أوصابي
فتراني - إذا رأيت - صموتاً ... فتخال الهناء ملء إهابي
غير أني واريت بالصمت همي ... وبقلبي دفنت صمت الغاب
دير الزور
خليل هنداوي(27/57)
البريد الأدبي
الحياة الأدبية
حفلة جائزة نوبل العالمية
يعلم القراء أن جائزة نوبل الأخيرة في الأدبقضت بها لجنة التحكيم للروائي الروسي المهاجر إيفان بونين. وقد وقعنا في البريد الأخير على وصف للحفلة التي أقيمت في القصر الملكي السويدي لتسليم جوائز نوبل للفائزين.
ولما كنا نحب أن نسجل في هذا الباب كل حدث أدبي كبير، فنحن ننقلها تنويهاً للأدب، الروسي خاصة، وبمكانة الأدبوالأدباء في العالم المتحضر عامة، وحضاً على رفع الفنون فوق كل اعتبار جنسي أو سياسي
أرسلت الدعوة الرسمية إلى المدعوين قبل يوم الحفلة بأيام عدة، وهي محرر على النحو الآني:
(المرجو من حضرات الفائزين الحضور إلى قاعة الحفلات الموسيقية يوم 10 ديسمبر سنة 1933 في الساعة الرابعة والدقيقة الخمسين على الأكثر لتسلم جائزة نوبل، وسيشرف صاحب الجلالة تتبعه الأسرة الملكية وسائر الحاشية، في الساعة الخامسة تماما لشهود الاحتفال، ويسلم جلالته شخصيا الجوائز المذكورة إلى كل من الفائزين. والساعة المشار إليها توصد الأبواب ويبدأ الاحتفال)
وأهل السويد شديدو المحافظة على المواعيد، فلا يستحب عندهم التبكير عن الموعد المضروب ولا يجوز مطلقاً التأخر عنه
فكان يرى الرائي في الساعة الخامسة إلا عشر دقائق رتلا ممتدا من السيارات وقوفا على مدخل قاعة الحفلات الموسيقية في القصر الملكي باستكهلم. وإذا بسيارة فخمة تقل إيفان بونين - وقد تفضل بإعارتها إياه أحد الأصدقاء، تقف أمام درك الباب الخارجي في الدقيقة المحدودة. وكانت الجموع الحاشدة تزداد احتشادا حول القصر وما يجاوره، وكانوا يعرفون الفائز بجائزة الأدباذ شهدوا صورته منذ إعلان فوزه مراراً في جميع الصحف وفي زجاج المكاتب، وهتفوا له متحمسين، وتنحوا مفسحين له الطريق في احترام ومحبة. وارتقى إيفان بونين الدرك بنشاط، وكان يضيئه سنا المشاعل الأحمر الخفاق. ثم أفضى من دهليز(27/58)
طويل إلى غرفة صغيرة ملاصقة للمنصة التي تعزف عليها الموسيقى عادة في القاعة الكبرى لحفلات البلاط.
وكان قد سبقه إلى هذه الغرفة زملاءه الفائزون هذا العام من العلماء الجهابذة وكلهم من الانفعال محتقن الوجه أو شاحبه، وهم بالقياس إليه في ريعان الشباب لا يكاد يتجاوز أكبرهم الخامسة والثلاثين من عمره، والى جانبهم إيفان بونين في الثالثة والستين، بشعره الأشيب، ومعارف وجهه الكهل الممطوطة النبيلة، مما جعله أروع طلعة وأكثر هيبة
ولم تكد تنقضي دقائق معدودات حتى غصت القاعة، وتوزع في رحابها كالأشباح المتحركة ألفان من المدعوين هم أعلام العاصمة السويدية، وذاك في سكون ونظام لا تشوبهما شائبة، وكانت بذلة السهرة محتمة بلا استثناء، فالرجال في الزي الرسمي والسيدات في أبهى زينة
وكانت المنصة مغمورة بضياء ناعم لين، مزدانة بأزهار لا عداد لها سويدية الموطن وردية اللون، تتخللها أزهار وأفنان غريبة المنابت مجلوبة. وفي الصدر، لصق الحائط تقريباً، يقوم تمثال نصفي للملك من الشبه يجلله العلم السويدي وأعلام الأمم التي ينتمي إليها الفائزون هذه السنة، والظاهر أن حالة (بونين) الخاصة أثارت في البداية بعض المشاغل، ذلك أن الفائز الروسي خارج على البلاشفة وفي عداد من لا وطن لهم، والسويد معترفة بالدولة السوفيتية. فما العمل؟ لو رفع العلم القيصري القديم لترتبت عليه لا محالة تعقيدات سياسية، كما أنه لا يمكن النظر في رفع الراية الأخرى برمز المطرقة والمنجل. وأخيراً قرر القائمون على الاحتفال تخلصاً من هذه الورطة زيادة علم قومي يمثل صليبا أصفر في ساحة زرقاء
وقبل بدء الحفلة بدقائق قلائل احتل أعضاء المجمع السويدي الجانب الأيمن من المنصة، أما الجانب الأيسر فكانت فيه أربعة مقاعد ضخمة، خلت مؤقتاً، وهي مخصصة للفائزين الذين يتلهفون شوقاً إلى الظهور.
دقت الساعة خمساً، ونفخت الأبواق، ودوى صوت من ركن من الأركان يتعذر تحديده:
- صاحب الجلالة الملك!
ودخل القاعة الملك جوستاف الخامس، نحيف القامة، رشيقاً للغاية، يعرفه الرياضيون في الخافقين. وفي أثره جميع أفراد الأسرة المالكة، والأمراء والأميرات قادمين من أطراف(27/59)
المملكة، وكبار رجال البلاط. فوقف جميع الحاضرين كرجل واحد، وانحنوا في احترام عميق، بينما كانت موسيقى غير منظورة تعزف النشيد القومي ويترنم معها الحاضرون أجمعون.
حتى إذا جلس الملك استوى الجميع في مجالسهم بخفة ولطف، ثم ما لبثوا أن قاموا بعد لحظة وقوفاً، وأصوات الأبواق تعزف، والسعداء الأربعة الفائزون يدخلون، وكان إفان بونين خاتمة الموكب وإلى جانبه السكرتير الدائم للمجمع السويدي. وبعد أن حيوا الملك ثم شهود الحفلة جميعاً، أخذوا أماكنهم
وهنا في الحقيقة يبدأ الاحتفال
قام أحد أعضاء المجمع، وبنظرة منه ساد الحاضرين صمت مطلق، وألقى خطاباً يعدد فيه مناقب الفائزين من جهابذة العلوم الطبيعية. ودوت الأبواق وملأت القاعة بأنغامها الجميلة. ونزل أحد العلماء الشباب الجهابذة من المنصة إلى القاعة، ودنا من الملك. فصافحه الملك مصافحة قلبية قوية، وعاد الفائز متأثراً ظاهر التأثر إلى مكانه يحمل شهادة، ونوطاً منقوشاً لتكريمه خاصة. وتعالى التصفيق عاصفاً قاصفاً. وتكرر هذا ثلاث مرات للعلماء الثلاثة. وأخيراً جاء دور بونين.
ولقد قضت التقاليد المريعة من سنوات عدة أن تعطى جائزة نوبل في الأدب آخر الحفلة. فهي ختامها. وكذلك كان الحال هذا العام. فلما أن عاد الفائزون الثلاثة الأولون إلى مقاعدهم على المنصة قام سكرتير المجمع - وهو الذي قدمه إلى لجنة التحكيم - قام في تؤدة، وأصلح في شيء من التعالم والتفيهق رداءه، وتوسط المنصة، وتلا بصوت خالجه الانفعال، ثم أخذ يتمالك شيئا فشيئا قراره وجهارته، خطابا باللغة السويدية عن القصصي الروسي، منوها بما بينه وبين تولستوي من واشجة قرابة فنية، مبينا بالتحديد الدقيق مكانته بين كبار المؤلفين الروس المشهود لهم. فلما فرغ من كلمته ترك لغته الاصلية، والتفت إلى إيفان بونين وخاطبه بالفرنسية قائلا:
- إيفان الكسيفيتش بونين، تفضل بالنزول إلى القاعة لتتسلم من يد صاحب الجلالة جائزة نوبل في الأدبالتي منحك إياها المجمع السويدي.
وكانت هذه اللحظة بالبداهة أروع اللحظات في الاحتفال وأشجاها تأثيرا. فقد قامت القاعة(27/60)
كلها على قدم واحدة من تلقاء نفسها. واجتاز إيفان بونين المنصة، رافع الرأس، ولكنه شاحب اللون من التأثر. وعزفت الموسيقى لحنا مطربا. وطفق الجمع يصفق تصفيق من فاض به شعوره وجن جنونه. وقبل أن يبلغ إيفان بونين إلى موقفه بين يدي الملك تماما كان الملك قد وقف، ومد إليه يده بأريحية عامرة بالمحبة، فانحنى إيفان بونين انحناءة عميقة أمام الملك المعظم يسمع النطق الكريم:
- (أهنئك من كل قلبي! وأني لمبتهج معك بنجاح الأدبالروسي) فأجاب الفائز وصوته لا يخلو من رجفة خفيفة:
- (يا صاحب الجلالة أرجو أن تتقبل مني أجل شعائر العرفان وأعمقها)
وعندئذ ناول الملك إيفان بونين الشهادة في غلاف نفيس، ونوطا من الذهب نقش عليه أسم المؤلف ثم صافحه مرة أخرى
هذا والقاعة لا تني عن التصفيق كأنما تساجل بحماسها الموسيقى وهي تعزف النشيد القومي.
ورفعت الجلسة، ويمم الملك وحاشيته شطر الباب في وسط التهليل والهتاف الحار. ولما أن برح الملك المكان انطلق الجميع معجلين بالخروج لانه لا تمضي ساعة واحدة حتى تبدأ حفلة العشاء الكبرى لجائزة نوبل في حديقة الشتاء بالفندق الكبير
وقد أقيمت حفلة العشاء لثلاثمائة مدعو، في منتصف الساعة الثامنة تماما. فدخل ولي العهد الملكي جوستاف ادولف إلى القاعة والى جانبه مدام إيفان بونين واتجه بها إلى حيث أجلسها في صدر الوليمة في وسط المنضدة الرئيسية. وعلى مقربة من ولي العهد جلس بونين صاحب الجائزة بين الأميرة اينجريد، والامير اوجين من أنجال الملك
والموسيقى تعزف أثناء ذلك أعذب الأنغام
وبدأت الوليمة كالمعتاد بشرب نخب الملك ثم الهتاف له عاليا. وبعد تناول العشاء الفاخر، ألقى بونين بالفرنسية كلمة استغرقت عشر دقائق. وقد طالت الوليمة وامتد بها الوقت إلى ساعة متأخرة من الليل. وفي صبيحة اليوم التالي في تمام الساعة التاسعة توجه الكاتب الروسي إلى لجنة نوبل وتسلم حوالة بمبلغ 170 , 331 كورونا سويديا، أو بعبارة أخرى نحو 8000 جنيه وهي اكبر قيمة أصابها كاتب روسي على آثاره الأدبية(27/61)
(صدقي)
مسئولية القصص عن أشخاص قصته
هل يحتمل الكاتب القصصي مسئولية ما من جراء ما ينسبه لأشخاص قصته من الأعمال والأقوال؟ يحدث أحيانا أن يتصور شخص ما انه لظروف ومشابهات خاصة هو المقصود بالتعريض والتجريح في صورة بطل من أبطال القصة، فهل يؤخذ الكاتب القصصي في تلك الحالة بما كتب؟ أجاب القضاء البلجيكي على ذلك بالإيجاب في قضية أدبية تثير اليوم في الأوساط الأدبية والمسرحية الفرنسية والبلجيكية اعظم الاهتمام
فقد ظهرت أخيرا للكاتب البلجيكي الكبير بيير اوبرمون قصة عنوانها: (تشجع يا مونترشان!) يصف فيها سير المعركة الانتخابية في إحدى نواحي الريف، فلم يمض على ظهورها قليل حتى رفعت عليه قضية من خمس أشخاص يقولون انهم عرفوا أنفسهم في أشخاص القصة وانهم هم المقصودون فيها بالتعريض والتجريح وطلبوا الحكم بالتعويض على الكاتب، فقضت لهم محكمة (هنيو) عليه بتعويض قدره واحد وعشرون ألف فرنك
وقد تناول الكاتب الفرنسي الكبير جورج دوهامل هذه المسألة في مقال يحتج فيه على هذا المبدأ بقوة ويقول: (لعلنا نلزم غدا كما ألزم اوبرمون أن ندافع أمام ثورة المتهوسين والحمقى، ثم أمام القضاء عن كتبنا ومخلوقاتنا، وأبناء عنائنا وتأملاتنا، وربما أرغمنا على أن ننكر نفس مبادئ هذا الفن الذي تغذيه الحقيقة)
(فليعلم قضاة بربان (بلجيكا) والعالم اجمع أن القصصي الحق لا يصور فلانا أو فلانة لكي يغضب أفاضل الناس، ولكنه يقصد ما هو ارفع، فهو يقدم بذلك نصيبه في تاريخ الرجل وتاريخ المرأة. فإذا صور فلانا في صورة ما، أو نسب إليه قولا ما، فانه يؤدي واجبه كشاهد، فلا تطلبوا إليه أن ينظم العالم إذا لم تسمحوا له أن يحكم على المناظر، ولا تلوموه أن يرى بوضوح وأن يسمع الحق، فإنما تؤاخذونه إذا رأى شيئا أو سمع شيئا؛
(ان جميع القضايا المماثلة قد أعيد النظر فيها على يد الجيل اللاحق، وقد أعاد النظر فيها دائما وهو يبتسم)
جائزة جونكور(27/62)
جائزة (جونكور) من أشهر الجوائز الأدبية في فرنسا لا من حيث قيمتها المادية، فهي خمسة آلاف فرنك فقط (نحو ستين جنيها)، ولكن من حيث قيمتها الأدبية. وقد نالها عن سنة 1933، الكاتب الفرنسي اندريه مارلو، وهو كاتب شاب أمتاز بروعة التصوير وقوة الأسلوب؛ وله عدة مؤلفات معظمها في تصوير الحياة الآسيوية التي درسها أثناء رحلاته في فارس وتركستان والهند الصينية. منح له جائزة (جونكور) عن كتابُه (حالة إنسانية)، فارتفع بذلك إلى ذروة الشهرة، وأضحى عضوا في (أكاديمية جونكور)
وقد انشأ هذه الجائزة الأدبية الشهيرة ادمون لوي جونكور باسمه واسم أخيه الأصغر جول جونكور. وكان الأخوان من اعظم الشخصيات الأدبية في فرنسا أيام الإمبراطورية. وكانت لهما مواهب بديعة في الكتابة والخيال فاشتغلا معا بكتابة عدة روايات تاريخية اشتهرت بقوة خيالها ودقة تصويرها. وكانت لهما آراء ونظريات خاصة في كتابة القصة ذاعت في فرنسا في أواخر القرن الماضي، وكان لها أثر عظيم في توجيه التأليف القصصي في هذا العصر، وولد ادمون سنة 1822 وأخوه جول سنة 1830، وتوفي جول سنة 1870، ولكن ادمون عاش حتى سنة 1896، وفيها وضع وصيته بإنشاء الجائزة الشهيرة، تمنح في ديسمبر من كل عام لأحسن مؤلف أدبي. ولأكاديمية جونكور التي تتألف من الكتاب الذين نالوا هذه الجائزة، والذين يمنحونها للفائزين، مركز أدبي ممتاز في فرنسا، وقد رفعت إلى سماء الشهرة عدة كتاب منهم دوديه، واوكتاف ميرابو، وبول مرجريت، وجستاف جوفردي، والإخوان روزني وكثيرون غيرهم
جائزة فيمينا
ومنحت جائزة (فيمينا) وهي أيضا من اشهر الجوائز الأدبية في فرنسا، وقيمتها خمسة آلاف فرنك إلى كاتبة هي مدام جرمين فوكونييه من اجل قصتها (كلود) ومما يذكر أن هذه الجائزة لم تمنح لسيدة منذ خمسة أعوام
الشاعر الألماني شتيفان جورج
نعت أنباء ألمانياالأخيرة الشاعر الألماني الكبير شتيفان جورج. وهو من أعظم كتاب ألمانياوشعرائها المعاصرين؛ ويعتبر في الشعر والنقد الأدبي من الطبقة الأولى. ولد في(27/63)
مدينة ريدزهايم سنة 1868. وأنشأ مجلة (صحف الفن) الشهيرة وجمع حوله لفيفا من كتاب ألمانياالبارزين. وامتاز بقوة نقده وروعة شعره؛ وأنشأ مذهبا أدبيا خاصا شعاره التحرر من قيود الماضي؛ وكان أستاذه ومثله الأعلى في التفكير والأدب الفيلسوف نيتشه. وكان لجهوده وجهود زملائه وتلاميذه اثر عظيم في توجيه الأدبالألماني قبل الحرب، وله عدة دواوين شعرية شهيرة منها (سنة الروح) و (الأغاني) (أغاني الحلم والموت) (أيام الحرب وأعمالها) الخ.
المؤرخ الفرنسي كاميل جوليان
توفي في الثاني عشر من ديسمبر المؤرخ الفرنسي الكبير كاميل جوليان عضو الأكاديمية الفرنسية بعد مرض طويل. وقد ولد في مرسيليا سنة 1859، وتخرج في مدرسة المعلمين الشهيرة (النورمال) حيث كان أستاذه المؤرخ الأشهر فوستل دي كولانج؛ وهو الذي قدر مواهبه ووجهه نحو دراسة التاريخ. وبعد أن نال شهادة العالمية، وإجازة مدرسة رومة عين أستاذ للتاريخ في كلية الآداب بجامعة بوردو، وتخصص في تاريخ جنوب فرنسا ودراسته، وأخرج عنه عدة كتب ورسائل تعتبر أعظم حجة في موضوعها، بيد أن أشهر جهوده وأعظمها هو كتاب (تاريخ غاله) الذي أنفق في وضعه عشرين عاما. وهو من أمهات كتب التاريخ الفرنسي، وانتخب عضوا في الأكاديمية الفرنسية منذ سنة 1924، ونال عدة جوائز أدبية كبرى(27/64)
دراسات أدبية
ايفان بونين صاحب جائزة نوبل في هذا العام
بقلم محمد أمين حسونة
لم يكن ايفان بونين بالكاتب المغمور أذاع صيته وأنبه ذكره في عالم
الأدبفوزه بجائزة نوبل، بل هو من أقدم الأدباء الروسيين المعاصرين،
وهو يمثل تلك العبقرية المثالية التي نعرفها في تولستوي وتورجنيف
وديستويفسكي
وقد تجلت هذه العبقرية في سمو تفكيره وفي نزعته العاتية بالحياة، وإذا كان مكسيم جوركي يتزعم اليوم الحركة الأدبية في داخل روسيا، فان ايفان بونين يتزعمها في خارجها، تدل على ذلك مؤلفاته القصصية التي نقلت إلى معظم اللغات الحية، ومركزه الأدبي الممتاز الذي يحسده عليه حتى مواطنوه.
ويعد بونين في طليعة كتاب القصة في العالم، ويقوم فنه - كما يصفه جيروم تاردو - على الابتكار والافتنان في الصورة التي بمخيلتنا، وبالأصوات والكلمات التي تطرق آذاننا، والإشادة بتلك العاطفة التي يبررها السرور المنبعث من القلب، وحيث لا تتجاوز أهمية الخير والشر غيرهما مما يحدث في الحياة.
وقد جاء بونين بفكرة كانت تعد غريبة من قبل، وهي أن الفنان يجب أن يكون إلها، لا تحاسبه إلا نفسه، فحياة الفن تتجاذبها عوامل شتى، يتحارب فيها الجميل والدميم، وليس للفنان إلا أن يسمو بفنه فوق هذه العوامل دون أن ينقاد إلى إحدى الطريقتين، وعليه أن يجعل حياته سعيدة طافية.
وتكاد هذه الفكرة التي يدين بها بونين، تبرز من خلال فنه الرائع الذي يبدو قويا في أشكال واضحة بديعة، كما إنها خلاصة أفكاره التي يطالعنا بها في مؤلفاته الخالدة، وقد كتب الجزء الأكبر من هذه المؤلفات بعيدا عن بلاده، وهي تحمل إلى جانب عاطفته المشبوبة وحبه لوطنه، طابع الإنسانية وتحقيق المثل الأعلى، وفي هذا دلالة واضحة على الحيوية الكامنة في ذهنه(27/65)
وقد اعترفت بهذا الأكاديمية السويدية وقدرت هذه العبقرية الحية فذهبت تجوس خلال العالم وتفتش في قرية صغيرة في جنوب فرنسا لتخرج منها إلى الناس الفنان الذي عرف كيف يواجه الخطوب ويصمد زمناً في وجه العاصفة فيحتفظ - برغم فاقته المادية بتلك البهجة الموسيقية التي تواتينا رنانة خفاقة، والتي أمكنها بها أن يثبت للعالم أن العبقرية الروسية لم تغرق بعد وأن كانت السفينة قد غرقت بجميع ما فيها!
ظهرت أول أعمال بونين الأدبية في روسيا، عام 1901 وهي عبارة عن مجموعة أشعار نال عنها (جائزة بوشكين الأدبية) وانتخب بعد ذلك بأربعة أعوام عضوا (بالأكاديمية الروسية) حيث جلس مكان تولستوي وجوركي ودستويفسكي وغيرهم من أعلام الأدبالروسي.
وهو يجيد الإنجليزية إجادة تامة، وقد تعلق بدراسة الأدبالإنجليزي منذ حداثته، وترجم إلى الروسية أشعار كبلنج وتينسون وغيرها من الشعراء الإنجليز
وقد فر على أثر قيام الثورة البلشفية وتسجيل اسمه في القائمة السوداء إلى فرنسا حيث يقيم مذ ذلك الوقت في قرية (جراس) التي يخلص لها الحب برغم انتفاء المشابهة بينها وبين مسقط رأسه كما يقول!
ولأيفان بونين مسحة أرستقراطية في كتابته، ويستوي في أسلوبه الغموض والإبهام احيانا، ويتسم أدبه بدقة الملاحظة واستقصاء الفكرة، وانسجام الخيال، والتواء التعبير، وإسهاب الوصف مما قد يضجر القارئ ويدفعه إلى الممل والتبرم، وهو إلى جانب هذا؛ واقعي، كثير التهكم خاصة عندما يتعرض لوصف غباء الفلاحين من أبناء وطنه كما في روايته (القرية)، واكثر ما نلاحظه في فنه (ترديده ذكر الموت، ووصف الموت وحياة العزلة وروح التصوف التي يطالعنا بها بين سطور رواياته.
وايفان بونين اقرب إلى بوشكين في آدابه منه إلى تولستوي أو ديستويفسكي، ولذا يرتسم خطى بوشكين ويعده أستاذه، ونراه يعترف بهذا فيضع تمثاله الهادئ المفكر على عتبة روايته الجميلة (سر الحب المقدس)
وقد أشار إلى هذا الناقد الفرنسي جيروم تاردوفي خطابه عن (علاقة الأدبالروسي بالأدب الفرنسي المعاصر)، وذلك في الحفلة التي أقامتها أخيرا الجالية الروسية في باريس لتكريم(27/66)
ايفان بونين بمناسبة فوزه بجائزة نوبل فقال:
منذ أن أصدر مليتور دي فوجويه كتابه عن الفن الروائي الروسي، تجلت أمام أعيننا - نحن الفرنسيين - آدابكم الخالدة، وكنا قبل ذلك في حالة جهل ساذج لا نعرف ماذا يكتبون وكيف يفكرون في بلادكم، لا نعلم بوجود تلك العبقرية النادرة التي يمثلها في بطرسبرج وفي موسكو كتاب ومؤلفون ألموا بمختلف نواحي الأدب، وكان من جراء هذا الحدث التاريخي أن تطور الأدب الفرنسي وانتحى ناحية جديدة، فهل هناك روائي فرنسي يستطيع أن يؤكد لنا أنه لم يتأثر بهؤلاء العباقرة في دائرة قوته وذوقه الأدبي
(لقد جاءنا تولستوي بأشياء كانت مجهولة عند أمثال موباسان وفلوبير وستندال، وهي أنه من المستطاع تشييد عمل فني حول مشكلة أخلاقية، وعلمنا دستويفسكي أن في الإنسان شيئا آخر غير الشعور العام الذي أوضحه الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر، بل أنه يوجد في كل فرد منا عالم خاص من الشعور الغامض المظلم دفعنا دستويفسكي إلى أن نستكشفه ونتبينه، أما دروس تورجنيف فلم تكن ثمينة إلى هذا الحد، لانه كما يظهر تتلمذ على الأدبالفرنسي ولكن فنه الرائع كشف لنا عن عقليتكم وشعوركم وطبيعتكم.
(وإلى جانب هذه الأسماء العظيمة، يجب أن أضيف اسما آخر، فليس كتاب دي فوجويه وحده هو واسطة التعارف التي بيننا وبين هؤلاء الكتاب، فهناك بريميه الذي يحدثنا عن بوشكين ذلك الفنان الملهم والشاعر الروسي المحبوب، الذي اتضح لي بعد قراءته أن هناك صلة وثيقة بين فنه وأدب ايفان بونين، ذلك الفن الذي يذكرنا - نحن الذين تسممنا بأفكار علماء النفس وعلماء الوعظ - بأنه لا حاجة بنا مطلقا إلى خلط الخير بالشر)
كتب ايفان بونين إلى الآن نحو عشر روايات كلها تفيض بالنزعة الانسانية وتحقيق المثل الأعلى، منها: كأس الحياة، والليل ورجل من سان فرنسسكو، وسر الحب المقدس، ثم (القرية) التي يقول عنها مكسيم جوركي إنها (خير ما كتبه الروائيون عن الفلاح الروسي) والتي أنصف فيها بونين هذا الفلاح - الذي لم تغيره النظم الحالية - خير إنصاف، لأنه إذا كانت القيصرية قد ظلمته، فان البلشفية غمطت حقه وازدرته في الوقت الذي شادت فيه ورفعت من شأن العامل هناك.
وقد أخرجت المطابع في الفترة الأخيرة، رواية بونين الخالدة (حياة ارسنيف) ومن المؤكد(27/67)
أنه نال بها وحدها (جائزة نوبل)، وقد وصفها أحد النقاد بأنها عبارة عن حياة بونين نفسه، ولكن بونين يدفع هذا يقول:
ان (حياة ارسنيف) تشبه إلى حد ما تاريخ حياتي، ولكنها في نظري اقرب إلى الرواية الحقيقة، ومع ذلك فإني إذا كتبت فإنما استقى فني من ذاكرتي، وهذا ما يجعل بعضهم يظن أني سردت تاريخ حياتي في هذه الرواية. ومما يشجعني على العمل أن المرئيات التي صقلت في ذهني بمرور الزمن هي التي تدفع بي دائما إلى ترديد ذكريات عن الطفولة والشباب والكهولة.
(ويمكن لأي كاتب تعرض لنقد (حياة ارسنيف) أن يطلق عليها اسم (حياة دورانت) أو (حياة ديبون) أو حياة أي شخص آخر، فهي حياة فقط، وحياة رجل في دائرة ضيقة جاء إلى العالم يبحث عما كان بين الملايين من لداته، فهو يعمل ويشقى ويحب ويريق دمه ويجاهد من أجل سعادته فينهض أو يرزح تحت حمل الحياة).
وليس لايفان بونين اتجاه أدبي آخر، بل هو يردد ما سبقه إليه جيته عندما سئل من أنت؟ فأجاب: لا أعلم. . . وأنا سعيد بذلك، فأنا رجل حر وحسب. . . نعم إنني لست جيته، لكنني رجل حر مثله، ومحب لمهنتي، برغم الصعوبات المحيطة بها، إذ إنها تتيح لي حرية العمل والإنتاج وحرية امتلاك نفسي، وقد سافر بونين في أوائل هذا الشهر إلى استكهلم حيث تسلم جائزة نوبل، وسيعود بعد ذلك إلى قرية (جراس) التي ينوي إلا يتركها حتى ينتهي من كتابة الجزء الثاني من (حياة ارسنيف).(27/68)
العلوم
البحوث الروحية
للأستاذ عبد المغني علي حسين خريج جامعة برمنجهام
هل يصل العلم الحديث إلى استنباط وسيلة للتخاطب مع أرواح الموتى؟ لا مبرر للقول بأن هذا مستحيل. ويكفي أن نستعرض تاريخ العلوم في العهد الأخير لنرى كم حققت لنا من ضروب المستحيلات. فإذا امتد أجل المدنية الحاضرة، وواصل رجال العلم بحوثهم في هدوء واطمئنان، فقد يتحقق على أيديهم كل حلم وخيال، بل وما لا يخطر ببال.
قد يقال أن العلم الحديث لا شان له بالأرواح. لأن اختصاصه ينحصر في المادة ومحيطها. ولما كانت الأرواح غير مادية فهي من العلم كالثريا من سهيل
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني.
هذا القول يبدو صحيحا في ظاهره. ولكن الواقع أن عددا كبيرا جدا من البحوث العلمية في الوقت الحاضر يتعلق بأشياء بعيدة في ذاتها كل البعد عن المادة. خذ المجال المغنطيسي مثلا. فهو عبارة عن دوائر في الأثير تحيط بقطعة الحديد الممغطسة. دوائر غير مادية في وسط غير مادي. خذ أمواج الرديو ومويجات الحرارة والضوء وأشعة أكس، كل هذه أيضا ظواهر غير مادية في وسط غير مادي.
قد تسلم معي بأن هذه الظواهر في ذاتها غبر مادية، ولكن تقول أن يد العلم لم تكن لتصل إليها إلا عن طريق تأثيراتها في الأجسام المادية. فالمجال المغنطيسي غير المحسوس لم يكن العلم ليعترف بوجوده لولا تحريكه لقطع الحديد وأدارته لإبرة البوصلة. وأمواج الأثير لم يكن العلم ليقر وجودها لولا تأثيرها في آلات الراديو أو في الألواح الحساسة. فالعلم أذن لن يعترف بوجود الأرواح المجردة عن المادة إلا إذا استطاعت التأثير في جهاز مادي.
هذا صحيح. ولابد للأرواح المجردة قبل أن تصبح حقيقة علمية من أن تحدث أحداثا محسوسة ظاهرة. وهذا هو السبيل الذي سلكه (سر ألفر لدج) ومن قبله (سر وليم كروكس) و (الفرد رسل ولاس) وحاولوا منه إثبات وجود العالم الروحي إثباتا علمياً، ثم العمل على الاتصال به بوسائل علمية في متناول كل إنسان.
فما هو الجهاز الذي ركبه أولئك العلماء وهيأوه لتستخدمه الأرواح؟ أنه مع الأسف ليس(27/69)
بآلة حديدية أو خشبية أو زجاجية، وليس مما يصنع أو يباع. هذا حلم لم يتحقق بعد، وأن لم يكن مستحيلاً. الأرواح لا يناسبها إلى اليوم غير الجهاز المخي العصبي العضلي وهو الجسم البشري. ولذلك لا تستطيع أن تتصل بنا إلا باستخدام جسم بشري لشخص يسمونه الوسيط.
فما هو الوسيط؟ وهل يستطيع كل إنسان أن يكون وسيطاً؟ أم هل الوساطة وقف على أفراد معينين؟ يقولون أن الوساطة صفة مجهولة السبب. وأنها من ضروب العبقرية، كالقدرة على الغناء الشجي عند المغني الموهوب، وكالبراعة في الشعر عند الشاعر الفحل. وكما أن كل واحد منا لا يستطيع أن يكون مغنياً أو شاعراً ممتازا، فكذلك لا يستطيع كل منا أن يكون وسيطا. والوساطة كالغناء والشعر متى وجدت بذرتها في الشخص يمكن تقويتها وتغذيتها وإنماؤها بالتعليم والمران، كما يمكن أضعافها وأماتتها بالإهمال والكبت والانصراف عنها إلى غيرها. وهم يقولون أن الوساطة موجودة في عدد من الناس أكبر بكثير مما نتوقع، ولكنها تهمل في الأغلبية العظمى من الحالات. فتموت من تلقاء نفسها إذا كانت ضعيفة، وتحسب شذوذا نفسانيا أو خلقيا أو مرضاً عصبيا إذا كانت قوية
الوسيط كعامل التلفون تذهب إليه وتطلب منه أن يصلك بالعالم الآخر فينيلك ما تريد. كيف يقوم الوسيط بهذا العمل الغريب وعلى أي صورة يؤديه؟ الوسطاء يختلفون في أداء مهمتهم، فمنهم من وهب القدرة على الكشف البصري فهو يرى الأرواح كما يرى الأشباح. ومنهم من لديه خاصة الكشف السمعي فهو يسمع حديث الأرواح وينقلها إلى الأحياء. ومنهم من تستولي الروح على يده وتكتب بها ما تريد دون أن يكون لفكر الوسيط دخل فيما يكتب. ومنهم من يغيب عن رشده ويسلم جسمه كله للروح فتستخدمه كما كانت تستخدم جسمها في حياتها الأرضية.
والوسيط يتناول بطبيعة الحال أجرا لقاء ما يؤدي للناس من خدمة يصرف فيها الوقت والمجهود. لأنه ككل الناس لابد له من أن يعيش. بل هو جدير بالأجر الحسن والعطاء السخي. ولكن أنى لنا أن نثق بصدقه ونطمئن إلى صحة دعواه الخطيرة. ولم لا يكون محتالاً ماكرا يعيش بالادعاء على الموتى وتغفل الأحياء.
لا شك أن مجال الاحتيال واسع في هذا الميدان، وهناك حتما مدعون للوساطة يكسبون من(27/70)
خدع البسطاء عيشا سهلا. ولكن هذا الصنف في الغالب يعمل في الخفاء، وينفرد سرا بالسذج والأغبياء. أما القول بأن وسيطا يزاول عمله في جمعية علمية سنين متوالية ويجتمع به كل يوم رجال أذكياء اعتادوا البحث العلمي المنطقي المنتظم يكون مدعيا ومحتالا، فقول بعيد جدا عن المعقول وهو مرفوض بالبديهة.
الواقع أن جمهور العلماء اليوم يعترف بوجود أفراد لهم مواهب نفسانية غريبة تمكنهم من أن يدلوا إليك بمعلومات جمة عن نفسك وأسرتك، ومن مات من معارفك، مما يستحيل أن يكون قد وصل إليهم علمه من طريق طبيعي معتاد، والخلاف بين العلماء ينحصر في تعليل هذه الظاهرة، وهل هي اتصال بكائنات حية غير منظورة مما نسميه الأرواح أم لها سبب آخر
هناك تعليل آخر يصح أن تعزى إليه هذه الظاهرة وهو قراءة الأفكار أو ما يسمونه بالتلباثي فقد ثبت بالتجارب العلمية الصحيحة أن بين الناس من يستطيع استطلاع ما في فكر الآخرين دون أن يحتاج في ذلك إلى إشارة أو لفظ. وقد اجرى العلماء في ذلك تجارب عديدة، فإذا طلب من أحد الحاضرين حصر فكره في شيء معين استطاع هذا الموهوب بعد فترة من السكون أن يعرف ذلك الشيء، فيمكن القول أذن بأن ما يدلى به الوسيط وينسبه إلى الأرواح يحصل عليه كله من أفكار الحاضرين.
ولكن الوسيط يدلي أحيانا بمعلومات ليست في ذهن أحد من الحاضرين في ذلك الوقت، فكيف نعلل هذا؟ يكمن تعليله بأن الوسيط يقرؤه من العقل الباطن لأحد الحاضرين. إذ لكل إنسان عقل باطن تستقر فيه ذكرياته وكل ما مر به مما لا يفكر فيه في وقته الراهن. فلعل لدى الوسيط القدرة على ولوج هذه الناحية العجيبة من العقول ليستخرج ما يشاء منها كلما شاء.
ولكن ما قولنا فيما يدلي به الوسيط أحيانا مما لا يمكن أن يكون قد مر بذهن أحد من الحاضرين يوما ما؟ أن الوسيط ينسب أصله إلى الأرواح التي تخاطبه، فهل نسلم معه بهذه الدعوى الخطيرة، ونتخذ من ذلك دليلا علمياً على صحة وجود العالم الروحي والحياة الآخرة؟ أن بعض العلماء يميل لهذا الفرض. . ولكن البعض يميل إلى فرض آخر وهو القول بأن الميت أثناء حياته كان قد فكر فيما ينسبه إليه الوسيط فانتقلت أفكاره إذ ذاك إلى(27/71)
عقول الأحياء بطريق التلباثي واستقرت في عقلهم الباطن، ثم استطاع الوسيط أن يستخرجها من عقلهم الباطن بطريق التلباثي.
أي الفرضين يا ترى هو الصحيح؟ أظن أن الفرض الثاني هو محاولة بعيدة وتعلق بالقش لإنقاذ الفلسفة المادية من الغرق بعد أن غاصت تحت الماء.
سنواصل هذا المبحث الواسع المتشعب في فرص أخرى أن شاء الله.(27/72)
تأزين الهواء
دخل الشتاء وبدخوله تسد المنافذ وتغلق الأبواب منعا للبرد، وتزدحم الحجر بالناس طلبا للدفء، فيفسد هواؤها وتسوء رائحتها ويثقل جوها، ويعتري أهلها استرخاء وهمود، فإذا سألتهم عن سر هذا قالوا: فسد الهواء، وإذا سألتهم عن علاجه قالوا فتح الشبابيك، وهم في تسبيبهم وتطبيبهم مصيبون، ولكنها إصابة مبهمة أدركتها الفطرة دون العلة، وساقتهم إليها البديهة التي لا يعرفون لها سببا
زعم الفسلجيون يوما أن إخمام الحجر وثقل جوها يرجع إلى سببين: أولهما زيادة غاز الكربون في الهواء بالتنفس، وثانيهما زيادة حرارة هذا الهواء. وكلاهما علة خاطئة حسب ما أجمع عليه علماء اليوم وذلك أن غاز الكربون يوجد في الهواء الطلق العادي بنسبة جزء من كل 1100 جزء من الهواء، وقد أجروا تجارب على الإنسان فوجدوا أنه يستطيع العيش بلا ضيق ولا تأفف في هواء نقي يحمل 3 % من غاز الكربون، أعني يحمل ثلاثين قدرا مما يحمل الهواء الطلق. كذلك وجدوا أن الإنسان يستطيع المكث ساعات في الحمامات العامة الحارة المسماة بالتركية، دون أن يحس بشيء مما يحس به في الغرف الخامَّة المزدحمة بالخلق، بل على النقيض هو يستمتع بدفئها وقد تبلغ حرارتها الخمسين
السبب الأول في اخمام الحجر ليس غاز الكربون، وليس ارتفاع درجة الحرارة، وأن كان لهما حظ في تسبيبه فهو حظ ضئيل لا يتناسب مطلقا مع شائعة السوء التي شاعت عنهما. إنما يرجع سبب هذا أو أكثره إلى دقائق صغيرة من مواد عضوية تنبعث في الهواء من الرئتين والجسم على السواء، دقائق ولكنها فعلها جسيم، فهي مواد سامة مهيجة تُعلِ الهواء فتحدث في الجسم علة مبهمة يعبر عنها باختلال المزاج. ولهذه المواد فوق ذلك فعل في الجهاز العصبي. فهي تسكنه وتمهده، وبخاصة بسبب ما تحمل من رائحة كريهة، وبتفتر الجهاز العصبي يعجز الجلد عن أداء وظائفه التي منها تبريد الجسم، وعندئذ تكون حرارة الحجرة ضغثا على ابالة، تزيد في ضيق الإنسان وحدة مزاجه
وعلاج هذه الحالة هو بالطبع في التخلص من هذه المواد، وأيسر طريق للتخلص منها في حيز محدود يكون بأكسدة هذه المواد لتستحيل إلى أجسام أبسط لا ضرر فيها. وهذه طريقة الطبيعة ذاتها في التخلص من هذه المواد، فهي تستخدم الأزون لأكسدة هذه المواد. وهو غاز تصنعه الطبيعة من أكسجين الهواء، وهو يتكون فيها كلما تبخر ماء أو تكهربت سماء،(27/73)
لا تلك الكهربة الصامتة التي تحدث البرق والرعد، بل تلك الكهربة الصامتة التي تتفرغ بين السحاب والسحاب ولا يحس بها أحد. وهذا التفرغ الصامت للشحن الكهربائية هو الذي يستخدم في تأزين الهواء في الصناعة، أي بحالته إلى أزون، وهو عمل أشبه شيء بالتكثيف، فجزيئ الأكسجين يتركب من ذرتين من الأكسجين، أما جزيئي الأزون فيتركب من ثلاث ذرات، وهو لذلك ليس له استقرار الأكسجين، فهو لذلك فعال، لا يلبث أن يلتقي بأمثال تلك السموم التي نحن بصددها حتى يهاجمها فيعدمها، لا يعدمها بالمعنى الدراج، بل هو يحيلها إلى ما لا ضر فيه
وقد وجدت الصناعة في هذه الأيام واهتمت حتى بهذه الناحية، بإصلاح الهواء بعد فساده دون فتح النوافذ والتعرض لأخطار الهواء البارد والتيار اللافح الباغت، فخلقت مؤزناً سهل الحمل تضعه في حجرتك أو مكتبك أو صالة استقبالك أوفي أي مكان به رئات عديدة جادة في التنفس، وتصله بمنبع الكهرباء من الحائط، فيتؤزن لك الهواء فيظل مع انحباسه طاهرا نقيا. وهو فوق ذلك جهاز رخيص، فهو يعمل 200 ساعة ولا ينفق غير وحدة من الكهرباءة واحدة
(ز)
استدراك
فاتنا أن نذكر الجمل الشارحة تحت الأشكال الثلاثة التي نشرت في العدد الأخير بموضوع (في النبات وحشية وأنيسة) للدكتور أحمد زكي، واستدراكا لذلك ننشر هذه الجمل ليرجع إليها قارئ المقال في فهم هذه الأشكال. يكتب تحت الشكل الأول (طريقة حصاد القمح الأمريكي. بالآلات في ولاية وشنطون) وتحت الشكل الثاني (إناء جنائزي في شكل بطاطستين من قبر في شنبوطي في بيرو بأمريكا الجنوبية) وتحت الشكل الثالث (آله الذرة عند أهل بيرو القدماء وكان يدفن في الحقل وسيلة لنمو المحصول. وهو يصنع من مطر الذرة (كيزان الذرة))(27/74)
القصص
الحقيقة
للآنسة سهير القلماوي ليسانسييه فى الآداب
(هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟)
(قرآن كريم)
تململت في فراشها وظلت تنظر ذات اليمين وذات الشمال ثم تغمض عينيها وتفتحهما ثانية وتفكر أين هي هيه. . . أين هي؟. . . آه! هي في المستشفى، وقد جاءت إليها منذ أيام؟ منذ أسابيع؟ منذ شهور؟ لا تدري. ولكن لم جاءت؟ يقولون إنها مصابة بمرض عقلي أنهك أعصابها. وحياتها في خطر من جرائه. ها ها! مضحك! أهذا كل ما في الامر؟. . . ولكن أين أختها؟ لقد كانت جالسة هنا منذ حين، ولقد أوصتها أن تكتب كل ما تمليه عليها، ولكن الظاهر انه لم يكن هناك ما يملى فقامت. وضحكت ضحكة عصبية عالية. ها ها! الساذجة! إلا تدري إن رحلاتي في عالم الأرواح اصبح يحوطها جو من غريب، جو يقبض الأنفاس فلا أستطيع التحرك ولا التكلم ولا. . . ولا التفكير. . ترى هل أوفق؟ أعينيني أيتها القوى الخفية، أعينيني، ارحميني، فما في مطالبي إجحاف ولا ظلم ولا طمع. كل ما أريده هو أن اعرف الحقيقة.
دخلت الأخت ودلائل السهر بادية عليها: اصفرار في الوجه، وورم في العينين، وخمول ووهن في الأعصاب.
(أين كنت؟ آه من لي بهذا الاطمئنان، بل هذا البرود الذي يسود حياتك. أنت لا تعرفين عما أريد أن أعرف شيئا، ومع هذا أنت لا تأبهين بشيء. إيمان مطلق وهدوء تام. ثم هؤلاء الأولاد، أولادك ماذا علمتهم عن الحياة، عن الموت، عن الله، عن الحساب، عن الروح. . . لا شيء، لا شيء، لأنك لا تعلمين شيئا، ولا تردين أن تفكري لتصلي إلى شيء)
(كفاك أختاه ما أنت فيه من وهن الأعصاب. أريحي رأسك قليلا. لقد شغلت هذه المسائل رؤوس آلاف الناس قبلك، وستشغل رؤوس آلاف الناس بعدك. ولن يوفق إليها أحد لأن الله أراد ذلك، وإرادة الله ليس لها مرد.) فصاحت فيها(27/75)
(لم بنه الله عن البحث والتفكير، ولم يأمرني إلا اعرف شيئا عن هذه الاشياء، اقتربي هنا، ماذا كتبت؟ لا لا أريد شيئا من هذا، اكتبي ما أمليه عليك كله، اكتبيه رسالة مني إلى أهل هذا العالم كلهم، سأعرف الحقيقة اليوم، ستقودني إليها قوة خفية لا أعرف عنها شيئا الآن ولكني سأعرفها بعد حين. إياك أن تفوتك كلمة واحدة أو إشارة واحدة. أفهمت؟)
(نعم اختاه، سأكتب كل شيء)
لقد كانت دائمة الصمت كثيرة التفكير. اتسعت دائرة تفكيرها على مدى الأيام حتى شملت اعوص ما فكر فيه الإنسان وأغمضه. ولم تصل إلى العشرين من عمرها إلا وشغل تفكيرها هذا الكون بما فيه من قوى خفية. قوى تتلاعب بالإنسان كيفما شاءت، وهو لا يدري من أمرها شيئا. يحاول ويحاول ولكن سرعان ما يعرف ضآلة المرحلة التي اجتازها أمام ذلك الخصم المظلم من الأسرار والخفايا.
أشفقت عليها أمها مما هي فيه، وحاولت أن تدخل إلى تلك النفس المفكرة الصامتة الحزينة بعض ما يسليها أو يريح فكرها، ولكن نصيبها كان الفشل المؤلم.
وهاهي ذي الأيام تجري سريعة والأم يزداد اشفاقها، وخوفها والفتاة يزداد نحولها وضعفها، ويزداد احتقارها لكل شيء في العالم إلا ما تفكر فيه. كل متعة تنظر إليها كما ينظر الشاب إلى ألاعيب صباه، وإذا ما رغبها أحد في أي لذة أو سلوة هزت كتفيها وقالت:! (لست أدري ما هذه السذاجة؟ لقد القي إليكم مدبر هذا الكون بهذه الألاعيب لتلهوا بها عن اللذة الكبرى: لذة العلم، لذة معرفة الحياة وما بعدها.)
ساءت حالها على مر الأيام فأرغمت على ملازمة الفراش في مستشفى الأمراض العقلية، ولكن ذلك لم يمنعها من مواصلة التفكير. وكثيرا ما قرأت في كتب الدين، وكثيرا ما قرأت القرآن، تقف عند بعض آياته فتسترسل في التفكير العميق، وكثيرا ما وقفت عند الآية (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) وحملت الآية أكثر ما يمكن من معاني الاستهزاء والسخرية (وهؤلاء الناس لا يعلمون شيئا، ولكنهم لا يجتهدون في أن يعلموا شيئا. قنعوا بما لهم وفسروا العلم بتلك المحاولات التافهة التي يقضون العمر في تحصيلها وكأنها هي العلم، لقد انشغلوا عن العلم الحق، عن أهم ما يتشوقون إليه. لقد خدعوا أنفسهم والبسوها ثوبا من الإيمان والاطمئنان وهم يعلمون في قرارة نفوسهم انه ليس إلا مبردا للنار المتقدة،(27/76)
وملطفا لهذا التطلع الغريزي)
جلست الأخت قرب سرير أختها وأخذت تلاحظها وتدون بعض هذه الملاحظات، وانتظرت والقلم في يدها أن تكتب ما تمليه عليها كما وعدت، ولكن النعاس غلبها فنامت. لم يطل نومها حتى قامت فزعة مذعورة على صوت أختها المحشرج وهي تصيح صيحة منكرة قائلة (لن تفتر عزيمتي مهما سرت، فسر بي أيها النور، سأتبعك، سأتبعك فوق الجبال، في أعماق الانهار، في السماء، في جوف الأرض تعلو وتنخفض ولكني اتبعك. لن ارجع كما رجعت قبل يوم، ولن انظر إلى نفسي فتشغلني عنك، سر أنا وراءك.)
كتبت الأخت واستمرت هي تقول (بدأت افهم، نعم عرفت، ولكني لا أقوى على التعبير عما اعرف، لماذا!؟. . . . كلا لن أفكر في هذا، سر، سر، أيها النور إني وراءك، آه ألهذا إذن نموت ولهذا إذن نحيا، نعم ولهذا يجب إلا نعرف، فهمت، عرفت، ولكن يجب أن اعرف أشياء اخرى، يجب أن اعرف السر الأعظم سر سر، إني وراءك.)
(نعم لقد عرفت كل هذا ايضا، ولكن كيف أعبر عنه؟ فلأحاول فلأحاول، لا، لا أقوى سأعبر عندما أعود إلى هذا، إلى ماذا اسميه؟ إلى هذا الملعب، إلى روضة الاطفال، إلى ما يسمونه العالم. ها! ها!
(لقد أعياني السير، أما آن لي أن اعرف الله، أن اعرف القوى المهيمنة على كل شيء، على كل ملاعب الأطفال هذه، ما اكثر عددها وما اشد اعتداد كل منها بنفسها! كأن ليس هناك سواها. لقد عييت، ولكن كلا كلا، سأسير، سر إني وراءك. . .
(رهبة شلت حواسي، لقد امتزج هذا النور الذي انبعه بالظلام حوله، ولقد كانا قبل يزيد كل منهما في قوة الآخر. . جو غريب لا هو ظلام، ولا هو نور، شيء ثقيل ينزل على رئتي، الكلام عسير، والتنفس شاق. . . . .
ستار هائل عظيم أمسكت بطرفه يد خفية. سيزاح هذا الستار دون شك ووراءه الحقيقة الكبرى. كل ما في ينبض بذلك. ازداد الثقل على رئتي. . . لا أستطيع التكلم، الستار يزاح، التنفس عسير عسير، لقد قضي كل شيء، سأعرف سأعرف، سينزل الستار، هو ينزل بالفعل قليلا. . قليلا، سأعرف سأعرف، قليلا، بطيئا، لقد عر. . . فت. . . . آه.
ودوت صرختها قوة كالرعد مرعبة محشرجة، ثم ساد الصمت، صمت عميق، عميق(27/77)
رهيب مخيف، وقفت الأخت عن الكتابة فزعة مذعورة ولكنها لم تقو على تحريك رأسها ناحية أختها المريضة، حاولت أن تنادي فلم تفلح، وأخيرا أدارت رأسها فصرخت هي الأخرى صرخة مروعة، أمامها عينان جاحظتان خيل إليها انهما فصلتا من الرأس، وانهما كل شيء على الفراش. وحولهما عروق نافرة زرقاء متوترة مشدودة أغمضت عينيها وفتحتهما مرة ومرتين، وأخيرا استطاعت بعد لأي أن تمد يدها لتلمس الجسد أمامها، فردت يدها قشعريرة شديدة مكهربة، ودوى صوت هائل رن في أذنيها. تبينته فإذا هو ضحك استهزاء، ضحك غريب الصوت متواصل، وكأن آت من عالم آخر، ليس لها به عهد، ضحك، بل إغراق في الضحك، ثم ماذا؟ صوت كلمات، صوت هادئ رزين ولكنه مسموع برغم هذه الضحكات الهازئة العالية المتواصلة. ماذا يقول؟ ماذا؟. (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟)
سهير القلماوي(27/78)
وجه صالح للسينما
للكاتبة الألمانية فيكي بوم مؤلفة (الفندق الكبير)
كانت من المصادفات النادرة الوقوع أن شاهد جوهانس فيليب المخرج السينمائي، من خلف الصحيفة التي كان يطالع فيها وهو في عربة الترام. تلك المرأة العجوز الجالسة أمامه فإذا بجسمه يضطرب اضطرابا ظاهرا وإذا البرودة تسري إلى أطرافه.
كانت هذه المرأة، واسمها دريجالسكي - المادريجالسكي - من اللاتي تراهن فلا تستطيع أن تقدر لهن عمرا، تراها فكأنك ترى تمثالا للشقاء والبؤس، وكأنها الفقر عاريا متجردا في صورة إنسان
ولم يكن شعرها الذي فقد لونه المنسدل حول وجهها النحيف الشاحب هو كل ما أثر في نفسه؛ بل أثرت فيها تلك التجاعيد التي لا عد لها والتي تملأ وجهها، تجاعيد حول فمها الغائر، وتجاعيد خطت سطورا متقاطعة فوق جبينها، وحفر قاتمة مظلمة تحت عينيها، اثر في نفسه منظر يديها النحيلتين اللتين برزت عظامهما ممسكتين كيسا من الجلد وضعت فيه ما أحضرته من السوق، وحذاؤها الذي لم يبق منه طول العهد غير الأثر، ثم تلك الأسمال النظيفة البالية التي ترتديها.
لكن أشد ما تأثرت به نفس المخرج السينمائي هو ما بدا على المرأة من إهمال وقلة مبالاة، وملامح اليأس والتعس والقنوط التي تنم عليها عيناها تحت حاجبيها النحيلتين
وأغمض عينيه لحظة ليخفف الأثر الذي فعلته في نفسه، وهنا في تلك اللحظة - مر خاطر بباله، وكأنه يرى امامه، منظر الجماهير المحتشدة في أحد المناظر التي يعدها للشريط السينمائي الجديد الذي اعتزم إخراجه ويريد أن يضع له عنونا: صرخة من (الأعماق)
وخيل إليه انه يرى جمعا من النساء، وكأن كل واحدة منهن تشبه تلك التي امامه، رآهن جميعاً يتزاحمن ناحية سلم كبير وكأن بينهن تلك الجالسة أمامه الآن، إلا إنها انتحت بعيدا عنهن جميعا ثم سارت يبدو عليها البؤس والأسى
وفتح المخرج السينمائي عينيه، وذكر انه في عربة الترام، فقام من مجلسه وتقدم نحو المرأة قائلا
- هل لك يا سيدتي أن تحضري يوما إلى الرجل الذي أعطيك عنوانه الآن؟ وأحسبه يدفع(27/79)
لك أجرا طيبا.
ومرت فترة حتى بلغت كلماته إدراك دريجالسكي، ولكنها لم ترفع إليه بصرها برغم إنها فهمت ما يريد، وربما كانت متعبة فلم تستطع أن تجلي فيه بصرها، أو حال الألم البادي في عينيها دون أن تنظر إليه، وأخيرا فتحت فمها المطبق وقالت:
- أأعمل عمل غسالة؟
- كلا، بل عمل سهل واجر طيب، وسوف يشرحون لك كل شيء إذا ذهبت إليهم، وأجابت وقد اهتزت عربة الترام فكادت المرأة تسقط من مقعدها
- أسمع!. . أني كنت أغسل. . وكنت أتناول سبعين (بفننج) اجر ساعة واحدة في اليوم، ولكن هذا العمل قد انتهى الآن، والمحل الذي كنت اشتغل فيه أغلقت أبوابه. . . على أي حال افضل أن أكون غسالة.
- لا أظنك سعيدة في حياتك؟. . .
وبعد أن توقف قليلا، قالت:
كانت الأمور سائرة سيرها الطبيعي قبل تلك النوبات التي أصبحت تنتاب زوجي، نوبات فظيعة تصيبه فيستحيل وحشا حتى ليعجز أربعة رجال عن تهدئته ووضعه في فراشه، وهو عاطل لا يعمل. . . ينام أغلب وقته. . . ولكن حين تعود إليه النوبة!. . .
كان عاملا في مصانع بوش وزابيش، فسقطت قطعة من الحديد فوق رأسه. . . غير أن الطبيب يقول ليس هذا وحده ما سبب له هذه النوبات. . . بل لأن زوجي كان سكيراً. . . ربما أصاب الطبيب. . . كذلك ولدي، عقله غير كامل. . . لسوء حظه. . . لم يكن بهذا القدر من السوء وهو صغير، كان يجلس هادئاً فوق مقعده الصغير، فلما بلغ السادسة عشرة أصبحت تصيبه نوبات شديدة. . . وذلك من سوء حظه أيضاً. . . فأنا التي أقوم بكل ما يحتاج إليه البيت.
من عهد قريب كنت سائرة في الشارع فسقطت على الأرض. . . ونقلت إلى أقرب محل للإسعاف. وقال الطبيب. إنها ليست مريضة إنما قلة تغذية. . . ماذا تفعل بضعة دريهمات أمام أجور الغاز. . . وأجرة البيت؟
كانت تتكلم بصوت ضعيف خافت كأنها تخاطب نفسها، وانحنت قليلا فوق الكيس بين(27/80)
يديها. لا بأس. . . إذهبي وقابلي الهر ثوربج فقد يصلح حالك فيما بعد، وألح عليها في الذهاب ما استطاع، ثم ترك العربة وهزت دريجالسكي رأسها وهي تفكر كيف يمكن أن يصلح حالها.
وهكذا بدأت المادريجالسكي مجدها السينمائي العظيم
ومضت إلى استوديو (هالفا) وكأنها شبح ينتقل في هيكل من عظام، وسألت عن هر ثوربج - رناتس ثوربج. كاتب السيناريو الذي كان شاعراً قبل أن يشتغل بهذا الفن.
وكاد ثوربج يجن فرحا ودعا إليه غيره من زملائه وقد شاركوه إعجابه. أما دريجالسكي فظلت واقفة وسط الغرفة دون أن تدرك شيئا ومع ذلك لم يبد عليها اثر من الدهش فقد علمها الشقاء إلا تأبه لشيء
وطلب إليها أن تسجل أسمها لدى الكاتب المختص بذلك في الأستوديو، وذكروا لها إنها ستتناول عشرة ماركات في اليوم،
فكان كل ما بدأ عليها إنها عجزت عن تصديق ذلك.
كان الأستوديو غاصا بنساء كثيرات يرتدين أسمالا كتلك التي ترتديها دريجالسكي، وحول عيونهن تجاعيد كتجاعيدها إلا إنها تجاعيد زائفة من دهانات وأصباغ. وألقوا بها بين الأخريات فكانت بينهن كأنها ليست منهن، بوجهها الطبيعي وسط الوجوه المصبوغة بالطلاء وشقائها الحقيقي الذي لا تمثيل فيه. وأثرت الأضواء القوية في عينيها حتى سالت منهما الدموع.
وفي الساعة الواحدة كانت واقفة تحت مصباح كبير بين النساء الأخريات، وصاح رجل كان واقفا فوق منصة عالية طالباً منهن جميعا أن يرفعن رؤوسهن ويلتفتن إلى جهة أشار إليها. . . وكان هذا آخر مناظر الموقف.
وذهبت جميع النسوة إلى مطعم الأستوديو إلا دريجالسكي فلم تشاركهن، بل انتحت ناحية بعيدة وجلست فوق مقعد تأكل قطعة من الخبز أخرجتها من كيسها. وثوربج لم يحول بصره عن هذا الجسم الذي يبدو كأنه بقية إنسان. . . وهو يفكر - لو أنه ظل شاعراً لنظم في صورتها قصيدة رائعة، أما وقد أصبح مؤلفا للسينما. . .
وحان وقت العمل للتصوير فعادوا جميعا، واستمر العمل حتى كانت الساعة الثامنة مساء،(27/81)
والمخرج واقف فوق سلم أمام النسوة، ومن ورائهن رجال آخرون يلقون عليهن الأوامر من الأبواق المكبرة للصوت. وأخيرا أمرهن أن يسرن إلى الأمام.
وقيل لدريجالسكي أن تبتعد عن زميلاتها، وأن تتقدم وحدها لتصعد السلم، وأن تفعل ذلك حين تسمع كلمة: (الآن! سيري.) وما عليها إلا أن تسير في مشيتها الطبيعية المعتادة، وحين سمعت الإشارة تباعدت عن زميلاتها وسارت ثم رفعت يدها لتحجب عن عينيها النور الذي اثر فيهما، فلم تعد تبصر شيئا. . . والمصور واقف فوق منصته يدير آلة التصوير وقد أخذ الإعجاب كل مأخذ منه، فكان يصيح: ما اعجب هذا!. . ما أبدع هذا!. .
وقال ثوربج لدريجالسكي قبل أن تمضي تعالي غدا لأخذ منظر آخر، وصورت في اليوم التالي وهي تحمل طفلا، وصورت في اليوم الثالث ثم قدموا لها ثلاثين ماركا!
وسألتهم: متى أعود ثانية؟ فأجاب الرجل الذي نقدها أجرها وهو يمزح - سنكتب إليك حين نحتاجك، فليس العمل منظما هنا كعمل الغسالات!
- وعادت دريجالسكي متهالكة من التعب، لم تدرك شيئاً من كل ما حدث، عادت إلى بيتها في انتظار أن تدعى مرة أخرى
واستدعيت المادريجالسكي مرات كثيرة في الأشهر التالية.
وكان منظر المرأة في بساطته وصدقه قد أعجب كل من رآه، ولهج النقاد بذكره كثيراً، وبلغ إعجاب الجمهور به مداه، وطلب إلى دريجالسكي أن تقوم بدور آخر في رواية جديدة، ومنحت عشرين ماركا أجر هذا الدور. وسألت شركة سينمائية أخرى عن عنوانها وأرسلت إليها تستدعيها، وهكذا تسابق إليها المخرجون، فكان مظهرها يكسب الموقف لوناً طبيعيا رائعاً: لون الألم والبؤس الصحيح الذي لا أثر للصناعة فيه.
وخرجت دريجالسكي من عزلتها التي كانت فيها، فتعرفت إلى غيرها من النساء اللاتي تستخدمهن شركات السينما، وعرفت منهن أن تتردد على مكاتب الأستوديو إذا طال عليها الأمد ولم يستدعها أحد؛ ولكنها برغم ذلك كله لم تدرك من الأمر شيئاً، وكان كل ما عرفته أن أجرها يزيد خمس ماركات إذا صورت وحدها عما لو صورت بين جمع من النساء. وقد تعلمت الطمع والجشع فكانت تبذل جهدها لتحذق عملها الذي تؤمر به حتى يزيد أجرها
صرفت دريجالسكي أول نقود نالتها في أجرة طبيب. ثم صرفت ما كسبته بعد ذلك في(27/82)
جنازة زوجها ودفنه. وتحسنت الأحوال بعد موت هذا الزوج. فقد كانت تخشى أن تترك أبنها المعتوه في البيت لئلا يعبث بالكبريت. أما الآن فقد اصبح في وسعها أن تودعه مصحة للأمراض العقلية، ولم يبق معها بعد ذلك إلا القليل من النقود ومع هذا فقد استشعرت الراحة والاطمئنان لقد كانت مدفونة تحت أطلال حياتها التعسة وأحست اليوم إنها تستنشق الهواء، وهجرت مهنتها الأولى كغسالة. ومع ذلك فقد ساق إليها حظها الجديد رجلا يستأجر غرفة في بيتها وهو انتون بوش الأعزب الذي كان يبيع المثلجات في الشارع وكانت دريجالسكي ترى فيه رجلا ظريفا، وحسدها الجيران لنجاحها في فن السينما، واعتزت بنفسها إذ أدركت منهم ذلك الحسد. وكان الهر بوش يدفع لها اثني عشر ماركا في الشهر ويدفع نصف أجرة الغاز وكان كريما شديد الإخلاص، لها وقد ابتاع لها فستانا من الحرير الأزرق وكانت تطهي له الطعام بنفسها وتقدم له شطائر ليتناول منها طعامه في جولاته. وانك لتدرك من ذلك أن غذاءها هي نفسها قد تحسن كثيرا وزالت التجاعيد عن وجهها شيئا فشيئا وقد بلغت الآن قمة النجاح واصبح اسم دريجالسكي اسما يردده المخرجون!
التتمة في العدد القادم
محمود عزى(27/83)
الكتب
العراق
نقد لكتاب جغرافية العراق
تأليف الفريق طه باشا الهاشمي
بقلم الدكتور محمد عوض محمد
صديقنا الفريق طه الهاشمي باشا مدير معارف العراق سابقا ورئيس أركان حرب جيشه حالا به نسيج وحده اليوم في الجمع بين أدب السيف وأدب القلم، توفر علي الإصلاح المنتج الصامت من طريق التعليم والتأليف، ورضي من سعادة العيش ومتاع الحياة بشرف الدفاع عن الوطن ولذة الجهاد في سبيل العلم، فلم يدخل في فتنة، ولم يساهم في حزبية، ولم يوزع همه وجهده إلا على مكتب في وزارته، ومكتب في بيته. ومن يطلع ثبت مؤلفاته في التاريخ والجغرافيا وفنون الحرب لا يسعه إلا إكبار هذا الرجل. وهذا كتاب جديد أسفر عنه عزمه في جغرافية العراق سيحدثك عنه صديقنا الدكتور محمد عوض، والدكتور عوض أستاذ هذا العلم كان في الجامعة المصرية ثم في مدرسة التجارة العليا، فحديثه عن الكتاب نفق، وشهادته للمؤلف الفاضل أصدق
المحرر
إن حديث العراق يثير في النفس أحاسيس لا سبيل إلى دفعها، وظمأ لا سبيل إلى ريه. ويبعث أمام العين صوراً قوية جذابة، ويحرك في القلب شجناً وأي شجن. ويثير في الخاطر ذكرى عهود وأي عهود!. فهات الحديث أذن عن الزوراء وعن هيت، وعن سامراء وتكريت، وعن الموصل وكربلاء وعن البصرة والكوفة! أو اعد بهذا الحديث ذكرى ذلك العهد الجليل - كان عهدا جليلا للناطقين بالضاد، وكان عهدا جليلا لبني الإنسان كافة - أيام كان الوطن العربي كتلة واحدة، كأنه العقاب الهائل باسطا جناحيه على المشرق والمغرب، أيام كان هذا الوطن العربي هو في العالم كل شيء وما سواه ليس بشيء، أيام لم يكن في العالم نور سوى ما ينبعث من نبراسه، ويضئ أرجاءه. ولم يكن في الدهر كله راية أسمى، ولا منار أرفع من هذه الراية الإسلامية التي تظل تلك الأقطار الفسيحة(27/84)
المنتشرة، من المحيط الأطلسي إلى أقصى بلاد الصين، حين كان سائر العالم في دياجين من الجهل لا يعرف لنفسه منها مخرجا -
في ذلك الزمن كان السائح المتجول ينتقل من القطر إلى القطر ويتجول في الإقليم بعد الإقليم، وما ينتقل من وطن إلا لينزل في وطن، فحيثما سار، وأينما حط رحاله، لن يخرج عن الوطن العربي الفسيح، سواء أصعد أم أسهل، وأتهم ام أنجد.
وكانت هذه الأقطار كالعقد المنظوم، انبسطت حباته على محيا البسيطة ينتظمها جميعا سلكان ذو قوة ومتانة برغم أنف الزمان، وهما الدين الإسلامي واللسان العربي
وليس من شك في أن للعراق في هذا العقد منزلة خاصة. ولئن لم أنه واسطة ذلك العقد، لأننا لسنا في مقام المفاضلة. فلا أقل من أن نؤكد أن العراق جوهرة ثمينة براقة في ذلك العقد النظيم الذي لم يشهد الدهر له ضريبا.
على أن صورة الدولة الإسلامية ليست الصورة الوحيدة التي يثيرها حديث العراق. هذه صورة يهتم لها العالم الإسلامي، والناطقون بالضاد. ولكن هنالك صورة أخرى تعني العالم كله، لا فرق بين شرقه وغربه، ومسلمة وغير مسلمة. وهي صورة العراق أيام كان مهد الحضارة الأولى. في أقدم عصور التاريخ. فهنا، في سهول دجلة والفرات، نهضت حضارة سومر وأكد قبل ميلاد المسيح بأربعين قرنا، أيام لم يكن في العالم كله ثقافة ولا حضارة، اللهم إلا في الوادي الشقيق الذي نعيش فيه.
إن هذه الحقيقة وحدها لكافية لأن تثير في قلب كل إنسان شغفا بالعراق الذي كان مهد لكل هذه الحضارات، والذي ظل عامرا زاهرا كل هذا الدهر الطويل، الذي يتضاءل بجانبه عمر هذه الدويلات المحدثة، التي ملأت عصرنا هذا عجبا وضوضاء
إذن هنالك أسباب عدة لأن نعني بدرس جغرافية العراق دراسة خاصة. وأخلق بنا - نحن مدرسي الجغرافيا - أن نذكر هذا أبدا، وأن نكون دائما على استعداد - في مقام التمثيل والاستشهاد. لذكر البلاد الشرقية والديار العربية فإذا كنا نتحدث عن الأنهار وجغرافيتها، فلا ننسى أن نذكر انهار الشرق، دجلة والفرات، وسيحون وجيحون والأردن والعاصي، ولا نكتفي بذكر الرون والرين، والطونه والسين.
على أن الكتب العربية الحديثة التي وفت هذه الموضوعات حقها من البحث قليلة جدا،(27/85)
والمشتغلون بالجغرافيا في البلاد العربية - وعلى الأخص في مصر - قلما يكتبون ابتغاء وجه العلم، بل يكتب أكثرهم ابتغاء عرض الحياة الدنيا. ولهم في ذلك أعذار مقبولة وأخرى غير مقبولة، وعلى كل حال لقد أصبحنا في مصر - مثلا ولدينا عشرات من الكتب (المقررة) للمدارس الابتدائية وغيرها، وليس لدينا كتاب واحد حديث يفصل لنا جغرافية مصر تفصيلا علميا متقنا
لهذا كانت دهشتي عظيمة حين تناولت كتاب (جغرافية العراق) تأليف الفريق طه الهاشمي باشا، رئيس أركان حرب العراق. فرأيته يتناول جغرافية العراق بالبحث المفصل الواضح، لم يغادر ناحية من نواحي علم الجغرافيا إلا عالجها في قدرة فائقة تشهد بالفخر لمن كانت حرفته الجغرافيا. فكيف والكتاب من إنتاج رجل حرفته الأولى تعبئة الجيوش، ورسم الخطط الحربة، وتدبير المعارك الحاسمة؟
ولئن كنا مضطرين إلى إكبار هذا الجهد الفائق وإلى الإعجاب الشديد به، فانه يحق لنا أن نعجب كيف بدأ التأليف الجغرافي بالعراق ناضجا كاملا على هذا النحوت من غير إرهاصات ولا مقدما. ولا دون نشوء ونمو. اللهم إلا تكون هنالك مؤلفات سابقة ليس لنا بها علم.
وكل مطلع على هذا الكتاب بمن له أقل خبرة بالتأليف الجغرافي لابد أن يدرك ما عاناه المؤلف في جمع كل هذه الإحصائيات الدقيقة، وفي إخراج هذه المصورات المتقنة. خصوصا إذا ذكرنا أنه يطرق أبوابا جديدة، ويعالج أمورا لم يعالجها المؤلفون قبله. ويسير في سبيل لم تمهد ولم تعبد
ان العراق هو أشد أقطار العالم شبها بمصر ولقد تكون أمطاره في بعض نواحيه أغزر منها في وادي النيل، غير أن العراق يعتمد قبل كل شيء على ماء أنهاره كما تعتمد مصر على نيلها. والعراق نهران يكاد ذكر اسميهما أن يكون من الفضول: دجلة (الفتاة) التي تجري في شطره الغربي، والفرات (الفتى) الذي ينساب في الجانب الغربي. كلاهما يبدأ مجراه في جبال أرمينيه. وكردستان وليس بين منابعهما مسافة كبيرة. فأما دجلة فتنحدر مسرعة أو متسرعة - كسائر الإناث لا تلتفت يمينا ولا يسارا، بل تجري معجلة إلى البحر (خليج العجم). وإما الفرات فيسيل مغربا حتى يدنو من بلاد سورية. وكأنما كان يريد أن(27/86)
يتجه إلى البحر الأبيض ثم غير رأيه، أو كأنما أراد أن يطل على القطر الشقيق ليقرئه السلام، ثم يلتوي بعد ذلك في هدوء ورزانة، ويولي وجه شطر العراق، ولا يزال يجري هو أيضا حتى يصل إلى خليج العجم، لكن في شيء من التؤدة والتأني، وفي منتصف الطريق بين المنبع والمصب يشتاق الفرات إلى دجلة فيأخذ في الاقتراب منها، وفي هذا الجزء الأوسط من العراق يقترب النهران حتى ليظن انهما سيجتمعان. فلا يفصلهما غير مسافة أربعين كيلومتر. وفي هذا الموضع قد احتشد كثير من مدن العراق الشهيرة قديما وحديثا. فهنا نجد آثار بابل ومدائن كسرى، ونشاهد بغداد الزاهرة وكربلاء المقدسة. كلها في هذه المنطقة التي يتدانى فيها النهران، على أن اجتماعهما لا يتم بعد، بل يتباعدان مرة أخرى - ثم يلتقيان بعد لأي عند القرنة، فيتكون منهما نهر واحد هو شط العرب الذي ينحدر إلى خليج فارس.
هذان النهران هما رأس مال العراق وينبوع ثروته فمنهما ما} هـ الذي يسقيه، ومنهما تربته الخصبة التي يعيش أهله من ريعها ولقد تكون سهل العراق الفسيح مما حملة هذان النهران من الروساب والطين. فاستطاع السهل الخصب أن ينمو ويمتد إلى البحر، حتى أصبح خليج فارس أصغر مما كان عليه حتى في العصور التاريخية. ولا يعرف في العالم كله سهل نهري يزداد نموه بسرعة تعادل سرعة نمو سهل العراق. فهنا يتقدم البر وينكمش أمامه البحر بسرعة معدومة النظير، ولهذا كانت أرض العراق في عصر السومريين أصغر مما هي اليوم. بحيث كانت المدن السومرية القديمة: أور واردو ولاجاش واقعة على البحر أو قريبة منه.
وهكذا يعرض المؤلف أمام أعيننا صورا شائقة ممتعة لجغرافية العراق. ويعرضها في ترتيبها المنطقي المتسق. فتراه في الفصول الأولى يشرح موقع البلاد بالنسبة لما جاورها من الأقطار ثم يأخذ في شرح التكوينات الجيولوجية، وكيف تكونت أرض العراق في الأزمنة الجيلوجية، ثم ينتقل إلى وصف تضاريس البلاد وما بها من سهول مطمئنة، وجبال شاهقة تفصل ما بينه وبين بلاد الترك والفرس. ثم يصور لنا كيف يفيضان، ومقدار ما يجري فيهما من الماء، وفي أي الشهور يفيض، أو يغيض الماء ثم ينتقل بعد ذلك إلى دراسة المناخ والحيوان. . .(27/87)
وبهذا يكون المؤلف قد أكمل الصورة الطبيعية للبلاد في كافة نواحيها، وهنالك يصبح ذهن القارئ مهيأ لأن ينتقل من البيئة إلى السكان، ومن الجغرافيا الطبيعة إلى الجغرافيا البشرية
والناحية البشرية تحتل الشطر الأكبر من الكتاب، ويحق لها أن تنال كل هذه العناية، فنرى المؤلف يمعن في ذكر القبائل وموطنها، وحاضرها وباديها. وكيف تنتقل من موطن إلى موطن، وبعضها قد يتنقل من العراق إلى فارس أو تركيا أو سوريا في بعض الشهور، ثم يعود إلى العراق في شهور أخرى.
ومن أفضل أبواب الكتاب تلك الفصول التي يشرح فيها المؤلف الجغرافيا الاقتصادية في العراق، ويبين للقارئ طرق الزراعة والري والمعادن والتجارة، وطرق الموصلات على كافة أنواعها.
ولن يتسع المقام هنا للإفاضة في ذكر فصول الكتاب. وحسب كل مشتغل بعلم الجغرافيا أن يعلم أنه قد بات في متناوله اليوم كتاب واف عن جغرافية بلاد نحن في أشد الحاجة إلى أن نلم بجغرافيتها إلماما صحيحا دقيقاً.
وسيجد القارئ المصري صعوبة في فهم بعض المصطلحات العلمية. لأنها في كثير من المواضع قد تخالف ما اصطلح عليه المشتغلون بالجغرافيا في مصر. ولكن لن يلبث القارئ طويلا حتى يعتاد لغة الكتاب ومصطلحاته. وإنا لنرجو على مدى الزمن أن تزداد المؤلفات الجغرافيا العربية، فنستطيع بمبادلة الرأي أن نوحد المصطلحات العلمية في اللسان العربي.
ولابد لنا أن نذكر بشيء كثير من الثناء ما اشتمل عليه الكتاب من خرائط ملونة وغير ملونة. وكثير منها من نوع فريد لا يسهل العثور على مثله. ولنذكر على سبيل المثال الخرائط التي تبين مناطق الزراعة، وكثافة السكان، والأجناس والشعوب والقبائل. والكتاب مفعم بالصور توضح جميع نواحي البحث في الكتاب كله.
ونحن نهنئ المؤلف الفاضل بجهوده المثمرة. ولا نشك في أنه ماض في عمله الجليل، حتى يشق في بحثه الجغرافي سبلا جديدة. وتزداد مؤلفاته الجغرافيا عددا واتقانا على إتقان. . أن رجال الجيش طالما أدوا إلى علم الجغرافيا خدمات، جليلة ومن ذا الذي لا يسره أن يرى اسم هذا القائد العربي بين أسماء من خدموا وأحسنوا إلى المشتغلين بها.
عوض(27/88)
العدد 28 - بتاريخ: 15 - 01 - 1934(/)
من جد الشتاء
الدكتور طه حسين
من جد الشتاء أن تهنئ الزيات بعيدين يطلع بهما عليه فجر يوم واجد، هو هذا اليوم الذي تظهر فيه الرسالة للناس، وتشرق بهما عليه شمس واحدة هي شمس يوم الاثنين، ويستقبل فيهما ابتسامتين ما أعرف أن في الحياة شيئاً أحب إليه ولا أحسي في نفسه وقعاً، ولا أجمل في قلبه صورة، ولا أشد إحياء في الأمل واستدعاء للغبطة، وإثارة للابتهاج منهما، إحداهما مقصورة عليه أو كالمقصورة عليه. استغفر الله، بل هي مقسومة بينه وبين شطر نفسه وشريكته في الحياة، وهي ابتسامة ابنه (رجاء)، والأخرى شائعة بينه وبين أصدقائه وأحبائه وخصومه وأعدائه في مصر كلها، وفي الشرق العربي كله، وفي كل طرف من أطراف الأرض تقرأ فيه اللغة العربية ويذاق فيها الأدب العربي، وهي ابتسامة بنته (الرسالة). فقد رزق الزيات في مثل هذا اليوم من العام الماضي هذين الوليدين العزيزين، فسعد بأولهما في نفسه وأسرته، وسعد بثنتيهما في نفسه وأمته، وأنفق عامه كله معنياً بنتشئ رجاء وتنمية الرسالة، يقصر جهد عقله على هذه، ويختص بفيض قلبه ذاك. ويجني من هذه كما يجني من ذاك هذه الثمرات الحلوة المرة، اللذيذة المؤلمة، التي يجنيها الأحياء من حب الأحياء والعناية بهم والانصراف إليهم عن كل شيء.
يبتسم رجاء للحياة فيبتسم قلب الزيات وتنعم نفسه، وتبتسم الرسالة للحياة فيبتسم عقل الزيات وينعم ضميره، تعرض الآم الحياة لرجاء فيكتئب قلب الزيات، ويأرق ليله وينغص نهاره، وتظلم الحياة في وجهه، وتعرض المصاعب للرسالة فيبتأس عقل الزيات ويقلق ضميره وتضيق به الأرض ويضيق هو بالأرض، لا يطمئن ولا يستريح ولا يتذوق لذة العيش إلا إذا استقبل النهار في بيته، وبابتسامة الرسالة خارج البيت. أليس من الجد أن نهنئ صديقنا إذا استدار العام وأقبل يوم الاثنين، فإذا رجاء يقبل على الحياة مبتسماً لها، مغتبطاً بها، آخذاً منها بهذا الحظ الحلو، الجميل الصفو، الخالص من كل شائبة، الذي لا يتاح إلى للأطفال، والذي أتيح لنا جميعاً في وقت من الأوقات، ثم محته من نفوسنا وقلوبنا وذاكرتنا هذه الأيام التي تمضي وهذه الليالي التي تتبعها، فإذا نحن لا نذكره ولا نقدره، وإنما نأسى عليه ونود لو استطعنا أن نحقق المستحيل فنسعد لسذاجته النضرة، ونحتفظ مع(28/1)
ذلك بمصدر ما نكره من الألم والحزن، ومن الكآبة والشقاء، وهو العقل والضمير.
أليس من الجد أن نهنئ الزيات إذا استدار العام وأقبل يوم الاثنين، فإذا الرسالة تستقبل الحياة واثقة بإقبال القراء عليها وتأييدهم لها، وحرصهم على أن يستقبلوها كلما دار الأسبوع قوية نشيطة، ممعنة فيما هي فيه من تصوير الحياة الأدبية الشرقية، والآمال الأدبية الشرقية بما فيها من جد وهزل، ومن قوة وضعف، ومن أمل ويأس، ومن نور وظلمة، ومن نشاط وخمول. بل أن من الجد كل الجد أن نهنئ صديقنا بهذا اليوم السعيد لقلبه وعقله معاً. وأن نتمنى لصديقنا أن يستدبر الأعوام والأعوام، وأن يستقبل هذا اليوم كلما أتم الفلك دورته بهاتين الابتسامتين اللتين تملان قلبه وعقله وضميره وغبطة واطمئناناً لأداء الواجب واستعداداً للنهوض بأعباء الحياة.
ومن جد الشتاء أن نذكر لهو الناس بلذات الشتاء، وما أكثر لذات الشتاء وما أعذبها، وما أشد تنوعها واختلافها، وما أحسن موقع بعضها من القلوب، وما أجمل أثر بعضها في النفوس، وما أقل حظنا من الرغبة في خيارها والإقبال على طيباتها. أما دور السينما فحافلة والحمد لله في جميع ليالي الأسبوع، وفي جميع أيامه، كثيرة ولكنها على ذلك مزدحمة بالمختلفين إليها، مكتظة عليها تعرض عليهم كثيراُ من السخف وقليلاً جداً من القيم المفيد، وهم بذلك راضون، وفي ذلك راغبون، لأنهم لا يبتغون إلا هذه اللذة اليسيرة القصيرة التي تلهيهم عن هموم الحياة وأثقالها ساعات من ليل، أو ساعات من نهار، وأما دور التمثيل فالأمر فيها مختلف، منها العربي الذي يعيد ما يبدئ، ويبدئ ما يعيد، يصاحب الحياة دون أن يحيا، ويستقبل الأيام والليالي، لأن الأيام والليالي تمر به وتغمره كما تمر بكل شيء، وكما تغمر كل شيء. لا يحدث جديداً ولا يبتكر طريفاً، والناس مع ذلك يغشون هذه الدور في كسل، وفتور لأنهم تعودوا أن يغشوها كما تعودوا أن يغشوا الأندية والقهوات ينفقون فيها ساعات فارغة من حياة فارغة. ثم يعودون إلى بيوتهم بنفوس فارغة وقلوب فارغة وأجواف ممتلئة. والله يعلم بأي نوع من أنواع الطعام والشراب، وأنك لتسأل نفسك وتسأل الناس وتسأل الأدباء، وتسأل النقاد عن القصة الطريفة من قصص التمثيل والآية البديعة من آيات الفن التي استقبلنا بها فصل الشتاء، فلا تظفر إلا بهز الرءوس ورفع الأكتاف وابتسامة فيها السخرية وفيها الحزن، وفيها اليأس من الحياة والازدراء للحياة(28/2)
والانصراف عما يجعل للحياة قيمة أو يجعلها خليقة بالتفكير والتقدير.
ومنها دار الأوبرا الملكية التي تنام تسعة أشهر، وتستيقظ ثلاثة أشهر من كل عام، تنام لأنها في بلد يحب النوم، وتستيقظ لأن قوماً من الأجانب يوقظونها كلما انتهى الخريف وأقبل الشتاء، وهم يوقظونها لأنهم يدعون إلى ذلك ويرادون عليه. تدعوهم إلى ذلك الدولة. لأنها لا تريد أن ننام طول العام، أو لان يظن بنا الناس أننا ننام طول العام، أو أن يزورنا السائحون فلا يجدوا عندنا ما يلهيهم ويريحهم من تعب النهار. ويدعوهم إلى ذلك ضيفنا الأجانب الذين لا ينامون لا في الصيف ولا في الشتاء، ثم أيقاظ في بلادهم إذا أقبل الصيف، وهم أيقاظ في بلادنا إذا كان الشتاء، هم يلهون في بلادهم على حساب أنفسهم إذا أقبل الصيف، وهم يلهون في بلادهم على حسابنا نحن إذا أقبل الشتاء، والغريب أننا نلهيهم ولا نلهو معهم. وحق الضيافة على أقل تقدير يقضي علينا بأن نشاركهم فيما نقدم لهم من اللهو. ولكن أحصيت لي الطرابيش التي كانت في الأوبرا يوم الاثنين الماضي. فلم تبلغ العشرين. فأما العمائم فما لها وللأوبرا؟ وكيف يظن بها أن تختلف إلى هذه الدار؟!(28/3)
النفس والرقص
للكاتب الشاعر الفرنسي العظيم بول فاليري
ترجمة الدكتور طه
- 3 -
أركسيماك - أي أتكتيه! ما أشد إتقانك للقرب!
فيدر - كأن الموسيقى تستردها في هدوء، كأنها ترفعها. . .
أركسيماك - إنما تغير الموسيقى نفسها
سقراط - أي آلهة الفن، إن قوتكن لبالغة في هذه اللحظة التي تريد أن تموت. يا له من تعليق حلو للأنفاس وللقلوب. . . إن الثقل ليسقط تحت قدميها، وهذا الرداء العظيم الذي يسقط في غير صوت ينبئنا بذلك. لا يرى جسمها إلا متحركاً
أركسيماك - لقد عادت عيناها إلى الضوء.
فيدر - لنستمتع بهذه اللحظة الحلوة التي تغير فيها إرادتها! كأنها الطائر الذي يصل إلى حافة السقف نفسها ثم يقطع ما بينه وبين المرمر الجميل من صلة، ويسقط في طيرانه.
أركسيماك - لا أحب شيئاً حبي لما يريد أن يحدث، حتى في الحب لا أجد ألذ من الشعور الأول. والفجر أحب ساعات النهار إلي. لهذا أريد أن أرى في شيء من الحنان ظهور الحركة المقدسة على هذه الفتاة الحية. أنظر. . .! إنها تنشأ من هذا اللحظ المنزلق الذي يجذب في قوة رأسها ذا الأنف الحلو إلى كتفيها المضيئتين، وهذا العصب الجميل كله، عصب جسمها الصريح القوي، يظهر ويلتوي شيئاً فشيئاً من العنق إلى العقب. ثم تمضي الرعشة في كل شيء. ويصور في بطء مولد وثبة. ويحظر علينا أن نتنفس حتى تنبع هذه الوثبة ملائماً في تقدير خفي مفاجئ لطرق الصنج الذي يمزق الهواء.
سقراط - ما أعجبها! هاهي ذي تدخل في الاستثناء وتمضي في غير الممكن. إن نفوسنا لمتشابهة أيها الصديقان أمام هذا السلطان الذي هو واحد كامل بالقياس إلى كل واحدة منها. . . إنها لتشرب معاً كل ما هو جميل.
أركسيماك - إنها لتستحيل كلها إلى رقص وتفرغ كلها للحركة الكاملة.(28/4)
فيدر - كأنها قبل كل شيء تمحو بهذه الخطوات التي يملؤها العقل من الأرض كل تعب وكل حمق. وهاهي ذي تتخذ لنفسها منزلاً يرتفع قليلاً فوق الأشياء كلها، وكأنها تهيئ لنفسها عشاً في ذراعيها الناصعتين. . ولكن ألا يظن الآن أنها تنسج لنفسها بقدميها بساطاً من الاحساسات لا يكاد يحد. هي تلائم وتخالف وتنسج الأرض بالزمن. ياله من أثر بديع هذا العمل القيم تأتيه بإبهاميها العاقلتين اللتين تهجمان وتختلسان، وتعقدان وتحلان، وتتطاردان، ثم تطيران. . . ما أرعهما! ما أنشطهما هاتين الماهرتين في إنشاء اللذة التي ينفق فيها الوقت الضائع!. . . إن هاتين القدمين لتتناغيان وتختصمان كأنهما حمامتان. إن نقطة من الأرض لتثير بينهما من الخصومة ما تثيره الحبة بين الحمامتين. ترتفعان معاً ثم تصطدمان في الهواء أيضاً. إني لأقسم بآلهة الفن ما اشتهت شفتاي قط قدمين أكثر مما تشتهيان هاتين القدمين.
سقراط - وكذلك تحسد شفتاك هاتين القدمين البارعتين على فصاحتهما البالغة، وتود لو أعارتا كلماتك جناحيهما ولو زينتا ما تقول بوثباتهما.
فيدر - أنا؟. . .
أركسيماك - لم يكن يفكر إلا في أن ينقر حمام الأقدام. وهذه نتيجة لعنايته الحادة التي يختص بها منظر الرقص. أي غرابة في هذا يا سقراط؟ أي شيء أدنى إلى السر الساذج الجميل، إن صديقنا فيدر مسحور بهذه الحركات الحفية الظاهرة المضيئة التي تزدهي بها إبهاماً (اتكتيه) هو يلتهمهما بعينيه، هو يمد إليهما وجهه، هو يظن أنه يحس على شفتيه جرى أظفارهما السريعة. لا تعتذر أي فيدر العزيز، لا يأخذك اضطراب ما. فأنت لم تشعر بشيء إلا وهو مباح غامض أي ملائم كل الملازمة لطبيعة الناس، ألسنا عبثاً منظماً؟ وتأليفنا الحي أليس اختلاطاً نعمل في نظام، واضطراباً يحدث آثاره؟ أليست الحوادث، والرغبات، والخواطر تتغير في نفوسنا على أشد الأنحاء ملاءمة للضرورة ومباعدة للفهم. . . أي اختلاط من العلل والآثار.
فيدر - ولكنك وضحت بنفسك أحسن التوضيح ما شعرت به أنا شعوراً ساذجاً. سقراط أيها العزيز فيدر في الحق أنك لم تتأثر بغير سبب. وكلما نظرت أنا إلى هذه الراقصة التي لا توصف تحدثت إلى نفسي عن الأعاجيب وأسالها كيف استطاعت الطبيعة أن تودع هذه(28/5)
الفتاة النحيلة الضئيلة مقداراً ضخماً من القوة والسرعة إلى هذا الحد؟ أتوجد أسطورة لهرقل وقد استحال إلى طائر؟ وكيف يستطيع هذا الرأس المحدود كأنه قبضة الصنوبر أن يثير آلافاً من المسائل والأجوبة بين أعضائه وهذه المحاولات المذهلة التي تحدثها - متخلصة منها دائماً متلقية إياها من الموسيقى ثم رادة لها في سرعة الضوء.
أركسيماك - وأنا إنما أفكر في قوة الحشرة التي تستطيع بهذه الحركات التي لا تحصى في أجنحتها أن تقيم صوتها وثقلها وشجاعتها.
سقراط - هذه تضطرب في شرك لحظنا كأنها الذبابة الأسيرة، ولكن عقلي الطلعة يجري في أثرها ويريد أن يلتهم ما تحدث!
فيدر - أيها العزيز سقراط! ألا تستطيع إذن أن تستمتع إلا بنفسك؟
سقراط - أيها الصديقان ما حقيقة الرقص؟
أركسيماك - أليس الرقص ما نرى؟ وأي شيء أوضح في تعريف الرقص من الرقص نفسه؟
فيدر - صديقنا سقراط لا يرضى حتى يصل إلى نفس كل شيء بل إلى نفس النفس.
سقراط - ولكن ما الرقص وما عسى أن تقول الخطى؟
طه حسين(28/6)
أحدث المبادئ الاجتماعية؟!
للأستاذ حسن جلال
المنظر الأول
(شابان - فتى وفتاة عليهما سيما الجد الذي يقارب العبوس، يدخلان)
(المكتب) ثم يتقدمان إلى صدر المكان حيث تجلس العاملة)
المنوطة بأعمال المكتب فتدور بينهما المحاورة الآتية التي تبدأها العاملة عادة)
فتاة المكتب - زواج أم طلاق؟
الفتى - طلاق
- هل لكما أبناء؟
- كلا!
- وما اسمك أيها السيد؟
- اسمي. . . . .
- وما اسمك أيتها السيدة؟
- اسمي. . . . .
- هاكما الأوراق
(يستلم كل من الشابين ورقته ولكنه يظل واقفاً في مكانه كأنه لا يصدق أن كل ما كان بينه وبين صاحبه قد انتهى على إثر هذا الحوار البسيط. . . وتتنبه فتاة المكتب فتدرك ما هما فيه وتقول):
- لقد انتهى كل شيء.
- أليست هناك إجراءات أخرى؟
- كلا. لقد أصبح كل منكما حراً. إن شاء بقي كما هو وإن شاء تزوج بمن يشاء!
- شكراً. (وينصرفان)
المنظر الثاني
(زوج آخر من الشبان. ولكنه فتى باسم وفتاة باسمة. يتقدمان أمام فتاة المكتب ليحلا محل(28/7)
الزوج السابق)
- زواج أم طلاق؟
- زواج!
- ما اسمك أيها السيد؟
- اسمي. . . . . . .
- وما اسمك أيتها السيدة؟
- اسمي. . . . .
- دونكما الأوراق. أرجو لكما وقتاً سعيداً!
شكراً (وينصرفان هذه المرة بسرعة)
هذه هي العملية التي يقال إنها تتكرر اليوم عشرات المرات في (مكاتب الزواج والطلاق) في روسيا الحمراء. وهي لا تشبهها في سرعتها وبساطة إجراءاتها إلا عمليات تناول الطعام في محلات (السندوتش) الرشيقة التي تملأ القاهرة اليوم. قضمة من بعدها أخرى، ثم كوب الماء ودفع القرش. وتنتهي العملية هنا أيضاً مما تنتهي به عادة في بلاد السوفيت:
- شكراً (وينصرف)
ترى أهو لصالح الجماعة هذا النظام، أم هو هادم لكيانها؟ أما أنصاره فيقولون إن (الزواج) كما يعرفه العالم اليوم لم يزد على أن يكون إحدى العادات المدنية التي اعتادها الإنسان فخرجت به عن فطرته الأولى حيث الحرية التامة وعدم التقيد بأي قيد. وإنه لجدير بإنسان الجيل الحاضر أن يتحرر من هذا القيد كما تحرر من كثير من أمثاله. لقد خبر الناس نظام الزواج أجيالاً من بعدها أجيال، فهل سعدت الإنسانية باتباعه أم شقيت؟ وهل استراح الإنسان في حظيرة الأسرة وارتقى مستواه. أم فقد تحت أثقالها حيويته، وتبددت داخل أسوارها مطامعه وآماله، وناء بأعباء العيش وتربية البنين ورعاية البنات؟
ثم يقولون وما شأن هذا النظام بالحياة الفاضلة التي ينشدها الإنسان؟
أليست جريمة الزنا وليدة هذا النظام؟
وهل في العالم اليوم جريمة أوسع انتشاراً من هذه الجريمة التي يمارسها الملوك والصعاليك على السواء؟(28/8)
وإذا كان هذا النظام هو الذي طوح بالجماعة إلى هذه النهاية المحزنة التي أصبحت الرذيلة شعارها. أفليس من العقل أن يعدل الإنسان عن هذا النظام؟
ثم يتساءلون متى كانت صلة الرجل بالمرأة صلة دائمة في طبيعتها حتى يحتم لها الإنسان هذا الدوام في صورة عقد الزواج الحالي؟ ألم يثبت عن تجربة أن صلة الرجل بالمرأة لا يمكن أن تدوم حية إلى أبعد من بضع سنوات؟ ألم تنته هذه الصلة عند ملايين الناس في كل زمان ومكان إلى الفتور والبرود؟ ألم تعالج بعض الأديان هذه الحالة بوضع نظام آخر فيه معنى التجديد. وحاولت التخفيف من قيود الزوجية لا بتيسير الطلاق وحده بل بإباحة تعدد الزوجات؟ ففيم التقيد إطلاقاً بنظام الأسرة؟ إن انهيار نظام الملكية الفردية في روسيا يؤدي حتماً إلى زوال السرقة، وكذلك انهيار الأسرة الحالي يؤدي حتماً إلى زوال جريمة الزنا ويمهد الطريق لأن تنتشر في الكون حياة فاضلة سعيدة!
هذا ما يقوله الأنصار
فاسمع ما يقوله المعارضون:
لا شك أن السرقة جريمة شنيعة تتنافى مع طبيعة الأمن الذي ينشده كل إنسان سواء أكان من أنصار هذا المذهب أم ذاك. ولا شك في أن الزنا جريمة مرذولة لأنها أقسى أنواع السرقات. أليس لصها يسرق القلوب؟ وهل المرء إلا قلبه! ولكن أليس أقرب إلى الهزل منه إلى الجد أن يعالج الإنسان داء السرقة في المجتمع بإباحة أموال الناس عامة؟ وأن يعالج داء الزنا بهدر الأعراض؟ وهل الشيوعية إلا هذه الإباحة والهدر. فالمال فيها مال الدولة والأبناء فيها أبناء الدولة ولا شيء فيها إلا هو للدولة!
الدولة أبوكم!
الدولة أمكم!
الدولة دينكم!
هذه هي صيحات الشيوعية وتعليماتها لأهلها! وهذا هو المذهب الذي يدعو إليه الخارجون على نظام الأسرة الحالي. فهم في سبيل مكافحة الفقر عند المعسرين يفقرون الأغنياء. وفي سبيل إخفاء معالم جريمة الزنا يريدون أن يجعلوا من العالم كله ماخورة واحدة!
وبعد(28/9)
فقد شهدت منذ قليل رواية جميلة عنوانها ` وترجموها بقولهم (مخالفة الشريعة) والرواية تسير حوادثها هكذا:
يقبل من أقصى الأرض فتى وفتاة يريدان الالتحاق بإحدى الجامعات (الروسية) الحديثة. والشابان زوجان. ويرد الشاب أن يلتحق بكلية الطب فيصادف فيها الأستاذ ر - وهو ركن من أركان السوفيتية. فينفث في الطالب من روحه، ويتأثر الطالب بنفثاته، لأنه بعجب بعلمه ومقدرته في فن الجراحة الذي يدرسه عليه، وتكون من تعليمات الأستاذ لتلميذه أن (الحب حر) وأن رباط الزوجية معطل للنبوغ مقيد للمواهب. ويضرب له المثل بنفسه فيريه أنه هو غير متزوج، ولكنه يعاشر فتاة يحبها حباً كثيراً، وأنعه يسعد بهذا الحب أضعاف السعادة التي يمكن أن يشعر بها الأزواج. وتنسكب هذه المعاني انسكاباً في قلب الفتى الغض: فتفتر همته في حب زوجته الشابة لأنها ظللتها تلك الغشاوة التي نسجها من حولها أستاذه، وتحس الفتاة بما جد على فتاها من التطور والتحول. وتدرك أن أستاذه هو السبب في ذلك. فتتوجه إليه وتستغيث به في أزمتها التي تهدد حياتها، وتتوسل إليه أن يقوم طباع تلميذه وان يخفف من تلقينه هذه المبادئ التي توشك أن تهدم هناءهما. فيقول لها الأستاذ في جمود:
- وماذا عليك إن تركك فتاك؟
- أن أحبه
- سوف تنسين!
- إن الحب لا ينسى!
- أنت طفلة ينقصك علم كثير وخبرة كثيرة، كل شيء يا بنيتي يستطيع الزمن أن يجر عليه ذيل النسيان
- ولكنني لا أطيق أن أراه يعلق بفتاة غيري.
- هي الغيرة إذن! لقد أصبحت هذه العاطفة عتيقة عندنا يا صغيرتي! ونحن نعمل على مطاردتها من صدور الناس لأنها سر شقائهم. ثم ما بالك أنت لا تعلقين بفتى آخر فينسى كل منكما صاحبه في جو حياته الجديدة؟ إن الحب حر في هذه البلاد!
وتنصرف عنه الفتاة يائسة(28/10)
وتشاء المصادفة، أن ترتاح في الوقت نفسه رفيقة الأستاذ إلى طلعة الطالب وفتوته فتعمل على إغوائه حتى يتم لها ذلك. وعندئذ توعز إليه أن يطلق زوجته الأولى ليتزوجها هي، ويقبل الفتى على ذلك متأثراً بروح أستاذه وتعليماته. وبجمال معشوقته وفتنتها وإغوائها ويتم بينهما الزواج.
ويتلمس الأستاذ فتاته فلا يجدها، فيظل يبحث عنها في كل مكان حتى يهتدي إليها أخيراً بين ذراعي تلميذه. .
وهنا ذروة القصة ونقطة انقلابها!
ماذا ترى يكون موقف الأستاذ إزاء هذا المشهد البديع؟
لقد كانت تقضي تعليماته أن يدير ظهره ويذهب من توه يبحث عن فتاة أخرى ينسى عندها حبه الأول.
ولكنه بدل أن يفعل ذلك وقف يحدق ثم يحدق ثم صر أسنانه وهو يوجه القول إلى فتاته:
- ماذا تصنعين هنا؟
- الحب حر! أليس هذا من مبادئك؟
ولم يكن من الأستاذ إزاء هذا الجواب المفحم إلا أن تسللت يده في حركة خفية فأخرجت مسدسه من جيبه. وكانت طلقتان أصابت إحداهما الطالب المسكين فصرعته، وأصابت الأخرى عروسه فطرحتها إلى جانبه!
وكانت هذه الخاتمة المروعة هي التطبيق العملي البديع لنظريات الأستاذ الخلابة في (حرية الحب) وفي مقدرة (ذيل الزمن) على نشر النسيان بين الناس، وفي بيان ما أصاب عاطفة الغيرة من الهزائم على يد هذه المذاهب الحديثة!
حسن جلال(28/11)
الشعر
للشعر أثر كبير في تاريخ الحياة الإنسانية، ولا يستطيع أحد أن ينكر
ما أفادها بنغماته السحرية الجميلة، وموسيقاه الناطقة المؤثرة، وإذا كان
العلم يعطينا مدداً نافعاً، وفوائد جليلة، فإن الشعر يمنحنا هبة أعظم
شرفاً، وذلك لأنه يفتح على أرواحنا النوافذ المغلقة فيصلها بالحياة التي
تجري أمامها، والنور الذي ينتشر حولها، ثم هو يعرض أمام أنظارنا
الجمال الهاجع في الكون مجلواً في أبهى حلله، ذلك الجمال الذي هو
زهرة الحياة الدنيا وفتنتها فما هو هذا الشعر الذي يقدم لنا كل هذه
الهبات؟
أما أساتذة مدارسه التي أخذت تعلمه في الشرق فقد اهتدوا منذ القرون الأولى للهجرة إلى تعريفه بأنه (الكلام الموزون المقفى) ولا شك أن هذا تعريف قاصر لأنهم تناولوا به السور الخارجي الذي يحيط بمدينة الشعر فقط، أما المدينة نفسها وما تضج به من حياة وحركة، وما تموج به من حسن وجمال، فلم تسترع أنظارهم، ولم تجذب انتباههم، ولعل رواية الشعر الجاهلي هي التي ورطتهم في هذا التعريف الأبتر، فقد كان الشعر الجاهلي يروى سواء أكان بسيطاً أم لم يكن، وسواء أكان مؤثراً أم لم يكن، وسواء أكن مفهوماً أم غير مفهوم، وكان الرواة لا يطلبون في الشعر إلا أن يطن بالوزن والقافية، وأما المعنى الذي هو روح الشعر فلم يلق منهم عناية ولا دراية إلا في الأقل القليل، فلما أخذت المدارس تعلم الشعر وتقننه فهمت أن الوزن والقافية هما كل شيء فيه، واستن لها السنة الخليل بن أحمد أستاذ المدرسة الأولى فقد قال: والشعر هو ما وافق أوزان العرب، فمادام الكلام قد ارتدى برداء الوزن فهو شعر ولو لم يكن فيه روح تنبض، ولا حياة تخفق، والذي يدعو إلى الدهش هو أن هذه الفكرة السقيمة في الشعر استمرت قائمة في هذه المدارس طوال العصور المختلفة كأنها قضية منطقية مسلم بها، ولم يفكر الأدباء في الخروج عليها. نعم أتيح للجاحظ أن يتأثر بالمدرسة اليونانية فيقول: (إنما الشعر صياغة وضرب من التصوير) ولكن للأسف لم يعن هو نفسه بهذا المعنى فيما جمع من الشعر بكتابه البيان(28/12)
والتبيين، وعلى الرغم من أن ابن خلدون انتقد المدارس السابقة في تعريفها للشعر، استمرت عند فكرتها، ولم تحاول أن تعتق نفسها من رق هذا الخطأ، ولا أن تطلق عقولها من أغلال هذا التقصير.
والأمر في تعريف الغربيين للشعر على خلاف هذا، ولنلم بطرف من تعاريفهم، ولعله يلقي على الموضوع أشعة توضحه، يقول مستر بلوك: إنه لا يمكن تعريف الشعر بشيء سوى السحر، وكان أجدر به أن يعدل في كلامه فيقول إنه لا يمكن تشبيه الشعر بشيء سوى السحر، ومهما يكن فتعريفه لا يعطينا شيئاً أكثر من فكرة أولية لا تقبل التحليل، وقال مستر تيفر: إن كلمة الشعر ككلمة الجمال من الكلمات المبهمة التي تشمل مجموعة من الأشياء المختلفة تمام الاختلاف بالنسبة لاختلاف المنتجين، وانتهى إلى أنه يمكن تعريف الشعر بأكثر من هذا التعريف الرديء لمعاجم اللغة، واعترف مستر لمبورن بأنه لا يمكن تعريف الشعر إلا إذا عرفنا الحياة والحب، اللذين يترجم عنهما.
وهكذا نجد النقاد من الإنجليز مضطربين أمام تعريف كلمة الشعر، فبعضهم يعرفها تعريفاً ناقصاً، وبعضهم يعرفها تعريفاً مبهماً، ويحجم كثير عن تعريفها لأنه لا يمكن تعريفها، أو لأنها ككلمة الجمال لا يمكن تحديدها، وبمعنى أوضح لأن الشعر عمل فني، وكأنما كتب على كل عمل فني ألا تحيط به التعاريف إحاطة تامة، وأياً كان فكلمة الشعر تعني شيئاً موجوداً أمامنا، يشرح خواطرنا، ويخاطب قلوبنا، ويؤثر في نفوسنا تأثيراً جميلاً، وإذا كنا لا نستطيع أن نحدد الشعر تحديداً تاماً يبين ماهيته فليس من العسير أن نقف على أساسه، ولعل أقدم من تكلم في هذا الموضوع كلاماً مستفيضاً هو أرسطو فقد قال: إن الابتكار أساس الشعر، فالشعر عنده صورة مخترعة يخلقها الشاعر بقوة خياله، والوزن عنده شيء إضافي يلحق بالصورة حين يتم خلقها في قلب الشاعر، وماذا؟ أيخترع الشعراء الأوزان التي ينظمون عليها كلامهم؟! وهل يخلق الشعراء الألفاظ التي يوقعون عليها نغمات عواطفهم؟ إن الوزن واللفظ ملك للغة، ليس لأحد أن يدعي شيئاً منهما لنفسه وإنما الذي يستطيع الشاعر أن يعزوه إلى نفسه فيصدق هو الصورة الطريفة التي يبتدعها، وهذه النظرية جميلة في ظاهرها، ولكنها ليست دقيقة كل الدقة، وعلى الرغم مما يظهر فيها من المغالاة في تقدير الشعر استمرت محتلة أفكار النقاد مدداً طويلة، حتى جاء المؤرخ اليوناني(28/13)
(ديونيسيوس) صاحب الأبحاث البلاغية الشهيرة، فعلق على الأوديسا تعليقاً انتهى فيه إلى أن أساس الشعر إنما هو الأسلوب، وقد تبعه كثير من النقاد في أوائل العصر الحديث، كل منهم يخطئ نظرية أرسطو، ويبرهن على أن الأسلوب والوزن لهما أثر كبير في صناعة الشعر والواقع أن الشعر عمل فني يقوم على أشياء لا على شيء واحد، فلا بد له من الصورة الفنية، والموسيقى الجميلة، والخيال البارع حتى يستطيع أن ينهض من الأرض فيحلق فوق رءوسنا في السماء.
وقيمة الشعر ترجع إلى أنه يترجم عن احساسات الإنسان محاولاً أن يوقظ العواطف المقابلة في قلوب الآخرين، ومادامت هذه هي قيمته، فكل منا شاعر إلى حد ما، لأن كلاً منا يملك إحساساً، وقوة بها يترجم للآخرين عما يجيش بصدره، ولكن يجب أن نعرف أن هؤلاء الذين نسميهم شعراء هم في الواقع أرق من الشخص العادي شعوراً وألطف منه وجداناً، وهم أقدر على التعبير عما يحسون ويتأثرون، قد انقادت إليهم أعنة الكلام واستسلمت لهم شوارد الأوزان، فسهل عليهم تصوير ما في قلوبهم وإخراج ما تطفح به صدورهم، والذين يعنون بدراسة الشعر ونقده يجدون مواطن كثيرة لا يجذب جمالها قلوبهم، ولا يسترعي حسنها عقولهم، يلفتهم الشاعر إليها بصوره الساحرة التي يعرضها، وموسيقاه الجميلة التي يغني بها، ولقد أحسن كيتس حين قال: (ربما جعل الله لك يا بني هذا العالم جميلاً في نظرك كما هو جميل في نظري) وحقاً أن الشاعر يتراءى له العالم جميلاً أو قبيحاً أكثر مما يتراءى لنا، وكثيراً ما يجعل الأشياء التي تبدو لنا قليلة القيمة أنيقة معجبة بما يصور من جلالها وما يظهر من جمالها.
وأول محاولة في الشعر هي ترجمة العاطفة الثائرة في قلب الشاعر، فقياس الشعر ليس هو المنطق، وإنما هو العاطفة، ونحن لا نسمع لشعر الشاعر، ولا لغنائه لأنه أكثر عقلاً من غيره، بل لأنه يجعلنا نشعر بحياة قلوبنا وأحاديث وجداننا، والتعبير العاطفي هو الشعر ولكن إذا حمل لباساً جميلاً، وشكلاً أخاذاً وموسيقى بارعة، فإذا لم يحمل ذلك لم يكن شعراً بالمعنى المعروف، لأن الشعر لا يتطلب حياة عاطفية فقط، بل هو يتطلب إلى ذلك الأسلوب الجميل والموسيقى المؤثرة، ويجب أن تكون الموسيقى قوية، وطبيعية، وحرة، لتستطيع عواطف الشاعر وأفكاره أن تبقى خالدة على وجه الدهر، أما إذا كانت الموسيقى(28/14)
ضعيفة واهنة، أو نافرة جامحة، أو أسيرة سجينة، فإنها تفسد على الشاعر شعره، والموسيقى الشعرية لا تستطيع أن تحيا بدون التعبير العاطفي لحظة من الزمن، بخلاف التعبير العاطفي فإنه يستطيع أن يحيا، بدون الموسيقى فيكون نثراً أدبياً، وبقوة تعبيره وجمال تصويره تكون قيمته في هذه الحياة الفنية التي وقف عندها.
ويجب أن تكون لغة الشعر سلسة عذبة، جميلة في مرأى العين وسمع الأذن، لا يعوزها الحسن ولا ينقصها الرواء، كما يجب أن يكون الأسلوب متماسكاً متراكباً ليعبر تعبيراً واضحاً مسرعاً عن غايته، وحسن البيان ضروري في الشعر حتى لا يقعد به سوء التعبير عما يريد الإفصاح عنه، والواجب أن يهتم الشاعر بهذه الأشياء جميعها لأنها اللباس، وكثيراً ما يدل اللباس على صفات لابسه.
وكل العواطف صالحة لأه تكون موضوعاً للشعر يترجم عن مستورها ويفصح عن خبيئها، ولكن ليست العواطف كلها في مرتبة واحدة غير متفاوتة، بل منها القوي ومنها الضعيف، فإذا ترجم عن عاطفة ضعيفة فأن شعره يتدلى معها إلى أسفل فتنقص من حسنه وتغض من روعته، ويجب أنه يكون القلب الذي يعبر عن هذه العواطف سليماً غير مريض، فأن القلب هو الذي يمثل مرض الإنسان، أما القلب المريض فلا يجد من يحمله، وما أشبه العواطف بجداول مياه تنساب من لقلب فيميلها كيف يشاء.
وخير العواطف ما كان يبعث على الحياة والقوة كعاطفة الإعجاب التي تملأ قلب الشاعر فتجعله يصف الأسد مثلاً، وسمو هذه العاطفة راجع إلى أن القوة مظهر الحياة، وهي تعجب الإنسان أكثر من أي مظهر آخر، فالإنسان دائماً يعتز بقوته ويخفي سوأة الضعف التي قد تتراءى له في زوايا نفسه، يتجاهلها، ويتعامى عنها، ويبعدها عن نفسه كلما ألمت به، ولهذا كانت العواطف التي تبعث على الحزن ضعيفة، لأن الألم والبكاء تنفر منهما النفس وتفر بطبيعتها إذ الإنسان لا يرضى أن يعترف بضعفه، وإذا اعترف لم يبق على هذا الاعتراف طويلاً، ومن العواطف الضعيفة عاطفة المدح فإنها عاطفة شخصية تتصل بنفس الشاعر وذاته، ولا تعبر عن شيء عام يشترك فيه الجميع. نعم إن تخلصت من ذاتيتها، فمدحت المروءة أو حضت على خلق كريم تغير حالها، وعلت مرتبتها، لأنها حينئذ تفصح عن شيء يشترك فيه الجميع ويقدره.(28/15)
والعاطفة، ليست وحدها كل شيء في الشعر بل يجب أن تضاف إليها الفكرة التي تنظمها وتهيئها للحياة والظهور، وكل الفنون ماعدا الموسيقى لابد فيها من الفكرة حتى تتلذذ العاطفة، وليس من الواجب أن تخترع الفكرة، وإنما الواجب أن تظهر في معرض جديد يوضح عمل صاحبها وقوة إيمانه بها، والشعر قد يكون فكراً خالصاً فيبحث في أعمق المسائل التي تشغل عقول الفلاسفة من مثل طبيعة الخير والشر، وحينئذ لا يكون شعراً بالمعنى الصحيح إلا إذا امتزج بالقلب فأصبح عاطفة قوية تفيض منه لا من العقل , تخاطب الشعور والوجدان قبل أن تخاطب الأفكار والأذهان , ولقد أحس قدماؤنا حين قالوا (الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان).
والشعر في الواقع رسالة كرسالة الأنبياء، فهو يقوم على الإلهام أكثر من أي شيء آخر، والأيمان بالفكرة ووضوحها هما الملكان اللذان يوحيان إلى الشاعر بالمعاني الجميلة المعجبة، والصور الفريدة المعجزة، فيخرج للناس أفكاره نيرة واضحة، كأنها وهج الحريق في الليل البهيم، فر تجد تكلفاً ولا تعملاً، وإنما هي زهور جميلة ينثرها الشاعر على رغمه كما ينثر الزيتون زهوره، وما أشبه الفكرة القلقة يقولها الشاعر بالعصفور المضطرب الحيران التائه من عشه، ويجب أن تكون الفكرة قوية، ليكون الشاعر مبدعاً، رائعاً حتى إذا أراد أن يحلق في السماء انتهى إلى أعلاها فكان نجماً زاهراً بين نجومها، وللأسف نجد الشعر العربي تعوزه القوة في كثير من الأحيان، ولعل هذا هو السر في أن الشاعر العربي إذا أراد أن يحلق فوقنا ارتفع ارتفاع السحاب في السماء الدنيا ولم يستطع الارتفاع إلى أعلى أكثر من ذلك، لأن أجنحته ليست قوية، على أنه سرعان ما يدنو إلينا وينزل من سمائه إلى أرضنا.
والعواطف والأفكار لا تكون وحدة الشعر بنفسها، وإنما الذي يصنع ذلك هو الخيال الشعري، فهو المنظم للأفكار والعواطف وهو المخرج لها، هو الذي يجمعها وينفحها بروح من لدنه فتستوي ناطقة معبرة نشخص لها ونعجب بجمالها، وإذا شاهد شخص حديقة جميلة في مكان وجاء يقول: لقد رأيت حديقة بها أزهار وأشجار ومياه لم يكن هذا شعراً، وإنما الشعر حقاً هو الذي يحمل للناس أبهة الخيال فيظهر للناس في وحدة جميلة بديعة تسترعي الأنظار، وتخلب الألباب، وأي خيال أجمل من قول كيتس (يوجد الغد مبرعماً في نصف(28/16)
الليل)
شوقي ضيف
بكلية الآداب(28/17)
الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية
3 - البرنامج الداخلي في طور التنفيذ
للأستاذ محمد عبد الله عنان
رأينا كيف نشأت الوطنية الاشتراكية الألمانية واستمدت قوتها من عوامل اليأس والفوضى التي غمرت الشعب الألماني عقب الحرب، ومن مختلف المصائب والمتاعب التي توالت عليه من جراء شروط الصلح وأعبائه، ومن تفاقم الخطر الشيوعي، وفشل الديموقراطية والنظم البرلمانية في معالجة الحالة وتسيير الشؤون، من تفاقم العطلة والأزمة الاقتصادية؛ هذا من الناحية السلبية، وأما من الناحية الإيجابية فإن وعود الوطنية الاشتراكية في العمل على تحقيق وحدة ألمانيا وسلامها ورخائها؛ ومكافحة الخطر الشيوعي وحل مشكلة العطلة، وإنهاض الزراعة والصناعة والتجارة ومعالجة الأزمة الاقتصادية بوجه عام؛ ثم في تحرير ألمانيا من عسف الظافر ومن أعباء معاهدة الصلح؛ كانت كلها تبث الأمل والانتعاش في الجموع وفي الشباب بنوع خاص، وتحشد خول علم الوطنية الاشتراكية ملايين الأنصار.
والآن لنر كيف عملت الوطنية الاشتراكية لتنفيذ برنامجها الداخلي منذ قبضت على مقاليد الحكم في 30 يناير الماضي.
لم تمض أسابيع قلائل حتى استأثر الهر هتلر وحزبه بكل سلطة حقيقية، وغمر تيار الوطنية الاشتراكية ألمانيا من أقصاها إلى أقصاها، وبدأت ككل حركة ثورية تنفذ برنامجها بمنتهى العنف والسرعة. فوجهت ضرباتها الأولى إلى الشيوعية والديموقراطية؛ سحق الشيوعية أو الماركسية من غاياتها الرسمية كما بينا، ولكنها اتجهت إلى سحق كتلة اليسار كلها باعتبارها مسئولة عن كل مصائب ألمانيا منذ خاتمة الحرب؛ وجدت في مطاردة الحزب الشيوعي فمزقته أبلغ تمزيق وصادرت مراكزه وأمواله وصحفه ونشراته، واعتقلت كل زعمائه ونوابه وأنصاره، وسحقت دعايته بكل ما وسعت، ومزقت الحزب الديموقراطي الاشتراكي أعظم الأحزاب البرلمانية منذ نهاية الحرب، ونكلت بزعمائه ونوابه وأنصاره، واعتقلتهم كالشيوعيين آلافاً مؤلفة، وصادرت كل مراكزه وصحفه، واختفت الشيوعية والديموقراطية من ألمانيا بسرعة مدهشة، في الظاهر على الأقل؛ وحققت الوطنية الاشتراكية الألمانية في ذلك ما حققته الفاشستية الإيطالية يوم قيامها، بيد أنها كانت أشد(28/18)
عنفاً وقسوة؛ وكانت وسائلها أشد إثارة وإغراقاً، ولا ريب أن سحق الوطنية الاشتراكية للشيوعية كانت عملاً جليلاً، بل لعله أجل خدمة أدتها إلى ألمانيا وإلى الدول الغربية كلها، ذلك أن البلشفية (الشيوعية) خطر اجتماعي على النظام والمدنية كلها، وكانت قد تقدمت في ألمانيا إلى حدود مروعة، وكانت تحمل أكبر تبعة فيما أصاب ألمانيا من الاضطراب والخراب والفوضى، وكانت ألمانيا ومازالت حاجز البلشفية من الشرق، بيد أن الوطنية الاشتراكية كانت متطرفة مغرقة في مطاردة الديموقراطية، وكانت تقصد بسحقها إلى غايات حزبية لا إلى غايات قومية، بل لم يقف الحزب الوطني الاشتراكي عند سحق كتلة اليسار، ولم يطق أن يرى إلى جانبه أي حزب آخر في ألمانيا مهما حمدت مبادئه ووسائله، فمال على الحزب الوطني الألماني، وحزب الوسط الكاثوليكي؛ وهما الحزبان اللذان حالفاه وعاوناه على استخلاص الحكم والسلطة المطلقة؛ وانتهى بحلهما وإدماج أنقاضهما فيه، وبذلك اختفت كل الأحزاب البرلمانية السابقة من ميدان السياسة الألمانية، واستطاع هر هتلر أن يفرض الوطنية الاشتراكية على ألمانيا كلها.
ولما كانت الوطنية الاشتراكية حركة طغيان مطلق، وقد بدأت بتعطيل الحياة الدستورية، فقد كان طبيعياً أن تعمل على إخماد جميع الحريات الدستورية حتى لا تقف عثرة في سبيلها. ولم تكتف في ذلك بمطاردة خصومها السياسيين إلقائهم في ثكنات الاعتقال آلافاً مؤلفة دون أية تهمة، وإصدار القوانين الاستثنائية المختلفة بل عمدت إلى الصحافة مظهر الرأي الحر فسحقتها وأخضعتها لرأيها ووحيها، وجعلتها تابعة لوزارة الدعاية التي أنشأتها؛ وعطلت كل صحيفة مخالفة في الرأي، وجعلت مهنة الصحافة نوعاً من المهن الرسمية. وكما أنه لا يستطيع اليوم إنسان في ألمانيا أن يرفع بالاعتراض على شيء من أعمال الحكومة، فكذلك لا توجد صحيفة ألمانية واحدة تستطيع أن تقول رأياً غير رأي الحكومة، ووزارة الدعاية (ووزيرها الدكتور جبلز) هي التي ترسم للصحافة كلها خططها وتلقي إليها أوامرها ووحيها. والشعب الألماني لا يعرف من سير الحوادث والشئون في ألمانيا إلا ما تذيعه صحافته الرسمية. ولم تفعل الوطنية الاشتراكية الألمانية في ذلك سوى أن حذت حذو البلاشفة في روسيا والكماليين في تركيا والفاشست في إيطاليا. ومن الطبيعي أنه حيثما قام الطغيان المطلق تنعدم كل ألوان الحرية الفردية. وهذا ما وقع في ألمانيا. ويفسر لنا أنصار(28/19)
النظام الهتلري ذلك بأن ألمانيا قد أصبحت كلها تدين بمبادئ الوطنية الاشتراكية وغاياتها وتؤيد سياستها ووسائلها بكل ما وسعت؛ ولكن كيف يمكن استجلاء الرأي العام إذا جرد من كل وسائل الإعراب والإفصاح؟
هذا وأما من جهة تركيز السلطة فقد خطت الوطنية الاشتراكية في ذلك خطوة جريئة؛ وأصدر المستشار هتلر مرسوماً يقضي بإلغاء استقلال الحكومات والمجالس الاتحادية ويخضعها بطريقة مباشرة لسلطة الحكومة المركزية ويجردها من لك سلطة معارضة؛ وتلك بلا ريب خطوة هامة في سبيل تدعيم الوحدة الألمانية؛ وتدعيم هذه الوحدة كما رأينا من أخص غايات الوطنية الاشتراكية. ونستطيع أن ندرك أهمية هذا الانقلاب متى ذكرنا كيف كانت الحكومات المحلية في بعض الولايات القوية (مثل بافاريا) تقاوم في كثير من الأحيان سياسة الحكومة المركزية وأعمالها. وكيف كانت الدسائس الأجنبية تتسرب إليها لتنظم فيها دعوة الانفصال (مثلما حدث في منطقة الرين أيام احتلال الحلفاء) تمزيقاً لوحدة ألمانيا وأضعافاً لها. وقد حقق هر هتلير في ذلك غاية جليلة، وأتم العمل العظيم الذي بدأه بسمارك في سبيل الوحدة الألمانية. وثمة خطوة أخرى اتخذت في سبيل تركيز السلطة السياسية هي إلغاء نظام النقابات القديم وتنظيمها طبقاً لدستور جديد يحرم عليها كل عمل سياسي ويجعلها بما تضم من ملايين عديدة خاضعة للحكومة من حيث توجيهها الاقتصادي والاجتماعي؛ وهذا أيضاً تقليد من جانب الوطنية الاشتراكية للفاشستية الإيطالية التي عرفت قوة النقابات فنظمتها واستخدمتها لغاياتها.
وقد بذلت الحكومة الوطنية الاشتراكية جهوداً لا بأس بها لمكافحة العطلة وإنعاش الزراعة والتجارة؛ وحذت حذو الفاشستية في العناية بأخلاق النشء ومطاردة ألوان الفساد الاجتماعي والجنسي، وتعزيز الميول الرياضية والأخلاق المحافظة؛ وفي الحد من حرية المرأة وتدخلها في الشئون العامة، وتوجيهها إلى المنزل والأسرة. وتلك من عناصر قوتها وتقدمها.
والآن ننتقل إلى مشكلة من أخطر وأدق المشاكل التي أثارتها الوطنية الاشتراكية الألمانية: تلك هي مشكلة الجنس وتطهيره وتفوقه، أو بعبارة أخرى هي المسألة اليهودية: ونحن نعرف أن سحق اليهودية الألمانية غرض أساسي من أغراض الوطنية الاشتراكية، وأنه(28/20)
أدمج منذ الساعة الأولى في برنامج الحزب الوطني الاشتراكي في مادة خاصة هذا نصها:
(لا يحق لغير أعضاء الأمة أن يكونوا موظفين في الدولة، ولا يحق لغير أولئك الذين ينحدرون من دم ألماني مهما كان مذهبهم أن يكونوا أعضاء في الأمة؛ وإذن فليس ليهودي أن يكون عضواً في الأمة) (المادة الرابعة): ويخصص هر هتلر في كتابه (جهادي) حيزاً كبيراً لنظرية الجنس؛ ويشرح بإفاضة خطر الجنس اليهودي وخواصه المنحطة؛ ويعتبر الجنس الآري وحده أهلاً لإنشاء الحضارة، والجنس اليهودي أشد الأجناس هدماً للحضارة؛ وإن الحضارات الإنسانية العظيمة لا تفنى إلا لأن الجنس المنشئ لها يفنى بامتزاج الدم وتسممه، وأن تاريخ الأمم الآرية يدل على أنها تنحط وتتدهور كلما انحرفت عن مبدأ فصل الأجناس وامتزجت بالشعوب المغلوبة؛ ويعدد هتلر مزايا الجنس الآري، ثم يتحدث عن خواص الجنس اليهودي، فيقول أنه جنس يضطرم بالأثرة، وأنه ذكي ولكنه مقلد مجرد من الابتكار والطرافة، وأنه لم يخلق لنفسه أية حضارة خاصة، ولا يحدوه أي مثل أعلى: ثم يصف الطرق التي يتبعها اليهودي في دخول المجتمعات الجرمانية، فيقول أنه يحل في أثر الجيوش الأجنبية، ويتقدم كتاجر ويشتغل بالوساطة والربا الخطر، ويحتكر التجارة ويرهق الفلاحين؛ ويجتمع اليهود في أحياء أو مجتمعات خاصة، وينشئون بذلك دولة داخل الدولة، ثم يملقون رجال السلطة والأمراء ويمدونهم بالمال، ويستظلون بنفوذهم وحمايتهم، ويسيطرون على البورصة والإنتاج؛ ثم يملقون الشعب ويبدون له في ثوب محبي الإنسانية وأصحاب النظريات الحرة، ويتكلمون الألمانية ولكنهم يحرصون كل الحرص على نقاء جنسهم، ويستعملون لتعزيز نفوذهم أداين قويتين هما الصحافة والبناء الحر (الماسونية). هذا من الناحية الاجتماعية، وأما من الناحية السياسية، فإن هتلر يعتبر الشيوعية (المركسية) يهودية في أصلها وفي غاياتها؛ ويقول لنا إن الوطنية الاشتراكية تؤمن بزعامة الجنس وأهمية الفرد وتجل الزعامة والفكرة الارستوقراطية، ولكن المركسية ديموقراطية حرة تحل مكان الفرد فكرة الجماعة وتتخذ من ذلك وسيلة لتمكين اليهودية من الاستئثار بالنفوذ العالمي.
وليس فيما يقوله هر هتلر عن اليهودية شيء جديد. وإنما هو ترديد فقط للنظرية الألمانية القديمة التي قامت عليها خصومة السامية الحديثة. وكان الكاتب الألماني كرستيان لاصن(28/21)
أول من نوه في منتصف القرن الماضي بأهمية الفوارق الجنسية بين الجنس الآري والجنس السامي، وبتفوق الآريين في الذهنية والخواص الجنسية على الساميين، وتبعه المؤرخ الفرنسي رينان في التنويه بانحطاط الأجناس السامية. وقد كانت ألمانيا منذ أواخر القرن الماضي مهداً خصباً لخصومة السامية (أ. حركة اضطهاد اليهود) وكان بسمارك قبل قيام الإمبراطورية يصادق اليهود ويعتمد عليهم في تحقيق سياسته لأنهم كانوا بين الأحرار قوة بارزة، وكان الأحرار يؤيدون وحدة ألمانيا، فلما تحققت الوحدة الألمانية انقلب بسمارك لمحاربة الأحرار واليهودية ووجد في خصومة السامية سلاحاً قوياً، وتفاقمت الحركة غير بعيد، وأيدها المحافظون ورجال الدين وسرت الصحية بأن اليهود خطر على ألمانيا والفت صداها في الرأي العام بقوة. وعرض اليهود إلى صنوف الاضطهاد والزراية واقترح بعض النواب إبعاد اليهود عن الوظائف والمدارس، ونظمت الجهود لمقاطعة التجارة اليهودية، وكادت الحركة تضرم في ألمانيا نار الحرب الأهلية لولا أن رأى جماعة من العقلاء والمفكرين وعلى رأسهم ولي العهد (الإمبراطور ولهلم الثاني فيما بعد) خطورة الحركة وسوء عواقبها، فأذاعوا منشوراً وقعه كثير من أعلام العصر شرحوا فيه أخطار هذه الخصومة القومية، ووصفوها بأنها وصمة في شرف ألمانيا، وناشدوا الشعب أن يخلد إلى السكينة والاعتدال فهدأت الحركة واضمحلت بسرعة وانصرف عنها معظم العقلاء والمعتدلين،
وهذه نفس النظرية - نظرية الخصومة السامية - التي نقلها هر هتلر وصاغها في برنامج حزبه كمبدأ أساسي يجب أن تعمل الوطنية الاشتراكية مذ تولت مقاليد الحكم لسحق اليهودية بمنتهى العنف والقسوة والسرعة، فطاردت اليهود في كل مناحي الحياة العامة بشدة، وقضت الحكومة الهتلرية بطرد جميع الموظفين غير الآريين (اليهود) من وظائفهم في جميع مصالح الحكومة المركزية والمحلية، وإقصاء جميع المستخدمين والعمال اليهود عن أعمالهم في جميع الجهات والهيئات والأعمال، وعزل جميع القضاة وأساتذة الجامعات والمعلمين اليهود، وقضت بطرد الأطباء اليهود من جميع المستشفيات العامة وشطب أسمائهم من سجل الأطباء والجمعيات الطبية، وفرضت عليهم في مزاولة العمل الخاص قيوداً تستحيل معها مزاولة المهنة، وحرمت على معظم المحامين اليهود مزاولة مهنتهم،(28/22)
وحرمت على اليهود في المستقبل مزاولة المهن والأعمال التي تقتضي درجة عالية من التعليم، وجعلت للطلبة اليهود في المدارس الثانية والعالية نسبة ضئيلة، وحددت نسبتهم في، المستقبل بواحد في المائة، ونظم الحزب الوطني الاشتراكي من جهة أخرى مقاطعة التجارة اليهودية في سائر ألمانيا، ونفذها بطريقة رسمية يوم أول أبريل الماضي رداً على دعوة اليهودية في الخارج إلى مقاطعة التجارة الألمانية، وعلى الجملة فإن الحكومة الألمانية لم تترك حقاً مدنياً أو سياسياً لليهود إلا سلبته ولم تترك لهم وسيلة مشروعة للحياة والعيش والعمل إلا سحقتها، وصيغ ذلك كله في طائفة من القوانين الاستثنائية التي لم يسمع بها، ونفذ في غمر من المناظر المروعة، وارتكبت خلال تنفيذه سلسلة من الاعتداءات والجرائم المثيرة كانت لها في الرأي العالمي أشد وقع، واتخذت ذريعة لحملات شديدة على الوطنية الاشتراكية الألمانية وعلى مبادئها ووسائلها.
ولا نقف طويلاً عند هذه الحوادث المعروفة، ولكن يحسن أن نلخص الأسباب والحجج التي تبرر بها الوطنية الاشتراكية موقفها. فهي تقول إن اليهود يبلغون في ألمانيا نحو واحد في المائة فقط من مجوع الشعب الألماني (نحو سبعمائة ألف من 65 مليوناً) ومع ذلك فقد استطاعوا في ظل الحكومات الديموقراطية أن يحصلوا على أعظم قسط من النفوذ والسلطان في دوائر الحكم والمالية والثقافة والمهن الحرة والفنون والتجارة والصناعة، وكل مقومات الحياة العامة، وأنهم بلغوا في بعض هذه، الميادين نسباً لم يسمع بها، مثال ذلك أن نسبة الأطباء اليهود في برلين بلغت 52 في المائة من المجموع وبلغت أكثر من ذلك في المحاماة، وبلغت نسبتهم في دوائر البورصة تسعين في المائة، ووصلت أيضاً في دوائر التعليم إلى حدود مزعجة، مثال ذلك أنه كان بجامعة برزولا سنة 1931 من الأساتذة اليهود 25 في المائة في كلية الفلسفة و47 في المائة في كلية الحقوق و45 في المائة ف كلية الطب. وأما في الدوائر المالية فقد كان نفوذهم فوق كل نفوذ، مثال ذلك أنه في سنة 1928 كان خمسة عشر يهودياً يسيطرون على إدارة 718 شركة ألمانية وهكذا. وتزيد الوطنية اشتراكية أن كثيراً من اليهود الذين تقصدهم بالمطاردة ليسوا من اليهود الألمان، ولكنهم وفدوا على ألمانيا عقب الحرب من أوكرانيا وغاليسيا وبولونيا وأنهم من العناصر المنحطة التي يخشى منها على سلامة الجنس الجرماني. بيد أن مطاردة اليهودية في ألمانيا كانت(28/23)
عامة شاملة كما تقدم.
والواقع أن الوطنية الاشتراكية الألمانية لا تقف في صوغ نظرية تفوق الجنس وفهمها عند هذا الحد، بل تذهب في ذلك إلى أبعد مدى. فهي تنادي بتفوق الجنس الآري على جميع الأجناس الأخرى لا على الجنس اليهودي وحده، وترى أن الأجناس غير الآرية كلها أجناس منحطة، وتعتبر شعوب البحر الأبيض الجنوبية والشعوب السامية والشرقية بوجه عام كلها من الشعوب المنحطة التي يجب أن يستعبدها الجنس الآري، ويجب أن يحرص على نقائه من الامتزاج بها. وهذه نظرية تستحق منا نحن المصريين والشرقيين عامة تأملاً خاصاً. ولسنا في حاجة لأن نقول إنها لا تقوم على سند من العلم أو البحث أو التفكير السليم، لأنها ليست إلا مظهراً جديداً لما تجيش به الشعوب الغربية نحو الشرق من أثرة وتحامل وليست إلا عنواناً جديداً لتلك النزعة الاستعمارية الغربية التي ترى في الشرق أبداً فريسة يجب التسابق لاقتسام أشلائها. على أن إغراق الوطنية الاشتراكية في نزعتها الجنسية وما أثارته باسمها من ضرام الخصومة السامية، وما لجأت إليه في تنفيذ سياستها من العنف والبطش. انتهت إلى نتائج لم تكن تتوقعها، فقد اتخذت كما قدمنا مادة لحملات شديدة على ألمانيا في معظم دول العالم، وكان لذلك أثره في هيبة ألمانيا وسمعتها ومصالحها الخارجية، وكان أكبر عامل في تحول الرأي العام في إنكلترا وأمريكا عن مناصرة ألمانيا في ميدان السياسة الدولية.
هذا ما فعلته الوطنية الاشتراكية الألمانية لتنفيذ برنامجها الداخلي وسنرى في الفصل القادم كيف سارت في تنفيذ برنامجها الخارجي.
محمد عبد الله عنان(28/24)
وقفة ثالثة على جسر إسماعيل
أما أنا فلم أقف على هذا الجسر. . لأن مشيتي عليه كانت أقرب إلى العدو منها إلى الوقوف. . . . إن شيئاً فقد مني فكيف تطلب مني أن أقف. . .؟ دعني أسير لأبحث عنه. . ودع قلبي يسبق بصري إلى ما وراء الجسر. . . والجسر. . . ما وراؤه. . .؟ إنني لم أجد شيئاً. . . إن نفسي كانت حائرة. . . ولكن الحيرة لم تتطرق إلى بصري. . . فقد كان ساهماً جامداً مصوباً إلى ما وراء الجزيرة، إلى ما وراء الأفق. . . الشفق البعيد، ففيه قتمة من قتمة الليل. . وفيه ظلام من ظلم البشر. . .
فكيف كنت تطلب مني يا سيدي أن أقف. . .؟ لقد كان (بافنوس) آثماً في بحثه عن (تأسيس). . لذلك كانت وقفاته كثرة. . أما أنا فلماذا أقف. . .؟ إن هرم (خوفو) بعيد عن الجسر. . فإذا وصلته فقمته بعيدة عن القاعدة. . . فإذا أدركتها فالفضاء وسيع فسيح. . .
وقف أستاذي على جسر إسماعيل فتمهل وتريث. . . للجسر جمال. . . للطير تغريد. . . للماء بريق. . .
أما أنا فلم أقف، لأن الأعمى لا يسر ناظريه ما قد يكون حوله من جمال أو بهاء أو رواء. .
أما أنا فلم أقف لأن الأصم لا يطربه تغريد البلبل. . . والأذن المصلوم لا يزينه قرط. .
أما أنا فلم أقف لأن المشرف على الغرق لا يتغزل في جمال الطبيعة ولا يستهويه خرير الماء أو تلاطم الأمواج
إن النيل الذي يجري تحت الجسر لو خلبه سحر المنظر لوقف في مكانه يا سيدي كما وقفت. . . ولكنه مثلي مثقل بالهموم، مقيد بالأوهام، محمل بالأرزاء، لذلك يهرول باحثاً عن البحر. . . ليلقى فيه الغرين الذي يثقله. . . وليدفع عنه الشاطئ الذي يقيده. . وليذيب أرزاءه في صفائه، ويمزج سكونه في اضطرابه. . . . . والفرق بيني وبين النيل. . . أن النيل بجد بغيته، أما أنا فلا أجد. . .
ثم وقف صديقي على جسر إسماعيل فتأوه وتأسى. . . فالأسد نائم. . . والثكنات متيقظة. . .
حقاً يا صديقي إن من يرى دمعك ينهمل. . . لا تمهله دموعه. . . ولكن. . . . . . اعذرني يا صديقي لأنني لم ألق لك بالاً. . . ولم أسمع أنين قلبك وأنت واقف على جسر(28/25)
إسماعيل. . . لأن أنين قلبي قد طغى على نفسي فلم أر ولم أسمع. . .
يا أستاذي. . . في نفسي قبس. ولكن بصري عليه غشاء. . .
يا صديقي. . .
في قلبي. . . من قلبك شعلة. ولكن خافقي مريض. . . . . . لقد بحثت عن حبيبتي في كل بقع الأرض فلم أجدها. . . . . من أجل ذلك رأيتني أسير مهرولاً على جسر إسماعيل محدقاً ببصري إلى ما وراء الجسر. . إلى ما وراء الأفق. . . إلى الشفق البعيد. . ففيه قتمة من قتمة الليل، وفيه ظلام من ظلم البشر. . . . .
جورج وغريس(28/26)
كيف اختار المنصور موقع بغداد
دالت دولة الأمويين وقامت على أثرها دولة بني العباس تسندها كواهل الفرس وتؤيدها سيوفهم، وكان لابد للدولة الجديدة من عاصمة جديدة، إذ يرى المتتبع لتاريخ العرب أن تغير العاصمة لابد منه عندما تتولى الحكم أسرة جديدة، ففي بدء الإسلام هاجر النبي (ص) من مكة واتخذ يثرب مقراً له فانتقل بذلك المركز السياسي لجزيرة العرب من مكة المدينة التجارية القديمة إلى يثرب التي سميت بعد مدينة الرسول، والتي أصبحت عاصمة الإسلام ومركز الحكومة، وبقيت كذلك في حياة النبي (ص) والخلفاء الراشدين الثلاثة من بعده أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلما آلت الخلافة إلى علي عليه السلام اتخذ الكوفة مقراً، وحدث النزاع بينه وبين معاوية منافسه الذي مرت عليه عشرون سنة وهو أمير الشام. قد وطد فيها أمره وأسكن أقرباءه وأتباعهم، حتى إذا ما انتهى هذا النزاع بشهادة الإمام الحسن أصبحت دمشق حاضرة الإسلام، وكان موقعها مناسباً لأن تكون عاصمة حكومة الأمويين العربية، فهي واقعة وسط إقليم خصب، وهي قريبة من مكة والمدينة مركزي القوة الدينية كما أنها تقع على تخوم الصحراء العربية التي يتخذ الخلفاء من سكانها جنوداً يهاجمون بلاد الروم القريبة من دمشق أيضاً، ولم يكن يقلل من أهمية موقع دمشق أنها لم تكن واقعة على نهر صالح للملاحة، لأن تجارة المسلمين كانت حينذاك بسيطة تتبع طريق القوافل وتحمل على الإبل.
وإذا ما صلحت دمشق لأن تكون حاضرة الأمويين، فإنها لا تصلح أن تكون حاضرة بني العباس، فهي مأهولة بأتباع الأمويين ومناصريهم وهي بعيدة عن بلاد فارس، مصدر قوة العباسيين ودعامة ملكهم، وفضلاً عن ذلك فقد أصبحت مهددة بالروم الذين اغتنموا فرصة ضعف الأمويين، فأخذوا يشنون الغارة تلو الغارة، كي يثأروا لاندحارهم القديم، فالعاصمة الجديدة إذن يجب أن تتجه نحو الشرق قريبة من بلاد فارس، ثم إن التبسط التجاري يقضي أن تكون على ماء يصلها بالبحر ومن هذا تعين أن يكون موقعها إما على الفرات وإما على دجلة، حيث لم يتردد العباسيون أن يجعلوها هناك.
لما انتهى السفاح من حروبه ومذابحه ابتنى الهاشمية بجوار الأنبار
المدينة الفارسية القديمة، واتخذها مقراً له وتقع هذه الهاشمية على ضفة(28/27)
الفرات الشرقية، حيث يتفرع منه النهر الكبير الذي عرف فيما بعد
باسم نهر عيسى، وفيها توفي السفاح سنة 136 هجرية. وبعد قليل من
تبوئ المنصور كرسي الخلافة شرع في بناء مقر له سمي بنفس الاسم،
وتقع هذه الهاشمية الثانية بين الكوفة والحيرة على الجانب الغربي من
الفرات، في مجل لا يبعد كثيراً عن البطائح، مصب الفرات في القرن
العاشر الميلادي وتقول رواية أخرى أنها كانت قرب مدينة ابن هيبرة
القريبة من الكوفة. ومدينة ابن هبيرة هذه غير قصر ابن هبيرة. لم
يكن موقع الهاشمية الثانية مناسباً ليكون عاصمة بني العباس لقربها من
الكوفة مركز شيعة العلويين ولأن القبائل التي تقطنها كانت لا تفتأ تثور
وتشاغب، وقد تركها المنصور بعد ثورة الراوندية الذين تظاهروا
بتقديسه وكادوا يفتكون به.
وإذا ما انتقلت العاصمة إلى العراق فمن الواضح أن فائدة بقعة على دجلة خير منها على الفرات لأنها تكون وسط إقليم خصب فقد كانت مياه الفرات تسقي الأرض التي بينه وبين دجلة كما كانت مياه هذا الأخير تروي الأرض الواقعة شرقيه، وفضلاً عن ذلك فإن القسم الأسفل من دجلة كان أصلح للملاحة من الفرات.
وقد قام المنصور برحلات عدة للتفتيش على موقع لائق بالعاصمة فسافر من جرجايا إلى الموصل، متبعاً شاطئ دجلة ووقع اختياره أولاً على موقع قرب باريما جنوب الموصل عند الموقع الذي يعرف اليوم باسم الفتحة، حيث يقطع نهر دجلة جبال حمرين ولكنه تركه حين علم بغلاء المرة وقلتها فيه وأخيراً اختار قرية بغداد الفارسية الواقعة، على ضفة دجلة الغربية، شمال مصب نهر الصراة تماماً وأسس فيها عاصمته الجديدة سنة 145 للهجرة (762 للميلاد).
ويظهر من الاستكشافات التي قام بها السير هنري رولنصن سنة 1848 للميلاد أنه قد كان(28/28)
في هذا المحل مدينة من المدن القديمة جداً فقد وجد آجراً مكتوباً عليه سم بختنصر ولقبه، كما وجد في خرائط الآشوريين الجغرافية اسماً لمدينة يقرب من اسم بغداد.
وقد كانت تقام في قرية بغداد الفارسية أثناء حكم الساسانيين سوق شهرية اشتهرت كثيراً في صدر الإسلام، إذ هاجمها المسلمون سنة 13 للهجرة وغنموا كثيراً من الذهب والفضة ثم لم يعد يظهر اسم بغداد في التاريخ حتى سنة 145 للهجرة حين أخذ المنصور يفتش عن موقع لعاصمته الجديدة، وقد كان في هذا الموقع لذلك الحين عدد من الأديرة وخاصة أديرة الرهبان النسطوريين، ومنهم عرف المنصور خلو هذا المحل من البعوض الذي يكثر في المحلات الأخرى من دجلة، وأن لياليه باردة حتى في الصيف وكانت هذه المميزات بلا شك مما أغرى المنصور على اختيار هذا المكان موقعاً لعاصمته.
وقد أطنب مؤرخو العرب وجغرافيوهم، في الكلام عن فوائد موقع بغداد المتعددة، فيذكر لنا المقدسي مثلاً أن الخليفة انتصح بقول ساكني هذا المحل، ولخص في الأسطر التالية الكلام الذي خوطب به المنصور (الذي أرى يا أمير المؤمنين أن تنزل أربعة طساسيج (مقاطعات) في الجانب الغربي طسوجان، وهما قطريل وبادرابا، وفي الجانب الشرقي طسوجان، وهما نهر بوق وكلواذى فأنت تكون بين نخيل وقرب الماء فإن أجدب طسوج وتأخرت عمارته، كان في الطسوج الآخر العمارات، وأنت يا أمير المؤمنين على الصراة تجيئك الميرة في السفن من المغرب في الفرات، وتجيئك طرائف مصر والشام، وتجيئك الميرة في السفن من الصين والهند والبصرة وواسط في دجلة، وتجيئك الميرة من أرمنية وما اتصل بها في تامرا حتى تصل إلى الزاب، وتجيئك الميرة من الروم وآمد والجزيرة والموصل في دجلة. وأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر وخربت القناطر لم يصل إليك عدوك، وأنت بين دجلة والفرات لا يجيئك أحد من المشرق والمغرب إلا احتاج إلى العبور، وأنت متوسط للبصرة وواسط والكوفة والموصل والسواد كله، وأنت قريب من البر والبحر والجبل).
إن التبصر الذي أظهره الخليفة المنصور في اختيار موقع بغداد يظهر جلياً في تاريخ بغداد الأخير، فقد توسعت هذه المدينة توسعاً كبيراً حتى كانت المدينة الثانية بعد القسطنطينية في العصور الوسطى ولم يكن لها نظير في جلالها وعمرانها بين مدن آسيا الغربية، ولم(28/29)
تستطع الحروب والحضارات وانتقال الخلافة منها إلى سامراء، وحتى تخريب المغول لها، كل هذه لم تستطع أن تحط من مركز بغداد وكونها عاصمة ما بين النهرين، فاتخذها الأتراك مقراً لهم، والآن بعد أن مر عليها أحد عشر قرناً، أصبحت عاصمة الحكومة العراقية.
سليم محمود الأعظمي(28/30)
من صور الحياة
صديق. . .
إلى تلك النفس الظلوم
قلبي الساعة مجال لصراع عنيف بين عاطفة من الحب والوفاء، وعاصفة من شيء يشبه المقت وأنا بينهما حائر مضطرب:
لي صديق لا يزال حياً، ومع ذلك فأنا أميل إلى الاعتقاد بأنه مات، لأني كفنته في أثواب الإهمال، ودفنته في زوايا النسيان، ولأن أباه قضى، ووفاءه مضى، وليس بعد فقد الآباء والوفاء معنى للحياة.
إذن مات صديقي بالنسبة لي على الأقل. ولكنه أورثني فيما خلف لي من تركته المثقلة بالهم، جروحاً لا يزال الدم يقطر منها ولكم وددت لو أن الأيام عقدت حول اسمه ورسمه سحباً من النسيان لا ينفذ إليها شعاع من الذكرى وطالما جاهدت نفسي في أن أجعل بيني وبينه من التناسي أستاراً صفيقة، وأسواراً منيعة، فلا يسعى إلي ولا أصل إليه، فلم أوفق. ولا تزال ذكراه تلم بي وتحوم حولي، ولا أزال أتردد على رسائله وصوره كما يتردد العابد إلى محرابه ولقد يتفق لي أحياناً أن أصادف هذا الصديق الميت الحي، فأقف أمامه مضطرب العاطفة إنه يشبه صديقي في جماع شكله، إلا أن صديقي كان صفي النفس وفي القلب نقي الضمير، وليس هذا الإنسان من تلك الصفات في قليل ولا كثير! لقد أتممت اليوم قراءة الصفحة الثانية بعد العشرين من كتاب حياتي، وعاشرت الناس بقدر ما اتفق لي أخياراً وأشراراً فلم أر شيئاً أوقع في النفس من خيانة الصديق. وكنت ولا أزال أحتقر نوعاً من الصحاب يصادقون شهراً وينافقون دهراً، ثم يتقلصون أخيراً عن الصاحب فإذا هو عندهم منكر الطلعة كأن لم يكن بينهما من أسباب الود القديم ما يربط أحدهما بالآخر. . . وصديقي من صميم هذا النوع. قطعت معه في طريق الحياة أشواطاً لم يقف الأمر خلالها بيننا على ما يكون بين الصديق صاحبه من المجاملة، بل نشأ بيننا لون من الضب العميق الوثيق لم تعبث به الأغراض، ولم تفسده الأعراض فأخلصت له كما يجب أن يخلص الصاحب، لا أبتغي على ذلك جزاء ولا شكوراً إلا أن يأخذ نفسه بشيء من الإخلاص، فأعطاني على ذلك الموثق وأقسم جهد أيمانه ومضى يزعم أن شيئاً في الوجود لا يستطيع(28/31)
العبث ثم إذا هو أخيراً يتكفل بنقض دعوى نفسه وترجيح الشك فيها على اليقين.
على أني مع ذلك لست أكرهه، ولست أطمع كذلك في رجعته، فإن النفس الجاحدة أثبت على الباطل ولكن ما أخوفني أن يفيق ضميره في الفينة بعد الفينة كما يفيق المجنون! فربما حاسب نفسه فأحس أنه أساء إلي، وربما يحس في أغوار نفسه مرارة الحسرة وحرارة الندم، ولست أحب أن يمسه شيء من ذلك:
فبعض الظالمين وإن تناهى ... كهى الظلم مغفور الذنوب
أي صديقي الميت الحي!
عزيز علي أن تكون هذه صورتك! ولكن الله يشهد أني لم أزد على الأمانة في رسمها للناس، ومهما أكن حريصاً على رضاك فإني على رضا الحق أحرص.
البكري القلوصناوي(28/32)
الطفلة الراقصة
للآنسة سهير القلماوي
ليسانسيه في الآداب
كان اليوم يوم عيد الأطفال فأخذ أهل المصيف يتوافدون على فندق كبير وكل معه طفل أو طفلان. وقد ارتدت الأطفال أزياء مختلفة جميلة. فهذا الطفل من سكان الجبال، وذاك راجات الهند، وهذه شريفة، روسية، وتلك راقصة إسبانية. وهكذا اجتمعت للمتفرجين مجموعة طريفة جميلة من أزياء مختلفة يزيد جمالها أن ممثليها كلهم أطفال تقل أعمارهم عن العشر سنوات.
وصدحت الموسيقى الراقصة وحملت نسمات البحر أنغامها إلى الآذان فهزت القلوب هزاً لذيذاً مطرباً. واندفع الأطفال في حماس بريء يرقصون ويضحكون ويهللون. وكانت هي بينهم طفلة في السابعة أو الثامنة من عمرها. مرتدية لباس راقصة حديثة لونه أخضر جميل. وقد بدت منه تقاطيع جسمها جميلة منسجمة بديعة التكوين. وما كاد نصف الأطفال ينأى عن مكان الرقص ليستريح حتى اندفعت هي إليه ترقص رقصاً فنياً رشيقاً مدهشاً. واتجهت إليها الأنظار كلها. وخجل الأطفال من رقصهم البسيط الفطري فانتحوا ناحية يفسحون المجال لتلك الطفلة الراقصة.
ما دهشت لرقص قدر ما دهشت لرقصها، وما هزني الطرب لمنظر أعجبني قدر ما اهتززت لمنظرها، أي جمال! أي فن! أي طفولة مرحة بريئة ساذجة! هذه هي الحياة عندها: رقص وموسيقى، فرح ومرح، حب وإعجاب، لقد دوى التصفيق في أذنها مراراً فاتسعت له حدقتا عينيها اتساع النشوة والرضى، وأغراها التصفيق بالمزيد، بل بالتفنن في المزيد، فمازال بها ظمأ إلى الإعجاب والاستحسان. ترى أتظل الحياة لها هكذا؟ أتظل هي هي مرحة، طروباً لاهية، راقصة؟ أم ستضطرها الحياة إلى تذوق ألوان أخرى منها؟ أستعرف الألم، أستعرف العذاب؟ أستنسى المرح؟ أستظل راقصة أم سيبدل الدهر رقصها نحيباً مشجياً؟
لهفي عليك، طفلتي يوم تودين الرقص فلا تستطيعين! لهفي عليك نوم تذكرين أيام طفولتك بالحسرة اللاذعة والألم الأليم! ترى أستظل نظرتك كما هي إلى تصفيق الناس وإعجابهم(28/33)
بك؟ أستظلين ظامئة إليهما تسعين إلى المزيد ولا ترضين إلا به، أم ستستتفهين هذا الإعجاب وتزدرين هذا التهليل والتصفيق؟ ترى أتظلين حريصة على رضى الناس عنك أم ستعلمك الأيام أن رضاءهم أرخص من أن تسعى إليه؟ كم أخاف طفلتي هذا الإعجاب، كم أخافه على أخلاقك وعلى حياتك المستقبلة. ستتعودينه، وستفقدينه وستتألمين أمض الألم لفقده، ثم سترينه يكال لغيرك كيلاً، ولكن الحياة ستسلمك إلى نوع من الرضى اليائس، ستعرفين بعد أن تصهرك الآلام أن الأيام دول وأن الدوام نقيض الحياة، ستؤمنين بكل هذا ولكن بعد دروس ودروس. دروس لا كدروس الرقص التي تعلمتها فرحة لذيذة منعشة. ولكنها دروس قاسية مؤلمة موئسة.
ودوى التصفيق فانحنت الطفلة الراقصة وكم كانت رشيقة في حركاتها الشاكرة الراضية، كم كانت الغبطة تشع من عينيها بريقاً لامعاً. وانتحت الطفلة ناحية ثم عزفت الموسيقى دور رقص روسي، فقامت طفلة أخرى في لباس رقص روسي وأخذت ترقص رقصة صعبة بديعة. وكال لها المتفرجون التصفيق كيلاً، فأدرت رأسي أبحث عن الطفلة الأولى. كانت في ركن بعيد تنظر إلى الراقصة الجديدة نظرة المتعجب المعجب الفرح، وتتبع حركاتها حركة حركة فتصفق لها كلما قامت بحركة صعبة فأتقنتها، كانت أشد المعجبين بالراقصة الجديدة حماساً وأخثر المتفرجين تصفيقاً لها. يا للطفولة البريئة الطاهرة! لم تخط الغيرة بعد سطراً من سطورها ولم يخط الحسد كلمة من كلماته. يا للطفولة المرحة الطروب ما أجملك وما أطهرك!
وصدحت الموسيقى ثالثة فقامت الطفلة راقصة لاهية طروباً، ودوى لها التصفيق وانتشت بنشوة الإعجاب بها من جديد، تفننت في رقصها وأبدعت. فلمت نفسي على أوهامي وخيالي. حصن الطفولة مازال حصيناً لم ينفذ فيه سهم من سهام الدهر بعد. ليتك تظلين طفلتي هكذا. ليت الحياة تدعك كما أنت عصفورة من عصافير جنتها تغنين وترقصين وتلهين. ليتك لا تعرفين للحياة معنى غير ما تعرفين الآن. أبقي طفلتي كما أنت راقصة. فرحة مرحة إلى ما شاء الله. الحياة الحياة ما هي؟؟: رقصة. فأرقصيها لاهية.
سهير القلماوي(28/34)
الشافعي واضع علم أصول الفقه
للأستاذ الشيح مصطفى عبد الرازق
أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب
- 6 -
- الدراسات الفقهية إلى عهد الشافعي. ب - أهل الرأي وأهل الحديث
جـ - الشافعي بين أهل الرأي وأهل الحديث وآثاره وكتبه
د - وضع الشافعي علم أصول الفقه
وكان أهل الحديث يعيبون أهل الرأي بأنهم يأخذون في دينهم بالظن، وأنهم ليسوا للسنة أنصاراً ولاهم فيها بمتثبتين، فان أصحاب أبي حنيفة يقدمون القياس الجلي على خبر الواحد وهم يقبلون المراسيل، والمجاهيل - أي الحديث المرسل الذي أسنده التابعي أو تابع التابعي إلى النبي خلى الله عليه وسلم من غير أن يذكر الصحابي الذي روى الحديث. أما المجاهيل فهم مجهولو الحال من الرواة -
ثم لا يقبلون الحديث الصحيح إذا كان مخالفاً للقياس، ولا يقبلونه في الواقعة التي تعم فيها البلوى: الرازي ص250، 251
كانت الحال على ما ذكرنا حين جاء الشافعي، وقد تفقه الشافعي أول ما تفقه على أهل الحديث من علماء مكة، كمسلم بن خالد الزنجي، وسفيان بن عيينه، ثم ذهب إلى إمام أهل الحديث (مالك) ابن أنس في المدينة فلزمه، ولقي من عطفه ومن فضله ما جعله يحبه ويجله (عن يونس بن عبد الأعلى أنه سمع الشافعي يقول: (إذا ذكر العلماء فمالك النجم، وما أحد أمن علي من مالك بن أنس) الانتقاء ص23
على أن نشأة الشافعي لم تكن من كل وجه نشأة أهل الحديث، ولا استعداده استعدادهم.
لقد توجه في أول أمره إلى درس اللغة والشعر والأدب وأخبار الناس، ولم يقطع صلته بهذه العلوم حين وصل حبله بأهل الحديث الذين كانوا لا يرونها من العلم النافع (حكي عن مصعب الزبيري قال: كان أبي والشافعي يتناشدان، فأتى الشافعي على شعر هذيل حفظاً وقال: لا تعلم بهذا أحداً من أهل الحديث فانهم لا يحتملون هذا، معجم الأدباء ص380)(28/35)
وكان الشافعي بطبعه نهماً في العلم، يلتمس كل ما يجده من فنونه، وقد ذكر من ترجموا له: أنه اشتغل بالفراسة حين ذهب إلى اليمن، وعالج التنجيم والطب، وربما كان درسهما في إحدى رحلاته إلى العراق، حيث كان التنجيم يعتبر فرعاً من فروع العلوم الرياضية، وكان الطب فرعاً من العلم الطبيعي، والعلم الرياضي، والعلم الطبيعي قسمان من أقسام الفلسفة التي كان مسلمو العراق أخذوا يتنسمون ريحها، وكان الشافعي مغرى بالرمي في شبابه ولم يكن في كهولته يأنف من الوقوف عند مهرة الرماة يدعو لهم ويمدهم بالمال، ويظهر: أنه لم يكن شديداً في جرح الرجال كعادة أهل الحديث، وقد نقل صاحب كتاب (طبقات الشافعية الكبرى) حكاية تدل على سخرية الشافعي من تزمت المزكين.
(قال الشافعي - رضي الله عنه - حضرت بمصر رجلاً مزكياً يجرح رجلاً فسئل عن سببه وألح عليه فقال: رأيته يبول قائماً، قيل وما في ذلك؟ قال: يرد الريح من رشاشه على بدنه وثيابه فيصلي فيه، قيل هل رأيته أصابه الرشاش وصلى قبل أن يغسل ما أصابه؟ قال: لا ولكن أراه سيفعل؟ حـ - 1 - ص 194، 195
وكان في العلماء المعاصرين للشافعي: بل أهل الرأي منهم بله أهل الحديث من لا يراه ممعناً في الحديث (عن أبي عبد الله الصاغاني يحدث عن يحيى بن أكثم قال: كنا عند محمد بن الحسن في المناظرة، وكان الشافعي رجلاً قرشي العقل والفهم، صافي الذهن، سريع الإصابة، ولو كان أكثر سماع الحديث لاستغنت أمة محمد به عن غيره من العلماء (ابن حجر ص59)
ولما ذهب الشافعي إلى العراق استرعى نظره تحامل أهل الرأي على أستاذه مالك وعلى مذهبه، وكان أهل الرأي أقوى سنداً وأعظم جاهاً بما لهم من المكانة عند الخلفاء، وبتوليهم شؤون القضاء، ذلك إلى أنهم أوسع حيلة في الجدل من أهل الحديث وأنفذ بياناً، ويمثل حال الفريقين من هذه الناحية، ما روي عن أمامي أهل الرأي وأهل الحديث: أبي حنيفة ومالك.
روى ابن عبد البر المالكي عن الطبري قال: وكان مالك قد ضرب بالسياط، واختلف فيمن ضربه وفي السبب الذي ضرب فيه قال: فحدثني العباس بن الوليد قال: خبرنا ذكوان عن مروان الطاطري أن أبا جعفر نهى مالكاً عن الحديث: (ليس على مستكره طلاق) ثم دس(28/36)
إليه من يسأله عنه فحدث به على رؤوس الناس (الانتقاء ص43، 44)
أما أبو حنيفة فينقل في شأنه الموفق المكي في كتاب (المناقب) (عن معمر بن الحسن الهروي يقول: اجتمع أبو حنيفة ومحمد ابن إسحاق عند أبي جعفر المنصور، وكان جمع العلماء والفقهاء، من أهل الكوفة والمدينة وسائر الأمصار لأمر حزبه وبعث إلى أبي حنيفة فنقله على البريد إلى بغداد، فلم يخرجه من ذلك الأمر الذي وقع له إلا أبو حنيفة، فلما قضيت الحاجة على يديه حبسه عند نفسه ليرفع القضاة والحكام الأمور إليه، فيكون هو الذي ينفذ الأمور ويفصل الأحكام، وحبس محمد بن إسحاق ليجمع لابنه المهدي حروب النبي - ص - وغزواته قال فاجتمعا يوماً عنده وكان محمد بن إسحاق يحسده لما كان يرى من المنصور من تفضيله وتقديمه واستشارته فيما ينوبه وينوب رعيته وقضاته وحكامه، وسأل أبا حنيفة عن مسألة أراد بها أن يغير المنصور عليه، فقال له ما تقول يا أبا حنيفة في رجل حلف ألا يفعل كذا وكذا أو أن يفعل كذا وكذا ولم يقل إن شاء الله موصولاً باليمين، وقال ذلك بعدما فرغ من يمينه وسكت، فقال أبو حنيفة لا ينفعه الاستثناء إذا كان مقطوعاً من اليمين، وإنما كان ينفعه إذا كان موصولاً به، فقال وكيف لا ينفعه وقد قال جد أمير المؤمنين الأكبر أبو العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن استثناءه جائز ولو كان بعد سنة، واحتج بقوله عز وجل (واذكر ربك إذا نسيت)؟ - فقال المنصور لمحمد بن إسحاق: أهكذا قال أبو لعباس صلوات الله عليه؟ قال نعم! فالتفت إلى أبي حنيفة - رحمه الله - وقد علاه الغضب، فقال تخالف أبا العباس فقال أبو حنيفة لم أخالف أبا العباس، ولقول أبي العباس عني تأويل نخرج على الصحة ولكن بلغني أن النبي - ص - قال (من حلف على يمين واستثنى فلا حنث عليه). وإنما وضعناه إذا كان موصولاً باليمين، وهؤلاء لا يرون خلافتك. لهذا يحتجون بخبر أبي العباس، فقال له المنصور كيف ذلك؟ قال: لأنهم يقولون إنهم بايعوك حيث بايعوك تقية وإن لهم الثنيا متى شاءوا يخرجون من بيعتك ولا يبقى في أعناقهم من ذلك شيء قال هكذان قال: نعم فقال المنصور: خذوا هذا يعني محمد بن إسحاق فأخذ وجعل رداؤه في عنقه وحبسوه) ج1 ص142 - 144
كان طبيعيا: أن يجادل الشافعي عن أستاذه وعن مذهب أستاذه وقد نهض الشافعي لذلك قوياً بعقله، قوياً بعلمه، قوياً بفصاحته قوياً بشباب في عنفوانه، وحمية عربية، وقد رويت لنا(28/37)
نماذج من دفاع الشافعي عن مالك ومذهبه: (عن محمد بن الحكم قال: سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: صاحبنا أعلم من صاحبكم يعني (أبا حنيفة ومالكاً) وما كان على صاحبكم أن يتكلم وما كان لصاحبنا أن يسكت، قال فغضبت وقلت نشدتك الله من كان أعلم بسنة رسول الله (صلعم) مالك، لكن صاحبنا أقيس، فقلت: نعم ومالك أعلم بكتاب الله تعالى وناسخه ومنسوخه وسنة رسول الله (صلعم) من أبي حنيفة فمن كان أعلم بكتاب الله وسنة رسوله كان أولى بالكلام) الانتقاء ص24
كان هذا الحجاج عن مذهب مالك، في قدوم الشافعي إلى العراق أول مرة، وأقام الشافعي في العراق زمناً غير قصير ودرس فيه كتب محمد بن الحسن وغيره من أهل الرأي فيما درس في العراق ولازم محمد بن الحسن ورد على بعض أقواله وآرائه نصيراً لأهل الحديث.
ولاشك أن الشافعي في ذلك العهد كان متأثراً بمذهب أهل الحديث ومتأثراً بملازمة عالم الهجرة فهو كان يدافع عن مذهبه يدافع حميته لأستاذه وأنصار أستاذه المستضعفين.
أما البزاز الكردري فهو يروي في سبب اختلاف الشافعي على محمد بن الحسن روايات يقول فيها: (عن عبد الرحمن الشافعي: لم يعرف الشافعي لمحمد حقه وأحسن إليه فلم يف له. وعن إسماعيل المزني قال الأمام الشافعي: حبست بالعراق لدين فسمع محمد بي فخلصني فأنا له شاكر من بين الجميع. وعن ابن سماعة قال: أفلس الشافعي غي مرة فجاء إلى محمد أصحابه فجمع له مائة ألف فكان فيه قضاء حاجته ثم أفلس مرة أخرى فجمع له سبعين ألف درهم ثم أتاه الثالثة، فقال: لا أذهب مروءتي من بين أصحابي، لو كان فيك خير لكفاك ما جمعت لك ولعقبك وكان قبل هذا مولعاً بكتبه يناظر أوساط أصحابه ويعد نفسه منهم، فلما أتى محمداً الثالثة أظهر الحلاف) المناقب - ج2 - ص150، 151
والشافعي نفسه يرد على ذلك، فقد أخرج الحاكم من طريق محفوظ بن أبي توبة قال: سمعت الشافعي يقول: يقولون. إني إنما أخالفهم للدنيا، وكيف يكون ذلك والدنيا معهم؟ وإنما يريد الإنسان الدنيا لبطنه وفرجه، وقد منعت ما ألذ من المطاعم ولا سبيل إلى النكاح، وعني لما كان به من البواسير ولكن لست أخالف إلا من خالف سنة رسول الله. ابن حجر ص76(28/38)
ولما عاد الشافعي إلى بغداد في سنة 195هـ - 810 - 811م ليقيم فيها سنتين اشتغل بالتدريس، والتأليف وروى البغدادي في كتاب (تاريخ بغداد):
(عن أبي الفضل الزجاج يقول: لما قدم الشافعي إلى بغداد وكان في الجامع إما نيف وأربعون حلقة، أو خمسون حلقة فلما دخل بغداد مازال يقعد في حلقة حلقة ويقول لهم: قال الله وقال الرسول وهم يقولون قال أصحابنا حتى ما بقي في المسجد غيره) ص68، 69
واختلف إلى دروس الشافعي جماعة من كبار أهل الرأي كأحمد بن حنبل وأبي ثور فانتقلوا عن مذهب أهل الري إلى مذهبه، ويروى عن أحمد ابن حنبل: أنه قال (ما أحد من أصحاب الحديث حمل محبرة إلا وللشافعي عليه منة) فقلنا: يا أبا محمد كيف ذلك؟ (قال إن أصحاب الرأي كانوا يهزؤون بأصحاب الحديث حتى علمهم الشافعي وأقام الحجة عليهم) الانتقاء ص76
ووضع الشافعي في بغداد كتاب: (الحجة) (روى ابن حجر عن البويطي: أن الشافعي قال: اجتمع علي أصحاب الحديث فسألوني أن أضع على كتاب أبي حنيفة فقلت: لا أعرف قولهم حتى أنظر في كتبهم، فكتبت إلى كتب محمد بن الحسن فنظرت فيها سنة حتى حفظتها ثم وضعت الكتاب البغدادي يعني (الحجة) ص76
ويظهر من ذلك: أن مذهب الشافعي القديم الذي وضعه في بغداد كان في جل أمره رداً على مذهب أهل الرأي وكان قريباً إلى مذهب أهل الحديث.
وروى البغدادي عن حرملة: أنه سمع الشافعي يقول: (سميت ببغداد ناصر الحديث) ج2 ص68
ونقل ابن حجر عن البيهقي: أن كتاب الحجة الذي صنفه الشافعي ببغداد حمله عنه الزعفراني، وله كتب أخرى حملها غير الزعفراني منها: كتاب السير، رواية أبي عبد الرحمن أحمد بن يحيى الشافعي) وفي كتاب كشف الظنون:
((الحجة) الإمام الشافعي، وهو مجلد ضخم ألفه بالعراق إذا أطلق القديم من مذهبه يراد به: هذا التصنيف، قاله الأسنوي في المبهمات ويطلق على ما أفتى به هناك أيضاً)
ثم انتهى الشافعي إلى مصر فآزره تلاميذ مالك حتى إذا وضع مذهبه الجديد وأخذ يؤلف الكتب رداً على مالك تنكروا له وأصابته منهم محن(28/39)
(قال الربيع: سمعت الشافعي يقول: قدمت مصر لا أعرف: أن مالكاً يخالف من أحاديثه إلا ستة عشر حديثاً فنظرت فإذا هو يقول بالأصل ويدع الفرع، ويقول بالفرع ويدع الأصل.
ثم ذكر الشافعي في رده على مالك: المسائل التي ترك الأخبار الصحيحة فيها بقول واحد من الصحابة أو بقول واحد من التابعين أو لرأي نفسه
ثم ذكر: ما ترك فيه أقاويل الصحابة لرأي بعض التابعين أو لرأي نفسه وذلك: أنه ربما يدعى الإجماع وهو مختلف فيه
ثم بين الشافعي أن ادعاء: أن إجماع أهل المدينة حجة، قول ضعيف. الرازي ص26
ويروي بعض الرواة: أن الشافعي إنما وضع الكتب على مالك لأنه بلغه أن بالأندلس قلنسوة لمالك يستسقي بها وكان يقال لهم: قال رسول الله (صلعم) فيقولون: قال مالك، فقال الشافعي: إن مالكاً بشر يخطئ فدعاه ذلك إلى تصنيف الكتاب في اختلافه معه وكان يقول استخرت الله تعالى في ذلك. ابن حجر ص76
ومذهب الشافعي الجديد الذي وضعه في مصر هو الذي يدل على شخصيته وينم عن عبقريته ويبرز استقلاله
(سئل أحمد ما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين أهي أحب إليك، أم التي بمصر؟ قال: عليك بالكتب التي وضعها بمصر فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها ثم رجع إلى مصر فأحكم تلك كما يرويه الذهبي في تاريخه الكبير (هامش الانتقاء ص77)
(يتبع)(28/40)
صفي الدين الحلي
- 2 -
هذه هي الناحية اللفظية، وأما خصائص معانيه فإنها تتمثل في شدة اتصالها بعلوم البيان من كثرة التشبيه واستعمال المجاز والكنايات، وقد ساعده على الإجادة في ذلك ما وهبه من قوة الخيال ودقة المشاهدة كما سنعرف ذلك حين التحدث عن وصفه. وتتمثل أيضاً في طغيان الإشارات والمصطلحات العلمية عليها إذ تراه يستغل معارفه في علوم الفقه والحديث والفلسفة والتصوف في استعارة معانيه لأي موضوع شاء، وكثيراً ما يضرب الأمثال بحوادث التاريخ أو يستشهد بالقصص العامة الشائعة كأنه يدرك قاعدة التربية الحديثة في إظهار المعقول بثوب المحسوس.
وتعد معانيه فوق ذلك من النوع الممتلئ الدسم، فهي تتدفق قوية في طريقها إلى الغاية من غير تفكك أو فضول أو تدنس بالمعاني العامية المبتذلة، ويحس قارؤها بروح الصدق سارية بين أجزائها في أغلب الأغراض لأنالشعر كان قطعة من نفس صفي الدين لا علماً يحرك به لسانه، أما في غير الغالب فقد كان يقحم نفسه في أغراض متكلفة لا صلة بينه وبينها غير حب المحاكاة والصنعة كما أنه انحدر إلى أعماق الابتذال حين خاض في المجون. .
وقد قال صفي الدين بهذه المعاني في جميع الميادين التي عرفها الشعر العربي إلى وقته، حائزاً قصب السبق في كثير منها فتناول الفخر والمدح والوصف والغزل، وهي أركان شعره الكبرى ثم الحكم والخمر والزهد والألغاز والمجون، وهي العمد الثانوية، ونحب قبل أن نستعرض هذه الميادين أن نسجل هنا شهادة أحد المعاصرين له وهو صاب (الفوات) المتقدم ذكره إذ قال: تعجبك ألفاظه المصقولة ومعانيه المعسولة ومقاصده التي كأنها سهام راشقة وسيوف مسلولة)! وما أثمنها شهادة من معاصر كان أجدر به الجحود والنكران
لم يكن صفي الدين شاعراً قوالاً فحسب، وإنما كان بطلاً مغواراً يعرف كيف يكتب بالسيف على الرقاب كما يخط بالقلم على الطرس، وذلك لأنه نشأ من أسرة نبيلة قوية كانت هي صاحبة الولاية على (الحلة) وبعض بلاد العراق المحيطة بها، وكان بجانبها أعداء وحساد كثيرون يحاولون أن ينزلوها من المكانة السامية بكل الوسائل من غدر دنيء أو قتال(28/41)
صريح، حتى أن أحد أخوال هذا الشاعر قد قتل وهو بين يدي ربه في المسجد العام فكان هذا الموقف الخطر داعياً إلى تنشئة أبناء الأسرة نشأة حربية باسلة ليستطيعوا أن يأخذوا من أعدائهم بالثأر ويردوا في نحورهم كيدهم ولهذا كان أول الدواعي التي حدت بشاعرنا إلى الشدو والغناء ذلك الشعور اقوي الذي كان يجيش في خلايا قلبه شعور العزة القومية والمجد والكرامة، وقد غرس فيه هذا الشعور طموحاُ وثاباً إلى مشارف العلا فظل يضرب على وتر الفخر والحماة بأروع الأغاني الشجية التي تبرئ صدر الجبان وتلهب عزيمة الشجاع المقدام، فشعره في ذلك مثل من أمثلة الأدب الحي القوي الذي ننشده اليوم في عصر انحلال الزائم وخمود الشهامة! وإذا شئت فترنم معه وهو يشيد بذكر قومه:
قوم إذا استخصموا كانوا فراعنة ... يوماً وإن حكموا كانو موازينا
تدرعوا العقل جلباباً فإن حميت ... نار الوغى خلتهم فيها مجانينا
إذا ادعوا جاءت الدنيا مصدقة ... وإن دعوا قالت الأيام آمينا
إذا جرينا إلى سبق العلا طلقا ... إن لم نكن سبقاً كنا مصلينا
تدافع القدر المحتوم همنتا ... عنا ونخصم صرف الدهر لو شينا
عزائم كالنجوم الشهب ثاقبة ... مازال يحرق منهن الشياطينا
ولم يقصر الشاعر همه على مجرد الفخر بهذه الإرادة التي تدافع القدر المحتوم وتخصم الدهر؛ بل كان بين قومه في منزلة الشاعر الجاهلي في قبيلته يشترك عملاً في تدبير سياستهم ويحرضهم قولاً على الحرب إذا ثلمت كرامتهم وينعى عليهم لو أحجموا يوماً عن أداء الواجب، وكأنما كان شعره جريدة (الحلة) القومية تشير عليهم كل آن بسديد الرأي وماضي العزم وفي نار هذه المواقع المشبوبة تلقى الشاعر دروساً من الحكمة جديرة أن توضع بين عيني كل من يحلم بالمجد أو يطمح إلى العلياء، فهو رجل عملي لا يؤمن بالحظ والخيال الكاذب، ولكنه يرى طريق النجاح مرصوفاً بالكد والعناء لا تذلله إلا الإرادة الجبارة والنفس التي لا تلين. وهو رجل نستنكف أن جري ماء الحياة بين جنبيه ثم لا يسعى ويقدم ويصعد حتى يدرك قمة الشرف والسمو، وكم يسخر ويثور على هؤلاء القوالين الذين يقتنعون بالألفاظ الرنانة والأصوات الجوفاء، ألا تراه يقول
لست ممن يدل مع عدم الجد ... بفضل الآباء والأجداد(28/42)
ما بنيت العلياء إلا يجدي ... وركوبي أخطارها واجتهادي
وبلفظي إذا نطقت وفضلي ... وجدالي عن منصبي وجلادي
غير أني وإن أتيت من النظ ... م بلفظ يذيب قلب الجماد
لست كالبحتري أفخر بالشع ... ر، وأثني عطفي في الإيراد
وإذا ما بنيت بيتاً بختر ... ت كأني بنيت ذات العماد
إنما مفخري بنفسي وقومي ... وقناتي وصارمي وجوادي
ومن منا لا يحفظ قوله السائر:
لا يمتطي المجد من لم يركب الخطرا ... ولا ينال العلا من قدم الحذرا
ومن أراد العلا عفواً بلا تعب ... قضى ولم يقض من إدراكها وطرا
وله غير ذلك الشعر الجيد المصقول يصور فيه همته وتفضيله الموت على الذل والنفور من اليأس حتى في ساعة الفشل والاستهزاء بالعدا والأخطار، ويالها من مبادئ يبتسم لها المجد
ولكنه ما كاد القرن الثامن يذر في الأفق حتى أحاطت بالعراق خطوب وفته بانشقاق أهله على أنفسهم وبإيغال المغول في أنحائه فاتحين متجبرين، فاضطرت الولايات الصغيرة التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها إلى الاجتماع بما حولها من الدول الحصينة القوية. وهكذا اعتمدت أسرة الحلي على الدولة الارتقية المقيمة بماردين وعلى رأسها الملك المنصور نجم الدين غازي وقد كانت تتمتع باستقلال داخلي وراثي، ولكنها تعترف بسيادة مصر، وفي عاصمتها هذه يقول (ياقوت في معجمه: (إنه ليس في الأرض أحسن من قلعتها ولا أحصن ولا أحكم)، فدخل الشاعر إلى بلاط هذا الملك يحرصه بادئ الأمر على مساعدة قومه والانتصار لهم على أعدائهم، ثم ما لبثت أن صار شاعراً رسمياً له، يهتف بمناقبه وينث ذكراه. وعند ذلك ابتدأ ظهور النوع الثاني من شعره وهو المدح.
حدث صفي الدين الحلي عن نشوء هذا الانقلاب في شعره فقال: (كنت عاهدت نفسي ألا أمدح كريماً وإن جل، ولا أهجو لئيماً وإن ذل، ولكن الحوادث ألجأتني إلى هجر عريني. . فحططت رحلي بفناء فخر الأواخر والأوائل ملوك ديار بكر بن وائل فمذ ثبتوا بالإحسان قدمي، وصانوا عن بني الزمان وجهي ودمي، حمدت لقصدهم مطايا الآمال، وقلت لا خيل(28/43)
عندك ولا مال، فليسعد النطق إن لم تسعد الحال) فمن ذلك الحديث نرى أن مدحه لم يكن نفاقاً أو رياءً يتخذه وسيلة للاستجداء والسؤال، وإنما كان نتيجة عاطفة محمودة هي عاطفة الشكر وعرفان الجميل. ويدل كذلك على أنه كان يفهم غاية الشعر حق الفهم ويؤمن بقدسيته الفنية، فكان يربأ به أن يكون عبد الغرض ورسول الحاجة ولا غرو فقد عرفنا صفي الدين شاعراً مطبوعاً لا مصنوعاً.
وإذا أحصينا المدائح التي نظمها وهي كثيرة مستفيضة ألفيناها تكاد تنحصر في أربعة مسالك: مدح الرسول وآله، ومدح الأسرة الارتقية المذكورة، وبني قلاوون، وبيت المؤيد، وكلها تسير على نمط متحد في عدم الوصول إلى المدح إلا بعد مقدمات طويلة في موضوع آخر يسترسل فيها ثم يبذل جهده في اختراع وسائل التخلص إلى غرضه. غير أنه كان يتصرف في أنواع هذه المقدمات بألوان شتى، فتارة تكون غزلاً وأخرى وصفاً لرحلة فتارة تكون فخراً أو خمراً، وقد تكون رسماً لمنظر طبيعي جميل، فكأن كل قصيدة منقسمة إلى شقين لكل منهما غايته وصورته ولا يلتقيان إلا بذلك الرابط الواهن الذي يسمونه (حسن التخلص)
وأوضح ما نراه في معاني المدح النبوي ظاهرتان تشير إحداهما إلى مذهبه والأخرى إلى خلقه: فقد عهدناه محباً مخلصاً لآل البيت والسلالة العلوية يذكرهم كلما ذكر النبي تقرباً إليه بأهله، ويناضل تحت لوائهم كل من عرض لهم بمذمة أو نقيصة، مردداً أنهم أجدر الناس بالخلافة، مسجلاً على بني العباس طغيانهم واغتصابهم لذلك الحق الثابت. وقد سأله نقيب الأشراف بالعراق أن يجيب عبد الله بن المعتز عن قصيدته التي غض فيها من قدر العلويين، فأجابه بقصيدة دامغة الحجة كأنها جدال علمي لولا ما فيها من صور العاطفة الثائرة. وهذه العاطفة الشيعية تدل على حقيقة تاريخية كبيرة، هي أن العلويين كانوا لا يزالون يثيرونه دعاتهم في العراق أملاً في أن يخلفوا العباسيين بعد زوال دولتهم.
أما الظاهرة الثانية فهي اعترافاته الخطيرة أمام النبي (ص) بما جنى في حياته من عبث وجور على الشريعة يصفها بأنها جرائم تندك منها الجبال، ولا نحسبها مبالغة منه لأنا نعرفها حقيقة ثابتة في خلقه، إذ كان حي لشيطان واهي الزمام في بيداء هواه يعطي لنفسه ما تشتهي ثم يعود إلى ربه معتقداً دائماً أن الله غفور رحيم، ولذا نظن أنه لم يفكر في هذا(28/44)
الندم إلا بعد أن وخطه المشيب وآذنت شمس حياته بالمغيب.
وأما مدائحه في بني أرتق فبحسبنا أن نقول عنها إنها جمعت كل ما انبتت القرائح في الأدب العربي من أوصاف الخلق الحميد، ففيها كرم حاتم ووفاء السموءل وحكمة لقمان وشجاعة خالد وهكذا حتى تطوف على ذرى الفضائل الإنسانية، فهي مليئة حقاً بالمبالغة والإغراق إلى أبعد مدى. ويظهر أن الشعراء كانوا لا يعدون بلاغة المدح في تصوير الحقيقة الواقعة وإنما يقبسونها بعظم المثل الأعلى الذي يتخيله الشاعر ثم يرسمه في شعره. وهذه القصائد قسمان: قسم متفرق مرتبط بالمناسبات العارضة، وقسم آخر مجتمع الأجزاء كديوان مستقل يحتوي على تسع وعشرين قصيدة كل منها تسعة وعشرون بيتاً وقد أسماه (درر النحور في مدح الملك المنصور)
(له تكملة)
ضياء الريس(28/45)
من طرائف الشعر
عصفورة الوادي
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
// لقد رقد السُّمارُ حتى خلا النادي ... ولم تبق يقظى غير عصفورة الوادي
شدت في هدوء الليل تندب غائباً ... وفي شدوها شجو لسامعه باد
تردده في خير لحنٍ سمعتُه ... وتنشده شعراً على خير إنشاد
فيا حسن شعرٍ مطربٍ معاً ... ويا حسن لحنٍ ثم ي حسن ترداد
فبِتُّ وعيني لحظُها يخرق الدجى ... وسمعي على بعدٍ إلى الطائر الشادي
قد انتبهت في ليلها فتذكَّرت ... أليفاً غداً عنها ولم يَعُد الغادي
وبرَّحت الذكرى بها فترنَّمت ... ترنُّمَ ثكلى قد أصيبت بأولاد
وقالت تناجي نفسها ما لصاحبي ... تأخر عن ميعاده غير معتاد
وقد كان وجهُ الليل ميعادَ عوده ... وذلك للأطيار آخر ميعاد
فما عاد عصفوري إليَّ لشقوتي ... وكان إليه في حياتيَ إخلادي
أأبعد عن مثواه في طيرانه ... فضلَّ طريقَ العود من بعد إبعاد
وكيف تضلّ الطيرُ عن مستقرّهَا ... وكل كثيبٍ في الطريق لها هاد
أم احتازه الصيَّادُ في شَرَكٍ له ... أم اختطفه برثنُ الأجدل العادي
أم التقفته هِرَّةُ البَرّ بغتة ... أم ابتلعته حيةٌ بعد أرصاد
لقد كانم لي إغرادة خير سلوةٍ ... كما كان يُسليه عَن الهمّ إغرادي
وكنا إذا طرنا معا لرياضة ... نُخلِقُ في جوِّ من الصبح ورَّاد
وبعدئذٍ نهوِي معا في هوادة ... إلى فَنَنٍ غَض من البان ميَّاد
وكنا على الأيام زوجين في رضىً ... فأفردني دهري وأوحش إفرادي
بقيتُ لأرزاء الزمان وحيدة ... بعشٍّ نضيدٍ من هشيم وأعواد
وكنا بنيناه معا فوق أيكةٍ ... تُظلّ على ماءٍ وعشبٍ وأوراد
بنيناه حتى تَمَّ نجهد نفسَنا ... لنحيا معا في غبطةٍ ثم إرغاد
يقيم بقربي ثم في العشّ واضعا ... إذا ما غفا ألغَادَه فوقَ ألغادي(28/46)
ولكن إلفي قد تخطفه الردى ... فأفسد عيشي بعد أيّ إفساد
فيا ليت إلفي كان قد ظلَّ سالما ... وإني بريشي والحياة له فاد
ذهبتَ ولم ترجع فهل كان واقفا ... لك الموت في جنب الطريق بمرصاد
بربك عُدْ لي أو على الموت دلّني ... فإني إلى كأسٍ شربت بها صاد
جميل صدقي الزهاوي(28/47)
بني مصر!
للأستاذ فخري أبو السعود
إلامَ تغيب عنا وتطلعُ ... ونلعب في ظلّ الحياة ونرتعُ؟
رضينا بخفض العيش والذلُّ حوله ... وما الذل إلاَّ حظٌّ من بات يقنع
نَهِيمُ بهزلٍ لا نهيم بغيرِهِ ... ونهرب مِن جِدَّ الحياة ونفزع
ونحجم عن أخطارها وصعابها ... وتنهبنا لَذَّاتها والتمتع
وإن نبتغ العليا ترانا كأنما ... نُساق إليها كارهين ونُدفَع
نسير على رِسْل ولِلعصر حولنا ... مواكبُ في طُرْق العلا تتدفَّع
أساغَ بنو الشرق الحياةَ ذليلةً ... وعيشُ بني الغرب العلا والترفُّع
هُمُ قادة الدنيا ونحن وَرَاءهمْ ... فُضُولٌ وأذيالٌ تجَرُّ وتَتْبَعُ
رضينا بأن نحيا على الغرب عالةً ... كَأن ليس فيما دون ذلك مَطْمَعُ
نُدِلُّ ونستعلي بمخترعاتهم ... ولا كاشفُ منا ولا ثَمَّ مُبدِع
ونفخَرُ بالعلم الذي هُمْ عُيُونهُ ... ولم نَكُ إلاَّ شَرْبَهُ حيث ينبع
ونَرْفلُ في أعطافها مِن حضارةٍ ... وما نحن نَبْنيِها ولا نحن نَصْنَعُ
وكم تائهٍ منَّا بثوبٍ منمَّقٍ ... وأحرَى به منه الرَّدِيمُ المرقَّع
وكم مستعيرٍ بَاسَهُمْ ويخاله ... بقوَّته فينا يصول ويَدْفع
لهمْ حاضرٌ دالٍ وماضٍ مؤتَّل ... وسعيٌ إلى مستقبل المجد أرْوَع
إذا ذَكَروا أوطانهم فَخرُوا بها ... ويا حبَّذا فخراً ذمار ممنَّع
يطولون بالجاه العزيز تفاخُرا ... ونطرق من ذلّ الإسار ونخشع
ونَشحَذ من لآبائنا وجدودنا ... فخاراً على أعقابهم ليس يُخلع
همُ دوننا أهلُ الفخار ولم يكن ... عُلوُّ أبٍ في حِطَّةِ الوُلْدِ يَشْفع
نتيهُ بتاريخ لهم ومآثر ... قِيامٍ على الأيام لا يزعزع
وما هي ما نَحْنى إلا صحائفُ ... بَوَالٍ وأطلالٌ خَوَالٍ وأرْبُعٌ
وفيمَ تبَاهينَا بعزٍّ ورفعةٍ ... وحاضِرُنا قَفْزٌ من العز بلقع؟
تَبَرّأ ماضي المجد منه ولو دَرَى ... للاشَ له خُوفو وأُذْهِلَ خَفْرَع(28/48)
ورِيعَ الفراعينُ العِظامُ وأجفلوا ... وهالَهُمُ هذا التراث المضيَّع
رأوْا أُمةً تمشي وراء زمانها ... وقد عرفوها في الطليعة تطلع
وتقنع من حظّ الحياة بدونها ... وقد تركوها في الذرى تتربع
وأوغل فيها الأجنبي نيُوبهُ ... وقد عهدوها النجمْ أو هِيَ أمنعُ
وهالهُمُ خيلٌ بمصرَ ورايةٌ ... إلى راية النيل المفدَّاةِ ترفع
كأنِّي أُصغِي من علاهم إلى صدَى ... يَشقُّ القرون الداجيات فَيُسْمِع
يقول: بني مصر الحياة أو الردى ... ومالكُمُ من دونِ هذين مَشْرع
فليست حياة الشعب إلاَّ سيادة ... تَرُدُّ طِماع الطامعين وتَرْدَعُ
وليس الردى إلا حياة مَهينةً ... يَقرُّبها الشعب الذليل المضعضع
أيرضخ شعب النيل للغير راضياً ... بما بات يأباه من الزِّنج أوكعُ؟
هلموا إلى جد الحياة وَنفضُوا ... بقية هذا النوم فالعصر مسرع
فما الأمر لو تدرُون إلا عزيمة ... تصارعِ شدات الحياة فَتَصْرَعُ
تَعافُ ذلول العيش قد لان ملمساً ... وتضرب في وعر الحياة وتقرع
وأنَّى سلكتم فاجعلوا مصر قِبلةً ... وحول علاها الملتَقى والتجمُّعُ
شريكتم في سِرِّكم وجهاركمْ ... وحين تغيب الشمس عنكم وتطلع
وولوا إلى الأعمال لا القول همكم ... فما القول بالمجدي ولا الزعم ينفع
وإن فاتكم منها الجنَاة ففي غدٍ ... ستزهِرُ للجيل الجديد وتونِعُ(28/49)
بائع حصير
جاء طفل يروم بيع حصير ... زخرفته بالنقش أيدي الصين
فيه بحر يبدو، وفي البحر فلك ... وعلى الفلك بضع حورِ عين
وعليه نوتية من غوان ... جادفات فيه بكل سكون
فتمنت نفسي الركوب بفُلك ... يتحلى بلؤلؤ مكنون
سعد البحر في حشاه وفي أع ... لاه در مكلَّل للجبين
وكأن الفلك الذي ضم غيداً ... صدف قد طفا بدر ثمين
جاءني الطفل وهو يحسب أني ... ذو نقود تغري وكنز دفين
ثم قال اشتر الحصير وزيّن ... لك بيتاً يليق بالتزيين
قلت مالي بيت أزيِّنه أو ... أي بيت فناؤه يحويني
كل هذا الوجود بيتي ومالي ... فيه نيت عند الدجى يؤويني
كل ليل آوي لبيت كراء ... بي لا يرتضي ولا يرضيني
لست أشري الأثاث، كل أثاث ... لعيوني يلوح، ملك عيوني
كل هذا الوجود بيتي وفيه ... من بديع الأثاث ما يكفيني
فأثاث البيوت ليس بأبهى ... من رياض الأقاح والياسمين
صوروا البحر في الحصير لكي يش_رَى ويقني والبحر يزخر دوني
وإذا صوروا الغواني بفلك ... فخيالي مصوِّر ذو فنون
صوَّروا الكائنات تزهو وعندي ... صور فُقْنَ عالم التكوين
وإذا كنت ما اقتنيت أثاثاً ... فخيالي أبهى الأثاث يريني
دمشق
أحمد الصافي النجفي(28/50)
الشعر والموسيقى
للشاعر الكبير بول فاليري
عضو المجمع الفرنسي
مترجمة بقلم الأديب عبد الرحمن صدقي
خير عون على إدراك ما في عمل الشاعر من مشقة وصعوبة، أن نقارن بين ما في يديه من عتاد البداية، وبين العتاد الذي يتصرف فيه الموسيقار. فانظروا هنيهة ما هو مبذول لهذا وما هو مبذول لذاك وهما مقبلان على العمل، وقد خرجا من حيز النية إلى حيز التنفيذ
فما أسعد الموسيقار! إن تطور فنه قد هيأ له حالة كثيرة المزايا. فوسائله معينة مفصلة، ومادة تأليفه موضوعة وضعها المحكم من قبله. وقد يصح تشبيهه بالنحلة حين لا يصبح لهغا هم غير عسلها، حين تكون أقراص الموم المنتظمة ونخاريب شهادها مصنوعة قبلها. فمهمتها مقدورة مقصورة على إخراج خير ما عندها. ذلكم حال الموسيقار. بل إنه ل
يصح القول بأن الموسيقى قديمة الوجود، وأنها كانت تنتظر الموسيقار. وقد مضى عليها وهي تامة الوضع دهر دهير.
فكيف كانت للموسيقى أوضاعها؟ نحن نعيش بالسمع في عالم الضوضاء، ومن جملة هذه الضوضاء تنفصم مجموعة من ضوضاء لها بساطة خاصة انفردت بها، بحيث تتميزها الأذن وتقوم لها بمثابة المعالم. وتلك عناصر لها فيما بينها علائق بديهية. وهذه العلائق الصحيحة الملحوظة بين العناصر ندركها إدراكنا للعناصر نفسها. فالفترة بين نغمتين نحسها مثل إحساسنا بالنغمة
ومن ثم فهذه الوحدات ذات الرنين، هذه النغمات، قمينة بأن تتركب منها تلكم التواليف المطردة، وتلكم المنظومات المتتابعة أو المتحدة في الزمن، التي تطلع لنا فتروعنا ببنائها وسياقها وتواشجها وتقاطعها.
ونحن نميز حق التمييز بين النغمة والضوضاء، ويومئذ ندرك التباين بينهما، وهذا إحساس له خطورة كبرى، لأنه التفريق بين الخالص وغير الخالص، ويستطرد ذلك إلى التفريق بين النظام والفوضى، وهذا أيضاً يرجع إلى أحكام قوانين ذات أثر فعال. ولكننا نكتفي بهذا(28/51)
القدر.
وهذا التحليل أو التمييز للضوضاء قيض للإنسان إيجاد الموسيقى على أنها عمل قائم بذاته، واستغلال لعالم الأصوات. والفضل في إنجاز هذا أو على الأقل في ضبط سيره وتوحيده وجمع قوانينه، يرجع إلى علم الطبيعة، الذي صار استكشافه هو ذاته بهذه المناسبة وعرف بأنه علم المقاييس. وقد استطاع هذا العلم من قديم الزمان الملائمة بين القياس وبين الإحساس، وأمكنه البلوغ إلى نتيجة كبرى وهي إحداث الإحساس بالصوت على نحو دائم متماثل بواسطة آلات. وما هذه المعازف في حقيقتها إلا آلات للقياس!
فالموسيقار يجد في حوزته مجموعة وافية من الوسائل المحدودة المفصلة تقابل بين الاحساسات والنغمات أتم المقابلة. عناصر عزفه حاضرة بين يديه، محصاة العدد، مرتبة الصفوف. وهذه الإحاطة الدقيقة منه بوسائله بحيث لم يقف عند الإلمام بها بل نفذ إلى كنهها وتزود بها في صميم نفسه، تمكنه من التقدير والتدبير، ومن البناء والتركيب، من غير أن يشغل خاطره بمادة عمله، وميكانيكية فنه بوجه عام.
ويحصل من ذلك، أن يكون للموسيقى مجال خاص بها، هو مجالها على الإطلاق. وإذا عالم الفن الموسيقي، أي عالم الأصوات، ظاهر الانفصال عن عالم الضوضاء. وبينما أن حركة من الضوضاء لا تبعث في وعينا إلا حدثاً مفرداً، فإن نقرة واحدة من النغمات تبعث وحدها كل العالم الموسيقي. وهذه القاعة التي أحاضر فيها والتي تحسون فيها لغط صوتي أو غيره من شتى العوارض المسموعة، إذا أنتم سمعتم فيها على حين غفلة نغمة من النغمات، إذا اهتز وتر أو نبضت آلة منغومة.
فإنه لا يكاد هذا الصوت الفذ الذي لا يخلط بغيره من الأصوات العادية يمس أسماعكم، حتى تحسون فيه فاتحة واستهلالاً وحتى ينشأ في الحال جو آخر، وتخيم على الجميع حالة انتظار خاصة، ويؤذن بالظهور نظام جديد بل علام جديد، وتتهيأ نفوسكم الصاغية لاستقباله، بل إن بها لجنوحاً من تلقاء نفسها إلى توسيع مقدماته؛ وإلى توليد احساسات لاحقة بالإحساس الوارد على نفوسكم، وعلى شاكلته وفي مثل صفائه.
وكما توفر لنا الدليل طرداً فهو متوفر عكساً
فإذا وقع في قاعة من دور السماع، والألحان ترن فيها وتسودها، أن هوى مقعد، أو سعل(28/52)
ساعل أو اصطك باب، فسرعان ما تشعر بانقطاع لا تدري ماهيته وبأن شيئاً لا يمكن وصفه، أشبه بالسحر، قد بطل أو بالزجاج، قد تكسر أو انشعب.
وحاصل القول أن هذا الجو، هذا السحر القدير الوشيك العطب، هذا العالم من الأصوات ميسور لأهون مؤلف موسيقي وذلك بطبيعة فنهن وبما يفيده مباشرة من هذا الفن.
وبخلاف هذا حالة الشاعر، فإن ما أوتيه أقل حظاً من صاحبه بما لا يحد. فتراه يعالج مطلباً لا يختلف كبير اختلاف عما يرومه الموسيقار وهو محروم مما تقدم بيانه من المزايا العظيمة. فهو ملزم بأن يخلق مبدئاً ومعيداً في كل دقيقة، ما يلقاه الآخر جاهزاً مهيئاً.
يلقى الشاعر الأمور على شر حال من السوء والفوضى. فبين يديه هذه اللغة المعتادة، هذه المجموعة من الوسائل الجافية الغليظة التي يطرحها كل علم مضبوط لكي يبتدع لنفسه أدوات التعبير عن أغراضه. فالشاعر لابد له من استعارة هذه الطائفة من الألفاظ والقواعد المأثورة المنقولة غير المعقولة التي صاغها من صاغها غريبة في استعمالها، غريبة في تفسيرها، غريبة في قيد أحكامها.
واقل الأمور صلاحاً لمقصد الفنان، هو هذه الفوضى الأصيلة التي ينبغي له في كل لحظة أن يستخلص منها عناصر النظام المنسوق الذي يريد استحداثه. ولم يرزق الشاعر بعالم من علماء الطبيعة فيحدد له الخصائص الدائمة لعناصر فنه، ويعين علائقها ونسبها والأحوال المتماثلة لإصدارها. وليس لديه مفتاح للدوزان! ولا ميزان لضبط حركة الأصوات ولا واضعون للسلم الموسيقي ولا متنطسون في أصول تركيب الأنغام! وليس يصح عنده علم يقين، اللهم إلا العلم بالتموجات الصوتية المعنوية في اللغة، إلى أن هذه اللغة لا ترد مورد النغمة في اتجاه واحد على السمع وهو الحاسة المثلى للتوقع والإصغاء، بل اللغة بعكس ذلك، خليط من المنبهات الحسية والنفسية غير متماسكة، ولك كلمة هي مجموع وقتي من المؤثرات لا رابطة بينها، فالكلمة تجمع صوتاً ومعنى، بل أخطأت، فإن كل كلمة هي عدة أصوات وعدة معان معاً، أجل، عدة أصوات، أصوات عداد ما في الوطن الواحد من أقاليم، بل عداد ما في كل إقليم من أناس، وهذا ظرف عصيب على الشعراء، إذ يفسد الوقع الموسيقي الذي دبروه، وتشوه معالمه بتصرف القراء. ثم، عدة معان، لأن الصور الذهنية التي توحيها لنا كل كلمة لا تخلو بوجه عام من اختلاف وصورها الثانوية(28/53)
التابعة جد مختلفات.
فالقول شيء مركب، وهو مجموع خصائص مرتبطة بالفعل ومستقلة بطبيعتها في آن واحد. والكلام يمكن أن يكون منطقياً عامراً بالمعنى ولكنه خلو من الإيقاع خلو من الوزن، وقد يكون عذب الورود على السمع وهو سخف ولغو، وقد يكون واضحاً وفارغاً، غامضاً ولذيذاً. . . .
ويكفي لتصوير ضروب الكلام وكثرتها العجيبة، أن نعدد سائر العلوم التي نشأت للتوفر على بحث هذا التنوع، وليستثمر كل علم عنصراً من عناصرها. فالواحد منا يستطيع دراسة نص من النصوص على وجوه شتى كل منها مستقل بذاته، فيمكنك الرجوع به دواليك إلى علم الصوت، وفقه اللغة، وتركيب الكلام والمنطق والبيان - وزد عليهما الوزن والاشتقاق.
وهو هو ذا الشاعر يصارع هذه المادة غير المستقرة وغير الخالصة إلى حد بعيد. فهو مضطر إلى النظر طوراً فطوراً في رقة الألفاظ وفي معناها، واستيفاء الانسجام وتنغيم الفقرات، فضلاً عن شتى المطالب الفكرية والمنطق والنحو وموضوع القصيد وأفانين البديع والوشي بله المتواضع عليه من القواعد.
فتأملوا مبلغ الجهد الذي تقتضيه معالجة الإتقان لكلام يجب أن تتوافر فيه، بمعجزة من المعجزات، جميع هذه المطالب دفعة واحدة.(28/54)
العلوم
سمك البكلاه
للدكتور أحمد زكي
السماكة كالزراعة صناعة من أقدم الصناعات، بل هي أقدم من الزراعة لأنها صناعة صيد، والإنسان كان صياداً قبل أن كان زراعاً، يصطاد طعامه على الأرض وفوق الدوح وكذلك في الماء. وكانت طريقته في صيد ما على ظهر الأرض وما في الهواء مسك ما يمسك، وقذف ما يفلت بالحراب مصنوعة من الحجز والخشب ثم من الحديد. ولكن هذه الطرائق التي أساسها القوة لم تغنه في صيد أحياء البحار إلا قليلاً؛ لأن البحر غير الأرض، لم يخلق لحمل الرجل والحافر، والإنسان لم يؤت زعنفة ولا ذيلاً، وهو إن عام فاصطناعاً وتكلفاً، وفوق ذلك فالماء إذا سمك تعثر البصر فيه فلا ينفذ إلا يسيراً لذلك غير الإنسان طريقة الهجوم وعمد إلى الحيلة، إلى الختل والخديعة، فعقف إبرة ربطها بحبل أمسكه بيده، ثم كساها بما يصلح أن يكون طعاماً، ثم في الماء دلاها فجاءت تالسمكة المسكينة تسعى كالناس للرزق فلما وجدته وجدت تفيه حتفها. وطمع الإنسان في غلة من البحر كبيرة، والبحر أبو الخيرات، كثير الفيوض، فعمد إلى الحبل الطويل يمده بين السفينتين تتدلى منه الحبال تحمل الصنارات الكثيرة تخفت تحت ألوان من الطعام شهية لم تبذل عن سخاء. ثم جاء دور الشباك، ثم امتدت هذه وطالت حتى بلغت قيمها مئات الجنيهات. وجاء البخار فاستبدلت السفن الشراعية بسفن بخارية، وارتقت طرق الصيادة وأحكمت، فكثر المصيد وتعددت أنواعه واتسعت تجارته فأثرت الأمم وأغنتها.
ومن الدول من يعتمد في أكثر ريعه واتزان ميزانيته على الدخل الذي يأتيها من السماكة. ولما كانت هذهالدول تصيد الأقل لنفسها، وتصيد الأكثر الكثير لغيرها من الأمم البعيدة النائية، وكان السمك قريب التحلل سريع العطب، عمدت إلى تحليله وتقديره، فأصبح يختزن منه بنسبة لا تختزن بها اللحوم، وصار ما يصاد في القطب يؤكل في خط الاستواء، ومن ذلك سمك البكلاه الذي نحن بحديثه اليوم.
والبكلاه إسبانية معناها سمك الحوت، وهو سمك يقطن المناطق الشمالية من البحر الأطلسي ويقطن بحر الشمال والبلطيق؛ ويوجد كذلك في شمال المحيط الهادي، وتتحدد(28/55)
أخص مناطقه بخطي عرض 0 و 75
وهو لا يوجد في البحر الأبيض المتوسط. ويسكن من البحر أعماقه على مسافات تتراوح في الأغلب بين العشر قامات والمائة قامة، ولو أنه غوري في سكناه وعادته إلا إذا آن أوان إنساله غادر الأعماق الكبيرة ورحل في قطعان هائلة إلى أماكن من البحر يترجح عمقها بين 20و30 قامة يكون فيها أقل استهدافاً للمهالك، فإذا هو بلغها ألقى بيضه فطفا في الماء، ويحدث هذا غالباً في يناير وفبراير ومارس، فإذا فقس البيض وتبدل واستتم خلقه تدرج في النزول إلى الأغوار الأعمق وعندئذ يبدأ يعيشكما عاش آباؤه، فإذا بلغ من العمر سنة استطال حتى ليبلغ ثمانية من البوصات، ثم يزداد في الطول عاماً بعد عام، حتى إذا استتم عامه الرابع أدرك فاستطاع أن يكون أباً أو أماً، ويكون طوله عندئذ نحو قدمين، وإذا امتد به الأجل عاش إلى أن يطول إلى خمسة أقدام وبلغ ثمانية من البوصات، ثم يزداد في الطول عاماً بعد عام، حتى إذا استتم عامه الرابع أدرك فاستطاع أن يكون أباً أو أماً، ويكون طوله عندئذ نحو قدمين، وإذا امتد به الأجل عاش إلى أن يطول إلى خمسة أقدام وإلى أن يزن خمسين رطلاً.
وتبيض الأنثى من الحوت بيضاً يتذبذب عدده بين المليون والعشرة الملايين في الفصل الواحد تبعاً لحجم الأنثى وزنتها. ويبلغ قطر البيضة جزءاً من عشرينمن البوصة، وليس كل البيض بفاقس، فأكثره يذهب طعمة لغادي السمك ورائحه، وكثير منه يهلك فلا يستتم إنضاجه بسبب مؤثرات فيزيائية لا طاقة له بها، وقد عرفت الطبيعة منه ذلك فزادته عدداً لكي يفلت منه المقدار الذي لابد منه لاضطراد وجوده.
وأكثر صيد الإنسان للحوت يكون في فص إنساله، ذلك لأنه فص التجمع فالترحل إلى سطوح من قيعان البحر أقرب إلى يد الإنسان. وأشهر هذه السطوح مواضع ثلاث، ساحل النرويج، وجزيرة أسلن وجزيرة نيوفوندلند وهي لذلك أشهر مصايد الحوت. وعدادها قيعان ضحلة ببحر الشمال بين بريطانيا والقارة الأوربية.
أما مصايد النرويج فقد هيأت لها الطبيعة ساحلاً متعرجاً، يدخل فيه البحر تارة ويدخل هو فيه تارة أخرى، وينحدر شاطئه في الماء انحداراً باغتاً كبيراً. وفي قبالة هذا الساحل سلسلة جزائر اللوفوتي في حذاء الشاطئ النرويجي وتستدير قليلاً مع استدارته، تنحو عليه، كأنما(28/56)
تحميه من أنواء البحر الطلق وأمواجه. وعدا هذا تأتي الشاطئ التيارات المائية الدافئة من خط الاستواء من حرارته فتقل نحواً من عشرين درجة عن حرارة أي نقطة من الكرة الأرضية على خط عرضه. ولهذا لا تتجمد البحار النرويجية في الشتاء، فهي تهيئ بقيعانها وطيب جوها مناخاً مستطاباً لقبائل الحوت تنزح إليه لتؤدي في كنف الحب واجب الحياة الأول.
أما مصايد جزيرة نيوفوندلند فأوفقها منطقة تتكون من سلسلة جبال علاها الماء نحواً من ثمانين قامة، قممها تحت الماء من رمل وطين، يرحل إليها الحوت في جماعاته فيجد عندها مسكناً ومستقراً إلى حين. ويزيد في صلاح هذه المنطقة تياران بحريان يلتقيان هنالك، يحملان معهما مقادير لا حصر لها من أحياء متعضونة صغيرة ومن الفطريات، غذاء طيب لا للحوت ولكن لأسماك قشرية وأخرى رخوة يعيش الحوت بدوره عليها.
كذلك لجزيرة أسلن وللبحر الشمالي ميزات من ضحولة واسستار عن هائجات المحيط تجعل الحوت يقصدها.
وتعود السفن بحمولاتها من الحوت، فيشق ويغسل باطنه ثم يملح. وبعد استكمال ملوحته يجفف إما في الشمس إن كانت. وأما في حجرات سخن هواؤها بالفحم، وذلك إلى أن يبلغ درجة من الجفاف معروفة. وقد يجفف بلا تمليح. ثم يصدر هذا القديد، وهو المعروف عندنا بالبكلاه، إلى أوربا الجنوبية ومصر والقارة الأفريقية. أما كبد الحوت فتعالج بالبخار وهي صبيحة فتدر بزيتها المشهور. ولحم الحوت أبيض لذيذ الطعم وهو طازج، سهل الهضم إلا أنه قليل التغذية نسبة إلى غيره وذلك لقلة دسمه، حتى كأنما تركز دسمه في كبده فافتقدته سائر الأعضاء. أما زيته فغذاء طيب كسائر الزيوت ويمتصه الجلد سريعاً فيغذي به الأطفال في بعض الأمراض بدعك بطونهم به. وكشفوا فيه عن فيتمين من الفيتمينات التي تذوب في الدهن فطلبه الطب فغلا ثمنه. والزيت النقي له طعم جميل كطعم الزبدة لا رائحة للسمك فيه، ولكنه سريع العطب بالتأكسد وينشأ عن هذا التأكسد طعمه الكريه، والزيت يتأكسد ولو احتجب عن الهواء لأن به أكسجيناً ذائباً يكفي لإفساد نكهته. والطريقة الحديثة لوقايته من ذلك تتلخص في تفريغ ما فوق الزيت من هواء كائناً ما كان، فينبعث منه كل غاز مذاب، ثم يطلق في الفراغ الحاصل غاز الكربون فيحل في الزيت محل(28/57)
الهواء.
ويقدر الحوت المصيد في السنة بما بين 300و400 مليون حوتة، ثمنها دون دون الزيت خمسة ملايين من الجنيهات والطازج منه كثير في إنجلترا فقد قصد صيادوها بعد الحرب العالمية إلى منافسة الأمم في اصطياده فبرزوا عليهم. والطازج منه رخيص في إنجلترا، كنا ندفع في الرطل منه ستة بنسات أو دون ذلك. أما القديد فثمن الرطل منه دون هذا.
والحوت له المحل الثاني في جدول أسماك العالم الاقتصادية أما المحل الأول فلسمك الرنكة المعروف بالرنجة ولا نراه في مصر إلا مملحاً أو مدخناً.
وقد بدأ القلق يظهر خشية على الحوت والرنكة وغيرهما من الأسماك أن تنفد من المحيطات وذلك لإمعان الإنسان في اصطيادها ولتحسن العدة التي يستخدمها في ذلك، فهو بتحسنها يأتي بالمحصول الأكثر لقاء مجهود أقل وزمن أقصر. وهم يحاولون اتقاء هذا بإغلاق المصايد أحياناً، وبإنشاء المرابي الصناعية أحياناً أخرى. ويطهر أن الطريقة الأولى هي الوحيدة الناجعة، إذ لابد من أن يتباطأ الصيد حتى يتمشى مع سرعة إنسال السمك فلا يصيد الإنسان غير المزيد. أما الطريقة الثانية فتقليد للطبيعة عسير، وقد دلت التجارب على أن تلك المرابي يأتي أكبرها في العام من الخلف بالمقدار الذي يأتيه بضع مئات فقط من الحوت الطليق في المحيط.
ومصر، مصر الواقعة جنوب البحر الأبيض؛ وغرب البحر الأحمر، وكلاهما مزرعتان تناهضان في أمل الثراء ضياع الدلتا والصعيد، ما دخلها مما أحاطها الله من بحاره؟ لا أدري. إنما الذي أدريه أنها في يوم عيدها القومي تأكل سمك البكلاه، وهو لا ينزرع في بحرها الأبيض، إنما يأتي من أصقاع بعيدة نائية.
أحمد زكي(28/58)
العالم المسرحي والسينمائي
الدرامة والحياة
لناقد (الرسالة) الفني
من الجلي الواضح أننا قبل أن نطرق بحثاً كهذا، علينا أن نتريث برهة نسائل فيها أنفسنا ماذا نعنيه تماماً بكلمة (درامة) - أو بمعنى آخر - ما هو التعريف الذي نستطيع أن نضعه لفن الدرامة إذا ما قورن بالفنون الأخرى كالشعر والتصوير والقصص؟ من الواضح أن الدرامة فن، ولكن أي القيود نستطيع بها أن نحدد صفاته الخاصة التي تميزه عن الفنون الأخرى؟ ولقد يبدو هذا عند النظرة الأولى سهلاً ميسوراً ومطلباً هيناً لا عسر فيه ولا عناء، ولكن قليلاً من التفكير يكشف لنا عن الصعاب التي تواجهنا، وتقد يكون من الخير لنقدر دقة هذا المطلب العسير أن نرجع خطوة أو خطوات إلى الوراء فنمر سراعاً عاجلين بتلك المحاولات التي بذلها أقطاب هذا الفن في تاريخه الطويل ليجيبوا على هذا السؤال وليضعوا لفن الدرامة تعريفاً واضحاً وصريحاً.
من أولى النظريات التي وضعت في هذا الصدد ومن أكثرها ذيوعاً وانتشاراً، تلك النظرية التي نستطيع أن نسميها (نظرية التقليد) والمحاكاة. ولعل من الخير أن نذكرها في أبسط صورها كما جاءت في أقوال (شيشرون) الخطيب الروماني المعروف، فالدرامة عنده (نسخة للحياة، مرآة للعادات، انعكاس للحقيقة) وهذا التعريف، إذا صح أن نسميه كذلك، قال به كثير من النقاد المتعاقبين مئات من السنين، واتخذ أساساً لأبحاث فنية لا عد لها، خصوصاً في عصر النهضة (رنيسانس). بل لقد وجد حتى في العصور الأخيرة أنصاراً وأشياعاً لأنه يتمشى مع أغراض الكتاب الواقعيين (ريالست) في القرن التاسع عشر.
ومن أنصار هذه النظرية في تعريف الدرامة زولا الكاتب الفرنسي المعروف وبومارشيه رجل المسرح الشهير. ومن المقدمة التي وضعها الأول لروايته (تيريس راكوين) ومن كتاب الثاني عن الفن المسرحي نستطيع أن نستخلص الكثير من العبارات التي ندلل بها على أن المثل الأعلى للمسرح عند الاثنين أن يكون (مرآة الحقيقة وصورة مطابقة لما في الحياة)
فإذا أخذنا بهذا الرأي وبحرفيته قلنا أن الدرامة اقتباس من الحياة. وهذا معناه أن المؤلف(28/59)
المسرحي الحق يجب أن يضع نصب عينيه أن يكتب لنا مشاهد للمسرح تطابق قدر المستطاع ما يحدث في الحياة أو يمكن حدوثه فيها حتى لتجيء هذه المشاهد كالصور وخيالها في المرآة أو كالنسخ المتعددة المتطابقة للشيء الواحد. وتكون محاورات أبطال الرواية الأروع والأجمل إذا كانت تنقل لنا نفس الحديث، بل الكلمات والألفاظ للحوار الذي يقع بين الأحياء كما ينقله الحاكي دون نقص أو زيادة، ويكون اجمل ما في الرواية صدقها وأمانتها للحقيقة.
وإذا نظرنا إلى هذه الآراء في مجملها قد نغرى بأن نصدق أن ثمة ما يمكن أن يقال للدفاع عنها أو تأييدها، ولكن لو فكرنا قليلاً لتبين لنا زيفها وخطؤها. وبغض النظر عما إذا كان في مقدور المرء أن يعتبر أن المؤلف المسرحي ليس أكثر من حاكي يسجل ما يسمع وينقله حرفياً إلى المسرح، فإنه من السهل أن نتبين أن هذا المثل الأعلى للدرامة مستحيل لأن الرواية المسرحية لا يمكن أن تكون صورة مطابقة تمام المطابقة للحياة. وحتى إذا فرضنا أن المؤلف في أحد مشاهد روايته نقل نفس الألفاظ التي تحدث بها فعلاً الأشخاص الذين اتخذهم كنماذج لأبطاله، فإن الحقيقة الواقعة من أن هذا المشهد فصل عما سبقه أو تلاه من المشاهد الأخرى تجعله شيئاً صناعياً محضاً، أو بمعنى آخر تكسبه الصبغة الفنية. وإذا لم يستعين لمؤلف بالآلات الميكانيكية المسجلة للأصوات، فإنه لا يستطيع أن يطمع في نقل الحوار الذي دار في الحياة الحقة بألفاظه وحروفه وتفصيلاته نقلاً دقيقاً غاية الدقة لا تحريف فيه. فإذا كان المؤلف هو الذي خلق المشهد وخلق أبطاله، كما يحدث على الأغلب، لكان من السخف أن نتخيل أن هذا المشهد لو أنه حدث حقاً في الحياة، لتحدث هؤلاء الأبطال، لو أنهم أحياء من لحم ودم، بنفس هذه الكلمات ولدار بينهم هذا الحوار دون زيادة أو نقنص. فمطابقة الحياة في الدرامة شيء مستحيل ومطلب عسير فالريالزم الحق لا وجود له، ثم هو بعد ذلك ليس من عمل الفنان، لأنه ليس من الفن. ولم يكن في يوم من الأيام مطمح كبار الكتاب الخالدين بآثارهم المعروفة، ولا المثل الأعلى الذي حاولوا تحقيقه بأعماله وكتاباتهم ونحن إذا أخذنا بهذه النظرية في معناها الحرفي وحدودها الضيقة طرحنا من مكتبة الفن أحسن ما فيها من أعمال رجال الأدب والمسرح وألقينا بمخلفات أشيل وارستفان وشاكسبير وموليير وأندادهم طعمة للنار.(28/60)
فإذا أردنا أن نتحرر من هذا الحرج وأن نأخذ هذه النظرية، نظرية التقليد أو المحاكاة، بمعنى أوسع وأرحب، كان لنا أن نعود إلى أرسططاليس الذي جعل أساس آرائه أن الفن في مجمله ينطوي على عنصر التقليد، وأظن أننا في غنى أن ندخل في بحث مستفيض في هذا الصدد وحسبنا أن نقول أن أرسططاليس قد ذكر أن التقليد هو أصدق تمثيل للحقيقة إلا في النادر القليل.
ومن المعروف أن النصوص التي وجدت ونسبت إلى الفيلسوف اليوناني القديم والتي يتحدث فيها عن فن التراجيديا والشعر القصصي اتخذت مرجعاً لرجال الفن ونقاده في شتى العصور وكانت لها مكانة القداسة في عصر النهضة وأطال مناقشتها وبحثها كثير من النقاد في العصر الحديث. ومن الخير أن نلم بهذا كله قدر المستطاع وهو ما سنحاوله في القريب العاجل إن شاء الله.
ونعود إلى بحثنا لنكرر ما قلناه في أسطر سلفت من أن نظرية التقليد وجدت في العصور الحديثة مشايعين وأنصاراً ولكن في معناها الشامل الرحب، وهناك فيكتور هوجو الذي قال في المقدمة التي وضعها لرواية كرمويل (لقد قيل إن الدرامة مرآة تنعكس فيها الطبيعة. ولكن إذا كانت هذه المرآة عادية، مسطحة لامعة، فإنها لا تقدم لنا إلا صورة ضئيلة للأشياء التي تعكسها دون أن تبرزها، صورة صادقة ولكن لا روح فيها، ومن المعروف أن اللون والضوء ينعدمان في الانعكاس البسيط. فالدرامة على ذلك يجب أن تكون مرآة تتركز فيها المرئيات، وبدلاً من أن تضعفها تجمع الأشعة وتكثفها وتطغى عليها قوة التركيز فتجعل من القبس شعاعاً، ومن الشعاع لهيباً وهاجاً، وبهذا وحده تستحق الدرامة أن تكون فناً له خطره وقيمته).
وهذه العبارة في وضوحها وقوتها لها أهميتها الكبرى فيما نحن بصدده، وتتمشى معها كلمة سارسيه من أكبر نقاد المسرح الفرنسي إذ (يقول إن الطبيعة المجردة على المسرح لا تثير اهتمام الجمهور بل تبدو له فضلاً عن ذلك مزيفة كاذبة). ويضيف (في رأيي أن الحقيقة إذا أظهرت على المسرح بصدق وأمانة بدت مزيفة للجمع الحاشد من المتفرجين. إننا نعد فن الدرامة الخلاصة التي تمثل الحياة على المسرح ونعطي الجمهور عن طريقها خيال الحق).
وقد لمس بعض النقاد في عصور متقدمة هذه الحقيقة ولكن في صورة غامضة مبهمة(28/61)
وذكرها هيدلين الناقد الكبير في قوله (إن المسرح لا يمثل الأشياء كما هي، بل كما يجب أن تكون) وشبيه بهذا ما يقوله جوته (إن من يعمل للمسرح عليه أن يدرسه، ويتفهمه حق الفهم، وأن يلم بتأثير المناظر المسرحية والإضاءة والألوان من نواحيها المختلفة، وليترك الطبيعة في مكانها اللائق بها)
وما نستطيع أن نلخص هذه النظرية بأصدق وأوجز مما لخصها به أحد كبار النقاد الذين يعتد بهم حيث قال: إن الدرامة ليست نسخة من الطبية ولكنها تقليد ومحاكاة لها) وإذا رجعنا إلى الآراء التي مررنا بها في هذا المقال لماماً وجدنا أن أجداها وأثمرها ذلك الذي يتحدث عن الدرامة كمرآة مركزة تجعل من القبس شعاعاً ومن الشعاع نوراً وهاجاً. وإنا لنلمس صدق هذا التحليل إذا ما درسنا الأعمال الفنية الخالدة، لأن الكاتب الموهوب، عندما يقتبس لمحة من الطبيعة، لا يقنع بعرضها مجردة من الروح والحياة، بل يسبغ عليها من وحي فنه وعبقريته ما يسمو بها إلى قمة الخلود ويجعل منها مشاهد قوية مثيرة تلهب الحواس والشعور وتصبغ العمل ذاته بالصبغة الفنية الحقة. وهذه إحدى خصائص الفنان الحق.(28/62)
الحركة المسرحية والسينمائية في العالم
نيويورك
نعت أنباء أمريكا أخيراً هوراس ليفريت من أكبر الناشرين المعروفين في الولايات المتحدة وهو صاحب الفضل الكبر في إظهار أوجين أونيل الكاتب الأمريكي الشهير فقد كان أول ناشر قبل أن يطبع كتاباً له في مستهل حياته الأدبية ونجح الكتاب أكبر نجاح مما ساعد أونيل على الاستمرار حتى وصل إلى ضهرته التي يتمتع بها اليوم. وكان من رأي هذا الناشر ان الكتب الأولى للمؤلفين الشبان المبتدئين يجب أن تعطى فرصة طيبة للظهور تشجيعاً لهم. وربما كان وراء هذا الشاب الحدث عبقي نابغ وكان هذا الناشر يحارب الرقابة الأدبية التي تفرضها الحكومات على الكتب والروايات بكل ما يملك من نفوذ ومال. وأشتهر هذا الناشر أيضاً كمخرج مسرحي ومن أشهر أعماله في هذه الناحية أخرجه في سنة 1925 على أحد مسارح نيويورك الشهيرة رواية (هاملت) بملابس عصرية.
ونذكر بهذه المناسبة أن أوجين انتهى من رواية جديدة دعاها (الوحدة) وستمثل في الموسم القادم على مسرح (جلد) بنيويورك
لندن
عقد في لنده من أمد قريب الاجتماع السنوي (لجمعية الدرامة الإنجليزية) وهي جمعية من أغراضها نشر الدعاية للفن والمسرح في جميع أنحاء إنجلترا، في مدها وأطرافها النائية، وكثير من الكتاب الإنجليز المعروفين بدأت شهرتهم بين أحضان هذه الجمعية وظهرت أعمالهم الأولى على مسارحها. وقد ألقى مستر برنادشو خطاباً قيماً في هذا الاجتماع عن (الهواية والاحتراف) نرجو أن نقدمه لقراء (الرسالة) في عدد قادم.
- مس ميني رينر من أشهر ممثلات المسرح الإنجليزي المشهود لهن بالكفاية والمقدرة ويبلغ عمرها اليوم 64 عاماً وقد التحقت بالمسرح وهي في سن الحادية عشر ولم تنقطع عن العمل خلال هذه المدة الطويلة. وفي إحدى حفلات الأسبوع الماضي أعلنت - بمناسبة عيد ميلادها - أنها اشتركت في 10 , 000 حفلة مسرحية وهو رقم قياسي جديد في عالم الفن يعد الأول من نوعه.
روما(28/63)
سيتولى بيترو ماسكاني الموسيقار الإيطالي المعروف رئاسة مسرح الأوبرا الملكية في روما. والمعروف عن هذا الموسيقار أنه يكره التقيد بالمناصب الثابتة ولكنه رضي أخيراً بهذا المركز بعد أن ألح عليه شخصياً السنيور موسوليني. وستظهر على مسرح هذه الأوبرا أربع أوبرات جديدة في الموسم القادم أولها (نيرون) لماسكاني نفسه وبعدها (الشعلة) الأوبرا الجديدة لرسبيني، ثم (سيسليا) للوسيان رفيس، والرابعة أوبرا جديدة لمؤلف حديث لم نجد اسمه في برنامج الأوبرا الرسمي، وإذا أتم مالبيير والموسيقار المعروف الباليه الذي يضعه والذي اقتبسه من أحد كتب بيراندللو فسيكون القطعة الخامسة التي ستعرض على مسرح الأوبرا. وفي حديث لماسكاني مع أحد الصحفيين صرح أنه يعتزم أن يجعل من روما عاصمة العالم الموسيقي وقطب الرحى فيه.(28/64)
القصص
الوردة الحمراء
كوميدية عصرية في فصل واحد
لجاستون سوربيه والبريك كاهويه.
ترجمة فتوج نشاطي
(صالون على الطراز الحديث. . نافذة عند صدر المنظر وباب على كل من جانبي المسرح. . . بعض خور عائلية وأسلحة تاريخية تزين جدران الحجرة. فوق مكتب صغير تتألق باقة من لورود الحمراء داخل آنية شافة. . عند رفع الستار يرى جاستون جالساً على ديوان وثير، مطرق الرأس، حزيناً وقد تناهبته هموم مبرحة. . بعد فترة وجيزة ينتصب فجأة ويتجه نحو النافذة. . . يمر في طريقه بالورود الحمراء فيقف متردداً. . يرنو إليها ثم ينشق في رفق عبيرها العاطر ويمضي إلى النافذة فيلقي منها نظرة سريعة وجلة بعود بعدها إلى باقة الورد يتأملها، مشتت الفكر. وما يلبث طويلاً حتى يقترب ثانية من النافذة ويظل يتردد هكذا بين الورود والنافذة إلى أن يسئمه الانتظار فيحاول إشعال سيجارة لكنه يخفق فيرمي بها إلى الأرض، حانقاً يضغط على زر الجرس فيبدو الخادم فرنسيس)
المشهد الأول
جاستون - فرنسيس
فرنسيس - سيدي. .؟
جاستون - ألم يجئ أحد؟
فرنسيس - كلا يا سيدي.
جاستون - ويريد الساعة الرابعة؟
فرنسيس - لم يصل بعد
جاستون - (مشعلاً سيجارة) والمسيو شنسيريل؟
فرنسيس - لو أنه جاء. . .
جاستون - (مقاطعاً وقد فهم) حسناً. . . (يلقي في حركة آلية بسيجارته إلى الأرض) ألم(28/65)
ترد برقية؟
فرنسيس - لا ياسيدي
جاستون - والتلفون؟
فرنسيس - لو أن أحداً سأل عن سيدي بالتليفون لسمع سيدي رنين الجرس. .
جاستون - في الواقع. . . (وهو يشير حواليه، ضجراً) أعد عض النظام إلى الحجرة
(يحاول جاستون من جديد إشعال سيجارته في عصبية مضطردة بينما يرتب فرنسيس في صمت الأوراق المبعثرة المتراكمة على المكتب. عندما ينتهي الخادم من عمله يقترب من باقة الورود فيجمع أوراقها الذابلة المتناثرة على أرض الغرفة وحوالي الآنية الشفافة وإذ يحاول المضي بها.)
جاستون - ماذا تصنع؟
فرنسيس - (على أهبة الخروج) أمضي بهذه الورود. .
جاستون - (مستوقفاً إياه) لماذا؟
فرنسيس - لأنها. . . بدأت تذبل
جاستون - لكنك تعلم جيداً أنني لن أستبدل بها غيرها، بعد اليوم
فرنسيس - طبعاً لا. . بما أن سيدي. .
جاستون - (موقفاً سيل التوضيحات) إذن؟ (يعيد فرنسيس الورود إلى مكانها الأول)
جاستون - (مرهفاً سمعه فجأة) ألم يقرع الجرس؟
فرنسيس - ما أظن يا سيدي (يعود جاستون إلى النافذة. هنا يدوي رنين الجرس)
جاستون - (مرتعشاً) أما قلت لك؟
فرنسيس - (مبهوتاً) رن الجرس الآن فقط
جاستون - حسناً!. . اذهب وافتح (يخرج فرنسيس ويعود في الحال مصطحباً شنسيريل)
المشهد الثاني
جاستون - شنسيريل
جاستون - آه! يا صديقي. كاد ينفذ صبري في انتظارك!
شنسيريل - يبدو عليك في الواقع سيما الاضطراب الشديد(28/66)
جاستون - أقابلت جانين؟
شنسيريل - نعم. ولو أنها لم تتوجه اليوم إلى محل عملها
جاستون -. و. . كيف وجدتها؟
شنسيريل - حزينة جداً
جاستون - يا للصغيرة المسكينة!
شنسيريل - (مشعلاً سيجارة) كلفتني عملاً شاقاً اصاحبي! صدقني لن أحمل نفسي بعد اليوم عناء استنطاق الفتيات التعيسات اللائي هجرهن عشاقهن. . . ساعة القطيعة. .! النهاية. . .
جاستون - عجل، قص علي ما حدث
شنسيريل - لم أمكث بجوارها أكثر من لحظة. لكن. . يالها من لحظة مشئومة!
جاستون - نعم، أقدر حالتها النفسية. . . كانت واجمة دون شك من هول الخبر، مضعضعة الحواس، يائسة. .! الواجب كان يحتم عليك أن تشجعها، أن تهون عليها. . . لكنك فضلت النكوص على عقبيك
شنسيريل - تسمح لي بالجلوس؟
جاستون - إن شئت. . . لكن حدثني. . . أوضح لي. . هل انتزع منك الكلمات انتزاعاً؟ ماذا قالت لك؟
شنسيريل - لا شيء في البدء. شاءت الحديث، لكنها لم تستطع. . شبهت على أولئك الأصدقاء الذين نواجههم بعد كارثة ألمت بهم. . نراهم صامتين، نحسبهم متماسكين صابرين. . نمد لهم يد العزاء. . فإذا بهم يجهشون بالبكاء. . ذكرت لها أني حضرت أتسقط أخبارها. . فاستفسرت عما إذا كنت قد جئت من قبلك. . .
جاستون - وأجبتها؟. .
شنسيريل - إجابة غامضة. .
جاستون - عندئذ؟
شنسيريل - شاهدت وجهها الصغير المعتم تتناهبه سمات التفكير والألم والعزم. . ثم قامت فخطت لك هذا الخطاب(28/67)
جاستون - (يتناول الخطاب في لهفة وقد بدا عليه التأثر لكنه يقلبه بين يديه دون أن يجسر على فضه)
شنسيريل - يا صديقي لو تسمح لي نصحتك بإرجاء قراءة هذا الخطاب إلى غداة يوم زواجك (يجفل جاستون) لأنك صممت على الزواج
جاستون - بالتأكيد. بما أني قطعت كل علاقة لي بعشيقتي السابقة مع ذلك لكم أجبتها جانين!. . لقد كانت نعم الصديقة الحنون، النموذج الكامل لشريكة الحياة القانعة المحبة. الودود. .
شنسيريل (في ابتسامة) التي تغني بمحاسنها شعراء الشباب والربيع!
جاستون - نعم يا عزيزي روجيه، عشنا معاً قبل الحرب سنتين مترعتين بأجمل ذكريات حياتي!. .
شنسيريل - (ساخراً) أحمد الله على أنك الوحيد الذي يخرج من دنيا الغرام بذكريات سعيدة!
جاستون - غير أن هذه العاطفة الوهاجة. . لم تكن لتدوم إلى الأبد. . جانين التي تعرف دقة مركزي لم تكن لتجهل أن علاقتنا لابد آيلة إلى تلك النهاية المنطقية: الزواج، نعم الزواج الذي كان قد بات حتماً على، وقد أصبحت مضطراً أن أهجر مسكني هذا لألتجئ إلى برج العائلة، هناك في مقاطعة بريتانيا أعيش من أرضي دون إسراف. كان ذلك منذ ثلاث سنين. . إذ كنت أعتزم البعد عن باريس وعن جانين بالطبع، عندما وقعت الكارثة
شنسيريل - أية كارثة؟
جاستون - الحرب الكبرى!
شنسيريل - آه! عفواً! كدت أنسى أننا نصلاها! بالاختصار؟
جاستون - بالاختصار رغماً عن رتبة الضابط التي وصلت إليها ونياشيه الشرف الحربية التي أحملها وجراحي الباهرة التي حصدتها في المعارك لم يكن مركزي المادي قد تحسن عندما. . ساق إلي القدر العطوف. .
شنسيريل - اللؤلؤة النادرة. . . داخل علبتها الذهبية!
جاستون - لا تمزح. . . فالمدموازيل دي شاليني فتاة نبيلة جديرة بكل إخلاص ومحبة(28/68)
وأقر أني أحببتها في الحال تقريباً. . .
شنسيريل - بهذه السرعة؟
جاستون - نعم في الحال. . . أحببتها. . . لا كما أحببت جانين التي عبدتها عبادة. . . بل كما أتصور أن يحب الإنسان المرأة التي اصطفاها ليجعل منها رفيقة العمر، الشريكة التي يعقد وإياها ضد الحياة وللأبد معاهدة هجومية دفاعية. . . فهذا الحب يختلف عن الآخر كل الاختلاف. . . ربما كان أقل مرحاً وظرفاً وتوثباً. . . لكنه أثبت وأعمق وأبقى!
شنسيريل - يا للجحود!
جاستون - تخطئ يا صاحبي! لم أنس شيئاً. صورة جانين مازالت مطبوعة في خاطري، ومازلت أشعر نحوها. . . بعطف ممزوج بعرفان الجميل وإني لمصمم على رعايتها وتهوين مصاعب حياتها المعيشية. . .
شنسيريل - (ساخراً) لا شك أنها تعتمد عليك في ذلك كل الاعتماد!
جاستون - أؤكد لك أنني معذب لعذابها! حاولت كثيراً تخفيف وقع الخبر عليها وتوطين قلبها لتلقى هذه الصدمة القاسية فلم أقطع صلتي بها إلا عندما أصبح الأمر محتماً. . . البارحة فقط بعد بضع ساعات من تبادلنا خاتم الخطوبة أنا ومرجريت. . . عندها وجدتني مضطراً أن أصارح جانين بحقيقة موقفي وأن أقطع كل علاقة لي بها خصوصاً وقد كاشفتني خطيبتي البارحة برغبتها الملحة في أن تراني داخل إطار مسكني. . عش العزوبة كما تسميه مداعبة. فتصورها يا صديقي وقد جاءتني صحبة مربيتها واتفق وجود. . . الأخرى! أية مأساة!
شنسيريل - فعلاً!
جاستون - تلقاء هذه الزيارة المهددة لم أتمالك من أن أبوح لجانين بكل شيء! هكذا ودعنا بعضنا وداعاً مؤثراً أظهرت خلاله رباطة جأش نادرة، حتى لقد استفهمت مني عما إذا كانت خطيبتي شقراء. . .
شنسيريل - (متشككاً) سيجارة!
جاستون - (رافضاً) شكراً (يفض خطاب جانين الذي كان يقلبه بعصبية بين يديه حتى هذه اللحظة)(28/69)
شنسيريل - أما زلت مصراً على قراءة هذا الخطاب؟
المشهد الثالث
فرنسيس - فريسة اضطراب شديد) سيدي!
جاستون - ماذا تريد؟
فرنسيس - جاءت مدموازيل دي شاليني. . . مع مربيتها. . .
جاستون (إلى شنسيريل) وقع ما كنت أخشاه! (إلى فرنسيس) أدخلها (بعد خروج الخادم) لا مفر من استقبالها!
المشهد الرابع
جاستون - شنسيريل - مرجريت
جاستون - أنت مرجريت؟ (يقبل يدها)
مرجريت - (مبتهجة) نعم أنا. . . تذكر! أخطرتك أني سوف أزورك صحبة مربيتي. . . (تلمح شنسيريل) أوه! صباح الخير يا سيدي!
جستون - (مقدماً) أعز أصدقائي، روجيه شنسيريل، خطيبتي، مدموزيل دي شاليني
مرجريت - (في ظرف) نأمل أن نحظى برؤيتك قريباً في قصرنا يا مسيو شيسيريل. على شريطة ألا تبوح برؤيتك إياي هنا (تضحك) لأني أجد زيارتي هذه ولو بصحبة مربيتي الإنكليزية بعيدة عن كل لياقة.
شنسيريل - ثقي مدموازيل بتكتمي التام (منسحباً) يا صديقي العزيز. . .
جاستون - (متضايقاً) تنسحب؟
مرجريت - (لشنسيريل) بل ابق يا سيدي لن أطيل المكوث. . . مربيتي إنسانة ظريفة لكنها عصبية المزاج وأراهن أن معين صبرها قد فرغ. . .
جاستون - ما أظرف الخاطرة التي دفعت بك إلى هذه المفاجأة السارة. . . (يختلس نظرة قلقة إلى الساعة)
مرجريت - نعم الخاطرة التي جعلتني. . . أخاطر بسمعتي لأراك. . . بل نعم. . . لا تعترض. زيارتي اليوم شاذة ولا يبعد أن تثير تقولات عديدة. غير أن روح المخاطرة(28/70)
تغلبت على العقل وتركتني عزلاء عن مقاومة رغبتي الحادة في رؤية خطيبي داخل مسكنه الخاص وسط الأشياء التي اعتادها في ساعة من ساعات حياته اليومية. . لكن. . . ما حل لك؟ أراك مأخوذاً مشرد الفكر. . حتى لقد سهوت عن تقديم مقعد لجلوسي. . .
جاستون - أرجو العفو يا مرجريت. . .
مرجريت - على أني في غير حاجة إلى مقعدك. فليس أمامي من الوقت متسع. . . أولى لك أن تضع جانباً هذه الورقة التي تجعدها أصابعك وتقف على خاطرك الحائر. . (يجفل جاستون لقولها، يتردد لحظة ثم يخفي الخطاب في جيبه. تلقي مرجريت نظرة جائلة حواليها) ما أبدع مجموعة السلاح التي تملكها! (تجلس في خفة على ذراع مقعد)
جاستون - هذه أسلحة أسرتي يا مرجريت
مرجريت - (في اهتمام) ويرجع تاريخها إلى أي العهود؟
جاستون - إلى عهود مختلفة، فهذا الحسام الثقيل. قاتل في سبيل الملك لويس الثالث عشر وقضى في مبارزة على أحد أعوان الكردينال الأحمر: ريشيليو، فتسبب موته في ترحيل جدي الأكبر إلى غيابة الباستيل، أما هذا الرمح فقد كافح في معركة رينان ليحمي زمار الملك. الشمس ويبقي على العرش مجد ذريته. وقد وجد بعد المعركة على ما يظهر بجوار جثة صاحبه!
مرجريت - يروقني أن أضم إلى صدري هذه الذخيرة المقدسة!
جاستون - أما هذا السيف الرقيق الناعم، سيف البلاط المزركش فلكم تخطر على ساق صاحبه وسط حفلات الملكة غير المتوجة مدام لابومبادور في رحبات القصر الملكي! (لا يتمالك نفسه عن اختلاس نظرة عجل إلى الساعة)
مرجريت - والأسلحة الأخرى؟
جاستون - هذا الصارم البتار ناضل تحت أمره القائد روشامبو في سبيل استقلال الأميريكيين، ثم دافع عن الملك التعس (لويس السادس عشر) لكنه رفض المهاجرة إلى خارج فرنسا وقاد الصفوف في معركة واترلو. أما هذا الرمح الدقيق الصنع فقد قاتل أبهر قتال في حروب أفريقيا
مرجريت - (أثناء الحوار الأخير تقدمت من المكتب، وعبثت ببعض ما عليه من الكتب.(28/71)
تلمح الورود الحمراء فتنحني عليها) يا للأزهار الجميلة!
جاستون - (جافلاً) مرجريت!
مرجريت - (تهم بقطف) تسمح؟ (يشير جاستون بالنفي) لا؟
جاستون - لا
مرجريت - لمه؟
جاستون - (بالغ التأثر) لأن هذه الزهور. . . قاربت الذبول ولم تعد تصلح للزينة. . .
مرجريت - ليكن. أتخلي لك عن زهورك، لكن ما الذي دهاك فجأة؟ أأكون قد أغضبتك، عفو الخاطر؟
جاستون - مرجريت. . لا تعتقدي. . .
مرجريت - كأني بك مللت رؤيتي! أأكون تمطفلة؟ (ينظر جاستون إلى الساعة) والبرهان أنك تخالس الساعة النظر. . . (في حزن) الوداع إذن. أخطأت في مجيئي، أعذروني أيها السادة. سألحق بمربيتي (تخرج)
المشهد الخامس
جاستون - (يتنفس الصعداء) أوف! هذا الخطاب كان يلهب أصابعي!
شنسيريل - لا تتردد إذن. . . وأقرأه (يقرأ جاستون الخطاب واضطرابه يزداد فقرة بعد فقرة ثم يناوله لصديقه)
شنسيريل - (بعد قراءته) فهمت الآن سبب اضطرابك! يا للمخبولة! تريد أن تراك للمرة الأخير، وإذا لم تلمح الساعة الخامسة الإشارة المعتادة، هذه الباقة من الورود الحمراء التي اعتدت أن تضعها عند النافذة أيام كنت تنتظرها. . .
جاستون - سوف تطيع وساوس اليأس!
شنسيريل - وعلام عولت؟
جاستون - لو أنك مكاني ما الذي كنت تفعل، أنت؟
شنسيريل - أنا لا أؤمن بالانتحار العاطفي على أني لو خيرت بين أهون الشرين لفضلت أن أستقبلها. . .
جاستون - أخشى أن تكون هذه المواجهة مشئومة العاقبة. لا أذكر لنا (أنا وجانين) إساءة(28/72)
تبادلناها طوال مدة علاقتنا ويحضرني أني أبكيتها يوماً. فإذا شاء القدر أن يرينيها تتألم هنا بين سمعي وبصري. . فما يدريني إذا ظللت وقتها متمالكاً نفسي؟. . .
شنسيريل - إذاً لا تستقبلها
جاستون - وإن كانت قد صممت حقيقة على الانتحار. . . (فزعاً) أوه! عندها يلازمني تقريع ضميري مدى الحياة!
شنسيريل - إذاً استقبلها وعجل فالوقت يمر (يخف جاستون إلى باقة الورود لكن ما إن يتناولها حتى يسمع نقراً خفيفاً على الباب ثم تدخل مرجريت فجأة متبوعة بفرنسيس)
المشهد السادس
مرجريت - معذرة أيها السادة أرجوكم. . . نسيت قفازي! يالي من طائشة! يا عزيزي جاستون أخشى أن تكون في نفسك فككرة سيئة عن امرأتك المقبلة! (تنظر يمنة ويسرة وفجأة وقد وجدت ما تبحث عنه) هاهو! (تلاحظ مظهر القلق البادي على جاستون) أوه! جاستون - ما بك؟ أراك تخفي عني شجناً ما.
شنسيريل - هذه المرة انسحب. تسمحين يا آنسة؟
مرجريت - تفضل يا سيدي
جاستون - (لشانسيريل وقد أوشك على الخروج) أيها الخائن أتتخلى عني وأنا في أشد المواقف حاجة إليك؟
شنسيريل - يا صديقي سوف أعود (يخرج)
مردجريت - والآن. . حدثني لا تنكر. أراك في حالة اضطراب شديد ومن غير المعقول أن يكون وجودي هو الذي يصعب عليك إلى هذا الحد
جاستون - أوه!
مرجريت - (ملحة) خبرني. إني أكاد أكون زوجتك. . إن كنت تعاني ألماً أو تقوم في نفسك رهبة مرتقبة فلي الحق أن أطالبك بنصيبي
جاستون (متأثراً) مرجريت!
مرجريت - يخيل لي أن شيئاً تبدل في عينيك وفي قلبك
جاستون - فضلت أنك لم تجيئيني اليوم!(28/73)
مرجريت - إذاً لأدعك لنفسك
جاستون (في لهفة) تحسنين صنعاً
مرجريت - ألا تقتضيني أكثر من ذلك، لتستعيد صفاء نفسك لا تكذبني الحقيقة. جاستون. عهدي بك أجهر صراحة وأخلص نية. (لا يجيب) صدقني. تشرف حبنا لو أنك تفضي إلي بما يعذب قلبك
جاستون - أنت على حق. . لكن يساورني وسواس أسود إذ أعتزم أن أفتح بين يديك مغاليق روحي الحائر. مع ذلك أقسم لك أني ما تصورت يوماً موقفاً مثل هذا ممكناً وأن تتزاحم الظروف أو تترى. . . دافعة بي إلى موقف التردد بين واجبين
مرجريت - واجبين؟ ماذا تعني يا صديقي؟
جاستون - لا تحمليني على أكثر مما قلت
مرجريت - قلت أكثر مما يجب كي لا تتم. . . إن القلق الذي يساورك خف إلى قلبي وليس من مصلحة مستقبلنا أن تدعني أتخبط فيه. تكلم!
جاستون - (تعد أن يلقي نظرة محمومة إلى الساعة يخرج من جيبه الخطاب ويدفعه إليها بعد تردد قصير) إذن، إقرأي!. .
مرجريت - (تقرأ مرتعشة وقد تهالك جاستون على مقعد ثم تقول في صوت أبح) هذا هو السر!
جاستون - (متأثراً) عفواً (تكاد مرجريت تهوي إعياء فيحاول أن يسندها) مرجريت
مرجريت - (تدفعها عنها في رفق) لم يصبني أذى. . أرجو العفو. . . لكني أحس ألماً ممضاً. . .
جاستون -! مرجريت أخطت إذ بحت لك. . .
مرجريت - (مقاطعة) بالمرة، جاستون. لي سؤال واحد: هذه الإنسانة، مدموازيل. . . (تعود إلى الخطاب) جانين له هي جديرة حقاً بالـ. . . بالاهتمام الذي حملته لها مدى عامين؟
جاستون - نعم يا مرجريت
مرجريت - آه! (تندفع إلى باقة الورود وتضعها على منضدة أمام النافذة.)(28/74)
جاستون - (في لهفة) ماذا تصنعين؟
مرجريت - أعطي الإشارة
جاستون - كيف؟ تجيزين لي استقبالها؟
مرجريت - أنت؟ لا. . بل أستقبلها أنا
جاستون - أنت؟ لكن هذا محال. .
مرجريت - لم؟ أتخشى على حياتي؟
جاستون - كلا، أخاف عليك مما ينتظرك من عميق التأثيرات. . .
مرجريت - أعنف التأثرات شعرت بها وأنا أقرأ هذا. . (تشير إلى الخطاب) والآن دعني أعم ما يتراءى لي
جاستون - لكن. .
مرجريت - لا تعاند (يسمع رنين الجرس ويدخل فرنسيس على الأثر) أدخل السيدة، فرنسيس (يدهش الخادم لكنه ينحني ويختفي) إن مقاديرنا الساعة في كفتي ميزان. صدقني جاستون. يجب أن أواجه الآن هذه الفتاة. . أحس حاجة ملحة في أن أستوضح أشياء. . دعنا أرجوك، سوف أرجوك، سوف أدعوك في الوقت المناسب
جاستون - (يحاول إقناعها وهي تقوده إلى الباب) مرجريت. . لا أحتمل أن أتصورك أنت خطيبتي. . زوجتي. .
مرجريت - خطيبتك نعم!. . أما زوجتك، فلم أصرها بعد. ينسحب جاستون منهزماً (تبقى مرجريت وحيدة فريسة اضطراب بالغ وقد لفت وجهها تجاه الباب متكئة بيد إلى المكتب)
المشهد السابع
مرجريت - جانين
جانين - (تدخل مندفعة) آه! عفواً. مدام. . أبحث عن جاستون (مستدركة) لكن. . . من أنت؟ آه!. . . حزرت من تكونين!. . . ووجدت من نفسك الشجاعة على اقتحام باب عشيقي؟! (تندفع نحو الباب فتهزه في عنف جنوني)
مرجريت - (صارخة) ابقي!. . (تلتفت جانين إليها، دهشة فتقول لها في لهجة أرق) أتوسل إليك!. . .(28/75)
جانين - (دهشة) تتوسلين إلي؟
مرجريت - نعم، إن دعى الحال. . . لأستبقيك.
جانين - والداعي؟
مرجريت - لأعلم إذا كان الخطاب الذي وجهته إلى. . . المسيو كيرولون.
جانين - (ثائرة) وأطلعك عليه؟. . .
مرجريت - لم يطلعني عليه بدافع عاطفة الزهو التي تتصورين.
جانين - قبل أن نخوض غمار هذا الحديث الشاذ، خبريني. . ماذا تصنعين في هذا البيت، أنت ما من ليس مكانك هنا؟
مرجريت - أتعرفينني؟
جانين - حدثني عنك بما فيه الكفاية!
مرجريت - إلى هذا الحد؟
جانين - لقد تابعت خيالك الممقوت في نظراته الشاردة، في فترات صمته الحالم بل وفي كل همسة وحركة. . . . آه! لكم عذب قلبي وأضناه (تلتفت حواليها) ألهذا السبب بات الآن يخشى مقابلتي؟
مرجريت - تخطئين، مدموازيل. . لك أن تقابليه إن رغبت. . . على أني شئت قبلها أن أحادثك وبما أن الصدف الأليمة تسوق بين يدي هذه الفرصة السانحة
جانين - لا أطمع في شفقتك، مدموازيل!
مرجريت - وأنا لا أسمح لنفسي بها. . ولكن ألا يمكنني أن أحاول تهوين وقع. . .
جانين - مصابي؟ وكيف؟ أتعشم أن لا يكون ذلك بتقديم. . ما في مكنة الوارثات السريات أمثالك أن تقدميه من مال. . . ما أهون الثمن!
مرجريت - أسفاه
جانين - لا تشتكي، فلولا مهرك لما فزت بالزواج من جاستون
مرجريت - هل ألقى جاستون في روعك أنه يقترن بي طمعاً في ثروتي؟
جانين - (هازة كتفيها) لو أنه صارحني بذلك لما صدقته. .
مرجريت - إذن؟. . . آه!. . فهمت ما يجول بخاطرك وهو أسمى مما نطقت به؛(28/76)
تتصورين أن مالي سيساعد بلاستول في جهوده المقبلة، لكنك تتناسين، أنه في مقابل ذلك يحمل إلي كنزاً لا يقوم بثمن من التقاليد المجيدة والأفكار المبتكرة التي تفوق في قيمتها جميع أموال العالمين. واتفقت معي من برهة على أن جاستون يشعر نحوي بعض العطف وأنا، من جهتي. . لا لا. عفواً:
جانين - أنت تحبينه، حزرت ذلك
مرجريت - إذن. . ألا تجدين ارتياطنا طبيعياً؟
جانينن - لو أنني أملك ثروتك لفكرت مثلك، على أنك محقة في النهاية، خذي إذن جاستون، امضي، وثقي أنه أسعد منك حظاً: سوف تكونين ملكاً له بكليتك. أما هو فلن ينالك منه أكثر مما تركت لك من فضلات. .
مرجريت - لم توجهين إلي هذه العبارات القاسية؟
جانين - إنني أحمل في قلبي سنتين من أجمل سني شبابه بما فيهما من فتوة حارة. . . ونشوة فياضة. . .
مرجريت - أوه! صمتي!
جانين - (متهالكة على المقعد) أضحي بالحزن يعميني حتى ليدفع بي إلى الشر والأذى
مرجريت - مدموازيل. . .
جانين - دعيني وشأني.
مرجريت - جانين، هل لك أن تجيبيني على سؤال أخير يجمع تذكاراتك الحية، يجمع قلبك المعذب في صراحة تامة؟
جانين - وهل أملك من الجهد ما أجيبك به على سؤالك؟
مرجريت - قد يبدل ردك حظوظنا نحن الثلاثة. أتفهمين؟ إذن أجيبي. هل وعدك جاستون يوماً ما. . بالزواج؟
جانين - وعدني بالزواج؟. . كلا لم يعدني بشيء!
مرجريت - (تتنفس) و. . سامحيني إن كنت لح، لكني في أشد الحاجة إلى استيضاح الحقيقة كاملة. . ألم يحاول جاستون أن يعللك بيوم مقبل تصبحين فيه زوجته دون أن يقطع على نفسه عهداً صريحاً بالزواج؟ أقسم لك بأعز من أحب لو أنه بذر في قلبك مثل هذه(28/77)
الفكرة لأكونن على استعداد تما للابتعاد عنه إلى الأبد دون أمل في الرجوع. . (ترفع جانين رأسها في بطء) وتطيل النظر لحظة إلى مرجريت ثم تطرق من جديد) لم لا تجيبين؟
جانين - وما الفائدة؟. . ألا تحسين أني ما عدت آمل شيئاً؟
كلا لم أحب جاستون إلا حباً خالصاً لا يداخله وعد ولا أمل. . إني لم أكن اجسر على المجيء إلى هنا إلا عندما كنت المح من الشارع قرب النافذة هذه الباقة من الورود الحمراء. . . فهل كان في مكنتي أن أحلم بمشاركته يوماً في حياته النبيلة، أن أحيا بقرب هذه المجموعة من الأسلحة الأثرية , , أمام هذه الصور العائلية التي يطالعني منها الأشراف والقواد العظام، أنا ابنة الشعب البائسة؟ صدقيني يا مدموازيل. . مثل هذا الحلم الباهر لم يقم بخاطري. . على أني لا أملك نفسي عن الشعور بأن كل شيء قد انتهى. . (تنكي)
مرجريت - (في تأثر بالغ) وهل أنا التي أهجت في قلبك هذا الألم الممزق؟. . آه عفواً! يا صغيرتي جانين
جانين - ليس في مقدورنا الآن أن نبدل شيئاً!
مرجريت - من يدري؟
جانين - لو أنك شئت إعادة جاستون إلي لما استطعت. . لن يعود بعد اليوم. . . انتهى. . . على أني أفضل الآن وقد عرفتك أن تكوني أنت التي تمضين به لا امرأة أخرى. . . لكن عفوا!. . . عيوني مازالت تغص بالدموع. . . مدموازيل! اغفري لي أقوالي الطائشة التي فهمت بها منذ لحظة. . . كنت مجنونة. . . لم أك أتوقع رؤيتك هنا. . . أسأت إليك، فعفواً! والآن، وداعاً!
مرجريت - ألا تفضلين رؤيته قبل الرحيل؟
جانين - (بسرعة) كلا.
مرجريت - إذن، قبيل أن نفترق، يا جانين، عديني بأن ما ورد في خطابك قد تبخر. . . أتسمحين لي أن تكوني جد شجاعة؟ (تسير جانين) مهما تصورتني بعيدة عنك فثقي أن لك في صديقة حبيبة. . .(28/78)
جانين - الوداع يا مدموازيل (تجيل بصرها في أنحاء الججرة) أبحث عن تذكار. . . هذه الورود. . . (تنزع الزهور في لهفة من الآنية) إنها ملكي هذه الورود! كل ما أملك من متاع العالم! (في يأس دامع) على أن الزمن العاتي سينويها عن قريب! (تضم باقة الورد إلى قلبها وتختفي) (تتابعها مرجريت في نظرة أليمة ثم تسقط باكية على مقعد أمام المكتب)
المشهد الثامن
مرجريت - جاستون
جاستون - (مقبلاً) أأنت وحدك؟
مرجريت - (ترفع رأسها دون أن تنظر إليه) فضلت ألا تراك، على أنها وعدني ألا تستسلم إلى اليأس
جاستون - مرجريت
مرجريت - يا للصغيرة المسكينة لن تبرح خاطري صورتها وهي تمضي إلى حال سبيلها، وحيدة، باكية
وقد ضمت إلى صدرها تلك الباقة من الورود الحمراء. . التي تشبه قلبها الدامي.
جاستون - مرجريت! كأني بك لم تعودي تحبينني. أتجدينني مذنباً
مرجريت - لا يا جستون. إني لا أتهمك. لقد دفعت عنك جانين لم تكن تلك خطيئتك، بل خطيئة المقادير، خطيئة الحياة، الحياة التي تجعلنا بالرغم منا قساة إلى هذا الحد
ينزل الستار(28/79)
وجه صالح للسينما
للكاتبة الألمانية فيكي بوم مؤلفة الفندق الكبير
(تتمة)
وفي صباح أحد الأيام التقى بها رناتس ثوربج وهي صاعدة إلى غرفة الملابس في الأستوديو لتأخذ الشال الذي تضعه على كتفيها أثناء التمثيل. وسألها قائلاً: صباح الخيرز يا دريجالسكي. كيف حالك؟
- بخير يا سيدي ونظر إليها ثوربج ملياً ثم قال:
- بخير نعم. أراك تحسنت كثيراً. .
وكأن في صوته ما يدل على عدم رضاه لأنها بخير. . . وفكرت دريجالسكي فيما تحمله قلوب الناس من حقد وحسد!
(عند عودتها اشترت زهوراً وآنية جديدة للزهور. واشترت طعاماً تحمله إلى ولدها في المصحة إذ كانت تزوره كل أحد. وكان سعيداً في تلك المصحة مسروراً بتلك العصي الحمراء والزرقاء التي كانوا يقدمونها له هناك ليلهو بها.
كانت دريجالسكي تبتسم كلما فكرت في ولدها. وهاهي تفكر فيه وتبتسم وتنظر إلى خيالها في المرآة - وكانت قد اشترت مرآة - وابتسمت أيضاً وقد اطمأنت إلى شكلها في مرآتها الجديدة.
وكانت أعدت طعاماً فاخراً لهر بوش، واشترت دهاناً لشعرها وزينت رأسها، واشترت غطاء جديداً للمائدة التي كانت تتناول عليها وهر بوش القهوة، وقد بدأ هر بوش يفكر فيها وفي أنها تصلح قرينة له.
جاء شهر أكتوبر، ولأول مرة أحست دريجالسكي أن القوم في الأستوديو غير راضين عنها. وكان ما طلبوه منها سهلاً بسيطاً. إذ كان عليها أن تعبر شارعاً ثم تقف قليلاً تحت المصباح وتسعل ثم تمضي في طريقها في بطء. . . ولكنها أخطأت في كل حركة قامت بها، وقد استقام ظهرها وزال الانحناء الذي كان يزيدها ضعفاً، وجفت عيناها، وقد تعودتا النظر إلى الضوء الساطع وأعاد المخرج المنظر ثلاث مرات، ولكنها لم تفلح فطردها وعادت إلى بيتها.(28/80)
وفي المرة الثانية جاءت في ثوبها الأبيض ومعطفها الأزرق الجديد، فتلقوها بشيء كثير من العنف وقدموا لها ملابس بالية ولكنها لم تظهر في صورتها الحقيقية الأولى، وأمرت في قسوة وحدة أن تحضر دائماً مرتدية تلك الأسمال البالية التي جاءت بها الأستوديو لأول مرة، ولكنها لم تدرك قط ما يريده أولئك الناس وقد أصبحت الآن تخجل من لباسها القديم، ولماذا يسمح لغيرها من النساء أن يظهرن في أثواب جميلة، ويأبون عليها ألا أن تظل في مظهرها التعس؟
ومر شهر نوفمبر ولم تدع للعمل إلا قليلاً؛ وكانت تصور في يوم من أيام ديسمبر بين جمع من الناس في رواية (الأشقياء) ولم تدرك أن هر فيلب المخرج كان يشير إليها حين كان يصيح بعماله لماذا تركتم هذه المرأة من غير تزيين وجهها؟ ما هذا الإهمال؟ ومد أحدهم يده وجرها من ذراعها إلى غرف التزيين وقام العامل بطلاء وجهها وتصوير التجاعيد عليه، تجاعيد الفقر والجوع التي فقدتها من شهور مضت.
جاء فيليب إلى غرفة ثوربج فوجد امرأة تبكي بكاء مرا ًوسأل ما الخبر، فأجابه ثوربج
- هذه دريجالسكي جاءت تشكو لأننا لم نستدعها من عهد بعيد، فأجابت وهي تنتحب
- كنت أقول. إنه ليس من العدل ألا أدعى إلى العمل وقد أصبح في وسعي الآن أن أحضر في ثياب لائقة، ويخيل إلي أنكم ترونها جريمة من عاملة مثلي أن تأكل وتتغذى، إني أستطيع بتلك الدهانات التي يصبغ بها الوجه أن أسدي لكم ما تريدون. ولا أحسبكم تريدون مني أن أظل جائعة في أسمالي البالية، فكل ما في الأفلام غير حقيقي، وقد رفضتم عودتي إلى العمل لا لسبب إلا لأن غذائي قد تحسن. فأجابها فيليب وحدة وغضب:
- لا، يا سيدتي فأنت مخطئة، إننا نريد في الأفلام شيئاً أكثر من التمثيل نريد حياة، الحياة الحقيقية. وإذا كنت تريدين لنفسك عيشة راضية فلا شأن لنا بك.
قال ذلك وسكت وترك الغرفة، ثم قال ثوربج وهو يفكر:
- نعم، إنه على حق يا دريجالسكي، إن الفن شاق وقاس، عودي إلى حياتك الأولى، أنهكي قواك في العمل، لا تفري من الشقاء، أقضي الليالي ساهرة، وأعيدي إليك ولدك، وعندئذ ندعوك ثانية، هل فهمت الآن؟
لا، لم تفهم درجالسكي قط، وخرجت من الغرفة وكأنما انحنى ظهرها قليلاً مرة أخرى،(28/81)
خرجت وقد استحال عليها أن تفهم شيئاً
وكانت تسائل نفسها؛ علام كل هذا؟ أيدفعون نقوداً لكي أظل جائعة؟ فإذا كسبت من النقود ما يكفي لأحسن طعامي طلبوا إلي أن أعود إلى الجوع، وإذا وجدت من الغذاء ما يكفيني طردوني من العمل! سأحدث بوش عن هذا كله. ربما كان خيراً لي أن أعود إلى عملي، غسيل الملابس، يخيل لي أنهم هنا في الأستوديو كلهم مجانين
محمود عزي(28/82)
الكتب
ابن خلدون وتراثه الفكري
تأليف الأستاذ محمد عبد الله عنان
أصدر الأستاذ المؤرخ الكبير محمد عبد الله عنان كتابه القيم، (ابن خلدون، حياته وتراثه الفكري) فأدى به واجباً طالت بنا الأيام ونحن عاجزون عن أدائه. ولئن كان أهل الأدب ورجال العلم والتاريخ قد قابلوا هذا الكتاب بما يليق به من الترحيب والتقدير لما رأوا فيه من ترجمة وافية لحياة العالم المؤرخ الفيلسوف عبد الرحمن بن خلدون الذي شهد له كبار رجال الغرب بالعبقرية وقدروه حق قدره، واعترفوا بأنه واضع أصول علم الاجتماع وفلسفة التاريخ، فأني قد قابلت هذا الكتاب النفيس لا بما قابله الناس فحسب، وإنما قابلته كذلك بفرح وغبطة، ذلك بأنه قد حقق أمنية لي طالما تمنيتها وناديت بها على صفحات الصحف وهي أن نعمل على إحياء ذكرى مؤرخنا الفيلسوف العظيم حتى يعلم المسلمون خاصة والشرقيون عامة مقدار علو مقامه، وليقفوا على مدى سمو علمه فيجعلوه مفخرة لهم وينتفعوا بعد ذلك بتراثه الفكري العظيم.
وإذا كان الأستاذ الكبير محمد عبد الله عنان قد أرضى العلم والتاريخ بترجمة حياة عالمنا ومؤرخنا الفيلسوف بعد أن كان لا يعرف من حياته ألا ذرو يسير لا يحيط به إلا القليلون، وأطلع جيلنا على عظمة هذا الرجل ومبلغ أثره الفكري، وكشف عن فضله على العلم والتاريخ والأدب، فإنه قد بقي أمر ذو خطر لم يسع حضرة المؤلف نفسه إلا أن يتحدث عنه ويشيد هـ، ذلك هو مقدمة تاريخ ابن خلدون، تلك المقدمة التي حملت نتاج عبقريته وكانت سبب عظمته التي بهرت علماء الغرب جميعاً وجعلتهم يشهدون له بالنبوغ والألمعية، فإن طلاب الأدب والعلم الذين ناشدهم الأستاذ عنان أن يعكفوا على دراستها والانتفاع بها لا يجدون بين أيديهم نسخة صحيحة منها يرجعون إليها، ذلك بأن كل ما طبع منها قد مسه التحريف، وناله التصحيف، وقد ذكر لنا الأستاذ أحمد زكي باشا أنه لما استيقن من وجود المسخ والتحريف والتصحيف فيما طبع من هذه المقدمة ظل يسعى حتى أسعده التوفيق بالعثور على نسخة خطية من هذه المقدمة مصححة بقلم ابن خلدون نفسه وعلى أنه قد أنفق في سبيل نقل هذا الأثر النفيس نحو ثمانين جنيهاً فإنه يأسف جد الأسف إن لم يجد(28/83)
أحداً من رجال العلم أو من أصحاب المطابع قد سعى في طبعها ونشرها، ولا يزال هذا الكنز مدفوناً بالخزانة الزكية
فإذا كان الأستاذ الكبير محمد عبد الله عنان قد قام بهذا الفرض الكفائي فأرخ حياة ابن خلدون فإنه لا يزال عليه فرض آخر لا يتم الفرض الأول إلا به، ذلك أن يعمل على طبع نسخة صحيحة من مقدمة ابن خلدون فيحظى بالحسنيين ويتم بذلك عمله الخالد وحبذا، لو تولت لجنة التأليف والترجمة والنشر طبع هذه المقدمة ووقف على تصحيحها مع الأستاذ عنان الأستاذان الجليلان أحمد أمين وأحمد حسن الزيات فيؤدوا بذلك أجل عمل للأدب والعلم والتاريخ
إني أناشد حضرات الأساتذة الأجلاء عنان وأمين والزيات بحق العلم الذي يعملون له مخلصين أن يجعلوا من عملهم للعلم طبع مقدمة ابن خلدون ولتجعلها لجنة التأليف والترجمة والنشر من حسناتها في (نشر) الكتب القيمة والأسفار النافعة.
محمد أبو ريه(28/84)
العدد 29 - بتاريخ: 22 - 01 - 1934(/)
من أحاديث العيد. . .
للدكتور طه حسين
ابتسم الصبح فابتسمت معه الثغور، وأرقت الشمس فأشرقت معها الوجوه وغنت الطير فتغنت معها النفوس بالآمال والأماني وبالأهواء والميول وتغنت معها نفوس أخرى بالأحزان اللاذعة، والآلام الممضة، والعواطف التي تفطر القلوب وتسفح الدموع. وأندفع قوم إلى السرور العريض، واندفع قوم آخرون إلى الحزن العميق، وتردد قوم بين هذا وذاك يأخذون من كليهما بحظ معتدل، ويؤلفون لأنفسهم منهما مزاجاً لا هو بالمشرق المبتهج ولا هو بالمظلم القاتم، وإنما هو شئ بين ذاك، فيه مكان للذة والأمل، وفيه مكان للألم والذكرى. وأضطرب الناس أيام العيد بين دور الأحياء ودور الموتى، يتحدثون إلى أولئك ويفكرون في هؤلاء.
وكثير من حديث الناس الأحياء، وكثير من حديثهم عن الموتى، خليق أن يسجل ويتخذ موضوعاً لألوان مختلفة من الأدب والفن. ولكن هذه الأحاديث تقبل مع أيام العيد، وتذهب معها كأنها لم تكن. تترك آثارها في نفوس الناس ولكنها لا تترك آثارها فيما ينشئون ويكتبون. لأنهم لا ينشئون ولا يكتبون، ولأنهم إن أنشأوا أو كتبوا فقلما يقفون عندما يشعرون أو يجدون، إنما يلتمسون موضوعاتهم في السماء حيناً، وفي السحاب حيناً، وبعيداً عن حياتهم إثما. فأن مسوا حياتهم فهم لا يمسون إلا ظاهراً منها، وهم يمسونه في رفق أقرب إلى الجدب الموئس منه إلى الخصب الذي يحيي النفوس ويغدو القلوب.
أما أنا فقد كنت أتحدث إلى نفسي وإلى أصدقائي في أيام العيد أحاديث مختلفة، منها الباسم ومنها العابس، فيها الجد وفيها الهزل. ولكني كنت أحتفظ لنفسي بأشد هذه الأحاديث مرارة ولذعاً. لأني أعلم إن الناس يكرهون في أيام العيد وفي غير أيام العيد مرارة الحزن ولذع الألم. وأشهد لقد استقبلت يوم العيد بحزن عميق لأني استعرضت صوراً تعودت أن أستعرضها كلما أقبلت الأعياد، وفكرت فيمن أزوره ويزرني، وفيمن أسعى إليه ويسعى إلي، فإذا كثير من هذه الصور قد محي من صفحة الحياة ولم يبق له إلا رسم في صفحة القلب، قوي عند قوم، ضعيف عند قوم آخرين. محيت هذه الصور من صفحة الحياة فلن أسعى إلى أصحابها، ولن يسعى أصحابها إلي، إما لأن أصحابها قد نقلوا من هذه الدار التي(29/1)
نضطرب فيها بالألم والأمل إلى دار أخرى، لا تعرف الحركة ولا الاضطراب، وإما لأن أصحابها ما يزالون يضطربون معنا في هذه الدار، ولكن ظروف الحياة وأسباب العيش قد نقلت أهواءهم عنا إلى قوم آخرين ليسوا منا ولسنا منهم الآن في شئ، لقد كنت أبدا زيارات العيد بهؤلاء النفر من الأصدقاء الأعزاء أكون معهم ليلة العيد، فإذا تنفس الصبح فكرت فيهم، وإذا ارتفع الضحى سعيت إليهم، فلقيتهم وكأننا لم نلتق منذ دهر طويل، وقضيت معهم ساعة قصيرة ضيقة لم أفرغ لهم فيها، ولم يفرغوا إلى كثرة المقبلين والمنصرفين، ولكنها على ذلك ساعة عريضة خصبة لكثرةما فيها من هذا الود الذي ينتقل إلى قلبك مريحاً عذباً لا لشيء إلا لأن اليد صافحت اليد ولن التحية الهادئة البريئة من التكلف قد مست الإذن فملأت النفس حياة وغبطة وسروراً. فإذا قضيت مع هؤلاء الأصدقاء هذه اللحظة القصيرة الخصبة خرجت من عندهم وقد ادخرت من الغبطة والسعادة ما يعينني على احتمال أثقال العيد فذهبت إلى دار عدلي ثم دار ثروت ثم إلى دار فلان وفلان. وقد أخذت الأيام تتخطف هؤلاء الناس واحداً واحداً حتى لقد زرت هؤلاء الأصدقاء فقضيت معهم ما قضيت من الوقت، ثم خرجت فإذا أنا أنصرف إلى كوكب الشرق لا إلى دار عدلي ولا إلى دار ثروت ولا إلى دار فلان وفلان من أولئك الذين كنت احب أن أسعى إليهم واغتبط حين يسعون إلي أو حين يرسلون إلي تحياتهم مع البريد وكنت لا أكاد أتهيأ للخروج يوم العيد حتى ينبئني المنبئون بأن فلاناً وفلاناً وفلاناً من الأصدقاء قد أقبلوا وهم ينتظرون، منهم من يريد أن يبدأ العيد بلقائي لأن لقائي كان أحب شئ إليه يوم العيد، ومنهم من يريد أن يصحبني في زيارات العيد لأنه يجد في هذه الصحبة لذة ويسراً فأما الآن فأني أنبأ بأن قوماً آخرين قد أقبلوا وبأنهم ينتظرون، أما أولئك الذين كانوا يقبلون وينتظرون قد أنقطع إقبالهم وانقطع انتظارهم إلى حين، لأنهم يخشون الأحداث ويخافون الظروف ويشفقون من الجواسيس ويربأون بأنفسهم من غضب السلطان. هم أحياء ولكن ظروف الحياة قد قطعت ما بينهم وبيني من الأسباب، كما إن ظروف الموت قد قطعت ما بين الموتى وبيني من الأسباب. ولم تكن أيام العيد تنقضي حتى أزور داراً من الدور في ناحية من نواحي القاهرة فألقى فيها ابتسام الزهرة النضرة، والشباب الغض، والحياة التي تبتسم للحياة. وقد انقضت أيام هذا العيد فلم أزر هذه الدار لأنها محزونة لا تحتفل بالعيد، ولأن(29/2)
زهرتها النضرة قد اجتثت منها اجتثاثا، وانتزعت منها انتزاعاً، وحملتها الريح إلى حيث لا ينظر الزهر ولا تبتسم الحياة للحياة. لم أزر هذه الدار ولم أنعم بتلك الابتسأمة ولم أسمع ذلك الحديث ولكن الله يشهد إني قضيت أيام العيد كلها، ويظهر إني سأقضي أياما ًطويلة أخرى وأن صوتاً من الأصوات سيتردد في نفسي جافاً خشناً متعثراً موئساً كما تتردد النغمة من الأنغام في القطعة الطويلة من الموسيقى، وتسألني عن هذا الصوت الذي تردد في نفسي منذ أشهر وسيتردد فيها أشهراً وأشهراً وأعواما، فهو صوت ذلك النعش حين خرج الحاملون به من الصلاة في مسجد من مساجد القاهرة وهم يعالجون إثباته على سيارة من سيارات الموتى وهو يأبى عليهم بعض الإثم يطيعهم ويستسلم لهم، وإذا خفقة جافة كأقفال الباب، وإذا النعش قد استقر، وإذا أزيز ضئيل نحيل يرتفع في الميدان ثم يتسع ويضخم، وإذا السيارة تنطلق كأنها السهم إلى ذلك المكان الذي لا يعود منه من استقر فيه. وإذا نحن نتبعها كاسفين ونعود كاسفين، وإذا الحياة تتصل بنا وتضطرب خطوبها حولنا، وتصرفنا عن أنفسنا وعن الناس، ولكن ذلك الصوت الجاف الخشن المتعثر يعود إلي من حين إلي حين فيذكرني بذلك اليوم الثقيل الذي شيعت فيه فقيدين عزيزين في اقل من ساعتين.
بهذا وأمثاله كنت أتحدث إلى نفسي أيام العيد، فإذا سألتني عما كنت أتحدث فيه إلى الناس وعما كان الناس يتحدثون فيه إلى حين كنا نلتقي، فيا للبؤس! ويا للفقر ويا للشقاء! ويا لجدب الحياة وإفلاس الاحياء، كنا نتحدث عن الأزمة المالية، وكنا نتحدث عن السياسة، وكنا نتحدث عن غدو المندوب السامي مع الطير يوم العيد وما يحيط بغدوه ذلك من أسرار وأخبار ومن تأويل وتعليل. ثم كنا نتحدث عن بعض هذه الأشياء الممتازة التي ظفرت بأحاديث الناس وشغل الصحف وعناية رجال الأمن: كنا نتحدث عن ذلك الخاتم الذي اضطرب له رجال الأمن وعطلت له دار من دور التجارة، واتصل حوله تحقيق طويل ودقيق ولم تبح صحيفة مصرية عربية أو غير عربية لنفسها أن تعرض عنه أو تطوى أخباره عن قرائها، ثم اصبح الناس يوم العيد فإذا الصحف تنبئهم بأن سيدة التقطته أمام مدرسة من المدارس فظنت جوهره من الزجاج ولم تعلم انه حجر نفيس، وان مدينة القاهرة مضطربة له اشد الاضطراب، وان قيمته تربى على ألف من الجنيهات. وكنا نتحدث عن(29/3)
هذا الدبوس الذي افتقدته صاحبته فلم تجده فارتاعت لفقده وهم أصحابها أن يقولوا قصة كقصة الخاتم، ولكن شابا لم يلبث إن التقطه فرده إلى صاحبته، فلم يضطرب رجال الأمن ولم يحتج رجال التحقيق إلى النشاط، ولم تزد الصحف على أن روت الخبر رواية يسيرة قصيرة في مكان غير ظاهر ولا ممتاز. وكنا نقارن بين قصة الخاتم وقصة الدبوس وبين حظ الخاتم وحظ الدبوس. وكنت أقول لأصدقائي وهم يبتسمون ويضحكون ويفلسفون: على رسلكم أيها السادة، فلو قد سألتم ذلك الخاتم أو ذلك الدبوس عما يعرفان من التاريخ، ولو قد أراد الخاتم وأراد الدبوس أن يقص عليكم بعض ما يعرفان لما ابتسمتم ولا ضحكتم ولا أغرقتم في الفلسفة هذا الإغراق. فليست قيمة الخاتم والدبوس في هذه الجنيهات التي تربى على الألف أو تبلغ المئات فحسب، ولكن قيمتها فيما يحملان من ذكرى وما يصوران من حياة، وفي هذه الصلة التي تصل بينهما وبين القلوب والنفوس. قال صديق ماكر: فحدثنا إذا عن خاتمك الذي فقدته، فقد يظهر انك فقدت خاتما أيضاً وان أمره قد ارتفع إلى رجال الشرطة ثم هبط إلى الصحف ثم ذاع بين الناس. قلت وانك لتتحدث عن هذا الخاتم هازلا كأنما تغض من أمره وتزدريه، فهل تعلم إني حزنت عليه حزنا شديدا! وهل تعلم انه ليس اقل خطرا ولعله اعظم خطر عندي من ذلك الخاتم وهذا الدبوس؟ وهل تعلم أنه يمتاز من ذلك الخاتم وهذا الدبوس بان له الحياة المصرية العأمة آثاراً باقية، به اصبح قوم دكاترة. وبه أدرك قوم آخرون إجازة الليسانس، وبه صرف كثير من أمور الدولة، وقضى في مصالح كثير من الأستاذة والطلاب أعواما، فحدثني أين يقع من هذا كله اثر ذلك الخاتم وهذا الدبوس في حياة المصريين؟ ومع ذلك فلم تبلغ قيمته ألفا ولا مائه، ولا عشرة من الجنيهات، استغفر الله، بل لم تبلغ قيمته عشرة من القرش، وإنما كانت قيمته قرش ونصف قرش ليس غير، اتخذته حين كانت الأشياء رخيصة، في ذلك الزمن، الذي كنا نستطيع أن نبلغ فيه بالقرش كثير من المآرب والحاجات، اتخذته في باب الخلق، خارج ذاتيوم من دار الكتب، وكنت في الرابعة والعشرين من العمر، وكنت أريد أن أسافر إلى اوربا، واظهر لي هذا السفر إني شخص من الأشخاص، يجب أن اذكر مولدي، واعرف سني، واقدر ما آتي من الاعمال، في ذلك الوقت بحثت عن شهادة الميلاد وكانت ضائعة، فعرفت سني وكنت أجهلها، وفي ذلك الوقت قيل لي من أتى عملا أو قالقولا وجب عليه أن يمضيه، فاتخذت(29/4)
هذا الخاتم، صنعه لي رجل كان يصنع الخواتم قريبا من المحافظة، ثم عبر معي البحر، وصحبني في فرنسا طالبا، وصحبني في الجامعة أستاذاً، عمل معي في أعمال الدولة، وأمضى معي عن أمور الدولة، وكان صديقا أميناً، لست ادري، كيف قبلت فراقه حينا، وأتمنت عليه صاحبي، حتى اقبل ذات يوم ينبئني انه افتقده فلم يجده، هنالك ضقت به وضقت بالناس، وضقت بالحياة كلها وقتا غير قصير، ثم زعم لي زاعم إن الأمر يجب أن يرفع إلى الشرطة فرفع اليها، وهبط إلى الصحف، ولكن الشرطة تلقت أمره باسمه، لكن الصحف نشرت أمره مداعبة، ولكن الأصدقاء تحدثوا عنه حين، أفرأيت إن قيم الأشياء، تختلف لا باختلاف آثارها، ومكاناتها ولكن باختلاف أصحابها، فلو كنت رئيس الوزراء، لما ابتسم الشرطي، ولما داعبت الصحف لأني فقدت خاتما، ولكني لست رئيس الوزراء فيبسم الشرطي، ولا يأتي حركة وتداعب الصحف، وتمزح أنت ويمزح هؤلاء بهذا وامثاله، كنا نتحدث أيام العيد.
طه حسين(29/5)
لحظات التجلي
للأستاذ أحمد أمين
لكل إنسان - وخاصة العقليين - والروحانيين - لحظات تضيء فيها
نفوسهم، حتى كأنها المرآة الصافية، أو الشعلة الملتهبة، كل جانب فيها
مضيء، وكل العالم منعكس عليها، يراه فيها كما يرى السماء في
الماء.
يحس بهذا الأديب، فتراه حينا وقد غزرت معانيه وتدفقت عليه من كل جانب، حتى ليحار في الإختيار، ماذا يأخذ وماذا يذر، وبم يفضل بعضها على بعض، وحتى كأنه يغترف من بحر، أو يملي عن حفظ، ويصدر عنه إذ ذاك القول السلس والمعاني الغزيرة، والشعر المتدفق، هذه اللحظات عنده هي (لحظات التجلي)، وتأتي عليه أوقات وقد جمدت قريحته، وأجدب فكره، يعاني في البحث ما يعاني، ثم لا يأتي إلا بحمأة وقليل من ماء، ويصعب عليه القول كأنه يمتح من بئر، أو يستنبط من صخر، وقد عبّر الفرزدق عن هذا المعنى فقال (أنا أشعر تميم، وربما أتت عليّ ساعة ونزع ضرس أسهل عليّ من قول بيت) ونتاجه في مثل هذه اللحظات بارد جاف، لا يستسيغه الذوق، ولا تألفه الروح، أشبه شيء بقطع الجلاميد، وبأجدال الحطب.
ويحس بهذا الفيلسوف، فيشعر بلحظات تنكشف فيها حقيقة هذا العالم، فيراه ويستلذها، ويود أن تدوم، بل يود أن تعاوده الفينة بعد الفينة، ويتمنى أن يشتري عودتها بكل مالك، وينفق في ساعة منها كل متع الحياة الدنيا، يشعر في هذه اللحظات بذكاء في الفهم، وصفاء في النفس، ولطافة في الحس تكفيه في فهم هذا العالم الإشارة، وتجزئه الإيماءة، يستشف العالم من وراء مظهره، ويلمحه من رموزه، ويشعر إذ ذاك بسمو في العقل، ورقي في الروح، لا يعدل لذتهما شيء في الحياة. ثم تذهب عنه لحظات التجلي على الرغم منه، فإذا به في بعض أوقاته مظلم الحس، متخلف الذهن، بليد البصيرة، لا ينتبه للحن، ولا يفطن لمغزى، تستعجم عليه المدارك الظاهرة، وتَخْفَى عليه الأشباح المائلة، وتختلف لحظات التجلي عند الفلاسفة ولا صوفية كثرة وقلة، كما يختلف مدى التجلي بعداً وقرباً، حتى ليحكى عن(29/6)
افلوطين) الفيلسوف الروحاني المشهور أنه حظي بهذه اللحظات بضع مرات في حياته. وحظي بها تلميذه (فورفوريوس) مرة واحدة.
وتعرض للفنان فيلهم معنى يصوره بريشته أو يوقع به على قيثارته، فثَمّ الإبداع والجمال الرائع، والحسن البارع، ذلك يملأ العين حسناً بصورته، وهذا يملأ السمع والقلب عذوبة بنغمته، ثم تأتي على هذا وذاك أوقات ينضب فيها معينها، ويفتر عنهما وحيهما.
وترى العلماء من رياضي وطبيعي وكيمياوي، ى يرزق أحدهم الخطوة بلحظة من هذه اللحظات، يلهم فيها فكرة يكون من ورائها مخترع عجيب، أو استكشاف خطير، عرض له أثناء بحثه، وقد لا تكون هناك علاقة ما بين ما يحدث وبين ما ألهمه، بل قد لا تكون هناك مقدمات منطقية مطلقاً لما ألهم، ويقف العلم حائراً لا يستطيع أن يعلل كيف نشأت في ذهن هذه العالم تلك الفكرة، وكيف فطن لها، بل يحار المستكشف نفسه كيف عرضت له وكيف ألهم بها.
وبعد فهل يمكن أن نضع قوانين لهذه اللحظات، وهل هناك عوامل معروفة إذا استوفيت أمكننا اقتناؤها والحظوة بها؟ وهل يمكن أن نجمع هذه الشروط في زر كهربائي أو زر روحاني نفتحه فتنفتح علينا لحظات التجلي إن شئنا؟
لو استطعنا هذا لتضاعف الإنتاج الأدبي والعلمي في هذا العالم أضعافاً مضاعفة، ولسهل على الأديب أن يستوفي الشروط فما هو إلا إن يمسك بقلمه فيغزر ماؤه، ويسيل إتيهُّ، وتنثال عليه الألفاظ والمعاني إنثيالاً.
لقد حاولوا من قديم أن يستكشفوا قوانين (التجلي) فقالوا إن مما يعن عليه جودة الغذاء، وفراغ البال من هموم الحياة، وصحة البدن، وطمأنينة النفس واستعانوا على نيل لحظات التجلي بمختلف الألوان، فقد قيل لكثير عزة يا أبا صخر، كيف تصنع إذا عسر عليك قول الشعر؟ قال أطوف في الرباع المخلية، والرباع المعشبة، فيسهل علي أرصنه، ويسرع إلي أحسنه، وقال الأحوص
وأشْرَفَتُ في نشز من الأرض يافِع ... وقد تَشْعَف الأيْفاع مَنْ كانَ مقْصِدَا
ولجأ الأدباء من قديم إلى الأزهار والرياض، والمياه الجارية والمناظر الجميلة، كما لجأ بعضهم إلى الخمر يستلهمها ويستوحيها، وتكاد تكون لكل أديب عادة يرى أنها علة(29/7)
غزارته، ومفتاح إنتاجه، وأنه يستنزل بها العصم من الأفكار، ويستسمح بها الأبي من المعاني، ولكن هل نجحت كل هذه المحاولات في استكشاف قوانين التجلي.؟ أظن إن نظرة بسيطة تكفي للقول بأنها لم تنجح، فقد تستوفي كل الشروط التي قالوها، فالصحة في أجود حالاتها، والغذاء خير غذاء، والكاتب أو الشاعر مطمئن النفس، هادئ البال، بين الرياض المزهرة، والمياه الجارية، والوجوه الناظرة، وهو مع هذا أجدب ما يكون قريحة، وأنضب ما يكون معيناً، ثم هو يكون على العكس من ذلك كله فيواتيه شيطانه، وتتزاحم في صدره المعاني، وتتبارى على قلمه الآراء والأفكار والألفاظ.
ثم هذا أديب أو شاعر يجود قوله وتتجلى نفسه، في الأماكن الخالية والسكون العميق وذاك لا يأتي له هذا الموقف إلا في الأوساط الصاخبة والحركة المائجة. وأديب لا ينتج إلا إذا امتلأ جيبه واطمأنت نفسه لحاجات الحياة، على حين إن الآخر لا يجد إلا إذا فرغ وطابه. وعضه الفقر بنابه، وتكاثرت عليه الهموم.
فأين قوانين التجلي إذا كان يحدث في البيئة وضدها، والظروف وعكسها؟ قد تكون كل المظاهر وكل ما يحيط بالنفس مع ذلك فياضة جياشة متجلية، وقد تكون المظاهر كلها تدل على نفس متفتحة للعمل، مليئة بالفكر فإذا هي مجدبة متقبضة، وترى الآراء القيمة والمعاني السامية قد تنبع من بيئة قائمة، ونفس مظلمة كما تخرج الزهرة من طين أو كما يخرج الذهب من الرغام، والحرير من الدود، وقد حكي لنا عن أدباء آخرجوا روايات هزلية تستخرج الضحك من أعماق القلب وحالتهم النفسية وقت تأليفها كان يسودها الحزن، ويشيع في جوانبها الألم والبؤس.
أخشى أن يكون الذين قد وضعوا هذه القوانين وأمثالها للحظات التجلي قد تسرعوا في وضعها، فالإنسان معقد كل التعقيد، ولئن كان جسمه معقداً مرة فنفسه وروحانيته وعقله معقدة ألف مرة بل آلافاً، وإن العوامل التي تؤثر في نفسه وروحانيته ليست الحالة البدنية، ولا الغذاء الصالح، ولا المناظر الجميلة، ولا الغنى والفقر، وحدها، بل هنالك عوامل أدق وأعمق واغمض، الإنسان لا يعيش في بدنه وحده، ولا في محيطه فقط، بل إنه ليعيش في أصدقائه الأقربين والأبعدين، وإنه ليعيش في ذريته الذين كانوا وسيكونون، وإنه ليعيش في أحلامه وآلامه وآماله، ويعيش في شبكات من تموجات نفسية دونها بمراحل شبكات(29/8)
التلغرافات والتليفونات وتتسلط عليه أنواع من الأشعة لا عداد لها لعلنا لا نستطيع أن نكتشف قوانين التجلي إلا إذا عرفنا نوع النفس التي تتلقى هذه الأشعة، وعلمنا كل هذه المؤثرات، وهيهات!!
أحمد أمين(29/9)
حنجرة
للدكتور محمد عوض محمد
اشهد إن الطبيعة قد تمنح، فتسرف في المنح، وتعطي فتجزل في العطاء وتنسى نفسها أحياناً، فتكيل السعادة لمن رضيت عنه بمكيال هائل، وتبذير منقطع النذير. وكان ذلك شأنها يوم أفرغت على الرجل العجيب (أنطون سو كيلوف) أسجال الهبات: بأن منحته تلك الثمينة الرائعة!
أجل وان المرء لتأخذه الدهشة عن يمينه وشماله، ومن ورائه وأمامه، ومن فوقه ومن تحته، حين يفكر في الوسائل المختلفة العديدة، التي تتوسل بهاالآلهة، لكي ترفع من تحبه على الناس درجات، وتحلق به في ملكوت السماوات: - ترضى عن هذا فتمنحه المال عن وفر وعن سعه، وتحب هذه فتكسوها أثواب الجمال: ثوباً فوق ثوب - كأنها ورق الكرنب - ويحلو للآلهة أن تنعم على ذلك فإذا هو ذو جاه عريض طويل، عميق غليظ.
ولكن اغرب شيٌ تهبه الآلهة هو مهن غير شك - تلك المميزات الجسدية: تلك القطع من اللحم والعظم والغضروف والجلد - يجري فيها الدم أحياناً؛ وأحياناً لا يجري فيها الدم مطلقاً. وطوراً يكسوها الشعر، وكثيراً ما تكون صلعات عارية من الشعر - تلك الأجزاء الجثمانيه؛ التي يحسبها الجهال من مصادفات الولادة، أو من غلطات الولادة وفي الحق هي السر الباتع الذي يحرك الفلك، وتدور له الكرة الأرضية من الغرب إلى الشرق.
وما على الذي يشك في صحة هذه الدعوى، أو يريد أن يتهمنا بالغلو والمبالغة، إلا إن يلقي نظرة يسيرة على التاريخ المكتوب وغير المكتوب، ويكفي أن يلقي النظرة على عجل وهو مغمض العينين، ليرى كم من صلعة لامعة قد ساست الممالك، ودوخت الجيوش، وكم من ذقن غليظ استطاع إخضاع القطار وتسخير كل جبار. وها نحن نسوق للقارئ أمثلة لا تحتمل الشك أو الإنكار.
هذه كيلوباطرة! بأي سلاح وبأية قوة استطاعت أن تخضع يوليوس قيصر، وتلفه حول إصبعها الخنصر؟ إبالقنابل والاساطيل؟ أما بالجيوش والدبابات، ام بالغازات الخانقة وغير الخانقة؟ لا بهذه - لعمرك - ولا بتلك. بل بقطعة انف مستدق مستطيل: خارت أمامها عزمة العأهل الروماني الهائل، الذي فتح الغال وبلاد الأسبان واستولى حتى على بريطانيا(29/10)
العظمى - التي لم تكن عظمى في ذلك الوقت.
ثم شمشون: الجبار شمشون، الذي استطاع أن يقتل ألفاً من الفلسطينيَّين وما بيده سلاح سوى عظمة الفك الأسفل لحمار نفق حديثا، والذي استطاع أن يقبض على العمودين اللذين يمسكان الهيكل الأكبر - وقد احتشد فيه أعداؤه آلافا مؤلفة - أمسك عموداً باليمين، وعموداً بالشمال، ثم مال بالعمودين وهو يقول: (على وعليهم يا رب!) فإذا الهيكل يتداعى والسقف ينقض بمن عليه، والبناء يندك بمن فيه. وإذا الآلاف المؤلفة تقبر، بما فيهم دليلة الخائنة الماكرة!.
ألا رحم الله شمشون! أنى جاءته كل هذه القوة وهذا الجبروت؟ ذلك هو السر الخطير، الذي أدلى به إلى دليلة الخائنة، حين أنبأها إن قواه كلها كاملة في تلك الشعارات التي نبتت في رأسه كما تنبت الأشعة في رأس الشمس.
وهكذا كان عضو بسيط من أعضاء الجسم سبباً في تحويل سطح الأرض، وفي قلب مجرى التاريخ. . .
إذن لماذا نعجب من إن الآلهة حينما أرادت أن تغدق النعم على (انطون) لم تزد على إن وهبته حنجرة؟. لم تهبه مالاً ولا عقلاً، ولا ذكاء ولا فهماً، ولا طرفاً ناعساً ولا وجهاً وسيماً. بل كل ما منحته وحبته به: حنجرة.
نفس عصام سودت عصاما
وعلمته الكر والإقدام
وصيرته ملكاً هماما
هذا جائز في عصام المذكور. أما (انطون سو كيلوف) فلم تكن له نفس تستحق الذكر، ولم يكن شجاعاً ولا هماماً ولا يعرف كراً ولا إقداماً. ولم يكن صاحب علم ولا جاه، بل صاحب حنجرة فحسب. يملكها وتملكه، وليس له من حطام الدنيا شيُ سواها، وليس لها من حطام الدنيا شيُ سواه وكانت هي سر سعادته؛ واستطاع هو أيضاً أن يجعلها سعيدة منعمة.
ليس على فضل الآلهة من حَرَجْ
إن شاء ضاق الأمرُ، أو شاء الفرجْ
ويدرك العلياءَ من به عرجْ(29/11)
وترتقى حنجرةٌ أعلى الدَّرَجْ!!
إن سر النجاح في الحياة هو ما قاله سقراط: أن تعرف نفسك: وهكذا فعل انطون. فقد خلا إلى نفسه يوماً، وجعل يجهد فكره الكليل في معرفتها وفي الكشف عن أمرها. لعله إن يرى في ركن من أركانها كنزاً مخبوءاً، أو قوة مدفونة. فهداه طول التفكير، والتدبير الكثير، إلى إن له حنجرة ليس لها في العالم نظير. أجل وإنها لجديرة بأن ترفعه ويرفعها إلى المقام الأسمى والسِّماك الأعلى. وان ينفض بواسطتها غبار الفاقه الذي يوشك أن يقبره ويقبرها.
وكانت ساعة إلهام أدرك فيها انطون إن برلمان إنكلترا - أبو البرلمانات جميعاً - هو ميدانه الوحيد وميدان حنجرته العزيزة. . . عجباً كيف لم يوفق إلى هذا الكشف الهائل من قبل، فيقضى على عيش الضنك والفقر الذي لازمه طوال هذه السنين؟.
وفي مساء ذلك اليوم الخطير كان انطون جالساً - وحنجرته - إلى رئيس (المحافظين) يحدثه حديثاً شائقاً طليا. والصوت يدوي من حنجرته دويا - ولولا إن الريح في ذلك المساء كانت تهب من الجنوب، لسمع أهل فرنسا صدى تلك الحنجرة تنبئ الساكنين على ضفاف السين. إن على ضفاف التايمز رجالاً.
وأدرك رئيس المحافظين - ويا سرعان ما أدرك! - إي كنز قد ظفر به، وأي ذخر ثمين قد قدمنه الآلهة له ولحزبه! انهم بفضل هذه الحنجرة الرعدية لن يلبثوا طويلا حتى يتربعوا على دست الحكم، ويتحكموا في الدولة التي لا تغرب عليها الشمس.
ولم يبرح انطون مجلس الرئيس إلا وقد حمل في صدره - وفي جيبه - ألف دليل على إن نجم نحسه قد اودع في بطن الثرى وان نجم سعده قد اشرق في السماء لامعاً صاعداً.
كان انطون من رعايا الروس، وقد حاول السنين الطوال أن ينال الجنسية البريطانية، فلم تلق جهوده إلا الفشل. إن الجنسية البريطانية أجل وأثمن من أن تمنح للصعاليك أمثاله أما اليوم فقد جاءته تلك الجنسية تجرر اذيالها، وهي تمشي على استحياء، نزلت عليه من المحل إلا رفع من بعد طول تعزز وتمنع.
وفتحت بين يديه نوادي المحافظين، المفرطين في أرستقراطيتهم، وفي عزلتهم. فجعل يفشاها هو وحنجرته التي كان صداها يدوي في تلك الحجرات الهائلة، فتمتلئ بها الآذان وتميل نحوها الأعناق.(29/12)
ولم تمض أسابيع قلائل حتى أخليت له دائرة من دوائر البرلمان، وحتى اقسم يمين الطاعة للملك ولدستور الدولة العظمى التي قلما تغرب الشمس عليها.
هنالك بدأت معجزته الهائلة تقرع الأسماع، وتأتي بكل إبداع، يوم تبوأ مقعده في (وستمنستر) وقد لف على الحنجرة العزيزة كوفية من الدمقس الخالص، براً بها، وعطفاً عليها. وهي بهذا لعمري جديرة بعد أن أصبحت ينبوع ثورة، ومبعث قوة وصوله، وعماد حزب ودولة.
ولم يك إن جالت هذه الحنجرة جولةً أو جولتين حتى سقط (الأحرار) المساكين، صرعى لا حراك بهم، وسقطت حكومتهم، التي كانت تحسب أنها باقية على الدهر، فإذا هي تندحر وتندثر وتمزَّق كل ممزَّق.
ثم أذَّنَ مؤذن بالانتخابات الجديدة للبرلمان الجديد، فإذا حنجرة أنطوان تكتسح كل شئ أمامها، وتجوب البلاد من جنوبها إلى شمالها، فتندك أمامها المعاقل والحصون، وتعنو لها الرقاب والأعناق، وتنجلي معارك الانتخاب عن فوز ساحق ماحق يفوزه المحافظون، ويعودون إلى البرلمان، يجرون ذيول التيه، ويبرمون شوارب الخيلاء.
وفي اليوم التالي غدا أنطوان إلى شركات التأمين فأمن على حنجرته بمائة ألف من الجنيهات.
إن اللآلهة قد تمنح، فتشرق في المخ، وتعطي فتجزل العطاء(29/13)
الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية
4 - البرنامج الخارجي في طور التنفيذ
للأستاذ محمد عبد الله عنان
لم يكن أثر الثورة الوطنية الاشتراكية الألمانية في سياسة ألمانيا
الخارجية أقل منه في شئونها الداخلية. ولكن الثورة الوطنية كانت في
ميدان السياسة الخارجية أكثر توفيقاً، لأنها الفت الميدان عند قيامها
ممهداً صالحا ًللعمل القوي الجريء، ولأن الشعب الألماني يرى المسألة
الخارجية مسألة قومية محضة ويؤيد الثورة الوطنية فيها تأييداً قوياً
صادقاً، على إن هذا التوفيق الذي لقيته الوطنية الاشتراكية في بعض
نواحي السياسة الخارجية كان مقروناً من جهة أخرى بتطورات ونتائج
لم تكن صالحة ألمانيا، ولكنها كانت نتيجة لما أبدته الوطنية الاشتراكية
في وسائلها من ضروب العنف والاندفاع.
تولى الوطنيين الاشتراكيون الحكم وألمانيا ما زالت من الوجهة الدولية في المركز الذي وضعت فيه بمقتضى معاهدة الصلح (معاهدة فرساي) وهو مركز لا يجعلها على قدم المساواة مع باقي الدول العظمى من حيث الحرية في تدبير وسائل الدفاع عن نفسها وتنظيم مواردها الاقتصادية طبقاً لمصالحها، وهو مركز يرى الوطنيون الاشتراكيون بحق أنه لا يليق بألمانيا كدولة عظمى ولا يلائم كرامتها القومية. وكانت ألمانيا تجاهد منذ دخلت عصبة الأمم (في سنة 1926) في سبيل الانتصاف لنفسها في مسألة الدفاع القومي لأنها جردت بمقتضى معاهدة الصلح من سلاحها، وفي سبيل التحرر من أعباء التعويضات الفادحة التي فرضت عليها لأن هذه الأعباء لبثت بعد الذي أدته منها خطراً داهماً على مواردها القومية ونشاطها الصناعي والتجاري، ولأنها فرضت على أساس مسؤولية ألمانيا في إثارة الحرب الكبرى، وقد ثبت فيما بعد بما صدر من تحقيقات ووثائق دولية مختلفة إن هذا الزعم باطل، وإن مسؤولية ألمانيا في الحرب ليست أكثر من غيرها، وقد سويت مسألة(29/14)
التعويضات غير مرة، ولكن ألمانيا لبثت تصر على وجوب التحرر منها، وقالت كلمتها الرسمية في ذلك منذ سنة 1932 في عهد حكومة الهرفون بابن، وانتهت جهودها في هذا السبيل بعقد مؤتمر لوزان في صيف سنة 1932، وخرجت ألمانيا من المؤتمر ظافرة بتقرير وجهت نظرها، ووافقت دول الحلفاء في البروتوكول الذي عقده المؤتمر على مبدأ إلغاء التعويض نظير قدر محدد تؤديه ألمانيا لا يتجاوز عشر ما كان مطلوب منها، وألقت ألمانيا في ذلك الحين أيضاً دعوتها إلى نزع السلاح الحقيقي طبقاً لما نصت عليه معاهدة الصلح، أو إنها تعمد من جانبها إلى تسليح نفسها تحقيقاً لمبدأ المساواة ومقتضيات الدفاع القومي.
كانت مسألة التسليح إذن أهم مشكلة دولية تواجهها ألمانيا عند قيام الحكومة الوطنية الاشتراكية، ومسألة الدفاع القومي من أهم المسائل التي أثارتها الوطنية الاشتراكية وخصتها بكثير عنايتها، والوطنية الاشتراكية أشد ما تكون بغضاً لمعاهدة فرساي واحتجاجاً على نصوصها وفروضها الظالمة، وهي تعتبرها مصدر كل مصائب ألمانيا، متاعبها، وترى وجوب إلغائها أو تعديلها على الأقل تعديلاً يتفق مع كرأمة ألمانيا وحاجتهاالقومية، وألمانيا تجاهد في هذا السبيل منذ أعوام، وقد استطاعت في الواقع أن تظفر بتعديل كثير من نصوص المعاهدة، ولكنها لم تستطع أن تحقق شيئاً في مسألة نزع السلاح والدفاع القومي.
ولألمانيا في مسألة نزع السلاح نظرية تستمدها من معاهدة الصلح ذاتها، ذلك إن معاهدة الصلح قضت بتجريد ألمانيا من سلاحها، وحددت جيشها العامل بمائة ألف، وحصرت حقها في اقتناء الذخائر والأسلحة في أضيق الحدود، وحرمت عليها أنواع الأسلحة الضخمة، وأنزلت أسطولها إلى وحدة بحرية ضئيلة وحرمت عليها إنشاء الطيارات الحربية، وقضت عليها بإلغاء الخدمة العسكرية الإجبارية، وحرمت عليها إنشاء أية تحصينات على حدودها الغربية عل بعد خمسين كيلو متراً من شرق نهر الرين، وغير ذلك من الفروض المرهقة التي تجعل ألمانيا من حيث الدفاع القومي أضعف من أية دولة ثانوية، وتجعلها غير قادرة على الدفاع عن نفسها إزاء الطوارئ. (معاهدة فرساي - القسم الخامس - المادة 149 وما بعدها). ولكن ميثاق عصبة الأمم الذي هو قطعة من معاهدة الصلح ينص من وجهة نظر(29/15)
أخرى على إن أعضاء العصبة يعترفون بأن تأييد السلام يقتضي تخفيض التسليحات القومية إلى الحد الذي يتفق مع السلأمة القومية وتنفيذ التعهدات الدولية. . . وعلى (أن مجلس العصبة ينظم وسائل هذا التخفيض) (المادة 8)، ونص من جهة أخرى في ديباجة القسم الخامس من المعاهدة وهو الخاص بتجريد ألمانيا من سلاحها، إن هذا التجريد إنما هو وسيلة لتمكين تنظيم تحديد السلاح تحديداً عاماً بالنسبة لجميع الأمم، وقد أنشأت عصبة الأمم لجنة نزع السلاح ومؤتمره منذ عشرة أعوام تنفيذاً لما يقتضي به ميثاقها، واشتركت ألمانيا في أعمال المؤتمر نزع السلاح منذ دخولها في العصبة، وجاهدت بكل ما وسعت في سبيل تخفيض السلاح؛ ولكنها لم تظفر بأية نتيجة، لأن دول الحلفاء وفرنسا بنوع خاص، لا تريد أن تجري في تسليحاتها أي تخفيض يذكر، ولهذا تقول ألمانيا اليوم إنه ما دام إن نصوص المعاهدة في شأن تخفيض السلاح لم تنفذ، وما دام إن تجريدها من السلاح كان مقروناً بوجوب إجراء هذا التخفيض، فهي من جوانبها في حل من أن تسترد حقها كاملاً في تسليح نفسها وتنظيم دفاعها القومي، وهذا منطق سليم واضح، ولألمانيا فيه كل الحق، ولكنه قوبل من فرنسا بأشد اعتراض؛ وأبت فرنسا وبريطانيا العظمى على ألمانيا كل حق في المساواة الفعلية في التسليح، واقترحتا وضع رقابة دولية على موقفها ورأت أن تختم هذا الجدل العقيم، فانسحبت من مؤتمر نزع السلاح ومن عصبة الأمم في منتصف أكتوبر الماضي، وكانت خطوة جريئة ولكن موفقة من جانب الحكومة الاشتراكية؛ وكان لها أكبر وقع في سير السياسة الدولية، وفي نفس اليوم الذي أقدمت فيه الحكومة الألمانية على هذه الخطوة الحاسمة، أستصدر هر هتلر مرسوما بحل الريخستاج وإجراء انتخابات جديدة ليستفتي الأمة في سياسته الخارجية؛ وأجريت هذه الانتخابات في 12 نوفمبر الماضي وخرج منها هتلر بما يشبه إجماع الشعب الألماني على تأييده في العمل لاستعادة مركز ألمانيا الدولي كدولة عظمى والاعتراف لها بحق المساواة في الدفاع القومي وسائر الحقوق القومية الأخرى واضطرت فرنسا إزاء هذا التطور أن تدخل في مفاوضات مباشرة مع ألمانيا لبحث الموقف. وتجري هذه المفاوضات منذ أسابيع. وتحاول إنجلترا وإيطاليا أن تقوما بدور الوساطة والتوفيق. وبينما تؤيد إيطاليا وجهة النظر الألمانية إذا بإنجلترا تتراوح بين التأييد والمعارضة، فهي لا تريد أن تبقى فرنسا محتفظة بزعأمة أوربا(29/16)
العسكرية، وتخشى من جهة أخرى أن تعود ألمانيا إلى زعامتها العسكرية القديمة. وقدمت الحكومة الألمانية مقترحات في هذا الشأن خلاصتها أن يرفع عدد الجيش الألماني العامل إلى ثلاثمائة ألف، وأن تعاد الخدمة العسكرية، وأن يكون لألمانيا حق استعمال وسائل الدفاع المختلفة، وأن ينقح دستور عصبة الأمم لكي تكون أداة صالحة محررة من كل ضغط ونفوذ. وقد ردت فرنسا برفض هذه المقترحات باعتبارها مناقضة لمعاهدة الصلح، وقالت بأن تسوية مسألة التسليح لا تكون بزيادته وإنما تكون بتخفيضه، وأن تخفيض السلاح لا يمكن أن ينظم إلا في جنيف وعلى يد عصبة الأمم طبقاً لمعاهدة الصلح، وما زالت المفاوضات تجري بين باريس وبرلين من جهة، وبين لندن وباريس ورومة من جهة أخرى، ولكن الذي لا ريب هو إن ألمانيا قد كسبت أول مرحلة في المعركة، وأنها تتقدم في سبيل غايتها من تحطيم الأغلال التي فرضتها معاهدة فرساي على دفاعها القومي، بل نعتقد إن ألمانيا قد بدأت تعمل بالفعل في هذا السبيل دون انتظار لرأي فرنسا وحلفائها.
وتثير ألمانيا إلى جانب مشكلة الدفاع القومي عدة مشاكل أخرى ترى أنها تمس مصالحها القومية. من ذلك مسألة وادي السار الألماني الذي انتزعته فرنسا لتستغل مناجمه الغنية حتى سنة 1935؛ فألمانيا تطالب برده أو يجري الاستفتاء المنصوص عليه في المعاهدة؛ ومنها مسألة المستعمرات الألمانية التي وزعت بين فرنسا وبريطانيا العظمى فألمانيا تطالب الآن بردها لأنها تضيق بسكانها، ومصالحا الاقتصادية الحيوية تقتضي أن يكون لها مستعمرات؛ ومنها مسألة الممر البولوني الذي يمزق بروسيا الشرقية إلى قسمين، فألمانيا ترى أنها لا تستطيع الصبر على هذا التمزيق إلى الأبد، وإن كانت اليوم على تفاهم مؤقت مع بولونيا.
على إن الوطنية الاشتراكية الألمانية لم تكن موفقة في ناحيتين خطيرتين من نواحي السياسة الخارجية، هما المسألة النمسوية، ومسألة العلائق الألمانية الروسية.
فأما في المسألة الأولى فقد حاولت الحكومة الألمانية أن تتدخل في شئون النمسا بطرق شتى. ووجهت الوطنية الاشتراكية الألمانية إلى النمسا كثيراً من ضروب الوعيد والتحدي، وحاولت أن تبث في دعوتها وأن تصبغها بصبغتها. ونذكر أنالعمل على اتحاد الأمم الجرمانية من الغايات الأساسية التي ترمي إلى تحقيقها الوطنية الألمانية. والنمسا هي الأمة(29/17)
الجرمانية المقصودة بهذا النص، وهي ترتبط مع ألمانيا بكثير من الروابط الاقتصادية والاجتماعية. وكانت النمسا تضطرم من قبل بدعوة قوية إلى الاتحاد مع ألمانيا سياسياً واقتصادياً ولهذا أرادت الوطنية الألمانية أن تقوم بمحاولاتها الأولى في سبيل هذا الاتحاد.
ولكنها لجأت كعادتها إلى الاندفاع والعنف، وحاولت أن تعامل النمسا كدولة تابعة وأن تملي عليها أرادتها ووحيها، وأن تثير فيها القلاقل والإضطراب، وأن تؤثر فيها بجميع وسائل الضغط والإرغام. ولكن هذه السياسة القصيرة النظر انتهت إلى عكس ما أريد بها. فقد أذكت في الشعب النمسوي عواطف العزة القومية، فنسي خلافاته الحزبية والتف حول حكومة المستشار دلفوس التي أبدت في مقاومة الوطنية الألمانية حزما يثير الإعجاب وأعلنت النمسا أرادتها صريحة في إنها لا تريد أن تكون تابعة لحكومة برلين، وقمعت الحكومة النمسوية كل شغب أثارته الدعوة الألمانية بمنتهى القوة وطاردت دعاة الوطنية الاشتراكية بلا رأفة، وأنهارت في الوقت نفسه دعوة الاتحاد (الآنشولس) وأنفض عنها أنصارها بعد أن رأوا ألمانيا تفسرها بالقضاء إلى الإستقلال النمسوي واستطاعت حكومة فينا أن تجعل من المشكلة النمسوية مشكلة دولية وأن تغتنم تعضيد إنجلترا وفرنسا وإيطاليا في الدفاع عن وجهة نظرها ضد ألمانيا.
وأما في مسألة العلائق الروسية فقد ارتكبت الوطنية الاشتراكية الألمانية أيضاً خطأ فادحا. وكانت ألمانيا منذ خاتمة الحرب تعمل دائما على توثيق صلاتها السياسية والتجارية بروسيا السوفيتية، وتتخذ من هذه الصلات دعأمة لسياستها الخارجية؛ وكانت روسيا أعظم سوق للصناعات الألمانية بعد لأن أغلقت في وجهها الأسواق الغربية؛ وكان التفاهم بين الدولتين محور التوازن السياسي في أوربا الشرقية حيث تطوق ألمانيا بدولتين خصيمتين هما بولونيا وتشيكوسلوفاكيا، ولكن الوطنية الاشتراكية لم تراع هذه السياسة التقليدية، ولم تفرق في كفاحها للشيوعية بين الاعتبارات الداخلية والخارجية، فألقيت تصريحات شديدة ضد روسيا السوفيتية من المستشار هتلر وبعض زملائه، وردت الصحافة الروسية هذه الحملات بمثلها، وكان لموقف حكومة برلين وقع سيئ في حكومة موسكو؛ وظهر أثر هذا التوتر في علائق البلدين واضحاً في إتجاه السياسة الروسية إلى وجهة جديدة. وانتهزت فرنسا هذه الفرصة فعملت على توثيق علائقها مع روسيا باتفاقات جديدة؛ واعترفت(29/18)
الحكومة الأمريكية لأول مرة بحكومة السوفيت. ونظمت المبادلات التجارية بين البلدين؛ واتجهت بريطانيا العظمى إلى توسيع نشاطها التجاري في روسيا؛ وفقدت ألمانيا بذلك دعأمة سياسية قوية ومصالح اقتصادية خطيرة. وكان في وسع الوطنية الاشتراكية أن تحرص على علائق ألمانيا وروسيا من الجهة الخارجية، وأن تمضي في نفس الوقت في كفاحها ضد الشيوعية داخل ألمانيا على نحو ما فعلت الفاشية الإيطالية، ولكن الظاهر إن الوطنية الاشتراكية الألمانية لم تعرف بعد أن تفرق نزعاتها الشخصية وبين مصالح ألمانيا العأمة، وأنها لا تتمتع بذلك الإتزان الذي تمتاز به الفاشستية الإيطالية رغم صرامتها.
هذه خلاصة الظروف والأدوار التي تقلبت فيها الوطنية الاشتراكية الألمانية. وهي تعمل حتى اليوم كثيراً لألمانيا، ولكنها عملت كثيراً لإثارة الأحقاد الجنسية والقومية، وسحق الديمقراطية والحريات العأمة. وقد أثارت بذلك كثيراً من الخصومات على ألمانيا، وأساءت بوسائلها المثيرة إلى هيبة ألمانيا وسمعتها، وأفقدتها كثيراً من العطف العالمي، وجمعت كلمة الديمقراطية ضد ألمانيا في خصومة موحدة مشتركة، وبدت الفاشستية الإيطالية للعالم اليوم، بعد الذي شهده من جموح الوطنية الاشتراكية الألمانية وعنفها، أجدر بالتقدير والاغضاء والتسامح من وليدتها.
تم البحث
محمد عبد الله عنان(29/19)
الفن المصري القديم
- 1 -
تمهيد
تؤلف الكتب، وتحبر الأوراق، يتبارى في آخراجها أبناء الأمة ذات الفن أو التاريخ. ومصر، أم التاريخ، التي نهل منها جميع الوجود، ومصدر الفن والذي غذى بنعمته ونوره العالم من مبدأ الحياة. مصر، التي هي البقعة الوحيدة التي هبط عليها طائر الفن الجميل، ونزل على أرضها وحي العظمة والعرفان، أفقر الأمم جميعا. اعتزازا بفنها وتاريخها.
وكم مجهود من مجهودات المصريين الحاضرين بذل في سبيل تحقيق تلك الغاية وتمجيدها؟! وكم هو عدد المؤلفات التي وضعتها أيدي مصرية عن الفن المصري القديم؟! وهذه جهود الإفرنج تملأ مصر بحثا ودرسا، وتغشى أرضها تنقيبا واستكشافا. ثم هذه مؤلفاتهم عن الآثار المصرية وما فيها من فن وقدرة وجمال تغمر الدنيا جميعا. بل إن في متحفنا المصري وحده مكتبة تجمع نحو تسعة عشر ألفا من بعض الكتب التي وضعت بلغات مختلفة عن آثار مصر.
الأجانب هنا وهناك، هم الذين يأخذون وحدهم بشؤون تاريخنا. وهم الجادون في دراسة حضارتنا القديمة، ينشرون بحوثهم فيها على العالم ما كان لمصر في التاريخ القديم من فضل. ونحن، نحن الذين كنا أولى من غيرنا بتلك الدعاية واجدر من كل الناس دراسة لآثارنا وأخذاً لمعالم تاريخنا، لا نتقدم إلى الميدان بأقصر يد. ولا ننهض لاعتزاز بمجدنا بأيسر حال.
أليس هذا من بواعث الأسف؟ ثم أليست حالنا في ذلك أدعى إلى النقد والسخرية؟
نعم هناك بعض جهود مصرية، لا ننكرها. وبعض أيادٍ وطنية، على التاريخ المصري، لا يجب أن نجحدفضلها. ولكنها بضعة ضئيلة. أملنا أن تتجسم وتتضاعف، حتى تفيض على الناس خيرا.
ولعلنا جميعا، نوقن في أنفسنا بأننا مهما بذلنا في خدمة وطننا الجهود، ومهما ملأنا الأرض جدا وسعيا، ووصلنا أركان القطر ذكريات وأثارا، فلن نبلغ إلى غاية الخلود والعظمة ما بلغ أجدادنا المصريون القدماء، الذين بهروا العالم إعجاباً وإعجازاً ولقد نفخر بهم، ونعتز(29/20)
بمخلفاتهم، ونشير إليهم كلما أعوزتنا الحقيقة إلى إثبات شخصيتنا، وأخذتنا النشوة بالتيه. نفخر بهم، ونتحدث بمجدهم، ولا نخجل من أنفسنا لا يكون لنا، نحن أبناء الحاضر، في ذلك فضل. بل نقف موقف الغراب الذي لبس ريش الطاووس فما كان ذلك يرفعه عن أن يظل غرابا. . .
أولئك الأجداد العظام النابهون، لهم علينا ذمة، ما أحرى بنا أن نفى دينها، ونؤدي حقوقها. فهم لم يتركوا لنا ما تركوا ليلزمونا الفخر بهم جزافا، ونحن قعود. ولكن لنكون جديرين بأن نرث عنهم ذلك المجد، وبررة بجميل ذلك التراث الموهوب فحبذا لو نعمل جميعا لوصل حلقات هذه العظمة، واضعين نصب أعيننا دائما هذه العبارة الخالدة
إن سئلنا ما تركنا ... بعدهم ماذا نجيب؟
مصدر المدنيات
كان فريق من علماء الغرب ينسبون الأسبقية في تاريخ الفن الجميل إلى الإغريق. وإنها المصدر الذي تدرجت عنه ثقافات البشر وقلما كان يعترفون بفضل لمصر.
وبالرغم من إن البحوث الأثرية والاستكشافات قد نشرت على الأفكار نورا بان الإغريق إنما أخذت قسطا كبيرا من ثقافتها عن مصر التي سبقت حضارتها حضارة الإغريق بأكثر من ثلاثة آلاف عام، فان بعض آراء المتعنتين نحو مصر ظلت إلى حين، على نكران فضل مصر وعدم اقتباس الأمم عنها.
وقد يكفي أن ندلل على ذلك بتلك الكلمة النزيه التي انصف بها مصر (السير دنيسون روس) مدير مدرسة العلوم الشرقية بانجلترا، في الكتاب الذي قدمه علماء الإنجليز إلى حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر، بأسم (الفن المصري في جميع العصور، والتي دحض بها تلك الآراء العتيقة. حيث قال: - (مصر هي مهد الفنون. ولولا بقاء كثير من آثارها الأولى حتى يومنا هذا، لقامت معلوماتنا عن التاريخ الأول للفنون على الحدس والتخمين. وكلما زدنا علما بأعمالها الجليلة تبين لنا ما تدين به الفنون المتآخرة لمصر، وزاد جلاء، خذ مثلا الأبحاث الأخيرة التي جرت في صقارة، فإنها أثبتت نهائيا إن العمود المزماري (الذي يشبه الناي أو المزمار) - تطور ووضعت فكرته بواسطة الفنانين المصريين (1) ومن جهة أخرى فان تأثير مصر في آراء البشر وأفكارهم ليس اقل شأنا(29/21)
من تأثيرها في عالم الفنون وسجلاتها تعتبر اقدم كنز في تاريخ الإنسانية بأجمعها (وحينما بدأت مصر تسترعي انتباه الغرب كان شارحو مدنيتها هم رجال اللغة والمؤرخون. وأما قيمة آثارها، وما فيها من معان، فكانت من الأشياء التي تكاد لا تعرف. وقد حلت رموز الكتابة الهيروغليفية وقرأت. ولكن ما كان عندنا من تعصب موروث من ثقافتنا القديمة وتفكيرنا الحديث، عاقنا عن أن نقدر فنا كهذا الفن، كل ما فيه غريب علينا. ولقد كان حتما على عالم الفنون أن يجاهد زمنا طويلا، كي يتخلص من براثن الفكرة الإغريقية، ويقترب من آثار الفراعنة البديعة، ويلقي عليها نظرة بريئة خالية من التحيز).
وإليك كلمة أخرى، للأميرة بيبسكو، وقد يذكر القراء اسم سموها حيث تردد ذكره في مؤتمر الطيران الذي عقد بمصر أخيراً. وهي عقيلة رئيس المؤتمر - في رسالة لها بعنوان (يوم مصر) ' إذ قالت عند ذكرها للعمود المزماري في سقارة الذي سبق الكلام عنه:
(لقد وجدت مهد الفن الإغريقي. فان (إمحتب) وهو مهندس الملك (زوسر) أول من استعمل الحجارة الرملية في مصر). وجاء بين كتابات المصريين القدماء إن هذا الفنان رفع إلى صفوف الآلهة لقيامه ببناء الهياكل. وليس هناك ما يدعو للدهشة في ذلك، لان عليها مسحة قدسية، ولأنها اجمل بكثير من تلك المشاهدة في الاكروبول، التي تشابهها. وقد تفوقها من أنها أتم تهذيباً. ويرجع تأريخ هذه الأعمدة المصرية إلى ما قبل (فدياس) بثلاثين قرنا. (وإني لاحس، عندما انظر اليها، بذلك الصلف الذي كان يركب رؤوس ما سبقونا. وها مصر قد فازت أخيراً بقصب السبق. أما هؤلاء الذين تحيزوا للفن الإغريقي ضد الفن المصري، فيجب أن يخفضوا رؤوسهم من الخزي بعد استكشاف أعمدة صقارة).(29/22)
مقدمة الأعاصير
للشاعر القروي رشيد الخوري
تعليق
كانت نفسي تجمجم منذ شهرين بكلمة تريد أن تعلن بها إلى جمهور القارئين صدور هذا الديوان منذ دفع إلي لأكتب عن كلمة في (مجلة الشباب المسلمين) - وقد أهداه صاحبه إليها -، لان بمقدمتها آراء أدين بها، واحب أن يدين شعرائنا وكتابنا بين يدي زمانا هذا؛ ولكن التواني في آخراج الفكرة حين ولادتها وحرارتها، طالما جر إلى موتها ونسيانها وخمود دواعيها، وهذا ما حدث لي بشأن الكلام عن هذا الديوان.
بيد إن كلمة الأستاذ الكبير عبد الوهاب عزام، عن هذا الديوان في عدد مضى من الرسالة قد جددت في نفسي حرارة الأفكار التي في مقدمته، مما تقاضاني أن أسرع إلى الكتابة عنها.
ولئن كانت كلمة الدكتور عزام كافية في إعطاء القارئ صورة عن وطنية صاحب (الأعاصير) وعروبيته وتساميه. . الخ. فأني أرى جمهور قراء الرسالة بحاجة إلى أن يعلن إليهم عن الأفكار التي في مقدمته النثرية، فان فيها دعوات ثائرة، من العار ألا يتردد صداها في نوادي الأدب في الشرق العربي وسط عصر الجهاد والفداء والزلزلة! وليس من الإنصاف للذي هتف بها على بعد الدار ونأى الشقة، أن نمر بها كما نمر بأية فكرة أدبية، فأننا نعتد ذلك عقوقا لهذه النفس البرة التي لم تتطرف عينها خوالب الدنيا الجديدة ولم تشغلها عن النظرة الراثية الآسية للوطن الأول. . .
وعجيب أن يكون القلب الخافق بهذه الوجيعة، والبوق الهاتف بأصواتها التي سيسمعها القارئ خلال ما ننقله من السطور، نزيل ديار فاتنة بافانين حياتها وحريتها، مما يجر إلى نسيان الوطن الأول. بينما نجد الكثرة الراقدة بين فكي الحوادث وتحت مناسمها من أدبائنا الذين يأخذ أمتهم الضغط والاضطهاد مصبحة وبالليل، نجدهم كما يقول صاحب الأعاصير: (بين متهافت على وظيفة يخسر نفسه ليربحها. . وعابد بغيا يسفح شبابه على أقدامها. . و (علاك) أوزان تمر به القوافل الحياة قطارا تلو قطار، رازحة بعبر الدهر وعظات الأجيال، وهو واقف إزاءها وقفة الغر الأبله يتلهى بتشطير أو تخميس! أو يباري في وصف ساعة(29/23)
معلقة على جدار كأن ليس فيمل يجري خلفه وبين يديه من ساعات الهول وأهوال الساعة ما يحرك له خاطرا أو يهيج له شاعريه. .! أو ليس من الغبن الفاضح ومن دواعي اليأس القاتل أن يموت في الأمة شاعر فتصبح الأمة بأسرها شعراء ترثيه وتبكيه، وتموت بأسرها فلا تجد لها شاعرا يرثيها؟!) أجل أيها الأخ النازح! انه لغبن فاضح وجهل بحقوق الأمم في أعناق الرجال، وغفلة عن رسالة الشعر والأدب، وعن وصايا الأدباء على أممهم، أن يهمل المتأدبون ناحية الجهاد في هذه الحقبة من تاريخ العرب، وان يعكفوا على أدب الخليين الذين يذهبون إلى إشباع الحاسة الفنية فيهم لا غير. . . وإني لأفهم قلم الشاعر والكاتب، ولسان الخطيب، في عصرنا هذا، يجب أن تشيع في منتوجه ألوان من آلام أمته، وأن يخلد من وقائع جهادها صورا تتيح للأجيال المقبلة أن ترى فيها حياة الألم الذي يأكل إحساس الجماعة المثقفة في هذا العصر لأنهم بشاعريتهم المصقولة، واحتكاكهم بالزمن، وتيقظهم لمروره يعكسون صور من يدركون من الحوادث بوضوح واستيعاب، فإذا حولوا هذه الحساسية المصقولة إلى حياة المتاع واللهو والخلو، فقد تضيع معالم هذه الحقبة من تاريخنا أو تنبههم، فضلا عما يصيب إحساسنا القومي من تبلد ونزوع إلى حياة المتعة حيث الكتابات الداعية إليها تأخذ على عين القارئ مسالك الصحف. وفي هذا خسران الروح المعنوية في عصر الجهاد، وفي ذاك خسران أيضاً لأننا في جيل انتقال أحوج ما نكون إلى تسجيل الأحداث مع المشاعر التي تصاحبها ولن يسجل المشاعر إلا شاعر.
ولن يستطيع الداعون إلى بناء الوطن العربي أن يخلقوا في نفوس الشباب حرمة له ما لم يأتوا إليهم من طريق الجد والمرارة! فانهم يستطيعون حينذاك يشيدوا البناء بنجوم السماء!
والآن أضع بين يدي الرسالة نص مقدمة (الأعاصير) لتنتقي من أفكارها ما تتسع له صفحاتها ومنهاجها، ولو إن الأمر إلي لوضعتها كاملة تحت عين القارئ ليرى ذلك القلب الخافق رحمة لأمته، والصوت الصارخ لآلامها، والقلم الوفي لقضيتها.
أما بعد فأني كتبت ما تقدم قبل أن اقرأ المقال الذي كتبه صديقي الأستاذ الأديب علي الطنطاوي الدمشقي في عدد مضى من الرسالة والذي ينعى فيه على أدبائنا الذين لم يعرفوا حتى القومية في عصر الجهاد والذين اعتنقوا الأدب للفن لا للحياة. . وقد عجبت لهذا التوافق في ظهور هذه الأفكار بينه وبين صاحب الأعاصير.(29/24)
ويلوح لي إن الأمر جد، وان زمان ظهوره قد شأنه المقادير، وان هذه الدعوة يجب أن يلقى التبشير بها ما له الاعتبار عند أدباء العربية، وانه يجب أن ترسم الخطة التي ينبغي أن يتجه إليها أدب أمة تتنزى ألما في السياسة والاجتماع.
وإني لاستقبل المغرب وأرسل للشاعر القروي تحيتي حارة خالصة لا يطفئ من حرارتها عبور ما بيننا وبينه من ديار وقفار وبحار. ثم استقبل المشرق فاحيي صديقي الأستاذ الطنطاوي تحية طيبة. ومنى نفسي أن يكون لهذين الصوتين المنبعثين من مشرق الشمس ومغربها، صدى بالغ إلى القلوب قراء الرسالة.
المقدمة
هذه الأعاصير! وهي مختارات من شعري الوطني، نحيتها عن سائر أشعاري لتعصوصف في جو وحدها. إنها خواطر جامحة، وأفكار ثائرة، بلورت من صراعها في صدري مع أخواتها الوادعات، ما أشفقت معه أن اجمع بينهن في كتاب، يسمنه من تنابذهن وحراشهن ما سمني من عذاب. ولم أخصها بالنشر، على ما فيها من شدة وعُرام، قبل مختلف المواضيع التي يشتمل عليها ديواني، إلا لاعتقادي أننا إلى ما يبعث فينا الأثرة ويقوي العصبية، أحوج منا إلى ما يزيدنا حباً للإنسانية، وإصلاحا للبشرية.
هذه آيات أنبيائنا وأسفار حكمائنا، تشهد بان لنا من فيض العاطفة الاجتماعية، وحرارة الروح الإنسانية وسطوعها، ليس لسائر الأمم بعضه، ولكن هذا الذي أردنا به السلام للعالم يعمل به أحد سوانا فلم يهد الناس شيئاً وعاد علينا نحن وبالاً شديداً فلقد وزعنا الحب على أهل الدنيا، حتى لم يبق لنا منه فضلة لذواتنا، ولقد بلغنا من إنكار النفس والتطوع بخدمة الغرباء مبلغا جاوز بنا رياض فضيلة الكرم، وشرف التضحية إلى سباخ التمرغ والذل والدناءة. إننا اسلس المطايا قياداً، والينها شكيمة، واحنها ظهرا، وأتعسها مركبا، بل نحن صيد شهي سائغ، ليس اقرب منه منالاً ولا اسهل منه مأخذا، فبدلا من أن يتكلف القانصون مشقة نصب الفخاخ لنا أو مطاردتنا ووهقنا، باتوا وجهادهم محصور في كيف يتقون تهافتنا عليهم، ووقوعنا على اقدامهم، كما يدفع الرجل كلبه عنه حذرا منه على لباسه، لفرط ما يرى من تحببه إليه وتوثبه عليه.
أما والله لو كنت شاعرا فرنسيا أو إنكليزيا لحبست النفس على التبشير بالسلام، ووقفت(29/25)
القلم على الدعوى إلى الرافة والحنان. لأن الرافة والحنان زينة الأقوياء. أما وأنا سوري، ومن لبنان، فإني لا غرض لي في الحياة اشرف من دعوة شعبي إلى بغض الشعوب، ولا مثل عندي أعلى من استنهاض أمتي لمحاربة الأمم. وانه لبغض أسمى من الحب! وإنها لحرب اقدس من السلم! فما دمنا عبيدا ضعفاء فدعوتنا العالم إلى الإسلام ليست من الفضيلة في شئ اكثر من فضيلة العفو بغير اقتدار، حجة الذليل اللئيم! فلنصافح السيوف! فإذا تحررنا فلنصافح الأعداء! نحن نحب أوربا، ولذلك يجب أن نبغضها أولاً! نبغضها لنحاربها، ونحاربها لنتحرر منها، ونتحرر منها لنستطيع خدمتها بأحسن مما تخدم نفسها. نحن اصح الخلق أبداناً وأرجحهم عقولاً، وأحسهم أرواحاً، فلو فكت عنا أغلال القوة الغاشمة لسبقنا العالمين في مضامير العمران، ولأسبغنا على العلم من دماثة أخلاقنا ما يروض أوابده ويصرف أعنته على اكمل وجوه الخير والصلاح. ولكننا، دون هذه الأمم الحرة أمة شلتها قيود التقاليد الرثة والتعصبات المقيتة، كلما فتحنا عيوننا على عيوبنا وحاولنا تحطيم أصفادنا لتسري فينا الدماء، ونعود فنعد في الأحياء، احكم الظلم وثاقنا، وضاعف إرهاقنا وألقى بنا في مطارح الخسف والهوان، طرحك الخرق البالية في القمامات!
فيا أبناء وطني - لكم تجدون بينكم من دعاة الاستعمار، نفرا يدعون الحكمة ويتكلفون الوقار - يجلس واحدهم جلسة الوثن متر صنا جامدا، كأنما ركز المصور أو المزين رأسه على شكل لا ينحرف عنه. ثم يبسط كفيه على ركبتيه، ويزوي بين عينيه، ويقول خافضا صوته: - مالكم ولهؤلاء الشعراء، إن هم إلا صبية أغرار، يحرضونكم على المطالبة بالحرية، ولا سلاح لديهم غير ألسنتهم وأقلامهم، فيجلبون عليهم النقمة ويسوقونهم إلى الهلاك. . . إلا اعرضوا عنهم! كلوا أمركم إلى ولية الأمر فيكم، إنها أمكم الحنون، وحاشا لامكم الحنون أن تريد بكم شرا. . . إنها تهي لكم خيرا جزيلا. تدربكم على الحرية، فإذا صرتم لها أهلا وهبتها لكم لوجه الله لا تبغي أجراً ولا شكورا، فأسعفوها في إصلاح نفوسكم تستقلوا، فالاستقلال رهن بأهليتكم، ووقف على استحقاقكم. إلى ما شاكل من عظات تخثر النفوس وتوهن العزائم، وتطفئ جذوة الحماسة في الصدور - أما أنا فأقول لكم: يا أبناء وطني لا يؤهلكم للاستقلال إلا الاستقلال نفسه. نفوسكم ضائعة. نفوسكم مغصوبة.(29/26)
جدوها أولاً واستردوها ثم أصلحوها! فانتم مسؤولون عما لا تملكون؟
إن هؤلاء المضللين يلهونكم عن السعي إلى تحقيق مطلبكم الأسمى، ببهرج من وعد، وزيف من رجاء، لتلبثوا حيث انتم أو تمشوا القهقري. انهم يحاولون إقناعكم بأن العبودية وسيلة إلى الرقي، والرقي وسيلة إلى الاستقلال. انهم يعدون الجائع بقميص، ويمنون العاري بكأس ثليج، أرأيتم منطقا أسد من منطق المستعمرين؟ يا أبناء وطني! الاستقلال رهب من حمام، وطب من سقام، كما إن النقه درجه بين الداء والصحة، هكذا الحرية مرحلة بين العبودية والمجد. الاستقلال غاية بالنسبة إلى الرقي الذي انتم فيه، ووسيلة بالنظر إلى الرقي الذي تنشدون، فمزقوا هذه العصائب وحطموا هذه القيود ثم رودوا نجع الإصلاح، وحاضروا في أشواط الفلاح، فلا هدى للعميان، ولا عدو لمقعدين.
ولقد يقول الناقدون، ما شأن السياسة في الشعر؟ إن الشعر لأرفع من هذه الأباطيل. انه تنكب عن أغراض الدنيا وأعراض عن سفساف الحياة، وتلمس للمثل الأعلى. ثم يقولون من ناحية أخرى؛ - الشعر الحقيقي هو ما مثل الحياة اكمل تمثيل، والشاعر العظيم هو صورة محيطة الناطقة. هو دليل أمته الذي يتقدمها كعمود النور في ليالي محنتها. رافعا لواء الحق. هو بشيرها في الشدة ينعشها في الرجاء. ونذيرها في الرخاء يقيها مزالق البطر. فنقول لحضرات الناقدين: - أنا إذا وإياكم لجد متفقين، ولا خلاف بيننا إلا أن ما نسميه نحن وطنية أخطأتم انتم فدعوتموه سياسة. إننا في هذا الشعر لم نخض معارك انتخاب، ولا تدخلنا في أحزاب، ولكننا جهرنا بالحرية ونادينا بالاستقلال، وطالبنا بالحق ونشدنا العدل والحرية والحق والعدل ليست من أباطيل الحياة كما تزعمون، ولكنها من اشرف مبادئها وانبل غاياتها ولقد عبرنا في شكاوينا المحرقة عن اعمق جراحات امتنا المطعونة في صميم عزتها وإبائها، وأعربنا في صيحاتنا عن أسمى ما تغامر بلادنا في سبيل استرداده من شرف مروم، كما فوق النجوم، فبات سحيقا تحت أقدام الغزاة وسنابك خيل الغاصبين.
أما ذلك الشعر الذي تضحك فيه الحياة، وترن قوافيه بالحان الحب والغزل، وتعبق أنفاسه بنفحات الشباب، فله ساعات تخلص فيها النفس من أعبائها وتتناسى إلى حين ما هي فيه من شقاء، وقد اتفق لنا منه قدر معلوم سننشره في كتاب وحده، ولكنه على كل حال ليس(29/27)
بالشعر الذي يتسم به أدب أمة مقهورة كأمتنا الراهنة، انه لدولة مرفوعة لواء المجد ممدودة رواق العز كدولة أجدادكم في الشام وبغداد والأندلس لا كدولة الانيار التي تحتها ترزحون، والأصفاد التي حديدها ترسفون.
إن صراخ سوريا وعويلها يكاد يقض مضاجع النائمين في المريخ ودخان غيظها يوشك أن يبطن القبة الزرقاء بقبة سوداء، أفتريدون منا أن نخرج المعجزات فنسمعكم همس الأزهار وسط هذا الضجيج، ونصور لكم ألوان الشفق وراء هذا القتام إن لم نكن غرباء الشعور عن هذه الأمة وإن لم تكن بعيون غيرها نبصر، وبآذان غيرها نسمع، ومثل غيرها ننشد؟ ألا على رسلكم أيها الناقدون! فأما أن تأتونا بغير هذا الإفلاس الوطني آية وإلا فحسبكم تضليلا.
وهبوكم لا تؤمنون بغير الأرض وطنا، وغير الإنسانية عشيرة، أفتعتقدون إن الأرض قد صارت جنة والناس فيها ملائكة ينعمون؟ وإذا كنتم ولا شك تشعرون بفقرها إلى الإصلاح فلماذا لا تباشرونه من اقرب أقطارها إليكم؟ إن الذي يغضب لحق هضم في الصين أولى به أن يناضل لدفع حيف نزل ببلاده، والذي ينفر إلى نصرة مظلوم في آخر الدنيا لحري أن يذود عن ضعيف يصرعه البغي بين شماله ويمينه! إن الحرية هي الحياة بمعناها الشريف وهي أول حقوق الإنسان، فهل من شروط حبكم للإنسانية أن تنكروا الحياة على اقرب أبناء الإنسانية إليكم؟ ألا فاشتروا لوجوهكم براقع أيها المراؤون أو فاستروها بأكفكم خجلا! إن الذي لا يستطيع أن يحب نفسه وأهله فلن يحب من الناس أحداً.
يا أبناء وطني! ويقول لكم صنائع المستعمرين نحن مثلكم نحب الحرية ولكن اين عدتكم للحرب والصدام؟ أين مدافعكم وأساطيلكم وطياراتكم وغازاتكم الخانقة؟ فأقول للرعاديد لا تحتجوا بحاجتكم إلى السلاح فانتم إلى الآباء وعزة النفس أحوج! اشعروا أولا بهوانكم واغضبوا لكرامتكم فإذا فعلتم فأنا الكفيل بأنكم تجدون غير هذه الجبانة جواباً لمن يسألكم أين عدتكم للحرب والصدام! فوالله إنكم بطول نومكم على هذا الضيم واستكانتكم لهذا الذل قد برهنتم على إن اصبر الناس على الكريهة! فلماذا تتقون الحرب؟ أو تخافون موتا شرا من الموت الذي انتم فيه؟!
أفأنتم أكلف بالسلام من مسيح السلام؟ أأنتم أودع من حمل الجلجلة؟ أما غضب فانهال(29/28)
بالصوت على الصيارفة وباعة الحمام يطردهم من الهيكل غيرة على بيت أبيه؟ فبربكم أيها الشياطين الأتقياء كونوا آلهة أشرارا ولو مرة واحدة وذودوا عن بيوت آبائكم وأجدادكم! وإذا كان يشق على أيديكم الحريرية الناعمة أن تجلد بالسياط أو تضرب بالسيوف فحاربوا بسعف النخل وأغصان الزيتون! حاربوا بالسهام! حابوا بالغندية! إن الشريف لا يعدم سلاحا ينافح به عن الحق، أما الجبان فيموت الحق شهيدا بين سمعه وبصره وهو في غاب من بنادق وحراب. ألا ليت الجبان كان لعينا يزجر الطير ويفزع الثعالب فان هذا اللعين يخاف كل شي ولا يخيف أحداً!!. . . . . . الشاعر القروي.(29/29)
إبرة المغناطيس
للدكتور عبد الوهاب عزام
جلست إلى مكتبي البارحة، فوقع بصري على (بيت الإبرة) فانفتحت أمامي سبل من الفكر لا تحدها غاية. واني إذ أحاول أن أقيد هذه الفكر على القرطاس لمَحاول أن أسلسل بهذه الأحرف خطرات الفكر الخاطفة التي تطوي الأجيال والأقطار في لمحات. وتجمع السماء والأرض في طرفة عين:
قلت ما اعجب هذه الإبرة! إنها هادية لا تضل، عارفة لا تخطئ. تنتحي الشمال مهما أدرتها عنه، ولا تنسى عهد المغناطيس مهما أبعدتها منه. ومهما جمعت عليها من الحجب والظلمات، وأضعفت لها في المسافات، فهي مولية وجهها شطره محسة جذبه، موصولة به، خبيرة بوحيه، لا تنساه ولا تشرك في هواه. ليت شعري أأهدى من الإنسان هذه الإبرة الصغيرة! اجل إنها لتهدي الإنسان في البر والبحر والسفر والحضر.
أحسست حينئذ خفقان قلبي يذكرني إن في صدر الإنسان إبرة أخرى مرشدة هادية، تتوجه شطر معدنها أبداً ولا يصدها عنه تطاول الأمد وبعد المدى.
ألم تهد هذه الإبرة الأمم في ظلمات الجاهلية، وغيابات القرون، فعصمتهم على العلات من الهلاك، وأخرجتهم إلى النور على تكاثف الظلمات ولا تزال هادية بصيرة بالغاية، خبيرة بالسبيل إليها - كم عبدت الإنسان شهواته؛ وأضلته عن الخير مطامعه. فما زالت هذه الإبرة تضطرب في صدره حتى اهتدى سبيل النجاة، ووضع على هداها منار الطريق. كم طغت بالإنسان ضغائنه وأحقاده، فما زالت هذه الإبرة تخفق في جوانحه حتى عرف إلى الحب والألفة والمودة السبيل، واستقام على النهج لا يميل. وكم غلا الإنسان في ظلمه وعدوانه، فما زالت تتحرك في أضلاعه حتى أشعرته نفسها ثم ردته إلى خطة للعدل محمودة، وسبيل إلى الإنصاف رشيدة. وكم غدر الإنسان ثم اهتدى بها إلى الوفاء فندم على ما قدم، واغتبط بما اهتدى. وكم أجرم الإنسان فوخزته فأفاق، فكأنما صور خلقا آخر ينفر من الإجرام، ويركن إلى السكينة والسلام. وكم سفلت بالإنسان سجاياه، فعملت في صدره حتى سمت به إلى العلياء، وطارت به من الحضيض إلى عنان السماء. وكم وقفت بالإنسان همته فدفعته هذه الإبرة العجيبة فمضى قدما إلى العمل، وهمزته فداب لا يعرف(29/30)
الكلل. وكم اظلم على الإنسان طريقه، وعميت عليه أرجاؤه. وأطبقت عليه سحائب سوداء، وأحاطت به ظلمات لاشية فيها من الضياء، فنظر إليها فإذا هي إلى الغاية دليل، وإذا هي على الظلمات قد استقامت على السبيل - وكم حارت بالإنسان آراء مظلة. وأفكار غائلة، وأقوال ساحرة، ملما هلك أو كاد، ودارت به الحيرة والإلحاد، أحس اضطرابها في نفسه فسكن، فتهافت الآراء وتهاترت الأقوال، وثاب إليه هداه فوجد أمامه الله.
إيه أيتها الإبرة الهادية! ضل الإنسان في صباه وهرمه، وجهله وعلمه، وسعادته وشقائه، ووحدته واجتماعه، وحله وترحاله، لولا هداية من الله فيك. وبصيص من نوره في نواحيك، وصلة به لا تنقطع، وشعور به لا يضل، وجذوة من حبه لا تخمد.
وأما الذين أضلتهم الأهواء، فعميت عليهم الانباء، وتخطفتهم في الحياة المآرب، فتذبذبوا بين شتى المذاهب. وشرق بهم مطمع وغرب آخر، وتلونت لهم غيلان من الآمال والأعمال، والذين فقدوا أنفسهم وهم لايشعرون، وظل سعيهم وهم يحسبون انهم مهتدون، والذين يلبسون كل يوم دينا، ويبدلون كل حين رأيا، ويلبسون لكل دولة وجها، ولكل سلطان زيا، ويتخذون لكل ساعة لسانا، ولكل فرصة وجدانا، فأولئك اغفلوا النظر إليك فحرموا الاهتداء بك، بل أولئك في إبرتهم خلل قد عرض، أو أولئك في قلوبهم مرض.
عبد الوهاب عزام(29/31)
الجمال الطبيعي والفني
للأديب الإنجليزي كلاتون بروك
-
عن كتابه (مقالات في الفن
للطبيعة جمالها وللفن جماله، وقد بذلت مساع كثيرة لإيضاح الفرق بين الجمال الفني والجمال الطبيعي؛ لكن نظرية (سيجنرجروس كثيرة الأنصار اليوم، وهي تقول: (إن الطبيعة تمد الفنان بالمواد الأولية فقط، وان الشعور بجمال الطبيعة هو مبدأ التدرج الفني، وان عقل الفنان موجد الترتيب والتناسب في الطبيعة المهوشة، وان الناس جميعهم قادرون على إيجاد هذا الترتيب ولكن بدرجة محدودة. أما الفنان فيظهر هما اكثر جمالا وكمالا، الفنان قوي الإحساس يستطيع أن يصنع الجمال الذي يحسه، الاحساس جزء من الصنعة).
ويقول جروس: (إذا كان الفنان يصنع جمال الطبيعة بشعوره به، وإذا كان من الممكن أن يتولد هذا الجمال بعمل عقله، يكون جمال الطبيعة حينئذ من نفس الجمال الذي يظهر في فنه، ثم إذ ظهر لنا أن فن الفنان يختلف عن جمال الطبيعة فما ذلك إلا لأننا أنفسنا لم ننظر جمال الطبيعة كما نظره الفنان. ولأننا لم نحول كل التهويش إلى ترتيب. واعلم إن هذا الاختلاف بين عمل الفن وعمل الطبيعة ليس اختلاف نوع بل اختلاف قدر، وانه لا اختلاف في الحقيقة بين جمال الطبيعة وجمال الفن لا في النوع ولا في القدر. إن ما يصنعه الفنان يرى، وما يراه يصنعه، كل الجمال فني، وان حديثك عن جمال طبيعي حديث خرافات).
رغما عن (جروس) وكل حذقه وما في نظريته المتطرفة من حق لا يمكن أن نعتقد أننا نصنع الجمال حينما نراه، وان الفنان يصنعه حينما يحسه، ولن نعتقد إن الجمال الذي يصنعه هو من نفس طبيعة الجمال الذي شعر به، ولا هوـ مثلنا ـ يقدر الجمال الذي يحسه حق قدره لأنه يعلم إن لابد له من صنعه، وانه شئ مستقل عن نفسه. الفن ليس اكثر من تأثر عقل الفنان
بجمال الطبيعة، وعلى قدر ما في العمل الفني من عاطفة وإحساس يكون ما فيه من جمال.(29/32)
إذا عرف الفنان إن الجمال الذي يحسه هو نتاج عقله، لا يستطيع بعدها أن يقدره حق قدره، وانه إذا تمسك بنظرية (جروس) خرج عن كونه فناناً واصبح ذا صفة أخرى ; لا شئ يقتل الفن مثل الجري وراء إيجاد جمال من نفس طبيعة الجمال الذي نراه في الطبيعة. نشاهد في جمال الطبيعة في الإتقان، وأنها كذلك غاية في الإتقان ; لأنه لا يوجد في الحقيقة ثمة صنعة، الأشياء الطبيعية لم تصنع وإنما ولدت، اعمل الفنالتي صنعت والأشياء التي ولدت، ثم بين جمال هذه وجمال تلك.
لابد وان يظهر في كل من الأعمال الفنية جهد الصنعة ونقصها وخشونتها، وان هذا الجهد والنقص والخشونة إنما هو في الحقيقة روح جمال الأعمال الفنية وانه هو الذي يميزها من جمال الطبيعة، وحالما يمتنع الناس عن فهم ذلك ويستخفون هذا الجهد والنقص والخشونة، تراهم على الغالب لا يظفرون حين يطلبون من الفن الجمال الطبيعي بغير جمال ميت.
يمكننا أن نفهم احسن فهم الفرق بين نوعى الجمال إذا نحن تدبرنا كيف ينسل الجمال في اللغة، هذا الفن الذي نمارسه جميعنا قليلاً أو كثيرا، والذي يصعب فيه الم يكن مستحيلاً تقليد غاية الجمال الطبيعي؛ لا يوجد جمال في جملة: (سينال المعتدين جزائهم) لأنها تؤدي المعنى المراد تماما بلا زيادة ولا نقصان، ويوجد جمال في مثل جملة (ليال سرقناها من الدهر. . .) لان فيها، وان كانت تظهر أيضاً غاية في البساطة، يحاول الشعر إن يقول اكثر بألف مرة مما يستطيع أن يقوله، إن السعي في عمل ما هو خارج عن طاقة الكلمات هو الذي يحمل الجمال إلى الكلمات؛ تلك هي طبيعة الجمال الفني التي بها يتميز من الجمال الطبيعي، الأعمال الفنية هي دائماً وليدة السعي لتمام المستحيل، لإتمام ما يعرفه الفنان انه مستحيل، وانه حينما لا يوجد هذا السعي، حينما يكلف الفنان نفسه عملاً في وسعه اتمامه، عملاً لا يدل على غير المهارة، حينئذ يخرج عن كونه فناناً. يقول (جروس) إن شعورنا بالجمال يتوقف علىقوة إحساسنا بعظمة الأشياء، هذا صحيح؛ غير إن قوة إحساسنا هذه تبقى قوة إحساس غير قادرة على صنع ما تحسه! إن الفن ليس مجرد اتساع طريق الشعور كما يزعم (جروس)، وإنما هو تجربة عمليه لإظهار مقدار شعور رجل الفن. فن الفنان جواب لجمال الطبيعة وعبادة له.
الفن إيضاح حالات خاصة، حالات إعجاب وتقدير، هو التسليم ببعض أشياء اعظم من(29/33)
الإنسان وحيث لا يوجد هذا التسليم يموت الفن.
إن هذا الفرق بين جمال الطبيعة وجمال الفن لا يرى في الجمعية التي تعتقد أنها تستطيع إن ترفع سماء بمهاراتها وعلمها وحكمتها، إن الفن في مثل هذه الجمعية يفقد كل خواص جمالة. إن الرجل الذي يتطلع إلى الكمال في الفن إنما يخدع نفسه إذ الكمال لله وحده، ولا ريب إن من عرف الله حق المعرفة اصبح شبيها به وأمكنه أن يكون الجمال مثله، ولكن أبى للإنسان ذلك، بل إن العجز ليجعله غير قادر على إتمام موضوعاته التي توحي إليه بها معرفته الله، معجبا بسمو لا يد له فيه؛ وهكذا نرى النقص باديا في كل جمال فنى ليس في الفكر فحسب، بل في العمل أيضا، وأنه لنقص يحسبه خيبة وشناعة أولئك الذين يتطلعون إلى مسمى الجمال الطبيعي في الفن والى الواقع رؤيته نظريا لا صنيعاً، مثل هؤلاء.
يفشلون أبداً في العمال الفنية العظيمة لما يعروهم من قنوط وكد وجهد؛ انهم موازين قدرة الإنسان واعترافه بالعجز في إن واحد؛ بيد إن هذا الاعتراف القائم على الصدق والإخلاصإن هو إلا الجمال بعينه، وأن الصفاء ليبدو في جمال الفن أبداً ولكنه صفاء الإذعان لا صفاءالرضى، صفاء القداسة، وليس لصفاء التجمل، إن العظمة غير المحدودة في كل ما يأتي به الفن ليست سوى اثر مهارة يلدها سعي الفنان الدائم ليعمل اكثر مما يستطيع. ليس للفنان أن ينشد مجرد الثناء وتصفيق الاستحسان بل يجب أن يعبد أيضاً وان يبدع ما يقدمه بين يدي عبادته، ذلك خير وأبقى، ليس الرعاة وحدهم الدين تقدموا إلى قبر السيد المسيح بل الحكماء أيضاً جاءوا يحملون إليه كنوزهم، وفن الإنسانية إنما يكون بآثار حكمائها، بل هو عبادة المجوس اكثر الناس بساطة في عبادتهم.
(ايها الحكماء لقد قطعتم كل طرق المعرفة وانتهى بكم المطاف إلى حيرة الراعي؛ ولكنها الحيرة التي لا تذهب بالحكمة) التي عندما تقف حائرة وتتوجه معرفة الإنسان ومهارته وكامل شعوره إلى الإقرار لما هو اعظم من الحكماء أنفسهم يكون ذلك الإقرار هو الفن، له من الجمال ما يفوق جمال الطبيعة القدسي.(29/34)
الحقيقة. . . والخبز!
للأستاذ علي الطنطاوي
كانت ليلة باردة. تزأر فيها الرياح زئيرا مرعبا - ويهبط فيها البرد مجنونا، فيصطدم بالنوافذ والجدران. ويكون لوقعه على نافذة النادي الوطني في تورينو (في بيه مونت) صوت كصوت الطبل. وكان النادي خاليا تلك الليلة إلا من نفر جاءوه على رغم هذا البرد. . وتجمعوا حول الموقد يحتسون الخمر، حتى إذا كان اكثروا من الشراب، واثقل رؤوسهم جو النادي الثقيل، المليء بالدخان، استرخت أعضائهم، وتممدوا في كراسيهم، يتجاذبون أطراف الأحاديث في فوضى واضطراب. ولم يكن فيهم مصغ، بل كانوا جميعا متحدثين صاخبين. .
ورأى خادم النادي تثاقلهم عم الذهاب، فعلم انهم لا ينوون براحا قبل الصباح. فمشى إلى الباب على حذر، ثم أغلقه دونهم وخرج وهو يذهب عنقه في كتفيه، ويتنفس الصعداء. وهرول يريد بيته وعياله.
ولبث القوم على صخبهم حتى صاح منهم (دافئ):
- هو. . . ألا ترون هذه الفوضى مضجرة؟
وكأنما نبههم بصياحه فأنصتوا. وقال صولين
- وماذا تريد؟
- أريد أن اشرب قدحا آخر على روح الدكتور!
فتبسم صولين ضاحكا من قوله، وانبرى له بيبر بحدة كالذي لدغته عقرب وقال:
- أتعود إلى ذكره؟ لقد ذهب إلى الشيطان!
- ولكنه كان مخلصا
- نعم، كان مخلصا للنمسا (عدوة الوطن) للنمسا التي عاش سبعة اعوام يتلقى العلم في جامعاتها، ويتلقى معه بذور الخيانة للبلد الذي أنشأه، حتى إذا عاد أنكر هذا البلد الذي غادره، طيعا هادئا؛ يؤثر السلم والطمأنينة، ولو في ظل الأجنبي الغاصب، على الجهاد في سبيل الحرية، فوجده حين عاد متيقظا قد غمرته الروح المقدسة، روح الجهاد من اجل الوحدة الإيطالية، وانتشرت فيه كالسيل الجارف الذي لا يقف أمام شيء، قد آمن بها(29/35)
الرجال جميعاً، وتخطت جدران المنازل فاعتنقها النساء، وجازت أبواب المدارس فاستقرت في نفوس الأطفال، ودخلت قصور الحكومة فأحست بها، ووقفة منها موقف الصديق المرحب، آملة أن ترفع لها راية حمراء، تقود الشعب تحتها لانتزاع حرياتها من فم الأسد، من النمسا! وجد الدكتور ذلك فهاله وعمل على محاربته، فسقط في الميدان صريع خيانته.
- لا تقل خيانة. إن إلقاء محاضرة علمية عن قيمة الإمبراطورية الرومانية لا يعد خيانة. وحسب الدكتور أنه أرضى ضميره العلمي. وأظهر تاريخنا للناس مجردا من ثوب الغرور الوطني.
- انه خالف الحقيقة. فروما سيدة العالم لا يمكن أن تكون من عنصر العالم. هي من أسمى. هي أم الشعب المختار.
- لو كانت كذلك، لما انقرضت، الصلح يبقى أبدأ. . .
وعلت الأصوات. حتى صارت المناقشة ضجة جوفاء. . فأسكتها صولين. . وقال بهدوء.
- وماذا يعنيكما من الحقيقة حتى تتقاتلا من اجلها. مهما تكن حقيقة الإمبراطورية الرومانية (فالغرور الوطني) خير منها. ما دام هو السبيل إلى حياتنا واستقلالنا.
فصاح به دافي:
- هذه أراء خطرة؟ قل لي من ذا الذي لا تعنيه الحقيقة؟
- الجائع المشرف على الموت ان الحقيقة الواحدة هي في النظرة الرغيف، ورغيف يابس ابلغ لديه من كل حوت مكتبة روما.
- قد يكون ذلك، ولكن الحقيقة تبقى لها قيمتها.
- عند من تبقى لها هذه القيمة؟ انك لم تفهم ما قلت؟ إن الحقيقة يهتم بها ويفكر فيها من يشبع من الطعام. كما يفكر في الحلوى ويتشهى الفاكهة. أما الجائع المشرف على الموت فينكرها. لا يحس بوجودها. يصبح عقله في معدته. أفهمت؟
ولاحت على شفتي ابتسأمة تهكم خفية، إغتاظ منها دافي فقال بحنق:
- وماذا تعني؟
ثم بدا له إن هذا الحنق انهزام منه فتكلف الوقار وقال:
- وضح كلامك من فضلك.(29/36)
- كلامي واضح، فإذا لم تتبنه فليس الذنب على. اعني انه يجب على الإنسان أن يعيش ثم يتفلسف. كما قال المثل اليوناني. وكذلك الامه، لتستقل أولاً وتبن لها كيانا قائما ثم تبحث عن الحقيقة. أما البحث عن الحقيقة أولاً فجريمة!
- ولاكن إذا لم نراع المبادئ الأخلاقية في بنائنا كياننا قام على مبدأ الوحشية. وارتكز على عظام غيرنا، أفنبني كياننا على عظام الأبرياء؟
- إذا لم يوجد غيرها. فلم لا؟ إذا لم يكن بد من قتل أحدكما فكن أنت القاتل.
- ولماذا؟
وظن انه سيعجزه بهذا الاعتراض. وخالطه الاشمئزاز من آراء صولين والشعور بأنه يفوق علما وذكاء فمط شفته السفلى متهكما وردد.
- ولماذا بالله؟
لماذا؟ لأن حياتك اثمن من كل شيء. ولأن تنال حيات وحشية خير لك من أن تعدم الحياة.
- ولكن الفضيلة.
- لا دخل للفضيلة في أمر الحياة - إن الفضيلة والعدل والحقيقة والجمال الفني - كل أولئك وسائل ابتدعها الإنسان إلى ترف الحياة واستمرارها قوية، فإذا استحالت وسيلة إلى فقد الحياة فلتذهب إلى لعنة الله.
- وماذا تقول في مبدأ الإنسانية؟ وكيف يتفق ودعوتك إلى قتل إخواننا من البشر؟
- أنا لا أدعو إلى قتل أحد. ولكن من أراد قتلك فلا تقف منه مكتوف اليدين، أما مبدأ الإنسانية فلا أنكر انه من اجمل (السخفات) التي اخترعها الأقوياء لتكون قيدا جميلا، يقيدون به الضعيف.
- أتقول انه (سخافة)؟ يا لله! لست أطيق سماع أرائك الشاذة.
- أولاً تظنها كذلك؟
- من؟ أنا؟ أبداً!
- وتراها حقيقة؟
- طبعا
- وترى البشر كلهم إخواننا؟(29/37)
- بلا شك
- إذا فأنت أيها الإيطالي أخو النمساوي الذي غلبك على بلادك ونازعك على خبزك واتخذك عبدا له؟ لا أحسبك من البلاهة بحيث تقول إن الجلاد الذي يعذب السجين ويشوي جلده بالسياط هو أخوه
- انك تهدم الأخلاق من أساسها!
- ذلك خير من أن تنهدم أمتي التي تبني الآن. ولست من رأي الدكتور الذي بحث عن الحقيقة في شعب يبحث عن الخبز. وقد يأتي يوم يصبح فيه من الشهداء. ينصب له تمثال. أما الآن فليس إلا خائنا.
ولم يعد يطيق البقاء بين هؤلاء السخفاء الذين يذبحون أمتهم بسيف من الذهب. فخرج من النادي والسماء تهبط على الأرض في رعد وبرق، ففتح فاه ونشق الهواء الطلق، وصاح صيحة النشوان:
- بهذه الثورة السماوية، تكون حياة الأرض. .
دمشق
علي الطنطاوي(29/38)
الفن المصري القديم
- 2 -
قد يكون من بعض الأسباب التي يقوم عليها عذر أولئك المنكرين لفضل الفن المصري على انه أساس الفنون الأخرى، إن الفن المصري هو فن فذ، ذو أسلوب فريد يختلف عن بقية الفنون، يجعله كما يعتقدون - أو يتوهمون - جافا ليس حرا. أو انه فن محلى بحت لقيامه على قواعد وشروط خاصة، أو غير متوافق مع مزاج كل أمة لشذوذ عن المعروف عندها. بخلاف الفن الإغريقي. فهو فن متفق مع جميع الفنون الأخرى في الغرض والأسلوب. أو هو فن دولي، فهو لذلك الفن الجدير الصادق. ولهذا أغضوا عن الفن المصري القديم، وقام في أعينهم مكانه الفن الإغريقي كأساس لكل فنون العالم، وذهبت هذه الفكرة الواهية بمعالم الحقيقة.
وسأحاول أن أدافع عن هذه الحقيقة، وأقاوم تلك الفكرة التي لا ينبغي أن تلبس العقول. وقد أتمنى أن أوفق لإثبات الجدارة للفن المصري القديم، وللتدليل على انه الاساس، إن لم يكن لكل تلك الأساليب من الفن التي يبهر بها الغربيون أعيننا الآن، فلا اقل من أن يكون صاحب الفضل على جميع أقوام العالم في تدريبهم على كيفية رسم المجسات وعلاج الألوان. أو أن يكون قد وضع النموذج المبدئي في كيف ترسم اليد جسم الإنسان رسما صحيحا، وكيف تتقن تصوير أعضائه وتمثيل عضلاته. ثم كيف بعد ذلك ينتخب ذوق الإنسان الألوان التي تنساق وتتفق تحت العين.
ارتباط الفن بالدين
ان فنون العالم، وقد بدأت كلها حياتها في خدمة الديانات، وفي تحقيق أغراضها المختلفة تدرجت الحال بها كلما تقربت الأمة إلى فهم معاني الجمال، وتوغلت في أساليب المدنية إلى طرح التقاليد الدينية جانبا. وتخطتها إلى التعبير عن الأغراض الدنيوية، والكشف عن أسرار الطبيعة بما فيها من جمال وروعة. فاتفقت كلها على أن تعطينا أخيراً تلك الخلاصة البارعة فيما نتمتع به اليوم من مبدعات الفن.
إلا الفن المصري القديم. فانه ظل للديانة المصرية خادما أميناً، محافظاً على غايته وأغراضه مدى الخمسين قرنا الطويلة التي عاشها في التاريخ ولم يخن عهوده يوما ما، ولم(29/39)
يتزعزع عن خدم الديانة حتى في انشط أدواره، في غضون عصر الأسرة الثامنة عشرة عندما جنحت الفكرة بفن تل العمارنة إلى الإغراق في تزويق القصور.
ومن ذلك كان الفن في كل أدواره مرتبطا مع الدين برباط وثيق. يتأثر تبعا للانقلابات الدينية، أو الحركات العبادة ذاتها. أو قل إن الكهنة كانوا غالبا يسيطرون على دفة الفن، فيوجهونها حيثما شاءوا، بحسب العقيدة والأهواء الدينية. لما كان للكهنة من سلطة عظيمة في البلاد، تقارب سلطة الملك ذاته، بل إن سلطته كانت في بعض الأحيان، تفوق سلطة الملك.
ولكن الفن الذي تركه لنا أولئك القدماء، أعطانا، مع ذلك، افخر ما يشهد بقدرتهم وكفايتهم، واصدق ما يعبر عن نضوج أذهانهم واكتمالها. بل أعطانا في كل أسباب شواهد لا تحصر من البراعة والسمو والإبداع مع وفر من الرشاقة والجمال. في حين انى كل فن، قام أو يقوم بخدمة الديانة بعده، وقف طويلا في طريق الجمود.
ومصر لا يجب أن تعتبر وثنية بكل المعنى. لأنها في كل أدوار تاريخها كانت متغلغلة في أسباب الديانة، مراعية للخير والصلاح بكل دقة، تقدر الحساب والعقاب، وتعمل للآخرة، حتى طبعت أرضها بطابع ديني. يقرب كثيرا في بعض الأحيان من الحقيقة. وفنها من اجل ذلك، في مسحته القدسية، يجعلنا بعيدا عن الحقائق الأرضية، بما يفوق الفن الإغريقي. ولكنه في الوقت نفسه نابض بكل معاني المقدرة والرزانة، متواضع مع الأفكار البشرية، مخلص كل الإخلاص في التعبير عن الإنسانية الأولى.
إلى الآنسة لطيفة النادي(29/40)
صور خالدة من بطولة المرأة العربية
نسيبة بنت كعب المازنية
سيدة امتلأت كرما ونبلا وفاضت شجاعة وحماسة وازدانت بكل ما يزين المرأة من قلب رقيق وحساسة قوية وعطف شديد، كما تحلت بإقدام الرجال وحزمهم.
خرجت هي وزوجها زيد بن عاصم وولداها عبد الله وحبيب في ذلك النيف والسبعين من الأنصار يوم العقبة الثانية يريدون رسول الله المصطفى يبايعونه مستخفين لئلا يؤذيهم الجاهلون، فبايعوه والناس نيام في ثلث الليل الأخير في اليوم الأوسط من أيام التشريق من السنة الثالثة للبعثة؛ وعادوا إلى المدينة ووجوههم تطفح بالبشر بما نالوا من خير، وقلوبهم ترقص طربا بما نفحهم الحق سبحانه من نوره، من نعمة الإيمان ونور الهدى.
كان يوم أحد - يوم تلك الغزوة التي كاد أن يقضى فيها على المسلمين - فأظهرت نسيبة - رضوان الله عليها - من رباط الجأش والاستبسال في القتال ما لم يكن للأبطال المذاويد من فرسان العرب المغاوير.
فقد التحم الجيشان وكانت الدائرة - أول الأمر - على المشركين فمال المسلمون على الغنائم وشغلتهم الأسلاب؛ فتجمع المشركون ثانية وزحفوا عليهم زحفة أطارتهم كل مطار ولم يبق حول رسول الله إلا نفر قليل فيهم أبو بكر وعمر وعلي وسعد وطلحة والزبير ونسيبة هذه وزوجها وابناها. وما رأت نسيبة دم المصطفى يسيل على وجهه، ورباعيته قد كسرت ودخلت حلقة المغفر في رأسه حتى طرحت قربتها التي كانت تسقي منها العطاش وانتضت مهندا تقاتل دون الرسول ببسالة وإقدام فائقين حتى قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيها (ما التفت يمينا وشمالا إلا وأنا أراها تقاتل دوني).
ولقد جرح ابنها عمارة في عضده اليسرى ضربه رجل كأنه الرقل (النخلة) ومضى عنه فجعل الدم ينزف فقال رسول الله، اعصب جرحك فأقبلت أمه ومعها حقائب في حقويها قد أعدتها للجراح - والنبي واقف ينظر فضمدت جرحه وقالت انهض بني فضارب القوم! فجعل النبي يقول (ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة) وإذا بضارب ابنها يظهر فقال المصطفى (هذا ضارب ابنك) فاعترضت له وضربت ساقه فبرك فابتسم الرسول وقال (استقدت يا أم عمارة) ثم أخذت تعل الرجل بالسلاح حتى أتت عليه. فقال الرسول (الحمد(29/41)
لله الذي ظفرك واقر عينك من عدوك وأراك ثأرك بعينك). وقد جرحت اثني عشر جرحا وهي لا تعنى حتى ضربها ابن قمئة ضربة غائرة في عنقها، فنادى رسول الله (عمارة أمك! أمك، اعصب جرحها بارك الله عليكم من أهل البيت، مقام أمك خير من مقام فلان وفلان) فلما سمعته قالت (ادع الله أن نرافقك في الجنة) فقال (اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة) فقالت (ما أبالي ما أصابني في الدنيا).
ولنستمع إليها تحدثنا عن بلائها ذلك اليوم: (قالت خرجت أول النهار وأنا انظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقمت أباشر القتال عنه بالسيف وارمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي) قالت راوية الحديث فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور فقلت من أصابك بهذا؟ قالت (ابن قمئة أقمأه الله لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اقبل يقول دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس من ثبت مع رسول الله فضربني بهذه الضربة ولقد ضربته ضربات ولكن عدو الله كانت له درعان).
وهناك موقف آخر من مواقف بطولتها الخالدة يوم خرج خالد بن الوليد في جيش فيه ولداها لقتال مسيلمة الحنفي. فأسر مسيلمة ابنها حبيبا فعذبه وأراد فتنته عن دينه، ولكن أنى لهذا الشهم الكريم سلسل تلك السيدة الكريمة الباسلة التي غرست فيه الشمم وقوة الإيمان يوم إن أرضعته. أنى له أن يفتن في دينه أو يصبأ عن عقيدته.
روى ابن هشام في السير ما نص (. . . وابنها حبيب الذي أخذه مسيلمة صاحب اليمامة فجعل يقول له أتشهد أن محمدا رسول الله فيقول نعم، فيقول أفتشهد إني رسول الله فيقول له اسمع فجعليقطع منه عضواً عضواً حتى مات في يده لا يزيد على ذلك: إذا ذكر رسول الله آمن به وصلى عليه، وإذا ذكر مسيلمة قال له اسمع، فلما بلغها هذا خرجت إلى اليمامة مع المسلمين فباشرت الحرب بنفسها حتى قتل الله مسيلمة ورجعت وبها اثنا عشر جرحاً ما بين طعنة وضربة).
هذه هي نسيبة بنت كعب التي كانت مثلا عاليا في التضحية والإقدام، والبسالة والنبل. على أنها ما كانت لتقتصر على هذا فقد كان لها نصيب وافر من العلم فقد روت عن النبي(29/42)
وحدثت كما في الإصابة.
فهلا تحذوها أوانس اليوم اللائى نسين واجباتهن وفرطن في كل شي عدا زينتهن وترفهن.
فلتأتس الشابات الكرائم بنسيبة ذلك العصر، ولطيفة هذا الوقت ليقمن بما عليهن لهذا البلد الأمين فينشئن له من فلذات أكبادهن رجالاً أولي قوة، شداداً صلاباً ينقذونه مما هو فيه.
أسعد طلس(29/43)
التعليم العالي للنساء
للآنسة أسماء فهمي
درجة شرف في الآداب
ما زال التعليم العالي للنساء في مصر وليداً في المهد، ولم تتهيأ أغلبية العقول بعد للإقلاع عن المبدأ القديم الذي يقول إن المرأة لم تخلق إلا للدار وإنجاب الأطفال ويكفيها لقضاء مهمتها الخاصة اقل قسط من التعليم. وتحت تأثير هذا الزعم كان قبول الفتيات بالجامعة المصرية سنة 1928 بطريق الاحتيال والتآمر كما ذكر أحد رجالات التعليم في مصر في حفلة تكريم أولى خريجات الجامعات بدار الاتحاد النسائي في الشهر الماضي. والواقع، ما زال التعليم العالي للنساء في بلادنا نبتا يخشى عليه من تقلبات الجو السياسي وزوابع الآراء الرجعية بالرغم من إن النساء في البلاد الأوربية الراقية التي تحذو مصر حذوها في كثير من نواحي حضارتها، قد حصلن على هذا الحق منذ أكثر من ثمانين عاما.
ولما يخامر النفس من شكوك ومخاوف، على مستقبل التعليم العلي للمرأة المصرية، رأينا أن نتأهب للدفع، بعرض قضية المرأة اليوم على بساط البحث بادئين ببيان الغرض من التعليم العالي ثم يترتب عليه من نتائج بالنسبة للمرأة والمجتمع يمتاز التعليم العالي والصحيح الذي يتحرر فيها الطالب من كل القيد بكونه يهيئ مجالا واسعا لتكوين الشخصية ولإظهار المواهب بما إن من أول شروطه البحث المستقل والاطلاع الواسع والاعتماد على النفس في تكوين الآراء والوصول إلى النتائج تدعمها الحجج القوية والبراهين. كما إن من مزايا هذا التعلم أيضاً فيما لو سار على أسسه الصحيح، الاتصال بالمجتمع ودراسة أزمانه وظواهره المختلفة من سياسي واقتصادي وتدريب النشء على أعمال الجماعات والقيادة بان يشتركوا في تكوين الجمعيات الصغير للبحوث والألعاب والأغراض المختلفة التي تنشأ في ظل الجامعة. وبهذه الطريقة يعتادون العمل المشترك والتعاون وتضع فيهم النزعات الأنانية. وبذلك يصبحون أعضاء نافعين للمجتمع والإنسانية.
والمرأة أحوج ما تكون إلى مثل هذا التعليم الذي يتضمن كل هذه المزايا فلها عقل كعقل الرجل هو الفارق بينهما وبين الحيوانات غذاؤه الطبيعي العلومونموه وصقله في استقلالها واستثمارها وبما إن المرأة إنسان فلا يصح أن تمنعها الأمومة أو الحياة المنزلية من إن(29/44)
تستكمل أول ميزات الإنسان بان تستمتع بالتعليم العالي الوافي الطليق. . ثم إن المرأة في حاجة أعظم من حاجة الرجل إلى الناحية الاجتماعية من هذا التعليم فهي بسب انزوائها الطويل في عقر دارها وحرمانها من الاختلاط الحر وتناول الآراء قد عجزت عن تنمية الصفات الاجتماعية في نفسها. تلك الصفات التي يمتاز بها الرجل المثقف وهي الميل. إلى الأعمال المشتركة، وسعة الصدر في المناقشة والتفكير المتواصل الرصين ولو تحلت المرأة بتلك الصفات فوق ما تمتاز به من حنان ورقة لارتفع ولا شك مستوى المجتمع. لهنأت الحيات المنزلية. وتلك الصفات يمهد السبيل لا كتسابها التعليم العالي أو الجامعة، ففي أثناء هذا التعليم تختلط المرأة بأناس مختلفي الطباع والنزعات.، متنوعي الأفكار والمذاهب، فيداوي ما بها من نقص ونظرة محددة متأثرة بالمرغبات الشخصية إلى الأمور. . والواقع إن الحياة الاجتماعية في الجامعة لا تقل أهمية عن الحياة العلمية بما أنها تعد الطلاب للحياة العملية الراقية ولذلك اهتمت بها كل الاهتمام الجامعات العريقة مثل اكسفورد وكمبردج التين أخرجتا للعالم مهرة الساسة والمصلحين. . وقد يعترض معترض: وما شأن المرأة بهذه الأمور وهي لا ينتظر أن تكون من الأحكام أو الساسة الماهرين؟ حقاً إن المستقبل القريب لا يبشر بمثل هذا التقدم وان كنا لا نيأس من حصوله في وقت ما بلادنا أسوة بالبلاد الأخرى المتدينة ولكن الفتاة المصرية كما بينا تفتقر إلى الصفات الاجتماعية وفوق ذلك تعدها الحياة الجامعية الصحيحة لأن تقوم بنصيبها في ميدان الإصلاح وليس هنالك من يجهل نواحي النقص الكثيرة في بلادنا وقد جمع أحد مفكري الأمريكان الغرض من التعلم العالي للجنسين في قوله (إن من يصرح بان الثقافة وتحرير المواهب الفردية هما غرض التعليم الاعلى، لا يذكر في الواقع غير نصف الحقيقة فالتعليم يكون ناقصاً مبتوراً إذا استمر منفصلا عن معالجة الشؤون الاجتماعية، فهل بعد ذلك تحرم المرأة من التعليم العالي الذي ينمي مداركها ويجعلها أداة نافعة لإصلاح المجتمع خصوصا وأنها مطبوعة على التضحية، شديدة الحساسية، تؤثر فيها أثيرا بليغا مظاهر الشكوى والألم؟
تلك هي أغراض التعليم العالي ولم يبق إلا أن نذكر شيئا عن بعض نتائجه التي يتخذها أنصار التردد والهزيمة حجة ضد التعليم العالي للنساء: فهم يقولون مثلا: أو ليس من نتائج التعليم العالي للفتيات إذا صدقت الإحصائيات إن اكثر من 50 في المائة من المتعلمات(29/45)
تعليما عاليا في أوربا وأمريكا يحجمن عن الزواج ويفضلن حياة الإنتاج والكسب والاستقلال على الحياة المنزلية التي لا تهيئ لهن الميدان الكافي لاستثمار معلوماتهن بالذات فيقل عدد النسل ويضمحل إذ تترك تلك العملية الهامة لأغلبية من غير المتعلمات؟ ثم ألا تصبح أولئك المتمردات على الحياة البيتية عامل خطرا من عوامل الأزمات الاقتصادية إذ ينافسن الرجال في ميادين الأعمال فيزداد عدد العاطلين والمعوزين من الأسر؟.
إن مجرد النظر السطحي إلى مثل هذه الاعتراضات يظهر المرأة بمظهر الخارج على القوانين الطبيعية العامل على فناء النوع الإنساني ومضاعفة أخطار الأزمة الاقتصادية. ولكن الموضوع اخطر من أن نكتفي بالنظر السطحي إليه. لنسلم جدلا بان اكثر من 50 في المائة من خريجات الجامعات يحجمن عن الزواج عندما يجدن لذة كافية في الأمور العلمية واستثمار تعليمهن العالي. ولكن تسليمنا بذلك ما هو إلا تسليم بجانب من الحقيقة فقط، ويجب أن نذكر إنصافاً للمرأة وإقراراً للحق إن المرأة التي لا تتزوج تخدم المجتمع في الغالب بطريق مباشر، طريق الإنتاج والعمل وإصلاح المساوئ الاجتماعية فعمل المرأة البيولوجي لا يصل وحده بالمجتمع إلى الرقي والرخاء وإنما الإنسانية بحاجة إلى مجهودها الموفق واستغلال مواهبها خارج المنزل كما هي بحاجة إلى عملها الخاص داخله. أما ما يقال عن نتاج من يتزوج من المتعلمات تعليما عاليا وان كن الأقلية فهو أن العبرة بالنوع لا بالعدد، وبالكيف لا بالكم. فلو لم تتعلم النساء هذا التعلم لكنا حقا اكتسبنا زيادة في عدد الأطفال ولكنا من ناحية أخرى كنا نفقد الإضافة إلى الإنتاج العقلي والثروة المعنوية، والأطفال الممتازين الذين لا ينجبهم غير الأمهات المتعلمات تعليما عاليا.
أما المشكلة الأخرى وهي زيادة مزاحمة المرأة للرجل فيما لو تعلمت تعليما عاليا فيكفي أن نقول لهدم هذا الاعتراض انه ناتج عن أنانية الرجل فلو لم يكن الرجل أنانياً حقا لما عمل تضحية المزايا المعنوية التي تترتب على تعليم المرأة تعليما عاليا في سبيل الاستئثار بالمزايا المادية بأبعاد المرأة عن ميدان العمل بل هو قد يقدم على اكثر من ذلك فيعمل على أن يحرمها متعة التعليم العالي واللذة الروحية حتى يضمن عدم منافستها المادية في أحد الأيام. إن مثل هذا الاعتراض لا يتفق مع شهامة الرجولة ولا مع إقدام الرجل.(29/46)
الشافعي واضع علم أصول الفقه
للأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرزاق
أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب
- 7 -
أ - الدراسات الفقهية إلى عهد الشافعي. ب - أهل الرأي وأهل الحديث
ج - الشافعي بين أهل الرأي وأهل الحديث آثاره وكتبه
د - وضع الشافعي علم أصول الفقه
ومذهب الشافعي الجديد وصل إلينا فيما ألفه بمصر من الكتب وقد سرد البهيقي المتوفى سنة 458هـ - 1065 - 1066م كتب الشافعي ولخصها عنه ابن حجر في ص78
(الرسالة القديمة، ثم الجديدة - اختلاف الحديث، جماع العلم - أبطال الاستحسان - أحكام القرآن - بيان الفرض - صفة الأمر والنهي - اختلاف مالك والشافعي - اختلاف العراقيين - اختلافه مع محمد ابن الحسن - كتاب علي وعبد الله - فضائل قريش - كتاب الأم -. . .)
وعدة كتب الأم: مائة ونيف وأربعون كتاباً وحمل عنه حرملة كتابا كبيرا يسمى (كتاب السنن) وحمل عنه المزني كتابه (المبسوط) وهو المختصر الكبير والمنثورات وكذا المختصر - المشهور - قال البهيقي: وبعض كتبه الجديدة لم يعد تصنيفها وهي: الصيام - والصداق - والحدود - والرهن الصغير - والأجارة - والجنائز فانه أمر بقراءة هذه الكتب عليه في الجديد وأمر بتحريق ما يغاير اجتهاده قال: وربما تركه اكتفاء بما نبه عليه من رجوعه عنه في مواضع أخرى.
قلت: وهذه الحكاية مفيدة ترفع كثيرا من الإشكال الواقع بسبب مسائل اشتهر عن الشافعي الرجوع عنها وهي موجودة في بعض هذه الكتب.
ثم نقل ابن حجر: إن لأصحاب الشافعي من أهل الحجاز والعراق عنه مسائل وزيادات قال: وهذا يدل على إن (كتبا أخرى حملها عنه هؤلاء لان هذه المسائل ليست في الكتب المقدم ذكرها) وقد ترك ابن حجر في تلخيصه: كتاب (مسند الشافعي) ولا ندري: إن كان(29/48)
البهيقي قد تركه أيضاً أم لا؟ ويقول الرازي (ان كتابه المسمى (بمسند الشافعي) كتاب مشهور في الدنيا، ص146) كان اتجاه المذاهب الفقهية قبل الشافعي إلى جمع المسائل وترتيبها وردها إلى أدلتها التفصيلية عندما تكون دلائلها نصوصا.
وأهل الحديث لكثرة اعتمادهم على النص كانوا اكثر تعرضا لذكر الدلائل من أهل الرأي.
فلما جاء الشافعي بمذهبه الجديد كان قد درس المذهبين ولاحظ ما فيهما من نقص بدا له أن يكمله واخذ ينقض بعض التفريعات من ناحية خروجها عن متابعة نظام متحد في طريق الاستنباط.
وذلك يشعر باتجاهه في الفقه اتجاه جديدا هو اتجاه العقل العلمي الذي لا يعني بالجزئيات والفروع.
ويدل على إن اتجاه الشافعي لم يكن إلى تمحيص الفروع: ما نقله ابن عبد البر في (الانتقاء) من: إن احمد ابن حنبل قال: (قال الشافعي لنا: أما انتم فاعلم بالحديث والرجال مني فإذا كان الحديث صحيحا فأعلموني أن يكون كوفيا، أو بصريا أو شاميا اذهب إليه إذا كان صحيحا) ص75.
وطريقة علاجه لمسائل العلم تدل على منهجه قال أبو محمد بن أخت الشافعي عن أمه قالت: ربما قدمنا في ليلة واحدة ثلاثين مرة أو اقل أو اكثر المصباح بين يدي الشافعي، وكان يستلقي ويتذكر ثم ينادي الجارية هلمي مصباحا فتقدمه ويكتب ما يكتب ثم يقول: ارفعيه، فقيل لأحمد: ما أراد برد المصباح؟ قال: الظلمة أجلى للقلب. مفتاح السعادة ج2ص91.
وليس هذا النوع من التفكير الهادئ في ظلمة الليل تفكير من يهتم بالمسائل الجزئية والتفاريع.
بل يعني بضبط الاستدلالات التفصيلية بأصول تجمعها، وذلك: هو النظر الفلسفي.
قال ابن سينا في الشفاء (إنا لا نشتغل بالنظر في الجزئيات لكونها لا تتناهى وأحوالها لا تثبت وليس علمنا بها من حيث هي جزئية تفيدنا كمالا حكيما أو تبلغنا غاية حكيمة، بل الذي يهمنا هو النظر في الكليات).
وكان احمد يقول: الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة - واختلاف الناس -(29/49)
والمعاني - والفقه (الرازي ص35)
وقد حاول الشافعي: ان يجمع أصول الاستنباط الفقهي وقواعدها علما ممتازا وان يجعل الفقه تطبيقا لقواعد هذا العالم.
وبهذا يمتاز مذهب الشافعي من مذهب أهل العراق وأهل الحجاز.
د - وضع الشافعي لعلم أصول الفقه.
إذا كان الشافعي هو أول من وجه الدراسات الفقهية إلى ناحية علمية فهو أيضا: أول من وضع مصنفا قي العلوم الدينية الإسلامية على منهج علمي بتصنيفه في أصول الفقه، قال الرازي: اتفق الناس على: إن أول صنف في هذا العلم - أي علم أصول الفقه - الشافعي وهو الذي رتب أبوابه وميز بعض أقسامه من بعض وشرح مراتبها في القوة والضعف.
وروى: أن عبد الرحمن بن مهدي التمس من الشافعي وهو شاب أن يضع له كتابا يذكر فيه شرائط الاستدلال بالقران والسنة، والإجماع والقياس، وبيان الناسخ والمنسوخ ومراتب العموم والخصوص فوضع الشافعي رضى الله عنه (الرسالة) وبعثها إليه.
فلما قرأها عبد الرحمن بن المهدي قال: ما أظن أن الله عز وجل خلق مثل هذا الرجل ثم قال الرازي: واعلم: أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة (ارسططاليس) إلى علم (المنطق) وكنسبة (الخليل) بن احمد إلى علم (العروض).
وذلك لأن الناس كانوا قبل (أرسططاليس) يستدلون ويعترضون بمجرد طباعهم السليمة لكن ما كان عندهم قانون مخلص في كيفية ترتيب الحدود والبراهين.
فلا جرم. كانت كلماتهم مشوشة ومضطربة فأن مجرد الطبع إذا لم يستعن بالقانون الكلي، قلما أفلح. فلما رأى (أرسططاليس) ذلك اعتزل عن الناس مدة مديدة واستخرج علم (المنطق) ووضع للخلق بسببه قانونا كليا يرجع إليه في معرفة الحدود والبراهين.
وكذلك الشعراء كانوا قبل (الخليل بن احمد) ينظمون أشعارا وكان اعتمادهم على مجرد الطبع فاستخرج (الخليل) علم (العروض) فكان ذلك قانونا كليا في معرفة قانون الشعر ومفاسده فكذلك هنا الناس كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل (أصول الفقه) ويستدلون ويعترضون، ولكن مكان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة وفي كيفية معارضتها، وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي علم (أصول الفقه) ووضع للخلق(29/50)
قانونا كليا يرجع إليه في معرفة أدلة الشرع 00 ثم يقول الرازي: واعلم إن الشافعي صنف كتاب (الرسالة) ببغداد ولما رجع إلى مصر أعاد تصنيف كتاب (الرسالة) وفي كل واحد منهما: علم كثير ص 89 ـ102
ويقول (بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي) المتوفي سنة 749هـ 1391 ـ1392 في كتاب في أصول الفقه المسمى بالبحر المحيط (فصل): الشافعي أول من صنف في (أصول الفقه) صنف فيه كتاب (الرسالة) وكتاب أحكام القرآن واختلاف الحديث وأبطال الاستحسان وكتاب (جماع العلم ـ كتاب القياس ـ الذي ذكر فيه؛ تضليل المعتزله ورجوعه عن قبول شهادتهم)
ثم تبعه المصنفون في علم الأصول، قال احمد بن حنبل (لم نكن نعرف الخصوص والعموم حتى ورد الشافعي)
وقال الجويني في شرح الرسالة: لم يسبق الشافعي أحد في تصانيف (الأصول) ومعرفتها، وقد حكي عن ابن عباس (تخصيص عموم) وعن بعضهم (القول بالمفهوم) ومن بعدهم لم يقل في الاصول شئ ولم يكن لهم فيه قدم فانا رأينا كتاب السلف من التابعين وتابعي التابعين وغيرهم فما رأيناهم صنفوا فيه (من نسخة خطية بالمكتبة الأهلية بباريس)
ويقول ابن خلدون في المقدمة: (وكان أول من كتب فيه أي في (علم أصول الفقه) الشافعي رضي الله عنه أملى فيه (رسالته المشهورة) تكلم فيها في: الأوامر والنواهي، والبيان، والخبر، والنسخ، وحكم العلة المنصوصة، من القياس
ثم كتب (فقهاء الحنفية) فيه، وحققوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها، وكتب المتكلمون أيضاً) ص 397
وفي كتب (طبقات الفقهاء) للقاضي شمس الدين العثماني الصفدي: وابتكر الشافعي ما لم يسبق إليه من ذلك (أصول الفقه) فانه أول من صنف (أصول الفقه) بلا خلاف
ومن ذلك: (كتاب القسامة ـ وكتاب الجزية ـ وكتاب قتال أهل البغي) من نسخة خطية بدار الكتب الأهلية بباريس
ويقول صاحب كتاب (كشف الظنون): وأول من صنف فيه (الإمام الشافعي) ذكره الأسنوي في التمهيد وحكى الإجماع فيه ص 334(29/51)
والباحثون في هذا الشأن من الغربيين يرون في (الشافعي) واضعاً (لأصول الفقه) يقول (جولد زيهر) في مقالته في كلمة (فقه) في دائرة المعارف الإسلامية: (واظهر مزايا محمد بن إدريس الشافعي): انه وضع نظام الاستنباط الشرعي من أصول الفقه وحدد مجال كل أصل من هذه الأصول وقد ابتدع في (رسالته) نظاما للقياس العقلي الذي ينبغي الرجوع إليه في التشريع من غير إخلال بما للكتاب والسنة من الشان المقدم ريث الاستنباط من هذه الأصول ووضع القواعد لاستعمالها بعدماكان جزافاً).
على أنا نجد في كتاب الفهرست في ترجمة (محمد بن الحسن) ذكر كتاب له يسمى (كتاب أصول الفقه).
ويقول الموفق المكي في كتابه (مناقب الإمام الأعظم) نقلا عن طلحة بن محمد بن جعفر؛ إن ابا يوسف أول من وضع الكتب في (أصول الفقه) على مذهب أبي حنيفة ج 2 ص245 ونقل ذلك طاش كيري زاده في كتابه (مفتاح السعادة) ج 2 ص 102
ولم يرد كتاب في هذا العدد فيما أورده صاحب (الفهرست) لأبي يوسف من الكتب وإذا صح. إن لأبي يوسف أو لمحمد كتاباً (في أصول الفقه) فهو فيما يظهر كتاب لنصرة ما كان يأخذ به أبو حنيفة ويعيبه أهل الحديث من الاستحسان.
وقد يؤيد ذلك، إن صاحب (الفهرست) ذكر في أسماء كتب أبي يوسف. كتاب الجوامع ألفه ليحيى ابن خالد يحتوي على أربعين كتاب، ذكر فيه اختلاف الناس والرأي المأخوذ به ولم يكن فيه طبيعة مذهب أهل الرأي الذين كان من همهم؛ إن يجمعوا المسائل ويستكثروا منها، النزوع إلى تقييد الاستنباط بقواعد لا تتركه متسعا رحبا على إن القول بان أبا يوسف هو أول من تكلم في (أصول الفقه) على مذهب أبي حنيفة لا يعارض القول بان الشافعي هو الذي وضع (أصول الفقه) علما ذا قواعد عامه يرجع إليها كل مستنبط لحكم شرعي وقد لا يكون بعيدا عن غرض (الشافعي) في وضع (أصول الفقه): إن يقرب الشقة بين أهل الرأي وأهل الحديث ويمهد للوحدة التي دعا إليها الإسلام.(29/52)
صفي الدين الحلي
- 3 -
(تتمة)
كانت مصر إذ رحل إليها الشاعر في عهد زاهر مثمر من اكثر نواحي الحياة، فهبط إليها كما يهبط الطائر الصادي على الروض الندى اليانع؛ ينهل من موارده في شوق ويتنقل على دوحاته في طرب، ثم ينثني عنه وقد ارتوى إلى وطنه شاديا مترنما!
فقد أصبحت بعد إن شل المغول عرش بني العباس وأسدلوا على بغداد الستار، مركز الثقافة الإسلامية الأكبر وموئلها الحصين، تنهض فيها جامعة الأزهر والمدارس الأخرى بأعباء الرسالة العظمى للعلم والأدب، وتشترك سلاطينها بأيدٍ عاملة نشيطة في تعضيد هذهالحركة وتغذية روحها بعوامل القوة؛ بما تحدثه من المدارس وما تغدقه في كرم على العلماء والأدباء من هبات وصلات.
وكان عصر السلطان الناصر بن قلاوون من خير عهود دولة السلاطين الأولى؛ إذ كان السلطان نفسهـ كما يقول السير وليم موير - (مثقفاً ثقافة عالية، درس علوم الفقه والقانون ونال شهادة فيها فكان يحب العلم والعلماء ويشاركهم في كل أمر يفيضون فيه) وكثيرا ما يكون الملوك المثقفون نعمة على رسل الثقافة لما يملكون من حسن التقدير لأعمالهم، وصدق الشعور بحلاوةثمراتهم، وقد روي عنه انه اقطع أبا الفداء المؤرخ الشهير ولاية حماة تقديراً لمكانه وجزاء لما قدمه إليه من معونة في بعض الحروب. وفي عهده كانت مصر تنعم بشيء من راحة الظافر بعد أن شلت حركات المغول وأنقذت الشرق العربي من بين براثنهم المسمومة، وبعد أن طاردت حملة الصليب المستكلبين في هدم الإسلام والشرق، وقذفت بهم في قوة إلى البحر! ولكنها مع ذلك لم تكن تغفوا عن حراسة هذا الملك وقطع أذناب العدو كلما امتدت اليه، وهو ملك شاسع مترام يمتد ما بين الفرات والحجاز وآسيا الصغرى وجنوب النوبة، ولما كانت إذ ذاك لا تزال طريق التجارة والرحلة بين أوربا والشرق قبل أن يكشف رأس الرجاء الصالح، وعرفت مصر كيف تستغل هذا المورد الثرى أحسن استغلال، وكانت تجبى إليها ثمرات تلك (العاهلية) الكبرى، فقد حازت من المجد المالي ما يمكنها من مواصلة السير في طريق مجدها العلمي والحربي.(29/53)
لذلك لا نعجب أن نرى القاهرة حينذاك تموج بوفود رجال العلم والأدب فتحسن وفادتهم، وان نسمع صفى الدين وقد أقبل إليها فانتظم زمنا في حاشية الملك الناصر يصوغ آيات المدح لمصر ومليكها، ويعود إلى وطنه فيلهج بأجمل الذكريات لما لقي فيها من روعة الكرم وحسن الضيافة. وقد اتصل أثناء أقامته في مصر بحلقاتها الأدبية التي كان يمثل زعامتها الكتابية (علاء الدين بن الأثير) رئيس ديوان الإنشاء، وزعامتها الشعرية (جمال الدين بن نباتة) الأديب الشهير، وتوثقت بينهم جميعا روابط الصداقة والإخلاص، فلم يفتأ بعد رحيله يتراسل معهم في مساجلات أدبية ممتعة تعبر عن عواطف الشوق ويعترف في إحداها بزعامة ابن نباتة لجميع الشعراء
والآن نستعرض إحدى قصائده التي تجمع بعض هذه الأمور، وقد قالها يوم احتفال مصر بيوم الخليج وابتدأها بوصف الربيع في مصر:
خلع الربيع على غصون البان ... حللا فواضلها على الكثبان
وتتنوجت هام الغصون وضرجت ... خد الرياض شقائق النعمان
وتنوعت بسط الرياض فزهرها ... متباين الأشكال والألوان
والظل يسرق في الخمائل خطوه ... والغصن يخطر خطرة النشوان
وكأنما الأغصان سوق رواقص ... قد قيدت بسلاسل الريحان
واستمر هكذا في أوصافه الجميلة التي يعبر بها عما أودعته طبيعة مصر الفاتنة في نفسه حتى قال:
إني وقد صفت المياه وزخرفت ... جنات مصر وأشرق الهرمان؟
واخضر واديها وحدق زهره ... ونيل فيه ككوثر بحنان
وبه الجواري المنشآت كأنها ... أعلام بيد أو فروع قنان
نهضت بأجنحة القلوع كأنها ... عند المسير تهم بالطيران
والماء يسرع في التدفق كلما ... عجلت عليه يد النسيم الواني
وأخذ بعد ذلك يصف السلطان بقوة والفصاحة والسيادة على جميع الملوك، وليس الملوك في الحقيقة إلا مظاهر للأمم من أكثر الوجوه، فإذا كانوا أقوياء أو كرماء فما ذلك إلا فيض أممهم ومنحة رعاياهم، وإذن فكل مدح للملك إنما يتجه إلى الأمة التي أكسبته أسباب المدح(29/54)
ووهبته ما يتيه به من أثواب المجد. ونود أن نشير هنا إلى أن مصر لم تكن تنظر إلى سلاطينها الذين كانوا في الأصل مماليك إلا بعين التجلة؛ لأنها كانت إذ ذاك تفهم معنا الوطنية كما يقرره الإسلام، دينها الذي تعتز به، وهو دين ديمقراطي حر يأمر أهله ألا يأنفوا من الحاكم المسلم العادل ولو كان عبد حبشياً. كذلك لم يكن هؤلاء السلاطين في نظر مصر إلا جنداً مسلمين تربوا في أرضها ودافعوا طويلاً عن مجدها ثم ارتقوا باستيلائهم على شؤونها الحربية إلى عرش الملك، فرضيت بهم وعهدت إليهم بتمثيل قوتها في السياسة والعلم والحرب، فمثلوها احسن تمثيل، ثم لما فرغ دورهم أرخت عليهم السدول وبقيت مصر هي مصر الخالدة.
ومما قاله صفي الدين في أحدهم وهو الناصر المذكور:
لا عيب في نعماه إلا أنها ... يسلو الغريب بما عن الأوطان
شاهدته فشهدت لقمان الحجا ... ونظرت كسرى العدل في الإيوان
وشهدت منه فصاحة وسماحة ... أعدى بفيضهما يدي ولساني
ملك إذا اكتحل الملوك بنوره ... خروا لهيبته إلى الأذقان
وقال:
أبقا قلاوون الفخار لولده ... إرثاً وفازوا بالثناء مكسبا
قوم إذا سئموا الصوافن صيروا ... للمجد أخطار الأمور مراكبا
عشقوا الحروب تيمنا بلقا العدا ... فكأنهم حسبوا العداة حبائبا
وكأنما ظنوا السيوف سوالفا ... واللدن قدا والقسىّ حواجبا
يا أيها الملك العزيز ومن له ... شرف يجر على النجوم ذوائبا
أصلحت بين السلمين بهمة ... تذر الأجانب بالوداد أقاربا
وحرست ملكك من رجيم مارد ... بعزائم أن صلن كن قواضبا
كان لصفي الدين قدرة فائقة في رسم المناظر الأخاذة بدقة الفني وتأثر الشاعر، وذلك لما وهبه من ميزتين عظيمتين: إحداهما دقة النظر وصدق المشاهدة، والأخرى قوة الابتكار والتخيل. فقد كان يدرك بالأولى جزئيات الأمور ونواحي المناظر التي تخفى على غير الموهوب، ثم يتولى خياله ما أدركه فيحكم نسجه ويضفي عليه الوانه، ويزيد فوقه نقوشه،(29/55)
فإذا بوصفه قطعة فنية رائعة تثير الإعجاب.
قام الشاعر برحلات عدة كما ذكرنا قبل، في صحاري العرب والشام ومصر، وانتظم أزمنة طويلة في حواشي الملوك الذين كان لهم غرام وشغف بالنزه الخلوية في أودية حماة والحلة وماردين فكان ذلك داعيا لشدة قربه من الطبيعة ومذكيا حبه لها، ولما كان بفطرته يملك نفسا شاعرة فقد استجاب دعوة الجمال واخذ يرصد الطيور حائمة في الجو، والوحوش هائمة في الصحراء، والحيوان الأليف والسائم ينقش صورها جميعا في شعره نقش المصور الماهر، وفي ديوانه أمثلة كثيرة لكل هذه الأوصاف.
ومن مظاهر أوصافه الدقيقة أيضاً وصفه للخمر ومجالس الندامى، فان الصفي كان رجلا طروبا متهافتا على موارد اللهو والسرور، يشرب من لذائذه الكؤوس الدهاق: يعاقر الخمر ويعشق النساء والولدان ويختال بين الرياض، ويتجول في الصحراء؛ غير آبه لما حرم من اللذة أو حل، وذلك لأنه اتخذ لنفسه مذهبا خاصا في فهم أحكام الدين يطاوع هواه كل المطاوعة، وقد عبر عن هذا المذهب بقوله:
فارتكب اجمل الذنوب لنفع ... واعتقد في ارتكابه التحريما
ثم تب واسأل الإله تجده ... لذنوب الورى غفورا رحيما!
وتمادى في هذا المذهب حتى احل الخمر صراحة فقال:
نهى الله عن شرب المدام لأنها ... محرمة إلا على من له علم
وذاك بقدر الشاربين وعقلهم ... ففي معشر حل وفي معشر حرم
ولو شاء تحريما على كل معشر ... لقال رسول الله لا يغرس الكرم!
ولو صدق هذا المنطق المموه لكان العلم رخصة مؤذنة لأهله أن يرتكبوا كل لذة أثيمة، ولأنه قد مارسها فعلا واغتبق من كؤوسها واصطبح، عرف كيف يتغزل في محاسنها ويصف آثارها بمهارة تشهد له بالقدرة الفنية. ومما قاله:
سلاف تميت العقل في حال شربها ... وتنعش منها الروح والجسم والقلبا
محجبة وسط الدنان ونورها ... يمزق من لألاء غرتها الحجبا
إذا مسها وقع المزاج تألمت ... وأزبد منها الثغر وامتلأت رعبا
واعجب من بكر لها الماء والد ... وترجع إني رام تقبيلها غضبى(29/56)
هي الشمس إلا أنها في شروقها ... إذا مزجت في كأسها اطلعت شهبا
يعض عليها التائبون بنانهم ... ويندب كل منهم عقله ندبا
وعلى كل فلا يتردد المرء بعد أن يقرا أوصاف الحلي أن يحكم له بان مرتبته في الصف الأول من شعراء الوصف في الأدب العربي أما الغزل فقد كبا فيه جواده وخانه ذكاؤه إذ العقل لا يغني وحده في هذا الميدان، وإنما مرد الأمر إلى القلب الخفاق والعاطفة المشبوبة، وشاعرنا لم يكن من فئة المحبين الذين يؤمنون باتصال الوجدان ويظلون في نجواهم باكين من هول الذكرى وألم الهجر وإنما كان رجلا حسيا يعترف حقا باللذائذ المادية ليس غير.
لهذا كان غزله قسمين متباينين، أولهما الغزل النسائي المألوف، والثاني غزل الولدان أو ما يسمونه بالغزل المذكر، ونأسف إذا نقول إن النوع الثاني كان ارق وأصفى وأدل على الصدق من الأول، ولكنا لاندهش كثيرا إذا ذكرنا مبادئه الخلقية التي وصفناها قبل؛ ويلوح لنا إن هذا الانحلال الخلقي لم يكن قاصرا عليه وحده وإنما كان ظاهرة عامة للولاة والأمراء الذين يستقلون في أطراف المملكة ببعض المناطق؛ لان وفرة المال وتحقق أسباب النعيم مع قلة الشواغل الادارية، كانت تغريهم بالعكوف على الملاهي والتمادي في الإباحة. أما غزله الأول ففيه جفاف وتكلف وترى عليه سمات التقليد واضحة ومما قاله في مذهبه:
خلياني من فترة النسوان ... وانعشاني بنشطة الغلمان!
ليس يصبو لربة الخال قلبي ... بل برب الأقراط جن جناني!
تلك هي الأغراض البارزة التي تستحق الدراسة في شعر صفي الدين، أما الأغراض الأخرى فهي لا تخرج عن السبل التي طرقتها إخوتها، وجملة القول فيها إن الزهد والألغاز ليسا إلا مثلين من التقليد والتكلف، لان الرجل كما عرفنا كان متهتكا مسرفا، وإنما أراد إن يعارض قصائد ابن الفارض وأمثاله من المتصوفة المخلصين، ولان نوع الألغاز ابعد ما يكون عن معنى الشعر. وهو، وان أجاد في الرثاء حقا، وأبدع في تصوير فجائع الموت!، نستطيع أن ندرك إجادته فيما درسنا من مدحه، لان معناهما واحد وان اختلفا في مناسبة كل منهما مع الحياة أو الموت. غير انه أتى في باب الحكمة بكثير من التجارب الصادقة وآداب الاجتماع، فلم يبقى إذن غير المجون وهي ما نستميح القارئ أن يعفينا منه صونا لحياء القلم وحرصا على وقار (الرسالة).(29/57)
(وبعد) فهذه شخصية كبيرة تجمع بين الوسامة والدمامة، ولكنها في جملتها جديرة بالخلود، على أنها آية بينة تقرر إن الأدب العربي قد ظل بعد موت بغداد يتنسم الحياة قويا ناظرا؟
دار العلوم
ضياء الريس(29/58)
من طرائف الشعر
النشيد!
للشاعر الوجداني علي محمود طه
عندما ظلَّلني الوادي مساء ... كان طيفٌ في الدجى يجلس قربي
في يديه زهرةٌ تقطر ماء ... سَمِعَتْ أذني بها أنَّاتِ قلبي!
قلت من أنتَ؟ فلباني مُجيبا ... نحن يا صاحِ غريبان هنا!
قد نزلتُ السهلَ والليلَ الرهيبا ... حيث ترعاني وأرعاك أنا!!
قلت يا طيفُ أثرت النفس شكا ... كيف أقبلت وقلْ لي من دعاكا؟
قال أشفقتُ من الليل عليكا ... فتتبعتُ إلى الوادي خطاكا!
ودنا مني وغنَّاني النشيدا ... فعرفت الصوت واللحن الشجيا
هوَ حبِّي هام في الليلِ شريداً ... مثلما هِمْتُ لنلقاك سويَّا!
وتعانقنا وأجهشنا أنيناً ... وانطلقنا في حديثٍ وشجونْ
ودَنا الموعدُ فاهتجنا حنينا ... وتنظرناكَ والليلُ عيونْ
أقْبَلَ الليلُ فأقبَلَ مَوهنا ... والتمس مجلسَنَا تحت الظلالِ
وافِنِي نصدحْ بألحان المنى ... ونعُبُّ الكأسَ من خمر الخيال
أقبِل الليلةَ وانظر واسمعِ ... كلُّ ما في الكونِ يشدو بمزاركْ
جِئتُ بالأحلامِ والذكرى معي ... وجلسنا في الدجى رهن انتظاركْ
سترى يا حسنُ ما أعددتُه ... لك من ذخرٍ وحسن ومتاعْ
هو قلبي في الهوى ذوبتهُ ... لك في رفَّاف لحنٍ وشعاعْ
وهو شعرٌ صَوَّرَتْ ألوانه ... بهجةَ الفجر وأحزانَ الشفقْ
ونشيدٌ مَثَّلَت ألحانهُ ... همساتِ النَّجم في أذن الغَسق
ذاك قلبي عارياً بين يديك ... أخذتْه منك روعاتُ الإله
فتأملْه دماً في راحتيك ... وذَماءً منكَ يستوحي الحياه
باكيَ الأحلامِ محزونَ المنى ... ضاحك الآلام بسَّامَ الجراح
لم يكن إلاَّ تقيَّا مؤمناً ... بالذي أغرى بحبيكَ الطماح(29/59)
يتمنى فيكَ لو يفنى كما ... يتفانى الغيمُ في البحر العُباب
أو يُلاشي فيك حياً مثلما ... يتلاشى في الضحى ومض الشهاب
زهرةٌ اطلعها فردوسُ حبك ... استمدت نورَها من ناظريك
خفقت أوراقُها في ظلِّ قربك ... وسرت أنفاسُها من شفتيك
هي من حسنكَ تحيا وتمون ... فاحمها يا حسنُ إعصارَ المنون
أولِها الدفَء من الصدر الحنون ... أو فهبها النورَ من هذي العيون
دمعُها الأنداءُ والعطر الشَّجا ... وصدى أناتها همسُ النسيم
فاحبُها منكَ الربيعَ المرتجى ... تصدح الأيامُ باللحن الرخيم
لو أمكنتني فرصة!
ريان من ماء الحياة ... وسرها في وجنتيه
كالجدول المفتون في ... وشى الرياض أنبيه
غنَّى بلحن مسكر ... وبلابل الوادي لديه
لا يرتوي منه الظما ... ء ولا ترى طيراً عليه
ومن العجائب أن ترى ... ناراً تشب بوجنتيه
فتثير نيراناً بقلبي ... كلما أرنو إليه
لو أمكنتني فرصة ... أطفأتها من شفتيه
شرق الأردن
حسني فرير
إبليس
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
أسرفتَ يا إبليس في الوسواس ... فأعوذ منك بربِّ هذا الناسِ
أغويتني من بعد ما استدرجتني ... مستحوذاً حتى على أنفاسي
حسَّنت في عيني الشرور فجئتها ... وضممتُ أرجاساً على أرجاسِ(29/60)
ونفذت في أعماق قلبي فاتحا ... حتى ملكت منافذ الإحساس
فتعاورتني للشكوك وساوس ... سودٌ وعافت مجلس جُلاّسي
أفرغت قلبي من رِضى يقينه ... وملأت بالشكّ المبرّح راسي
من بعد ما جرَّعتني مر الأسى ... أترعت بالمصل المخدر كأسي
إبليس ما أشركتني في صفقة ... إلا قضيت عليَّ بالإفلاس
إبليسُ أنت وليُّ كل ذوي الهوى ... إبليس انك في الولاية قاس
لم يبقى مما كان لي قبلاً سوى ... ثوب كخائبة المُنى أدراس
تُلقِي العداوةَ موغراً بين الورى ... فتثير أجناسا على أجناس
لو اعتقدتَ بهم شعوراً في الردى ... لتبعتَهم تغوى إلى الأرماس
تُذكي الحروب وأنت فيها سالم ... مما يضر بالنفس الأحلاس
أتعستَ أقواماً لتسعد غيرهم ... والشر كل الشر في الإتعاس
كوخٌ حقيرٌ ثم قصرٌ شاهقٌ ... ومآتمُ في جانب الأعراس
لا تسترح وأنت عنهم في غنًى ... حتى توسوس في صدور الناس
مالي سوى دمعٍ يفيض ندامةً ... ما سوف أكتبه على القرطاس
ذكريات في الجزيرة
للأستاذ الحاج محمد الهراوي
لي في الجزيرة ذكريات كلما ... خطرت تهز من الحنين فؤادي
فلقد لبست الغيّ في شرخ الصبا ... ومضيت طوع مراده ومرادي
وشربت من كأس الهوى وأبحته ... وعصيت فيه رويتي وسدادي
أيام انعم بالشباب وبالمنى ... ولقاء من أهوى على ميعاد
نلهو ونمرح، والهوى ما بيننا ... نجوى يراوح بيننا ويغادي
تتحدث العينان في لحظيهما ... عما يحز الشوق في الأكباد
متجاذبين ما حديث صبابة ... ولذيذ وصل بعد طول بعاد
متبادلين على الشراب ونقله ... قبلات شوق في عناق وداد(29/61)
فوق الغدير وبين أزهار الربى ... في ظل غصن الدوحة المياد
نخشى النسيم تشي بنا خطرات ... إن مر بالعذال والحساد
مستأثرين نغار من عبث الصبا ... ونخاف جامحة الزمان العادي
متعانقين نهيم في وادي الكرى ... متيقظين على الحمام الشادي
متساقيين من الرضاب، وانه ... خمر الهوى في غيه المتمادي
تمضي بنا الساعات لا ندري لها ... كيف انقضت في يقظتي ورقاد
فدع الهوى العذري بعد زمانهم ... ما مر من زمن فغير معاد
جمح الشباب وما ثنيت عنانه ... وجرى، وما من وازع أو هاد
فإذا الغواية موبقات كلها ... تأتي على الأرواح والأجساد
فغسلت بالحج المبارك حويتي ... ورجعت حين رجعت في الزهاد
ولقد مررت على الجزيرة لا كلما ... عهدته في غي مع الوراد
فإذا بها وكأنها حجت معي ... أو أننا عدنا معاً لرشاد(29/62)
بين الموسيقى الشرقية والغربية
- 1 -
تقوم الآن حركة طيبة في الأوساط الموسيقية، غايتها النهوض بالموسيقى الشرقية إلى المستوى الذي يلق بها كفن له آدابه وأوضاعه وأصوله. وكان طبيعيا أن تتشعب الآراء، وتنوع الأفكار، والمدار هو الكيفية التي بها ترتفع الموسيقى الشرقية إلى مكانتها.
وسمعنا أثناء ذلك اسم الموسيقى الغربية تلوكه الألسن وتتجه إليه الأفكار كأنه الغاية التي إليها نتجه، والمستوى الذي إليه نرتفع، غير إن هناك السناً لم تنطق به وأنظاراً لم تتجه إليه، بل بقيت رابضة في وكرها لا تحيد عنه. وبين هذه وتلك تقف الفكرة الأساسية مترددة محجمة، وان سارت ففي خطى بطيئة متمهلة.
وقد رأيت أن اجمل في نقط بسيطة غير مركبة، أهم الاختلافات التي بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية، وذلك بأن أضع أمام القراء صورة حقيقية للأصل الذي أتكلم عنه، وان اقسم تلك الفوارق التي بينهما تقسيما منظما صحيحا لتكون أمام من يطلع عليها صورة مرتبة غير مشوشة، مع اختصاري قدر ما اصل إليه.
فمن رأى هذه الكلمة خلوا من الإفاضة والشرح فليعذرنا فلسنا نكتب كتاباً ليحفظ ويكون حجة ومرجعاً، وإنما هو مقال يجمع بين الفائدة والترويح، وعلينا العهد عندما نريد أن نكتب كتاباً أن نراعي الدقة جهدنا وان نختصر فيه أو نجمل.
تنقسم الفروق بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية إلى ناحيتين رئيسيتين، الناحية الأولى: وهي الناحية العامة، وفيها تظهر روح كل موسيقى وترتيبها وموافقتها لأخيلة وأمزجة مؤلفيها، ومناخ البلاد التي وضعت فيها وما لها من رقي وانحطاط، وهذه الناحية قد يكتب فيها الأديب المطلع كما يكتب الموسيقي، ولعل الأديب يكون اكثر توفيقاً في الشرح والوصف. أما الناحية الثانية فهي التي تتناول الناحية الفنية من بحث الأغراض التي يذهب إليها التأليف إلى اختلاف الأنغام إلى طريق التلحين، ثم إلى شرح الأوزان والمقاييس وما إلى ذلك من أقسام تتصل بالموسيقى من ناحيتها الفنية. وهي الناحية التي أرجو أن اقصر عليها عنايتي وان أستطيع توضيحها وتقريبها إلى الإفهام.
الموسيقى كأدب اللغة صورة ناطقة حية للعصر الذي وضعت فيه، والأمة التي نشأت منها،(29/63)
وتكاد أغراض الموسيقى تشابه الأغراض التي يذهب إليها أدب اللغة في كثير من الحالات، (فالموسيقى الحماسية) هي التي توضع إما لتعبر عن عاطفة قومية وطنية أو لتثير الحمية والإقدام في النفوس، وهي تكون تلحينا لأناشيد كنشيد المرسليين الافرنسي ونشيد اسلمي يا مصر. المصري ونشيد الجمهورية التركية، أو تكون في موسيقى صامتة في (مسير الحرب) لشوبرت أو (مسير الحرية) لصوصة ولعل هذا النوع من الموسيقى الصامتة في الموسيقى الشرقية غث لا قيمة له لا يكاد يبعث حماسة أو يوقد حمية إذا استثنينا بعض المسيرات الحربية التركية. يلي هذا النوع من الموسيقى، موسيقى اللهو والمراقص، وهي التي تعزف في الحانات ودور اللهو والتي يرقص على أنغامها الراقصون والراقصلات، وهذا النوع من الموسيقى هو أساس الموسيقى الشرقية قديماً وما زال متصلا بها إلى الآن وإن كان التهذيب قد ادخله في كثير من نواحيه. أما في الموسيقى الغربية فالتطور عكسي فبعد أن كان هذا النوع في بدء النهضة الموسيقية راقياً فنياً من نوع الكلاسيك صار يتدهور حتى الحرب العظمى فسقط سقوطاً شنيعاً واصبح خلواً من أي شاعرية أو فن والآن أتكلم عن الموسيقى الدينية فهي في الموسيقى الغربية أساس باقي الانواع، فمن معابد روما وهياكلها انتشرت الموسيقى الدينية قي العالم الغربي، وكان رجال الدين في أول أمرهم يقاومون تسرب موسيقاهم إلى الخارج بكل شدة، وكانوا يحافظون عليها كل المحافظة ولكنها ذاعت وانتشرت رغم كل حيطة أو صد، وكل من حملوا علم النهضة الموسيقية كانوا في بدء اشتغالهم بالموسيقى يدخلون الكنائس منتظمين في سلك المنشدين أو لاعبي الأرغن وبعد مضي مدة على اشتغالهم وتمرينهم كانوا يخرجون فينشرون تلك الروح التي تأثروا بها في فجر حياتهم الفنية، واذكر من هؤلاء النوابغ شوبرت مؤلف أوبرا فيرا براس، فقد كان أحد المنشدين بكنيسة ليتشتنتال وهاندل مؤلف (نيرو) و (الميرا) و (وراد ميستر) كان عازفا على الأرغن في كنيسة جويرتزبرج ونشأ هايدن في كنيسة القديس اسطفان بفينا. وكانوا جميعا عندما تنضج أرواحهم وتكمل فيهم بوادر النبوغ، يتمردون على الكنيسة ويخرجون إلى العالم الحر الطليق لتحلق أرواحهم في فضائه متحررة من القيود التي فرضت عليها في المعابد. واعظم القطع الدينية هي (الأوراتوريو) التي منها نشأت (الأوبرا). أما في الموسيقى الشرقية فكيان الموسيقى الدينية(29/64)
متهدم لا أساس له، هذا باستثناء الهند والصين فان لموسيقاهم الدينية طابع من الرهبة العميقة والتأثير ومن اكبر مؤلفيهم الموسيقيين (تاجور)، أما في الإسلام فالموسيقى تكاد تكون بدعة لا تحليل لها وان كان هناك شيع وطرق تقيمها في أذكارها فهي منظور إليها نظرة بغيضة، وان كنا لا نستطيع أن نغفل ذكر (المولوية) ومركزهم الموسيقى بين موسيقى الأتراك القدماء. وأما الديانة القبطية فللكنائس تراتيلها وأناشيدها ولكنها على حال من السذاجة الفطرية لا تجعل لها أهمية من الوجهة العملية وإن لم تخل من خطرها في التاريخ الموسيقي فهي اصل موسيقى العالم إذا وصلنا موسيقى القبط بموسيقى الفراعنة. ننتهي من الموسيقى الدينية لنتكلم عن الموسيقى التمثيلية، فهي ركن هام من أركان الموسيقى لا يشتغل به إلا منأوتي قدرة واستعداداً خاصا، فكثيرون من نوابغ الموسيقيين الغربيين من أوتوا في أنواع كثيرة من الموسيقى حظاً وافراً ولكنهم لما وصلوا إلى الموسيقى التمثيلية رأوا انهم لا يستطيعون أن يضربوا فيها بسهم وخير مثال لنا هو (بتهوفن) الخالد فقد حاول محاولة واحدة في الموسيقى التمثيلية هي (اوبرا فيدليو) رأى بعدها انه ليس من رجالاتها فرجع إلى السينفوني والسونات واعظم من وضع في الموسيقى التمثيلية الغربية هو (فاجنر) اله الأوبرا و (لوهنجرين) (ودانهوزر) ومقطوعاتهم تشهد لما نقول أما في الموسيقى الشرقية فلم يعرف هذا النوع إلا حديثا وما زال في مهده لم يشب عن الطوق. بقي أمامنا بعد ذلك آخر قسم وهو قسم الموسيقى التصويرية وهو في رأينا اجل الأقسام أخطرها ويكون عادة موسيقى صامتة تصور وتشرح مختلف العواطف والمناظر والمؤثرات ومن أوائل من بدأوا بعمل السيمفوني التصويرية (هايدن) ثم (موزارت) ثم سيدهم أجمعين (بتهوفن) وفي الحق يمكننا بوجه عام اعتبار كل أنواع الموسيقى تصويرية، إذ الموسيقى كالشعر يعبر كل بيت منها أو قصيدة عن فكرة أو يصف موضوعاً، ويستثنى من ذلك (الدراسات) الخاصة وهي التي يطلقون عليها اسم فإنها تكون عادة لدراسة النغم في دائرة قواعده وأصوله
والموسيقى الشرقية خلو من الموسيقى التصويرية، وما جلها إلا دراسات الأنغام ولا يمكن اعتبار البشارف والسماعيات والبستات إلا نوعا من تعبر عن فكرة أو تصف موضوعا
ولعل معترضاً يقول، أو ليس ذلك الراعي الجالس على حافة الغدير أو وسط المراعي ينقل(29/65)
أصابعه على مزماره وهو يرعى غنمه فيبعث أنغاماً هي السحر تأثيراً؛ أليس يصور بأنغامه ما يجيش بصدره من عواطف وآمال وما يتلاعب بفؤاده من أميال وافكار؛ واليس يصور بأنغام مزماره ذلك الغدير بعذوبته وتلك المراعي بخضرتها ونضارتها، وما إلى ذلك من تصوير. هذا هو الحق ولكنه تصوير ساذج ضعيف إلا أن جعلنا من مصوري القرية الذين يرسمون صور عودة الحجاج وما شابه ذلك مصورين لهم خطرهم وأهميتهم ولكن في الموسيقى الشرقية الحديثة، هناك من قام بمحاولات في هذا النوع علها تسير إلى التقدم بعد في مهدها.
والآن نتكلم عن الفروق بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية من الوجهة العامة فأول ما نلاحظه هو تعدد النواحي التي ذهبت إلى التعبير عنها الموسيقى الغربية واقتصار الموسيقى الشرقية على نوع يكاد يكون واحد، ويشبه ذلك شعر أمتين، تناول في الأول كل ما تذهب إليه أغراض الشعر من وصف وغزل ومدح وهجاء ورثاء. . .، واقتصر الثاني على غرض واحد لا يتعداه من تلك الأغراض.
كذلك الأمر في الموسيقى الشرقية. لم تعد كونها موسيقى لهو ومرقص وهي تكاد تقصر نفسها على هذا اللون فقط لا تبدله ولا تنهض عنه بينما نجد إن للموسيقى الغربية مذاهب وأغراضا متعدد متلونة لا يكاد ينتهي منها الباحث. ولعل ذلك راجع كما أرى إلى إن نشأة الموسيقى الشرقية لم تكن بالنشأة اللائقة بها كفن سام له آدابه، فهي قد نشأت في بلاد الفرس والعرب بين الموالي والقيان وفي الحانات التي كان ارتيادها محرما على ذوي المكانة الأدبية. مع إن بعضاً من الخلفاء قد اهتموا بأمر الموسيقى وعطفوا على المشتغلين بها فان ذلك كان ليرفهوا عن أنفسهم في مجلس شراب وانس لا مجلس جد واحترام وظل الأمر كذلك حتى انتقلت الخلافة إلى الأتراك فابتدأت الموسيقى ترفع رأسها لتحل محلها الذي كان ينبغي لها إن تحله من قبل. وكان ذلك باشتغال سلاطين آل عثمان أنفسهم بالموسيقى وما زال (سوزدلار بيشروي) - تأليف السلطان سليم - خليفة المؤمنين آية من آيات الموسيقى الشرقية.
وما يؤسف له حقاً، إن التراث الفني للموسيقى العربية قديما مفقود، إذ لم تكن الحروف الموسيقية (النوتة) متداولة، أو لعلها كانت متداولة إلا إن ما وصل إلينا منها كالطلاسم لا(29/66)
حل له ولا بيان. وكانت النتيجة إننا لم نرث عنهم سوى الناحية الأدبية وهي كما قلنا لا تشرف في قليل ولا كثير، بل لعلها قد أثرت أثرها السيئ في الإفهام.
بقيت الآن ملاحظة ثانية على الفروق بين موسيقى الشرق وموسيقى الغرب، تلك هي ضعف الأولى وخلوها، وامتلاء الثانية وقوتها، وهذا فيما أرى يرجع لسبب لا نملكه.
ينشأ الموسيقي الغربي بين جبال وصخور وبحار عظام تمثل قوة الطبيعة وعظمتها وتهب عليه العواصف وتنقض الصواعق وترعد في سمائه الرعود فعندما تجول في مخيلته الموسيقية فكرة نراه تأثر فيها بتلك المؤثرات التي أحاطت به والتي تكيفت بها عاقلته ومخيلته. فنراها في صوته الأجش القوي وفي موسيقاه الممتلئة الضخمة.
أما نشأة الموسيقي الشرقي فعلى ضفاف نهر عذب تسطع عليه شمس صافية وتهب من حوله نسمات تتهافت في الرقة واللطف، وشد ما قاساه من قسوة الطبيعة وبطشها لفحة حر أو قرصة برد لا تلبث حتى يصفوا الجو ويعتدل النسيم.
ذلك ما يحيط بالموسيقي الشرقي وذلك ما يوحي إليه بفكرة موسيقاه وهذا ما ترتاح إلى سماع التعبير عنه أذاه وهذا سر تلك الرقة التي نشاهدها في موسيقاه وهي ليست منقصة أو عيباً ولكن الضعف هو ضعف التعبير عن الفكرة كالبيت من الشعر يصف البستان النظر والمنظر الجميل في أسلوب ضعيف وفكرة غنة وليس العيب فيها عيب الموصوف بل عيب القصور في التعبير وضعف شاعرية الشاعر.
ورقة الموسيقى ليس معناها ضعفها من الناحية الفنية، بل لعلها تكون قوية كل القوة وهي تسيل رقة ولطفاً، ولعل من يسمع لبتهوفن يمكنه أن يفهم ما اعنيه تماما بقوة الموسيقى ورقتها مجتمعين معا.
بقي الآن الحديث عن تركيب الأنغام في كلتا الموسيقتين والأوزان والتآلف فيهما، وارجوا أن تتاح لي الفرصة قريبا للكلام عنهما في أعداد قادمة من (الرسالة).
مدحت عاصم(29/67)
العلوم
جراحة المخ
للدكتور فريدرك دامرو
استخلصها الدكتور احمد زكي
تقدمت جراحة الأبدان تقدما كبيراً ألفه الناس ففتر إعجابهم به إلا فيما تستجد الأيام منه، وكان طبيعياً أن يأتي دور الرأس، ذلك العضو المخوف المرهوب، لتظهر الجراحة فيه من المهارة والبراعة مثل الذي أظهرته في سائر الأعضاء.
وقد بلغ التقدم في هذه الناحية في العصر الحاضر مبلغا قمينا بإعجاب العلم، هواته ومحترفيه، إعجابا قد يبلغ حد الهلع إذا لمح اللامح بعينه داخل حجرات العمليات فرأى تلك الجرأة التي يأتيها الأطباء في تناول المخ الحي حتى كأنه بعض الأحشاء، ورأى كذلك شدة استمساك المخ نفسه بالحياة رغم ما تلعب به تلك الأيدي اللبقة وتقطع منه تلك (المشارط) و (المكاشط).
في عام 1931 بمدينة كليفليد بالولايات المتحدة، اقتطع الدكتور جيمس جاردنار النصف الأيمن كله من المخ، ومع ذلك صحت المريضة وقامت بعافية! وكانت امرأة في الحادية والثلاثين، ولها ولدان صغيران، عانت داء الصرع عشر سنين، وانتهى بها إلى أوجاع مريعة في الرأس، والى بصر اخذ يتضاءل، حتى أوشك يضيع، كل هذا بسبب خراج داخل جمجمتها كان ينمو فيزداد ضغطه فيكاد يقتلها ألماً. حلق النصف الأيمن من رأسها، ثم أزال الدكتور جاردنار جزءاً من الجمجمة قطره أربع بوصات ونصف، وقطع بطانة المخ فتراءى له شئ غريب نام كالقرنبيط، امتد وتفرع كالسرطان حتى عم النصف الأيمن كله من المخ. أما النصف الأيسر، فقد كان صحيحا سليما، وهو النصف الأخطر لاحتوائه مراكز الكلام والكتابة فضلاً عن سيطرته على النصف الأيمن من الجسم.
كان الدكتور جاردنار يعلم إن حذاقاً من الأطباء قبله حاولوا إزاحة النصف الأيمن من المخ لبعض المرضى، وان الموت كان نتيجة مؤكدة في كل حالة، ومع علمه هذا اقدم على ما اقدم عليه لانه كان المختص الوحيد الذي بقي للتعيسة المسكينة. وبيدين بارعتين لبقتين(29/68)
عقد الشرايين والأوردة باناشيط محكمة أوقفت نزف الدماء، ثم اخذ يكشط المادة المخية بما فيها الخراج حتى افرغ نصف الجمجمة، وعندئذ ملأ الفراغ بمحلول دافئ من الملح، ثم رد العظمة إلى موضعها، فسد الرأس. ثم أثبتها بالحرير ولم أطراف جلدة الرأس فخاطها، وانتهت العملية بسلام.
وبعد ساعات أفاقت المريضة فتعرفت أصدقاءها وتحدثت اليهم، واسرع شفاؤها، وكانت في نقاهتها تقرأ وتكتب، وذهبت عنها أوجاع الرأس ونوبات الصرع. مع وان ذراعها ورجلها اليُمنيين ظل بهما شئ من تيبس وصلابة، إلا أنها استطاعت أن تمشي، وبعد ثلاثة اشهر ونصف من يوم العملية كانت من الصحة بحيث استطاعت أن تعود إلى ما كانت عليه من العناية بولديها بنفسها.
إن من اغرب خصائص المخ الإنساني مقدرته على الاستفادة من عثرات تخال قاضية. اذكر حادثة من حوادث الحرب الكبرى: جئ بجندي من خط النار، وكانت مقدمة رأسه مرصعةبشظايا قنبلة، فأخرجنا قطعة منها قطرها بوصتان سكنت من المخ مسكنا عميقا بين فصيه الأماميين ولم نجرؤ أن نمس بقية القطع لتباعد ما بينها، ومع ذلك شفي المريض شفاء معجزاً. لم يشل. ولم تصب حواسه بسوء، وكل ما بقي عنده بطء في الكلام ونسيان للمواعيد.
وفي الرابع من يوليو عام 1930 وضع يافع في الثامن عشرة من عمره صاروخين مشتعلين في اسطوانة مضخة هواء من تلك التي تستخدم لنفخ إطارات العجلات، فانسفا بشدة عظيمة قذفت بعود المضخة الحديد في رأس الشاب، دخل من قرب عينه اليمنى واخترق مخه حتى برأ من ناحية الرأس الأخرى وجاءه الدكتور (جويل سوانسون) فأعطاه سمماً يقيه كزاز الفك وعقم مانتا من طرفي العود باليود، ثم انتزعه. واشتفى الشاب واستكمل سنة في دراسته الثانوية ولم يتأثر عقله من الحادث أي تأثر ظاهر.
وفي إحدى المصحات الأوربية تسجلت حادثة أخرى غريبة: رجل حذّاء انتابه جنون وفي أثناء إحدى النوبات أراد أن ينتحر فدق المسامير في رأسه وجيء به إلى المستشفى وبرأسه خمسة مسامير طول الواحد منها بوصتان كلها غائرة في المخ. فانتزعها الجراح فصح المريض بعدها وغادر موفور العافية. واغرب من هذا كله قصة فاعل عاش عشرين(29/69)
سنة من بعد أن نفذ في رأسه قضيب سمكه بوصة بسبب انفجار دخله من دون عظمة الصدغ الأيسر ومر في العين اليسرى ففقأها، وبجزء كبير من المخ فأتلفه، ثم خرج من قمة الجمجمة. استعاد هذا العامل صحته واستمر يعمل في الحقل حيناً ويشتغل حوذياً حيناً ويحيد في كلا العملين على السواء فلم تكن منه يوماً شكاة على اختلاف مستأجريه.
لقد أفادت هذه الحوادث العلم، وقعت اتفاقاً فأعانت الأطباء على تفهم هذا العضو الخطير من الجسم، فاخذوا شيئاً فشيئاً يجمعون عنه الحقائق بما يأتيهم عفواً من هذه الإصابات وبما يقصدون من دراسته في مرضاهم، وبتشريحه وفحصه بعد الموت إذا خاب العلاج، وكذلك بتهيجة مراكزه بتيارات الكهرباء في رؤوس القردة والكلاب.
في الحرب الفرنسية البروسية استخدم الكهرباء طبيبان ألمانيان (جوستاف فرتش) و (ادوارد هتسج) استخدماها في تنشيط أمخاخ الجرحى واحدثا لأول مرة حركة في الجسم الإنساني بواسطة التيار والجسم فاقد الشعور. مسا بقطب التيار موضعاً من المخ فتحرك الرجلان، ومسا موضعاً آخر فتحرك الرأس. ثم مسا ثالثاً فتحركت الأصابع. وزاد في إيضاح العلاقة التي بين مراكز المخ وأعضاء الجسد تجارب أمثال تلك، أجراها العلماء على الكلاب والشامبانزي، فاصبح الطبيب اليوم يستدل بأعراض الجسد على موقع الفساد في المخ فيشق الرأس حيث اصل الداء بلا حدس ولا تقريب، فجراحة الرأس لا تحتمل حدساً ولا تقريباً.
أنت نفسك تستطيع أن ترسم على رأسك خريطة تدلك على مواضع تلك المراكز. ابدأ بأصل انفك عند ملتقى الحاجبين، وارسم خطاً يمر بانتصاف جبهتك ويعلوا إلى أعلى جمجمتك ثم يمتد خلفاً إلى بصلة رأسك، بعد ذلك نصف هذا الخط، واذهب نصف بوصة وراء هذا المنتصف. ومن هذه النقطة ارسم خطين يميلان عن الخط الأول إلى جانب رأسك بزاوية قدرها سبعون درجة، وبذلك تكون انقسمت الرأس إلى خانات اربع، ففي الخانتين الأماميتين توجد المراكز التي تهيمن على الحركة في الجسم، في الخانتين الأخريين توجد المراكز التي تضبط الاحساسات التي يتعرض لها الجسد.
ووراء جبهتك توجد مراكز التفكير، فان كان هذا الموضع من رأسك عظيماً فاعلم انك مفكر كبير، وان وجدته في رأس غيرك صغيراً ضئيلاً فاعلم عكس هذا منه. وفي الإنسان(29/70)
المستوحش وفي البسطاء تتراجع الجبهة إلى الوراء. انضماراً لان هذا الجانب من المخ لديهم لا يستكمل نماءه. ومن العجيب المستغرب إن هذه المراكز إذا أصابها تلف بخراج أو سلعة نهض جانب آخر من المخ ليتولى التفكير مكانه.
ولقد ورث كثير من العبقريين رؤوسهم من بعد موتهم للعلم ليفحصها رجل الطب. من أولئك الكاتب الفرنسي الكبير اناتول فرانس، كانت لفات مخه عظيمة وخلاياه السمراء كبيرة كبراً غير عادي. كذلك لينين، مؤسس الجمهورية الروسية وواضع البلشفة، جزئ مخه 31000 جزءاً، فحصت جميعها.
كذلك (ترجوينف) الروائي الروسي كان له مخ من اكبر الأمخاخ المقيسة، كانت زنته اكثر من أربعة أرطال. ومع هذا فحجم الرأس ليس مقياساً دقيقاً مطرداً للذكاء، دليل ذلك إن من الأمخاخ المعروفة مخين زادا وزناً عن مخ (ترجوينف) وكان أحدهما لأبله. وإذا زاد مخ عن مخ فليس معنى هذا زيادة في عدد وحداته فالوحدات سواء وإنما تزيد الوحدة عن أختها حجماً ووزناً.
وفي النصف الخلفي للرأس توجد مراكز الإبصار، فإذا نمت فيها نامية أو أصابتها اصابة، سببت العمى. وجزء المخ المجاور للأذن يحكم السمع، وأمام الجزء الأسفل لمراكز الحركة يوجد مركز الصوت، فنحن نسمع الكلمات مقولة بجزء من المخ، ونراها مكتوبة بجزء آخر، ونقولها بجزء ثالث
وإذا حدث اضطراب لأي من هذه المراكز، حدثت أحداث غريبة. كان أستاذ يحسن اللغتين الإغريقية واللاتينية، فأصيب في حادث بضربة على رأسه فلما أفاق واشتفى مما أصابه وجد انه فقد اللغتين جميعاً وعبثاً حاولت أن تسترجع ذاكرته كلمة من ايهما، وذلك إن خلايا مخه التي تختزنهما أصابهما التلف لا إصلاح لها.
وفي حادث آخر انسد شريان دقيق يحمل الدم إلى بعض الخلايا المخية بمنطقة الإبصار من رأس امرأة مثقفة، وما أمسى الليل وانفلق النهار بالنور حتى وجدت هذه المسكينة أنها عجزة عن القراءة وأصبحت الكتب لا تحمل إليها من المعاني اكثر مما تحمله إلى الفلاح الأمي. كانت تنضر إلى الكلمة فتراها رسما لا صلة له باللغة. أصابها عمى الكلم وعلى هذا المثال يحدث صمم الكلم. تصاب الخلايا الخاصة به فيسمع المنكوب كل الأصوات،(29/71)
ويسمع الكلمات، ولكن خلوا من المعاني.
ومنذ اشهر قليلة حدث حادث عجيب في (لوس انجلس) بأمريكا الشمالية. فتاة مكسيكية دخلت مستشفاها العام للعلاج فقاس الأطباء فيما قاسوا درجة حرارتها فكانت 43 , 3والمعروف في الطب إن درجة 42 قاتلة. واستمرت هذه الحرارة عالية شهراً من الزمان. فحصها المختصون فاجمعوا على إن سلعة درنية نمت من مخها في المنطقة التي تضبط درجة الحرارة في الإنسان فساء ضبطها.
إن الجراح يستطيع اليوم أن يرسم خريطة للمخ كاملة يتبين فيها خلايا المخ وما تخص به من وظائف أعضاء الجسم المختلفة فهو إذا أتاه مريض عرف من أوجاعه وأعراضه أي مناطق الرأس اختل فيذهب إليها قدماً فلا ينحرف عنها قيد إصبع
اذكر رجل شفيناه من الصرع استهداء بتلك الخريطة كانت تبدأ الرجفة في وجهه فعرفنا من هذا إن اصل الداء واقع بمنطقة الحركة بمؤخر المخ. وأردنا زيادة التحقق ودقة في تحديد الموضع، فخرقنا ثقبين في مؤخر الرأس، وغرزنا في مادة المخ إبرتين جوفاوين ومصصنا من سائله بعضه، ثم ملانا الفجوة التي خلت بالهواء، ثم أخذنا صورة سينية أرتنا إن تلك الفجوة غير منتظمة وان شكلها استطال في ناحية وابعج في أخرى بسبب ضغط سلعة لم تتراجع مع مادة المخ تحت ضغط الهواء المحقون. . بهذا الكشف الجديد تعرفنا على موضع السلعة التي لكأنما رأيناها رأى العين، ثم أزلناها.
ويختلف حس المخ اختلافا كبيرا تبعا للموقع الذي يحصل الفساد فيه، فقد لا تتعدى البثرة رأس الدبوس حجما فتحدث أعراضا مريعة هائلة، ثم قد تبلغ في موضع آخر قبضة اليد حجماً قبل أن تحدث حدثاً خطيراً.
منذ أعوام جاءني صديق يهوى لعبة التنس يشكو من ذراعه انه لا يتجه بالكرة الجهة التي يريدها وانه عبثاً حاول استرجاع الأصابة التي كانت له منذ حين، وهذه كانت كل شكاته. فامتحناه فتبين إن سبب ذلك سلعة بقدر البندقة فأزلناها وبذهابها رجعت إليه رمايته الأولى. رجل مبخوت هذا الصديق الذي نحن بحديثه، فلولا ملاحظته الدقيقة لما فطن أحد إلى دائه الخبيء، ولزادت سلعته حتى لنشق استأصالها أو استحال. وقد اصبح أطباء العصر من اجل ذلك وأمثاله حريصين على تعرف السلع في المخ ولما تكبر ويستفحل أمرها(29/72)
منذ أعوام كانت خراجات المخ تحتسب من العلل الوبيلة التي لا رجاء فيها، وكانت جراحات المخ تنتهي بالموت بنسبة لا تقل عن 85 في المائة. أما اليوم فقد تحسنت طرقها واحكم تفصيلها وجد الطب في استبانة عللها قبل أن تشب، فزاد عدد الناجين من الموت الذي كان محققا بالأمس زيادة تطرد على السنوات.
وقد ثبت إن 10 في المائة من المجانين يختل صوابهم من جراء إصابات تقع لرؤوسهم. وقد ثبت إن رجالا محترمين موقرين استحالوا أشراراً مجرمين بسبب صدمة أو دقة على رؤوسهم آذت أمخاخهم. ومن الغريب إن نتائج هذه الصدمات قد لا تظهر إلا بعد أسابيع من وقوعها. مثال ذلك إن رجلا من أهل السواد أصابته رصاصة ضلت سبيلها ودخلت من مؤخر رأسه، فأسرعوا به إلى المستشفى وكان أول ما يعمل لفحصه بطبيعة الحال تصوير رأسه بأشعة س، ولكن كان وقع بالمستشفى حريق في أيام قريبة سابقة فقضى على جهاز الأشعة، فلم يجرؤ الجراح على سل مشرطه وهو لا يعلم موضع الرصاصة، فتركت حيث كانت وتعافى المرض ظاهرا وغادر المستشفى، ولكن بعد سبعة أسابيع اخذ بصره يضعف وآذن بالعمى، فعاد إلى المستشفى فصوروا رأسه فتراءى لهم إن الرصاصة صارت في المخ رويداً حتى حلت منه في موقع الأبصار، ولما انتزعوها عاد إلى الكفيف بصره
وغير هذا ما حكاه السير (وليم هويلر) الجراح الايرلندي الشهير، ذكر إن الرصاصة دخلت راس رجل وضلت هناك أربع سنوات حتى سكنت من المخ حيث تترابط الأفكار فأصابت ذاكرته وبصره وسمعه وأخرجت فعادت إليه كل هذه جمعاء.
ومن ذلك قصة طفل في الشهر الحادي عشر من عمره، سقطت على رأسه لَبِنة فكسرت جمجمته، فكانت تأتيه لهذا السبب ارتجافات عنيفة، ثم انقطعت. ولما بلغ عامه السابع عشر أخذ ينتابه صرع شديد اشتفى منه بإحدى براعات الطب أتاها الدكتور (شارل هرِس) من (تكساس) بأمريكا. ذلك أنه ارتأى أن الصرع جاء من ضغط العظم الصديع على المخ، ففتح الجمجمة فتحة أطالها وراء الرأس من الأذن إلى الأذن على شكل حذاء الفرس، ثم رفع الجمجمة، وقطع شريحة دهنية من فخذ المريض فوضعها تحت عظام الرأس حيث الصدع لتفعل فعل الوسادة فتلقى الضغط دون المخ. وقد نجحت العملية نجاحاً تاماً وزال الصرع وعاد الشاب إلى مدرسته يستعد للحياة استعداد أقرانه، ويأمل منها مثل آمالهم عمراً(29/73)
مديداً وعيشاً رغيداً.(29/74)
القصص
نشيد الكرنك
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
لقد كانت أياماً مليئة بالحياة. جادها الغيث إذا الغيث همى
جلسنا بعد سير طويل عند مدخل البهو ذي الأعمدة، واخذ بعض الرفقة ينطقون أوتار المزهر والكمان والقانون فترتفع مقاطعها المتآلفة المتناسقة بأحسن الأنغام وأطيب الألحان ثم تجاوبت الأصداء العجيبة من نواحي ذلك البهو الفسيح، فإذا الجو له يطن بأمواج مختلفة القوة من أصوات عذبة ساحرة، واستلقيت على مسافة من الجمع إذ كنت من أكثرهم تعبا، ولكن وان عزبت عن الضجة والصخب لم تفتني نفحات الموسيقى الحلوة وقد صفاها البعد ونقاها
وفيما أنا كذلك إذا بي وقد تمثل ذلك الهيكل منذ كان في شبابه، ورونقه، وقد قامت فيه الأعمدة باسقة تحمل تيجانها النيلوفرية وتكسوها النقوش البديعة الذهبية، وفي مداخلها المسلات النحيلة الرشيقة تلمع رؤوسها النحاسية في ضوء الشمس المائلة إلى الغروب، ثم تمثلت منظر الهيكل يوم عيد عظيم وقد ازدحم بالكهنة يصطفون للقاء فرعون وهم ينشدون نشيد الترحيب والتكريم، حتى إذا ما اقبل خروا إلى الأذقان ركعاً لابن الآلهة وسليل حوريس. فخيل إلي وأنا وسط هذه التأملات إن ذلك الصوت المنبعث إلى آذاني من موسيقى أصدقائي هو صوت هؤلاء الكهنة يتردد بين جدران المعبد القائم الجديد. وغرقت في خيالي وإذا بي وقد لف الظلام ما حولي. وإذا بي أرى من خلال الظلام عالماً سحرياً عجيباً ينشر من بين هذه الأطلال الهرمة:
رأيت (فرعون) مقبلاً يحمل في يداه عصا مذهبة وعلى رأسها تاج تحف به من أسفله الحية الملكية.
فخر الوقوف ساجدين وتعالت في جنبات المعبد أصداء موسيقى بديعة بالنشيد الملكي وألقى في روعي إن معناه
لاح حورماخيس يملأ الأرض بأنوار الصباح
يا ابن اوزيريس روحك الأقدس من روح بتاح(29/75)
وكان (فرعون) نحيل الجسم قصير العود تعلو وجهه الأسمر صفرة كصفرة النرجس الذابلة. ولما رأيته وتبينت ملامحه لم املك نفسي إن صحت صيحة مكتومة هائلة. (أتعرف توت عنخ آمون؟) إذا كان صاحب الصورة التي ألفنا رؤيتها منذ كشف المقبرة المشهورة.
وقد كان المنظر الذي حولي يدعوني إلى الخشوع والرهبة. غير إني مع ذلك وجدت من نفسي كبراً أن اسجد لمخلوق، فلم اسجد مع الساجدين، وكنت أخشى أن يمسني من ذلك سوء. غير إني تعجبت إذ رأيت الحاضرين لم يزعجهم ذلك بل كأنهم لم يلحظوا شيئا.
فتجرأت وقمت أسير وراء موكب الملك بين صفوة المتقربين وهامات رجال الجيش وكبار الكهنة.
وسار (فرعون) في سبيل مرسومة إلى أن بلغ قدس الأقداس خلال الأغصان الملتفة والأوراق المتعانقة المتراقصة. كأنها الرقراق من جدول يجري بعد الترويق، أو النسيم يسري من تعدد المسارب والثنيات، فكانت إذا بلغتني تتوارد هينة مصقولة فتخلف عنه القواد وسجدوا إيذانا بالوقوف عند حد الحرم الممنوع، ولكني دخلت وراء الموكب ولم يبقى فيه إلا الملك والكاهن الأعظم وبعض كبار الكهنة يحملون في أيديهم هدايا الملك إلى إله طيبة الأعظم (آمون). فلما أن بلغوا المذبح وضعوا ما بأيديهم وانحنوا إجلالا، ثم وضعوا البخور في المجامر وعلا صوتهم بنشيد قدس الأقداس:
أأمون بارك سليل العلا ... ومن فيه يجري دم الاقدسين
ولكنهم وقفوا حيث انتهى بهم السير، ودخل الملك وحده إلى الحرم الأقدس يتبعه الكاهن الأعظم، فترددت قليلا ثم عاودتني الجرأة فسرت وراء الملك إلى قلب ذلك المكان المحرم، ولكني عجبت إذ لم يمنعني أحد ولم تلتفت إلي عين. ولقد راعني الأمر وهالني مخافة أن أكون أقدمت على انتهاك حرمة جزاء الاعتداء عليها الهلاك. فقد كنت اعرف إن ذاك الحرم لا يحل دخوله إلا للملك ولرئيس الكهنة، وان الموت هو العقاب لمن يدخله من غيرهما. غير إني مع ذلك لم الو على شيء، بل سرت قدماً وسط الظلام الدامس الذي لا تضيء فيه إلا ذبالة ضئيلة في زجاجة حمراء لا يكاد الإنسان يتبين فيها إلا أشباحاً كأنها الظلال المتحركة.
ولما صار الملك هناك وحده مع الكاهن، أقول وحده لان كل الأدلة تدل على انه لم يلحظ(29/76)
وجودي - استلقى على مقعد استلقاء المجهد السقيم وان أنة المتوجع المكلوم.
وسمعت صوت الكاهن الهادئ يخترق ذلك الظلام بنبرات خفية متزنة ولست اذكر ألفاظه ولكني كنت افهم ما اسمع بإلهام عجيب: قال (أي بني! شملتك رحمة آمون).
فصاح الملك صيحة مكبوتة (أيها الشيخ! نحن هنا وحدنا)
فقال الكاهن (اعرف ذلك ولهذا اطلب لك رحمة آمون)
فقال الملك بالصيحة ذاتها (ليتني كنت لا اعرف! ليتني كنت أستطيع أن اصدق!)
فقال الكاهن (أي بني! انك لا زلت شاباً وقد يغتفر للشاب أن يشك أحياناً)
فصاح الملك (اشك؟ إنني لا اشك. إنما انطق عن عقيدة. فلماذا يكون لتمثال مصنوع من الذهب في قلبي من الاحترام؟)
فقال الكاهن بلهجة مرة (ولكنك ملك. وان كنت لا تستطيع أن تصدق فعليك أن تصدق.)
فقال الملك محتدا (ماذا اصدق؟ هل اصدق إن آمون اله يرحم، أو جبار ينتقم؟ نحن هنا وحدنا فلا بأس أن تقول الحقيقة مجردة. ليس آمون هو الذي يتطلب مني الإيمان والخضوع بل هو (آي) الكاهن الأعظم وليس هو آمون الذي يرضى أن يسخط بل هم الكهنة الذين يحملون رمزه ويقومون على سدانة تمثاله الأخرس. هم كهنة آمون اللذين يطلبون مني الخضوع والعبادة) فقال الكاهن بهدوء (ثم ماذا؟) فقال الملك (ومع ذلك فقد كنت صريحا مع نفسي ورضيت بتغيير اسمي من (توت عنخ آتون) إلى (توت عنخ آمون) فتركت الإله الواحد القادر وآمنت بإله مزيف وأنا عالم بأنني إنما أؤمن بإله مزيف ولكي اضلل وأزيف.
فقاطعه الكاهن وقد بلغ الغضب على هدوءه وسخريته المرة قائلا:
(حسبك يا ساكاي) فصاح الملك (ساكاي!)
فأجاب (آي) (نعم ساكاي. انك لا تمت إلى الملوك إلا بصلة النسب والاعتقاد. وقد بطل ذلك الاعتقاد الفاسد في إلهك (آتون) منذ مات ذلك المجرم الذي كان يحكم في (آختاتون) وأما علاقة النسب فمن السهل البحث عن علاقة أقوى منها واجدر بالملك)
وعند ذلك لاح شبح الملك وهو ينهض غاضباً ويرفع رأسه متحدياً. ولكنه لم يقل كلمة واحدة بل بقى واقفاً وصدره يزدحم بأنفاسه. ونهض الكاهن كذلك ووقف أمامه واستمر في(29/77)
قوله، وكان في حماسته يحرك رأسه ولحيته الطويلة بشي من العنف ويرفع رأسه عالياً مع ما في ظهره من انحناء الشيخوخة: قال (لا تغضب من الحق.) وان شئت أن تغضب ففكر في العاقبة قبل أن تخطو في سبيلك خطوة واحدة. إنني أحذر. إنني انذر. والبلاد كما ترى في اشد حالات الاضطراب والفوضى وقد صارت كالنسر المجرد من ريشه أو الأسد الذي قلمت أظافره).
فعاد الملك إلى مقعده وأن أنة أخرى اعمق من الأولى واشد مرارة ثم استمر الكاهن فقال:
(ومع ذلك فأسمع قصة قصيرة قد تكون مغنية عن قول كثير. إننا نحتفل اليوم بعيد اختيار آمون لجد زوجتك الملكية، الملك تحوتمس الثالث. ولقد كان ذلك الملك العظيم كما تعرف غير مرشح للملك لانه ابن محظية لا تجري في أمه دماء الآلهة. ولكن آمون رضى عنه ومال إليه في أول دورة، ووقف أمامه في يوم احتفال كهذا. فاظهر بذلك ارتياحه إليه وصار المُلك من ذلك اليوم اليه، فتنحى أبوه عن الملك وتنحى أخوه بل لقد تنحت أخته نفسها وهي التي تجري في عروقها دماء الآلهة. أتعرف هذا؟)
فتمتم توت عنخ قائلا (نعم. اعرفه) فقال الكاهن (وإذاً فلك الخيار. سأقول اليوم كلمتي إذا ما خرجنا من هنا على مسمع من رجال الدولة والكهنة والأمراء. وإذا شئت فارفض ما أقول)
قال هذا ثم نهض رافعا رأسه واتبعه الملك الصغير مطأطئ الرأس حزيناً ولما مر (توت عنخ) على مقربة مني وقعت على وجهه شعاعة من ضوء الذبالة فإذا على وجنته دمعة تترقرق وتلمع في الضوء الخافت.
ولما بلغ الكاهن الأعظم مكان المحراب عرج عليه لكي يؤدي فرضاً من الفروض المرسومة وألقى بعض البخور في المجامر المتقدة ثم سار وراء الملك حتى بلغا الفناء الفسيح في وسط الهيكل، وكان هناك الحشد الحافل من أهل الدولة والكهنة والقواد والأمراء فخروا جميعا للأذقان سجداً يتلقون الملك والكاهن الأعظم، ثم جلس الملك على عرش منصوب في الصدر، وقام الكاهن الأعظم فألقى كلمة قصيرة قال فيها:
(أيها القواد العظام والأمراء الكرام! لقد دخل الملك العظيم ابن الآلهة إلى قدس الأقداس وتجلت له أسرار آمون وظهر من إيمانه وبره ما جعل الإله العظيم يتجلى له. ولكن تجلى(29/78)
آمون للملك العظيم. فالشكر لامون)
فسجد الجميع، مرة أخرى وقام الملك سائرا نحو الكاهن الأعظم وكانت خطاه مترددة مضطربة. ثم قال بصوت مختنق متهدج (المجد لآمون) فعلت عند ذلك ضجة من الجمع الخاشع كأنها ضجة التهليل والتسبيح.
وارتفع صوت الكهنة بنشيد الملك: (لاح حودماخيس، يملأ الأرض بأنوار الصباح) ثم حمل الكهنة تمثال آمون الذهبي وداروا به حول الفناء أمام الحضور حتى أتوا أمام عرش الملك فوقفوا واقبل التمثال محمولاً على الأعناق لكي يبارك الملك المحبوب المؤمن.
لقد تجلى آمون (لتوت عنخ) ورضى عنه لما في قلبه من الإيمان، وقام الملك بعد ذلك يتعثر في مشيته وقد زاد وجهه شحوبا على شحوبه وغارت عيناه وترددت فيهما قطرات تكاد تعيشهما. وعند ذلك علا صوت الكهنة مرة أخرى بنشيد
(أآمون بارك سليل العلا)
فتجاوبت به الأصداء بين جدران المعبد وتماوجت نغماته وكان بعضها يفنى كما تفنى الموجة إذا اتسعت دائرتها وبلغت مداها وتجددت من أعقابها موجة أخرى لا تلبث أن تبلغ مداها.
وعند ذلك انجلى الظلام وأسفر المنظر فإذا بإخواني ينشدون نشيدهم على آلات الكمان والعود والقانون. وإذا بي لا زلت منتحيا منهم ناحية راقدا على جانب حجر مكتوب الصفحات.
محمد فريد أبو حديد(29/79)
العدد 30 - بتاريخ: 29 - 01 - 1934(/)
إلى الأقصر. . .
- 1 -
كان لا بد للاّغب أن يستجم، وللصائم أن يعيد، وللمجادل في مجد الفراعين أن يزور الأقصر.
وكان (قطار الآثار) قد جرأ الجيوب الهزيلة على أن تباري الجيوب الأمريكية في (وادي الملوك)! وقطار الآثار كقطار البحر فكرة سديدة، تنفذها إرادة رشيدة. .
ولكن حرف (لكن) لا يزال وا أسفاه أكثر أخوات (إن) استعمالاً، وأشدها بحياتنا اتصالاً! فأنا مضطر أن أقول: ولكن هذا القطار لا يصلح إلا لأقوياء البنية، أشداء العصب، ممن يستريحون على الوقوف، وينامون على الرفوف، ويغمضون على ضيق المكان، وكظّة الديوان، وحرج الأسِرة. أما أخو الجسد المهدود، والعصب المجهود، فلا مناص أن يقضي ليله كما قضيت: مقسم النفس بين القلق والأرق، ولا يجد نفسه ولا يملك قلبه!
سار بنا القطار المثقل في منتصف الساعة التاسعة من مساء يوم الاثنين أول أيام أمس العيد، وكان المفروض على راكبه أن يبيت قائماً في الممشى، أو نائماً على (الرف)، أما الجلوس لو أراد، فلا سبيل إليه إذ لا محل له! وكان من الميسور تلطيف هذا المقدور بشيء من لهو الحديث ولو جمعنا الحظ العنيد برفقة من أهل الأنس، ولكنني كنت أنا وصديقي بين أربعة لا يصل أحدهم بالآخر سبب من جنسية أو لغة، فحملونا مكرهين إلى الفراش النابي والوساد القلق. . . ولا أريد أن أثقل عليك وعلى إدارة القطار بذكر ما أعقب ذلك من أزمة الصدر، وضمة القبر، وإزعاج الصحب، وإغاثة الإسعاف، وقضاء الليل الطويل قابعاً أمام الباب لا يخدع في عيني نعاس، ولا ينفس عن صدري فرج، فان علاج ذلك كله إعداد عربة للجلوس يتنفس فيها الساهد المكروب باللهو والسمر.
القطارالجاهد يخوض في أحشاء الليل المظلم، والهواء البارد يسفي غبار الطريق الخانق، والركب المترجح يغط في النوم غطيط الخلي، والكرى الجائر قد غلبني على أخوي فأوى بهما إلى المضجع! وأنا وحدي في هذا القفص الطائر أرعى نجوم الكهرباء في سمائه المحصورة الرفيعة، وأقول في آخر ليلة من ليالي رمضان المحتضر: متى يا اله الناس يصبح هذا الليل؟!(30/1)
وأخيراً، أخذ نور المصابيح الزاهر يشحب قليلاً فقليلا، وستر الظلام الصفيق يرق عن جوانب القطار شيئاً فشيئا، وأنفاس الفجر الندية تخلص إلي من خلال النوافذ، وكنا حينئذ نمر على الجسر الحديدي (بنجع حمادي)، ففتحت الشباك القريب وأرسلت طرفي الكليل في شمال الوادي، فرأيت رءوس الشجر الرفيفة، وذوائب النخل الرفيعة، طافية في سيل من الضوء المشوب المبهم، وتبينت القرى الجاثمة على الضفاف الخضر تستيقظ مطلولة الجنبات مع الطبيعة، والصبح الوليد يهتك عن مهده الوردي كلَّة السحر الداكنة، وأبصرت من وراء (قنا) خطاً من ذائب المرجان قد ارتسم على قمم الجبال اللوبية، ثم أخذ ينتشر رويداً على الظلال المتخلفة من بقايا الليل حتى غمر الوادي، فاستبانت في سهوله الخصيبة حقول القمح والفول والعدس يكللها الطل، ويهفو فوقها رقيق الضباب.
أشرقت الشمس علينا كما كانت تشرق منذ آلاف السنين على سيتي ورمسيس، فهي وحدها المخلوق الذي شهد ضخامة الماضي، ويشهد الآن ضآلة الحاضر! فليت شعري ماذا تقول ذكاء في هؤلاء الأقزام الذين يحجبون اليوم (طيبة) مختالين على مركب ليس في صنعه قسط من حديد أو خشب؟ ماذا تقول ذكاء وقد رأت ملوكنا العماليق وهم في طفولة البشرية ينقلون قطع الجبال من أدنى الشمال إلى أقصى الشلال على عجلات وآلات من خلق عقولهم وصنع أيديهم، ثم ترانا معشر الأعقاب نلوك الفخر أمام الغربيين بعظمة الأقدمين، ونتبجح أمام الأقدمين بعبقرية الغربيين، فنحن كخلفة الدوحة العتيقة تنبت رخوة على جوانب الجذر الثابت، ثم يقعد بها الوهن عن مطاولة الجذع، فلا هي في رسوخ الأصل وقوته، ولا هي في سموق الفرع وإشرافه!!
لا يكاد الصعيد يختلف اليوم عما عهده الفراعين منذ أربعة آلاف سنة! فالشمس المعبودة هي الشمس، والنيل المقدس هو النيل، والقمح الذي خزنه (يوسف) هو القمح، وجوارح الطير التي تحوم فوق ساحلي النهر هي بأنواعها وأشكالها وألوانها التي كانت تحلق في أجواء (طيبة)، لأن الحيوان والنبات قلما ينالهما التغير. أما الذي نال منه الحدثان، وغير من حاله الزمان، فهو هذا الإنسان المسكين، فإنسان النيل لم يعد ذلك الذي قارع الدهر، وصارع البلى، وحاول الخلود، وقدس القوة، وأخضع العراق والشام وفلسطين والسودان والحبشة، وإنما أصبح من فعل القرون وإلحاح الجور شيئاً من المتاع تابعاً للأرض، يُملك(30/2)
ولا يَملك، وينتج ولا يٌهلك!
على أن القبس الإلهي العربي الذي بعث الضوء في شبابه الكادي، والحرارة في جسمه المنحل، لا يزال قديراً على إحياءه، جديراً برفعه.
وإذا كان البحر يتعاوره الجزر والمد، والشمس يتعاقبها الغروب والشروق، والطبيعة يتناوبها الخريف والربيع، فأن مصر الناهضة تشارف بثروتها المد، وتطالع بقادتها الشروق، وتستقبل بشبابها الربيع!
ضحت الشمس واستطاع النظر القصير أن يجمع الوادي في نظرة! وهيهات لابن (الدلتا) الفسيحة أن يفهم معنى الوادي إلا في أعالي الصعيد! فهناك تتقارب السلسلتان بما ورائهما من موات وجدب، وينساب بينهما النهر العظيم بما يحمل من حياة وخصب، ويشعر المصري الذي يرى هذا المنظر أول مرة فيجد واديه كله في عينه وفي قلبه، بنوع من الغبطة لم يحسه من قبل، ويستغرق في نشوة من الذكريات والأماني لا يخرجه منها إلا وقوف القطار في محطة الأقصر. . .
احمد حسن الزيات(30/3)
ربع مية. . .
للدكتور طه حسين
يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقفت فيها أصيلاً لا أسائلها ... عيت جواباً وما بالربع من أحد
ولم يكن ربع مية بالعلياء فالسند، وإنما كان في صحن الأزهر، وعند القبلتين القديمة والجديدة، حيث كانت الحركة المتصلة في الليل والنهار، وحيث كان ذلك الدوي الغريب الذي لم يكن ينقطع إلا في أوقات الصلاة العامة. والذي كثيراً ما فكرت فيه وسألت نفسي عن هذه الأجزاء التي لا تحصى، والذرات التي لا تعد، والتي كانت تؤلف جوهره وتكون مزاجه، وتجعل منه وحدة لا يظهر فيها الاختلاف، ولا يحس فيها التباين، فإذا حللتها رأيت اختلافاً لا حد له، وتبايناً ليس له آخر: رأيت أصوات قوم يتحدثون في متاع الدنيا ولهوها، وأصوات قوم آخرين يتحدثون في جد الحياة وآلامها، وقوماً يذكرون الله، وقوماً يدرسون العلم، وقوماً يتلون القرآن، وقوماً يقرأون ما يخطر لهم وما لا يخطر لك على بال، وقوماً يخوضون فيما تظن وما لا تظن من فنون الحديث، ومن هذه الأصوات كلها ينعقد صوت واحد قوي ضخم عميق عنيف متحدٍ يملأ فضاء الأزهر منذ تدخله إلى حين تخرج منه، ويملأ فضاء الأزهر من أي باب ولجته، إلى أي باب تجاوزته، ويملأ فضاء الأزهر في جميع أرجائه وأنحائه على كثرة ما فيها من الانحناء والالتواء والانعطاف.
نعم في هذا الربع الذي لم يكن يخلو في نهار ولا في ليل، ولم يكن يهدأ في شتاء ولا في صيف، ولم يكن يشعر بالحاجة إلى الحياة لأنه كان حياة كله. وكان حياة كأشد ما تكون الحياة قوة وحركة وإنتاجا. في هذا الربيع وقفت كما وقف النابغة في ربع مية، ولكني لم أقف أصيلاً وإنما وقفت بعد صلاة العتمة ففهمت هذا النحو من شعر القدماء، أو قل أحسست هذا النحو من شعر القدماء، فما أكثر ما نفهم الشعر القديم والحديث دون أن نحسه كما يحسه قائلوه. ودون أن نتأثر به كما يتأثر به الشعراء.
وكانالأزهر كربع مية، خلا بعد عمران، وسكن بعد حركة، وأعيا عن جواب السؤال حين وجه إليه السؤال، وكان الأزهر كربع مية قد طال عليه الأمد وبعد به العهد. طال عليه الأمد أكثر مما طال على ربع مية فما أضن أن ذلك الأمد الذي ذكره النابغة والذي طال(30/4)
على ربع مية كان طويلا مسرفا في الطول يكاد يبلغ ألف سنة كهذا الأمد الذي أذكره حين حين أتحدث عن الأزهر والذي ذكرته حين تحدثت إلى الأزهر منذ أسبوعين. وكان الأمد بين الأزهر وبيني قد طال. فما أذكر أني دخلته منذ بضع عشرة سنة، وما أذكر أني طوفت فيه منذ أكثر من عشرين عاما، ولكني حملت في نفسي دائما للأزهر صورة حية قوية شديدة الحركة عظيمة النشاط رائعة الدوي عسيرة التحليل) وكنت أسعى إلى الأزهر منذ أسبوعين وإن قلبي ليخفق سعادة واغتباطاً وحنينا إلى هذه الصورة التي صحبتني ربع قرن وطوفت معي في أقطار الأرض واستقبلت معي الوان الخطوب لم تضعف ولم تفتر ولم تتضاءل. والتي كنت أسعى بها إلى أصلها الأصيل في صحن الأزهر وعند القبلتين لتستمد قوة إلى قوتها وحياة إلى حياتها، فلما بلغت الربع - وليتني لم أبلغه - نظرت فإذا الصورة أقوى من الأصل، وإذا الأزهر الذي أحمله في قلبي أشد حركة وأعظم نشاطا وأقوى حياة من الأزهر القائم هناك في حي القاهرة.
قال أصحابي وكلهم مثلي أبناء الأزهر الذين بعد عهدهم به وطال فراقهم له: وما يمنعنا أن نختم رمضان بزيارة قصيرة للأزهر نحيي بها العهد القديم ونذكر بها أيام الشباب. قلت وأني في ذلك لراغب، وأني إلى ذلك لمشوق. ومضينا إلى الأزهر ونحن نقدر أن سنجد فيه تلك الصورة التي الفناها، وأن سنسمع فيه ذلك الدوي الذي عرفناه، وأن سنختلط به اختلاطاً، ونمتزج به أمتزاجاً، ونقف فيه كما كنا نفعل أيام الشباب وقفات فيها الجد الخصب، وفيها هزل يشوبه الحب والعطف. نتنقل بين هذه الحلقات المنبثة في أرجائه نسمع لهذا الشيخ وهو يقرأ الحديث أو التفسير أو يقص قصص الوعاظ فيعجبنا صوته وإلقاؤه وفهمه وإفهامه فنعجب به ونبسم له. ونتجاوزه إلى ذلك الشيخ فيضحكنا صوته أو القاؤه أو لازمة من لوازمه أو بعض ما يدفع إليه من الخطأ في الفهم أو السخف في الإفهام فننصرف عنه ضاحكين متفكهين، حتى إذا قضينا من هذا كله إربا خرجنا وقد ذكرنا أنفسنا وسعدنا بلقاء تلك الأيام العذاب.
كنا نقدر هذا كله فلما دخلنا الأزهر لم نرى إلا وحشة ولم نحس إلا صمتاً، لم نعرف شيئاً ولا أحدا، ولم يعرفنا شئ ولا أحد. وإنما كنا أشبه شئ بالأشباح أو الأطياف تمضي في مكان خال موحش لا حياة فيه ولا عمران، وأشهد لقد لقينا خدم الأزهر باسمين لنا محتفين(30/5)
بنا، يسعون بين أيدينا ومن حولنا، كأنما نحن جماعة من السائحين الذين لا علم لهم بالأزهر ولا معرفة لهم بخفاياه، فهم يهدوننا ويدلوننا ويرفقون بنا في الحديث. ويحكم! فأنا أعلم منكم بالأزهر وأعرف بمعالمه، وإنا لم نأت لنلقى منكم هذا الرفق، وإنا لنفضل أن تلقونا بما كان يلقانا به أسلافكم من ذلك العنف الذي كانت تحبه نفوسنا وان أظهرنا منه النفور. أين الجبلاوي وأعوان الجبلاوي؟ اين تلك العصي التي كانوا يهزونها فتسمع لها أصوات خفيفة ولكنها مخيفة؟ أين الغراب وأيام الغراب؛ وأين رضوان وجنود رضوان؟ أين الجندي وأعوان الجندي؟ أين هؤلاء جميعا وما كان يحيط بهؤلاء جميعا من جلال كنا نزدريه وكنا نضيق به، وها نحن أولاء نذكره الآن فتذهب نفوسنا في أثره حسرات. ولست أدري من هذا الذي عرفنا فأسرع بأسمائنا إلى رجل كريم من أصحاب الفضيلة المفتشين. وإني لأطوف مع صاحبي في الأزهر يتحدث إلي وأتحدث إليه بهذا الصوت الهادئ الخافت الذي نصطنعه إذا خلا أحدنا إلى صاحبه. كأنما نحن في دار من الدور أو في بيعة من البيع التي يحسن فيها الهمس لا في الأزهر الذي لم يكن يحب ألا الجهر ورفع الصوت، وما راعنا إلا صاحب الفضيلة وقد أقبل علينا طلق الوجه باسم الثغر مبسوطالأسارير يحينا تحية الرجل الكريم، ويدعونا إلى ضيافته ويلح علينا في أن نصعد معه إلى حيث يتلى القران ويشرب الشاي. .
وكنا نود لو استطعنا أن نخلو إلى هذه العمد القائمة لنجدد عهدنا بها، ولنبثها ذكرى تلك الايام، ولنسألها عما ألم بها من الحوادث وأختلف عليها من الخطوب منذ فارقناها، ونظفر منها بهذا الصمت الذي هو أفصح من الكلام وأبلغ منه أثراً في النفوس، ولكن الشيخ دعى فلم يكن بد من أن نستجيب، فمضينا مع الشيخ إلى حيث أراد، وصعدنا معه إلى غرفة من تلك الغرفات التي كنا نذكرها أيام الصبا فتمتلئ قلوبنا لذكرها مهابة وإجلالا ورهبة وإكبارا. في تلك الغرف كان يستقر شيخ الأزهر ومفتي الديار. وفي تلك الغرف كانت تدبر أمور الأزهر وتصرف شؤون العلماء والطلاب، وحول تلك الغرف كانت تتطاير طائفة من الأحاديث والأساطير عن حياة الشيوخ وأقوالهم وأعمالهم. وكانت هذه الأحاديث تصل إلينا فنعجب بها ونبسم لها ونلتمس فيها العبرة والعضة والفكاهة. وكنا نتنقل بهذه الأحاديث إلى بلادنا في الريف فنقصها على آبائنا وإخواننا فيعجبون بها ويكبرون أصحابها ويتخذونها(30/6)
ذخراً لما يعقدون من مجالسهم إذا أشرق الصبح أو أقبل المساء.
صعدنا مع الشيخ إلى تلك الغرفات ونحن نسأله عن الأزهر ما خطبه، وعن هذا الصمت ما مصدره. والشيخ صامت كالأزهر لا يستطيع رجع الجواب. ثم انتهينا مع الشيخ إلى طائفة من أصحابه كرام مثله لقونا لقاء حسنا، وحيونا تحية حسنة، كما لقينا الشيخ وكما حيانا، ونسألهم عن الأزهر ما خطبه؟ وعن هذا الصمت ما مصدره فإذا هم صامتون كالأزهر، وإذا هم صامتون كالشيخ، وإذا هم لا يستطيعون رجع الجواب.
ثم تدور علينا أكواب الشاي، ثم تتلى علينا آيات الله في صوت عذب ولهجة حلوة وقراءة صحيحة مستقيمة نقية تصل إلى أعماق القلوب. ولكن من القارئ؟ من أين جاء؟ ما شكله؟ وما زيه؟ انه رجل مطربش قد اتخذ زيا غير زي الأزهر، لأنه ليس من أهل الأزهر وإنما هو من عمال العنابر. تبارك الله! رجل من غير الأزهريين يتلو القرآن بين الأزهريين! هذا خير، هذا خير كثير ولكنه غريب لم نكن نقدر أن نلقاه في أيامنا تلك. وكنا نحب أن نلقاه الآن والأزهر معمور يموج بالناس وترتفع فيه أصوات الشيوخ بقراءة القرآن. ولكن الأزهر ساكن صامت، وهذه الطائفة الكريمة من العلماء الواعظين قد استمعوا وأنصتوا لتلاوة القرآن الكريم تخرج من رأس عليه طربوش. هذا خير ما في ذلك شك. ولكن هذه الصورة ما زالت غريبة في أنفسنا، وما زال موقعها من قلوبنا شاذا قلقا، ومع ذلك فقد يقال إن الشيوخ محافظون، وإننا نحن من أصحاب التجديد. ثم انصرفنا محزونين مستيئسين، جئنا نزور الأزهر فلم نر الأزهر، وإنما رأينا أطلاله ولم نستطع أن نطيل عندها الوقوف. قلت لأصحابي: ولكن ما هذا الصمت وكيف انتهى الأزهر إليه؟ وأيكم كان يظن أن ذلك الصوت العظيم يقضى عليه في يوم من الأيام أو في ليلة من الليالي بهذا الخفوت المنكر المخيف. قال أصحابي فانك تنسى أن الأزهر قد كان جامعاً فاصبح جامعة. وإنك تنسى أن الجامعة إن استيقظت في النهار فهي تنام في الليل، وأنك تنسى ان للجامعة نظام يحد حظها من الحركة وحظها من النشاط. فأذكر هذا كله وأذكر أنك تخطئ اشد الخطأ إن ظننت ان التجديد مقصور على الجامعة وأصحاب الجامعة، فالتجديد أقوى وأنشط وأوسع سلطاناً مما تظن. أنظر إليه كيف وصل إلى الأزهر فعلمه كيف يكون الكلام في النهار والصمت في الليل. وقد كان الأزهر متصل الكلام في الليل والنهار. قلت لأصحابي يا بؤسي للتجديد إذا(30/7)
انتهى بالأزهر إلى هذه الحال! كم كنت أوثر أن يظل الأزهر جامعا وإلا يمسخ جامعة.
طه حسين(30/8)
منطق اللغة
للأستاذ أحمد أمين
قال صديقي: ألا تنظر إلى هذه الظاهرة الغريبة؟ أنا في مجلس يتجادل أحيانا فيما يعرض عليه باللغة العربية، وأحيانا باللغة الإنجليزية، فإذا تجادل باللغة الإنجليزية فالحجة تقرع بالحجة في إيجاز، وداخل حدود معينة. قل ان يكون هناك استطراد. وقل أن يكون لعب بالألفاظ، وقل أن يكون خروج عن الموضوع، وقل أن يكرر المجادل نفسه فيما يقول. فما أن يأتي بحجة جديدة وأفكار جديدة، وأما أن يسكت. وما هي إلا هنيهة حتى يؤخذ الرأي، ويفصل في الأمر. وذا تجادلنا باللغة العربية فهناك يطول الجدل، ويكثر الحديث، وكثيراً ما تقرع الحجة لا بأختها، ولكن بنت عمها، وكثيراً ما يستطرد من موضوع إلى موضوع لأقل مناسبة أو بدونها، وبعد طويل من الزمان يعودون إلى ما بدءوا فيه، وتثار مسائل كثيرة لا يفصل في واحدة منها، ويقول المجادل الآن ما قال من قبل، فيرد عليه صاحبه بمثل ما رد من قبل، وتتشعب الآراء حتى يصعب حصرها. وحتى ينسى أخيراً ما بدئ به أولا، ثم يؤخذ الرأي وقد مل المتجادلون، وسئموا الجدل، وودوا أن يفصل في الأمر على أي شكل. ولذلك قد يكون الرأي يؤخذ أخيرا شرا من الرأي يؤخذ أولا، بل قد يكون الرأي الذي قرر لا علاقة له بالمسألة التي أثيرت من قبل.
نعم يا صديقي. أنا أعتقد أن لكل لغة منطقا يخالف منطق اللغة الأخرى، وإن المسالة لا ترجع إلى عقلية المتجادلين وحدها، فقد يتجادل جماعة - كما ذكرت - باللغة الأجنبية، ثم هم أنفسهم يتجادلون باللغة العربية فيكونون في الأولى أكثر توفيقا، وليس من الصحيح أن ترجع هذا إلى ضعفهم في اللغة الأجنبية. وقوتهم في اللغة العربية، فهذا القول ينطبق تماما على من أجادوا اللغتين، وحذقوا اللسانين
وتعليل ذلك قد يبدو غريبا، فأن أول ما يتبادر إلى الذهن أن اللغة ليست إلا وسيلة للتعبير عن المعاني، وليست إلا مظهرا من مظاهر العقلية، فإذا كان التفكير صحيحا سليما كان التعبير عنه كذلك مادام صاحبه يجيد التعبير ويتقن اللغة، وإذا كان التفكير فاسدا كان التعبير عنه فاسدا متى وفق صاحبه للتعبير عما يريد، ولكن يظهر لي أن المسالة أعمق من ذلك وأن هناك تفاعل بين اللغة والتفكير، فاللغة المنظمة تعمل في تنظيم الفكر، والفكر(30/9)
المنظم يعمل في تنظيم اللغة - وكذلك العكس - وان المتكلم إذا تحدث باللغة الإنجليزية أو الفرنسية خضع لمنطقها وطرق تفكيرها كما يخضع لاختيار كلماتها، واختيار أساليبها وكيفية معالجة الموضوع، فيؤثر ذلك كله في تفكيره وجدله وحججه، وعلى الجملة فهو يحاول أن يكون إنجليزيا أو فرنسيا في تفكيره كما هو إنجليزي أو فرنسي في لغته - يشعر هذا تمام الشعور من أجادوا لغتين أو أكثر، فهم إذا تكلموا بلغة أجنبية راقية شعروا مثلا - بأن هناك غرضا محدوداً واضحا يرمون إليه في حديثهم وحججهم وانهم يضعون لذلك خططا ثابتة معينة تشبه خطط الحرب يضعها قادتها لتسلم كل خطوة إلى التي تليها، أو كالخطط التي يضعها، لاعب الشطرنج الماهر إذا لعب لعبة علم ماذا يريد منها وما هي الألعاب التي تترتب عليها فتنتج الفوز، وهو هو إذا تكلم باللغة العربية لم يتضح القصد له وضوحه باللغة الأجنبية، ولم يرتب حججه ذلك الترتيب الذي يرتبه باللغة الأجنبية - ومن أوضح الأمثلة على ذلك أن مجيد اللغتين كثيرا ما يفكر باللغة الأجنبية، ويترجم تفكيره إلى اللغة العربية، وقلما يعكس، مع أن اللغة العربية هي لغته الأصيلة، وهي التي نشأ عليها وتربى في أحضانها، فكان معقولا أن تكون هي لغة تفكيره فإذا عبر بلغة أجنبية نقل تفكيره إليها - وليس من الهين تعليل هذه الظاهرة، ولكن يمكن أن يقال أن السبب في ذلك أن اللغات الأجنبية الراقية قد استكملت أدواتها، من حيث الألفاظ الموضوعة لكل آلة مخترعة ولكل معنى مستكشف، كما استكملت أدواتها من حيث أساليب التفكير وصياغة المعاني صياغات مختلفة، أدخل في الذهن، وأقبل للعقل، وأجمل في الذوق، وأن اللغة العربية أبطأت في تاريخها الحديث ولم تسرع في السير، برغم ما يقوله الدعاة من أنها أغنى اللغات وأجمل اللغات، ثم ينامون على ذلك من غير أن يعملوا على تكميل نقصها، ومعالجة ضعفها، وكيف يعمل على معالجة الضعف من لم يشعر بألم المرض؟ وكيف يعمل على تكميل النقص من لم يشعر بنقص؟ - لهذا كان فكر المفكر إذا أجاد اللغتين يتبع - من غير اختيار - أرحبها صدراً وأغزرها مادة وتعبيراً.
وسبب آخر: وهو أن الأمم الأجنبية الراقية قد مرنت طويلاً على المجالس النيابية والمناظرات المدرسية والجامعية، وتكونت لها مع طول الزمن تقاليد معروفة مألوفة غير مكتوبة، وأثرت في جدلهم ومناظراتهم ومجالسهم أثراً كبيراً، كما أثرت في طرق تفكيرهم(30/10)
ولغتهم التي يتبعونها في الجدل والمناظرة.
ثم - مما لا شك فيه - أن هناك ارتباطاً قوياً بين اللغة والخلق، فلست تجد في لغة أجنبية من ألفاظ الملق وعباراته ما تجده في اللغة العربية مما أدخله عليها الفرس والأتراك، ولا تجد من عبارات الحشو التي تدل على الذل والخضوع ما تجد في لغتنا العربية الحديثة كانت اللغة ديمقراطية شريفة نبيلة يوم كانت اللغة العربية لغة العرب الديمقراطيين الذين لا يفرقون كثيراً بين مخاطبة الأمير ومخاطبة بعضهم بعضاً، ثم أصبحت لغة العبيد يوم تسرب إلى أهلها الذل والعبودية - لقد جلست أول أمس إلى رجل يحدث (باشا) فكان ما أحصيت في حديثه من (سعادة الباشا) أكثر من كلماته في الموضوع - ومالي أذهب بعيداً - مدلول الكلمة في اللغة العربية أصبح غير مدلوله في اللغة الأجنبية، فإذا قال الألماني أو الإنجليزي (نعم أفعل) لم تدل على نفس المعنى الذي يقوله المتكلم باللغة العربية (نعم أفعل) (فنعم أفعل) العربية تدل على قد يفعل وقد لا يفعل - والسامع إذا سمعها شك في مدلولها (هل يفعل أو لا يفعل) فاحتاج إلى أن يكرر عليه الطلب والرجاء. واحتاج المتكلم أن يعيد (نعم أفعل) وربما أقسم، وربما استعمل كل صيغ التأكيد، وهي بعد هذه الأيمان وهذه التأكيدات كلها لا يزال مدلولها أنه قد يفعل وقد لا يفعل - وهو إذا لم يفعل لم يخجل، لأنه حقق وجهاً من وجوه الجملة - بل المتكلم الشرقي إذا قال (سأفعل) باللغة الأجنبية كانت أقوى في نظره وأكثر التزاماً مما إذا قالها باللغة العربية، والمتكلم هو هو، لم يتغير في الكلمة إلا التعبير عنها بإحدى اللغتين، فإذا قالها العربي لأجنبي كان لها أشد احتراما ولتنفيذها أشد رغبة وأقوى إرادة - أليس في هذا كله دليل على شدة الارتباط بين اللغة والعقل واللغة والخلق، وأن العقل واللغة والخلق كلها تتفاعل، فإذا رقيت اللغة تبعها - نوعاً ما رقي العقل والخلق، وإذا رقي العقل تبعه - نوعاً ما - رقي اللغة والخلق، وهكذا. ومن هذا تنتج معادلات جبرية معقدة الحل.
إن الغيرة القومية والنهضة الشرقية تتطلبان أن يعنى قادتها بهذه المظاهر، وأن يضعوا للأمة تعاليم جديدة في اللغة والتفكير، فهم مطالبون بكل الوسائل أن يميتوا ألفاظ الملق من اللغة العربية ويحيوا ألفاظ الأدب النبيل، وأن يربطوا أشد الربط بين الألفاظ ومدلولاتها، فلا يسمحوا أن يضيعوا مدلول الألفاظ كما هي ضائعة اليوم - وأن يضربوا الأمثال(30/11)
للناشئين في الجدل والمناظرات فيعلموهم كيف تؤدي المعاني على وجوهها، وكيف تلتزم حدود الجدل فلا تتخطى، وكيف يرسم الغرض الذي يرمي إليه الباحث، وكيف يختط السبيل اليه، وكيف يوفر الزمن إذا هو التزم ألا يقول إلا جديداً في المعنى، وكيف يصل إليه من أقرب طريق.
ولو فعلنا ذلك لوفرنا على المجالس زمنها وتفكيرها ولوصلنا في مسائلنا إلى نتائج خير مما نصل إليه الآن، بل عندي أن السرعة مع الخطأ أحياناً خير من الإبطاء الممل والتفكير الراكد مع الصواب دائماً.
أحمد أمين(30/12)
أحاديث الناس؟!
للأستاذ حسن جلال
المنظر الأول
(في الطريق)
رجلان يسيران إلى جانب الطريق. فيصادفهما ثالث يعرف أحد الرجلين دون الآخر فيستوقفه. ويدور بينهما الحوار الآتي بينما ينتحي الرجل الآخر ناحية ريثما ينتهي صاحبه من الحديث.
1 - أين أنت يا رجل؟ لا نكاد نراك إلا مرة في كل عام!
2 - أنا (تحت الأنظار) يا فندم!
1 - كن فوقها واظهر!
2 - ها. ها!
1 - سلامات!
2 - أوحشتنا!
1 - طيبون!
2 - الله يحفظك!
1 - إلى أين؟
2 - أرافق صاحبي هذا (ويشير إليه)
1 - طيب يا أخي (أروفوار)!
2 - مع السلامة يا عزيزي!
يتصافحان بشدة ويعود الرجل إلى صاحبه الذي كان ينتظره ويقول:
روح الله لا يرجعك. إنك ثقيل!
الصاحب - من هذا؟
- والله لست أعرف اسمه!
- ظننت من حرارة حديثكما أنه أحد أقاربك المقربين!(30/13)
- على العكس. فإني لم أره في حياتي قبل هذه المرة إلا مرة واحدة. وكان ذلك في (قطار البحر) هذا الصيف حيث كنا نحن الاثنين في طريقنا إلى الإسكندرية فقطعنا الطريق في الحديث ولكني لم أقابله بعد ذلك إلا الآن
(ينصرفان وهما آخذان في مثل هذا الكلام)
المنظر الثاني
(في التلفون)
رجل يعزي صاحباً له في وفاة والده
2 - آلو. فلان؟
2 - نعم أنا فلان!
1 -
2 - آلو! آلو!
1 -
2 - ماذا تقول؟
1 - أقول!!
2 - لست أسمعك جيداً!
1 - ألم يتوف المرحوم والدك؟
2 - نعم مات.
1 - إني أعزيك. البقية في حياتك!
2 - متشكر يا أخي. أبقى الله حياتك!
1 - أنا تألمت جداً. ولكن هذا حال الدنيا!
2 - أي نعم. ربنا يلهمنا الصبر!
1 - (شد حيلك) أنت. والبركة فيك (برضو)!
2 - بارك الله فيك. أنا متشكر لسؤالك.
1 - العفو يا حبيبي!(30/14)
ويضع السماعة في ضجر وهو يقول:
جاتك داهية في أبوك مطرح ما راح!
المنظر الثالث
(في النادي)
جماعة من الأصحاب يجلسون حول منضدة يتحدثون:
1 - ألم يعد يأتي (فلان) إلى النادي؟ إني لم أره هنا منذ زمان.
2 - أعوذ بالله من غضب الله! أنا عارف إيه اللي فكرك (باللهو الخفي) ده دلوقت؟
3 - سبحان الله يا أخي ما تفهمش ليه أنا كمان ما أقبلوش الجدع ده! أهو تجدني أكرهه كده لله في لله!
4 - جات دا داهية في غلاسته بعيد عنك!
1 - آه. أفتكرنا القط جانا ينط!
2 - أتفرج يا سيدي داخل نافش ازاي زي الديك الرومي
يقبل (فلان) ويدخل عليهم
الجميع - أهلا. . . . . ن وسهلاً فلان بك!
1 - اتفضل هنا.
(ويقدم له مقعد)
2 - لا والله. تعال جنبي أنا هنا!
أيها القارئ:
صدقني لقد حضرت هذه الأحاديث جميعها بنفسي. وسمعتها بأذني. ولست أظنك إلا سمعت لها أشباهاً ونظائر كثيرة. فأنا إنما أذكرك بها الآن لأهمس في أذنك قبل أن أتركك:
(ما هكذا تكون (أحاديث الناس) الطيبين! وخليق بذي الوجهين الذي يستقبل (الوجوه) بلسان، ويشيع (الأقفية) بلسان آخر، أن يعقد لسانيه، إن كان لا يملك أن يتخلى عن أحد وجهيه!)
حسن جلال(30/15)
الروضة
بحث طريف لم ينشر
للعلامة المغفور له أحمد باشا تيمور
الروضة جزيرة بها مقياس النيل واقعة بين مصر القديمة والجزيرة، وملخص تاريخها أنها من الجزر القديمة الحادثة قبل الفتح الإسلامي ولكن لا يعلم زمن حدوثها. وبسبب قربها من قاعدة الديار المصرية وطيب هوائها وموقعها ظلت في كل جيل مطمح أنظار الملوك والأمراء وذوي اليسار، وتعاقب عليها حالان فكانت تارة تجعل حصنا للدولة وأخرى متنزها حاويا للبساتين والدور والمساجد والحمامات كما يأتي.
الحصن القديم والحصن الطولوني:
لما فتح الله على المسلمين مصر وملكوا الحصن الشرقي المعروف بقصر الشمع لجأ المقوقس وقومه إلى حصن كان بهذه الجزيرة، وبعد تمام الفتح خرب الأمير عمرو بن العاص بعض أبراجه وأسواره ثم نما عمرانها بعد ذلك فكانت في ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر عامرة بالدور المشرفة على النيل من كل جهة، وكان بها خمسمائة عامل معدة لحريق يطرأ أو هدم. وفي إمارة أحمد بن طولون بنى بها حصناً ليحرز فيه حرمه وماله وذخائره لما بلغه مسير موسى بن بغا من العراق قاصداً مصر ثم أهمل بعد الدولة الطولونية فأخذه النيل شيئاً فشيئاً.
المختار والروضة:
وكانت بها الصناعة لعمل السفن الحربية فلما تولى محمد بن طغج الإخشيد على مصر نقل الصناعة إلى ساحل الفسطاط وأنشأ موضعها بستاناً سماه المختار وبنى فيه قصراً وأماكن له ولغلمانه، وكان يفاخر به أهل العراق، وبقى بعده فكان يتنزه فيه المعز الفاطمي وابنه العزيز، ثم في أيام استيلاء الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر الجمالي على وزارة الفاطميين وحجره على الخليفة أنشأ في شمالي الجزيرة مكانا نزها سماه الروضة وبنى فيه المناظر البديعة، فمن حينئذ عرفت الجزيرة كلها بالروضة وكانت تعرف في أول الإسلام بالجزيرة وبجزيرة مصر ثم بجزيرة الحصن. هذا قول عامة المؤرخين، وقال ابن المتوج(30/17)
انم سميت بالروضة لأنه لم يكن بالديار المصرية مثلها. وبعد قتل الأفضل بنى بها المأمون البطائحي الوزير منظرة بقيت إلى آخر الدولة الفاطمية، ويذكر المؤرخون انه بناها مكان الصناعة بعد أن نقل الصناعة إلى مكانها القديم بالفسطاط، ولا يخفى أن نقلها أول مرة من الجزيرة كان زمن الإخشيد كما تقدم، ولم نرهم ذكروا أنها أعيدت إليها ولا رأينا منهم من تنبه لذلك غير الإمام السيوطي في كوكب الروضة فانه علق على هذا الخبر بقوله (وهو يدل على أن الصناعة أعيدت إلى الروضة بعد أن نقلها الإخشيد إلى ساحل مصر حتى نقلت ثانياً).
الهودج:
ولما تولى الآمر بأحكام الله الخلافة أنشأ بها قصراً على النيل بجوار البستان المختار سماه الهودج وأسكن به زوجته الغالية البدوية، وسبب ذلك أنه كان مغرما بالجواري العربيات فبلغه أن بصعيد مصر جارية من أكمل العرب وأظرف نسائهم جميلة شاعرة فأرسل إلى أهلها وخطبها وتزوجها، فلما نقلت إلى القصر انقبضت نفسها من حيطانه واشتاقت إلى تسريح طرفها في الفضاء على ما اعتادته فبنى لها الهودج على شاطئ النيل بالجزيرة في شكل غريب وصار يتردد عليه إلى أن قصده رابع ذي القعدة سنة 524 فلما بلغ رأس الجسر مما يلي الروضة وثب عليه قوم من النزارية كانوا كامنين له هناك وضربوه بالسكاكين حتى أثخنوه فحمل إلى منظرة اللؤلؤة بشاطئ الخليج وقد مات. قال ابن سعيد وقد أكثر الناس من ذكر الآمر والبدوية وابن عمها حتى صارت رواياتهم كأحاديث البطال وألف ليلة وليلة وما أشبه ذلك. فمما روي عنها أنها بقيت متعلقة الخاطر بابن عم لها ربيت معه يعرف بابن مياح فكتبت إليه من قصر الخليفة الآمر:
يا ابن مياح إليك المشتكى ... مالك من بعدكم قد ملكا
كنت في حي مطاعا آمرا ... نائلا ما شئت منكم مدركا
فأنا الآن بقصر موصد ... لا أرى إلا خبيثاً ممسكا
كم تثنينا كأغصان النقا ... حيث لا نخشى علينا دركا
وتلاعبنا برملات الحمى ... حيثما شاء طليق سلكا
فأجابها بقوله(30/18)
بنت عمي والتي غذيتها ... بالهوى حتى علا واحتبكا
بحت بالشكوى وعندي ضعفها ... لو غدا ينفع منا المشتكى
مالك الأمر إليه يشتكى ... هالك وهو الذي قد أهلكا
شأن داود غدا في عصرنا ... مبدياً بالتيه ما قد ملكا
وبلغت الآمر الأبيات فقال لولا أنه أساء الأدب في البيت الرابع لرددتها إلى حيه وزوجتها به. قال القرطبي وللناس في طلب ابن مياح واختفائه أخبار تطول. وكان من عرب طيء في عصر الأمير طراد بن مهلهل، فلما بلغته قصة الآمر مع الغالية قال:
ألا أبلغوا الآمر المصطفى ... مقال طراد ونعم المقال
قطعت الأليفين عن ألفة ... بها سمر الحي بين الرجال
كذا كان آباؤك الأكرمون؟ ... سألت فقل لي جواب السؤال
فقال الآمر لما بلغته الأبيات جواب سؤاله قطع لسانه على فضوله وأمر بطلبه في أحياء العرب ففر ولم يقدر عليه فقالت العرب ما أخسر صفقة طراد! باع أبيات الحي بثلاثة أبيات. وفي خطط المقريزي أن الهودج بقي متنزهاً للخلفاء الفاطميين بعد الآمر إلى أن خرب وجهل مكانه بالروضة.
قلنا ما أشبه الليلة بالبارحة فقد وقع لوالي مصر عباس باشا الكبير المتولي سنة 1264 مثل ما وقع للآمر في بدئه ونهايته فانه كان مشغوفاً بإحدى البدويات أيضا فتزوجها وأسكنها قصرا في ضاحية من القاهرة وصار يتردد عليه خفية ثم كانت نهاية أمره أنه قتل غيلة في قصره بينها سنة 1270. قتله مملوكان من الجركس بإغراء رجال الدولة العثمانية على ما قيل لأنهم آنسوا منه ميلا للخروج عن طاعتهم والاستقلال بمصر، وقد أدركنا الناس في مصر يلهجون بحديث البدوية ويروون فيه روايات شتى، وسمعنا العامة يلوكون أغنية قيلت في ذلك الزمن أولها (يا حالي ع البدوية) وقليل من أهل مصر الآن من يعرف هذا الخبر وهو من غريب ما يتفق وقوعه لملكين في مملكة واحدة.
القلعة الصالحة:
وفي أواخر الدولة الأيوبية بنى الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل محمد قلعته بهذه الجزيرة وأنشأ بها الدور والقصور وغرس الأشجار وبنى بها جامعاً وعمل لها ستين(30/19)
برجاً وأنفق عليها أموالاً جمة فعرفت بالقلعة الصالحية وبقلعة المقياس وبقلعة الروضة وبقلعة الجزيرة واحتاج بسببها إلى هدم أماكن كثيرة من دور وقصور ومساجد ليدخلها فيها وخرب الهودج والمختار، ويقال إنه قطع من الموضع الذي أنشأها فيه ألف نخلة مثمرة كان رطبها يهدى لملوك مصر لحسن منظره وطيب طعمه، ولما كملت جعلها مقر ملكه وسرير سلطانه وأسكن بها جنوده البحرية وشحنها بالأسلحة وآلات الحرب وما يحتاج إليه من الأقوات خشية محاصرة الإفرنج فانهم كانوا حينئذ عازمين على قصد البلاد المصرية. وكان سور هذه القلعة الشرقي مطلاً على فرع النيل الشرقي الذي بين الجزيرة ومصر وكان بها الإيوان الملكي العديم المثال، وفيها يقول ابن سعيد الأندلسي (وكنت أشق في بعض الليالي بالفسطاط على ساحلها فيزدهيني ضحك البدر في وجه النيل أمام سور هذه الجزيرة الدري اللون ولم أنفصل عن مصر حتى كمل سور هذه القلعة وفي داخله من الدور السلطانية. ما ارتفعت إليه همة بانيها وهو من اعظم السلاطين همة في البناء وأبصرت في هذه الجزيرة إيوانا لجلوسه لم تر عيني مثاله ولا أقدر ما أنفق عليه وفيه من صفائح الذهب والرخام الأبنوسي والكافوري والمجزع ما يذهل الأفكار ويستوقف الأبصار ويفضل عما أحاط به السور أرض طويلة وفي بعضها حاظر حظر به على أصناف الوحوش التي يتفرج عليها السلطان وبعدها مروج تنقطع فيها مياه النيل فينظر بها أحسن منظر، وقد تفرجت كثيراً في طرف هذه الجزيرة مما يلي بر القاهرة فقطعت فيه عشيات مذهبات، لم تزل لأحزان الغربة مذهبات) انتهى. واستيعاب ما قبل في محاسن هذه القلعة يطول ويخرج بنا عن المقصود.
ولما ملك المعز أيبك التركماني أول ملوك الدولة التركية البحرية أمر بهدم هذه القلعة ليعمر منها مدرسة المعزية واقتدى به ذوو الجاه فأخذوا كثيرا من سقوفها وشبابيكها وغيرها، ثم لما ملك الظاهر بيبرس البندقداري اهتم بإعادتها كما كانت فأصلح بعض ما تهدم منها، ولما تولى المنصور قلاوون نقل منها ما يحتاج إليه في بناء البيمارستان والقبة المنصورية، ثم نقل منها ابنه الناصر محمد ما احتاج إليه في أبنيته فدب إليها الخراب إلى أن ذهبت كأن لم تكن قال المقريزي وبقي من أبراجها عدة قد انقلب أكثرها وبنى الناس فوقها دورهم المطلة على النيل. قلنا أما موضعها بالروضة فقد صرح ابن اياس (ج 1 ص 83) أنها(30/20)
بنيت بالقرب من المقياس أي في الجهة الجنوبية للجزيرة، ونقل الإمام السيوطي في كوكب الروضة في كلامه على جامع الريس المعروف اليوم بزاوية البسطامي نصوصا من التوقيع الذي كتبه الملك المظفر بيبرس الجاشنكير لمنشئه يعلم منها أن هذا المسجد بني موضع برج الطراز أحد أبراج هذه القلعة. وقال ابن دقماق في انتصار بناه الرئيس صدقة على أول برج من أبراج قلعة الروضة. وذكر السيوطي أيضا في كلامه على جامع المقياس المعروف اليوم بجامع عبد الرحمن بن عوف أن الملك الصالح عمره بقلعة الروضة ونرى في المصور الملحق بهذه المقالة أن كلا المسجدين في في الجهة الجنوبية من الجزيرة. وقد ظهر لنا من هذا ومما استخلصناه من أقوال غيرهم من المؤرخين أن هذه القلعة كانت في الثلث الجنوبي للجزيرة آخذة من مقياس النيل في المواضع الشمالية منه إلى زاوية البسطامي الواقعة في موضع برج الطراز أول برج من أبراجها من الشمال وأنها كانت مطلة من الشرق والغرب على فرعي النيل الصغير والكبير، ومما يدل أيضا على إشرافها على النيل من الجانبين قول ابن سعيد الأندلسي في وصفها (وركبت مرة هذا النيل أيام الزيادة مع الصاحب محيي الدين بن ندا وزير الجزيرة وصعدنا إلى جهة الصعيد ثم انحدرنا واستقبلنا هذه الجزيرة وأبراجها تتلألأ والنيل قد انقسم عليها فقلت:
تأمل لحسن الصالحية إذ بدت ... وأبراجها مثل النجوم تلالا
وللقلعة الغراء كالبدر طالعا ... تفرج صدر الماء عنه هلالا
ووافي إليها النيل من بعد غيبة ... كما زار مشغوف يروم وصالا
وعانقها من فرط شوق لحسنها ... فمد يمينا نحوها وشمالا
فانه أبان بتشبيهه ماء النيل بالهلال عن استدارته بطرفها الجنوبي، ثم أبان عن امتداد في جانبيها بتشبيهه بمشوق يعانقها باليمين والشمال وإذا عرفنا ذلك وعرفنا فيما تقدم أن المختار والهودج كانا مطلين على النيل وأن الملك الصالح خربهما ليدخلهما في القلعة كسائر ما خربه من الأماكن، تبين لنا أنهما كانا في الجهة الجنوبية أيضا. والغالب على الظن أنهما كانا على الفرع الكبير للنيل الذي بين الجزيرة والجيزة أي في أحد المواضع الواقعة بين المقياس وجسر عباس لأن المختار أنشئ موضع الصناعة ويستبعد أن تكون الصناعة على الفرع الصغير الشرقي.(30/21)
قصر نجم الدين:
ذكر الفرنسيس في كتابهم وصف مصر (ج15 ص 450و465) أنهم أدركوا زمن الاحتلال بقايا قصر بالمقياس ملاصق له من الشرق ومطل على الفرع الشرقي للنيل يعرف بقصر السلطان الملك الصالح نجم الدين ولم يكن باقياً منه وقتئذ غير قاعة كبيرة تتصل بها عدة أماكن أكثرها خرب، وهو بلا ريب من قصور القلعة الصلاحية، ولعل الذي حفظه من الدثور عناية الدول في كل جبل بالمقياس وأبنيته، ولكن يظهر لنا أن الذي أدركوه منه لم يكن من الأبنية الصلاحية القديمة بل كان مما جدده فيه السلطان الغوري من القاعات والمساكن. ومما يذكر عن هذا القصر نزول السلطان سليم العثماني به مدة مقامه بمصر فانه لما تم له فتحها وصفا له الوقت بعد قتل السلطان طومان باي استطاب السكنى بالروضة فانتقل إليها ونزل بالمقياس. قال ابن اياس في حوادث ربيع الثاني من سنة 923هـ (وفي يوم الاثنين سادسه أشيع أن ابن عثمان عدى إلى المقياس وكان في ذلك اليوم رياح عاصفة فكاد يغرق، فلما سلم من الغرق أقام بالمقياس ونقل وطاقه إلى الروضة ومصر العتيقة، ثم أن أمراءه طردوا السكان الذين بالروضة وبمصر العتيقة وسكنوا في دورهم فحصل للناس الضرر الشامل بسبب ذلك فأعجبه المقياس فأقام به مدة أيام). ثم إنه أنشأ منظرة من خشب فوق المقياس جعل إقامته بها وهي التي سماها ابن إياس بالقصر فقال عنها في حوادث جمادى الثانية من هذه السنة (وفيه أشيع أن السلطان سليم شاه أنشأ له قصراً من خشب بالمقياس من فوق القصر الذي أنشأه السلطان الغوري فوق بسطة المقياس وصار يجلس به في اليوم الحر وأحضر جماعة من النجارين والبنائين وشرع في بنائه حتى فرغ منه في أيسر مدة). قلنا وفي هذه المنظرة حاول (قانصه العادلي) أحد أمراء الجراكسة قتله انتقاما لطومان باي وقومه ذكر ذلك ابن زنبل الرمال في تاريخ فتح السلطان سليم لمصر فقال معبراً عن هذه المنظرة بالطيارة (فدبر في نفسه أن يلبس مثل العرب ويأخذ معه جماعة من أهل القوة وينزل إلى مركب ليلا ويسير بها تحت المقياس ويجعل له سلم تسليم ويصعد عليه وينزل إلى داخل المقياس ويقتل السلطان سليماً ويأخذ بثأر قومه وما علم أن الحي ما له قاتل ثم إنه فعل ذلك حتى وصل إلى الطيارة التي فوق المقياس وهي محل السلطان فوجد الحراس مستيقظين) الخ وعبر عنها الإسحاقي في تاريخه(30/22)
بالكشك متابعة للأتراك فقال (وكان مقام السلطان سليم بالروضة وبنى له كشكاً فوق قاعات المقياس وهو مشرف على بحر النيل والروضةوالمقياس، ولما رحل السلطان سليم منه أقفل ومنع من يجلس فيه حرمة لمولانا السلطان سليم). وروى قطب الدين الحنفي في تاريخ مكة المسمى بالاعلام أنه راى بيتين من الشعر كتبهما السلطان سليم بخطه على رخامة بهذا (الكوشك) مدة مقامه به فقال (ورأيت بيتين بالعربي بخطه الشريف كتبهما في علو المقياس في (الكوشك) الذي أمر ببنائه لما افتتح مصر وسكن الروضة وقد انمحى لطول الزمان مداده، ومال إلى لون البياض سواده، وكان هذا (الكوشك) محترما مقفلا لا يصل إليه أحد لعظمة بانيه، ولا يبتذل بالدخول إليه تعظيما لراعيه، فلما قدمت مصر في سنة 943 وكان يوم كسر النيل السعيد ففتحوا هذا الكوشك لبكلربكي) مصر يومئذ خسرو باشا وكنت مصاحبا لمعلمه مولانا عبد الكريم العجمي فطلع وأطلعني معه في صحبة خسرو باشا المذكور فرأيت مكتوبا على الرخام الأبيض كتابة خفية لا تكاد تظهر إلا بتأمل، هذين البيتين وهما
الملك لله من يظفر بنيل غني ... يردده قسراً ويضمن منه ما أدركا
لو كان لي أو لغيري قدر أنملة ... فوق التراب لكان الأمر مشتركا
وتحتهما ما صورته (كتبه سليم) بذلك الخط وذلك القلم ولعمري أن كان هذان البيتان من نظم المرحوم فهما غاية في البداعة، ونهاية التمكن من الصناعة، فيدل على تمكنه رحمه الله أيضا في اللسان العربي لأنهما من أعلى طبقات الشعر العربي الفصيح لبليغ المنسجم وإن كان قد تمثل بهما وهما لغيره فهذه أيضا مرتبة عالية في حسن التمثيل ولطف الاستحضار لفهم الأشعار العربية والذوق لها وهذا القدر يستكثر على علماء الروم وعلماء العجم المكبين على علوم العربية فضلا عن سلاطينهم المشغولين بضبط الممالك) انتهى. قلنا البيتان معروفان لأبي العلاء المعري في لزوم ما لا يلزم وصحة العجز في البيت الأول (يردده قسرا وتضمن نفسه الدركا)، وأما القصر وما يتبعه من الأبنية فلم يبق لها أثر ودخلت كلها في قصر حسن باشا المناسترلي وحديقته.
الجزيرة في حكم الأسرة المحمدية العلوية:
في زمن العزيز محمد علي أنشأ ولده العزيز إبراهيم في خرطوم الجزيرة الشمالي بستاناً(30/23)
كبيراً جلب له الأشجار الغريبة من البلاد البعيدة وبنى به منظرة عالية ومغارة مجللة بالودع، وقد أدركنا بقايا ذلك. وكان من مزايا هذا البستان احتواؤه على أنواع كثيرة من الأشجار والنباتات المحتاج إليها في الطب، ومن طالع كتاب المادة الطبية للرشيدي المسمى عمدة المحتاج يرى عجباً مما كان فيه من هذه الأنواع، وكان قصد العزيز إبراهيم رحمه الله الاستغناء بها عن جلب العقاقير من البلاد الإفرنجية بقدر المستطاع.
وقد أنشأ أمراء ذلك العصر وسراته القصور والبساتين الأنيقة بالجزيرة، وكان للخديو إسماعيل بن العزيز إبراهيم قصر بديع في وسطها على الشاطئ الشرقي تحيط به حديقة غناء ثم أهملت من بعدهم وهجرت فدب إليها الخراب وأدركناها جميعاً وهي خاوية على عروشها، وانحط شأن الجزيرة إلى أن أنشئت فيها الجسور الثلاثة: جسر محمد على، وجسر الملك الصالح بينها وبين مصر القديمة، وجسر عباس بينها وبين الجيزة، فعاد إليها الانتعاش وأقبل الناس على البناء بها فهدمت قصورها وبيعت أراضيها قطعاً وامتلأ الثلث الجنوبي بالدور الصغيرة والكبيرة ولكن على الطراز الإفرنجي الجديد وقطع ما كان بها من الشجر والنخل وحطمت عروش الكروم فعريت من الظلال وزالت عنها مسحة الملاحة القديمة بعد أن كانت ببساتينها وحقولها قرة للعيون وفرجة للمحزون.(30/24)
أبو عبد الله آخر ملوك الأندلس
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 1 -
مأساة شهيرة في التاريخ الإسلامي، هي مصرع غرناطة آخر معقل للإسلام بالأندلس، وشخصية محزنة هي شخصية آخر ملك أندلسي مسلم، طويت على يده تلك الصفحة المجيدة الباهرة التي افتتحها موسى وطارق في تاريخ الإسلام بإسبانيا قبل ذلك بثمانية قرون.
لبث الإسلام في إسبانيا خلال هذه القرون الثمانية يغالب النصرانية وتغالبه، والإسلام مذ انهار صرح الدولة الأموية دائم الخلاف والتفرق، سائر أبداً في طريق الضعف والانحلال؛ والنصرانية تجتمع دائماً على غزوه ونضاله، وتنتزع منه تباعاً قواعده وثغوره، حتى إذا جاء القرن الثامن لم يبق من دولة الإسلام الشامخة بالأندلس سوى مملكة غرناطة الصغيرة، تواجه وحدها داخل الجزيرة عدوها القوي. وسطعت هذه الأندلس الصغيرة مدى حين، ولكنها لم تنج من خطر التفرق؛ وإسبانيا النصرانية أثناء ذلك متربصة بها تكاد تلتهمها من وقت إلى آخر، لولا أن كانت صولة الإسلام في الضفة الأخرى من البحر - في المغرب الأقصى - تروعها وتردها. وكانت مملكة غرناطة كلما تبينت شبح الخطر الداهم تستغيث بجارتها المسلمة القوية فيما وراء البحر، دولة بني مرين. ولكن بني مرين لم يستجيبوا دائما إلى دعوة الإسلام المحتضر بالأندلس، وكانت لهم أحياناً مطامع ومشروعات في الأندلس ذاتها. وكانت إسبانيا النصرانية كلما استيقنت تصرم العلائق بين الشقيقتين انقضت على الأندلس فاقتطعت منها ثغراً أو قاعدة جديدة. وكان رجالات الأندلس يستشفون من وراء ذلك خطر الفناء المحقق، بل لقد استشعر به ابن الخطيب وزير الأندلس وكاتبها الكبير قبل تحققه بأكثر من قرن، وصرح به في إحدى رسائله إلى ملك فاس إذ يدعوه إلى غوث الأندلس ونجدتها ويقول: (ولاشك عند عاقل أنكم إن انحلت عروة تأميلكم أو أعرضتم عن ذلك الوطن استولت عليه يد عدوه) وهكذا نرى الأندلس منذ أوائل القرن التاسع الهجري تسير بسرعة في طريق الانحلال والفناء، حتى إذا كانت أواخر هذا القرن لم يبق للإسلام في إسبانيا سوى مملكة غرناطة الصغيرة وفيها مدن وثغور قلائل تتربص(30/25)
بها النصرانية وتعد العدة لسحقها.
وكان على عرش غرناظة يومئذ السلطان أبو الحسن علي بن سعد النصري الأحمري. ولي الملك سنة 871 هـ (1466م)، ولكنه لم يستخلص الملك لنفسه إلا بعد نضال عنيف بينه وبين منافسيه وعلى رأسهم أخوه أبو عبد الله المعروف (بالزغل). وكانت الحرب الأهلية تضطرم في مملكة غرناطة كلما لاحت فرصة للتنازع على العرش. فلما استقر أبو الحسن في عرشه، أبدى همة فائقة في تحصين المملكة وتنظيم شئونها، وبث فيها روحاً جديداً من البأس والطمأنينة، واستطاع أن يسترد عدة من الحصون والقواعد التي افتتحها النصارى، ولاح للنصرانية أن الأندلس المحتضرة تكاد تبدأ حياة جديدة. بيد أن هذا البعث الخلب لم يطل أمده. ذلك أن عوامل الخلاف الخالدة عادت تعمل عملها، وبذر أبو الحسن حوله بذور السخط والغضب بما ارتكبه في حق الأكابر والقادة من العسف والشدة، وبما أغرق فيه من صنوف اللهو والعبث. وكان أبو الحسن قد اقترن بالأميرة عائشة ابنة عمه السلطان أبي عبد الله الأيسر، ورزق منها ولدين هما محمد ويوسف. ولكنه عاد فاقترن بنصرانية رائعة الحسن تعرف في الرواية العربية (بثريا الرومية). وتقول الرواية الإسبانية أن (ثريا) هذه كانت ابنة عظيم من عظماء إسبانيا هو القائد (سانكو كمنيس دي سوليس) وأنها أخذت أسيرة في بعض المعارك وهي صبية فتية، وألحقت وصيفة بقصر الحمراء، فهام أبو الحسن بجمالها حباً، ولم يلبث أن تزوجها واصطفاها على زوجه الأميرة عائشة المعروفة (بالحرة) تمييزاً لها من الجارية الرومية أو إشادة بعفتها وطهرها ولم يكن اقتران السلطان بنصرانية بدعة، ولكنه تقليد قديم في قصور الأندلس، وقد ولد كثير من خلفاء الأندلس وأمرائها العظام من أمهات من النصارى مثل عبد الرحمن الناصر وحفيده هشام المؤيد. وكان لهذا التقليد أثره السيئ في انحلال عصبية الدولة الإسلامية، بيد أنه كان أشد خطرا وقت الانحلال العام. وكان وجود أميرة أجنبية في قصر غرناطة تستأثر بالسلطان والنفوذ في هذا الظرف العصيب، عاملا جديدا في إذكاء عوامل الخصومة والتنافس. ذلك لأن (ثريا) أعقبت من السلطان أبي الحسن ولدين، وأرادت أن يكون العرش لأحديهما، وبذلت كل ما استطاعت من الإغراء والدس لإبعاد خصيمتها الأميرة عائشة عن كل نفوذ وحظوة، وحرمان ولديها محمد ويوسف من كل حق في الملك، وكان أكبرهما محمد ولقبه أبو عبد(30/26)
الله ولي العهد المرشح للعرش، فنزل أبو الحسن عند سعي حظيته وأعصى عائشة وولديها عن عطفه ورعايته: ولا زالت ثريا في سعيها ودسها حتى اعتقلهم أبو الحسن في أحد أبراج الحمراء وضيق عليهم وأخذ يعاملهم بمنتهى الشدة والقسوة، فأثار هذا التصرف غضب كثير من الكبراء الذين يؤثرون الأميرة الشرعية وولديها بعطفهم وتأييدهم، وانقسم القصر وانقسم الزعماء والقادة إلى فريقين خصيمين، واضطرمت الأهواء والشهوات والأحقاد، واشتد السخط على أبي الحسن وحظيته التي أضحت سيدة غرناطة الحقيقية، واستأثرت بكل سلطة ونفوذ.
وكانت الأميرة عائشة امرأة وافرة العزم والشجاعة فلم تستسلم إلى قدرها الجائر، بل عمدت إلى الاتصال بعصبتها وأنصارها، وأخذت تدبر معهم وسائل الفرار والمقاومة. وفي ذات ليلة استطاعت أن تفر من الحمراء مع ولديها محمد ويوسف بمعاونة بعض الأصدقاء المخلصين. وتقدم الرواية إلينا عن هذا الفرار صورا شائقة، فتقول إن الأميرة استعانت بأغطية الفراش على الهبوط من نوافذ البرج الشاهق في جوف الليل، وأبدت في ذلك من الجرأة والشجاعة ما يخلق بأبطال الرجال. وكان ذلك في ليلة من ليالي جمادى الثانية سنة 887 هـ (1482م). واختفى الفارون حيناً حتى قويت دعوتهم وظاهرهم فريق كبير من أهل غرناطة، وظهر الأمير الفتى محمد أبو عبد الله في وادي آش حيث مجمع عصبته وأنصاره ونشبت الثورة وانقضت العاصفة على أبي الحسن، وكانت عصبته أقلية ففر إلى مالقة وكان بها وقتئذ أخوه الأمير أبو عبد الله محمد بن سعد (المعروف بالزغل) يدافع عنها جيشا جرارا من النصارى سيره ملك قشتالة (فرديناند الخامس) لافتتاحها. وجلس أبو عبد الله محمد بن السلطان أبي الحسن مكان أبيه على عرش غرناطة (أواخر سنة 887 هـ) وأطاعته غرناطة ووادي آش وأعمالهما وبقيت مالقة وغرب الأندلس على طاعة أبيه. وكان أبو عبد الله يومئذ فتى في نحو الخامسة والعشرين.
وكان ملك قشتالة يرقب سير الحوادث في مملكة غرناطة بمنتهى الاهتمام. فلما اضطرمت بنار الحرب الأهلية ولاحت له فرصة الغزو والفتح، سير جيشه إلى مالقة لافتتاحها ولكن المسلمين تأهبوا لرد النصارى بعزم وقوة وهزموهم في عدة مواقع فيما بين مالقة وبلش (فيليز وهزم النصارى في ظاهر مالقة هزيمة ساحقة وقتل وأسر منهم عدة آلاف بينهم(30/27)
عدة من الزعماء والأكابر (صفر 888 هـ - مارس 1483م) وكان منظم هذا الدفاع الباهر الأمير أبو عبد الله (الزغل) فانتعشت آمال المسلمين نوعاً وسرت الحماسة إلى غرناطة واعتزم ملكها الفتى أن يحذو حذو عمه الباسل في الجهاد والغزو وأن ينتهز فرصة اضطراب النصارى عقب الهزيمة، فخرج في قواته في ربيع الأول من هذا العام (أبريل 1483) متجهاً نحو حصن قرطبة شمال شرقي غرناطة؛ واجتاح في طريقه عدداً من الحصون والضياع، ومزق النصارى في عدة معارك محلية؛ ثم ارتد مثقلاً بالغنائم يريد العودة فأدركه النصارى في ظاهر قلعة اللشانة (لوتشينا وكان يزمع حصارها: ونشبت بين الجيشين معركة هائلة ارتد فيها المسلمون إلى ضفاف شنيل والنصارى في اثرهم، فهزم المسلمون هزيمة شديدة وغرق كثير منهم في شنيل. وقتل وأسر كثير من قادتهم وفرسانهم، وكان بين الأسرى السلطان أبو عبد الله محمد نفسه، عرفه الجند النصارى من الأسرى أو عرفهم بنفسه خشية الاعتداء عليه وأخذوه إلى قائدهم الكونت كابرا، فاستقبله بحفاوة وأدب وأنزله بأحد الحصون القريبة تحت رقابة حرس قوي) وأخطر في الحال ملكي قشتالة بالنبأ السعيد؛ وعاد المسلمون إلى غرناطة دون ملكهم، فارتاعت غرناطة للنكبة واضطرب الشعب؛ واجتمع الكبراء والقادة وقرروا استدعاء أبي الحسن السلطان المخلوع ليجلس على العرش، ولكن أبا الحسن كان قد هدمه الإعياء والمرض وفقد بصره ولم يستطع أن يضطلع طويلاً بأعباء الحكم، فنزل عن العرش لأخيه محمد أبي عبد الله (الزغل) حاكم مالقة وارتد إلى المنكب فأقام بها حينا حتى توفي، وجلس (الزغل) على العرش يدير شئون المملكة وينظم الدفاع عن أطرافها.
أما السلطان أبو عبد الله بن أبي الحسن فلبث يرسف في أسره عند النصارى وأدرك ملك قشتالة في الحال ما للأمير الأسير من الأهمية، وأخذ يدبر أفضل الوسائل للاستعانة به في تحقيق مآربه في مملكة غرناطة. وبذل أبو الحسن حين عوده إلى العرش مجهوداً لافتداء ولده لا حباً فيه وشفقة عليه، ولكن لكي يحصل في يده ويأمن بذلك شره ومنافسته، وعرض على فرديناند نظير تسليمه أن يدفع فدية كبيرة وأن يطلق عدداً من أكابر النصارى المأسورين عنده فأبى فرديناند وآثر أن يحتفظ بالأسير إلى حين، وبذلت الأميرة عائشة من جهة أخرى مجهوداً آخر لإنقاذ ولدها بمؤازرة الحزب الذي يناصره، واقترحت على ملك(30/28)
قشتالة معاهدة خلاصتها أن يتولى أبو عبد الله الملك في طاعة ملك قشتالة، وأن يدفع له جزية سنوية، وأن يطلق كل عام عدداً معيناُ من النصارى، وأن يدفع مقابل إطلاقه فدية كبيرة وأن يفرج في الحال عن أربعمائة من أسرى النصارى يختارهم ملكهم، وأن يقدم المعاونة العسكرية كلما طلبت اليه، وأن يقدم ابنه الوحيد كفالة مع عدد من أبناء الأسر الكبيرة ومع أن عقد هذه المعاهدة كان خطوة كبيرة في سبيل القضاء على مملكة غرناطة، فإن فرديناند رأى قبل عقدها أن يستغل أسر ملك غرناطة وأن يستعين به على تنفيذ برنامجه الحربي. وكان أبو عبد الله أميراً ضعيف العزم والإرادة، قليل الحزم والخبرة، كثير المطامع والاهواء، ولم يكن يتمتع بشيء من تلك الخلال الباهرة التي امتاز به أسلافه وأجداده العظام بنو الأحمر، وكان الملك والحكم غايته يبتغيها بأي الأثمان والوسائل. وقد ألفى ملك قشتالة القوي في ذلك الأمير الضعيف المستهتر بحقوق أمته ودينه، أداة صالحة يوجهها كيفما شاء، فاتخذه وسيلة لبث دعوته بين أنصاره ومؤيديه في غرناطة وغيرها، وليقنع المسلمين بأن الصلح مع ملك قشتالة خير وأبقى، وسير ملك قشتالة في الوقت نفسه قواته في أنحاء مملكة غرناطة لكي تنتزع أثناء الاضطراب العام كل ما يمكن انتزاعه من القواعد والحصون الإسلامية، فاستولت على عدة منها، ونشبت من جهة أخرى في غرناطة حرب أهلية لم تكن بعيدة عن وحي أبي عبد الله وحزبه، وقامت (البيازين) ضاحية غرناطة بدعوته، وشغل ملك غرناطة (أبو عبد الله الزغل) بإخماد الثورة عن مقاتلة النصارى. وفي نفس هذه الآونة العصيبة أطلق فرديناند سراح أبي عبد الله بعد أن ارتضى عقد المعاهدة التي عرضت عليه مع تعديل يسير في بعض نصوصها، وبعد لقاء تم بين الملكين في قرطبة أعلن فيه أبو عبد الله خضوعه وطاعته لملك قشتالة، واتفق أن تكون الهدنة لعامين وأن تطبق في جميع الأنحاء التي تدين بالطاعة لأبي عبد الله. وظهر أبو عبد الله يبث دعوته في الأنحاء الشرقية والحرب الأهلية قائمة في غرناطة (أوائل سنة 891هـ - 1486م) وبدأت المفاوضة بينه وبين عمه (ملك غرناطة) في الصلح. ولكن حدث أثناء ذلك أن هاجم النصارى مدينة لوشة جنوب غربي غرناطة واستولوا عليها (جمادى الأولى سنة 891هـ) وكان موقف أبي عبد الله ' ثناء هذه الحوادث مريباً؛ وكان يمزج الدعوة لنفسه بالدعوة لملك قشتالة، وشيد بمزايا الصلح المعقود معه، ولم يكن خافياً(30/29)
أنه يستظل بمظاهرة النصارى وفي شوال سنة 891 ظهر أبو عبد الله في (البيازين) فجأة واجتمع حوله أنصاره، وأعلن الثورة على عمه؛ ونشبت بينهما الحرب في ظاهر غرناطة، وأمد فرديناند حليفه أبا عبد الله بالجند والذخائر والمؤن. واستمر القتال بينهما مدى أشهر. وفي ربيع الثاني سنة 892 (1487م) سير فرديناند قواته إلى بلش مالقة (فيليز مالاجا) الواقعة على مقربة من ثغر مالقة ليفتتحها تمهيداً للاستيلاء على مالقة، وأدرك أبو عبد الله الزغل أهمية بلش الحربية فهرع إلى الدفاع عنها مع بعض قواته، وترك البعض الآخر لقتال أبي عبد الله وأهل البيازين ولكن إقدام الزغل وعزمه وشجاعته لم تغن شيئاً، وسقطت بلش في يد النصارى (جمادى الأولى 892 - أبريل 1487) وعاد الزغل بجنده ميمماً صوب غرناطة، ولكنه علم أثناء مسيره أن غرناطة قامت أثناء غيابه بدعوة أبي عبد الله، وأنه دخلها وتبوأ العرش مكانه (جمادى الأولى)، فارتد إلى وادي أش وامتنع بها، وانقسمت بذلك مملكة غرناطة الصغيرة إلى شطرين يتربص كل منهما بالآخر: غرناطة وأعمالها ويحكمها أبو عبد الله محمد، ووادي آش وأعمالها ويحكمها عمه أبو عبد الله الزغل، وتحقق بذلك ما كان يبتغيه ملك قشتالة من تمزيق شمل البقية الباقية من دولة الإسلام بالأندلس تمهيداً للقضاء عليها.
(للبحث بقية)(30/30)
أطلنطس القارة المفقودة!
للدكتور محمد عوض محمد
في زعم طائفة من الكتاب أن المحيط الأطلسي الشمالي لم يكن في جميع العصور بحراً خالصاً، بل كانت تحتله قارة عظيمة تصل ما بين العالم القديم والعالم الجديد. وهذا الزعم هو ما نريد أن نعرض له في هذا المقال.
من أهم ما يمتاز به المحيط الأطلسي - في وقتنا هذا - أنه قليل الجزر. فإذا صرفنا عن الجزائر الملاصقة للسواحل، مما يعده الجغرافيون جزءاً متمماً للقارات، فان هذا المحيط عبارة عن مساحة هائلة من الماء، ليس فيها من الجزر سوى الشيء القليل جداً.
هذه حالة المحيط اليوم، لكن هذه لم تكن حالة المحيط في كل عصر وزمن. فان تعاقب الماء واليابس على الجزء الواحد من سطح الأرض، من الحقائق الجيولوجية المسلم بها. وليس هنالك خلاف في أن أمريكا الشمالية كانت متصلة بأوربا، وأمريكا الجنوبية بأفريقية في زمن جيولوجي قديم.
غير أن القائلين بوجود جزيرة عظيمة أو عد جزر كبيرة في وسط المحيط الأطلسي ما بين ما هو اليوم أمريكا، وبين ما هو اليوم أوربا وأفريقية، أطلقوا عليها اسم قارة اطلنطس - هؤلاء الكتاب يزعمون أن هذه القارة لم تكن موجودة في زمن جيولوجي قديم، يرجع إلى ملايين السنين، بل إلى عهد حديث جداُ، عهد نشأة الإنسان واستعماره لسطح الأرض. ولقد يسرف بعضهم فيزعم أن هذه (القارة) كانت موجودة قبل العصر التاريخي، بحيث كان المصريون القدماء يعلمون من أمرها الشيء الكثير.
من المهم إذن أن نقرر أن الاتصال بين شرق المحيط وغربه في زمن جيولوجي قديم، ليس موضع البحث، وليس هو بالأمر الذي يعنى به هؤلاء الكتاب، بل الذي يعنيهم وجود اليابس في هذه المساحة العظيمة التي لا نرى فيها اليوم سوى الماء، وذلك في عصر حديث شهده الإنسان في أول نشأته.
والآن نتساءل: هل هناك من شاهد على صحة ما ذهب إليه أولئك الكتاب؟
قبل أن نعرض لآراء أصحاب هذا المذهب يحسن بنا أن نكون على حذر من أمرين: أولهما أن وجود هذه القارة أمر يرتاح إليه الخيال البشري المولع دائماً بالغريب المدهش(30/31)
من المسائل العلمية: وكثير من الكتاب في هذا الموضوع يبدأون بحثهم وفي نفوسهم رغبة في أن يثبتوا وجود هذه القارة المزعومة. كالقاضي الذي يبدأ تحقيق الحادث وفي قلبه رغبة في أن تثبت التهمة على المتهمين. وهذه الرغبة قد تصبغ الأدلة الضعيفة بصبغة قوية. وتحمل الباحث على التغاضي عن مواطن الضعف فيما يعرض له من الحجج.
الأمر الثاني الذي يجب أن نحذره، هو أن وجود مثل هذه القارة أمر مرغوب فيه جداً من الوجهة العلمية. . . لأنها تصبح مرجعا نرجع إليه في كثير من المسائل التي صعب علينا فهمها أو تعليلها. فإذا رأينا - مثلاً - في أوربا أو في أفريقية شعباً أو جماعة لا نعرف لها مصدراً، أمكننا أن نقول بكل بساطة إنها بقية من سكان القارة المفقودة - فالرغبة في التخلص من بعض المسائل العويصة قد تجعلنا في اشتياق لأن نسلم بوجود هذه القارة المزعومة وأن نقبل من أجل هذا كثيراً من الاقتراحات الواهية الضعيفة.
إن أول من ذكر قارة أطلنطس فيما بين أيدينا من الكتب هو أفلاطون. فقد حكى في كتابه (طيماوس) رواية عن أحد أجداده أن صولون حكيم اليونان الأشهر لما قدم إلى مصر، وتحدث إلى كاهن من كهنتها، أخبره هذا الكاهن أنه كان في المحيط الأطلسي إلى غرب عمودي الهرقل (بوغاز جبل طارق) جزيرة عظيمة تزيد في الحجم على ليبية (أفريقية) وآسيا الصغرى معاً. وأنها كانت عامرة يسكنها شعب قوي ذو بأس وصولة، استطاع أن يبسط سلطانه على جميع قارة أطلنطس وعلى ما جاورها من الأقطار في أفريقية وأوربا. وأن سلطان هؤلاء (الأطلنطيين) قد امتد حتى بلغ إلى مصر وبلاد اليونان. غير أن اليونان استطاعوا أن يردهم على أعقابهم.
وهذه القارة العظيمة كانت عرضة للزلازل العنيفة والبراكين الثائرة، فلم تلبث أن أخذتها الرجفة فهبطت تحت سطح الماء واختفت. وذلك قبل عهد صولون بنحو تسعة آلاف من السنين!
هذه هي القصة التي ذكرها أفلاطون نقلاً عن أحد أجداده. وليس هنالك ما يثبت أن هذه القصة قد رواها صولون حقيقة، وأنها ليست من اختراع أفلاطون نفسه. وعلى كل حال، وأياً كان مصدر هذه القصة، فان مجرد روايتها على هذه الصورة، لا يفيد الباحث عن أمر هذه القارة شيئاً.(30/32)
إن اختفاء جزيرة صغيرة تحت سطح الماء بسبب هبوط في قشرة الأرض ليس بالشيء المستغرب، وقد يكون اليونان أنفسهم قد شهدوا مثل هذا الحادث في بلادهم الكثيرة الزلازل، وهذا وحده كاف لأن يوحي إليهم بأن جزيرة قد وجدت ثم اختفت في وسط المحيط، ولهذا فان أكثر الباحثين لم يكن يرى في حديث هذه القارة أكثر من أنه أسطورة جميلة. غير أن كثيراً مما كان يراه العلماء مجرد أساطير قد أثبت البحث العلمي وجوده. وقد أخذ الباحثون يهتمون حديثاً بتحقيق أمر هذه القارة.
إن هبوط جزء عظيم من سطح الأرض واختفاءه تحت سطح الماء ليس بدعاً في الحوادث الجيولوجية الطويلة المدى، التي تستغرق عشرات الملايين من السنين. وكذلك ليس بعجيب أن تختفي جزيرة صغيرة تحت الماء في زمن وجيز بسبب حادث بركاني خطير. لكن الأمر الذي يصعب تصوره هو أن كتلة هائلة من اليابس تهبط نحو ثلاثة آلاف متر في زمن يعد وجيزاً جداً بالنسبة إلى ما يستدعيه مثل هذا الانقلاب الخطير في سطح الأرض. وبالطبع ليس إثبات هذا الأمر بالشيء السهل، لأن أكثر الأدلة مقبور تحت غمار البحار، في أعماق يصعب جداً الوصول إليها.
ولننظر الآن في الأدلة التي يدلي بها القائلون بصحة هذه الأسطورة.
لعل أول جهة يجب أن يتجه إليها البحث أن نتساءل: هل في قاع المحيط الأطلسي أو في جزء من قاعه ما يدل على أن هذا القاع أو هذا الجزء من القاع كان أرضاً ظاهرة فوق سطح الماء في زمن حديث يقدر بنحو عشرة آلاف من السنين؟ وهل في السواحل الشرقية والغربية للمحيط ما يدل على أنها كانت إلى وقت قريب متصلة؟
يجب أن نجيب أو أن نحاول الإجابة على هذين السؤالين. ولكن يجب علينا أن نحذر فلا نخلط بين الاتصال الجيولوجي القديم، وبين الاتصال الحديث بواسطة قارة أطلنطس المزعومة.
من المعلوم أن قاع المحيطات ليس أرضاً مستوية. بل فيه المرتفعات والمنخفضات والسهول والجبال. وقد أصبح ثابتاً ان في وسط المحيط الأطلسي جبال طويلة جداً تمتد من شماله إلى جنوبه، وفي بعض الأحيان تظهر طائفة من قمم هذه السلسلة فوق سطح الماء فتتألف منها جزر مثل جزر الأزور. في الشمال وجزيرة الصعود في الوسط. وجزيرة(30/33)
(ترستان داكنها) في الجنوب. وفي زعم القائلين بوجود القارة المفقودة أن جزر الأزور هي البقية الباقة منها. وأن الجزء الأوسط من المحيط الأطلسي قليل العمق لأنه هبط حديثاً.
كذلك يشير أصحاب هذا الرأي إلى التشابه العظيم بين السواحل الشرقية والغربية للمحيط الأطلسي، مما يدل على اتصال الساحلين في زمن قديم. وليس من شك في هذا التشابه، لكنه يرجع إلى اتصال في الأزمنة الجيولوجية القديمة. ولا فائدة لأنصار هذا الرأي من الرجوع إلى هذا الدليل الذي لا يفيدهم في قضيتهم شيئاً.
أما الأبحاث الخاصة بقاع المحيط الأطلسي، والتي أريد بها إثبات أن هذا القاع كان إلى وقت قريب بارزاً فوق سطح الماء، فهي على قصورها أقوى البراهين - أو على كل حال أقلها ضعفا - التي يدلي بها القائلون بوجود هذه القارة العظيمة.
وخلاصة هذا الدليل أنه في عام 1898 كانت إحدى السفن تبحث عن سلك تلغرافي قد انقطع في وسط المحيط الأطلسي، وفي أثناء بحثها عن هذا السلك كانت تستخرج من قاع البحر قطعاً من الطين والصخر، وقد فحصت هذه المواد فتبين أنها مما تقذفه البراكين الثائرة، وأن هذه الصخور البركانية كانت مادة منصهرة ذائبة ثم تجمدت وكان تجمدها فوق سطح الأرض لا تحت سطح الماء كما هي حالها اليوم. وذلك لأن حمم البراكين (اللافا) إذا تجمدت في الهواء كان لها شكل خلاف شكلها إذا تجمدت في الماء.
والنتيجة التي يراد الوصول إليها من هذا، هي بالطبع أن هذه البراكين هي براكين قارة أطلنطس وأن هذه اللافا قد تجمدت على سطح القارة المفقودة قبل أن تختفي تحت عباب الماء. لكن لابد لنا للوصول إلى هذه النتيجة الخطيرة من أن نثبت أن هذا الجزء من قاع المحيط الأطلسي الذي استخرجت منه هذه المواد قد كان في وقت حديث - أي منذ نحو اثني عشر ألف سنة. بارزاً فوق سطح الأرض.
ولاثبات هذا الأمر يقول بعض الحتاب أنه في نظر كثير من الجيولوجيين لا يمكن اللافا أن تبقى تحت سطح الماء اكثر من 15000 سنة، لأنها في هذه المدة تتحلل عناصرها تماماً فلا يبقى لها أثر. إذن فاللافا التي استخرجت من قاع المحيط والتي ثبت أنها قد تجمدت فوق سطح الأرض. لابد أن تكون قد غمرتها المياه حديثا ً - أي أن هبوط القاع حدث في وقت حديث لا يتجاوز الخمسة عشر ألف سنة!(30/34)
هذه من غير شك أقوى حجة طبيعية يستند إليها القائلون بوجود قارة أطلنطس، ولكنها للأسف لا تخلو من شيء من الضعف. ذلك أنه - على فرض أن ماء البحر يحلل اللافا ويذيب عناصرها في مدة لا تتجاوز الخمسة عسر ألف عام - يجب أن نذكر أن اللافا عادة تتراكم طبقات بعضها فوق بعض، ذات غلظ عظيم. وقد يتحلل الجزء الأعلى ويبقى الجزء الأسفل والذي يليه وهكذا. ولابد لها من مئات أو آلاف الأزمنة التي ذكرت قبلاً - لكي يتم تحللها جميعاً.
فهذه الحجة اذن - وإن لم تخل من قوة - فإنها لا تثبت إثباتاً قاطعاً سوى أن قاع المحيط الأطلسي في بعض جهاته كان يوماً ما قطعة بارزة من اليابس ثم هبط تحت سطح الماء. ولازلنا في حاجة إلى دليل أقوى من هذا يثبت لنا أن هذا الهبوط كان منذ زمن حديث مقدر بعشرة آلاف من السنين.
كذلك التشابه الذي يشاهد اليوم بين أنواع من الحيوان في شرق المحيط وغربه، دليل على وجود قارة أطلنطس، بل على اتصال قديم جداً في أزمنة جيولوجية غابرة، بين طرفي المحيط شرقاً وغرباً.
فالأدلة الطبيعية قليلة الغناء، ولا يبقى بعدها سوى الأدلة البشرية أو الأنثروبولوجية، أي التي تتصل بالإنسان جنساً أو لغة أو ديناً وتقاليد أو ما شابه ذلك.
وتتلخص هذه الأدلة البشرية فيما يأتي:
1 - أنه قد ظهر في أوربا أثناء العصر الحجري القديم جنس
من الناس طوال القامة عظام الهامة حسان الصورة في وقت
لم يكن فيه بأوربا سوى جماعات من جنس ذي صفات منحطة
دنيئة. وقد أطلق العلماء على هذا الجنس العظيم اسم جنس
(كرومانيون) - (نسبة إلى ناحية في فرنسا وجدت بها
هياكل عظيمة كاملة لأفراد من هذا الجنس). ولا يعرف أحد
على وجه التحقيق من أين جاء هذا الجنس، الذي ظهر في(30/35)
أوربا فجأة فاحدث في ثقافتها ثورة هائلة.
والآن يريد أصحاب قارة أطلنطس أن يخبرونا أن هذا الجنس إنما جاء من قارتهم المفقودة!
افتراض جميل سيخلصنا من مشكلة عويصة وهي نشأة هذا الجنس الذي لا نعرف تماماً أين نشأ! ولكن هل من العقل أن نتخلص من مشكلة لكي نقع في مشكلة أعظم منها؟
إن القائلين بأن هذا الجنس مصدره القارة المفقودة يزعمون أن هنالك شبهاً بينه وبين جنس قديم منقرض وجدت بقاياه قي البرازيل. وهذا الزعم لو صح لكان من غير شك حجة قوية لا تدحض. ولكن أكثر علماء الأجناس لا يرى مطلقاً وجه شبه بين هذا الجنس البرازيلي القديم الذي وجدت بقاياه في لاجواسانتا وبين جنس (كرومانيون).
2 - في أوربا شعب اسمه شعب الباسك يعيش على حدود
فرنسا وإسبانيا. في الإقليم الملاصق لخليج غسقونية. هذا
الشعب القديم يعيش شطره في فرنسا وشطره في إسبانيا ويتكلم
لغة ليس لها نظير في لغات العالم كلها. وفي زعم أصحاب
نظرية القارة المفقودة أن الباسك هم بقية الأطلانطيين الذين
هاجروا من قارتهم إلى أوربا قبل الميلاد بعشرة آلاف سنة.
وأن لغتهم تشبه لغات سكان أمريكا الأصليين بينما هي تختلف
عن سائر لغات أوربا.
وهذه الحجة البراقة لا تستند هي أيضاً على أساس متين، لأن لغة الباسك لا تزال عقدة العقد. وقد رأى فقهاء اللغات فيها آراء متناقضة متضاربة، ولم يبلغ العلم في أمرها إلى حل مقبول. وليس القول بأنها تشبه لغات أمريكا بأقوى من الرأي الذي يرى شبهاً بينها وبين لغات البربر في أفريقية ولغة المصريين القدماء.
3 - أما الأدلة البشرية الأخر التي يوردها أنصار قارة(30/36)
أطلنطس، فتنحصر في وجود تشابه حقيقي أو موهوم بين
بعض العقائد الدينية والعادات والتقاليد والآلهة في العالمين
القديم والجديد، ومجرد ذكر هذه الأمور كاف لأن يثبت للقارئ
أن هذه الأدلة ليست بالشيء الذي يسهل الركون اليه، ولا
نستطيع أن نستند إليها في القول بأن تلك الأشياء المشتركة
مصدرها واحد وهو هذه القارة المفقودة، التي انطلق منها
فريق إلى الشرق وآخر إلى الغرب فنشروا آراءهم وعقائدهم
وآ لهتهم في عالمين بينهما الآن آلاف من الأميال.
وهكذا يرى القارئ أن فكرة قارة أطلنطس لا تزال مفتقرة إلى دليل أقوى بما بأيدينا اليوم، ولكنا على كل حال يجب أن نرتاح إلى أن موضوعها أصبح اليوم معرضاً للبحث العلمي بالأساليب العلمية بعد أن كان مجالاً للظن والخيال. ولهذا يسرنا، أن نسمع الخبر الذي رواه أحد الكتاب في عدد الشهر الحالي من مجلة فورتنبتلي من أن بعثة ألمانية قد سافرت حديثاً إلى إقليم جزر الأزور لتفتش في قاع البحر عن أدلة جديدة عن هذه القارة المفقودة.
محمد عوض محمد(30/37)
الشعر والفن
يتمتع قليل من الناس بإحساس راق مهذب، ينفعل انفعالا قوياً حينما يشهدون جمال الطبيعة أو يتأملون أسرارها، وهذا الإحساس السامي لا يصلون إليه من كثرة القراءة والاطلاع، ولا من كثرة الحفظ والاستظهار، ولا من تأبط الدواوين والكتب، وإنما يأتيهم من تدريب احساساتهم وتمرينها على التأثر بجمال الطبيعة والتأمل فيما يغمرها من أسرار، ويشرق عليها من نظام، وما يزالون يدربون احساساتهم، ويتعهدونها بالتمرين، وحتى إذا أوفوا من ذلك على الغاية، وضاقت قلوبهم عن حبيس ما يجيش فيها من عواطف وانفعالات، اضطروا اضطراراً إلى إخراج هذا الفيض القلبي متدفقاً في هذه الأنهار الجميلة التي نسميها فناً، من موسيقى ورسم ونحت وعمارة وشعر، وما أشبه قلوب هؤلاء الناس بالبؤرة الصالحة ترد إليها أشعة الاحساسات الصادرة عن صور الطبيعة المختلفة، فتحلل فيها، ثم تنعكس فكراً جميلة، وصوراً بديعة، وسرعان ما يجد الفنان نفسه مضطراً إلى إبرازها وإظهارها لأنه لا يستطيع أن يؤويها في نفسه، ولا يمكنه أن يخفيها في زوايا قلبه، فيقدمها للناس في هذه الثياب الساحرة، ثياب الفن الجميل فتسترعي ألبابهم، وتستهوي أفئدتهم.
والفنون جميعها تعبر عن عواطف مشتركة، وتسعى إلى غاية واحدة هي إظهار ما في الكون من جمال، ولهذه الصلة الواضحة بين أنواعها كان لزاماً على من يخصص نفسه في فرع من فروعها أن يتزود ما أمكن بالفروع الأخرى، وأن يتثقف بها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وقد فقه الغربيون ذلك وعرفوا قيمته فراح شعراؤهم يدرسون الفنون الجميلة، ويمدون شاعريتهم بما يلذ لها من صنوف طعامها، وألوان رحيقها، وبينما هم مجدون في ذلك مبالغون فيه، نجد كثيراً من شعرائنا قد استناموا إلى حياة شعرية غريبة، حياة كلها تقليد وقطيعة للفنون، فهم لا يستمدون غذاء شاعريتهم إلا من فتات مائدة، هي هذه الدواوين الشعرية التي ورثوها عن الأقدمين، يحفظون ألفاظها، ويجودون أساليبها ويبتغون مثلهم العليا في معانيها وصورها، فترى الواحد منهم إذا أراد أن يقول شعراً راجع ما قاله القدماء، والتقط ما نثروه من ألفاظ وأساليب، ونطقوا به من معان وصور، حتى إذا اجتمعت إليه مجموعة لا بأس بها من هذا كله، سلكها في هذه السلاسل التي يسميها أوزاناً شعرية، وقد نشأ عن ذلك أن قل الابتكار في الشعر. وأصبحنا لا نكاد نتأثر أو نحس به لأنه موسيقى متكررة توقع من حين لآخر على نغمة واحدة، وشاعت السرقات الشعرية عن هذه(30/38)
الطائفة من الشعراء، فاستباحوا حمى أسلافهم الأقدمين وأغاروا على دواوينهم، واجتلبوا منها سبايا الأساليب والصور، ولكنها سبايا باردة جامدة لا تنبض قلوبها بحرارة ولا بحياة، والشركات كثيراً ما تعقد في هذه السبايا، ولكن الشعر للأسف لا يرج منها إلا ألفاظاً لا غناء فيها ولا قيمة لها ولو كان للشعر العربي حكومة لأخذت على أيدي هؤلاء المتشاعرين الذين لا يقعون منا إلا موقع الضوضاء الممقوتة المنكرة، فحرمت عليهم اجتراح هذا الإثم، أيا كان لونه، وأياً كان شكله، وإذن لاستراح الشعر العربي من عبء ثقيل يتعبه ويشقيه، ويمرضه ويضنيه.
ومما يدعو إلى العجب أن بعض النقاد أخذ يهيب بهؤلاء الشعراء، ويضع أيديهم على ما هم فيه من عيب ونقص، علهم يصلحونه أو يتخلصون منه، ولكنهم يعرضون عنه، ويصرون على ما يجلل آثارهم الشعرية من عيب، وما يسومها من نقص، وتضيع من وقت لآخر هذه الدعوات المخلصة، وتذهب كأنها نفخة في رماد، لا تبعث لهيباً ولا توقد ناراً، أو صحة في صحراء، تضيع في متسع الاجواء، وتفنى في منفسح الآفاق، ولو أنصف هؤلاء الشعراء أنفسهم لأصاخوا إلى هذه الدعوات المباركة واستجابوا إليها، وهل يحسن بهم أن يؤثروا العقم على الإنتاج، أو يستحبوا التقليد على الحرية؟ إنهم لو تدبروا لسارعوا إلى تخليص أنفسهم من ذل الجمود ورق التقليد، ففكوا عن أعناق شعرهم هذه الأفعى التي تحاول أن تخنقه على أن هذه الحياة الجديدة التي نأمل فيهم أن يستبقوا إليها، لن تكلفهم مشقة كبيرة. فان السبيل إليها سهل ميسر، وما عليهم إلا أن يلقوا محبة من نفوسهم على عوالم الفن الأخرى، فيثقفوا بها، ويجدوا في ذلك التثقيف، حتى يدربوا احساساتهم، حاسة حاسة، تدريباً طويلاً، وأكبر ظني أن هذا هو السبيل الواضح الذي يصل بهم على عجل إلى غايتهم المنشودة، ولعل من أمس هذه العوالم الفنية بالشعر، عالم الخطوط والحركة، أو ما يسمونه باسم (الرسم) ففي هذا العالم يستطيع الشاعر أن يمرن احساساته تمريناً تاماً كاملاً على التأثر بجمال الطبيعة والانفعال بمشاهدها الرائعة ومظاهرها الساحرة، ويظن كثير من الناس أن جمال الصورة يتركز في ألوانها وأضوائها، ولو كان الأمر كذلك، لكانت الصورة قليلة الجدوى، والواقع أن جمالها البديع يتركز في الخطوط وحركاتها واتجاهاتها، تلك الخطوط التي تعدل الصورة وتقومها وتنتهي بها إلى(30/39)
شكلها الفني الجميل، أما الألوان فهي شيء إضافي يلحق بالخطوط بعد تكونها ووجودها، والشاعر كالمصور لا يختلف عنه في شيء إلا في المادة التي يصور بها، وان في الصورة المجتمعة، وندرة العناصر، وتناسب الجمع، لنوعاً سامياً من القوة الإلهية كما يقول فلوبير، وأهمية الصورة في الشعر ترجع إلى أنه لا يعبر عن الحقيقة كما هي وكما نجد عند النثر، وإنما يتخذ للإفصاح عنها طريقاً آخر، هو تمثيلها وتخييلها، وعرضها في صور خلابة ورسوم ساحرة، وهذا هو الذي حدا باليونان منذ القدم إلى أن يخصوا الشعر ببرهان قائم بنفسه، برهان لا يقوم على اليقين ولا يتخذ مقدماته من المنطق، وإنما يقوم على الإقناع والتمثيل، ويتخذ طريقه من التأثير والتخييل، ونحن نلحظ مع الأسف أن الشعر العربي لا يهتم بالصورة الاهتمام الواجب، وإنما يضع همه كله في الألوان والأضواء، ولا نكاد نجد فيه الخطوط الكثيرة التي تخلق الصورة خلقاً، وتبتكرها ابتكاراً، وتعمر قلبها بالحرارة والحياة، فمعظم شعرائنا يقف همهم من الصورة عند هذا النوع التافه الذي يسمونه مجازاً أو كناية، وما عرفوا أن هذه الأشياء هي أقل أنواع الصور قيمة بل هي في الواقع لا تزيد على أنها طريق من طرق التعبير، أما الصورة الصحيحة فهي أسمى من ذلك وأرفع، ولا بد فيها من تحضير لمواد طويل، وجمع للعناصر كثير.
وعلاقة الشعر بالرسم علاقة قوية شديدة، ولكن يظهر أن علاقته بالموسيقى أقوى منها بأي فن آخر، فقد نشآ معاً، ولكن تقدم الفنون فصل بعضهما عن بعض فاستقل كل منهما بوظيفة خاصة، على أن الموسيقى لا تزال تحتل الشعر ولا يزال أثرها واضحاً فيه، والشاعر في الواقع ليس إلا موسيقياً ساحراً يلعب بأنامله على قيثارته الشعرية فيطربنا بأنغامه، ويشجينا بألحانه، ويأخذنا بفيض وحيه وقوة إلهامه. والواجب على شعرائنا أن يدرسوا الموسيقى، وأن يعنوا بدراستها عناية كبيرة، فكثير من الألوان التي يؤديها الشعر ترجع إلى الموسيقى نفسها، ولقد استفاد اليونان قديماً من هذه الدراسة فوجدوا طريق الشعر في العقيدة كلها، بل في الرواية التمثيلية على طولها، واختلاف أشخاصها خلا الشعر الغنائي الذي كان يتخللها، ولقد كان الرومان يفهمون الشعر على أنه غناء أكثر منه شيئا آخر حتى تجوز بعضهم فسمى الشعراء باسم الموسيقيين، ويقول بعض النقاد أن الموسيقى هي سر السحر في الشعر وهي نفس صناعته، وكيفية تأثير الموسيقى الشعرية فينا يختلف فيها النقاد اختلافا(30/40)
كثيراً، ومهما يكن فهي تحدث تغيرا في أسلوب الوجدان، وكل نغمة تصلنا منها تؤثر في ادراكنا، وترتفع معها نغمات عاطفية في نفوسنا، ولا ينكر أحد ما لموسيقى الألفاظ من قيمة في الشعر، فهي ذلك الجمال الخفي الذي يستمد من غير المنظور مؤثرات ساحرة بديعة، ولقد كان شاكسبير يعنى بها عناية فائقة، حتى قيل انه يحب الألفاظ من أجل الألفاظ، لكن ينبغي أن ننبه إلى أن موسيقى كل لفظة موجودة معها في اللغة قبل وجود الشاعر، ولكن لا ننس أنه هو الذي يختار الألفاظ، ينتقيها ويجمعها في سلك واحد فلا نحس تنافراً ولا شذوذاً، وإنما نجد جمال التناسب والتوافق يتجلى فوقها ساحراً بديعاً، واللغات نفسها تهتم بموسيقى الألفاظ، ويتضح هذا في اللغة العربية في ألفاظ الاستغاثة والندبة والتعجب فان قدماءنا قلبوا ياء المتكلم التي تنتهي بها ألفاً حتى يشبعوا النغمة في هذه الألفاظ ويستتموا بها التأثير في الوجدان، وقد زادوا في ذلك فجعلوا لبعضها حرف نداء مخصوصاً هو (وا) ليزيدها قوة في الصورة، ويتناسب مع شدتها في المنطق، وهم قد فعلوا هذا كله ليدلوا على الانفعال الوجداني ويكون التأثير في قلب السامع أوفى وأقوى.
وليس من شك في أن تتابع المقاطع والأصوات وصور النبرات يجعل العقل مستعداً لنغمة خاصة، وينقل القلب إلى حالات وجدانية متماثلة، ويتبين هذا في أننا نصبح بعد قراءة بيت أو بيتين من الشعر مهيئين لسماع ما يوافق هذه الحالات الوجدانية التي هيجتها فينا الأصوات والنبرات الأولى، فإذا فوجئنا بمقاطع ونغمات جديدة أحسسنا بالفرق الظاهر والانتقال الواضح، على أننا يجب ألا نبالغ في ذلك، فان التأثير الذي يفد إلينا من الشعر لا يأتي من الضغط والمقاطع وتشديد الصوت وقوته، نعم تؤثر فينا هذه الأشياء تأثيرات مختلفة، ولكن هذه التأثيرات ليست كل شيء في الشعر فان قراءة الشعر ليست نغماً خالصاً، ولا شكلاً غنائياً تاماً.
شوقي ضيف بكلية الآداب(30/41)
التفاؤل والتشاؤم وهل لهما أسباب تاريخية
بعض غرائب الخرافات عند الغربيين والشرقيين
- 2 -
نباح الكلب في الليل
من الخرافات الفاشية عند أكثر الأمم وبين الفلاحين عندنا، التشاؤم من إهلال الكلب، أي الصياح بين الأنين والنباح الغير العادي في الليل، ويسميه أهل الشام (العواء المقلوب) وفيه يقف الكلب وقفة منكرة ينظر فيها إلى القمر، ويشرع في عوائه الغريب الذي يكاد يقرب من عواء الذئب، فيظن من يراه على هذه الحالة أنه يدعو على أحد، ويناجي القمر لعله يساعده على جعل هذه الدعوة مستجابة، فيتشاءمون من هذا الصوت ويقولون أنه نذير شؤم يقع منه موت لأحد الناس. وأسلافنا المصريون هم في الأغلب الأصل في هذه الخرافة، فقد كانوا يؤمنون أن عزرائيل يتشكل في شكل ابن آوى، وكانوا يرسمونه في حفلات الجنازة والموت والحساب، وابن آوى يشبه الكلب كثيراً في هيئته، وربما كان له وللكلب قديماً اسم واحد، أو ربما كان الاعتقاد سائداً بأن الكلب يتلاقح مع ابن آوى، فلما زالت عقائد المصريين من الناحية الدينية الرسمية بقيت بين الفلاحين وانتشرت بين عامة الأمم الأخرى.
وربما يرجع هذا التشاؤم إلى الاعتقاد بأصل النجاسة التي يوسم بها الكلب عند العرب، ولكن يجب ألا نبالغ في الاعتقاد بنجاسة الكلب فان من العرب من كان يجله ويرعاه، ويعرف له فضله في الأمانة والحرص على مصالح مولاه. وقد قال كتاب (فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب)، تصنيف الإمام أبي بكر بن خلف المرزبان في سنة 381 هجرية:
(والكلب أيدك الله منافعه كثيرة فاضلة على مضاره بل هي غامرة لها وغالبة عليها. ولم تزل القضاة والفقهاء والعباد والولاة والنساك الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا ينكرون اتخاذها في دورهم، وهم مع ذلك يشاهدونها في دور الملوك. فلو علموا أن ذلك يكره لتكلموا ونهوا عن اتخاذها. بل عندهم أنهم إذا قتلوا الكلب كان فيه عقوبة.)(30/42)
وعلى هذا النسق مضى المؤلف يعدد فضائل الكلال، وأتى في الكتاب بطائفة من الأقوال البارعة والأبيات اللطيفة التي قيلت في الكلاب ومنها يتبين للقارئ نظر العرب لهذا الحيوان.
القط
يتشاءم بعض الناس بأن القط الأسود مجلبة للشر وطالع نحس وعنوان كل كارثة مقبلة. . . ويتطير الغربيون بالقط الأسود إذا عبر طريقهم. وكان الإنجليز حتى عهد قريب يحتفلون سنوياً بمدينة (شرفتيد) بالإتيان بقطة سوداء، رمز الظلام، ويضربونها بالسوط حتى تموت.
وربما يرجع هذا التشاؤم إلى سواده، والسواد رمز للحزن أو ربما يرجح إلى عقائد قديمة كانت شائعة عند القدماء بشأن سواد القط.
ولا يزال الايطاليون والهنغاريون يعتقدون بان القطة التي تنب فوق سطوح المنازل لابد أن تكون قد تقمصتها روح ساحرة شريرة. والبراهمة على العموم يعتقدون بحلول أرواح البشر في القطط. وذلك أيضاً هو اعتقاد أهل السيام الذين يقدمون للقطط على سبيل الهدية أقفاصاً من ذهب يضعونها في المعابد، وقد شوهدت قطة سوداء في موكب الاحتفال بتتويج ملك سيام في سنة 1926.
وكثيراً ما كانت القطة في القرون الوسطى سبباً في قتل صاحبتها من العجائز لاتهامها بالسحر وكانت القطة تعتبر دليلاً على ممارسة العجوز لهذا (الفن الأسود) في الخفاء لمساعدة الأرواح العديدة التي تسكن جسم القطة.
ومن الخرافات المصرية التي شاعت في العالم أن للقطط سبع أرواح أو تسعاً. وقد يعزى إلى هذه الخرافة بعض القسوة في معاملة القط، ولكن أصلها يرجع إلى حرمة القط بل إلى تقديسه، فقد كان قدماء المصريين يقدسون هذا الحيوان ويحنطون جسمه ويشيدون له المقابر، وكانت (بشط) ربة مصرية لها رأس قطة، وكان المصريون يعتقدون أن لها تسع أرواح.
وذكر المؤرخ اليوناني (هرا بللون) أن الإغريق كانوا يصنعون تماثيل القطط بمعبد الشمس بمدينة هليوبوليس، لأن عين هذا الحيوان تتبع الشمس في انتقالها في الأفق وقد عثر المنقبون في سنة 1890 على مقبرة كبيرة بجهة بني حسن موجودة بها جثث القطط(30/43)
المحنطة موضوعة في صفوف منظمة، ولسوء الحظ أن الفلاحين تشاءموا من وجودها فأحرقوها.
وبدأ الناس في فجر المسيحية يمقتون آلهة الأقدمين فاعتبروا القطة رمزاً للشيطان ومجلبة للشر.
قتل الثعبان
من أغرب العادات عند بعض سكان مصر أنه لا يرضى بقتل ثعبان البيت ويتشاءم من هذه الفعلة إذا حدثت، وقد كان الثعبان مؤلهاً عند أسلافنا. فالحرمة التي يحوطه به بعضنا الآن هي في الحقيقة حرمة دينية نسينا أصلها وغايتها وبقي رسمها.
نعل الفرس
يتفاءل الناس بنعل الفرس ويعلقونها على الحوانيت وأبواب المنازل لتجلب السعد لساكنيها. ومن وجد نعلاً في الطريق عد ذلك حظاً حسناً يستأنس به طول يومه بل طول عامه.
وأصل هذا الاعتقاد، أن نعل الفرس كانت في الزمن القديم رمز الربة (عشتروت) فكان كل نم بجد نعلاً يتفاءل بها كأن الربة عد أهدتها إليه، وربما يرجع أيضاً إلى أنها تشبه الهلال.
ونعل الفرس حديثة العهد في التاريخ لأنه لا يمكن أن يعدو تاريخ الحديد المصنوع منه. والحديد لم يعرف إلا منذ ثلاثة آلاف سنة. ولذلك قد يتوهم الإنسان أن الاعتقاد في حسن الحظ من النعال هو من مبتكرات المتمدينين الذين عرفوا الحديد، وأن المتوحشين لا علاقة لهم بهذا الاعتقاد، ولكن الحقيقة أن هذه الخرافة آتية من المتوحشين نزلت منهم إلى المتمدينين. فنعل الفرس تشبه الهلال الجديد. والمرجح أن الإنسان كان يصنع هلالاً من خشب أو عظم للتيمن، فلما ظهر الحديد صار يصنعه من الحديد. ثم لما عرف نعال الخيل استغنى بها الإنسان عن الأهلة القديمة وصار يعلقها على الأبواب والحوانيت بدلاً منها، للمشابهة، وبدلاً من أن يرسم الهلال. والأوربيون يتفاءلون بها مثلنا ويتعلقون بهذه العادة أكثر منا.
إبراهيم تادرس بشاي
يتبع(30/44)
المعتصم بن صمادح على فراش الموت
للدكتور عبد الوهاب عزام
الأندلس في أمر مريج، زال عنها سلطان الخلافة فاضطربت، وفقدت رواسيها من بني أمية فمادت. وأصبحت كرقعة الشطرنج يتغالب الملوك على كل بيت فيها. كل قوي يحوز ما وسع حوله وهمته، والعيش غلاب. (والبر أوسع والدنيا لمن غلبا).
في هذا المعترك ملك محمد بن أحمد بن صمادح التجيبي (مدينة (وشقة) وملك بنو عمه مدينة (سرقسطة). ثم غلبوه على مدينته.
ثم ملك ابنه معن بن محمد مدينة (المرية) غصبها من عبد العزيز بن أبي عامر. وخلفه ابنه أبو يحيى المعتصم بالله وهو في سن الرابعة عشرة. نشأ في ملك ضيق الرقعة، فاستعاض منه سعة الخلق وبعد الهمة، وحلية العلم والادب، والسخاء الشامل، والجود العمم، حتى طاول المعتمد بن عباد كبير ملوك الطوائف ونافسه، وحتى قال أمير المسلمين يوسف بن تاشفين حينما لقيهما بالأندلس (هذان رجلا هذه الجزيرة).
قال ابن خلكان:
(وكان رحب الفناء، جزيل العطاء، حليماً عن الدماء، طافت به الآمال، واتسع في مدحه المقال، وأعملت إلى حضرته الرحال، ولزمه جماعة من فحول الشعراء)
وقال الفتح بن خاقان:
(ملك أقام سوق المعارف على ساقها، وأبدع في انتظام مجالسها واتسقها، وأوضح رسمها، وأثبت في جبين أيامه وسمها. لم تخل أيامه من مناظرة، ولا عمرت إلا بمذاكرة أو محاضرة. . . وكانت دولته مشرعاً للكرم، ومطلعاً لهمم، فلاحت بها شموس، وارتاحت فيها نفوس. ونفقت فيها أقلام الأعلام، وتدفقت بحار الكلام، كإجادة ابن عمار وإبداعه، في قوله معتذراً من وداعه.
أمعتصماً بالله والحرب ترتمي ... بأبطالها والخيل بالخيل تلتقي
دعتني المطايا للرحيل وإنني ... لأفرق من ذكر النوى والتفرق
وإني إذا غربت عنك فإنما ... جبينك شمس والمرية مشرقي
وكان المعتصم، كالمعتمد بن عباد، شاعراً مجيداً: كتب إلى الوزير الشاعر بن عمار؛(30/46)
وزهدني في الناس معرفتي بهم ... وطول اختباري صاحباً بعد صاحب
فلم ترني الأيام خلاً تسرني ... مباديه إلا ساءني في العواقب
ولا قلت أرجوه لدفع ملمة ... من الدهر إلا كان إحدى المصائب
طوى الأمير أربعين عاماً في إمارته، شاع فيها ذكره ونبه اسمه، وحلب الدهر أشطره، ورأى أحداثه وعبره. ثم حم القضاء وبعث ابن تاشفين جنوده على ملوك الطوائف تثل عروشهم، وتعفي على آثارهم. ولقي (رجلا الجزيرة) الصدمات الأولى فدارت على المعتمد الدائرات، فإذا هو أسير أغمات، وللمعتمد بن عباد قصة ملؤها العبرات والزفرات.
وعلم ابن حماد بما أصاب صاحبه فملكه الغم، وناء به الحزن، وكان أسعد من صاحبه جداً، نجاه الموت من الإسار، وأنقذه الحمام من المذلة: رب عيش أخف منه الحمام. ولله ابن بسام حين يقول: (وكان بين المعتصم وبين الله سريرة أسلفت له عند الحمام يدا مشكورة. فمات وليس بينه وبين حلول الفاقرة به إلا أيام يسيرة، وفي سلطانه وبلده، وبين أهله وولده).
دع ما نمق الكتاب، وأنشد الشعراء، ودع أربعين طواها الزمان كأنها أحلام، وانظر المعتصم ليلة الخميس لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة أربع وثمانين وأربعمائة - الليلة التي طلع عليه بالردى فجرها - هاهو ذا على فراش الموت في قصره بالمرية، ومعسكر ابن تاشفين على مقربة من المدينة ترى خيامه، وتسمع ضوضاءه. ويسمع المعتصم وجبة من الجيش اللجب، والجند المصطخب، فيقول كأن لم ينعم بالملك والجاه أربعين عاماً!
لا إله إلا الله! نغص عليها كل شيء حتى الموت، قالت (أروى) إحدى جواريه:
(فدمعت عيني، فلا أنسى طرفاً إلي يرفعه، وإنشاده لي بصوت لا أكاد أسمعه)
(ترفق بدمعك لا تفنه ... فبين يديك بكاء طويل)
عبد الوهاب عزام(30/47)
الحرص على الحياة
للعلامة الأمير مصطفى الشهابي عضو المجمع العلمي العربي بدمشق
لكم تساءل الإنسان عن هذه الحياة ومعناها، ومبدأها ومنتهاها، ولكم
أجهد نفسه بلا جدوى للحصول على جواب مقنع تسكن إليه نفسه
الكليمة من أحاجي هذا الكون. وهو بين الأزل والأبد يمر في هذه
الحياة الدنيا كأسرع من إيماضة كهربائية تطوي الأرض في أقل من
ثانية!.
ما هي هذه الحياة الكامنة في جنين بزور النبات، وكيف تحتفظ بعض البزور المجففة بخاصة (الانتاش) عشرات من السنين، حتىإذا زرعت وابتلت دبت فيها الحياة فضربت (نتشها) عن الأرض وأبرزت سداها فوق التراب يتلمس الشمس والهواء وهو أحرص على الحياة من الشيخ الفاني والهم البالي. وراقب جذور هذه النبتة كيف تخترق ذرات التراب وتتغلغل فيها سعياً وراء الماء اللاصق بها حيث تجد غذاءها مذاباً صالحاً لامتصاص. والغريب أنك كيفما أدرت ذلك الماء دارت الجذور معه وسعت إليه كأنها تدرك أن لا حياة لها إلا به. وإذا ما وضعت حاجزا معدنيا بينها وبين ذرات التراب المبتلة دارت حوله حتى تتخطاه، وان أعياها الأمر أرزت حوامض تذيبه، حتى إذا ثقبته دخلت في الثقب كما يفعل الكماة عندما يخرقون سور المدينة الحصينة، ويدخلون من الخرق فيستولون عليها وينعمون بها.
وانظر إلى الأزهار الموضوعة في نافذة غرفتك كيف تميل إلى الخارج تستقبل الضياء حتى لكأنها تفر من الظلام إلى النور. والحظ الأشجار المغروسة بجانب أحد الجدران كيف تبتعد عنه بأغصانها النوامي فتبدو عريانة فيما يليه كان قضبانها اللدنة لا تلتذ برغد العيش إلا حيث يتماوج النور ويتلاعب الهواء. وهذه زهرة تدور مع الشمس من مبزغها إلى مغربها حتى سموها عبادة الشمس. وتلك ورقة مركبة تفتح وريقاتها في النهار وتضمها في الليل مرتقبة شروق الشمس في اليوم التالي وهي أحرص ما تكون على الانتفاع من شعاعها المتناثر. واعجب لتلك النبتة الحساسة التي يسمونها (مستحية)، وخجولة إذ تنطبق(30/48)
أوراقها عندما يمسها الإنسان، وتنكمش أغصانها وتتدانى كأنها تشعر بالخطر المحدق بها فتبتعد عنه، وكأنها تستعد لمغالبة ذاك الذي جاء ينتزع منها الحياة. وأغرب منها قواتل الحشرات التي تنطبق أزهارها على الذباب فتميته وتعصره وتغتذي بعصارته بعد أن تحتال عليه بشتى الحيل لئلا يفلت منها فيفوتها رزقها وتفوتها الحياة.
أما الحشرات فلها أفانين وأعاجيب في التشبث بالحياة والتعلق بها ولا سيما بواسطة أنسالها. والذي يتاح له أن يربي مثلي بعض أنواعها ويتابع سير حياتها بالمجهر أو بالعين أو بالعدسات يذهل من أساليب التلاقح والتسافد بين الذكر والأنثى ومن ضروب الحيل والقسوة التي ربما أدت بأحدهما إلى الهلاك في سبيل حفظ النسل وضمانة بقاء النوع حياً. وما من أحد إلا وله معرفة بخلية النحل ويعسو بها، وقرية النمل وأنابيرها، وخيوط العناكب ومصايدها، دع الحيوانات العليا وما تفتقه قرائحها من ضروب الحيل إما في اتقاء عدو أو تلمس قوت أو إخلاف نسل. والنتيجة في كل ذلك واحدة وهي بقاء أنواع ببقاء الحياة فيه.
لكن ابن آدم الذي سمت مداركه، كيف تلذ له الحياة على ما فيها من شرور وآثام وآلام مبرحة، ولماذا ترتعد فرائصه من الموت، ويقف شعره لشدة فزعه منه؛ وما هذه الشهوة الشديدة التي تدفعه إلى الأنسال، وتلك العاطفة الغريزية التي تجشمه أشد المتاعب وأضناها في تربية الأبناء وإعدادهم للحياة. تخر كل هذه الأسئلة في خاطر الإنسان فلا يحير لها جواباً لأنه لا يفقه شيئاً عن ماهية الحياة ولا عن الغاية نمها. وإذا بأصحاب مذهب العدم أي العدميين ينتصبون قائلين: أما والحياة ليست سوى مجموعة من الآلام التي لا حد لها ولا نهاية، فما علينا إلا أن نقضي عليها بقتل كل حي على هذه الكرة الأرضية الحمقاء. فيضحك العالم من هذا الرأي ويجيب: هبوا الناس قبلوا رأيكم هذا وعملوا به، فماذا يحصل بعد أن تفقد الحياة على هذه الكرة؟ هل تظل الأرض خالية من الأحياء، تدور أن يدرك أحد دورانها، ويتعاقب الليل والنهار دون أن يحص أحد تعاقبهما؟ هذا ما لا يقبله العقل السليم. والراجح أن العلة التي أوجدت الحياة ستعيدها سيرتها الأولى مهما تعددت آراء الصحاب الأديان والمذاهب والفلسفات المختلفة والعقائد المناقضة والعلوم الحياتية المحدودة في تفسير هذه العلة وفي تحديد ماهيتها. وعندئذ تعود الحياة إلى ما كانت عليهن ويعود الأحياء إلى(30/49)
التكاثر والتنوع والتناحر والتفاني وتكون نتيجة العمل برأي العدميين وقف الحياة بضعة ملايين من السنين، وهي بعد لا تعد شيئاً مذكوراً في هذه الدهور الأبدية، والكائنات السرمدية.
مسكين أنت أنها الإنسان! ما أشقاك بهذه الحياة! عقل قاصر وجد عاثر، وإدراك بسيط، وحواس محدودة. تأتي إلى هذه الحياة وأنفك راغم، فتعيش بأوهامك وأخيلتك الشعرية التي لا ظل للحقيقة فيها، ثم تجالد وتكافح وتتألم وتشقى وتتوهم السعادة أحياناً، لكنك سرعان ما تهلك مقهوراً مدحوراً، فلئن كانت لك أمنية في حياتك هذه فأجلها أن يسمو العقل البشري حتى يصير قادراً على اكتناه أحاجي هذا الكون الغامض.(30/50)
من طرائف الشعر
شوقية لم تنشر
نظمها شاعر الخلود شوقي بك في الطلاب المصريين الذين
يتعلمون في أوربا
قف حيّ شبان الحمى ... قبل الرحيل بقافيه
عوْدتهم أمثالها ... في الصالحات الباقيه
من كل ذات إشارة ... ليست عليهم خافيه
قل يا شباب نصيحةً ... مما يزوّد غاليه
هل راعكم أن المدا ... رس في الكنانة خاويه
هجرت فكل خليَّة ... من كل شهد خاليه
وتعطلت هالاتها ... منكم وكانت حاليه
غدت السياسة وهي آ ... مرة عليها ناهيه
فهجرتمو الوطن العز ... يز إلى البلاد القاصيه
أنتم غداً في عالم ... هو والحضارة ناحيه
واريت فيه شبيبتي ... وقضيت فيه ثمانيه
ما كنت ذا القلب الغلي ... ظ ولا الطباع الجافيه
سيروا به تتعلَّموا ... سرّ الحياة العاليه
وتأملوا البنيان وادّ ... كروا الجهود البانيه
ذوقوا الثمار جنية ... ورِدوا المناهل صافيه
واقضوا الشباب فان سا ... عته القصيرة فانيه
والله لا حرج علي ... كم في حديث الغانيه
أو في اشتهاء السحر من ... لحظ العيون الساجيه
أو في المسارح فهي بالن ... فس الطيفة راقيه(30/51)
المحزون!!
لشاعر سورية الأستاذ خليل مردم بك
أعِن اللهم من صوّ ... رته من حَزَن
ألف الحزنَ فلو فا ... رقه الحزنُ بكاه
وجفا اللهو فلو وا ... صله اللهو شكاه
نفسه ليس لها غي ... ر الأسى من سكن
الأسى في مقلتيه ... قد محا كل ضياء
جاعل في مسمعيه ... كل صوت كالبكاء
إن ما يبصر أو يس ... مع داعي الشجن
درج الطفل إليه ... ضاحكاً مستبشرا
ناشراً كلتا يديه ... كالمصلي كبرا
أو كطيرٍ همَّ بالاس ... فاف عن غُصن
ضمه المحزون لا يم ... لك رد العبراتِ
ذاكراً يوماً وإن طا ... ل التراخي فهو آت
تصدع الشمل به جو ... راً صروف الزمن
لو تراه والتي ها ... م بها عند التلاقي
خلْته يلفظ روحاً ... بلغت منه التراقي
مغمض الجفنين للغص ... ة لا للوسن
قال: لا آسى إذا لا ... قيت يوماً مصرعي
إنما أخشى على حبي ... أن يودِي معي
فاحفظ اللهم هذا ال ... حب واحرس وصُن
وإذا قبلي ماتت ... ما عساني أصنع
هل يؤدي حق حزني ... أن بفيض الأدمع
لا وربي دون أن نم ... سي معاً في كفن
ورأى الظالم لا ير ... قب في المظلوم ذِمه(30/52)
فبكى حزناً لمن عُرَّ ... ي من عدل ورحمه
وعلى من بشديد ال ... جور والظلم مُني
قال: يا ذا المال ما في ال ... مال لي من مطمع
أي شيء هو أغلى ... من لآلي الأدمع
هل رأت عيناك دراً ... غيرها في الأعين؟
فأنا أملك منها ... ثروة لا تنفد
وأنا، إلا بها في ... كل مال أزهد
وحدها كم كشفت ... عني ظلال المحن
لا ترد مني شعراً ... ولو أن الشعر سحر
كلما أنشدت شطراً ... فاض من روحي شطر
يا لروح بين أبيا ... ت له مرتهن
نبذ الأديان يعتد ... بها كل غبي
وجفا الإسلام لو لم ... يك دين العرب
فهمو لو عبدوا الأو ... ثان أمسى وثني
ما أحب العرب إلا ... منذ لاقوا المحنا
فهم قد زرعوا ... لكن سواهم قد جنى
كم لقوا سوءاً بصنع ... قدموه حسن
ضاق بالأحزان ذرعاً ... فانتحى الروض النضير
يتغنى بنشيد ... مثل أسجاع الطيور
نفسه قد نشزت مَعْ ... هـ ولما تنثن
وهزار مع ورقا ... ء عليه عكفا
قال للورقاء ما با ... ل أخي البلوى غفا؟
قالت الورقاء بل ير ... حمه الله فنى!(30/53)
السكك الحديدية تحت الأرض
للأستاذ فخري أبو السعود
خَلَصْت من زحمة الدنيا وضجتها ... إلى طرائق تحت الأرض تنسرب
جَرتْ مفاوزها في كل ناحية ... فلم تزل تتلاقى ثم تنشعُب
ظلماء جونٌ كأحجار الأراقم قد ... مدُّوا لها سببا في إثره سبب
تجري بها مركباتٌ ما يزال لها ... تحت الثرى والدياجي مسلك عجبُ
سَرَى بها دافع للكهرباء فلم ... تَقذفْ دخاناً ولم يزفر بها لهب
شتيمةَ الوجه إذ تنسل ساربة ... مثل الثعابين في أنيابها العطبُ
ترى على سَفَر طوّل المَدَى فإذا ... حُوَاتها صَفَروا سالت بها القضب
إن يبتغوا انطلقت أو يبتغوا وقفت ... لم تشكُ أنْياً ولم يعلق بها لغبُ
تظل ذاهبة منهم وآيبة ... تمضي مولولةً صْخبى وتنقلبُ
يرمي بها نفقٌ داج إلى نفق ... وينطوي سَرَبٌ من بعده سرب
كأنما هي سعلاة بها كلَبٌ ... أو أنها طالب قد شفَّه الطلبُ
تجري النهارَ وما تدري له وَضَحاً ... ودَاجَى الليل لا تبدُو له شهبُ
تظل تقطع أنحاء المدينة لم ... يشعر على الأرض من جاءوا ومن ذهبوا
وتنثني في الدياجي غير حافلة ... بمن مَشَوْا في ضياء الشمس أو ركبوا
فكلُّ نَهْجٍ لها أنى مَضَتْ جَدَدٌ ... وكل قاصٍ إذا رَامَتْهُ مقترب
-(30/54)
إلى شباب العيد
للأستاذ محمود الخفيف
جددوا العزم فالزمان أهابا ... وخذوا الحذر واستحثوا الوكابا
ألبسوا العيد روقة وجلالا ... قد ظمأنا إليهما أحقابا
واملأوا مهرجانكم كبرياء ... وطموحاً وعزة وغِلابا
وانشدوا المجد بكرة وأصيلا ... وذكروا مصر جيئة وذهابا
وابعثوا في البلاد صوتاً قويا ... فستلقون صوتكم مستجابا
وأفيضوا من الحماس علينا ... فسينصب في القلوب انصبابا
وانظموا العزم والوفاء كتابا ... وانشروا في الجموع ذاك الكتابا
واتركوا الكيد والخصام لقوم ... لا يرون الجهاد الا سبابا
أيها المنكر الحياة غلينا ... أقصر اللوم هل رأيت الشبابا؟
انظر اليوم كيف قاموا بأمر ... يملأ الشرق كله إعجابا!
رأوا النيل راسفاً في قيود ... صاغها الجور تستذل الرقابا
جنة الأرض أصبحت نهب قوم ... أخذوا الشرق عنوة وانتهابا
يشرب الرَّنق أهلها في هوان ... ويبيتون في حماها سغابا
يمرح الطامعون فيها اختيالا ... ويقاسي الأحرار فيها اغترابا
فأبت نخوة الشباب عليهم ... أن يناموا ومصر تلقى العذابا
فسعوا للكفاح سعياً حثيثا ... أرأيت الشبول هبت غضابا؟
نَضَّرَ الله وجه مصر بقوم ... مسحوا عن جبين مصر الترابا
أجمعوا أمرهم وساروا جموعا ... يتخطون بالثبات الصعابا
لهم المجد تالدا وطريفا ... والمعالي وراثة واكتسابا
كل يوم لهم بمصر نداء ... ولهم عزمة تذيب الصلابا
اسألوا مصر عنهمو يوم قاموا ... لا يخافون بطشة أو عقابا
يرفعون اللواء صفاً ويمشو ... ن سهاماً إلى الردى أسرابا
زمر تبدل النفوس وتحدو ... ضاحكات لدى المنون طرابا!(30/55)
كتبوا صفحة العزاء لمصر ... بدم كان كالعباب انسيابا
يا شبول العرين في مصر هيا ... أبعدوا عن ربوع مصر الذئابا
لست أدعوكمو لكيد ولكن ... أبتغي الرشد عندكم والصوابا
نافسوا الطامعين بالجد وامضوا ... قد كفانا تصايحاً واعتصابا
لا تقولوا ضيوفنا بعد هذا ... أسمعتم عواءهم والسبابا؟
نحن أولى إذا أردتم ملاما ... فاصرفوا اللوم عنهمو والعتابا
وأهيبوا بقومكم أن أفيقوا ... إن للمحسنين منكم ثوابا
قد سئمنا تردداً ونكولا ... وخنوعاً وغفلة وارتيابا
سبل العيش مهدوها وسيروا ... في حمى النيل جحفلاً غلابا
أنتم اليوم للبلاد عتاد ... وغدا سوف تدركون الطلابا(30/56)
الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية
- السلم الموسيقي -
- 2 -
هل توجد حقاً فروق بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية؟ يقول الموسيقيون الغربيون بوجود هذه الفروق ظاهرة واضحة لا سبيل إلى إنكارها أو الشك فيها، ويؤمن الموسيقيون الشرقيون بهذا الرأي، ويذهبون إلى أبعد حدود الفكر، ثم تقوم القائمة بين مفكريهم، في هل تظل هذه الفروق على ما هي عليه أبداً، أم نقرب بينهما لفائدة الموسيقى الشرقية ونهضتها. ولكل رأي أنصاره ولكل رأي الداعون إليه بقوة وإيمان.
أما من أين نشأ هذا الخلاف، وهل كان منذ أن عرف العالم شيئا اسمه موسيقى، أم أنها كانت واحدة في بدئها ثم انقسمت إلى فرق وشيع باختلاف أذواق من اشتغلوا بها والمؤثرات التي أحاطت بهم. للجواب على هذا السؤال يلزمنا أن نمهد له بذكر شيء يسير من تاريخ الموسيقى ونشأتها وتطورها والنواحي التي اتجهت إليها.
يقول التاريخ إن أقدم حضارة عرفها العالم هي في الأمة المصرية القديمة، وان أقدم موسيقى عرفها التاريخ هي موسيقى قدماء المصريين. لا يخالفنا في ذلكم مخالف، غير أن بعض من بحثوا في تاريخ الموسيقى من الغربيين يميلون إلى نسبة الموسيقى القديمة إلى فلاسفة الإغريق، وأنهم أول من وضعوا قواعدها وأصولها، ولعل في ذلك روحاً من تعصبهم في البحث وعدم إيرادهم الحقيقة في كثير منها ما دام الفضل سيعود من ورائها إلى الشرق وأهله. أم لعل ذلك راجع إلى أن أقدم ما عثروا عليه من كتب الموسيقى، هو لفلاسفة اليونان القدماء.
ومما لا شك فيه أن الموسيقى كانت تدرس عند قدماء المصريين وكانت لها قواعدها وآدابها، ففي الحروب كانت تذكي نيران الإقدام والبسالة، وفي المعابد كانت تبعث الخشوع والإيمان، وفي قصور الملوك وفي دور النبلاء كان للموسيقى المكان الأسمى.
ذلك ما تدلنا عليه آثارهم المحفورة في المعابد والهياكل والقبور. وأقدم الآلات التي عرفها التاريخ هي الناي والمزمار واللير وهي من صنع قدماء المصريين. ويقول هيرودتس المؤرخ القديم. . إن أعظم الاحتفالات المصرية، الاحتفال بعيد الإله أزوريس، فكان الكهان(30/57)
يحملون تماثيل الإله من الذهب الخالص، وفريق منهم ينشد الأغاني الدينية وفريق منهم يعزف على الناي.
وأخذ بنو إسرائيل الموسيقى عن المصريين، ونبغ منهم أفراد، وفي أقاصيصهم عن سحر مزمار داود وأثره في الطير والحيوان الكثير. وعند خروجهم من مصر نشروا في مختلف البطاح والوديان ما عرفوه من العلوم الموسيقية، ولعل أقدم نشيد عرفه التاريخ هو نشيد مبيريام الذي أنشد عند عبورهم البحر الأحمر.
وأخذ الإغريق الموسيقى وأصولها عن المصريين والعبرانيين، وتدرجت الموسيقى في الغرب من المعابد إلى قصور الخاصة ثم إلى المحافل العامة وتطورت بتطور المجتمع الغربي وتأثرت بما تأثر به من مختلف التأثيرات. وانتشرت في الشرق من بلاد الفرس إلى العرب إلى ما يجاورها من بلاد الشرق وتأثرت بما تأثر به المجتمع الشرقي من عادات وأخلاق وطبائع، وعرفنا نحن من هذا أن أصل الموسيقى في العالم واحد وأنها كانت في بدايتها ولا اختلاف فيها ولا تقاسيم. ولنتكلم الآن عن أول تقسيم للسلم الموسيقي عرف في التاريخ وهو المسمى سلم فيثاغورس وتقسيمه كما يلي من اليسار إلى اليمين
دوسلاصول فا ميريدو
ــــ ـــــــــ ـــــــــــــــــــــ
ليما مسافة كبيرة مسافة كبيرةمسافة كبيرة ليما مسافة كبيرةمسافة كبيرة
أي أنه مقسم إلى مسافتين صوتيتين كاملتين ثم نصف مسافة صوتية ناقصة ثم ثلاث مسافات صوتيات كاملات ثم ليما. وهذا السلم يكاد يقابل سلماً شرقياً لنغمة (عجم عشيران) من حيث نسب المسافات الموجودة بين مقاماته وترتيبها كما يلي من اليسار إلى اليمين تصاعدياً:
عجم. . . حسيني. . . نواه. . . جهاركاه. . . كرد. . . دوكاه. . . راست. . . عجم عشيران وهذا ما يطلق عليه بالاصطلاح العربي الحديث اسم السلم الكبير وأول سلم شرقي عرف هو السلم الفارسي العام وترتيب درجاته كما يلي:
هفتاه. . . ششكاه. . . بنجكاه. . . جهاركاه. . . سيكاه. . . دوكاه. . . يكاه
ولما استعملت الاصطلاحات الموسيقية الفارسية في المجتمعات العربية حصل بعض تعديل(30/58)
في أسماء المقامات فتغير اسم هفتتكاه إلى اوج واسم ششكاه إلى حسيني وبنجكاه إلى نواه ويكاه إلى رصد واستعمل اسم مقام يكاه للمقام الأول في ترتيب أوتار العود وهي نغمة قرار النواه.
المسافاة الصوتية العامة.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
- 1 - المسافة الصوتية العامة
- 2 - 6553659049
- 3 - نصف المسافة الكاملة
- 4 - الناقصة 256243
- 5 - الفرق بين المسافة الناقصة والمسافة الكاملة وتسمى
كوما 531441524288
ولتفهيم معنى بلك القيم الكسرية للمسافات، نفرض أن هناك نغمتين متتاليتين الأولى اوالثانية ب، وأردنا أن نعرف قيمة المسافة الصوتية الموجودة بينهما. لذلك نضبط وتر الصونو متر (جهاز يستعمله علماء الطبيعة لقياس الأصوات بواسطة الأوتار) حتى يصدر النغمة افيكون طوله عبارة عن مقام الكسر، ثم نحرك ضابط الصونو متر المتحرك على الوتر حتى يصدر النغمة ب فيكون طوله حينئذ عبارة عن بسط الكسر ويصبح عندنا كسراً حسابياً يدلنا على قيمة المسافة الصوتية بين نغمتي اوب (وهذا باعتبار أن نغمة اأوطأ من نغمة ب).
تلك المسافات هي المقاييس الصوتية العامة سواء كانت
للموسيقى الشرقية أم الغربية، ولكن الموسيقيين الغربيين لا
يتبعون الآن في تقسيم سلمهم إلا المسافة الكاملة ونصف(30/59)
المسافة المقرب وهو يساوي عددياً 1615 ويطلقون عليه اسم
السلم المقرب مسافاته كما يلي
1615. . 98. . 98. . 98. . 1615. . 98. . 98
بينما يتبع السلم الموسيقي الشرقي في مسافاته وتقسيمه العام هكذا
. . 98. . 21872048. . . . 6553659049. . . . 98.
. . . 21872048. . . . 6553659049. . . . 98. .
ومن هنا نشأ خلافان أساسيان أولهما أن السلم الغربي لا يستعمل المسافة الناقصة، وثانيهما أن نصف المسافة الثانية في السلم الغربي يقع آخر مسافة، بينما في السلم الشرقي يوجد نصف المسافة الثانية بين المقامين السادس والسابع.
تقسيم المسافات الصوتية في السلم الغربي الحديث
قسم الموسيقيون الغربيون المسافة الصوتية إلى قسمين متساويين فالمسافة بين مثلاً دو، ري يقع في منتصفها تماماً نصف مقام يسمى عند نسبته تصاعدياً دو دييز وعند نسبته تنازلياُ ري بمول وفي التقسيم العلمي الصحيح نجد أن علامة دييز تكون لرفع المقام الذي تنسب إليه خمس كومات كاملة، وعلامة بمول لخفضه خمس كومات كاملة، ولما كانت المسافة الكاملة مقسمة إلى تسع كومات وهو التقسيم الذي يقر به فيثاغورس، إذا أصبح موقع دو دييز غير موقع ري بمول، أي أننا عندما نريد تقسيم المسافة بين دوري بحساب علامتي الدييز والبمول، يلزمنا تقسيمها إلى ثلاثة أقسام كما يلي:
ري. . . . دو ديز. . ري بمول. . . . دو
غير أن علماء الصوت والموسيقى يحتجون بأن الأذن لا يمكنها التمييز بين نغمتين الفرق بينهما كومة واحدة، ولذا استغنوا عن ذلك التقسيم الصحيح الدقيق واعتبروه نظرياً بحتاً، وأصبح لا يوجد فرق بين دو دييز وري بمول وأصبح موقعهما واحداً كما في البيان. وإن كان هناك بعض الموسيقيين اللملاسيك ممن لا يخضعون لهذا التقسيم ولا يستعملون الآلات ذات الدرجات الثابتة.(30/60)
تقسيم المسافات الصوتية في السلم الشرقي
ظل الموسقيون الشرقيون القدماء يستعملون التقاسيم الدقيقة في سلمهم الموسيقي، وما زالت المسافات الصوتية في السلم الشرقي هي الخمس المسافات التي بيناها وهي المسافة الكاملة والمسافة الناقصة ونصف المسافة الكاملة ونصف المسافة الناقصة ثم الكومة، وسنبين الآن كيفية التقسيم ليتضح لنا عظم الفرق بين التقسيم الشرقي ودقته، والتقسيم الغربي وبساطته.
1 - المسافة الصوتية الكاملة 98
تقسم إلى أربعة أقسام، فمثلاً بين الرصد والدوكاه توجد النيم زير كولاه، وبعدها عن مقام الرصد عبارة عن نصف مسافة ناقصة ثم تليها الزير كولاه تبعد عن الرصد نصف مسافة كاملة، ثم التيك زير كولاه وبينها وبين الرصد مسافة ناقصة ثم الدوكاه وبعدها عن الرصد مسافة كاملة.
دوكاه. . تيك زير كوله. . زير كوله. . . نيم زير كوله. . . رصد
2 - المسافة الصوتية الناقصة 6553659049
تقسم إلى ثلاثة أقسام فمثلاُ من الدوكاه إلى السيكاه يوجد الكردي وبعده عن الدكاه نصف مسافة صوتية ناقصة ثم التيك كردي ويبعد عن الدوكاه نصف مسافة كاملة، ثم السيكاه
سيكاه. . . . تيك كردي. . . . كردي. . . . دوكاه
3 - نصف المسافة الكاملة 21872048
تقسم إلى ثلاثة أقسام، فمثلاً من السيكاه إلى الجهاركاه، يوجد البوسلك وبعده عن السيكاه كومه واحدة ثم التيك بوسلك وبعده عن السيكاه نصف مسافة ناقصة ثم الجهاركاه وبعده عن السيكاه نصف مسافة كاملة
جهاركاه. . . تيك بوسلك. . . بوسلك. . . سيكاه
وعلى ذلك يكون ترتيب الرباعي الأول ولثاني اللذان يكونان السلم الشرقي هكذا
رصد 21872048 عراق 6553659049 عشيران 98 يكاه
الرباعي الأول(30/61)
جهاركاه 21872048 سيكاه 6553659049 دوكاه 98 رصد
الرباعي الثاني
ومن هذين الرباعين يتكون السلم الموسيقي الشرقي العام مع إضافة مسافة صوتية كاملة بعد الجهاركاه ليختتم السلم بجواب مقام اليكاه وهو النواه. ويصبح ترتيبه كاملاً كما يلي
نواه 98 جهاركاه 21872048 سيكاه 6553659049 دوكاه
98 رصد 21872048 عراق 6553659049 عشيران 98
يكاه
بقي بعد توضيح الفوارق بين تقسيم السلمين الشرقي والغربي أن نذكر شيئاً عن الأنغام والأوزان في كلتي الموسيقتين، وأرجو لو سنحت فرصة قريبة إن شاء الله على صفحات من الرسالة المقبلة.
مدحت عاصم(30/62)
العلوم
العنصرية
للدكتور أحمد زكي
قامت النازية الألمانية على مبادئ عدة، منها السياسي ومنها الاقتصادي ومنها الإداري، ولكن لعل أخطر من هؤلاء جميعاً وأكثر وروداً على ألسنة خطبائها، وأسرع إذكاءً لحمية مستمعيهم، ذلك المبدأ الغالي الذي يعتمد على القومية الخالصة والدم الصريح، في استنهاض الشعب الجرماني إلى كل ما تقول به النازية وتدعو إليه من العقائد والأعمال.
لو أن النازية قصدت إلى تمجيد قومها، وغالت في ذلك ما شاءت وشاءت لها الدعاية، لما شكا أحد مما تقول، ولو أنها غالت حتى ألهتهم، لنظرت إليها الأمم بابتسامة عريضة يستتر وراءها اغتباط هادئ من تذوق فكاهة هائلة، في عالم يحسن أن تكثر فيه الملح والنكات. أما وقد أرادت أن تمجد قومها بتجريد غيرها من الأقوام، وأن تزيد في أولئك بانتقاص هؤلاء، فقد أثارت حفائظ الأمم، وأيقظت عزة الأجناس البشرية، فاستقاموا في جلستهم يستمعون لجد حسبوه مزاحاً، وتقطبت من جباههم أسارير للتفكير، بعد أن كانت قد انبسطت وجوههم بالبشر، وذلك لما رأوا المهزلة تستحيل إلى مأساة، ووجدوا النازية تطرح على كتفيها روب الأستاذ العالم الأنثروبولوجي، ينظر في أصول الأمم، ويقدر قيم الأصلاب، ويضع الخلق في منازل تعلوها جميعاً تلك النطف الجرمانية التي ادخرتها الآلهة على الأجيال، لتنحدر إلى الوجود في القرن العشرين فتكون للناس سادة أمثالاً، وتكون هدى وبشرى للعالمين. وكل ذلك باسم العلم.
لذلك تصدى للرد على هذه النظرية التي اتخذت صورة علمية رجال من رجالات العلم، ولعل أكثر هؤلاء اعتدالاً رجل متحدر هو نفسه من أصلاب جرمانية، ذلك هو (ملكولم بيسل) الأستاذ بجامعة كاليفورنيا. قال:
قل من يخالف في أن الجنس الجرماني جنس عظيم، وأما أنه أعظم جنس كان في كل زمان ومكان، وأن كل مدنية كانت وتكون، اعتمدت وستعتمد على هذا الجنس، فذلك ما لا تحتمله أكبر المخيلات إسرافاً، ولا تتسع له أكثر الحلوم رخاوة وسماحة. ومثل هذه المغالاة، لاسيما إذا استعير لها لسان العلم، ستظل دائماً نذيراً بأن الإنسان لا تزال عواطفه(30/63)
سيدة عقله، وهواه حاكم صوابه. يدخل الأمر نفوسنا ويستأذن في لطف على قلوبنا، فيجد كل أهوائنا توافقه، وكل ميولنا تناصره، فنألف هذا الأمر، ثم نعتقده، ثم من بعد ذلك نتطلب الحجج على أنه الحق. نعتقد صواب شيء، نعتقد أن الجرمانيين سادة الجناس لأننا نحن جرمانيون، أو أن النصرانية أقوم الأديان لأننا نحن نصرانيون، أو أن هذا الحزب أصدق الأحزاب لأننا له متحزبون، ثم من بعد هذا، ومن بعد هذا فقط، ننظر في الأدلة لنصرة معتقدنا، ونخرج في سهولة أو يسر تلك البراهين التي تعزز مذهبنا، وتلك الأدلة لا شك آتية، وتلك البراهين لا شك غير مستعصية وبذلك نحسب أن عملية التخريج تمت، وأن العلاقة بين السبب والمسبب استبانت، فيتأكد بذلك معتقدنا ويزيد به إيماننا، ونحن نتبع أسلوب هذا المنطق الطريف غير شاعرين ولا متيقظين اليه، ويتبعه العلماء كما يتبعه السوقة بمثل تلك الغفلة، فهو أسلوب متستر خفي، أخطر ما فيه تستره وخفاؤه.
ليس في دعاوى النازية اليوم من جديد، فهي تكملة للدعوى التي بدأت في القرن التاسع عشر، وهي مثل من أمثلة عدة لم يسلم منها قرن من القرون ولا شعب من الشعوب فالشعوب دائماً تميل للسيطرة على الشعوب بدعوى تفوق الجنس، وتستغلهم بحجة قوة الدماء وخلوصها، وتبعث فيهم حسا ًبحقارة أنفسهم لفقر وخلط في دمائهم، وخسة في أصولهم، فهي إذن دعاوى للعيش وأسباب للغلبة، أكثر منها دعاوى في العلم وقضايا في المنطق.
ليس مذهب الجرمانية إلا فرعاً من مذهب الآرية، وكان من أكبر دعاة هذا المذهب وشارحيه، الكونت (جوزف دي جوبينو كان فرنسياً أرستقراطياً مات عام 1882 ادعى جوبينو أن الآريين خلقوا ثم أمدوا بالروح والعمر كل ما هو جميل وعظيم في الحضارة. ونسي أن يثبت وجود هؤلاء الآريين كجنس واحد نقي خالص. ان فكرة الآرية نشأت من دراسة لغات بعض الأمم الأوروبية وبعض الأمم الآسيوية، والاهتداء إلى وجود أشباه بين تلك اللغات، أدى إلى افتراض أنها جميعاً مشتقة من لغة واحدة هي الآرية، وذلك فرض علمي لا شبهة فيه. استنتج جوبينو وأشياعه من وجود لغة آرية وجود شعب آري قديم عزا إليه حضارات الأزمان الخوالي، وزعم أن هذا الجنس الآري هاجر إلى شمال أوروبا فتحدرت منه الشعوب التيوتونية والانجلو سكسونية، فهي لذلك سبب الحضارات الحالية(30/64)
والعلة في استمرار وجودها. وفات جوبينو أن وجود لغة واحدة ليس بدليل قاطع على وجود جنس واحد، وأن اتحاد اللغات في أمتين أو أمم، ليس بحجة على اتحاد الأصلين أو الأصول فقديماً ما أعارت الأمم اللغات واستعارت، فوجود جنس آري كالذي تحسبه النازية اليوم، لم يقم عليه أي دليل.
والعنصر الجرماني نفسه مجهول الأصل، وفوق هذا فلا يستطيع أحد أن يدعي له أرومة خالصة. إنه عنصر شديد قوي، ولا شك أن اختلاط دمه بدماء أوروبا الوسطى والجنوبية كان له أثر كبير فيما حدث هناك من التقدم والارتقاء، ولكن ما يقال في العنصر الجرماني يقال في سائر العناصر، فكثيراً ما أدى اختلاط عنصرين إلى عنصر جديد أشد وأكثر حياة من أصليه.
على أن العلم إلى اليوم لا يستطيع بثقة أن ينسب إلى أية مجموعة بشرية، خصالاً خاصة عتيقة ثابتة فيها، لأنه إلى اليوم لا يدري كيف يقيس هذه الخصال برغم ما أسموه (مقاييس الذكاء)، فتلك مقاييس ثبت مراراً وتكراراً أنها لا تقيس الذكاء وحده وإنما تقيس معه آثاراً من البيئة والثقافة لا يمكن عزلها عنه. ومع هذا لا نفتأ نسمع الخرافة الجرمانية تلوكها الألسن، وتردد على الأسماع، فمجد الإغريق كان بسبب غزو الجرمان، وروما دام عزها وبقي سلطانها ببقاء دمها الجرماني خالصاً صريحاً، فلما اختلط حاق بها ما حاق، وإسبانيا لم تستيقظ إلى ما استيقظت إليه إلا بسب ما دخل عروقها من الدم التيوتوني، (والنهضة) الأوروبية نفسها لم تكن إلا ظاهرة جرمانية صرفة.
يقولون أن الرومان والإغريق كانوا وهم في أوج عزهم جرمانيين صرحاء. ليس من السهل الحكم على ما كانت تتألف منه أمم قديمة كالإغريق والرومان، ولكن من الثابت أنه في العصور التي سبقت، كانت حروب وكانت فتوح، وكانت غلبة وكان انغلاب، وكانت هجرة وكان تشتت، فلم يرتبط قوم بأرض، ولم ينعزل جنس بسبب ذلك عن جنس، فلم يكن في عصر الإغريق ولا في عصر الرومان دم لم يختلط، ولا عنصر لم يتلقح، فكل ما يقال عن خلاص السابينن والاترسكانيين وحتى عن نقاء الرومان والأغريق، لا يمكن تدعيمه على ما هو معروف اليوم في علم الأجناس. قالوا وشادوا بان الإسبرطيين جرمانيون خلصاء ومع ذلك أدخلهم (دكسن) في عداد الألبيين وقالوا وشادوا بأن الاترسكانيين(30/65)
جرمانيون خلصاء ومع ذلك قال عنهم هرتس مؤلف (الشعوب والمدنية) أنهم لم يكونوا من المجموعة الهندية الجرمانية، وأن هذا ثابت ثبوت يقين.
ان العنصر له أثر لا ينكر في أحداث المدنيات وتنشئ الشعوب ولكن هناك أمور أخرى لا تقل آثارها عن أثره، ولا نتائجها عن نتائجه، وهي تلك التي ينكرها لمتصلفون من دعاة العنصرية وغلاتها. ليس من العلم في شيء أن ننسب عظمة الإسبان مثلاً إلى دخول الدم الجرماني إليهم، وسقوطهم إلى دخول دماء أخرى غير جرمانية، ثم نغفل العوامل التاريخية والجغرافية الكبرى التي كان لها أثر كبير في تلك الرفعة وهذا الهبوط. وإذا عزونا كل مدنية إلى الدم الجرماني وكل تقدم إليه، فكيف نفسر تلك المدنية العربية التي ازدهرت يوماً ما في الأندلس وطالت ما حولها من المدنيات الأوروبية طولاً كبيراً.
إن إبطال الدعوى الجرمانية بل تسخيفها عمل يسير هين. ولكن العمل الشاق الذي يتعب الإفهام ويجهد العقول، إنما هو تسبيب نشوء المدنيات، وتسبيب انحطاطها أو زوالها. الناس تجنح دائماً كما يجنح الألمان اليوم إلى جعل العنصر العامل الوحيد في ذلك، الذي تتضاءل دونه العوامل، والسبب الذي لا تستأهل سائر الأسباب إلى جانبه ذكراً. خطأ كبير تغذيه العاطفة، وسهولة في تبسيط القضايا لا تسيغها العقول العلمية الهادئة. من بدء أزمان لا تقدر، إلى ما قبل قرون قلائل كان الجنس الجرماني يكن شمال القارة الأوربية، وكان جنساً غير مذكور ولا مأبوه له، وكان أحط الأمم الأوربية سكاناً، فأين كانت خواصه الإلهية، وصفاته السماوية كل تلك القرون؟ أكان عاجزاً عن خلق مدنية لنفسه؟ أم هي المدنية نشأت عند غيره وقريباُ منه، ومع ذلك خاب برغم قرب المساس عن اقتباسها واستعارتها؟ أم الحقيقة هي التي نقول، أن العنصر وحده غير كاف لخلق المدنيات واستنباط الحضارات.
بدأت الحضارات في مصر والعراق والهند وشرق البحر الأبيض، ومشى التاريخ قدماً فانتقلت مراكزها إلى أواسط هذا البحر ثم إلى غربه، ثم مشى التاريخ خطوات أخرى فبلغت الحضارة بحر الشمال والمحيط الأطلسي، وعندئذ، وعندئذ فقط، بدأ العنصر الجرماني يظهر في التاريخ، فان كان العنصر وحده قميناً بكل شيء فكيف ظل الجرمان ابرة كل الأحقاب بينما كانت العناصر الأخرى، وهي وطيئة في زعمهم، تخترع الحروف وتبتدع الأرقام وتخط البحار بالتجارة وتبني الدول وتقيم الحضارات.(30/66)
إن الجزر البريطانية تألفت سكانها في القرن الثاني عشر من نفس العناصر التي تتألف منها في القرن العشرين، إلا في اليسير الحقير، وقد كانت في أوائل القرن السادس عشر جزراً لا شأن لها ولا خطر، ولم يمض على ذلك العهد غير قرنين حتى وجدناها قوة عظيمة في دول العالم، فكيف جاءها هذا الشأن وذلك الخطر، والعنصر هو هو لم يتغير؟ أليست العوامل التاريخية والجغرافية إذن أبعد أثراً من كل ما عداها؟ كانت الجزر البريطانية في طرف أوربا، والحضارة متركزة في شرق البحر الأبيض أو وسطه، فلم يكن لبريطانيا ذلك المساس الذي لا بد منه لاشتعال الثقاب، لذلك لم يكن لها في الحضارة قول كبير ولا عمل خطير، ثم استكشفت أمريكا، وبين عشية وضحاها انقذفت بريطانيا في وسط المسرح العالمي، فلم يكن لها بد من تمثيل دورها، وانتقل مركز المدنية إلى غرب أوربا حيث بقي ويبقى سنين طوالاً، حتى أصبحت لفظة الغرب علماً على المدنية، وأصبحت إنجلترا قائدة الأمم، وإن كان لعنصرها الجرماني أثر في هذا الانقلاب، فهو لا يقارب في شدته الأثر الذي للحوادث والتاريخ والجغرافيا معاً. ولنفس تلك الأسباب زالت عن إيطاليا تلك السيادة التي كانت لها يوم تربعها في وسط المسرح العالمي، في وسط البحر الأبيض المتوسط حينما كان هذا البحر عظيماً لوقوعه في الطريق إلى الشرق وأممه، ولكن كشف أمريكا قذف بإيطاليا حفيدة الرومان من بؤرة الرقعة إلى طرفها، وفي الوقت نفسه كشفوا عن طريق الهند الآخر، فلم يكن بد من نزول إيطاليا حفيدة الرومان عن قوتها وثروتها وجاهها نزولاً سريعاً كسرعة الحوادث في ذلك المكان الغربي النائي من سطح الأرض. فهل ننسب هذا النزول إلى العنصر وهو الذي إليه نسبنا الصعود في سالف الدهور؟
ثم المخترعات الحديثة وعلى رأسها البخار، أحدثت في العالم السياسي والاجتماعي والاقتصادي أحداثاً أين منها أثر العنصر؟ أن التاريخ في القرنين الفائتين كتب بالفحم الأسود والحضارات قيست بعدد الأحصنة البخارية التي للأمم، حضارات بنيت على الفحم والحديد، فالفحم والحديد عاملان جغرافيان أين منهما أثر العنصر؟ فلو لم يكن في صخور إنجلترا وأمريكا ذلك الذخر الكبير من الوقود الصلب والسائل لكان للتاريخ الأخير مجرى غير الذي كان برغم العنصرية ودعاتها.(30/67)
إن الأمم كالأفراد يتألف نجاحها من عاملين، عامل الوراثة وعامل البيئة، ومن عوامل البيئة العوامل الجغرافية التي ذكرنا مثلاً منها، ولعوامل البيئة هذه أثر لا يناهض في تقدم الإنسان أو تأخره، وهي على الأقل تضع حداً جازماً لتقدمه لا يمكنه تجاوزه. والحضارات أنتجت إنسانية نادرة نشأت من الأرض في بقاع متفرقة، كانت كلها نتيجة انفعال الإنسان لبيئته وتفاعله معها وتغيير نفسه وحاله وفقاً لها، وعلى هذا لا يمكن مقارنة مدنية ولا مقدرة شعب بشعب الا إذا قارنا بيئتيهما وهذا جد عسير، ودون هذا لا تمكن إقامة الدعوى على أن قوماً غير أهل لمدنية لأنهم وهم في بيئة خاصة خابوا فيما حاولوه. إن الماياس واليوكاتان قبيلان من الناس كبيران كانت لهما مدنيتان زاهرتان في أمريكا الوسطى قبل الفتح الكولومبسي بقرون فلو أنك قرنتهما بالإغريق فربما خرجت بأنهما دون هؤلاء عنصراُ، لأنهما لم يأتيا بمثل ما أتى الإغريق. ولكن إذا علمت أن هذين القبيلين كانا يعملان في عسر من الطبيعة شاق، فقد حرمتهما الدواب وحرمتهما الحديد، فلم يعرفا لهذه رسماً ولا لهذا اسماً، وامتحنت بعد ذلك ما خلفا لوقعا من نفسك موقعاً قد يناهض موقع الإغريق أو يعلوه.
أحمد زكي(30/68)
العالم المسرحي والسينمائي
مسارحنا في الأعياد
لناقد (الرسالة) الفني
جرت تقاليد المسارح الكبرى، ودور اللهو في أوربا عامة، وفي إنجلترا خاصة، على إعداد برامج حافلة في مواسم أعياد الميلاد ورأس السنة، تعنى بعرض مشاهد مسلية يجد فيها الأطفال متعة ولهواً بريئاً يثير في نفوسهم الغضة ألواناً من السعادة والجذل، ويجعلهم ينعمون بأمسيات طيبة في ليالي العيد، تبهج قلولبهم، وتبعث فيها الحياة والمرح.
وتزدحم المسارح في أيام العيد بروادها من الأطفال مع أهلهم الذين يصحبونهم يشاركونهم اللهو والسرور جذلين فرحين بأن ينعم أبناؤهم بما أعدوه لهم من مباهج العيد ومسراته في المنزل أو في المسرح على السواء.
وتستمر حفلات الأعياد في المسارح قرابة شهر، وأكثر البرامج من نوع (البانتوميم) الذي يمثل بعض الخرافات الشائعة، أو القصص الصغيرة المسلية، التي لا يعيا ذهن الطفل الحدث في تفهمها ومتابعتها، وتصحب بالموسيقى والأغاني الرقيقة التي يسهل على الطفل حفظها وترديدها بلفظها الجزل، ولحنها السهل، ونغمها الشجي العذب.
وهناك بعض الروايات على المسرح الإنجليزي، تعد خصيصاً لحفلات أعياد الميلاد ورأس السنة، وقد أصبح تمثيلها من التقاليد الموروثة التي لا مندوحة عنها، وبعضها يرجع تاريخ ظهوره إلى حوالي نصف قرن، ولكنها تظهر كل عام في مظهر أنيق، فتعد لها الملابس الجديدة الزاهية، والمناظر الدقيقة الجميلة، وقد تضاف إليها بعض الأناشيد والأغاني لتجعل لها لوناً جديداً جذاباً.
وأشهر الروايات التي عرضت هذه السنة على مسارح لندن في مواسم الأعياد (سندرلا) و (الأطفال في الغابة) و (ديك وتنجتن) و (علاء الدين) ويرجع تاريخ ظهورها إلى سنة 1893، أعني إلى واحد وأربعين سنة مضت.
ومن أحسن الروايات التي عرضت هذه السنة، ولها تاريخ ماض طويل، رواية (بيتربان) التي يحتفظ بطلها بنضارة الصبا على مدى الحياة، وهو خالد على مر الدهور لأنه يمثل روح الشباب الخالدة أبداً.(30/69)
ومثلت رواية (هانسل وجريثل) على مرح كامبردج، وقد ظهرت لأول مرة على مسارح لندن سنة 1895 حيث مثلتها فرقة كاروزو. وتعد بموسيقاها من أحسن الروايات الغنائية، ولها شهرتها البعيدة في إنجلترا وألمانيا على السواء، بل في القاهرة أيضاً وقد كتبت قصتها للأطفال خاصة.
ومن الروايات القديمة التي تمثل في هذا الموسم في رواية (أين ينتهي قوس قزح) التي يرجع تاريخ ظهورها إلى حوالي عشرين سنة مضت، وهي رواية وطنية تثير في الطفل الإنجليزي ألواناً شتى من العاطفة القومية، وموضوع القصة خرافي ولكنه من موضوعات الشائقة التي يكون لها في قلب المشاهد أبلغ الأثر.
وبعض هذه القصص والروايات تمثل في لندن وفي كثير من المدن الإنجليزية الكبرى في وقت واحد أثناء أعياد الميلاد. ولا نريد أن نمضي في هذه الناحية من الحديث إلى غير نهاية، فإنما أردنا بذلك أن نمهد لما نريد أن نقوله للمشتغلين بالمسرح في مصر، وإنا لنرى منهم إهمالا تاماً وعدم احتفاء بأعيادنا القومية أو الدينية وإنها لتمر عليهم كغيرها من سائر الأيام، فلا يعدون لها برنامجاً خاصاً ولا روايات معينة، بل يحشدون فيها رواياتهم القديمة المعروفة فلا جديد في أيام العيد ولا ما يشبهه، وما يعنون بإعداد مشاهد مسلية طريفة يستطيع أطفالنا أن يجدوا فيها متعة ولهواً، ويكون في مقدورنا أن نصحب صغارنا إلى دور المسارح مطمئنين إلى أنهم سوف يلقون قصصاً تبهجهم وتسعدهم وتناسب عقليتهم الساذجة البسيطة.
وبينما يجد الطفل الإنجليزي في العيد من الروايات والمشاهد ما يحي في قلبه عاطفة قوية أو يبث في نفسه الحمية الوطنية، أو يدفعه إلى حب الخير وينمي فيه حاسة العطف على الفقير والبائس والمحروم، أو يريه من نواحي الفضيلة ما يحببه فيها، ومن صور الرذيلة ما يزهده في اقترافها، ومن معاني تقدير الآباء واحترامهم، وتجيل الأهل وإيتاء ذوي القربى، ما ينشئه نشأة صالحة طيبة، بينما يجد الطفل في إنجلترا وفي غيرها من الممالك الأوربية هذه الروايات الطيبة التي تسليه وتربيه معاً، ويراها يوم عيد ونفسه أحسن ما تكون استعداداً لنلقى ما يلقى إليها من المعاني السامية والأغراض الجليلة، لا يجد طفلنا شيئاً من هذا، وأنه ليمضي نهاره وليله حبيس غرفته وقد نمضي به إلى حديقة أو إلى زيارة بعض(30/70)
الأقرباء، وليس في كل هذا جديد عليه.
ولست أدري من ألوم. المؤلف المصري أو مديري الفرق التمثيلية؟ فلو أن مؤلفاً كتب قصة من هذه التي تماثل ما ذكرنا من قصص المسرح الإنجليزي التي تعرض في مواسم الأعياد هل كان يجد الفرقة التي تقبلها وتعرضها؟ إن مؤلفنا لا تنقصه الموضوعات إن شاء وفي كثر من الخرافات الشائعة مجال واسع لقلمه إن أحب، وأنه ليستطيع أن يخلق من بعض هذه الخرافات التي يتلقاها الأطفال في المنزل وتفسد عليهم تفكيرهم البريء موضوعات شائقة تنقلب بها الخرافة من النقيض إلى النقيض وتزيح عن عقل الصغير شيئاً ما نظنه بالهين ولا باليسير.
وهذا (البعبع) الذي خلقته العجائز لإخافة الطفل وإفزاعه أما نستطيع أن نعيده رجلاً طيباً يحنو على الأطفال ويحبهم ويهبهم ليلة العيد العطايا والمنح الطيبة من اللعاب والحلوى، أسوة ببابا نويل الذي خلقته الخرافة في الغرب فجعلت منه معبوداً للأطفال الصغار؟! و (أبو رجل مسلوخة) ما ذنب المسكين في سلخ رجله، وما ذنب أطفالنا نقيمه لهم مخافة ومفزعاً؟ أما في مقدورنا أن نضع حول خرافته قصة لطيفة مسلية نبرزه فيها الرجل الطيب الذي يحب الأطفال الذين يحترمون أباءهم ويبجلون أساتذتهم، ويهب النشيطين منهم والمكبين على الدرس الهدايا واللعب الحلوى، وننتزع بذلك تلك الصورة المشوهة التي نلقيها في ذهن أطفالنا وندفعهم إلى التقرب منه عن طريق حبه ورجاء خيره، بدل أن نفزعهم بصورته البشعة ورجله المسلوخة؟
وفي العيد الكبير ألا تصلح قصة كبش الفداء موضوعاً لرواية سهلة يرى فيها أطفالنا أصل هذه العادة الإسلامية التي تدفعنا إلى ذبح الكباش يوم العيد وتوزيع لحومها على الفقراء والمعوزين؟
إننا نستطيع أن نخلق عشرات الروايات من تاريخ مصر القومي ومن تاريخنا الإسلامي تدور حول موضوعات تبث في قلوب الأطفال حب الوطن وتقدير تاريخهم المجيد، كما تبذر فيهم بذرة طيبة صالحة من الخلق القويم والأدب الرفيع، غير ما ندخله على نفوسهم من ألوان المرح والسرور بهذه القصص الشائقة المسلية، ونجعل العيد متعة لهم ومبعث سعادة وفرح، ونجعلهم مشوقين إليه جد الشوق، يحسبون مبلغ عنايتنا بالترفيه عنهم وإدخال(30/71)
السرور على نفوسهم، ونجعل من العيد حياة زاخرة قوية، ومن أيامه أفراحاً وأعراساً للصغار وللكبار على السواء ونقيم فارقاً بين ساعاته التي يجب أن نملأها نعيماً وهناء، وبين أيام السنة التي تمضي بين الجد والعمل، وتمر فاترة مملولة.
وبعد. . . هل تجد هذه الكلمة أذناً صاغية من مؤلف أو مدير فرقة؟ لقد مرت فرصة العيد الصغير ولكن ما يزال في الوقت فسحة للعيد القادم، فلعل صغارنا يلقون فيه بعض ما يلقى صغار الأمم والشعوب يوم العيد.
محمد علي حماد(30/72)
القصص
أمير النوبة
بقلم الأديب حسين شوقي
عاد أمير النوبة إلى (نباتا) بعد أن قضى سنوات طويلة في مصر، على زعم أنه يتلقى الدروس بجامعة (عين شمس) الدينية العظيمة، ولكن الواقع هو أنه قضاها في مغازلة وصيفات الإله (رع) الحسان، وما كاد الأمير يرجع إلى وطنه حتى شعر بحنين شديد إلى مصر، وطنه الثاني، فتذكر في حسرة شوارع منفيس الواسعة، وحوانيتها الفخمة، وبائعاتها الرشيقات، ومراقصها. . أما هنا في (نباتا) فكل شيء يضايقه: فقصر أبيه الملك لا يزيد شأناً على الأعشاش التي يقيمها بعض وجهاء المصريين - في المصايف - على شاطئ البحر، والنساء كلهن بدينات متزينات بالريش والودع، دميمات المنظر مثل (سحمت) الإله المصري الذي يلتهم المذنبين في العالم الثاني. . أما أصدقاؤه من النوبيين فكلهم خشن الطباع، يلتهمون الطعام بأيديهم في وحشة وقذارة. . إنه يؤثر عليهم العزلة ليخلو إلى خياله فيتذكر أصدقاءه المصريين المرحين في (عين شمس) الذين قضى معهم أياماً سعيدة في قصورهم الشامخة على ضفاف النيل. ما أبهج تلك الليالي التي قضاها معهم في احتساء (الجعة) اللذيذة المخصصة لقرابين الإله رع، والتي كانوا يحصلون عليها خفية!. أما النوبيون فكانوا لا يميلون اليه، بل كانوا يسخرون من عاداته التي اكتسبها من مصر، ويرمونه بالخنوثة. .
حقاً! إنآلام الأمير النفسية كانت شديدة، خصوصاً وهو لم ينس قط (تايا) الحسناء بنت معلمه الكاهن (منتو)، كم ود أن تصحبه هذه الفتاة إلى (نباتا)، ولكن ماذا يعمل أمام رفض والدها الكاهن وهو رجل يحافظ على التقاليد. لم يرض أن تتزوج ابنته من أجنبي دنس في نظر الدين. .
وبينما هو سابح في هذه الأحلام، يذكر هذه المناظر المصرية خلال الدخان المتصاعد من (غليونه)، إذا بأبيه الملك يدخل عليه فجأة فيقول:
ولدي! أتحب أن تعود إلى مصر؟
فأجاب الأمير وقد تهلل وجهه:(30/73)
ما أشد سروري بذلك يا أبت! هذه غاية مناي
الملك - ولكنك ستعود هذه المرة طالباً ملكهم لا علمهم!
فستقود الجند الذين سيزحفون على مصر في الغد، لأن الوقت مناسب لهذا الهجوم، أما أنا فصحتي لا تسمح لي بالسفر، أنظر إلى ساقي، إن ورمهما يزداد كل يوم. . هذا بلا شك أهر لسحر تلك الجارية التي طردتها في الأسبوع الماضي، آه من السحر! كان يجب أن أدق عنقها بدلاً من أن أطردها، ومع ذلك فأنت تعرف مصر جيداً، ولا بد أنك مغتبط بهذه المهمة. .
قال الأمير (في غضب) - كلا يا والدي! لا أريد أن أذهب إلى مصر جلاداً. .
فصاح الملك متعجباً ماذا تقول يا ولدي؟ من علمك هذه الترهات؟
إني آمرك بذلك. أفهمت؟
قال الأمير - إني آسف يا والدي إذ لا أستطيع أن أرافق جيشك في هذه الغزوة!
فصاح به الملك - (في غضب) - إني آمرك حقاً لقد أخطأت في إرسالك إلى مصر لتتعلم، إن القوم مهرة في علم السحر، فهم قد سحروك. .
الأمير - أجل! إنهم سحروني بحضارتهم!
الملك - (يضحك بصوت عال) - حضارتهم! أين هي؟
أتسمي حضارة هذا (الغليون) الذي يكتم أنفاسي بدخانه؟
الأمير - ولكن يا أبت ما الفائدة التي نجنيها من هذه الحرب؟ إن المصريين أقوياء وجيشهم مجهز بأحدث الأسلحة. .
الملك - ولكنهم منقسمون، يحارب بعضهم بعضاً، إنها فرصة ثمينة لغزوهم الآن. .
الأمير - ولكن ألا تخشى غضب آلهتهم العظام؟
الملك - (يضحك) - ليست آلهتهم إلا ضفادع المستنقعات وقطط الحيطان. . (ثم قال في جد) كفى الآن مزاحاً، إذهب! فارصد أهبتك للرحيل
الأمير - لن أذهب يا أبت!
الملك - (محتداً) - بل ستذهب أنها الولد العاق!
غادر الملك الحجرة فشعر الأمير بعد أن هدأت ثورته بحزن عميق، لأنه لا يستطيع بحال(30/74)
أن يحارب المصريين الذين تعلم في ديارهم، وتثقف بثقافتهم، واتخذ من بينهم أصدقاء كثيرين. . انه لا يستطيع أن يتصور الني مصبوغاً بالدماء، ورياضه وخمائله جرداء، وقصوره تلتهمها النيران. . كلا! هم ان المصريين لم يعتدوا من جانبهم على النوبة حتى يكون هناك مبرر لهذا الزحف، كلا! هذا أمر فظيع! إنه يؤثر عليه الموت. .
ألقى الأمير بنفسه على السرير واخذ يبكي طويلاً، ثم نهض فتذكر قنينة السم التي أعطاها إياه معلمه الكاهن (منتو) عندما ذهب ليودعه يوم سفره، كما تذكر قول الكاهن وقتئذ:
(ولدي! إن في الحياة أوقاتاً يفضل الموت فيها، وأنتم معشر الملوك والأمراء معرضون لأخطار كثيرة كالأسر أو المنفى، ثم إن هذا السم لا يحدث ألماً وإنما يشعر شاربه كأنه في الفردوس. .)
قصد الأمير دون تردد زاوية من الحجرة حنث كانت حقيبته التي صحبته في رحلاته إلى مصر، فنظر بعين ملؤها العطف إلى البطاقات الكثيرة التي تحملها الحقيبة من الفنادق الكبيرة في منفيس وطيبة والحجر، فأخرج منها قنينة السم ثم شربها جرعة واحدة وتطرح على السرير. .
وفي صباح اليوم التالي خاء خادمه لإيقاظه من النوم كالعادة، ولكنه امتنع هذه المرة عن تأدية هذا الواجب لأن وجه سيده كان يفيض بشاشة، فلم يشأ أن يعكر عليه أحلامه اللذيذة. .
حقاً! إن الكاهن (منتو) لم يكذب حين قال أن شارب سمه يحلم بالفردوس، ولكن الواقع أن روح الأمير كانت فعلاً في الفردوس، لأن الآلهة أرادوا مكافأته على تضحيته وإنقاذه مصر فردوسهم الثاني في هذه الأرض. .
حسين شوقي(30/75)
أسطورة جاهلية
أساف ونائلة
حدث السادن (تيم) من (جرهم) يروي قصة (أساف) و (نائلة) للذين مسخا صنمين، فعبدتهما قبيلتا (قريش) و (خزاعة) ومن حج الكعبة من بعدهما، قال: كان (أساف بن يعلى) من أشراف (جرهم) ومن أشجع فرسانها، وكان مليح الوجه ظريفاً عظيم النفوذ بين العرب، وكانت (جرهم) تهابه أكثر مما تحبه، وقد أوتي حكمة الشعر والكهانة، وجمع إلى المال قوة العماليق، شيد له صرحا في اليمن كعش النسرن ولم يسكنه إلا بعد أن أخذ بثأر أبيه المقتول، ونحر على قبره، واحتفر للغنائم من حوله، حفراً ختمها بالحديد هذا الجبار الذي كان يتلهى بقتل عبيده في أوقات الفراغ، وقع أسر حب (نائلة بنت زيد) من (جرهم)، وكانت من أجمل نساء العرب، وأكثرهن ذكاء. تنشد الشعر، وتترك النار مشبوبة حول بيوتها للضيفان، وكان ربما خرج (أساف) للصيد والقنص، فصادف جواري يستقين، فينشدنه من أشعارها ما يطربه، وما كان (أساف) ليأنف أن يقف للناس في الأسواق وهو الزعيم القوي البأس لكي ينشدهم شعره في نائلة، فاشتهر عشق البطل لربة الجمال، وتغنت به الركبان في أرض اليمن وكان من عادة العرب، التفريق بين العاشقين، فكان طبيعياً أن يحرم العاشق لذة اللقاء، وأن يذوق حرارة البعد، ومرارة الفراق، وأن تفكر المعشوقة في خلها طول النهار، وطرفاً من الليل، وأن يتحين العاشقان فرصة اللقاء، ليرتشفا كأس الحب، فلما أقبلت نائلة من اليمن تحج البيت، كان أساف قد سبقها إليه، وكانت العرب تعظم الكعبة، وتبالغ في حبها والتبرك بها، وكانت تضع في جوفها أصنامها المعبودة.
والتقى أساف بنائلة حول ذلك البيت المقدس حاجين، وما كان أشد اشتياق البطل لمعشوقته، فطافا مراراً، ثم دخلا الكعبة يتبركان بأصنامها، فاتفق أن وجدا غفلة من الناس، وخلوة في البيت، فتقدم البطل إلى ربة الجمال، وأسلمت نفسها له في خفة، ورقة ولين، فضمها العاشق إلى نفسه، وتبادلا قبلات فيها شغف ولهفة، وفيها، وجد وجنين، وإذ ذاك صدرت في الحال همهمة مروعة، من أجواف الأوثان، أخرجت العاشق من لذة القبل، فغضب، وسب الأصنام ولعنها، فلما أصبح الحجاج وجدوهما صنمين على صورتهما من العقيق الأحمر، فعدت قريش مسخهما فضلاً من الآلهة ورحمة، واحتفلت خزاعة بهما، ونصبتهما(30/76)
للعبادة في أرفع مكان بالكعبة، وكانت تتقرب إلى عبادتهما بالهدايا والقرابين، وتنحر عندهما، وكلما حجت العرب الكعبة تمسحت النساء بالصنم (نائلة) وتمسح الرجال بالصنم المعبود (أساف) وطافوا من حولهما. وبالغت قريش في تقديسهما فأقامت لهما منحراً ينحرون فيه الهدايا من النوق العتاق، والشياه السمان، واختارت سدنتهما من مشايخها. وكانت بنات (نائلة) السادنات يرسلن شعورهن، وينتظرن ظهورها على قارعة النخل مرة كل عام. وكانت نائلة تظهر مرة كل عام في صورة شيطان، رائعة الجمال، مرسلة الشعر، يركض بها جواد أشهب، إلى مقر الكعبة، فإذا بلغتها اختفت، وسمع من الصنمين صوت القبلات المتبادلة، وربما يكون العربي الحاج في هذه الفترة على بعد ألف فرسخ من مقر زوجته أو أمه، فيشعر كأنه قد قبلها وقبلته.
سليمان متولي
في الكتب
حياة نابليون
تأليف الأستاذ حسن جلال
يقول الإنجليز (لا ينجح مثل النجاح) وهذا ما أردده حين أتعرض للأستاذ حسن جلال، فقد أخرج من قبل كتابه (الثورة الفرنسية) فكان توفيقه باهراً، ثم طلع علينا أخيرا بكتابه (حياة نابليون) فكان بحق مثار الإعجاب والدهشة.
نعم، الكتاب جدير بإعجابنا وتقديرنا، فها هي ذي كتب التاريخ الكبيرة بين أيدينا نقرؤها من غير شهية، وهذا في اعتقادي ناشئ من أن الكاتب لم تتشبع روحه بالموضوع ولم يهضم مادته هضماً يمكنه من جعل الحقائق غذاء سائغا لقرائه؛ وأستاذنا من هذه الناحية يحب تاريخ الثورة الفرنسية وعهد نابليون ويعجب به، ولعل الكثير من تلاميذه لا يزال يذكر مقدار توفيقه في تدريس هذه المادة، الحق أن الأستاذ بلغ في هذا منتهى ما يصل إليه الخيال من حدود التوفيق، ذلك لأنه كان يقبل على عمله بعاطفة، ولعل هذا يفسره إخراج هذين الكتابين.
فإذا كان الأستاذ قد أحب هذه الصفحة من التاريخ الفرنسي، وصرف شطرا من عمره(30/77)
يبحثها وتشبعت روحه بها، فلا أقل من أن يضع بين يدي طلاب الثقافة عصارتها، ومن ثم كان الكتاب سهلاً سائغاً يحبه القارئ وتلذه قراءته. ولا يفرغ منه إلا ليقرأه من جديد.
هناك نقطة أخرى، هي الحقائق لا أكثر ولا أقل، يسود المؤلفون بها صحائف الكتب ويلقونها على تلاميذهم دون أن يحاولوا استخلاص الآراء التي تحتجب وراءها، أو بمعنى أخر دون أن يعلقوا عليها التعليق الذي يجعلها تفيض نضارة وحياة وقوة. إلى هذا كله فطن الأستاذ حسن جلال، فلم يكن يهمه في كتابه أن يعلم القارئ أن مئات الحوادث قد وقعت، ولكن يهمه أن يصل بالقارئ إلى ظروف حدوثها وكيف كان يفكر أبطالها، ثم إلى أي حد كتب لهم التوفيق ولماذا أصابهم النجاح أو ضرب عليهم الفشل، ونرى في (حياة نابليون) أن الأستاذ المؤلف يوجه القارئ بواسطة المعلومات التي ساقها في مهارة ولباقة فائقين، إلى سبل التطور وتتبعها، وتفهم الأصول الاجتماعية والسياسية والخلقية والعقلية والاقتصادية التي أحاطت بالعصر الذي عاش فيه نابليون. أما مادة الكتاب فلم يكن الأستاذ مخترعاً لها، فالتاريخ إنما يستخلص من المراجع، ولكنا نجد بعض المؤلفين ينقلون صحائف برمتها من هذه المراجع، ثم يكتبون صحائف أخرى بأنفسهم، فلا نجد انسجاماً بين أجزاء الكتاب الواحد. والقارئ لكتاب الأستاذ جلال يلمس مهارة المؤلف في اختيار مادة كتابه، ويلمس كذلك الترتيب المنطقي للمعلومات، وتبدو شخصية المؤلف الذارة وروحه الخفيفة قويتين بحيث لا نميز خلالهما روح مؤلف ممن رجع إليهم، كل هذا برغم أن الكتابة عن الأشخاص في نظري أبعد أنواع الكتابة التاريخية منالاً.
وليس عجيباً أن يكون الأستاذ هادئاً بطبعه، ولكن العجيب أن يكون هادئاً حتى وهو يكتب هذه الحياة العاصفة، لا يميل مع الإنجليزي الذي يمثل نابليون أفعى نفثت سمومها، ولا مع الفرنسي الذي يصور الرجل من قادة البشر إلى الجريمة والإخاء والمساواة، بل يجلس الأستاذ بينهما مجلس القضاء.
ومهارة الأستاذ في القصص، تفوق مهارته في التاريخ، فأنت حين تقرأ وصفه للقاء نابليون بجزفين بعد عودته من مصر، تنسى التاريخ وتنسى كل شيء إلا ذلك التصوير الرائع، ولكنك لا تكاد تنتهي منه حتى تصدمك عنوانات تاريخية جافة (حالة فرنسا في غياب بونابرت - انقلاب برومير - دستور 1799) فتوقظك من ذلك الحلم وتعيدك إلى حظيرة(30/78)
التاريخ مرة ثانية؛ ذلك نصادفه كثيرا في كتاب الأستاذ؛ فهل نعتبر الكتاب قصيدة منثورة أو نعتبره قطعة من التاريخ؟ أما رأيي فهو أن الكتاب تاريخ شعري، وما أحوج التاريخ إلى أن يكون سائغاً جميلاً، ولاسيما إذا تنبهنا إلى أن الأستاذ لم يكتب لنا مؤلفاً نضعه في عداد المراجع التاريخية، أو سفراً له قيمة السجلات الرسمية، ولكنه صاغ حلقة من سلسلة المعارف العامة التي تعنى لجنة التأليف والترجمة والنشر بوضعها بين أيدي طلاب الثقافة. وآخر كلمة أقولها بعد أن قرأت (حياة نابليون) أن الأستاذ المؤلف قد عرض المؤرخين الذين ترجموا لهذا البطل صفاً صفاً، استملاهم جميعا فأفرغوا ما كان يملأ جعباتهم (من وحي الهوى وتصوير الإعجاب وإملاء المقت وصدى الحفيظة) ثم ناقشهم الحساب العسير حتى عرف البواعث التي أملت ما قالوا، وأخيراً قال كلمة العدالة التي عصبت عينيها، ورفعت الميزان في إحدى يديها، وأمسكت بالأخرى سلاحها، فكانت كلمته فصل الخطاب.
عبد الفتاح السرنجاوي(30/79)
العدد 31 - بتاريخ: 05 - 02 - 1934(/)
في الأقصر. . .
- 2 -
وقف القطار ضحى على محطة الأقصر. وأخذ الحجيج المدني يخطو على أفرزيها ذابل الأجفان، خاثر الأبدان، من تكسير السهاد أو تفتير الوسن. وكان قوم يستقبلون زوار الآثار، وقوم يستقبلون أطباء المؤتمر، فتدفق الركب المتجمع لدى الباب في وجهتين مختلفتين، وذهب بنا أولياء القطار إلى موائد الإفطار، فأصاب منها من أراد على قدر شهوته، ثم قسمونا إلى قسمين: قسم يزور (طيبة الأحياء) في الشرق، وقسم يزور (طيبة الأموات) في الغرب. وهل بقي لعمري في طيبة اليوم أحياء أو أموات؟! لقد ذهب الموت منذ بعيد بأحيائها إلى القبر، وذهبت الحياة منذ قريب بأمواتها إلى المتحف! فلم يبق منها على عدوتي الوادي غير أنقاض طفت على وجه القرون، وأبعاض بينها وبين الفناء صراع لا يفتر!
الأقصر مدينة رقيقة الحال تقوم على أطلال طيبة منا تقوم أعشاش الطيور على شُم الصخور! تسير في شوارعها القروية، وبين منازلها المتنافرة، فلا يستبي طرفك منظر فاتن، ولا يزدهي لبك مظهر غريب، فإذا استثنيت (ونتربالاس) وما تألق من الفن في فنائه وأبهائه، ومرفأ النهر وما ترقرق من الحسن في ظله ومائه. وشارع السلطان حسين وما تنسق على حفافيه من نخله وكهربائه، والجو الفاتر وما شاع من القوة في شمسه والحياة في هوائه، وجدت بلداً كأحقر بلاد الناس يعيش حاضره على ماضيه، وتذهب عينه على آثاره! ولكن وَلِّ ظهرك حضارة الأحداث، وتعال نسر وراء العم (ضاوي) في طريق الكرنك. وبين الأقصر والكرنك مدى من الزمان والمكان يتسع فيه الخيال ويسبح في أعماقه الخاطر. ومن الذي يستطيع أن يجول في مسارح الجبارين دون أن يتمثل هذا الفصل الذي افتتح به الأزل رواية العالم؟
فهنا منذ بضعة آلاف سنة نبتت في ظلال هذه الجبال إنسانية باكرة ترسل النظر الثقيل البطيء في هدوء واستقامة وبعد. ويصور لها عقلها الطفل ألوان التعاجيب والتهاويل من قوى الطبيعة الخفية، فتنحت الجبال قبورا، وتبتني الصخور قصورا، وتقيم لآلهتها الغلاظ من صم الجلاميد تماثيل ومحاريب يتضاءل أمامها الفن الحديث؛(31/1)
وهنا منذ أربعة آلاف سنة كان الفكر الإنساني يقطع مرحلته الأولى بينما كان الرقاد الأزلي يغشى سائر الأرض، ويطير متثاقلاً عن جفون يونان وآشور.
وهنا سجل الزمن الواعي على ملس الغرانيت أولى صحائف الفكر، فألهمت اليهود والإغريق في الدين والفن والجمال في شتى ضروبه وصوره. وهنا كانت لبني الإنسان بداية حسنة، لولا أن طغيان الفرد المتحكم، وسلطان الدين المتعسف، قد جعلا لهذه البداية نهاية من الجور والإرهاق محزنة! فها نحن أولاء بين صفين من الكباش المسيخة الجاثية أمام معبد آمون. ومعبد أمون يتلو عليك وحده ان شئت نبأ القوم! فهو أكداس هائلة من ضخام الصخر تنافس في نقلها وركمها الجبابرة في خمسة عشر قرناً منذ سيتي الأول! منها أبواب وحجر، ومنها محاريب وتماثيل، ومنها مسلات وعمد؛ ومن ذلك كله ما هو قائم يتحذى بطوله السماء، وما هو نائم يفدح بثقله الأرض!
أنظر إلى هذه الغابة الكثيفة المخيفة من الأعمدة أتظن الشمس منذ أوقدها الله أشرقت على مثلها في الضخامة والبساطة؟ إلا يذكرك هذا العمود الذي تتفتح فوق هامته زهرة اللوتس العجيبة على علو خمسة وعشرين متراً بصرح (تيتان) الخرافي وأخوته؟
من الذي قطع هذه الأطواد، ووضع هذه الأوتاد، وشاد هذه الأروقة، ونحت من الصوان هذه الآلهة البكم، وخلد الملوك على هذه الحجارة الصم؟؟ هو شعب النيل الذليل البائس! بناها وبنى سواها على قفار الخبز وأُلهوب السوط ونزع الروح، ولا تستطيع أن تصدق وأنت ترى هذه المعجزات أن مصر كانت في مدى ثلاثين قرناً تعمل غير ذلك.
استعبدت فكرة الخلود عقول الفراعنة فاستعبدوا في سبيلها جسوم الشعب، وملكهم حب الآخرة فسخروا له حب الدنيا، وفتنهم متاع السماء فرصدوا له متاع الأرض، وأغرقوا في إعزاز النفس وإيثار الحياة وتقديس العظمة. فأنكروا حرمة العامة، وجحدوا قدرة الموت، وجهلوا معنى الضعة، وخلفوا لأجيال الأبد من يطمح كالملوك، يطمع كالكهنة، ويخضع كالسوقة!
لقد كنا نتجمع حول دليلنا الهاذي في أروقة هذا المعبد المحطم، نطن في أجوافه طنين البعوض باللحون المختلفة: نذكر أوائلنا الذين ارتجلوا للناس لفظ المجد، واقتحموا على الدهر باب الخلد فنزهى ونصلف؛ ونذكر أسلافنا الذين قامت على أشلائهم هياكل أمون،(31/2)
وفاضت بدمائهم بحيرة أوزيريس فنأسى ونأسف، ونذكر أمام ذلك الماضي الخالد حادز الكرنيش وحائط المحكمة المختلطة فنمضي ونضحك!!
أحمد حسن الزيات(31/3)
النفس والرقص
للكاتب الشاعر الفرنسي بول فاليري
ترجمة الدكتور طه حسين
- 4 -
فيدر - لنستمتع لحظة أخرى في سذاجة بهذه الأعمال الحسان!. . . كأمها تقدم الهدايا عن يمين، عن شمال، إلى أمام، إلى وراء، إلى فوق والى تحت، من الطيب ومن البخور ومن القبل، وحياتها نفسها تهديها إلى كل مكان في الكرة والى قطبي الكون.
إنها ترسم ورداً وشباكاً، ونجوماً من الحركات، وأسواراً سحرية. . . . إنهاً تثب فتتجاوز الدائرة التي لا تكاد تغلق. . . إنها تثب وتجري في أثر الأشباح. . إنها تجني زهرة لا تلبث أن تستحيل إلى ابتسامة. . . ما أعجب ما تنكر وجودها في خفة لا تنقضي!. . . إنها لتضل بين الأصوات ثم يردها إلى الهدى خيط ضئيل. . . هو المزمار المعين الذي أنجاها! يا لعذوبة اللحن!. . .
سقراط - كأن ما حولها ليس إلا أشباحاً. . . . إنها تلد هذه الأشباح وهي تهرب منها، ولكنها إذا التفتت فجأة تخيل إلينا أنها تتراءى للآلهة الخالدين!. . .
فيدر - أليست هي روح الاساطير، وما ينفذ من جميع أبواب الحياة!
أركسيماك - أتظن أنها تعلم من هذا شيئاً؟ أو أنها تفاخر بأنها تنتج شيئاً إلا هذه الحركات التي تأتيها حين تغلو في رفع قدميها، وهذا التوقيع وهذه الالتواءات التي أتقنتها في مشقة حين كانت تتعلم الرقص.
سقراط - من الحق أننا نستطيع أن نلاحظ الأمر تحت هذا الضوء الذي لا سبيل إلى إنكاره. . . . فالعين الهادئة تنظر إليها في يسر كما تنظر إلى مجنونة. هذه المرأة التي اجتثت من اصلها اجتثاثاً غريباً، والتي لا تنفك تنزع نفسها من صورتها على حين قد جنت أعضاؤها فهي تتنازع الأرض والهواء، وعلى حين يستلقي رأسها فيجر على الأرض شعراً مفرقا، وعلى حين تظهر إحدى ساقيها كأنها أخذت مكان الراس، وعلى حين تخط صبعها في التراب علامات لا أدري ما هي!. . . . وبعد، فلم هذا كله؟ - يكفي أن تثبت(31/4)
النفس وان تمتنع فإذا هي لا تلاحظ إلا ما في هذا الاضطراب من غرابة تدعو إلى الاشمئزاز. . . فلو أردت يا نفس كان كل هذا سخيفاً.
أركسيماك - وإذن فأنت تستطيع حسب استعدادك أن تفهم وإلا تفهم، وان ترى الشيء جميلاً أو تراه سخيفاً كما تحب وتهوى؟
سقراط - يجب أن يكون ذلك كذلك. . . .
فيدر - أتريد أن تقول أيها العزيز سقراط أن عقلك ينظر إلى الرقص كأنه شخصغريب يحتقر لغته ويرى أخلاقه شاذة بل مؤذية بل فاحشة كل الفحش.
أركسيماك - يخيل إلي أحياناً أن العقل هو الملكة التي تمتاز بها نفسناً والتي تمنعها من أن تفهم جسمنا بأي حال من الأحوال!
فيدر - أما أنا يا سقراط، فان ملاحظة الرقص تمكنني من أن أتصور أشياء كثيرة وأتصور الصلات بين أشياء كثيرة. وهذه الأشياء تصبح فوراً فكرتي الخاصة وتكاد تفكر مكان فيدر. واجد ضوءاً ما كنت قط لأجده في الخلوة إلى نفسي وحدها. ولقد كانت اتكتيه منذ حين تخيل إلى أنها تصور لي الحب. - أي حب؟ - لا هذا ولا ذاك، ولا أي مغامرة سخيفة! - لم تكن تصور شخص الحبيبة من غير شك. . . لم تكن تخيل، لم تكن تمثل! كلا. كلا. لم تكن تخترع الخيال. . . ولم نتكلف أيها الصديقان حين نستطيع أن نتصرف في الحركة وفي المقدار وهما خير ما في الحقيقة من الحق؟. . كانت إذن حقيقة الحب ولكن ما هذه الحقيقة؟ ومم هي؟ وكيف تحديدها أو تصورها - ونحن نعلم أن روح الحب إنما هي الفرق الذي لا يقهر بين العاشقين، على حين أن مادة الحب الرقيقة إنما هي اتحاد رغبتهما فيجب إذن أن يلد الرقص بدقة معالمه، وبجمال وثباته، وبرقة وقفاته، هذا الكائن الكلي الذي ليس له جسم ولا وجه، ولكن له منحاً وأياماً ومصائر ولكن له حياة وموتاً بل ليس هو إلا حياة وإلا موتاً، فان الرغبة إذا نشأت لم تعرف نوماً ولا هدنة.
ولهذا تستطيع الراقصة وحدها أن تظهره للعيان بأعمالها الحسان. كلها يا سقراط، كان الحب!. . . كانت لعباً وبكاء وتكلفاً لا غناء فيه، سحر، سقوط، منح والمفاجاءات، ونعم ولا، وكل هذه الخطى الضائعة في حزن. . كانت تحتفل بكل أسرار المحضر والمغيب، وكأنما كانت أحياناً تمس الكارثة التي لا تمحي. . . ولكن الآن انظر إليها تقرباً إلى(31/5)
أفروديت. أليست تظهر فجأة كأنها موجة من موج البحر؟ طوراً أثقل؛ وطوراً أخف من جسمها، تثب كأنما تفصل عن صخرة، ثم تسقط في هدوء. . . هي الموج.
أركسيماك - مهما يكن من شيء فان فيدر يزعم أنها تصور شيئاً.
فيدر - ماذا ترى يا سقراط؟
سقراط - في أنها تصور شيئا؟
فيدر - نعم. أترى أنها تصور شيئا؟
سقراط - لا شيء أي فيدر العزيز. ولكن كل شيء أي اركسيماك - تصور الحب كما تصور الحياة نفسها وكما تصور الخواطر والآراء. . . إلا تشعران بأنها خلاصة التحول؟
فيدر - أي سقراط الملهم انك لتعلم أي ثقة ساذجة نادرة قد توثقت بنورك الذي لا نظير له منذ عرفتك. لا أسمعك إلا صدقتك، ولا أصدقك إلا استمتعت بنفسي التي تصدقك. ولكن القول بان رقص اتكتيه لا يصور شيئاً ولا نكون فوق كل شيء صورة لقوة الحب وظرفه قول لا أكاد أطيق الاستماع له.
سقراط - لم اقل - إلى الآن شيئاً يبلغ هذه القسوة! - أيها الصديقان إني لا أزيد على أن أسألكما ما الرقص، وكلاكما يظهر علماً بالجواب، ولكنكما تعلمانه على اختلاف بينكما! أحدكما يقول إن الرقص هو ما هو، وانه ينحل إلى ما ترى أعيننا هنا. والآخر يؤكد انه يصور شيئا، وإذا فليس هو كله في نفسه وإنما هو في أنفسنا قبل كل شيء. أما أنا أيها الصديقان , فما زلت احتفظ بشكي كاملا!. . خواطري كثيرة، وليس هذا علامة خير!. . . كثيرة مختلطة ومزدحمة حولي على السواء. . .
أركسيماك - أتشكو من الثروة!
سقراط - إن الثروة تضطر إلى السكون، ولكن رغبتي حركة يا اركسيماك. . . أنا محتاج الآن إلى هذه القوة الخفيفة التي تمتاز بها النحلة، كما تمتاز بها الراقصة. . . يحتاج عقلي إلى هذه القوة، وهذه الحركة المركزة اللتين تعلقان الحشرة فوق جماعة الزهر وتجعلانها حكما ناطقا فيما بين رحيقها من اختلاف. وتقدمانها كما تحب إلى هذه أو إلى تلك، إلي هذه الوردة البعيدة بعض الشيء وتسمحان لها بان تمسها أو تتركها أو تمعن فيها. . . هي تنأى فجأة عن الزهرة التي فرغت من حبها. ثم تعود إليها إذا أحست الندم لأنها تركت فيها(31/6)
بعض الرحيق الذي ما تزال ذكراه تتبعها، وما تزال لذته الماضية تنغص عليها طيرانها. أو يحتاج عقلي يا فيدر إلى هذا التنقل الدقيق الذي يتاح للراقصة، والذي إذا انسل بين خواطري أيقظها في رفق واحداً اثر واحد، وأخرجها من ظلمة نفسي وأظهرها لضوء عقليكما، في خير نظام بين النظم الممكنة!
فيدر - تكلم، تكلم. . إني لأرى النحلة على فمك والراقصة في نظرتك.
طه حسين(31/7)
صفحة سوداء
بقلم الأستاذ أحمد أمين
رووا أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب في وصف مصر أن: (نيلها عجب، وأرضها ذهب، وهي لمن غلب).
ورووا أن عتبة بن أبي سفيان كان عاملاً لأخيه معاوية على مصر، فبلغه أمور عن اهلها، فصعد عتبة المنبر مغضباً وقال: (أيا حاملين ألأم أنوف ركبت بين أعين، إنما قلمت أظفاري عنكم ليلين مسي إياكم، وسألتكم صلاحكم لكم، إذ كان فسادكم راجعاً اليكم، فاما أد أبيتم إلا الطعن في الولاة والتنقص للسلف، فوالله لأقطعنَّ على ظهوركم بطون السياط، فان حسمت داءكم وإلا فالسيف من ورائكم).
وقبل هذا وذاك، جاء فرعون (فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى)
وجاء أبو نؤاس مصر بعد ذلك فقال:
محضتكم يا أهل مصر نصيحتي ... ألا فخذوا من ناصح بنصيبَ
رماكم أمير المؤمنين بحية ... أكول لحيات البلاد شروب
فان يك باق إفك فرعون فيكمو ... فان عصا موسى بكف خصيب
واشتهر المصريون عند المؤرخين بالانهماك في الشهوات وعدم النظر في العواقب، ولما رآهم ابن خلدون على هذه الحال قال فيهم: (كأنما فرغوا من الحساب) يريد انهم لا يحاسبون أنفسهم على ما يصدر منهم، ولا يخافون من عاقبة أعمالهم، كأنما فرغوا من الحساب.
وظل مؤرخو العرب يرمون المصريين بالذل، وقبول الضيم في كل ما كتبوا - وكان من أشدهم المقريزي في أول خططه، فقد عقد فصلاً في أخلاق المصريين قال فيه: (وأما أخلاقهم فالغالب عليها اتباع الشهوات، والانهماك في اللذات، والاشتغال بالترهات، والتصديق بالمحالات، وضعف المرائر والعزمات، ولهم خبرة بالكيد والمكر، وفيهم بالفطرة قوة عليه، وتلطف فيه، وهداية إليه). ثم رماهم بالذل، واخذ يحصي الأقوال في ذلك: فروي عن كعب الأحبار أن (الخضب قال: أنا لاحق بمصر؛ قال الذل: وأنا معك. وقال الشقاء: أنا لاحق بالبادية. فقالت الصحة وأنا معك). وروى ان ابن القرية وصف أهل مصر فقال:(31/8)
(عبيد لمن غلب، أكيس الناس صغرا، وأجهلهم كبارا).
وجاء بعده السيوطي فلم يخجل من أن يضع في كتابه (حسن المحاضرة) فصلاً عنوانه (السبب في كون أهل مصر أذلاء يحملون الضيم) وقد جاء فيه (إن الشيخ تاج الدين كان يقول: إن الحكماء وأهل التجارب ذكروا أن من أقام ببغداد سنة وجد في علمه زيادة، ومن أقام بالموصل سنة وجد في عقله زيادة، ومن أقام بدمشق وجد في طباعه غلظة، ومن أقام بمصر سنة وجد في أخلاقه رقة وحسنا) والرقة والذل قريب بعضهما من بعض. وقال القاضي الفاضل: (أهل مصر على كثرة عددهم، وما ينسب من وفور المال إلى بلدهم، مساكين يعملون في البحر، ومجاهيد يدأبون في البر).
ويذكرون الذل على انه حقيقة ثابتة، ثم يختلفون في السبب في ذلك، فمن قائل إن المصريين غاظوا يوماً سعد بن أبى وقاص، فدعا عليهم أن يضربهم الله بالذل؛ وسعد عرف بإجابة الدعوة.
انو كان ذلك فالخطب هين، فمن الممكن أن يجتمع صلحاء مصر وورعاؤها فيقرءوا الفواتح والدعوات وما تيسر من القران الكريم، ويهبوها لروح سعد ويطلبوا إليه ان يعدل عن دعوته، ويطلب إلى الله تعالى ان يرميهم بالعزة بعد الذل. وما أظن سعداً يصر على دعوته، وقد عرف في حياته بالسماحة والسؤدد.
ومن قائل: إن فرعون لما غرق كان معه أشراف القوم وأعزتهم، فلما غرقوا معه، فلم يبق إلا الحثالة، فأتى من نسلهم الجبناء الأذلاء. وهل ينتج الذليل إلا الذليل؟ وهذا القول أيضاً سهل رده، فالمصريون قد نزل بين أظهرهم كثير من سادة اليونان والرومان، وسادة العرب وسادة الأتراك، وذابوا في مصر واختلطوا بأهلها؛ فلم يغلب الذل العزة وعهدنا دائماً غلبة الأعزاء؟
أخطر الأسباب ما يلمح إليه الماكر (المقريزي) فهو يريد أن يبعث في النفوس اعتقاداً بان هذا سبب طبيعي يرجع إلى الإقليم والى الجو، والى طبيعة الأرض، هو يريد أن يقول إن ذلك خلقة فيهم، بل هو في كل شيء حولهم فيقول (إن هواء مصر يعمل في المعجونات وسائر الأدوية ضعفاً في قوتها، فأعمار الأدوية - المفردة المركبة، المعجون منها وغير المعجون - بمصر اقصر منها في غير مصر) واشد من ذلك وأصرح قوله (ان قوى النفس(31/9)
تابعة لمزاج البدن، وأبدانهم سخيفة سريعة التغير، قليلة الصبر والجلد، وكذلك أخلاقهم يغلب عليها الاستحالة والتنقل من شيء إلى شيء، والدعة والجبن. . . ومن اجل توليد أرض مصر الجبن والشرور الدنيئة في النفس لم تسكنها الأُسد، وإذا دخلت ذلت ولم تتناسل، وكلابها اقل جرأة من كلاب غيرها من البلدان، وكذلك سائر ما فيها أضعف من نظيره في البلدان الأخر، ما خلا ما كان منها في طبعه ملاءمة لهذه الحال كالحمار والأرنب)
قول قاس أيها المؤرخ! ولو صح ما قلت لكان حكماً أبدياً صارماً، فان لنا طاقة بتغيير كل شيء إلا الجو والإقليم فماذا نصنع فيهما، لو كان صحيحاً قولك لاستوجب اليأس في الإصلاح، فما تفلح أمة ضرب عليها الذل والخضوع، بل لوجب الرحيل من بلد يسمم جوها دائماً أخلاق أهلها:
وقد قال الشاعر:
(وإذا نزلت بدار ذل فارحل)
أخشى أن تكون متأثراً بآراء شيخك ابن خلدون وقد كان في طباعه حدة وعنف، وفي المصريين دعة، فنظر إليها بطبعه الحاد نظرة فيها إفراط وفيها مبالغة - لو كانت نظريتك صحيحة لما تعاقبت الذلة والعزة على الأمة الواحدة فتعز بعد ذلة، أو تذل بعد عزة، والجو واحد والإقليم واحد - وان في تاريخ مصر نفسها صفحات بيضاء تجلى فيها العزة بأجلى مظاهرها، الحق - يا سيدي - إن الإقليم عامل، ولكن ليس كل عامل، فإذا كان الجو سماً فالتربية والتعليم ترياق، إلا ترى إلى مثلك نفسه، فقد ذكرت أن الأدوية والمركبات والمعاجين يسرع إليها الفساد في مصر لسوء الجو - لو عشت إلى عصرنا لعلمت كيف تغلب العلم على الإقليم، وصار من المستطاع في يسر وسهولة أن يحفظ الدواء - بأبسط المعالجات - في مصر كما يحفظ في أوربا وان التربية كذلك تفعل في النفس الأعاجيب، وكل ما نستطيع أن نستفيده منك انك نبهتنا أنت وأمثالك من المؤرخين على أن في مصر جبناً وفي مصر ملقاً، إلى هنا نقبله منك ولكنا لا نستسلم له، ولا نقر انه طبيعي فينا. ولكن لنريك الأمثال على خطأ تعليلك ولننبهك على نظرية ثبتت حديثاً وهي: أن الأمم المبتدية الساذجة هي اكثر استسلاماً للطبيعة وشؤونها، والأمم المتحضرة تستطيع بعلمها وتربيتها(31/10)
وقوة عقلها أن تسخر الطبيعة لمصلحتها، لا أن تخضعها الطبيعة لأمرها، فنحن نستطيع أن نستفيد من وداعة الطبيعة فنكون وديعين إلى حد، فإذا أرادت ان تتجاوزه إلى نفاق وملق وجبن قالت التربية (لا) بملء فيها، وحق للتربية إذا قالت (لا) أن يكون (لا)
وعبت كلاب المصريين بالضعف، ويظهر انك لم تر كلاب (ارمنت) وما هي عليه من بسطة في القوة والجسم، ولو قدر عليك أن ينبحك واحد منها ما سلمت بجلدك، ولغيرت حكمك.
لقد أحسست بان تعميم نظريتك خطأ بين، فاستدركت وقلت (ومن المصريين من خصه الله بالفضل وحسن الخلق وبرأه من الشرور) أليس هذا - يا سيدي - نقضا لقولك.(31/11)
أبو عبد الله آخر ملوك الأندلس
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تبوأ أبو عبد الله عرش غرناطة للمرة الثانية بعد أن قضى في أسر ملك قشتالة زهاء ثلاثة أعوام. وكانت الخطوب والفتن التي توالت على مملكة غرناطة قد مزقتها حسبما بينا، فلم يبق منها بيد الإسلام سوى بضع مدن وقواعد متناثرة مختلفة الرأي والكلمة ينضوي بعضها تحت لواء أبي عبد الله والبعض الآخر تحت لواء عمه محمد بن علي (الزغل). وكان واضحاً أن مصير غرناطة يهتز في يد القدر بعد أن نفذت جيوش النصرانية إلى قلبها، واستولت على كثير من قواعدها وحصونها الداخلية، ولم يكن الملك الصغير (أبو عبد الله) طبق المعاهدة التي عقدها مع فرديناند سوى تابع لمملكة قشتالة. يدين لها بالخضوع والطاعة، وكان ملك قشتالة يحرص من جهة أخرى على المضي في تحقيق خطته لسحق البقية الباقية من دولة الإسلام في الأندلس قبل أن يعود إليها اتحاد الكلمة، فيبعث إليها روحاً جديداً من العزم والمقاومة، فبدأ بغزو القواعد الشرقية والجنوبية التي يسيطر عليها مولاي الزغل لأنه كان في صلح مع غرناطة يمتد إلى عامين، وقد أراد أن يسبغ على عهوده مسحة غادرة من الوفاء، ولأنه أراد أولاً أن يعزل غرناطة، وأن يطوقها من كل صوب. وزحف فرديناند بادئ بدء على مالقة امنع ثغور الأندلس وعقد صلتها بالمغرب، وطوقها بقوات كثيفة من البر والبحر وسقطت مالقة رغم دفاعها المجيد في شعبان سنة 892هـ (أغسطس 1487م). ثم استولى فرديناند على المنكب والمرية (أواخر سنة 894هـ 1489م) ثم على بسطة (المحرم 895هـ ديسمبر 1489) ثم قصد إلى وادي آش آخر معقل لمولاي الزغل، ورأى الزغل رغم شجاعته وبسالته انه يغالب المستحيل وان جيوش النصرانية تحيط به من كل صوب، فانتهى إلى الاذعان والتسليم، ودخل فرديناند وآدي آش في صفر سنة 895هـ (يناير 1490م) واتفق بادئ بدء أن يستمر (الزغل) في حكم قواعده باسم ملك قشتالة وتحت حمايته، وان يلقب بملك اندرش، وأن يمنح دخلاً سنوياً كبيراً، ولكنه لم يلبث أن رأى انه يستحيل عليه الاستمرار في ذلك الوضع الشاذ، فباع حقوقه لفرديناند مقابل مبلغ كبير، وجاز البحر إلى المغرب واستقر في تلمسان يقضي بها بقية حياته في غمر من الحسرات والعدم، وجاز معه كثيرون من الكبراء(31/12)
الذين أيقنوا أن نهاية الإسلام بالأندلس قد غدت قضاء محتوما.
ثم جاء دور غرناطة آخر معقل للإسلام بالأندلس، وكانت جميع قواعد الأندلس الأخرى: مالقة والمرية ووادي آش والحامة وبسطة فد غدت نهائياً من أملاك مملكة قشتالة وعين لها حكام من النصارى، وتدجن أهلها أو غدوا مدجنين يدينون بطاعة ملك النصارى، وذاعت بها الدعوة النصرانية فارتد كثير من المسلمين عن دينهم حرصاً على أوطانهم ومصالحهم، وخشية الريب والمطاردة؛ وجازت ألوف أخرى ممن خشوا على أنفسهم ودينهم إلى المغرب وتفرقوا في ثغوره، وهرعت ألوف أخرى إلى غرناطة تلوذ بها حتى غدت المدينة تموج بسكانها الجدد. وكان سلطان غرناطة أبو عبد الله يرقب هذه الحوادث جزعاً ويشعر أنها تسير إلى نتيجة محتومة هي سقوط غرناطة في يد العدو الظافر، وكان قد تخلص بانسحاب عمه الزغل من الميدان من منافسه القوي، ولكنه فقد في نفس الوقت أقوى عضد يمكن الاعتماد عليه في الدفاع والمقاومة، وسرعان ما بدت طوالع الخطر الداهم، وبعث فرديناند إلى أبي عبد الله يطلب إليه تسليم الحمراء والبقاء في غرناطة في طاعته وتحت حمايته مثلما وقع لعمه الزغل؛ فثار أبو عبد الله لذلك الغدر، وأدرك - وربما لأول مرة - فداحة خطأه في محالفة الملك الغادر؛ وجمع الكبراء والقادة، فاجمعوا على الرفض والدفاع حتى الموت عن وطنهم ودينهم؛ ودوت غرناطة صيحة الحرب؛ وحمل أبو عبد الله بعزم شعبه على القتال والجهاد، وخرج في قواته نحاول استرداد القواعد والحصون المسلمة المجاورة؛ وثار أهل البشرات وما حولها على النصارى؛ ووقعت بين المسلمين والنصارى عدة مواقع ثبت فيها المسلمون، واستردوا كثيراً من الحصون والقرى في تلك المنطقة (أواخر سنة 895هـ)، وعاد أبو عبد الله إلى غرناطة ظافرا، وانتعشت قلوب الغرناطيين نوعاً بذلك النصر الخلب، وأخذوا يتأهبون للدفاع بعزم. وغضب فرديناند لتلك المفاجأة التي لم يكن يتوقعها واعتزم أن يقوم بضربته الحاسمة في الحال؛ فخرج في ربيع العام التالي (896هـ) في جيش ضخم مزود بالمدافع والذخائر الوفيرة؛ وسار تواً إلى غرناطة ونزل بمرجها الجنوبي وأنشأ لجيشه في بلك البقعة مدينة صغيرة مشهورة سميت سانتافي (شنتفي) أو الإيمان المقدس رمزاً للحرب الدينية، وهي تقوم حتى اليوم وبدأ حصار غرناطة في جمادى الآخرة سنة 896هـ (مارس 1491م).(31/13)
ولسنا نقف طويلاً عند حوادث هذا الصراع الأخير بين الإسلام والنصرانية في الأندلس؛ فهي تملأ فصولاً طويلة مؤثرة في الروايات العربية والإفرنجية؛ ويكفي أن نقول أن غرناطة دافعت عن نفسها دفاعاً مجيداً، ولم تدخر لاجتناب قدرها جهداً بشرياً؛ وان فروستها الشهيرة بذلت بقيادة زعيمها موسى ابن أبي الغسان أشجع فرسان عصره، ضروباً رائعة من البسالة، وخرج المسلمون من مدينتهم المحصورة غير مرة واثخنوا في النصارى. ولكن الضيق كان يشتد بالمدينة المحصورة يوماً فيوماً، وتقل مؤنها شيئاً فشيئاً، ويتساقط جندها تباعاً. وكانت مدى الربيع والصيف تستمد بعض المؤن من جهة البشرات من طريق جبل شلير فلما دخل الشتاء غطت هذه السهول والشعاب بالثلج الكثيف؛ وازدادت غرناطة ضيقا، واشتد بأهلها الجوع والمرض، وهم أبو عبد الله بمفاوضة فرديناند في التسليم غير مرة لو أن كان يمنعه موسى بن أبي الغسان وتحمله الحماسة العامة، فلما اشتد الخطب تقدم حاكم المدينة أبو القاسم عبد الملك، وقرر أن المؤن تكاد تنفد، وان الجوع أخذ يعصف بالشعب، وان الدفاع عبث لا يجدي؛ واتفقت كلمة الزعماء والقادة على التسليم؛ وتم الاتفاق على أن تسلم غرناطة بشروط كثيرة أهمها أن يؤمن المسلمون على أنفسهم ودينهم واموالهم، وانتمس مساجدهم وشعائرهم وشرائعهم وتقاليدهم؛ وان يجوز منهم إلى المغرب من شاء وهكذا أذعنت غرناطة وسلمت، وانتهت دولة الإسلام بالأندلس (صفر 897هـ ديسمبر سنة 1491) وطويت إلى الأبد تلك الصفحة المجيدة الرائعة من تاريخ الإسلام، وقضى على تلك الحضارة الأندلسية الشامخة وآدابها وعلومها وفنونها وكل ذلك التراث الباهر بالفناء والمحو، ودخل النصارى غرناطة في الثاني من ربيع الأول سنة 897 (2 يناير 1492) واحتلوا حمراءها وباقي قصورها وحصونها وخفق علم النصرانية ظافراً فوق صرح الإسلام المنهار.
أما الملك التعس أبو عبد الله فقد قضت معاهدة التسليم ان يغادر غرناطة مع أسرته إلى البشرات وان يحكم هذه المنطقة باسم ملك قشتالة وفي طاعته وان يكون مقره في قرية اندرش. ولما ذاعت أنباء التسليم اضطرم الشعب غضباً وسخطاً على أبي عبد الله واعتبره مصدر كل مصائبه ومحنه؛ فبادر أبو عبد الله بالأهبة للسفر مع أسرته وخاصته وحشمه، وبعث بأمواله ونفيس متاعه إلى مقره الجديد في اندرش. وفي نفس اليوم الذي دخل(31/14)
النصارى فيه غرناطة، غادر أبو عبد الله قصره وموطن عزه ومجد إلى آبائه الأبد؛ وخرج للقاء عدوه الظافر في سرية من الفرسان والخاصة، فاستقبله فرديناند في محلته على ضفة شنيل. وتصف الرواية هذا المنظر المؤثر فتقول إن أبا عبد الله حين رأى فرديناند، هم بترك جواده، ولكن فرديناند بادر بمنعه وعانقه بعطف ورعاية؛ ثم قدم إليه أبو عبد الله مفاتيح الحمراء قائلا: (إن هذه المفاتيح هي الأثر الأخير لدولة العرب في إسبانيا. وقد أصبحت أيها الملك سيد تراثنا وديارنا وأشخاصنا. هكذا قضى الله، فكن في ظفرك رحيماً عادلاً). وسار أبو عبد الله بعد ذلك صحبة فرديناند إلى حيث كانت الملكة إيزابيلا , فقدم إليها تحياته وخضوعه، ثم انحدر إلى طريق البشرات ليلحق بأسرته وخاصته.
وهنا تقول الرواية إن أبا عبد الله اشرف أثناء مسيره في شعب تل البذول (بادول) على منظر غرناطة فوقف يسرح بصره لآخر مرة في هاتيك الربوع العزيزة التي ترعرع فيها، وشهدت مواطن عزه وسلطانه؛ فانهمر في الحال دمعه وأجهش بالبكاء، فصاحت به أمه عائشة: (أجل فلتبك كالنساء ما لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال). وتعرف الرواية الإسبانية تلك الأكمة التي كانت مسرحاً لذلك المنظر المحزن باسم شعري مؤثر هو: (زفرة العربي الأخيرة) وما تزال قائمة حتى اليوم يعينها سكان تلك المنطقة للسائح المتجول.
ثم تقول الرواية أيضاً إن باب غرناطة الذي خرج منه أبو عبد الله لآخر مرة قد سد عقب خروجه برجاء منه إلى ملك قشتالة وبني مكانه حتى لا يجوزه من بعده إنسان.
لم يطل مكث أبي عبد الله بمقره الجديد في اندرش، ولم تمض اشهر قلائل حتى أدرك كما أدرك عمه من قبل انه يستحيل عليه البقاء في هذا الوضع الشاذ كعامل لملك قشتالة، وكان فردنياند من جانبه ينظر إلى وجوده بعين الريب ويخشى مثار الفتنة؛ فعول أبو عبد الله ان يحذو حذو عمه في الجواز إلى أفريقية، ونزل لفرديناند عن حقوقه نظير مبلغ كبير، ثم جاز بأسرته وماله ومتاعه من ثغر المرية إلى المغرب الأقصى في سفن أعدت له (1493م) ونزل أولاً بمليلة، ثم قصد إلى فاس واستقر بها، وتقدم إلى ملكها السلطان محمد شيخ بني وطاس الذين خلفوا بني مرين في الملك، مستجيراً به، مستظلاً بلوائه ورعايته، معتذراً عما أصاب الإسلام في الأندلس على يده، متبرئاً مما نسب إليه، وذلك في كتاب طويل مؤثر كتبه عن لسان كاتبه ووزيره محمد بن عبد الله العربي العقيلي، وسماه(31/15)
(الروض العاطر الأنفاس في التوسل إلى المولى الإمام سلطان فاس). وقد افتتحها بعد الديباجة بقصيدة رائعة هذا مطلعها:
مولى الملوك ملوك العرب والعجم ... رعياً لما مثله يرعى من الذمم
بك استجرنا ونعم الجار أنت ... لمن جار الزمان عليه جور منتقم
حتى غدا ملكه بالرغم مستلب ... وافظع الخطب ما يأتي على الرغم
حكم من الله حتم لا مرد له ... وهل مرد لحكم منه منحتم
كنا ملوكاً لنا في أرضنا دول ... نمنا بها تحت أفنان من النعم
فأيقظتنا سهام للردى صبت ... يرمي بأفجع حتف من بهن رمى
فلا تنم تحت ظل الملك نومتنا ... وأي ملك بظل الملك لم ينم
وهي طويلة جدا، يمتدح فيها ملوك فاس وشيد بعلائقهم القديمة مع بني الأحمر: ويشير أبو عبد الله بعد ذلك إلى حوادث الأندلس، ويعتذر عن نكبته؛ ويعترف بخطاه. زمن قوله في ذلك: (اللهم لا بريء فأعتذر، ولا قوي فأنتصر، ولكني مستقيل، مستنيل، مستغيث، مستغفر؛ وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) بيد أنه يدفع عن نفسه تهم الزيغ والتفريط والخيانة بشدة، ويقول: (ولقد عرض علينا صاحب قشتالة مواضع معتبرة خير فيها، وأعطى من أمانه المؤكد فيه خطه بإيمانه، ما يقنع النفوس ويكفيها؛ فلم نر ونحن من سلالة الأحمر مجاورة الصفر، ولا يسوغ لنا الإيمان الإقامة بين ظهرانيالكفر، ما وجدناه على ذلك مندوحة ولو شاسعة) ثم يرثي ملكه بعبارات مؤثرة منها: (ثم عزاء حسناً وصبراً جميلاً، عن أرض ورثها من شاء من عباده معقباً لهم ومديلاً، وسادلاً عليهم من ستور الإملاء الطويلة سدولاً، سنة الله التي قد خلت من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلا. فليطر الطائر الوسواس المرفرف مطيراً كان ذلك في الكتاب مسطوراً. لم يستطع غير مورده صدوراً. وكان أمر الله قدراً مقدوراً).
واستقر أبو عبد الله في فاس في ظل بني وطاس، وشيد بها قصوراً على طراز الأندلس رآها وتجول فيها المقري مؤرخ الأندلس بعد ذلك بنحو قرن (1037هـ - 1628م)، وقضى أعواماً طوالاً في غمر الحسرات والذكريات المفجعة، وتوفي سنة 940هـ (1534م). ودفن بفاس، وترك ولدين هما يوسف وأحمد، واستمر عقبه متصلاً معروفاً(31/16)
بفاس مدى أحقاب، ولكنهم انحدروا قبل بعيد إلى هاوية البؤس والفاقة، ويذكر لنا المقري أنه رآهم سنة 1037هـ فقراء معدمين يعيشون من أموال الصدقات وفي بعض الروايات الأسبانية أن أبا عبد الله توفي قتيلاً في موقعة نشبت بين السلطان أحمد الساطي وبني سعد الخوارج عليه في وادي أبى عقبة وقاتل فيها أبو عبد الله جانب أصدقائه بني وطاس وذلك سنة 943هـ (1536م) بيد أنها رواية ظاهرة الضعف لان أبا عبد الله يكون في هذا التاريخ قد جاوز السبعين ومن الصعب أن نصدق انه يخوض مثل هذه المعارك الطاحنة بعد أن هدمه الإعياء والهرم، هذا إلى أن الرواية الإسلامية في هذا الموطن ادعى إلى الترجيح والثقة.
ويعرف أبو عبد الله آخر ملوك الأندلس بالملك الصغير (وبالأسبانية تمييزاً له من عمه أبي عبد الله الزغل، ويلقب بالزغيبي، أو عاثر الحظ تنويها بما أصابه وأصاب الإسلام على يده من الخطوب والمحن.
هذه قصة مصرع الأندلس، وقصة آخر ملوكها
وصار ما كان من ملك ومن ملك ... كما حكى عن خيال الطيف وسنان
تم البحث
محمد عبد الله عنان(31/17)
المشتهى
بحث طريف لم ينشر
للعلامة المغفور له أحمد تيمور باشا
ذكره المقريزي في خططه في كلامه على متنزهات الفاطميين، ولكن الذي ورد عنه في النسخ التي اطلعنا عليها لا يعد وهذه الجملة المقتضبة (وكان من مواضعهم التي أعدت للنزهة المشتهى) وبعدها بياض متروك، غير أن السيوطي نقل عنه في كوكب الروضة مانصه: (قال المقريزي كان من مواضع الخلفاء الفاطميين التي أعدت للنزهة المشتهة بالروضة وكانوا يركبون إليه يوم السبت والثلاثاء فيعم الناس من الصدقات أنواع ما بين ذهب ومآكل وحلوى وغير ذلك) ولا ريب في أن هذه الزيادة من كلام المقريزي، لأن السيوطي أعقب العبارة بقوله (انتهى). وذكرها الشيخ عبد الغني النجدي النابلسي في رحلته المسماة بالحقيقة والمجاز عن المقريزي بهذا النص أيضا، فالظاهر أنهما نقلاها عن نسخة من الخطط بها هذه الزيادة أو عن تاريخ المقريزي المسمى بالسلوك. ثم أوردا بعدها بيات الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض التي منها:
وطني مصر وفيها وطري ... ولعيني مشتهاها مشتهاها
وقال الشيخ عبد الغني النابلسي في شرحه لديوانه: المشتهى الثاني اسم مكان في مصر تدخل إليه فرقة من ماء النيل وهو متنزه مشهورا. وله ذكر في الأشعار المصرية في حسن المحاضرة وغيره من كتب الأدب والتاريخ انتهى. قلنا نعم أكثر الشعراء من ذكره وأورد السيوطي في كوكب الروضة وحسن المحاضرة كثيراً من مقطعاتهم فيه، ومنها قول ابن الفارض أيضاً مشيراً إليه والى المقياس والروضة وكان كثير التردد على المسجد الذي فيه أيام النيل.
لقد بسطت في بحر جسمك بسطة ... أشارت إليها بالوفاء أصارع
فيا مشتهاها أنت مقياس قدسها ... وأنت بها في روضة الحسن يانع
ولكن الغريب إلا ترى في كتب التاريخ ذكراً لموضعه بالروضة ولا نعرف من خبره غير القليل الذي رواه المقريزي، ولولا السيوطي والنابلسي ما وصل إلينا هذا القليل أيضاً. وطالما تلمسنا مزيداً من العلم به فلم نكن نحلو بطائل، فقصرنا الجهد على تحقيق موضعه(31/18)
وعولنا في ذلك على الوسيلة الباقية لدينا وهي مراجعة ما كتب عن آثار الجزيرة وتتبع ما وقع في أسمائها من التغيير جيلاً بعد جيل إلى زماننا هذا رجاء ان نرى في الباقي منها ما له صلة بهذا المتنزه تهدينا إليه. ولابد لنا في الوصول إلى ذلك من قطع المراحل الثلاث الآتية.
المرحلة الأولى
كان أول ما تنبهنا إليه في هذا البحث أننا تذكرنا رباطاً يسمى برباط المشتهى مر بنا اسمه أثناء المطالعة فقلنا إن ظهر أنه بالروضة فلا ريب في أنه لم يشتهر بذلك إلا لكونه بنى في موضع من هذا المتنزه وقد تكون له بقية تهدينا إلى موضعه. ثم بادرنا إلى خطط المقريزي فرأيناه يقول عنه (رباط المشتهى. هذا الرباط بروضة مصر مطل على النيل وكان به الشيخ الملك بهاء الدين الكازوني ولله در شيخنا العارف الأديب شهاب الدين أحمد بن أبي العباس الشاطر الدمنهوري حيث يقول:
بروضة المقياس صوفية ... هم منية الخاطر والمشتهى
لهم على البحر أياد علت ... وشيخهم ذاك له المنتهى
ثم رأينا السيوطي ذكره في كوكب الروضة فنقل هذه العبارة عن الخطط، ونقل عن تاريخ المقريزي (أي المسمى بالسلوك) أن بهاء الدين الكازروني المذكور توفي بهذا الرباط ليلة الأحد الخامس من ذي الحجة سنة 774هـ ثم نقل ترجمته عن إنباء الغمر للحافظ ابن حجر ونصها (محمد بن عبد الله الكازروني الشيخ بهاء الدين قدم مصر فصحب الشيخ أحمد الحريري صاحب الشيخ ياقوت الحبشي تلميذ أبي العباس المرسي وانقطع بعده بالمشتهى من الروضة وكان الناس يترددون إليه ويعتقدونه، وكان الشيخ أكمل الدين شيخ الشيخونية كثير التعظيم له، واقطع إليه البدر البشتكي وكتب له أشياء من تصانيف الشيخ محي الدين بن العربي، وكان يكثر الثناء عليه، وكانت وفاته في ذي الحجة، وأرخه ابن دقماق ليلة الأحد خامس ذي القعدة) انتهى. قلنا وقد وقفنا على ترجمته أيضاً في الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة للحافظ بن حجر المذكور فرأيناه أرخ وفاته بسنة 773 أي بنقصان سنة واحدة عن قول المقريزي.
ولم يزل لهذا الرباط بقية إلى اليوم، وذكره علي مبارك باشا في موضعين من خططه(31/19)
أحدهما في مساجد الروضة باسم زاوية المشتهى (ج 18 ص 14) فنقل عبارة المقريزي والسيوطي ثم قال (وفي زماننا هذا يعني سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف، الزاوية المذكورة مشهورة بزاوية الشيخ الكازروني وموضعها غربي سراية الخديو إسماعيل وبنتها سعادة والدة باشا والدة الخديو المذكور، وأقام بها الشيخ علي القشلان أحد المشاهير من رجال الطريقة القادرية ومعه سبعة دراويش ورتبت بها مولداً سنوياً، وفي كل شهر ثلاثمائة قرش ديوانية ورتبت لها من الشمع والبن والفحم والزيت ما يلزم لها يوميا). والثاني في كلامه على الربط (ج6 ص53) فذكره باسم رباط المشتهى ونقل عبارة المقريزي المتقدم ذكرها ثم قال (وهذا الرباط يعرف اليوم بجامع المشتهى وقد ذكرناه في كتابنا المسمى مقياس النيل فارجع إليه إن شئت) انتهى. قلنا لم نر أحداً يعرفه النوم بذلك بل هو معروف بزاوية الكازروني كما ذكر في عبارته الأولى. وقد زرنا هذه الزاوية فرأيناها تلاصق السور الغربي لقصر الخديو إسماعيل وحديقته، وكان القصر بينها وبين النيل، ولا ريب في أنها بقية الرباط وأن سائره كان ممتداً في جزء من موضع القصر حتى يكون مطلاً على النيل كما ذكروه عنه في التواريخ، والباقي من هذا القصر الآن أطلال ماثلة شرقي الزاوية وفي حائطها الجنوبي قبة مدفون بها الكازروني، وعلى قبره تابوت من الخشب مغطى بستر أخضر من الجوخ عملته له أم الأمير حسين ابن الخديو إسماعيل، وفي الجانب الغربي من هذا الستر رقعة حمراء مكتوب فيها بالبياض (هذا مقام سيدي محمد الكازروني) وفي جانبه الشرقي رقعة مثلها مكتوب فيها (جددت هذا الستر دولتلو فادن أفندي والدة دولتلو حسين كامل باشا ثاني نجل حضرة الخديو حالا 1289) انتهى بنصه ورسمه. وليس بالزاوية اليوم إلا خادم واحد وأما الشيخ علي القشلان القادري شيخ صوفيتها فقد دفن في الإيوان الشرقي بالزاوبة القادرية المسماة قديماً بالزاوية العدوية والمعروفة الآن بجامع سيدي عُلَيّ (بالتصغير) خارج باب القرافة، وقد فصلنا الكلام على هذا الجامع وما به من القبور في ص 29 - 38 من رسالتنا (اليزيدية ومنشأ نحلتهم) ولما زرناه وقت تأليف الرسالة سألنا خدمته عما يعرفونه عن هذا الشيخ فأخبرونا أنه الذي كان مقيماً بالمنيل في زاوية الكازروني ومات من نحو خمس وأربعين سنة.
وموقع هذه الزاوية في وسط الجزيرة بقرب شاطئها الشرقي، وكان المتنزه المسمى(31/20)
بالمشتهى ممتداً منها إلى جهة الشمال كما سنبينه في المرحلة الثانية وربما كان ممتداً في الجهة الجنوبية منهاً أيضاً.
المرحلة الثانية
وفي هذه المرحلة نترك زاوية الكازروني أو رباط المشتهى ونسير شمالاً حتى نصل إلى قرية صغيرة تعرف الآن بكفر قايتباي فنرى في شماليها مسجداً ملاصقاً لدورها يعرف بجامع قايتباي قد نقش على بابه اسم السلطان الملك الأشرف أبي النصر قايتباي وهو ثالث تغيير وقع في اسمه، فقد كان قديماً يعرف بجامع الفخر باسم منشئه القاضي فخر الدين محمد بن فضل الله ناظر الجيش المشهور بالفخر، وكان نصرانياً ثم أسلم وحسن إسلامه ومات سنة 732. قال السيوطي في كوكب الروضة ثم جدده الصاحب شمس الدين المقسي فصار يقال له جامع المقسى ونسي اسم الفخر، ثم جدده سلطان عصرنا وزماننا الملك الأشرف أبو النصر قايتباي وابتدأ فيه سنة 886 وعمل فيه ناعورة على وضع غريب بحيث تدور بحمار ينقل قدميه وهو واقف من غير أن يمشي ولا يدور وركب عليها طاحوناً فصار يسمى جامع السلطان ونسي اسم المقسى كما نسي اسم الفخر ثم زاد فيه سنة 891 وأنشأ حوله الغراس والعمائر الحسنة فعمرت تلك البقعة وأحييت الروضة بعد ما كادت تدرس محاسنها انتهى المراد منه. قلنا ثم نزل به جلال الدين السيوطي المذكور أو سكن قريباً منه فعرف به ثم عاد إليه اسم قايتباي لبقاء اسمه منقوشاً على بابه، وفي تاريخ الجبرتي (ج3 ص 191 طبع بولاق) خبر حريق وقع بهذا المسجد سنة 1216 يقول عنه في حوادث يوم الجمعة 13 ربيع الأول (وفي ذلك اليوم احترق جامع قايتباي الكائن بالروضة المعروف بجامع السيوطي، والسبب في ذلك أن الفرنسيس كانوا يصنعون البارود بالجنينة المجاورة للجامع فجعلوا ذلك الجامع مخزنا لما يصنعونه فبقي ذلك بالمسجد وذهب الفرنسيس وتركوه كما هو وجانب كبريت في أنخاخ أيضاً فدخل فلاح ومعه غلام وبيده قصبة يشرب بها الدخان وكأنه فتح ماعونا من ظرف البارود ليأخذ منه شيئا ونسي المسكين القصبة بيده فأصابت البارود فاشتعل جميعه وخرج لهصوت هائل ودخان عظيم واحترق المسجد واستمرت النار في سقفه بطول النهار واحترق الرجل والغلام). وقد ذكر علي باشا مبارك هذا المسجد في ثلاثة مواضع من خططه أولها في الجزء الخامس ص67(31/21)
باسم جامع الفخر في كلامه على جوامع القاهرة عامة في حرف الفاء، والثاني في ص69 من هذا الجزء في حرف القاف باسم جامع قايتباي بالروضة، والثالث في الجزء الثامن عشر ص13 في كلامه على جوامع الروضة خاصة وقال في الموضع الثاني عن الحريق الذي وقع به ما نصه (ثم بعد مدة جدد ما احترق منه وأقيمت شعائره إلى الآن وكان يعرف أيضا بجامع السيوطي لإقامة الشيخ جلال الدين السيوطي فيه أيام نزوله بالروضة) انتهى.
قلنا وقد وصلنا في هذه المرحلة إلى ان مسجد قايتباي كان يعرف بجامع السيوطي لنزوله فيه أو لتردده عليه بسبب سكناه بجواره وإذا رجعنا إلى مترجمي هذا الإمام نراهم متفقني على إقامته في أواخر أيامه بالروضة ووفاته بها بعد أن مرض أسبوعاً وصرح الأسدي في طبقات الشافعية بوفاته سنة 916 بالروضة بالمشتهى وعلى هذا فمسجد قايتباي والأماكن المجاورة له كانت داخلة في حين هذا المتنزه أيضاً وكذلك ما بينها وبين زاوية الكازروني من المواضع غير أن قول الأسدي كما يحتمل أيضاً أن يكون مراده بالمشتهى رباط المشتهى المعروف بزاوية الكازروني على تقدير أن يكون السيوطي انتقل إليه وسكنه قبل وفاته وتوفي به ولكنا نرجح الأول لبعض مرجحات اطمأننا إليها: منها أنه الأشبه بما كان عليه هذا المتنزه من العظم المظنون في أمثاله من متنزهات الخلفاء الفاطميين إذ لا يعقل أنه كان محصوراً في بقعة ضيقة لا تتعدى الجهة الجنوبية لهذا الرباط وهو ما سنعالج تحقيقه في المرحلة الثالثة.
المرحلة الثالثة
إذا تركنا زاوية الكازروني وسرنا في الجهة الجنوبية منها فانا نصل إلى زاوية تعرف بزاوية الأباريقي واقعة على فيد غلوة منها شمالي قصر علي باشا شريف بجانب السور المحيط بحديقته وكانت قديما مسجداً جامعاً أنشاه قائد القواد غبن أحد خدام الحاكم بأمر الله الفاطمي فعرف به كما في كوكب الروضة للسيوطي قال وقد صار يسمى الآن جامع الأباريقي بولي مدفون بجواره ونسي اسم غبن فلا يعرفه الآن أحد إلا من له نظر في التواريخ. انتهى. وذكر على باشا مبارك في خططه أن هذه الزاوية بنيت على جزء من جامع غبن وجددها أخيراً علي باشا شريف ابن شريف باشا. قلنا وقد زرناها فرأينا على بابها كتابة منقوشة في الحجر نصها: (مقام سيدي أحمد الاباريقي، أنشأ هذا المسجد سعادة(31/22)
عبد الحميد بك شريف في غرة شهر شعبان المكرم من سنة 1327 هجرية) وبداخلها من الغرب قبة على حجرة بها ضريح الشيخ وعليه ستر أخضر عمله له عبد الحميد بك المذكور سنة 1328، ثم توفي بعد ذلك بقليل وهو ابن علي باشا شريف المتقدم ذكره وقد يكون المراد بإنشائه هذا المسجد إصلاح ما تشعث فيه من بناء والدة. وفي هذه الزاوية صلوا على الإمام السيوطي لما شيعوا جنازته من الروضة إلى حوش قوصون قال الأستاذ الشعراني في ترجمته بذيل طبقاته (ثم بعد شهر سمعت ناعيه ينعى موته فحضرت الصلة علوه عند الشيخ أحمد الاباريقي بالروضة عقب صلاة الجمعة وفي سبيل المؤمنين عند الجامع الجديد بمصر العتيقة).
فيتضح مما تقدم ان زاوية الكازروني المسماة قديما برباط المشتهى واقعة بلا ريب في موضع من هذا المتنزه ويعلم من موقعها انه كان في وسط الجزيرة على الشاطئ الشرقي منها ويدخل فيه ما في كمالي هذه الزاوية من المواضع إلى جامع قايتباي، ثم إذا صح أن هذه الزاوية واقعة في وسط المشتهى كما يغلب على الظن كان أيضاً ممتداً في الجهة الجنوبية منها أي زاوية الأباريقي أي فيكون موقعه فيما بين الأباريقي وجامع قايتباي وربما كان زائداً عن ذلك جنوباً وشمالاً والله أعلم.
تتمة
في توضيح أماكن ذكرت أسماؤها بالمصور منها جامع عبد الرحمن بن عوف فان العامة تزعم أن القبر الذي به للصحابي المشهور أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم والصواب انه مدفون بالبقيع وبهذا المسجد قبر آخر دفن فيه حسن باشا المناسترلي الذي كان كتخدا مصر زمن عباس باشا الكبير أي وزيراً للولاية وهو من المساجد القديمة بالروضة أنشأه بدر الجمالي زمن المستنصر الفاطمي وكان يسمى جامع المقياس ثم جدده الصالح نجم الدين أيوب ثم هدمه المؤيد شيخ ووسعه ولم يتمه فأتمه بعده الظاهر جقمق ثم عمره قائصوه الغوري ثم خرب وانتهك الفرنسيس حرمته زمن احتلالهم لمصر ثم جدد حسن باشا المناسترلي البناء القائم منه الآن على الجزء الشمالي منه ولما توفي دفن فيه وكان في الأصل كبيراً ممتداً من الجنوب إلى الشاطئ ومتصلاً بالدرج التي كانت على النيل وهي التي تزعم العامة أن موسى عليه السلام قذف منها بتابوته في اليم، ويرى(31/23)
الفرنسيس في كتابهم (وصف مصر) أن أبا جعفر النحاس رمى من هذه الدرج في النيل لما جلس عليها يقطع بيتاً من الشعر لظنهم انه يسحر النيل.
ومنها زاوية أبي يزيد البسطامي فان العامة تزعم أيضا انه مدفون بها والصواب انه مدفون ببسطام وقبره معروف بها كما في معجم البلدان لياقوت، واسمه طيفور ووفاته سنة 261 أو 264 كما في وفيات الأعيان لابن خلكان. وإنما نسبت هذه الزاوية للبسطامي لان بانيها من ذرية وهو الشيخ محمد بن أصيل بن مهدي الهمذاني ثم جعلها فتح الدين صدقة بن زين الدين أبي بكر رئيس الخلافة جامعاً في حدود سنة 770 فعرفت بجامع الريس وهي معروفة اليوم بزاوية البسطامي.
ومنها جامع الديريني وهو الشيخ عبد العزيز الديريني المتوفى سنة 694 فانهم يزعمون انه مدفون به والصواب انه مدفون بديرين وقبره بها معروف يزار كما في المنهل الصافي وطبعات الشعراني.
ومنها مقام الأربعين ولا مقام بهذا المكان وإنما هي شجرة سدر تعتقد العامة فيها ذلك، وقد وضع سدنتها بجوارها زيراً وأكوازاً لشرب الزوار والسابلة.
ومنها شجرة المندورة وهي من الجميز وللعامة فيها اعتقاد ومزاعم غريبة والظاهر ان اسمها عن المنذورة بالذال المعجمة والمراد المنذور لها والله أعلم.(31/24)
عثمان بن أبي العلاء
الرجل الذي غزا الأسبان 732 غزوة
للدكتور عبد الوهاب عزام
ملك بني مرين يعم المغرب الأقصى، ويرث دولة الموحدين. وهذا سلطانهم السادس يوسف بن يعقوب بن عبد الحق (685 - 706هـ) يسير الجحافل لتمكين ملكه، ويجتهد ليكسو الدولة المرينية رونق الحضارة، ولكن جماعة من بني مرين حسدوا بني عمومتهم على السلطان، ونفسوا، وزعموا أنهم أحق منهم بميراث عبد الحق فثاروا على السلطان يوسف، اعتصموا بجبال ورغة، فأنزلهم السلطان من صياصيهم وألحمهم السيف. فأشفق أعياص بن مرين على أنفسهم ولحقوا ببني الأحمر بالأندلس سنة 686
ثم رجع إلى المغرب بعد سنين أحدهم: عثمان بن أبي العلا إدريس بن عبد الله بن عبد الحق، لينازع بني عمه السلطان، فثار في جبال غمارة فاشتملت عليها ناره واستطارت منها ثورته، فعمت بلاد كثيرة، ولجأ إليه كل مخالف من بني مرين وغيرهم.
ومات يوسف وعثمان في ثورته فخلفه ابنه أبو ثابت (706 - 708) فسير الجحافل إلى عثمان فهزمهم، ومد على رغم أبي ثابت سلطانه إلى بلاد أخرى فنهض أبو ثابت نفسه في جنود لا قبل لعثمان بها فخلى البلاد واعتصم بسبته، وهي يومئذ في قبضة بني الأحمر
ومات أبو ثابت فخلفه أخوه أبو الربيع سنة 708 واصطلح بنو مرين وبنو الأحمر فضاق المغرب على عثمان بن أبي العلاء فولى وجهه شطر الأندلس فيمن تبعه من قرابته.
لم يكن للمسلمين في الأندلس إلا مملكة غرناطة الضيقة وقد ألح العدو عليها وصمم على محوها. واستمات في الدفاع عنها المسلمون إذ كانت الملجأ الأخير، والوزر الذي ليس وراءه إلا الموت أو الاستعباد. وكان بنو مرين يرسلون جيوشهم مدداً لبني الأحمر حيناً، ويسيرون إلى الجهاد بأنفسهم حيناً. وكان أولو النجدة والصرامة، كأبي العلاء، يفدون على الأندلس مجاهدين مرابطين غضبا لدينهم، وحمية لإخوانهم.
جاء عثمان الأندلس فتولى (مشيخة الغزاة) وحسن بلاؤه، وعظمت مكانته فكان شجى في حلوق الأسبان، وكان غصة لبني الأحمر شاركهم في سؤددهم حتى كان يستأثر بالأمر دونهم وهو من قبل خصم قومه ملوك المغرب، ثار عليهم وزلزل دولتهم زمانا. لم يكن(31/25)
عثمان ملكا ولكنه:
كان من نفسه الكبيرة في جيش، وكم كبرياه في سلطان تولى زعامة الغزاة ثلاثاً وعشرين سنة فما وهن عزمه، ولا فل حده، ولا أغمد سيفه، ولا خط سرجه،
وما كان إلا النار في كل موضع تثير غباراً في مكان دخان والنفس الكبيرة تستهين بالصعاب، وتطرق على المنايا الأبواب. وما الجيوش الجرارة، والحروب المستعرة في همة الرجل العظيم إذا صمم.
فأثبت في مستنقع الموت رجله وقال لها: من تحت أخمصك الحشر حسبي من الإفاضة في وصف عثمان، والإشادة بذكره أن أنقل هنا ما كتبه أصحابه الغزاة على قبره:
(هذا قبر شيخ الحماة، وصدر الأبطال والكماة، وأحد الجلالة، ليث الأقدام والبسالة، علم الأعلام، حامي ذمار الإسلام، صاحب الكتائب المنصورة، والأفعال المشهورة، والمغازي المسطورة، وإمام الصفوف، والقائم بباب الجنة تحت ظلال السيوف، سيف الجهاد، وقاصم الأعاد، وأسد الآساد، العالي الهمم، الثابت القدم، الهمام الماجد الأرضى، البطل الباسل الأمضى، المقدس المرحوم أبي سعيد عثمان أبن الشيخ الجليل الهمام الكبير الأصيل الشهير المقدس المرحوم أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن عبد الحق. كان عمره ثمانياً وثمانين سنة أنفقه ما بين روحة في سبيل الله وغدوة، حتى استوفى في المشهور سبعمائة واثنين وثلاثين غزوة، وقطع عمره مجاهداً مجتهداً في طاعت الرب، محتسبا في إدارة الحرب، ماضي العزائم في جهاد الكفار، مصادما بين جموعهم تدفق التيار، وصنع الله تعالى له فيهم من الصنائع الكبار، ما سار ذكره في الأقطار، أشهر من المثل السيار، حتى توفي رحمه الله وغبار الجهاد طي أثوابه، وهو مراقب لطاغية الكفر وأحزابه. فمات على ما عاش عليه، وفي ملحمة الجهاد قبضه الله إليه، واستأثر به سعيدا مرتضى، وسيفه على رأس ملك الروم منتضى، مقدمة قبول وإسعاد، ونتيجة جهاد وجلاد، ودليلاً على نيته الصالحة، وتجارته الرابحة.
فارتجت الأندلس لبعده، أتحفه الله برحمة من عنده. توفي يوم الأحد الثاني لذي الحجة من سنة ثلاثين وسبعمائة. رحمه الله).(31/26)
صحائف المجد والخلود
الفن المصري القديم
- 3 -
مصر ملتقى ثقافات العالم:
مرت بمصر في مدى نيف وسبعة آلاف من السنين، من عهد ما قبل التاريخ حتى يومنا هذا، أربع مدنيات عظيمة: المدنية المصرية أو الفرعونية. وهي عصر قدماء المصريين وملوكهم حتى دخول الإغريق مصر واتخاذهم الإسكندرية مقراً للحكم، والمدنية الإسكندرية، وهي عصر الإغريق والرومان الذين كانت الإسكندرية في عهدهم عاصمة البلاد. والمدنية المسيحية (أو القبطية البزنطية) وهي عصر خضوع مصر للديانة المسيحية وظهور الأقباط. ثم المدنية الإسلامية، وتبدأ بدخول العرب وتغلب الديانة الإسلامية على البلاد.
ومن ذلك تجمع مصر لنا في آثارها أعظم سجل للحضارات البارزة، وأجل كتاب يقرأ عن العصور المتعاقبة في تاريخ الإنسانية. دع عنك ما شهدت مصر من مختلف الشعوب التي تتابعت على أرضها في الفتوح المتوالية، وما تركت هذه الدول في وادي النيل من صور للثقافات المتباينة. حتى لتكفي مصر وحدها أن تعطي لمن يرغب في دراسة الفن كل شيء، وتكفية المؤونة في كل ما يريد عمله. وإننا إذا وضعنا تحت عيني القارئ بأن أديم مصر قد كان مسرحاً كبيراً لغالب الأمم التي عرفها التاريخ، مثلت فيه كل واحدة دورها، وصرعت عليه أمة بعد أمة. وإذا أشرنا إلى أن كل أمة من هذه الأمم تركت على هذا الأديم أثراً من ثقافتها، وأثراً من نفسيتها، إن كان كبيراً أو ضئيلاً. فقد تكون مصر وحدها أجدر دول التاريخ بالدراسة. فضلاً عن أنها المصدر الأول للمدنيات جميعاً.
ويكفي لنقرر كيف جمعت مصر في أرضها حضارات العالم بأجمعه بان نشير إلى العناصر التي دخلت فيها من الحروب والفتوح، مدى التاريخ القديم حتى يومنا هذا. فقد تعاقب على مصر من عناصر الأمم المختلفة: الساميون. والهكسوس (البدو الرعاة). واللوبيون. والأتيوبيون (النوبيون). والآشوريون. والفرس. والإغريق. والرومان. والعرب. والمغاربة. والأكراد. والشراكسة. والأتراك. والفرنسيون. والإنجليز. وقد احتك(31/27)
بها فوق ذلك من الأمم الأخرى: الحثيون. والكلدانيون. والفينيقيون. فلا عجب أن تكون مصر خير أمة يجب دراسة تاريخ الفن فيها. بل ما أجدرها أن تجتمع حولها الدنيا الحديثة لترقب في آثارها وسجلاتها صوراً خالدة من الدنيا القديمة. وتقرأ في مظاهرها المتباينة جليلا من كتب المجد لم تجمعه أمة غير مصر.
وقد يجب أن تعتبر مصر ملتقى ثقافات الشرق بالغرب. بل إن ثقافة مصر ذاتها نشرت على البلاد المجاورة لها نوراً كان له الأثر الأهم في حضارتها وتفكيرها.
ونأخذ دليلاً على ذلك فتوح مصر القديمة على يد جيوش (تحوتمس الثالث) و (رمسيس الثاني) مثلاً. فان أمثال هذه الفتوحات قد ترك في كل مكان، من الغرب للشرق، ومن المال للجنوب، أثرا، لا تزال بقاياه تشاهد في الآثار الموجودة حتى أقصى الفرس، وحتى أقصى بلاد المغرب، وحتى أواسط أفريقيا.
ولكن مصر ظلت مدى هذه التطورات التي مرت بها محافظة على قومية خاصة في فنها لم تعرف لها ظاهرة في أي أمة أخرى. ففي عهد المدنيات الأربع المتعاقبة على تاريخها، التي ذكرناها، وفي عهد الاقتباسات الفنية القليلة التي دخلت على الفن المصري في بعض فترات من التاريخ، كان للفن عندها طابعه الخاص. لا يخطئ قوميته أو روحيته الملازمة له. فهي إن كانت في إبان المدنيات الأربع قد انتقلت من عصر إلى عصر، يكاد يكون كل واحد منه غريباً عن أخيه في ثقافته ونظامه، حتى ليظهر جديداً كل الجدة عما كان مألوفاً من قبل. وان كانت الحياة قد تطورت عندها، من مصرية فرعونية، إلى إغريقية ورومانية، إلى مسيحية وقبطية، إلى إسلامية، إلا أن الفن في إبان هذه الثقافات الطارئة كان مصرياً. مصري الشخصية والروح. أو أن البلاد تمصر فيها الفن، أو هي مصرت فن كل مدينة من تلك المدنيات، وذللته ليلائم طبيعة مصر، ويتمشى مع ذوقها.
وان كان من شاهد يطلب على ذلك، فقد نشير إلى آثار الفن في العصر الذي حكمت في مصر فيها الإغريق والرومان مثلن ونقارنه في نفس الوقت بما كان من اثر الفن الإغريقي والروماني في بلاد الإغريق والرومان ذاتهما. فلاشك سيظهر ذلك الفرق واضحاً بين روحية الفن في المكانين في الإغريق والرومان متشحاً بذلك الوشاح الظاهر من الإجهاد والتعمق. وفي مصر بسيطاً وديعاً رشيقاً.(31/28)
وكما نطبق هذه الحال على العصر الإغريقي والروماني، نطبقها أيضاً على العصر المسيحي القبطي، الذي كان فاشياً فيه نوع الفن البيزنطي. فان نفس تلك الظاهرة التي بيناها ستفرق ما في مصر عما كان مألوفاً في ذلك العهد من نفس نوع الفن في القسطنطينية مثلاً، مهبط الفن البيزنطي.
وهكذا أيضاً الفن الإسلامي. فقد يكفي بلا كبير عناء مقارنة ما في مصر من آثاره بما هو موجود في بلاد المغرب مثلاً التي نقلت إلى مصر الأسلوب الفاطمي. أو ما هو موجود منه في بلاد العراق وسوريا اللتين ارتبطت مصر في طويل من الزمن معهما في عصر من الأسلوب والشكل. فقد خضع الفن الإسلامي نفسه في جو مصر لمزاج أهل مصر، وللروح المصرية. في حين أن له في كل مكان، وفي بلاد الإسلام جميعا، صبغة عالمية. فاضطر الفن لذلك أن يتكيف في الأرض المصرية بالطابع الذي تتميز به مصر دائما، وهو طابع الاحتشام والبساطة والرقة الذي يعطي مع ذلك أروع وألطف ما يكون من التأثير.
وحينئذ فقد بقي لمصر فنها الخاص بها، المنطبع بالطابع المصري الصميم، الذي لم يخطئ غرضه، ولم يشذ عن طريقه، منذ أخذت مصر مكانها تحت الشمس. وفي ذلك سر من أسرار عظمة مصر الفنية التي نعترف لها بها التاريخ.
وإذن فالفن المصري جدير بالدراسة قبل كل الفنون الأخرى. إذ هو فضلا عن كونه فنا محليا غير مقتبس في اصله من أي بلاد أجنبية، بخلاف غيره. وفضلا عن انه الفن الوحيد الذي احتفظ مدى التاريخ بشخصيته الخاصة التي اقترنت باسم مصر. فانه المرأة التي تعكس علينا ثقافات الأجيال المتعاقبة مجتمعة في سجل واحد، هو الآثار المصرية القديمة.
ودون ذلك يجب إلا ينسى فضل الفن المصري على فنون العالم، في انه المصدر أو المدرسة الأولى التي تلقنت عنه دروس الفن أمم الأرض جميعا.
(يتبع)
أحمد يوسف
بالمتحف المصري(31/29)
من الصميم
يا أختاه. . .
إلى الفتاة المصرية:
صحراء الحياة موحشة يا أختاه، تشيع في شعابها المخاوف وتتحفز على هضابها الوحوش، وتكمن في كهوفها الحتوف، وتحوم في سمائها العقبان. . .
ومرحلة الجهاد طويلة. . .
ونحن المدلجين في صحراء الجهاد ينقصها رفاق يحملون عنا بعض ما ننوء به حتى لا يأخذ منا الياس، ويحملون أمامنا المشاعل حتى لا نأخذ على غير الطريق.
نحن بحمد الله أقوياء ما سلبنا الألم الأمل وان طال وغلا، وما غلبنا اليأس على بعد الشقة واتصال المشقة. . . ولكن:
إذا الحمل الثقيل توازعته ... أكف القوم هان على الرقاب
في عنقك الجميل دين يا أختاه، وعلى عطفك الرقيق تبعة هائلة؛
إن كنت تؤمنين بحق الوطن فاستعدي لتعدي لمصر جيلا جديدا أمينا على الميثاق، متينا بالأخلاق قويا لا يهاب في سبيل مصر الموت، مؤمنا لا يرتاب في حق بلاده وصدق جهاده.
إن كنت أما: فعلمي طفلك الدين أولا، ثم حدثيه عن مصر، اقرئي له صحف المجد الأولى، صحف أجداده من سادة الزمان، وقادة العالم وشادة الهرم، لقنيه تاريخ الأبطال فربما نفعت الذكرى، حديثه عن (مصطفى كامل) المجاهد المؤمن الشاب كيف جاهد ولما يتخط العشرين فتداولته الوان العسف وتناولته ضروب الإرهاق، فلم يصرفه ذلك عن السبيل ولم يصدفه عن الغاية، حدثيه عن (محمد فريد) كيف ضحى في سبيل مصر بالمنصب والراحة والصحة والمال وكيف مات غريبا واهتفي معه: لتحيى الضحية!
فإذا فرغت من تاريخ إشراق النهضة فحدثيه عن انبثاق الثورة ففيها من روائع آيات التضحية وبدائع صفحات الوطنية ما يهز نفوس المخلصين فخرا، ويحفز نفوس الناكصين في طريق المجد. . هناك (سعد زغلول) حمل الراية في أعصب الظروف وقد تساقط من حولها المجاهدون وكان له في مناهضة الاحتلال ومعارضة أهله جولات لا يزال يذكرها(31/30)
الذاكرون.
وشيء آخر أحب أن تلفتي نظر بنيك إليه:
في الألزاس واللورين نوعان من (الشيكولات) أحدهما مر والآخر حلو، والوالدة تبدأ فتعطي لطفلها المر منهما، فإذا بكى أفهمته أن هذه ألمانيا. . . سبب هذه المرارة ثم أعقبت فأعطته القطعة، الحلوة فيصفو ويبسم فتفهمه أن هذه فرنسا. . حلوة كهذه القطعة، هنا قياس طرفه الثاني محذوف للظروف فاستخلصي منه النتيجة والحكمة والموعظة إن كنت مدرسة.
فرسالتك مهمة، ومجالك متسع، وأثرك بعيد، وخطرك شديد، ودورك يبتدئ. حيث ينتهي دور الأم: لقد أعدت لك التربة، ومهدت لك منها ما جفا فاغرسي فيها الأصول الطيبة بالموعظة الحسنة والقدوة الحسنة، علمي تلميذتك كيف تفني في الحق وتغضب للكرامة وتثور للوطن وتستشهد في العقيدة والواجب في أسماء بنت أبي بكر يوم ساقت ابنها عبد الله إلى الموت، وفي الخنساء يوم فقدت بنيها الأربعة، وفي المرأة الإسبرطية يوم صرخت في ولدها الجندي (عد بترسك أو محمولا عليه) في كل أولئك صور من الفناء في الحق والواجب. . وأخيرا: ملاحظة لست أرفع القلم دون أن أثبتها.
قابلت في قطار الصعيد فتاة مدرسة في القاهرة ومعها طالبات لا تقل صغراهن عن ست عشرة سنة فاتصلت بيننا أسباب الحديث وتشققت نواحيه، فكان من رأيهن جميعا أن المرأة لا تقع في الذكاء والعقل دون الرجل، وزادت المدرسة أنه يجب أن يباح للمرأة من الحريات والأعمال ما يتاح للرجل، وكنت أعتقد أن هذا لا يخرج عن كونه نقاشا ومكابرة! وراعني ان تخرج المدرسة (علبة سجائرها) أمام طالباتها وتقدم لي سيجارا!! أفي هذه الوجوه وحدها تطلبين المساواة؟ أنا مسلم يا أختاه أن رسالة المرأة في الحياة لا تقل أهمية عن رسالة الرجل، ولكن كل ميسر لما خلق له، ولو شاء ربك لجعل الناس جنسا واحدا رجالا أو نساء، ولكنه خلق المرأة لتكون كالظل يسكن إليها المجهود، فيجد في أحضانها مقيلا ينسى فيه لفحات الشقاء وسفعات الحياة. . . لتكون كالشاطئ يعود إليه الملاح بعد اضطراب الموج وثورة الزوابع. لم يخلقها لتحترف التنس والجولف. خلقها لتزين العش لا لتوزع وقتها بين الحدائق والزيارات والسينما. خلقها لتشارك الرجل في السراء والضراء(31/31)
لا لترهقه من أمره عسرا. خلقها لتعد بنفسها أبناءها، لا لتتركهم لعناية الخدم والمربيات. . . تلك يا أختاه رسالة المرأة، أما ما عدا ذلك فباطل.
محمود البكري القلنصاوي(31/32)
فلسفة سبنسر
للأستاذ زكي نجيب محمود
تمهيد
تستطيع أن تصور لنفسك الحركة الفكرية في أوربا في القرن الماضي بند ولا يتذبذب من طرف إلى طرف، ونقفز من النقيض إلى النقيض، وليس في ذلك نبو أو شذوذ، إنما هي الطبيعة الإنسانية، أو إن شئت فقل هي طبائع الأشياء جميعا، إذا ما تطرف بها الموضع، لا تستطيع أن تتوسط في مقر معتدل مطمئن قبل أن تجذبها الدفعة إلى أقصى الطرف الآخر. وهكذا خضعت الفلسفة في القرن التاسع عشر لما تخضع له الأشياء جميعا، فاهتزت بها الأرجوحة بين طرفي النقيض. ففي أوائل القرن الماضي طوح بها هجل في بيداء الغيبيات والتجريد فلا تكاد تقرأ شيئا منه، حتى تضل في عالم وراء هذا العالم المحس الملموس، فليست الطبيعة عنده شيئا، وما وراء الطبيعة هو كل شيء. ولكن لم يكد ينسلخ من القرن نصفه الأول ويضرب الناس في أحشاء النصف الثاني حتى نفر العقل الإنساني من ذلك الفكر المجرد، وسئم تلك الميتافيزيقا المعقدة الموحشة، وأعياه هذا العبء الثقيل. فألقاه عن كاهله غير أسف، وقفز الفكر إلى النقيض الآخر، فنهضت فلسفة جديدة تنكر غيبيات هجل وأشياع مذهبه، وتنتقل بالإنسان إلى ضرب آخر من ضروب الفكر، فبعد أن كانت تتناول بالدرس حياة لا يربطنا وإياها إلا الخيال الشارد، أخذت تعالج مظاهر هذا العالم الواقع المحسوس. نعم انتقلت الفلسفة إلى المعرفة اليقينية الإيجابية. وكان حامل اللواء في هذه الحركة أوجست كنت في فرنسا، ثم دارون وسبنسر في إنجلترا.
وكان طبيعيا أن تنشا هذه الفلسفة الإيجابية في فرنسا، لأنها موطن اللا أدرية والشك، وهما طريق لا بد أن تؤدي يوما إلى الإيمان واليقين مهما امتد بها الزمان، ثم كتب لهذه الحركة الإيجابية أن تصل بتيار الفكر في إنجلترا الذي استمد روحه من الصناعة التي تدوي أرجاؤها في كل ربع من ربوعها، والتي تقوم على العلوم أولا واخرا، فليس عجيبا أن يصوب الفكر الإنجليزي ناظريه نحو الحقائق التي هي المعين الذي تستنبط منه العلوم بأسرها وان يضرب بكل ما وراء الطبيعة عرض المحيط. . وقد كان بيكون أول من انتحى بقومه ذلك النحو من التفكير، ثم تأثر خطوه من جاء بعدهفلاسفة الإنجليز: هوبز(31/33)
ولوك وهيوم.
عني الإنجليز إذن بدراسة ما حولهم من أحياء وأشياء. حيث آمنوا إيمانا قاطعا أنها هي الحقائق التي لا حقائق بعدها، فنتج عن هذه الدراسة علوم الطبيعة والكيمياء وسائر العلوم جميعا، بما في ذلك علم الحياة الذي كانت نظرية التطور ثمرة من قطوفه. وقد فصلها دارون في كتابه اصل الأنواع تفصيلا ضافيا، فكان لها دوي ارتجت له أركان الجامعات ومجامع العلم في أنحاء العالم، ثم جاء على الأثر فيلسوفنا سبنسر حيث استوى على ذروة بلك الموجة الفكرية فتناول مبدأ التطور وأخذ يطبقه على كل ناحية من نواحي التفكير. وها نحن أولاء نورد لك خلاصة موجزة لأهم ما جاء في كتبه من آراء.
1 - الحقيقة المغلقة، أو ما لا يمكن معرفته
يقدم سبنسر بين يدي كتابه (المبادئ الأولى) قضية لا يرتاب في صدقها، وهي أن كل دراسة تقصد إلى البحث في حقيقة الكون واستقصاء علتو، لابد أن تنتهي إلى مرحلة يقف حيالها العقل عاجزا لا يستطيع أن يدرك عندها من الحق شيئا، سواء سلك إلى ذلك سبيل الدين أو العلم أو ما شئت من سبل
ابدأ بالدين وانظر كيف يعلل ك الكون: هذا ملحد يحاول أن يقنعك بان العالم إنما وجد بذاته، لم يتفرع عن علة وليس له بدء ولا ختام، فلا يسعك أمام قوله هذا إلا أن تمط شفتيك جحودا وإنكارا، لان العقل لا يسيغ معلولا بغير علة، وموجودا سار في الحياة شوطا لا بداية له. . . ثم استمع إلى هذا الناسك المتدين، ها هو ذا يقص عليك علة الكون وكيف كانت نشأته، فخالق الكون عنده إنما هو الله العلي العظيم، ولكنك صلب عنيد، سترى انه لم يفسر من المشكلة شيئا، ولم يزد على صاحبه سوى أن أرجعها خطوة إلى الوراء، وكأني أسمعك تسائله في سذاجة الطفل ومن أوجد الله؟. وإذن فالدين بجانبيه - الإيمان والإلحاد - لم يستطع أن يقدم لك تعليلا واضحا معقولا.
خذ العلوم، فلعلك واجد عندها ما يرد حيرتك. . . سائل العلم: ما هذه المادة التي أراها والمسها والتي تغص بها جوانب الكون؟ انظر! ها هو ذا يحلل لك المادة إلى ذرات ثم إلى ذريرات أدق. ثم إلى أخريات اكثر منها دقة، ثم ماذا؟ هنا يقف العلم بين اثنتين، فهو إما أن يعترف بان المادة قابلة للتجزئة إلى ما لا نهاية له من الأجزاء، وليس من اليسير أن تسيغ(31/34)
هذا القول، وإما أن قرر بان ثمت حدا يقف عنده التقسيم، وهو ما يستحي عليك أن تقنع به. . . ثم سائل العلم عن القوة ما هي؟ فلست أحسبه يستطيع جواباً. . وأذن فالعلم كذلك عاجز عن شرح حقائق الكون.
وأي غرابة فيما يصادف الذكاء البشري من إبهام لا يقوى على معرفته؟ انه اعد لكي يفهم ظواهر الأشياء، ولا يعدوها إلى ما خفي وراء أستارها، ولكنا في الوقت نفسه لا نستطيع أن ننكر هذا الشعور الذي تضطرب به نفوسنا من أن وراء هذا الغشاء الظاهر حقيقة كامنة، حسب العقل أن يدرك وجودها، إما إذا هم نحوها بالتحليل والتعليل خر صريعا عاجزا.
وعلى هذا الأساس من وجهة النظر، يصبح التوفيق بين العلم والدين هينا ميسورا، فليقصر العلم دائرة بحثه على ظواهر الأشياء دون أن يورط في البحث عن حقائقها المستورة. له أن يتناول المادة تحليلا وتركيبا دون أن يبحث في ماهية المادة، وله أن يستنبط قوانين الحرارة والضوء والصوت وما إليها من مظاهر القوة دون أن يعلم ماهية القوة، لان هذه وتلك فوق مقدوره، وكل محاولة له في هذا السبيل ضرب من العبث. . . أما الدين فخير له أن يترك هذا العقل المعاند الملحاح، الذي لا يركن لغير الحجة المنطقية، خير له إن يترك هذا العقل يسبح في غروره وان يناشد العقل من الإنسان، لأن من طبعها إلا تلزم بالحجة العقلية. . قل للعلم أن يكف عن إثبات الله أو إنكاره فليس اللاهوت ميدانه الذي يصول فيه ويجول، وقل للدين أن يكف عن مناشدة العقل لأنه لا يستقيم مع نهجه في التفكير، تر الدين والعلم أخوين متصافحين لكل منهما حلبة ومجال.
ترى من هذا أن سبنسر يعتقد اعتقادا لا يلين للشك بان وراء ظواهر الأشياء حقيقة مغلقة لا يستطيع العقل البشري أن يعلم من أمرها شيئا، ولكني أريد أن أتقدم هنا إلى سبنسر في تحفظ أن يعلم عنها شيئا، قول يهدم نفسه بنفسه لأنه يتضمن اعترافا بان العقل قد ألم بها فعلا بعض الإلمام فقد أدرك وجودها على اقل تقدير، ثم سار في بحثها شوطا أيقن بعده أنها فوق مقدوره المستطاع، إذ لو كانت مغلقة دون العقل إغلاقا تاما، لما علم وجودها فضلا عن علمه بقدرته على إدراكها أو عدم قدرته.
2 - التطور(31/35)
ولكن مهما يكن من أمر فهاهي ذي الفلسفة - أي العقل - قد ألقت سلاحها معترفة بقصورها وعجزه عن إدراك تلك الحقيقة الكامنة وراء ظواهر الأشياء وبادرت فألقت بهذا العبء الذي اثقل كاهلها طوال العصور إلى الدين نبحثها ما شاءت له طرائقه، ولتقنع الفلسفة بالبحث فيما تستطيع له فهما وإدراكا، ولتكن مهمتها منذ اليوم تلخيص النتائج العلمية وجمعها في وحدة شاملة. فقد بدأت المعرفة بأشتات متناثرة من المعلومات، ثم امتدت إليها يد العلم بشيء من الربط حتى تركزت في طائفة من العلوم. أفلا يجدر بالفلسفة أن تؤاخي بين أفراد هذه الجماعة من العلوم المختلفة. فتسكب المعارف الإنسانية جميعا في وحدة متماسكة؟ حقيق بها إلا تدع سبيلا للبحث حتى تهتدي إلى قانون عام ينتظم التجارب الإنسانية جميعاً، كائناً ما كان لونها. . . ترى هل توفق إلى الهداية في هذه الطريق الملتوية الوعرة، فتنتهي إلى قانون واحد يفسر هذا الشتيت المتضارب مما يقع تحت حسنا؟ ويضم تحت لوائه المفرد كل هذه البنود المتباينة مما تضم صدورنا من تجربة وعلم؟
يجيب سبنسر أن نعم، إلا يتلخص تاريخ الكائنات جميعا في ظهورها من بدء مجهول ثم اختفائها في نهاية مجهولة؟ إذن فلا بد ان يكون ذلك القانون المنشود شاملا للتكوين والانحلال. . . إلا وهو التطور. وهنا يضع سبنسر قانونا للتطور شرحه في مجلدات عشرة واستغرق من زمنه عشرين سنة كاملة، هاك نصه: (التطور هو تجمع لأجزاء المادة، يلازمه تشتيت للقوة والحركة، وفي خلال ذلك تنقل المادة ن حالة التجانس المطلق إلى حالة التباين المحدود) ولشرح هذه العبارة نقول:
لقد تكونت الجبال الشامخة من ذرات الحصى، وامتلأت المحيطات الفسيحة بقطرات ضئيلة من الماء، واجتمعت عناصر دقيقة من الأرض فكونت الأدواح العالية، ووجبات متعاقبة من الطعام تشيد أجسام الرجال، وتآلفت طائفة من المشاعر والذكر فألفت فكرا ومعرفة، ثم تآخت جزئيات المعرفة فأنتجت علماً وفلسفةً، لقد تطورت الأسرة إلى القبيلة، ثم إلى المدينة والجنس، ثم إلى الدولة، ثم إلى تحالف بين دول الأرض قاطبة. . . كل هذه أمثلة لأجزاء المادة المتناثرة كيف تأتلف ويجتمع بعضها إلى بعض. ومن جهة أخرى يسبب هذا التالف حدا من حركة الأجزاء وشلا لقوتها، فقوة الدولة مثلا تحد من حرية الافراد، والحبة من الهباء حرة الحركة وهي منفصلة، مشلولة مقيدة إذا ما اجتمعت مع(31/36)
أخواتها في صخرة أو جبل. . ولكن تجمع الأجزاء يستتبع نتيجة أخرى هي التنوع والتنافر في العمل الذي نؤديه كل منها، فقد كان السديم الأول مركبا من مادة متجانسة يشبه بعضها بعضا ولكنها سرعان ما تنوعت في غازات وسوائل وأجسام صلبة. . أنظر فهذه قطعة من الأديم قد افترشت سندسا أخضر، وتلك الجبال قد اكتست ثوبا ناصعة البياض، وذلك البحر قد تسربل بلباسه الأزرق. . . أنعم النظر في هذه الخلية الواحدة المتجانسة وما سينشأ عنها من مختلف الأعضاء: هذا للغذاء وذاك للإفراز ثالث للحركة ورابع للإدراك. . . اللغة الواحدة لا تكاد تسري في بطاح الأرض حتى تتنوع في السنة ولهجات لا يفهم بعضها عن بعض. . العلم الواحد يتفرع عنه عشرات من العلوم، المنظر أو الحادثة توحي صورا من الفن والأدب ليس إلى حصرها من سبيل. . . كل هذه أمثلة على التنوع والتنافر اللذين يعقبان التشابه والتجانس.
وهكذا أسطورة الحياة: تجمع وتفريق، تآلف وتنافر، تأتلف الأجزاء وتجتمع في وحدة لا تزال تطرد في النمو حتى يدركها تنافر الأجزاء، ثم يشتد حتى تتلاشى وتنحل. . .
سنة الوجود هذا الانحلال والتكوين، ولكنه بين جذبة المد ودفعة الجزر يلتمس التوازن لكي ينتهي إليه. . . فكل حركة تعاني من المقاومة ما يؤدي بها البطء ثم إلى السكون عاجلا أو آجلا. . . الكواكب السيارة يضيق فلكها شيئا فشيئا. . . حرارة الشمس وضوؤها يقلان كلما تقادم عليها الدهر. الأرض تتلكأ في سرعتها عهدا بعد عهد الدماء في عروقنا سيصيبها البرودة والبطء. . . وهكذا سيسعى الوجود نحو الانحلال، أو سيسعى الانحلال إلى الوجود خطوة خطوة، وهي خاتمة محتمة للتطور: سينحل المجتمع وتتفرق الشعوب، ونذوب، وتذوب المدن. وبمثل هذا تتم دورة التطور والانحلال ولكنها ستبدأ السير ثانية وثالثة إلى ما لا نهاية له من المرات، وكل تكوين جديد لا بد أن ينتهي بالفناء والموت.
وهكذا كان كتاب (المبادئ الأولى) مأساة مروعة تروى لنا قصة العالم صعود وهبوط، تكوين وانحلال، حياة وموت، تطرأ متتابعة على الأحياء والأشياء. . . أفيكون عجيبا أن يقابل هذا المؤلف عند إخراجه وأذاعته في الناس ثورة عنيفة لأنه لم يدع مجالا للعقيدة والأمل؟!
رأيت فيما سبق أن التطور عند سبنسر هو القانون الذي تنشده الفلسفة لكي تضم بين دفتيه(31/37)
علوم الإنسان بأسرها. فمهما قلبت النظر في مظاهر الكون وجدتها تسير في سبيل التطور أي من البساطة إلى التعقيد ومن التجانس إلى التباين. ويجدر بنا أن نورد في هذا المقام نقدا للفيلسوف المعاصر برجسن على هذا القانون، فهو يقول إن سبنسر بقانونه هذا إنما يقدم لنا صورة الطبيعة كما هي، وليست هذه مهمة الفيلسوف، بل يطلب إليه أن يفسر هذه الصورة التي اكتفى بسردها سردا.
ويختم سبنسر كتابه هذا برأيه في الحياة بأنها تافهة حقيرة لا تستحق البقاء، فأصاب بهذا الرأي ما أصاب الفلاسفة جميعا من محنة النظر البعيد، إذ ألقى ببصره إلى الأفق النائي، فمرت صور الحياة الخلابة تحت أنفه دون أن يراها!!
ولنقف من الأمر عند هذا الحد على أن نعود في مقال تال إلى تتمة الموضوع.
زكي نجيب محمود(31/38)
من طرائف الشعر
أغنية ريفية
للشاعر الوجداني علي محمود طه المهندس
إذا داعبَ الماءُ ظلَّ الشجر ... وغازلت السحب ضوء القمر
ورددت الطير أنفاسها ... خوافق بين الندى والزهرْ
وناحت مطوقةٌ بالهوى ... تناجي الهديلَ وتشكو القدرْ
ومرَّ على النهر ثغرُ النسيم ... يقبلُ كلَّ شراعٍ عَبَرْ
وأطلعت الأرض من ليلها ... مفاتنَ مختلفات الصورْ
هنالك صفصافةٌ في الدجى ... كأن الظلام بها ما شعر!
أخذت مكاني في ظلها ... شريد الفؤاد كئيب النظر
أمر بعيني خلال السماء ... وأطرق مستغرقا في الفكر
أطالع وجهك تحت النخيل ... وأسمع صوتك عند النهر
إلى أن يمل الدجى وحشتي ... وتشكو الكآبة مني الضجر
وتعجب من حيرتي الكائنات ... وتشفق مني نجوم السحر
فأمضى لأرجع مستشرفا ... لقاَءك في الموعد المنتظرْ!!(31/39)
الزورق الغريق
للشاعر الدمشقي أنور العطار
(. . . ولكن إذا رجع بك القدر دون ما قصد إلى أثر لحب منسي، فان هذه الحصاة تقفك ويؤلمك أنها صدمتك. وتصيح حينذاك أن الحياة حلم، وتظل مكتوف اليدين كما لو انتبهت من إغفاءة، فتحزن وتضطرب، ذلك لان الأكذوبة المفرحة لم تدم إلا لحظة!)
(ألفريد دوموسيه)
أنيري ظلام الروح فالحب زورق ... متى يعترضه طائف اليأس يغرقه
يحوم على شط النجاة مروعا ... فتحبسه الأمواجقربان متق
علالة مغلوب تعايا رجاؤه ... فلم يبق منه غير أنَّة مشفق
وفاضت من المجداف حسرة خائب ... حبيس التشكي خافت النوح مرهق
وعاصفة هوجاء كالموت صولة ... رمت بشراع خافق متمزق
فطاحت أمانيه وافضى به الردى ... إلى حالك جهم السرائر ضيق
قسوت على قلبي وشردت حلمه ... وخلفتني مثل الغريق المعلق
فلا اللجة الربداء تخطف روحه ... ولا هو من مر العذاب المعلق
حنانيك ردي النفس من عالم الأسى ... إلى عالم حلو الأعاليل مونق
فينتعش القلب الذي مضه الجوى ... ويمرح في كون من الحب مورق
أسيت له كم يقطع العمر موجعا ... ويحيا بحب يائس منك مقلق
متى تلتمع ذكراك في ساح حلمه ... يضج كطفل واهن الصبر محنق
يود لو آن الله ألقاه موجة ... بصدرك أن يخنق به الوجد تخفق
خذي بيدي فالحب لم يبق لي يدا ... أرد بها كيد الحياة وأتقي
أضعت ملاذي في هواك وليتني ... ظفرت بحب طافح منك مغدق
كأن الهوى قد بدل القلب طائرا ... وعلمه نوح الحمام المطوق
يحلق في موج السماء مغلغلا ... ومن يضنه الحب البريء يحلق
هل الحب إلا بعض اصبغة الصبا ... متى ما توش القلب يخفق ويعشق
يعيد إلى خابي الحياة شعاعها ... فتندى بنور ساطع متألق(31/40)
أفيضي عليَّ الحب تلمع على المدى ... خيالات ماض ضاحك الحلم مشرق
يرف سناه وهو نديان بالرؤى ... كموجة نور في غلالة زنبق
تعاودني ذكراك والقلب عاطش ... وإما يساوره التذكر يشرق
إذا اغدر الورد الذي كان صافيا ... فلا بد من كرع المرير المرنق
أيا نهر النسيان غيب صحيفتي ... وهرق بها في الغيب كل مهرق
فما نور هذا الكون إلا عماية ... إذا كان حظ الحب غير موفق
أماني كثر والهوى يستثيرها ... ولكنها بنت الخيال المنمق
يزين لي أفق الأعاليل حاليا ... فأيان يبد الحلم نضرا اصدق
ويغري فؤادي بالرؤى وهي ضلة ... وما كان حلم القلب بالمتحقق
أفقت وقلبي لا يروم إفاقة ... ومن تحتجب عنه الأماني يزهق
فيالك من قلب كحلمي طائح ... شتيت كدمع الفجر نهب مفرق
سنمضي ويبقى الحب لهفان باكيا ... يموج كسر في السموات مغلق
إذا طفحت هذي السماء بحبنا ... فهل تحفظ النجوى إلى يوم نلتقي
وقفت عليك الشعر أسوان دامعا ... بقية ومض من فؤاد محرق
فصوني نشيدا ضم أحلام شاعر ... مضاع شرود اللب ولهان شيق(31/41)
آية الجزر
للأستاذ فخري أبو السعود
جزيرة قد إشاحتها يد القدر ... عن الشطوط فقامت آية الجزر
قد استوت وسط أمواج تلاطمها ... نصب الرياح ونصب البرد والمطر
إذا الشتاء أتاها لم يرم حولا ... عنها وفشى فجاج الأرض بالكدر
قريب ما بين أطراف النهار وما ... يزهو برونق آصال ولا بكر
يأتيك في كل يوم من تحوله ... شأن جديد وأمر غير منتظر
يا رب يوم شرود جاء مزدهيا ... بشمس ونسم لين عطر
تلاه آخر رواها وأترعها ... بوابل مستمر الوكف منهمر
فجاء صبح حديد البرد قارسه ... يكوى الوجوه بوخز منه كالإبر
فجاء من بعد صبح أبيض يقق ... كاس بثلج كزغب الطير منتشر
نغشى المنازل والأشجار ناصعة ... كسكر فوق حلوى العيد منتر!
يكاد يزلق عنه غير منتبه ... من لم يطأه بنعل الخائف الحذر
فجاء صبح يلف الأرض في سدف ... من الضباب كثيف اللون معتكر
يكاد يفتقد الإنسان راحته ... إذا تعرض بين الراح والبصر
يطوي معالمها في طي غيهبه ... فلم يدع ثم منظورا ولم يذر
إذا أقام ثلاثا في جوانبها ... نسيت كيف مسير الشمس والقمر
إذا تراءت شتاء وهي كالحة ... شوهاء عاطلة من معجب الصور
دجناء مربدة الآفاق حائلة ... جدباء ذاوية الأزهار والشجر
عجبت كيف يزور الوحي واديها ... وكيف ينطق فيها الشعر بالغرر
وكيف يونع حسن في كواعبها ... يتهن في ريق منه وفي نضر
لكن شاعرها سارت نباهته ... في الخافقين وجابت سالف العصر
وقومها في أقاصي الشرق قد رفعوا ... والغرب راية رب السبق والظفر
سادوا بكل أديم راق منظره ... وكل واد قشيب الوشي والحبر
وسخروا اليم واعرورو أواذيه ... بقاهر حيث جاب اليم منتصر(31/42)
الله يشهد ما جاءوا بمعجزة ... في العالمين ولا بدع من الخبر
لكنه الجد تنقاد الأمور به ... للطالبين ويدنو عازب الوطر(31/43)
في 14 نيسان 1933
(هدية إلى صديقي الشاعر الملهم أحمد رامي)
احبك في القنوط وفي التمني ... كأني منك صرت وصرت مني
أحبك فوق ما وسعت ضلوعي ... وفوق مدى يدي وبلوغ ظني
هوى مترنح الأعطاف طلق ... على سهل الشباب المطمئن
أبوح إذن فكل هبوب ريح ... حديث عنك في الدنيا وعني
سينشرنا الصباح على الروابي ... على الوادي على الشجر المغني
أبوح اذن، فهل تدري الدوالي=بأنك أنت أقداحي ودني
أتمتم باسم ثغرك فوق كأسي ... وارشفها كأنك أو كأ ني!!
نعيم حبنا فانظر بعيني ... وعرس للمنى فاسمع بأذني
كأن الصحو يلمع في ظنوني ... ويخفق في ضلوعي ألف غصن
على الوتر الحنون خلعت شوقي ... وماج هواي في آه المغني
ففي النغم العميق إليك أمشي ... وأسلك جانب الوتر المرن
بيروت
أمين نخلة(31/44)
دراسات أدبية
بلاسكو ايبانيز
نقل رفاته من منفاه إلى مسقط رأسه
بقلم محمد أمين حسونة
رأت الجمهورية الأسبانية وقد تحققت أطماع رجالها السياسية واستقرت حركتها الانقلابية الدستورية، أن تمجد الرجل الذي تقدم الصفوف ونفخ في بوق الثورة، فذهب ضحية مبادئه، بعيدا عن البلاد التي لبث نصف قرن ونيفا يخلص لها الحب، حتى كانت (إسبانيا) آخر كلمة لفظتها شفتاه، وهو يعاني الآم الموت في منفاه. فلم تجد أليق من أن تعبد رفاته إلى وطنه ليضمه ثرى (بلنسية) وهي البلدة التي انبثق من نواحيها فجر هذه العبقرية الفذة التي نتحدث عنها.
فمن أسابيع خلت، احتفلت الحكومة الأسبانية رسميا بنقل رفات الكاتب الشهير (بلاسكوايبانيز) من مدينة (منتون) بفرنسا، على ظهر بارجة حربية حملته إلى مسقط رأسه، وقد كان الاحتفال بوصول رفاته يوما مشهودا في تاريخ إسبانيا، ساهم الشعب فيه بإظهار عواطفه السامنة، نحو الرجل الذي لبث يجاهد ويناضل ويذكي في وطنه من حرارته وفتوته، لتظل فوهة البركان أبدا مشعلة وهاجة!
عاش ايبانيز طيلة حياته متمرداً ثائراً، لا يهدأ ولا يستقر ولا يعرف لبدنه عليه حق، كأنه موكل بتسخير قوى الطبيعة لخدمتة حتى قيل: إنه سحابة من نار.
طالع في فجر شبابه كل كل ما كتب عن الثورة الفرنسة، وكان يشبهها (بالهرة) عندما تجوعلا تلبث أن تأكل صغارها، ولكن الثورة لم تأكل صغارها، بل أكلت زعماءها: دانتون، ومارات وروبسبير. وكان مفتوناً بروسو وفولتير، يعجب بهما ويقول: هما اللذان مزقت أفكارهما وثائق العبودية، وبفضل مبادئهما اشتدت روح الثورة، غذاها الاول من ناحية القلب، والثاني من ناحية العقل.
ولد بلاسكو فيسنت ايبانيز في 29 يناير سنة 1876 بمدينة بلنسية، وهي حاضرة المقاطعة المسماة باسمها، وقد اشتهرت بكتدرائيتها الأثرية ومنها خرجت طائفة من اعظم فناني(31/45)
إسبانيا في القرن الرابع عشر، وقبل أن يبلغ العشرين من عمره، اصدر صحيفة أسبوعية كانت تبث المبادئ السياسية المتطرفة في ذلك الوقت، كالجمهورية، والدعوة إلى الاشتراكية ونحو ذلك، وحدث أن قدم ايبانيز إلى برشلونة - مهد الثورة - ليخطب في حفل سياسي، فتناول في خطابه الجمهورية والملكية، وأخذ يفاضل بينهما، فقبض عليه رجال البوليس، ولكنه قاومهم واعتدى عليهم فحكم عليه بالسجن، غير أنه خرج من السجن وقد ازداد إيمانا بمبادئه وتحفزاً إلى تحقيقها، فكون (الحزب الجمهوري الحر) وتقدم في ضوء هذه المبادئ إلى الانتخابات، ففاز بالإجماع وانتخب نائبا في البرلمان الإسباني عن مقاطعة (بلنسية) ولم يمنعه اشتغاله بالسياسة من ان يتفرغ للأدب والكتابة، وهو بلا شك أعظم كاتب ظهر في إسبانيا إلى اليوم، خلف وراءه ثروة أدبية زاخرة، تبلغ الثلاثين كتابا، كل صفحة منها مشرقة إشراق النجم!
أم تقتصر ثورته على الأوضاع السياسية التي كانت تشكو منها بلاده فحسب، بل عرف أنه كان هداما في دائرة الأدب أيضاً، ليبني على أنقاض القديم وجموده، أدبا جديدا حيا له طابعه ومميزاته الخاصة، والحقيقة أن العصر الذي بدأ فيه ايبانيز حياته الأدبية، كان في حاجة إلى من يقوض أركانه، وكان يقول: نحن في حاجة إلى الثورة الأدبية التي تدفعنا إلى كشف مواطن الجمال وتؤدي بنا إلى النور.
ولكن هل أثرت تعاليم ايبانيز حقا فأخرجت الأدب الأسباني من الظلمة إلى النور؟ أن من يتذوق ذلك الفن العميق الرائع الذي خلده ايبانيز في قصصه الممتعة، أمثال: في ظل الكنيسة، وامرأة (جويا) العارية، وفرسان الرؤيا الأربعة، وفاجعة البحيرة، وبحرنا، وزهرة مايو، وأعداء المرأة، ورمل ودم، والأراضي المجهولة الخ، ذلك الفن الذي كان يعتمد في إبرازه على جمال التنسيق ودقة الوصف، وإرهاف العاطفة ويكسوه بإشعاع الروح الدرامي الغامر، حتى يجتهد في أن يجعل من أدبه مرآة صافية لفنه الجميل، تنعكس عليها مختلف الصور والأحاسيس، فتشعر وأنت تطالع قصة له أن شعورك ووجدانك مرتبطان تماما بحوادثها، وأنها تمثل بلاده ونفسيتها أبلغ تمثيل، وقد لا يصرفه كلفه باللوحة ومحاولة إظهار مكامن الفتنة في الصورة، عن العناية بالإطار نفسه، فتجده يقتنص المعاني ويصقل الألفاظ كما يصقل النحات الأحجار قبل البناء، وولعه بالطبيعة يدفعه إلى ان يجاري (زولا)(31/46)
فيرسم أبطاله وهم يعيشون بين مهادها بعيدين عن تلك العاطفة الزائفة التي تولدها الحياة المصطنعة في المدن، كما أن، إعجابه بالبحر المتوسط - مهد جميع البطولات والأديان - يوحي إليه أن يمجد من أعمال رجاله. عوليس، وبركليس، وهنبيبال، والاشادة بشجاعة فرسانه، ولك في قصته الخالدة
لفت ايبانيز أنظار العالم الأوربي إلى فنه خاصة والى الأدب الإسباني عامة، فترجمت مؤلفاته إلى اللغات الحية وأولع الفرنسيون بقصصه فقلدوه وسام (جوقة الشرف)، وهتف له شيوخ النقدة، فوصفه كورتوس النقادة الألماني (بأن فيه عباره عن مأساة الخير والشر)، وقال أحد القصصيين الأمريكيين (لقد بدأ ايبانيز ينافسنا في صناعتنا، والاوفق أن نحطم أقلامنا ونبحث عن صناعة غير الأدب لنعيش)!
وقد غرست مبادئ فولتير في نفسه كراهية رجال الدين والسخرية من أعمالهم، ففي قصته المسماة ' (في ظل الكتدرائية)، يصور لنا مفكرا اشتراكيا هو (جبريل لونا)، يطالب بالإصلاح الاجتماعي فيكون نصيبه الاضطهاد من الكنيسة، فيثور على رجالها ويحتج ويغادر بلده بعد ان يؤمن بأن لا كرامة لنبي في وطنه! ويطوف باوربا ليبشر بمبادئه، غير أن السلطات تطارده أينما حل، فيعود أخيرا إلى بلده مقصوص الجناح كسيرا، ويضطر إلى ان يعيش متخفيا مع أخيه الذي يعمل خادما (بالكتدرائية)، أي يعود فيأكل من خبز الكنيسة التي يضمر لها البغض، حتى إذا ما اشتد ساعده اخذ يكفر بنعمتها ويؤلب الجموع عليها، يتخذ من خدامها تلاميذ له، ويبث مبادئه بينهم، فلا تلبث هذه المبادئ أن تسري كالسم في أبدانهم، يحملهم على سرقة أموالها وتحفها، ولكنهم في خلال السرقة يقتلونه ويمثلون به اشنع تمثيل!
ولعل فن ايبانيز يبدو قويا واضحا، وأفكاره مستوية ناضجة في القسم السادس من القصة، عندما يحمي وطيس المناقشة بين جبريل واحد اتباعه، فيبسط أمامه حالة إسبانيا وجمود الكنيسة، ويتعرض للفترة الذهبية من تاريخها، فيذكر ان الإسبانيين اعظم من اليونان والبيزانطين، فهم الذين اهدوا البشرية (الدنيا الجديدة) وهم أرستقراطية الشعوب وسادة البحار، قادوا الرواد في سياحاتهم حول الكرة وجابوا الآفاق وبعثوا المدنية من مرقدها، ولو أنصف التاريخ لجعل بلادهم وطن العالم الأول!(31/47)
أما في قصته (رمل ودم) فهو المتهكم اللاذع، صاحب الأسلوب المتدفق الفياض، يرسم لنا في لياقة وسحر، حياة مصارعي الثيران فلم يحاول أن يقلل من خطر هذه المصارعة الوحشية، ولكنه هاجم الأرستقراطية التي تبني مجدها وتسليتها على شقاء هؤلاء المصارعين الذين يطلقون عليهم اسم (التربادور). فبطل هذه القصة (جوان جالا رادو)، فتى يخرج من صفوف الشعب ليشق طريقه إلى المجد بقوة ساعديه فيتمرن على مصارعة الثيران ولا يلبث أن يبذ أقرانه ويتألق هجمه، وتمكنه شهرته وحياته الجديدة من ان يستمتع بكل ما كان يصبو إليه في صغره، يحارب الفقر والجوع وينعم بالزواج ووفرة المال، ولكن القوة والشهرة لا تدومان، فهو يخشى ان يفقدهما عندما يقف في ساحة المصارعة حاملا حياته بين ذراعيه، ويرسم ايبانيز إلى جانبه صورة أخرى يحملنا على التهكم والازدراء بها: صورة (كورنتيس) وجدانية الحس متقلبة الأهواء تدعى (دوناسول)، بعد أن تنتزع (جالارادوا) من أحضان زوجته، تحبه، وتعبده كبطل وتحاول أن تقرن نجمها بمجده وشهرته، ولكن عندما تحس بالفارق بينهما كامرأة أرستقراطية تنحدر أصلاب الأشراف، وبينه كرجل من عامة الشعب. تحتقره وتتخلى عنه، فيهوى نجمه ويفقد توازنه وهو في ساحة المصارعة فينشب الثور قرنيه في صدره ولا يلبث أن يقع مضرجا على الأرض حيث تسيل دماؤه وتمتزج بالرمال، يحملونه إلى الخارج جثة هامدة ولكن الجمهور لا يلبث بعد قليل أن يصفق ويصيح طالبا مشهدا جديدا ليشبع نهمته ويرضى غريزته التي طبعت على ذلك، منذ أن شهدت الدماء الأولى وهي تجري على الأرض: دماء هابيل.
وايبانيز قوي الإيمان بروح الحضارة العربية التي سادت إسبانيا وظلت ترفرف فوق ربوعها زهاء ثمانية قرون؛ تلك الروح المتوقدة التي نفذت إلى الغرب فعلمته كيف يخلق من الحب أدبا عاليا ومن المرأة صنما معبودا، ما برحت تمد المعجم الإسباني بربع مفرداته وان تشع أنوار خيالها فتلهب قرائح كتابها وتسعر بحرارتها دماءهم فتدفعهم إلى كتابة، دون كيشوت، وكونده لوكانور، وغيرهما مما نرى آثار الفروسية العربية كامنة بين سطورها، بل أن أثر هذه الروح ليبدو واضحا تماما في مؤلفات وأشعار سلفادور، رويدا، والفريدو بلانكو، وبيرس فالنتي وغيرهم ممن نراهم متأثرين بالخيال العربي الباهر.
لقد صهر بلاسكو ايبانيز بنار عاطفته المشبوبة تخيلاته عن حضارة أجداده العرب،(31/48)
فأودعها في بعض قصصه ودافع عنها في حماسة ويقين، فهو وان كان يكتب بلغة أسبانية، إلا انه كان يفكر قبل كل شيء بروح عربي، وقد خلف وراءه أنصارا يحاولون اليوم جهدهم تحقيق ما كان يصبو إليه من إعادة الحضارة العربية إلى (الفردوس الإسلامي المفقود) كي تنتعش النهضة الحاضرة من تراثها الخالد، وإعادة التعليم باللغة العربية - مفتاح الثقافة الإسلامية في إسبانيا - ونشرها بين الجامعة ودراسة آدابها العالية؛ وسوف يكون شأنهم بالنسبة لها في أوربا شأن الموارنة عندما خدموها في الشرق خلال العصور الغابرة.
ينشر ايبانيز ظلال أفكاره هذه على صفحات روايته (في ظل الكنيسة) فتراه يمجد من شأن هذا الروح العربي ويصف شعوره على لسان أحد أبطال قصصه فيقول:
(إن تاريخ إسبانيا الباهر لم يأت إليها من الشمال ولا من الكنيسة، بل من الجنوب ومن العرب، هؤلاء الرجال سمر الوجوه الذين وصلوا إلى شواطئنا في القرن الثامن من شمال أفريقيا بعد أن سيطروا في انتصاراتهم على أرقى الشعوب، حملوا إلينا الحضارة والتمدن، حضارة أجيال امتزجت ببعض، قوامها فلسفة الهند وثقافة الفرس وآداب اليونان وفن البيزانطيين وأشياء أخرى من الشرق ومن الصين.
(احتضنت إسبانيا العرب، ومكنتهم في مدى عامين من أن يستولوا على حضارة سبعة أجيال، رحب الشعب بهم لأنهم فكوا وثاقه من استبداد ملوكه السابقين، وكان استعمارهم استعمار الحضارة والنور والتسامح الديني لا استعمار الوحشية والسلاح!
(وعندما استوطن العرب إسبانيا، جعلوها. . كالولايات المتحدة الأمريكية) في العصر الحاضر، تعيش فيها جميع الأديان في حرية ومساواة، من غير تحيز ولا تعصب، وفي الوقت الذي كانت شعوب الشمال تعيش في ظلمات الجهالة وتتطاحن في الحروب الدينية وتختلط بالأقوام البربرية، كان العرب والإسبان واليهود، يعيشون كتلة واحدة في وئام، يعملون في سبيل إسعاد إسبانيا ورفاهية شعبها، فتأسست دور العلم والجامعات وازدهرت الفنون وارتقت العلوم ونشطت المواردالاقتصادية وبدأت إسبانيا تستيقظ لتشهد أنوار فجر جديد!
(وماذا عمل ملوك الكثلكة الذين أتوا إلينا من الشمال بعد ذلك؟ نشروا الإرهاب ومحاكم(31/49)
التفتيش، أجلوا العرب واليهود، طردوا العبقرية والحضارة، واحلوا مكانهما: الدين والتعصب، أطفأوا مصابيح العلم التي كانت تضاء من المساجد الإسلامية والبيع اليهودية، ليضعوا مكانهما قناديل الجهل والجمود وخرافات رجال الكنيسة، وعندئذ بدأت إسبانيا تتلاشى من العالم وتموت).
يتشعب بنا الحديث لو شئنا ان نتحدث عن ايبانيز لنوفيه حقه، وخير لنا أن نرجئ هذا إلى فرصة يكون فيها المجال أكثر اتساعا، وإنما نختم هذه الكلمة بان نقول، انه لما شبت نار الثورة الإسبانية الأخيرة التي انتهت بإعلان الجمهورية، كان ايبانيز في مقدمة من يثيرون الخواطر ضد دكتاتورية الجنرال بيمودي رفيرا، فاشتدت الخصومة بينهما، وكان ايبانيز عزوفا عن الضيم فاتهم الملكية في وطنيتها، وكان هذا هو السبب في إبعاده عن إسبانيا ونفيه.
محمد أمين حسونة(31/50)
بين الشك والإيمان:
(شيلر)
للأستاذ خليل هنداوي
حتى في ظلمات الشك التي رانت على قلبي، وفي الغم الذي غشى نفسي، تعلم - يا إلهي - بأنني قد تحريت النور. . . أراني - دائما - أكثر هدوءا. . .!
(شيلر)
بين كل شعراء الأدب الألماني تجد (شيلر) هو أشقى من طغى عليهم الشك. وبرح بهم التشاؤم المعذب.
درج (شيلر) من مهده، يغمره حنان أم هي رمز التقوى ومثال العطف. وأب دعا له حين احتضنه بذراعيه - (ربي! امنح طفلي هدى العقل، واهده السبيل الذي أخطه له) وهكذا كانت مظاهر طفولته محاطة بالإيمان العميق. وقضى الشاعر نشأته الأولى مولعا بالكتب. وهائما في الطبيعة يشيع ما يثور في نفسه من الأهواء الشعرية.
دخل المدرسة وأخذ العلم يطغى على شاعريته وإيمانه، ولكن (شيلر) كره العلم والعلماء، وكان يجد ألذ ساعاته ساعة ينفرد بنفسه ويتلو توراة (لوثر) أو (المسباد) ولكن روح الشك كانت تتسلل إلى نفسه من حيث لا يشعر. وفجأة تيقظت هذه الروح فيه فغدا صاحب شك وقلق - وظل في دوره الأول - بين عاملين يتساجلان الغلبة عليه، فطورا يقهر القلب المتردد روحه الصافية. وتارة تغلب روحه الصافية قلبه المتردد: فينشد متألما
(حتى في ظلمات الشك التي رانت على قلبي، وفي الغم الذي غشى نفسي: علمت - يا إلهي - بأنني قد تحريت النور.
أنت أردت لي هذه الأيام السوداء، التي تبرز فيها الأوهام المغرية من ناحية، ويبرز الإنكار - من ناحية أخرى - ضاحكا ضحكة الساخر
هانذا - تجأر فوق رأسي العاصفة! والقصبة سترتجف إذا لم ترحمني يا الهي!
احرس قلبي في هذا الهدوء، في هذا الهدوء المقدس وأنا سائر إلى الحقيقة. فالشمس لا تعكس أشعتها في اللجة الثائرة، ولا تبسط شعاعها إلا على صفحة الماء الرقراق.(31/51)
إنني اسمع صلصلة الناقوس الذي يهتف بي إلى الهيكل: فأغدو إليه حاملا إيماني. . . .
ألا أفتح قلبي لإدراك الحقيقة، حتى أستطيع أن أعانقها، فأغدو سعيدا.)
في هذه المقطوعة الصغيرة يظهر لنا شك الشاعر، ومرارة قلبه، وتوقان روحه إلى الحقيقة، والطريق التي انتقاها ليستعيد الهدوء والإيمان. ولكن الله لم يجاور قلب شيللر كثيرا. لأن الشك تسرب إليه ظافراً وملك عليه نفسه ولما يتجاوز الثمانية عشر ربيعا، فعاد شاعر هذه المقطوعة الطافحة بالإيمان شاعراً شاكاً ما علمنا سر انقلابه! ولكن هل كانت المذاهب الفلسفية إلا تاريخ قلب الإنسان؟ وهل كان الشك والجمود والسلب إلا ثورة من ثورات النفس المتعطشة إلى معرفة المجهول. وإذا بشيللر يقول - متحديا الدين بلهجة من يؤله الطبيعة (إن الإله الواحد إنما هو كل الكائنات. الطبيعة والآلهة هما قوتان متساويتان. الطبيعة هي اله يتعدد ويتقسم إلى ما نهاية) وفي الاجتماع، يؤمن بمذهب (روسو) القائل: إن الإنسان يولد صالحا ولكن المجتمع هو الذي يفسده.
- 2 -
ليدرس الشاعر، نفسه وقلبه وعواطفه في رسائله وفي قصائده، لأنها هي صورة نفسه - إذا توخينا صورتها الصادقة.
إن شقاء شيللر لم يكن شقاء شعريا خياليا فحسب، بل كان شقاء مصدره نفسه التي غشيها منه ما غشيها! فهو في بعض أحيانها يتنازعه عاملان: ثورة حواسه، وتعنيف ضميره له تعنيفا أراد أن يحطمه الشاعر فعجز عن تحطيمه، ويتمثل أنينه هذا في مقطوعة (القتال)
(لا لا. . . سوف لا أتحمل طويلا هذا القتال. . القتال الطاحن الذي يقوم به الواجب، فإذا لم تقدري على كبح أهواء قلبي أيتها الفضيلة، فلا تطلبي مني التضحية. . . هذا إكليلك ليظل - كل الأيام بعيداً عني. . .
خذيه. . . وذريني وحدي أتلاشى!)
وفي بعض أحيانه قد يجد الشاعر في نفسه جرأة على الفرار، الذي يتجلى فيه الانتصار. فيأوي إلى ملجأ (مانهايم)
(في حالة هم وغم، أكتب لكم - يا أصدقائي - بأنني لم أعد أستطيع البقاء هنا - فأنا خلال اثني عشر يوما أحسست مع نفسي كل مكان داخل نفسي وخارج نفسي، طالباً الخروج من(31/52)
هذا العالم، فالناس والسماء والأرض كلها غدت عندي قبيحة. أنا هنا فاقد نفسي. . .)
وهناك لحظات نرى وطأة الحاضر والمستقبل والعالم والناس تثقل عليه حتى تحطم قلبه، فيقول يائسا:
إنني عانقت الإنسانية بحرارة وشوق ملتهب ولكن - وآ أسفاه - لم أجد نفسي إلا بين ذراعي كتلة من جليد)
إن النفوس التي نشأت في كنف الله، تجد - عندما تنعتق منه - ما لا نجده غيرها من أصناف الألم، وضروب التوجع، لأن هذا الفراغ الذي كان يملؤه الله ينقلب إلى ظمأ شديد لا يرويه شيء ولا يطفئه شيء.
هذه هي المرحلة الأولى التي قطعها شيللر ومن ورائها مراحل، والآن أصبح يظهر تردده كمذهب في كتابه (رسائل فلسفية من جول إلى روفائيل) فما كان جول إلا الشاعر نفسه، وما كان روفائيل إلا صديقه الشاعر (كرونر). ففي (جول) تجلى نفس فتية ينتابها الشك، وهي لا تستطيع أن تفر من أسفها على إيمان فقدته!
قال: (يا لها من أيام سعيدة! تلك الأيام السمارية، حين كنت أتبع مورد الحياة بعينين مغمضتين، كنت مستسلماً لعواطفي وكنت سعيداً. علمني روفائيل أن أفكر. وهأنذا الآن أكاد أذري دموع الندم على هذا الاستكشاف. أنت سلبتني الإيمان الذي كان يودع الراحة في قرارة نفسي، وأوحيت إلى أن أزدري كل ما كنت أحترمه فكم من أفكار كانت عندي مقدسة فنزعت حكمتك (الحزينة) عنها رواءها. وأذهبت بهاءها.
كلما رأيت الناس وهم يرددون صلاة واحدة بلحن واحد قلت لله هذه الشريعة التي استمسك بها الناس! فبعثت في قلوبهم الراحة والسكون.
عقلك قد أطفأ هيامي النفسي. أنت قلت لي: لا تؤمن إلا بعقلك. ولا مقدس غير الحقيقة، ولا حقيقة إلا ما يتقبله عقلك - وهكذا أطعتك وصرفت عني أبهى أفكاري.
والآن عقلي وحده ظل معي ليكون وحده دليلي يحملني إلى الله. إلى الحقيقة والأبدية. فتعساً لي إذا وجدت ما يخالف تفكيره. أو عراني شك في معرفته، أو غزاه داء تركه مشلولاً)
فروفائيل يمثل أصحاب المذهب العقلي القائلين بأن لا حكم إلا للعقل كما يذكر جول: (أنت قلت لي: لا تقبل شاهداً غير العقل، إذ لا مقدس إلا الحقيقة. والحقيقي هو الشيء الذي(31/53)
تعرفه بعقلك , قد أطعتك وضحيت بإيماني وغدوت كالظافر اليائس الذي أحرق كل سفنه وقطن في الجزيرة الجديدة قاتلاً منه كل جاء بالرجوع. فعقلي هو الآن كل شيء وهو وحده يحملني إلى الله ويفتح لي أبواب الحقيقة والأبدية! ولكن تعساً لي إذا ضل دليلي الطريق فالعادة لا بد أن تغادرني. وويل لي إذا شاء القدر أن تتقطع أوتار هذه القيثارة، فتضطرب ألحانها، وتكثر أشجاني وأشجانها.)
وفي فترة ثانية يكتب جول هذه الرسالة لروفائيل:
(إن مذهبك قد خدع كبريائي، كنت سجينا وأنت جذبتني من عجلتي لتقودني إلى ضوء النهار. فالنور الذهبي والفضاء الفسيح قد لامسا جفوني. بالأمس كان يرضيني من المجد الوضيع ان أكون ابنا صالحاً وصديقا فاضلا ورجلا نافعاً لبلده، أما أنت فقد صيرتني رجلاً إنسانيا.)
قال لي روفائيل: المملكة الوحيدة في العالم الروحاني هي مملكة العقل
وفجأة ترى الشاعر يحس حقارة الإنسان إزاء عظمة الوجود فيجعله إحساسه هذا في شك من نفسه فيقول:
في أي مكان حيثما حولت أنظاري يا روفائيل يبدو لي الإنسان محدود العقل، وان هوة عظيمة تفصل بين تأملاته وبين الحقيقة لا تغبطه على النوم الذي يستريح فيه ولا توقظه! فالعقل هو مشعل في عجلة ينير لحظة فوق رأس السجين ثم يتركه في ليل أكثر حلوكة. إن فلسفتنا هي رغبة (أوديب) في المعرفة رغبة يحوطها الألم. ولا تنتهي من الإلحاح والسؤال حتى يجيبها مجيب (هل تستطيع أن تعلمني من أنت؟) ولكن الشك أخذ يحز في قلب جول وجول يصيح ويتألم فتخمد جذوته المشتعلة، فيقول مؤنبا (روفائيل) بلهجة النادم:
(هل تعيد إلى حكمتك ما سلبته مني؟ وإذا لم يكن - لديك - مفتاح تفتح لي به السماء فلماذا طردتني من الأرض؟ وإذا كنت تعلم أن سبل الحقيقة وراء حفائر الشك المخيفة فلماذا ألقيت صاحبك في هذه الشعب الملتوية؟
أنت هدمت كوخا حقيرا لتشيد على بقاياه قصرا منيعا ولكنه قصر فارغ ويا للأسف!
روفائيل!! أطلب منك نفسي، فأنا لست بسعيد.
قد فقدت شجاعتي، ويئست من قوتي. ويدك وحدها تستطيع أن تشفي جراحي.)(31/54)
وروفائيل يجيبه: (عزيزي جول:
أتريد أن تنصب عليك السعادة من السماء بدون انقطاع؟ هذا كثير على نصيب الإنسان. داء الشك الذي وقعت فيه لن تشفى منه إلا بنفسك، وبرغم أن يقظتك تعسة فإنني لا أملك علاجا أنقذك به من خيالك واحلامك؛ أنا لم أضع شيئا للنفوس التي هي أمثال نفسك إلا أنني لقحتها بالاضطراب الذي لا مفر منه
أيها الجاحد! قد لعنت العقل ونسيت النعم التي حباك بها.)
وها هو ذا روفائيل يحاول أن يقود صديقه إلى الحقيقة فيكتب له:
(ما الشك - يا صديقي - إلا حدة العقل الإنساني في ثورته. على أن الهزة الشاذة التي تصيب النفس النامية يجب إلا تؤول بها إلى تأييد صحتها، وتثبيت وجهتها، وكلما كان الخطأ بعيدا كان الظفر بالحقيقة أكثر خطراً. وكلما كثرت عوامل الشك في الإنسان كان أكثر لجاجة في تحري اليقين)
وكتاب روفائيل الأخير يقر بتأثير مدرسة (كانت) الفيلسوف. وفي تلك الأثناء كان شيللر يقف أجدر ما كتبه (كونسبرغ) بالمطالعة من تصانيف فلسفية. فقرأ فيها بان أفكارنا وآراءنا التي نراها، قد يمكن إلا يكون لها خارج عقلنا حقيقة مدركة. ومثل هذا المذهب يوافق كل الموافقة مذهب شكه، بل يذهب شيللر إلى أبعد من ذلك، فبينما كان (كانت) يحرص على شيء من الحكمة في (العقل المكتسب) إذا بشيللر يسلخ عن (الكانتيسم) هذه النتيجة التي تجعل الواجب شيئاً مجرداً والفضيلة حلماً.
والآن فلنتل بعض مقطوعاته نر فيها هذا الشك بارزاً بألوان مختلفة يفيض على جنباتها، ونرى الجمال الفني أسمى صفاتها. أما المثل الأعلى فأنت مجهد نفسك باطلا لتقف عليه. لأنه هو حلم , يقول: (لقد خمدت تلك الشمس التي كانت تضئ أيام فتوتي. وذهبت رسوم ذلك العالم الكامل الذي كان يهجس به ضميري. وضاع إيماني الجميل بتلك الأشياء التي كانت تخلقها لي أحلامي الوادعة الإلهية.)
كان الشاعر يسأل. ما هو الوجود؟ وأين يذهب؟ وما يحول؟ والإنسان نفسه ما هو؟
هو في بعض أحيانه:
(كحاج في ربيع أيامه، وقف في الطريق يستخفه الطرب فسمع صوتا يهتف به: سر وثابر(31/55)
على سيرك حتى تبلغ الأفق، حيث يغدو ما هو أرضي ترابي سماوياً لا نهائياً. هذه كانت أنشودة الفجر:
ولكن - وا أسفاه - قدم المساء وحالت الجبال والأنهار دون سيره، فترامى على البحر لكي يبلغ غايته! ولكن الغاية كانت تفر دائما دون أن يدركها.
وقف الحاج في النهاية قائلا! (وا أسفاه! لا طريق تقودني إلى الغابة، والسماء لن تلتقي مع الأرض. والمكان الذي أنا فيه ليس هو بالمكان الذي يجب أن أكون فيه.)
وهو في بعض أحيانه الأخرى (كالهارب) الذي يسأل نفسه. (أين يجب علي أن أمشي حتى أجد الهدوء؟ أنا متكئ على عصاي! والأرض الضاحكة بربيع شبابها ما هي - لي - إلا كالضريح.
فاصعد يا لون الصباح! ولون الشفق والقبل الملتهبة هذه الإحراج والغابات. وانزل أيها المساء، وسكن بهمسك الجميل هذا العالم الذي سكنت منه الحياة
أنت أيها الفجر لا تنير إلا حقلا للأموات، وأنت أيها المساء لا تهز بهمسك الجميل إلا نعاسا طويلا.)
ولكن أية أحلام يريدها الشاعر في قصيدتة (آلهة اليونان) ففي هذه المقطوعة يظهر الهدف الذي سعى إليه، ووضعه نصب عينيه. فهو يتغنى بالشك ويتباهى به، لأنه يقدس من اليونان الأقدمين ما يريد أن ينشره من عبادتهم الوثنية فهو يعظم خلقهم البسيط، وبكرم أساطيرهم الحساسة. بل هو يأسف على ذهاب العصر الذي كانت تحكم فيه مجموعة آلة لطيفة تسيطر على العالم. وتقود الناس وراءها إلى إلهات اللذائذ والمسرات ويختم هذه القصيدة بقوله:
(سرعان ما تبدل كل شيء! في كل الخليقة يجري سلطان الحياة المطلق
أما النبات القديم، والوقار الحزين فقد طردتها من عبادتك الصافية. وكل القلوب يجب أن تخفق سعيدة مغتبطة لأن السعداء كانوا حلفاءك، ولا شئ إذ ذاك مقدس غير الجمال) أما وقد قطع هذه الرحلة فليدن خطوة أخرى! أليس هو معتنقاً مذهب الشك وناصراً مذهب اللذة فلماذا لا يؤمن بالعدم ويتغنى به؟ وهذه قصيدة (الخضوع للقدر)
إن إنسانا مخلوقا للسعادة يتمثل لنا في يومه الأخير. كان زاهداً في كل طيبة من طيبات(31/56)
دنياه، راجيا منه العالم الثاني أن يحتسب له هذه التضحية. سفك الدمع الكثير ولم يتمن إلا وعداً إلهياً حتى يكمل إلى النهاية غلبته على قلبه، وأخيرا دنت الساعة التي ينال فيها ثوابه. فانتصب الرجل الأمين أمام عرش الله ليذكره بالوعد الذي ضحى في سبيله بكل ملذة.
فكان الجواب:
إنني احب كل أبنائي على السواء. أنت تأملت فكان التأمل ثوابك، وآمنت فكان الإيمان سعادتك، أنت تستطيع أن تستفهم العقلاء وهم سيقولون لك (أن الأبدية لن تعيد إليك ما فرطت في ملذاتك.)
(البقية في العدد القادم)(31/57)
العلوم
البحوث الروحية
للأستاذ عبد المغني علي حسين
خريج جامعت برمنجهام
سبقت لنا كلمة بهذا العنوان في الرسالة. وفيها أشرنا إلى أن أفراداً من أساطين رجال العلم الحديث جمعوا من اختباراتهم وتجاربهم باستخدام الوسطاء أدلة جديرة في اعتبارهم باسم العلم تبرر القول بأن العالم الروحي جزء من النظام الكوني، وأن الاتصال به في حيز الممكنات.
ونود بعد ذلك أن نورد طرفا من تلك الاختبارات والتجارب، ونزنهابالميزان العلمي، لنرى مبلغ صلاحيتها كدعامة لهذا الزعم الخطير، الذي إذا صح فأن كل كشف علمي سابق يعتبر بجانبه من محافر الأمور. لما لا، والعلم لم يمهد لنا إلى اليوم غير سبيل المادة، والمادة لا نمكث في محيطها إلا قليلا، ونرتحل عنها وشيكا. أما عن الخلود بعد الممات فلم نسمع أن العلم الحديث كلمة، الهم إلا كلمة إنكار من بعض الذين ينتسبون إليه.
نعم، نسمع إنكاراً صريحا من بعض رجال العلم، وافتراض وجود الأرواح غير المنظورة أبغض شئ إلى رجل العلم الحديث وليس هذا بغريب، فالبرق الذي أعتبره الأقدمون لمع سيوف الآلهة في السماء قد ثبت اليوم أنه شرر كهربائي. والرعد الذي حسبوه زمجرة غضب الآلة ليس سوى فرقعة ذلك الشرر. وقوس قزح الذي ظنوه سلما تمده الآلة ليهبط على درجه رسولهم ليس سوى طيف ضوئي ناتج من تحلل أشعة الشمس بانعكاسها وانكسارها في قطرات ماء المطر. والمرض الذي توهموه فعل أرواح شريرة وطاردوها عبثا بالتمائم والتعاويذ ليس سوى فعل ذر دقيق يرى بالمجهر ويعالج علاجا صحيحاً بالمحقن. لا حد لما كان ينسبه الأقدمون إلى الأرواح. ولا شك أن تاريخ العلم الحديث يكاد يكون سلسلة حرب مع الارواح، فهو يجليها كل يوم عن مركز في العالم المادي، ويقيم على أعقابها نظما وقوانين يتسع بعضها بعضا ولا أثر فيها لروح ما.
لا بدع إذن أن نرى رجل العلم يرفض الاستماع لكل زعم بوجود أرواح للموتى مهما كان مصدره. ويعتبر ذلك رجوع القهقري، وعوداً إلى عهد الخرافات البغيض، واستسلاماً لحب(31/58)
البقاء، وطمعا في لقيا الاعزاء، وذرعاً من الفناء. ولا بدع أن نراه يعتبر تعليل الظواهر بالأرواح عجزاً عن التعليل، ويفضل عليه أن تبقى الظواهر بلا تعليل.
هذا الموقف السلبي تراه كثرة المفكرين هو الجدير بالروح العلمية الصحيحة، التي لا تعرف الآمال ولا المخاوف. ولكن بعض المفكرين يرونه تطرفا وتنعتا. لأن الروح العلمية التي لا تعرف الآمال والمخاوف، لا تعرف أيضا البغض والحب. يجب أن نستمع لكل رأي مهما كان بغيضا. وأن لا نرفض الاشتراك في تجارب تجري إلى النمط العلمي مهما بدا موضوعها سخيفا والأمل في جدواها ضعيفا. إذا لم نفعل ذلك فنحن كالذين رفضوا النظر في تلسكوب غاليلو (سر الفر جوزيف لدج) أستاذ إنجليزي في علم الطبيعة، وشخصية علمية عالمية فذة. نيف اليوم على الثمانين من عمره، ولا يزال نشيطا عاكفا على البحث العلمي في معامله. كان أستاذا بجامعة ليفربول، ثم قضى حقبة طويلة مديراً لجامعة برمنجهام. وكان رئيسا للمجمع العلمي البريطاني، ولجمعية رنتجن، ولجمعية الطبيعة، ولجمعية الراديو. ولديه من ألقاب الشرف العلمية الشيء الكثير. وله فضل معروف في تحقيق التخاطب اللاسلكي ويعتبر دائما حجة في كل ما له علاقة بالأثير
لم تقتصر جهود هذا العلم الكبير على الطبيعة، بل امتدت إلى ما فوق الطبيعة. والذي دفعه إلى هذه المخاطرة العلمية أمران: أحدهما بحوثه في الأثير، التي أوصلته إلى أن الأثير هو الحقيقة الأساسية في العالم المادي، وانه الوسط الشامل، وان منه تصاغ المادة نفسها. ثم نظر فرأى الأثير الجزء الأهم في كياننا الجثماني نفسه. أليس الجسم البشري ككل جسم مادي يتألف من كهارب دقيقة بينها فراغ شاسع بالسبة لحجومها المتناهية في الصغر؟ أليس الجزء الأكبر من الجسم البشري فراغا يملؤه الأثير؟ هذا الأثير إذن هو الثوب الحقيقي لعنصر الحياة الذي يميزنا من الجماد والذي نسميه الروح. أما الذرات المادية فهي مجرد آلة تمكننا من العيش برهة في عالم المادة. أن الدقائق المادية نفسها لا تتلامس قط بل يوجد بينها دائما فراغ يملؤه الأثير. فنحن إذن لا نمس شئ إلا عن طريق الأثير. ولا نسمع شيئا إلا بتوسط الأثير. ولا نرى شيئا إلا باستخدام الأثير. والتفكير وكل الظواهر العقلية والنفسية لا شأن لها البتة بالذرات المادية. بل تنشأ أول في الأثير المتخلل لأجسامنا. وهذا الأثير بكيفية مجهولة يحرك ذرات المادة التي تتألف منها أعضاؤنا الظاهرة. فننسب نحن(31/59)
كل شئ لذرات المادة وننسى الأثير الرابط لها والضابط لكل ما تأتيه من حركات.
هل يتحتم إذن أن يكون موت الفرد زوال كل أثر لذاتيته من الوجود؟ إذا كانت الحياة من خواص الأثير الجثماني فهناك كل أمل في بقائها بعد الممات. إذ قد علمتنا دروس الطبيعة أن الظواهر الأثيرية تبقى ما بقى الدهر، ولا نتشتت أيدي سبا، شأن ذرات الجسم المادي. الموت إذن هو طرح ذرات المادة والعيش بعد ذلك في ثوب الأثير الجثماني، وفي عالم أثيري لا يحجبه عن حواسنا الحاضرة إلا عجز تلك الحواس وقصورها. لقد كشف العلم عن ظواهر أثيرية لم تكن من قبل محسوسة، مثل الإشاعة الخارجة عن حدود المنظور، فلم نستنكر أن يكشف العلم عن حياة في الأثير؟
هذا ما يقوله (لدج). وظاهر أنه رأي فلسفي أكثر منه عمل علمي. وإذا كانت هذه هي كل حجته فقد أتى بغير جديد. إذ النقاش الفلسفي في المادة والروح والفناء والخلود فاضت به الكتب وكاد يصبح مفروغا منه. لذا لا نرى التبسط في حجته هذه رغم ما تستحقه من تقدير. وننتقل إلى اتصاله الفعلي بتلك الكائنات الأثيرية وكيف أمكن أن يكون.
وضع (لدج) كتابا اسماه (كيف ثبت في خلود النفس البشرية) مهد له بما يأتي: -
(القول بخلود النفس البشرية بعد الممات، وبأن الموت طرح للجسد المادي ليس غير، هو قول قديم، وجد منذ وجد البشر. أما الحجج التي تؤيد هذا القول فبعضها ديني قائم على التسليم بوجود خالق رحيم عاقل، وبعضها حيواني يرجع إلى نفور النفس الغريزي من فكرة الانعدام، والقول بأن الغرائز البشرية تنم حتما عن حقائق واقعة. أني في هذا الكتاب لا أعتمد على أحد هذين النوعين من الحجج، وأن كنت أحترمهما وأقدرهما قدرهما. بل لست أنوي أن أحاج أو أجادل، فنظريتي قائمة على أساس من الاختبار الفعلي، وعلى قبول طائفة من ظواهر يمكن لكل إنسان أن يشاهدها بنفسه إذا تجشم عناء التجريب. إني أعرف خطورة كلمة (حقيقة) من الوجهة العلمية، ومع ذلك أقول دون أدنى تردد أن بقاء ذاتية الفرد بعد الموت هو عندي حقيقة قام عليها الدليل الحسي. لقد وصلت إلى هذا اليقين بدراسة خصائص نفسية غامضة لم يلتفت إليها العلم حتى الآن، ولا يرتاح لها فيما أظن رجال الدين. لذا أرى لزامنا على أن أذيع من آن لآن ما يبرر مثابرتي على هذه البحوث ويعبر عن اقتناعي التام بصحة ما وصلت إليه.(31/60)
(ولا حاجة بي إلى القول بأن كلمة (خلود) الواردة في العنوان لا يقصد بها الخلود أبد الآبدين فهذا ما لا علم لي به. كل ما أطمع في تقريره هو بقاء ذاتية الفرد بعد الموت. الموت هو الحادث الذي نرى عنده انقطاع حبل الحياة فإذا كنا نعيش بعد هذا الحادث القاصم فبعيد أن نلتقي بعده بحادث أشد منه وأعظم خطرا. لست أعرف ما يكون من شأننا في المستقبل القاصي، وكل ما استدللت عليه هو بقاء ذاتية الفرد منا بعد مغادرة هذا الجسد المادي. والمستقبل البعيد خليق بأن لا يشغل بالنا الآن. وحسبنا العلم أن هذه الحياة الأرضية ليست كل نصيبنا من الوجود كأفراد، وإننا إذا استخدمناها كما ينبغي فهي المرحلة الأولى من عيش طويل كله فرص للخدمة التي تتفق مع طبيعتنا الحقيقية وفيها سعادتنا الصحيحة.)
هذا ما كتبه (لدج) تمهيدا للكتاب. وسنتناول ما تضمنه الكتاب من تجارب ومشاهدات في كلمة أخرى إن شاء الله.
عبد المغني علي حسين
خريج جامعة برمنجهام(31/61)
في النسبية
بين أستاذ وتلميذه
التلميذ - كأنك تريد أن تقول إنالأطوال تنكمش بالحركة
الأستاذ - يظهر انك لم تفهم ما أعنيه بالضبط. سأضرب لك مثلا. تصور طائرة الآنسة لطيفة مبتعدة عنا بسرعة مائتي كيلو متر في الساعة. وأنك ترصد - وأنت على الأرض - قائمة علم مثبتة عمودية على هيكل الطيارة في اتجاه حركتها تريد قياس تلك القائمة. ثم لنفرض انك - باستعمال ما تعلمنه في مدرستك من أصول حسابات المثلثات وما تحت يدك من دقيق آلات القياس قادر على إيجاد طول تلك القائمة الثبتة في الطيارة مضبوطا إلى أجزاء من ألف مليون من الميليمتر. فان العلم الحديث يؤكد لك انك ستجد انكماشا في طول القائمة المذكورة. . .
التلميذ - أي أنني أجد طولها أقل منه عندما كانت ساكنة أمامي على سطح الأرض.
الأستاذ - نعم. ولكن ليس هذا كل ما هناك. فان الآنسة لو رأت القيام بتجربة مماثلة وهي في طائرتها. وكان معها أجهزة دقيقة مثل التي عندك. ثم حاولت قياس ارتفاع قامتك وأنت على ظهر الأرض. لرأتك أقصر قليلاً مما كنت وهي أمامك قبل أن تبدأ الطيران.
التلميذ - أقصر! لا شك أنك تريد أن تقول أطول
الأستاذ - لا. بل أريد أن أقول أنها تراك أقصر. فهنا موضع الدقة في النظرية الجديدة. ذلك لأن الحركة والسكون نسبيان. وإذا كنت تعتبر الآنسة وطائرتها مبتعدتين عنك بتلك السرعة بينما ترى نفسك ساكنا. كذلك هي. فأنت والأرض التي تحملك - بالنسبة للطائرة - في حركة ابتعاد عنها بسرعة مائتي كيلو متر في الساعة. أما هي فتعتبر نفسها ساكنة.
التلميذ - ولكن أترى الآنسة محقة في اعتبار طائرتها في حالة سكون وكل ما عداها مبتعد عنها بتلك السرعة الكبيرة.
الأستاذ - هذه وجهة نظرها. صحيح أن وجهة نظرك أنت على الضد من ذلك. ولكن هذا لا يمنع أن تكون أنت أيضا على حق من وجهة نظرك. أي أن كليكما على حق في اعتبار نفسه ساكنا والآخر متحركا. ولا شك أنك تذكر قطار السكة الحديدية عندما سار بك لأول مرة. وكيف أنه كان يخيل لك كأن الأرض تبتعد عنك. وأن القطار لا يتحرك. وهذا ما(31/62)
يحدث أيضا للمسافر بالطيارة. فالأستاذ البشري عندما ركب الطيارة لأول مرة ووصف شعوره في مقال له بالأهرام. أبان كيف أنه خال الطائرة لا تحرك أكثر من كيلومترين كل ساعة بينما هي تقطع مائة. ولعله لو أغمض عينيه وتجاوز عن بعض العوامل الآلية التي تحيط به في الطائرة كأزيز محركها مثل. لما شعر بحركة ما.
وما دمنا قد قررنا هذا المبدأ - نسبية الحركة والسكون - فيمكننا أن نعيد نظرة على مسألة انكماشا لأطوال المتحركة. أيمكنك أن تخبرني الآن أيهما ينكمش في الطول. قائمة العلم في طائرة الآنسة المبتعدة: أم قامتك أنت وأنت واقف على ظهر الأرض؟
التلميذ - يخيل لي مما سمعته الآن أن كليهما ينكمش طولا. فقائمة العلم بالنسبة لي تتضاءل وتصغر، وكذلك قامتي إذا حاولت الآنسة رصدها.
الأستاذ - تعبيرك الآن مضبوط. أزيد عليه بأن كلا الاثنين أيضا ثابت الطول. فقائمة العلم طولها لم يتغير في نظر الآنسة. وكذلك قامتك في اعتبارك أنت ثابتة. إذ مادامت الحركة نسبية فالانكماش نسبي أيضا.
التلميذ - فهمت أن مثل هذا الانكماش النسبي - لو وجد - ضئيل جدا. وأظن أن كشفه بالآلات مستحيل، فما الذي دعا أينشتينلفرض وجوده.
الأستاذ - ليس هو أينشتينأول من قال بوجود مثل هذا الانكماش. فمنذ اكثر من مائة عام وعلماء الطبيعة يجرون تجارب على الضوء والأثير؛ فيجدون نتائج مخالفة لما يتوقعون، وقد وجدوا أنفسهم مضطرين إزاء تلك النتائج غير المنتظرة إلى البحث عن تعليل لها؛ وكان أوفق الفروض التي اهتدوا لها فكرة انكماشا لأطوال المتحركة. وبواسطة هذا الفرض أمكن إصلاح ما فسد من النتائج. ثم قامت المحاولات لتعليل انكماشا لأطوال بالحركة، ووضعت النظريات العلمية على أسس معقدة، حتى جاء أينشتينفعرض تفسيرا بسيطا سهلا لهذا الانكماش معتبرا إياه كقوس قزح، أنت تراه موجودا وغيرك لا يراه بتاتا.
وليست الأطوال هي المقاسات النسبية فقط، فهناك الكتلة والزمن، فهذان أيضا نسبيان. الكيلو جرام من المادة في نظرك هو أكثر من كيلو جرام في نظر الآنسة الطائرة. والساعة من من الوقت عندك. . . .
التلميذ - مهلا. مهلا. فان ما قلته الآن يتنافى تماما مع ما علمناه في المدرسة عن الكتلة.(31/63)
أليست هي مقدار ما تجمع في الجسم من المادة، فكيف تقول إذن إنها تتغير. ومن أين تجيئها تلك الزيادة وهذا التغيير؟
الأستاذ - ومن أين يجيء التغيير للأطوال؟ وفوق ذلك فالتعريف الذي أعدته أمامي للكتلة قابل للانتقاد. والتعريف الذي يمكننا أن نقبله لها هو التعريف الذي يبين طريقة الوصول لتقديرها. وما دامت الكتلة لا تصل لتقديرها إلا عن طريق تغير في (كمية تحرك) أو (عجلة) سببتها قوة. فالسرعة والأطوال لهما دخل دائما في تقديرها. والأطوال والسرعة كما علمت نسبيان. فلماذا لا تكون الكتلة نسبية أيضا؟
وأريد أن أزيد الآن على ما قلته عن الكتلة كلاماً يشبهه عن الزمن فالدقيقة من الزمن ليست كذلك في كل زمان ومكان.
التلميذ - أرجو أن تعلم أن النسبية تطلق الآن على نظريتين: النظرية الخاصة والنظرية العامة. والأولى قال بها أينشتين سنة1905 أما الثانية فلم يكملها إلا سنة 1917. وكل ما سمعته الآن من النتائج مأخوذ من النظرية الخاصة. التي تبحث فيما يحدث للأقيسة أثناء الحركة المنتظمة في خط مستقيم , وهي تبدأ من فرض أبانت التجارب العلمية صحته. وهو فرض ثبات سرعة الضوء. فالمسافة التي يقطعها الضوء في الثانية هي عدد محدود من الكيلومترات لا يزيد ولا ينقص باختلاف الأمكنة والأزمنة. وقد استغل اينشتين هذا الفرض. واستنتج رياضياً بواسطته وبواسطة مبدأ النسبية الخاص. مقدار التغير في الاقيسة نتيجة الحركة النسبية.
والنظرية العامة لا تقتصر في بحثها على الحركة المنتظمة في خط مستقيم، بل تتناول الحركة الدورانية ومجالات القوى. وهذه النظرية طبعاً أعم من الأولى وأشد تعقيداً: ورياضياتها تظفر بمن يتقن فهمها، ولذا فهي سيئة الحظ مع جمهور الكتاب بعكس شقيقتها.
تسألني إلى أي مدى عززت المشاهدات والتجارب النظرية
النسبية وسأجيبك مقتصراً على النظرية الخاصة. 1 - فأنت
تعلم أن فرض انكماش الأطوال نتيجة الحركة احتاج العلماء
له لتفسير نتائج غير متوقعة في تجاربهم. وما دام هذا الفرض(31/64)
مقررا بوضوح ومبينا على أسباب معقولة في النظرية النسبية
فالنظرية لم تأت إذن إلا بما دعمته التجارب وقررته.
2 - وأنت تذكر من غير شك الالكترونات السالبة التكهرب
المنبعثة من المواد المشعة (كالراديوم مثلاً). هذه الالكترونات
تحرك بسرعة كبيرة تقرب من سرعة الضوء. وقد وجد أنها
تختلف في السرعة باختلاف مصدرها أحيانا. ووجد أيضاً ان
كتلتها تختلف باختلاف سرعة تحركها.
والنظرية النسبية كما رأيت تقول بذلك. فالكتلة مثل الطول شيء نسبي تختلف باختلاف السرعة. والنظرني تعطينا مدى تغير الكتلة بتغير السرعة. وهو ما يتفق مع المشاهد الملحوظ.
3 - كان هناك رأي قائل بأن النجوم المتحركة للأمام، ضغط
الإشعاع على سطحها الأمامي أكثر منه على سطحها الخلفي.
وهذا مما يعمل على تقليل سرعتها بالتدريج حتى تصل لحالة
السكون في وقت ما. وقد استنتج الفلكيون من ذلك أن النجوم
القديمة لا بد ان تكون أسرع حركة من النجوم الحديثة. ولكن
من الأسف لم تعزز المشاهدة هذا الاستنتاج الواضح.
ولقد جاءت النظرية النسبية في الوقت المناسب لتسعف العلماء وتنقذهم من هذا التناقض فأبانت لهم أن السرعة ليست إلا شيئا نسبيا. فلا يوجد ما يسمى بحالة السكون المطلق. والنجم المتحرك بالنسبة لنا ساكن بالنسبة لنفسه. فلا داعي لان نبني على حركته المزعومة(31/65)
ما بنينا من النتائج.
لعلك تعفيني الآن من ذكر نتائج أخرى هامة للنظرية. فإني أخاف أن تعجز عن متابعتي فيها بمثل ما فعلت من الصبر حتى الآن ولعلنا نناقشها في فرصة أخرى.
طنطا
محمد محمد السيد(31/66)
القصص
إلى خراسان
للأستاذ الرحالة محمد ثابت
من رحلة قام بها الأستاذ عام 1933 إلى تركية والعراق
وإيران وأفغانستان
اعتزمت القيام من (طهران) إلى (خراسان) حيث مقر الإمام الرضى أحد أئمة الشيعة، وضريحه في (مشهد) ثانية مدن فارس، وأولى البلاد المقدسة. . تعد عن طهران مسافة نائية هي فوق مائة وستين فرسخا. والفرسخ - وهو وحده القياس عندهم - نحو ستة كيلومترات، فالمسافة كلها نحو ألف كيلومتر أو تزيد. كان القوم يقطعونها على متون الإبل والبغال والحمير قبيل الحرب الكبرى، فيما بين أربعين يوما وستين، وهي اليوم بالسيارات بين يومين وثلاثة. أخذت مكانا أماميا في سيارة كبيرة من ذوات العجل المزدوج برفقة ركب من الحجاج يناهز الخمسة والعشرين بين رجال ونساء، وشيوخ وشبان، وبدأنا السير ليلاً، وكلهم إيمان صادق لا يبتغون من وراء متاعبهم تلك ونصبهم هذا إلا زيارة قبر الإمام الرضى ومعهم زادهم، أما أنا فكنت أعتمد على المحاط وما فيها من وسائل ساذجة للنوم والطعام، آونة وأخرى كان يصيح القوم قائلين: (لاهم سل آلي مهمد آل مهماد) وأخذنا نمر بالمحاط التي يسميها القوم مسافر خانات أو (كرفان سراي) وهناك نجد أمكنة تحكي الفنادق بها حجرات فقيرة الأثاث، وغذاء بسيط كنا نتزود منه ونأخذ قسطنا من الراحة، ثم نستأنف السير ولم تكن تقوى القوم لتنسيهم ملاذهم، فقد كان الفريق الأكبر منهم يحمل الغلايين لتدخين الأفيون فينتحون جانبا من المكان ويمر الغليون عليهم جميعا , وكان في جواري إلى جانب السائق أحد علماء كربلاء بعمامته السوداء الضخمة، ولحيته المرسلة، وسحنته الناحلة، وكان يتيه على الآخرين بعلمه وبأنه من سلالة هاشمية ومن نسل العلم والعلماء، ولأولئك على الناس حق العطاء ويسمونه هناك (حق الخمس)، يقصدون الأغنياء كلما أعوزهم المال ليأخذوا منهم حقهم هذا لأنهم من السادة سلالة الرسول.
جد السائق في السير على ضوء القمر وقبس مصباحه، فخانه نظره فما نسعر إلا والسيارة(31/67)
تنحدر بنا عن الطريق، وتنزل هوة من دونها واد سحيق، فكادت تنخلع لرجاتها قلوبنا، وصاح الجميع، وارتطم هذا بذاك، وذاك بجانب من السيارة، ثم كانت صدمة عنيفة وفرقعة أصمت آذاننا، وإذا هي صخرة كبيرة ناتئة في منحدر الوادي توقف السيارة قبل أن تنقلب، وقد أصيب من الركاب كثير، ونالني من ذلك شج بين العينين سال منه الدم سيلاً وصدمة شديدة في الركبة اليمنى أحدثت بها كسرا لا أزال أعانيه، فقفزت من السيارة ونمت على الصخر تائها حتى الصباح فرأيت العجلة قد كسرت من أساسها، ولولا لطف الله لكنا اليوم في عالم غير الذي نحن فيه. أمضينا يوما كاملا في تلك البرية المقفرة ولم يكن لدى السائق ومعه بديل عما كسر، وكان قد رجع إلى طهران ثم عاد إلينا وأصلح ما أفسدت غفلته، واستأنفنا سيرنا شاكرين الله ان أنجانا من خطر الموت في بلك الناحية النائية وكم من سيارة خانها الحظ العاثر فهوت وهلك من ركابها الكثير في تلك الطرق الوعرة. ولقد عزا القوم سلامتنا إلى رضى الإمام عنا. وما كدنا نسير بعيداً حتى وفقت السيارة فجأة وتبين أن البنزين قد نفد، ولم يكن لدينا منه شيء، فلبثنا مكاننا حيارى ساخطين جزعين أربع ساعات حتى مرت بنا سيارة أخرى أعارتنا بعض البنزين والسيارات الكبيرة تمر تباعا ذهابا ورجعة في كثرة هائلة، تحمل جماهير الحجاج، ويقولون بان هذا الخط على وعورته أكثر الخطوط حركة في نقل المسافرين لأن (مشهد) خير لديهم من مكة المكرمة تغنيهم عن حج بيت الله الحرام في زعمهم فترى الفاني منهم والفقير المدقع يدخر أجر السفر ليصل إليها ويود لو يموت بها ليدفن في أرضها الطاهرة.
لبثنا نسير وسط الربى وصعدنا منها ما هو بالغ الوعورة في طرق لياتها متعاقبة، وكلها مجدبة عريت عن النبت إلا في بعض بطون من الأودية، حيث كنا نرى سيلا من الماء يتلوى وتقوم القرى على جوانبه بأبنيتها الوطيئة من اللبن والطين، وبعد يوم ونصف دخلنا سهولا غالبها صحراوي وتلك بداءة أرض خراسان.
استوقفت السيارة قليلا في قرية (نيسابور) مثوى رفات (عمر الخيام) الذي عاش في الربع الأخير من القرن الحادي عشر وأوصى ان يدفن في بقعة تظلها الأشجار ويكسوها ورقها الذابل مرتين كل عام. زرت مقبرته وسط الحقول، تظلها حقاً أدواح عالية قديمة، ويزورها من الأجانب خلق كثير لأنه قد خلد له ذكرا بما كتب في رباعياته التي ترجمها الناس إلى(31/68)
جميع اللغات، ولقد أبى عليه علماء الدين تشييد مدفنه لاتهامهم إياه بالزندقة لأنه كان إباحيا في شعره.
عادت الربى فتسلقناها وأشرفنا على (مشهد) وهي في حجر الجبال بعد أن لبثنا في الطريق ثلاثة أيام وأربع ليال كاملات قاسينا خلالها كثيرا. هنا وقف السائق ونبه القوم أن هاهي مشهد فارقبوها تبركا فأخذوا يحاولون رؤية القبة الشريفة وسط الضباب والدخان المنبث وكل من لمح منها قبسا قرأ آيات التبرك وعمد إلى قطع الأحجار يجمعها في كومة، ثم أقبل على السائق يهبه من أنعامه ما تيسر.
دخلنا مشهد تحوطها المزارع والبساتين ثم أخذنا نخترق طرقا فسيحة يحفها الشجر وتقوم عليها المباني الحديثة الوطيئة، وقد كانت من قبل أزقة مختنقة كسائر بلاد فارس، لكن يد الإصلاح تناولتها اليوم على نحو ما فعلت في طهران، وقد استرعى نظري بناء القنصلية البريطانية بعظيم امتداده وهو أثر من آثار النفوذ الإنجليزي الذي كان يسيطر على البلاد بجانب النفوذ الروسي. حتى حدث مرة أن حاول بعض الناس أن يعلو ببناء بيته الملاصق لتلك الدار فمنعه القنصل إذ لا يجوز كشف حرمة الدار الإنجليزية أما اليوم فلا يكاد يكون لذاك النفوذ ظل أبداً.
قصدت زيارة ضريح الإمام الرضى، الذي بدت لنا قبته الذهبية البراقة من أميال، وإذا المسجد والحرم فاخران إلى حد كبير. مداخلهما عدة، الباب تلو أخيه في زخرف جذاب وفن شرقي بديع بالقيشاني والبلور والمرمر والرخام، وأمام كل واجهة رئيسية بهو مربع تحفه الحجرات المزركشة أقيمت لطلاب العلم في طابقين وتتوسطه قناة الماء يغترف منها الجميع للشر والغسل وتنظيف الملابس والأحذية ومآرب أخرى، والباب الرئيسي للضريح مكسو كله بالذهب الخالص في فجوات وتعاريج جذابة، وفوق الضريح قبة مكسوة بالذهب الخالص وللمسجد مئذنتان دقيقتان، عليهما غشاء من ذهب. أما عن العالم المتراص كالموج المرتطم هنا وهناك فحدث في دهشة فائقة. كنت أسيراً ولا أكاد أشق لي طريقا بينهم، ومنهم المثقف أنيق الهندام والمتسول البائس في الخرق البالية والأقذار التي ينبعث منها مكروب المرض فيوشك أن يخترق أجسادنا. هذا إلى العلماء في عباءاتهم وعمائمهم السوداء للشرفاء منهم، والبيضاء لغير الشرفاء يخضبون لحاهم بالحناء جميعاً، ومن زوار(31/69)
الأجانب خلق كثير، عراقيون وهنود وأفغان ومن كافة العالم الإسلامي، وعلى الجدران يرتمي الكثيرون في خمول زائد وجلهم ممن أضناهم المرض وشوه البؤس أجسادهم، ويتوسط أحد الأفنية سبيل مذهب في داخله نافورة حولها السلال تحمل القعاب للمحتسين ويشرف عليهم كهل توقد حوله الشموع صباح مساء وبين آوية وأخرى يمد مغرفة يحرك بها الماء والسعيد من استطاع أن يتذوق هذا الماء الطاهر: أخيرا دخلت الضريح الفضي وإذا المدفن وسط شباك الفضة والذهب ترصعه الجواهر الثمينة وقد أتممت تطوافي حوله في ثلث ساعة كدت أختنق خلالها من كثرة الزحام وهنا رأيت عجباً: نواح وصياح ولطم وتقبيل واستلقاء على الأرض ولمس للأعتاب بالخدود وما إلى ذلك مما تقشعر له الأبدان. هنا أسرع شيخ يطوف بي وناولني أدعية مطبوعة يجب أقرأها وأركع أسجد وأقبل، فأسرعت بالتخلص منه بفضل زميل فارسي عرفته، فخاطب المطوف قائلا بأنني عالم قارئ بكل أولئك، وقد علمت بعدئذ أنني لو رفضت الإذعان للأمر وحدي لظن أني ملحد ولكان ما لا تحمد عقباه، وبجانب الضريح قبر هرون الرشيد غير أنه منبوذ في ناحية غير طاهرة وقد وضعوه بحيث يلمسه الزائرون بأدبارهم عندما يطوفون حول الرضى وذلك احتقارا لشأنه وكثير منهم يلعنه بعد الزيارة ويركله برجله ووجهه مقابل للأمام ويقول (لعن الله المأمون وأباه) وذلك لأنه سني أولاً، ثم لأنه والد المأمون الذي اتهم بدس السم للإمام، وقد سافر الرشيد إلى هناك في حملة ضد أحد الحكام الذين مالأوا بني أمية، فوافته منيته هناك فأوصى بأن يدفن في هذا المكان الذي أقام عليه الاسكندر المقدوني علماً، ونبأ بأنه سيكون مدفن رجل عظيم، ولما جاء المأمون ولى الرضى حاكما على تلك البلاد من قبله، ولما عاد إلى بغداد وتم له الأمر دس للرجل فمات ودفن إلى جوار الرشيد. خرجت إلى الفناء وإذا في كل ركن من أركانه عالم يرتقي منبرا وحوله خلق كثير جلوس على الأرض في وجوم وشبه ذهول وهو يقص عليهم أنباء الإمامين علي والحسين وجميعهم يبكون، وكلما أشار في قوله إلى الفاجعة صاحوا ولطموا جباههم وخدودهم في فرقعة مؤلمة ومنهم الطفل والمراهق والسيدة والعجوز والكهل الفاني والمتفقه والأمي الجاهل، وذاك التبشير يضل سحابة اليوم في جميع أركان الأفنية. ولما أوشك الغروب سمعت من شرفة الباب الأوسط طبولا تقرع في نقرات مثلثة ثم أعقبها صياح وتلا ذلك نفخات في أبواق طويلة(31/70)
مزعجة، وظل هذا حتى غربت الشمس فكأنهم يودعونها كما يفعل المجوس بذاك الذي يدخل الرهبة ويلقي الرعب في القلوب. فقلت في نفسي أهكذا يلعب رؤساء الدين بأذهان البسطاء لا ابتغاء مرضاة الله بل لملء جيوبهم هم وذراريهم الذين لا يحصيهم عد؟ تأخر معيب وتدهور يعطي الأجنبي عن البلاد أسوأ الفكر؛ وحتى تقضي حكمة الشاه على كل أولئك، سيظل هذا حجر عثرة في سبيل تقدم البلاد.
والذي شجع الفرس على اتخاذ (مشهد) كعبة مقدسة، الشاه عباس أكبر ملوك الصفويين هناك وكان عصره ثالث العصور الذهبية في فارس. صرف قومه عن زيارة مكة لكراهتهم للعرب ولكي يوفر على قومه ما كانوا ينفقون من مال طائل في بلاد يكرهونها، فاتخذ (مشهد) كعبة وجه الشعب إليها ولكي يزيدها قدسية حج إليها بنفسه ماشيا على قدميه مسافات تفوق ألف كيلومتر ومائتين فتحول الناس اليها، ويندر من يزور الحجاز منهم اليوم وهم يحترمون كلمة (مشهدي) عن كلمة (حجي) لان من زار مشهد لا شك أكثر احتراما وطهارة ممن زار مكة في زعمهم!(31/71)
حبيشة
- 1 -
عذراء، فاتنة، ناطقة الملامح، تبسم عن ثغر نقي مؤشر. فوهاء ولكن جمالها في ذلك الفوه. حوراء، تتراءى نفسها اللطيفة رقصة في عينيها، ما تلقى عليها نظرة إلا ثبتت في قلبك بصورتها المرحة، وبسمتها الوادعة، مأنقة في ملبسها من غير تبرج، متألقة في خفرها بلا تكلف،
وكانت فتاتنا في ريعان شبابها، بدأ عودها يثمر، وأخذت حركتها تنتظم، ونظرتها تستقر ونغمتها تلين. قضت أيام طفولتها ترعى البهم، وكانت محبوبة من لداتها وصواحبها، مشهورة المواهب بينهم، يتهافتون على صحبتها ويجمعون على مودتها، ويقنعون منها بكلمة طيبة أو بسمة عذبة. وكان لابد للطفولة من نهاية، وقعدت في بيتها تاركة رعيتها للصغار من اخوتها وابتدأت حياة جديدة.
- 2 -
أنبأت (عبد الله) أمه برغبتها في زيارة بيت من حيها. وكان غلاما يفعه، فاستبان وجهتها وإذا به بيت (حبيشة) رفيقة صباه فوثبت صورتها توا إلى مخيلته، وبدا وجهها الطلق يناديه وصوتها العذب يناغيه. فدعاها لأن تتريث حتى يمضي معها، ليكسر عنها كلاب الحي الضارية وأكبرت الأم شهامة فتاها، وحستها عاطفة حقاً لأمومتها. فرجل جمته، وطيب ثيابه، ومشى يختال كالطاووس، ويترنح كالعروس، ومن مثله سيقدم على وجه صبيح طالما انتظر لحظات رؤيته؟ والآن قد أمكنته الفرصة. نعم سيراها، وفي بيتها، وتحت رقبة أهلها، ويشبع نفسه من حسنها فيروي قفره، ويبل صداه.
دخل عليها، وشد على يديها، ونظر نظرة فيها، فإذا هي غيرها بالأمس، جمال يتولد ومحاسن لا تنفد.
تحمل الفتى بسهامها، وخرج من دارها، تحدثه أمه فيغمغم، يهيم في مهامه فكره، قد أطرق برأسه وشرق بنفسه، وبعد حين زفر كالمهجور، وانتظمت أنفاسه كلمات خافتة خاشعة.
وما أدري، بلى إني لأدري ... أصوب القطر أحسن أم حبيش؟
حبيشة والذي خلق الهدايا ... وما عن بعدها للصب عيش(31/72)
سمعته أمه، وفطنت لدائه، ولكنها تغافلت عن همه، ومشيا يلفهما الصمت، حتى اعترضهما ظبي نعطو إلى سلمة فوق رابية، رآه مقدودا كتمثال، ولمح في جيده وعينه ليلاه، فانطلق لسانه من عقاله، وجهر بصوته:
يا أمتا! أخبريني غير كاذبة ... وما يريد مسول الحق بالكذب؟
أتلك أحسن أم ظبي برابية؟ ... لا، بل حبيشة في ظني وفي أرب
وماذا تخبره أمه؟ صبت عليه ذنوبا من الملامة، وقرعته على خوره واستخذائه، وحذرته أن يتمادى في عمايته، ثم فكرت في صرف هواه إلى بنت أختها، التي عمدت تزينها، وتبدع في تجميلها علها تقع من قلبه موقعا، ولكن حب حبيشة كان قد واتى والنفس فارغة فاستحكم، وان غابت عنه تركت ربعه خاويا، وقبله وارياً
إذا غيبت عني حبيشة مرة ... من الدهر لم أملك عزاء ولا صبرا
كأن الحشى حر السعير، يحشه ... وقود الغضى والقلب مستعر جمرا
وكان عبد الله ككل الشعراء، وضع قلبه على طرف لسانه، أحب فشبب، ولذ له ذلك، فلقي أهلها منه كل بلاء، وعملوا كيدهم لصرفها عنه، فأرادوها على أن تعده موعدا، وفيه تصارحه بزهادتها فيه، وكراهتها إياه، وهم عن جنب منها يسمعون. فلما أقبل انخرط اللؤلؤ متهالكا، والتفتت حيث أهلها كامنون، ففطن لنظرتها، ورجع من حيث أتى، وقال:
لو قلت ما قالوا لزدت جوى بكم ... على أنه لم يبق ستر ولا صبر
ولم يك حبي عن نوال بذلته ... فيسليني عنه التجهم والهجر
وما أنس م الأشياء لا أنسى دمعها ... ونظرتها حتى يغيبني القبر
وظل على حبه، يقنع باللمحة، ويتعلل بالخيال حتى وقعت الوالقعة.
- 3 -
وجه النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد بعد فتح مكة إلى ما حولها من القبائل يدعوهم. إلى الله عز وجل فنزل ببني جذيمة من عامر ولم ينزلوا على رأيه، فأسر من استطاع منهم، وحكم السيف فيهم وكان من أسراه (عبد الله بن علقمة الكناني) صاحب حبيشة، ولما هموا ليقتلوه استوقفهم لحاجة في نفسه وطلب من آسره أن ينزل معه إلى أسفل الوادي، حتى يودع ظعنه، ولما كان منهن قاب قوسين، نادى بأعلى صوته: أسلمي يا(31/73)
حبيش، عند نفاد العيش) فقالت وأقبلت عليه: وأنت فأسلم على كثرة الأعداء، وشدة البلاء، ولبث معها برهة، تزود منها بقبلة، تقويه على سفره الناصب، وشقته البعيدة، ثم أنشدها
إن يقتلوني يا حبيش فلم يدع ... هواك لهم مني سوى غلة الصدر
وأنت التي أخليت لحمي من دمي ... وعظمي وأسبلت الدموع على نحري
وبعد أن قضى لبانته، دفع لصاحبه هامته، وكان ما كان.
أحمد أحمد التاجي
دبلوم دار العلوم(31/74)
الكتب
كتاب ابن خلدون
للأستاذ محمد عبد الله عنان
لقد ظهرت للأستاذ عنان مؤلفات شتى في اللغة العربية تختلف في
موضوعاتها، وتجول في أنحاء مختلفة من نواحي الأدب، ولكنها جميعا
تنضوي تحت لواء واحد، وهو لواء البحث، وتقصد إلى قصد واحد
وهو إحياء التراث القومي العربي، وإغناء التأليف في اللغة العربية.
ولعل الأستاذ من أغنى المؤلفين المصريين إنتاجا، فله كتب في الأدب، وأخرى في التاريخ، نذكر منها كتب: قضايا التاريخ والمحاكمات الكبرى، وكتاب (مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام) وكتاب (تاريخ الخطط المصرية) وكتاب (تاريخ الأندلس) وها نحن اليوم نتلقى منه كتاب (ابن خلدون) في ترجمة حياة ذلك المؤلف العربي الكبير وأثره في الحياة الفكر العالمية.
وليس لأحد أن يبحث في السبب الذي دعا الأستاذ إلى تأليف كتابه الجديد، فليس من العجيب أن يوجد في اللغة العربية كتاب في ترجمة حياة ذلك العالم الإسلامي العظيم، وإنما العجب أن تكون اللغة العربية خالية من مباحث شتى فيه وفي تحليل آرائه ودراسة مؤلفاته. فعلى أهل العربية شكر الأستاذ عنان على أن قام بأداء ذلك الغرض وكان أداؤه له أداء كريماً.
ولقد بين الأستاذ في مقدمة كتابه الدافع الذي دفعه إلى تأليف الكتاب فقال (أن هذه الدراسة التي أقدمها اليوم للتعرف بابن خلدون وتراثه، إنما هي وفاء التلميذ لاستاذه، التمست لكتابتها هذه الذكرى الستمائة لمولد المؤرخ والفيلسوف العظيم).
وقد قسم الأستاذ كتابه إلى أقسام: كل منها يتعلق بناحية من نواحي دراسته. فأولها يتعلق بحياة أبن خلدون وتطورها في مختلف الظروف والتقلبات وفيه ذكر للدول التي كانت له بها علاقة. وقد أفاض في وصف حياته في مصر وأثره في مجتمعها. والقسم الثاني وصف لما خلفه أبن خلدون من المؤلفات ولا سيما مؤلفه الأكبر (المقدمة) والقسم الثالث عرض(31/75)
لآراء الغربيين في أبن خلدون وأثره في مؤلفات أوربا في العصور الوسطى.
وقد حرص الأستاذ عنان في القسم الأول من كتابه على أن يصور المؤرخ الإسلامي الكبير تصويرا دقيقا تلمح فيه تفاصيل الملامح، ودقائق الأوصاف فتحس وأنت تقرأ وصفه أنك حيال رجل حي ينبض قلبه بأقوى المشاعر وتتحرك نفسه مع عوامل الحياة المضطربة حوله، ويفكر في كل مواقفه تفكيرا متناسقا متوافقا منطقيا مع نفسيته.
وانه لمن الأمور المعتادة في كتابة المترجم أن يقع الكاتب في خطأ المبالغة إذا كان بمن يترجم له، فان الكاتب إذا كان معجبا بالرجل الذي يصف حياته كان من السهل عليه أن يؤول كل أعماله وكل آرائه تأويل المعجب. ولكن الأستاذ عنان كان فوق هذه المرتبة، فان إعجابه بعقل ابن خلدون وقوة تفكيره لم يحمله على أن يتغاضى عن وزن مسلكه الخلقي في حياته، فكان في حكمه عليه من هذه الناحيه قاضيا غير محاب، لا يحمله الإعجاب على الإغراق والمبالغة. ومن ثم نراه يصفه بعد النقد والتمحيص وصفا فيه اللوم إذا كان في مسلكه ما يدعو إليه فيقول مثلا: (فكانت كسابقتها دليلا على ما تجيش به نفسه من الأثرة ونكران الصنيعة وانتهاز الفرص السانحة مهما كان انتهازها ينافي الوفاء والولاء والعرفان. كان ابن خلدون ينطق في خططه وأعماله عن احتقار عميق للعاطفة والأخلاق المرعية، وكان يسيره مثل ذلك الروح القوي الذي اعجب به ميكافللي فيما بعد الخ) غبر أن الأستاذ عنان وأن لم يحمله الإعجاب على المبالغة لم ينس أن يعطي ابن خلدون حقه في التقدير الفكري فكتب فصلا بديعا في وصف عزلته ومؤلفاته وآخر في وصف ولاية للتدريس والقضاء. ويمكن أن يعتبرا آية من آيات التأليف الحر والبحث الدقيق. ثم ختم بحثه بفصل بين فيه أثر ابن خلدون في التفكير المصري صور فيه صورة واضحة للرجل والعصر حتى ليكاد الإنسان يرجع حيا إلى ذلك العصر، ويحس ما كان الناس يحسونه فيه من تنازع في العواطف بين صديق معجب وحاسد كاره وناقد متجن وهو في كل ذلك يبين الأسباب التي تحت المظاهر ويرد الأمور إلى عللها وأساسها. وقد عاد الأستاذ عنان بعد تحليل شخص ابن خلدون إلى تحليل آرائه فختم بحثه بالكتاب الثاني وهو في وصف تراث ابن خلدون الفكري والاجتماعي، فبين مجمل آرائه ووجهة نظره فيها، ثم بحث تطور آرائه الاجتماعية فتتبعها فيما كتب المؤلفون من قبله، ثم عقب بما كتب من بعده في الموضوع(31/76)
نفسه. وكانت خاتمة هذه البحوث فصل طريف عن رأي النقد الحديث في ذلك المؤلف وهو باب قلما يعني به الكتاب عند كلامهم على مؤلفي الإسلام.
ولعله لم يسبق أحد إلى الإفاضة في المقارنة بين آراء ابن خلدون وآراء ميكافيللي الإيطالي مؤلف كتاب (الأمير) المشهور وقد خرج من تلك المقارنة إلى رأي طريف في مقدار الصلة التي بين المؤلف الأوربي والمؤلف العربي الذي سبقه بنحو قرن من الزمن.
فكتاب الأستاذ عنان كتاب شامل على صغر حجمه دقيق على سهولة مأخذه وسلامة أسلوبه. وإنني لأهنئ الأستاذ به وأرجو منه المزيد في هذه البحوث التي ظهر فيها فضله إلى هذا المدى.
م. ف(31/77)
العدد 32 - بتاريخ: 12 - 02 - 1934(/)
في الأقصر. . .
- 2 -
كان (ترجماننا) الأمي (ضاوي) يشرح للأساتذة الجامعيين والثانويين حديث تحوتمس الثالث مع أخته العاشقة، ووجوه التماثيل الواجمة غارقة في صمتها الناطق، تتراكم على قسماتها أنظار الخليقة، وتجثم على شفاهها أسرار القرون، ورءوس الأعمدة القائمة ناتئة في أشعة الشمس كالمزولة الهائلة، ترسم بظلالها الوريفة تعاقب الساعات منذ آلاف السنين! وكانت عيناي الحالمتان قد وقفتا على تمثال من تماثيل رمسيس الأكبر، يخطو إلى الأمام خطى المصمم الواثق، وبإحدى يديه مفتاح الحياة يجتاز به موت الساعة إلى خلود الأبد
والخلود حلم الفراعنة الدائم وهواهم الملح، أخطره ببالهم قبل الناس ما مُتِّعوا به من فيض الحيوية وخفض العيش ونفوذ السلطان واكتمال اللذة، فلو أنهم عاشوا على جدب من الإقليم، وحرب مع الطبيعة، وهوان على الدهر، لاستشرفت نفوسهم للبلى، واستهلكت عقولهم للعدم
خلّد الله الروح وحاول الفراعين تخليد الجسد! وما يدريك لعلهم كانوا يظفرون بهذا الخلود لو خلى الناس بينهم وبين الزمن. لقد قهروا الفساد والدهر وقهرهم اللص والفاتح! فمنذ خمسة وعشرون قرنا ما برحت يد الإنسان تبعث بهذي الجسوم والجروم! جرب القدر عليها حقد قمبيز، وعبث الاسكندر والقيصر، وورع تيودوسيوس وعمرو، وزهو المأمون ونابليون، وعلم مسبيرو وكارتر، فقطع بعض الرقاب، وقوض بعض الأنصاب، ونبش بعض القبور، ولكن بسمة رمسيس لا تزال كما أراها تناجز الفناء وتعاجز القدر!! وأي سبيل بعد ذلك إلى بِلاها ومسلاتها في العواصم الأوربية، ومخلفاتها في المتاحف الأثرية، باقية ما بقيت الأرض؟!
صعد بنا الدليل باب المعبد في سلم جانبي حديث يقوم عن شماله، ولو قلت لك البرج بدل الباب لقربت إليك وصفه! فهو سطح عريض من ضخام الجلاميد تكدس بعضها فوق بعض كما ترى في الهرم، أشرف من شرقه على ما بقى من صخور السقف فوق الأساطين، وتراءى من النصب خلال الاواوين، وطعن في السماء من أسنة المسال؛ من غربه على طريق بين صفين متوازيين من الكباش الرابضة في حجم البقر، يسايره النظر والفكر إلى(32/1)
مرفأ كان ولا شك ينتهي عنده قبل أن يأخذ النهر من الساحل الغربي ألف متر
في هذا الطريق كانت تخرج الجنائز الملكية من المعبد إلى نهر الحياة فتعبره إلى مراقدها الصخرية الآبدية في جوف الجبل، وفي هذا الطريق كان يسير موكب أمون السنوي إلى النهر، أمامه زُمَر المهرجين والمشعوذين يدورون على الارجل، ويمشون على الأيدي، بين أخلاط من باعة الفاكهة وشواة الإوز والبط، ثم يلي هؤلاء جوقات الموسيقى تصدح بالأهازيج، وطبقات الكهنوت تعج بالأناشيد، وحاملو الأصنام والبنود يسيرون بها وئيدا في خشوع ورهبة، حتى إذا بلغوا المرفأ تقدموا بامون فجعلوه في فُلكه الذهبي، وبالآلهة الأخر فوضعوا كل إله وكل الآهة في زورق خاص، ثم يسير الفلك بالاله الأكبر متنزها على النهر، تتهادى من ورائه زوارق الآلهة على الماء، وتهلل من حوله جموع الناس على الشاطئ!
من العسير على النفس الشاعرة ان تعيش في حاضرها بين هذه الأخيلة والصور! فحيثما أرسلت طرفك أو نقلت خطاك وجدت حجرا يكلمك أو أثرا يلهمك! هذا التمثال الذي تراه أمامك، أتراه أمامك، أتدري كم مرة طالعته الشمس، وكم نظرة نظرته الناس، وكم وقفة وقفها الناس عليه أقوام من قبلك بعضها لتقديس، وبعضها للتدنيس وبعضها للعبرة!!
أنك لتغرق من هذا الماضي الحاضر من فيض التأمل العميق الهادئ، يقطعك عن الدليل، ويفردك من الجمع، فلا تجد - متى عدت لحظة إلى نفسك - الدليل الذي كان يخطب، ولا الحشد الذي كان يسمع، ولا العربة التي كانت تنتظر!
خرجت فيمن تخلف في المعبد من الأصدقاء الشعراء وأخذنا نسير الهوينى في طريق الرمل حتى أدركتنا في بعضه عربة أقلتنا إلى الفندق
وفي الأصيل المونق من هذا النهار المشرق خرجنا نشهد وداع الشمس الغاربة لأطلال معبد الأقصر
ومعبد الأقصر كذلك أجمة من العمدان الباسقة المتشاجنة نتأت على سيف النهر في طول ثلثمائة متر بمشيئة آل أمينوفيس ورمسيس الاكبر!
وأول ما يملك عليك عقلك وقلبك فيه منظر يجمع تاريخ الوادي ويختصر أطوار العقيدة: ذلك منظر المسلة في المعبد، والبرج في الكنيسة، والمأذنة في المسجد!(32/2)
تجاورت هذه الثلاثة في هذا المكان منذ قرون تجاور الخصوم اللدِّ، لا يسفر بينها سلام، ولا تقطع حروبها هدنة!
ومن الغريب المعجز أن تصمد هذه الأوثان لهجمات المسيحية والإسلام، صمودها العجيب لعاديات الليالي والايام!. .
أحمد حسن الزيات(32/3)
لحظات
للدكتور طه حسين
أتعرف هذه اللحظات القصار المفاجئة التي تعرض لك من حيث لم تكن تقدر ان تلقاها كأنما كانت تكمن في بعض أنحاء الزمن، حتى إذا قربت من مكمنها خرجت عليك بما يملؤها من قوة وحدة، وبما تستطيع ان تثير نفسك من حزن عريض عميق أو أمل واسع مبتسم. فوقفتك في طريقك الزمني واضطرتك بعد وقفة قصيرة إلى أن ترجع إلى الماضي البعيد والقريب تستحضر ما كان فيه من أحداث وتحس ما ترك في نفسك من ذكرى، أو تضطرك إلى أن تثب وثبة بعيدة إلى مستقبل الأيام، فإذا أنت تشيد القصور وتتخذ من الخيال أحلاما حلوة تحبب إليك الحياة وتملأ قبلك بالصفح عما جنت عليك من السيئات.؟
أتعرف هذه اللحظات القصار المفاجئة الخصبة التي لم تكن تقدر في وقت من الأوقات أنها ستعرض لك أو أنك ستعثر بها، ولكنك خرجت ذات يوم من دارك تسعى فيما يسعى الناس فيه من جدة الحياة وهزلها، وتبلو ما يبلو الناس في سعيهم من حلو الحياة ومرها، فإذا لحظة من هذه اللحظات قد سقطت عليك كما يسقط الجدار على الغريب الذي مر به مصادفة وهو يميل إلى السقوط. أو عنت لك ثم مثلت أمامك كما يعن الشيء النفيس لبعض المارة ثم يمثل بين أيديهم حين يصلون إليه، وإذا هم وقوف أمامه قد أخذتهم الحيرة ثم غمرهم السرور؟ أتعرف هذه اللحظات القصار المفاجئة التي يضمرها لك الغيب ويخفي عليك بوادرها وطوالعها ثم يفجأك بها على غير انتظار، كما يلقاك الرجل تعرفه أو لا تعرفه فيلقي إليك نبأ من الأنباء لا يرى له خطراً ولكنك لا تكاد تسمع له حتى يحدث في نفسك أعمق الآثار وأقواها، وأبلغها وادعاها إلى الحزن والابتئاس أو إلى الفرح والابتهاج؟
إنك تحسب هذه اللحظات حين تلقاها أو حين تلقاك قصاراً لأنك تحصيها بالدقاق والثواني، وما هي بالقصار لأنها تحمل في وعائها الضيق الضئيل من العواطف والأهواء، ومن الأمل والذكرى، ومن اللذة والألم، ما يضيق به كثير من الساعات بل كثير من الأيام. إنك تحسب هذه اللحظات مفاجئة لأنها عرضت لك أو لأنك عرضت لها على غير انتظار ولا تهيؤ منها ولا منك وما هي بالمفاجئة. فان قوى أخرى غير قوتك وغير قوتها قد عملت منذ أزمان بعيدة في تهيئتك لها وتهيئتها لك، وفي دفعك إليها ودفعها اليك، حتى التقيتما عن(32/4)
مفاجأة في ظاهر الأمر، وعن قضاء مدبر وقدر مقدر في حقيقة الأمر. وإذا كلاكما قد صنع لصاحبه وقدر له تقديراً.
هذه اللحظات القصار الطوال المفاجئة المدبرة لا تسنح للناس جميعا، ولا تسنح للناس في كل وقت، ولو عرفت وسيلة إلى أن تتبين كيف تسنح للناس ومتى تسنح لهم، ولأيهم تسنح لكنت من أكبر المستكشفين والمخترعين. وكيف برجل يفضح سر القدر ويهتك أستار الغيب؟! ولكنت بعد ذلك محسناً إلى كثير من الناس لأني أعلمهم كيف يتقون كثيراً من الشر، وكثيراً من الألم اللاذع والحزن المضني للنفوس والقلوب. ومسيئاً إلى كثير من الناس لأني أعلمهم كيف يفقدون لذات قلما يظفر الناس بمثلها، وكيف يصدهم العلم عن ضروب من السعادة لا ينعم بها إلا الجهلاء، ولحرصت أشد الحرص على أن أجهل هذا العلم وأغلق نفسي من جميع أنحائها دون هذه القوانين، لأني لا أعدل بهذه اللحظات القصار الطوال المفاجئة المدبرة كثيراً من أجزاء الزمن مهما تطل، ومهما تقصر، ومهما تمتلئ ومهما تفرغ، وأي حزن ممض مرمض يشبه في اللذة المحرقة اللاذعة، وفي السعادة المظلمة القاتمة هذا الحزن الذي حملته لحظة من هذه اللحظات في ليلة من الليالي فوضعته في قلبي ثقيلاً خشناً شاقاً، ولكنه على ذلك كله حلو، ولكني على ذلك أحببته وكلفت به. ولكني على ذلك حمدت هذه اللحظة القصيرة المفاجئة التي حملته حتى إذا بلغت قرارة نفسي وضعته فيها هادئة مطمئنة إلى من أقصى الزمن، وأقبلت به متباطئة متثاقلة كما توضع الصخرة الثقيلة في مكان من الأمكنة في غير عنف ولا سأم ولا كلال.
كنت مع جماعة من الأصدقاء نشهد التمثيل ونسمع الموسيقى والغناء في الأوبرا. قد فرغنا لما نشهد وما نسمع، وتركنا أعباء الحياة وأثقالها جميعاً في تلك العربة التي كانت تنتظرنا بالباب، وقد حفظت لكل واحد منا ما ائتمنها عليه من الودائع لترده إلينا متى عدنا إليها، ولم تكن ودائعنا تلك التي ائتمنا عليها العربة وتخففنا منها قبل أن ندخل الأوبرا إلا حياتنا اليومية وما فيها من مشقة ولين، ومن مودة وبغض، ومن يأس وأمل، ومن ألم ولذة، ومن نشاط وخمود. تخففنا من هذا كله وسللنا نفوسنا منه إلى حين كما تسل السيوف من أغمادها، وخلصنا بقلوبنا ونفوسنا نقية صافية مصقولة كأنها المرآة نعرضها للممثلين لينعكس فيها ما يبدعون من مظاهر الجمال الفني في التمثيل والغناء. وكنا لا نحس الا ما(32/5)
نشهد ونسمع، ولا نفكر الا فيما نشهد ونسمع فإذا وقف التمثيل وتفرقنا في أبهاء الدار أو لبثنا في أماكننا لم نتحدث الا بما شهدنا وسمعنا نصفه ونستمتع به، والإ بما سنشهد ونسمع، نتوقعه ونتنبأ بما سيحمل إلينا من اللذة والمتاع. وهل ينبغي أن يدخل الناس دور الفن إلا على هذا النحو، قد خلصوا للفن من كل شيء ومن ذكرى كل شيء، وفرغوا للفن لا يشركون معه في نفوسهم شيئا، وإني لجالس في ناحية من نواحي الدار مع أصدقائي نتحدث بما كان في الملعب ونتوقع ما سيكون، واذا صوت يخرج أصدقائي ويخرجني مما كنا فيه. . صوت لم أسمعه منذ أعوام وقد كنت أسمعه كل يوم، صوت قد بعدت آماد الزمان والمكان بينه وبين سمعي حتى تقطعت بينه وبيني الأسباب، وحتى كدت أنسى نبراته، وكنت أفكر فيه تفكيراً بعيداً نائياً حين كان يحدثني عنه المتحدثون. ثم دنا هذا الصوت ودنا، ثم امتدت يد فامتدت إليها يدي. ثم كانت مصافحة ثم كانت تحية. ثم كان استئذان في الجلوس، وأذن به، ثم كان وجوم من صاحب الصوت، ووجوم ممن كان يبلغه الصوت لم يطل، ولم يكن من اليسير أن يلحظ، ولكنه مع ذلك كان طويلاً ثقيلاً. ثم كان حديث قصير في أشياء لا تغني ولا تفيد ولا تدل على شيء، ثم شرب القهوة واحرق السيجارة، ثم تحية الوداع، ثم الافتراق.
لست أدري أذاق أصدقائي لذة التمثيل بعد ذلك أم شغلوا عنه؟ أما أنا فأعلم أني لم أذق للتمثيل بقية الليلة طعمأً، إنما كانت الأصوات تبلغ أذني ثم لا تصل إلى نفسي وإنما تقف من دونها وقوفا لأني كنت أفكر في غير التمثيل، ولأني صرفت عن الغناء والفن صرفاً، لم دنا اليّ هذا الصوت، وكان قد بعد وأمعن في البعد؟ لم مد إليّ هذه اليد وكانت قد قبضت عني قبضاً؟ لم اتصل الحديث بين صاحب الصوت واليد وبيني كانت قد انقطعت بينه وبيني الاحاديث، بل كانت قد انقطعت بينه وبيني الصلات إلا أن نضطر إليها اضطراراً حين تجمعنا المجامع، أو نلتقي على غير موعد ولا انتظار. ثم لا نستطيع أن يهدي بعضنا إلى بعض ما ينبغي من الإعراض في مثل ما نحن عليه من الجفاء. لم دنا لي هذا الصوت؟ ولم امتدت الي هذه اليد؟ ولم اتصل بيننا هذا الحديث؟ لقد كان الحياء يترقرق في هذا الصوت الذي كان يدنو الي مأخوذاً حزيناً ولقد كان الحياء يضطرب في هذه اليد التي كانت تصافحني مترددة مرتعشة بعض الشيء. ولقد كان الحياء يملأ هذا الحديث فيضطره(32/6)
إلى الفراغ مما يعني أو يفيد. ومع ذلك فشهد الله ما شككت في أن هذا الصوت قد دنا الي صادقا، وفي أن هذه اليد قد امتدت الي صادقة وفي أن هذا الحديث قد اتصل بيننا خالصا من كل رياء.
وا رحمتاه للناس! إن الضعف الإنساني ليحمل نفوسهم آلاماً ثقالا. وا رحمتاه للناس! إنما في الحياة من إعراض زائلة ترغبهم في الخير العاجل، وتخوفهم من الشر العاجل، لتحمل نفوسهم آلاما ثقالا. وا رحمتاه للناس! ان أجسامهم لتطغى على نفوسهم وان أهواءهم لتطغى على عقولهم، وان منافعهم لتنسيهم حقوق الصداقة والصديق، وا رحمتاه للناس! ان رهبة السلطان والرغبة في جاهه والحرص على قرب المكان منه لتفسد عليهم من لذات الحياة الخالصة الصافية ما لا ينبغي أن يفسد، وا رحمتاه للناس ان لهم على هذا كله لنفوساً لم تطبع على الشر، ولم يحل بينها وبين الخير، وان هذه النفوس التي تضعف حتى تتورط فيما لا ينبغي لها، لتختلس الفرص إلى القوة والخير اختلاساً، وتختطفها اختطافا، وتنعم منها باليسير الضئيل في اللحظة القصيرة المفاجئة، لم تكن تنتظر ولم يكن يدبر السعي لها تدبيراً، وإنما سنحت فاقتنصت كما يسنح الصيد وتمكن منه الفرصة فيقتنص. وا رحمتاه للناس! لو علموا أن منافع الحياة وأعراضها وأغراضها وما فيها من رغبة ورهبة، ومن مكانة وجاه لا تزن كلها لحظة قصيرة مفاجئة يصفو فيها الود، ويخلص فيها النصح، ويفرغ فيها الصديق للصديق، لغيروا من حياتهم ومن سيرتهم الشيء الكثير.
عرضت لي هذه اللحظة القصيرة المفاجئة في ليلة من ليالي الأوبرا، وما أكثر ما تعرض هذه اللحظات القصار المفاجئة لكثير من الناس في هذه الأيام السود، فاللهم، ارفع عن الناس مقتك وغضبك واللهم هيئ للناس حياة لا يخاف الصديق فيها لقاء الصديق، ولا يختلس الصديق فيها لقاء الصديق، ولا يقطع الصديق فيها أسباب الود والحب، لا لشيء الا لأنه يخاف بأس السلطان أو يرجو رضى السلطان.
طه حسين(32/7)
جريمة. . .
للدكتور محمد عوض محمد
- 1 -
في صباح يوم من تشرين الأول كان الضباب ضاربا بجرانه على شوارع (ليفربول) فلا تكاد العين أن تستبين السبيل الا عن كثب. . والمصابيح لم تزل موقدة كأنما حسبت أن الضباب بقية من الليل، وأن النهار لم يطلع بعد. . .
في تلك الساعة الباكرة أخذ الشطر العامل من أهل المدينة يتحرك، وجعلت الأبواب تتثاءب، فيخرج منها العمال أفواجا، ينشدون عملهم ويجرون وراء خبزهم وزبدهم_لأن العامل في مصر قد يقنع بالبحث عن الخبز؛ أما هناك فلا بد له من الخبز والزبد.
هذه الحركة الباكرة في بعض أحياء المدينة قد تلاها سكون؛ لأن الشطر الثني من المدينة لم يستيقظ بعد. . وكأنما كانت الحركة الأولى بمثابة الفجر الكاذب، أضاء لحظة، ثم ساد من بعده الظلام - ولكن سرعان ما انقضت ساعة الهدوء هذه، وأخذ ذلك الغطاء الكثيف من الضباب يرق شيئا فشيئاً. وبدا في أقصى الشرق على الأفق شيء غامق مبهم يدعونه في تلك البلاد الشمس. . ولقد تستطيع العين المصرية - بشيء كثير من المران - أن ترى فيه من الشمس شبها، وأن له بها صلة.
وبعد لأيٍ، تثاءبت الأبواب في الأحياء الوسطى، وخرجت منها أفواج من الحضريين (البورجوا) الذين يشتغلون في دور التجارة. فيعملون بها ساعات قلائل، ولكن أجرهم أعلى، ومقامهم في المجتمع أسمى. وهم ايضاً ينشدون الخبز والزبد. ولكنهما من صنف أرقى وأرفه من خبز العمال وزبدتهم.
وهكذا تحركت في المدينة أحياؤها السفلى والوسطى، ولم يبق مغموساً في عسل الرقاد سوى أحياء (العاطلين)، الذين يعيشون من أموال تأتيهم من وراء البحار: من الهند ومن استراليا ومن سائر أنحاء الدولة التي لا تغرب الشمس عليها. . هؤلاء لا يتحدثون عن خبز ولا زبد، بل يأتيهما الخبز والزبد طائعين يجرران الذيول. . .
وليس يعنينا اليوم من أمر هؤلاء شيء، وانما تعنينا الآن تلك الأحياء الوسطى التي لم يكد أبناؤها وبناتها يخرجون. . . كل إلى عمله، حتى فتحت الأبواب مرة أخرى، وخرجت من(32/8)
كل باب امرأة نصف في ثياب رثة زرية، وهي تحمل في يمينها خرقة بالية، وفي يسارها سطلاً فيه ماء دافئ.
هؤلاء النساء لسن بخادمات كما قد يتبادر إلى الخاطر العجل، بل ان كلا منهن ربة دار، وصاحبة الأمر والنهي فيها. وهي تنتظر ريثما يخرج من بالدار من بنين وبنات، ثم تأخذ في الجد والعمل، من غسل وطهي وخبز وعجن، ولا تكاد تهدأ ساعة من الصباح إلى المساء، بادئة عملها حيث يجب أن تبدأه: من عتبة الدار ودهليز البيت. . . ولقد تجد الواحدة منهن في غسل العتبة لذةً خاصة، ولعل أحب الأعمال جميعاً إليها. . لأنه يتيح لها فرصة قد تكون الوحيدة في كل يوم لان تتحدث إلى جارتها، وتقص عليها من كل شيء، بل ومن عدة أشياء أخرى. . .
وفي هذا اليوم من تشرين الأول خرجت السيدة نلسن من المنزل رقم 15 في ساعة باكرة، وأخذت تمسح عتبتها في شيء كثير من النشاط، لكنه كان نشاطا يشوبه القلق والاضطراب، وكانت من آن لآن تنظر إلى منزل جارتها السيدة هرفي صاحبة المنزل رقم 17، وكأنها تود بفارغ الصبر لو خرجت هذه السيدة لمسح عتبعها، كي تحدثها في الامر الذي أهمها وأزعجها؛ والذي كانت ترتعد من أجله الخرقة التي بيمينها. والسيدة هرفي هذه أرملة ورثت عن زوجها منزلا يفضل عن حاجتها وحاجة أسرتها، فكانت تسعىفي تأجير شطر منه لقاء مال يسير تستعين به على تكاليف الحياة. ولم تكن جارتها ترى في هذا بأساً، ما دام نزلاؤها رجالا ذوي فضل. لكنها لاحظت بالأمس من خلال النافذة رجلا أسود الوجه خارجاً من المنزل رقم 17؛ فما شكت في أنه النزيل الجديد، الذي تريد السيدة هرفي أن تؤويه في دارها. . . . يا عجباً لهذه المرأة التي لا تتورع من الخروج على كل عرف، وانتهاك كل حرمة. والنزول بهذا الحي الراقي، وهذا الشارع الطاهر، إلى الدرك الأسفل. . . ماذا يكون مصير هذا الحي يوم يرى سكانه هذا الأسود رائحاً غادياً، بوجه المزعج وسحنته المنقلبة؟. . إن العاقبة ستكون من غيب شك وخيمة والمصير أليما. فلن يلبث سادة الحي وأشرافه حتى يهجروه وينأوا عنه؛ لكي لا تقذى أبصارهم برؤية هذا الوجه الكريه. . . ان وجها واحداً من هذه الوجوه السود لكفيل بأن يلوث حياً بأسره، وأن ينغص على أهله صفاء الحياة وطيب الرقاد. . . . والويل لفتيات الحي ان صادفن هذا الوجه المنحوس في(32/9)
ليلة حالكة الظلام، عند أوبتهن من المرقص والمسرح: ان الرعب الذي يستحوذ عليهن في تلك اللحظة لخليق بان يورثهن سقماً يلازمهن مدى الحياة. . . كلا. . ان السيدة هرفي - مهما كان حبها للمال - يجب أن تعلم أن مثل هذا الشيء لا يجوز. . . ومن حسن الحظ أن الفتى لم يأت بأمتعته بعد. . . ولم يزل في الوقت متسع لمنع هذه الكارثة من أن تلم بهذا الحي الآمن المطمئن، ولئن كانت السيدة هرفي قد نسيت ما عليها من واجب تلقاء الحي وأهله، فأحرى بجارتها مسز نلسن أن تريها الرشد من الغي، وأن تردها عما هي سائرة إليه من الوبال. . . .
ولم يطل بها الانتظار، بل فتح باب المنزل رقم 17 وخرجت السيدة هرفي، وهي في نهاية العقد الخامس من العمر؛ وفي يمينها خرقة كبيرة وفي يسارها سطل كبير. ثم بدأت جارتها بالتحية.
- عمي صباحاً، مسز نلسن، عمي صباحاً.
- نعم صباحك، مسز هرفي.
- أن الهواء دافئ صحو، والشمس مشرقة في السماء. أرجو أن تكوني بخير.
- انك خرجت اليوم متأخرة على غير عادتك.
أجل لقد كان لدي اليوم عمل كثير، وكان علي أن أعد الحجرة السفلى، والغرفة الأمامية من أجل ضيفنا الجديد فانه سيأتي بأمتعته قبل الظهر بساعة وقد يبقى بالمنزل إلى وقت الغذاء.
أتعنين إذن انك رضيت بذلك الزنجي الدموي نزيلا عندك؟
- هل أنبأك بأمره أحد؟
- رأيته أمس من خلال النافذة خارجاً من باب بيتك، ففتحت عيني من الدهشة، وأنا لا أكاد أصدق ما أراه. وخشيت أن تكوني قبلت أن تسكنيه بيتك. والآن قد صدقت أسوأ ظنوني فبالله يا صديقتي، إلا تدبرت الأمر قليلا، قبل أن تنزلي بهذا الحي الآمن هذه النكبة الفادحة.
- وأي نكبة في هذا؟ أن للفتى حجرته يجلس فيها، وغرفته ليرقد فيها، ولن يكون له سبيل إلى أحد من الحي، ولا لسكان الحي سبيل إليه. فهوني عليك فليس في الأمر ما يدعو لكل هذا الاهتمام. .(32/10)
- اللهم لطفا. .! إنك لا تبالين - إذا ظفرت بالمال الذي تبغين - أن يشقى الحي وأهله برؤية هذا الزنجي الكريه المنظر،
- إنه ليس بزنجي، بل هو مصري.
- وما الفرق بين هذا وذاك؟ أو ليسوا جميعا من أهل آسيا؟
- لست أدري أية آسيا تعنين. . . غير أني حادثت هذا الشاب، فرأيته يتكلم بلساننا كأحسن أبنائنا. ورأيت في حركاته وسكناته ما ينم عن حسن الأدب وكرم المحتد.
ذاك لعمري العسل الذي يخفي السم الزعاف. وكأنما نسيت ذلك الهندي الزنيم الذي كان نازلاً في بيت مسز براون. لكم كانت تكرمه الأم وتجله، وتسمح له أن يصحب ابنتها دورا إلى بيوت الرقص واللهو. فكان جزاؤها أن خان الأمانة وخفر الذمة، ثم اختفى من المدينة فلا يعرف له أحد مستقراً ولا مقاماً.
- ما أحسب الناس أشراراً كلهم، وفي أبنائنا البيض من يرتكب ما هو شر مما ارتكبه الهندي. وعدا هذا فاني ليست لي ابنة فأخاف عليها، وقد زوجت بناتي جميعاً، ولله الحمد.
ونحن؟ أما تحسبين لنا ولبناتنا حسابا؟ انك من أجل بضعة الجنيهات التي سينقدك إياها لا تبالين بنا ولا بما قد يحل بنا ولا بالحي وما يدنسه ويحط من شأنه.
لكني قد وعدت هذا الشاب أن أسكنه الحجرة السفلى والغرفة الأمامية، ولا بد أن أبر بوعدي.
- يا لهذي السذاجة البديعة! كأنما يفهم هؤلاء السود ما الوعد وما الوفاء بالعهد!. . . ولقد كان ذلك بالهندي شديد الوفاء لدورا المسكينة يوم تركها في تلك الحال الأليمة، واعتصم بالفرار!. .
وفي هذه اللحظة خرجت الحارة الأخرى من المنزل رقم 19 وانضمت إلى جارتيها وانتقل الحوار من الحديقة إلى داخل المنزل وقد صحت نية الجارتين إلا تركا صاحبتهما حتى تذعن لرأيهما، وتنزل عند إرادتهما.
- 2 -
في صباح ذلك اليوم من تشرين الأول استيقظ (حسن) من رقاد كان مملوءا بالأحلام. . . وكانت أحلامه عن مصر وعمن بمصر، وعن منزله المطل على النيل، حيث خلف والدين(32/11)
آلمهما فراقه، وأحزنهما أن سيكون بينهما وبينه هذا البحر الفسيح وهذا البر العريض، وأن يهزهما إليه الشوق، فلا يستطيعان إليه سبيلا، ويحترق الصدر وجداً وهيهات الشفاء. . . في هذه الليلة رأى حسن أخته في المنام، ولقد غادرها في مصر حليفة السقم. . أما اليوم فقد ابتسمت إليه حين رآها، وطلبت منه أن يعود إليها رجلا عظيماً. . . عجب كيف حالهم اليوم، وهل يختلف الجديدان عليهم بالسعادة أو النعيم، أم بالشدة والشقاء؟. . . وهل اعتادت الأم فراق الابن الوحيد، الذي لم يفترق عنها منذ أن رزقته بعد يأس، فكان قرة العين، وشفاء ما بالصدور. . .
وها هو ذا قد اضطر لأن ينزح عن داره، وأن ينزل هذه المدينة الداوية الصاخبة، وقد التحق بجامعتها، وأخذ يجد في طلب العلم ومضى عليه تحت هذه السماء الرمادية اللون أسبوعان، لم يكتسب فيهما صديقاً جديداً، ولم يحاول أحد أن يتعرف به أو يتقرب اليه. . . كان كذبا ما زعمه المتشدقون من أصحابه في مصر: أن الناس في هذه البلاد يقبلون على الغريب، ويجدون في إرضائه واكتساب صداقته. . لقد كان الناس يجيبون على سؤاله إذا سأل بجواب هادئ قصير، لا يحمله على المضي في الحديث بل سرعان ما أشعر أن بينه وبينهم سوراً غليظًا وعراً، هيهات له أن يجتازه. ولم تطل به الحال حتى اعتاد أن يقابل البعد بالبعد والصد بالصد. . . وهكذا أمسى وأصبح وحيداً غريباً، وسط هذا المزدحم الزاخر من الناس.
واستيقظ في صباح هذا اليوم ونهض من فراشه في شيء من النشاط. . وكان ذاك آخر أيامه في هذا (البنسيون) الذي قضى فيه هذين الأسبوعين، وكان عليه اليوم أن يبادر بإعداد حقائبه وجمع ما تناثر من أمتعه. وكان مغتبطا ناعم البال، لأنه وفق أخيرا إلى هذا المسكن الجديد في المنزل رقم 17. . فمنذ اليوم سيكون له حجرتان: حجرة يجلس فيها ويطالع أسفارها ويتناول طعامه. والأخرى لنومه وراحته، ولقد كان من حسن الطالع أن غرفة نومه تطل على تلك الحديقة الغناء، فيستطيع أن يطالع من نافذته ابتسام الربيع وقهقهة الصيف، وهدوء الخريف ووجوم الشتاء. . . أما هذا البنسيون في (اكسفورد ستريت) فلم يكن له فيه سوى غرفة صغيرة، ولم تكن إقامته فيه إلا ريثما يتحول عنه. . ومع هذا فان صاحبته اليهودية لم يرضها منه أن يغادر البنسيون، فلم تكن تلقاه - منذ(32/12)
علمت قرب انتقاله - إلا عابسة غاضبة، فكان أنفها البارز المحدب ينتفض ويضطرب، وعيناها البراقتان يتطاير منهما الشرر، إذا طلب قليلا من الماء الساخن ليستعين به على حلق لحيته. . والويل له ان تخلف عن موعد الطعام قليلا: فانه كان يجد المائدة قد رفعت؛ فإذا نظر إلى ما حوله ألفى وجوهاً عابسة تنذره بالشر المستطير إن هو حدثته نفسه بالحصول على شيء من القوت الذي فاته. . فكان نؤثر الصمت وينسل إلى غرفته في سكون وهدوء.
ان هذا الاضطهاد العجيب كثيراً ما كان يضحكه؛ وكثيراً ما سأل نفسه أيمكن أن تقسو عليه هذه اليهودية كل هذه القسوة لا لسبب سوى أنه يؤثر أن يسكن في ظاهر المدينة حيث الهواء الطلق والسكون الشامل؟ إن أحد الناس أخبره فيما بعد أن هذه اليهودية لم تظلمه ولم تضطهده إلا لكي تثأر منه: لما جناه أجداده الفراعنة في الزمن القديم على بني إسرائيل، حيث كانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم. . . وكثيراً ما أغرب حسن في الضحك كلما خطر له هذا الرأي الظريف. . .
ومهما يكن من أمر، فان هذا اليوم من تشرين الأول هو آخر أيام الاضطهاد وأول أيام الحرية. فلن يطالبهم اليوم بالماء الساخن؛ واذا قدم اليه الشاي بارداً والبيض فاسداً في طعام الفطور، فانه لن ينبس بكلمة. . . ثم أخذ يعد أمتعته ويحزم حقائبه. وقبيل الظهر بساعة كان قد أعد العدة للرحيل. . .
ومشى على استحياء إلى ربة المنزل، فحيته في تكلف وفتور. أما هو فابسم لها ابتسامة ظنها ابتسامة الظفر؛ وقدم لابنتها الصغيرة (سارة) صندوقاً جميلاً مفعماً بالحلوى؛ ونفح الخادم بضعة شلنات أنطقتها بالشكر.
ثم انطلقت به السيارة وبأمتعته وحقائبه تلقاء ذلك المنزل، رقم 17 المطل على الحديقة الغناء؛ وصدره مملوء غبطة لم يحس مثلها منذ نزل على ضفاف (المرزي) وأخرج من جيبه مرآة صغيرة فأصلح الرباط الذي يحيط بعنقه، والذي تزعزع كثيراً أثناء نقله لحقائبه من الغرفة العليا إلى التاكس. .
لم يكن حسن قبيح الصورة، ولكنه من غير شك كان أسمر اللون. وقد أخذ يحس احساساً مبهما إن هذه السمرة قد تكون من جملة الأسباب التي أغلقت دونه أبواب القلوب. . . لكنه(32/13)
كان بعد في شك من هذا الأمر. . . ولم يكن قد وقر في نفسه بعد واصبح عقيدة راسخة. . . فكان في يومه هذا باسما مستبشرا.
ها هي ذي السيارة قد وقفت لدى لمنزل رقم 17! وقد أوشك أن يقلب صفحة جديدة من صفحات حياته. . . فلتنتظر السيارة قليلا ريثما ينزل ويستاذن أهل الدار في الدخول. . هم يأخذ في دق الجرس. . . . عجبا ليس من مجيب. . . ان السيدة قد ذهبت - دون شك - إلى بعض شأنها وليس بالدار أحد. . . فلينتظر قليلا. . . ولكن. . أي شيء هذا؟. . ان النافذة تفتح وهذه مسز هرفي نفسها. . ولكنها تنظر إليه بوجه عابس متجهم. . . إنها تبدي أسفها الشديد لأنها لا تستطيع أن تقبله في منزلها. . . . أجل. . . ولا يهمها أن تكون قد سبقت كلمة منها إليه. . إنها لا تقدر أن تؤوي لديها أحدا من أهل آسيا، فليرجع بسلام. .
آسيا؟ ولكنه ليس من أهل آسيا. . . إنه من أهل مصر! سيان لديها، من أية الجهات مصدره، مادام أهل الحي لا يروقهم شكله ومنظره. . فليرجع إلى أحد فنادق المدينة فانهم سيرحبون به هناك. أما منزلها هذا فليس إليه سبيل. . .
ويطأطأ حسن رأسه ويمشي إلى سيارته مطرقاً واجماً. ويهمس في أذن السائق اسم أحد الفنادق ويرتمي في مقعده مجهدا متعبا. وتحين منه ألتفاته إلى يديه وبشرته السمراء، فيدرك أن في العالم بعد جريمة هائلة دونها كل أثم وكل جرم، وأنه_ويا للأسف - لا سبيل إلى الخلاص منها، ولا إلى الابتعاد عنها. . .(32/14)
فضائح المالية العليا في فرنسا
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 1 -
تشغل فرنسا منذ أسابيع بإحدى هذه الفضائح المالية الكبرى التي لا تقف آثارها عند اختلاس مئات الملايين ونكبة آلاف الضحايا، ولكنها تتغلغل في جميع نواحي الحياة العامة، وتثير في الشعب روحا جديدا من السخط والريب في سلامة النظم القائمة التي تحدث في ظلها أمثال هذه الفضائح المروعة. والحادث الذي نعنيه هو فضيحة ستافسكي التي يتتبع الشعب الفرنسي، والرأي العام العالمي تفاصيلها وتطوراتها بمنتهى الدهشة، والتي كان من خطورتها وفداحة آثارها أن سقطت وزارة مسيو شوتان بعد أن حاولت عبثا أن تغالب العاصفة وأن تهدئ روع الرأي العام.
ولا بد قبل أن ندخل في تفاصيل هذا الحادث العجيب أن نشير إلى أن هذه الفضائح المالية الكبرى لم تبق في عصرنا حوادث شخصية أو فردية يسئل عن تدبيرها أفراد معينون، وتحصر نتائجها وآثارها في حدود معينة، بل غدت بالعكس ظاهرة بارزة في سير المالية العليا، وظاهرة من ظواهر الحياة العامة حيثما تبلغ النظم الاقتصادية ذروة التعقيد والتقدم. وتقع في جميع الأمم الأوربية من آن لآخر حوادث من هذا النوع، وتحدث دائما آثارها السياسية والاجتماعية؛ ولكن هنالك حقيقة واضحة: هي أن هذه الحوادث تكثر في فرنسا بنوع خاص وتمتزج امتزاجا قويا بحياتها العامة، وتتخذ فيها صورا هائلة مثيرة، وتلقى دائما سحبا من الريب على كثير من الرجال المسئولين. ونستطيع أن نمثل لذلك بأمثلة عديدة من حوادث العصر الحديث؛ من ذلك فضيحة شركة باناما التي أسسها فردينان دي لسبس سنة 1881 لتقوم بحفر قناة باناما، ثم انهارت دعائمها لأعوام قلائل بعد أن اتسعت أعمالها اتساعا هائلا وكثرت قروضها وعجزت عن الوفاء بتعهداتها، وكشف التحقيق القضائي عن اشتراك كثير من النواب والشيوخ في أعمالها والدعوة إلى تعضيدها اشتراكا مريبا، وأحيل بسببها وزير سابق وبعض الشيوخ على محكمة الجنايات سنة 1892، وقضي على الوزير بالسجن. ووقعت في أوائل هذا القرن بفرنسا عدة فضائح مالية أخرى، بيد أنها لم تكن بمثل هذه الخطورة. ووقعت منذ أعوام قلائل فضيحة (الجازيت ده فرانك)(32/15)
التي اتهمت فيها مدام هانو الكاتبة الصحفية باختلاس مئات الملايين، واتهم فيها عدد من أكابر الصحفيين والكتاب بالمعاونة في التستر على مشاريعها المريبة والترويج لها في صحف كبيرة محترمة. ثم وقعت منذ ثلاثة أعوام فضيحة شركات أوسترك فكانت من أعظم الكوارث المالية التي عرفت، حيث أفلست من جرائها عدة بنوك كبيرة واختلس نحو مليار فرنك (يومئذ نحو عشرة ملايين جنيه)، وألقيت بسببها ريب خطيرة على وزيري المالية والحقانية وإدارة بنك فرنسا، وانتهت بسقوط وزارة مسيو تاردييه (أواخر سنة 1930)، وقد كان أوسترك بطل هذه الكارثة خادما في مطعم ثم انتهى إلى صف أعظم رجال المال وأسس بنوكا وشركات عديدة قامت علت التزوير والنصب والدعوة، ونكب انهيارها مئات الألوف من أصحاب الودائع، وكان كل جزائه بعد تحقيقات طويلة معقدة أن قضى عليه بالحبس عاما واحدا!
وليست فضيحة ستافسكي التي تشغل فرنسا اليوم إلا مثلا جديدا مروعا يؤيد هذه الحقيقة. فهي كسابقاتها تقوم على اختلاس مئات الملايين، ونكبة مئات الألوف، وهي كسابقاتها تلقي كثيرا من الريب الخطيرة على الرجال المسئولين، وقد سقطت بسببها وزارة قوية تستند إلى أغلبية كبيرة في البرلمان. بيد أنه يمكن أن يقال أن هذه الفضيحة الجديدة تفوق سابقاتها في التغلغل إلى صميم النظم والحياة العامة، وفي التدليل على فسادها، وفي آثارها السياسية والاجتماعية. وقد شهدنا نتائجها الأولى في سقوط وزارة مسيو شوتان وقيام وزارة مسيو دلادييه، ولكن من الصعب أن نتنبأ الآن بما يمكن أن يتلو هذا الانقلاب الأول، خصوصا وان الفضيحة مازالت تتمخض كل يوم عن حوادث وأسرار جديدة، ومازال الرأي العام يضطرم سخطا ودهشة، ويتطلب أجراء العدالة بمنتهى القسوة واصلاح هذا الفساد الدفين بسرعة حرصا على سلامة النظم الجمهورية، وتوطيد للثقة العامة التي زلزلت أركانها.
ولنر الآن ما هي هذه الفضيحة المروعة التي تقيم شعبا بأسره ولنر من هو ستافسكي هذا الذي غدا بطلا من أعظم نكبات العصر.
أن هذه الشخصية المدهشة، شخصية - ستافسك - مازالت تبدو خلال التحقيق الذي تقوم به عدة جهات قضائية وادارية لغزا مغلقا؛ وكان مصرع ستافسكي أو انتحاره عاملا في(32/16)
ازدياد هذا الغموض؛ فمن جهة نرى ستافسكي الفتى الأنيق الجواد الذي ينثر المال أينما حل بسخاء لم يسمع به، ورب الأسرة الوفي الذي يعبد زوجته وولديه، والمالي الذكي الساحر الذي لا يفتر نشاطه والذي يتقدم كل يوم لإنشاء مشاريع وشركات مالية جديدة ظاهرة القوة والنجاح، إذا بنا نرى من جهة أخرى ذلك الأفاق البارع الخطر الذي لا يفتأ يرتكب جرائم التزوير والنصب والاختلاس تباعا، والذي يحيط نفسه بعصابة مريبة من كبار المزورين، ويشتري ذمم جميع الرجال المسئولين الذين يوجدون في طريقه ويستخلص لنفسه مئات الملايين من أموال الأرامل واليتامى وصغار المودعين، ثم ينفقها على ترفه وبذخه المجرم دون ضمير ولا وازع، ونرى آثار مشاريعه الخيالية الجهنمية تتغلغل في صميم المالية العليا والحياة ت العامة، ونرى أعين السلطات والمحققين تغضي عن تتبع جرائمه مع العلم بها، تلك هي شخصية ستافسكي.
ولد سرج الكساندر ستافسكي سنة 1886 في سبودكا من أعمال روسيا؛ ونزح إلى فرنسا بعد الحرب وتجنس بالجنسية الفرنسية، وبدأ حياته المالية في باريس وسيطا في تجارة الجواهر والحلي. ثم نشط إلى تأسيس الشركات المالية المختلفة، فأسس شركة لصنع اللحوم المقددة، وأخرى للسينما، وثالثة لبيع بعض الأجهزة الطبية وهكذا: ولكن هذه الشركات كانت مريبة، ولم تكن سوى ستار لسلسلة من جرائم التزوير والنصب ارتكبها ستافسكي، واستولى بواسطتها على ملايين عديدة. وكانت أعظم وسائله اذ ذاك تزوير قيم التحاويل المسحوبة لإذنه. واستطاع بهذه الوسيلة أن يحصل خلال سنتي 1925و1926 على ستة ملايين فرنك، وهنا اكتشف أمره وصدر الأمر بالقبض عليه بناء على عدة شكاوى قدمت في حقه من البنوك، فاختفى مدة ولم يستطع البوليس أن يقبض عليه الا بعد أشهر. وقضى ستافسكي في الحبس الاحتياطي حينا ثم استطاع أن يحصل على قرار بالإفراج عنه ريثما تتم المحاكمة. وقدم إلى المحاكمة بتهم النصب والتزوير والاختلاس مع آخرين. ولكن هذه المحاكمة لم تتم قط منذ سنة 1926، ولا زالت حتى اليوم معلقة للنظر امام محكمة الجنح. وكانت مدى أعوام ثمانية تؤجل في كل مرة إلى آجال طويلة لأتفه الأسباب؛ وظهر فيما بعد أن ذلك يرجع إلى نفوذ مؤثرات معينة، وأن الأفاق استطاع أن نؤثر عن طريق أصدقائه الأقوياء على سير القضاء كما استطاع أن يؤثر في عمل البوليس، ولما ظهرت(32/17)
هذه الحقيقة المدهشة أخيرا كانت مثار السخط والريب في نزاهة القضاء. وكان ستافسكي طريد القضاء أثناء ذلك يعيش في بذخ لم يسمع به في داره الفخمة بحي الشانزليزيه مع زوجته الحسناء أرليت سيمون التي تزوجها منذ سنة 1922، وولديه الصغيرين، وكان يظهر في المسارح والأوساط الرفيعة وفي ملاهي الليل وميادين السباق وأندية المقامرة بأعظم مظاهر الغنى والترف، وينفق الملايين الطائلة في كان ومونت كارلو وبيارتز وغيرها من مدن المياه، كل ذلك باسم (مسيو آلكس) وقد ظهر من التحقيق فيما بعد أن كثيرين ممن اتصلوا به لم يكن يدور بخلدهم أن مسيو آلكس هذا أو آلكس الجميل هو نفسه الكساندر ستافسكي بطل الفضيحة الكبرى.
وفي سنة 1930 وقع ستافسكي في مازق جديد وافتضح أمره مرة أخرى، ذلك أنه قدم إلى بنك التسليف البلدي باورليان طائفة كبيرة من الجواهر الزائفة واستطاع برهنها أن يحصل على سندات للخزينة قيمتها عشرة ملايين فرنك، وأن يقطع هذه السندات ويحصل على قيمتها ولكن هذا التزييف الهائل اكتشف غير بعيد، وظهر أن الجواهر المودعة كلها زائفة لا تساوي أكثر من عشرة آلاف فرنك، بيد أن ستافسكي فطن في الحال للخطر الذي يهدده، وبادر بتسوية المسألة ورد قيمة السندات المسحوبة، وبذا أسبل الستار على الفضيحة بسرعة، وأنقذ ستافسكي مشاريعه من خطر الانهيار وأنقذ نفسه من ظلام السجن.
ولم يمض على ذلك أشهر قلائل حتى استطاع ستافسكي أن ينفذ مشروعه الجديد، وهو انشاء بنك التسليف البلدي في مدينة بايون. وهذه البنوك المحلية الصغيرة تنشأ في عواصم الأقاليم طبقا لقانون خاص، وتقوم بمهمة التسليف برهونات منقولة مثل الجواهر والحلي، وهي تنشأ عادة برؤوس أموال صغيرة، ولكنها تستطيع متى اتسعت أعمالها أن تزيد في رأسمالها باصدار سندات على الخزينة بالاعتمادات اللازمة، وهذه السندات تتمتع بنوع من الضمان الحكومي، لأنها تصدر بمصادقة السلطات المحلية فضلاً عن ادارة البنك، وتمثل السلطات المحلية في إدارة البنك على يد مدير المقاطعة وعمدة المدينة، وتمنح هذه السندات عادة ربحا حسنا لا يقل عن خمسة في المائة، وتعفى من ضريبة الدخل، وهي لذلك تجد إقبالا من شركات التأمين وغيرها من شركات الادخار فتسارع إلى اقتنائها كوسيلة حسنة لتوظيف المال. وقد رأى ستافسكي في الحال أنه يستطيع أن يجعل من إصدار هذه(32/18)
السندات وسيلة سهلة مدهشة لاختلاس عشرات بل مئات الملايين. بيد أنه حرص بادئ بدء أن يتمتع مصرفه الجديد بسمعة حسنة؛ واستطاع أن يجعل منه مؤسسة ناجحة متسعة العمل. ثم عمد بعد ذلك إلى إصدار السندات تغطية لاعتمادات يريد البنك تحقيقها، ويسدد قيمتها متى حلت آجالها، فأخذ يصدر منها الملايين ثم عشرات الملايين ثم مئاتها؛ وكان اختلاس هذه الأموال الطائلة يجري بالصورة الآتية: يصدر البنك سندات قيمتها عشرة ملايين مثلا، ثم يعرضها في السوق المالية للقطع، فتشتريها إحدى شركات التأمين بقطع مرغب جدا (5 في الماية مثلا) لكي تقبض قيمتها متى حل أجل استهلاكها وتستفيد بذلك من القطع ثم من الأرباح. وقد بذل ستافسكي لترويج هذه السندات جهودا مدهشة، واستعان في ذلك بالجهات الرسمية وبالدعوة الصحفية. ومن الغريب أنه استطاع بواسطة النائب جارا عمدة بايون، أن يستصدر من وزير المالية ووزير التجارة منشورا وجه إلى شركات الاستثمار المختلفة يحثها على اقتناء سندات بنوك التسليف المحلية باعتبارها أوراقاً ثابتة مضمونة ووسيلة حسنة للاستثمار، وذلك طبقا لما نصت عليه بعض القوانين المالية، فكان هذا التعضيد الرسمي أداة قوية في يد ستافسكي ومشجعا للشركات على شراء سندات مصرفه، وكانت هذه الملايين الطائلة بدلا من أن تودع خزينة البنك تذهب توا إلى جيب ستافسكي يبددها على بذخه المدهش وينفق منها على شركائه وأعوانه. ولم تكن هذه الملايين ترصد في سجلات البنك لان السندات كانت زائفة تصدر دون مرجع أو سجل، وقد استطاع ستافسكي كما أثبت التحقيق أن يبيع من هذه السندات المزورة إلى مختلف الشركات والأفراد بما يساوي نحو خمسمائة مليون فرنك (أو نحو ستة ملايين جنيه) في أقل من ثلاثة أعوام! هذا إلى طريقة أخرى للاختلاس لجأ اليها ستافسكي، وهو أنه في فرص كثيرة كان يقدم إلى البنك بعض الجواهر المزيفة باعتبار أنها جواهر ثمينة ويسحب عليها مبالغ طائلة، وفي أحيان كثيرة كان يستخرج الجواهر الثمينة التي أودعها عملاء البنك في خزائنه رهنا للقروض ثم يضع مكانها جواهر زائفة، ويحصل بهذه الوسيلة على عشرات الملايين.
والآن، لنر كيف اكتشفت هذه الاختلاسات الهائلة. ومن المحقق أنه كان من المستحيل أن يمضي ستافسكي في جرائمه طول هذه المدة، وعلى هذا النحو المدهش لو لم يكن مستظلا(32/19)
بحماية الرجال المسئولين آمنا مطاردة البوليس والقضاء. على أن حادثا فجائيا أدى إلى اكتشاف الحقيقة المروعة، وهو أن إحدى شركات التأمين، كانت قد اشترت من السندات الزائفة ما قيمته ثمانية ملايين حل أجل استهلاكها في أغسطس الماضي، فتقدمت إلى البنك بطلب هذا المبلغ فطلب مدير البنك تسييه رجل ستافسكي وشريكه مهلة للدفع، فرأت الشركة من باب الاحتياط أن توقع حجزاً على بعض المبالغ المطلوبة للبنك، فدهش مراقب الضرائب في بايون لهذا الحادث وارتاب في الأمر لأنه لا يعقل أن مصرفا كبيرا محترما مثل بنك بايون يتوقف عن الدفع بهذه الصورة، وتصادف عندئذ أنه فحص بعض السندات المسحوبة فلم يعثر لها على أثر في سجلات البنك أو حساباته، فأخطر الجهات المختصة، وكان ذلك في يوم 23 ديسمبر الماضي. ولما رأى مدير البنك تسييه أن الأمر قد افتضح ذهب إلى مدير البوليس، واعترف له بطرف من هذه الجرائم، وفي الحال تدخلت النيابة، وقبض على تسييه وبدأ التحقيق في الفضيحة الكبرى وسنرى في فصل تال ماذا كشف التحقيق عنه، وماذا كانت خاتمة هذا الأفاق البارع وماذا كانت آثار هذه الجرائم المثيرة في سير الحياة الفرنسية العامة.
محمد عبد الله عنان(32/20)
الأدب والخلود
بدت في أفق الوجود منذ أقدم العصور أنواع كثيرة من الحيوان والنبات، ظلت تتصارع مع إرادة البيئة وعوامل الموت والحياة حقبا طوالا، حتى فرق بينها قانون (تنازع البقاء) بكلمته الحاسمة، فسكنت رحى الحرب وأسفرت تلك الوقائع عن خطوط متباينة لكل نوع منها عن الآخر: فمنها ما كان ضعيف الايد فقير العدة لم يستطع أن ينجو من نار هذا التنافس المستعر فالتهمته ألسنتها وأسدلت على كيانه وذكراه حجاب العدم إلى الأبد، ومنها ما جاوزته هذه النيران وقد أبقت منه هيكلا هشيما أو بقايا منثورة لم تزل مطمورة تحت أطباق الثرى حتى عثر عليها رجال الآثار والحفريات فنشروها في صدور المعارض والمتاحف، ووهبوها بعثا جديدا لحياة الذكرى. وكان هناك غير هذين ما وهبته الطبيعة أمضى الأسلحة للوقاية أو السطوة، فكان هو الصامد للهول الصائل في المجال حتى خرج مظفرا منصورا رافعا لواء الحياة!
كذلك في أفق الفنون والآداب نرى مثل هذا الصراع العنيف دائر الرحى بين أنواعها المختلفة، وبين مؤثرات العدم والوجود، كأنها كائنات حية شاخصات الجثمان تحكم بينها قوانين النشوة والبقاء. ولئن كانت حرب الأنواع المادية قد خمدت نارها منذ آماد لتؤول إلى نضال آخر بين فصائل النوع الذي ظفر بالبقاء، فأن صراع منتجات العقل وبخاصة ما كان في دائرة الأدب لما يزل حامي الوطيس مشتعل اللهيب منذ أخذ الفكر وأخذت العاطفة تفتح عيونها على الكون، وتتعرف ما فيه من ظواهر وأسرار إلى اليوم. وسيضل هكذا يزداد أواره احتداما كلما نما العقل واتسعت شعاب الحياة أمام العواطف، وكلما ارتقت مثل الإنسانية وآمال المجتمعات والأفراد في سماء الحضارة الرحيبة الآفاق، فكل أدب واهن القوى أو فاقد الأداة لا بد أن يكون مصيرهكمصير ذلك الكائن الضعيف إما فناء أبديا أو فناء يتخلله البعث للذكرى في خزائن الكتب، أو شوارد التاريخ أو على جدار المعابد، وكل أدب موفور القوة موهوب المناعة لابد أن يغالب الزمان ويبقى على الحدثان. هكذا توزعت الجدود على أنواع الأدب في كل عصوره الماضية وكذلك سيبقى نظامها، وقد تكون تلك الظاهرة ملحوظة في جملتها قريبة الإدراك بشكل عام عند من يتنبهون إلى حقائق الموت والحياة في المعنويات كما يعرفونها في الحسيات، ولكن الغموض وسوء الإدراك إنما يقعان في تحديد معاني هذه الحقائق، ودقة الإحاطة بمدلول كلمات الضعف والقوة والغلبة(32/21)
والهزيمة، وفي العثور على محور التنافس والنزاع، وكشف القوانين التي تعمل من وراء هذا كله لترجيح كفتي الفناء أو الخلود إحداهما على الأخرى. فكثير من متناولي الأدب من يقف اليوم خاشعا أمام تراثنا الأدبي القديم، مستلهماً نفحات الخلود من سطوره وكلماته لأنه قديم باقي منذ مئات الأعوام إلى اليوم برغم الغير والأحداث، دون أن يفرق بين أدب لا يجدر به أن يحفظ إلا ليؤدي مثل وظيفة تلك البقايا الحفرية تسجن في غرف المتاحف فتذكر بنوع باد وانقرض، وبين أدب خالد وثيق الصلة بعناصر الحياة فهو باق بأصله وأثره ولو اندثرت ألفاظه، وليس من سبب لهذا النظر الواهم إلا عدم الإحاطة بدائرة الخلود وتنور الأسس التي يشاد عليها صرحه وما يؤدي إليه هذا الإبهام من قصور عن إدراك الفارق الكبير بين مدلول كلمتي (الخلود) و (البقاء) في العرف الأدبي الدقيق.
ليس الخلود في الأدب هو مجرد البقاء، وإن أوضح ما يبدي الفرق
بينهما هو ذات هذا التباين الذي أدركناه بين بقاء الآثار والعاديات وبين
بقاء الكائن الحي الخالد، ويمكن أن يعبر عن تلك الميزة الكبرى بأن
خلود هذا الكائن إنما هو بقاء مقرون بالتأثير والتأثر، أو هو بقاء قابل
فاعل، أو هو الحياة، فالأثر الأدبي كالأثر المادي سواء في أن كلا
منهما لا تتحقق له صفة الخلود إلا إذا امتاز بصفات وخواص
تؤهلهلان يظل مشتركاً مع دوره هذا الكون الحي بآثار يحدثها فتزيد
في قوة تلك الدورة، أو بطواعية ولطف تقبل لما يوحي به الكون من
غايات، وما يتطلبه من نظم، وبقدر ثروته من هذه الخصائص تتعين
له منزلته من درجات الخلود المتفاوتة السمو، غير أن الكائن المادي
يؤدي وظيفة حياته هذه بالفعل أو الترك، والأدبي إنما يؤديها بما فيه
من أفكار ووجدانات.
وإذا كانت مؤهلات الخلود للنوع المادي هي في هذا التكوين الدقيق المنظم من عناصر(32/22)
متجانسة متوافقة، انتخبت من جنس عناصر الكون الخالد، لتشترك باتحاد ذروتها واتساق تركيبها في تأدية سلسلة مترابطة من الغايات، حتى تنتهي إلى الغاية الكبرى من تكون الكائن كله بجميع أجهزته وأعضائه، وهي الاتصال المباشر بدورة الحياة وبالنشاط والحركة والعمل والإنتاج والإهلاك والإدارة بنوعيها من سلب وإيجاب - كذلك مؤهلات الخلود للنوع الأدبي إنما هي في تكوينه من لباب من المعاني، مأخوذ بمهارة من صفحة الكون الزاخر بالحقائق والأحلام، متسق العناصر والأجزاء بدقة وتفنن وابتكار، حتى يبدو في شكل وحدة متلائمة كلها أفكار ووجدانات، تؤدي غايتها العظمى، مؤثرة تارة في الحياة ببعث الحق فيها والخير والفضيلة والكمال، أو متأثرة بها تارة أخرى بتقديس ما بها من جمال وعبادة ما وراءها من أسرار وامتزاج بما فيها من روح!
ذلك هو الشرط الخلود بحدوده العامة، وليس هو قيدا نبتكره ونمليه نحن على الأدب وأهله، وإنما هو فيما نرى قانون ثابت أملته طبيعة الحياة من قبل على الكائنات المادية، ونفذت أحكامه عليها بعنف وقسوة، وهي تمليه اليوم وتطبقه على الكائنات المعنوية بعد أن اشتد تنافسها وكثرت أنواعها، وبعد أن أصبح للآداب كيان ظاهر في الحياة الإنسانية يسعى إلى مثل ويتجه إلى مقاصد، أو كما يقول النحاة بعد أن أصبح (عمدة) لا (فضلة).
ولقد ظهرت آثار هذا القانون بجلاء منذ بضعة قرون في الحياة الأدبية لأمم أوربا الراقية حين أخذت آدابهم تنمو وتستقل وتقوى شخصيتها وتتحدد غاياتها، فنشأت عندهم مذاهب النقد وطرائق البحث التي تعمل كلها في ضوء هذا القانون حتى لا تمنح رتبت الخلود إلا لما أحتوى على عناصره وتحقق فيه شروطه، وهاهو ذا تراثهم الأدبي تجد فيه سجل الخلود منشورا واضحا لا يجمع إلا أمثال أسماء شكسبير وملتون وشلي وبيرون وتنيسون وسكوت في انجلترا وموليير وروسو وفولتير وهوجو في فرنسا ولسنج وشلر وجيته في ألمانيا، وغيرهم ممن يظاهيهم أو يقاربهم مرتبين في درجات مختلفة من الخلود بحسب ما حاز كا منهم من عناصره. أما نحن فلا تزال حياتنا الأدبية ناشئة حديثة، وقد كانت إلى عهد قريب حائرة ضعيفة الإدراك لا تدري أي سبيل تسلك ولا على أي مرفأ ترسو. لأن الشعور بالحياة كان ضيق الدائرة ضئيلا، وكان سوء التقدير وفساد الفهم لغايات الأدب ومعاني خلوده يحاصر هذا الضيق ويأبى عليه أن يكتسب مرونة أو اتساعا. ولكنها الآن قد(32/23)
أخذت تنهج طريقة أختها الأوربية وتفتح عينها على الحياة وترشف من رحيق أسرارها ومثلها، معتزة بوجودها، مكتسبة كل ما يزيدها نموا وارتقاء، وبهذا حق عليها أن تدفع ثمن هذه الحرية غاليا، وتتقبل راضية أو كارهة قانون الحياة الدائم، فلا خلود إلا لمن ظفر بشرطه وأوفى على غايتة. نعم لم يعد يسيرا في هذا العصر لأثر أدبي أن يظفر بالخلود، لأن التنافس يزداد شدة كلما تقدمت الحضارة خطوة، ولأن ذوق الجمهور قد أخذ يدق وسمو حتى ليكاد يصبح ناقدا عاما، ووجدانه قد بدأ يزخر بالآمال والعواطف حتى يأبى إلا أن يحتسي كأس الحياة حتى الثمالة، وأرادته ايضا قد غدت حرة قوية مؤثرة حتى لا تقنع إلا بنشدان المثل العليا. وهذه كلها نتائج طبيعية لنشر وسائل التهذيب من تعليم وصحافة وأقاصيص وتمثيل وخيالة، ولحياته بروح الدساتير الحديثة التي تكفل له الحرية وتسيغ له الاشتراك في الحكم والدولة، ولشدة أمتزاج الشعوب اليوم بعضها ببعض وسرعة تبادل الأفكار والمشاعر، فهل يقنع هذا المجهود الطامح المهذب إلا بأدب يمثل قانون الخلود فقرة فقرة؟ لابد إذا لوجود هذا الأدب السامي من أديب يملك بفطريه نفسا شاعرة نبيلة دقيقة الحس كميزان الذهب، تتلقى الإلهام والوحي من محيط الوجود كما يتلقى الجارس (الراديو) موجات الأثير حاملات الأغاني لا يشعر بها غيره، وعقل صافياً كالعدسة المكبرة تواجه الشيء فيتجلى فيها بخفاياه وحذافيره، قد صقلته التربية ووسعت أفقه التجارب والثقافة المحيطة، وقدرة ماهرة على التنسيق والتنويع وحسن الصياغة بابتكار واستقلال.
وندع الآن مشكلة اللفظ وما تنتجه من مسائل الفصاحة والبلاغة فإنما نحن نتحدث عن الجوهر لا عن العرض، ونبحث في القانون الثابت المطرد لا الأمر العارض النسبي، ولسنا نعني بذلك ان نهمل البتة ناحية اللفظ فنكسو الحسناء الجميلة ثوباً خلقا مهلهلا، بل الذي إليه نقصد أن سر خلود الأدب أصالة إنما هو في معناه، ثم تأتي مسألة اللفظ بعد ذلك مختلفة باختلاف اللغات متفاوتة بتفاوت الأذواق، فكم في اللغات العامية من معان رائعة حية الأثر تتداولها الألسنة رواية لا تدوينا، وبداهة لا تعليما، وهي خالدة على مر الأجيال في معزل عن اللغة الفصحى بل في نفور منها أن تشوه جمالها، وكم في اللغات الأعجمية من آثار خالدة أيضاً لم تدرك لغتنا الفصحى شأوها بعد ولا يضيرها أن تؤدي برطانة الأعجام! فمسألة الخلود في الحقيقة مسألة المعنى وهي الأمر الثمين النادر، أما اللفظ فيسير(32/24)
الثمن بتعلم اللغة والاطلاع على أساليبها. وكأننا بهذا نعكس رأي علماء البلاغة الأقدمين إذ كانوا يقولون: ان المعاني منثورة في الطريق يعرفها الفصيح والمفحم والعالم والأمي والبدوي والحضري، ولكن الفرق كله بين هؤلاء في اختيار اللفظ وحسن التركيب!
ولعمري ما أشبههم في ذلك بمن يقولون إن الذهب والفضة مطروحة في الطرقات، ولكن المشكلة المعضلة حقا إنما هي: كيف يحمل الفقير تلك الكنوز؟!
وبنظرة نرددها بين غاية الخلود البعيدة المدى، وبين أدبنا الحديث، نستطيع أن ندرك كيف ينحرف هذا الأدب عن الهدف الذي يجب أن يقصد؛ ثم إذا تتبعنا خط الميل عن الجادة المستقيمة لم نلبث أن نقف على نقطة الانحراف أو رأس المفترق، وليست هي فيما أرى الا حيث يتدفق سيل التقليد الجارف، فيكتسح أدبنا أمامه ويحول بصره عن الهدف إلى صحراء العصور الخالية، ولقد سار أدبنا منذ نشأته في هذا الطريق المنحرف مراحل واسعة، ثم جاء الأدباء المجددون والشباب المثقف الحديث فحاولوا أن يمسكوا بزمامه ويردوه إلى غايته، فإذا به يستقيم ويعدل سيره في أنوارهم وهو حقيقة يوشك ان يعتدل. بيد ان انكساره القديم قد ترك في بصره بعض الزيغ وفي هيكله بعض الاعوجاج!
كانت الروح الفردية هي عماد الأدب القديم، وما زالت هي أيضا عماد أدبنا الحديث، فكما كان رجل الصحراء ينشد أدبه الغنائي في حدود نفسه معتزاً بشخصيته دون غيرها، حين يصف حبه وهيامه وحوادث غرامه أو حين يصف ناقته وفرسه أو يفخر بشجاعته وبأسه، كذلك نحن لا نبرح مقيدين بخطته مقتفين أثره لا نعني أكثر ما نعنى إلا بالتغني بهذه الأغراض الفردية الضيقة من حب شخصي وحزن وسرور ورثاء ومدح لا تعدو حدود النفس، ولست أدري كيف نمهد لنا عذرا عن هذه الأثرة التقليدية إذا وضحت أمامنا أعذار الرجل الصحراوي وقد كانت طبيعة بيئته ونظام حياته لا يسمحان ببناء مجمع مترابط ممتزج بل تلحان على كل فرد أن يكون هو مجتمع نفسه وحكومة شخصه؟
وهل تلك الحياة المفككة هي حياتنا اليوم؟ أليست دعامة هذا العصر المتحضر هي قوة روح الاجتماع وتشييد بناء الوحدة وتربية الفرد ليفنى في المجموع؟ إذن فلن ينطلق أدبنا من رجعيته الا إذا جارى العصر وساير الحياة فاندمج في المجتمع بما فيه من سياسة ودين وتربية وأخلاق وغاص إلى أعماقه وترجح على أمواجه؛ متشربا العواطف الإنسانية لا(32/25)
على إنها نزعات فردية من شخص لآخر، ولكن على انها ظواهر اجتماعية لها آثارها في المجتمع ولها أحوالها وخواصها المتأثرة به المتغيرة بتغير، وناظراً منصتاً لا في منطقة شخصه ولكن في رحاب المجتمع الطليق يراه كيف يجد ويلعب وكيف يفكر، وكيف يشعر، ويسمعه بأي لحن ينطق ويغني ويئن ويهتف، ضاربا معه على أوتار أفراحه وأحزانه؛ صاعداً إلى سماء الآمال أو منحدراً إلى أرض الهوان، صارخا في ثورته، نائما في رقدته.
وكان الأدب القديم نسيجا من خواطر وأحاسيس هي بنت ساعتها، ووليدة حادثتها، توضع متراصة مسرودة دون أن ينظمها سمط من العلم أو رباط من العقل، وما زال أدبنا الحديث أيضا نسيجا من مثل هذه الخواطر والاحاسيس؛ لا يحاول أن يتقرب إلى العلم أو يصافح الفلسفة أو يمد يده إلى علم النفس، بل كثيرا ما يقف منها موقف الاضداد، فإذا كان منشأ هذا النقص عند أدباء القرون الماضية هو فقرهم من هذه الثروة الفكرية العظيمة؛ وفهمهم الأدب على أنه منفذ للشعور الفردي الوقتي كيفما كان لا كما نفهمه نحن اليوم من أنه دعامة من دعائم الحضارة وأسس الاجتماع المهذب الراقي - فبأي سبب غير عماية التقليد نعلل وجود هذا النقص في أدبنا إذن ونحن في عصر يفهم الأدب على هذا الوجه، ثري بما فيه من منتجات الفكر؟
ولعل هذه الروح الجديدة التي نحاول أن نشربها أدبنا ليتصل بالعلم والاجتماع، تدل بنفسها على أنها لا تستطيع أن تحيا وتنمو وراء هذه الأسوار الضيقة التي كانت تحاصر الأدب القديم: أسوار الشعر الغنائي والحكم المقتضبة والأمثال الموجزة، والفصول الكتابية والأراجيز النظمية تعقد لبيان الأخلاق والنصائح والعظات في قواعد وقضايا آخذ بعضها برقاب بعض. وإنما هي يريد قبل أن نفكر في استلهامها أن نهدم هذه الأسوار ونخرج إلى ميدان القصة والملحمة والرواية الرحيب الجوانب فننثر في فضائه ما نريد من حكم ووصف وعظات وما نشاء من وحي الفكر والوجدان.
أجل، فان ذروة الخلود سوف تدنو من صروح القصة والرواية وما حكاهما، وسوف تكون هذه الأنواع أقوى أنواع الأدب وأكبرها اثرا في تأدية وظائفه في الحياة الإنسانية بين الجماعات والافراد، وستندمج في ثناياها تلك الأنواع الصغيرة التي لا تحتوي الا على خطرات محدودة من مشاعر الحب والانتقام والهجاء والفخر والحماسة والمثل والوصية(32/26)
والمراسلة وما جرى مجراها، فلا يبقى منها مستقلا إلا ما ترشحه رقة نغماته ووحدة موضوعه وصدق شعوره ليجيب بعض نداءات الحياة القصيرة التي لا تتحمل أعباء القصة ولا تستطيع تغذيتها. وفيما خلا ذلك تنهض القصة بدعوات الحياة الكبيرة وتخض معارك الاجتماع وترتوي من منابع العلم فتصبح صورة صادقة ناطقة للإنسان والكون وما بينهما من أسباب وصلات.
وحري بنا ألان وقد جرت معنا ألفاظ الغاية والهدف والقصد إلى جانب الأدب أن ندفع ما قد يدور بخلد ظان من أننا نريد أن تكون الغاية هي التي تخلق الأدب وتتحكم فيه، فلا يكتب الأديب أو ينظم إلا لغاية قد تعمدها ونصبها أمامه، فان مآل هذا أن يصبح الأدب صناعة لا فنا وأن يصير الأديب مصنوعا لا مطبوعاً، وإنما نحن ننسب الغاية إلى الأدب على سبيل المجاز، ونريد في الحقيقة أن يصدر الأدب عن نفس تشربت من قبل بالغايات والمبادئ حتى ذابت فيها وتحولت إلى وجدان حي ورغبة فنية دافعة، فهي لا تكتب بعد ذلك ناظرة إلى غاية منفصلة، وإنما هي تعبر عن شعورها المتصل بها وفكرها الذي أصبح ملكا لها إرضاء لطبيعتها الفنية وفطرتها الأدبية، فكأن للأدب غاية لا ترى لا بعد صدوره بالفطرة.
وللخلود في الأدب مناطق تختلف سعة وامتدادا. فقد يسري حتى يعم العالم بأجمعه ويصير أدبا عالميا، وقد يقتصر على أمته وشعبه فيكون أدباً قومياً. وحولهما درجات، والسر في هذا إنما يرجع إلى اختلاف موضوعاته: فإذا كان متناوله النفس الإنسانية من حيث هي لا باعتبار الأجناس والأنواع فهو جار مع النفس الإنسانية في كل مكان. وكذلك إذا كانت وجهته الكون والطبيعة والمعاني الكلية التي لا تحدها الأمكنة، ولا تطغى عليها البيئات. ومن أظهر الأمثلة لذلك أدب المعري وابن الرومي والخيام في الشرق، وشكسبير وروسو وهوجو في الغرب. أما إذا كان موضوعه مصبوغاً بصبغة البيئة وألوان المكان وأغراض الشعوب والأجناس فهو خالد في حدود من يصورهم ويتحدث بلسانهم. ومن أمثلته بعض أدب حافظ وشوقي مما يغذي الوطنية في مصر، ورديارد كبلنج في إنجلترا، وجميع الآداب القومية التي يعتز بها اليوم كل شعب. وليس يعني هذا التفاوت في سعة النفوذ تفضيلاً في الرتبة بين خلود وآخر، لان الأديب قد ينتج النوعين وينبغ في الناحيتين معا، ولكنه يقال(32/27)
كقاعدة عامة في هذا العصر الذي أصبحت القومية روح وجوده أنه لا بد لكل شعب من أدباء قوميين يغذونه بالأدب الرفيع الخالد.
محمد ضياء الدين الريس(32/28)
فلسفة سبنسر
للأستاذ زكي نجيب محمود
- 2 -
تطور الحياة
يبدأ سبنسر كتابه عن تطور الحياة بتعريف الحياة نفسها بأنها التوفيق بين الكائن الحي وبيئته، ويتوقف كمالها على كمال هذا التوفيق. فهذا حيوان يكتسي بالفراء ليتقي لذعة البرد، وذلك قد أعد لاختزان الطعام لما عساه أن يصادفه من قحط وإجداب، وثالث يستطيع أن يتلون بلون الأرض التي يدب فوقها حتى لا يبصره العدو فيفتك به، إلى آخر هذه الوسائل التي زودت بها الطبيعة الأحياء، أو بعبارة أصح، التي قسرها الأحياء قسرا على أن تزودهم بها للذود عن حياتهم، مما يعلم القراء جميعا. وبديهي أن هذه الملاءمة لم تبلغ ولن تبلغ درجة الكمال ما دام الحيوان مخلوقا ناقصا يعتريه الضعف والموت، ولكن مهما يكن من أمر فهو دائب لا يني عن السعي الحثيث في زيادة هذه الملاءمة شيئا فشيئا، بان يكمل هذا النقص تارة وذاك طورا، وينقح من أعضائه حتى تتمكن من مجاوبة الطبيعة ومقاومتها، ومعنى ذلك أن الكائن الحي يشعر بالحاجة أولا ثم ينطلق في سعيه جيلا بعد جيل يستمد من الطبيعة عضواً يسد له ما أحس من نقص، فهو مثلا يشعر بحاجته إلى النظر لكي يتبين ما يحيط به في دقة ووضوح فيكون لنفسه على مر الدهر عضوا للإبصار وهكذا قل في سائر الأعضاء،
وليست الحياة إلا هذا التوفيق الذي لا تنقطع أسبابه، ولا تقتصر هذه المحاولة على أفراد الحيوان، بل تعدوها إلى الأنواع، إذ يسعى كل نوع باعتباره كل الملاءمة بينه وبين البيئة. ويرى سبنسر توافقا عجيبا بين تكاثر الحيوان وما يحيط به من الظروف الطبيعية، فهو يرى أن الأصل في التناسل هو تخلص الكائن الحي من زيادة في حجمه لا تتناسب مع جهازه الهضمي، أي أن كتلة الكائن الحي إذا اطردت في النمو، تصل إلى حد لا تستطيع معه المعدة أن تسد حاجتها في الغذاء، وعندئذ يضطر الحيوان إلى ان يقف نموه عند حد معين، وكل زيادة تجيء بعد ذلك يتخلص منها بان يخرجها نسلا. وتطبيق ذلك، أن الإنسان، ذكرا كان أم أنثى، يأخذ جسمه في النمو إلى حد محدود ثم يقف نموه إذا ما جاءت(32/29)
مرحلة التناسل، ولذا نرى أن عدد النسل يتناسب تناسبا عكسيا مع درجة النمو، فكلما كبر حجم الحيوان كان نسله أقل عددان فبينما تنسل الذبابة مثلا عشرات الذباب لا يلد الفيل إلا واحدا. كذلك يتناسب عدد النسل مع مقدرة الحيوان على مقابلة الاخطار. فان كان ضعيفا عاجزا عن صد ما يتهدده من الكوارث لجأ إلى كثرة النسل ليعوض فناء أفراده الناشئ من ضعف المقاومة وإلا تلاشى النوع. والعكس صحيح، أي إذا كان النوع قادرا على الاحتفاظ ببقائه، وجبت قلة النسل، والا رجحت كثرة العدد على كمية الطعام. ومعنى ذلك بعبارة أخرى أنه كلما ارتقى النوع في سلم الحياة، كان أقدر على الأحتفاظ بوجوده، وكان بالتالي قليل النسل. وهذه القاعدة صحيحة إلى حد كبير حتى في الأفراد، أي إذا ارتقى الفرد في عقليته وذكائه كان أقل نسلا. ومما هو جدير بالذكر أنه كلما ازدادت عند الفرد كمية الاستهلاك العقلي أي التفكير - قل عدد النسل أو انعدم. ولعل أبلغ آية لذلك عقم الفلاسفة. وقد يشير هذا الدليل إلى إن الإنسانية تسير في تطورها نحو مرحلة تزيد فيها القوة العقلية ويقل عدد النسل.
وعلى الرغم من ان الطبيعة ساهرة على هذا التوفيق بين نسبة التناسل وحاجة النوع. فقد يظهر إنها أخطأت الحساب ومالت نحو الإكثار من السكان، بغض النظر عن كمية الغذاء، وحق لملتوس أن يجهر بدعوته إلى ضبط النسل لما لاحظه من زيادة السكان على مواد الغذاء.
تطور المجتمع
ليست دراسة الاجتماع باليسيرة الممهدة، بل يعترض سبيلها من العقبات والصعاب ما لا يستطيع التغلب عليها إلا الأفذاذ الفحول، فقد حدث مرة ان ارتحل رجل فرنسي إلى إنجلترا يقضي بأرضها بعض الوقت ترويحا للنفس وحبا للاستطلاع فلم يكد ينقضي علت إقامته بها أسابيع ثلاثة حتى اعتزم ان يصدر كتابا عن انجلترا، اذ خيل اليه انه قد درس شعبها فأتقن الدراسة، فلما انقضت شهور ثلاثة، هم بوضع كتابه، ولكنه أدرك أنه لم يتقن الدراسة بعد بحيث يستطيع أن يخرج الكتاب الذي يريد، وآثر الروية والاناة، فلما انقضت سنوات ثلاث، اتسع شعوره بالعجز والقصور، وأيقن أنه لا يعلم من موضوعه شيئا. . . وهذا صحيح، فقد يخيل للإنسان للوهلة الأولى ان دراسة المجتمع سهلة ميسورة، ولكنه(32/30)
كلما ازداد علما بدقائقه، ازداد يقينا بجهله وعجزه.
فما بالك بالجهود التي بذلها سبنسر، وهو لا يريد أن يدرس شعبا بعينه فحسب، بل يقصد إلى دراسة المجتمع الإنساني باسره وكيف تطور كيانه م حالة إلى حالة؟ فهو يرى أن المجتمع كائن عضوي له أعضاء للتغذية وله دورة دموية، وفيه تعاون بين الاعضاء، وله فوق ذلك تناسل وإفراز، شأنه في كل ألوان الحياة شأن الأفراد سواء بسواء. . . فهو ينمو، وكلما ازداد نموه اشتد تعقداً، وكلما تعقد ازدادت أجزاؤه استقلالا. وحياة المجتمع باعتباره كلا طويلة جداً بالنسبة إلى حياة أجزائه التي يتألف منها. والمجتمع كالفرد يتعاوره التكوين والانحلال وهما وجها التطور: فنمو الوحدة السياسية من الاسرة إلى الدولة ثم إلى عصبة الامم، ونمو الوحدة الاقتصادية من الصناعة المنزلية الصغيرة إلى نظام الشركات ثم إلى الاحتكار، ونمو وحدة السكان من القرية إلى المدينة. . . كل هذه ظواهر للتجمع والتكوين، ولكنك من جهة أخرى ترى تقسيم العمل وتعدد المهن والصناعات، وتنوع الانتاج بين الريف والمدن، وبين أمة وأمة. . . وهي دلائل تشير إلى التنوع والتنافر. . وتستطيع كذلك أن تلمس التطور بشطريه - تآلف الأجزاء في وحدة، ثم تنافرها داخل تلك الوحدة - في كل جانب من جوانب المجتمع: في الدين والحكومة والعلم والفن وغيرها.
فقد كان الدين أول الأمر عبادة طائفة من الآلهة والأرواح، فأخذت هذه تتجمع وتأتلف حتى تركزت في إله واحد. . ثم عاد التوحيد فتفرع إلى جملة من الأديان وطائفة من العقائد، ولم يتحور الدين في شكله فقط، بل تبدل موقعه من النفوس كذلك. فقد كان الجمهور الذي تدور حوله رحى الحياة بأسرها، ذلك لأنه ألقى في روع الإنسان الأول ان هذه الحياة الدنيا غرور ولهو، ويجب أن يربأ بنفسه أن تنغمس في حمأتها أو تتلوث بأدرانها ولتكن الآخرة وحدها محطا لآماله ومعقداً لأمانيه فهي خير من الأولى وأبقى، ولكن ما لبثت وجهة النظر أن تطورت، وتوجه الإنسان بشطر من عنايته نحو هذه الحياة التي يعيش فيها. وأخذت تلك العناية تزداد شيئا فشيئا كلما اتسع نطاق العمل الصناعي.
أما نظام المجتمع فلعل أبلغ ما طرأ عليه من تغيير، هو الانتقال التدريجي من النظام الحربي الذي ساد أوربا إبان العصور الوسطى إلى النظام الاقتصادي الصناعي، ويتقد سبنسر أن تقسيم الحكومات إلى ملكية وأرستقراطية وديموقراطية وما إلى ذلك، ان هو الا(32/31)