النظرية، نظرية التوليد من غير أم وأب، فيدهشك هذا القول من فيلسوف إسلامي ويغضبك خصوصا إذا كنت من أصحاب الإيمان الحار، ويأخذ بك ابن الطفيل في منعرج هذا المذهب الوعر الذي يصعب علينا حله واتباعه، ويستطرد في كيفية تخمر الطينة تحت أشعة الشمس وعلوق الروح بها، فيلذك الاستطراد ولا يعجبك الأِعتقاد، والحق يقال أن هذا المذهب الطبيعي الذي يبني مبدأ الخلق والتكوين على الصدف والتصادف والذي يعتنقه الكثيرون في عصرنا (وما أكثر المذاهب والآراء في هذا العصر) غير مبني على أساس متين ولا براهين جلية بحيث تقتلع من صدرك الإيمان بصحته. فالمذاهب الفلسفية، الأقوال فيها كثيرة ومختلفة، وليس هناك دستور واحد في البحث تتمشى عليه، وحقيقة واحدة تتفق عليها. ففي المسألة الواحدة تجد قولين أو ثلاثة أو أربعة والإنسان عندما يكون مترددا في مسألة ما، تكثر تعاليله وحدسياته. فابن الطفيل مثلا لا يجزم بصحة هذا المبدأ الطبيعي كما هي عادته، فيأتيك بقول آخر أعم وأشهر، ولكنه ليس بنظرية بل تعليل ثانوي لكيفية وجود حي بن يقظان في جزيرة من جزائر الهند تحت خط الاستواء، فقد اختلفوا في وجود هذا الشخص في هذه الجزيرة المنقطعة عن السكان المقفرة من بنى الإنسان. فيقولون أن حياً كان إبناً غير شرعي وأن أمه أخت ملك قد وضعته في صندوق وقذفت به في اليم، فقاده المجرى المائي إلى هذه الجزيرة (الاستوائية) وهذا القول أقرب وأخف وطأة على القارئ من الأول، إذ يعرف أن موسى أيضاً قد قذف به في اليم، ولديه على ذلك نص وهو القرآن.
قد فرغنا من استخراج هذه النظرية وسللناها من طيات هذا السفر الجميل. فاتبعني أيها القارئ الكريم لنستطلع بعد ذلك خبر ما آلت إليه حال هذا الطفل البائس الذي سيكون له فيما بعد شأن يذكر. رمت به الأمواج إلى شاطئ جزيرة تحت خط الأستواء، وكم يكون جزعك على هذا الطفل عندما تعلم أن هذه الجزيرة خالية من السكان. ترى من يغذي هذا الطفل، ومن يشفق عليه ويشمله بحنانه، إذ لا إنسان يعطف عليه ويحسن رعايته ويوفر له أسباب الحياة؛ ولكن كم يكون فرحك عظيماً عندما ترى أن ظبية من بنى الحيوان قد رامت به، ووجدت فيه تسلية وعوضا عن ابنها المفقود، فغدت تغذيه بلبانها وتشمله بحنانها، حتى درج وأصبح قادرا على المشي والعدو مع أمه في البرية، وما أن صار على رأس أسبوع(16/35)
من عمره أي سبع سنين، حتى صار يرافق أمه في غزواتها، يناشدها بأنغامها وتناشده، فإذا سمع تغريدة عندليب حاول تقليده، وإذا سمع فحيح أفعى أو زئير أسد لم يحاول الابتعاد ولم يوجس خيفة، وتكررت هذه الأصوات على سمعه فوعاها، وغدا يرددها فيجيدها. وهنا أيها القارئ الكريم تعرض لنا نظرية غامضة ولكنها جميلة ومشوقة، فلنتئد في درسها وتحليلها قليلا. النظرية هي نظرية النطق والكلام. أخلق الإنسان متكلماً لغة أجاد فهمها منذ البدء أم علمه الله إياها؟ وإذا كان ذلك فلماذا لم تتفق البشر عليها؟ وما تعليل كثرة اللغات واللهجات التي نسمعها وما هو علة هذا الاختلاف؟ كل ذلك، أظن، جدير باسترعاء خاطرك وانتباهك، وهو يوقظ في نفسك حب الاطلاع والتعليل، وتريد أن تفكر وأن تجد تحليلا فلا تجد، فيؤول بك التفكير إلى حدس بحدس. وتخمين بتخمين لا طائل تحتهما ولا جدوى. فابن الطفيل لا يبدي لنا إلا قولا واحدا في كيفية نشوء اللغة عند الإنسان وهو ليس من أرباب الوحي والإلهام الذين يقولون أن الله خلق الكلام وخلق في الإنسان المقدرة والقوة على نطقه. كلا ليس ابن الطفيل في شيء من هذا، وهو على مذهب البعض من المحدثين في القرن التاسع عشر؛ فهؤلاء يعللون نشوء اللغة أي النطق بأن الإنسان في طوره الهمجي طور الغريزة الحيواني يتلقى أصوات الحيوان ويقلدها في جرسها ونغمتها، ويضعون لذلك مقاطع طبيعية دارت على ألسنة البشر أجمع في طور وحشيتهم، توجد في جميع اللغات الحية وهي إد، آر، آد. . . وما أشبه ذلك، على أن الاختلاف الذي نراه ناتج عن سنن التباعد والتقارب في أخلاق البشر وأميالهم الطبيعية.
فأنت ترى أن ابن الطفيل من هذا الرأي وأن (حيا) قلّد الحيوانات في أصواتها ولم يجد التكلم في بدء أمره بدليل أن ابن الطفيل يتيح لبطله حي مصادقة أسال فيعلمه الكلام وأمور الدين. فحياة حي هي إذن نفس حياة البشر في طور وحشيتهم وهمجيتهم. ولكن ابن الطفيل لا يقف عند هذا الحد، ولا يريد أن يسرح بطله مع الحيوانات بل يرقى به إلى مستوى فكري سام تقصر عنه المدارك، ويريه أشياء لم تقع على سمع أحد (ولا خطرت على قلب بشر). فأنه بعد أن يعلمه الأصوات يريد أنبعلمه الطب كما تعلمه كلية الطب في بيروت لتلامذتها، وأن يطلعه على علم التشريح وما فيه من سر دفين. وماتت الظبية أمه، وقعد للبكاء عليها ولزم الحزن أياما يناديها فلا تعي ولا تجيب، ويندبها فلا تأبه لتحرقه وبكائه(16/36)
وأراد ان يعرف موطن الآفة في جسد أمه محاولا إنقاذها مما هي فيه، وبطريق النظر والاستدلال يفتح جوفها ويتوصل إلى القلب المركز الرئيسي لجميع الأعضاء، ومنه إلى الدماغ فلم يجد بها آفة حتى إذا ما انتهى من البحث والاستقصاء أتى على علم التشريح بكامله، وتحصل له من ذلك: إن ما يحرك الجسد إنما هو بخار يتولد فيالتجويفات القلبية فيصعد منها إلى الدماغ، وهذا بدوره يحرك الأعضاء. وهذا ما قال به ديكارت معبرا عن هذا البخار بالأرواح الحيوانية. قد يدهشك مثل هذا البحث المنظم الذي يقوده حي بن يقظان، وهذا الاستدلال الثاقب، ويضؤل في نفسك شخص ابن الطفيل القصصي ليتجسم لك في شخص حي الطبيب الحاذق والمشرح اللبق؛ والحق يقال أن ابن الطفيل بعد أن يرتفع بخياله يكبو به جواد هذا الخيال ليحطه إلى الأرض. لذلك كان الفيلسوف الطبيب، ولم يكن الفنانالقصصي بالمعنى الواسع لهذه الكلمة. فمن الغريب أن يكون حي قداستكشف مثل هذه النظريات والتطبيقات العملية في مثل هذه المدةالوجيزة، فإننا نرى فكرا ساميا يتوصل بمحض فكره إلى الحقيقة، لا فكراً وحشياً غريزياً يليقبمثل حي؛ ولكن هي قصة أقرب إلى: (الاوتوبيا) منها إلى الحقيقة الملموسة. ولا نجزم بأنها نظرية، ولا نريد أن نناقشها بل نترك ابن الطفيل وتلميذه يعلمه ما يشاء وكيف يشاء، على أننا نستشف من خلال البحث عن كيفية تعلم حي بن يقظان علىنظرية النشوء والارتقاء في العناصر الطبيعية وفي مدارك البشر، وكيف أنها تنتقل من الملموس إلى المحسوس إلى المعقول، وكيف أن الحواس تتصل بالأشياء الخارجية فتؤثر هذه فيها وتنفعل عنها فتحولها (أي الحواس) إلى دائرة التفكير والتفهم فتصوغ ما أحست بقالب السبب والقانون.
ويفقد حي أمه ويخرج إلى معترك الحياة وحيداً طريداً فكل شيء في قطر وجوده يستلفت نظره ويسترعي انتباهه، فهو كآلة واعية (إذا كانت آلة تعي) وضعت في مكان ما تلتقط كل ما أوحي لها من حيث ألقي أو أوحي. فتسجل حركات الأشياء وتنفعل عنها، وهل الإنسان (كما عرفه بعض علماء النفس) الا مجموعة من المؤثرات الداخلية والخارجية تجمعت فشكلت هذه النفس التي تعي وهذه النفس التي تفهم وتتذكر؟
ويستكشف (حي) النظريات ويستدل بمحض فكره السامي وثاقب ذهنه على وجود (واجب الوجود) وهذه النظرية هي محور القصة بكاملها وهي التي شغلت جميع فلاسفة الإسلام.(16/37)
ويستكشف (حي) مبدأين: المادة والصورة؛ بواسطتها يتوصل إلى اكتشاف وجود الله، فاعتبر: (أن كل حادث لابد له من محدث) فتلمس هذا المحدث في المحسوسات فلم يعثرعليه، وانتقلت فكرته إلى الإجرام السماوية ورسخ في ذهنه أنها تعقل ذواتها، وأنها صادرة عن فلك واحد وهو الأعلى. وهنا يجب علينا أن نقف قليلا ونشير إلى هذه النظرية التي كانت شائعة عند اليونان والتي اقتبسها العرب ولا سيما ابن سينا، ووسعوا دائرتها. فانهم اعتقدوا أن الإجرام السماوية تعقل وتحيا وفيها العقل الفعال الصادر عن الله عز وجل، وأن الله يعلم ما في الكون بواسطتها وهي أشرف الموجودات. وقديما دعوها أنصاف آلهة. ونتجاوز عن تفنيد هذه النظرية الخرافية التي تعد (إلى جنب المباحث الفلكية العصرية) خرافة من خرافات القدماء.
ولما عرف (حي) حقيقة نفسه وأنها غير جسمانية وبها عرف (الموجود الواجب الوجود) حدث له شوق حثيث إلى معرفة الخالق عساه يراه، فشرع في تفحص الأعمالالتي تقربه إلى الله عز وجل، فوجد أن الطريقة المثلى هي: في ترك المادة وتثقيف الروح التي هي مبدأ روحاني صادر عن الله تعالى، ولما كان يعلم أن الإجرام السماوية تعرف الله، التمس لنفسه الصلاح بالتأسي بها ليتوصل إليه. وهنا يعتنق حيي مذهب الاتصال وترويض النفس والعزوف عن الأشياء المادية كما كان يفعل متصوفة المشرق، الا أن هناك فرقاً كبيراً بين المذهبين يجب أن تنتبه إليه أيها القارئ ألا وهو: أن المتصوفين يصلون إلى الله عز وجل عن طريق العاطفة الدينية والعلم الإلهي؛ أما حي المتصوف النظري فيتصل بالله عز وجل عن طريقالبحث والنظر، ويجهل تماما طرق الصوفية الدينية، وعلى هذا المذهب مذهب التصوف النظري سار فلاسفة الأندلس فولدوا بذلك نزعة جديدة ضد التصوف الديني الشرقي. على أن ابن الطفيل إن اختلف مذهبا لم يختلف عنهم نتيجة بل أدى به هذا المذهب إلى القول بالفناء والحلول، ولكنه حلول معتدل مغشى بستار القصة الخيالي. فانه عندما يفنى حي في الذات الإلهية ويوشك أن يعتقد أن ذاته لا تغاير ذات الله، وأنه هو الله. يبادر ابن الطفيل ليبدد هذا الاعتقاد، ويقول على لسان بطله (حي): إن هذه الهواجس التي عرضت له وأقنعته أنه ذات الحق، لم تكن الا من بقايا المادة والأشياء الدنيوية. وهذه النظرية هي ما ندعوها بنظرية الشمول ` نريد أننبحث في مثل هذه النظريات الإلهية(16/38)
بل نترك الخوض فيها إلى أولياء الله العارفين، تعالى الله عما يصفون.
فأبن الطفيل إذا يفضل الوصول إلى الله عن طريق البحث العلمي النظري، ويمثل لنا هذه النظرية ويدافع عنها في شخص (حي) وأنه استطاع بنظره وفكره السامي اكتشاف الحق تعالى، بدليل أن ابن الطفيل يدخل في القصة شخص آخر (أسال) وهو العقل المهتدي إلى الله عن طريق الدين والاجتهاد، فيعجزه عن الوصول إلى المقام الذي توصل إليه حي (وطلب حي مقامه الجليل فبلغه واقتدى به أسال حتى اقترب منه أو كاد) فلا ريب بعد ذلك في أن فيلسوف الأندلس يفضل الطريق النظرية على الطريق الدينية؛ وأنه ما استطاع أن ينجو من ورطة هذا القول الذي كثيراً ما جر على آخرين التعذيب والتنكيل، الا بواسطة هذا الوشاح القصصي الذي يلقيه على النظريات والمذاهب الفلسفية في رسالته النفيسة.
على أن ابن الطفيل لم يخل من اللوم، وأرباب الدين يؤاخذونه على أربعة:
1 - بإهماله أمر النعمة وسقوط الطبيعة البشرية. 2 - بتفضيله المعرفة بالعقل على المعرفة بالإيمان. 3 - باعتقاده ان الإنسان قادر على رؤية الله عز وجل في الدنيا. 4 - بأقواله المنتجة مذهب تأليه الكل أو البانتيسم الشمولي.
وما كان أحد ليخلو من عتب أهل الدين ولومهم. ومدار القصة بكاملها هي أن معرفة الله الفلسفية أسمى من المعرفة الدينية , وهذا ما لاقى في سبيله ابن رشد وإضرابه من التعذيب والاضطهاد ما لاقى. هذه لمحة (ربما تكون سطحية في قصة حي بن يقظان) عن النظريات والمذاهب الفلسفية التي تضمنتها، وربما عدنا إلى الموضوع في بحث آخر نفصل فيه العناصر الأجنبية في فلسفة ابن الطفيل وتعاليمه، ونختم الآن هذا الفصل في أن: فيلسوف الأندلس قد أجاد كل الإجادة في سبك قصته الفلسفية وأسلوبه فيها جميل وسهل وجذاب يقرب إلى ذهن القارئ الأقوال الفلسفية، ومع أن إنشائها سهل وبسيط رائق لم تخل أحيانا من التعقيد والغموض. ونتيجة القول أن هذا الكتيب النفيس مشحون بالتعاليم الفلسفية الإسلامية ترفرف عليه روح الافلاطونية الحديثة. ومن يطلع على هذه القصة يوافق الإفرنج على حكمهم: (إنها آية من آيات القصص العربية الحكيمة ومختصر فلسفة العرب).
طرطوس. سوريا. أحمد المحمود(16/39)
بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام
للأستاذ محمد عبد الله عنان
وكان الجيش الإسلامي في حال تدعو إلى القلق والتوجس، فان الشقاق كان يضطرم بين قبائل البربر التي يتألف منها معظم الجيش، وكانت تتوق إلى الانسحاب ناجية بغنائمها الكبيرة. وكان المسلمون في الواقع قد استصفوا ثروات فرنسا الجنوبية أثناء سيرهم المظفر ونهبوا جميع كنائسها وأديارها الغنية، وأثقلوا بما لا يقدر ولا يحصى من الذخائر والغنائم والسبي فكانت هذه الأثقال النفيسة تحدث الخلل في صفوفهم وتثير بينهم ضروب الخلاف. وقدر عبد الرحمن خطر هذه الغنائم على نظام الجيش وأهبته وخشي مما تثيره في نفوس الجند من الحرص والانشغال وحاول عبثاً أن يحملهم على ترك شيء منها؛ ولكنه لم يشدد في ذلك خيفة التمرد. وكان المسلمون من جهة أخرى قد أنهكتهم غزوات أشهر متواصلة مذ دخلوا فرنسا، ونقص عددهم بسبب تخلف حاميات عديدة منهم في كثير من القواعد والمدن المفتوحة. ولكن عبد الرحمن تأهب لقتال العدو وخوض المعركة الحاسمة بعزم وثقة. وبدأ القتال في اليوم الثاني عشر أو الثالث عشر منأكتوبر سنة 732م (أواخر شعبان سنة 114 هـ) فنشبت بين الجيشين معارك جزئية مدى سبعة أيام أو ثمانية احتفظ فيها كل بمراكزه. وفي اليوم التاسع نشبت بينهما معركة عامة فاقتتلا بشدة وتعادل حتى دخول الليل. واستأنفا القتال في اليوم التالي، وأبدا كلاهما منتهى الشجاعة والجلد حتى بدا الإعياء على الإفرنج ولاح النصر في جانب المسلمين. ولكن حدث عندئذ أن افتتح الفرنج ثغرة إلى معسكر الغنائم الإسلامى، وخشى عليه من السقوط في أيديهم، أو حدث كما تقول الرواية أن ارتفعت صيحة مجهول في المراكز الإسلامية بأن معسكرالغنائم يكاد يقع في يد العدو. فارتدت قوة كبيرة من الفرسان من قلب المعركة إلى ما وراء الصفوف لحماية الغنائم، وتواثب كثير من الجند للدفاع عن غنائمه. فدب الخلل إلى صفوف المسلمين، وعبثا حاول عبد الرحمن أن يعيد النظام وان يهدئ روع الجند، وبينما يتنقل أمام الصفوف يقودها ويجمع شتاتها، إذ أصابه من جانب الأعداء سهم أودى بحياته، وسقط قتيلا من فوق جواده، وعم الذعر والاضطراب في الجيش الإسلامي، واشتدت وطأة الفرنج على المسلمين وكثر القتل في صفوفهم، ولكنهم صمدوا للعدو حتى جن الليل، وافترق الجيشان دون فصل. وكان(16/41)
ذلك في اليوم الحادي والعشرين من أكتوبر سنة 732 م (أوائل رمضان سنة114 هـ)
وهنا اضطرم الجدل والنزاع بين قادة الجيش الإسلامي، واختلف الرأي وهاجت الخواطر وسرى التوجس والفزع. ورأى الزعماء أن كل أمل في النصر قد غاض فقرروا الانسحاب على الأثر. وفي الحال غادر المسلمون مراكزهم وارتدوا في جوف الليل، وتحت جنح الظلام جنوبا، صوب قواعدهم في سبتمانيا، تاركين أثقالهم ومعظم أسلابهم غنما للعدو. وفي فجر الغد لاحظ كارل وحليفه أودو سكون المعسكرات العربية فتقدما منها بحذر وإحجام فألفياها خاوية خاليةالا من بعض الجرحى الذين لم يستطيعوا مرافقة الجيش المنسحب، فذبحوا على الأثر. وخشى كارل الخديعة والكمين فاكتفا بانسحاب العدو ولم يجرؤ على مطاردته وآثر العود بجيشه إلى الشمال. هذه هي أدق صورة لحوادث تلك الموقعة الشهيرة طبقا لمختلف الروايات. والآن نورد ما تقوله الرواية الإفرنجية الكنسية ثم الرواية الإسلامية. أما الرواية الإفرنجية الكنسية فيشوبها كثير من المبالغة والتحامل والتعصب، وهي تصف مصائب فرنسا والنصرانية من جراء غزوة العرب في صور مثيرة محزنة، وتفصل حوادث هذه الغزوة فتقول إحداها: (لما رأى الدوق أودو أن الأمير شارل (كارل) قد هزمه وأذله وأنه لا يستطيع الانتقام إذا لم يتلق النجدة من إحدى النواحي، تحالف مع عرب إسبانيا ودعاهم إلى غوثه ضد الأمير شارل وضد النصرانية. وعندئذ خرج العرب وملكهم عبد الرحمن من أسبانيا مع جميع نسائهم وأولادهم وعددهم وأقواتهم في جموع لا تحصى ولا تقدر، وحملوا كل ما استطاعوا من الأسلحة والذخائر كأنما عولوا على البقاء في أرض فرنسا. ثم اخترقوا مقاطعة جيروند واقتحموا مدينة بوردو وقتلوا الناس في الكنائس وخربوا كل البسائط وساروا حتى بواتيو. . .)
وتقول أخرى: (ولما رأى عبد الرحمن أن السهول قد غصت بجموعه اقتحم الجبال ووطئ السهول بسيطها ووعرها، وتوغل مثخنا في بلاد الفرنج ومحق بسيفه كل شيء، حتى أن أودو حينما تقدم لقتاله على نهر الجارون وفرّ منهزماً أمامه لم يكن يعرف عدد القتلى سوى الله وحده. ثم طارد عبد الرحمن الكونت أودو، وحينما حاول أن ينهب كنيسة تور المقدسة ويحرقها التقى بكارل أمير إفرنج أوستراسيا وهو رجل حرب منذ فتوته، وكان أودو قد بادر بأخطاره وهنالك قضى الفريقان أسبوعا في التأهب واصطفا أخيرا للقتال ثم وقفت أمم(16/42)
الشمال كسور منيع ومنطقة من الثلج لا تخترق وأثخنت في العرب بحد السيف). (ولما أن استطاع أهل أوستراسيا (الفرنج) بقوة أطرافهم الضخمة، وبأيديهم الحديدية التي ترسل من الصدر تواً ضرباتها القوية أن يجهزوا على جموع كبيرة من العدو، التقوا أخيرا بالملك (عبد الرحمن) وقضوا على حياته. ثم دخل الليل ففصل الجيشان والفرنج يلوحون بسيوفهم عالية احتقارا للعدو. فلما استيقظوا في فجر الغد ورأوا خيام العرب الكثيرة كلها مصفوفة أمامهم تأهبوا للقتال معتقدين أن جموع العدو جاثمة فيها ولكنهم حينما أرسلوا طلائعهم ألّفوا جموع المسلمين قد فرت صامتة تحت جنح الليل مولية شطر بلادها. على أنهم خشوا أن يكون هذا الفرار خديعة يعقبها كمين من جهات أخرى فأحاطوا بالمعسكر حذرين دهشين. ولكن الغزاة قد فروا. وبعد أن اقتسم الفرنج الغنائم والأسرى فيما بينهم بنظام عادوا مغتبطين إلى ديارهم). وأما الرواية الإسلامية فهي ضنينة في هذا الموطن كل الضن كما أسلفنا ويمر معظم المؤرخين المسلمين على تلك الحوادث بالصمت أو الإشارة الموجزة كما سنرى، غير أن المؤرخ الإسباني كوندي يقدم إلينا خلاصة من أقوال الرواية الأندلسية المسلمة عن غزو فرنسا وعن موقعة تور ننقلها مترجمة فيما يلي: -(16/43)
في الأدب العربي
عكاظ والمربد
للأستاذ أحمد أمين
وكان لكل شاعر من شعراء المربد حلقة ينشد فيها شعره وحوله الناس يسمعون منه؛ جاء في الأغاني (وكان لراعى الإبل والفرزدق وجلسائهما حلقة بأعلى المربد بالبصرة). وكان الناس يخرجون كل يوم إلى المربد، يعرف كل فريق مكانه فيجلس فيه ينتظر شاعره، فقد روى الأغاني أيضا أن جريرا بات يشرب باطية من نبيذ ويهمهم بالشعر في هجاء الفرزدق والراعي، فما زال كذلك حتى كان السحر وقد قالها ثمانين بيتا في بنى نمير فلما ختمها بقوله:
فغمض الطرف انك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
كبر ثم أصبح حتى إذا عرف أن الناس قد جلسوا في مجالسهم بالمربد، وكان يعرف مجلسه ومجلس الفرزدق دعا فادهن ولف رأسه ودعا غلامه فأسرج له حصانا وقصد مجلسهم وأنشدها فنكس الفرزدق وراعي الإبل. ونرى بجانب هؤلاء الفحول أعنى جريرا والفرزدق والأخطل طائفة أخرى من كبار الرجاز يقصدون المربد وينشدون رجزهم، فالعجاج الراجز يخرج إلى المربد عليه جبة خز وعمامة خز على ناقة له قد أجاد رحلها ويقف بالمربد على الناس مجتمعين، ويقول رجزه المشهور: (قد جبر الدين الإله فجبر) ويهجو ربيعة فيأتي رجل من بكر بن وائل إلى أبي النجم ويستحثه على الرد عليه فيخرج أبو النجم ويستحثه على الرد عليه فيخرج أبو النجم إلى المربد ويقول رجزه: (تذكر القلب وجهلا ما ذكر)
ورؤية الرجاز ينشد رجزه: (وقاتم الأعماق خاوي المخترق) ويجتمع حوله فتيان من تميم فيرد عليه أبو النجم في رجزه:
(إذا اصطبحت أربعا عرفتني) كذلك نرى ذا الرمة يقف بالمربد وعليه جماعة مجتمعة وهو قائم وعليه برد قيمته مائتا دينار؛ وينشد دموعه تجري على لحيته: (ما بال عينيك منها الماء ينسكب) وينشد كذلك بعض قصائده فيقف خياط فينقد شعره نقدا شديدا ويسخف بعض تشبيهاته، فيمتنع ذو الرمة عن الذهاب إلى المربد حتى يموت الخياط. والأمراء والولاة قد(16/44)
يتدخلون فيسكتون بعض الشعراء. وقد يهجون بعضهم على بعض خدمة لأغراض حزبية أو سياسية فعبد الملك ابن مروان يأمر أبا النجم بالمفاخرة مع الفرزدق. وعباد بن حصين (وكان على أحداث البصرة) يعين جريرا على الفرزدق ويعير جريرا الدرع والفرس والسلاح. وهكذا كان المربد في العهد الأموي معهدا كبيرا أنتج أدبا غزيرا من جنس خاص. وكاد هذا الشعر يكون امتدادا للشعر الجاهلي. لاتحاد الأسباب والبواعث، فأما الشعر الغزلي كشعر عمر بن أبي ربيعة وأمثاله فليس له كبير أثر في المربد لأنه فوق النزال والمهاجاة والمفاخرة. فليس مجاله حياة المربد التي وصفناها.
المربد في العصر العباسي:
بقى المربد في العصر العباسي. ولكنه كان يؤدي غرضاً آخر غير الذي كان يؤديه في العهد الأموي. ذلك أن العصبية القبلية ضعفت في العصر العباسي بمهاجمة الفرس للعرب. وأحس العرب بما هم فيه جميعا من خطر من حيث هم أمة لا فرق بين عدنانيهم وقحطانيهم، فقوى نفوذ الفرس وغلبوا العرب علىأمرهم. وبدأ الناس في المدن كالبصرة يحيون حياة اجتماعية هي أقرب إلى حياة الفرس من حياة العرب؛ وانصرف الخلفاء والأمراء عن مثل النزاع الذي كان يتنازعه جرير والفرزدق والاخطل وظهرت العلوم تزاحم الأب والشعر؛ وفشا اللحن بين الموالي الذين دخلوا في الإسلام؛ وأفسدوا حتى على العرب الخالصة لغتهم؛ فتحول المربد يؤدي غرضا يتفق وهذه الحياة الجديدة.
أصبح المربد غرضا يقصده الشعراء لا ليتهاجوا؛ ولكن ليأخذوا عن أعراب المربد الملكة الشعرية، يحتذونهم ويسيرون على منوالهم؛ فيخرج إلى المربد بشار وأبو نواس وأمثالهما، ويخرج إلى المربد اللغويون يأخذون اللغة عن أهله ويدونون مايسمعون، روى القالي في الأمالي عن الأصمعي، قال: (جئت إلى أبى عمرو بن العلاء فقال لي من أين أقبلت يا أصمعي؟ قال جئت من المربد؛ قال هات ما معك، فقرأت عليه ما كتبت في الواحي: فمرت به ستة أحرف لم يعرفها، فخرج يعدو في الدرجة وقال: شمرت في الغريب. . أي غلبتني). والنحويون يخرجون إلى المربد يستمعون من أهله ما يصحح قواعدهم ويؤيد مذاهبهم، فقد اشتد الخلف بين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة في النحو وتعصب كل لمذهبه؛ وكان أهم مدد لمدرسة البصرة هو المربد؛ وفي تراجم النحاة تجد كثيرا منهم من(16/45)
كان يذهب إلى المربد يأخذ عن اهله، ويخرج الأباء إلى المربد يأخذون الأب من جمل بليغة وشعر بليغ وأمثال وحكم، مما خلفه عرب البادية وتوارثوه عن آبائهم؛ كما فعل الجاحظ؛ يقول ياقوت: إن الجاحظ أخذ النحو عن الأخفش وأخذ الكلام عن النظّام وتلقف الفصاحة من العرب شِفاها بالمربد. وبذلك كان المربد مدرسة من نوع آخر تغير برنامجها في العصر العباسي عن برنامجها في العهد الأموي وأدت رساله في هذا العصرتخالف رسالتها في العصر السابق.
آخر الأخبار عن المربد:
في ثورة الزنج التي ظهرت في فرات البصرة والتي بدأت سنة 255هجرية حدث قتال بالمربد بين الزنج وجيش الخليفة، فاحترق المربد؛ روى الطبري قال: يقول ابنسمعان: فاني يومئذ لفي المسجد الجامع إذ ارتفعت نيران ثلاث من ثلاثة أوجه: زهران والمربد وبنى حمان في وقت واحد، كأن موقديها كانوا على ميعاد، وجل الخطب وأيقن أهل البصرة بالهلاك. وتوالت فيه الحرائق وعوتب شاعر البصرة أبو الحصين بن المثنى على أنه لم يقل شيئا في حريق المربد؛ مع أن المربد من أجل شوارعها، وسوقه من أجل أسواقها، فقال ارتجالا في آخر حريق لها:
أتتكم شهود الهوى تشهد ... فما تستطيعون أنتجحدوا
فيا مربديون ناشدتكم ... على أنني منكم مجهد
جرى نفسي صاعدا نحوكم ... فمن أجله احترق المربد
وهاجت رياح حنيني لكم ... وظلت به ناركم توقد
ولولا دموعي جرت لم يكن ... حر يقكم أبداً يخمد
ويذكر ابن الأثير في حوادث سنة499 م أن سيف الدولة صدقة بن مزيد تقاتل مع إسماعيل فنهبت البصرة وغنم من معه من عرب البر. . . ولم يسلم منهم الا المحلة المجاورة لقبر طلحة والمربد. فان العباسيين دخلوا المدرسة النظامية وامتنعوا بها وحموا المربد وعمت المصيبة بأهل البلد سوى من ذكرنا. ويقول ياقوت (إن المربد كان سوقا للإبل، ثم صار محلة عظيمة سكنها الناس وهو الآن: (عاش ياقوت حتى سنة 626هـ) بائن عن البصرة؛ بينهما نحو ثلاثة أميال، وكان ما بين ذلك كله عامرا وهو الآن خراب،(16/46)
فصار المربد كالبلدة المفردة في وسط البرية). ثم عفا أثر المربد، ولم نعد نجد له ذكرا ذا قيمة، وأخنى عليه الذي أخنى على عكاظ؛ ومات بموته معهدان أدبيان اتصلت حياة الثاني منهما بحياة الأول فقاما نحو ستة قرون يخرجان شعراً وأدبا ونقدا كان من خير تراث العرب.(16/47)
من طرائف الشعر
ذقته مرتين
للأستاذ بشارة الخوري
أتت هند تشكو إلى أمها ... فسبحان من جمع النيرين
فقالت لها: إن هذا الضحى ... أتاني وقبلني قُبلتين
وفرَّ فلما رآني الدجى ... حباني من شَعره خصلتين
وما خاف يا أم بل ضمني ... وألقى على مبسمي نجمتين
وذوَّب من لونه سائلاً ... وكحلني منه في المقلتين
وجئت إلى الروض عند الصباح ... لأحجبَ نفسي عن كل عين
ناداني الروضُ يا روضتي ... وهمَّ ليفعل كلأولين
فخبأت وجهي ولكنه ... إلى الصدر يا أم مدّ اليدين
ويا دهشتي حين فتَّحتُ عيني ... وشاهدت في الصدر رمانتين
ومازال بي الغصن حتى انحنى ... على قدمي ساجداً سجدتين
وكان على رأسه وردتان ... فقدم لي تَيْنِك الوردتين
وخفت من الغصن إذ تمتمت ... بإذني أوراقهُ كلمتين
فرحت إلى البحر للأبتراد ... فحملني ويحه موجتين
فما سرت إلا وقد ثارتا ... بردفي كالبحر رجراجتين
هو البحر يا أمكم من فتىً ... غريق وكم من فتى بين بين
فها أنا أشكو إليك الجميع ... فبالله يا أمأتريْن
فقالت، وقد ضحكت أمها ... وماست من العُجب في بُردتين
عرفتهم واحداً واحداً ... وذقتُ الذي ذقته مرتين(16/48)
حلم
رأيتُ أمسِ حُلمُاً ... روعني في مضجعي
رأيتني مع الحبي ... ب في عتاب موجع
آلمتهُ من غيرتي ... ظلماً بلا تورع
ثم طلبتُ صفحه ... لكنه لم يسمع
فقد تولَّى مُغْضَباً ... ولم يُفد تضرّعي
وعندما أمسكتُه ... من ثوبه صاح: دعِ
لكنني عند انتبا ... هي من منامي المُفْزع
وجدتُهُ بجانبي ... مستغرباً من جزعي
يسألني في رقةٍ ... عن حُلُميوأدمعي!
كرمة ابن هاني. حسين شوقي(16/49)
ليل المعذَّب
هذا عُبابُ الظلام وافي ... يسحبُ فوقَ الثرى خُطاهُ
أعشَى عيونَ الورى عَماهُ ... وأفزعتْ في الكرى رُؤاهُ
// ليلٌ كلونِ الغرابِ داجٍ ... غُفْلٌ أغَمُّ اكتسى وقارا
كأنما النور في حَشاهُ ... عن مستهلِّ الصديعِ جارا
تَحسبهُ لجَّةً غَضوُباً ... كلُّ سَبوُحٍ بها غريقُ
أو مهمهاً موحشاً مُريعاً ... عُمَّارُه الدهرَ لا تُفيق
يَزْفِر وجداً به المعنىَّ ... فيستحيل الأسى دموعاً
ويستحيل العذابُ جمراً ... والقلبُ في كهفه صُدوعا
سورية، حمص. رفيق فاخوري(16/50)
حياة ثانية
أيُّ نورٍ ألقَي علىَّ غرامي ... فاشتريتُ الآمال بالآلامِ
كان ذا الجسمُ عُصبةً من جراحٍ ... تتنزى في هيكل من حطامِ
كان ذا القلبُ شعلةً من عذاب ... وشجون ولوعة وضرام
كان ذا الطرف منهلاً سرمَدِياً ... يغمر الروح بالدموع الدوامي
كنتُ واللهِ في شبابي شيخاً ... لاح للناس في مُسُوح غلام
كان ذا الشِّعرُ غنوة اليأس في القل ... ب وناياً أنعى به أحلامي
كان عمري كأنه حلكة اللي ... ل على الدُجَى المترامي
كنتُ لا أعرف التَبَسُّم حتى ... عوَّدتنى المنى ابتذال ابتسامي
شفَتَاي الحزينتان وقلبي ... وعيوني مدينة لغرامي
عالَمٌ أنتِ من جلال وسحرٍ ... وجمالٍ وفتنةٍ وسلامِ
فيك أمر غير الجمال سيبقَى ... أبد الدهر حيرة الأيامِ
فيكِ سحرٌ من السذاجة والطه ... ر يمدّ الشعور بالا لهام
قد هجرتُ الكروم والحان والس ... اقى وصوت الكؤوس والأنغام
وأبيتُ الحياةَ الاَّ خيالا ... وعشقتُ الحياة بالأوهام
تساقي بها الكؤوس من الس ... حر ونحيا في روضة الأحلامِ
والأزاهير حولنا تَتَثنَّى ... راقصاتٍ بغير جرحٍ دوامي
وطيور الخيال فيها تَنَاغَي ... برقيق الغناء عذب الكلام
كل شئ حتى الأنين أراهُ ... مستحبَّا مُوَقَّعَ الأنغام
أشربي الكأس واتركي ليَ فيه ... قُبلةً تستقر بين عظامي
قبلَ أن يخطر النسيم فيمضي ... بأمانِ الهوَى ويذروُ حطامي!
صالح جودت(16/51)
الذكرى
// لمن آهاتيَ الحرى ... إذا ما أظلمَ الكونُ
ودمعةُ مقلة شكري ... يغالبُ سكبَها الجفنُ
ذكرتُ هوايَ مذ شبّا ... مع الأحلام فتانا
فَرُحْتُ أقطع القلبا ... وأذري الدمع هتانا
ذكرتُ شفاهنا تدنو ... وما تفترُ في اللثمِ
كلانا مدنف يحنو ... كأنّ العيش في حلمِ
ذكرت البدر والأفُقا ... ونجمة قلبيَ الدامي
ذكرت بخدها الشفَقا ... وفي العينين أحلامي
ليالي الأنس لم تبْق ... لقلبي غير ذكراها
يعانقُ طيفها عُنقْي ... وثغري لاثم فاها
أشاهد طيفها الباكي ... مع الأدمع جوَّالا
وأسمع صوتها الشاكي ... يذيب القلب منهالا
سلاماً أيها الحبُ ... وإن أورثتني شجوا
يخلد عهدَك القلبُ ... على ما فيك من بلوى
دمشق. م. جميل سلطان(16/52)
على لسان شاب مصري في الثلث الأول من القرن
العشرين
ألاكم مر جيل بعد جيل ... وماضي المجد لا يبغىإيابا
تنقل في بلاد الأرض طراً ... وغادر مهده منه يبابا
إلى أن عاده شوق لأم ... تكابده من تنائيه عذابا
فحياها وأرسلها إليها ... رياحاً قد رددن لها الصوابا
سرين وقد حملنلنا جلياً ... نداء للمكارم مستجابا
كذا قمنا بعزم ليس يخبو ... لنرفع مصر في الدنيا شهابا
نعيد لها الشباب وكان حتما ... علينا أن نعيد لها الشبابا
صحا فينا (الضمير) فماد شعب ... صحا للمجد يطلبه طلابا
يعد الفكر في ثقة سفينا ... لبحر العيش مصطخبا عبابا
علينا الواجبات هناك شتى ... وطرح الضيم أولها حسابا
فما نشطت بذاك العبء قوم ... إلى فضل ولا شرفوا جنابا
بنى مصر الكرام سلام بدء ... إذا ما نلتم العلياء طابا(16/53)
في الأدب الشرقي
من الأدب التركي الحديث
عبد الحق حامد
للدكتور عبد الوهاب عزام
نشرت في (الرسالة) الماضية ترجمة المقدمة المنثورة التي كتبها شاعر التركالأكبر للمرثية الكبرى التي رثى بها زوجه فاطمة وسماها (المقبر) ووعدت أن أنشر في هذا العدد مثالا من شعر هذه المرثية. ولا أكتم القارئ أنى حين وضعت الكتاب أمامي (وهو زهاء ألف بيت تدفق بها قلب الشاعر الحزين على غير ترتيب) لم أدر كيف أختار: الرسالة لا تتسع للإسهاب، والإيجاز لايفي بالإبانة. ولولا وعد لقراء الرسالة سبق ما كلفت نفسي هذا الشطط. عبرت الكتاب أنتقي من صفحاته، أبدأ ترجمة الفكرة ثم يضطرني إطناب الشاعر إلى الوقوف دون غايتها. وأجد البيتالفرد البديع مكملا ابياتا كثيرة فلا أستطيع أن أترجمه وحده، ولا أن أترجم كل ما اتصل به، على أن في بعض الأبيات إبهاما وغموضا وفي بعضها اضطرابا. وقد وصف الشاعر كتابه في المقدمة التي يذكرها القارىء، وقد ترجمت عجلان حين ضاق الوقت، حتى أرسلت المقال بالبريد على قطعات، من خوف (الزيات):
أواه لم يبق الحبيب ولا الدار، وبقى قلبي ملؤه الأحزان والأكدار. كانت هنا الآن فصفرت منها اليد؛ جاءت من الأزل وذهبت إلى الأبد.
ذهبتُ وبقيت هي ترابا، وحلت رفاتها قفرا يبابا. أواه إنما بقى من أنس القلب الكريم، قبر في بيروت مقيم.
أين أين أفتش عن هذا الحبيب؟ ومَن أسائل عن هذا الغريب.
ياربَّ! أين أين هي: في الأرض أم السماء؟ ربّ! من قذف بي في هذا الشقاء؟
يقولون: إنس خِلّ الوفاء، فقد سلك طريق البقاء. هل يسع الخيال هذهالحقيقة، وهل ترى العين هذه الفجيعة؟
ما أسرع ما انقلبت بي الحال! انقلابٌ لا يصدقه الفكر والخيال. أرى شيئا، أراه يشبه القبر! ويشبه الحبيب حين أنعم النظر.(16/54)
تمضي بي على الشك الليالي، ويزيد على مرّها حزني ووبالي. إنها صدمة انقلاب قتّال، فليت شعري هل حُم لي الزوال؟
هلمّ فاطمة أصعدي من اللحد، وارجعى سيرتك التي أعهد.
لاتكتمي عنى هذا السّر. وأفصحى بكلمة. أواه إنما أريد كلمة منك.
ابتسمي ابتسام الورد، وداوي جرح القلب. وأتمي أيام حياتي بنظرة معسولة، أو بسمة ساحرة.
أقبر هذا؟ ما هذا الذي أرى؟ أمكان الحبيبة هذا الثرى؟ إنها لمحنة، إنها لحيلة، إنها لفنائي وسيلة.
أنظر أنظر كيف حال الياسمين المنوّر، وانظر إلى الوجه الوردي كيف اغبرّ: تعسا لك تعسا أيها الجَدّ الأعسر، وياويلتا إلى يوم المحشر.
ربّ ما غاية هذا العيش الأغبر؟ وما غَدُ هذا البشر؟ أبلغ فكري روحها، أو سيِّر روحي إلى ترابها. . . . .
ربّ ما هذا الصفر في الحساب، لكل الأرقام إليه انقلاب. أهو عدم ذو وجود أو قبر في اضطراب؟. . . . . . .
لقد تولاّها السقام، وملأت صدرها الآلام، تضحك وضميرها في عذاب، تخفي بضحكتها خفي الأوصاب.
وكم حسبها الناس في سرور، وما سرورها إلا الحزن المكتوم، حتى ملأت باليأس نفسي، وأثارت الفتنة في قلبي.
القبر منتهى هذه الدقائق، وسر عجيب من أسرار الخالق. نور كلما مال للغياب، هبط إلى كومة من التراب.
هذا أعلى الشواهق، وهذا أروع الحقائق، أيها الشقي تلك حقيقة لا تدرك. هذا شأنك، وهذه في الدنيا حالك. . . . . . . .
لقد كانت شعرا بليغا مهما، كان فكرها شاعرا ملهما. (صحراء وتزر وأشبر) من وحيها وما كنت الا واسطتها. . . . . . . . .
كنت أفهم هذا الوجه الشاحب، الذي منح شعري اللون المعجب. تأبى أفكاري أن يكتب(16/55)
ويُفهَم، وهل تنحت الجبال بقلم؟
اجتمعت ضروب الآلام في صدرها، والناس في غفلة عن أمرها؛ كان كل من رآها يشفق عليها ويحبها، ولا يدرى لماذا؟. وكانت ملكة الخلق الكريم، والفكر السديد. تشعر بخطرات نفسي وتقرأ أسارير وجهي.
وكانت وإن لم تكثر الكتابة ملهمة لاتخطيء الإصابة، وكم فتنت منها بالكلم الدقاق والذكاء العجيب، قد عمر بها شعري الخراب، وتلألأ فيه صنعها العجاب. كانت نجى الأفكار في نفسي خبيرة بالكلمات التي تندّ عنّي.
تذبل الوردة الناضرة فتخلفها وردة أخرى تضئ مكانها وتفترّ، كأن الأولى لم تتغيّر. وتغرب الشمس المنيرة فإذا هي في الصباح مشرقة. ولكن شجرة الورد هذه لن تزدهر، ولكن هذا النجم في غروب مستمّر.
سلكتْ بي الفِكَرُ ألف سبيل وراءك أيها القمرَ فعيّ العقلُ دونك وأقصر. صاعقة ولكن لا يسمع صوتها، ونور يسقط ولكن لا يبين ضياؤه.
يا رب أين أين الحقيقة؟ أجعلت الغم سر هذه الخليقة؟
مهما طال بي الأنين واستمر، فما هو الا كأنين الشجر. . . . . .
لاريب أن حياتي سم أتجرعه، فيدنيني من الموت الذي أرتقبه،
شرِّح هذا الوجود فهو عدم، وقلِّب هذا السرور فهو ألم،
ليت شعري أفي الموت نجاتي؟ ليت شعري ماذا يحبب إلى حياتي؟ قد أنهدمت خليقتك عليَّ يا رب فكيف تحتها ثباتي؟
حسبي حسبي سموم هذا القهر، حسبي حسبي طغيان هذا النهر. أليس لهذه السيول تناهي؟ حسبي جرعة واحدة يا الهي.
ما بقائي في الدنيا! أعضو أنا في جسم الدهر؟ أأنا يا رب مرآة جلالك أم أنا شعاع من جمالك؟. . . . .
أمامي مسجد التوحيد الوضاء، وفي عقلي الشك وفي قلبي الرجاء. وفوقي لقاء السرمدية وتحتي فناء الآدمية.
أرجو من الخالق خلودا، فيبدو لي التراب والحجر وعيداً وأقول أن الإنسان لا مرية، إلى(16/56)
الفناء، فتصيح روحي: كلا إنه للبقاء. إن لم يكن للبشر مزية في الوجود، فلماذا توحي إليه المشيئة الخلود؟ أيها القبر إنما هذا السكوت، خطاب الحي الذي لا يموت.
(يستمر الشاعر يقيم الحجج على خلود الإنسان ثم يرجع إلى خطاب حبيبته ثم يخاطب الله بين الاعتراض والتسليم إلى أن يقول)
رب كيف لا أشكو؟ ألا يصيح الجريح؟ ما هذا القبر الذي أمامي؟ وضعت فيه حبيبا جميلاً، وجعلت التراب حدود عقلي، وحبست إدراكي على هذا الحجر. واعتصمت بك فهويت عليَّ. إن لم يكن للبكاء جدوى فكيف يسكت القلب اللجوج عن الشكوى؟ لماذا تئن الطيور في الأوكار؟ أليس لقلبي أغنية كهذه الأطيار؟
قالت لى يوما في اضطراب: جئت إلى الهند لأموت في اغتراب. فضحكت من قولها وتكلفت الثبات، ولكني أحسست أن قلبي قد مات. ثم ودعنا الهند بين الموت والحياة. جاوزنا القناة في غم وكرب، وليس القوت الا دم القلب. كلما سألت أجاب السعال الظالم. ذلك الجورب المظلم. حتى إذا لم يبق الا رمق، لاحت بيروت في الأفق. ومر يوم ولم أدر بما كان وسألتها فإذا النعش عِيَان.
النعش هذا الدليل دليل المقبر، النعش ذلك الهيكل الأغبر، النعش ذلك الخطيب الأصم الأبكم، النعش ذلك الهمود المجسَّم، النعش هذه السكتة المحيرة، النعش تلك المصيبة المكررة، النعش ذلك الانقلاب الصموت. ذلك الحدِّ المتحرك للعقل المبهوت. النعش خرابة الأمل الخامد، النعش ذلك الاغبرار الخالد. النعش ظل المحشر على الأكتاف، النعش ذلك الموت المتموج ألتفَّت على هذه الروح ألواحه ففتحت ذراعيَّ للموت. . . أيها التراب المضيء، تراب الحبيب الصامت! أيها النور الأسود الثابت! إن قلبي ليتحطم من جمودك، وان روحي لتموت من خمودك.
لا لا، ليس ترابا انه موت نابت. لا لا، ليس موتا انه جؤار صامت. لتحرس الملائكة هذا القبر ولتضيء عليه الثوابت.
ليس تراباً كله قبر الحبيب، أن له قبرا آخر من النسيان الرهيب. النسيان أسفل المقابر، النسيان مقتل الأكابر. وقبر آخر ذلك القلب الهباء فهو والتراب سواء. فالحبيب ذلك الملك المسافر، طائر بين هذه المقابر. . .(16/57)
يارب ما أعظم محبتك التي أرى وما أعظم رحمتك التي تفيض بها الأرجاء كلها! ألا يفنى في هذا كله الفراق المنبعث من القبر؟ هذه الأنجم ضياء وحدتك، ورحى كذلك أحد كواكبك، والحبيبة التي كانت ملكا (طارت لاريب) إلى جنَّتك، كلما ذكرتك اتسع خيالي، وصارت فجرا منيرا هذه الليالي. ما أعظم اسمك أنسا للروح، انه يسير إليك في صيحات الفؤاد المجروح؛ أقول (الله) فيتفسح المجال، أقول (الله) فيفارقني الزوال. بحركة هذا الصوت الأعظم، يطير جناحي وإن حَطَمَه الغمُّ، أنتَ أقرب إلى الله يا محمد، أيها العقل المعظم المؤبد، أنت الذي سلكت بنا السبيل، وكنت إلى الله الدليل. ليصمت بعدُ هذا النواح، فلا تضيق به الأرواح، هذه الآهة التي تفيض من الروح، لن يسمعها بعدُ الا قلبي المجروح سأكون في الدنيا قبرها، تطوف فوقي روحها، سأصمت عن هذا النحيب، لأفرغ للتفكر في الحبيب.(16/58)
في الأب الغربي
وإذا أتى يوماً؟
قصيدة لموريس ماترلنك
للأستاذ أبي قيس عز الدين علم الدين. عضو المجمع العلمي العربي
بمناسبة ما نشرته الرسالة البارعة في العدد الرابع عشر من رواية بلياس ومليزاند ترجمة الأستاذ حسن صادق، أبعث للرسالة بقصيدة تعد من روائع الأب الرمزي، وقد نقلت إلى معظم اللغات الغربية، وأما شاعر هذه القلادة المروية فهو الأديب البلجى الكبير موريس ماترلنك ولد في غاند سنة 1862، وقد نشأ مفطوراً على حب الأب، فحذق الصناعتين ويعده البلجيون من عباقرة شعرائهم وكتّابهم الخالدين: وقد أدخل في الأب البلجى أسلوباً جديداً وامتازت قصائده بطابع حزن عميق يثير مكنون الأسى، وأما رواياته التمثيلية فإنها تقنع مطالعها بأن حياة الناس خاضعة لعوامل خفية، وأن العالم الأرضي مفضي عليه بقضاء وقدر مضاعف: قدر الحِمام، وقدر الغرام. وأهم آثاره: بيوت الزجاج (1889)، الأغاني الاثنتا عشرة (1897)، الأميرةمالين (1889)، العميان (1890)، بلياس ومليزاند (1892)، العصفور الأزرق (1911)، كنز المتواضعين (1896)، الحكمة والقدر (1898)، حياة النحل (1901). والآثار الثلاثة الأخيرة تدل على براعة ماترلنك وعبقريته، وعلى رسوخه في فلسفة الأخلاق وعلى شاعر يته الجبارة. وأما قصيدته الخالدة الموسومة بعنوان (وإذا أتى يوماً؟) فهي من مرويات أغانيه الاثنتيعشرة، ويعود تأثيرها البليغ إلى تأثير موقفها الفاجع، ولعمري أي أمر أفجع من موقف شقيقتين تحتضر إحداهمافتسألها الأخرى عما تجيب به أسئلة خطيبها إذاما عاد يوماً من دار هجرته إلى دار مهجته، فتجيبها، ولم يبقى من شقيقتها إلا حشاشة، بأجوبة رمزية تشبه غصص المنية، وإليك الآن هذه الأغنية تلتاع القلوب الشاعرة لزفراتها، وتنتزع العقول العبرة من عبراتها. . .
سوإذا أتى يوماً وعاد=فما أقول لمن يعود؟
جقولي له: انتظرتك حتى=فارقت هذا الوجود(16/59)
سوإذا ألحّ وليس يع=رفني ليكتشف الحقيقة؟
جفتحدثي معه كما=تتحدثينإلىشقيقه
سوإذا تساءل: أين أنت=فما يكون جوابه؟
جأعطيه خاتم خطبتي=الذهبي فهو جوابه
سوإذا إستراب وقد رأى=في المخدع الخالي العجاج؟
جفأريه أن الباب مف_توح مذانطفأ السراج
سوإذا استزاد مروَّعاً=عن حال ساعتك الأخيرة؟
جقولي له: ابتسمت مخا_فة أن تنوحَ على الكسيرة(16/60)
بوفون
تمخضالعالم عن شخصية (جورج لكلارك قونت بوفون) في مدينة (مونت بار) عام 1707. ولما يفع وترعرع دخل معهد الآباء اليسوعيين، ليحتلب من ضرعيه علوم القرن الثامن عشر؛ ولكن نفسه الجبارة، نزعت إلى الطبيعة الخلابة، فودع بقية العلوم في ذلك المعهد، وراح يضرب في أنحاء إيطاليا وإنجلترا، يتحرى قوانين الطبيعة فيأماكنها، ويدرس طبائع الحيوان والنبات عن كثب، شأنالبحاثة المدقق الذي لا يرضى بما لاح من صيد، ولا يعود من مغامرته بالقشور دون اللباب. فانكب على العلوم الطبيعية، يقتلها درساً وتحقيقاً، حتى ضرب فيها بسهم صائب، وبلغ منها ما أمل وما أراد؛ ولم يَدرُ مع الأرض حول الشمس 26 دورة حتى انتخب عضواً في (أكاديمية) العلوم. وبعد هذا التاريخ بست سنوات عين ناظراً عاماً (لبستان الملك) الذي يطلق عليه الفرنسيون اليوم اسم (بستان النبات). كان (بوفون) إذا أراد الكتابة، اعتزل الضوضاء في غرفة منزوية، وارتدى ثوبه ذا الأكمام الموشاة، والناطق باسم مقامه العإلى، وتقلد سيفه المحلى بحلي ثمينة، ثم جلس إلى مكتبه يتخيرلافكاره أشرف المباني، ولعواطفه أرق التعابير، وحينما ينتهي من كتابته يعيد قراءة ما دبجته براعته، بصوت مرتفع أجش، وجنان تتجاوب في إرجائه عواطف الحماسة والعظمة، حتى إذا ما هذَّب ونقح، وتلا ما كتبه ثالث مرة: غادر مكتبه وماء البشر يترقرق في وجهه، ونشوة السرور تدب في جسمه. اشتغل بوفون مدة خمسين عاماً في تأليف كتابه (التاريخ الطبيعي) جوهرة ألامس ودرة اليوم، ولكن المنية شعبته فحالت دون تدوين دراسته المستفيضة بكاملها، فظل الكتاب مبتورا تنقصه أبحاث مهمة كالأفاعي والأسماك، والحشرات والنبات، وقد سد هذه الثغرة في هذا الروض الاريض (لاسيد) تلميذ بوفون المخلص، وصديقه الحميم.
ومهما يكن من شيء فان شهرة (بوفون) مازالت تطوي المراحل وتجوب الأمصار، وسمعته ما نفكت تسير بذكرها الركبان، وتتجاوب بصداها المحافل. وقد عرف له مواطنوه نبوغه، فانتخبه المجمع العلمي الفرنسي عضوا فيه، وانعم عليه لويس الخامس عشر بلقب (قونت). ولم تحترمه يد المنون في عام 1788 حتى رأى تمثاله منتصباً في مدخل متحف التاريخ الطبيعى، وقد حفر عليه باللغتين الفرنسية والألمانية: (إن عظمة الطبيعة تساوى عبقريته) ولست لأعرض الآن لأدبه بالتحليل والنقد، فعساي أن أعود إليه في يوم آخر،(16/61)
ولكنى مترجم هنا آية من آياته الخالدة، في وصف الصحراء العربية.
صحراء جزيرة العرب
تصور بلاداً لا تتنفس عن اخضرار، ولا تترقرق في مآقيها المياه! شمسها تتقد اتقاداً، وسماؤها أشد جفافاً من الضرع الذاوي. تستر الرمال أدُمَ وديانها، وتسيطر جنود الجدب على جبالها!! تطل عليها الباصرة فيضل البصر فيها دون أن ينعم برؤية شيء تتجاوب فيه خطرات الحياة. أرض جر عليها الموت أذياله، قد عصفت فيها أعاصير حاصبة، نزعت عنها غلالتها الرملية، فلا يصطدم فيها نظرك العُقابي، إلابهياكل عظمية، وحصباء منتثرة، وصخور منتصبة، وأخرى مستلقية.
صحراء ليس بينها وبين وهج الشمس من حائل، فليس بمقدور المسافر أن يفيء إلى ظلال بليلة. هنالك لا صاحب فيؤنس وحشته، ولا شيئاً حياً فيذكره بالطبيعة الحية: عزلة مطلقة، وارفة الجناحين، ترعب أكثر من ألف مرة من عزلة الغابات، لأن الأشجار كائنات حية في نظر المنفرد المسكين الضال في هذه المهامه الخاوية، والمتمردة على سلطان الحدود. يتراءى للمسافر حيثما أشاح بوجهه، أن قبره منبوش في هذه الفيفاء: فيرى نور النهار الساطع، أكأب من حلوكة الليل الدامس، لأن هذا النور لا ينبعث الا لينير له عن خوره وارتخاء مفاصله، وإلا ليمثل له هول موقفه وحراجته، ذلك أنه ينأى عن عينيه حدود الخلاء. ويزيد في بسطة هوة الأتساع، تلك الهوة التي تفصله عن الأراضي الآهلة. رقعة واسعة تكفيه مؤونة التطواف، ففيها جوع كاسر للطرف، وفيها ظمأ عاصب للفم، وفيها حرارة قادحة للثقاب. هذه كلها تضغط على ما بقى لديه من لحظات تتردد بين اليأس والموت).
حلب ـ عبد الوهاب حومة(16/62)
بحر ناعس
لجون فريمان
بحر
كالطفل الغارق في سباته.
يحتفظ
بخوالج وجدانه في نهاره ليرددها على لسانه في ليله
لا تكاد
تطفح لجته المرتفعة حتى تخور فتتراجعفي هوادة وبطء
والبحر
في هدوئه كركود الطفل في غفلته. القمر من هزاله كلهب الشمعة يذوي ويحتضر.
لا صوت
بالبحر كالطفل الحالم وفي سكرة نومه الحادة يئن بخفوت مؤلم. ثم يرسل من أعماق صدره زفرات حارة في تأوهات صامتة. لقد تشابها.
منوف. أحمد محمد البيه(16/63)
اللقاء العجيب
لأندره شينه
هي: أيها الغاب هل رأيت حبيبي=قرب ماء الغدير عند الغروب؟
كم صباح أتاك بل كم مساءٍ ... عند همس الصَّبا وشَدْو الجَنو
سوف أصغي لكل صوت بعيدٍ ... فلعلِّي أحظى به من قريب
هو: إِيه يا موجة الغدير سلاماً=يا عروس الماء النمير السَّكُوب
احملي لي حبيبتي فهي عندي ... زهرة الحب فوق غصن رطيب
كم لثمت العشب الذي وطئته ... قدماها في الغاب دون رقيب!
هي: آه لو يعلم الحبيب بشوقي=وحنيني وحرقتي وشحوبي
هل أراه في الغاب؟ إن خيالي ... لَيراه في ذا المكان الرحيب
سوف أدعوه بابتسام وعطف ... فعساه يكون بعدُ مجيبي
هو: رب هب لى رحماك صبراً جميلاً=إنما الصبر جُنَّة المكروب
هل أتاها أني ليخفق قلبي ... لسماع اسمها الجميل الطروب؟
سأنادي دوماً بصوت حنونٍ ... علَّها أن تجيب صوت الحبيب
هي: آه إني رأيته فأعنيّ=يا لساني في ذا اللقاء الرهيب
إيه يا ناظري ويا شفتيا ... إهدَآ ساعة اضطراب القلوب
هو: ما لهذه الأوراق تهتز دوني؟ =قد بدا لي ثوب الفتاة اللعوب
إنه ثوبها فيا مقلتيا ... عبرا عن غراميَ المحجوب
هي: أهنا أنتَ؟ إن ذا لعجيب=أنا وحدي في ذا المكان الجديب
لم أفكر في أن أراكَ ولكن ... جُزْته نحو بيتيَ المحبوب
هو: أنا ألهو برؤية الموج وحدي=وذُرى الزيزفون تجلو كروبي
لم أفكر في أن أراكَ أمامي ... لم أفكر في ذا اللقاء العجيب!
دمشق. محمد ناجى الطنطاوي(16/64)
العلوم
نشوء الكائنات الحية على وجه البسيطة
للأستاذ السر آرثر طمسن
خلال الأدوار الأولى لتاريخ الأرض لم يكن في مقدور أي مخلوق حي نتصوره أن يعيش وسط تلك الظروف، فقد كانت الحرارة مرتفعة جدا، وكان الهواء والماء معدومين في وجه البسيطة، إذن فلابد من ظهور المخلوقات الحية منذ عصور سحيقة في القدم لا نستطيع معرفة تاريخها؛ أما كيفية ظهور الحياة للمرة الأولى فلا يعلم أحد ذلك بالضبط، وكل ما هنالك احتمالات متباينة نأتى على ذكر أهمها:
منذ القديم كان الاعتقاد السائد ان الحياة نشأت من طينة الأرض بطريقة خارجة من نطاق البحث العلمي، على أن هذا الرأي يفسد علينا فهم المسألة لتسرعه في الحكم عن نشوء الحياة بهذا الشكل، فإذا كنا لا نعتبر هذا الرأي علميا فذلك لأن العلم لا يعطي قرارا جازما ولا يبت في أمور لها من الشك نصيب كبير. وذهب فريق من العلماء وعلى رأسهم الأستاذان (هلمهلتز و (اللورد كلفن إلى ان المخلوقات الحية البسيطة لم تنشأ من صميم الأرض بل جاءت إليها من الخارج محمولة بقطع الشهب المتساقطة أو بواسطة الغبار الكوني، على أن تلك الكائنات ظلت في حالة السبات لعدم ملاءمة الظروف لها حينذاك، وبهذه المناسبة يجب أن نتذكر ان بذور النباتات تستطيع أن تقاوم البرودة والجفاف زمنا طويلا، كما أن (البكتريا) تستطيع احتمال درجات مرتفعة من الحرارة دون أن تفقد حيويتها. وكما يرى الأستاذ انه طالما لا يحدث انحلال جزيئي ففي إمكان الأفعال الحيوية ان تتوقف عن العمل مؤقتا ريثما تعود الظروف الملائمة. إذن فنظرية اللورد كلفن تنسب أصل الكائنات الحية إلى غير الأرض.
وذهبت فئة أخرى من العلماء تقول بان المخلوقات الحية البسيطة نشأت على سطح الأرض من مواد غير حية أى من مركبات كربونية نصف سائلة بتأثير بعض الخمائر. وتعزز هذهالنظرية بما وصلت إليه أبحاث علماء الكيمياء التركيبية الذين نجحوا في تركيب بعض المواد العضويةكحامض الاوكساليك والنيل، وحامض الساليسليك والكافئين، سكر القصب بطرق صناعية بحتة. على أننا لا نعلم بالضبط من يقوم مقام العالم الكيميائي(16/65)
في مختبر الطبيعة!، ومهما كان الأمر ففي المسألة غموض وتعقيد كبيران لا نتخلص منهما الا بنتيجة واحدة وهي أن العلم لا يستطيع إلى الوقت الحاضر أن يقول كلمته فيها.
أول جسم عضوي على الأرض
إن أول ما يتبادر إلى ذهننا التساؤل عنه هو كيفية نشوء المخلوقات الحية الأولى على الأرض أو بالأحرى عن الحياة التي كانت تغطي وجه البسيطة في ابتداء طور تكونها. ولأدراك ذلك علينا أن نستعين بابسط المخلوقات الحية في الوقت
الحاضر كبعض أنواع البكتريا أو العضويات الأحادية الخلية وخاصة المسماة منها بالأحياء الأولى التي لايمكن تعيين انتسابها إلى المملكة الحيوانية أو النباتية. لاشك أن الجزم في مثل هذه الأمور يعد تطرفا لا يجيزه العلم: إنما يميل العلماء إلى التسليم بالنظرية القائلة، أن المخلوقات الاولى كانت كريات مجهرية من مادة البروتوبلازم الحية، لا تختلف عن أبسط أنواع البكتريا في الوقت الحاضر الا بكونها تستطيع المعيشة في الهواء والماء والأملاح الذائبة على السواء. ويظن أن العضويات البحرية الأحادية الخلية نشأت من هذا الأصل وكانت قادرة على صنع الكلوروفيل أو ما يشبهه وربما كانت هذه الوحدات الصغيرة الحية محاطة بغلاف سليلوزي. غير أن طاقتها الكامنة عظمت فتمخضت عن ذينبات أو شعيرات صغيرة مكنتها من تسيير نفسها في الماء للتفتيش عن الغذاء. ولا يزال من أمثال هذه العضويات كثير في الوقت الحاضر أغلبها يعيش في الماء والبعض منها (وهي نباتات بسيطة أحادية الخلية) تصبغ سوق الأشجار وحتى الصخور الرطبة باللون الأخضر وتدعى الخزيات ويرى الأستاذ ان البحار التي كانت تغطي وجه البسيطة في مستهل تاريخها كانت مأهولة بهذه المخلوقات المذنبة الخضراء التي وضعت الحجر الأساسي لعالم النبات. ويظن أن الأحياء الاولى ولدت سلسلة أخرى من المخلوقات المفترسة البسيطة لم يكن في وسعها أن تكوّن المادة العضوية (الغذاء) من الهواء والماء والأملاح فكانت تعيش على افتراس ما يجاورها من العضويات. إن هذه الوحدات كانت عديمة الغلاف السيليلوزي بحيث يسهل للمادة الحية أو البروتوبلاسم القيام بالعمليات الحيوية المتنوعة على نحو ما نراه الآن في الأميبا أو في كريات الدم البيضاء وغيرها. من هذه العضويات المفترسة نشأت المملكة الحيوانية بأسرها. نستنتج مما سبق أن(16/66)
الحيوانات الاولى والنباتات الاولى نشأت من الأحياء الابتدائية البسيطة ثم أخذ كل منها يسير في اتجاه خاص.
بداية نشوء النباتات البرية:
من المحتمل جداً أن المياه كانت تغطي وجه الأرض في أدوارها الأولى، وأن ذلك البحر المترامي الأطراف كان مأهولا بالنباتات الابتدائية من ذوات الشعيرات على أن انكماش القشرة الأرضية أحدث مرتفعات ومنخفضات في قاع البحار، واقتربت على أثر ذلك الطبقات الصلبة في بعض الأماكن نحو سطح الماء، فسمحت للنباتات العائمة أن تستقر هناك على مقربة من النور. هذا ما يصوره لنا الأستاذ (شرش) عن مبدأ النباتات وهي خطوة ذات شأن عظيم في سير التطور. ويظن أن أول نجاح صادفته الحيوانات كان بين هذه النباتات القديمة. وقد أخذت اليابسة بالظهور عندما ارتفع قاع البحر في الأماكن الضحلة تدريجيا. إن تلك النباتات الثابتة كانت أسلاف حشائش البحر التي تعيش على الشواطئ البحرية الآن.
الحيوانات الأولى
إن الحيوانات التي هي تحت مستوى (الحيوانات والاسفنجيات تدعى بالحيوانات الابتدائية أو البروتوزوا ومعنى هذه الكلمة الحرفي (الحيوان الأول) وكل ما نستطيع أن نقوله عن هذه الحيوانات أن أبسطها قد ينيرنا عن بساطة تركيب الحيوانات الأصلية الاولى. والواقع أن أغلب الحيوانات الابتدائية المعروفة في الوقت الحاضر هي على درجة من التعقيد لا نستطيع معه أن ندعوها (أولية) بالمعنى الصحيح، ومع أن أغلبها مجهرية الا أن كلا منها حيوان تام قائم بذاته يقوم بنفس العمليات الحيوية التي نقوم بها نحن، وتختلف عن الحيوانات العليا في عدم تكونها من الوحدات التي نسميها (خلايا) فهي إذن خلية واحدة مستقلة عديمة الأنسجة وعديمة الأعضاء (بحسب المفهوم العلمي لهذين الاصطلاحين) على أننا في كثير منها نعثر على تعقيد كبير في البنية الداخلية أكثر مما نقع عليه في الخلايا الاعتيادية التي تبنى منها أنسجة جميع الحيوانات الراقية، وبهذا الاعتبار نستطيع أن نقول أن المخلوقات الابتدائية هي مخلوقات حية تامة لم تكتسب التكوين الجسمي بعد.(16/67)
بدء تكون الجسم
قال العالم الطبيعي (لويس إن أكبر فراغ وجد في العالم العضوي كان مابين الحيوانات الأحادية الخلية والمتعددة الخلايا وبعبارة أخرى ما بين الحيوانات الابتدائية وما وراء الابتدائية ولكن لم يبق ثمة فراغ بين الفرعين بتطور الاسفنجيات وأمعائية الجوف والديدان البسيطة وظهورها بأجسام للمرة الأولى. فكيف نعلل تكون الجسم وهو في خطوات التطور الكبرى؟. ليس في استطاعتنا أن نعلم كيف حدث ذلك على وجه اليقين إنما يمكننا أن نبسط هذا الرأي المستمد من دراسة عميقة وبحث دقيق، عندما ينقسم الحيوان الابتدائي إلى شطرين أو اكثر (وهي طريقة التكاثر التي يتبعها) تنتشر الانسال وتعيش مستقلة بعضها عن بعض؛ ولكن بعض الابتدائيات لا تنفصل أنسالها بل تبقى مرتبطة مع بعضها فالفولفوكس وهو حيوان كروي أخضر اللون جميل يوجد في بعض الأفنية، ما هو الا مستعمرة لألف أو عشرة آلاف خلية ومن مجموع هذه الخلايا نبدأ بتمييز الجسم. على أن خلايا الفولفوكس هي من نوع واحد بينما نجد في خلايا الحيوانات التي تلي الابتدائية تخصص في العمل مما يدل على رقيها في توزيع الأعمال. فالجسم يبدأ بالتكون من تجمع قسم من المادة الحية حول كل نواة، ويرتقي تكوينه كلما حصل توزيع في العمل وتميزت الخلايا الجرثومية (أو التناسلية) فيه عن الخلايا الجسدية.
اكتسابات عظيمة
إن تناظر الجسم العام في حيوانات كشقائق البحر وقنديل البحر يكون شعاعيا أي لا يوجد له جهة يمنى أو يسرى ويمكن تنصيف الجسم بأكثر من سطح واحد. وهذا النوع من التناظر ملائم جدا لحياة الارتكاز أو الانحراف مع التيار. على أن حياة الديدان كانت تتطلب الحركة فاستدق طرفاها وصار لها جهة أمامية وجهة خلفية وأصبحت أغلب الحيوانات من الديدان إلى الإنسان ذات تناظر جانبي تتميز في جسمها جهات أربع ولا يمكن تنصيفها الا بسطح واحد. لاشك إن هذا النوع الآخر من التناظر يلائم حياة أكثر نشاطا من الحياة التي تستلزم التناظر الشعاعي، لذلك كان في وسع هذه الحيوانات الجانبية التناظر أن تفتش عن طعامها وتتجنب الأعداء وتتربص لاقتناص الزوج أو الزوجة. وقد(16/68)
رافق هذا التناظر تخصص القسم الأمامي من الحيوان للتحسس بالمؤثرات الخارجية، وهكذا تميز الرأس عن الجسم وكانت تلك خطوة أولى في تكوين الدماغ. ثم ارتقى الحيوان في مدارج التطور خطوات واسعة فكان له رأس نام فيه أعضاء للحس وتكون في جوفه سطوح داخلية واسعة كالجدار الهضمي ومناطق الامتصاص في قناة الطعام، ثم نمت فيه عضلات تتقلص وتنبسط فيه بسهولة، وأخيرا تأسس فيه نظام الدوران الذي جعل الدم وسيطا لنقل الأوكسجين والمواد الغذائية إلى كافة أنحاء البدن وحمل الإفرازات الضارة بالجسم لتفرز خارجا.
الهرمونات
وارتقت الحيوانات العظمية درجة أخرى بتكون غدد الإفراز الداخلي كالغدة الدرقية، والغدة الأدرينالية وغيرهما، وفائدة هذه الغدد تحضير مواد كيمياوية يوزعها الدم على جميع أقسام البدن، ولها أثر كبير في تنظيم العمليات الحيوية. وتعرف المواد الكيماوية التي تفرزها هذه الغدد باسم (هرمونات) التي تزيد في فعالية الأعضاء والأنسجة. إن بعض هذه الهرمونات تنظم النمو وتغير ضغط الدم وتركيبه بسرعة، والبعض الآخر يستدعي بعض أقسام البدن إلى النمو الفعال كغدد الحليب في الأم التي تتنبه بفعل بعض الهرمونات.
الموصل. تلخيص: بشير الياس اللوس(16/69)
الاقيانوغرافيا
أو تقويم المحيطات
بقلم الدكتور حسين فوزي. مدير إدارة أبحاث المصائد
- 2 -
أرموريك بلاد الأنواء! رابضة في درعها الجرانيتي عند الطرف الشمالي الغربي من فرنسا بين المانش والأطلنطيق. نشأ حول أخاديدها وجوناتها وخلجانها قوم من المجازفة عركوا أهوال البحر جنوبي أسلندة وشرقي الأرض الجديدة. ومن تلك الخلجان والجونات خليج دوارنينيه تشرف عليه من نواحيه المحمية من الريح الصرصر غابات الصنوبر. وهو في أغلب أنحائه عار أجرد تحف به منازل صيادي السردين قائمة إلى جانب الكنائس البريتونية المنحوتة من الجرانيت. عابسة للمحيط عابس لها. صامدة للعواصف تتلقاها على أسنة أبراجها الغوطية. الوقت منتصف الليل وقد شهدت نسوة الصيادين عند غروب اليوم عودة النوارس فازعة من عرض البحر. فوجفن للعاصفة وارتفعت أبصارهن إلى صور العذراء وتماثيلها في أركان القرية وتحت أعطاف الكنيسة وفوق الأسرة الخشبية يتعوذن بها لتحمي أزواجهن وأولادهن وعشاقهن من هول النوء المهاجم. وفي أشد ما يكون صرير النوء تنصت نساء سانتان دي لايالود وأوديرن ودوارنينيه إلى أصوات نواقيس تتصاعد من أعماق الخليج. تلك نواقيس عاصمة كورنواي الغارقة. (أيس) حاضرة الملك جرالون حامي حمى المسيحية الأولى في أشخاص قديسيها رونان وكورنتان وجينوليه. من دون أبنته داهوت التي ركبت مركب الشيطان ففتحت المغاليق التي تحمي مدينة أيس من الاقيانوس. يصيح سان جينوليه (البحر يا مولاي. بادر إلى جوادك) فيمتطي الملك جواده. وتقفز داهوت خلفه. ويحاول عبثا أن يلحق بالقديس السابح بجواده فوق العباب.
- النجدة ياجينوليه!
- ألق تلك الملعونة في اليم أو أنت من الهالكين.
وإذ تبتلع الأمواج داهوت يواصل الملك سراه حتى يوقفه جينوليه فيتلفت خلفه باحثا عن عاصمة كورنواى فإذا (أيس) لا أثر ولا عين طغت عليها أمواج خليج دوارنينيه.
كذا جاءنا حديث الخرافة بخبر مدينة (أيس) الغارقة. وخبر غيرها من المدائن. ليونيس(16/70)
وأسمايدا وسان يرندان.
ولو أن الأمر وقف عند حد الخرافة لارتحنا إلى قصص السندباد. وتهريف بعض كتاب العرب إذ يقصون نبأ الجزيرة التي ينزل إليها النواخذة فما أن يوقدوا نيرانهم حتى تميد بهم وإذا هي حوت هائل يتأهب للعودة إلى الأعماق. ولم نتساءل إن كان هذا حوتا أو تنيناً أو دابة من دواب البحر الأخرى على حد قولهم. ولكن فيلسوفنا له في نفوسنا إجلال وإعظام. هو أفلاطون ردد ما ذكر عن سولون من أنه عرف عن كهنة مصر بأمر جزيرة (أطلانطيس) الواقعة عبر أعمدة هرقليس في البحر المحيط وهي بلاد (أكبر من آسيا الصغرى وليبيا مجتمعين) غزا أهلها جميع شعوب البحر الأبيض الا شعب أثينا من تسعين قرنا خلت قبل ميلاد سولون. وعاد أفلاطون في موضع آخر إلى الإشادة بثراء (أطلنطيس) وحدّث بانخسافها في مياه الأقيانوس الغربي (الأطلنتي فيما بعد) فكانت عائقا للملاحة فيما وراء أعمدة هرقليس. أبى الخلف الذي يجل اليونان وفلاسفتها الا أن يصدق افلاطون فاعتقد بوفون ومونتيني وفولتير بحقيقة تلك البلاد المغمورة. وحاول الكثير أن يثبت أن الجزر السعيدة (الخالدات) هي البقية الباقية من (أطلانطيس) الجنة الأرضية. كذا كان هذا شأن الجزيرة التي قيل بأن القديس برندان عبر إليها المحيط. توجهت إليها بعثات الاستكشاف الأسبانية والبرتغالية حتى أتفق في سنة 1759 على أن جزيرة (سان برندان) لم تكن سوى سراب بحري. ولكم حدثنا جواب البحار بأحاديث بنات الماء معسولات النغم. يغررن بالنوتي فيلقى بنفسه بين أحضانهن فيحملنه إلى قصر ملك البحر في أعماق المحيط. وهو قصر (جدرانه من المرجان ونوافذه من أرق ما يكون القهرمان. سقوفه من أصداف تتفتح عن لآلئ. تظلله أشجار عجاب تسبح بينها أسماك ذات ألوان كأنها طيور لا تعرف الأسجاع).
وإذا كان النواخذة اهتموا بتعرف سطح المحيطات منذ أقدم العصور لأغراض الملاحة، فقد ظل باطن البحر سراً أمعنت في إغلاقه خرافات رواد البحار وأقاصيصهم بل وتلك المخلوقات الغريبة التي اصطنعوها اصطناعا ليدللوا بها على تهريفهم. ولا زلنا نذكر تلك السمكة التي اصطنع لها وجه قرد أو إنسان للتمويه بها على الناس بأنها من عجائب البحار. وقد رأيناها معروضة في متحف موناكو كأثر من آثار تلك العهود. ولم نذهب بعيدا(16/71)
وما فتئ صياد البحر الأحمر يتحدث إليك عن أسماك ذات أظلاف وشوارب أو شعور وصدر ناهد. وليس العهد ببعيد إن نشرت إحدى كبريات صحفنا صورة وحش بحري كبير لاصقة به سمكة صغيرة قيل عنها بأنها (تقوده لضعف بصره وتسعى لغذائه) وكأني بها تقود أوديب الأعمى خارج أسوار طيبة. ليس من العسير إذن أن نكون صورة عن رأى الناس في أعماق البحار وسكانها في أواخر القرن الثامن عشر. وبيننا من لا يزال يعتقد (بالنص سمكة والنص بنى آدم) و (الهايشة) وما إليها من مخلوقات تبتلع المدائن في لمحة البصر بلّه الآدميين. فإذا كانت استكشافات الملاحين في القرنين الرابع والخامس عشر قضت على خرافة (أقيانوس) المحيط (باويقومينا) المحيط المتفجر عيونا وغدرانا وانهارا. ورحلات الكابتن كوك في أواخر القرن الثامن عشر أثبتت أن لا وجود لقارة جنوبية تصل أفريقيا بآسيا وتجعل المحيط الهندي بحرا داخليا فقد لبث الناس حتى القرن الثامن عشر جاهلين بأعماق البحار سوى النزر اليسير.
قيل في موت ارسطا طاليس أنه ألقى بنفسه في دوامات مضيق أوريبوس يأساً من تفهم تيارات ذلك المضيق. وهو موت (غير قمين لا بفيلسوف ولا بعالم اقيانوغرافي). الا إننا أقرب إلى احترام الرجل الذي يحمله على الانتحار يأسه من تفسير ظاهرة طبيعية منا إلى احترام بلينيوس وهو يقول منذ نحو الف عام (أي وهرقليس لا يعيشن في البحر ولا في المحيط مهما عظما مخلوق ليس لنا به علم. بل الحق العجاب أننا أعرف بتلك المخلوقات التي غيبتها الطبيعة في الأعماق منا بأي أمر آخر). فهذا الغرور وتلك الحماقة من عالم كبير ينمان عن روح لم يسلم منها بعض العلماء وهي روح خطرة في العلم سيئة الأثر على تقدم العالم. فذاك البلينيوس وهو لم يصف سوى نيف ومائة نوع من الأحياء البحرية (أي أقل مما وصفه أرسطاطاليس قبله) يتمشدق بمعرفته جميع الأنواع التي تعيش في البحار. ما عساه قائل لو علم بالآلاف العديدة من تلك الأحياء التي كشف عنها علماء البحار بعده؟
لم ينتحر هؤلاء العلماء يأسا من تفهم المحيطات كما زعموا عن ارسطاطاليس. ولم تتملكهم صفاقة بلينيوس فيشيدوا بعلمهم الواسع العريض ولكنهم جهزوا البعثات الاستكشافية ورعوا البحار منذ القرن الماضي إلى اليوم، يخرجون منها عجائب ليست من (الاطلانطيس) ولا(16/72)
(أيس) في شيء ولا هي من بنات الماء وما إليها من خوارق. ولكنها بدائع ذلك الكوكب الذي نحيا على سطحه نسقتها الطبيعة تنسيقا يتفق وما أودعته فيها من قوى وما فرضته عليها من نواميس. وانا لنستسمحن القارئ أن نقدم إليه بعض أولئك الأعلام الذين أقاموا ذلك الصرح البديع بين قصور العلم. أعني صرح الاقيانوغرافيا. ولعل القارئ راغب معنا أن يعرف طرفا مما قاموا به في هذا السبيل.
اكتشافات وأسماء أعلام
كان العالم بواش في سنة 1752 ممن اعتقدوا بالطوفان فقال بأنه إذ غيض الماء كشف عن الجمال فالأودية. ولو واصل الماء هبوطه لظهرت أعماق البحار وديانا تتوسطها جبال أخرى، فالجبال المغمورة بمياه الاقيانوسات تكمل سلسلة جبال اليابسة. وهي تقسم البحار أحواضاً متصلة فوق قممها المغطاة بالماء. هذا النوع من التفكير قائم معظمه على أساس من المنطق ولكنه غير علمي إذ يتعدى ما يمكن استنتاجه من المشاهدات المباشرة. الا أن ما يعجبنا من بواش هو أن الاكتشافاتالاقيانوغرافية أثبتت أن قاع البحار أغوار سحيقة وجبال مرتفعة وأنه قد يمكن اعتبار تلك الجبال حلقات من السلسلة الأرضية. وأن في شواطئ بعض الجزر وانحدارها السريع إلى أعماق بعيدة ما يدعو إلى اعتبار هذه الجزر قناة جبال شمخت برأسها على سطح المحيط. وأن المحيطات مقسمة إلى أحواض تفصلها أسوار جبلية، وأن هذه الأحواض إن ظهرت متصلة فلأن مياهها تغطى أعالي فواصلها الجبلية. قال صيادو المرجان (البحر لا قاع له) فهزأ مراسيمي بقولهم ووعد لوعنى أحد الأمراء بتجهيز سفائن خصيصا لدراسة الأعماق. ومراسيمى رجل فرنسي مفكر يرتكز تفكيره على قواعد الموازنة والتقابل ولما كان مجرد وجود الجبل يعني وجود الوادي فقد استنتج أن الشواطئ الجبلية تعني انحدار الشاطئ عاجلا إلى الأعماق. ولم يقف مراسيمي عند هذا المنطق. بل عنى بدراسة الأعماق القريبة وقسمها بحسب أنواع رواسبها وكان أول من وضع خرائط الأعماق مبينا عليها نوع القاع من صخري ورملي وطيني. ولقد قيست درجة حرارة الماء تحت سطح البحر أثناء رحلات الكابتن كوك التي كشف فيها عن البحار الجنوبية. ولم يكن في المستطاع قياس حرارة الماء إلى عمق بعيد بدقة قبل اختراع ترمومترات النهاية الصغرى والنهاية العظمى وغيرها مما تسجل درجة الحرارة عند عمق(16/73)
معلوم ثم تبقى على تسجيلها فلا تتأثر بطبقات الماء التي تخترقها وهي عائدة إلى سطح السفينة. الا أن دي سوسور تمكن في سنة 1780من قياس حرارة مياه البحر الأبيض على عمق600و1000 متر بواسطة ترمومتر أحاطه بموصل رديء للحرارة.
تصل بنا هذه الملاحظات التي ترددت بين التخمين والملاحظة المباشرة إلى أوائل القرن التاسع عشر حين انتشر نوع من الهواية هو عمل المجموعات الحيوانية والنباتية. وكان ذلك فاتحة عهد (الطبيعيين في الخلاء) أو أولئك الذين يجوسون بالأحراج والجبال والأودية يلاحظون الأحياء في وسطها الطبيعي وينتخبون منها مجموعات تمثل سكان المنطقة من حيوانات في ذلك العهد استعان دوناتي ومارسيلين على دراسة أحياء القاع الضحل قرب الشواطئ والمجرفة كيس شبكي يحيط بفوهته إطار من حديد ذي أسنه. تسحب على القاع فيجرف الإطار الحديدي حبات الرمل أو الطين ويتلقى الكيس مايجرف من تربة ومن أحياء تعيش على تلك التربة. وانتشرت المجرفة بين علماء أوربا فبدأ مملن أدوار باستعمالها في فرنسا سنة 1830 وفوربس في إنجلترا سنة 1832 وسارس في النرويج سنة 1835.
كان من أثر امتحان الرواسب البحرية بالميكروسكوب في إيطاليا في أواخر القرن الثامن عشر أن لوحظت ظاهرة كان لها أحسن الأثر في استثارة حب الاستطلاع البحري عند علماء القرن التاسع عشر، ذلك أنهم لاحظوا تشابها في الحفريات التي وجدها الجيولوجيون في باطن الأرض على أبعاد كبيرة من البحر. وبين مخلوقات بحرية تعيش قرب الشاطئ. . والحفريات كما يعلم القارئ بقايا أحياء انقرضت في غابر عصور الأرض. وهنا دخل في روع الباحثين أنهم لابد مهتدين في قاع البحار إلى نماذج حية من تلك المخلوقات التي لم يعثروا الا على آثار انقراضها في قطاعات الجبال والأودية، وامتد خيال العلماء (وما حرم العلماء ملكة الخيال) إلى يوم يكشفون فيه عن صورة حية لما كانت عليه الأرض منذ بضع ملايين من السنين. وكاد فوربس الاسكتلندي يقضي على هذا الحلم الشائق إذ أفتى بعد رحلة إلى بحر إيجة: بأنه لا أثر للحياة في البحار بعد عمق600متر.
ومع أن فوربس أدى إلى الاقيانوغرافيا اجمل الخدمات فهو أول من لاحظ بأن الأحياء البحرية تعيش جماعات لكل عمق معلوم جماعة خاصة منها تختلف عن جماعة عمق آخر(16/74)
ومع انه وصف كثيراً من حيوانات الأعماق الضحلة حول الجزر البريطانية فقد كان خاطئا في زعمه أن لا حياة بعد عمق 600متر. وحصل سيرات على مخلوقات تعيش في البحر الأبيض على عمق 3000متر. وجاء عهد وصل البلاد بالأسلاك التلغرافية عبر قاع البحر فكانت سبباً في سبر أعماق بعيدة. وكان أبعد غور وصل إليه ثقل مقياس العمق في سنة 1840أثناء بعثة سير كلارك روس إلى القطب الجنوبي وهو 6000متر. وحدث في سنة 1860 أن قطعسلك من أسلاك التلغراف البحري على عمق 2500متر فوجدت عالقة به مخلوقات حية. كان طبيعيا أن تثير أمثال هذه الاكتشافات في جميع الشعوب الحية الرغبة في الاستزادة من تعرف أعماق البحار. وإذ علم ويفيل تمسون الاسكتلندي بأن سارس النرويجي عثر على عمق 600متر في فيورد لوفوتن على حيوان حي من فصيلة كانت تعد من الفصائل المنقرضة، توجه إليه لمشاهدة ذلك الحيوان. وكان ويفيل تمسون من أولئك العلماء الذين بنوا كبار الآمال على اكتشاف مثل حية من الفصائل المنقرضة في الأعماق البعيدة. فارتاد الاطلانطيق على ظهر السفينة (لايتننج) مرة والسفينة (بوركوبين) مرة أخرى. وسبر حتى عمق 4500مترا فوجد فيه مخلوقات حية منها ما يتصل بفصائل انقرضت منذ العهد الثلاثي والطباشيري. طارت شهرت ويفين تمسون في آفاق أوربا وأمريكا نتيجة اكتشافاته ولكنه بلغ قمة مجده حين ألقيت إليه مقاليد أكبر بعثة في تاريخ الاقيانوغرافيا. وهي بعثة (تشالنجر)
تشالنجر: (أعظم البعثات الاقيانوغرافية)
قامت تلك البعثة على ظهر (تشالنجر) وهي سفينة شراعية حمولتها 2306 طن. ذات محركات بخارية مساعدة. خرجت من الجزر البريطانية في سنة 1872 وعادت في سنة 1876 بعد أن قطعت 69000 ميل في الأطلنطيق والباسفيك، وصلت فيهما حتى الحاجز الثلجي للقطب الجنوبي. أسند قيادها إلى ويفيل تمسون وكان من أهم أعضائها جون موري وبكنان، وقيدت مشاهدتها في 362محطة حصلت منها على مجموعة ضخمة من الأحياء البحرية ونماذج المياه ونماذج القاع وسبرت حتى نيف و 8000 متر. ومهما أشيد بأبحاث من تقدموا (تشالنجر) فقد كانت هذه البعثة فتحا مبينا في دراسة المحيطات. ولا غرور أن تؤرخ الاقيانوغرافيا تبعا لها فيقال عهد تشالنجر وما قبله وما بعده.(16/75)
استغرقت دراسة النماذج التي جمعتها البعثة 20عاما كانت فيها أدنبرة محط رحال العلماء من كل صوب. يتقاسمون شرف دراسة تلك المجموعات التي وزعت عليهم دون نظر إلى جنسيتهم. لذا ظهرت مجلدات هذه البعثة الخمسين متوجة بأسماء أكبر علماء الحيوان والنبات والجيولوجيا والكيمياء والطبيعة. وبرغم السنين وتقدم الأبحاث الاقيانوغرافية وابتداع الآلات الدقيقة فلا تزال تلك المجلدات مرجعا من أهم مراجعنا. وما تزال دراسة السير جون موري والأب رينار لرواسب المحيطات أكبر عمدة لمن يختصون بهذا النوع من الدراسة. ليس في مكنتنا ونحن نستعرض سراعا بعثات الاستكشاف الاقيانوغرافي أن نقف طويلا ببعثة تشالنجر. وستعرض لنا فرص عديدة للعودة إلى نتائجها. ونكتفي هذه المرة بتلخيص جد مقتضب لتلك النتائج.
بعض نتائج رحلة (تشالنجر)
- وضع خرائط لأحواض المحيطات والقضاء على المبالغات التي شاعت عن أعماقها وكان أبعد عمق سبرته البعثة نيفاً و 8000 متر في شمال الباسفيك
- ثبات أن لا علاقة لحرارة مياه المحيطات بتغير الفصول بعد عمق 200 متر.
- اكتشاف درجة حرارة ثابتة للمياه العميقة في مساحات واسعة من المحيط، من ذلك أن اكتشفت البعثة ثبات حرارة مياه الاطلانطيق الشمالي بعد عمق 4000 متر عند درجة5و2 سانتجراد. كما أن حرارة مياه القاع في الباسفيك ثابتة عند درجة - 83و0 سانتجراد.
دراسة كثير من تيارات السطح والأعماق في المحيطات.
- محاولة فهم تكوين الشعاب المرجانية. وقد تعارضت نظرية موري (وهي المؤسسة على نتائج بعثة تشالنجر) ونظرية داروين في أصل تكوين هذه الشعاب. ولا تزال المعضلة قائمة إذ لم يصل أحدهما إلى نظرية مقنعة. ولعل بعثة (السير جون موري) في المحيط الهندي تلك البعثة التي تقوم على ظهر السفينة الأقيانوغرافية المصرية (مباحث) توفق إلى تفسير مقنع.
- إصلاح الخرائط الجغرافية فيما يختص بكثير من الجزر والشعاب.
- تقدم المعارف الحيوانية تقدما كبيراً وخصوصا ما عرف عن فصيلة الأحياء ذات الخلية الواحدة من (الراديولاريا) و (الجلوبيجرنيا). واكتشاف مئات من أنواع الإسفنج منها ذلك(16/76)
الحيوان البديع الذي أطلق عليه اسم (سلة أزاهيرفينوس)
- أثر الأعماق على الحياة. ففي الظلام الدامس الذي يغمر تلك الأعماق تعيش مخلوقات كف بصرها أو لا عيون لها أصلا. وأعاضتها الطبيعة أعضاء فسفورية تضيء سبيلها في الغياهب.
تلك بعض نتائج بعثة (تشالنجر) نمر بها سراعاً على كره منا فقد كانت حادثا له خطره في عالم العلم. وكانت الأقيانوغرافيا في مهدها فنشأت ودرجت وتقدمت بخطوات الرجال في الماضي القريب إلى حد أن الدهشة تعرونا إذ نعلم أن آخر مجلد من تقارير البعثةصدر في سنة 1907 وأن بكنان أحد أعضاء البعثة لا يزال حيا. وان السير جون موري قتل في حادثة سيارة سنة 1914وكان قد حبس مبلغ 20الف جنيه يصرف في سبيل بعثة جديدة. وتشاء الصدف أن يقترن اسم مصر باسم السير جون موري إذ تقوم هذه البعثة على ظهر السفينة المصرية (مباحث) في سبتمبر المقبل رافعة العلم المصري.
بعثات أخرى
كانت (تشالنجر) نتيجة منطقية لتلك الحركة الواسعة التي اتجهت منذ القرن الثامن عشر إلى دراسة الطبيعة. وقد وافق قيام هذه البعثة ونجاحها تلك اللحظة العظيمة في تاريخ الإمبراطورية البريطانية حين بلغت تلك الإمبراطورية في أواخر القرن الماضي أوج عزها وشأو رفعتها. وبعثة (تشالنجر) إن امتازت فلا تمتاز بانفرادها، ولا بأسبقيتها ولكن بأنها طمحتطموحا كبيرا وحققت مطمحها. بيد أن أمريكا وجهت بعثة إلى الباسفيك معاصرة لتشالنجر. معاصرة لها أيضا رحلة السفينة الألمانية (غزال) حول الأرض. والبعثة النرويجية إلى شمال الاطلنطيق. معاصر لها العلامة الاقيانوغرافية اسكندر أجاسيز. وهو سويسري مولدا ونشأة هاجر إلى أمريكا ورفع علمها العلمي على السفينة (بليك) والسفينة (الباتروس).
ولم تقف فرنسا ولا إيطاليا وراء الصفوف بل قامت الاولى بقسطها العلمي على ظهر (ترافيور) و (تالسمان) في شرق الاطلنطيق من سنة 1880 إلى سنة 1883. وأدت الثانية واجبها نحو البحر الأبيض المتوسط بواسطة السفينة (واشنجتن) وطوفت سفينتها (فيتور بيزاني) حول الأرض.(16/77)
حتى تلك الأمارة السعيدة. الضاحكة وسط ابتسام الرفييرا قدر لها أن يجلس على عرشها أمير عالم من سلالة الجريما لدى الأبطال. هو البير الأول أمير موناكو. ارتاد المحيطات بين سنة 1885 حتى وفاته في سنة 1922 على يخوته الفخمة (أيروندل) الاولى والثانية و (برنسيس أليس) الاولى والثانية. وهو صاحب الأيادى البيضاء على الأقيانوغرافيا إذ ابتنى لها معهدا في قلب الحي اللاتيني بباريس. ومتحفا على صخرة موناكو العالية هو كعبة القاصدين، سواء من العلماء لدراسة مجموعاته النادرة أو من أهل اللهو فيمونت كارلو لمشاهدة الاكواريوم.
وسواء كانت روسيا بالسفينة (فتياز) التي طافت حول الأرض. أو النمسا بالسفينة (بولا) التي درست الحوض الشرقي للبحر الأبيض واخترقت قناة السويس وجابت البحر الاحمرأو نانسن على ظهر (فرام) في المحيط المنجمد الشمالي. أو الدانمارك بسفينتها (أنجولف) فلم ترض لنفسها دولة من الدول الحية (تلك الدول التي يعتقد كثير منا أننا ساويناها أو نكاد لبضع طرقات فتحناها أو مباني أقمناها أو أعلام وضعناها على غير مسميات) أن تتقاعس في القيام بواجبها نحو نفسها ونحو الإنسانية جمعاء. كلا لم تتريث بلجيكا عن توجيه بعثتها إلى القطب الجنوبي بين سنة 1897 وسنة 1899. ولم تتوسد ألمانيا أوراق غار هابل بل عادت إلى كتابة اسمها في تاريخ علوم البحار إذ وجهت (الفالديفيا) إلى الأطلانطيق والمحيط الهندي والمحيط المنجمد الجنوبي ما سمحت ثلوجه. كلا ولا هولندة التي أضافت جوهرة إلى تاج العلم ببعثتها على ظهر (السيبوجا) حول جزر الهند الشرقية (سنة 1899 - سنة 1900). وكما اختتم القرن الماضي بتلك الدول وهي في ميدان العلم أفراس رهان فقد افتتح القرن العشرين ببعثات أخرى تحمل أسماء مجيدة. ويكفينا ختاما لهذا المقال أن نذكر أسماء الدول التي اشتركت في دراسة المحيطات منذ أوائل هذا القرن. فهي هي موناكو وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وإنجلترة والنرويج والد نمارك وهي هي دواما وتكرارا.(16/78)
القصص
إلى الواحات الخارجية
جنة الصحراء الغربية
(وجزيرة الناعمين) في عرف قدماء المصريين
من الأصقاع الجديرة بالزيارة في مصر الواحات الغربية تلك التي نجهل عنها كل شيء ولا نذكرها الا في مقام التشويه أو العقاب أو النفي كأنها شقة من الجحيم. فكرت في زيارة تلك الناحية المنبوذة لأرى ما فيها من رهبة ووحشة فإذا بي أنتقل إلى جنة يانعة هواؤها رائق عليل، وتمرها وافر عميم، وماؤها دافق غزير، يحف بكل أولئك كثبان من الرمل الناعم النقي تعلو ورائها نجاد صخرية تمتدإلى الآفاق مما جعل الواحة في ظني خير مزار في الربيع وشطر من الشتاء. أقلني إليها القطار من مصر إلى مواصلة الواحات في عشر ساعات وهناك انتقلت إلى قطار الواحات الصغير الذي سار بنا بين ست ساعات وسبع إلى الخارجة فأخذ ذاك القطار يشق طريقه وسط الحقول الزراعية مسافة هي دون خمسة كيلومترات بعدها بدأ يصعد تدريجيا وقد استحال الطمي الراسب على الأرض رمالاً. وعند الكيلو السادس وقفنا بمحطة: القارة وهي محطة عند اتصال الهضبة الصحراوية بالسهول الفيضية الخصبة. بعدها أوغل القطارفي الصحراء صاعدا وسط واد مجدب ظل يختنق تدريجيا وتقارب القطار جوانبه الصخرية المشرفة حتى إذا قاربنا الكيلو 40 كنا فوق هضبة تنتثر بالحصى. وكلما قطعنا ثلاثين كيلو مترا كنا نقف في محطة موحشة ليأخذ القطار منها الماء ولا يقطنها من الآهلين نفر. وبعد نصف الهضبة دخلنا شبه وادي فسيح غير محدود الجوانب يسميه القوم (وادي البطيخ) لأنه يغص بكرات الصخر المسودة في أحجام مختلفة فتبدو وكأنها البطيخ. وعند الكيلو 146 بدأنا نهوي خلال مجرى جاف جوانبه رائعة وكان الهبوط سريعا وعرا حتى أن القاطرة حبست بخارها فكانت تهوى المسافة كلها بقوة انحدار ليس غير، ولبثنا نتلوى ليات متعاقبة وسط ذاك الصخر المجدب حتى خرجنا إلى سهل أدى بنا إلى محطة: المحاريق: عند الكيلو 165 وهي بدء الوهدة التي تتوسطها الواحات ولذلك كنا نبصر على بعد بقاعا تزينها الخضرة في شبح فاتر.(16/79)
والمحار يق محلة لابأس بمبانيها. كانت قد اتخذت مقرا للنفي الإداري وكان يرسل إليها المحكوم عليهم من كافة الطبقات حتى علية القوم من المغضوب عليهم وكانوا يتركون أحرارا بعائلاتهم يتجولون إلى حدود معينة ورائها يقف الهجانة لكيلا يتجاوز المجرمون الحدود، والفقير منهم كان يكلف عملا يؤجر عليه خمسة قروش في اليوم، لكن الحكومة رأت في النفي أداة للتشفي والانتقام وبخاصة من العمد الذين كانوا يسعون إلى نفي من يكرهون. هذا إلى المبالغ الطائلة التي تكلفتها الحكومة في الإنفاق على النفي لذلك قررت إلغاءه.
قمنا إلى محطة الشركة: وسميت كذلك لأنها كانت المستودع الرئيسي لشركة سكة حديد الواحات وكانت شركة إنجليزية سعت بمجهود كبير أن تبيع متاعها للحكومة لأنها خسرت خسائر فادحة ولم يسد الخط شيئاً يذكر من نفقاته وتمت الصفقة سنة 1909 ودفعت الحكومة ربع مليون جنيه فأيدت بذلك ما يعلمه الأجانب عن سخائنا العميم. وهي لا تزال تخسر فيها كل عام، إذ من إيرادها البالغ أربعة آلاف جنيه يخص خط الواحات ألف جنيه وهذا المبلغ لا يذكر بجانب النفقات. وجل الإيراد وقف على البلح في شهور الصيف.
أخيرا عند الكيلو 195 دخلنا محطة الواحات الخارجة وقادني الغلام إلى نزل بديع ما كنت أتخيل وجوده في تلك الناحية النائية هو (فيلا) أنيقة تزينها الأشجار الباسقة وتحوطها كثبان الرمل الناعمة. يديرها مصري يدعى (مصطفي عمر) ويقوم على خدمة النزلاء والسائحين خير قيام، ولقد تصفحت سجل الزائرين عنده فكان من بينهم الكثير من الوجهاء، مصريين وأجانب وبينهم بعض الأمراء. على أني أسفت لما علمت أن الرجل لا يكاد يتكسب من وراء عمله هذا شيئاً ولا تكاد تساعده مصلحة السكة الحديد بشيء حتى ولا بزيادة الدعاية لمنطقة الواحات وتخفيض أجور السفر إليها كي يزيد إقبال السائحين عليها كما كانت الحال في عهد الشركة الإنجليزية التي كانت تروج للواحات فكان عدد من يؤمها يفوق المئات سنويا، أما اليوم فلا نكاد نحن المصريين نسمع عن الإقليم شيئاً رغم ما فيه من جاذبية كبيرة.
قمت أتجول في المدينة فبدأت بزيارة آثارها التاريخية فالواحة كانت عامرة أيام قدماء المصريين، وابان حكم الرومان ولعل اجل آثارها: معبد هيبيس الذي بناه دارا الأول في(16/80)
القرن الخامس قبل الميلاد تمجيدا لآمون، والمعبد عظيم الامتداد شامخ العمد فاخر البنيان يكاد يحاكي معابد الكرنك. وهناك مدافن رومانية قديمة بها بضع مئين من المقابر أقامها الروم من اللبن في قباب صغيرة تزينها في البعض صور القديسين وفي البعض الآخر أشباه البوائك والأعمدة. وسكان الواحات يمتون بصلة إلى المصريين القدماء وإلى الرومانيين، وقد لاحظت ذلك في سحنهم المصفرة وتقاطيعهم النحيلة الممطوطة، ولا يزال للعائلات الرومانية الصرفة هناك بقية في اثنتين: عائلة الصنديدية، عائلة الأدارسة. ويمتازون بأدمغتهم المنبطحة من نواصيها. والعجيب أن أهل البلاد اعتنقوا الإسلام جميعا فلا تجد منهم مسيحيا واحدا ويظهرانهم اسلموا مجبرين وكانوا يعتصمون بالصحراء هروبا من أراضى الريف وما أثقلها من ضرائب إبان حكم المماليك، وهم لا يزالون يحتفظون بالكثير من الشعائر المسيحية رغم انهم مسلمون، فمثلا شاهدتهم يعدون سعف النخيل الأبيض لضفره في أشكال عدة احتفالا (بحد الزعف) على نحو ما يفعل إخواننا الأقباط هنا. وبينهممسجد ذو مئذنة قصيرة كان من قبل كنيسة.
ومن أعجب ما راقني مباني القوم ومساكنهم فهي من طابق واحد أو أثنين تبنى باللبن وتتجمع كلها في كتلة واحدة تشقها سراديب سقوفها واطئة لا يستطيع الإنسان السير فيها الا منحنيا ولياتها من الأعاجيب، ولا تتخللها فتحات أو نوافذ قط، لذلك كانت حالكة الظلام في رائعة النهار، ومنها ناحية يسمونها (الهدرة) أرضها صخرية زلقة مغضنة وعرة. وسط ذاك الظلام الدامس زلقت قدماي فيها مرتين. ولقد كانت تلك السراديب وسيلة من وسائل الدفاع ضد غارات البدو والدراويش الذين طالما باغتوا البلاد بغاراتهم، فكان الواحد من الآهلين يعتصم بتلك المفاوز ليمنع العدو من اختراق حرمة داره، وفوق ذلك فهي تقيهم وهج الشمس المحرقة صيفا، ولما رأت مصلحة الصحة اليوم ما يخلفه ذلك الضيق والظلام من الأوساخ وخطر الأمراض، فتحت خلال الطرق كوى صغيرة في مسافات متباعدة أنارتها اليوم بعض الشيء على إني رغم ذلك كنت أسير في سراديب كأنها السرابيوم أو التيه ظلاما ووحشة، وكثيرا ما كنت اصطدم بالمارة خصوصا عند مفاجآت الثنيات العديدة لتلك المفاوز. وقد استرعى نظري السقامون وكلهم من مكفوفي البصر، يسيرون في تلك الطرق بخفة عجيبة وعلى ظهورهم قرب الماء، ولا يخطئون البيوت ولا تزل أقدامهم أبدا. ولقد(16/81)
أضافني رب بيت من تلك البيوت، فكنت أتوقع أن أوي إلى كوخ صغير أو قاعة وسط تلك المطاوي الحالكة، ثم دخلنا البيت من كوة صغيرة وأشد ما كانت دهشتي عندما رأيتني وسط بيت مشيد البناء طلي بالملاط ورصف بالبلاط على نحو ما نقطن هنا في مصر.
والعيون والينابيع منثورة في الواحات في كثرة لا يكاد يحصيها العد حتى قيل أن في الواحة الخارجة وحدها ثمانمائة عين بين صغير وكبير، وهذا الماء الغزير يتفجر من طبقة من الخراسان الرملي على عمق يتراوح بين 100و150مترا والواحات في وهدة متوسط ارتفاعها عن سطح البحر يزيد على خمسين مترا وتحف بها النجاد الجيرية والطباشيرية من جميع الجوانبتعلو في مدرجات أعلاها فوق أربعمائة متر وبخاصة ناحية الغروب وزرعتلك الواحة 300ك م في الطول وبين 30و80 في العرض. ومن صدوع ذاك الصخرالجيرى تتفجر العيون العديدة، وغالب العيون كانت مستغلة في عهد الرومان فكانوا يحفرون حولالعين متسعا إلى عمق كبير ويضعون منقور الخشبوجذوع النخل في شكل الأنابيب لحصر الماء، ثم تطمر الحفرة، ويستدل القوم على وجود العيون كلما رأوا منخفضا رطبا يبدو نزر الماء فيه، وتجاوره ربوة.(16/82)
بلياس ومليزاند
للفيلسوف البلجيكي موريس ماترلنك
ترجمة الدكتور حسن صادق
بلياس - أخاف عليك السقوط. . . سأمسك يدك. . .
مليزاند - لا تفعل. أريد أن أغمس يدي في الماء. . . من ينظر إليهما، يظن أن بهما اليوم مرضا!
بلياس - أوه! أوه! حذار، حذار من الوقوع في الماء! مليزاند! أوه! شعرك!
مليزاند - (تنهض) لا أستطيع أن أبلغه!
بلياس - شعرك انغمس في الماء
مليزاند - نعم. انه أطول من ذراعي. . . انه أطول منى (سكوت)
بلياس - لقد وجدتك على حافة عين مثل هذه تبكين. أتذكرين؟
مليزاند - نعم
بلياس - وماذا قال لك؟
مليزاند - لاشيء. . . . لم أعد أذكر. . . نسيت كل كلماته
بلياس - وهل دنا منك؟
مليزاند - نعم. وأراد أن يقبلني
بلياس - وأنت؟ هل أرضيت رغبته؟
مليزاند - كلا
بلياس - ولماذا؟
مليزاند - أوه! رأيت في قاع الماء شيئاً يتحرك!
بلياس - كدت تسقطين في الماء!. . . بماذا تعبثين؟
مليزاند - بالخاتم الذي أعطاني إياه
بلياس - لا تلعبي به فوق هذا الماء العميق
مليزاند - يداي لا ترتعدان
بلياس - ما أشد بريقه! لا تقذفيه في الفضاء هكذا!(16/83)
مليزاند - أوه!
بلياس - هل سقط؟
مليزاند - سقط في الماء!
بلياس - أين هو! أين هو؟
مليزاند - لم أره أثناء وقوعه
بلياس - أعتقد أني أراه يشع في الماء بريقا
مليزاند - خاتمي؟
بلياس - نعم. نعم. . . انظري جيدا
مليزاند - أوه! إنه منا بعيد! لا. لا. ليس إياه. . . لقد فقد وغاب عن البصر. . . لم يعد إلا دائرة كبيرة على سطح الماء. . . ماذا نصنع الآن؟
بلياس - لا تجزعي من أجل خاتم. هذا أمر ضئيل الشأن. سنجده أو نجد غيره
مليزاند - كلا لننجده ولن نجد غيره أيضا! كنت أعتقد أنه في يدي. . . وكانت يدي حريصة عليه، ولكنه وقع في الماء على الرغم من هذا الحرص. . . قذفته في الفضاء بقوة شديدة كأني أردت له أن يبلغ الشمس!
بلياس - تعالي سنعود للبحث عنه في يوم آخر. . تعالي لقد حانالوقت. سيبحثون عنا بعد قليل. . . سمعت ساعة البرج تدق اثنتي عشرة مرة تعلن إلى الناس منتصف النهار، وقد سقط الخاتم في الماء قبل أن تتلاشى الضربة الأخيرة في الهواء!
مليزاند - ماذا نقول لأخيك (جولو) إذا سأل عنه؟
بلياس - الحقيقة، الحقيقة، الحقيقة! (يخرجان)
المنظر الثاني
(غرفة في القصر، جولو راقد على فراش ومليزاند جالسة بالقرب منه)
جولو - آه آه: خلي عنك الجزع فليس ما أصابني بذي خطر إني في حال حسنة ولن يكون لجراحي أثر سيئ. . . ولكن لا أستطيع تفسير ما حدث! كنت أصيد في الغابة مبتهجا هادئا. . . . ثم جمح جوادي دفعة واحدة دون أن أعرف السبب. . . هل رأى شيئاً غريبا مخوفا أدخل على نفسه الرعب والفزع؟. . سمعت ساعة البرج تدق اثنتي عشرة مرة تعلن(16/84)
إلى الناس منتصف النهار، وقبل أن تتلاشى الضربة الأخيرة في الهواء، أقبل الجواد فجأة وجرى كغرير مجنون. . . . وظل في عدوه حتى صدم شجرة غليظة. . . وقعت على الأرض، وأعتقد أن الجواد وقع على صدري. . شعرت في تلك اللحظة بأن الغابة كلها تثقل علي وتنتزع مني الحياة في ألم مبرح. . . وأيقنت أن قلبي يتمزق. . . ولكنه والحمد لله سليم في مكانه. . . لا تجزعي ولا تخافي. ستلتئم الجراح وتعود إليّ العافية الشاملة
مليزاند - أتشرب جرعة من الماء؟
جولو - ليس بي ظمأ. شكرا لك
مليزاند - أتريد مصدغة أخرى؟. . . أرى على هذه نقطة صغيرة من الدم
جولو - كلا. لست في حاجة إلى مصدغة أخرى
مليزاند - أصدقني القول يا جولو، هل تتألم من جراحك كثيرا؟
جولو - كلا. كلا. ليست هذه أول مرة تصيبني فيها الجراح. . . خلقت من حديد ودم
مليزاند - أغمض عينيك وتملق النوم. سأقضي الليل كله بجوارك
جولو - جنبي نفسك التعب فلست في حاجة إلى شيء. سأنام كالطفل الوديع. . . ماذا جرى؟ مليزاند! لماذا تبكين دفعة واحدة
مليزاند - (تستخرط في البكاء) إني. . . إني مريضة
جولو - مريضة؟! ماذا بك؟
مليزاند - لا أدرى. . . الحياة هنا تغمز على المرض. . . آثرت أن أقول لك ذلكاليوم. . . لست بسعيدة هنا
جولو - ماذا حدث؟! هل أساء إليك أحد؟
مليزاند - كلا. ليس هذا ما أعنيه. . .
جولو - إنك تخفين عني شيئاً في أغوار نفسك. أنفضي إلى جملة حالك. من الذي يكدر عليك صفو حياتك؟ أهو الملك، أم أمي أم أخي بلياس؟
مليزاند - لا أحد يكدر علي صفو الحياة. إنك لا تستطيع إدراك نفسي. . . شيء أقوى مني. . .
جولو - لا تسلمي زمام نفسك إلى أوهام تبلبل بالك وتشقيك. ماذا تريدين أن أفعل؟! هل(16/85)
عدت طفلة غرة تتلاعب بلبك أفكار الخيال؟! هل زهدت في زوجك ورغبت في هجره؟
مليزاند - أوه كلا. ليس هذا هو. . أتمنى أن أذهب معك. . . لا أريد أن أعيش هنا بعد اليوم. . . أشعر بأن عمري قصير ولن أستمتع بالحياة طويلاً!
جولو - ولكني أريد أن اقف على علة ذلك. . . سيعتقد الناس إذا سمعوا قولك، أنك فقدت رشدك، أو أنك طفلة يغرر بها حلم ساذج. تكلمي أهو بلياس الذي. . .؟ يقيني انه لا يتحدث إليك كثيرا(16/86)
الكتب
الفجر - مجموعة من الشعر
يا ويح مصر من الشعر والشعراء! يا ويحها من هذا الشعر الزائف الذي يملأ الصحف والدواوين! فكل من اهتزت في يده يراعة في هذا البلد يريد أن يكون شاعرا، حتى غصت بالشعراء حجرات المدارس!! الشعر في كل أقطار الأرض عبقرية لا يسمو إليها إلا الأقلون، أما في مصر، فهي ألعوبة اللاعب ولهو اللاهي.
عندي أنه إن لم يرتفع ديوان الشعر بقارئه إلى مستو أعلى من مستواه الشعوري والفكري، بحيث لو كان هائما في الأرض حلق به في السماء، وان كان القارئ في السماء الأولى، سما به الشعر إلى السماء السابعة، أقول إن لم يكن الشعر كذلك، فأولى به أن يحبس في صدور قائليه، فلا يجد سبيلا إلى المطابع والمكاتب ثم إلى رؤس القراء. أما هذا الهراء الذي يتردد كل يوم، في كل صحيفة وفي كل مجال، فيجب أن ينبذ، لأن الحياة أثمن من أن تضيع في مثله، وأقسم بالله لو أن الأمر بيدي، لأنزلت العقاب (العقاب الأبى على الأقل) بهذه الفئة المتشاعرة التي ضقنا بها ذرعا.
أقول ذلك بمناسبة الديوان الذي أطلق عليه صاحبه اسم (الفجر)، ودفعه إليَّ الأستاذ الزيات لأقرأه وأعلق عليه، فانطلقت أبحث فيه عن شعور قوي واحد أو فكرة عالية فلم أجد! فيم إذن قيل، وفيم طبع ونشر، لست أدري. استمع إليه حين يقول في استقبال صديق:
مرحبا، مرحبا، بخير صديق ... غاب عنا عاما فخلناه دهرا
مرحبا، مرحبا، بخير صديق ... كان من أصدقائه مزورا
رام بعدا عنا، ورام خصاما ... فجفانا واستبدل الوصل هجرا
بينما نحن لا نطيق فراقا ... لصديق، وان تباعد شهرا
وبعد فأنى أتوجه بالرثاء والاشفاق، لا إلى مؤلف الديوان ولكن إلى قرائه: فهو شعور ضعيف في لفظ ركيك، سيئ الطبع خشن الورق.
ز. ن. م
القصاص(16/87)
هذه القصة من تأليف الكاتب الإنجليزي المعروف جون جالزورثي وهي من أشهر قصصه إن لم نقل أنها أقوى قصة له على الإطلاق. وقد نقلها إلى العربية الأستاذان صالح بكتاش والسيد كامل الشرقاوي.
يهاجم المؤلف في هذه القصة العدالة كما تفهمها القوانين الصارمة التي لا تحتسب للمشاعر المختلفة والمواقف المتباينة حسابا. فهي مأساةتدور حول زوجة لاقت من زوجها الغليظ عيشة مريرة. ومع ذلك فلا يبيح لها القانون أن تنفصل عنه لتتزوج من شاب آخر أحبها وأحبته. كذلك انتقد المؤلف نظام السجون وبين كيف أنها أقرب إلى إفساد النفوس الطيبة منها إلى إصلاح النفوس الشريرة.
ونحب إن نلاحظ انحرافا في ترجمة عنوان القصة، فقد كان أولى ان يكون العدالة أو القضاء لأنهما أصدق تعريبا من هذا العنوان الحالي.
ز. ن. م
1. القوميات
2. روح المبدأ والوطن
هما مجموعتان من الشعر نظمهما الأديب السوري حسن حفار وهما كما يدل عليهما العنوانان، يفيضان بحماسة الشباب وقوة الوطنية وسمو الطموح، فلا يسعك حين تلاوة ما يحويان من شعر الا أن تحس مع الشاعر نزعة وثابة إلى الحرية والعزة القومية كما تلمح حنينا ظاهرا إلى الأقطار العربية عامة.
ولكننا يجب أن نشير إلى ضعف في اللفظ يسود الكتابين. ونرجو أن يتاح لهذا الشعور المتدفق لفظ يناسبه قوة وجزالة.
ز. ن. م
1(16/88)
العدد 17 - بتاريخ: 15 - 09 - 1933(/)
الملك الشهيد000!
في ليل يوم الجمعة الماضي سكت في (برن) قلب الملك فيصل! وما كان في حسبان أحد من دنياه أن هذا القلب الذي يجيش بالحياة، وينبض بالأطماع، ويستخف بالأمور الجسام، يسكت في وحدة الغريب ووحشة الليل الرهيب هذه السكتة المفاجئة!!
فلما نعاه البرق إلى الآفاق فزع الناس إلى الشك يدفعون به هول الخطب، ورجم بعضهم بالظنون يعللون بها بغتة الحادث، وتعذر على العقل أن يفهم الموت مقرونا إلى فيصل (صقر قريش) وقد كان إلى أمس يقطع بعزمه الجبار أجواء الشرق والغرب حاملا في يمناه العراق، وفي يسراه سورية، وفي قلبه (دولة العرب)!! ثم انجلى الشك وانجابت الظنون فإذا العراق وإذا سورية وإذا العرب أمام الفاجعة التي روعت النفوس وضرمت الأنفاس وقوضت حصون الأمل!!
لم يجزع العرب حين نعى إليهم فيصل على نفس كسائر النفوس
تغوص في لجج العدم، وانما جزعوا هذا الجزع الهالع على آمال أمة،
وجهود نهضة، ومستقبل فكرة؛ لأن ملك العراق كان مناط هذه الآمال،
ومبعث هذه الجهود، وعدة هذا المستقبل!
ومن العجيب أن يكون مصدر هذا الجزع كثرة الزعماء الأكفاء لا قلتهم! فِان هذه الكثرة كانت دائما وبالا على وحدة العرب إذا لم يقم على رأسها زعيم يعتمد في قيادتها على سلطان الدين وشرف النسب، وقد اجتمع الملك فيصل مع هاتين القوتين عقل كيس، وخلق نبيل، ونفس طموحة، وجاذبية قوية. فلا جرم أنه كان رجل الساعة لهذه الأمة الناهضة يجمع كلمتها حول رأيه، ويوحد وجهتها وراء خطاه!
عرفت جلالة ملك العراق أثناء مقامي ببغداد معرفة وثوق وخبرة. وكانت حال البلاد في ذلك الحين محنة ابتلت بها كفاية الملك النابغ: فالانتداب كان قبل الملكية يعمل في العلن ويحمل التبعة، فأصبح بعدها يعمل في السر ولا تبعة عليه، والحكومة كانت يومئذ بادية البلى ممزقة الجوانب لا تستطيع بخروقها أن تستر العرش، فالملك بحكم الوضع كان يستر الإنجليز، ولكن الوزارة بحكم الضعف كانت تكشفه. فكانت أوزار أولئك وأخطاء هؤلاء تحمل في رأي المعارضة والشعب على الملك، وكانت البطانة بعبثها تنفض ظالمة على جد(17/1)
البلاط ووقاره شيئا من العبث، والشعب العراقي على اختلاف منازعه وعقائده وأجناسه ناقد متمرد طموح لا يصبر على نقص، ولا يغفل عن خطأ. فقدر في نفسك كيف كان مصير الملك لو كان غير فيصل!
اضطلع الملك فيصل وحده بأعباء الملك والحكم والزعامة في هذه الحال المضطربة، فكفكف بحكمته من شرَّة الانتداب، وخفف بحنكته من عسف الوزارة، ولطف بحلمه من غضب الشعب، وصرَّف شؤون الدولة على قدر ما يسلم الرأي الحصيف من خبث الاستشارة وضعف الوزارة، ثم سهل حجابه لأمراء العشائر ورؤساء الطوائف وزعماء الأحزاب فاستل ما في صدورهم بالقول اللين والعتاب الهين والشخصية الجذابة، حتى كان الرجل منهم يدخل قصره وهو عليه، فلا يخرج منه الا وهو له! ثم نظر خارج العراق فرأى على حدوده دولا يتنزى في صدورها حقد الماضي وطمع الحاضر، فزار تركيا وفرنسا وإيران فأحال عداءها إلى صداقة وجفاءها إلى مودة! ثم اجتمع بملك الحجاز وأوفد إلى امام اليمن فأحكم أواخي المودة بينهما وبينه، ثم هداه تفكيره العملي المرن إلى أن يعالج الانتداب بالمصانعة والموادعة حتى انتهى به إلى نوع من الاستقلال يحفظ الكرامة ويعين على النهوض. دخل الملك فيصل العراق دخول الإمام الحسين! لا مال أمامه ولا جند خلفه! ولكن الحسين جرى على سياسة علي فهلك، وجرى فيصل على سياسة معاوية فملك! ثم اعتمد في تأثيل ملكه وإنهاض شعبه على الإخلاص العامل والجد النزيه، وتحامل في ذلك على دمه وعصبه وروحه حتى ذهب فيصل شهيد الواجب، كما ذهب الحسين شهيد الحق!!
كان الملك فيصل الأول ملكا من طراز خاص، ولعله كان أقرب إلى خلفاء الصدر الأول منه إلى ملوك اليوم! كان ناصع الظرف، جم التواضع، رحب الأناة، ظاهر الوداعة، زاهدا في أبهة الملك، عازفا عن مظاهر السلطان؛ فلا يخدج بتحية، ولا يمشي في حرس، ولا يتشدد في حجاب.
وكان من أجمل مظاهر ديمقراطيته الأصلية أن تراه غالبا في شارع الرشيد أو في طريق الصالحية يقود سيارته بيده، ويشق طريقه بنفسه، دون ربيئة من خلفه ولا طليعة بين يديه، فيسبقه أي سابق، ويزاحمه أي سائق!!
وقد تبكر ذات صباح إلى مدرستك أو ديوانك فتراه في ذرور الشمس قد طلع عليك بوجهه(17/2)
العربي المسنون، وقده السمهري الممشوق، ورشاقته الرياضية البارعة، فيسلم عليك ويتحدث اليك، ثم يتعهد المكان ويتعرف العمل، ويودعك بابتسامته الرقيقة، وملحوظته الدقيقة!
ودعا مرة مؤتمر المعلمين العراقيين إلى الشاي في حديقة قصره، فكان يجلس إلى كل منضدة من المناضد الكثيرة جلسة يفاكه أهلها بحلو الحديث، ويناقشهم في وجوه الاصلاح، ثم خطبهم في شؤون التعليم خطبة جامعة تمنى في سياقها أن يكون معلما مع المعلمين يؤدي إلى الأمة هذا الواجب المقدس. وفي صباح أحد الأيام غدا على المدرسة المأمونية الابتدائية فقضى ردحا من الزمن فيها، ثم سجل اسمه في ثبت مدرسيها! كان الملك فيصل في العراق ملك دولة، ورئيس حكومة، وزعيم أمة، وهو في الأقطار العربية مؤسس نهضة، وممثل فكرة، ورسول وحدة، وداعية سلام، ومعقد أمل! فإذا هفت النفوس جزعا لفقده، واستولى على العرب الوجوم والحيرة من بعده، فان في منطق الحوادث وطبيعة الأمور ما يسوغ هذا الجزع ويعلل هذه الحيرة. ألهم الله الأمة العربية على جلالة ملكها فيصل أجمل الصبر، وجعل لها في جلالة ملكها غازي خير العوض!
احمد حسن الزيات(17/3)
ظلم العدالة!
للأستاذ حسن جلال. القاضي بالمحاكم الأهلية ومؤلف حياة نابليون
والثورة الفرنسية
أصبح معنى العدالة في البلاد التي لها (قوانين) كمصر غير معناها في البلاد التي ليست لها قوانين مكتوبة كإنجلترا مثلا. ومعنى العدالة في مصر أن تطبق القوانين على الناس بالسواء. ولذلك أمكننا أن نسمع هنا من يقول (إن المساواة في الظلم عدل!) وكان ينبغي البحث عن وسيلة أخرى لضمان العدالة الحقيقية لا العدالة التي كل أساسها تساوي الناس ولو عند توزيع الظلم. لأن من القوانين ما لو طبق بحرفه لكان الظلم بعينه. وكل حالة من الحالات التي يراد تطبيق القانون عليها لها ظروف خاصة تجعلها تختلف عن غيرها من الحالات. فتطبيق نص القانون حرفياً على كلا الحالين دون مراعاة لهذهالظروف هو الإجحاف بعينه. وإن كان يتسير تحت اسم تطبيق العدالة باتباع نصوص القوانين. ولهذا السبب قال الفرنسيون وهم أئمة القانون المكتوب في العالم: ,
(القانون يقتل بحرفه ويحيي بروحه). والمعنى أن القاضي الذي يطبق نص القانون بالحرف دون مراعاة للظروف قد ينتهي إلى عكس النتيجة التي يصل إليها القاضي الذي ينظر إلى روح القانون ويراعي ظروف الأحوال.
هذه مقدمة جافة ربما كانت غير شائعة عند من لا يهمه الدخول في تفصيلات علمية. ولكني أسوق مثالا للإيضاح يتبين أنه معنى ما أردت أن أصل اليه:
رجل يبيع الفاكهة على عربة يدفعها بيديه يطوف بها الأسواق والطرقات. هذا رمان، وهذا بلح، وذاك عنب، وذلك غير ذا وهذا وذاك. والرجل له زوجة صغيرة السن لم تفرغ بعد من سلخ عقدها الثاني، وللزوجين طفلة رضيعة تحملها الأم على كتفها لأنها لا تزال في ذلك الدور الذي يكون فيه الأطفال أقرب إلى الطفيليات منهم إلى الكائنات الآدمية المستقلة.
هؤلاء الثلاثة هم أشخاص القصة. . .
أما القصة فتبدأ كما يأتي:
تقدمت للمحكمة هذه الأسرة بأفرادها الثلاثة وتهمتها أن الأبوين أحرزا مادة مخدرة (أفيون) بدون مسوغ قانوني، وطلبت النيابة فيما طلبت تطبيق نص المادة 35 من قانون المخدرات(17/4)
الجديد الذي قصد به محاربة المخدرات حربا رادعة
ونص المادة المذكورة هو كما يأتي:
(يعاقب بالحبس مع الشغل من سنة إلى خمس سنوات وبغرامة من 300 جنيه إلى1000 جنيه. . . كل شخص ليس من الصيادلة أو من الأشخاص المرخص لهم بالاتجار بالجواهر المخدرة يكون قد حاز أو أحرز أو اشترى جواهر مخدرة ما لم يثبت أنه يحوز هذه الجواهر بموجب تذكرة رخصة أو تذكرة طبية بموجب أي نص من نصوص هذا القانون)
أما الوقائع فتتلخص في أن جماعة من رجال البوليس الملكي خرجوا على عادتهم يجوسون خلال الأسواق والطرقات يبحثون عمن يتجر في المخدرات أو يتعاطاها لضبطه واتخاذ الاجراءات القانونية قِبَلهَ. فصادفوا الزوج يتغنى ببلحه ورمانه وفاكهته فدهموه إذ كان يعلم أحدهم أنه ممن يشتبه في أمرهم لسابقة ضبطه ومعه مقدار من الأفيون. وأخذوا يفتشونه فتولى بعضهم شخصه وملابسه. وتولى آخرون أقفاصه وبضاعته. وبينما هم في عملهم إذ أبصر أحدهم زوج الرجل مقبلة من بعيد. فلما رأتهم محدقين بزوجها يفتشونه عادت أدراجها مسرعة، فأوجس رجل البوليس منها ريبة وتبعها في تلصص، حتى دخلت بينها اقتحمه عليها فإذا هي تلقي من يدها شيئا فالتقطه، فإذا هو قطعة من الأفيون فضبطها هي الأخرى وعاد بها إلى زوجها وطفلها على كتفها. واقتيدت الأسرة إلى مركز الشرطة حيث حرر ضدها (المحضر اللازم) وتحدد يوم للمحاكمة، وأحيل المتهمان على المحكمة (بعد أن القي القبض على الزوج وأفرج عن الزوجة بالضمان).
ظاهر القصة بنادي بأن الزوج وهو صاحب المنزل يحرز الأفيون المضبوط، إما لاستعماله الشخصي وإما لأنه يتجر فيه، ولا سيما وقد سبق للرجل أن حكم عليه بسبب إحرازه أفيونا في قضية أخرى.
وكانت المحاكم تجري في أحكامها على إدانة الرجل في مثل هذه الأحوال، وتبرئة الزوجة التي ينحصر كل عملها في محاولة تفادي الاتهام، وهو عمل مشروع من حق كل إنسان أن يأتيه، وفي السعي لتخليص زوجها ورب بيتها من مأزق وقع فيه وتوشك بسببه أن تحرم من حمايته ومعاشرته ورعايته. . .
ولكن محكمة النقض والابرام، وهي القوامة على قضاء المحاكم جميعها، فسرت نص المادة(17/5)
35 المذكورة تفسيرا آخر أخذت فيه بحرفية القانون، ولها عذرها فيما فعلت: إن الشخص يجب أن يعتبر محرزا تنطبق عليه نصوص المادة 35 متى امتدت يده إلى المادة المخدرة، ولا عبرة بعد ذلك بالباعث له على تناولها، ويستوي في ذلك أن يكون إحرازه لها بقصد تعاطيها، أو الاتجار فيها. أو العمل على إخفائها لتفادي ضبطها معه أو مع شخص آخر قريب اليه.
وزاد الحالة حرجا أن هناك مادةأخرى هي المادة 40 من ذلك القانون الصارم ونصها كالآتي:
(لا يجوز الحكم بإيقاف تنفيذ الحبس لمن يحكم عليه في جريمة من الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون، وتكون الأحكام واجبة التنفيذ فورا ولو مع حصول استئنافها. ويحرم المحكوم عليه بناء على هذا القانون من استعمال حقوقه السياسية والانتخابية لمدة خمس سنوات تبتدئ من انتهاء مدة العقوبة)
يعني أن من يحكم عليه بسبب إحرازه مخدرا لا سبيل إلى استعمال الرحمة معه، فالحكم يقع عليه نافذا فورا. ولا يمكن تعليق تنفيذه أو إيقافه بحال من الأحوال، مع أن السارق والمزور وخائن الأمانة والنصاب كل أولئك وغيرهم أيضا تستطيع المحاكم أن توقف تنفيذ العقوبة التي تحكم بها عليهم إذا وجدت مبررا لذلك من جنس أو سن أو نحوهما.
وقد عرضت تلك القضية التي نحن بصددها على المحكمة فلم يكن أمام قاضيها الا طريق واحد: وهو أن يأخذ الزوجة بإحرازها المادي لقطعة الأفيون المضبوطة، فقضى عليها بالحد الأدنى للعقوبة المقررة وهي حبسها سنة واحدة مع الشغل وتغريمها200 جنيه وشمل حكمه أيضا بالنفاذ. أما الرجل فلما كان لم يضبط معه شيء وكان قضاء محكمة النقض يفيد قصر العقوبة على المحرز أياً كان السبب في إحرازه فقد قضت المحكمة ببراءته!
وهكذا انقلب الوضع!
فأصبح الرجل بريئا، وهو الذي ضبط الأفيون في بيته، والذي يفترض فيه الإحراز بحكم جنسه وبحكم السابقة التي له. أما الزوجة، تلك الصبية الغريرة الساذجة، التي هالها أن ترى زوجها بين يدي الشرطة يوشك أن يمنع من العودة إليها وإلى طفلته. والتي خشيت أن تمتد أيديهم إلى ما في منزل زوجها فأسرعت إليه تخفيه عن أعينهم. والتي لا يفترض(17/6)
فيها تعاطي الأفيون ولا الاتجار فيه بحكم جنسها وبحكم سنها، والتي كانت يدها وهي تمدها إلى الأفيون المضبوط يدا عارضة لا يقصد بها إحراز ولا حيازة ولا تعاط ولا اتجار، فهي التي أودعت السجن هي وطفلتها تبعا لأنها جزؤها الذي لا يتجزأ. وهي التي سوف تخرج من السجن بعد عام مدموغة بأنها (من أرباب السوابق) وكل ذلك باسم العدالة وباسم القانون!!
ان الإنسان ليفكر مرتين قبل أن يقرر أن القوانين قد كفلت العدالة.(17/7)
القلب
للأستاذ أحمد أمين
رمتني آنسة في جريدة الأهرام (بأن لا قلب لي، وان كان فليس يخفق) لأني كتبت موضوعا في مجلة الرسالة عنوانه (أدب القوة وأدب الضعف) سميت فيه الأدب الذي يضعف النفس ويمرض العاطفة أدبا ضعيفا مائعا
لك الله يا آنسة أفتدرين أن أشنع سُبّة يسب بها إنسان: أنه لا قلب له؟
وهل المرء ألا قلبه؟
ليس الإنسان جسما بعضه القلب لكنه، قلب غلافه الجسم. لقد قالوا: (إن المرء بأصغريه قلبه ولسانه) ولكنهم بقولهم قد رفعوا من شأن اللسان حتى قرنوه بالقلب، ووضعوا من قيمة القلب إذ قرنوه باللسان، وهل اللسان إلا حاك بكى لأحط حركات القلب وانفعالاته؟ وكيف يعبر المحدث عن القديم؟ أم كيف يحيط المحدود باللامحدود؟ وأين يقع معجم اللغة من معجم العالم؟
إن القلب يقرأ ما رسمه الله على السماء والأرض من أشعار، ولا يسمح منها للسان الا بالقليل التافه، وما الشعر الملفوظ بجانب الشعر المحسوس؟
القلب لا يكذب أبدا واللسان لا يصدقُ الا قليلا، لعلك يا آنسة فتشت عن أعجب ما خلق الله من السماء وفي الأرض لم تجدي أعجب ولا أروع ولا أدق ولا أجمل من قلب الإنسان، تصلح أوتاره فيفيض رحمة وشفقة وحبا وحنانا، ومعاني لطافاً وشعورا رقيقا، حتى يتجاوز في سموه الملائكة المقربين، وتفسد أوتاره فينضج قسوة وسوءا حتى يهوى إلى أسفل سافلين
حوى على دقته كنه العالم! فما أدقه وأجله وما أصغره وأعظمه! يكبر، ولا نرى كبره، فيتضاءل أمامه كل كبير، وسيصغر ولا نرى صغره فيتعاظم عليه كل صغير.
اتحد شكل القلب واختلفت معانيه، فقلب كالجوهر الكريم صفا لونه، وراق ماؤه، يتلقى الإشعاع ويعكسه وهو على أشد ما يكون ضوءا ولمعانا، وقلب كالصخر قوي متين، ينفع ولا يلمع، وقلب هواء، خف وزنه، وحال لونه، وقلب. . . وقلب. . . مما لا يحصيها الا خالقها، إن اتحدت عيون الناس وآذانهم ووجوههم ورءوسهم نوعا من الاتحاد فأن لكل(17/8)
إنسان قلبا وحده، ينبض بنوع من حب وكره، وقسوة وحنان، وإعظام واحتقار، ورفعة وانحطاط، لا يشركه فيه قلب آخر وبهذا، وبهذا وحده. اختلفت قيم الناس وتعددت مراتبهم.
يموت القلب ثم يحيا، ويحيا ثم يموت، ويرتفع إلى الأوج، ويهبط إلى الحضيض، وبينما هو يسامي النجوم رفعة، إذا به قد لامس القاع ضعة، وهكذا يتذبذب في لحظة بين السماء والأرض، والطول والعرض، وخير الناس من احتفظ برفعة قلبه، وسمو نفسه.
هو إن شئت فردوس، وإن شئت جحيم، هو إن شئت ملك، وإن شئت شيطان، هو إن شئت نار تتقد بالحب
هل الوجد الا ان قلبي لودنا ... من الجمر قيد الرمح لاحتقر الجمر
هل الحب الا زفرة بعد زفرة ... وحر على الأحشاء ليس له بَرْد
وفيض دموع العين يا مي كلما ... بدا عَلَم من أرضكم لم يكن يبدو
وإن شئت سلا فكان برداً وسلاما
وقلت لقلبي حين لج به الهوى ... وكلفني مالا أطيق من الحب
الا أيها القلب الذي قاده الهوى ... أفق لا أقر الله عينك من قلب
القلب مركز العاطفة، والرأس مركز العقل، وما العقل لولا العاطفة؟ إن العقل أكثر ما ينفع للهدم، والقلب أكثر ما ينفع للبناء، إن القلب يؤمن، والعقل يلحد، والقلب يحب والعقل يحذر
نصحتك علما بالهوى والذي أرى ... مخالفتي فاختر لنفسك ما يحلو
القلب يؤسس العالم، والعقل يسكنه، والقلب يخلق الشيء والعقل يغصبه، سلي التاريخ أليس أعظم بناة العالم قد امتازوا بكبر القلب، وصدق الشعور، وقوة الإرادة، أكثر مما امتازوا بسعة العقل وقوة الإدراك؟
القلب بنى البناء والعقل نقده، والقلب أحيا الشعور والعقل حدَّة، هل تعلمين يا آنسة أن من وجد كل شيء وفقد قلبه لم يجد شيئا، وان من جرد من قلبه لا يعرف صداقة ولا يدين بوطنية ولا يشعر بحنان، ولا ينطوي على إيمان؟
أو تعلمين أن من سُلِب القلب فقد سُلِب الفن والأدب، لأن الفن مناطه القلب، والعلم مناطه العقل؟ وقد سئل مصور ماهر كيف تمزج ألوانك؟ فقال: أمزجها بدم قلبي. وكذلك الأدب الحق، هو ما كان ذوب القلب.(17/9)
يا آنسة لقد رميت فأصميت، ولشد ما خفق قلبي لسُبتك، كأنه يريد أن يثبت وجوده!(17/10)
قبر مفقود
للدكتور عبد الوهاب عزام
قال صاحبي: هذا مسجد النبي دانيال، فولجنا إلى الفناء فإذا جماعة من السؤَّال جالسين إلى الجدار كأنهم موتى أعوزتهم القبور، قال صاحبي: وهذا البناء مقبرة. فملنا ذات اليمين إلى رجل واقف بباب البناء عرفنا من موقفه وأوامره أنه قيِّم المقبرة
- السلام عليكم
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، هل من حاجة؟
- يا سيدي: شاعر من شعراء الترك ووزير من وزرائهم قدم إلى مصر أيام محمد علي باشا ومات بهذه المدينة ودفن بجوار النبي دانيال. فهل تعرف عن قبره خبراً؟
- أكان وزيراً في مصر؟
- كلا، ولكنه مر بمصر حاجاً ثم عاد إليها بعد الحج فمات بالإسكندرية
- هذه مقبرة لأسرة الأمير عمر، يا محمد! اذهب معهما إلى المقبرة القديمة، أليست مفتوحة؟
- لا يا سيدي ولكن فتحها يسير. فهناك إبراهيم
سرنا وراء الرجل يسلك بنا مضايق في فناء المسجد حتى انتهى إلى زقاق ضيق يفضي إلى باب مرتفع، فنادى إبراهيم وكلمه فجاء يحمل المفتاح، وتقدم نحو الباب ففتحه ثم ألقى خشبة ضخمة على كوم من الحطب أمام الباب فارتقى عليها ودخل فاتبعناه:
سور قصير يحيط بعرصة واسعة فيها ارتفاع وانخفاض وأكوام من التراب وأكداس صغيرة من الأحجار، يبدو بداخلها قبران إلى اليمين عليهما نُصبان من الرخام، وإذا أنعم النظر تبين قبرين دارسين او ثلاثة في أرجاء أخرى
قال إبراهيم: ليس هنا الا القبران اللذان ترى، فتأملت كتابة تركية فقرأت ما في سطور الفناء من عظات وتواريخ وأسماء، فإذا اسمان آخران ودفينان مضى عليهما زهاء ثمانين عاما. فجلت في أرجاء المقبرة فرأيت قبرا عليه نصب واقع يتضمن اسما آخر، ثم مررت بقبر لا نصب عليه، وبنصب لا قبر له: بطشت يد الزمان العسراء، ببقايا الفناء!
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع(17/11)
لبثت حينا أسائل القبور والأحجار فلم تحر عن الشاعر جوابًا. فرجعت إلى إبراهيم فقال: كانت هذه الأرض كلها قبور فذهب بها الحفر، قلت أي حفر؟ قال: قلبوا الأرض يفتشون عن قبر الاسكندر. وقد أخرجوا ما ضمنته الأرض من أحجار وعظام إلى عشرين مترا فلم يظفروا بشيء. قلت انها لتعزية: إن فقدنا قبر شاعرنا فقد ضل في ثنايا الأرض وظلمات التاريخ قبر الملك العظيم الفاتح الاسكندر بن فليب، انها لتعزية!
رجعنا إلى صاحبنا الذي أشار بالذهاب إلى المقبرة القديمة فقال:
- هل عثرتم على القبر المنشود؟
- لا. رأينا قبورا قليلة، وقرأنا ما وجدنا من أنصاب فلم نجد قبر عاكف باشا
- هنا مقبرة سعيد باشا. أيمكن أن يكون مدفونا هنالك؟
- ليس بعيدا فقد حدث التاريخ أن محمد علي باشا أحسن وفادته وبالغ في الحفاوة به. فليس بدعا أن يكون قد أمر بدفنه بين قبور الأمراء.
- يافلان (قيّم مقبرة سعيد باشا) وكان بجانبه، أدخل بهما لعلهما يجدان القبر، فأحسبني رأيت هذا الاسم على بعض القبور
- عندي أوراق فيها أسماء القبور كلها فتفضلا معي.
ودخل إلى بهو به مكتب، فأخرج ورقتين فيهما أسماء معظّمة لأمراء وأميرات، أسماء كانت عناوين حياة حافلة بالعظمة والرفاهية، مليئة بخطوب الزمان، ونوب الأيام، وما هي الآن إلا أسماء قبور. ما وجدت (عاكف باشا) بين الأسماء، فشكرت الرجلين وانصرفت.
قال صاحبي: لم تعثر عليه
قلت: أجل، ولكني أعلم أنه في باطن الأرض، فان يكن لابد لشاعرنا من قبر،! فهب الأرض كلها قبره: يا أخي، انما يخلد الناس بالآثار، لا بهذه الأحجار. وقد صدق جلال الدين الرومي إذ قال:
بعد أزوفات ما درزمين مجوى ... درسينه هاي مردم عارف مزار ماست
فلا تطلبين في الأرض قبري فإنما ... صدور الرجال العارفين مزاري
إسكندرية 23 أغسطس سنة 1933. عبد الوهاب عزام(17/12)
مناظر من موقعة صفين
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
اجتمع في سهل صفين جمعان من العرب لم يشهد تاريخ ذلك الشعب اجتماع مثلهما في موقعة منذ الزمن القديم المعروف في التاريخ، فقد كانت المواقع القديمة لا تزيد على أن تكون معارك بين بضع مئات، فلما كان الإسلام سمعنا عن موقعة حنين وقد أعجبت المسلمين كثرتهم إذ كانوا عشرة آلاف. فلما خرج العرب إلى حروب الروم والفرس زاد عد الجنود فصار إلى عشرات الآلاف. فكان عدد العرب مثلا في اليرموك ستة وأربعين الفا، وكان عددهم في القادسية ثلاثين ألفا، وفي نهاوند كذلك ثلاثين ألفا. واما في صفين فلم يكن جيش علي بأقل من سبعين ألفا. ولم يكن جيش معاوية بأقل من تسعين ألفا.
وكان معاوية السابق إلى النزول في سهل صفين، فاختار لجيشه سهلا فسيحا متصلا بنهر الفرات في مكان يسهل الاستقاء منه. ولم يكن في ذلك الجزء من نهر الفرات الأعلى مكان غيره يمكن الشرب منه، إذ ان النهر يجري هناك في إقليم الجبال فيغلب على مجراه أن يكون عميقا قائم الجوانب سريع التيار.
ولعل معاوية كان يريد السبق إلى اختيار ذلك المكان ليكسب الموقعة قبل أن يلتحم الجيشان. فلما اقبل علي في جيشه رأى عدوه نازلا في خير المنازل وقابضا على ناصية الشريعة، وقد وقفت كتيبة من جيشه لتدافع عن مورد الماء إذا حاول عدوه أن يصل اليه.
كانت خطة علي في حروبه أن يأمر جنده بالكف عن القتال حتى يحاول حل الخلاف بالحجة والمسالمة. حقا لم تفده هذه الخطة في كثير من المواطن، ولكنه لم يخرج عنها مرة واحدة في حرب من حروبه. وقد كان في هذه الموقعة جاريا على عادته هذه، فانه أمر أصحابه ألا يتعرضوا لأحد من جيش معاوية حتى يراسله فيما جاء له. ولكن العطش ألح على أصحابه، فالتمسوا مكانا على النهر يستطيعون أن يشربوا منه فلم يستطيعوا، فأرسل علي إلى معاوية يطلب اليه إباحة الماء لأصحابه. فلم يكن بد من القتال على الماء قبل محاولة المفاوضة فيما جاء له الجيشان.
وكان بطل القتال في ذلك اليوم الأول رجلا أسمه الأشعث ابن قيس، كثر تردد اسمه فيما بعد في آخر الموقعة. وقد كان من قبل خلافة علي عاملا لعثمان علي أزربيجان، فلما قتل(17/13)
عثمان دخل في طاعة علي حتى جاء معه لمحاربة معاوية في صفين. ولكنه كان ممن ينظر إليهم بعين الريب في جيش علي. ولا يمكن أن يكون الأمر على غير ذلك لأن جيش علي كان لا يثق بأحد ممن كان يعمل لعثمان، على أن الأشعث كان يطمع في الصدارة والرياسة، وها هي فرصة تهيأت له فتقدم إليها مسارعا، فطلب إلى علي أن يخرجه لقتال القوم على الماء فأذن له علي في ذلك. واشتدت الحرب وتوالت الإمداد من الجانبين وانتصر علي وأصبحت الشريعة في يده، وارتدت جنود معاوية إلى مكان بعيد عن النهر، وتقدمت جنود علي فنزلت في ناحية من السهل الفسيح الذي كانت جيوش معاوية تحل فيه وتملك الانتقال خلاله.
كثر تحدث الجنود والقواد بعد ذلك فيما يظنونه من صنع علي عقب انتصاره، فمن قائل إنه يقابل الإساءة بمثلها، ومن قائل إنه يتفضل على عادته في النيل، وقال عمرو بن العاص: (ما أظنه يمنعنا الماء كما منعناه من قبل. انه قد جاء لغير ذلك) وكان عمرو أصدق المتوقعين، فأن علياً أبى ان يمنع أحداً ورود الماء. وقد يسائل أحدنا نفسه: (ماذا كان يجب عليه أن يفعل؟)
وقد يجيب بحسب ما يظنه الأمثل والأصلح، ولكن لا يشك أحد في وصف ما أتاه علي بأنه نبل.
نزلت جنود علي في سهل صفين في أواخر ذي الحجة، فلما دخل المحرم اتفق الجيشان على الموادعة مدة الشهر الحرام، وكان علي يرجو أن يستطيع في أثنائه حسم الشر والوصول إلى توحيد كلمة المسلمين بغير حرب، غير أنه كان يعلم أن معاوية لا يقصد غير الملك، وما كانت الحجج لتستطيع أن تحوله عن مثل ذلك القصد. غير أنه كان يطمع في أن يستميل بالحجة أهل الرأي ممن مع معاوية، فكانت رسله تختلف إلى معاوية تحمل من الحجج ما هو أشبه بالدعاية السياسية منه بالمراسلة المعتادة بين رئيسي حزبين متعاديين، وكان ينتهز فرصة وفود رسل معاوية لكي يحاول أن يستميلهم بالحجة، وكان إذا وجد من هؤلاء الرسل انصرافا عن حجته وتمسكا بمعاوية أظهر أشد الأسف حتى ليقول مثلا: (انك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهادي العمى عن ضلالتهم أن تسمع الا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون) فلما رأى المحرم قد مضى وأيقن(17/14)
أن تلك المحاولات لم تفده شيئا، أمر أحد قواده أن يعلن استئناف القتال، ولم يرض أن يهاجم أعداءه حتى يعلن إليهم عزمه. فلما غربت شمس آخر يوم من المحرم نادى مناديه بإعلان الحرب معتذرا بأنهم أبوا الإذعان للحجة ولم يلبوا الدعوة إلى الإسلام. وابتدأت المصادمة على شكل مواقع جزئية، وذلك بأن ترسل كتيبة من جيش علي فتلقاها كتيبة من جيش معاوية فتتجاولان مدة نهار حتى يحجز بينهما الليل، وكانت القتلى في مثل هذه المجاولات قليلة العدد. وكان الناس إذا أقبل الليل يضعون السلاح ويدخل بعضهم إلى مخيم بعض فيتحادثون ويتسامرون ويسمع بعضهم قول بعض في غير قتال حتى تستأنف المعركة سيرها في اليوم التالي. وقد استمر الحال على ذلك مدة الأسبوع الاول من المعركة، ثم عزم على المقاتلة بكل جيشه في يوم الأربعاء الثاني مهن شهر صفر سنة سبع وثلاثين للهجرة.
وكان الجيشان مرتبين حسب النظام المتبع حين ذلك. وهو أن يجعل لكل منهما قلب وجناحان، وكان الهجوم يحدث من الجناحين أو من أحدهما ويكون القائد في القلب ومعه أوثق جنوده يهجم بهم وقت الضرورة، أو يمد بهم من يحتاج إلى المدد من الجناحين. وقد بدأ علي الهجوم بجناحه الأيمن وجل جنوده من أهل اليمن، فهبطوا على جناح معاوية الأيسر، وكان قائد ميمنة علي أحد شجعان العرب وقرائهم وهو عبد الله بن بديل، فكانت الحملة الأولى تيارا قويا تزعزعت له ميسرة معاوية حتى اضطر إلى إمدادها بالشجعان الذين معه في القلب وهم الذين بايعوه على الموت، وعند ذلك قويت ميسرة معاوية وكرت على ميمنة علي حتى ردتها، ولم يبق ثابتا الا القائد مع مائتين أو يزيدون استماتوا في القتال أمام الجموع المتزايدة الجرارة التي تدفقت عليهم، فلما رأى علي أن ميمنته ارتدت هذا الارتداد السريع الذي لم يكن متوقعا عقب الانتصار الأول حاول أن يقابل الهجوم بمن معه في القلب وكانوا من مضر. فلم يستطيع أن يرد بهم ذلك التيار واضطر إلى أن ينحاز إلى ميسرته وكان جنودها من ربيعة. فلما رأت الميسرة ما حاق بالميمنة والقلب وانحياز الخليفة إليها ثارت فيها الحمية وثبتت ثباتاً عظيماً ووقف علي معهم يحارب بنفسه.
رأى أحد قواد علي وهو الأشتر النخعي ما حاق بالميمنة من الهزيمة وكان يمنيا. فتارت روحه القوية وجاشت نفسه الباسلة فأسرع نحو المنهزمين وتمكن بقوة نفسه وشجاعة قلبه(17/15)
وفصاحة لسانه من أن يرجع كثيرا منهم ويذمرهم ويثير فيهم الحماسة حتى التف حوله عدد عظيم ممن كان انهزم من الميمنة. فعطف بهم إلى القتال فأدرك عبد الله بن بديل وهو بآخر رمق من الجهد يقاتل مع أصحابه القلائل المستميتين. فأعاد الكفة إلى الرجحان وما زال يقاتل حتى صار القتال متكافئا بين الفريقين، ولما رأى علي ذلك عاد إلى الميمنة وجعل يشجعهم ويذمرهم.
وأقبل الليل والكفتان متراجحتان بعد، ولم يشأ أحد من الفريقين أن يقف القتال أثناء الليل إذ كان كل منهما يعض على النواجذ من أجل النصر.
وأصبح الصباح فإذا بجنود علي في الميمنة لا يزالون منتصرين مع الأشتر النخعي حتى صرعوا صفوف المعقلين الذين التفوا حول معاوية وقد بايعوه على الموت وعقلوا أنفسهم بالعمائم حتى لا يستطيعوا الانصراف من حوله، وكانت الميسرة كذلك منتصرة قد أوشكت أن تبلغ إلى قلب جيش معاوية وجعلته يفكر في الفرار، وفيما كان الأمر على ذلك ارتفعت صيحة من ميمنة جيش معاوية وما زالت تتزايد حتى بلغت ميسرة جيش علي، فإذا الصيحة ترتفع فيها حتى تبلغ عليا ويأخذ قواده في المجادلة فيما بينهم، ثم تنتقل المجادلة حتى تصبح بينهم وبين الخليفة. وتلك هي صيحة تحكيم القرآن إذ رفع جند الشام المصاحف على الرماح وقالوا: (قفوا تلك الحرب الطاحنة، إلى متى يتطاحن المسلمون؟ لقد قرب المسلمون من التفاني. ومن يكون لحرب الفرس ومن يكون لحرب الروم إذا نحن تفانينا وقتل بعضنا بعضا؟)
تردد عليّ في وقف الحرب وعلم أن تلك خدعة لجأ إليها عدوه عندما رأى كفة النصر تنصرف عنه. ولكن بعض قواده هدده بالثورة عليه. وكان أشدهم في ذلك الأشعث بن قيس صاحب الانتصار العظيم يوم الشريعة. فاضطر علي أن يبعث إلى ميمنته المنتصرة لوقف الحرب. وتردد الأشتر في ترك الحرب وقد وشك أن ينتصر. فأعاد الإمام أمره إلى الأشتر بوقف الحرب وأفضى اليه بنبأ ثورة قواد ميسرته، فاضطر إلى أن يرفع يده وعاد إلى علي محنقا ثائرا ساخطا على إفلات النصر من يده وكان قد ظنه قريبا.
ولم يمض بعد ذلك زمن طويل حتى كتبت صحيفة التحكيم وانصرف الجيشان أولهما إلى الشام وهم فرحون اذ أفلتوا من هزيمة محقة، وثانيهما إلى العراق وهم يتلاومون ويتجادلون(17/16)
ويختلفون وفي قلوبهم أشد الأسى على ما أصابهم من الخذلان بعد وشك الانتصار.
وإنا نسائل النفس عن علة هذا الفشل العجيب ولا نستطيع أن نقنع النفس بأن الحوادث الظاهرة كانت كافية لأحداثه. فأن أمر هذه الهزيمة كان شبيها بعود من الثقاب أشعلته فرأيت من إشعاله انفجارا مدمرا لم يكن ليخطر لأحد ببال. فإذا عزى الانفجار إلى عود الثقاب كان ذلك إهمالا لذلك الغاز الملتهب الذي كان خفيا عن الأعين فأحدث الانفجار المروع عندما اشتعل فيه ذلك العود الضئيل. إن الحرب هي الجهد الأعظم الذي ينتهي اليه الخصام بين حزبين. وفيه يبذل كل جانب أقصى ما عنده من الهمة ليفوز. وقد لا يتورع المحارب عن الكيد بالكذب والدس والتجسس، وقديما أباح الناس أمثال هذه
الدنايا في الحروب مع تحريمهم إياها في المعاملة المعتادة.(17/17)
الشعر المرسل
للآنسة سهير القلماوي. ليسانسييه في الآداب
في مقال الأستاذ قدري لطفي الذي نشر بالعدد الخامس عشر من الرسالة أشياء كثيرة يحسن الاجابة عنها، لولا أني أحببت أن أكتب هذا المقال عن رأيي في الشعر المرسل لا في الرد على الأستاذ. ولكني لا أترك مقال الأستاذ هكذا بل سأطلعك على بعض فقرات ترى منها أني لم أهمل الاجابة عنه لأنها شاقة بل لأنها من السهولة بحيث يعرفها القارئ متى قرأ المقال.
انظر إلى قوله مثلا: (أما تمام المعنى في البيت الواحد فلم يكن من خصائص الشعر العربي وإنما كان من خصائص الشعراء العرب). .!! وخبرني بعد معنى هذا القول ومدى نصيبه من الصحة.
ثم أنظر إلى قوله (ولا أحسب أحدا يدعونا إلى ترك الشعر القديم وإهماله لنفسح المجال للشعر المرسل في غير حاجة ملحة ولا ضرورة ملجئة) وخبرني من ذا الذي يريد للفن أن يخضع للضرورات الملجئات والحاجات الملحات، وخبرني أيضا إذا دعونا إلى الشعر المرسل كان معنى هذا أن نهمل الشعر المقفى، لم لا يجوز وجودهما معا، وكلنا يعلم أن الشعر المرسل في كل لغة وجد فيها لم يمح الشعر المقفى وانما وجد بجانبه.
وأمثال هذين المثلين كثيرة فليقرأ القارئ مقال الأستاذ فهو خير دليل على ما زعم.
ولقد تورط الأستاذ أبان ثورته غيرةً على القافية في غير هذا النوع من الخطأ. فقد زعم أني قلت: (أني لا أشعر بفقد القافية ما دام المعنى كاملا في البيت)؛ زعم الأستاذ أني أريد بذلك حكما أو تأثيرا في الحكم على قصيدتي. وأنا وإن كنت لا ألوم الأستاذ على هذا النوع من الفهم لما يقرأ الا إنني أذكر له أني لو لم أدون فكرتي في هذا النوع من الشعر المرسل الذي نظمت به قصيدتي لأسأت إلى نفسي وإلى قارئي لأني أؤمن تماما أن من واجب الكاتب أن يصور للقارئ فكرته واضحة جلية، ولما كانت فكرتي شيئاً يتعلق بالحس فقد صورت للقارئ شعوري. ولكن الفرق بين طريقتي في التعبير وبين طريقة الأستاذ هو أني دونت شعوري ونسبته إلى نفسي، أما هو فقد دون شعوره وعممه متخذا نفسه مقياسا لكل قاريء، أنظر إلى قوله: (ولكن اصطدام القارئ بحروف متغايرة في أواخر الأبيات يشعره(17/18)
بفقدان الوزن في ثناياها!!)
ولندع مقال الأستاذ لأدون رأيي في مسألة الشعر المرسل واضحا جليا حتى لا يتورط غير الأستاذ فيما تورط فيه.
الجدال في الشعر المرسل لا يقوم على أساس، فالمسألة ليست من مسائل الحساب أو المنطق، وإنما هي مسألة حس. أنت تسمع نغما فيعجبك، وأنا أسمعه فلا يعجبني، فإذا تناقشنا أعواما ما استطاع أن يقنع أحدنا الآخر. أذني تستسيغ الشعر العربي مرسلا، وقد تكون أذني شاذة، ولكنك لن تقنعني بعدم استساغته. ستقول لي: ولكن المسألة ليست فوضى، فهناك الذوق العام، ولكني وإن كنت أحترم الذوق العام لا أقبل حكمه دائما، وفي كل الأحوال، فالذوق العام له تاريخ في مثل هذه الأحوال يجعلني أتشبث برأيي. فقد يستسيغ الذوق العام غدا ويشغف بما لم يطق سماعه بالأمس، وفي مسألة الشعر المرسل خاصة كان للذوق العام تاريخ يعيد نفسه منذ كان هذا النوع من الشعر بغيضا غير مستساغ أول ظهوره في كل لغة ظهر فيها، فلا ضير أن يكون كذلك في اللغة العربية أيضا.
ثم هناك ناحية أخرى، فالذوق العام لا يستطيع اليوم أن يحكم حكما عادلا في الشعر المرسل لأنه لم يسمع منه الا القليل، وقد لا يكون في هذا القليل شئ جميل رائع كالذي في الشعر المقفى.
وقد تقول لي أخيرا أن طبيعة اللغة العربية لا توافق مثل هذا النوع من الشعر، وأنا وإن كنت لا أستطيع التحدث عن طبيعة اللغة العربية بمثل هذه السهولة الا أني أزعم أنها قد تتحور قليلا فتقبله. وأنت إن استطعت الحكم على الماضي والحاضر فلن تستطيع الحكم على المستقبل. ولكن ما بال طبيعة اللغة قبلت تغيير القافية في القصيدة الواحدة إذا غيرتها كل خمسة أبيات مثلا، ولا تقبلها إذا غيرتها في كل بيت؟. ثم ما بال طبيعة اللغة قبلت تغيير القافية في كل بيت إذا ما راعيت القافية بين شطري كل بيت على حدة، ولا تقبل تغير القافية دون مراعاة الموافقة بين الشطرين؟ ثم ما بالها أخيرا قبلت تغير البحور في القصيدة الواحدة ولا تقبل تغير القافية ولزوم بحر واحد؟ ستقول ولكن في كل هذا نوعا من القافية كافياً لإحداث تلك الموسيقى المألوفة. إذن أصبحت تقتنع بشيء من القافية بعد أن كان الشعر العربي لا يقنع الا بالقافية كلها متبعة من أول القصيدة إلى آخرها. وإذا قبلت(17/19)
اللغة بعض التغير فاني أزعم أنها ستقبل التغير كاملا.
وما رأيك في أني أرى في الشعر المرسل أنواعا جديدة من الموسيقى يعجز عنها بل قد يفسدها الشعر المقفى؟
الوزن في القصيدة ليس بالنغم الخافت الذي تسمعه الأذن، فهو عندي وأظن عندنا جميعاً أقوى موسيقى في الشعر، ثم هناك موسيقى الألفاظ وموسيقى الحروف، فهل من المحتوم وجود القافية المكررة المحركة بحركة معينة حتى نشعر بأن هناك موسيقى؟
والغريب أنه بينما نحن نتناقش في الشعر المرسل يتناقش الأدباء الأمريكيون الحديثون في الشعر الحديث الذي لا وزن له ولا قافية.
ليطمئن قرائي فسيفنى عمري في الدعوة إلى الشعر المرسل، فهل يتيسر لي أن أدعوا إلى هذا الشعر الحديث الذي لا أستسيغه الآن؟ ولكني لا أعرف، فقد أستسيغه غدا.
وأخيراً أرى كما أسلفت أن المجال ليس مجال جدال وإنما خير رد على خصوم الشعر المرسل هو أن أكتب وأن يكتب غيري من أنصار الشعر المرسل قصائد نستطيع أن نقنع بها الذوق العام الذي نحترمه جميعا، وأن نقنع بها أيضا من يهمنا إقناعهم.(17/20)
العالم يجري!!
كل شئ يجري في هذا العصر، وكل شئ يسرع. والعالم في إسراعه للأمام، لا يكاد يتلفت يمنة ولا يسرة، وان كان يتجه إلى الخلف في أحيان قليلة، ليرى كم قطع من المسافات.
فالبخار لم يعد يستطيع تلبية هذه الحاجة الملحة للسرعة فخلفه الطيران، والطائرات نفسها تكاد تعجز عن تلبيتها، فتزيد كل يوم في سرعتها، وتقوم المسابقات العالمية لهذا الغرض.
والتليفون والبرق لم يعودا كافيين، فإذا بالراديو وإذا بالتلفزيون لنقل الأصوات ولنقل الصور، بل لنقل المناظر ذاتها لا صورتها. وإذا بالأفلام الناطقة تعرض الصوت والحركة، وتغني بالعين والسمع عن الوهم والخيال!
هذه الظاهرة السيكلوجية الغربية، قد جرفت معها الأدب أيضا، وجرفت الفنون جميعا، وكان ذلك طبيعيا، لأن الفنون هي الظاهرة للنفس الباطنة.
فالفن اليوم لمحات خاطفة، وملاحظات سريعة، لا يقف للدرس العميق، والتحليل الدقيق، لأن طبيعة العصر لا تمهله للوقوف، وإلا سبقته الحياة بآلاف الأميال.
والمجلات العلمية اليوم تكاد تنعدم، والباقي منها أخذته نشوة السرعة أيضا فلم تعد بحوثه مركزة، ومع ذلك فهي لا تجد العدد الكافي من القراء فتضمحل وتذوي، وتدرج في زوايا النسيان.
وأنا على يقين من تبدل هذه الحال، فالعالم الذي يجري الآن بكل قوته، لابد أن يدركه الكلال، ولابد أن تنقطع به هذه النشوة الطائشة، فيتمهل ليعرف ما يحيط به.
وسيضحك العالم من نفسه يومئذ على تلك الحماقة التي ارتكبها، كما يرتكب الأطفال حماقاتهم، ركضا وجريا ووثبا ثم يفيقون من هذه الغمرة عندما يكتمل نضجهم، ويتوبون إلى الرشاد
النشاط شيء، والعجلة شيء آخر؛ وإذا كان النشاط من مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، فليس للعجلة هذه المزية مطلقا، بل أن لها أضرارا، قد لا تعرف اليوم في أبان هذه النزوة الطائشة؛ وقد تعرف ولكنها لا ترد إلى أسبابها الحقيقية، ولا تعلم علاتها الأصلية!
ويقيني أن هذه الأزمات التي يعانيها العالم اليوم من مالية وسياسية وأدبية واجتماعية، انما منشؤها هذه السرعة، هذا التسابق، هذا الجنون، الذي يعمي الإنسان عما حواليه، فلا يرى إلا الإمام. دون ما على الإيمان والشمائل. . وحتى حين يصطدم بما حواليه، فهو لا يقف(17/21)
ليتأمل، أو ليصلح ما أصابه من الاصطدام، بل ينطلق إلى الأمام أيضا، محتملا أثر الصدمة تلو الصدمة حتى يلحقه العطب الكامل. . . فتكون هذه الأزمات!
إن السائق الذي يعرف كيف يسوق ولا يعرف كيف يقف: أو يدري كيف يسرع، ولا يدري كيف يبطيء، إنما هو سائق جاهل، غير مأمون على نفسه ولا على الركاب. وإذا كان للقيادة السريعة لذة في النفس والنشوة؛ فليس معنى هذا أنها أحسن القيادات وأولها بالاتباع
وبعد ففي مصر اليوم دعوة حارة ومخطرة معاً، إلى تقليد الغرب، والجري وراء الغرب، وإن كان الغرب نفسه لا يعرف اليوم وجهته، وهو شارد كالضال في متاهات الحياة، فكأننا سنجري وراء من يجري وهو لا يعرف مبتغاه!!!
وهذه الدعوة مفهومة من الوجهة (السيكلوجية) وقد عرف (ابن خلدون) أسبابها منذ قرون حيثما عللها. بأن المغلوب يميل بطبيعته لتقليد الغالب لاعتقاده أن غلبته له إنما كانت لخصائص فيه.
والسيكلوجية الحديثة تقر ما ذكره ابن خلدون، وتضيف إليه العقل الباطن، إذ يندفع الإنسان في بعض الأحيان، إلى أمور لا دخل لإرادته فيها، ولا لتفكيره، بحكم اندساسها في العقل الباطن، من مخلفات مشاهداته، أو ملاحظاته أو تفكيره التي يغمرها النسيان.
وهذه الدعوة مع أنها مفهومة وطبيعية. ليست مُسَلَّمة؛ ومن الواجب التحذير منها، وإبرازها للنور، بعيدا عن المؤثرات النفسية الغامضة. وإذا كانت الحرب العظمى قد أفقدت العالم الغربي اتزانه وطمأنينته؛ وبعثته من المكامن والخنادق وحفر الموت، مأخوذا، مشدوها، مجنونا. . . فليس من الواجب أن يفقد الشرق طمأنينته كذلك، ويجري وراء الغرب المأخوذ المشدوه، دون ما تأمل ولا تفكير!
إن للشرق رسالة قد يكون الآن موعدها، ورسالته هذه ستقوم على خصائصه الأصلية فيه، وستصبح واجبة بل، أصبحت لأن الغرب يكاد يتهالك ضعفا وإعياء لفرط جريه، وكثرة اصطداماته.
نحن لا نكره النشاط كما قلنا. ولكن نكره العجلة. ونريد أن يحتفظ الشرق بشيء من يقينه، ومن عمقه واتساعه، ومن سحره أيضا!، وألا يفرط في تقليد الغرب، ولا سيما والغرب يتخبط، ويئن، ويشكو من الصدمات ولم يوفق بعد لاتقائها، لأن النشوة لا تزال تطيف(17/22)
برأسه فيجري، وينهكه الجري، ولكنه لا يكف عن الجريان!
سيد قطب(17/23)
مطالعات في التصوف الإسلامي
عوارف المعارف. منشأ علوم الصوفية وفضلها
وقفت بك في نهاية الفصل الماضي عند ترجمة موجزة لحياة شهاب الدين السهروردي مؤلف كتاب (عوارف المعارف) وأحب أن أقف بك في هذا الفصل عند الباب الأول والثالث من هذا الكتاب حيث يحدثنا المؤلف عن منشأ علوم الصوفية وعن فضل هذه العلوم وما تمتاز بها على غيرها من فروع المعرفة الإنسانية. ولكني أحب قبل هذا أن أعطيك صورة عامة مقاربة لأبواب هذا الكتاب في جملتها. يقع (عوارف المعارف)، في نيف وستين بابا منها المطول المسهب ومنها المختصر الموجز. وفيها الدقيق المسرف في القوة والدقة. والضعيف المهلهل الذي لا يشتمل على فكرة منظمة ولا منطق منسجم بريط أجزاءه ويلم شعث عناصره. ولكن الكتاب في جملته خصب حقا ممتع نافع حقا. وهو من هذه الناحية أقدر على أن يعطينا صورة قوية شاملة لما احتوى عليه التصوف من وجدانيات وإشارات وأحوال ومقامات. ولعل من أنفع أبوابه وأوفاها هذه الأبواب التي تناول فيها المؤلف بيان منشأ علوم الصوفية وفضلها. وماهية التصوف. وسبب تسميتهم بهذا الاسم وأخلاقهم ومعرفتهم لأنفسهم ومكاشفاتهم في ذلك. وشرح الحال والمقام والفرق بينهما. تلك هي أهم الأبواب وأكثرها حظاً من الدقة والغناء. فلنترك إذا هذا الضرب من الكلام العام لنقف عند الباب الاول الذي أبان فيه المؤلف عن منشأ علوم الصوفية. والباب الثالث الذي أظهرنا فيه على فضل هذه العلوم وذكر نماذج منها
استهل مؤلف (عوارف المعارف) الباب الاول من كتابه بهذا الحديث الشريف: (انما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وإني أنا النذير العريان فالنجاء النجاء. فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا فانطلقوا على مهلهم فنجوا. وكذبت طائفة منهم فاصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق) ثم عقب على هذا الحديث بحديث آخر هو أبلغ في الدلالة على ما قصد اليه وهذا الحديث هو: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً. فكانت طائفة منها طيبة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير. وكانت منها طائفة أخاذات أمسكت الماء فنفع الله(17/24)
بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا. وكانت منها طائفة أخرى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)
والغرض الذي يرمي اليه المؤلف من إيراد هذين الحديثين هو أنه أن يستخلص منهما القيمة المعنوية لنفوس الصوفية والإبانة عن أن هذه النفوس كانت أكثر قابلية من غيرها لما جاء به ودعا اليه من الهدى والنور رسول الله (. وان حظها من صفاء السرائر ونقاء الضمائر وذكاء القلب أوفر من حظ غيرها، فنفوس العلماء الزاهدين زكت.
وسرائرهم صفت، وقلوبهم صقلت وتهيأ لها من العلم حظ لم يتهيأ لغيرها من النفوس. وبعبارة أخرى كانت هذه النفوس كأوعية للعلوم كما قال مسروق عن أصحاب رسول الله. وقلوب الصوفية واعية لأنهم زهدوا في الدنيا بعد أن أحكموا أساس التقوى. ومن هنا زكت نفوسهم بالتقوى وصفت قلوبهم بالزهد. فكانت تقواهم عونا لهم على أن تصقل مرايا سرائرهم وتجلى صفحات ضمائرهم. وكان زهدهم عونا لهم على أن ينصرفوا عن الدنيا وعلى أن يقبلوا على الدين اقبالا من شأنه أن يقربهم من الله ويوحدهم معه ويفنيهم فيه.
يأخذ المؤلف بعد هذا في إظهارنا على مكان العلوم الصوفية بين العلوم الإسلامية الاخرى. فذكر من هذه العلوم التفسير والحديث والفقه وأصول الفقه والخلاف والجدل. ثم أخذ يعرض علينا تفاسير مختلفة للآية الكريمة (أنزل من السماء ماء) وانتهى من هذه التفاسير إلى تطبيق ما اشتملت عليه الآية بالنسبة إلى العلماء الذين تخصص كل منهم في فرع من هذه العلوم التي ذكرها آنفا. ثم انتهى من هذا كله إلى أن الماء الذي أُنزل من السماء هو العلم وإلى أن أوعيته هي القلوب، فمن هذه القلوب ما سال واديه بالتفسير فكان علم التفسير. ومنها ما سال بحفظ رواية الحديث وسنده وتمييز صحيحه من سقيمه فكان علم الحديث. وعلى هذا النحو من التأويل والفهم يمكنك أن تقول في غير علمي التفسير والحديث ما قيل في كل من التفسير والحديث، وأما علوم الصوفية فنشأت من أن نفوسهم قد أحكمت أساس التقوى وزهدت فيما اشتملت عليه الدنيا من عرض زائل وزخرف حائل. فسالت أودية قلوبهم بما انصب منها من مياه العلوم التي اجتمعت فصارت هذه القلوب أخاذات.(17/25)
أخذ الصوفية حظاً من علم الدراسة فأفادهم هذا الحظ من ناحية انه أظهرهم على الأحكام الظاهرة للعبادات فعلموها وعملوا بها. ثم تميزوا على غيرهم من علماء الدين بعلم آخر خاص بهم قاصر عليهم هذا العلم هو علم الوراثة. وعلم الوراثة هو علم العالم الزاهد المنقى الذي فقه الدين فقها أبان له عن قواعده وأصوله بحيث يتعرف المعنى الحقيقي للدين. وليس الدين شيئا آخر غير الانقياد والخضوع فهو مشتق من الدون. وكل شئ تضع فهو دون. فعلى هذا يصبح الدين عبارة عن أن يخضع الإنسان نفسه لربه وينقاد لما أمر به. وأفضل مراتب العبادة الفقه في الدين، فمن كان أفقه في الدين وأعرف بأصوله كانت نفسه أسرع اجابة وقلبه أشد انقيادا لمعالم الدين وأصوله.
فأنت ترى من هذه الملاحظات التي ذكرها السهروردي في هذا الباب أن علم الشريعة قد انقسم إلى قسمين متمايزين: قسم اختص به الفقهاء وأهل الفتيا للأحكام العامة والعبادات والمعاملات. وقسم اختص به الصوفية وأهل الباطن اشتمل على ما يتعلق بهم من مراقبات ومحاسبات، ورياضيات ومجاهدات، وأحوال ومقامات. وما إلى ذلك من الأمور الكثيرة التي نراها منبثة في تضاعيف علومهم ومعارفهم. كتب الفقهاء كتبهم فدونوا فيها الأحكام التي استخلصوها من القرآن والحديث. وكتب الصوفية كتبهم فدونوا فيها مكاشفاتهم ومواجدهم التي انتهوا إليها عن طريق القرآن والحديث، ولكن هناك فرقاً بين فقه الفقهاء وتصوف الصوفية. ذلك أن الفقه هو علم الأحكام الظاهرة للعبادات والمعاملات على حين أن التصوف هو علم المواجد القلبية، والرياضات النفسية، والأحكام الباطنية. وإذن فقد سمي الفقه بعلم الظاهر وسمي التصوف بعلم الباطن.
ويظهرنا مؤلف (عوارف المعارف) بعد ما قدم على كيفية نشأة الشر وكيف أصبحت النفس مأوى لهذا الشر وكيف امتازت نفوس الأنبياء والأولياء على نفوس غيرهم. فذكر هذه القصة التي تتلخص في أن الله بعث جبرائيل وميكائيل ليقبضا قبضة من الأرض فلما أبت بعث عزرائيل فقبضها، وكان إبليس قد وطيء الأرض بقدميه فأصبح بعضها بين قدمين وبعضها الآخر بين موضع أقدامه. ومن هذه المواضع التي مستها أقدام إبليس خلقت النفس فصارت مأوى للشر. ولكن هناك جزءاً من الأرض لم تصل اليه أقدام إبليس ومن هذا الجزء أصل الأنبياء والأولياء. ولما كانت ذرة رسول الله موضع نظر الله من قبضة(17/26)
عزرائيل لم يمسسها قدم ابليس، ولهذا لم يصبها الجهل، وانما كان رسول الله على العكس موفور الحظ من العلم، والنور، ومن هنا بعثه الله تعالى بالعلم والهدى فانتقل هذا العلم من قلبه إلى القلوب، وانتقل هذا، الهدى من نفسه إلى النفوس. ومن هنا كانت العلاقة بين رسول الله وبين الذين دعاهم إلى الأخذ بما بعثه الله به. وبعبارة أخرى كانت هذه العلاقة بنسبة طهارة الطينة. فمن كان أقرب مناسبة بنسبة طهارة الطينة كانت نفسه أكثر استعدادا لقبول ما جاء به رسول الله. وقلوب الصوفية أقرب مناسبة من هذه الناحية، وهي لهذا قد ظفرت بحظ كبير من العلم فأصبحت بواطنهم أخاذات فعلموا وعلموا، مثلهم في ذلك كمثل الأخاذ الذي يسقي منه ويزرع منه. وهم بعد هذا ومن أجل هذا اجمعوا بين فائدة علم الدراسة وفائدة علم الوراثة بأحكام أساس التقوى. ولما أن صقلت مرايا قلوبهم وصفت صفحات نفوسهم ظهرت لهم الأشياء على حقيقتها وماهيتها. فبانت لهم الدنيا بما فيها من قبح فأعرضوا عنها، وبدت لهم الآخرة بما فيها من حسن فاقبلوا عليها.
وختم المؤلف هذا الباب بملاحظة لها قيمتها وخطرها في فهم التصوف فهما صحيحا مستقيما. هذه الملاحظة هي التي يظهرنا فيها على المعنى الذي تدل عليه لفظة الصوفي. فالصوفي عنده بمعنى المقرب. وهذه اللفظة لم يرد ذكرها في القرآن ولكنها تركت ووضع مكانها لفظة مقرب. ولا يعرف في بلاد الإسلام هذا الاسم لأهل القرب. وانما يعرف للمترسمين. فهناك نفر كبير من المقربين في بلاد المغرب وتركستان وما وراء النهر لا يسمى باسم الصوفية لأن أفراده لا يتزينون بزي الصوفية، ومن هنا انتهى مؤلف (عوارف المعارف) إلى أنه لا يقصد حين يتكلم عن الصوفية في كتابه الا المقربين. وهناك ملاحظة ختامية أخرى ذكرها المؤلف في نهاية هذا الباب، هذه الملاحظة لها قيمتها وخطرها أيضا إذ هي تظهرنا على الفرق بين الصوفي والمتصوف. فالمتصوف هو من تطلع إلى مقام المقربين من جملة الأبرار ما لم يتحقق بحالهم. والصوفي هو من تطلع إلى مقام المقربين حيث يتحقق بحالهم. وأما من هو دون المتصوف والصوفي ممن تميز بزي ونسب إلى الصوفية أو المتصوفة فهو متشبه. ولنمض الآن إلى الباب الثالث حيث يحدثنا السهروردي عن فضيلة علوم الصوفية والإشارة إلى أنموذج منها. ذكر المؤلف في مستهل هذا الباب الحديث الشريف الذي أمر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بطلب العلم والذي جعل فيه طلب(17/27)
العلم فريضة على كل مسلم فقد قال رسول الله: (اطلبوا العلم ولو بالصين فان طلب العلم فريضة على كل مسلم). ذكر بعد هذا الحديث الشريف آراء العلماء من المتقدمين واختلافهم في هذه الآراء حول هذا العلم الذي أمر رسول الله بتحصيله وجعل طلبه فريضة على كل مسلم. وقد اختلف القدماء اختلافا قويا حول هذا العلم ماذا عسى أن يكون. فمنهم من قال هو علم الإخلاص ومعرفة آفات النفوس. (وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين). ومنهم من قال هو معرفة الخواطر وتفصيلها، لأن هذه الخواطر هي مبدأ الفعل وأصله ولا يمكن حدوث
فعل إذا لم يسبقه خاطر. وذهب فريق إلى أنه علم الوقت. وانتهى فريق آخر ومنه سهل بن عبد الله إلى انه علم الحال أي حكم حال العبد الذي بينه وبين الله تعالى في دنياه وآخرته. ورأت طائفة أنه علم الحلال أو أنه علم الباطن الذي يستفاد من مصاحبة العلماء الزاهدين والأولياء الصالحين. وطائفة أخرى أنه علم البيع والشراء، والنكاح والطلاق، أو أنه علم التوحيد. وقد رأى أبو طالب المكي إن هذا العلم هو علم الفرائض الخمس التي بني عليها الإسلام.
تلك هي الآراء المختلفة التي رآها القدماء في هذا العلم الذي طلبه فريضة على كل مسلم والتي استعرضها مؤلف
(عوارف المعارف) في شيء من الإسهاب كثير، وانتهى من هذه الآراء كلها إلى أنه أميل ما يكون إلى رأي أبي طالب المكي، وإلى رأي من قال بان العلم الواجب تحصيله على كل مسلم هو علم البيع والشراء، والنكاح والطلاق إذا أراد الدخول فيه. ومن هنا يستخلص السهروردي ان العلم المقصود في حديث رسول الله انما هو علم الأمر والنهي. والمأمور في علم الأمر والنهي هو ما يثاب على فعله، وما يعاقب على تركه. والنهي في هذا العلم هو ما يعاقب على فعله ويثاب على تركه. والنتيجة التي خرج بها المؤلف من هذا الكلام المستفيض هي أن علماء الصوفية عرفوا العلم المفترض على المسلمين فأقاموا دعائم علم الأوامر والنواهي بترسمهم خطى رسول الله في الاستقامة، مستعينين على إقامة هذا العلم وتدعمه بما منحوا من زهد في الدنيا وحب للآخرة وصفاء في السرائر ونقاء في الضمائر، والاستقامة التي رفع الصوفية لواءها وأثلوا بناءها هي سبيل المجتهد الصادق، والصوفية(17/28)
حين كرمهم الله بالنهوض بواجب هذه الاستقامة رزقوا سائر العلوم كعلم الحال، وعلم القيام، وعلم الخواطر، وعلم اليقين، وعلم الإخلاص، وعلم النفس، وأخلاقها وشهواتها وما إلى غير ذلك من العلوم المتعددة التي ظفر بها الصوفية وحرمها غيرهم من علماء الدنيا. وهذه العلوم كلها ذوقية وجدانية يستعان في تحصيلها بالذوق والوجدان.
وكم كنت أحب أن أقف وقفة قصيرة عند اختلاف القدماء في أمر هذا العلم المفترض أبين فيها حظ هذه الآراء من الصواب أو الخطأ. ولكن حسبي أن أوجز لك الآن ما اعتزمت إيجازه من أبواب الكتاب إيجازاً يعطيك صورة مقاربة له، على أن أتناول مناقشة بعض ما ورد فيه من آراء مناقشة نقدية سوف اعرض لها في مقال ختامي.
وبعد أن عدد المؤلف أنواع العلوم التي ظفر بها الصوفية. قارن بين علمي الوراثة والدراسة مقارنة تتلخص في أن علوم الوراثة مستخرجة من علم الدراسة. مثلها في ذلك كمثل الزبد الذي يستخرج من اللبن الخالص. فلو لم يكن لبن لم يكن زبد. ثم عرض السهروردي إلى علوم الإسلام فقال ان للإسلام علوما هي علوم مبانيه. والإسلام بعد الأيمان نظر إلى مجرد التصديق: ولكن للإيمان فروعا بعد التحقق بالإسلام. وهذه الفروع مراتب كعلم اليقين الذي يعطيه لنا الدليل. وعين اليقين وهو ما تعطيه المشاهدة، وحق اليقين وهو ما حصل من العلم بما أريد به ذلك الشهود. وهذه قد تقال للتوحيد والمعرفة والمشاهدة. وللإسلام في كل فرع من فروعه علوم، وبالجملة فانك ترى أن علوم الإسلام هي علوم اللسان، وان علوم الإيمان هي علوم القلوب. ولعلوم القلوب هذه وصفان أحدهما عام والآخر خاص. فأما الوصف العام فهو أن علم اليقين يتوصل اليه بالنظر والاستدلال. ومن هنا اشترك في هذا الوصف كل من علماء الصوفية وغيرهم من علماء الدنيا. وأما الوصف الخاص فهو هذه السكينة التي أنزلها الله على قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا على إيمانهم. ومن هنا ترى أن علوم الصوفية اشتركت مع علوم غيرهم في مرتبة اليقين، وهي المرتبة الاولى ثم امتازت عليها بالمرتبتين الأخريين وهما مرتبة عين اليقين ومرتبة حق اليقين.
ويقسم المؤلف الناس طبقات انقسموا بالنسبة إلى نفوسهم وقلوبهم وأرواحهم. فمنهم من كانت نفسه ظاهرة على قلبه. وهذا الفريق يدعوه الله بالموعظة. ومنهم من كان قلبه ظاهرا(17/29)
على نفسه وهذا يدعوه الله بالحكمة. فأجاب الأبرار الدعوة بالموعظة بذكر الجنة والنار. وأجاب المقربون الدعوة بالحكمة وهي الدعوة بمنح القرب وصفو المعرفة. ولما وجدوا التلويحات بهذا القرب أجابوا بأرواحهم وقلوبهم ونفوسهم. وهم حين يتابعون الأعمال يجيبون بقلوبهم. وحين يتحققون بالأحوال يجيبون بأرواحهم. فأنت ترى من هذا الفرق بين الصوفية وبين غير الصوفية. فهؤلاء يجيبون بالبعض وأولئك يجيبون بالكل. والصوفية حين يجيبون بالكل يتهيأ لهم بالعلم والمعرفة حظ لم يتهيأ لغيرهم. ومن هنا كانوا أقدر من غيرهم على الوصول إلى اليقين الذي لا يحيطه شك. اليقين يكشف لهم عن حقيقة الذات الإلهية ويظهرهم على ماهية الأشياء. بحيث ينتهون من هذا كله إلى الاتحاد مع الله والفناء فيه اتحاداً يضمن لهم السعادة، وفناء يكفل لهم السلام.
محمد مصطفى حلمي. ماجستير في الآداب(17/30)
صور من الأدب العربي
سيبويه المصري
للأستاذ احمد أمين
شخصية غريبة كانت في مصر في عهد الدولة الإخشيدية قبل بناء القاهرة، وكان يدوي اسمها في الفسطاط والقطائع وما بينهما قبيل مجيء الفاطميين، كانت شخصية ترهب وتحب، ويضحك منها، ويعتبر بها، إن شئت علما فعالم. أو شعراً فشاعر، أو أدباً فأديب، أو وعظاً فواعظ، أو فكاهة ففكه، أو نقداً مقذعا فناقد، أو جنوناً فمجنون.
ولد بمصر سنة 284هـ وعاش أربعا وسبعين سنة وأتقن النحو حتى لقب بسيبويه
ألطف ما فيه لوثة (لحسة) كانت بعقله، هي سر عظمته فقد جرأ على ما لم يجرؤ عليه أحد في عصره، كان معتزلياً يقف في المسجد وفي الشارع فيصرح بآرائه في الاعتزال، ويصيح بأن القرآن مخلوق فيقولون مجنون. ويتركونه يقول ما شاء حيث لا يقول أحد شيئا من ذلك الا همساً أو من وراء حجاب، ويتعرض للناس بالقول اللاذع سواء في ذلك كافور الإخشيد أو وزيره، أو العلماء أو التجار، فيتضاحكون منه ويتقون لسانه ببره والإهداء اليه، سراً وجهراً.
كانت نوادره كثيرة، تتلقفها الألسن، ويتناقلها الرواة، فتشيع في الناس وتكون سلوتهم ومثار ضحكهم.
وقديماً عرف المصريون بالفكاهة الحلوة والنادرة اللطيفة كما عرفوا بالإعجاب بها والجد في طلبها والإمعان في الضحك منها.
من أجل هذا ألف ابن زولاق المصري كتابه اللطيف في نوادر سيبويه، لم يذكر فيه الا قليلا عن علمه ولم يذكر شيئاً عن نحوه ولا عن جده، وانما ملأه كله بفكاهته ولوثته. حذا ابن زولاق هذا حذو مؤلفي العراق في تدوين حوادث ظرفاء الممرورين. وابن زولاق نفسه يقول (لو كان سيبويه بالعراق لجمع كلامه، ونقلت ألفاظه، ولو عرف المصريون قدره لجمعوا عنه أكثر مما حفظوه).
عرف منذ شب بهذه اللوثة، تظهر في حركاته ورمش عينه، وزادت بترديه في بئر أمام بيته، وتهيج أحيانا فيطرح ثيابه ويمشي عريان في الطريق على عورته خرقة، وعلى(17/31)
أكتافه خرقة، وبيده عصا ومصحف ويروح إلى الجامع وهو على هذا الشكل يعظ ويتزهد، وأحياناً تهدأ ثائرته فينادم الأمراء والوزراء ويعجبون بلطفه وظرفه، وتقول زوجه انه انما كان يهيج إذا لم يأكل اللحم والدسم فإذا أكلهما هدأ.
قلت لن لوثته سر عظمته، فإذا هو هدأ سكت ولكنه إذا هاج أتى بالنوادر الطريفة والكلم السيار، ولذلك قالوا فيه أنه (إذا لم يكن له من يهيجه لم يخرج علمه).
سب مرة خازن الإخشيد أو وزير ماليته فأخذه وعذبه ثم أطلقه وأجرى عليه الرزق فكان الصبيان أحيانا إذا رأوه يتصايحون (يا خازن اخرج عليه) فيهيج ما به وينطق بالقول اللطيف.
كان يقول القول عل سجيته لا يرهب أحداً، قد أدخل مرة مستشفى المجاذيب ثم أخرجه كافور الإخشيد، فلما مثل بين يديه قال له سيبويه (ما مثلك يصطنع بعشرين ألف دينار ولا بثلاثين ألفاً إذا كنت عادلا، فأما إذا كنت جائرا فأسود بعشرة دنانير يقوم مقامك)
وكان أكثر قوله سجعاً، ومن ثم كان أكثر دورانا على الألسنة وأسهل حفظاً.
لقى المحتسب وبين يديه أجراسه فقال: (ما هذه الأجراس يا أنجاس، والله ما ثَم حق أقمتوه، ولا سعراً أصلحتموه، ولا جان أدبتموه، ولا ذو حسب وقرتموه، وما هي إلا أجراس تسمع، لباطل يوضع، وإقفاء تصفع، وبراطيل تقطع، لا حفظ الله من جعلك محتسباً، ولا رحم لك ولا له أماً ولا أباً).
وكان مخشي اللسان يهرب الوجهاء والأعيان إذا سمعوا صوته من بعيد، حتى لا يقذفهم بقذيفة من لذعاته تسير في الناس، وكان كافور يعجب كيف يسكت المصريون على سبه ويقول: (سبحان من سلط سيبويه عليكم ينتقم منكم وما تقدرون على الانتصار).
وما السبب في هذا الا أنه كان يعمد إلى الرؤساء فيصب عليهم كلماته القارسة تصيب منهم مقتلا، ويسر الشعب من هذا لأنه يعبر عما في نفوسهم، وينتقم من خصومهم ويجرؤ بجنونه على ما لم يجرؤ عليه عقلاؤهم، وكان يستطيع بلسانه أن يصل إلى ما يتحرج من ذكره المتدينون. لقد كان يوماً يؤاكل ابن المادراني الوزير، وعنده هارون العباسي فقدمت هريسة فقال هارون: أكثر منها ياسيبويه فانها تذهب بالوسواس من رأسك، فكف سيبويه عن الطعام وأخذ يفكر، فقالوا فيم تفكر؟ قال أفكر في امتناع إبليس من السجود لآدم، والآن(17/32)
ظهر عذره: علم ابليس أن هذا في صلب آدم فلم يسجد له، ولو عرض على كلاب اليهود أن تسجد لنسمةٍ هذا في ظهرها ما فعلت.
ونحو هذا من أنواع الهجاء القاسي.
وهو مع هذا أديب ظريف له نظرات في الأدب جميلة يقول: إن أفضل الكلام ما اعتدلت مبانيه، وعذبت معانيه، واستسلس على ألسن ناطقيه، ولم يستأذن على آذان سامعيه.
وقد هجا بعض الناس شيخا من شيوخه فقال سيبويه:
ما يضر البحر أمسى زاخرا ... أن رمى فيه صبي بحجر
وسمع بيت المتنبي:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدواً له ما من صداقته بد
فقال هذا كلام فاسد، لأن الصداقة ضد العداوة ولو قال:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوا له ما من مداراته بد. . لكان أحسن وأجود
وبلغ المتنبي هذا النقد فذهب إلى سيبويه وسمعه منه فتبسم وانصرف، فصاح سيبويه: انبكم!
ومع هذا فلما سمع قول المتنبي:
ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى ... رضوى على أيدي الأنام تسير. . الخ
صاح سيبويه لبيك لبيك! أنا عبد هذه الأبيات.
مما يدل على ذوق حسن ونقد صحيح وتقدير للأدب. ولقد كان عالي النفس، دقيق الحس، يرى الناس كلهم دونه، فلا يذل لعظيم، ولا يهين لكبير، طلبة أنوجور بن الإخشيد أمير مصر لينادمه، فقال على شرط أن أنزل حيث تنزل، وأركب حيث تركب، وأجلس متكئا، فأجابه إلى شرطه.
وكان سيبويه يحدث عظيما فجاء خادم يسر حديثا إلى هذا الجليس فسمع له وقطع الاستماع لسيبويه. فقام سيبويه مغضبا، فسأله إلى أين؟ قال لا تجالس من لا يرى مجالستك رفعة، ولا تحدثن من لا يرى حديثك متعة، ولا تسألن من لا تأمن منعه، ولا تأمرن من لا تأمن طوعه.
ولما ماتت أم سيبويه حضر في جنازتها كل كبير في مصر الا ابن المادراني الوزير، وعاد(17/33)
والناس حوله، فأخذ سيبويه يطلق لسانه في هجاء أبن المادراني، وما نجاه من لسانه إلا أن لقيه في الطريق يأتي مسرعا ليدرك الجنازة.
على الجملة كان سيبويه طرفة مصر في عصره، علماً وأدباً وفكاهة وجنوناً - كان يقوم فيهم مقام العالم والواعظ والأديب، ومقام الجريدة السيارة الناقدة اللإذاعة، وكان منظره بديعاً، يدور في الأسواق على حماره أو حمار غيره، وما أكثر من كان يتقي لسانه بتقديم حماره!
فبحق قال (جوهر الصقلي) لما دخل مصر وذكرت له أخباره (لو أدركته لأهديته إلى مولانا المعز في جملة الهدية) وبحق لما سمع به (فاتك) ممدوح المتنبي قال: ذكروني به فلعلي أستدعيه فانه نزهة.(17/34)
في الأدب المصري القديم
النيل والحضارة المصرية (ملخص فصل من كتاب)
للأستاذ (آ. موريه)
وهنا نجوى تبسط لنا شيئا من الحياة الزوجية، يرددها زوج يبكي فقد امرأته، وامرأته، كما يبدو، ما زالت روحها أتبع له من ظله. قال يناجيها:
(لماذا أشقيتني حتى غلبت عليَّ هذه التعاسة؟ ماذا صنعت حتى رفعتُ يدك علي دون أن أباديك بشيء؟ سأرفع دعواي لآلهة المغرب التسعة، حتى يفصلوا بيننا.
ماذا صنعت؟ كنت امرأتي حين كنتُ أخطر في برد الشباب ما أزعجتك وما مسستك بسوء. اذكريني عندما كنت عريفاً بين المحاربين في جيش فرعون، تركتهم لأجئ اليك. حاملا اليك منهم هدايا ثمينة، وأنا لم أَحفِ عنك سرا طيلة حياتك، ولم أدخل منزلا غير منزلك (بعد الطلاق). وعدما رهنوني في الموطن الذي أنا فيه الآن وجعلوا رجوعي اليك مستحيلا، أرسلت إليك زيتي وخبزي وأثوابي؛ ولم أبعث بها إلى أحد سواك. وعندما مرضتِ جئتك بطبيب، فوصف العلاج، وأتى بكل ما قلت عنه؛ وعندما وجب علىَّ أن أرافق فرعون في رحلته إلى الجنوب لبثت أفكاري متوزعة عندك، وقضيت ثمانية شهور حليف الأسى لا يلذ لي طعام، ولا يسوغ لي شراب. وبعد وفاتك عدتُ إلى ممفيس، ورجوت من فرعون الذهاب إلى بيتك، وهناك وقفت باكياً، وأسعفني أصحابي على البكاء، وأعطيتهم ثيابا للف جثمانك.
واليوم وقد تعاقب ثلاثة أعوام وأنا قابع في عزلتي، ما دخلت منزل أجد، ولا عرجت على أخت من الأخوات اللابثات في البيت).
ثم نشأت قصص صغيرة مشبعة بالروح الشعبية التي تجلت فيها، أضف إلى ذلك مقطوعات غزلية عاطفية، تمثل لنا الحياة الوجدانية والعقلية للمصريين القدماء. ومن هذه القطع مقاطيع بعنوان (أغاني لغبطة القلب) وهي أغاني يجب أن تكون مصحوبة بآلات الطرب، على أن الموسيقى المصرية ظلت مجهولة برغم آلاتها الشائعة عندهم. وجل هذه المقطوعات محاورات بين رجل يدعو المرأة (يا أختي)، وامرأة تدعو الرجل (يا أخي) وكلاهما يتجاذب الأغاريد بلهجة جذابة رقيقة. وتلوح على هذه المقطوعات بعض ملامح(17/35)
مصرية وأخلاق مصرية تثبت ما قصه علينا المؤرخ هيرودوت إذ قال: (ان المصريات كن أحراراً في مسالكهن وتصرفاتهن في تجارة الحياة وفي مزدحم الأعياد الدينية، وهن اللواتي كن يخرجن من بيوتهن لتدبير البيت والإنفاق عليه، والرجال يقومون بالخدمة المنزلية خلال تغيبهن. وهذه القبور الطيبية تطلعنا على حياة المرح عندهن، وكثير من الحكايات الشعبية تدلنا على أخلاقهن وما أتسمن به من صفات الجرأة، وهذه الجرأة قد تبدو في هذه المقطوعة الغزلية، إذ نرى العاشق كالمتغاني، والعاشقة هي التي تتكلم: يقص علينا العاشق هبوطه إلى ضفاف النيل بحوار ممفيس. وهناك شاهد (أخته) في حديقة طيبة الأريج، (إذا هو لثم شفتيها كان نشوان بغير نبيذ) هو يدنو منها كالعصفور الذي ينقض بنفسه على الشرك (شرك الحب). ولكن حميا الحب أقوى من حميا الخمر.
يقول العاشق: (نزلت المنحدر، وأنا أحمل على كتفي حزمة قصب. وبلغت ممفيس وقلت (لباتا) سيد العدالة أعطني أختي هذه الليلة، فالنهر من خمر، (وباتا) قصبه. و (سبكميت) سدرته، (وأريت) يراعه، و (ينقرنوم) أزهاره.
هذا هو الفجر ومففيس كأس من ثمر، مصفوفة أمام الإله باتا ذي الوجه الجميل.
سأنام في بيتي، وأغدو عليلا، وسيهرع جيراني إلى عيادتي، وإذ ذاك تجئ أختي معهم، وتريني للأطباء لأنها عارفة بدائي.
أرى (أختي) مقبلة، وقلبي يستفزه الطرب وذراعاي تنبسطان لعناقها، وقلبي يخفق في موضعه عندما تجيء.
إذا عانقتها وفتحت لي ذراعيها، كأني ألقيت بنفسي في (بونت) مدينة الطيوب. وإذا لثمت فاها وتفتحت لي شفتاها. فأنا سعيد سكران بدون نبيذ.
أما العاشقة فهي سهلة المأخذ، تنطلي عليها الأساليب المغرية، حبها الدقيق أدنى إلى الندب والشكوى، في حالة الاتنظار، تبدي كل مظاهر الدلال، وتقيس ذراعاً كلما قاس العاشق إصبعاً، وهذه (صائدة الطيور) لا تنصب الشباك لمجرد اللذائذ وانما تصبو من وراء الحب إلى اتحاد الروحين بالزواج وإلى السهر على خيرات عاشقها كأنها صاحبة بيته.
تقول العاشقة:
(يا أخي المحبوب! إن قلبي يسعى وراء حبك، انظر ماذا اصنع! قد نصبت فخي بيدي، إن(17/36)
عصافير (بونت) هبطت على مصر مخالبها مفروكة بالصبر، والعصفور الذي نزل، في البدء، قد التقط طعمي.
هو ناقل عطره من (بونت)، ومخالبه مفعمة بالصبر الطيب، أرغب منك أن تعمل على إفلاته من الفخ، حتى تصغي أنت إلى أنين هذا العصفور المطيب بالصبر.
ما أجمل وجودك معي عندما أنصب الفخ!
الوزة (العاشق) تشكت عندما ما علقت.
وذاك حبك يستهويني اليك دون أن أستطيع الإفلات منه، يجب علي أن أهجر (حبائلي). ولكن ماذا أقول لأمي عمن أغدو اليه كل يوم وأنا مثقلة بعصافيري!!!
أنا سجينة حبك! وقبلتك وحدها هي التي تحيي قلبي.
قد وجدت من أحبه، فليت شعري هل يقدر (آمون) على أن يعطيني إياه إلى الأبد. .؟
يا صديقي الجميل! أود ان أرعى خيراتك كصاحبة بيتك؛ وذراعي مسندة إلى ذراعك.
سأقول في نفسي عندما يعاودني حبك؛ أن أخي الكبير بعيد عني هذه الليلة.
ما أشبهني بالأموات، لأنك أنت عاقبتي وكل حياتي).
وهذه عاشقة أخرى تلوم شاة أيقظتها عند الصباح وهي لا تود أن تستيقظ:
(ناجتني الشاة قائلة لي: هذا هو الفجر فاستيقظي، الا تهمين بالخروج؟
لا لا! يا شاتي: أنت تسيئين إلي!
قد وجدت أخي يتمطى في سريره، فطرب قلبي له وقال لي: لن أتركك أبداً، وهذه يدي في يدك، سنطوف معا كل مكان يحسن فيه التنزه.
اتخذ مني خليلته الأولى. وهو لن يحمل أي هم إلى قلبي). وبعد هذا الحب كله يضعف الهوى وتهب الشكوك ثم تتصاعد أنات العاشقة لخيانة صاحبها إياها واستبداله غيرها بها، فأصبح حب المرأة أدنى إلى العاطفة وأغنى (هوى) من الحب الذي أعلنه الرجل بلسانه.
والشاعر يزين نفثاته بالأساليب الغزلية الرقيقة، فالعاشقة تطوف في حديقة غنية الأزهار والأعشاب، فما من نبتة أو ثمرة الا تذكر بشيء من محاسن المحبوبة أو ترمز إلى سعادتها المتلاشية. الأشجار تتكلم: فهي التي تؤوي إلى أفيائها العاشقين، وتخفي عن العيون فصول غرامهم، فهنا شجرة رمان تشكو وتتوعد من أهملها، وهناك سدرة غرستها كف عاشقة تعلن(17/37)
رضاءها عن القدر، وهنالك جميزة صغيرة سعيدة بمواقف العاشقين تحتها. وهي تراقب الأزواج بعين خبيثة ولكنها تكتم أسرارهم.
وثمت شيء من الشعر الذي يصف ألوان الجمال النسائي. وهذه هي أهم صفات هذا الجمال المنشود (شعر حالك كالليل، وأسنان اسطع من لمعان الصوان، وقامة رشيقة، وصدر صلب طافح).
وإذا قارنت هذا الجمال بما جاء في تماثيلهم وصورهم عرفت أن المصريين قد أهملوا رقة الصور والأشكال في الجمال، فكانوا على نقيض الشرقيين المعاصرين الذين يحبون (الخط الأهيف في الجمال الفتي) الذي يعدهم في العالم الثاني بامرأة لها شباب خالد.
وفي هذا الأثر الأدبي الذي أبقى عليه الزمن، ترى عمل المخيلة الصافية فيه مهملا، وتعاليم الفن والعلم والأدب التي وضعت لخدمة الدين والدولة جاءت غنية الخطوط، طابعة الحضارة المصرية بطابعها.
أما مصر القديمة فلم تكن الا في القليل النادر بلد البراعة المنزهة عن الغرض، والتي جاءتها من أجل الفن. فعلمها للعلم المجرد، وتفكيرها للتفكير المطلق، وأدبها للأدب النفسي، وأعمالها العظيمة المجهولة الاسم قد وضعها أربابها بدقة ومهارة في سبيل خدمة مذهب فني يسمو إلى غايات اجتماعية ودينية. وهكذا ضيق الجمال المصري باكراً ساحة الإبداع على المبدعين القادرين، ولكنه لم يهن ولم يقصر في تحليل كل ما يقدسه الشعب ويجله من تعاليم السلطة والصلاح والأدب. فكان أعظم ميزاته وأسمى سماته تمثيله بالرموز معنى النسل. وسهولة فهم مثله الأعلى الشريف، وكل ذلك بأسلوب يستحيل التقليد فيه، وعلاء يصعب السمو اليه.
خليل هنداوي(17/38)
بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام
للأستاذ محمد عبد الله عنان
(لما علم الفرنج وسكان بلاد الحدود الإسبانية بمقتل عثمان بن أبي نسعة وسمعوا بضخامة الجيش الإسلامي الذي سير اليهم، استعدوا للدفاع جهدهم وكتبوا إلى جيرانهم يلتمسون الغوث. وجمع الكونت سيد هذه الأنحاء (يريد أودو) قواته وسار للقاء العرب ووقعت معارك سجال. ولكن النصر كان إلى جانب عبد الرحمن بوجه عام فاستولى تباعا على كل مدن الكونت. وكان جنده قد نفخ فيهم حسن طالعهم المستمر فلم يكونوا يرغبون الا في خوض المعارك واثقين كل الثقة في شجاعة قائدهم وبراعته)
(وعبر المسلمون نهر الجارون وأحرقوا كل المدن الواقعة على ضفافه وخربوا جميع الضياع وسبوا جموعا لا تحصى؛ وانقض هذا الجيش على البلاد كالعاصفة المخربة فأجتاحها، وأذكى اضطرام الجند نجاح غزواتهم واستمرار ظفرهم وما أصابوا من الغنائم).
(ولما عبر عبد الرحمن نهر الجارون اعترضه أمير هذه الأنحاء ولكنه هزمه ففر أمامه وامتنع بمدينته. فحاصرها المسلمون ولم يلبثوا أن اقتحموها وسحقوا بسيوفهم الماحقة كل شيء. ومات الكونت مدافعا عن مدينته واحتز الغزاة رأسه. ثم ساروا مثقلين بالغنائم في طلب انتصارات أخرى، وارتجت بلاد الفرنج كلها رعباً لاقتراب جموع المسلمين، وهرع الفرنج إلى ملكهم قلدوس في طلب الغوث، وأخبروه بما يأتيه الفرسان المسلمون من العبث والسفك وكأنهم في كل مكان، وكيف أنهم احتلوا واجتاحوا كل أقاليم أربونة وتولوشة وبردال وقتلوا الكونت. فهدأ الملك روعهم ووعدهم بالغوث العاجل. وفي سنة 114 سار على رأس جموع لا تحصى للقاء المسلمين. وكان المسلمون قد اقتربوا عندئذ من مدينة تور، وهناك علم عبد الرحمن بأمر الجيش العظيم الذي سيلقى. وكان جيشه قد دب اليه الخلل لأنه كان مثقلا بالغنائم من كل صوب. ورأى عبد الرحمن وأولو الحزم من زملائه أن يحملوا الجند على ترك هذه الأثقال والاقتصار على أسلحتهم وخيولهم ولكنهم خشوا التمرد أو أن يثبطوا عزائم الجند واستسلموا لرأي الواثقين المستهترين. واعتمد عبد الرحمن على شجاعة جنده وحسن طالعه المستمر. ولكن الاضطراب خطر خالد على سلامة الجيوش. صحيح أن الجند يحملهم ظمأ الغنم أن يأتوا جهودا لم يسمع بها فطوقوا(17/39)
مدينة تور وقاتلوا حصونها بشدة رائعة حتى سقطت في أيديهم أمام أعين الجيش القادم لإنقاذها وانقض المسلمون على أهلها كالضواري المفترسة وأمعنوا القتل فيهم. قالوا ولعل الله أراد أن يعاقب المسلمين على تلك الآثام، وكان طالعهم قد ولى).
(وعلى ضفاف نهر الأوار (اللوار) اصطف رجال اللغتين والتقي المسلمون والنصارى وكلاهما جزع من الآخر، وكان عبد الرحمن ثقة منه بظفره المستمر هو البادئ بالهجوم فانقض بفرسانه على الفرنج بشدة وقابله الفرنج بالمثل. ودامت المعركة ذريعة مروعة طوال اليوم حتى جن الليل وفرق بين الجيشين. وفي اليوم التالي استؤنف القتال منذ الفجر بشدة، وشق بعض مقدمي المسلمين طريقهم إلى صفوف العدو وتوغلوا فيها. ولكن عبد الرحمن لاحظ والمعركة في أوج اضطرامها أن جماعة كبيرة من فرسانه غادرت الميدان بسرعة لحماية الغنائم المكدسة في المعسكر العربي، لأن العدو أخذ يهددها. فأحدثت هذه الحركة خللا في صفوف المسلمين، وخشي عبد الرحمن عاقبة هذا الاضطراب فأخذ يثب من صف إلى صف يحث جنوده على القتال، ولكنه ما لبث أن أدرك أنه يستحيل عليه ضبطهم فأرتد يحارب مع أشجع جنده حيثما استقرت المعركة، حتى سقط قتيلا مع جواده وقد أثخن طعانا. وهنا ساد الخلل في الجيش الإسلامي وأرتد المسلمون في كل ناحية ولم يعاونهم على الانسحاب من تلك المعركة الهائلة سوى دخول الليل)
(واستفاد النصارى من هذا الظرف فطاردوا الجنود المنهزمة أياما عديدة، واضطر المسلمون أثناء انسحابهم أن يحتملوا عدة هجمات واستمر الصراع بين مناظر مروعة حتى أربونة).
(وقد وقعت هذه الهزيمة الفادحة بالمسلمين وقتل قائدهم الشهير عبد الرحمن سنة115 هـ، ثم إن ملك فرنسا حاصر مدينة أربون. ولكن المسلمين دافعوا بشجاعة متناهية حتى أرغم على رفع الحصار وارتد داخل بلاده وقد أصابته خسائر كبيرة)
وأورد المؤرخ كاردون من جهة أخرى في كلامه عن الموقعة فقرة، ذكر أنه نقلها عن ابن خلكان جاء فيها: (لما استولى العرب على قرقشونة خشي قارله (كارل) أن يتوغلوا في الفتح فسار لقتالهم في الأرض الكبيرة (فرنسا) في جيش ضخم وعلم العرب بقدومه وهم في لوذون (ليون) وأن جيشه يفوقهم بكثرة، فعولوا على الارتداد. وسار قارله حتى سهل(17/40)
أنيسون دون أن يلقى أحدا. إذ احتجب العرب وراء الجبال امتنعوا بها، فطوق هذه الجبال دون أن يدري العرب ثم قاتلهم حتى هلك عدد عظيم منهم وفر الباقون إلى أربونة. فحاصر قارله أربونة مدة ولم يستطع فتحها فارتد إلى أراضيه وأنشأ قلعة وادي رذونه (الرون) ووضع فيها حامية قوية لتكون حدا بينه وبين العرب).
ونعود بعد ذلك إلى الرواية الإسلامية فنقول ان المؤرخين المسلمين يمرون على حوادث هذه الموقعة الشهيرة أما بالصمت أو الإشارة الموجزة. ويجب أن نعلم بادئ بدء أن موقعة تور تعرف في التاريخ الإسلامي بواقعة البلاط أو بلاط الشهداء لكثرة من أستشهد فيها من أكابر المسلمين والتابعين. وفي هذه التسمية ذاتها، وفي تحفظ الرواية الإسلامية، وفي لهجة العبارات القليلة التي ذكرت بها الموقعة، ما يدل على أن المؤرخين المسلمين يقدرون خطورة هذا اللقاء الحاسم بين الإسلام والنصرانية، ويقدرون فداحة الخطب الذي نزل بالإسلام في سهول تور. ويدل على لون الموقعة الديني ما تردده الأسطورة الإسلامية من أن الآذان لبث عصوراً طويلة يسمع في بلاط الشهداء. ونستطيع أن نحمل تحفظ المؤرخين المسلمين في هذا المقام على أنهم لم يروا أن يبسطوا القول في مصاب جلل نزل بالإسلام ولا أن يفيضوا في تفاصيله المؤلمة، فاكتفوا بالإشارة الموجزة اليه، ولم يكن ثمة مجال للتعليق أيضا، ولا التحدث عن نتائج خطب لا ريب أنه كان ضربة للإسلام ولمطامع الخلافة ومشاريعها. وإذا استثنينا بعض الروايات الأندلسية التي كتبت عن الموقعة في عصر متأخر، والتي نقلناها فيما تقدم فان المؤرخين المسلمين يتفقون جميعا في هذا الصمت والتحفظ. وهذه طائفة من أقوالهم وإشاراتهم الموجزة:
قال ابن عبد الحكم وهو من أقدم رواة الفتوح الإسلامية واقرب من كتب عن فتوح الأندلس ما يأتي: -(17/41)
في الأدب العربي
نابغة من شعراء مصر
الخشاب الشاعر
للأستاذ محمد كامل حجاج
هذا النابغة الذي سأحدثك عنه كان ثاني النيرين وأحد الفرقدين في عصره اذ لم يكن لهما ثالث يجاريهما في حلبة القريض، أو يدانيهما في مضمار الأدب. ولقد خان الحظ شاعرنا في عصرنا هذا حتى أصبح نسيا منسيا لدى الجمهور ولو انه معروف بين الخاصة من الطبقة الراقية في الأدب. ولقد جنت عليه المطابع المصرية إذ لم تنشر ديوانه، وطبعته مطبعة الجوائب بالأستانة مع مجموعة كبيرة أصبحت نادرة جدا.
خدم الحظ البهاء زهير فطبع ديوانه في أوربا ومصر عدة طبعات بيع بعضها بقرشين حتى انتشر وحفظ منه الفقهاء والمنشدون والمغنون كثيرا وغنوه في الحفلات حتى شاع وملأ الأصقاع مع أنه لا يذكر بجانب شاعرنا المترجم به.
وكان ثاني النيرين العالم العلامة والشاعر المجيد الذي ضرب بسهم في مختلف العلوم والفنون الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر. وقد ارتحل عن مصر وقت هجوم الفرنسيين عليها وتجول بين ربوع الشام واشقودره، ولما آب من رحلته مازج المترجم به وخالطه، ورافقه ووافقه، فكانا كثيرا ما يبيتان معا ويقطعان الليل بأحاديث أرق من نسيم السحر، وكثيرا ما كانا يتنادمان في دار صديقهما الحميم الوفي الشيخ الجبرتي ويطرحان التكلف ثم يتجاذبان أطراف الكلام فيجولان في كل فن جولة، وكانت تجري بينهما منادمات أرق من زهر الرياض، وافتك بالعقول من الحدق المراض، وهما حينئذ فريدا عصرهما، ووحيدا مصرهما لم يعززا بثالث في ذاك الوقت.
كان والد المترجم به نجارا ولما راجت صناعته فتح مخزنا لبيع الأخشاب بجانب تكية الكلشني بالقرب من باب زويلة، وأرسل ابنه إلى الكتاب لحفظ القرآن، ثم طمحت نفسه إلى طلب العلم فذهب إلى الأزهر ولازم حضورالسيد علي المقدسي وغيره من أفاضل الوقت فانجب في فقه الشافعية والمعقول بقدر الحاجة، وشغف بمطالعة الأدب والتاريخ والتصوف(17/42)
حتى أصبح نادرة عصره في المحاضرات والمحاورات واستحضار المناسبات.
ولدماثه أخلاقه، ولطف سجاياه، وكرم شمائله، وخفة روحه صحبه كثير من أرباب المظاهر والرؤساء والكتاب والأمراء وكبار التجار
يقول لنا الجبرتي إن شاعرنا السيد الشريف أبا الحسن إسماعيل ابن سعد بن إسماعيل الوهبي الحسيني الشافعي كانت له قوة استحضار في إبداء المناسبات حسبما تقتضيه حال المجلس، فكان يجالس ويشاكل كل جليس بما يدخل عليه السرور ويأسر لبه بلطف سمره ومنادمته الجذابة الخلابة
ولما دخل الفرنسيون مصر عين المترجم له محررا لتاريخ حوادث الديوان وقرر له الجنرال جاك منو في كل شهر سبعة آلاف نصف فضة.
علق المترجم به شابا من رؤساء كتاب الفرنسيين وكان جميل الصورة لطيف الطبع عالما ببعض العلوم العربية ويحفظ كثيرا من الشعر، فلتلك المجانسة في الميول، مال كل منهما إلى الآخر حتى كان لا يقدر أحدهما على مفارقة صاحبه، فكان المترجم له تارة يذهب إلى داره وطورا يزوره هو ويقع بينهما من لطيف المحاورةما يتعجب منه، وهو الذي نفح الشاعر بهذه النفحات العظيمة والغزل الفائق.
لم يزل المترجم به على حالته ورقته ولطافته مع ما كان عليه من كرم النفس والعفة والنزاهة والولع بمعالي الأمور والتكسب وكثرة الإنفاق، وسكنى الدور الواسعة، وكان له صديق يسمى أحمد العطار باب الفتوح توفي فتزوج شاعرنا امرأته وهي نصف، وأقام معها نحو ثلاثين سنة ولها ولد صغير من زوجها المتوفى فتبناه ورباه ورفهه بالملابس وأشفق عليه إشفاق والد بولده، ولما ترعرع زوجه وأقام له مهرجانا فخما، وبعد سنة من زواجه مرض اشهرا أنفق فيها كثيرا من المال عليه، ثم قضى الغلام نحبه فجزع عليه جزعا شديدا وأقام له مأتما عظيما، واختارت أمه دفنه بجامع الكردي بالحسينية ورتبت له رواتب وقراء واتخذت مسكنا ملاصقا لقبره أقامت به نحو الثلاثين سنة، وهي مداومة على عمل الشريك والكعك بالعجمية والسكر وطبخ الأطعمة للمقرئين والزائرين كل جمعة على الدوام، وشاعرنا طوع أمرها في كل ما طلبته. وكان كل ما وصل إليه من مال أو كسب ينفقه عليها وعلى أقاربها وخدمها لا لذة له في ذلك حسية ولا معنوية. لأنها في ذاتها عجوز(17/43)
شوهاء وهو نحيف ضعيف الحركة جدا، ومرض بحصر البول مع الحرقة والتألم وطال عليه حتى لزم الفراش أياما ثم توفي في يوم السبت ثاني الحجة سنة 1230 بمنزله الذي استأجره بدرب قرمز، وُصلي عليه في الأزهر في مشهد حافل ودفن عند ابنه المذكور بجامع الكردي.
وقد اهتم الشيخ حسن العطار بجمع ديوان الخشاب في حياته سنة 1227 لإعجابه الشديد برقته وبلاغته وسمو خياله، أي قبل موته بثلاث سنين، ويؤيد ذلك التاريخ الذي وضعه ناسخ الديوان محمد صالح الفضالي الواقعي المصري إذ انتهى من نسخه في يوم الأحد 11 شوال سنة 1227. وقد عاش المترجم بعد جمع ديوانه ثلاث سنين، ولا يبعد انه نظم فيها شيئا ليس بالقليل، ولأنه لم يترك عقبا امتدت يد الشتات إلى نظمه الأخير.
لا نعرف بالضبط التاريخ الذي بدأ فيه بمعالجة القريض. وأقدم تاريخ في ديوانه سنه 1201 يؤرخ به ميلاد ابن أبي الأنوار السادات، ومن ذلك يعلم انه مكث يقرض الشعر أكثر من ثلاثين سنة
طرق الشاعر عدة أنواع من الشعر وهي الغزل والخمريات والمدح والرثاء والتهاني والوصف والموشحات والأدوار. وإن القينا نظرة عامة في شعره وجدناه صادق الوصف منسجم السياق رشيق الأسلوب يحسن اختيار الالفاظ، موسيقي الأوزان، خفيف الروح فخم التراكيب، مسلسل المعاني متصلها، ولم نر في جميع ديوانه شيئا من الهجو، وهذا مما يدل على سمو أخلاقه.
ولغزله المكانة الأولى ولا سيما ما قاله في صديقه الفرنسي الذي سبق الكلام عنه، فانه يتأجج بعنيف العواطف والصراحة في القول ورقة التعبير ورشاقة الوصف. ومن أرق قوله فيه:
أدرها على زهر الكواكب والزهر ... وإشراق ضوء البدر في صفحة النهر
وهات على نغم المثاني فعاطني ... على خدك المحمر حمراء كالجمر
وموه لجين الكأس من ذهب الطلا ... وخضب بناني من سنا الراح بالتبر
وهاك عقوداً من لآلي حبابها ... فم الكأس عنها قد تبسم بالبشر
إلى أن قال في آخر القصيدة::(17/44)
وفوق سنا ذاك الجبين غياهب ... من الشعر تبدو دونها طلعة البدر
ولما وقفنا للوداع عشية ... وأمسى بروحي حين جد السرى يسرى
تباكي لتوديعي فأبدى شقائقا ... مكللة من لؤلؤ الطل بالقطر
وقال فيه أيضا:
علقته لؤلؤي الثغر باسمه ... فيه خلعتُ عذاري بل حلا نسكي
ملكته الروح طوعا ثم قلت له ... متى ازديارك لي أفديك من ملك
فقال لي وحميا الراح قد عقلت ... لسانه وهو يثني الجيد من ضحك:
إذا غزا الفجَر جيشُ الليل وانهزمت ... منه عساكر ذاك الأسود الحلك
فجائني وجبين الصبح مشرقة ... عليه من شغف آثار معترك
في ُحلة من أديم الليل رصَّعها ... بمثل أنجمه في قبة الفلك
فخلتُ بدراً به حفت نجوم دجى ... في حندس من ظلام الليل محتبك
وافى وولى بعقل غير مختبل ... من الشراب وستر غير منهتك
ومن أروع ما قال فيه موشحه الذي عارض فيه موشح الشيخ حسن العطار الذي مطلعه:
أما فؤادي فعنك ما انتقلا ... فلم تخيرت في الهوى بدلا (فأعجب).
وهذا الموشح الذي يسيل رقة ورشاقة مخمس ومرفل. قال رحمه الله:
يهتز كالغصن ماس معتدلا ... أطلعَ بدراً عليه قد سدلا (غيهب)
ريم يصيد الاسود بالدعج
يسطو بسيف اللحاظ في المهج
يزهو لعيني بمظهر بهج
فكيف أبغي بحبه بدلا ... وليس عنه جار او عدلا (مهرب)
وضاح نور الجبين أبلجه
وردي خد زها توهجه
اليه شوقي يزيد لاعجه
فلست أصغي عذلا ... وعنه والله لا أتوب ولا (أرغب)
ألمي شهي الرضاب واللعس(17/45)
يزري غصون الرياض بالميس
يختطف اللب خطف مختلس
لو يحل الخصر نبتني أسلا ... من رام يوما اليه أن يصلا (يحجب)
قطع قلبي بحبه إربا
وصد عني فلم أنل إربا
أواه أواه منه واحربا!
أصلي فؤادي بخده وقلا ... وذبت وجداً به ولي قتلا (فاعجب)
مجوهر الثغر يلفط الدررا
بدمي فؤادي وخده نظرا
علّم عيني البكاء والسهرا
فانهل دمعي كالوبل وانهملا ... بالدم خدي عندما هطلا (خضب)
مولاي رفقاً بصبك الدنف
قد كدت أقضي عليك من أسف
تلاف روحي فقد دنا تلفي
من ريقك العذب اروني انتهلا ... وهات كأسي وطف بها ثملا (واشرب)
راحا سناها يضيء كاللهب
تبسم عن رطب لؤلؤ الحبب
عطر مازج ثغرك الشنب
بين رياض ومسمع غزلا ... على المثاني إذا شدا رملا (اطرب)
والورق من حسن صوتها الغرد
تميل قضب الرياض بالميد
وتوج الدوح لؤلؤ البرد
تاجاً من الدر نظمه كملا ... فكن من اللهو سالكاً سبلا (وادأب)
ومن درر نظمه خمريته:
أدر السلاف على صدى الألحان ... ودع العذولَ بجهله يلحاني(17/46)
واستجل بكر الراح في ظل الربى ... بين الرياض تزف والعيدان
شمس لها من فوق خد مديرها ... شفق الصباح إذا بدا الفجران
نور ولكن من سنا لآلائها ... في الخد نارُ فؤادها الولهانِ
نار لها في وجنتيه وكفه ... لهب به أعشو إلى النيران
من كف معتدل القوام كأنه ... قمر يلوح على غصين البان
نشوان من سكر الشباب يهزه ... من خمر فيه وراحه سكران
ومهفهف ماء الحياء بوجهه ... يزري بهي شقائق النعمان
إلى أن قال:
ليث العرين له تلفت جؤذر ... يفتر عن در على مرجان
متلأليء تحت الشعور جبينه ... كحسامة في غيهب الميدان
عربي لفظ أعجمي المنتمى ... هندي لحظ صائل بيمان
غصب النجوم فصاغهن أسنة ... وبفيه نظمها عقود جمان
والقصيدة طويلة والجزء الغزلي فيها يرجع إلى صديقه الفرنسي. ومن الطف قوله قصيدته التي يمدح بها السادات
وصلتك واضحة الجبين المسفر ... من بعد طول تمنع وتستر
قامت فخالست ازديارك قومها ... وتربصت سحراً هجوع السمر
وأنت ترنح كالغصين أماله ... نفس الصبا وتجر فضل المئزر
هيفاء يخجل لحظها وقوامها ... بيض الصفاح وكل لدن أسمر
ما أنس لا أنسى ليالي وصلها ... بين الرياض وحسن نغم المزهر
إلى أن قال:
من سادة ورثوا النبي وجاهدوا ... في دينه حق الجهاد الأكبر
من خير بيت من ذؤابة هاشم ... من معشر أكرم به من معشر
والقصيدة طويلة.
ومن أروع شعره قصيدة فقد مسودتها وراجعه فيها الشيخ حسن العطار فذكر له منها أحد عشر بيتا من وسطها ونسي الشاعر مطلعها وآخرها.(17/47)
ولرب ليل قد أبيتُ بجنحه ... أطوى هضاب فدافد ووهاد
بأغر أجردٍ ضامر لكنه ... جلد العزائم عند كل جلاد
متعودا وطء الأسّنة في الوغى ... متجشما في الروع هول طراد
ظن السيوف جداولاً وعوامل ... المران أغصان النقا المياد
إلى أن قال:
متقلدا عَوَض السيوف عزائمي ... متسربلا بدل الدروع فؤادي
حتى بلغت أخا السماحة والندى ... وابن السراة السادة الأجواد
لقد فات الجبرتي أن يخبرنا عن ارتباط شاعرنا بعصر المماليك قبل دخول الفرنسيين وفترة الأربع سنين التي تولى الحكم فيها ولاة الأتراك، والعصر الذي عاشه في عهد ساكن الجنان محمد علي باشا.
وللمترجم له من النثر بعض مراسلات وتقاريظ مسجعة كعادة أهل عصره رحمه الله رحمة واسعة وألهم المصريين تخليد ذكره وإعلاء شأنه.(17/48)
من طرائف الشعر
غرام الشعراء
الغيرة
للشاعر الوجداني الأستاذ احمد رامي. من رواية ينظمها بهذا العنوان
في هذا الموضوع
(في دار الولادة بنت المستكفى بقرطبة. الشاعر أبو الوليد احمد بن زيدون يزور الدار أول مرة في صحبة صديقه أبي حفص بن برد. بعد التعارف والتفاهم تحتفل الولادة بقدوم ابن زيدون فتدعو القيان. بعد الرقص والعزف يقبل الوزير ابن عبدوس في رفقة نديمه خليفة لزيارة الولادة جريا على عادته)
ابن عبدوس: وقد سمع آخر الغناء مخاطبا خليفة.
مطبل وزامر ... فمن يكون الزائر؟
خليفة:
أحسبها توقعت ... حضورنا نسامر
وهذه تحية ... ترسلها المزاهر
أدخل فقد طاب الهوى ... بما يحب الخاطر
ابن عبدوس: (قد اجتاز الباب ورأى ابن زيدون)
من أرى؟
الولادة: (مقدمة اليه)
هذا ابن زيدون
ابن عبدوس: وما لي أراه شارد اللب حزين!
قد عرفناه طروباً ينثني ... مرحا عند سماع العازفين
ابن زيدون: (في لهجة حازمة)
وأراني ربما أحزنني ... من صدى الاوتار شدوٌ أو رنين
ابن عبدوس: (في شئ من السخرية)(17/49)
هذه حال الذي أودى به ... لاعج الأشواق أو مسُّ الجنون
ابن زيدون:
نعم أهوى ولا أخفي غرامي ... ومن شرف الهوى أني صريح
وأما إن سئُلت من اصطفتي ... سكتّ فما استرحت وما أريح
ابن عبدوس:
ومن لك أن تقول صفا هواها ... وقلب الغانيات مدى فسيح
ابن زيدزن:
وغّرك من عهد ولآدة ... سراب تراءى وبرق ومض
أراك تفوقْ سهم النضال ... وترسلها لو أصبت الغرض!
ولادة:
وما هذا التراشق بالأحاجي ... وما هذا التوثب للهجوم؟
أرى عينيكما رمتا شرارا ... وأخشى النار ترعى في الهشيم!
(بعد صمت)
ألم يجمعكما سبب متين ... على حفظ المودة والأخاء؟
ابن زيدون:
وألفنا على الإخلاص عرشاً ... نفدّيه ونخلص في الفداء
ابن عبدوس:
وهل أخلصت للعرش المفدى ... وقمت على الرعاية والولاء؟
وأنت العمرَ تقضيه هباء ... صريع الكأس أو خِلْبَ النساء
ابن زيدون:
خسئت فان لي الِقْدح المعلى ... إذا خفّ الرجال إلى العلاء
تأسس ملك قرطبة وقامت ... دعائمه وكانت من بنائي
وناولت ابن جهور صولجانا ... على جنباته تجري دمائي
ابن عبدوس:
ومن بين الممالك لا يبالي ... بهدم العرش أو هدّ اللواء(17/50)
ولادة:
كفى ما قلتماه فان داري ... مراح الشعر أو مغدى الغناء
تباعَدَ نازلوها عن حوارٍ ... يجر إلى القطيعة والعداء
ومالي والسياسة وهي بحر ... أتُّي الموج مربدّ السماء
طغت أنواؤه فهوت بأهلي ... وطاحت بالرفاق الأوفياء
(بعد صمت)
يا خليليّ أما كان لنا ... نُدْحة عن ذلك القول الهراء!
ابن زيدون: قد تحداني
ولادة: وماذا قال لك؟
ابن زيدون: قال إني أصرف العمر هباء
ابن عبدوس: بل تصدى لي
ولادة: وماذا قال لك؟
ابن عبدوس: قال يغويني سراب في سماء
ولادة:
وهل الدنيا سوى أخيلة ... من ظلام اليأس أو نور الرجاء
وهل الأيام إلا ساعة ... ينعم القلب بها حيث يشاء
خلّياناالذي فات ولا ... تذكرا الماضي إذا الماضي أساء
وِصلا حبل التصافي واعلما ... أن هذي الدار نادي الأصفياء
ابن زيدون: (في لهجة المعاتب)
درجنا مع الود منذ الصبى ... وكانت رباه لنا ملعباً
وألفنا أمنيات الشباب ... زهت كوكباً وسمت مطلباً
ومرت بنا عاديات الزمان ... فكنا على غدره قُرَّبا
ابن عبدوس:
ومالك أنكرت مني الوفاء ... وقد ذقته صافيا طيباً؟
ولادة:(17/51)
حنانيكما لا تطيلا الملام ... ولا تسألا القلب من أذنبا
بدت جفوة بين نفسيكما ... ومرَّت كلمح شهاب خبا
وما أجمل الود بعد العتاب ... وأبقى الصديق إذا أعتبا!
(تدخل عتبة وصيفة الولادة)
عتبة: سيدتي!
ولادة: ماذا جرى؟
عتبة: رسول
ولادة: لمن؟ وممن ذلك الرسول؟
عتبة: من صاحب الأمر إلى الوزير
ولادة: (في حيرة) أي الوزيرين عني الأمير؟ ومن يكون حامل الرسالة؟
عتبة: المكَّرى حاكم المدينة.
ابن عبدوس: (في لهجة المتشفي)
أحسبني أمنية ابن جَهْوَر ... أتأذنين لي بلقيا المكري؟
يا خليفة!
خليفة: أنا يا مولاي ما بين يديك
ابن عبدوس:
عد إلى الدار سريعاً ... ربما احتجت اليك
(ينصرف خليفة في شيء من اللؤم)
إغفري لي أني أسأت إليكم ... بحضوري فجاءة وذهابي
نازعتني اليك نفسي فأقبلت ... على خلوة من الأحباب
لم أكد اقرأ التحية حتى ... نالني منكم رشاش السباب
(ينصرف ابن عبدوس غاضبا)
ابن زيدون:
هل تبينت كيف نمت عليه ... نظرة الحقد في العيون الغضبان
وسمعت الذي يعبر عما ... ينطوي في ضميره المرتاب(17/52)
شهر الحرب عامدا وتصدى ... يرسل اللوم في سياق العتاب
ثم ولي يقول نحن بدأنا ... هـ ولم نرع حرمة الآداب(17/53)
يوم التل
للأديب فخري أبو السعود
. . . وبعد فاني مرسل إليكم قصيدة نظمتها لمناسبة ذكرى الاحتلال الإنجليزي الذي يصدر عدد الرسالة القادم في مثل يوم ابتدائه بالقاهرة 15 سبتمبر وقد اعتاد الكثير من المصريين الاستحياء لذكرى يوم التل الكبير لأن الهزيمة أصابتنا فيه، والأسف لذكرى الثورة العرابية لأن الاحتلال الإنجليزي أعقبها، حتى قال شوقي بك في بعض ما قال:
ولو أن يوم التل يوم صالح ... لحماسة لجعلته إليادي
وقد نظمت قصيدتي قصد القضاء على توهم العار في هذه الذكريات، وإبراز مواضع في تلك الحوادث والوقائع.
وأقل ما في تلك الذكريات من مواضع الفخار أن الثورة كانت أول مظهر صحيح للقومية المصرية التي تنبهت في العصر الحديث، وأن موقعة التل كانت أول معركة قام بها جيش مصري صميم بالدفاع عن أرض مصر، وان المصريين فيها كانوا ينازلون أكبر قوة استعمارية عرفها التاريخ، وأن الإنجليز لم يطمئنوا إلى منازلة المصريين ولم يحرزوا عليهم النصر الا بعد أن استعانوا بكل حيلة.
أعد ذكر ماضي النيل للجيل منشدا ... فما أعذب المجد الأثيل مرددا
وكم مفخر للنيل باق مخلد ... إذا ذكر الأقوام فخرا مخلدا
نتيه بماضينا القديم تفاخراً ... وأحر بأن يروى الحديث فيحمدا
ولم أر يوم التل عابا وسبة ... ولم أره الا أغر ممجدا
أنخجل ان قمنا نذود عن الحمى ... ويسحب أذيال الفخار من إعتدى؟
تدفق من عبر المحيط مهدد ... فما حفلت آباؤنا من تهددا
أبو أن يدينوا للغالب عن يد ... وتلقى مصر في الحوادث مقودا
وقالوا شباة السيف دون عدونا ... وإن يك عرض البر والبحر أيدا
إباء تليد المجد قر له رضى ... وقر له عظم الفراعين ملحدا
وما شهدوا من قبلها عهدهم ... بني مصر جميعا ينهدون إلى العدى
فلما رآى سنوح فريسة ... أقام زماناً دونها مترصدا(17/54)
ترامت على الثغر الأمين رجومه ... تناصب عزلا في المدينة قعدا
أثار عليهم مائج البحر مرغياً ... وصب عليهم مارج النار مرعدا
تهاوى له الانقاض أيان يرتمي ... وتنتثر الاشلاء في حيث سددا
تمازج لونا النار والدم عندها ... وفار لهيب النار بالدم مزبدا
ولم يألها حتى كساها غلائلا ... من النار حمرا في السموات صعدا
ولم يثنه في الشرق والغرب ضجة ... لأمر أقام الأرض هولاً وأقعدا
منى نالها فلتندب الأرض حسرة ... على العدل ولتبك السماء تلددا
رأت أمم في الشرق والغرب أمة ... يجار عليها جهرة وتعمدا
تعاقب أن قامت تحطم قيدها ... وتبعث تاريخا قديما وسؤددا
وتوأد حرياتها وحقوقها ... ليحكم الاستعمار فيها معربدا
ولما أحال الثغر جحرا مخربا ... تقدم يبغي مستراداً ومهتدي
فأبصر من دون السبيل بواسلا ... جثيا على هام المسالك رقدا
تصدى إليهم كرة بعد كرة ... فأصلوه نيرانا فآب مبددا
فيا من رأى أبناء مصر إذا انبروا ... إلى غول الاستعمار صفا مجردا
على حين ماجت خيله وسفينه ... ولم يبصروا في الشرق والغرب مسعدا
يساقونه كأس الحِمام وأهله ... بمصر كرام في مراح ومغتدى
فلما رأى وعر الطريق ولم يجد ... كما ظن نهجا حيث سار معبدا
تسلل من شرق البلاد محاذرا ... هزيمته في الغرب أن تتجددا
ومال إلى الأعراب والختل طبعهم ... يريد لدى القوم اللصوص مؤيدا
جرى تبره فيهم وسالت سفينه ... تمزق عهداً للقناة مؤكدا
وساق على الأحرار بالتل سفلة ... أتى بهم من كل فج وأعبدا
خميس يسير العار في خطواته ... وتتبعه الأوباء في حيثما اهتدى
كفته خيانات اللئام عدوه ... وما بث من جند الفساد وأرصدا
ولولا جنود الإثم تدفع دونه ... لما مد رجلا للقتال ولا يدا
كذلك كانت في السياسة حاله ... وفي الحرب لم يبلغ به النبل مقصدا(17/55)
وما نال إلا بالجريمة مغنما ... ولا سل إلا في الظلام مهندا
وأقبل يزهو بانتصار وإنه ... لخزي له يبقى على الدهر سرمدا
خصيمك أنقى في الهزيمة صفحة ... وأكرم في ظلم الحوادث محتدا
وزاد عروس الشرق في تاج ملكه ... يتيه بها فخراً ويخطر سيدا
رويدك لا تحمد مقامك بيننا ... ولا تحسبنه ما أقمت ممهدا
كما جئت في داج من النحس قائم ... سترجع في داج يغشيك أسودا
وأنحى على الأحرار يسكب مقته ... وقد كاد يسقيهم بجهلته الردى
ومن أحرق العذراء يوما تشفياً ... فليس بمستثن مسناً وأمردا
فأرهق بعض في السجون مكبلا ... وفرّق بعض في البلاد مشردا
سلام وريحان أبوتنا على ... ثراكم سلاما ما يزال مجددا
سلام على من قد تصلوا بنارها ... وخاضوا لظاها فإثماً متوقدا
سلام على من مات في حومة الوغى ... ومن مات في قاص من الأرض مبعدا
سلام على قيل تولى زمامها ... أعف الورى قصداً وأنقاهم يدا
أصاب بها نجحا فلما كبا بها ... وأدركه منها العثار تجلدا
وذيد عن الأوطان عشرين حجة ... يبيت على شوق إليها مسهدا
جريرته أن رام مصر عزيزة ... وشاء لها أن تستقل وتسعدا
ورام لها من طغمة الترك معتقا ... وبعدا لعهد الترك أشأم أنكدا
لتحيا كما تحيا الشعوب طليقة ... بعصر يعاف العبد فيه التقيدا
ستذكره مصر الفتية ما ابتغت ... لدى الحق عهداً أو لدى المجد موعدا
عسى ذكرنا رغم الهزيمة أحمدا ... سيبعث فينا للغنيمة أحمدا(17/56)
في الأدب الشرقي
من الأدب التركي الحديث
احمد حكمت بك
كان الأدب التركي القديم يرسف في اغلال الجمود ويقطع مراحل النهضة بتأخر وبطئ. فظهر أحمد حكمت بك ورفاقه أمثال توفيق فكرت، خالد ضيا، جناب شهاب الدين وغيرهم ممن احيوا الأدب التركي القديم، وكسروا قيود التعصب، وأغلال البطء، وأظهروا للناس تنائج أفكارهم وثمرات عقولهم التي اقتبسوها من المغرب، وألبسوا الأدب ثوبا جديدا بنشرهم المقالات الأدبية الطريفة ونظمهم القطع الشعرية الظريفة. ولكن اضطر هؤلاء أن يقفوا حينا بنهضتهم، ويخفضوا قليلا من أصواتهم، أمام جور السلطان عبد الحميد وظلمه. وما ظهرت شمس الدستور على يد مدحت باشا حتى قام أصحابنا بنهضتهم وشرعوا يتمون مشروعهم.
يعتمد أحمد حكمت بك في كتابته على الحس أكثر من الخيال، أسلوبه رقيق، ومعانيه سهله، وأفكاره متينة. أكثر كتبه حافلة بالقصص والحكايات. يسعى حين الكتابة لإظهار حقيقة ما يكتب، وهو على عكس رفيقه خالد ضيا، قليل التكلف والصنعة. ولقد صور الأدب الغربي بصورة توافق لغته وبيئته. وله مؤلفات عديدة ومن أهم آثاره كتاب (خارستان وكلستان).
وهذه قطعة من منثوره المثبوت بين كتبه القيمة، فان فقدت جمال الأسلوب وروعة الصنعة فجمال المعنى محفوظ على ما أظن:
ساعةَ خَلْقَ الكَونَ
كانت جلبة وقرقعة في ديجور الظلام الخانق، وكان انقلاب وانفجار وسط الغيوم السوداء المزبدة الحواشي تحيط بذلك الفضاء الواسع. وكانت الرياح تعصف، والأحجار تسيل. واللهب تنشر حرارتها وتذيب الصخر والجلمود. وكانت الجبال تنقلب والبحار تفرغ وتمتلئ، والغيوم تنفجر وتنشق فتولد المئات والألوف من النجوم التي تسبح في الفضاء كما تسبح اليراعات في الظلمات الحالكة، تارة تذوب. وأخرى تتصادم ثم تنعزل في ناحية من الفضاء اللانهائي. كانت الأمواه تعلو وتنخفض، تغلى وتزبد حول تلك اللهب المتعالية(17/57)
والنيران المتأججة.
والكائنات تدور. . . . نعم كانت تدور. . . .
وكانت طوائف الملائكة المكلفة بتنظيم الأرض تطير وتنتقل من طرف إلى آخر، منها من تمسك المياه المتجمدة من حوافيها، وتدفع الجبال بأرجلها، وترتب النجوم بأيديها، وتعيد الأنهار إلى فراشها، ومنها من كانت تجر (الدب الأكبر) من ذنبه، وتقود (برج الحمل) من قرنه.
والكائنات تدور. . . . نعم كانت تدور. . . .
بين تلك الغيوم والنجوم والدخان واللهيب كان ملك ضحى بنفسه يطير بسرعة البرق خلف كوكب جميل مضيء، خلف (الزهرة) الشاردة. وبينما يعيدها إلى محورها الأول وقع فوق الصخور الملساء على أثر صدمة قوية كانت سببا في فقده رشده. ولما استفاق من إغمائه سقطت دمعة من عينه انحدرت فوق الصخرة. لقد رأى الخالق الأعظم هذه التضحيات، ووافقته هذه الخدمات، فأراد الا تضيع ذكرى هذه الدمعة فخلق الرجل الأول (آدم).
كانت دورة الأرض تنتظم قليلا قليلا، فالأنهار نامت في فراشها والبحار هدأت في أحواضها، والنجوم انتظمت في محاورها والبراكين خمدت في أماكنها.
وكانت الشمس في كل يوم تبعث الحياة على اليابسة. وكانت الرياح بين آونة وأخرى تساعد الشمس في بعث الجمال والحياة وتطرية هذه الكائنات. وكانت بذور الورود تنتثر من الآفاق وباقات زهور الحب تساقط من الغيوم، وذرات النجوم المتناثرة في تلك القبة الزرقاء تشكل مروجا من زهور البابونج (باباتيه) وحاشية من حواشي قوس قزح تبدو للناظر ذيل طاووس بهيج.
وقد وجدت هذه البدائع لتكون مكافأة للملائكة على جهودهم وخدماتهم. وكانت الحور يتمتعن من هذا الجمال والتجديد، تارة يسرن وأخرى يطرن، يسمعن أغاريد الطيور، ويبتهجن من أريج الزهور، ويتراكضن نحو ظلال الأشجار مرحات طربات، وكانت أجملهن وأصغرهن، وأتعبهن جالسة وسط زهرة فتحت صدرها وأوراقها لأشعة الشمس لتشعر بهذا الجمال اكثر من رفيقاتها، ولتتذوق هذه الحلاوة قبل صويحباتها. وهي كجميع المخلوقات تنتظر ظهور المعجزة برشفها أشعة الشمس المشرقة بشفتيها وعينها.(17/58)
بدا نور وجمال في شفتي تلك الحورية على اثر رؤيتها في كل عصفور ريشة منيرة، وفي كل زهرة لونا جديدا وفي كل شجرة ثمرة حلوة. كان هذا النور وهذا الجمال (الابتسامة الاولى).
وقد رأى الخالق الأعظم هذه التضحيات ووافقته هذه الخدمات فأحب أن تدوم ذكرى هذه الابتسامة فخلق منها المرأة الاولى (حواء).
وانتهى بذلك خلق الكون.(17/59)
في الأدب الغربي
في ساحة علبين
لأناتول فرانس
رأيت نفسي فجأة في ديار خيم عليها ظلام وهبب صامت، برزت فيه صور وأشباح مبهمة ملأتني خوفا ورعبا، ولقد ألفت عيني بعد حين حلكة الظلام ورأيت بجانب نهر تنساب مياهه في هدوء شبح إنسان رهيب المنظر على رأسه قلنسوة أسيوية، ويحمل على كتفه مجدافا عرفت فيه أوديسيوس الخادع، وكان خداه غائرين وقد غطت ذقنه لحية بيضاء شعثاء
سمعته يقول بصوت خافت ضعيف: إنني جوعان، وأحس بعيني مظلمتين ونفسي كأنها دخان ثقيل يسبح في الظلام؛ ألا من يعطيني جرعة من الدم الأسود لأستعيد ذكرى سفني المنقوشة وزوجتي الطاهرة وأمي!
فلما سمعت هذه الكلمات عرفت إنني قد انتقلت إلى بقاع الجحيم، فحاولت أن أسترشد في خطوي بأوصاف الشعراء ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وذهبت إلى مرج قد أضاءه نور ضئيل. وبعد مسير نصف ساعة انتهيت إلى رهط من الأطياف قد اجتمعت في صعيد واحد وأخذت تتطارح الحديث وهي تضم نفوسا من كل عصر، فرأيت بينها الفلاسفة العظام بجانب الهمج الفقراء، ولقد اختبأت تحت ظلال شجرة من أشجار الريحان، وأنصت إلى حديثهم، فكان أول من سمعت (بيرهون) وهو يسأل في رقة وتوسل وقد أمسك بيديه قدومه كأنه بستاني بحق:
ما هي النفس؟
فأجابته الأطياف التي حوله باهتمام وكلها يريد التكلم دفعة واحدة. قال أفلاطون وفي عينيه نظرة الرجاحة: ان النفس ثلاث، فلنا نفس نهمة في البطن، ونفس محبة في القلب، ونفس عاقلة في الرأس. والنفس خالدة، أما النساء فلهن نفسان وتعوزهن النفس العاقلة. فرد عليه شيخ من أعضاء مجلس ما كون قائلا: انك تتكلم يا أفلاطون كمن يعبد الأوثان، ففي سنة 585 قرر مجلس مكون بكثرة الأصوات اعتبار المرأة ذات نفس خالدة، والمرأة هي الرجل لأن المسيح الذي ولد من عذراء يدعى في الإنجيل بابن الرجل.(17/60)
فهز أرسطو كتفيه ورد على أستاذه بلهجة الحزم والوقار قائلا: من المرجح عندي يا أفلاطون إن لنفس الإنسان والحيوان خمسة أنواع: النفس الغذائية، والنفس الحساسة، والنفس الدافعة، والنفس الشهوانية، والنفس العاقلة؛ والنفس هي العنصر الذي يتكون منه الجسم، فإذا أهلكت هلك بهلاكها
وطرحت آراء أخرى كل واحد منها يعارض الآخر
أوريجن: ان النفس مادية وهي شئ رمزي
سنت أوجستين: كلا، ليست النفس مادية وهي خالدة
هيجل: إن النفس ظاهرة طبيعية
شوبنهور: ان النفس مظهر وقتي للإرادة
رجل من بولينيزا: إن النفس هي نفس الريح، ولما رأيت أن نفسي صاعدة ضغطت على أنفي لأحفظها داخل جسدي، ولكنني لم أستطع أن أضغط الضغط الكافي فمت.
امرأة هندية: من فلوريدا: لقد قضيت نحبي وأنا في مهد طفلي، فوضعوا يده على شفتي ليمسك نفس أمه من الصعود، ولكن جاء هذا متأخرا فقد انسابت نفسي بين أصابع الطفل البريء
ديكارت: لقد أثبت أخيرا ان النفس كانت شيئا معنويا، أما عن مصيرها فارجعوا إلى الأستاذ ديجي الذي كتب في هذا الموضوع.
لامتري: أين ديجي هذا؟ أحضروه.
مينوس: أيها السادة سأبحث عنه في كل بقاع الجحيم،
البرنس ماجتاس: عندنا ثلاثون دليلا على فناء النفس، وستة وثلاثون على خلودها، فهناك أكثرية ستة أصوات بجانب الخلود
صانع أحذية: إن روح السيد الشجاع لا تموت لا هي ولا غدارته ولا غليونه
رابي ميمونديس: لقد كتب من قديم ان الرجل الشرير سيبيد ولن يبقى منه شيء
سنت أوجستين: انك مخطئ يا رابي ميمونديس، فقد كتب إن المذنب سيذهب إلى النار وسيخلد فيها أبدا.
أوريجين: نعم إن ميمونديس مخطئ، فالرجل الشرير لن يبيد ولكن سيتقلص حتى يصبح(17/61)
ضئيلا جدا فلا يمكن تبينه، ويجب أن تعلم هذا ممن حلت بهم لعنة الله، أما عن نفوس القديسين فسيكون نصيبها الامتزاج بالله
دنس اسكوتس: إن الموت يجعل الكائنات تمتزج بالله مرة اخرى كأنها صوت يغيب في الهواء
بوسويه: ان أوريجن ودنس اسكوتس يخطئان هنا، فأن ما روي في الكتب المقدسة عن عذاب الجحيم يجب أن يفهم بمعناه الدقيق الحرفي، وهو أن الأشرار سيظلون أبدا تتنازعهم الحياة والموت، وسيخلدون في العذاب لأنهم سيبقون أقوياء لا يموتون، وضعفاء لا يحتملون، ولن يبرحوا يئنون على مقعد من النار مغمورين في مض من الألم لا شفاء لهم منه.
سنت اوجستين: نعم يجب أن نفهم هذه الحقائق بمعناها الحرفي، ونعلم أن أجسام الأشرار هي التي ستعذب في النار، ولن ينجو من هذا العذاب الشديد الأطفال الذين يموتون عند ولادتهم، أو حتى في بطون أمهاتهم، فهكذا قضت العدالة الإلهية، فإذا رأيت أنه يتعذر عليك تصديق أن الأجسام التي تلقى في النار لن تهلك أبداً فهذا نتيجة الجهل المحض، فأنت لا تعلم أن هناك أنواعاً من اللحم تحفظ في النار كلحم الديك البري، وقد جربت هذا في هدهد، إذ هيأ لي طاه أحد هذه الطيور وخصص نصفه لغذائي، وبعد أسبوعين طلبت النصف الآخر فكان لا يزال صالحا للأكل، فظهر لي أن النار حفظته كما ستحفظ أجسام الأشرار.
سمنجالا: إن كل ما سمعته من أنواع الفلسفة إلى الآن مظلم كظلام الغرب الدامس، والحقيقة أن الأرواح تحل في أجسام مختلفة قبل أن تمتزج بالنيرفانا المباركة التي تضع حداً لشرور الحياة، فقد حل (جوتاسا) في خمسمائة وخمسين شكلا قبل أن يصير (لودا) فكان ملكاً ثم عبداً ثم قرداً ثم فيلاً ثم ضفدعة ثم شجرة من أشجار الدلب وهكذا
قسيس: إن الناس يموتون كما تموت دواب الحقل، ومصيرهم كمصيرها، وكما يموت الناس تموت البهائم أيضا، وكلاهما يتنفس هواء واحدا وليس للناس شئ لا تملكه البهائم.
تاسيتوس: ان هذا الكلام يكون مقبولا مفهوما لو نطق به يهودي خلقت نفسه للعبودية، أما أنا فاني أتكلم كروماني فأقول: إن أرواح الوطنيين المشهورين لا تفنى ويجب أن نؤمن بذلك إيمانا صحيحا، ولكننا نتهم عظمة الآلهة إذ نحسبها تهب الخلود لأرواح العبيد(17/62)
والعتقى.
شيشرون: وا أسفاه يا بني أن كل ما يروون لنا عن بقاع الجحيم انما هو نسيج من الاباطيل، وأني لأسأل نفسي أهناك طريق آخر يكفل لي الخلود الا ذكر عهد قنصليتي الذي سيبقى إلى الأبد؟
سقراط: أما أنا فاني أومن بخلود الروح، فهو فرصة يحسن انتهازها، وأمل يعلل به كل إنسان نفسه
فكتور كوزان: يا عزيزي سقراط إن خلود النفس الذي أوضحته بجلاء لا بد منه للأخلاق والآداب، لأن الفضيلة موضوع مناسب للحطباء، ولو لم تكن النفس خالدة لما كان للفضيلة ثواب.
سنيكا: واعجبا يا فيلسوف الغالي! أهذه مبادئ رجل حكيم؟ ألا فاعلم أن جزاء الأعمال الصالحة هو في تأديتها وإلا فجزاء تثاب به الفضيلة يكون غريباً عن الفضيلة ذاتها.
أفلاطون: ولكن هناك ثواباً وعقاباً إلهياً، فعند الموت تصعد روح الرجل الشرير لتحل في جسم حيوان حقير كحصان أو عجل بحر أو امرأة، أما روح الحكيم فتمتزج بالآلهة.
باببنيان: إن ما يعني أفلاطون هو أن العدل الإلهي سيتولى في الحياة الأخرى إصلاح أخطاء العدالة الإنسانية، والأمر على النقيض من ذلك، فخير للأفراد الذين أصابهم في الدنيا عقاب لا يستحقونه، قضى عليهم به قضاة معرضون في الواقع للزلل برغم جدارتهم بمناصبهم وخبرتهم بالقضاء، أن يظلوا يقاسون الآلام والعذاب في عالم الأرواح، وهذا ما تعني به العدالة الإنسانية التي قد يضعف من شأنها أن تضعها إلى جانب الحكمة الإلهية.
قزم: ان الله يحسن إلى الأغنياء ويسيء إلى الفقراء، لأنه يحب الأولين ويبغض الآخرين، ولحبه الأغنياء سيرحب بهم في جنانن، ولبغضه الفقراء سيصليهم بناره.
صيني بوذي: اعلم ان لكل إنسان نفسين: إحداهما خيرة وهي التي ستمتزج بالله، والأخرى شريرة وهي التي سيحل بها العذاب.
عجوز من تارنت: أيها الحكماء أفتوا شيخا يحب البساتين، هل للحيوانات نفس؟
ديكارت دماليبرانش: كلا، انها آلات
أرسطو: بل هي حيوانات ولها نفس مثل ما لنا، وهذه النفس تتصل بأعضائها(17/63)
ابيقور: أجل يا أرسطو لقد كان مما مهد لها سبيل سعادتها وهناءتها ما بين نفسها ونفسنا من شبه، فكلتاهما قابلة للفناء معرضة للموت. أما أنت أيتها الأطياف فانتظري في هذه الحدائق الوقت الذي تفقدين فيه الحياة نفسها وبؤسها مع الرغبة فيها ولا الولوع بها، ولتريحوا أنفسكم بالتأمل والتفكير في هدوء لا يكدر صفوه مكدر.
بيرهون: ما الحياة.؟
كلود برنارد: الحياة هي الموت
فسأله بيرهون قائلا: وما الموت؟ فلم يجبه أحد، واختفت الأطياف في سكون كأنها سحاب يفر من الرياح
وحسبتني تركت وحيدا على العشب حتى لمحت منيبوس وقد عرفته بابتسامته التهكمية
فقلت له: كيف تتحدث هذه الجماعة عن الموت يامنيبوس كأن لم يكن لها به عهد؟ وكيف يجهلون مصائر الإنسان كأنهم ما زالوا على الأرض.
قال لا ريب أن هذا يرجع إلى أنهم ما زالوا إنسانيين وفانين إلى حد ما، فإذا ما ولجوا باب الخلود فلن يتكلموا ولن يفكروا، إذ سيصبحون كالآلهة.
حنفي غالي(17/64)
العلوم
النسل
للدكتور احمد زكي
منذ شهرين قامت ضجة في بلد من بلدان أوربا الوسطى وصل اضطرابها إلى أطراف العالم الحي. ذلك أن حكومة ذلك البلد قاضت جماعة من الأطباء قاموا بطريقة منظمة على تعقيم كل ذَكَر لا يرغب في الانسال، أو أنسل ولم يعد له رغبة في المزيد، أو له رغبة في المزيد تأباها عليه الضائقة الحاضرة، بثت هذه الجماعة دعايتها بين الفقراء من العمال والفقراء من الزراع، ولم تكن غايتها الكسب، فان أجرة العملية كلها على ما أذكر كانت جنيهين ونصفا في ذلك أجرة الطريق أو أجر السفر، وانما كانت غايتها منع النسل عن غير القادرين على رعايته، وتجويد نوع المواليد بالإقلال منهم، على قاعدة أن المائة من الجنيهات قد تنفق على اثنين وقد تنفق على أربع، ولكن إن هي أتتك في الحالة الأولى برجلين فهي تأتيك في الحالة الثانية بأربعة أنصاف من الرجال، وحيث أن الدنيا ضاقت بالعدد الذي لا يجد عملا، فأولى بالناس أن ينصرفوا عن العدد إلى الجودة، وعن الكم إلى الكيف. ولكن الحكومة التي رفعت الدعوى عليهم رأت أن في العدد سلام الدولة، وان للكم الغلبة بين الأمم. ومهما يكن من رأي هؤلاء أو أولئك فالذي نريد أن نسجله دعوى جديدة تدعيها هذه الرفقة، وهي أنهم يقطعون بمشرطهم حبلا فيقطعون ما بين الرجل وذراريه، ثم يصلون بملقط ما قطعوه، فيعود الرجل إلى إنتاجه القديم. ونريد أن نسجل أن بهذا المشرط ولا سيما بالملقط ستحدث أحداث غريبة في العالم ستأتي على رغم الكراهات وبرغم القوانين ولو أبطأت بها الأيام
الإنتاج من قديم فخر الرجل والعقم عاره، ولكن كان هذا والأيام تسير الهوينى والأرزاق كأنها تتنزل من السماء على أنفس قنوعة راضية، أما المدنية الحاضرة مع بوائقها وضوائقها وانعدام العصبية الأسرية فيها إلى حد كبير، فلا تكاد تبقي للإنسان فخارا بخلف أو عاراً من عقم، ولا سيما عقما لا يذهب بمشاعر الحيوانية من الإنسان، دليل ذلك أن الكثيرين يتعقمون اختيارا، وفي مصر من هؤلاء عدد يذكر تعقموا في وضح النهار على سمع الناس وأبصارهم. ولكنهم مهما كثروا قليلون إلى جانب من يرغبون في حبس النسل(17/65)
أو تقليله، ولكن تأبى نفوسهم وتثور حفائظهم وتقشعر أبدانهم أن تنتزع الرجولة منهم وتقتل الذكورة فيهم، أما الآن وقد وعد الطب بوصل ما يقطع، فلم تعد الرجولة تنتزع ولا الذكورة تقتلع، وانما يقطعان إلى وصل، ويطويان إلى نشر، وفي هذا من الأغراء ما فيه. ومن الممتع اللذيذ للعالم الاجتماعي أن يتابع عن كثب هذا الأثر الجديد للمشارط والملاقط في حياة الأسر، وطاقات الطوائف والأمم، فهما أداتان للخير والشر على السواء، لابد من ضبطهما بأيدٍ مسئولة، ولا سبيل إلى تركهما لأهواء الأفراد طيلة انتسابهم إلى مجتمع منتظم هم من نتاجه
واجتمعت الجمعية الطبية البريطانية اجتماعها السنوي في (دبلن) من أسابيع قليلة عقب الثائرة التي أثارتها تلك القضية، فرأينا أصداءها تتردد حتى في هذه القيعان، فقد قام جماعة من الأطباء ذوي اسم ومكانة ينصحون بتدخل الجمعية في تحديد عدد السكان في الجزر البريطانية وإباحة تلك العملية واتخاذها أداة لمنع الأضرار الاجتماعية التي تتسبب في الأوساط الفقيرة عن ارسال حبل الإنسان على غاربه، ولا سيما في مناطق التعدين حيث الفقر مدقع والبطالة لا أمل في العثور على علاج لها لا في الحاضر ولا في مستقبل الأيام. وقامت معارضة هادئة الا أنها من صنف المعارضات التي تنجح وتتلقاها آذان السكسونيين دائما بالقبول. قام معارض فقال: إن للمسألة وجوها غير طبية، فلها وجه اجتماعي ووجه آخر خلقي، وليس الطبيب بأهل ان يبحث في الاجتماع أو أن يرسم للناس كيف يتخلقون. وقام طبيب الملك فقال: إن من أنجع الطرق في وقف سير حركة جديدة أو تعطيل اعتناق الناس لمذهب طريف، أن تتدخل فيه بالعنف الرسمي، سواء أكان ذلك بتحكيم القانون أم بتقرير جماعة مسئولة كجماعتنا هذه. كل حركة جديدة أو مذهب طريف، لابد أن يتأهل له الناس. وما التقنين الا صياغة لرغبة عامة وتتويج لإرادة شاملة، فلندع جمهور الأمة يفكر في صمت، في المجالس الخاصة وبين فترات العمل، في راحة ما بعد الغداء، أو اضطجاعة ما بعد العشاء، وفي أثناء التروض على الحشيش الأخضر أو على رمل الساحل، أعطوا الجمهور الزمن ليفكر. ولا تسبقوا أحداث الوجود، فعندئذ يأتيكم هذا الجمهور يطلب منكم النصيحة، وعندئذ تعطونه إياها نصيحة ناجعة سهلة، تصل بكم إلى الغرض بسرعة كبيرة تعوضكم عن الإبطاء الذي كان لابد منه لتفكير الناس واقتناع(17/66)
الجماهير، وكان هذا فصل الخطاب.
أما في ألمانيا الهتلرية فقد جرى النقاش في الموضوع وتقرر القرار وصيغ القانون في ليلة وضحاها. والواقع أننا لم نكد نسمع الا بالقانون وقد صدر، وهو يضيء بالتعقيم الإجباري لكل مريض بمرض يمكن توريثه. وعددوا تلك الأمراض فكان منها ضعف العقل وبعض صنوف الجنون والصرع والتشنج المفصلي والعمى والصمم الموَّرثان، وكل عاهة يمكن توريثها، وكذلك إدمان المسكرات إذا بلغ حد المرض. وتنصب لجان للتقرير عن حالة المرضى. وللمريض أن يستأنف، فأن قضى الاستئناف بالتعقيم أنفذ بالقوة في مصحات الحكومة. وتقع نفقة كل هذا من قضاء أو تعقيم على أولي الأمر، ويتعهد كل من يتصل بشيء من ذلك بالتكتم والتستر حتى لا يعرف من تعقم. لم يسمح القانون بإجراء العملية على الأصحاء لأسباب اجتماعية مهما كانت تلك الأسباب. ونسمع انهم سيخرجون في القريب العاجل قانونا خاصا بتعقيم المجرمين.
هذه البداية، ولسنا ندري ما النهاية. حرموا النسل على المرضى لخير المجتمع. أو لما يرون فيه خير المجتمع، وفرضوه على الأصحاء لخير المجتمع كذلك أو لما يرون فيه الخير للمجتمع. والروح السارية في هذا كله تقضى بالتضحية بالحرية الفردية لصالح الجماعة، وهي روح تلتئم مع روح العصر المَكنَّى فالجماعة مَكَنَة والأفراد قِطَعها، فهي إن دارت تدور بسرعات مختلفة وفي اتجاهات متباينة، ولكنها جميعا متناسقة متوافقة، تؤدي إلى نتيجة محتمة واحدة. هي دوران المكنة على الدوام وبانتظام. فان شذت قطعة من القطع عن ذلك كان مصيرها رُكام القمائم.
لندن في 17 أغسطس.(17/67)
دائرة المعارف الإسلامية
(ألفها كبار المستشرقين في ثلاثين عاماً، ونقلها إلى اللغة العربية لفيف من خريجي الجامعة المصرية، وكتب الشروح والتعليقات والردود أعلام الفكر في مصر والعالم العربي)
دائرة المعارف الإسلامية أوفى المراجع للباحثين في الإسلاميات ويعرف المطلعون على ما ظهر من أجزائها أن الكثير من فصولها قد جمع إلى سعة العلم ودقة البحث حسن الطريقة والإرشاد إلى المصادر المعتمدة قديمها وحديثها على وجه يستحق الإعجاب كله والثناء، ولقد همت من قبلكم طائفة من أهل العلم أن تعرب هذا الأثر العظيم فتخاذلت هممهم دونه على عرفانهم لجليل نفعه وتقديرهم لما يعود على النهضة العملية عندنا من فائدة. أما أنتم فيسعدكم شباب في عنفوانه وشوق إلى الدرس والمجد يحده الذكاء ويمده الأمل ويمده فوق ذلك كله الإخلاص في العلم والإخلاص في العمل.
مصطفى عبد الرزاق. أستاذ الفلسفة الإسلامية بالجامعة
المصرية.
في رأيي أن هذا عمل جليل تستحقون عليه الثناء لأني أرى من الواجب الاطلاع على آراء المستشرقين وغيرهم من الأجانب في الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية فما كان منها صحيحا تقبلناه بقبول حسن وما كان مخالفا للدين أو للحقائق التاريخية رددنا عليه وبينا خطأه ليكون القوم على بينة من أمرنا وليعرفوا ديننا وتاريخنا حق المعرفة وليعلموا أن بيننا رجالا قادرين على الرد عليهم إذا أخطئوا وعلى إرجاعهم إلى الحق إذا زاغوا.
عبد المجيد اللبان. شيخ كلية أصول الدين بالجامعة الأزهرية
أما وقد شرعتم بنقل (معلمةالإسلام) فالعمل عظيم والفائدة محققة. والواقع أن هذه المعلمة من أجمع ما كتب على بلاد الإسلام ورجاله في هذا العصر. . . وفي المعلمة من المقالات الجيدة ما لم يكتب بالعربية حتى اليوم مثل مقالات الكرد، القبط، مصر، الهند، بلاد العرب، المقوقس، مسجد، منبر، محراب الخ. ومن البلاد التي وصفت والرجال الذين ترجم لهم ما يتعذر إيجاد مصادر له في الشرق العربي.
محمد كرد علي. رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق(17/68)
أنه لعمل جدير بالتقدير والإعجاب عمل لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية المقدمة على إخراج هذا السفر الجليل إلى اللغة العربية. وإني أترقب باكورة هذا العمل المجيد كما يرقب الصائم هلال العيد.
يوسف رزق الله غنيمة. وزير مالية العراق سابقا.
إذا كانت أمم الشرق الأدنى نامت نوما عميقا في القرون
المتأخرة فها هو ذا صبحها أخذ يتنفس وطفقتم أيها الأبناء
البررة تبنون بالعلم ما هدم الجهل من مجد قديم تعيدون سيرة
آبائكم الأقدمين بإشراق شمس المعارف الإسلامية بعد غروبها.
وإن في ترجمة دائرة المعارف الإسلامية القيام بثلاثة واجبات
واجب ديني وواجب وطني وواجب مدرسي لمعهدكم الشريف.
طنطاوي جوهري(17/69)
القصص
إلى الواحات الخارجة
جنة الصحراء الغربية
(وجزيرة الناعمين) في عرف قدماء المصريين
للأستاذ محمد ثابت
ولا تكاد تفتح عين جديدة الا رأيت آثار الرومان فيها فيجددون حفرها. والعين ملك لمن جد في البحث عنها وقام بتطهيرها، ويساهم كل فيها بنسبة ما بذل من مجهود ومال، وعلى هذه النسبة يستنبت جزء مما جاورها من الأرض، والحكومة لا تتقاضى الضرائب على مساحة الأرض المنزرعة فالناس أحرار يزرعون ما أرادوا منها، لكن الضريبة تجبى على طاقة العين بغض النظر عما يزرع حولها. فإذا ما ظهرت عين جديدة تشكل لجنة حكومية ثم يسوى مكان عند منفذ العين توضع في نهايته عارضة خشبية بعرض القناة فتعترض الماء الذي يطغى عليها ويتدفق فوقها ثم يقاس عمق هذا الماء فوقها وبحسب غزارته تقدر قوة العين قيراطا أو بعض قيراط والضريبة نصف جنيه عن كل قيراط، ومن العيون ما هو أقل من قيراط ومنها ما يبلغ عشرات القراريط. وفي ناحية باريز أكبر عيون الواحات وقوتها من 58 إلى 60 قيراطا، ويقال انها وحدها تستطيع ري مئات الفدادين، لكن أصحابها لا يستطيعون استغلالها كما يجب، لذلك تجمع من مائها الفائض مستنقع يمتد عشرات الكيلومترات كثر به البط والطير المائي، ولذلك يقصده الكثير وبخاصة الموظفين للهو والصيد.
وتقسيم ماء العين بين الشركاء عجيب أيضا، فان كان الملاك ثلاثة قسموا القناة الخارجة من منفذ العين ثلاثة أقسام، يجب أن تكون متلاصقة خيفة تبدد الماء بالرشح فيجري نصيب كل مالك إلى أرضه التي يشترط أن تكون مجاورة لأرض باقي الشركاء، وألا تزيد متراً واحدا عنهم، ويجب أن يزرع الجميع نوعا واحدا من الغلات، وإذا لم يسعف ذاك التقسيم كل حقل قسموا الري بالساعات، ففلان يروي عددا من الساعات مناسبا لنصيبه، وبعد ذلك يجيء دور صاحبه، وهكذا وإذا أقبل المساء وقف الري خيف على الماء الدافق من التبديد(17/70)
لذلك يرسل الماء إلى مستودع فسيح يدخر فيه إلى الصباح حين يروي الشركاء منه على النظام السالف إلى أرضهم المنخفضة عن مستوى ذاك المستودع، والأراضي حول العيون مدرجة الانحدار كي يصبح الري ممكنا، وكثيرا ما كنت أرى المجاري المتقاطعة يسير فيها الماء بعضه فوق بعض مسافات طويلة كل يستمد من عين خاصة به
وكلما مضت السنون على العين ضعفت لكثرة ما يتجمع حولها من رمال فيعاد تطهيرها، وكثيرا ما تقارب العين النضوب او ينفذ ماؤها، والعادة انه كلما خرج نبع جديد أغاض ماء غيره أو أنضبه.
واهم الزراعات: الأرز عماد غذاء الأهلين وهو صغير الحب أسمر اللون لكنه ألذ طعما من رزنا، وهو في الطبخ ينتفخ فيزيد حجمه كثيرا، ولعل أكبر مميزاته محصوله الوفير فمتوسط غلة الفدان بين 20و30 أردبا، وفي الأرض الجيدة يغل أربعين، على أنه يمكث في الأرض سبعة شهور، ولعل جودة ذاك المحصول العجيب راجعة إلى كثرة الجهد الذي يعانيه القوم في خدمته، فزراعته تتطلب عناء عظيما من ذلك: بلّ البذور بالماء الساخن وبذرها ونقل النبت وهو صغير من بؤرة في الأرض إلى غيرها وتلك العملية تتطلب المثابرة حتى يقارب النضج، أضف إلى ذلك استئصال الطفيليات، وفي الشهر السابع يبدأ الحصاد وخلال كل أولئك ينشر الفلاح السماد على الأرض أولاً من روث البهائم، وأخيرا من فضلات المراحيض، فتراهم جميعا يوالون رمي رماد (الفرن) في مرحاض البيت كل يوم وإذا ما انتهى العام جمع كل ذلك سمادا قويا يعاون على إنبات الأرز. وكلما حسنت الخدمة زاد طول السنبلة فحوت بين 90و110 حبة وضوعف المحصول وقد يبلغ الخمسين أردبا ولذلك يجري على ألسنتهم جميعا المثل القائل: (قل زرعك وأكرمه). وبعد تمام ري الأرز ينصرف الماء إلى المنخفضات لاستخدامه في ري القمح وهو الغلة التي تزرع بعد الأرز في الأرض الجيدة وحولها في الأراضي الرديئة يزرع الشعير ومحصولهما محصول أرض الريف.
ولما كانت زراعة الأرز أساسية ومدته طويلة وهو يتطلب ريا مستديما كثرت لذلك النقائع أغلب العام، فعاون ذلك على نشر البعوض وبخاصة في أغسطس وهدد بالملاريا التي كثيرا ما تنتشر هناك، ولذلك حاولت الحكومة منع زراعته والاستعاضة عنه بالأرز(17/71)
السبعيني لقصر مدته، ولما جربه القوم أنكروه بتاتا وذلك لقلة محصوله.
وكم أعجبت بنزعة القوم إلى التعاون في جل أعمالهم! ففي الزراعة مثلا لا يلجأون إلى إستئجار العمال خصوصا في موسم الحصاد؛ بل ترى فريقا يتنقل بكامل عدده إلى حقل الفريق الثاني وينجزون أعمال الحصاد متعاونين، وهؤلاء يقومون بدورهم في معاونة الفريق الأول إذا حل ميعاد العمل في منطقتهم، وتلك طريقة اقتصادية تبعث على العمل بنشاط وسرعة لا تتوافر في المأجورين، والناس هناك هادئو الطباع معروفون بالأمانة حتى أن صاحب النزل كان يترك الفندق مفتوحا بغير حراس رغم وحشة الليل وبعد المكان عن المدينة لأنه واثق أن ليس بين الناس من يحاول السرقة
غذاؤهم ومشربهم:
وعماد القوم في الغذاء الأرز يأكلونه مسلوقا ويضع الفقير عليه الزيت والغني المسلى وأحيانا يدق الزيتون كله ثم ينخل ويخلط سائله الزيتي الأسمر بالأرز فيكسبه لونا أسود وطعما لذيذا، وكثيرا ما يطبخ الأرز باللبن والملح. والأرز أساس وجبة الإفطار في الصباح والعشاء مساء. وهذه أهم الوجبات لديهم. يطهى في أوان كبيرة من الفخار أو النحاس. أما الخبز فلطعام الغذاء وهي أقل الوجبات أهمية يتناولونها في الحقول خارج بيوتهم.
ومن أشهر الأشياء لديهم الشاي والسكر والطباق. فهم يبتاعونها بالغلال عند بدء حصدها، والتجار يختزنون تلك الغلال ليبيعوها للقوم ثانية إذا نضب معينها عندهم
ولقد أسرفوا في تلك العادة حتى قيل أن الشاي أتلف كثيرا من صحتهم ومالهم لأنهم إذا شربوا عمدوا إلى الماء المغلي فصبوه على الشاي الذي يشغل بين نصف القدر (الغلاية) وثلثيه لذلك يصبح منقوعه أسود غليظا ثقيلا ويتناوله حتى صغار الأطفال. وتتكرر تلك العملية في مجلس الشاي ثلاث مرات، والناس يتناولون الشاي أربع مرات في كل يوم: عقب الأكلات الثلاثة مباشرة، والمرة الرابعة عند الأصيل، ولا يروقهم الشاي الخفيف قط، لذلك ترى الواحد منهم يضع قطرة منه على ظفره ثم ينكسه فان سقطت نفر منه ولم يشربه فهو لا يستملحه الا إذا حاكى العسل الاسود، والعجيب انهم يحلون ذلك بمقادير كبيرة من السكر. وأذكر أني أخذت صورة عجوز وناولتها قرشا فرجتني أن اشتري لها به بعض الشاي والسكر بدل النقود وأرسلت صبيها ليحمل ذلك إليها.(17/72)
وأجمل مناظر الواحة تتجلى في بساتينها اليانعة تحيط بها أسوار وطيئة من الطين تحفها من أعلاها قحوف النخيل وتتخللها أبواب من الجريد صغيرة وبين تلك البساتين تمتد الطرق وتنساب قنوات الماء الدافق من العيون المجاورة، وأعظم غلات البساتين البلح والمشمش وكذلك البرتقال وهو من أحسن الأنواع حجما وطعما.
ومن أخطر ما يعانيه القومطغيان الرمال على البيوت والبساتينوالينابيع، لذلك تراهم يحتالون لمقاومتها، فالعيون يقام حولها بناء أسطواني، أو في زاوية مدببة حتى لا يتجمع الرمل خلفها ويطمرها. ويغلب أن يزرعوا خلفها صفا من الشجر وبرغم ذلك يغلبهم الرمل، وكلما أحاط بالشجر أو النخل استمر هذا في نموه السريع وعلا حتى إذا ما بلغ نهاية نموه طمرته الرمال فاختفى وعندئذ يهاجر القوم إلى ناحية أخرى، وكثيرا ما حدث ذلك في ناحية (جناح) من بلدانهم، وقد يطغى الرمل على البيت فأن قارب نهاية علوه فتح صاحبه في جداره بعض النوافذ فيتسرب الرمل إلى داخل البيت ويسده ثم يبني الرجل طابقا جديدا فوق الأول ليسكنه، وقد يتكرر ذلك إلى الطابق الخامس والسادس. وقص علي القوم أنه حدث مرة أن سيدة في المكس من قرى باريز أنامت طفلتها داخل البيت ولما عادت وجدت الرمال قد تسربت من ثقب فوقها فطمرتها وماتت. وهناك بعض الكثبان الزاحفة على المدينة قاس الناس سرعة تقدمها فكانت متراً في كل شهر.
ومن الحشرات المخيفة هناك العقارب، فهي توجد بكثرة مروعة على أن ضررها قليل ويظهر أن سمها أخف من سم العقارب التي في بلاد الصعيد، وفي بعض القرى هناك كالمكس لا تكاد ترفع قطعة من الطوب الا وترى أسفلها قد افترش بالعقارب، لذلك ترى الأهلين جميها إذا اقبل الليل خرجوا إلى كثبان الرمل العالية وأمضوا ليلتهم فيها ولا يجرؤ أحدهم أن يدخل الدار طيلة الليل خشية لدغاتها
ومما هو جدير بالذكر وبالاغتباط ما شاهدته من عناية محافظ الواحات بصوالح الناس، فهو دائما يفكر في خدمتهم وزيارة مواردهم، وقد أنشأ قسما مستحدثا في المدينة طرقه نظيفة مرصوفة تحفها الأشجار، وقد افتتح الطريق إلى أسوان لأول مرة، وعاون على فتح الطريق إلى أسيوط فقطعته السيارة في سبع ساعات وهناك طريق معبد إلى الواحات الداخلة تقطعه السيارات في ست ساعات، وآخر يسير شمالا إلى مرسى مطروح.(17/73)
والمحافظ جاد في بناء مسجد فاخر فسيح الرحاب أحاطه بالمنتزهات.
والمستمد العام لماء الشرب نبع أحاطته الحكومة بالبناء تتخلله الأنابيب والصنابير وذلك محافظة على نظافة الماء أن تلوثه الأوساخ وتعبث الأيدي، يملأ منه السقاءون قربهم والفتيات جرارهم وهي مستطيلة الشكل كي تحملها الفتيات تحت أذرعهن لا فوق رؤسهن. والأواني من أخص صناعتها، وكذلك ضفر الأطباق والآنية من سعف النخيل يزينه نقش من الوبر والصوف الملون الجميل.
ومجهود القسم الطبي هناك عظيم، يقوم الطبيب بالعلاج وبصرف الدواء مجانا ويعالج المرضى في مستشفى كبير زود بأحدث الوسائل وهو في ناحية من المدينة بولغ في تجميلها وتنسيق حدائقها.
ذلك بعض ما شاهدته في الواحات الخارجة التي ستظل ماثلة أمامي أذكرها بالخير دائما. ولقد أسفت لأني لم أستطع زيارة الواحات الداخلة التي يقول عنها جيرانها بأنها أعم خيرا وأفسح مدى، سكانها يناهزون ثمانية عشر الفا، أعني ضعف سكان الخارجة وأني لأرجو أن أوفق زيارتها في يوم قريب.
محمد ثابت(17/74)
بلياس ومليزاند
للفيلسوف البلجيكي موريس ماترلنك
ترجمة الدكتور حسن صادق
مليزاند: بل يتحدث إلي في بعض الأوقات: إنه لا يحبني وقد قرأت في عينيه. ولكنه يبادلني الحديث حين يقابلني في طريقه
جولو: لا تحقدي عليه ياميلزاند: إن في طبعه بعض الشذوذ والغرابة. . سيغير الزمن هذا الطبع. . . إنه في معية الصبا وزهرة العمر. . .
مليزاند: ليس هذا إياه. . .
جولو: إذن ماذا؟ أتعجزين عن رياضة نفسك على السكون إلى الحياة التي نحياها في هذا القصر؟ أحقا انه عتيق معتم يخيم عليه سكون رهيب، والطبيعة حوله حزينة صامتة، والغابات الكثيفة تحجب عنه نور السماء، ولكن الإنسان يستطيع بالإرادة الحسنة أن يألفه ويطمئن اليه. . ابتهلي كل فرصة لإدخال الإنس على نفسك وابتهجي بالحياة كما هي. وتكلمي وأفصحي عن رغبتك. سأسير على حكمك وأقف عند مشيئتك
مليزاند: أني لم أر قط السماء صافية. . . لقد رأيتها لأول مرة في هذا الصباح
جولو: أهذا هو الذي أبكاك يا زوجي العزيزة؟! أتستخرطين في البكاء لأنك لا ترين السماء؟! كيف ذلك؟! لست في العمر الذي يبكي الإنسان فيه على مثل هذه الأشياء التافهة. . . جاء الصيف أو كاد، وسترين السماء في كل يوم. . . وفي العام المقبل. . . هاتي يدك. . . أعطني يديك الصغيرتين (يمسك يديها) أوه انهما صغيرتان أستطيع سحقهما كما أسحق الأزهار الرقيقة. . . آه! أين الخاتم الذي أعطيتك إياه؟
مليزاند: الخاتم؟
جولو: نعم. خاتم العرس أين هو؟
مليزاند: اعتقد. . أعتقد أنه سقط
جولو: سقط؟: أين؟ هل فقد؟
مليزاند: لقد وقع. . ولكني أعرف أين هو
جولو: أين؟(17/75)
مليزاند: أتعرف الكهف القائم على شاطئ البحر؟
جولو: نعم أعرفه حق المعرفة
مليزاند: الخاتم فيه. . . لابد أن يكون هناك. . . نعم أذكر أذكر الآن شيء. ذهبت اليه في هذا الصباح لأجمع بعض القواقع
لأنيولد الصغير. . . في الكهف منها أنواع ذات شكل وجمال. . وأثناء ذلك انزلق الخاتم على إصبعي ووقع في البحر. . . وحان وقت رجوعي إلى القصر فغادرت الكهف قبل أن أجد الخاتم.
جولو: هل توقنين أنه حيث تقولين؟
مليزاند: نعم. نعم. شعرت به وهو ينزلق
جولو: يجب أن تذهبي إلى الكهف للبحث عنه في الحال
مليزاند: آوه! الآن؟ وفي الحال؟! ألا ترى الظلام الحالك؟!
جولو: اذهبي في الحال وفي هذا الظلام الحالك. أحب إليّ ان أفقد كل ما عندي من أن أفقد هذا الخاتم! انك لا تعرفين قيمته ولا تدرين من أين جاء. . . سيعلو البحر الليلة ويبلغ جدار الكهف ثم يستحوذ على الخاتم دونك. . . أسرعي
مليزاند: لا أجرؤ. . . لا أجرؤ على الذهاب وحدي
جولو: اذهبي. . . استصحبي معك أي إنسان. . . أسرعي. . . تقدمي إلى بلياس أن يصحبك
مليزاند: بلياس؟! أأذهب إلى الكهف مع بلياس؟! ولكنه لن يقبل. . .
جولو: سيعمل كل ما تسألين إياه. إني أعرف بلياس أحسن منك، اذهبي وأسرعي. لن أنام حتى استرد الخاتم
مليزاند: آوه! لست سعيدة! ما أعظم شقائي (تخرج باكية)
المنظر الثالث (أمام كهف. يدخل بلياس ومليزاند)
بلياس: (يتكلم وهو مضطرب الأعصاب إلى حد كبير) نعم. إنه هنا. لقد بلغنا غاية السرى. الظلام حالك يحجب عن الأبصار مدخل الكهف، وكأني به قطعة من الليل البهيم. والنجوم لا تطل على هذه الناحية المتلفعة بالظلمة الداجية. فلننتظر حتى يمزق القمر عن نفسه ستر(17/76)
هذا السحاب الكثيف، وينير الكهف بأشعته الباسمة، فنستطيع الدخول آمنين. ولا يغرب عن بالك أن من الأمكنة ما هو شديد الخطر، والمستدق ضيق وعمر يقع بين بحيرتين لم يسبر غورهما بشر. . . ولم يخطر ببالي أن أحمل معي مشعلا أو سراجا منيرا. . . ولكني أعتقد أننا سنجد على ضوء مسماء هدى. . ألم تلجي هذا الكهف يوما؟
مليزاند: كلا
بلياس: فلندخل. . . يجب أن تملئ عينيك بالمكان الذي فقدت فيه الخاتم كما قلت له ليتسنى لك وصفه إذا سألك عنه. . . إن الكهف كبير فسيح، ورائع بهيج، تموج فيه ظلمات تضرب إلى الزرقة بعضها فوق بعض. وإذا أشعل إنسان فيه مصباحا صغيرا خيل اليه أن القبة مغطاة كالسماء بنجوم وكواكب. . . لا ترتعدي هكذا! خلي عنك الخور فليس هنا من خطر، وسنقف في اللحظة التي يغيب عنا الضوء المنبعث من اليم. ما الذي يفزع جنانك؟ أهو صوت الهواء الضارب في بطن الكهف؟ أتسمعين عجاج البحر خلفنا؟ كأني به غير سعيد الليلة!. . . آه! ها هو ذا النوء!. . (في هذه اللحظة ينير القمر مدخل الكهف وجزء من داخله، ويرى فيه ثلاثة شيوخ بيض الشعور في أسمال بالية، ينامون على الأرض متلاصق ورؤسهم متكئة على صخرة كبيرة)
مليزاند: آه!
بلياس: ماذا جرى؟
مليزاند: أرى. . . أرى. . . (ثم تشير بإصبعها إلى الفقراء الثلاثة)
بلياس: نعم. لقد رأيتهم أنا أيضا
مليزاند: هلم نخرج. . . لنذهب من هنا،
بلياس: انهم ثلاثة شيوخ نيام استبدت بهم الفاقة. . . لماذا فزعوا إلى الكهف يستعدون فيه النوم على الألم؟ بالبلاد قحط ألم. . .
مليزاند: تعال معي نغادر هذا المكان!
بلياس: سكني روعك وتكلمي بصوت خافت حتى لا يستيقظ هؤلاء المساكين. . . إنهم ناعمون في نوم عميق. . . تعالي
مليزاند:. . . دعني، أفضل المسير وحدي. . .(17/77)
بلياس: سنعود في يوم آخر. . . (يخرجان)
الفصل الثالث - المنظر الأول: (أحد أبراج القصر تطل احدى
نوافذه على طريق مستديرة)
مليزاند: (في النافذة تغني وهي تمشط شعرها المرسل)
شعري الطويل يتدلى
حتى يصل إلى أسفل البرج
شعري ينتظر مقدمك
مسبلا على الحائط طول النهار
أقسم بالقديس دانيال وزميله ميشيل
بالقديس ميشيل ومثيله القديس روفائيل
إني ولدت حقا يوم أحد
يوم أحد عند منتصف النهار
(يدخل بلياس من الطريق المستديرة)
بلياس: هيه! هيه!
مليزاند: من المنادي؟
بلياس: إني بلياس. . . هأنذا. . . ماذا تفعلين في النافذة. وأنت تغنين كطير ليس من هذه الناحية؟
مليزاند: أرتب شعري استعدادا لليل
بلياس: أهو هذا الذي أراه على الحائط؟. . . ظننت انه شعاع من نور. . .
مليزاند: فتحت النافذة لأن الحر شديد في البرج. . . ما أجمل الجو الليلة!
بلياس: أرى في السماء نجوما كثيرة. . . لم أر قط مثل هذا العدد الوفير الذي أراه في هذا المساء! ولكن مالي لا أرى البدر؟. . إنه ما يزال مطلا على البحر. . . ابتعدي عن الظل يامليزاند وانحني قليلا حتى أرى شعرك المحلول (تنحني مليزاند على النافذة)(17/78)
الكتب
عودة الروح بين العامية والعربية
- 1 -
أشهد أن الأستاذ توفيق الحكيم مؤلف متعب وكاتب ليس بالسهل ولا باليسير، وما عليك أن لم تلحق غباره أو تلم بجميع نواحيه، ويخيل إلي أنه كقمة افرست الشامخة ترسل إليها البعثات من آن لآن، ويرتادها الرواد من شتى جنباتها يحاولون الوصول إلى ذلك السمو وارتقاء ذلك الارتفاع الشاهق، ويهيئون لذلك الوسيلة ويأخذون للأمر أهبته وعدته، ثم يعودون ليكتبوا عنها المجلدات الضخمة ويضعون في وصفها الأسفار المسهبة. وما يزال أكثرها مجهولا في طي الخفاء، بعيدا عن الثابت من اليقين الذي لا يقبل الشك، وتضيع كل الجهود أمام ذروة هذه القمة هباء
أثارت (أهل الكهف) للأستاذ المؤلف ما أثارت، وأوسع لها النقد الرحاب وهتف لها اكبر الكتاب وأئمة النقاد في البلد، وارتفع توفيق الحكيم كالطود الشامخ في مثل لمح من البرق خاطف، وأصبح اسمه ملء الأسماع والأبصار، ولما يقدم الا رواية واحدة أو قل كتابا واحدا من مجموعة ضخمة يخايل بها الناس ويضن عليهم بها.
ثم نشر قصته (عودة الروح) فدلت على ناحية جديدة من نواحي كفاية هذا الشاب المؤلف، وعلى معين جديد يغرف منه توفيق الحكيم في حكمة ومهارة. ودقة واستنباط، لست تدري كيف تصفها ولا كيف تصورها، صورتها الحق من الجمال والفن
و (أهل الكهف) و (عودة الروح) كتابان جد مختلفين، فالأول قصة قديمة، أو قل أقصوصة دينية صاغها المؤلف في حذق ومهارة وأتى فيها بكل طريف مبتكر مما قدره النقد وجعله يرفع الكاتب لأول وهلة إلى عليين. لأنه لم يكن بد مما ليس منه بد. والثاني شد ما يختلف عن الأول كل الاختلاف ويفترق عنه في جوهره ولبابه، وإن شابهه في تفصيله وحبكه، فعودة الروح قصة مصرية، عريقة في مصريتها، كتبها توفيق الحكيم عن الأشخاص الذين تراهم كل يوم أو تسمع بهم مطلع كل شمس، فقدمهم اليك في صورتهم الحقة التي تعرفها، أو تحسها ولا تكاد تنكرها، بل ما تراها حتى تتعرف إليها وترى فيها الصورة الصادقة التي تتخيلها، وهي ليست الا أشخاصا من صميم المجتمع المصري أدار المؤلف قصته(17/79)
حولهم، وقدمهم اليك في لباقة ومهارة ونفث فيهم من روحه القوي المؤاتي. كما نفث في أهل الكهف من قبل، وإذا بهم أحياء يسعون ويتحركون، يتعاطون من ألوان الحياة ويعانون من ضروبها ما يمر بالكائن الحي كل ساعة وكل يوم، فإذا هم ليسوا تصوير المخيلة ولا هم القريحة بل أناس من لحم ودم، محببين اليك، مقربين منك، لأنك لا تجهلهم ولست بالغريب عنهم، بل لطالما رأيتهم وتحدثت إليهم وسمعت من أنبائهم وأخبارهم الكثير، وكل ما هناك أن المؤلف انتزعهم من اللحم والدم وضمنهم كتابا من أسطر وكلمات، ولكن ما نزع منهم الروح ولا حرمهم الحياة، فانهم ليحيون حياة موفورة ناضجة، بل انهم استمتعوا بدنياهم مرتين، مرة في الحياة الحقة ومرة بين جلدتي كتاب. وما ندري أي الحياتين كانت عليهم أجدى ولذكرهم أخلد وأبعد أثرا.
على أن (عودة الروح) أثارت لغطا وأثارت نقدا هجاها ونال أو حاول النيل منها. أو قل على الأصح أن لغة (عودة الروح) هي التي أثارت هذا اللغط وأثارت هذا النقد، فما قرأنا حتى اليوم كلمة هجاء أو قدح في الرواية ذاتها، ولعلها فوق أن يتناولها الناقد بالذات، أو أنها تسمو في صميمها عن اللغط، فما كان بد لمن أراد ذلك أن يتناول المظهر ويترك الأصل والجوهر، فلا يطرق بابا يعلم انه لا يستطيع ان يلجه في سهولة ولا في عسر، مهما جهد أو وسعت له الحيلة.
على أن هذا اللغط الذي أثارته القصة كان خليقا أن يثير مناحي من التفكير ليست في الحق جديدة، وليست مما لم يتناوله الكتاب بأقلامهم قبل اليوم، ولكنها تعاد اليوم في صورة رحبة فسيحة الجنبات، وتنتهز لها فرصة هي ولا شك أفشل الفرص وأقربها إلى خيبة المسعى، وأدناها إلى قطع الرجاء. وعندي ان أنصار العامية (وما أعرف موقفي منهم على وجه الدقة) ما كانوا يرحبون بفرصة عارضة كهذه الفرصة السعيدة، تثار فيها قضية العامية والعربية من جديد ويكون مثار النزاع ومركز الشجار حول (عودة الروح)
قرأت هذه القصة منذ شهرين فما طلعت شمس يوم الا وفي نيتي ان أكتب عنها، وما دخل ليل الا وقد هيأت الورق والقلم، ولكن تمر الأيام والليالي وأنا متهيب أو كالمتهيب أن آخذ في حديث عن هذا الكنز فأغفل عن درة من درره، أو تفوتني جوهرة من جواهره، أو كأني وقد شغلني حديث (أبطال القصة) محسن وسنية وسليم وعبده وحنفي وزنوبة ومبروك(17/80)
طوال هذا الزمن. استطبت الحياة مع هؤلاء الأصدقاء الجدد. واستعذبت حديثهم واسترحت إلى ما يعرضون عليّ من قصتهم وحوادثهم، وألوان شخصياتهم الطريفة البديعة، فنسيت معهم كل شي. أو حرصت على هذا النسيان ولم أشأ لنفسي ان أحرمها هذا الحلم الجميل، فطال وطال حتى لم يكن بد من يقظة ولو مؤخرة.
وكان لزاما عليّ أن أحدث القراء حديث هؤلاء الأبطال وما وقع لهم بالتمام والكمال. . . ولكن هذا اللغط الذي أثار حول لغة الرواية لم يكن ليمر دون أن يثير، كما قلنا، كثيرا من التأمل وكثيرا من التفكير، وكان أولى أن يتقدم فيه القول قبل ان ندلي برأي او كلمة في القصة نفسها، وإني لأسأل على دهش مني وعجب ليس بالقليل: أيهما أحق بالالتفات والنقد. . . المظهر أم الجوهر؟ الثوب أم لابسه؟ القصة أم لغتها؟
أفهم أن يتناول كاتب قصة، ينقدها ما شاء له النقد، ويمدحها أو يهجوها ما ساء له المدح او الهجاء. وما شاء له ذوقه الشخصي وكفاياته وإطلاعه ومقاييسه الأدبية، أفهم هذا وأستسيغه، وإذا ما انتهى الناقد من القصة ذاتها وشاء ان ينقد لغتها وأسلوبها من حيث اللغة نفسها فلا جناح عليه، بل لعله المقصر إن لم يفعل إن كان من الخبيرين بهذه الناحية المشهود لهم بالإحسان فيها، أما أن أدع القصة جانبا فلا أتناولها بخير ولا بشر، ولا أقول فيها كلمة لينة أو عسيرة، ثم أقفز قفزة، يالها من قفزة، فآخذ بتلابيب المؤلف لأنه كتب بالعامية ولم يكتب بالعربية، فهذا الذي لا يفهم ولا يستساغ ولا يكاد الإنسان يلوكه في فمه ويجد له طعما أو مذاقا
أيهما الأصل؟ القصة أم لغتها؟ وأعني اللغة التي كتبت بها القصة كائن حي خارج عن دائرة اللغة لانها أي (القصة) موجودة لها كيانها وذاتيتها كتبت ام لم تكتب، وهذه الحياة التي أحياها أنا وأنت وغيرنا من خلق الله لا يستطيع إنسان (على ما أظن) أن ينكرها، وليست هذه الحياة الا قصة من مئات الملايين من القصص، لا ينقص وجودها ولا يقل من ذاتيتها كتابتها باللغة العامية أو العربية أو الفرنسية أو الإنجليزية أو أية لغة من لغات العالم ولا أستثني الهيروغليفية، فقصة (عودة الروح) ليست الا احدى قصص هذه الحياة التي تزخر بالملايين من شبيهاتها فهل نمحوها من الوجود وننكر الاعتراف بوجودها لأنها لم تلبس لنا ثوب اللغة الفصيحة.(17/81)
وما قيمة هذه الحياة (هذه الحياة التي تتمثل في أقصوصة) إذا كنا لا نتعرف إليها ولا نعترف بها الا في اسموكنج أو الفراك؟! فإذا طالعتنا في زيها الحق، في ذلك الجلباب الفضفاض والسروال العريض أنكرناها ومررنا بها سراعا غير آبهين أو ملقين النظر؟ ان في حوانيت الحائكين آلافا من هذه البذلات الأنيقة الموشاة بالحرير والدمقس ولكن يعيينا أن تلمس في طياتها حياة أو في أردانها قصة؟! وما علينا بالله لو عنينا بالقصة في ذاتها فهي ليست مما يستطيعه كل إنسان وتركنا هذه البذلة وهي مما في مقدور كل حائك؟!
ما الأصل. . . القصة أم لغتها؟ وندور لنعود إلى سؤالنا الأول. القصة هي الموهبة وهي الخلق، أعني انها نتاج الموهبة وهي الثمرة أي الخلق الذي ينتهي اليه الفنان الموهوب، واللغة اكتساب وتحصيل وأنت واصل بالدرس والمران إلى هذه اللغة ولو طالت الشقة، ولكنك لن توجد من العدم موهبة ولن تخلق من العظام الرميم حياة ولن تهشم رأس إنسان لترفع عقلا سقيما وتضع مكانه عقلا خالقا ولو جهدت ولو استعديت كل قوى البشر، أفما كان الأجدر بك والأمر كما ترى أن تنظر إلى الموهبة لتقدرها قدرها أولاً ثم تنظر بعد ذلك في الاكتساب والتحصيل؟! وهل تحرم على هذا العامي الجاهل يأتيك من عرض الطريق بمحض الفطرة والعقل الخالق بما لا يستطيعه العالم الجهبذ بعد الجهد والإعياء؟! نقول هل تحرم على الأول الخلق لمجرد انه جاءك في ثوبه الطبيعي ولم يحاول أن ينمقه بيد الصناعة؟! وهل تأخذ عليه انه ينبيك الخبر كما وقع ويحدثك بالأمر على لسان أهله كما تحدثوا به؟
لست أتحدث هنا عن مذاهب الفن المتعددة فيما نحن بصدده، وقد أعلم أن الأستاذ توفيق الحكيم قد يحتج بانه ينقل الحياة كما هي ويرد عليه بان الفن ليس في نقل الصور نقلا فوتغرافيا وان يكن لهذا جماله ووقعه، وقد يحتج الأستاذ المؤلف بان أشخاص قصته لم يكن لهم ليتحدثوا غير هذه اللغة التي أراد الحوار عليها لأنها لغتهم الطبيعية، بل ولأن هذه هي اللغة التي تحدثوا بها بالفعل لا أكثر ولا أقل، ويكون من العسير أن تناقش المؤلف في هذا القول، لندع كل هذا الآن ولنحصر الجدل في قضية واحدة فإننا إذا تفرعنا بالقول هنا وهناك ذهب الاصل، واشتبكنا في فروع وفروع للفروع لا نهاية ولا آخر لها، وضعنا وضاع الحق بيننا. وهذه الدائرة التي نريد أن نحصر فيها القول يجمعها هذا السؤال(17/82)
ولنكرره للمرة الثالثة ولو أعدناه للمرة الثالثة بعد المليون ما ضجرنا.
أيهما الأصل. . . القصة؟ أم لغتها؟ إن كانت القصة هي الأصل وهي الجوهر وهي مدار الحديث وجب أن تكون عناية النقد موجهة إليها، وان كانت القصة القشور واللغة الجوهر فهذه مسألة أخرى.
ولنفرض يا سيدي ان لغة (عودة الروح) كانت هي الإنجليزية أو الفرنسية أو الفارسية، فماذا؟ ماذا بالله يا أبا الأسود الدؤلي؟ هل أخذت (احتكارا) باللغة العربية فما يكتب إنسان إلا بها ولا يدور حوار ما بين القطبين الا على أوزانها وضروبها ونحوها وصرفها؟ ولنفرض أن العامية من العربية كالفرنسية أو الإنجليزية منها أفلو أن توفيق الحكيم كتب (عودة الروح) بأية لغة من لغات العالم كنا نرفضها ونأبى ان نعترف لكاتبها بجهد أو فضل لمجرد انه كتب قصته بهذه اللغة أو بتلك؟ أفلا نقرأ القصص في لغات العالم فنعجب بها وهي ليست باللغة العربي؟ لست اسأل هازلا أو متندرا بل إني لجاد كل الجد، فإذا كنا نفعل ذلك فما بالنا نقف من قصة بالعامية هذا الموقف؟ ولنفرض يا سيدي أن توفيق الحكيم لا يعرف اللغة العربية أفنكسر هذا القلم الذهبي ونخرس هذا اللسان الحكيم ونقبر هذا العقل الخلاق لمثل هذا السبب؟ بل ولألف سبب مثل هذا السبب؟! وأي أديب سلمت لغته من الشوائب وها هو أحد أئمة النقد يصف أسلوب أحد أئمة الكتاب بانه لا يسلم من الابتذال وكاتب آخر ينال من كاتب معروف ويقول فيه ما لم يقل عشر معشاره في توفيق الحكيم؟!
وأيهما أجدى على الدنيا وأجدى على الأدب، كاتب ذخيرته ألفاظ وكلمات ام كاتب ملء أهابه الحياة وملء جعبته الدنيا يخرج لنا منها عقله الموهوب زادا دسما وطعاما لنا فيه شبع وري؟ لو اجتمع الكاتبان لكانا أمل الدنيا وأنشودة العالم فإذا لم تشأ حكمة أزلية الا أن تفرق بينهما فأيهما نأخذ وأيهما ندع؟
ان الأدب غاية، واللغة وسيلة، وحرام ان نهدم الغاية من أجل الوسيلة، ونغالي من قدر هذه الوسيلة حتى ليتعذر علينا بلوغ هذه الغاية
محمد علي حماد
(الرسالة): - كلام الأستاذ أشبه شيء بالدعابة، فان أكثره لا يجري على قواعد الأدب ولا أصول الفن، ولعمري كيف نستطيع أن نفصل المعنى عن اللفظ أو القصة عن اللغة أو(17/83)
الموضوع عن الشكل وليس لأحد منهما وجود فني في ذاته؟ فالقصة قبل أن تلبس اللغة لا تسمى قصة، والألفاظ قبل أن تؤدي المعاني لا تسمى لغة.(17/84)
العدد 18 - بتاريخ: 01 - 10 - 1933(/)
فرعونيون وعرب!
عفا الله عن كتابنا الصحفيين! ما أقدرهم على أن يثيروا عاصفة من غير ريح، ويبعثوا حربا من غير جند!! حلا لبعضهم ذات يوم أن يكون بيزنطيا يجادل في الدجاجة والبيضة وأيتهما أصل الأخرى! فقال على هذا القياس: أفرعونيون نحن أم عرب؟ أنقيم ثقافتنا على الفرعونية أم نقيهما على العربية؟! نعم قالوا ذلك القول وجادلوا فيه جدال من أُعطى أزمةَّ النفوس وأعنة الأهواء يقول لها كوني فرعونية فتكون! أو كوني عربية فتكون! ثم اشتهر بالرأي الفرعوني اثنان أو ثلاثة من رجال الجدال وساسة الكلام فبسطوه في المقالات، وأيدوه بالمناظرات، ورددوه في المحادثات، حتى خال بنو الأعمام في العراق والشام أن الأمر جد، وأن الفكرة عقيدة، وان ثلاثة من الكتاب أمة، وأن مصر رأس البلاد العربية قد جعلت المآذن مِسلات والمساجد معابد والكنائس هياكل والعلماء كهنة.
مهلاً بنو قومنا لا تعتدوا بشهوة الجدل على الحق ورويدا بني عمنا لا تسيئوا بقسوة الظن إلى القرابة أن الأصول والأنساب عرضة للزمن والطبيعة؛ تواشج بينها القرون وتفعل فيها الأجواء حتى يصبح تحليلها وتمييزها وراء العلم وفوق الطاقة. فاذا قلنا فلان عربي أو فرنسي أو تركي فإنما نعنى بهذا النسبة انطباعه بالخصائص الثقافية والاجتماعية لهذا الشعب كاللغة والأدب والأخلاق والهوى والدين فبديع الزمان عربي وأصله فارسي وروسو فرنسي أصله سويسري والأمير فلان تركي وأصله مصري لان كلا من هؤلاء الثلاثة اصبح جزء من شعبه ينطق بلسانه ويفكر بعقله ويشعر بقلبه فبأي شيء من هذا يتمارى إخواننا الجدليون وهم لو كشفوا في أنفسهم عن مصادر الفكر ومنابع الشعور ومواقع الإلهام لرأوا الروح العربية تشرق في قلوبهم دينا وتسري في دمائهم أدبا وتجري على ألسنتهم لغة وتفيض في عواطفهم كرامة. لا نريد أن نحاجهم بما قرره المحدثون من العلماء من أن المصرية الجاهلية تنزع بعرق إلى العربية الجاهلية فان هذا الحجاج ينقطع فيه النفس ولا ينقطع فيه الجدل:. . وكفى بالواقع المشهود دليلا وحجة هذه مصر الحاضرة تقوم على ثلاثة عشر قرنا وثلثا من التأريخ العربي نسخت ما قبلها كما تنسخ الشمس الضاحية سوابغ الظلال. . . وذلك هو ماضي مصر الحي الذي يصبح في الدم ويثور في الأعصاب ويدفع بالحاضر إلى المستقبل ثابت الأساس شامخ الذرى عزيز الدعائم.
أزهقوا أن استطعتم هذه الروح وامحوا ولو بالفرض هذا الماضي ثم انظروا ما يبقى في يد(18/1)
الزمان من مصر هل يبقى غير أشلاء من بقايا السوط وأنضاء من ضحايا الجور وأشباح طائفة ترتل (كتاب الأموات) وجباه ضارعة تسجد للصخور وتعنو للعجماوات وقبور ذهبية الأحشاء ابتلعت الدور حتى زحمت بانتفاخها الأرض وفنون خرافية شغلها الموت حتى أغفلت الدنيا وأنكرت الحياة؟ وهل ذلك إلا الماضي الأبعد الذي تريدون أن يكون قاعدة لمصر الحديثة تصور بألوانه وتشدو بألحانه وتحيا أخيراً بروحه؟ ولكن أين تحسون بالله هذه الروح؟ أن أرواح الشعوب لا تنتقل إلى الأعقاب ألا في نتاج العقول والقرائح، فهل كشفتم بجانب الهياكل الموحشة والقبور الصم مكتبة واحدة تحدثكم عن فلسفة كفلسفة اليونان، وتشريع كتشريع الرومان وشعر كشعر العرب؟ أم الحق أن مصر القديمة دفين فنيت روحه مع الآلهة، وصحائف موت سرها مع الكهنة، والخامد لا يبعث حياة والجامد لا يلد حركة؟!
لا تستطيع مصر الإسلامية إلا أن تكون فصلا من كتاب المجد العربي، لأنها لا تجد مدداً لحيويتها، ولا سندا لقوتها، ولا أساساً لثقافتها ألا في رسالة العرب. أمَّا أنْ يكون لأدبها طابعه، ولفنها لونه، فذلك قانون الطبيعة ولا شان لمينا ولا ليعرب فيه: لأن الآداب والفنون ملاكها الخيال، والخيال غذاؤه الحس، والحس موضوعه البيئة، والبيئة عمل من أعمال الطبيعة يختلف باختلافها في كل قطر. فإذا لم يوفق الفنان بين عمله وعمل الطبيعة، ويؤلف بين روحة وروح البيئة، فاته (اللون المحلى) وهو شرط جوهري لصدق الأسلوب وسلامة الصورة. وقديما كان لون الأدب في الحجاز غيره في نجد، وفي العراق غيره في الشام. وفي مصر غيره في الأندلس، دون أن يسبق هذا التغاير دعوة ولا أن يلحق به اثر! انشروا ما ضمنت القبور من رفات الفراعين، واستقطروا من الصخور الصلاب أخبار الهالكين، وغالبوا البلى على ما بقى في يديه من أكفان الماضي الرميم، ثم تحدثوا وأطيلوا الحديث عن فخامة الآثار وعظمة النيل وجمال الوادي وحال الشعب، ولكن اذكروا دائماً أن الروح التي تنفخونها في مومياء فرعون هي روح عمرو، وان اللسان الذي تنشرون به مجد مصر هو لسان مضر، وان القيثار الذي توقعون عليه الحان النيل هو قيثار أمرىء القيس، وأن آثار العرب المعنوية التي لا تزال تعمر الصدور وتملأ السطور وتغذي العالم، هي أدعى إلى الفخر وأبقى على الدهر، وأجدى على الناس، من صفائح الذهب وجنادل(18/2)
الحجارة. إنما تتفاضل الأمم بما قدمت للخليفة من خير، وتتفاوت الأعمال بما أجدت على الإنسان من نفع. أليس (الخزان) خيراً من الكرنك، والأزهر افضل من الأهرام، ودار الكتب أنفس من دار الآثار؟ وبعد فان ثقافتنا الحديثة إنما تقوم في روحها على الإسلام والمسيحية، وفى أدبها على الآداب العربية والغربية، وفي علمها على القرائح الأوربية الخالصة. أما ثقافة (البردى) فليس يربطها بمصر العربية رباط، لا بالمسلمين ولا بالأقباط
أحمد حسن الزيات.(18/3)
عدل السماء
للأستاذ حسن جلال. القاضي بالمحاكم الأهلية
الفرق بين عدل السماء وعدل الأرض هو بعينه فرق ما بين السماء والأرض. .!
فأما أهل الأرض فقد سلك كل منهم طريقا لتحقيق العدل في بلاده. فهذه دولة محاكمها تطبق قوانينها على الناس كما هو الحال في فرنسا وفى مصر. وتلك دولة أخرى تجري محاكمها على سنن الأحكام التي أصدرتها المحاكم من قبلها كما هو الحال في إنجلترا. وهؤلاء قوم لهم عادات مقررة وعرف موروث فتنعقد مجالسهم كلما دعا الحال لتحكيم تلك العادات وذلك العرف بين المتقاضين، وهذا هو شأن العرب المقيمين في مناطق الحدود المصرية. وأولئك قوم غيرهم يلجئون إلى السحرة والكهان للفصل في قضاياهم كما هو الحال عند بعض قبائل أفريقيا الوسطى. . . وكل هذه الهيئات إنما تجرى على النظام الذي اختارته، لأنها تعتقد أنه اكفل الطرق للوصول إلى العدل. وليس من شك في أن كلا من هذه النظم له نقائصه. ولكنه على كل حال آخر ما وصلت إليه الهيئة التي اختارته في سبيل تحقيق العدالة بين أفرادها. والخلاصة أن الإنسان لم يصل بعد إلى درجة الكمال في تشريعه، وانه بحاجة إلى موالاة الجهود في سبيل بلوغ هذا الكمال. والسؤال الذي يجيش بالنفس بعد هذه المقدمة هو: هل يستفاد مما سبق أن الظلم يملأ هذا العالم. وان العدالة فيه مستحيلة التحقيق؟ الواقع غير ذلك! بل أن المشاهد في معظم الأحوال أن العدالة محققة في هذه الدنيا. وان الناس راضون عن طريقة توزيعها بينهم. ومهما يكن من أمر الحالات التي يدل ظاهرها أحيانا على إنها لم تتوفر فيها عناصر العدالة فان (عدل السماء) غلاب. وهو الذي يتولى في هذه الحالات إقامة الميزان بين الناس. وما ربك بظلام للعبيد!
حدثني أحد الزملاء المحامين قال: وقعت جناية قتل في البلدة التي أعمل فيها، واتهم في تلك الجناية شاب من خيرة شبانها. ينتمي إلى أسرة من كبار الأسر فيها. فجاءني عمه يوكلني بالدفاع عنه. وأقسم لي أغلظ الأيمان أن أبن أخيه بريء وان أهل القتيل اتهموه لضغينة قديمة بينهم وبين أسرته، وإن القاتل معروف في البلد. وإن أهل القتيل هم أول من يعرفه. ولكنهم إمعاناً في الانتقام يريدون أن يأخذوا في قتيلهم رجلين. . واحداً يأخذه لهم القضاء بحكمه. وواحداً يقتصون منه بانفسهم كما هي العادة عند معظم أهل الصعيد. ولما(18/4)
كان القاتل الحقيقي هينا عليهم فإنهم استبقوه لأنفسهم وتركوا أمر هذا الشاب للقضاء. قال صاحبي: فلما وقفت على هذه المعلومات حفزني الأمر إلى مضاعفة العناية بالقضية. فاطلعت على أوراقها بكل دقة ويقظة، فوجدت أدلة الاتهام فيها قوية ناطقة. ورأيت جملة من شهود الإثبات تطابقت أقوالهم في محاضر التحقيق، وقد عجز المحقق عن أن يحدث ثغرة فيهم تدل على تلفيقهم. إذ قرروا جميعاً انهم رأوا المتهم وهو يطلق النار على القتيل. وانهم شاهدوه عقب ذلك وهو يفر. ووصفوا اتجاه سيره أدق وصف، ونوقشوا في ألوان ملابسه وفى نوع سلاحه وفى غير ذلك من التفصيلات فكانت أقوالهم دائما واحدة لا تحريف فيها ولا تبديل! إزاء ذلك استولى اليأس على صاحبنا المحامى، ولم يبق له من القوة على الدفاع ألا قوة يقينه هو بان المتهم بريء بناء على تأكيدات عمه. . وحل موعد المحاكمة فتوجه إلى المحكمة. ونودي على القضية، وسئل المتهم عن تهمته فأنكرها بكل شدة. وسمعت أقوال الشهود فاذا هي نفس أقوالهم في التحقيق. فترافعت النيابة فقالت أن القضية لا تحتاج إلى نور جديد وأن أقوال الشهود قاطعة في الإدانة. ونهض الدفاع وحاول أن يثير ما استطاع من الشكوك حول موقف المتهم، ولكن الحكم صدر في النهاية بمعاقبة المتهم بالأشغال الشاقة المؤبدة. . . عاد المحامى في ذلك اليوم إلى مكتبه مكتئبا حزينا على ما حل بهذا الفتى التعس. ولقيه هناك عمه فألفاه على هذه الحال. فابتدره المحامى بالسؤال عن كيفية اتفاق الشهود على كل تلك التفصيلات التي شهدوا بها أن صح ما يدعيه هو من انهم ملفقون. فقال له الرجل: أن الشهود قد شاهدوا القاتل الحقيقي فعلا وهو يرتكب جريمته. واتفقوا فيما بينهم لارتباطهم بأسرة القتيل على أن يرووا كل ما شاهدوه ولكن منسوبا إلى المتهم الحالي بدل أن ينسبوه إلى فاعله الأصلي. ومن هنا جاءت أقوالهم كلها متطابقة، لأنهم إنما يقرون من الوقائع ما وقع فعلا تحت سمعهم وبصرهم! وهنا يقول صاحبي أن ثورة عنيفة أدركت نفسه ضد هؤلاء المزورين الذين تمكنوا من مخادعة القضاء إلى هذا الحد، والتوسل به إلى إنزال العقاب الذي يشاءون على من يشاءون. ولكنه آنس شيئاً من الاستسلام غير عادى يغلب على نفس عم المتهم، بينما هو يعانى من ثورة النفس شدتها وغليانها. فلم يكتم صاحبه ما يجول بخاطره. وهنا رفع عم الفتى رأسه وقال: الحق يا أستاذ أن الفتى يستحق العقاب الذي أنزله به القضاء فسأله المحامي في دهشة:(18/5)
وكيف يتفق ذلك مع ما قدرته الآن من أنه لا يد له في هذه الجريمة؟ فقال الرجل: إنه وان كان لا يد له حقيقة في هذه الجريمة ألا انه في الواقع هو الذي قتل (فلانا) من أهل البلدة المجاورة لبلدتنا، ولكنه ظل أمره مجهولا من رجال الحفظ حتى هذه الساعة! فإن كان القضاء قد أدركه اليوم فإنما هو (عدل السماء) قد حققته قدرة الله الذي هو من وراء كل شيء محيط، وبما تخفى كل نفس عليم!(18/6)
في الخريف
كل شيء في الكون ران وقرا ... وسرى في جوانح النفس سحرا
أسفر الجو وانجلت صفحة الأف ... ق وفاحت مناكب الأرض نشرا
في ربوع يطول عمر شتاها ... إذ يوافي ويقصر الزهر عمرا
نحمد الشمس يوم تطلع فيها ... بضياء، ونحمد الله عشرا
رف فيها الخريف حسنا وطيباً ... فتسامى على الربيع وأزرى
نفضت نومها الحياة وقامت ... بعد طول الحجاب ترفع سترا
أبرزت من جمالها وحلالها ... كل سر فما تكتم سرا
ذهبت تنثر الجمال فلم تس ... تثن في الماء أو على الأرض شبرا
نثرته بلا نظام فأرضى ال ... فن فوضى واعجب العين نثرا
أودعت سحرها هواء وحصبا ... ءً وماءً يسرى وعشباً وصخرا
يسرح الطرف حيث شاء فما يس ... رح ألا من فتنة صوب أخرى
مزج حسن ورقة وبهاء ... الفته لونا وضوءاً وعطرا
هو في العين ما أرقّ وأندا ... هـ وفي الصدر ما ألذّ وأطرى
ترتوي الروح منه نهلاً وعلا ... فهي نشوى أنى تنقل سكرى
كست الأرض خضرةً وتغشت ... ربوةً ربوة ًوغوراً فغورا
فزكا النبت في تلاع وقيعا ... ن توالى في الأفق طياً ونشرا
راق منه ما تهادى على الأر ... ض نديا وما تشامخ كبرا
وذكاء وسط الفضاء توارى ... خلف غيم يمر في الجومرا
ثم تبدو فتغمر الكون إينا ... ساً إذا الغيم عن سناها تفرى
في سماء نقية تاخذ العي ... ن إغتراقاً وتفعم الكون بشرا
معرض النور سرت فيه الهوينى ... مطلقاً في الخيال نفسي حيرى
تتملى بدائع الكون أو تن ... ظم في صفحة الخواطر شعرا
عند نهر عذب التسلسل ماتا ... بعته بالمسير ألا اسبطرّا
حفه العشب كاسياً ضفتيه ... مطلعاً حوله قتاداً وزهرا
أرسل العين تجتلى الحسن صفواً ... أو تقصى من سالف العمر ذكراً(18/7)
فهي في مسرح الطبيعة جذلى ... آنة أو مع التذكر عبرى
ورفيقي في السير سفر بكفي ... لم أطالع مما يحدث سطرا
من تهادي سفر الطبيعة مبسو ... طاً إليه فكيف يحفل سفراً؟
فخري أبو السعود. أكسترا. إنجلترا.(18/8)
ثروة تضيع
للأستاذ أحمد أمين
هي ما خلفها لنا الجيل الماضي القريب، وتسلمناها منه يداً بيد، ولست اعني ما خلفه من شعر ونثر وكتب في مختلف العلوم والآداب، فهذه قد حفظناهاونشرنا بعضها وعنينا بها إلى حد ما، إنما أعنى ما صدر عنهم من قول وعمل، وما كان يدور في مجالسهم من حديث طريف أو نافع، وما وقع لهم من أحداث، وكيف تصرفوا فيها، وأنماط مجالسهم وأحاديثهم ومجتمعاتهم، ونحو ذلك مما يدلنا على حقيقة شخصيتهم، ويفيدنا في تعرف مجتمعهم، ويعين المؤرخ بعد على رسم صورة صحيحه صادقه لحال المجتمع في ذلك العصر وقدر نابغيه كان لعلى باشا مبارك (صالون) كبير في بيته بشارع المضفر يغشاه عظماء الرجال والشبان وطلبه المدارس. وكان يدور فيه كل ليله من ألوان الحديث وشتى المقترحات ما ينبغي أن يسجل، ومثل ذلك في منزل عبد الله باشا فكري ومحمد باشا قدري ورفاعه بك ومثالهم، وكان نوع أحاديثهم ومباحثاتهم شيقاً ممتعا يصور عصرهم خير تصوير، ثم كان صالون كصالون الأميرة نازلي هانم (بعابدين) يختلف إليه قاده الفكر وعظماء الرجال في العصر القريب، يتحدثون فيه عن الشرق والغرب، وتثار فيه أفكار لها قيمتها وخطرها، وكان نمطهم في أحاديثهم يخالف ما كان عليه رجال على باشا مبارك وأمثاله. وكان غير هذه الصالونات مجتمعات وأحاديث ونوادر وفكاهات في البيئات المختلفة من بيئة فلسفيه كبيئة السيد جمال الدين، أو دينية اجتماعية كبيئة الشيخ محمد عبدة، أو فكاهية كبيئة الشيخ حسن الآلاتي، أو بيئة المغنين أمثال الحامولي ومحمد عثمان، وكان يجري في جميعها أقوال وأفعال هي أدل على الذوق المصري والخلق المصري من كل ما خلفوا من مؤلفات ومجلات وصحف. هذه الثروة التي لا تقدر، آخذه مع الأسف الشديد، في الضياع، وليس يدون منها فيما أعلم شيء يذكر، واكثر الذين عنوا بترجمة هؤلاء الرجال أساءوا إليهم والى التاريخ كل الاساءة، اذكانت ترجمتهم (ترجمة رسمية) اقتصروا فيها على اسم المترجم له والمولد وتاريخ الولادة، والمعاهد التي تعلم فيها والأعمال التي تولاها، والكتب التي ألفها وغير ذلك مما يعد من الأغراض، فأما الجوهر، واما شخصية الرجل، وأما حياته الاجتماعية التي تدلنا على من هو من قومه، ومن هو في نفسه، فلا يعرضون لها بشيء.(18/9)
وقد كان السابقون الأولون على تقدم عصورهم، اصح نظراً، وأحسن أداء، وأوفى للتاريخ فبين يدي الآن جزء من كتاب الأغاني فتحته حيثما اتفق فوقع نظري على ترجمة إبراهيم الموصلي، فذكر نسبه ونشأته، وذكر حكايات عدة حدثت له مع غلمانه وجواريه وأصحابه، وما وصل إليه من الأموال وما ورثه أهله، وأحاديث عن مروءته، وأحداثا حدثت له مع الرشيد ويحيى بن خالد، وكيفية تعليمه الغناء للجواري، واتصاله بالخلفاء وسيرته معهم، وعدد الأدوار التي غناها، وعشقه ومن عشق، وأثر أصواته في الناس، إلى آخره مما يستطيع الأديب أو المؤرخ أن يضع له صورة دقيقة تمثله، ويضع لمجتمعه رسماً واضحاً يبينه، وبين يدي كذلك الجزء الأول من كتاب جامع التواريخ المسمى (نشوار المحاضرة) للتنوخي، يقول في سبب تأليفه: انه قد اجتمع قديماً مع مشايخ فضلاء، علماء أدباء، قد عرفوا أحاديث الملل، وأخبار الملوك والدول، وأحاديث البخلاء والظرفاء، والعلماء والفلاسفة، والأغبياء وقطاع الطرق والمتلصصين، (وعدد كل أصناف الناس)، وكانوا يوردون كل فن من تلك الفنون على حسب ما تقتضيه المحادثة، وتبعثه المفاوضة، فلما تطاولت السنون، ومات المشيخة الذين كانوا مادة هذا الفن، ولم يبق من نظرائهم ألا اليسير الذي إن مات ولم يحفظ عنه ما يحكيه، مات بموته ما يرويه، عمد من أجل ذلك إلى تدوين هذه الأحاديث في كتابه، والتزم أن يذكر فيه فقط ما يدور في المجالس مما لميذكر في كتاب ويقرؤه القارئ فيجده يصور عصره أجمل تصوير، وكتب الجاحظ لم تترك صغيرة ولا كبيرة من أخبار عصره وأحداثه، الاجتماعية من الخصيان والغلمان، والبخلاء والظرفاء، والنبات والحيوان، ألا أحصته وشرحته في دقة وإسهاب، ومالنا نذهب بعيداً والعصر الذي نسميه مظلماً أنتج مثل (الجبرتي) الذي دون من الأحداث وتاريخ الرجال في عصره ما لم نفعله نحن لعصرنا أما كتبنا نحن فقد عمدت إلى خيرها وأخرجت منه ترجمه رفاعه بك، فوجدته يسرد ولادته وتاريخها والمدارس التي دخلها ورحلته إلى أوربا، والوظائف التي تولاها بعد عودته، وأسماء الكتب التي ألفها أو ترجمها، وسنة وفاته ولكنك تتساءل بعد قراءتها: من رفاعه بك؟ ما معيشته الاجتماعية؟ ما شخصيته؟، ما علاقته بقومه؟ فلا تجد شيئاً من ذلك. هذا حال رفاعه بك الذي ملاْ اسمه كل مكان، فما بالك بأمثال المغمورينظلماً، أمثال الشيخ حسن الطويل والشيخ حسين المرصفي وأمثالهما بل بالأمس القريب مات(18/10)
حافظ إبراهيم، وكانت حياته الاجتماعية أغنى ما تكون حياة، كل ليلة، يغشى جمعا أو يغشى بيته جمع، فيملاْ المجلس بأحاديثه العذبة، وفكاهته الحلوة، وهى في كثير منها تفوق ما دونه الأقدمون من ملح ونوادر، ولعلها أن جمعت ودونت أفادت تاريخ الاجتماع اكثر ما يفيده ديوانه، ومع هذا لم ينشط أحد لتدوينها، ولم يلتفت لقيمتها، وسيعفى عليها الزمن الذي عفى على ملح المويلحي والبابلي، وفي ذلك خسارة لا تقدر. ولقد حدثت بعض الأدباء في ذلك ورجوته في هذا العمل، فاعتذر بأن أكثر النوادر إنما تحسن ذا أديت باللغة العامية، وتفقد قيمتها إذا حكيت باللغة الفصحى، ولكن ما هذا الكبر على اللغة العامية، والسابقون من أعلام الأدب لم يكونوا يتحرجون من ذكر النادرة الحلوة باللغة العامية، إذا لم يحسن الأداء إلا بها، كما فعل الجاحظ في البيان والتبيين، وابن زولاق في أخبار سيبويه، والابشيهي في المستطرف. أن في ذمتنا للجيل القادم عهداً أن نسلم إليه تاريخه كاملاً متصل الحلقات كما تسلمناه، فاذا نحن لم نفعل فقد أضعنا الأمانة وخنا العهد، وفينا بحمد الله رجال شهدوا الجيل الماضي، وكان لهم من المنزاة ما استطاعوا معها أن يخالطوا البيئات المختلفة، ويطلعوا على خفاياها ودخائلها، ولهم من الذكاء وحسن النظر وصدق الرواية وقوة الحافظة وبلاغة اللسان والقلم، ما يمكنهم من الأداء على أحسن وجه، أمثال الهلباوي ولطفي السيد في نوع من الأوساط، والنجار والسكندري في نوع آخر، والسيد محمد الببلاوي وكبار علماء الأزهر في أوساطهم، وهكذا، فهل يشاركوننا في الشعور بما لديهم من ثروة حافلة، وفي الشعور بما عليهم من تبعة، فيقدمون للجيل الحاضر والقادم أثمن عمل تاريخي؟ فأن لم يفعلوا فهل للشبان أن يدركوا قيمة ما عندهم فينشطوا للاتصال بهم، وتدوين ما يأخذون عنهم، قبل أن تضيع الثروة، وتفلت الفرصة، أطال الله في أعمارهم.
العام الدراسي الجديد
مما أملاه علينا أساتذتنا في دروس التربية انه كان الغرض من إنشاء المدارس في مصر أعداد الموظفين الذين تحتاج إليهم الحكومة في دواوينها.
فلهذا أنشئت وعلى هذا كان نهجها. ولقد نجحت مدارسنا في ذلك نجاحا مشكورا.
تخيلت لها الحكومة الموظف الذي ترجوه. فأعدت المدارس للحكومة التلميذ الذي يكون منه ذلك الموظف، تخيلت الأولى في موظفها أن يكون في عمله من غير بصر ولا سمع ولا(18/11)
إحساس، فجاءت الثانية إلى عين التلميذ ففقأتها. والى أذنه فاصمتها. والى إحساسه فأماتته. حتى أنه ليسير في طريقه على أعين الناس وأفئدتهم، وبين أنينهم وعويلهم ثم تسأله: ماذا رأيت أو سمعت؟ فلا يكاد يذكر لك شيئاً. ذلك لأن مدرسته أخذته بالانقطاع عن كل شيء مهما صادفه. وهو يرجو أن يكون عندها محمودا.
تخيلت الأولى في موظفها حينذاك أن يكون غمرا خاملا جبانا، يرى في رئيسه ما يراه الجهلاء في آلهتها. فجاءت الثانية بحولها وطولها تفرغ فيه كل هذه، إفراغا، مرة باسم الأخلاق! وأخرى بالقهر والعسف. حتى تم لها ما أرادت، وأمتعت تلك الحكومات بهذا النوع من الموظفين. والآن وقد غصت الدواوين بالموظفين وفاض المتخرجون في المدارس، حتى أصبحوا عيالاً على ذويهم. وكلاّ على أهليهم إلا القليل منهم ممن اشتغل بعمل ما كان يخطر له على بال. فهل آن لرجال التربية والتعليم أن يعلنوا انقضاء أجل ذلك الغرض. وينادوا بالغرض الصحيح الذي يقّوم الأخلاق والعقول والأجسام ليأخذ الأبناء قسطهم من الحياة كاملا، ويؤدوا ما عليهم لبلادهم أحسن أداء؟؟ ذلك ما ننتظره.
إيرادات الدقهلية. إبراهيم مصطفى ناصف(18/12)
الرسالة الثانية:
من الأستاذ توفيق الحكيم إلى الدكتور طه حسين
عزيزي الدكتور
قرأت الرد، ومرة أخرى أتأمل ما بيمينك. هذه العصا عجيبة التركيب، إنك لا تلمس شيئاً حتى ينقلب إلى الحق، حق كبير يبتلع كل رأي، ويلقف كل حجة. تلك عصا الأستاذية. ما كنت اجهل أنك حاملها في هذا العصر. نحن متفقان. ولا خلاف بيننا في الغاية. وهو مطلبنا. هنالك تفاصيل افترق فيها عن الدكتور ولن أعود اليها. فأنا أفزع من النظر إلى الوراء، خشية أن أتحول إلى تمثال من الملح، أو حتى إلى تمثال من الذهب. نفسي تصدف أحيانا عن الفكرة الجامدة مهما تكن خالدة، ويحلو لي أحيانا أن انثر الأفكار عابثا من نافذة قطار. أن رسائلنا في حقيقتها لا تعني أكثر من إثارة الغبار في أرض ناعمة مفروشة بالحصى. لسنا نصدر أحكاما بهذه الكتب السريعة. إنما نحن نطرح مسائل ونلقى بفروض سوف يلتقطها ويجمعها الباحثون المنقطعون يوم تستيقظ الأجيال. اتفقنا إذن. أو ينبغي لنا أن نتفق على أي حال، حتى ننصرف إلى شيء جديد. أن البحث عن الجديد هو الخليق عندي بالمجهود. ولقد فتح لنا اليوم باب الجديد الأستاذ احمد أمين. قال لي ذات مساء أنه يضع كتابا في أصول النقد، ويود أن يوليني شرف المشاركة في البحث من بعض وجوهه. النقد؟ لفظ رن في أذني. وذكرت للفور أن رسالتي الأولى للدكتور كان موضوعها (الخلق). وقلت في نفسي ما يمنع من إتمام الكلام في رسالة ثانية يكون موضوعها (النقد) وإذا الأمر ينكشف لي عن قضية كبيرة: أنعد النقد كالخلق خاضعا لسلطان التيارات الفكرية الثلاثة التي ذكرها الدكتور: التيار المصري القديم، والتيار العربي، والتيار الأوربي؟ أم نعد النقد كالعلم لا يخضع لمثل هذه المؤثرات؟ أما أنا فلن أجيب عن فوري عن هذا السؤال. فأنا أكتب ولا أدري أين يحط بي القلم. دعني أولا أنشئ على هذا النغم بعض (تقاسيم) دون أن أعني الآن بالغاية. أن الغاية أحيانا رخيصة بجانب الوسيلة على الأقل في نظر الفن. لأن الغاية في الفن لا تبرر الوسيلة. الحياة كذلك، تلك القطعة الفنية التي أبدعها الخالق، أهي شيء غير وسيلة متينة التكوين؟ ألها معنى في غير ذلك الطريق المبين الذي أوله ضباب وآخره ضباب؟ خط هندسي رسم على لوح الوجود، كيف أبتدأ، كيف انتهى؟ لا يعنى ذلك(18/13)
علم الهندسة. انه خط بين نقطتين وكفى. ليس لنا أن نسأل عن غاية الحياة، ولا عن غاية الفن، ولا عن غاية العلم. أن الغاية لا تهم. إنما المعنى كله في الوسيلة. الحياة هي الطريق. العلم هو الطريقة. الفن هو الأسلوب. أما الغاية فلا غاية. وهل يترجى من العلم أو من الفن أو من الحياة غاية مطلقة يوما من الأيام؟ محال. ما نحن ألا أسلوب الخالق. ما الكون ألا أسلوب. الأسلوب كل شيء عند كل خالق وفي كل خلق. أن الخالق اعظم من أن يحبس إرادته الخالدة في حدود، غاية، لفظ يدل بذاته على معنى الانتهاء. في اعتقادي أن كلمة (غاية) هي من صنع العقل البشرى الصغير. هذا العقل المحدود الذي يضع كل شيء دائماً داخل حدود، ويأبى ألا أن يكون لكل شيء أول وآخر. إنما الخلود في الأسلوب. لأن الأسلوب لا أول له ولا آخر، فهو شيء كائن دائماً، لا علاقة له بالزمن. أن رجل الفن، وهو المقلد الأصغر للمبدع الأكبر، يدرك أن الفن لا يعيش بالغاية. لأن الغاية فانية كاسمها. وانما يعيش الفن بالأسلوب. لقد انقضت الغاية من تشييد الأهرام، وفنيت الغاية من بناء البارتينون. دفن الموتى أو عبادة الآلهة الغابرين غاية قد ماتت وبقى أسلوب الفن وحده خالداً في الأهرام والبارتينون. خدمة الإنسانية غاية العلم في نظر البسطاء. لو سئل عالم في ذلك لابتسم: (مالي وللإنسانية! إنما أنا أبحث عن سر أسلوب الصانع الأعظم. إنما هي لذة البحث وحدها. إنما هي طريقة البحث وأسلوبه. ولولا ذلك السرور الذي يملأ نفسي إذ ينكشف لعيني الباحثة عن جمال أسلوب الله لما تجشمت النصب في سبيل العلم، ولما كان للعلم هذا المعنى الرفيع.) المخترعات كذلك ليست غاية العلم. هي تطبيق للعلم. إنما العلم هو البحث الخالص المجرد عن كل غاية وعن كل استغلال. لقد كان الإغريق يبحثون ولا يطبقون. فيثاغورس مثل من أمثلة الأسلوب الخالد للعلم الخالص. الأسلوب إذن هو محور النقد كما هو عماد الخلق، وكلمة الأسلوب رحبة عميقة كالبحر، في جوفها كل كنوز المعرفة التي يصبوا اليها البشر. ولعل كل ما أوتيه الإنسان من سليقة سامية منذ أول الأزمان ليس ألا انعكاس أسلوب الخالق في نفس الإنسان. هذا المنطق الذي نشأنا عليه، ونرجع إليه في كل حياتنا، هذا الإحساس بالنتيجة والسبب، هذا الشعور بالتناسق والتناسب، هذا الإدراك للصلة التي تربط الشيء بالشيء، من أين جاءنا هذا نحن البشر؟ أهناك مصدر آخر غير أسلوب الخالق؟ فتحت البشرية عينيها فالفته حولها. فهو موجود(18/14)
قبلها وقبل الخليفة كما يوجد الرسم والتصميم قبل البناء. أن أسلوب المبدع في صنع الخليقة هو وحدة المنبع الأزلي لهذه الصفات كلها: المنطق، ارتباط السبب بالنتيجة والشيء بالشيء. والجزء بالكل، والتناسق والتناسب. صفات هي بعينها صفات الأسلوب السليم لكل عمل فني عظيم. أسلوب الله هو المعلم الأول والأخير. وما أول صورة رسمها الإنسان على الأحجار وعظام الحيوان سوى إعلان شعوره الخفي بتلك الصفات، أن رجل الفن الأول هو أول إنسان عرف (المنطق) صفة فنية بعد أن كان المنطق سليقة سامية تسبح في أنحاء نفسه ولا يعرف ما هي. أن المنطق الذي شيد الأهرام صورة محكمة لهو المنطق الذي شيد الكون. ما المنطق؟ ما معنى المنطق؟ سره في تلك المرآة العظيمة الصافية التي تحيط بنا كالجدران: الوجود، أجمل مثال للمنطق في الأسلوب ينبغي لرجل الفن والأدب والعلم أن يطيل فيه النظر. كل شيء في هذا الوجود مصنوع على طريقة واحدة وعلى قاعدة واحدة. ما القاعدة التي بني عليها الوجود؟ هي القاعدة التي بنيت عليها الأهرام. هي قاعدة كل بناء: التماسك بين الأجزاء في كل واحد متسق. هذا التماسك ما علته وكيف يكون؟ قانون أستطيع أن أفرغه كما يفعل الرياضيون في صيغة بسيطة من لفظين: (الأخذ والعطاء). كل شيء في هذا الوجود يحيا على نمط واحد. وكل حياة في هذا الوجود لها مظهر واحد: اخذ وعطاء في حركات متصلة متشابهة: زفير وشهيق عند الإنسان والأحياء، اكتساب وإشعاع عند النجوم والأشياء. الأخذ والعطاء قانون التماسك والاتصال في حياة الفرد والمجتمع والأمة والأمم. وفى حياة الأخلاق والسياسة والاقتصاد. وفي حياة المادة والروح. وفي حياة الأرض والأجرام والسدم. ليس في الوجود شيء لا يأخذ ولا يعطى. وليس في الوجود شيء يعطى ولا يأخذ. كل شيء يعتمد على كل شيء في هذا الكون. بنيان مرصوص يشد بعضه بعضا.
وكل خلق بنيان. ولا بنيان بغير وحدة شاملة، ولا وحدة شاملة بغير تضامن بين الحجر والحجر، وبين الجزء والجزء. هذا التضامن وليد ذلك القانون: (الأخذ والعطاء) وليس هذا كل المنطق في صنع الوجود وانما المنطق في تركيب ذلك القانون. ما قوام الأخذ والعطاء؟ هل يكون اخذ وعطاء إلا بين كائنات متشابهة؟ ما الحال لو أن الخالق أبدع في وجودا آخر على أسلوب آخر، فصنع أناسا يعيشون بالزفير ولا يعرفون الشهيق، ومخلوقات تأكل ولا(18/15)
تصرف، وأجراما تكتسب الحرارة والضوء ولا تشع؟ أي اتصال يمكن أن يقوم بين كائنات خلقت على غير أسلوب واحد؟ لا اتصال، وحيث لا اتصال لا بناء. لا خلق ولا بناء. أي اتصال بيني وبين أخي وابني لو أن الخالق صنعني من عناصر غير عناصرهما فجعلني من يابس ورطب وجعلهما من نور ونار وغاز وبخار؟ أي ارتباط لو انه جعل كل مخلوق منفردا بمادته وهيئته وعناصره عن كل مخلوق. وأي هرم يمكن أن يشيد بأحجار، أحدها من صخر، وآخر من عجين، والثالث من ورق، والرابع من طين؟ لا ارتباط من غير تشابه وتماثل. ولا تضامن بين أجزاء غير متجانسة في التركيب. إن كل ما نحس بوجوده يتحد معنا في بعض العناصر. بغير هذا ما كنا نعترف له بوجود. إنا نعرف الأجرام لأن أجسامنا تعرف الحرارة والضوء والحديد. التشابه شرط الأخذ والعطاء. الاختلاف كذلك شرط آخر. هل يقوم آخذ وعطاء إلا بين كائنات مختلفة؟ ما الحال لو أن الخالق صنع كل شئ ككل شئ، فجعل كل رجل ككل رجل، وكل جرم ككل جرم؟ طبع واحد، ومنظر واحد، وحجم واحد. أليس هذا التشابه المطلق ينفي الشخصية؟ وحيث لا شخصية فلا أخذ ولا عطاء، ولا تماسك ولا اتصال، وهل من صلة بيني وبين غيري إلا الاختلاف شخصه عن شخص وما عنده عما عندي؟ وهل رابطة الأجرام إلا اختلافها في الأحجام؟ الجاذبية، الحب، هل علتهما اختلاف النسب في القوى والأشكال؟ أن مثل هذا الكون المتماثل لا يمكن كذلك أن يشيد أو يوجد. مثله مثل قصة تمثيلية أشخاصهم لهم عين الاسم والجسم والطبع والحظ، يتكلمون عين الكلام، ويتحركون عين الحركات، ويتصرفون عين التصرفات! أي علاقة يمكن أن تنشأ بين هذه المخلوقات؟ وهل يشعر أحدهم بوجود الآخر؟ وهل يدرك أحد منهم معنى كلمة (أنا)؟ لا بد من بعض الاختلاف بين الكائنات حتى يتميز كل كائن من الآخر. ومتى تميزت الأشخاص والأشياء والأجزاء نشأ بينها الأخذ والعطاء، سر تماسك في كل بناء. . . ها هنا إذن قوام التناسق: (التشابه لا كل التشابه، الاختلاف لا كل الاختلاف!) بيتهوفن الذي كشف لي منذ ست سنوات عن سر التأليف بين صوتين في عين الوقت. لاحظت انه يجمع بين صوتين متشابهين لا كل التشابه مختلفين لا كل الاختلاف. وأدركت انه لا تناسق بغير هذا. فلو انه جعل الصوتين متشابهين كل التشابه لفنى أحدهما في الآخر. وما يميزنا شيئاً غير صوت واحد. ولو انه جعلهما مختلفين كل(18/16)
الاختلاف لاستحال على الأذن أن تصل بينهما وهما متباعدان متنافران. فأساس (التناسق) في الموسيقى والفن كأساس التناسق في الحياة والكون: ائتلاف بين الأجزاء لا كل الائتلاف واختلاف بينهما لا كل الاختلاف. ملاحظة أخرى داخل القوسين: كلامي عن المصرية والعربية في رسالتي الأولى ليس ألا رغبة مني في فرز خصائص أمم هذا العالم العربي الذي أخشى انحلال آدابه إنما الحب والتضامن في اختلاف ما عندنا عما عند إخواننا الجيران بعض الاختلاف. إن التشابه مضمون باللغة الواحدة والتراث الواحد. فليبحث كل منا عن شخصيته المميزة في ماضيه الطويل بأكمله. المصري في مصر القديمة وما بعدها من عصور. والسوري في فينيقيا وما بعدها. والعراقي في بابل وما بعدها وما قبلها من تواريخ الخ الخ. . . كل يستخرج من بطن الأرض التي يحيا عليها كل محاسن طبيعتها وكل كنوز ماضيها. أن الفن أبن الأرض. الولد للفراش والفن للأرض. أني أقول بالمصرية والعراقية والسورية الخ الخ لا للانفصال بل للاتصال، لا للتعصب بل للحب. أن اليوم الذي تزهو فيه لكل منا شخصية قوية هو اليوم الذي يكثر فيه التعامل بيننا والارتباط. أما فناؤنا جميعا في شخصية العرب الغابرين فأمر لا يمكن أن يكون، لأنه مخالف لطبيعة الأشياء. أن لكل ارض صفات من التاريخ سابقة على عهد العرب. ماذا نفعل بهذه الصفات؟ أنمزقها كما يصنع البرابرة المتوحشون أم نطالعها ونستخرج منها ما يفيد الإنسانية؟ لا بد أن يكون لكل ارض لون. ولكل ارض اسم ورسم وجسم. ولقد كان الأمر كذلك حتى أيام دولة العرب. فكانت الشام غير العراق غير مصر غير الأندلس. والفن والشعر والأدب اظهر دليل على وجود الفروق الجلية، وعلى صدق ذلك القانون: تشابه بين تلك الأقطار لا كل التشابه. واختلاف بينهما لا كل الاختلاف. فكيف يكون الأمر غير ذلك؟ ونغضب إذ تكون هناك مصر وهناك شام وهناك عراق؟ مثل ما كانت دولة العرب أمس. ينبغي للعالم العربي اليوم أن يكون: (وحدة شاملة وكتلة بنيان في شئون السياسة والذود والدفاع، وشخصيات منوعة الألوان في شئون الفن والخلق والإبداع.) جملة القول عندي أن أسلوب الله في صنع الكون هو وحده منبع الفن، هو وحده مصدر ذلك الإدراك الإنساني للجمال منذُ مبدأ الأجيال. أما نقاد القرن التاسع عشر فلا احسبهم رفعوا أبصارهم إلى هذا الأسلوب مستلهمين. إنما هم قد خروا أمام تمثال العلم ساجدين، أنظارهم(18/17)
خاشعة ترنو في رجاء إلى شعاعين من الكهرباء صادرين من عدسات عينيه الجامدتين. القرن التاسع عشر قرن تأليه العلم. فلقد بهر العلم العالم بانتصارات حاسمات متواليات، فاذا الأدب والفن والفلسفة كلها تهرع إليه تقرى له بالغلبة والسلطان. وإذا كل شئ يطلب إلى العلم تفسيرا. وإذا العلم في نشوة الظافر وبسمة الواثق لا يأبى أن يقضى فيما يعنيه وفيما لا يعنيه. وإذا العلم وهو علم المادة يريد أن يتحدث في شئون الروح. وإذا سئل عن الروح قال دونكم هذا الطريق وأشار إلى عين الطرائق التي أدت إلى الفوز في شئون المادة: التحليل والتركيب والتجربة والقياس والاستنتاج والاستقراء الخ. بهت العالم لنظرية النشوء والارتقاء. وآمن الناس أن أصلنا من ماء وخلايا حية وحيوان ظل يسمو في المرتبة على مدى الأزمان حتى بلغ القرد جد الإنسان! نظرية جميلة، خلب جمالها اللب على الرغم من بشاعة ذلك الجد الغول. أما صدقها فجائز من حيث المادة والأجسام. وهنا تبدو قضية: أتصدق هذه النظرية على الروح أيضا وشئون الروح؟ الإحساس بالجمال: أيخضع أيضا للنشوء والارتقاء؟ نعم، نعم، نعم. كذلك قالت المدرسة الإنجليزية (سبنسر، جرانت الن، رسكن). وكان لا بدلهذه العقول التي فتنتها نظرية التطور في المادة أن تبرز للإنسان نظرية التطور في الجمال.
وعجب الناس لنظريات علم طبقات الأرض وعلم الحيوان وعلم الحياة وأبحاث (لامارك) في تأثير البيئة والمناخ وظروف الحياة على طبيعة الأجسام، فقامت المدرسة الفرنسية (هيوليت تين) تخرج للفكر والأدب نظرية للجمال والفن: الوحي فيها والإلهام مقاييس الحرارة وموازين الأحجام! بل إني لأرى إصبع العلم قبل ذلك بقرن يقود المدرسة الألمانية إلى نظريتها في الجمال. ولم يكف العلم هذا التوجيه والتأثير بل تناول بيديه في هذا العهد الحديث جسم الجمال: واعمل فيه المشرط والمسبار (علم النفس الحديث) قضى الأمر، وخرج الجمال من حدائق الفلسفة إلى معامل العلم. .! لست ارزى على طرائق العلم. فهي وسائل البشرية التي لا تملك غيرها. واذكر يوم كنت ارصد وقتا للتفكير في هذه المسائل أني بسطت أمام نفسي هذا السؤال الساذج: الحيوان ما علمه بالجمال؟ حصان بين مهرتين أحدهما جميلة مليئة شهباء والأخرى قبيحة هزيلة عرجاء، إلى أيتهما يميل؟ ما ترددت يومئذ أن أقول في ثقة واقتناع: (إلى الجميلة يميل، ما وجه الترجيح؟ لست أدري، وحبذا(18/18)
التجربة فهي الحكم الفصل!). لكنى يومئذ كنت أفكر تفكيرا صرفا في قهوة صاخبة اعتقدت أن آوى اليها للتفكير الهادئ، فأين لي بالخيول والأفراس أجري عليها التجاريب؟ فهاأنذا أقر بأن التجربة وسيلة بشرية طبيعية للوصول إلى المعرفة. واقر باني شعرت يوما بالحاجة إلى ممارستها في شئون الجمال. غير أني على الرغم من هذا لا احب أن اعتقد ببساطة أن نظريات العلم في شئون المادة تصدق دائما في شؤون الروح. لا شيء يستطيع أن يقنعني بأن إحساس الجمال وليد تطور ونشوء. بي رغبة أن أصيح بغير دليل في يدي أن إدراك الجمال ولد كاملا في قلب الإنسان منذ رفع بصره وبصيرته إلى أسلوب الله فرعاه. إني أخشى أن نقع في الغلط إذ نطبق نظرية المادة في مسائل الروح، وهل يستطيع الدكتور أن يجيز قول رسكن وجرانت الن في الإلياذة: (. . . ما كان يعنى الأقدمون بالطبيعة ولا بجمالها ألا حين يتصلان بعيش الإنسان. ففي الإلياذة ما كان يوصف منظر طبيعي لذاته، بل لنفعته للإنسان، كان يكون مكانا خصيبا يفيض بالحنطة أو تكثر فيه الجياد. ما كانت الطبيعة سوى إطار للحوادث والاشخاص، لا انها لذاتها محل للوصف. أن الطبيعة لم تحب لذاتها ألا في العصر الحديث، حيث استيقظ الإحساس بها، إحساس صافي خالص لا تشوبه شائبة النفع أو المصلحة. . .) ماذا أقول في هذا الكلام؟ اهو جهل بمشاعر الأقدمين؟ أم تورط في تطبيق نظرية التطور والنشوء؟ أنصدق حقا أن الشعور الرفيع بجمال الطبيعة لم يعرفه القدماء خالصا لدنوهم من الحيوانية؟ أنصدق أن (هومير) لم يحس جمال الطبيعة لذاتها؟ أهذا رسكن يقول هذا الكلام أما أنا فقد مضى كلامي في الطبيعة والقدماء. ورأيي الذي أبديته في رسالتي الأولى أن الأقدمون كانوا أقرب منا إلى الطبيعة والى فهمها. لقد كان الأقدمون يحسون إنهم جزء من الطبيعة ونغم من أنغامها. أما رسكن وألن أو الإنسان الحديث فلا يحس ألا ذاته الآدمية منفصلة عن الطبيعة وعن كل شئ. دليلي فن القدماء من مصريين وإغريق. أهذا فن قوم لا يحسون الطبيعة لذاتها ولا يدركون قوانينها وأساليبها؟! إلى هذا الحد يصل الانقياد إلى النظريات؟ من اجل هذا لا أريد التمكين للعلم حتى يجلس على عرش النقد دون شريك. احب طرائق العلم. لكنى أخشى نتائج العلم. فلنرتفع بالروح قليلا. لست أريد أن أضع الروح تحت مبضع العلم، رهبة منى أن يشقها فيجدها غلافا أجوف. وإني لا أنسى يوم شاهدت تشريح جثة آدمي(18/19)
للمرة الأولى. أي قلق يومئذ مزق إيماني بقيمة الإنسان! كلا. أني كرجل من رجال الروح لا أريد أن افجع في خير ما أعيش به وله. يريح نفسي دائما أن أقول أنى عقل العلم لا يكفي. ولا بد دون إدراك الجمال والروح من العودة إلى القلب. أريد ألا يخرجني العلم من ذلك الإيمان الذي كان يضيء في قلوب المصريين القدماء إيمان قربهم من الخالق، فإذا هم ببصائرهم العميقة العجيبة أول آدميين استطاعوا فهم أسلوب الله والنفوذ إلى قوانين إبداعه. أن أقصى العلم الإيمان. احب ذلك العلم المؤمن الشاعر الذي عرفه أيضا الفلكيون العظام في القرنين السادس عشر والسابع عشر: كوبرنيك، وجاليليه وكبلر، آخر قطرة من ذلك العلم الممزوج بالإيمان كانوا ينظرون إلى الكواكب كما نظر اليها من قبل المصريون الأقدمون. لا بعين العقل، بل بعين القلب أيضا. كانت السماء والنجوم في نظرهم مخلوقات حية. كانوا أيضا يحسون في كتلة النجوم وفي هذا الكون بأكمله الروح الخالقة ويد المبدع الأعظم. ما أروع هذه العبارة من كبلر، فيها تلخيص جميل لكل ما يملأ نفسي: (. . . كل الخليقة ليست إلا سمفونية عجيبة في مجال الروح والأفكار كما هي في مجال الأجسام والأحياء. كل شئ متماسك مرتبط بعرى متبادلة لا تنفصم. كل شئ يكون كلا متناسقا. أن الله قد خلقنا على صورته، وأعطانا الإحساس بالتناسق. كل ما يوجد حي متحرك، لأن كل شئ متتابع متصل. كل كوكب وكل نجم أن هو ألا حيوان ذو نفس. أن روح النجوم هي سر حركتها، وسبب ذلك الحب الذي يربط بعضها إلى بعض وتعليل ذلك النظام الذي تسير عليه الظواهر الطبيعية. .) أولئك رجال ساروا في بيداء العقل دون أن ينسوا دليل القلب. أولئك هم العلماء العظام! أرى الدكتور قد استشف رأيي بعد هذا التمهيد. نعم ولا أخشى أن أجيب ألان عن السؤال فأقول أن التيارات الثلاثة التي ذكرها الدكتور تصدق أيضا في النقد. كما تصدق في الخلق. أما التيار الأوربي في النقد فهو المرتكز على العلم. ولقد وصل إلينا هذا التيار بالفعل وتأثرنا به. وإن بعض كتب النقد التي طهرت في مصر الحديثة تنم على هذا الاتجاه العلمي. وهو أمر لا بأس به، بل هو واجب محتوم، على شريطة أن نقرن به. نظيف إليه عناصر جديدة ووسائل أخرى مستخرجة من أرضنا وتراثنا إذا أردنا أن ننشئ لآدابنا طريقة شخصية كاملة في النقد. فأما التيار المصري القديم فهو النقد المعتمد على الذوق، أي سليقة المنطق والتناسق. وهو عند المصريين القدماء(18/20)
سليقة المنطق الداخل للأشياء والتناسق الباطن أي القانون الذي يربط الشيء بالشيء. أي جمال للأهرام غير ذلك التناسق الهندسي الخفي وتلك القوانين المستترة التي قامت عليها تلك الكتلة من الأحجار! جمال عقلي داخلي. كذلك أسلوب الخالق لا يعني بالجمال الظاهر وحده في خلق الطبيعة. فأي جمال للثعبان والجعران؟ أن الجمال الظاهر نسبي لا يقدره غير الإنسان. إنما المنطق الداخليللأشياء هو كل جمالها الحقيقي. هذا المقياس المصري القديم للجمال ما احسبه قد أثر بعد في حياتنا الفكرية أو في أحكامنا الفنية. أما التيار العربي القديم فهو النقد الذي قوامه ذوق الحس. أي سليقة المنطق الظاهر والتناسق الخارجي. الجمال عند العرب هو الجمال الظاهر الذي يسر العين ويلذ الأذن. أنستطيع أن نتخيل العرب تبني الأهرام أو تقدر فيها جمالا؟ لقد جاء العرب مصر وتحدثوا بجمال نيلها وأرضها وسمائها ولم يروا في الأهرام ألا شيئا قد يحوي نقودا مخبوءة، أما بناؤه فشيء لا يحسب في الفن. إنما الحسن عند العرب حسن الهيئة قبل كل شيء. المساجد كالعرائس تكاد تخطر حسنا بزخارفها، زينة للناظرين. بغير هذا فلا عمارة ولا فن. الشعر رنين لذيذ، وخيال جميل، ومعان لطيفة، وألفاظ مختارة ظريفة، بغير هذا فلا شعر ولا فن. الجمال عند العرب جمال إنساني. والفن عندهم شيء صنعه الإنسان لنفسه وللذته. الفن العربي القديم فن إنساني دنيوي. والفن المصري القديم فن إلهي ديني. لهذا اختلفت المقاييس في الجمال بين الفنين. أحدهما يعنى بالتناسق الذي يروق الإنسان، والثاني يعنى بالتناسق الخفي بغير التفات إلى الإنسان. ولعل المقياس العربي القديم هو في مصر المنفرد حتى اليوم بالحكم في قضايا الشعر والأدب. ولعل اقرب مثل إلى الذاكرة ذلك الحكم الذي أصدره الدكتور على بيت للأستاذ العقاد:
هي كأس من كؤوس الخالدين ... لم يشبها المزج من ماء وطين، ألم يكن مقياس الدكتور في
التقدير ذلك الذوق الحسي وذلك المنطق الخارجي الذي يربط الألفاظ، فوجد اتصالا غير متسق بين الكؤوس والطين سمع له شيئاً كالطنين يشوب صفاء الرنين؟ هذا المقياس العربي ذو الإبرة الدقيقة عجيب في تسجيل كل انحراف عن منطق الألفاظ. إنما هنالك في اعتقادي منطق آخر مستتر أمره يعنى المقياس المصري. ترى لو أن الدكتور رجع إليه أما كان يحكم لبيت العقاد لا عليه؟ أما كان يرى فيه تناسقا داخليا محكما هو كل ما عنى بأدائه(18/21)
الشاعر؟ إني يوم قلت بمزج الروح بالمادة في آدابنا. كان يجب على أيضاً أن أقول بوضع المقياس المصري في النقد بجانب المقياس العربي. وبعد، فإني ولا ريب قد استأثرت منك ومن وقتك مقدار لاحق لي فيه. غير أنى لولاك ما وضعت أفكاري في رسائل. إنما أنا اكتب لك. أي ضمان أنت في الشرق لحياة الفكر والبيان! وهل أستطيع أن أنسى ما كنت لي وما تكون؟ إني أضع بين يديك كل إخلاص؟
كوم حمادة في 14 سبتمبر سنة 1933. توفيق الحكيم(18/22)
من فخري بك البارودي. عضو مجلس النواب
بدمشق
إلى الأستاذ احمد أمين
(والضحى والليل) (يا احمد أمين) ... أنت في التاريخ ذخر الباحثين
أنت في الآداب ركن ثابت ... أنت في (الأخلاق) نور المهتدين
أنت مهدت سبيلا واضحا ... كان وعراً مرهقاً للسالكين
أن ما جئت به معجزة ... ذكرتنا معجزات المرسلين
(فجرك) الباسم أحيا أملا ... كاد يذوى في صدور الناشئين
(وضحاك) الضاحك اليوم بدا ... مثل بدر في ليالي التائهين
قل لعبادي وطه تمما ... نشر أجزائكما للقارئين
أن وعد الحر دين فإلى ال ... وعد واشفوا غلة المرتقبين
نحن والإخوان في الشام على ... مثل حر الجمر في المنتظرين(18/23)
البطل في صورة ملك
للمهندس الشاعر على محمود طه
تألق كالبرقة الخاطفة ... وجلجل كالرعدة القاصفة
مبين من الحق في صوته ... صدى البطش والرحمة الهاتفة
يخوض الغمار دماً أو لظى ... ويركب للمأرب العاصفة
يطير على صهوات السحاب ... ويمشى على اللجنة الراجفة
ويقتحم الموت في مأزق ... ترى الأرض من هوله واجفة
تمزق في جانبيه الرياح ... وتنفطر السحب الواكفة
وتشتجر الرجم الهاويات ... وتعتنق الظلم الزاحفة
عشية لا القلب طوع النهى ... ولا العقل تأسره العاطفة
ولكنها وثبات الجريء ... على عثرات المنى الخائفة
شعوب تعالج أصفادها ... وتأبى الحياة بها راسفة
صحت بعد إغفاءة الحالمين ... على لجة الزمن الجارفة
وحسبك بالدهر من منذر ... كرب يعاقب من خالفه
رأيت السفينة في بحره ... تنازعها اللجج القاذفة
مددت يديك فأرسلتها ... أماناً من الغمرة الخائفة
وخلفك من (يعرب) أمةٌ ... إلى النور فازعةٌ شاعفة
نضَت (فيصلاً) من صقال السيوف ... يُقبِّل فيه الضحى شارفة
أعدت لها مجدها المجتبى ... وبواتها الذروة الشائفة
بناء من السؤدد العربي ... دعمت بتالده طارفه
جلت فيه (بغداد) عهد الرشيد ... وأحيت لياليها السالفة
وارسلتها بعد نسيانها ... حديث النباهة والعارفة
فوا أسفا كيف روعتها ... بفقدك في الليلة السادفه
صحت (برن) منك على نبأة ... تسيل البروق بها راعفه
رمى الغرب بالشرق إيماضها ... فرد الشموس به كاسفه(18/24)
أناخ على سروات العراق ... فقصف أفنانها الوارفه
طوى فجرها بسمات المنى ... واسكت أوتارها العازفه
ومصطبحين هوت كأسهم ... حطاماً على الشفة الراشفه
أفاقوا على حلم رائع ... كأن بهم فزع الآزفه
يردون بالشك صوت اليقين ... وتصدقه الأعين الذارفه
وأني لأسمع ما يسمعون ... صدى الويل في صخب العاصفه
وكيف؟ وقد كنت نجم الرجاء ... إذا قيل ليس لها كاشفه
وما عرفوا عنك نقص التمام ... بيع الصحيحة بالزائفه
تحفك ابهة المالكين ... ونفسك عن زهوها صادفة
سرت بالوداعة في بأسها ... سرى النسيم في الليلة الصائفه
وتحمل عنهم من العبءِ ما ... تخر الجبال له خاسفه
وتهزأ من صرعات الردى ... وتمسى على أمرهم عاكفه
إلى أن طوتها وأودت بها ... غوائل تطوى الدجى خاطفه
فراحت ترف على كفها ... رفيف الندى في اليد القاطفه
وما هي ألا دموع الأسى ... همت من جراحاتها النازفه
وما نسيت (دجلةٌ) إنها ... بشطيه حائمة طائفه
تباركهم من سماء الخلود ... وتدعو (لغازيهم) هاتفه.(18/25)
مناظر من موقعة صفين
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
وكان معاوية معروفا بالمغالاة في التوسل بهذه المكائد في سبيل الانتصار، فاذا أردنا أن نعرف سبب نجاح مكيدة المصاحف فلا بد لنل من أن نفترض أن صفوف علي لم تكن خالية من عيون معاوية، وليس التدليل على ذلك ببعيد المنال. فقد ارتفع في أثناء القتال صوت بعد صوت يحاول إحداث الفشل في صفوف المقاتلين. غيران الظروف لم تكن قد تهيأت لذلك بعد. فقد قام شيخ من شيوخ الأزد في أثناء المعركة فجعل يرثى قبيلته وينعى من مات منها في سبيل نصرة على وجعل يقول: (والله ما هي إلا أيدينا نقطعها بأيدينا وما هي إلا أجنحتنا نجذها بأسيافنا. . . الخ) غير أن صيحته اضمحلت في حماسة إخوانه وماتت في جلبة المعركة. وكان رئيس ربيعة متهما بالميل إلى معاوية، وقد حدث في أثناء القتال أن انهزم بعض الضعفاء من ربيعة مع ثبات أهل الرايات والشجعان. وقد انصرف ذلك الرئيس منهزما عندما شهد فرار أول المنهزمين، فلما رأى ثبات سائر أصحابه عاد واعتذر عن هربه قائلا انه كان لا يريد إلا إرجاع المنهزمين. فلا بد لنا من أن نفترض وجود هذه التيارات الخفية التي كانت تعمل في جيش على حتى تستقيم الصورة وتصبح ملائمة لطبيعة الأمور. وكان علي لا يحفل بالبحث عن مثل هذه الدسائس. بل لقد كان إذا عرفها ورأى عند صاحبها شبهة البراءة لم يمد إليه يدا بسوء. وكان علي من الشجاعة والاستهانة بالموت في المحل المعروف، وكانت شجاعته هذه تجعله يرتفع عن أن يعبأ بكشف هذه المكائد أو مقابلتها بمثلها. فقد كان رجل كفاح صريح. على أن هذه التيارات الخفية لم تكن بأدعى إلى فشل علي من اضطراب الأهواء تعصف ببعض قلوب من معه، وكان مسلكه الحر لا يكبح هذه الأهواء بل كان يكتفي بأن يشير إلى المبدأ السامي الذي يسعى إليه، ويحض الناس على التمسك به، ويكلهم بعد ذلك إلى نفوسهم ومقدار ما فيها من الإيمان والحرص على الحق. فكان بعض قواده يتنافسون فيما بينهم فلا يعبأ بأن يلتفت إلى تلك المنافسة، بل يحاول أن يصرف حماستهم إلى مقصدهم الأسمى. وإنا ضاربون هنا مثلا بصاحبين من أصحابه كان بينهم تنافس خفي أدى إلى نتائج جليلة في وقعة صفين، ونعني بهذين: الأشعث بن قيس والأشتر النخعي وهو مالك بن الحرث. وكان الأشعث بن قيس(18/26)
كما تقدم حاكما على أذربيجان في مدة خلافة عثمان، فلما قتل عثمان وتولى علي لم يخرج عليه، بل بقى على عمله وأخذ البيعة له، واما الأشتر فقد كان من أهل العراق وكان رئيسا له شهامة وفيه صرامة، وقد غضب على حكام العراق في أيام عثمان وثار بهم حتى كان يمنعهم من الاستقرار والحكم، ثم سار إلى المدينة مع جماعة من أصحابه فكان من رؤساء الثوار الذين حاصروا عثمان بالمدينة. ولما قتل عثمان كان هو متكلم القوم والساعي في اختيار الخليفة الجديد حتى اختير علي، فكان من أكبر قواده، وكان الأشتر من اصلب قواد علي عودا وأحصفهم رأيا ولعله كان من أكبرهم إخلاصا في رغبة الإصلاح العام والعدل في حكومة الدولة العربية. غير أنه كان صارما لا يقبل هوادة، ولا يداري في رأيه. وكان يأخذ على علي إنه قدم الأشعث بن قيس وجعله من قواده. لأنه كان من أكبر رؤوس الثوار على عثمان فلا يثق فيمن سبقت لهم ولاية الحكم في أيام عثمان. فلما كانت موقعة صفين تقدم الأشعث في يوم القتال على الماء فأبلى أحسن البلاء حتى تصايح الجنود أن الأشعث هو صاحب الفخر في ذلك اليوم، وكان المنتظر بعد ذلك أن نراه في طليعة القوم في كل المواطن. غير إنا لا نكاد نسمع له بعد ذلك ذكرا في مدة القتال العظيم بين الجيشين وقد دام اكثر من عشرة أيام، في حين إنا نجد بطل القتال هو الأشتر مالك بن الحرث، نراه في يمين القتال وقلبه، وأنى سار نجد النصر والحماسة. أكان هذا عفوا غير مقصود؟ إذن فاسمع ذلك الانفجار الذي حدث بين الأشتر والأشعث لتعلم مقدار ما كان في أعماق نفسيهما من الحقد والكراهية. لما رفعت المصاحف وطلب معاوية التحكيم انقسم الرأي في جيش علي. ولسنا بسبيل عرض هذا المنظر وإنما نقصد أن نقول أن الأشعث بن قيس كان من أول القواد الذين رضوا بالتحكيم وإيقاف الحرب، وسعى في ذلك سعيا كثيرا إلى حين كان الأشتر قد قرب بجنوده من قلب جيش معاوية حتى أصبح على وشك الوصول إلى شخصه، وحتى فكر معاوية في الانهزام والهرب، وقد اضطر علي عندما رأى انقسام أصحابه وفشله إلى أن يرسل إلى الأشتر يأمره بإيقاف القتال والانصراف عن العدو، وقد آبى الأشتر وتردد ثم اضطر إلى الطاعة وهو كاره ساخط، فلما عاد الأشتر إلى علي ورأى ما رأى من سعي الأشعث في تضييع النصر من يده ثارت حفيظته وكان بينه وبين الأشعث منظر عاصف. قال الأشتر (أو لستم قد رأيتم الظفر لو لم تجمعوا على الجور؟)(18/27)
فقال الأشعث حانقا (إنك والله ما رأيت ظفرا ولا جورا) ثم تدارك الأمر بعد ذلك وعلم انه قد أنكر أمرا عرفه الجميع. فخاطب الأشتر موادعا. قال (هلم إلينا فانه لا رغبة بك عنا) فقال الأشتر غاضبا (بلى والله لرغبة بي عنك في الدنيا للدنيا والآخرة للآخرة. ولقد سفك الله عز وجل بسيفي هذا دماء رجال ما أنت عندي خير منهم ولا أحرم دما) فسكت الأشعث (وكأنما قصع على انفه الحمم) غير إنه استمر على سعيه في إيقاف القتال حتى تم الأمر وأعلن للجند، وكان الأشعث هو الذي سار في إعلانه. ثم أن الأشعث كان له صولة أخرى عند كتابة الصحيفة التي كتب فيها التعهد، والتي ذكر فيها اسم الحكمين، وموقفه ذلك يدل على ما كان في قلبه من الحقد والحفيظة على علي والأشتر. أراد علي أن يختار عبد الله ابن عباس ليكون الحكم المختار من جانب علي فثار الأشعث ومعه جماعة فقالوا لا نرضى بغير أبي موسى الأشعري وهو رجل غير موال لعلي، وليس من الذين نهضوا معه إلى حرب معاوية. فراجعهم علي في ذلك وقال إذا لم ترضوا بابن عباس فأني اختار الأشتر. فثار الأشعث عند ذلك ثورة عظيمة وقال (وهل سعر الأرض غير الأشتر؟ وهل نحن إلا في حكم الأشتر؟) قال علي مراجعا: (وما حكمه؟) قال: (أن يضرب بعضنا بعضا بالسيوف حتى يكون ما أردت وما أراد) لم تكن هذه لغة الأشعث يوم القتال على الماء. فما أشد ما حقد على علي والأشتر في أثناء الإقامة عند صفين. أليست الحرب جهد المستميت؟ وهل يستميت مثل الأشعث إذا كان قلبه مليئا بمثل هذا الغيظ؟ لا نستطيع أن نقول أن الأشعث باع نفسه إلى لمعاوية على إحداث ما كان، ولكنا لا نستطيع ألا أن نلمح ما تولد في قلبه من الحقد والكراهية، فأما حقده فعلى ذلك المنافس الناجح وهو الأشتر، أما الكراهية فكانت للخليفة الذي لم يتح له فرصة التصدر والرياسة بعد أن اطمع في ذلك منذ يوم القتال على الماء. لقد كانت صفين مسرحا لعوامل خفية. وأهواء قوية، لم تذهب هذه العوامل وتلك الأهواء سدى، بل قد عصفت بحزب علي في اشد المواقف وأحرجها.
دراسة في التصوف
الأصل في دراستي لهذا الموضوع، هو الإعجاب المطلق، ولقد أدى بي هذا الإعجاب، ومبعثه شوق روحي غامض إلى إجتلاء بعض الحقائق السامية، إلى التفرغ لدراسة التصوف الإسلامي في كتب عدة لبعض أئمة الصوفيين وأخص بالذكر منهم الأمام أبا حامد(18/28)
الغزالي والاطلاع على بعض الديانات الهندية وأهمها الديانة الوثنية التي يمثلها نبيهم كرشنا، ولمذهب كرشنا وتعاليمه (بنوع خاص) أثر بارز في دراستي لأصول التصوف. وينحصر مذهب كرشنا في أن الإنسان، يعزف عن الخير لمجرد الوهم والخداع في الدنيا وينصرف إلى الدنيا لأنه لا يعني كثيرا بحقيقة الآخرة. وهو يدعو إلى محاسبة النفس، والقيام بالواجب بدون هوى ذاتي، ومجاهدة الروح، والفناء في محبة الله، وهو يشبه الجسم للروح بالثوب للجسم، ومعنى هذا انه يؤيد فكرة التناسخ. ويقول بأن الروح تنتزع نفسها من الجسم المتداعي إذ لا يعود صالحا لها. لتنتقل إلى جسم جديد، ومعنى هذا أن الروح خالدة. وهو يعزو أعمال الإنسان إلى الروح , ويرى أن ثمة قوة عليا هي التي تحرك الإنسان. . وتسيره، أي أن كل ما يفعله الإنسان مسوق إليه بقدرة الله، وأرادته العالية، ولذلك فأن الإنسان يجب أن يؤدي واجبه دون أن يفكر فيما إذا كان هذا الواجب سيجلب إليه الخير والشر. ولقد عمدت أيضا إلى دراسة الديانة السيخية وأود أن أذكر أن اهتمامي هذا كان مبعثه الأول إلى دراسة التصوف، إحساس روحي عميق، في داخل نفسي، كان يذهب حينا، ثم يعود قويا متجددا فلما تناولت بعض المسائل الروحية بالدرس والتجربة واطلعت على آفاق جديدة في الثقافة الآسيوية، وهي في جملتها روحية أصيلة ألفيت نفسي مقودا إلى استكمال وسائل البحث والدرس. . . وقد يبدو مثل هذا الولع بدراسة المسائل المتعلقة بالروح، شيئا يناهض معنى المدنية القائمة اليوم، وهذا ظن خاطئ فأن المدنية التي ترتكز عظمتها على الآلات ليست كل شيء في سبيل إسعاد الإنسان كما يقول الفيلسوف الروسي ليون شستوف. وهذا الرجل يندد بمساوئ المدنية الحديثة لما فيها من الاندفاع المطلق نحو اجتناء اللذات المادية، حتى صار الإنسان في بعض البيئات الصناعية أشبه بالآلة أو الحيوان أن تجرد من الصفات العليا. وشستوف يدعو إلى تنمية العواطف الإنسانية الكريمة، وتذكية الروح في سبيل الارتفاع بالإنسان، والحيلولة بينه وبين طغيان الشهوات الدنيا والمطامع الوضيعة حتى لا تفسد روحه وتخمد المشاعر السامية في نفسه. والواقع أن هذه الدعوة ليست سوى ترديد لما يعتلج في صدور الكثيرين ممن سئموا طغيان المادة على الحياة، وعادوا يحنون حنينا قويا إلى العناية بالروح، كما يعني بالجسم؛ فأن الإنسان ليكاد لفرط ما يحفه من مظاهر الترف والإغراء يعبد الجسد عبادة وثنية. وحدث(18/29)
منذ عامين تقريبا أن اهتممت بالطريقة الروحية التي غاندي في جهاده الوطني، وهي التي يسميها السياسيون بالطريقة السلبية، أقول: إن اهتمامي بفلسفة غاندي جعلني أتجرد لمعرفة قوة الروح والاطلاع على ما يتصل بها وبالجسم. ومن هذه الأشياء التي سبقت، مجتمعة، تكونت عندي فكرة قوية لمعالجة هذا الموضوع، راجيا أن أكون قد وفقت فيه بعض التوفيق بقدر ما يتسنى ذلك في رسالة قصيرة، ولست أستطيع أن ادعي إنني بلغت فيه كل ما أرجو، فأن هذا الادعاء لا قيمة له لنفسي ولا للقارئ، فأنني متصل بهذه الحياة كالآخرين، اتصالا ماديا، هذا الاتصال الذي اشعر بثقله كلما رأيت الإنسان كم يكذب ويخدع، ويحتال، وينافق. . لكي يعيش. أو بمعنى آخر إن قوة المدنية ومادياتها قد طغت على أرواحنا طغيانا جارفا، فأفسد اكثر النواحي الإنسانية فينا، ونمت الروح الحيوانية في سائر أعمالنا، أو كما يقول برناردشو في كتابه الأخير: (مخاطرات الفتاة السوداء) أصبح الإنسان الحديث عبد الخمر والبندقية. ولست في ذلك بالجاحد لقيمة المدنية، فأن التطور الاجتماعي الذي نلمسه في القرن العشرين كنتيجة لجهود العلماء المتصلة لخير الإنسانية قد أفاد الإنسان في حياته فوائد جليلة، ولكن الانتفاع شيء والاستمتاع شيء آخر. . وإطلاق الشهوات هو طريق الانحدار والانحطاط، وأننا لنرى أكثر علماء هذا العصر قد شغلوا جميعا على الرغم من اختلاف اتجاههم في البحث وتباين ثقافتهم بتوحيد القوى الإنسانية، والتغلب على الشهوات التي تثير في النفس التطلع إلى القهر والإذلال والاستعمار والاستغلال والتمرد على الأمم الصغيرة الوادعة كما يتمرد الرأسمالي على العامل. أن التصوف رياضة نفسية عنيفة، وليس من السهل أن يروض الإنسان نفسه عليها، بل أن وضع المدنية لا تكاد يجعلنا نرى في الصوفية المطلقة كل الخير، وخاصة لما تقتضيه الحياة أن يعيش فيها كعضو عامل منتج، إنما يعني اكثر المشتغلين بالتصوف في هذا العصر بإنقاذ الروح كجوهر. وقد قسم العلاقة توماس باتريك هيوز صاحب الموسوعة الإسلامية حدود الصوفية إلى تسعة أقسام أهمها: أن الله في كل شيء، وكل شيء مستمد منه سبحانه وتعالى، وأن كل شيء مرئي أو غير مرئي خاضع لقدرة الله، وان هناك مقاومة بين الروح والجسد ينهيها الموت. فيذهب الجسم، أما الروح فتبقى. وأساس الاعتقاد عند الصوفيين أن الخلود للروح. ولهذا فأنهم يسلكون طريق التعبد والرياضة النفسية تزكية(18/30)
للنفس والخلق، وتحسينا للشمائل وتبغيضا في الدنيا، واستعداد للرحيل إلى الدار الباقية. . حتى تصفو العقيدة وتنقى السريرة وتصفى من أكدار التكلف والنفاق. ومثل هذه الرياضة تتطلب الخلوة والعزوف عن الأشياء البراقة ومجاهدة النفس وتصعيد الغرائز والارتفاع بالفكر إلى أسمى مكانة، وقد قال الإمام الغزالي في ذلك: (ثم دخلت الشام وأقمت فيه قريباً من سنتين لا شغل لي ألا الغزالة والخلوة والرياضة والمجاهدة اشتغالا بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق وتصفية القلب لذكر الله تعالى، كما كنت حصلته من علم الصوفية، وكنت اعتكف مدة بمسجد دمشق اصعد منارة المسجد واغلق بابها على نفسي، ثم تحرك بي داعية فريضة الحج والاستمداد من بركات مكة والمدينة وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله عليه وسلم، ثم سرت إلى الحجاز ثم جذبتني الهمم ودعوات الأطفال إلى الوطن، وعاودته بعد أن كنت ابعد الخلق عن أن ارجع إليه) وللتصوف مراحل لا بد أن يجتازها الصوفي مرحلة وراء مرحلة، وليس من السهل اجتياز كل منها فأنها تحتاج إلى جهد فائق، وجلد كبير، وقوة مدخرة، وأهم تلك المراحل: العبودية والعشق والزهد والمعرفة والوجد والحقيقة والكشف والوصول إلى الفناء. فأذا أشرقت روح الصوفي، ارتفعت به إلى حيث تكشف له السعادة المطلقة، فيبلغ مرتبة الفناء المطلق للفكرة، وتفهم سر الحياة والموت، والصوفي الذي يجتاز تلك المراحل هو الكامل في إخلاصه وتعبده، وقلما يصل اليها متصوف، بل أننا لا نكاد نحصى ألا طائفة صغيرة ممن استطاعوا السمو إلى هذه المنزلة أولئك الذين خلت نفوسهم من الشوائب وتخلصوا وتطهروا وأقاموا حاجز منيعا بين رغباتهم المادية وغايتهم الروحية العليا. وهناك وسائل يتبعها المجتهدون في التصوف أهمها ثلاث: الانجذاب والعبادة والعروج، ومن يقرأ الشعر الصوفي يذهل لفرط ما يرى. فأن الشعراء الصوفيين يصورون حالتهم النفسية تصويرا رائعاً، ففي شعرهم من الهيام والوجد والعشق ما يكاد يحسبه القارئ لأول وهلة لشاعر أغرم اغراما أفلاطوينا بفتاة. والواقع أن انحدار تلك المعاني لا يكاد يختلف عند الاثنين في شيء ما، فبينما نرى الصوفي يتجه مخلصا نحو ذكر الله بالتوسل والدعاء والابتهال، نرى الآخر يقدس الجمال في معناه الأسمى. لا شك أن الصوفي المنصرف عن الدنيا بكل ما فيها. المتجه إلى الآخرة اتجاها تاما إنما يبالغ في فكرته إلى حد الفناء في اعتناق الفكرة(18/31)
فإذا أردنا أن ندرس التصوف على انه تزكية للروح وتنقية له من الشوائب فأن هذا حسن، ولكن من الخطأ أن يكون الإنسان سلبيا بحتا، فأن الحياة قوامها العمل والكتب السماوية كلها تحث على العمل والمثابرة والاجتهاد في سبيل العيش بينا نرى التصوف بمعناه الدقيق يدعو إلى الزهد المطلق والانكسار في جهة ضيقة للتعبد والتقشف، وهذا ما في رأينا إخلاص إلى حد الجنون بالفكرة والتعصب لها، فأننا لنرى النبي الكريم عليه الصلاة والسلام وهو روح الحب والحنان والتسامح قد حمل مصباح الهدى ومشعل الحق وجاهد في سبيل الله بلسانه ويده حتى عمت دعوته، لقد كان النبي الكريم يشتغل بالتجارة ولكن ذلك لم يصرفه عن استخلاص نفسه والتوجه نحو الخالق بالعبادة والصلاة دون أن يعتكف في مكان ضيق من الأرض.
وإننا لنرى العلماء اليوم وخاصة من تشربوا بالثقافة السلافية، يدعون الناس مخلصين إلى تطهير نفوسهم وعدم الانغماس في ملذات المدنية تنزيها لجوهر الروح عن الفساد وخوفا على البشرية من الانزلاق في مهاوي الشهوات والترف كما ذهبت في الماضي بعض المدنيات العريقة طعمة لجنون الشهوات والطمع والفساد الاجتماعي.
محمود عزت موسى.(18/32)
حول الإشعاع النفسي
قرأت بإعجاب هذا المقال الممتع الذي دبجه أستاذنا الكبير أحمد أمين عن النفوس وإشعاعاتها الغامضة المعقدة التي تشعر بها وقد لا نستطيع التعبير عنها، والتي تختلف باختلاف النفوس وتتعدد بتعدد نواحيها وطبائعها، فملك علي هذا البحث مشاعري وألقى بي في ذلك العالم الروحي الذي يقوم وراء هذا الحجاب الكثيف من المادة، حتى خلت نفسي أسبح في عالم من الأرواح أو أن حجرتي كما يقول الأستاذ (ملايين وأكثر من الملايين من إشعاعات نفسية تشع من السماء ومن الأرض ومن النفوس البشرية ومما لا يعلمه إلا الله).
على أنني ما كدت أعود إلى هذا العالم المادي وأقرأ المقال بعين الناقد المتدبر وأتحلل من هذا التأثر العميق بشخصية الأستاذ الكبير حتى أدركت السبب الحقيقي لهذا الأثر النفساني الذي يعزوه الأستاذ إلى أشعة تنبعث من النفوس والعقول لا تقل جمالا عن (إشعاعات النجوم والكواكب) وتختلف في القوة، اشد من اختلاف المصابيح الكهربائية، يقول الأستاذ: (إن هذا الإشعاع هو السر في أنك تلقى عظيما فيملؤك أثرا ويملؤك قوة بهيئته، بنبرات صوته، بطريقة تعبيره، بنظراته، بإشاراته، بهزة رأسه، بحركة يديه، فكأن في كل عمل من هذه الأعمال يوصل بينك وبينه تيارا كهربائيا قويا يهزك هزا عنيفا، قد لا يحدثك طويلا وقد لا يكون لكلامه في الواقع قيمة ذاتية، ولكنه يوقظ نفسك ويحيي روحك وتبقى رنات كلماته في الأذن الأيام والليالي تعمل عملها في هدوء حينا وعنف حينا)، كلام بديع يستهوي اللب ويخلب العقل ولكنك إذا أعملت فيه الروية والعقل وباعدت بين نفسك وبين أسلوب الأستاذ الأخاذ وشخصيته الجذابة أدركت غير ما يدرك، ووقفت على سبب آخر لهذا الأثر النفسي الذي يسميه الأستاذ إشعاعا ونسميه نحن: (شعورا بالعجز والضعة)، وذلك إن الإنسان لا يتأثر بعظمة عظيم، ولا خطابة خطيب، ولا حديث محدث، إلا لسبب واحد لا ثاني له، وهو شعور بعجز نفسه وانحطاطها عن مستوى هذا العظيم، وهذا الخطيب وهذا المحدث، قد يكون عاجزا أو ضعيفا، وقد يكون قويا أو رفيعا، ولكن شعوره بعجزه وضعته هو على كل حال السبب الوحيد في إكباره للعظيم وتقديسه للخطيب وإنصاته للمحدث وتأثره بغيرهم من الناس.
قد تكون درة عمر أهيب من سيف الحجاج لدى الناس، ولكن السبب في ذلك لا يرجع إلى أن أشعة قد انبعثت من نفس عمر فغمرت الناس بموجة من الجلال والعظمة. وأن أشعة(18/33)
من نفس الحجاج قد غمرت أجسام الناس بالخوف والرهبة، ولكن السبب هو أن الناس كانوا يشعرون بشيء من الاستكانة أمام بطش عمر وجبروته، فاذا ما ذهبوا يحاولون النيل منه وتلمس سيئاته لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا، لأنهم يجدون فيه الرجل المتمسك بالشريعة الذي لا تصدر أفعاله عن هوى، وإزاء هذا الشعور بالعجز المضاعف أمام هذه الشخصية يحس الناس بشيء من الخشية المشوبة بكثير من التعظيم والإجلال. أما الحجاج فكان الناس يشعرون بكثير من الخوف والهلع أمام سيفه نتيجة لشعورهم بالعجز عن مجاراته في أسباب بطشه للسلطة المخولة له عليهم، ولكنهم من جهة أخرى كانوا يستطيعون إحصاء ما كان يقترفه من السيآت والمنكرات، وما كان يقدم عليه من الإجرام والظلم، وهكذا كانوا يخافونه ويرهبوا جانبه لشعورهم بالعجز عن مقاومته، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه يكرهونه ويشتد مقتهم له لاعتقادهم بأنه متخلف عنهم في الرحمة والعدل والإنسانية، وبالجملة فإن عمر والحجاج لم تنبعث من نفسيهما أشعة تؤثر في الناس، ولكن الناس هم الذين خلقوا هذا التأثير بهذا الشعور السلبي الذي استولى على نفوسهم، ولو أن حياتهم الاجتماعية والسياسية كانت تصبغهم بغير هذه الصبغة، ولو أن شعورا بالقوة والعظمة والرفعة استولى على نفوسهم لما ملأت نفوسهم عظمة عمر وجلاله، ولما ضربت عليهم الذلة والمسكنة وانكمشت قلوبهم خوفا ورعبا من الحجاج وسيفه وصولته.
قال الأستاذ: (وحدثني من أثق به أن الأستاذ جمال الدين الأفغاني كان يرتطن عجمة ولم يكن فصيح اللسان، ولا سلس القول، ولكن تجلس فيشعلك نارا دونها فصاحة الفصيح وبلاغة البليغ، لأنها النفس مستودع كهربائي قوي يصعق أحيانا، ويضيء أحيانا، ويدفع للحركة أحيانا) وهذا أيضا ينضوي تحت لواء ما قلناه، فقد كان المصريون في أيام الأستاذ جمال الدين بعيدين عن هذه الحرية الفكرية الغربية، وإن كان بعضهم يطمح إليها ولا يجد في هذا الجو المصري الخانق الرجعي مسعفا له على بلوغ مأربه، فلما حط الأستاذ رحاله في هذا البلد، هرع إليه بعض من هذه الفئة العطشى، ولشعورهم بالعجز في مضمار الفلسفة وما إليها مما كان يلقيه عليهم الأستاذ جمال الدين، ولموقفهم منه موقف الطلبة من أستاذهم كانوا يشعرون برهبة ورغبة في مجلسه، وتبدو لأعينهم وقلوبهم هذه التعاليم الجديدة التي يتلقونها نارا تلهب النفس وتشعلها وتتأجج في جوانبها حتى لتدفع بها إلى(18/34)
الثورة، ولو كان فيهم رجل يأنس من نفسه قوة تدفعه إلى الوقوف مع الأستاذ موقف الند للند، لا الطالب أمام معلمه لتغيرت الحال وأحجم الأستاذ احمد أمين عن أن يضرب هذا المثل للتدليل على وجود هذا الإشعاع النفسي موضوع مقاله.
وأن اختلاف تأثير الخطيب باختلاف السامعين والممثلين باختلاف النظارة، لينهض دليلا على ما نزعمه من أن تأثير الأشخاص في بعضهم ليس مرجعه إلى قوة نفسية تشع من نفس إلى أخرى فتؤثر فيها تأثيرا قويا أو ضعيفا، حسنا أو سيئا، ولكن هذا يرجع إلى شعور النفس المؤثر فيها بتخلفها (بحكم طبيعتها أو العوامل المحيطة بها) عن النفس التي أثرت فيها في الخطابة أو الكتابة أو ما شاكل ذلك.
من هذا كله نستطيع أن نقول إننا لا نتأثر بعظيم فنرهبه ونرتعد من الخوف بين يديه، أو خطيب فنصفق له ونحمله على الأعناق، أو محدث فنرهف آذاننا له ونعجب به، إلا لأننا قابلنا العظيم وفي قرارة نفوسنا من شعور بسموه عنا، وسمعنا الخطيب ونحن نشعر بأننا عاجزون عن الوقوف مثل موقفه، والتعبير بمثل تعبيره، وأنصتنا إلى المحدث وقد غمرنا شعور بالقصور عن لباقته، أو مجاراته في حججه، أو الإتيان بمثل حديثه الذي يحمل بين طياته من المذاهب الجديدة والعلوم الحديثة ما نجهل. وليس هذا الأثر ناتجا من صدور أشعة من نفس العظيم أو الخطيب أو المحدث إلى نفوس الناس.
وخلاصة القول إننا لا نقول بحدوث تأثير المؤثر من قوة إيجابية تنبعث، ولكنه يكون بشعور سلبي أو قوة سلبية يحس بها المؤثر فيه حتى ليتوهم أنها آتية إليه من خارج نفسه، والحقيقة أنها تصدر عن نفسه وتنبع منها.
الإسكندرية - عبد الحليم محمد حمودة
(الرسالة)
من أين يأتي شعور العجز والضعة، وقد تلقى الرجل لأول مرة فيثير فيك شعور البطولة والإعجاب، بل قد تراه أو تسمعه وقد سبقت إلى أذنك أخبار وضعت من شأنه، وحطت من قدره، فما هو إلا أن تراه وتسمع له حتى يتغير رأيك ويختلف تقديرك. هل سمعت قول القائل: (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) أو هل علمت أن الناس لما رأوا الحجاج يصعد على المنبر أخذوا الحصى ليحصبوه، فما استهل خطبته حتى تساقط الحصى من أيديهم(18/35)
وهم لا يشعرون؟ ما ذلك إلا الإشعاع.(18/36)
لم لا تقول الشعر؟
للدكتور عبد الوهاب عزام
كتبت ألي أيها الأخ الكريم تسألني (لماذا صمتَّ بعد تغريد، ونضبت بعد فيض، وسكنت بعد المرح، واكتأبت بعد الفرح؟ وما هذا الوجوم والإطراق بعد التهلل والإشراق؟ أين قلبك الهدار، وقلمك المكثار؟ وأين شعرك الشاعر، ونظمك الساحر؟ ليت شعري، وقد أمكنك القول، لم لا تقول الشعر؟)
يا أخي بماذا اجيبك؟ لقيت الحياة مبتسما، ونشأت مرنما، أطالع تباشير الصباح مرحا كالأطيار، مترنحا مع الأشجار، تروقني ألوان الأفق، وتدهشني طلعة ذكاء في مواكب الضياء، أراقب الأضواء، في الصباح والامساء، وأساير الظلال، بالغدو والآصال. وأخلو إلى القمر أشرب ضياءه، وأحس في نفسي صفاءه، وأقول:
البر والبحر ذوبٌ من سنا قمر ... تردد الطرف فيه فهو حيران
وأتأمل الأزهار في شعاعه، واقبِّل الورد في لآلائه وأساير النيل أجري مع مائه. واضطرب مع أمواجه، وأقف على البحر فرحا بآذيِّه المهتاج، معجبا بسلاسل الأمواج، أرقب العراك المتواصل، بين الماء والساحل.
وكم طربت لزقزقة العصافير في نور الصباح، وتنزيها على متون الرياح، وضحكت لبكور الغراب، سابحا في الضباب.
وكم فتنني الوجه الجميل والخلق النبيل فقلت:
في كل حسن أرى سراً يجاذبني ... نفسي، ومالي بهذا السر عرفان
أرى الجمال فتطبعه زجاجة العين على صفحة القلب فاذا هو على لساني وقلمي. فانطلق قائلا معجبا. ومنشداً مطرباً.
وكل شيء يبعث الأمل، ويحدو إلى العمل، وكأن القضاء طوع الخيال، وليس في الدنيا محال. وكأن الإنسان يستطيع أن ينحت الجبال بقلمه، وينزف البحر بفمه. والمستقبل وضاء، وكل ما في العالم ضياء.
ثم نفذ إلى الفكر إلى ما وراء الظاهر، وتطلع إلى ما في السرائر، وجاوز القشر إلى اللباب، وخاض الضحضاح إلى العباب، وكشف المجاز عن الحقيقة، وطالع ضمائر(18/37)
الخليقة. فأنبهم العالم واستعجم، فاذا كل شيء مبهم، فالفكر فيما وراء الحجب جائل، وكل سر هنالك هائل. الضوء هنالك ضباب، والبصر حجاب.
فامحت الأشكال وخفيت الألوان، وعيّت الريشة في يد الراسم، وحار القلم في بنان الشاعر، وبُهِت المنطق دون البيان، وجمد اللفظ على اللسان. ويبقى السر المحجَّب آبيا على كل مطلب، أو يبصَّ من الحقيقة حاجب يعظم عن ضيق الألفاظ ويكبر على سلاسل القوافي والأوزان.
ورحم الله الشاعر سنائي إذ يقول: (رجعت عما قلت إذ ليس وراء الألفاظ معان، وليس لما ندرك من المعاني ألفاظ).
أهم بالأمر الصغير فإذا هو حلقة في سلسلة، وطريق إلى كل معضلة، وجزء من كل حقيقة هائلة.
وأحاول الأمواج فتنفتح عن الأعماق، فيضل الفكر وتزيغ الأحداق. وأعالج حمرة الشفق، فاذا وراءها خبيئات الأفق، وإذا الأفق صلة الأرض والسماء، وكيف بما فيهما من حقائق، وكيف بما أستسر من أسرار الخالق؟
وأهم بالكلام عن الحيوان فاذا أنا في لجة الحياة، وهي السر العجاب، وسطها فوق الأرض وطرفاها في التراب.
وأريد أن اصف الذرة فاذا هي والشمس سواء، باهرة الحقيقة رائعة الضياء. أنظر إلى الصغير فيكبر، وأعمد إلى الواضح فيستعجم.
والأمل تكسرت أمواجه على صخور الحقائق، وضل سرابه في صحاري الحياة.
يا أخي: ها أنا على ساحل المحيط الأعظم حائر الطرف بين اللجة والشاطئ، مقسم الفكر بين الظاهر والباطن. ولست أدري أأبقى صامتا مبهوتا، أو أهجم على الأهوال، وأغوص في الأعماق، ثم أبين عن عرفاني وجهلي، وإدراكي وعجزي، أو أرجع إلى العهد القديم أصف الألوان والأشكال والضياء والظلال. . . .؟(18/38)
الحمى داء ودواء
تحت هذا العنوان وفي العدد الرابع عشر من مجلة الرسالة الغراء عقد العالم البحاثة الدكتور النابغة احمد زكي وكيل كلية العلوم بالجامعة المصرية فصلا قيما وبحثا ممتعا. عن الحمى وفوائدها، قال في بدايته (الحمى من قديم الزمان عرض مخوف وطارق مرهوب وكثيرا ما كانت رسول الموت وقائد الحي تحدو ركبه إلى وادي الفناء. ولكن في هذه الأيام القريبة الماضية. نشأت فكرة أخذت تحل محلا ذا بال في رؤوس البحاثة من الأطباء أو في رؤوس القليل منهم الذين لا تزعجهم غرابة الخاطر، ولا يصرفهم عن أمره خروجه عن المألوف، ومحصول هذه الفكرة أن الحمى ذلك العدو القديم للحياة، قد تنقلب، أو يمكن تأليفها وقلبها إلى صديق نصير، فبدل أن تكون عونا على الداء، تصبح عونا على الشفاء، في بعض الأمراض التي عجز عنها الطب وحار فيها الأطباء).
ونحن نقول للدكتور الفاضل بكل تواضع واحترام إن هذه الفكرة التي انتهى اليها الباحثون والأطباء الغربيون اليوم. وقف عليها أطباء العرب من عشرات القرون الماضية، حينما كان آباء هؤلاء العلماء يسكنون المغاور، ويلجئون إلى الكهوف. فقد جاء في الصفحة الأولى بعد السبعين من كتب (زاد المعاد في هدى خير العباد للإمام الحافظ أبي عبد الله بن نعيم الجوزي) ما يأتي:
(وقد ينتفع البدن بالحمى انتفاعا عظيما لا يبلغه الدواء، وكثيرا ما تكون الحمى سببا لإنضاج مواد غليظة لم تكن تنضج بدونها وسببا لتفتح سدد لم تكن تصل اليها الأدوية المفتحة. وأما الرمد الحديث والمتقادم فأنها تبريء أكثر أنواعه برءا عجيبا سريعا، وتنفع من الفالج واللقوة والتشنج الامتلائي وكثير من الأمراض الحادثة عن الفضول الغليظة، وقال لي بعض فضلاء الأطباء أن كثيرا من الأمراض نستبشر فيها بالحمى كما يستبشر المريض بالعافية، فتكون الحمى أنفع فيه من شرب الدواء بكثير، فإنها تنضج من الأخلاط والمواد الفاسدة ما يضر بالبدن، فاذا أنضجتها صادفها الدواء متهيئة للخروج بنضاجها فأخرجها فكانت سببا للشفاء).
وفيما تقدم دليل جديد يشهد بما بلغه العرب في الطب من المنزلة العالية والمكانة التي لا تدانى، كما يشهد لهم بفضل السبق إلى كثير من نظرياته الحديثة التي ينسبها علماء اليوم إلى أنفسهم زورا وبهتانا، والفضل كل الفضل للمتقدمين.(18/39)
والقود. سودان
محمد محمود الجندي. طالب بالتجارة العليا بالقاهرة(18/40)
أعلام الفلسفة الفرنسية
تين
منذ سنوات خلت، نشرت الصحف خبر احتفال الفرنسيين في بهو السربون، بذكرى الفيلسوف الفرنسي الكبير (تين) وقد كان الاحتفال فخما للغاية، يناسب مكانة الفيلسوف العظيم؛ وقد رأسه المسيو إدوار هريو وزير المعارف والفنون الجميلة، وشرح بمحاضرته التي ألقاها منهج تين في النقد الأدبي، وفي العرض التاريخي. ويرى بعضهم أن مؤلفات تين خير ما أخرج التفكير الفرنسي في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، ويرون انه أبرع نقاده في ذلك القرن! وقد كان تين فوق ذلك فنانا بارعا يعشق فن الموسيقى، وأما نظرياته الفلسفية فإنها تميل على الأغلب إلى الناحية المادية.
العبقرية الحق هي التي تعمل ولا تشبع، وتجد في الألم لذة، وفي الموت من أجل العمل حياة، ولا تحسب يوماً أنها وجدت ما تنشد وتصبو إليه! كان تين لا يكل ولا يتعب، بل كان يقوم في الليل ليستأنف عمله، وكان (اسكوت) الكاتب الإنجليزي الكبير مصنوعاً من العمل، كما كان يقول، وحسب (بتهوفن) انه لم يبرز ما يصبو إليه، ومات (فولتير) وهو معتقد انه لم يعمل عملا واحدا يرضي ذوقه!
العبقرية الحق، هي التي تخلق وتنشئ وتنظر دائما إلى الممكن وإلى المستقبل، هي باذرة بذور الخير والحب والطيبة والجمال في الوجود، والطامحة دائما إلى الأحسن، والآخذة بالناس من الظلمات إلى النور، ومن العبودية إلى الحرية، ويخلد العبقري بقدر ما تترك رسالته من أثر على وجه البسيطة؛ فكلما كانت رسالة العبقري إنسانية كان الإعجاب بها شديداً والثناء عليها قويا.
ولد هيبوليت أدولف تين في 21 أبريل سنة 1828 بفوزييه بمقاطعة الوارون في فرنسا، وكان أبوه من أسرة قليلة المال قصيرة الباع. وكان لأبيه (جان باتيست تين) اتصال بالقضاء، لذلك استطاع تين أن يتلقى عليه النظم والقوانين إلى جانب دراساته بمدرسة (مسيو بيرس) الصغيرة. حتى بلغ الحادية عشرة من عمره، وقد مرض أبوه فأرسله في سنة 1839 إلى مدرسة دينية في (رتل) أقام بها ثمانية عشر شهراً، وبعد وفاة أبيه سافر إلى باريس فالتحق بمعهد (ماتيه) وكان طلاب هذا المعهد يدرسون بكلية بوربون وفيه(18/41)
ظهرت بوادر كفايته النادرة. لقد امتاز تين لأول دخوله المدرسة بمقدرة على العمل مدهشة، وبجلد متين لا يقل إثارة للدهشة، وكان كثير التحصيل، كثير التعليق على ما يحصل، كثير التفكير فيه، مما جعل له على أصدقائه جميعاً نفوذاً معترفاً به، اعترافهم بفضله ومقدرته على الكتابة نظماً ونثراً في اللغتين الفرنسية واللاتينية. وبعد انتهاء دراسته الثانوية انتقل إلى مدرسة المعلمين ' وفيها قرأ افلاطون، وارسطو، ودرس الإنجليزية فبرع فيها وأتقن آدابها. وقد لاحظ عليه أساتذته مبالغته في الحرص على السلوك بالمنطق مسلكا رياضياً والوصول به دائما إلى قاعدة ثابتة على نحو ما يصل الرياضيون في مسائل الحساب والهندسة والجبر. وقد تنبأ له أساتذته بمستقبل باهر، وقالوا سيكون تين أستاذاً ممتازاً، بل سيكون أكثر من ذلك، وسيكون عالما من الطراز الأول، وسيكون شعاره شعار سبينوزا (يعيش ليفكر).
ومع ما عليه تين من رقة في الخلق عظيمة، ومن طباع غاية في الطيبة، كان لذهنه قوة جبارة لا تلين لا يستطيع ان يكون لأحد على تفكيره أي تأثير. وجماع ما يقال عن (تين) انه ذهنية جبارة منقطعة النظير!
كان تين أقوى أثراً في نشر الفلسفة الواقعية من صاحبها اغست كونت نفسه، وبرغم تثبيته قواعد هذه الفلسفة الوضعية في ذهن أهل عصره والعصور التي خلقته، قد فتح لها ميادين جديدة في الفن وفي الأدب وفي الشعر، وفي صور نشاط العقل الانساني، وفي النفس الإنسانية، مما جعل للعلم الوضعي وللفلسفة الوضعية من متانة الأركان ما لا يزال حتى اليوم وطيدا قويا غاية القوة، برغم موجات الروحية (والتيوزوفية) وغيرها مما سبق الحرب وشجعته الحرب ومما لا يستطيع أن يقاوم (حتى في الميادين الفلسفية البحتة) تيار العلم الجارف، الذي يدل الناس كل يوم على أن العلم إذا اخطأ في تقرير نتائج معينة، فهو وحده قمين بإصلاح هذا الخطأ من طريق الاستقراء والملاحظة والتجارب، وما يترتب على هذه من تبويب ينتهي إلى استنباط القوانين العلمية الصحيحة التي يمكن أن تكون أساسا لارتكاز الفلسفة الواقعية الصحيحة، فهذا الرجل الذي حاول، ونجح في محاولته، هدم الفلسفة الكلامية التي كان الأستاذ فيكتور كوزون عميدها في عصره، والذي حاول ونجح في أن يقر إلى جانب التفكير الواقعي المذهب الجبري وأن يطلق هذا المذهب على(18/42)
النمسان ويخضعه له، بمقدار ما تخضع له الأفلاك والموجودات كلها، هذا الرجل كان صاحب أسلوب في الكتابة له من البهر ما يسحرك كما لو كنت تستمع إلى ألحان أركسترا بيتهوفن! ولعل أبرع ما كتبه تين في الناحية الأدبية، هو ما كتبه في الوصف والسياحة، ولقد بلغت براعة الوصف فيهما مبلغا قل أن يجاريه فيه كاتب.
وليس فضل تين مقصوراً على فلسفته وأدبه فحسب! فهو إلى جانب ذلك مؤرخ من أكبر المؤرخين لم يقتصر على كتابة تاريخ بلاده، بل تناول عصر ما قبل الثورة، وتناول عصر الثورة والعصور التي بعدها، وتناول بحوثا أخرى في التاريخ القديم وفي التاريخ الحديث، تناولها بدقة في العبارة، ودقة في البحث، وقوة في الأسلوب، جعلت له كل هذه المكانة التي تسنم ذروتها في عصره، وكل هذا المجد الذي يشهد له به اليوم حتى ألد خصوم نظرياته. ورسائله في التاريخ وفي النقد جعلته منه نقادة معترفاً بنبوغه وبفضله، وقد أقامت له مذهبا في النقد يتسق ومذهبه في الأدب، وفي التاريخ، وفي الفلسفة، وفي كل ما تناوله من مباحث؛ والذي يقرأ كتابه (الفلاسفة الإنشائيون في القرن التاسع عشر) وكتبه (رسائل في النقد وفي التاريخ) يرى اتجاه مجهوده العقلي في السنوات الخصبة من حياته، ويرى المجهود الهائل الذي تناول به بحث اليونانيين القدماء وكتاب فرنسا وفلاسفتها وكتاب إنجلترا ومفكريها، تناول ذلك في دقة وإحاطة قل نظيرهما. يعرض أمامك فكرة كل كاتب وفلسفته وأسلوبه ويحلل ذلك ويرده للبيئة وللجنس اللذين نشأ الكاتب فيهما، ويدلك على ما يراه النقاد ويراه هو في الكاتب وفكرته من قوة ومن ضعف، ومن كمال ومن نقص. ومن دقة في بلوغ الغاية التي قصد إليه الكاتب، أو اضطراب في نهج السبيل إلى تلك الغاية، وهذه طريقته التي سار عليها في النقد، وهي الطريقة العلمية الصريحة التي لا تعرف الميل ولا المواربة، ولا تعرف مذاهب الشك والتردد، والتي تقفك من كل كاتب ومن كل موضوع على خلاصة الموضوع وعلى صورة واضحة من الكاتب على نحو ما رآه تين؛ أول أستاذ (لتين) أثر في تفكيره أعمق الآثار وهو (كوندياك)، وتين لا يفهم كيف ينسى في فرنسا منهج كوندياك الذي هو (أحد المثل العليا للذهن البشري) ويستبدل بفتات الاقتباس والمزج، ثم هو يأخذ على كوزين وتلاميذه قبل كل شيء انحلال المنطق، لأنهم يرون انهم فلاسفة، ولكنه يرى انهم خطباء يعنون بالأثر الذي يحدثونه اكثر مما يعنون بالحقائق التي(18/43)
يبحثونها! ثم يقول: انه تجب العودة إلى كوندياك وهو ذهن لا نظير له في الاستنارة والدقة، وقد وهب كل المسائل العظيمة أجوبة ثارت عليها التقاليد الكلامية المبعوثة، ونظريات ما وراء الطبيعة الألمانية في فرنسا في بدء القرن التاسع عشر! بيد أنها سوف تعود بالرغم من كل هذا، ويعود (تين) بدوره قدوة في استئنافها والتمسك بها.
وكما أن تين كان تلميذاً لكوندياك كان كذلك تلميذاً لأسبينوزا وهيجل فقد شعر مثل (جيته) بسمو الفكرة الاسبينوزية، ورأى أن مفكراً لا يستحق أن يسمى بالفيلسوف ما لم تطبع نظريته الخاصة بطابعها. واسبينوزا هو الذي أوحى إليه باعتبار الوجهين: الوجه الطبيعي، والوجه الخلقي، صورتين لحقيقة جوهرية واحدة، وقال تين عن هيجل متحمساً: (ليس بين جميع الفلاسفة من سما إلى ما سما إليه (هيجل) أو من تدنو عبقريته من ذلك الصرح الشامخ! فهو مزيج من اسبينوزا وارسطو). وقد اتسع مدى عمل (تين) الفلسفي والتاريخي بالاستناد إليه.
يقول (تين) عن الفلسفة الإنجليزية أنها قد انتهت إلى اعتبار الطبيعة اجتماعا للوقائع، أما الفلسفة الألمانية فترى فيها مجموعة من القوانين، فإذا كان ثمة مكان بين الأمتين فهو مكاننا نحن معشر الفرنسيين! لقد وسعنا الآراء الإنجليزية في القرن الثامن عشر، واستطعنا في القرن التاسع عشر أن نضبط الآراء الألمانية، ومهمتنا الآن هي تهذيب الذهنين أحدهما بالآخر ومزجهما في ذهن واحد، وأن نصوغهما في أسلوب يتذوقه العالم كله، وان نخرج منهما بذلك الذهن العام.
ولقد عين تين مدرساً في وزارة المعارف بمدرسة (نفير) في أول سنة 1851 الدراسية، لكنه لم يمكث في هذه المدرسة إلا شهوراً نقل بعدها إلى مدرسة دونها في الدرجة، وذلك لأغراض سياسية. ومن ثم نقل إلى (ابوانيه)، ومنها نقل مساعد مدرس إلى بزانسون في سبتمبر 1852. وعلى رغم تنقلاته الكثيرة، قد وضع رسالة عن المشاعر ورسالة لاتينية تقدم بها إلى السوربون لنيل جائزة الفلسفة، ولما كانت هذه الجائزة قد ألغيت فقد أراد تين أن ينال جائزة الأدب العليا - ولكن رسالته لم تقبل، فوضع رسالة عن لافونتين فنال بها دكتوراه الآداب في 30 مايو سنة 1853، وعل أثر حصوله على الدكتوراه اقترحت الأكاديمية الفرنسية موضوعاً لجائزة تمنح في سنة 1855 على احسن رسالة تكتب عن(18/44)
(تيت ليف) الكاتب والمؤرخ الروماني الكبير، فعرض لها (تين) وكتبها ثم تقدم بها فكانت الأولى بين كل الرسائل التي قدمت!
وكان تين قد رشح نفسه سنة 1862 لتدريس الأدب في مدرسة الهندسة ولكن مسيو دي لموني انتخب بدلا عنه، على أن وزير الحربية عينه في مارس من السنة التالية ممتحنا في التاريخ وفي اللغة الألمانية بمدرسة سان سير - الحربية. وفي سنة 1864 عين مدرسا لتاريخ الفن والجمال في كلية الفنون الجميلة؛ فكان تعاقبه في وظائف الدولة سببا في إثارة الخوف في نفس رجال الدين، مما دفع المونسينير دوبانلوا إلى كتابة منشور وجهه إلى الشبيبة وإلى الآباء يطعن فيه على تين ورنان ولتريه وندد فيه بنزعاتهم الإلحادية مما كاد يزعزع مركز تين لولا تدخل البرنسيس ماتيلدا وبسط حمايتها عليه. وفي سنة 1864 قدم بعض كتبه إلى الأكاديمية ليحصل على جائزة بوردان. فانبرى له مونسينير دوبانلوا من جديد، واشترك معه آخرون ليحولوا بينه وبين الجائزة. على أن المسيو جيزودافع عن تين بكل إخلاص واستمرت المناقشة أمام الأكاديمية فيمن يستحق الجائزة ثلاثة أيام متوالية، استقر الرأي بعدها على أن الجائزة لا تمنح لأحد ما دامت لا تمنح لتين!. . . على أن هذه الخصومات المتتابعة وهذا التجني على ذلك الكاتب الفيلسوف لم يحل دون حصوله على وسام اللجيون دونور في سنة 1866 وعل شهادة من جامعة اكسفورد بعد محاضرات ألقاها بها عن راسين وكورني في سنة 1871. وتزوج تين في سنة 1868 فلم يغير زواجه شيئا من حياة الجد والعمل التي كان يحياها، على انه منذ سنة 1870 على أثر الحرب الفرنسية الألمانية قد حز في نفسه ألم هزيمة بلاده فأجهد نفسه في أن يقف على أسباب ضعفها، وكان هذا هو الدافع الذي دفعه إلى وضع كتابه الأكبر (أصول فرنسا الحديثة) الذي عمل فيه منذ سنة 1870 والذي اضطر من اجله أن يتخلى عن مهنة التدريس منذ سنة 1884 لينقطع له انقطاعا تاماً. وقد توفي في الخامس من شهر مارس سنة 1893 وهو في الخامسة والستين من عمره.
وقد ألقى الأستاذ ليفي بريل المحاضر بالسوربون خطابا في شرح نظريات تين الفلسفية بمناسبة الاحتفال المئوي لميلاد (تين) نترك الأستاذ نفسه يحدثنا عنه إذ يقول: لنذكر اليوم ألقاب مجده ومناحي نبوغه! ولئن كان علم النفس وعلم الاجتماع قد وصلا بفروعهما(18/45)
المختلفة في فرنسا إلى ما وصلا إليه من التقدم فان تين هو أحد الذين يرجع إليهم الفضل في ذلك، وقد كان من الممكن أن يترك عمله، ولكن الروح الذي بعثه ما زال يضطرم إلى اليوم، وكان الطريق الذي سنه هو طريق الإرشاد، وأن فضله ليبدو أشد بهاء، إذا ذكرنا الوسط الفلسفي الذي تخرج منه، ولكن تين غلبت عليه روح الفلسفة الحق فاعتزل أولئك المبشرين بأفقر ضروب التحكم، وبحث عن الحقيقة دون أن يعني بادئ بدء بما إذا كانت ستتفق وهذه العقيدة أو تلك، أو هذا الحزب أو ذاك. وبذا وصل تين بين التقاليد الفلسفية للقرن الثامن عشر، وهي التقاليد التي اعتقد الجيل الذي قبله أنها قطعت نهائيا. وهكذا كان مستحقاً لإعجاب كل مفكر حر في عصرنا، فلنحمده لأنه جاهد من أجل مثل أعلى للعالم والفلسفة النزيهة. ولعل هذا خير مديح كانت تتأثر به عزته. ولقد أبى أعز أصدقائه (أميل بوتمي) الذي ساعده على تأسيس المدرسة الحرة للعلوم السياسية والذي كان أمينا لأعمق اسراره، ان يكتب على قبره سوى هذه العبارة البسيطة: (أحب الحقيقة قبل كل شيء).
حلب. صبحي العجيلي(18/46)
7 - بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام
للأستاذ محمد عبد الله عنان
قال ابن عبد الحكم وهو من اقدم رواة الفتوح الإسلامية وأقرب من كتب عن فتوح الأندلس ما يأتي:
(وكان عبيدة (يريد والي أفريقية) قد ولى عبد الرحمن بن عبد الله العكي على الأندلس وكان رجلا صالحا فغزا عبد الرحمن إفرنجة وهم أقاصي عدو الأندلس فغنم غنائم كثيرة وظفر بهم. . ثم خرج إليهم غازيا فاستشهد وعامة أصحابه، وكان قتله فيما حدثنا يحيي عن الليث في سنة خمسة عشر ومائة). ولم يذكر الواقدي والبلاذري والطبري وهم أيضا من أقدم رواة الفتوح شيئاً عن الموقعة وقال ابن الأثير في حوادث سنة ثلاثة عشر ومائة مرددا لرواية ابن عبد الحكم (ثم إن عبيدة استعمل على الأندلس عبد الرحمن ابن عبد الله فغزا إفرنجة وتوغل في أرضهم وغنم غنائم كثيرة، ثم خرج غازيا ببلاد الفرنج في هذه السنة (اعني 113هـ) وقتل سنة أربع عشرة ومائة وهو الصحيح، فقتل هو ومن معه شهداء) وينسب ابن خلدون الموقعة خطأ لأبن الحبحاب والي مصر وأفريقية فيقول: (وقدم معه (أي بعد الهيثم) محمد بن عبد الله بن الحبحاب صاحب أفريقية فدخلها (أي الأندلس) سنة ثلاثة عشر وغزا إفرنجة وكانت لهم فيهم وقائع وأصيب عسكره في رمضان سنة أربع عشرة، فولي سنتين) ولدينا من الرواية الأندلسية ما قاله صاحب (أخبار مجموعة) عند ذكر ولاة الأندلس وهو (ثم (أي وليها) عبد الرحمن ابن عبد الله الغافقي وعلى يده استشهد أهل البلاط الشهداء، واستشهد معهم واليهم عبد الرحمن) ونقل الظبي في ترجمة عبد الرحمن ما ذكره ابن عبد الحكم عن الموقعة. وقال ابن عذارى المراكشي (ثم ولي الأندلس عبد الرحمن ابن عبد الله الغافقي فغزا الروم واستشهد مع جماعة من عسكره سنة 115 بموضع يعرف ببلاط الشهداء) وقال في موضع آخر، ثم ولي الأندلس عبد الرحمن هذا (أي الغافقي) ثانية وكان جلوسه لها في صفر سنة 112، فأقام واليا سنتين وسبعة اشهر وقيل وثمانية اشهر، واستشهد في أرض العدو في رمضان سنة 114. وقال المقري فيما نقل (ثم قدم عبد الرحمن ابن عبد الله الغافقي من قبل عبيد الله بن الحبحاب صاحب أفريقية فدخلها (أي الأندلس) سنة ثلاثة عشر وغزا الإفرنجة وكانت لهم فيهم وقائع وأصيب عسكره في(18/47)
رمضان سنة أربع عشرة في موضع يعرف ببلاط الشهداء وبه عرفت الغزوة (ونقل في موضع آخر) وذكر انه قتل (والإشارة هنا خطأ إلى السمح ابن مالك) في الواقعة المشهورة عند أهل الأندلس بوقعة البلاط، وكانت جنود الإفرنجة قد تكاثرت عليه فأحاطت بالمسلمين فلم ينج من المسلمين أحد. قال ابن حيان، فيقال أن الآذان يسمع بذلك الموضع إلى الآن (ونقل عن ابن حيان) قال دخل الأندلس (أي عبد الرحمن) حين وليها الولاية الثانية من قبل ابن الحبحاب في صفر سنة ثلاث عشرة ومائة وغزا الإفرنج، فكانت له فيهم وقائع جمة إلى أن استشهد وأصيب عسكره في شهر رمضان سنة 114 في موضع يعرف ببلاط الشهداء، قال ابن بشكوال (وتعرف غزوته هذه بغزوة البلاط)
هذه الفقرات والإشارات الموجزة التي تكاد تتفق جميعها في اللفظ والمعنى هي ما ارتضت الرواية الإسلامية أن تقدمه إلينا في هذا المقام، وان كان في تحفظها ذاته ما ينم كما قدمنا عن تقديرها لرهبة الحادث وخطورته، وبعد آثاره. وإذا كان صمت الرواية الإسلامية تمليه فداحة الخطب الذي أصاب الإسلام في سهول تور فان الرواية النصرانية تفيض بالعكس في تفاصيل الموقعة إفاضة واضحة، وتشيد بظفر النصرانية ونجاتها من الخطر الإسلامي، وترفع بطولة كارل مارتل إلى السماكين. وتذهب الرواية النصرانية، ومعظم كتابها من الأحبار المعاصرين في تصوير نكبة المسلمين إلى حد الإغراق فتزعم أن القتلى من المسلمين في الموقعة بلغوا ثلاثمائة وخمس وسبعين ألفا في حين انه لم يقتل من الفرنج سوى الف وخمسمائة. ومنشأ هذه الرواية رسالة أرسلها الدوق أودو إلى البابا كريكوري الثاني يصف فيها حوادث الوقعة وينسب النصر لنفسه، فنقلتها التواريخ النصرانية المعاصرة واللاحقة كأنها حقيقة يستطيع العقل أن يسيغها. بيد أنها ليست سوى محض خرافة فإن الجيش الإسلامي كله لم يبلغ حين دخوله إلى فرنسا على أقصى تقدير اكثر من مائة الف والجيش الإسلامي لم يهزم في تور ولم يسحق بالمعنى الذي تفهم به الهزيمة الساحقة، ولكنه ارتد من تلقاء نفسه بعد أن لبث طوال المعركة الفاصلة يقاتل حتى المساء محتفظا بمراكزه أمام العدو ولم يرتد أثناء القتال ولم يهزم. ومن المستحيل أن يصل القتل الذريع في جيش يحافظ على ثباته ومواقعه إلى هذه النسبة الخيالية. ومن المعقول أن تكون خسائر المسلمين فادحة في مثل هذه المعارك الهائلة، وهذا ما تسلم به الرواية الإسلامية(18/48)
ولكن مثل هذه الخسائر لا يمكن أن تعدو بضع عشرات الألوف في جيش لم يزد على مائة الف. وأسطع دليل على ذلك هو حذر الفرنج وإحجامهم عن مطاردة العرب عقب الموقعة وتوجسهم أن يكون انسحاب العرب خديعة حربية، فلو أن الجيش الإسلامي انتهى إلى أنقاض ممزقة لبادر الفرنج بمطاردته والإجهاز عليه، ولكنه كان ما يزال من القوة والكثرة إلى حد يخيف العدو ويرده. على أن خسارة المسلمين كانت بالأخص فادحة في نوعها تتمثل في مقتل عبد الرحمن ونفر كبير من زعماء الجيش وقادته؛ بل كان مقتل عبد الرحمن أفدح ما في هذه الخسارة، فقد كان خير ولاة الأندلس وكان أعظم قائد عرفه الإسلام في الغرب، وكان الرجل الوحيد الذي استطاع بهمته وقوة خلاله أن يجمع كلمة الإسلام في إسبانيا فكان مقتله في هذا المأزق العصيب ضربة شديدة لمثل الإسلام ومشاريع الخلافة في افتتاح الغرب.
ويعلق النقد الحديث على هذا اللقاء الحاسم بين الإسلام والنصرانية أهمية كبرى، وينوه بخطورة آثاره وبعد مداها في تغيير مصاير النصرانية وأمم الغرب، ومن ثم تغيير تاريخ العالم كله. واليك طائفة مما يقوله أكابر مؤرخي الغرب ومفكريه في هذا المقام:
قال ادوار جيبون: (إن حوادث هذه الموقعة أنقذت آبائنا البريطانيين وجيراننا الغاليين (الفرنسيين) من نير القرآن المدني والديني، وحفظت جلال روما، وأخرت استعباد قسطنطينية، وشدت بأزر النصرانية، وأوقعت بأعدائها بذور التفرق والعطب).
ويعتبر المؤرخ آرنولد الموقعة (إحدى هاته المواقف الرهيبة لنجاة الإنسانية وضمان سعادتها مدى قرون).(18/49)
في الأدب العربي
من طرائف الشعر
آثار شوقية
- 1 -
كوميديتان لم تنشرا
بقي من المجموعة الشعرية لشاعر الخلود شوقي بك روايتان كوميديتان تهيئان الآن للطبع وهما: (الست هدى) و (البخيلة).
ومن قرأ الشعر الفكاهي للأمير يتصور الروح الخفيفة المرحة التي تشيع في هاتين الروايتين. وفيما يلي منظر من رواية البخيلة يلهب النفوس شوقا اليها:
(الست نظيفة وخادمها حُسْنى، حُسنى تدخل وبيدها شيء)
الست نظيفة: تعالَي يا ابنتي جيئي=بماذا جئتني حُسْنَى؟
حسنى: لقد جئتُ بفنجانٍ=خذيه جربي البُنَّا
السيدة: وهذا شُبُكي. هاتِ
حسنى:=اجل بالعود قد جيتُ
حُسنى: وفي الكيس مع الدخا_ن زنداني وكبريتُ
السيدة: سَلِمت حُسْنَى يداك =
حسنى: أنا مولاتي فِداكِ
السيدة: والآن هل آخذُ خَرْج النهار؟ =امضي خذيه إنه في الكرار
حسنى: هيأته سيدتي؟
السيدة: أجل!
حسنى: وما أخرجتِ لي؟
السيدة: رأسٌ من الثوم وخمسٌ من صغار البصل
حسنى: والسمن مولاتي تُرى
السيدة:=كأمس لم أُقلل(18/50)
أوقية
حسنى: والأرز؟
السيدة: لا. لا يدخلنَّ منزلي
لقد غلا سعراً ولا ... يُعجبني السعرُ الغلي
حسنى: ليتكِ بالزيتِ افتكر_تِ والدقيق والعسل
السيدة: ولِمَ يا حُسْنَى؟ أرا_ك اليوم عادَكِ الخَبَلْ
نسيتِ أن ههنا ... وتحت هذي الكنبَهْ
العشراتُ من قدي ... م الكعك والغريِّبه
حسنى: لم أنس يا سيدتي
السيدة:=أنت إذن مخربة
حسنى: قد اشتهيتُ لقمة القاضي
السيدة:=اشتهتك عقربة!
السيدة: وما الذي اشتريت يا=حسنى لنا من الخُضَرْ؟
حسنى: الباميا! كأنها الزُ_مرُّدُ الخام الحجر
السيدة: الباميا منذ متى=هذا الخضار قد ظهر
حسنى: جديدة قلتُ عسى=سيدتي بها تُسَرَّ
نادى المنادون علي ... ها منذ أسبوع غبَرْ
ترفُلُ من شوكتها ... وفي شبابها النضر
السيدة: أجل لقد أكلتُها=في منزل الشيخ عمر
كالذهب الإبريز ... والثومُ عليها كالدُرَرْ
حسنى: واليوم تأكلينها
السيدة:=أمر من طعم الصَّبِرْ
اشتريتْ غاليةً ... مثل البواكير الأُخَرْ
حسنى: هدية تلك
السيدة: وممن؟(18/51)
حسنى:=من قريبٍ لي حضر
السيدة: من أين جاء ومتى؟
حسنى:=من الصعيد قد بكر
السيدة: وبم ترى جزيته؟ =بقبلةٍ مستعجلة!
حسنى: سيدتي!
السيدة: امضي اطبخي=دقّيةً مكمّلة
كأنها خليةً ... من عسلٍ مجمّلَة
والثوم فيها لؤلؤ ... وهي به مكللة
والعظم
حسنى: واللحم
السيدة: إحذري يتعبني أن آكله
حسنى: اللحم يا سيدتي في الباميا ما أسهله
السيدة: حُسنى انظري
حسنى: سيدتي
السيدة: على البلاط وسخُ
حسنى: الآن اغسلُ البلا_ط ثم امضي اطبخُ
(وتخرج حسنى الخادم)
- 2 -
جبل الدروز
مشروع قصيدة لم تتم كان ينظمها المرحوم شوقي بك وهو بعالية من لبنان في أسود الجبل وقد اخرجوا من ديارهم ففروا بحريتهم وكرامتهم إلى الصحراء.
ألا بديارهم جنَّ الكرام ... وشفَّهم بليلاها الغرام
بلادا أسفر الميلاد عنها ... وصرَّحت الرضاعة والفطام
وخالط تربها وارفض فيه ... رفات من حبيب أو عظام
بناء من أبوّتنا ألاوالي ... يتمم بالبنين ويستدام(18/52)
توالى المحسنون فشيدوه ... وأيدي المحسنين هي الدعام
وأبلج في عنان الجو فرد ... كمنزلة السموءل لا يرام
يبيت النجم يقبس من ضياه ... ويلمسها فيرتجل الجهام
له في الأعصر الأولى سمى ... إذا ذكر اسمه ابتسم الذمام
كلا الجبلين حر عبقري ... لدى محرابه ملك همام
أُزيلوا عن معاقلهم فأمسى ... لهم في معقل الصخر اعتصام
الذكرى
مرت بي الذكرى فعا ... ود قلبي المضني أساه
ولمحت عهدا خاليا ... ووجدت في الذكرى شذاه
أيام روضُ اللهو غض ... والهوى دان جناه
والعيش مُخضر الحوا ... شي والمنى تُندى ذَراه
والقلب يمرح هائماً ... نشوان ما يدري هداه
كم لذَّ تقبيل الخدو ... د وشاقه لثم الشفاه
واليوم صوَّحه القنو ... ط فشاخ منضورا صباه
في هدأة الذكرى وأح ... لام الشباب بكى هواه
وطوى بساط اللهو في ... شرخ الصبا وا لهفتاه!!!
أوَّاه من عبث الزما ... ن وآه من كيد الحياة!
دمشق - حلمي اللحام
قلب!
لشاعر الشباب السوري أنور العطار
يا قلب! يا هيكل قدس الهوى ... ويا مطاف الذكريات العِذاب
اضممُ على الحب شراع المنى ... فهو طعام الروح وهو الشراب
تالله لولا حرمةٌ للهوى ... لكنتُ أصليتك مُرُّ العذاب
أمضَّني حملك طفلاً وها ... لما تزل طفلاً كثير الشغاف(18/53)
تملك أطراف السماء التي ... لم يمتلكها الدهر، طيف التَّباب
تفتُّن في الضحك وما تأتلي ... تلعب حتى يتعايا اللعاب
صبَّرت عنك الروح لكنما ... أضجرها منك مرادٌ عُجاب
أضعت من أجلك زهو الصبا ... فضاع ريحاني، وضاع الشباب
لم يبق لي من مأمل يرتجى ... في راحة الأحلام غيرُ السراب
يَرِفُّ، والروح شديد الصدى ... يُعِله في العمر ماء كذاب
قيثارتي تمعن في نوحها ... ونوحها شطرُ فؤادي المذاب
أشعارها في ذي الدُّنى نفحة ... تائهة في عالم من ضباب
تضيع في غيهب هذا الورى ... ضيعة طفل في فسيح الرحاب
يا غيبُ! هذا الطفل جمُّ الرؤى ... مفضض الأفياء، نضْر الشعاب
مُخْتَطَفٌ، شاردة روحه ... وشارد الروح طويل الغياب
غلغل في دنيا الهوى فارتمى ... حيران قد ضل سبيل المآب
خذه إلى ساحك تغنم به ... أغرودة حالية بالرغاب
أيها النيل
أيها النيل أنت روح البلاد ... ورسول المنى وكل المراد
لست ماء في أرضنا بل دماء ... تتمشى بين الحشا والفؤاد
فاجْرِ يا نيل بالحياة إلينا ... وابعث الخير في بطون الوادي
واملأ القطر من ترابك تبراً ... وابق يا نيل رغم أنف العوادي
أيها النيل لن تذل مدى الده ... ر وفينا ذخيرة للجهاد!
مصر تفديك بالدماء وبالنف ... س إذا عز في الخطوب الفادي
فهي لولاك لم تكن منشأ النو ... ر ومهد الحجى وكهف الرشاد
وهي لولاك لم تكن ذات مجد ... ثابت الأس مستقر العماد
وهي لولاك لم تخلّد بذكر ... في جميع العصور والآباد
وهي لولاك لم تكن منية الغر ... ب حديثاً وكعبة القصاد
أيها النيل بلغ الغرب أنَّا ... قد صحونا من الكرى والرقاد(18/54)
وسعينا إلى النهوض لنُحْيي ... لك عهد الأبوة الأمجاد
محمد فريد عين شوكة
الوداع الأخير
أغداً يا هاجري موعدنا؟ ... ردَّت الموعد أيامي عليك!
ها أنا الساعةَ في مُنعزلي ... أُسلم الروحَ وأُزجيها إليكْ
كم تمنيتُ إذا أسلمتُها ... لو أتَتْ خاتمتي بين يديكْ
يا ضنيناً باللقا. . . . حتى اللقا ... ساعة الموت من الحرمان؟ ويْك!
أيها القاتل. . . . إني مشفق ... لك (إن تلق الردى) من ملكيكْ!
بيَ أوجاع قد استعصت على ... حكمة الآسِي. . وما استعصت عليكْ
في سرير الموت جسم دارس ... ذو فؤاد ذائب من ناظريكْ
أيها القلب. . . . سألقَى خالقي ... ما جوابي أن يسل عن قاتليك؟
لست بالخائف في أخراي من ... لهبٍ ألفيْتُه برداً لديك
كنت في الدنيا مجوسياً صبَا ... للهيبٍ موقد في وجنتيك
لكأني كنت مثلوجاً. . . . وكم ... أدفأتني قبلةٌ من شفتيك!
يا شقيق الزهر والطير أما ... سألت نفسك عني أخويك؟
أنا في روضك أرويه بما ... فاض من دمعي مدى العمر عليك
في سرير الموت أغفَى شاعرٌ ... عبقري. . . وحيهُ من مقلتيك
يا ضنيناً باللقا. . . حتى اللقا ... ساعة الموت من الحرمان؟ وَيْك!
صالح جودت(18/55)
في الأدب الشرقي
من أحدث الشعر التركي
قصيدة لمحمد عاكف بك
للدكتور عبد الوهاب عزام
كنت عزمت على أن أنتقل من الشعر التركي الحديث إلى موضوع آخر من الشعر الشرقي، ولكنني حينما عدت إلى حلوان في آخر الشهر الماضي وجدت الصديق الفاضل محمد عاكف بك قد فرغ من نظم قصيدة طويلة من روائع شعره يتجلى فيها بعض ما يحسه عظماء الشرق، من الآلام والأحزان في أيامنا الحاضرة، فاستحسنت أن اجعلها ختاماً للكلام عن الشعر التركي وكان من توفيق الله أن ظفرنا بمثل هذه الخاتمة.
الفنان
قصة، سمعتها منذ ثلاث سنين فلعل لها سامعاً واعياً.
. . . . فصَل القطار من بوستون بعد الزوال بخمس دقائق. وتفرق المودعون، وآوى إلى المقاصير المسافرون. فها أنا مستبدٌّ بهذه المقصورة الثمانية وقد أمكنت الراحة فما يمنعني أن استلقي فأريح فكري وجسدي. لتدر السماء والأفق والأرض وجداً فلست أبالي ما استقرت بي هذه الزاوية.
لله أي أشجار من الزمرد!. . وأي لجج من المروج!. . أزهور هذه أم قصور؟. . ما هذه القرى في حلل المدن وأبهتها؟. . ما أجمل الطريق وما أبهر مناظرها!. . . وما أكثر هذه المصانع!. . . .
أخذتني سنة فانمحت هذه الخاطرات كلها. وبينما أطفو وأرسب في آفاق النوم إذا أنا مشارك في مقصورتي: وإذا كوكب في ميعة الصبا قد طلع أمامي. كلما طمح البصر إليها أزاغه لألاؤها فخر ساجدا على قدميها. وإلى جانبها (ولا ريب انه حبيبها) رجل نجيب، محبب إلى الرائي، طويل القامة، رزين، مهيب، تشهد كل أسارير وجهه أنه فنان.
أشفقت أن أروع هذين القمريين، فعلقت أنفاسي ولبثت قابعا في زاويتي. ثم شرعت أرقبها إذ لم أر حاجة إلى هذا الإشفاق: أما الفتاة فكانت عيناها الذاهلتان مستغرقتين في حبيبها(18/56)
حتى لتحسب أن لو انقضَّت أجرام السماء لم تفق ولم تشعر. وأما العاشق (وقد غشى الحزن أسارير جبهته الوقور) فقد غابت نظراته العميقة في اجواز الفضاء البعيدة. كيف يحسَّ ظلَّ وجودك وهو يرمي الغيوب بعينيه وبجانبه ليلاه، وأمامه صورة المستقبل الذي طمحت إليه عيناه؟ فانس نفسك ثم انظر ماذا تقول الفتاة:
أيها الأمير! أرأيت ثلاث القطع الأخيرة؟ إنها لساحرة جدّ ساحرة. ما أصاخ المسرح في حياته إلى مثل هذه البدائع، أرأيت شمس الصيف حين تطعن بأشعتها في السحب فتحرق السماوات نيران البروق الخاطفة؟ كذلك كانت أصابعك التي لم تضرب، بل أحرقت العود النائح تحت خطوات الضياء! لو علمت كيف أنَّت تلك الصدور التي كانت أمامك! ربّ! ماذا كانت هذه النوَّحات الداخنة لحناً بعد لحن كما تدمى وتحترق مئات من قلوب البلابل وأنت تصب شآبيب اللهب على الأوتار كلها جملة واحدة! إن هذا النفس المنبعث إلينا من قلب الصحراء المحترق (هذا الخطاب الذي يحشر الأجيال كأنه نفخة الصور هو أوّل ما سمعه غربنا المدنيِّ، علم الله لقد كنت، وصواعق المضراب تتساقط، أتمثل سراب الماضي، ماضي مصر والعراق، وإيران والحجاز، واليمن وغزنة وبخارى، والسند والهند) كنت أتمثل هذا السراب صاعداً من كل خربة دخاناً بعد دخان!
- ولكن كيف يحتمل عجزي هذه الكلمات؟ إني لأخجل أن أشكرك.
- ماذا تقول؟ إن للتواضع حداً فاعرف قدرك.
- أنا لا أعرف إلاّ قدري:
كلا كلا! حتَّام تخفي نبوغك؟ ألم تر إلى الذين استمعوا لعزفك اليوم؟ وهم شياطين الصناعة في هذا العصر بلا ريب ألم ترهم جميعاً قد أحنوا رءوسهم إكبارا وإعجابا. ولا سيما مشاركة غودسكي في عصفات التصفيق الثائرة بين الحين والحين، وتهنئته إياك وقوله: (أيها الأمير! لا أدري أين نظير هذا الاعجاز، ما أبهر عزفك! أني بك جد مفتون، وإنك اليوم فوق كل ثناء) إنها كلمات أخذت أنفاس الحاضرين.
- لأنه يحب الفقير.
- كلا. إن هذه الديار، ما لم تغير شعارها، لا تحب الفقير أبدا، وإنما تحب الدولار، ولست أعرف ديارك، ولعلها على غير هذا.(18/57)
- إن يكن بيننا فرق فمقدار رأس فرس في حلبة الرهان.
- نحن إذن شركاء في الفاقة، وأنها لبليَّة.
- ولكن ما كان ينبغي أن يغض من قدر غودسكي، فإن كل قريب يعرف شرف نفسه؛ دع عبقريته التي سيطرت على كل بعيد. فان لم يكن في صدره قلب حساس فانشري على الخليقة كلها كفناً من المعدات.
- حسن! والآخرون؟ أهم كذلك أصدقاؤك؟
- لا!
- هل نسيت ما قالوا: (أيها الأمير! ما سمعنا قط فيولنسل كهذه، قد تسخّر العبقريات الكبيرة، هذه الآلة الثائرة المستعصية التي تزلزل العبقريات الصغيرة، ولكن المعجزة في عودك هذا. نعم إن فيولنسل عندنا آلة أبيَّة مرهفة ولكنها كملت على مر الزمان. وما هكذا عودك، انه آلة ساذجة تأبى كل كمال. إن هذه الأصوات الزاخرة كالشلال لا تفيض من مثل هذا الصدر. كنا نظن هذا فاذا بك قد أخرست الفضاء وظهر بين الحين والحين عودك اللانهائي. . .) أهذه مجاملة؟
- أليست مجاملة؟
- رحماك! أني لأخشى أن يكون تواضعك أشبه بالرياء! لقد آن أن نعترف بنبوغك.
- إن مقاربة الكمال بعيدة عن آمالي فدعي النبوغ الآن!
- ما هذه النغمة الباردة المعادة؟ وهذا القرار المكرر؟
- ذلك إن الفنان لا يعلو بذراعيه، ولا بد للنبوغ من جناح، ولا جناح لي.
- أأنت لا جناح لك! اجهر بصوتك فما فهمت! انك منذ قليل جاوزت شواهق الصناعة ثم حلقت حتى تخطيت حدود الإمكان، أنَّى اهتديت إلى هذه السبل المختلفة للإيغال في هذا الطيران؟ لا ريب انك لم تطوِّف في عالم اللانهاية راجلا. وأن لك في هاتين الآلتين الخافقتين في ذكراي جناحين آخرين. فليت شعري أفي العالم عبقرية كهذه تسمو بها أربعة أجنحة باحثاً خيالها في سماء الالهام؟ إن الدم الذي في عروقك لمن دم الأنبياء، وأن غلياناً في هذا الدم لجدير أن يبعث في الشرق أزكى حماس؛ إن وراءك جدوداً قد تصرف بالدهر سلطانهم، وأن أمامك ذكراً قد ضمن لك المستقبل منذ اليوم، فهل جاء أحد إلى هذه الديار(18/58)
في هذه السعادة؟
- أهكذا السعادة؟ كلا! لا تخدعي نفسك بالسراب. أجل نشأت في طفولة سعيدة أتبجح في دار كأنها الفردوس. ولكن اكفهر الجو منذ تخطيت عتبة الدار؛ أحاط اللهيب والدخان بالشرق الممزق، وكيف ينهض من تلقفت داره النار فانقضت في التراب كل مفاخره حتى لم تبق خربة من هذا الماضي المجيد؟ وبينما تململ تحت هذه المصائب تقطعت الديار فذهبت واحدة بعد أخرى، فلما نظرت ورائي لم أر داراً ولا ديَّاراً: ذهبت بها جميعاً أيدي الأجانب! فلم يبق في هذه القبة إلا يأس أمة خاسرة!
- أليس هو اليأس الذي كان يئن به عودك؟
كلا! لو أنَّت الكائنات كلها بَلْهَ العود ما ترجم النواح عن ألم متقد في الجوانح. يقول شاعر الهند الفيلسوف محمد إقبال: (احترقت من نغماتي المضطربة قلوب الأصدقاء، وإنما يحترق قلبي من النغمة التي يعجز عنها الغناء.) وكذلك أنا. فما سمع بعد من لسان مضرابي صوت الألم الذي يدوي في قلبي الخرِب! ذلك سموم، فكيف تبين عنه بضع آهات؟ نعم لم تبن عنه فما كنتِ الآن عارفة أمري إذ تغنيت بأغاني سعادتي! فلا تغضبي إن عجبت لظنك بي. لا تغضبي واعلمي أني نِضْو مصائب، أجالد هذه الأحداث التي تسمى القضاء. وقد عيَّ رأسي وذراعي بالجلاد المحتدم ليل نهار، لا أزال أتحامل وانهض. ولكن الشباب قد انهدم! وا حسرتاه! على أي حين قد انهدم: حين يئست من الظفر ونأى عني أمل النجاة وذهب الهلاك بكل خطوة خطوتها إلى المستقبل. وإلا فأية بلية لم تنل مني؟ أصورة وطني الذي انقلب كثباناً من الرماد؟ أم تعاسة أمتي الهائمة بغير وطن؟ أم عشي اليتيم الذي عصفت به ريح الخريف؟ أم أسرتي المرزأة، التي ذرتها الرياح في الأرجاء؟ أم معابدي ومقابري التي طمسها البلى؟ أم حرم كعبتي الذي أقفر إقفار البيداء؟ أم ديني الذي دمى قلبه دهراً حتى وقع؟ أم نعيب البوم على هذه الخرائب خرائب الإحساس؟
وبعد فأية فاجعة لم أصل بنارها؟ لست اعلم ما طواه لي الغد فهو الآن سر محجب، ولكن إن تسأليني عن مصائب اليوم فأليك إجمالها:
ارتمت بي في اليم سفينة بالية. فاكبر ظني أن لن أعاود الحياة، وكنت أعزي نفسي حين أرى أساطين عشيرتي بجانبي تتقلب بنا الخطوب معاً. فثارت العاصفة ومزقت أضلاع(18/59)
السفينة وتفرقت الأمواج بالألواح، فلتصارع القضاء هذه السفينة التي انقلبت خيالاً، بل لم يبق منها الخيال! لماذا أكافح أنا في هذا البحر؟ قد اعتصمت بلوحين تعسين، وما بقاؤهما في مصارعة جبال من الموج؟ والسماء تحجبها ظلمات من السحب متراكمة: ويجثم على الفضاء اشد الليالي حلكا وهولاً، فأكوام الظلام عن يميني وشمالي وأمامي وخلفي. لا أعرف المكان ولا الغاية ولا الجهة ولا الوجهة، أضطرب يائساً وأدور التمس الفروج فلا أظفر بها، فأراني مسكينا يدفع إلى القبر حياً! حينا تقذفني الأمواج الثائرة! وحينا تهبط بي هوة جهنمية يرعد بها الفضاء! وحينا تنشق السحب عن البرق الخاطف يمزق أحشاء الظلام، فاذا مرأى هائل لا يذر للحياة الرجاء! أقول مرة: (إن القضاء لا يصارع. فان لم يكن من الأجل بُد فما تمسكي بهذين اللوحين؟ حسبي جلاداً وكفاحاً!) وأقول أخرى: (كلا! لا أستسلم! لأصدم برأسي الصخرة ولا أصدم به الانتحار!) ثم أمضي طافياً راسباً.
- ألم أقل الآن أيها الأمير! أن الذي يتحكم في نفسك دم الأنبياء؟
أجل، أطفو وأرسب وأخالني لا أتقدم، بهذين اللوحين اللذين سميتهما جناحين! بهذين اللوحين وهما البقية من أنقاض شبابي المهدَّم إن تكن له بقية!
- أما كنا نريد أن نشهد الغروب منذ حين؟ واأسفاه قد ذهبت حتى حمرة الشفق! وجثم على الآفاق اليتيمة حزن المساء فانقلبت صدراً حزيناً. ألا تراها؟
- هذه (الآفاق اليتيمة) تمسح عليها الآن يد الشفق؛ فاذا انطفأ الشفق مسحت عليها أيدي النجوم. واما (الصدر الحزين) فان غده مشمس. ولكن آفاق ليلي ليس لها من هذه القبة ضوء ولا صدى، وانما حظها هذا الظلام الصامت، هذا الظلام السرمدي! كلما هبطت إلى ساحة قلبي أخذتني الرعدة والوجل: أرى في كل خطوة أثر غروب. نعم أثر غروب، ولكنه عميق كالعدم! فإنما موعد شموسي الغاربة يوم المحشر!
- ولكن ما هذا الحزن وما هذه الدمعة على وجهك؟ لا تختمي بتعذيب مسافرك أيتها الرفيقة الجميلة! يعلم الله لو أن قلباً قدَّ من صخر ما احتمل انهمار هذه الشآبيب الغائمة في عينيك! لا! لا! إنه ليحرقني أن تحسي آلامي. فدعيني أبكي وتنحي عني! قد قاسيت مصائب الدنيا جميعاً، ولكن دعيني أمضي دون أن أرى هذه الدموع!(18/60)
العلوم
عيد الكهارب
للدكتور احمد زكي
امتلأت الطرقات وسدت المسالك بالمشاة والراكبين وتكدست العربات الخاصة والعامة من فوق الأرض وتحتها بحمولاتها الإنسانية وكلها وجهتها اوليمبيا، ذلك القصر الواسع في الحي الغربي من لندن حيث يقام كل عام مهرجان كبير، يعرض فيه كل جديد في عالم اللاسلك، وما انتصف النهار حتى أخذ البهو الكبير من القصر السقيف يضيق بمن فيه، وأخذت الخطوات تقصر قي سبيلها بين المعروضات حتى كادت تنعدم الحركة، ولما بلغ الداخلون خمسين ألفا صدر الأمر إلى الأبواب أن تمنع الدخول، وكان على الأبواب الألوف من الناس في صفوف كالجند منتظمة، كل ينتظر دوره واقفا، لا يزحم رجل امرأة ولا يافع شيخا، ونمت الصفوف ذيولا، وتفرعت الذيول وطال الانتظار، ونفد الصبر، وكان اليوم مشمسا حاراً، فأخذت تشيع في الجمهور الصامت بطبيعته أصوات القلق، وأخذ يتبدل النظام السائد بالهرج، وتبدل الهرج بزئاط صارخ واحتجاج منذر، دوت على أثره في داخل القصر الشاسع ثلاثمائة من نواعق اللاسلك ترجو ممن أتم طوافه بالمعروضات أن يغادر بسلام، وخرج من المعرض ممثلون وممثلات من المشهورين في عالم الراديو والمشهورات يعرضن على أرصفة الطريق من ألعابهن وأغانيهن ما يسلي الجمهور ويطيب خاطره، ولكن القدر كان قد غلى وأوشك أن يفور. وبدرت بوادر العنف. فلما تحطمت ألواح الزجاج من بعض المداخل تُلْفِن البوليس فجاء لساعته بركبه ورجله وملك ناصية الموقف في دقائق، واحتبس رجل واحد. وعُدَّ من بخارج البناء عدا تقريبيا فكانوا خمسا وعشرين ألفا.
دخلنا البناء حيث المعرض فوجدناه يتألف من الصالة الكبرى قد بعد طولها، وامتد عرضها، وسما ارتفاعها، وعلى أرضها موائد متطاولة عليها أجهزة اللاسلكي الكاملة قد صفت في خطوط متوازية تستطيل تارة وتستعرض أخرى، وبينها الناس يسيرون كالنمل في بطء وكثرة. وفي الوجه المقابل للداخل سلم عريض قد تغطى بالزائرين وهم في طريقهم إلى الدهاليز العليا، والشرفات الجانبية حيث اكثر المعروضات للقطع المفردة التي(18/61)
تتألف منها الأجهزة الكاملة. وقد راعى المنسقون والعارضون جميعا في تفريق الأماكن وتخصيص المناضد، وكذلك في المعروضات وأنواعها وأحجامها وألوانها وزينتها، أن تتألف من الجميع وحدة كاملة جميلة تسترعي عين الزائر وهو لا يزال على الاعتاب، وكأنهم خشوا أن يكون جمال التنسيق ضعيفا فاترا فرسموا بأنابيب الكهرباء الحمراء في قبالة الداخل على الجدار العريض العالي الذي يهيمن على الدار رسما كبيرا عظيما رائعا يجمع إلى الجمال القوة والفتوَّة. وبلغ عدد العارضين نحوا من ثلاثمائة، وبلغت المبيعات نحوا من ثلاثة ملايين من الجنيهات ستجعل المصانع في شغل شاغل مدى أشهر الشتاء القادم.
وامتنع العارضون عن إدارة الأجهزة والتقاط أمواج الأثير خشية أن يتصدع الجمهور بمئات الأبواق فلم يكن لغير الفني في المعروض مأرب، إلا أن يستمتع ببريق الصمامات وجِدَّة المكثفات وسواد الحُوَيَّات ودقة النجارة في صناعة الأبواق والخزانات. أما الفني فلم يكن هناك حد لنهمه فقد امتاز هذا العام بتقدم في كل قطعة من مستقبلات الراديو أفسد على الكثيرين اغتباطهم بالأجهزة القديمة التي لديهم، وحركهم وسيحركهم لا شك، أما إلى استبدال قديم بجديد، وأما إلى الاقتصار على الترقيع لتنال أجهزتهم حظا من الجدة. ولكن في كثير من الأحوال يتناول التجديد أساس الجهاز من حيث النظام الذي بني عليه ونوع الأجزاء التي تستخدم فيه. ففي هذه الحالة قد يتكلف الترقيع أكثر من شراء الجديد. ولعل هذا هو السبب في أن كثيرا من مخازن لندن كانت تعرض قبيل ابتداء المعرض أجهزة كثيرة هي لا شك من الطرازات القديمة بأثمان بخسة بلغت النصف فما دونه. وهذه حال لا تسر مقتني الراديو. ومن المؤسف إنها ستتجدد كل عام ما فتئ العلماء يبحثون وما ظلت الشركات وهي عديدة وغنية تتنافس في تجويد المحصول. إلا أن صنفا من المستهلكين لا يفتأ يجد لذته في هذا التغيير والتبديل بحلول كل عام جديد. ذلك فريق الهواة الذين يركبون أجهزتهم بأنفسهم، ويفقهون كيف تعمل فهؤلاء يرحبون بكل جديد للمتعة التي يجدون في الحل والربط وفي ترقب التحسن الناشئ في استقبال للأثير أدق. والتقاط للكلام والنغم أصفى وأروق. ومن الغريب أن كثيرا من الهواة هَوَاهُم يقف عند هذا الحد. أو إن هو تعداه أصبح رغبة عادية لا يتحرق لها إرَم ولا يغلي معها دم. هواهم في الآلة المعدنية الزجاجية(18/62)
الخشبية التي تلعب فيها أصابعهم وفي النتائج التي تأتي به من حيث الأداء. أما ما يحمله الأثير من جملة بديعة أو نغمة مشجية فله عندهم المحل الثاني. ولكم سر الزائر الغريب للمعرض أن يرى شبانا هواة لم يعدوا بعد العشرين ينسلون كالسحالي من خلال هذا الزحام يجمعون في أكياس من الورق بأيديهم نشرات العارضين وكتيباتهم وقد حوت كل طريف حادث.
وتتناول التحسينات المعروضة الاستقبال وحده، أي تحسين الآلة من حيث حسن أدائها، وحمايتها من البيئة التي تعمل فيها. مثال ذلك أن حسّ الآلة زاد، أي أنها تستطيع أن تلتقط أضعف الموجات في الأثير وان تكبرها دون أن تفقد منها شيئاً لا من النغم العالي ولا النغم الواطئ، أو دون أن يضعف هذا أو ذاك، فان قيمة ذلك كبيرة في إذاعة الموسيقى، ولو انه ليس له مثل هذا الخطر في إذاعة الكلام. كذلك زادت في الآلة القدرة على الاختيار، فكثيرا ما أراد الإنسان مناغمة محطة فهوّشت عليه محطة أخرى موجتها قريبة من تلك، فاصبح الآن يستطيع أن يحجب المحطة التي يريد حجبها. كذلك كان السامع يستمع إلى المحطة التي يشاء في اغتباط وهدوء فلا يلبث أن يرى الأصوات تضعف حتى تكاد تنعدم ثم تهجم على أذنه في قوة ثم تتقهقر فلا تترك في نفسه لذة من سماع، فاصبح بالآلات الجديدة في مأمن من هذا يستمتع لنغم ذي قوة مضطردة واحدة. كذلك كانت الآلات تتأثر بما في البيت أو الطريق من الكهرباء، كأن يكون بالمسكن مصعد أو بالشارع ترام، أما الآن فقد حاطوا الآلة (أو الأصوب بعض أجزاءها) بما يصد عنها كل هذا الأذى. حدثني صديق انه الآن لا يجد للمصعد هذا الأذى مع أن جهازه لا يفصله عنه غير سمك حائط. كذلك كنت تتطلب استماع محطة فتدير اللولب فيمر بك على محطات أخرى منها القريب القوي الذي يصرخ في البوق ذلك الصراخ المؤلم المعروف، أما الآن فتضبط الآلة كل هذا من نفسها. بل من الآلات ما لا تسمع له صوتاً وأنت تدور باللولب تطلب المحطة التي تريد. وانما ترى مصباحاً ينير ويظلم كلما مر بمحطة، فاذا أضاء عند موجة المحطة التي تريدها خفضتَ زرا فجاءك النغم والصوت على أشده، هذا إلى كثير من التغييرات التي لا يمكن ذكرها دون الدخول في معقدات الفن، ودون ذلك حوائل منها اللغة العربية، ولقد جازفت في هذا المقال فقلت (المكثف) و (الحَوِيَّة) و (المناغمة) و (المستقبِل) وفي نفسي شك كبير فيم يفقه(18/63)
القارئ من ذلك.
أما من حيث أحجام الأجهزة وشكلها فلم تبق الشركات رغبة لراغب إلا قضتها، فالجهاز الكبير الذي يملأ الحائط كأنه قطعة من الأثاث موجود، والجهاز الصغير الذي تربطه إلى قائم عجلة الإدارة من سيارتك موجود، والجهاز الذي تستقي له من كهرباء المنزل موجود، والذي تستقي له من كهرباء البطاريات موجود، ومهما شئت من أشكال أو ألوان لخزانة الجهاز تتوافق مع شكل الحجرة التي تضعه فيها ولونها فموجود كذلك، ما وُجدت في كيسك الجنيهات. أما الذي خُيِّبت آمالنا فيه بحق فالأجهزة التي تنقل لك صور الرجل المذيع وهو يتكلم أو يمثل أو يغني فقد أقامت شركة ماركوني جهازا كبيرا من تلك الأجهزة عرفناه من بعيد لأنه كان حجر عثرة في سبيل سيل الزحام المتدفق لأنه كان ينجمد هناك. وصبرنا حتى بلغناه وإذا بوسطه لوحة سوداء طولها قدمان في مثلهما عرضا هي التي تركزت اليها الأنظار. أخذنا ننظر مع الناس فلم نر شيئا، وكنا على ساحل الصخرة الآدمية في قبالة اللوحة، وبعد لأي ضُغطنا من حيث لا ندري إلى مكان أحب واقرب، فعندئذ تبينا أشباح الممثلين وتتبعنا حركاتهم وهي متصلة حقا كاتصالها على شاشة السينما، إلا أننا خلناهم من ظلمة المنظر يلعبون في ليلة مقمرة قد حجب بدرها سحاب قاتم. على أنها بادرة حسنة وأول الغيث قطر ثم ينهمر.
لندن في 30 أغسطس 1933(18/64)
القصص
ابن فرعون يتعلم
للأديب حسين شوقي
كان الأمير الصغير (مري آمون) ولي عهد فرعون (ولم تكن سنه تربو على العاشرة) يتلقى دروسه الدينية في حجرته. . وكان معلمه الكاهن الكبير (حوتيب) يشرح له الأسرار السماوية العميقة في أوراق البردي المنثورة أمامه. . وكانت لحية الكاهن الطويلة تروح وتغدو في الفضاء كلما تكلم، كأنها الآلة الكهربائية التي تمسح زجاج السيارة أمام السائق في أيام المطر حتى لا يحجب عن نظره الطريق.
كان الكاهن يقص على الأمير كيف تكون العالم وكيف خلق الإله رع هذا الفضاء، ثم الأرض، ثم السماء، ثم النيل، ثم التربة الخصبة، ولكن مري آمون كان يستمع إلى معلمه في سآمة وضجر، ويود لو شارك الأطفال الذين شاهدهم من النافذة يمرحون في الحقول طلقاء سعداء في مرحهم ولهوهم، بينما هو يقضي العمر سجينا بين جدران أربعة! فاذا ذكر الكاهن جهنم وأخذ يصف الشياطين المكلفين فيها بعذاب من أذنب في الحياة الدنيا، أحس مري آمون برعدة تسري في جسمه الضئيل. . وكان الكاهن يرمقه بابتسامة صفراء كأنه مغتبط لخوف الأمير. . كم ود مري آمون في تلك اللحظة لو دق عنق معلمه!.
وفي أثناء ذلك، ازداد ضجيج الأطفال في الخارج، فنظر الأمير إليهم مرة أخرى من النافذة، فإذا بهم يطاردون جحشاً فر من صاحبه. . عندئذ استولت الحماسة على قلب الأمير، واشتدت به الرغبة في الانضمام إلى أولئك الصبيان، فصاح بمعلمه قائلا: سيدي أرجو منك أن تدعني أهب لمساعدة هؤلاء الأطفال في القبض على الجحش الهارب. . فكان جواب الكاهن أن غلق النافذة واستمر في القراءة كأن لم يقع شيء. .
تقلب الأمير المسكين في سريره تلك الليلة، ولم تذق عينه النوم لأنه كان جد غضبان. . ولو نظر مري آمون وجهه في المرآة في ذلك الحين لشاهد تلك الحمرة الجميلة التي علت خدوده ذات الصفرة الذهبية من جراء انفعاله!. . حقا! لقد مل الأمير الحياة، وسئم استبداد معلمه! صحيح أن بالقصر أطفالا كثيرين من أبناء الأشراف يستطيع الأمير مشاركتهم في ألعابهم، ولكن هؤلاء لا يعاملونه معاملة الند للند بل يهابونه ولا يخاطبونه إلا في كلفة(18/65)
وحياء!.
رب كيف يتخلص الأمير من نير الكاهن حوتيب؟ انه طالما شكاه إلى فرعون والملكة في الأوقات القصيرة التي يسمح له فيها بمقابلتهما ولكن من غير جدوى. . فقد كانا يردانه دائما خائبا كأنه ارتكب جرما. . لم لا يرفع الأمر إلى الآلهة الفخام وهم من أقاربه كما يزعمون؟ ولكن هؤلاء هل يعينونه؟ انه يشك في ذلك، انظر إلى صورهم المخيفة!. ذاك (سوبك) اله الماء، له صورة التمساح الذي يخطف الأطفال على ضفاف النهر، وذلك (أنوبيس) في شكل الذئب وقد أكل في العام الماضي غزال الأمير المحبوب. . وتلك (هاتور) على هيئة بقرة، فهي لا شك بلهاء لا تستطيع نصرته. . إذن من يخف منهم لنجدته؟ ايزيس؟ أجل! هي الأم البرة. كم مرة سكب الأمير دموع الرحمة والحنان إزاء تمثالها وهي جالسة تضم إلى صدرها ولدها المحبوب هوروس! وفي تلك الليلة نفسها دعاها الأمير لنصرته فاستجيب دعاؤه! ربما تكون ايزيس بعيدة النظر في استجابتها دعاء الأمير؛ أليس مري آمون ولي عهد الملكة؟ لو آل إليه الملك بعد موت أبيه إذن سوف يتذكرها فيفضلها على سائر الآلهة ويبني لها شاهق القصور ويقيم لها أعظم التماثيل، ويغدق عليها الهدايا والقرابين. واليك كيف استجابت دعاء الأمير:
لاحظ الأمير أن من عادة الكاهن ملازمة حجرته في كل احتفال ديني يقام بالقصر، فكثيرا ما بحث عنه الأمير بنظره في مكان الاحتفال فلم يجده فيه، بينما يحضر هذه الاحتفالات الملك والملكة والكهنة الآخرون، وجميع رجال القصر. . فكان مري آمون يتعجب من أمر معلمه ولا يفهم سبب احتجاب الرجل وتخلفه عن حضور مثل هذه الاحتفالات العظيمة. . وفي يوم عيد دفع الأمير حب الاستطلاع إلى أن يختبئ في حجرة الكاهن حتى يدرك السر، ففعل ذلك قبل وصول الكاهن إلى حجرته بقليل، وما كاد حوتيب يدخل ويغلق خلفه الباب حتى ضغط على زر في الحائط فانفتح فيه ثقب دخله الكاهن على الفور. . وقد أراد الأمير أن يتبع حوتيب في الثقب ولكنه أحس الخوف يتملكه، فعاد مهرولا إلى حجرته الخاصة. . وفي المرة الثانية تغلبت الرغبة على الخوف فاستطاع الأمير اتباع الكاهن داخل الثقب فاذا به في دهليز مظلم انتهى منه إلى مكان ضيق يقع خلف الحائط المستند إليه تمثال آمون الكبير القائم في قاعة الاحتفالات، وإذا بالكاهن يقف خلف التمثال المذكور(18/66)
ويتناول من الأرض بوقاً ثم يتكلم منه بصوت متغير مقلداً صوت التمثال، فيردد الألفاظ التي طالما سمعها الأمير في تلك الاحتفالات بنصها، وكان يظن هو وسائر الحاضرين بطبيعة الحال، إنها صادرة عن الإله. . حقاً! إن دهشة الأمير كانت عظيمة بمقدار خوفه، لذلك هرول مسرعا إلى الخارج. . ولكن قلبه كان يفيض سرورا لاكتشافه العظيم الذي سوف يشتريه منه الكاهن بثمن غال. . وفي اليوم التالي انتهز الأمير فرصة غياب الكاهن عن القصر فقصد حجرته، وهناك ضغط الزر ثم دخل في الثقب وعاد منه بالبوق. . بعد ذلك، عندما أزفت ساعة الدرس واقبل المعلم يتهادى في رزانته المعتادة، دنا الأمير منه قائلا:
سيدي أظن انك فقدت هذا البوق في الثقب! عندئذ أحمر وجه الكاهن حتى عاد (كالطماطم) ثم مد يده ليأخذ البوق صائحا في غضب: أعطني هذا البوق!
ولكن الأمير وضع يده خلف ظهره وقال في ابتسامة الظافر: سوف افعل يا سيدي إذا أذنت لي في اللعب حيث أشاء ومع من اختار من الرفاق. . فتردد الكاهن ملياً ثم قال في يأس، وهو يطأطيء رأسه: لك يا بني ما تريد!.(18/67)
قصة مصرية
الطامع. . .
لقد واتاه الحظ، ومشى إليه السعد، وحفلت حيلته الجديدة بما تحفل به
حياة رجل عظيم!. لم يعد الشيخ (ياقوت) رجلاً عادياً في القرية، بل
أضحى رجلاً مرموقاً. فأنت ترى الجلوس في آخر الطريق ينهضون
على أقدامهم عندما يبدو في أوله في جبة من الجوخ. وقفطان من
السكروتة، وعمامة متقنة يبدو شاشها دائماً ناصعاً مزهراً. وبين أنامله
مسبحة من الكهرمان متألقة الحبات، وشفتاه لا تفتران عن تسبيح
الخلاق القدير فتنيران وجهاً جميلاً مشرباً بالحمرة.
وإن منظرته لتحفل بالأضياف في الشتاء وتذكو في موقدها جمرات الأثل ويشرق من سقفها على الجالسين نور جميل يرسله مصباح في (فانوس) من الزجاج الملون. وفيها يشيع صوته الحلو الحنون يردد آي القرآن أو فقرات الحديث، وأصوات الأضياف ترتفع بتلك الجملة الأبدية: صدق الله العظيم. . . صلى الله عليه وسلم!
فأذا ما حل الصيف أنتقل المجلس إلى (المصطبة) المستندة إلى واجهة الدار حيث يحلو السمر تحت ضوء القمر، وحيث جرت العادة أن تعقد حفلات الذكر والختان، وحيث كان أصحاب الربابة والمزمار. ومنشدو أبي زيد، والقصاصون يجلسون فيطربون حلقة المستمعين من شيب وشبان، وسيدات جالسات، خلف الأبواب ووراء النوافذ.
لم تكن للشيخ ياقوت هذه المكانة في أول الأمر. كان في المبدأ مأذوناً للقرية. فاذا ما كان يوم الجمعة واجتمع الناس في المسجد وعظهم بلسان فصيح وكلمات زاجرات، وأراهم الطريق إلى الجنة ورغبهم فيها، والطريق إلى النار وحذرهم منها. . . فإذا ما انتهت الصلاة تقدم إليه الجمع يستفتيه في أمور الدين والدنيا ويستلهمه النصح والإرشاد.
ولقد أهم الشيخ ياقوت ضيق رزقه وقلة ما تجديه عليه وظيفته فتفتق ذهنه عن فكرة صائبة. وسرعان ما ظهر في القرية دكان مزين الجدران ترتفع فوق بابه لوحة كتب عليها(18/68)
(راجي عفو المنان، الشيخ ياقوت عثمان)!. .
ونفقت تجارته، واقبل الناس عليه. فهم يجدون عنده ما لا يجدون في حانوت القرية الآخر، وسرعان ما أخذ الناس يتحدثون عن جودة بضائعه وطرافتها. ويطرون ما عنده من تمباك ودخان. وسور مكتوبة، وأوراد، وتعاويذ تخاط في الاحجبة فتقي الناس شر العين وكيد الحسود!. . ولم ينس الشيخ أن يستحضر ألوانا مختلفة من المسهلات، والرشام فلم يعد يتكبد الممعود أو موجوع الرأس أو الأمعاء عناء الذهاب إلى المدينة لالتماس هذه الأشياء.
كان صاحب الحانوت الآخر مستبداً بأهل القرية لا يؤجل لهم ثمن ما يشترون على رداءة بضائعه وشحه، فلم يقو على منافسة الشيخ ياقوت فأدركه الإفلاس. والحق أن الشيخ كان دمث الأخلاق من أرباب السياسة والكياسة. وكان يسخو في البيع ويمهل في الدفع، وهو فضلا عن ذلك من حفظة القرآن فالشراء منه بركة، والتمسح به وهو من أصحاب المراكز فيه نفع لا مضرة. وهو يعطي المشتري المواظب من حين إلى حين شيئا من بخور السيدة الذي أحضره من القاهرة.
وعند الدكان مقعدان طويلان تجدهما أبدا مشغولين بالجلوس من المشترين الذين يرغبون البقاء لاستماع الشيخ وهو يقرأ الجريدة ويقص عليهم الأخبار وما يحدث في بلاد الكفار.
وقد كان اليهودي ينزل القرية بين الحين والحين يحمل بضائعه على كتفه ويصيح (شيت يا بنات. مناديل. روايح. حراير أمشاط. مرايات يا بنات. . .). لكن هذا الصوت قد اختفى ونفض اليهودي حذاءه من تراب القرية، فقد كرههم الشيخ ياقوت في معاملته، واستحضر لزوجته تلك البضائع. فكانت تبيعها في المنزل بالسعر المعتدل المقسط، وانتشر خبرها في القرية فأصابت من الرزق أكثر مما يصيب الشيخ من حانوته، واخذ الشيخ يكثر من تسبيح الله وترديد اسمه والثناء عليه، وابتدأت الحمرة تنتشر في وجهه. .
ومضى الحول فاذا به يخرج على الناس بمشروع جديد، فقد كبر عليه أن تظل القرية بلا كتاب، فشمر عن ساعد الجد، واشترى الخشب وكان في صباه نجارا فلم يلبث أن سواه مقاعد يجلس عليها صبية (الكتاب) الذي افتتحه.
وكان (الكتاب) بجوار الدكان في الطابق الأول من الدار فأخذ يوزع نشاطه بين العملين ويراوح بينهما في المجهود. وكانت بضائع الحانوت تنفق سريعا، فان أولاد النجوع(18/69)
المجاورة صاروا يعودون في المساء بعد الدرس بما يحتاج إليهم ذويهم من بضائع الشيخ. فاذا ما كان الصباح وابتدأ الدرس وأخذت عصا الشيخ ترقص في يده ذهبوا إلى الدكان يحاولون الإكثار من ابتياع الحلوى وما اليها ابتغاء مرضاته حتى تقصر عنهم عصاه.
وأثمرت جهود الشيخ الجديدة فصارت القرية تفاخر بعدد من الصبية حفظوا القرآن. وذاعت شهرة الكتاب فوفد إليه أبناء الكفور القريبة يتتلمذون على الشيخ ومضت الأيام فاذا بكتاب الشيخ ياقوت من كتاتيب الإعانة التي تتقاضى تسعة جنيهات في السنة!. .
فتح الله عليه أبواب الرزق فصار يتاجر، ويغامر، ويكسب، ويستأجر الأرض ويزرعها. وجعل يتغنى صباح مساء (وأما بنعمة ربك فحدث) غير أن هماً دفينا كان يقلق الشيخ ويقض مضجعه، فقد مضت خمس سنوات وزوجه لم تعقب له ولدا غير (حسان). وهو رجل يطمع في كثرة النسل ويريد أن يرى أنجاله يرتعون في هذا الرزق الواسع والخير العميم.
أما أن يمني بقلة الذرية فقد كان شيئا ثقيلا على نفسه. كان الناس يتهامسون رثاء له وإشفاقا. والأعداء يشمتون ويودون لو يخطف الموت حسانا فلا يبقى للرجل من زينة الحياة غير المال، والمال بلا بنين كالشجر بلا ثمر.
كلما مر بالشيخ ياقوت هذا الخاطر ارتاع وابتأس. وماذا يدعو إلى الارتياع أكثر من شماتة الأعداء نار الحساد التي لا تجد لها وقودا غير كارثة تلم به وبلاء يقع فيه!. .
كان يفكر أن يتزوج بأخرى، لكنه كان رجلا شهما، تأبى رجولته أن يتزوج على أم حسان، فيؤلم نفسها، ويجزي إخلاصها وصبرها شر الجزاء. كان يحبها حبا خالصا، ويجد فيها الزوجة الصالحة المطواع، والمرأة الجميلة الصبوحة.
كانت أم السعد تشعر بهذا الخطر الذي يهددها وبأيدي السوء التي تدأب على إفساد حياتها الزوجية ووضع النار في بيت هنائها، فكانت تصبر على وشايات أم الشيخ وأخواته اللواتي امتلكتهن رغبة محرقة في أن يتزوج الشيخ من بنت العمدة، فقد وصل رجلهم إلى الدرجة التي تؤهله إلى نيل هذا الشرف. . .
كانت أم السعد تداريهن، وتصبر على ما يصيبها منهن طمعا في أن تظل وحدها حليلة زوجها. أما هن فقد غلون في اضطهادها والإساءة اليها بعد أن عرفن موطن الضعف فيها،(18/70)
ووقفن على تلك الغيرة المستترة خلف قلبها. وأضحت لهن أمَة ضارعة ذليلة تفزع إذ يلوح لها شبح (الضرة) وتضع إصبعيها في أذنيها حين تسمع كلمة الطلاق، فقد كانت تعرف إنها سائرة إلى أحد الطريقين.
صارت تنذر النذور وتستصرخ الأولياء، وتهب إلى قبور الصالحين تستمد منها البركة. يأتي عليها الليل وينام القوم فتصعد إلى السطح وتكشف رأسها وتسخر كل قوى روحها في التوسل إلى الله أن يرزقها ولداً آخر. وقد تسترسل في بكائها وهي تتذكر آلام النهار والتعيير، والكيد، فلا تمسح دمعها حتى تظهر نجمة الصبح فتعود لتنام عند قدمي زوجها.
فإذا كان شهر رمضان صامته من غير سحور وبذلت الإحسان من غير حساب.
وبلغ حسان العاشرة من عمره والأم لم تظفر بالأمنية. . . ونفد صبر الزوج فخطب ابنة العمدة لنفسه.
وابتدأ البيت يمتلأ بالضوضاء ويستعد لاستقبال الأفراح والليالي الملاح. فكانت أم السعد تنسل إلى غرفتها كما ينسل إلى وكره حيوان مضطهد مجروح. . . كانت تعيش من فكرها في مأتم، وكلما اقترب يوم العرس انقطع بين يديها خيط من خيوط الهناء، حتى صارت تفتقد مسرات حياتها فلا تجد بين يديها إلا خرقة مهلهلة.
وماذا بقي لها بعد أن صارت المرأة المنبوذة؟! كيف تطيق أن ترى المرأة التي تتوج بدلها بعد أن كان التاج لها، تتخطر مزهوة مختالة يزري جمالها الفتي الجديد بجمالها الذي فقد الجدة والفتنة!. .
لقد شادت هي كل شيء وتعبت في كل شيء، فاذا بامرأة غريبة تتسلم البضاعة وتأمر وتنهي! ليتها لم تفعل شيئا. ليتها لم تدبر ولم تقتصد! كانت تشقى في حاضرها لتسعد بمستقبلها فاذا بالمستقبل يضيع وبالأمل يتحطم!. .
وحسان العزيز! إن أمره ليدمي فؤادها. لقد اشترى له أبوه أثوابا جديدة بمناسبة قدوم العروس، وأمرها أن تخيطها له! إن ثياب الحداد أولى به فقد دالت دولته. ولن يدلل فيما بعد! سيصبح ابن المرأة القديمة. . . . وسيتحول قلب أبيه عنه إلى أولئك الأطفال الصغار الذين طال إليهم اشتياقه. كيف تستطيع احتمال هذا؟ إنها لترسل بصرها في المستقبل فترى ابنة العمدة جالسة في رحبة الدار تخرج ثديها فخورة مباهية لترضع طفلها. كأنها تتعمد(18/71)
إغاضتها والحط من شأنها! وستنكس هي بصرها خجلا وسيندي جبينها خزيا! إن ثديها العاطل المحروم ليحن للإرضاع! بل انه ليهتز شوقا إلى طفل. وهي تخرجه في وحدتها وتتأمله بحسرة حرّى وعين أسيفة. وتعصره لعله يبض له بقطرة تكون نذيرا بالحمل!. . فلا تظفر بغير الخيبة، ولا يلوح على وجهها غير ظل ابتسامة كسيرة مهزومة. . .
مضى شهر على الزواج الجديد. . . وكانت أم السعد قد سئلت أن تخلي غرفتها للعروس، ووعدها زوجها أن يرد الغرفة اليها بعد أيام، لكنه حنث في وعده، وتركها تقيم مع أوعية اللبن والجبن في هذه الغرفة القائمة فوق السطح. . . وهي الآن جالسة تخطط في التراب وتحدق فيما تخط بعين ذاهلة. وقد مسح الحزن عن وجهها ضياءه وإشراقه. ولم يبق من محياها الجميل غير معارف امرأة محطمة، ناقمة، متجددة السخط والغضب.
وكيف لا يتجدد سخطها وغضبها!. . ها هي ضوضاء الدار تصعد إلى أذنيها فتنبئها أن القوم لاهون بينا هي وحدها تتعذب. والدخان يرتفع من أسفل فيضايقها ويؤذي رئتيها ويحمل إلى خاطرها صورة (الوليمة)، ووجه زوجها وهو يضحك في وجه العروس ويداعبها.
وإذا هي تعض أناملها، حانت منها التفاته فرأت أثواب حسان البيضاء التي غسلتها في الصباح تخفق تحت أشعة الشمس، فقامت اليها متثاقلة وجمعتها. وأخذت تخيط ما بها من ثقوب وفتوق.
وظلت تنتظر عودته من الكتاب لكنه لم يعد. ثم عضها الجوع فقامت إلى الطعام لكنها لم تصب منه غير قليل ثم عافته.
وصعد اليها حسان وفي حجره ألوان من الحلوى، وحدثها انه تناول الطعام مع العروس. . . وثارت نفس الأم، فلطمته ودفعته بعيدا، فتبعثرت حلواه وطفق يبكي. لكن حنانها عاودها فذهبت اليه، ومسحت دمعه وأجلسته في حجرها، وسألته ان يسمعها ما حفظ في يومه. فأنشأ الصبي يرتل، وأسارير الأم تنبسط كأن شعاعا من العزاء يتسلل إلى قلبها، ويبدد شيئا من ظلمته الحالكة.
وأخذه النوم فألقى رأسه الصغير إلى كتفها، وغلبها الحنان فتناولت كفه وأدنتها من شفتيها. لكنها عافت اليد الصغيرة عندما رأت عليها لون (الحناء) الذي أباحت جدة الصبي لنفسها(18/72)
أن تخضب به يدي حفيدها. فجفل صدرها بالغيظ، وملأ الحقد قلبها وملأ الدمع عينيها. . .
وتبكي الأم بحرقة. ويستيقظ الصبي مرتاعا، ويملأ الدمع عينيه البريئتين وهو يسأل أمه أن تكف، فتحاول لكن أساها يغلبها، فتعتذر إليه بأن هناك ناراً تسري في احشائها، وتعتلج في صدرها. وتحدثه وهي تحدق في وجهه بجزع وقد وقفت على شفتيها ابتسامة مشلولة: إنها لن تعيش طويلا. لأن تلك النار لم تبق شيئاً. .
من هذا اليوم سقطت أم حسان مريضة وتضافرت عليها أوجاع الجسد والروح. فأخذت تتقهقر من ميدان الحياة على عجل.
أما الشيخ ياقوت فيأبى أن يدعو الطبيب ويزعم انه خبير بدهاء النساء، ويتهم زوجته بأنها تتمارض، ويهددها بأن عصاه كفيلة بمداواة الغيرة التي تأكل قلبها، وينذرها بأنه لن يسمح لها أن تجعل بيته جحيما، وان كلمة (الطلاق) مختبئة خلف شفتيه يلفظها إن سولت لها نفسها الأمارة بالسوء إعادة هذه اللعبة المفضوحة للتنصل من الخدمة!. .
وتنسحق روح أم حسان تحت عبء هذه الكلمات كما تنسحق قطعة الفخار تحت ضربات المطرقة. وكأنها تؤثر ألا تضايق قرينها فتغادر الحياة بعد أيام قلائل!. .
كانت هناك نفس واحدة حزينة لفراقها هي نفس حسان، لكن حزنه إنجاب سريعاً كغمام الربيع. . .
لم يطل عهد حسان بالحلوى والتدليل، وتقدمت به الأيام فإذا به يلطم ويزجر! وتنكر له الجميع. وقوي إحساسه باليتم. واكتأبت روحه الظمأى للحنان فذبل كما يذبل لحظ النرجس من كثرة العطش. وفقد النصير. ولم يعد يملك إلا أن يطوف بمقبرة القرية يرمق منزل أمه فيها ويود لو تناديه اليها ليقيم معها.
أما الشيخ ياقوت فقد اطمأن إلى الثروة التي اجتمعت له فأغلق الدكان وأهمل الكتاب، وركن إلى حياة مترفة، لاهية، موزعة بين أحضان الزوجة ودوار العمدة. . .
ومضت الأعوام والزوجة لا تنجب ولداً ولا بنتاً، وثروة الشيخ تتبدد في الإنفاق على القابلات، والزلفى إلى أصحاب الكرامات. وكبر على ابنة العمدة أن تبقى عاقرا، وشعرت أن (أم السعد) وهي في القبر قد غلبتها وهي في الحياة. وخالت أن روح المرأة الشامتة تطوف بها، وتسخر منها!. .(18/73)
وذهبت تنشد غاية تفني فيها غيظها فلم تجد أمامها غير حسان، فأنشأت تضطهده وتسخره، وتنكل به.
ويستنصر حسان الأب فيخذله أبوه، وينصر المرأة الجميلة، وتضيق الدنيا في عيني الفتى ويطلب النجاة لنفسه فيهجر القرية.
وتمضي الأعوام ولكن الابن المفقود لا يعود. . . وتستيقظ روح الشيخ ياقوت فلا يجد بين يديه أطفالا يمرحون ويصخبون، ويبلغ به الأسى فيوشك أن ينادي (حسانا) ليعينه على الحياة لكن الكلمة تختنق فوق شفتيه. . .
وضاعت الثروة كما ضاع الشباب وأضحى رجلا مقلا، فلم تعد هناك حلقات ذكر ولا حفلات سمر، وإنما كانت أجنحة الخيبة ترفرف صامتة حول البيت.
فقد الرجل مركزه، فلم يعد الوجه محمرا، ولا الشاش مزهرا، ولا الجبة زاهية. . . ولم يعد الناس يقفون عندما يبدو في أول الطريق، بل صاروا يغمغمون بما يشبه التهكم: (مسكين. سي الشيخ)!. .
وكان هذا ينال من نفس الشيخ، ويدمي فؤاده، فلا يكاد يقطع الطريق حتى يتهالك على عتبة الدار.
ويطول به الجلوس وهو يتذكر الماضي ويخطط في التراب ويرسل بصره نحو (مقبرة القرية). . .
يوسف جوهر(18/74)
بلياس ومليزاند
للفيلسوف البلجيكي موريس ماترلنك
ترجمة الدكتور حسن صادق
مليزاند - إن شكلي بشع في هذا الموقف
بلياس - أوه مليزاند!. . . ما أجملك!. . . ما أروع منظرك في مكانك هذا!. . . أنحن. . . أنحن. . . دعيني أقترب منك أكثر من ذلك.
مليزاند - لا أستطيع أن اقترب منك اكثر مما فعلت. . . هذا آخر ما أستطيع من الانحناء.
بلياس - ليس في مقدوري أن أرفع نفسي إليك اكثر مما ترين. . . اعطني على الأقل يدك في هذا المساء. . . قبل ذهابي. . . إني راحل غداً. .
مليزاند - لا. لا. لا
بلياس - نعم. نعم. أني راحل غداً. . . اعطني يدك. . . يدك الصغيرة أضعها على شفتي
مليزاند - لا أجيب سؤالك إذا أصررت على الرحيل
بلياس - اعطني. . . أعطني. . .
مليزاند - أعدلت عن السفر؟
بلياس - سأنتظر. . . سأنتظر. . .
مليزاند - أرى وردة في جوف الظلام
بلياس - أين هي؟. . . أني لا أرى إلا أغصان شجرة الصفصاف التي تفوق في علوها البرج
بلياس - ليست بوردة. . . أني اذهب لأرى حقيقتها بعد هنيهة، ولكن اعطني يدك. . . يدك أولاً. . .
مليزاند - ها هي ذي. ألا تراها؟. . . لا أستطيع أن انحني اكثر من ذلك
بلياس - شفتاي تعجزان عن بلوغ يدك
مليزاند - لا أستطيع أن أنحني اكثر من ذلك. . . كدت اسقط. . . أوه! أوه! شعري، امتهدل على حائط البرج
(يسقط شعرها دفعة واحدة وهي منحنية ويقفز بلياس)(18/75)
بلياس - أوه! ما هذا؟. . شعرك يسعى إلى كل شعرك يا مليزاند سقط من البرج!. . . أني اقبض عليه بيدي. . . وأطبق فمي. . . وألف به ذراعي وعنقي. . . لن افتح يدي الليلة. . .
مليزاند - خل سبيله. . . أطلق سراحه. . . كدت تسبب لي السقوط!
بلياس - كلا. كلا. لم أر قط شعرا مثل شعرك يا مليزاند انظري! انظري! انه يأتيني من عل ويغمرني إلى القلب. . . لقد بلغ ركبتي. . . انه رائع عذب. . . عذب كأنه هبط علي من السماء لم أعد أرى السماء خلاله. أترين لم يعد في مقدور يدي القبض عليه. . امتدت شعرات منه حتى بلغت أغصان الصفصاف. . . انه حي في يدي كالأطيار. . . انه يحبني. . . يحبني أحسن منك ألف مرة!(18/76)
الكتب
عودة الروح
- 2 -
ما أظن إننا نغالي إذا اعتبرنا قصة (عودة الروح) للأستاذ توفيق الحكيم مؤلف (أهل الكهف) القصة المصرية الأولى في أدبنا المصري الصميم، بل هي في الحقيقة لا نعددها ولا نجد مفرا من الاعتراف بها، فعودة الروح مصرية بأبطالها، بموضوعها، بما فيها من عادات وطباع وخلق مصرية صميمة، بذلك الطابع المصري الصميم الذي يطالعك في كل صفحة منها بل في كل سطر وكل كلمة تضمنتها. وانك لتحس إذ تقرأ هذه القصة وتمضي في القراءة وتمضي فيها انك تعيش في جو تألفه، وبين قوم سرعان ما تشعر بالرابطة القوية التي تربطك بهم، رابطة المصرية المتينة التي تحجبهم إليك وتجعلك تحسهم أحياء يتحدثون ويتحركون، لا أبطال قصة من صنع الخيال من ورائهم المؤلف يفتعل لهم المواقف، ويفتعل لهم الحديث والحركة، وانك لتهم أحيانا أن تشترك معهم في الحوار وتشاطرهم حياتهم ودنياهم الزاخرة بشتى الانفعالات المليئة بألوان من الشقاء واليأس حينا، والسعادة والأمل حينا آخر.
وهذه المصرية الصحيحة، وهذه الحياة القوية الفياضة، هما سمة هذه القصة وطابعها البارز، وهما قد جعلاها في الطليعة بين كل ما كتب من القصص المصري منذ عرف أدبنا القصة إلى اليوم.
يروعك من هذه القصة لأول وهلة دقة تصوير شخصياتها على اختلاف كبير بينهم في النشأة والعلم والاستعداد الشخصي، وانك لواجد في كل منهم شخصية تخالف الأخرى وتفترق عنها في الكثير والقليل، تجمعهم أحيانا وحدة الحادثة، ولكن ما أشد تباينهم تجاهها في الشعور والحس والإدراك الصحيح، وما أشد هذا التباين في الاندماج في الحياة والانفعال بمختلف ما تأتي به من خير أو شر، من رجاء أو خيبة، وتكاد تحس فيهم جميعا طيبة القلب، وسذاجة الفطرة، والتبسط في الحياة، وتقبل ما تأتي به صروفها من ألم أو أمل، في رضى واستسلام، أو في غضب هو بالرضى أشبه، ولكن كل وحده وكل له بعد ذلك خلقه البارز وطبعه المغاير وشخصيته الفذة التي تترسمها ولا تكاد تخفي على ناظريك(18/77)
طوال القصة في معالمها الكبرى واسطرها الواضحة، بل في تفاصيلها الدقيقة وما بين هذه الأسطر، وما بين تضاعيف القصة من حوادث وصروف.
كلهم يحب وكلهم يعمر بالأمل قلبه حتى (زنوبة) هذه العانس التي فاتها سن الزواج فما تجد حيلة إلا الاستعانة بالسحر والسحرة في خفاء وحذر، خشية أن يعلم أهلها عليها أمراً لا يناسب الوقار والاحتشام، وما يجب أن تتصف به من الرزانة والأدب، كلهم يحب حتى (مبروك) الخادم أو من هو كالخادم، وما أشبهه بزنوبة في بساطة العقل أو قل في تفاهته، وانه ليسرع في شراء (نظارة) لتتم له الصورة التي تخيلتها له الفتاة التي أحبها الجميع، وساهم هو في حبها ولو بقسط ضئيل. وهذا (محسن) بطلنا الأول، الطالب في مستهل دراسته الثانوية، الناشئ في مستهل شبابه، وفي أول خطى العمر الغض، ما أجدره بالحب وأخلق بقلبه الفتي أن يفتح مصراعيه لأول طارق وأن يصيبه السهم الأول فيدميه ويجرحه جرح الأبد. ذلك هو الجرح الأول الذي لا يفتأ على الأيام يؤلم ويدمي. (محسن) يحب ولكن على استحياء وخجل. وفي صمت وكتمان. فاذا لمح بادرة أمل راح والدنيا لا تتسع لنشوته. وإذا داخله اليأس أفعم نفسه وروحه وضاقت الدنيا في عينيه، لا يعرف مداخل الرجل إلى قلب المرأة، ولا يدري كيف يغزو الغزاة هذا الحصن ويحسنون الطرق على أبوابه حتى تتفتح لهم عن جنات ورياض من الأمل الباسم والسعادة الشاملة، وما أروع هذا الاستسلام يطغى على قلبه، وهذا الألم يحز في قرارة نفسه، وتجده في ضريح السيدة يمسك بقضبان الضريح النحاسية ولا تنفرج شفتاه إلا عن هذه الصرخة المكتومة والضراعة اليائسة وملؤها الرجاء والإيمان المطلق (يا سيدة زينب!) ثم يطفر الدمع من عينه ويبكي ما شاء الله له أن يبكي، وما شاء له الحب اليائس والنفس الحزينة، والأمل المقطوع. وما ادري كيف كان يمكن أن يشعرك المؤلف بكل ما يختلج في صدر محسن من ألم محض وأسى قتال بأكثر من أن ينطقه بهذا ولا شيء غيره. فنتضمن الجملة القصيرة أو هذه المفاجأة الرائعة إذا أردت، كل ما تسعه المخيلة القوية الوثابة من اليأس والرجاء، والأمل والفشل، ثم الإيمان الذي يعمر القلب ويتغلغل إلى أعمق نواحيه وأغواره.
ولو شئت أن اضرب لك الأمثال على قوة تصوير المؤلف لمواقف أبطال قصته، وعلى دقته في الصور التي يعرضها عليك لشتى ضروب انفعالات النفس الإنسانية، وعلى(18/78)
مهارته الحاذقة في استخلاص الصميم الرائع من حقائق الحياة الخالدة، وتعمقه في تحليل كل ذلك تحليلا صادقاً كل الصدق، دقيقاً بارعاً إلى ابعد حدود الدقة والبراعة، لو شئت أن اضرب لك مثلا على هذا لما تخيرت إلا هذا الموقف. وانك إذ تسمع (محسن) يقول هاتين الكلمتين في ذلك الوقت، تبرز أمام عينيك فجأة صورة ذلك المنكوب الحزين، ذلك اليائس كل اليأس، المكروب كل الكرب، ذلك الذي تألبت عليه النوب واصطلحت عليه الأرزاء، فيرفع رأسه في هدوء وتلمح على وجهه ما يروعك من آيات القنوط وتحس ما يجيش به صدره من الانفعالات ومختلف عوامل النفس الثائرة كأنها الأتون يصهر الحديد أو البركان يقذف بالحمم، ثم لا تسمع منه إلا كلمة (يا رب. . .) وعليها مسحة الإيمان الذي لا حد له ولا وصف يوصف به، وانك لمأخوذ بسحر هذه الكلمة، مأخوذ بروعتها في بساطتها وقصرها، وكأنها تعويذة فيها من الروعة والجلال ما يأخذ على الفكر مسالك الفكر، ولو استمعت إلى شكوى الناس طرا من عهد آدم إلى اليوم لما كان لذلك في نفسك بعض هذا التأثير أو بعض هذا السحر المبين.
وتلك ناحية من نواحي هذا الكاتب القدير توفيق الحكيم لا تخطئها في (عودة الروح).
وأحب لك أن تقرأ الفصل الثالث عشر من القصة عند وداع محسن لسنية فهو من أحسن فصول القصة، وهذا الموقف بين الاثنين من أروع المواقف واصدقها وأدقها0 تصويراً، على أني لا أحب أن تفهم أني أفضل مشهدا في القصة على مشهد ولا فصلا فيها على فصل، فهي كلها قوية رائعة، وفيها كلها تلمس قوة الحبكة ودقة التصوير ومهارة الكاتب وخياله الخصب المؤاتي، وذلك التلوين العجيب لشخصيات أفراد القصة في مواقفهم العديدة المتباينة، ودونك الفصل الرابع والثلاثين عندما يتجه نظر سنية لقهوة الحاج شحاتة وتتأمل طويلا في مصطفى وما يختلج في قلبها من الانفعالات المختلفة المتضاربة، فليس أبلغ من قوة التحليل في هذا الفصل لقلب العذراء الخلي عندما يداخله الحب وينفعل بالجو الذي يحيطه في أول خطاه في هذه التجربة القاسية، فهو راض حينا، ساخط حينا آخر تتجاذبه عوامل الأمل واليأس، وتلمح كل هذا في الحركة المضطربة، وفي المفاجأة التي لا تترجم عنها الألفاظ، ولكن دقات القلب ونظرات العين ووجوم الوجه، وآية هذا الفصل أسطره الأخيرة التي تقدم لك لوحة من الفن بارعة كل البراعة صادقة كل الصدق، دقيقة أبلغ(18/79)
الدقة.
وبرغمي أن أترك حديث هذه الناحية من القصة لأتحدث إليك عن ناحية أخرى لا تقل عنها بروزا وقوة: وفيها الفكرة الكبرى التي أرادها المؤلف من كتابة قصته وعناها بتسمية القصة (عودة الروح) ودعك من ناحية تمجيده الفلاح، أو بمعنى آخر للمصري الصميم، وإنها لصفحة ناصعة خالدة من صفحات هذه القصة وانك لتحس في تضاعيفها حرارة المصري الصميم يمجد مصر وطنه ويمجد المصري ابن وطنه، ودعك من تلك الصور الصادقة واللوحات الفنية الرائعة عن الريف وأهل الريف وعن حياتهم وعاداتهم والاتحاد القوي المتين بين أفرادهم، وروح الجماعة التي تبرز في شخصياتهم واضحة منيرة، دعك من هذا ودونك فاسمع ما يقوله أوربي عن مصر وعن شعبها في الفصل الخامس والعشرين واقرأ هذه الفقرات وارجع إلى الفصل المشار إليه إذا أردت أن تقرأها كاملة.
(إن هذا الشعب الذي نحسبه جاهلا ليعلم أشياء كثيرة، ولكنه يعلمها بقلبه لا بعقله. . . . جيء بفلاح من هؤلاء واخرج قلبه تجد فيه رواسب عشرة آلاف سنة من تجاريب ومعرفة رسب بعضها فوق بعض وهو لا يدري. . . .)
(قوة أوربا الوحيدة هي في العقل تلك الآلة المحدودة التي يجب أن نملأها نحن بإرادتنا، أما قوة مصر ففي القلب الذي لا قاع له)
(إن هذا الشعب المصري الحالي ما زال محتفظا بتلك الروح. . . روح المعبد. . . إن القوة كامنة في هذا الشعب ولا ينقصه إلا شيء واحد. . . المعبود. . . نعم ينقصه ذلك الرجل منه، الذي تتمثل فيه كل عواطفه وأمانيه ويكون له رمز الغاية. . . . عند ذاك لا تعجب لهذا الشعب المتماسك المتجانس المستعذب والمستعد للتضحية إذا أتى بمعجزة أخرى غير الأهرام)
فاذا انتقلنا إلى الفصل الثالث والأربعين قرأنا (في شهر مارس. . مبدأ الربيع. . فصل الخلق والبحث والحياة. . اخضرت الأشجار بورق جديد وحبلت وحملت أغصانها الأثمار. .
(كذلك مصر أيضاً. . حبلت، وحملت في بطنها مولوداً هائلاً. وها هي مصر التي نامت قرونا تنهض على أقدامها في يوم واحد. لأنها كانت تنتظر ابنها المعبود ورمز آلامها(18/80)
وآمالها المدفونة يبعث من جديد. . وبعث هذا المعبود من صلب الفلاح)
وتبرز أمامك فجأة صورة رائعة لثورة مارس سنة 1919، وامض في القراءة.
(ما غابت شمس ذلك النهار حتى أمست مصر كتلة من نار. وإذا أربعة عشر مليونا من الأنفس لا تفكر إلا في شيء واحد. الرجل الذي يعبر عن إحساسها. . والذي نهض يطالب بحقها في الحرية والحياة، قد أخذ وسجن ونفي في جزيرة وسط البحار)
وتبرز أمامك صورة رائعة للمولود الهائل. . . للمعبود رمز الآلام والآمال. . للمعبود الذي بعث من صلب الفلاح. . لسعد
(كذلك اوزوريس الذي نزل يصلح أرض مصر ويعطيها الحياة والنور أخذ وسجن في صندوق ونفي مقطعا إربا في أعماق البحار. . .)
هذه مصر، وهذه ثورتها أو معجزتها الثانية بعد الأهرام، وهذا سعد رمز العبود والقدس، بعض ما يبرزه لك توفيق الحكيم إبرازا قويا واضحا فتكاد يستخفك مجد تليد وتاريخ مجيد فتصيح وتهتف بحياة مصر، الوطن العزيز المفدى، وتكاد من فرط ما يشملك من الفخار والعزة أن تدمي هذه الصفحات المقدسة تقبيلا وإجلالا، وهاك فاسمع ما يقول المؤلف عن لسان ذلك الأوربي، وأن أربعة عشر مليونا ليرددون هذه الجملة وأنها لتصبح وتمسي نشيدهم المختار ومثلهم الأعلى.
(بلد أتت في فجر الإنسانية بمعجزة الأهرام لن تعجز عن الإتيان بمعجزة أخرى. . . أو معجزات!! بلد يزعمون أنها ميتة منذ قرون، ولا يرون قلبها العظيم بارزا نحو السماء من بين رمال الجيزة! لقد صنعت مصر قلبها بيدها ليعيش الأبد. . . . .)
أجل. . . لقد عاشت مصر الأبد، وتخطت القرون والعالم يظنها هامدة ميتة، والنار كامنة تحت الرماد، وما هي إلا نفخة أو شبهها حتى ظهرت النار متأججة، تصهر الحديد وتكوي الجباه، وحتى قام ذلك الفلاح المستكين وأعلن غضبته للعالم أجمع والتفت العالم وأنصتت الدنيا.
وهذا ابن لمصر بار، هذا مصري صميم، هذا توفيق الحكيم جاء فسجل مجد تلك الثورة وأشاد بذكرها.
وبعد، فلنذكر للمؤلف الفاضل هذا الجهد البارز، وهذا العمل الخالد ولنعترف مخلصين بما(18/81)
بذل وما أوتي من مقدرة فائقة واستعداد هو مبعث التقدير والإجلال.
محمد علي حماد(18/82)
العدد 19 - بتاريخ: 15 - 10 - 1933(/)
القرية أمس واليوم. . .
كان أكتوبر في الزمن السعيد يقبل على القرية إقبال الربيع، يفَّتق لوز القطن في الحقول، ويشِّقق ورد الصبى في الخدود، ويفتَّح نوّار المنى في القلوي، ثم يمر بيده الذهبية على نصب الفلاح فيزول، وعلى هم المدين فينفرج، وعلى غمرة المكروب فتنجلي، ويرسل الخصب مدراراً على المنازل الجديبة فيرتاش المقلُّ، وينعم البائس، ويتزوج الأعزب!
كنتَ في أكتوبر، شهر الغنى والزواج، ترى مزارع القطن رفَافة الوجوه، بسامة الصور، تنساب بين خطوطها البيض أسراب الغيد بجنين الثمرة الغالية، وهن يغنين الأغاني الجميلة، ويحلمن الأحلام اللذيذة، ويتخيلن هذا القطن الذي يجمعنه الآن بأناملهن، ويضعنه في أحضانهن، وقد اصبح الثوب الزاهي الذي اشتهينه، والقُرط الذهبي الذي ابتغينه، والزوج الحبيب الذي طالما تمنينه! فإذا جئت القرية وجدتها زَّخارة بالحياة، مَّوارة بالحركة، تمرح بحماس الشباب، وتموج بأطياف الحب، وتهزج بأناشيد الأعراس، وتتلقى جزاءها الأوفى على جهادها الصابر طول العام في فلاحة الأرض وخدمة المالك، وإعانة الحكومة.
فالطرق الآتية إليها من الغيط تسيل بالعذارى الأوانس يصفقن بالأكف المخضوبة ويحدون بالأصوات الندية، (والخواجات) يخرجون متعاقبين من بيت إلى بيت يساومون على (المحصول) بالأثمان المغرية، والشباب المرحون يسمرون إلى موهن الليل على الرباب والأرغول في بيوت الأفراح القريبة، وأشعة الخريف الفاترة تبعث في قلوب هؤلاء الخليين طلاقة العيش وجمال الوجود، فلا يشغلون بالهم بالزروع التي تذبل، والأوراق التي تسقط، والطبيعة التي تموت!
ذلك حديث القرية المصرية بالأمس، فهل أتاك حديثها اليوم؟ لم يعد وا أسفاه للقطن تلك القوى السحرية التي كانت ترد البؤس نعيما وتجعل النار جنة! ولم تعد الطرق السالكة إليه شادية بالغناء، ولا الأنامل التي تجنيه مخضوبة بالحناء، ولا الدور التي تحويه ألاقة بالذهب! فقد القطن ولواحقه من سائر الغلات معنى الرخاء فأصبح علاجها عناء خالصا لا روح فيه، وسعيا باطلا لا رجع منه!! وكان الفلاح قد أقام بيته وأدار حياته على هذا الحاصل، فكان يأكل حبوب الأرض ثم يرصده وحده لقضاء الدين وأداء الضريبة ووفاء القسط وسداد العوّز وأكلاف السنة، فلما بخست قيمته الظروف القاسية تزعزع البيت،(19/1)
واضطربت الحياة، وانتشرت الحال، واستحكمت الازمة، فألحف الدائن في الطلب، وأعنف الصراف في التحصيل، وأسرف البنك في الحجز، حتى انتقص لهم من قوُته، واقتطع لهم من ثوبه، ونزل لهم عن جهده، ولم يغن كل ذلك شيئاً عن بيع ملكه!
تبدلت القرية غير القرية، فلا ليلى تطمح في زينة، ولا أخوها يطمح إلى زواج، ولا أبوهما يفكر في حج! وأصبحت الطريق الذاهبة إلى المدينة تجئ بالمرابي والصراف والمحضر، بعد أن كانت تجئ بالشاعر والزامر والمغني، وغاضت بشاشة العيش في وجوه الشباب فعادت القرية جديبة كالقفر، كئيبة كالقبر، لا يعقد فيها اجتماع لأنس، ولا يقام بها احتفال لعرس! وما أبعد هاتين الكلمتين اليوم عن قوم ندر عندهم الكبريت (الأصفر) حتى اتخذوا الزناد، وغلا عليهم التبغ حتى اشترك ثلاثة في سكارة!!
لا تزال القرية كما كانت في القرون الخوالي أكواخا متلاصقة من الطين غرقى في المناقع والدِّمن، لا تبصر الشمس، ولا تنشق الهواء، ولا تعرف النظافة، تكومت في قاعها أرواث البهائم وزرق الدجاج، وتراكم على سطحها حطب الوقود وعلف الماشية، وتقاسم الإنسان والحيوان المضاجع في هذه الحظائر المشتركة! ثم راض الفلاح نفسه مرغماً على الطعام الوخيم والشراب الكدر والملبس الرث والقناعة المزرية، حتى مات في حسه إدراك الجمال، وتفه في ذوقه طعم الوجود!
ذلك والعواصم المصرية تعيش في القرن العشرين تأخذ بمدنيته، وتقبس من نوره، وتنعم برفاهه، كأن الصلة بين القرية والمدينة هي الصلة التي كانت بين العبد والسيد، يملك ولكن ملكه لمولاه، وينتج ولكن إنتاجه لسواه!!
تغلغلت المدينة في الأمم الأوربية حتى انتظمت قمم الجبال وبطون الأودية وأطراف السهوب، وسوَّت بين بنيها في مُتَع العيش وحقوق الإنسان، ثم تشوفت إلى الآفاق الغائمة في الشرق تريد أن تهديها طريق الحضارة، ونحن لا نزال قاصرين عن إنقاذ قرانا من الجهل والمرض والفاقة، وهي مصادر القوة وموارد الإنتاج تعول الموظفين بالضرائب، وتغذي الجيش بالجنود، وتمد الحواضر بالأرزاق، وتعين الأحزاب بالمال، وتقيم (الحفلات) بالتبرع إن الفلاح المسكين الساذج يسمع بالوزارات تسقط وتقوم، وبالأحزاب تختصم وتحتكم، وبالمجالس تنتثر وتنتظم، وبالدواوين تفتح وتغلق، وبالأموال تجرى وتنفق،(19/2)
فيسائل نفسه سؤال الجاهل الذاهل. إلى من هذه الأعمال والأموال إذا لم يكن لي من ثمارها نصيب؟؟
لقد اشترينا بأقوات الريف أبهة العاصمة، وبنينا بأنقاض القرية
قصور المدينة، وغسلنا بعرق الفلاح أقدام المترفين، فكنا كمن
حفر الجداول، وخطط الحقول، ونثر البذور، وشيد الأهرام، ثم
طمر في سبيل ذلك فوهة الينبوع!! احمد حسن الزيات(19/3)
حول قصيدة
للدكتور طه حسين
في مساء يوم من أيام سنة 1920 دخل الأديب الفرنسي جاك ريفير على صديقه الشاعر العظيم بول فاليري، فرأى أمامه صورا مختلفة لقصيدة أنشأها، أو قل لقصيدة كان ينشئها. فاختلس صورة من هذه الصور، ثم خرج فنشر هذه الصورة في مجلة من المجلات الفرنسية الكبرى.
وهذه القصيدة هي (المقبرة البحرية) ويجب أن تعلم أن بول فاليري لا يتمأثراً من آثاره الفنية وإنما يتركه. وهو يفسر لنا هذا حين يتحدث إلينا في بعض ما كتب من الفصول، بأن الشعراء وأصحاب الفن في العصور القديمة، لم يكونوا يتمون أثراً من آثارهم، وإنما كانوا يعملون فيه ينقحونه، ويهذبونه، ينقصون منه، ويضيفون إليه، ويلائمون بين أجزائه، يبتغون الكمال ما وجدوا إلى ابتغائه سبيلا. حتى إذا أكرهوا على تركه أسلموه إلى النار أو أسلموه إلى الجمهور. فالنار والجمهور عند بول فاليري وعند أصحاب الفن الأقربين سواء. كلاهما يميت الأثر الفني بالقياس إلى مبدعه لأنه يختص نفسه بهذا الأثر فيحرقه تحريقاً ويقطع الصلة بينه وبين صاحبه، ويجعله ملكاً لنفسه، يتمثله كما يشاء أو كما يستطيع ويذوقه، ويفهمه كما يريد، أو كما تمكنه ملكاته الخاصة من الفهم والذوق. وبول فاليري حريص على هذه السّنة الفنية القديمة، فهو لا يتم كما قلت قصيدة من الشعر، ولا فصلا من النثر، وإنما يمضي فيه مصلحاً مهذبا، ساعياً إلى هذه الغاية القريبة التي لا تدرك وهي الكمال. حتى تضطره الظروف إلى أن يدع قصيدته أو فصله أو كتابه لصديق مختلس كجاك ريفير أو لناشر ملح، أو لأي ظرف من الظروف التي تذيع آثار الشعراء والكتاب، وتخرجها من أيديهم إلى أيدي القراء.
وكذلك فرضت هذه القصيدة في صورتها المعروفة على صاحبها فرضاً، ولعله لو خير لاختار صورة أخرى من هذه الصور التي كانت بين يديه، ولكنه نظر ذات يوم، فإذا المجلة الفرنسية الجديدة تنشر له قصيدة (المقبرة البحرية) فلم يكن له بد من التسليم والإذعان.
على أن من العسير جدا أن تظفر في التاريخ الأدبي الفرنسي، بقصيدة كثر حولها الحوار(19/4)
وأشتد فيها الجدال، وتشعبت فيها الخصومة، كهذه القصيدة التي لا تزيد على أربعة وأربعين ومائة بيت. فقد انفق النقاد الفرنسيون أعواماً يدرسونها، ويحللونها، ويلتمسون معانيها، وأغراضها، ومظاهر الحسن ودخائله فيها. ثم لا يتفقون على ذلك بل لا يتفقون على شيء من ذلك، يل يبلغ بهم الاختلاف أقصاه. فإذا بعضهم يرفع القصيدة إلى أرقى منازل الآيات الشعرية الخالدة وإذا بعضهم ينزل بها إلى حضيض السخف الذي لا ينبغي الوقوف عنده ولا الالتفات إليه. وإذا الأمر يتجاوز المجلات والصحف الأدبية إلى الصحف اليومية الكبرى، ثم يشتد الخلاف وتنظم الخصومة حتى يضطر ناقد من كبار النقاد إلى ان يبدأ بحثا دقيقاً وتحقيقاً بعيد الأمد، فيختار قطعتين من هذه القصيدة، ويعرضهما على الأدباء والنقاد المعروفين يسألهم عما يفهمونه منهما، وما يرونه فيهما من الرأي، ويدعوه ذلك إلى أن يسألهم عن أصل من أصول الفن الشعري، ظهر أنهم لم يكونوا يتفقون عليه بحال من الأحوال، وهو الوضوح أهو ضرورة من ضرورات الشعر الجيد، أم هو شيء يمكن ان يستغني عنه هذا الشعر؟ وإذا شئت الدقة والجلاء فقل أيجب أن يكون الشعر الجيد واضحاً جلياً يفهمه من قريب من سمعه أو قرأه، أم يستطيع الشعر أن يكون جيداً وإن حال الغموض بينه وبين فهم القارئين والسامعين. ولا يكاد يبدأ هذا التحقيق حتى يعود الخلاف حول القصيدة وصاحبها كما كان حاداً عنيفاً متشعباً. وكان بول فاليري في أثناء ذلك قد انتخب عضوا في المجمع اللغوي الفرنسي. فيثير انتخابه حقد الحاقدين وحنق المحنقين، ويزيد الخلاف حدة وعنفاً. وتستطيع أن تقول غير مبالغ ولا مسرف أن المثقفين الفرنسيين جميعاً قد شغلوا بهذه القصيدة وصاحبها أعوام 1927 و 28 و 29
وانتهى أمر هذه القصيدة إلى السوربون، وما أقل ما تعنى السوربون بشعر المعاصرين، وإذا أستاذ من أساتذة الأدب فيها هو مسيو جوستاف كوهين يتخذها موضوعا لدرسه في تفسير النصوص الأديبة، وإذا هو يتخذها موضوعاً لكتاب سماه محاولة لتفسير المقبرة البحرية. كل هذه الحركة العنيفة والشاعر صامت لا يقول شيئا، ساكن لا يأتي شيئاً، أو هو لا يقول ولا يأتي شيئاً يمس هذا الخلاف العنيف حتى اضطر صاحب التحقيق الذي أشرت إليه آنفاً أن يكتب إليه ينبئه بأن كثرة الذين أجابوا إلى ما ألقي إليهم من الأسئلة يعترفون بأن لقصيدته معنى ولكنهم لا يتفقون على هذا المعنى، وإنما يختلفون اختلافا شديداً في(19/5)
تحصيله، ويسأله أن يبين ما أراد ليقطع الشك ويزيل الخلاف، فلا يجيب الشاعر ويضطر كاتب آخر إلى أن يطالبه في صحيفة من الصحف الكبرى بأن يبين للناس ما أراد أن يقول في هذه القصيدة، ليظهر من أخطأ من النقاد ومن أصاب، ويصفه بالكبرياء، والحرص على أن يغيظ النقاد، ولكنه على ذلك كله لا يجيب حتى إذا ظهر كتاب أستاذ السوربون، نظر الناس، فإذا الشاعر قد قدم بين يدي هذا الكتاب بمقدمة بديعة ممتعة، يصفها بعضهم بأنها مثيرة للدوار، لكثرة ما تشتمل عليه من المعاني والآراء في وضوح لا يكشف الحجاب عنها كل الكشف، وفي غموض لا يريح القراء من التأمل وإطالة البحث والتفكير. فإذا قرأت المقدمة البديعة الممتعة المثيرة للدوار، لم يتبين فيها القارئ جواباً لهذه الأسئلة الملحة التي ألقاها النقاد على الشاعر يتمنون عليه فيها أن يبين لهم ما أراد، وإنما يجد القارئ في هذه المقدمة آراء موئسة من الوصول إلى تحصيل المعاني التي أراد إليها الشاعر حين نظم قصيدته. فهو يقول مثلا: إن الناس يسألونني ماذا أردت أن أقول؟ فأنا لم أرد أن أقول شيئاً وإنما اعمل شيئاً، ورغبتي في هذا العمل هي التي قالت ما يقرئون، وهو يقول مثلاً إن الأثر الفني الذي يصدره الشاعر أو الكاتب أو غيرهما من أصحاب الفن لا يكاد يخرج من يد منشئه حتى يصبح أداة من الأدوات العامة يصرفها الناس كما يريدون أو كما يستطيعون. ومعنى ذلك أن القصيدة إذا أذيعت بين الناس، فلكل واحد منهم أن يفهم منها ما أراد أو ما استطاع. فإما ما أراد الشاعر فأمر مقصور عليه حين نظم، ولعله قد نسيه أو انصرف عنه إلى غيره من المعاني فلا ينبغي أن يسأل عنه ولا أن يطالب بتبيينه للناس.
وأظرف وأطرف أن الشاعر يثني على الكتاب الذي يفسر قصيدته فيقول: انه قرب هذه القصيدة إلى الشبان من تلاميذه، وأحاط بخصائصها التي تتصل بما فيها من الموسيقى والانسجام. ولكنه يقول: أوفق الأستاذ الشارح إلى تحقيق المعاني التي قصد إليها الشاعر أم أخطأه هذا التوفيق؟
كل هذه الآراء وآراء أخرى للشاعر العظيم في هذه المقدمة الممتعة إن لم تبين المعاني التي أودعها قصيدته فهي تبين شيئاً آخر أظنه أقوم وأجلّ خطراً من هذه المعاني، وهو مذهب الشاعر في فن الشعر، وما ينبغي له من الارتفاع عن هذا الوضوح الذي يفسد الفن افساداً، ويقربه من الابتذال، فهو يرى مثلاً إن جمال الشعر يأتي من أنك تحدد اللذة الفنية(19/6)
في نفسك، كلما حددت قراءته ومن أنك تستكشف في القراءة الثانية من فنون الجمال ما لم تستكشفه في القراءة الاولى، بل تجد في كل قراءة فنوناً جديدة من الجمال لم تجدها في القراءات التي سبقتها، وأنت لا تجد هذه اللذة المتصلة المتنوعة إلا لأنك خليق أن تستكشف في كل قراءة معنى جديداً يثير في نفسك شعوراً جديداً بالجمال، وهو يرى مثلاً أن للشعر صفات تعصمه من الموت أو تعصمه من الموت القريب، وهذه الصفات تتصل بوزنه وقوافيه وبهذه الصور الخاصة التي لا تجدها في النثر. وموت الأثر الفني عنده يأتي من فهم الناس له، فأنت إذا قرأت كتاباً وفهمته فقد قتلته وقضيت عليه. فهناك إذا جهاد عنيف بين القارئ والمقروء، فإذا فهم القارئفقد غلب. وإنما الأثر الفني الخليق بهذا الاسم هو الذي يغلب قارئه ويعجزه، ولكن دون أن يضطره إلى اليأس والقنوط. ومن هنا يرى شاعرنا العظيم أن النثر بطبيعة تكوينه أقرب إلى الموت وأدنى إلى الفناء، لأنه أقرب إلى الفهم، وأدنى إلى الهضم، لا تعصمه هذه الدروع المتقنة التي نسميها الوزن والقافية، والموسيقى والصور.
فإذا أضفت إلى هذه المقدمة ما كتبه شاعرنا العظيم في مواضع مختلفة، وظروف مختلفة حول الشعر والنثر والأدب عامة استطعت أن تلخص مذهبه في الشعر الخالص أو في الشعر العالي كما يقولون. فالشعر عنده كلام، ولكنه كلام ممتاز، وامتيازه لا يجب أن يأتيه من معناه وحده بل، يجب أن يأتيه من صيغته قبل كل شيء، فحقيقة الشعر إنما تلتمس في صيغته وشكله، تلتمس في وزنه الذي يجب أن يبهر السمع ويؤثر فيه، تلتمس في انسجامه الذي يجب أن يثير في النفس لذة الموسيقى، أو لذة أرقى من لذة الموسيقى لأنها تمس العقل والشعور والسمع جميعاً، ثم تلتمس في صوره التي تروع الخيال وتروع معه الحسن أيضاً ثم تلتمس قبل كل شيء وبعد كل شيء في هذه الصفة التي لا أدري كيف أسميها أو أحددها، والتي تضطرك إلى البحث والتفكير وإلى جهاد ما تقرأ في غير ملل ولا يأس.
وطبيعي بعد أن ثار هذا الخلاف العنيف الطويل حول هذه القصيدة أن تتجاوز حدود فرنسا، ويعنى بها النقاد الأجانب كما عني بها الفرنسيون، كما يعنون بكل ما يصدر هذا الشاعر من الآثار. فقد ترجمت هذه القصيدة أربع مرات في اللغة الإسبانية، وثلاثاً في اللغة الإنجليزية، وثلاثاً في اللغة الألمانية ولكن الغريب أنها ترجمت في اللغة الفرنسية نفسها(19/7)
شعراً. ترجمها الكولونيل جودشو، وأرسلها إلى الشاعر، فكتب إليه الشاعر يقول: اشكر لك خالص الشكر ما أرسلت إليّ من ترجمة المقبرة البحرية إلى لغة أقرب إلى الوضوح. وسأضيف هذه الترجمة إلى التراجم الإسبانية الأربع، وإلى التراجم الإنجليزية الثلاث، وإلى التراجم الألمانية الثلاث، وإلى تراجم أخرى لهذه القصيدة قد وقعت إلى. وقد أعجبني جداً ما بذلت من الجهد لما ظهر فيه من الحرص على أن تحتفظ ما استطعت ببعض الأصل، وإذا كنت قد استطعت أن تترجم هذه القصيدة فليست هي إذن من الغموض بحيث يقال. فان قصيدة مظلمة حقاً تحتاج إلى تغيير أعمق من هذا التغيير الذي أحدثته لتصبح ترجمتها أمراً ميسوراً. فأنا مدين لك بهذا الدليل الواضح على أن المقبرة البحرية شيء يمكن فهمه إذا عنى القارئ بعض العناية بقراءتها ورغب بعض الرغبة في فهمها.
وأظن أن السخرية في هذا الكتاب أوضح من أن تحتاج إلى أن أدل عليها، ولعلك تسألني أن أترجم لك هذه القصيدة كلها أو بعضها، ولكني معتذر من ذلك لأمرين. الأول: أني أجد في قراءة القصيدة لذة راقية قوية حقاً، ولكني لا أستطيع أن أقول أني أفهمها على وجهها، وليس على من ذلك بأس ما دام النقاد والأدباء الفرنسيون وهم أعلم مني طبعاً بلغتهم وأدبهم يختلفون في فهمها إلى هذا الحد. والثاني: أن بول فاليري نفسه يرى أن ترجمة الشعر إلى النثر قتل لهذا الشعر، وتمثيل به ومحو لآيات الجمال فيه، وأعوذ بالله أن أقترف هذه الجناية أو أتورط في هذا الأثم، ولكن في مصر شعراء أو أنا أرجو أن يكون في مصر شعراء يحسنون الفرنسية فهل لهم أن يستبقوا في ترجمة هذه القصيدة شعراً عربياً، وهل لأصدقائنا أصحاب الرسالة أن يجعلوا للفائز في هذه المسابقة من الشعراء جزاء يلائم ما سيبذله من الجهد الذي سيكون عنيفاً حقاً، ولكنه سيضع أمام قراء اللغة العربية نموذجاً من أرقى وأروع نماذج الشعر الحديث.(19/8)
الرأي والعقيدة
للأستاذ أحمد أمين
فرق كبير بين أن ترى الرأي وأن تعتقده، وإذا رأيت الرأي فقد أدخلته في دائرة معلوماتك، وإذا اعتقدته جرى في دمك، وسرى في مخ عظامك، وتغلغل إلى أعماق قلبك.
ذو الرأي فيلسوف، يقول إني أرى الرأي صواباً وقد يكون في الواقع باطلاً، وهذا ما قامت الأدلة عليه اليوم، وقد تقوم الأدلة على عكسه غداً، وقد أكون مخطئاً فيه، وقد أكون مصيباً، أما ذو العقيدة فجازم بات لا شك عنده ولا ظن، عقيدته هي الحق لا محالة، هي الحق اليوم وهي الحق غداً، خرجت عن أن تكون مجالاً للدليل، وسمت عن معترك الشكوك والظنون.
ذو الرأي فاتر أو بارد، أن تحقق ما رأى أبتسم ابتسامة هادئة رزينة، وإن لم يتحقق ما رأى فلا بأس، فقد احترز من قبل بأن رأيه صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيره خطأ يحتمل الصواب، وذو العقيدة حار متحمس لا يهدأ إلا إذا حقق عقيدته. هو حرج الصدر، لهيف القلب، تتناجى في صدره الهموم، أرَّق جفنه وأطال ليله تفكيره في عقيدته، كيف يعمل لها، ويدعو إليها، وهو طلق المحيا مشرق الجبين، إذا أدرك غايته، أو قارب بغيته.
ذو الرأي سهل أن يتحول ويتحور، هو عبد الدليل، أو عبد المصلحة تظهر في شكل دليل، أما ذو العقيدة فخير مظهر له ما قاله رسول الله: (لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أدع هذا الذي جئت به ما تركته) وكما يتجلى في دعاء عمر: (اللهم إيماناً كأيمان العجائز) شعر جديد لقد رووا عن (سقراط) أنه قال (إن الفضيلة هي المعرفة) وناقشوه في رأيه، وأبانوا خطأه، واستدلوا بأن العلم قد يكون في ناحية، والعمل في ناحية، وكثيراً ما رأينا أعرف الناس بمضار الخمر شاربها، وبمضار القمار لاعبه. ولكن لو قال سقراط إن الفضيلة هي العقيدة، لم أعرف وجهاً للرد عليه، فالعقيدة تستتبع العمل على وفقها لا محالة، قد ترى أن الكرم فضيلة ثم تبخل، والشجاعة خيراً ثم تجبن، ولكن محالة أن تؤمن بالشجاعة والكرم ثم تجبن أو تبخل.
العقيدة حق مشاع بين الناس على السواء، تجدها في السذج، وفي الأوساط، وفي الفلاسفة. أما الرأي فليس إلا للخاصة الذين يعرفون الدليل وأنواعه، والقياس وأشكاله. والناس يسيرون في الحياة بعقيدتهم، أكثر مما يسيرون بآرائهم، والمؤمن بعقيدته يرى ما لا يرى(19/9)
الباحث برأيه، قد منح المؤمن من الحواس الباطنة والذوق ما قصر عن إدراكه القياس والدليل.
الناس إنما يخضعون لذي العقيدة، وليس ذوو الرأي إلا ثرثارين لا يعملون، عنوا بظواهر الحجج أكثر مما عنوا بالواقع، لا يزالون يتجادلون في آرائهم حتى يأتي ذو العقيدة فيكتسحهم.
قد يجود الرأي وقد ينفع، وقد ينير الظلام وقد يظهر الصواب، ولكن لا قيمة لذلك كله ما لم تدعمه العقيدة، وقلَّ أن تؤتي أمة من نقص في الرأي، ولكن أكثر ما تؤتي من ضعف في العقيدة، بل قد تؤتى من قبل كثرة الآراء أكثر مما تؤتى من قلتها.
الرأي جثة هامدة، لا حياة لها ما لم تنفخ فيها العقيدة من روحها، والرأي كهف مظلم لا ينير حتى تلقى عليه العقيدة من أشعتها، والرأي مستنقع راكد يبيض فوقه البعوض، والعقيدة بحر زاخر لا يسمح للهوام الوضيعة أن تتولد على ظهره، والرأي سديم يتكون، والعقيدة نجم يتألق.
ذو الرأي يخضع للظالم وللقوي، لأنه يرى أن للظالم والقوي رأيا كرأيه، ولكن ذا العقيدة يأبى الضيم ويمقت الظلم، لأنه يؤمن أن ما يعتقده من عدل وإباء هو الحق ولا حق غيره، ومن العقيدة ينبثق نور باطني يضيء جوانب النفس، ويبعث فيها القوة والحياة، يستعذب صاحبها العذاب، ويستصغر العظائم، ويستخف بالأهوال، وما المصلحون الصادقون في كل أمة إلا أصحاب العقائد فيها.
الرأي يخلق المصاعب، ويضع العقبات، ويصغي لأماني الجسد، ويثير الشبهات ويبعث على التردد، والعقيدة تقتحم الأخطار، وتزلزل الجبال، وتلفت وجه الدهر، وتغير سير التاريخ، وتنسف الشك والتردد، وتبعث الحزم واليقين، ولا تسمح إلا لمراد الروح.
ليس ينقص الشرق لنهوضه رأي، ولكن تنقصه العقيدة، فلو منح الشرق عظماء يعتقدون ما يقولون لتغير وجهه وحال حاله، واصبح شيئاً آخر، وبعدُ، فهل حُرِم الأيمان مهبط الإيمان؟(19/10)
حياة الإنسان
للأستاذ بول جانيت. الأستاذ بالسربون
حياة الإنسان منقسمة إلى أربعة أطوار: الطفولة والشباب، والرجولة والشيخوخة، ولطالما أشتد الجدل وما يزال يشتد بين البشر لمعرفة أي هذه الأطوار يكون الإنسان فيه أسعد حالا وأهدأ بالا وأشد تفاؤلا؟ ويلوح لنا أن الناس يجمعون أو يكادون يجمعون على تفضيل الرجولة على الشيخوخة، والشباب على الرجولة، والطفولة على الجميع، والحق الذي لا مراء فيه أن لكل طور من أطوار الحياة لونا من السعادة يناسبه ويلائمه، ولكل طور نظر إلى الحياة مغاير. . وهب أن ليس هناك ما هو أهنأ من الطفولة المرحة فمن منا يود أن يظل طيلة حياته طفلاً؟ فنحن الذين نغبط الأطفال هناءهم ونذكر في أسى تلك السعادة البريئة الماضية التي تفيأنا ظلالها وأحتسينا راحها ونعمنا بزنبقها وآسها أيام كنا أطفالا نرتع ونلعب، لنرمق في حزن عميق أولئك التعساء الذين تطول بهم الطفولة إلى غير نهاية، وإن سرورهم نفسه ليحرك فينا عاطفة الرحمة والإشفاق. نحن نرثى لهم لأنهم لما يلمسوا ما هم فيه من بؤس وشقاء، فهذه السذاجة التي يطول عمرها، وهذه الغرارة، وهذه الغباوة، وهذا الاستخفاف بآلام الغير ليبدو لنا أعظم الآلام. فليست السعادة منحصرة في قيام لذة او في انعدام ألم، ولكنها في استغلال القوى التي خص بها الإنسان استغلالا مشرفاً معقولاً. .!!
يجهل الطفل الحياة جميعها ولا تكاد تنصب رغائبه إلا على التافه من الأغراض، ومع إننا نعجب بهذا الطور وما حواه من سذاجة ومرح وتدلل فنحن لا نأسف عليه أسفاً حقيقياً، ولا نرضى عن طواعية واختيار أن نستعيده ثانية، ويحب الشباب من الحياة ما يحبه الرجل، ولكنه لا يتبع سبيله، ولا يسلك منهاجه، ومعرفته وآراؤه قريبان من معرفة الرجل وآراؤه، وليس الفرق بينهما عظيماً كما نراه بين الطفولة والشباب، وميزة الشاب عن الرجل أن رغائبه ما تزال في نضارتها وقشوبها، فالمستقبل مفتر له باسط ذراعيه، والأمل لابد ماليء جوانب قلبه، وناشر على أحزانه النادرة طبقة من السرور على أهبة أن تسفر وتتلألأ، وإذ لا عهد له بعقبات الحياة وتكاليفها، فهو أبداً سخي وشجاع، وما لم يكن قد خدع إلا نادراً كان ناصح الدخيلة، سليم الطويلة، يصدق الرواة ويثق بالظروف، ولما كان عمله في المعهد(19/11)
أو المصنع لا يتجاوز بضع ساع من النهار كان لديه وقت من الحرية والفراغ طال أو قصر يتسنى له خلاله أن يتذوق لذة الاستقلال قبل أن ينوء به عبء التبعة. . . غير أن زمن اللذة قد ولى وأدبر وبدأت حياة الجد والكفاح، وحتى هذا الوقت لم تكن آراء الشباب إلا قضايا عقل وخلجات نفس ينبغي أن تستحيل إلى عقائد وقيود! كان ميله هوى، وصداقته مسلاة، وحبه تلهية من تلاهي الخيال قبل أن يكون حاجة من حاج القلب وضرورة من ضروراته، وكانت علاقاته بالعالم لذة لحظة أو ملال لحظة، ثم استحالت إلى سلاسل وأغلال لا يستطيع المرء أن يتحرر منها دون خطر، ثم تتجمع حول الرجل الكامل المنافع والغايات والحاجات والمنافسات. وتحيط به وتنبسط أمامه فلاة بلقع ليس فيها سوى أهراس وعواسج ومهاو، وقد كان الشاب لا يرى فيها إلا سهولا منبسطة تغطيها رياض بها أطيب الزهر وأشهى الثمر! كل هذا حق، وهل يمكن أن يقال أكثر من هذا في مدح الشباب وذم الرجولة؟ ولكن لم خلق الإنسان؟ خلق ليكون رجلاً يكافح ويناضل، أما السلام فليس من أطوار هذه الحياة، إن نشدته وجدته أبعد من الفرقدين واعسر من رد أمس الدابر. إن هذه الحياة جهاد ونضال، وحري بالرجل أن يكون كالربان في بحر تحفه الأهوال، وليس أدعى إلى السخرية من شاب في سن الرجولة أو في سن الشيخوخة مثل ذلك الشاب الأبدي يدعو إلى حزننا ورثائنا، وليس الذي نرثى له من أجله هو ذلك التناقض المادي والمعنوي، أو الجسدي والروحي في الشخص الواحد، ولكن ذلك النقص المعيب والخمول المزري، وتلك القوة المعتلة ثم ذلك الوقار الضائع والأهلية المفقودة. . كل هذا ليس إلا ضعفاً هرمياً قبل الأوان، فالطبيعة تثأر لنفسها بشيخوخة مبكرة طافرة مع من لم يعرف كيف يتلقاها ويرحب بها ويتأهب لها وهي تدنو منه في رفق وتريث واتئاد. . .
يَبذُّ الشاب الرجل ببهجته ونضارته وجماله، أي يبذه بشيء ليس إلا عرضاً زائلاً، وعثاً بالياً، وزينة أحرى أن تفاخر بها المرأة، ويبذه الرجل بقوته واحتماله، وعلمه وحزمه ووقاره. يريد الرجل فيعمل، وينتوي فينفذ، ويعد فيصدق، ويكافح فلا ينثني له عنان ولا تلين له قناة. ويقف الشاب من مسرح الحياة موقف المتفرج بينما يلعب الرجل فوقه دوراً تافهاً أو عظيماً. ولربما تطلب أتفه الأدوار جهداً فوق الذي يتطلبه أعظمها، فعول أسرة أشق غالباً من تأسيس مملكة.(19/12)
يجهل الطفل شؤون الحياة، ولا يكاد يعرف منها كثيراً ولا قليلاً، ويعرفها الشاب أو يعرف منها الكثير فتستهويه وتستميله، غير أنه لا يساهم فيها، ولكن الرجل يمتزج بها ويحاول أن يغيرها، تحنكه التجارب وتوقره الحوادث، ويروضه الزمان ويثقفه الجديدان، وتشحذ قوته العقبات. وتعلى مكانته التبعات، وتوقظ مشاعره الآلام النبيلة، والعبرات الصادقة. . هذا عصر الإنتاج المثمر، والكفاح المجدي، والعزائم التي تولد من عناصر الضعف قوة، ومن ظلام اليأس نور أمل. هذا عصر القيادة والزعامة والابتكار، هذا عصر المجد والنور بل هذا عصر الإنسانية الحقيقي!!
في الطفولة عذوبة وسحر، وفي الشباب نظرة وجمال، ولكن كليهما ليس فيه غناء، لا لصاحبه ولا لوطنه ولا للإنسانية جمعاء، فالأطفال والشبان يعيشون في هذه الحياة كلا على الرجل، فالرجولة وحدها هي التي يؤمل لها أن تبلغ الغاية القصوى، والمثل الأعلى، وهي التي يحق لها أن تطمح إلى الخلود إن كان لشيء في هذه الحياة خلود!!
أما الشيخوخة فمتى كانت مدعمة بالرزانة والحزم، ومجردة من الهوى والأثم، وكان معها توبة من الذنوب وإقلاع عن المعاصي أضحت للذابل طلا وندى، وللفائت ترجيعاً وصدى، وما أشبهها بأصيل يوم ربيعي رق وصفا!
لينسَ الشيخ المعمر لحظة ما وسع من أحزان وآلام، وما أبتلى به من أوصاب وأسقام، وما نزل به من خصاصة، وما حضره من إملاق، وما لقي من عنت وإرهاق، وما صادفه من تعثر وإخفاق، ولينس مع هذا وقبل هذا أن قناته قد اعوجت، وأن عظمه قد وهن، وأن الدهر عاضه من نضارة عوده ذبولاً، ومن سواد عِذَاره قتيراً، وإن استطاع فلينس أيضاً أنه متى حان حينه طوى بساط عيشه، ووافاه حمامه فكحله بمروده. ولفه في مئزره، وأنتزعه من بين ابنة له وابن، ووالدة وخدن. وصاحبة وناي ودن، ليواريه في حفرة قد ضاقت مساحتها وأحلولكت جوانبها. . . فان فعل، وحري به أن يفعل، فثم قصيدة فيها سحر وجمال ومتاع سوف يخلقها له خياله. . قصيدة تبدأ بألاعيب الطفولة المرحة الطروب يتضوع منها شذا الوداعة والعذوبة والإيناس، ويفج منها نور السذاجة والبراءة والعفاف، ويغرد من فوقها البلبل والورقاء والحسون!! وتتصل بها آمال الشباب وأمانيه وأناشيده وأغانيه وتأملاته ونجواه ولياليه وليلاه. . . ثم تعقبها الرجولة بما أخذت من تبعة واحتمال،(19/13)
وما اضطلعت به من أعباء ثقال، وما بذلت من جهود ونضال، وما ذللت من عقبات، وما جابت من فياف وقفار، وما قضت من لبانات وأوطار، وما نالت من مجد وفخار، وما أنعمت به من زوج وولد وصحاب، وما احتملت من وقدات الهجير ولفحات الزمهرير في طلب رزق أو استجلاء سر، أو ذياداً عن وطن. وتختمها الشيخوخة وقد توسدت الراحة وأخلدت إلى الدعة واعتصمت بالحلم والأناة وارتسمت على وجهها آيات الرضا، وانبعثت من مقلتها أشعة الهدى. فراحت تتفيأ ظلال الذكرى، وكأنما في سني الطفولة والشباب والرجولة تحيا!!
ترجمة: رسلان عبد الغني البنبي(19/14)
الموسيقى في مصر
للأستاذ محمد كامل حجاج
لا ريب أن الموسيقى من أعظم الفنون الجميلة التي أصبحت من
الضروريات عند كل الطبقات، وقد بلغت أوجها عند الأمم الراقية،
وتمشت مع التمدن حتى أصبحت معيار المدنية والرقي.
الموسيقى الراقية كالشعر بل هي متممة له، لأن كثيراً من الحالات النفسية العميقة لا يستطيع الكلام أن يعبر عنها، وإني أضرب لك مثلاً سهلاً:
إذا قرأت أمام أمي جاهل مرثية من أروع الشعر الجاهلي فهل يظهر عليه أي تأثر؟
أعد الكرة أمام الرجل نفسه وأسمعه مرثية موسيقية راقية فلا ريب أنها تهزه وتحزنه حتى تقرأ علامات الحزن على وجهه ولربما لا يقوى على ضبط نفسه فيتأوه أو يخونه الدمع إن كان رقيق الشعور.
إن لم تكن الموسيقى واصفة ومصورة لكل ما تقع عليه العين من محاسن الطبيعة، ومعبرة كالشعر عن أسمى العواطف وأرق الشعور والوجدان، فأولى بها أن تسمى لغطاً وجلبة تصدع الرؤوس وتسئم النفوس.
لقد اهتمت مصر بالعلوم والآداب والفنون وأحرزت نصيباً يقارب الضروريات، ولكنها متقهقرة في الموسيقى. ولم نر واحداً من أبناء الأغنياء أولع بهذا الفن وحاول أن يدرسه دراسة تامة تؤهله لخدمة الموسيقى والنهوض بها إلى أوج الكمال. ولا يتأتى بلوغ هذه الغاية إلا بدراسة الموسيقى الإفرنجية، ثم العربية مع نصيب كاف من الثقافة العامة ولاسيما الآداب وتاريخ الفنون الجميلة، لأنهما يثقفان الذوق ويشحذان الخيال ويرهفان العواطف.
إننا بدراسة الموسيقى الإفرنجية بفروعها من سولفيج وأرموني وكونتريوان وتوزيع الموسيقى على الآلات نتمكن من إتقان الإملاء الموسيقي بأن نكتب موسيقى الدور أو القطعة بمجرد سماعها، ونرقى في التلحين إذا نبغنا في الارموني واستطعنا أن نسترشد بها لوضع أرموني تتناسب مع موسيقانا العربية. أما الكونتريوان فأنها تتمشى مع موسيقانا ولا تتنافر معها ولا تحدث فيها أية شائبة.(19/15)
إن موسيقانا لا تتعدى على الجملة: الضروب والمقامات، وهي لا تؤهل الإنسان للتلحين ما لم يكن الموسيقار قد وهب استعداداً طبيعياً وموهبة فنية وذوقاً سليماً كالشيخ سلامة حجازي وعبده الحمولي ومحمد عثمان، وبهم أسترشد ومنهم اقتبس جميع ملحنينا العصريين. المشتغلون بالموسيقى في مصر هم المحترفون والهواة وصبية رياض الأطفال وصبيات السنتين الأولى والثانية من مدارس البنات الابتدائية والجيش والبوليس والملاجئ وسنتكلم عن كل طائفة منهم.
إن المحترفين من عازفين ومفنين ومنشدين وملحنين يقنعون بالوصول إلى درجة متوسطة أو دونها، وليس عند أغلبهم ميل إلى الفن، والغاية التي ينشدونها هي كسب العيش بدرجة يغبطون عليها من القناعة، والهواة من الشبان يكتفون بحفظ بعض البشارف والسماعيات وجانب من المارشات والأدوار دون أن يهتموا بقواعد الفن وأصوله. وأما الفتيات فأغلبهن يتعلمن منهاج المرحومة ماتيلدة على البيانو، ويقلقن به الجيران إلى ما بعد منتصف الليل، ولا يعزفن نوتة واحدة ويستثنى منهم أفراد قلائل من الشبان والفتيات بلغن غاية عظيمة ويقولون دائماً هل من مزيد؟ ولكن لا يتجاوز عددهم أصابع اليد. اغتبطنا حين رأينا مدة انعقاد المؤتمر الموسيقي أطفال رياض الأطفال ومدارس البنات الابتدائية يمثلون قطعاً استعراضية تمثيلية غنائية في غاية من الرواء والإتقان، ويمثلون أدوارهم برشاقة واسترسال ويغنون ألحانها غناءاً صحيحاً شجياً، وقد أعجب بهم أعضاء المؤتمر أيما إعجاب. ويسرنا أن نرى وزارة المعارف مهتمة بتنفيذ قرارات المؤتمر الذي أوصى بنشر التعليم الموسيقي في المدارس الابتدائية والتجهيزية، إذقررت الوزارة في هذا العام تعليم بنات السنة الثانية من المدارس الابتدائية.
أما موسيقى الجيش والبوليس والملاجئ فقد ترقت كثيراً في السنوات العشر الأخيرة، ولاسيما موسيقى البوليس فأنها تعزف كثيراً من القطع الإفرنجية ومنتخبات الأوبرات المشهورة فضلاً عن القطع العربية الراقية، كما أنهم اهتموا بتوحيد طراز آلاتهم حتى يكون فيها انسجام. وهم يعزفون عليها بلباقة وحسن تعبير ورقة لم تكن موجودة فيما مضى وإني أورد مثالين يظهران شدة الاهتمام بالموسيقى والتضحية العظيمة في سبيلها.
كلنا نعرف هكتور برليوز أعظم موسيقي أنجبته فرنسا، وكان من أول أمره طالباً في(19/16)
مدرسة الطب، وكان أبوه طبيباً فلم يجد الولد في نفسه ميلاً إلى الطب ورجا والده أن يدخله في معهد الموسيقى فرفض وهدده بقطع مرتبه، ولم يستطع الابن أن يستمر في الطب فدخل الكونسرفاتورا. فما كان من والده إلا أن قطع مرتبه، فأضطر أن يعطى دروساً موسيقية بفرنك واحد للدرس، واستمر في دراسته وهو يغالب الزمن للحصول على قوته حتى نبغ، وهو الذي ابتدع الرومانتيزم في الموسيقى في فرنسا.
والمثال الثاني يبين لنا اهتمام الهمج بالموسيقى بدرجة لا تجدها في المصريين.
كنت في صغري أقضي عطلة المدارس في قريتنا بين أهلي، وكان منزلنا في ربوة عالية تشرف على جميع القرية، وكان في الحي الذي يلينا بيت تسكنه فئة من العبيد يحيون الليل جميعه في الغناء والعزف والرقص إلى أن تطلع الشمس، ثم يذهبون إلى عملهم وهو التجوال في القرى لجمع (البجم) من أشجار الأثل بقصبة طويلة بطرفها شص كبير وهو يستعمل في الصباغة.
كنت في الصغر طلعة أحب الوقوف على كل شيء، وكنت أرقب هذا البيت الصادح الباغم من الأصيل بمنظار، فكنت أرى النساء يكنسن فناء الدار ثم يرشونه ويفرشون الحصر ويصفون الآلات الموسيقية من دلوكات وطبول مختلفة الأنواع والكستلوفون الفطري المصنوع من قطع الخشب الرنانة المختلفة الاحجام، والكيزان الصفيح المحشوة بالحصى الصغير يحملونها في أيديهم ويهزونها لتحدث (دوكة) مخصوصة وقت التوقيع. وحينما يقبل رجالهن بعد الغروب يهيئن لهم ثريد العدس، ثم يصف أقداح البوظة، ثم يدخنون ويتسامرون ساعة إلى أن يأتي وقت الموسيقى فينشطون لها ويأخذ كل منهم آلته الموسيقية ويتهيأ الباقون للرقص والغناء، ويستمرون في لهوهم إلى مطلع الشمس دون أن يناموا، ثم يذهبون إلى عملهم ويقنعون بأن يقيلوا ساعتين بعد الغداء في ظل شجرة.
إن الموسيقى الشرقية كنز زاخر بالجواهر واللآلئ واليواقيت، ولكننا لا نعرف كيف نستخرجها ونبريها بذوق سليم حتى تليق لأن نزين بها تيجان الملوك. إن للموسيقى العربية مائة نغمة (مقام) أو اكثر من مائة وزن (الضروب) ولكن اين النابغة المثقف الذي يحسن التأليف والتلحين.
إن بعض الملحنين ينزعون في تلحينهم إلى اختطاف ألحانهم من الإلحان القديمة، ثم(19/17)
يخلطونها بشيء من الموسيقى الإفرنجية المنحطة التي تسمعها في أفقر المقاهي الإفرنجية ويضنون لسذاجتهم انهم جددوا الفن ونهضوا به، وما دروا انهم شوهوه وفضحوه وهذا جرم كبير لا يغتفر، عيّرنا به كثير من المستشرقين.
كانت الموسيقى المسرحية قد خطت أول خطوة في سبيل النجاح. ولكن القائمين بأمرها لم يحسنوا إدارتها، وكان ينقصهم الحزم والتدبير والذوق الفني، فلذلك فشل المشروع في عامه الثاني واستمرت الموسيقى المسرحية في التمثيل الهزلي، والحمد لله قد نشطت هذه المسارح وسارت في سبيل الرقى لولا ما يصادفها من عقبة لم تذلل وهي ندرة المطربين والمطربات الحائزين للأصوات الجميلة القوية الرنانة والثقافة الموسيقية الصحيحة.
إننا معشر المصريين مقصرون في تجميل بيوتنا وإنعاشها بالفنون الجميلة حتى نسكن إليها بعد عناء العمل، ونجد فيها من وسائل السرور والأنس ما ينسينا آلامنا وينعشنا ويجدد قوانا.
نجد الأسر الإفرنجية تهتم بتعليم أبنائها الموسيقى، وتعنى ربة الدار بنظام الحديقة وتنسيقها حتى تصبح جنة مصغرة ترتاح إليها النفوس المتعبة، وفي المساء تجتمع الأسرة فتحيي حفلات موسيقية ترقص لها القلوب وتنسى فيها الهموم والآلام.
أما بيوتنا التي تجردت من جميع مظاهر الجمال والأنس حتى نفرت منها النفوس ولم يطق الأبناء أن يطيلوا المكث فيها فينصرفون إلى المفاسد من تجوالهم ومعاشرة ذوي الأخلاق الضعيفة فلا يلبثون أن تتسرب إليهم عدوى الرذائل ويضحون في عداد الحشرات المؤذية.
أن الموسيقى لغة القلوب ومهذبة الأخلاق، ومرفقة الطباع ومبددة الهموم والأشجان، وخير لنا أن نهتم بها في أوقات فراغنا ونسعى في رقيها حتى نعيد عصر زرياب وأسحق الموصلي.(19/18)
مستقبل الإنسانية
للكاتب الاجتماعي هـ. ج.
تحليل وتعليق شهدي عطية الشافعي
كان عجباً حقاً أن يتخرج ويلز في كلية العلوم الملكية حيث الهندسة والجبر والميكانيكا ليصبح روائياً له مكانته العالمية.
وكان غريباً وهو رجل العلوم والرياضيات أن يتخطى السنين فيحلق على أجنحة الخيال ليكتب عن القمر وسكانه والمريخ وسبيل الوصول إليه. ثم يهبط إلى الأرض فيوجه إلى المجتمع الحديث بما فيه من نظم وأوضاع قارص النقد وشديد اللوم. تثقف ويلز ثقافة علمية صحيحة، وأمعن في القراءة لدارون وآمن بنظريته في النشوء والارتقاء إيماناً لا يتطرق إليه الشك. وتتبع محاظرات هكسلي تلميذ دارون بشغف لا مزيد عليه. والتهم معظم مؤلفات سبنسر. وكان إعجابه شديداً بوليام جيمس عالم النفس المعروف والفيلسوف التجريبي.
. . . . . ولكنه مع كل هذا كان رجل الخيال الرائع والأحلام الذهبية قبل أن يكون رجل المعضلات الحسابية والنظريات الهندسية، وكان لابد أن يتضارب الخيال مع الواقع. وإن تتناقض الدروس التي تلقاها في علم الكائنات الحية وغرامه بالروايات والقصص.
ولكن ويلز كان عقلية خصيبة من هذه العقليات التي تهضم كل شيء حتى لتستطيع أن تمزج الخيالات والحقائق، وتخلط التشريح والعواطف، وتوفق بين الروح العلمية والروح الشاعرة.
ولذا تجده في كتاباته يحيطك بشباك من حقائق علمية لا يمكنك إنكارها. ثم يجرك في رفق وهوادة إلى أشد ضروب الخيال إغراقاً في الخيال، وأكثرها بعداً عن العقل، ولكن لا يسعك إلا أن تسلم بما يقول وتوقن بما يكتب.
إن الإنسان بكل ما فيه من جمال وكل ما وهب من عقل لم يكن يوماً من الأيام إلا قرداً ممسوخاً لا جمال فيه ولا عقل له. هكذا كانت الصيحة التي فوجئ بها البشر من فم رجل قبيح الوجه عرفه الناس باسم دارون.
ولم يكن في هذه الصيحة من جديد. فقد سبقه إليها العالم (لامارك) ولكن دارون زعم أن(19/19)
هناك سنّة للحياة لا محيد عنها. وقانوناً صارماً لا سبيل للهروب منه: هو قانون تنازع البقاء.
فهذه الحياة تضطرب بملايين من المخلوقات تتباين في نموها وتختلف في تركيبها، ولكن لا تلبث الحياة أن تضيق ذرعاً بها فتقدر لها أن تشتبك في قتال وحشي، ثم لا يبقى منها حياً إلا أقواها وأصلحها.
وإذا كانت القرود قد تمخض عراكها عن إنسان بسود اليوم وجه الأرض. فأي مخلوق جديد سيكشف لنا عنه الغد! تساؤل تملك ويلز تملكاً قوياً وكان محوره: وإلى أين هذه الإنسانية؟ وأي فئة من البشر مقدر لها البقاء؟ وأيها محكوم عليه بالفناء؟
ولقد زعم ويلز إنه مستطيع أن يهتك اللثام عن وجه هذا الغد المجهول فيصور لنا تصويراً دقيقاً رجل المستقبل، جسمه وعقله ونفسيته والمجتمع الذي يعيش فيه! ولكنه كان في كتابه حذراً. فهو يستند دائماً إلى الحقائق الثابتة، ويسترشد بماضي التطور الإنساني، ويعتمد على مجريات الحوادث. مما رفع به إلى مصاف كبار المفكرين. وجعل لرواياته الشيقة صبغة علمية محترمة.
فتراه يدرس الماضي ويحاول أن يستشف منه المستقبل، يستنتجه استنتاجاً ومقدماته في ذلك فروض علمية صحيحة.
واليك مثلاً هذه المحاولة الكبرى من جانب الإنسان في سبيل التحرر من قيود الطبيعة. فها هو قد فك عن نفسه الثقل الذي يربطه إلى سطح الأرضفارتفع في الهواء. وها هو قد تغلب على مضطرب الأمواج، فامتطى البحار، وعلى صعب الأرض فشق في جوفه المسالك والطرقات.
وإذن فمن الطبيعي أن يستمر تطوره في هذه الناحية قوياً. فهو لابد يوماً متخلص تخلصاً تاماً من جاذبية الأرض ليصعد إلى القمر وليسبح منه إلى المريخ وليهبط منه إلى زحل!
وما دام الإنسان قد أستغل بعض عناصر الطبيعة من كهرباء وبخار فسخرها في أدارة آلاته وتسيير قاطراته، فليس عجيباً ألا يدع عنصراً إلا استخدمه غير تارك في ذلك موج بحر أو نور شمس أو حرارة في جوف أرض.
وما دام البشر قد تغلبوا على بعد الشقة وطول المكان بما أوجدوه من سريع الطيارات،(19/20)
فليس بعيداً أن يخترعوا آلة يتحكمون بها في الزمان. ماضيه ومستقبله.
فلا يرتبط رجل الغد بزمان أو مكان. قد يكون في شرق الأرض، فإذا به في غربها. قد يكون في السنة الحاضرة فإذا به قد تركها ليعيش في الماضي السحيق أو المستقبل البعيد.
ولن يرضيه وقد تخلص من قيود الطبيعة أن يستمر أسيراً لأغلال الجسد. فهو يركب غذاء يتمكن به أن يكون له من الجسم جباره ومن العضلات مفتولها، فلا يصيبه وهن ولا تعتوره شيخوخة.
وهو يتقدم الطب، وبقليل أو كثير من الرياضة يستطيع أن يتحكم في أعضاء جسمه. فلا يبقى منها على عضو لا فائدة فيه، ولا يدع عضواً نافعاً إلا قواه. فمعدته التي تجر عليه أمراضاً يحتاج لعلاجها إلى ألف طبيب وطبيب. لابد متخلص منها إلى معدة صناعية تقوم بوظيفة الهضم أحسن قيام! وأنفه هذا الذي كثيراً ما يصيبه بالزكام يجب أن يستبدل به أنفاً جديداً لا يتطرق إليه برد ولا تنزف منه دماء!
وهو قد يضايقه الخضوع للنظام الجنسي فتلهمه عبقريته طريقة للتناسل عن طريق غير طريق المرأة فلا يحتاج إليها ولا تحتاج إليه. وطبيعي بعد هذا أن تختفي لديه تلك العواطف الرقيقة من حب وشفقة وحنو. فهي كلها مظهر ضعف لا يليق به، وهو لن يعترف إلا بالعقل يدين له وبالمادة يؤمن بها. وبالقوة يخضع لها أو يناجزها.
سيكون إنساناً جباراً بكل معنى الجبروت، عظيم الخلقة، شديد الذكاء، قوي الإرادة، لا عواطف له ولا قلب. ثم لا مكان له ولا زمان. لا يعرف النوم، ولا بفهم الكلال، ولا يصيبه المرض! ثم ينتقل بك ويلز إلى رسم لا يقل غرابة لحالة المجتمع الذي يمكن أن يعيش فيه البشر غداً.
ولكنه يتأثر في هذا بآراء ماركس. وماركس هو هذا الألماني الذي زعم أن المال يجتمع في أيدي أفراد قلائل يتمتعون بأطايب العيش، بينما هناك ملايين من العمال محرومون لا يكادون يجدون ما يتبلغون به. ثم تنبأ بثورة هائلة تقوم بها الغالبية الساحقة من الطبقات الفقيرة يذبحون فيها الأقلية الضئيلة من أصحاب رؤوس الأموال.
وبذا يسدل الستار عن مأساة كبرى قد تكون خاتمة الحياة الإنسانية أو بدء حياة جديدة هانئة سعيدة.(19/21)
وقد كان لهذه النظرية أثر عميق في كتابات ويلز عن مجتمع المستقبل إلا أنه ذهب شوطاً أبعد، فزعم أن الفروق بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال ستتسع فلا تقتصر على نوع المعيشة بل سيتناول الجسم والعقل فينقسم البشر طائفتين متنابذتين متفاوتتين. طائفة قوية جبارة تسمو إلى أكثر ما يمكن أن يسمو إليه إنسان، فتكون نوعاً بذاته له مميزاته. ثم طائفة أخرى تنحط إلى أقصى حدود الإنسانية. مكانها تحت الأرض. وعملها آلة تديرها، ويكون من نتيجة المعيشة التي تعيشها أن يكيف عقلها فيصبح قاصراً محدوداً ويشوه جسمها فلا يصير قادراً إلا على حركة واحدة يأتيها.
ويشتد هذا الاختلاف وضوحاً. ويقوى هذا التباين ظهوراً، حتى تختفي أوجه التشابه بين الفريقين فلا تمازج بينهما ولا تزاوج ولا عاطفة هناك ولا علاقة، اللهم إلا تحكم قوي في ضعيف.
وهنا يتردد ويلز كثيراً. فهو لا يملك إلا أن يتساءل. أهذا هو الفصل الأخير من رواية الإنسانية؟ أم ذلك بداءة لثورة يثورها سكان ما تحت الأرض يحاولون فيها تخلصاً من ربقة العبودية الثقيلة؟
ويتحدث ويلز عن هذه الثورة ولكنه يتهرب من التكهن بنتيجتها الحاسمة، فهو في شك وأنت تعجب لهذا الشك. فكيف يمكن لقوم قد هزلت أجسامهم وضعفت عقولهم أن يصمدوا لطائفة لها من العقل أرقاه ومن الجسم أقواه؟
ولكن ويلز يعود فيعطيك صورة أخرى لهؤلاء الجبابرة من رجال الغد. فهم بعد أن استكشفوا ما في السماوات والأرض وبعد أن تسنموا الرقي حتى قمته لا يجدون ثمة عملاً يعملونه، أو معضلة يفكرون فيها، أو شاغراً يصرفون فيه ذكاءهم، فيلجئون إلى الرفاهية والتهتك ينهلون منها الكأس حتى الثمالة. وإلى الترف والخلاعة ينسون بها ما قد يلحقهم من سأم قتال، فتخبوا ملكاتهم وتضعف قواهم وتنحل عظمتهم
ولا شك أن حرباً تقوم بينهم وبين عمال الأرض السفلى هي حرب سجال!
لا يسعك وأنت تقرأ لويلز إلا أن تنسى نفسك فتتحمس إذا ما تحمس وتضحك معه إذا ما ضحك، وتتشاءم لتشاؤمه. وينسيك إعجابك بالقصة وبغرابة أفكارها وروعة خيالها. ينسيك موطن الضعف من ويلز.(19/22)
فهذه الصور التي صورها عن التطور البشري صور مغرية فيها بعض الحق وناحية من الصواب، ولكنه ليس كل الحق ولا معظم الصواب. فهو قد تجاهل عاملاً هاماً له أثره الخطير. تجاهل هذا التوازن الدقيق الذي نشاهده في قوى طبيعية. فلا يرتفع جزء من الأرض إلا انخفض جزء، ولا يهدم بناء إلا وقام بناء ولا يتشقق صخر إلا التأم آخر.
وهكذا لا يمكن أن يقوى العقل الإنساني إلا على حساب الجسم ولا تتاح للعضلات أن تضخم إلا إذا فقد العقل بعض قوته. وهذه الصورة التي أعطاها ويلز عن إنسان الغد مبالغ فيها إذ يختل فيها التوازن اختلالاً واضحاً.
فها هو الإنسان إنسان منذ العصور التاريخية وليس هناك من يزعم أن مقدرة العقل الإنساني أو قوة جسمه قد زادت زيادة تسمح لويلز أن ينسب لرجل الأجيال القادمة قوة عقل خارقة يصحبها قوة جسدية لا حد لها.
وهذا التوازن ينساه مرة أخرى في الصور التي يبدعها عن مجتمع الغد. فنظرية ماركس القائلة بأن الثروة مصيرها إلى التجمع في أيدي نفر قليل، والتي أخذ بها ويلز نظرية لا يتاح لها أن تتحقق، فالثروات اليوم تتجه إلى التوازن، وعامل اليوم يساهم في الشركات التي تقوم عليها الأمور، والمال يتبدد ويتوزع بين الأفراد، والأزمات المتلاحقة تهدد من كيان بيوت المال الضخمة، ومن كبار الأغنياء أكثر مما تقلل ثروة الفقير أو العامل الأجير.
لذلك نأبى تصديق ويلز فيما ذهب إليه من أن الإنسانية قد تنقسم طائفتين متباينتين. بل نرى عكس ذلك، فالعامل في رقي عقلي يساعده ما يجد من ساعات فراغ كان لا يجدها بالأمس، ويعاونه أتساع مجال الثقافة وانتشار التعليم انتشاراً سريعاً.
ثم أن الفروق الاجتماعية في طريقها إلى الزوال، فالكل قد تساووااليوم في الحقوق والواجبات، والكل قد يتساوون غداً في العلم والثروة. ونظام الطبقات الذي كان يضع فواصل من حديد بين الشريف والحقير هو في سبيله إلى الانهيار ان لم يكن قد أنهار منذ زمان.
ثم شيء آخر نوافق عليه ويلز ونخالفه فيه، نوافقه على ما يكتبه من تطور الإنسان الآلي وتقدمه في إخضاع عناصر الطبيعة. ولكنا نخالفه في أن هذا التطور قد يتجه بالإنسان إلى ناحية مادية لا يخضع فيها إلى قانون ولا يؤمن بدين ولا يعترف بخالق. إن ناساً كهؤلاء لا(19/23)
يستطيعون مكثاً في الأرض ولا مضياً. فهم بماديتهم وجشعهم وإسفافهم الخلقي لابد متقاتلون، متناجزون، فلا يبقي فرد منهم فردا.
ولا تحسب أن هذه الملايين من السنين التي مضت على تاريخ البشرية ستنتهي إلى مخلوقات ويلز البشعة. فنحن نؤمن أن الطبيعة التي طورت القرد إلى إنسان حسن التكوين، متناسق الصورة قوي الشعور، طبيعة فنانة ذكية عاقلة! وليست هي مجموعة من المصادفات الهوجاء.
ونحن نظن أن الإنسانية التي كانت تسير على غير هدى بالأمس قد أصبحت اليوم شاعرة عاقلة تحس نفسها وتتساءل عن مصيرها، ولقد شارفت الأفول شمس هذا اليوم الذي كان يسير الناس فيه عمياً لا يبصرون، ويخضعون ويتألمون ولا يدرون، لماذا يتألمون. وسيغرب هذا اليوم ليشرق غد عن الإنسانية أكثر استثارة، وأقل حيوانية وأنزع إلى الكمال، وأعرف بمواطن الضعف، وبطرق العلاج.
هذا ما يحملنا على الاعتقاد بأن هذه الناحية من كتابات ويلز الاجتماعي ليست بالناحية الخالدة وان كانت هذه الناحية هي التي برز فيها واشتهر بإتقانها.
لقد طرق ويلز موضوعاً آخر أبدع في علاجه إبداعا لا شك أنه رافع اسمه إلى الخلود.
وهذا ما يحدونا إلى الكتابة عنه مرة أخرى؟(19/24)
شخصية. . .
(لقد سئمت أن أكون على الدوام رجلاً عاقلاً)
(أوليفر جولد سميث)
يتكلف الصدق في أبريل ليصدقه الناس حين يكذبون العالم بأجمعه، ثم يطلق نفسه على سجيتها باقي شهور السنة، فيكذبه الناس حين يصدقون العالم بأجمعه.
وهو يحاول قدر طاقته أن يصوغ حقائقه المكذوبة صياغة صادقة، ولكن مقدرته الفنية على ذلك ليست كبيرة وإن كانت في نظره، ومن غير تصريح، عظيمة بالغة!!
وأؤكد أنه لو شك يوماً في مقدرته على سبك الأكاذيب، لخجل، وكف، واتزن.
ولكنه لأمر ما، غريزي ولا شك، يكذبك دون أن يشعر أنه يكذب حقاً، أو هو يتصور من فرط عنايته بالصياغة أنه يصدقك حين يتكلم إليك. أستطيع أن أفهم هذا من أنه يتألم إذا اتهمته بالكذب، ويغضب لكرامته غضب من يروي لك خبراً صادقاً وأنت تشك في روايته.
وهو يواجه الناس بمقدرة عظيمة على دفع اتهامهم إياه، وينبري لهم ليرد عن نفسه سيل الانتقاد الجارف. وهو بارع في مواجهته لأكثر من شخص في الوقت الواحد.
وهو إذ يروي لك رواية، يهذبها قبل أن يلقيها إليك بقدر ما تسمح مقدرته على التهذيب، ثم هو يعود فيتدارك ما قد يكون فيها من تنافر وتضارب مع بعض الحقائق التي قد تسارع إلى رأس سامعه، فينتظر ريثما يفهم نوع استقبالك لحديثه واستساغتك له، فإذا لم يكن بد من الاستدراك، سارع إلى الاعتذار بقوله: (إنني لم أحسن التعبير) ثم يروح يفكر، ويفكر، ويزيد على الاعتذار السابق قوله: (إنني اقصد بالضبط أن أقول كذا وكذا)
وأنت مضطر إلى أن تقبل الاعتذار عن ضعف التعبير أولا، ثم عن ترقيع الرواية ثانياً، لأنه صديقك، وللصداقة حقها. ثم لسبب آخر غير الصداقة إذا كنت ممن يرون الحياة ثقيلة إذا ظلت دائبة على الصدق، وتحري الحقيقة. . ففي الكذب متسع عظيم للخيال الشارد والخيال المتزن، وفي الصدق تحقيق وتدقيق، وأخذ بأسباب الحقيقة، والحقيقة لا تتعدد، وصاحبنا من أنصار التنويع والتعدد، فهو بما يخترع من الروايات، وما يلفق من الأحاديث، ينتقل بك من الجد الثقيل على النفس إلى جد آخر، من صنعته هو! بلغ فيه عنده حد الإبداع في السبك وحسن الأداء، فإذا ضيقت عليه المسالك، وأخذته من كل ناحية، وأعلمت المنطق في قضاياه، وسلطت الحقيقة المرة على خياله الحلو، انحصرت عن(19/25)
صاحبنا كل مسعفة من حسن الأداة وبراعة الحبك، وتخلت عنه فجأة شياطين الأكاذيب التي اعتادت أن تواتيه بالهام كلما استلهمها، وفزع إليها.
والحق أن تلك الشياطين كانت أطوع له من بنانه، فلم تكن تشعر أن هناك فترة تمضي بين ضراعته إليها في أحرج مواقفه وبين استجابتها لضراعته، حتى لتكاد تعتقد أنها كانت تلازمه أينما أرتحل، متحفزة لكل نداء، متأهبة لكل تلبية.
وإن أعجب من شئ، فليس ببالغ عجبي من هؤلاء العباقر، ومن اجتماعها على خدمة هذا الرأس الصغير المستدير، ومن مقدرتها على تأليف الصور من الشتات المتنافر، وتركيب الأخيلة من الحطام المتناكر، ثم من عجزها وتخليها فجأة عن النهوض بأعباء المهمة التي أرسلت إليها، حين تهبط ملائكة الحق لتنقذ الموقف. . . فيتعذر إذن أن يجتمع ملاك وشيطان.
فإذا انجابت عن صاحبنا شياطين أكاذيبه، دق موقفه، وتحرج، فمال على محدثه يلتمس عنده المعذرة عن هذا الموقف المتجرد، لا بالقول بعبارة الأسف المألوفة، بل بالانضمام إلى محدثه دفعة واحدة، ومشايعته في رأيه، وفي منطقه، وفي حملته على هذه الأكاذيب الصريحة! حتى لكأنهما يحملان معاً على شخص ثالث!!
فإذا التفتّ إليه التفاتة ذات معنى، تقلص وقطب، ثم هش بغتة، واحمر، ثم غاض الدم من وجهه، وتهدلت شفته السفلى وغمغم، فإذا دققت، فهمت أنه يريد أن يقول ما مؤداه: (وماذا عليّ؟ إني ألفت الكذب ينجي في كثير من المآزق) وهذه هي خلاصة فلسفته التي يصارحك بها في الوقت المناسب.
تردد يوماً ما في قضاء إجازة قصيرة بين بلدته وبين القاهرة.
اعتزم أن يزور بلدته لأن فترة طويلة مضت دون أن يرى أهله وذويه.
واعتزم أن يزور القاهرة لأنه مل حياة الريف الرتيبة المملة، وتاق إلى حياة القاهرة الصاخبة بما تستحدث كل يوم من صنوف المسليات، وأراد أن (يشعر بالحياة) على حد تعبيره.
فلما أعتزم السفر إلى بلدته، كلف بأمر من الأمور التي تمت إلى حياة القرى بصلة.
فلما اعتزم السفر إلى القاهرة كلف من صديق له بأمر من الأمور التي لا يسهل قضاؤها(19/26)
من غير العاصمة. وحمل النقد الكافي لذلك.
ومضت الإجازة كأن لم تكن. وعاد صاحبنا إلى مقر عمله.
والتقى بمن كلفه مهمة البلدة فابتدره بقوله: (أنا آسف جد الآسف، لأني قد مضيت الإجازة كلها في القاهرة!)
فلما التقى بالآخر كان لزاماً عليه أن يعتذر عن تقصيره، فقال: (أرجو المعذرة إذ قد مضيت إجازتي كلها في البلدة، إذ وردتني رسالة برقية في آخر لحظة تستدعيني إليها على عجل لأمر عائلي).
وكان يلذ لي شخصياً اصطناعه لهذه الأحاديث (أحياناً) فأكون في نظره الصديق الذي ما بعده صديق! وأكون أقرب شخص إلى قلبه، وأقرب فكر إلى فكره، ويكون منطقي طبق الأصل من منطقه! (كذا)
وأنا حين أكون هذا الشخص أجري على حكمة أوليفر جولد سميث (لقد سئمت أن أكون رجلاً عاقلاً)
ولكني كنت أضيق بصاحبي ذرعاً، حين كانت نزعة الحقيقة والعقل تغلب عندي على كل خيال حلو تنتجه قريحة صاحبي، فأقف منه فجأة موقفاً يصفه هو بالعداء، وأصفه أنا بتحري الحقيقة والتزامها ليس غير.
فإذا بلغت الحال بنا هذا الحد من التحرج، بحثت لصديقي عن هنة من هناته التي تمتُّ إلى الكذب الصريح بصلة قريبة.
وحضرني في آخر موقف أن أعنفه على إهماله إرسال بطاقة (المعايدة) التي اعتاد الناس تبادلها في العيد، فابتدرني بهذا السؤال:
- أليس عنوان بيتكم رقم 19 شارع. . . . .؟
- قلت نعم (متخابثاً)
- قال لقد أرسلت لك المعايدة على هذا العنوان.
- قلت وما رأيك إذا كان رقم منزلنا 16 لا 19؟
- فسكت صاحبي سكوتاً أشفقت عليه منه، ومع ذلك لم يمنعني إشفاقي عليه من أن أذكره بفلسفته الخالدة: (إني ألفت الكذب ينجي من المآزق)!!!(19/27)
- وسألته: إلى أي حد تنطبق فلسفتك على هذا المأزق؟. . وكيف خلاصك منه؟. .
إبراهيم إبراهيم جمعة
(ليسانسييه)(19/28)
مطالعات في التصوف
عوارف المعارف، ماهية التصوف، أصل كلمة صوفي
- 3 -
لعل حظ كل من البابين الخامس والسادس من الأهمية والقيمة العلمية
أكثر من حظ غيرهما. فهذان البابان يدلان دلالة واضحة مستقيمة لا
ليس فيها ولا اعوجاج على ماهية التصوف وكنهه وعلاقته بالفقر
والزهد، والفرق بينه وبين الفقر والزهد. هذا هو ما يتناوله الباب
الخامس من كتاب عوارف المعارف فيما قدم لنا فيه مؤلفه من تعريفات
متنوعة للتصوف. أما الباب السادس فأنه يظهرنا على مسألة ليست أقل
من سابقتها خطراً. ولكنها على العكس أبعد ما تكون أثراً على أعانتنا
على فهم التصوف وما مر به من أطوار فهماً مستقيماً. وأعنى بها
مسألة الأصل الذي صدرت عنه كلمة صوفي وتلك مسألة قد عرض
لها مؤلف عوارف المعارف في نهاية الباب الأول من كتابه فأشار
إشارة موجزة إلى أن هذه اللفظة لم تذكر في القرآن وإنما تركت وذكر
مكانها لفظ المقرب. وإذن فالمألوف يفصل في الباب السادس من كتابه
ما أجمل في الباب الأول. وهو يعرض علينا في شئ من الاستطراد
الآراء المختلفة التي رآها العلماء المختلفون في الأصل الذي اشتقت
منه هذه الكلمة. وهو ينتهي من هذه الآراء كلها على الرأي الذي يلائم
طبيعة الاشتقاق اللغوي من ناحية، ويدل دلالة صحيحة على طبيعة
الصوفية وماهية التصوف من ناحية أخرى. وبالجملة يمكننا أن نقول
أن هذين البابين من كتاب عوارف المعارف أقدر على إعطائنا فكرة(19/29)
عامة شاملة تستطيع أن تظهرنا على لب التصوف.
1 - ففي الباب الخامس يقدم إلينا المؤلف طائفة من التعريفات اختلفت في مبانيها واتفقت في معانيها. وهو يظهرنا من خلال هذه التعريفات على ماهية التصوف والفقر والزهد. ثم هو ينتهي من هذا كله إلى أن هناك فرقاً بين التصوف من ناحية وبين كل من الفقر والزهد من ناحية أخرى. كما أنه ينتهي إلى أن أساس التصوف وقوامه إنما هو الفقر. ولكي أكون لديك صورة صادقة لما أشتمل عليه هذا الباب لابد من أن أقف بك وقفة قصيرة تلم بها بأهم التعريفات التي عرضها علينا المؤلف لتتبين منها ماهية التصوف:
(1) قال رويم: (التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار. والتحقق بالبذل والإيثار. وترك التعرض والاختيار.)
(ب) وسئل الجنيد عن التصوف ما هو. فأجاب بقوله: (أن نكون مع الله بلا علاقة.)
(ج) وقال معروف الكرخي: (التصوف الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق. فمن لم يتحقق بالفقر لم يتحقق بالتصوف).
وبعد أن ذكر المؤلف هذه التعريفات، تراه قد قدم لنا تعريفات أخرى للفقر والفقير اليك أهمها:
(أ) سئل الشبلي عن الفقر فقال: (ألا يستغني بشيء دون الحق)
(ب) وقال أبو الحسين النوري: (نعت الفقير الكون عند العدم. والبذل والإيثار عند الوجود)
وانتهى مؤلفنا من هذه التعريفات التي قدمت، إلا أن هناك اشتباهاً بين التصوف والفقر. فأنت ترى مثلا أن أشياء بعينها تذكر في معنى التصوف يذكر مثلها في معنى الفقر. وإن أشياء بعينها يرد ذكرها في معنى الفقر يرد ذكر مثلها في معنى التصوف. ومن هناك كان الاشتباه. ومن هنا أيضاً كان لابد من التحقيق الذي يكشف الفاصل بين كل من التصوف والفقر، والفرق الذي يميز ويحدد ماهية كل من التصوف والفقر، وفوق هذا فان الاشتباه ليس قاصراً على التصوف والفقر فحسب وإنما هو قد تجاوزهما إلى التصوف والزهد. وإذن فلابد من التمحيص والتدقيق الذي يبين الفرق بين التصوف والفقر من ناحية والتصوف والزهد من ناحية أخرى. بحيث نلمس الاشتباه الذي يمكن أن يكون بين كل من هذه الأشياء الثلاثة. ونميز الفرق بينها تمييزاً يحدد كلامنا تحديداً من شأنه أن يحول بين(19/30)
اندماج بعضها في بعض أو تشابه بعضها مع بعض. فأنت إذا أنعمت النظر ودققت الفكر في هذه المسألة تبين لك أن التصوف غير الفقر، وان الزهد غير الفقر، وان التصوف غير الزهد. وليس التصوف غير اسم جامع لمعاني الفقر والزهد بإضافة صفات ونعوت لابد منها لكي يكون الرجل صوفياً. فقد يكون الرجل زاهداً وقد يكون فقيراً ولكنه ليس صوفياً. ولكنه لكي يكون صوفياً لابد له بين أن يكون زاهداً وفقيراً.
وليس التصوف زهداً أو فقراً بإضافة صفات ونعوت فحسب، وانما هو شيء آخر أبلغ وأروع من هذا كله واقدر على تهذيب النفس، وتنقية القلب، وتصفية الضمير، هو كما قال أبو محمد الحريري: (الدخول في كل خلق سني، والخروج عن كل خلق دني).
وأهل الشام لا يميزون بين التصوف والفقر. فهم يذهبون إلى أن الله وصف الفقراء بالصوفية. وإلى أن الصوفية سموا كذلك لأنهم فقراء. ولكن مؤلفنا قد تناول هذه المسألة بالدرس والتحقيق فأوضح غامضها وكشف عن وجه الحقيقة فيها بحيث أظهر لنا في وضوح وجلاء الفروق بين التصوف والفقر. وأول هذه الفروق هو أن الفقير في فقره متمسك به، راض عنه، مطمئن إليه. وهو في هذا كله قانع بما سيجد عند الله من العوض. وهو كلما أمعن في التطلع إلى هذا العوض ازداد إعراضاً عما في الدنيا من أعراض زائلة وزخارف باطلة. وأما الصوفي فلا يرغب عن زخرف الدنيا وعرضها ابتغاء هذه الأعواض الموعودة ولكنه يفعل هذا من أجل الأحوال الموجودة. وثاني هذه الفروق هو أن الفقير حين يتمسك بفقره ويمعن في ترك الدنيا وإعراضها إنما يفعل هذا بإرادته واختياره على حين أنك ترى الصوفي قد تجرد من هذا الاختيار وهو الإرادة. فهو في جميع أحواله قد محيت فيه ملكة الاختيار وفنيت إرادته في إرادة الله فناءً تاماً بحيث لا يصدر في شئ الا عن إرادة الله. ولا يرى فضيلة ما في فقر أو غنى، ولكن الفضيلة عنده كائنة فيما أقامه الله فيه من حال. وليس أدل على أن الصوفي قد فنيت إرادته في إرادة الله، من قول الجنيد الذي عرف فيه التصوف بأنه. (هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به) فمن هذا ترى الفرق واضحاً بين التصوف والفقر. كما ترى أن التصوف قوامه ودعامته الفقر بمعنى أن الوصول إلى مراتب التصوف إنما يتوسل إليه بالفقر. على أن الفرق بين التصوف والفقر لا يقف عند هذا الحد، وانما هناك فرق ثالث يمكن تلخيصه في أن الصوفي هو من إذا(19/31)
استقبله حالان حسنان أو خلقان حسنان كان مع الأحسن. على حين أن الفقير والزاهد لا يميزان بين الحالين الحسنين أو الخلقين الطيبين. بل هما يختاران من الأخلاق ما هو ادعى إلى الترك والخروج عن شواغل الدنيا حاكمين بعلمهما. وعلى العكس من هذا ترى أن الصوفي يحكم على الأشياء ويستبين الأحسن بما أُلهم من عند الله مستعينا في ذلك بصدق التجائه وحسن إنابته وعلمه بربه. وبعبارة أخرى يمكنك أن تقول أن الصوفي لا يرى في الأشياء إلا ما يظهره الله عليه ولا يحكم عليها إلا بما أوحى إليه. فالتصوف على حد قول رويم ليس إلا استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريد. أو هو كما قال بعضهم أوله علم وأوسطه عمل وآخره موهبة من الله تعالى. والصوفي - كما قال سهل بن عبد الله - هو: (من صفا من الكدر. وامتلأ من الفكر وانقطع عن البشر. واستوى عنده الذهب والمدر)
وخلاصة هذا كله هي أن الفقر أساس التصوف وقوامه. وأن التحقق بأحوال التصوف ومقاماته بني على الفقر والزهد فيما اشتملت عليه الدنيا من زخرف ومتاع. وقد قص علينا مؤلف عوارف المعارف قصة رويت عن ذي النون المصري، ولا بأس من إيرادها فهي تظهرنا على ما انطوت عليه نفوس الصوفية من تمسك بالفقر، وإمعان في الزهد، وإغراق في الإعراض عن ملذات الدنيا وشهوات النفس.
قال ذو النون: (رأيت ببعض سواحل الشام امرأة فقلت: من أين أقبلت؟ قالت: من عند أقوام تتجافى جنوبهم عن المضاجع، فقلت: وأين تريدين؟ قالت: إلى رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. فقلت: صفيهم لي. فأنشأت:
قوم همومهم بالله قد علقت ... فما لهم همم تسمو إلى أحد
فمطلب القوم مولاهم وسيدهم ... يا حسن مطلبهم للواحد الصمد!
ما أن تنازعهم دنيا ولا شرف ... من المطاعم واللذات والولد
ولا للبس ثياب فائق أنق ... ولا لروح سرور حل في بلد
إلا مسارعة في أثر منزلة ... قد قارب الخطو فيها باعد الأبد
فهم رهائن غدران وأودية ... وفي الشوامخ تلقاهم مع العدد
فهذا الشعر وان كان ركيكا مهلهلا ضعيفا إلا أنه يصور لنا في وضوح نفوس الصوفية(19/32)
وقلوبهم وما احتوت عليه هذه القلوب وهذه النفوس من فناء في الله، وذكر له، واتحاد معه، بحيث أصبحت نفوسهم لا تفكر إلا فيه وقلوبهم لا تنزع إلا إليه. وبحيث انهم تجردوا عن كل شهوة، وخلصوا من كل لذة، وتحرروا من هذه القيود الجسمانية التي تفسد على الإنسان حياته الباطنية وتكدر صفاء سريرته النفسية.
وآية ذلك هي أن الصوفي دائم التصفية والتنقية لنفسه مما يشوبها من الأكدار. وهو فوق هذا دائم الحركة والاضطراب بدوام التجائه وافتقاره إلى ربه. والتجاؤه وافتقاره هما اللذان يهذبان قلبه وينقيان نفسه ويضيئان جوانب هذا النفس وهذا القلب بالمعرفة الصحيحة الصادقة التي تكشف له عن حقيقة الله وماهية الأشياء. وعلى هذا ترى انه لابد للصوفي من دوام الحركة والاضطراب بدوام الافتقار والالتجاء وحسن التفقد لمواطن إصابات النفس.
ولنترك الآن الباب الخامس بعد أن وقفنا عند أهم ما اشتمل عليه ولنعرض للباب السادس حيث يحدثنا السهروردي عن مسألة لها قيمتها العلمية وخطرها العظيم في تاريخ التصوف وفهم الأطوار التي مر بها فهماً صادقا مستقيما. وأعنى بهذه المسألة مسألة الأصل الذي صدرت عنه كلمة (صوفي) والمصدر الذي اشتقت منه ونسبت إليه، والمؤلف حين يحدثنا عن أصل كلمة صوفي يعرض علينا أهم الآراء التي رآها القدماء واختلفوا فيها اختلافاً تجاوزهم إلى المحدثين من المستشرقين وغير المستشرقين من علماء الشرق.
ولعل مؤلف عوارف المعارف أمّيل ما يكون إلى أن هذه الكلمة ليست إلا نسبة إلى الصوف. وهو يستمد في رأيه هذا إلى أن الصوف كان لباس الأنبياء فقد روي عن النبي (أنه كان يجيب دعوة العبد ويركب الحمار ويلبس الصوف. وحكي عن عيسى عليه السلام أنه كان يلبس الصوف والشعر ويأكل من الشجر ويبيت حيث أمسى. فأنت ترى أن هذا الكلام إن صح كان طبيعياً أن يختار المتصوفة لباسهم من الصوف وكان بديهياً أن تكون نسبتهم إلى ظاهر لباسهم الذي ينسج منه. وهذا الرأي ملائم لما أخذ به الصوفية أنفسهم من زهد في ملذات الدنيا بصفة عامة وميل إلى اللباس الخشن وأعراض عن اللباس الرقيق الناعم بصفة خاصة ناهيك بأنه يلائم ملاءمة تامة طبيعة الاشتقاق اللغوي. فيقال تصوف الرجل إذا لبس الصوف كما يقال تقمص إذا لبس القميص. وفق هذا كله فانه نظراً لتقلب(19/33)
أحوالهم ومقاماتهم ودوام تنقلهم لم يكن هناك أمر يقيدهم ويجمع هذه الأحوال وهذه المقامات المتنوعة. ومن هنا كانت نسبتهم إلى ظاهر اللباس الذي اتخذوه مميزاً لهم مشيراً إلى ما يأخذون به أنفسهم من زهد وتقشف وورع. فكان ذلك أبين في الإشارة إليهم وأدل على حصر وصفهم. إذ أن ليس الصوف كان غالباً عليهم لتشبههم في ذلك بالأنبياء والمقربين. ومن هنا ترى أن نسبتهم إلى الظاهر أوفق وأقرب إلى الإقناع من نسبتهم إلى الباطن. فلو نسبوا مثلاً إلى حال ما، أو إلى مقام ما، كان ذلك أقل دلالة وأدنى إلى الغموض والإبهام في الإشارة إليهم.
فمما تقدم ترى أن نسبة الصوفية إلى الصوف أبين في تفهم حالهم وأدل على زهدهم وأقرب إلى التواضع منها إلى أي شيء آخر. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن تسمية الصوفية بهذا الاسم راجعة إلى نسبتهم إلى الصوفة وخلاصة هذا المذهب هي أنه لما كان الصوفية يؤثرون الذبول والخمول والانكسار والتواضع مثلهم في ذلك كمثل الصوفة الملقاة، كانت تسميتهم بهذا الاسم نسبة إلى الصوفة. وهذا الرأي فضلا عن انه ملائم للدلالة على ما انطوت عليه نفوس الصوفية من الإذعان والذلة والخضوع فانه ملائم أيضاً لطبيعة الاشتقاق اللغوي.
وهناك رأي آخر يتلخص في أن الصوفية سموا بهذا الاسم لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل لارتفاع هممهم وإقبال قلوبهم على الله تعالى.
ورأي رابع ذهب فيه أصحابه إلى أن تسمية الصوفية بهذا الاسم راجعة إلى نسبتهم إلى (الصَّفة) التي كانت لفقراء المهاجرين في عهد النبي. على أن هذا الرأي وإن كان صحيحاً من ناحية المعنى إلا إنه لا يستقيم من ناحية الاشتقاق اللغوي. فالصوفية يشبهون (أهل الصفة) من حيث أنهم فقراء مؤتلفون في الله مجتمعون في الله. وأصحاب الصفة هؤلاء كانوا نحوا من أربعين رجلاً لم تكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر. كانوا يصرفون بياض النهار محتطبين ويقضون سواد الليل متعبدين. آثرهم النبي بحبه لهم وعطفه عليهم وبره بهم حتى انه كان يأكل معهم ويحث الناس على مواساتهم. هم الذين نزلت فيهم الآية الكريمة. (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) والذين نزلت في أحدهم وهو ابن أم مكتوم هذه الآية الشريفة: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى.) فكان ذلك عتاباً(19/34)
للنبي ويقال انه كانت توجد في بلاد خراسان طائفة من أهل الصفة لجأت إلى المغاور والكهوف ولم تسكن المدن والقرى. كان يسميهم أهل خراسان (شكفتية) لأنهم يطلقون على الفار لفظة (شكفت) فنسبوهم إليها. أما أهل الشام فكانوا يسمونهم (جوعية).
تلك هي أهم الآراء التي ذكرها السهروردي في أصل كلمة صوفي وقد أخذ بعدها في إظهارنا على أن هذه الكلمة تجمع المتفرق في الأسماء التي ذكرها الله في القرآن وسمى بها طوائف الخير المختلفة فقد سميت طائفة بالأبرار وأخرى بالمقربين وثالثة بالصابرين ورابعة بالصادقين الخ. . . وأنت إذا أمعنت النظر فيما اشتملت عليه قلوب الصوفية من بر وصبر وصدق وذكر لرأيت أن لفظة الصوفي قد احتوت كل ما تدل عليه أسماء هذه الطوائف.
ويختم المؤلف هذا الباب بذكر موجز لتاريخ كلمة صوفي فيقول أنها لم تعرف في زمن النبي وانما عرفت في زمن التابعين. وأثبت هذا بذكر كلام روي عن الحسن البصري قال فيه: (رأيت صوفياً في الطواف فأعطيته شيئاً فلم يأخذه وقال: (معي أربع دوانيق يكفيني ما معي) على هذا ذهب بعضهم إلى أن هذا الاسم لم يعرف إلى المائتين من الهجرة. فكان أصحاب رسول الله يسمون الرجل صحابياً حتى إذا انقضى عهد النبي سمي من أخذ العلم عنهم تابعيا. ولما أن تقادم عهد النبوة وانقطع الوحي وأقبل الناس على الدنيا وتهافتوا على زخرفها انفردت طائفة بالعبادة والتقوى وأعرضت عن الدنيا فكانت هذه الطائفة هي الصوفية (الاسم سمتهم. والعلم بالله صفتهم والعبادة حليتهم. والتقوى شعارهم. وحقائق الحقيقة أسرارهم).
محمد مصطفى حلمي. ماجستير في الآداب(19/35)
بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام
- 8 -
ويقول السير إدوارد كريزي: (إن النصر العظيم الذي ناله كارل مارتل على العرب سنة 732 وضع حداً حاسماً لفتوح العرب في غرب أوربا، وأنقذ النصرانية من الإسلام، وحفظ بقايا الحضارة القديمة وبذور الحضارة الحديثة، ورد التفوق القديم للأمم الهندية الأوربية على الأمم السامية) ويقول فون شليجل في كلامه عن الإسلام والإمبراطورية العربية: (ما كاد العرب يتمنون فتح أسبانيا حتى تطلعوا إلى فتح غاليا وبورجونيا. ولكن النصر الساحق الذي غنمه بطل الفرنج كارل مارتل بين تور وبواتيه وضع لتقدمهم حدا، وسقط قائدهم عبد الرحمن في الميدان مع زهرة جنده، وبذا أنقذ كارل مارتل بسيفه أمم الغرب النصرانية من قبضة الإسلام الفاتكة الهدامة إلى الذروة) ويقول رانكه: (إن فاتحة القرن الثامن من أهم عصور التاريخ، ففيها كان دين محمد ينذر بامتلاك إيطاليا وغاليا، وقد وثبت الوثنية كرة أخرى إلى ما وراء الرين، فنهض إزاء ذلك الخطر فتى من عشيرة جرمانية هو كارل مارتل، وأيد هيبة النظم النصرانية المشرفة على الفناء بكل ما تقتضيه غريزة البقاء من عزم، ودفعها إلى بلاد حديثة). ويقول زيلر (كان هذا الانتصار بالأخص انتصار الفرنج والنصرانية، وقد عاون هذا النصر زعيم الفرنج على توطيد سلطانه لا في غاليا وحدها ولكن في جرمانيا التي أشركها في نصره): (على أن هناك فريقاً من مؤرخي الغرب لا يذهب إلى هذا الحد في تقدير نتائج الموقعة وآثارها، ومن هذا الفريق المؤرخان الكبيران سسموندى وميشليه. فهما لا يعلقان كبير أهمية على ظفر كارل مارتل. ويقول جورج فنلى: (إن أثرة الكتاب الغاليين قد عظمت من شأن تغلب كارل مارتل على حملة ناهبة من عرب أسبانيا، وصَّورته كانتصار باهر ونسبت خلاص أوربا من نير العرب إلى شجاعة الفرنج في حين أن حجابا ألقي على عبقرية ليون الثالث إمبراطور (قسطنطينية) وعزمه مع أنه نشأ جنديا يبحث وراء طالعه ولم يكد يجلس على العرش حتى احبط خطط الفتح التي أنفق الوليد سليمان طويلاً في تدبيرها) ونحن مع الفريق الأول نكبر شأن بلاط الشهداء أيما إكبار، ونرى أنها كانت أعظم لقاء حاسم بين الإسلام والنصرانية، وبين الشرق والغرب، ففي سهول تور وبواتيه فقد العرب سيادة العالم بأسره وتغيرت مصائر العالم القديم كله وارتد تيار الفتح الإسلامي أمام الأمم الشمالية كما ارتد قبل ذلك بأعوام أمام أسوار(19/36)
قسطنطينية وأخفقت بذلك آخر محاولة بذلتها الخلافة لافتتاح أمم الغرب وإخضاع النصرانية لصولة الإسلام، ولم تتح للإسلام المتحد فرصة أخرى لينفذ إلى قلب أوربا في مثل كثرته وعزمه واعتزازه يوم مسيره إلى بلاط الشهداء. ولكنه أصيب قبل وبعد بتفرق الكلمة، وبينما شغلت إسبانيا المسلمة بمنازعاتها الداخلية، إذ قامت فيما وراء البرنيه إمبراطورية فرنجية عظيمة موحدة الكلمة تهدد الإسلام في الغرب وتنازعه السيادة والنفوذ.
محمد عبد الله عنان
المستشرق برجستريسر 5 أبريل سنة 1886 - 18
أغسطس سنة 1933
للدكتور إسرائيل ولفنسون. مدرس اللغة العبرية بكلية الآداب
وقع نظري أثناء مطالعتي في الجرائد اليومية التي وصلتني من ألمانيا على خبر لم يوضع في مكان بارز كأنه ليس من الأهمية في شيء، ورد فيه نعي جوتهلف برجستريسر أستاذ اللغات السامية بجامعة ميونيخ، سقط أثناء رحلة رياضية في جبال الألب من قمة جبل جلوكنر إلى هاوية توفى فيها على الفور، لو وقع هذا الحادث منذ سنوات قليلة لكان قد وضع في مكان أبرز، وعلى حالة تلفت القراء أكثر مما هو في جرائد هذه الأيام، لأن ألمانيا الحالية ليس فيها من يعبأ كثيراً بمن توفي من العلماء المستشرقين، ولكني روعت لهذا الخبر الذي أدمى قلبي وملأه حزناً وأسى.
كان علم الاستشراق قد قطع شوطاً بعيداً في أواخر القرن الماضي في جامعات أوربا على العموم، وفي ألمانيا خاصة حتى وصل ببحوث نولدكه وجولدسيهرويت ويستنفلد وليتش وغيرهم إلى أوج مجده ثم أخذ بعد انتهاء الحرب العظمى ينحدر من قمة الجبال إلى بطون الوهاد ويتضاءل شيئا فشيئا.
ويجب أن يلاحظ أن الحرب العالمية قد أدت إلى انحطاط العلم على العموم في أوربا، لأن التفكير الجدي والقراءة الدقيقة انقطع عنهما الشباب الذي أخذ يميل إلى البحوث السطحية وإلى اكتساب العلم عن طريق الراديو والسينما، كما انتشر في الجامعات توغل جمهرة الطلبة في الشؤون السياسية والحزبية اكثر من توغلهم في البحوث العلمية.(19/37)
وقد توفي من خيرة الأساتذة المستشرقين (جولدسهر ونولدكه شبيجلبرج وبيجر وهورديتس) دون أن يأتي غيرهم فيملأ الفراغ الذي تركوه في شتى العلوم التي كانوا يضحون حياتهم في سبيلها. وأما الآن فنجد عدداً غير قليل من الأساتذة يملئون أروقة الجامعات في ألمانيا وهم من الذين يناصرون الحزب الذي يقبض الآن على ناصية الحكم في البلاد. . . هذه الأفكار أخذت تقلق بالي في تلك اللحظات التي قرأت في الجرائد الألمانية عن وفاة العالم برجستريسر.
نشأ الأستاذ برجستريسر في أسرة ألمانية مسيحية بروتستانتية وكان أبوه وجده قسيسين في مدينة بلون
من أعمال زكسن بألمانية، ومن هنا يسهل فهم سبب عناية والديه بتربيته الدينية في المدرسة الابتدائية والثانوية، إذ أراد أن يحقق أمنيتهما حتى يكبر تقياً ويصبح صالحاً لرداء الكهنوت ويكون خير خلف لخير سلف، ولكن جوتهلف برجستريسر مال عن هذه الرغبة إلى البحث في اللغات السامية والعلوم الإسلامية حين دخل في جامعة ليبزيج في سنة 1904 وقد درس آداب اللغة العربية عند العالم أوجست فيشر الذي يعتبر إلى يومنا الحالي من قادة النقاد لدى جمهرة المستشرقين، وقد أثرت روح النقد في جستريسر حتى أضحت على كر الزمن من مميزاته البارزة لا في الكتابة وإلقاء المحاظرات فحسب، بل أثناء محادثاته العادية مع محدثيه، كانت لا تفوته كبيرة أو صغيرة دون أن يتعرض لها إذا وجد مجالا للمعارضة أو الانتقاد.
ونذكر بهذه المناسبة إن فيشر، شيخ النقاد، كان على الدوام ينتقد بكل شدة مؤلفات المستشرقين حتى هابه عظماء العلماء في العصر الحاضر، على إن فيشر لم يؤلف المؤلفات الكبيرة كما فعل العلماء الذين انتقد مصنفاتهم بل كان يكتفي بوضع المقالات، وأخذ بعض العلماء يهزءون به ويقولون أن فيشر لا يحب أن ينشر كتبا خوفا من شبح النقد وانتقام النقاد، ومن أكبر عيوب أوجست فيشر أنه بدأ يدون جملة كتب في موضوعات شتى منذ سنين كثيرة ولم ينته منها، إذ من المعلوم انه يعمل منذ ثلاثين سنة في تأليف قاموس عربي علمي دقيق للشعر العربي القديم لم يطبع إلى الآن، وكذلك بدأ في مراجعة جملة مخطوطات لكتاب المغازي للواقدي منذ أمد بعيد وإلى الآن لم ينته منه أيضاً. وكان(19/38)
كاتب هذه السطور قد التقى بالأستاذ فيشر في مدينة فينا في مؤتمر المستشرقين في سنة 1930 فعرض عليه أن يتم مراجعة بقية الأجزاء من كتاب المغازي للواقدي، فلما سمع فيشر اقتراحه بدا اضطراب على وجهه وسكت طويلا كأنه لم يتمكن من أن يبوح بكلمة، ثم أجاب بعد تفكير طويل: أمهلني حتى أفكر ملياً في هل أكمل الكتاب أم أقدمه إليك مع جميع المخطوطات والصفحات التي بدأت بمراجعتها. . . فلما قصصت حكاية المقابلة مع فيشر للأستاذ يرجستريسر ابتسم ابتسامته الحلوة قال: فيشر لن يرسل إليك الصفحات التي راجعها أبداً كما لن يخبر أنه عزم على أن لا يتم الكتاب. . .
على أن فيشر كان قد درب في جامعة ليبزيج تحت أشرافه عددا لا يستهان به من العلماء حتى أصبحوا من فحول المستشرقين فيما بعد، وكان بينهم الأستاذ جوتهلف برجستريسر.
وبعد أن أتم برجستريسر دراسته الجامعية وقدم رسالة عن حروف النفي وأسماء الاستفهام في القرآن الكريم في سنة 1911 قام برحلة إلى الأقطار الشرقية في سنة 1913 فزار الأناضول وسورية وفلسطين ومصر وما كاد يصل إلى ألمانيا من هذه الرحلة المباركة حتى بدأت الحرب العظمى فدعي إلى ساحة القتال، وظل متنقلا مع الجيش الألماني في أرض بلجيكا وفرنسا إلى أن دعته الحكومة التركية في سنة 1915 لإلقاء محاضرات في جامعة الأستانة، وكان أول عهده يلقب أستاذ، وقد بلغ حينئذ العام الثلاثين من حياته، ولما ذاع صيته دعي لإلقاء محاضرات في جامعات ألمانيا في العلوم الإسلامية واللغات السامية كانت أولها جامعة كونسبرج في سنة 1919 وفي عام 1922 انتقل إلى جامعة برسلو ومنها إلى جامعة هيدلبرج في سنة 1924 ثم دعي إلى مدينة ميونيخ، سنة 1926 التي ظل يدرس بها إلى أن أدركته المنية.
تنقسم مؤلفات برجستريسر إلى أربعة أنواع أصلية، نوع يشتمل كتبه عن اللغة العربية وعلم اللغات السامية، ونوع آخر يبحث في الآرامية ولهجاتها، ونوع ثالث يحتوي على مصنفاته ومطبوعاته في الآداب العربية والعلوم الاسلامية، وأما النوع الرابع فيشمل مقالاته عن علوم اللغة التركية.
على العموم تمتاز كتابة برجستريسر بدقة الجمل القليلة في ألفاظها، الكثيرة في معناها، يعبر عما يجول في خاطره بعد تفكير طويل، وبعد إحاطة بالموضوع من جميع نواحيه،(19/39)
وإلمام شاق بجميع المراجع الكبيرة والصغيرة مع استعمال الأدلة العلمية الدقيقة، مما يجعل القارئ يحتاج إلى قراءة الكتاب بأناة حتى يقف على النظريات الغزيرة.
ومن أهم ما دون برحستريسر في حياته: كتابه عن قواعد اللغة العبرية، ومما لا شك عندنا أنه اخطر كتاب في موضوعه منذ بدأ البحث في علوم الأمم الشرقية على الطريقة العلمية المألوفة عند الإفرنج، وقد أظهر المؤلف في هذا المصنف أنه وقف على جميع النظريات التي الفت في هذه المادة في جميع العصور بين كتب ومقالات معروفة ومهجورة، وهذا المام يندر أن يوجد بين علماء اليهود أنفسهم.
ومع أن كتابه هذا وضع لجمهرة الطلبة في الجامعات فانه لم يستعمل كثيراً بين هؤلاء لأنهم لم يتمكنوا من فهمه وإدراكه حق الإدراك، لذلك اصبح كتاباً للأساتذة والمدرسين في المعاهد العليا كما هو شأن جميع كتب برحستريسر التي انحصر تداولها بين أيدي الذين نضجت عقولهم وتمرنوا على مطالعة الموضوعات العويصة والكتب الفنية الدقيقة.
وله كتاب آخر سمى المدخل إلى اللغات السامية ويجب أن يلاحظ أنه بعد أن نشر مصنف نولدكه عن اللغات السامية، وكتاب بروكلمان الكبير عن الموازنة بين قواعد اللغات السامية جاء برجستريسر وأضاف كتاباً جديداً في هذه المادة، وكان الناس يتوقعون أنه لا يأتي بجديد، ولكن ظهور الكتاب أزال كل أثر لتلك المخاوف، إذ جاء جديداً في اسلوبه، فياضاً في نظرياته، ثائراً على القديم، يلقي أحكامه الجديدة ويهدم قضايا مألوفة ومعروفة.
وله كذلك كتاب في جغرافية اللغة في سورية وفلسطين وضعه لاغراض عملية لرجال الجيش الألماني في البلدان العربية أثناء الحرب العظمى.
وقد ذكرنا رحلة الأستاذ برجستريسر إلى البلدان الشرقية، وكان قد أقام مدة من الزمن في دمشق بحث فيها بحثاً علمياً دقيقاً عن اللهجة العامية في دمشق، كما وجه عناية شديدة إلى البقية الباقية من الأرهاط السريانية التي تقطن في المعلولة وهي ضاحية من ضواحي دمشق. وصنف رسالتين إحداهما عن اللهجة السريانية عند أهل معلولة والأخرى عن الروايات الخرافية الجديدة عند الآراميين.
على أن الأستاذ برجستريسر وجه جل عنايته إلى البحث في العلوم الإسلامية والعربية، وكانت باكورة مصنفاته في هذه المواد رسالته عن حنين بن اسحق ومدرسته، ومما لا شك(19/40)
فيه أن اللذين يكتبون عن الفلسفة اليونانية وأثرها في الفلسفة الإسلامية وعن حركة الترجمة والنقل من اليونانية إلى العربية بواسطة السريان، يجدون في هذا السفر مادة غزيرة لا يمكنهم أن يستغنوا عنها مطلقاً.
وله كتاب آخر وهو عظيم الخطر في العلوم الإسلامية أعني به ما كتبه عن مصاحف القرآن الكريم. كان الأستاذ نولدكه قد ألف في أواسط النصف الثاني من القرن التاسع عشر كتاباً عن تاريخ القرآن كان له الدوي العظيم والأثر البعيد في أندية العلماء في أوربا، ولما احتاج الكتاب إلى تنقيح وزيادات وكان الأستاذ نولدكه قد توغل في بحوث أخرى تناوله الأستاذ شوللى واخرج الطبعة الثانية من كتاب تاريخ القرآن الكريم مع زيادات وملاحظات كثيرة، ولم يكن الكتاب كمل بعد، لذلك أتم برجستريسر ما بدأ به نولدكه وشوللي فدون الجزء الثالث من تاريخ القرآن الكريم وهو كتابه عن المصاحف، وقد رأى الأستاذ برجستريسر أن يبحث في قراءات القرآن وهي مادة لم يكن ليشتغل فيها غيره من كبار المستشرقين، فقضى سنين طويلة يراجع بصبر وأناة كل ما دون في أمهات المصنفات الإسلامية في هذه المادة من كتب مطبوعة ومخطوطة، وكانت نتيجة هذه الأبحاث الطويلة أنه طبع (1) كتاب غاية النهاية في طبقات القراء لشمس الدين أبي الخير محمد الجزري المتوفى سنة 832 هـ (2) كتاب شواذ القراءات لابن خالويه (3) رسالة باللغة الألمانية عن القراءات القرآنية الشاذة في كتاب المحتسب لابن وهو آخر مصنف وضعه الأستاذ برجستريسر في حياته، ومما يلفت الأنظار أن هذا الكتاب مقدم إلى الدكتور طه حسين.
ويجب ألا يغيب عن البال إن الأستاذ برجستريسر قد أتقن ما عدا اللغات السامية: الفارسية والتركية أيضاً، وقد وضع جملة مقالات عن آداب هاتين اللغتين نشرت في مجلات المستشرقين في مناسبات شتى كان الأستاذ أنوليتمان
المستشرق الشهير صاحب المدونات عن الكتابات العربية قبل الإسلام، المعروفة بالخطوط الثمودية واللحيانية (راجع كتاب تاريخ اللغات السامية لكاتب هذه السطور ص 175 - 188) بعد أن ألقى محاضرات في الجامعة المصرية في السنة الدراسية 1928 - 1929 ولم يستطع الرجوع إلى الجامعة بعد ذلك الحين أشار على الهيئات الرسمية بالجامعة(19/41)
المصرية بأن يدعو الأستاذ برجستريسر لإلقاء محاضرات في الجامعة المصرية.
وقد قوبل الاقتراح ولبى الأستاذ برجستريسر دعوة الجامعة وحضر إلى القطر المصري وكان مجيء برجستريسر حادثاً خطيراً في حياة الجامعة المصرية إذ كان الأساتذة والمدرسون يقبلون عليه ويحضرون مع الطلاب محاضراته النفسية، وكان يلقي في ذلك العام (1930) محاضرات عن التطور النحوي للغة العربية. وكان في محاضراته الأولى كثير العجمة والإبهام في لغته العربية، وكان يقرأ المحاضرة من الورقة المكتوبة التي كانت أمامه، ثم أخذ بعد جملة أسابيع يتحرر شيئاً فشيئاً من الكراس، وأخذ يرتجل الجمل ارتجالاً ويفصح في الكلام افصاحاً، ثم رجع في سنة 1932 إلى مصر وألقى محاضراته عن اللهجات العامية في الموصل. كان يفيض كالبحر الزاخر بلغة عربية فصيحة كانت مفهومة واضحة لجمهرة الطلبة ويجب أن يقال بكل صراحة إن عدد الحاضرين عند برحستريسر كان في بادئ الأمر كبيراً، ثم أخذ ينقص على كر الزمان إلى أن انحصر الحاضرون في طلبة قسم اللغات السامية فقط، والسبب في ذلك يرجع إلى أن محاضرات برجستريسر كانت فنية قبل كل شيء أي إن الذين لم يدرسوا اللغات السامية لم يفهموا كثيراً مما كان يلقي الأستاذ، وفوق ذلك فأن عقلية برجستريسر كانت دقيقة وعميقة وكانت محاضراته موجهة إلى أصحاب الثقافة الراقية قبل كل شيء.
لم يكن برجستريسر أكبر الأساتذة سنا، ولكنه كان أعلاهم مقاما وأغزرهم علما وكانوا يوجهون إليه الأسئلة حتى يقفوا على آرائه في كثير من الموضوعات ومن هنا ادخل برجستريسر في هيئة التحرير في المجلة العلمية الشهيرة في أدبيات وكان مدة من الزمن رئيس التحرير في المجلة الألمانية للعلوم السامية. كان الأستاذ برجستريسر يسرف في إجهاد نفسه حتى أضناه العمل لأنه كان فوق البحث والفحص لتنظيم محاضراته لطلبة الجامعة المصرية، يمضي ثلاثة أيام كاملة من الصباح إلى الغروب في المكتبة الملكية يجلس إلى مائدة في غرفة منفردة ويراجع مخطوطات في قراءات القرآن، ثم اضطر إلى ملازمة الفراش، فعنفه الأطباء على اجتهاده المفرط الذي ينذر بالخطر وأشاروا عليه بترك العمل في المطالعة والتأليف ولكنه لم يحفل بهم.
وكان برجستريسر يحب الجبال، والرياضة في الجبال، يتنزه أسابيع كاملة على خلوة(19/42)
بنفسه، وفي اليوم الثاني عشر من شهر أغسطس المنصرم صعد جبل جلوكز الشامخ فحدثت الفجيعة العظمى إذ زلت قدماه من ذروة الجبل الشاهق وسقط إلى هاوية فتوفي على الأثر وكان قد بلغ الثامنة والأربعين من عمره حين قضى نحبه.(19/43)
في الأدب العربي
ابن خلدون ومكيافيللي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
بعد وفاة ابن خلدون بأكثر من قرن، وضع نيكولو ميكافيللي المؤرخ والسياسي الإيطالي كتاباً يتبوء في التفكير الغربي مكانه كتلك التي تتبوأها مقدمة ابن خلدون في التفكير الإسلامي. ذلك هو كتاب (الأمير) وهو كأثر ابن خلدون قطعة بديعة من التفكير السياسي والاجتماعي، تمتاز بكثير من القوة والطرافة والابتكار الفائق. وإذا لم يك بين الأثرين كثير من أوجه الشبه المادي، فان بينهما كثيراً من أوجه الشبه المعنوي، وبين الذهنين بالأخص مشابهة قوية من حيث الظروف والبيئة التي تكون كل فيها، ومن حيث فهمه للتاريخ والظواهر الاجتماعية، ومن حيث قوة العرض والاستدلال بشواهد التاريخ.
ونستطيع أن نرجع كثيراً من أسباب هذه المشابهة بين المفكرين العظيمين إلى تماثل عجيب في العصر والظروف السياسية والاجتماعية التي عاش كل منهما فيها. فقد كانت الإمارات والجمهوريات الإيطالية التي عاش ميكافيللي في ظلها تعرض في إيطاليا نفس الصور والأوضاع السياسية التي تعرضها الممالك المغربية أيام ابن خلدون، من حيث اضطرام المنافسات والخصومات فيما بينها، وطموح كل منها إلى افتتاح الاخرى، وتقلب إماراتها ورياساتها بين عصبة من الزعماء والمتغلبين. وقد اتصل ميكافيللي بهذه الدول، وقضى عصراً في خدمة إحداها وهي وطنه فلورنسا (فيرنتزا) وانتدب لمهام سياسية مختلفة؛ واستطاع أن يدرس عن كثب كثيراً من الحوادث والتطورات السياسية التي تعاقبت في عصره، وان يجعل من هذا الدرس مادة لتأملاته عن الدولة والأمير، كما جعل ابن خلدون من الحوادث التي عاصرها واشترك فيها مادة لدرسه وتأملاته.
على أن المفكر المسلم أغزر مادة وأوسع آفاقاً من المفكر الإيطالي. ذلك أن ابن خلدون يتخذ من المجتمع كله وما يعرض فيه من الظواهر مادة لدرسه، ويحاول أن يفهم هذه الظواهر وأن يعللها على ضوء التاريخ، وأن يرتب على سيرها وتفاعلها قوانين اجتماعية عامة. ولكن ميكافيللي يدرس الدولة فقط، أو يدرس أنواعاً معينة من الدول، هي التي يعرضها التاريخ اليوناني والروماني القديم، وتاريخ إيطاليا في عصره، ويدرس شخصية(19/44)
الأمير والمتغلب الذي يحكم الدولة، وما يلحق بها من الخلال الحسنة أو السيئة، وما يعرض لها من وسائل الحكم. وهذه الدراسة المحدودة المدى تكون جزءاً صغيراً فقط من دراسة ابن خلدون الشاسعة، وهو الفصل الثالث من الكتاب الأول من المقدمة، وهو الذي يدرس فيه أحوال الدولة العامة والملك والمراتب السلطانية. وحتى في هذا المدى المحدود يتفوق ابن خلدون على ميكافيللي تفوقاً عظيماً. ويبتدع هنا نظرية العصبية، ونظرية إعمار الدول، ويتناول خواص الدولة من الناحية الاجتماعية وإن كان ميكافيللي من جهة أخرى يتفوق على ابن خلدون في سلاسة المنطق، ودقة العرض والتدليل، ورواء الأسلوب.
كتب ميكافيللي كتابه (الأمير) سنة 1513 وأهداه إلى لورنزو دى مديتشي (الأفخم) أمير فلورنسا، وهو يشير إلى غرضه من وضع كتابه في قوله للأمير في خطاب الإهداء: (ومع أني أعتبر هذا المؤلف غير خليق بمطالعة محياك، فإني اعتمد جل الاعتماد على عطفك ورقتك في قبوله، فلست أستطيع في إهدائك خيراً من أن اقدم إليك فرصة لتفهم في أقصر الأوقات كل ما عرفته خلال أعوام طويلة، وفي غمار من المتاعب والأخطار) وفي قوله: (فتناول يا ذا الفخامة هذه الهدية الصغيرة بنفس الروح الذي أرسلها به، وإنك إذا قرأته بإمعان وتأمل، فسوف تعرض خالص رغبتي في أن تظفر بهذه العظمة التي يمنى بها حسن الطالع وتمنى بها خلالك) وإذن فقد أراد ميكافيللي أن يقدم كتابه (الأمير) مرشداً لأمراء عصره يرشدهم إلى أمثل طرق الحكم، وأمثل الوسائل لسيادة الشعوب التي يحكمونها. وميكافيللي يستمد آراءه ونظرياته من حوادث التاريخ القديم. وبالأخص من حوادث عصره التي شهدها وخبرها. ويرتب عليها أحكاماً وقواعد عامة، كما يرتب ابن خلدون مثل هذه الأحكام والقواعد على دراسته للمجتمع. ويبسط ميكافيللي دراسته في بحوث موجزة ويبدأ بالحديث عن أنواع الإمارات، ووسائل اكتسابها، وعن الوسائل التي تحكم بها المدن أو الإمارات التي كانت تعيش في ظل قوانينها قبل أن تغلب، وعن الإمارات التي تقوم بالفتح وكفايات الأمير الشخصية، وعن تلك التي تغنم على يد آخرين أبطرق الحظ، أو تلك التي تغنم بالغدر والخيانة. وعن الإمارات المدنية والدينية، وعن أنواع الجيوش والجنود المرتزقة، وما يجب أن يعرفه الأمير عن فن الحرب. ثم يتناول بعد ذلك شخصية الأمير، وما يحمد فيه من الخلال وما يذم، وعن الكرم والشح، والرأفة(19/45)
والقسوة
وعن الطريقة التي يجب أن يحفظ بها الأمراء وعودهم، وعما يجب عليهم لتجنب بغض الشعب واحتقاره، وما يجب عليهم لاكتساب الشهرة والمجد، وأخيراً يتحدث عن حجاب الأمير (سكرتارية) وعن وجوب تجنب الملق، وعن الأسباب التي فقد بها أمراء إيطاليا دولهم، وعما يمكن أن يؤديه حسن الطالع في سير الشؤون البشرية؛ ثم يختتم بالحث على تحرير إيطاليا من نير الأجانب أو غزوات البرابرة كما يسميهم.
تلك هي المباحث التي جعلها ميكافيللي قوام فلسفته عن الدولة والأمير. ويبدو بالأخص مما كتبه عن (الأمير) انه يعالج موضوعاً عالجه المفكرون المسلمون قبل ابن خلدون بعصور طويلة، هو موضوع (السياسة الملكية) وهو موضوع يجري منذ القرن الثالث الهجري في التفكير الإسلامي مع بحث أو علم خاص هو علم السياسة على نحو ما بينا في فصل سابق. وقد رأينا مما تقدم أن (السياسة) كانت تفهم عند العرب في العصور الأولى بمعنى ضيق جداً هو شرح الخلال الحسنة التي يجب أن يتصف بها الأمير، والعيوب التي يجب أن يبرأ منها لكي يصلح لرآسة الدولة وتبوء الملك؛ ولكي يستطيع الحكم بأهلية وكفاية. ثم توسع المفكرون المسلمون في فنهم معنى (السياسة) وقسموها إلى عدة أنواع؛ وتناولوا (السياسة الملكية) من الناحية الفقهية وكذا من الناحية الإدارية وبحثوا مركز الأمير من الناحية الشرعية وتحدثوا عن الخطط السلطانية، وظاهر ما يتناوله المفكر الإيطالي من خواص الأمير وخلاله وواجباته هو ضرب مما تناوله المفكرون المسلمون منذ أواخر القرن الثالث الهجري. ومن ذلك ما كتبه ابن قتيبة في كتاب (عيون الأخبار) والماوردي في كتاب (الأحكام السلطانية) والطرطوشي في كتاب (سراج الملوك) والغزالي في كتاب (التبر المسبوك)، ثم ابن الطقطقي في كتاب (الآداب السلطانية). وهو موضوع تناوله ابن خلدون فيما تناوله من أحوال الدول العامة والملك، إذ يتحدث هنا عن حقيقة الملك وأصنافه، وعن معنى الخلافة والامامة، وعن مختلف المذاهب والآراء في حكم الإمامة ثم عن الخطط السلطانية، وحديثه في ذلك يمتاز عن حديث أسلافه بما يتخلل بحثه وتدليله من الملاحظات والتأملات الاجتماعية التي لم يوفق إليها باحث قبله.
على أن ميكافيللي يمتاز في بحثه بروح عملية جافة. وبينما يتحدث المفكرون المسلمون(19/46)
عن الأمير أو الحاكم كما يجب أن يكون، وعن خلاله المثلى كما يجب أن يكون، إذا بالمفكر الإيطالي ينظر إلى الأمير الأمثل نظرة عملية محضة. فيصفه كما هو في الواقع، ويتصور خلاله المثلى فيما هو حادث بالفعل، ويرتب تدليله ونتائجه على ما أحرز الأمير وأحرزت خلاله من النجاح أو الفشل دون تأثر بما إذا كانت هذه الصور والخلال تتفق مع مبادئ الأخلاق المثلى كما فهمت خلال العصور. ومن هنا تستمد فلسفة ميكافيللي لونها القاتم، وتوصم آراءه ونظرياته السياسية بتلك الصرامة والقسوة والخبث التي جعلتها حتى عصرنا مضرب الأمثال للسياسة الغادرة التي لا ضمير لها ولا وازع، والتي جردت من كل نزاهة وعفة، وتغاضت عن كل المثل الإنسانية والأخلاقية. وإلى القارئ بعض نماذج من تلك الآراء التي طبعت فلسفة ميكافيللي، وأميره الأمثل بذلك الطابع الأسود.(19/47)
من طرائف الشعر
آثار شوقية
- 3 -
منظر من رواية الست هدى
السيدة هدى وجارتها زينب تتحدثان في إحدى حجرات منزل السيدة هدى المطل على مسجد أبي الليف بحي السيدة زينب، وقد أخذت السيدة هدى تقص على صديقتها حياتها مع أزواجها التسعة إلى أن قالت عن آخر زوج لازال معها:
الست هدى:
ثم اقترنت بمحام عاطل ... شريب خمر يحتسيها في الضحى
قلَّت دعاويه وقلّ ماله ... وأصبح المكتب منه قد خلا
(عبد المنعم المحامي زوج الست هدى وهو سكران يصعد السلم)
عبد المنعم (منادياً:)
هدى! ضلالْ! أين أنت يا هدى؟ ... أين العجوز؟ أين جدتي هدى
وانكدا زينب! واداهيتاه! ... أتى ولا أعرف من أين أتى
يشتم في السلم:
زينب! خليه دعي ... لا تفرضيه غير سكران هَذَي
رأيته
الست: وكيف؟
زينب: من تحت وقد ... كان من السقف أطل وانحنى
وكانت الحارة منا امتلأت ... فأرسل القيء علينا ورمى
الست: القيء! ماذا قلت؟
زينب: قلت ما رأت ... عيني وما مر على رأسي وما. . .
عبد المنعم وهو بالسلم:
هدى! عجوز النحس، أنتِ قردةٌ ... خطوطك الوحل وكحلك العمى
سمعتِ يا زينب؟(19/48)
خليه دعي ... لا تفرضيه غير سكران هذى
زينب:
ومرة جاء أبا الليف ضحى ... أذنَّ في الناس يصلون العشا
فضيحةٌ في الخُطّ
الست: وا فضيحتاه! ... ما شهدوا في الحنفيِّّ مثلها
عبد المنعم ولا يزال في السلم:
هدى تعالي يا عتيقة اظهري ... عندي لكِ النعلُ وهذه العصا
الست: سمعتِ يا زينب
زينب: خليه دعي ... لا تفرضيه غير سكران هذى
الست: دعيه يهذي ما شاء=غداً ترين، زينب
ففي غد لي وله ... شأن، غدا يؤدب
زينب: وما الذي عزمت يا=حبيبتي أن تصنعي
الست:
أقذف في القسم به ... وأشتكي وأدعي
إن رجال القسم وال ... نائب والقاضي معي
الست لزوجها:
لتندمن يا لكع ... يا من يقوم ويقع
عبد المنعم وقد سمع صوتها:
ماذا سمعت؟ صوتها! ... أأنت بومتي هنا؟
الآن يا حميزة ال ... خُطِّ أريك من أنا
زينب:
هدى حبيبتي اسمعي ... تعالي اهزلي معي
الست: أنا؟
زينب: اسمعي دعيه
الست: لا(19/49)
زينب: دعيه يا هدى دعي
زينب:
لا تغضبيه إنه ... ممتلئ ليس يعي
عبد المنعم:
هدى! هدى! أين هدى! ... أين العجوز البالية
خدّّاك ضفدعان قد أسنَتَّا ... وأذناك عقربان من قنا
وحاجباك والخطوط فيهما ... كدودتين اكتظتا من الدما
وبينَ عينيكِ نفارٌ وجفا ... عينٌ هناك خاصمت عينا هنا
الست:
دعيني أقطع عليه الحذاء ... وأجز الوَقاح على ذنبه
دعيني أضربه حتى يفيق ... فلابد زينبُ من ضربه
زينب:
قد جاء. . هيّا نتقي ... جنونه وهَوَسه
ففي يمينه العصا ... وفي الشمال المكنسة
الست:
سكران يُضرِب ... إذن لنهرب هلم زينب
هذه حجرة نومي ... أسرعي زينب فيها
نحن يا زينب لا نكب ... ح سكران سفيها
(تدخلان الحجرة وتستتران وراء الباب وعبد المنعم يدخل مترنحا)(19/50)
في الأندلس
أبيات مبعثرة نظمها أمير الشعراء في الأندلس
- 4 -
. . . ويوم من صبا آذار حلو ... فقدناه وما بلغ الشبابا
تصوَّر من حلى النيروز وجهاً ... وجمَّع من زخارفه إهابا
فراق صباحُه صحواً وزهواً ... ولذّ ضحاه حاشية وطابا
تناثر في البطاح حُلى وأوفى ... على الآفاق فانتظم الهضابا
وسالت شمسه في البحر تبراً ... على مثل الزمرد حين ذابا
كأن نسيمه َنَفس العذارى ... طعمن الشهد أو ذقن الخبابا
تمناه ابن عبّاد صبوحاً ... إذا حدثَّ المزاهر والشرابا
وما قَّدرت أن يسجن ظهراً ... ولم تكن القيامة لي حسابا
تشَّعث لمة واغبَّر وجهاً ... ودلَّى مشفراً وافتَّر نابا
وبَّدل حسن ذاك السمت قبحاً ... وأصناف النعيم به عذابا
وضج البحر حتى خيل موسى ... أتى بعصاه أو فرعون آبا
وأبرق في العباب كأن سراً ... بأسطول الجزيرة قد أهابا
كأن شعاعها في الثلج نارٌ ... لفارس حولها ضربوا القبابا
أو الحسناءُ يوم العرس جنَّت ... فمزقت الغلائل والنقابا
فمن سَحَرَ السماء فأمطرتنا ... فكان الدر والذهب الذهابا
تروق العين من بيضاء حال ... كما َترَّبت بالتبر الكتابا
منادف عسجد ظفرت بقطن ... فما تألوه ندفاً وانتهابا
وقطعت الثلوج لكل روض ... وكل خميلة منها ثيابا
فمن صور مجلَّلة فراءً ... وولدان مسربلة جبابا(19/51)
فتنة الحسن
للشاعر الوجداني احمد رامي
نازعتني إلى اجتلاء الجمال ... فتنة الحسن في بديع المثال
غرة كالصباح رفت عليها ... طرة في سواد جنح الليالي
وعيون تشع بالأمل العذ ... ب وتلقى سحر الهوى والدلال
وفم تبسم الملاحة فيه ... ببريق اللمى وظلم اللإلى
وقوام مهفهف القد ممشو ... ق تهادى في رفق خطو الغزال
طالعتني وكنت أخلس منها ... خطرة الطيف في سنوح الخيال
ثم مرت كما يمر نسيم ال ... روض عبر الغدير بين الظلال
وقضى الله أن أراها أروى ... ناظرى من بهاء تلك المجالي
وسمت الحديث من فمها المفترّ ... عن بسمة الندى في الدوالي
فإذا خفة القطاة إذا اختا ... لت على الماء ساعة الآصال
وإذا رقة النسيم إذا بث ... شكاة المهجور عند الوصال(19/52)
الأصل والمثال
عجباً أحق ما أحس وما أرى ... أفهذه أنت انبعثت من الثرى؟
هل يرجع الموتى إلى الدنيا ولم ... ينفخ لهم في الصور أو يفن الروى؟
أم صح زعم القوم أن زماننا ... دور تسلسل في العصور مكررا؟
وحياتنا فيه مواسم ثبته ... لا تختفي حتى تعود فتظهرا
لكن، أدار بك الزمان فريدة ... وسها عن الماضين قبلك وازدرى؟
أم قوة الإيحاء بين قلوبنا ... أحيتك، أم هذا خيالك في الكرى؟
لا، لا، فليس يعود من قد ضمه ... قبر ولست بحالم فيما أرى
ولو أن إيحاء يعيدك بيننا ... لاسطاع دفع الموت عنك وأخرا
أفلم تكوني مهبط الإيحاء من ... ألبابنا والموضع المتخيرا؟
ما هذه إلا شبيهتك استوى ... فيها كيانك يوم طاب وأزهرا
طرأت على كطائر متغرب ... لم أدر من أي النواحي قد سرى
أففتنة أخرى ولما استعد ... أمني وقد مال الصبا وتحدرا؟
إن كنت أنت اليوم أنت فأنني ... غيري تداولني الزمان فغيرا
وأعتضت من مرح الصبا هبوبه ... حذرا وتمحيصاً إذا أمر عرا
من ذا الذي دفع الفتاة لموضعي ... لأراك فيها عنوة وتجبرا؟
وأرى عهودك حلوها ومريرها ... بينا المرير بهن كان الأكثرا
هل ضاق وجه الأرض حتى لم تجد ... من أشبهتك سوى طريقي معبرا؟
كم من فراسخ بين قطبيها وكم ... بيدا توارى المشبهات وأبحرا؟
ولم انتحتنى بالرنو ولم أكن ... أعلى الشهود صوى وأروع مظهرا؟
أفليس في هذا دليل تعمد ... لولا مما تك كنت أنت المصدرا؟
ومن الذي يدري؟ فرب إرادة ... للميت فينا دون أن نستشعرا!!
ولعلنا يوماً سنسمع في الثرى ... صوتا ونفهم منه معنى آخرا!!
والآن يا وجها رأيت بضوئه ... آفاق ماض بالظلام تسترا
كن بعض ذا الماضي البعيد ووقني ... ضوءا يضر بمقلتي فتقطرا
محمود عماد(19/53)
الورقاء
ونائحة من بنات الهديل ... تبث إلى الروض أحزانها
عراها من الدهر غُلْبُ الخطوب ... فهبت تودع بستانها
وفي الصدر من وجدها حسرةٌ ... تكاد تفتت جثمانها
وعز عليها فراقُ الغصون ... وما يملك القلب هجرانها
ففيها مغارس عهد الصبا ... سقتها الغمائم هَتّّانها
وفيها سرير الهوى ما يزال ... يحنُّ فيرجِعُ الحانها
فأذرَت مدامعها الغاليات ... وقد خضَّب الدمع أجفانها
وأهوت على النهر تُخفي الدموع ... وتودع جنبيه تحنانها
مواجع تقرؤها في الضلوع ... وتلمح في العين عنوانها
أطافت بها زُمَرُ القانصين ... وأفقدها الدهر أعوانها
فضمت إلى صدرها أفرخا ... أثار التفرق إرنانها
وراحت تؤم فسيح الغياض ... وتبكي مدى العمر أوطانها
دمشق. أنور العطار(19/55)
دمر!. . .
دُمَّرٌ ماؤها على الدر يهوى ... كمرايا تكسرت من لُجين
سكر الصحب بالمدام وأنى ... نلت بالماء والهوا سكرتين
فحفيف الغصون شاب خرير ... الماء لحناً فألفَّا جوقتين
جلست حول نهر دمر غيد ... صرن والدوحَ حوله جنتين
بردى ما رأيت قبلك نهراً ... يُنبت الغانيات في الشاطئين
ليس عيناي لي بكافيتين ... فوق عيني أبتغي ألف عين
عن يميني وعن شمالي وخلفي ... كل حوراء بضة الساعدين
صرت من دهشتي أدير برأسي ... أتوخى بنظرة نظرتين
دمشق. أحمد الصافي النجفي(19/56)
العلوم
اكتشاف الكواكب السيار التاسع بلوتو.
للأستاذ عبد الحميد محمود سماحة
تدل كلمة (كوكب سيار) في العربية كما تدل في الأصل اليوناني على صفة نوع خاص من الأجرام السماوية يتحرك في السماء وسط النجوم (الثابتة).
وقد عرف المتقدمون من الكواكب السيارة عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل وتوهموا طويلاً أن الشمس والقمر كليهما من الكواكب السيارة لتشابه حركتها الظاهرية، فكان المجموع سبعة، وهو (العدد التام) الذي كان له شأن كبير في فلسفة فيثاغورس الرياضية.
ويلاحظ أن اشتقاق أسماء أيام الأسبوع من أسماء الكواكب السيارة، فمثلاً في الإنكليزية يوم الشمس ويوم القمر، ويوم زحل، وما يشابه ذلك في اللغة الفرنسية.
ولما توطدت دعائم نظرية (كبرنكس) عن مركزية الكون (وقد سبق أن تكلمنا عنها هنا في الرسالة) وتمكن السير اسحق نيوتن من تفسير حركة الكواكب السيارة على أساس نظرية الجاذبية المشهورة، تغير وجه المسألة، إذ ثبت أن الشمس ما هي إلا مركز المجموعة الشمسية، وأن الأرض أحد الكواكب السيارة التي تدور جميعها حول الشمس في مدارات دائرية تقريباً.
وإلى ما قبل سنة 1781 لم يكن معروفاً من الكواكب السيارة سوى هذه الستة السالفة الذكر بما فيها الأرض، وفي مساء 13 مارس من هذه السنة رأى السير وليم هرشل أثناء رصده لبعض النجوم جسماً يختلف في شكله عنها، وسرعان ما تحقق أنه ليس من النجوم ولكنه من الكواكب السيارة، فأتم الفلكيون أبحاثهم عنه وحسبوا مداره وحركته في السماء وأسموه (أورانوس) غير أنهم بعد قليل من الزمن لاحظوا أن مواقع أرانوس في السماء تختلف اختلافاً طفيفاً مع ما توقعوه بالحساب على أساس نظرية الجاذبية
ومع أن هذا الاختلاف لم يزد في أية حالة على دقيقتين قوسيتين إلا أنهم لم يستطيعوا أن يغمضوا أعينهم عليه، وكان لابد لتبرير وجوده من أحد أمرين لا ثالث لهما ثم يؤتى بالبرهان العملي عليه.(19/57)
الأول: أن يكون قانون الجاذبية العام الذي اكتشفه نيوتن والذي حسبت بمقتضاه مواقع اورانوس المستقبلة في السماء قانوناً غير طبيعي أو بعبارة أخرى غير صحيح.
الثاني: أن يكون هناك جسم مادي غير معروف لنا يؤثر في حركة أورانوس بالجاذبية وهو مما لم يعمل حسابه عند حساب مواقع أرانوس المستقبلة.
ومن غرائب المصادفات أن يفترض اثنان من نوابغ الرياضيين وهما جون أدمز الانكليزي، ولافرييه الفرنسي، مستقلا أحدهما عن الآخر، الأمر الثاني وأن يحسبا بمقتضى هذا الفرض مواقع هذا الجرم غير المعروف، ثم يتقدما في وقت واحد تقريباً (أواخر 1845) الأول إلى الأستاذ (تشالز) مدير مرصد كمبردج والثاني إلى الأكاديمية الفرنسية بنتيجة بحثهما النظري.
وفي رأيي أن العلوم الرياضية أو بالأحرى قانون الجاذبية العام لم يسجل في تاريخ البشرية فوزاً مثل هذا الفوز عندما أيدت الأرصاد الفلكية وجود هذا الجرم السماوي بالفعل، وفي نفس الموقع الذي أشار إليه كل من آدمز ولافرييه فقد رآه جال الفلكي المساعد بمرصد برلين في مساء 23 سبتمبر ومن بعده بخمسة أيام الأستاذ تشالز بمرصد كمبردج وسمى الكوكب السيار الجديد (نبتون).
كان من الطبيعي بعد معرفة مدار نبتون وحركته أن تراقب مواقعه في السماء ليرى هل هي تحقق المستنتج نظرياً فيكون هو آخر الكواكب السيارة، أو هي لا تحققه فيقتضي البحث عن السبب.
وإذا وجد أن هناك اختلافا مثل الذي وجد في حالة أرانوس، أعتقد الأستاذ لويل بمرصد فلاجستاف أنه لابد أن يكون هناك كوكب سيار تاسع يؤثر في حركة نبتون.
وفي سنة 1914 أتم الأستاذ لويل بحثه النظري وحسب مواقع هذا الكوكب السيار الموهوم في أزمنة مستقبلة عديدة غير أنه مات قبل اكتشاف هذا العالم الجديد، فأتم فلكيو فلاجستاف هذا البحث، وأخذوا صوراً متعددة في ليال متعاقبة لتلك المنطقة في السماء التي توهموا وجود الكوكب الجديد فيها، ثم اشتركت مراصد العالم المهمة في هذا البحث حتى تحقق وجوده، وأعلن اكتشافه في 12 مارس سنة 1930 وسمي (بلوتو) لأن (بلوتو) في القصة اليونانية هو أخ كل من المشتري ونبتون وابن زحل وهذا الاكتشاف هو آخر الاكتشافات(19/58)
الفلكية الحديثة. وربما كان أهم الاكتشافات العلمية في القرن العشرين ولا يقلل من قيمة اكتشافه أن الطريقة التي اتبعت فيه من الوجهة الرياضية هي عينها التي اتبعت في اكتشاف نبتون ولاسيما وأن معرفته من بين النجوم العديدة على الألواح الفوتوغرافية كانت من أشق الأمور حقيقة نظراً لصغر حجمه، ويكفي للدلالة على ذلك أن نذكر أن أصغر النجوم التي ترى بالعين المجردة ألمع من بلوتو بمقدار الف وستمائة مرة.
ويبعد بلوتو من الشمس بما يزيد على ثلاثة آلاف وخمسمائة مليون ميل، ويتم دورته حولها في 250 سنة تقريباً، وقد حسب بعض الفلكيين درجة الحرارة على سطحه فوجدت حوالي مائتين تحت الصفر المئوي، ولم يعرف إلى الآن حجمه بالضبط، ولكن من المحقق أنه من أصغر الكواكب السيارة، وأن حجمه يقرب من حجم عطارد.
ويرى بلوتو في الصورة إلى جانب النجمة الكبيرة رال التوأمين التي هي من القدر الرابع، وبمقارنة الصورتين نجد أن بلوتو وهو المشار إليه بالسهم قد تحرك بين النجوم (الثابتة) في ما بين 19 و 24 مارس 1930 وهكذا تمكنا من معرفته من بين النجوم العديدة الأخرى.
ولا نستطيع أن نقطع من الآن برأي فيما إذا كان (بلوتو) هو آخر الكواكب السيارة أو أن هناك ما هو أبعد منه، غير أن الزمن كفيل بأن يقطع في هذه المسألة مرة أخرى.(19/59)
مواطن الحياة الأولى
للأستاذ السر آرثر طمسن
ترجمة بشير إلياس أللوس
(1) المواطن الساحلية
في وسعنا أن ننظر إلى عملية التطور السامية من ناحية جديدة، فقد سهلت للحيوان أن يخضع لسيطرته جميع الأماكن الملائمة للحياة، ويجعل المحيط خادماً لمصلحته ومصلحة نوعه.
يظن أن العضويات الحية استوطنت السواحل البحرية أولاً لما في تلك المناطق من ظروف ملائمة للحياة، فهي قليلة الغور غنية بالنور والهواء والغذاء ولاسيما أن الأعشاب البحرية النامية في تلك الأماكن تجهز المواد الغذائية بمقياس واسع. إن هذه المناطق مأهولة في الوقت الحاضر بممثلي جميع أصناف الحيوانات تقريباً من النقاعيات إلى الطيور الساحلية واللبائن.
(2) المواطن البحرية
إن الموطن البحري يشمل جميع سطوح المياه الغنية بالنور عدا المناطق الساحلية القحلة. ويظن أن الحيوانات استوطنت هذه الأماكن لتجانسها ووفرة ما فيها من خزيات مجهرية تصلح طعاماً لها. إن هذه النباتات المجهرية تستمكن في أجسام حيوانات دقيقة كالقشريات البحرية - التي تعتاش عليها الأسماك، وهذه بدورها تصبح طعاماً للسلاحف المفترسة والحيتان ذوات الأسنان. وبهذا الاعتبار يظن أن البحر المكشوف كان المواطن الأصلي للحياة. وقد يكون الأستاذ (شرش على صواب في تصوره أن الحياة البحرية تقدمت على الحياة الساحلية.
(3) أعماق البحار
يظن أن قعر البحار العميقة كان موطناً ثالثاً للحياة؛ ففي ذلك المحيط البارد وفي ذلك الشتاء الدائمي والظلام الدامس الذي لا يضيء فيه غير بريق الحيوانات الفسفورية الضئيل، وتحت ذلك الضغط الهائل - طنان ونصف طن على البوصة المربعة الواحد في عمق 15000 قدم - وبين ذلك السكون العميق وفي تلك الوحدة الرهيبة؛ أجل في تلك الظروف(19/60)
كانت الحياة تقضي شطراً من أدوارها. وربما جرى استعمار هذه اللجج العظيمة الغور في عصور حديثة العهد نسبة؛ لأن الحيوانات التي نعثر عليها في هذه الأماكن لا تشتمل أصنافاً قديمة جداً؛ ويرجح أن الحيوانات الساحلية هي التي استعمرت هذه الأماكن بتتبعها لبقايا الطعام خلال أجيال عديدة.
(4) المياه العذبة
تشمل المياه العذبة جميع الأنهار والبحيرات والبرك والمستنقعات والغدران، وربما حصل استعمار هذه المياه بهجرة بعض الحيوانات بصورة تدريجية إلى مصبات الأنهار، أو بالزحف المباشر في ساحل البحر إلى الغدير.
(5) استيطان اليابسة
قامت بعض الحيوانات الساكنة في البحر أو في المياه العذبة على مر العصور باستيطان اليابسة تدريجياً، ويجب أن نميز ثلاث غزوات كبيرة قامت بها الحيوانات وهي:
أ - غزوة الديدان: ونتيجتها إخصاب الأرض
ب - غزوة الحشرات: ونتيجتها تأسيس الرابطة بينها وبين الزهور.
جـ - غزوة البرمائيات: ونتيجتها نشوء الحيوانات البرية الراقية ونمو الذكاء والحب العائلي.
وهناك غزوات أخرى أقل من تلك شأناً ولكن جميعها تدلنا على أن الحيوانات المائية تميل إلى احتلال اليابسة وتحاول استعمارها بشتى الطرق. إن للنزوح إلى اليابسة مزايا عظيمة، ذلك لأنه كان بمثابة التوصل إلى محيط فيه مقدار من الأوكسجين أكثر مما هو مذاب في الماء. غير أن التسلط على أكسيجين الهواء أمر صعب نوعا ما، ولما كانت حياة اليابسة تكيف جسم الحيوان فتجعله أكثر صلابة وأفضل وقاية كان لابد من تكون سطوح داخلية في جوف الحيوان تمكن الدم من أخذ الأوكسجين وإيصاله إلى جميع أنحاء البدن وهكذا نشأت الرئتان. في أغلب الحيوانات يذهب الدم إلى السطوح المعدة لاتصال الأوكسجين، أما في الحشرات واتباعها فطريقة أخذ الأوكسجين إلى الدم أو إلى الأنسجة تختلف عن ذلك. ففي هذه الحشرات توجد أنابيب متشعبة تتوزع على جميع أنحاء البدن، ووظيفتها أخذ الهواء من المحيط. يفسر لنا هذا التنفس الكامل مغالبة هذه الحشرات التي تكون دمها نقياً(19/61)
على الدوام.
إن استيطان اليابسة أدى أيضاً إلى تكيف الحركة الانتقالية في الحيوان على النحو الذي نراه الآن. فصار الحيوان يدفع جسمه إلى الأمام مستنداً إلى الأرض، وتكونت في جسمه سلسلة من العتلات (الروافع) وهكذا تصلبت أجسام معظم الحيوانات البرية وأصبحت تستند إلى الأرض بمنتهيات صغيرة نسبياً (هي الأنامل) حتى لا تدع مجالا لانبطاح الجسم أو تدليه إلى الأرض، فحيوان كقنديل البحر - مثلاً يعيش في المياه ويستطيع أن ينتقل فيها بسهولة، ولكن يتعذر عليه أن يعيش في اليابسة لان تركيب جسمه لا يساعده على الحركة الانتقالية في البر. وربما تبادر إلى الذهن أن بعض الحيوانات البرية تشذ عن التكيف الذي تستلزمه حياة اليابسة - كديدان الأرض وأم الأربع والأربعين والأفاعي. إن شرح الحركة الانتقالية في هذه الحيوانات ليس بالأمر الصعب، فدودة الأرض تحفر طريقها في التربة كما يفعل اللولب، وجسم أم الأربع والأربعين يحمل على عدة أرجل قوية، كما أن الحية تدفع نفسها إلى الأمام بواسطة حراشف بطنية واسعة متصلة بمنتهيات عظمية متشعبة في العمود الفقري.
الضرورة حب الاستطلاع
ويهمنا أن نبحث الآن في مجازفات الحياة على اليابسة، لان ذلك يمكننا من فهم الدواعي التي حملت عددا عظيماً من الحيوانات البرية على حفر أوكارها في التراب، وعددا آخر منها على تسلق الأشجار، ولماذا رجع بعضها إلى الحياة المائية ولجأ البعض الآخر إلى الهواء، وربما تبادر إلى أذهاننا أن نتساءل لماذا استعمرت اليابسة رغما عما في ذلك من مجازفات ومخاطر عظيمة؟ الجواب على ذلك: (أن الضرورة وحب الاستطلاع هما أبوا الاختراع!) فقد تكون الدواعي التي حملت بعض الحيوانات على ترك الحياة المائية هي من قبيل جفاف الغدران أو ازدحامها بعدد لا تستوعبه من الحيوانات، أو الهرب من الأعداء الكامنة لها بالمرصاد، ولكن يجب ألا نتغاضى أيضاً عن غريزة حب الاستطلاع التي كانت ولم تزل عاملا مهما من عوامل التقدم.
(6) غزو الهواء
وأخيراً لجأت الحيوانات إلى الهواء فنجحت في غزوه الحشرات والعضايا المجنحة القديمة(19/62)
والطيور والوطاويط وأخفقت غيرها في تلك المحاولة كما نرى ذلك جلياً في الأسماك الطائرة التي تقفز في المياه إلى علو بضع ياردات، تساعد على ذلك زعانف كبيرة تنشرها عند القفز، وهذا ما نجده أيضاً في الضفادع الطائرة التي تطير من غصن إلى آخر. وهناك كثير من أمثال هذه الحيوانات التي يستدل منها على محاولة الحيوان في الماضي التغلب على الهواء ذلك الأمر الذي أدركه الإنسان عن بعد بطريقة أوجدها من عنده.
لاشك أن المقدرة على الطيران لها مزايا وفوائد عديدة، فالطير الذي يعتاش على ما في الأرض يستطيع أن يهرب من الكواسر الداهمة بارتفاعه السريع في الهواء، وفي وسعه أن يتتبع الأماكن التي يكثر فيها الطعام والماء مهما كانت بعيدة، وفي إمكانه أن يضع بيضه في مواقع أمينة لا تصل إليها أيدي الأعداء. وقد استطاعت بهجراتها أن تتغلب على الزمان والمكان فكثير منها لا يعرف شتاء طول حياته.
نظام الطبيعة المتطور
وللتطور صفحة واضحة أخرى وهي ميله لربط الأحياء بعلاقات حيوية مهمة، فالزهور مرتبطة بضيوفها من الحشرات ارتباطاً حيوياً وثيقاً فيه منفعة مشتركة للفريقين. وهناك طيور تعتاش على ثمر العليق فتنشر البذور. وهكذا يحافظ على نسل النيتة، ونعلم أيضاً أن الحلزون المائي النحيف يكون مأوى لدودة الكبد (التي توجد في الأغنام) في أدوار حداثتها، وأن البعوض يحمل جرثومة الملاريا وينقلها من شخص إلى آخر بواسطة اللسع.
ونستطيع أن نجد علائم التعاون ظاهرة بين بعض الحيوانات المتشابهة فتكون مستعمرات أو طوائف أو متجمعات كما هو بارز في النحل والنمل واللبائن، وفي كل ذلك مصلحة مشتركة للأفراد المتعاونة.
على أن هناك علاقات تكون فيها المصلحة لجهة واحدة كما هي الحالة في الحشرات التي تفسد العمليات التناسلية لبعض النباتات التي تحط عليها، وزيادة على ذلك أن الحلقات الغذائية تربط مجموعة من الحيوانات كما هي الحالة في سمك القد الذي يعيش على القوقع والقوقع على الدودة والدودة على البقايا العضوية في البحر.
نسيج الحياة(19/63)
لقد أصبحت العلاقات المسيطرة على النظام الطبيعي متناهية في التعقيد، وكان التطور العامل المشجع الأكبر لذلك التعقيد. فأمست بنية الإنسان أعقد من جميع الكائنات الحية، ويتراءى لنا أن نظام التطور قضى على الوحدة والتشابه، وكون تنوعات جديدة ذات صفات ومؤهلات تختلف في بعضها باختلاف المحيط الذي تعيش فيه، وهكذا سجلت خطوات الارتقاء على لوحة الطبيعة وأصبحت الكائنات الحية في مأمن من النكوص على الأعقاب في سلم التطور.(19/64)
القصص
زنبل
بقلم الأديب حسين شوقي
إذا كان المسيو هريو الوزير الفرنسي الكبير قد أبدى لدى عودته من موسكو إعجاباً شديداً بروسيا الشيوعية في أحاديثه إلى مندوبي الصحف، فأنني أعرف كائنا ما كان ليشاركه في إعجابه لو كان حياً، وهذا الكائن هو قطتنا زنبل، لأن زنبل كانت أرستقراطية بحقيقة معنى الكلمة، ويحسبها نبلا أنها من مخدرات قصر يلدز. . وإني محدثك كيف آلت إلينا: كنا في الأستانة بعد خلع السلطان عبد الحميد، وكان أثاث القصر يباع يومئذ بالمزاد العلني، فذهبنا نشاهد ما عرض من طرائف التحف ونفائس الكنوز لأن شهرة يلدز بهذه العجائب لا تقل عند الناس عن شهرة مغارة (علي بابا) في الف ليلة ذهبنا إلى القصر على غير نية الشراء لأن والدي كان يعارض في ابتياع شيء من يلدز احتراماً لذكرى عاهلها المخلوع. وكان يجله ويرى فيه رمزاً لمجد الإمبراطورية العثمانية التي بدأ ظلها يتقلص فعلاً بعد سقوطه، ولكن ما كادت أبصارنا تقع على زنبل القطة الأنقرية الجميلة حتى وقفت لا تريم عنها انصرافاً. . وانقسمنا فريقين فريقاً من الصغار (نحن) يتمسك بالشراء، وفريقاً من الكبار يعارض فيه، وانتهى الخلاف طبعاً بانتصارنا، إذ كان لابد من إنقاذ زنبل من الحالة المهينة التي كانت عليها في تلك الساعة، فقد وضعت في قفص ضيق حقير ليشاهدها الرائحون والغادون. . فدفعنا الثمن خمسة جنيهات وحملناها معنا. . أما طرائف القصر الأخرى فكانت عادية لا تزيد على نظائرها في سائر القصور الملكية.
ما زلت أذكر زنبل خلال ضباب الماضي البعيد، وهي جالسة على مقعد من القطيفة في الصالون الصغير بمنزلنا القديم بالمطرية، ترتل أناشيدها في هدوء وطمأنينة. . وكم كان شعر زنبل جميلا يحاكي بياضه الناصع الثلج الذي يجلل جبال الأناضول وطنها العظيم، وكانت نعومة شعرها أشبه شيء بنعومة الزنبق.
أما عيناها فكانتا تعكسان ما تشاهده على ضفاف البوسفور من خضرة زمردية بديعة. .
وكان لحم كفيها ناعماً طرياً إلى حد إننا كنا نجد لذة في القبض على تلك الأكف الظريفة. .
كان صيد الفيران والصراصير من الأمور الحقيرة التي لا تتعرض لها زنبل، كما تفعل(19/65)
ذلك القطط الأخرى. .
لأن تسلية زنبل الوحيدة كانت أن تسحب أمامها خيطاً فتجتهد هي أن تقفه بضربات يدها الصغيرة. . وطالما جررنا لها ذيلها لنوهمها انه خيط عادي فكانت المسكينة تصدق ذلك فتوسعه ضرباً. .
وفي ذات يوم وقعت حادثة أدهشت من بالمنزل جميعاً وهي أن زنبل حامل! رباه! كيف زلت زنبل الأرستقراطية؟ كيف خالطت زنبل قطط الحي وهي كلها قطط عادية شعبية لا تمت لأنقرة بنسب؟ ولكن زنبل وكأنها شعرت بالخطيئة الكبيرة التي ارتكبتها ما كادت تضع حملها حتى هجرت صغارها، فاضطررنا أن نغذى هؤلاء الصغار تغذية صناعية. كانت زنبل على حق في هجر أطفالها لأن هؤلاء الصغار كن من الصعاليك لا يليق أبداً أن ينسبن إليها. .!
بعد مرور عامين على هذا الحادث، وعودة زنبل إلى حياتها الأولى الهادئة، عزمنا على قضاء بضعة أشهر في الخارج، فعهدنا إلى أحد الخدم برعاية زنبل، والعناية بوجه خاص بغذائها، وهو دجاجة مسلوقة كل يوم، وكانت زنبل لا تأكل منها إلا اللحم.
. . . ولكن لدى عودتنا من أوربا فوجئنا بخبر وفاة زنبل، على أثر مرض لم يمهلهما طويلا. . كما قال الخادم المكلف بخدمتها. . أما الحقيقة التي عرفناها بعد، فهي أن ذلك الخادم الخبيث كان يأكل دجاجة زنبل ويعطيها عظمها فترفضه زنبل. . وهكذا فقدت حياتها، ولكن في كرامة وأباء! كما يفعل الأرستقراطيون الأصلاء. . .
كرمة ابن هانئ(19/66)
الحارس
لجى دوموباسان
بعد أن فرغنا من تناول الغداء، كان قد بدأ صديق لنا قديم وهو السيد (بونيفاس) يسرد علينا حوادث ومخاطرات جرت له أثناء الصيد، وهو مشهور بالصيد وشرب الخمر، جلد، بشوش، ذو تفكير ناضج، وشعور حي، وله فلسفة تهكمية تظهر بها نفسيته عند المداعبة القارصة، ولا تظهر أبداً إذا تكلم بحزن. قال لنا فجاءة:
إنني أعرف حادثة صيد، أو بالأحرى مأساة صيد فريدة في بابها، لا تشبه أبداً الحوادث التي نعرفها، وإنني أعلم أني لم أقصها عليكم من قبل ولا على غيركم، لأنها لا تسلي أحداً، فهي ليست عاطفية، أريد أن أقول أنه ليس لها هذا النوع من اللذة التي تشوق السامع أو التي تسحره، أو التي تذهله، وهاكم الحادثة:
كان عمري آنئذ يناهز الخامسة والثلاثين، وكنت اصطاد بقوة الشباب، وكنت قد اقتنيت في ذلك الوقت قطعة أرض منعزلة في إحدى الضواحي محاطة بالغابات وهي مأوى طيب للأرانب. ذهبت إليها مرة وقضيت فيها وحدي أربعة أيام أو خمسة لأنني لم أتمكن من اصطحاب أحد الأصدقاء. مكثت هناك كالحارس أو كشرطي متقاعد شجاع شديد البأس على باب قلعته، وكنت لا أخاف شيئاً. وكان بالقرب من أرضي بيت صغير منعزل أو بالأحرى كوخ يتألف من غرفتين سفليتين ومطبخ وغرفة للطعام، وغرفتين علويتين، إحداهما صغيرة لا تتسع لأكثر من سرير ومرآة وكرسي وهي التي استأجرتها، وكان يشغل الثانية (كافالييه) الهرم، وقد قال لي أنه وحيد في مسكنه. فأقمت عنده باسم مستعار ثم أسكن معه حفيده. وهو من الأشقياء تبلغ سنة أربعة عشر عاماً كان يذهب من حين إلى آخر إلى القرية التي تبعد ثلاثة كيلومترات وكان يساعد الكهل في أشغاله اليومية.
كان لهذا الشقي الطويل الهزيل المحدودب قليلا، شعراً أصفر اللون خفيف يشبه ريش الدجاجة المقصوص، حتى ان من يراه يحسبه أصلع، وله كذلك قدمان ضخمتان ويدان جبارتان كيدي المارد، عينه حولاء قليلا، وكان إذا مشى لا يرى أحداً فهو إلى الحيوانات أقرب منه إلى الإنسان لأنه يشبه الثعلب.
كان ينام في ثقب صغير في أعلى الدرج وكان يدعى (ماريوس) ولكنه تخلى عنه أثناء(19/67)
إقامتي هناك لامرأة مسنة تدعى (سيليست) كان الكهل قد أتى بها لصنع الطعام.
قد علمتم الآن الأشخاص والمكان فهاكم الحادثة:
نحن في 15 أكتوبر سنة 1854 وهو التاريخ الذي لا أنساه أبداً. خرجت ذات صباح من روان ممتطياً صهوة جوادي يتبعني كلبي (بوك) ذو الصدر الواسع واللسان الحاد والأسنان القوية، التي تخترق الأشواك.
وكنت مردفاً حقيبة سفري وبندقيتي، وكان يوماً شديد البرد، عاصف الهواء رطبه، كثيف السحاب مسرعة، وكنت أرى من الشاطئ وادي السين الواسع الذي يمتد ماؤه حتى الأفق ماراً بأوكار الثعابين على ضفتيه، وكان النظر يمتد على الضفة اليمنى حتى يقف على الشواطئ البعيدة المستورة بالغابات، ثم اجتزت غابة رومار، مبطئاً تارة ومهرولا أخرى حتى كنت في الساعة الخامسة تقريباً أمام البيت حيث كان الكهل والعجوز ينتظرانني.
وبعد عشر سنوات من نفس التاريخ ذهبت بنفس الهيئة وسلمت على نفس الوجوه بنفس الكلمات.
- أهلاً وسهلاً أيها السيد، كيف صحتك؟ ألا تزال جيدة؟
وكان الكهل لم يتغير منظره أبداً، فقد كان يقاوم الزمن كالشجرة المسنة، ولكن (سيليست) كانت قد تغيرت ملامحها منذ أربعة أعوام لا أكثر حتى أنني لم أعرفها لأول وهلة. غيرها الزمان ولكنها مازالت نشيطة. وكانت تمشي بجسمها الطويل منحنية إلى الأمام حتى أن رجليها كانتا تشكلان تقريباً زاوية قائمة.
وكانت هذه المرأة تبذل جهدها في عملها، وكانت تدهش عندما تراني وكانت تقول لي عند كل ذهاب:
- هل هذه هي المرة الأخيرة التي أراك فيها يا عزيزي؟
حقاً أن وداع هذه الخادمة محزن، وأن قنوطها أمام الموت الذي لا مفر منه كان يظهر جلياً في وجهها وعينيها حتى أن وداعها كان يؤلمني ويشعرني بحالة نفسية غريبة.
نزلت عن ظهر الجواد إلى الأرض وكان الكهل الذي صافحته يقود الجواد إلى المأوى الصغير الذي يصلح أن يكون اصطبلا، ثم تبعت سيليست إلى المطبخ الذي يصلح أن يكون غرفة طعام.(19/68)
ثم تبعنا الحارس، وقد لاحظت للوهلة الأولى أن وجهه ليس كالمعتاد فأن القلق والضيق يظهران عليه فقلت له:
- هل تريد أيها الشيخ أن يسير كل شيء في العالم حسب رغبتك؟ فقال بصوت هادئ:
- إن ما حدث لي اليوم، سبب لي هذا الضيق
فقلت: ماذا حدث لك أيها الكهل؟ هل لك أن تقص عليّ ذلك فأومأ برأسه سلباً، وقال:
- لا، لم يحن الوقت أيها السيد، إنني لا أريد أن يحصل مثل هذا بعد الآن، فألححت عليه، ولكنه رفض أن يبدأ بها قبل الغداء فعلمت أنها قصة مؤثرة. ثم قلت له قطعا للصمت:
- وهذه الجعبة؟ هل لنا فيها شيء؟
- فقال: نعم، ستجدون ما تشاءون، الحمد لله! لقد كان نصيبي اليوم وافراً.
قال هذه الكلمات بشجاعة، ولكنها شجاعة حزينة تبعث على الضحك، فان شاربيه الضخمين الرماديين كانا على وشك السقوط من فوق شفته.
ثم أخبرتهما فجاءة أنني لم أر الحفيد إلى الآن فقلت:
- وماريوس؟ أين هو؟ لماذا لا يظهر الآن؟
فاعترت الحارس رجفة خفيفة ثم التفت ألي بسرعة وقال:
- أريد إذن أن أقص عليك الآن أيها السيد كل شيء، أجل إنني أفضل ذلك، وأن الذي أطويه في سري يتعلق بماريوس.
فقلت أين هو الآن؟ فأجاب:
- إنه بالإسطبل يا سيدي، وأنا أنتظر الساعة التي يظهر بها، فقلت وماذا يصنع هناك؟ قال:
- اسمع أيها السيد. . . ثم تردد برهة وتغير صوته وارتجف وظهرت على وجهه تجاعيد الشيخوخة ثم قال:
- اسمع، لاحظت في هذا الشتاء أن هناك سارقاً في الغابة ولكنني لم أتمكن من القبض عليه. فقضيت هناك بضعة ليال ولكني لم أجد شيئاً. وفي هذه الأثناء أخذ يتزايد المسروق من الغابة؛ فانفجرت غيظاً وحنقاً وطفقت أبحث عن المجرم، ولكن عبثاً.
وفي أحد الايام؛ عندما كنت أنظف سروال ماريوس وجدت في جيبه أربعين قرشاً، فقلت(19/69)
في نفسي من أين لهذا الغلام بها؟
ولبثت ثمانية أيام أفكر، ثم رأيته يخرج كل يوم عندما أرجع إلى البيت لأستريح، فعندما أخذت أراقبه، ولكن دون أن يرتاب بي. وفي ذات صباح رأيته يستعد للذهاب فنهضت على خلاف عادتي وتبعته وليس أحد يجاريني أيها السيد في التتبع. ثم قبضت عليه. قبضت على ماريوس الذي كان يسرق من أرضك أيها السيد! نعم هو حفيد حارسك فغلى الدم في رأسي وفكرت في أن أقتله في مكانه بضربة من يدي، آه. نعم ضربته وقلت له أذهب، وأوعدته أنك عندما تكون هنا سأضربه مرة أخرى عقاباً له لأردعه، وقد أثر فيّ الحزن فهزلت كما ترى وأنك تعلم عقاب مخالفة كهذه المخالفة. ولكن ماذا كنت تعمل غير هذا؟ أنه ليس له أب ولا أم وليس من أسرته إلا أنا؛ فكنت أراقبه ولا أقدر أن أطرده، على أني أنذرته أنه إذا عاد إلى هذا العمل فإن خاتمته سوف تكون على يدي. ولن أرحمه أبداً، فهل صنعت حسناً أيها السيد؟
فقلت له ماداً إليه يدي.
- نعم ما فعلت أيها الشيخ! إنك رجل شجاع.
فقال: شكراً أيها السيد، وسأذهب الآن فأدعوه اليك؛ فيجب أن تؤدبه أنت أيضاً ليرتدع.
وكنت أعلم أنه ليس من اللائق أن أرد هذا الشيخ عن قصده، فتركته يفعل ما يشاء، فذهب يبحث عن الشقي ثم رجع به يجره من أذنه.
وكنت جالساً على كرسي من القش بهيئة المستعد للحكم.
فظهر ماريوس أمامي أكبر سناً وأكثر قبحاً من السنة الفائتة، وظهرت يداه الكبيرتان ضخمتين، فدفعه عمه أمامي وقال بصوت المربي:
- اعتذر لصاحب الأرض!
فلم ينبس الغلام ببنت شفة
فقبض عليه عمه من إبطيه ورفعه عن الأرض وأخذ يضربه بقسوة اضطرتني إلى أن أستشفع له فأخذ الولد يصيح
- شكراً، شكراً أعدك أن. . .
ثم ألقاه الشيخ على الأرض وأخذ يضربه على كتفيه وركبته قائلا له: - اعتذر(19/70)
فقال الشقي أخيراً بصوت متهدج وطرف خاشع: أعتذر، وعندئذ رفعه عمه وأطلقه بركلة دحرجته فوق الأرض فنجا، ولم أعد أراه في المساء.
ولكن ظهر على الشيخ أنه تعب فقال: إن أخلاقه سيئة.
وقال ونحن على مائدة الغداء.
- إنني أحزن له أيها السيد، أنت لا تعلم كم يشجيني أمره.
فحاولت أن أسليه ولكن عبثاً. . .
ونمت باكراً استعداداً للصيد، وكان كلبي نائماً عند رجل سريري حين أطفأت شمعتي.
استيقظت نصف الليل على صياح الكلب، ولاحظت أن غرفتي ملأى بالدخان، فقفزت من فراشي وأشعلت النور وهرولت نحو الباب ففتحته فدخل تيار من الدخان، وكان البيت يلتهب!
فأقفلت الباب بسرعة ولبست سروالي وأنزلت أولا كلبي من النافذة بواسطة حبل مربوط في سترتي، ثم ألقيت ثيابي وسكيني وبندقيتي ونزلت أخيراً بالواسطة نفسها.
وأخذت أصيح بكل قواي: كافالييه! أيها الشيخ! كافالييه!. ولكن الشيخ لم يستيقظ، بل كان نائماً نوم الضباط العميق، وفي هذه الأثناء رأيت من أعلى النافذة أن الطابق الأسفل كالأنون المستعر، ولاحظت أنه مملوء بالتبن الذي أشتعل لتقوية الحريق. . وعاودت الصياح بشدة قائلاً: كافالييه. . ثم مر خاطر برأسي، فصوبت بندقيتي إلى النافذة وأطلقت رصاصتين فانكسرت الألواح الستة، وفي هذه المرة سمع الكهل ولما رأى النار اعتراه ذهول ودهش فصحت به:
بيتك يحترق، ألق نفسك من النافذة، اسرع، اسرع. . وكان الدخان يخرج من النوافذ السفلية، موازياً الحائط ثم يزحف إلى الشيخ ويحيط به، فألقى بنفسه فسقط على رجليه كالهرة. ثم مضى وقت، وصار السقف يفرقع وكان الدرج أشبه بمدخنة طويلة، وكان لسان النار طويل يتصاعد في الجو ويتمدد، وكانت الشرارات تتناثر حول البيت فقال الشيخ بذهول:
- كيف حصل هذا؟ فأجبت: وضعت النار في المطبخ
فقال: من تظن أنه وضعها؟ فقلت فجاءة: ماريوس! ففهم الشيخ وقال: آه ولأجل هذا لم(19/71)
يرجع بعد ولكن فكرة رهيبة خطرت لي فقلت: وسيليست، سيليست؟! فلم يجب، ولكن المنزل كان ينهار أمامنا كتلاً من الأحجار لامعة دامية، وكانت المرأة المسكينة قد صارت حجراً أحمر، من اللحم البشري.
إننا لم نسمع صياحاً، ولكن عندما انتقلت النار للسقف المجاور لسقفنا فكرت في جوادي وركض الشيخ ليخلصه.
وتمكن بمشقة من فتح باب الإسطبل فشاهد جسما خفيفاً سريعاً مر بين رجليه ولطمه في أنفه، وكان هذا ماريوس هارباً بكل قواه، فنهض الشيخ ليقبض على الشقي، ولكنه عرف انه لا يمكنه اللحاق به، وأصابه جنون شديد، ولما رأى انه لا يستطيع القبض عليه تناول بندقيتي الموضوعة على الأرض قريباً منه فوضعها تحت إبطه قبل أن تبدو مني حركة واحدة، وأطلقها وهو لا يعرف أن فيها رصاصات عديدة، فأصيب الهارب في ظهره وسقط على الأرض مضرجاً بدمه، فأخذ ينكث الأرض بيديه ورجليه كأنه يريد أن يركض على أربع كالأرانب الجريحة حين ترى الصياد قادماً إليها.
فتألمت، وأخذ الغلام ينازع ثم قضى قبل أن ينطفئ الحريق دون أن يقول كلمة.
وكان كافالييه واقفاً بقميصه وساقيه العاريتين، لا يتحرك وعندما أتى رجال القرية حملوا حارسي وهو كالمجنون.
ذهبت إلى المحكمة شاهداً وسردت الحادث بتفاصيله دون أن أبدل شيئاً، فبرئ، كافالييه، ولكنه ترك البلدة في اليوم نفسه ولم أعد أراه. هذه قصة صيدي أيها السادة.!
محمد ناجي الطنطاوي(19/72)
بلياس ومليزاند
للفيلسوف البلجيكي موريس ماترلنك
ترجمة الدكتور حسن صادق
مليزاند: خل سبيلي. . . قد يباغتنا أحد. . .
بلياس: كلا، كلا، لن أطلق سراحك الليلة، أنت سجينتي، وستظلين كذلك الليل كله. . .
مليزاند: بلياس! بلياس!
بلياس: لن تستطيعي الفكاك بعد ذلك. . . إني أربط شعرك حول الأغصان. . . لم أعد أتألم وسطه. . . أتسمعين قبلاتي ترقص على امتداده؟ إنها تتسلقه، ويجب أن تحمل كل شعرة إليك قبلة. . . أنظري. . . أستطيع الآن أن أفتح يدي. . . أترين؟ هاتان يداي مفتوحتين طليقتين، ومع ذلك تعجزين عن هجري والابتعاد عني!
(يخرج من البرج يمام ويطير حولهما)
مليزاند: أوه! آلمتني. . . ما هذه الطير التي تحوم في الفضاء حولي؟
بلياس: اليمام خرج من البرج. . لقد أفزعته فطار
مليزاند: أنه يمامي يا بلياس! اذهب من هنا ودعني وحدي لن يعود إلي يمامي!
بلياس: ولماذا؟
مليزاند: سيضل في الظلام. . . دعني أرفع رأسي. . . إني، أسمع وقع أقدام. . . اتركني بربك. . . إن (جولو) مقبل علينا! أعتقد أنه هو! لقد سمع حديثنا. .
بلياس: انتظري! انتظري! شعرك عالق بالأغصان. . وقد اشتبك في سواد الليل. انتظري!
انتظري!. . . التف الكون بالظلام. . .
(يدخل جولو من الطريق المستديرة)
جولو: ماذا تصنع هنا؟
بلياس: ماذا أصنع هنا؟. . . إني. . .
جولو: أنتما طفلان. . . مليزاند، لا تنحني هكذا على النافذة. . ستسقطين. . . أنسيتما أن شطراً كبيراً من الليل قد تردى في هوة الماضي؟. . . كاد الليل أن ينتصف. . . لا يجوز أن تلعبا في الظلام كما تفعلان الآن. . . أنتما طفلان. . . (ثم يقول في انفعال شديد) أي(19/73)
طفلين، أي طفلين!
(يخرج مع بلياس)
المنظر الثاني:
(كهوف تحت القصر. يدخل جولو وبلياس)
جولو: أحترس. . . من هنا من هنا. . . ألم تلج قط هذا المكان؟
بلياس: بلى، مرة واحدة. . . وقد مضى على ذلك زمن طويل
جولو: إذن أنتظر. . . ها هو ذا الماء الراكد الذي حدثتك عنه. . أتشم رائحة الموت التي تنبعث منه؟ هلم نتقدم حتى نبلغ آخر الصخرة المطلة على الماء، ثم انحنى عليها قليلاً. . . ستهب عليك الرائحة وتصدم وجهك. . انحنى ولا تخف، سأشد أزرك. . أعطني لا. لا. . لا أريد يدك. . أخشى أن تفلت من يدي. . أعطني ذراعك. . . أترى الهاوية؟ بلياس؟ بلياس؟
بلياس: نعم. أعتقد أني أرى قاع الهاوية. . . أهو النور الذي يهتز هكذا؟. . . أنت. . .
جولو: نعم. إنه المصباح في يدي يهتز. . انظر، إني أحركه لأنير الجدر. .
بلياس: إني أختنق في هذا المكان. هلم نخرج
جولو: لك حكمك
(يخرجان في صمت)
المنظر الثالث:
(شرف عند مخرج الكهوف)
بلياس: آه! الآن أتنفس بعد ضيق. . . اعتقدت، لحظة؛ أن الدوار سيصرعني في هذه الكهوف الهائلة. . كنت على وشك السقوط. . في ذلك المكان المخوف هواء رطب ثقيل كأنداء من الرصاص، وظلمات كثيفة كعجين مزج بالسموم. . وهاأنذا أملأ رئتي بهواء البحر كله!. . إني لأجد نسيما منعشاً نضيراً، كزهرة تفتحت في هذه اللحظة وسط أوراق صغيرة خضراء. . آه! لقد سقيت منذ قليل الأزهار المغروسة أمام الشرف، والنسيم يحمل إلينا رائحة العشب المبلل ويفوح بشذى الأزهار وعطرها. . حان وقت الظهر أو كاد، وآية ذلك أن ظل البرج قد أدرك الأزهار. انتصف النهار، لأني أسمع دق النواقيس وأرى(19/74)
الأطفال يجرون نحو شاطئ البحر للاستحمام. آه! أنظر. أمنا وميلزاند في إحدى نوافذ البرج
جولو: نعم إنهما لجأتا إلى ناحية الظل يعصمهما من حرارة الشمس. . وبمناسبة ميلزاند أقول لك إني سمعت ما جرى وما قيل أمس مساء. إنه حديث أطفال يلعبون، وأعرف ذلك جد المعرفة ولكن يجب ألا تعودا إلى ما كنتما فيه من حديث ولعب. إنها رقيقة الحس ورقيقة الأعصاب، وحالها تتطلب معاملة فيها حسن السياسة ولطف الكياسة، لأنها فوق ما ذكرت تحمل في أحشائها جنيناً وستصبح أماً في القريب العاجل. وأقل انفعال قد يصيبها بمكروه. وليست هذه بأول مرة أرى فيها ما يجعلني أظن أن بينك وبينها أشياء. . إنك أكبر منها سناً، ويكفي أن أقول لك ذلك. . تجنبها ما استطعت، ولكن في غير تصنع. . أسمعت؟ في غير تصنع (يخرجان)
المنظر الرابع:
(أمام القصر. يدخل جولو وولده إينيولد الصغير)
جولو: تعالي نجلس هنا يا إينيولد. تعالي. على ركبتي. سنرى من هذا المكان ما يجري في الغابة. لم أعد أراك يا بني منذ أيام كثيرة. أنت أيضاً تهجرني وتزوَّر عني معرضاً! إنك في كل حين عند أمك الصغيرة (يعني مليزاند). . . آه! ها نحن أولاء نجلس تحت نوافذها مصادفة. . لعلها في هذه اللحظة تؤدي صلاة المساء. . ولكن دعنا من هذا وقل، يا بني: إنها تقضي أكثر وقتها مع عمك بلياس، أليس كذلك؟(19/75)
الكتب
دار المعارف الإسلامية
الأستاذ احمد أمين
لعل أكبر عمل قام به المستشرقون هو تأليف دائرة المعارف
الإسلامية، قصدوا بها أن يجمعوا بحوثهم ومعلوماتهم في كتاب جامع
مرتب على حروف الهجاء، يتكلمون فيه عن البلدان والموضوعات
التاريخية والفقهية والنحوية واللغوية الخ ويترجون فيه للأعلام.
وقد بدأوا عدتهم في ذلك بنشر الفكرة بين علماء الاستشراق سنة 1899 على ما أذكره، وأخذوا يجمعون المواد ويرتبونها ويوزعونها على العلماء من هولنديين وألمان وإنجليز وفرنسيين وإيطاليين وغيرهم من الشرقيين، وظلوا في هذا الأعداد نحو عشر سنوات، ثم أصدروا الأعداد تباعاً باللغات الثلاث الإنجليزية والفرنسية والألمانية، كل عدد يقع في نحو ثمان وستين صفحة بالخط الدقيق.
واعتزموا إخراج هذا المعجم في أربعة مجلدات ضخام كل مجلد يقع في أكثر من ألف صفحة، وقد أخرجوا إلى الآن مجلدين وأعداداً من المجلدين الثالث والرابع وقد عنوا بتوزيع الموضوعات على المختصين فيها فكثير من الموضوعات المتعلقة بالفقه والأصول كان يكتبها جولذ زيهبر والأدبية (هوار) وهكذا.
ولم يستوفوا في كتابتهم كل ما يجب أن يكتب حول الموضوع وإنما اقتصروا على أهمه ووكلوا الإفاضة في ذلك إلى المراجع التي يذكرونها عقب كل مادة ثم يذيلونها باسم من كتبها، ولهم إلى الآن نحو خمسة وعشرين عاماً يوالون إخراج أعدادها، وربما كان أمامهم نحو عشر سنوات أخرى لإتمامها، فهم في كل عام يخرجون عددين أو ثلاثة، وكلما انقرضت طبقة من العلماء والناشرين حلت محلهم طبقة أخرى ينهجون منهجهم ويسيرون في طريقهم وان كان الرعيل الأول أمتن وأعمق من الرعيل الذي خلفه، والكتاب في جملته من أهم الكتب التي تفيد الباحث وترشده إلى أهم ما قيل في الموضوع وتدله على خير الكتب العربية والإفرنجية التي يصح أن يرجع الباحث إليها للاستزادة منها.(19/76)
وكثيراً ما فكرت لجنة التأليف والترجمة والنشر في تعريبها حتى ينتفع بها قراء العربية في الممالك الشرقية ولكن أكثر ما كان يعوقهم أمور:
(الأول) إن العمل لم يتم بعد، وقد سار المؤلفون في ترتيبها مراعين الكلمة العربية بحروفها الإفرنجية فوضعوا مثال كلمة (عبد) في حروف الألف. وكثير من المواد التي لم تؤلف بعد هي في حرف الألف بالعربية، وان كانوا هم قد أتموا حرف الألف بالإفرنجية فكلمة (أسامة) و (أرجوان) يجب أن توضع في حرف الألف بالعربية وهي توضع في حرف بالإفرنجية فلإتمام كل حرف يجب أن ينتظر إلى إتمام الكتاب.
(الثاني) أن كثيراً من الموضوعات نظر فيها العلماء المستشرقون نظرة خاصة غير النظرة التي ينظرها المسلمون وعالجوا نواحي قد يهم المسلمين غيرها، وبعضهم كان متعصباً فكان يمزج عصبيته ببحثه كما فعل الأب لامانس في بعض ما كتب، وهذا يوجب أن يكتب الموضوع من جديد ومن غير تحيز.
(الثالث) أن بعض الموضوعات قد تغير فيها نظر العلم منذ كتبت، فالكتب التي عثر عليها في هذه الأعوام الثلاثين،
والنقوش التي استكشفت، وجهود العلماء، جعلت المادة لو كتبت من جديد لكانت أدق وأوفى، وجعلت المراجع التي يجب أن يشار إليها أتم وأكمل.
(الرابع) أن المواد لما وزعت على الأعضاء لم تخرج متناسبة فقد رزقت بعض المواد الحظوة التامة فملأت الكتابة عليها كثيراً من الفراغ على حين أن مادة أهم منها قد لا تذكر بتاتاً أو تذكر في قليل من الإيجاز فخرج الكتاب غير متناسب الأجزاء.
هذا كان تفكير الشيوخ، والشيوخ دائماً حذرون يكثرون التفكير في العواقب ويحسبون لكل خطوة ألف حساب، فما هو إلا أن نهض الشباب ولا راد لنهضته فهزأ بكل العقبات وثابر على العمل وجد واقتنع بأن إخراج العمل مع ما قد يكون فيه من نقص أجدى على العالم العربي من الانتظار، فليخرج ولينتفع به القراء والباحثون ولينتقد ثم ليصلح النقد، وليكن فيه تقصير ولكن هذا التقصير يستدرك، فسنستدركه نحن أو يستدركه غيرنا، هذا خير ألف مرة من التسويف وانتظار الزمن وانتظار الكمال، إذن فلننهض بحمل العبء، وليجد غيرنا في نقدنا وإصلاح ما فاتنا، فمن وراء هذا وذاك عمل مجيد أقل ما فيه أنه عمل يطلع علماء(19/77)
الشرق على عمل الغرب في مادتهم وعلومهم، ويعلمهم كيف يبحثون ويرتبون معلوماتهم، ويضعونها تحت السبر والاختبار، ويبعث علماء الجيل القادم في الشرق أن يهبوا من رقدتهم فيضعوا بأنفسهم ولأنفسهم معاجم ودوائر معارف يعدونها إعداداً صحيحاً وافياً ثم لا يكونوا عالة يتكففون الغرب.
لعل هذا وأكثر منه هو ما دار في نفوسهم وحفزهم للعمل فتحملوا العناء مبتسمين راضين.
لقد أخرجوا لنا باكورة عملهم في هذا العدد الأول وهو في ورقاته القليلة يدل على ما وراءه من جهد كبير، فهم بلا شك قبل ذلك ترجموا كل كلمات الدائرة ورتبوها حتى تكون متسلسلة محكمة، وهم بلا شك راجعوا كثيراً من النصوص واستفتوا كثيراً من العلماء فيما غمض عليهم، واستعانوا بهم فيما نرى أثره من تعليقات.
قد قرأت هذا العدد وراجعت بعض مواده على الأصل الإنكليزي ووافقت الأستاذ إسماعيل مظهر على بعض وجوه النقد المنشورة في هذا العدد والتي ستنشر في العدد التالي، ولكن أهم ما لاحظته وأود أن يتداركوه في الأعداد القادمة أن الترجمة ينقصها كثير من الصقل، فالقارئ يشعر دائماً أن العبارة مترجمة عن أصل أجنبي مع أن مقياس جودة الترجمة فقدان هذا الشعور وأن يخيل للقارئ أنها كتبت بالعربية ابتداء.
من أمثلة ذلك ما جاء في صفحة 14: (ومن واجب كل مسلم أن يعمل المعروف وأن ينهى عن المنكر) مع أن المألوف في العربية: (أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر) وما جاء في صفحة 13: (وهم دون أن يجادلوا في شرعية حكم الخلفاء الأربعة الراشدين كما يفعل الشيعة يصرون على أن القدوة الحسنة بعد النبي كانت في أبي بكر وعمر) فمحال أن تصدر هذه الجملة من كاتب يضع كتابه بالعربية، إلى أمثال من ذلك يكاد يجدها القارئ في كل صفحة. فلعل مرونة القلم والصبر على التجويد والرغبة في تحقيق الأكمل يذهب بهذا النقص في الأعداد القادمة.
وأخيراً أحيي في الشباب هذا الجد والنشاط وأكبر هذه العزيمة وأتمنى للمشروع النجاح؟(19/78)
معجم الحيوان
تأليف الدكتور أمين باشا المعلوف
ليس هذا السفر الجليل مما تجوز معه القراءة السريعة والنظرة
العجلى، لأنه ليس لغواً من القول وحشوا من الكلام، بل لابد لك، إن
أردت أن تحصل مما فيه شيئاً، من وقفة طويلة يحدوها الصبر الجميل.
ذلك لأنك بصدد بحث علمي دقيق فهو معجم لأسماء الحيوانات بقلم
الفريق أمين المعلوف، ذكر فيه لكل حيوان اسمه العربي والفرنسي
والإنجليزي فضلاً عن اصطلاحه العلمي. ووصف كل حيوان وصفاً
أوجز فيه حيناً وأسهب حيناً آخر، إذا اقتضى الأمر إيجازاً أو إسهاباً.
وليس هذا المعجم وليد اليوم، إنما هو مقالات نشرت في مجلدات عديدة من المقتطف. بدئ في نشرها منذ أكثر من عشرين عاماً، ولكن الدكتور المؤلف قد توج هذا المجهود العظيم، وأتم على قراء العربية فضله ونعمته، بأن جمعها وبوبها ورتبها في معجم واحد، فملأ بذلك مكاناً شاغراً في المكتبة العربية وأحب أن أسوق إليك مثلاً لدقته في البحث، ما جاء عن ترجمة كلمتي ,؛ فقد كان شائعاً بيننا أن الأولى تطلق على النمر، والثانية على الفهد، ولكنه أثبت خطأ هذا التعريب، وبين أن معناها ببر، وأن معناها نمر، أما الفهد فهو ما يقول عنه الإنجليز ويحسن أن ننقل إلى القارئ نص ما جاء بالمعجم في تعريب كلمة ليرى المراجع التي استند إليها المؤلف: ببر (فارسية معربة) , سبع هندي يعادل الأسد في عظم الجثة والقوة إلا أنه أشد منه بطشاً وهو أبيض البطن والجانبين مع صفرة، ومخطط بخطوط سود.
ولابد لي من الإطالة في الكلام على الببر والنمر والفهد والوشق وعناق الأرض، وذلك لكثرة الخطأ في ترجمة هذه الألفاظ. فالعرب لم يكن عندهم لفظة يعبرون بها عن هذا الحيوان المسمى عند الإفرنج فاستعملوا اللفظة الفارسية ولم يسموه نمراً ولا النمر الهندي، ولا بأس بتسميته بالأسد الهندي كما جاء في محيط المحيط فانه أقرب إلى الأسد منه إلى(19/79)
النمر. وقد وردت لفظة الببر كثيراً في المؤلفات العربية وفي الشعر العربي والمقصود بها هذا الحيوان المخطط المسمى عند الإفرنج، فقد جاء في كتاب عجائب المخلوقات (الببر حيوان هندي أقوى من الاسد، بينه وبين الأسد معاداة، وإذا قصد الببر النمر فالأسد يعاون النمر) وقال الدميري في آخر كلامه عن الببر: (وذكر في ربيع الأبرار أن الببر على صورة الأسد الكبير وهو أبيض يلمع بصفرة وخطوط سود) وقال الجاحظ: (الفيل والببر والطاووس والببغاء والدجاج السندي مما خص الله به الهند) وقال في محل آخر: (لأن هذه السباع القوية الشريفة ذوات الرياسة كالأسد والببور والنمور لا تعرض للناس إلا بعد أن تهرم فتعجز عن صيد الوحش). وهو ما يقوله الإفرنج الآن عن هذه الحيوانات عندما تضرى بأكل لحوم البشر. ثم قال في محل آخر: (والببر الهندي مثل الفيل أيضاً والكركدن فلا يقوم له سبع ولا بهيمة، ولا يطمع فيه ولا يروم ذلك منه *). وقد وردت هذه اللفظة في كتاب كليلة ودمنة ويفهم من سياق القصة انه من الحيوانات المفترسة، فلو كان المقصود به أحد السباع المعروفة عند العرب كالنمر أو الأسد أو الفهد لما تعذر على ابن المقفع استعمال لفظة عربية حتى أتى بكلمة أعجمية. وقد ترجمت هذه اللفظة في النسخة الإنجليزية من كتاب كليلة ودمنة وورد ذكرها في مفردات ابن البيطار في آخر باب النمر حيث قال: (والببر سبع كبير) وترجمت الفرنسية. وهذه اللفظة مستعملة في بعض أنحاء الهند في وقتنا الحاضر لهذا الحيوان بعينه، وكذلك الفرس فانهم استعملوها بهذا المعنى أيضاً كما ورد في شرح جامع التواريخ لكاترمير، فقد ذكر الشارح كلمة ببر وقال عنها: الخ.
ولشد ما أدهشني هذا الخطأ الذائع الذي لم يجد قبل الفريق أمين المعلوف من يرده إلى صوابه، ولم يقتصر أمر هذا الخطأ على طلاب المدارس والمشتغلين بالترجمة جميعاً، بل تعداه إلى أكبر دائرة فنية في مصر وهي حدائق الحيوانات، فأنا أعلم أن إدارة تلك الحدائق تضع الكلمة العربية (نمر) إلى جانب اللفظة الإنجليزية تعريباً لها، وقد أنبأني صديق منذ أيام أنها أدركت أخيراً هذا الخطأ فأصلحته منذ أمد قصير.
وقد أتيحت للدكتور المعلوف فرصة قل أن تتوفر لغيره، وهي هذا التجوال في أنحاء السودان وبلاد العرب، فجمع من الطبيعة نفسها، ومما سمعه من أفواه الشعوب التي مر بها من المعلومات ما لا يوجد بين دفات الكتب. مثل ذلك كلمة (أصله) التي ورد ذكرها في(19/80)
أساطير الأولين أنها حية وكفى دون أن يعلم لحقيقتها وجود، فاستطاع أثناء وجوده بالسودان أن يطبق هذا الاسم على مسماه لأنه سمع الأهلين هناك يطلقونه على نوع خاص من الحيات.
لست أريد أن أفصل هنا الخلاف الذي قام بين الفريق أمين المعلوف والدكتور محمد شرف، إلا أنني أميل إلى الاعتقاد بأن الدكتور شرف قد استقى مما نشره الدكتور المعلوف شيئاً كثيراً دون أن يشير إلى ذلك في معجمه، وكان خيراً أن ينسب الفضل لذويه.
ز. ن. محمود(19/81)
دائرة المعارف الإسلامية
نقد وتقدير
للأستاذ إسماعيل مظهر
العدد الأول من المجلد الأول في 64 صفحة من القطع الكبير محلى بصورة جلالة ملك مصر وصدر بمقدمة في 6 صفحات من قلم، لجنة الترجمة، والورق ممتاز والطبع حسن.
بورك في الشباب! بورك في الشباب عامة والطامحين منهم خاصة. فالشباب روح الأمم وعمادها. والطامحون من الشباب هم بناة المجد وسدنة الحضارة وعمد القوة. والشباب إذا نام خيم على الأمم النسيان وغشيها السكون وهوّم عليها النعاس. نعاس القرون بل نعاس الحقب والدهور. والشباب إذا تيقظ ودارت رحاه قذف بالكرات الواقفة على عجلة الدائرة إلى فضاء العدم، واستخلص من لباب الأمم كرات جديدة تساير رحاه في حركتها وتضيف إليها قوى جديدة يستعان بها على بلوغ الغرض الأسمى والمثل الأعلى. أما الشباب القانع المستنيم للدهر وللاقدار، فلا خير فيه إلا يقدر ما في البذرة الحية من الاحتفاظ بجنينها، لتستلمه إلى الطبيعة حياً عسى أن تكون منه جرثومة تخرج شباب الطموح والاستعلاء والتطلع إلى اللانهاية.
شباب قنع لا خير فيهم ... وبورك في الشباب الطامحينا
ونحن اليوم أمام عمل يقوم به الشباب المتوثب إلى المجد، المتعطش إلى المعرفة، الوثاب إلى المثل والغايات. عمل أقل ما يوصف به أنه أثر جليل من آثار القوة والجرأة النادرة التي تنبأنا بأن عجلة الشباب قد أخذت تدور لتقذف بالكرات الواقفة، وتجمع من حولها الكرات الدائرة. فان ترجمة موسوعة كاملة، في أي موضوع كانت، ومن أي مصدر استقيت، لعمل عظيم. فكيف بموسوعة كدائرة معارف الإسلام وعت ألواناً من التاريخ والفقه والتصوف والفلسفة واللاهوت والترجمة والجغرافية وعلم الهيئة إلى غير ذلك مما وعت حياة العرب قبل الإسلام وبعده. فان العلاقة بين الإسلام والجاهلية لعلاقة شديدة الآصرة تتعارض في نسيجها خيوط من روح الأمم العربية والأمم التي دانت بالإسلام. وكل هذا يزيد من صعاب العمل على المؤلفين، ولا يجعله هيناً على المترجمين. فإننا لم نعن بعد بتبويب ما وصل إلينا من فروع المعرفة التي تلقيناها عن العرب، ولم نفكر حتى(19/82)
في تصنيف أسماء الكتب التي تعتبر مراجع صحيحة تعود إليها في معرفة أسماء البلدان أو الأشخاص أو الأماكن، أصلية كانت أو معربة عن اللغات الأخرى كاللغات السامية، ومنها السريانية والآرامية. واللغة الإغريقية على الأخص. ولقد كان هذا سبباً في أن يتورط مترجمو هذه الموسوعة في أخطاء هم أبعد الناس عن أن يقعوا في مثلها عن قصد، أو عن حاجة إلى الصبر على البحث أو عن زهد في توخي الكمال المستطاع. ولو أننا أردنا أن نذهب في نقد العدد الأول وهو باكورة هذا العمل الذي يرقبه أديب عراقي (كما يرقب الصائم هلال العيد) مذهب الإطناب لا الإيجاز لاحتجنا إلى الوقت وإلى الفراغ. لهذا نعمد إلى بعض المواد ونتناولها بالمناقشة البريئة من كل غاية إلا أن يتدارك شبابنا الطامح بعض الأخطاء التي نرجح إننا قد نعدها على حق. ونصيحتنا التي لا نرمي من وراءها إلى أي غرض بعيد عن توخي الاصلاح، أن يعيد مترجمو هذه الموسوعة النظر فيما طبع منها وما لم يطبع، وان يستعينوا بذوي التجربة والنظر، وان يترفعوا في عملهم هذا عن فكرة الاعتزال به عمن يستطيعون أن يعاونوا فيه صوناً لسمعة أعمالنا الأدبية أن ينتابها النقص أو تنتقصها الأنانية.
على أنني أريد أن الفت نظر اللجنة المحترمة إلى عبارة وردت في المقدمة جاء فيها: (ومما يغتبط له قارئ هذه الدائرة أن أعلام مصر سواء أكانوا من علماء الأزهر الشريف أو من أساتذة دار العلوم أو الجامعة المصرية قد ساهموا بنصيب وافر في مراجعة الترجمة والتعليق إلى بعض الفقرات، وفي إبداء الملاحظات القيمة والآراء السديدة) هذه هي العبارة وأني لأعجب كيف أن أعلام مصر من علماء الأزهر الشريف وأساتذة دار العلوم الجامعة المصرية قد فاتتهم هنات هينة وأخطاء نحوية مثل قولهم (طبع مرتان) (راجع مادة أبشقة ص 63) وغير ذلك مما نمسك عنه ونكتفي بتوجيه نظر اللجنة إليه.
بيد أنا إن اكتفينا هنا بالإشارة البسيطة فأننا نود أن نعبر عن أسفنا الشديد لإيراد مثل العبارة التي نقلناها عن المقدمة فان فيها لتفريطاً، وان فيها لمغالاة، وإن فيها لأشراكاً لأعلام مصر أجمعين في أخطاء مثل التي سوف نسوق الكلام فيها.
والآن نبدأ بمادة (أبخاز) وقد وقع عليها النظر إتفاقاً، فاثرنا ألا ننتقل إلى غيرها ومضينا في مراجعتها فبانت لنا الملحوظات الآتية:(19/83)
(1) جاء في ص 20 نهر 2 (وكان الابخازيون يعرفون قديماً باسم أبسكوي (عند المؤرخ آريان) وباسم أبسجي (عند بلنياس ويذكر بروكوبيوس (في القرن الخامس الميلادي) أن الابخازيين كانوا تحت حكم اللازوي. وجاء في ص 21، نهر1، (وكان سيدرنيوس البيزنطي) الخ. والصحيح في تعريب الأسماء أن نجري فيها على القواعد التي جرى عليها العرب، فلا تقول بلنياس بل بلنيوس، ولا تقول بروكوبيوس بل فروقوفيوس، ولا تقول سيدرنيوس بل قذرنيوس، أما قواعد التعريب فحديث طويل ليس هنا محله.
(2) (ولكن الأسباب الجغرافية وحدها تجعل احتلال هذا الإقليم احتلالاً فعلياً بعيد الاحتمال) (ص20 نهر 2) والأصل الإنجليزي كما يلي
والمحصل من الترجمة والأصل أن المترجم وضع كلمة (الأسباب الجغرافية) مقابل والأصح أن يقال (العوامل أو المؤثرات أو الموانع الجغرافية) لأن كلمة الأسباب تتضمن معنى (الناموس) الثابت في حين أن كثيراً من المؤثرات الجغرافية ينتابها التغير إن سريعاً وان بطيئاً على تتالي الأجيال وخضوعاً لسنن يعرفها الفلكيون والجيولوجيون على الأخص. ووضع المترجم كلمة (تجعل) لتقابل والكلمة الإنكليزية معناها (كفت)، ثم أنه ساق الجملة العربية في صيغة المضارع وهي في الأصل بصيغة الماضي لانها تتكلم عن ماض محدود بالزمان. ووضع كلمة احتلال لتقابل في حين أن احتلال معناها في الإنجليزية ولكن معناها إخضاع. والظاهر أن المترجم لم يهتف مرة واحدة بسقوط الاحتلال لا بالإنجليزية ولا بالفرنسية، ووضع العبارة الإنجليزية
لتقابل بعيد الاحتمال، والحقيقة أنها وضعت لتدل على أن: العوامل الجغرافية وحدها كفت لان تصرف العرب عن التفكير في إخضاع الإقليم إخضاعاً تاماً. والواقع أن احتلال إقليم قد يجوز أن يكون تاماً ولكن الإقليم لا يكون خاضعاً بالفعل. فان إيطاليا احتلت طرابلس احتلالاً عسكرياً تاماً بأن بددت كل قواه العسكرية، ولكن إخضاع أهل الإقليم لم يتم إلا بعد زمان طويل. والفرق بين الاحتلال والإخضاع لا ينبغي أن يغيب عن ذهن مترجم يكتب في أبحاث تاريخية سياسية. لأن ملاحظة مثل هذه الفروق الدقيقة ضروري لينطبق تصور القارئ دائماً على الحالات التي يريد المؤرخ أن ينقلها إلى مخيلته.
(3) (وقد أخضع جستنيان الإمبراطور الروماني الابخازيين فاعتنقوا المسيحية). (ص20(19/84)
نهر 2) والخطأ هنا في تعريب اسم الإمبراطور الروماني (يوستنيانوس) لان حرف ينطق (ياء) فأثبته المترجم (جيما) على الضد من كل الأصول المرعية.
(4) (ومنذ ذلك العهد أصبحت لغة جورجيا لغة الأدب). (ص21 نهر1) وما هي لغة جورجيا،؟ المؤلف يقصد هنا لغة أهل الكرج التي عربها المترجم باسم جورجيا حرفياً. في حين أن العرب ومن أتى من بعدهم قالوا الكرج. ومن الأسف أن المترجم جرى على هذا الخطأ في كل الجزء المطبوع. فقال ملك جورجيا وهو ملك الكرج تحقيقاً.
(5) (وعند البحث عن أصل موطن البجراتونيين يجب أن نتجه نحو الغرب (نحو جرخ وريون). وفي الأصل الإنكليزي & والمفهوم من العبارة الإنكليزية أن المؤلف يقصد شواطئ نهرين ولو لم أتحقق من ذلك بل أدركه بالسليقة فقال (نحو الغرب على الكرخ والريون. فجاءت الترجمة غامضة بعيدة عن الأصل. وكذلك يجب أن نلاحظ أن المترجم قد اكثر من ذكر الابخاز بصيغة جمع الجمع فقال الابخازيين والبجراتونيين وغيرهم. في حين أن الابخاز جمع كالأعراب. ولا يصح أن تقول أعرابيين أصلاً. أما في البجراتونيين فقد اصطلح مثلاً على أن ندعو القبيلة التي انحدر منها أهل أثينا القديمة (فلاسجة) وأسمها الأصلي في الإنجليزية صيغة عربية مقبولة تجرى على قواعد التعريب المتبعة. فكان الواجب على المترجم إذن أن يقول البجارطة بدل البجراتونيين. هذا إذا لم يكن العرب قد اصطلحوا على تعريب لأسم هذه القبيلة، ولا أتصور أن يكون بعيداً كثيراً عما اذهب إليه.
(6) وورد في خطاب الإمبراطور طرابزون أنه كأنه لأمراء
الأبخاز جيش يبلغ عدده. . . 30 مقاتل (ص21 نهر 2) وفي
الأصل الإنكليزي: 1459 , والفرق بين الأصل
والترجمة شاسع. فالترجمة تقول (في خطاب الأمبراطور). .
والأصل في خطاب من الإمبراطور. . . . وهنالك فرق لا
يخفى بين خطاب لإمبراطور وخطاب من إمبراطور، فضلاً
عن أنه اسقط السنة المسكينة (1459) من الترجمة كلية.(19/85)
(7) لم يستطيع الابخازيون أن يتخلصوا من سلطان الترك ونفوذ الإسلام في حين كانت المسيحية تتناقص في بطء شديد. (ص21 نهر 2) والاصل الإنكليزي ذكر كلمة خطأ تتناقص والحقيقة تستأصل. لان النقص يعبر عنه في الإنكليزية بكلمة ويقابله الزيادة فضلاً عن ركاكة التعبير الذي نحسه في استعمال تناقص ببطء شديد.
(8) ومنذ انفصال جورجيا صار يحكم بلاد الابخاز كاثوليكيوها (الذين ذكروا في القرن الثالث عشر للميلاد) في بتزند (ص21 نهر2) والأصل الإنكليزي كما يلي:
والخطأ هنا فاحش. فان المؤلف لو كان قد أراد أن يقول أن البلاد كان يحكمها كاثوليكيوها لقال وكأنه من الواجب أن يدرك المترجم أن كلمة تدل على وظيفة كنيسة كما يفهم بدياً من سياق الجملة ومن سياق الحديثمعا. أما كلمة فقد عربت وأثبتت في المعاجم العربية ونقلت عنها إلى المعاجم الإنكليزية العربية الكبرى. فجاء في قاموس (بدجر) الفقيه الإنجليزي المعروف أمام هذه الكلمة (الجثالقة جمعاً مفردها جاثليق). وجاء في القاموس المحيط للفيروزابادي (هو الجاثليق بفتح الثاء المثلثة رئيس للنصارى يكون في بلاد الإسلام ويكون تحت يد بطريق إنطاكية ثم المطران تحت يده ثم الأسقف يكون في كل بلد من تحت المطران ثم القسيس ثم الشماس). (ص217 مجلد3).
وهذا يدل على أن المترجم قد أخطأ، وأنه أخطأ خطأ فاحشاً من الوجهتين التاريخية والعلمية فالتاريخ لم يثبت أن الكثالكة كان لهم حكم مدني في بلد من بلاد الإسلام. والناحية العلمية، كما يدل سياق الكلام في الأصل، تشير إلى أن الجثالقة كان يناط بهم ان يرعوا أحوال النصارى الشخصية على قواعد الدين النصراني تحت حكم الإسلام المدني. وعلى هذا يجب أن تكون الترجمة على خلاف ما جاء في (دائرة المعارف الإسلامية)، ويجب أن تكون كما يأتي (ومنذ الانفصال عن الكرج (لا منذ انفصال جورجيا لأن الأصل كان للبلاد جاثليقها المقيم في يتزند. أما الجملة المعترضة التي جاء فيها والتي ترجمها المترجم بقوله: (الذين ذكروا في القرن الثالث عشر الميلادي) ويقصد بهم الكاثوليك خطأ بعد أن خلقهم من وهمه والوهم خلاق، فيراد بها أن بقية الحكام الذين يمثلون نواحي الحكم الأخرى كانوا يذكرون منذ القرن الثالث عشر الميلادي. وإذن يكون تعيين جاثليق يرعى(19/86)
مصالح النصارى لم يأت إلا بعد أن أمتد نفوذ الإسلام، واحتاج الأمر إلى راع يرعى مصالح الأقلية المسيحية في بلاد إسلامية.
(9) (وفي عام 1462 م (في عهد الملك بحرات الثاني) ثبت أمراء أسرة شروشيد في مراكزهم) والأصل الإنكليزي كما يلي:
1462
وأنت تتساءل ما هي مراكزهم هذه؟ هي أنهم اعترف بهم أمراء. وهكذا يريد الأصل أن يقول. ولكن المترجم يريد أن يقول أنهم ثبتوا في مراكزهم لا غير. وعلى القارئ أن يضرب الرمل ويناجي الودع ليعرف في أي المراكز ثبتوا. ولو تصور أنهم ثبتوا في الأرض بالإسمنت المسلح لكان له عذر.(19/87)
العدد 20 - بتاريخ: 01 - 11 - 1933(/)
عدلي. . .
يجب أن يكون الناس قد انتهوا من الحرج والضيق، ومن العسر وسوء الحال إلى حيث أصبحوا ينكرون أنفسهم ويمرون سراعاً ببعض الأحداث الجسام التي كانوا يقفون عندها فيطيلون الوقوف، ويفكرون فيها فيطيلون التفكير. ويتذوقون آلامها متمهلين متعمقين كأنهم يجدون في تذوقها على مهل وفي أناة شيئاً من اللذة يدعوهم إلى استبقائها ومد أسبابها. فهم كانوا إذا ألم بهم الحدث من هذه الأحداث وجموا له وجوماً طويلاً ثقيلاً، ثم يذهب عنهم الوجوم شيئاً فشيئاً فيحسون لذع هذه اليقظة المؤلمة، ثم يفيقون فيقدرون خطر الحدث الذي أصابهم، ويذكرون من أصابهم فيه ويطيلون ذكره، ويتمثلون مواقفه المختلفة، ثم ينظرون إلى حاضرهم ومستقبلهم ويتصورون فقيدهم مواجها لظروف الحاضر والمستقبل، ويسألون أنفسهم عن مواقفه التي كان يمكن أن يقف من هذه الظروف لو امتدت له أسباب الحياة. ويتخذون من هذا التفكير المتنوع الطويل سبلاً إلى الألم متنوعة، ووسائل إلى الحزن متباينة، تأبى نفوسهم أن تقطع الصلة بينها وبين من فقدت، حتى إذا عملت الأيام عملها، وتكاثرت خطوب الحياة على ما يملأ النفوس من ذكرى، فالت أن تسدل عليه من النسيان ستاراً، جاهدت هذه النفوس ما وسعها الجهاد، لتقاوم الظروف، وتمانع النسيان وتستبقي شخص الفقيد ماثلا أمامها تنظر إليه وتحزن عليه وتبكيه أو تبكي أنفسها فيه.
كذلك كان الناس حين كانت حياتهم حياة تستحق هذا الأسم، وحين كانت أيامهم أياما، أما الآن فقد تغير الناس لأن حياتهم تغيرت، وقد تبدل الناس لأن أيامهم تبدلت، فقدت الحياة في نفوسهم قيمتها، فاصبحوا لا يذوقون لذتها وآلامها الا مسرعين. وفقدت الأيام في نفوسهم قيمتها، فاصبحوا لا يقفون عند أحداثها وخطوبها الإلماما. كثرت عليهم الأحداث والخطوب، وثقلت عليهم الأرزاء والمحن، وعجزت أعصابهم عن المقاومة، فعجزت نفوسهم عن الحزن كما عجزت نفوسهم عن الفرح. أصبح كل واحد منهم وكأنه الكرة الخفيفة الوثابة تتدافعها الحوادث، وتتقاذفها الكوارث، فلا تكاد تقع على حادثة أو كارثة، أو لا تكاد تقع عليها حادثة أو كارثة، حتى تثب وتقفز مسرعة، خفيفة، عنيفة، تبتغي حادثة أخرى وكارثة أخرى، أو تبتغيها حادثة أخرى وكارثة أخرى.
وهذا وحده هو الذي يفسر موقف الناس من هذا الخطب العظيم الذي ألم بهم حين نعت إليهم الأنباء عدلي يكن رحمه الله، فقد وقعت هذه الأنباء عليهم وقع الصواعق، فوجموا لها،(20/1)
ولكنهم أفاقوا مسرعين من هذا الوجوم، لأنهم تعودوا وقع الصواعق في هذه الأيام. أفاقوا وجزعوا، واشتد عليهم الجزع، حتى كاد يشبه اليأس، ولكن جزعهم كان قصيراً محدود الأمد، فلم يمض يوم وبعض يوم حتى شغلوا عن هذا الخطب ولم ينسوه، وإنما صرفوا عنه صرفاً، صرفتهم عنه هذه الضرورات القاسية والآلام الملحة التي لا يعرفون كيف يخلصون منها أو يثبتون لها. وما رأيك في قوم لا يستقبلون النهار إذا أشرقت شمسه إلا بالخوف من بياضه، ولا يستقبلون الليل إذا نشر ظلمته على الأرض إلا بالإشفاق من سواده، يصبحون وهم يجهلون إلى أين يدفعهم النهار المضيء، ويمسون وهم يجهلون إلى أين يذهب بهم الليل المظلم.
كيف تريد من هؤلاء الناس أن يبتلوا مرارة الحزن ولذع الألم، أو يستعذبوا حلاوة الفرح وموقع السرور من نفوسهم؟ لقد فقدوا أو كادوا يفقدون هذه الملكات القوية الرقيقة الحساسة التي كانت تنقل إلى نفوسهم صور الحياة كما هي. فهي تمكنهم من أن يتعظوا بما يبعث العظة منها، ويبتهجوا بما يثير الابتهاج، هاهم أولاء يفكرون في أزماتهم على اختلافها، ويجدون في التخلص من هذه الأزمات أو الإذعان لها، ليس منهم إلا طالب أو مطلوب، ليس منهم إلا غالب أو مغلوب، ليس منهم إلا بائس أو منتظر للبؤس، وليس منهم إلا محرج أو مدفوع إلى الحرج، فهم معذورون إذا صرفتهم الحوادث صرفا عن ذكر هذا الفقيد العظيم، وعن إطالة ذكره والتحدث فيه، وهو مع ذلك مازال في دار الغربة حيث قبضه الله إليه، لم يعبر جثمانه البحر بعد إلى وطنه ليوارى في ترابه، ويدفن في ثراه المقدس.
هم معذورون. وعدلي رحمه الله أشد الناس قبولا لعذرهم هذا، لأنه كان أحسن الناس تقديراً لحالهم هذه. ولأنه أشد الناس عطفا عليهم وبراً بهم، ولأنه كان على امتيازه وأرستقراطيته الظاهرة يشاركهم فيما يجدون، ويقاسمهم ما يشعرون به من الحزن والألم وسوء الحال. والمصريون أكرم على أنفسهم من أن يكون سكوتهم عن عدلي بعد موته بقليل نسياناً له، أو تقصيراً في ذاته، فليس عدلي من الأشخاص الذين يقدر عليهم النسيان، وليس المصريون من الشعوب التي يهون عليها الجميل. ومهما يكن الأمر في ذلك فان ذاكرة التاريخ أقوى وأثبت وأعمق من ذاكرة الناس؛ وسيذكر التاريخ دائماً أن أربعة من المصريين كانوا أئمة(20/2)
النهضة الوطنية الاستقلالية، أو قل كانوا أئمة الثورة المصرية التي شبت نارها بعد أن خمدت جذوة الحرب، والتي هبت فيها الأمة المصرية تطالب بأن يعرف الناس لها أنها أمة حرة كريمة تريد أن تعيش في بلد حر كريم. كان هؤلاء الأئمة الأربعة عنوان الحياة السياسية الجديدة في مصر ثم في الشرق كله، وسيظلون عنواناً لهذه الحياة على اختلاف طبائعهم وأمزجتهم، وعلى تباين ميولهم وأهوائهم، وعلى ما بين شخصياتهم العظيمة الفذة من الاختلاف، ولن يستطيع مؤرخ أن يصور حرية مصر وحرية الشرق في هذه القطعة من الزمن التي تبتدئ بعد الحرب دون أن يعتمد في تصويره على هؤلاء الأئمة الأربعة في السياسة: سعد ورشديوثروت وعدلي رحمهم الله!
كان سعد من هذه الثورة المصرية الشرقية بمكان الجذوة القوية المضطرمة التي لا يعرف الخمود إليها سبيلا، والتي لا يمسها شيء إلا اضطرم، ولا يدنو منها شيء إلا التهب. والتي تبعث أشعتها القوية المحرقة إلى أبعد الأماكن منها فتذكي فيها ناراً، وتثير في جوها أواراً، وتخرج أهلها عن أطوارهم، وتدفعهم إلى حب الحياة بعد الموت، والعزة بعد الذل، والاستقلال بعد الخضوع والإذعان.
وكان رشدي من هذه الثورة بمكان الفقيه الذي يعرف كيف يستخرج الحق من الشبه، ويرد إليه حظه من الوضوح الذي لا يدع للشك فيه سبيلا، ثم يدافع عنه بالحجة الساطعة والرهان المستقيم والعاطفة الصادقة الحارة.
وكان ثروت من هذه الثورة بمكان المدبر الماهر ذي الحيلة الواسعة والمدخل الخفي والمخرج اللطيف كلما تحرجت المواقف وتعقدت الأمور.
وكان عدلي من هذه الثورة بمكان العقل الهادئ الرزين الحكيم، الذي لا يقوم إلا على بصيرة، ولا يقبل إلا على ثقة، وبعد تفكير طويل، وروية متصلة، ولا يأتي من الأمر شيئا إلا في أناة ووقار وهدوء، قلما تظفر بمثلها عند الزعماء. . . ولو أن الثورة المصرية الشرقية فقدت واحداً من هؤلاء الأربعة لما كان لها شكلها الذي نعرفها به، ولا طبعت بهذا الطابع الذي يميزها من غيرها من الثورات.
كانت أمزجة هؤلاء الأئمة الأربعة عناصر تكونت منها هذه الثورة المصرية الشرقية. وقد اختلفوا واختصموا، وجاهد بعضهم بعضا جهادا عنيفا. ولكن مزاج الثورة المصرية كان في(20/3)
حاجة قوية إلى هذا الخصام والجهاد ليحيا ويقوى ويثبت للأحداث، ويبقى على رغم الخطوب. ثم أذن الله لهؤلاء المختلفين أن يعودوا إلى ما كانوا عليه من ائتلاف، ويثوبوا إلى ما كان بينهم من مودة وحب، ومن تعاون واتفاق، فصفا بعضهم لبعض، وسعى بعضهم إلى بعض، ورضى بعضهم عن بعض، ورضيت الأمة عنهم جميعا، ورضى الله عنهم فأثرهم برحمته واختارهم إلى جواره، يسعى بعضهم إلى أثر بعض إلى دار الخلود وقد أدى واجبه، ونهض بما كان ينبغي أن ينهض به من الحق. وكان سعد أسبقهم إلى الخلود، وكان عدلي آخرهم انتقالا إلى دار الخلود. ولقد تحدث الناس عن سعد ورشدي وثروت فأطالوا الحديث، وسيتحدثون، وستكون أحاديثهم أجل وأوضح، وأدل على عظمة هؤلاء النفر كلما بعد بيننا وبينهم العهد، ومضت على وفاتهم الأيام، ولكن الناس لم يتحدثوا بعد عن عدلي لأنه عاش إلى هذا العهد، فكانت حياته مانعة من الحديث فيه، ولأنه مات في هذا العهد فكانت المحن المقيمة صارفة عن إطالة الحديث فيه.
وليس الحديث عن عدلي سهلا ولا يسيرا، فأنت لا تكاد تعرض لخصاله حتى تعجبك كلها، وحتى تدعوك كلها إلى أن تحمده وتثني عليه. وإذا أنت حائر لا تدري ماذا تأخذ منها وماذا تدع، ولكن نواحي ثلاثا من حياة هذا الرجل تفرض نفسها على الكتاب والمفكرين فرضا. فإما أولاها فهي امتيازه الشخصي في حياته الخلقية، وفي ما كان بينه وبين الناس من صلة. فعدلي أقل الناس تعرضا للنقد من هذه الناحية: كان رضي الخلق، وكانت هذه الخصلة أظهر خصاله وأوضحها، ولكنها على ذلك لم تكن تسبق إلى الناس ولا تظهر نفسها لهم، ولا تطمعهم في صاحبها، وإنما كانت تحيط نفسها بسياج من الآنفة والترفع، يحسبه الناس ضرباً من الغطرسة، ولونا من الكبرياء، فيهابونه وينأون عنه، فإذا أتيح لهم أن يدنوا من رجل ويخلصوا إلى نفسه، لم يجدوا غطرسة ولا كبرياء، وإنما وجدوا أنفة وعزة وترفعا عن الابتذال. ووجدوا من وراء هذا كله نفسا صافية نقية، وقلبا طاهرا وفيا، وضميرا كريما حيا. وظهر هذا كله في معاشرة حلوة، وحديث عذب ولسان عفيف، وصلات ترفع الذين يدنون من عدلي إلى حيث هو، ولا تهبط بعدلي إلى حيث يكون المتصلون به والساعون إليه.
والناحية الثانية مذهبه السياسي. فقد كان عدلي كغيره من أصحابه مؤمنا بحق مصر في(20/4)
الاستقلال، حريصا على أن تظفر مصر بهذا الحق، لم يكن يتهم في ذلك أحد. وكان عدلي كأصحابه يرى أن المفاوضة مع الإنجليز قد تؤدي إلى الظفر بهذا الحق، وتنتهي بمصر إلى ما تريد. ولكن طريقه في تنفيذ مذهبه هذا وإخراجه إلى الحياة العملية هي التي تميزه من غيره، وهي التي تظهر طبيعته ومزاجه، كأوضح ما تكون الطبيعة والمزاج. فلم يكن عدلي صاحب قوة وعنف، ولم يكن عدلي قادرا على أن يوجد بينه وبين الشعب على اختلاف طبقاته هذه الصلة القوية التي تجعله مرآة للشعب من جهة، وملهماً للشعب من جهة أخرى. إنما كان عدلي رجلا يحب الشعب ويؤمن به، ويحرص على حقه دون أن يلهمه أو يستلهمه. كان يصدر عن عقله وتفكيره الهادئ الرزين، اكثر مما يصدر عن عواطفه الحارة وشعوره العنيف. وكان لا يحسن الحديث إلى الشعب، لأنه لم يكن يجد هذه الكلمات والجمل الساحرة التي تنفذ إلى قلوب الشعب. وكان كل ما يستطيع أن يرى ويسمع ويفكر، ثم يعمل تاركاً لغيره مالا يقدر عليه من إلهام الشعب واستلهامه. فلما ألف وزارته الأولى وأعلن برنامج هذه الوزارة متفقاً عليه مع الوفد، كان هذا البرنامج مظهرا واضحا قويا، لطبيعة هذا الرجل المستقيمة ومذهبه الصحيح في فهم حقوق الشعب وتقديرها. فأنظر إليه يحرص في هذا البرنامج حرصا شديدا على أمرين: الأول أن يستخلص لمصر حقوقها من الإنجليز بالمفاوضة، والثاني أن يعرض على الشعب المصري نتيجة المفاوضة لينظر فيها ويقرها، وأن يكون هذا الشعب ممثلا في جمعية وطنية لا تقف مهمتها عند إقرار المعاهدة وتنظيم العلاقة بين مصر والإنجليز، بل تتجاوز هذا إلى شيء عظيم الخطر حقاً وهو وضع الدستور، وتنظيم سلطة الشعب، وتنظيم العلاقة بين السلطة التشريعية وغيرها من السلطات التي يتكون منها سلطان الدولة؛ ومعنى ذلك أن عدلي كان يؤمن بأن الأمة وحدها مصدر السلطات، وبأنها ما دامت كذلك فهي التي يجب أن تضع الدستور وأن تعلنه لا أن تتلقاه. ومن يدري؟ لو أن الظروف واتت عدلي ومكنته من تنفيذ برنامجه لعل مصر أن تكون قادرة على أن تجتنب كثيرا من الأزمات الداخلية التي ألمت بها فجرت عليها شرا كثيرا.
ولست أدري لعل موضع الخطأ في برنامج عدلي رحمه الله أنه جعل دعوة الجمعية الوطنية نتيجة للمفاوضات لا مقدمة لها. فلما لم تنجح مفاوضته لم تدع الجمعية الوطنية،(20/5)
وتلقت مصر الدستور ولم تصدره. ولكن أكان عدلي قادرا حقا على أن يدعو الجمعية الوطنية قبل المفاوضة، وقبل أن يستخلص لمصر حريتها من الإنجليز؟ وماذا عسى أن تكون قيمة هذه الجمعية الوطنية التي تدعي وتعقد وتشرع الدستور وغير الدستور في ظل الحماية الأجنبية؟ وماذا يكون موقف هذه الجمعية الوطنية من الإنجليز؟ وماذا يكون موقف الإنجليز منها إن شجر بينها وبينهم خلاف: مهما يكن من شيء، فقد كان فهم عدلي لحقوق الشعب وتصويره لهذه الحقوق ملائمين أشد الملاءمة لأرقى المثل الدستورية العليا.
الناحية الثالثة: وفاء هذا الرجل العظيم لمذهبه في السياسة، ورأيه في حق الشعب، وثباته على هذا المذهب، وامتناعه أن يتحول عنه مع الظروف، فقد أخفق في مفاوضة الإنجليز واستقال وعجز عن أن يدعو الجمعية الوطنية، ولكنه قضى بقية حياته مؤمنا بأن المفاوضة هي أوضح السبل إلى الاستقلال، مؤمنا بأن سلطة الشعب هي القوام الشرعي الوحيد لكل حكومة، وهي العماد الشرعي الوحيد الذي يجب أن تعتمد عليه الحكومات فيما تأتى من الأمر في السياسة الداخلية أو الخارجية؛ ولم يكد يصدر الدستور حتى عرف عدلي كيف يرضي نفسه وضميره في السياسة، فتقدم إلى أمته في الانتخابات؛ فلما قضت عليه أذعن لقضائها ورضي به، لا يحمل لأمته غلا، ولا يضمر لها حقدا، ولا ينكر عليها أنها انصرفت عنه إلى غيره، ولم تمنحه ثقتها وهو على ذلك كله مؤمن أصدق الإيمان بأن هذا الدستور الذي صدر لا يفيد الذين اقسموا على الإخلاص له وحدهم، وإنما يقيد المصريين جميعا وهو من بينهم. ومن هنا تستطيع أن تفهم أن عدلي قد أبى كل الآباء بعد صدور الدستور أن يؤلف وزارة، أو يؤيد وزارة أو يشترك في وزارة لا تعتمد في صراحة وإخلاص على الدستور؛ ومن هنا نستطيع أن نفهم إسراعه إلى الائتلاف مع سعد حين دعي إليه، وإخلاصه في تأييد هذا الائتلاف، وقبوله رياسة الوزارة في هذا الائتلاف، لأن هذا الائتلاف كان قوامه إرجاع الحياة الدستورية، وكان اعتماده على الدستور، وكان بقاؤه رهيناً ببقاء الدستور؛ ومن هنا تستطيع أن تفهم كيف اعتزل السياسة وانصرف عنها حين وقف الدستور، وكيف أسرع إلى قبول الوزارة حين عرضت عليه ليرد الدستور. ثم من هنا تفهم أيضاً كيف أنكر ما كان من تغيير الدستور القديم، وكيف أسرع إلى الاحتجاج على هذا التغيير، وكيف أسرع إلى التعاون مع المؤتمر الوطني الذي أنكر ما حدث من تغيير،(20/6)
وألح في أن ترد الأمور إلى نصابها، كيف أنفق بقية حياته عزيزا كريما أبيا يرقب الحوادث وينتهز الفرص وينتظر أن يدعوه الواجب الوطني فيستجيب له. ولكن دعوة الموت سبقت دعوة الواجب الوطني، فأسرع عدلي إلى حيث أراد له من هذه الحياة الخالدة. حياة الكرامة والنعيم. وتريد الأقدار أن يموت عدلي حيث مات صديقه الحميم ثروت في باريس بعيدا عن الوطن، وتريد الأقدار أن يموت عدلي كما مات صديقه الحميم ثروت ومصر في أزمة سياسية عنيفة تعتمد عليه وتعقد به أوسع الآمال. فإذا هي تمتحن فيه وتحرم معونته، ثم تريد الأقدار أن ينتقل عدلي إلى وطنه في نفس السفينة التي نقل فيها ثروت، وهي (البروفيدنس)! أفترى الأقدار قد رعت حرمة هذه المودة الصادقة الخالصة التي كانت بين هذين الرجلين العظيمين، فأرادت أن تلائم بينهما في الموت كما لاءمت بينهما في الحياة؟
طه حسين(20/7)
النقد والتقريظ
للأستاذ أحمد أمين
أصل كلمة النقد من نقد الدراهم وهو امتحانها ومعرفة الجيد والرديء منها، فهي بهذا المعنى لا تقتصر على ذكر العيوب والتشهير بها، بل تدل على استعراض الشيء والوقوف على محاسنه ومساويه.
وقد تستعمل في معنى الذم والعيب خاصة، ومنه حديث أبي الدرداء: (أن نقدت الناس نقدوك، وأن تركتهم تركوك) فاستعمل الكلمة بمعنى العيب والذم.
وهي بهذا المعنى ضد التقريظ، فالتقريظ مدح الشيء والثناء عليه، مأخوذ من قرظ الجلد دبغه بالقرظ، وقرظه بالغ في دباغه. وسموا المدح تقريظاً (لأن المقرظ يحسن ويزين صاحبه كما يحسن القارظ الأديم) وبهذا المعنى يستعملها الكتاب المحدثون فيعنون بالنقد ذكر المساوئ وبالتقريظ ذكر المحاسن.
ولست أعرض في مقالي هذا للكلمتين من الناحية الأدبية، فلا أعرض لمذاهب النقد الأدبي ومقاييسه، كما لا أعرض لأساليب التقريظ وألوانها، وإنما أعرض لظاهرة نفسية تلفت النظر: هي أن الناس على اختلاف درجاتهم في البداوة والحضارة، والرقي والانحطاط، مولعون بالنقد أكثر من ولوعهم بالتقريظ، ومولعون بالبحث عن العيوب وإظهارها والمبالغة في تصويرها اكثر من ولوعهم بالبحث عن المحاسن وإظهارها وتصويرها، وهم في ذلك بين اثنين: أما ممثل على المسرح يمثل دور الباحث عن العيوب المتجسس على السقطات، يستبشر كلما عثر على خفايا الزلات، ويقيس نجاحه بمقدار ما كشف من أخطاء، وأما مشاهد لهذا المنظر، أكثر ما يهتم له العيب الفاضح والسقطة الشنيعة، يطيل التصفيق لكاشف الزلل ويمنح الإعجاب من أصاب من آخر مقتلا.
ومظاهر ذلك في الحياة كثيرة، فلا تكاد تجد عظيما بأجماع، ولكنك كثيرا ما تجد أصاغر بإجماع، لأن النفوس ترتاح لمنظر الحقير إذ خرج من ميدان المنافسة، ونزل عن مستوى المقارنة، ويضنيها العظيم فتتلمس وجوه النقص فيه، وتخلقها إن لم تكن، وتبالغ فيها إن كانت، لأن العظيم يكلفها العناء في إدراك شأوه وبلوغ منزلته.
ومن مظاهر ذلك أن مجلات عديدة في العالم كله تعيش على النقد، وليس (فيما أعلم)(20/8)
مجلات تعيش على التقريظ، وقد أدركت هذه المجلات إدراكا صحيحاً هذه الظاهرة النفسية، ورأت أن رواجها يكون أتم كلما ارتفعت نغمة هجوها، وكلما كان نقدها أقذع، وسهامها أنفذ، والجرائد في العالم تبذل المدح بالحبة، والنقد بالقنطار، ومن آية ذلك أن الناس في كل أمة يقدرون (غالباً) جرائد المعارضة أكثر من قدرهم جرائد التأييد، فإذا تغيرت الحكومات وأصبحت جرائد المعارضة بالأمس جرائد تأييد اليوم، نزلت قيمتها من ناحية أنها لم تعد تروي رغبات الناس وشهواتهم.
ثم، مالنقد الأدبي؟ أليس هو الغالب إرضاء لعاطفة البحث عن الغلط والتشهير به؟ إذا مدح النقاد فبحذر وقدر أكثر مدحهم (طعم) يستدرجون به القراء لإقناعهم بأنهم عدول في تقديرهم، منزهون في ذمهم ومدحهم، حتى إذا اطمأن لهم القارئ بالغوا في النقد وأسرفوا في اللوم، واكثر الناشئين من الأدباء يتطلبون الشهرة من طريق مهاجمة النابغين والتعرض لهم، والتسميع بهم، حتى إذا تصدوا للرد عليهم رفعوا من شأنهم إذ جعلوهم في منزلتهم، وقديماً حكى لنا (بشار بن برد) أنه (وهو ناشئ) هجا جريراً فأعرض عنه واستصغره، ولو أجابه لكان كما يقول أشعر الناس. قد يكره الناس الناقد الجريء، ولكنهم يهابونه ويلتفتون إليه ويشجعونه على أن يبني نفسه من أنقاض ما هدم من غيره.
ومن اكبر مظاهر هذه الظاهرة ارتياح الناس للهازئين الساخرين، وما يصدر منهم من هزؤ وسخرية، على شرط ألا يكونوا هم موضع الهزؤ والسخرية، فأوسع أبواب الظرف والكياسة، وأشد ما يستخرج الضحك والإمعان فيه ما لذع به الناس في أعراضهم وأخلاقهم وملكاتهم، والذي يعدّه الناس لطيف الروح خفيف الظل، بارع الظرف، هو من يومئ الإيماءة الفاتكة ويرشح لسانه باللفظ يقتل به البريء الغافل، ويضحك به اللاهي الماجن.
وقد تقام حفلات التكريم للإشادة بصفات عظيم، أو التنويه بما قام به من عمل جليل، ولكن أكثرها حفلات تأبين، تقام بعد أن اختفى المحتفل به عن المسرح وغاب عن الآنظار، أو بعد أن أعجزته السن وخرج من ميدان العمل والمنافسة، أو هي حفلات تجارية أقيمت لمنفعة المحتفلين لا المحتفل بهم. الحق أن هذه العاطفة، عاطفة البحث عن الخطأ وإذاعته والولوع بالنقد أكثر من الولوع بالتقريظ عاطفة تشارك الإنسان في جميع أدواره.
وتعليلها (على ما يظهر) يرجع إلى غريزة الأثرة وحب النفس، كأن الإنسان يرى أن القول(20/9)
بعيوب الناس يتضمن القول بتفوقه، والتشهير بأغلاطهم إقرار سلبي بنبوغه، والعمل على تحقيرهم قد ينتج مع الزمن انفراده بالعظمة، والسخرية منهم تستتبع الاعتراف بجلاله وحده.
ولكن المدنية والحضارة، والرقي العقلي والخلقي، تهذب من هذه العاطفة، كما تهذب من سائر العواطف، فالناقد المهذب يكتفي بالتلميح دون التصريح، وبالإشارة دون التجريح، يقول ما في نفسه ولكن يتخير الألفاظ ويتخير المواقف، ويترفع عن ألفاظ الغوغاء وأساليبهم، والمقارنة بين الجرائد والمجلات وأساليب النقد في الأمم المختلفة تؤيد هذا كل التأييد.
ولو سار الأمر على المعقول لخف كثير مما يصدر من لوم ونقد، لأن أساس اللوم إمكان المسئولية، فإذا لم تكن فلا لوم، فلسنا نلوم المرضى إن لم يأتوا بأعمال الاصحاء، ولا نلوم البدوي كما نلوم الحضري، ولا نلوم الجاهل بما نلوم به العالم، ولا نلوم الطفل في المدارس الابتدائية إذا لم يحل معادلة جبرية أو نظرية هندسية.
إنما نلوم الإنسان عندما يكون في الإمكان أن يفعل خيرا مما كان، ولو قدر اللائمون تقديرا حقا ما يحيط بالملوم من حالة عقلية وجسمية وبيئة اجتماعية ومن عوامل حفية معقدة يصدر عنها العمل لخففوا من غلوائهم، ولطفوا من لومهم، ولعلموا أن استحقاق اللوم نسبي يرتبط بالسن وبدرجة الثقافة والمدنية وحالة الفرد في أمته وموقف أمته في العالم.
ولو سار الناقد على المعقول، لوقف موقف المصلح لا موقف الجاسوس، إن الجاسوس يهمه أن يرى الخطأ ليبرهن على كفايته، ويسره أن يرى العيب ليقبض على فاعله، وكلما أوغل في استكشاف العيب الدفين، وتعمق في إظهار جريمة مستورة، كان أدل على قدرته ونبوغه، ويأسف إن لم يكن عيب. كأنه يشعر شعوراً باطنياً أنه إرهاص بأن لا حاجة إليه، والمصلح يستكشف العيب لا ليشهر به، ولكن ليعالجه، وأقصى أمانيه ألا يكون عيب، وإذا كان فأن يداوى، ويعتقد أن مهمته تتم، مع السرور، يوم يزول المرض ويتلاشى النقص، وأنه بنقده ولومه إنما يصف دواء يستأصل الداء، ويأتي عليه.
أسوأ ما نرى أن يكون الناقد كالفرس الجموح ينال من الناس بهوجه وخبطه، أو أن يقف في نقده موقف الغر يداعب بالنار، أو الطفل يلعب بالسكين.(20/10)
المعالي. . .
للدكتور محمد عوض محمد
الآن وقد بلغت ربوع الألب أيها الصديق!، فما أجدرك أن تلقي عصاك حينا، ثم تنعم النظر فيما حولك من خلق عجيب، ومن روعة آخذة بالألباب. . . . في هذا الجزء الصغير الجليل من العالم أرادت الأرض أن تسمو وتعلو. . أتراها كانت تريد أن تبلغ السماوات، ثم لم تلبث أن رأت هذا السمو قد أبلغها الزمهرير المهلك القارس، فجمد في صدرها الأمل والطموح، واكتفت من الارتقاء بشيء لعلها تراه قليلا، ونراه نحن جليلا؟. وأيا كان ذلك السر الغامض الذي جاش به صدر الأرض، وأياً كان مطمحها البعيد أو القريب، فحسبي الآن وحسبك ما نتأمله فيها من حسن وما ننعم به من جمال.
في هذه البقعة المباركة رفعت الأرض مناكبها، وأمعنت في الارتفاع، وصعدت أعلامها في الهواء وأسرفت في الصعود. واصطدمت السحب بهذه الأطواد الشامخة فسالت السحب غيثا مدراراً، وانحدر الغيث على جوانبها جداول وأنهارا. ثم اجتمع الماء من كل ناحية في هذه البطائح المطمئنة، ولم يزل يجتمع حتى استحال إلى هذه البحيرات البديعة، وقد نزلت اليوم على ضفاف واحدة منها. فراعك حسنها الهائل، وفتنتك عيونها الساحرة، واستهواك قوامها الرشيق، وخدها الأسيل. . . ولقد بهرك منها بنوع خاص هذا الجمال المتجدد في كل لحظة، إذ تبدو لك الصبح في لون، والأصيل في لون، وتبدل في كل آونة ثوبا. . . أرأيت يا صديقي، كيف حرت في أمرك وأمرها، فما تدري أي ألوانها أحب إلى قلبك، وأي أشكالها أشد امتلاكا لعقلك؟
أمنظرها وقت الشروق، وهي هادئة وادعة، وقد انطبعت في صفحتها البلورية الملساء صورة مبهمة قاتمة للجبال الشاهقة التي تحيط بها، وقد حالت الجبال دون وصول أشعة الشمس. فلم ينفذ إلى البحيرة من نورها سوى ضياء هادئ رقيق، يبدي لك من الكون ما حسن، ويخفى منه ما ليس بالحسن. ولولا أني أخشاك يا صديقي لقلت لك أن البحيرة في تلك اللحظة تشبه الحسناء حين تستيقظ من النعاس، ولكني أحسبك لا تعبأ بمثل هذا التشبيه. . .
أم منظرها وقت الظهيرة، حين تظلها سماء صافية زرقاء، وتبدو الجبال من حولها. وقد(20/12)
زهت بثوبها السندسي الأخضر. . فبدت لك البحيرة في رداء عجيب: في مزيج من فيروز السماء ومن زمرد المروج الخضراء؟
أم منظرها وقد مالت الشمس للمغيب، وقد اشتمل الكون برداء مصفر حزين، وامتدت الظلال وأمعنت في الامتداد؛ وآوت الطير إلى وكورها وخففت من غلوائها. ولاحت لك البحيرة وقد تمثل فيها كل هذا الهدوء الحزين، وعلى محياها ذلك الشحوب الفاتن. في هذه الساعة القصيرة تتبدل تلك الألوان والشكول بسرعة هائلة، فلا تكاد العين أن تقع على منظر حتى يحول ويتغير.
قل لي أيها الصديق! أما استهواك منظر هذه الأطوار التي أحدقت بالبحيرة من كل جانب، وقد اختفى تحت الماء منها شطر وحلق في السماء شطر. فأما شطرها البادي للعيون فقد اكتسى بغطاء محكم من النجم والشجر؛ وأما شطرها الذي غمره ماء البحيرة فانه عار، ومن عناية الأقدار أن غمرته المياه فسترته عن العيون.
ولكن حدثني يا صاح أي هذين الشطرين قد شاقك أمره، فتاقت نفسك إلى إدراك غامضة واجتلاء ما خفي منه؟ هل خطر لك أن تغوص إلى أعماق هذه البحيرة حتى تبلغ أقصى أصول تلك الجبال، فتطلع على ما خفي من سرها، وما أبهم من أمرها؟ أم شاقك منظر هذه القمم الصاعدة في السماء فأردت أن تبلغ ذراها؟ ني لا أظنك تحاول الأولى؛ فقليل من الناس من تستهويه الأعماق البعيدة، فيحاول أن يغوص إليها. ونحن ذوو أحلام ضحلة، لا نجد في البحث العميق إلا عناء ونصبا. وسنبقى مدى الدهر قانعين بالظواهر تخدعنا وتقنعنا.
أما هذه القمم العالية، فأنك تراها أمامك كل حين، تبصرها عندما تستيقظ وتشرف عليك من سمائها النهار كله، وتبدو لعينيك في الليل البهيم مظلمة قاتمة، غامضة رهيبة، لكنها على هذا كله جذابة أبدا. . . . وأحسبك قد استهواك أمرها، وحدثتك نفسك بالصعود إليها. وفي كل نفس دافع ملح يدفعها أبدا إلى المعالي، ويجشمها في سبيلها الصعاب.
وكأني بك، أيها الصديق، وقد جلست فوق صخرة مشرفة على البحيرة وجعلت تتأمل هذه القمم، فتحس شوقا قد تملك قلبك، وضراما متوقدا يستثير همتك إلى صعود هذه الجبال، وبلوغ تلك المعالي. . . أنك تريد أن تسمو حيث يحلق العقاب، ويسبح السحاب، حيث(20/13)
تنشق ذلك الهواء النقي الزكي، الذي تنشقه البزاة والنسور؛ لا هذا الهواء الأسفل الذي امتلأ بالأدران والأكدار، حيث تنظر من تلك القمم مطلا على هذه الأجساد التي تتحرك على أديم الثرى، فتراها من ذلك الارتفاع الشاهق على حقيقتها، فإذا هي في عينيك دود يزحف، أو حشرات تحبو.
إن بلوغ تلك القمم لخليق حقاً بأن يكون مطمح العين، ومنية النفس. ولا حرج عليك إن كنت قد شغفك حب تلك المعالي وأهمك التفكير فيها. فطوراً يحملك الأمل على جناحيه، ويحلق بك في جو السماء، فتحُال المرام قريبا، وأنه منك قاب قوسين؛ وطورا يثوب إليك الرشد، فتفكر وتقدر، وتقارن بين همتك وقدرتك. . فلا تزال بين ارتفاع وهبوط، وإقدام وإحجام.
ثم كأني أراك بعد ذلك وقد قطبت جبينك، وعضضت على نواجذك؟ فهل صح عزمك على أن تجشم النفس هذا العناء الثقيل وهذا الجهاد الطويل؟ لئن كانت تلك عزمتك التي عزمت، فهل تعلم أي الطرق تسلك كي تبلغ مأربك؟
إن لهذه القمم التي تراها حديثاً شيقاً طليا، سأحاول الآن أن أسر إليك خبره. فلعلك واجد فيه عونا على النجاح أو سلوانا عن الإخفاق. . . .
إن الناس أيها الصديق يبلغون تلك المعالي من طرق ثلاثة، ليس لها رابع: فأما الطريق الأول فسبيل معبد ممهد، تحف به الرياحين، وتجري حوله الآنهار، وقد نبت فيه العشب الندي، وأحاط به الثمر الجني، وأعجب ما في هذا الطريق أن سالكه لا يكاد أن يسير فيه خطوات قلائل، حتى يبلغ مأربه، كأنما الغاية تسعى إليه ولا يسعى إليها، أو كأن الطريق يحمله حملا يبلغه مرامه. فما هو إلا أن يغمض طرفه ثم يفتحه، فإذا الأماني قد تحققت، والمعالي قد دنت ودانت.
وأظنك تعلم يا صديقي أن ليس لأمثالك وأمثالي أن يسلكوا هذا الطريق؛ وأحسبك تعلم أنه مما اختص به أولئك المجدودون، الذين ولدوا في حجر النعيم، ورعتهم نجوم السعد، وحرستهم عين المشتري، وهزت أرجوحتهم يد الزهرة: وفي وسعهم إن شاءوا أن ينزلوا إلى القمة نزولا، حين يحاول الناس أن يصعدوا إليها صعودا. ما من سبيل إلى مجاراتهم أو اللحاق بهم، فلندعهم ولننظر هل لدينا من طريق سواه.(20/14)
أما الطريق الثاني فلعله أعجب من الأول وأغرب، فهو طريق خفي، شديد الخفاء. غامض كل الغموض، لا ترى له بدءا ولا تعلم له اتجاها. . ملتو غاية الالتواء، معوج شديد الاعوجاج وسالكوه قوم قد رزقوا البراعة والمهارة. فهم تارة يثبون ويقفزون، وتارة يزحفون أو يحبون ويركعون ويسجدون، وطورا يسلكون طرقا مظلمة حالكة، وأحياناً يخوضون في الرجس والدنس. لا تثنيهم رداءة الطريق ولا وعورته، ولا اعوجاجه والتواؤه، وما أنت يا صاح من هذه الشرذمة التي تصل إلى القمة من أقذر السبل. فما أجدرك أن تدع هذا الطريق وتبحث عن سواه.
لم يبق غير سبيل واحد لا مندوحة لك عنه: وذاك هو الطريق الذي يدعوه أهل تلك النواحي (طريق البغال): أسم ستنبو عنه أذنك، وتشمئز منه نفسك. وسترفع رأسك إلى السماء كبرا وأنفة أن تنزل إلى هذا الدرك. أو تنحط إلى هذا المستوى. . . لكن رويدا فليس في الأمر نزول ولا انحطاط، وإنما هو صعود وارتفاع وارتقاء، وقد ينتهي بك إلى القمة التي تنشدها. فلتخفف إذن من غلوائك، واذكر انهم يدعون هذا الطريق بالفرنسية ويسميه الإنجليز - والألمان وأظنك بعد أن تردد هذا الاسم في هذه اللغات جميعا. سيصبح في أذنيك عذبا لذيذا سائغا.
ولئن كان في الاسم ما ينفر السمع، فليس في المسمى ما يبعث على النفور. ولعمري (بل ولعمرك أنت أيضا) انه لأشرف السبل وأمثلها، وأصفاها وأطهرها، وان كان طويلا مضنيا مجهداً. فإذا كنت تريد المضي فيما عزمت عليه، وتحاول الصعود إلى تلك المعالي، فمحال على مثلك أن يسلك الطريق الأول، وأنت أعف قلبا وأنبل نفسا من أن تسلك الطريق الثاني. إذن لا رأى إلا أن تسلك ثالث الطرق، أو تنثني عن مرامك، وتقنع بالإقامة في السفح، مكتفياً من القمة بالتطلع إليها والتحديق فيها. . .
طريق البغال هذا سكة اختطوها على جوانب الجبال، كي يستطيع الرعاة والزراع أن يسيروا فيها ببغالهم وماشيتهم، وكثيرا ما تصعد فيها البغال منفردة، وهي تحمل للناس أثقالهم من موضع إلى موضع. وقد علمها إلف هذا الطريق كيف تسلكه من غير مرشد يرشدها، أو سائق يسوقها.
في هذا الطريق إذن فليسر من ينشد القمة، وأنا زعيم أنه إذا أوتي القوة والجلد، ورزق(20/15)
الجد والدأب، واستطاع أن يصبر على ما يلقاه من عنت وجهد، وأن يثبت للشدائد التي تنتابه، وللعقبات التي تعترضه، ولم يدع لليأس سبيلا إلى قلبه، وأمدته العناية بشيء قليل من المساعدة، فانه واصل إلى الغاية مهما طال به المسير.
إن هذا الطريق واضح بين المنهج، من سار فيه فلن يضل السبيل. . لكنه على وضوحه وبيانه، ليس سهلاً هيناً، ومتى كان الطريق إلى القمة سهلا يا صديقي؟ فالسائر في هذا الطريق سيجد فيه غلظة وخشونة، فان الأيدي لم تتناوله بالرصف والتمهيد، وحصباؤه خشنة مدببة، لا ترتاح لمسها الأقدام، وقد يصادفك فيه الحين بعد الحين، صخر ناتئ أو شجرة مائلة تعترضك، فلابد لك أن تطأطئ الرأس قليلاً، أو تدور من حول تلك العقبات، أو تحتمل الجرح الذي يصيبك حين يصدمك الصخر الناتئ، أو الجذع المائل، وكثيراً ما يحف بك الشوك ذات اليمين وذات الشمال، فيخدش ساقيك خدشاً ربما أسال منهما الدم قليلا أو كثيرا. . ولا غرابة في هذا كله مادمت تسلك هذا الطريق: طريق البغال!
ولقد تقطع في سيرك الأميال العديدة. فلا تصيب فيه قوتاً ولا شراباً، فتجتزئ بالقليل من خشن الزاد الذي احتقبته، وتصبر على الظمأ والجوع، وفي قلبك من الجلد والإيمان ما يعين على كل هذا الحرمان. . وقد يسعدك الجد بعد طول السير والعناء فتصادف وسط الصخور نبعاً ضئيلاً هزيلاً، فتهش له وتبش وتراه كأنه دجلة أو الفرات، أو الكوثر المقدس. فتبسط إليه كفيك، تتخذ منهما قدحاً تملؤه كي تبرد به لهاتك. ثم ترى أن هذه الوسيلة لا تغني فتنحني نحو الينبوع، ثم لا تزال تنحني حتى ترتمي على يديك ورجليك، وتمد نحو الماء فماً قد جمده طول الظمأ، فلا تزال تعب الماء عبا، وتصبه في جوفك صبا، وتشرب وأنت على أربع حتى تروي غلتك، ولا تسل عن منظرك البديع في تلك اللحظة، ولكن أي غرابة في هذا وأنت تمشي في طريق البغال؟
وقد تكون الطريق في بعض نواحيها سهلة ممهدة يحف بها شجر عال فيه للطير وكور. وكأني بك وقد أطلت عليك من فرع غصينها المياد قبرة صغيرة حديثة عهد بالعالم، ولم تشاهد قبلك إنسانا يمشي على رجلين، فتدهش لرؤية هذا الكائن الغريب في طريق ما رأت به من قبل إلا الدواب، فتسرع إلى أمها وتهيب بها: (أماه! إن بالطريق بغلا جديداً ما رأيت من قبل له شبيها، يمشي على رجليه الخلفيتين، رافعاً رأسه إلى أعلى!. .) فعند ذلك تقول(20/16)
لها أمها العجوز: (ليس هذا يا ابنتي بغلا بل هو من أبناء آدم، فان أبصرته فابتعدي عنه، واختفى عن عينيه، فانه ليس بالمأمون جانبه.).
هذا بعض ما يقال عنك أيها الصديق وأنت بذلك الطريق. ولو كشف عنك الغطاء فأفهمت ما تتحدث به عنك الأرانب في جحورها والوزغ بين صخورها. إذن لتبسمت ضاحكا من قولها كما فعل سليمان، ولأدركت أن مسيرك هذا لا يخلو من عبث ولهو وتسلية.
ولكن حذار يا صديقي مما قد تلقاه من حشرات فتاكة. فان بالطريق أفاعي وعقارب، قد فاضت صدورها حقداً وضغينة، وهي تعشق الأذى حبا في الأذى , فان مسك منها ضر ذهبت جهودك كلها عبثا، أو تخلفت بالطريق زمنا طويلا. فامش إذن في تؤدة واحتراس، لعلك تسلم من حممها وسمومها.
والآن قد وصفت لك الطريق إلى القمة فسر فيه على اليمن والبركة. . . بيد أني لا أريد أن أكتمك أن سالك هذا السبيل قد لا يبلغ من مرامه أو ينال من بغيته إلا قدرا زهيدا. فقد يدركه الإعياء حين يعجز الجسد عن مراد الروح، وتخور القوى والأمل في عنفوانه. أو قد تعترضه عقبة كؤود أو هوة ليس إلى اجتيازها سبيل. أو قد تناله تلك الحشرات الفتاكة بسوء، فإذا أصابك هذا (بعضه أو كله) فلا تذهب نفسك حسرات على ما لم تبلغ ولم تنل، وحسبك أنك لم تزل برغم الإخفاق موفور الشرف عزيز الجانب، لم ترتكب في سبيل تلك القمة إثما ولم يدنس لك ثوب. . .
وإلا فهل تؤثر البقاء في السفح؟(20/17)
الديمقراطية
أكثريات وأقليات وتشريع
إن حكم الأكثريات ضرورة لازمة لحكم الجماعات. وأنت ترى الأحكام والشرائع مادامت ترجع في إبرامها إلى إجازة عدد من الناس يخضعون لقانون أساسي، فلا مناص إذن من أن تتقيد الحكومة برأي الأكثرية وتعنو له. ولقد أيدت المحاكم العليا هذا المبدأ حينا بعد حين، وخلال طور بعد طور، على مدى الانقلابات السياسية، وأيده المؤلفون في كثير مما أبرزوا من المؤلفات التي تناولت البحث في النظريات السياسية، كما وضع موضع التنفيذ الفعلي في نظام الحكومات في كثير من دول الأرض. ولا جرم أن حكم الأكثرية الذي يمثل رأي الجماعات له الغلبة حتى الآن في نظام الحكومات الحديثة.
أما في القرون الوسطى فان القول بمبدأ الأكثرية لم يكن أكثر من حيلة لجأ إليها الحكام ليتقوا بها الصراع بين فريقي الشعب كلما بدرت بوادره، بأن يظهروا للناس من طريق الجلاد الفكري مقدار ما يترتب على الصراع البدني في النتائج. وعلى الضد من ذلك ذهب الديمقراطيون في الأعصر الحديثة. فأنهم بعدوا عن التحايل على الناس بالأفكار والنظريات، فأصبح حكم الأكثرية عند بعض المؤلفين عبارة عن (مبدأ عام ثابت له من المسوغات الأدبية والخلقية ما يكسبه مناعة قصوى) كما يقول هنبرج في كتابه (نظريات حكم الأكثرية) ويؤيد الأستاذ (مكيفر) هذا الرأي ولكن بأسلوب آخر فيقول أنه (يجب علينا أن نعتبر أن كل الحكومات التي لا تتجلى في كيانها إرادة الأكثرية صورا بتراء إذا قيست بأنظمة الحكومات الرشيدة) وهذا الرأي يتضمن ضرورة فكرة أن الإرادة العامة هي لدى الواقع إرادة الأكثرية، لا إرادة المجموع كله. ويقول مؤلف ثالث هو الأستاذ (هرنشو) في كتابه (الديمقراطية في مفترق الطرق)، (أن عقيدة الرجل الديمقراطي لابد من أن تحمله على الاعتقاد بأن أكثرية الشعب لا محالة واقعة على الحق يوما مهما طال عليها عهد الخرق والضلال، وإنها لابد من أن تعمل جاهدة يوماً ما على أن تقيم العدل وتضع الحق في نصبا). على ان الأستاذ (هرنشو) مسبوق بهذا الرأي. فان البابا (إنوسان الرابع) في (القرن الثالث عشر الميلادي) قد سبقه إلى القول (بأن استكشاف الحق من طريق الكثرة يكون أهون وأقوم.)(20/18)
إن الحكم من طريق الأكثرية ليس أكثر من نتيجة منطقية، مقدمتها القول بوجوب المساواة الديمقراطية بين كل الناس. ذلك لأن حكم الأكثرية مضمونه أنه مدام لكل الناس حقوق معلقة في عنق الحكومة، فان (أصواتهم) يجب أن (تعد) لا أن (توزن). وهذه النظرية تختلف تمام الاختلاف عما كان يفهم من معنى الحكومة في العصور الوسطى وفي الدول غير الديمقراطية. فان القاعدة في القرون الوسطى كانت تعطي لمجموع الرعايا المتمتعين بكل الحقوق السياسية حق التصويت العام في المسائل ذات الشأن التي تتعلق بسلامة الدولة. وهذا يتضمن حقيقة تختلف عن مفهوم حكم الأكثرية كل الاختلاف. فان (عدد الأصوات) كان يقترن دائماً بفكرة (الصفة) مقيسة بقيمة الشخص (صاحب الصوت) ومنزلته في المجتمع وكان (مرسيليو البادوي، نسبة إلى مدينة بادوا أقوى من دافع عن هذا الرأي حجة في العصور الوسطى حتى قال الأستاذ (مكلوين) في كتابه (تطور الفكرة السياسية في الغرب) أن (مرسيليو) لم يفكر في حقيقة الفردية الحديثة لتي تنطوي على فكرة تغلب الأكثرية، بل وعى في عقله دائماً فكرة (الشعبية) التي كانت تعطى (للصفة) من القيمة ما (للعدد).
أما النظرية الديمقراطية الحديثة فقائمة على فكرة (بنتام) في أن كل إنسان انما يعمل على الترويج لمصالحه الذاتية، وأنه عندما تتفق أكثرية ما على سياسة معينة، فمن الواجب أن تعتبر هذه السياسة ممثلة غاية ما تنتهي إليه مصلحة العدد الأعظم من الناس. وإلى هذه الغاية ينبغي أن يتجه التشريع. لأنه في ظل هذا النظام تنكمش تلك الميول الشيطانية التي تحاول أن تغلب مصالح (العدد الأقل) من أفراد الجمعية على مصالح (الكل الاجتماعي) وتضعف تأثيرها إلى أدنى حد ممكن.
على أن هذه النظرية كثيراً ما هوجمت ونقدت. فان (إدمونديرك) الخطيب السياسي المعروف، كثيرا ما تكلم ضد ما سماه (استبداد الأكثريات) فقال: (ان رجحان الأكثرية من حيث العدد لا يتضمن مطلقا رجحانها من حيث الكفاية أو الميل إلى الخير، وحتى لا يتضمن رجحانها من حيث القوة والبطش. والحكمة من نصيب الأقليات إطلاقا، كما أن من نصيبها الإخلاص والاستقامة تغليبا. في حين ان اليأس والسلطان لا يعوزانها في أكثر الحالات) وفي هذا تأييد لقول سير (هنري مين) اذ قضى بحكم قاطع (في أن الأقليات،(20/19)
التي كانت في بعض الاحيان أقليات ضئيلة، هو الذي كون لإنجلترا صيتها القصي وسلطانها العريض).
ولاحظ الكاتب المعروف (جيمس مارسون): (أنه في كل الحالات التي تربط فيها المصالح المشتركة والشهوات بين الأكثريات تكون حقوق الأقليات في خطر محقق) وقضى بأن الدواء الوحيد هو أن يوسع أفق الحكم وتقسم الجمعية إلى عدد عظيم من الأحزاب والفرق التي تمثل كل منها ناحية من نواحي المصلحة، كي يتعذر بذلك نشوء ما يسمى (إرادة الأكثرية) بحال من الأحوال. ولقد حاول أحد حكام المديريات في الولايات المتحدة أن يطبق هذه النظرية ليتقي بذلك شر تحكم الأكثريات، فاتخذ للتمثيل النيابي قاعدة (الملكية) وقاعدة العدد معا، ولقد نجحت هذه (الحيلة) السياسية بعض الشيء في التوفيق بين رغبة البيض في الحكم المطلق وتمثيل العبيد في مجالس النيابة.
ولكن العقدة الحقيقية لم تحل بهذا وحده. فقد فكر حاكم آخر هو الحاكم (كانون) المعروف بمؤلفاته القيمة في أن يحمي الجمعية لا من استبداد الأكثرية العددية لا غير، بل في حمايتها من استبداد (الأقليات المنظمة) أيضاً قال (كلما كانت المملكة أوسع نطاقا وأوفر في النسمات عددا، وكلما اختلفت حالات الرعية وتنافرت الأغراض والأهواء، كانت الصعوبة التي تحسها الحكومة في معاملة رعايها على مقتضى ما تتطلب فكرة المساواة الديمقراطية أعظم وأعقد، وأصبح من الهين على فريق معين من الجمعية أن يستبد بفريق آخر ويعبث بمصالحه ويسلبه حقوقه). وعلى هذا ينبغي أن يقوم أساس التمثيل النيابي على مراعاة (العدد) ومراعاة المصالح. وسمى الأكثرية العددية (الأغلبية المطلقة) وسمى الأكثرية المصلحية (الأغلبية المشتركة) أو بالأحرى (أغلبية التشارك).
على أن لأغلبية التشارك ميزة على الأغلبية المطلقة، أو بالأحرى الأكثرية العددية، تنحصر في أنها تقلل من متاعب الحكومات بالإقلال من عدد الذين يبرمون المشكلات العامة. ولكن لا يخفى مع هذا أن اختيار الوسيلة التي يجب أن تتبع في تحديد نسبة معينة للتمثيل النيابي، وفي وقاية الحكومة من طغيان المصالح الخاصة، ثم وقاية الأقليات في الوقت نفسه، لمشكلة من أعقد المشاكل التي تواجهها الجمعيات الديمقراطية في العصر الحديث.(20/20)
ففي ظل النظام الحاضر في الولايات المتحدة مثلا، يقوم
التمثيل النيابي على قاعدة الأكثرية العددية. وهذا على ما
يظهر من طبيعة الأشياء أدنى صور الحكم النيابي إلى
السهولة، وأبعدها عن التعقيد، بل نقول أنه يلوح في الظاهر
أنه أقرب أشكال الحكم إلى تحقيق ما تتطلب الديمقراطية من
المساواة. ولكن على الرغم من كل ما يلوح في هذه النظرية
من البساطة والغرارة، فإنها غير مطبقة في الواقع. فان
اختلاف الولايات التي تتمتع بالحكم التمثيلي من حيث السعة،
كما ان النسبة التمثيلية التي تحتم الظروف أن يجري عليها
انتخاب مجالس التشريع، كلاهما يجعل مناقضة هذه القاعدة
والفكاك منها أمراً محتوما. ففي احدى وثلاثين ولاية من
الولايات المتحدة تقع على شرائط نيابية تجعل حكم الأكثرية
العددية مستحيلاً. خذ مثلا لذلك جزيرة رود فانك تجد ان كل
مدينة لا يحق لها أن ترسل الا نائبا واحدا ليمثلها في مجلس
سناتو الولاية. وعلى هذا تجد أن مدينتين مثل (بروفدنس)
وتعدادها. . . 250 (وبوتكت) وتعدادها. . . 64 نسمة
تهزمها لدى التصويت البرلماني ثلاث قرى إذا اتحدت مثل
(جرينتش) وتعدادها 367 و (فوستر) وتعدادها 905 و(20/21)
(شارلستون) وتعدادها 759 نسمة. أما في (كونتكوت) فلكل
مدينة ممثلان. وبذلك تجد أن مدائن لا يزيد عددها على 250
نسمة تمتع بنفس النسبة التمثيلية التي تمتع بها مدنا عظيمة
يزيد تعدادها على 100000 نسمة. وفي ولاية (اوهيو) خمسة
أقاليم صغيرة تعدادها 67282 ولها في الوقت نفسه نفس
النسبة التمثيلية التي لغيرها من الأقاليم العظمى مثل إقليم
(فرنكلين) ولا يقل تعداد النسمات فيه عن 359459 نسمة. ثم
تجد أن أربعة عشر إقليما تعداد نسماتها 226212 يمثلها
أربعة عشر نائبا، وإقليما واحداً هو إقليم (كويا هوجا) وتعداده
1 , 201842 ليس له أكثر من سبعة عشر نائباً، فزيادة نسبة
العدد في إقليم (كويا هوجا) تبلغ ستة أضعاف ما في الأربعة
عشر إقليما الأولى. ولكن قيمة الأضعاف الستة لا تساوي في
تشريع الولايات المتحدة اكثر من ثلاثة نواب.
والمحصل من هذا كله إن جماعات الريف في الولايات المتحدة تمنح من السلطان في الحكم والتشريع أضعاف ما تستحق عدديا لينتقص المشرع بهذه الوسيلة سلطان الأكثرية في المدائن العظمى. ولا يمكن أن يقال مع مثل هذا النظام أن التشريع هنالك خاضع لإرادة الأكثرية العددية. وعلى هذا تجد أن مجالس التشريع في الولايات المتحدة غير خاضعة لا لما سميناه الأغلبية المطلقة، ولا لما سميناه (أغلبية التشارك)، ولكنها على الرغم من ذلك (ناقمة) من ناحية انها لا تجعل رأي الأكثرية راجحا على الدوام، وهذا النقص آت من(20/22)
ناحية عدم مجاراتها لمفهوم النظريات الديمقراطية القائمة على تغليب الأكثرية العددية إطلاقاً وبلا حساب، بل وبلا تقدير لأية نتيجة من النتائج التي تترتب على تغليب الأكثريات تغليبا يؤدي بها إلى الاستبداد. على ان كثيرا من العوامل ذات الأثر في أحكام النظام الداخلي في مجالس التشريع، وفي نظام اللجان، وفي الدور الذي تلعبه الأحزاب بحيلها المعروفة، ووسائلها التمردية يفضي حتما إلى حالة يخضع معها التشريع، ولو خضوعاً نسبيا، إلى الأقليات الصغيرة.
فهل لنا ان نتساءل: هل تحكم الأقليات العالم متسترة بقناع التعبير عن إرادة الأكثريات؟ وهل الديمقراطية على ما نفهمها من الكتب غيرها لدى التطبيق؟ وهل لنا أن نتخيل ان (الوهم) هو الذي يسوق الناس إلى حيث يريد بهم تفاعل قوى إنسانية مسلطة عليهم؟ وهل لنا مع هذا أن نعتقد ان الاختيار لدى الجماعات أضعف أثرا منه في الافراد؟ بل نتساءل هل الفردية هي القوة الشاملة التي تحتكم في نظام الأشياء الإنسانية؟
أ. م
حول مقال (تين)
نشرنافي العدد الثامن عشر مقالا عن (تين) بعث به إلينا من حلب السيد صبحي العجيلي. ولم يدر بخلدنا أن شهوة النشر تدفع بأحد شبابنا إلى أن يطفئها من منهل غير مشروع، حتى أرسل إلينا الفاضل عبد الحليم محمد حموده من أدباء الاسكندرية مقالا عنوانه (لصوص الأدب) يثبت فيه أن مقال العجيلي منقول برمته عن كتاب الدكتور هيكل (تراجم مصرية وغربية) وقد رجعنا إلى هذا الكتاب فوجدنا النقل ظاهرا لا شبهة فيه.
فهل يريد هؤلاء السادة أن نطالع كل كتاب ونطلع على كل صحيفة قبل أن ننشر شيئا في الرسالة؟ ذلك ما لا يضطلع به الجهد ولا يتسع له الوقت ولا يزكو به الأدب.
قصة الحارس
كان الأديب السيد محمد المدني المعلم بمدرسة الصناعات الزخرفية موفقاً في ملاحظته على ترجمة السيد محمد ناجي الطنطاوي الدمشقي لهذه القصة فقد قال إن المترجم على دقته أخطأ فهم الأصل في كثير من المواضع فجاءت الترجمة شوهاء خاطئة، مثال ذلك أنه(20/23)
ترجم هذه الفقرة:
? , , , , ,
بقوله: (مكثت هناك كالحارس أو كشرطي متقاعد شجاع شديد البأس على باب قلعته، وكنت لا أخاف شيئاً) والصواب: (وهناك أقمت للحراسة جندياً متقاعداً طيب القلب شديد البأس لا يهاب شيئاً، يحرص كل الحرص على فعل ما يؤمر به، شديد البطش بمن يحاولون الصيد في ارض غيرهم). وترجم بقوله (فأقمت عنده بأسم مستعار) والصواب (أني أسأت التعبير عن قصدي).(20/24)
من صور بغداد
حديقة. . . .!
كان ألذ ما أتذوقه من جمال بغداد وقفة في حديقة النادي العسكري كل صباح!! فكنت تراني أحرص عليها حرص العابد المتحنث على أداء صلاته، أو العاشق المتوجد على لقاء فتاته، كنت أغشى كل يوم هذا المجتلي الساحر، في رونق الضحى أو في متوع النهار، فأجد الشمس قد لألأت ذوائب النخل وغوارب النهر، وأخذت ترشق بأشعتها الظلال الندية من خلال الشجر، وبنات الهديل يبحثن كعادتهن في عساليج التين وأغصان التوت بأرجلهن ومناقيرهن، وهن يرجعن على التعاقب الحان الخريف؛ والحديقة مطلولة النبات منضورة الزهر تتنفس بالفاغية تنفس الطفل الحالم، والسكون مرهوب الجلال أنيس الوحشة يعمق ثم يعمق حتى تكاد تسمع النبات وهو ينبت!؛ والنادي خلواً من أهله فلا تجد الا بستانياً يعمل في صمت، وغلاماً يكنس في هدوء، وطفلين جميلين يجيئان أحيانا فيجلسان في الشرفة أو يمشيان في الحديقة، فلولا نشوز خادمهما الكهل، ومنظر هندامه الزري الشكل، لحسبتهما زهرتين من زهورها، أو عصفورين بين طيورها،! فأسير في الروضة متئد الخطى مرسل النفس مرهف الحس، تارة بين مماشيها، وتارة فوق حواشيها، فأقف عند كل شجرة، وأحيي كل زهرة، واسأل النبتة الوليدة بالأمس ما حظها اليوم من سر الحياة ونعمة الوجود! ثم أصعد درجة إلى الشرفة، وأنعم ساعة بتلك الوقفة، فأتنسم هواء النهر ملء رئتي، وآخذ جملة المنظر بمجامع عيني،! وأي منظر يسحر اللب ويملك الطرف كهذا المنظر الفاتن؟! الحديقة من ورائي تضوع بالنسيم الأريج وتروق بالرواء البهيج وتروع بالسكون الملهم! ودجلة الخالد من أمامي تتجاوب أصداء الأمم خافتة في لجاجه، وتتهادى خفاف القوارب راقصة بين أمواجه، وأنا بين الشجر والماء كالطائر بين الأرض والسماء، يسبح خاطري في أجواء الماضي القريب والبعيد صاعدا إلى فكرة، أو هابطا على ِذكَره، أو حائماً حول منظر كهذا المنظر تدفق به قلب في قلب، وامتزجت فيه نفس بنفس، وتجمعت الأحلام والأماني كلها فوق رقعة صغيرة من أرضه، وتحت سرحة فينانة من روضه!
لا تظنن هذه الحديقة فيحاء قد تأنقت فيها يد الطبيعة وتألق بها فن(20/25)
الإنسان! إنما هي مربع من الأرض على قدر ما يتسع له فناء كبير في
منزل فخم، يشقها ممشيان معروشان قد تعارضا على شكل صليب
قسماها إلى أربعة أقسام سواء، وفي هذه الأقسام وما أُلحق بها قام دوح
السدر، وبسق سرح الكافور، وانتظمت على جوانب مماشيها أشجار
النارنج، وانتثرت على معظم أرضها ألوان قليلة من النَّور الجميل
والورد العطر. فسماؤها كما ترى للشجر وأرضها للدهر وجوها
للعطر وهي كلها لنوع من الجاذبية يجعلها على بساطتها فتنة الفنان
وجنة المفكر!
ليت شعري ما مصدر هذا السحر الذي يشع في عيني ويشيع في نفسي كلما دخلت هذا المكان؟ أهو ذاك البناء المتآكل الذي يقوم في جنوبيه كأنه المعقل البالي أو الدير المهجور، أم هو ذلك النهر الجميل الذي يجري في غربيه كأنه الزمن الدافق أو الكتاب المنشور، أم هو ذلك المزيج العجيب من جلال القدم في المكان وجمال الطبيعة في البستان وعظمة الحياة الماثلة في النهر؟؟
ليس للروح العسكري في هذا المكان الشعري مظهر ولا أثر. فما تعهده من الخشونة في الثكنات، والعنف في الحركات والقسوة في النظرات والكلمات، يحول هنا إلى ذوق فنان ورقة شاعر وهدوء فيلسوف!
كادت هذه الخواطر الجريئة الملحة تذهلني عن حديقتي واليوم عيد من أعياد الطبيعة برزت فيه عارية من الحلل غانية عن الحلي! والخريف في العراق هو الربيع احترقت غلائله الوردية في لظى يوليو!! فهو على تجرد أرضه من الأنوار والازهار، وتحجُّب سمائه أحياناً بالغيم وأحيانا بالغبار، جميل البسمات عليل النسمات رفاف الأديم. فها نحن أولاء بين أعقاب الخريف وطلائع الشتاء والشمس لا تزال في ثغر السماء ابتسامة حلوة! تضاحك النهر الحبيب فتزيده طلاقة. وتداعب الزهر الكئيب فتكسبه أناقة، وتطالع الجو المقرور فتقبسه حرارة، وتصارع برد الموت في أوراق النارنج وأطراف التوت فتطيل(20/26)
بقاءها فترة أخرى من الزمن! وهذه اليمامات السواجع، مازلن يأوين إلى أعالي الشجر يمرحن في الضوء وينعمن بالدفء ويهتفن بالأهازيج كأنهن في أمَنَةٍ من حلول يناير وهو منهن على ليال قلائل!! وهذا دجلة السعيد يتنفس موجه بالنعيم، ويطفح غرينه بالذهب، ويقذف تياره بالغثاء والزبد، بعد ما بخره القيظ فنش حتى انكشف ضميره، وانقطع خريره، وكاد يزحف الشبوط والزورق فيه على القاع! فالبواخر تصعد صافرات في سرعة، والأطواف تنحدر صامتات في بطئ، والقفف تعبر موقرات في هوادة، وقوارب الصيادين وزوارق الملاحين تتعارض وتتحاذى في عباب النهر كأنها الخواطر الحائرة في الفكر العميق، والطيور الصائدة تحوم على وجوه الماء بأجنحتها الشهب حومان الآمال على ستر الغيب الصفيق، والبجعة الملكية تطعن في صدور الموج بمنقارها الطويل العريض وهي تسبح آمنة في حمى البيت العتيق، وأنفاس دجلة اللاهث من عبء القرون تتصاعد إلي حاملة أنين الأمواج وخفق المجاديف وغماغم الكرخ فتختلط بتجاوب اليمام على الشجر، وتناوح الرياح بين الغصون، وحشرجة الاوراق الذاوية على الارض، فتتألف من هذه الأصوات الخافتة موسيقى روحية شجية تبعث رواقد الأحلام وتثير كوامن الآلام وتقطع بين النفس وبين وجودها الحاضر!!
أيه يا دجلة يا سجل الأمم وراوية العصور! لشد ما فنيت في خريرك ضحكات، وامتزجت بنميرك دموع، وخفيت في ضميرك أسرار!! لقد رأيتك بالأمس ضارعا قد لصق خدك بالأرض حتى همّ بخوضك الخائض، وهمدت حياتك حتى أوشك أن يسكن عرقها النابض، ثم رأيتك اليوم وقد غاثك الغيث فجاشت ينابيعك الثرة بالنماء والثراء والقوة، ثم أقبلت كدأبك منذ آلاف السنين داوي الدارات صخاب اللج تعرضها مُلحا على بنيك فيعرضون عنك إعراض البطر، ويؤثرون على فيضك الميمون وذق المطر، ثم يهينون كبرياءك يا أبا الحضارات فيجعلون مبلغ همك حمل الأرماث ونقل القُفف! فهل يعجبون إذا فار غضبك فجرفت السدود وجاوزت الحدود وأصبتهم بالغرق؟. . . . .
أحمد حسن الزيات(20/27)
نعي هين
ناعٍ سعى بكتاب ود ِمن حدب ... على ما حواه لو يواريه!
فقلت لا وجلت نفسي ولا حفلت ... أنا عب أم بشير من ألاقيه
أدّ الرسالةَ لا تُحجم بها َجزِعاً ... فليس يَكربنُي من أنت ناعيه!
أَثم في الناس مَن آسى لفُرقته ... فأرهَبَ الموتَ إذ تعدو عواديه؟
إن الزمانَ رمىَ كبرى مصائبه ... فما أُبالي جديداً من غواشيه
وكيف يخشى الردى من ليس يَكربُهُ ... لو أنّه اليوم مَن سارت مَنَاعيه
َمضى الذي حَطّمت قلبي مَنيتّه ... ومن وددتُ بروحي لو أفدّيه
من عشت أمرح في شتى مأثره ... مدى الحياة وفي طولى أياديه
ومن ِبرَغمي أني قد حييت وقد ... حواه في الارض جافي الجنب نابيه
ومن ُأردد عمري ذكره وله ... أحيا بقلبٍ ثخينِ الجرح داميه
كنزٌ من الود أقدُر نفاسته ... حتى دهاني محتوم الردى فيه
أمسيت أبحث عن محض الوداد سدّىً ... وكان لي أمس أقصى ما أرجيّه
أقضي مع الناس عمراً خالياً صفِراً ... من الودَاد كمَن في القفر يطويه
فخري أبو السعود(20/28)
مطالعات في التصوف
عوارف المعارف. معرفة النفس
- 4 -
ليس الباب السادس والخمسون من كتاب عوارف المعارف الذي أريد
أن أحدثك عنه في هذا الفصل بابا من أبواب التصوف فحسب. وإنما
هو قد جمع إلى المكاشفات الصوفية مذاهب فلسفية ونظريات
بسيكولوجية لها قيمتها من حيث إظهارنا على معرفة ماهية النفس
والروح والقلب والعقل من ناحية. وفي الإبانة عن علاقة هذه الأشياء
بعضها ببعض وتأثير بعضها في بعض من ناحية أخرى.
ويرى مؤلف عوارف المعارف بادئ ذي بدء أن الكلام في الروح صعب المنال. وأن الإمساك عنه خير من التعرض له والإشارة إليه. فقد قال تعالى في كتابه العزيز: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) وهذه الآية الكريمة هي التي هبط بها جبريل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين سأله اليهود أن يخبرهم عن الروح وعن ذلك كيفية تعذيب الروح التي في الجسد. ولم يكن قد نزل على النبي حتى ذلك الحين شيء في الروح فنزلت هذه الآية. وهي تدلل دلالة واضحة لا لبس فيها ولا غموض على أن معرفة ماهية الروح أمر مقصور على الله وحده. وإذن فكيف يتسنى لمخلوق أن يخوض في هذا الموضوع أو يشير إليه وقد أمسك النبي عنه؟ أليس الأجدر بالإنسان أن يتركه جانبا تشبها برسول الله واستمساكا بتأدبه؟ على أن الفلاسفة والعلماء لم يقفوا عند هذا الحد وإنما عرضوا للروح فتناولوها بالبحث والتحليل وحاولوا محاولات شتى، أرادوا أن يكشفوا بها عن ماهية الروح وكنهها ومصيرها بعد الموت. وهم في محاولاتهم هذه اختلفوا فيما بينهم اختلافاً قويا نلمسه في تضاعيف كتبهم التي أودعوها آراءهم ومذاهبهم. ومن هنا ترى مؤلفنا يقول أنه لم يوجد اختلاف بين أرباب النقل والعقل في شيء كالاختلاف في ماهية الروح. وأنك لتراه يقول ايضاً إن من بين الذين تنأولوا هذا الموضوع قوماً ركبوا متن الشطط فخرجوا على الشريعة وخالفوا أصول الدين. على حين أن من بين الذين(20/29)
استمسكوا بالشريعة وتكلموا في ماهية الروح قوماً اعتمدوا في تحليلهم للروح على الاستدلال والنظر. وقوماً آخرين كانت طريقهم طريق الذوق والوجد. ومن هنا خاض علماء الصوفية في موضوع الروح وأرادوا تعرف ماهيتها، وكان الأولى بهم والأجدر أن يمسكوا عن ذلك تأدبا بأدب النبي.
وبعد أن أظهرنا مؤلفنا على ما لمسألة الروح من خطر عظيم ودقة فائقة تعلو على إدراك الإنسان نراه يعمد إلى تدعيم رأيه بذكر طائفة من أقوال المتصوفة رأوا رأيه وذهبوا مذهبه في أن الروح أمر يتعذر إدراكه ويدق فهمه. ومن بين الأقوال التي ذكر قول الجنيد الذي جاء فيه: (الروح شيء أستأثر الله بعلمه ولا تجوز العبارة عنه بأكثر من موجود) وقول أبي عبد الله النباجي الذي يظهرنا فيه على أن الروح جسم يلطف عن الحس. ويكبر عن اللمس. ولا يعبر عنه بأكثر من موجود.
وقد اختلف الناس في الروح هل هو قديم أم محدث. واختلفوا أيضاً في أمر الروح الذي سئل عنه رسول الله. فذهبوا في ذلك مذاهب شتى وأدلوا بآراء تختلف فيما بينها اختلافا ظاهرا قويا. ولعل أهم ما يلاحظ على هذه الآراء انها تدور جميعا حول الروح الذي لبس في الجسد. فأنت ترى مثلا أن فريقا قد ذهب إلى أن الروح الذي سئل عنه النبي انما هو جبريل. وان فريقا آخر قد انتهى إلى أنه ملك. ومهما يكن من شيء فقد اتفقت هذه الآراء على أن الروح الذي هو من أمر الله شيء آخر غير الروح الذي في الجسد والذي يرى مؤلف عوارف المعارف أن الكلام فيه مباح غير محظور.
والروح التي في البدن هي قوامه ودعامته استحق بها أسم الحياة، بها ثبت العقل وقامت الحجة. ولولاها لتعطل العقل ولما كانت له أو عليه حجته. هي جوهر مخلوق ولكنها الطف المخلوقات وأصفى الجواهر. بها تترآى المغيبات ويكون الكشف لأهل الحقائق.
وتنقسم الأرواح إلى أقسام: -
(1) أرواح في البرزخ وتبصر أحوال الدنيا والملائكة. وتسمع ما تتحدث به عن أحوال الآدميين.
(2) أرواح تحت العرش
(3) أرواح طيارة إلى الجنان وإلى حيث شاءت من السعي إلى الله أيام الحياة.(20/30)
وإذا كانت الروح مخلوقة فقد قال بعضهم. انها خلقت من نور العزة وان إبليس خلق من نارها. وقال بعضهم: - قرن الله العلم بالروح فهي للطافتها تنمو به كما ينمو الجسم بالغذاء.
ويتناول مؤلفنا بعد ما قدمت لك أبسط آراء المتكلمين في الروح، وهو يلاحظ أن اكثر متكلمي الإسلام يميل إلى أن الإنسانية والحيوانية عرضان خلقا في الإنسان يذهبهما الموت. وأن الروح هي الحياة بعينها بها صار البدن حيا. فإذا انفصلت عنه أصبح ميتا، ولكنها إذا عادت إليه يوم القيامة عادت إليه الحياة.
وذهب بعض المتكلم إلى ان الروح جسم لطيف مشتبك بالأجسام الكثيفة، وهذا رأي أبي المعالي الجويني.
على أن السواد الأعظم من المتكلمين قد انتهى إلى أنها عرض، ولكن هذا المذهب مردود عليه بالأخبار التي دلت على أن الروح جسم لما فيها من العروج والهبوط والتردد في البرزخ. ومن ثم لا يمكن أن تكون الروح عرضا مادامت قد وصفت بأنها جسم. فليس الوصف الا معنى والمعنى لا يقوم بالمعنى.
وأما مصير الروح بعد خروجها من الجسد فقد حدثنا عنه مؤلفنا فيما أورد من كلام ابن عباس. سئل ابن عباس: أين تذهب الأرواح عند مفارقة الأبدان؟ فقال: أين يذهب المصباح عند فناء الادهان؟ قيل له: وأين تذهب الجسوم إذا بليت؟ قال: فأين يذهب لحمها إذا مرضت؟
وأكبر الظن أن آراء المتكلمين في الروح ومذاهبهم التي أوجزها لنا مؤلف عوارف المعارف تكفي لإعطائنا صورة لا بأس بها لهذا الخلاف الضعيف الذي كان بينهم حول مسألة هي من أدق المسائل وأعوصها إن لم تكن أدق المسائل وأعوصها جميعا. ولعل دقة المسألة وخطورتها آتيتان من حيث أن باحثها هو مضطر فوق هذا إلى أن يلائم بين رأيه وبين ما دعا إليه الكتاب والسنة. ومهما يكن من شيء فقد رأى المتكلمون أنفسهم امام ما يقال لهم من ان الموجودات محصورة. فكل موجود أما أن يكون قديما او جسما أو جوهرا أو عرضا. ومن هنا كان لابد لهم من أن يتعرفوا ماهية الروح ويطبقوا عليها هذا الذي قيل لهم عن حصر الموجودات. فهل الروح قديمة؟ هل هي جسم؟ هل هي جوهر؟ هل هي(20/31)
عرض؟ تلك أسئلة رأوا أنفسهم مضطرين إلى الاجابة عنها. وقد أجابوا عنها بالفعل. فرأى فريق منهم أن الروح قديمة لانها أمر والأمر كلام والكلام قديم. ورأى فريق آخر انها جسم. وذهبت طائفة إلى انها جوهر، وطائفة اخرى إلى انها عرض كما أشرت إلى ذلك آنفا. ويرى أبو طالب المكي أن الأرواح أعيان في الجسد كما يرى ان النفوس كذلك. فهو يقول ان الروح تتحرك للخير ومن حركتها يظهر نور في القلب يراه الملك فيلهم الخير عندئذ. وان الروح تتحرك للشر فتظهر في القلب ظلمة يراها الشيطان فيقبل حينذاك بالإغواء.
محمد مصطفى حلمي. ماجستير في الآداب(20/32)
قص الشعر في الأدب العربي
نشرت الأهرام كلمة تحت عنوان (مبتكر مودة قص الشعر) ذكر الكاتب فيها نقلا عن احدى المجلات الإنجليزية أن مبتكر هذه الطريقة هو المسيو سير بليغوسكي البولندي المعروف وهو يقيم الآن بلندن، والذي أعرفه أن هذا النوع نشأ من عصر بعيد. فقد يجد الباحث في الأدب العربي كثيرا من الصور الشعرية يعرف منها كيف نشأت هذه الطريقة في العصور العربية الزاهية أيام سلطان العباسيين بالمشرق وبني أمية بالآندلس، ذلك العهد الذي مال فيه العرب إلى كثير من ألوان الترف واطمأنوا فيه إلى الدعة وخفض العيش. ولقد كان من آثار هذا الإغراق في النعيم والافتنان في أساليبها أن كانوا يعبثون بشكل الفتاة الطبيعي فيقصون شعرها ابتغاء منظر طريف يمتعون به عيونهم في مجالس الشراب، كما كان يجد الشعراء في ذلك لذة فنية تعينهم على اتساع مدى خيالهم الشعري، ويطلقون على هذه الفتاة الصغيرة (جارية غلامية) ولم يك هذا النوع من العبث بالشكل الطبيعي مقصورا على الفتيات، فقد كانوا يصنعون الأقراط في آذان سقاتهم من الغلمان ويطلقون على كل منهم (غلام مقرطق) وسيجد القارئ في هذه الصورة تأييداً لما ذكرت.
قال عامر بن شهيد أحد شعراء الأندلس يمدح أميرا ينتسب إلى الأسرة العامرية، وقد استهل قصيدته بوصف الخمر وأدواتها والجارية التي قامت على الشراب:
أذن الديك فتب أو ثوب ... وانضح القلب بماء العنب
وتأمل آية معجزة ... ما قرأنا مثلها في الكتب
ركع الإبريق من طاعته ... وبكى فابتل ثوب الاكؤب
ولول المزهر ينفي طربي ... وتطربت فأعيا طربي
وربيب قام فينا ساقياً ... كالرشا أرضع بين الربرب
ظبية دون الظباء قصصت ... فأتت غيداء في شكل صبي
فتح الورد على وجنتها ... وحماه صدغها بالعقرب
والذي ينظر إلى البيت السادس يعرف جيدا كيف كانت (مودة قص الشعر) معروفة بين الأندلسيين، ولعل أول من نقلها إليهم زرياب (المغني المعروف) فقد وفد من المشرق في عهد الرشيد بعد أن حقد عليه أستاذه إسحاق الموصلي فأقام كثيرا من عادات البغداديين في ربوع قرطبة وما جاورها وأحدث وتراً خامساً للعود. فمن المؤكد إذن أن هذه الطريقة(20/33)
نشأت في الدولة العربية ويرجح انتقالها من بغداد إلى قرطبة لسبق الأولى في الحضارة نتيجة اختلاط العرب بالفرس واليونان ولا سيما بعد الفتح العربي؟
علي شرف الدين. دبلوم دار العلوم(20/34)
فلسفة ليبنتز
1646 - 1716
للأستاذ زكي نجيب محمود
1 - نظرية ذرات القوة2 - التآلف الأزلي
3 - نظرية المعرفة 4 - الله والعالم
لست أدري كم ندنو من الحق حين نقرر أن لكل أمة طابعا في التفكير يطبع إنتاجها الفكري بوجه عام، ولولا أن ما تبادله الأستاذ الكبير الدكتور طه حسين والأستاذ العقاد لم يجف مداده بعد لزعمت هذا التقييم في يقين لا يعرف الشك. ألا تتميز إنجلترا بالنزعة الواقعية ألمانيا بالنزعة التفكيرية أليست إنجلترا مهدا للأفكار العملية التي تقف عند الواقع المحس (لا تعدوه) بل تكاد ألا تعترف بما وراءه. أليست ألمانيا منبتا خصبا للمجهود العقلي العميق، الذي يضرب فيما وراء الطبيعة، ويوشك ألا يعترف لهذا العالم المادي بحقيقة أو وجود، ثم أليست فرنسا موطنا للنزعة الرياضية؟ ألا يتميز الرجل الإنجليزي بالوضوح الذي أدى به إلى التمسك بالحقائق الواقعة، والفرنسي بالدقة التي طوحت به في بيداء اللاأدرية والشك، لأنه ينشد حقا يبلغ حد اليقين الرياضي فلا يجد. كما يتميز الألماني بالعمق في التفكير الذي انتهى به إلى اعتبار الفكر أصلا للوجود؟ عندي أن هذا كله حق يؤيده تاريخ الفلسفة.
ولم يكن ليبنتز فيلسوفا ألمانيا فحسب، انما كان أب الفلسفة الألمانية الحديثة غير منازع، أفتستطيع إذن أن تصور لنفسك عمق تفكيره وإمعانه في البحث عما وراء الطبيعة؟ وقد شاء له ربك أن يكون مهبطا تجتمع عنده أطراف النقائض، فيمثلها جميعا، ثم يخرجها للناس فلسفة متحدة متجانسة، فهاهو ذا قد تسلم ميراث ديكارت وسبينوزا من ناحية، وباكون ولوك من ناحية اخرى، فالتقت لديه بذلك سلسلتان متضاربتان من التفكير، إحداهما (ديكارت وسبينوزا) تنكر الحقائق الفردية وتؤكد قانونها الخالد: أي أن هذا الإنسان المعين أو تلك الشاة أو ذلك الطائر أو ما شئت من أفراد، ليست حقائق مقصودة لذاتها، انما هي مجرد تطبيق لقانون شامل، فأما هذه الافراد فذاهبة مع الموت، وأما ذلك القانون فخالد لا(20/35)
يعتريه الفناء. والأخرى (باكون ولوك) تسخر من كل هذا، ولا تعرف الا هذه الحقائق الفردية التي نراها ونلمسها. التقى هذا المذهبان في رأس ليبنتز فوقف منهما، موقفاً وسطا، وأخذ من كل منهما بمقدار، ففرض أن العالم يتكون من ذرات أولية لا تقبل التجزئة وليس لها امتداد، ثم زعم أن كل ذرة منها (يلاحظ إننا نستعمل كلمة ذرة هنا في شيء من التجوز لأن الذرة المادية تختلف عن الذرة التي فرضها ليبنتز في أن للأولى امتدادا وإنها تقبل التجزئة، واما الثانية فروحية تتألف من القوة لا من المادة) حقيقة متميزة مستقلة الا انها في الوقت نفسه تشمل صورة الكون بأسره في جوفها وتمثله أدق تمثيل. وبقدر دقتها في هذا التصوير والتمثيل يكون دنوها من الكمال، فهي فردية من ناحية وكونية من ناحية اخرى. ولابد لنا لكي نفهم ليبنتز على حقيقته أن نتناول بالشرح نظريته في الذرات ثم فكرته في إئتلافها، كما نلم برأيه في المعرفة وطريقة وصولها إلى الذهن. وسنرى أنها محاولة أخرى للتوفيق بين ديكارت ولوك، فقد مزج بين ما ارتآه الأول من وجود آراء فطرية تولد مع الطفل عند ولادته ولا تجيء عن طريق التحصيل، وما ذهب إليه الثاني من ان العقل يخرج إلى هذا العالم صحيفة بيضاء ثم تخط فيها التجارب ما تشاء.
1 - نظرية ذرات القوة
مم تتكون أجزاء هذا الوجود؟ مم يتكون هذا الرجل وذلك الماء وتلك القطعة من السكر؟ يجيب ديمقريطس أن هذا الوجود على تباين ظواهره إنما يتكون من ذرات اجتمع بعضها إلى بعض، فكونت هذا الشيء أو ذاك، وينكر ديكارت وسبينوزا هذا القول ويؤكدان أن اجزاء العالم على اختلافها إنما تتكون من مادة كونية متحدة لا تنقسم إلى أجزاء لأنها عنصر أولي واحد، ولكن ليبنتز يرد الفكرتين جميعا، فهذه المادة الكونية التي فرضها سبينوزا شاملة للوجود تبرز الكون حقيقة واحدة تتلاشى فيها كل الحقائق الفردية التي نصادفها في الحياة العملية، وتلك الجزئيات التي زعمها جماعة الذريين أصلا للأجسام، لابد ان تكون (نظريا على الأقل) قابلة للتقسيم إلى مالا نهاية، مادامت قطعا من المادة، لأن الذهن لا يستطيع أن يتصور جزءاً ماديا لا يقبل التجزئة، وإذن فهي مركبة ونحن إنما نقصد إلى أيجاد أبسط العناصر التي يمكن اعتبارها أصلا مطلقا للكون. فلابد لنا من الإمعان في البحث حتى ننتهي إلى عنصر لا يقبل التجزئة، ويكون له في الوقت نفسه(20/36)
وجود حقيقي ملموس. ولا تصلح النقطة الهندسية أن تكون هي العنصر المنشود. لانها تحقق شرطاً واحداً وهو عدم قابلية التقسيم، ولكن لا يتوفر فيها الوجود الحقيقي، كذلك لا يجوز أن نفرض جسما ماديا كائنا ما كان حجمه، لأنه وإن توفر فيه الوجود الحقيقي، لا يحقق شرط البساطة، إذ لا يسعنا الا أن نتصور إمكان تجزئته إلى مالا نهاية له من الأجزاء. يقدم ليبنز هذا الاعتراض، ثم يزعم أن ذرات القوة هي العنصر المنشود. لانها موجودة لا ريب في وجودها. وليست مادية حتى تتهم بإمكان التقسيم. وهي فضلا عن ذلك منبثة في الكون بأسره، هذه القوى الأولية هي التي تتكون منها حقيقة كل شيء، فهي العنصر الذي بنيت منه المادة والروح على السواء. وهي تختلف عن المادة التي فرضها سبينوزا في انها ذرات فردية لا نهائية في عددها وطبيعتها. أما مادة سبينوزا فهي كتلة متحدة متجانسة كما تباين ذرات ديمقريطس في أنها ليست مادة متينة بل مشحونة بالحياة والحركة. وهي ليست مجرد تكرار الصورة بعينها بل متباينة مختلفة إلى أقصى حدود التباين والاختلاف في الكيف والفاعلية. حتى إنك لا تجد في الكون كله ذرتين متشابهتين، لأنه لو كان ذلك لكان خلق إحداهما عبثا لا مبرر له. ولهذه الذرات القوية (نسبة إلى القوة) خاصتان: فهي في آن واحد شاملة للكون ومنعزلة عنه. هي من ناحية وحدات بسيطة مستقلة وليس لها نوافذ تطل منها على العالم الخارجي أو ينفذ لها شيء منه، لا يمكن أن توجد من عدم كما يستحيل أن تعدم بعد وجود الا بإرادة الله. كل واحدة منها عالم صغير يسير بمقتضى طائفة من القوانين كما لو لم يكن في الوجود غيرها سوى الله. وهي من ناحية اخرى شاملة للكون، لانها وإن تكن منعزلة بنفسها مستقلة في سيرها الا أن لها من القوة ما تستطيع به أن تمثل كل ما يحتوي الكون من ذرات قوية، أو بعبارة أخرى كل ذرة ينعكس فيها الكون كله، بحيث لو استطعنا أن نصل إلى فهم واحدة فقد فهمنا الكون بأسره. فكل واحدة تحمل في طياتها ماضي العالم ومستقبله. ويعزو ليبنتز إلى هذه الذرات نوعا من الإدراك يختلف عن إدراك الكائنات المفكرة، أي أن هناك درجات للإدراك لا نهاية لها، ومعنى ذلك أنه لا يعترف بوجود المادة الميتة، إنما أجزاء المادة جميعا ضروب من الأحياء تختلف في كمية الحيوية والتفكير. وبعبارة أخرى يقول: أن هناك درجة من الإدراك الصحيح الكامل، ثم يأخذ هذا الإدراك في النقص والغموض كلما نزلت في سلم الكائنات،(20/37)
وكلما كان إدراك الذرة واضحاً وتصويرها للكون دقيقاً، كانت أكثر حيوية وأحد نشاطا، والله تعالى هو وحده القادر على ان يكون له إدراكات واضحة لا يشوبها شيء من غموض أو ما يشبه الغموض، وإذن فهو وحده عبارة عن فاعلية خالصة ونشاط مطلق، وكل مخلوق سواه من الإنسان فنازلاً إلى أحط الكائنات، يكون فعالا من ناحية ومنفعلا من ناحية اخرى، وهذا الجانب المنفعل من الذرة، أي الجانب السلبي، هو ما يسمى بالعنصر المادي. أي أن وجود المادة السلبية في الذرة القوية هو الذي يحول دون وضوح إدراكها. وبعبارة واضحة. كلما رجحت في الكائن كفة الجانب الروحي الفعال على العنصر المادي السلبي كان اكثر وضوحا في إدراكه.
وانك لترى العالم مليئا بهذه الذرات المدركة، كل منها مستقل منعزل. ومع ذلك لن تجد بينها فواصل تباعد بينها، بل هي متداخلة بعضها في بعض، متصلة على أشد ما يكون الاتصال، وهذا ما يسميه ليبنتز بقانون الاستمرار. فليس ثمة تناقض أو اضطراب. أبدأ من المادة الجامدة إلى العقل المفكر تجده طريقا واحدة متصلة يتزايد فيها الإدراك شيئاً فشيئا في تدرج غير محسوس، وسر من النبات إلى الإنسان فسترى انك انما تسلك سبيلا ليس فيها حوائل أو عثرات. بل تعلو بك قليلا حتى تنتهي إلى قمة الجبل دون أن تشعر بالصعود!
ويشير ليبنتنز إلى مراحل ثلاث تجتازها في طريقك من الكائنات الدنيا إلى طبقاتها العليا. فذرات الطبقة السفلى. أي ذرات الجماد والنبات تدرك وكفى. فهي أشبه ما تكون بالأحياء الغافية أو النائمة التي لا يرتفع إدراكها إلى درجة الشعور. والمرتبة التالية لتلك هي ذرات الحيوان، ولها فوق الإدراك ذاكرة. ولكنها لا تسمو إلى درجة العقل، وإدراكها شبيه بالأحلام الغامضة، ثم تجيء الكائنات البشرية فوق تلك المرتبة، وهي التي وهبت عقلا وشعورا بالذات. ويذكر لينتنز ان الله تعالى هو أسمى هذه المراتب جميعا فبينما تراها تتفاوت في إدراكها غموضا ووضوحا، ترى إدراكاته سبحانه وتعالى واضحة كلها.
وليست هذه الذرات مطمئنة إلى مراتبها راضية بمقامها، بل تسعى كل واحدة سعيا متواصلا إلى السمو والارتفاع نحو الكمال لا ترضى به بديلا. فهي دائبة أبداً. لا تدخر وسعا لكي تحقق هذا الكمال الأسمى بانتقالها من مرتبة إلى مرتبة حتى تصل إلى هدفها المنشود، وليس من شك في أن ليبنتنز كان بذلك القول بشيرا بمذهب دارون الذي لا يعدو(20/38)
جوهره هذا التطور نحو السمو والكمال.(20/39)
في الأدب العربي
ابن خلدون وميكيافيللي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
1. (ليس على الأمير أن يجزع لما يناله من لوم على تلك الرذائل التي لا يمكن دونها إنقاذ الدولة إلا بصعوبة، ذلك أنه إذا بحث كل شيء بعناية، ألفينا أن شيئا يبدو كالفضيلة، إذا اتبع فإنه يؤدي إلى خرابه (أي الأمير)، وألفينا شيئا آخر يبدو كالرذيلة، إذا اتبع فإنه مع ذلك يؤدي إلى سلامه ورخائه).
2. (ليس أكثر تبديدا للمال من الجود والبذخ إذ سرعان ما تعجز عن مزاولتهما، وتعدو إما فقيرا أو محتقرا، أو تغدو إذا أردت أن تجتنب الفقر، جشعا مكروها. ويجب على الأمير أن يحرص قبل كل شيء على أن لا يكون محتقرا أو مكروها. وإذن فخير أن يشتهر الأمير بالوضاعة التي تثير اللوم دون بغض من أن يرغم الإنسان من طريق البحث عن الشهرة بالجود، أن يوصم بالجشع الذي يثير اللوم والبغض).
3. (كان بورجيا يعتبر قاسيا، ومع ذلك فإن قسوته أرضت رومانيا (من الولايات البابوية) ووحدتها، وردت إليها السلام والولاء. ولو تأملت ذلك حق التأمل لرأيت أنه كان أكثر رحمة من الشعب الفلورنسي، الذي أراد أن يتجنب الشهرة بالقسوة فترك بستويا حتى خربت. وإذن فما دام الأمير قادرا على الاحتفاظ لشعبه بالوحدة والولاء، فليس عليه أن يهتم بوصمة القسوة لأنه بذلك يكون أكثر رحمة من أولئك الذي يفرطون في استعمال الرحمة، فتثور القلاقل، ويعقبها القتل والنهب).
4. (وهنا يبدو سؤال: أخير أن يحب الإنسان من أن يرهب أو يرهب من أن يحب؟ ويمكن أن نجيب بأنه من المرغوب أن يكون الآنسان محبوبا مرهوبا، ولكن ما دام اجتماعهما في شخص واحد غير ممكن، فإنه خير وأكثر سلامة أن يرهب الإنسان من أن يحب إذا وجب أن يتصف بإحدى الصفتين).
5. (لا يستطيع الأمير العاقل ولا يجب عليه أن يحفظ العهد إذا كان مثل هذا الوفاء قد ينقلب ضده، وإذا لم يبق للأسباب التي حملته على قطعه وجود).
6. (وإذن فليس من الضروري أن يتصف الأمير بالخلال الحسنة التي ذكرتها، ولكن من(20/40)
الضروري أن يبدو كأنه يتصف بها. . . ولا يستطيع الأمير، ولا سيما الأمير الجديد، أن يراعي كلالأمور التي يقدر الناس من أجلها، لأنه كثيرا ما يرغم، لكي يحفظ الدولة، على أن يتصرف بغير ما يقضي به الإخلاص، والصداقة، والإنسانية، والدين. وإذن فمن الضروري أن يكون عقله متأهبا ليعمل طبقا لتقلب الريح والحظ).
7. وقال مشيرا إلى سياسة ملك إسبانيا فرديناند الكاثوليكي ضد المسلمين عقب سقوط غرناطة: (إنه ينتحل الدين دائما عذرا للقيام بأعمال عظيمة، وقد ثابر بقسوة صالحة على إخراج المسلمين من مملكته وتطهيرها منهم، وليس ثمة أبدع من هذا العمل وأندر منه).
نستطيع من هذه النماذج الموجزة أن نفهم روح الفلسفة المكيافيللية في تصوير الدولة والأمير. وهي فلسفة تقوم على الحقائق العملية. وتحل هذه الحقائق على رغم جفائها وروعتها المكان الأول في بناء الدولة، وفي سياسة الأمير. فالنفاق والشح والوضاعة، والقسوة والإرهاب، والغدر والنكث بالعهد. وإهدار الإخلاص والصداقة والأمانة والدين، وما إليها مما ينافي المثل الفاضلة وتأباه الأخلاق والإنسانية، ليس مما تنكره الفلسفة المكيافيللية، ولا مما يشين السياسة التي تقوم عليها. ومن ثم كان الأمير أو السياسي الأمثل في نظر مكيافيللي طاغية لجأ في تأييد سلطانه إلى أروع الوسائل وأشنعها مثل البابا اسكندر السادس، وابنه شيزاري بورجيا (دوق فالنتينو). ويتناول مكيافيللي طرفا من حياة شيزاري بورجيا الذي عرفه واتصل به في رسالة خاصة، ويبدي إعجابه بتلك الخطوط والوسائل الدموية التي ابتدعها ودبرها شيزاري للبطش بخصومه من الأمراء والقادة وقتلهم غدراً وغيلة. ومن ثم كان ذلك الطابع الاسود الذي ما يزال يدمغ (السياسة المكيافيللية) إلى عصرنا. بيد أنه من الحق أن يقال أن المفكر الإيطالي يبدي في صوغ فلسفته كثيرا من القوة والبراعة وبعد النظر، وأن هذه النظريات والمبادئ التي قد يحكم عليها من الوجهة النظرية الخالصة، كانت وما زالت على كر العصور قوام السياسات الظافرة، وما تزال إلى يومنا عنوان السياسة العملية القوية.
(2)
يتناول ابن خلدون كما قدمنا موضوع الدولة والملك بإفاضة ويبحثه من نواح أوسع وأبعد مدى، ويتفوق على مكيافيللي تفوقا عظيما في معالجته من الناحية الاجتماعية. ويلتقي(20/41)
المفكران العظيمان في مواطن كثيرة. مثال ذلك ما يقوله ابن خلدون في فاتحة مقدمته عن قيمة التاريخ في درس أحوال الأمم، ثم أقواله عن آثار البطش والسياسة العاسفة في نفوس الشعب، وعن خلال الأمير وتطرفه أو توسطه فيها، وعن حماية الدولة وأعطيات الجند، وعن منافسة الأمير للرعية في التجارة والكسب؛ وعن تطلع الأمير إلى أموال الناس وأثر ذلك في حقد الشعب عليه، وعن تطرق الخلل إلى الدولة وامتداد يد الجند إلى أموال الرعية، وكذا ما يقوله عن كتبهَ (سكرتارية) السلطان فهذه كلها نقط أو موضوعات يعالجها مكيافيللي أو يقترب منها سواء في كتاب الأمير أو في كتاب آخر له هو (تاريخ فلورنس) تتخلله تأملات فلسفية واجتماعية كثيرة. وقد لا يتفق مكيافيللي مع ابن خلدون دائما في الرأي، أو في منحى التفكير، ولكن كثيرا مما يقوله المفكر العربي يتردد صداه فيما يقول المفكر الإيطالي. فابن خلدون هو بحق أستاذ هذه الدراسة السياسية الاجتماعية التي تناول مكيافيللي بعده بنحو قرن بعض نواحيها؛ وهو بالأخص صاحب الفضل الأول في فهم الظواهر الاجتماعية وفي فهم التاريخ وحوادثه وتعليلها، وترتيب القوانين الاجتماعية عليها بهذا الأسلوب العلمي الفائق.
قال العلامة الاجتماعي جمبلوفتش: (إن فضل السبق يرجع بحق إلى العلامة الاجتماعي العربي (ابن خلدون) فيما يتعلق بهذه النصائح التي أسداها مكيافيللي بعد ذلك بقرن إلى الحكام في كتابه (الأمير). وحتى في هذه الطريقة الجافة لبحث المسائل، وفي صبغتها الواقعية الخشنة، كان من المستطاع أن يكون ابن خلدون نموذجاً للإيطالي البارع الذي لم يعرفه بلا ريب) وقال استفانو كلوزيو مقارناً ابن خلدون بمكيافيللي؛ (إذا كان الفلورنسي العظيم (مكيافيللي) يعلمنا وسائل حكم الناس، فإنه يفعل ذلك كسياسي بعيد النظر، ولكن العلامة التونسي (ابن خلدون) استطاع أن ينفذ إلى الظواهر الاجتماعية كاقتصادي وفيلسوف راسخ، مما يحمل بحق على أن نرى في أثره من سمو النظر ومن النزعة النقدية ما لم يعرفه عصره).
وقد نتساءل أخيرا، هل وقف المفكر الإيطالي على شيء من تراث ابن خلدون واسترشد به، أم وقف على شيء من آثار المفكرين المسلمين قبله في موضوع السياسة الملكية وانتفع بها؟ نعتقد مع العلامة جمبلوفتش أن مكيافيللي لم يعرف حين كتابة (الأمير) شيئا عن ابن(20/42)
خلدون أو عن آثاره، ولم يعرف من جهة أخرى شيئا من آثار المفكرين المسلمين في موضوعه. صحيح أن بعض نواحي التفكير الإسلامي كانت معروفة في إيطاليا قبل مكيافيللي وفي عصره، وكانت ثمة علائق فكرية قديمة بين مسلمي الأندلس وشمال أفريقية، وبين المجتمعات الفكرية في إيطاليا، وكانت آثار إسلامية كثيرة قد ترجمت يومئذ إلى اللاتينية. ولكنا لا نلمح في أثر مكيافيللي شيئا يدل على أنه عرف ابن خلدون أو أي مفكر مسلم في موضوعه. وإذا كانت ثمة وجوه شبه كثيرة بين المفكرين من حيث فهم التاريخ وتحليله، واستقراء الحوادث، وترتيب القوانين الاجتماعية، فذلك يرجع كما قدمنا إلى تقارب عظيم بين الذهنين، وإلى تماثل في العصر والظروف التي عاش فيهما كل منهما، وإلى تماثل في الخبرة السياسية التي اكتسبها كل منهما بخوض حوادث عصره والاتصال بأمرائه وساسته. وربما يكون ميكافيللي قد عرف شيئاً عن أبن خلدون ومقدمته في أواخر حياته بعد أن وضع كتاب (الأمير) بنحو عشرة أعوام أعني حوالي سنة 1523 أو 1524. ففي ذلك الحين كان الكاتب الأندلسي المنتصر الحسن بن محمد الوزان المعروف بأسم ليو الأفريقي يقيم في رومة ويتجول في المدن الإيطالية الشمالية وهو غرناطي ولد حوالي سنة 1495 م. ونشأ في فاس وتولى لبلاطها بعض المهام السياسية، ثم حج إلى مكة سنة 1516، وعاد بطريق قسطنطينية، وفي أثناء ركوبه البحر إلى المغرب أسّرته عصابة من لصوص البحر الصقليين، فأخذ إلى رومه فنصره البابا بأسم (يوهانس ليو) أو يوحنا الأسد. أنقطع للبحث والتأليف، وألف قاموساً عربياً لاتينياً، وألف كتابه الشهير في وصف أفريقية وترجمه بعد ذلك إلى الإيطالية. وكان في مدينة بولونيا بشمال إيطاليا على مقربة من فلورنس سنة 1524 حسبما يقرر في خاتمة قاموسه اللاتيني، الذي توجد منه نسخة في الاسكوريال. ومن الممكن بل لعله من المرجح أن يكون ابن الوزان قد التقى بمكيافيللي وعرفه في رومه باعتباره علما من أعلام التفكير والكتابة يومئذ. وكان مكيافيللي بالفعل في رومه سنة 1525، قصدها ليرفع كتابه (تاريخ فلورنس) إلى صديقه وحاميه البابا كليمنضوس السابع (جوليا نودي مديتشي) ولو صح هذا اللقاء والتعارف، لكان ثمة مجال للقول بأن مكيافيللي قد وقف على شيء من آثار التفكير الإسلامي التي لا بد أن يكون ابن الوزان قد أذاعها وتحدث عنها بين أصدقائه الإيطاليين، ومن المرجح أن يكون ابن خلدون(20/43)
في مقدمة المفكرين المسلمين الذين يشملهم مثل هذا الحديث، لا سيما وقد كان صيته ما يزال قويا ذائعا في أفريقية والمغرب حيث نشأ ابن الوزان ودرس، على أنه مهما كان من شأن هذه الفروض، فلسنا نستطيع أن نقول أن مكيافيللي قد انتفع في صوغ فلسفته السياسية والاجتماعية بشيء من آثار التفكير الإسلامي، فلسنا نلمح في كتابه أثراً لهذا التفكير، ومكيافيللي ذهن مبتدع مبتكر بلا ريب، كما كان ابن خلدون ذهنا مبتكراً مبتدعا. وقد شق كلا المفكرين العظيمين طريقه لنفسه، وألهم وحي نفسه، وكان كتاب (الأمير) فتحاً عظيما في تفكير عصر الإحياء الأوربي، كما كانت مقدمة ابن خلدون فتحاً عظيما في التفكير الإسلامي.(20/44)
من طرائف الشعر
مداعبة شوقية لم تنشر
براغيث الدكتور محجوب
براغيثُ محجوبَ لم أنسها ... ولم أنس ما طَعِمْت من دمي
تشقُّ خراطيمُها جَوْربي ... وتنفذ في اللحم والأعظمُ
وكنتُ إذا الصيف راح احتجم ... تُ فجاء الخريف فلم أُحجم
ترحِّب بالضيف فوق الطريق ... فباب العيادة فالسلم
قد انتشرتْ جوقة (جوقة) ... كما رُشَّت الأرض بالسمسم
وترقص رقص المواسي الحدادِ ... على الجلد والعَلَق الأسحم
بواكير تطلع قبل الشتاء ... وترفع ألوية الموسم
إذا ما ابن سينا رمى بَلْغَماً ... رأيت البراغيث في البلغم
وتُبصرها حول (بيبا) الرئيس ... وفي شاربيه وحول الفم
وبين حفائر أسنانه ... مع السوس في طلب المطعم(20/45)
العود
وصف دقيق ممتع للشاعر العالم الأستاذ أحمد الزين
// لامستْ في النفس أوتارَ هواها ... غادة بالسحر تغزو من غزاها
كلما مست يداها وتراً ... حسد الآخر ما مست يداها
تمنح الأوتار كفا رخصة ... أشْجت الأوتار من قبل شجاها
ويكاد العود يدمي كفها ... قُبَلا لو أن للعود شفاها
لحنها يبعث في ميْت المنى ... نضرة العهد ومعسول صباها
خفْقات يخفق القلب لها ... هي أنات فؤادي أو صداها
وحنين كاد من رقته ... أن يذيب اللحن في العود مياها
وشجون طالما أخفيتها ... نفذ العود إليها فحكاها
واستشف النفس عن أسرارها ... لم يدع خافية إلا جلاها
صوَّر اللوعة في مكمنها ... كيف تخبو ثم يشتد لظاها
ودبيب الحب في أوله ... والجوى ملتهبا حين تناهى
وفناء النفس في من هويت ... وترى كل وجود في فناها
وشقاء الحب في نعمته ... ونعيم النفس فيه بشقاها
ورضا العشاق من أحبابهم ... بالتفات أو خيال في كراها
كل هذا نطق العود به ... وتناجى هو والنفس شفاها
لغة الأوتار في عجمتها ... تقصر الألسن عن درْك مداها
تسعد المحزون في حرقته ... وتواسي داءه إن قال آها
ألهم العود بكاء المشتكي ... ملهمُ الطير على الأيك بكاها
تحسب الأوتار فاضت أدمعا ... وتباريح الجوى أوهت قواها
يا لها من ناحلات أنحلت ... من جسوم لاعج الشوق براها
وضعيفات وفيها قوة ... تصرع الأسد فلا تحمي حماها
جل من يبعث في الضعف قوى ... أخضعت من بقواه يتباهى
كلما شدَّت على أطرافها ... أمعنت في النفس بالسحر خطاها
لا تسل سمعيَ عن ألحانها ... سبق القلب إليها فوعاها(20/46)
قبلة!
للشاعر المهندس علي محمود طه
قبلة من ثغرك البا ... سم دنيا وحياةُ!!
تلتقي الروحانِ فيها ... والمنى والصَّبَواتُ
لغة وُحِّدَتِ الأل ... سنُ فيها واللغاتُ
وَحْيُها الحبُّ وما تل ... همُ تلك النظرات
لغة دان الشتيت الش ... مل فيها وتلائم!
وبها الأرواُُ في غي ... ر لَجاج تتفاهم
مَنْ تُرى علَّمها بالأم ... س حوَّاَء وآدم
لم تَزُلْ جِدَّتُها ... وهي حديث يتقادم!
قبلة من ثغرك البا ... سم تَنْدَى شفتاهُ
من رحيقٍ لم يُحَرِّمْ ... هٌ على الناس الالهُ
كلما أُترعَ منها ال ... قلبُ ضَجَّتْ رئتاهُ
مستزيداً وهي إن عُلَّ ... بها زادَ صداهُ!
قبلة من ثغرك البا ... سم تمحو كلَّ ما بي!
وتُواريني عن النا ... س وعن دُنيا العذاب
وتُنَسِّي القلبَ ما جُرِّ ... عَ من سُمٍّ وصاب
قبلة تمزج أنفا ... سَكَ بالقلب المذاب!
رُبَّ ليلٍ مَرَّ أفني ... ناهُ ضمًّا وعناقا
وأدرنا من حديثِ ال ... حبِّ خمراً نتساقى
في طريق ضَرَبَ الزهْ ... رُ حوإليه نِطاقا
وتجلَّى البدرُ فيه ... وصفَا الجوُّ وراقا
ولزمنا الصمتَ إلاَّ ... بعيونٍ تتكلمْ
وشفاهٍ عن جراح ال ... قلبِ راحتْ تتبسمْ
صِحْتَ بي رُعْباً وما ... راعك قلب يتحطمْ(20/48)
نبَّأتني النفسُ بالبيْ ... ن غداً! والنفس تُلْهَمْ
ثم كانَ الغدُ ما نُبئ ... تَ هجراً وفراقا
ونسينا قبلةً سا ... غَتْ من الأمس مذاقا
غير أناتٍ صحا القل ... بُ عليها وأفاقا
فالتقينا وافترقنا ... وكأنْ لمْ نتلاقا!!(20/49)
عزلة!
(. . والعزلة مملكة الأفكار). شاتوبريان
للشاعر الدمشقي أنور العطار
وعًزْلةٍ بَرَّةِ الأفْياءِ ساجيةٍ ... رفَّافةِ الحُلْمِ تُنْئي كلَّ أتْراحي
طويتُ في صمتها قلباً شجيتُ بهِ ... واعتضْتُ عنه بقلبٍ جدِّ مفراح
يَلقى أخو الهم في أظلال دارتها ... كوناً بكونٍ وأرواحاً بأرواح
تَغيمُ روحيَ إما ثار هاجسُها ... في لامع مثل قرصِ الشمس مُنْداح
غَيبوبة ملؤها الإحسان شاملة ... غسيلة بِشَذًى كالعطر نفَّاح
أصوغُ فيها أناشيدي وأجمعُها ... من عابقٍ دائم الاطياب مسماح
يا فرحةَ الرُّوح! تحدُوها غيابتها ... إلى مطافٍ خصيب الوحي فياح
تنسى به حزَّةً في القلب مُوجعةً ... مشطورةً من أسى كالهمِّ ملحاح
كغصةً ثرّة التعذيب جاهدةٍ ... في صدر طفلٍ منيع الوِرد ملتاح
فأن يقتر عليها الحظ حصتَها ... تظفر بحُبِّ وإيناس وإسجاج
هَناءةُ العُمْر ما انْساغت مناهلها ... إلاّ لقلبٍ غنيِّ البِشْرِ، ممراح
مفَضَّض الحُلْمِ مغمورِ الشِّعابِ هوى ... أنقى من النُّورِ في أعطافِ إِصباحِ
فاطربْ ولذَّ وَطِرْ نشوانَ من فرحٍ ... في عالمٍ خيِّرِ الالهامِ منَّاح
وأغْنَم سوانح دهرٍ، غير وانيةٍ ... من قبل يوم عصيِّ البرءِ لواح
ومرْقبٍ في كفافِ الأفْقِ منفَردٍ ... كأنه كَهفُ نَسْرٍ جدِّ طماح
أسرى إليه خيالي غير مكتَرِثٍ ... لهيكل راجف الأركان طلاح
فعبَّ منه نقيَّ الوحي فانْبَجَسَتْ ... أمواههُ من مَعيِنٍ غير ضحضاح
كأنما ظلَّ يهمي فوق صفحَتِه ... شُؤْبوبُ غيْثٍ هتونٍ السَّكْبِ سحاح
وروضةٍ حليتها العين وانبسطت ... في ظلِّ واد أنيق الوشْيِ رحراح
أنشأت كوخاً على غدرانها بهِجاً ... موَشَّحاً بتعاشيبٍ وأوضاح
من كل نَوارةٍ ضحاكة جذلا ... وكلِّ زهرٍ نطوف النشر، فواح
وافيتها والمساء الرحْبُ تغمرني ... ظلالُهُ بخيالات وأشباح(20/50)
سجا الأصيل وقد رفت لآلئُهُ ... على إطارٍ بهِيِّ اللمح وضاح
وصفَّقَتْ مائساتُ الدَّوْح يؤْنسها ... ضحك الجدأول من تلعات أرواح
كأن سرباً من الأطيار يطربني ... تنغيمه بنشيدِ جدِّ مصداح
والشمس خابية الأضواءِ، تنشرُها ... عجْلي وتجمعها في ركبها الواحي
غابَت وأبقتْ على الآفاق أصبغة ... من رسم أروع سامي الصوغ وشَّاح
هذا المساء تجلَّى في مَحفَّته ... نهلان من صورٍ كثرٍ وألواح
يزينه شفق حالٍ بأوشحة ... من مائج غائم الأرجاء طفَّاح
ما بين خابٍ نؤوم ظله، كمد ... وبين ضاح لعوب النور لماح
ترى تطيف به في حلمه ذِكَر ... ترف حيناً ويمحو رفها ماح؟
ليت الزمان مساء ملؤه صوَر ... علوية الصنع موشيات أفراح!
أطوف فيه بروح كلها لهف ... حوامةٍ فوق جنات وأدواح
حتى أعيد أمانيَّ التي غبرت ... والدهرُ عنْ مأمَلي سهوان أو صاح!(20/51)
في الزورق
// لست بناسٍ ليلةً ... قضَّيتها في زورقِ
البدرُ فيها ماسة ... باهرة التألق
والنيل في مضجعهِ ... كغادة في جوسق
ينصت في غفوته ... إلى حديث الشيق
وللحبيب شَعرٌ ... يموج كالإستبرق
يلمسه النسيمُ لم ... س المستهام المشفق
دارت أحاديث الهوى ... مثل الطلا المعتق
ثم افترقنا غلساً ... وبعدها لم نلتق. .
كرمة ابن هاني. حسين شوقي(20/52)
في الأدب الشرقي
جحا في الأدب الفارسي
للدكتور عبد الوهاب عزام
قال في لسان العرب: (وجحا أسم رجل) وقال في القاموس: (وجحا لقب أبي الغصن دجين بن ثابت) وقال شمس الدين بك في قاموس الأعلام: (هو من قبيلة فزارة، يضرب به المثل في الحمق، وكان في الكوفة إبان ثورة أبى مسلم الخراساني. وجحا الرومي كناية عن خواجة نصر الدين).
وقد ذكر ابن النديم في الفهرست كتاب نوادر جحا.
وأما جحا الرومي أو خواجة نصر الدين فيرو أنه كان معاصر حاجي بكتاش، ويقال انه عاش في عصر السلاجقة. وتحكى عنه نوادر كثيرة في التركية كنوادر جحا في العربية. وفي جوار آقشهر مكان غير مسور وله باب عليه قفل كبير يقال انه قبر نصر الدين.
وقد شاعت نوادر جحا في مصر وأفريقيا الشمالية كلها كما شاعت نوادر نصر الدين في تركيا. ونقلت نوادر الرجلين إلى شرقي أوربا وجنوبيها. ففي صقلية وبلاد أخرى حرف أسم جحا إلى جوفا أو وفي بلاد اليونان والصرب ورومانيا حرف أسم نصر الدين خواجة إلى
ولا حاجة إلى الكلام عن نوادر جحا ونصر الدين خواجه في العربية والتركية فهي معروفة ومطبوعة في مصر.
بعض هذه النوادر مروي في الأدب الفارسي في لطائف عبيد الزاكاني الشاعر المعروف، ولكنها لا تنسب إلى جحا، ولا يستطيع من يعرف الزاكاني ولطائفه أن يذكر أسمه دون أن يمتع القارئ ببعض حكاياته:
ذهب رجل من قزوين في جيش لغزو جماعة من الإسماعيلية وكان مع الرجل ترس كبير. فلما قارب قلاع العدو أصاب رأسه حجر فغضب وانصرف. فقال بعض أصحابه: ما خطبك؟ قال يا أخي أنا لا أحارب قوما عميا. كيف يرمون رأسي بالحجر وفي يدي هذا الترس الكبير؟!
وأخرى من لطائف الزاكاني: أن رجلا شاهد آخر يؤذن وهو يجري. قال: ما شأنك؟ قال:(20/53)
يا أخي إن الناس يزعمون إن صوتي حسن حين يسمع من بعيد. فأردت أن أخبر ذلك بنفسي.
وقد ذكر جحا في شعر الآنوري بأسم جحي (بكسر الحاء):
أز حسد فتح تو خصم تو بي كرداسب ... همجو جحى كز خدوك جرخه ما در شكست
(ان خصمك عرقب فرسه غيظا من انتصارك مثل جحى الذي كسر مغزل أمه من الغضب) وذلك أن جحا قص على جلسائه نادرة فلم يضحكوا لها فذهب إلى داره مغضبا فكسر مغزل أمه.
وذكر جحا في مثنوى مولانا جلال الدين بأسم جوحي وذلك في ثلاث نوادر
الأولى في الدفتر الثاني من الكتاب:
مشى صبي في جنازة والده يبكي ويضرب رأسه ويصيح: يا أبت إلى أين تحمل! أتوضع تحت الثرى! انك تحمل إلى دار ضيقة مقفرة ليس فيها سجادة ولا حصير، ولا سراج بالليل، ولا خبز بالنهار، ولا فيها أثر من الطعام ولا رائحة، ولا سقف ولا باب ولا جار مؤنس. كيف بعينيك في دار مظلمة خربة، وقد كانتا مقبل الناس؟ دار مخوفة ومكان ضيق لا يبقى على وجه ولا نضرة.
وظل يعدد أوصاف الدار على هذا النسق، ويذرف من عينه دمعا قانيا. فقال جوحي لأبيه: أيها الأريب! والله إن هذا الميت ليحمل إلى دارنا. قال أبوه: لا تكن أبله. قال يا أبت استمع إلى أوصاف الدار. انها لا ريب صفات دارنا: لا حصير بها، ولا سراج، ولا طعام، ولا فناء، ولا سطح، ولا باب!
النادرة الثانية في الدفتر الخامس من المثنوي فيقرأها فيه من يعرف الفارسية فليس يجمل أن تذكر هنا.
وخلاصة الثالثة: أن جحا ألح عليه الفقر فأوعز إلى امرأته أن تشكوه إلى القاضي وتستدرجه إلى بيتها. فرفعت أمرها إلى القاضي وأفاضت في بيان ظلامتها. ثم سألت القاضي أن يزورها في دارها لتحدثه في أمرها. وجاء القاضي إلى الدار فجاء زوجها فأظهرت الخوف وهولت على القاضي الأمر حتى اختبأ في صندوق. ويدخل جحا فيقول قد عزمت على إحراق هذا الصندوق فان الناس يحسبونه مملوءا ذهبا، سأخرجه غداً فأحرقه(20/54)
على أعين الناس. ولما أصبح دعا حمالا فحمله الصندوق وسار وراءه. فنادى القاضي الحمال؛ والحمال لا يدري من أين يسمع الصوت حتى عرف أنه صوت رجل في الصندوق، فسأله القاضي أن يرسل إلى وكيله ليشتري الصندوق. وجاء الوكيل فسأل عن الثمن. قال جحا: ألف دينار فلما تردد الوكيل عرض جحا أن يفتح له الصندوق ليعلم أنه جدير بهذا الثمن. وانتهيا إلى الاتفاق على مائة دينار فنقدها الوكيل وأخذ الصندوق. وبعد سنة احتاج جحا إلى المال مرة أخرى فأوحى إلى زوجه أن تعيد الحيلة مع القاضي فذهبت ترفع إليه ظلامتها من زوجها، ووكلت امرأة أخرى في الكلام حتى لا يعرف صوتها، فأمرها القاضي أن تحضر المدعي عليه، فلما جاء جحا قال القاضي: لماذا لا تنفق على امرأتك ما يكفيها؟ قال إني فقير لا أملك حتى ثمن الكفن إن حظرني الموت. فقال القاضي، وقد عرفه: نعم لقد لعبت معي عام أول فربحت، وهذه نوبتي في الربح. فإن شئت فالعب مع من تشاء ودع اللعب معي.
وقد اثبت جلال الدين هذه النوادر في شرح آرائه الصوفية والأخلاقية كدأبه في ضرب الأمثال والذهاب بقارئه كل مذهب.
في جامع الحكايات لحبيب الله الكاشاني، الحكايات الثلاث التي في المنتوي، وأربع أخرى من نوادر جحا. أترجم منها واحدة:
جاء جحا يوما إلى شاطئ دجلة فرأى بعض العميان يريدون أن يعبروا النهر. فقال ماذا تجعلون لي إن أبلغتكم الشاطئ الآخر: قالوا: يعطيك كل منا عشر جوزات، قال: ليمسك كل منكم بحزام الآخر، وليمسك أولكم بيدي. فلما توسطوا النهر اشتد التيار فذهب بواحد منهم. فصاحوا: ذهب أحدنا يا جحا! قال الآن خسرت عشر جوزات! ثم ذهب التيار بآخر فصاحوا جزعين: وآخر ذهب به الماء! قال يا ويلتا ذهب من يدي عشرون جوزة! وذهب الماء بالثالث فصاحوا: سنغرق جميعا: قال جحا: وما يعنيكم أيها الحمقى! إنما الخسارة علي! أنا الذي أخسر بكل غريق عشر جوزات.
وأخرى من نوادر جوحي في الباب الثالث من كتاب بهارستان لعبد الرحمن الجامي:
كان لرجل على جوحي مائة درهم، فرفع الأمر إلى القاضي فسأله ألك شاهد؟ قال: لا. قال القاضي لجحا فاحلف له. قال المدعي أنه لا يبالي باليمين. فقال جوحي: يا قاضي(20/55)
المسلمين: إن لم يثق بيميني ففي مسجدنا إمام تقي صادق القول حسن السيرة فابعث إليه وحلفه مكاني ليطمئن هذا المدعي!(20/56)
العُلوم
آراء وأنباء
للدكتور أحمد زكي
المزاج التجريبي:
جمعتني المصادفة في بلد ناء بخبير في اللاسلكي أجنبي، وفي إبان المجلس عرض عليه موظف مصري كبير مشروع نظام للإذاعة اللاسلكية يراد أتباعه في مصر حينما تتم المحطة المصرية الموعودة في يناير القادم. وكان المشروع طويلا عريضا كثير التفاصيل دقيق الأجزاء كثير الفروض، كثير الردود، معجبا في انسجامه، مقنعا في تلاوته، ولا شك أن كاتبه استغرق في مكتبه ساعات عديدة لتدبيره، واستهلك كثيرا من الورق والحبر قبل الانتهاء على صيغته الأخيرة. ولما فرغ صاحبنا المصري من عرضه سأل الخبير رأيه فيه وعن القدر الذي يتاح له من النجاح، فسكت الخبير هنيهة ثم قال: ابدءوا بعشر هذا فستجدون أن معالجة هذا العشر الأول سترسم لكم الطريق إلى معالجة التسعة الأعشار الباقية. لا أدري إن كان خبيرنا المذكور تثقف بثقافة علمية خاصة ولكن الذي أدريه أن عقليته لا شك علمية ورأيه الذي ارتآه صدر عن نفسية مزاجها تجريبي، والمزاج التجريبي وليد المران العلمي. فالعلم يتشكك في كل ما ينتج عن الفكرة الخالصة وعن نشاط الفكر البحت الذي لا يتعدى حدود الجمجمة. والعالِم الحديث كالسفسطائي القديم في فقدانه الثقة بالمنطق الصرف باعتباره أداة كافية لكشف الحقيقة. والعالِم الحديث يبالي بالنتيجة العملية أولا فإن فسرتها النظرية فقد حصل توافق محمود، وإن كان خصام فالنظرية مخصومة مرفوضة. وكثيرا ما تجد هذا المزاج التجريبي في رجال ليس العلم صناعةً لهم، فتجده في التجار وأرباب الصناعة وفي الساسة، وقد يكون طابعا خاصا في أمة، وقد وجدته في الأمة الإنجليزية طابعا لها، لا سيما في رجال تثقفوا بثقافة خاصة كثقافة كمبردج أو أكسفورد، والخبير الأجنبي المذكور من هؤلاء. ولو أنك عرضت هذا المشروع اللاسلكي المنمَّق على مصري ذي ثقافة قاهرية لكان سريعا إلى نقده ونقاشه بكل ما وهب من مزاج نظري ومقدرة فائقة في التخريج المنطقي، ولحَسب بعد الفراغ أنه أتى بنتاج صائب لا يأتيه(20/57)
الباطل من أي جوانبه، إذا هو طبق ونفِّذ فلن تجرؤ قوانين الطبيعة ولا سنن المجتمع أن تعترضه أو تخالفه. ولقد لبسنا معشر المصريين هذا المزاج النظري ضيّقا لِصق أجسامنا حتى ليصعب علينا خلعه، حتى بعض الذين تدرَّبوا منا تدربا علميا خاصا يميل بهم هذا المزاج حيناً فينسون التجربة وخطرها في أمور العلم وأمور الحياة. قص لي صديق عالم مصري أختصه الله من بين العلماء بنعمة الثراء لسر لا يعلمه سواه، فكانت له أرض واسعة مرضت فأتعبه تسميدها فذهب إلى خبير مصري عالم في السماد فسأله رأيه، وبعد أخذ ورد وفحص وصف له الدواء، فذهب صديقنا إلى أرضه بسن ضاحك ورجاء وافر، ولكنه بعد فترة التجربة عاد إلى صاحبه السَّماد بوجه كاشر وأمل خائب، فسأله أعندك أرض، قال لا، قال نصيحتي للدولة أن تفصل من خدمتها كل سمَّاد لا أرض له ثم تولَّى. فقلت لصاحبي لقد كان أقرب إلى الإنصاف وأدنى إلى الإحسان أن تتمنى على الدولة أن تهب أرضا لكل سمَّاد لا أرض له. فنسى صاحبي الأرض وابتسم راضيا عن هذا الحل الموفق.
سفينة في معمل:
والحق أن هناك وجها قد يخفي حتى على من يقضون أصباحهم وأمسائهم في المعامل، فإن تجربة المعمل محدودة وأوجه الشبه التي بينها وبين ظاهرة طبيعية تحدث في العراء الواسع قد تكون قليلة مبتورة، فقد تكون في تجربة المعمل صفات ُمنجحة لا تكون في الطبيعة، وقد تكون فيها صفات مخيِّبة ليست في الطبيعة، وقد يكون في الطبيعة ما ليس في تجربة المعمل، وليس من الهين كل حين إدراك هذه الفروق في الصفات ولا سيما في شئون الحياة ومناطق العرفان التي لا يزال العلم يمشي فيها بخطى محذورة ثقيلة، مستهديا في حُلكتها الكثيفة بفتيل ضئيل من زيت قنديل. وكثيرا ما أدرك العلماء هذه الحقيقة إدراكا قويا خرج بهم عن حدود العمل المعروفة وعن طرائقه المألوفة. مثال ذلك أن التفاح من أكثر الفواكه عبرا للمحيطات، وأطولها سفرا وأكثرها اختلافا بين مناطق الأرض الباردة والحارة، فكانت تتلف منه في تلك الأسفار مقادير هائلة، ففحصوا أسباب هذا التلف فاهتدوا إلى أن من أسبابه الحرارة التي تكون في قاع السفينة ولا سيما في الأقطار الاستوائية، فكان من ذلك أن أودعوه مخازن بالسفينة تبرد تبريدا صناعيا طول السفرة. ثم ارتأوا بعد(20/58)
ذلك أن الهواء المحبوس سبب قوي في الفساد الحادث، وإن التفاحة تحيا خلاياها وتموت، فهي مثلي ومثلك في حاجة إلى الأكسجين النقي لتبقى حية صالحة، وكذلك في حاجة إلى شيء من الضياء. فمهدوا للتفاح المسافر وسائل الحياة والترف احتفاظا بحيويته، فنقص مقدار العادم إلى نسبة قليلة هي خمسة في المائة. ولكن التفاح تبلغ التصديرة الواحدة منه ثلاثة الملايين من الصناديق. فالخسارة في هذه وحدها تبلغ مائة وخمسين ألف صندوق. من أجل هذا اعتزم معهد الأبحاث بـ (إيست مالنج) بمقاطعة (كنت) بإنجلترا أن يقوم بدراسة حاسمة لا هوادة فيها لخلاص تلك البقية الباقية من العدم. (وإيست مالنج) محطة لبحث النبات عالمية لها معامل واسعة تبلغ المائة من الفدادين، ولها في تربية النبات وانتقاء جذور الأشجار ولا سيما أشجار الفواكه سمعة واسعة، وهي فوق ذلك غنية قادرة، فأرادت أن تلم بكل الظروف المحيطة بالتفاح أثناء سفره، فابتنت في معاملها ما يشبه السفينة، وأقامت فيها كل ما يقوم في السفينة، وجهزتها بجهاز يزيد في حرارتها أو ينقصها حسب المراد، وأتت بحمولة التفاح فأودعتها عنبر (السفينة) وأودعت بين صناديق (البضاعة المسافرة) مائتي وخمسين ترمومترا لرصد الحرارة، وبما أن العنبر سيظل مغلقا طيلة (السفرة) فقد وصلوا الترمومترات بأسلاك كهربائية ليستطيعوا رصد الحرارة من بعيد وبخاصة إذا هاج (البحر) نعم إذا هاج البحر فإنهم أحاطوا السفينة بأكياس منفوخة بالهواء تعوم فيها عومها في الماء، وأقاموا على الأكياس آلات دافعات جاذبات تحرك السفينة مثل حركتها بين الأمواج المصطخبة والرياح العاصفة، أو من أثر التيارات الخبيئة تحت سطح البحر الهادئ. وكان هذا الجهد وكل تلك النفقة حرصا على أن تمثل تجربة المعمل تجربة المحيط بحذافيرها وحتى لا يفلت حذفور غير منظور قد يكون له خطره في النتيجة الحاصلة. ولا يزال القوامون على هذه التجربة قائمين فيها، صكوا أبواب العنبر على التفاح وتدرجوا في رفع حرارته وبدلوا له الهواء إلى غير ذلك من أمور، وأهاجوا عليه (البحر) حينا وهدءوه حينا، وستصل البضاعة في يناير القادم إلى غايتها، وعندئذ يفتح العنبر وتمتحن البضاعة. ثم تشحن السفينة بضاعة جديدة وترحل رحلة جديدة تحت ظروف جديدة، وهكذا حتى يصل التفاح إلى مقره الأخير سليما كله من كل عطب، وعندئذ تتعين الشرائط التي لا بد منها لسلامته، وعندئذ يهدم هذا الهيكل الكبير ويباع حطاما(20/59)
رخيصا وسلعة بائرة بعد أن يكون قد أكسب الإنسان سراً من أسرار الطبيعة قد يكون في ذاته هيّنا في العلم، إلا أنه في الاقتصاد خطير، فهو يرد إلى الإنسانية على مر السنين ملايين الجنيهات، وهذه بدورها تمثل طاقة إنسانية تنفق في الزرع والجني وتعهد النبات، وطاقة أخرى طبيعية مما بذلته الأرض من عناصرها والهواء من غازه والشمس من أشعتها، طاقات يعزّ على العلم والعلماء أن يروها تهدر هكذا كاللبن الصبيب والدم المسكوب.
روعة في البرتغال:
في ليلة اليوم التاسع من أكتوبر في بلاد البرتغال تساقطت من السماء السوداء رجوم بيضاء بلغت الملايين فروّعت الناس كأنهم حسبوا أن عقود السماء انفطرت فأخذت النجوم تهوي بغير حساب. وهذه ظاهرة كانت منتظرة في هذا العام الذي نحن فيه وقد تكرر إلى ختام العام.
أما سببها فالمذنَّب المعروف بمذنب (تمبل) وهو من مذنبات أسرة الكوكب السيار (أورانوس) وهذا المذنب يطوف حول الشمس في مسار بيضاوي متطاول يقطعه في ثلث قرن، وبما أنه لا يطوف في دائرة نجده في ساعة ما من سنة ما في موضع أقرب ما يكون من الشمس، ثم نجده بعد هذه الساعة بسدس قرن قد حل أبعد مواضعه منها. ثم ينصرم سدس قرن فإذا به في موضعه الأول الأدنى من الشمس، أعني الأدنى من الأرض، فهو باقترابه من الشمس يقترب منا، وهو كالمذنبات يجر وراءه ذيلا من غاز وتراب وأجسام صلبة منها الكبير ومنها الصغير. والمذنب وذنبه يسيران في الفضاء بسرعة هائلة. فإذا مس هذا المذنب بمادته هواء أرضنا بتلك السرعة المروعة احتك به فاحترق فتكونت من ذلك الشهب التي نراها. وقد أدرك هذا المذنب الأرض ورأى الرقباء شهبه في أكتوبر أو نوفمبر من أعوام 902 و934 و1002 و1101 و1202 و1366 و1533 و1602 و1698 و1799 و1833 و1866 و1901. وتجد بامتحان تلك الأرقام أن الفترات بلغت ثلث قرن أو ثلثين أو قرنا بتمامه، وقد فات الرقباء لا شك ظهور هذا المذنب في السنوات الساقطة من سلسلة السنوات المذكورة. أو لعل الأصح أن نقول أن الذي فاتهم إنما هو رؤية الشهب التي تظهر عنه فتدل عليه، فالمذنب نفسه صغير لا تراه العين أكتشفه مكتشفه(20/60)
بالتلسكوب عام 1866، وعندئذ، وعندئذ فقط، دُرس هذا المذنب ودرست دورته ودرس زمنها وانكشفت العلاقة بينه وبين شهب سجّل التاريخ حدوثها في الأزمان الخوالي. ومنذ حل عام 1930 والعلماء في ارتقاب الرسول الوافد، رسول العلم، رسول الإيمان في حسابات الرياضة وقواعد الفيزياء، رسول الثقة في العقل البشري بنَّاء لقواعد الإيمان النفسي، وقد أتى الرسول وألقى برسالته، فوقعت هذا العام في البرتغال فارتاع لها الجهال. وقديما خاف الناس الشهب وراعتهم المذنبات. أليس أبو تمام يقول:
وخوفوا الناس من دهياء مظلمة ... إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
وصيروا الأبْرُج العليا مرتبة ... ما كان منقلبا أو غير منقلب
تخرصاً وأحاديثاً ملفقة ... ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
ليت شعري أي مذنب كان هذا؟ وفي أي سنة ميلادية بالضبط كان؟ وهل هو مما سجله علماء الفلك؟ وهل في حسبان تاريخه التقريبي نفع؟
جماد يبصر حيث تعمى العين
نزلت في الصيف الماضي بضيعة من ضياع الريف بإنجلترا في دار رجل طيب الخلق سمح كريم إلا أنه شديد على كل من مس ماله وثروته، كان يذكر ذلك ويفخر به ويعلله بأنه كسب ما كسب من عرق جبينه، لا عرق جبين والد أو عم. لذلك أغمه وأهمه ونحن نزول عنده أن لصا ماكرا لحوحا ألح على بيت للدجاج له يقع بعيدا عن الدار فكان يحمل منه كل ما وجد به من البيض، وغاظ صاحبنا منه أمران، أولهما أنه كان يختلف إلى بيت الدجاج والشمس في السماء ومع هذا يفلت، وثانيهما أنه كان يلبس حذاء من قش حذَرَ أن تنطبع قدمه في الأرض فتدل عليه. وفي ذات يوم ونحن جلوس إلى المائدة يحدثنا صاحبنا الريفي للمرة العاشرة عن السارق ويشكو، إذا بأساريره تُبرق وعينه تلمع وأسنانه تتحرّق تحرق المغيظ جاءه النصر على غير انتظار. فسألناه عن خطبه، فقال فخ سأنصبه للوغد، وعن قريب تسمعون عن رقم قياسي للبيض سيدفعه هذا الكلب النذل عن كل بيضة سرقها. وفي ذات مساء والشمس تغيب والمطر رذاذ كنتُ عند الباب الخلفي للدار أتفقد السماء، فلمحت صاحبنا يهرول من بعيد، قد انكشفت نواجذه بابتسامة عريضة، وتأبط شيئا صغيرا ملفوفا في جريدة. فلما اقترب سألته عما جرى فقال صدت السارق، فقلت فأين هو؟ قال هنا،(20/61)
وأشار إلى الصندوق الذي تحت إبطه، ثم سألني أتعرف تحميض الصور؟ قلت نعم، قال فهلم إلى معونتي فخبرتي بذلك قديمة منسية. وما كادت تظهر الصورة السالبة على لوح الزجاج الأسود حتى اختطفها يحملق فيها وكأنه تبين ملامح السارق. ولم يُضْح صباح اليوم التالي حتى كان اللص في دار الشرطة ولم يسعه وقد واجهوه بالصورة الا الاعتراف. وخلاصة الأمر أن صاحبنا الفلاح خبأ الكاميرا داخل بيت الدجاج ووصلها بسلك بالباب. وكانت في مواجهة الداخل، فلما دخل اللص فتح الباب فانكشفت العدسة فارتسم المنظر فكانت شهادة لجماد لا تعد لها شهادة الأحياء.
خطر لي بعد هذا الحادث أن مضيفنا كان لا شك رجلا فطنا، وأن صاحبنا اللص كان على حيلته غبيا لأنه خالف عرف اللصوص فزار البيت نهارا، وسألت نفسي وماذا كانت الحيلة لو أنه زار الدار ليلا، وأخذت أداور حلولا في رأسي للتسلية. ثم انتقل فكري من هذا كله حتى كان هذا الاسبوع فوجدت سؤالي يجاب في بعض أنباء العالم، ذلك أن رجلا استخدم لالتقاط الصورة في الظلام مصباحا كهربائيا يشع بالنور البنفسجي المعروف، إلا أنه استبدل بزجاجة المصباح الشفافة زجاجة خاصة سوداء تحجب من الضوء البنفسجي كل إشعاعات الطيف المرئي وهي الشعاعات التي تحسها عين الآنسان وبها تبصر، ولكنها لا تحبس ما فوق تلك من إشعاعات كيميائية تؤثر في الأفلام الفوتغرافية، فأنت إذا نظرت مثل هذا المصباح في حجرة مظلمة فأنت لا تراه، ولكن إذا كان بيدك كاميرا ففتحتها ارتسمت فيها صورته وارتسم كذلك المكان. فلو أن لصا زار بيت الدجاج ليلا وكان به مصباح كالذي نحن بصدده لما أفادته الظلمة شيئا. وإلى جانب هذه الصورة أخذت في الليل بهذه الطريقة، بها السيدة تمثل اللص وإلى جانبها المصباح رأته الكاميرا وضّاءً برغم سواده في العين.(20/62)
القصَص
الجورب الوردي
للقصصي الروسي تشيكوف
أخذ السحاب الجون يتكاثف حتى حجب السماء، وطبق الأرض، وأرسل المطر هتانة، حتى أصبح إقلاعه بعيداً أمده. فجاء اليوم عابس الوجه. لا ترى في أرضه غير البرد الساقط، وطير الزاغ ويبلله القطر، وفي داخل المنازل امتد غبش الليل واشتد قارس البرد حتى أمسيت تشعر بالحاجة الشديدة لحرارة المدفئة.
كان بافيل بتروفيتش سوموف يروح ويغدو في مكتبه متأففا من الجو متبرما به، فسفعات المطر للنوافذ والظلام الشامل للغرفة حملاه على الاستياء الشديد والتذمر المر، ولقد كان ضجره لا يحتمل وما كان في يديه ما يشغله. . فالجريدة لم تصل إليه حتى الساعة والصيد متعذر حصوله، صعب بلوغه، وما كان الوقت وقت عشاء.
لم يكن سوموف وحيداً في غرفة عمله، فقد جلست إلى مكتبه مدام سوموف وهي حسناء نحيلة في غلالة بيضاء وجورب وردي، وكانت منهمكة في تحبير رسالة، وكان إيفان بتروفيتش عندما يحاذيها في جيئته وذهابه ينظر من وراء كتفيها ما تكتب فيرى حروفا كبيرة ودقيقة وضيقة منمقة غاية التنميق! لها ذيول وبها كثير جدا من الطمس والمسح والتلويث وأثر الأصابع، وكانت مدام سوموف لا تحب الورق المسطر، وكل سطر تكتبه ينحدر بتعرجات قبيحة حتى ينتهي إلى الهامش.
سأل سوموف زوجه حين رآها تبدأ الكتابة في الصفحة السادسة (لمن تكتبين مثل هذه الرسالة الضافية يا ليدوتشكا؟)
- إلى الأخت فاريا
- أوه!. . خطاب مسهب. . أنني ضجر. . دعيني أقرأه
- لك أن تقرأه. . بيد أنه لا يلذك
تناول سوموف الصفحات المكتوبة وهو يذرع أرض الغرفة وأخذ يقرأ. .
ارتفقت ليدوتشكا على ظهر كرسيها وجعلت ترقب ما على وجهه من تعابير. . استطال وجهه بعد الصفحة الأولى وظهرت عليه ملامح الرعب!! وفي الصفحة الثالثة قطب جبينه(20/63)
وحك مؤخر رأسه، وفي الصفحة الرابعة أمسك عن القراءة ونظر بوجه المرتاع إلى زوجه. . وتظاهر بالتأمل. وبعد تفكير قليل تنأول الرسالة ثانية وهو يتأوه وعلى وجهه أثر الارتباك والحيرة ثم الأرجاف والفزع.
لما فرغ من قراءة الرسالة قال متمتما: (حسن!. . هذا لا يجوز! ورمى بالأوراق على المكتب، هذا لا يصدق، ما في ذلك ريب. . .).
فسألته ليدوتشكا وقد امتقع لونها: ما الخبر؟
- ما الخبر؟ تملئين صفحات ستا وتمضين ساعتين في خرفشة لا معنى لها ولا طائل تحتها. . . ولا شيء فيها بالمرة. . آه لو كان بها ولو فكرة ضئيلة! يقرأ المرء ثم يقرأ وفكره مشوش، وذهنه مضطرب كأنما يفك أغلاقا صينية عن صناديق شاي! أوه!
قالت ليدوتشكا وقد ضرج وجهها الحياء: هذا صحيح يا فانا. . كتبته دون عناية
- أجابها: إهمال زائد عن الحد. . ففي رسالة غير منمقة ولا محبرة. . . معان وأسلوب. . وإحساس، أما رسالتك فسامحيني، ان قلت لك بأني لا أتذوق لها طعما. . جمل وكلمات لا إحساس فيها ولا معنى لها. خطابك جميعه. . كمحادثة بين صبيين (عندنا عجة اليوم. . جاء جندي ليرانا. .) انك تكررين المعنى الغث البارد، لك أن تريه وتعيديه بنفسك. أما الفكرة السخيفة فترقص بين السطور كالشياطين ولا حد عندك للبدء من النهاية. . كيف تكتبين هكذا؟
قالت ليدوتشكا تدافع عن نفسها: إذا كنت أكتب بتجويد وعناية. . لا يمكن أن تكون هناك غلطات.
فأجابها زوجها: إنني لا أتكلم عن الأخطاء. . الأخطاء النحوية المروعة. لا يوجد سطر لا يعد إهانة شخصية للنحو. لا وقف ولا علامات ولا هجاء! إنه يأس مريع! إنني لا أمزح يا ليدا فأنا مروع فزع من رسالتك، لا تحزني يا عزيزتي فما كنت أظن في الواقع أنك تجهلين النحو هكذا. . . مع أنك تنتمين إلى بيئة مثقفة ودرجت في بيت علم. فأنت زوجة رجل جامعي وابنة قائد. قولي لي أذهبت إلى المدرسة؟
- نعم لقد تعلمت في مدرسة فون مبكي الداخلية.
فهز سوموف كتفيه واستمر في مشيته متأوها. . . أما ليدوتشكا العالمة بجهلها فتنهدت ثم(20/64)
نكست رأسها. مرت عليهما دقائق عشر ما نطقا فيها بحرف.
وقف سوموف فجأة أمامها ونظر إلى وجهها برعب وقال: إنك تعرفين يا ليدوتشكا أن الأمر جد! أنك أم!. . . أتفهمين؟. . أم!. . كيف تعلمين بنيك إذا كنت لا تفهمين شيئا؟ أنك ذات عقلية خصبة وذهنية نيرة. . . ولكن ما جدوى ذلك إذا كنت تجهلين كل شيء. فلا تعرفين شيئا من الآداب ولا من العلوم على أننا سنغض النظر عن المعارف، لأن الأطفال سيتعلمون ذلك في المدرسة، ولكنك تعرفين ضعفك في الأدب وبلادتك فيه، تستعملين في بعض الاحيان لغة تجعل أذني في طنين!
ثم هز سوموف كتفيه مرة أخرى وجمع إليه ثوبه واستمر في سيره. . . شاعرا بالغيظ والحنق، وفي الوقت نفسه آسفا على ليدوتشكا التي لم تحتج ولم تعترض، ولكنها اكتفت بأن ترمقه من طرف خفي. وأحسا معا بالضيق الجاثم على قلبيهما، والهم المتمكن من نفسيهما، حتى أذهلهما الحزن عن كل شيء فلم يدريا كيف مر الزمن وكيف قربت ساعة العشاء.
ولما جلسا للطعام شرب سوموف المولع بالطعام الشهي الهني قدحا كبيرا من الفودكا وشقق الحديث فأداره على وجوه أخر. وكانت ليدوتشكا تسمع لما يقول مسلمة راضية. بيد أنها وهي تشرب الحساء أخضلت عيونها بالدمع ثم خنقتها العبرات.
فنهنهت دمعها بمنديل وقالت: (إنها غلطة والدتي! نصحها جميع الناس بإرسالي إلى مدرسة عالية، ومن هناك كنت على يقين من ذهابي إلى الجامعة).
فتمتم سوموف (الجامعة!. . . مدرسة عالية!. هذا كثير يا بنيتي! ما الفائدة من أن تكوني احدى ذوات الجورب الأزرق! الجورب الأزرق هو الشيطان الرجيم في نار الجحيم!! لا يمسي صاحبه رجلا ولا امرأة، وإنما يكون شيئا بين بين، أني أبغض من كل قلبي الجوارب الزرقاء. . . ولن أتزوج امرأة متعلمة).
فأجابته ليدوتشكا! لا أدري كيف أفهمك؟ تغضب لأني لست متعلمة وفي الوقت نفسه تكره النساء المتعلمات! لقد تنكرت لي وسخرت بي لأن رسالتي كانت خلوا من كل فكرة، فارغة من كل معنى، ومع هذا فأنت تعارض في دراستي ولا تستحسن تعلمي.
- لقد أصبت شاكلة السداد يا عزيزتي. قال هذا سوموف وهو يتثاءب ثم ملأ قدحا آخر من الفودكا.(20/65)
تحت تأثير الفودكا والطعام الجيد أصبح سوموف أكثر رقة ودماثة. أخذ يرقب باهتمام زائد زوجه الحسناء وهي تعمل التوابل. فغمره فيض من الحنان المحض والحب الشديد، ودفعته عاطفة ملحة إلى النسيان والتسامح، ثم أخذ يحدث نفسه ويلومها: إنها غباوة مني أن أغضب هذه الفتاة المسكينة! ما الذي حملني على الجهر بكل هذه الأشياء الجارحة. إنها غبية، ذلك حق. . غير مثقفة. . سطحية. . بيد إن للمسألة وجهين. . . . . .
(والوجه الآخر مفهوم.). . . . ربما يكون الناس على حق عندما يقولون أن سطحية المرأة ترجع إلى حرفتها. ومن المسلم به أن من عملها أن تحب زوجها وتربي أطفالها، ثم تصنع التوابل!! فما الذي ترجوه من التعليم؟ لا شيء على التحقيق.
وهنا ذكر أن النساء المتعلمات غالبا مملات يبعثن الضجر والسأم في النفس، ثم هن دقيقات صارمات عنيدات. ولكن ما أيسر توفيقك مع الغبية ليدوتشكا التي لا تشمخ بأنفها. . ولا تصعر خدها ولا تفهم كثيرا. . . أنه السلام والراحة مع ليدوتشكا ولا خطر منها على المرء أبدا: (لعنة الله على أولئك النسوة البارعات المتعلمات! ولخير للمرء وأحسن عقبى أن يعيش مع الساذجات منهن). ثم دار بخلده وهو يتناول صحنا من لحم الفروج من ليدوتشكا أنه في بعض الاحيان قد يشعر الرجل المثقف بالرغبة الشديدة في الحديث ومبادلة الأفكار مع امرأة حاذقة كاملة التعليم. ولكنه قال: (ما هذا) إذا رغبت في التحدث عن موضوعات عقلية. . . فسأذهب إلى (ناتالا أندريفنا) أو إلى (ماريا فرانتسوفنا)، هذا سهل جدا. . . ولكن لا. لن أذهب فالمرء يستطيع البحث فيالأمور العقلية مع الرجال. ثم قطع بهذا أخيراً!!!
محمود البدوي(20/66)
الشاعر روبنيول
كوميدية في فصل واحد
للكاتب الفرنسي بول برولا
قلت للشاعر والشا ... عر ذو سهم يطيش
أنت إن عشت تمت جو ... عا وإن مت تعيش
جميل صدقي الزهاوي
(المنظر: ساحة قرية سانجان ديفين الوحيدة. يرتفع الستار فترى حركة غير عادية فالأهلون يتأهبون للاحتفال برفع الستار عن تمثال نصفي من المرمر للشاعر فرنسوا روبنيول الذي اختفى في أوائل الحرب الكبرى واعتقد الناس أنه ميت. يرى التمثال وسط الساحة وقد قام على قاعدة حفر عليها أسم الشاعر وتاريخا ميلاده وموته، وعلى جدار أحد المنازل كتب بحروف بارزة التنبيه الآتي: (ممنوع وقوف السابلة) ثم يرى خفير القرية مشغولاً بترتيب المقاعد حول النصب التذكاري استعدادا للحفلة. جموع من العمال والفلاحين والملاك والنساء والأطفال وبعض رجال المطافئ وأحد الشرطة).
المشهد الأول
العمدة. وكيل العمدة
العمدة - (مشرقا من الغبطة) أخيراً حل اليوم السعيد! كاد يفرغ صبرنا ونحن نتعجل هذه الساعة المجيدة!
الوكيل - كل هذا صنع يدك يا سيدي العمدة!. . لقد شاهدتك عن كثب ورأيت بعيني المتاعب الجمة التي تحملتها وحدك لتحتفل بهذا النصب التذكاري!
العمدة - فعلا كدت أرزح من التعب يا وكيلي العزيز وشريكي الفاضل في تهيئة هذا المهرجان الأدبي العظيم. . .
الوكيل - (متواضعا) أوه! شريكك! إن طيبتك الفطرية يا سيدي العمدة لتغالي في تقدير ما قمت به!. . . إني لم أجازف بأكثر من معاونتك و. . .
العمدة - (مقاطعا) حسن! حسن!. . آه يا صديقي. لقد أدرك الكل أخيراً أننا نحمل في(20/67)
أعناقنا هذه الدية المقدسة نحو ذكرى شاعرنا الكبير فرنسوا روبنيول، مجد قريتنا الخالدة سانجان ديفين!. . . بفضل أشعاره الرائعة لم نعد مجهولين بين مواطنينا في أنحاء فرنسا! جميع صحف العاصمة تتحدث عنا وهي تمجد عبقرية فرنسوا روبنيول!. . .
الوكيل - (ينظر في ساعته) الساعة الآن الثانية والنصف وقد تقرر ميعاد الحفلة في الثالثة!. . . حضر وكيل المديرية ولم نعد ننتظر غير حضرة النائب المحترم الذي سيجيء خصيصا من باريس.
العمدة - آه! نعم! حدثني عن حضرة النائب المحترم! تصور يا صديقي أنه لم يكن قد سمع بفرنسوا روبنيول قبل الآن! أما اليوم فهو يشيع في كل مكان أنه أول من اكتشفه!. . .
الوكيل (ضاحكا) لم يفطن أحد إليه ولم يكن بين سكان القرية من يؤمن برسالته!.
العمدة - تخطيء يا صاحبي تخطيء!. . أنا، لم أشك لحطة واحدة في نبوغه!. . نعم، أعرف أنهم كانوا يذيعون عنه (في حياته) أن به مساً من الجنون لقرضه الشعر. . وكان ذلك مدعاة للسخرية منه والهزء به، ولكني الوحيد الذي اكتشف عبقريته الوليدة!
الوكيل - يا لروبنيول المسكين!. من كان يظن أنه سيصبح شهيراً. . بعد موته!. . من كان يتصور أن يقام له تمثال في القرية وأن يطلق أسمه على أهم شوارعها!؟. .
العمدة - في لهجة (خطيرة) انا نتدارك اليوم خطأ فاحشاً!
الوكيل - ونفخر جميعا بشهرته اللامعة!
العمدة (مقتربا من الوكيل يساره) ولو أن الآنسان عندما يتوسم هذا الوجه يصعب عليه أن يميز في سماته كل هذه الكفاءة النادرة!. .
الوكيل - (كمن يلقى حكمة غالية) يا سيدي العمدة لا يعرف قدر عظماء الرجال إلا بعد موتهم!. . (صمت قصير) يخيل الي أني ما زلت أراه سابحا أمامي في خياله. غائصا في لجة أفكاره العميقة كان يتأهب ولا شك لتدوين روائعه الخالدة!. .
العمدة - بينما الناس كانوا يتهمونه بالكسل ويتشككون في رجاحة عقله!. . حتى امرأته التي كانت لا تخفي عنه احتقارها إياه!. .
الوكيل - أما اليوم فقد عادت فخورة بحمل هذا الاسم العظيم!
العمدة - نعم. أصبحت الأرملة الشهيرة التي تشع حواليها هالة المجد!(20/68)
الوكيل - يقال أنها اعتزمت الامتناع عن الزواج!. . (ساخرا) إلا إذا أتيح لها أن تقترن بأحد الخالدين، إذ مما لا شك فيه أن روبنيول لو امتد به العمر إلى يومنا لأنتخب عضوا في المجمع الأدبي!
العمدة - يجب أن تعترف أن سلوكها الخلقي منذ ما توفي زوجها لا غبار عليه. .
الوكيل - (متخابثا) نعم. . منذ أن توفي!. . أما قبل ذلك. . على كل حال سوف نراها بعد حين في ثياب الحداد. . وكأنها تمثال الأسى الذي لا تنفع فيه تعزية!. .
(يستمران في الحديث ثم يتجهان نحو التمثال حيث يستقبلان الوافدين، مصافحات بالأيدي، تحيات الخ)
المشهد الثاني
العمدة الوكيل. شرطي. خفير القرية. المجهول
(يبدو المجهول فيتوسط الساحة وهو يتأمل الجمع من خلال نظاراته السوداء وقد أرسل لحيته الكثيفة وارتدى لباسا قرويا)
الشرطي - (لخفير القرية) ألم تلاحظ هذا المخلوق الغريب الذي يرود الناحية منذ هذا الصباح! لا يعرفه من أهل القرية أحد ولا أدري من أين جاء!. . .
خفير القرية - يبدو من ملابسه أنه في فقر مدقع! لا بد أن يكون أحد المتشردين!. . .
الشرطي - لن تغفل عيني عن مراقبته!
(يقف المجهول أمام بعض المارة يسألهم ولكنهم يدبرون في غير اكتراث)
الشرطي - ألم يقرأ المعتوه الإعلان الحكومي: (ممنوع وقوف السابلة)؟
خفير القرية - (ضاحكا) ربما كان لا يعرف القراءة!
الشرطي - لم تغفل عيني عن مراقبته! (يبتعد الشرطي مع خفير القرية)
المشهد الثالث
المذكورون. بعض المارين. معلم القرية
(يقترب المجهول من بعض الملاك ويتكلف الحديث بلهجة قروية)
المجهول - عفواً أيها السادة. أرجو أن تتفضلوا عليّ ببعض معلومات بسيطة. . .(20/69)
أحدهم - ماذا تطلب؟
المجهول - قدمت إلى هنا بمناسبة المهرجان. . . نعم مهرجان الاحتفال برفع الستار عن تمثال فرنسوا روبنيول، وأريد أن أعلم في أية ساعة تحتفلون به؟
أحدهم - في الساعة الثالثة. . . ولا ننتظر إلا أولي الأمر. .
اثنان منهم - (للمجهول) وأنت من تكون؟
المجهول - كنت أعمل أجيراً في إحدى الضياع البعيدة. أما الآن فقد أصبحت عاطلا ولذا ترونني أتنزه.
المالك الثالث - تنزه يا صاحبي تنزه!.
المجهول - (في شيء من التردد والخجل) هل لي أن أسألكم. . .
المالك الأول - سر في طريقك يا رجل! لا نملك وقتا للرد عليك!. لو أن الآنسان أصغى لجميع الناس لما بقي لديه لحظة لنفسه!
(يبتعدون جميعا عن المجهول)
المشهد الرابع
المذكورون. التمثال
العمدة - (وقد وقف أمام التمثال يقول موجهاً قوله للتمثال): في غاية من الروعة والدقة تمثالك يا أستاذ.
الوكيل - طرفة حقيقة! يا للجبين الناصع! يا للرأس الجميل! والعجيب أننا جهلنا نبوغه المشرق!
العمدة - أعد نفسي سعيداً يا سيدي بأن أحمل إليك بشرى سارة: لقد حصلنا لك من وزارة الفنون الجميلة على وسام جوقة الشرف.
التمثال - هذا منك طيبة لا استحقها يا سيدي العمدة. . بل شرف عظيم يبهظ كفاءتي المتواضعة! لكني مع الأسف أحمله.
العمدة - تحمل ماذا؟
التمثال - (باسماً) وسام الشرف!
الوكيل - يا للخطأ الفاضح!(20/70)
التمثال - لا. لا داعي للكدر. لن يمنعني ذلك عن حمل وسامين.
(يضحكون ثم يحتاطون بالتمثال مصافحين الخ الخ. .)
التمثال - أشكركم! أشكركم يا أصدقائي الأعزاء! هذا اليوم أجمل أيام حياتي! (يستمرون في الحديث)
المشهد الخامس
المجهول. معلم القرية
(يجيل المجهول الذي ظل مدة من الزمن وحده في جانب من الطريق نظرة فاحصة حواليه فيبصر بمعلم القرية فيبتسم بسمة خبيثة ويتقدم إليه).
المجهول - تنازل واغفر لي فضولي الملح يا سيدي! هل تسمح لي أن ألقي عليك بعض الأسئلة؟ إنها تختص بشاعركم الكبير فرنسوا روبنيول!
معلم القرية - سل ما تشاء.
المجهول - هل كانت لسيدي معرفة شخصية بروبنيول؟
معلم القرية - (يشب بصدره مفاخراً) لقد كنت في المقاطعة أخلص أصدقائه. بل صديقه الوحيد. كان الناس ينكرون عليه نبوغه. وأنا وحدي فهمت تلك الروح الكبيرة الحائرة وعطفت عليها أستمع إلى نجواها السماوية. لذا اختصني المرحوم بشكاواه المرددة، وبهمس قلبه المعذب. إني معلم القرية!
المجهول - وهل تيقنتم من موته؟
معلم القرية - لو لم يمت لعلمنا بوجوده من خمس سنوات مضت على اليوم الذي اختفى فيه فجأة. . بالضبط في أوائل شهور الحرب الكبرى.
المجهول - و. . شكله؟
معلم القرية - كان ذا وجه صبوح. حليق اللحية والشارب. جبين مشرق. عين حالمة. تأمل تمثاله النصفي. إنه هو تماما!.
المجهول - (متأملا التمثال) في الواقع هذا رأس جميل!. وكيف كان يعيش؟
معلم القرية - في أحلامه دائماً. كانت عاداته وطباعه تنم عن بساطة شديدة. وكان أحب شيء إليه أن يرود قمم الجبال وحيداً، ويفكر ويتأمل. أن النفوس الكبيرة لا تجد قوتها إلا(20/71)
في الوحدة!
المجهول - هذا حق! (صمت قصير) وكيف تكشفتم عبقريته الدفينة؟
معلم القرية - في ذات يوم كتب أحد كبار نقاد العاصمة بحثاً مستفيضا عن أعمال الشاعر فرنسوا روبنيول الأدبية بمناسبة موته في ميدان القتال. وكان مما كتبه قوله: (لقد نكبت الآداب الفرنسية بخسارة أخرى فادحة) ثم قال بعد ذلك: (إلا أن روبنيول من أولئك النوابغ الذين واتاهم الحظ السعيد فتراهم يحيون بعد موتهم. . أنهم يحيون في أعمالهم الأدبية الخالدة، في شعرهم الذي يجالد القرون المتعاقبة زاهيا وضاء كأول فجر أشرف على الإنسانية. .) هذا البحث الأدبي البديع نقلته جرائد مقاطعتنا عن جرائد العاصمة وعقبت عليه بشتى التقريضات. . وهكذا انتشرت دواوينه الشعرية بيننا وأثارت الكثير من الحماس والإعجاب. . (صمت قصير) كيف أمكننا أن ننكر نبوغ رجل مثل هذا!.
المجهول - (يطرق مفكراً ثم يقول) نعم، أنه لخير عظيم للشاعر أن يموت! (بعد فترة وجيزة) وأرملته؟
معلم القرية - لا تجد إلى التعزية سبيلا!. لن تتوانى عن الحضور. سوف تراها بعد قليل.
المجهول - هل لك أن تقدمني إليها؟
معلم القرية - وهل لك حاجة إليها؟
المجهول - نعم. أود أن أقدم إليها قصيدة من الشعر ألفتها للمناسبة تمجيداً لروبنيول.
معلم القرية - (دهشا) أأنت أيضا شاعر؟
المجهول - (متواضعا) نعم!
معلم القرية - (ضاحكا) حسبتك أحد القرويين.
المجهول - أني قروي أيضا (ضاحكا) الشاعر القروي!
معلم القرية - عجيب وربي! ومع ذلك، لم لا؟. انظر! ها هي الأرملة المجيدة!
المشهد السادس
المذكورون. والأرملة
(تبدو الأرملة العظيمة وقد ارتدت كامل ثياب الحداد، بطيئة الخطوة، مرفوعة الرأس، مهيبة الطلعة، فيحتاط بها الناس ثم تجلس على مقعد كبير. عندئذ يتقدم إليها المجهول(20/72)
فينحني أمامها انحناءة عميقة ثم يخرج من جيب ردائه ملفاً من الورق)
المجهول - سيدتي! إسمحي لي أن أرفع إلى مقامك السامي احتراماتي. . وهذه الأبيات التي كتبتها إشادة بمجد الشاعر العظيم الذي تحملين أسمه الخالد!
الأرملة - (في عدم اكتراث ظاهر) أكانت لك به علاقة سابقة؟
المجهول - كلا يا سيدتي. . غير أني أحفظ جميع قصائده عن ظهر قلب. . ولا أزال شديد الإعجاب بها.
الأرملة - (متقبلة الورقة التي يقدمها في خشوع) عفواً ماذا تُسمى؟
المجهول - جوزيف. . جوزيف فيليو
صوت - ما أسمج الرجل!. . لقد أطال الحديث!
صوت آخر - يغالي في إستغلال الفرص!
الأرملة - (للمجهول) أتقيم في البلدة؟
المجهول - لا يا سيدتي! مضى زمن طويل على هجرتي منها. . هذا هو السبب الذي جعل الكل ينكرون معرفتي.
(تكونت دائرة من الناس حول المجهول والأرملة)
صوت - ما الذي جاء يفعل هنا، هذا الغريب؟
صوت آخر - تأملوا حذاءه البالي. . تأملوا سترته الممزقة وسرواله المتسخ!. . لا شك أنه شحاذ!. .
صوت آخر - ربما كان لصاً؟
صوت آخر - من الصواب أن يطرد خارج القرية!
معلم القرية - على كل حال لا أراه يزعج أحداً. . وله الحق في أن يعجب بروبنيول كغيره من الناس!
الأرملة - (وقد انشغلت أثناء الحوار الأخير بتلاوة الأشعار)
نعم. . . لا بأس بهذه الأبيات!. . (تقرأ بصوت عال) (لا تحزن فما الموت إلا كلمة جوفاء! عندما توارى في التراب) (وتحجب ظلمة القبر عن عينيك دنيا النور، عندما تشعر) (بجثمانك البارد وقد فارقته حرارة الحياة وبدأت ديدان الأرض تأكله) (فلا تصدق(20/73)
أنك إلى الفناء، لأن قلبك المرتعش ما زال ينبض) (وما زالت في عمق أعماقه نطفة الحياة والخلود!)
(توجه الحديث إلى من حواليها تقول في شيء من التسامح:)
الأرملة - لا بأس بهذه الأشعار! خصوصا والشاعر مبتدئ. . (للمجهول) ربما واتاك النبوغ. . . يوماً ما!. . (تعيد إليه ملف الورق)
المجهول - (في صوت خافت وهو يشير إلى التمثال) نعم مثله. . بعد موتي!
صوت - هذه أشعار تافهة!
صوت آخر - باهتة!
صوت آخر - بائخة!
صوت آخر - ليرحل عنا هذا الشويعر! لقد أتعبنا مرآه!.
المشهد السابع
المذكورون، النائب المحترم. وكيل المقاطعة
(حركة عامة وضوضاء فجائية. يدخل النائب المحترم متبوعا بوكيل المقاطعة. يصافحان الحاضرين ثم يأخذ كل مكانه لبدء الحفلة يجلس النائب المحترم على كرسي الرياسة وإلى يمينه الأرملة وإلى يساره وكيل المقاطعة والعمدة. يسود صمت عميق مدى لحظة ثم يقف النائب)
النائب - الكلمة لحضرة العمدة!
(يقف العمدة وينحني يمينا ويسارا متكلفا الرزانة والوقار ثم يبدأ بقراءة الخطبة وقد وقف إلى جانبه معلم القرية)
العمدة - حضرة النائب المحترم! سيدي وكيل المقاطعة!، سيدتي، مواطني الأعزاء!
إن هذا اليوم ليس يوم حداد. . إننا لا نبكي ميتا. . إذ أن هناك أموات كما قال الشاعر يو. . يو. . (يتوقف عن القراءة لرداءة الخط)
معلم القرية (يلقنه) يحطمون. .
. . . يحطمون بجمجمتهم صخر قبورهم!. . (حركة ارتياح وموافقة من الجميع. يرفع عقيرته)(20/74)
فرنسوا روبنيول أيها السادة ما زال حيا بيننا! نعم ما زال حياً في ذكريات كل منا. . وسوف يحيا إلى الأبد في ذاكرة البشر لأن العبقرية تهزم الزمن، والفناء لا سبيل له إلى الخلود!
الجميع - جميل جداً! جميل جدا! ليحيا الخطيب!
العمدة - (مستمراً) وا أسفاه! أيها السادة وأنا أستعرض أمامكم صورة هذا المواطن الذي أصبح في الخالدين والذي تشرفت قريتنا المتواضعة بفتح عينيه للنور، تواردت إلى خاطري الحزين كلمة باسكال المأثورة: ما الحياة إلا نوم عميق لا نصحو منه إلا. . إلا. . . .
معلم القرية - (يلقنه) ساعة الموت!
العمدة - (يعيد بقوة) ساعة الموت!. . . وفي واقع الأمر يخيل إلي أن روح فرنسوا روبنيول كانت تنتظر بفارغ الصبر اللحظة التي تفارق فيها جسده البالي كما تتجلى أمامنا. أيها السادة لقد عبر شاعرنا العظيم وادي الألم هذا مجهولا من الجميع، مجحود الفضل، دون أن يتململ راضياً كفيلوسوف قانع بأسم بما ارتضاه له القدر من حظ عاثر ومكان وضيع فكان بعمله هذا حكيما إذ أن المجد أغلى نعم الدنيا ثمناً! وحم القضاء أيها السادة فتلقفت أيد قدسية أعماله الأدبية المتناثرة وضمتها إلى بعضها في دواوين حفظتها للخلود! هكذا أتيح لصحافتنا ولجريدتين من أمهات جرائد العاصمة أن تدرس أشعاره العلوية وأن تزف إلى فرنسا وإلى العالم المتحضر أبكار معانيه الساحرة وأوزان قوافيه الموسيقية. حينذاك أصغى الناس إلى هذه الأنغام السماوية وشاع الحماس في كل الأوساط فكتب ناقد كبير يقول: (إن فرنسا الشاعرة تضم إلى شعرائها الخالدين شاعراً غنائياً عظيماً، هو منهم في الصدر) أيها السادة إن هذا المجد المتلألئ يضيء اليوم قرية سانجان ديفين التي تذكر لأول مرة في تاريخ الأدبيات الفرنسية. فقد تغنى شاعرنا الراحل بمناظرنا الطبيعية الرائعة في قصائده الخالدة. . . وهكذا أصبح لنا بفضله وجود وخرجت قريتنا العزيزة من دياجير الظلمة والجهل إلى نور الشهرة الباهرة.
(تصفيق حاد عنيف متواصل)
(يستمر) نعم أيها السادة، كان فرنسوا روبنيول بين ذلك النفر الممتاز الذي يحيا وقد مات!(20/75)
لقد صاغ بنفسه هذا المعنى في أبيات كتب لها الخلود!.
(لا تحزن فما الموت إلا كلمة جوفاء! عندما توارى في التراب) (وتحجب ظلمة القبر عن عينيك دنيا النور، عندما تشعر) (بجثمانك البارد وقد فارقته حرارة الحياة وبدأت ديدان الأرض تأكله) (فلا تصدق أنك إلى الفناء، لأن قلبك المرتعش ما زال ينبض) (وما زالت في عمق أعماقه نطفة الحياة والخلود!)
(تصفيق كهزيم الرعد)
أصوات مختلف - ما أجمل هذه الأشعار! بديع! عظيم! يا للشاعر الفحل! يا للعبقرية!
(هنا تنفجر ضحكة هائلة فيلتفت الجميع فإذا بالضاحك هو المجهول! هرج ومرج! يندفع الكل إليه حانقين)
صوت - (في أشد حالات الغضب) من تكون يا رجل؟
صوت آخر - ماذا تعمل هنا؟ لست من أهل الناحية!
سيد - (يأخذ بتلابيبه) اعترف بأنك مرتش من أعدائنا لتثير فضيحة!
أصوات عديدة - ليطرد! ليطرد!
وكيل المقاطعة (للشرطي) أيها الشرطي، فتش هذا المخلوق!
النائب المحترم - سله أن يبرز أوراق إثبات الشخصية!
(موافقة من الجميع)
الشرطي - (يدافع الجمع الحاشد) سأفعل يا حضرة الوكيل! ويتقدم من المجهول ويمسك بذراعه: عجل بتقديم أوراقك!
المجهول - (يخرج من جيبه شهادة ميلاده وأوراقا أخرى)
الشرطي - (لا يكاد يلقي نظرة على شهادة الميلاد حتى يقول مصعوقاً) ما معنى هذا؟ يا للشيطان! تسخر من السلطات الحكومية يا رجل؟
وكيل المقاطعة - (يتقدم هو أيضا ويلقي نظرة جائلة على الأوراق فيصرخ دهشاً): أممكن هذا؟ لا أفهم!
المجهول - لا تفهم؟. . لقد قرأت جيداً! هذه شهادة ميلادي: (فرنسوا روبنيول ولد في قرية سانجان ديفين يوم الأحد 17 يناير سنة 1890) وأنا هو فرنسوا روبنيول: آه يا سادة! أنتم(20/76)
لا تتعرفون سحنتي والحق معكم: تغيرت كثيراً عما كنت عليه قبل هذه السنوات الخمس التي مضت. . فقد أرسلت لحيتي وشاربي. . تأملوني مع ذلك جيدا. . (ينزع منظاره عن عينيه ويرى يميناً وشمالا) ألا تذكرني يا جنتران؟ ولا أنت يا باتاريل؟ وأنت يا جيشو؟ ألا تذكر أيام كنا ننطلق معا إلى الجبل؟. هذا هو مسكني (مشيراً إلى أحد المنازل) (دهشة عامة. يستمر في حرارة متزايدة) لكم آلمتموني! لقد نغصتم علي عيشي فلم أطق الحياة بينكم. . ولذلك اختفيت. ادعيت الموت فعاد علي ذلك بالخير العميم والمجد العظيم. . . (ضاحكا) لأن الناس لا يعدلون إلا مع الأموات! إذن حسبتموني ميتا أيها السادة! وا أسفاه، ما زلت من سكان هذا العالم! وها أنا ذا أقول لكم: انتهت المهزلة. . . . فتعالوا نضحك معا سويا. . .
العمدة - هذا الرجل مخلوق كاذب!
الجميع - كفى! كفى! إنه يريد الهزء بنا! أخرسوه اطردوه.
النائب المحترم - (في هياج شديد) من العار أن نسمح لهذا الدعي أن يسخر منا!
معلم القرية - إنه مشعوذ سخيف!
المجهول - (في صوت جهوري) هنا مع ذلك شخص لا يمكنه أن ينكر معرفتي! (يشير إلى الأرملة) هذه المرأة!. . (غمغمة عامة: فضول!)
الأرملة - (في احتقار) لا أعرف هذا الإنسان!
الجميع - أرأيت؟ أنت مجنون!. . ألقوا به إلى الخارج! اقبضوا عليه!. . إلى السجن! إلى السجن! (يقفز المجهول إلى المنصة ويصيح بين الضحكات والاحتجاجات العاصفة)
المجهول - أيها الحمقى! إنما أقمتم هذا التمثال لأنفسكم. . لغروركم الوضيع. لم يكن فرنسوا روبنيول بالشاعر الكبير. بل كان فنه كاذبا وعبقريته مزيفة. فلو كان عظيما حقا لما فهمتموه! إنكم إما مجدتموه لأنه مرآة نفوسكم الخاملة، وصورة أذهانكم المحدودة. إنه لم يمت، وها هو ذا أمامكم، لا في صورة تمثال من المرمر بل حيا يرزق، وفي استطاعتي أن أبدي فيه رأيا صريحا خيراً من أي واحد منكم. لأنني. أو بعبارة أخرى لأنني كنت. . .
(لكنه لا يستطيع الاستمرار فصرخات الاحتجاج تغطي صوته (يصيح الكل: انتزعوه من على المنصة) ألقوا به إلى النهر أصبح السخط عاما. يتقدم الشرطي وخفير القرية من(20/77)
المجهول ويستاقانه في غلظة)
الشرطي - (يجذبه بعنف) كفاك سفسطة! إلى السجن!. . . لا تعاند! تقدم معي!
(يمضي الشرطي بالمجهول فتصدح الموسيقى بنشيد المرسلين)
النائب - (يقف ويشير إلى الجمع بالصمت) يا أصدقائي الأعزاء! هذا الحادث السخيف الذي أثاره مجنون (أصوات نعم نعم) لا ينبغي أن تمنعنا عن أداء واجبنا المقدس نحو ذكرى شاعرنا الكبير فرنسوا روبنيول!
(أصوات: ليحيى روبنيول!)
النائب - أيها السادة، الحفلة مستمرة. إن مجد فرنسوا روبنيول هو مجد قريتنا العزيزة سانجان ديفين. . . وموته خسارة لا تعوض على العالم المتمدن!. . .
(يستمر في الخطابة بينما يسدل الستار شيئا فشيئا)
فتوح نشاطي(20/78)
بلياس ومليزاند
للفيلسوف البلجيكي موريس ماترلنك
ترجمة الدكتور حسن صادق
راينيولد - نعم. نعم. إنها تجالد كل الوقت الذي تغيب فيه عن البيت.
جولو - آه!. . . أحد الناس يجتاز الحديقة وبيده مصباح ولكن قيل لي أنهما لا يتحابان. . . ويغلب على ظني أنهما يقضيان أغلب الأوقات في جدل عنيف. . . كلا؟ نعم؟ حقا؟
إينيولد - نعم. هذه حقيقة.
جولو - نعم؟. . آه! آه!. . . ولكن فيم يتجادلان؟
إينيولد - في شأن الباب.
جولو - كيف؟ في شأن الباب؟ ما هذا الهراء الذي تقصه علي؟ ألق بالك إلي وأفصح. لماذا يتجادلان في شأن الباب؟
إينيولد - لأنهما لا يريدان أن يظل مفتوحا.
جولو - أيهما لا يريد أن يظل الباب مفتوحا؟. . أوه! تكلم. لماذا يتجادلان؟
إينيولد - لا أدري يا أبي. . . النور سبب الجدل.
جولو - موضوع حديثنا الباب لا النور. . . ما هذا؟! لا تضع يدك هكذا في فمك. . .
إينيولد - أبي! أبي! لن أفعل أبداً ما نهيتني عنه. . (يبكي)
جولو - تكلم. علام البكاء؟ ماذا حدث؟
إينيولد - أوه! أوه! لقد آلمتني يا أبي.
جولو - آلمتك؟ في أي موضع؟ لم أشعر بما فعلت ولم أقصد إليه.
إينيولد - هنا. في ذراعي الصغيرة.
جولو - لم أرد إيلامك يا بني. . . كف عن البكاء. . . سأعطيك شيئا غداً. .
إينيولد - ماذا يا أبي؟
جولو - سأهدي إليك قوساً وسهاما. . . ولكن قص علي ما تعرفه من أمر الباب.
إينيولد - أتهدي إلي سهاما كبيرة؟
جولو - نعم غاية في الكبر. . . لماذا لا يريدان أن يظل الباب مفتوحا؟. . . ما هذا(20/79)
الصمت الأليم؟! تكلم. أجب. . . لا. لا. . . لا تفتح فمك لتبكي. . . ليس بي استياء ولا كدر. فيم يتحدثان وقت اجتماعهما؟
إينيولد - بلياس وأمي الصغيرة؟
جولو - نعم. في أي شأن يتحدثان؟
إينيولد - يتحدثان عني. دائما في شأني.
جولو - وماذا يقولان عنك؟
إينيولد - يقولان أني سأصير كبيراً طويل القامة.
جولو - آه! يا بؤس عيشي! إني هنا كضرير يبحث عن كنزه في أعماق اليم!. . . إني هنا كطفل صغير ضل في غابة كثيفة. . وأنت. . آه! لا تكترث لما قلت، فقد كنت لاهيا يا إينيولد. سنتكلم جادا يا بني. ألا يتحدثان، بلياس وأمك الصغيرة، عني في غيبتي؟
إينيولد - يذكران أسمك في الحديث.
جولو - آه! وماذا يقولان عني؟
إينيولد - يقولان إني سأصير كبيراً طويل القامة مثلك.
جولو - وهل أنت دائماً معهما؟
إينيولد - نعم. نعم أقضي معهما كل الوقت يا أبي.
جولو - ألم يطلبا إليك قط أن تغادر الغرفة وتلعب في مكان آخر؟
إينيولد - كلا يا أبي. الخوف يستحوذ عليهما إذا بعدت عنهما.
جولو - الخوف يستحوذ عليهما؟. . وكيف عرفت ذلك؟
إينيولد - لأنهما يبكيان دائما في الظلمة.
جولو - آه! آه!(20/80)
الكتب
دائرة المعارف الإسلامية
أغلاط الكراسة الأولى
للدكتور عبد الوهاب عزام
لا يماري أحد في أن شباننا الذين شرعوا يترجمون دائرة المعارف الإسلامية جديرون بالإعجاب لعظم مقصدهم، وصدق عزيمتهم، واعتدادهم بأنفسهم في الاضطلاع بعمل بعيد المدى، عظيم الشقة. وإنا لنرجو أن ينالوا من التأييد والإقبال ما يفي بمثوبتهم على هذا العمل الجليل.
منعتني أعمالي أن أبادر إلى قراءة الكراسة الأولى من الترجمة العربية. فلما أتيحت الفرصة منذ أيام أقبلت على قراءتها إقبال المغتبط المتشوق، فقرأت الكراسة كلها في ساعات قليلة ولم أحس ضجرا ولا تعبا.
وقد ألفيت اثناء القراءة أغلاطا كثيرة أعرضها على القراء والمترجمين في الفقر الآتية:
1 - فمن الغلط في أسماء الناس والبلدان:
أرزن روم ص 10. والصواب أرزن الروم. وفي الأصل أرضروم فلم يبق المترجم على الاسم التركي، ولا اهتدى إلى التسمية العربية، ومن ذلك القرم ص 11 والصواب القريم، وكبجاك ص 14. والصواب ففجاق، وأحمد تكدر ص 15. والصواب تكودار، وكتاب قرقد والصواب قورقود كما يكتبها الترك، ومن ذلك أتميدان ص 42. والصواب آت ميداني. وهو ميدان في استنبول كان الرومان يسمونه هيبودرم فسماه الترك آت ميداني أي ميدان الخيل، ومن ذلك إروان أسم مدينة ص 49. والصواب أريوان، ومحمد صقلي باشا ص 56. والأتراك يكتبونه صوقوللي فيحسن أن يكتب بالعربية صوقولي، وججرات أسم مدينة في الهند ص 57. والصواب كجرات، وججتاي أسم لهجة تركية والصواب جغتاي بالغين.
2 - ومن غلط الأسماء الناشئ من الإضافة الفارسية وظن المترجمون أن حرف في الأصل يقابل الياء، وهو كسرة لا غير: آب - ي حياة ص1 والصواب آب حياة، وكتابي قرقد ص21 والصواب كتاب قورقود بغير ياء، وجلزاري إبراهيم ص 35 والصواب(20/81)
جلزار إبراهيم، وسجلي عثماني والصواب سجل عثماني، ومدخلي حقوقي دول ص 55 والصواب مدخل حقوق دول، وتاريخي حقوق بين الدول ص 56 والصواب تاريخ بغير ياء، ونوسالي ثروتي فنون ص 56 والصواب نوسال ثروت فنون، وسالنامي ثروتي فنون ص 56. والصواب سالنامه ثروت فنون، وطبقاتي أكبري ص 57 وفارس نامي ص 60 وواقعاتي دراني ص 24 وتاريخي أحمد ص 24 وحياتي أفغاني ودرى دراني ص 24 والصواب في هذا كله طبقات أكبري، وفارس نامه، وواقعات، وتاريخ، وحيات ودر بغير ياء في الكلمات الأربع، وأفضع من هذا كله دري سعادت أسم استنبول. والصواب در سعادت.
3 - ومثل هذا الغلط في نقل العبارات التركية:
فقد ترجموا (آبازه كوشكي) فكتبوا كيوشكي آبازه ص 10 والصواب كوشك آبازه فإن الياء الأخيرة ياء الإضافة في التركية. فإذا نقل التركيب إلى العربية فلماذا تبقى الياء؟ ثم الياء بعد الكاف في كيوشكي غلط آخر. (وطوب عربجلري ص 51 والصواب طوب عربجيلري بالياء الثقيلة وزيادة ياء بعد الجيم. والناس في مصر يقولون عربجي لا عربج. وأصوب من هذا طوب آرابه جيلري) وايج شاهينجلر ص 45 والصواب شاهينجيلر بزيادة ياء بعد الجيم.
4 - ومن الغلط في رسم الكلمات الفارسية والتركية والكلمات العربية المستعملة في هاتين اللغتين:
سياسة نامه. والصواب سياستنامه أو سياست نامه، وجينليكيوشك ص 31 والصواب جينلي كوشك. وإن أريد الترجمة فالكوشك الصيني، وسياحات ص 31 والصواب سياحت، وأوليه. والصواب أوليا، وخاطيرات ص 56 والصواب خاطرات جمع خاطرة، وخندمير ومير خند ص 60 والصواب خوندمير ومير خوند. وكجوك وبيك ص 50 والصواب كوجك وبيوك، وحياة خان ص 24 والصواب حيات، وآتش كده ص 60 والصواب آتشكده، وقترجي أوغلو ص 10 والصواب قاطرجي، وبيرمي سكز جلبي محمد ص 58 والصواب يكرمي سكز كما تكتب في التركية.
5 - ومن الغلط في تعريب الكلمات:(20/82)
أرسلان بج. ولطف علي بج ص 60 وأتا بج فارس ص 59 وسليم جراي ص 11. والصواب في هذا كله بك وأتا بك وكراي بالكاف الفارسية أو بك وكراي بالكاف العربية أن أريد التعريب، فقد عربت من قبل وكتبت بالكاف العربية لا بالجيم.
6 - ومن الغلط في الترجمة: نهر جرجان رود ص 63 والصواب نهر جرجان فإن كلمة رود بالفارسية معناها النهر، وترجمتهم هذه الجملة: ' بهذه العبارة (ينابيع المياه العذبة) وهي لا تفي بالأصل، ومن الغلط في ترجمة الاصطلاحات العروضية ترجمتهم بمقطع والصواب جزء. ولو رجعوا إلى تعريف الابتداء عند العروضيين لأصابوا التعريف الاصطلاحي الصحيح.
7 - ومن الأغلاط الظريفة أن الكتاب الأوربيين ترجموا بعض الكلمات العربية ثم حرصوا على الكلمة المترجمة فوضعوها بين قوسين ليستعين عارف العربية بها على تحديد المعنى. فجاء المترجمون إلى العربية فترجموا العبارة الإنجليزية أو الفرنسية بعبارة عربية وأبقوا الكلمة العربية بين قوسين. وظاهر أنه لا حاجة إلى حبس هذه الكلمة بين قوسين بعد أن ردت إلى لغتها. ومعنى هذا أن الكلمة العربية ترجمت إلى الإنجليزية فلما أريد ردها إلى لغتها وضعت كلمة أخرى مكانها لا تؤدي معناها. وبقيت هي زائدة بين القوسين.
ومن ذلك قولهم: وألف كذلك مصنفاً عن حكمة (حلم) الهندوس ص 16 يستنزلون المطر (استسقاء) ص 23، ادارة أوقاف (متولي) ص 57.
8. ومن الأغلاط المطبعية:
لم يتقدم أكثر جوتز ص 46 وأظن هنا حرف (من) محذوفا بعد أكثر. إبراهيم باشا داماد وزير السلطان أحمد الثالث ص 48 والصواب حذف (داماد)، وثير بالثاء في حاشية الأستاذ محمد مسعود ص 16 والصواب تير بالتاء المثناة. ودراويش جانفرا (جوف) ص 46. ولست أدري من أين جاءت كلمة (جوف) والقوسان المحيطان بها.
9 - ومما يؤخذ على العبارات العربية، وأكتفي بسردها هنا، أجرى لنفسه عملية الختان ص 27: وكان ترتيبه السابع عشر بين سلاطين آل عثمان ص 29 (يسمى أبو بكر ص 35) وكانت حياة هذا الرجل اقرب إلى الأفقية والمجازفة ص 39، ثم أعدمه هناك ص(20/83)
10 ثار بدوره ص 10، دخل مذهب الخوارج إلى المغرب في صورة الاباضية ص 13 (يضطر المسلمون إلى إقامة خليفة) ص 14 في مكان (يجب على المسلمين الخ)، قراءة خاطئة بدل مخطئة، وفي حاشية الأستاذ مسعود: (الأيام المسترقة (بكسر الراء) ص 16 والصواب فتح الراء. ولو ترك الأمر للقارئ ولم ينص على الكسر بين القوسين لكان أحزم).
- ثماني مائة كنيسة ومائة بيعة (بما فيها المعابد الصغيرة) ص21 وما بين القوسين لا تسيغه اللغة.
10 - ومما يؤخذ على رسم الكتاب كتابة أسماء المراجع بحروف كبيرة وتركهم شكل الأعلام والكلمات التي تحتاج إلى الشكل، وتركهم الرموز في الإشارة إلى المقالات فيقولون مثلا:
(انظر مقال عمان) ولو كتبوا (انظر: عمان) أو (ظ. عمان) لكان أوجز ألخ.
هذا ما ألفيته أثناء القراءة واستحسنت أن ألفت المترجمين الكرام أن يتجنبوه في الكراسات الآتية.
وينبغي ان يعلموا ان هذه الأغلاط وأمثالها لا تنقص من عملهم، ولا تغض من أقدارهم. ولعل في التنبيه إلى هذه المآخذ ما يدعو إلى طمأنينة القارئ حين يعلم أن هذه الدائرة العربية لا تقر على أغلاطها، وإن وراءها من ينقدها، ويشفق على قرائها، ويرجو لها كل سلامة.
وبعد فإني أختتم بتكرار الثناء والشكر، ودعوة قراء العربية إلى التأييد والمعاونة ما استطاعوا.
والله يهدينا إلى التي هي أقوم ويسددنا إلى كل عمل صالح.(20/84)
دائرة المعارف الإسلامية
نقد وتقدير
للأستاذ إسماعيل مظهر
(10) ولكنه كان برغم عقيدته المسيحية محوطا (كذا) بالأتراك (ص 22 نهرا) والأصل الإنجليزي كما يلي:
. . . ,
والفرق بين الأصل والترجمة شاسع بعيد، لأنك عندما تقول بأن فلانا كان محاطا باللصوص شيء يختلف كل الاختلاف عن قولك أن فلانا اتخذ لنفسه بطانة من اللصوص. والذي يرمي إليه الأصل هو أن فلانا هذا (على الرغم من عقيدته النصرانية اتخذ له بطانة من الأتراك) لأن مجرد أن يكون محاطا بالأتراك لا يؤدي المعنى المدرك من الجملة الأصلية، ويدل في جملة ما يدل عليه أنه كان محاطا بهم ولم لم يكن له رغبة في أن يكونوا من بطانته أو حاشيته؛ وأنه كان محاطاً بهم عنفا وأثرا على الرغم من إرادته. وقد جاء في القرآن: (إلا أن يحاط بكم). وليس شيء في هذا بمحمول في الأصل. ومثل هذا التفريط لا يصح أن يقع فيه شباب مثقفون تصدروا إلى إخراج عمل أدبي عظيم كدائرة معارف الإسلام.
(11) وهنا ننتقل إلى مادة أخرى هي مادة (أباضيون) وقد جاء في هذه المادة (ص 13 نهرا) ما يأتي:
(وانتشر بسرعة بين البربر حتى أصبح المذهب القومي لهم، اتخذوه ذريعة لنضالهم مع أهل السنة من العرب) والنص الإنجليزي كما يلي: -
,
وهنا نلاحظ أولا أن كلمة الإنجليزية لا تأتي مطلقا بمعنى أنتشر. لأن انتشر تؤديها كلمة ولكن الأولى تؤدي دائما معنى التوسع في الشيء أو نشوءه وتطوره. وثانيا أن المترجم قال: (اتخذوه ذريعة لنضالهم مع أهل السنة من العرب) فجاءت الجملة غامضة لأنه لم يفصح عمن اتخذوه ذريعة في حين انها بينة في الاصل، والسبب في هذا راجع إلى أنه أهمل كلمة ولو عني قليلا بالترجمة لقال (اتخذه العرب الأفريقيون ذريعة للنضال مع أهل(20/85)
السنة) وإذن تستقيم الجملة وتنطبق على الأصل ويزول عنها الغموض.
(12) وجاء في هذه الصحيفة ما يأتي:
(ولعب أباضيو طرابلس وأفريقية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الدور المهم في ثورة القرن الثاني الهجري التي كادت تجرد الخلافة من أفريقية) والأصل الإنجليزي كما يلي:
. . . . . . . . . . . . . .
وبالمقارنة بين الأصل والترجمة تجد وضوحاً في الأولى وغموضا في الثانية. السبب في هذا أن المترجم أهمل كلمة وهي حجر الزاوية في الجملة فقال: (ثورة القرن الثاني الهجري) وكان يجب أن يقول: (ثورة البربر في القرن الثاني للهجرة) لأنك لم تعرف من الذي ثار، ومثل هذا التفريط مفسدة للتاريخ وتعقيد على المطالع لا سبب له إلا التعجل في إبراز الآثار الأدبية. ثم أن كلمة الإنجليزية لا تؤدي معنى الثورة فعلا، بل تؤدي معنى فتنة، لأن الثورة لا بد من أن يعقبها انقلاب حقيقي في نظم الحكم أو في قوام الدولة كالثورة الفرنسية وكالفتنة المصرية. والفتنة لا تؤدي المعنى المقصود في الثورة الفرنسية أو انقلاب روسيا الحديث. والإنجليز شديدو الحرص على مراعاة مثل هذه الفروق. لأن التخليط فيها تخليط في التصور الذي ينتج عنها.
(13) (تفرق شمل الاباضيين في صحراء تونس والجزائر) الخ (ص13 نهر21) والأصل الإنجليزي كما يلي:
,
وأنت تقول تفرق شمل الجيش أو الجماعة ولكنه يجوز أن يجتمع شملهم مرة أخرى، ولكن الأصل الإنكليزي يريد أن يقول على الضد مما أراد المترجم أن الأباضيين عاشوا مشردين (آفاقين) في جماعات مصادفة وأتفاق، وشتان ما بين المعنيين لأن كلمة قد أثبتت في المعاجم الكبرى، وكما تدل حقيقة، وأمامها (أتفاقاً، واقع متفرقاً)، (راجع بدجر ص 1009) وفي هذا تفريط لا يستهان به.
(14) وجاء في نفس الصفحة والنهر: (ولهم أدب ديني تاريخي هام: وجماعاتهم دائمة الاتصال بعضها ببعض تحرص حرصاً شديداً على حماسها المتأجج) والعبارة هنا عبارة(20/86)
فرنسية في كلمات عربية، ولا تمت للأسلوب العربي بأي سبب، ولكن على الرغم من هذا ترجع إلى الأصل الإنجليزي فتجده كما يلي:
,
والفرق شاسع بين الأصل والفرع، فقد قال المترجم: (ولهم أدب ديني تاريخي هام) والواقع أن الأصل لا يحتمل هذا المعنى مطلقاً، فأن المؤلف يريد أن يقول برغم المترجم: (لهم مؤلفات، دينية تاريخية ذات وزن) والسبب في خطأ المترجم أنه ترجم كلمة (بأدب) ولكنها في هذا الموضع تدل على المؤلفات والآثار الأدبية كما يقول فلا يصح أن نترجمها (الأدب العلمي) بل نقول المؤلفات العلمية، وقول المترجم (أدب ديني تاريخي) يدل على أن هذا الأدب قاصر على الكلام في الدين من طريق اتصاله بتاريخ نشوء دينهم. والأصل يريد أن يقول (مؤلفات دينية وتاريخية) والفرق ظاهر جلي، ولأن في الإنكليزية حرف عطف يا سيدي المترجم، وعلى الرغم من أن المترجم فصَّل من الجملة الواحدة ثلاث جمل مفككة مما نغضي عنه تجاوزاً، فأنه قال في عرض الكلام عن جماعات الاباضية أنها: (تحرص حرصاً شديداً على حماسها المتأجج) وعلى الرغم أيضاً من أن معنى (الحرص) لا أصل له في الجملة الإنجليزية، بل أن تفيد معنى الاحتفاظ بالشيء في مستوى بعينه، فأنه أردف الحماس بالمتأجج وصفاً له. والمتأجج لا أصل لها في الأصل الإنجليزي. فخرج بذلك عن وظيفة المترجم الأمين إلى وظيفة محرر جريدة يحاول أن ينمق كلامه بالخطابيات. ولو أنه أراد أن يترجم كلمة ترجمة حسنة فيها احتفاظ بالأصل، وفيها ما يريد من تأجج الحماسة لقال (حميتهم) لأن الحمية فيها الحماسة وفيها تأجج الحماسة معاً.
(15) (ولقد أنقسم الأباضيون الأفريقيون ثلاثة أقسام سياسية ودينية على السواء (ص13 نهر 2) والأصل كما يلي:
,. .
وكان الواجب ان يلاحظ المترجم أن كلمة لا تترجم بقسم لأن قسم هو يجب أن تترجم بفرقة أو شيعة. وقال المترجم (أقسام سياسية دينية) وهذا بعيد عن الأصل لأن التعبير الأصلي يريد أن يقول (ثلاث فرق أو (شيع) لكل منها لون سياسي وآخر ديني) والله أعلم.
(16) (ومن الطبيعي أن يعارض الأباضيون بشدة في اتهام أهل السنة لهم بالكفر (ص13(20/87)
نهر 2) والأصل كما يلي:
,
ونحن نترك للمترجم الفاضل قوله (يعارض الأباضيون بشدة) لتقابل برغم أنها خطأ. ولكننا لا نستطيع أن نترك ترجمة كلمة بالكفر، لأن كلمة معناها الهرطقة. وبين الكفر والهرطقة فارق ما كان ليجل عن فهم المترجم لو أنه أراد وصبر على مكاره البحث. ذلك لأن الهرطقة درجة من درجات الكفر. والكفر خروج من دين إلى دين آخر، ومن درجاته الهرطقة والزندقة والردة وغيرها فقد يكون الإنسان هرطوقاً أو زنديقاً. ولكنه يبقى مسلماً يحتاج فقط إلى تصحيح دينه، كما يحتاج المترجم الفاضل إلى إصلاح ترجمته، ويبقى مع ذلك مترجماً. ولكن الكفر خروج من الدين. وكلمة هرطوق وجمعها هراطقة، أو أرطوق وأراطقة، من المعربات التي دخلت اللغة العربية وأصبحت صحيحة (راجع محيط المحيط). ولئن غضب الأباضيون على أهل السنة على رميهم إياهم بالهرطقة لا غير؛ فكم يكون غضبهم على المترجم الفاضل على رميهم بالكفر؟ نرجو من الله ألا يسمع الأباضيون خبر ذلك.
(17) وجاء في (ص 14 نهر 2) ما يأتي: (وهذا النقاء سواء أكان عن إخلاص أو تظاهر يجعل منهم كتلة متجانسة متآلفة متمايزة تمام التمايز بسلوكها وأخلاقها وميولها بين أهل السنة من العرب والبربر) في شمال أفريقية والأصل كما يلي:
, ,
وأريد الآن أن أختتم هذا النقد حذر أن أطنب وإن كانت ترجمة دائرة معارف الإسلام جديرة بأكثر من هذه العناية.
قال المترجم أن هي النقاء، ولا أعلم كيف جاز له أن يستخدم هذا الاصطلاح المبهم، وحقيقتها (صوفية أو تصوف)، (أنظر بدجر ص 820) ولكنها ليست الصوفية او التصوف كما عرفه العرب؛ لأن صوفية العرب جاءتهم من ناحية الهند تغليباً أو من ناحية الإسكندرية ترجيحاً، بل هي الصوفية كما عرفت عند شيعة كنيسة نصرانية، لأن الكلمة هنا قد وضعت لتدل على وجه من الشبه بين الفئة التي يتكلم فيها المؤلف وبين فئة ظهرت في ثنايا الكنيسة النصرانية، ونقاء ترجمة حرفية لكلمة ومنها ولكن الخطأ في أن تستعمل(20/88)
بنصها الأصيل لتدل على مذهب. وإلا لجاز لنا ان نترجم مثلاً اصطلاح بالغموضية أو الإبهامية في حين أنها وضعت لتدل على مذهب الجمود الفلسفي، ووضع المترجم الفاضل كلمة (تظاهر) لتقابل في الأصل كلمة وحقيقتها مراءاة أو نفاق. (أنظر بدجر ص 750).
وقال المترجم (متمايزة بسلوكها وأخلاقها وميولها بين أهل السنة من العرب والبربر في شمال أفريقية) والحق أن المؤلف يريد أن يقول (مميزة بسلوكها وأخلاقها وميولها عن أهل السنة أو بربر شمال أفريقية) فأن استعمال (بين) يدل على خطأ في الجملة يفسد مرماها وقوله (العرب والبربر) خطأ افظع من الأول لأن تترجم (أو) في الإنجليزية وقد أستعمل بدلها حرف عطف هو (الواو) تقابلها في الإنجليزية فأفسد بذلك المعنى.
على أني لا يسعني إلا أن أهنئ لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية من كل قلبي على عملها المجيد راجياً أن تسير فيه موفقة مسددة الخطو بأذن الله.(20/89)
العدد 21 - بتاريخ: 15 - 11 - 1933(/)
نهضة الشباب. . .
نهضة الشباب اليوم إحدى الظواهر المميزة لهذا الجيل. وهي أجلى ما تكون في الأمم المظلومة أو المهددة بالظلم. كأنما أخفق في سياستها (رأي) الشيوخ، فصمد إلى قيادتها (عزم) الشباب! والواقع أن هذه النخوة القدسية التي تعصف برؤوس الفتيان في إيطاليا وألمانيا وسورية ومصر، إنما هي القارعة التي تُصمُّ والظاهرة التي تخيف، لأن الشباب إذا كان لهم الصف الأول في الحرب، فان لهم الصف الأخير في السلم، فإذا ألجأهم تقلب الصروف إلى تقدم الصفوف، دل ذلك على سياسة عاجزة، أو سِلْمٍ مرببة، أو خطر محدق. وعجز السياسة اتهام لحنكة السن، ورياء السلم إيذان بصراحة الحرب، وتفارُس الأهواء إعلان بنزول الغاشية. فا (لفاشيَّة) و (النازية) و (عصبة العمل القومي) و (عيد الوطن الاقتصادي) وغيرها من حركات الشباب وثبات دفاعية بعثتها لإنسانية المهددة بالتفكك والفوضى والهوان والاستعباد والجشع. ولئن كان لكل دولة من هذه الدول، علة أو أكثر من هذه العلل، فان مصر البائسة تكابد هذه النكبات جميعا! فأخلاقها تفككها الحزبية الأثِرَة، وآراؤها تشتتها المطامع الخسيسة، وكرامتها تهينها الامتيازات الباغية، وقوميتها توهنها الأجنبية الموغلة، وحريتها تقيدها القوة المحتلة، وأرزاقها تسلبها (الضيافة) الثقيلة، وأبناؤها (الكرماء) القانعون الخانعون قد ألفوا مضاجع الهون فلا تؤذيهم الفضاضة، ولا تؤلمهم الخصاصة، ولا يبغون حِوَلا عن هذه الحال! ولكن الشباب، وإن أعدهم هذا الحاضر الذليل، قد أعانتهم خصائص الفتوة، وغرائز الفطرة، على أن يدركوا ما نحن فيه من ضراعة الجانب، ووضاعة الشأن، وضيق المضطرب، فهبوا يُعِزُّون النفوس الذليلة، ويمنعون الحوزة المباحة، ويستردون الثروة المضاعة، ويمهدون لهذا البلد العاني طريق الاستقلال الخالص السعيد! ومَن أحقُّ بحماية الوطن وإعزازه من الشباب؟! انهم يعيشون للغد وآباؤهم يعيشون لليوم. فهم يحرصون على المستقبل ويجعلون الحاضر رأس مال، وأولئك يحرصون على الحاضر ويعدون المستقبل تركة! وشتان بين من يعمل لنفسه عن حاجة وبين من يعمل لغيره عن عاطفة.
لقد كان شبابنا ومازالوا أُغرودة الأمل الباسم في فم وادينا الجميل،
وسر النشاط الدافق في روح نهضتنا المرجوة، حملوا وما زالوا(21/1)
يحملون لواء الغضبة المقدسة في وجه الدخيل العادي وغسلوا وما
زالوا يغسلون أدران الماضي بالعرق الطهور والدم الغالي، ثم رأوا أن
مصر المنكودة إنما يقف في طريق حياتها الطبيعية احتلالان لا احتلال
واحد: احتلال سياسي يحتل الثكنات ويخادع الحكومة ويغل الحرية
ويهين الحق ويؤذي الكرامة، واحتلال اقتصادي يحتل المدائن ويغزو
القرى ويأكل الأرض، ويشرب النيل، ويحتكر التجارة، ويجلب
الخمور، ويهرب المخدرات، ويتكسب بالمنكرات، ويفتك بالجيوب،
ويلغُ في الأعراض، ويعبث بالمدين، ويحلُّ على الجملة في سبيل
المغنم ما حرمته الشرائع والضمائر والعُرف، ثم يتبجح بعد ذلك كله
بأنه القيم على المدنية والحرية والعدالة، يبذرها في طريقه، وينشرها
في مجلسه، ويمثلها في نفسه! فإذا قلت في رقة المغازل لهذا الضيف
المُدلَّل أن ما تعمله يناقض ما تقوله، تجهمت (امتيازات) الدول
وَتَزَغَّمت (تحفظات) الإنجليز!!
رأى شبابنا أن جهاد هذين الاحتلالين أمر لا يتحقق خلاصنا بدونه، وأن قَصْر الجهود على أحد الميدانين يمكِّن الحليفين من حشد كل القوى في ذلك الميدان، فأرهفوا النشاط، وارصدوا الأُهبَةَ، ولاقوا الواغل في كل طريق. ليس بسبيلنا اليوم أن نعرض فيالق الشباب في مختلف الميادين، فقد أشرنا إلى ذلك في كلمة سابقة، إنما نريد أن نسجل في ثبت المجاهدين فيلقا جديدا جاء يؤكد مرة أخرى أن هذه الأمة الكريمة قد قطعت عزمها على أن تعيش في أرضها حرة وفي ملكها سيدة، ذلك الفيلق هو جماعة عيد الوطن الاقتصادي، وهم فريق من الطلاب العاملين المخلصين البررة، حمَّلوا نفوسهم الرقيقة فوق تكاليف الدرس أعباء الدعاية للتجارة المصرية والمنتجات الوطنية، فهم يُعرضون عن مطالب الصِّبَي، ويصدفون عن مباهج العيش، ويعقلون جهودهم وميولهم في مكاتب العمل من نادي اتحاد(21/2)
الجامعة: يعلنون بالوسائل المختلفة إن المشروع الذي يعدونه، ويدعون إخوانهم إلى التطوع في الجيش الذي يحشدونه، ويتصلون بالتجار ليقنعوهم بالاشتراك في الدليل الذي يصدرونه، ويجمعون الأُهَبَ للمهرجان الفخم الذي يهيئونه، ويزورون المصانع والمتاجر ليحققوا الوجه الذي يقصدونه، ويعانون في سبيل ذلك رهقاً شديداً في النفس والمال والكرامة، أجل أقول والكرامة! لأن كثيراً من تجارنا لا يزالون يتعاطون التجارة على منهج دارس، وطبع ألَفَّ، فهم يتهمون الناصح، ويستغشون المشير، وينكرون التطور ويجهلون الأعلان، ويعتمدون في جلب الحرفاء ورواج السلع على التمائم والأدعية!!.
يكون عيد الوطن الاقتصادي يوم دعاية وإعلان وعرض، وسيقدم للممارين الأدلة التي تصك الأسماع وتطرف العيون على أن مصر الناهضة تسير في طريق مأمونة إلى غاية مضمونة! فمساهمة الشباب بالتطوع، وانضواء التجار بالاشتراك وعطف الجمهور عليه بالتأييد، ضمان للنصر المبين في إحدى المعارك الفاصلة. إن القبعات في الطرقات، اكثر وأخطر منها في الثكنات، واليوم الذي لا ترى فيه على الرؤوس غير الطربوش، ولا تقرأ على جباه الحوانيت الا العربية، ولا تسمع في مختلف المعامل غير اللهجة المصرية، هو اليوم الذي تقول فيه وأنت صادق: لقد صفا النيل، وملك الأصيل، واستقلت مصر!!
أحمد حسن الزيات(21/3)
بقية من لغو الصيف
للدكتور طه حسين
ليتك لم تأمري وليتني لم أطع. فمن صواب الناس ما يكون خطأ،
ومن خطأ الناس ما يكون صوابا. والمرء بخير ما عرف لنفسه قدرها
ولم يعد بها حقها، ولم يكلفها الحياة في النجوم، وقد خلقت لتحيا في
الأرض. ولقد حاولت في غير طائل أن أعرف ماذا كنت تنكرين من
صحبتنا في بلاد الغربة. فقد كنا نلتقي ونفترق لا يكون بيننا إلا حديث
نقي بريء فيه ذكر للأدب والأدباء، فما زلت تحبين ذلك وتظهرين
كرهه، وما زلت تسرين الرغبة فيه، وتعلنين الضيق به حتى ملأت
صدري ضيقا بنفسي، وحرجا بمكاني منك، وخيلت إلي أني أثقل
عليك، وأكلفك من صحبتي مالا تطيقين، حتى إذا كان ذلك اليوم وليته
لم يكن تقدمت إلي في الرحيل فامتنعت عليك وأسرفت في الامتناع،
والحت أنت وأغرقت في الإلحاح، ولم أجد بدا من الطاعة وان كنت
لها لكارها، ولم تجدي بدا من المضي في الأمر، وان كانت نفسك
لتحدثك في العدول عنه. ولم أكد استقر في باريس، ولم تكادي تستقرين
في مدينتك الجامعية الصغيرة حتى اتصلت بينك وبين هذه الكتب
والرسائل التي لا أستطيع أن أصفها بأقل من أنها برهان قوي ساطع.
على أننا نخدع أنفسنا عن أنفسنا. ونتكلف في أرضاء الناس
وأوضاعهم ما لا يحفل به الناس، ولا يلتفتون إليه، وما لا نحتمله
نحن إلا في جهد جاهد وعسر لا حد له.
والآن وقد أضعنا من حياتنا أياما طوالا كنت تترددين فيها على حجرات الدرس في(21/4)
الجامعة، وكنت أتردد فيها على الأندية وملاعب التمثيل أكتب إليك وقد أنىّ لي أن أعود إلى القاهرة. لعلك تإذنين في أن نلتقي مرة قبل أن أعبر البحر. ولست أدري أيقع هذا الكتاب منك موقع الرضى أو موقع السخط؟ ولكني أعلم أن الأيام معدودة علينا في هذه الحياة وان من الحمق أن يستطيع الأصدقاء التلاقي ثم لا يلتقون، ينتظرون أن يتاح لهم ذلك في يوم آخر قريب أو بعيد. فمن يدري لعل هذا اليوم ألا يجيء. ولعل الأحداث والخطوب أن تحول بين الأصدقاء وبين ما كانوا يقدرون من اللقاء فيه. ولو عقل الناس لما تفرقوا إلا حين لا يكون من الفراق بد، ولكن الغرور يغرهم بأنفسهم ويطمعهم في الأيام، فيخيل إليهم أنهم مخلدون وأنهم ليمرون بالحياة كما يمر الطيف بالنائم المغرق في النوم وقد تعجبين حين تعلمين إني لا أكتب إليك من باريس، وإنما أكتب إليك وقد دنوت منك حتى لم يبق بينك وبيني إلا مسير دقائق على الأقدام. فقد وصلت إلى مدينتك الجامعية مع المساء وأنا أكتب إليك وستقرئين كتابي مع الصباح فان أردت لقائي فهذا رقم التلفون، وإن أبيت فان القطار يبرح مدينتك إلى مرسيليا مع الظهر، ولن أراك حتى أعلم بأن رؤيتي لا تؤذيك ولا تثقل عليك، ولا تخيل إليك أنك تخرجين على ما ألف الناس من أوضاع وأطوار.
عجبت للأذكياء وكبار العقول انهم ليأخذون أنفسهم أحيانا بما لا يلائم الذكاء ولا تسيغه العقول.
وكانت تختلف على وجهها الناصع وهي تقرأ هذا الكتاب مظاهر الوفاق والخلاف وآيات الرضى والسخط. فكان وجهها يشرق حينا، وتغشيه ظلمة رقيقة حينا آخر. حتى إذا فرغت من قراءة الكتاب وضعته في رفق أمامها على المائدة ومدت بصرها كأنما تريد أن تبلغ به أقصى الآفاق. لولا هذه الجدران التي تقوم غير بعيد وتقف عينها عند حد محدود وأرسلت نفسها الحرة إلى أبعد مما استطاعت أن ترسل إليه بصرها السجين، وظلت على هذه الحال وقتا لم تعرف أطال أم قصر ثم عادت إلى نفسها وثابت إلى غرفتها من الفندق، وأخذت كتابها برفق، وأعادت النظر فيه، وظلت كذلك تنظر في الكتاب ثم تدعه، ثم تعود إليه. حتى أدارت رأسها عن غير عمد فرأت التلفون، فقامت من غير عمد، وسعت إلى التلفون، ثم تحدثت فيه عن غير عمد، وعادت إلى مكانها، فأخذت الكتاب ونظرت فيه، ثم نظرت(21/5)
فيه، ثم طوته ثم أخفته، ثم ظهر عليها تردد شديد، كأنها تنبهت لأنها أتت أمرا عظيما وكأنها تراجع نفسها في استدراك ما فات، وإلغاء ما قدمت من الأمر، وكأنها تفكر في أن تتحدث إلى التلفون بغير ما تحدثت به إليه منذ حين.
ولكنها لم تبلغ من ذلك ما تريد لأن طرقا خفيفاً على الباب قد ردها عنه، واضطرها إلى أن تصلح من شأنها على عجل وترفع صوتها إذنة بالدخول. ولم يكد ينفرج الباب عن صاحبها الأديب حتى أقبلت عليه باسمة تحييه وتقول في جرأة متكلفة، واستحياء ظاهر، إن كنت أقبلت للوم والعتاب فعد أدراجك وارجع من حيث أتيت، وخذ قطار الظهر. فان في كتابك من اللوم والعتب والفلسفة والتشاؤم ما يغني عن إضاعة الوقت. قال فان ما أضيعه من الوقت في اللوم والعتب لن يكون شيئا بالقياس إلى هذه الأسابيع الطوال التي أضعتها أنت حين أبيت إلا أن تقيمي هنا، واذهب أنا إلى باريس. قالت فذلك شيء قد كان، وقد مضى بأثقاله وأوزاره وليس إلى استدراكه من سبيل فلست أرى خيرا في ذكره، ولا نفعا لإعادة الحديث فيه، قال أما أنا فأرى في ذلك الخير كل الخير والنفع كل النفع، لأنك لم تستفيدي بما مضى ولن تنتفعي بذلك الفراق الطويل الأليم، قالت وما يدريك؟ قال أرأيتك لو أنبأتك بأني سأقيم معك في هذه المدينة وسأختلف معك إلى دروس الجامعة حتى ينقضي الصيف ونعود معا إلى القاهرة، ماذا تصنعين؟ قالت أو قادر أنت على ذلك وقد انتهت إجازتك، ولم يبق لك بد من القفول. قال فان الإجازات تمد وان الحيل أوسع من أن تضيق وإن رسالة برقية قد ذهبت إلى القاهرة خليقة أن تمنحني من الوقت ما يتيح لي أن اختلف إلى حجرات العلم بعد أن اختلفت إلى معاهد اللهو والفراغ. قالت كالواجمة أو فعلت هذا؟ قال نعم قالت فعد إلى باريس أو أذهب أنا إليها. قال محزونا لابأس عليك فلن نلتقي في هذه المدينة الا بياض هذا اليوم، ولكن كيف تريدين أن تقضيه؟ وأين تريدين أن تقضيه؟ فما أظن أن غرفتك هذه الضيقة تسع أحاديثنا وخواطرنا التي لاحد لها والتي ينبغي أن تكون حرة كالطبيعة الحرة. ومطلقة كالهواء الطلق. وإني لأعرف من هذه الأرض أكثر مما تعرفين. قالت فإني لا أعرف منها إلا الجامعة والفندق والطريق بينهما. قال أما أنا فلا أعرف الجامعة وإنما أعرف الجبل والسهل وأعرف الربى والوديان، وأعرف الغابات الملتفة والرياضة النضرة، والغدران الجارية، ذات الصفحات النقية، والصوت الجميل، وأعرف(21/6)
بنوع خاص ربوة بديعة يجرى من تحتها جدول بديع لا تقع القدم فيها إلا على عشب. ولا ترى العين فيها إلا جمال الشجر والزهر، ولا تسمع الإذن فيها الا هفيف النسيم وحفيف الورق وغناء الطير، وقد دارت حولها طائفة من الشجر الباسق الذي ارتفع في الجو كأنه يريد أن يبلغ السماء، والذي مد أغصانه في كل وجه حتى التفت واشتبك بعضها ببعض، وهيأت فوق هذه الربوة الجميلة الهادئة غرفات جميلة هادئة تصلح لتفكير المفكرين، وحديث المتحدثين، والرأي عندي أن نقصد إلى هذه الربوة فننفق فيها بياض هذا اليوم فإني مشوق إلى أن أراها بعد أن فارقتها منذ أعواما وأن أراك فيها بعد أن فارقتك منذ أيام تعدل أعواما وأعواما. قالت لا أرى بهذا بأسا ولكن على أن يسبق منك الوعد باثنتين أما أولهما فان تكف عن اللوم والعتب وما يشبه اللوم والعتب من هذا التجني الذي تحسنه أكثر مما تحسن أي شيء آخر، قال زعموا أن قيمة كل امرئ ما يحسن، فإذا كنت ترين أني ممتاز في التجني لا أكاد أحسن شيئا غيره وتطلبين إلي مع ذلك إلا اقصد إليه ولا أخوض فيه فأنت إذاً تريدين أن تضعيني موضع الذي يقول فيما لا يحسن، ويخوض فيما لا علم له به. قالت ذهابنا إلى هذه الربوة الجميلة الهادئة رهين بهذا الوعد. فلك أن تختار بين الجد الخالص الذي لا عبث فيه ولا دعابة، ولا لوم فيه ولا عتب، ومعه ربوتك الجميلة الهادئة وغرفتك البديعة التي تصلح للتفكير والحديث، وبينما تحب من العبث والخلط تذهب فيهما كل مذهب، وتندفع فيهما إلى غير الطريق، قال أوحرنا في الاختيار، فإني إذن أختار الثانية وأوثر أن نطوف بالعبث والخلط في شوارع هذه المدينة الصغيرة الهادئة، لا يضيق بنا مكان إلا تركناه إلى مكان آخر، ولا نستنفد فنا من فنون السخف إلا عدلنا عنه إلى فن آخر. فإني أصبحت أرى السخف أقوم ما في الحياة. قالت لقد أفسدتك باريس قال بل أفسدتيني أنت حين أكرهتيني على الذهاب إلى باريس، قالت فإني لا أدع لك حرية الاختيار وإنما أفرض عليك الربوة الجميلة الهادئة وحديثها البريء من العبث والتجني فرضا، قال لقد أطعتك حين نفيتني إلى باريس فأحرى أن أطيعك حين تذهبين بي إلى هذه الجنة الخضراء، وأكبر الظن أن طبيعة هذه الربوة الجميلة الهادئة ستكون أقوى منك ومني وستوجه عقلينا وقلبينا إلى حيث تريد هي لا إلى حيث تريدين، ولا إلى حيث أريد. قالت مادمت واثقا بالطبيعة إلى هذا الحد، مؤمنا لها إلى هذا الحد، فلنذهب إلى ربوتك ولنحكم(21/7)
جمالها وهدوءها فيما ستفيض به قلوبنا من شعور، وفيما ستضطرب به عقولنا من تفكير، وفيما ستجري به ألسنتنا من حديث. وأنتصف النهار وإذا هما في هذا المكان الجميل الذي خلت فيه الطبيعة إلى نفسها فاتخذت زينتها حرة طليقة لا متكلفة ولا خاضعة لعبث الناس. وإذا هما ينظران ويسمعان ويتنسمان هذا النسيم الهادئ القوي وقد أزيلت الحجب بين نفسيهما وبين ما في هذه الربوة من جمال هادئ قوي خصب مختلف الألوان. ولو قد خلي بينهما وبين ما كان يغرقان فيه من هذا الصمت الحلو الذي كان يمزجهما بهذه الطبيعة الحلوة لظلا صامتين هادئين حتى تزعجهما ظلمة الليل، فتخرجهما عما كانا فيه من صمت وهدوء، ولكن الطبيعة نفسها أبت عليهما ما كانا فيه كأنها أحبت أن تسمعهما وكأنها أحبت أن تمتزج أصواتهما بأصواتها. فما هي إلا أن يحسا نبأه تخرجهما من نعيم الصمت والذهول إلى شقاء الحديث والتفكير. أحسا نبأه فريعا لها، وهما أن يتعرفا مصدرها فلم يصلا مما أرادا إلى شيء ولكنهما تساءلا، وسمع كل منهما صوت صاحبه فأغري به واشتدت رغبته فيه، وعادا إلى ما كانا فيه من حوار، قبل أن يبلغا هذا المكان الجميل.
قال، وإذاً فأنت تجدين من المشقة في قراءة القصص التمثيلي ما يرغبك عن هذه القراءة، وينفرك منها، ويحبب إليك قراءة هذا القصص اليسير الذي لا أخذ فيه ولا رد ولا جدال فيه ولا حوار. قالت نعم وان كرهت ذلك ورأيته آية من آيات الضعف ومظهرا من مظاهر القصور. قال وكيف يكون ضعفا ما تحبين، وكيف يكون قصورا ما تكلفين به من الأمر؟ قالت تنبه فإني أراك مقدما على إخلاف الوعد الذي سبق. قال فإني لم أعد بشيء على أني لا أدرى أين يكون هذا الإخلاف. لست عابثا، ولا متجنيا، إنما أقول ما أعتقد، وأصور ما أرى. وإني لأشعر بالنفور من قراءة التمثيل، وبالرغبة في الاكتفاء بهذا القصص اليسير. قالت فانك تكبر التمثيل إكبارا أراك تسرف فيه، فلست أجحد قدره ولا مكانه بين مظاهر التعبير الأدبي، ولكن التمثيل خلق للملاعب لا للمكاتب. وخلق لينفذ إلى النفس من طريق الإذن والعين، لا من طريق العين وحدها. وخلق لينفذ إلى النفس ممتزجا بأصوات المتحاورين وحركات اللاعبين، لا لينفذ إليها كلاما غير منطوق، وعملا لا يأتي به أحد من الناس. قال حجة قوية هذه لا أريد ولا أستطيع أن انقضها وليس من شك في أني أوثر أن أرى التمثيل في الملاعب على أن أخلو إليه في مكتبي، وأوثر أن أرى أشخاص القصة(21/8)
يذهبون ويجيئون، وأسمعهم يجادلون ويحاورون، ولكن ماذا أصنع إذا حيل بيني وبين الاختلاف إلى الملاعب، لأن ظروف الحياة لا تريد ذلك أو لأني أعيش في بلد لا يزهر فيه التمثيل، ولا يكاد يزوره إلا لماما أو لأن آيات من القصص التمثيلي قد قطعت الطريق بينها وبين الملاعب. أأجهل هذا الفن من فنون الأدب جهلا، وأهمله اهمالا، وأنسى أنه موجود وان فيه للنفوس الراقية متاعا، وللعقول الراقية غذاء، وللقلوب الراقية لذة. قالت وقد أخذها شيء من الدهش كأنما رفع عنها حجاب فرأت نورا باهرا لم تكن تنتظر أن تراه. ماذا تقول! وأين ذهب بي الجدال! وإلى أي حد انتهى بي حب الخصومة. قال إلى حيث تأتين ما لم يستطع الدهر أن يأتي وتصدرين أحكاماً عجز النسيان وعجزت الأيام وعجزت المحن والخطوب، وعجز الجهل والجمود عن أن تصدرها، إلى حيث تمحين من سجل التاريخ الأدبي أعلام الأدب القديم والحديث، إلى حيث تعتبرين ايشيل، وسوفوكل، واوربيد، وارستوفان، وشكسبير.
قالت في شيء من الجزع لا تقل هذا، وكيف السبيل إلى قبر هؤلاء الأعلام ومحو هذه الأسماء، وإهمال لهذه الآيات وان أصحابها لأبقى من الدهر كله وأقوى من الناس كلهم، وأحق بالعناية ممن شئت وممن لم تشأ من أبطال العلم والأدب والفلسفة جميعا. ثم انحدرت من عينيها دمعتان وقالت بصوت رقيق تقطعه العبرة، كيف يمكن أن ينسى قول سوفوكيل على لسان انتيجون في حوار الملك: ولدت للحب لا للبغض. قال مهلا، فأنا لم نأت إلى هذه الربوة الجميلة الهادئة، ولم ننزل ضيفا على هذه الطبيعة النضرة الباسمة لنسفح الدموع. ونثير في نفوسنا عواطف الحزن، وقد وعدتك أو قد وعدت نفسك بالا نعبث هنا ولا نلهو، ولكني لم أعدك، ولم تعدي نفسك بأن نبكي ونرسل الزفرات ونسفح العبرات. قالت والهدوء يثوب إليها وإشراق الابتسامة الهادئ الخفيف يذود عن وجهها ما غشيها من ظلمة الحزن، والبكاء، لولا شغفك بالجدال وكلفك بالحوار واحتيالك في خلق الخصومات التي لا تنتهي، ولما اضطررت إلى أن أتورط في هذا الكلام الذي لا يمكن أن يوصف ألا بأنه فن من فنون السخف أو لون من ألوان الجحود، قال لست جاحدة، ومعاذ الله أن تكوني جاحدة، ولكني قلت لك أني أصبحت أرى أن السخف أقوم ما في الحياة. قالت فكن سخيفا ما شئت. فأني لا أحب السخف. لا أحب ان أسمعه ولا أحب أن أخوض فيه، ولولا إننا هنا بعيدان(21/9)
عما احب من الكتب لفرضت عليك عقوبة. . . قال وهي أن اقرأ لك فصلا من فصول التمثيل، لأقيم لك الدليل على أن التمثيل يمكن أن يقرأ فيثير اللذة والإعجاب بعيدا عن الملعب، قالت ولمن تريد أن تقيم الدليل وقد عرفت أني أشاركك في الرأي، وإني لم اقل ما قلت ولم أذهب إلى ما ذهبت إليه، الا حين اضطررتني أنت إلى هذا الحوار الذي لا ينقطع، والذي لا خير فيه. قال ماكرا، ومن يدري لعلك إن حاورتك في الشعر أن تقولي انه لا يقرأ. وإنما يسمع من المنشدين. ولعلي إن حاورتك في الموسيقى أن تقولي أنها لا تقرأ، وإنما تسمع من الموقعين.
قالت ومن يدري لعلك أن حاورتني في أي شيء أن تسيء رأيي في كل شيء، وان تردني إلى حيث كان أسلافنا في العصور الأولى، لا يعرفون الترف العقلي ولا يبتغون لذة العقل والشعور إلا من أقرب الطرق وايسر الوسائل. فقد كانوا يسمعون الشعر ويسمعون الموسيقى ويسمعون التمثيل، لأنهم لم يكونوا يقرؤون فأما الآن فقد نستطيع نحن أن نسمع فان فاتنا الاستماع فقد نستطيع أن نقرأ. وأني لأفكر في هذا فاعجز عن إحصاء نعمة الله على الناس حين ألهمهم الكتابة وعلمهم القراءة. فهذه النعمة هي التي حفظت لنا ما بقي في أيدينا من آيات البيان في العصور القديمة وأتاحت لنا ان نعجب بما كان يعجب به الناس من سحر الشعر والنثر، منذ القرون الطوال. وهذه النعمة هي التي تتيح لنا دائما أن نستبقي آيات التمثيل التي لم يبق بينها وبين الملعب من سبيل، لأن الأذواق قد أصابها من التغير والتبدل ما جعل تمثيل هذه الآيات أمر لا مطمع فيه، فلولا أنها قد حفظت لنا بالكتابة ولولا أننا نستطيع أن نحييها في نفوسنا بالقراءة. لماتت موتا لا نشور بعده وكيف ترى تمثيل ارستوفان، وأي قصصه يمكن أن يظهر في الملاعب الآن وأين الآذان التي تستطيع أن تسمع لحواره وما فيه من تجاوز الذوق الاجتماعي ومخالفة الأدب المألوف. ومع ذلك فكيف يستطيع مثقف أن يجهل تمثيل ارستوفان، إني لأكره كل ما يشذ عن الأدب الذي تواضع عليه الناس ولأرفض كل الرفض أن اقرأ على أحد، أو أسمع من أحد كثيرا من قصص ارستوفان، بل إني لأكره أن أقرأ هذه القصص كما كان القدماء يقرؤون بصوت عال تسمعه الإذن، ولكني على ذلك اعترف باني أطيل النظر في هذه القصص واقرأه المرة بعد المرة واقرأه كلما ضقت بالحياة أو ضاقت بي الحياة، اقرأه بالعين لا بالشفتين(21/10)
واللسان. قال ومالك تقفين عند ارستوفان وإن في آيات سوفوكل وصاحبيه لما يعجز الملعب عن إخراجه للناس الآن، لأن فن التمثيل نفسه قد تغير وتبدل، ولكن أي حرمان يصيب المثقفين لو قضى عليهم أن لا يقرؤوا غناء الجوقة في شعر هؤلاء الأعلام. وشكسبير أيجب أن يحرم المصريون مثلا لذة الاستمتاع بآياته لأنها لا تمثل في بلادهم، بل أيحرم الإنجليز أنفسهم لذة الاستمتاع بآياته لأنها لا تمثل عندهم إلا بمقدار. قالت بل نستطيع ان نذهب إلى أبعد من هذا فقد نستطيع أن نؤمن بأن القصص التمثيلي فن من فنون التعبير الأدبي يمكن أن يقصد إليه من حيث هو، وان يكتب الكاتب قصة تمثيلية لتقرأ لا لتمثل، قال فأنك لا تذهبين إلى شيء مستحدث وهل كانت كتب أفلاطون كلها الا فنا من فنون التمثيل كتبت لتقرأ لا ليلعبها الممثلون أمام النظارة، قالت بل أنا أجد القراءة تمنحني قوة لا أجدها حين اختلف إلى الملاعب فأنا اخلق الممثلين وأصورهم لنفسي وهم يذهبون ويجيئون ويجادلون، وأخلع عليهم من الصور الفنية ما يعجبني ويلائم طبيعتي، ومزاجي، وفهمي كما اقرأ. قال ولست أخفي عليك إني اكره أن أرى قصة تمثيلية قبل ان اقرأها، ولعلى اقرأ القصة التمثيلية فاعجب بها اعجابا، وافتن بها فتونا. ثم اشهدها في الملعب فيدركني شيء كثير من خيبة الأمل لأن الممثلين لم يؤدوها كما كنت أريد أن تؤدى، أو كما كنت أنتظر أن تؤدى. قالت وكذلك آيات الجمال الفني كلها ترتفع في النفوس حتى تبلغ المثل الأعلى أو تدنو منه فإذا اشتملتها الحياة الواقعة وأخرجها الإنسان إلى الوجود الفعلي نزلت عن مرتبتها لأن طبيعة الجمال الفني كلها ترتفع في النفوس حتى تبلغ المثل الأعلى أو تدنو منه فإذا اشتملتها الحياة الواقعة وأخرجها الإنسان إلى الوجود الفعلي نزلت عن مرتبتها لأن طبيعة الجمال الفني فيما يظهر لا تحب الحدود التي يفرضها الزمان والمكان.
قال في رفق مهلا فقد يخيل إلي إنا نصعد في السماء، ولو مضينا في هذا الحوار لبلغنا هذا السحاب الذي يوشك أن يفسد جمال هذه الطبيعة النضرة الباسمة. قالت ليس إلى إرضائك اليوم من سبيل، لقد كنت تراني منذ حين مقصرة مسرفة في التقصير، وأنت تراني الآن محلقة مسرفة في التحليق. قال أنا معجب بك على كل حال، ولكن ارفقي بي فقد أعجز عن أن أرتقي معك في الجو إلى حيث تريدين، عيشي مع أصدقائك من سكان النجوم إذا خلوت(21/11)
إلى نفسك فإذا لقيتني، فاذكري قول باسكال واعلمي إني مهما أقوى فلن أستطيع إلا أن أكون إنسان يمشى على الأرض وينظر إلى السماء. قالت ما أبرعك في إفساد الحديث ها أنت ذا تعود بنا إلى عبثك الذي لا ينقضي، الست ترى أن خيراً منه أن ننظر فيما حولنا وان تتحدث نفوسنا إلى نفس هذه الربوة التي لقيتنا فأحسنت لقاءنا. وهيأت لنا ضيافة لم نكن نقدر أن نلقاها. قال لا أرى بذلك بأسا ولاسيما في يوم وداع فمن يدري لعلنا لا نلقاها بعد اليوم. قالت وما يمنعنا أن نعود إليها غدا وبعد غد فان الإجازات تمد، ورسالة برقية تستطيع أن تذهب إلى القاهرة مساء اليوم فتكفل لك الإذن بالبقاء هنا إلى آخر الصيف. قال وقد استأثرت بنفسه غبطة لا حد لها أو تأذنين؟(21/12)
شاعر
للأستاذ احمد أمين
شاعرنا اليوم نشأ جاهليا، ونشأ في الطائف. والطائف مدينة في الجنوب الشرقي من مكة تبعد عنها خمسة وسبعين ميلا، اشتهرت بطيب هوائها وجودة مزارعها. وقد اعتاد المترفون من العرب أن يقضوا الربيع بجدة، والصيف بالطائف، والشتاء بمكة. قال النميري يصف أخت الحجاج بالنعمة:
تشتو بمكة نِعمَةً ... ومصيفها بالطائف
أخصبت أرضها، وجرى الماء في وديانها، فكثرت مزارعها، وجادت فواكهها، من نخيل وأعناب، بها جبل يقال له (غزوان) كثرت كرومه، وكان عنبه العذب وزبيبه الحلو مضرب المثل جودة وكثرة، حتى ليروون أن سليمان بن عبد الملك لما حج رأى بيادر الزبيب فظنها حِرَاراً فقالوا ليست حراراً ولكنها بيادر الزبيب. وقد حسدهم العرب على ما هم فيه من نعمة، فسوَّروا بلدتهم وحصنوها من أعدائهم، فصارت ملجأ الهارب وملاذ الخائف، وضرب المثل بمناعتها حتى قال القائل:
منعنا أرضنا من كل حي ... كما امتنعت بطائفها ثقيف
كان يسكن الطائف قبيلة ثقيف، وقد أكسبتهم أرضهم وثروتهم وطبيعة بلادهم وجوهم رقيا في الحياة من الناحية الاجتماعية والعقلية، فاقوا فيهما من حولهم من السكان، وشعروا بعظمتهم فأكثروا من الفخر بأنفسهم، وقال قائلهم:
وقد علمت قبائل جدمِ قَيسٍ ... وليس ذوو الجهالة كالعليم
بأنّا نُصبح الأعداء قِدْماً ... سِجالَ الموت بالكأس الوخيم
وأنّا نبتني شرف المعالي ... ونُنعشُ عثرة المولى العديم
وإنّا لم نزل لجأ وكهفا ... كذاك الكهل منا والفطيم
وقد أنجبت ثقيف شعراء مجيدين في الجاهلية والإسلام، كما أنجبت ساسة وقادة نبه ذكرهم، وعظم أمرهم، فاشتهر منها من شعراء الجاهلية الشاعر المتدين أمية بن أبي الصلت، وفي العصر الأموي الشاعر الشريف طُرَيح الثقفي، والشاعر الحكيم الأجرد الثقفي. وأشتهر من أمرائها وساستها وقادتها الأمير القوي الحجاج بن يوسف الثقفي، والقائد الشاب محمد ابن(21/13)
القاسم الثقفي فاتح السند ولما يكتمل العشرين، والذي قال فيه القائل:
ساس الجيوش لسبع عشرة حجة ... يا قرب ذلك سؤددا من مولد
كما أن ثروتهم وحضارتهم استتبعت شهرتهم بالفجور والربا حتى أن رسول الله لما صالحهم كان من شروط الصلح أن يسلموا وألا يزنوا ولا يَرْبوا. كذلك كانت كثرة العنب والزبيب في بلادهم سببا في شيوع الخمر بينهم وولوع أهلها بشربها. وقد كانت الخمر شائعة بين العرب في الجاهلية، ولكن بين خاصتهم لا بين عامتهم، إذ أن عامتهم قد عدموا القوت وحرموا ضرورات العيش أما المترفون فشربوا كثيرا وقالوا في شربها كثيرا. وقل أن نجد شاعرا جاهليا لم يتمدح بشربها وإتلاف ماله في سبيلها. وكانت الخمر تأتيهم من الشام ومن اليمن ومن الطائف، وكان الأعشى الشاعر يتجر
فيها، وكان له بقرية في اليمن يقال لها (أثافت) مِعْصَرة للخمر يعصر فيها ما يقدم له من أعناب. ونلاحظ من تاريخ العرب في الجاهلية وتراجم رجالها أن هناك طبقة من الشباب اعتادت أن تتلف مالها في الشراب، هم فئة من أولاد السراة نشأوا في ثروة وجاه، وألَّفت بينهم وحدة النزعة، يجتمعون في المواسم والأعياد والمناسبات فينحرون الجزوز ويهيأ لهم، ويشربون عليه وتغنيهم القيان أو الموالي من الفرس والروم والأحباش، ولكن هذه الطبقة لم تفقد مع شربها ولهوها شرفها وإبائها، فهي مع ذلك كله نبيلة كل النبل شريفة كل الشرف ثارت على كل شيء إلا قانون المروءة، وقانون المروءة يتلخص في الشجاعة والكرم. لا يعبئون بالحياة، يبذلونها في سخاء للإنجاد من أستنجد بهم، ونصرة الضعيف يستصرخهم ويلجأ إليهم، لا قيمة لحياتهم إذا مست كرامتهم أو كرامة قبيلتهم أو اعتدى أحد على جارهم أو حليفهم أو عبدهم، ولا قيمة للمال يوم يسألهم سائل أو يدعوهم لبذله داع، ولا بأس بالفقر يحل بهم وينزل بساحتهم، ولا ضرر إذا خسروا المال وكسبوا الشرف، وويل لزوجاتهم إذا لمنهم في الاستهتار بالحياة أو أتلاف المال، إذ ذاك يصبون عليهن نقمتهم ويملؤن الدنيا شعرا في لومهن وتأنيبهن. شاعرنا اليوم كان من هذه الطبقة، فتى غني، من ثقيف، من الطائف، شجاع، كريم، يكثر الشراب، ويتلف المال، ويحتفظ بالمروءة ويقول:
لا تسأل الناسَ عن مالي وكثرته ... وسائل الناس عن حَزمي وعن خلقي
القوم أعلم أني من سَرَاتِهِم ... إذا تطيش يد الرِّعديدَةِ الفرِق(21/14)
قد اركبُ الهولَ مسدولاً عساكره ... وأكتم السِّرَّ فيه ضربَة العنق
عف المطالب عما لست نائله ... وأن ظُلمت شديد الحقِد والحنق
وقد أجود وما مالي بذي فنع ... وقد أكرُّ وراء المجحَرِ الفَرِقِ
سيكثر المالُ يوماً بعد قلته ... ويكتسي العود بعد اليبس بالورق
ظلت ثقيف على جاهليتها لا تذعن لدعوة الإسلام حتى أسلم من حولها ورأت نفسها بمعزل، فاضطرت إلى الإسلام في السنة التاسعة للهجرة، وسمع شاعرنا بالإسلام وتعاليمه فوقف حائرا، إن الإسلام يدعوا إلى المروءة وهو ذو مروءة، إن الإسلام يدعو إلى الصدق ومكارم الأخلاق وكل هذا حسن (فليسلم) ولكنه يأمر المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم، ولا يمدوا أعينهم إلى غير نسائهم، كما ينهي عن الخمر ويعاقب على شربها، فكيف يسلم وقد ألف الغزل ولا حياة له بغير الخمر؟ وقف قليلا ولكنه أسلم مع قومه وفوَّض إلى الله أمره ولم نسمع عنه في حياة رسول الله وأبي بكر شيئا ولكنا نراه اصطدم مع عمر وهو الشديد في الحق لا تأخذه فيه هوادة، فعاد شاعرنا يتغزل ويشرب. يرى امرأة من الأنصار تسمى (الشَّمُوس) فيحبها ويحاول رؤيتها بكل حيلة فلا يستطيع، فيؤجر نفسه ويعمل في حائط يبنى بجانب منزلها ويطل عليها من كوة البستان ويقول:
ولقد نظرت إلى الشَّمُوس ودونها ... حَرَجٌ من الرحمن غير قليل
ويشرب ويقول الشعر في الخمر:
إن كانت الخمر قد عزت وقد منعت ... وحال من دونها الإسلام والحرج
فقد أباكرها صِرفاً وأمزجها ... ريًّا وأطرب أحيانا وأمتزج
فيحده عمر حد الشرب، فيفكر شاعرنا ويطيل التفكير: هل يترك الغزل والخمر؟ لقد كان ذلك قبل الحد أما بعده فلا. إن من العار أن يتحدث الناس أني تركت الخمر خوفا من العقوبة وأنا الأبي الشجاع الذي لا يعبأ بالحياة إذن فلأشرب وليحدني عمر. وفعلا شرب فحده، وشرب فحد، وبلغ ذلك سبع مرات أو ثمانيا، وهو لا يزال على رأيه، مصمم على تفكيره، ماض في غزله وشربه، حتى يئس عمر من علاجه وضاق به ذرعا، فقرر أن ينفيه في جزيرة كانت تنفي فيها العرب في الجاهلية خلعائها، وبعث معه حَرَسيّا يحافظ عليه حتى لا يهرب، وأوصاه ألا يأخذ سجينه سيفا معه، وقد عرف عمر كيف ينتقم، فلم(21/15)
يألم شاعرنا من شيء ألمه من هذا الرأي. سيكون في جزيرة وحده لا غزل ولا شراب، ولكن ليس هذا ما آلم نفسه وأدمى قلبه، إنما آلمه أن يعيش عيشة الضعفاء المساكين والرجال في غزوات الحرب يقتُلون ويُقتلون وأن يعيش عيشة النساء في خدورهن وهو الفارس الكمي، لا، لا، الموت أهون من هذا. تظاهر شاعرنا بأنه يحمل غرارتين ملئتا دقيقا وعمد إلى سيفه فجعل نصله في غرارة، وجفنه في غرارة، ودفنهما في الدقيق حتى إذا جاوز هو والحرسي المدينة ولقيا من سفرهما هذا نصبا جلسا للغداء، فقام شاعرنا يوهم أنه يخرج دقيقاً فأخرج سيفه ووثب على الحرسي فخرج يعدو على بعيره راجعا إلى المدينة وظل صاحبنا وحده. الآن لا أعود إلى المدينة ووفيها عمر، ولا أطوف في البلاد ألهو فلست بعد اليوم لاهيا، ولكن إلى حيث يحيا الرجال والفرسان حياة النجدة والشهامة إلى مواقع الغزوات، إلى أشدها هولا، وأصعبها مراساً، إلى (القادسية) حيث المواقع الفاصلة بين سيادة العرب وسيادة الفرس. ولكن عمر الساهر على كل شيء في مملكته، لم يخف عليه أمر شاعرنا، فعرف أين توجه، فما، وصل إلى القادسية حتى سبقه كتاب عمر يأمر سعد بن أبي وقاص بحبسه، ففعل ذلك وحبسه في قصره وقيده، فمشى يرسف في قيوده ويستعطف سعدا أن يطلقه فزجره، فذهب إلى سلمى زوج سعد وقال لها: هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تخلين عني وتعيرينني البلقاء (فرس سعد) فلله على إن سلمني الله أن أرجع إليك حتى تضعي رجلي في قيدي، فأبت فقام ثائرا حزينا، يرى القتال على الباب وهو يرسف في القيد، وانطلق لسانه بهذه الأبيات:
كفى حَزَنا أن تطعَنَ الخيل بالقَنَا ... وأُترَكَ مشدوداًعلى وِثاقيا
إذا قمت عَنَّاني الحديد وغلَّقت ... مغاليق من دوني تصِمُّ المناديا
وقد كنت ذا أهل كثير وإخوة ... فقد تركوني واحدا لا أخا ليا
هلم سلاحي لا أبالك أنني ... أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا
ولله عهد لا أخيس بعهده ... لئن فَرَجَت ألا أزور الحوانيا
سمعت سلمى هذا الشعر فرثت له ورأت الصدق في قوله فأطلقته، وأقتاد فرس سعد وخرج إلى مواطن القتال وإذا به أمام الناس يقف بين الصفين ويحمل على العدو حملات منكرة حتى عجب الناس من قتاله وأمره، ورأوا الفرس فرس سعد الطاعن لم يشهد الحرب معهم(21/16)
قبل اليوم، حتى إذا انتصف الليل وتحاجز العسكران رجع صاحبنا إلى القصر وأعاد رجليه في القيد! فلما أصبح الصبح تحدث الناس به وأخبرت سلمى سعدا بما كان منه فأطلقه وعاهده ألا يحده أبدا إذا شرب. الآن ظهرت نفس شاعرنا في شرفها ونبلها وقال لسعد كنت آنف أن أتركها من أجل الحد، فأما إذ بهرجتني فلا والله لا أشربها أبدا. لقد كان مما أخذه عمر عليه قوله:
إذا مت فادفني إلى أصل كرمة ... تروِّي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
ويشاء قاص من الظرفاء فيروي أنه رأى قبره بنواحي أذربيجان أو جرجان وقد نبتت عليه ثلاث كروم قد طالت وأثمرت واعترشت، وعلى قبره مكتوب:
(هذا قبر أبي محجن الثقفي) أفاض الله عليه سجال رحمته فقد كان رجلاً وكان نبيلا.
أحمد أمين(21/17)
عيد الوطن الاقتصادي
رأي ونصيحة للدكتور منصور فهمي
وجه أحد شباب المشروع إلى عميد كلية الآداب هذين السؤالين: 1 - ما رأيكم في عيد الوطن الاقتصادي كمظهر من مظاهر الشباب؟ 2 - هل لكم من نصيحة توجهونها إلى الشباب القائم بالمشروع؟ فأجاب الأستاذ عنهما بما يأتي: 1 - لاشك أني أقابل بالعطف والتشجيع كل جهد مخلص في سبيل النهضات الاقتصادية والدعاية اللائقة لها، لأننا نعتقد أن في تلك الجهود ما يعين على خدمة الأخلاق، وذلك أن كل مشروع يوسع مجال العمل قد يضيق حظائر البطالة وما يتسبب عنها من المفاسد والشرور، وطالما بين لنا التاريخ أثر الحياة الاقتصادية في نهضات الشعوب العقلية، وفي نظامها الخلقي، فالإنسان لا يطيب له التأمل والتفكير إلا إذا كان رزقه في يسر وسعة، ومن تضيق به موارد العيش قد يركب صعاب الأمور ويهون عليه إذا لم يكن من الذين تحصنت نفوسهم بالشدة في الخلق، أن يفرط في ما تدعو إليه الأخلاق الفاضلة، وإني إذن اعتمد على ما قدمت لأبارك للشباب جهده في الدعوة إلى خدمة الحياة الاقتصادية بشتى المظاهر الجديدة لشباب مثقف نشط في قدرته أن يحسن الاختيار لأساليب الدعاية البريئة الهادئة. 2_أما أول نصيحة أوجهها للشبان القائمين بالمشروع فهي ألا تأخذهم نشوة الحماسة إلى دعوة محمودة فيعتمدون كل الاعتماد على رأيهم ولوامع خيالاتهم دون ان يرجعوا لآراء المجربين الخبيرين ممن اشتغلوا بالأمور الاقتصادية، لأن مسائل الحياة الاقتصادية في الأمم متشعبة كثيرة الاتصال بشتى المسائل العمرانية، وقد لا يصيبها النجاح المرجو إذا هي لم تعالج في فطنة ودقة، وخبرة وكياسة، ومن أجل هذا أوصيهم بكل شدة أن يقتحموا هذه الأبواب ومعهم زادهم من نصائح كبار الاقتصاديين من مواطنيهم، وتوجيهاتهم لكي تغذي تلك الإرشادات نشاطهم، فيسير إلى حيث يثمر الثمرات الطيبة. وأما نصيحتي الثانية فهي أن تقوموا بعملكم المشروع بنفس زكية لا يداخلها عداء لأعمال غيركم، إنما يداخلها الإيمان بمشروعية عملكم وقيمته وطهارة سبله ونزاهة الوسائل التي تحققه. ويجب ألا ينسيكم العمل المبرور أعمالكم الدراسية لأنها الواجب الأول المباشر في المرحلة التي أنتم فيها، فإذا كان لديكم فضل من الوقت تروضون فيه أنفسكم على الأعمال الاجتماعية عن طيب خاطر وعن إخلاص وعلى(21/18)
نحو ما نصحت لكم فإني آمل أن يوفق الله مسعاكم.
بطالة المتعلمين ورأينا في علاجها
للدكتور محمد حسين هيكل بك
لاشيء يعني به شباب مصر في هذه السنين عنايته بالشئون الاقتصادية. وما يزال مشروع القرش ماثلا في أذهان الناس، وما يزال شبان القرش مستعدين للهجوم إذا آن موعده في أول كل عام جديد. وها نحن نكتب هذه الكلمة لعيد الوطن الاقتصادي وأنت حيثما ذهبت لم تكد تسمع شيئا إلا في الاقتصاد والمشروعات الاقتصادية وما إليها، فما عسى يكون السبب في هذا؟ السبب فيما يخيل إلينا هو هذا الذي يسمونه عطلة المتعلمين، فالمدارس فيما يزعمون تخرج عددا أكبر بكثير مما تحتاج إليه وظائف الدولة، ومما تحتاج إليه الأعمال الحرة المعروفة إلى اليوم، فلابد من خلق أعمال حرة جديدة ليقتحم هذا الشباب المتعلم ميادينها ولتبرأ البلاد بذلك من مرض العطلة. وقد يكون هذا صحيحا ولكن هل ينجح مثل هذا العلاج فيوجد عملا لمن تخرجهم المدارس العليا والكليات والمدارس الفنية والخصوصية في كل عام ممن لا يجدون عملا في الحكومة أو في الوظائف الحرة المعروفة؟ وهل ينجح في إيجاد عمل للألوف الذين يحصلون على شهادة الدراسة الثانوية ولا يستطيعون إتمام دراساتهم العالية والفنية؟ نشك في هذا كثيرا. وعلة الشك أن هؤلاء المتعلمين يريدون عملا من طراز معين. يريدون عملا على مكتب من المكاتب ويأنفون العمل اليدوي. وهذا عمل على مكتب لا يتيسر للألوف وعشرات الألوف ممن يتخرجون، فلا طاقة لمشروعات الشباب بمواجهة رغباتهم وبإيجاد أسباب الكسب لهم. وعلاج هذه الحال في رأينا إنما يكون بفتح أبواب التعليم على مصاريعها جميعاً، للناس جميعا وجعل التعليم في متناول الكل، ينهل منه من شاء في حدود طاقته، يوم يصبح الكل متعلمين، ولا تكون طائفة المتعلمين محصورة لا يأنف الإنسان أن يباشر عملا يدوياً أو غير يدوي، ويومئذ يصبح كل عمل شريفاً، ويومئذ يمسك المتعلم بالفأس والمحراث، ولا يرى في ذلك ما يحط من شأنه، ويشتغل المتعلم في الصناعات المختلفة، في صناعة الجلود والأحذية، في النجارة والحدادة، في فلاحة البساتين، في التجارة بمختلف أنواعها، ولا يكون واحد من(21/19)
هذه الأعمال أقل رفعة ومكانة وتشريفا لصاحبه من العمل على مكتب، ولا من منصب الوزارة أو أي منصب حكومي آخر. هذا في رأينا هو الحل العملي المنتج، فعلة بطالة المتعلمين وعطلهم: أنهم يرون أنفسهم طائفة خاصة ممتازة، يجب أن يكون لها عمل خاص ممتاز، فإذا لم يجد أفرادها هذا العمل فضلوا البطالة ولو تكففوا الناس بعد ذلك، فإذا زالت عنهم صفة الطائفة، بأن أصبح الناس جميعا متعلمين وجب على هؤلاء المتعلمين أن يزاولوا كل الأعمال فأصبح بذلك كل عمل شريفا كما قدمنا، وانفسح الميدان لكل من يريد أن يقتحمه. لا يقلل هذا من تقديرنا لمجهود الشبان في الوقت الحاضر. ولكنا نعتقده غير قادر على علاج المشكلة التي دفعت إلى هذا النشاط إلا بمقدار، وبهذا المقدار يستحق الشباب الحمد والشكر.(21/20)
نداء لسكرتيرة المتطوعات
أخواتي: أقسم الشباب أن يمضي جهاده بعزيمة قوية وهمة فتية يريد لمصر هناءً موفوراً، ورخاء سخياً، ويسراً عريضاً، فهلا ساهمت معهم بوطنيتك وأيدتهم بإخلاصك ووفائك؟ إن الشروع لا يطلب إليك أكثر من أن تؤمني بعقيدة الجهاد في سبيل مصر: ترتدين الرداء المصري الصميم، وتدعين للصانع والتاجر المصري في الوسط الذي تعيشين في أفقه، وتوزعين الدليل الوطني أيام العيد: وتحفين بالموكب في مهرجان مصر، التي نعيش من أجلها، ونجاهد في سبيلها. ولقد حرصت لجنة المتطوعات على أن تعمل بعيدة عن الأفق الذي يجاهد في حدوده إخواننا الشبان، رعاية لتقاليد البلاد، وصونا لسمعة المجاهدات وحرصا على صفاء الجو الذي نناضل في أفقه. . فهيا إلى العمل وليكن شعارنا الذي نفاخر به: (مصر للمصريين)
سعاد حسن
. . . بل مصر مصرية!
بقلم الآنسة مي
(مصر للمصريين). هذه الكلمة أقرأها لكم كاتبين، أيها الشبان، وأسمعها منكم محدثين. وإنها لكلمة جميلة خصيبة عادلة، لكن ما هو أجمل منها وأخصب وأعدل هو الغرض الذي ترمون إليه في حركتكم الوطنية الاقتصادية: جعل مصر مصرية! المعلوم عن مصر أنها بحكم موقعها الجغرافي بلد دولي حتما. فهي بمقتضى ذلك تفتح بابها لكل شعب، وترحب بكل حضارة، وتستسيغ كل صناعة، وكل ثقافة تجد في مغناها ضيافةً وانتشاراً. ولما كان لكل مقام مقال، فان مصر لم تعدم من ينعى عليها موقفها ذاك. والشعراء، الشعراء البررة القساة، كم استوحوا هذا الموضوع فنمَّقوا المراثي يعرضون فيها جيوش المصائب والمحن الضاربة في هذا البلد الأمين، ويشهدون العالمين (باللغة الفصحى!) على ما معناه أن: (مصر بنت طيبة، ولكنها مظلومة قضاء وقدراً)!. . . ولكم بكى الباكون من جراء وقع هذه البلاغات الشعريات (. . . جمع بلاغة شعرية!) وإن لم يبكوا بدموع تُمسح بالمناديل فلا أقل من زفرات ملتهبة تتسرَّب من القلوب المحروبة حيث الشفاه تردد قول الشاعر: (مصر(21/21)
بنت طيبة، ولكنها مظلومة قضاء وقدراً!). . .
فتيان مصر، فتيان الحياة الجديدة في مصر! بحركة واحدة قمتم انتم قومة رجل واحد. قمتم لأنكم بحميتكم الأبية، وبشبابكم الحار، وبوفائكم البصير، أدركتم أن سلاسل القضاء والقدر كثيرا ما يحبكها المرء لنفسه، وأن البلاد كثيرا ما يهمل أبناؤها أمرها فيكونون لها ظالمين! أمصر ميدان لشتى الصناعات والثقافات والحضارات؟ إذن لتستفيدوا من كل أولئك. وما كان في نظر المتشائمين موضوع رثاء وحسرة ينقلب بين أيديكم موضوع جذل وأريحية وميدان خير عميم! تأخذون من كل قوم ما عندهم من ابتكار ونظام وتدبير، فتطبقونه على قومكم بمقدار ما يتناسب وحاجاتكم. وما انتم بذلك إلا مماشون سنن التاريخ.
فما من صناعة أو ثقافة أو حضارة إلا اقتبست شيئا مما سبقها أو استلهمت شيئا مما يحيط بها. ما هو الفرق بين مصر وبين غيرها من البلدان القوية؟ أول فرق ظاهر أن البلدان القوية تستهلك ما تنتج، وتدفق على غيرها من الأقطار ما يفيض عن حاجتها، في حين أن مصر تنتج قليلا وتستهلك كثيرا مما يقدمه لها المنتجون. وهذا هو النقص الذي قمتم تعالجون! أو تذكرون قول الاسكندر قبل أن يقدم على فتح الأمصار القريبة والبعيدة؟ قال: (أريد أن أرث عن أبي فيليب بلدا صغيرا فقيرا مرتبكا ليكون لي الفخر بان أجعله بلدا فسيحا غنيا تضرب الأمثال بقوانينه وأنظمته وعظمته) أنتم ورثتم عن آبائكم بلدا عظيما غنيا ما زال في حاجة إلى تنظيم في بعض نواحيه. ولتكونوا فخورين بهذا الوطن وخصائصه، ولتكونوا فخورين بحاجته اليكم، وبما لا يروقكم فيه. ولتكونوا فخورين لأنكم وجدتم في هذا العهد الذي تستطيعون أن تقوموا فيه بالخدم اللاَّحَّة! كذلك تسبرون غور مقدرتكم، ومبلغ تأثيركم، وتعرفون مقدار قيمتكم الأدبية أفرادا وجماعة!
عيدكم عيد الوطن، وعيد نشاط الوطن. صيحوا بأصواتكم الفتية بوجوب توزيع إنتاجه من كل نوع وكل صنف وكل فصيلة، اهتفوا في قومكم أن اجعلوا أثوابكم مصرية، وأثاثات منازلكم مصرية، وزينات حياتكم مصرية، لتهيئوا وسائل العمل والرفاهة لملايين الأيدي المصرية. ردِّدوا أن خذوا عن الآخرين، واقتبسوا، وحصّلوا، على أن تمصِّروا كل ما تحصلون وتقتبسون وتأخذون، فينقلب كل منكم اسكندراً خلاّقاً في بابه!
فتيان مصر، فتيان الوادي الأخضر! عيدكم رأس سنة جديدة، بل هو مطلع عهدٍ جديد! هو(21/22)
مطلع العهد الذي تسعون فيه إلى تمصير حاجاتكم. فلا يكفي أن تكون مصر للمصريين، بل يجب أن تكون مصر مصرية!
ولكم الفضل، بلفت البلاد إلى هذا الشأن الخطير. إن لتربة بلادكم هذه خاصَّة سحرية في تحويل كل غريب عنها إلى جزء منها. فكم ذا تصبح هذه الخاصة فعالة إذا ما أنتم عالجتموها بما نراه منكم من ذكاء وإدراك وهمة وحماسة وحيوية! عيشوا تحقيقاً للرجاء الذي يجعل واديكم دائم الخضرة، ويجعل عَلَمَكم دائم الخضرة! ولتعش مصر مصرية!(21/23)
كيف نحافظ على وجودنا الاقتصادي؟
للأستاذ محمد فريد وجدي
الثروة للأمم (والثروة الاجتماعية تطلق على النقود المسكوكة وكل ما تثمره الأرض وتنتجه اليد العاملة) كالدم الذي يجري في الجسم الحي. ويوزع على كل عضو بل وكل خلية فيه ما يقيم حياتها ويجعلها صالحة لأداء وظيفتها. والطرق التي تجول فيها هذه الثروة لإعطاء كل فرد نصيبه منها تشبه بالشرايين والأوردة من الجسم الحي. وإذا كان لا حياة لجسم بدون دم، فكذلك لا حياة لأمة بدون ثروة. وإذا كانت صحة ذلك الجسم تتطلب دما كافيا حاصلا على جميع مقوماته البيولوجية. فكذلك الثروة الاجتماعية يجب أن تكون كافية لحاجات المجتمع وحاصلة على العناصر التي تتطلبها حياة الاجتماع. وإذا كانت تستتبع قلة مقدار الدم في الجسم الحي وفساد تركيبه أدواء عضالة من الأنيميا والخلوروز وما يجران إليه من العلل المترتبة عليهما، فكذلك عدم كفاية الثروة الاجتماعية تولد لهيئة المجتمع أدواء من الضعف العام ومن الاضطراب في وظائفه يصبح المجتمع معها عرضة لكل ضروب المتالف فيجمد حيث هو، أو يختل توازنه، أو يعتل وجوده، ويصبح لا يغني عن نفسه شيئا. لهذا السبب قام إزاء أطباء الأجسام في كل أدوار الأمم أطباء للاجتماع تولوا تدبير الثروة العامة بضروب شتى من الوسائل. وأطباء الاجتماع اليوم اكثر تبعات مما كانوا عليه في سالف العصور بسبب تعقد المبادلات بين الأمم، ومزاحمة الأسواق بعضها لبعض، وتشابك الصلات المالية بعضها ببعض، أصبح علم الاقتصاد من أوسع العلوم اختصاصا واشدها تركبا. وها نحن أولاء نسمع جؤار الشعوب تحت كلاكل هذه الأزمة العالمية، ونشهد جهاد الاقتصاديين في علاجها بما لم يتفق مثله للبشر في أي عهد من عهودهم، فإذا كنا لا نعتبر بكل هذا فنتوفر على درس هذه الحالة فيما يختص بنا توفرا يناسب أحوالنا الحاضرة فإننا نجني على أنفسنا جناية نحاسب عليها حسابا عسيرا، ونذوق وبال امرنا منها جزاء موفورا. وأول ما يجب أن ندرسه من مسائلنا الخاصة هو أن نعرف هل ثروتنا العامة التي تثمرها أرضنا وأيدي عمالنا تكفينا الحاجة أم لا؟ وهل هذه الثروة تتوزع على جميع أفرادنا أم لا؟ وهل يتسرب منها شيء إلى الخارج، كان يجب أن يبقى لدينا أم لا؟ هذه المسائل الثلاث يجب أن تشغل كل فرد من أفراد مجتمعنا على السواء، ولا يجوز أن(21/24)
تقتصر على الذين يشعرون بالحاجة المعيشية فقط، لأن الضعف والاعتلال اللذين يحيقان بمجتمعنا لا ينحصران في الطبقات المحرومة من الثروة ولكنهما يعمان الكافة، فيكون نصيب أصحاب الأموال أشد مما ينال صغار الناس منهما. أما ترى اليوم ماذا أصاب أصحاب رؤوس الأموال الطائلة من البؤس والإقلال بسبب الأزمة الحاضرة، حتى أن صاحب مئات الفدادين أصبح لا يجد ما يقوت به نفسه. وتعرضت أملاكه للبيوع الجبرية؟ ومنهم من تجرد من جميع ما كان عنده فأصبح معوزا لا يملك شروى نقير ولا يصلح لأي عمل! وما ظنك لو اشتدت وطأة هذه الأزمة أو امتد عهدها سنتين أخريين أو ثلاث سنين اخرى؟ دع مصر جانبا وانظر إلى أعلى الأمم كعبا في الثروة والمدنية، ألم تجد الأحوال فيها شرا مما نحن عليه. ألم توصد عشرات من المصارف أبوابها. ألم تسد منافذ الارتزاق في وجوه الملايين من أبنائها؟ ألم ينضب معين الثروة في خزائن حكوماتها فاضطرت لضرب الضرائب الفادحة على مموليها؟ ألم يتناول الضغط على نفقاتها مرتبات موظفيها فأسقطت نحو الثلث من مرتباتهم ولا تزال تهددهم بتخفيضات جديدة؟ هذه كلها عبر يجب أن نتأمل فيها، وأن نعمل على تلافيها. وإذا كان الأمر من الخطورة عند هذا الحد أفلا يكون أوجب الواجبات أن نحاول ألا يتسرب قرش واحد إلى خارج بلادنا إلا إذا كان في حاجة ماسة، ولضرورة قصوى؟ وهذا ما تفعله كل أمة وتتشدد فيه اليوم شعورا منها بان دولاب الأعمال مادام معطلا وحركة المبادلات بطيئة، وجب ان ينحصر مال الأمة في بلادها حتى لا ينضب معينه فيها فتصاب بأشد ضروب الإعسار ولا كرامة. وما دمنا قد شبهنا ثروة الأمة في مجموعها بدم الحياة للفرد الواحد، فقد ساغ لنا ان نشبه خروج تلك الثروة من بلادها دون أن تستعيض عنها من طريق المبادلات ما يعادلها، بداء النزيف الدموي. فالأمة التي لا تبالي في مثل هذه الأحوال بتسرب ثروتها إلى خارج ديارها، يكون مثلها كمثل فرد أصيب بالنزيف وحكم عليه فوق هذا ألا يستعيض عما يفقده بتناول المواد المعوضة. ولست أستطيع بعد هذا أن احدد تبعة من يتجرأ على تبديد ثروة البلاد خارجها بالتعويل على الواردات الأجنبية التي يجد في بلاده ما يقوم بحاجته منها، قد يكون ما يجده منها في بلاده اقل جودة، أولا يفي بمرامه من كل وجه، فهل يجوز أن يحمله ذلك على الانصراف عنه محولا جزءا من ثروة الأمة إلى ثروة أمة أخرى، في وقت هي أحوج ما(21/25)
تكون إلى المعونة والمساعدة، وهل يرضى لنفسه أن يكون فتقا في شرايينها ينزف منه مقدار من دمها هي أحوج ما تكون إليه في ضعفها وقلة حيويتها؟
يخيل إلى أن وطنيا لا يرضى لنفسه أن يكون سببا في هذا الشر المستطير لو وقف على جلية هذا الأمر وأدرك خطورته على أمته وعلى نفسه أيضا. فليحرص كل منا على القيام بواجبه من التعويل على مصنوعات بلاده وترويجها بكل ما أوتيه من قوة، لأننا لا نستطيع أن نحافظ على كيان بلادنا في معمعان هذه الأزمة العالمية الطاحنة إلا بهذه الوسيلة، وهي طوع أرادتنا، ومن مقدورنا، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، والسلام.
الصناعة عنوان الحضارة
للدكتور عبد الرحمن شهبندر
للأمم (معامل) تصنع فيها المصنوعات المعنوية من شرائع وسياسات وأخلاق وعادات كما تصنع فيها المصنوعات المادية من أنسجة وأحذية وألبسة وآلات، ولا تقل هذه دلالة عن تلك على مبلغ أصحاب (المعامل) من الارتقاء العقلي، بل ربما كانت المصنوعات المادية أدق في التعبير عن ذهنية الأمم من المصنوعات المعنوية لأنها محسوسة ملموسة تقبل الموازين، وأما تلك فهي أوضاع ومقاييسها معنوية مثلها.
ولكل عصر من العصور طابع خاص بالصناعة التي راجت فيهو فعصر الفروسية مثلا_وهو من أقرب العصور التي عرفناها امتاز بصنع اللجم والركب والسروج كما امتاز بصنع المحركات للسيارات والطيارات وآلات الزراعة، وقد أحب الفرسان الخيل والعدو على ظهورها وعقدوا بناصيتها الخير فتفننوا في الأدوات التي تلازم ركوبها وأما نحن فقد فتنا بالسرعة واستخراج أعظم محصول بأقل مجهود فبرعنا في عمل (الموتورات). نحن في الشرق من أسبق الأمم إلى عمل المصنوعات بالمعنيين المتقدمين، لكننا تراجعنا فيهما كليهما، فحلقات الدروس وما يجري فيها من بحث عن موضوعات عقيمة سخيفة بالية وهي لا تقاس بما كان عليه السلف في العصر العربي الذهبي، تدل على هذا التراجع كما تدل عليه المصنوعات الهزيلة الخالية من المتانة والذوق والمعروضة في الأسواق والحوانيت. وزيارة واحدة لمكتبة من المكاتب الكبرى فى دمشق أو بغداد أو القاهرة وتقليب صفحات(21/26)
من بضعة كتب من الكتب المصفوفة على رفوفها هي مثل زيارة لمتحف من متاحفها وإلقاء نظرة على ما يعرض فيه من النفائس فيها المقنع الكافي على صحة ما قلنا.
وقد دخلنا الآن في دور النهضة ويلوح لي إننا سبقنا إلى مباشرة المصنوعات المعنوية ولكننا من حسن الحظ أخذنا أخيراً في مباشرة المصنوعات المادية أيضا كما تشهد المعامل والمصانع الحديثة المنصوبة في هذا القطر السعيد وما جاوره من الأقطار العربية الشقيقة. ولا اعرف حافزا دفع الأمم الأخذ بالصنائع مثل الحرب العامة. فقد كان من نتائج الحصار الذي عانته الشعوب في غضونها وانقطاع أسباب المواصلات بينها أن التجأ بعضها إلى مصنوعات تكاد تكون من عمل القرون الخالية، ولا أزال أذكر كيف أن انقطاع الثقاب والنفط (الكاز) عن سورية مثلا في سني الحرب العالمية عاد بالاهلين إلى استعمال القداحة وسراج زيت الزيتون، وكان هذا الحافز أشد ظهورا في الحاجات والأدوات يتوقف عليها تسيير دفة القتال كما هو ظاهر من إخفاق روسيا العزلاء في هجومها المتكرر على ألمانيا والنمسا وتركيا وخروجها من الحرب أخيرا على تلك الحالة المزرية منكسة الأعلام. لا جرم أن الأمم التي شعرت يومئذ بنقص مصنوعاتها وتعلقها على غيرها من الأمم وارتباطها بها اقتنعت بعد هذه الدروس الخطرة المملؤة بالكوارث أن لابد لها من الاستقلال الصناعي وهو لا يقل شأنا عن الاستقلال السياسي، بل لا يتم هذا بالمعنى الصحيح من غير ان يتحقق ذاك. لان الأمة التي تنتظر غيرها أن يعمل لها البنادق والمدافع للدفاع عن حوزتها هي أمة غير مستقلة في أهم شؤونها. وزاد الشعور بهذه الحاجة تلك الوطنية الاقتصادية الحديثة التي تحاول أن تصدر كل شيء وألا تستورد شيئا، وما هذه الحواجز الجمركية القائمة بين الشعوب إلا عنوان هذه الوطنية الصارمة، ويكون جزاء الأمة المتساهلة في هذا الباب إغراق أسواقها بمصنوعات غيرها واختناقها بمصنوعاتها، وعرفت إنكلترا من بين سائر الأمم بالميل في تجارتها إلى (الباب المفتوح) ولكن حوادث الزمن أرغمتها على إغلاقه كما علمت غيرها أن تكون متشددة، وما لم يقم التفاهم مقام التنازع، وهذا مستبعد في الأحوال الحاضرة، فان هذه الحواجز ستشتد وتقوى. إن نهضة مصر الصناعية هي مثل النهضة الصناعية في الأقطار العربية الشقيقة تدل على تغير جوهري في الذهنية العامة وشعور بالحاجة إلى الاستقلال والاعتماد على النفس، وهذا هو(21/27)
ركن عظيم من أركان الانقلاب السياسي المنشود، لان الحاجة تفتق الذهن وهي أم الاختراع.(21/28)
البعث
للأستاذ توفيق الحكيم
حوريس: انهض، انهض يا أوزيريس!
أنا ولدك حوريس. . .
جئت أعيد إليك الحياة،
جئت أجمع عظامك.
واربط عضلاتك،
وأصل أعضائك. . .
أنا حوريس الذي يكون أباه.
حوريس يعطيك عيونا لترى،
وآذانا لتسمع، وأقداما لتسير،
وأيادي لتعمل. . .
ها هي أعضاءك صحيحة،
وجسدك ينمو،
ودماؤك تدب في عروقك.
إن لك دائما قلبك الحقيقي،
قلبك الماضي!
الميت: إني حي، إني حي!
(كتاب الموتى)
وحوريس ليس إلا الشباب، يعيد الحياة إلى ماضيه الميت. نعم هو الشباب الذي يكون أباه الوطن. وقد أعطاه بالفعل عيونا يرى بها غابره العظيم في حريته، وحاضره الذليل في قيود الغرباء، وآذاناً يسمع بها ضحكات السخرية من أفواه الجبناء الذين جاءوا يستغلون رقاده ويستلبون خيراته. كما أعطاه أقداما يسير بها كي يثبت لهم أنه حي، وأيدياً يعمل بها على تشييد الصرح المهدوم. إن أعضاء الوطن صحيحة لم ينقص منها عضو. وهاهو ذا جسده يتحرك وينمو، والدم يجري في شرايينه. والشباب على رأسه يصيح: (إن لك دائما(21/29)
قلبك الحقيقي. . قلبك الماضي!. .) ويخيل إلى أنى أسمع الوطن من كل جانب يلبى النداء ويجيب الشباب الأبناء: (إني حي، إني حي!)
إني دائما أومن بان مصر لا يمكن أن تموت. لأن مصر منذ الأزل ظلت تعمل وتكد آلاف السنين لهدف واحد: مكافحة الموت. ولقد فازت مصر ببغيتها. وكلما ظن الموت أنه انتصر. قام حوريس من أبنائها يصيح: (انهض، انهض أيها الوطن! إن لك قلبك الحقيقي دائما. . قلبك الماضي) وإذا الموت يتراجع أمام صوت داو من أعماق الوطن: (إني حي، إني حي!) لست أعجب الآن لصيحات الشباب ومشروعات الشباب، فهي صيحات حوريس يوقظ أباه. إنما عجبي لأدراك الشباب أن أقوى مظاهر اليقظة هي: النهضة الاقتصادية: هي الدماء السخية التي تجري في جسد مصر قانية قوية. مرحى للشباب! هذا الابن الحق. لقد فهم سر الحياة، كما فهمها حوريس. وبارك الله في عيد الوطن الاقتصادي، فهو اليوم الذي سيردد فيه الوطن، وهو ناهض على قدميه. . وهو ملوح بيديه، صوته الخالد: (إني حي، إني حي!)(21/30)
حركات الشباب
للأستاذ سلامة موسى
ربما كانت أولى حركات الشباب في هذا القرن حركة الفتيان الكشافة التي ذاعت بين جميع الأمم. وقد تناولت الصبيان إلى سن الشباب وملأت حياتهم صحة أجسامهم وخدمة لبلادهم وثقافة فيما يتصل بحياة الخلاء والتجوال. ثم ظهرت حركة أخرى بين الشباب هي الحركة الفاشية وقد اتخذت منذ بدايتها لونا سياسيا وطنيا. واستطاعت هذه الحركة، على الرغم من عيوب فيها، أن تقوم بالمعجزات في إيطاليا لرفعة الوطن. وظهرت منذ نحو ست سنوات حركة الفتيان الجوالة، وكان منشأها في ألمانيا حيث يخرج الفتى ومعه القليل من الملابس فيجول في أنحاء ألمانيا ويقضي الليل في مأوى ريفي صغير لا يكلفه نوما وفطور اكثر من خمسة قروش. وما يزال في هذا التجوال يزور المدن والقرى والجبال والسهول بضعة اشهر يرى فيها أنحاء ألمانيا فيعرف بلاده معرفة الخبير الذي عاين احسن ما فيها ويحبها لذلك اكثر ويزداد أمانة في خدمتها. وقد فشت عندنا نحن في السنوات الثلاث الماضية حركة أخرى بين الشباب انطبعت بطابع الحاجات الاقتصادية. فقد رأينا أننا مغبونون أمام الأجانب، في التجارة والصناعة، وأننا من الفاقة بحيث أصبح مزارعونا مثقلين بالديون، وان البلاد كلها تعيش بالزراعة وتكاد تجهل الصناعة. وكان شعورنا بالوطنية الاقتصادية ضعيفا، حتى أننا في إحدى السنوات القريبة الماضية اشترينا من الأطعمة ما بلغ ثمنه سبعة ملايين من الجنيهات، وهذا في بلاد زراعية كان عليها على الأقل أن تكفي نفسها طعاما إن لم تصدر ما يفيض منه إلى الخارج. لذلك ما كادت الصيحة إلى إيثار المصري على الأجنبي تعلن إلى الشباب حتى أخذها هؤلاء وجعلوا منها شعلة لن تنطفئ. فرأينا جمعية المصري للمصري ثم مشروع القرش ثم جمعية الاستقلال الاقتصادي ثم مشروع القرش ثم يوم عيد الوطن الاقتصادي. وهذا التنبيه العام إلى الصناعة والتجارة المصريتين يعزى الفضل فيه إلى شبابنا. هؤلاء الشباب الذين يجب على كل منهم أن يكون رقيبا على ثروة البلاد، يراقب نفسه أولا لا يأكل هو نفسه سوى الأطعمة المصرية، ولا يلبس سوى الأقمشة المصرية، ولا يؤثث بيته إلا بالأثاث المصري. وقد نحتاج إلى بعض البضائع الأجنبية ولكن يجب علينا عندئذ ألا نشتريها إلا من التاجر المصري، ثم بعد ذلك يراقب(21/31)
غيره حتى يكون داعية للصناعة المصرية فينصح لأصدقائه ويطلب من زعمائه أن يتخذوا الملابس المصرية.
وعيد الوطن الاقتصادي هو يوم نخصه للدعاية. ولسنا نعتقد أن في البلاد خصما واحدا لهذه الدعاية التي يقوم بها شبابنا لكن يكسبونا كرامة اقتصادية ما أعظم حاجتنا إليها في هذه الأيام السود التي تباع ممتلكات الفلاح فيها بيع السماح بل بيع الجبر في سوق الدلالة.
بين الشرق والغرب
لسكرتير لجنة الدعاية
قرأت لزميل نقدا ممضا مريض الحجة ينصب على الجامعة في غير روية ولا أناة. فما التقيت به حتى أخذت في لومه والعتب عليه مستكثرا منه أن يطعن في معهد يظله ويحتويه. فبرم بموقفي من نقده، واستشاط حماسة وانطلق يقول: إن القلم الذي لا يستطيع أن ينجو بالحقيقة من ضيق العواطف، ويكفل لها ساحة رحبة النطاق، واسعة الأفق، لهو قلم كليل قصير الأجل لا ينتظر له خلود. . واليوم الذي ترى فيه الجامعة طلابها وقد ملأتهم الجرأة في سبيل الحق. وسكن في قلوبهم استقلال الرأي، لهو اليوم الذي يؤمن فيه الناس بأن الجامعة قد أدت رسالتها على اكمل وجه وأتم صورة. . وانطلق الزميل
في بسط فكرته تحت تأثير عاطفة قوية وميل جامح. .! فقلت له ان الجامعة موطن علمك ومعين ثقافتك. فمن حقها عليك ان تتولى الذود عنها إن حاق بها اعتداء أو أصابها ضر. فان قعدت عن حمايتها فلا أقل من أن تحجم عن الاشتراك في هدمها. وتتورع عن المساهمة في طعنها والحط من شأنها. ولو صح استقصاؤك لما فيها من سوءات لما جاز لك ان تعلنه على هذه الصورة القبيحة المزرية التي تخفيها تحت ستار حرية الفكر، واستقلال الرأي. . وما إلى ذلك من ألفاظ لها قداستها التي خفيت عنك حدودها. وتوارت عن بصيرتك معالمها. وقداسة الحقيقة يا صاحبي لم تطلب إليك استقصاء السوءات والتغافل عن الحسنات. ولكن الزميل كان في ثورة حماسه لا يملك إلا الإيمان بفكرته وتسفيه ما يذهب إليه خصومه، فطال بيننا الجدال على غير جدوى. وفي الأسبوع نفسه قدر لي أن أستمع إلى مؤرخ إنجليزي عالمي يحاضر في مواقف مرت بوطنه فيلتمس له(21/32)
الأعذار في (حرق جان دارك) ونفي نابليون. .!! هذه هي الهوة التي تفصل بين منطق الكثيرين من علماء الغرب الأفذاذ. وذهنية أكثر الناشئين من شباب الشرق المغبون_هوة تعيش فيها آمال عرجاء. وتحيا في ظلامها مطامح جرباء، هناك قد (يخلقون المناسبات) ليملأها دفاعا عن وطنهم. وذودا عن حرمته. وإشادة بمفاخره. بل ربما لا (يتورع) العالم عن أن يتخذ العلم أداة يسخرها لخدمة مأربه القومي وقضاء شهوته الوطنية.!! وهنا يخلق بعض (شباننا) المناسبات ليتناولوا فيها أنفسهم ووطنهم ومعاهد علمهم بالطعن والتجريح.!! وهذا الفرق (فيما أرى) من أعظم العناصر التي تميز بين عظمة الغرب الفتية. . وحالة الشرق المريضة. لهذا ينبغي أن يطرب المصريون لهذه الثورة القومية الوديعة التي يقوم بها شباب عيد الوطن الاقتصادي. لأنها تعالج النقص الذي تنطوي عليه نفوسنا.
(ت. الطويل) كلية الآداب(21/33)
نشيد
في عيد الوطن الاقتصادي
وطن دعانا فاستجبنا ... وبكم بني مصر أهبنا
جد النزيل وقد لعبنا ... وبكل ميدان غلبنا
وطغى الدخيل على الأصيل
آبائكم سادوا وشادوا ... وعن الحمى درءوا وذادوا
زرعوا وفاتكم الحصاد! ... وونت عن الثمر البلاد!!
وجنى المغلب والنزيل!
في الحق صيحات الشباب: ... لا ننثني حتى تجاب
ولسوف نكتسح الصعاب ... إن سد باب دق باب
ولدى سوانا المستحيل
جولوا بوادي النيل جولة ... وامضوا لمصر أو المحله
فهناك للصناع دولة ... وهناك تلتمس الأدلة
هناك مجدكم الأثيل
المال في يدكم أمانة ... من مصر كدستم جمانة
أنسر إذ تبكي الكنانة ... ونظل لا نولي إعانة
ونقر بالبلد الذليل؟؟
إنا دعائم الاقتصاد ... ودعاة مصر إلى الجهاد،
ندعوا إلى العمل البلاد ... ما دون غايتنا ارتداد
وإلى الأمام لنا السبيل!
الزقازيق. إبراهيم مأمون(21/34)
نداء اللجنة التنفيذية
للأستاذ عبد الله فكري أباظة. رئيس اللجنة التنفيذية
بنى وطني!
عزم ثابت لا ونية فيه، وحزم نافذ لا رجعة فيه لرأي بعد إقراره. ذلك حال الشباب الذي أخذ على نفسه أن يحيي للوطن عيدا يقيم فيه مهرجانا، يخرج منه موكب، يجمع صناعاتنا المصرية لتستلهموا من رؤيتها العبر. فبلادنا اليوم في عسر شديد. . خرج بها اليأس عن أن يجد بنوها حتى من الدمع عزاء. . ولا من نضال الحياة جزاء. . إلا أن الله القدير جعل لكل عسر يسراً. ولكل ضيق سهلا، وخلق العزائم على قدر المصاعب. سينطلق في أيام العيد الثلاث حضرات المتطوعات والمتطوعين من أبناء مصر يحملون ما تيسر حمله من صناعة بلادهم، يدعون إليها ويفاخرون بها، فيدلونكم بذلك على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. . وسيوزعون عليكم دليلا إحصائيا يحوي أسماء المتاجر والمصانع الوطنية، يكون بين أيديكم هدى ومنارا، وقد أخذت صناعة مصر وتجارتها تحبو تبتغي النهوض بعد أن طال بها الرقاد لتستعيد سيرتها الأولى. أيها المصريون:
قد اجتمع لوطنكم من الخيرات ما تستحقون من أجله الغبطة والحسد. ولكن الأزمة تحيط بكم والضيق يكتنفكم والفافة تتمشى في بيوتكم، ولا يفوتكم أن الصناعة والتجارة في دورها الاول يهددها البلاء ويرقبها الفناء. إن لم تجد من العون والتعضيد ما يزيدها أملا على النهوض ويبعث إلى روحها القوة والرجاء.
إن يوم العيد بمثابة الناقوس يعلن المخلصين ببدء الجهاد الاقتصادي، ليقبلوا على صناعة البلاد ومنتجاتها، مستعذبين مستمرئين كل جهد وعناء. أيها المواطنون: إن مضمار الوطنية يوم العيد. ومن بعده سباق، فاصبروا في ميدان المصرية صبرا جميلا، واعملوا عملا حثيثا، فيوم العيد يراه القانطون بعيدا، ويراه المؤمنون المثابرون قريبا. .(21/35)
رسالة المشروع دين المصرية
لسكرتير المشروع
حق أن يدعو عيد الوطن الاقتصادي إلى صناعة مصر وتجارتها، فليس أسمى من دعوة تحمل في طياتها كل ألوان الخير لبلد تتعاون عليه كل أساليب الشر، وحق أن ينشد هذا الغرض ويسعى إلى هذه الغاية بان ينظم لنا عيدا كل عام. وأن يصدر دليلا بأسماء متاجرنا ومصانعنا الوطنية القمينة بتشجيعنا، الجديرة بعطفنا وإيثارنا، وان يقيم مهرجانا صناعيا، تنصب فيه أسواق الصناعة المصرية، وتسعى فيه مواكب الدعاية للصناعة المصرية، ويفسح فيه للقومية المصرية. وحق ان يدعو الشباب المتطوع من جنود الفكرة الأمجاد إلى أن يبدءوا بأنفسهم في إعزاز صناعة بلدهم، فيلبسوا من قطن مصر الخالص لباسا هو رداء الشرف بعينه: بدلة رمادية وأقمشة صافية الزرقة، لا تقتضي اللابس أكثر من قروش معدودات تعلن عن متانة الصناعة المصرية ورخصها، وتفيض على صاحبها راحة في الضمير، وتسكب في قلبه هدوء الاطمئنان إلى أداء الواجب. حق كل هذا، ولكن أي أثر يكون من وراء هذا كله؟ أيقف الأمر عند تشجيع صناعتنا والدعوة إليها؟ رسالة عيد الوطن الاقتصادي اعمق أثرا، وأرحب أفقا، وأوسع مجالا، وما هذا إلا مظهر لما تسعى إليه، إنها تبغي أن تبشر في الناس بدين المصرية الكريمة، وتحملهم على الإيمان بها والاعتقاد فيها، تبغي أن يعيش المصري عزيزا في مصره، فخورا بها، هاتفا لها في كل لحظة وفي كل آن، ولو تضافر عليه باطل هذا الوجود كله يريد أن يسد الفم ويقطع على الصيحة سبيل الانطلاق. . إنها تبغي أن تمكن لمصر من عناصر السيادة والسلطان، بعد أن طال بها القعود على المذلة والسكون إلى الهوان. . . يريد عيد الوطن الاقتصادى، أيها الشبان، أن يتعجل اليوم المشرق السعيد الذي يجب أن تعيش فيه مصر للمصريين. .
علي عبد العظيم. كلية الحقوق
الدعوة إلى الصناعة المصرية
وسائلنا في سبيل ترويجها
للأستاذ جلال حسين وكيل اللجنة التنفيذية(21/36)
ان اشد ما تشكو منه الصناعة المصرية في الوقت الحاضر روح الانصراف عنها البادية من جانب أبناء الوطن نفسه، وإذا كانت الصناعة المصرية تريد لنفسها حياة فإنما تطلبها من أبناء مصر أنفسهم فانهم أهلها وعدتها. والواقع ان الجيل الحاضر ورث عن الجيل الماضي روح الاستخفاف بصناعة مصر، فقد علق بالنفوس في القرن الأخير أننا أمة لا تجيد الصناعة، فتحولنا عن شرقيتنا ومصريتنا إلى تقليد الأوربيين، وتعاقبت السنوات ونحن عن مصلحة مصر للاقتصادية ساهون، وعن الإيمان بنجاحها الصناعي غافلون. ولقد قامت في مصر صناعات ونمت، ونشأت مصانع وتقدمت ثم أقيمت المعارض فثبت فعلا خطأ الفكرة القديمة وهي استحالة قيام الصناعة في مصر. وقد أيد الواقع الملموس أن في مصر صناعات، وأنه يمكن أن تنشأ صناعات أخرى وتزهو وتزدهر، ومع ذلك كله لا تزال الفكرة القديمة عالقة بالأذهان، ولا يزال الكثيرون منصرفين عن تعضيد منتجات البلاد، بل منهم من لا يزال يتشكك بوجود صناعات بمصر. ولو أن كل مصري ومصرية آمن بوجوب الإقبال على صناعات وطنه، ولو أنه أصر في كل مكان على طلب منتجات بلاده،
لكان هذا الطلب المستمر مدعاة لا حياء صناعات ميتة، وإقامة صناعات جديدة، وتقوية مصانع لا تزال بسبب الإهمال ضعيفة. ونحن إذ ندعو للصناعة المصرية لا ندعى أننا بلغنا فيها الكمال وإنما نشعر بأننا لا نزال في أول الطريق، وان المسير ليس سهلا، وإن المهمة شاقة، ولكن هذا كله هو الذي يدعو إلى مضاعفة الجهود. ولا سبيل للنجاح الصناعي إذا لم نقبل على الموجود بين أيدينا ونغضي عن عيوبه عاملين على إصلاحها حتى نصل إلى المجد الذي ننشده. فإذا كان هذا هو أشد ما تشكو منه الصناعات المصرية فأول واجبنا وما نسعى إليه محاربة هذه الفكرة السيئة بكل ما أوتينا من وسائل، وها نحن أولاء ننشر الدعوة (1) عن طريق الصحافة التي نذكر لها الفضل الأكبر في مؤازرتنا (2) عن طريق نشرات خاصة نوزعها في كل مكان (3) بواسطة الإذاعة اللاسلكية وقد وجدنا في محطات الإذاعة المصرية عضدا كبيرا. وكل ما ننشده أن نصل إلى أكبر عدد من أبناء مصر المتطوعين يتألف منهم جيش الوطن الاقتصادي. فنحن نبث الدعوة للتطوع في المشروع، ولا يكلف التطوع صاحبه شيئا ماديا قط. ولكننا نطلب إليه أن يعتنق هذه الفكرة(21/37)
وأن يعطينا موثقا من الله أن يؤثر منتجات البلاد بالتفضيل ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وهؤلاء المتطوعون هم الذين يدعون إلى الفكرة في كل مكان، وكلما زاد عدد لمتطوعين زدنا أيمانا برسوخ فكرتنا وثباتها، ومن اجل هذا نطالب كل من يفكر في مصلحة مصر أن يمد يده إلينا، وأن يبادر بالتطوع في المشروع ويد الله مع الجماعة. وقد سمعنا هنا وهناك سؤالا يتردد على شفاه الكثيرين: أين نجد تلك الصناعة المصرية؟ فأن المصانع المصرية لم تؤت إلى الآن من الوسائل ما يساعدها على الإعلان. لذلك استقر عزمنا على أن نصدر دليلا سنويا بأسماء المتاجر والمصانع القائمة في أرض مصر يكون هاديا ومرشدا وسيوزعه المتطوعون بأقل ما يمكن من ثمن حتى يكون في متناول كل يد. وقد سألنا أرباب الصناعات المصرية أن يسهلوا علينا مهمتنا فيتصلوا بنا حتى يأتي الدليل وافيا بالغرض الذي نرمي إليه. فإذا ما تجمعت تلك العناصر جميعا كان يوم العيد. وفي العيد يقام مهرجان عظيم يدعو للصناعة المصرية يشترك فيه من تساعده ظروفه من أصحاب المصانع، ويقوم جيش المتطوعين مرتدين رداء الشرف من القماش المصري بتوزيع الدليل في كل مكان. هذه وسائلنا نعلنها للبلاد مؤملين أن نسير فيها على بركة الله لخدمة هذا القطر وصناعته، راجين أن نشق السبيل لتمصير ثروة هذه البلاد حتى تصبح مصر للمصريين.
جلال حسين(21/38)
مطالعات في التصوف
عوارف المعارف. معرفة النفس
وأنت إذا أردت ان تقف لمؤلف عوارف المعارف على رأي خاص في مسألة الروح وجدت أنه لا يستطيع أن يقطع برأي في ذلك إذ هو يرى نفسه إزاء أقوال متناقضة ومذاهب متضاربة لا يكاد الإنسان يأخذ بأحدها حتى يأتي الآخر فينسخ الأول ويزعزع رأيه فيه. ومن هنا كان مؤلفنا أميل ما يكون إلى الإمساك عن القطع برأي في هذه المعضلة. عرض المؤلف بعد ما قدمت لك لمسألة الروح الإنساني وغيره من أنواع الأرواح. وموجز قوله في هذا الصدد هو أن الروح الإنساني العلوي من عالم الأمر. والروح الحيواني البشري من عالم الخلق. وهذا الروح البشري هو محل الروح العلوي ومورده. وهو جسماني لطيف حامل لقوة الحس والحركة. وانه لينبعث من القلب الذي هو عبارة عن هذه المضغة اللحمية الموجودة في الجانب الأيسر من الجسد وينتشر في تجاويف العروق الضوارب، وهذا الروح موجود لدى سائر الحيوانات تفيض منه قوى الحواس، ولورود الروح الإنساني العلوي على هذا الروح الحيواني تجنس الروح الإنساني وباين أرواح الحيوانات الأخرى واكتسب صفة أخرى فصار نفسا محلا للنطق والإلهام. ومن هنا نلاحظ أن النفس الإنسانية تكونت من سكون الروح الإنساني العلوي إلى الروح الحيواني، مثلها في هذا السكون كمثل سكون آدم إلى حواء بحيث نشأ بينهما التآلف والتعاشق.
ومسألة أخرى من تلك المسائل الفلسفية والنفسية حدثنا عنها المؤلف في هذا الباب، واعني بها مسألة العقل ومركزه وآراء الناس في هذا المركز. والناس يختلفون في مركز العقل كما يختلفون في غير العقل من الملكات الباطنية. فمن قائل بأن مركز العقل الدماغ. ومن قائل آخر بأنه القلب. ولعل اختلافهم هذا راجع إلى عدم استقرار العقل وبقائه على نسق واحد. فهو ينجذب إلى البار تارة وإلى العاق تارة أخرى. ورد في أخبار داود عليه السلام أنه سأل ابنه سليمان: أي موضع للعقل منك؟ قال: القلب لأنه قالب الروح. والروح قالب الحياة. وقال أبو سعيد القرشي: الروح روحان: روح الحياة، وروح الممات. فإذا اجتمعا عقل الجسم. وروح الممات هي التي إذا خرجت من الجسد صار الحي ميتا. وروح الحياة هي ما به مجاري الأنفاس وقوة الأكل والشرب وغيرهما. وقال بعضهم (الروح نسيم طيب(21/39)
يكون به الحياة. والنفس ريح حلوة تكون منها الحركات المذمومة والشهوات). ويعمد المؤلف بعد هذا كله إلى الموازنة بين الروح والنفس بحيث يبين لنا من خلال بعض الأقوال، الأخلاق والصفات التي تصدر عن كل من الروح والنفس. فقد قيل أن النفس لطيفة مودعة في القلب منها الأخلاق والصفات المذمومة. على حين أن الروح لطيفة مودعة في القلب منها الأخلاق والصفات المحمودة. ومثل النفس والروح فيما يصدر عن الأولى من أخلاق وصفات مذمومة وما يصدر عن الثانية من أخلاق وصفات محمودة كمثل الحواس في أن العين للبصر والإذن للسمع. الخ. وترجع أخلاق النفس وصفاتها جميعا إلى أصلين، أحدهما الطيش والآخر الشره. وقد نشأ طيش النفس من جهلها ونشأ شرهها من حرصها. ومثل النفس في طيشها كمثل كرة مستديرة على مكان أملس لا تكاد تستقر أو تثبت ولكنها على العكس دائمة الاضطراب والحركة. ومثلها في شرهها كمثل الفراش الذي يساور المصباح فلا يقنع منه بالضوء اليسير ولكنه يلقي بنفسه عليه ليغمره ضوء هذا المصباح حيث يلقي حتفه. ومن الطيش نشأت العجلة وقلة الصبر. ومن الشره نشأ الحرص والطمع وهما هذان الخلقان اللذان ظهرا في آدم حين طمع في الخلود فحرص على أكل الشجرة. وأنت إذا أنعمت النظر فيما يذكر مؤلف عوارف المعارف عن الشره واتخاذه أصلا من الأصلين اللذين تصدر عنهما أخلاق النفس رأيت أن في كلامه تناقضا. وبعبارة أخرى دورا كما يقول المناطقة. فهو يقول أن شره النفس ناشئ من حرصها ثم يعود بعد هذا فيقول أن الحرص والطمع خلقانينشآن عن الشره. وإذن فالشره في بادئ الأمر نتيجة للحرص، ثم هو في آخره مبدأ له. وعلى هذا يكون الدور ظاهر. ومهما يكن من شئ فان النفس على كل حال مصدر للأخلاق المذمومة. فمن عرف أصولها وطبيعتها، وتبين أخلاقها وجبلتها، عرف أن لا قدرة له على كبح جماحها ومغالبة أهوائها وشهواتها إلا بالاستعانة في ذلك كله بباريها وفاطرها.
ولا يتحقق العبد بالإنسانية، إلا إذا دبر في نفسه دواعي الحيوانية وذلك بالعلم والعدل وبمراعاة طرفي الإفراط والتفريط، فبهذا تقوى إنسانيته وتنقى نفسيته ويدرك من نفسه صفات الأخلاق المذمومة بحيث ينتهي إلى كمال إنسانيته.
تعال ولنمض الآن إلى أوصاف النفس. فقد ذكر مؤلفنا أن الله وصف النفس في كتابه(21/40)
العزيز بأوصاف ثلاث: فوصفها بأنها مطمئنة فقال: (يا أيها النفس المطمئنة) وبأنها لوامة فقال: (لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة). وأخيرا بأنها أمارة بالسوء فقال: (إن النفس لأمارة بالسوء) وهذه النفس التي وصفت بأوصاف متباينة واحدة. فإذا امتلأ القلب سكينة ألبس النفس ثوب الطمأنينة لأن السكينة تزيد في الأيمان. وفي هذه الطمأنينة يرقى القلب إلى محل الروح لما منح من حظ اليقين. وحين يتجه القلب إلى محل الروح تتجه النفس إلى محل القلب. وهي في هذا تصيب من الطمأنينة حظا. وإذن فأنت ترى أن النفس والروح يتطاردان بحيث يملك القلب دواعي النفس تارة، ودواعي الروح تارة أخرى، كما ترى أيضا أن الملكات الباطنية عند الصوفية هي الروح والقلب والنفس. وانهم ليضيفون إليها ملكة رابعة اختلفوا في شأنها كما اختلفوا في غيرها. هذه الملكة هي (السر) ويذكر مؤلف عوارف المعارف شيئا عن هذا الاختلاف في أمر السر فيقول إن من الصوفية من جعله بعد القلب وقبل الروح. ومنهم من جعله بعد الروح وأعلى منها وألطف. ولقد
قالوا إن السر محل المشاهدة، والروح محل المحبة، والقلب محل المعرفة. ولابد من أن نلاحظ أن السر لم يرد ذكره في القرآن وإنما ورد ذكر الروح والنفس والقلب والفؤاد والعقل. ويرى مؤلف عوارف المعارف انه لما لم يذكر هذا السر في القرآن، ولما أختلف الصوفية فيه هذا الاختلاف فهو لاوجود له وجودا مستقلا في ذاته بحيث يكون ملكة خاصة كالروح أو النفس. وإنما هو وصف زائد تكتسبه الروح حينا، والقلب حينا آخر عندما يتطلع كل منهما إلى مواطن القرب. إذن فليس السر شيئا آخر غير الروح، مكتسبة وصفا زائدا على أوصافها، أو غير قلب مكتسب وصفا زائدا على أوصافه. ولابد من أن نذكر شيئا عن العقل. فهو كما يقول مؤلفنا - لسان الروح وترجمان البصيرة، والبصيرة للروح بمثابة القلب، والعقل بمثابة اللسان. ولقد شرف الله العقل في حديث قدسي خاطبه فيه بقوله: (. . وعزتي وجلالي، وعظمتي وكبريائي، وسلطاني وجبروتي. ما خلقت خلقا أحب إلى منك ولا أكرم علي منك. بك اعرف وبك احمد وبك أطاع وبك أغنى وبك آخذ وإياك أعاتب ولك الثواب وعليك العقاب. وما أكرمتك بشيء أفضل من الصبر.) واختلف الناس في ماهية العقل. ففريق يرى انه من العلوم. فمن خلا من جميع العلوم لا يوصف بالعقل. وليس العقل كل العلوم إذ أن الخالي من أغلبها متصف بالعقل. وليس العقل من(21/41)
العلوم النظرية.
فمن شرط ابتداء النظر تقدم كمال العقل. وإذن فهو من العلوم الضرورية وليس جميعها. فصاحب الحواس المختلطة عاقل على الرغم من أنه فقد بعض مدارك العلوم الضرورية. وفريق آخر يذهب إلى أن العقل صفة يتهيأ بها درك العلوم كما قال المحاسبي انه غريزة يتهيأ بها درك هذه العلوم. ويقول بعضهم أن العقل عقلان: عقل للهداية مسكنه القلب وهو للمؤمنين الموقنين. وعقل مركزه الدماغ: يدير الأول أمر الآخرة ويدير الثاني أمر الدنيا. ولكنه على كل حال عقل واحد. تلك خلاصة هذا الباب الخصب من كتاب عوارف المعارف ولست أشك في أنك توافقني على ما امتاز به من البحث الدقيق والفكر العميق والجمع بين التصوف وما وراء الطبيعة وعلم النفس جمعا يظهرك على ما بين هذه العلوم من صلة وثيقة تكفي لأن تبين لك ما للتصوف من مكانة فلسفية وقيمة نفسية بين العلوم التي أنتجها الفكر الإسلامي.
محمد مصطفى حلمي. ماجستير في الآداب(21/42)
نداء إلى أدباء العرب
الاحتفال بمرور ألف عام على وفاة شاعر العربية الأكبر أبي
الطيب احمد المتنبي
قتل أبو الطيب المتنبي في رمضان سنة 354 للهجرة وفي رمضان سنة 1354 أي بعد سنتين وشهرين يمر ألف عام على وفاة شاعرنا العظيم. إن مرور عشرة قرون على وفاة أديب كبير لحادث ذو شان في تاريخ الأدب. وإني أناشد الأدباء في البلدان العربية أن يفكروا في إقامة مهرجان عظيم تشترك فيه وفود تمثل الأقطار العربية الشقيقة احتفالا بذكرى شاعرنا الخالد. وإني أرجو أن يترك أمر تأليف لجنة الاحتفال للمجمع العلمي العربي في دمشق أو للمجمع العربي الذي أنشأه جلالة فؤاد الاول ملك مصر أو لهيئة جديدة تمثل فيها جميع الأقطار العربية.
بيروت
فلسفة ليبنتز
1646_1716
للأستاذ زكي نجيب محمود
1. نظرية ذرات القوة 2. التآلف الأزلي 3. نظرية المعرفة 4. الله والعالم
التآلف الأزلي
ولكن إذا كانت هذه الذرات القوية التي يتألف منها الكون بأسره عبارة عن عوالم صغيرة مستقلة، لا يؤثر بعضها في بعض، فماذا عسى أن تكون الرابطة بينها؟ وبماذا نعلل هذا النظام الدقيق الذي يشتمل الوجود؟ يجيب ليبنتز على ذلك بأنه قانون التآلف الأزلي. فقد ركبت تلك الذرات بادئ ذي بدء بحيث تسير الواحدة موازية للأخرى. وعلى الرغم من تفرقها وانفصالها، فهي تعمل جميعا في توافق دقيق، حتى لتبدو كأن بعضها يعتمد على بعض. أليست تسير طوع إرادة إلهية عليا؟ إذن فهي تسير في نظام واتساق لا تناقض(21/43)
فيهما ولا اضطراب. يقول ليبنتز إن هذا التوفيق بين استقلال الذرات واتساقها في نظام واحد أشبه شيء بجوقة من رجال الموسيقى. كل يقوم بدوره مستقلا، وقد أجلسوا بحيث لا يرى بعضهم بعضا بل ولا يسمعه، ومع ذلك فهم يسيرون في تناغم مستقيم، ما دام كل منهم يعزف وفق المذكرة الموسيقية، فإذا ما سمعهم مستمع في وقت واحد، لحظ في عزفهم تآلفا عجيبا) وبهذه النظرية نفسها قد عالج ليبنتز العلاقة بين العقل والمادة، أي بين الروح والجسد، فالروح يتبع قوانينه الخاصة والجسد كذلك يتبع ماله من قوانين دون أن يؤثر واحد في سير الآخر، فهما يتلاقيان في تناسق بلغ من الدقة حدا بعيدا يستحيل معه الخطأ، فكل خلجة عقلية يجاوبها وضع من الجسد كما لو كانت العلاقة بينهما علاقة العلة بالمعلول. ولا يمكن تعليل هذا الاتفاق المستمر بين العقل والجسم إلا بإحدى ثلاث، يسوق لها ليبنتز تشبيهه المشهور: فهما كساعتين تسيران معا في دقة تامة، ولا يكون ذلك إلا 1) أن يكون للساعتين آلة
واحدة تديرهما معا في آن واحد (2) أو يكون ثمة شخص يعادل بينهما من آن إلى آن بحيث يوفق بين زمنيهما، (3) أو قد تكون الساعتان صنعتا في دقة تامة يستحيل معها الخطأ.
فأما الغرض الأول فمردود لأن العقل والجسم لا يؤثر فيهما مؤثر بعينه في وقت واحد، وأما الغرض الثاني فمردود كذلك لأنه يفرض تدخلا مستمرا في علاقة العقل والجسم، وأما ثالث الفروض فهو ما يراه ليبنتز جديرا بعظمة الخالق وكامل قدرته، أي أن كل شطر يسير في طريقه الخاصة، فلا يكون بين الشطرين اختلال أو اضطراب، وهذا التآلف موجود منذ الأزل، وهو ما يسميه بنظرية التآلف الأزلي. ولكن إذا كانت كل ذرة مغلقة في حدودها الخاصة، لا تستطيع أن تطل على العالم الخارجي كما يستحيل أن ينفذ إلى داخلها شيء من العالم الخارجي، فكيف نعلل إدراكنا لله، بل إدراكنا لكل ما يحيط بنا من أشياء؟ أليس الإدراك ضربا من ضروب الاتصال أو هو كل الاتصال؟ كيف يستطيع كائن أن يصل إلى معرفة الله والعالم إذا لم يكن في مقدوره أن يحطم حدود فرديته؟ هذا تناقض ولا ريب، وأغلب الظن أن ليبنتز قد لحظه عند حديثه عن علاقة الإنسان بالله جل وعلا فأنقذ الموقف بأن زعم أن الروح الإنساني لا يقف عند حد تصوير الكون وتمثيله في شخصه،(21/44)
كما هي الحال مع سائر الكائنات، ولكن له فوق ذلك مقدرة على إدراك الله وتقليده، ثم معرفة أجزاء العالم عن طريقه، لأنه يعتقد أن الله جل شأنه هو الذرة السامية الكاملة وهي أساس الذرات جميعا، منها تنبثق، كما ترسل الشمس ضوءها، فإذا ما أرادت ذرة أن تتصل بأخرى، كان لزاما عليها أن تتصل أولا بذلك الأساس أو قل (السنترال) لأنه بمثابة المركز الذي تتفرع عنه الطرق جميعا.
نظرية المعرفة:
من أين جاءت إلى الإنسان هذه المعلومات التي تملأ شعاب ذهنه؟ أما (لوك) فرأيه في ذلك معروف. وهو أن كل معلوماتنا إنما جاءت عن طريق الحواس فأثرت في صفحة الذهن التي برزت إلى هذا العالم نقية بيضاء لا تشوبها شائبة، وأما (ديكارت) فيزعم أن الطفل يولد مزودا ببعض الآراء الفطرية التي لا يمكن أن يحصلها بالتجربة، طرفان متناقضان من الرأي، كتب لهما أن ينتهيا إلى ليبنتز الذي لا يعجز عن جمع المتناقضات في وحدة متسعة! ألم يوفق بين مذهبي الفردية والكونية، وأخرج منهما فلسفة الذرات القوية؟ وهاهو ذا كما عهدناه يوفق بين لوك وديكارت في نظرية تحصيل المعرفة! فهو من ناحية ينكر على لوك رأيه في انعدام الآراء الفطرية. ويرى هو أن للعقل أساسا من المعلومات يستحيل أن يحصل بدونه شيئا، فيولد وهو يحمل بين طياته معرفة كامنة بالقوة ولا تصل إلى درجة الشعور إلا إذا أيقظتها التجارب التي تنفذ إليها عن طريق الحواس، فليس من شك في أن الطفل يولد مزودا بميل إلى استطلاع الحقيقة قبل أن يصادف من حياته تجربة ما، ويكفي أن يكون لديه تلك القوة العقلية وحدها ليجوز لنا القول بأن له معرفة فطرية، وإذن فيجب أن نكمل نظرية لوك التي يلخصها في هذه العبارة: (ليس ثمة في العقل من أثر إلا ما تبعثه الحواس) بأن نضيف إليها هذا التعديل: (اللهم إلا العقل نفسه)!! كذلك ينقض ليبنتز رآى ديكارت في الآراء الفطرية، فلا يذهب معه في أن المعرفة التي تولد مع الطفل تكون عند الولادة محددة واضحة، إنما يعتقد ليبنتز إن تلك المعرفة تكون بادئ الأمر سابحة في اللاشعور، وتظل غامضة مهوشة حتى تدركها التجربة فتوقظها من مكامنها وتزيل ما يغشاها من غموض بما تنشره على معالمها من ضوء، فحياة العقل عبارة عن تقدم مطرد مستمر من إدراك مهوش مضطرب إلى إدراك دقيق محدود. شأنه في ذلك شأن كل ذرة في(21/45)
الكون، حياتها انتقال من الغموض إلى الوضوح في الإدراك. من ذلك نرى أنه وافق ديكارت على وجود الآراء الفطرية، بل لم يرضه أن يقف عند الحد الذي وقف عنده ديكارت. من أن بعض الآراء فقط تولد مع الطفل وبعضها الآخر تحصله الحواس فادعى هو أنها جميعا تولد فطرية ولا يستحدث منها في الحياة شيء كما وافق لوك على أن التجارب التي تنفذ إلى العقل عن طريق الحواس لها كل الأثر في تكوين المعرفة، والفرق بينهما إن ليبنتز لا يرى هذه المعرفة قد استحدثت بل انتقلت من وجود بالقوة إلى وجود بالفعل، أو قل انتقلت من حالة الخمود إلى اليقظة والنشاط، وهكذا استطاع ليبنتز أن يقرب وجهتي النظر إلى حد الاندماج.
الله والعالم:
كان ليبنتز مؤمنا شديد الإيمان، يصدر عن عقيدة سليمة ودين قويم، فهو يرى لزاما عليه أن يرد بالحجة ما تنطلق به بعض الألسنة من اتهام بالشر والنقص، وأن يثبت للناس أن هذه الدنيا التي نعيش فيها هي أكمل ما يستطاع خلقه من الدنى. أليس الله جل شأنه علة وجود الأشياء جميعا؟ إذن فلابد أن يكون قويا إلى أبعد حدود القوة، كاملا إلى أقصى مراتب الكمال، حكيما إلى أعمق أغوار الحكمة، خيرا إلى أوسع آماد الخير. صور لنفسك هذه الحكمة المطلقة قد تآزرت مع ذلك الخير الأسمى في خلق العالم، ثم حدثني كيف يكون؟ أليس من الطبيعي المحقق أن يجيء على أحسن ما تجيء العوالم؟ هذا حق لا ريب فيه. لأن الله تعالى يصدر عن منطق مستقيم يتفق مع ما له من كمال، ولا يسع ذلك المنطق الكامل إلا أن ينتج عالما أقرب ما يكون إلى الكمال (لأنه إذا أخرج عالما دون ما يستطاع إخراجه، كان في عمله ما يمكن تهذيبه وإصلاحه). هذا الإيمان العميق لم يصادف من فولتير إلا سخرية مرة! فيرد على ليبنتز بقوله إن تجربته في الحياة علمته أن هذا العالم، على نقيض ما وصف، أسوأ ما يمكن خلقه من العوالم. ولو كان فيه ذرة من كمال لأمحى من وجهه هذا البؤس الذي يزهق ألوف الألوف من النفوس الكسيرة، وقد هاج هذا القول من فولتير شابا مؤمنا إلى درجة الحماسة فتصدى له وهاجمه في الصحف هجوما عنيفا، فلم يكن من الساخر العظيم إلا أن رد عليه في رفق هادئ بقوله: (يسرني أن أعلم أنك أصدرت رسالة تهاجمني فيها، فقد أوليتني بذلك شرفا عظيما، ولكن ألا تستطيع يا سيدي(21/46)
أن تحدثني عما يدفع آلاف البشر لجذ حلوقهم في هذا العالم الذي تصفونه بأنه خير ما يستطاع خلقه، وإني لك من الشاكرين). كذلك تصدى هجل لنقد ليبنتز في رأيه هذا عن العالم، واحتج بأنه قد تركه قضية بغير دليل. فلنسلم معه جدلا بأن هذه الدنيا خير ما يمكن خلقه، أفيكون هذا دليلا على خيرها وصلاحها؟ إذا أنت أرسلت خادمك إلى السوق ليبتاع لك شيئا! فجاءك به الخادم سيئا كريها ثم أقنعك أنه خير ما يباع في السوق، أفتحكم على هذا الشيء بالجودة لأنه كذلك؟ كلا ولا ريب فلا يمنع سوءه وشره ألا يكون هناك أحسن منه، كذلك قل في العالم، قل ما شئت من خير ما يمكن وجوده، ولكن هذا لا يبرئه من النقص والشر. وكأنما ليبنتز قد لحظ هذا الضعف فيما يقول فاعترف أن في العالم شرا كثيرا، ولكنه لا يرى ذلك مناقضا لنظريته، بل يتخذ هذا الشر نفسه دليلا على صحتها. فلولا ما تحوى الحياة من بؤس وألم. لما كانت الدنيا خير ما يستطاع خلقه، لأنهما كثيرا ما يكونان سبيلا إلى الخير وسببا في وجوده!! (المرارة القليلة كثيرا ما تكون ألذ مذاقا من السكر الحلو!). ثم يسير ليبنتز بعد ذلك في البحث عن أصل الشر في العالم، فيقرر أن علة وجوده هي هذا الجانب المادي. فقد ذكرنا فيما سبق أن لكل ذرة في الوجود جانيا فعالا، وإلى جواره جانب سلبي منفعل، هو الجانب المادي منها، وبقدر ما ترجح كفة الجانب الفعال كانت الذرة أدنى إلى الكمال، ولذلك ترى كل ذرة لا تفتأ تسعى جهدها لكي تتغلب على جانبها المادي السلبي الذي يقعد بها عن السمو في سبيل الكمال. والإنسان (ككل شيء آخر) لا يدخر وسعا في هذا الجهاد العنيف الشاق. وهذا الجهاد نفسه (الذي لامناص منه بحكم طبيعة التكوين الذري) هو أصل الشر وسبب البلاء فالشر إذن نقص نشأ عن محاولة التخلص من قيود المادة، فكأنه لم يوجد إلا ليكون سلما للصعود نحو الكمال الأسمى. وعلى هذا الاعتبار يكون الشر وسيلة للخير!!
أضف إلى ذلك أن وجود الشر إلى جانب الخير، مما يعمل على جمال الحياة، التي كانت تقل عما هي الآن كمالا وجمالا لو أنها لا تحوي إلا خيرا محضا. ومن ذا الذي يتمنى حياة لا ألم فيها، تجيء على صورة واحدة لا اختلاف فيها!؟ ثم يذكر ليبنتز أن الخير هو الجانب الإيجابي من الحياة، والشر هو الجانب السلبي منها، ولما كان الله تعالى لم يخلق، بداهة، إلا الجانب الإيجابي، فلا يمكن أن يعد سببا في وجود الناحية السلبية. ولا يمكن أن(21/47)
يكون الله خالقا لما نرى في الحياة من شرور وآلام.(21/48)
درس الجيولوجيا
بقلم حسين شوقي
هي أيضا ذكرى من ذكريات الصبا والدراسة، وقعت حوادثها ببرشلونه. عندما دخلت المدرسة الإسبانية، وحضرت درس الجيولوجيا للمرة الأولى، رأيت المدرس قبل البدء في الدرس، يقترح رحلة جبلية في يوم الأحد المقبل ولكني لحظت في استغراب ودهشة أن الطلبة يتهربون منها، لذلك أخذ المدرس يختار لهذه الرحلة من يختار دون رضا ولا موافقة، فقلت للطالب الذي يجلس عن يميني، وهو فتى إسباني من الجنوب (الأندلس)، تدل سمرة جلده على أصله العربي، لماذا يرفضون وإنما يذهبون إلى النزهة وتسلق الجبال الشاهقة؟. فأجابني في ابتسامة خبيثة: أتريد أن تذهب أنت؟ فأجبته على الفور: أجل! ولم لا؟ فرفع زميلي إصبعه مستأذنا في الكلام، فلما سمح له المدرس به أطلعه على رغبتي، فنظر إلى المدرس نظرة الرضا والارتياح وقال: حسن! حسن جدا! ثم سألني في لطف عن اسمي لأني كنت طالبا جديدا فأثبته في القائمة، ثم استفهم عن جنسيتي التي استغربها لأنني الشرقي الوحيد في المدرسة. وعندما عرف الطلبة إني أريد المشاركة في رحلة يوم الأحد عن رضا وطواعية، أخذوا يتغامزون وينظر بعضهم إلى بعض، فاضطربت لذلك ولم أعرف سبب هذا التغامز وا أسفاه الا أخيرا.
وفي يوم الأحد كنت في المكان المعين للمقابلة، قبل الموعد بزمان طويل، لأني كنت مشتاقا إلى هذه الرحلة الجبلية مع رفاقي الطلبة على الرغم مما يحيط بها من الأسرار. ثم حضر المدرس وتبعه الطلبة واحدا بعد آخر. . وكنا جميعا عشرة، فركبنا الترام فخرج بنا في أقل من ساعة إلى ظاهر المدينة. . وكنا أثناء سير الترام وفي غفلة من الأستاذ، نخرج ألسنتنا للمارين، فيمطروننا وابلا من اللعنات والشتائم. ثم أخذنا نتسلق الجبال وبعد جهد جاهد بلغنا أعلى القمة في تلك المنطقة المعروفة بسانتا كروث (الصليب المقدس) وقد قام فيها صليب كبير من الخشب، بركة لعابري السبيل. عند ذلك شاهدنا منظرا للمدينة يملك الطرف ويصبى المشاعر، والبحر الأبيض يموج في جلبابه الأزرق الفضفاض، والجو يعبق برائحة عطرية كأنها تسربت من الفردوس. أما السحاب فكان قريبا منا إلى حد أنني كنت أخشى أن جنيا يبدو منه فجأة فيختطف أحدنا على سبيل المزاح! وإذا كان سروري عظيما(21/49)
بجمال الطبيعة في تلك الساعة، فان فرحي كان أعظم بالفراش الأصفر الكبير الذي شاهدته يتنقل في الخضرة والحشائش من غصن إلى غصن، وكأنه في حسنه زهور (البانسيه)، لأني كنت كرفاقي مولعا باقتناء الفراش وحفظه بالمنزل في علب خاصة غطاؤها من زجاج. ولكن ظهر أني كنت واهما حين ظننتني سأصطاد ما أشاء من هذا الفراش، لأني حضرت إلى درس جيولوجيا في هذا المكان لا إلى اللهو والتسلية! وكان ذلك سبب ضحك الطلبة في الفصل حينما تقدمت من ذات نفسي للاشتراك في تلك الرحلة! إذ أمرنا المدرس بالتقاط ما يصادفنا في الطريق من الحجارة الغريبة وعرضه عليه. . وكان إذا راقه حجر أخرج منظاره ففحصه في شغف كأنه (الحجر القيم). . ثم أمرنا بحفظه معنا. . لهذا أحضر رفاقي أكياسا من الجلد. أما أنا فكنت أضع الحجر في جيبي لأني لم أحضر كيسا، ولما بلغت المدينة كانت جيوبي ممزقة شر تمزيق! وكان أستاذنا إذا أطلعناه على حجر أخذ يشرح لنا أصله شرحا طويلا ويذكر ما كان بالحجر من معادن كالحديد والفحم والخشب المحجر. أما نحن فكنا نوافق على كلامه من غير سؤال ولا مناقشة لعله ينتهي بسرعة من شرحه الممل! ولما رجعنا في المساء إلى برشلونة، كنا نمشي متطرحين من الإعياء، وفي درس الجيولوجيا التالي حينما أخذ المدرس يجمع أعضاء الرحلة المقبلة كعادته قبل السير في الدرس، خاطبني قائلا: شوقي بطبيعة الحال يصاحبنا في هذه الرحلة؟ فقمت على الفور من مقعدي وأجبته في انفعال: شوقي مريض لا يذهب! فامتعض وتأثر ولكنه أراد أن يصرف النظر عن هذا الرد الجاف ليستر على الأقل خجله، ولكن الطلبة ضحكوا ضحكا عاليا من إجابتي، فاشتد حينئذ غضبه علي وعاقبني بالحبس ساعة!
من طرائف الشعر
طاقة الزهر
طرفة أخرى في الوصف للعالم الشاعر الأستاذ أحمد الزين
أهدت إلى النفس ريا نشرها العبق ... والطيب في الزهر يوحي طيب الخلق
رقت رسائلها للكون فاتخذت ... من النسيم بريدا شاع في الأفق
وما رأيت بريدا خف محمله ... مثل النسيم حكى المعنى بلا ورق(21/50)
أنباؤه كحديث الحب عاطرة ... أو ذكريات شباب ناعم أنق
ظلت تنسقها كف منعمة ... تكاد تحسبها من ذلك النسق
تداعب الزهر في رفق أناملها ... كالنوم داعب جفن الساهر الأرق
كلاهما بالهوى يرنو لصاحبه ... فاعجب لمختلف بالحب متفق
تحنو عليه فتنسيه منابته ... في الروض يندى بمنهل الحيا الغدق
كلاهما زهر في كف صاحبه ... فانعم بزهرين ملثوم ومنتسق
هذا يعيد بريا نفحه رمقا ... وذاك بالوجد لا يبقي على رمق
هذا على الصدر يسبى العين منظره ... وذاك في القلب يذكى لاعج الحرق
كم صور الزهر من معنى يجيش به ... قلب الشجى ويعيى فطنة اللبق
وكم له في الهوى نعمى تقلدها ... صرعى الغرام مكان الطوق في العنق
وكم يحمله العشاق لوعتهم ... صونا لمكنونها عن طائش نزق
كم حملوه إلى أحبابهم قبلا ... يا طيب مصطبح منها ومغتبق
واستودعوه حديثا من صبابتهم ... فصان سر الهوى عن سمع مسترق
وكم روى دمعة عن عين والهة ... وكم حوى زفرة عن قلب محترق
وكم على صفحات الزهر من كتب ... في الشوق يعيا بها ذو المنطق الذلق
كم زهرة وصلت في الحب منقطعا ... وجددت في حبال الود من خلق
وللأزاهير لطف في سفارتها ... كم ألَّفَتْ في هواها كل مفترق(21/51)
ذكرى العام
الحول يا أماه بعدك حالا ... والقلب في تحنانه ما زالا
والنفس في أسف عليك وحسرة ... تطوى بها الأيام والأحوالا
والفكر نهب للتذكر كلما ... بعث الشجون وأطلق البلبالا
والود لم أر فيه بعد فراقنا ... صفوا كودك سائغا سلسالا
وجذ عليك مساور لم يمحه ... نظمي المدامع فيك والأقوالا
لا كان يوم قد طوى لك طيه ... صرف الحمام عن الحياة زيالا
لله أية نعمة ولى بها ... عني وأي كريم ذخر غالا
ما كان غير صميم ودك من هوى ... أخشى عليه الموت إن هو صالا
فرحلت عن دار الفناء حثيثة ... وامتد عمر من اجتويت وطالا
ونفضت كفك من ضئيل حطامها ... وطرحت ذاك الهم والأشغالا
تجري مقادير وأحوال وما ... تعنيك في تردادها مثقالا
عبرت مواقيت الصلاة فلم تجد ... سعيا لها صبحا ولا آصالا
ولكم نهضت لها الدجى قوامة ... تبغين رضوان الإله تعالى
ومضى الصيام فلم تحي وجهه ... سمحا ولم تستقبليه هلالا
ولكم سعيت له وكنت حفية ... بأبي الشهور مهابة وجلالا
وغفوت عن حالي فلم يكرثك أن ... أمسيت أبدل بعد حال حالا
أوعل للأرواح بعد فراقها ... قربى وإن شط المدى ووصالا
فتغبني الروح الطهور وتنثني ... تضفي علي حنانها هطالا
وتظل ترعاني كسالف عهدها ... أشقيت بالا أم حسنت مآلا
مني إليها ما حييت تحية ... تترى إلى يوم اللقا وتوالى
فخري أبو السعود(21/52)
(جاردن ستي) والريف
// لمن مقاصير خلف الجسر ضاحكة ... يشرقن في العين إشراق الضحى الحالي
تلهو الهناءة نشوى في مسارحها ... ويمرح الأنس فيها هادئ البال
ألقى النعيم العصا في ظل سرحتها ... وراح يرسل فيها ذيل مختال
ملاعب لبني الدينار ناضرة ... خضراء تنضح آمالا لآمال
فلو رآهن كسرى الفرس لاقتحمت ... عيناه إيوانه في عصره الخالي
تحبو لدات الدرارى فوق عاتقها ... وتطلع الشمس من عرينها العالي
زهراء رفت رياحين الحياة بها ... بيضاء دون سناها ومضة الآل
ترنو عيون الأماني في مشارفها ... ويبسم العيش في بشر وإقبال
إن كانت الخلد تحكيها فوا لهفي ... قد قصرت عن منال الخلد أعمالي
يا أخضر العيش ما للريف تهجره ... كأن قلبك عن أنصافه سال؟!
تركته تستبد الحادثات به ... ويستطيل الأسى في عوده الحالي
كم بالقرى من قلوب سلن من شجن ... قد أوغل اليأس فيها أي إيغال
كم بالقرى من جفون غاض مجمعها ... من طول ما نزفت من دمعها الغالي
مشى نذير الضنى في سندس خضل ... وشوهت صفحتيها أزمة المال
فما الصباح إذا يبدو بمتسق ... ولا الغدير إذا تلقى بسيال
ولا الهزار صدوح في خمائلها ... يشدو لدى الماء في خفض وإرسال
ضاف من البؤس رواها فأترعها ... فغير القوم من حال إلى حال
لا تشهد العين من أبنائها أحدا ... إلا خدين هموم ثوبه بال
يمضي النهار وحر الشمس يلفحه ... رطب الجبين دءوبا غير مكسال
وحوله مثل أفراخ القطا زغبا ... باتوا إلى الفجر في سهد وإعوال
الله يعلم لم أكفر بحكمته ... لكنها خطرات هجن بلبالي
هذا يهاب الصبا تدمى أنامله ... وذاك يعسف في فقر وإذلال
علي شرف الدين(21/53)
الصدى الساحر
للأستاذ محمود الخفيف
في سكون العشاء سرت وحيدا ... أملأ الصدر من نسيم المساء
أرقب البدر في السماء فريدا ... ضاحك الوجه مستفيض الرواء
زار سمعي مع النسيم غناء ... يصرف السمع عن أرق الأغاني
عاصف تارة وطورا رخاء ... يتلاشى رنينه في ثوان
كروان سمعته يتغنى ... رائق الصوت ساحر النغمات
نائح صادح طروب معنى ... أين من سحره دقيق الصفات؟
نازع هابط بعيد قريب ... مطلق النفس في جمال الوجود
عبقري كأنه مستجيب ... لصدى السحر من جلال الخلود
ليت شعري أصارخ أم طروب ... فسر القول يا خفي المعاني
آدمي؟ فتعتريك خطوب ... وتعاني من الضنى ما أعاني؟
أترى أنت ساخر مستهين ... بحياة يسود فيها الفساد؟
يملأ الرض من بنيها أنين ... وخصام وفتنة وعناد
يا رقيق الغناء صوتك عذب ... جل في الحسن عن غناء الطيور
بارع اللحن رائق مستحب ... يبعث السحر في قرار الشعور
أيها الساحر المحلق رفقا ... بفؤادي فقد ملكت فؤادي
لست أدري أطائر أنت حقا ... أم وسيط من السماء ينادي
نازعتنى بشاشة وقطوب ... مذ ترنمت يا بديع الخيال
من رآني يظن أني طروب ... وفؤادي من الجوى غير خال
مذ ترنمت عاودتني شجوني ... وذكرت القديم من أحلامي
قد تفردت بالهناءة دوني ... وبرى الشوق والهيام عظامي
أنت لا تعرف الجفاء وقلبي ... شفه الهجر والجفا والعناء
أنت لا تعرف الشقاء وحسبي ... من شقاء الحياة هذا الجفاء
أنت يا ابن السماء حر طليق ... لم تجرع لدى الحياة هوانا(21/54)
أنت بالبشر والهناء خليق ... كيف تبكي أأنت تخشى الزمانا؟
أيها الصادح المغرد زدني ... من أغانيك واتخذني خليلا
ليتني كنت طائرا فأغني ... وأصوغ القريض لحنا جميلا!(21/55)
وخز الضمير
هي ذكرى كلما مرت على ... خاطري أنشق عن دمع غزير
إيه يا ذكرى ابعدي عني، اعزبي ... اخمدي بين ضلوعي، لا تثوري
حال عيش كان قبلا سكرا ... بك يا ذكرى إلى عيش مرير
آه كم أزفر كيما أشتفي ... منك، لكن ليس يشفيني زفيري
أترى تمحو إلهي عثرة ... تركتني في عذاب وسعير؟
يا خليليَّ دعاني والبكا ... لا أرى آلم من وخز الضمير
محمد برهام(21/56)
العلوم
تطور العقل
للأستاذ السر أرثر طمس ترجمة بشير الياس اللوس
تبدأ حياة الكائن البشري كحجيرة مجهرية تعرف بالبويضة الملقحة، وهي بالرغم من صغرها المتناهي تضم تراث العصر السحيقة التي مر عليها أسلاف الجنس البشري من قبل. أن طيلة الأشهر التسعة التي يقضيها الجنين في رحم أمه متصلاً بها اتصالاً بايولوجيا وثيقاً، ما هي الأدوار سبات عميق، وليس هناك من يستطيع أن يبسطرأيا مثبتاً فيما يخص بعقل الجنين غير المولود، وحتى بعد الولادة مباشرة، وكل ما يمكن قولة أن نمو العقل يسير ببط كبير. ليس في البويضة الملقحة، أو الجنين الاول، جهاز عصبي قط، ولكنه ينمو تدريجياً من أوائل بسيطة، ولما كانت العقلية لا يمكن أن تستمد من الخارج، ترتب علينا أن نستنتج أن قوتها الكامنة متقمصة في الفرد منذ القديم، وكذلك الفعاليات الخاصة التي نستخدمها في حياتنا المعنوية كالشعور والتفكير والإرادة لابد إنهاء كائنه في تضاعيف الجرثومة بصورة كامنة. وما يقال عن الفرد يصدق على الجنس أيضا - أي أن هناك تطور تدريجيا في تلك الناحية من فعالية المخلوقات الحية التي نسميها (العقل). فلا نستطيع إذن أن نضع إصبعنا في نقطة معينة ونقول: ((لم يكن ثمة عقل قبل هذا الدور)) لان جميع الحقائق الماثلة أمامنا تحملنا على استنتاج بأنه حيثما تكون الحياة لابد من وجود درجة خاصة من العقل. وهذا يصدق حتى في النباتات التي يضح أن لا عقل لها. ويكون استنتاجنا اكثر دقة إذا عبرنا عنه بأسلوب آخر، كأننا نقول أن الفعالية التي نسميها (حياة) يلازمها دائماً، وإلى درجة ما، وجهة باطنية أو عقلية.
الأفعال الانعكاسية: نعثر في الحيوانات المتعددة الحجرات
كشقائق البحر - على بداية الأفعال الانعكاسية التي تؤلف
القسم الأعظم في تصرف الحيوانات الواطئة أي قد تكون
للحيوان أثناء النمو أجهزة معينة من الحجرات عصبية(21/57)
وحجرات عضلية تسهل إصدار أجوبة ملائمة وصحيحة على
المؤثرات الخارجية. فدودة الأرض التي قد أخرجت نصف
جسمها من الوكر تكون حذرة ومتيقظة بأخف وطأة قدم
فتقلص نفسها وتنسل إلى وكرها قبل أن يقول أحدنا (هذا عمل
انعكاسي). إن الطريقة التطورية - إذا جاز لنا إطلاق هذا
التعبير - أهلت الحيوانات للإجابة على المؤثرات بسرعة
كلية، وكلما صعدنا في سلم المملكة الحيوانية وجدنا الأعمال
الانعكاسية اكثر تعقيدا واحكم ارتباط مع بعضها حتى أن
حدوث عمل ما قد يستعدى حدوث أعمال أخرى. وهكذا نجد
سلسلة مستحكمة الحلقات بين الأفعال الانعكاسية أن تصرف
النبات المعروف ب ' - عندما ينطبق على حشرة
لافتراسها يشبه الفعل الانعكاسي في الحيوانات، على انه ليس
للنباتات جهاز عصبي خاص.
الأفعال الاتجاهية وهناك أفعال انعكاسية أخرى أرقى من تلك
تسمى (الأفعال الاتجاهية) وهي حركات أو أعمال يقوم بها
الحيوان حرصاً على تنظيم بدنه الكلي وأحداث التوازن
الفيسيولوجي بالنسبة إلى الجذب والضغط والتيارات والرطوبة(21/58)
والحرارة والضوء والكهرباء فعندما تمر الفراشة بالقرب من
مصباح تستضيء العين القريبة من مصدر النور اكثر من
الاخرى فينتج عن ذلك اختلال فيسيولوجي يؤثر في الحجرات
العصبية والعضلية، وبالنتيجة تنظم الفراشة طيرانها بصورة
تلقائية كما تكون تلك العينين متأثرتين بنفس الشدة من النور،
وعملها هذا تحوم حول المصباح، وربما ادى ذلك إلى القضاء
على حياتها. إن هذه الأفعال الاتجاهية تلعب دوراً هاماً في
السلوك.
السلوك الغريزي وارتقت الحيوانات خطوة أخرى فكان لها
سلوك غريزي وصل إلى درجة مدهشة في الكمال في النمل
والنحل والزنابير. ويعرف عن هذا السلوك انه يتوقف على
مؤهلات فطرية، فلا يحتاج فلا يحتاج إلى تعلم وهو مستقل
عن التمرين والاختبار ولو انهما يهذبانه. يشترك في هذا
السلوك جميع أفراد النوع من الجنس الواحد على السواء
(لان الغرائز المختصة بالذكور قد تختلف عن الغرائز
المختصة في الاناث). وهذه الافعال تستهدف حياة الفرد
وتضمناستمرار النسل، ولو أن بعضاً منها يحدث مرة واحدة(21/59)
طيلة حياة الفرد. فالفراشة الأنثى إبرة آدم تبرز من الشرنقة
عند الطلع المحمول على الأسدية وتجيله بشكل حبة كروية
صغيرة تحزنها تحت ذقنها. ثم تطير إلى زهرة يوكا اقدم عهداً
من الأولى، وتلقي بيضها في بعض البويضات التي في
مبيض الزهرة، ولكن قبل أن تصنع ذلك عليها أن تضع كرة
الطلع على جسم المدقة ومن ثم تنفتح كرة الطلع وترسل منها
أنابيب تتجة نحو المبيض فتنزل نواة الطلع بواسطة أحد
الأنابيب تتجه نحو المبيض فتنزل نواة الطلع بواسطة أحد
الأنابيب إلى البويضات وتلقحها؛ وبهذه الطريقة تتكون بذور
نبات اليوكالا تختلف عن أترابها في شيء، إلا أن بعض هذه
البذور يكون مأوى لبيوض فراشة اليوكا التي حالما تفقس
تسير في حياتنا على نفس الخط الذي سارت عليه أسلافها
تماماً من غير تلقين أو تعلم، وفي ذلك دليل على أن هذه
الحيوانات تضمن استمرار نسلها بسلسلة من الأفعال المنضمة.
وهي جزء من تراثها الغريزي. أما من وجهة النظر
الفيسيولوجية فالسلوك الغريزي هو سلسلة من أفعال انعكاسية
مركبة، ولكن في بعض الأحوال على الأقل علينا أن نعتقد أن(21/60)
السلوك يخالطه شيء من الحذر والاجتهاد، ويجب أن يلاحظ
انه كما أن النمل والنحل والزنابير تظهر في اغلب الحالات
سلوكا غريزياً بحتاً، وتسير أحيانا على خطة التجربة والخطأ
أو الابتكار التجريبي. وكذلك بين الطيور والثديات قد يحل
السلوك الغريزي أحياناً محل السلوك المدرك ولعلة لا يوجد
سلوك غريزي بدون شيء من الذكاء، ولا سلوك مدرك بدون
عنصر غريزي. إن الفكرة القديمة القائلة أن السلوك الغريزي
كان في الأصل سلوكا مدركا وان الغريزة نشأت عن الإدراك:
لهي فكرة مخطئة لأنها تقوم على فرض غير مثبت، وهي
تشير إلى القول بان اكتسابات الفرد تنتقل إلى النسل. وأغلب
الظن أن الغريزة وال >كاء سارا على طريقتين مختلفين في
حبلة التطور.
الذكاء الحيواني: وتقدم الحيوان في سلم التطور خطوة أخرى
فكان له سلوك ينم عن الذكاء والإدراك، ولم يعد في استطاعته
أن تستفيد من الاختبار فحسب، بل من التعلم بالتلقين أيضا. إن
هذه الأفعال المنطوية على ذكاء تتنوع بتنوع الأفراد، وهي
قابلة للتحوير والتعديل بطرق فلما يصح تطبيقها على الغرائز(21/61)
التي لا يمكن لأي كائن حي أن يستغني عنها بدون أن ترتبك
غلية الحياة وتتعقد عليه مشاكلها. فضلاً عن. ذلك فان السلوك
الغريزي المدرك غير مقيد بظروف خاصة كما هو شأن
السلوك الغريزي، وهناك ادله قاطعة على أن السلوك المدرك
ناتج عن علم بقيمة العلاقات الكائنة بين الأشياء. يبدو إننا لم
نعثر على دليل واضح يؤكد لنا أن الفعالية الذهنية التي نسميها
محاكمة عقلية كائنة في الحيوانات التي هي تحت مستوى
الإنسان. والواقع إننا لا نستطيع دائماً، أن نعتبر سلوك الإنسان
عقلياً، بل يجب أن نقول أن في وسعه إظهار تلك القابلية متى
شاء وحينما يتسنى له ذلك. لا شك أن تطور الحيوانات كان
يلازمه دائماً تعقيد في الأعمال، وبراعة في السلوك حتى
أصبحت تلك المخلوقات اكثر حرية واعظم سطوة في مجال
الطبيعة، وأمست مؤهلاتها النفسية - كالتفكير والتعلم
والشعور والإدارة - أكثر فأكثر أهمية.
(الموصل) بشير الياس اللوس.(21/62)
الزمن
أتينا في كلمة سابقة على تطور رأي العلماء بشان القضاء وكيف أن الجزء المعين منه لا يمكن أن يكون له قدر ثابت. ذلك لأننا نقيس الفضاء بحجوم الأجسام المادية التي تشغله، وحجوم تلك الأجسام تتغير بتغير حركتها. فالصندوق الذي حجمه متر مكعب وهو على سطح الأرض لو انطلق في الفضاء بسرعة أكبر من سرعة الأرض نقص حجمه عن متر. ولو تخلف عن الأرض وسار بسرعة اقل من سرعتها زاد حجمه عن متر. ويمكن أن يكون له أي حجم نشاء إذا نحن جعلناه يتحرك بالسرعة اللازمة. فالقول بأن حجم هذا الصندوق متر مكعب هو قول ناقص، ويجب أن نتممه بعبارة وهو على سطح الأرض. والآن نلخص تطوراً آخر بشأن الزمن يشبه من وجوه كثيرة هذا التطور بشأن الفضاء. ذلك لان الزمن أيضا لم يعد له قياس مطلق ثابت ولا سياق معين اللهم إلا في المكان الواحد، فعبارة ساعة من الزمن لا معنى لها إلا إذا قلنا بالنسبة لكوكب كذا كما إن عبارة ماض وحاضر ومستقبل لا يمكن إطلاقها إلا في نفس المكان. وقد انبنى هذا التطور على الحقيقة الآتية: من المعلوم أن الضوء يستغرق زمناً في انتقاله من مكان إلى مكان، فالشعاع الذي ينطلق من الشمس يصل إلينا على الأرض بعد ثماني دقائق من انطلاقه. ومن الأجرام السماوية ما يستغرق ضوءه في الوصول إلينا ساعة أو ساعات، أو يوماً أو أياماً، أو سنة أو سنين أو آلاف السنين أو الملايين السنين بحسب البعد بيننا وبينه. ومن المعلوم أن الإنسان لا يرى الشيء إلا إذا استقبل بعدسة عينة أشعة ضوئية منبعثة من ذلك الشيء تتركز على شبكة العين بهيئة صورة لذلك المرئي تحس بها أعصاب الأبصار، وعلى ذلك فالحادثة التي تقع على الشمس الآن لا نراها نحن إلا بعد ثماني دقائق، وكلما بعد االكوكب أبطأت أخباره في الوصول إلينا. هذه الحقيقة تبدو بسيطة ولكنها تولد مشكلات خطيرة نلخص بعضها فيما يلي: (أولاً) تصور أنك انتقلت فجأة إلى الكوكب يبتعد عن الأرض مسافة يقطعها الضوء في 14 سنة، وانك تستطيع هناك أن ترى ما يجرى في القطر المصري بالتفصيل، فما الذي تراه؟ أنك ترى من جديد حوادث الحركة الوطنية واضطرابات سنة 1919. ثم تمر عليكالحوادث سنة بعد سنة ولا تستطيع رؤية ما هو جار الآن إلا في سنة 1947. فأنت استطعت إذن أن تعيش الآن فيما هو بالنسبة لنا ماض، وذلك لمجرد انتقالك إلى مكان آخر من الكون كما إننا نعيش الآن فيما هو بالنسبة لك(21/63)
مستقبل للأنه لن يمر بك إلا بعد 14 سنة. (ثانيا) تصور انك بعد انتقالك إلى ذلك الكوكب وإشرافك من هناك على الحركة الوطنية المصرية، فضلت العودة إلى الأرض على جناح السرعة. وقطعت المسافة من هناك إلى هنا في ساعة واحدة (على فرض إمكان ذلك) فما الذي يبدو لك؟ انك ترى حوادث هذه ال 1سنة تمر عليك بسرعة وتنقضي كلها في ساعة. معنى ذلك ال 14 سنة في حساباً قد صارت في حسابك ساعة، وذلك لمجرد تغير حدث في اتجاه حركتك وفي مقدار سرعتك. (ثالثا) تصور انك وأنت على هذا الكوكب فضلت زيادة الابتعاد عن الأرض ومن عليها وركبت شعاعاً ضوئياً يطير بك إلى الناحية الاخرى من الكون، فماذا ترى أثناء رحلتك؟ انك ترى على الأرض شيئاً عجباً: ترى كل شيء عليها قد وقف عن الحركة فجأة وثبت على حالة واحدة، كأنما قد أصاب كل ما عليها ومن عليها شلل تام. لذلك لأنه لم يعد يصل إليك منه ضوء جديد، وصارت تستقبل دائماً موجة واحدة فقط من لحظاتنا. فأنت والحالة هذه تعيش باستمرار فيما نسميه نحن لحظة واحدة. (رابعاً) تصور أن ابتعادك هذا كان بسرعة اكبر من سرعة الضوء، فما الذي تشاهده؟ انك ترى في هذه المرة اعجب العجب. ترى الحوادث الأرضية وقد بدأت يتلو بعضها بعضاً ولكن على غير النظام الذي مرت به علينا، وعلى عكس ذلك النظام. ترى أولا حوادث سنة 1919 ثم حوادث سنة 1918 ثم حوادث سنة 1917 وهكذا ذلك بأنك لا تستقبل الضوء منا بالنظام الذي انبعث به بل تلحق بالتدريج بما مضى منه موجة بعد موجة. وبذلك يستطيع أن تقلب نظام الزمن رأساً على عقب فترى حاضرة قبل ماضية وماضية قبل غابره. (خامساً) تصور أننا هنا على سطح الأرض نرقب كوكباً يبتعد عنا بسرعة كبيرة بحيث تبدأ الحادثة هناك، وفي أثناء وقوعها يكون الكوكب قد ابتعد عنا مسافة أخرى علاوة على بعده الأصلي، وتصور أن حادثة ما تستغرق ساعة من الزمان قد ابتدأت هناك ورأينا بدايتها. ففي الوقت الذي تتم فيه تلك الحادثة يكون الكوكب قد قطع مسافة جديدة يضطر الضوء لقطعها ثانية في زمن معين. وعلى ذلك فان الضوء الذي بدلنا على هذه الحادثة لا يتم توارده علينا في ساعة بل في اكثر من ساعة من هذه الحادثة من حسابنا يزيد على ساعة. معنى ذلك أن حوادث ذلك الكوكب تبدو لك كشريط سينمائي بطيء كما أن لحوادث على الأرض تبدو لسكان ذلك الكوكب كشريط سينمائي بطيء.(21/64)
القصص
آلة الزمان بقلم الأستاذ محمد فريد أبو حديد
سأقص حديثاً عجيباً. من شاء يصدقه فأني اشكر مع تقديري انه إما يصدقني لاعتقادي أنني لا اكذب، وإما إذا شاء أحد أن يكذبني فله ان يفعل وهو معذور. فان الناس لا يصدقون مايرونه بأعينهم، ولا سبيل إلى ان أريهم ما رأيت، وقد آثرت أن إذكر في حديثي هذا كل الأسماء على حقيقتها حتى إذا عرف أحد بعض هذه الأسماء ساعده ذلك على تصديقي، إذ ليسمن الممكن أن تبلغ بي الجرأة على الحق أن أذكر أسماء الناس علنا في صحيفة سيارة وأنا اكذب في قولي: أصبت في وقت من الأوقات بضعف في الأعصاب من الجهد المتواصل والهم المضي، فوصف لي بعض الأطباء أنواعاً من الرياضة. ولكن ابى الله ان يمكنني من ذلك العلاج. فقد زهدت في رياضة الصيد إذ رأيت فيها قسوة ومثله ووحشية، ثم زهدت في السباحة لأنني لم أجد مكاناً منعزلا ملائماً انزل إلى البحر فيه في أثناء الصيف، لان جسمي ليس بالجميل، وثياب الشواطئ كما لا يخفي على أحد مهلهلة تصف الأجسام على حقيقتها، ثم مارست ما سوى ذلك من أنواع الرياضة حينا فأصبحت بضعف في رجلي فلم استطع متابعة هذا السعي، لان الرياضي لا يليق به أن يظلع. ولكني جعلت ابحث عن تسلية ملائمة فوقفت إلى اختراع اختراعه الإنجليزي بارع وهو المؤلف المشهور (هـ. ج. ولز). وكان لاختراعه هذا رجة كبرى في الأوساط العلمية، ولكن هذا المخترع يحترف الأدب فأصابته محنة الأدباء فلم يقبل أحد على شراء اختراعه. فغضب حتى حطم النموذج الذي اخترعه وأبى أن يعلنه إلى الناس. غير انه لما بلغة ما أنا فيه من الحيرة بعث إلي بوصف اختراعه، وطلب إلي أن استفيد به ماشئت، ولكنه حرم على اطلع أحد عليه الا بإذنه فلا يطمع أحد في أن يسألني عن سر ذلك الاختراع. ومن شاء فليرسل إلى ذلك العالم وليسأله أن يبيع له الاطلاع على النموذج الذي صنعته أنا لنفسي، وذلك الاختراع بالاختصار هو آله دقيقة الصنع تحتاج إلى مهارة فائقة في الإدارة والاستعمال، كما تحتاج إلى مواهب خاصة فيمن يريد أن يستعملها. واخمد الله إذ كنت ممن منح هذه المواهب الخاصة، وهي مصنوعة من معدن لا يزال عجيب الخواص مجهول الكنه، ومن(21/65)
خواصه التي عرفت إلى اليوم انه شفاف ولا تبصر لاه الأعين في ضوء النهار إلا إذا وضع منظار من نفس المعدن على الأعين. ولهذا يسهل على الإنسان أن يترك الآلة المصنوعة منه في أي مكان بغير حارس ولا يخاف عليهااللصوص أو من عبث المارة. ولا حاجة بي إلى إطالة في وصف هذه الآلة، ويكفيني أن أذكر اسمها وقد يكون بعض القراء قد سمع به من قبل وهي (آلة الزمان)، واسم هذه الآلة يدل عليها وعلى الغرض منها. ومن أراد التوسع في فهم أغراضها ونظرياتها وطرق أدارتها فعلية ان يستأذن صاحب اختراعها كما أسلفت في أول هذا الحديث. هذه الآلة بالاختصار عبارة عن حجرة صغيرة لها جدران شفافة من المعدن الذي وصفته، وفيها مقعد واحد لا يسمع إلا رجلا واحداً وفي داخلها أمام المقعد مفاتيح كثيرة يتحرك بعضها إلى أعلى وبعضها إلى أسفل وبعضها إلى اليمين والبعض إلى اليسار وهكذا في جميع الأنحاء التي يتصورها الذهن، وفي وسطها عجلة كبيرة تدور إذا قبض عليها الإنسان بيده وضغط عليها قليلاً. فإذا أمال يده نحو اليمين دارت يميناً، وإذا أمالها نحو اليسار دارت يساراً. وهذه العجلة هي أم الآلات في تلك الحجرة. فإذا بالحجرة كلها تدور دوراناً شديداً، ثم إذا بالجالس على الكرسي يعتريه دوار شديد ويفقد الحس حينا من الزمن ثم يصحو فينظر إلى ما حوله فيرى مناظر غير المناظر التي كانت حوله قبل ان يدير العجلة. لا بل انه يرى مناظر ما كان يحلم بوجودها قبل أن يضع يده على تلك العجلة. والذي يحدث باختصار عند ضغط العجلة إن الإنسان إذا مال بيده نحو اليمين دارت الآلة، وتحرك لسان على لوحة أمام الجالس فهبط إلى اسفل، وعلى تلك اللوحة أرقام كثيرة، وعند ذلك ينتقل هذا الشخص الجالس في الآلة بطريقة عجيبة يطول شرحها - ولا اسمح لنفسي أن أذكرها بغير إذن - فإذا ذلك الجالس ينتقل على السنين نحو الماضي فيذهب إلى العصور الماضية ويرى نفسه يمر على السنوات الغابرة عاماً فعاماً. وكلما انتقل من عام إلى عام قبله تحرك اللسان على اللوحة مشيراً إلى رقم السنة. وأما إذا كان ميل الضغط نحو اليسار فان اللسان يتحرك على اللوحة إلى أعلى، فإذا بالجالس في تلك الآلة ينتقل على السنين نحو المستقبل
فيذهب إلى العصور المقبلة ويرى نفسه في غمار الحياة في الأجيال الآتية. ويتحرك اللسان على اللوحة مشيراً إلى رقم السنوات المقبلة. حسبي الآن ما ذكرت من وصف الآلة فاني(21/66)
أخشى من بعض أساتذة الجامعة في كلية العلوم أن يفطن إذا أطلت الوصف فيعرف سر هذه الآلة من ثنايا قولي بوساطة بعض طرقهم العلمية الماكرةمن الارثماطيقي والماتيماطيقي والفيزنيقي. او غير ذلك من العلوم التي لا علم لي بها. فانهم لو فعلوا ذلك لأوقعوني في ورطة، إذا أكون قد خدعت عن سر لا املكه ولا يحمل بي التصرف فيه. وقد كنت إذا شعرت بالسام يدب إلى نفسي انهض إلى هذا إليه فاجلس فيها وأدير العجلة الوسطى نحو اليمين فأذهب في العصور الماضية لأني شديد الحنين إليها لأنني لست ممن يرتاحون إلى الوقت الحاضر، ولا يرون في الحال المائلة حولنا شيئاً ترتاح إليه النفس أو يطمئن إليه القلوب فالناس فيه: شيوخهم فيهم وهن، وكهولهم فيهم حرص، وشبانهم فيهم طراوة ورخاوة. ولا فائدة في أن أعيد إلى القارئ مناظر تلك العصور الماضية فهي مائلة مصورة في كتب التاريخ إذا كانت غير مائلة مع الأهواء. وكنت أجد ما أحببت من السرور بالتجول في تلك العصور، إذ كنت اشبع كبريائي بما أراه من مجد الآباء والأجداد، وكنت إذا رأيت منظراً يؤلمني في عصر من العصور أسرعت بإدارة العجلة التي أمامي فانتقل مسرعاً حتى ابصر مناظر مجيدة في عصر آخر فأوقف العجلة وانزل من الآلة وأجول في أنحاء ذلك العصر حتى امتلئ سروراً، ثم ارجع وأدير العجلة فأعود إلى عصري ومنزلي خوف أن يقلق أهلي إذا أطلت عنهم غيبتي. وقد وقعت عيني مرة في أثناءعودتي إلى عصري على منظر استرعى انتباهي فأوقفت العجلة مسرعا ثم نزلت من الآلة لأشاهده. فقد رأيت رجلا من عامة أهل الريف واقفاً في وسط ساحة قريبة من (ميدان الأوبرا) وقد اخذ بتلا بية رجل على رأسه قبعة قذرة وهو ضخم الجسم ولكن وجهة بشع المنظر، وله عينان كأنهما عينا ذئب مفترس، وله أظافر طويلة ليست كأظافر بني الإنسان بل هي قريبة إلى أظافر النسور مقصوصة طويلة مدببة، وقد وقف حول الرجلين جماعة من أمم مختلفة، ولكن أكثرهم من أولاد مصر القاهرة ممن يسهل اجتماعهم حول أية ضجة تثور في طريق من الطرق، وهم لا يقصدون بذلك إلا إشباع رغبة الاستطلاع، ولا فرق بيني وبينهم وأنا ممتلئ مثلهم رغبة في الاستطلاع، ولا فرق بيني وبينهم غلا إنني لم اكن عند ذلك مستعدا للدعابة ولا للثرثرة. وبعد هنيهة علمت ان ذلك المبرنط دائن لذلك الريفي وانه قد استولى على كل ماله في الريف حتى ألجأت إلى أن يهرب إلى القاهرة لاجئا إلى(21/67)
أزقتها وجدران مبانيها متخذاً الأولى مغدي ومراحا والثانية مأوى. وقد استجدت ذلك الفلاح يوماً رغيفاً فأكل ربعه ودس الباقي في جيب ثوبه المهلل جاعلاً إياه ذخرا يلجأ إليه إذا عضه الجوع في ليلة لم يجد فيها من يطعمه لقمة. فكان جيبه بارزاً إلى أمام يخيل إلى من يراه إنه قد خبأ فيه شيء ذا قيمة وقد أراد سوء حظه أن يلقاه دائنه المبرنط وهو على تلك الحال فأسرع إليه الشك في إنه يخفي في جيبه دجاجة لها بيض ذهبي، وزاد الشك في قلبه وغلى دمه عندما تذكر أنه لا يزال له على ذلك الريفي مقدار من المال. فقال في نفسه (يا للعدالة أأكون دائناً لذلك الريفي ولا أستطيع أن أحصل على ديني منه؟ وهاهو ذا يسير طليقاً وفي جيبه دجاجة تبيض الذهب؟) وما هو إلا أن قال ذلك في نفسه حتى اندفع إليه وأمسك بتلابيبه. وما هو إلا أن فعل ذلك حتى أجتمع من رأيت حولهما من الناس ينظرون ويتكلمون ويمزحون وقد أراد ذلك المبرنط أن ينزع عنه ثوبه المهلهل ليرى ما تحته فأبى الرجل الريفي خجلاً من أن يرى الناس جسمه المشعر عارياً، فتشبث بالثوب وعلا النزاع بين الرجلين حتى بدأ النظارة يتدخلون بينهما ووقفت أنظر ما يؤول إليه أمر هذا النزاع، فما هي إلا برهة حتى رأيت الجميع يتألبون على الريفي حتى نزعوا عنه ثوبه، يبحثون عن الدجاجة ذات البيض الدجاجة. فلما تم لهم ذلك
المسعى لم يجدوا إلا رغيفاً مقطوع الربع مهشم الباقي. فلما راى الرجل المبرنط ذلك لم يرض أن يرجع عن هجومه ذلك خائباً، فأصر على أن يأخذ الثوب المهلهل ويترك الرجل عارياً، ثم فكر في أخذ الرغيف ولكن نفسه عافته، وظن أنه لم يجد له شارياً فتركه وقال: (عليك أن تشكرني أيها المماطل لأني تركت لك ذلك الرغيف تأكله وتملأ به بطنك وتنام في حين أنا لا أتقاضى منك ديني. يا للعدالة!). إلى هذا فهز كثير من الحضور رؤوسهم علامة الإعجاب والموافقة ولم يتكلم واحد منهم بكلمة. ولكني كنت حديث العهد برحلة في عصر ماض من عصور مجد بلادي وكان قلبي ممتلئا كبراً واعتدادً بنفسي. فأنفت أن أترك مواطني في هذا البلاء. فتقدمت نحوه وقد غلبني الغضب على الصمت وقلت للريفي بصوت عال: (هل لك أيها المسكين أن تشترك معي في استرداد ثوبك بالقوة؟) فنظر الرجل إلي نظرة ذات مغزى ثم نظر إلبى منت حولنا وسكت فنظرت حيث رأيته ينظر فإذا بالنظارة يمزحون ويضحكون ويقلبون الثوب وهو مع الرجل المبرنط ويهنئونه(21/68)
بحصوله على شيء من دينه، وكان أعلاهم صوتاً رجال مبرنطون مثله يبلغون العشرة عداً فعلمت من نظرة الرجل إنه يرى نفسه عاجزاً ولو مساعدتي على استرداد ثوبي ورأيت دمعة تسقط من عينيه وجثى على ركبتيه حياء من تعريض جسمه الضخم المشعر للأنظار، وكان فوق ثيابه معطف قديم كنت أحتاطه بلبسه في رحلات فخلعته صامتاً وطرحته فوق منكبيه فكساه إلى ملئت ركبتيه، فنظر إلي صامتاً نظرة كدت أبكي من وقعيها عندما لاقت نظري وتركته مسرعاً وعدت إلى اللآله فأسرعت بها عائداً إلى العصور الماضية أطلب التسلية في مناظرها. حتى إذا ما سرى عندي ما بي من الشجن أدرت العجلة وعدت مسرعاً إلى عصري ودخلت منزلي وكان أهلي قد قلقوا بطول غيبتي، ومنذ ذلك اليوم عاودتني كآبة كانت تظهر في حديثي وتدل عليها ملامح وجهي حتى لقد لاحظها بعض أصدقائي وكان فيهم جماعة من الشبان أولي الهمة فجعلوا يسألونني عن علة ما بي فذكرت لهم قصتي في ذلك اليوم الذي رأيت فيه ما رأيت من المبرنط والريفي. وذكرت لهم في قصتي حديث الالة التي أتجول بها في العصور الماضية طالباً التسلية من هموم الوقت الحاضر. فقال لي أحدهم وأسمه توفيق: (ولكن العجيب أنك لم تفكر يوما في أن ندبر تلك العجلة نحو اليسار) ولم أنتبه قبل الساعة إلى أن عجلة الآلة يمكن أن تدار إلى اليسار فسيكون التجول في عصور المستقبل بدل أن يكون في عصور الماضي. فقلت له وبي شيء من الارتباك (أنني لم أفطن إلى ذلك إلا ألان) فأجابني ذلك الصديق الشاب (أنني أعتقد أن السلوة لا تكون أبدا في العودة إلى الماضي. فان الغنى إذا أفتقر لا يسليه عن فقره أنه كان يوما ما واسع النعمة رافلاً في الغنى بل إن ذلك أدعى إلى أسفه وأسخن لعينه. ولكن الذي يسلي الفقير أن يتطلع إلى المستقبل ليرى أنه سيكون بعد ألمه في راحة وبعد إملاقه في غنى. وكذلك الحال في السجين، فأنه لا يهدأ قلبه من ذكرى ماضي حريته، بل قلبه يهدأ وألمه يضمحل إذا فكر في قرب يوم الانطلاق) والحق أنني لم أتعلم من أحد مثل هذه الحكمة الصادرة من شاب غير مجرب. وقد شعرت بالخجل إذ رأيت أحد أبنائي في السن يعلمني حكمة غربت عن فكري، ولكني أحمد الله على أني في هذه الأمور أنزل عند الحق ولا تأخذني العزة بالإثم. فقلت له (إني شاكر لك تنبهي إلى هذا يا صديقي وسوف أقص عليك نبأ ما أرى) وما هي إلا ساعة حتى كنت جالساً على المقعد في تلك الآلة(21/69)
المحبوبة ووضعت يدي على عجلتها وأدرتها ضاغطاً نحو اليسار. فرأيت اللسان يتحرك هذه المرة إلى أعلى وقد أشار إلى أرقام أعلى من رقم 1933. وقد عراني عند دوران الالة دوار شديد لم أشعر بمثله عند تجوالي في العصور الماضية فلم أفق من الدوار حتى كان اللسان قد بلغ رقم (2000) عند ذلك أوقفت حركة العجلة ونزلت من الالة وتركتها علىجانب الطريق الذي وجدت نفسي فيه، ولم أخش أن
أتركها حيث هي وأسير إذ أني كنت على يقين من أنها في مأمن من الرقة لأني كنت كل الثقة من أنه ليس في الناس جميعاً من يملك منظاراً من معدن الآلة فيستطيع أن يرها إلا أنا والمخترع الأصلي للآلة وقد سبق لي ذكر أسمه. سرت بعد ذلك في طريق عجيبة لم تقع عيني على مثلها، فهي فسيحة لا يقل عرض أضيقها عن مائة متر. ويحف بها من جانبيها أبنية شاهقة هي أشبه بما نسمع في عصرنا الحالي في أمريكا وهو ما يسمونه (ناطحات السحاب) وكانت حركة الانتقال في تلك الطرق الفسيحة سريعة عنيفة حتى كنت أخطو الخطوة وأنا خائف أترقب، وكانت السيارات من كل نوع ومن صنوف لم أرى مثلها من قبل في عصري الذي أعيش فيه وما كان أشد عجبي عند ما رفعت رأسي إلى قمة هذه الأبنية فوجدت فوقها حركة عظيمة من طيور عظيمة تعدو وأخرى تهبط، ولكني عجبت أن تكون الطيور في مثل هذا الحجم وهي على البعد العظيم الذي بيني وبين قمم هذه الأبنية، وهمت أن أسال بعض المارين عن ذلك، ثم رأيت منطاداً طائراً يشبه ذلك المنطاد الذي آتى به (اكنر) إلى مصر في العام المنصرم في عصرنا هذا، ففكرت في نفسي قائلا: ألاتكون تلك الطيور طائرات ميكانيكية. ولم يطل بي أمد الحدس والتخمين فقد رأيت طائراً من تلك الطيور يهوي من العلو الشاهق إلى أسفل فإذا به يستوي على جانب الطريق وإذا به آدمي قد وضع على ظهره آلة ذات جناحين قد ربطها ربطاً محكماً في كتفيه وأعلى صدره. فما هبط على الأرض حتى حل الأربطة وعالج الآلة حتى أسترت على عجلتين كانتا خفيفتين ثم أدار لولباً في جانب الآلة فإذا بها تعدوا على نمط (الموتوسيكل) في عصرنا الحالي. وعند ذلك فقط عرفت كنه هذه الأسراب الطائرة فوق أعلى الأبنية. ومضيت في سيري وأنا اكثر علماً بأنني في عصر جديد وعهد غير ما عرفت في بلادي. وجعلت وأنا سائر أتلفت حولي تلفت المذهول الدهش كأنني بعض أهل الريف نزل(21/70)
عاصمة كبرى لاول مرة في حياته، فقلت في نفسي إنني أخشى أن أنا بعدت عن موضعي ألا أستطيع العودة إليه فليست هذه المدينة القاهرة التي ولدت فيها وعشت فيها طوال السنين، بل لقد غيرها مر الدهر أي تغيير حتى صارت غير ملائمة لحواسي وأعصابي، وعولت على أن أعود إلى الآلة التي حملتني إلى ذلك العصر المجهول فأحرك عجلتها وأعود من حيث أتيت. بينا أنا أفكر في عصر غير ناظر إلى ما حولي إذا أسرع إلى شاب فاختطفني اختطافاً ودفعني إلى جانب. وما هي إلا ثانية بعد ذلك حتى رأيت طائراً من تلك الطيور الآدمية قد نزل في الموضع الذي كنت واقفاً فيه ولو لم يدفعني ذلك الشاب لكان الطائر قد هوى على وحطم رأسي. فلما أفقت من ذعري خاطبني الشاب بلهجةاللوم قائلاً: ((أما ترى علامة انفتاح الطريق امامك؟)) فنظرت إلى حيث أشار بيده فوجدت إشارة حمراء وسهما مشيراً إلى أعلى فعلمت إن ذلك المكان موضع لرسو من أراد النزول من الطائرين إلى الأرض وان الناس قد اعتادوا إطاعة تلك الإشارات الحمراء وتحاشي تلك المواضيع. فاعتذرت إلى الشاب وشكرته ثم دنوت منه فسألته قائلاً: (أرجو أن تدلني على مكان محطة المترو هنا. فنظر إلى الشاب وتبسم ضاحكاً ثم قال: (لقد عرفت منذ رايتك انك لست من أهل القاهرة) فغضبت لهذا لاني لا اعتز بشيء اعتزازي باني من أبناء القاهرة الصميمين، وقلت له: (إنني منهم ومنزلي في مصر الجديدة في شارع. . .) وما كدت اكمل هذا القول حتى ضحك وقال (مصر الجديدة! حقاً إنك رجل لطيف. تعال معي إلى هذا المجلس فإنني متعب وقد سرتني دعابتك. فمن أي الأرياف جئت؟). قال هذا وسار بي نحو مقعد عام على جانب الحديقة التي في وسط الطريق. وقد أعجبني من الشاب شهامته وخفة روحة فكظمت غضبي من إصراره على إنني ريفي، وذهبت معه وأنا مسرورة لأنني ووجدت رجلاً من أهل العصر الذي دخلت فيه أكلمه واعرف منه أسرار حياة الناس في أيامه. فلما استقر بنا الجلوس قال
باسماً: (إنت إذن من مصر الجديدة؟) فقلت له متحدياً: (نعم! أنا من هناك). قال: (انيس سمعت بهذا الاسم في التاريخ في أثناء دراستي في الجامعة، ولكن مصر الجديدة اليوم اسمها حي الشركة القديمة.) فقلت - (حي الشركة القديمة؟ ولكن ما معنى هذا؟) فقال إنني كنت ادرس التاريخ الاقتصادي في جامعة حوش عيسى وهناك. . . . . .). فلم أتمالك(21/71)
نفسي أن ضحكت هذه المرة متهكما إذ رأيت فرصة للانتقام. وقلت: (جامعة حوش عيسى؟ يالك من مداعب ماهر! ألا تعرف إنني عشت في إقليم البحيرة ورأيت حوش عيسى؟ جامعة حوش عيسى!) ثم اندفعت اضحك. فقال الشاب متعجباً من ضحكي: (لست ادري لماذا تضحك؟ نعم جامعة حوش عيسى. ألا تعجبك مدينة تعدادها اليوم فوق نصف مليون من الأنفس؟ وهل تسخر من مدينة هي مركز شركات صناعة القطن والحرير والصابون وعجلات السيارات وأجنحة الطيارات؟). فقلت له ضاحكاً: (ما أمهرك في الفكاهة يا أخي! لعلهم قد كشفوا هناك منجماً للفحم.). فقال الشاب: (منجماً للفحم؟ ولماذا؟ إن هناك اكبر مؤسسات استخدام أشعة الشمس. فهل من حاجة مع هذه المؤسسات إلى منجم للفحم؟) فأرجعت شفتي إلى نصابيهما من الجد وعلمت أن قول الشاب لا ينم عن هزل أو فكاهة. فقلت له معتذراً إذ كنت اجهل ذلك، ولكني أرجو أن تخبرني أي شعب له فضل إنشاء هذا المصانع؟). فنظر إلى متعجباً وقال: (الست مصريا؟ فقلت له مرتبكاً: (نعم أنا مصري. وكدت أخون نفسي فافصح له عن سرب حالي وحقيقة أمري ثم تدرعت بالحزم وقلت له: (ولكن أرجو العفو فقد غبت عن مصر مدة طويلة. فالحقيقة إنني انتقلت منها طفلاً ولم اعد إليها إلا اليوم، وكنت احب أن اعرف الموضع الذي كنت أعيش فيه وأنا طفل فسألتك عن محطة المترو لأذهب به إلى مصر الجديدة لذلك الغرض. فقال الشاب: (اعلم إن مصر اليوم لا يسمح فيها لشركة أجنبية ان تقوم بعمل. فهذا محرم في قانونها، ومنذ عشرات من السنين قد أفلست شركة مصر الجديدة لأنها ضاربت في بعض المشروعات الأجنبية، ومنذ أفلست استولت الدولة على مكانها وأطلقت عليه اسم حي الشركة القديمة، وهي حي متوسط بين حي (الملكة نازلي الذي نحن فيه الآن وحي ميدان الطيران الضغر الذي في الطريق المؤدي إلى مدينة السويس، ويمكنك الوصول إليه عن طريق تحت الأرض رقم 105 عن طريق السيارات رقم 50 شمال، وكنت اسمع قول الشاب وأنا في دهشة عظيمة من التغير الذي اعترى البلاد وأردت أن اعلفم علم تلك الشركات التي ذكرها الشاب في عرض حديثة عن مدينة حوش عيسى فقلت له: (ولكنك لم تقل لي لمن تلك الشركات التي تملك مصانع حوش عيسى) فقال الشاب: (هي مثل الشركات التي تملك مصانع بليسون الإسماعيلية وبور فؤاد: ومثل شركات مصانع السيارات والطيارات في أسوان. وشركات(21/72)
استخراج الراديوم والألمنيوم وسائر المعادن في سواحل البحر الأحمر، ومشركات مصانع الفواكه والمربيات في وادي عربة الواقع في الصحراء في شرق مديريتي بني سويف والمنيا. فكلها شركات مصرية) فلم أتمالك أن اهتززت هزة قوية عندما ذكر الفتى ذلك ورفعت رأسي مباهياً كأنما هذه الشركات قائمة في عصري الحالي وكدت افخر قائلاً أنا من بني مصر هؤلاء. ولكني ذكرت أن فخر ذلك ليس لي فاني من أهل جيل لم يحن لهم أن يفاخروا بمثل هذا. ورأيت الفتى يستعد للقيام فسألته وأنا آسف لفراقه: (إلى أين؟) ولقد وددت أن أبقى معه حتى اعرف كل ما في حياة مصر في عصره من التجديد البديع، ولكنه أجاب إجابة حاسمة: (اعتذر لك لاني ذاهب لسماع خطاب رئيس شركة قناة السويس في البرلمان في موضوع هام خاص برسوم البحارة في تلك القناة) فسألته: (وكيف يكون رئيس تلك الشركة عضواً في البرلمان؟) فنظر ألي متأففاً من غبائي وقال: (ولكن لم تعجب لذلك؟ أليس مصرياً؟) فخجلت إذ عرفت إنني دائماً أنسى واخلط بين عصري وذلك العصر الجديد الذي نزلت به. ومد الفتى يده إلى
مسلماً وقال: (لعلنا نلتقي بعد!) فسلمت عليه باسماً وشكرته ولكنني لم املك نفسي أن سألته سؤالاً كان يحول بنفسي طول المدة التي جلست فيها معه فقلت: (ولكن ماذا فعل الإنجليز. ألا يزالون على عهدهم) فرفع الشاب رأسه عالياً وشمخ بأنفه وقال لي غاضباً: (حسبك أيها الرجل. ما ظننت انك تبلغ بي إلى هده الإهانة.) فقلت معتذراً: (أية اهانة؟ انني لم اقصد شيئاً من ذلك) فقال وهو يسير: (انك تذكرني بعصر مضى منذ بعيد. قضى على بلادي أن تخضع له حيناً من الدهر أيام كان أهلها فيهم رخاوة وضعف، ولكن ماذا يدخل الإنجليز اليوم في أمورنا ولهم من أمورهم في بلادهم ما يملأ دائرة اهتمامهم؟) قال هذا وسار مسرعاً وتركني وحدي لا املك رأسي ما بها من الدوار. فوضعت منظاري على يميني وجعلت بنظري حتى رأيت الآلة حيث تركتها وأسرعت إليها فأدرتها وعدت إلى عصري ورأيت المناظر التي أعدتها منذ عشت، وعدت إلى منزلي فقضيت ليلة مسهدة بين آمال وهموم. وقد زارني أصدقائي في اليوم التالي فقال لي توفيق: (لعلك رأيت في العصور الآتية ما يذهب عنك الم الحاضر) فقلت: (لن تراني بعد اليوم مقطب الجبين. سوف أسعى بقدر طاقتي لعلي أكون موفور النصيب من بناءس ذلك المجد المقدور. ثم حكيت له قصة(21/73)
ما رأيت وقلت له: (ليحمل كل منا أمانته إلى أبناء الجيل الذي بعده. فهذا مجد محتوم. هذا أمل محقق ان شاء الله)(21/74)
هاكم قبعة أخرى
تأليف لويجي براندللوا
وترجمة الدكتور محمد عوض محمد.
(ولد لويجي بيراندللو في 28 يونيو سنة 1867، في إحدى القرى بجزيرة صقلية ودرس في روما وفي ألمانيا، ثم عاد إلى روما واحترف أولا مهنة التدريس، وانصرف في جهوده الأدبية أولاً إلى الشعر، ثم إلى التأليف القصصي: ثم المسرحي وقد سلك في بادئ الأمر مسلك جيوفاني فرجا الروائي الصقلي الشهير. فكان يتخذ من قصصه وسيلة لوصف أهل صقلية ومعيشتهم وطباعهم: لكنه ما لبث أن ظهر أسلوبه الخاص. في رواية الشيوخ والشاب وفي قصة المرحوم ماتيا باسكال. واكبر ما يعاب على بيراندللو تغلب العقل على العاطفة في مؤلفاته ونظره إلى الأشياء على غير حقيقتها. وإغراقه في التحليل وتشاؤمه. ولكن براعته ومقدرته كانت موضع إعجاب شديد في جميع أوروبا. وقد ترجمت قصصه وتأليفه المسرحية إلى 15 لغة. ومثلت قطعته المسرحية باللغة الإيطالية في إنكلترا وفرنسا وسويسرة وفي ألمانيا فقوبلت بحماس شديد. وكان المؤلف نفسه يشرف على إخراجها.) بعد أن قضى دييجو برونو ساعات طوالاً يتمشى، بلا قصد ولا مأرب، على ضفاف نهر التيبر، في ذلك الحي الهادئ المسمى براتي دي كابتللي في مسيرة جدران الثكنات، ومبتعداً قدر جهده على ضوء المصابيح، أحس فجأة أن التعب قد نال منع فتوقف هنيهة تحت ظل شجرة، ثم صعد البرابي المطلة على النهر. . وهناك جاس موليا وجهه تلقاء النهر، ومدلياً رجليه من فوق السور. ومن تحته الماء يتدافع في جريانه بصوت مبهم غامض، وقد انعكست على صفحته القاتمة أضواء مرتعدة مضطربة أرسلتها مصابيح الضفة المقابلة وشمل السكون المكان، فلم يكن ينبعث من المنازل المقابلة صوت، ومن وراء تلك المنازل، على
بعد شاسع كان يبدو شبح مدينة روما. وفي السماء قطار يتدافع من السحب الصغيرة، ذات اللون الرمادي الشاحب. وكإنما كانت تهرول مسرعة، لكي تلبي دعوة داع قد أهاب بها من المشرق إلى اجتماع غامض عجيب، وقد اشرف القمر من فوقها كأنه يستعرضها وهي تمر سراعاً بين يديه. جلس الفتى من غير حراك، وقد ولى وجهه شطر السماء، محدقاً في تلك(21/75)
السحب. التي استطاعت بجريانها السريع أن تكسب الليلة المقمرة نشالها وحركة. لا شك أن هذا أحد الناس. قد وقف ليرقب مثله منظر الليل ولكي يتأمل في تلك السحائب وهي تمضي سراعاً، وإلى القمر في السماء إذ يستعرضها، وإلى تلك المياه المظلمة القاتمة، وما انعكس عليها من شعاع مرتعد مضطرب. ثم تنهد تنهد الحزين، فان إحساسه وجود رجل آخر ضايقه، وافسد عليه تلك اللذة الحزينة التي يبعثها شعوره بالوحدة، ومن حسن الطالع انه كان يجلس في الظلام، فعسى القادم ألا يراه، والتفت لكي يستوثق من الأمر. وجعل يحدق في هذا الغريب. يا عجباً! ما خطب هذا الرجل وقد وقف جامداً فريداً وحيداً؟ ثم ما هذا الشيء الذي بيده كأنه حقيبة صغيرة؟ لا ليست هذه حقيبة. بل قبعة. . . وبعد فماذا عساه أن يفعل؟ رباه! انه يصعد السور. . أتراه يريد أن يرتكب. . ويلاه. . ما هذا؟ وتراجع دييجو بغريزته إلى الوراء، مغمضاً عينيه، حابساً نفسه، وماداً يده إلى الأمام كأنما يدفع شراً، وهو يتوقع سماع صوت ذلك السقوط المروع في الماء الذي تحته. حادث انتحار. . . يا عجباً. . كيف يجوز مثل ذلك؟ ثم فتح عينيه، وجعل يحدق في الماء تحديقاً شديداً وهو يحاول أن يخترق ببصره أعماقه السوداء. فلم تقع عيناه على شيء. . . الصمت شامل والهدوء باسط جناحيه. . لا صياح ولا نداه ولا صوت. فيا عجباً! ألم يره أحد، ولم يسمع صوته إنسان؟ هنالك تحت لجج النهر رجل يغرق، ولعله الآن يكافح في يأس وفي جهد. . . كل هذا يجري وهو جالس في مكانه مرتعداً عاجزاً خائراً!. . . أما يحمل به أن يبادر فيطلب النجدة! أو يصيح بأعلى صوته ولكن هيهات. . لم يعد يجدي الصياح والاستنجاد! لقد رضي أن يبقى مختبئاً في مكانه المظلم، تاركاً ذلك المسكين يغرق!. . جمد في مكانه كالصخرة الصماء، حابساً نفسه، سائلاً نفسه من آن إلى آن: أحقا قضي الأمر. . قضي الأمر؟ وبعد حين جعل ينظر فيما حوله. . لعل الأمر كله حلم رآه! إن كل شيء باق كما هو لم يتغير: المدينة راقدة تحرسها المصابيح، وسط سكون عميق كما كانت من قبل، والأضواء ترتعد على صفحة الماء القاتمة بأشعة ثعبانية ملتوية. . لم يتغير في هذا المنظر كله سوى شيء واحد: فلقد كان على عمود مصباح من المصابيح قبعة الرجل بقيت هناك حيث تركها، وكان المصباح يرسل عليها شعاعاً شاحباً مشؤوماً. . وكانإليه أن تلك القبعة تؤنبه وتتهمه. . فأخذ يرتعد فرقاً. ثم نزل مسرعاً من فوق البرابي،(21/76)
وجعل يعدو ومنزله مستتراً بظلام الليل. (دييجو! دييجو! ما خطبك؟) (لا شيء يا أم! وما عساه أن يكون خطبي؟) (لست ادري أيها العزيز. . . غير أني. . . حسبتك. . . لقد جئت متأخراً الليلة فهل أهيئ لك حجرتك الآن؟) فالتفت الفتى إلى أمه مغضباً، وقال: يا عجباً لك! انك! تسألينني هذا السؤال كل ليلة من ليالي عمري!) وكان هذا الرد كأنه سوط يستحثها، فاندفعت العجوز الصغيرة الجسم نحو الحجرة وهي تجر إحدى رجليها. اتبعها الفتى نظرات قد امتزج فيها الغيظ والكمد ورآها وهي تختفي آخر الدهليز، فتنفس الصعداء إشفاقا عليها، ثم لم يلبث أن عاود الضجر والكمد. وقد بقي ينتظرها - دون أن يعرف للانتظار سبباً، ولا ماذا عساه أن ينتظره - في هذه الحجرة المظلمة، ذات السقف القذر والجدران الممزقة الورق، التي اتخذتها الأم لصناعة الثياب حجرة صغيرة كئيبة قد غصت برخيص الأثاث، وبعدد الحياكة المختلفة: آلة للخياطة، مقص مستطيل، تماثيل سخيفة ذات صدور ضخمة، شريط مقاس، قطعة من الطباشير، أكداس من صور الأزياء ذات الابتسامة الكالحة. . . وكلها أشياء قد ألف دييجو رؤيتها فلم تعد تستلفت نظره. لقد عاد إلى منزله، يحمل
في رأسه صورة كأنها منظر شاهدة في مسرح، صورة تلك السماء العجيبة، تغشاها السحائب الصغيرة الخفيفة. ومنظر النهر القاتم، قد انعكست في صفحته أضواء المصابيح والمنازل العالية على الضفة المقابلة، وذلك الشبح البعيد لمدينة روما، وذلك الجسر الممدود. . ثم تلك الأقنعة! كانت أمامه صور كل تلك الأشياء الجامدة، حاضرة لكنها غائبة. وكذلك هو. . لقد كان حاضراً غائباً. جلس في مكانه المظلم يرقب الرجل وهو يغرق. . فكأنه لم يكن هناك، وكأنه كان غائباً، فلم يحرك ساكناً، ولم يفتح فمه، ولم يستنجد. والآن قد رجع إلى داره وقد ملكته الحيرة، واستولى عليه الذهول، كأنما كان ما سمعه ورآه لم يكن سوى حلم نائم. . لم يلبث أن رآى قطة كبيرة، ذات فروة رمادية ناعمة. وثبت فوق المائدة، وجعلت تنظر إليه بعينين خضراوين خاليتين من كل معنى، هذه قطة الدار، اتخذوها لصيد الجرذان. غير أنها منذ أيام انتزعت من الجدار قفصاً به عصفور جميل. . ثم لم تزل تحتال دائبة، تدفعها القسوة والنهم، حتى استطاعت أن تخرج العصفور من بين القضبان. ثم التهمته. وقد حزنت أمه لهذا حزناً شديداً. . بل انه هو أيضا قد آلمه أن يفترس ذلك(21/77)
العصفور المسكين على هذه الصورة، أما القطة، فهل تأثرت أو أحست ندماً على ما ارتكبت؟ كلا! بل ها هي ذي جالسة في سكون وطمأنينة، كأن لم تقترف ذنباً ولئن رفعها بعنف على المائدة فإنها لن تعرف لهذا الاضطهاد سبباً. عجباً ألا يستطيع هو أن يكون مثلها؟ إلا يمكنه أن يقترف الإثم كما فعلت هذه الهرة، ثم ينسى كل شيء بعد ارتكاب الجريمة بلحظة؟ إن الآفة الكبرى التي تستحقه وتعنيه هي انه يتذكر. . يتذكر أبدا ويعلم أن الناس سيذكرون أبدا. لكنه يخيل إليه انه في هذه الليلة يرى الأمور في ضوء جديد. . مثلاً: نظرته إلى أمه. . . انه لم ينظر إليها الليلة كأنها أم. . . بل امرأة عجوز كأمثالها من النساء. . . ذات جسم ضخم وانف غليظ قد اعوج قليلاً أحد جانبيه. ولها شامة كبيرة في قاعدة منخرها الأيسر، وخداها الشاحبان تغشاهما خطوط زرقاء من الأوردة الدقيقة. وقد تدلى كل خد في ترهل وضعف. . . وقد جعلت تنظر إليه بعينين متعبتين خائرتين. وحين حدق في وجهها أطرقت بعينها، وقد ملأها الخجل والعار. . . ولكن مم تخجل الأم؟ لقد كان يعرف جد المعرفة سر هذه الخجل، وهذا الشعور بالعار. وأخيراً ضحك ضحكة الساخر. وقال ((عمتي مساءً أماه!)) وانطلق إلى حجرته، واغلق بابها.
جلست الأم إلى مائدة الحياكة، لكي تتم خياطة ثوب، ستحضر صاحبته في طلبه في الصباح. لكنها لم تجلس لتتم عملها فحسب، بل لكي تفكر قليلاً. . . ماذا عساه قد جرى لفتاها الليلة؟ طالت غيبته ولم يرجع إلا متأخراً. وكانت تغشاه رعدة. ووجهه شاحب كأنه خرقة بيضاء. . . وليس الشراب سبب هذا الاضطراب. إنها لم تنشق من فمه رائحة الخمر وليس دييجو من الشاربين. ومع ذلك، فليس من شك في انه قد ألم به اليوم حادث. أتراه قد التقى من جديد بأولئك الرفقاء الأشرار. الذين كانت صحبتهم وبالاً عليها ودماراً. ذلك ما كانت تخشاه:: نهضت من كرسيها، ومشت على أطراف قدميها حتى وصلت إلى باب حجرته. وأنصتت، فلم تسمع صوتاً لعله إذن قد آوى إلى فراشه وقد غشيه النعاس. . عادت إلى حجرتها. وأخذت تجد في إتمام عملها. كانت من آن لآن تنزع المنظار عن عينيها وتمسحه. لقد كانت من قبل وليس لها مورد رزق سوى ما كانت تمنحه من معاش كإحدى الأرامل. وكانت تجد في هذا كفايتها. أما الآن وقد فقد دييجو منصبه وأضحى بلا عمل. فقد اضطرت إلى السعي والاكتساب. وفوق هذا قد خطرت لها فكرة: وهي أنها(21/78)
تستطيع بفضل جدها واقتصادها أن تجمع من المال ما يكفي لإرسال دييجو إلى أمريكا. إذ لا بد للفتى من فرصة كي ينشد حظه من جديد. أما ها هنا في إيطاليا فقد سدت في وجهه السبل، وهذه البطالة التي اكره عليها إكراهاً توشك أن تأكل روحه وتقضي عليها. أمريكا إذن.
إن أمريكا هي وحدها المكان الصالح له، فلا بد من إرساله إلى أمريكا ولو كان في هذا موتها وفناؤها. لا بد أن يفتح لولدها باب الحظ. . . ولدها هي. . . ذلك الفتى الكريم. . لله ما أطيبه! وما أجمله، بل وما أقدره وما أذكاه! ألم يكن من قبل قادراً على الكتابة والتحرير. حتى لقد نشرت له الصحف بعض ما كتب؟ ثم ما جرمه الذي اجترم، وما ذنبه الذي اقترف؟ لم يكن الأمر سوى ضرب من عبث الشباب، والذنب فيه راجع إلى لأولئك الرفقاء الأشرار، وإلى ذلك الروسي أو البولندي، أيا كان وأيا كانت جنسيته. . ذلك الأجنبي القذر، ذلك السكير المهين، الذي جاء إلى روما لكي يسوق أبناء الأسر الشريفة المبجلة إلى الدمار والعار، فوا أسفاه على أولئك الفتيان البله، كيف ضاع رشادهم، وضلوا عن طريق الصواب، إذ دعاهم ذلك الأجنبي الكثير المال إلى منزله، فطاشت أحلامهم ما بين كؤوس الخمر والنساء وضروب اللهو. . ويصل ذلك الروسي المقامر على أن يأتي بالورق ويلح عليهم أن يلاعبوه، اجل كان يلح عليهم إلحاحا. ولئن كان قد خسر نقوده. فذلك جزاؤه على إصراره وعناده. لكنه بعد هذا يذهب ويا للعار! فيتهم أصدقاؤه بالغش والتزوير. ثم يسعى في مقاضاتهم لكي يجلب إليهم الدمار مدى الدهر. . سمعت الأم صوتاً كأنه صوت بكاء مكتوم ينبعث من حجرة ابنها، فنادته: (دييجو!) فلم يرد جواباً. أنصتت مرة أخرى، وألصقت إذنها بالباب، انه مستيقظ، فما عساه يصنع الآن. انحنت ونظرت من ثقب المفتاح. . رحماك اللهم! انه يقرأ. . عاد إلى مطالعة تلك الصحف الكريهة التي اشتملت على تفاصيل المحاكمة، فلماذا. . لماذا يريد أن يعود إلى قراءتها. . وفي هذه الساعة من الليل؟ ونادته بصوت عال: (دييجو!) ثم فتحت الباب فالتفت أليها، وهو يثب فزعاً. وقال: (ما الخطب يا أم، ما بالك لم تأوي إلى فراشك!) قالت: (وأنت، ما بالك لم ترقد في فراشك بعد؟) فتكلف الابتسام وجعل يمد ذراعيه. (أنا؟ إني أتسلى قليلاً) فقالت العجوز وهي تعصر يديها عصراً: (دييجو! دييجو! احرق هذه الأوراق! استحلفك أن تحرقها. . لماذا تريد أن(21/79)
تؤذي نفسك؟ ماذا يجديك هذا كله؟ انس ذلك الحادث تماماً!) فنظر إليها وهو يضحك. (شيء بديع!. . كأني إذا نسيت ذلك الحادث فقد ينساه الناس جميعاً! ما أبدع هذا! وما أسهلها وسيلة! ننسى الحادث كلنا في لمحة الطرف! ثم نتساءل هل حدث شيء؟ لا. . . لا. . . لا شيء مطلقاً. . . السجن! كلا لم يكن هنالك سجن. بل كان ما في الأمر أني سافرت. . . في إجازة خارج القطر. . . إجازة بديعة دامت ثلاث سنين) ثم قال مغيراً لهجته: (يا أماه! هذا عبث لا طائل تحته. فلنتكلم في موضوع آخر. ألا ترين أني قد قضى على القضاء المبرم؟ ألا ترين كيف تنظرين - حتى أنت - إلى؟) (لا يا دييجو. . . لا. . . انك على خطأ وكل ما هنالك أيها العزيز إني كنت انظر. . . اجل كنت انظر. . . إلى ثيابك. . . فقد باتت رثة. لا بد لك الآن من بذلة جديدة.) فنظر إلى ثيابه نظرة فحص وتحقيق. ثم ضحك وقال: (إذاً أنت تظنين أن هذا هو السر في تحديق الناس بي كلما رأوني! لست أنكر أن ثيابي قد امتدت إليها يد البلى قليلاً، ولكن هذا القدر القليل ليس بشيء ذي خطر وأنا شديد الحرص عليها. البسها في عناية، وامسحها واكويها. والحقيقة أن مظهري حين البسها لا بأس به مطلقاً. فهو مظهر الرجل الفاضل، الذي يستطيع أن يتخذ مكانه في العالم على غير استحياء ولا خجل. . . فدعى هذا الكلام! فليس ورتءه من طائل!. . أماه ألا ترين انه قد قضى على القضاء الأخير) ثم أشار إلى الأوراق التي بين يديه: (أن البلاء كل البلاء، هنا، في هذه الأوراق وحقيقة الأمر أننا اطلعنا الجماهير على لعبة ورواية مدهشة. فهل تحسبين انهم ينسونها بكل هذه السرعة؟ لا أظنهم جاحدين بهذا القدر. . . ويا لها من رواية تلك التي أريناهم. . . رواية تتمثل فيها الأرواح عارية دنيئة ملوثة، وهي تحاول أن تختفي عن الأنظار، يوم كان كل منا يجذب رداء المحامي الذي يدافع عنه لكي يستر به عاره، اجل كانت رواية مدهشة رائعة. أتتذكرين كيف ارعد الناس ضاحكين في
ساحة القضاء حينما سمعوا ما فعلناه بذلك الروسي يوم أن ألبسناه الزي الروماني القديم وألبسناه الخفين، على ما له من انف افطس ووجه منقط، ورأس مستدير، ومنظار ذهبي، ثم جعلنا ندفع ذلك الخنزير السمين دفعاً، ونضرب رأسه بخفيه وكلما أوسعناه ضرباً ازداد طرباً. لأنه قد اخذ من السكر) (دييجو! استحلفك!) (اجل كان سكراناً، ونحن الذين أسكرناه.) (لا. لا. لم تكن أنت الذي فعل هذا، بل الآخرون. . .) (وأنا أيضا. . . أتعلمين(21/80)
يا أماه أن هذا كان كله من سبيل المزاج. لقد كنا نعبث به ونمزح. ثم تناولنا الورق لنلعب، وكان من السهل أن نربح. والرجل قد ذهبت بعقله الخمر.) (دييجو! استحلفك!) (قلت لك إننا كنا نمزح، هذا وحقك يا أماه، هو الصدق الذي لا مرية فيه، ولكني حين ذكرت هذا في دار القضاء ضج الناس بالضحك، اجل حتى القاضي. . بل لقد كان هو أشدهم ضحكاً. . ضحك الجميع من قولي هذا. . الجميع. . حتى رجال الشرطة. ومع ذلك فقد كان هذا هو الحق. فلقد كنا نرتكب الغش، ونحن لا ندري. أو إذا كنا ندري فما كنا نرى أنفسنا إلا مازحين وهل كانت سوى أموال رجل قذر معتوه، وكانت تنصب من جيبه انصباباً، كما انصبت من جيوبنا فيما بعد. حيث كنا نبذرها تبذيراً في بلاهة وجنون، حتى لم يبقى لدين منها درهم واحد.) ثم التفت إلى خزانة الكتب واخرج منها كتاباً. (هذا كل ما بقي لي من تلك الأموال. فقد مررت يوماً ببائع كتب واشتريت منه هذا الكتاب.) ثم التقى بالكتاب على المائدةفإذا هو ترجمة فرنسية لكتاب جون رسكن المعروف (تاج من أغصان الزيتون). وجعل يحدق في السفر مطبقاً حاجبيه. عجباً كيف خطر له في تلك الأيام أن يشتري هذا الكتاب؟ لقد اعتزم إلا يعود إلى المطالعة، وإلا يخط حرفاً أبدا. وما دعي إلى الذهاب لذلك الروسي سوى عزمه على أن يخمد جذوته، وان يقتل في نفسه حلماً كان يملؤها: حلما بأنه سيغدو يوماً كاتباً ومؤلفاً. ذلك كان حلم شبابه. ولكن الفقر الأليم الذي نزل بأسرته جعل تحقيق هذا الحلم أمرا محالاً. ولهذا صح عزمه على أن يقتله قتلاً. وقفت العجوز تتأمل هي أيضاً ذلك الكتاب الغريب، وبعد لحظة قالت في شيء من التردد: (أترى يا دييجو. . . لو انك عاودت الكتابة) فنظر إليها نظرة كريهة كئيبة، انقلبت لها سحنته وشاهت صورته. لكنها عادت إلى الكلام وقالت: (ماذا يضرك أن تحاول؟ ماذا يدعوك إلى اليأس، وأنت بعد فتى لم تتجاوز السادسة والعشرين ومن يدري لعل لك في الحياة حظاً جديداً ننسى به ما قد مضى. .) فقاطعها، وهو يخاطبها في سخرية وتهكم: (نعم حظ جديد ما اكثر الحظوظ الجديدة اجل ولعمرك لقد أصبت الليلة حظاً جديداً. فلقد شاهدت بعيني رأسي رجلاً يلقي بنفسه في النهر. وجلست في مكاني أراقبه دون أن أحرك ساكناً.) (ماذا تقول يا دييجو؟ أأنت شهدت حادث انتحار الليلة؟) (اجل أنا شاهدت رجلاً ألقى بقبعته على البرابي. ثم صعد وألقى بنفسه في النهر في هدوء وسكون وجلست أنا في موضعي، منصتاً لصوت(21/81)
سقوطه في الماء، وكنت على بضع خطوات منه، جالساً في ظل شجرة، وكان كل ما فعلته أن جلست في مكاني وتركته يغرق. اجل ذلك كل ما فعلت ثم استولي على الذعر فجأة، حين أبصرت قبعته التي تركها خلفه. فلذت بالفرار) (أنت تعلم يا عزيزي انك لا تعرف السباحة. فاني لك أن تقوم بمساعدته وإنقاذه؟) كان في وسعي أن أصيح واستنجد. أو على الأقل أحاول إنقاذه. فقد كان إلى جانبي درجات من الحجر نازلة إلى النهر، لم يكن بيني وبينها غير مترين. أتعلمين إني رأيت هذه الدرجات. اجل رأيتها في وضوح ومجلاء. . ولكني تجاهلت رؤيتها. ثم لم تك إلا لحظة حتى قضي الأمر وغاب عن الإبصار) (ألم يكن بالمكان أحد سواك؟) (كلا لم يكن بالمكان غيري) (لا بأس عليك يا دييجو وماذا عساك أن تصنع وحدك. فلا تبتئس انك متعب منهوك القوى. ولقد هذا كل ما هنا لك ولقد أخذت ترتعد لسهول ما رأيته الليلة. والآن فلتذهب
إلى فراشك ونم لكي تنسى كل شيء) وتناولت يده في شيء من التردد وجعلت تمسحها بكفها. وأجابها على كلامها بهزة رأسه. وقال لها وهو يبتسم (عمتي مساءً يا أماه!)
(نم هانئأً يا بني!) لقد اثر في نفسها انه سمح لها بان تمسك يده وتمر عليها بكفها مراراً. وجعلت تمسح عينها من خلف مناظرها. ثم أطفأت المصابيح وذهبت إلى فراشها وهي تفكر في تلك اللحظة التي سمح لها فيها أن تلاطفه تلك الملاطفة. لم تمض ساعة حتى كان دييجو برنر في مجلسه الأول على البرابي، في ظل تلك الشجرة. وقد جلس كما كان يجلس من قبل ناظراً إلى النهر، ومدلياً رجليه. وكانت السحائب لم تزل تغشى السماء في لونها الرمادي الشاحب وكأن لم يتغير شيء مطلقاً. . بل لقد تغير شيء واحد: فان القبعة قد اختفت. واكبر الظن أن أحد رجال الشرطة قد رآها في تجواله فأخذها. نزل دييجو فجأة عن البرابي ومشى نحو الجسر. ثم انتزع قبعته عن رأسه. ووضعها في نفس المكان حيث كانت قبعة ذلك الرجل الغريب. ثم تبسم وقال: (وهاكم قبعة أخرى!) وكأنه ما فعل هذا لا ليمزح؛ كأنما أراد أن يمازح رجال الشرطة. وعاد إلى مكانه في ظل الشجرة. وجلس برهة يتأمل القبعة، معجباً بمنظرها وكأنه لم يكن له وجود. . ثم اندفع فجأة يضحك ضحكاً عالياً وحشياً. لقد بدت له القبعة كأنها فأر، وكإنما هو قطة ترقبها. . وجعل يتدلى من البرابي شيئاً فشيئاً. . ملقياً بنفسه إلى النهر على مهل. وقد امسك الحاجز الحجري بقبضتيه. فأحس(21/82)
بقلبه يثب وشعر رأسه يقف، ثم أحس بقبضتيه. . وقد أخذتا في الارتخاء. وانفرجت أصابعه؛ فهوى من النهر. . إلى الفناء. .؟(21/83)
الكتب
جان دارك
في سبيل الوطن
تأليف الأستاذ غانم محمد
هذا كتاب ألفه الأستاذ غانم محمد فاخرج به للناس درة من اثمن ما تحوي لجة التاريخ من درر، ونشر صفحة من اسطع ما طوى الدهر من صفحات. وهو بهذا الكتاب قد أذاع في الناس مثلاً أعلى للتضحية والفداء، ونموذجاً ساميا للوطنية المشتعلة الصادقة ممثلة في جان دارك، التي ارتفعت إلى مستوى القديسين وأولياء الله الصالحين. وما قولك في فتاة ريفية ساذجة لم تتجاوز من عمرها ثماني عشرة سنة قضتها في العمل المنزلي ورعي الغنم، تتصدى لإنقاذ الوطن من الاستعمار الإنجليزي الذي انشب أظافره في الأعناق ولم تكن لتزحزحه جحافل الجيوش. وكأنما أرادت عناية الله تبعث بهل لتخليص وطنها، فبينما هي جالسة في يوم من أيام الصيف في ظل دوحة ترعى غنمها. إذا بأوراق الشجر تهتز والأطيار تطلق أغاريدها عالية في الفضاء، فانتبهت جان من إطراقها ورفعت رأسها نحو الشجرة وأغصانها التي اهتزت فجأة. فشعرت برعدة تمشى في جسمها طولاً وعرضاً، ورأت السماء تنشق عن نور ساطع ينبعث من بينه هاتف يناديها ويردد اسمها ويقول لها في وضوح: (جان! جان! لا تخافي، كوني ابنة طيبة، فسوف تذهبين لنجدة ملك فرنسا) فتقدمت جان في ذهول نحو الصوت، فرأت أن التي تخاطبها هي القديسة كاترين وان التي بجوارها هي القديسة مرغريت، فانتفضت جان وتولد فيها شعور غامض من طرب وذعر، واعتزمت من فورها إنجاز ما تطلبه السماء، فالتمست حاكم
المنطقة تطلب إليه أن يرسلها إلى مليكها لكي تعينه بإذن الله فسخر منها هذا الحاكم ما وسعته السخرية، ولكنها أخذت تطلب وتلح في الطلب لآن أصواتها السماوية أمرتها بذلك وليس لها عن طاعتها مجيد، وما هي إلا أن أرسلها لحاكم في حرس عسكري إلى حيث ولي العهد - وقد مكر به الإنجليز وأقصوه على العرش بحجة عدم شرعيته لضم فرنسا إلى إنجلترا - فلم تكد تظفر جان بالمثول بين يدي الدوفين (ولي العهد) حتى أعلنت رسالتها التي تلقتها من القديسين الاظهار، والتي لم تزل الأصوات المقدسة تأمرها بها كل(21/84)
يوم وتلح عليها في النهوض بأعبائها، وهي أن ترفع حصار الإنجليز وتتوج ولي العهد ملكاً على فرنسا. فتشكك الملك في أمرها بادئ الأمر، وأرسلها إلى جماعة من العلماء، أخذت تناقشها وتحاورها ثلاثة أسابيع كاملة. ثم أصدرت الحكم الآتي (لقد تحققنا وبهذا نعلن، أن جان دارك المعروفة باسم العذراء مؤمنة صادقة الإيمان وكاثوليكية سليمة العقيدة، ولا شيء في شخصها أو لفظها يخالف الدين، وواجب الملك أن يتقبل ما تعرضه عليه من المساعدة، لأنه إذا رفض معونتها حرم نفسه معونة الله). فلم يسع الملك بعدئذ إلا أن يعين جان دارك قائداً عاماً للجيش الفرنسي!! جمعت جان فلول الجيش الهزيم، ونفخت فيه روحاً جديداً يشتعل جرأة وحماسة، وأخذت - وهي الفتاة الصغيرة الساذجة - تقود الجند من نصر إلى نصر، حتى أجلت الإنجليز، وردتهم أذلاء بعد عزة، ومهدت الطريق لتتويج ولي العهد شارل السابع ملكاً على فرنسا. وقد بذلت في هذه السبيل مجهود الجبابرة، وتعرضت لأخطر المواقف، حتى إنها في أثناء الهجوم على حصن (لي توريل) جرحت جرحاً بليغاً بين كفها ورقبتها، وسال منها دم غزير فوقعت على الأرض تبكي بكاءً مراً، وانتهز الإنجليز فرصة إصابتها وتجمعوا حولها قاصدين تمزيقها إرباً إربا، ولكن الفرنسيين قاوموهم وصمدوا لهم، ويقول مارك توين: (دار القتال حولها على أيهم يستولي عليها - وفي الواقع على فرنسا - لان جان في أثناء تلك الدقائق القليلة، كانت هي فرنسا للطرفين، فمن استولى عليها فقد استولى على فرنسا إلى الأبد، وكانت تلك الدقائق العشر هي أهم الدقائق التي دقتها الساعة في تاريخ فرنسا كله في الماضي وفي المستقبل. . .) أنجزت جان دارك رسالتها التي أمرتها بها أصواتها المقدسة، وهي تتويج الملك، وكان لها أن تعود إلى قريتها، ولكن نفسها الكبيرة لم تهدأ، وأصرت على أن تجاهد حتى تظهر أرض الوطن من كل إنجليزي! وبينما هي في جهادها على رأس شرذمة من أنصارها، تمكن منها أحد الأعداء. وكان فرنسياً موالياً للإنجليز، فجذبها من فوق جوادها وألقي بها على الأرض، وبذلك وقع ذلك الملاك الطاهر في الأسر، فسيقت جان إلى السجن، وما هي إلا أن اشتراها الإنجليز من أسرها بالمال، اشتروها بعشرة آلاف من الجنيهات، لينتقموا منها شر انتقام. وبعد أن قضت في سجنها مدة تجلجل في أصفاده، حيث شدت بسلسلة غليظة من الحديد إلى كتلة خشبية، يحرسها خمسة من الجند الأشداء، لا ينون عن توجيه الألفاظ القاسية(21/85)
والعبارات المخجلة، وهي أمامهم مطروحة ترسف في أغلالها، قدمت بعد ذلك إلى المحاكمة بتهمة السحر والشعوذة والكفر، واستولت المحكمة على مقاعدها - وكانت مؤلفة من ستين عضواً ونيفاً، كلهم من فطاحل العلماء - فاخذ هؤلاء الدهاة يقدحون أذهانهم في نصب الشباك لتلك الفتاة الطاهرة، وهي تصمد لهم، وتفحمهم، ولكن عبثاً حاولت، فلا بد من اتهامها. وبعد مؤامرات وتدبير حكم عليها بالإعدام حرقاً لأنها ضالة كافرة!! صعدت جان منصة الإعدام بخطى ثابتة، وشد الجلاد وثاقها ثم أشعل النار في الوقود المعد حولها، واخذ الدخان يتصاعد، ولما لفحتها السنة السعير صرخت من أعماقها قائلة: (لست ضالة ولا كافرة! وان ما تلقيته من الوحي كان من عند الله) ولما بدأت النار ترعى جسدها أخذت تصيح: (عيسى! عيسى! مريم! مريم!) وصارت تردد هذه الألفاظ حتى تدلى رأسها وفاض روحها. هذه قصة جان دارك مبتورة مدهوشه، وقد وفق الأستاذ غانم محمد في إبرازها وتصويرها توفيقاً بلغ حد الكمال. فليس هذا الكتاب واحد من الكتب، يتلى ثم يطوى وكأنه لم يكن، كلا! إنما هو فيض من الشعور القوي النبيل سيغمرك ويحتويك حين قراءته، وسيطبعك بطابع هيهات أن يزول أثره ما بقيت على الدهر إنساناً. اشهد أنني قضيت في هذا الكتاب ساعات كانت من أمتع ما جادت به الأيام، فاقل ما نتوجه به إلى الأستاذ المؤلف هو تهنئة تنبعث من الصميم.
1(21/86)
العدد 22 - بتاريخ: 04 - 12 - 1933(/)
حجاج ودوس. . . .
حلّقا في السماء الغائمة البعيدة! والأمل الطلق يبسم لهما خلال السحاب، والمستقبل الوضاء يشرق عليهما بين الضباب، والاستقبال المنتظر ينثر الأحلام على جناحي الطائرة! فالنسر الحديدي يزف في الهواء الندي زفيف الكوكب، والطيار الشاب وصاحبه يسبقانه بالخيال العجيب إلى أرض الوطن، فيريان البشر الفخور بفيض على جنبات الوادي، والمجد الاثيل ينبعث لهفان من غيابات الماضي، والشعب النبيل يتقاطر مزهوا إلى المطار الحاشد، والأعلام الخضر تخفق بالتحيات خفوق القلوب بالإكبار والحب، والطوائر العشر يهبطن على الثرى الحبيب هبوط المخيلة والعجب، واللقاءالحماسي الهاتف يغمر السرب الأول بالترحاب والإعجاب والشكر، وأكاليل القبل والغار تتوج الجباه المجلية في ميدان البطولة والنصر. . .!
كل أولئك كان يتمثله فؤاد، ويتخيله شهدى، حين غفا الحظ تلك الغفوة المشؤمة فإذا بالقدر الراصد يثب من بين أطباق الضباب فيصرع الأمل الناهض، ويراد النسر الطائر حطام حريق، والمستقبل الزاهر ساعة هول وضيق، والاستقبال الباهر مناحة أمة، وأكاليل الغار أكاليل نعش!!
اللهم لا رادّ لقضائك، ولا معقب لحكمك! جعلت الشهادة روح الجهاد، والتضحية طريق المجد، والفداء عبادة المثل الأعلى! ومصر ذات التاريخ الأزلي والتراث الخالد، قد كتبت هذا التاريخ بدماء شهدائها وأثلّت هذا التراث بجهاد أبنائها، وعرفت السماء قبل أن يعرف غيرها الأرض، فلا يشتد جزعها لهذا الحكم، ولا يرفض صبرها لهذا البلاء؛ وما حجاجٌ ودوس إلا شهيدان كتبت لهما السعادة أن يكونا في أول سجل من نوع جديد.
أن شهداءنا الذين قضوا في سبيل الوطن والحرية والعلم والطيران هم القوة الملهمة للشباب العامل، والحجة المفحمة على النشئ الخامل، والدلالة البينة على أن مصر لا تزال تعرف كيف تموت لتحيا، وكيف تشقى لتسعد! وأن الذين شهدوا أبناءنا يوم جنازة الشهيدين يتسعرون بالحماسة، ويتفجرون بالوطنية، ويهتفون بالتضحية، ليوقنون أن هذه النفوس الحرة التي تظاهرت على كبتها وإذلالها شتى العوامل تأبى أن تتكشف للخطوب إلا عن جوهر خالص وفطرة نقية.
أن الوادي يوم ضم إلى أحشائه بقايا ولديه الصريعين قد قوى في صدره نبض الحياة، ودب(22/1)
في جسمه دبيب الفتوة، لأن الوطن تميته الدموع وتحييه الدماء! فكلما كثرت القرابين على مذبحة، وفاضت النفوس على ثراه، أزداد قداسة واتقد حماسة وأشتد قوة، فتقريب الفداء المختار نكبة لأسرته وحياة لأمته، ومجد لوطنه!
التضحية بالنفس أو بالمال هي الوطنية الصادقة والزعامة الحق، لأنها أثر الإيمان الصحيح، ودليل الجهاد المخلص، ومتى بلغت النفوس حد الإيثار أعْيَت على الظلم، ونبَت على المذلة، فلا تجد حاكما يجور، ولا عالما يدجي، ولا سائسا يخاتل، ولا قائدا يَهن، ولا غنياً يشح، ولا وطنا يشقى، فهل لسادتنا وكبرائنا أن يكفكفوا ِشّرةَ الحرص في نفوسهم بالتضحية ? ومعاذ الله أن أقصد التضحية بالدم فليست من طبع الكهولة، إنما أقصد التضحية بالتهالك على الرآسة، والتهافت على المنصب، والتكالب على المال، ليصح الخلق المريض، ويأتلف الأمر الشتيت، ويعود الجائر إلى سواء السبيل.
برَد الله بالرضوان ثراكما يا شهيدي الواجب! لقد هززتما للمعالي همماً توشك أن تهمد، وذكّرتما المجد نفوسا تكاد أن تنسى، وأضفتم اسم مصر إلى أسماء الأمم التي روت بدمائها أصول الخير المشترك! ولئن كان مصرعكما عثرة أليمة في أول الطريق الجديد، فأنه حريّ أن يسدد خطانا فيه، ويظهر قوانا عليه، بحسن الاقتداء بالبطولة، وصدق الاعتبار بالخطأ؛ وما مات من رجالك من أحياك، ولا ذهب من مالك ما علمك.
طأطئوا الرؤوس يا قوم إجلالا لمصرع البطولة!!
إن شهيدينا قُتلا في السماء، وغسلا بالنار لا بالماء، ودُرجا في علم لا في كفن، وحُملا على مدفع لا على نعش، وكتبا في سجل الخلد في دفتر (الصحة). فهل هذه الموته العظمى تفت في الاعضاد وتفل من غرب العزيمة؟
ان الأمة التي لم تكد تأخذ بأسباب الطيران حتى يبادر إلى خوض أهواله فتاة من فتيانها، ويسبق إلى الشهادة في سبيله فتيان من فتيانها، لا يستطيع أن يكسر من ذرعها حادث، ولا يتكاءدها في طريقها إليه عقبة.
سلام الله على أشبالنا في الجهاد، وعلى أبطالنا في الاستشهاد، وعلى شهدائنا في قدس الخلود!
أحمد حسن الزيات(22/2)
الأساليب
للأستاذ أمين الخولي
المدرس بكلية الآداب
في مصر اليوم أساليب تمتاز بامتياز البيئات، وتختلف باختلاف الثقافات، ويذهب كل أناس بأسلوبهم لا يعدلون به أسلوبا، ولا يرضون منه بديلا، بل لا يرون له مثيلا؛ ونحن بين ذلك كله في حيرة مما نأخذ وندع.
وما أعني الأساليب الأدبية ولا الأنماط الفنية، فلعل الأمر في ذلك هين يسير، إنما أعني أساليب التفكير وطرائق التعقل ومذاهب الناس في تقرير الحقائق، وتقبل ما يقبلون منها ورفض ما يرفضون في مصر اليوم بيئات فكرية متعددة، وطرائق تهذيب مختلفة الأصول متباعدة الأسس، حتى لترى المسلمات المقررة عند فريق، تنكر في عنف بل في سخرية أحيانا عند آخرين، ونحن على هذا في مفترق طرق متشابكة؛ وشباننا الآخذون سبل الحياة في حيرة، لا يجدون معالم واضحة، ولا يدرون أين يذهبون، وحين يلتمس أولئك الشبان الحقيقة من هدأة إدلاء يحملون الأقلام في هذا البلد لا يجدون إلا من يداوى الاختلاف بالفرقة؛ ولا تستقر الحياة الفكرية لأمة هذا شأنها. وإذا كانت مصر قد خلصت من تعدد العناصر، وتكاثر اللغات؛ واختلاف الأديان والنحل فأنها لما تظفر بوحدة المزاج النفسي، وتجانس الأسلوب الفكري؛ وليس ذلك على أمة ناهضة بايسر خطرا وأهون شأنا من النواحي الأخرى في الاختلاف.
وما جردت اليوم قلمي لأكتب سداً لفراغ أو تلبية لطلب كأكثر ما يكتب الآن، بل تأثرا بحالة أشهدها كل يوم حين أغدو وأروح بين الجامعتين الأزهرية والمصرية، وأعانيها كلر يوم مع هؤلاء الشبان الذين لا يكاد يهون معهم التفاهم المنظم، بل يشق ويعسر إن لم أقل يستحيل. أرى في الجامعتين محافظين مسرفين، ومجددين مسرفين، وقد أرى هؤلاء، حيث لا يتوقع أن أراهم، وأجد أولئك حيث لا يدور بخلدي أن تقع عيني عليهم، كما أرى في الناحتين من لم يتجددوا ولم يحافظوا، ولكل أسلوب فكري مضطرب فاسد ينتهي به إلى نتائج تزيد مسافة الخلف بينه وبين الآخرين. وما إدخال القارئ في حاجة إلى شيء من المثال على ذلك، فهو وأجده حيث يرسل بصره، ويصيخ بإذنه جليا واضحا في صحافتنا(22/4)
اليومية والأسبوعية والشهرية، وفي أنديتنا ومجامعنا، وفي المناقشة تجري بين متعلمين في أي مكان؛ وهي حال لا ينخدع عنها أحد مهما تجاهلها؛ يشعر بها كل ذي أسلوب من تلك الأساليب فتجد صداها في أسف صاحب القديم أسفا عميقا على ما يكون من طيش أولئك الذين لا يبرءون عن الهوى والنزف، ولا يعفون من الاتهام في دينهم ووطنيتهم. كما تجد صورة ذلك الافتراق في ضجر المشتطين وتبرمهم بتلك التقهقرات التي تصيب التدرج العقلي، وتعوق الحرية الفكرية؛ وفي سخطهم على هاتيك الرجعات التي تنتكس بها النهضة ; وكما تجد هذا الافتراق في الأساليب عند المترددين بين الطريقين المحاولين التوسط، حين يقصون من الجديد ويمطون في القديم، يرجون أن يتقابل هذا وذاك ويتوافقا؛ في كل هؤلاء تجد أساليب من التفكير مختلفة، فتشعر في ألم باضطراب كياننا الفكري، وتجد هذا الاضطراب يزداد شدة وخطورة، حين تتحكم في التفكير نزوة سياسية، أو يصل أصحاب الرأي حبلهم باعتبارات دينية، عند ذلك يشتد اضطراب أسلوب الفكر حتى يصير قلقا مزعجا وانتكاسا عجيبا، والويل كل الويل للحقيقة؛ بل الويل كله لشبابنا خاصة حين يضيع منه جيل وجيل ضحية هذا الاضطراب، وحين يقبع الخائفون من هوى السياسة، ومجازفة أهل الدين، فيسكتون طمعا في السلامة؛ أو يروجون لما هو في سريرتهم خطأ بل ضلال. فتضيع الحقيقة ويضيع الشبان قربانا لهذا الحذر وحب السلامة.
لقد أخشى أن يتلكأ قلمي أو يتوقف حين ثارت ذكرى هذه التهديدات، فيؤثر الإخلاد الوديع إلى الهدوء؛ لكني حامله على إلا يفعل، وماض في نقد تلك الأساليب مهما غضب أصحابها ومصطنعوها مبتغيا وجه الحقيقة وحدها. غير ملوث ما أقول بشيء من هذه المهاترة التي تسود جو المناقشات عندنا فتكون شرا على شر.
في مصر نفر أسلوبهم الفكري أن يضعوا العقل في مكان الإنسان من يد الموت كما يشبهه طرفة بن العبد في قوله:
لعمرك أن الموت ما أخطأ الفتى ... لكأ لطول المرخى وثنياه باليد
يجول العقل في مسارح الكون على أن يظل حبله في يدهم، أويد الدين كما يفهمونه هم لا كما هو في طبيعته وحقيقته، فحيث خلوه سرح، وحيث كفوه انكف، وحيثما هزوا حبله فهو خاطئ. وتقول لهم أن عنيتهم بهذا التحكم في العقل أنه عاجز عن استكناه كل شيء والنفاذ(22/5)
إلى صميم الحقائق كلها فنحن معكم، لكن دعوا العقل يشعر من نفسه بهذا العجز، ولا تفرضوا عليه العجز فرضا وسيطرة؛ بل دعوه يعرفه، بالتجربة، فيأبون إلا أخذه بالحبل. وتنبئهم أن مسالك العقل في الوصول إلى الحقائق مختلفة، ومنا ما لا سبيل إلى رد نتائجه، ولا حيلة في نقضها، فهو حين يعتمد التجربة ويحدث عن واقع لا خير لكم في مناقشته، ولا سبيل لكم إلى كفه وأن تفعلوا فهو متمرد يخشى عليكم خطره، فيأبون ألا الحبل. تتحدث إليهم مثلا عند تدرج المعارف البشرية وترقيها وما يشاهد من مظاهر ذلك البارزة في طبقات الناس، فيجابهونك بأن آدم أبو البشر قد علمه الله الأسماء (وعلمه الله المسميات أيضا) وهو رسوله، فليس يصح بعد ذلك ما تقولون من هذا التدرج. وليس الأمر عندهم إلا أن رأس الدنيا في قدمها وعقلها في عقبها؛ ولا يجديك أن تفرق بين الخيرية الخلقية النفسية، والمعرفة العلمية؛ ومهما تساهلت أو تنازلت لا تصل منهم إلى رضا واطمئنان. يسمعون أن الكائن المادي والمعنوي يتأثر ببيئته؛ ويتبادل التأثير مع جميع ما حوله؛ فلا يرضون أن يكون الفقه الإسلامي مثلا قد جرى عليه ذلك وإصابته هذه الفضيحة! ويضربون الأرض برءوسهم معلنين أنهم لن يسمحوا بأن يقال ذلك.
مثل هذا الأسلوب خاطئ. يضيع ما يريد الدين أن يخفف به غلواء العقل ونزقه، ويزج أصحابه بالدين فيما ليس من شأنه؛ ويضيعون معالم الأشياء، وحدود الحقائق ليوجدوا تحكما في العقول البشرية، ويبنوا لها محابس ويضعوا عليها إغلاقا؛ وقد طبعها الله وثابة نفاذة متغلغلة محلقة.
وفي مصر قوم أسلوبهم أن يرسلوا العقل، أو قل يرسلون أنفسهم إرسالا، فيقولون بالظنة، ويحكمون بالشبهة، ويقطعون بالبداء، ويجزمون باللمحة؛ هذا إذا كان الحكم لهم، فأن كان من غيرهم طلبوا من الدليل ما لا يطلب، وجعلوا العقلي التجريبي ; في موضع الظني، فتارة يقلبون الحقيقة، فكما يسمون النتيجة التجريبية علما، يسمون النتيجة النظرية علما، ويسمون الفرض الاضطراري علما، ويسون الحل المؤقت الذي يبعثه العجز عن الحقيقة الصحيحة علما، فيزعمون أن ذلك كله من مملكة العقل التي هو فيها حر مسيطر ليس لأحد أن يحد من سلطته. يريدون أن تكون الحقيقة الطبيعية، والنتيجة الرياضية، والرواية التاريخية والخاطرة الفنية، كل أولئك عقليات علميات لا فارق بينها؛ ولها جميعا أن(22/6)
تضرب وجه الدين، وتصفع قفاه ساخرة في غير حياء ولا تقدير حتى لآداب اللياقة؛ وطورا على أساس هذه التسوية الغريبة يرون أن العلم إذا لم يلمس وجود شيء فليس موجودا ولا يصح لعاقل أن يتحدث عنه، ومادام الإله لم يختبر في المعمل فلا معبود ولا دين؛ يشكون والشك حق فطري لا ينكر عليهم؛ لكنهم لا يلتمسون الأدلة كما هي الخطوة الأولى بعد الشك، بل يطرحون ما شكوا فيه ويهملونه. وكذلك يفعلون حين يشتبهون ويقوى في تقديرهم الاشتباه، فيعدون اشتباههم آية عجز كل محاولة للإثبات، وفشل كل دليل، فيطمئنون إلى بطلان ما اشتبهوا فيه؛ وتقول لهم ان الأسلوب التجريبي لا يقبل مادون التجربة مادامت مستطاعة، فاحتكموا إليه متى أمكن، وهاتوه إذا ما ادعيتم؛ أولا فأحسنوا تقدير ما دونه من الأدلة فأساليب البحث مختلفة، ولكل فرع أسلوبه؛ ونحن في أساس التجمع، ونظامه، والشريع له، وفي حقبة الحق، وخيرية الخير، وغير ذلك لا نملك التجربةولا المعادلة الرياضية فنثبت بما عداها ونسلم؛ فلا هم مثبتون بالتجربة إذا ادعوا، ولا هم قابلون من غيرهم مثل دليلهم إذا أدعى؛ وتحدثهم عن أن بطلان الدليل لا يستلزم بطلان المدلول، وأن ما تجهل أكثر مما تعلم فيسخرون بهذه العبارات القديمة؛ ويناقضون أنفسهم في تقرير ما يرفضون مثله، ورفضمثل الذي يقررون.
ذلك أسلوب خاطئ؛ لا يحدد قيم المعلومات، ولا يطلب لكل دعوى دليل مثلها، ويضيع معالم الحقائق في النفس، فيخضع الإنسان للفرض والظن إخضاعه إياه للمجرب المطرد فيفسد التقدير، ويسلح أعداد الحرية الفكرية بأغلاط أولئك المتحررين خطأ، ويضيع هيبة العلم. ويعكر ما بينه وبين الدين، بل ما بين العلم والأخلاق مما له أثره العنيف الخطر في حياة الجماعة.
في مصر من أسلوبهم أن يهجموا على مخالفهم في الفكرة قبل تأييد فكرتهم؛ ولو كان هذا المخالف يتناول الموضوع من غير الناحية التي يتناولونه هم منها، وبطريق غير طريقهم؛ فتراهم يوازنون بين الفكرتين ويفاضلون بين الرأيين؛ ولما يبحثوا أو لابد لهم بأن يبحثوا إلا واحدا منهما؛ بل هم لم يفرغوا بعد من بحثهم وتأييد رأيهم، ويزيدون ذلك بالا يجعلوا الموازنة علمية، بل يقلبونها موازنة خلقية أو فنية، فلا يبينون الخطأ ولكن يقولون هذا تغرير أو هذا سخيف وما إلى ذلك مما يغضب ويؤلم، دون أن يقدم نحو الصواب أو(22/7)
يؤخر. تكون مسألة بحثهم تاريخية او أدبية أو هبها عالمية بحتة قد تولوا درسها على أساس لهم في ذلك فانتهوا إلى نتيجة ما، فهم لا يشتغلون بتقريرها وتأييدها، وتقوية مواضع الضعف فيها، على ما تتطلبه أمانة البحث، ويقضى به نظام الإحصاء والتفرد، بل يدعون ذلك إلى الاشتغال بأن ما تقره ناحية أخرى أو باحث آخر ليس إلا تضلاً مثلا، أو هو خداع أو ما أشبه؛ وهذه الناحية وذاك الباحث قد عرض للموضوع بغير طريقتهم وعلى غير اساسهم، ويزيد النار تأججا أن يكون الموضوع مما للعقيدة مثلا به صلة؛ فنحن نعرف أن الوشائج متصلة بين الدين والفن، وبين الدين والعلم في أشياء كثيرة؛ فالأنبياء والرسل مثلا من حق التاريخ، والقرآن من متناول الأدب والتاريخ فلا جدوى على الحقيقة مطلقا في أن ينتهي باحث في مثل هذه الأشياء إلى رأى استقرائي أو حكم تاريخي فيكون همه تأكيد أن غيره من كلام الدينيين خداع أو اتجار أو نحو ذلك مما يعزز حكما ولا يدعم رأيا؛ بل لا ينفي عنه مظاهر ضعفه على حين يثير المعتقدين في غير طائل؛ ويفقد الحقيقة فرص الظهور والاتضاح، ولو قرر ما يقرر من ذلك في أسلوب سليم وبحث مستقيم ثم لوح ملوح بمخالفة ذلك للدين، لوجب عندي أن يترك لأهل الدين أمر التوفيق او التأويل؛ أو مالهم مخلص فحمل كل عبئه. ولو رؤى وصل الناحتين لا بد مع التزام حدود التخصص، والاحترام الحقيقي للحرية العقلية للزم السعي أولا إلى رال الدين بهذه الشبهة يسألون كشفها ويكلفون دفعها، فعليهم في ذلك واجبهم يحسنونه أو يحرجون بعجزهم، ويمضي العالم او المؤرخ أو الأديب وقد سلم له أنصاره ووقته وبحثه لا يخسر في ذلك شيئا على غير جدوى، ولا يثير إلا مخالفة عاقلة قد تكشف له عن نقص في رأيه أو تثبيت صحته حين تتهاوى السبة عنه.
تلك أساليب بحث وضروب تفكير لها خطرها في تمزيق وحدة الشبان وإفساد الجيل، وقطع أواصر التآلف النفسي والتمازج الروحي قطعاً يعوق التعاون الاجتماعي الذي يتطلبه الوطن ملحا من هذا الجيل، فليست الخسارة من وراء اختلاف تلك الأساليب عقلية فحسب، ولا فنية فحسب، ولا خلقية فحسب، ولا إجماعية فحسب، بل هي كل أولئك مجتمعة، وما أهولها!!
وفي مصر أساليب أخرى فكرية أفردها بمقال آخر؟(22/8)
أمين الخولي(22/9)
الذوق العام
للأستاذ أحمد أمين
يظهر لي أن للأمة ذوقا عاما كما أن لها رأيا عاما وعرفا عاما لكل دائرة اختصاص لا يتعداها. فالرأي العام مداره الآراء والأفكار والمعقولات، والعرف العام، مداره العادات أما الذوق العام فمداره الفن والجمال.
وكما أن هناك قدرا مشترك بين المصريين مثلا في لونهم وتقاطيع وجوههم، وملامحهم، فنستطيع في سهولة ويسر أن نميز المصري من الأجنبي حتى في البلاد الأجنبية، وكما أن هناك قدرا مشتركا في الرأي العام المصري في النواحي السياسية والاجتماعية يميزه من غيره من الرأي العام الأوربي، فكذلك الشأن في الذوق العام.
يتجلى هذا في كل أنواع الفنون كالطعوم، فلكل أمة أنواع من الطعوم تستلذها وتغرم بها، هي نتيجة ذوقها، ومن أجل هذا كان طهي كل أمة يخالف طهي الأمة الأخرى، ولا يقتصر هذا على نوع المأكول بل يتعداه إلى كيفية أعداده، وبذا نستطيع أن نحكم على الأمة بأنها تستجيد كذا من ألوان الطعام وأنواعه، على حين أن الأمة الأخرى لا تستسيغه ولا تتذوقه.
ومثل الطعوم غيرها من الفنون، فالذوق العام المصري يقدر الموسيقى المصرية أكثر مما يقدر الموسيقى الغربية، بل لا يستلذها ولا يرى فيها جمالا، كما أن أكثر الغربيين لا يجد في الموسيقى الشرقية طعما، ولا يقيم لها وزنا.
وكذلك أشكال البناء وما يستجاد منها وما لا يستجاد وأنواع الملابس وألوانها وما يستجمل منها وما يستهجن: كلها خاضعة للذوق العام في الأمة. ولكل أمة في هذه الشؤون ذوقها يميزها من غيرها ويضعها في درجة خاصة من سلم الرقي. وهذا الذوق العام في كل أمة هو الذي يقومّ الأدب ويتذوقه، وهو الذي يجعل لكل أمة أدبا خاصا، فالأدب المصري مثله مثل الطعوم المصرية، والغناء المصري والبناء المصري إنما يتذوقه المصريون بذوقهم الهام ولا يتذوقه الغربيون بذوقهم العام، كما لا يتذوقون طعومنا وغناءنا، فالنوادر المصرية التي تعجب المصري حتى تبعثه على أشد الضحك وأعمقه قد لا تحمل الأجنبي على التبسم، والقصص و (الحواديت) المصرية التي تسترق لب المصري وتستهويه، قد لا يأبه لها الأوربي ولا يعيرها التفاتا إذا ترجمت له، نعم قد يعجب المصري بآيات من الآداب(22/10)
الغربية ولكنه لا يتم له ذلك إلا بعد أن يحور ذوقه ويمرنه تمرينا طويلا على تذوق هذا الأدب، كما يمرن المصري ذوقه على استجادة الموسيقى فيستجيدها بعد طول المران، ولكن هذا ليس من الذوق العام في شيء.
كما لا نستيطع أن ننكر أن هناك نوعا من الأدب عالميا إذا ترجم إلى أية لغة أستجيد كنوع من القصص، ونوع من الأمثال، ولكن سبب ذلك أن هناك قدرا مشتركا بين الأذواق، كما أن هناك قدرا مشتركا بين العقول، فاستجادة المصريين لبعض الأدب الغربي أو الغربيين لبعض الأدب العربي، شأنها شأن اشتراك الناس جميعا في استجادة بعض الطعوم أو بعض قطع الموسيقى، وهذا لا يغير فيما ادعينا شيئا من أن لكل أمة ذوقا عاما خاصا بها.
وهذا الذوق العام للامة يستبد بالأفراد استبدادا لأحد له، فالناس جميعا خاضعون لأنواع شتى من الاستبداد كاستبداد النظم السياسية، واستبداد العقول، واستبداد الرؤساء ولكن هذه كلها محدودة الدائرة، أما استبداد الذوق العام فلا حد له، ولا سلطان يشبه سلطانه، ذلك أنه بجانب الذوق العام للأمة ذوق خاص بالفرد، فكل فرد له ذوقه الخاص يستجيد به بعض الأشياء ولا يستجيد بعضا، ويستحسن به ويستهجن، ويستجمل ويستقبح، ولكنه في ذلك مسلوب الحرية خاضع خضوعا تاما للذوق العام. قد يشتد الحر فلا يطيق الإنسان نفسه، وقد يكون في نوع من اللبس ما يخفف وطأته ويكسر من حدته، ولكن لابد أن تخضع للذوق العام، فتلبس الخناق ورباط الرقبة وما إلى ذلك خضوعا للذوق العام وخشية من استهجانه، فليس إنسان يلبس ما يجب ولا يأكل ما يحب على النمط الذي يحب، ولا يتكلم كما يحب على النمط الذي يحب، إنما هو في كل ذلك عبد أسير ذليل مقيد مغلول، في كل خطوة يخطوها، وفي كل نفس يتنفسه (لقد قيدتنا القوانين بأعمال يجب أن نعملها، وأعمال يجب أن نتجنبها، ولكنها ليست بشيء بجانب أوامر الذوق العام ونواهيه) وعقوبات الذوق العام سريعة فاتكة متنوعة، فهو يعاقب بالاحتقار والازدراء ويعاقب بالنظر الشزر، والكلمة الجارحة القاسية، ويعاقب بالنقد والتجريح، وهو في كل ذلك لا يسمع دفاعا ولا يقبل عذراً، ولا يؤجل عقوبة، ولا يقبل حكمة نقضا وإبراما، ولا يعرف حكما مع إيقاف التنفيذ، لا شيء من ذلك كله ولكن حكمه حكم صارم، قاس ظالم.
وكذلك الشأن في كل نوع من أنواع الفنون، فإذا أشتهر مغن وأعجب ذوق الجمهور فلا حق(22/11)
لك أن تعيبه، وإذا عبته فعبه سرا، وحذار أن تجهز بذلك فيكون دليلا على فساد ذوقك وضعف حسك.
ومثل ذلك في الأدب، إذا قال الناس أن سحبان وائل خطيب يضرب به المثل في البيان، فيقال أفصح من سحبان فقل مثلهم وإن كنت لم تقف على شيء يثبت فصاحته ويبرهن على بلاغته، وأن فتشت عن كل أقواله فلم تجد إلا اسطرا ثلاثة قال فيها أن الدنيا دار بلاغ، والآخرة دار قرار، الخ ولم تستجد هذا فاتهم ذوقك وكرر قولهم: (أبلغ من سحبان)
وإذا قالوا أن من أبلغ خطب العرب خطبة قس بن سادة: أيها الناس اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فأنتفعوا، الخ، فقل كما قالوا إن لم تتذوق وإذا قالوا إن النابغة الذبياني فضل الشعراء بقوله:
هذا غلام حسنٌ وجهه ... مستقبل الخير سريع التمام
للحارث الأكبر والحارث ال ... أصغر والأعرج خير الأنام
ثم لهند ولهند وقد ... أسرع في الخيرات منه أمام
خمسة آباءهمُ وأماتهُم ... همْ خير من يشرب صوب الغمام
ثم قرأتها ولم تشعر لها بطعم، ولم ترعك ألفاظها ومعانيها فقل أن النابغة فضّل الشعراء بها، وإلا أتهمت في ذوقك ورميت بضعف أدبك.
وكذلك فأخضع دائما لحكمهم وذوقهم، فمن قالوا فيه أنه إمام الأدب أو سيد الشعراء غير مدافع، أو قالوا أنه شاعر متكلف، أو أديب متخلف، فإياك أن تحدثك نفسك بأن تقلب أوضاعهم أو تخالف إجماعهم.
هكذا استبداد الذوق العام، ولست تستطيع الخروج عليه وإعلان استقلال ذوقك عنه إلا بثورة عنيفة على الذوق وتعرض لكل أنواع العقوبات الذوقية.
ثم أن كل ما ترى في الأمة من مظاهر القبح وإقراره فعلته ضعف الذوق العام، فإذا رأيت الأمة تصدِف عما في بلادها من ازدهار، ولا يخفق قلبها لرؤية جمالها وجمال طبيعتها، ولا تتغزل في محاسنها، فأعلم أن سبب ذلك ضعف الذوق العام، وإذا رأيت الأمة لا تقدس النظافة ولا تشمئز من القذارة اشمئزازها من أبغض شيء وأقبحه، فلعل ذلك بضعف الذوق العام، وإذا رأيتنا في المجتمعات لا نرعى نظاما ولا ننصت لفن أو ممثل ولا نتقيد بأدب(22/12)
اللياقة فقل أنه ضعف الذوق العام وهكذا.
ومن الغريب أن هذا الذوق العام الذي يستبد بي في مأكلي وملبسي ومسمعي وأدبي (كما رأيت) لا يستبد في هذه الأشياء، ولا يبدي أي سلطان على هذا النوع من الضعف، فهو لا يحتقر المرء لايقوّم الزهر، ولا يزدري من يسيء في المجتمعات العامة، ولكن يزدريني إذا خرجت من غير طربوش أو رباط رقبة في يوم حار، وسبب ذلك أن الذوق العام لا يعاقب إلا على ما يتذوق، وفي دائرة ما يفهم، فهو إذا قوم مناظر الطبيعة عاقب من لم يتذوقها، وإذا أدرك جمال النظام وآداب المجتمعات عاقب من مسها بسوء، ولما يصل إلى هذه الدرجة.
وبعد فشأن الذوق العام شأن الرأي العام كلاهما قابل للإصلاح والرقي، فالرأي العام ضعيف وسخيف إذا صدر عن أمة جاهلة، ويرقى الرأي العام بانتشار الثقافة وتعميم التربية، ويدل تاريخ كل أمة على أنها في أول أمرها لا يكون لها رأي عام، ثم تمنح أفراد قليلين أقوياء، زعماء مثقفين يوفقون في دعوتهم فيخلقون رأيا عاما، وأن هؤلاء، القادة يجب أن يُسبقوا بنوع من الثقافة العامة في الأمة حتى تستطيع أن تفهم قادتها وآراءهم، فيأتي هؤلاء القادة ويكوّنون إرادة عامة للأمة، ويؤلفون بين اتجاهاتها ويكونون منها وحدة. ومما نأسف له أن مجهودات كبيرة بذلت في ترقية الثقافة العقلية، وبرامج كثيرة وضعت في تعميم التربية العقلية وفي تكوين الرأي العام، ولكن لم توضع برامج لتربية الذوق العام، ولا بذل مجهود في ترقيته ورفع مستواه، فكانا لنا زعماء سياسيون وزعماء عقليون ولكن لم يكن لنا زعماء ذوقيون.
وفي ظني أن الذين يبحثون في ترقية الفنون عامة من موسيقى ونقش وتصوير وأدب مخطئون كل الخطأ، لأنهم يحاولون أن يصلحوا النتائج من غير أن يصلحوا المقدمات، فليس الفنان في الأمة الا صدى لذوقها العام، فإذا صح الذوق صح الفن وإلا فلا ليس الفن والأدب من جنس النباتات التي تنبت من تلقاء نفسها. ولا هو مما يظهر مصادفة واتفاقا وإنما هو نتيجة لازمة لعوامل طبيعية سأحاول أن أبينها في مقال تال.
أحمد أمين(22/13)
صور من التاريخ الإسلامي
(4)
محمد بن القاسم الثقفي
73 - 96هـ
للأستاذ عبد الحميد العبادي
لو أن من يدرس تاريخ الأمة العربية فتش في ثنايا هذا التاريخ عن شخصية تتمثل فيها سجايا تلك الأمة الكبيرة وعناصر قوتها لما وجد أجمع لتلك السجايا وهذه العناصر من شخصية الفتى الشهيد والفاتح العظيم، والشاعر الحساس، محمد بن القاسم الثقفي الذي شرع في غزو السند في السابعة عشرة من عمره وأتمه لما يتجاوز الثالثة والعشرين فأدخل بذلك في الهند الثقافة الإسلامية التي يدين بها في الوقت الحاضر زهاء ثمانين مليونا من أهلها. أنها شخصية تجمع إلى فتاء السن حنكة الكهولة، وإلى خشونة الجندي رقة الشاعر وإلى الحرص على الدنيا زهد الفيلسوف وطمأنينة الحكيم. . وكل هذه صفات أتصف بها العرب في نهضتهم التاريخية الكبرى التي رجت العالم القديم فنبهته من سباته ورسمت للتاريخ وجرى جديداً! وهو محمد بن القاسم بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي، فهو من ثقيف المشهورة في الجاهلية والإسلام بقوة الدهاء وسعة الحيلة ومضاء العزيمة، ثم هو أبن عم الحجاج أمير العراق ورجل الدولة الإسلامية في الربع الأخير من القرن الأول الهجري. يلتقي نسبهما في الحكم بن أبي عقيل. ولد حوالي سنة 73هـ، ونقع الحوادث مثار وريح الفتن نكباء، والسيوف يتجاوب صليلها في فارس والعراق والحجاز وأفريقيا، فجعل غلامنا يتنفس في جو مكفهر عابس ولقف صناعة الحرب سماعا وعيانا، ثم شاء ربك رحمة منه بالناس أن يكون إلى جانب هذه الحياة القلقة المضطربة الخائفة حياة أخرى آمنة هادئة هي حياة الأدب الذي يتمثل في الشعر الغنائي الرقيق المأثور عن أبي ربيعة وجميل وكثير والنميري وغيرهم من شعراء ذلك الزمان. فعشا نظر الفتى الثقفي الحائر إلى ذلك النور المشرق. فجاءه واهتدى به، وعفت نفسه العطشى إلى ذلك المورد العذب فورده وارتوى منه، وبذلك أعتدل مزاجه، ورقت حواشي نفسه وأصبح وهو في السابعة عشرة من عمره أشرف ثقفي في زمانه كما يقول صاحب الأغاني، وأقبل الحجاج وهو هو في نقد الرجال(22/14)
وتمييز الكفايات بعقد به آمالا كباراً، ويرشحه على حداثة سنه للأمر الجليل بعد الأمر الجليل.
لم يكد ينتصف العقد التاسع من القرن الأول الهجري حتى كانت الفتن التي صدعت وحدة الدولة الإسلامية من بعد معاويةقد ركدت ريحها، فانتهت ثورة ابن الزبير بالحجاز، وكسرت شوكة الخوارج بفارس، وسكنت العاصفة الهوجاء التي أثارها أبن الأشعث بالعراق. هنالك عاود العرب حبهم القديم للفتح والتغلب، وكان الحجاج واضع سياسة ذلك الاتجاه الجديد ومنفذها، فغزا قتيبة بن مسلم ما وراء النهر وأوغل فيها، وتوطد سلطان الدولة ببلاد عمان وغزا موسى بن نصير المغرب وقرع أبواب الأندلس نفسها. وقد أراد الحجاج أن تأخذ ثقيف بنصيبها من شرف هذه الفتوح الجسام، فأغزى أبن عمه محمد بن القاسم السند التي هي مدخل ذلك العالم الزاخر بالناس والحافل بالخيرات، والذي يسمى بلاد الهند. الحق أن الحجاج لم يبتكر سياسة غزو الهند فقد عرف هذه البلاد عرب شرقي الجزيرة منذ الجاهلية، وطالما ركبوا البحر إلى شواطئها مستبضعين وتجارا، فلما قامت الدولة الإسلامية طمعوا في غزوها وتملكها. يروي صاحب فتوح البلدان (أن عمر بن الخطاب ولى عثمان بن أبي العاص الثقفي البحرين وعمان سنة 15هـ فوجه أخاه الحكم إلى البحرين ومضى إلى عمان، فأقطع جيشا إلى تانه (قريب من موقع بومباي الحاضرة) فلما رجع الجيش كتب إلى عمر، فكتب إليه عمر: يا أخا ثقيف حملت ذودا على عود، وأني أحلف بالله أن لو أصيبوا لأخذت من قومك مثلهم)، وتتابعت غارات عرب البحرين من عبد القيس وغيرها على شواطئ الهند وجزائرها وخاصة جزيرة سيلان التي كان يقال لها إذ ذاك (جزيرة الياقوت) لحسن وجوه نسائها، فمن هؤلاء العرب من أفلح في المقام بها ومنهم من عاد إلى بلاده وملء يديه السبي الرائع والمغنم الوافر. هذا من ناحية العرب، أما من ناحية الهند أنفسهم فقد (هاجرت منهم في الجاهلية طوائف إلى رأس الخليج الفارسي وخضعت للدولة الفارسية القديمة، فلما مصرت البصرة نزلوهاوحالفوا من بها من العرب.)
فلما كان زمن الحجاج أغزى عماله على مكران ثغر السند فكلهم كان ينكب أو يقتل، وأرض السند عبارة عن حوض نهر السند العظيم تنزلها قبائل عديدة قوية نذكر منها الزط والسيابجة والميد والبرهة. وكان بالسند بلدان كثيرة منتشرة في أهضام الأودية ورؤوس(22/15)
الجبال منها الديبل، وكانت ثغر السند قبل كراتشي الحاضرة وبرهمنا باذوراور والملتان. وكانت هذه البلدان قوية بمعابدها البوذية القديمة وخاصة معبد الملتان. قال البلاذري (وكان بُد الملتان تهدى إليه الأموال، وتنذر له النذور، ويحج إليه السند، ويطوفون به ويحلقون رؤوسهم ولحاهم عنده، ويزعمون أن صنما فيه هو أيوب النبي صلعم) أما من الناحية السياسية فقد كان يتوزع بلدان السند وقبائلها عدة ملوك متقاطعي الكلمة مختلفي الأهواء وكان أقواهم سلطاناً إبان غزو العرب للسند ملك يقال له داهر، فهو الذي أشجى قواد الحجاج وأذاقهم مرارة الهزيمة المرة بعد المرة. والطريف أن مصرع هؤلاء القواد لم يحمل الحجاج على الجد في قتال داهر بمقدار ما حمله عليه استغاثة امرأة عربية اعتدى عليها وعلى نسوة عربيات كن معها بعض قراصين البحر من أهل السند التابعين لداهر.
وذلك أن ملك جزيرة الياقوت فيما يروي البلاذري، أراد التقرب من الحجاج فأهدى إليه نسوة ولدن في بلاده مسلمات ومات آباؤهن وكانوا تجارا، فعرض للسفينة التي كن فيها قراصين من ميدالديبل فاخذوا السفينة بما فيها، فنادت امرأة منهن من بني يربوع: يا حجاج! وبلغ الحجاج ذلك، فقال يا لبيك! وأرسل من فوره إلى داهر يسأله تخلية النسوة. فأجاب بأنه أخذهن لصوص لا قدرة له عليهم. فأغزى الحجاج اثنين من عماله ثغر السند فكلاهما قتل، فأهتاج الحجاج وتجرد لقتال داهر، وكان قد أعد محمد بن القاسم لغزو الري فلما حدث ما حدث على حدود السند رأى في هذا الشاب من يرأب الصدع ويدرك الثأر، فرده عن غزو الري وعقد له على مكران وثغر السند، وأمره أن يقيم بشيراز حتى توافيه القوة التي أخذ يعدها لقتال داهر.
كانت هذه القوة مؤلفة من جيش وأسطول، أما الجيش فكانت عدته زهاء عشرين ألف مقاتل منهم ستة آلاف فارس من جند الشام الذين كانوا عدة الدولة الأموية ومعولها والذين وطئوا للأمويين أكناف ملكهم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا. وأما الأسطول فكان يحمل المشاة والمؤن وعدد الحرب الثقيلة. ومن هذه خمس مجانيق ضخام، يقال لأكبرها (العروس) ويروي البلاذري أنه كان يمد فيها خمسمائة رجل. وبالغ الحجاج على عادته في إعداد الجيش حتى انه (. . . جهزه بكل ما أحتاج من الخيوط والمسال وعمد إلى القطن المحلوج فنقع في الخل الخمر الحاذق ثم جفف في الظل، فقال إذا صرتم إلى السند فأن(22/16)
الخل بها ضيق فانقعوا هذا القطن ثم أطبخوا به وأصطبغوا، ثم تقدم إلى محمد ألاّ يقطع عنه أخباره بحيث يختلف البريد بينهما مرة كل ثلاثة أيام.
خرج محمد بن القاسم بجيشه من شيراز عام سنةهـ590 فسار مشرقا متبعاً ساحل البحر يطوي الحزون والسهول، ويجوب المهامه والقفار، ويحدوه ما يحدوه الشباب الحي من حب للمجد وتعلق بأسباب المعالي، فتغلب على صحارى كرمان ومكران، وبلغ الديبل سالما. ولم يكد يحط رحاله حتى كان الأسطول قد وافاه بها. فشرع من فوره في مهاجمة المدينة. قال صاحب فتوح البلدان، (فقدم الديبل يوم جمعة ووافته سفن كان حمل فيها الرجال والسلاح والأداة فخندق حين نزل الديبل وركزت الرماح على الخندق ونشرت الأعلام وأنزل الناس على راياتهم ونصب منجنيقاً تعرف بالعروس كان يمد فيها خمسمائة رجل.) وكان بالديبل (بد) عظيم عليه دقل طويل وعلى الدقل (سهم السفينة) راية حمراء إذا هبت الريح أطافت بالمدينة وكانت تدور. . . وكانت كتب الحجاج ترد على محمد وكتب محمد ترد عليه بصفة ما قبله واستطلاع رأيه فيما يعمل به في كل ثلاثة أيام. فورد على محمد من الحجاج كتاب أن انصب العروس واقصر منها قامة، ولتكن مما يلي المشرق، ثم أدع صاحبها فمره أن يقصد برميته الدقل الذي وصفت لي. فرمى الدقل فكسر، فاشتد طرة (جزع) الكفر من ذلك ثم أن محمد ناهضهم وقد خرجوا اليه فهزمهم حتى ردهم أمر بالسلاليم فوضعت وصعد عليها الرجال. . . ففتحت عنوة. . . وهرب عامل داهر عنها. . . واختط محمد للمسلمين بها وبنى مسجداً وأنزلها أربعة آلاف، ثم سار محمد مصعداً مع النهر يريد داهر، وعظم جيشه فاستولى على مدينة الرور صلحاً. وأنضم اليه على اثر ذلك أربعة آلاف من الزط، وصار كثير من قبائل السند عونا له في حربه مع داهر. ثم عبر نهر مهران والتقى بداهر وجيشه. وكان على فيل عظيم ومن حوله الجند على فيلة تنذر محمداً وجيشه بفتك ذريع، ولكن محمدا أنقى شر الفيلة، بقذائف النفط الملتهب يرميها بها فهاجت واحترقت هوادجها بمن فيها من الجند، وانتشب بين الفريقين قتال هائل انجلى عن قتل داهر وتمزق جيشه، وتراجع فلوله إلى مدينة برهمنا باذ واقتفي محمد اثر تلك الفلول فاستولى على مدينة رور فبرهمنا باذ نفسها، ومن ثم زحف إلى مدينة الرور فحاصرها اشهرا ثم دانت له على أن يحقن دماء أهلها وألا يعرض لبدهم، وأن يؤدوا إليه الخراج. وقد وفي لهم بشرطهم وبنى(22/17)
بالمدينة مسجداً. ثم قطع نهر بياس إلى الملتان أعظم بلدان السند العليا فامتنعت عليه أول الأمر ثم استولى عليه بممآلاة رجل من أهلها له. ووضع يده على أموال جسيمة كانت بمعبدها البوذى.
كانت الملتان أقصى ما وصل إليه ابن القاسم من ناحية الشمال، قال البلاذري: (ونظر الحجاج فإذا هو قد أنفق على محمد بن القاسم ستين ألف ألف درهم، ووجد ما حمل إليه عشرين ومائة ألف ألف، فقال: شفينا غيظنا وأدركنا أثارنا وازددنا ستين ألف ألف درهم ورأس داهر).
أخذت الملتان سنة 95هـ وعلى أثر ذلك أتت محمدا وفاة الحجاج فقفل راجعا نحو الجنوب مستولياً في طريقه على مدن لملوك آخرين غير داهر، وكان آخر ما فتح مدينة يقال لها (الكيرج) استولى عليها عنوة سنة 96هـ ثم أتاه نعي الخليفة الوليد بن عبد الملك وولاية أخيه سليمان، فلم يبرح تلك المدينة، وقلب له الدهر من ذلك الوقت ظهر المجن، وأخذ نجمه في الأفول.
لا شك أن الحجاج كان موفقا عندما عهد إلى ذلك الشاب قيادة تلك الحملة الخطيرة. فأن محمداً بحداثة سنه وصدق فروسيته قد ملك زمام أصحابه فلا نسمع أن أحدا منهم حدثته نفسه بخلاف عليه أو عصيان له. ثم أنه بهذه الخلال نفسها وبرجاحة عقله وسعة حلمه اجتذب قلوب السند أنفسهم، فقد قارنوا بينه وبين ملوكهم المترفين المتجبرين المتخاذلين فلم يتمالك كثير من قبائلهم أن إعطاء الطاعة وأخذ جانبه في الحرب كما سبق القول. ويروى أنه عندما شرط عليه أهل المدينة الرور ألا يقرب بدهم وفي لهم بذلك وقال: (ما البد إلا ككنائس النصارى واليهود وبيوت نيران المجوس)، وكانت حكومته اياهم عادلة رفيقة إذا قيست بحكومة ملوكهم وأمرائهم، فقد تقدم إلى عماله بهذه النصيحة: أنصفوا الناس من أنفسكم، وإذا كانت قسمة فأقسموا بالسوية، وراعوا في فرض الخراج مقدرة الناس على أدائه ولا تختلفوا ولا تنازعوا فتشقى بكم البلاد. ثم أنه كان مدركا كل الإدراك أن عليه واجبين عظيمين: عليه أن ينشر في البلدان التي فتحها الثقافة الإسلامية، وأن يصل بين الشرق والغرب الإسلاميين، من أجل ذلك كان إذا فتح مدينة أنزلها بعض أصحابه، وبنى بها مسجداً. ومن أجل ذلك نقل طوائف من الزط والسيابجة إلى العراق فانزل الحجاج(22/18)
بعضهم كورة كسكر بفارس، ووجه بقيتهم إلى الخليفة، فانزلهم أنطاكية وسواحل الشام لينتفع بخبرتهم البحرية في قتال الروم، كذلك أرسل إلى الحجاج فيلة سميت ببعضها مشرعة الفيل التي كانت بواسط، كما بعث إليه بآلاف من الجواميس السندية، فاطلق الحجاج بعضها في آجام كسكر وكور دجلة، وبعث كثيرا منها إلى الخليفة فاطلقها في الآجام التي بين أنطاكية والمصيصة، واتقى بها سباع تلك الآجام وكانت قد كثرت وأخافت السابلة. وقد نمت هذه الماشية بالعراق على مر الزمن حتى أصبحت من أسباب ثروته الاقتصادية في الوقت الحاضر.
تلك غزوة محمد بن القاسم للسند. أنها لا شك تذكرنا بغزو الاسكندر المقدوني لتلك البلاد نفسها في أخريات القرن الرابع قبل الميلاد. فالغزوتان تتشابهان من عدة وجوه، تتشابهان من حيث أن كلتيهما برية بحرية إلى حد بعيد، ومن حيث حداثة كلا الفاتحين وكفايته، ومن حيث أن كليهما نهج في نشر ثقافته بالسند نفس المنهج الذي نهجه الآخر، ومن حيث أن كليهما كان يهدي إلى أستاذه طرفا من طرف فتوحه ويراسله مستطلعاً رأيه، فالفاتح المقدوني كان يهدي إلى أرسطو ويراسله، والفاتح العربي كان يهدي إلى الحجاج ويراسله مصدراً في بعض المواقف عن رأيه. ولو أن أهل السند الذين غزاهم ابن القاسم، والذين قد يكون منهم من يدين بشرعة التناسخ ذكروا تاريخ بلادهم القديم فربما رأوا في الفاتح العربي الحديث انبعاث روح الفاتح المقدوني القديم.
وبعد فماذا كان مصير ذلك الفاتح العظيم؟ لقد جوزى جزاء سنمار وصار إلى شر مصير، فقد نكبه الخليفة سليمان بن عبد الملك نكبة كان فيها تلف مهجته وبوار نفسه. والمصادر القديمة مختلفة في تعليل تلك النكبة، فالمصادر الفارسية، وهي حديثة نسبياً غير موثوق بها تزعم أن بنات داهر أفضين إلى الخليفة بأن أبن القاسم عبث بهن، فأضطرم الخليفة غيظا وأمر بمحمد فوضع في أديم بقرة ثم خيط عليه الأديم وحمل إلى دمشق ففاضت روحه بالطريق فلما بلغ بنات داهر مصرع الفتى استشعرن الندم وقلن أنهن تجنين على ابن القاسم انتقاما ممن قتل أباهن وثل عرشه، فاشتد غضب الخليفة عند ذلك وأمر بهن فقتلهن شر قتلة: أما المصادر العربية وهي أقدم من المصادر الفارسية وأوثق فلا تذكر شيئا من أمر النسوة، ويؤخذ منها أن الخليفة سليمان بن عبد الملك كان مضطغنا على الحجاج لأنه(22/19)
كان قد زين للخليفة الوليد ابن عبد الملك خلع سليمان من ولاية العهد: أما وقد فارق الحجاج هذه الدنيا فقد رأى سليمان أن يشفي غيظه من أقربائه متأثرا في ذلك بنظام الثأر عند العرب. وقد أذكى نار الحقد والموجدة في صدره رجلان كلاهما قد وتره الحجاج وكلاهما كان متأثرا بالعصبية القبلية بين قيس واليمن: أحدهما يزيد ابن المهلب وكان أثيرا مكينا لدى الخليفة، والآخر صالح بن عبد الرحمن وقد ولاه سليمان خراج العراق.
عزل محمد عن السند وولى مكانه يزيد بن أبي كبشه السكسكي فأخذ محمدا وقيده وسيره إلى العراق مع رجل من بني المهلب على حال حركت قلوب أهل السند فبكوا عليه وصوره أهل الكيرج بمدينتهم التي كان منها شخوصه، وقد تلقى محمد المحنه صابراً محتسبا ولم يكن في محنته أقل شجاعة وصبرا أو أنفة منه وقت الحرب وحين البأس. والغريب أنه على إخلاص أصحابه له وعطف السند عليه لم تحدثه نفسه بالخلاف والانتقاض. والظاهر أنه أيقن أن قد أدى واجبه وأن الحياة أصبحت بعد ذلك لغوا وفضولا لا طائل فيه. وقد جعل يسري عن نفسه بمقطوعات من الشعر ضمنها آلامه وخواطر نفسه. فمن ذلك قوله مشيرا إلى أنه لو أراد الثورة لشق على أعدائه تهضمه.
ولو كنت أجمعت القرار لوطئت ... إناث أعدت للوغى وذكور
وما دخلت خيل السكاسك أرضنا ... ولا كان من عك على أمير
ولا كنت للعبد المزوني تابعاً ... فيالك دهر بالكرام عثور
ولما صار إلى واسط حبسه صالح بن عبد الرحمن فقال:
فلئن ثويت بواسط وبأرضها ... رهن الحديد مكبلا مغلولا
فلرب قينة فارس قد رعتها ... ولرب قرن قد تركت قتيلا
وعذبه صالح في رجال من أقرباء الحجاج حتى قتلهم، فطفق الشعراء يرثون محمدا ويذكرون فضائله، فمن ذلك قول بعضهم:
أن المروءة والسماحة والندى ... لمحمد بن القاسم بن محمد
ساس الجيوش لسبع عشرة حجة ... يا قرب ذلك سؤددا من مولد
وقال آخر:
ساس الجيوش لسبع عشرة حجة ... ولداته عن ذاك في أشغال(22/20)
تلك خاتمة فتى فتيان العرب وسيد فرسانهم غبر مدافع. فمن مبلغ مسلمي الأرض عامة والهند خاصة ان الدوحة الإسلامية العالية التي أظلت بلاد الهند طوال العصور الوسطى، إنما كانت غرس ذلك الفتى العربي النبيل؟ فليذكر ذلك الذاكرون فقد تبل الذكرى رفات ذلك الشهيد في قبره، بعد أن عدم في حياته من يحمد بلاده أو يرحم شبابه؟(22/21)
000 ثم أرادت أن تجعل منه رجلا!
للدكتور محمد عوض محمد
لقد قض الأمر، وزوجت منه!. . .
فيا للعجب! كيف ألم بالدهر هذا الحادث الخطير، والشمس ما برحت في السماء تجري لمستقر لها، والأرض مازالت تدور حول محورها المائل المنحرف، وتطوف من حول الشمس وتمعن في الطواف؟ والقمر ? أجل القمر ولميزل ينتقل بين منازله المقدرة له من الأزل. . فكيف إذن نزل ذلك الخطب؟
أكبر الظن أن القمر المذكور هوسبب تلك النكبة. أجل هو وحده المسئول عن تلك الكارثة. فأن ليلى قد التقت بأحمد من قبل مرار، في وضح النهار، فلم تر فيه إلا فتى حسن الصورة، ولم تحس نحوه ميلا ولا حبا. . لكنها التفت به بعد ذلك على شاطئ النيل، في ليلة يلمع فيها بدر التمام؛ فإذا القمر يوسوس في صدرها، ويثير في فكرها الأوهام، ويريها صورة ذلك الفتى، وكأنها تمثال لكل ما يتوق إليه قلب المرأة التواق من سحر وجمال وشعر وأحلام أما صوته المتكسر الواهي، فكان يرن في إذنيها كالموسيقى العذبة لكنها كانت من طراز موسيقى شوبرت الرقيقة، لا موسيقى وأغنر العنيفة القوية. . ولقد ساورها الشك لحظة، وأرادت أن تسأل نفسها: (أنى لرجل كامل الرجولة أن يكون في صوته كل هذه الرقة وهذا التكسر؟) لكن القمر لم يدعها طويلا تتلاعب بها الشكوك، بل أوحي اليها بسرعة أن ذلك من أثر العشق الذي استحوذ على أحمد، فرقق من صوته وأكسبه كل هذا اللين والعذوبة والغور!. وكان القمر في هذا كاذبا؛ والحقيقة أن أحمد كان من ذلك الجنس الناعم الخائر الذي يبرأ منه الرجال والنساء على السواء.
فلم تنقض تلك الليلة المقمرة الساحرة حتى كان الحب مالئا قلب ليلى؛ وقد جعل على عينيها غشاوة لن يزيلها الا تعاقب الليل والنهار.
وهكذا تم النصر للقمر الماكر! وياليت الزهرة كانت في السماء تلك الليلة، إذن لمحضت ليلى النصح، وفتحت عينيها لما هو محدق بها من الخطر؛ لكن الزهرة لم تكن (ياللاسف!) في السماء. وهل في الدهر سواها نصير للفتيات يرد عنها الغوائل، ويهديهن سواء السبيل، ويأخذ بأيديهن كي لا يتردين في كل هوة مخيفة ? أما القمر فنصير الفتيان، وعلى(22/22)
الخصوص اولئك الفتيان الخائرون المتكسرون، الذين يشبهونه بوجوههم المليحة الناعمة الشاحبة الخالية من كل قوة ونخوة. . ولم تك إلا أسابيع قلائل، حتى زوجت منه وقضي الأمر! والشمس ما برحت في السماء تجري لمستقر لها، والأرض ما انفكت تدور حول محورها المائل المنحرف
ثم كان شهر العسل!
فأما الشهر فلم يكن كشهري وشهرك أيها القارئ، مؤلفا من ثلاثين يوما، أو أحد وثلاثين يوما على أكبر تقدير. بل لقد استطاع الحب (وهو ذلك الساحر البارع) أن يمسه بعصاه، فإذا هو يمتد من أول مايو إلى آخر أكتوبر؛ وإن يوما عند الحب كألف يوم مما تعدون!
هذا ما كان من أمر الشهرّ وأما ما كان من أمر العسل فقد كان أريا شهيا، وشهدا جنيا، وحلاوة وعذوبة ليس وراءهما حلاوة ولا عذوبة، وخمرة سائغة، لم تتناولها بالتحريم شرائع السماء، ولا قوانين الولايات المتحدة.
وظلا غارقين في ذلك البحر الخضم، فلم تنتبه ليلى، ولم تشأ أن تنتبه. وإن كان في الغرقكل هذه السعادة والنعيم، فالويل لمن يفكر في إنقاذ الغرقى!
وسيقول الناس: أن الحب يعمى ويصم، وأنا أربأ بالقارئ أن يكون ممن يرون هذا الرأي، فأن العمى والصم هما (فيما يقال) عاهتان، وما أبعد الحب (وأبعد به) أن يكون مسببا للآفات والعاهات وإنما الصواب أن نقول أن الحب يضع على العينين عصابة من ذلك الطراز الجميل الذي يعصبون به عيني الثور حين يدور بالساقية، فلا يزال يدور ثم يدور، وهو يحسب نفسه قد طاف حول الكرة الأرضية.
وكذلك قد صور الحب لليلى أنها قد طافت العالم وأحرزت الدنيا بأسرها.
كل هذا، والشمس ما برحت في السماء تجري لمستقر لها، والأرض مازالت تدور حول محورها المائل المنحرف.
ثم لم يكن بد من أن يجيء اليوم الهائل المحتوم بعد أن ولى الربيع، وذهب في أثره الصيف، وأتى بعدهما الخريف الذي لا يدارى ولا يمارى، بل يظهر الحقيقة عارية مجردة جافة.
وفي يوم من أيام الخريف بسط الدهر يديه القويتين فجأة، وكشف الغطاء عن عيني ليلى!(22/23)
نظرت، فلم تصدق الرؤيا التي رأتها. . أجل وقد حسبتها رؤيا مما يراه النائم الغارق في نومه. وكبر مقتاً عندها أن يكون هذا مما تراه هي. . حتى في الحلم. . . فجعلت تغمض عينيها، ثم تفتحهماّ، مرارا. . . لا الفارق أنها ليست نائمة، وهذا الذي تراه ليس حلما. . هو الحقيقة إذن ? أجل وليس بمجديها أن تحاول إنكارها. . صحيح إذن أنها رضيت أحمد هذا زوجا، وأنه (يا للهول!) قد شغفها حبا فلم تكترث للناصحين والعذال. . رضيت بذلك الكائن الممسوخ زوجا، ليكون لها في الحياة رفيقا وعدة وذخرا. ذلك المخلوق اللين المتكسر الخائر، الذي ليس في قلبه همة، ولا في رأسه نخوة، ولا مطمح له في الحياة ولا مأرب، ولا عزمة له ولا إرادة! أن الناس تصفه ظلما بأنه يشبه النساء، وهذا كذب، بل كفر، بل شر من الكفر. أن النساء أجل وأكرم من أن ينتسب إليهن هذا المخلوق، هذا اللين المستخذي، هذا الناعم الخائر، هذا التافه ذو الوجه (الكارت بوستال). ذو الصورة السينمائية الفاترة، الخالية من كل روح ومعنى.
أيمثل هذا الشيء تجن هي. . ليلى؟ ليلى التي طالما جشم أبوها نفسه وجشمها كل عناء وبلاء في سبيل تأديبها وتثقيفها، لايألو في ذلك جهدا ولا مالاً ولا وسيلة! ألم يهيئ لها الأسباب لتتلقى العلم في مصر على خير أساتذة مصر، وفي إنجلترة في خير معاهد إنجلترة وأعظمها جميعا؟. . أجل وما أشد سرورها يوم ألفت نفسها، وهي بنت النيل، في نيونهام كولدج تتلقى العلم هي وبنات النبلاء جنبا لجنب؛ وكان نجمها الساطع محلقا في السماء لا يعلو عليه نجم، ولها بين صواحبها منزلة ومكانة وشهرة قد جاوزت نيونهام إلى جميع دور العلم بكامبردج؛ وملأ الإعجاب بليلى المصرية صدور الشباب من الطلبة، والشيب من الأساتذة المحنكين. . ولقد طالما حاول الكثير من كرام الفتيان أن يتقرب إليها، فكانت ترده في حزم ولطف وتواضع لم يزدها إلا سموا وتقديرا.
ثم تلك الرسالة البديعة التي كتبتها عن الفلسفة العربية؛ فكانت نصرا باهرا، وتاجا براقا لتلك السنين الخمس، التي قضتها في جد ودأب لا تعرف الدعة ولا الهوادة.
وهبطت مصر، تزدحم في صدرهم الآمال، وتريد أن تتبوأ مكانها بين قومها لكي تعمل على نصرهم وسؤددهم، بكل ما أوتيت من قوة وهمة؛ ولم تجد بأسا في أن يكون لها في جهادها العنيف رفيق يشد أزرها ساعدها. ولم تكن ليلى من النساء اللواتي أغلقت قلوبهم(22/24)
دون الحب برتاج غليظ. . ولكن شاءت المقادير العجيبة أن يكون رفيقها الذي تختاره وترتضيه هو ذلك المخلوق الناعم الخائر، ذلك اللين المستخذي، ذا الوجه الكارت بوستال.
والشمس مازالت في السماء تجري لمستقر لها، والأرض ما برحت تدور حول محورها المائل المنحرف.
وجلست ليلى وهي تطل من نافذتها، تنظر إلى النيل إذ يندفع تياره من الجنوب إلى الشمال، وإلى أشجار الصفصاف، وقد تدلت غصونها إلى الماء كأنها عبرات تسيل؟ وإلى السحب الحمراء قد خلفها الغروب. ومن دونها الأهرام قائمة على الأفق، وإلى الزهرة في السماء تتألق وترقص بين السحاب.
أدركت ليلى أنها أخطأت. . أجل أخطأت برغم كل ما وعاه صدرها من علم وأدب وحكمة وفلسفة، وارتكاب الخطأ حق طبيعي لكل رجل، بل ولكل أمراءه أيضا. . الحيوانات لا تخطيء، لأنها تصدر في أعمالها عن الغريزة، والغريزة معصومة عن الزلل. أما أبناء آدم وبناته فيصدرون عن العقل، وهو كثير العثرات.
إذن ليس ببدع أن تكون ليلى قد ارتكبت خطأ، وليس بعد الخطأ إلا محاولة الإصلاح. . لكن كيف السبيل إلى إصلاح هذا الخطأ؟ ليست الأمراض سواء في قبولها للعلاج، وليست الأخطاء سواء في قبولها للإصلاح.
حاولت ليلى أن تلتمس الإلهام مما تعلمه من حكمة وفلسفة. ولكنها لم تلبث أن تبينت أن ليس هذا بمجديها نفعا. إن للفلاسفة في هذا الموضوع الخطير آراء قلما تسمن أو تغني. . .
إن (نيتشه) الذي تحبه لم يتزوج و (كانت) العظيم عاش عمره الطويل لم يتزوج، وأبو العلاء لم يجن على أحد، و (شوبنهاور) كثيرا ما كان يؤثر صحبة الكلاب على الخلان والأصدقاء، وسقراط وافلارطون؟. . أولى بها ألا تفكر الآن في سقراط وأفلاطون. . . لا. . ليس بنافعها أن ترجع إلى القدماء، كي يحلوا لها مشكلتها الحديثة. . لا بد لها أن تركن إلى نفسها وأن تعتمد على فلسفتها هي. .
أجل وأن لها في هذا الأمر لفلسفة خاصة، ورأيا ستحاول إنفاذه: أنها سوف تصلح أمر أحمد، وسوف تقوم معوجة، وسوف تجعل منه رجلا. . هذا المرام البعيد، الذي يراه الناس(22/25)
محالا، كانت تحس في أعماق صدرها أنه ليس بمحال، أتراها وفقت إلى العثور على ذلك الحجر العزيز: حجز الفلاسفة فأمست قادرة على أن تحيل الخسيس نفيسا، والدنيء رفيعا؟
كلا! أن ليلى لن تحاول أن تنال بغيتها عن طريق المعجزات بل لقد رأت في أمر زوجها رأيا، حسبته رأيا سديدا، وكان وليد تدبير طويل، وتفكير عميق. . رأت أن أحمد تعوزه الرجولة، في مظهره ومخبره، وفي جسده وفي روحه، في حركاته وتفكيره. وقد عملت أن ليس إصلاح الروح بالشيء اليسير: لكنها تستطيع (على الأقل) أن تكسبه مظهر الرجال. فلتأمره إذن (وهو لها طيع ذلول) أن يلبس الخشن من الثياب: وأن ينعل الخشن من الأحذية: وأن ينطلق إلى ضيعة أبيها فيقيم هنالك شهرين أو ثلاثة أشهر؛ يعمل في حقولها كل يوم، حارثا وزارعا حاصدا، وعليه أن يرسل لحيته وشاربه حتى يغطي الشعر وجهه. . ثم يعود إليها بعد ذلك، وقد لبس حلة الرجولة سابغة شاملة، فمن يد خشنة الملمس، إلى ذراع قوية متينة؛ إلى وجه قد لوحته الشمس يكسوه شارب طويل ولحية مرسلة. أما صوته الناعم الفاتر، فلا بد أن يكتسب شيئا من الخشونة من كثرة ندائه للثيرة، وصياحه خلف المحاريث.
وكانت ليلى تعلم أن هذه كلها ظواهر، ليس فيها نفع ولا غناء، ولكنها كانت مؤمنة بأن إصلاح العرض سيفضي إلى إصلاح الجوهر، الصلاح الإناء وسيلة لإصلاح الشراب؛ وأن أحمد لا يلبث أن يكتسب مظهر الرجولة، حتى تتسرب بعد ذلك إلى لحمه ودمه بفضل ما بين الروح والجسد من رباط متين.
وأحسبها قد اقتبست هذا الرأي من بعض ما درسته من فلسفة وحكمة؛ لكنها كانت أشد أيمانا به من الحكماء الذين قالوا به. وما هي إلا أيام قلائل حتى مضت في تنفيذه، فانطلق أحمد إلى الريف وبقيت ليلى وحدها الليالي والأيام ترقب دورة الفلك؛ والشمس ما برحت في السماء تجري لمستقر لها، والأرض ما فتئت تدور حول محورها المائل المنحرف.
وفي مساء يوم عبوس متجهم من أيام أمشير؛ تلبدت السماء بسحاب أسود قاتم، وكان يعدو من المغرب إلى المشرق؛ طبقات بعضها فوق بعض؛ تحمله في السماء ريح عاصف. . وعلى الأرض زعزع نكباء تثير الموج على صفحات النيل، وتهز جذوع الصفصاف هزا عنيفا، وقد ثارت الزوابع تحمل العثير المطار إلى كل عين وكل أنف. . ومشت ليلى نحو(22/26)
النافذة فأغلقتها في بطء شديد وحزن شديد، مطأطئة رأسها في كآبة وكمد. ثم سقطت على سرير ممدود وجعلت تسفك العبرات وتعول بالبكاء. . بصوت لولا دوي الريح لأسمع من بالدار. وما أشد حاجتها في ذلك المساء إلى الوحدة وإلى البعد عن الناس وإلى البكاء تطفئ به ذلك الجحيم المستعمر في صدرها وفي أحشائها.
مسكينة ليلى! إن فلسفتها قد خابت، وتجربتها قد فشلت! وكل هذا التقدير والتدبير والسعي والاحتيال لم يصادف إلا حبوطا أليما، وخيبة قاتلة. إن الداء كان عضالا، والسم قد سرى إلى الرأس والأوصال، والعرق والعصب؛ فاستفحل واستمكن، ولات حين علاج، ولات حين شفاء. .
واختلط الحزن في قلبها، وألح عليها من كل جانب، فليس يدرى أي خطبيها أشد وأقتل؛ فشل تلك التجربة وذلك الرأي السديد الذي حسبته زبدة الحكمة وخلاصة الفلسفة، أم كارثتها في هذا المخلوق الذي بات حتما عليها أن ترضاه، وهو دون الرضى، وأن تعتمد عليه في الحياة، وهو ذلك الرطب العاجز المائع.
لقد فشل تدبيرها فشلا ذريعا، فأن المسكين لم يطق الريف، ولم يلبث أن أسأمه وأضناه، فقضى أيامه هناك بين سقم وبين الإفاقة من سقم، حتى أشفقت عليه ليلى وأذنت له أن يعود. أما ذلك الشعرالقليل الذي نبت على خديه وشفتيه، فلم يك الاغشاءً رقيقا تافها، لم يقربه من الرجولة قيد شعرة.
مسكينة ليلى! أن الرزء الذي رزئته لشديد. ولم يبق لها من وسيلة تتوسل بها سوى الصبر، والصبر أوهى الوسائل. . وما أشد حاجتها لأن يكون لديها من هذه الوسيلة الواهية ذخيرة لا تنفذ، ذخيرة تكفيها العمر كله. . لا بد أن يكون في العالم شهداء يحملون الأرزاء، فلا رأى اليوم إلا أن تكون كأحدهم. ولئن كان رزؤها هذا من صنع يديها، فما أحقها بحمله والاضطلاع به. . مدى الحياة.
لقد سخرت منها المقادير، حين أرتها الحياة حلما زاهيا، وزهرا نظيرا، واليوم وقد آن للزهر أن يحول ثمرا وللدوحة أن تؤتي أكلها، إذا الأقدار تسلط عليها هذا السقم العضال يذويها ويفنيها. لم يبق لها بد إذن من أن تودع هذه الأحلام جوف الثرى، في غير رحمة ولا هوادة، وتستقبل هذا العهد الجديد، عهد الشهداء الصابرين في قوة وجلد.(22/27)
لا جرم أن الانتقال إلى تلك الحال ليس بالشيء اليسير، ولكن لعل أسابيع تقضيها (هي) في الريف، وتفكير، أن تعدها لهذا العهد الجديد، هذا العهد القاسي الشديد.
ونهضت متماسكة من سريرها، وسارت إلى النافذة ففتحتها، وجلست على كرسي صغير بجانبها. . وجعلت تنظر إلى الغيث وقد أخذ ينهمر مدرارا، وإلى الرياح وهي تميله يمنا وشمالا. .
ثم أخذ ينهمر على خديها مطر (غزير) لم يكن مما أسقطه السحاب، أو دفعته الرياح. .
والشمس من خلف الأفق تجري لا مستقر لها، والأرض ما برحت تدور حول محورها المائل المنحرف.
فيا عجبا لهذا الكوكب السخيف! كيف آثر الانحراف على الاعتدال، والميل على الاستقامة؟(22/28)
العرب والفرس قبل الإسلام
للدكتور عبد الوهاب عزام
سأجمل في هذا المقال، ما يعرفه التاريخ وترويه الأساطير من الصلات بين العرب والفرس قبل الإسلام، وعسى أن يكشف التاريخ عن صلات أخرى بين الأمتين، أو يبين عن حقائق تفسر بعض هذه الأساطير.
ويمكن تقسيم الروايات إلى قسمين: ما قبل العهد الساساني وهي أساطير، وما بعده وهي تاريخ أو قريب من التاريخ.
أ. قبل عهد الساسانيين
الأساطير تتفق عليها الكتب العربية والفارسية، وأعظم مصادرها كتاب الشاهنامة للفردوسي، ومنها:
1. أسطورة الضحاك
وأجمالها أن الضحك هذا كان أبن أمير عربي من أمراء اليمن أسمه مزداس تمثل له الشيطان في صورة شاب صبيح وزين له قتل أبيه فقتله. ثم تمثل له في صورة طباخ وأعلمه أنه حاذق في تجويد الأطعمة، خبير بأصنافها، فأتخذه الضحاك طباخا له فطبخ له اللحم، وكان الناس من قبل لا يأكلونه، فاستطاب الضحاك ألوان اللحم التي قدمها له طباخه فقربه وركن إليه.
ثم سأل الطباخ سيده أن يأذن له تقبيل كتفيه، فقبلهما ثم ساخ في الأرض فلم يعرف أثره، ونبت على منكبي الضحاك سلعتان كأنهما حيتان فذعر لذلك وأستدعى الأطباء فلم يهتدوا في أمرهما إلى دواء، وكان الضحاك يحس لهما وجعا. فتمثل الشيطان في صورة طبيب وأشار على الأمير أن يطلي السلعتين بأدمغة البشر، ففعل وسكن الألم، فدأب على ذلك لا يستريح إلا أن يقتل بعض الناس فيدهن بدماغهم حيتيه.
وكان جمشيد ملك الفرس قد عتا وتجبر وادعى الألوهية، ففزع الفرس إلى الضحاك يستغيثونه، فسار اليهم في جند كثيف وتعقب جمشيد حتى قتله. ثم تسلط على بلاد الفرس وسام الناس ألوان العذاب حتى ثار به جاوه الحداد ودعا الناس إلى تمليك أفريدون. وحارب أفريدون الضحاك فهزمه، ثم أخذه فقيده وسجنه على جبال دماوند. ويقال أن جاءوه(22/29)
الحداد حينما أزمع الثورة أخذ الجلدة التي كان يضعها على حجره حين طرق الحديد فعلقها في عصا وجعلها علم الثورة، وأتخذها الفرس من بعد لواءً مقدسا سموه (العلم الجاوى) (دوفش كاوباني).
وإذا نظرنا إلى تواريخ الشهنامة وجدنا الضحاك يتملك على إيران قبل الميلاد بألفين وثمانمائة سنة: وذلك يوافق عهد الدولة البابلية. فإن كان وراء هذه الأسطورة حقيقة فهي تسلط الساميين على إيران. ويؤيد هذا أن كتاب الابستاق يجعل مقر الضحاك مدينة بوري، وهي بابل، وكذلك نجد في نزهة القلوب للقزويني أن بابل كانت مستقر الضحاك ونمرود.
وقد أشار إلى قصة الضحاك أبو تمام إذ قال:
ما نال ما قد نال فرعون ولا ... هامان في الدنيا ولا قارون
بل كان كالضحاك في سطواته ... بالعالمين وأنت أفريدون
وأفتخر أبو نواس في قصيدته التي يفخر فيها بقومه القحطانيين:
وكان منا الضحاك يعبده ال ... خابل والجن في مساريها.
2. وفي الشاهنامة وغيرها من الكتب العربية والفارسية أن أفريدون زوج أبناءه الثلاثة (تورا) و (سلما) و (ايرج) من ثلاث بنات لملك من ملوك اليمن، وأفريدون عند الآريين يشبه نوحا عند الساميين، نسل من أبنائه الثلاثة خلق كثير، فتور أبو ملوك توران! وايرج ابو ملوك إيران وسلم أبو ملوك الروم، فالمصاهرة بين أفريدون وملك اليمن تجعل العربأخوال كل من نسل من بني أفريدون.
3. وكذلك نجد في الأساطير الفارسية أن مهراب ملك كابل في عهد الملك منوجهر عربي من نسل الضحاك، وأن (زال) بن سام تزوج بنت مهراب فولدت له رستم بطل أبطال الفرس، فرستم إذن له خؤولة في العرب.
4. ومن الروايات التي هي أقرب إلى التاريخ مما تقدم حرب كيكاوس وملك هاماوران (حمير) وأسر كيكاوس في بلاد اليمن، وتنازع أفراسياب ملك التورانيين، العرب على ملك إيران، ثم ذهاب رستم إلىاليمن وتخليص كيكاوس. ويقول أبو نواس في القصيدة التي ذكرتها آنفا:
وقاض قابوس في سلاسلنا ... سنين سبعا وفت لحسابها(22/30)
وكان الكيكاوس، في القرن العاشر قبل الميلاد في حساب الشاهنامه. وفي بعض الكتب العربية أن ملك اليمن اذ ذاك كان ذا الأزعار أبن أبرهة ذي المنار بن الرائش.
5. ومما تقصه الروايات في هذا العهد عهد الكيانيين، الحرب بين داراب وبين رجل عربي أسمه شعيب بن قتيب. وداراب هذا هو، في غالب الظن، داريوس أخوس (424 - 404 ق. م) وأعظم الحوادث في عهد الساسانيين وهو أقرب إلى التاريخ وكثير من حوادثه واقعات تأريخيه:
ب - بعد عهد الساسانيين
1. قصة سابور الأول (241 - 272م) وملك الحضر، وهو الضيزن بن معاوية القضاعي، أو الساطرون كما في بعض الكتب. وذلك أن الضيزن أغار على فارس وأسر أخت سابور أو عمته، فسار سابور إليه وحاصر الحضر حتى استولى عليه بخيانة بنت الضيزن.
والحضر كان مدينة بالجزيرة الفراتية على أربعين ميلا من دجلة نحو الغرب إزاء تكريت، وعلى مائتي ميل إلى الشمال من بغداد. ولا تزال أطلالها بما كان من عظمها ومنعتها. ويقول الهمذاني في كتاب البلدان:
(كانت مبنية بالحجارة المهدمة بيوتها وسقوفها وأبوابها. وكان فيها ستون برجا كبارا. وبين البرج والآخر تسعة صغار) ويقول ياقوت:
(فأما في هذا الزمان فلم يبق من الحضر إلا رسم السور وآثار تدل على عظمه وجلاله.) وقد حاصره الإمبراطور تراجان وسفريوس فلم يقدرا عليه.
وقد روى ياقوت في قصة الحضر شعرا لعدى بن زيد والأعشى وروى الطبري شعرا لأبي دؤاد الأيادي. والشاهنامة تجعل الواقعة في زمن سابور ذي الأكتاف وتخلط بعض الحادثة ببعض.
2. ومن ذلك ما وقع بين أذينة ملك تدمر وسابور الأول أيضا: فقد أغار أذينة على جيش سابور وهو راجع مظفراً من حرب فلريان إمبراطور الروم، فانهزم الجيش الفارسي وتعقبه أذينة. وقد أغتبط الروم بما فعل أذينة فاثابوه ولقبوه (اغسطس).
3. ومن قصة سابور ذى الاكتناف (309 - 379) والعرب.(22/31)
يروى أن بعض العرب أغار على بلاده فحاربهم في خوزستان ثم عبر الخليج إلى البحرين وهجر واليمامة، ثم سار إلى الشمال فحارب بني بكر وغيرهم، وأنزل بعض القبائل غير منازلهم:
أنزل بني تغلب بدارين والخط، وبعض بكر بصحارى كرمان، وبعض عبد القيس وتميم في هجر واليمامة، وبني حنظلة بالصحارى التي بين الأهواز والبصرة.
ويقال أنه سمى ذا الأكتاف لأنه خرق أكتاف الأسرى من العرب ونظمهم في الحبال.
وكذلك كانت أحداث بين العرب ولا سيما أياد وبين سابور بن سابور ذي الأكتاف. ذكر بعضها المسعودي في الجزء الأول من المروج. وفيها يقول بعض الشعراء:
على رغم سابور بن سابور أصبحت ... قباب أياد حولها الخيل والنعم
ويقول الحارث بن جنده (الهرمزان):
هم ملكوا جميع الناس طراً ... وهم ربقوا هرقلا بالسواد
وهم قتلوا أبا قابوس عصبا ... وهم أخذوا البسيطة من أياد
وتكثر الأحداث بين الفرس وقبائل الشمال عامة ولا سيما ربيعة التي كانت تسمى ربيعة الأسد لجرأتها على الأكاسرة.
4. والصلات بين أمراء الحيرة والفرس منذ نشأت الدولة الساسانية في القرن الثالث الميلادي ليست في حاجة إلى البيان، فحسبي أن أذكر من الحوادث ما يبين عن مكانة المناذرة في دولة الفرس وقوتهم:
عهد يزدجرد (399 - 402) إلى المنذر الأول بتربية ابنه بهرام فنشأ في الحيرة حتى بلغ الثامنة عشرة، وتعلم الفروسية والرماية حتى صار مضرب المثل في الرمي بالنشاب، ثم رجع إلى أبيه فغلبه الشوق إلى الحيرة، حتى توسل برسول ملك الروم إلى أبيه ليأذن له في العودة إلى الحيرة فبقي بها حتى توفي يزدجرد. وأزمع أعيان الفرس ألا يولوا من بني يزدجرد أحدا. فأيد المنذر وأبنه النعمان بهرام وأمداه بالجند حتى أرغما الكارهين على تمليكه.
وفي روايات الأدب الفارسي أن بهرام هذا أول من شعر بالفارسية، أخذ الشعر عن العرب. وفي كتب الأدب شعر فارسي مروى عن بهرام، وكذلك تروى الكتب العربية شعراً عربياً(22/32)
كما روى المسعودي في المروج:
أقول له لما فضضت جموعه ... كأنك لم تسمع بصولات بهرام
فأني حامي ملك فارس كلها ... وما خير ملك لا يكون له حامي
ويروى المسعودي أبياتا أخرى ويقول. . وله أشعار كثيرة بالفارسية والعربية أعرضنا عن ذكرها في هذا الموضع طلبا للإيجاز.
وقد حارب المنذر الرومان انتصارا للفرس وهزم جيوشهم سنة 421م، وكذلك حاربهم المنذر الثالث ابن ماء السماء وتعقبهم إلى إنطاكية حتى أستنجد جستنيان الحارث الأعرج الغساني، فكانت وقائع بين الأميرين العربيين أسر فيها المنذر إبناً للحارث فقربه للعزى (صنم) وانتهت بقتل المنذر في موقعة عين أباغ أو يوم حليمة.
5. وفي عهد قباذ حينما اضطرب أمر الفرس بفتنة مزدك أغار الحارث بن عمرو الكندي على الحيرة وأخرج منها المنذر أبن ماء السماء، وصادف ذلك هوى في نفس قباذ فأيد الحارث. ويروى أنه أرسله لحرب أحد تبابعة اليمن، فلما ولى كسرى أنوشروان رد إمرة الحيرة إلى المنذر.
6. وفي عهد كسرى برويز حوالي 610م كانت موقعة ذي قار. وذلك أن كسرى برويز قتل النعمان أبا قابوس. وطلب ودائعه عند هانئ بن مسعود الشيباني فأبى إسلامها، وكان كسرى قد ولى أياس ابن قبيصة الطائي على الحيرة. فسار أياس في جموع من الفرس والعرب: طئ وبهراء وأياد وتغلب والنمر، فلقيهم بنو شيبان في جموع من بكر ووقعت الحرب وتمادت ثلاثة أيام آخرها يوم ذي قار، ودارة الدائرة على الفرس وأنصارهم.
وفي يوم ذي قار يقول أبو تمام يمدح أبا دلف الشيباني:
إذا افتخرت يوماً تميم بقوسها ... وزادت على ما وطدت من مناقب
فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم ... عروش الذين استرهنوا قوس حاجب
ويقول مادحا يزيد بن مزيد الشيباني:
أولاك بنو الأفضل لولا فعالهم ... درجن فلم يوجد لمكرمة عقب
لهم يوم ذي قار مضى وهو مفرد ... وحيد من الأشباه ليس له صحب
به علمت صهب الأعاجم أنه ... به أعربت عن ذات أنفسها العرب(22/33)
هو المشهد الفرد الذي ما تجابه ... لكسرى بن كسرى لاسنام ولاصلب
هذه صلات الفرس وعرب الشمال. وكان للفرس مع هذا سلطان على ساحل الجزيرة الشرقي واليمن:
حاول الحبش الاستيلاء على اليمن في القرن الثاني الميلادي وأتيح لهم أن يستولوا على بعض مدنه في القرن الثالث، ثم أخرجهم الحميريون، فلما تنصر الحبش في القرن الرابع أيدهم الرومان على الحميريين ففتحوا اليمن سنة 374. ويظهر أن الفرس طمحوا إلى اليمن منذ ذلك الحين، فقد كان النزاع الذي شجر بينهم وبين الروم منذ قامت الدولة الساسانية حرياً أن يلفت الفرس إلى اليمن بعد أن تألب عليه أعداؤهم الألداء والحبش. ولسنا ندري من أخبار الفرس في اليمن شيئا قبل القرن السادس الميلادي، إذ تهود تبع ذونواس وأكره النصارى على التهود وعذبهم، فغضب لهم الروم والحبشوأمد الإمبراطور جستنيان الحبش وسلطهم على اليمن، حتى استغاث سيف بن ذي يزن كسرى أنو شروان فأمده بجيش حملته السفن في الخليج الفارسي إلى عمان، ثم سار في البر وأنحاز إليه أهل اليمن فهزموا الجيش، وتولى الفرس البلاد وجعلوا عليها أميراً عربياً فقتله حرسه الحبشي فاستقل بأمر البلاد ولاة من الفرس توالوا عليها حتى جاء الإسلام والوالي يومئذ بأذان. وقد أسلم الفرس في اليمن وأخلصوا للإسلام وكانوا عوناً على الثائرين في حروب الردة وهم قتلوا الأسود العنسي، وعرف من رؤسائهم النعمان بن بزرك وفيروز الديلمي ومركبود، وهو أول من حفظ القرآن في صنعاء فيما يقال.
وكذلك كان للفرس سلطان على البحرين وجاء الإسلام وفي اليمن فرس مستوطنون ومرزبان اسمه سيبخت، ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب اليه فاسلم، وكان لفيروز المعروف بالمكعبر زعامة في حروب الردة هنالك.
وكانت التجارة تتردد بين بلاد الفرس واليمن في حفارة قبائل لها جعل من ملوك الفرس: قال صاحب الأغاني في الحرب التي كانت بين بني تميم والفرس وأحلافهم: (وأما ما وجد عن ابن الكلبي في كتاب حماد الراوية، فان كسرى بعث إلى عاملة باليمن بعير، وكان بأذان على الجيش الذي بعثه كسرى على اليمن. وكانت العير تحمل نبعا فكانت تبذرق من المدائن حتى تدفع إلى النعمان ويبذرقها النعمان بخفراء من ربيعة ومضر حتى يدفعها إلى(22/34)
هوذة بن علي الحنفي فيبذرقها حتى يخرجها من أرض بني حنيفة ثم تدفع إلى سعد (من تميم) وتجعل لهم جعالة فتسير فيها فيدفعونها إلى عمال بأذان باليمن).
هذا خلاصة ما يريه التاريخ والاساطير، ولعله يكون مقدمة لبحث واسع في صلات الأمتين العظيمتين قبل الإسلام.(22/35)
سؤال. .
إلى الأستاذ الزيات وإلى أدباء الرسالة.
سيدي الأستاذ
أنني (وإن لم أتشرف بمعرفتك) أمت إليك بصلة الرحم. فأنا من صغار أسرة أنت من كبارها. ولي عليك حق الصغير على الكبير. يسأله ويفيد منه. ويلح في هذا السؤال ويناقش من أجل هذه الفائدة. ويكون فيسؤاله ومناقشته واقفاً عند حد الأدب، متنكباً سبيل التكلف و (الرسميات).
أفتأذن لي في ذلك:
إذن فأخبرني يا سيدي. هل تنشر الآثار الأدبية، إذ تنشرها في رسالتك، لأنها وافقت خطة معروفة اختطتها لنفسها الرسالة في الأدب، وطريقة معينة اتخذتها، أم أنت تنشر كل جيد يبعث به اليك، ولا تبالي منه إلا بشرف القول، وحسن الأداء، والبلاغة في التعبير عن الغرض. وهل تفعل هذا إلى أمد قريب ثم تطلع على الناس بخطتك الأدبية، وتحمل كتابك عليها، أم أنت تفعله أبدا؟ ثم ألا ترى يا سيدي أن الأديب العربي قد شب ولم يعد طفلا يدلل ويرقص، ويكون له عند أهله بكل خطوة حظوة وأن الإيمان به قد خالط قلوب الأدباء. فلم يعودوا من المؤلفة قلوبهم الذين يسترضون ويعطون لئلا يجنحوا إلى الردة بعد الايمان؟ وأن من مصلحة هذا الأدب، بل من الواجب فيه أن يتفق طائفة من شيوخه وقادته على مذهب واحد فيه. ثم يعلنوا هذا المذهب للناس. ليتبعوه ويؤثروه؟
ومذاهب الأدب كثيرة. ولكنا منها بين اثنين: مذهب (الأدب للفن) ومذهب (الأدب للحياة):
أنعمل وغايتنا (الجمال الفني) وحده. وسواء لدينا أكان هذا الجمال في قطعة ماجنة، أم في قصيدة شعوبية، أم في مقالة ملحدة؟ وسواء لدينا أكانت القطعة الجميلة تصور آلام النفس وآمالها. وصور الحياة وأشكالها، فتصدق في هذا التصوير. أم (تخلق) من نفس صاحبها دنيا غير هذه الدنيا وعالما غير هذا العالم؟
أم نعمل وغايتنا تسخير الأدب للقضية الكبرى، واتخاذه عدة على تحقيقها، ووسيلة من وسائل الإصلاح الأخلاقي والسياسي والاجتماعي. وبالعبارة الثانية وسيلة إلى الحياة؟
ثم. . ألا ترى يا سيدي أن هناك حقيقة أسمى من الحقيقة الفنية. . وواجبا أعلى من واجب(22/36)
الفن هو الواجب الوطني. واجب (السعي للحياة وخوض معركة التنازع على البقاء) وأنه لا يجوز لنا أن نقول بمقالة بعض الفرنجة (الفن للفن) لأن هذا هو القياس مع الفارق.
فأن لأولئك مدافع وأساطيل، وأن لهم كيانا واستقلالا، ونحن قوم يبنون لأنفسهم كيانا واستقلالا، فيجب أن نجمع قوانا كلها على هذا البناء، وأن نجعل الأدب في مقدمة هذه القوى، ونجعل الحوادث القومية موضوعا لآثارنا، أو لطائفة من آثارنا الأدبية. وكيف لعمري يهيج الشاعر العربي ويضيق الدنيا عليه حبيب يعرض عنه، وليلة وصل يخسرها، وابتسامة يحتجب عنه نورها، ولا يهيجه ويؤلمه مجد كان ينطح السماء أنهار في الأندلس، وأمل كان يملأ الدنيا ضاع في بواتيه. وأمة بقضها وقضيضها تفنى اليوم في فلسطين.!؟
أيجوز للشاعر وهو قلب الأمة الخافق أن يعيش في نفسه، ويقنع بأحلامه وعواطفه؟ أيعقل أن يعيش قلب منفردا مبتوراً لا تربطه بالجسد رابطة؟
الشاعر قائد في أمته، فهل يجوز للقائد أن يدع جنده، ويترك حربه ويغفل عن النار والحديد، ثم يجلس ليحلم بطيف حبيبه، أو يبكي على أنه لم يمنحه جسمه ساعة من زمان. أو يجلس ليصف (الجمال الفني) في ساحة المعركة؟
الأمة العربية جمعاء في نضال على الحياة. فكيف يفر الأديب من المعركة فيصب وهو الجندي الأول فيها مواهبه وقوته على قدمي امرأة؟
أو لست تعلم يا سيدي أن زعماء الفن الرومانطيقي في أوربا كهوجو ولامارتين، كانوا في رأس الوطنيين العاملين، والخطباء المفوهين، وكانوا إذا جد الجد شمروا عن ساعد العمل، وإذا أمن الناس ووضعت الحرب أوزارها ناموا فحلموا، فكان هذا الأدب مجموعة أحلامهم في منامهم. أن لامارتين نفسه يقول: (ما قيمة الرجل ينفق عمره، في التنقل بين أحلامه الشعرية في حين أن إخوانه يجاهدون بكل ما أوتوا من قوة وأيد في سبيل الوطن والعمران؟ أليس أليق يمثل هذا أن يكون ضحكة (مهرجا) وأن يبعث به مع العدد الموسيقية إلى الفرق العسكرية؟)
وأن الشعر القومي أبعد الشعر أثرا في نفس قارئه، لأن الشعور به مشترك بين أفراد الأمة جميعا، وأننا نقرأ القصيدة الأندلسية النونية فتبلغ منا على ضعف تأليفها ما لا تبلغه منا أي قصيدة؟(22/37)
فلماذا إذن لا ينحو بعض أدبائنا هذا المنحي. ويكون لنا ديوان في الأدب القومي، كما للفرنسيس ديوان، وللإنجليز ديوان، وللأتراك ديوان، ولماذا لا تنبذ هذا الأدب الرخو المخدر الذي ينزع الرجولة من نفوس شبابنا ويجعل المثل الأعلى للحياة في آرائهم، أن ينفقوا الحياة في عبادة امرأة يعشقونها، أو يتخيلون أنهم يعشقونها. ويقطع بأساليبه الأعجمية العجيبة الصلة بيننا وبين أدبنا القديم، ويضيع علينا هذا التراث القيم الذي تظاهرت على إيجاده ثلاثة عشر قرنا؟ ولماذا لا يجهر الشيوخ والمصلحون في الأدب العربي، بالدعوة إلى (الأدب القومي) وينقذوننا من هذا الأدب المخدر السام؟ ولماذا لا تكون أنت في الرسالة. صاحب هذه الرسالة؟ ثم. . إلا ترى يا سيدي أن هذا الضعف والخور في غزلنا سخف ماله مبرر، وأن المرأة والرجل إنسان واحد، كلاهما فيه عنصر القوة وعنصر الأنوثة، والحب جامع العنصرين، فالرجل يحب ليكمل قوته بأنوثة المرأة. أي أنه يحب أنوثتها وهي تحب قوته، فإذا أضاع هذه القوة، ولم يحظ بأنوثة المرأة، لم يكن رجلا ولا أمرأة، ولكن مخلوقا شيطانيا بغيضا، وكان كالغراب والقبرة، أو (كصاحبة الماء) لا هي أبقت ماءها. ولا هي أصابت طهرها؟ وما بالرجل من يحب من بأس، ولكن على أن يظل رجلا يقوم على قدميه، ويدل بعضلات من حديد وإرادة من فولاذ، وأمل في الحياة يملأ الحياة، ثم يقول لمن يحب: أنا قوي وأنا أحبك فتعالي لا أن يجيئها ضعيفا مسهدا.
والمرأة لو خيرت لما اختارت على الرجل القوي الحي بأمله ولمستقبله الرجل الأصفر النحيل الباكي البائس الميت من قبل الممات. هذا خليق به القبر وذاك الذي يستحق الحياة.
فالام إذن يثير شعراؤنا على هذا الغزل السخيف، ويغني مغنونا به ويكون لجيل المستقبل سما زعافا؟. .
هذه هي القضية التي جئت استفتيك فيها. واستفتي أدباء الرسالة؛ وأني لأعتقد أنها من الخطر بالمكان الاسمى. وبين لا ونعم فيها فرق ما بين الحياة والموت؛ لأن الأدب كالسيف القاطع، شتان بين أن تضرب به لترى وميضه في الجو و (الجمال الفني) في هذا الوميض ثم لا تبالي أذراعاك أصاب فقطع أم هو قد أصاب الجدار، وبين أن تجلل به خصما لك فاتكا أو وحشا كاسرا. على إن هذا ضرب وذاك ضرب وهذا أدب وذاك أدب. .
فإذا تفضلتم يا سيدي بنشر هذه الرسالة في الرسالة وتفضلتم بالجواب كان لكم الفضل(22/38)
والشكر.
دمشق - علي الطنطاوي - ليسانسيه في الحقوق من المجمع
الأدبي
يسأل الأستاذ الفاضل أتنشر الرسالة ما تنشر من الأدب لأنه يسير في طريقها المرسومة إلى غايتها المعلومة، أم تنشره لأنه أمتاز بشرف القول وبلاغة العرض وحسن الأداء، ثم يصوغ هذا السؤال نفسه صيغة فنية فيقول: نعمل وغايتنا (الأدب للأدب) أم نعمل وغايتنا (الأدب للحياة) ثم حصر حياتنا اليوم في النضالالمقدس عن القضية العربية الكبرى. وأنحي باللائمة على شعرائنا الغزليين الذين غلبت على طباعهم الميوعة فذابوا على أقدام الغيد، وتركوا جيش الجهاد يسير من غير موسيقى! ثم شرح الأستاذ أسئلته بطائفة من الآراء الحماسية يدعو بعضها إلى جدال طويل. أما خطة الرسالة وغايتها فلعل الأستاذ يذكر أننا رسمناها في استهلال العهد الأول منها، وما نشرنا ولن ننشر إلا ما يساير هذه الخطة ويقابل هذه الغاية بوجه من الوجوه. فنقول بوجه من الوجوه لأن القول بأن: (يتفق طائفة من شيوخ الأدب وقادته على مذهب واحد فيه، ثم يعلنوا هذا المذهب للناس ليتبعوه) قول تأباه الطبيعة وتنكره أصول الفطرة مادام الأدب بمعناه الأخص هو التعبير الجميل عن العواطف والأخيلة والأفكار. وذلك التعبير يختلف بالضرورة في كل كاتب باختلاف تربيته وطبيعته وذوقه. وفي ظننا أن تحديد الغاية من الأدب وتوحيد الطريق إلىهذه الغاية لا يدخلان في حدود الإمكان إلا إذا استطعت أن توجه أهواء النفوس في متجه لا تتنكبه، وتحصر خواطر الذهن في مضطرب لا تعدوه.
وأما (أن الأدب العربي الحديث قد شب ولم يعد طفلا يدلل ويرقص) فرأي يخامرني فيه كثير من الشك، لأن أدبنا لا يزال يطلب من النقد أن يهدهده كالأم، ويربت على ظهره كالأب، فإذا حذره مزالق الهوى والطيش، بشيء من الجد صاح وأعول ودبدبت رجلاه في الأرض، وراح يرسل السباب ويعلن الشكوى في غير سداد ولا فطنة. هذه جملة قصيرة من الجواب عجل بها إليك مساسها بخطة الرسالة. أما سائر الجواب فستقرأه في العدد المقبل؟(22/39)
الصهيونية
نشأتها وتطورها
1. قبل عهد بلفور
للأستاذ محمد عبد الله عنان
لفتت حوادث فلسطين الأخيرة أنظار العالم مرة أخرى إلى ذلك النظام السياسي الاجتماعي الغريب الذي فرض على فلسطين تحقيقا لمشاريع السياسة الاستعمارية. ففي فلسطين أمة عربية تعيش في ذلك الوطن منذ آماد بعيدة. ولكنها تجد اليوم نفسها أمام خطر داهم على كيانها القومي، وترى اليهودية تمكن من غزو هذا الوطن بطريقة منظمة مستمرة، تنفيذا لعهد قطعته بريطانيا العظمى على نفسها إبان الحرب الكبرى، بأن تعاون على إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين.
وفكرة الوطن القومي اليهودي قديمة ترجع إلى العصور الوسطى. ولكنها لم تكن في تلك العصور التي كانت بالنسبة لليهودية (عصرها الحديدي) أو عصر الاضطهاد الشنيع أكثر من مثل أعلى أو أمنية مقدسة غامضة. ولكنها منذ القرن الثامن عشر تغدو نظرة سياسية اجتماعية ترمى إلى غايات عملية. وكان أقطاب اليهودية في ذلك العصر وعلى رأسهم رجال ممتازون مثل مندلزون ولسنج يرون أن تتخذ القومية اليهودية صيغة محلية، فيغدو اليهود من أبناء البلد الذي استوطنوه مع احتفاظهم بتراثهم الروجي. ولكن هذه القومية المعتدلة التي أملى بها جو التسامح الذي نعمت به اليهودية يومئذ لم تلق كبير تأييد، ولم يطل أمدها، واستمرت الفكرة القديمة على قوتها وتأثلها. ومنذ أوائل القرن التاسع عشر نجد يهود إنكلترا يعملون على تقويتها وتلمس السبل لتنفيذها بالدعوة إلى إحياء التراث اليهودي وإنشاء المستعمرات اليهودية في فلسطين. ومن ذلك الحين تتجه اليهودية ببصرها إلى فلسطين؛ وتتكرر جهودها لإقناع السياسة البريطانية بإمكان قيام وطن قومي يهودي في فلسطين تحت الحماية البريطانية، وأن قيامه يغدو ضمانا قويا لتأمين طريق الهند البري وهنا تتخذ فكرة القومية اليهودية صبغة سياسية واضحة؛ وتبدو الفكرة الصهيونية في شكلها الحديث. والصهيونية هي القومية اليهودية. اشتقت من (سيون) العبرية أو صهيون وهي(22/41)
الأكمة أو المعقل. وقد أطلقت أولاً على موقع التل الذي بني عليه الهيكل ثم أطلقت على بيت المقدس؛ ثم على الأمة اليهودية كلها، وتراثها الروحي؛ وأصبح معناها الحديث عود القومية اليهودية واستردادها لتراثها الغابر. وبهذا تفهم الصهيونية في عصرنا ولهذا تعمل.
وإذا فالصهيونية الحديثة ترجع إلى أواسط القرن التاسع عشر. وفي هذا الحين نفسه تلقى الصهيونية مادتها وقوتها: ذلك أن خصومة السامية أو نزعة التعصب ضد اليهود قد اضطرمت يومئذ بفورة جديدة في معظم الدول الأوربية، وأسفرت عن مذابح مروعة في روسيا والمجر. وعصفت باليهود في ألمانيا ثم عصفت بهم في فرنسا حيث بلغت الحركة ذروتها في قضية دريفوس الشهرية (سنة 1896).
ورأت اليهودية أنها رغم حصولها على الحقوق المدنية والسياسية في معظم الدول الغربية، مازالت عرضة للبغض القديم الذي أصبح تقليداً راسخا في المجتمعات الغربية. عندئذ بدت فكرة الوطن القومي اليهودي ضرورة يجب تحقيقها لخير اليهودية وسلامها. وأخذ أقطاب اليهودية على إذاعة الفكرة واتخاذ الخطوات العملية الأولى في سبيل تحقيقها. فألفت جمعية لإنشاء المستعمرات اليهودية وزودت بالمال. وبدأت مساعي الماليين اليهود لدى الباب العالي لإنشاء هذه المستعمرات في فلسطين. ثم لقيت الفكرة روحها المضطرم في كاتب يهودي نمسوي فتى هو تيودور هرتسل. وقد ولد هرتسل ببودابست سنة 1860 وظهر في الصحافة والتأليف المسرحي وظهر بالأخص بكتاباته القوية الملتهبة في سبيل القضية اليهودية. وكان هرتسل يرى أن الوطن القومي ضرورة لليهودية لا أمنية فقط، وفي سنة 1896 أخرج رسالته الشهيرة (الدولة اليهودية) يعرض فيها فكرة الوطن القومي عرضا قوياً، ويرى أن يتخذ هذا الوطن صورة دولة يهودية في فلسطين تكون تحت سيادة الباب العالي وتؤدي له الجزية وتكون البقاع المقدسة منطقة مستقلة ذات نظام خاص، فكان لدعوته وقع عظيم في اليهودية بأسرها، وأيده أقطاب المفكرين اليهود مثل مكس نورداو وإسرائيل زنجويل وغيرهما. وكانت اليهودية على إثر ما عانته من اضطهاد الخصومة السامية في معظم البلاد تتحفز يومئذ للذود عن نفسها، وتستجمع جهودها للقيام بحركة إيجابية منتجة. وسرعان ما انتظمت هذه الحركة تحت لواء هرتسل وزعامته، وفي أغسطس سنة 1897 عقد مؤتمر يهودي عام في بازل (سويسرا) برآسة هرتسل وفيه(22/42)
وضع برنامج الصهيونية الرسمي وعرفت غايتها ووسائلها على النحو الآتي:
(تسعى الصهيونية لتحقق للشعب اليهودي إنشاء وطن في فلسطين، يتمتع بالضمانات التي قررها القانون العام، لكي يمكن تحقيق هذه الغاية، يرى المؤتمر الوسائل الآتية:
1. أن يشجع استعمار فلسطين بواسطة الزراع والعمال والصناع التشجيع الواجب.
2. أن ينظم العالم اليهودي بأسره وأن يحشد في المجتمعات المحلية أو العامة طبقا لقوانين البلاد المختلفة.
3. أن تقوى لدى اليهود عواطف الكرامة القومية والاعتزاز بالجنس.
4. أن تبذل المساعي التمهيدية اللازمة للحصول على التصريحات الحكومية الضرورية لتحقيق غاية الصهيونية.)
ثم توالت المؤتمرات الصهيونية في كل عام وبدأت مساعي اليهودية العملية واتصل هرتسل بالباب العالي، فاظهر نحو الفكرة ميلا في البداية باعتقاد أن تأييدها يكسبه نفوذا جديدا، حاول أن يجعل من ذلك وسيلة لحل المسألة الأرضية بشروط عرضها على اليهود الإنكليز ولكنه أخفق في هذه المحاولة. وزار هرتسل السلطان عبد الحميد في سنتي 1901و 1902 فآنس منه إعراضا وأخفق في سعيه. فاتجه هرتسل إلى إنجلترا وعرض أن ينشأ الوطن القومي اليهودي في أية منطقة من البلاد الواقعة تحت النفوذ البريطاني، واقترحت خلال ذلك منطقة سيناء المصرية ثم منطقة في الشرق افريقا البريطاني. ولكن أغلبية المؤتمر الصهيوني (سنة 1903) رفضت فكرة التحول عن فلسطين إلى غيرها وعدتها تراجعا وهزيمة للفكرة القومية الأهلية، ثم توفي هرتسل سنة 1904 في عنفوان قوته وجهوده فكانت وفاته ضربة قوية للحركة الصهيونية، ولم تجد الحركة من بعده مدى أعوام من يقودها بمثل قوته ونفوذه. وتزعمها مدى حين فولفزون المالي الألماني، وإسرائيل زنجويل الكاتب الإنكليزي، وجددت المساعي لدى الباب العالي، ولكن اضطراب الأحوال السياسية في تركيا حال دون كل مسعى. وجددت المساعي لدى إنكلترا. واقترحت أثناء ذلك برقة أو الجزيرة في العراق لتكون مركزا، للوطن القومي، ولكن هذه المساعي أخفقت أيضا ففت هذا الفشل المتكرر في عضد الصهيونية وخبت حماستها، فترت جهودها حنى نشوب الحرب الكبرى.(22/43)
وفي أثناء الحرب سعت اليهودية إلى غايتها بجد ومثابرة، وقدمت إلى الحلفاء كل معونة ممكنة فامدتها بالقروض المالية، والفت فرق يهودية عسكرية تحارب إلى جانبهم. وتولى الزعماء اليهود: لورد روتشيلد والدكتور ويزمان ومسيو سوكولوف تنظيم هذه الحركة والسعي لدى دول الحلفاء وبخاصة إنجلترا في تحقيق مشروع الوطن القومي، وأسدى الدكتور ويزمان، وهو علامة كيمائي ومخترع بارع إلى إنجلترا أثناء الحرب خدمات جلية، بتولي المباحث الكيميائية في المعامل الإنجليزية: واختراع مادة جديدة للمفرقعات القوية. وأسندت إليه منذ سنة 1917 رآسة الهيئة الصهيونية العالمية. وكانت إنجلترا تجد يومئذ هجومها على فلسطين، وأمل اليهودية يبدو على وشك التحقيق. وكانت فرنسا أول من تقدم من الحلفاء لتأييد مشروع الوطن القومي اليهودي بصفة رسمية: ففي يونيه سنة 1917 وجه مسيو كامبون وزير الخارجية الفرنسية إلى مسيو سوكولوف رئيس اللجنة الصهيونية التنفيذية يؤكد فيه عطف الحكومة الفرنسية على القضية اليهودية والوطن القومي، وفي 2 نوفمبر سنة 1917 أصدرت الحكومة البريطانية عهدها الشهير بإنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وعرف هذا العهد باسم اللورد بلفور وزير الخارجية البريطانية يومئذ؛ وتلى في مجلس العموم البريطاني في النصف الثاني من نوفمبر في خطاب رسمي وجه إلى اللورد روتشيلد كبير اليهودية الإنجليزية وهذا نصه:
عزيزي اللورد روتشيلد: يسرني أعظم السرور أن أوجه إليك باسم الحكومة البريطانية التصريح الآتي بالعطف على الأماني الصهيونية اليهودية وهو تصريح عرض على الحكومة البريطانية وأقرته وهو:
(أن حكومة جلالته تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين: وسوف تبذل ما في وسعها لتحقيق هذه الغاية. ومن المفهوم أنه لن يعمل شيء مما قد يضر بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهدوية الموجودة في فلسطين ولا بالحقوق أو المركز السياسي التي يتمتع بها اليهود في أي بلد آخر)(22/44)
المقبرة البحرية
للشاعر الفرنسي بول فاليرى
تلوت المقالة المنشورة بعنوان (حول قصيدة) للدكتور طه حسين فأعجبت به إعجابي بكل ما تسطره براعة أستاذنا المفكر، فثارت رغبة نفسي في الاطلاع على هذه القصيدة المحاطة بالأسرار والتي اختلف النقاد والأدباء في تفهمها. فرجعت إلى كتبي التي اعتدت أن أتزود بها في سفري، فلم اعثر على القصيد جميعها ولكنني وقعت على قسم منها لعله يكون (خيرها) لأنه أدنى إلى الإفهام ولعله (أسوأها) إن كانت روعة هذه القصيدة تتجلى في ألغازها وطلاسمها، ولكنني حتى في هذا القسم الواضح (لم أقع إلا على ما تتنازع في تفهمه الخواطر فقلت: أمر هذه القصيدة غريب عند أصحابها فكيف عند ما يريدون أن يقرءوها مترجمة وكل مترجم قد أنتحي ناحية قد لا تجمعه بالآخر إلا رموز! ولكن الروعة الغالبة في القصيدة لا ترجع إلى ألوانها القاتمة وصورها الغامضة وإنما تعود إلى فنها. وطريقتها التي جاءت بها.
في القصيدة غموض شامل! وهل كان الغموض سراً من أسرار البيان؟ وهل في استطاعتنا أن نجعل من الغموض مرادفا للبيان؟ ولكن هل كان البيان كله مستوعبا للفن كله ? أليس من الفن الشيء الغامض والشيء المعجب والشيء المثير؟ وهو بعد ذلك كله غامض جد الغموض لا ينفتح على النفوس إلا بقدر استقرائها واستجلائها للخطوط والألوان. . وهل كان اختلاف الناس في تفهم القصيدة الواحدة عيبا من عيوبها البيانية أم قيمة رائعة للقصيدة التي يتشعب من فنها فنون ومن سبيلها الواحد سبل متعددة.
أنا أحب الكتاب الذي يصرع قارئه طوراً وطوراً يصرعه قارئه كما يحبه أستاذنا الجليل. واحب القصيدة التي لا تتركنا إلا بعد أن تموج أنفسنا بشتى أهوائها وميولها، ولكني لا أحب (ولن أحب) أن يرجى الغموض في الفن لمجرد الغموض، لأن الآمر لا يؤول إلا إلى فوضى تعمل على تقويض الفن من حيث نحسب أننا عاملون عل رفعه.
هنالك آثار فنية واضحة كل الوضوح، ولكن المطلع عليها لا يلبث أن يرتد عنها ضيّق الصدر مظلم القلب، وهنالك آثار غامضة كل الغموض لا ينظر إليها الإنسان حتى تملأ نفسه روعة وجلالا. وتفتح أمامه من لانهاية الوجود. ما سر ذلك؟ العل في الفن شيئا(22/45)
غامضاً غموض النفس؟ أما تحديدي لهذا الغموض وهذا البيان فهو أمر لا أقدر على إبداءرأيي فيه بعد أن أثبتت الحياة أننا كلما زدنا قيودها اتسعت آماد حريتها. وكلما قبضنا عليها من مكان أفلتت من أماكن. . ومادام هذا شأن الحياة فليس غريبا أن يكون للفن أيضا مثل هذا الشأن، والفن أسمى ما في الحياة. وإنما روعة الفن في انطلاقه لا في قيوده.
وأخيراً أخذت هذا الجزء اليسير من القصيدة وآثرت ترجمته برغم غموض معانيه، مرتقبا من أحد شعرائنا الأفذاذ أن يؤدي نجوى أستاذنا الدكتور حق تأديتها، لأنها (في الحقيقة) كما فكر الدكتور، ستخلق نوعا جديدا في الشعر يأتي على هذه الألوان البالية الباهتة. ويخلق في الأدب العربي هذه المدارس الجديدة الشعرية التي تحمل طياتها البيان الرمزي وغير الرمزي. وهذه القصيدة نظمها (بول فاليرى) في مقبرة مشرفة على البحر، فكانت خطرة فلسفية تأميلة يصف بها حالة الكون وذاتية العالم المادي الذي يرجع إليه تراب الموتى، وراحة العالم الراقد في (اللاشعور) وحالة القلق النفسي الذي يعكر علينا صفاء هذا العالم. مريداً من وراء ذلك أن تأخذ النفس نصيبها من هذه اللحظات المتتالية الحينية.
ولا أدري أأحسنت العمل أم كنت سيئا؟ ولكنها جرأة أريد بها أن أستثير غيري ممن هم أمت مني صلة بالقصيدة وصاحب القصيدة.
القصيدة
. . إنها قدسية، مغلقة ... نارها توقد من غير غذاء
خيم الصمت على أرجائها ... وعلى صفحتها رف الضياء
سطعت أضواؤها وهاجة ... وأثارت فيّ أسباب الطرب
فظلال (كالدجى) ممدودة ... وقبور رصَّعوها بالذهب
أرأيت الظل في أكنافها ... حيث يرتج على الظل الرخام
وهناك البحر في غفوته ... قد ترامى قرب أجداثي ونام
هاهنا أمواتنا قد جثموا ... مدفئا أجسادهم هذا التراب
طاوياً أسرارهم في جوفه ... النشر ينطوي هذا الكتاب؟
الوجود ائتلفت أعيانه ... وتآخت فيه ألوان الصور
واستقرت لكمالٍ، وأنا ... قيد تبديل خفي مستمر(22/46)
وحياة قد طواها ما طوى ... وزعوها في غيابات القبور
جسد يأكله هذا الثرى ... ودماء هي قوتٌ للزهور
أين ذاك الفن في روعته ... عند ناس غالهم صرف الزمان؟
أين أرواح لهم سامية ... أين ما أوتوه من سحر البيان ?
هل علا حيث علت أصواتهم=ومشت روعتهمإلا سكون؟
نثرت كف البلى أبدانهم ... وسطا الدود على تلك العيون
هل لنفس أمل في حلم ... ضاحك. صادقة ألوانه؟
لم يمثله لعيني خادع ... طال في تمثيله بهتانه
وغداً أن ذهبت هائمة ... أتراها تملأ الجو غناء؟
قدك! فالأكوان يطويها البلى ... ووجودي مسرع نحو الفناء
أيها الخلد المعزى للورى ... أنت جهم وجميل كالربيع
توَّجوه لعيون عشيت ... عن هداها، غرَّها التاج الشنيع
حيلة الله ما أجملها ... وأكاذيب ارتدت ثوب التقى
كان في الخلد عزائي فقضى ... وطوى اليأس رجائي في البقا
من درى الأمر ولا يمقته؟ ... يتجلى كله في جمجمة!
كيفما قّلبت أبصرتَ بها ... ضحكة دائمةً مرتسمه
وبقايا ببقايا بُدِّلت ... رب لحد فوق لحد يجثم
خجلت أقدامها من وطئها ... ما أديم الأرض إلا أنتم!
ليس للدود اتصال بكم ... يا جسوما أُدرجت في الكفن
هو بالأحياء يحيا أبدا ... هو يحيا فيّ لا يبرحني!
خليل هنداوي(22/47)
من طرائف الشعر
آثار شوقية
فرديات من المنظر الثاني في الفصل الثالث من رواية البخيلة
تظهر حسنى الخادمة في ثوب أسود على باب حجرة من حجر منزل المرحومة الست نظيفة (البخيلة) حسنى لنفسها تتذكر ما وهبته لها الست نظيفة قبل وفاتها.
عيني أحقٌّ أنني في منزلي؟ ... لا. كان لي فوهبته لجمال
غاليت في شغب الفؤاد بحبه ... حتى وهبت له الثمينَ الغالي
أعطيته ما كان أصبح في يدي ... من مال جَدتَّه فليس بمالي
لم يرض أن أعيش سعيدةً ... ويعيش في بؤسٍ ورقة حال
أتُراه يقدُرُ خدمتي ومحبتي ... أولا يمرُّ له الصنيع ببال
رحمة الله على سيدتي ... وسقى الله ثراها وجزاها
حرمتني الشاش حتى ذهبت ... فكستني الخَزّ في الموت يداها
وحَمتني الماء حتى احتجبت ... فسقيتُ الشهدَ من فيض نداها
صار لي من بعدها منزلها ... والدكاكين وآلت ضيعتاها
ثروةٌ قد نهض الجوعُ بها ... ومشى الحرمانُ فيها فبناها
وهبَتْ لي كل ما قد ملكت ... لم تدع من ذاك شيئاً لفتاها
ثم بعد لحظة:
لا. ذاك مال جمال ... تركته لجمال
وعدتُ ما كنت من قب ... لُ فوطتي هي مالي
أجل أنا الخادم والطاهية ... وما أنا السارقةُ الباغية
ولا على الناس طفيلية ... أجعل أموالهُمُ مالية
سمعت حديث البخل حتى صحبته ... زماناً أراه كل حين واسمع
يروح ويغدو بين عينَّي صورة ... ويأتي حيالي بالحياة ويرجع
سيدتي ونجعلها في ... الحظ سسارا كالمثل
وانتقلت وذكرها ... بالبخل فيه ما انتقل(22/48)
يرحمها الله فما ... أنسى لها تلك الجمل
في غضب عند الحوا ... ر واضطراب (وزعل)
وما واختلفنا مرة في ... حَمل ولا جمل
لكن لأجل الثوم كا ... ن لخلف أو حول البصل
ولم نكن من الدقي ... ق وتنتهي ولا العسل
يرحمها الله وأن ... لم تأت يوما يحسن
عاشت بثوب واحد ... كالميت عاش بكفن
أما أنا فالشاش أو ... مادون ذاك في الثمن
وبذلتي وفوطتي ... طال عليهما الزمن
وأجرتي عشرون قر ... شاً مع كثرة المهن
البئر لا أبرحها ... خارجة وداخلة
صاعدة كالدلو ك ... ل ساعة ونازله
طباخة أصنع من ... لا شيء شيئاً نأكله
وانحنى على البلا ... ط كل حين أغسله
وكل دكان عليّ ... أجرها أُحصِّله(22/49)
ساعة الرضى
للشاعر الوجداني رامي
أنظري!
هذه دموع البشر جالت في عيوني
أسمعي هذا نشيد الروح فياض الحنين
يا لعينيك إذا أرسلتا ... في فؤادي بارقات الأمل!
ما لخديك أضاءا وهجا؟ ... الرضى! أم بادرات الخجل؟
صارحيني
لم يعد يخفي الهوى ما بيننا ... بعد أن ذقناه هجراً ووصال
نادميني
كم سهرت الليل في نجوى المنى ... وسألت النوم عن طيف الخيال
بادليني بالرضى رضا
أسعديني فالقضا قضى
أنا في دنيا ... المنى هيمان
أنا ولهان ... أنا فرحان
جمعتنا ساعة هفافة ... بجناحين وداد وسلام
هذه روح الهوى رَفافةً ... فاسمعي منها أناشيد الغرام(22/50)
من الأدب الإنجليزي:
المؤقت هو الكل
لتوملس هاردي
هدتني صروفُ الجَّد (إذا أنا يافع) ... وأحداثُ دهرٍ دائماتُ التقلُّبِ
إلى صاحبٍ في الناس لم أبغ وُدُّهُ ... ولم أتخيّرهُ ولم أتطلَّبُ
وقرَّ بن أسباب التواصل بيننا ... أظلُّ أراه كُلّ ُصبحٍ ومغرب
ووثقنَ عهدَ الودِّ بيني وبينه ... برغم اختلاف في مرامٍ مشرَبِ
فقلت: أساقيه المودة آنةً ... وأوليه آيات الولا والتحبُبِ
إلى يومَ يأتي الصاحبُ المفرَدُ الذي ... أرى فيه قصدي في الصحَّاب ومذهبي
فأنَ صروفَ الدهرَ شتّى كثيرةٌ ... ومازالتُ ذا عمرٍ مديدٍ مُرحَّبِ
وألقي إليّ الدهر إذ أنا راتعٌ ... أتيهُ وألهو في الشباب واصطبي
بحسناء رودٍ يُعجبُ الظّرفَ حُسنها ... وإن لم يكن يزرى على كُلِّ معجبِ
فقلت: لي بلاغٌ إلى حينَ التقي ... بمن اصطفيها في الحسان وأجتبي
وكنتُ أرجَّى منزلاً طيباً به ... أعيشُ وحيداً عيشةُ المتَّرهب
فأول دارٍ صادفتني سكنتها ... وإن لم تكن في الدور غايةَ مرغبي
وقلت: أدارى العيشَ فيها هنية ... إلى يوم يهديني الزمان لأ طيبِ
وإذ ذاك أدلى للورى برسالتي ... وأكشُف عن نور الهدى كُلّ غيهبِ
وحسبي إلى أن يسنح الزمن الذي ... أميطُ به عن كل حقٍ محجَّبِ
فضولٌ من الأشغال شتى طوارقٌ ... أجيل بها حيناً بنان المجرَّبِ
فهاتيك آرائي التي عشت طالباً ... فأينَ حياتي من ِطلابي ومأربي؟
فلا أنا أداني اجتهادي لبغُيتي ... ولا الدهرُ مما عشتُ أبغي مُقرَّبي
وما ُفزتُ من خدنٍ بخير مِنَ الذي ... لديَّ ومن خودٍ ودارٍ ومطلَبِ
ولم أَرَها الا طُيوفاً تباعَدَت ... مدى العمر ما تدنو إلى مُترقِّبِ
فخري أبو السعود(22/51)
(مقرظ لا مقرطق)
نشرت الرسالة الغراء الصادرة في أول نوفمبر سنة 1933 كلمة تحت عنوان (قصة الشعر في الأدب العربي) بقلم الأستاذ علي شرف الدين جاء فيها (. . فقد كانوا يضعون الأقراط في آذان سقاتهم من الغلمان ويطلقون على كل منهم (غلام مقرطق) الخ.
فالأستاذ يريد بهذا أن يقول: أن الغلام الذي يوضع القرط في إذنه يسمى مقرطقاً وهو خطأ منشؤه عدم التفرقة بين القرط والقرطق، وبين المتحلي بالقرط ولابس القرطق. فالمتحلي بالقرط يسمى مقرطاً ولابس القرطق مقرطقاً، والقرطق ملبوس من ملابس العجم يشبه القباء. قال الفيروزأبادى في القاموس: القرطق كجندب لبس معروف معرب كرته، وقرطقته فتقرطق ألبسته إياه فلبسه (أهـ) وفي المصباح القرطق مثال جعفر ملبوس يشبه القباء وهو من ملابس العجم.
فأنت ترى أنهم لم يختلفوا في معنى القرطق فهم متفقون على أنه ملبوس يشبه القباء وإنما الخلاف في ضبطه فجعله صاحب القاموس كجندب وجعله الفيومي في المصباح كجعفر. (وقد حرفه المولدون) في أشعارهم كقول بن المعتز:
ومقرطق يسعى إلى الندماء ... بعقيقة في درة بيضاء
وأخطأ عمر الوداعي فظن مقرطق ذي قراط في قوله:
قلت لهم لمّا بدا ... مقرطق يحكي القمر
هذا أبو لؤلؤة ... منه خذوا ثار عمر
وإنما هو مقرط كما في شرح الفصيح (أهـ) ولعل الخطأ تطرق إلى الأستاذ من الوداعي صاحب هذين البيتين فظن المقرطق ذا القرط كما ظن هو نفسه وعلمت عدم صحته؟
برهان الدين الداغستاني(22/53)
رواية الأبناء والمحبين
للكاتب الإنجليزي د. هـ. لورنس
نقد وتحليل
أراد د. هـ. لورنس في روايته أن يصور لنا فتى خيالي النزعة دقيق المشاعر في دور الانتقال الأول من حياة الصبي إلى حياة الرجل.
وليس الفتى (بول) في هذه الرواية الا فتى د. هـ. لورنس نفسه، فأبوه عامل خشن من عمال المناجم يعول أسرته بعمل ذراعيه ولا يعرف من لذات الحياة غير المأكل والمشرب ولا سيما الأخير منهما. وأما مسز موريل أمه فامرأة من أسرة من الطبقات المتوسطة، كان أبوها مهندسا وكان رجلا كبير الجثة جميلا باديالعظمة فخوراً بلون بشرته الأبيض وزرقة عينيه وفخوراً أكثر باستقامته، وقد شابهت جرترود (اي مسز موريل) أمها في ضآلة البنية ولكنها ورثت خلقها بما فيه من تكبر وشدة حساسية من أسرة أبيها.
ومع ذلك تزوجت هذه المرأة المهذبة من ذلك العامل الخشن، فقد قابلت وهي في الثالثة والعشرين من عمرها فتى من وادي أرواش في حفلة من حفلات عيد الميلاد، وكان موريل عندئذ في السابعة والعشرين من عمره، وكان جميل الجسم معتدل القامة ظاهر النشاط ذا شعر أسود متوج لامع ولحية سوداء قوية لم تحلق قط، وتلوح على خديه علائم الصحة، ويلفت النظر فمه الأحمر الرطب لأنه كان يضحك كثيرا ويضحك من أعماق قلبه، وقد وهب، تلك الموهبة النادرة أعني الضحكة القوية الرنانة، ولاحظته جرترود فسحرت به، وكان مليئا بالألوان والحياة ويتنقل صوته بسهولة إلى المضحك الغريب، وكان سريع الخاطر ظريفا مع الجميع، وكان أبوها يميل إلى الفكاهة النازعة إلى السخرية، ولكن هذا الرجل يختلف عنه، ففكاهته ناعمة بعيدة عن التعمق الذهني وحارة فيها نوع من اللعب.
أما هي فكانت على الضد من ذلك ذات عقل دائم التساؤل قابل للمعلومات يجد لذة كبيرة في الإصغاء إلى الآخرين وكانت ذكية في جر الناس إلى الكلام، تحب الآراء وتعتبر مثقفة تثقيفا كبيرا، وتحب بنوع خاص المناقشة في الدين والفلسفة والسياسة مع رجل مهذب، ولكنه لم تكن تمتع بهذه الفرصة كثيرا، لذلك تحمل الناس على أن يتكلموا معها عن أنفسهم وتجد في ذلك لذة كبرى، وكانت في شخصها ضئيلة ورقيقة ذات جبهة عريضة تتساقط(22/54)
عليها عناقيد من الحرير الأسمر المجعد، وعيناها الزرقاوان مستقيمتان أمينتان باحثتان، يداها جميلتان كسائر أهلها وملابسها دائما ذات لون قاتم فتلبس رداء من الحرير الأزرق الغامق، وتضع سلسلة فضية ذات شكل خاص ودبوس كبير من الذهب المجدول، هذا كل ما تتزين به، وكانت بعيدة عن الأهواء شديدة التمسك بالدين، مليئة بالصراحة الجميلة.
فتن والتر موريل عندما التقى ناظراه بناظريها فكانت عند هذا موضع غرابة وسحر إذ كانت سيدة فهي إذا كلمته نطقت في لفظ جنوبي وفي إنجليزية يرتعش لسماعها.
ليس موضوع الرواية حب ولتر موريل عامل المناجم أو تزوجه من جرترود كوبارد، وإنما موضوعها أجل من ذلك، ولكنن أردنا أن نسوق شيئا من وصف الرواية لهما كي نتعرف إليهما قبل أن نتعرف إلى أبنهما الصبي بول موريل.
وليس بول بكر أولادهما، فوليم موريل كان أكبر الأولاد واليه تحول حب الام حين حل الجفاء بينها وبين زوجها محل الحب الأول، إذ لم تلبث السيدة موريل، وهي المهذبة المثقفة أن أكتشفت حقيقة زوجها ورأت وراء ذلك الجسد الذي سحرها بفتوته روحا خشنة غير مهذبة، وأخذ زوجها كزملائه يقبل على الكأس فلا يذهب إلى البيت إلا ثملاً وإذا كان ثملا، كان جافا تبدو خشونة طباعه.
تحول حب الأم إلى الأبناء ولا سيما الابن الأكبر وليم وصممت بعزيمتها الفولاذية على أن يكون أبناؤها مثقفين بارزين في مضمار الحياة، وكان وليم فتى طموحا يميل إلى التعليم وقد تمكن من أن يجد عمل كاتب في أحد المحال القريبة من قريتهم ثم انتقل إلى عمل في لندن وصارت زيارته للأسرة عيداً من الأعياد.
واحب وليم فتاة من الكاتبات في لندن وعزم على الزواج منها فقدمها إلى عائلته وكانت فتاة كثيرة الأهواء محبة للمظاهر ورأت الام بعين الحنو أنها لا تصلح لابنها ولكن بعين الحنو أيضا سكتت على مضض.
على أن الفتى كان يكتشف حبيبته شيئا فشيئاً، ورفع الستر عن عينيه كما يدل على ذلك حديثه في زيارته الأخيرة لأسرته، وكان ذلك في مساء يوم السبت.
وقد خاطب أمه مرة واحدة ذلك المساء وكان يتكلم عن حبيبته في لهجة الحزن والألم:
ولكنك تعلمين يا أماه لو مت لتألمت شهرين ثم تأخذ في النسيان، وسترين إنها لن تأتي إلى(22/55)
هذا المسكن لتنظر إلى قبري لن تأتي مرة واحدة.
فقالت أمه: ولكنك لا تموت يا وليم، فلماذا تتكلم عن الموت؟) على أن القدر رسم له أن يموت، فقد عاد إلى لندن في منتصف ليل الأحد وفي يوم الثلاثاء تسلمت مسز موريل برقية بأن أبنها مريض، فأسرعت إلى القطار ولا ريب في أن الام كانت تشعر ذلك الشعور الخفي بالكارثة، ولا ريب في أنها كانت تقاوم ذلك الشعور وتغالبه فلا تستطيع، ووصلت إلى لندن لتراه يموت بين أحضانها دون أن يتعرف على أمه.
أن الصفحات التي وصف فيها د. هـ. لورنس دخول الموت إلى هذه الأسرة من أروع ما كتبه.
تحطمت آمال الأم في وليم فتحولت إلى ابنها بول ونشأ بول كما نشأ جميع أفراد العائلة على حب الأم وعلى أن يعتبر أباه خارجا عن الأسرة، ونجد صورة من ذلك في مرض حدث له وهولا يزال صبيا:
(أصيب الغلام بنزلة صدرية ولكن لم يهتم لها كثيرا، فأن ما حدث قد حدث، وليس ثمة فائدة من مقاومة الأشواك، وكان يحب المساء بعد الساعة الثامنة عندما تطفأ الأنوار ويستطيع ان يترقب لهيب نيران الموقد يبدد ظلام الحائط والسقف، ويرى ظلالاً عظيمة تتموج وتضطرب، وكأن الغرفة امتلأت برجال يتقاتلون في سكون. كان الاب يدخل غرفة المريض قبل أن يأوي إلى فراشه ومن عادته أن يكون في نهاية الرقة إذا مرض أحد في البيت ولكنه كان يعكر جو الغرفة لدى الغلام.
سأل موريل في رفق: هل أنت نائم يا بني؟
فأجاب الغلام: لا! هل أمي آتية؟
أنها انتهت الآن من طي الملابس، أتريد شيئا؟ وكان موريل يخاطب أولاده بلهجة الاحترام.
- لا أريد شيئا ولكن هل تغيب طويلاً؟
- لا تغيب طويلا يا بني
ووقف الاب برهة في تردد فوق الطنفسة المبسوطة أمام الموقد وقد شعر أن أبنه لا يريده، ثم ذهب إلى أعلى السلم وقال لزوجته:(22/56)
- أن الطفل يريدك! هل يستغرق عملك وقتا طويلا؟
- لن أتركه حتى أنتهي منه، قل له ينام.
فقال الوالد لابنه في لطف: أنها تقول لك نم.
فألح الغلام: أنني أريد أن تأتي.
فنادى موريل من السلملن ينام حتى يراك.
- كفي! فلن آتي حتى أنتهي من عملي، ثم كفاك صياح من أعلى السلم، فأن الاطفال الآخرين. . .
فقال الاب: لن تغيب طويلاً
وظل الاب يجول في الغرفة، وبدأ على الغلام القلق وكأن وجود أبيه زاد من نفاد صبره، وأخيراً وقف موريل أمام أبنه لحظة ثم قال في صوت رقيق: ليلة سعيدة أيها العزيز.
فأجاب بول: ليلة سعيدة ودار بجسمه إلى جانبه الآخر وقد شعر بالارتياح لأنه صار وحيدا.
وكان بول يحب أن تنام أمه معه، ومازال النوم في أكمل حالاته على الرغم من أقوال الأطباء عندما يشترك فيه المحبوب فأن حرارة الروح وطمأنينتها وأمنها والراحة الكبرى في تلامس الجسدين تربط النائم بالنوم بحيث يكون الجسد والروح في غايته وقد رقد بول إلى جانبها ونام وتحسنت حالته، أما هي والنوم لا يزورها سريعا فقد نامت بعد ذلك نوما عميقا أعاد إلى نفسها قوة الإيمان).
ولكن الأمهات لا يلبثن أن يجدن منافسات لهن في أبنائهن، ورواية الأبناء والمحبين، إن هي إلا قصة ذلك النضال الخفي الذي يقوم بين الام وبين تلك التي تريد أن تحول قلب ابنها إليها.
ففي مزرعة ويلي وجد بول حبه الأول: فتاة هي أخت لأصدقائه أولاد أصحاب المزرعة.
كانت مريم ذات نزعة خيالية وكانت كبيرة التعلق بأمها (وكان كل منهما ذات عينين عسليتي اللون، وذات نزعة صوفية؛ فكانت من أولئك النساء اللاتي يكتنزن الدين ويتنفسنه من أنوفهن، وكانت مريم تظن الله والمسيح شخصاً واحد تحبه حبا شديدا وتخشاه). . . .
(وكانت هذه المخلوقة لا تهتم لجمالها الخجل المتوحش المتوقد الحساسية بل لا تكفيها تلك الروح ذات النزعة الشعرية فكانت، تبحث عن شيء أخر يقوي ما طبعت عليه من(22/57)
كبرياء، لأنها شعرت بأنها تخالف غيرها من الناس، ولكنها نظرت لبول نظرة أخرى فهي بوجه عام تكره الرجال، على أنه رأته من نوع آخر، سريعا خفيفا رقيقا قد يكون أحيانا آية في اللطف ويتغلب عليه الحزن أحيانا، وهو ذكي يعرف الشيء الكثير وقد طاف الموت مرة بعائلته، ورفعه في عينيها إلى السماء ما حصل عليه من المعلومات الضئيلة. .) أحبته الفتاة وأخذ الفتى ينفتح قلبه للحب، ولكنه كان حبا غريبا خفيا ممزوجا بكل ما فيها من مشاعر الدين والتقوى، وأما حب الفتى فكان فطريا ممزوجاً بتلك العاطفة التي يمتزج بها الحب كثيراً في نفس فتى تحول قريبا من دور الصبي إلى دور الرجل، وقد رأت فيه الفتاة مثلا أعلى للرجل المتصف بأكمل الصفات، أما الشاب ذو الشفة المرتعشة بحرارة الشهوة فكان ينظر إلى الحب من ناحية أخرى. لم يلبث الفتى أن مل هذا الحب، وأراد حبا أكثر إنسانية وأقل تطلعا إلى الملائكة، ووجده عند كلارا التي كان يعمل معها في محل واحد.
تعلق الفتى بها وتعلقت به، وتجاذب النفسان تلك العاطفة تجاذبا، نقرأه بدقائقه في هذه الرواية، ولكن شيئاً واحداً كان يحول بين توافق هذين القلبين كما كان يحول بين توافق بول ومريم. الواقع ان هناك حبا آخر عنيفا محطما كان يعمل دائما على التفريق، وهذا الحب المحطم هو حب الام لولدها، فبول كان شديد التعلق بأمه وأمه شديدة التعلق به والحنو عليه، فلما أن طمحت نفسه إلى حب آخر لم يجد إلى التخلص سبيلا، إنه لم يشعر بذلك لأن هذا الحب كان يجتذبه بخيوط دقيقة خفية لا يراها ولا يستطيع إلا أن يظل فريسة، فعندما تحول حب بول عن مريم كانت الأم تجتذبه، وعندما تحول حبه عن كلارا كانت الأم تجتذبه.
ولم تكن الأم تعمل على إبعاده ولا هي تسعى لذلك سعيا ظاهرا، بل هو تود سعادته وخيره، وتود أن يصل إلى كل ما يرضيه، وإنما نفوذها القوي عليه وحمايتها الشديدة له وعنايتها به منذ صغره وإلى أن مرضت مرضها الأخير وإلى أن لفظت آخر أنفاسها أمامه، هذا النفوذ هو الذي حطمه في صباه وقد يحطمه في رجولته.
فموضوع الرواية الحقيقي قد لا يكون حياة بول وانتقاله إلى الرجولة وتفتح عينيه إلى سر الحياة، وإنما هو: نفوذ الأم وعطفها الذي قد يكون أشد خطراً على حياة الشاب من جميع الأخطار.(22/58)
وتعتبر هذه الرواية من أوائل روايات (د. هـ. لورنس) ويضعها البعض في مقدمة رواياته لكن أسلوبها المصقول الحذر يتم على يد لم تكن من المران بحيث تطلق عنانها وإن كنا نرى في التحليل النفساني نبوغا لا يقل عن نبوغه في خير رواياته.
حسن محمود(22/59)
العلوم
نور الشمس في منتصف الليل
للدكتور علي مصطفي مشرفة
في الأقطار القطبية الشمالية لا تغرب الشمس وقت الانقلاب الصيفي (أي حوالي 21 يونية) بل تبقى فوق الأفق طول الأربع والعشرين ساعة. ويذهب حينئذ كثير من عشاق الطبيعة إلى الجزء الشمالي من شبه جزيرة اسكاندوناوه أو إلى اسبتزبرجن لرؤية (الشمس في منتصف الليل) كما يسمونها. ولكي نفهم إمكان حدوث هذه الظاهرة يكفي أن نتذكر أن القطب الشمالي للكرة السماوية (موضع النجم القطبي تقريبا) يرتفع عن الأفق كلما تحركنا شمالاً على سطح الأرض. حتى إذا دخلنا الدائرة القطبية صار ارتفاعه عن الأفق أكثر من 66. 33ْ أي أكثر من بعد الشمس عن القطب الشمالي عند الانقلاب الصيفي. وبذلك يصير شأن الشمس حينئذ شأن النجوم المحيطة بالقطب والتي تدور في حركتها اليومية في دوائر محيطة بالقطب دون أن تشرق أو تغرب. ومع أن أمر هذه الظاهرة معلوم لدى الخاص والعام إلا أن القليل منا من يعرف أنه من الممكن رؤية الشمس (لا الشمس ذاتها) في منتصف الليل دون أن نتطرف شمالا إلى أبعد من خط عرض باريس أو جنوب إنجلترا. فالشمس بعد أن يختفي قرصها المنير تحت الأفق تبقى أشعتها مضيئة للطبقات العليا من الهواء الجوي وينشأ عن ذلك نور منتشر هو الذي يعرف بالشفق. ويظهر الشفق كقطعة من دائرة تنخفض مع الشمس في انخفاضها تحت الأفق نحو 18 درجة أي بمقدار القطر الظاهري لقرص الشمس نحو 36 مرة، ويجب أن نميز بين هذا النوع من الشفق وبين نوع آخر ناشئ عن وقوع ظل الأرض على الهواء الجوي، يظهر في الناحية الشرقية للسماء كقطعة من دائرة منيرة ذات لون أزرق قاتم يحيط بها قوس ضارب إلى الحمرة ثم يرتفع تدريجيا ويتلاشى سريعا حتى ينعدم قبل أن يصل إلى سمت الرأس. كما يجب أيضا أن يميز بين شفق الغروب وشفق الشروق الذي يظهر عند الفجر وفيه تبدو جميع مظاهر الشفق بترتيب عكسي لما ذكرناه آنفا.
وفي مصر كما في سائر البلدان القريبة من خط الاستواء تهبط الشمس عند الغروب سريعا ولذا فأن الشفق لا يبقى طويلا، ففي مصر يصل انخفاض الشمس عن الأفق وقت الانقلاب(22/60)
الصيفي إلى 18ْ بعد الغروب بنحو الساعة والنصف وعندها يحل الليل ويزول الشفق تماما.
أما في البلاد البعيدة عن خط الاستواء فأن الشمس تنحدر في غروبها صيفا انحدارا بطيئاً فيمتد أمد الشفق. وإذا راعينا أن غروب الشمس ذاته يجيء متأخرا صيفا في البلاد الشمالية أدركنا نتيجة هذين الظرفين مجتمعين في إطالة النهار. وأذكر أنني أثناء إقامتي في إنجلترا كنت أستطيع أن أطالع كتبي وقت الصيف في حديقة المنزل على ضوء النهار إلى ما بعد الساعة العاشرة مساء.
ومن الممكن إذا عُلم خط عرض المكان حساب مدة بقاء الشفق. فعند خط عرض باريس مثلا يمكن بحسبة بسيطة معرفة أن انخفاض الشمس وقت الانقلاب يصل إلى 18ْ عند منتصف الليل، فأن شفق الغروب يبقى إلى منتصف الليل، وعندها يبدأ شفق الشروق وبعبارة أخرى لا يكون هناك ليل حقيقي في ذلك اليوم. وفي شمال إنجلترا تبدأ هذه الظاهرة بشكل أوضح إذ يمتزج الشفقان ويبقى نور الشمس (المنعكس عند طبقات الهواء العليا) واضحاً طول الليل. وإذا قلنا إن نور الشمس يمكن رؤيته عند منتصف الليل عند خطوط العرض التي تقع شمال باريس فيجب إن نذكر ان هذا النور يكون ضئيلا، ومن السهل أن تكسفه أنوار المدينة أو نور القمر، ولذا يحسن إذا اريدت رؤيته أن يخرج المرء إلى الريف البعيد عن الأضواء الصناعية بشرط أن يكون الشهر القمري في أوائله أو آخره. ومما يساعد على حسن رؤيته وجود أجسام معتمة كالأشجار مثلا على الأفق.(22/61)
نوبل
للدكتور أحمد زكي
في اليوم الحادي والعشرين من أكتوبر الماضي أحتفل القوم بمرور مائة عام على ميلاد (الفريد برناد نوبي) وما كان العالم في حاجة إلى التذكير بميلاد نوبيل أو بموته فذكراه تتجدد كل عام. تجددها تلك الجوائز السنوية الخمس التي تحمل أسمه والتي أنشأها عند وفاته عام 1896 ووقف عليها ريع ثروته الهائلة. وقد يبلغ الخمسين ألفا من الجنيهات في السنة الواحدة. قال نوبيل في وصيته. . ويقسم هذا الريع هكذا: نصيب للفرد الذي يأتي بأخطر استكشاف في الفيزياء، ونصيب للفرد الذي يأتي بأخطر ابتداع في الكيمياء أو بتجديد خطير لابتداع قديم، ونصيب للفرد الذي يأتي بأكبر جديد في الطب أو في الفسلجة ونصيب للفرد الذي ينتج في عالم الأدب أجل نتاج على أن ينحو فيه صاحبه منحي الادياليين والنصيب الخامس والأخير للشخص الذي زاد أكثر من غيره في إخاء الأمم، وجاهد في أكثر من سواه في إلغاء الجيوش أو في إنقاصها وفي جميع المؤتمرات وزيادتها تحقيقا للسلام. . وأني أعلن رغبتي الصريحة في ألا تكون لجنسية المترشحين أي اعتبار مهما قل عند القرار يمنح هذه الجوائز).
هذا نوبل كما يتراءى في وصيته: رجل حباه الله الثروة الواسعة، ومنحه العقل الذي يدرك به خطر العلوم الطبيعية في تقدم الإنسان واسعاده. ووهبه قلب الشاعر الذي يزهد في صور الكون الواقعة، وحقائقه الراهنة، لقبحها ولنقصها، ويستلذ صورا من خلق الخيال لا حقيقة لها، لأنها تمثل الكون على ما يجب أن يكون، والإنسان على أتم حال من جمال ونيل، والأشياء على أكمل اتساق وانتظام، فالنتاج الأدبي الذي يجيز عليه يجب أن يكون ادياليا كماليا لا حقيقيا واقعيا، واتسع هذا القلب حتى وسع الأمم جمعاء فخشى عليها مهالك القتال وأشفق عليها من متالف الحروب.
أما نويل قبل الوصاة، نويل القرن التاسع عشر فرجل عالم مهندس كيميائي، صرف مواهبه في استكشاف بوائق الحروب والتفنن في أساليب الموت وتشجيع القتال بأبحاثه حتى كفل للحكومات الحجة التي لا تدفع في فض الخصومات.
ولد نوبل في استكهولم عاصمة السويد عام 1833 وذهب أبوه به صغيرا إلى عاصمة(22/62)
روسيا حيث أنشأ معملا لصناعة الطوربيد، ثم عاد به إلى السويد وخلَّف أخاه الأكبر قوّاما على ذلك المعمل فوسعه ومدده. وفي السويد بدأ نوبل بدراسة الناسفات. وكان الوقت ملائما لهذا الدراسة، فأن النزاع بين الدول كان يشتد وأسباب الخصام تتكاثر، وزادت الريبة وأشكل المستقبل ورأت كل أمة خلاصها من الحرب في العدة للحرب. ومن الغريب أن العالم لم يكن يعرف ويألف من الناسفات إلى ذلك العصر غير البارود، وكانت الكيمياء الحديثة قد بدأت تشب. والتفاعلات الكيماوية تدرس فتعرف فكان من الطبيعي أن تتجه الأمم في تنافسها إلى الكيمياء علها تجد عندها سلاحا جديدا أمضى من الحديد، أو مرادفا أقوى وأفتك من البارود. فدرس الدارسون وأجتهد المستنبطون، تارة يستحثهم المجد، وتارة يغريهم المال، وتارة أخرى تلهبهم القومية وما تتضمنه من ضرورة في دفاع، أو إشباع لأطماع، فكشفوا في النصف الأخير من القرن الماضي عن طائفة من الناسفات طالعنا آثارها في الحروب التي تتابعت من ذلك العهد، رأينا فعلها وسمعنا دويها في الحرب الكبرى الأخيرة التي ذهبت ببضعة ملايين من بني الإنسان.
بدأ نوبل دراسته فوقع على مادة اسمها (النترو - جلسرين) وذلك عام 1864. وهذا المادة كان قد وقع عليها من قبله كيماوي آخر يدعى سبريرو عام 1846 وحضرها بأسترة الجلسرين وحامض الأزوتيك الا أنه لم يحقق ماهيتها ولم يدرك خطرها في النسف وشدتها عند الإلهاب والطرق. فاتجه نوبل إلى دراستها رجاء إحلالها محل البارود، وإلى تحضيرها جملة، وإلى تعرف أسباب الحيطة لتجنب أخطارها أثناء التجهيز. ونجح في كل هذا بعد أن أصابه من مخاطرها ما لا بد منه، فحضرها مادة مائعة ثقيلة تشبه الزيت، فبدأ يشيع استخدامها في المرافق الحربية والمدنية. وهي إذا تفرقعت استحالت فجأة إلى أحجام كبيرة من غازات أهمها غاز الكربونيك والازوت والأوكسجين وبخار الماء تزيدها حرارة التحلل تمددا. حسب نوبل مقدار ما ينبعث من غاز فوجد أن الحجم الواحد من الزيت يخرج 1200 حجم من الغاز، هذا باحتسابه في حرارة الجو العادية وتحت الضغط العادي، أما وهو في حرارة التفاعل فيبلغ ثمانية أضعاف ذلك. وعلى ذلك فهذا الزيت أقوى من البارود ثلاث عشرة مرة. إلا أنه لم يكن كالبارود لينطلق بسهولة. ومع هذا كان إحساسه عند الاصطدام كبير. ففكر نوبل ثم فكر، فخال أن يدس فيه شيئا قليلاً من البارود يصله(22/63)
بفتيل قابل للالتهاب يطيله كيف شاء، ثم يشعله فتسري فيه النار، حتى إذا وصلت إلى البارود في خزانته الصغيرةفانطلق بانطلاقه (النتروجلسرين). وهذه أول مرة عُرفت أطلق فيها ناسف يناسف، وهو احتيال لعب دوره الكبير في الناسفات، ولا يزال يلعبه كبيرا إلى وقتنا هذا، وبه أفلت (النتروجلسرين) من خيبة محققة، إلا أنه ما كاد يذيع حتى ذاعت بذيوعه فواجع ونكبات لوصول أيدٍ غير خبيرة إليه. وزاد في خطرة قوامه المائع ومظهره الرطب الهادئ، فطمأن اليه بلهاء نالوا منه حتوفهم. كان ينقل على عربات تجرّ، فذات مرة صرت العجل وصرّ فما كان من صاحبنا الحوذي الطيب القلب إلا أن شحمها بالزيت الذي يحمل. وكان الحطابون يزيتون به أحذيتهم ويدهنون به أعنة خيولهم، وبعد ذلك يحكونها ويلمعونها. وتكررت الحوادث وتتابعت انفجارات ذهبت إحداها بأخي نوبل، فسنت الحكومات القوانين بتحريم بضاعته، وثار حنق الجماهير على نوبل إذ تمثلوه رجلا لا قلب له يسعى لصالح نفسه، ويطلب المال مما فيه دمار الناس. عندئذ ضاعف نوبل جهده وحشده قواه ليؤمن الناس من شر تلك النكبات. فبحث عن جسم صلب مساميّ يمتص النتروجلسرين. وبعد تجارب عدة في هذا السبيل وجد أن (الكيزلجور) يمتص أكثر من سواه. والكيزلجور طفيل ذو مسام كثيرة، أصلة نباتات من الطحالب العائمة التي تعيش في البحار والأنهار على السواء ذات خلية واحدة متسلس جدارها، ماتت فرسيت هياكلها فتكونت منها طبقات كثيرة ُتستعدن الآن. وهي في الجلاء وفي أراض أخرى. فخلط نوبل سحيق هذا الطفل بثلاثة أمثاله من النتروجلسرين فتشربه وتكون منها خليط ناسف أسماه (الديناميت) كان أضعف من النتروجلسرين قوة ولكنه كان أكثر أتزانا منه وأقل حسا بالصدمات وآمن في النقل، فأطمئن الناس إليه وذاع أمره في البلاد شرقا وغربا.
الا أن هذه الرخاوة في مزاج الديناميت والهدوء في طبعه لم تعجبا نوبل (وساءه) أن يُحصِّل الأمن بإضاعة شدة الناسف ويشتري الطمأنينة ببيع شيء من قوة الانفجار، فقام لساعته ينقب عن مفجر جديد يجمع إلى شدة النتروجلسرين وأمن الديناميت، يشفع قوة الأول بطمأنينة الثاني، فخرج بعد الكد والصبر والتعرض للأخطار إلى مخلوق جديد أسماه (الجيلاتين الناسف) وهو مزيج من مادتين كلتاهما ناسفة، أولاهما (النتروجلسرين) وأخرهما (النتروسليولوز) وهو القطن بعد معالجته بحامض الازوتيك، ويتألف من خلطهما(22/64)
جسم كالفالوذج مظهرا، وهو الموت والدمار مخبرا.
وعالج نوبل هذا الفالوذج الجديد (بالسليولويد) أو (الطبخ) فوقع على مفجّر جديد أسماه (باليستيت) من خواصه أنه إذا انفجر لا يملأ الجو بالدخان، وهو من نوع الناسفات الشائعة في الجيوش اليوم. وكان قد أتصل بالحكومة الإنجليزية يعمل معها، فسجلت هذه الحكومة ناسفاً جديداً أسمته (كورديت) كان يشبه (الباليستيت) شبها قويا، فخاصم نوبل عليه وادعاه لنفسه واتفقا معا على رفع الأمر للقضاء والرضاء بما يقسم دون أن يعكر ذلك ما بينهما من صفاء، وكانت قضية فيها تعقد وفيها إبهام، وكان فيها للقضاة لا شك حيرة كبيرة، وأخيراً فازت الحكومة، فغرم نوبل ثلاثين ألفا من الجنيهات، فغاظة ذلك وترك في نفسه أعقابا.
أن الناسفات أداة للدمار السريع الشامل تنزل على البلد ذي الأهل الكثير والسكن المشيد فلا تترك فيه لا أهلا ولا سكنا، وتذهب في ساعات أو أيام بآثار للمدنية ظل المجهود الإنساني يعمل فيه القرون، آثار لا تقتصر على أبنية ضخمة، ومكاتب مشيدة، ودور للتحف مليئة، ومنشآت للصناعات وسيعة، بل تشمل أكبر أثر وأثمن خلف، ذلك الإنسان نفسه، تلك الجماجم البشرية التي تَطيح وبها تراث الأمم وثقافات الأجيال وودائع الدهور. والناسفات كذلك أداة للخير فقد أفادت الإنسان ونفعت العمارة والمدنية بتكسير الصخر وتفكيك الحجر وخرق الأنفاق وثقب الجبال وفي حفر القنوات حيث الأرض صلدة لا ينفع فيها عضل السواعد. والمقدار الذي يستنفد منها في ذلك أضعاف ما يستهلك في الحروب. والمنشآت الهندسية الكبرى كقناة بنما والسكة الحديدية الكبرى في أمريكا الشمالية التي تصل المحيط الأطلسي بالهادي، وبناؤها برغم الجبال العاتية التياعترضت بناءها، وغير ذلك من المستحدثات العالمية الخطيرة شواهد لا تنازع على ما أدت الناسفات من خدمات جليلة يرد نصيب كبير من الفضل فيها إلى نوبل.
استخدم نوبل في شبابه وكهولته رأس الشاب وحيلة الكهل في فك قيود عن قوى للطبيعة عاتية، ولعله رجا ان تكون وسيلة لمغالبة الطبيعة لا مغالبة الإنسان، ثم رأى حقيقة ما صنع شيخاً، وأحس خيبة ما أمل، فصرف أواخر أيامه في بث الدعوة إلى السلام، وتخيل فعلاً للأمم نظاما أشبه شيء بجامعة الأمم الحاضرة وقد ولدت بعد وفاته بربع قرن. وكأنما أراد أن يكفر عن الخراب الذي جاء الأمم على يديه في حياته، والخراب الذي خال أن(22/65)
يجيئها بما اقترف بعد مماته، فوقف كل ما جمع من صناعة الدمار لدره الدمار، فلنستقبل ذكراه معجبين منه برأس العالم المحتال، وقلب الإنسان النبيل.(22/66)
العالم النسائي
رسالة المرأة
للآنسة أسماء فهمي
درجة الشرف في الأدب
أختص الرجال بالنبؤة دون النساء، وعد الرجال ذلك الاختصاص بطبيعة الحال بابا للتفاوت بينه وبين المرأة ومبرراً للتعالي عليها، ولكن المرأة، وأن لم تنل هذا الشرف في الأديان السماوية فأنها في الأمم الوثنية القديمة كمصر واليونان قد بلغت من تقدير الإنسان حد التأليه فعبدها السنين الطوال. . وأقام لها أبدع الهياكل وأجمل التماثيل والنصب، فكانت مثلا المعبودة ايزيس التي عدها قدماء المصريين رمزا للفضائل النسوية من حنان وشجاعة وصبر ووفاء، تنافس الآلهة الآخرين بوفرة قرابينها وكثرة قاصديها. وكذلك عبد افروديت وفينوس ملايين البشر من إغريق ورومان، إذ كانتا رمزاً لصفة مرغوبة في المرأة وهي الجمال، منبع الوحي والإلهام. والعرب الذين لم يقيموا التماثيل للمرأة لا في جاهليتهم ولا في إسلامهم جعلوها حلية في صدر قصائدهم التي لهاما للهياكل المصرية من جلال وفخامة وما للتماثيل الإغريقية من خلود وجمال، فجرت العادة أن يترنم الشاعر باسم المرأة في مطلع قصيدته وإن لم يكن الموضع موضع غزل وهيام، وذلك اعتراف بليغ بما للمرأة من أثر في عبقريتهم وفنهم.
والعالم الحديث يقدر ما في المرأة من قوة الوحي والإلهام بطريقة لا تختلف كثيرا عن طريق الأقدمين. ففي الفن مثلا تستخدم المرأة للتعبير عن العواطف السامية والمعاني الرقيقة فنرى، وات الفنان القدير يمثل الأمل في غادة فتانة تجلس على سطح الكرة الأرضية تحت سماء لا يبزغ فيها غير نجمة واحدة ترسل قبسا ضئيلا من الضوء، تحاول أن تعزف نغما على قيثارة ليس بها غير وتر واحد. . كذلك تشان يمثل الربيع بما فيه من حيوية متدفقة، وأمل باسم، وجمال فاتن في (فلورا) الشهيرة ذات الحسن الرائع. والمثال المصري (مختار) في تمثال نهضة مصر، يمثل مصر الحديثة التي أخذت تلقى جانبا أغلال الخمول بفتاة قروية ممتلئة جمالا ونشاطا ولم نذهب بعيداً في ضرب الأمثلة وبين(22/67)
أيدينا غلاف مجلة (الرسالة) ترى فيه المرأة حاملة شعلة الوعي والثقافة؟ على أن وحي المرأة ورسالتها لا يقتصران على عالم الفن وإنما يلعبان كذلك دورا خطيرا في الحياة العملية وخصوصا في أشد ظروف الحياة صعوبة وخطرا، فترى المرأة تصحب الجيوش إلى ميادين القتال لا لتضميد الجراح فحسب، بل لتقوية العزائم وبث روح الاستبسال والتضحية في النفوس أيضا.
ذلك هو المكان الرفيع الذي تشغله المرأة في الحياة فضلا عن وظيفة الأمومة التي تستدعي الإيحاء باستمرار إلى الأبناء، والمرأة الصمرية بصرف النظر عن وظيفتها الخاصة تحمل رسالة مزدوجة لبنات جنسها ولأبناء وطنها وهم في فترة التطور الحرجة.
وماذا عسى أن تكون هذه الرسالة التي تضطلع بأعبائها المرأة؟ أن الشهد لا يصنع إلا من رحيق الزهر، ونموذج الفن لا يوحي إلى النفس بالكمال إلا إذا بلغ نهاية الإجادة. . فمن الطبيعي إذن أن تكون رسالة المرأة هي حثها على أتباع ما يجعلها أهلا للوحي والإلهام بان تعمل على تجميل النفس قبل تجميل الوجه والثوب، فإذا لم تسم روح الفتاة وتعل همتها لا تصلح للقيام بمهمتها. فالفتاة العابثة المستهترة التي تكتفي بالقشور من ألف صنف للتمويه والتغرير. والفتاة التي لا تعيش لمثل أعلى بل لا تخرج عن عالمها المادي المحسوس وضروريات الحياة الأولية، لا يمكن ان ترفع إلى سماء الوحي لأن المادة المتغلغلة فيها تقعد بها عن النهوض والسمو.
ورسالة المرأة للرجل تنسجم مع رسالتها السالفة وتتفق مع أغراض وحيها، فتيار المادة في نفس الرجل ونفس المرأة قد طغى وأقام حجابا بينهما وبين المثل العليا. وأصبحنا في عصر قلما يصغي فيه لوحي غير وحي المنفعة الذاتية، ونتج عن ذلك ضعف روح الاستبسال من أجل الوطن والمبدأ والعقيدة، وصرنا نفر من المقاومة إذا أبصرنا الخصم أكثر منا عددا وأعظم عدة، فكأن الغرض مجرد الانتصار لا تأدية الواجب وإراحة الضمير بصرف النظر عن النتائج. فرسالة المرأة في هذه الحال هي الحث على العودة إلى تعاليم الفروسية، لأن أهم ما يفتقر إليه الرجال حقا هو تلك الروح السامية التي أكسبت العصور الوسطى جل مالها من جلال ووقار. فقد كان الفارس يخوض المخاطر ويركب الأهوال في سبيل عقيدته ووطنه، وكان يضع الشرف والكرامة فوق الحياة نفسها، ويرتبط بالعهد(22/68)
ارتباطه بدينه. وليس معنى الرجوع إلى ذلك العصر هو أمحاء تلك الفضائل في عصرنا، فالواقع أن تلك الصفات تسود اليوم أكثر بلاد العرب، وهي مصدر ما يعتز به من إباء وكبرياء واستقلال وحرية.
وهناك غرض آخر لاختيار ذلك العصر، فقد كان على رغم خشونته وقسوته مدينا بالكثير من فضائله إلى وحي المرأة. إذ قضت التقاليد أن يتطلع كل فارس إلى سيدة شريفة يتوسم فيها العظمة والنبل فيعمل على كسب إعجابها بأن يخوض الغمار باحثا عن المجد مدفوعا بروحها مترنما بذكرها.
فإذا كانت المرأة قد قامت بمثل هذا الدور برغم انحطاط مركزها وفي عصور امتازت بقسوتها وبأن الكلمة العليا فيها كانت للسيف، فهل تعجز المرأة الراقية في عهد الاستقرار والأمن عن أن تلهم أشبال السلم هي التي على ضعفها قد ألهمت أسود الحرب؟(22/69)
ليلى الاخيلية
آخر منظر من حياتها
للآنسة سهير القلماوي. ليسانسيه في الآداب.
الصحراء هادئة نائمة لا يحرك رمالها إلا ريح خفيفة ناعمة تهب بين آونة وأخرى. والليل ساكن صاف، والسماء سوداء قائمة لولا نجوم تضيء هنا وهناك: وأقبل المسافران يتهاديان على جمليهما، وعلى مسافة منهما سار قومهما. وكأنما كان هذان المسافران رسولي حركة وحياة لهذا السكون المهيب، فقد هبت بقدومهما رياح عنيفة شيئا، فأزعجت رمال الصحراء المستكينة الهادئة.
ولو أن ليلى الاخيلية سلمت ... عليّ ودوني جندل وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقى ... إليها صدى من جانب القبر صائح
المسافران أمراءه وزوجها، والتفت الرجل إلى المرأة وكأنما وجد في هذه الرياح الجديدة سببا يقطع به هذا الصمت الذي لازمهما منذ بدء رحلتهما. ولكن المرأة كانت ساهمة ذاهلة فلم يقو على الكلام. لقد كانت تشع منها قوة عجيبه تضطره بل تضطر كل شيء حولهما إلى السكون والهدوء احتراما لتفكيرها وحزنها. ورفعت المرأة رأسها في هدوء، واتسعت عيناها متجهتين نحو نقطة صغيرة لاحت لها في الأفق القاتم من بعيد. وظلت عيناها عالقتين بهذه النقطة وكأنما ربطتا إليها ربطا. ثم اتضحت هذه النقطة شيئا فشيئافإذا بها أكمة صغيرة. هذه هي الأكمة التي كانت تفكر فيها، هذه هي الأكمة التي كانت تتحرق شوقا للوصول إليها ورنت الأبيات للمرة المائة في إذنيها بصوت عميق هادئ. ترى أيجيب حقا؟ لقد كان صادقا لم تعرف له كذبة قط ولكن من سمع بميت يجيب حياً. .؟ توبة.! لقد مات! نعم مات فبكيته ورثيته. . أأكون حالمة؟ وهل أفيق من حلمي فوق هذه الأكمة؟ نعم سأفيق، سيجيبني، سأخلص من هذا العذاب الذي يحرق أعصابي حرقا. . ولو أن ليلى الأخيلية سلمت. . لسلمت تسليم البشاشة. .
ظلت ليلى تردد الأبيات مفكرة وعيناها عالقتان بالأكمة التي لاحت الآن واضحة ظاهرة، ورأى الزوج الأكمة فعبس وقال لنفسه لن تمر ليلى بهذه الأكمة حتى تصعد إلى قبر توبة. وثارت في نفسه ثورة الغيرة وأخذ يتساءل ساخطا حانقا: أيمكن أن يكون حب كهذا؟ لقد(22/70)
أحبته فتاة، ولكنه تزوج غيرها وتزوجت غيره فلم يضعف هذا الحب، وهاهو ذا الآن قد مات ودفن ويلي جسمه ولكنها مازالت تحبه، لم أقو أنا على محو ذكراه، لم أقو أنا على ملء فراغ تركه بموته، نعم لم أستطع إزاء هذا الحب شيئا. .
ظل يغلي في ثورته، وظلت هي في تفكيرها الحزين المؤلم، حتى وصلا إلى الأكمة، فاتجهت إليها صاعدة، ولكن زوجها صاح بها حانقا ثائرا. .
- ليلى! إرجعي لن تصعدي
ولكنها أجابته بصوت حزين وكأنها لم تلحظ ثورته
- أتمر ليلى بقبر توبة فلا تجيبه؟ وصاح بها ثانية!
- ليلى! بربك لا تصعدي، لقد مات توبة ولن تجديه تحيتك شيئا.
وصدمتها كلماته صدمة عنيفة. لقد مات توبة ولن تجديه تحيتي! كلا كلا توبة لم يمت! إن روحه حية، إن صوته مازال يرن في إذنيها، فلو أن ليلى الاخيلية سلمت لسلمت. . نعم سيسلم علي، سيجيب.
لم تجبه واستمرت في طريقها صاعدة، ناداها، فلم تجب، وتوسل إليها فلم تسمع، وهددها فلم تحفل له، إن توبة يدعوها من فوق الأكمة ولن يصدها عن دعوة توبة أحد.
وقفت جانب القبر خاشعة حزينة مضطربة تنصت لدقات قلبها وقد خيل إليها أن صداها يملأ السهل، لم تكن تحس الا أن توبة هنا، فهذا قبره حيث رقد من زمن. إن روحه تملأ المكان وصورته تملأ عينيها، وصوته يرن في إذنيها، ستناديه
وسيجيب، ولكن لم تقو على فتح فمها. . تجلدت قليلا قليلا ثم استطاعت أن تفتح فاها، وأخيرا أن تقول همساً:
- السلام عليك يا توبة.!
وأنصتت الإذن وظلت هكذا مرهفة، كل ما فيها يترقب، لقد أحست أنها معلقة من علو شاهق ستهبط منه بعد حين. ولكن الصمت طال وبدأت تعود إلى نفسها رويدا، بدأت تحس أن دبيباً موجعاً هو دبيب اليأس. توبة لم يجب! أخذت شفتاها تلفظان دون أي صوت: توبة لم يجب. . ثم التفتت إلى القوم في صوت يائس مخزون وكأنها تحدث نفسها:
- والله ما عرف له كذبة قط قبل هذه! ألم يقل:(22/71)
ولو أن ليلى الاخيلية سلمت ... عليّ ودوني جندل وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقى ... إليها صدى من جانب القبر صائح
فما باله لا يسلم عليه كما قال؟
وأحس امجمل بوجود ليلى ووجوم القوم معهما فاضطرب واضطرب الهودج معه. ولكن ليلى لم تحس شيئا، لقد كانت تنتظر في أيمان صادق قوي جوابا من القبر، ولم تستطع الحقيقة أن تقتلع هذا الإيمان بعد. . فهي مازالت منتظرة. . توبة لم يسلم عليها ولكنه لن يتركها هكذا. .
وكانت إلى جانب القبر بومة كامنة، فلما رأت الهودج واضطرابه فزعت وطارت في وجه الجمل فنفر فرمى ليلى على رأسها فماتت من وقتها فدفنت إلى جنبه
أن توبة لم يكذب في حياته، فكيف يكذب في مماته؟(22/72)
النجم أقرب
قال الصغير وقد رأى ... في الليل نجما قد تلهب
أبتي، بربك هاته ... كيما أسرّ به وألعب
فأجابته هذا بعي ... د، ليس كل مناك يطلب
فمشى ولاحت دوننا ... سيّارة للأرض تنهب
روعاهُ يجتذب العيو ... ن كأنها في الأرض كوكب
فدنا وقال: إذن فمر ... كبة كهذي حيث أركب
فوجمت، ثم أجبته: ... النجم يا أبني كان أقرب!!
محمود عمار(22/73)
القصص
قصة مصرية
تقاليد
للأستاذ محمد سعيد العريان
لم يكن حامد قد أتم دراسته العالية حيث بدأت تقوى صلته بصديقه حسين أفندي، ولم يكن الحديث يبنهما كلما تقابلا يتجاوز السؤال عن الصحة والأنجال، والذكريات القريبة عن جهادهما في صفوف الشباب الوطنيين، ولا يذكر حامد أنه زار صديقه حسينا في منزله غير بضع مرات كان في معضمها مريضا، وما أكثر ما يشكو المرض! ومرة دعاه حسين أفندي إلى زيارة منزله فلبى. وكانت هذه أولى زيارات متتابعة قوت بينهما رابطة الإخاء والود، وزادت إخلاصهما تمكينا وقوة.
كانت منيرة بنت حسين أفندي فتاة فارعة الجسم، معتدلة القامة، خمرية اللون، فاتنة النظرة، عذبة نغم الحديث، تبدو في انوثة فاتنة نضجت في شعاع ثمانية عشر ربيعا. ورآها حامد فأعجبه أن يتحدث إليها، وأن تتحدث إليه، وأن يشعر في أثناء ذلك أنه موضوع اهتمامها حين تسأله عن حياته في القاهرة وحيدا أيام الدراسة، وابتدأ أهل البيت يرتاحون لزياراته في ثقة واطمئنان، وابتدأ هو يحس الشوق كلما اخلف موعد هذه الزيارة. وصار من المألوف أن يزورهم كل يوم، وأن يسألوا عنه كلما غاب. وانتهى الصيف وعاد حامد إلى القاهرة يستقبل العام الثاني من دراسته في كلية العلوم، ولكنه لم يشعر بالاستقرار وهدوء البال اللذين كان يشعر بهما في العام الماضي، وإنما كان كثير الحنين إلى البلد حيث قضى أيام الصيف. أهو شعور السأم من الوحدة في بلد تذوق كل ما حل من لذاته، أو ملل الدارس طال به انتظار الثمرة، والحنين إلى أهله والصفوة من أصحابه في البلد الذي نشأ فيه؟
لم يستطع حامد أن يجيب على هذا السؤال إلا بعد أيام حين وصلته رسالة من صديقه حسين، أودعها شوقه وتحيته، يخبره أن منيرة مريضة منذ أيام. ما كان أسرع صاحبنا حينئذ إلى كتابة جواب هذه الرسالة، على كسله وتوانيه في كتابة الرسائل! لم يذكر شيئا(22/74)
من رسالة صديقه الطويلة ذات الصفحات الأربع غير مرض منيرة، ولم يكتب شيئا في جوابه غير السؤال عن منيرة والاهتمام بها، والدعاء لها! وفي صندوق البريد ألقى الجواب، ثم خرج منفردا في نزهة وراح يفكر. . . وبدا له انه كان متسرعا كل التسرع، عجلا كل العجلة، فيما ضمن جوابه من عبارات، أي صلة بينه وبين حسين أفندي تسمح له ان يهتم كل الاهتمام ببنته، وأن يصرح بالشوق إليها، والألم الموجع لمرضها في كتاب لأبيها وليس من التقاليد أن يتكلم الشبان عن بنات أصدقائهم بهذه اللهجة الناعمة المفتونة؟ ولكن حامد نفسه لم يكن يعرف لماذا كتب ذلك، ولا كيف اندفع إليه ونسى التقاليد والأدب اللائق، أكان يحبها وهذا وحي عاطفته ودافع وجدانه؟ ربما!
بلغته رسالة أخرى من صديقه حسين أفندي، فلم يكن بها ذكر لمنيرة أو نبأ عنها. أكان تجاهلا مقصودا؟ وهل كان ذلك عن أثر رسالته؟ ترى ماذا كتب فيها؟ لقد نسى كل ما جرى به قلمه، ولم يذكر إلا أنها كانت رسالة تجاوز بها التقاليد التي يدين بها حسين أفندي أكثر مما يحرص حامد على نبذها. .
وكأنما انقطعت عنه أخبار صاحبته منذ أمد طويل لا منذ أيام، وابتدأت تغزو فكره مرات في اليوم الواحد، أو أخذ يذكر حديثها ويستعيد الكثير مما ينكره ويردده بلسانه في لحن عذب الإيقاع، وطارت حولها أمانيه، وعقد بها مستقبلة. لقد كانت وهي بعيدة أفتن منها بين عينيه! ولم يشغله فيما تلا ذلك من أيام إلا أن يحصى كما بقى من الزمن ليعود إلى هناك. . .
وكثرت زياراته للبلد: زارها مرتين في الشهر الأول، وثلاثا في الشهر الثاني، وكان في كل زيارة من هذه الزيارات يجد نفسه مسوقا إلى ناحية بيح حسين أفندي، فيقضي هناك بعض الوقت قبل أن يزور أمه وأخوته. ورأى في ترحيب صاحبته به، وسرورها بمقدمه معنى لم تنكره عيناها، واعترفت به ضغط يدها عند اللقاء وعند الوداع. لم تعد به حاجة لأن يسأل نفسه عن سر ذلك، فقد أيقن أنه وأنها. . .
وأضمر أمرا وأسره إلى صديق، فقد كان يفكر في أن يختارها لنفسه زوجة، ولكن أتراه يستطيع أن يقدم على ذلك وهو ما يزال طالبا بينه وبين رجولة الأزواج أعوام ثلاثة؟ وماذا عليه لو خطبها إلى أبيها وطلبه إليه أن ينتظر حتى يتخرج، أتراه يقبل ذلك ويرضاه لها؟(22/75)
وكيف يبدؤه الحديث، بل كيف يتحدث الناس في هذا الشأن؟ لقد مات أبوه منذ سنوات، والأب هو الذي يستطيع أن يتحدث بأسم ولده في مثل هذه الشئون. . . ولم يطل به التفكير في ذلك، فقد ذاع ما حسبه سراً بينه وبين صديقه حتى وصل إلى مسمع الوالد!
وزار البلد بعد ذلك ولكنه لم يسعد بلقاء حبيبته، فقد حجبوها عنه، وأقاموا بينها وبينه التقاليد، أي أغلقوا دونهما الأبواب وأرخوا الستور. قد تكون أسعد منه الآن. فهي تستطيع أن تزيح السجف لتراه كلما زارها، ولكنه لا يراها وليس إلى لقائها من سبيل! وأبتدأ الدور الثاني من أعراض الحب، وعصف الشوق بقلبه، وعبث بلبه، وسيطر على ذات نفسه. وانصرم العام لا يذكر أنه رآها في خلاله أو استمتع بها غير نظرات كجسو الطير، ما كان أفرحه باجازت الصيف! لقد كان يظن أنه يستطيع في إبانه أن يصل ما انقطع من لذاته باللقاء (عهده الأول) ولكن ما كان أبعد أمانيه. .! وضاقت نفسه بما يجد، وأحس الشوق يفري كبده، والحسرة تشوي قلبه. وانقضى الصيف، وعاد إلى القاهرة لم يتزود بتسليمة مشتاق أو نظرة وداع، وحسب أنه هناك يستطيع أن ينشد السلوة ويلتمس العزاء في جوها الصاخب، فقضى أيامه الأولى بها على شر ما يقضيها العاشق. ولكن شأنا خاصاً دعا صاحبته أن تزور القاهرة وقتئذ، وتنزل في ضيافة بعض ذوي قرباها هناك، فتجدد الأمل عنده، وأحس كأنما نسيم القاهرة أصبح ندياً عبقا بعد أن كان نارا حامية يصلاها بعيدا عن الأهل والأحباب. . وكان من حظه أن لم تجيء معها التقاليد فتلاقيا غير مرة، وخرجا للنزهة مرات، فلم يتركا بين منازه القاهرة موضعا لم يشهداه على حبهما، ثم عادت إلى البلد وخلفت له الشوق والحنين، وكلما لج به هواه وألح عليه الشوق أنس في وحدته بذكرى تلك الايام القليلة، أو خرج يلتمس العزاء هناك. . . حيث كانا يجلسان، لعله يسمع في همس النسيم صدى ما كان يتناجيان، أو يستوحي عيون الزهر سر ما استودعاه لديها من عهود الماضي، ويتسمع في خرير الماء رسالة ضلت الطريق إليه، او يتفيأ في ظلال الخمائل مجلساً طالما بسط ذراعيه وضم. هيهات! لقد صمت النسيم إلا حنين المهجور، وجف الزهر إلا عبرة الأسى، وخرس الماء إلابكاء الواجد، وسكن الشجر إلا هزة الشيخ حطمته السنون، ليته لم يلقها بعد إذ أيأسه ذلك البعد الطويل، لقد كان من يأسه في راحة!. . كيف تمر الأيام على الغريب أوحشت نفسه وأنقطع ما بينه وبين الناس؟ انه ليخيل إليه(22/76)
أن الزمن عبء ثقيل على كتفيه يجاهد للخلاص منه ولو بالخلاص من الحياة، وكلما عاد بنظره إلى الخلف عجب كيف استطاع أن يقطع كل ذلك الماضي وكيف انصرمت أيامه والحمل لم يخف عن كتفيه، ولم يزل بينه وبين الخلاص أمد لا يمتد النظر إلى نهايته؟
الآن لم يبقى بينه وبين الحصول على إجازة كلية العلوم غير عام واحد يستطيع بعده أن يتقدم في ثقة بنفسه واطمئنان إلى مستقبله ليخطبها إلى أبيها، ولكنه حسب إن هو تعجل الحديث في هذا الشأن تفتحت أمامه الأبواب، وانزاحت الحجب، وانكشفت الستور، واستطاع أن يظفر بلقاء (خطيبته) على عين أهلها وأن يتحدث إليها بينهم. واغتنم فرصة سانحة، وما هي إلا أن استجمع شجاعته، فانطلق يحدث أباها، وأبوها ينصت إليه في هدوء. . لا شك أنه كان ينتظر أن يسمع هذا الحديث منذ زمن طويل، وأنه هيأ في خياله صورة هذا المجلس من قبل، فلم يلبثا أن تصافحا في حرارة وعزم، وقلباهما مفعمان بالسرور، وعلى أساريرهما بشر ناطق.
منذ ذلك اليوم أصبح حامد خطيب منيرة، وان لم تتناقل الأفواه هذا الخبر لأنهما حاولا أن يبقياه سراً بينهما حتى يحين يوم إعلانه، وأحس حامد بعض إحساس الملكية لشيء في هذا البيت الذي كان الناس يرونه كثير التردد عليه، ويدفعهم الفضول إلى البحث عن دواعيه، ولكن لم يتغير شيء مما ألفه حامد ونقم عليه وحاول الخلاص منه من قبل، فلا هو استطاع أن يرى خطيبته أو يتحدث إليها، أو يسأل عنها سؤال الشخص عمن يهمه، لقد زاد الحجاب بينهما. وزاد التكلف، وبدأ حديث حسين أفندي عن بعض شؤونه الخاصة فيه بعض الحذر وبعض التأنق، وهو مالم يكن معهودا بينه من قبل، وأصبح صاحبنا حامد يخجل أن يبدو منه بعض الاهتمام بشأن منيرة، حتى ليتحاشى أن ينطق باسمها، كأنه يحس في اختلاج شفتيه عندئذ لهفة مشتاق، وفي نبرات صوته رنين قبلة مكتومة، وإذا نطق به مرة ففي مثل مناجاة الحالم أو إقرار الخاطئ. ولم يكن حامد ليسره ذلك أو ترتاح إليه نفسه، لقد كان يريد بتعجيل الخطبة أن يكون أقرب اتصالا بصاحبته فإذا هو أبعد مما كان، ولقد صرح عن رغبته مرة أو مرتين فكان اعتذار حسين أفندي مضحكا حين نسب إلى أبنته الخجل والتأبي على ذلك فكأنما تأبى شيئا ترضاه، لقد كان حامد يريد أن يستوثق من حب صاحبته وثباتها على العهد قبل أن يسافر إلى القاهرة، ولعله كان يريد يتزود من حبها بما(22/77)
يقوي عزمه على المضي في جهاده المدرسي مرحلته الأخيرة. عجيب! لقد كان إلى قريب يستطيع ان يراها وأن يبادلها الحديث ولو بابتسامة أو إيماءة على بعد، ولم يكن غير ذلك الشخص الذي يزورهم كثيراً لأنه صديق أبيها، حتى إذا أرتبطا بعهد وثيق على أن تكون زوجته، وأن يكون أقرب الناس إليها حيل بينهما وضوعفت الحجب والستور! تقاليد؟ لو أنه لم يكن قدر رآها من قبل ولم يجلس إليها يتحدثان الساعات، ويمتد تعرفهما السنين لكان من حق التقاليد أن تسيطر على عواطفهما وتمليء أرادتها! تقاليد؟ أن الجهل بعض تقاليد الماضي. . . إن الموتى لا يملكون أن يتصرفوا في شؤون الأحياء!
ولم تنقطع زياراته، ولكنها كانت زيارات جافة مملولة، لقد كان يذهب إلى هناك كل يوم، لا يكاد يرى في الطريق من يحييه، لأنه لا يرى غير صورة واحدة يبتكرها خياله لتصحبه إلى هناك، وحين يعود، ما كان أتعسه! هو آدم، ولكنه هبط من الجنة قبل أن يذوق الثمرة، على وجهه علائم الخيبة واليأس والسخط والتبرم بكل شيء، ولكنه كان يذهب كل يوم. . .!
وأحس حامد وخزا أليما بين جنبيه حين علم ان التقاليد المعكوسة لا تجعلها تحتجب عن غيره من شبان الأسرة، وحين سمع صوتها تتحدث إلى واحد منهم في الغرفة المجاورة، لم يحرم عليه ما يحل لغيره؟ ألأنها خطيبته؟ لقد كان ذلك أجدر أن يرفع بينهما الحجاب؟ وابتدأت الغيرة تدب في صدره. أليست تخرج من المنزل قليلا أو كثيرا لمثل ما يخرج له الفتيات من لداتها زائرة أو متفرجة؟ أليست تسير في الطريق ينتهب من حسنها كل ذي عينين، ويستمتع بمرآها كل من أسعده الحظ أن تلتقي بها عيناه؟ يحسبه مثل متع هؤلاء: نظرة عابرة، أو نهلة عارضة، ولكنهم يسعدون بما يتمناه وهو به أحق ومنه محروم!!
أي معنى لهذه التقاليد إلا أن يكون من مثل تصرف الأم مع صغارها إذ تمنع عنهم الطعام حرصا على صحتهم، أو حرصا على الطعام. .! ولكن الأم لا تمنع أولادها الطعام إلى أن يشفي بهم الجوع على الهلاك، ولا هي تمنعه لتطعمه قطط الحي وكلابه، ليس قريبها الذي فتحت له الباب ورفعت الحجاب ووقفت تحدثه جديرا بهذه الوقفة على مرمى نظراتها الفاتنة، ومن دون خطيبها الذي يتلهف شوقا إليها أبواب موصدة وحجب مضاعفة، لماذا لم تمتنع عليه قبل أن يهمس القدر في أذنه بأمنية الزواج منها؟ ليته رضى أن يبقى صديق(22/78)
الأسرة زمنا آخر فلم يخطبها ولم يجر حديث الزواج على لسانه، إذ لبقى كما كان (مأمون الجانب) لا تدق أجراس الحذر لقدمه، ولا تغلق دونه الأبواب! ولا يعرف التقاليد ولا تعرفه. .
ولم يطل حامد مجلس في غرفة الاستقبال بعد، فخرج مغضبا وفي عزمه ألا يعود! ولكنه عاد بعد أيام. . وما دام بينه جنبيه قلبه الواهي فلن يستطيع أن يدبر أمراً أو يحكم خطة.
ومرت أيام، ومحا جديد الشوق ماضي الغضب، وجلس مع أبيها يتحدثان في غرفة على الردهة لا يحتجب من يمر قبالتهما، ودق باب البيت، وفتحت الخادم، وقام أبوها فأوصد باب الغرفة، لقد كانت آتية من زيارة إحدى قريباتها، فأبت التقاليد إلا أن يقوم أبوها فيغلق الباب دونهما حتى تمر، وماذا يكون لو رآها كما يراها آلاف الناس في الطريق؟ بل كما يراها ذلك الساب الذي جاء يشيعها إلى دارها؟ وماذا لو كان هو الذي يصحبها ذاهبة لبعض شأنها أو عائدة؟ تقاليد؟ لتسحق هذه التقاليد قبل أن تسحقه، إن كان لا بد أن يكون أحدهما ضحية، لقد كانت تذهب إلى السينما فأي حرج في أن يكون بجوارها هناك، وهي حين تجلس في مقعدها وترفع النقاب عن وجهها لا تبالي من يجلسون بجوارها، وفيهم الفتيان وفيهم الكهول. وعادت الغيرة تأكل قلبه، وتوقد النار في صدره، وجاهر بغضبه، وعادت تمتمة الاعتذار. وأبوا عليها أن تسافر في موعد خاص حددوه لها من قبل، لأن صاحبنا قد حدد هو أيضا ذلك الموعد نفسه لسفره، وماذا لوعدوه رجلا ككل الرجال الذين تقدر كل مسافرة أن تراهم يرافقونها في القطار؟ وأخلفت موعدها وسافرت وحدها وسافر وحده، حذر أن يراها أو يجلس إليها، كما يراها ويجلس إليها كل الناس!
وقدر حامد أنه لا يستطيع أن يصبر طويلا على ذلك البعد الغيور، ورأى أن يتعجل أمره حتى إذا ظفر بزوجه استطاع أن يقف من هذه التقاليد موقفا آخر. ولكن التقاليد أشارت بسبابتها مرة أخرى ووقفت تعترض الطريق؛ لقد كان هناك بعض أمور لها في رأي رجال الماضي شأن واعتبار تأبى هذا التعجيل، وخضع صاحبنا للأمر مرة أخرى ووقف ينتظر والنار تأكله، والتقاليد تذيبه.
ترى كيف حالها في إسارها بين هؤلاء الذي يحصون عليها النظرة والابتسامة، وهي المشبوبة العاطفة الدقيقة الحس، التي يعلم أنها لا تصبر عن لقائه أكثر مما يصبر؟ لقد(22/79)
استطاعا مرة أو مرتين أن يتلاقيا على غير رقبة، وعلى غير موعد أيضا، فلما نمت عيناها بمكنون قلبها، وافتضح السر لديهم، كان سؤال فيه إعنات، وجواب فيه حرج، فلم يشفع لها غير الدموع!
لقد مر بعد ذلك سنتان أو يزيد، وموقف صاحبنا لم يتغير، وتأبى التقاليد أن تتزحزح من موقفها لتفسح الطريق لزوجين يريدان أن يتمتعا بسعادة العيش قبل فوات الأوان والشباب، وشعر أن فؤاده يهرم. وأن ذلك الحب الذي كان يعمر قلبه أبتدأ يتحول إلى ذكرى حزينة بائسة، وصور الماضي الجميل التي كانت ترف ناضرة أمام عينيه تذوى وتتعرى من فتنة الحياة، والمستقبل الباسم الذي صوره لنفسه من أطياف الأمل تطمس رواءه آلام الحاضر العابس، ويئس وقنع من غرامه الأول والأخير بالذكرى يستبعدها ليعيش فيها لحظات. لقد كان يكره التقاليد لأنها صورة الماضي البالية، ولكنه عاد لا يؤمن إلا بالماضي، ولا يرضى إلا أن يعيش فيه. .!
أراد أن يروض نفسه على السلوان، وأن يدفن ذلك الماضي في أعماق النسيان، ولكن نارا بين ضلوعه كانت تشعل هذه الذكرى كلما هم أن يطفئها، وقلبه بين جنبيه لا يفتر ينبض، وريشة في الخيال تمحو صورا وتبعث صورا.
أيقن أن سلطان التقاليد أقوى من سلطانه، فكيف يحتال على هذه التقاليد حتى تسلس له قيادها، ويملي فيها إرادته؟ لو كان يدري متى تأذن له أن يحتضن خطيبته إليه لاستطاع أن يحمل نفسه على الصبر، ولكنها تؤجل دائما إلى الغد، والغد لا يتحقق.
لقد رأى أختها أمس؛ نهض صدرها، وتحير في خديها ماء الشباب؛ لقد أصبحت هي أيضا عروسا، أصبحت تنظر نظرتها. . ولو فتش فيها وراء هاتين العينين لظهر من خلفهما في مرآة الأمل الزوج الذي أبدعت تخيله وأجادت رسمه. . .
وخطر لها خاطر: لو أن شابا تقدم غدا إلى حسين أفندي يطلب يد (سعاد) ورأى فيه ما يحمله على قبوله، فماذا يكون من أمره؟ ستأبى التقاليد ولا شك أن يزوجها قبل زفاف أختها، وأنه لحريص على التقاليد، وسيأبى عليه أيضا بر الوالد أن يفلت منه هذا الخاطب، وجه التدبير إذن أن يعمل على تعجيل أمر حامد ومنيرة ليخلي الطريق لسعاد، فينتهي من تقاليد ليبدأ تقاليد غيرها. .(22/80)
ياله من أمل! إذن لاستطاع حامد أن يتغلب على التقاليد بالتقاليد نفسها، بل أن يملي عليها إرادته ويهزأ بها كما أملت عليه إرادتها من قبل هازئة جبارة.!
ومرت أيام، وتلتها أيام. . وفجأة وقعت المعجزة وكان وقعها سعيداً، لقد تقدم الخاطب الوجيه يطلب يد سعاد.
كيف تقدم. .؟ من أين تقدم.؟ من يدري. .؟
وابتدأت التقاليد دورتها في فلك جديد، ترمي إلى هدف آخر، أما حامد أفندي فقد هدأت نفسه، وتفيء ظل الطمأنينة. لقد ظفر بأمنية الحياة. . .!
ولكن. . هل تزوجت سعاد بهذا الخاطب. .؟(22/81)
الكتب
الأعاصير
نظم الشاعر القروي رشيد سليم الخوري
للدكتور عبد الوهاب عزام
قال عمي الكريم عبد الرحمن عزام؛ قد أهدي إليّ من وراء البحار ديوان اسمه الأعاصير فأحسست في كل حرف منه ناراً، وفي كل بيت إعصاراً، وذكرت قصائده المتنبي الذي يقول فيها
مدحت قوما وأن عشنا نظمت لهم ... قصائدا من إناث الخيل والحصن
تحت العجاج قوافيها مضمرة ... إذا تنوشدن لم يدخلن في إذن
قلت: فأعرنيه لأقرأه. قال: على شرط أن تكتب عنه في الرسالة، قلت: إن وجدته جديراً بالكتابة.
قرأت الديوان كله فإذا قلب ثائر، ونفس طامحة، ألفت عليه العربية فكرها وإحساسها فليس بها إلا الفخر بماضي العرب، والأنفة من حاضر العرب، والرجاء في مستقبل العرب، وإذا الكتاب كاسمه أعاصير ثارت في البرازيل، وأنطقت كقصائد المتبني
إذا سرن عن مقولي مرة ... وثبن الجبال وخضن البحارا
حتى وافت بلاد العرب تذكى في خمودها نارا، وتنفث في كل نفس إعصارا. تتبع الشاعر أحداث حوران ودمشق وفلسطين، فأشاد يذكر أبطالها، ونعى على من خذلوهم، وخص أهل لبنان قومه، بأوفى نصيب من لومه، وهو في شعره كله عربي لا يفرق بين دين ودين وقوم وآخرين، بل هو على مسيحيته يعتز بالعرب المسلمين ويعجب بمفاخرهم. ويعذل المسيحيين على أن لم يساهموا إخوانهم في الثورة على الباطل، والاستجابة لدعوى الوطن.
والشعر جملته معمود بالمعاني الجيدة. حال بالأسلوب السهل المتين. ولا أطيل على القارئ وصفي، ولكن أدع الشاعر يعرب عن آلامه وآماله. وضع على غلاف الديوان سبع أبيات منها:
إلهي رد مالك من أياد ... على وطني ورد لها الأيادا(22/82)
خلعتَ على رُباه الحسن فذا ... وألبست القطين به الحدادا
شبول الأرز باتَ الحلم عجزاً ... وبعض الصبر موت إن تمادى
فكونوا النار تحرق أو قذى في ... عيون البطل إن كنتم رمادا
وأهدى الكتاب إلى الشهداء الوطنيين في بيتين:
يا رفاتا تحت الرمال دفينا ... مبعدا عاطل الرموس نسيا
لك أهدي هذا الكتاب لأني ... لم أجد في البلاد غيرك حيا
ويقول في قصيدته (بطل الصحراء) التي ألقاها في حفلة للإعانة أبطال المجاهدين، والخطاب لسلطان باشا الأطرش
يا شريدا عن البلاد طريدا ... أنت في كل معبد من بلادك
كل ما في أقلامنا من مضاء ... مستمد من مرهفات حدادك
كل ما في صدورنا من لهيب ... هو إضرام ورية من زنادك
كل ما في هتافنا من دوى ... هو ترجيع نبضة من فؤادك
كل ما في آثارنا من خلود ... هو تاريخ ساعة من جهادك
أيها المنجد المحاويج عار ... أن تصم الأسماع عن إمدادك
لو فرشنا لك الجفون مهادا ... وجعلنا الأهداب حشو وسادك
ما جزيناك ساعة من ليال ... بت عنا على حراب سهادك
كل حر فداك يا فادي الش ... م وأولاده فدى أولادك
وفي قصيدته التي يصف فيها هجوم سلطان باشا على الدبابة الفرنسية وقتل من فيها:
وثبت إلىسنام التنك وثبا ... عجيبا علم النسر الوقوعا
وكهربت البطاح بحد عضب ... بهرت به العدا فهووا ركوعا
كأن به إلى الإفرنج جوعا ... وسيفك مثل ضيفك لن يجوعا
تكفل للثرى بالخصب لما ... هفا برقا فأمطره نجيعا
وفجر للدماء بهم عيونا ... تجارى من عيونهم الدموعا
فخر الجند فوق التنك صرعى ... وخر التنك تحتهم صريعا
ومن قصيدته التي عنوانها (الاستقلال حق لا هبة) يصف فيها مجاهدي حوران:(22/83)
ولئن نسيت فلست أنسى بينهم ... رجل الرجال وفارس الفرسان
فكأنهم منه مكان قناته ... وكأنه منهم مكان سنان
يرمي بهم قلب الوطيس كأنهم ... حمم الحمام قذفن من بركان
يفني الرجال بأحدب ومقوم ... ضدين في اللبات يلتقيان
ويكاد يفترس العدو جواده ... فكأنه أسد على سرحان
وفي عيد استقلال لبنان:
تروى بدجلة مدمعي وفراته ... يا موطنا لم يبق غير رفاته
خلت المحافل من بلابله فلا ... تقع العيون على سوى حشراته
حسب الحزين عليك أنك مائت ... قد عيدت أحبابه لمماته
شقوا لها الأعلام من أكفانه ... وتبادلواالأنخاب من عبراته
أعلام إذلال كأن خفوقها ... في وجوه لطم على وجناته
ملفوحة بتحسرات سراته ... خفاقة بتنهدات هداته
ومن قوله في لوم قومه:
رضينا للتعصب أن نهونا ... فأغمضنا على الضيم العيونا
نقول المسلمون المسلمونا ... فنرميهم ونحن الخائنونا
نبيع بدرهم مجد البلاد
فتى حوران لا لاقيت ضرا ... لأنت أحق أهل الشام فخرا
لئن لم يؤتك الرحمن نصرا ... فحسبك أن غضبت ومت حرا
ولم تسلس لقيد أو قياد
بربك قل متى لبنان ثارا ... ليدرك من علوج الغرب ثارا
متى نفرت إلى السيف النصارى ... لتغسل بالدم المسفوك عارا
وتحرز مرة شرف الجهاد
ويقول بعنوان (صيحة الجهاد):
ولو لم تكوني فرنجية ... لكنت سعادي قبل سعاد
ولكنني عربي المنى ... عربي الهوى عربي الفؤاد(22/84)
لعمرك يا مود لولا ذووك ... لما ميز الحب بين العباد
ولا أكرهوا شاعرا أن يق ... ول لهذى البلاد وتلك البلاد
فهم أوغروا بالعداء الصدور ... وهم أضرموا النار تحت الرماد
فلا تعذلي شاعرا زاهدا ... وكم هام بالحب في كل واد
فأني حرام على هواك ... وفي وطني صيحة للجهاد
ويقول في حفلة عيد الفطر التي أقامتها الجمعية الخيرية الإسلامية بالبرازيل:
أكرم هذا العيد تكريم شاعر ... يتيه بآيات النبي المعظم
ولكنني أصبو إلى عيد أمة ... محررة الأعناق من رق أعجمي
إلى علم من نسج عيسى وأحمد ... و (آمنة) في ظله أخت (مريم)
هبوني عيداً يجعل العرب أمة ... وسيروا بجثماني على دين برهم!
فقد مزقت هذي المذاهب شملنا ... وقد حطمتنا بين ناب ومنسم
سلام على كفر يوحد بيننا ... أهلا وسهلا بعده بجهنم!
وفي قصيدة الأطرش والدبابة:
إذا حاولت رفع الضيم فأضرب ... بسيف محمد وأهجر يسوعا
(أحبوا بعضكم) بعضاً وعظنا ... بها فما نجت قطيعا
وبعد فللشاعر القروي رشيد سليم الخوري الثناء والإعجاب من العرب والعربية، والتحية من كل نفس حرة وقلب بالمعالي خفاق.(22/85)
العدد 23 - بتاريخ: 11 - 12 - 1933(/)
فلسطين. . .
بين حديد الانتداب الذي يأكل الأجسام، وذهب الصهيونية الذي يأكل الأرض، يعيش العربي في فلسطين عيش المحكوم عليه بالقتل أو النفي، إذا سلم له بدنه، لا يسلم له وطنه؛ وما هذه الصرخة التي صرخها فصكت المسامع الصم، وبلغت الضمائر الغلف، إلا العارض المنذر في الحي بالضر يلُوعه، أو الخطر يَرُوعه، أو الظلم يحيق به!
وأن الصرخة للحياة تسلب، أو للديار تغصب، لهي الصرخة التي يدوي فيها صوت الحق، ويمتزج بها أنين العدل، ويضطرب فيها احتجاج الإنسانية على قوم اتخذوها حِيالة لإستعمار الأوطان، ووسيلة لاستعباد الأمم
كانت البربرية في العهود الخوالي تغزو سفارة الوجه، وتنهب ظاهرة اليد، وتقول صريحة العبارة، وتعمل واضحة الغاية؛ فجاءت مدنية اليوم فوضعت اليد الحمراء في القفاز الأبيض، والفريسة بمعاهدات الصداقة ومؤتمرات السلم، وصاغت معاني القوة والغصب في ألفاظ القانون ومصطلحات العلم، وأشفقت على شعور الإنسانية فسمت الاسترقاق تمدينا، والاغتصاب انتدابا، والحماية وصاية؛ وعمَّقت أغوار القلوب السياسية فلا تعرف لماذا حرمت بيع إنسان لإنسان، وحللت بيع شعب لشعب!
هذه أمة من أسبق الأمم قدما في المدنية، وأعرق الشعوب نسبا في الحرية، تسير على دستور رفيع الدعائم أثيل المنبر، ولم يمنعها عرفها الموروث ولا شرعها القائم أن تبيع فلسطين العربية جهراً لنفايات اليهود، وليس العرب من مماليكها، ولا فلسطين من أملاكها! ثم تسخِّر لضمان هذا البيع الباطل قوة الحكومة وسلطان الدستور، وتمثل تحت العلم البريطاني وعلى مواطن المسيح أروع مآسي العدالة!!
سلطوا على البلاد الجوع وأرسلوا من ورائه الذهب! فكأنهم قالوا للعربي البائس: أما الوطن ولا حياة، وأما الحياة ولا وطن! فأما الذين قهرهم الفقر وبهرهم المال فقد باعوا أنفسهم وأهليهم بيع الغبن للدخيل، وأما بقايا السيوف وأحفاد الفاتحين فآثروا أن يدفنوا أعزة في ثراها العزيز، على أن يتركوها أذلة لليهود والإنجليز، فدافعوا الأزمة بالصبر، والانتداب بالعزم، والصهيونية بالمقاطعة، وأروا هذه القوى الثلاث التي حالف بينها الباطل أن العربي الذي غزا العالم ولا يمسك رمقه إلا قبضة من سويق وشفافة من ماء، لا يُخذل من قلة، ولا يفشل من جوع!(23/1)
لك الله يا فلسطين! لشد ما تكابدين من عسف القوى وكيد الغني وقسوة الظالم!!
إن دموعك منذ الفاجعة لم ترقأ، وجروحك منذ الواقعة لم تندمل، وصوتك الجازع المكروب لا يزال يجلجل في أعماق الشرق وآفاق العروبة مستغيثا من الخطب الذي ناء بألمانيا وأنقضَ ظهر الدول! ولكن بنيك البواسل يا فلسطين يتنافسون في مجد الموت وشرف التضحية! فهل تخشين أن يعيث في أديمك المقدس عائث، وأنت ترين شبابك الميامين يخوضون غمرة الهول وراء زعيمهم الشيخ، وصدره الواهن مشبوب بعزم آبائه، وشعره الأبيض مخضوب بدم أبنائه؟
الوطن العربي اليوم في البلاء سواء. لأنه فقد الروح الفتية التي كانت تعمره، والحيوية القوية التي كانت تغمره، وأصبح هيكلا متهدم الجرف لا يملك بعضه بعضا.
على إن فزعته الإجماعية لمظلمة فلسطين تبعث الأمل في عودة تلك الروح ورجعة هذه الحيوية. ولعلها فزعة المغيث المسعف لا فزعة النادب الآسف! فان مصاب فلسطين لا ينفع فيه البكاء ولا يدفع منه الخزن
إن فاجعة وادي الحوارث صورة صغيرة لمصير فلسطين إذا استنام أهلها للوعود، وبيعت أرضها لليهود، وقبض العرب أيديهم عن معونة إخوانهم على دفع هذا الخطب.
وان دول الأرض جمعاء لتعجز عن إيفاء وعد بلفور ما دامت الأرض في يد العرب، فإذا ما استنزلوا عنها بأغلاء الثمن وإغواء الذهب شتتهم القانون وحده تحت كل كوكب.
فان اليهودي إنما جاء فلسطين ليشتري وطنا يستعمره، لا حقلا يستثمره، فكل شبر من الأرض يخرج من يد العربي يدخل إلى الأبد في يد اليهودي، ويومئذ لا يرده إلى أهله احتجاج ولا تظاهر.
وما الاحتجاج والتظاهر إلا إعلان للحق لا دفاع عنه.
والدفاع المنتج عن فلسطين أقواه وسيلتان:
أن يأخذ الزعماء والعلماء موثقا من الشعب إلا يبيع المضطر أرضه لغير العربي مهما خدعته المطامع ودلاه الطامع بغرور.
أن يقوموا بدعاية منظمة قوية في الأقطار العربية، وعلى الأخص في مصر، إلى تأليف الشركات العقارية لاستعمار فلسطين.(23/2)
والعرب الذين فُطروا على نُصرة الأخ، ونجدة الصريخ، ومعونة الضعيف، لا يعرضون عن يد فلسطين التي تمتد، وصوتها الذي يهيب:
فان كنتُ مأكولا فكن خير آكلٍ ... وإلا فأدركني ولما أُمَزَقِأحمد حسن الزيات(23/3)
بيير فيلليه
في اليوم الرابع والعشرين من شهر أكتوبر الماضي كان قطار من القطر آتيا إلى باريس من مدينة (كان) فانحرف عن طريقه وسقطت القاطرة ومعها عربات أربع في هوة عميقة، وكثر الجرحى والقتلى، وكان بين الذين حملتهم عربات الإسعاف إلى مستشفى قريب فمات فيه آخر النهار عالم أديب من علماء الفرنسيين وأدبائهم هو الأستاذ بيير فيلليه، ولم تكد الصحف تذيع نعيه حتى وقع من قلوب الأدباء المثقفين الفرنسيين موقعا أليما.
وقد طلبت مجلة العالمين إلى الأستاذ جوز يف بدييه مدير الكوليج دي فرانس وأستاذ الفقيد أن ينعاه في كلمات قصيرة إلى قرائها في العالمين فقبل رغم ما بقلبه من الحزن. وكتب صفحات مؤثرة نترجمها في ما يلي:
كان بيير فيلليه صاحب الآثار الأدبية القيمة ضريراً كما يعلم كثير من الناس، أصابته هذه الآفة بعد مولده بقليل، ولكنه لم يرض قط أن يشير في أثر من مآثره التاريخية إلى هذه الآفة، وكان يكره أن يشير إليها في مقدمة من مقدماته على أنها تعلة من التعلات أو معذرة من المعاذير. وكان يصدر في ذلك عن رأي له فضله في كتابه (عالم المكفوفين). كان يرى في هذا الكتاب عزاء لأمثاله انهم ليسوا بحال من الأحوال مغلقين كما يقول الناس، وان ليس هناك ميدان من ميادين العمل الاجتماعي أو العقلي يؤخذ عليهم ويغلق من دونهم. وان آفتهم يمكن أن تضايقهم ولكنها لا تستطيع أن تعجزهم عن العمل والإنتاج، لا يحتاجون في ذلك إلا إلى أن تكون قلوبهم قوية صلبة. وأن أشد آلامهم، أو قل ألمهم الوحيد، لأنهم لا يرون، إنما يأتيهم من هذا الإشفاق الظالم الذي يختصهم به المبصرون. وقد أراد دائما أن يعامل في مهنته التي كان يحترفها كغيره من الأساتذة، وفي كتبه التي كان يمليها كغيره من المؤلفين كما يعامل غيره من الناس، فينقد ويحكم على آثاره في غير رعاية ما بأنه ضرير.
أيجب علي الآن أن أطيع أمره وأحترم كبريائه هذه؟ لا. فان الموت قد ألغى هذا الأمر. وإذا كان من الحق أن آفته هذه هي التي بعثت في نفسه أقوى الفضائل وأحقها أن تكون قدوة ومثلا، فأني أستطيع أن أقول أن هذه الآفة نفسها هي التي منحت حياته وآثاره نصيبهما الموفور من الجمال، وكل من قرأ هذه الكلمات سيشعر بأني لا أقول هذا إشفاقا وعطفا، بل حنانا وإكبارا.
ولأجل أن أجد في نفسي أصول هذا الحنان والإكبار يجب أن أرجع بالذاكرة إلى عهد بعيد.(23/4)
دخل بيير فيلليه مدرسة المعلمين العليا في سنة 1900، وكنت حينئذ معلما فيها. كان قبل ذلك تلميذا ينشأ في معهد العميان الأهلي، ثم اختلف إلى غير مدرسة من المدارس الثانوية في باريس. ثم أقتحم المسابقة لدخول مدرستنا على نفس القواعد والشروط، وفي نفس المواد التي يستبق فيها غيره من المبصرين، لا يميزه منهم إلا أنه كان يستعين بغلام أقل منه ثقافة وعلما، فكان هذا الغلام يبحث له في المعاجم، ويكتب ما يملي عليه. فنجح نجاحا حسنا. ونستطيع أن نتصور ما أدركنا نحن الأساتذة من القلق، وما أدرك رئيسنا الطيب القلب جورج بيرو. كنا نتساءل ماذا نصنع بهذا الغلام الحدث الذي كان يحسن فنون البيان في أكبر الظن، ولكنه كان ضئيلا نحيلا ضريرا. إلى أي نحو من أنحاء العلم نوجهه؟ والى أي غاية نسيره؟ ولا سيما وقد كان يقول أنه لا يحب إلا التاريخ وتاريخ الآداب خاصة، ولكن كيف كان يعرف هذا النوع من العلم؟ كنا ننظر إلى كتبه المكتوبة بالخط البارز والتي أصطحبها حين أقبل إلينا، فكنا لا نجد إلا ديوان فرجيل وبعض الآثار الفرنسية الكلاسيكية، وبعض كتب النحو، ومع أن هذه الكتب كانت تزحم غرفته فإنها لم تكن في حقيقة الأمر إلا شيئا يسيرا جدا مما يستعين به التلاميذ. ماذا كان يتصور من أمور البحث التاريخي ومصاعبه؟ ألم يكن حقا علينا أن نوجهه إلى نحو من أنحاء هذا البحث العقلي الذي يمكن أن يعتمد فيه الباحث على تفكيره الخاص، فان صاحب ما بعد الطبيعة أو الأخلاق أو المنطق أو فقه اللغة، يستطيع إلى حد ما أن يعتمد على نفسه. فكان علينا إذن أن نبين له إلى أي حد يعرض نفسه لخيبة الأمل إن مضى في طلب التاريخ، وأن نمحو هذه الآمال التي كان يعلل نفسه بها. ولكني رأيت إلحاحه وحزنه، فاعتزمت سرا أن أخضعه لامتحان لا يعلم به أحد.
فكلفته أن يهيئ بحثا عن أسطورة من أساطير لافونتين، وهي أسطورة الطحان وأبنه والحمار، ليلقيه في محاضرة قريبة. فقبل محزونا لأني كنت قد كلفت رفاقه بأبحاث أخرى أوسع من بحثه وأعظم خطرا، وكان يحس أني كنت أريد أن أحصره دائما في التمرينات المدرسية التي كان قد شبع منها حتى أدركته التخمة قبل أن يدخل مدرسة المعلمين، ولم يكن يطمئن إلى هذا الموضوع إلا حين أنبأته بأن أستاذي جاستون باري قد خصص له صفحات عشرا في بحثه المعروف عن القصص الشرقي وأثره في الأدب الفرنسي. وكنت(23/5)
أكلفه أن يدرس هذه الأسطورة، لا في صورتها الكثيرة التي اختلفت عليها. ولم أدله إلا على هذا المرجع ثم انتظرت:
وبعد ستة أسابيع أو بعد شهرين ألقى الدرس الذي طلب إليه. فيا له من دهش عم رفاقه في قاعة المحاضرات! ويا له من فرح ملأ قلبي! فأنه لم يكتف كما كان غيره يكتفي بالتفكير في هذه النصوص الخمسة أو الستة التي رواها جاستون باري: فقد اهتدى لا أدري من أي طريق إلى مجلة (بنفى) (الشرق والغرب) حيث كان (جودوك) قد أخذ منذ سنة 1860 يسجل مجموعات من الأساطير الشعبية، وما هي إلا أن أراه قد استطاع أن يستكشف نصوصا عشرة أهملها جاستون باري عمدا أو خطأ. هنالك أعلنت مكيدتي وهي أن أعرض على هذا الطالب الجديد أيسر بحث في ظاهر الأمر، هذا البحث الممهد المطروق لأتبين من أمره ما أريد، ولأعلم أيكتفي بإعادة ما قرأ، أم يحاول أن يأتي بشيء جديد، وبينت لرفاقه مصاعب هذا البحث عن الأساطير. وقد كان الناس كلفين به في ذلك الوقت، وبينت لهم ما يحتاج إليه الباحث المجد من الجهد والاستقصاء لاستكشاف الصور المختلفة لهذه الأساطير في كتب غامضة مهجورة، ثم أنبأتهم بأن جهدا خصبا منتجا للاستقصاء العلمي قد ظهر في هذا اليوم.
وما لي أطيل الوقوف عند هذه القصة كأني أريد أن أتحدث عن نفسي، ذلك لأبين أولاً كيف كانت الحياة قديما في مدرسة المعلمين، كيف كانت صورة من صور التعاون بين الأصدقاء، يعطي الأساتذة فيها من أنفسهم أكثر ما يستطيعون إعطاءه، ولكنهم يأخذون من طلابهم مثل ما يعطون، ثم لأن بيير فيلليه كثيرا ما كان يذكرني بهذه القصة فيما بعد، في ذلك اليوم أعلن بعض الطلبة المتقدمين الذين لم يسبقهم كثيرون أنه مؤمن بهذا الشاب الضرير واثق بفوزه في هذا النوع من البحث الذي يميل إليه.
ولكن هذا الشاب - بيير فيلليه - وجد في الوقت نفسه بين أساتذته ورفاقه من أعانه على قطع هذه الطريق. وكان منهم الظريف (بيير موريس ماسون) والجاد (جبرييل ليرو) وكلامها سقط في ميدان الشرف أثناء الحرب الكبرى، ومنهم بول ازار، وأوجين البرتيني، وتراشيه، وموريت، وبيير كومير، ولويس ريو، وألكسندر جوانو، واميه برتو، وجاك شيفالييه. . . وكم أحب أن أسميهم جميعا هؤلاء الأصدقاء الذين كانوا مثله في سن(23/6)
العشرين، والذين أعطوه وأخذوا منه أحسن المثل وأقومها. بهذه التجربة وبتجارب أخرى أمثالها اثبت بيير فيلليه أثناء الأعوام الثلاثة التي قضاها في المدرسة أنه كان قادرا على النهوض بأعباء الاستقصاء العلمي وبأثقلها وأشدها تعقيدا.
ومن هنا دهشت البيئات العلمية، ولم ندهش نحن حين أظهر في سنة 1908، بعد أن ظفر بإجازة الأجر بجاسيون - وبعد أن أتم دراسته في معهد تيير في ظل أميل بوترو الذي لقيه أحسن لقاء - كتابه الأول الذي عرض فيه مصادر كتاب - تطور فصوله.
وكان قد فكر في هذا الكتاب أثناء إقامته في مدرسة المعلمين وشجعه على ذلك الأستاذ جوستاف لنسون، ولأجل أن يبلغ من هذا البحث ما يريد، بدأ فنسخ كتاب مونتيني بيده خطا بارزا فكانت نسخته تبلغ عشرين مجلدا. ثم وضع حكم مونتيني وتجاربه في قصاصات من الورق، وكانت هذه القصاصات التي رتبها على حروف المعجم تملأ صندوقا ضخما لم يفارقه أعواما طوالا. وكذلك تسلح بهذه الأدوات وحفظ كتاب مونتيني عن ظهر قلب على اختلاف نسخه، ثم أخذ يبحث عن مصادره. فمن أراد أن يقدر هذه المحولة فليلاحظ ما أحاط بها من الظروف. فقد كان يجب أن يقرأ عليه كل المؤلفين الذين نقل عنهم مونتيني، وكل المؤلفين الذين كان يرجح أن مونتيني قد عرفهم في التراجم اللاتينية التي كانت معروفة في وقته، مثل سكستوس امبيريكوس، كزينوفون، ديوجين، لارس، أفلاطون، وفي التراجم الفرنسية المعروفة في ذلك الوقت تيودور الصقلي، هيرودوت، اريانوس، وفي النصوص الأولى من لوكريس إلى فاليريوس مكسيموس، أي كل ما كتبته روما القديمة تقريبا. ثم ما كتبه علماء النهضة من ارسم إلى جوست ليس. وإذنفقد بذل بيير فيلليه جهده هذا في قراءة ألف من الكتاب، ويمكن أن نقدر غنيمته المادية من هذا الجهد إذا نظرنا في الجزء الرابع من طبعته لكتاب مونتيني التي ظهرت سنة 1920 ورأينا المراجع وقد رتبها على حروف المعجم بثمانية آلاف مرجع تتصل بأربعمائة من المؤلفين كتبوا باليونانية واللاتينية والإيطالية والفرنسية.
وبنحو هذه الطريقة وبمعونة طائفة من القراء كانوا يعيرونه أبصارهم إعارة آلية استطاع أن يتتبع تأثر المؤلفين والكتاب بمونتيني، فأظهر كتاب مونتيني ولوك وروسو، ثم مونتيني وبيكون، ثم مونتيني والألاهيين الإنجليز. هذه عنوانات لطائفة من أبحاثه ظهرت كتبا أو(23/7)
رسائل. وهذا النحو من إظهار استعارة المؤلفين بعضهم من بعض أو تقليد المؤلفين بعضهم لبعض لا يعني أصحاب الاستقصاء من العلماء وحدهم، وإنما يمكن أن يقال في كتبه كلها ما قاله أميل بوترو حين قرأ كتابه الأول: (انه يظهر في هذا الكتاب مفكرا مرويا، ماهرا، نفاذا، فيلسوفا، يمس بدقة غريبة أخفى الفروق. وما بين الأفكار والآراء من صلات)
ولكن أتراه أنفق جهده الضعيف الخصب كله في درس مونتيني؟ ألم ينته إلا إلى طبعه كتاب مونتيني التي ظهرت سنة 1922 والتي وصفها أخصائي ماهر هو المسيو هنري شمار فقال إنها توشك أن تبلغ الكمال. كلا. فلنذكر كتابه الذي سماه مصادر الآراء في القرن السادس عشر، أو كتابه عن المصادر الإيطالية لمقالة الدفاع عن اللغة الفرنسية الذي يظهر فيه بين ما أظهر من الغرائب أن القسم الذي يثبت فيه دبيلليه مساواة اللغة الفرنسية للاتينية واليونانية ليس إلا ترجمة من كتاب سبرون سيروني ألفه في مدح اللغة التسكانية. ولنذكر أبحاثه عن دوبينيه وأبحاثه عن مونلوك، وأحدث كتبه الكبرى (مارو ورابليه). فهو قد عنى بروضته وهي هذه الروضة النضرة روضة النهضة الفرنسية، فلم يهمل منها شيئا. ثم هو لم يكتف بخدمة الآداب، وإنما أنفق أعظم جهده المادي والعقلي والشعوري في الإحسان إلى أصدقائه المكفوفين. فعاش كما عاش فالنتان هاوى، وبراي، وموريس دي لاسيزيران. وقد أستحق من المكفوفين تقديس ذكراه بكتابه (عالم المكفوفين) وكتابه (تربية المكفوفين) وبإحسانه إليهم في غير انقطاع.
أما حياته الخاصة، أما المعونة التي وجدها عند زوجه بنت أميل بوترو التي تأثرت بوفاء أمها لأبيها، فلم تفارق زوجها يوما واحدا والتي كادت تموت معه يوم 24 أكتوبر، فلا أستطيع أن أشير أليها إلا في خفة وسرعة، وحرص شديد على ما ينبغي من التحفظ. ولكن جميع الذين عرفوا بيير فيلليه وأحبوه يرون من الخير والعدل أن أقول فيه ما قاله مونتيني حين تحدث عن صديقه ايتين دي لابويسي: (إني أعرف كثيرا من الناس يمتازون بأنحاء من الخير والجمال، هذا يمتاز بالعقل، وهذا يمتاز بالقلب، وهذا يمتاز بالمهارة، وهذا يمتاز بالضمير، وهذا يمتاز بالحديث، وهذا يمتاز بعلم، وهذا يمتاز بعلم آخر، أما هذا فقد كان حقا ذا نفس مليئة وكان يستقبل الأشياء كلها أحسن استقبال: نفسا من تلك النفوس التي وسمها القدم بسمة العتق والرقي الصحيح).(23/8)
جواب عن سؤال
للأستاذ أحمد أمين
وجه الأستاذ علي الطنطاوي في العدد الماضي إلينا وإلى أدباء الرسالة سؤالا ملخصه: أنعمل وغايتنا الأدب للأدب؛ أم نعمل وغايتنا الأدب للحياة؟ ثم سأل لماذا ينصرف أدباؤنا عن الأدب القومي الذي يعالج (القضية الكبرى) إلى ذلك الأدب الغزلي الضعيف؟ وقد أجبنا أجمالا في ذلك العدد عن بعض هذا السؤال، وتفضل صديقنا الأستاذ أحمد أمين فأجاب تفصيلا عن البعض الآخر (المحرر)
لك الحق (كل الحق) يا أخي أن تصرخ ونصرخ معك في وجه زعماء
الأدب العربي طالبين أن يلتفتوا إلى الأدب القومي ويكثروا القول فيه،
فالعالم العربي كله يجيش صدره بآلام وآمال، والأدب يجب أن يعبر
عن هذه الآلام والآمال، بأسلوبه الرشيق، وعواطفه القوية، وخياله
الرائع؛ وإذ ذاك يجد الناس غذاءهم فيما يقرأون، ولذتهم ومتعتهم فيما
يسمعون وينشدون، والناس في كل عصر يتطلبون من الأديب أن يكون
موسيقاهم التي تناسب عاطفتهم، فأن كانوا فرحين مرحين كانت
الموسيقى فرحة مرحة، وان كانوا باكين محزونين كانت الموسيقى
حزينة باكية، ومن السماجة أن توقع الموسيقى نغمة فرحة في مأتم، أو
نغمة باكية في عرس، وقد كان الناس يقصدون إلى الشعراء يشرحون
إليهم عواطفهم ويطلبون منهم شعرا يناسبها ويرويها.
كان بيت بشار في البصرة مقصدا لهذا النوع من الناس، يذهب إليه الغزِل الذي تجيش في صدره عاطفة الحب ولا يستطيع أن يعبر عنها ليجد بشار من فنه ما يعبر عما في نفسه، وتذهب إليه النائحات لينشدهن شعرا يستنزف الدمع ويبعث الشجا والشجن
وكل عصر له مطالبه وكل أمة لها مواقفها وعواطفها، ولا خير في الأدب إذا لم يصف الحياة، ويغذ العواطف، ويجد الناس في كل موقف يقفونه قولا أدبيا قوياً يشرحه، وشعرا(23/10)
جميلا يعبر عنه
والعالم العربي الآن له عواطف قومية جديدة لم تكن لديه قبل سنين، هي نتاج التيار الحديث الذي غمر أوربا وسار منها إلى الشرق، فملأ مشاعرها ألما مما هي فيه، كما ملأها أملا في حياة خير من الحياة التافهة التي يحيونها، ثم التفتوا إلى الأدب القديم فلم يجدوا فيه غذاءهم كافيا، ليس فيه شعر يتغنى بالحرية كما نود، ولا بالقومية كما نحب وإنما هي أبيات مبعثرة مجملة، قيلت لوصف مشاعر غير مشاعرنا وفي مواقف غير مواقفنا. وتلفتنا إلى الأدب العربي الحديث فوجدناه ناقصا كأخيه، لم يسد الفراغ، ولم يكمل النقص، قد أفرط القدماء في الغزل فأفرط المحدثون فيه، وقصر القدماء في وصف المناحي الإجماعية والنزعات القومية فقصر المحدثون فيه، وأصبح ناشئنا لا يجد الغذاء الكافي في القديم ولا في الجديد، فلك الحق أن تطلب من الزعماء وأن تطلب من الرسالة أن تدعوا الكتاب والشعراء أن يلتفتوا إلى وجوه النقص فيكملوها، حتى إذا احتاج الشباب إلى نشيد أو أناشيد وجدها، وإذا وقف موقفا يتطلب قصيدة في معنى من معاني القومية أو الحرية أنطلق بها لسانه، وإذا طرب لمنظر طبيعي في بلاده وجد القصائد قد قيلت فيه واستوفت محاسنه، وهكذا، ولك أن تطلب من كتاب الروايات أن يبحثوا عن نواحي الضعف في الحياة الإجماعية الشرقية، فيجلوها ويعالجوها، وأن يكون لهم نظر صادق في تعرف نفسيات الأفراد والجماعات فيحللوها، وأن يتجه الكتاب الاجتماعيون فيدرسوا أمراض قومهم، ويستخدموا الأدب في الخطب والمقالات تثير مشاعر الناس وتهيجهم، ليتخلوا عن رذيلة، ويستكملوا فضيلة، ويعالجوا نقصا، وينشدوا كمالا
لك الحق أن تنعى على الأدباء أن أكثرهم في الشرق لم يتجه هذا الاتجاه إلا قليلا، وانهم بين أن ينظموا في الأغراض القديمة ولا يحسنوها إحسان القدماء، وبين أن ينقلوا من الأدب الغربي ما فقد روحه، أو لم يتناسب وروحنا. وإلا فأين هو أدبنا القومي؟ وأين التغني بمناظر طبيعتنا؟ وأين الروايات الاجتماعية تصفنا؟ لا شيء من ذلك إلا القليل الذي لا يتناسب ونهضتنا الحديثة
أنا معك في هذا كله - ولكن لست معك في إنكارك: أن يكون الفن للفن، والأدب للأدب، ولست معك في أن تطلب أن يكون الأدب للحياة - فليس من شك في أن القطعة متى(23/11)
استوفت عناصرها الأدبية كانت أدبا، مهما كان موضوعها الأخلاقي، وليس أحد ينكر أن قصائد أبي نؤاس الفاجرة الداعرة أدب، كما لا ينكر أحد أن الصورة العارية إذا أجيد تصويرها فن جميل، وان لم ترض عنها الأخلاق. فالأدب للأدب والفن للفن، ولكن هذا لا يمنع أن تكون سلطة المصلحين فوق سلطة الأدباء؛ فإذا رأى المصلحون أن ضربا من الأدب يحل الأخلاق ويفك عرى المجتمع، حاربوه بكل ما استطاعوا من قوة، وإذا رأوا أن ضربا من الأدب في الأمة ضعيف ويجب أن يقوى، طلبوا الإكثار منه بشتى الوسائل، وشجعوا عليه ومهدوا له السبل، وهذا هو موقفنا بالضبط. فقد كثر فينا ما نسميه بالأدب المائع كثرة تحل الأخلاق وتضعف الرجولة، وهذا الأدب المائع من غير شك أدب، وقد يكون أدبا راقيا، ولكن يصح أن نخضعه لنظر المصلح. فإذا كان المصلح الاجتماعي قويا ضرب على هذا النمط من الأدب ولو إلى زمن محدود، حتى تستكمل الأمة قوتها ورجولتها. ومثل الأدب في ذلك مثل العلم، فالأدب للأدب كالعلم للعلم - فان أردت بقولك أن الأدب لا يكون أدبا إلا إذا خدم الحياة فأنا مخالفك، وان أردت أن المصلحين والدعاة يجب أن يخضعوا الأدب لأغراض الحياة الصحيحة فإني موافقك.
وبعد - فقد غلوت يا أخي في رأيك، فلم ترد أن يكون في الأدب حب إلا من نوع خاص، وأردت من الأدب أن يكون قويا وقويا فقط، وبعبارة أخرى تريد أن تكون حياة الأدباء حياة حربية ليس فيها إلا القوة وما يبعث على القوة، ليس فيها زهرة جميلة ولا غزل ظريف، وأنا أخشى أن الأدب باقتصاره على القوة يفقد القوة، فان للنفوس سآمة، ويحسن أن يكون بجانب صوت المدفع والقنابل صوت العود والقانون. ولقد كنت أكتب في هذا الموضوع حتى إذا وصلت إلى هذا الموضوع شعرت بملل، فما هو إلا أن سمعت نغمة رقيقة من بيانو فأصغيت إليها حتى استكملتها فعادة نفسي إلى نشاطها - ألا يكون في هذا مثل صالح للحياة الأدبية؟ فجد وهزل، وتغن بالحرية، ونعي على الاستبداد، وتغزل في زهرة، وفكاهة حلوة. هذا يا أخي أصلح حتى من الناحية الجدية، فمن لم يله أبدا قصرت حياة جده وتقبضت نفسه، ولم يتحمل طويلا مرارة العمل، وأن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهراً أبقى. أحب أن تكون الحياة الأدبية كفرقة الموسيقى: لا طبلا فقط، ولا نايا فقط، بل هما وغيرهما، وعيب حياتنا الأدبية الحاضرة أنها رخوة فقط، فيجب أن يضاف إليها نغمات(23/12)
القوة، لا أن تحل النغمات القوية وحدها محل النغمات الرقيقة، فأنا إن فعلنا ذلك كان الأدب أبعث على الحياة، وأحفظ للقوة، فطمئن نفسك ولا تأس على شاعر طال ليله وأرق جفنه حبيب أعرض عنه وابتسامة احتجب عنه نورها، فمن يدرينا لعل الحب كله من واد واحد، فمن أحب فتاته أسرع استعدادا لأن يحب أمته، ويحب ربه، ومن تحجر قلبه لم يبك على شيء.
وبعد فموقف (الرسالة) كما أفهم من مبادئها يجب أن يكون الدعوة إلى تكميل النقص في الأدب العربي، وحث قادته على أن يطرقوا من الأبواب ما نحن في أمس الحاجة إليه حتى يكون أدبنا صورة تامة لنا، وحتى يكون غذاء كافيا لمختلف عواطفنا، يجب أن يكون موقفها - فوق الموقف الأدبي، موقف المصلح، فترفض أن تنشر الأدب الساقط المرذول، المضعف للخلق، المفسد للرجولة، ولكن يجب كذلك أن تفسح صدرها لنوع من الأدب لا هو بالقوي الذي تتطلب الاقتصار عليه، ولا هو بالضعيف المائع، هو أدب الحب العف، والفكاهة الحلوة البريئة، والهزل يشف عن جد، والمزح مبطنا بعظة، ونحو ذلك، ففي التزام الجد خروج إلى الجفاء، وانحدار إلى الجمود.
هذا إلى أن الرسالة يجب أن تكون بجانب دعوتها إلى الإصلاح سجلا للنزاعات الأدبية على اختلاف أنواعها ما لم تكن النزعة مستهترة، تميط قناع الحياء، وتخرق حجاب الحشمة.
وأخيرا لك الشكر (يا أخي) على ما حوى كتابك من غيرة صادقة، وعاطفة نبيلة، وما أثرت من موضوع يستحق العناية، ويدعو إلى طول التفكير.
أحمد أمين(23/13)
حول (الوضوح والغموض)
للأستاذ عباس فضلي خماس
روى لنا الدكتور طه حسين في مقالة (حول قصيدة) حادثة طريفة عن قصيد المقبرة البحرية للشاعر الفرنسي بول فاليري، وكان غرضه من استعراض ما دار بين أدباء فرنسة وشعرائها بعد ذيوع هذه القصيدة أن يطرق باب بحث طالما اشتاق الأدباء إلى طرقه وهو (مقياس فهم الشعر والأدب). وكان بحث الدكتور حائما حول هدف أساسي وهو (هل يحسن بالشعر أن يكون واضحا لا خلاف فيه، أو إن بعض الغموض فيه مغتفر بل مطلوب؟ وهذا المطلب في نظري جدير بالبحث والتمحيص إلى حد بعيد، ولعل المضي في استقصائه يؤدي إلى إظهار حقائق جديدة في عالم الأدب، تقلب أوضاعنا الراهنة رأسا على عقب، ويلوح لي أن التوسع في بحث هذا الموضوع بحثا مستفيضا دقيقا ربما انزل بعض أمراء الشعر وملوك البيان الذين اعتلوا في أذهان الناس العروش إلى الحضيض، وربما رفع بعض خاملي الذكر من الشعراء والأدباء إلى تلك العروش وقدم إليهم معتذرا صولجان الشعر والأدب الذي شاءت الأقدار أن يغتصب منهم اغتصابا.
لقد كتب علينا نحن أبناء هذا الجيل أن ندرس الأدب درسا آليا كدرس
المعادلات الرياضية والرموز الكيمياوية. وقد ترتب على طرز دراستنا
هذه أن نكون آليين في نظرنا إلى الشعر، آليين حتى في فهمنا إياه، بل
وفي طريقة تفهمنا. وهذه النتيجة خلقت فينا نزعة التقليد لا في مزاولة
الشعر والأدب فحسب بل في طريقة تفكيرنا وفي أساليب محاولتنا فهم
أغراضه ومراميه. مبتعدين في ذلك عن السنن الطبيعية الابتعاد كله.
فليسمح لي الأستاذ الكبير بشيء من الحرية فيما أعرض له.
الغموض في الشعر والأدب
للغموض في الشعر والأدب أسباب معينة واضحة؛ أولها ضعف الأسلوب في التعبير عن الشعور، وثانيها غرابة التعبير وعدم انطباقه على الطريقة المألوفة عند جمهور القراء.(23/14)
وثالثها نقص جزء مهم في الصورة التي يتخيلها الشاعر ويريد إبلاغها إلى النفس. ورابعها ازدحام جملة من الصور الفكرية وتداخلها في رقعة واحدة ضيقة بحيث يتعب العين تبينها دفعة واحدة ويجهد الذهن تصور علاقة أجزائها بعضها ببعض. وخامسا إظهار القطعة الفنية قبل نضوجها في الفكر، وقبل اختمارها في النفس. وسادسا ابتعاد الصورة التي يرسمها الشاعر عن تصور الجمهور ومداركهم مما هو مألوف عندهم ومعهود لديهم في معارفهم ومشاعرهم الماضية والحاضرة، حتى في معارفهم ومشاعرهم التخيلية؛ وأجزاء الصورة الخيالية التي ترتسم في ذهن الإنسان تتكون في الحقيقة في المواد التي تتألف منها معارفه ومشاعره الماضية والحاضرة عينها
هذه هي العوامل الأساسية لغموض لغة الشعر والبيان إذا كنا نستند في بحثنا إلى الحقائق الصريحة. أما إذا أردنا أن نموه على القراء فنستطيع أن نقول ما يخرج عن نطاق هذه العوامل ونستطيع أن نرغم الناس على أن يتصوروا في القطعة المعقدة بسبب من الأسباب الآنف ذكرها غموضا ينطوي على إبداع فني، ونقول لهؤلاء الناس إن أذواقكم الفنية أحط من أن تصل إلى رؤية هذا الإبداع، وان مستوى شعوركم وتفكيركم، أوطأ من أن يدرك هذا الفن البديع المتلفع بهذا الغموض. .
لقد جاز الشعر والأدب أدوارا غريبة، ووجد الشعر والأدب في ظروف عجيبة، وكان العامل في هذه الغرابة وهذا العجب النقدة من الكتاب والأدباء، فقد لعب بعضهم أدوارا طمس فيها الحقائق وأبرز إلى الناس الغث سمينا وأرغمهم على اعتبار السمين غثا.
ولولا شعوذة هؤلاء النقدة ومهارتهم في تصريف الكلام ومقدرتهم في البيان لكان جمهور الناس يرون في ترتيب طبقات الشعراء والأدباء غير ما يرونه الآن. نعم لو ترك هؤلاء الكتاب الناس وشأنهم يقرأون الشعر بصورة طبيعية ويفهمونه كما هو المقصود منه، لما كنا الآن مرغمين على أن نؤمن بالأحكام الثابتة في المفاضلة والموازنة بين شاعر وشاعر أو بين أديب وأديب.
ولكن اعتدادهم بأنفسهم ساقهم إلى أن يقولوا مثلاً إن الشاعر الفلاني أراد بقوله كذا. . . كيت وكيت - ولم يقصد كيت وكيت.
ولعل أقوى حجة يتذرع بها من يرون تحت الشعر الغامض إبداعا فنيا، هي إن الإنسان إذا(23/15)
جابه منظرا رائعا في ثوب جمال من مناظر الكون يرى في المرة الثانية فيه ما لم يره في المرة الأولى ويلتذ بما يراه في المرة الثالثة اشد من التذاذه بما رآه في المرتين الأولى والثانية. أما أنا فاعتقد أن هذه الظاهرة لا يصح على الإطلاق اتخاذها دليلا على اعتبار الغامض من الشعر ذا قيمة فنية.
فكل بديع في هذا الكون من منظر إلى صوت إلى شعر يلازمه الوضوح كيفما تكيف وتطور وتصور. والوضوح جوهر الجمال الحقيقي، أما (الغموض) بمعناه الذي يعرفه الناس فلا يجتمع مع الإبداع أو الجمال في صعيد واحد، وقد يجهد الإنسان نفسه ويكد ذهنه إذا سمع قطعة شعرية فيها شيء من الغموض، وقد يجد في هذا الإجهاد والكد لذة التوصل إلى الصورة الذهنية المقصودة. فليس من الضروري أن تعتبر هذه اللذة ناشئة من تلمس الإبداع، وإنما هي ناشئة من التوصل إلى نتيجة بعد إجهاد وكد.
لقد ذكر الأستاذ العقاد جملة عبارات يؤيد بها أن وراء الغموض في الشعر والأدب إبداعا فنيا، وكان من جملة ما ذكر أن الإنسان قد يقرأ كتابا غير مرة فيجد فيه كل مرة من المعاني ما لم يره في القراءات السابقة. وعندي أن تفسير هذهالحقيقة الراهنة هين، وعلتها واضحة لا غامضة. هذا إذا لاحظنا أن معارف الإنسان التي تنمي فيه شعوره وذوقه ومداركه تتبدل على الدوام وتتكيف حسب الظروف المختلفة التي يكون فيها. فالأثر الذي يتركه مطالعة كتاب في نفس الإنسان في وقت ما ذو علاقات متنوعة بشعوره وذوقه ومزاجه في ذلك الحين، وان الانطباعات التي تتولد في نفسه من معاني ذلك الكتاب تتناسب مع ما ذكرناه في ذلك الحين فقط. أقول في ذلك الحين فقط، لأن الشعور والذوق والمزاج ظواهر نفسية تتبدل وتتطور بالنظر إلى الظروف المحيطة بالإنسان. فليس ثمة غرابة إذا وجد الإنسان في مطالعاته المتوالية لكتاب ما معاني جديدة لم يكتشفها في مطالعاته السابقة. ولا ينبغي أن تعتبر هذه الصفة في الكتاب غموضا، لأن تبين جميع المعاني والمرامي المقصودة في الكتاب دفعة واحدة أمر مستحيل، ولا يتمكن الذهن من استيعاب جملة معان دفعة واحدة. والذهن مثل العين أو سائر الحواس. فكما إن عينك إذا وقعت على رقعة تحتوي على عدة أشكال لا تحيط بها جميعا دفعة واحدة ولكنها تتمكن من ذلك بتوجيه البصر إلى كل شكل بصورة خاصة، وكما أن الأذن إذا سمعت ألحانا مختلفة لا(23/16)
يمكنها أن تؤلف بين هذه الألحان إلا إذا أنصتت لكل لحن على حدة، كذلك الذهن لا يتمكن من الوجهة السيكولوجية أن يدرك كل ما أودع في كتاب من معان دفعة واحدة، وهذا ما يجعل الإنسان يكتشف في قراءته المتوالية لكتاب واحد معاني جديدة.
ولكن الخاصة من الأدباء يأبون إلا أن يخترعوا لهذه الظاهرة الطبيعية النفسية اصطلاحا أدبيا وهو ما رمى إليه الأديبان طه والعقاد فأسموه: (بالغموض) فسرد لنا الأول قصة (المقبرة البحرية) للشاعر الفرنسي بول فاليري وتبسط في وصف ما دار حولها من مناقشات وآراء في غموضها وعدم اشتمالها على معان واضحة. فقال من جملة ما قال أن: (كل هذه الآراء وآراء أخرى للشاعر العظيم في هذه المقدمة الممتعة إن لم تبين المعاني التي أودعها قصيدته فهي تبين شيئا آخر أظنه أقوم وأجل خطرا من هذه المعاني، وهو مذهب الشاعر في فن الشعر وما ينبغي له من الارتفاع عن هذا الوضوح الذي يفسد الفن إفسادا ويقربه من الابتذال).
ولكن! إذا لم تتمكن القصيدة من بيان المعاني التي يودعها الشاعر فيها فهي إذن ليست قصيدة، ولك أن تسميها ما شئت.
إن لم تستطع أن تودع المعاني التي تريدها الألفاظ التي تقولها فأنت والصامت أو الهاذر سواء.
وما هو هذا - الشيء الآخر - الذي يظنه الدكتور أقوم وأجل خطرا من هذه المعاني؟:
(هو مذهب الشاعر في فن الشعر)
لا ريب في أن مذهب الشاعر في فن الشعر أجل خطرا من المعاني باعتبار أن العناية بالمذهب هي التي تقوي المعاني وتصقلها فتظهرها ناضجة واضحة براقة، ماضية في نفوذها إلى النفس.
ولا أدري كيف نوفق بين هذين النقيضين: ألا يتمكن الشاعر من إيداع المعاني التي يريدها في قصيدته، وهو بعد ذلك يستطيع أن يظهر مذهبه في فن الشعر.
ويظهر أن الدكتور بعد أن يصل به القلم إلى عبارة (ويقربه من الابتذال) يدرك أن ما أورده (غامض) للتناقض الظاهر فيه فيستدرك الأمر بأن يقول: (فهو يرى مثلا أن جمال الشعر يأتي من أنك تجدد اللذة الفنية في نفسك كلما جددت قراءته، ومن أنك تستكشف في(23/17)
القراءة الثانية من فنون الجمال ما لم تستكشفه في القراءة الأولى، بل تجد في كل قراءة فنونا جديدة من الجمال لم تجدها في القراءات التي سبقتها)
هذا صحيح إذا تمكن الشاعر من إيداع قصيدته الصور الذهنية التي تخلق للقارئ هذا الجمال، والصور الذهنية في الواقع سداها الألفاظ ولحمتها المعاني التي تبرز تراكيب هذه الألفاظ في عبارات وجمل
فجمال الشعر إذن يأتي من طريق مذهب الشاعر في فن الشعر إذا كان هذا المذهب خليقا بأن يظهر المعاني المقصودة بحلل قشيبة جذابة، ومذهب الشاعر في فن الشعر ليس أجل خطرا من المعاني إلا إذا تمكن الشاعر من أن يودع قصيدته المعاني أولا. وبتعبير آخر لا يمكننا أن نعترف للشاعر بمذهب (خاص كان أو عام) إن لم يودع القصيدة التي ينشئها المعاني التي يقصدها.
فإذا أنشأ الشاعر قصيدة وجاء الناس يتساءلون منه ماذا أراد أن يقول بهذه القصيدة، فهذه القصيدة أما أن تكون خالية من المعنى وأما أن يكون صاحبها عند نظمها مرتبك الأفكار والخواطر مزعزع الحس والشعور إلى حد انه لم يستطع أن يودع قصيدته معنى معينا. فإذا كنا نسمي هذا شاعرا ويعتبر ما يودع في منظوماته من أفكار مشوشة غير معينة ولا مفهومة (غموضا) ثم نتحرى تحت طيات هذا الغموض إبداعا فنيا يزينه إلينا خيالنا المحض، فيجب أن نعتبر عوام الناس طرا شعراء مبدعين بكل ما تمر بين شفاههم من عبارات مرتبكة يسوقونها عندما تثأر نفوسهم ببعض الظواهر والمشاعر. ويجب أكثر من ذلك أن نعتبر الجمل المرتبكة المتقطعة المبهمة التي يتمتم بها الطفل عندما يجابه منظرا غريبا أو حادثا جديدا غموضا ينطوي على إبداع فني.
وبهذا نكون قد أسرفنا في الإساءة إلى الفن والى الإبداع والى الشعر والبيان إساءة عظيمة
بغداد الآنف ذ(23/18)
رسائل حزينة
هل كان حبهما خطيئة. .؟
أصحيح أنني ألقيت بهذا اللون من الرسائل الحزينة ظلالا شاحبة كئيبة على حياتك الباسمة بين أحضان الريف. وتحت سمائه الصاحية الجميلة. فان يكن ذلك حقا؟ وانك قد أصبحت تضيق ذرعا حتى بهذا القدر التافه من العزاء الذي أجده في الكتابة إليك ترويحا لقلب عان ونفس ثائرة مضطرمة، فقد ينبغي لك أن تعلم أن الشجرة التي انتصبت في الفضاء، تهزأ بالأعاصير والأنواء. ساخرة متحدية. حتى عريت من أوراقها وتحطم الكثير من أغصانها، ما يزال في جذعها الضخم العنيد، وأعراقها الراسخة القوية، ما يعينها على الصبر إلى نهاية المعركة، حتى ينجلي ليل محنتها قليلاً قليلا. ثم يطالعها في أعقابه فجر باسم حالم، ينبت فيها أوراقا بأوراق، وينشئ لها أغصانا بأغصان. ويومئذ تفيء الطيور إلى ظلها الوارف الظليل: لتملأ هذه الأجواء الحزينة شدوا شجى النغم حلو الرنين، يعيد إلى هذا القلب الذي هانت عليه آلامه فيضا دافقا من حلاوة المنى ولذة الأمل. وإذن فسأحتجن هذه الآلام من دونك بعد اليوم في صدري: فما يزال فيه قدرة على احتمال المزيد منها. وسأدير الحديث إليك في هذه الرسالة حول شخص لا تعرفه، قد آخت بيننا سهمة من الألم المشترك، وسأنفض إليك جملة حاله وجماع قصته علني أقف منك على رأي تراه له، لأنني - وأنت تعرف رأيي في المرأة - تحرجت من إبداء رأي قد يفسده ما أحسه اليوم في قلبي بسببها من جراح وندوب. والحق أنها قصة تعتبر تصويرا صحيحا لمشكلة من مشاكلنا الاجتماعية. أو قل إنها ثورة عنيفة على بعض تقاليد الأسرة المصرية وتحطيم لها. أو قل أنها استجابة حارة لهتاف الروح ودعوة القلب، وهي لهذا الذي أسلفت لك جديرة بشيء من العناية غير قليل.
انحدر إلى هذه الدنيا وحيدا لأبوين رزقاه على وجد للبنين بعدما كادت الأيام تشرف على ربوة العمر. فتهيأت له من هذه الناحية طفولة ناعمة مدللة أسلمته إلى دار من دور التعليم جعل يتخطى سني دراستها غير وان ولا متخلف، حتى وصل إلى السنة الثانية من دراسته في كلية الحقوق بالجامعة المصرية. وعندئذ بدأ الجدول العذب الذي كان يتسلسل في طريقه سهلا رفيقا يتحول إلى طريق ملتوية مليئة بالجنادل والأحجار. فقد توشجت بينه(23/19)
وبين زميلين من رفاقه بالجامعة أواصر الصداقة والمودة. واتفقا معه في نظرهما إلى الحياة من ناحيتها العابثة الماجنة. فكانت لهم في ظلال الليل متع سعيدة بسامة. ينهلون من خمرين: ريق ورحيق، ويتساقون من كأسين: آونة من فم الإبريق، وأخرى من خلال شفاه وردية في حمرة العقيق، وجعل في هذه الغمرة المجنونة لا يدع واجبا مدرسيا إلا أهمله حتى فوجئ بالفصل من الجامعة بعد رسوبه في اختبار النقل عامين متواليين. وكانت الصدمة عنيفة قوية. والحسرة على ضياع مستقبله الجامعي لذاعة أليمة. وأخذت آماله التي كانت تضيق بها الدنيا تتضاءل وتنكمش حتى وسعتها مدرسة البوليس على كره منه ومضض. . وتخرج في هذه المدرسة ضابطا يختال بنجمته اللامعة ويلقى من التحية ألوانا كلما مر في طريقه بواحد من أولئك الجندالمساكين. . . وعاوده الحنين إلى المرأة غلابا قويا. وأخذت جوارحه تهتف بنداء الجنس فيستجيب لها في جنون وشغفإلى أن وضعت الأقدار في طريقه تلك المرأة التي أنا بسبيل من الحديث عنها الآن.
كان الفصل شتاء، والسماء عابسة يدوي في جوانبها الرعد، مظلمة يلتمع في حواشيها البرق، والليلة باردة الأنفاس، مقرورة النسمات، وكان الفتى على موعد مع رهط من أصدقائه في حفلة غنائية ذهب يشهدها، فاتفق له أن يجتاز في طريقه ميدانا صغيرا من ميادين القاهرة، فلمح على هامش الطريق فتاة تعبث الرياح الغاضبة بثيابها الفضفاضة عبثا منكرا قبيحا، تتململ في وقفتها الضارعة الذليلة. وترعش أوصالها تحت أضواء هزيلة يرسلها على الطريق مصباح باهت شاحب. فعرف أنها طريدة من طرائد الليل قد أتاحتها له الفرص السعيدة في هذه الليلة العصيبة. فمشى إليها جريئا يختال بنجمته اللامعة وسمته الرائع الجميل، وسدد إليها تلك النظرة التي تعرف المرأة وحدها سر ما تنطوي عليه. فأغضت حياء وقد اصطبغ وجهها بلون الورد في زمن الربيع. . واستقل معها عربة إلى مسكنه الخالي إلا من خادم ريفي يتوفر على خدمته والعناية بشأنه. وهناك في تلك الخلوة التي تهيج في المرأة أشجانها المستورة، وتثير عواطفها المكمودة، ترقرق الدمع في مآقيها وجعلت تفضي إليه بودائع قلبها الدامي الجريح في لهجة محزونة تنتزع من أصلب القلوب ألوانا من العطف والإشفاق والرثاء. . . عرف أنها واحدة من تلك الضحايا البريئة التي غلبت على أمرها في خلوة مجنونة عابثة. مأخوذة بمعسول الأماني وبواسم الأحلام. زين(23/20)
لها لص من لصوص الأعراض سحر الخطيئة. فأكلت من الشجرة الملعونة ثم تنكر لها. وعلم أهلها بعارها فنبذوها، وعضها الجوع وأذلتها الحاجة، فخرجت إلى الطرقات دامعة العين مصدوعة القلب غير مستعصية على طالب متعة لقاء ثوب تلبسه، وفضلة من طعام تأكلها. ولقد هتفت بكل ما فيه من رجولةورحمة أن يستبقيها في بيته خادما ترعاه وتعبده، وأن يمسك عليها تلك البقية الباقية من شباب ذبلت زهرته، وحياء كادت تأتي عليه عوادي الليل وأحداث النهار. . . . . . فتجمعت الدموع في عيني الشاب عطفا عليها ورثاء لها. وبدأت تخامر قلبه من نحوها عاطفة مجهولة غامضة. عاطفة إن لم تكن حبا فهي قريبة من الحب. وأجمع أمره على أن يعصمها من السير في هذه الطريق الشائكة الملتوية. وسيشعرها في جواره هناء الحياة ولين العيش. وحسبها تكفيرا عن زلتها ما لاقته من أهوال وخطوب.
ولبثت في بيته عاما كاملا لا تكشف الأيام منها في خلاله إلا عن كل ما يملك القلب ويأسره، خلق رضي كالماء رقة وعذوبة ووفاء يسمو إلى حد التضحية. وعرفان للجميل أحبته من أجله حبا هو أشبه بالعبادة والتقديس منه بأي عاطفة أخرى. وأحس الشاب إحساسا عميقا بهذا كله فبادلها حبا بحب، ووفاء بوفاء. وأقدم على الزواج منها زواجا رسميا ترامت أخباره في الريف إلى أبويه وهو وحيدهما. فجن جنونهما وثارا به ثورة عنيفة لم يجد في تهدئتها توسل ولا رجاء. وآذناه بالقطيعة والحرمان من ثرائهما العريض إن هو لم يفصم تلك الروابط التي تربطه بهذه المرأة الآثمة كما نقل إليهما خادمه الريفي الذي هجره من عهد قريب.
وبعد. . . فهل يهدم الشاب هذا العش الجميل الذي يتذوق فيه السعادة خالصة والنعيم محضا ليجدد على أنقاضه مودة أبوية. وليرضي تقاليد الأسرة العريق التي ينتمي إليها، ويرسل تلك المرأة التي تعبده الآن وتسعده، لتحيا من جديد حياة كلها عار ورجس ودنس. أم تراه يمسك عليه زوجه ويدع للأيام أن تبلي غضب أبويه كما يبلي في هذه الحياة كل شيء. . . . هذا هو الموضوع. ويسعدني أن أشرك معك أيها الصديق في إبداء الرأي كرام الكاتبين من قراء (الرسالة) العظيمة.
عبد الوهاب حسن(23/21)
مذهب النشوء وإخوان الصفا
نشوء الكائنات (الأحياء الدنيا تنشأ أولا) التخصص في الأعضاء دليل الرقي (الوظيفة توجد العضو) تنازع البقاء ووسائله (الغريزة الجنسية وحفظ النوع) الحواس وحفظ الذات (الجمال مسخر لحفظ النوع) البقاء للأصلح (تنازع البقاء وسيلة للرقي) التعاون وسيلة للرقي.
لم يكن دارون أول من اهتدى إلى مذهب النشوء وتوابعه، ولم ينفرد
وحده بالتنبه إليه. فاليونان وغيرهم من الأمم القديمة قد لمحوا إليه
وبحثوه بقدر ما كانت تساعدهم معارفهم ووسائلهم العلمية. وتنبه إليه
العرب، فطبقه ابن خلدون في مقدمته على نشوء العمران وانحلاله.
وشعر المعري بما يدعونه تنازع البقاء فحفل بالإشارة إليه شعره.
وأخيرا إخوان الصفا فجاءونا بما يجعل هذا الفصل خليقا بهذا العنوان
جاءنا إخوان الصفا بأن هذه الكائنات المختلفة من معادن ونبات وحيوان هي سلسلة متماسكة الحلقات شديدة الإندغام بعضها في بعض. وانه ليس ثمة حدود فاصلة أو مراحل متقطعة بين الحلقة وتاليتها. (المعادن متصل أولها بالتراب وآخرها بالنبات، والنبات أيضا متصل آخره بالحيوان، والحيوان متصل آخره بالإنسان، والإنسان متصل آخره بالملائكة) وهم في هذا على أشد ما يكون من الإقتناع. ورسائلهم حافلة بهذه الفكرة يبدئون فيها ويعيدون كأن الإشارة المفردة عندهم لا تنيلهم ما يصبون إليه من إقناع
كذلك يقول إخوان الصفا - وقولهم حق -: (إن الحيوانات الناقصة الخلقة متقدمة الوجود على التامة الخلقة بالزمان في بدء الخليقة، وذلك أنها تتكون في زمان قصير. والتي هي التامة الخلقة تتكون في زمان طويل لأسباب وعلل يطول شرحها) هنا لا يختلف إخوان الصفا عن نشوئي هذا العصر القائلين بأن الحياة قد بدأت بأحط أنواع الأحياء وأبسطها تركيبا. والقائلين أيضا بأن الطبيعة تصرف على الحيوانات الراقية جهدا فوق ما تصرفه على الحيوانات الدنيا، ولذا فأنسال هذه كثيرة وأنسال تلك قليلة.
ويشير إخوان الصفا إلى أن التخصص في الأعضاء دليل على الرقي في سلم النشوء،(23/23)
ويطبقون ذلك على النبات والحيوان فيقولون: (وأما النخل فهو آخر مرتبته النباتية مما يلي الحيوانية، لأن بعض أحواله مباين لأحوال النبات. ذلك أن القوة الفاعلة فيه منفصلة عن القوة المنفعلة، والدليل على ذلك أن أشخاص الفحولة منه مباينة لأشخاص الإناث. ولأشخاص فحولته لقاح في إناثها كما يكون ذلك الحيوان)
ثم يقولون: (أعلم أن أدون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة وهو الحلزون. . . وهكذا أكثر الديدان التي تكون في الطين في قعر البحر وعمق الأنهار ليس لها سمع ولا بصر ولا ذوق ولا شم)
وإذ يقر إخوان الصفا هذه الحقائق يتقدمون خطوة أخرى جريئة ويساهمون دارون في أن الانتخاب الطبيعي يفني كل عضو لا فائدة للجسم منه، ويوجد الأعضاءالتي تفيد الجسم في تنازع البقاء: (لأن الحكمة الإلهية لم تعط الحيوان عضوا لا يحتاج إليه في جر المنفعة أو دفع المضرة، لأنه لو أعطاها ما لا تحتاج إليه لكان وبالا عليها في حفظها وبقائها)
ويزيدون هذه الفكرة جلاء فيأتونها من ناحية أن الوظيفة توجد العضو فيقولون: وأما السباع الآكلة اللحمان فأن خلقتها وطباعها وتركيب بعض أعضائها الظاهرة والباطنة وأمزجتها وشهواتها مخالفة لما عليها الحيوانات الآكلة العشب. وذلك أن الباري لما خلقها وجعل غذاءها من اللحمان جعل لها أنياباً صلاباً ومخالب مقوسة، قوية وأزنادا أيد متينة، ووثبات خفيفة تستعين بها على قبض الحيوانات)
بعد هذا يتقدم إخوان الصفا بجرأة ويقررون: (إن شهوة البقاء وكراهية الفناء هما أصل وقانون لجميع شهوات النفوس المركوزة في جبلتها، وأن تلك الشهوات هي أصول وقوانين لجميع أخلاقها وسجاياها) وهكذا يبين إخوان الصفا في هذه الجملة الفذة أن جميع الغرائز الحيوانية هي أداة التنازع على البقاء الذي يظهر في شطريه: التنازع على حفظ الذات، والتنازع على حفظ النوع: ليس هذا فقط بل يرجعون بالأخلاق والسجايا الإنسانية إلى هذين الحافزين الأكبرين. وهي في الحقيقة نظرة في الغاية من النفوذ والإصابة، فالأخلاق والمزايا الإنسانية ما كانت لتنشأ وتشتد لو لم يكن التنازع على البقاء وحفظ النوع أقوى الحوافز الإنسانية. واليك جميع الفضائل والأخلاق الإنسانية، افحصها فحصا مدققا وجردها من النظرة التيولوجية فتجد أنها جميعها تمت إلى حفظ النوع وحفظ الذات بسبب شديد(23/24)
وإذا ما انتهى إخوان الصفا من تقرير هذا القانون على ذلك النحو من الشمول والإجمال عادوا إلى التفصيل فقالوا: (أما علة شهوة الجماع المركوزة في الجبلات فهي من أجل التناسل، والتناسل من أجل بقاء الصورة في الأشخاص المتواترة. .)
وهم - كعلماء النشوء - لا يبالون أن ينزلوا بإحساس الجمال من منزلة الرفيع ويحسبوه أداة تسخرها القدرة لحفظ النوع، فيقولون على لسان الحيوان معارضاً ومناظراً الإنسان: (وأما الذي ذكرت أيها الأنس من حسن الصورة وافتخرت بهعلينا فليس فيه شيء من الدلالة على ما زعمت بأنكم أرباب ونحن عبيد، إذ كان حسن الصورة شيئا مرغوبا فيه عند أبناء الجنس الواحد من الذكور والإناث ليدعوهم ذلك إلى الجماع والتناسل لبقاء النسل، وذكر أننا لا نرغب في محاسن إناثكم ولا إناثنا في محاسن ذكرانكم، كما لا يرغب السودان في محاسن البيضان). ولا يفوتنك في آخر القطعة الطريفة إشارة الأخوان إلى أن الجمال أمر نسبي يقدره الناس تقديرا متباينا. ونظرية نسبية الجمال نظرية مشهورة يقول بها كثيرون من الباحثين في فلسفة الجمال
وكما يحسب الإخوان أن الغريزة الجنسية مسخرة لحفظ النوع كذلك هم يقررون أن الحواس مسخرة لحفظ الذات فيقولون: (قصد الله وغرضه في الحيوانات ليس عقوبة لها وعذابا بل حثا لنفوسها على حفظ أجسادها وصيانة لها، ولو لم يكن ذلك كذلك لتهاونت النفوس بالأجساد وخذلتها وأسلمتها إلى الهلاك. . . فلهذه العلة جعلت الآلام والأوجاع للحيوان لتمكنه من البقاء أما بالحرب أو بالهرب)
وبعد أن يفرغ إخوان الصفا من هذا القانون - قانون تنازع البقاء - وذكر وسائله وأدواته يعودون فيقولون: إن هذا التنازع لا يكون الفوز فيه إلا للأصلح، أما الضعيف فيجب أن يفنى أمام القوي: (لأنه لما كان بعض الحيوانات أتم خلقة وأكمل صورة جعلت النفس الناقصة خادمة ومسخرة للتامة، وجعلت أجسادها غذاء ومادة لأجساد الناطقة منها وسببا لبقائها لتبلغ أتم غاياتها). أما الغرض من ذلك كله (فهو النفع الكلي والصلاح العام، وان كان يحصل في ذلك أضرار جزئية. مثال ذلك أن الشمس تشرق وتغيب للمنفعة العامة، ولكن قد يكون في ذلك ضرر يقع على أناس مخصوصين)
إلا أن إخوان الصفا لا يقفون عند هذا الحد ولا يكتفون بالقول بأن قانون التنازع وحده أداة(23/25)
الرقي والنشوء أيضا، بل هم كعلماء النشوء يحسبون أن التعاون لا يقل شأنا في مضمار التقدم والنشوء عن التنازع. فهم يقولون: إن ما جعل في طباع بعض الحيوانات من الألفة والأنس والمودة هو ليدعوها إلى الاجتماع والمعاونة لما فيه من صلاحها وكثرة منافعها.
هذه لمحة موجزة في آراء إخوان الصفا النشوئية، وهي على كل حال لا تمثل إلا ناحية ضيقة من هذه الآراء التي يبثها إخوان الصفا في رسائلهم المعروفة. والذي لا يزال حريا بالدرس من آرائهم هو شيء كثير. وإنني لعلى رجاء بأن تغري هذه الصفحات قارئها بالنظر في رسائل الإخوان، فأنه - وأنا الكفيل - سيأخذ أجوره نقدا صحيحا لا زيف فيه. لست أنكر أن قسما كبيرا من هذه الرسائل صحراوات لافحة لا ظل فيها ولا ماء. ولكنني، من جهة أخرى، أستطيع أن أقول: أن الواحات تنتشر في هذه الصحارى انتشارا كبيرا، فلا يعدم القارئ في سيره واديا هنا أو واحة هناك يستظل أفياءها ويتبرد بنسيمها وينهل من مائها فيستجمع قواه ويعاود السير كأقوى ما يكون. وبذا يفيد فائدتين: فائدة أنه يأخذ نفسه برياضة تعوده السير الطويل المتعب، وأخرى أنه يشهد آفاقا لا عهد له بها ولم تطأها قدماه من قبل فيما نعتقد.
ولعلنا، إذا أفسحت لنا (الرسالة) الغراء صدرها، عائدون إلى إخوان الصفا ومفصلون لك آراءهم في كثير من المسائل كعلم النفس والتربية والأخلاق، فأن لإخوان الصفا في هذه النواحي آراء هي في الغاية من الطرافة والإصابة.
شرق الأردن. أديب عباسي(23/26)
قلوب تتقلب!
نشأت في كنانة حول الطائف ومكة، وقد باكرها النعيم فشبت صحيحة جميلة، ورضعت أفاويق البلاغة من قومها، فنشأت فصيحة بليغة، خطبها سيد قرشي، من أشراف مكة وعصبة النبي، وبنى بها فطاب حالهما، وصفا عيشهما. وقرأ في المدينة زمنا أسعدهما الله فيه بغلامين كانا بهجة النظر وأمنية الفؤاد.
اختار (الأمام علي) زوجها ليكون عاملا له على (اليمن) يجبي خراجها، ويقوم بشعائر الدين فيها، فابتهجا بالمنصب الرفيع والحظ المقبل، وانتقلت الأسرة إلى مقرها الجديد إلى اليمن، واليمن جنة العرب وروضة الجزيرة. هواءها رخي وتربها ندي، وفاكهتها كثيرة، وجدا فيها مجالا للمتعة، ومراحا لطفليهما العزيزين يطلقانهما في الصباح لينعما بشمس الشتاء الضاحية، ويتمتعا بمناظر الوديان، ومظاهر الجنان، وقد حل فيهما من بهجة الأزهار، ونغمة الأطياف وانعطاف الأغصان، وانسجام الظل، مشابه؛ فاستحار جمالهما، وتمت آدابهما، واستوليا على كل قلب، واختطفا النظر من كل عين.
غاب أبوهما عن مدينته لبعض شؤونه، وخرجا كعادتهما يتنزهان وإذا رجل يقبل عليهما مسترق الخطى، ويتلطف بهما ويغريهما بالسعي معه، وإذا به يقبض عليهما ويكم أفواههما، واذا به قد انتضى سكينا مرهفة وقضى عليهما، ثم أطلقها ضحكة عالية قائلا:
(الآن تمتع بالحياة يا عبيد الله!)
انتظرت (جويرية الكنانية) ولديها يؤوبان إليها مع الغداة، ولكنهما تأخرا على غير عادتهما، فتربصت طويلا، منصتة إلى بابها لعل طارقا يطرقه، وكلما لعب به الريح هرولت إليه وفتحته باسطة ذراعيها، ولكنها في كل مرة تعانق الهواء، ولما فرغ فؤادها دفعت خادمتها لتقصهما، وما كادت الخادمة تسير خطوات حتى اندفعت وراءها سافرة حائرة، وطافت بمعاهد البلد وملاعبه، وكل فتى تتوسمه فتاها، وكل ندي تظنه قد حواهما، ولبس الأصيل ثوبه المعصفر، وزحف الليل بسواده وما رجعت بطائل غير هم ملأ قلبها وأسى قلقل كيانها، ومضى يوم ويومان وثلاثة وهي تطوف وتقول:
ألا مَنْ بيَّنَ الأَخويْ ... ن أُمُّهُمَا هي الثكلى
تسائلمنرأى ابنيها ... وتستبقيفماتبقى
فلما استيأست رجعت ... بعبرةوالهٍحَرَّى(23/27)
تتابع بينولولةٍ ... وبين مدامع تترى
وفي كل يوم تزيد شدتها وتذكو سكرتها ويضيق أفقها. وفي ساعة اقتحمت عليها السبيل فتاة، وأخبرتها بما سمعت عن فعل (بسر ابن أرطاة) بولديها. فأن معاوية أخرجه لينكل بشيعة علي، فمضى في سبيله حتى انتهى إلى اليمن، ولما لم يجد عاملها يتلقى عقارب كفه اقتص من ولديه وذهب بشفرته.
وكان هذا كافيا لفقدان وعيها، وطيران عقلها، ولكنها أبت أن تصدق، وألا فكيف يموت عزيزان في لحظة، ثم هامت على وجهها، تناشد المواسم والمجامع بقولها:
يامَنْأحسّ بُنَيَيَّاللذيْنهما ... كالدرتيْنتشظّى عنهماالصدفُ
يامَنْأحسّ بُنَيَيَّاللذيْنهما ... سَمعْي وطرفي فطرفي اليوم مختَطَف
يامَنْأحسّ بُنَيَيَّاللذيْنهما ... مُخُّ العظامفمخي اليوممزدهف
نُبِّئْتُ بُسْراً وما صدّقت ما زعموا ... من قولهم ومن الأفك الذي اقترفوا
أنحىعلىودَجَىطْفليّ مرهفةً ... مشحوذةًوعظيمالإفكيقْتَرَف
مَنْ دَلَّ وآلهةًحريّ مُفجَعَّة ... على حبيبيْن غاباإذ مضى السَّلَف
أما عبيد الله بن العباس فقد انتزع منه حشاه، عزف عن الدنيا وأحس زخرفها شوكا ففارقته الهناءة كما تنبأ بسر بذلك.
آه لو ملك القاتل! إذن لنبش عن قلبه وان لم يكن من قبل فظاً. آه من معاوية ورهطه! قوم غرب الإيمان من قلوبهم واشتروا دنياهم بدينهم. آه! وآه على نجمين قد أفلا في ساعة من نهار. هذا ما يثور بفؤاده.
تبدل برجل آخر سقيم الجسم دقيق العظم مشتعل الرأس. وشاطره همه ابن عمه علي ولعن القاتل ودعا عليه بالجنون والمروق وأجاب الله دعوة وليه، فإذا بسر مخبول يهذي ممسكا بسيف من خشب وزق من جلد منفوخ ما يفتأ يضربه بسيفه حتى تهن قواه، وكان خبله يقوى تارة ويضعف أخرى
مضت سنوات ودخل بعدها عبيد الله على معاوية أبان ملكه، وكان عنده بسر، فقال له عبيد الله: (أأنت قاتل الصبيين أيها الشيخ؟) قال بسر: (نعم أنا قاتلهما) فقال عبيد الله: (أما والله لوددت أن الأرض أنبتتني عندك) قال بسر: (فقد أنبتتك الآن عندي) قال عبيد الله: (ألا(23/28)
سيف؟) فقال بسر: (هاك سيفي). فلما أهوى عبيد الله إلى السيف ليتناوله أخذه معاوية ثم قال لبسر: (أخزاك الله شيخا، قد كبرت وذهب عقلك، ذاك رجل من بني هاشم وقد وترته وقتلت ابنيه، تدفع إليه سيفك؟ انك لغافل عن قلوب بني هاشم. والله لو تمكن منه لبدأني قبلك.) فقال عبيد الله: (أجل والله وكنت أثني به.)
أحمد أحمد التاجي(23/29)
الصهيونية
نشأتها وتطورها
2 - بعد عهد بلفور
للأستاذ محمد عبد الله عنان
أصدرت الحكومة البريطانية عهدها بإنشاء الوطن القومي اليهودي (عهد بلفور) في الثاني من نوفمبر سنة 1917 كما قدمنا، بينما كانت القوات البريطانية بقيادة لورد اللنبي في طريقها إلى بيت المقدس. وفي التاسع من ديسمبر استولى الإنكليز على بيت المقدس؛ وبدأت سيادة إنكلترا على فلسطين من ذلك التاريخ، وبدأ تنفيذ مشروع الوطن القومي اليهودي بصورة عملية. وتلا عهد بلفور صدور تصريحات ووقائع رسمية من مختلف دول الحلفاء بتأييد أماني الصهيونية، ومشروع الوطن القومي اليهودي في فلسطين
وفي مؤتمر سان ريمو سنة 1920 وزع (الانتداب) على بلاد الشرق الأدنى التي سلخت عن تركيا. فكانت فلسطين وشرق الأردن والعراق من نصيب بريطانيا العظمى. وفي سبتمبر سنة 1922 صادق مجلس عصبة الأمم على صك الانتداب على فلسطين متضمنا في ديباجته المصادقة على عهد بلفور بإنشاء الوطن القومي اليهودي؛ ونص فيه على إنشاء هيئة يهودية ذات صفة رسمية يحق لها أن تسدي الرأي لحكومة فلسطين وتتعاون معها في جميع الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وغيرها مما يتعلق بإنشاء الوطن القومي اليهودي ومصالح اليهود في فلسطين، وتتخذ بالاتفاق مع الحكومة البريطانية جميع الإجراءات اللازمة لتحقيق التعاون بين جميع اليهود الذين يريدون الإشتراك في إنشاء الوطن القومي اليهودي (المادة الرابعة). ونص على تسهيل الهجرة اليهودية واستعمار اليهود للأراضي (المادة الخامسة) كما نص على جعل اللغة العبرية لغة رسمية في فلسطين إلى جانب العربية والإنكليزية (المادة الثانية والعشرون) واستثنيت منطقة شرق الأردن وجعلت منطقة خاصة لا يطبق عليها شيء من النصوص المتعلقة بالوطن القومي اليهودي.
وفي سنة 1923 تنازلت تركيا في معاهدة لوزان عن كل حق على فلسطين وغيرها من الأراضي التي وضعت تحت الانتداب، واعترفت بالانتداب البريطاني على فلسطين، وتمت بذلك سلسلة الوثائق الدولية التي تؤيد السيادة البريطانية على فلسطين، وتؤيد إنشاء(23/30)
الوطن القومي اليهودي فيه.
ولنر الآن كيف عملت الصهيونية في فلسطين بعد أن مكنت من غزوها، وكيف نفذ مشروع الوطن القومي اليهودي، والى أين وصل وإلام ينتهي اليوم؟
كان برنامج مؤتمر بازل الذي أتينا على ذكره دستور الصهيونية عملت على تنفيذه في فلسطين عن طريقين: الأول الاستعمار الزراعي والاقتصادي، والثاني إحياء تراث اليهودية الروحي والفكري. والأول سلاح اليهودية المادي لغزو فلسطين والاستقرار بها. وقد بدأت بإعداده واستعماله منذ بعيد. فمنذ أواخر القرن الماضي أنشئت في فلسطين بعض المحلات والمستعمرات الزراعية اليهودية بسعي بعض الماليين اليهود. . . ومنذ سنة 1901 أنشئ (الاعتماد القومي اليهودي) في لندن ليجمع الأموال من اليهود في جميع أنحاء العالم. ومنذ عهد بلفور يسير الاستعمار اليهودي لفلسطين بخطوات سريعة. وتعتمد الصهيونية في ذلك على هيئتين ماليتين قوميتين الأولى (الاعتماد القومي اليهودي) المذكورة، ومهمتها شراء الأراضي الزراعية في فلسطين. والثاني (الكرن هيسود) ومهمتها أن تقدم الأموال اللازمة للمهاجرين لتسهيل الاستعمار والاستقرار والتربية وما يتعلق بها. وتطبيقا لعهد بلفور وصك الانتداب فتح الإنكليز أبواب فلسطين على مصاريعها للهجرة اليهودية، فوفد عليها اليهود آلافا مؤلفة من جميع أنحاء العالم، واشترى اليهود مساحات شاسعة من الأراضي في جميع أنحاء فلسطين، وأقيمت عليها المستعمرات اليهودية الزراعية والصناعية. وقامت (اللجنة التنفيذية الصهيونية) في بيت المقدس لتنظم الاستعمار اليهودي بمعاونة حكومة فلسطين تطبيقا للمادة الرابعة من صك الانتداب، واستأثرت لدى الحكومة بكل نفوذ، واستولى اليهود على معظم المناصب الهامة؛ وعلى الجملة استطاع اليهود في أعوام قليلة أن يستأثروا بأعظم قسط من مرافق فلسطين الجوهرية اقتصادية وغيرها
هذا، وقد بذلت الصهيونية جهودا عظيمة لأحياء تراث اليهودية الفكري والروحي، فأنشئت في ظاهر بيت المقدس منذ سنة 1925 جامعة عبرية كبيرة تعمل على إحياء هذا التراث؛ وأنشئت مكتبة يهودية عظيمة، كما أنشئت طائفة كبيرة من المدارس اليهودية في جميع أنحاء فلسطين، جعل التعليم بها باللغة العبرية؛ واتخذت العبرية إلى جانب العربية(23/31)
والإنكليزية لغة رسمية للتخاطب والمعاملات، وأنشئت عدة صحف يهودية عبرية، وبذلت على العموم مجهودات عظيمة لأحياء الثقافة والتقاليد اليهودية
وهكذا سارت الصهيونية في إنشاء الوطن القومي اليهودي بفلسطين بخطوات سريعة تسدد كل خطوة منها الملايين الطائلة، والسياسة الإنكليزية من ورائها تؤيد جهودها وتحمي مرافقها ومشروعاتها.
وقد بلغ الاحتشاد اليهودي في فلسطين مبلغا عظيما؛ فقبل عهد بلفور لم يكن عدد اليهود بفلسطين يزيد على بضعة آلاف معظمهم من اليهود المحليين، ولكن عددهم حسب إحصاء سنة 1922 بلغ 87، 794 من مجموع قدره 757 ألفا؛ وبلغ حسب إحصاء سنة 1929 - 149، 554 من مجموع قدره 794، 906 آلاف - ويبلغ اليوم حوالي مائتي ألف من مجموع قدره مليون نفس. وأعظم احتشاد يهودي في (مدينة) تل أفيف وهي مدينة يهودية محضة أنشئت على الطراز الأوربي، ويبلغ سكانها اليوم زهاء ستين ألفا. والهجرة اليهودية ما زالت تتدفق على فلسطين بنسبة مزعجة ولا سيما عقب حوادث ألمانيا الأخيرة، حيث اضطرمت خصومة السامية من جديد ولقي اليهود نوبة اضطهاد جديدة شاملة.
وقد يلوح مما تقدم أن الصهيونية قد أحرزت نجاحا لا شك فيه، وان الوطن القومي اليهودي يقوم اليوم في فلسطين على أسس ثابتة، وان حلم هرتسل في قيام دولة يهودية موحدة يسير نحو التحقيق. ذلك أن الصهيونية قد استطاعت من الوجهة الدولية أن تحصل على العهود والمواثيق اللازمة للاعتراف بالوطن القومي اليهودي كوحدة سياسية ذات وجود، وعلى الضمانات الكفيلة بتأييده وحمايته، واستطاعت من الوجهة المادية أن تقوم في فلسطين بطائفة كبيرة من الجهود المادية والإنشائية لإقامة هذا الوطن القومي طبق ما فصلنا. ولكن الحقيقة التي لا ريب فيها هي أن الحركة الصهيونية تقوم من الوجهة التاريخية والدولية على أسس وبواعث فاسدة مضطربة، وجهودها في سبيل إنشاء الوطن القومي اليهودي تسيرها في الواقع عوامل مصطنعة. ثم هي بعد هذه الجهود كلها لا تستطيع أن تطمئن لمصيرها في فلسطين، ولا تستطيع أن تغفل إرادة العرب بعد أن تجلت هذه الإرادة أكثر من مرة قوية متقدمة بتحطيم هذا الصرح اليهودي المصطنع. ذلك أن الصهيونية الحديثة لم تكن مستقلة النشأة، وإنما كانت بالأخص نتيجة لخصومة السامية أو حركات الاضطهاد ضد(23/32)
اليهود في أوربا، وكانت وما زالت تتبع هذه الخصومة قوة وضعفا، فإذا اضطرمت خصومة السامية، اضطرمت الصهيونية بفورة مؤقتة من الحماسة، وإذا خبت فتر روح الصهيونية المعنوية. وفكرة الوطن القومي اليهودي تقوم من الوجهة التاريخية على أن أرض فلسطين كانت قبل ألفي عام وطن الشعب اليهودي ومهاد مجده، وإنها ما زالت برغم كر الأحقاب مثوى تراثه الروحي وذكرياته المقدسة. وهي فكرة ظاهرة الخطل والإغراق؛ ففلسطين عربية إسلامية منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا، ولم تعرف خلال هذه الآماد الطويلة من أثر اليهودية سوى ذكرى التاريخ؛ ولو كانت ذكرى التاريخ تصح سندا لاستعادة الأوطان الغابرة لما كان لشعب أن يبقى اليوم في الأرض التي يحتلها. واليهودية لا وطن لها منذ ألفي عام؛ وقد استقرت منذ الحقب أشتاتا في سائر أنحاء الأرض، وفقدت لغتها وكثيرا من خواصها ومميزاتها القومية؛ ولم تبق اليهودية جنسا موحدا، وإنما هي دين فقط. وقد كان مزجها بين فكرة الدين والجنس من أهم عوامل اضطهادها، لأنها برغم نزولها في مختلف الأوطان وتأثرها بمؤثرات الإقليم والوسط، تأبى إلا أن تعيش دائما في معزل، وتنكر دائما جنسيتها المكتسبة بتعاقب القرون، وتتخذ دائما من الدين جنسية مستقلة. وقد كان هذا الفهم الخاطئ لنظرية الجنسية موضع الإنكار والنقد من بعض مفكري اليهودية الممتازين مثل مندلزون ولسبخ، فقد رأوا أن تتخذ اليهودية أوطانها القومية حيثما حلت مع احتفاظها بتراثها الروحي.
هذا، ومن جهة أخرى فان الصهيونية لم تحسب حساب العرب؛ وقد رأت بالأدلة المادية أن التأييد المسلح الذي أخذته بريطانيا على نفسها لا يكفي لسلامة الوطن القومي اليهودي، وان إرادة العرب أصحاب البلاد يجب أن يحسب لها أكبر حساب. وقد ظهرت هذه الإرادة قوية مضطرمة في حوادث أغسطس سنة 1929؛ ثم ظهرت في حوادث فلسطين الأخيرة التي جاءت أقطع حجة على أن فلسطين العربية ما زالت تجيش بقوى معنوية لا تقدر. وهذه الانفجارات القومية القوية التي تضطرم بها فلسطين من وقت لآخر هي وثبات شعب يريد الذود عن حياته وكيانه. فقد رأينا كيف نزعت أراضي العرب من أيديهم، وكيف سلبوا كل مرافقهم ومصالحهم الجوهرية، وكيف فتحت بلادهم لتلقي سيل الهجرة اليهودية تنفيذا لعهد بلفور وصك الانتداب. وقد أقرت لجنة التحقيق البريطانية التي انتدبت على أثر حوادث(23/33)
سنة 1929 عدالة كثير من المظالم التي نزلت بالعرب، ولا سيما مسألة الأراضي ومسألة الهجرة اليهودية. ولكن السياسة البريطانية لم تغير شيئا من مسلكها، وما زالت تؤيد غزو الصهيونية لفلسطين بكل قواها. وقد وصل اقتناء اليهود لأراضي العرب في العهد الأخير ووصلت الهجرة اليهودية إلى حدود خطرة، وشعر العرب بالضغط عليهم وعلى مرافقهم يشتد إلى الغاية، فكان الانفجار الأخير؛ وكان أن أثبتت فلسطين مرة أخرى أنها ستقاوم هذا الغزو البربري المنظم بكل ما وسعت من قوة؛ وشعرت اليهودية مرة أخرى أن الوطن القومي اليهودي إنما هو لعبة خطرة لا تزال تنقصها كل عناصر السلامة والطمأنينة؛ وكان لحوادث فلسطين الأخيرة وقع عميق في العالم العربي والإسلامي كله؛ فعرفت اليهودية مرة أخرى أن فلسطين لا تقف وحيدة في ميدان النضال، وان من ورائها الأمم العربية والإسلامية كلها تشد أزرها بجميع قواها المعنوية؛ وعرفت اليهودية مرة أخرى أن الوطن القومي اليهودي لا يقوم في قلب فلسطين فقط، وإنما يقوم في قلب العالم العربي والإسلامي كله على بركان من الخصومة المشتركة، وان عليها إذا أرادت البقاء في فلسطين أن تتأهب لمنازلة العالم العربي والإسلامي كله.(23/34)
الشافعي واضع علم أصول الفقه
للأستاذ مصطفى عبد الرزاق
أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب
الشافعي هو أحد الأئمة الأربعة الفقهاء: أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي المتوفى سنة (1500هـ - 767م) وأبي عبد الله مالك بن أنس الأصبحي المدني المتوفى سنة (179هـ - 795م) وأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المكي المتوفى سنة (204هـ - 820م) وأبي عبد الله أحمد بن حنبل البغدادي المتوفى سنة (241هـ - 855م)
وهؤلاء الأئمة هم اللذين استقرت مذاهبهم في الفقه الإسلامي بين جمهور المسلمين منذ نحو ألف عام.
وتلاشى ما عداها من المذاهب كمذهب (الحسن البصري) المتوفى سنة (161هـ - 777م) ومذهب (سفيان الثوري) المتوفى سنة (161هـ - 777م) ومذهب (عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي) المتوفى سنة (240هـ - 854م) ومذهب (محمد بن جرير الطبري) المتوفى سنة (310هـ - 922م)
وطالت مدة المذهب الظاهري الذي أسسه (داود بن علي الأصفهاني)) المتوفى سنة (270هـ - 883م) وزاحم المذاهب الأربعة ودرس بعد القرن الثامن
والتنافس بين المذاهب الأربعة على الغلبة والانتشار والسلطان قديم يرجع إلى عهودها الأولى، ولعل بعض آثاره لا تزال باقية إلى اليوم والآن كان هذا التنافس قد أدى في بعض الأحايين إلى إثارة أحقاد وفتن بين العامة فانه في أكثر أمره كان سبب حياة عقلية ونشاط فكري وتسابق إلى الإتقان والكمال في البحث العلمي فان أهل كل مذهب كانوا لا يفتأون يتفننون في جعل مذهبهم ميسراً لإفهام الناس وأذواقهم، متسعا لما يتجدد من حاجاتهم، متميزا بلطف الاستنباط وحسن التخريج، وكثرة الجمع للمسائل، وجودة التأليف حتى أصبحت علوم الأحكام الشرعية أكمل مظهر للمجهود العقلي العظيم في الإسلام بوفرة أبحاثها ومؤلفاتها التي لا يحصى عديدها وبما في كثير من هذه المؤلفات والأبحاث من ابتكار وإبداع
لا جرم كان التراث الفقهي الإسلامي من أنفس ما ادخر البشر من مباحث المتفقهين. ولا(23/35)
نزاع في أن لأشخاص واضعي المذاهب أثراً في رواج مذاهبهم وإقبال الناس عليهم وتغلبها على ما عداها. وقلما تمتاز عند الجمهور مقالات المفكرين عن صورهم وأشخاصهم.
ومن أجل هذا كان من وسائل أهل المذاهب الأربعة لنشر مذاهبهم والدعوة لها: وضع المصنفات في مناقب الأئمة أصحاب هذه المذاهب، وفي الترجمة لحياتهم على وجه يبرز فضائلهم ويبين مزايا مذاهبهم وقد تفرد الأئمة الأربعة بكثرة ما دون من المؤلفات في تراجمهم حتى ليقول (أبو زكريا النووي) المتوفى سنة 676هـ - 1277م في شرحه للمهذب المسمى بالمجموع: (وقد أكثر العلماء من المصنفات في مناقب الشافعي رحمه الله وأحواله من المتقدمين كداود الظاهري وآخرين.، ومن المتأخرين كالبيهقي وخلائق لا يحصون)
ويقول أبو حفص عمر بن أبي الحسن الشافعي المعروف بابن الملقن في كتابه (العقد المذهب في تاريخ المذهب) المؤلف في القرن الثامن الهجري: (وترجمة الشافعي حذفناها في هذا المؤلف لأنها أفردت تأليفا فبلغت نحو أربعين مؤلفا)
على إن كثرة هذه المؤلفات وان وفرت للمؤرخ مراجع البحث فإنها تقوم في الغالب على العصبية لإمام على إمام، فلا تخلو من سرف في المدح وسرف في الذم، وجدل فيما ينسب لهذا من المناقب وما ينسب لهذا من الهنات، ولا تخلو من اعتماد على روايات ظاهرة البطلان وعلى الأحلام والرؤى.
ومن أمثلة ذلك: ما ورد في كتاب مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان لمحمد بن شهاب المعروف بابن البزاز الكردي صاحب فتاوي البزازية المتوفى سنة 827هـ 1423م، من عقد فصل لصفة الإمام في التوراة.
وقلما تجد كتابا في مناقب الأئمة ألا وفيه باب لما رأى الإمام المترجم له في المنام وما رؤى له.
نعم لكل ذلك وزنه ودلالته في نظر الباحث، لكن التقصي لهذه المقالات في مصادرها والمقارنة بين رواياتها المختلفة واعتبار حجج المثبتين لها والمزيفين مما لا يدخل في غرضنا ولا يتسع له المقام.
غرضنا من هذا البحث أن ندرس ما يتعلق بأثر الشافعي في تكوين العلم الإسلامي.(23/36)
ولما كان وصف الأثر العلمي للأمام يستدعي تصوير شخصيه التي صدر عنها هذا الأثر، فأنى اجعل هذا البحث قسمين:
- ما يتعلق بالشافعي في خاصة نفسه من نشأته وسيرته.
- ما يتعلق بأثر الشافعي في وضع علم (أصول الفقه) وأتناولهما على هذا الترتيب.
أ - نشأة الشافعي وسيرته
يقول أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري المالكي المتوفى سنة 463هـ في كتابه (الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء: مالك، والشافعي، وأبي حنيفة رضي الله عنهم) لإخلاف علمته بين أهل العلم والمعرفة بأيام الناس من أهل السير والعلم بالخبر والمعرفة بأنساب قريش وغيرها من العرب، وأهل الحديث والفقه أن الفقيه الشافعي رضي الله عنه هو محمد بن إدريس بن العباس ابن عثمان بن شافع بن السائب بن عبي ابن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف ابن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن قهر بن مالك بن النضر بن كنانة، ويجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف بن قصي، والنبي صلى الله عليه وسلم (محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف).
والشافعي محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع، وإلى شافع ينسب، وقد تقدم انه شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد ابن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف بن قصي.
فالنبي صلى الله عليه وسلم هاشمي، والشافعي مطلبي، وهاشم والمطلب أخوان ابنا عبد مناف، ولعبد مناف أربعة بنون: هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس (ص66) وهذا الذي لم يكن يعرف فيه ابن عبد البر خلافا من نسب الشافعي قد حدث فيه الخلاف.
قال فخر الدين محمد بن عمر الرازي المتوفى سنة 606هـ - 1209م في كتابه في مناقب الإمام الشافعي:
(وطعن الجرجاني وهو واحد من فقهاء الحنفية في هذا النسب وقال: إن أصحاب مالك لا يسلمون أن نسب الشافعي رضي الله تعالى عنه من قريش، بل يزعمون أن شافعا كان مولى لأبي لهب فطلب من عمر أن يجعله من موالي قريش فامتنع، فطلب من عثمان ذلك ففعل، فعلى هذا التقدير يكون الشافعي رضي الله تعالى عنه من الموالي لا من قريش).(23/37)
ص5
وعرض الرازي للرد على هذه الدعوى بما لا نرى حاجة للإطالة به ما دام صاحب الطعن يعزوه إلى أصحاب مالك، وقد نقلنا عن أمام من أئمة المالكية ما ينقض هذه الدعوى التي يقول في أمرها الرازي: (واعلم أن الجرجاني إنما أقدم على هذا البهتان لأن الناس اتفقوا على أن أبا حنيفة كان من الموالي، ألا انهم اختلفوا في انه كان من موالي العتاقةأو من موالي الحلف والنصرة، وطال كلامهم في هذا الباب وأراد أن يقابل ذلك بمثل هذا البهت، وما مثله في إلا كما قال الله تعالى: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون)) ص7 و8
وقد يكون اصل هذه الحكاية ما ذكره الخطيب البغدادي في ترجمة للشافعي من أن أم شافع أم ولد.
فالشافعي من جهة أبيه قريشي مطلبي ليس في ذلك نزاع يقام له وزن، وان كانت أم جده ليست من العرب.
وقد ذكر الكثيرون ممن ترجم للشافعي: إن جده السائب اسلم يوم بدر، وكان صاحب راية بني هاشم مع المشركين فأسر ففدى نفسه وأسلم وروى: انه اشتكى فقال عمر: اذهبوا بنا نعود السائب ابن عبيد فانه من قريش، قال النبي صلى الله عليه وسلم: حين أتى به وبعمه العباس: هذا أخي.
أما ابنه شافع فلقي النبي وهو مترعرع، فالسائب بن عبيد صحابي، وابنه شافع صحابي، وأخوه عبد الله بن السائب والي مكة صحابي.
وروى ابن حجر العسقلاني الشافعي المتوفى سنة (852هـ - 1448م) في كتاب (الإصابة في تمييز الصحابة) عند الكلام على عبد يزيد بن هاشم بن المطلب روايات قال على أثرها:
(وعلى هذا فيكون في النسب أربعة أنفس في نسق من الصحابة: عبد يزيد وولده عبيد، وولده السائب بن عبيد، وولده شافع بن السائب) ج8 ص193
ويظهر أن بيت الشافعي كان بيت حكم وعلم في مكة. فقد رأينا أن عبد الله بن السائب أخا شافع بن السائب كان واليا لمكة.(23/38)
وقال ابن حجر العسقلاني في كتابه (توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس): (وأما عثمان بن شافع فعاش إلى خلافة أبي العباس السفاح) وله ذكر في قصة بني المطلب لما أراد السفاح إخراجهم من الخمس وأفراده لبني هاشم، فقام عثمان في ذلك حتى رده على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم) ص45
وذكر ابن عبد البر فيمن أخذ عن الشافعي علمه من أهل مكة أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن العباس بن عثمان بن شافع قال: (وهو ابن عمه، وروى أيضا عن ابن عيينة وغيره وكان، ثقة حافظاً للحديث ولم ينتشر عنه كبير شيء في الفقه، وكان منشؤه بمكة وتوفي بها سنة سبع وثلاثين ومائتين، وحدث عن جماعة) ص104
ولسنا نعرف من أمر إدريس والد الشافعي إلا انه كان رجلا حجازيا قليل ذات اليد، وانه خرج مهاجرا من المدينة حين ظهر فيها، بعض ما يكرهه، أو خرج من مكة إلى الشام لحاجة في رواية اخرى، وأقام بغزة أو بعسقلان من بلاد فلسطين ثم مات بعد مولد الشافعي بقليل.
أما أم الشافعي فهي أزدية في ارجح الروايات، وهي الرواية المشهورة المعزوة إلى الإمام نفسه، وذكر بعض المؤرخين أن كنينها (أم حبيبة الأزدية).
ونقل بعض أصحاب التراجم أن أم الشافعي هي فاطمة بنت عبيد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
وقيل: فاطمة بنت عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي.
وقالوا: إنهم لا يعلمون هاشميا ولدته هاشمية إلا علي بن أبي طالب والشافعي.
ورجح هذا القول ابن السبكي في كتاب (طبقات الشافعية الكبرى) لكن الفخر الرازي يرى: إن هذا القول شاذ، ويقول ابن حجر العسقلاني: انه لم يثبت ويرده كلام الشافعي نفسه. قال ابن السبكي: (ولله درها من أي قبيلة كانت!).
قال ابن حجر: (ومن ظريف ما يحكى عن أم الشافعي من الحذق: إنها شهدت عن قاضي مكة وهي اخرى مع رجل. فأراد القاضي أن يفرق بين المرأتين، فقالت له أم الشافعي: ليس لك ذلك، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (أن تظل إحداهما فتذكر تحداهما الأخرى) فرجح القاضي لها في ذلك. وهذا فرع غريب واستنباط قوي).(23/39)
ولو أن أم الشافعي كانت بهذه المثابة من دقة التفريع وقوة الاستنباط لعرف التاريخ على الأقل اسمها وعرف أين وافاها حمامها وفي أي زمن.
هذه السيدة التي يختلفون في نسبها ويختلفون في اسمها هي التي كفلت طفلها يتيما غريبا فقيراً، ولم تزل ترعاه بعنايتها وتتولاه بهديها حتى أصبح بين المسلمين إماماً.
خرج إدريس بن العباس والد الشافعي من مكة مهاجراً يفر من الظلم أو يفر من الفقر أو يفر من كليهما، وقد يكون في طريقه إلى فلسطين أقام في المدينة زمنا، فقال بعض الرواة: إن هجرته كانت من المدينة ثم نزل في غزة أو في عسقلان، وهما ثغران من ثغور فلسطين متجاوران، وعسقلان هي المدينة، وأقام هناك مع زوجه التي وضعت له طفلا ذكرا لم يكد يتنسم الحياة حتى أدرك الموت أباه.
هذا مولد الشافعي، ولا خلاف بين الرواة في أن الشافعي ولد (سنة 150 هـ - وهي السنة التي مات فيها أبو حنيفة على الصحيح كما ذكر ابن حجر وغيره.(23/40)
جنون الشباب
أفْدي بروحي الْغَانيا ... ت المائسات قُدُود هنَّهْ
الخالعاتِ عَلى الحيا ... ةِ روَاَءها بجمالِهِنَّهْ
النَّاعمات الْغيدِ يُرْ ... شَف كالْمُدامَةِ ريقهنَّهْ
الْباعثاتِ بِكلِّ قَلْـ ... بٍ وَجْدَهُ ألْحَاظهنَّهْ
يَمرْحْنَ في ظِلِّ الشَّبا ... بِ فَتَرْقصُ الدُّنيَا لهنَّهْ
خطَوَاتهنَّ عَلَى الفؤا ... دِ كأنَّها وقْع الأسنَّهْ
الشِّعْرُ والسِّحْرُ الحلا ... لُ وفتنة الألبابِ هَنَّهْ
وإِذا أرَدْنَ جَعَلْنَ مِنْ ... صَحْراءٍ هذا العَيْشِ جنَّهْ
لِلّهِ يَوْمٌ كُنت في ... هـ صريعَ نَبْلِ جفونهنَّهْ
ما أعْذَبَ الألمَ الَّذي ... يَصْلاهُ قَلْبي عِنْدَهنَّهْ!
آمَنْت بالحُسنِ المبي ... نِ وهِمْتُ مِنْهُ بكلِّ فتنهْ
لَوْلا الْجَمال لكانتِ الدُّ ... نْيا كأسْدافِ الدُّجهْ
ياطيبَ أحْلامَ الصِّبى ... مِنْ بَلْسَم يا طيبهنَّهْ!
إِنَّ الحياةَ هي الشَّبا ... بُ فان تولى فَهْيَمحْنَةْ
رقَّ النسيمُ ورجَّع الْ ... غريدُ في الأغصان لَحْنَهْ
فاغْنَمْ ربيعَ العُمْرِ غضّ ... اً، فالشَّباب هوىً وجِنَّهْ
دمشق. حلمي اللحام(23/41)
راعي الغنم
يا ليتني راعياً غنما ... في البر أقضي الحياة منفردا
// لي أمة أينما ذهبت معي ... تذهب لما ارتضتهدايهدى
أمة ضأن قد ارتضيت بها ... أهلا كما اخترت ولدها ولدا
فكل صبح نمضي إلى وطن ... وكل يوم نبني لنا بلدا
موطننا حيثما يطيب لنا ... وكل أرض عشنا بها رغدا
آنس فيها اما وجدت أسى ... أو تلتجي لي إمارات أحدا
حينا تراني كالفيلسوف بها ... يضرب في الكون ناظري صعدا
وتارة شادياً أردد في ... لحني وأصغي إذ تستعجل صدى
تهيج نايي النعاج ثاغية ... مثال جوقين بالغنا اتحدا
وتارة أغتدي لها ملكاً ... تطيعأمري مهما رفعت يدا
وكيف أرضى بذبحواحدة ... منها وقد أغدقت علي ندى
تأكل عشبالثرىوترضعني ... دَراً وتكسو بالصوف لي جسدا
عمري عيشي في الضان لأعمر ... يذهببينالورىعلى سدى
أحمد الصافي النجفي(23/42)
الكروان
ألاَ أيها الكروان صَحَّتْ لك الرُّبَى ... وطابت مَجانيها ففيمَ تَصيحُ
أراكَ كأن الوَجْدَ أشجاكَ والأسى ... رماكَ فتَغْدو وَالِها وتروح
كأنك والأشجارُ أعوادُ مِنْبرٍ ... خطيبٌ لأرباب الهوَى ونَصيحُ
ألا غنِّني وأنشدْ فُؤاداً أضلَّهُ ... عُيونُ المَها عَلَّ الفُؤاد يلوحُ
وآسِ بِما توحيهِ قلبي فَربَّما ... تَقَرَّح قلْبُ المَرْءِ وهو صحيحُ
محمد محمود الرافعي(23/43)
في الأدب العربي
الطبيعة في شعر ابن خفاجة
1
في سنة 450 للهجرة ولد الشاعر أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة في الأندلس في جزيرة شقر ونشأ فيها كما ينشأ غيره حسب نظام الحياة في تلك العصور على أخذ اللغة العربية عن الرواة والنحويين، وعلى تلقن أحكام الفقه عن الفقهاء والمعلمين، حتى كانت له في الفقه مكانة لم ينكرها معاصروه فلقبوه بالفقيه.
ربما خطر ببالك أننا سنأخذ بعد هذه المقدمة في وصف حياة الشاعر بعد زمن التعلم، وربما لاح لك أن حياته بعد أن صارت له بالفقه تلك المكانة ستكون مملوءة بالأحاديث العلمية والمجادلات الدينية وانه سوف لا يخرج من مجلس علماء إلا ويدخل في مجلس فقهاء، ربما لاح لك أن حياته ستكون بعد أن لقب بالفقيه حياة مدرس جاد أو قاض عادل، أو انه سيسلك سبيل المناصب في الدولة من أمارة أو وزارة، ربما لاح لك ذلك على وجه الظن إن لم يكن على وجه التحقيق، لأنه نتيجة محتومة لحياة التلمذة التي قضاها بين الجد والدرس، وبين مسائل الفقه وأحكام الدين، وبين كتب الكوفيين وكتب البصريين، فنحن نجيبك عما خطر ببالك بالإيجاب، وعما لاح لك بالسلب، ونقول فيه انه كان في طبيعة أبي نؤاس وفي حالة فقيهان غلب عليهما الشعر، وعالمان غلب عليهما الظرف والدعابة
عاش ابن خفاجة في الأندلس وهي يومئذ جنة الله في أرضه، أكسبها موقعها اعتدال المناخ ورقة الهواء، وسقاها الغمام من دموعه، في أكثر أيام السنة، وتفجرت أرضها بالينابيع والجداول في كثير من وديانها، ونبتت الأعشاب والأزهار حول هذه المياه، وقامت فيها الأشجار فلا ترى إذا سرت فيها إلا مياها قوية دافقة، وظلالا وارفة واسعة، في أيام استتب الأمن فيها على يد العرب الفاتحين، وعملت يدهم فيها فأقاموا الجسور وشيدوا القصور وبنوا المدن، ثم خططوا الرياض والبساتين وغرسوا بها الأشجار والأزهار والرياحين، وأسالوا إليها مياه الأنهار والجداول، وأقاموا فيها البرك الجميلة، والبحيرات الواسعة، والمجاري الكثيرة، فدنت قطوفها وكثرت خيراتها، وتحولت من حقول خربة واسعة وأحراش كثيفة إلى بلاد عامرة، ورياض زاهرة، وقصور مشيدة، فتحولت من ملك(23/44)
مضطرب قبل الفتح إلى ملك ثابت وطيد بعده، وتحولت حياتها من حياة ريفية مقلة، إلى حياة مترفة ساحرة
وكان من الطبيعي أن يكون لسكان تلك الأرض عواطف رقيقة ونفوس جميلة لما للطبيعة الماثلة في كل وقت وفي كل مكان أمام أعينهم من أثر، ولما في حياتهم من ترف ونعيم
وابن خفاجة في حياته يمثل لنا الرجل الأندلسي الذي عاش في تلك العصور أحسن تمثيل، وفوق ذلك كان لا يميل إلى مناصب الدولة ولم يكن له عمل من الأعمال العامة، وإنما عاش كما وصفه الأستاذ الزيات في كتابه تاريخ الأدب العربي (عيشة الفنانين خيلع العذار طليق الإسار) وكان له من طبيعته خير مساعد على الهرب بنفسه من بين كتب الفقه والنحو، ومن بين جدران قاعات الدروس والمجالس العلمية، فاقتصر في حياته على مشاهدة طبيعة بلاده الساحرة ومناظرها الزاهية، في اجتماعاته على مجالس الأدباء والشعراء في بياض يومه، وحضور ليالي اللهو والخمر تحت أشجار الأراك بين الأباريق والأقداح وبين الورد والريحان، حتى يمسح الصبح كحل الظلام (فامتلأت عينه ونفسه من جمالها، وراح يبرز هذا الجمال المعنوي في حلل شعرية)
الممنا في المقدمة السابقة إلمامة قصيرة بوصف طبيعة الأندلس، وطبيعة ابن خفاجة، فالأولى كانت جميلة المناظر، زاهية الألوان، والثانية كانت كوجه البحيرة صفاء وركودا ينعكس فيها كل مشهد من مشاهد الكون جميلا جذابا، وقلنا إن طبيعة ابن خفاجة أحبت طبيعة بلاده حبا بلغ به حد الغرام حتى هجر حياة الدرس وحياة العمل واقتصر على حياة كحياة الفنانين الذين ينقطعون إلى مشاهدة مناظر الحياة التي تتعلق بفنهم، ولعلك ترانا محتاجين إلى مثل هذه المقدمة، فان الموضوع الذي كلفنا أنفسنا بحثه يحتاج إلى مثل هذه المقدمة، إذ كل ما نقصد من هذا الموضوع أن نقدم بين يديك الصور التي اجتلاها بن خفاجة عن الطبيعة.
ترى الطبيعة في شعر ابن خفاجة ماثلة واضحة، تقرأ له القطعة فترى وتسمع وتشم. ترى الناظر واضحة جلية، وترى خضرة الأشجار، وحمرة الأثمار، وبياض الحباب، وصفرة الشمس، وترى ذهب الأصيل ولجين الماء وزرقة السماء، ثم تسمع نشيد المغني ووقع الرباب وغناء الحمام، ورنين المكاء وخرير الماء، وتشم عرف الروضة الغناء، وأريج(23/45)
الأزهار البيضاء، ورائحة الورد الحمراء، ثم تقرأ له من التشبيه الساحر والطباق الدقيق، والكتابة اللطيفة ما لا يخرج عن الربا الخضراء والوهاد الشجراء والأدواح اللفاء، وما لا يخرج عن العنبر والعرار والسوسن والأقحوان. إن بلاداً يصفها الشاعر فيما يصف فيقول:
يا أهل أندلس لله دركموا ... ماءوظلوأنهاروأشجار
ماجنةالخلدإلا فيدياركموا ... ولو تخيرت هذا كنت أختار
لا تحسبوا بعد ذا إن تدخلوا سقرا ... فليس تدخل بعدالجنة النار
وان حياة يحياها الشاعر كما وصفها فيقول:
إنما العيش مدام أحمر ... قاميسقيهغلامأحور
وعلى الأقداح والأداوح من ... حببنور وتبرأصفر
فكأن الدوح كأسأزبدت ... وكأن الكأس دوح مزهر
إن تلك الأرض وهذه الحياة لدليل واضح على صفاء نفسه ودقة حسه، وعلى تأثيره بمشاهد أرضه إلى حد يشبه جنون الفنانين فقد كان يذكر الطبيعة في مواقفه التي وقفها راثيا باكيا وفي مواقفه التي وقفها زاهدا متململا، وفي مواقفه التي وقفها معاتبا ممضا، وفي مواقفه التي وقفها مادحا يمدح الإخوان والقضاة، وفي مواقفه مداعبا إخوان الود ورفاق اللهو والسمر
لقد كان للطبيعة في لطف نفس الشاعر ورقة حسه أثر، وكان للطبيعة في شعره ظل، وكان للطبيعة في كل أغراضه التي قال بها الشعر ذكر، فهو (شاعر الطبيعة ومصورها) كما قال الأستاذ الزيات
2
نفس الشاعر:
لأبن خفاجة في شعره صورة صادقة من طبيعة نفسه ففي قوله:
إنما العيش مدام أحمر ... قام يسقيه غلام أحور
إلى آخر الأبيات صورة لتلك النفس التي لا ترتاح إلا إلى خمرة حمراء من يد جميل أحور في ظل الدوح المزهر
فهو لا يرى في الحياة شيئا غير هذا، أو كأنه لا يريد أن يرى في الحياة شيئا غير ما ذكر،(23/46)
أو قل أنه يضع بذلك نموذجا للحياة اللذيذة كيف تكون، ألا ترى أنه كيف عكف على رشف الكؤوس الحمراء ومراقصة الأغصان الخضراء:
عاظر إخلاءك المداما ... واستسق للأيكة الغماما
وراقص الغصن وهو رطب ... يقطر أو طارحالحماما
فهو لا يرى للحياة أن تنهك الأذهان بالتفكير فيها، ولا يرى لها أن تهلك المرء بالعمل لها، وليس للحياة أن نجعل من الإنسان عبداً ذليلا للجد والعمل. ولكنه يرى أن تكون الحياة ألهية جميلة يتلهى بها الإنسان عن مشاقها، ويتسلى بها عن أحزانها، ويرتاح لها، ولا يرى في الحياة ألذ من رشف الكأس الوردية، ولا أروح للنفس من مراقصة الأغصان الرطبة، ولا ألذ في السمع من مطارحة الحمام ولا أجمل في العين من ألوان النور في الصباح والمساء في الروضة الغناء، فابن خفاجة لا تطيب له الحياة إلا عند شواطئ الجداول والينابيع وتحت ظلال الأدواح، وبين الأباريق والأقداح انظر إليه كيف يقول:
أمالديك حلاوة ... أما عليك طلاوة
طايب وداعب ولاعب ... واترك سجايا البداوة
فكأن حياة الجد وطبيعة الانقباض والوحشة لا توافق مذهبه أو قل لا تتشابه ولا تتجانس مع طبيعته التي تتعشق السرور ونفسه التي تحب اللهو والعبث.
لم يبق بعد هذا من شك في أن طبيعة الرجل كانت طبيعة سرور وطرب، بل كانت فوق ذلك طبيعة متفائل يهزأ بمصاعب الحياة وليس من شك في أن نفسه كانت تميل إلى الهزل وتميل إلى العبث، بل ليس من شك في أن حياته كانت حياة مستهتر يهرب من وجه الحياة العابس إلى وجهها الضاحك، فلم يتول عملا من الأعمال العامة. ولم يتصد لمدح الأمراء والوزراء والملوك على كثرة تهافت العلماء عليهم، وعلى حاجة الملوك إلى أمثاله.
هنالك ملاحظة أخرى: هي أن ابن خفاجة كان على علمه وفقهه لا يشتغل بالعلم ولا بالفقه، ولعله كان يعتقد أن للعلم فضيلة في ذاته وان على الإنسان أن يتعلم العلم لا ليجعله آلة تدر عليه المال، بل كان يعتقد أن العلم جمال لأهله وزينة لهم. ومثل هذا الاعتقاد نجده في قوله:
درسوا العلوم ليملكوا بجدالهم ... فيها صدورمراتبومجالس(23/47)
وتزهدوا حتىأصابوافرصة ... في أخذ مال مساجد وكنائس
فهو ينعى على أولئك الذين يجعلون العلم وسيلة لتصدر المجالس، ولنهب المساجد والكنائس، ويعيب عليهم ذلك. ولعل هذا هو السبب الذي دعا ابن خفاجة إلى أن يعرض عن مجالسة علماء عصره وأن يصدف عن مجالس العلم ومسائل الفقه، وأن يقتصر في مجالسه على مجالس الأدباء والشعراء، وأن يقتصر في أحاديثه على ذكر المتنزهات، وأن يقتصر في شعره على وصف الطبيعة:
هذه هي الصورة الواضحة التي نراها للرجل في شعره. نفس تميل إلى السرور والبهجة وطبيعة تهرب من الجد إلى الهزل، ومن الانقباض إلى الانشراح، ومن اللذة الآجلة إلى اللذة العاجلة، ومن التحجب والحياء والتكلف إلى اللهو والعبث والمجون. فليس بغريب أن تميل هذه النفس وتلك الطبيعة إلى مجالس السرور والطرب وإلى معاطاة المدام، وليس بغريب بعد هذا أن يصف ابن خفاجة في شعره مجالس أنسه، وأن يصور لنا بمقطوعات رائعة الأنهر الفياضة والضفاف الخضراء والرياض الفيح.
وصف الطبيعة: -
وفي وصفه مناظر الطبيعة وفي تشبيهه إياها بمناظر وأشياء تشابهها لا يخرج في كل هذا عن الطبيعة في شيء. فيشبه النهر المتعطف والأزهار النابتة حوله بمجرة السماء.
متعطف مثل السوار كأنه ... والزهر يكنفه مجر سماء
ويشبهه أيضا وقد حفت به الغصون بأهداب العين الزرقاء
وغدت تحف به الغصون كأنها ... هدب يحف بمقلة زرقاء
ويصف موقد قد اشتعلت فيه النار فيقول:
منقسم بين رمادأزرق ... وبينجمرخلفه يلتهب
كأنما خرت سماءفوقه ... وانكدرت ليلا عليه شهب
فهو في وصفه الطبيعة لا يخرج عن الأوصاف والتشبيهات التي تحتويها الطبيعة: فالنهر المتعطف والأزهار النابتة حوله، وزرقة النهر وأغصان الأشجار القائمة على شاطئيه، والموقد المشتعل، والرماد الأزرق والجمر الأحمر، كلها مناظر طبيعية؛ كذلك مجرة السماء والمقلة الزرقاء والسماء المتساقطة، والشهب المنكدرة كلها مناظر طبيعية، من هذا يمكنك(23/48)
أن تلاحظ إلى أي حد بلغ غرام ابن خفاجة بالطبيعة وحبه لها. وأنظر إليه كيف يصف ما فعل بهم الطرب وكيف يشبه الهلال بالطوق المذهب:
واهتز عطف الغصن من طرب بنا ... وأفتر عنثغرالهلالالمغرب
فكأنهوالحسنمقترنبه ... طوق على برد الغمامة مذهب
فهو يشبه اهتزازهم من شدة الطرب وقت المساء الساحر بالغصن يهتز وينعطف، ثم شبه الهلال الذي ابتسم عند المغرب بطوق ذهبي على برد الغمامة. وقال يصف الصباح الرائع:
والصبح قد صدع الظلام كأنه ... وجه مضيء شف عنه قناع
فقد شبه نور الصبح حين ينتشر فيمحو ظلمة الليل بوجه وضاء شف عنه قناع رقيق. ويصف الصباح في غير موضع فيقول:
وقد مسح الصبح كحل الظلام ... وأطلع فود الدجى أشيبا
فكما أن الصبح المضيء والدجى المظلم من مناظر الطبيعة فكذلك كحل الظلام وفود الدجى الأشيب صورتان عن الليل المظلم والصباح المنير، ويقول في تشبيه الظلام بالكحل والقطر بالعبرات
يجول للغيم كحل ... فيه وللقطر عبره
فلم يخرج في تشبيه الغمامة الدكناء والأمطار الهاطلة عن كحل الكاحل وعن العين المستعبرة، ويشبه خيوط الشمس الذهبية في المساء، ولون الماء الصافي فيقول:
والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء
والذهب الأصفر واللجين الفضي كلها ألوان طبيعية: فكأن ابن خفاجة يحتقر الصناعة ويحتقر ألوانها، فلا يشبه مناظر بلاده التي يراها إلا بمناظر وألوان طبيعية، ولا يصور الطبيعة إلا بألوان وأدوات طبيعية، أو قل أنه رأى أن الصناعة والحياة الاجتماعية أقل مناظر وأقل ألوانا من الطبيعة، فمال عنها إليها يمتع الطرف ويقول الشعر ويصف الشيب والشباب فيقول:
فأحسن من حمام الشيب عندي ... غراب شبيبة ألف النعيبا
فهو يشبه الشيب المخضب بالحناء بالحمام، ويشبه شعر رأسه الأسود في زمن الشباب(23/49)
بالغراب، ثم يقول: إن نعيب الغراب المشؤوم أحسن عندي من هديل الحمام المحبوب.
ونختم كلامنا الآن بهذه المقطوعة وهي تصف عشية من عشيات الأنس، ولاحظ إذا شئت فيها أنه لا يخرج في تشبيه مناظر الطبيعة عن الطبيعة:
وعشي أنسأضجعتني نشوة ... فيه تمهدمضجعي وتدمث
خلعتعليبهالأراكة ظلها ... والغصن يصغي والحمام يحدث
والشمس تجنح للغروب مريضة ... والرعديرقىوالغمامة تنفث
عبد الرحمن جبير. أدلب(23/50)
من الأدب الغربي
من كتاب الحب
للكاتب النرويجي بيتر نانزن
نقلا عن الترجمة الألمانية
حبيبتي أشهى النساء إلى النفوس، لقد وهبني غيرها من النساء حبهن فكن يذهبن ويجئن، بعضهن مرة وبعضهن مراراً، أنني أشكر لهن جميعاً، ولكني كنت أنساهن حين يجاوزن عتبة الدار.
على أنني كنت دائما مشغول الفكر بواحدة أخرى، أفكر فيها حتى وأنا مع غيرها، لأنها كانت المثل الذي أقيس علبه الأخريات فلا تستطيع إحداهن أن تكونه.
هي واحدة ليس غير! كنت دائما أرجو أن أظفر بمرآها داخلة من الباب، فان جمالها كان يتجدد في كل مرة أراها.
هي واحدة لا أكثر! كنت أرغب أن أحيا في ظلها، لأن العيش معها يفرغ على الحياة الجمال كله، ويبعث في أفقها أشعة شمس جديدة.
هي واحدة لا أكثر! كنت أشتهي معها الموت، لأني وأنا بجانبها لا أعرف الخوف.
اسم حبيبتي مارية، وهي أجمل النساء.
لست أبالي الثناء الذي يضفي الشاعر حلته على حبيبته الوحيدة، لأن حكمه كحكم الفلاح الجاهل. وغالباً ينطق كل شيء بأنها لا تستحق كل تلك الكلمات الجميلة التي أغتصبها من اللغة لأجلها.
إن الرجل الذي لا يعرف إلا لوناً واحداً ثم يزعم أن هذا اللون - وليكن الأحمر أو الأزرق أو الأصفر - هو أجمل الألوان، فان حكمه وإن اختلف عن حكم الأعمى، لا يعدو حكم الأعشى.
ولو أن لي عشيقة تطمئن إلي وأنا أقول لها انك أول من أحببت، وأنت أنت الوحيدة التي أحببتها، وانك أجمل إنسانة. لو أنها اطمأنت إلى هذا القول لهانت علي وسللت ثوبي من ثوبها، إذ لو كانت على ثقة من قدرها، أو يعنيها أن يزداد حبي لها، لقالت: اتخذ لنفسك عشر عشيقات أو عشرين، واختر منهن من يقتتل عليها الرجال، فإذا ما ملكتهن جميعا ثم(23/51)
رجعت إلي تصفني بأنني أجمل امرأة في الدنيا فعندئذ أفخر بذلك وأكون سعيدة.
فأنا إن قلت لمارية أنها أجمل من أظلهن الأفق فليخفق قلبها خفقات السرور، فإني ما كنت الأمين في حبها إلا ساعة أيقنت أني أقول الحقيقة. ما عرفت أني جهرت بالحقيقة إلا حين شعرت بأني سأفقدها إلى الأبد.
إنها تجربة الحب التي أرجو أن تقع لكل إنسان، إنها تجربة تبعث الألم لأنها من نار.
الألم يفصح ويثمر، الحب الذي يذوي بالنزق، ينمو بالألم ويترعرع. فبوركت أيها الألم لأنك ثبّت في قلبي حب مارية.
عرفتها وهي كالطفلة الغريرة الساذجة، وإني لأراها في ذلك اليوم وهي على ثقة من نفسها، فكانت تحاول أن تظهر كالمجربة، فكانت تتحدث عن الحياة كأنما سبرتها إلى الغور، ولاقت من التجاريب ما كشف لها عن الحياة وزورها، ووقفها على فتنتها وغرورها، فملّت كل شيء وكانت تؤكد - وهي تنظر بعينيها الصافيتين كعيون الأطفال - أنها تفكر حقا في الالتحاق بالدير، لأنها تعلم أن حياة التجرد الهادئة تعينها على احتمال البقية الباقية من الحياة التي فرضها عليها القضاء، فإنها كما كانت تؤكد، ترى أن السعادة في الحب، وقد فرغت من هذا الأمر منذ زمن وقالت: (لقد أحببت خطيبي، وكان طالباً، ولكني الآن أحتقره وأمقت عبارات الحب التي كان يقولها، إنني لا أصلح للحب)
كانت تقول هذا بصوت خافت وقد احمرت وجنتاها وبرقت عيناها، وفي حياء المرأة التي لا تصلح إلا لشيء واحد. . . هو الحب.
عندما وقفت تلك الفتاة الرشيقة أمامي تقص علي تجاريبها المحزنة شعرت بأنني أصبحت عاشقا.
ما كان أجملها وعلى وجهها سمات الألم البريئة، وما كان أحلاها في ثوبها الجميل!
لن أنسى ثوب مارية الجميل ساعة عرفتها لأول مرة. لقد جاء وقت كان فيه لمارية كثير من الثياب. ولكنها أجمل ما تكون في ذلك الثوب الذي كان وحيدها يومئذ. انه ثوب بسيط نصفه الأعلى صدار أبيض موشى له لمعة الحرير وإن لم يكن حريراً وتزر طوقه حول عنقها بمشبك دقيق مموه بالذهب.
كانت ككل فتيات المدن الصغرى يخرجن يوم الأحد للنزهة فتسفر وجوههن عن الجمال و(23/52)
تنم ثيابهن عن معرفة أمهاتهن بقواعد الاقتصاد
كان هذا الصدار بسيطا ومقبولا لدى الذوق، ولشد ما كانت تحرص على ألا يعلق به قذى. ولما أبى القدر القاسي إلا أن تقع عليه بعض قطرات من النبيذ نشطت في حماسة تغسل تلك البقع (الرذلة) متظاهرة بعدم المبالاة كأن لديها الكثير من الثياب الجميلة الغالية.
يا لك من فتاة صغيرة جميلة لا تحسنين الكذب، فما كان أيسر على المرء أن يستشف قرارة نفسك وأنت منهمكة في التنظيف تؤكدين أنه لم يحدث ضرر لأن الثوب عتيق!
هذا الثوب العتيق هو ثوبك الوحيد. . . . . تكاد الدموع تبتدر من عيني كلما خطر ببالي ذاك الخاطر. فمن خلال هذا الصدار الرقيق تروحت لأول مرة شذى جسمك الطيب وشعرت بدقات قلبك المضطربة
في ذلك الوقت كنت أشعر بعطف على تلك الفتاة الصغيرة ذات الصدار الموشى التي كانت تتكلم كذوات السن من النساء، وأعتقد أن لهذا الصدار أثراً كبيراً في ليني ورقتي لمارية، هذا الصدار الذي كان مملكتها الوحيدة والذي كانت تحرص ألا يبلى
يقف الرجال غالبا من النساء مواقف الأغبياء لأنهم يكثرون من الحرص والحذر، فالمرأة لا تريد أن تخدع بالكلام ولكنها تحب أن تؤخذ بالقوة فإنهن بلا استثناء يشعرن غريزة بأنهن الجنس الضعيف المغلوب ويردن أن يشعرن بإرادة الرجل وقوته مسيطرة عليهن، وتراهن لسبب لا يستطعن إيضاحه يحتقرن الرجل الذي يتذلل للحصول على رضاهن وهن يعتبرن الرجل الذي يرتد أمام فضائلهن غبياً، لأن هذه الفضائل، في رأيهن، ما عزت إلا لتخضع لليد القوية.
لم أذهب مع مارية ذلك المذهب الحاد لأنني كنت واثقا من أنه سيأتي اليوم الذي ترتمي فيه من تلقاء نفسها بين ذراعي لأن هناك مكانها الطبيعي وقد عرفت ذلك من انكسارها أمام نظرتي وضغطها يدي، عرفت ذلك من أول يوم، إذ وقفت وراءها وهي لا تراني ولا تسمعني وإذا بجسمها يضطرب وتسري فيه الرعدة من فرع إلى قدم.
لم تكن طريقة الهجوم هي الطريقة التي تتبع مع مارية، وقد رقق الصدار الموشى قلبي حتى أنني لم أرغب في أن أمتلكها على غرة.
وكما أن البستاني يفرح بزهرة نادرة ويظل يرقبها يوماً بعد يوم وهي تنمو وتتفتح، فلا(23/53)
يلمسها بيده ولكنه يزيل من حولها العشب والأوراق التي تكتنفها وتضيق عليها، ويعرضها للضوء والحرارة ويتعهدها بالماء والعناية، هكذا ظللت أرقب مارية وهي تنمو وتتكون امرأة ويشتد غرامها.
كان طبيعيا أن يأتي اليوم الذي تسقط فيه الزهرة بين يدي البستاني الذي ظل ينتظرها بصبر وأناة.
طال صبر البستاني. وفي بعض الأوقات كانت مارية تجتذبني من ذراعي وقد ضرجت وجنتيها الحمرة وتقول لي وقد ملأتها سخرية بنات حواء: (هل أنت غبي؟)
تظن المرأة أنها تتمتع باحترام الرجل لها وإعجابه بها إذا هي ظلت إلى اللحظة الأخيرة تمثل دور المستغواة، ويجمل بالمرأة ألا تتورط في استعمال هذه الألاعيب مع المجربين من الرجال.
ربما كان لهذه الألاعيب تأثير في الذين يرون أنفسهم لصوصا حين يستحوذون على امرأة، ولكن هذه الخدع، التي لا تتنوع ولا تتغير، قد تهيج نفوسنا وتضطرنا إلى الغلظة في الكلام أو المعاملة، وهذا ينتقص الجمال الكامل ويشوه مظهره ويفقد المرأة كثيراً من الذكريات الجميلة في حياتها.
مارية!! يا أرق إنسانة شعوراً! أشكرك لأنك أعفيتني من هذه الخدع والمهازل، من الحياء المتكلف، من الخوف المموه، من الدموع الكاذبة.
مارية كانت لي! ولكني لم أكن لها، أو على الأقل كنت أعتقد ذلك وكانت هي تعرف هذا حتى أنها لا تطمئن إلى خروجي من الباب. إنني أعرف رأيها فقد صارحتني به مراراً ولم أحاول تفنيده لأنها كانت تعجبني كثيراً وهي تبدي رأيها.
كانت شديدة الغيرة، ولكن بذكاء وروية وتسامح.
كانت تعتقد أن لي في اليوم عشر عشيقات.
أيتها الفتيات الصغيرات! إنكن تبالغن في مقدرة الرجل إلى حد بعيد، وتندفعن دائما وراء خيالكن.
في هذه النقطة لم تكن مارية في شيمة غير شيمة بنات جنسها. كانت تزورني لا أقل من ست مرات في كل أسبوع وكانت تجدني كل مرة في انتظارها باشتياق، وبالرغم من هذا(23/54)
كانت تؤكد، وكذلك يقول كل الناس، أن لي عشرات العشيقات.
لست أنكر أنني كنت أخون مارية في الحين بعد الحين ولكن كنت لها أكثر مما تظن.
أما ما يقوله الناس فلست أباليه.
كل الناس!
عبارة أشمئز منها، ديدان تنساب إلى حياتنا المنزلية من ثقب الباب أو من فرجته وتجر معها شيئا من قاذوراتها.
أحكموا إغلاق النوافذ والأبواب، حصنوا حياتكم الخاصة بالحديد والفولاذ، فأنكم بالرغم من ذلك ستجدون (كل الناس) واقفين ينظرون من الخارج ويظنون ظنون السوء ويعلق الوضر بأبوابكم أو نوافذكم.
كل يوم أرى على زجاج نافذتي ذبابة تنفس بها العمر تبدو ضعيفة كأنها لا تستطيع الحراك، ولكني لا أكاد أقترب منها حتى تكون قد طارت بسرعة.
إني أسمع طنينها واصطدامها بالزجاج فأفتح النوافذ جميعها وأطاردها بالمنشفة، فإذا بها تختفي فجأة تحت السرير أو وراء المرآة أو على إطار صورة حيث تقف لا تبدي صوتا.
إنها لا تتركني وتلحق القذى بفراشي وأسمع طنينها المقلق فوق سريري كل يوم.
وذات مساء بينما كانت مارية تنضو عنها ثيابها أمام المرآة وإذا بتلك الذبابة القبيحة تقع على جسمها الأبيض.
أحمد شكري(23/55)
من الشعر الإنجليزي:
إلى الحرب
للشاعر الأسترالي هيلز يدعو الإنجليز إلى إشراك قومه في حرب
جنوب أفريقية
مَاذَا غدَوْنَا؟ أسوُقاً لا تَرَوْنَ لهَا ... لَولاَ تِجارَتُكُمْ قَدْراً ولا شَانا؟
أمْ نَحْنُ بَعضُ بني ذَا المُلْكِ ما بَرحُوا ... مُنَظَّميِنَ بِهِ خَيْلاً ومُرَّانَا؟
فَإنْنَكُنْسنعيشُالدَّهرَفيرَحمٍ ... كالابْنِو الأمِّإخلاصاًوإيمانا
فلْنَحْتَمِلْ مَعَكمْ عبَءالجهاديداً ... ولْنشهدِالرَّوْعأنجاداًوأعوانا
فماأرىالشعبَ شعباً يوممَفْخَرهِ ... وَلاَ أُحِسُّ لهعِزَّاوسلطانا
حتى تَزُفَّ بنيها كلُّ والدةٍ ... إلى الرَّدَى مُسفِراً في الرَّوْع عُريانا
ها قد دعتْأُسْتُرالْيافَلْتلبِّ لهَا ... إنْجلتْرِاو لْتُجيبُوااليومَ نَجوانا
مِنَّاابْتِسامٌإلى مَنآبَفيغَدِهِ ... لَنَا ودمعٌعلى مَن في الوَغى حانا
سَنَمْتَطي الخيلَ مَع أفذاذِ مَنْ نَجَبَتْ ... إنكلتراوَنخُوضُ الهَوْلأَقْرَانا
لانَبتغيغيرمَيدانٍلِعَسْكرِنَا ... رَحبٍ ومَدْفَنٍ أجْنادٍلقتلانا
فخري أبو السعود
شهيدا الطيران
للأستاذ عبد المغني المنشاوي
هاضت الأقدار للنسر جناحاً ... فتردَّى من علاه في الحُفَرْ
وبكاه ملكَ الموت فصاحا ... كل شيء بقضاء وقدر
كنتَ يا بدرُ سميرَ المَلَكِ ... مَنْ سمير القبر وَهْناً يا تُرَى؟
طرتَ يا حجاجُ فوق الفلكِ ... هل تطير اليوم في جوف الثرى؟
هتفَ الناعي فقلنا كذبَا ... كيف يَهْوى من سماه كوكبُ
أطلعته مصرُ يَروى نسبا ... في علاَها فحواهُ المغربُ(23/56)
طار يبغي وَكرَهُ مقتحما ... كلَّ لُجٍّ لا يبالي الغَرقا
واحتواه شوقه مضطرما ... فتلظَّى قلبُه فاحترقا
شيَّعوهُ يا لَه مِن كوكب ... كان ملء العين والقلب ضياَء
سارتْ الدنيا له في موكِب ... زلزل الأرض وكم أبكى السماَء
إِن غداً جُسمانُه في العَلَمِ ... فهو نَجْمِ في هلال ونجومْ
أو بدا في الموت كالمبتسم ... فسجينُ فَرَّ من دار الهمومْ
لا تَشُقِّي مصرُ جيباً بعده ... يفزع الأبطال من شق الجيوب
بل فشقّي كل قلب عندهُ ... ثم قومي فادفنيه في القلوبِ
انثرى الأزهار من بين يديه ... فهو يهوَى في مُنى مصر المنايا
وارتدي صبرك لا تبكي عليه ... إن مجد الشعب تبنيه الضحايا
حبس القبرُ لديه جثةً ... ثم رفَّت روحها كيما تطيرا
فانشَقُوها بيننا ريحانةً ... والمحوها فوقنا بدراً منيرا
صوِّرُوا طائرةً فوق الضريحْ ... وأشهدوا الأنسر تهوى للفرارْ
قدمت أرواحها وهو طريح ... فديةً لو صحَّ في الموت الفرارْ
يا نسوِّرَ النيل طيروا في علاهْ ... ورِدوا الكوثر إن عزَّ الورودْ
منحتكم مصرُكم سرَّ الحياهْ ... فامنَحوها كل شيء في الوجودْ
هل رأيتم؟ هذه كفُّ العَلاءِ ... تكتب التاريخَ يا جند الشبابْ
سطرت سفْر الضحايا بالدماءِ ... فادرسوا العلياَء في هذا الكتابْ(23/57)
العلوم
نذير وبشير
للدكتور أحمد زكي
كل إنسان يحمل داءه، وكل حي يتضمن فناءه، إن فاته المرض، أدركه الكبر وحسبك بالكبر داء، والخلية الصغيرة من نبات أو حيوان، فيها البروتوبلازم، وهي معدن الحياة، ولكنها كذلك معدن الموت، تظل تنشط ما دبت الروح في الجسم، فإذا فارقته نشطت في التلف، في التفكك والتحلل، بمثل نشاطها في الحياة
وجماعات الأحياء على هذه الأرض كالأجسام تصحو حينا وتمرض حينا، وهي مثلها فيها أسباب الفناء، فهي لكي تفنى ليست بحاجة إلى أن ينقضّ عليها نجم أو تهوي من سمائها شمس، بل إن في الأرض كفايتها من أسباب العدم. والحياة على هذه الكرة رهينة بموازنات شتى بين أجناس الحيوانات والنباتات من إنسانها ودوابها وطيرها وحشرها وجراثيمها وطحالبها وفطرها أو حزازيِّها وسرخسيِّها وبذريِّها، موازنات عماده التقاتل المستمر بين هذه الأجناس جميعا، والتآكل الذي لا ينتهي، فما من قبيل إلا يأكل قبيلا، وما من قبيل إلا يأكله قبيل، وقد يزيد حظ هذا القبيل من الحياة وقد ينقص حظ ذلك منها، ولكن الحياة المطلقة في مجموعها ثابتة في هذا النضال. وهو نضال سجال، لا يغلب فبه غالب كل الغلبة، ولا ينغلب مغلوب كل الانغلاب، إذ لو كان هذا، لاختل التوازن بين جماعات الأحياء، وهو سر استمرار الحياة على النحو الذي نعرفه على سطح هذه البسيطة
والجمعية الإنسانية لا تشذ في ذلك عن جمعيات سائر الخلائق الحية، والتوازن الذي بين الإنسان وبينها لا بد أن يستمر ليعيش هو وليعشنَ هنَّ، فنحن نأكل الحيوان والنبات لنعيش، ونموت ليأكلنا الحيوان والنبات بالتباشر أو بالواسطة، فيعوضا بذلك ما فقدا، ولو أننا أكلنا منهما ثم أكلنا واستمررنا مع ذلك في حياة صريحة لا يخالطها عدم لفني، المأكول ففنى الآكل
إلا أن هذا التوازن قد يختل اختلالا يذهب بجماعة من جماعات الأحياء أو يكاد، وقد حدث في التاريخ أن انقرضت أجناس لا نجد الآن منها غير آثارها. وسؤالنا اليوم هل يجوز على الجمعية الإنسانية ما جاز على تلك الأجناس المنقرضة؟ هل يفسد هذا الاتزان في(23/58)
ناحية من نواحيه فيهوي بالإنسان إلى فناء محتم، أو على الأقل ينزل به في نظام الأرض إلى منزلة وطيئة وضيعة، تنقصه عدده، وتقل عدته، وتفقده هذه السيطرة المطلقة الحاضرة على سكان هذه اليابسة؟
هذا ما ينذر به (السير ملكولم وتسن) رئيس معهد رس الصحي بلندن، وهو رجل إذا قال استُمِع له، فهو يقول في مقال قريب انه لا يبالغ إذا ارتأى أن المدنية قد تنتهي باضطراد الزيادة في طرق المواصلات اضطرادا سريعا يسبق العلم في مكافحته النتائج السيئة التي تنجم عن صلات قريبة بين مناطق الأرض التي لم تصلها إلى الآن روابط وثيقة. واتخذ مضربا لمثله الحمى الصفراء، وهي حمى فتاكة، تبلغ الوفيات منها 60 في المائة، وقد بلغت في بعض الوافدات 94 ?، وهي تنتقل من فرد إلى فرد بواسطة جنس خاص من البعوض اسمه السليم بعد عضة البعوضة المعدية له لا يظهر عليه المرض في الستة الأيام الأولى ولا يكون عندئذ مصدراً للعدوى، فإذا ظهر عليه المرض كان مصدرا لها في الثلاثة الأيام الأولى فقط من ظهور المرض، فلا بد للبعوض السليم أن يعضه لكي يُعدى المريض في خلال هذه الأيام الثلاثة فحسب.
وهذه البعوضة ذاتها بعد دخول المرض فيها لا تُعدي بالعض إلا بعد عشرة أيام من ذلك، ولكنها خلافا للإنسان تحمل العدوى طول عمرها.
والحمى الصفراء تستوطن الآن غرب أفريقيا من السنجال إلى أنجولا، وبين هذه المنطقة الوبيئة وما جاورها من سائر أفريقيا حواجز طبيعية منيعة، فبينها وبين شمالها الصحراء الكبرى، وبينها وبين غربها جبال منيعة، وفي كلتا الحالتين يستغرق الإنسان للخروج من هذه المنطقة إلى بقية الدنيا أسابيع طويلة مشيا على القدم أو ركوبا على الدواب، فإذا أصاب المسافر عدوى وسافر عقبها فالموت يدركه أو الشفاء، قبل أن يصل إلى غايته شمالا أو غربا. كذلك البعوض المصاب لا يصمد لهذه السفرة الطويلة. وأما وقد أمكن الآن أن يصل الإنسان إلى تلك المنطقة أو يخرج منها بالسيارة أو القطار أو الطائرات في تسعة أيام فما دونها فقد أصبح من المحتمل أن يُعضّ المسافر في السنجال ويبلغه المرض في مراكش أو تونس أو في مصر. وجنس هذا البعوض موجود في تلك البلاد، فما هي إلا أن يحل بها المريض فيعضه البعوض فتعم البلوى على أن البعوض السنجالي نفسه في(23/59)
استطاعته أن يسافر على الطائرات، وقد ثبت ذلك فعلا فقد امتحنت مائة طيارة بعد سفر 1250 ميل فوجد أن منها اثنتي عشرة تحمل بعوضا.
وإذا دخل المرض أفريقيا الشمالية والشرقية فلن يقف عند هذا الحد، فهو لابد سائر إلى جزيرة العرب فالهند فالشرق الأقصى، إما أرضا وإما على السفن بحراً وإما في الطيارات جوا، وإذا هو أدرك آسيا انتشر انتشار النار في الهشيم لزحمة السكان، ولوجود هذا البعوض بكثرة لا سيما في المناطق الاستوائية منها، ففي كولومبو بحثوا المنازل بحثا منظما فوجدوا البعوض في 98 ? منها. وكذلك الحال في الملايا
وإذا طغى المرض على أفريقيا وآسيا هذا الطغيان فقد طغى على أكثر من نصف المعمورة فأنقض صرح التجارة وامتنع التبادل بكل أنواعه بين الشرق والغرب ووقفت السفن واعتلت الحياة واهتزت أسس المدنية اهتزازا ينذر بالتداعي.
هذا حلم لا شك مريع يقصه علينا السير (وتسن) لا نريد بروايته إلا التمثيل بما يمكن أن يحدث للمجتمع الإنساني من جراء قبيل دنيء من الأحياء إذا أعطيت له الفرصة للسيطرة على قبيل الإنسان: جراثيم صغيرة فتاكة صغرت حتى مرَّت في المرشحات البكتريولوجية، ودقت حتى لا تراها الميكروسكوب العادية. ولكن الإنسان بطبيعته يقظ لكل اختلال في اتزان يقع بينه وبين أي قبيل من قبائل الأحياء، ولا أدل على هذه اليقظة من إنذار السير (وتسن) نفسه، ومن إنذارات مثلها سبقته حدت برجال العلم، وهم جنود البشر في هذا النوع من الكفاح من زمن بعيد إلى دراسة هذه الحمى، أصلها، وموطنها، وناقلاتها، وطرق الوقاية منها، ووسيلة علاجها، وقد خطوا في هذه السبيل خطوات واسعة تدلنا على أن النصر تراءى ولو من بعيد. ففي الشهر الذي ينذرنا فيه عالم بالدمار، يبشرنا علماء آخرون أن الأمل كبير في وقاية السليم بالتطعيم. ذلك أنه بادئ بدء استكشفوا أن ميكروب الحمى الصفراء إذا عُرّض للهواء أو لفعل مواد كيمياوية كالفرمالين والفينول والجلسرين يفقد بالتدرج شيئا من حدته، فإذا حقن به السليم عندئذ لا تظهر عليه أعراض المرض الإكلينيكية ولكنه يكتسب بذلك حصانة ضد العدوى. وقد استخدم هذا اللقاح بنجاح في مكافحة وافدة هذه الحمى في عاصمة البرازيل عام 1928. لكنهم وجدوا أن تحضير هذا اللقاح لا يخلو من خطر، فانهم إذا أطالوا تعريض الميكروب للمواد الكيمياوية المذكورة بلغ(23/60)
به الضعف أنه لا يكسب حصانة، وإذا قصروا تعريضه كان من القوة بحيث لا يؤمن شره، وفوق هذا فاللقاح بعد تحضيره سريع العطب حتى إذا أختزن في الثلاجات العادية. عند ذلك اتجهوا في التفكير وجهة جديدة فذكروا أن المريض إذا نجا اكتسب بمرضه حصانة فلا تأتيه العدوى مرة أخرى ولو تعرض لها، فطلبوا الوقاية في دم هذا المريض الناقه فاستخلصوا منه مصلا حقنوا به الأصحاء فأكسبهم حصانة ضد الداء، ولكنها لم تدم سوى أسابيع قليلة بعدئذ جمعوا الاثنين معا، اللقاح والمصل، فوجدوا مدة الحصانة تطول، ولكن لم يزل بذلك الخطر من استخدام لقاح قد يحتوي الميكروب في تمام حدته. فكان لابد من كشف طريقة جديدة لأضعاف الميكروب إضعافا يذهب بسورته دون الذهاب بحيويته فبلغوا الغاية من ذلك بامرار الميكروب بمخ الفئران بضع مرات متعاقبة، وحصلوا على ميكروب لا بالضعيف ولا بالقوي، يحقن به الإنسان فيتحصَّن ضد الداء بمقدار ما يتحصن من عاناه. إلا أن ملاحظات جديدة أظهرت أن الخطر لم يزل تماما، وأهم من ذلك أن دم المحقون بهذا اللقاح الجديد يحتوي الميكروب الحي فهو مصدر خطير لعدوى البعوض. عندئذ فكروا في الجمع مرة أخرى بين هذا اللقاح الجديد وبين مصل الناقهين، لأن هذا المصل يزيد حصانة المحقون عقب الحقن فيقاوم فعل اللقاح إذا زاد على الحد، وظُنّ فيه كذلك أنه قد يمنع وجود الميكروب الحي في الدم. وقد دلت النتائج على أن الجمع بين هذين يزيد في حصانة المرء زيادة كبيرة دون أن تظهر عليه عقب الحقن أعراض المرض، أو يظهر الميكروب الحي في دمه فيكون سببا في عدوى البعوض فالناس.
والعقبة الوحيدة التي باتت رهينة التذليل هي صعوبة الحصول على المصل من دماء الناقهين من بني الإنسان. وحتى هذه يظهر أنها ذُللت بما أُعلن في نشرة علمية في مايو الماضي من أن الخيل إذا حقنت مرارا متتالية بميكروب الحمى اكتسب دمها القدرة على مقاومة الميكروب، وإذن ففي الاستطاعة إبدال دم الخيل بدم الإنسان
هذا ما يختص بالبحث في زيادة حصانة الناس حتى لا تفجأهم العدوى وهم غافلون، ولكن لعل أهم من هذا أن يُستأصل البعوض الذي ينقل العدوى. وقد جرت أبحاث في ذلك، ولكن عادات هذا البعوض وطريقة معيشته وأسلوب إفراخه أعجزت البحاث، فالبعوض يُفرخ في الماء ككل البعوض، إلا انه يفرخ في كل ماء حتى في الحُفَن الصغيرة منه والاسآر القليلة،(23/61)
في شقوق الشجر أو فلقات الحجر، وفي الكوب والزير وسائر ما يحمل الماء في البيوت. وقد استخدموا الزيت يضعون منه على الماء المكشوف فيمتد فِلْما رقيقا على سطحه فيمنع الأفراخ، ونجح هذا بالطبع، ولكن كم من أرباب المنازل في المدن الصغيرة والكبيرة يركن إليه في القيام بهذا، وكيف تصل يد الإنسان بالزيت إلى كل فجوة وكل نقرة في الأصقاع عامرها واليباب. وجربوا كذلك السمك الصغير يضعونه في مستودعات مياه الشرب في المناطق الحارة، فيأكل العلق قبل أن يستحيل بعوضا. وقد قدر لهذه الوسيلة بعض النجاح أما المرض وقد أصاب المريض فليس له دواء. أمامك المريض يتضور من الألم الشديد، ويقيء الدم الأسود الصديد، قد اصطبغ جلده صفرة، وعلت وجهه وعيناه وخياشيمه حمرة، ولا حيلة لك فيه غير التمريض بتخفيف الأعراض بالثلج وأشباهه ثم الصبر حتى يقضي قضاء الله، كل هذا وأنت نفسك معلق بين الموت والحياة
ولكن مع كل هذا، وبعد كل هذا، أليس يحق للإنسان أن يظل يتساءل: أفي الإمكان اختلال الاتزان بين قبيل الإنسان، وقبيل من سائر الأحياء، ولو دنيئا كالذي نحن بصدده، اختلالا يذهب بسيد الحيوان ويمسح آثاره من رقعة الوجود؟(23/62)
الدكتور أميل رو
(1853 - 1933)
-
للدكتور محمد عوض محمد
في اليوم التاسع من الشهر الماضي شهدت باريس حشدا هائلا يعلوه الحزن، وتخيم عليه الكآبة؛ فان فرنسا في ذلك اليوم كانت تشيع جثمان عالم جليل منأكبر علمائها وهو الدكتور أميل رو، خليفة باستور ومدير المعهد الشهير باسمه زهاء الثلاثين عاما. وقد سار الموكب الخطير، يتقدمه رئيس الجمهورية والوزراء والسفراء والعلماء حتى وصل إلى كنيسة نوتردام، حيث أقيمت مراسم الحزن على الفقيد العظيم، ثم نقل النعش بعد ذلك إلى معهد باستور حيث أودع مؤقتا ذلك السرداب الذي يحوي قبر باستور نفسه، وذلك ريثما يقام له ضريح خاص في حديقة المعهد
ولد أميل رو في 17ديسمبر سنة 1853في مقاطعة شارنت وبعد أن أتم دراسته الأولى ونال البكلوريا في العلوم، ذهب يدرس الطب في مدينة كارمان فران أولاً ثم في باريس. وقد اجتذبه إلى هنالك وجود أستاذه الذي تلقى عليه علم الكيمياء وهو الأستاذ دلكاو وجعل يشتغل محضرا في معامل أستاذه هذا، وفي عام 1878 كان الأستاذ باستور يلتمس مساعدا له ممن درسوا الطب. فبادر الأستاذ دلكاو بترشيح رو لهذا المنصب ومن تلك السنة بدأت صلته بالأستاذ الأكبر، تلك الصلة التي لم تزدد على الأيام إلا توثيقا، والتي لم يقطع حبلها سوى الوفاة
لم يمض زمن حتى أصبح رو ألصق الناس بباستور، وجعل هذا يشركه معه في تجاربه عن النبيذ، وفي أبحاثه في هيضة الدجاج، والجمرة الخبيثة التي تصيب الماشية، وفي سنة 1883 أرسله مع بعض مساعديه إلى القطر المصري لدراسة الهيضة (الكوليرا) الآسيوية التي انتشرت في بعض أقاليم مصر. وبعد عودته اشترك مع أستاذه في الأبحاث التي كان باستور يقوم بها عن مرض الكلب
وفي السنوات التالية أخذ رو ينشر أبحاثا هامة عن مرض الجمرة الخبيثة وبعض الأمراض التي تصيب الخنازير وفي عام 1887 وفق إلى اكتشاف خطير وهو اكتشاف(23/63)
التوكسين (أي المادة التي يفرزها المكروب) فانه استطاع أن يبين للعالم أن المكروب لا يؤثر تأثيره بنفسه بل بواسطة مادة يفرزها. وانه في كثير من الأحيان يمكن عزل هذه المادة. وهذا الاكتشاف أوصله إلى اختراعات خطيرة تتعلق بمعالجة بعض الأمراض بواسطة المصل، ولهذا يعتبر رو مبتكر العلاج بالمصل يلبث أن وصل إلى إيجاد الأمصال ضد مرض الكزاز وضد الطاعون وضد سموم مكروب الالتهاب الرئوي. ولعل أكبر اكتشافاته جميعا هو اكتشافه لتوكسين الدفتريا، فقد كان هذا هو الخطوة الأولى في سبيل إيجاد المصل الشافي والواقي من هذا المرض.
في عام 1895توفي باستور ودفن في المعهد العظيم المسمى باسمه بالقرب من سان كلو. فخلفه في إدارة المعهد الأستاذ دلكاو، وكان الدكتور رو نائبا للمدير الجديد، إلى أن توفي هذا عام 1904 فتولى رو إدارة معهد باستور. وقبل هذا بسنوات أنتخب رو عضواً لأكاديمية الطب، ثم عضوا لأكاديمية العلوم، وقلد جميع وسامات اللجيون دونير بجميع طبقاتها.
وقد بقى لمعهد باستور رونقه ونشاطه تحت إدارة أميل رو. بل لقد تقدم واتسعت أعماله وانتشرت فروعه. غير أن أعمال رو الإدارية كانت كثيرة ومجهدة، فاستغرقت منه كل وقته ولم يكن بوسعه في السنين الأخيرة من حياته أن يتفرغ لأبحاثه كما كان يفعل من قبل. لكنه كان أكبر مرشد للباحثين، وكان كثير التشجيع للعلماء، ومن غير شك كان له فضل في كثير من الاكتشافات التي صدرت عن المعهد أثناء إدارته دون أن تنسب إليه.
وقد قضى رو حياته كلها في خدمة العلم والإنسانية. وعدا جهوده العلمية لم يكن في حياته حادث يستحق الذكر، فانه لم يتزوج ولو أنه كان كثير العطف على أخواته وأقربائه. وكان شديد التواضع إلى درجة إنكار الذات. ومما يؤثر عنه في هذا الصدد أنه عندما أريد تقليده وسام اللجيون دونير من درجة أوفسييه أبدى امتناعا شديدا وصاح بالحاضرين: (إن شرف الاكتشاف يرجع إلى الأستاذ بهرنج.) ولكن الرئيس أمسكه من ردائه بعنف وقلده الوسام بالرغم منه.
إن أجل شيء قام به رو هو من غير شك اختراعه العلاج بالأمصال، وبنوع خاص اكتشافه لتوكسين الدفتريا عام 1887. وهذا الاكتشاف انتفع به الأستاذ الألماني بهرنج في(23/64)
إيجاد مصل ضد الدفتريا، ولهذا أراد رو أن يعزو شرف الاختراع كله لبهرنج على أن رو نفسه قد استطاع في سنة 1894 أن يستخرج المصل المضاد للدفتريا بطريقة في غاية الإتقان، وذلك بحقن الخيل بتوكسين الدفتريا واستخراج المصل من دمها. وقد عرض طريقته هذه على المؤتمر الصحي العالمي في بوادبست سنة 1894 فأثر في سامعيه أبلغ التأثير. وقد منح بعد قليل هو وبهرنج جائزة نوبل. وقد تهافتت عليه الطلبات من مختلف الممالك من أجل ذلك المصل؛ ولم يكن بوسعه أن يجيب كل هذه الرغبات. لكنه لم يلبث أن استعان ببعض أصدقائه على نشر الدعوة في فرنسا لمساعدة المعهد وتوسيع نطاقه. وقد نجح في هذا كل النجاح. وفي إسطبلات المعهد اليوم ما لا يقل عن 400 رأس من الخيل من أجل استخراج مصل الدفتريا، الذي بلغ ما أنتجته منه في السنين الأربع الأخيرة زهاء 12 طنا أو ما يكفي لعمل خمسة ملايين حقنة.
ومنذ زمن طويل تنبه رو إلى أهمية المصل كوسيلة للوقاية من المرض لا لمجرد العلاج منه. فقد كتب في سنة 1889 إلى بعض زملائه يقول:
(لعل من الممكن قريبا الانتفاع بالتوكسين باستخدامه في الوقاية من المرض. .)
حقا لقد فقدت فرنسا في رو عالما كبيرا، وفقد العالم خادما مخلصا. ولم يكن بعجيب أن قررت حكومة فرنسا أن تحتفل بجنازته احتفالا وطنيا
(ملخصا من مجلة الستراسيون)(23/65)
العالم المسرحي والسينمائي
إلى القراء
من ناقد (الرسالة) الفني
وفجأة. . . يتضخم بريد (الرسالة) الغراء ويتلقى الأستاذ محررها في مطلع كل يوم عشرات الرسائل، بعضها من مصر، وأكثرها من الأقطار العربية الشقيقة، يجزع فيها كاتبوها من قراء (الرسالة) وصفوة المفكرين ممن يغارون على هذه المجلة ويطمعون أن تبقى دائما تحمل إليهم رسالة الثقافة والأدب العالي، جزعوا عندما أعلنت (الرسالة) أنها ستدخل على أبوابها أبوابا جديدة، وبين هذه الأبواب ما يختص بالمسرح والسينما. .
وتسألني فيم إشفاق الأدباء وعلام جزعهم الواضح في رسائلهم؟ يشفقون ويجزعون أن تنهج (الرسالة) في هذين البابين، المسرح والسينما، نهج ما يقرأون في بعض الصحف والمجلات الأخرى، مما لا يتناسب مع مستوى (الرسالة) ولا يتلاءم مع ما تنشره في الأبواب الأخرى من ألوان الثقافات العالية والآداب الرفيعة.؟ وأسأل: أهل الفن الذي سطرت صفحاته أمثال سوفوكليس وأوربيدس وشاكسبير وموليير وكورني وراسين، وابسن وجوته، وكين وتلما وسارة برنار، وهنري ارفنج، وجمعت مكتبته أعمالا خالدات يكاد بعضها ينزل مكان القداسة من النفوس، هذا الفن الذي شب في أحضان الآلهة عند اليونان وكان وسيلة الزلفى إليها والتقرب منها، هذا الفن الذي يقبس من السماء ليؤدي رسالتهم على الأرض، ما خوفنا منه وما إشفاقنا من الحديث عنه؟ أجل، إن لم نهب هذه القداسة فماذا نهاب؟ وان لم نخش أن تنتهك هذه الحرمة الغالية فماذا نخشى؟
كذلك فن السينما أصبح ولا ريب ركناً قويا من أركان الثقافة العامة، وهو والمسرح من أقوى العوامل اليوم في تهذيب الجمهور وتثقيف الناشئة فلا يزكو بمجلة راقية أن تغفل هذين العاملين وتهمل أثرهما الصالح في خدمة الإنسانية
للقراء الكرام العذر إن أشفقوا على الرسالة أن تعالجهما من النواحي التي يعالجهما منها بعض الصحف ولكننا نؤكد لهم أن الأمر لا يمكن أن يسير على ذلك المنهج
سنكتب ونرجو أن نوفق إلى إرضاء قراءنا بقدر ما تحيط به جهودنا، وأن نبدل هذا الجزع اطمئنانا، وهذا الإشفاق ثقة، وإني لسعيد فخور إذ أتحدث إلى قوم ألمس فيهم هذا الاهتمام،(23/66)
وأجد في نفوسهم هذه المكانة لهذا الفن الرفيع.
محمد علي حماد(23/67)
فلم (الوردة البيضاء)
مجمد عبد الوهاب. . . . . . . . . محمد جلال
سميرة خلوصي. . . . . . . . . رجاء
دولت أبيض. . . . . . . . . فاطمة هانم
محمد عبد القدوس. . . . . . . . . خليل أفندي
سليمان نجيب. . . . . . . . . إسماعيل بك
زكي رستم. . . . . . . . . شفيق بك
توفيق المردنلي. . . . . . . . . الشيخ متبولي
إخراج: محمد كريم
عرض في الأسبوع الماضي في سينما رويال فلم (الوردة البيضاء) وهو بلا شك أول فلم غنائي ناطق من نوعه، ويعد خير الأفلام المصرية التي ظهرت إلى اليوم، ومن المظنون أنه سيحتفظ بمرتبته هذه طويلا، وقد لقي من النجاح والإقبال ما لم يلقه فلم من قبله، وهذه العاطفة الجياشة المتدفقة التي قابل بها الجمهور بطل الفلم الأستاذ الموسيقار محمد عبد الوهاب أثناء العرض، وهذه الهتافات الحارة ومظاهر التقدير والإعجاب لفناننا الشاب، هي بعض ما يستحقه، وعبد الوهاب يتمتع بمكانة في نفوس الشعب يغبط عليها، وقد نالها عن جدارة وكفاية وموهبة سامية رفعته درجات في سماء المجد والشهرة، ولم يزل الموسيقار العبقري في مقتبل العمر ونضرة الشباب
يمتاز هذا الفلم بأشياء كثيرة أولها: أن به قطعة للمغفور له أحمد شوقي بك أمير الشعراء وهي قطعة (النيل) آخر ما وضع شوقي من الأغاني لعبد الوهاب، وكأن القدر شاء أن تبقى هذه الطرفة الغالية في مخبئها الأمين حتى تظهر في أول أفلام عبد الوهاب فتضفي عليه من جلالها جلالا ومن سحرها سحراً. وكأني بأمير الشعر يأبى إلا أن يلازم أمير الغناء حيا وميتا، ويأبى عبد الوهاب إلا أن يظهر إلى جانب إحدى صور الفقيد العظيم في مشاهد هذا الفلم. ويحمد له الناس هذا الصنيع الكريم الذي يتضمن من معاني الاعتراف بالجميل أسماها وأبقاها على الزمن.
كذلك ينفرد هذا الفلم بما أبداه عبد الوهاب من التقدير لمن سبقه من رجال الفن بإظهار صورهم، وتسجيل أصواتهم في فلمه الأول، فرأينا على الشاشة عبده الحمولي والشيخ(23/68)
سلامة حجازي والشيخ سيد درويش، وقد أدرك الجمهور بحاسته الصادقة ما في هذا الصنيع النبيل من تقدير عبد الوهاب للسابقين الخالدين من رجال الفن، فقدره قدره وأولاه من أجله ما يستحق من الثناء والحمد الجميل. وعبد الوهاب خليق بالشكر لهذا الشعور الذي لا يصدر إلا عن فنان حق.
ومن مميزات هذا الفلم أنه يعطي الجمهور (في ثنايا القصة) صورة رائعة عن خلق الفنان وشهامته ونبله، وكيف تتسع روحه الكبيرة للتضحية العظيمة عن رضى وكرم، في سبيل فكرة أو في سبيل عاطفة صادقة من الإقرار بالجميل والاعتراف به. وما أروع هذا الموقف الذي نرى فيه (جلالا) وهو يعد، وعد فنان، أن يقطع صلاته بحبيبته (رجاء) ثم يكون عند وعده
وهذه الصورة النبيلة التي أرادها عبد الوهاب (لجلال) الفنان. . قد تبرر ما يؤخذ على القصة في هذه النقطة، والشخصيات التي نتخيل فيها مثلنا العليا لا تحدها الاعتبارات المألوفة والغايات القصار المدى. ولا شك أن (جلالا) كان مثلاً أعلى في التضحية السمحة الكريمة فرفع شأن رجل الفن وأعلى من مكانته، وجعله في مركز أسمى من كل هذه الشخصيات التي ظهرت إلى جانبه في القصة، وكلها مترفة تنعم بالجاه والمال، وتلقى أينما حلت الاحترام والإجلال، أما هو فليس أكثر من جلال أفندي. . . ولكنه فنان، وحسبه ذلك فخرا وكفى.
أما ميزة الفلم الكبرى بظهور عبد الوهاب فيه فهذا ما أر جيء الحديث عنه الآن.
قصة الفلم بسيطة، لا تعقيد فيها ولا تشعب، يتتبعها المشاهد في سهولة ويسر، وأعتقد أنها توافق تماما الغرض الأول الذي رمى إليه من وضع هذا الفلم ومن إسناد دور البطل فيه إلى عبد الوهاب الموسيقار، فشخصية (جلال) هي الشخصية البارزة وتجري حوادث القصة حولها متخذة من الشخصيات الأخرى بطانة وحاشية لها. على أن القصة تسير في بطئ، وكان يمكن تفادي ذلك في وضع السيناريو أو في التقطيع (ديكوباج) وهذا ما سنفصل الحديث عنه بالكلام عن الإخراج.
قام الأستاذ محمد عبد الوهاب بتمثيل دور (جلال) الشاب الوديع، الهادئ، الوقور. . . . وفي عبد الوهاب نفسه كثير من شخصية جلال من هذه النواحي، ولذلك كان فيه طبيعيا(23/69)
جهد استطاعته. على أن شخصية عبد الوهاب كموسيقار قد طغت على هذه الناحية وخلفتها وراءها وكانت موضع اهتمام الجمهور، فلا عجب إذا أولاها الناقد القسط الأوفى من عنايته.
والآن. . . هل أنا في حاجة إلى الحديث عن عبد الوهاب الموسيقار، الملحن، والمغني؟ لا يستطيع أحد أن ينكر على عبد الوهاب الملحن ما أدخله وابتكره في الموسيقى من الألوان الجديدة الطريفة، وهذه ألحانه وأغانيه تشهد له بالنضوج الفني الكامل، والذوق السليم، وان له ملكة الفنان الحق، الفياضة، المتدفقة، التي يغترف من معينها الذي لا ينضب، ويستقي من نبعها الصافي السلسبيل، أنغاما تشجي القلب والفؤاد، وتبث في النفس ألوانا شتى من العاطفة الحية القوية، فأنت معه: إن بكى أبكاك، وان طرب أطربك، وان وصف خلت أنك ترى بالعين ما تسمع بالأذن، وان شدا حلق بك في سماء من النشوة أنت فيها هانئ سعيد، وملأت موسيقاه روحك بخيالات الأمل وأحلام الشباب، وتنقل بك ما شاء أن يتنقل بين عواطف القلب وميول الفؤاد، وأنت تنهل من موسيقاه في مثل نبع سائغ عذب حلال.
ولقد جدد عبد الوهاب في موسيقى التخت الجامدة، فأدخل عليها بعض الآلات، كما وضع لألحانه توزيعها الموسيقي (أوركستراسيون) فأضفى عليها ثوبا قشيبا من التجديد له خطره وله جلاله. وعبد الوهاب المغني حبته الطبيعة بصوت مرن، يعلو حتى يكد العازف في تتبعه، وينخفض حتى لا يكون أكثر من همس الخاطر، أو مناجاة العاشق، على خوف من الرقباء والعاذلين، وقد أحسن عبد الوهاب استخدام هذه المرونة كالصانع الحاذق يشكل ما في يديه كما يشاء، ويلون في تموجات صوته معاني ما ينشد من الألحان، فيكسب اللفظ جدة وروحا، ويبرز لك المعنى بروزا قويا صريحا، وقد تقرأ اللحن فلا تجد فيه شيئا، فتسمعه من عبد الوهاب فكأنما صاغه من جديد صياغة الماهر اللبق، وما أذكر أني سمعت عبد الوهاب مرة إلا وأخضلت عيناي بالدموع
يلقي عبد الوهاب في الفلم ثماني قطع غنائية، منها قطعة (الرومبا) التي وضعها على نسق هذا النوع الطريف من الموسيقى الإفرنجية، فأتى فيها بمعجزة، ولست أقتصد في القول ولا أتهيب أن أقدم لعبد الوهاب أبلغ آيات الإعجاب على توفيقه في تلحين هذه الأنشودة. كذلك كانت القطعة الختامية التي ينشدها على مقربة من منزل حبيبته ليلة عرسها، والأسى يقطع(23/70)
قلبه، والألم يحز في نفسه. وتراه من خلف القضبان الحديدية متشبثا بها كغريق يتعلق بأمل أخير، فلا تسمعه ينشد، وإنما يبكي ويسفك الدمع في اللحن والأغنية حتى لتكون أشبه بنواح بلبل جريح.
وهذا المشهد من الفلم أروع مشاهده، وما تستطيع أن تملك دمعك فيه ولو كان عصيا، وقد رفعه عبد الوهاب بأنشودته إلى أسمى ذروة من الفن الغنائي والسينمائي معا، ولو لم يكن لعبد الوهاب من أثر في الفلم كله إلا هذه القطعة، وهذا المشهد لكفى لنعترف له مخلصين بالكفاية النادرة والموهبة المؤاتية الجبارة التي يتفرد بها ملحنا ومطربا. وباقي القطع ليست أقل من هذه فكلها من صنع عبد الوهاب وكفى.
طال بنا القول ولما ننته، ومن الخير أن نكتفي بهذا القدر اليوم على أن نعود الحديث عن الفلم من ناحيته الفنية المحضة في مقال آخر. ولكن لنهنئ ممثلي الفلم قبلا على ما أبدوه من كفاية في مواقفهم جميعا، وما لاقوه من نجاح في أداء أدوارهم، أما المخرج فلينتظرنا قليلا، على إننا نكتفي اليوم بأن نشد أذنيه في غير عنف ولا قسوة، ترقبا للمعركة القادمة فليأخذ أهبته وليعد السيف والترس فسنجول معه جولة لعله لا يصاب فيها بكثير من الجراح والخدوش.(23/71)
الحركة المسرحية والسينمائية في الخارج
بوخارست
وضع طبيب روماني يدعى ميهاي نايليمينو رواية مسرحية في أربعة فصول أسماها (أمواج العقل) بطلاها غليون الثاني قيصر ألمانيا السابق وبرناردشو الكاتب الإنجليزي المعروف. ويقع أحد مشاهدها في قصر من قصور بروسيا وفي غرفة للتدخين نسقت على أحدث طراز عصري. وهذه هي الرواية الأولى لهذا الطبيب إلا إذا صدقت تلك الإشاعة التي تقول إن الرواية لكاتب مسرحي معروف اختار أن تظهر روايته تحت اسم مستعار لأسباب خاصة.
بونس آيرس
زار في شهر أكتوبر الماضي بيراندللو الكاتب الإيطالي الشهير مدينة بونس آيرس في أمريكا الجنوبية للأشراف على إخراج إحدى مسرحياته المعروفة هناك. وقد نجحت الرواية نجاحا كبيرا. وقد ألقى بيراندللو في الليلة الأولى لتمثيل الرواية محاضرة عن (المسارح قديما وحديثا)
نيويورك
كاد ينتهي أوجين أونويل الكاتب الأمريكي الشهير من وضع رواية جديدة، وقد اتبع في كتابتها طريقة مبتكرة، فبدلا من تقسيمها إلى فصول، قسمها إلى أربع روايات مختلفة تحتوي كل منها على عدة مشاهد ومناظر، وتمثل على أربع حفلات متتابعة في أربعة أيام متعاقبة. وتجمع الأربع روايات وحدة الموضوع والفكرة والشخصيات وتكاد تشابه بذلك طريقة الحلقات المعروفة في عالم السينما
- ألقى مستر ويل هايز من أكبر مديري الشركات السينمائية في أمريكا محاضرة في الشهر الماضي في وشنجطن ذكر فيها بعض الأرقام التي تتعلق بصناعة الأفلام السينمائية. ونظرة بسيطة على هذه الأرقام تستطيع أن تكون منها فكرة عن ضخامة هذه الصناعة التي تعد من أهم الصناعات في أمريكا اليوم. وقد جاء في أقواله أن ثماني شركات من التي يشرف عليها تستخدم 49 , 000 شخص تبلغ مرتباتهم السنوية 27 , 000 , 000 جنيه(23/72)
ورأس المال المستخدم في هذه الشركات يبلغ 135 , 000 , 000 من الجنيهات وتدفع شركات السينما الأمريكية مبلغ 20 , 000 , 000 جنيه في السنة كضرائب للحكومة
باريس
مثلت في منتصف أكتوبر الماضي في (تياتر دي باري) بباريس الرواية الجديدة (الرفيق) التي وضعها المؤلف المسرحي المعروف جاك ديفال وتقع في ثلاثة فصول وأربعة مناظر وقد نجحت نجاحا كبيرا. وموضوع الرواية روسيا البولشفية ونظام الحياة فيها اليوم. وقامت بالدور الأول الممثلة الفير بوبسكو وساعدتها لهجتها السلافية على إعطاء نبرة أصلية تماثل لهجة الشخصية التي تمثلها. ومن الممثلين الذين اشتركوا في الرواية أندريه ليفور الذي اشتهر في رواية (توباز) المعروفة(23/73)
القصص
سنشيتا الأسبانية
بقلم حسين شوقي
(سنشيتا) الأسبانية بطلة القصة حسناء تبيع برتقالا على عربة، يعاونها في عملها (بدرو)، وليس هو البطل الآخر للقصة وإنما هو شقيقها، وهو صبي لم يعد العاشرة، أما البطل الحقيقي فهو الشاب (خوان) خاطب (سنشيتا)، وهو صياد بارع يضارع في قوته (نبتون) اله البحر، ولكنه جميل الوجه. . أما أقارب (سنشيتا) فلم يعش منهم غير (بدرو) وغير الأم التي تقوم على إدارة المنزل. وكانت (سنشيتا) في آخر النهار إذا ما فرغت من البيع تدفع العربة أمامها في طريق الدار، يعاونها في ذلك (بدرو) و (خوان). وكانت هذه المهمة تستغرق وقتا طويلا على قرب البيت، لأن ذلك الطريق القصير كان يقطع في مغازلة مستمرة بين الخطيبين، فتارة يقارن (خوان) ما بين البرتقال وخد الفتاة في الحمرة والنضرة، وطورا تكون ابتسامة رقيقة ذات معان تبعثها (سنشيتا) إلى (خوان). . ومرة ثالثة، ملاحظة وقحة من (بدرو) الصبي على أعمال العشيقين، تثير غضب الفتاة، ولو في الظاهر. .
وقد خطب (خوان) الفتاة منذ ثلاث سنين، والخطوبات الطويلة المدى من العادات المألوفة عند الأسبانيين. .
اتفق المحبان على الزواج لدى عودة (خوان) من رحلة يزمعها بعد أيام قلائل إلى بعض الجزر النائية حيث يكثر السمك، وكانت نية الفتى أن ينقطع عن عمله مدة بعد عودته من تلك الرحلة التي سوف تعود عليه بالربح الوفير، يقضيها إلى جانب زوجه المحبوبة في هناء وسعادة. .
أزف الرحيل وكان يوما قاتما، كأن الطبيعة تشارك الخطيبين الحزن، وبكرت الفتاة في الذهاب برفقة شقيقها إلى المركب الشراعي الذي يبحر عليه خطيبها، وهو مركب قديم يندر وجوده الآن إلا في أشرطة السينما عن القرصان، وكانت الفتاة تحمل سفطا ممتلئا بالبرتقال أخذت توزعه على (خوان) ورفاقه، أقلع الشراع ولم تكن إلا هنيهة حتى غاب عن نظر (سنشيتا) الحاد. .(23/74)
صارت الفتاة تتردد في غيبة خطيبها إلى غابة منعزلة كان يقصدانها أحيانا أيام العطلة، فتبث شكواها إلى أشجار الصنوبر الزاومة، وتعيد على سمعها في صوت عال وسط هذه العزلة التامة، تلك الكلمات الرقيقة التي كانت تسمعها من (خوان)، وأحيانا ولا سيما في الليل كانت تخرج إلى الشاطئ لتشاهد الأنوار العديدة الخافتة المنبعثة على صفحة الماء من زوارق الصيد التي تروح وتغدو على مقربة. وفيما هي تعود إلى المنزل بعد جولة من تلك الجولات الليلية وجدت شقيقها (بدرو) جالسا إلى المائدة يطالع في شغف كتابا مصورا، فلما رآها التفت إليها قائلا: (سنشيتا يحسن إلا تتركي خطيبك يتنقل في البحار لأنهم يقولون أن حور البحر يخطفن البحارين الحسان!) فابتسمت الفتاة لهذا القول وقبلت أخاها قبلة طويلة في جبهته. وفي ذات يوم دقت الأجراس في القرية على غير عادة، فعجبت لذلك (سنشيتا) وكانت إذ ذاك في حجرتها منهمكة في ارتداء ثيابها لتخرج إلى السوق. . رباه! لماذا تقرع الأجراس، وليس اليوم من أيام الأعياد؟ وإذا (بدرو) يدخل عليها الحجرة بغتة هاشا مسرورا فينبئها بالخبر العظيم. . بعودة (خوان)، وبأن هذه الأجراس إنما تقرع تحية له ولرفاقه الصيادين الذين عادوا من رحلتهم الطويلة. . خرجت الفتاة إلى الشاطئ وأراد (بدرو) أن يرافقها إليه، ولكن الأم احتجزته معها في المنزل ليساعدها في تنسيق مائدة الطعام إكراما للخطيب المحبوب. .
بلغت الفتاة الشاطئ فوجدت السفن راسية والصيادين يعانقون أهليهم وذويهم، ولكن. . (خوان)!. . أين (خوان)؟ أين (خوان) الجميل؟ خوان لم يؤب فقد ابتلعته الأمواج في ليل عاصف، وهو في طريق العودة إلى الوطن. . ثم دنا أحد الصيادين من (سنشيتا) قائلا: (انتظري سنشيتا سأعطيك نقود خطيبك التعس). . ولكن (سنشيتا) لم تنتظر بل قفلت راجعة إلى المنزل. . وعندما بلغت عتبة الدار وجدت شقيقها (بدرو) ينتظر متطلعا، ثم سألها في لهفة:. . (ولكن أين خطيبك؟) فأجابته في هدوء: (لقد احتفظت حور الماء بحارنا الجميل يا بدرو)!
كرمة بن هانئ(23/75)
مثلت فأتقنت التمثيل
للآنسة سهير القلماوي
ليسانسييه في الآداب
لقد ألفت البكاء بعد فقد وحيدها واستبدلت بالرقص التنهدات وبالغناء النحيب. كانت تعمل في أحد المسارح راقصة ومغنية، فأصبحت تعمل في مسرح الحياة نائحة وباكية.
في سنة 1776 قامت أمريكا تطالب باستقلالها وأعوزتها الجيوش فأرسلت تستنجد فرنسا. أرسلت فرنسا المدد إليها بقيادة القائد لافاييت ذلك العظيم الذي أصبح فيما بعد من زعماء الثورة الفرنسية. نالت أمريكا استقلالها وظلت مساعدة فرنسا لها دينا في عنقها تترقب الفرص للوفاء به. ولكن الأعوام توالت وما زال هذا الدين غلا في عنق أمريكا.
وفي سنة 1914 انفجرت الحرب العظمى في أنحاء أوربا وقامت لها الدول وقعدت. وأخيرا أرسلت فرنسا تطالب بدينها وتلح في طلب المدد. تذكرت أمريكا لافاييت وجيشه فأرسلت جيشها وفاء دين، وتحية إجلال، لروح ذلك البطل الخالد.
وشاعت الأنشودة المشهورة (جئنا إليك يا لافاييت) في أمريكا بين صفوف الجند وفي المسارح والمقاهي. أنشدها القوم لحث الشباب على التطوع في الجيش المرسل مددا لروح لافاييت ممثلة في فرنسا، ولكم ألهبت تلك الأنشودة من قلوب، ولكم أثارت من حمية الشباب ودفعت بهم زرافات إلى صفوف الجيش الراحل إلى وطن لافاييت وفاء دين ورد جميل.
شهرت تلك ألأم بإنشاد هذه الأنشودة واشتهر وحيدها بأنه أول من تطوع في هذا الجيش. كانت الأم تغني تلك الأنشودة وهي ترقص رقصة الجندي المقتول، رقصه تمثل وقوع الجندي الباسل في ميدان القتال فداء الوطن وضحية النصر فكانت تلهب قلوب المتفرجين حماسا وإقداما. وأنشدتها لآخر مرة ليلة رحيل الجيش في المعسكر، وكان ابنها من اكبر المعجبين بها، والمتحمسين لها. هذه آخر مرة رأت وحيدها وفي الصباح رحل الجيش.
رجع الجيش ولكن وحيدها لم يرجع فقد قتل في ميدان الحرب شهيدا كما أملت عليه تلك الروح التي ألهبتها الأم بأنشودتها. لم يمت في ساحة الوطن وإنما قتل في ساحة الوفاء
وأنشد الجند (وجئنا إليك يا لافاييت) احتفاء برجوعهم إلى وطنهم فتقطعت نياط قلب الأم(23/76)
حسرة وكمدا. وتمثلت لها الحرب بأبشع مظاهرها. فهزأت من الجند الساذج الذي يسير إلى الموت فرحا مستبسلا مضللا بكلمات جوفاء كالوطن والحرية والوفاء والشهامة. وازدرت أناشيد الحرب وأعلام الحرب، وكل ما يمس الحرب، لأنها كلها ليست إلا وسائل إغراء الشباب ليقدم على الموت فتنال الأمة مطامعها. وهكذا لابد من ثمن لكل نصر.
بزغت الشمس هذا الصباح فتململت الأم في فراشها وانحدر الدمع على صدرها سخينا ملتهبا فتنهدت قائلة (رباه، أما في دنياك من جديد؟) ليس هناك جديد لك أيتها الثكلى، فقد حرمت ثمار غرس تعهدته وسهرت عليه فجنى الموت ما كنت إليه تتطلعين، وتمتع الفناء بزهر تعهدته وسقيته دم القلب. ليس لك سوى أنشودة تعيدينها ليل نهار هي كل مالك من ذكرى. نعم ليس هنالك سوى أنشودة الذكرى فردديها كلما غنت الطيور، وردديها طلوع شمس ومغربها. ردديها ما بقي فيك صوت ينشد، ردديها، ولتكن آخر ما يسمع من صوتك العذب الرقيق.
صحت الأم في ذ لكاليوم يملؤها شعور خفي، إنها ستلاقي وحيدها ولكن أين؟ وكيف؟ لا تدري. لقد دعاها الجند اليوم وتوسلوا إليها لتحضر احتفالهم بمرور عام على وفاة وحيدها. ذهبت ولكنها كانت ذاهلة عن كل ما حولها. يكلمها هذا ويعزيها ذاك فلا تشعر بشيء ألا أنها ستلاقي وحيدها اليوم.
وعزفت الموسيقى بأنشودة (جئنا إليك يالافاييت) فاندفعت ألأم نحو المنبر بشعور غريب وبدأت تغني وترقص رقصة الجندي المقتول، كما كانت ترقصها ليلة ترحيل الجيش. تسمع الجند أليها بقلوب باكية، وعيون ينهمر الدمع منها انهمارا. لقد رأى كل منهم الموت بعينه فما بكى، ورأى أصدقائه يترنحون قتلى في ساحة الحرب فما ذرفت عينه نصف ما ذرفت لمنظر تلك الأم الثكلى ترقص رقصة تمثل وحيدها يقع قتيلا في الحرب. سمعوا المدافع والطبول وسمعوا الأنين وحشرجة الموت فما هلعت قلوبهم ولا وجلت مثلما وجلت لسماع صوت الأم وهي تنشد أنشودة دفعت ثمنها غاليا.
وترنحت ألأم في رقصتها استعدادا لسقطة الموت الأخيرة، سقطة تمثل سقطة الجندي الباسل مقتولا في ساحة الحرب. وهنا ٍرأت وحيدها! نعم رأته يسير أليها بطيئا مهيبا! يسير أليها هي بعد أن قام من بين صفوف الجند مادا ذراعيه نحوها. فصرخت صرخة مروعة(23/77)
(ولدي. . . . ولدي. . . ألي يا ولدي)
وسقطت كما يسقط الجندي المقتول في ساحة الحرب.
-(23/78)
صه!
للقصصي الروسي تشيكوف
يعود ايفان كراز نوكين، وهو محرر متوسط في صحيفة يومية، دائما لمنزله في ساعة متأخرة من الليل مكتئبا حزينا، على سحنته الوقار وفي مشيته الجلال. وأحيانا تراه جامعا أشتات فكره مستغرقا بكليته في تصوره كأنما يترقب أن يفتش أو يفكر في الانتحار. ذرع عرض غرفته، ثم توقف ونفش شعره وقال في لهجة (لابرتس) منتقما لأخته (إنني حائر تعب ملتاع إلى ابعد قرارات النفس. إن الحزن يجثم على قلبي، ويهيمن على جسمي، ومع هذا فلزاما علي أن اجلس لأكتب. . وهذا ما يسميه الناس (العيش)
ليت شعري لم يصف كاتب حتى اليوم هذا الخبل الذهني المؤلم، وهذا
الاضطراب الفكري الشديد الذي يعذب روح المؤلف ويؤلم نفسه.
فعندما يكون حزينا حزنا يذيب لفائف القلب، يجب عليه أن يبعث
الجمهور على الطرب المستخف والسرور العظيم. وعندما يكون فرحا
يثلج الصدر ويبهج القلب يجب عليه أن يرسل الدمع الهتان وينفث
الحزن الدفين.
أجل! يجب علي أن أكون مرحا مستهترا لا أكترث لشيء ولا أحفل به. مليح النكتة بارع الدعابة عندما ينوء بي الهم ويقتلني الحزن. حتى إذا كنت (دعني أقول) مريضاً. . . إذا كان طفلي في نزعه الأخير. . . وكانت زوجي تنهشها الأحزان وتفترسها الآلام
لما فرغ من قوله هز جمع يده وأدار حماليقه. ثم دلف إلى المخدع وأيقظ زوجه. وقال: (ناديا!. . سآخذ في الكتابة. أرجو أن تحرصي على ألا يقاطعني أحد أو يمنعني من العمل إنسان. فما أستطيع الكتابة والجدي ينب والطاهي يغط! ثم قدمي أيظاً بعض الشاي وشريحة من اللحم، إذا أمكن، فأنت تعرفين أني لا أوفق إلى الكتابة إلا إذا شربت شايي، فالشاي وحده هو الذي يبعث في القوة على العمل.)
أخذ سمته إلى غرفته وخلع معطفه وصدريته وحذاءه. نضا عنه ثيابه بتأن تام. ثم كون ملامح وجهه حتى أصبحت تعبر عن الإنسان البريء المعذب (وجلس إلى مكتبه)(23/79)
على هذا المكتب لا تقع عين الإنسان على حقائر الأشياء اليومية وصغائرها. فكل الأشياء وأتفهها تنقلب ذات معنى، ويظهر عليها برنامج عابس! هنا تماثيل نصفية وصور شمسية لمؤلفين عظيمي الشهرة ذائعي الصيت. وهناك كوم من المخطوطات ومجلد بمؤلفات بلينيسكي ومنه صفحة مقلوبة. ثم عظام رأس تستعمل محبرة وصفحة من جريدة طويت كما يتفق، بيد أنها تعرض عمودا معلما عليه بالقلم الأزرق بالخط العريض (جبان) وهناك جمهرة من الأقلام المبرية حديثا وريش بأسنان جديدة حتى لا يمكن لأي سبب خارجي أو حادث عارضي أن يمنع التحليق السامي لهذه المخيلة المبدعة!!
ألقى كرازنوكين نفسه على كرسيه المريح وراح يفكر في موضوع فسمع زوجه تضرب الأرض بخفها تشقق قطع الخشب (للسيماور) وخيل إليه أنها مازالت وسنانة لأن غطاء السيماور أو رجله كان يسقط من يدها بين آونة وأخرى. ووصل إلى سمعه نشيش المغلاة وأزيز اللحم المقلي، وزوجه مازالت تشق الخشب مفرقعة قرب الموقد. مغلقة بشدة باب الفرن مرة، وأخرى النافذة الهوائية، وآونة أخرى باب المدفئة. فأرتجف كرازنوكين، وفتح عينين يملؤهما الرعب ويتطاير منهما الشرر. وأخذ ينشق الهواء ويلهث (رحمتك الهم!. . . دخان الفحم؟. . . هذه المرأة التي لا تطاق عزمت على خنقي. . قل لي بالله كيف أوفق للكتابة في حالات كهذه؟)
جرى إلى المطبخ يولول وينوح، وبعد برهة عادت زوجه تمشي على أطراف أصابعها مقدمة له قدحا من الشاي فوجدته جالسا على كرسيه الطويل كما كان من قبل! لا يبدي حراكا ولا يحرك جارحة غارقا في موضوعه، فلم يتحرك، وأخذ ينقر بخفة على جبهته بأطراف أصابعه متظاهرا بأنه لا يلاحظ وجودها ووجهه يعبر مرة ثانية عن: (البريء المعذب)
قبل أن يكتب العنوان أخذ يتملقه ويدلله مدة طويلة! كأنه عذراء أهداها بعض الناس مروحة جميلة! آونة يمر بيديه على صدغيه وأخرى يرتجف ويهتز جميعه ساحبا قدمه من تحت كرسيه كالمتألم. مغلقا نصف عينيه بفتور كقطة على فراش.
وأخيرا بعد تردد دنا من الدواة وسطر العنوان وكأنه يوقع صك الموت. . . .
سمع صياح ابنه (ماما!. . قليل من الماء)(23/80)
فأجابته أمه (صه!. . بابا يكتب. . . صه!)
كان الأب يكتب بسرعة مدهشة دون توقف، دون أن يمحو حرفا أو يشطب كلمة وليس عنده من الوقت ما يتسع لقلب الصفحات أما التماثيل النصفية والصور الشمسية لمشهوري المؤلفين فكانت ترقب يراعه الجوال وقلبه السيال وكأنها تفكر (اها. . . أخواه استمر. . . .)
خدش القلم (صه)
فجلجل المؤلفون وقد اهتزوا بدفعة من ركبة الكاتب (صه) عاد كرازنوكين إلى نفسه ووضع قلمه وتسمع. فسمع همسات متزنة لا تنقطع. وكان ذلك صوت فوما نيكوليتش الساكن معهم وهو يصلي في الغرفة المجاورة.
فناداه كرازنوكين (أعرني سمعك!. أما تستطيع الصلاة بأسرع من هذا؟. . انك تحول بيني وبين الكتابة)
فأجابه فوما نيكوليتش بحياء ووداعة (أستمحيك العفو يا سيدي) (صه!)
بعد أن كتب صفحات خمساً تمدد ونظر إلى الساعة وتأوه. (يا للسماء!. . الساعة الثالثة!. . الناس جميعا مستريحون نيام. . . وأنا وحدي. . أنا. . يجب علي أن أعمل)
بعد أن استفرغ العمل جهده وأفنى قوته أخذ طريقه إلى المخدع ضارع الجسم، واهن القوى ورأسه ساقط على عاتقه. أيقظ زوجه صائحا بها مكدود الصوت (ناديا. . . قدحاً آخر من الشاي. . . إني. . . إني أشعر بضعف)
كتب إلى الساعة الرابعة وود لو استمر في كتابته إلى الساعة السادسة بيد انه أنجز عمله وفرغ من موضوعه
زهوه العجيب وفرحه الغريب بهذه الأعمال الجامدة ولا بصيرة عنده ولا فراسة له! استبداده وجوره، عسفه وظلمه، في مسكن النحل الصغير التي خولت له الأقدار السلطان عليه وأعطته مقاليد الأمر فيه. هذه عنده أطايب الحياة وزبدة ما فيها.
كم يشابه هذا الاستبداد الذي تراه في المنزل هذه الأجناس الذليلة الصامتة التي يخالط كلامها التورية والتي اعتدنا رؤيتها في مكاتب الصحف.
قال لنفسه وهو ذاهب لفراشه (إني تعب جدا حتى يخيل إلي إنني لن أستطيع النوم. . .(23/81)
فعملنا الجهنمي الذي لا نلاقي منه جزاء ولا شكورا لا يجهد الجسم كما يجهد القريحة، على إنني سأتناول مقويا. . والله يعلم لو لم يكن هذا لخير الأسرة لنفضت منه يدي. . . . . . . أه. . انه مرعب أن يكتب الإنسان ويجبر على العمل هكذا!!)
استغرق في سبات عميق. . . فنام حتى الساعة الواحدة أو الاثنتين بعد الظهر، وما الذي كان ينامه أطول أو يحلمه ألذ. . إذا كان مؤلفا مشهورا أو محررا بارعا. أو حتى ناشرا؟
همست زوجه بوجه مرتاع (كتب سحابة الليل!. . صه!)
ما جرؤ أحد على الكلام أو السير أو التصويت فنومه مقدس ومن يذنب فيقطع هذا السكون ويشوش هذا الهدوء، فعليه أن يدفع عن هذا غاليا.
(صه!. . . . صه!)
ورن هذا الصوت في جميع الحجرات
محمود البدوي(23/82)
الكتب
على هامش السيرة
للدكتور طه حسين
مقدمة
هذه صحف لم تكتب للعلماء ولا للمؤرخين، لأني لم أرد بها إلى العلم، ولم أقصد بها إلى التاريخ. وإنما هي صور عرضت لي أثناء قراءتي للسيرة فأثبتها مسرعا. ثم لم أر بنشرها بأسا، ولعلي رأيت في نشرها شيئا من الخير. فهي ترد على الناس أطرافا من الأدب القديم، قد أفلتت منهم وامتنعت عليهم. فليس يقرؤها منهم إلا أولئك الذين أتيحت لهم ثقافة واسعة عميقة في الأدب العربي القديم. وانك لتلتمس الذين يقرأون ما كتب القدماء في السيرة وحديث العرب قبل الإسلام فلا تكاد تظفر بهم. إنما يقرأ الناس اليوم ما يكتب لهم المعاصرون في الأدب الحديث بلغتهم أو بلغة أجنبية من هذه اللغات المنتشرة في الشرق. يجدون في قراءة هذا الأدب من اليسر والسهولة ومن اللذة والمتاع ما يغريهم به ويرغبهم فيه، فأما الأدب القديم فقراءته عسيرة وفهمه أعسر، وتذوقه أشد عسرا. وأين هذا القارئ الذي يطمئن إلى قراءة الأسانيد المطولة والأخبار التي يلتوي بها الاستطراد وتجور بها لغتها القديمة الغريبة عن سبيل الفهم السهل، والذوق الهين الذي لا يكلف مشقة ولا عناء.
ذلك إلى أن الأدب القديم لم ينشأ ليبقى كما هو ثابتا مستقرا لا يتغير ولا يتبدل، ولا يلتمس الناس لذته إلا في نصوصه يقرئونها ويعيدون قراءتها، ويستظهرونها، ويمعنون في استظهارها. إنما الأدب الخصب حقا هو الذي يلذك حين تقرأه لأنه يقدم إليك ما يرضي عقلك وشعورك، ولأنه يوحي إليك بما ليس فيه، ويلهمك ما لم تشتمل عليه النصوص. ويعيرك من خصبه خصبا، ومن ثروته ثروة، ومن قوته قوة، وينطقك كما أنطق القدماء، أو لا يكاد يستقر في قلبك حتى يتصور في صورة قلبك، أو يصور قلبك في صورته. وإذا أنت تعيده على الناس، فتلقيه إليهم في شكل جديد يلائم حياتهم التي يحيونها، وعواطفهم التي تثور في قلوبهم، وخواطرهم التي تضطرب في عقولهم.
هذا هو الأدب الحي، هذا هو الأدب القادر على البقاء. ومناهضة الأيام. فأما ذلك الأدب(23/83)
الذي ينتهي أثره عند قراءته فقد تكون له قيمته، وقد يكون له غناؤه، ولكنه أدب موقوت يموت حين ينتهي العصر الذي نشأ فيه. ولو أنك نظرت في آداب القدماء والمحدثين، لرأيت منها طائفة لا يمكن أن توصف بأنها آداب عصر من العصور أو بيئة من البيئات، أو جيل من الأجيال، وإنما هي آداب العصور كلها والبيئات كلها والأجيال كلها. لا لأنها تعجب الناس على اختلاف العصور والبيئات والأجيال فحسب، بل لأنها مع ذلك تلهم الناس وتوحي إليهم، وتجعل منهم الشعراء والكتاب والمتصرفين في ألوان الفن على اختلافها.
وليس خلود الإلياذة يأتيها من أنها تقرأ فتحدث اللذة، وتثير الإعجاب في كل وقت، وفي كل قطر، بل هو يأتيها من هذا ومن أنها قد ألهمت، وما زالت تلهم الكتاب والشعراء، وتوحي إليهم بأروع ما أنشأ الناس من آيات البيان. ولقد كان ايسكولوس أبو التراجيديا اليونانية يقول: أنه إنما يلتقط ما يسقط من مائدة هوميروس، وما زال القصاص، وشعراء التمثيل والغناء في الغرب خليقين أن يقولوا الآن ما كان يقوله ايسكولوس منذ خمسة وعشرين قرنا، ولم تكن قصص ايسكولوس وغيره من شعراء التمثيل اليوناني أقل خصبا من الإلياذة، بل هي قد ألهمت من الكتاب والشعراء قديما وحديثا، وما زالت قادرة على أن تلهمهم إلى اليوم والى غد. وإني لأذكر أني قرأت منذ أعوام قصة تمثيلية هي الثامنة والثلاثون من نوعها وقد سماها صاحبها (جيرود) وبهذا الرقم. فوضع لها هذا العنوان (أنفيتمريون رقم 38) كانت أسطورة تتصل بمولد هيرقل، فصورها سوفوكل قصة تمثيلية في القرن الخامس قبل المسيح. وما زال الشعراء والكتاب من اليونان والرومان والأوربيين المدنيين يتأثرونه ويذهبون مذهبه في تصوير هذا الموضوع حتى انتهت القصص التي كتبت فيه شعرا ونثرا إلى هذا العدد الضخم، ولم يحجم فحول التمثيل عن طرق هذا الموضوع لأنهم سبقوا إليه، بل زادهم ذلك حرصا عليه، ورغبة فيه، وكان بين الذين طرقوه الشاعر اللاتيني بلوت، والشاعر الفرنسي موليير. ثم لم يشفق جيرودو من أن يطرق موضوعا سبقه إليه الفحول من شعراء التمثيل في العصور القديمة والحديثة. فصور قصته هذه الثامنة والثلاثين وعرضها على النظارة في باريس سنة 1929، فكان فوزها عظيما وإعجاب النظارة والقراء بها لا حد له.(23/84)
وفي أدبنا العربي على قوته الخاصة، وما يكفل للناس من لذة ومتاع، قدرة على الوحي، وقدرة على الإيهام. فأحاديث العرب الجاهلين وأخبارهم لم تكتب مرة واحدة، ولم تحفظ في صورة بعينها، وإنما قصها الرواة في ألوان من القصص، وكتبها المؤلفون في صنوف من التأليف، وقل مثل ذلك في السيرة نفسها، فقد ألهمت الكتاب والشعراء في أكثر العصور الإسلامية وفي أكثر البلاد الإسلامية أيضا. فصوروها صورا مختلفة تتفاوت حظوظها من القوة والضعف والجمال الفني، وقل مثل هذا في الغزوات والفتوح. وقل مثل هذا في الفتن والمحن التي أصابت العرب في عصورهم المختلفة. ولم يقف إلهام هذا التراث الأدبي العظيم عند الكتاب والشعراء الذين ينمقون النثر ويقرضون الشعر في اللغة العربية الفصحى، بل تجاوزهم إلى جماعة من القصاص الشعبيين الذين تحدثوا إلى الناس في صور مختلفة وأشكال متباينة بما كان لآبائهم من مجد مؤثل، وبما أصاب آباءهم من محن مظلمة، وفتن مدلهمة، عرفوا كيف يثبتون لها ويصبرون عليها، ويخرجون منها كراما ظافرين، ولا خير في حياة القدماء إذا لم تلهم المحدثين ولم توح إليهم بروائع البيان شعرا ونثرا، وليس القدماء خالدين حقا إذا لم يكن التماسهم إلا عند أنفسهم، ولا تعرف أنباؤهم إلا فيما تركوا من الدواوين والأسفار، إنما يحياالقدماء حقا، ويخلدون حقا، إذا امتلأت بصورهم وأعمالهم قلوب الأجيال مهما يبعد بها الزمن. وكانوا حديثا للناس إذا لقي بعضهم بعضا، وكنوزا يستثمرها الكتاب والشعراء لأحياء ما يعالجون من ألوان الشعر وفنون الكلام.
إلى هذا النحو من إحياء الأدب القديم، ومن إحياء ذكر العرب الأولين قصدت حين أمليت فصول هذا الكتاب. ولست أريد أن اخدع القراء عن نفسي ولا عن هذا الكتاب، فإني لم أفكر فيه تفكيرا، ولا قدرته تقديرا، ولا تعمدت تأليفه وتصنيفه كما يتعمد المؤلفون، إنما دفعت إلى ذلك دفعا، وأكرهت عليه إكراها، ورأيتني أقرأ السيرة فتمتلئ بها نفسي، ويفيض بها قلبي، وينطلق بها لساني، وإذا أنا أملي هذه الفصول وفصولا أخرى أرجو أن تنشر بعد حين.
فليس في هذا الكتاب أذن تكلف ولا تصنع ولا محاولة للإجادة ولا اجتناب للتقصير، وإنما هو صورة يسيرة طبيعية صادقة لبعض ما أجد من الشعور حين أقرأ هذه الكتب التي لا أعدل بها كتبا أخرى مهما تكن، والتي لا أملّ قراءتها، وآنس إليها، والتي لا ينقضي حبي(23/85)
لها وإعجابها، وحرصي على أن يقرأها الناس. ولكن الناس مع الأسف لا يقرئونها لأنهم لا يريدون، أو لأنهم لا يستطيعون. فإذا استطاع هذا الكتاب أن يحبب إلى الشباب قراءة كتب السيرة خاصة وكتب الأدب العربي القديم عامة، والتماس المتاع الفني في صحفها الخصبة، فأنا سعيد حقا موفق حقا إلى أحب الأشياء إلي وآثرها عندي.
وإذا استطاع هذا الكتاب أن يلقي في نفوس الشباب حب الحياة العربية الأولى، ويلفتهم إلى أن في سذاجتها ويسرها جمالا ليس أقل روعة ولا نفاذا إلى القلوب من هذا الجمال الذي يجدونه في الحياة الحديثة المعقدة، فأنا سعيد موفق إلى بعض ما أريد.
وإذا استطاع هذا الكتاب أن يدفع الشباب إلى استغلال الحياة العربية الأولى واتخاذها موضوعا قيما خصبا، لا للإنتاج العلمي في التاريخ والأدب الوصفي وحدهما بل للإنتاج في الأدب الإنشائي الخالص. فأنا سعيد موفق إلى بعض ما أريد.
ثم إذا استطاع هذا الكتاب أن يلقي في نفوس الشباب أن القديم لا ينبغي أن يهجر لأنه قديم، وأن الجديد لا ينبغي أن يطلب لأنه جديد، وإنما يهجر القديم إذا بَرِيء من النفع وخلا من الفائدة، فان كان نافعا ومفيداً فليس الناس أقل حاجة إليه منهم إلى الجديد فأنا سعيد موفق إلى بعض ما أريد.
وأنا أعلم أن قوما سيضيقون بهذا الكتاب لأنهم محدثون يكبرون العقل، ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه، وهم لذلك يضيقون بكثير من الأخبار والأحاديث التي لا يسيغها العقل ولا يرضاها، وهم يشكون ويلحون في الشكوى حين يرون كلف الشعب بهذه الأخبار، وجده في طلبها وحرصه على قراءتها والاستماع لها، وهم يجاهدون في صرف الشعب عن هذه الأخبار والأحاديث واستنقاذه من سلطانها الخطر المفسد للعقول، هؤلاء سيضيقون بهذا الكتاب بعض الشيء لأنهم سيقرؤون فيه طائفة من هذه الأخبار والأحاديث التي نصبوا أنفسهم لحربها ومحوها من نفوس الناس، وأحب أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس ملكات أخرى ليست أقل حاجة إلى الغذاء والرضى من العقل، وأن هذه الأخبار والأحاديث إذا لم يطمئن إليها العقل ولم يرضها المنطق ولم تسعها أساليب التفكير العلمي، فان في قلوب الناس وشعورهم وعواطفهم وخيالهم وميلهم إلى السذاجة واستراحتهم إليها من جهد الحياة وعنائها ما يحبب إليهم هذه الأخبار، ويرغبهم فيها ويدفعهم(23/86)
إلى أن يلتمسوا عندها الترفيه على النفس حين تشق عليهم الحياة. وفرق عظيم بين من يتحدث بهذه الأخبار إلى العقل على أنها حقائق يقرها العلم وتستقيم لها مناهج البحث، ومن يقدمها إلى القلب والشعور على أنها مثيرة لعواطف الخير، صارفة عن بواعث الشر، معينة على إنفاق الوقت واحتمال أثقال الحياة وتكاليف العيش
وأحب أن يعلم الناس أيضا أني وسعت على نفسي في القصص ومنحتها من الحرية في رواية الأخبار واختراع الحديث ما لم أجد به بأسا إلا حين تتصل الأحاديث والأخبار بشخص النبي أو بنحو من أنحاء الدين، فإني لم أبح لنفسي في ذلك حرية ولا سعة، وإنما التزمت ما ألتزمه المتقدمون من أصحاب السيرة والحديث ورجال الرواية وعلماء الدين.
ولن يتعب الذين يريدون أن يردوا فصول هذا الكتاب القديم في جوهره وأصله، الجديد في صورته وشكله، إلى مصادره القديمة التي أخذ منها، فهذه المصادر قليلة جدا لا تكاد تتجاوز سيرة ابن هشام، وطبقات ابن سعد، وتاريخ الطبري. وليس في هذا الكتاب فصل أو نبأ أو حديث إلا وهو يدور حول خبر من الأخبار، ورد في كتاب من هذه الكتب، فإذا اتصل الخبر بشخص النبي فإني أرده إلى مصدره ليستطيع من شاء أن يرجع إليه، لا أحتمل في ذلك تبعة خاصة لأني لا أذهب فيه مذهبا خاصا إلا أن يكون تبسطا في الشرح والتفسير، واستنباط العبرة، والوصول بها إلى قلوب الناس.
فلييسر الله سبيل هذا الكتاب إلى النفوس، وليحسن الله موقعه في القلوب.(23/87)
العدد 24 - بتاريخ: 18 - 12 - 1933(/)
من لغو الصيف إلى جد الشتاء
للدكتور طه حسين
كنا نلغو أثناء الصيف، فلنجدَّ أثناء الشتاء، وماذا كان يمنعنا من اللغو أثناء الصيف، وفي الصيف تهدأ الحياة ويأخذها الكسل من جميع أطرافها فتوشك أن تنام ولا تسير إلا على مهل يشبه الوقوف، وفي أناة تضيق بها النفوس. كل أسباب النشاط مؤجلة إلى حين، غرف الاستقبال مقفلة، وملاعب التمثيل مغلقة أو كالمغلقة، ولا تذكر الموسيقى والغناء، فمن للموسيقيين أو المغنين بهذا الجو القوي الحي الذي يبعث النشاط والخفة والمرح في النفوس والقلوب، وفي الألسنة والأيدي، جو ثقيل يستتبع فتوراً ثقيلاً، يضطر الناس إلى أن يغدوا على أعمالهم فاترين، ويروحوا إلى بيوتهم مثقلين، لا يكادون ينظرون إلى المائدة حتى ينصرفوا عنها، تنازعهم نفوسهم إلى النوم، وتنازعهم أجسامهم إلى أمهم الأرض، فلا يكادون ينظرون إلى سرير أو شيء يشبه السرير حتى يسرعوا اليه، ويلقوا بانفسهم عليه، وإذا هم يتصلون به ويتصل بهم، وإذا هم يمتزجون به ويمتزج بهم، وإذا هم يصبحون مثله شيئاً جامداً خامداً لا حركة فيه ولا حياة، إلا هذه اليقظة الفاترة البطيئة الثقيلة السمجة التي تلم بهم من حين إلى حين، حين يثقل عليهم الحر، ويشتد عليهم القيظ، فيفيقون أو يهمون بالأفاقة، ثم يغرقون في النوم ليفيقوا، ثم ليعودوا إلى الغرق فيه. ثم ينحسر النهار عن الأرض بشمسه المحرقة الملتهبة، ويقبل الليل متثائباً، يبعث في الجو أنفاساً حارة، كأنها أنفاس العاشق الولهان المحروم قد أوقد الحب الخائب في قلبه ناراً مضطرمة قوية اللظى فلا تكاد أطراف هذا الليل الكسلان تمس الأرض حتى تبعث في الناس نشاطاً كسِلا يدفعهم إلى حركات متخاذلة، فيخرجون من بيوتهم متثاقلين قد ضاقوا بالدنيا وضاقت بهم. فهم يهيمون إن حملتهم أقدامهم يلتمسون مكاناً نضراً لعلهم يجدون فيه فضلاً من نسيم قد صافح الماء، وأطال عشرته بعض الوقت، فيحمل إلى وجوههم وإلى قلوبهم شيئا من هذا البرد الخفيف اللطيف الذي يردهم إلى شيء من الدعة والهدوء.
هنالك يريدون أن يخرجوا من أنفسهم وأن ينسوا أشخاصهم، فيعمدون إلى اللغو يقبلون عليه كما يقبل المريض على الطعام، لا يكادون يذوقونه إلا على كره وفي مضض، ولعل الجو أن يعتدل، ولعل الجو أن يرق، ولعل هذه الأشربة الباردة المثلوجة أن تخفف بعض(24/1)
هذا اللظى الذي يجدونه في نفوسهم وفي أجسامهم فتنطلق الألسنة من عقلها بعض الشيء، وتستطيع النفوس أن تحرك أجنحتها قليلاً وأن تصعِّد في الجو بعض التصعيد ويستطيع المرح الهادئ أن يبعث في القلوب شيئاً من الراحة والابتهاج. ثم يتقدم الليل ويذكر الناس أن الصبح سيشرق بعد حين ومعه الأعمال والأثقال، والتكاليف والحر والضيق، وإذا هم مضطرون إلى أن يعودوا إلى بيوتهم ويسعوا إلى مضاجعهم كارهين.
كذلك نقضي الصيف في بلادنا إن لم نكن من المترفين الذين لا يكادون يحسون الصيف حتى ليعبروا البحر إلى حيث يحيون حياة اخرى، أو لا يكادون يحسبون الصيف حتى يسرعوا إلى ساحل البحر، فيحيون حياة خير منها ما نحن فيه من كسل وفتور، ومن تقصير وقصور، فلغو الصيف شيء طبيعي ملائم أشد الملاءمة لحياة الصيف. أما الشتاء فشيء آخر كله فرح ومرح، وكله حركة ونشاط، وكله حياة خصبة عذبة منتجة، تجد فيه النفوس أقصى لذاتها، وتجد فيه الأجسام أقصى قدرتها على الاستمتاع. أكل كثير، وشرب كثير، واضطراب في الأرض كثير، وإقبال على العمل. ونسيان الكسل، وحياة مملوءة إلى حافتها، تفيض أو تكاد تفيض بما يفعمها من الآمال والأعمال. ثم ضيق بالحياة، لأن الحياة تضيق بما نريد. وتعجز عن أن تسع كل ما تسعه آمالنا ورغباتنا وشهواتنا، وقد كدت أنسى واجباتنا. وهل للواجبات مكان في حياة الشتاء هذه التي يفعمها الجنون؟ مسكينة هذه الواجبات! يطاردها فتور الصيف ويطاردها نشاط الشتاء فحظها من عنايتنا قليل دائماً. ولعمري إنّا لمعذورون، أما عذرنا في الصيف، فلا يقبل جدالاً ولا مراء، ومن ذا الذي يستطيع أن يكلف الناس أن يعملوا وهم عاجزون عن العمل، أو يكدوا وهم مصروفون عن الكد. والله عز وجل لا يكلف النفوس إلا وسعها، ولا يحمل الناس ما لا طاقة لهم به، واما في الشتاء فعذرنا أبلغ منه في الصيف، وكيف تريدنا على أن نفرغ للعمل، ونخلص للإنتاج، ونؤدي واجباتنا مشغوفين بها، مقبلين عليها، وحولنا من المغريات ما لا تقاومه إلا نفس سقراط أو أشباه سقراط،. ومن يدري لعل سقراط لو عاش في أيامنا، واضطراب في بيئتنا، لكان رجلاً مثلنا تصرفه المغريات عن أن يعرف نفسه بنفسه، وعن أن يولد نفوس محاوريه ويخرج منها كل ما احتوت من حقائق العلم والحكمة، وفنون المعرفة وألوان الخير.(24/2)
وقد زعموا أن امرأة سقراط كانت مسلطة عليه، وانه كان يخافها خوفاً شديداً، ويشفق منها إشفاقاً لا حد له، فلو عاشت امرأة سقراط في مدينة القاهرة وفي القرن العشرين لاتخذت لها يوماً في كل اسبوع، تستقبل فيه الزائرين والزائرات، فلا تكاد تطلع الشمس حتى تهيئ وتضطر زوجها إلى أن يهيئ معها غرف البيت لاستقبال الزائرين والزائرات، وحتى تسعى وتضطر زوجها إلى أن يسعى معها إلى حيث تشتري ألوان الحلوى وفنون الزهر وصنوف الفاكهة، حتى إذا تقدم النهار ودنت الساعة الرابعة قامت واضطر زوجها إلى أن يقوم معها لاستقبال الأصدقاء وغير الأصدقاء، من هؤلاء الذين يغشون غرف الاستقبال لأنهم يَكلَفٌون بغشيانها، أو لانهم يكرهون غشيانها. تكرههم عليه امرأة سقراط وأمثالها، لان امرأة سقراط لا تغفر لفلان وفلان من العلماء والأدباء وأصحاب الفن أن يهملوها، أو ينصرفوا عن غرفة استقبالها، وهي تصر أشد الإصرار على أن يظهروا في بيتها مرة في كل اسبوع، حتى لا يقول صديقاتها أن غرفتها ليست حافلة بأعلام الفن وأفذاذ الأدب، ورجال المال والأعمال، فإذا فرغت امرأة سقراط وفرغ زوجها من الاستقبال وما فيه من حديث مختلف مؤتلف، معوج مستقيم، واضح غامض، خصب جدب، خطر بريء، فلم تنته امرأة سقراط ولم ينته سقراط من كل شيء، وانما ابتدأ شيئاً لا سبيل إلى أن ينتهي، فهؤلاء الزائرون والزائرات لابد أن ترد لهم الزيارات، لأنهم كسقراط وامرأة سقراط مضطرون إلى أن يستقبلوا كما كانوا مضطرين إلى أن يزوروا، وكذلك تقضي امرأة سقراط ويقضي معها سقراط مساء كل يوم متنقلين من دار إلى دار، ومن غرفة استقبال، يقولان كلاماً، ويسمعان كلاماً، يصدِّقان ويكذِبان، وويل لسقراط إن أدركه الكسل أو أصابه الملل أو شغلته الفلسفة أو صرفه عن زيارة من هذه الزيارات حوار مهما تكن قيمته، ومهما يكن المحاورون، فأفلاطون وكسنوفون، وفيدون، وفيدر، كل هؤلاء يستطيعون أن يلقوه في داره يوم استقباله. أو في دار من هذه الدور التي تستقبل من الساعة الرابعة والثامنة من كل يوم، وإذا لم يكن بد من الحوار في الطبيعة أو في أي شيء من هذه الأشياء التي تنجم من الأرض، أو تهبط من السماء، فليدبر لهم سقراط وقتاً من هذه الأوقات التي يمكن فيها اللقاء دون أن تصرفه عن واجباته الاجتماعية وتعرضه للغضب، وأي غضب؟ غضب السيدات!
فإذا فرغت امرأة سقراط وفرغ معها سقراط من الاستقبال والزيارة وأقبل الليل، فالويل كل(24/3)
الويل للفيلسوف العظيم إن دعته نفسه إلى أن يعرفها، أو يحقق ما كان مكتوباً على معبد دلف (اعرف نفسك بنفسك) وأين يجد سقراط الوقت الذي يخلو فيه إلى نفسه إذا جنه الليل؟ فالليل لا يلقي على الأرض أستاره المظلمة ليأوي الناس إلى بيوتهم بل ليخرجوا منها، وكيف تريد، أن يأوي سقراط إلى بيته أو يخلو سقراط إلى نفسه، وهذه الأوبرا قد فتحت أبوابها، ومدت أسبابها، وأقبل عليها الممثلون والمغنون يعرضون بدائع التمثيل وآيات الغناء.
وهذه دور السينما تعرض في كل يوم جديداً، وهذه قاعة (يورت) يوقع فيها فلان، وقاعة (الليسيه) يوقع فيها فلان، وقد يجمع سقراط شجاعته كلها ويقول بقلب متردد ولسان متلعثم انه لا يحب ما يمثل الليلة، أو ما يوقع، أو ما يغنى، وأنه يؤثر الراحة أو الانقطاع لبعض العمل، ولكن ويل لسقراط من هذه المقالة! فمن زعم له انه سيشهد التمثيل أو يسمع الغناء لأنه يحب أو لا يحب، ولأنه متعب أو مستريح، انما يشهد التمثيل ويسمع الغناء ويختلف إلى دور السينما لأن الناس يجب أن يروه في هذه المشاهد كلها، وإلا فليس هو من أهل القاهرة، ولا من ذوي المكانة فيها، وقد تظن أن سقراط حين يذهب إلى الملعب أو إلى دار من دور السينما أو إلى قاعة من قاعات الغناء يستطيع أن يفرغ للفن أو يستمتع به، فاطرد عن نفسك هذا الظن، واذكر أن هناك (الانتراكت) ومقابلات الانتراكت، وأحاديث النظارة والمستمعين عما رأوا وما سمعوا ويا لها من أحاديث تبغض الفن إلى أحب الناس للفن، يجب أن يكون لكل واحد من هؤلاء النظارة والمستمعين رأي يراه، وكلمة يقولها فيما رأى وما سمع، وقد يكون هذا الرأي سخفاً، وقد تكون هذه الكلمة جهلاً، وهما كذلك في أكثر الأوقات، ولكن سقراط مضطر إلى أن يسمعهما ويقرهما، أو يجادل فيهما مجادلة المقر الذي لا ينكر. وهناك ما هو أثقل من ذلك، فيجب أن يكون لسقراط رأي يقوله وكلمة يقولها وإن لم ير شيئاً، وإن لم يرد أن يقول شيئاً ذلك أنه إذا لم يقل كلمته اتهم بالجهل، أو وصف بالكبرياء، وكلاهما لا يليق بالحيوان الاجتماعي الذي ذكره ارستطاليس في كتاب السياسة، والذي يتألف منه ومن أمثاله سكان مدينة القاهرة، كما يتألف منه ومن أمثاله سكان باريس.
حتى إذا تقدم الليل عاد سقراط إلى بيته متعباً مكدوداً فأوى إلى مضجعه ولم يلبث أن يأسره النوم. ولعلك تظن أن تكاليف سقراط تقف عند هذا الحد، فما أشد إغراقك في الوهم! وأين(24/4)
أنت من المحاضرات؟ وما أدراك ما المحاضرات؟ محاضرات الجمعية الجغرافية، وأخرى في الجمعية الاقتصادية، وأخرى في قاعة يورت التذكارية، وأخرى عند جروبي، وأخرى في الكونتننتال، ولا بد لأسرة سقراط من أن تشهد هذه المحاضرات لتكون ظريفة متلطفة، مجاملة للمحاضرين والمحاضرات، ثم لتظهر أيضاً، أو لتظهر قبل كل شيء. والمحاضرون قوم قساة لا يحفلون بالناس ولا يحفلون بانفسهم، وانما يحفلون بالمحاضرات، فهم يحاضرون في غير رفق، وهم يحاضرون في غير حساب، وهم يتنافسون في المحاضرات وقيمتها وحظها من الجودة، بل في عدد المحاضرات وعدد المستمعين. والإعلان في الصحف؛ وقد تسوء الحال فيلقي محاضران محاضرتيهما في وقت واحد وفي مكانين مختلفين طبعاً، ويومئذ يضطر سقراط إلى أن يشهد إحداهما، وتضطر امرأته إلى أن تشهد الأخرى، فلا بد من ظهور أسرة سقراط في المحاضرتين جميعاً فإذا انتهى كل من المحاضرين تقدم اليه نصف الأسرة فهنأه وحياه واعتذر له عن النصف الأخر لأنه مشغول بمحاضرة فلان. يا لهذا الفصل: فصل الشتاء! انه يشغل الوقت، ويصرف الناس حتى عن الحياة، وقد تعطف الظروف على سقراط وتؤئره الأيام بخير ما عندها من اللذات والمتاع. وإذا هو مضطر إلى أن يستمتع رغم أنفه بتناول الشاي عند فلان، ثم بالاستماع لمحاضرة يلقيها فلان في الساعة السادسة، وأخرى يلقيها فلان في الساعة السابعة، ثم يخطف عشاءه خطفاً، ويلقي ملابس النهار ويتخذ ملابس الليل ليسرع إلى الأوبرا، ويل لسقراط إن لم يكن من أصحاب السيارات! وويل للسيارة وسائقها ان كانت لسقراط سيارة، من هذه الأيام العذاب الكذاب أيام الشتاء، ثم حدثني بعد ذلك كيف يستطيع سقراط أن يفرغ لفلسفته ومعرفة نفسه وحوار تلاميذه إذا كان الصباح، وأين له القوة التي تمكنه من أن يفلسف أو يفتش عن نفسه أو يحاور أصدقاءه بعد هذا الجهد العنيف الذي أنفقه أو الذي احتمله منذ أقبل المساء إلى أن انقضى الليل أو كاد ينقضي، ومع ذلك فلا بد لسقراط من أن يعنى بفلسفته، ويبحث عن نفسه، ويجاور أصدقاءه، لأنه بذلك يعيش، ولذلك يعيش، زمن ذلك يعيش؟ أرأيت أن سقراط لم تظلمه الأيام حين جعلت حياته في القرن الخامس قبل المسيح في ذلك الوقت الذي لم تنشأ فيه الصالونات، ولم تكثر فيه المحاضرات، ولم تتعدد فيه ملاعب التمثيل وقاعات الغناء، ولم تظهر فيه دور السينما، لقد كان سقراط سعيداً حقاً، كان(24/5)
يشهد التمثيل أياماً في العام، مرة في الربيع حين يكون فصل التراجيديا، ومرة في الخريف حين يكون فصل الكوميديا. وكان يختلف إلى بعض الدور: إلى دار بيركليس مثلاً، ليسمع بعض السفسطائية، وليحاور أو ليستمتع بجوار هذه المرأة الجميلة زوج بيركليس. وكان ينفق ما تبقى من وقته، وهو أكثره من غير شك، متنقلا بفلسفته في شوارع أثينا، أو باحثاً عن نفسه في حمام أثينا وملاعب الرياضة فيها. وأنا واثق بان سقراط لو خير بين حياتنا الحلوة العذبة، وبين سجنه الثقيل وما تناول فيه من السم لآثر السجن والسم على هذه اللذات الطوال الثقال التي نتحملها نحن في فصل الشتاء.
أرأيت أن الصيف هو الفصل الذي يحسن فيه اللغو، وأن الشتاء هو الفصل الذي لا يحسن فيه إلا الجد، ولايمكن فيه إلا الجد، ولعلك تظن ان ما حدثتك به هو كل ما في الشتاء من جد، فُذد عن نفسك هذا الوهم، ففي الشتاء جد آخر مر كله، لا حلاوة فيه، فأنت توافقني على أن الزيارة والاستقبال، والاختلاف إلى المحاضرات، وشهود التمثيل والاستماع للمغنين والموقعين، كل ذلك يحتاج إلى نفقات، فثياب الشاي غير ثياب التمثيل، ولكن ماذا أريد أن أقول؟ ومالي أدخل بك في هذا الحديث الذي لا فكاهة فيه ولا متاع؟ أهذا كل ما يحمل إلينا الشتاء من الجد؟ كلا ففي الشتاء جد آخر، جد خصب حقاً، جد نافع حقاً، جد نعيش منه، ونلهو به، ولا يجني منه أصحابه إلا حياة كلها خشونة وشظف وحرمان، هو جد هؤلاء الفلاحين الذين يعملون في الأرض، لا يحفلون بالبرد ولا يحفل بهم البرد، وفي الشتاء جد آخر، جد يمزق القلوب، ويعذب النفوس، ويبعث اللوعة والأسى في أفئدة الذين يعرفون الرحمة واللين، ويذكرون حين يلهون إن في الأرض قوماً آخرين يعذبهم الجوع، ويلح عليهم البرد، فيقضون ليالي خير منها ظلمة القبور، في الشتاء هذا الجو المظلم القاتم، المرهق المحرق الذي تصوره اجمل تصوير وابلغه تلك الأغنية المشهورة أغنية الإحسان التي ما استطعت أن استقبل الشتاء منذ عرفتها دون أن اسمعها مرة ومرة:
هذا الشتاء يقبل، ومعه حاشيته الحزينة، إن الأشقياء ليألمون كثيراً في الشتاء، إن من الحق علينا أن نحميهم من هذا الشقاء، إن البرد لشديد في دورهم المقفرة!(24/6)
كيف يرقى الأدب
للأستاذ احمد أمين
أشرت في مقال سابق إلى العلاقة بين الذوق العام ورقي الأدب، ووعدت القراء أن أعود إلى هذه العلاقة، أزيدها بسطاً وايضاحاً، وذلك ما أحاوله في هذا المقال.
يذهب بعض المفكرين إلى أن الفنون (ومنها الأدب) ترتقي وتنحط، وتعلو وتسفل، وتتقدم وتتأخر، في الأمم اعتباطاً من غير أن يكون لذلك أسباب. أو على الأقل أسباب ظاهرة، فالناظر لتاريخ الفنون في العالم يرى أن أمة في عصر من العصور قد ترقى في فن من الفنون، كالموسيقى أو الحفر أو التصوير أو الشعر، على حين أن أمة أخرى ترقى في فن آخر من هذه الفنون، ثم بعد رقي عظيم تنحط الأمة في هذا الفن ويحل محل الفن فن آخر. أو لا يحل محله شيء، وتتبادل الأمم ذلك من غير أن يكون لهذا التقدم وهذا التأخر علة مفهومة، وشأن الفنون شأن النابغين، فقد ينبغ النابغ في أمة ولا نعرف لم نبغ وكيف نبغ، وتحاول الأمة أن تخلق نابغين فلا ينخلقوا. بل ترى الأمر عجباً، فقد يوجد النابغة والأمة على أسوأ ما يكون من ضعف في الخلق، وضعف في العقل، ثم ترقى الأمة عقلاً وترتقي خلقاً، وكان مقتضى هذا أن يكثر عدد النابغين فيها ويزدادوا نبوغاً بازدياد الأمة رقياً فينعكس الأمر حتى لتجد الأمة وأعضاؤها قوية ولا رأس، بينما كان لها في حال ضعفها رأس قوي ولا أعضاء، ما ذاك إلا لأن النابغة يوهب ولا يخلق. وقد قال هؤلاء إن الفنون في ذلك ليست كالعلوم، فالرقي في العلوم سبيله ميسور ممهد، وتستطيع الأمة أن تضع لها خطة تسير عليها لترقى في الطبيعة أو الكيمياء أو الرياضة. فإذا هي جدت في ذلك وصلت إلى درجة من الرقي تناسب جدَّها واستعدادها، ولكنها لا تستطيع أن تضع خطة تسير عليها للرقي في الشعر والموسيقى والتصوير، لأن ذلك نوع من الإلهام، والإلهام بيد الله يمنحه من يشاء كيف شاء متى شاء. ولعل الكاتب يشعر بهذا تمام الشعور في نوع ما يكتب، فهو إذا أراد أن يكتب بحثاً علمياً أو يحقق لفظاً لغوياً أو يحرر حادثاً تاريخياً، فهو في اكثر أوقاته مستعد لذلك، ما لم يكن مريضاً أو مهموماً، ولكنه وإذا شاء أن يكتب قطعة فنية أدبية إنشائية لا يستطيع ذلك إلا في حالة نفسية صافية، ومزاج يتناسب والقطعة الفنية التي ينشئها، من حزن أو سرور، وحلم أو غضب، ويصادفه وقت هو كما يسميه الصوفية(24/7)
- وقت تجلٍّ، يجيد فيه ويغزر ويسمو فيه ويصفو، ويعجب كيف أجاد وكيف غزر، ثم هو يحاول بعد مراراً أن يخلق مثل هذا التجلي، فيفشل ثم يفشل، ويحار في تعليل ذلك، وتعليلها هو ما قاله علماء الكلام (ولم تكن نبوة مكتسبة) هو في العلم مالك وقته يصرفه كما يشاء وهو في الأدب ينتظر الإلهام.
وقالوا إن رقي الأمة في الأدب لا يرتبط بدرجة ثقافتها، ولا برقيها العقلي، ولا بأي سبب من الأسباب، فالأمة المصرية قديما رقيت في فنون النحت والنقش والبناء رقياً بديعاً جعلها من أساتذة العالم في هذا الباب، وخلّفت على مر الأزمان ثروة لا تقوّم، ولا تزال قبلة الفنانين تستخرج إعجابهم وتلهم أذواقهم، والمصريون الآن ليسوا أساتذة في الفن، حتى ولا تلامذة، مع أن أحداً لا يستطيع أن يقول أن المصريين القدماء كانوا أرقى منا عقلاً وأعلى ثقافة. وكذلك يشكو كثير من الأوروبيين من أن الفن (ما عدا الموسيقى) أخذ يتدهور من القرن السادس عشر مع أن انواع العلوم في رقي مستمر. وعقليات الأمم في تقدم دائم، ولو كان الأمر بالعلل والأسباب المنطقية لوجب أن يكون المصريون اليوم أعلى فناً وأكثر نبوغاً، ولكان الفن الأوربي الآن أسمى وأتم منه في القرون الوسطى، فأما وقد عجز المنطق عن تقديم مقدمات ونتائج صحيحة فليس إلا الإلهام، وليس للأمة إلا أن تنتظر ما يأتي به القدر.
هكذا قالوا، أو حالوا أن يقولوا، وبهذا احتجوا، أو حاولوا أن يحتجوا ولكن هل هذا صحيح؟ إن في هذا الرأي غلواً مفرطاً، انه يخرج الأدب عن دائرة الإرادة ويجعله مجرد انتظار للوحي والإلهام، ومن الحق أن للأدب خطة تنتهج كمنهج العلم، وأن من نعده للأدب يجب أن تثقفه ثقافة خاصة كالذي نعده للعلم، ولكن من الحق أيضاً إننا لا نخلق الأديب ببرنامجنا، بل لابد أن تكون قد هيأته الطبيعة ومنحته استعدادات خاصة وكفايات ممتازة، وتهيؤا لقبول الإلهام، ولكنه في كل ذلك كالعاِلم، فبرنامج العلم لا يخلق نابغة في العلم انما يعده، والعالم لابد أن يكون مهيأ للإلهام كالأديب، واكثر المخترعات والمستكشفات في العالم كانت نتيجة الهام اكثر منها نتيجة لمقدمات منطقية وتجارب عملية، وانما التجارب تهيئ للإلهام وتحقق ما يأتي به، وتبين صحيحه من فاسدة وتسمى هذه الإلهامات فروضاً.
ويظهر أن اتجاه هؤلاء الباحثين هذا الاتجاه سببه عقيدة سادت بين علماء الفن وعلماء(24/8)
الجمال عهداً طويلاً وهي (ان الذوق لا يعلّل) فالناظر ينظر إلى الصورة فيستجملها أو يستقبحها، فإن أنت سألته لم أستجملها أو لم استقبحها لم يحر جواباً، وإذا أجاب أجاب بكلمات منمقة ولكنها جوفاء لا تحوي علة ولا توضح سبباً، وانما هي نفس الدعوى بألفاظ رشيقة جميلة، وإذا رأيت طاقة من الزهر قلت ما أجملها ولكن إن سئلت لم كانت جميلة قلت انها منسقة، انها بديعة الألوان، أن نفسي لترتاح إلى رؤيتها، انها لتسر النظر، وتبهر العقل، وأنت غنى بعدُ عن أن أقول لك إن هذه الألفاظ وجمل قد ترضي البلاغة ولكن لا ترضي المنطق وقد تعرض صورة أو يظهر إنسان امام جمع من النظارة فهذا يستحسنه وذاك يستقبحه، وثالث لا يستحسنه ولا يستقبحه، فإذا سألت من استحسن لم استحسن ومن استهجن لم استهجن، ومن حايد لم حايد، كانت الإجابات مثاراً للعجب وموضعاً للضحك، وقد ترى إنساناً كل عضو من أعضائه على انفراد جميل، ولكنه ليس جميلاً ككل، فما الذي كوّنه هذا التكوين؟ وما الذي وضعه هذا الوضع؟ ولم استحسنته مفرقاً ولم تستحسنه جملة؟ لا شيء في الحقيقة إلا الذوق الذي لا يعلل، وهذا هو الشأن في الأدب، وأظهر مثل لذلك ما فعله عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ودلائل الأعجاز، فماذا صنع؟ انه يأتي بالبيت الجميل ثم يقف ويتساءل فيم كان جماله، فما هو إلا أن يصوغ لك جملاً رشيقة فيقول: إن هذا اللفظ يروقك ويؤنسك، وغيره يثقل عليك ويوحشك، وهذا الوضع يبهرك جماله، وهذا النظم يأخذ بلبك ما فيه من نسج وصياغة، ووشي وتحبير، ويعلل سبب ذلك أحياناً بالتقديم والتأخير، وأحياناً بالفصل والوصل , وكلها علل لا تصلح، فأنا كفيل بأن آتيك بتقديم يحسن، وتقديم مثله يقبح، وفصل يروعك وفصل مثله يسوءك وقد حاول أن تفرق بينهما فلا تستطيع، ثم تسلم سلاحك وتكتفي بأن تقول هذا جميل، وهذا قبيح، وهذا يحسن في ذوقي وهذا لا يحسن، وبذلك تكون قد قطعت شوطاً بعيداً، ثم في آخر الأمر عدت إلى النقطة التي بدأت منها سيرك، وما علوم البلاغة كلها إلا محاولة لتعليل الذوق الأدبي، ولكن هل أفلحت في التعليل؟ إنا لنخشى أن تكون قد دارت حول نفسها، ولم تأت بشيء (لأن الذوق لا يعلل).
وإذا كان الذوق لا يعلل فكل ما ترتب عليه لا يعلل، وإذا كان الفن وليد الذوق فالفن لا يعلل، ولا يعلل كيف ظهر وكيف قوى وكيف ضعف.(24/9)
هكذا ايضاً قالوا أو يصح أن يقولوا. وهذه الآراء وإن كان فيها شية من الحق ليست حقاً كلها، وليست حقاً في أساسها، وقد بذل بعض العلماء المحدثين مجهوداً حميداً في بيان ما فيها من حق وباطل وحاولوا أن يفلسفوا الذوق، ويفلسفوا الجمال ووضعوا للذوق والجمال علماً وعدوه فرعاً من فروع الفلسفة، وحاربوا الفكرة السائدة: (إن الذوق لا يعلل)، ووضعوا قواعد لتعليله نجحوا فيها أحياناً وفشلوا أحياناً، ولا يزال مجال البحث أمامهم فسيحاً، وكان لهذا الاتجاه الجديد في عالم الجمال أثر كبير في خلق نظريات في الأدب، ووضع أسس جديدة للبلاغة والنقد الأدبي مما ليس هذا موضعه.
والذي أميل اليه أن الفن نتيجة الذوق لا محالة، وأن الذوق يمكن تربيته وترقيته، فالطفل إذا لفتَ نظره إلى الأزهار وجمالها تكوّن فيه الميل إلى حبها والاستمتاع بها، فإذا كان يعدُ أديباً اتصلت حياته الأدبية بها، وظهر في نتاجه الفني هذا الحب وهذا التقدير.
والذوق العام للأمة في قوته وانحطاطه، ليس يظهر فجأة ولا نتيجة المصادفة البحتة، انما هو نتيجة لكل ما يحيط بالأمة من ظروف وأحداث، هو نتيجة النظم السياسية، والحياة الاقتصادية والاجتماعية، والثقافة العقلية وغير ذلك، وإن شئت فقل أن ذوق الأمة هو تعبيرها عما تُقوِّم، فالأمة إذا قَوّمت المناظر الطبيعية تذوقتها، وإذا قومت جمال الأزهار تذوقته، وإذا لم تقوم نظام المجتمعات لم تتذوقه ولم يجرح ذوقها تهويش على محاضر أو مغن أو ممثل والفنان ليس إلا معبراً عن ذوق الأمة، والأديب ليس إلا الموقع للأصوات التي تستلذها الأمة.
ومن أهم الأسباب ضعف الأدب العربي مسألتان تتصلان بهذه الحقيقة: الأولى أن الأدب العربي لا يتصل بالذوق العام للأمة اتصالاً وثيقاً، لأنه يصاغ بلغة غير لغة الشعوب، ولا يتصل إلا بذوق خاص وهو ذوق محترفي الأدب، ومن تكون ذوقهم تكّوناً كلاسيكياً , ولا أمل في نجاحه إلا أن نعمل بأي شكل كان على ان نصل الأدب أو أكثره بالذوق العام، والثانية تتصل بالأولى. وهي أن الآداب في أكثر الأمم كانت أرستقراطية النزعة يوم كانت القوة في يد الأرستقراطيين، فلما انتشرت الديمقراطية تبعها الأدب، فأصبح ديمقراطي الموضوع، ديمقراطي النزعة، أما الأدب العربي فقد أصبح أرستقراطيا منذ العهد الأموي، وأصبح أهم انواع الأدب إنما ينشأ حول قصور الأمراء والأغنياء، وفي الموضوعات التي(24/10)
تناسبهم من مديح لهم وهجاء لاعدائهم، فلما عمت النزعة الديمقراطية العالم لم تؤثر في الأدب العربي أثرها في غيره من الأداب، بل ظل محتفظاً إلى حد ما بأرستقراطيته، وهذا قلل من غير شك اتصاله بالذوق العام للأمة. وقد نعود إلى توضيح ديمقراطية الأدب في مقال تال.
على كل حال لا وسيلة لترقية الفن ومنه الأدب إلا بترقية الذوق، وربط الفن به، ولذلك وسائل:
من أهمها التأذين في الناس بصوت عال يهزهم هزاً عنيفاً حتى يشعروا بأن أذواقهم مريضة، لا يشعرون بالجمال كما ينبغي ولا يهيمون بالحسن كما يجب، ولست اعني جمال الوجوه وحدها، ولكن جمال الأزهار، وجمال الطبيعة، وجمال الموسيقى، وجمال الحركة، وجال النظام، وجمال النظافة، وجمال المعاني، ويجب أن لا يقتصر دعاة الفن على الدعوة لجمال الكرنك وأنس الوجود والمساجد الأثرية بل يجمعون إلى الدعوة لجمال الماضي وجمال الحاضر. وهذا أكثر وضوحاً في الأدب فدعوة الأدباء دائماً وقول الأدباء دائماً انما هو إلى الماضي وفي الماضي، وهذا حسن لدرجة ما ولكن يجب أن يقرن به الدعوة القوية أيضاً إلى النظر إلى أنفسنا والقول في أنفسنا.
يجب أن نغير تسعيرة الأشياء، ونضع تسعيرة جديدة لما يدور حولنا، ونضع أمام ناشئتنا قيماً جديدة لما يقع عليه نظرهم، فإذا كانت بيوتنا تعنى بكمية الأكل وتعطيها أكبر قيمة، وجب أن نرفع قيمة الكيفية فنضع قيمة كبرى للأزهار على المائدة ولجمال الترتيب والنظام ولجمال الحديث.
يجب أن نوجه إرادتنا في ترقية الذوق كما نوجه إرادتنا لترقية العلم وترقية النظام السياسي، ونضع للذوق برامج كالتي نضع لبرامج التعليم.
إنا إن فعلنا ذلك تمخض المجتمع عن فنان ماهر، وأديب قادر.(24/11)
حب العرب في مناجم الذهب
للعلامة الشيخ عبد القادر المغربي. عضو مجمع اللغة العربية الملكي
(دَرَى) الصيد يدريه إذا توارى عنه وما زال به حتى أمسكه. فدَرَى هذه بمعنى خَتَل. ولها أخت مشهورة بيننا: وهي (دَرَى المسألة) بمعنى علِمها وأدركها. وبعضهم جعل (دَرَى) هذه من بابة (دَرَى) الصيد، فاشترط في دراية المسألة الوصول اليها بضربٍ من الحيلة.
ولم لا أقول في (أدرك) كما قالوه في (دَرَى)؟ فيكون إدراك المسألة وتعقلها بعد سعيٍ وجهد. كما أن إدراك الصيد واعتقاله بعد جريٍ وجهد.
ولا تقل أيها القارئ أن (دَرَى) بمعنى (خَتَل) لا عهد لنا بها. بلى! فإننا نستعمل حتى في لغتنا تخاطبنا أختاً لها: وهي كلمة (دَارى) من (المفاعلة) ونريد بها أن يُلين الشخص القولَ لآخر، ويسارع إلى هواه، ويتجنب سخطه، فنستعملها بمعنى المجاملة، وإن كان اشتقاقها في الأصل يدل على معنى الخديعة والختل.
اما شاهد (دَرَى) الصيد بمعنى ختله فهو قول الشاعر:
فإن كنتُ لا أدري الظباء فأنني ... أدُّس لها تحت التراب الدواهيا
فالشاعر يريد بقوله (أدري الظباء) أنه يختلها ختلاً إذا أراد اصطيادها، حتى إذا عجز عن ختلها وإمساكها باليد، فانه يصيدها بالفخاخ والحبائل يدسّها لها تحت التراب. فالدواهي إنما أراد بها هذه الفخاخ؛ كما أن المراد بالظباء ظباء الوحش. ويبعد أن يكون أراد بها ظباء الأنس: أعني الحسان من النساء بدليل الرواية الأخرى وهي (أدسُّ لها تحت العِضاه المكاويا) و (العِضاه) شجر عظام في البادية، تأوي اليها الظباء عند اشتداد الهجير فتقيل تحتها، وتعطُو إلى أوراقها و (المكاويا) جمع مكواة: آلة الكي المعروفة، وأراد بها هنا الفخاخ نفسها.
ولكلمتي (دَرَى) و (دارى) أختان هما (ادَّرى) الصيد من الافتعال. و (تَدَرَّى) الصيد من (التفّعل) وكلتاهما بمعنى (خَتَل) أيضاً.
أما شاهد (ادَّرى) بتشديد الدال، فبيتٌ من الشعر كلنا ينشده هكذا:
وماذا يبتغي الشعراء مني ... وقد جاوزتُ حدَّ الأربعين
وهو لسُحَيْم بن وثيل الرياحي. وصواب الرواية:(24/12)
وماذا يدَّري الشعراء مني الخ
(يدَّرى) بتشديد الدال من (ادَّرَى) الصيد ختله حتى اصطاده. أي لا يظن الشعراء أنهم قادرون على ختلي وخديعتي بعد أن بلغت سن الكمال والأستحصاف.
هذا شاهد (ادَّرى). أما فعل (تَدَّرى) بتشديد الراء (من التفعُّل) فله شاهد عجب، من أنباء حب العرب، في معادن الذهب. وهو قول شاعرهم:
كيف تراني أذَّرى وادَّرى ... ِغرّات (جُملٍ) وَتَدرَّى غِرِرَى
على أن هذا البيت شاهد لكل من الفعلين: (ادَّرى) (من الأفتعال) و (تَدَّرى) (من التفُّعل).
أما (اذَّرى) بالذال المعجمة فليست من معنى الختل في شيء. وإنما هي من تذرية الَحِب ونحوه في الهواء، فيذهب القشر والتراب، ويبقى الحب واللباب.
وأصل (اذَّرى) (اذترى) من الأفتعال. كما أن اصل (اذَّكر) أي تذكر (إذتكر)، وثلاثيه ناقص وأو: يقال ذَرَا فلان حَبّ بيدره. و (ذَرَّاه) من التفعيل، فاذَّرى في بيت الشعر المذكور هو بهذا المعنى.
والفعلان الأخران (ادَّرى) و (تَدَّرى) بالدالين المهملتين هما بمعنى خَتَل الصيد.
وقائل البيت لم يرد أنه ادَّرى وختل ظبيةً من ظباء الوحش وإنما كان غرضه أن يختل ظبيةً من ظباء الأنس وهي (جُمل) الحسناء. فهو يقول: قد كنت أنا و (جُمل) نعمل في تحصيل الذهب وتنقيته من التراب، وكنت أعمل أنا في تذريته وتعريضه لهبوب الريح فيتطاير التراب والشوائب هنا وهناك، وتقع ذرَّات الذهب وقطعه الصغيرة على الأرض.
أما (جُمل) فلها وظيفة غير وظيفتي: وظيفتها (التحصيل). فأنا (المذرِّى) وهي (المحصِّلة).
قال ابن فارس: أصل معنى التحصيل استخراج الذهب من حجر المعدن.
وقال علماء اللغة: (المحصَّلة) كمحدِّثة المرأة التي تحصّل تراب الذهب أو تراب المعدن. ومعنى تحصيله تخليص الذهب منه. والتحصيل في الذهب كالتصويل في الحنطة ونحوها.
وقال ابن بّري: المحصَّلة هي التي تميز الذهب من الفضة.
وجميع أرباب المعاجم لم يذكروا (اسم فاعل) التحصيل إلا بصيغة المؤنث (المحصَّلة) ولا يكادون يقولون (المحّصل) بالتذكير، إلا على سبيل بيان الاشتقاق القياسي. أما (المحصلة) الأنثى فقد أصبح وصفاً غالباً على امرأة ذات عمل خاص بها هو تحصيل الذهب وتنقيته.(24/13)
ومما يحسن التنبيه اليه أن فعل (اذّرى) التي هي بمعنى التذرية في قول الشاعر المذكور لم يقل أحد من علماء اللغة أن المراد بها تذرية حب الحنطة مثلاً، بل أجمعوا على أن مراد الشاعر تذرية الذهب وتنقيته من التراب فيظهر أن البيت من قصيدة حكى فيها الشاعر حادثة جرت له مع الحسناء (جُمل) وهما يعملان في معدن (حِلِّيت) على وزان (سِكّيت) في بلاد نجد أو غيره من مناجم جزيرة العرب التي كثر التحدث عنها في الآونة الأخيرة.
وكما استفدنا من علماء اللغة أن (المحِّصلات) هن المشتغلات في المعادن، وأن (التحصيل) من أعمال النساء الخاصة بهن أو الغالبة عليهن، استفدنا ذلك ايضاً من شعراء العرب. فقد قال أحدهم:
اإلا رجل جزاه الله خيراً ... يدلُّ على محِّصلةٍ تبيت؟
وهذه الدلالة في مغزاها تشبه الدلالة في قول الأخر:
يا من يدلُّ عَزَباً على عَزَبِ
وإذا كانت وظيفة المرأة العربية في معادن الذهب ما ذكرنا، فتكون الحسناء (جُمل) بينا هي منهمكة في تحصيل الذهب وتخليص شذراته، كان الشاعر الذي قال: (كيف تراني أذَّرى وأدَّرى الخ) كان يدَّرى تراب الذهب ويلاعب المذراة أو المنسف بيديه، أما عيناه فكانتا تلاعبان عيني (جُمل)؛ فكان يختل (غرَّاتها) جمع (غرَّة) أي غفلتها، فإذا غَفلت رنا اليها. فيكون بذلك قد ختلها، أي خدعها مذ أوهمها أنه لا ينظر اليها مع أنه ينظر. ولم تكن (جُمل) بأقل كلفاً وحرصاً على مسارقته النظر، فكانت هي في نوبتها أو في دورها (كما يقولون) (تَدَرَّاه) أي تختله وتخدعه فتوهمه أنها لا تنظر اليه، ثم تتحَّين (غِرَره) جمع (غِرة) أيضاً أي غفلته حتى إذا سنحت لها غرة من غرره نظرت اليه معجبةً أو متفرّسة إن كان يصلح لها بعلاً أو لا.
ومحصّل القول أنه كان للعرب معادن ذهب يجتمعون نساء ورجالاً، أحراراً في عملهم، أو مأجورين لصاحب (رأس المال) رومي أو فارسي يشغلهم على حسابهم. وإن النساء كان عملهن التحصيل، أي تنقية ذرّات الذهب وشذراته، بينما الرجال الأشداء كانوا يقومون بأعمال أخرى أشق من أعمالهن كالتذرية وتفتيت الصخور بالمعاول ونحو ذلك.
ويظهر من لهج شعرائهم بذكر (المحصّلات) أنه كان لهن من تجمعهن في ذهابهن إلى(24/14)
المعدن وإيابهن، أو من زيّهن وشكل لبوسهن، أو من حديثهن ونوع تظّرفهن، كان لهن من ذلك حالة خاصّة لفتت عيون الشبان إاليهن، وحملتهم على ذكرهن وتمني معاشرتهن.
وهذا كما هو الحال في نساء المعامل وفتيات المخازن في أوربا اليوم.(24/15)
الحركة القومية الارلندية منذ نشأتها إلى اليوم
للأستاذ محمد عبد الله عنان.
- 1 -
المسألة الارلندية من أخطر واعقد مشاكل الإمبراطورية البريطانية. وخطورتها اليوم تبدو بنوع خاص، حيث تتأهب ارلنده لتحقيق الغاية التي تعمل لها منذ أحقاب. وهي التحرر من كل فروض التبعية البريطانية وإعلان نفسها جمهورية حرة موحدة، وأيرلندة اليوم من الوجهة الدولية دولة مستقلة ذات سيادة، ونعتها الدولي هو: (دولة ارلنده الحرة) ولكنها ما زالت طبق نصوص المعاهدة التي أنشأتها دولة حرة، تدين ببعض فروض الولاء والتبعية لبريطانيا العظمى.
وإذا كانت ارلنده تعتبر من الوجهة الجغرافية إحدى الجزر البريطانية، وتجاور إنكلترا واسكتلنده مجاورة قوية، فهي مع ذلك وحدة جنسية وتاريخية مستقلة. فالشعب الارلندي لا يمت بنسب أو صلة للشعب الإنكليزي، بل يرجع إلى أصول جنسية أخرى، وله خواصه ومميزاته وتقاليده الخاصة. وله أيضاً لغته الخاصة الجايلقية أو الارلندية القديمة التي غدت لغة رسمية لدولة ارلنده الحرة، وعاطفة الاستقلال قديمة راسخة في الشعب الارلندي. فمنذ القرن الحادي عشر كانت ارلنده مملكة مستقلة قوية تهدد جيرانها بالغزو والسيادة ولكن إنكلترا أدركت منذ البداية خطر استقلال ارلنده وقوتها على استقلالها وكيانها، وعملت الملكية الإنكليزية منذ أواخر القرن الثاني عشر على فتح هذه الجزيرة القوية واستعمارها، فغزاها هنري الثاني وافتتحها (1172م) وبدأ الإنكليز باستعمارها؛ وتوالت حملات ملوك إنكلترا على الجزيرة الثائرة لاستقلالها. ولكن ارلنده لم تهدأ لها من ذلك الحين ثائرة. وتاريخ ارلنده حافل منذ القرن السادس عشر بأخبار هذه الثورات القومية العديدة التي كان الشعب الارلندي يضرم لظاها من آن لآخر طلباً لحريته واستقلاله، والتي كانت إنكلترا تسحقها دائماً بمنتهى الشدة والقسوة. وكانت إنكلترا تحكم ارلنده طوال هذه القرون بيد من حديد، ولكن لم تفلح قط في كسب محبة الشعب الارلندي أو التأثير في عواطفه الوطنية وصرفه عن طلب استقلاله.
ولما رأت السياسة الإنكليزية بعد عدة قرون أن وسائل الشدة فشلت نهائياً في حكم هذا(24/16)
الشعب العريق في وطنيته واستقلاله جنحت إلى نوع من اللين والمودة. وفي سنة 1800، أصدرت الحكومة البريطانية قانون الاتحاد الارلندي، وبمقتضاه اعتبرت ارلنده جزءاً من (المملكة المتحدة) (بريطانيا العظمى) تمثل في البرلمان البريطاني بثمانية وعشرين عيناً وأربعة أساقفة، ومائة عضو في مجلس العموم. وتدفع ارلنده للخزينة البريطانية مبلغاً معيناً. ولها حرية التجارة، وحرية الاحتفاظ بنظمها القضائية والتنفيذية الخاصة. وكان لهذه الخطوة أثرها في تهدئة الشعب الارلندي. ولكن الحركة الاستقلالية لبثت قوية تتحين فرص العمل. ولم يصف قط كدر العلائق بين بريطانيا وارلنده. على أن حركة قومية جديدة معتدلة ظهرت: قوامها المطالبة بالحكم الذاتي أو الحكم الداخلي لارلنده وقويت هذه الحركة في أواخر القرن التاسع عشر بقيادة الزعيم الوطني بارنل، وغلب هذا الاتجاه في الحركة الوطنية الارلندية حيناً. وحاول حزب الأحرار أن ينتهز هذه الفرصة المعتدلة لتحقيق الأماني الارلندية وكسب صداقة الشعب الارلندي، فقدم غلادستون رئيس الحكومة يومئذ إلى البرلمان مشروع الحكم الذاتي الارلندي، ولكنه رفض مرتين (سنة 1886 و 93)، وعاد الأحرار لاستئناف السعي قبيل الحرب، فقدم مستر اسكويث رئيس الوزارة مشروع الحكم الذاتي الارلندي وصودق عليه سنة 1914. ولكن نشوب الحرب الكبرى حال دون تنفيذه. وهنا تبدأ مرحلة جديدة في حركة الاستقلال الارلندية.
- 2 -
وفي بداية الحرب بذل الزعماء الارلنديون وعلى رأسهم (جون ردموند) كل جهد لمعاونة بريطانيا العظمى، وتطوع كثير من الارلنديين في الجيش البريطاني. ولكن الأحقاد القومية القديمة ما لبثت أن اضطرمت، ووثبت الحركة الاستقلالية مرة أخرى، وقامت ثورة أيرلندية جديدة في سنة 1916 كان مدبرها حزب (السين فين) الجمهوري الذي أسس قبل ذلك بقليل ليعمل على استقلال ارلنده، فأخمدها الإنكليز بشدة، وفي نهاية الحرب توفي جون ردموند، فزادت علائق البلدين سوءاً واضطراباً، وقامت الجمعيات السرية الاستقلالية في جميع أنحاء ارلنده، وبرز حزب السين فين في الطليعة.
وهنا نقف قليلاً للتعريف بحزب السين فين هذا الذي غدا روح الحركة القومية الأرلندية، وكتب لنفسه في سير الجهاد الوطني صحفاً خالدة. ففي سنة 1915 أسس فريق من(24/17)
الزعماء الارلنديين حزباً أو هيئة وطنية جمهورية باسم (السين فين) ومعناها (نحن فقط)؛ وغايتها تحرير ارلنده تحريراً مطلقاً، وفصلها عن بريطانيا العظمى فصلاً تاما. وكان شعار هذه الحركة منذ البداية الجرأة، والتضحية. فأعلن (السين فين) انهم (الحكومة المؤقتة للجمهورية الارلندية) وانشئوا قوة وطنية أطلق عليها (المتطوعة الارلنديون) ونظموا ثورة سنة 1916. ولبث (السين فين) أثناء الحرب يناصبون بريطانيا العداء. ولكن إنكلترا استمرت أثناء الحرب تحكم ارلنده بمنتهى الشدة، وتطارد الحركة القومية بمنتهى العنف. ولكن دعوة (السين فين) ما زالت تزداد قوة وانتشاراً حتى عمت سواد الشعب الارلندي. وظهرت قوة الحركة في انتخابات سنة 1918 إذ سقط معظم الزعماء القدماء أنصار فكرة التوفيق والحكم الذاتي؛ وفاز السين فين فوزاً باهراً. ورأت السياسة البريطانية نفسها في مأزق حرج لأن السين فين رفضوا مشروع الحكم الذاتي بقوة وتمسكوا بالاستقلال التام، وانشئوا (حكومة الجمهورية الارلندية) والبرلمان الارلندي الوطني.
وهنا تدخل المسألة الارلندية في طور جديد، وتضطر السياسة الإنكليزية مرة اخرى للبحث عن سبيل لإرضاء ارلنده، أو بعبارة أخرى لتخدير حركتها القومية. وكان الحكم يومئذ ما يزال في يد الأحرار، وهم الذين سعوا إلى حل المسألة الارلندية بمنح الحكم الذاتي لارلنده. ففي سنة 1920 اتخذت الحكومة البريطانية برآسة لويد جورج في المسألة الارلندية خطوتها الجديدة فأصدرت (قانون الحكومة الارلندية) بمنح الاستقلال الذاتي لارلنده الجنوبية واستثنيت ألصتر أو ارلنده الشمالية لاختيارها البقاء مع بريطانيا العظمى.
ولكن السين فين رفضوا هذا القانون ورفضه البرلمان الارلندي الوطني (الديل ايران) بقوة واضطرمت ارلنده بثورة جديدة، وشهر السين فين على إنكلترا حرباً عنيفة، ونظموا العصابات المسلحة في أنحاء ارلنده، وتوالت حوادث الفتك والاغتيال على كبار الإنكليز والموالين لهم في ارلنده، وأبدى رجال السين فين بسالة وتضحية نادرتين. وقابل الإنكليز الاعتداء بمثله وارتكبت حوادث قسوة عديدة، وهلك من الفريقين في تلك الحوادث عدد من الزعماء والرجال البارزين. ولم تبد الحركة الارلندية قط بمثل هذا العنف، ورأت الحكومة البريطانية رجالها وجندها يسقطون تباعاً في ارلنده، ورأى فريق من الزعماء الارلنديين(24/18)
ان العنف صائر بالبلاد إلى الخراب والدمار، فاتفق الفريقان بعد نحو عام من تلك الحرب المضطرمة على عقد هدنة يحاولان خلالها التفاهم والمفاوضة، فهدأت البلاد حيناً، وعقدت عدة مؤتمرات للمفاوضة بين ممثلي السين فين وممثلي إنكلترا، وانتهت في ديسمبر سنة 1921 بعقد معاهدة عرفت بمعاهدة لندن؛ وبمقتضاها اعترفت إنكلترا باستقلال ارلنده الجنوبية ومنحها نظام الدومنيون (الأملاك المستقلة) مع احتفاظ بريطانيا ببعض رسوم السيادة على ارلنده: كفرض يمين الطاعة للعرش، وجعل استئناف الأحكام النهائي امام مجلس الملك الخاص، وتعيين حاكم يمثل التاج. ووافق البرلمان الارلندي (الديل) على المعاهدة في يناير سنة 1922، ولكنها لم تصادف قبولاً من الجناح الجمهوري المتطرف الذي يقوده الزعيم دي فاليرا، فرفض المعاهدة واستقال دي فاليرا من رآسة البرلمان احتجاجاً عليها، فخلفه آرثر جريفث في رآسة البرلمان وأتم مع زميله ميخائيل كولنس المفاوضات مع إنكلترا. وعلى اثر عقد المعاهدة انسحبت القوات البريطانية من ارلنده الجنوبية، وأقيمت حكومة مؤقتة برآسة ميخائيل كولنس، وقامت دولة ارلنده الحرة طبقاً لنصوص المعاهدة. وأجريت في يونيه انتخابات جاءت بأغلبية في صف المعاهدة، ولكن الجناح الجمهوري المتطرف لبث على موقفه يعارض المعاهدة بكل شدة، ودب الخلاف في صفوف (السين فين)، واخذ كل فريق يرمي الأخر بالمروق والخيانة، واستعملت الحكومة الجديدة العنف في قمع خصومها، فرد هؤلاء بالعنف والعدوان، واغتيل كولنس في أغسطس وتوفي جريفيث قبله بأيام، فتولى الزعيم كوزجريف رآسة الجمهورية، وشدد على الجمهوريين ووضع الدستور الارلندي الجديد في دائرة معاهدة لندن، ونص على أن الشعب الارلندي هو مصدر جميع السلطات، وعلى أن البرلمان قوامه الملك ومجلسان هما (الديل) ومجلس الشيوخ، وعلى أن اللغة الارلندية (الجايلقية) هي لغة الدولة. وأنشئ جيش ايرلندي وطني. وعين الزعيم الارلندي هيلي حاكماً عاماً (ثم خلفه الزعيم ماكنيل) ليمثل حقوق التاج.
- 3 -
استطاعت السياسة البريطانية ان تجعل من المعاهدة الارلندية أداة لتمزيق الحركة القومية الارلندية، وشطر السين فين إلى فريقين خصيمين وفق ما قدمنا، ولبث فريق الأغلبية وهو(24/19)