جملة واحدة، فرجال المدرسة القديمة كانوا يصرون على تقليد القدماء تقليداً عقيماً جر عليهم الغرابة والتقيد والجفاف، حتى جاء في سنة 1916م أحد المحدثين وهو (هوشي) فأقترح ثماني وسائل لتجديد الأدب القديم كانت أساساً لبناء الأدب الحديث وهي (1) ألا يلمح الأدباء إلى شيء من التاريخ والأدب والأساطير في غضون النثر والنظم. (2) ألا يستعملوا الحكم المأثورة والأمثال السائرة اتقاء للابتذال. (3) ألا يسرفوا في البحث عن الأقيسة النحوية والمقابلات البيانية وعلى الأخص في الشعر. (4) ألا يتجنبوا الألفاظ العامية والتراكيب الشعبية. (5) أن يعنوا أشد العناية بالإنشاء. (6) ألا يئنوا ما لم يحسوا في أنفسهم الحاجة إلى الأنين. (7) أن يعتدوا بشخصياتهم فلا يقلدوا القدماء في شيء. (8) ألا يكتبوا إلا إذا جال في خواطرهم ما يريدون أن يكتبوه.
فإذا كانت الفلسفة الصينية اليوم في وقوف، والتاريخ غير موجود، والإنتاج المسرحي قليل القيمة، والشعر لم ينطلق بعد من أسار التقليد، فأن القصة تنمو وتزدهر معتمدة في تجديدها وتأييدها على ثلاثين مجلة تحلها من صفحاتها المحل الأول، أهمها القصة الجديدة القصة الصينية الحديثة واقعية كالقصة الغربية فلا تأبه مطلقاً للتقاليد ولا تتصل بالأساطير والخوارق. وكتابها لا تعوزهم القرائح الخصبة ولبعضهم قصص جليلة الشأن عظيمة الخطر، ولكنك لا تجد فيها ذلك السحر الأخاذ، ولا ذلك الجو الأثيري النقي، ولا تلك الخفة التي كانت تميز القصة القديمة وتلونها باللون الصيني الخالص. فإن القصة الحديثة اقتبست من القصة الغربية الشكل والاصطلاح والروح أيضاً، والمشابهة شديدة بين الحكايات الحديثة في الصين وبين بعض الأقاصيص في أمريكا، وإذا قرأت حكاية (كونغ يي كي) للكاتب (لوسين) حسبتها مكتوبة بقلم شروود أندرسون.
من القصصيين المعاصرين (تشنغ تسوينغ) وهو كاتب وافر الإنتاج، ويعزون هذه الوفرة إلى أنه يشتري قصص المفلوكين من الأدباء بثمن بخس ثم ينشرها تحت اسمه. وقد انفرد بمعالجة نوع واحد من المشاكل الاجتماعية، وهو تضارب العواطف بين ثلاثة أشخاص رجلين وامرأة أوامرأتين ورجل وليس في قصصه أصالة فكرية ولا لأسلوبه قيمة أدبية ولكنه مع ذلك أكثر الكتاب قراء وأبعدهم سمعة.
ثم (كووموجو) وهو زعيم المذهب العمالي الذي يعني أتباعه بمعالجة الموضوعات(8/49)
الخاصة بالفقراء الذين يعيشون على عملهم وهو يدير اليوم حركة الدعاية الشيوعية ضد الحكومة، ويؤلف في سبيل ذلك الأقاصيص والروايات والخطب ولكن حظها من الفن قليل. فاذا نسى السياسة وكتب للأدب تكشف لك عن قصصي سمح القريحة واضح الطريقة.
ثم (يي شاو كيون) و (يوتافو) وهما قصصيان من الطراز الأول، يعالجان غير القصة الأخلاقية، يصفان فيها جوانب الفقر والفسق والبؤس من حياة الشعب الصين في المدن الكبرى. ثم (ينغ ناغان) وهو معدود في طبقة الكتاب النابهين ولكن أرفع القصصين المحدثين ذكراً وأسماهم مكانة هو (لوسين) له مجموعتان من الأقاصيص عنوان الأولى (صرخات الحرب) وعنوان الثانية (اضطراب البال) ونتاجه على قلته موسوم بسمة الجمال والعبقرية.
وسنترجم في الأعداد المقبلة قصة له وأخرى ليانغ ناغان تمثلان الروحين الشائعين، والاتجاهين المختلفين في القصص الصيني الحديث.(8/50)
في الأدب الغربي
بين بين
للدكتور طه حسين
الأصل في الكلام إنه وسيلة تتوسل به إلى الأعراب عما تريد أن يفهمه عنك غيرك، فهماً واضحاً جلياً لا لبس فيه ولا غموض. والكلام كله يشترك في هذا الأصل أو قل كان يشترك في هذا الأصل سواء منه ما كان شعراً وما كان نثراً، وسواء منه ما تحدث إلى العقل وما تحدث إلى القلب والشعور. فإذا خرج الكلام عن أصل البيان والتبيين هذا فكان فيه غموض أو التواء فمصدر ذلك قصور في المتكلم أو الكاتب أو قصور في السامع أو القارئ، عجز ذاك فلم يحسن الإعراب عما يريد، أو عجز هذا فلم يحسن الفهم لما لقي إليه. وقد يكون الغموض مقصوداً والالتواء متعمداً، لأن للكاتب أو الشاعر أو المتكلم غرضاً يدفعه إلى أن يتكلف الغموض ويتعمد الالتواء ولكن هذا الكلام الغامض الملتوي واجد على كل حال من يقرأه أو يسمعه فيفهمه فهماً صحيحاً مستقيماً.
هذا هو الأصل في الكلام ولكن يظهر أن الترف الفني الذي ترقى بنا الحضارة إليه، وتنتقل بنا في درجاته المختلفة يأبى أن يقر الأشياء في أصولها أو يدعها ميسرة لما خلقت له. فكما أن الأصل في الطعام والشراب الغذاء والري، ولكن الحضارة والترف قد خرجا بهما عن هذا الأصل إلى ما يتجاوز الغذاء والري، إلى غيرهما من اللذات التي يجدها الطاعمون والشاربون فقد خرج الترف الفني في هذه الأيام بالكلام عن أصله المألوف إلى شيءآخر غير البيان والتبيين، ونشأت طائفة من الكتاب والشعراء لا تكتب النثر ولا تقرض الشعر لتقول شيئاً واضحاً جلياً أو لتقول شيئاً ينتهي بعد الجهد والبناء إلى الوضوح والجلاء. وإنما تكتب وتنظم لتثير في نفسك ألواناً من المعاني وضروباً من الخواطر، ولتهيج في قلبك أشكالاً من العواطف وفنوناً من الشعور، تحسها فتلذ لها وتألم، وتبتهج لها وتضيق بها، وتفهمها حيناً وتعجز عن فهمها أحياناً، وتذهب مذاهب مقيدة غريبة متباينة في فهم هذا الكلام الذي يلقى إليك وتأويله وتخريجه فتقر ما تنتهي إليه ثم يبدو لك فتعدل عنه، ثم تقرأ هذا الكلام مرةً أخرى فإذا أنت تذهب في فهمه وتأويله وتخريجه مذاهب لم تكن قد ذهبتها من قبل، ثم تتحدث إلى من قرأ هذا الكلام نفسه فإذا هو يخالفك في الفهم كل(8/51)
الخلاف أو يخالفك في بعضه ويوافقك في بعضه الآخر. ثم تتحدثان إلى ثالث قد قرأ هذا الكلام فإذا له فيه رأي لم ترياه ولم يخطر لكما على بال ولعلكم إن سألتم الكاتب أو الشاعر الذي ألقى إليكم والى الناس هذا الكلام عما أراد به حين كتبه أو نظمه لم تجدوا منه جواباً مقنعاً ولا رداً مريحاً. أو وجدتم أجوبة مختلفة وردوداً متباينة، لأنه هو لا يعرف بالضبط ماذا أراد حين كتب أو نظم أو كان يعرفه أثناء الكتابة والنظم ثم ذهب عنه بعد ذلك، أو كان يعرفه فلما أتم الكتابة والنظم وترك ما كتب ونظم حيناً عاد إليه يقرأه فإذا هو يفهم منه غير ما أراد ويتبين منه غير ما كان قد قصد إليه.
وقد يخطر لك أني أقصد بهذا النحو الكلام إلى شيء من العبث أو الدعابة، فذد عن نفسك هذا الخاطر فلست بصاحب عبث ولا دعابة. وإنما أنا صاحب جد كل الجد وأنا أكتب هذا الكلام بعد أن فرغت من قراءة قصة لذيذة قيمة ممتعة للكاتب الفرنسي جورودو. صاغها في صيغة القصص التمثيلي ووضع لها العنوان الذي وضعته أن لهذا الفصل، ونشرها في عددين من مجلة باريس.
وقد قلت إن هذه القصة لذيذة قيمة ممتعة وأنا أريد ما أقول، ولعلي مقصر حين أكتفي بهذه الأوصاف وحسبك أني قرأتها ثلاث مرات وسأقرؤها إن أذن بذلك الوقت وسمحت به الظروف. وقد وجدت قي كل قراءة لذة ومتاعاً وأنا واثق بأني سأجد في القراءة الرابعة لذة ومتاعاً. ولكني على ذلك كله لم أفهم ما أراد الكاتب أو قل فهمت أشياء مختلفة وأغراضاً متباينة، ما أظن أن الكاتب قد أراد إليها أو فكر فيها. وقد أسأت الظن بنفسي فأقرأت هذه القصة قوماً آخرين وجدوا فيها لذات لم أجدها ومتاعاً لم أشعر به. ولكنهم كانوا مثلي عاجزين عن أن يفهموا بالدقة أو بالتقريب ما أراد إليه الكاتب حين كتب قصته هذه البديعة الغريبة. ثم انتهى بنا الأمر إلى أن اتفقنا على إن الكاتب لعله لم يرد شيئاً أكثر من أن يثير في نفوسنا وقلوبنا هذه الخواطر والعواطف وهذه الأهواء والميول. وعلى أن الكاتب لعله أراد أن يذهب بالكلام مذهب الموسيقيين بالموسيقى، فلا يقصد إلا إلى أن يثير في نفسك ضروباً من العواطف والأهواء حول فكرة خطرت له وأثرت فيه فصورها كما استطاع في هذه الألحان التي قد تطابق ما في نفسه وقد تقصر عنه وقد تتجاوزه وتربى عليه. ولكنها على كل حال قلما تنقل إلى نفسك صورة صحيحة مطابقة لما كان في نفسه، وقلما تثير في(8/52)
النفوس المختلفة عواطف وأهواء مؤتلفة أو متقاربة تقارباً شديداً. إنما قصاراها أن تدفع بك في عالم من الخيال لا حد له. فأنت تتصور فيه ما تشاء. وأنت تحس فيه ضروباً متباينة من الإحساس وقد تسمع اللحن الموسيقي الآن فيثير في نفسك لوناً من الخواطر وتسمعه بعد ذلك فيثير في نفسك لوناً آخر. وكذلك يذهب أصحاب الكلام بالكلام حتى يجعلوه فناً من النغم وضرباً من الموسيقى، وحتى يستطيعوا أن يلقوه إليك فإذا أنت لا تفهم منه شيئاً دقيقاً جلياً كما تعودت أن تفهم من الكلام. ولكنك على ذلك لا ترغب عنه ولا تنفر منه بل تؤثره ولا تعدل به شيئاً.
في هذه القصة خداع غريب خطر لأنه يخيل إليك إنك تفهم ما تقرأ على وجه من وجوه الفهم فتمضي بالقراءة متابعاً فهمك هذا مطمئناً إليه، ولكنك لا تلبث أن تضل الطريق. وإذا أنت في واد غير ذلك الوادي الذي كنت تمضي فيه. وما يزال كذلك ينقلك من واد إلى واد ويثب بك من مذهب في الفهم إلى مذهب آخر حتى تنتهي القصة. وإذا أنت تسأل نفسك ماذا فهمت أنت منها وماذا أراد الكاتب بها إليه.
ولا بد لي من أن ألخص لك المقدار الذي يستوي الناس جميعاً في فهمه من هذه القصة حين يقرءونها وهو هذه الصورة الظاهرة التي يقسمها الكاتب إلى مناظر وفصول. ولكني أحب أن تفهم أن هذا التلخيص لا يعطي شيئاً ولا يصور ما أراد الكاتب. وقد قرأت لجماعة من النقاد فما أرى إنهم فطنوا لما قصد إليه في دقة ووضوح.
كل شيء في القصة مبهم قد تعمد الكاتب إبهامه، حتى الأماكن التي تقع فيها حوادث القصة، والأوقات التي أختارها الكاتب لوقوع هذه الحوادث. فأكثر ما يقصه عليك الكاتب يجري في مكان غير محدود ليس هو داخل المدنية وليس هو شديد البعد منها وكأنه في طرف من أطرافها حيث تتصل عمارات المدن بالفضاء الواسع الطلق. وهو في غابة أو في شيءيشبه الغابة، تتبين فيه الأشجار ولكنك لا تضيق بها ولا تحس كثافتها والتفافها. والمكان واسع قد كسا أرضه العشب وأنتثر فيه زهر كثير مختلف. ولا تقع حادثة من حوادث القصة في أول النهار أو في وسطه حين تستطيع العين أن تحيط بالأشياء وتحقق النظر فيها وحين تستطيع النفس أن تتابع العين فتفكر في شيءبين محدود.
وإنما تقع الحوادث في الأصيل حين يختلط آخر النهار بأول الليل، وحين يضطرب على(8/53)
الأشياء رداء رقيق جداً من الضوء، وحين تتفرق النفس كأنها تريد أن تتابع الشمس في مسراها من وراء الظلمة الكثيفة المقبلة.
وإذا أختار الكاتب هذا المكان المبهم، وهذا الوقت المبهم لم يكن من العسير عليه أن يختار أشخاصاً إن ظهرت صورهم المادية ظهوراً واضحاً في بعض الأحيان، فأن صورهم النفسية وما يصدر عنها من الأحاديث والخواطر مبهمة شديدة الإبهام ملائمة أشد الملائمة لما يحيط بها من زمان ومكان. ولعل أحسن مظهر لبراعة الكاتب إنما هو إنشاء هذه البيئة الغامضة الواضحة المبهمة الجلية التي هي بين بين.
موضوع القصة نفسه يقتضي هذا الموقف المتوسط بين الوضوح والغموض، فنحن في مدينة صغيرة من مدن فرنسا كانت هادئة مطمئنة تجري حياة أهلها في اضطراد لا نتوء فيه كأنه السهل المنبسط. ثم يضطرب أمرها فجأة وتحدث فيها حوادث غير مألوفة كأن شيطاناً ماكراً قد أشرف على أمورها فقلبها رأساً على عقب. تعودت أن تجيل بين أهلها في كل عام طائفة من أوراق (النصيب). فإذا جاء موعد القرعة فقد تعودت المدينة أن تخرج القرعة لأغنى أهلها إلا في هذه السنة فقد خرجت لرجل فقير. تعودت أن تؤدي عملية الإحصاء من حين إلى حين كما تؤديها غيرها من المدن فإذا سألت الأسر عن عددها ردت بأجوبة تلائم العرف والقانون إلا في هذا العام، فالعمدة يستحي أن يقدم إلى المركز أوراق الإحصاء لأن الناس قد أحصوا أنفسهم، وكلابهم، وماشيتهم. ولأن الرجال لم يضعوا زوجاتهم في أجوبة الإحصاء، وإنما وضعوا خليلاتهم. تعودوا أن ينهر الرجل صبيه فلا يثور الصبي، وأن يزجر كلبه فلا يثور الكلب، أما في هذا العام فالصبيان ثائرون بآبائهم وأمهاتهم، والكلاب ثائرة بأصحابها وسادتها. وعلى هذا النحو أضطرب في المدينة كل شئ. ومصدر الاضطراب فيما يظهر أن إشاعة ملأت المدينة بأن شبحاً يظهر لبعض أهلها إذا تولى النهار وأقبل الليل. وقد صدق الناس هذه الإشاعة واطمأنوا إليها فكلهم يلتمس الشبح وكلهم يراه، وكلهم يخافه، ويحتاط للقاءه. وانتهى أمر هذا الاضطراب إلى باريس فأرسلت الحكومة المركزية مفتشاً إلى هذه المدينة يبحث ويستقصي، وأمرته بأن يحسم الداء إذا انتهى إلى أصله. وفكرة الحكومة أن هذا عارض من الضعف العقلي ومن الشعوذة قد ألم بهذه الدينة، فيجب أن يرد عنها وأن يبسط عليها سلطان العلم والعقل، ويقبل هذا(8/54)
المفتش ممتلئاً بهذه الفكرة فلا يكاد يتحدث إلى العمدة والصيدلي ومراقب المكاييل والموازين حتى يروعه تصديق المدينة لهذه الخرافات، وحتى يشتد عزمه على أن يشمر في الحرب لهذا السخف حتى يقضي عليه. وهو ينكر وجود الأشباح والأرواح، وهو يتحدى الأشباح والأرواح ويطلب إليها أن تقلق طائراً ولو يسيراً عن غصن من هذه الأغصان وهو يحصي ثلاثة فلا يتم الإحصاء حتى تسقط قلنسوته عن رأسه! فيقول: ما أشد الريح أو يجيبه أصحابه: ليس في الجو أثر للنسيم! وهو يعود إلى التحدي في لفظ غليظ بشع ويطلب إلى الأرواح والأشباح أن تمسه بأذى ولو ضئيل. ويحصي ثلاثة فلا يكاد يفرغ من الإحصاء حتى تزل قدمه به فيهوى! فإذا نهض قال: ما أشد الرطوبة! فيجيبه أصحابه، إن عهدنا بالمطر لبعيد! وبهذا يتحقق الخلاف بين ممثل الحكومة المركزية وأهل المدينة. هو صاحب علم وعقل وهم أصحاب خيال وإيمان بالخرافات.
ولكن علم المفتش أولى وعقله محدود. فهو يؤمن بما في الكتب ويسلم به مقلداً فيه وهو يرى الإيمان به والتعصب له سياسة تلائم الديمقراطية وتوافق نظم السياسة الحديثة. وسذاجة أصحابه الذين يحاورهم ظريفة طلقة ليس فيها غلظ ولا ضيق، وإنما هي سذاجة ذات أجنحة تسمو بأصحابها حتى تتجاوز بهم حدود المألوف المعقول وكأنها قد اتخذت أجنحتها من الخيال وأصبحت شعراً كلها، فالحوار إذاً إنما هو بين الحقائق الواقعة المقيدة التي لم تبرأ من الجمود ولم تسلم من القصور، وبين الخيال المطلق الحر الذي أخذ بحظ عظيم من الرقي والصفاء والتهذيب. الحوار إذاً بين الحياة اليومية المألوفة يمثلها شخص المفتش وبين الشعر يمثله هؤلاء الناس. بل يمثله معهم أكثر أهل المدينة وتمثله معهم بنوع خاص إيزابيل هذه الفتاة التي تقوم على تعليم البنات مكان المعلمة المريضة والتي تذهب في تعليم الفتيات مذهباً غريباً ملائماً كل الملاءمة للطبيعة الحرة والشعر الطلق. فهي لا تضطرهن إلى المدرسة وإنما تتخذ من الغابات والحقول مدرسة تلقي عليهن فيها علماً غريباً يضيق به المفتش الذي يمثل حياة كل يوم. وهي تلقي إليهن أسماء غريبة تدل بها على ألوان العلم في الفلك والطبيعة والنبات والحيوان وهي لا تتحرج في أن تحملهن على أن يتشكلن بأشكال الحيوانات المختلفة ويتسمين بأسمائها ويسرن سيرتها، كل تعليمها يمتاز بأنه شعر، ويقوم على تحبيب الطبيعة إلى التلاميذ. ولا يكاد المفتش يرى هذا ويتبينه حتى(8/55)
ينفر منه ويثور به ويرى إنه أصل هذا السخف الذي سيطر على المدينة ونشر فيها الفساد والاضطراب. فيعزل الفتاة إيزابيل من منصب التعليم، ويأمر أن يجري التعليم في المدرسة على ما يجري عليه في المدارس الأخرى في أضيق حدود التقاليد وقد أنبئ بأن مصدر هذه الإشاعة التي اضطربت لها المدينة إنما هو هذه الفتاة المعلمة، فهي التي ترى الشبح وتناجيه إذا كان المساء! وقد ثبت له ذلك. فأرصد للفتاة وطائفها ومعه نفر مسلحون حتى إذا كان المساء أقبلت الفتاة وأقبل الطائف فتحدثت إليه وتحدث إليها. وهما في حديثهما وإذا نار تطلق فيهوى الطائف إلى الأرض كما يهوى القتيل. ويظهر المفتش وأصحابه وهم لا يشكون في أن هذا الطائف ليس إلا شاباً أراد أن يغوي الفتاة فاتخذ صورة الطائف وشكل الخيال. ويحنو بعضهم على القتيل فلا برى جثة وينظر القوم فإذا الطائف يرتفع في الجو شيئاً فشيئاً حتى يسترد صورته الأولى ثم يقول: إلى غد يا إيزابيل! إلى غد في غرفتك إذا كانت الساعة السادسة!
فإذا كان الغد أقبلت الفتاة إلى غرفتها قرب الموعد المضروب وأقبل مراقب المكاييل والموازين فأخذ يتحدث إليها حديثاً فيه حب، فتريد أن تصرفه عن نفسها فيأبى ويعرض عليها الزواج، وهما في الحديث وإذا الطائف قد أقبل وطلب إليه أن ينصرف ويدعه مع الفتاة. ولكن الرجل يأبى ويلح في الإباء ويكون بينه وبين الطائف حوار عنيف دقيق أيهما يستأثر بالفتاة، والفتاة مترددة بين هذا الرجل الذي يمثل الحياة وهذا الطائف الذي يمثل الموت ولكن ميلها إلى الحياة ينتصر آخر الأمر فينصرف الطائف مهزوماً وتهوى الفتاة في غشية كأنها الموت. ويقبل المفتش والعمدة والصيدلي والتلميذات وبعض أهل المدينة وكلهم يريد أن يستنقذ الفتاة من هذا الإغماء. وكلهم يقترح لذلك دواء وطباًً ولكن الصيدلي يتقدم إليهم جميعاً في أن ينسوا الفتاة وينصرفوا إلى أنفسهم. ويستأنف كل منهم حياته في هذه الغرفة كما لو كان بعيداً عنها فهؤلاء يلعبون الورق وهؤلاء الفتيات بينهن حديثاً عادياً، وهاتان الفتاتان تتحدثان في الأزياء، وهذا المفتش ينطق من حين إلى حين بألفاظ تمس العلم والتعليم والديمقراطية وقد استحالت الغرفة صورة مصغرة للمدينة. وإذا الفتاة المغمى عليها تفيق شيئاً فشيئاً حتى تشترك في الحديث عن الأزياء ويأتي من يخبر بأن الأمور قد استقامت فخرجت قرعة النصيب للأغنياء دون الفقراء، ويعلن الصيدلي في ألفاظ تذكر(8/56)
بقصة فوست أن قد انتهت هذه الحال التي كانت بين بين!
هذه صورة غليظة جداً لهذه القصة لا دقة فيها ولا تحديد ولا إلمام بشيء مما فيها من مواطن الشعر ومظاهر الجمال الفني الرائع. ولا إلمام فيها أيضاً بهذه المواقف الكثيرة التي يعرض فيها الكاتب للحياة اليومية على اختلاف فروعها بالنقد اللاذع المر، ولكنك تستطيع أن تسأل نفسك كما سألت نفسي وكما سأل غيري من القراء نفسه حين قرأ هذه القصة، ماذا أراد الكاتب أن يصور فيها؟ أتراه اكتفى بنقد ما نقد من ألوان الحياة الفرنسية ولم يرد غير ذلك! إلا فإن هذا النقد عارض في القصة يكفي أن تنظر فيه لتعلم إن الكاتب لم يتخذه غرضاً من أغراضه الأولى. أتراه رمز بهذا الطائف إلى شيءمما يعرض للناس في حياتهم وجعل الفتاة رمزاً للناس جميعاً أو لطائفة من الناس؟ ولكن ما عسى أن يكون هذا الشيء الذي أتخذ الطائف رمزاً له أهو الحب؟ أهو الموت؟ أهو الأمل؟ أهو المثل الأعلى؟ أهو شيء غير هذا كله؟ أتراه إنما أراد أن يصور حالاً من أحوال الناس تعرض لهم في طور من أطوار حياتهم حين يكونون بين النوم واليقظة، أو حين يكونون بين الصبا أو الشباب وبين الاكتهال واكتمال السن. أتراه أراد أن يصور لنا حياة فتاة مريضة بنوع من أنواع الأمراض العصبية تتأثر بالوهم وتتبعه حتى تمضي في أثره إلى أمد بعيد ثم لا ترد إلى الحياة الواقعة إلا في هدوء ورفق. وإلا بأن تحيط بها الحياة الواقعة إحاطة متصلة لا تكلف فيها ولا جهد. كل ذلك ممكن، ولعل شيئاً غير ذلك كله ممكن أيضاً ولعل الكاتب (وقد هممت أن أملي الشاعر) لم يرد كما قلت إلا أن يخلق حولك هذه البيئة الشعرية التي تطلقك من قيود الحياة الواقعة وتسلمك إلى الخيال يمضي بك حيث يشاء ساعة من نهار أو ساعة من ليل. وقد ذهب الشعراء إلى هذا النحو من الفن منذ عهدٍ غير قصير، فمنهم من جعل الشعر موسيقى تلذ السمع أولا، وتثير في النفس لذة النغم الموسيقي بعد ذلك وأعرض عن المعاني إعراضاً شديداً أو هيناً. ومنهم من أعرض عن هذه الموسيقى الظاهرة التي يتأثر بها السمع قبل كل شيءواتخذ الشعر مفتاحاً يفتح لك به أبواب اللانهاية كما يقول الشعراء ووسيلة يخلق لك بها هذه البيئة الفنية العليا التي ترتفع بها وقتاً ما عن الحياة والأحياء.
وأخذ الكتاب يذهبون بالنثر مذهب الشعراء بالشعر ولكن كاتبنا قد تجاوز مذهب الكتاب الذين يقلدون الشعر والشعراء في النثر الذي يتجه إلى القراء ليس غير، وسلك هذا المذهب(8/57)
الشعري بالنثر التمثيلي وبالتمثيل نفسه. وأنت في غير حاجة إلى أن أبين لك الفرق بين النثر الذي يذهب في صاحبه مذهب الشعراء والموسيقيين والذي يتجه إلى الناس جميعا ولكنهم يقرءونه متفرقين ويتأثرون به متفرقين، وبين النثر الذي يذهب به صاحبه هذا المذهب ويتجه به إلى طبقات من الناس يجمعهم في مكان واحد، هو الملعب وينتزعهم من الحياة الواقعة معا ويسمو بهم معا إلى عالم الشعر والخيال ويتخذ لهذا سبيلا واحدا هو التمثيل. وأظنك توافقني على أن هذا النوع من الإقدام والابتكار جراءة فنية قيمة. ولكن قد رأينا الآثار التي تتركها قراءة هذه القصة في نفس القراء ولم نحب أن نرى الآثار التي تتركها تمثيل هذه القصة في نفس النظرة. ولكن أين نحن من هذا وأين هذا منا في مصر الآن؟
وأنا أريد أن اعرض عليك منظر من مناظر هذه القصة لم اختره اختياراً وإنما هو كغيره من المناظر التي تستحق كلها أن تترجم وأن تتخذ نموذجا ومثلا لهذه الفن التمثيلي الجديد. وهذا المنظر حوار بين إيزابيل وبين الطائف:
الطائف - أكنت تنتظرينني؟
إيزابيل - لا تعتذر! فلو كنت طائفا مثلك لوقفت عند هذا الشفق وعند هذه الأودية، حيث لم أستطع إلى الآن أن أحمل الا جسما كثيفاً. إذاً لاستوقفتني الغدران والنبات الملتف وكل ما أقف عنده الآن! إذاً لما كنت هنا الآن لو أني أستطيع مثلك أن أطوف بظلي كما لا أستطيع الا أن أمسه أو أراه! إذاً لاتخذت لنفسي جسما من الأشياء كما أهوى عصفوراً على الغصن مرة! أو طفلا مرة أخرى! أو انحرف مرة ثالثة فأتقمص عوداً مزهرا من النسرين. إنما الاحتواء هو القرب الصحيح. . . ولكني ألومك لأنك أقبلت هذا المساء وحدك، وحدك دائما. لم تستطع أن تمس أحداً من ذويك ولا أن تحمله على صحبتك!
الطائف: لم أستطع.
إيزابيل: لقد فكرنا أمس بعد كل هذا الإخفاق أن أقدر الأشياء على أن يهيجهم، ويؤثر فيهم، ويوقظ ما يمكن أن يكون أعصاب الطيف، قد يكون صيحة طويلة، وشكوى متصلة متشابهة، تتردد في طول واتصال. كهذه الصيحة الحقيقية أو التي نحلم بها والتي تصدر عن القطار فتوقظنا أحيانا مع الفجر وتردنا إلى الأحياء. أو كصيحة سفينة أثناء الليل في(8/58)
الخلجان، تلك الصيحة التي تبلغ حتى الأسماك الرخوة في القاع. أبعثت هذه الصيحة؟ أأنفقت يقظتك في بعثها؟
الطائف: نعم!
إيزابيل: أنت بنفسك؟ أنت وحدك؟ ولم تلحق بصوتك شيئا فشيئا آلاف من أصوات تشبهه. .
الطائف: لقد اصطدمت بنوم الموتى.
إيزابيل: أينامون؟
الطائف: أيكون هذا نوما؟ لقد تسود اكثر الأحيان حيث يجتمعون رعشة، ثم ينساب فيهم نشاط جديد، حتى لقد ينبعث منه شيء يشبه الصوت أو انعكاس الضوء فإذا أقبل عليهم الطارقون المحدثون انغمسوا في اضطراب لذيذ تهدأ له بقية حياتهم يهزهم دائما ترجح الأرض الخفيفة. ولكن ربما اتصلت جماعتهم كلها، فكأنها قطعة من الثلج قد غمرها نوم الشتاء فإذا هبط إليها الموتى الوافدون غرقوا فيها مع شعاع يرافقهم، لأن نوم الأحياء شمس وبهجة.
إيزابيل: أكانوا كذلك أمس؟ أيفصل ذلك زمنا طويلا؟
الطائف: قرونا. . ثواني
إيزابيل: أليس من أمل في المعونة؟
الطائف: منهم، لا أظن.
إيزابيل: لا تقل هذا! إن بين الذين قضوا من حولي من أحسست أنهم قد ذهبوا إلى غير رجعة ومحيت أشخاصهم من كل حياة ومن كل موت. لقد أرسلتهم على العدم كما أرسل الحجر. ولكن بينهم من وجهتهم إلى الموت كأنما وجهتهم في مهمة، أو كأنما كلفتهم محاولة، يظهر الموت فيها وكأنه أقصى غايات الثقة. فكان يضطرب حول المقابر جو السفر والأماكن المجهولة. ولم اكن أميل إلى أن أودعهم باللفظ بل بالإشارة. وكنت أحس أثناء المساء كله كأنهم يبحثون عن إقليم جديد وعن بيئة جديدة. وكانت الشمس مشرقة، وكنت أراهم هناك ينامون في شمسهم الجديدة. وكان المطر يسقط وكانوا يتلقون القطرات الأولى من أمطار الجحيم. فلن تقنعني بأن هؤلاء أيضا ينسون أو يسقطون متى انتهوا إلى(8/59)
مستقرهم؟
الطائف: لم يصلوا لم أرهم.
إيزابيل: ولكنك أنت نفسك تلقي السلاح؟ وتكتفي من الأمل والرغبة بأن تهيم طائفا فوق مدينة ضئيلة؟
الطائف: المهمة خطيرة.
إيزابيل: ومع ذلك فها أنت ذا.
الطائف: إن بين الموتى من ينام وكأنه يقظان.
إيزابيل: إن هذا النائم المستيقظ يستخفي مع الصبح وما زلت مقيما.
الطائف: لقد جذبتني. لقد أوقعتني في الشراك.
إيزابيل: أي شراك؟
الطائف: إن عندك لشركا يجذب إليه الموتى.
إيزابيل: وأنت أيضا تراني ساحرة.
الطائف: إن سحرك لطبيعي حتى لكأنك قد عرفت فيم يفكر الموتى فأنت لا تهيئين لهم ذكريات ولا صوراً وإنما تهيئين لهم الشعور بانعكاس الصور وأجزاء الضوء قد استقر على زاوية من الموقد، على أنف هر، أو على ورقة كأنها الحطام الضئيل يطفو على الطوفان. . . . . أترينني مصيبا؟
إيزابيل: وإذاً؟
الطائف: وإذاً فكل غرفتك في الظاهر غرفة للأحياء، لفتاة حية من أهل الأقاليم، ولكن من يحقق فيها النظر يرى أن كل شيء قد قدر لتكون هذه العلامة من الضوء على الأشياء المألوفة على إناء من الصيني أو مقبض من المقابض قد استبقى دائما بالشمس أو النار في النهار، وبالمصباح أو القمر في الليل. هذه هي حبالتك وقد كان حقا علي أن احتاط حين رأيتك في نافذتك ذات مساء. لم يكن وجهك المشرق هو الخطر. ولكني رأيت انعكاس اللهب على الحاجز أمام الموقد. ورأيت ضوء القمر على المنبه. ورأيت ماس الظلال. فأخذت!
إيزابيل: أخذك الشرك فمن أبقاك؟(8/60)
الطائف: صوتك قبل كل شيء أحاديث صوتك هذه التي تجعل في الشفق كل مساء شيئاً تهيم به الظلال يشبه ما يرى الناس إن الطير تحبه من الشمس! وأبقاني بنوع خاص هذه الثقة الكريمة التي تمنعك حتى من أن تفكري في أني قد خدعتك وأني حي.
ثم تطلق النار فيهوى الطيف!(8/61)
من الأدب الإنجليزي
للشاعر شلي
حجاج العالم
حدثيني أيتها النجمة ذات الأجنحة النورانية!
أيتها الروح التي تسبح في أفقها الوهاج
في أي كهوف الليل وأغواره أخفيت كيانك
وحدثني أنت أيها القمر. . يا كوكب الليل الأصفر الحزين
أيها الرحالة التائه في طريق لا معلم فيه ولا هاد
في أي أعماق الليل أو النهار تلتمس مأواك؟؟
وأنت أيتها الريح المتعبة الكليلة
التي تجوب الوجود مولولة كالطريد المنبوذ من العالم
أو ما زلت تبحثين عن عشك الشجري في عذبات الصفصاف والكافور؟؟(8/62)
أغنية
هو طائر حزين جلس يبكي إلفا له قد مات.
// لقد استوى في ذروة غصن من أغصان الشتاء
وكانت الريح المقرورة تزحف فوقه.
والجدول المتجمد يدب تحته.
لم تكن ثمة ورقة خضراء تخفق في الغابة العارية الجرداء.
ولا زهرة ترف فوق الربوة الشاحبة الكئيبة
وكان الجو صامتاً زامتاً
إلا من أزيز الأرجاء البعيدة(8/63)
إلى القمر
خبرني أيها القمر عن سر اصفرارك؟
أمن التعب الذي تلاقيه وأنت تتسلق السماء جاهدا محملقا إلى الأرض بين رفاق من النجوم تفاوتت أعمارها؟؟
خبرني لماذا لا يبدو عليك تغير ما، كأنك عين حزينة لا تجد في العالم ما يثير انتباهها؟؟
محمد عبد المعطي الهمشري(8/64)
العلوم
التيفوس
للدكتور أحمد زكي
اليوم يوم من الأيام التي طواها القرن الثامن عشر بانطوائه. والبلد لندن حين لم يكن لها هذا الشأن الكبير، ولا لمرافقها الصحية هذا الخطر الكبير، ولا لأهلها هذه الثقافة وهذا اليسر المعروف. والدار دار المحكمة وهي التي تقع في سرة ذلك البلد العتيق.
ففي ضحوة ذلك اليوم أخذ الناس يتوافدون على تلك الدار زرافات ووحدانا. هذا مجرم فاجر وفي عينيه القسوة وفي مشيته التحدي، يقوده رجال من الشرطة على حذر وريبة. وهذا مجرم منكسر الحال وفي طرفه الذلة يقوده شرطي، وهؤلاء نفر من ذوي هذا المجرم أو ذاك في أثوابهم تهدل القِدَموعليها لون السنين، وفي أحذيتهم خروق السعي المتواصل، وعلى وجوههم شحوب الجوع وهم الرزق وقذارة الفقر، أو صفرة المرض أو سحنة الإسراف في فنون الدعارات الرخيصة. وهذا أحد المحلفين جاء يمشي في زهو المسيطر، وخيلاء الحاكم، وإلى جانبه صاحب له يرفع عقيرته يجادل صاحبه في شأن من شئون القضاء، يريد أن ينبه من حوله من الطغام أنه خبير بالقانون بالرغم من كونه محلف، عالم بسياسة الملك وتقسيط العدالة على الرغم من أنه أختير من صفوف السوقة وغوغاء الرعية. وهذه عربة فخمة برز منها رجل أنيق الملبس ناعم الحال في وجهه حمرة النعمة وفي جلده دهن الموائد، جاء للتفكه والتسلية لما أعوزه ما يشغل به وقته.
أما في داخل الدار فقد أخذت المقاعد تمتلئ، ثم ما بين المقاعد ثم الزوايا والأركان، وامتلأ ما بين المقاعد والسقف بأنفاس ثقيلة تكاد تسقط، وأبخرة كثيفة ندية تكاد تتقطر، ورائحة تألفت من روائح ذات أسباب عدة كلها مما لا يطيب إلا في أنوف الكلاب. ودخل المحلفون فأثار اهتمام الجمهور وعلم الناس حينئذ أن القاضي يكاد يدخل القاعة، ولم يلبثوا أن صاح بهم صائح قي صوته قوة وإمرة (وقوفاً) فوقف الناس ودخل صاحب الجلالة القضائية وعلى رأسه عارية من الشعر بيضاء، كأنما تطمئن الناس إلى عدل القضاء. وجاء الناس وأفتتحت المحكمة وجيء بالمذنب بعد المذنب وقام الاتهام فصال وجال وبالغ في وصف الجرم ما شاء له حرصه على المجتمع أن تعبث به يد الفساد، وتذهب بطمأنينته نزعات(8/65)
من
الشر خالدة في نفوس البشر. وقام الدفاع فأنكر الجريمة فدفع الحجة بالحجة والغضبة بغضبة أشد منها وتقبضت كفاه، ولما لم يكن من حسن اللياقة دخول الأكف في النقاش أنهال على المنضدة حتى أوجع كفيه، ولكن ذلك كان ثمناً طيباً للأثر الطيب الذي كان لدفاعه عند الجمهور. وجاء دور المحلفين فقالوا كلمتهم، وجاء دور القاضي فنطق بالأحكام. وانقضى اليوم والجمهور بين راض وحانق. ومضى أسبوع فأسبوع فشاع في الناس أن رئيس المحلفين قد مات، فعلم الحانقون انهم كانوا مصيبين في حنقهم وإن الحكم كان خاطئاً، وقال الراضون إن هو إلا سهم طائح طائش عارض من سهام عزرائيل أصاب المرحوم اتفاقا. ومضى أسبوع وشاع بين الناس إن إثنين من المحلفين قد ماتوا، فزاد الحانقون حنقاً على الأحكام، وأخذ الراضون يرتابون من صحة الميزان، ولكن الحق وضح واليقين تجلى لما مات القاضي بعد ذلك بأسبوع. وهل مات أحد من الجمهور؟ بالطبع لم يبلغ الناس شيءمن ذلك، وما كان من الممكن أن يبلغهم.
وجاءت جلسة قضائية تعقبها جلسة أخرى. فزادت الجنائز وامتلأت المقابر وسر الدفانون. فبان ما لم يكن بائناً من قبل، ذلك أن جمهور النظارة أيضاً حصد منه الموت أكبر حصاده، وزالت الرابطة ما بين الأحكام وبين الأموات، وعلم الناس إنه وباء من تلك الأوبئة التي يبعثها الله على عباده من حين إلى حين لغرض لا يعلمه إلا سواه، وخافوا تلك المحاكم واستشأموا منها وأسموها السوداء.
وفي هذا الشهر الحالي من القرن الحالي في مدينة القاهرة في أشد عيادات العالم المتمدن ازدحاماً وقذارة وسوء حال، وقع حادث كما ذكرناه فأصيب بضعة من أطباء القصر العيني ومساعديهم بنفس ذلك المرض الذي ذكرناه، ولكن علم الإنسانية بأعداء الإنسان زاد كثيراً، وفقهه للأوبئة تقدم تقدماً كبيراً، فما كادت تعرض الأعراض، على المنكوبين المذكورين حتى عرف المرض الخبيث وأسرع إليهم بالعلاج، أو بالقدر الذي يستطيعه الإنسان من ذلك في المرحلة الحاضرة من تقدمه في فهم هذا المرض، والذي نتمناه ألا تنشر هذه الكلمة حتى يدخل الأطباء المصابون دور النقاهة، والذي نتمناه أن يمن الله على من لم نسمع بهم ممن لاشك قد أصيبوا من المرضى الخارجين بالقصر العيني، والذي نتمناه أن يكون هذا(8/66)
درس نافع للجميع لا للقاهرة فحسب، بل في الريف كذلك.
أما التيفوس فمرض من أخبث الأمراض، ولاشك أنه قديم ولكن القدماء لم يتبينوه لاشتباه أعراضه بأعراض الحميات عامة، وهو قد يتوطن في الأقطار فتظهر منه إصابات قليلة، ولكنها ثابتة العدد لا تتغير إلا يسيراً، وقد يمتد في القطر فينتشر وباؤه فيحرث في الناس حرثاً، ففي الوافدة التي زارت أيرلندا عام 1846 حصد التيفوس من عاصمتها وحدها نحواً من ستين ألفاً. ويساعد على إحياء التيفوس ونشره ازدحام الناس مع سوء الغذاء والقذارة، لذلك تراه يظهر في الحروب بين الجيوش، وآخر أمثلة ذلك الوافدة التي زارت بلاد الصرب في الحرب العظمى، وذلك إن النمسا هاجمت البلاد الصربية لأول مرة فهاجر السكان من غير المحاربين إلى الجنوب في ازدحام وفاقة وعري وسوء حال، فأستيقظ الوباء النائم وبلغ أشده في عام 1915، وعندئذٍ خافت النمسا على جيوشها وكانت تنوي مهاجمة الصرب المرة الثانية فأجلتها، وقام هذا المرض الوبيل نيابة عنها ففتك بالصرب أشد فتك فمات منهم بسببه في ستة أشهر مائة وخمسون ألف نفس.
والتيفوس تنتقل عدواه بواسطة القمل، وبالقمل وحده على قدر ما حقق الباحثون. ومن الغريب أن هذه الحقيقة لم تدخل دائرة اليقين إلا في عام 1909 فأنهم حقنوا قرداً بمقدار من دم مريض بالتيفوس فانتقلت العدوى إلى القرد فربوا عليه قملا ونقلوا هذا القمل إلى قردة أخرى فأصابتها العدوى. وهذا يفسر لنا أن التيفوس يحصل إذا اجتمعت الزحمة والفقر وفي الحروب، ولقد صدق من أسماه (داء القذر) ويفسر لنا سرعة انتشاره من مريض لصحيح، ومن المريض للطبيب، ويفسر لنا أنه ينتشر في البلاد المعتدلة وفي الباردة على الأغلب في الشتاء أي في الحين الذي يرغب فيه الناس ولا سيما فقراؤهم عن الاستحمام وفي الحين الذي يزدحمون فيه في المساكن والقيعان رغبة في الدفء وهرباً من البرد.
أما سبب المرض فغير محقق تماماً إلى الآن. يظن بعضهم إنه فعل جراثيم دقت حتى عجزت عن رؤيتها أكبر المجاهر، وصغرت حتى عجزت مرشحات الجراثيم المعروفة عن حبسها، ولكن أكثر البحاث اليوم يرون أن هذه الجراثيم على صغرها يمكن ترشيحها، ودليلهم على ذلك أن دم المريض إذا رشح ثم حقن الراشح منه في جسم سليم لم تصبه(8/67)
العدوى. وقد حاول كثيرون الحصول على هذه الجراثيم، ونجح كثيرون في الحصول على جراثيم، ولكن جراثيم الباحث لم تطابق في الصفات جراثيم الباحث الآخر، فدل ذلك على أنها عوارض، وبعضها لا يعطي المرض فهي ليست جراثيم المرض. ولعل أوثق ما أستكشف في هذا الصدد مما له علاقة بهذا المرض جسيمات صغيرة وجدها الباحث ريكيتس عام 1909 في دم المرضى ببلاد المكسيك، وأمن على وجود أشباه لها فون فرو فازيك أثناء بحثه عام 1910 في بلاد الصرب، وجدها في باطن خلايا الدم البيضاء للمرضى، وسميت هذه الجسيمات بأسمي هذين الباحثين اللذين ذهبا ضحية المرض تشريفاً لهما وحفظاً لذكرهما. ومن بعدهما وجدت هذه الجسيمات في القناة الهضمية للقمل. والأبحاث في هذا السبيل لا تزال جارية تبعث بأشعة من نور ضئيل في ظلمات هذه العلة المبيدة.
وأعراض التيفوس تشابه من بعض الوجوه أعراض التيفود لذلك كانا يختلطان على الناس حتى جاء جرهارد عام 1837 ففرق بينهما. وسمى المرض الثاني بالتيفود ومعناها شبيه التيفوس: والمدة التي تمضي على دخول الميكروب في الجسم وظهور أعراضه تسمى مدة الحضانة، وبئست هي من حضانة، تتراوح ما بين خمسة أيام إلى واحد وعشرين يوماً، وتظهر الأعراض على الأرجح بغتة وقد تظهر بالتدرج. فترتفع الحرارة ويصحب ارتفاعها قشعريرة يصحبها صداع شديد وقيء، ويكون الهذيان أول الأمر زائطاً، ويظهر في نحو اليوم الخامس على جلد المريض طفح، وفي الوجه ثقل وبلاهة. وفي الأسبوع الثاني يصبح الهذيان تمتمة، وإن شاء له الله الشفاء والسلامة نزلت حرارته في نحو اليوم الرابع عشر فجأة وصحبها عرق غزير.
ولا سبيل لاتقاء التيفوس إلا بتطهير السكان من القمل، والقمل من الحشرات التي يمكن استئصالها ولو أن كثيراً من المصريين في الأحياء الفقيرة وبؤساء الريف يظنون أن القمل كالبق لا سبيل لاستئصاله، وربما أتينا في كلمة أخرى على طرق ذلك.(8/68)
الفضاء وقياسه وتطور رأي العلم فيه
عرف من زمن بعيد أن طول الشيء الواحد يتغير قليلا بتغير وضعه بالنسبة لاتجاه سير الأرض، فمثلا إذا أخذت قصبة ووضعتها في اتجاه سير الأرض حول الشمس كان لها طول معين. فإذا أدرتها بحيث تصبح عمودية على اتجاه سير الأرض وجدتها أطول قليلا مما كانت عليه في الوضع الأول. هذا يتعارض طبعا مع الاعتقاد السائد بأن طول الشيء ثابت لا يمكن أن يتغير لمجرد تغير وضعه. والواقع أن هذا التغيير ضئيل جداً لا يظهر إلا في الحسابات الدقيقة وهو أضأل من أن يؤثر أي تأثير محسوس في تجاربنا العادية.
ولم يخطر بالبال أن هذا التغير الضئيل ستنبني عليه نتائج غاية في الخطورة إلى أن تطور العلم عرف سبب هذا التغير. وهاك بيان السبب:
من الثابت الآن أن كل جسم مادي يتألف من دقائق متناهية في الصغر تسمى كهارب بعضها متحمل بشحنة كهربائية موجبة، ويسمى بروتون وبعضها شحنة سالبة، ويسمى ألكترون. فالقلم الذي بيدي هو مجموعة هائلة من تلك الدقائق الصغيرة المكهربة وكذلك كل جسم آخر.
ومن الثابت أيضاً أن أي جسم مشحون بشحنة كهربائية إذا تحرك بسرعة فأنه يصبح مغناطيساً له خواص الجذب. وعلى ذلك إذا تحرك أي جسم مادي بسرعة كبيرة فأن كل دقيقة من دقائقه المكهربة يصبح مغناطيساً، فينشأ بينها تجاذب ينتج عنه انكماش في ذلك الجسم. وقد حسم العلماء مقدار هذا الانكماش بناء على القوى المغناطيسية الناشئة فوجدوه مساوياً تماماً لما يحدث فعلا للأجسام بحركتها مع الأرض.
وعلى ذلك صار من الثابت أن الجسم المتحرك ينكمش قليلا ولهذا الانكماش علاقة بمقدار سرعة الجسم، فكلما زادت السرعة زاد الانكماش وهكذا.
ولكننا نعلم أن في الكون كواكب مثل كواكب السدم اللولبية تتحرك بسرعة هائلة بحيث يصبح لها تأثير محسوس في حجوم الأجسام التي عليها. ومنها ما تبلغ سرعته حداً ينتج عنه حتماً انكماش كل جسم عليها إلى نصف الحجم الذي يكون عليه لو كان عندنا هنا على الكرة الأرضية. بمعنى أن الحجر هنا الذي يكون حجمه متراً مكعباً لو أنتقل إلى هناك ووضع على ذلك الكوكب وأصبح متحركاً معه لصار حجمه نصف متر مكعب فقط.
فإذا فرض مثلا أن في تلك السدم كوكباً مثل الأرض تماماً وعليه أشخاص مثلنا وحياة(8/69)
كحياتنا بالضبط لكان حجم الرجل هناك نصف حجم الواحد منا وكل شيءهناك ينقص حجمه بنفس النسبة.
ولكن ثمة سؤال غاية في الدقة والصعوبة وهو (أينا يا ترى الذي يتحرك بتلك السرعة الهائلة. نحن أم تلك السدم؟) إن كل ما نعرفه أن تلك السدم تبتعد عنا كذا ميلا في الثانية. ولكننا لا نعرف أين المتحرك وأين الثابت. من السهل على سطح الأرض أن يقول الرجل هذا الشيء متحرك وهذا ثابت لأنه يقارنهما بسطح الأرض، فراكب القطار يخيل إليه أن عمود التلغراف هو الذي يجري إلى الوراء ويخيل إليه أنه هو جالس لا يتحرك ولكنه يعرف أن الحقيقة عكس ذلك، إذ ينسب حركة الأجسام إلى الشيء الثابت وهو سطح الأرض.
أما الحركة في الفضاء فليس لها ضابط تنتسب إليه، اللهم إلا إذا اعتبرنا مجموعتنا الشمسية ثابتة وكل ما عداها متحركاً، واعتبرنا أنفسنا مركز الوجود، وهذا غرور نربأ بأنفسنا عنه لعلمنا بأن شمسنا ما هي إلا واحدة بين ملايين الملايين من أمثالها، وإن من الشموس ما هو أعظم منها بآلاف المرات.
لا يحق لنا إذن أن نعتبر أنفسنا ثابتين وإن تلك السدم تطير مبتعدة عنا، لأن لتلك نفس الحق في أن تعتبر نفسها ثابتة وإننا الذين نطير مبتعدين عنها. وعلى ذلك فالحجر الذي نقيسه على سطح الأرض فنجده متراً مكعباً والذي قلنا عنه واثقين أنه إذا أنتقل إلى تلك السدم صار حجمه نصف متر فقط لا يحدث له شيءمن هذا إلا في زعمنا وعلى اعتبار أننا ثابتون، أما في عرف من يكونون عائشين على تلك السدم فالأمر بالعكس، وفي زعمهم أن هذا الحجر إذا قيس على أرضنا فحجمه نصف متر فقط وإذا أنتقل عندهم أصبح حجمه متر كامل.
إذن فحجم الشيء ليس بالقدر الثابت، بل يختلف باختلاف الشخص المشاهد له، والجزء الواحد من الفضاء يختلف مقداره باختلاف الشخص المشاهد له، والجزء الواحد من الفضاء يختلف مقداره باختلاف الموضع الذي يشاهد منه، فلا معنى إذن لعبارة (متر مكعب من الفضاء) ويجب أن نحدد هذا المتر بأن نقول (بالنسبة لرجل يعيش على كوكب كذا).
عبد الغني علي حسين. مدرس بمدرسة المنصورة الثانوية(8/70)
القصص
في الأدب الإيطالي الحديث
الرواية في بونتاسياف!
للكاتب الإيطالي لوسيو دامبرا
(1)
في ذلك المساء بعد تناول الطعام، كانوا يتحدثون في شرفة (الفيللا) عن الشهرة، وكان رئيس الأركستر (فينيزياني) يلقى بسمعه في الحديث، وعلى ثغره ابتسامة حائرة، يتراءى فيها التهكم واضحاً جلياً، وبعد صمت عميق، قال:
- الشهرة. . . أوه!. اسمعوا إذن هذه القصة. ليس بينكم من لا يعرف (سيريني) المؤلف الشاب، المؤلف المسرحي الشهير. وقد أذكر إني سافرت معه من روما إلى فلورنسا بالقطار، فأيقظنا عند الفجر، صوت عامل يصيح: (بونتاسياف. بونتاسياف) ناحية كسائر النواحي، بل هي محطة عادية، تبعد عن فلورنسا بضعة كيلومترات، وليس فيها ما يستوقف المسافرين أو يلفت أنظارهم، ولكن الأدباء يا سادة ليسوا كغيرهم من المسافرين.
- صرخ (سيريني) بونتاسياف! - ياله من أسم جميل!. . . إنه منتهى الرقة والعذوبة والطرافة! إنه ليبدو لي كل الروعة!
ولقد شعرت عند سماعه الشعور الذي أحسه، لو حدثوني عن حديقة (بوبولي) أو جسر (كرايا)!!
ووراء (بونتاسياف) هذه، لستُ ألمس مدينة فلورنسا بل فيورنزا التاريخية، التي أتخيلها بتلك الحديقة (الميديسية) وقد زخرت بنساء النهضة الفاتنات. وأكاد أسمع في أعماق نفسي تلك الأنغام الشجية التي كانت تعرف بها قصائد (بوليثيان) الرائقة.
(بونتاسياف)!! أشاعر أنت بالجمال السحري الذي يغمر هذا الاسم؟ سأؤمها، سأؤمها، لأني أحبها كما يجب أن تحب، دون أن أعلم لماذا.!!
والمصادفات التي تخدم صرعى الغرام، أبت ألا تحقق أمنية عاشق (بونتاسياف) فلم تمض أسابيع، حتى اضطرته إلى الوقوف في ساحتها الكبرى (الوحيدة) أثناء سفره بالسيارة من(8/72)
فينيسيا إلى روما، لأن البنزين، كان قد نفد حتى آخر قطرة.
ذهب السائق يبحث عن القليل من هذا السائل الثمين، وأخذ (سيريني) يطوف هذه القرية، فأتم طوافها في وقت قصير.
وفي الواقع (وهذا ما يدلنا دلالة واضحة على أن أحلامنا بعيدة كل البعد عن الحقيقة!) لم تقع أبصار (سيريني) على ما يذكره بحديقة (ميدسيس) أو شعر (بوليثيان)!
وداعاً أيها الحلم المعسول! حلم (ميدسيس) وقد زخرت بحسان النهضة الفاتنات!. . . ليس في (بونتاسياف) كلها أثر للخضرة بله المروج.
وداعاً أيتها الأصداء الشجية، التي تردد أنغام قصائد (بوليثيان) الرائعة، ليس في (بونتاسياف) الغارقة في قيلولتها الصيفية غير نغمة واحدة: بكاء طفل، متواصل، ملح، مزعج يبعث على السأم والضجر، تنفجر قنابله من حانوت صغير في مؤخر قهوة القرية الحقيرة.
وهذه القهوة، دخلها (سيريني)، ليدخن بضع لفائف، ويكتب عدداً من البطاقات البريدية إلى أصدقائه، فلما أتم ذلك كان الملل قد أستبد به، واستولى ولم يرقه قط أن يبصر السائق يعود في هذه اللحظة ويداه فارغتان. إن العثور على لتر من إكسير الحياة لأسهل بكثير من إيجاد قطرة بنزين في هذه القرية المتواضعة. . .! والحاجة كالقانون، تملي إرادتها إملاء وتفرض مشيئتها فرضاً لابد من إيجاد قليل من البنزين، مهما كلف الأمر، فليعد السائق، وليبحث عن هذا السائل الثمين.
يضجر (سيريني!) فيترك سيارته تنعم في ظل بيت صغير، هو أجمل البيوت، ويخرج إلى الساحة الكبرى حيث الشمس تذهب كل ما فيها وتلهبه، ويعود بعد قليل إلى سيارته ففيها على الأقل يستطيع أن يأخذ نصيبه من الراحة، فليتمدد فيها، وليرغم نفسه على أن ترضى بما لاتريد، وليتغنى بقطعة شعرية للشاعر (بوليثيان) وليهدئ من حركاته لعل الرقاد يلبي نداءه.
وأنه لكذلك، وإذا مصراع نافذة فوق رأسه يفتح، وتطل عليه مخلوقة فاتنة. . . تقابلت نظراتهما، فأحدثت في كل منهما ما تحدثه عادة، نظرات الرجل في المرأة والمرأة في الرجل. . وأخذت العيون تبحث عن العيون من طرف خفي حتى إذا تقابلت ازورت، وإذا(8/73)
ازورت تقابلت،. . وهكذا تم التعارف بينهما ولم يشاهد أحدهما الآخر قبل هذه الساعة.
وتخاطبت الأبصار بلغة سحرية، دون أن تتظاهر بأنها تتخاطب، وتفاهمت، دون أن تتظاهر بأنها تتفاهم واليكم ما قالته عيون المرأة للشاعر:
- أنت لطيف جداً! يا سيدي! أنت شاب أنيق جذاب من طبقة يندر أن ترى في ساحة (بونتاسياف) الكبرى. . . وبعد دقائق معدودات. يا سيدي الفتان. سيوافيك الشخص الذي تنتظره ولعله امرأة جميلة ترافقك في السفر. أو تفر معك!
وإذ ذاك. يزأر محرك السيارة. حيث يلتوي الطريق ستختفي إلى الأبد. أيها الحلم الجميل! ستختفي وأنت من تلك الطبقة التي لا تتسنى لنا مشاهدتها أكثر من دقائق قليلة خلال شقائنا الدائم ونحن بنات الريف التعسات اللواتي قضي عليهن أن يخلقن في الريف، وأن يتزوجن في الريف وأن يقضين الحياة في الريف خاضعات (لأمانة) يرتضينها على غير إرادة منهن
. . . أيها الشاب الجذاب، الذي سيختفي بعد بضع دقائق! إنه ليلذ لي كثيراً، من هذه النافذة أن أتصل بك! والاتصال بك خطيئة النساء اللواتي على شاكلتي. . .!!!
وقد انبرت لحاظ الشاعر تجيبها:
- (أنت جميلة أيتها المجهولة الفاتنة! أنت جميلة بعينيك البراقتين، وشعرك المسدول! أنت جميلة بهذه الجدائل المجعدة على الطريقة القديمة، وهذا الثوب الأسود الذي ترتدينه أملس مصقول إلى درجة تسمح برؤية النقط البارزة في جسمك البض.
وهذه الدانتيلا التي تماشي هذا الصقل وتحده، في غاية الأناقة والظرف!
وهنا، في هذه النافذة التي تخفي من جسمك الغض ما تخفي، وتظهر ما تظهر، تتراءين في وسط الهالة المظلمة التي تكتنفك، في جمال تمثال، من تماثيل 1859، كأنك آلهة من آلهة العصور القديمة، بهذه الزينة التي لا يعرفها عصرنا، عصر الفساتين القصيرة، وعصر الفوكس - تروت!
لقد أضاع عصرتا ذلك الجمال البالغ!
وكم تروقين لي، أنا الشاعر المفتون، أيتها السيدة الحسناء! إنكِ لتملكين ما تجملين به (بوناسياف) أكثر من كل صورته لي مخيلتي!!(8/74)
وإن لك وأنت تتظاهرين بعدم النظر إلي، بينا أنت لا تنظرين إلا إليّ إن لكِ وأنت تتصنعين التحديق في الأفق البعيد، بينا أفقك الواسع ينحصر في المساحة الصغيرة التي تشغلها سيارتي، إن لك ابتسامة حزينة تفتر عنها شفتاك الرقيقتان اللتان لم تشعرا بلذعة القبل الملتهبة ولم تتمتما بالجمل المغرية!
أيتها الريفية الحزينة التي زوجت منذ عشرة أعوام بمن لا تريد: بشيخ البلد! بالطيب! بكاتب العدل! - أيتها المرأة الشقية التي ترتضي أن تقضى في هذا المنزل قبل أن تعرف الحياة، والتي ترتضي أن تخنق في مهدها الأحلام المعسولة التي يسرح في عوالمها قلبها الخفاق، وتحلق في أجوائها مخيلتها الوثابة، بعد أن رضعت الخيال من القصص والروايات.
أيتها الريفية الحزينة، التي تستطيع أن تجد الحب في جميع الكتب، ولا تتصور أنها تستطيع أن تجده في غير المدن! أيتها الريفية الحزينة التي تتحسر على ألا تفهم من الحياة غير واجبات الزوجية، وعواطف الأمومة والتي تتحدد آمالها كل يوم، وفي مثل هذه الساعة. عند غروب الشمس!
أيتها الريفية الحزينة التي تبحث من فتحة هذه النافذة عن قليل من الهواء، وقليل من الفضاء، وعن قطعة من السماء، تبصر فيها النجم يشعل زهرته المتلألئة!
أي مدام (بوفاري) أي حرقة تعتلج في صدرك عندما تدركين أن الأسفار الجميلة التي تحلمين بها، لن تتحقق منها غير هذه الوقفة الكئيبة التي تقفينها كل يوم، عند هذه النافذة! أي مدام (بوفاري) (بونتاسياف)! ما أروع حب الاستطلاع الذي تنم عنه عيناك! عيناك اللتان تنظران إلي، دون أن تتظاهرا بالنظر إلي! عيناك اللتان تتكلفان البحث في البعد عما لا أدري وهما لا تبحثان في الحقيقة إلا عني، أنا الجالس في هذه السيارة التي جاءت من حيث لا تدرين، والتي تتأهب لان تذهب
إلى حيث لا تدرين! أه! لو كان يستطيع رجل مثلي أن يقف هنا، أو لو كنت تستطيعين أن تنزلي إليه وتركبي إلى جانبه في هذه السيارة وأن تختفي معه هنالك حيث يلتوي الطريق عند تلك النقطة التي تمثل حد العالم الذي أذن لك أن تعرفيه حتى اليوم!
آه لو كنت تستطيعين أن تذهبي معه. وألا تعودي بعد اليوم. . . . . .!(8/75)
(2)
هكذا تناجت منهما العيون، وقد طالت بينهما المناجاة لأن البنزين كان ما يبرح صعباً إيجاده، حتى في ضواحي (بونتاسياف)، وسيريني الذي بلغ من الشهرة حداً قصياً، واعتاد أن يعرفه الناس في كل مكان، طفق يحدث نفسه يقول: لا شك إنها عرفتني، لأن رسمي كثيراً ما ينشر في الصحف والمجلات، وهذه نظراتها التي لا ترفعها عني تدل بوضوح على إنها تعرف من أنا!. . وهي مهما كانت (بوفارية) لا يمكن أن تنظر بهذا الشكل إلى رجل عادي، يمر في طريقه بنافذتها!
ولا بد أن تكون قرأت لي، وقرأت لي كثيراً لأن ساعات الفراغ في الريف أطول منها في المدن، وإذن فللنساء وقت كاف فوق الكفاية، لأن يلتهمن الكتب مكاتب، مكاتب!! وما دامت فلورانسا على قيد خطوتين من (بونتاسياف) فمما لا ريب فيه إنها ذهبت إلى مسارح التمثيل وأبصرت بعض رواياتي تمثل فيها، وربما رأتني عندما يستدعيني المتفرجون إلى المسرح لأحييه ويحيني بين عاصفة من التصفيق والهتاف!. وفي هذه اللحظة ظهرت في النافذة امرأة مسنة، أحاطت بوجهها هالة من الشعر الأبيض. فنظر إليها (مارك سيريني) وأستأنف حديثه مع نفسه: من المؤكد إن هذه المرأة أمها فهي تشبهها كل الشبه، وهذه أبنتها تسر في أذنها وأني واثق إنها تقول لها: (أترين هذا الرجل هو مارك سيريني) الكاتب المسرحي الشهير!!. . أجل، لاشك إنها قالت لها ذلك أو شيئاً يماثله، لأن الأم أيضاً أخذت تنظر إلي ولا ترفع بصرها عني!! انظرا إلي!. . انظرا إلي!. . أيتها السيدتان العزيزتان ترى هل أروق في أنظاركما؟
انظرا إلي ولا تغضا الطرف عني حياء (وخجلا) فقد فرض على أصحاب الشهرة أن يمتع الناس أنظارهم بهم!!
اختفت الأم، ولكنها لم تلبث أن عادت، وفي يدها مجلة عرف من جلدها الأزرق إنها مجلة (ألالليستراسيون) وفتحت الأم المجلة على حافة النافذة وأشارت بيدها إلى صفحة فيها، تلفت أنظار أبنتها إليها، ثم عادت إلى التحديق في الشاعر: (لاشك إنهما تقابلان بين رسمي المنشور في المجلة وبين وجهي. . . أجل أيتها السيدتان أنا هو (مارك سيريني) لحماً ودماً. . أنا هو (مارك سيريني) الذي لم يك ليخطر له أن من الممكن أن تضطره(8/76)
المصادفات للوقوف في (بونتاسياف). . . أنا هو (مارك سيريني) الذي سيرحل بعد قليل، ولكن بعد أن يكون قد ترك قلبه في هذه النافذة، لأنه شاعر، والشاعر مجنون، وهو هو هذا الجنون الذي أطبق عليه، وجعله مفتوناً بك أيتها المجهولة المغرية، إلى حد الوله!!.
وله؟. . . وأكثر من ذلك أيضاً!
هكذا في طرفة عين؟. . هكذا في طرفة عين!
ولقد استحال عدم اصطباره إلى شيء آخر، حتى إنه لم يستطع أن يخفي استياءه، عندما أبصر السائق يعود بعد أفول الشمس، وفي يده وعاء فيه قليل من البنزين، حصل عليه بأعجوبة من سائق أستوقفه على قارعة الطريق.
وأخذ (سيريني) يحدث نفسه: (لماذا وجدت البنزين أيها الأبله!. ألم تحدثك نفسك أن سيدك أمسى لا يرغب في الابتعاد عن هذا المكان؟ وإنه هنا وتحت هذه النافذة يمتع نفسه بالنظر إلى عيون حسناء مغرية؟ لقد كان خيراً له أن تعود فارغ اليدين ما دام قلبه قد امتلأ!!).
ولكن السائق الذي لم يك نبيا ولا يمت إلى نبي بصلة النبوة ولا صاحب كرامة تسمح له أن يشعر من مسافة ثلاثة كيلومترات أن سيده صار فجأة لا يرغب في البنزين لم يفهم التأنيب الخفي الذي يسدده إليه سيده لأنه بذل أكثر مما في وسعه حتى حصل على الوسيلة التي ستمكنه ان يرقد براحة وهدوء في سريره الوثير بروما!
علام هذا الصمت. . .؟ ما باله لا يتكلم والشمس توارت، والليل جن؟
أشعل الضوء في غرفة المجهولة الحسناء، فلم يعد في الإمكان تمييز وجهها الجذاب وعينيها الدعجاوين وغدا شبحها يتراءى أغبر قاتما وهذا الشبح لم يك أقل جمالا من وجهها وعينيها فهذا رأسها قد اتكأ على ساعديها بهيئة جميلة.
تهيأ كل شيء وأشعلت الفنارات!. . . فوا أسفاه على الزمن الماضي زمن الفنارات التي تضاء بالاسبتلين! ذلك الزمن الذي كان يضيع الإنسان فيه وقتاً طويلا ليجد ما يلزمه من ماء وكارببر! فلا يحصل على ما يريد إلا بعد الغضب والصخب. . ولكن المرء إذا كان عاشقا ولا سيما إذا كان يرغب عن السفر فان الفنارات القديمة تستطيع أن تؤدي له خدمات عظيمة.
وداعا أيها الحلم المعسول!(8/77)
أخذت السيارة تجأر وأخذت تعدو وأخذت تبتعد وما زالت تجأر وتعدو وتبتعد حتى اختفت عند النقطة التي يلتوي فيها الطريق.
ترى هل يعود إلى (بونتاسياف)؟
فابتسم (سيريني). . . لن يعدم سبباً للعودة. . .
(3)
لم يعد في الحال، ولكنه عاد!!!
كان للشاعر في أحد أدراج مكتبه بروما رواية لم يتم منها إلا بضعة مشاهد. وهو مؤلف نشيط خصب الإنتاج سريع العمل إلى حد يفوق التصور. ولا شك ان هذه الصفات تبلغ حدها الأسمى إذا كان الحب يلهب منه الدماء ويسعر في قلبه الضرام. . .
وكان إذا اخذوا عليه حبه، لا يتردد في الإجابة: (يخفف المغرمون عن أنفسهم بالتنهد، أما أنا فبالكتابة!. . أحصوا أحصوا رواياتي تجدوا كل رواية بامرأة. . .)
ولما لم يكن للرواية الأخيرة امرأة. فإن تقدمها كان بطيئا جداً. . . أما الآن وقد غدا وجه تلك الريفية الحسناء لا يفارق مخيلته فإن الشاعر اكتشف الينبوع الذي يستمد منه وحيه وإلهامه، وفي وقت أقل من القليل، أتم الرواية، ونقلها وقرأها لأصدقائه المخلصين. وراحت الصحف، تعلن عنها بحروف بارزة، أنها اعظم حادث مسرحي، لذلك الموسم.
وما كاد يذاع هذا النبأ الخطير، حتى هرع إلى (سيريني) عدد كبير من رؤساء فرق التمثيل، وعرضوا عليه مسارح روما، وميلانو وتوران ونابل لتقوم أشهر الفرق بتمثيلها للمرة الأولى. وكان بين المتسابقين ممثل فرنسي شهير، حاول ان يحتكر تمثيل هذه الرواية الرائعة لفرقته، ولم يطلب لذلك أكثر من المدة التي تكفي للترجمة، وقد بذل جهوداً عظيمة لينيل باريس شرف تمثيلها لأول مرة، ولكنه لم يفلح.
وتقدم رؤساء آخرون يعرضون مسارح برلين وفينا ولندن لأن (سيريني) كانت له شهرة اوربية لا تقف عند حد، وقد سرت عدوى هذه الحميا إلى إحدى صاحبات العروش، فأسرعت إلى عرض مسرح البلاط الملكي!
أما الشاعر فقد كان يلازم الصمت، ولا يجيب بحرف، وكل ما فعله أنه أوعز إلى سكرتيره الخاص بتسجيل أسماء المدن التي تعرض عليه. وتجمع عليه أصدقاؤه وألحفوا عليه في(8/78)
السؤال:
- أي المدن اخترت؟. . روما؟ ميلانو؟ فلورنسا؟ توران؟ نابلي؟
كان (سيريني) لا ينبس ببنت شفة، وإنما كان يجيبهم بهزة رأس تدل على النفي كل الدلالة!
- إذن. هل اخترت مدينة أجنبية؟ باريس؟ برلين؟ فينا؟ لندن.
ولكن الشاعر لبث صامتا، رأسه وحده كان يتكلم!
- فانفجر أحد أصدقائه وقال: إذن. . إذن أين؟؟
- هل اخترت مسرح (الماريونيت)؟. . مسرح (الفينيول)؟
أخذ (سيريني) يبتسم بوداعة وسكينة. . وأخيراً أجاب:
- ستمثل روايتي لأول مرة في (بونتاسياف)!!
في (بونتاسياف)؟؟
دهش الجميع، وطفقوا يحتجون في غير هدوء ولا سكون، أما (سيريني) فانه لبث يبتسم ابتسامته الغامضة ويعيد في غير ملل:
- قلت لكم في (بونتاسياف)!!!. . . كفى!!!
ولم يستطع أحد بعد ذلك أن يستدرجه إلى قول جملة غير هذا، فتسارع أصحاب المسارح ورؤساء الفرق والممثلون وسفراء الملكات إلى داره ليروا: أمازح هو أم جاد؟ أم اعتراه جنون مزاح؟. . . كلا!. . إن (سيريني) وهو جالس إلى منضدته يعيد بدون ملل: (ستمثل روايتي لأول مرة في بونتاسياف)! وقد زاد على ما تقدم: (هاهي مستريحة في هذا الدرج، على غاية ما ترون من الصحة، ولم يصف لها أي طبيب تبديل الهواء اللهم إلا إذا كان هواء بونتاسياف).
فأخذ بعضهم ينظر في وجوه بعض والدهشة ترفع من عيونهم الحواجب، وتقطب الجبهات، وشرعوا يتساءلون عن سبب هذا العناد، فاختلفت آراؤهم وتضاربت، ولكن أحداً منهم لم يستطع إدراك الحقيقة.
وقد أسرع رؤساء شركات التمثيل بالرجوع إلى القطار لأنه لم يك بينهم من يفكر في (بونتاسياف) عادوا مخفقين وأكثرهم كان قد تعاقد سلفاً على تمثيلها في أشهر المدن وأكبر(8/79)
العواصم! ولكن تمثيل رواية جديدة، للمؤلف المسرحي الشهير (مارك سيريني) عملية رابحة، تدر الذهب الكثير فهل يتركها الجميع؟ كلا لقد قبل أحدهم (وكان أمريكياً) أن يمثلها لأول مرة في (بونتاسياف) لأنه بحساب أمريكي، رأى أن هذه العملية ستدر عليه أرباحاً أمريكية أيضاً. . وهكذا تعاقد مع المؤلف ووقع الاتفاق، ولما كانت شركات التمثيل المنظمة لا تستطيع أن تذهب بممثليها إلى (بونتاسياف) حيث لا عمل لهم، فقد وعد أن يهيئ في ثمانية أيام، فرقة خاصة لتقوم بتمثيلها ثلاث ليال متواليات. . . وبعد ستة شهور يمنح امتياز الرواية للفرق العادية لتمثلها في كبريات المدن وأمهات العواصم.
حلب. إيزاك شموش(8/80)
الكتب
آراء بعض المستشرقين في الشاهنامة
الشاهنامة هي الملحمة الفارسية التي نظمها الفردوسي في تاريخ ملوك الفرس من بداية تاريخهم إلى عهد بني ساسان زمن الفتح الإسلامي، فبلغت 60 ألف بيت نقلها إلى العربية نثراً الفتح بن علي البنداري من أدباء القرن السابع الهجري وظلت هذه الترجمة سراً في ضمير الزمان حتى كشفها الدكتور عبد الوهاب عزام فقارنها بالأصل الفارسي وأكمل ترجمتها في مواضع، ثم صححها وعلق عليها وقدم لها مقدمة جامعة في مائة صفحة من القطع الكبير فدل بذلك على سعة اطلاع وفضيلة صبر لا يؤتاها إلا القليلون من أبطال العلم وجنود المعرفة. وإليك نبذاً مما أرسله إليه المستشرقون تقديراً لجهده وتنويهاً بفضله.
وقال الأستاذ نيكلسون أستاذ الأدب الفارسي بجامعة كمبردج ما ترجمته:
(أهنئكم على الطريقة الجديرة بالإعجاب التي أخرجتم بها هذا الكتاب الكبير الذي لابد له من بحث طويل وجهد كبير. وإذا اعتبرناه ضخامة الكتاب تبين الجهد الخارق للعادة الذي بذلتموه لإخراجه في هذا الزمن القصير)
وقال الأستاذ جيب أستاذ الأدب العربي بجامعة لندن ما يأتي بنصه العربي:
(هذا وقد اغتنمت أول فرصة لأتصفح هذا الكتاب الضخم وأستفيد بمجهوداتكم العظيمة في نشره والتعليق على متنه ولابد من الاعتراف بتعجبي من أتساع هذا العمل الذي قد تكفلتم به وبإتمامه وبإعجابي بحسن نجاحكم في ذلك ولاسيما بالمدخل الممتع الذي قدمتموه لمتنه).
وقال الدكتور ريتر وكيل جمعية العلوم الألمانية بإستانبول ما يأتي بنصه العربي:
(وقد وصل خطابكم في الشاهنامة فإنه لا يفارقني من أسابيع وهو والله كتاب تعجبت منه وأعجبت به. انتقدته فوجدته ذهباً إبريزاً. وأنا والله شديد في الانتقاد. قد أخذت من طريقة العلم الأورباوي صحيحها واجتنبت سقيمها وصرت لنا أخاً في العلم بل أستاذاً فيه. ولو ذكرت فضائل كتابك بالتفصيل لصار هذا المكتوب كتاباً آخر طويلا. ومما سرني خاصة معالجتكم المسائل المتعلقة بتحقيق المتن والحكم في الأصول المختلفة والتفريق بين أنواع التعاليق. فإن ذلك شيء يهمله كثير من المستشرقين. ثم البحث في مسألة التراجم القديمة للخداينامة وغير ذلك مما يدل على دقة نظركم والاعتناء في البحث وترك إدعاء شيء(8/81)
بدون دليل واضح وبرهان مقنع ثم طريقتكم في توضيح الكتاب بعضه ببعض، والاعتناء بذكر الكتب المقتبس منها، وترتيب الفهارس المفيدة. كل ذلك مما يسر عين الناظر في كتابكم.)(8/82)
جولة في ربوع أفريقيا
رد على مقال
أشكر للأخ الفاضل الدكتور محمد عوض حسن تقديره وجميل عطفه وتشجيعه وآسف جد الأسف لأني لم أوفق لكتابة جولتي بحيث تصادف هوى في نفسه فهو (كما خيل إلي) كان يريدها قصة تنقل عن يومياتي دون أن تغفل حتى أجور السفر وأماكن المبيت ومواقيت الارتحال والإقامة في كل بلد حللته وما إلى ذلك من التفاصيل التي لا شأن لها في نظري ولو فعلت ذلك لأخرجت دليلاً هو إلى كتب السياحة (أمثال بدكر) أقرب ولأغفلت غرضاً أنا شديد التمسك به في جولاتي كلها، وهو أن أثير الناحية العلمية والجغرافية كلما أتاحت لي مناسبات الرحلة ذلك.
ويأخذ الأستاذ علي أني تكلمت عن أماكن لم أطرقها وقصصت عن شعوب لم ألقها وضرب لنا مثلا، بلاد الكنغو وروديسيا وشعوب الشلوك. وأنا لم أكتب عن تلك البلاد إلا بمناسبة ما شاهدته من غلاتها التي كانت توسق في ميناء بيرا البرتغالية طيلة إقامتي بها وهي المنفذ الرئيسي لمنتجات بلاد روديسيا والكنغو. أما عن شعوب الشلوك فأني لاقيتهم مراراً وحققت بعض ما أعلمه عن سيرتهم وبخاصة في الملاكل من أعالي النيل الأبيض.
ويرى الأستاذ أن بعض النقص الذي نسبه إلى الكتاب راجع إلى إغفالي كتابة مذكرات يومية. مع أن هذا ما أفعله دائماً ولم أتهاون فيه ليلة واحدة في جميع جولاتي الإفريقية والآسيوية والأوربية غير أني لا أنشر من تلك المشاهدات إلا ما أراه ضرورياً وما تسمح به ظروف النشر.
ولو أراد الدكتور بصفة خاصة أن يطلع على يومياتي لوجدها طوع أمره. أما عن الهفوات التي أشار الأستاذ اليها فها أنا أبين ما عن لي فيها:
يقول الدكتور إن كلمة شيبا الإنجليزية هي سبأ العربية. وأظن إن هذا عين ما قلته فذكرته كلمة (شيبا) بين قوسين بعد ذكر كلمة سبأ العربية.
وهو ينبهني إلى أن نهر النيل (لم يصبح أعظم أنهار الدنيا وهناك ما هو أطول منه وأوفر ماء) وأنا لم أتعرض لطول النهر ومائه. ولا أزال على رأيي في أن النيل أعظم أنهار الدنيا على الأقل من وجهة نظري كمصري وحق لنا جميعاً تمجيده والإشادة بذكره(8/83)
وعظمته. ومتى كانت عظمة الأنهار يا صديقي مقصورة على أطوالها ومقادير مائها؟
ويقول الأستاذ إن غابات أثوري في غرب جبال رونزوري فلا أستطيع أن أراها من فورت بورتال وأنا لم أقل في كتابي إني رأيتها. هذا فضلا عن إن أهل البلاد كانوا يشيرون اليها من فورت بورتال، وهم يطلقون عليها هذا الاسم على رغم ما أعلمه أنا وأنت من أن أكثفها حقاً ما كان على الجانب الغربي.
كذلكلم أقل قط يا سيدي الدكتور بأن للغوريلا ذنباً وذلك أمر يعرفه حتى صغار الطلبة، ولكني ذكرتها في مقام التشبيه إذ قلت إن الواحد من الزنوج يبدو كأنه الغوريلا أو القرد الكبير. فالذؤابة التي تتدلى من أعجاز القوم تشبه ذنب القرد ومظهرهم العام يحاكي الغوريلا.
أما قطن الجزيرة فغلة شتوية وقد كنت هناك في أواخر سبتمبر ولم يكن القوم قد بدءوا زراعته بعد. وهو يجنى في أوائل الربيع كما قلت غير أن تحديد الشهور بالضبط أمر غير ميسور، فنحن هنا في مصر مثلاً لا نبدأ زراعة القطن في شهر واحد في كل البلاد ولا في كل السنين فقد يتراوح البدء بين شهر وشهرين.
وقبل أن أختتم كلمتي أكرر للأخ الفاضل عظيم شكري وكبير إجلالي واحترامي.
محمد ثابت
حول قصة مصرية
قرأت في العدد السابع من مجلة الرسالة الغراء قصة مصرية بعنوان (حكمت المحكمة) لكاتبها (السيد أبو النجا).
وهذه القصة مصرية حقاً لأنها تصف ناحية من الحياة الاجتماعية المصرية في الريف. ولكنها من الوجهة الفنية قد شابها عيب جوهري أفقدها روعتها وأضعف عنصر الحياة فيها فالقصة كما كتبها صاحبها لم تحرج عن إنها قشور للقصة الحقيقية التي كان يجب أن تظهر على سواها وتكشف عن العوامل التي أدت إلى هذه المأساة.
أما خطة القصة الحقيقية التي كان يجب أن تكون فتتلخص في ما يأتي: -
1 - كيف اتصل إبراهيم أفندي بابنة الأعرابي؟(8/84)
2 - كيف كانت العلاقة بينهما؟
3 - كيف ظهرت هذه العلاقة وعرفها والد الفتاة. هذه هي العناصر التي كان يجب أن تظهر في القصة. ومع شيءمن التحليل يبين أثر العواطف والمشاعر، ويكشف عن المحاولات التي بذلها إبراهيم أفندي في الوصول إلى غايته.
وقد كان من الطبيعي وقد خلت القصة من هذا العنصر الأساسي أن يلجأ واضعها إلى (الحوادث) فيسردها سرداً كأنها خبر من أخبار الصحف اليومية.(8/85)
العدد 9 - بتاريخ: 15 - 05 - 1933(/)
شروح وحواشي
في المرأة أيضا
كتبنا في العدد السابع كلمة عن العيد جاء فيها أن غياب المرأة عن المجتمع الإنساني جر عليه فيما جر الجفاء والجفاف والسآمة والفوضى. فوقع هذا القول من الجنسين البارز والمستتر موقع التسليم والرضا. ولكن قليلا من صالحي الإخوان لا يزالون يرون إقصاء المرأة عن الحياة العامة أمراً من أوامر الدين، وقاعدة من قواعد الخلق، فكتبوا إلينا وإلى بعض الصحف يفندون هذا الرأي بحجج انتزعوها من أحاديث الظنون، وهواجس الخوف، ومواضعات العرف.
أما صلة الحجاب بالدين فقد فرغ من توهينها العلماء من أمد طويل. وشديد على العقل أن يسلم بأن البدويات والقرويات ومعظم الحضريات (ومجموعهن يربى على تسعين في كل مائة من جميع المسلمات) قد تعدين بسفورهن حدود الله منذ ظهر الاسلام، ولم يأخذ على أيديهن إمام ولا حاكم حتى اليوم.
وأما الاعتقاد بأن احتجاب المرأة هو الضمان الوحيد لحصانتها وعفتها فذلك إفلاس للتربية، وسوء ظن بالدين، وإلقاء بالنفس إلى الرذيلة!
فلو أن الفتاة وهي صغيرة فتحت عينها على القدوة الحسنة، وأذنها لصوت الواجب، وقلبها لنور الله لوجدت من روحها القوى وضميرها النقي وزرا من الفتنة وعصمة من الغواية.
فالتربية الصحيحة إذن هي الضمان الذي لا يضر معه سفور، ولا ينفع بدونه حجاب، وهي وحدها السبيل المأمونة إلى الغاية التي قصدناها من تلك الكلمة، ولا زلنا نعتقد اعتقادا لا ظل عليه للريب أن غاية الكمال الاجتماعي أن يكون الرجل في كفة والمرأة في كفة من ميزان المجتمع، وتلك هي السنة التي فطرنا عليها الله، والنظام الذي فرضته علينا الطبيعة، والواجب الذي يتطلبه العدل، أما المجتمع الأعرج الأشل البليد الخشن، فغير جدير بالسباق ولا باللحاق في هذا العصر الطموح الطائر، ومجتمعنا بغير المرأة هو ذلك المجتمع: فهو اعرج لأنه يمشي على رجل واحدة، أشل لأنه يعمل بيد واحدة، بليد لأن حدة العواطف تنقصه. خشن لأن لطافة الأنوثة تعوزه.
لاحظ مجلسا من مجالسنا احتشدت فيه الرجال شبابا وشيبا فماذا تجد؟ تجد الحركات(9/1)
العنيفة، والأصوات الناشزة، والمناقشات الفجة، والأحاديث الجريئة، والكلمات المندية، والذوق العامي، والإحساس البطيء!
لاحظ هذا المجلس نفسه وقد حضرته امرأة (امرأة واحدة ليس غير) تجد الحركات تتزن، والأصوات ترق، والمناقشات تنتج، والأحاديث تحتشم، والكلمات تنتقى، والذوق يسمو، والإحساس يدق، ذلك لأن الرجل حريص بطبعه على أن يجمل سمته في عين المرأة، ويحسن صوته في أذن المرأة، ويسوغ رأيه في عقل المرأة، والأخلاق المكتسبة تبتدئ بالتطبع وتنتهي إلى الطبع.
جهل الأولون وظيفة المرأة فلم يعرفوها إلا متاعا وزينة، لذلك اشتد تنافسهم فيها وتنازعهم عليها واستئثارهم بها حتى ضربوا دونها الحجب، وأحصوا عليها الأنفاس، وبثوا حولها العيون، فجعلوها بذلك قينة لا شريكة، ومملوكة لا مليكة، وكان من جريرة ذلك عليها أن وهن جسمها لقلة العمل، وساء خلقها لفقد الحرية، وضعف تفكيرها لترك التدبير، وغفل ضميرها لعدم المسئولية، فلم تفكر إلا في حللها وحليها، ومدافعة الضرائر والجواري عن نصيبها من زوجها. . . لقد كان للأسلاف ولا شك عذر في إقصاء المرأة عن مكانها من المجتمع وخير أعذارهم انهم كانوا ينظرون إلى المرأة نظرهم إلى الكنز الثمين،. وكان من عادتهم في الكنوز أن يدفنوها في الأرض أو يحفظوها في الخزائن. ذلك إلى أن عمرانهم لم يكن من السعة والتعقد بحيث يطلب نشاط الجنسين جميعا، فحملَ الرجال وحدهم أعباءه وقالوا:
كتب الموت والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
أما نحن فبأي عذر نعتذر وعلى أي حجة نعتمد؟ إن الأمم الراقية التي نعاصرها ونصارعها لم تزل تنظر إلى المرأة نظر الأسلاف إليها، ولكنها عرفت كيف تحتفظ بالكنوز وتستفيد منها، فهي تعرضها اليوم في المتاحف أداة علم ومتعة، وفي المصارف رأس مال وقوة. وعمراننا قد زخر واستبحر حتى اعتدى فيه العمل على الراحة، والتنافس على العدل، والقوة على الحق، وتسلح الغربي في جهاد الحياة بقوى الطبيعة في السماء والأرض، ونحن ما زال نصفنا اللطيف قاعداً عن الإنتاج عاطلا من العمل.
أنا لا أريد أن ندفع بفتاتنا في أتون الحياة المستعر فتحمل الفأس، وترفع المطرقة، وتقعد(9/2)
للبيع، وتجلس للحكم، إنما أريد أن تعطى حريتها الطبيعية في حدود عملها الطبيعي، وأن تعلك كيف تساهم في شركة الزوجية، فتربي الولد، وتدبر البيت، وتدير الأسرة، وتعدل ميزانية الرجل، وتشعر أنها تعمل متضامنة مع بنات جنسها وبني قومها لتكوين أمة متماسكة الأجزاء وثيقة البناء لا ينال من وحدتها شهوة من هوى، ولا نزوة من جهل.
ذلك ما قصدنا إليه في تلك الكلمة الموجزة بسطناه اليوم بعض البسط لعل فيه جلاء لما اختلج في بعض النفوس من هذا الموضوع.
لعل في الثرثرة فائدة!
تريد (العاصفة) البيروتية أن تضع الموازين القسط للأدباء، فتقول فلان أحسن وفلان أساء، وهي لم توفق إلى إدراك الغرض القريب من الكلمة الواضحة التي وجهناها في عددنا الماضي إليها!! فقد قلنا لها ما خلاصته (أن محاولة التفريق بين أدباء العرب طيش ورعونة، وان التعصب للبلد كالتعصب للقبيلة نزعة بدوية ونغمة مملولة) ففهمت من ذلك أن الرسالة تقول: (. . . إن الإشادة بفضل أدباء سورية ولبنان على النهضة الأدبية في مصر ضرب من الطيش، وإن الإيجاز في الكلام نعرة بدوية ونغمة مملولة)
فإذا كان هذا مبلغ فهم العاصفة للكلام، فقد أخطأنا حين مضضناها بالملام، فان اللوم على العجز ظلم، والمناقشة مع الخبث مهاترة!
أحمد حسَن الزيات(9/3)
أدب القوة وأدب الضعف
للأستاذ أحمد أمين
يروون أن جماعة من آل الزبير كانوا يجتمعون إلى مغنية فيسمعون ويطربون. حتى إذا استخف الطرب أحدهم (وهو عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير) قال فيها:
أحلف بالله يميناً ومن ... يحلف بالله فقد أخلصا
لو أنها تدعو إلى بيعة ... بايعتها ثم شققت العصا
فبلغت هذه الأبيات أبا جعفر المنصور فدعاه إليه وعنفه على قوله، وعيّره بضعف آل الزبير من هذه الناحية إلى أن قال له (حتى صرت أنت آخر الحمقى تبايع المغنيات، فدونكم يا آل الزبير وهذا المرتع الوخيم!)
وسخر المنصور من هذا الضرب من القول. وهذا النوع من الحياة، وقال إنما يعجبني أن يحدى لي بهذه الأبيات:
إن قناتي لنبع لا يؤيسها ... غمز الثقاف ولا دهن ولا نار
متى أجر خائفاً تأمن مسارحه ... وإن أخف آمناً تقلق به الدار
هذه القصة تمثل نوعين من الأدب: فنوع يصح أن تسميه أدبا رقيقاً، وإن كنت أشد صراحة فسمه أدبا ضعيفاً أو أدبا (مائعاً) كما يصح أن تسمي النوع الثاني أدبا قويا أو أدبا رصيناً.
ولست أعني بالضعف أو القوة ضعف الأدب أو قوته من الناحية الفنية، وإنما أعني ضعفه وقوته من الناحية الخلقية والاجتماعية، فقد يكون هذا النوع الذي أسميه ضعيفاً أو مائعاً في منتهى الرقي من الناحية الفنية، كما قد يكون الأدب القوي ليس قويا بالمقياس الفني.
وهذه القصة تمثل لنا أيضاً أن الأدب المائع والقوي أثر من آثار الحوادث والظروف، فقد فشل آل الزبير سياسياً ولم تتحقق مطامعهم. فاستولى عليهم اليأس وانصرفوا إلى اللهو وانسوا بالسماع وما إليه واحتقروا الخلافة حتى ليهمون أن يبايعوا جارية مغنية، ويحدث عبد الله بن مصعب هذا عن نفسه فيقول: إذا غنتني هذه الجارية.
حسبت أني مالك جالس ... حفت به الأملاك والموكب(9/4)
فلا أبالي واله الورى ... أشرق العالم أم غربوا
أما المنصور فنجح وأسس ملكا ضخما، ووصل إلى هذا النجاح بقوته وحزمه، لذلك كان أحب شعر إليه شعر القوة والعظمة والحمية.
يخيل إلي إنا إذا ألقينا نظرة عامة على الأدب العربي من هذه الناحية رأينا الأدب الجاهلي قويا (كجلمود صخر حطه السيل من عل) حماسة قوية، وفخر قوي، بل وغزل قوي، والأدب الإسلامي إلى آخر العهد الأموي، أدب قوي، فيه عزة الفاتح، وإعجاب الناجح، ونشوة المنتصر، وإن كان فيه نغمات ضعف فنغمات الحزب الذي غلب على أمره، أو المحب الذي يئس في حبه، أما من عدا هؤلاء ففخر وإعجاب، وهجاء في أعلى درجات القوة.
فإذا نحن انتقلنا إلى العصر العباسي رأينا العزة العربية تأخذ في الضعف، ورأينا الانهماك في اللهو يبعث أدباً جميلا في فنه، ضعيفاً في روحه، فيقول رئيس المجددين في عصره بشار بن برد:
قد عشت بين الريحان والراح وال ... مزهر في ظل مجلس حسن
وقد ملأت البلاد ما بين قغفو ... ر إلى القيروان فاليمن
شعرا تصلى له العوانق وال ... ثيب صلاة الغواة للوثن
وتوالت النكبات على الشرق من ظلم وجور وسوء في كل نظم الحياة الاجتماعية فكان الأدب العربي ظلاً لهذه الحياة (كان أدبا ضعيفاً)، إن أنت حصرته وجدته بين باك على مصائب الدهر كأبي العلاء، ومادح للولاة والأمراء والأغنياء. ومستهتر يصف استهتاره وصفاً أنيقاً بديعاً يرضي الفن ولا يرضي الروح، وما اخترع من الفنون كان من هذا الضرب، مقامات للبديع والحريري بنيت على التسول والاستجداء، وإفراط في المجون، أو إفراط في التصوف، وكلاهما فرار من حياة الجد والنثر حمل كل أنواع الزينة من سجع وبديع، فكان كالفتاة تسرف في التجمل الصناعي لما شعرت بنقصان جمالها الطبيعي.
ولم يظفر العالم العربي من العهد العباسي إلا بأفراد قلائل منحوا من القوة في أدبهم ما كان موضع الإعجاب كالمتنبي والبارودي، وكلاهما كانت قوته صدى لحياته، فالمتنبي فارس شجاع كان في أكثر شعره يسجل وقائع سيف الدولة مع الروم، ويدوّن مظاهر القوة(9/5)
والفروسية، والبارودي كذلك رب سيف وقلم، فكان قلمه مسجلا لآثار سيفه، وقليل كان أمثال هؤلاء. وإلا فخبرني عن شعر البطولة والفروسية والحياة والقوة بعد، وأين الشعر الغنائي الذي صدر عن شعور بالعزة القومية في الأدب العربي؟ أليس عجيباً أن نرى شعر البهاء زهير وقد كان في أسمى منصب من مناصب الدولة وكان مشرفاً على الحروب الصليبية ومساهماً في تدبير شئونها لا يذكر لنا في شعره شيئاً من أغاني الفروسية، ثم ينصرف بكله إلى الغزل المائع. على حين أن الصليبيين خلفوا لقومهم أغاني وأشعاراً صليبية قوية، ولم يخلف لنا الأدب العربي في هذا الباب الا ما كان تافهاً ضعيفاً، لعل السبب في هذا ان المسلمين كان موقفهم في هذا موقف دفاع لا هجوم (وما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا).
وبعد، فكل عاطفة من عواطف الإنسان (على كثرتها وتعددها) موضوع للأدب، وخير الأدب ما انبعث عن عاطفة صحيحة لا مريضة، فالشعر المتناهي في وصف ما يلاقي المحب من عذاب والذي يذوب رقة وحناناً ليس (في نظري) مؤسساً على عاطفة صحيحة كالذي في شعر العباس بن الأحنف وأمثاله، وهذا الشعر وإن أرضى الجمهور ولذ لهم هو في كثير من الأحيان أجوف، وهو في كثير من الأحيان نتاج عاطفة مريضة. وليس من الحق أن يبيع الإنسان عواطفه بهذه السهولة (والشاعر المجيد) هو الذي يثير العواطف بقدر، ويبنيها على أساس عميق، أما إن هو تغالى في ذلك وأثار عواطف حادة لأسباب واهية كان أدبه أدباً خفيفاً ضعيف القيمة مهما استلذه الناس وأعجبوا به.
هناك عواطف حنان، وعواطف إجلال. وعواطف جمال وعواطف قوة، وهناك ما يثير البطولة، وما يدفع إلى المجد، وما يدفع إلى اللهو، وكلها صالحة للأدب، وكلها في نظر الأدب سواء وان اختلفت قيمتها في نظر الأخلاق، ونظر دعاة الاصلاح، فالأخلاقي يرى أن الأدب الذي يثير لذة حسية أقل رقياً من أدب يثير شعوراً أخلاقياً كالإعجاب بالبطولة، واحتمال الآلام في سبيل أعمال جليلة، وأرقى الأدب في نظرنا ما أحيا الضمير وزاد حياة الناس قوة.
وأغرب ما في الأمر أن أدبائنا الذين انتفعوا بالأدب الغربي وعملوا على نقله إلى الأدب العربي أفرطوا في نقل هذا النوع من الأدب المائع وفرطوا في نقل الأدب القوي، وسبب(9/6)
ذلك أنهم جاروا ميول الجمهور وسايروا رغباته فكانوا تجاراً أكثر منهم قادة، والجمهور إنما استلذ هذا النوع لأنه من قديم ألف البكاء، وكانت حالته الاجتماعية تدعو اليه، ولأنه ترك جده على كاهل غيره ففرغ للهو.
وكان هذا النوع من الأدب أضر بالشرقي من ضرره بالغربي، لأن الغربي عنده بجانب هذا الأدب الضعيف أدب آخر قوي، فإذا بعث الأول حناناً ورقة، بعث الآخر قوة وجلداً، فتعادلت حياته وتغذت نواحي عواطفه. أما الشرقي فليس له تراث حاضر من أدب قوي يسند ضعفه ويحيي نفسه، وسبب آخر وهو أن الشرقي (على العموم) ذو عاطفة أحد وهو لها أقل ضبطاً، فإذا نحن غذيناه دائماً بهذا الأدب الحاد زادت عواطفه ميوعة، مع أنه أحوج ما يكون إلى ما يقوي عاطفته ويضبط جموحها.
الحق أن الأدب عود ذو أوتار ويجب أن تكون أوتاره على نظام ما عند الإنسان من عواطف جدية وهزلية، ورقيقة وقوية، وضاحكة وباكية، ورخيصة وغالية، والعود الذي يوقع عليه الأديب الشرقي ناقص الأوتار، تنقصه الأوتار القوية والأوتار التي تبعث الحياة، والأوتار التي تبعث الضحك ليتلوه جد، والأوتار التي تهز النفس لتملأها أملاً، والأوتار التي تبعث النغم بصور بطولة، والتي تبعث النغم ليوقظ من سبات، عود الأديب الشرقي على نحو عود المغني الشرقي، أشجى أغانيه أحزنها، وخير نغماته أبكاها.
فهل يتقي الله الفنانون والأدباء في الجيل الناشئ فيصلحوا أغانيهم ويكملوا ما نقص من أوتارهم، ويستدركوا ما فاتهم، وينشدوا طويلا نشيد الحياة، كما أنشدوا من قبل طويلاً نشيد الموت؟(9/7)
ساعة مع الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد بك
دقائق مجهولة من حياة الإمام محمد عبده
كانت نسائم الأصيل في مصر الجديدة قد أخذت تنفح جوها المحرور بالطراوة المنعشة حين غمزنا الجرس مستأذنين على الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد بك، وكان جوسقه الأنيق غريقا في سكون فلسفي حالم، وحديقته البهيجة ترف على جوانبها الأربعة بالجمال والعطر فتذهب عن صمته الانقباض وعن سكونه الوحشة، وكان كل شيء يقع عليه طرفك في الحديقة والدار يعلن عما وراءه من مزاج حكيم، وذوق فنان، ونفس شاعرة.
كان الأستاذ على عادته يستريض مع أرسطو في كتابه (الطبيعة) وهو السفر الثالث الذي يخرجه للناس من آثار المعلم الأول، وفي رأيه انه أجلّ كتب أرسطو وأدلها على سمو عبقريته وسر نبوغه. لقينا في البهو لقاء ذوي البيوتات الكريمة والأبهاء القديمة فسلّم في أريحية وحيا في هشاشة، ثم خيرنا بين مجلس الدار ومجلس الحديقة فاخترنا هذا، وجلس ثلاثتنا على كراسي قصيرة القواعد وثيرة المقاعد حول منضدة مستديرة فوقها مظلة صيفية على طراز ما يستعمله المصطافون على شواطئ البحار وفي فنادق الجبال، وجلس الأستاذ الحكيم قبالتنا على كرسي له ظلة كالعلبة المستطيلة تقي الجالس فيها وهجة شمس، أما كلبه الضخم الجميل فقد ذهب يتهادى في المماشي المزهرة، ومن حين إلى حين كان يعود ليداعب السامرين على قدر ما يفهم من الدعابة.
أخذ الأستاذ يطارحنا الحديث (على نحو ما كان يتحدث إلى تلاميذه صديقه أرسطو زعيم المشائين في مماشيه المظللة) بصوته النقي العذب، وجرسه العربي الواضح، وأدائه المتئد الموزون، ولهجته (الشرقاوية) التي ينثرها عمداً في خلال الحديث فتكسبه ظرفاً ورقة. ولطفي بك مسامر حلو النغمة، فكه اللسان، متفنن الحديث، متخير اللفظ، فلو رحت تكتب ما يقول لكان قريب الشبه مما تكتب. وبراعة الحديث صفة امتازت بها طبقته التي تأثر بها وأثر فيها من أمثال محمد عبده وسعد زغلول والهلباوي، فأنت في حضرتهم لا تشتهي الكلام لأن لذتك في أن تسمع، ولا تثير الجدال لأن همك في أن تستفيد. ومجلس لطفي بك يصدق الصورة التي رسمتها له في ذهنك قبل أن تلقاه من شهرته المستفيضة وأعماله المنشورة: فبديهته حاضرة وفكره نفاذ وبيانه أخاذ واطلاعه شامل ومنطقه مستقيم وهو(9/8)
يتوخى في حديثه الإفادة واللذة فسامعه لا ينفك راضي العقل ريان العاطفة.
وقصارى ما تقوله فيه أنه خلاصة الجيل الماضي بأسره، وتطبيق صحيح لمدرسة الأفغاني وعصره. وأوضح مظهر لهذا التطبيق كان في نزعته السياسية وطريقته الكتابية. ففي (الجريدة) نهج للناس سياسة مصرية خالصة لا تتصل بالدعوة
العثمانية ولا بالجامعة الاسلامية، وفي (الجريدة) ابتكر للكتاب أسلوباً لفظه قدر لمعناه، ووصفه طبق على موصوفه، وسبيله قصد إلى غايته. فكان مذهباً جديداً جرى عليه الصحفيون إلى اليوم وأصدق الأمثلة عليه أسلوب صاحب البلاغ.
ولطفي بك بارع في سلسلة الحديث سريع إلى اقتناص المناسبة فلا تخشى على الحديث في مجلسه أن يبوخ ولا على الصموت في محضره أن يحرج.
قال حينما استقر بنا الجلوس يعيد التحية ويفتتح السمر: أنا أقرأ ما تكتبونه في (الرسالة) بشوق ولذة. . . ويسرني ان الكتابة في مصر قد بلغت من الكمال الفني حد الاعجاب، فأصبحت للألفاظ دلالتها الدقيقة، وللأوصاف بيانها المقصود، أما الكتابة في (أيامنا) فكانت بالتقريب، فمعاني الكاتب تقريبية وألفاظها الدالة عليها تقريبية، والأثر الذي تتركه في نفس القارئ (إن كان مبهم أو تقريبي) فقال له أحدنا:
- ولكن سواد القراء يقرءون اليوم بالتقريب
- طبيعي! فالكاتب أيام كان يكتب بالتقريب كان القارئ لا يقرأ وإذا قرأ لا يفهم، فلما ارتقى الكاتب إلى التدقيق ارتقى القارئ إلى التقريب.
ولقد تصرف كتاب العصر في فنون الكتابة فعالجوا بها شتى الأغراض في براعة وحذق. ولذلك لا أوافق الدكتور طه على جعله النثر لسان العقل والشعر لسان العاطفة فان من النثر ما يكون شعراً.
ثم تشاجن الحديث وتشقق بعضه من بعض فتناول المويلحيين والخضري وشوقي وأبا النصر والأفغاني والطويل حتى أدى إلى علاقته بالشيخ محمد عبده فقال:
- تخرجت في مدرسة الحقوق وأنا في الثانية والعشرين من عمري فرغبت الأسرة في زواجي فأوعز أبي إلى أمي ان تكلمني في ذلك فأبيته، ولم يشأ والدي أن يفاوضني بنفسه في ذلك الأمر فلجأ إلى الشيخ عبده وكانت المعرفة قد اتصلت بينهما بسببي فدعاني الشيخ(9/9)
إلى داره. . . .
- لقد كان حسنا من الإمام أن يجمع قلوب الشباب حوله ويتدخل بالنصح في أمورهم الخاصة.
- لم يكن الأمر في التعميم والإطلاق على ما فهمت، فقد كان الشيخ في علاقته بالناس على انقباض وتحفظ والشباب أنفسهم هم الذين سعوا إليه والتفتوا حواليه لأنه كان بطبعه رجل ثورة، ولأن اتصاله بصالون نازلي هانم ومصطفى فهمي وكرومر أوهن أسبابه بالقصر وأيبس ما بينه وبين الخديوي، ولأنه كان يدعو إلى الإصلاح والتجديد فكان قريباً بنزعته إلى هوى الشبان، ولأنه كان ينتدب في كل عام لامتحان طلاب الحقوق المنتهين وقد اتصلت به معرفتي بسبب ذلك الامتحان نفسه. . .
- شت!! فكف الكلب المطيع عن النباح وكان ينبح شيئا أو شخصا خارج السور.
- فجاء الكلب الوديع حتى دنا من سيده.
- فانتبذ مكانا قريبا ونام.
ثم عاد الأستاذ إلى حديثه يقول: اقترحوا علينا في امتحان الإنشاء أن نكتب في هذا الموضوع: كيف كان للحكومة حق عقاب المجرم؟ وجعلوا زمن الإجابة أربع ساعات على ما أظن. فكتبت المذاهب الأربعة التي قررها العلماء في هذه المسألة ثم عقبت عليها ففندتها ونفيت أن يكون للحكومة على أي شكل من أشكالها (حق) عقاب المجرم لأنها قائمة على القوة لا على الحق. وأسرفت في التدليل على ذلك حتى ملأت الكراسة ثم خرجت فذكرت لرفاقي ما أجبت به فاضطربوا واكتأبوا وقرروا جميعاً أني لا محالة راسب، ثم اشتد من جانبهم اللوم والتقريع حتى ذهب من نفسي كل أمل في النجاح فلما كان يوم الامتحان الشفهي وقف الشيخ فقرظ موضوعي وكان قد وضع الدرجة النهائية، ولكنه نصح لي أن اقتصد الآن في هذه الآراء إشفاقا علي.
وكم للشباب من شطط في الآراء.
زرت الشيخ بعد ذلك في جهة شارع الشيخ عبد الله نائبا عن فريق من الطلبة التمس منه أن يقرأ لنا درساً في التفسير بمسجد الفتح على مقربة من مدرسة الحقوق، فأجاب الملتمس وانضم إلينا طلبة من دار العلوم فكنا بين الثلاثين والأربعين. وهنالك قويت الصلة بيني(9/10)
وبين الشيخ حتى بلغت حد الألفة.
وفي سنة 1897 سافرت في الشتاء إلى جنيف لغرض سياسي، فانتهزت هذه الفرصة وانتسبت إلى جامعتها في دروس في الأدب والفلسفة أقامتها في الصيف خاصة للحاصلين على درجة علمية، واتفق أن جاء الشيخ وسعد بك زغلول وقاسم بك أمين مصطافين وكان المرحوم قاسم بك يشتغل في كتاب تحرير المرأة وكان يقرأ لنا غالبا بعد الظهر في كتاب للفيلسوف الفرنسي (تين) ومن العجيب إننا كلما التوى علينا فهم عبارة كان الشيخ وهو أقلنا علماً باللغة الفرنسية، يجلو لنا غامضها.
سافر سعد باشا وقاسم بك وبقى الشيخ عبده فانتسب معي إلى دروس الأدب واقبل عليها بجد ومثابرة، وأذكر أن أستاذ الأدب كان قد قرر علينا فيما قرر كتاب (روي بلاس) لفكتور هوجو نقرأه وندرسه ثم نناقشه وننقده في الدرس أمامه فلما جاء يوم المناقشة أدلى كل طالب برأيه والأستاذ يعقب على الآراء فيخطئ ويصوب ويصحح حتى نخرج آخر الأمر بطائفة صالحة من الآراء الصائبة. وخرج الشيخ شديد الإعجاب بما رأى وسمع وقال: هكذا يكون التعليم! نحن في بلدنا لا نعلم واعتزم أن يدخل هذه الطريقة في الأزهر.
كان مراحنا ومغدانا قبل الدرس وبعده إلى حلوانية تجاه الكلية تدعى (اكسلين) ويأبى الشيخ رحمه الله إلا أن يدعوها (اخصلين) على الرغم من وسامتها الظاهرة. وكان زيه وعمامته قيد الأبصار وموضع التساؤل ومستجر الحديث في كل مكان نحله. وهنا ذكر الأستاذ بعض الطرف التي تدل على ظرف الشيخ ولطف روحه ورقة شمائله ثم قال:. . . وكان من عادتنا أن المتقدم منا ينتظر المتأخر عند هذه الحلوانية حتى نذهب إلى الدرس معاً. ففي ذات يوم جئت قبله فانتظرته ثم انتظرته حتى مضى الوقت الذي كان يصل فيه عادة إذا تأخر وكانت الجامعة قد استقدمت أحد العلماء الطبيعيين ليحاضر في استحضار الأرواح والدخول عام والزحام لا بد شديد، فلما أزف موعد المحاضرة ولم يبق إلا دقائق قلت للفتاة: إذا جاء الشيخ فأخبريه أني انتظرته إلى قبيل المحاضرة. ثم مضيت فدخلت مدرج المحاضرات من بابه الأعلى وأخذت مجلسي بين الحضور. ولشد ما كانت دهشتي حين وثبت إلى عيني عمامة الشيخ جالساً في الصفوف الأمامية بين سيدتين جميلتين، يميل على هذه مرة وعلى تلك أخرى!! فداخلني من أمر الإمام ما لم أكن أعهده. ثم خيل إلي أن الزمن(9/11)
يبطئ والدرس يثقل لأن رغبتي كانت تلح في الوقوف على جلية الخبر. فلما انتهت المحاضرة أسرعت في النزول إليه وفي عيني دهشة وعلى وجهي تعجب وبين شفتي كلام! وتبين الشيخ ذلك في هيئتي من بعيد، فصاح قبل أن أحدثه:
- تعال يا لطفي أقدمك إلى البرنسيس!!
وقدمني إلى الأميرتين نازلي وخديجة!
وكان ذلك أول معرفتي بالأميرتين المصريتين فدعتانا إلى الشاي في الفندق الفخم الذي تنزلانه.
وفي سنة 1898 رغب الشيخ أن يقضي معي أياما بالبلد. فما علم بمقدمه رجال الإدارة والقضاء بالمنصورة حتى توافدوا إلى لقائه، وفيهم المرحوم حشمت باشا، وحفل المجلس بالناس على اختلافهم ودار الحديث. فقال الشيخ فيما قال أن السيد جمال الدين كان يقول: إذا أردت أن تحكم على أخلاق أمة فاجلس في قهوة من قهوات الفقراء، فما انطبع في نفسك من الانفعالات فاحكم به على هذه الأمة من غير تحرج، فأخذت أنقض هذا الحكم وأفنده والشيخ يدافع عنه ويؤيده فاستحييت أن ألح في معارضة الشيخ في المجلس فأمسكت.
وفي العصر ركبنا جوادين، وخرجنا نرتاض في المزارع والحقول فعدت إلى ذلك الموضوع فقال الشيخ لا أدري لماذا لا تصدق هذا؟ أليست قهوة الفقراء تجمع الفقير الذي سيبقى فقيراً، والفقير الذي سيصير غنياً، والغني الذي صار فقيراً؟
وفي سنة 1905 أذكر إن الشيخ كان قادماً من الوجه القبلي وأظنه كان في السودان، فنزل عندي بالمنيا وكنت يومئذ نائبا بها، وحضر للسلام عليه رجال القضاء الأهلي والشرعي ووجوه البلد. فلما احتشد المجلس بالجمع قال أحد العلماء من رجال المحكمة الشرعية أن كثيراً من النصارى يدخلون في الإسلام فتضاعف بذلك شغلنا. فقال له الإمام: فيم تشتغل أيها الشيخ؟ فقال نعلمهم أركان الدين. فقال له: يكفي أن تقول له صل وصم وزك وحج فقال ولا بد أن نعلمه الوضوء. فقال قل له اغسل وجهك ويديك إلى مرفقيك وامسح رأسك واغسل رجليك، فقال ذلك لا يكفي ولا بد أن نعلمه حدود الوجه من أين يبتدئ وإلى أين ينتهي، فقال الشيخ بصوته الجهير في شيء من الحدة: سبحان الله يا سي الشيخ!! قل له(9/12)
يغسل وجهه! كل إنسان يعرف حدود وجهه من غير حاجة إلى مساح!!
وهنا استأذنا الأستاذ الجليل في الانصراف على نية العودة إليه من حين إلى حين فنستزيد من طرائف هذه الأحاديث.
الزيات(9/13)
هل للشعر المرسل مكان في العربية
للأستاذ محمد فريد أبو حديد. وكيل المدرسة التوفيقية الثانوية
يسر الرسالة أن تقدم إلى قرائها صديقاً من خيرة أصدقائها وهو الأستاذ محمد فريد أبو حديد صاحب (ابنة الملوك) التي تحدث عنها بالخير الأستاذ جيب في العدد الماضي، ومؤلف (صلاح الدين) وكاتب (المرحوم محمد) ومترجم (فتح العرب لمصر) لبتلر. والأستاذ فريد من أصفى أدبائنا شعوراً وأخصبهم قريحة وأوفرهم انتاجاً، وهو جندي باسل من جنود الأدب العربي، أغرم بالقراءة والبحث والكتابة وأسرف حتى خامره من ذلك داء مؤلم موئس عقله عن إخوانه وتلاميذه وقلمه بضعة شهور، فنحن بتقديمه اليوم إنما نقدم التهنئة الخالصة لأصدقائه بسلامته، والبشرى الطيبة لعشاق أدبه بقراءته.
(التحرير):
قرأت مقالين قيمين في الرسالة بعنوان (مجمع البحور) تعرض فيهما كاتباهما المفضلان إلى الشعر المرسل ومكانه في اللغة العربية. وليس بالعجيب أن ينفر بعض الكتاب من أسلوب لم يألفوه كما أنه ليس بالعجيب أن ينكر الأديب بدعة في الأدب العربي إذا ظن أن تلك البدعة قد تدخل إليه ما لا يزينه أو ما قد يتخذ سبيلاً إلى التزييف والابتذال. ولكنا مع ذلك لا نجد بدا من التسليم مع المنطق السليم بأنه إذا كان يراد إدخال بعض أنواع من التأليف في اللغة العربية فلا بد من وسيلة لفك قيود القافية. فالقافية غل متين يمنع الاسترسال في القول وإذا كان الاسترسال والإطالة لازمين كانت القافية حجر عثرة لا بد من إزالتها. فالشعر القصصي والرواية الشعرية لا بد فيهما من ترك القافية أو الاحتيال عليها لأنه من الطبيعي في الشعر القصصي أن يصور الشاعر صوراً كثيرة واضحة قد يحتاج في تصويرها إلى نظم آلاف الأبيات. وبذلك يحتاج الشعر القصصي إلى أن يكون النظم حراً لا يلتزم فيه قافية تضطر الشاعر إلى ما يجعل المعنى مبهما أو مقتضبا. وفي هذا وحده علة وجود الشعر المرسل في لغة مثل اللغة الإنجليزية.
وإنما يورد للشعر المرسل عيبان أولهما أنه يحرم الأذن من موسيقى القافية. والثاني أنه يحطم الحدود بين الأبيات فلا ترتاح الأذن إلا ما اعتادته من الوقف في آخر كل بيت والترنح مع الوزن من بدء مقدور إلى خاتمة منتظرة. وهذا قول لا شك في أن به حقا(9/14)
كثيرا، فمن أراد الموسيقى والغناء فلا بد له من شعر موزون خفيف الروح إذا بدأت أول قطعة منه توقعت ما يليها، وإذا سمعت جرس القافية في أول بيت توقعت تمام المتعة بجرس ما بعدها. غير أنا لا نقصد أن يكون شعر الأغاني مرسلا فإنما للمرسل موضع غير الأغاني وهو كما ذكرنا ضرورة يلجأ إليها من أراد الإطالة في غرض من الأغراض.
وقد قال أدباء ممن يؤثرون الإبقاء على القافية في كل صنوف الشعر أن الشعر المرسل لا ضرورة إليه، فإذا شاء امرؤ أن يطيل وصفاً أو يؤلف قصة فما من شيء يمنعه من أن يفك نفسه من قيدي الوزن والقافية جميعاً ويجعل قوله نثراً صافيا. وليس في مقدرة أحد أن يقنع الناس برأيه في مسألة أدبية بأكثر من أن يعرض عليهم ما يستطيعون بناء حكمهم عليه، فان الحكم في مسائل الأدب مرجعه إلى الذوق وموقع الكلام من النفس. وليس من قصد أحد أن يتعصب لأسلوب خاص، فانه لا مأرب لأحد في ذلك إلا أن يكون لذلك الأسلوب في نظره ميزة على سواه. على أن مجال القول فسيح لمن شاء الانتصار للشعر المرسل، فانه فوق النثر في أنه موزون وللوزن حظ من الأثر الموسيقي الذي يمتاز به الشعر، كما أن الشعر المرسل يجعل الأديب ينحت قوله على نمط مقدر، فتخرج المعاني في ثوب مقدود على قدر ومقياس ينحيانه عن الفضول ويكسبان الأسلوب شيئا من الأناقة التي تنشأ عن اختيار الألفاظ الموافقة للوزن وتزويقها وتوثيق الاتصال بينها.
وبعد فالمثل أولى من تلك الحجج. ولهذا قد آثرنا أن نختار قطعة من تأليف ملك الشعر المرسل وهو شكسبير في روايته المشهورة (عطيل) وأنّا عارضوها على القراء مترجمة مرتين، مرة منهما من قلم الشاعر الكبير (خليل مطران) في نثر سهل حلو أدى المعنى أداءً دقيقا في أكثر المواضع ولكنه على كل حال لا يعاب عليه شيء في سلاسته ووضوحه. والترجمة الأخرى من قلم رجل آخر واتته المقدرة على أن يؤدي المعنى الإنجليزي في شعر مرسل. ورأينا ان نقرن بين الترجمتين حتى يمكن للقارئ أن يحكم بينهما ويحدث لنفسه رأياً في أفضلهما. والقطعة المختارة هي نبذة من الموقف الذي كان بين (ياجو) و (عطيل) يحاول فيه (ياجو) أن يظهر نفسه في مظهر الصديق الناصح ويدس في حديثه سم سوء الظن يبعثه إلى قلب (عطيل) ليجعله يحقد على زوجته الفاضلة راميا من وراء ذلك إلى غرض مادي شخصي ظن أنه لن يبلغه الا بالقذف في امرأة عطيل وتصويرها في(9/15)
صورة من تهوى رجلاً آخر اسمه (كاسيو). كان ذلك الواشي (ياجو) يريد الإيقاع به. وعطيل يحب امرأته حباً شديداً فكان على الواشي المخادع أن يحكم حيلته ومكره حتى يستطيع أن يثير الشك
في قلب ذلك الزوج المحب. فابتدأ متظاهرا بالتردد في اتهام الزوجة وجعل يلمح إلى إن الشرف أغلى متاع للمرء حتى إذا ما رأى (عطيل) ينساق مع الغيرة جعل يتظاهر بذم غيرة الأزواج على نسائهم حتى دفع الزوج المسكين إلى أن يفتح قلبه وعقله للاتهام. وهذا البدء هو الموضع الذي نقلناه.
قال مطران في ترجمة تلك القطعة:
ياجو: حسن السمعة للرجل والمرأة يا سيدي العزيز أثمن جوهرة من حلي النفس. من يسرق كيس نقودي يسرق شيئا زريا. كان لي واصبح له وكان قبلنا لألوف آخرين. أما الذي يسرق حسن سمعتي فيختلس شيئاً لا يغنيه ويجعلني فقيراً جهد الفقر.
عطيل: وأيم السماء لأعرفن أفكارك
ياجو: لن تعرفها ولو كان قلبي في يدك. فهل تصل إليها وذلك القلب في حراستي.
عطيل: آها!
ياجو: أي مولاي أحذر الغيرة. تلك الخليقة الشوهاء ذات العيون الخضراء التي تسخر مما تتغذى به من لحوم الناس. الرجل الذي يثلم عرضه فيعرف مصابه ويكره جالبه عليه سعيد. سعيد بجانب ذلك الذي يقضي الدقائق الجهنمية شغفا إلا انه مستريب. عاشقا أشد العشق ولكن تساوره الشكوك.
عطيل: يا للشقاء!
ياجو: الفقر مع القناعة غنى بلا جاه عريض. أما النعم التي لا تحصى فتكون فقراً عقيماً عقم الشتاء البارد للذي يخشى أبدا أن يصبح معسرا. اللهم يا ذا الراحم أعف من الغيرة نفوس أمثالي.
عطيل: لم كل هذا، أتظن إنني سأعيش هذه العيشة مغيِّرا ظنوني كلما تغير هلال. كلا. متى نفذ الريب ثبتت النفس على حالة معه. تبدل مني بتيس قطيع يوم أدع نفسي بين أيدي الشبه التي تحدثها كل دسيسة. أنا لا تستفز غيرتي بأن يقال لي إن امرأتي جميلة وأنها(9/16)
لطيفة المحاضرة وأنها تحب معاشرة الناس وأنها طليقة النفس في أحاديثها وتغني وتلعب وتحسن الرقص، كل هذه الأفعال تكون فاضلة متى كانت المرأة فاضلة. الخ
وقال المترجم الآخر في تأدية القطعة نفسها:
ياجو: شرف الإنسان أغلى (سيدي).
من سواد القلب هذا يستوي
فيه من كانوا ذكورا أو إناثا.
إن من يسرق مالي إنما
نال مني تافهاً غير خطير
إنما المال متاع هيّن
فلقد كان معي ثم مضى
ليديه بعد حين مثلما
كان قبل الآن عبداً لألوف
إنما سالب عرضي نال ما
ليس يغنيه وقد أفقرني
عطيل: قسماً لا بد من كشف ضميرك
ياجو: لا. لن تكشفه حتى ولو
كان ذاك القلب ما بين يديك
لا. ولن أفصح ما دام هنا
بين أضلاعي.
عطيل: ها!
ياجو: أيها السيد حاذر (لا تطع
هذه الغيرة) حاذر إنها
غولة ذات عيون خضرة
إنها تسخر من مقتولها
بعد أن تنهشه - كن حذرا(9/17)
إن من يعرف في زوجته
أنها تخدعه، لكنه
ليس يهواها فلن تزعجه
إنما البؤس لمن في شكه
يتلظى والهوى يكوي فؤاده
عطيل: وا شقاءاه
ياجو: موسر من كان في الفقر قنوعا
وأشد الفقر مال طائل
مع خوف الفقر. ربي نجني
من لظى الغيرة واحفظ منه أهلي
عطيل: لم هذا القول؟ هل تحسبني
ذلك الغيران يمضي هائما
سابحا في غير من شكه
مثلما يسبح في أبراجه
قمر الليل؟ فلا كنت إذن
إنني إن كنت أمضي هائما
مثلما تحسب لم أبلغ سوى
مبلغ التيس. ولكن عزمتي
عزمة لا شك فيها إن بدا
لي وجه الريب. إني لا أرى
سببا للريب عند امرأتي
لو يقول الناس عنها أنها
ذات حسن. تشتهي الأكل اللذيذ
أو تحب الناس. أو ثرثارة.
أو تغني. بل إذا ما زعموا(9/18)
أنها تلعب أو تحسن رقصا
ليس هذا الوصف عيبا. إنه
صفة محمودة عند العفاف.
ولعلي أستطيع أن آتي لقراء الرسالة ببعض أمثلة أخرى من هذا النوع من أساليب القول. تاركا لهم أما الانتصار له وإما خذلانه. فإذا وجدوه صالحا كان بابا يستطيع ذوو المقدرة من شبان الأدباء أن يلجوا منه إلى ميادين فسيحة.(9/19)
العشق النجمي
للدكتور محمد عوض محمد
لئن كنت أيها القارئ ممن وقاهم الله غائلة العشق، ولم تنفجر في
صدورهم قنابل الغرام، ولم تضع المقادير قلوبهم بين سندان الشقاء
ومطرقة البلاء، إذن فأحمد الله، واشكرجدك الباسم!
لكن إذا كنت خلياً فاذكر الشجي، ولا تمنعك السعادة من أن ترثي للشقاء؛ فأن لصرعى الغرام عليك حقا، أن تذرف من أجلهم لتراً أو لترين من الدمع الساخن، ثم تسقي به ثراهم وتروي به الطلحة الحزينة التي تظل جدثهم.
وأني محدثك اليوم عن ضرب جديد من العشق، أو على الأقل ضرب كنت أحسبه جديداً. . إلى أن ألفيته قديماً، شأن كل الأشياء التي يطلع علينا بها المجددون. .
بيد أن العشق الذي نحن بصدده، إن لم يكن جديداً، فقد استحدثنا له اسمأً جديداً. ودعوناه (العشق النجمي). . وهو كما ترى
أسم طريف؛ ليس في الكتاب من سبقنا إليه. . . ولا خير في كاتب لا ينهض للجليل من الأمور فيبتدع لها الجديد من الأمور فيبتدع لها الجديد من الأسماء.
وأول من أصيب بالعشق النجمي فيما نعلم؛ أو على الأقل أول من سجلت أصابته رسمياً، هو العباس بن الأحنف إذ يقول عن حبيبته:
هي الشمس مسكنها في السماء ... فعز الفؤاد عزاء جميلا
فلن تستطيع إليها الصعود ... ولن تستطيع إليك النزولا
هكذا كان ذلك العشق المسكين: يطلب ما ليس إليه سبيل، ويظمأ والشراب عزيز، ويشتهي وقصارى جهده أن يشتهي.
ولعمرك مادام مناط حبه الشمس، فليس حظه منها سوى التطلع والتحديق، والزفير والشهيق. . هل كان يعلم عفا الله عنه! أن بينه وبين الشمس 92 , 000 , 000 ميلا في الصيف و 93 , 000 , 000 ميلا في الشتاء؟ وهي في كلا الحالين بعيدة المنال، ليس إليها في شتاء ولا صيف وصول.
ومن العبث أن ننصح أمثاله من العشاق أو نعذلهم، أو نطلب إليهم أن يصرفوا هواهم إلى(9/20)
الممكن المتيسر، والقريب الداني. وان يراعوا صحتهم، فأن في طلب المحال سقماً وسهداً وإن التحديق في الشمس يضني القلب كما يضني البصر. . ولكن هيهات. . .
إن المحب عن العذال دائماً في صمم.
وأحسب القارئ قد أخذ الآنيفهم ما أعنيه بالعشق النجمي. وأظنه يتوهم أن العشق النجمي هو عشق الشيء البعيد المنال. . لكن هذا ليس الذي أرمي إليه. إن العشق النجمي هو عشق النجوم نفسها. . أجل النجوم التي في السماء على طريقة العباس بن الأحنف المذكور. ورويداً يظهر لك ما أظمره، شيئاً فشيئاً.
هنالك أمراض تصيب الناس من آن لآن. لكنها تصيبهم فرادى. أي تصيب هذا مرة، وذاك مرة أخرى. ثم يأتي بعد ذلك زمان تصبح فيه تلك الأمراض وباء يجتاح العالم كله إقليماً بعد اقليم، وشعب بعد شعب.
وهكذا (العشق النجمي) كان فيما مضى يصيب الناس فرادى، فأمسى الآن وباء شائعاً فاشياً، قد ملأ السهل والجبل وانتشر في المشرق والمغرب. وسبب ذلك أن قد ظهرت في العالم سماء جديدة تدعى (السينما) وقد امتلأت أرجاؤها بالنجوم.
والعشق الذي تتأجج ناره في قلوب المغرمين ببعض هذه النجوم لا يختلف، في كثير ولا قليل، عن ذلك الهوى المبرح الذي وصفه لنا العباس بن الأحنف. وقد يظن بعض البسطاء أن نجوم السينما أدنى إلينا وأقرب منالا، إذ نراها أمامنا ونشاهدها بأعيننا. وهذا لعمرك خطأ محض! فإنها قريبة على بعد، بعيدة على قرب.
والشرق نحو الغرب أقرب شقة ... من بعد تلك الخمسة الأمتار. . .
والآن قد أدركت أيها القارئ ما (العشق النجمي) وأنه هو تلك اللوعة التي تحرق قلوب الناس في مشارق الأرض ومغاربها ومن أجل بعض النجوم التي تدور في أفلاك تدعى (الأفلام) في سماء يسمونها (الشاشة) البيضاء.
فالعشق النجمي أذن منسوب إلى نجوم السينما، وبالله لا تقل كواكب السينما! لأن الكواكب في علم الهيئة قريبة المنال دانية المزار ومن علمائنا اليوم من يحلم بالوصول إلى بعض الكواكب كالمريخ، أما النجوم فبعيدة بعد الشيء المستحيل وكذلك العشق النجمي فأن مرامه بعيد، ومأربه محال.(9/21)
وأكبر ما يمتاز به هذا العشق أنه عذري. . فأنك قد تولع بنجمة فتانة من نجوم هوليود، فيمتلئ بحبها قلبك، وتملك عليك مشاعرك، فلا ترى في الأرض الفسيحة غير وجهها، ولا تسمع غير صوتها. هي حلمك إذا هجعت، ونجواك إذا صحوت. إن أبصرتها في قصة حزينة استولى عليك الحزن والألم. وإن أصابها برد أو زكام أصابك مثلها سعال وزكام. وإن رأيتها ويا للهول!، صريعة قتيلة، قطع الحزن نياط قلبك، وأظلم العالم في وجهك، فلا تزال كئيباً أسيفاً، جاحظ العين متقلص الشفتين، حتى تراها في فلم آخر فرحة ضحكة؛ فيسري عنك؛ وتبرق أسارير محياك. وتضحك حتى تبدو نواجذك. .
ومن الغريب انك لا تأخذك الغيرة حين ترى عشاقها الكثيرين، ولا تستنكر منها أن تبدل في كل فيلم زوجاً مكان زوج أو صاحباً مكان آخر. لا يهمك من هذا كله شيء لأنك لا تفكر في سعادتها، فكل ما ترضاه ترضاه. ويحلو في عينك ما يحلو في عينها. بل لقد ألهاك التفكير فيها عن التفكير في شيء آخر. . .
ثم أنت بعد كل هذا لا ترجو نوالا ولا وصالا، تعلم أنها بعيدة عنك بعد النجم. وإن قرّبها منك الفلم. وقد رضت النفس على هذا البعد الممزوج بالقرب، وهذا النوال المنطوي على الحرمان. وهذا الوصل الذي هو أدنى إلى القلي والهجران.
فلا تريد على حبك جزاء ولا لدائك دواء. ذلك أن هواك عذري أفلاطوني بريء. فلا تريد لنارك المتأججة أن تطفأ، ولا لغليك المستعر أن يشفى. حب هو الغاية والوسيلة، نار تأبى إلا اضطراماً ودمع يأبى إلا انسجاماً، وتنور يريد أن يفور، وكان يحلو له أن يثور. من غير مأرب تنشده، أو أمل تريد تحقيقه، أو غاية تبغي الوصول إليها. . بل إن الحب هو الشغل الشاغل عن كل أمل أو مأرب أو مرام. .
تلك إذن هي الظاهرة الأولى للعشق النجمي: انه هوى عذري طاهر عفيف نظيف. أما الظاهرة الثانية لذلك العشق. فهي انه يصيبك من بعيد. . وقديماً وصف لنا الشريف الرضي هذه الظاهرة فقال يخاطب نجمته!:
سهم أصاب وراميه بذي سلم ... من بالعراق. . . لقد أبعدت مرماك!. . .
ذو سلم هذا مكان في جوار المدينة المنورة، يكثر الشعراء من ذكره حين ينسبون. ولو كان لديك أيها القارئ مصور جغرافي لأمكنك أن تقيس المسافة بين العراق وذي سلم، ولعلمت(9/22)
أنها لا تتجاوز سبعمائة من الأميال. ومع ذلك يندهش
الشريف الرضي لان سهم الحب قد أصابه من ذي سلم والشاعر في العراق. لكن تلك المسافة لا تعد شيئاً إذا قورنت إلى البعد الهائل الذي يفصل ما بين هوليود وبين وادي النيل السعيد. . وأن النجمة الفاتنة لترمي بسهمها من تلك الأقطار القاصية.، فلا يلبث أن يصيب صميم الفؤاد، ويفتت الأكباد، في شرق العالم وغربه. لا تحول دونه بحار ولا قفار. . .
وفي الحب العادي قد يكون البعد من أسباب السلو، والبعيد عن العين بعيد عن القلب في زعم الناس. لكن البعد بين المحب والمحبوبة شرط أساسي في هذا الصنف من الغرام. بل إني زعيم بأن عاشق النجمة لو رآها على قارعة الطريق، وهي تبتاع شيئاً من الحلوى، أو داخلة إلى دكان الحلاق. . لرأى شيئاً كسائر الأشياء وامرأة كسائر النساء، ولما حدثته نفسه بأن قد يصيبه من مثل هذه قنبلة غرام. . بل ولا سهم ضئيل. .
كلا إنما يلعب حب النجوم بالأرواح عن بعد. ومن مستلزماته تلك الحجرات المظلمة القاتمة، تبعث في النفس رهبة، وتثير فيه شغفاً ورغبة. وهذه الأنوار الساحرة تنبعث من مكان خفي، وتسطع على لوح فضي: ظلام يتوسط النور، ونور يحيط به الظلام. وحسبك تلك الحال السحرية باعثة على الشجن، ومثيرة لمكامن الجنون.
وهكذا تستطيع النجمة، وهي على سواحل المحيط الهادي أن ترسل أشعتها إلى أطراف العالم، وتنشر شباكها في جميع الأقطار.
هذا وللعشق النجمي خصائص أخرى، ولكننا ضربنا عن ذكرها صفحا، لأنها تعد في المرتبة الثانية من الأهمية، وحسبنا ما ذكرناه وصفا لأعراض ذلك المرض. . أستغفر الله بل تلك العاطفة القاهرة، التي استرقت قلوب الناس من شباب وكهول، وصفدتهم بسلاسلها وأغلالها. وقد أسلموها قيادهم طائعين خاضعين. .
لقد تحسب أيها القارئ أن فيما ذكرناه غلوا أو أن نصيب الخيال فيه أكثر من نصيب الحقيقة. . وفي الحق أننا ما كنا نعلم أن لهذا الشيء وجوداً أو أن شره قد استفحل. وخطره قد أشتد إلى هذا الحد، لولا أن صديقنا العزيز (رشاد) قد أصابه ذلكالسهم، فأحزننا مصابه. ولقد تتاح لنا قريباً فرصة أخرى فنحدث القارئ بحديث ذلك الصديق وإن كان حديثاً أليماً.(9/23)
(9/24)
هذا العذاب. . .
للأستاذ راشد رستم.
دخل الغابة ينشد الوحدة الهادئة الهادية، فرآها أول ما رأى في صمت الجذوع وتحملها، ثم تمثلها عند تساقط الأوراق واستسلامها، وفي السكون الشامل الذي يحيط به، وفي اللون الأخضر القاتم الذي يغشاه، ثم سمعها في أنين الغابة الداوي، ولاقاها عند الغدير الصغير الجاري، ورآها في قاع مجراه الصافي كامنة بين الحصا الأبيض الناعم، ثم شاهدها في تهدل الأغصان واضطرابها، وفي رعشة الأوراق المتحيرة ذات الحفيف المحزن، ووجدها ساكنة في الأعشاش الخاوية، ولمحها عالقة بأجنحة الطير المتثاقلة وهي تبيت. وفي آخر أشعة الشمس الصفراء وهي تغيب.
جلس في تلك الظلال القاتمة وحيداً بين الشجر، ينظر إلى السماء الناعسة يستنجدها وحيها المهيب. أو يستودعها سره العجيب. وقد بدت فروع الأغصان مع الأوراق على صفحة السماء وقت هذا الغروب في لون من سواد كئيب، كأنها (دنتلة) الحزن على صدر أملس رائع أسيف. قد صبغته نيران الزفرات والتنهدات بلون الشفق الوردي الهادئ صدر واسع عميق جذاب تحنو عليه شفاه الرحمة والإشفاق بقبلات العطف والحنان تترك فيه آثارا من حرارة التضامن الكامن في الصدور بين قلب حنون وآخر محزون. .
لم يفكر في شيء، فقد أحاطت به الأفكار من كل جانب، قام هارباً من تهافت الأفكار متعمقاً في الغابة يطلب الهدوء الأصيل في حضنها الظليل، ومن هاجمته أفكاره أعجزته تفكيراته، وقد يضيع بها أو يبقى بينها حيران زماناً حتى تجذبه إحداها فتشغله عن سواها، وهكذا يفر المرء من عذاب إلى عذاب.
على أنه وقد وجد سكينته عند الطبيعة فقد سلبها منه وآلمه فيه ابن الطبيعة، طلع عليه من خلال الأشجار أطفال يلعبون، والناس ملائكة صغاراً شياطين كبارا.
كَمِنَ له الصغار لما رأوه مقبلا هائماً، انتظروه إذ ظنوه سارحا هادئاً. فاجئوه يحسبونه خائفاً، فلما وجدوه رابطا ثابتا، عادوا يخشونه متحفزا ثائراً. ثم تنبه هو من تيهه فوقف باسماً، يدعوهم لاعبا مسالماً ضاحكاً، ولكنهم من الرجفة الأولى يفرون مستنجدين صارخين. فأنجدهم أهل لهم في الغابة يحتطبون، يسألونهم عن أمرهم وما دهاهم من(9/25)
مفترس أو روح شرير، فكانوا يبكون صامتين، يشيرون إلى مكان قريب.
مفترس! وحش! روح شرير!!
ليس في المكان إلا ما في الغابة من شجر ووحشة ودوي طويل. خرج عليهم (الوحش) يدعوهم إلى الهدوء والاطمئنان. فتلقوه مؤنبين معرضين، فتولى عنهم في غيظ وكمد. مختفياً في الغابة الممتدة الواسعة. تلك الغابة العنيدة التي هو سيدها ومالكها والتي يهبها صدقه يسمح بحطبها وحياتها ومتاعها حلالا طيباً للسائلين والمحرومين.
أقبل على الغدير الصغير، وهنالك أمام خرير الماء الطاهر البريء، الجاري من الأزل إلى الأبد، وقف في إطراق وصمت وتسليم قليلاً ثم نظر إلى العود الذي يتوكأ عليه. وهو من حطب الغابة، وكتب به في بطء ولين وتفكير كلمات لا شك أنها ذاهبة مع الماء في مجراه. .
ثم أتخذ سبيله عائداً إلى البيت الذي يأويه وكان قد هجره بمن فيه وما فيه.
وإذ هو يمشي وئيدا كئيباً وقد طواه غسق الليل، أبصر المحتطبين خارجين من الغابة فرحين محملين وهم يذكرون الوحش المفترس والروح الشرير. . .
تثور نزعاته تطلب لوجودها جهراً. ولكنه يكظمها في نفسه صبرا، ثم تفور عواطفه فورا. فيحبسها في صدره غورا ثم يسرع الخطى على غير هدى قليلا حتى يدله الألم الساري وسط ظلام الحياة على حقيقة عذاب الإنسان للإنسان، ومكان الإحسان عند الإنسان، وأن الجهر بالإحسان إحسان. .
ثم يذكر ما كتب على صفحة ذلك الغدير الصغير، ويردده في ألم وثورة وأسف، حقاً إن في صمت الإحسان جنة للناس وعذاب للمحسنين. .(9/26)
التجديد في الأدب
يناقش الدكتور عبد الوهاب عزام الأستاذ أحمد أمين في رأيه عن التجديد في الأدب، وقد دفعتني هذه المناقشة إلى إبداء رأي وذكر مناقشة، أما الرأي فهو: إن المعاجم اللغوية التي يقول الأستاذ أحمد أمين إن فيها (ألفاظا كثيرة ليس لها قيمة الا أنها أثرية تحفظ فيها كما تحفظ التحف في دار الآثار)، في هذه المعاجم ألفاظ كثيرة لها قيمة عظيمة عند من يحسن الأداء بها في مواقعها وكثير منها يؤدي لنا عن معان كنا نظن أن ليس لها في الألفاظ العربية ما يدل عليها، فالبحث عن هذه الألفاظ واستعمالها يزيد من غير شك في حيوية اللغة ونمائها، وقد فعل الدكتور محمد شرف والدكتور أحمد عيسى شيئاً من ذلك في معجمهما عن الحيوان والنبات، فكشفا في هذه القواميس عن ألفاظ عربية لنباتات وحيوانات كنا نستعمل عند الدلالة عليها أسماءها العلمية اللاتينية. وذلك لظننا خلو لغتنا من أسمائها.
وأما ما ذكره الأستاذ أحمد أمين من إلغاء هذه الألفاظ لأن الذوق العام للقراء لا يسيغها الآن، فأنا أظن بأن درجة المعرفة التي يصل إليها جمهور القراء ليست كافية للاعتبار والحكم على اللغة والكاتبين، والكاتب النافذ البصيرة له أن يقدم لهذا الجمهور القارئ ما يرى أنه مفيد من الألفاظ للإبانة عما يريد من معنى أو إحساس، ولو كان الجمهور القارئ لا يعرف هذه الألفاظ أو لا يسيغها ذوقه، ولكن المهم أن يقتصد في ذلك على الضروري المفيد ولا يتعمد الأِغراب.
هذا مع ملاحظة أن ما لا يسيغه ذوق الجمهور هو الأقلية من هذه الألفاظ المهجورة.
هذا عن رأيي، وأظنني فيه قريبا من الدكتور عزام وإن كنت أخالفه في بعض الشواهد التي أوردها في مقاله وفي بعض الآراء كذلك.
وأما عن المناقشة فقد جرت منذ شهور بيني وبين كاتب من كبار كتابنا المتحمسين لتبسيط اللغة، وكان يقول إن هذه الألفاظ الموجودة في القواميس هي مثل الزوائد والبقايا الأثرية في جسم الإنسان (كالزائدة الدودية وعجب الذنب مثلا) ويجب علينا طرحها لنكسب الوقت والسرعة، فقلت أنا، إن في هذه القواميس ألفاظا تؤدي لنا عن معان نتحير الآن في الأداء عنها بكلمة واحدة، فنعبر عنها بجملة أو سطر، فلو أننا استعملنا هذه الألفاظ وأشعناها لاكتفينا بلفظ واحد عن هذه الجملة أو السطر، فكسبنا بذلك الوقت والسرعة ولفظاً جديدا يزيد في لغتنا سعة، فقال: اذكر مثلا، قلت: أقرب مثل هو صديقك فلان الذي عرفتني به(9/27)
أخيرا، فقد لاحظت ان لون عينيه مختلف فله عين زرقاء والأخرى كحلاء. فلو أردت أن أذكر لك هذه الصفة فيه استعملت لها سطراً من الكلام، ولكني وجدت في القاموس كلمة واحدة تؤدي هذا المعنى كله وهي (أخيف) وهذه الكلمة نفسها تغنينا عن جملة أخرى، فإن الأبناء الذين هم من أم واحدة وأباء شتى يقال لهم (أخياف) فيمكنك في الأول أن تقول (فلان أخيف) بدل (فلان إحدى عينيه زرقاء والأخرى كحلاء) وفي الثاني (هؤلاء الاخوة أخياف) بدل (هؤلاء الاخوة من أم واحدة وآباء شتى)، وقد كسبنا بذلك الوقت والسرعة ولفظة جديدة، وهذه الكلمة لا أحد يقول (حتى الأستاذ أحمد أمين) إنها نافرة أو ثقيلة على الجيل الحاضر، وقد استعملها ابن زيدون في قطعة جميلة من شعره.
فقال صديقي الكاتب الكبير في صيغة التحدي والتهكم، إنك بذكر هذا اللفظ أطلت في الوقت وأضعفت من السرعة لأنك ستشرحها للقارئ بهذه المعاني التي ذكرتها، فكان خيراً لك وله لو انك اكتفيت بالشرح عن المشروح فلم تذكر اللفظ الواحد ثم تتبعه بجملة شارحة، فقلت أنا أولاً لا أسلم بضرورة الشرح فان القارئ واحد من أثنين، قارئ يقظ يقرأ ليفهم ويفتش عن كل كلمة ولا يكتفي بالفهم الإجمالي، وهذا القارئ عندما يجد هذه الكلمة (إذا لم يكن يعرفها) سيبحث عنها في القاموس حتى يعرفها، ومن المرجح انه بعد ذلك لن ينساها، وهذه وحدها فائدة أخرى، والقارئ الثاني يمر على الكلام مراً ويكتفي بالفهم الإجمالي، فهذا ليس يهمني أن أشرح له، ولعله هو أيضا لا يهتم لشرحي، وعلى فرض التسليم بضرورة الشرح لهذه الكلمة ومثلها، فان الشرح لن يكون الا بمقدار ما تشيع هذه الألفاظ وتعرف لجمهور القارئين وعند ذلك تترك وحدها فيفهمها القارئ ونكسب نحن وهو الوقت والسرعة وألفاظاً جديدة تزيد في لغتنا وتنميها، ثم ذكرت له بعضاً من الألفاظ والجمل استعملها هو بدءا وشرحها في أول ما استعملها وأصبحت الآن مفهومة لكل قارئ وشائعة على أقلام الكاتبين وألسنة الناطقين حتى كأنها تستعمل منذ مئات السنين.
ولعلنا نجد في المقالات القادمة للأستاذ أحمد أمين أننا فهمنا من كلامه غير ما يقصده هو، وعندئذ فنحن على وفاق، أو في (خلاف لفظي. . .) كما يقول الأصوليون.
محمود. ع. الشرقاوي. عالم من الأزهر(9/28)
فلسفة كانت
للأستاذ زكي نجيب محمود
كانت الفلسفة وهي في مهدها مطمئنة إلى تلك الأداة التي اتخذتها سبيلا إلى تفهم الكون وما يحوي من سر مكنون، فكانت تأتمن هذا العقل الإنساني وتثق به وثوقا لا يعرف الشك، ولكنها ما لبثت أن اشتد ساعدها واستقامت على قدمين راسختين، فانقلبت على تلك الأداة نفسها، وداخلها الريب في أمانتها ودقتها فيما تنقل إلى ذهن الإنسان من صور العالم المحس، فتناولتها بالبحث والتحليل.
وتظن أن (لوك) كان أول من تصدى لذلك البحث في تاريخ الفكر الحديث، وقد انتهى بعد بحثه الطويل إلى إنكار الآراء الفطرية التي يقول دعاتها أنها تولد مع الإنسان كمعرفة الخير والشر مثلا، وأكد أن العقل عند ولادة الطفل يكون كالصفحة البيضاء، خالياً من كل شيء، وقابلا للانفعال بالبواعث المختلفة، فإذا ما مرت به تجارب الحياة المختلفة، تركت فيه آثارا لا تمحى، وطريق تلك التجارب إلى العقل هي الحواس وحدها، وليس في حنايا العقل أثر واحد لم يسلك طريق الحواس أولا، فالآثار الخارجية تنتقل إلى الذهن في احساسات مختلفة، ثم تولد هذه الاحساسات شتى الآراء والأفكار. وما دامت الأشياء المادية وحدها هي التي يمكن أن تنتقل عن طريق الحواس، إذن فكل معلوماتنا مستمدة من الأجسام المادية دون غيرها. ومعنى ذلك ان المادة عند (لوك) هي كل شيء.
ثم جاء (بركلي) وخطا بعد ذلك خطوة جريئة. فقد سلم بمقدمات لوك، ولكنه اختلف وإياه في النتيجة. ألم يقل لوك بأن معلوماتنا جميعاً مشتقة مما يجيء عن طريق الحواس؟ إذن فنحن لا ندري عن الشيء الخارجي الا الاحساسات التي تنبعث إلينا منه، والأفكار التي تتولد من هذه الاحساسات عند وصولها إلى الذهن. خذ تفاحة مثلا، فهذا لونها يصل إليك ضوءاً عن طريق العين، وهذه رائحتها تصل عن طريق الأنف، وذاك طعمها تعلمه عن طريق الذوق، وذلك ملمسها وشكلها يصلان إليك عن طريق أعصاب اليد، فإذا تناول هذه التفاحة كفيف البصر؛ علم عنها كل شيء الا لونها، وإذا كان فاقداً لحاستي الشم والذوق، اقتصرت معرفته على الشكل والملمس، فإذا فرضنا أن أعصاب يده فقدت عملها أيضا، أنكر صاحبنا وجود التفاحة في يده مهما قدمت إليه من وسائل الإقناع. فلولا الحواس لما(9/29)
كان للأشياء الخارجية وجود بالنسبة إلينا على الأقل. فالحواس هي التي كونتها. ولذلك لم يتردد بركلي في إنكار المادة إنكاراً تاماً. ولا يعترف بوجود شيء الا حقيقة واحدة يحسها في نفسه وهي العقل.
أجهز بركلي على المادة فمحاها من صفحة الوجود، وأشفق على العقل فسلّم به، ولكن جاء بعده هيوم، فأبى أن يقف عند هذا الحد المتواضع من الإنكار، وسارع إلى العقل بمعوله فألقاه في هوة العدم! ما هذا العقل الذي يتشبث بوجوده بركلي؟ ابحث في نفسك بحثاً باطنياً وحاول أن تعثر على ذلك العقل باعتباره ذاتاً مستقلة، فلن تعود بطائل، ولن تصادف في نفسك إلاّ سلسلة من الأفكار والمشاعر والذكريات يسوق بعضها بعضاً. فليس ثمة عقل، ولكنها عمليات فكرية وصور ذهنية لا أقل ولا أكثر. وإذاً فقد انهار العقل كما انهارت المادة من قبل! وهكذا قوضت الفلسفة بفؤوسها كل شيء، ثم وقفت بين تلك الأنقاض الخربة لا تجد وقوداً يذكيها، فقد ضاع العقل وضاعت المادة ولم يبق لها منهما شيء!؟
ولكن الله قيض لها فيلسوفنا العظيم (عمانوئيل كانت) فأعاد البناء من جديد، وشيده على أسس قوية ثابتة لا تزال قائمة حتى اليوم. فقد أنكر بادئ ذي بدء ما ذهب إليه لوك والمدرسة الإنجليزية إنكاراً تاماً، لأن التجارب التي يقول عنها لوك أنها مصدر معرفتنا جميعاً، لا يتحتم أن تلازمها الصحة دائماً، فهي إن صحت نتائجها اليوم فقد تخطيء غداً، فضلا عن أنها تقتصر على الجزئيات ولا تتعداها إلى التعميم الذي ينزع إليه العقل بطبيعته، ومما لا ريب فيه أن لدينا من الكليات العامة ما يستحيل عليه الخطأ، كأن نقول مثلا أن 2 2=4 فهذه حقيقة لم نعتمد في تحصيلها على تجربة خارجية، وإنما اكتسبت ضرورتها من طبيعة عقولنا، فليس العقل الإنساني سلبياً، ليس قطعة من الشمع تولد خالية ثم تخط فيها التجارب ما تشاء كما ذهب لوك، كلا ولا هو أسم يطلق على سلسلة الحالات العقلية كما ادعى هيوم، انما هو عضو فعال، يتناول الاحساسات التي تأتي إليه من العالم الخارجي فيؤلف بينها، ويكون منها الأفكار المختلفة، ويصبها في القالب الذي يشاء. العقل الإنساني قوة إيجابية تعمل على تنظيم ملايين التجارب التي تصادف الإنسان في حياته، وتخلق منها وحدة فكرية منظمة! ولكن كيف؟
يجتاز العقل في ذلك مرحلتين: الأولى هي الانتقال من مجرد الإحساس إي وصول الأثر(9/30)
إلى الذهن، إلى الإدراك، أي فهم ذلك الأثر المعين. والثانية هي الانتقال من هذه المدركات الجزئية إلى المعقولات والكليات العامة. وسنفصل هذا الإجمال فيما يأتي:
تأمل نفسك لحظة، تجد عدداً من المؤثرات لا يحده الحصر يندفع إليك ويتسلل إلى ذهنك عن طريق الحواس، فهذه عشرات الأصوات تنتقل إلى أذنك من جهات مختلفة، وتلك آلاف المرئيات تبعث ضوءها إلى عينيك، وها هو ذا جسمك يحس في كل جزء من أجزائه بالمؤثرات المختلفة: يحس نعومة ملابسك أو خشونتها. كما يحس الحرارة والبرودة. فهذه الاحساسات العديدة المختلفة التي تصل إلى ذهنك من أبواب متباينة، تسبح في العقل صماء دون أن يكون لها معنى خاص الا إذا تآلفت أجزاؤها وارتبطت بمكان وزمان، وذلك التأليف والربط لا بد لهما من قوة ايجابية، هي العقل. فأنت قد ترى اللون الأصفر وتحس الشكل الدائري، وتشم رائحة معينة، وتذوق طعما خاصا ولا يكون لكل تلك المؤثرات مدلول واحد، الا إذا جمع العقل هذه الأشتات وربطها بمكان خاص (في جسم برتقالة مثلا) وعندئذ ينتقل إحساسك إلى إدراك لهذا الشيء المعين. فالواقع إن الاحساسات الأولية ليست إلا مؤثرات متفرقة تجيء إلينا من الخارج. ولا يكون لها معنى بذاتها، وهذا ما يشعر به الطفل في أول حياته العقلية. إذ يرى لون البرتقالة ويلمسها بيده، ويشمها ويذوقها. ولكنه مع ذلك لا يعرفها فإذا ما نمت قواه العقلية، أخذت هذه المجموعة من الاحساسات تتجمع وترتبط بهذا الشيء، وبذلك ينتقل حسه إلى مرتبة المعرفة والإدراك، ولا تعود صفات البرتقالة تؤثر في ذهنه مستقلا بعضها عن بعض كما كانت الحال من قبل، بل تنتقل إلى ذهنه كتلة متحدة مترابطة لا انفصال فيها. ولكن كيف أخذت تتجمع هذه الصفات في الذهن حتى تكون منها كل لا يتجزأ له مدلول خاص؟ هل تم ذلك بطريقة آلية، أي أخذت تتراص بجانب بعضها البعض. فسارع لون البرتقالة ووقف بجانب الرائحة والطعم والشكل. حتى تكونت صورة البرتقالة في الذهن، دون أن يتدخل العقل في هذا التكوين؟ هنا يجيب (لوك) ومدرسته بالإيجاب وينكره (كانت) كل الإنكار: ولا يفهم كيف تتحد جزئيات الإحساس التي سلكت إلى الذهن ألف سبيل وسبيل من تلقاء نفسها، الا أن يكون هناك قوة تنظم هذه الفوضى الحسية، قوة تؤلف بينها وتوجهها في الطريق التي تريد. قوة تشكلها وتصبها في قالب المعنى. هي قوة العقل. وآية ذلك أن الإنسان يأتيه في(9/31)
كل لحظة آلاف الاحساسات، ولكنه لا يقبلها جميعا، بل ينتقي من ذلكالجيش الجرار من الدوافع والمؤثرات ما يلائم حالته في تلك اللحظة المعينة، وهذا دليل قاطع على فاعلية العقل، ولو كان الأمر يتم بالطريقة الآلية التي زعمها لوك وهيوم، لما كانت هناك أفضلية لإحساس على آخر، بل يرغم الإنسان على قبولها بأسرها، فكل صوت يقرع الأذن لا بد أن يصل إلى الذهن، وهكذا في سائر الحواس. ولكن ليس هذا هو الواقع. فها هي ساعتي تدق على مكتبي أثناء كتابة هذا المقال، ولكنني لا أسمعها لأنني لا أريد أن أسمعها فإذا ما توجهت بإرادتي إلى استماعها، تم ذلك على الفور مع أن صوتها لم يرتفع عن ذي قبل. وقد تكون الأم نائمة مستغرقة في نومها، فتحدث جلبة شديدة. أو تمر موسيقى أمام البيت بطبلها وزمرها. فلا تستيقظ من نعاسها، أما إذا تحرك ابنها الرضيع في مهده حركة خفيفة، أو بكى بصوت منخفض، هبت من نومها مذعورة، فما الذي آثر عندها هذا الصوت الخافت على مئات الأصوات التي تقرع أذنها؟ ألا يكون هناك قوة فعالة تعرف كيف تختار من المؤثرات ما هو صالح ملائم.
خذ مثلا آخر يدلك على إيجابية العقل في الإدراك. . انظر إلى هذين الرقمين 3، 2، وأجر فيهما عملية الجمع، تسارع إلى ذهنك النتيجة وهي خمسة، ثم أقرأهما ثانية معتزما إجراء عملية الضرب تجيء إلى ذهنك نتيجة أخرى هي ستة. هاتان فكرتان أو نتيجتان مختلفتان نشأتا في الذهن من باعث واحد. وكان السبب في اختلافهما اختلاف الغرض الذي توجه به الذهن نحو ذلك الباعث، ويتضح من هذا أن العقل ليس مجرد آلة (كمرآة) تلتقط الاحساسات كما هي، وعلى رغم أنفها، ولكنه قوة تدعو من البواعث ما تريد. ثم تفكر فيها بأشكال مختلف. وهو يستعين في هذا التفكير بالغرض الذي يوجهه إلى المؤثرات الخارجية.
ولما كان لا مندوحة للعقل عن أن يفرض مكانا وزمانا يسند إليهما أثر الأحاسيس المختلفة. لأنه لا يستطيع أن يتصور مدركات مطلقة، فليس في مقدوره مثلا أن يفهم اللون الأبيض مجرداً عن (مكان) ولا أن يدرك حادثة الا إذا نسبها إلى (زمان)، إلى ماض أو حاضر أو مستقبل، أقول لما كان لا مندوحة له عن فرض الزمان والمكان لفهم المادة التي تقدمها له المؤثرات الخارجية. اخترعهما اختراعا، فهما ليسا حقيقتين في ذاتهما. أي ليس في الوجود(9/32)
الخارجي زمان ولا مكان، إنما خلقهما العقل ليتخذهما وسائل للادراك، وسبيلا لصب المعاني في المحسات.
شرحنا فيما سبق كيف تنتقل الاحساسات المنبعثة من الأشياء الخارجية إلى إدراك، ونريد الآن أن نوضح الخطوة الثانية التي يجتازها العقل في أداء وظيفته، عند الانتقال من هذه المدركات إلى مرتبة المعقولات أي تصور العلاقات الكائنة بين أجزاء الوجود بعضها ببعض، وبعبارة أخرى تلك الخطوة التي يخطوها العقل من مرحلة التجارب الجزئية إلى العلوم الكلية. فكما أن للعقل قوة يتمكن بها من تنظيم البواعث المختلفة في قالب المكان والزمان، فيدرك بذلك معنى الأشياء، كذلك له قوة أخرى، تجيء بعد هذه، وهي التي تنظم تلك المدركات في قوانين عامة، كقانون السببية، وقانون الجاذبية، وما إلى ذلك من النواميس التي تبوب على أساسها معلومات الإنسان، وهذه العملية هي كنه العقل وطبيعته. فالعقل عبارة عن عملية تنظيم التجارب وتبويبها، وهو في هذا التبويب والترتيب إيجابي فعال، وليس كما توهم لوك وهيوم قطعة من الشمع اللين التي تشكلها التجارب المختلفة وإلا فهل تستطيع أو تتصور الوحدة الفكرية التي تشتمل على فلسفة (أرسطو)، والتي تكونت ولا ريب من جزئيات أتته عن طريق التجربة والحواس، هل تستطيع أن تتصور أن تلك الجزئيات قد نظمت نفسها بطريقة آلية حتى بدت متماسكة في فلسفة متحدة، دون أن يتدخل العقل في ذلك التنظيم؟
تخيل أن بطاقات دار الكتب قد انتثرت في غرفها واختلطت ألفها بيائها، فهل تصدق أن هذه البطاقات تستطيع أن تجمع نفسها وترتب صفوفها؛ وتسلك طريقها إلى قمطراتها في نظامها الأبجدي؟!
هل يمكن أن يتم ذلك دون أن يتدخل الإنسان ويتناولها بالترتيب؟
كذلك حال العقل مع المدركات، فهي في الكون شتيت متضارب، وهي تصل إلى الذهن في هذه الفوضى: ألوان متباينة، وأصوات مختلفة، وأذواق عدة، وأشكال متنوعة، فيأخذ العقل في ترتيبها وتبويبها حتى ينتهي بها الأمر إلى هذه العلوم المنظمة المنسقة، وبديهي أن هذا التنسيق لم ينبعث إلينا من الأشياء الخارجية نفسها، وإذن فقد أخطأ لوك كل الخطأ حين زعم أن العقل سلبي، تنقش فيه التجارب بطريقة آلية، فإذا لم يكن الأمر كذلك فهل يستطيع(9/33)
لوك أن يبين لنا كيف ان التجارب الواحدة تؤثر في مجموعة من الرجال، فتخرج منهم هذا الغبي وذاك الفيلسوف؟
كلا! لا ندحة عن التسليم بإيجابية العقل وقوته في تكوين المدركات من الاحساسات أولا، ثم في تكوين المعقولات من المدركات ثانيا.
وإن صح هذا التحليل، فيكون العالم كما نعرفه من تكوين عقولنا وصنعها، فنحن لا نعلم عن الأشياء الخارجية إلا مظاهرها التي تنتقل الينا، وليس في مقدورنا أن نتغلغل في بواطنها، وقد تكون هذه الصورة الذهنية التي كونتها عقولنا عن العالم الخارجي بعيدة جدا عن الحقيقة في ذاتها، فنحن لا نعلم عن القمر مثلا إلا ما انبعث إلينا منه من احساسات زائداً ما عملته عقولنا في تلك الاحساسات، فتكونت لدينا من هذا المزيج صورة عقلية عن القمر، أما أن هذه الصورة العقلية تطابق الواقع أو لا تطابقه، فلا يستطيع البشر أن يجيب!
وهكذا أثبت (كانت) وجود المادة، إلا أنه أنكر أن تكون فكرتنا عنها على مثال الحقيقة الواقعة.
ثم يعود (كانت) بعد ذلك فيرفض ما زعمه لوك من أن العقل يولد كالصفحة البيضاء، ويؤكد في يقين انه إنما يرث شعوراً لا يأتيه عن طريق التجربة والحواس ولا بد لكل إنسان أن يسلم بوجوده، هو ذلك الشعور الذي يدلنا على أن هذا خير وذاك شر، هو ذلك الشعور الذي لا يفتأ يؤنبك إذا نبوت عن جادة الخير ويطمئن ما دمت سالكها، هو ذلك الشعور الذي تحس من أعماقك انك لو اتبعت ما يمليه عليك، وحذا حذوك البشر أجمعون، لكان الخير كل الخير. ذلك الشعور الذي يقف لك بالمرصاد والذي يولد معك. هو الضمير. ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر هذا الصوت الواضح الجلي الذي يضيق للشر ويطمئن للخير. فأنت قد تكذب. وقد تنهب حقوق غيرك. ولكن لا يسعك إلا الاعتراف ولو أمام نفسك إن هذا خطأ ولو خيرت لما رضيت أن يسود الكذب والسلب بين الناس. وكل إنسان على الإطلاق يحمل بين جنبيه هذا الوازع الذي لا تأخذه عن أعمالك سنة ولا نوم، والذي يملي على صاحبه في غير لبس ولا غموض ما يجوز عمله وما لا يجوز.
وهذا الخير الذي يمليه الضمير إنما يقصده لذاته على الرغم من انه قد يتضارب مع صالح الفرد تضاربا صريحا. فالمثل الأعلى الذي يصبو إليه هو أداء الواجب دون النظر إلى(9/34)
السعادة الشخصية.
ووجود الضمير دليل قاطع على ما للإنسان من حرية الإرادة لأن معنى رقابته أن الإنسان يستطيع أن يسلك هذا السلوك أو ذاك. ولو كان الإنسان مرغماً على أن يسير في طريق مرسومة لما كان لهذا الضمير فائدة. وكذلك يدل وجود الضمير على خلود الروح. ذلك لأن الحياة الدنيوية لا تأخذ المجرم بالقصاص في كل الأحيان، لا بل تضرب لنا الحياة آلاف الأمثلة بأن الشر هو السبيل إلى السعادة الشخصية، تعلمنا الحياة أن نمكر بالآخرين وأن من لا يظلم الناس يظلم، ولكنا على الرغم من ذلك ننشد الخير وننبذ الشر، فهذا الشعور لم يستمد من الحياة طبعا، فمن أين جاءتنا تلك النزعة للخير إذا لم نكن نعلم في أعماقنا أن هذه الحياة الدنيا ليست كل شيء، بل هي جزء من حياة ثانية خير وأبقى من الأولى، وأن هذا الطيف الزائل ليس الا مقدمة لبعث جديد؟
ثم يستطرد (كانت) في هذا المنطق، حتى يصل إلى إثبات وجود الله عز وجل، لأنه إذا كان الشعور بالواجب الذي يمليه الضمير بتضمن الدليل على حياة أخرى خالدة تجزي كل امرئ بما قدمت يداه، فهذا الخلود ناشئ بالضرورة عن سبب يلائمه، كي تتكافأ العلة والمعلول، أو بعبارة أخرى لا يمكن أن تتفرع الحياة الخالدة الا عن إله خالد.
هذا هو البناء الشامخ الذي شيده كانت، ولا يزال قائما في عالم الفلسفة تعمل فيه معاول الهدم فلا تنال منه الا كما تنال الريح الهينة من الجبال الشم الرواسخ، وعلى الرغم من أن كتاب القرن التاسع عشر حاولوا أن ينقضوا رأيه في الأخلاق والدين فقال قائل أن ليس ثمة ضمير يملي الخير، لأن الخير ليس مطلقاً فما هو خير اليوم قد يكون شرا غدا؟ وسخر ناقد من منطق (كانت) في إثبات وجود الله، فقال انه (كالحاوي) الذي يخرج من قبعته الفارغة ما يشاء، يريد بذلك انه انتزع نتيجة من مقدمات لا تؤدي إلى ذلك. أقول على الرغم من ذلك جميعا فلا يسعنا إلا أن نطأطئ الهامات إجلالا له وإكبارا.(9/35)
المغنية الضريرة
من رسالة إلى صديق
أنت تأخذ على تبرمي بالحياة وانقباضي عما تزخر به القاهرة من شهوات السمع والبصر. ولكن أنسيت أن العين التي بيضها الحزن لا تستطيع أن تجتلي جمالا يرف في روضة، ولا حسنا يشرق في طلعة. وأن الفم المريض أزهد ما يكون في طعام وشراب. أنسيت أن صديقك كان يقطع أيام الشباب في مثل طلعة الصبح إشراقا وبهجة. ثم أمسى وقد استحال كل أولئك إلى ذكريات أليمة تعاوده في غرفة معزولة تدور به في مثل حلقة الواو كربا وضيقاً، فهو أبدا موصول الحنين متتابع الزفرات. أنسيت آمالي وأحلامي؟ (أما الآمال فقد عصفت بها النكبات حتى أحالتها إلى هشيم تذروه الرياح) وأما الأحلام فأنت تعرف أنها تكشفت عن رجاء ضائع وشباب هالك وحسرة لذاعة من شماتة الأعداء. ولكن مالي وللحديث في هذا ولست بسبيل من أن أتحدث إليك فيه اليوم؟ وإذن فدعني أحدثك حديث المغنية الضريرة التي سمعتها ليلة الأمس في حفل سعيت إليه في رفقة من الأصدقاء على الرغم مني. . . هي حلوة القسمات بديعة التكوين جميلة كالزهرة تسند في حدود الخامسة عشرة من عمرها. . . أخذت مجلسها على استحياء فيما يشبه أن يكون ذلة وانكساراً وشيئاً من الخجل غير قليل. وصدقني أن مرد ذلك فيما أعتقد أنها فقدت بصرها وهي طفلة لم تدرج بعد من لفائف مهدها. . وما أحسبك تعتقد أن سلاح المرأة في هذه الدنيا شيئا غير سهام العين. وفتنة اللحاظ ترسلها ذابلة مريضة، فإذا بها السيف حدة ومضاء، والشرك المنصوب لا يخطئ الفريسة ولا يعد والغرض. ولكن الأقدار التي قست عليها فجردتها من سلاحها الوحيد كامرأة لم تشأ أن تقسو عليها القسوة كلها فمنحتها صوتا عذبا حنونا يفيض بالأسى وتقطر من جوانبه اللوعة. . . وارتفع صوتها بالغناء حزينا شاكيا يهيج ودائع القلب. ويستدر روافد الدموع.
أتعرف ذلك البلبل الذي هاجمته جيوش الظلام. قصياً عن العش الذي عرف، والدوح الذي ألف، والنبع الذي منه رشف، والجو الذي في أنحائه غنى وهتف، أسمعته وهو بين لهفة إلى مهوى الفؤاد تقيمه، ووحشة من رهبة الليل تقعده، يصب ألحانه في إذن الوجود باكية حزينة تهز أوتار القلب. وتنتزع منه العطف والإشفاق والرثاء؟ أسمعته يشكو بغير لسان،(9/36)
ويبكي بغير دموع فيبعث لك من الماضي البعيد كل دفين ومستور؟ إن كنت سمعته على هذه الصورة التي أسلفت لك. وكنت مثلي تحيا على أمل عزيز لديك ففقدته، وكنت مثلي تذيب حبة قلبك وجداً على حبيب يجزيك على عبادته كفرانا وجحوداً وعلى دمعك المسفوك ووجدك المبرح هوانا ونسيانا. إن كنت كذلك فأنت وحدك الذي يستطيع أن يدرك ذلك الأثر العميق الذي خلفته في نفسي تلك الفتاة الناشئة بصوتها الساحر الجميل. غناء كأنفاس الفجر ندية لينة، وشدو يصافح الأسماع في رفق ولين كنجوى العاشقين في هدأة السحر وقد بسمت لهما الدنيا وهاودتهما الأقدار والسلام!!.
عبد الوهاب حسن. قلم نشر مطبوعات الحكومة بوزارة المالية(9/37)
في الأدَب العَرَبي
ابن خلدون والتفكير المصري
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 4 -
قضى ابن خلدون في مصر ثلاثة وعشرين عاما (784 - 808 هـ) ولكنها كانت بين مراحل حياته أقلها حوادث وأقلها إنتاجا.
فأما عن الحوادث فان الحياة السياسية العاصفة التي عاشها ابن خلدون بالمغرب، والتي جاز خلالها معتركا شاسعا من المغامرات والدسائس الخطرة، وعانى كثيراً من الخطوب والمحن، كما نعم مراراً بمراتب النفوذ والسلطان، والتي هي في الواقع صفحة قوية شائقة في تاريخ المغرب في أواسط القرن الثامن: هذه الحياة المضطرمة العاصفة، استبدلها المؤرخ في مصر بحياة أكثر هدوءا ودعة. وفي مصر يعيش ابن خلدون شخصية عادية لا علاقة لها بشئون الدولة العليا، بعد أن لبثت بالمغرب ربع قرن روح هذه الشئون، يتجرد من ثوب السياسي المغامر ليتشح بثوب العالم المقتدر، وليستوحي نفوذه المحدود من هذه الناحية. على أن المؤرخ لقى في هذه الفترة حادثين من أهم حوادث حياته، هما فقد أسرته. ولقاؤه للفاتح التتري تيمورلنك.
وأما عن الإنتاج، فقد رأينا أن المؤرخ حقق أعظم أعمال حياته، أعني كتابة تاريخه الضخم ومقدمته الرائعة قبل مقدمه إلى مصر. ولا نعرف أن ابن خلدون وضع أثناء مقامه بمصر مؤلفاً جديداً. غير أن الذي لا ريب فيه هو أن وجوده بمصر على مقربة من المكاتيب والمراجع الشاسعة قد أتاح له فرصة التنقيح والتهذيب في التاريخ والمقدمة، خصوصا فيما تعلق فيهما بمصر والشرق، كذا استمر المؤرخ في كتابة ترجمة حياته أثناء إقامته بمصر، واستمر فيها إلى قبيل وفاته، وضمنها فصولا جديدة عن خواص دول المماليك المصرية، ونشأة التتار مما أشرنا إليه في موضعه. وكتب أثناء مقامه بالشام وصفاً لبلاد المغرب ورفعه إلى تيمورلنك كما قدمنا. كذلك لا ريب في أن ابن خلدون كان يعنى في دروسه ومجالسه ببث مذاهبه وآرائه الاجتماعية وشرحها.
غير أن ابن خلدون لم يستطع على ما يظهر أن ينشئ له بمصر مدرسة حقيقية، يطبعها(9/38)
بآرائه ومناهجه، وقد كان حريا أن ينشئ مثل هذه المدرسة في بلد انقطع فيه للبحث والدرس أعواما طويلة. نعم ان التفكير المصري المعاصر ليس خلواً من تأثير ابن خلدون كما سنرى، ولكن هذا التأثير الذي كان حريا أن يزدهر بمصر وأن ينبث في مدرستها التاريخية التي كانت يومئذ في أوج قوتها، كلن ضئيلا محدود المدى. ونستطيع أن نرجع ذلك إلى الروح الذي استقبل به المؤرخ من المجتمع المصري المفكر، وهو روح نفور وخصومة، فقد جاء ابن خلدون إلى مصر يسبقه حكمه على المصريين في مقدمته بأنهم قوم (يغلب الفرح عليهم والخفة والغفلة عن العواقب) ويورد ابن خلدون هذه الملاحظة في معرض كلامه عن أثر الهواء في أخلاق البشر ويعتبرها نتيجة لوقوع مصر في المنطقة الحارة. على أنه مهما اتخذت هذه الملاحظة سمة البحث العلمي فإنها لا يمكن أن تقابل ممن قيلت في حقهم بغير الاستياء والحفيظة. واكن طبيعيا أن يحدث هذا الغرض السيء أثره في شعور المجتمع المصري المفكر نحو المؤرخ. وكان هذا المجتمع نفسه يجيش عندئذ بكثير من عوامل الخصومة والمنافسة، وزعامته يطبعها لون من الجفاء والقطيعة. وكان اضطرام المنافسة بين أعلام التفكير والأدب يومئذ سواء في ميدان التفوق والنبوغ أو في تحصيل ما تسيغه الزعامة الأدبية من الجاه والرزق ظاهرة هذه الخصومة. وكان المجتمع القاهري الأدبي ينقسم عندئذ إلى شيع وطوائف تنحاز كل شيعة أو طائفة إلى زعيم أو جناح معين من الزعماء فتؤيد جهوده الأدبية وتناجز خصومه في ميدان الجدل. فلم يكن من السهل على أجنبي مثل ابن خلدون جاء ينتظم في سلك هذا المجتمع منافساً في طلب الجاه والرزق أن ينعم بصفاء الأفق، أو يلقى خالص المودة والصداقة، هذا إلى ما كان يغلب على خلاله من حدة وصرامة وكبرياء تزيد من حوله الجفاء والقطيعة. كان طبيعياً أن تلقى آراء ابن خلدون ودروسه في هذا الأفق الكدر من الإعراض والانتقاص أكثر ما تلقى من الإقبال والتقدير، وان تكون محدودة الذيوع والأثر. ومع ذلك فقد درس على ابن خلدون جمهرة من أعلام التفكير والأدب المصريين وانتفعوا بعلمه، وظهر أثره جليا في بعض ثمرات التفكير المصري المعاصر. وممن درس عليه وانتفع بعلمه الحافظ ابن حجر العسقلاني المحدث والمؤرخ الكبير فهو يقول لنا في كتابه (رفع الإصر عن قضاة مصر) إنه (اجتمع بابن خلدون مراراً وسمع من فوائده ومن تصانيفه خصوصاً في التاريخ) وإنه(9/39)
(كان لسنا فصيحاً حسن الترسل وسط النظم مع معرفة تامة بالأمور خصوصا متعلقات المملكة). وإنه كان جيد النقد للشعر وإن لم يكن بارعا فيه. بيد أن ابن حجر يحمل على ابن خلدون بشدة، وينقل في ترجمته كثيراً مما قيل في ذمه وتجريحه. فهو يقول لنا في تاريخه أن ابن خلدون مؤرخ بارع (ولكنه لم يكن مطلعا على الأخبار على جليتها ولا سيما أخبار المشرق) ويعارض المقريزي في مدح المقدمة ويرى أنها لا تمتاز بغير (البلاغة والتلاعب بالكلام على الطريقة الجاحظية) وان محاسنها قليلة (غير أن البلاغة تزين بزخرفها حتى يرى حسناً ما ليس بحسن) وأما ابن خلدون كقاض فان ابن حجر يقول لنا: (أنه باشر القضاء بعسف وبطريقة لم تألفها مصر. وانه لما ولي المنصب تنكر للناس وفتك في كثير من أعيان الموقعين والشهود، وانه عزل لأول مرة بسبب ارتكابه التدليس في ورقة ثم ينقل في هذا الموطن كثيراً مما قيل في ذم المؤرخ وتجريحه. من ذلك إن أهل المغرب لما بلغهم ولايته للقضاء تعجبوا ونسبوا المصريين إلى قلة المعرفة بحيث قال ابن عرفة: (كنا نعد خطة القضاء أعظم المناصب فلما وليها هذا عددناها بالضد من ذلك) ومن ذلك قول الركراكي أحد الكتاب الذين عملوا مع ابن خلدون (أنه عرى عن العلوم الشرعية) بل ينقل ابن حجر أيضاً بعض المطاعن الشخصية والأخلاقية التي قيلت في حق المؤرخ من ذلك ما نقله عن العينتابي وهو أنه كان يتهم بأمور قبيحة وما نقله عن كتاب القضاة للبشبيشي، وهو (أن ابن خلدون كان في أعوامه الأخيرة يشغف بسماع المطربات ومعاشرة الأحداث وأنه تزوج امرأة لها أخ أمرد ينسب للتخليط) وأنه كان (يكثر من الازدراء بالناس) وأنه (حسن العشرة إذا كان معزولا فقط فإذا ولى المنصب غلب عليهم الجفاء والنزق فلا يعامل بل ينبغي أن لا يرى) وهذه أقوال تنم عن خصومة مضطرمة ومبالغة في الانتقاص تنحدر إلى معترك السباب والقذف. وقد كان البشبيشي بلا ريب من ألد خصوم المؤرخ وأشدهم وطأة عليه. وقد دوَّن حملاته على المؤرخ في كتاب ألفه في تاريخ القضاة ولم يصل الينا، ولكن ابن حجر ينقل إلينا منه تلك الفقرات الشخصية اللاذعة.
وأخيراً يقول ابن حجر من ابن خلدون وأثره يدعو إلى التأمل، فهو على رغم اتزانه واعتداله وعفة قلمه ينساق هنا إلى نوع من التجريح والانتقاص ليس مألوفا في كتاباته. ولا ريب أن في لهجته وأقواله مبالغة وتحامل، ولكن لا ريب أيضا أن لها قيمتها في تقدير(9/40)
الرأي المصري المعاصر لأبن خلدون، بل نستطيع أن نعتبرها ممثلة لرأي الفريق المفكر الذي كان يخاصم المؤرخ ويشتد في تجريحه، والحملة عليه، وقد كان الفريق الأقوى بلا ريب لأنه كان يضم كثيراً من المفكرين والفقهاء البارزين مثل ابن حجر، والجمال البشبيشي، والركراكي، وبدر الدين العيني (العينتابي). وقد امتدت آثار هذه الخصومة الأدبية طوال القرن التاسع الهجري حتى جاء السخاوي في أواخر هذا القرن يردد كل ما ذكره ونقله شيخه ابن حجر في ذم ابن خلدون وتجريحه والانتقاص من أثره، ولكن في لهجة مرة لاذعة تنم عن الخبث، وقصد التشهير والهدم أكثر مما تنم عن قصد النقد الصحيح، وهذه الروح المرة اللاذعة تبدو في معجمه (الضوء اللامع) في معظم تراجم الشخصيات البارزة. بيد انه يعترف في كتاب آخر له (بنفاسة) مقدمة ابن خلدون ويبدو أكثر اعتدالا وتقديرا.(9/41)
إسماعيل صبري
بمناسبة مضي عشر سنوات على وفاته
يوم نستقبل الربيع نذكر الخمائل على ضفاف النيل وهي ترسل نسماتها البليلة الندية، والطير جاثمة فوق غصونها تشدو بأغانيها الجميلة الشجية، ومن خلال أشجارها تجري جداول تدفقت فيها المياه العذبة الروية. . اليوم الذي تستجيب فيه العين والأذن للزهر وللطير وللماء، لا ننسى انه اليوم الذي ذوت فيه زهرة أرجة ناضرة، وانقطع صوت لين حنون، وجف في مجراه ماء عذب دفيق: ففي مثل هذا اليوم استوفى إسماعيل صبري ظمأ حياته.
فهلا يجمل بنا اليوم، يوم تمضي على وفاته عشر سنوات أن نذكره ولو بهذه الإجمالة الموجزة؟
لا نريد أن نترجم حياة صبري وإن كانت خطيرة، فقد تدرج في وظائف الحكومة حتى شارف ذروتها، ذلك لأن هذه المناصب الرفيعة، وإن أحلت صاحبها في حياته مقاماً محموداً، أهون على الناس من أن تبعثهم على أن يحفلوا بأمره بعد أن بت ما كان يصلهم به من أسباب الحياة، هذا إلى أن مراد القول أضيق من أن يستفيض لترجمة شاملة وافية نتبين منها
ما تركته أطوار حياته من آثار وندوب في هذا الجانب الروحي الذي يمس النفس الإنسانية فيصل بين أجزائها وإن اختلف ما يحفها من عهود وبيئات.
أستقبل صبري حياته، في أوائل النصف الثاني من القرن الماضي. وقد تجمعت عدة جهود أدبية وقامت فيما يشبه الثورة: فبعثت طائفة من معاجم اللغة وأسفار الأدب ودواوين الشعر من خزائنها وطبعت، وأخذت الصحف الأدبية تنشأ وتعمل لتقويم اللغة وإحياء الأدب العربي، وأعيدت البعوث إلى أوربا بعد أن وقف إرسالها أيام عباس وسعيد، وأقيمت نظارة المعارف وعهد إليها بأمور التعليم وأنشئت دار الكتب ومدرسة المعلمين، وظهرت مسارح التمثيل والموسيقى والغناء وغير هذا مما لم يكن إلا ناحية من نواحي الثورة الاجتماعية التي أقامها الخديوي إسماعيل يوم رسم لمصر خطة الاتجاه إلى أوربا واقتباس حضارتها الجديدة.(9/42)
في هذه البيئة التي يدب النشاط في جنباتها فيبتعث الملكات الهامدة، بدأ صبري يقرأ الشعر ويحبه، وأخذ ينعم النظر فيه ويحاول أن يقلده، حتى استقامت له وهو في السادسة عشرة بضعة قصائد في مدح الخديوي وتهنئته نشرتها له مجلة (روضة المدارس المصرية) التي أنشأها جماعة من صفوة الكتاب البارزين إذ ذاك. وكانت هذه الأشعار مجرد تقليد واضح في أغراضها ومعانيها وأساليبها لمن سبقه من شعراء عصره كالبارودي وعبد الله فكري، وإن ظهرت علينا حيناً مسحة رقيقة من روحه وشخصيته.
ولكن هذه البيئة الأدبية النشيطة لم يقتصر أثرها على توجيه صبري إلى الأدب وإذكاء ميله إلى الشعر، بل حببت إليه قراءة الشعر العربي القديم من ناحية، وحثته على قراءة الأدب الفرنسي منذ أرسل إلى فرنسا ليدرس الحقوق في جامعة إكس من ناحية أخرى. فقرأ الشعر العربي وتذوقه وأحب منه بوجه خاص شعر البحتري، ذلك أن صبري، كما وصفه الدكتور هيكل (ابن بلد) والبحتري كما قال حافظ إبراهيم (يأخذ قارئ شعره بالحضن) وقرأ الأدب الفرنسي وصادف فيه جمالاً يرضي عاطفته؛ وسيولة تروي شعوره. وبهذا تأثر صبري ببعض مميزات الشعر الفرنسي حيناً، وببعض مميزاتهما معاً حيناً. ولكن ما مدى هذا التأثير في أطواره الادبية، وما هي مظاهره في نتاجه الشعري؟ هذا سؤال يتناول ناحية خطيرة في دراسة الشاعر، وأنا لا أملك الآن ما يؤهلني لبحثها في دقة وتحقيق. ولكني أراني ملزماً بأن أعرض لها ولو في هذه الصورة التي أعرف أنها ليست دقيقة كل الدقة، وليست شاملة كل الشمول.
حين نقرأ هذه الأشعار القليلة التي خلفها صبري نرى أنفسنا أمام طائفتين متمايزتين من الشعر، تشتركان في صفاء الديباجة ورواء الأسلوب بوجه عام، وتختلفان في الشعور الذي صدرتا عنه، وفي العاطفة التي أوحت بهما، وفي المعاني التي تدوران عليها. وقد يضعف هذا الاختلاف حيناً وقد يشتد حينا آخر اشتداداَ يحملنا على أن نزعم أننا لا نقرأ شاعراً واحداً وإنما نقرأ شاعرين مختلفين. وليس في هذا ما يدهشنا، فصبري قد عاش ما يقارب سبعين عاماً، مرت عليه أثنائها عهود الشباب والرجولة والكهولة، حاملة أراءها وأفكارها، وخواطرها وخلجاتها، وآلامها ولذاتها، وتنقلت حياته أثناءها بين هذه الآراء المتضاربة التي يمتلئ بها العقل تبعاً لما يتغذى به من ألوان الثقافة المختلفة، وبين هذه الاحساسات(9/43)
المتباينة التي يجيش بها القلب تبعاً لما يعرض له من مناسبات وملابسات.
فأما الطائفة الأولى من شعره فهي التي أنشأها بين العشرين والأربعين وأكثرها قصائد في مدح أو تهنئة إسماعيل وتوفيق وعباس، وفي هذه الأشعار نرى أثر الشعر العربي ظاهراً واضحاً، ونرى أثر البحتري وحده، على وجه الدقة، عميقاً بارزا، إلى حد يبيح لك أن تشرك شعريهما في مميزات واحدة. خذ مثلا قصيدته في تهنئة الخديوي بحلول شهر رمضان ومطلعها:
بعلاك يختال الزمان تبختراً ... وبقدرك الأسمى يتيه تكبراً
وقارنها بكثير من مدائح البحتري تجد أن صبري قد تأثر فيها بالبحتري تأثراً هو أشد من تقليد شاعر لشاعر، وهو أقرب إلى حلول روح شاعر في جسم شاعر آخر. ولكن، وعلى رغم هذا كله، فان هذا الأثر تناول الديباجة وحدها فأكسبها جزالة وسهولة في مفرداتها وتراكيبها، من غير أن يمتد إلى المعاني فينتج منها شيئا جديداً قيما، وذلك لأن البحتري، وهو الوشيجة التي تصل صبري بالأدب العربي، قل أن نظفر في شعره بكثير من المعاني المبتكرة، وقل أن نحب فيه غير متانة الأسلوب وسلاسته. تأثر في هذا الطور الأدبي، بين العشرين والأربعين بالشعر العربي وحده، فأين كان الشعر الفرنسي؟ أليس من الشذوذ أن نرى صبري قد ذهب إلى فرنسا قبل أن يبلغ العشرين من عمره، وبدأ إذ ذاك يقرأ الآداب الفرنسية ويتذوقها ويشدوها ثم لا نكاد نظفر في شعره أثناء هذا العهد بأثر قوي لهذا الشعر الفرنسي بل ولا لأي مظهر من مظاهر الحياة الأوربية؟ ولكن يظهر أن صبري قد أوتي، إلى جانب حواسه المرهفة، ذاكرة قوية مكنته من أن يختزن فيها ما يعرض له حتى يتمثله في تؤدة وأناة وحتى ينتجه مكتمل النمو مستوفي النضوج.
ونحن لا نفترض هذه الموهبة ولا نتكلف التماسها، وإنما يحملنا على الاطمئنان إليها أننا نجد فيها تعليلا لهذا الاضطراب الذي يغشي أطوار حياته الأدبية. فقد قضى صبري شبابه وشعره يكاد يقتصر على المدح وما إلى المدح مما تنفر منه نفس الشباب، ولا تكاد تبين فيه إثارة من هذه العواطف التي يحفل بها الصدر في ربيع الحياة، بينما تفتحت شاعريته الجائشة وأخذ يتغنى بأناشيد الحب والهوى أثناء الكهولة التي تنطفئ فيها عواطف الشباب الفياضة. ذلك لأن ذاكرته القوية قد استطاعت أن تحتفظ بهذه الاحساسات الفتية التي(9/44)
اختلفت عليها أثناء شبيبته، حتى تفجرت بعد ذلك شعراً ثميراً لا تشوبه فجاجة الحس ولا غضاضة العاطفة.
ولهذا ظهر أثر الشعر الفرنسي في هذه الأشعار التي تغنى فيها بالعاطفة الإنسانية التي يسمونها الحب أو العطف أو الوداد وناجى فيها الله وتخوف وتشوف إلى الممات، وشاد بمجد وطنه واستنهض أبناءه إلى استعادة الماضي المجيد. في هذه القصائد والمقطوعات، التي كتبت أسمه في ثبت الخالدين، ظهر أثر الشعر الفرنسي بارزاً شاملا: بارزاً حتى يكاد يخفي وراءه كل أثر للشعر العربي، شاملا فلا يقتصر على الديباجة وحدها، ولا على المعاني وحدها، وإنما ينال الأسلوب فيضفي عليه جمالا ورواء، ويتعداه إلى الفكرة فيمزجها بروح غريبة لم يألفها الشعر العربي من قبل.
وهل ترى في الشعر العربي مثالا لهذه القطع التي أنشدها في الحب؟ كلا! فالشاعر العربي الغزل لا يرى في المرأة الا (أنثى) جميلة الوجه دقيقة القسمات، مهفهفة القوام رشيقة الأعطاف، رخيمة الصوت شيقة الحديث، يهصر صدرها ضما ويشبع ثغرها تقبيلا، وهي تتهافت وجداً وتتهالك هياما! والغزل في الشعر العربي يضيق عن أن يستفيض لجميع وجوه الجمال الإنساني، وينصب على ناحية الجمال الجسمي وحده، فيصفه جملة أو تفصيلا، سواء كان الغزل عذريا أو إباحياً أو متكلفاً. أما شعر صبري في الحب فيختلف عن هذا الغزل العربي في صلته بالمرأة، إذ يتسامى عن الجمال المادي إلى الجمال المعنوي في أرحب آفاقه وأشمل معانيه. فلا تستخفنا فيه هذه العيون والحدود، والصدور والنهود، والملاسة والرشاقة، والتقبيل والضم، والتأود والتثني، والتأوه والأنين وإنما نهتف فيه بالمثل الأعلى للمرأة في أفتن جمالها، وأذكى فؤادها، وأنبل روحها.
وأني لأشعر حين أقرأ قصيدته (تمثال جمال) أني أنظر إلى صورة فنية رائعة، فلا أميز بين هذه المرأة التي يهتف بها الشاعر، وبين هذه المرأة التي يتخذها المصور رمزاً لمعنى من المعاني الإنسانية كالألم أو الأمل أو الحنان! بل أني لأحس حين أرتلها أن قلبي قد صفا مما به من شره وأنانية وغرور وكبرياء، وأن صدري قد انطفأت فيه جذوات الحقد والحسد والغيرة والطماح، وأن فؤادي قد غمر الخشوع والإيمان ما يغشاه من شك وضلال: أشعر أني قد سموت من الأرض إلى السماء!(9/45)
ولم لا وصبري قد امتزجت فيه الروحية بالجمال؟ ألم ينشأ على ضفاف هذا النيل الذي أوحى إلى الإنسانية أن تبتكر ديناً وإيمانا، ألم يلابس الحياة الأوربية وما تضفيه من فتنة وجمال؟ وبهذا استجاب للروحية المصرية وتمثل الجمال الأوربي، وبهذا اجتمعت فيه مصر بروحيتها وأوربا بجمالها، وبهذا كان نتاجه الشعري مزاجاً من الروحية في معانيه ومن الجمال في أساليبه.
وشعره في الحب، بعد هذا، سمح وديع رضي: لا يفطر القلب أسى، ولا يرسل من العين دمعاً، ولا يبعث من الصدر أنيناً، ولكنه لا يشيع في المرء غبطة في الحياة ورغبة في متاعها ولا يغري بالإسراف والتوفر على لذاتها، وإنما يجمع في شعره لوعة غير مسرفة، ومتعة غير غالية، ذلك لأن صبري لم يكن لاهياً ولا عابثاً ولم يكن كئيباً ولا محزوناً، وإنما كان سمح الذوق، وديع الخلق، رضي النفس، فما كان يذعن قلبه لامرأة واحدة تأسره وتطغي عليه، وما كان ماجناً في حبه سادراً، ولا متهتكا في لهوه مستهتراً، وإنما كان ينشد المرأة التي تشبع القلب ولا تتخمه، وتروي الفؤاد ولا تغرقه، وترضي الشعور ولا تقسو عليه.
وهذه الدعة التي تميز بها في حبه، تشيع كذلك في شعره في مناجاة الله، وازدراء الدنيا، واستشفاف ما في الحياة الأخرى. فهو لم يكن ناسكا في الدنيا زاهداً في لذاتها، ولم يكن مفتوناً بالحياة متوفرا على متاعها، وإنما كان ينال من هذا في قصد ويأخذ من ذلك في اعتدال، فإذا أسرف في حبه للحياة واستمتاعه بلذاتها الرخيصة، ذكر الدنيا وما فيها من نكر وخداع وضلال، وذكر ما بعدها من حساب وعقاب وثواب، فاستعجل الموت وراحة القبرحيناً، وناجى الله وأمل فيه حينا.
ولكن صبري الوادع الهادئ كان إذا تحدث عن وطنه جاشت الحماسة في أنحاء صدره، وفاضت الحرارة في سياق شعره، فمثلت الوطن بجلاله وروعته، وأشعرت المصري بمجده وكرامته، وأذكت نار الوطنية في فؤاده، وألهبت فيه عاطفة التضحية في سبيل بلاده.
وهو في شعره يستلهم العاطفة ويستوحيها. كانت تختلف عليه غير السياسة وأحداثها فلا يحفل بها، وتتوالى أمامه الكوارث والخطوب فلا يأبه بها، وتتراكب في عينيه شؤون الحياة وأمورها، وتزدحم بخيراتها وشرورها، وتغص بلذاتها ومنغصاتها، فلا تسترعي منه حاسة(9/46)
ولا تستثير في نفسه عاطفة، بينما يجيش وجدانه وتهتز عواطفه عند موت طفل، أوفراق صديق، أو قراءة كتاب، أو وقفة عند سفح الأهرام. هذه الحوادث التي تمر بنا فلا نلتفت إليها كانت تثير شاعرية صبري بهذه المقطوعات التي تمس النفس الإنسانية في أعمق حواسها وأدق مشاعرها. وهذه هي مهمة الفن: يفتح العين المغمضة، ويذكي الحاسة المطفأة، ويبعث العاطفة الهامدة، ويحيي موات القلوب، حتى يشركنا لحظ مما فاتنا من اللذات السامية التي قصرت على النفوس الموهوبة. وهل نرى بهجة الحياة إلا بعين المصور، وهل نستمع إلى أنغامها إلا بإذن الموسيقي، وهل نحس الحق والجمال إلا بقلب الشاعر؟ وأي شعر أرفع من شعر صبري الذي (فاضت به) العاطفة من غير أن تتكلفه أو تكره عليه؟ وأي شعر أنضج من شعر صبري الذي كان يؤمن بشيطانه ولا يعصي له أمراً، فيستوحيه الشعر ولا يستجديه؟ وأي شعر أسمى من شعر صبري الذي تشيع فيه هذه المرارة وهذا الحنين، فيذيب في الصدر أطماع الحياة وآثامها، ويسمو بالنفس عن متعها الخسيسة الهينة، إلى المستوى الإنساني حيث يستحيل البغض حباً، والقسوة حناناً، والأثرة إيثارا، والتناحر وداداً، والصراع عناقا. . .
إلى جانب هذا النضوج في روح صبري، نذوق جمالا في أسلوبه يملك على المرء نفسه حين يتلوه، ويحمله على أن يرتله مرة بعد مرة وعلى أن يذكره آونة بعد آونة، فلا يزداد الشعر إلا عذوبة وصفاء تزيد المرء لذة ومتاعاً، ويخيل إلى المرء أنه أمام وجه جميل، كلما أطال النظر إليه، ازداد رغبة فيه وحباً له. وهكذا يقاس نضوج الفن: يزداد المرء بالصورة إعجابا كلما انعم النظر فيها، ويزداد حنيناً إلى الموسيقى كلما أطال الاستماع إليها، ويزداد فتنة بالشعر كلما أكثر ترديده وترتيله. وكيف لا يكون شعر صبري جميلا وقد استقاه من ينابيع فياضة بالجمال: تأثر بشعر البحتري الذي امتزجت فيه الجزالة بالسهولة، وتأثر بالشعر الفرنسي الذي يفيض سيولة ورواء. ويتجاوب ألحاناً وأنغاماً، وهو قبل هذا قد أوتي أذناً دقيقة تجيد انتقاء المفردات، وتحسن الاستماع إلى اتساق العبارات (وتحس نبو الوتر). وصبري كان مولعاً بالموسيقى، مفتوناً بالغناء، وكان متصلا بمن عاصروه من الموسيقيين والمغنيين، وأمدهم بكثير من المقطوعات الغنائية الشعبية، ومن أجملها (قدك يا أمير الأغصان) (الفجر لاح يا تجار النوم). وكانت تستخفه عذوبة الحديث وبلاغة الإلقاء(9/47)
ولهذا كان كثير التبديل والنقد لشعره، وكان يبذل في صياغته جهداً ناصباً، حتى إذا استقام له البيت أو البيتان أو الأربعة أهملها ثم نسيها، فلم يبق لنا من شعره إلا القليل.
هذه سوانح تخطر لي عندما أتلو شعر صبري الذي لم تتطرق إليه البداوة العربية التي تغشى غيره من شعرائنا، أكتبها لنذكر صبري (أستاذ الشعراء) الذي صبغ الشعر العربي الحديث بطابع نلمس آثاره في شوقي وحافظ.
عبد الحميد عبد الغني(9/48)
من طرائف الشعر
شوقية لم تنشر
نظمها شاعر الخلود شوقي بك فغنت بها إحدى القيان ولم تنشر
بي مثل ما بك يا قمرية الوادي ... ناديت ليلى، فقومي في الدجى نادي
وأرسلي الشجو أسجاعاً مفصلة ... أو رددي من وراء الأيك إنشادي
لا تكتمي الوجد، فالجرحان من شجن ... ولا الصبابة، فالدمعان من واد
تذكري! هل تلاقينا على ظمأ؟ ... وكيف بل الصدى ذو الغلة الصادي
وأنت في مجلس الريحان لاهية ... ما سرت من سامر إلا إلى نادي
تذكري قبلة في الشعر حائرة ... أضلها فمشت في فرقك الهادي
وقبلة فوق خد ناعم عطر ... أبهى من الورد في ظل الندى الغادي
تذكري منظر الوادي ومجلسنا ... على الغدير كعصفورين في الوادي
والغصن يحنو علينا رقة وجوى ... والماء في قدمينا رائح غاد
تذكري نغمات ههنا وهنا ... من لحن شادية في الدوح أو شادي
تذكري موعداً جاد الزمان به ... هل طرت شوقا؟ وهل سابقت ميعادي؟
فنلت ما نلت من سؤل ومن أمل ... ورحت لم أحص أفراحي وأعيادي(9/49)
طائري المهاجر
في قفار الفلاة كان مسيري ... والشمس ترسل نارا
// لفحات كأنها من سعير ... زادت أواري أوارا
// ليس فيها سوى رمال كثيب ... من فوقهن رمال
لا غدير ولا جناب رطيب ... تحنو عليه الظلال
متعباً يائساً آويت لكهف ... مالت عليه الصخور
وتراميت بين جهد وخوف ... تضيق منه الصدور
غير أني أبصرت طيرا جميلا ... ما راعه أن رآني
لونه كالسماء، أحلى هديلا ... من مطربات الأغاني
قلت يا طير: إن قلبي وجيع ... فغنني واشف قلبي
أنا في هذا القفار مضيع ... فكن عزائي وطبي
فدنا عند ذاك مني وغنى ... والسحر في نغماته
وأتى فوق راحتي مطمئنا=يفتر عن بسماته
وغدا طائري أنيس حياتي ... في وحشة الصحراء
وألفت البقاء وسط فلاتي ... حتى نسيت شقائي
فكأن الرمال أضحت غياضا ... تجري بها الأنهار
وكأن الصخور صارت رياضا ... تزينها الأزهار
غير أني. أواه! أبصرت يوما ... طيري على غير عهدي
فتوددت في خشوع فأومأ ... عليّ عبوس وصد
وتوسلت ضارعا بودادي ... وما تضمن قلبي
وجرى الدمع من دماء فؤادي ... ولست اعرف ذنبي
بم ناديت حسب نفسي شقائي ... وما ترى من بكائي
إنني لا أعيش إلا رجاء ... فلا تضيع رجائي
فلوى رأسه الجميل مجيبا ... في قسوة وجفاء
قال: ما تبتغي؟ كفانا نحيبا ... أف لهذا البكاء!
أنا طير ولي جناحا فدعني ... أطير نحو السماء(9/50)
والتمس صاحبا شبيهك، أني ... سئمت طول البقاء
قال هذا وطار عني يغني ... بين ثنايا السحاب
تاركا مهجتي لنيران حزني ... تلقى صنوف العذاب
م. ف(9/51)
علالة المجنون
(قطعة تمثل مجنون ليلى في إحدى خلواته، وهو يرفع إلى عشيقته عفوه عن الحب ويشرح ماله من يد وفضل على المحبين، وهو الذي ذهب بعقله وأورده موارد التلف، ويسر في أذن الليل صبابته وإخلاصه لفاتنة قلبه ومالكة لبه)
(الناظم)
عفا الله يا ليلاي عن ذلك الحب ... وجدد ما قاسيت في البعد والقرب
ولا زادني إلا عذابا ومحنة ... أفانيهما حتى أغيب في الترب
صبرت على عيشي زمانا وللهوى ... جراح لم يجرؤ لساني على العتب
وغالب غيري حبه متبرما ... وغالبته نشوان مختبل اللب
ولولا الهوى لم يعمر البيد خاطري ... ولا طار في أجواء مأنوسة قلبي
ولولا لم يحل من وجنة جنى ... ولا شرع الهيمان في السلسل العذب
ولولا الهوى لم يسفح البين أدمعاً ... تسيل على الخدين كاللؤلؤ الرطب
ولم تسلك الألحاظ في النفس مسلكا ... كما خامر الرعديد طيف من الرعب
ولولاه أصبحت الشقى بوحدتي ... وإن ضافني قومي وعللني صحبي
به أبصرت عيني ولم أك مبصراً ... وهبت رياحي وأنجلت غمرة الكرب
وزفت لي الدنيا كفردوس آدم ... وطالعني الريحان في المهمة الصعب
إليك أبث الحب يا ليل فاستمع ... لأنت إذا نامت عيون الورى حسبي
عشقت ومالت بالفؤاد صبابة ... ومن حسنات الكون يا ليل ما يصبي
يقولون ما أغناك عمن تحبه! ... إذا هو أصلاني الغرام فما ذنبي؟
ولولا شعاع بين عينيه راعني ... وشرد عقلي ما اهتديت إلى الحب
كذبت هوى ليلاي إن لم أمت به ... وأقضي على تذكار قاتلتي نحبي
أأجزيه من دمعي؟ لقد نفد البكى ... فهات لأجفاني دموعا من السحب
أأكتمه والسقم واش، وحيرتي ... وليلى، وأنفاسي تحدث عن صب؟
حنانك يا ليلى ألم تحملي الهوى؟ ... ألم تعلمي يا منية النفس ما خطبي؟
رفيق فاخوري (سورية حمص)(9/52)
ليلة!
// ليلة الأنس تقضت ... في شراب ومجون
// لم يشاهدها الندامى ... في مقاصير الأمين
طلع الفجر وكنا ... من هوانا ثملين
ضمني صدر وفي ... كله عطف ولين
وفم يعبق طيباً ... كعبيق المورلين
لذة العمر لديها ... كل شيء قد يهون
لا ترم مني شرحا ... أنا للسر أمين
حسين شوقي - كرمة ابن هانئ(9/54)
في الأدَبِ الشرقي
من الأدب التركي
الزامر الأعمى
للدكتور عبد الوهاب عزام
جلست إلى دواوين الشعر التركي أقلب الأجيال بين يدي: أطالع مرة وجه (نجاتي) و (ذاتي) وأنظر أخرى إلى (باقي) و (نفعي) وثالثة أرى (نديما) (وراغب باشا) و (الشيخ غالب) ثم أعمد إلى العصور الأخيرة فإذا اسناسي و (نامق كمال) و (ضيا باشا) و (توفيق فكرت) و (عبد الحق حامد) وغير هؤلاء.
وبينا أطوي العصور باللمحات، وأقلب الأجيال تقليب الصفحات، بصرت (بالصفحات) ديوان الشاعر الكبير صديقي الكريم محمد بك عاكف. فسارعت إلى الجزء الأول فانفتح عن قطعة عنوانها (الزامر الأعمى) فقرأتها ثم عمدت إلى القلم فترجمتها نثراً إذ ضاق الوقت دون نظمها وأنا أقدمها للقراء كما جاءت عفو البديهة في الاختيار والترجمة:
الزامر الأعمى
كنت أرى هذا السائل الضرير، يتأبط ذراع قائده، وفي يده قصبة عتيقة، ينبعث منها صوت قوي، كأنه النواح في المأتم. ويمر به الناس فيقفون ويستمعون رحمة به ورثاء له. ثم يلقي كل منهم إلى كشكوله البائس الذليل خمس بارات أو عشراً.
كان يبعث أناته في قصبته المرضوضة فينبعث إلى أذنه في رنين العشرات والخمسات صدى البشرى، ورسالة المودة، رنات لا تفنى في أنين الناي الحزين، ولكنها تؤلف نغمة أخرى تسايره. كم أحزنني هذا الصوت! وكم أمضني ذلك المرأى الأليم!
إنه من دهره في ليال متتابعة مديدة، لا يتنفس في آفاقها المظلمة صبح، ولا يلوح في وجهه لمحة من النور، تحدث عن بسمات الرجاء والأمل. كلا. إن هذا لوجه الأغبر، هذا الوجه التعس قد أقتمت فوقه سحب متراكمة من الشقاء: ماضيه ظلام، وظلام مستقبله. سله عن الحياة فهي حقيقة مظلمة مديدة. تراها نظراته حجابا من الظلمات دون حجاب. انه لا يبصر المصائب، ولكن كل شيء حوله مصيبة، يمتد به العمر الشقي في هذا العالم البائس،(9/55)
ويتحسس ظلامه الذي ما ينتهي فلا يظفر بطريق تخرجه إلى صبح الأمل المسفر.
وعلى كتفيه مزق من عباءة بالية قد اتخذها مجنا في عراك الأيام، ولكن يد الريح العابثة تنازعه هذا الستر كلما هبت، فتكشف عن كتفيه، وتلقي بصدره أمواج المطر والبرد.
بينما أخرج السوق بصرت بسائل يبعث أنينا حزينا، وهو متكئ على أحجار تغشاها أوحال. وتحته حصير أبلاه مر الأيام ولا يظله إلا طنف (سبيل) هناك. ولكن صوت الناس لا ينطلق الآن بعيداً، وإنما سمعت عن كثب صدى كنسيس المحتضر.
ليت شعري أكان يزمر لنفسه أم كان يئن؟ لا أحد يسمع له! ولا أحد يقف عنده! ولكن المارة يلقون إليه بنظراتهم ثم تمضي بهم السبل. ومن ذا الذي يصيخ إلى صدى تلفظه المقابر؟ أيها المسكين! وطّن على الموت نفسك! واقطع أنات الشكوى. لا لا. أصخ! قد سمع في الكشكول رنينا مديدا! يا لها نغمة من الرجاء مطربة! يا لها بشرى أستمع لها القلب والأذن معاً.
الماء يخترق الطنف، فينسكب المطر من ثقوبه فيضرب الكشكول البائس! سمع الأعمى الصوت فحسبه نبض الرحمة قد جاشت به قلوب المارة. فمد يده، مدها إلى الكشكول، ولكن هيهات! قد خاب رجاؤه، وكذب ظنه، ارتدت يده المتجمدة من البرد! ارتدت إليه فارغة مبتلة!(9/56)
في الأدَب الغربيّ
عنزة المسيو سيغان
لألفونس دوديه
إلى الشاعر الملهم بيبر غرينفوار - بباريس
ستظل طول حياتك على حالك التي عهدتها يا صديقي البائس!
كيف تعرض عليك وظيفة مخبر لإحدى كبريات الجرائد في باريس ثم ترفض! تأمل في حالك أيها المسكين! أنظر إلى ثوبك الممزق وإلى حذائك البالي، والى وجهك الضعيف الشاحب، أذلك ما أجداه عليك غرامك بالشعر. وهذا جزاء خدماتك الجلى (لأبولو) مدة عشر سنوات. . . ألا تخجل من نفسك بعد هذه النتيجة؟
إقبل هذه الوظيفة أيها الغبي! إعمل مخبراً! ستكسب الدنانير الجميلة فتستطيع بها أن تأكل في المطعم أكلا شهياً وأن تلبس في أول الشهر معطفاً جديداً. . .
ألا تريد أن تقبل؟ أترفضها إذن؟ تريد أن تبقى حراً إلى الأبد. . . أصغ إذاً إلى قصة عنزة المسيو سيغان لتعلم ما يجنيه المرء من الإخلاد إلى حياة الحرية!
لم يلاق المسيو سيغان حظاً في اقتنائه المعز. فقد خسر أعنزه كلها بطريقة واحدة: كانت تقطع حبلها في الصباح لتهرب إلى الجبل حيث يفترسها الذئب. فلا وداعة سيغان ورفقه، ولا اسم الذئب وبطشه، كانت تثنيها عن خطتها. فكانت، على ما يظهر، معزى مستقلة بنفسها، لا ترضى بغير الهواء الطلق مربطا ولا بغير الحرية مرتعاً.
ولكن سيغان لم يكن يفهم طبعها ولا يعرف شيئاً من خلقها ليخفف قليلا من حدته وذعره. فكان يقول:
- انتهى الأمر! إنني لن أقتني بعد اليوم عنزة واحدة لأنها تمل عشرتي.
ولكنه على رغم ذلك لم ييأس اليأس كله. فبعد أن خسر ست عنزات بالطريقة المعلومة اشترى السابعة. ولكنه في هذه المرة عنى باختيارها صغيرة ليأمن بقاءها عنده.
آه! يا صديقي غرينفوار ما كان أجمل عنزة سيغان هذه المرة! عينان ناعستان ولحية صغيرة كلحية الضابط، وحافر أسود لماع، وقرنان معقوفان، وصوف طويل أبيض يتدلى(9/57)
على جسمها! إنها أحلى وألطف من جدي اسميرالد الذي رأيناه يطوف به الشوارع بالأمس، أتذكره يا صديقي؟ إنها كانت هادئة، وديعة، سهلة الانقياد. . .
وكان سيغان يربط ما عزه في حضيرة محاطة بالعليق خلف منزله. فربط فيها العنزة الجديدة، وأطال لها الحبل لترعى ما جاورها من الأعشاب النضرة، واخذ يطل عليها من وقت إلى آخر ليتعرف حالها. ولشد ما كان سروره عظيما عندما رآها سعيدة، منكبة على مرعاها الخصيب. تأكل منه ما لذ لها وطاب. فقال سيغان في نفسه:
- الحمد لله! لقد وفقت أخيرا إلى عنزة لا تمل عشرتي.
ولكن السيد سيغان كان مخطئأً، فإن العنزة أدركها السأم والملل!
نظرت عنزة صاحبنا إلى الجبل ذات يوم، فقالت في نفسها:
- لا شك إن الحياة هنيئة حلوة في هذا الجبل ما أسعدني عندما أمرح بين أعشابه من غير هذا الحبل اللعين الذي يحز رقبتي!. . . لا بأس إذا رعى الحمير أو البقر في مثل هذا المكان الضيق!. . . أما نحن معشر المعزى فلنا الخلاء الفسيح.
ومنذ ذلك الحين أصبحت لا ترى لعشب الحضيرة طعماً. وأخذ الملل يستولي عليها. فهزلت، وشح حليبها، وأصبحت لا ترى طيلة النهار إلا ممددة على الأرض، شاخصة إلى الجبل وهي تثغى بصوتها المحزن.
ولاحظ المسيو سيغان أن العنزة أصابها شيء، ولكنه لم يعلم ما هو. . . . ففي ذات الصباح بينما كان يحلبها التفتت إليه وخاطبته بلهجتها القومية:
- أصغ إلي يا مسيو سيغان، أني أكاد أموت هنا، فدعني أذهب إلى الجبل.
فصاح مسيو سيغان فزعاً:
- آه! ربي!. .
وترك الوعاء من يده، ثم جلس إلى جنبها على العشب وقال:
- عجباً! وأنت أيضاً تريدين مفارقتي يا بلانكيت؟ فأجابته:
- نعم يا مسيو سيغان.
- أتنقصك الأعشاب هنا؟
- لا يا مسيو سيغان.(9/58)
- ربما كان رباطك قصيراً، أتريدين أن أطيله لك؟
- لا، أرح نفسك من هذا العناء يا مسيو سيغان.
- إذاً ما بك، ماذا تريدين؟
- أريد أن أذهب إلى الجبل يا مسيو سيغان.
- ولكن، ألا تعلمين أيتها المسكينة أن الذئب هناك. . . وماذا تصنعين عندما يهاجمك؟. .
- أضربه بقرني يا مسيو سيغان.
- ولكن الذئب لا يبالي بهما. فقد أكل لي معزى كان قرناها أطول من قرنيك. إنك تعرفين رينود التي كانت عندي في العام الماضي؟ فقد كانت قوية نشيطة ظلت الليل على طوله في عراك مستمر مع الذئب. . . وفي الصباح تغلب عليها وأكلها.
- مسكينة! مسكينة!. . . . ولكن لا بأس، دعني أذهب إلى الجبل يا مسيو سيغان.
- سبحانك ربي!. . . هذه أيضاً واحدة ستكون للذئب طعاماً. . . لا، لا. . . سأمنعك رغما عنك! وسأقفل عليك باب الحضيرة حتى إذا قطعت الحبل لا تجدين لك مهربا.
حينئذ قاد المسيو سيغان عنزته إلى حجرة مظلمة في الحظيرة وأغلق دونها الباب. ولكنه نسى أن يغلق النافذة، فما كاد يخرج حتى وثبت العنزة إليها وفرت منها هاربة. . .
أظنك تقهقه يا صديقي غرينفوار وترى رأي الماعز. . . ولكن ستعلم بعد حين إذا كان ضحكك يدوم طويلا.
ولما وصلت العنزة البيضاء إلى الجبل، أغتبط بها وأكبر حسن طلعتها، ذلك لأن أشجاره القديمة لم تر فيما مضى عنزة جميلة كهذه العنزة، وانحنت الأغصان المورقة نحوها لتحظى بلمس ثوبها الفتان، وتفتحت الأزهار وأرسلت في الهواء كل ما تحمل من عبير وعطر احتفالا بملكة الجبل الجديدة.
تأمل يا صديقي غرينفوار ما كان أشد سرور بلانكيت! لا حبل، ولا وتد. . . ولا شيء يعوقها عن القفز والجري، والرعي كما تشتهي. . . هنا وجدت العشب كثيراً ناميا! وفي هذا المكان أحست بطعمه!. أي عشب لذيذ، طري، مطرز الأطراف، كثير الأنواع. أنها لم تجد مثيلا له في الحظيرة الضيقة. والأزهار الجميلة على اختلاف أنواعها! أنها أخاذة ساحرة.(9/59)
هنا أحست بالشبع، فأخذت تلهو وتمرح، تروح وتغدو، تثب في الهواء وتجري على الارض، تقفز من فوق السيول فتبلل صوفها بالماء، ثم تتمدد على صخرة في الشمس لتجففه، حتى أعادت للجبل سالف حياته، وبعثت فيه نشوة الفرح والحبور! وكان يخيل للناظر أن في الجبل عشر عنزات للمسيو سيغان لا عنزة واحدة.
وبينا هي على قمة الجبل ممسكة بين أسنانها زهرة جميلة أبصرت في الوادي منزل المسيو سيغان والحظيرة التي بقربه، فقهقهت ضاحكة وقالت:
- ما أصغر هذا المسكن! كيف صبرت على بقائي فيه؟ ورأت نفسها على قمة عالية فحسبت أنها أصبحت تملك الكون بأسره. . .
والخلاصة يا صديقي أن يومها كان سعيدا جداً.
ومما هو جدير بالذكر أن بلانكيت التقت في طريقها عند الظهر بقطيع من الوعل يقضم بأسنانه أشجار الكرم. فأحبت أن تشاركه في طعامه ففسحوا لها المجال بأدب. ويظهر أن هناك وعلاً وقع من قلب العنزة موقعاً حسنا، فاختفت وإياه في الغاب مدة ساعة أو ساعتين. فإذا أردت أن تقف على حقيقة ما جرى بينهما فاذهب وسل عيون الماء المتفجرة، المنسابة بين الأعشاب المخضوضرة.
وفجأة برد الطقس، وأخذ الليل يرخي سدوله على الجبل. فقالت العنزة:
- عجباً! كيف يمضي النهار بسرعة؟
وكان السهل قد اختفى عن ناظريها في الظلام، ولم تعد ترى من منزل المسيو سيغان إلا سقفه الأحمر وقليلا من الدخان المتصاعد منه. ولما أخذت تصغي إلى صوت قطيع من الغنم عائد إلى حضيرته أحست في أعماق نفسها بوخز الضمير فتألمت. ومر إذ ذاك طائر ليبيت في وكره فكاد يلمسها بطرف جناحه. في هذه اللحظة سمعت في سفح الجبل صوتا يدعوها إليه (وكان ذلك صوت المسيو سيغان ينبعث من بوقه) فتذكرت الذئب وأخذت تفكر فيه بعد أن أنساها فرح النهار وجوده.
ثم سمعت صوت الذئب يتجاوب صداه في الأرجاء. فوطدت العزم على النجاة من مخالبه بإجابة المسيو سيغان. ولكنها تذكرت الحبل والوتد فشق عليها أن تعود إلى سالف حياتها وفضلت البقاء.(9/60)
وفي هذه الأثناء انقطع صوت البوق. . .
وسمعت العنزة خلفها حفيف الأوراق، فالتفتت لتنظر فرأت أذنين صغيرتين ترتفعان وعينين تقذفان بالشرر. . فعرفت أنه الذئب. . .
ربض الذئب الكبير ينظر إلى العنزة نظرة نهم، ويتأملها دون أن يعجل إلى افتراسها. ولما همت بالمضي في سبيلها أخذ يضحك ويسخر، ثم مد لسانه الأحمر الغليظ.
هنا أحست بلانكيت بخطر الموت. . وتذكرت حكاية العنزة رينود التي قاومت الذئب طيلة الليل عبثاً، فألقت عصا الطاعة وصممت على أن تتلقى الذئب صاغرة ليأكلها سريعا.
ولكنها في اللحظة الأخيرة رجعت عن رأيها هذا، ووقفت للدفاع عن نفسها، فأحنت رأسها وأشهرت قرنيها، لا لتقتل الذئب وهي تعرف أن المعزى لا تقدر عليه بل لتجرب إذا كانت أقوى بأسا من صديقتها رينود. . .
آه! يا صديقي ما كان أشجع هذه العنزة الصغيرة! أنها اضطرت الذئب أكثر من عشر مرات إلى أن يستريح فترة من الزمن كانت في خلالها تقضم العشب بسرعة لتعود إلى القتال مملوءة الفم. . .
وظلت الحال على هذا المنوال، الصراع مستمر يقطعه تقهقر وقتي من الذئب، والعنزة تنظر إلى النجوم الرجراجة وهي تأمل دوام القتال حتى مطلع الفجر، إلى أن أخذت النجوم تهوي واحدة بعد الأخرى. . وامتد في الأفق شعاع باهت. . وأرسل الديك صيحته من إحدى المزارع المجاورة. فقالت العنزة المسكينة التي انتظرت الفجر لتستسلم للذئب:
- ها قد وصلت إلى بغيتي أخيرا!
ثم تمددت على الأرض وصوفها الأبيض مخضب بدمها. . . عند ذلك هجم الذئب عليها وأكلها.
وداعا يا صديقي إن القصة التي رويتها لك واقعية لا أثر فيها للخيال. ويمكنك إذا جئت إلى هذه الضاحية يوما أن تطلب من أحد أهليها أن يقص عليك حكاية عنزة المسيو سيغان التي قضت الليل بطيلته في عراك مستمر مع الذئب. . . وفي الصباح تغلب عليها وافترسها.
أسامع أنت يا غرينفوار!. . . وفي الصباح تغلب عليها وافترسها.
بيروت. محمد كزما(9/61)
العُلوم
حديث قملة عجوز
للدكتور احمد زكي. الأستاذ بكلية العلوم
لا يلذ لكم معشر البشر أن نتحدث إليكم نحن معشر القمل، لأننا في
أعينكم شارة الأقذار ظل الأوساخ، وتلك قذيفة لا تقوم على حجة ولا
يدعمها برهان، فنحن لا نتغذى إلا من دمائكم، ولا نرتوي إلا من
ثغور نثقبها في جلودكم، وسواء لدينا الجسم القذر والجسم النظيف،
وربما كان الجسم النظيف أحب إلينا، لأن مثاقب القوت تكون عندئذ
أقرب إلينا ولكن صاحب الجسم النظيف لا يعطينا المهلة للحياة فهو
يغير ملابسه المرة تعقبها المرة، فيحول بذلك بيننا وبين موارد أرزاقنا
فنموت جوعا في يومين وقد نحيى إلى سبع، لأننا في طيات هذه
الملابس نتخذ منازلنا ولا نخرج عنها إلى الجسم الا طلباً للقوت، فإذا
أصبناه عكفنا راجعين إليها.
وقلتم أن القمل سبب لأمراض قاتلة كالتيفوس، والحق أننا لا نخلق المرض ولا نبتدع الشر فأصول هذه الأوبئة فيكم وعنكم نأخذها في الدم الذي نستقيه منكم، وبالرغم حبنا لمساقط رؤوسنا وألفتنا للجسم الذي نشأنا عليه وترعرعنا، تضل منا أحياناً أفراد فتنتقل غير واعية من رجل مريض إلى رجل سليم لا سيما في الزحمة حيث تتلاقى المناكب وتتلاصق الثياب، فإذا هي وردت منهله العذب لوثته، بما حملت من المنهل الأكدر، فترون من هذا أنا لا نخلق السوء وإنما نسوي بينكم في الأسواء.
وأسميتمونا المتطفلة لأننا لا نستطيع هضم كل طعام كما تستطيعون، وليس لنا جهاز هاضم راق كالذي به تهضمون، فأنتم تهضمون لنا الغذاء، فنمتصه منكم مهضوماً في الدماء، وليت شعري أي سبة في هذا أو عار أفلستم تتطفلون على الشاة والبقر وصنوف الطير(9/63)
والنبات الحي فتزدردونها كلها ازدراد، أفترون الشعرة في أعين الناس ولا ترون الخشبة في عيونكم، على أنه مقدار حقير ذلك الذي نمتصه في الوجبة الواحدة ولسنا نطعم غير وجبتين في اليوم، لنا في الطعام ذوق الأعزة الكرام، فنحن نعاف دم المريض ونتقزز من أجسام الموتى فنفارقها مع الحياة.
واحتقرتمونا لصغر أجسامنا وكبر أجسامكم فإن فاتنا الجرم الكبير فقد أصبنا العدد الكثير، فالأنثى منا لا تبلغ اليوم الثامن بعد أفراخها حتى تلد ثم تلد ثم تلد، وهي لا تلد واحداً أو اثنين في العام كما تلدون وإنما تبيض في المرعى الخصيب عشراً كل يوم، فإن عاشت الأنثى أربعة أسابيع فقد تبيض مائتين من الصئبان، وإن امتد بها العمر إلى أرذله فعاشت ستة أسابيع فقد تبيض ثلاثمائة بيضة، والبيضة من بيضاتها تلبث السبعة الأيام أو الثمانية ثم تفرخ، فانظر إلى العدد الكبير من الخلف الصالح الذي تخلفه الأنثى منا قبل مفارقتها هذه الحياة الفانية. أنا بالطبع أنثى شيخة أكاد أستكمل الثلاثين ربيعا، وما ربائعنا إلا أياما، نسلت من الأبناء والأحفاد ما نسلت، ولكني انسل ولا أتعهد نسلي، وكل ما أفعله أن أتخير لهم الموضع الأمين، فأنا أبيضهم على كل شعار خشن ألقاه، وأبيضهم على فتائل الملابس ولا سيما حيث يخاط اللفاق باللفاق، ليكون لهم معتمد عليها وفي دروءها ستر من عصف الزمان. وأبيضهم على الأشعرة دون الأدثرة حتى إذا أفرخوا كانوا من طعامهم قاب خطوات من خطواتنا، ومن الدفء اللازم لأفراخهم على بعد قامة من قاماتنا، فنحن مثلكم حاجتنا للدفء لا تقل عن حاجتنا للطعام، وأوفق الحرارة التي نبيض فيها هي ما دون حرارتكم بدرجتين، والدرجات التي تعلو على الستين تهلك بيضنا، والدرجات الواطئة تعطل أفراخه، فإذا هبطت إلى ما دون ألـ 22 درجة امتنع أفراخه بتاتا.
وسواء ارتفعت الحرارة أو انخفضت فبيضنا لا صبر له على البعد عن أجسامكم طويلا، فإن رمى به الحظ العاثر إلى ملابس خلعتموها يصابر شهراً وبعض شهر رجاء أن تعودوا فتلبسوها ويعود هو إلى أفراخه، فان لم تفعلوا فالويل لذرارينا فانهم يهلكون يا كبدي ولم ينعموا بخطوة واحدة على جلدكم الوطيء ولم يستمتعوا بقطرة من شرابكم المريء.
وللفرد منكم معشر البشر عمر طويل موفور، وللفرد منا معشر القمل عمر قصير منقوص، الا أن حظنا من الزمن مجموعين مثل حظكم ونصيبنا من قديمه وحديثه مثل نصيبكم،(9/64)
نطاولكم في القدم ونكاثركم فيما طويناه جميعا من مراحل الأزل، فإن كانت نطفتكم قديمة فلعل بيضنا أقدم، وسنسايركم إن شاء الله على حذاء في مجاهل الأبد، فما دام فيكم الجهل والفقر بقدر كائنا ما كان فرفقتنا لن تنفصم عراها بإذن الله، فالجهل والفقر لابد دائما فيكم دوام الأنانية والفردية بعون ربنا وربكم تقدست أسماؤه.
نعم ربنا وربكم، فإن لنا مكانا في الخليقة مثل مكانكم، فما الخليقة إلا قبائل وبطون وأفخاذ جمعها أصل واحد، وفرقت بينها أجواء مختلفة وبيئات متباينة وحظوظ من العيش متفاوتة، فنحن وكثير من أحياء البحار كالاربيان وأبي جلنبو والجنبري قبيل واحد، ولكنهم اختاروا الماء واخترنا الأرض فكان منا النحل والصرصور والجراد والبق وعدد عديد من الأجناس يبلغ المليونين لم يتعرف علماؤكم منه غير مائتين وخمسين ألف. فقبيلنا نحن أبناء الحشر في قبائل الأحياء أكبر قبيل، وانقسمنا بعد ذلك بطوناً، وانقسمت البطون أفخاذاً حتى بلغ التقسيم إلينا نحن عشائر القمل، ومنا عشائر تعيش على الطير تقرض ريشه، ومنا عشائر تعيش على الحيوان كالكلب والإنسان تمتص دمه. وتستوطن أجسامكم يا سادة الحيوان ثلاثة أجناس منا، جنس يستمرئ جذوعكم وأطرافكم، وهو أكبر الأجناس وأنا المتحدثة إليكم منه، وجنس يحب المسكن الأعلى والمرقب الأسنى فاختار رؤوسكم، وجنس استأثر بمواضع العفة منكم. نحن الثلاثة الأجناس نعيش في كنفكم ووفير كرمكم، نستجدي أجسامكم وهي لا تعرف المنع، ونستحلب دماءكم وعادتها العطاء، فتشكل خلقنا وفقا لهذا العيش اللين والنعمة الميسورة، ففقدنا أجنحتنا لما فقدنا الحاجة إلى التنقل، واشتدت أرجلنا وقصرت لتمسك بشعوركم وتلصق أشد التصاق بجلودكم وبفتائل ثيابكم ومن ذا الذي لا يستمسك بالمرعى الخصيب والرزق القريب، واستحالت أفواهنا فصارت قادرة على الثقب والمص، ولنا قناة هضمية ودورة دموية وجهاز للتنفس وجهاز عصبي، كلها بقدر بساطة حاجاتنا، ولنا عينان كبيرتان في مقدمة رأسنا، والى جانبيهما قرنان نستهدي بهما، ويلي الرأس صدر يحمل من الأرجل ثلاثة أزواج بأطرافها مخالب كالإبر إلا أنها تعرف كيف تترفق في السير عليكم، ويلي الصدر منا بطن كبير هو كل ما بقي منا. وعلى هذا المثال يتقسم الحشر جميعه، وتتراءى بظاهرنا تقاطيع حلقية كأنما ضم خاتم إلى خاتم إلى خاتم، ولا غرابة في هذا فبين قبيلنا وقبيل الديدان وشائج وأرحام.(9/65)
وتفننتم يا أهل المروءة والحنان في طرق إبادتنا. كنتم تبيدوننا بالماء الساخن والصابون ففطنتم إلى أن كثيرا منا يفلتون بأرواحهم وإلى أنكم إن أعدمتم بذلك البالغين منا فقد فاتكم أن تعدموا الصئبان، فخلطتم الصابون بالجاز وبئس ما فعلتم، فالجاز من أسمّ السموم لنا، نموت نحن وبيضنا إذا غمسنا دقيقة فيها ولا نستطيع مقاومة بخاره غير ثلاثين دقيقة. وهداكم سوء طالعنا إلى مواد أسم وأفعل من الجاز نموت على الفور نحن وبيضنا إن تبللنا بها ونعدم بعد 5 دقائق في استنشاق أبخرتها، ولكن يعزينا أنها ليست في متناول كل أحد منكم لندرتها، ولغلائها.
على أنه لا ملامة عليكم ولا تثريب في ذلك، فكلنا يطلب العيش والحياة، فأنتم تسعون للبقاء ونحن نسعى للبقاء، والحرب بيننا سجال، والحرب بين أجناس الخلائق سجال كذلك، جنس يقاتل جنسا ثانيا فيقتل منه، وجنس ثان يقاتل جنساً ثالثاً فيقتل منه، وجنس ثالث يقاتل الجنس الأول فيقتل منه، فهي حروب في دوائر، وكل ما دار في دائرة فلا انتهاء له ولا انقضاء، وسبحان راسم الدوائر ذي الخلود والبقاء.(9/66)
الكتب
في النقد
للدكتور طه حسين
سلمى وقريتها: كتبته باللغة الفرنسية (مدام أمي خير)
أهل الكهف: كتبه باللغة العربية (توفيق الحكيم)
ليختصم أنصار الجديد وأنصار القديم، ما وسعتهم الخصومة وما وجدوا من أنفسهم قوة على احتمال أثقالها، والمضي فيما تحتاج إليه من الجهاد. فان الزمن يمضي في سبيله رغم خصامهم وصلحهم. وهو لا يمضي وحده ولكنه يدفع أمامه قوما منا، ويجر وراءه قوما آخرين. وهو منته بأولئك وهؤلاء إلى حيث يريد هو من التغير والتطور والتجديد، لا إلى حيث يريدون هم من الوقوف والجمود والإسراف في المحافظة على القديم كل القديم. .
ولقد خطر لي هذا بعد أن فرغت من قراءة ما ينشره أصدقاؤنا في (الرسالة) حول التجديد وأنصاره، وحول المحافظة وأصحابها. وقد فرغت أيضاً من قراءة طائفة من هذه الكتب الكثيرة التي أظهرتها الشهور الأخيرة، والتي تجتمع أمامي تزداد من يوم إلى يوم، وتلح عليّ في أن أفرغ لها وأجلس إليها وأنظر فيها، فأنصرف بها عما يحيط بي من ظروف الحياة التي أعمل فيها كل يوم.
نعم فكرت في هذا، وقد فرغت من قراءة بعض هذه الكتب، فإذا نحن نختصم في الجديد والقديم، ونسرف في الخصومة، ونغلو في التفسير والتأويل، على حين يدفعنا الزمان في طريق التجديد دفعا لا سبيل إلى مقاومته، أو يجرنا في هذه السبيل جراً لا سبيل إلى الإفلات من قوته. ولكني وقفت عند ظاهرة لعلها تستحق أن يقف عندها النقاد والمفكرون، وهي هذا الشكل العقلي الفني الذي تأخذه الصلة بين الشرق والغرب في هذه الأيام، فقد كنا منذذ حين نتأثر بالغرب ونسعى إليه ونقتبس منه ونريد أن ننقله إلينا إن صح هذا التعبير. وكان هذا السعي يفني شخصيتنا أو يكاد يفنيها، فإذا نحن غربيون في تفكيرنا وتعبيرنا وحياة عقولنا وقلوبنا. وإذا حظوظنا تختلف من هذه الغربية قوة وضعفا. منا من يحسن التقليد، ومنا من يسيئه. وكان ضعف شخصيتنا هذا يبغضنا إلى المحافظين من أهل الشرق(9/67)
ويزهدهم فينا. وكان يثير في نفوس المجددين من أهل الغرب حبا لنا يشوبه العطف والاشفاق، وكنا نضيق ببغض أولئك وحب هؤلاء، ونتمنى لو نقف من أولئك وهؤلاء موقفا طبيعيا لا حرج فيه ولا تكلف ولا ضيق.
كذلك كانت حال كتابنا وشعرائنا في هذا العصر الحديث حين كانوا يريدون التجديد أو يذهبون إليه. ولكن الأمر تغير في هذه الأيام فقويت شخصية الكتاب والشعراء حتى آمنت بنفسها وآمن بها الناس من حولها في الشرق والغرب جميعا، وأصبح كتابنا وشعراؤنا ينشئون النثر ويقرضون الشعر فلا يزور عنهم كثير من المثقفين حقا في الشرق، ولا يرفق بهم أهل الغرب، وإنما يحبهم أولئك فيقرئونهم ويخلصون لهم النصح والنقد والتشجيع، ويقدرهم هؤلاء فيدرسونهم ويقيسون الآماد التي قطعوها في سبيل التجديد والاتصال بالحضارة الغربية والتمكين لهذه الحضارة في بلاد الشرق دون أن تفنى شخصياتهم أو يصيبها الضعف والفتور.
وأغرب من هذا الذي تراه حين نقرأ ما يكتبه (جيب) و (كمفمير) وغيرهما عن كتابنا وشعرائنا، انك تلاحظ في هذه الأيام، أن من أهل الشرق من يتمثلون الغرب حتى كأنهم من أهله فيتحدثون إليه بلغته ويفكرون كما يفكر، ويشعرون كما يشعر، ويشاركونه بهذا في إنتاجه الأدبي الخالص، ويصدرون كتبهم حيث يصدر الغرب نفسهكتبه في لندن أو باريس. وإذا هذه الكتب تصل إلينا من عواصم الغرب فنتلقاها كما كنا نتلقى الكتب الغربية من قبل، وتتناولها صحفنا بما تتناول به كتب الغرب من نقد وتقريظ، وترى بعض أهل الشرق يتمثلون الغرب ويسيغونه ويهضمونه إن صح هذا التعبير، ويذيبونه في أنفسهم، ويغلبون شخصيتهم عليه ويغذون قوميتهم به. ثم يتحدثون إلينا بلغتنا مهذبة، ويفكرون معنا بطرائق تفكيرنا مصفاة، قد أضيفت إلى ثروتها ثروة أخرى فأخصبت وأتت ثمراً نحبه ونستعذبه ونستزيد منه فنلح في الاستزادة.
وكذلك يتصل الشرق بالغرب اتصالا عقليا وفنيا بعد أن كان الاتصال بينهما ماديا تقليديا، وكذلك نتقدم في التجديد خطوات واسعة قيمة مغنية حقا، فنضيف إلى ثروة الغرب كما يضيف الغرب إلى ثروتنا.
وأنا أريد أن أتحدث إليك الآن عن كتابين يمثلان هذه الحال التي وصفتها من الاتصال(9/68)
المتكافئ الكريم بين الشرق والغرب. فأما أحد هذين الكتابين فقصة كتبت بالفرنسية. وأما الآخر فقصة كتبت بالعربية، لأول الكتابين قصص خالص، والآخر قصص تمثيلي؛ أول الكتابين لسيدة لبنانية هي السيدة أمي خير، والثاني لكاتب مصري هو الأستاذ توفيق الحكيم.
أما كتاب مدام خير فهو: (سلمى وقريتها)، سمعنا عنه منذ أكثر من عام وتحدثت إلينا صاحبته، بخلاصته وقرأت علينا بعض فصوله في محاضرة ألقتها مدام خير منذ عام في قاعة من قاعات الكونتننتال حيث يجتمع أصدقاء الثقافة الفرنسية في يوم الجمعة من كل أسبوع أثناء الشتاء. وكنا قد أحببنا ما سمعنا من هذا الكتاب ومن الحديث عنه، ومنينا أنفسنا ساعات لذيذة نقضيها معه بعد أن يتم طبعه ويعود إلينا من باريس في ثوبه الفرنسي الجديد. ولكني شديد الاحتياط، أسيء الظن بنفسي ورأيي ولا اطمئن إلى هذه الأحكام العجلى، ولست أخفي أني أسأت الظن بما أحسست من رضى عن هذا الكتاب في العام الماضي، وأشفقت أن يكون مصدر هذا الرضى براعة مدام خير في المحاضرة وحظها من حسن الإلقاء، وقدرت إن الخير أن انتظر حتى يصل إلي الكتاب فأقرأه بعيداً من صاحبته ومن صوتها العذب وحديثها الجميل.
ووصل إليّ هذا الكتاب منذ أسابيع، فخلوت إليه ساعات ولست أخفي أني رضيت عنه رضى كثيراً وأعجبت بفصول منه إعجاباً عظيما، ووقفت عند فصول أخرى وقفة من يشعر بشيء منالرضى لا إسراف فيه.
موضوع الكتاب ظاهر من عنوانه، فهو قصة فتاة لبنانية وتصوير للقرية التي عاشت وماتت فيها. والمؤلفة تنبئنا بأن كتابها صورة فوتوغرافية لسلمى وقريتها. وقد يكون هذا حقاً بل هو حق. وهو في الوقت نفسه مصدر فضل الكتاب ومصدر شيء مما يلاحظ عليه. وكم كنت أود لو أن هذا الكتاب لو يكن صورة فوتوغرافية، بل كانت صورة فحسب، صورة من عمل الإنسان لا من عمل الآلة الفوتوغرافية، صورة تظهر فيها شخصية الكاتبة ظهوراً واضحاً نأنس إليه ونستعين به على إساغة هذه الحقائق التي يشتمل عليها الكتاب. ولكن القصة كانت كما أرادت مدام خير صورة فوتوغرافية، فامتازت بالصدق وامتازت بالدقة، وفقدت شيئاً كثيراً من الحياة والتأثير.(9/69)
ليست القصة غريبة ولا طريفة، وإنما هي شيء مألوف نكاد نقرءه في كل كتاب (استغفر الله) نكاد نقرءه في كتب كثيرة ألفت في القرن الماضي، ونكاد نجده في كل كتاب من كتب الأدب العربي حين يتحدث عن العشاق الذين يضنيهم الحب حتى يسلمهم إلى الموت. فقد أحبت سلمى فتحي من قرية مجاورة لقريتها في شمال لبنان. مرض أبوها وقامت أمها على تمريضه وانفردت هي بالذهاب إلى المزرعة فلقيت فيها هذا الفتى الغني الموسر المثقف بعض الشيء. فمال الفتى إليها ومالت هي إليه ثم تحدثا ثم عرف كل منهما أمر صاحبه. ثم ملأ الحب قلب الفتاة وملك عليها نفسها، ثم بريء الأب من مرضه وانقطع لقاء المحبين فكانا يختلسان ساعات يلتقيان فيها. ثم ظهر الأب على بعض الأمر. فضرب الفتاة وذهب يعاتب الفتى ويعرض عليه الزواج. فاعتذر وأرسله عمه إلى مصر يلتمس فيها الثروة ويبدد فيها حبه على ضفاف النيل، وأصاب الفتاة حزن عميق كان الأمل يخففه حيناً ويضاعفه أحيانا. ثم كان اليأس. وزوجت الفتاة من شاب كان يكلف بها. فحاولت أن تخلص له وجدّت في ذلك ولكنها لم تستطع أن تخلص من حبها القديم فيضعف قلبها وجسمها عن الوفاء بحبها الأول والإخلاص لحب زوجها فيأخذها مرض، ما يزال بها حتى ينقذها من هذه الحياة.
فأنت ترى أن ليس في القصة شيء غريب مبتكر، ولكن جمال القصة مع ذلك شيء لا سبيل إلى الشك فيه، ومصدره فيما يظهر هذا التصوير الفوتوغرافي الذي ينقل إليك قرية من قرى لبنان. وما فيها من حياة نحب سذاجتها، ووداعتها، وجمالها الطبيعي الذي لم يفسده التكلف، ولم يشوهه الإغراق في الحضارة. والذي يمتزج فيه الإيمان الخالص الحر بالحياة الخالصة الحرة. نعم ونحب في هذه الحياة التي يملؤها النشاط المنتج في فصل العمل، وتملأها الراحة الهادئة في فصل السكون، ولعلنا نحب أيضا هذا النوع من العشق الذي ينبعث من القلب الإنساني في غير تكلف ولا ترف ولا تأثر بفلسفة العقل وتهالكه على البحث والتحليل والاستقصاء. ثم نحن نحب بعد هذا كله وفوق هذا كله هذه الصور الفوتوغرافية لطبيعة لبنان في أشكالها المختلفة. لهذه الجبال الشاهقة يكسوها الجليد إذا كان الشتاء، ويزينها الربيع بالشجر المخضر. ولهذه الوديان التي يجاهدها الإنسان جهاداً عنيفاً ليستخرج منها القوت الذي يستعين به على الحياة، وحب اللبنانيين القوي الصادق الساذج(9/70)
لطبيعتهم وجبالهم وأوديتهم، حتى انهم ليفتتنون بها فتنة تجعلهم جميعاً شعراء.
والغريب من أمر هذه القصة أنها ليست صادقة في تصوير موضوعها وحده، بل هي صادقة في تصوير ناحية من نواحي الكاتبة نفسها، أريد بها ناحية المهارة الفنية، ففي أولها شيء من الضعف والبطء واستقصاء اللغة، كأن الكاتبة تجاهد نفسها بعض الشيء، حتى إذا مضت في القصة مرحلة أو مرحلتين أصبح قلمها طيفاً وألقت إليها اللغة الفرنسية أعنتها واستقاد لها الأسلوب الفرنسي فانطلقت حرة سمحة كأنها قد أتمت التمرين. لهذا كان آخر الكتاب خيراً من أوله. ولهذا كان من حقنا أن نثق بأن الكتاب الذي ستصدره مدام خير سيكون خيراً من الكتاب الذي أصدرته. وإذا لم يكن بد من أن ألاحظ بعض العيب فقد آسف لأن شيئاً من التهاون في اللغة لم يبرأ منه الكتاب فقد استعملت ألفاظ عامية مبتذلة لا ينبغي ان توجد في كتاب أدبي إلا أن تدعو إليها النكتة. ولعل من أوضح الأمثلة لذلك ما يوجد في صفحة 72 و140. وجملة القول أننا مدينون لمدام خير بساعات لذيذة قيمة قضيناها مع هذا الكتاب الممتع ولكن أملنا أكثر جدا من رضانا. فلنشكر لها جهدها الأول ولنهنئها به، ولننتظر من جهودها المقبلة خيراً كثيراً.
أما قصة (أهل الكهف) فحادث ذو خطر، لا أقول في الأدب العربي المصري وحده. بل أقول في الأدب العربي كله. وأقول هذا في غير تحفظ ولا احتياط. وأقول هذا مغتبطا به مبتهجا له. وأي محب للأدب العربي لا يغتبط ولا يبتهج حين يستطيع أن يقول وهو واثق بما يقول أن فناً جديدا قد نشأ فيه وأضيف إليه، وإن بابا جديدا قد فتح للكتاب وأصبحوا قادرين على أن يلجوه وينتهوا منه إلى آماد بعيدة رفيعة ما كنا نقدر أنهم يستطيعون أن يفكروا فيها الآن.
نعم هذه القصة حادث ذو خطر يؤرخ في الأدب العربي عصراً جديداً. ولست أزعم أنها قد حققت كل ما أريد للقصة التمثيلية في أدبنا العربي، ولست أزعم أنها قد برئت من كل عيب، بل سيكون لي مع الأستاذ توفيق الحكيم حساب لعله لا يخلو من بعض العسر. ولكني على ذلك لا أتردد في أن أقول أنها أول قصة وضعت في الأدب العربي، ويمكن أن تسمى قصة تمثيلية حقاً، ويمكن أن يقال إنها أغنت الأدب العربي وأضافت إليه ثروة لم تكن له. ويمكن أن يقال إنها قد رفعت من شأن الأدب العربي وأتاحت له أن يثبت للآداب(9/71)
الأجنبية الحديثة والقديمة. ويمكن أن يقال إن الذين يعنون بالأدب العربي من الأجانب سيقرءونها في إعجاب خالص لا عطف فيه ولا إشفاق ولا رحمة لطفولتنا الناشئة. بل يمكن أن يقال إن الذين يحبون الأدب الخالص من نقاد أجانب يستطيعون أن يقرءوها إن ترجمت لهم، فسيجدون فيها لذة قوية وسيجدون فيها متاعاً خصباً، وسيثنون عليها ثناء عذبا كهذا الذي يخصون به القصص التمثيلية البارعة التي ينشئها كبار الكتاب الأوربيين.
أهذه القصة مصرية؟ أهذه القصة أوربية؟. . ليست مصرية خالصة ولا أوربية خالصة، ولكنها مزاج معتدل من الروح المصري العذب والروح الأوربي القوي. وقد يكون من العسير على غير الفنيين أن يفرقوا بين هذين الروحين اللذين تتألف منهما القصة.
ولكن الذين لهم مشاركة قوية في الأدب العربي والأجنبي يستطيعون أن يتميزوا هذين الروحين حين يجدون في القصة سهولة النفس وعذوبتها، وحين يشعرون بهذا العبث الخفيف الذي يضطرهم إلى الوقوف من حين إلى حين وهم يقرءون، وحين يجدون ألفاظاً وجملا تصور النفس المصرية الآن كما صورتها في أزمان مختلفة منذ كان للمصريين أدب عربي، ثم حين يجدون هذا التفكير العميق الخصب الدقيق الذي يلح في التعمق ويغلو في الدقة، ويأبى أن يترك حقيقة من الحقائق عرضة للشك أو هدفا للغموض، إلا أن يكون الكاتب قد تعمد ذلك وأراده وأبى أن يرسل نفسه فيه على سجيتها مراعاة لبعض الظروف.
كل هذا يمكن النقاد من أن يتبينوا في هذه القصة روحاً مصرياً ظريفاً وروحا أوربياً قوياً. ولنقف وقفة قصيرة عند موضوع القصة وشكلها.
فأما موضوع القصة فلم يخترعه الكاتب وإنما استكشفه، وفرق ظاهر بين الاختراع في الأدب والاستكشاف. ولعل الاستكشاف أن يكون أصعب في كثير من الأحيان من الاختراع، وهو في قصتنا هذه صعب عسير. موضوع القصة موجود في القرآن الكريم، وهو قبل أن يوجد في القرآن كان معروفاً في القصص المسيحية التي لها حظ من التقديس. ويكفي أن تعلم أنه حديث أهل الكهف الذين أشفقوا من اضطهاد ملك رومي للمسيحيين ففروا بدينهم من هذا الملك الظالم وأووا إلى الكهف فناموا فيه ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعا. ثم بعثهم الله عز وجل فأنكروا الناس وأنكرهم الناس فعادوا إلى كهفهم وفيه قبضهم الله إليه.(9/72)
وأنت تعلم أن هذه القصة قد قصها الله في القرآن في آيات كريمة هي أعذب وأسمى ما نعرف من آيات البيان العربي، وأنت تعلم إن من العسير أن تستغل مثل هذه القصة في أدبنا العربي الذي لم يتعود في العصر الحديث أن يستغل الكتب الدينية استغلالا فنيا كما تعود الأوربيون أن يلتمسوا في الكتب المقدسة موضوعات للقصص والشعر والتمثيل والنحت والنقش والتصوير الموسيقى. فإذا استطاع الأستاذ توفيق الحكيم أن يلتمس موضوع قصته في القرآن أو في قصة فصلها القرآن وأن ينشئ في هذا الموضوع أثراً فنياً بديعاً كان خليقاً أن يهنأ بشجاعته وبراعته معا.
فموضوع القصة إذن شرقي عرفته أحاديث المسيحيين وفصّله القرآن الكريم. ولم يعرفه الأوربيون إلا من هذه الطريق، ومؤلفنا إذن كغيره من المؤلفين الأوربيين الذين يلتمسون الموضوعات لقصصهم التمثيلية أحياناً في التوراة والإنجيل. ولكن مؤلفنا كغيره أيضاً من المؤلفين الأوربيين لم يحك حكاية ما عرفته أحاديث المسيحيين وما جاء في القرآن، وإنما بعث في أهل الكهف حياة أخرى فيها قوة وفيها خصب وفيها فلسفة تمكنها من الاتصال بالحياة الإنسانية العامة على اختلاف العصور والبيئات من أنحاء غير الناحية التي عنى بها القرآن وعنيت به الأحاديث المسيحية. وهو يدخل في هذه الحياة عناصر جديدة لم تدخلها القصة القديمة أهمها عنصران: عنصر الفلسفة، وعنصر الحب. فالفرق عظيم جداً بين هؤلاء الأشخاص كما يصورهم القرآن وكما تصورهم أحاديث المسيحية الشرقية في سذاجة لا حد لها ووداعة لا حد لها وإيمان لا حد له ولا غبار عليه، وبين هؤلاء الأشخاص كما يصورهم الأستاذ توفيق الحكيم وقد تعقدت حياتهم فتعقدت عقولهم أيضاً. ففقد اثنان منهم هذه السذاجة المطلقة والوداعة المطلقة والإيمان المطلق ولم يحتفظ بهذه الخصال منهم الا شخص واحد، هو يمليخا الراعي، وبهذا النحو من التصوير الجديد لهؤلاء الأشخاص استطاع الكاتب أن يجعلهم أبطال قصة تمثيلية حديثة. ولو قد احتفظ الكاتب لهم بخصالهم الأولى لما استطاع أن يتجاوز بهم أبطال قصص الأسرار التي كانت تمثل في القرون الوسطى أمام الكنائس. فالكاتب مستكشف لقصته في ظاهر الأمر ولكنه مخترع لها في الحقيقة قد خلق أشخاصها خلقا جديدا وأدار بينهم من الحوار الفلسفي ما لم يكن يخطر لأحد منا على بال. وقد يكون من العسير أن تحقق الفلسفة التي أراد الكاتب أن ينتهي اليها،(9/73)
ولكن هذا العسر نفسه مزية من مزايا الكاتب وفضيلة من فضائله. فهو ليس متعصبا ولا متأثراً بالهوى، وهو لا يريد أن يفرض عليك رأيا بعينه من مذاهب الفلسفة وإنما يريد أن يثير في نفسك التفكير في طائفة من الآراء والمذاهب. وهو دقيق متواضع لا يحب أن يعلن رأيه في صراحة مخافة أن يتابعه ضعاف الناس في غير بحث ولا تفكير. فهو يكتفي إذاً بأن ينبهك إلى طائفة من المسائل يحسن أن تفكر فيها وان تلتمس لها الحل لعلك تظفر به أو تنتهي إليه. ما الزمن؟ ما البعث؟ ما الصلة بين الإنسان والزمن؟ ما الصلة بين الحي والأحياء؟ بأي الملكتين يستطيع الناس أن يحيوا وان ينتجوا في الحياة؟ بهذه الملكة التي نسميها القلب والتي بها نحب ونبغض، أم بهذه الملكة التي يسميها العقل والتي بها نفكر ونحلل ونلائم بين الأشياء؟
كل هذه المسائل خليقة أن تفكر فيها وان تقف عندها فتطيل الوقوف، والكاتب يثيرها في نفسك ويصطنع لذلك فناً بديعاً نادرا فيه قوة مؤثرة وفيه رفق شديد. ليس هو معلما ولا أستاذاً ولكنه صديق يتحدث معك ويسايرك ويلفتك إلى ما قد تمر به دون أن تقف عنده أو تنظر إليه. لا أعرف كاتبا عربياً كان حسن السيرة مع قرائه كالأستاذ توفيق الحكيم. فقد أكبرهم حقا وأرشدهم حقا. ونفعهم في غير إذلال ولا تيه ولا كبرياء.
والحب هذا الحب الذي أدخله الكاتب في هذه القصة في غير تكلف ولا عناء وفي غير مصادمة للشعور الديني، والذي استطاع الكاتب أن يصوره صورتين قويتين تبلغ إحداهما من القوة حدا لا نكاد نجده إلا عند أشد الكتاب والشعراء الأوربيين عناية بالعشق وآماله ولذاته على اختلافها وتنوعها. وتبلغ إحداهما الأخرى بالحب قوة صوفية طاهرة بريئة من كل شائبة لا نكاد نجدها إلا عند كبار المتصوفة والقديسين.
أعترف أني معجب ببراعة الكاتب في غير تحفظ والى غير حد. والحياة الواقعة التي يحياها هؤلاء الناس العاديون الذين لا يتفكرون في أكثر من أعمالهم اليومية والذين لا يذوقون الفلسفة ولا يحسنون تصورها والحديث فيها كيف صورها الكاتب فأتقن تصويرها في شخص الملك ومن يحيط به من أهل القصر والمدينة. وهذا الإيمان المختلط الذي يمتاز به قوم يصطنعون العلم ولكنهم في حقيقة الأمر أنصاف متعلمين، فيهم سذاجة ولكنهم يريدون أن يكونوا أذكياء. وفيهم حب للحياة وحرص عليها ولكنهم يريدون أن يظهروا(9/74)
وكأنهم يؤثرون الإيمان على الحياة. ما أبرع الأستاذ توفيق الحكيم حين صوره في شخص المؤدب غالياس!
أظنك لا تريدني على أن ألخص لك القصة فهي مطبوعة تستطيع أن تقرأها بل يجب أن تقرأها فما ينبغي لمثقف في الأدب العربي أن يجهل هذا الأثر الأدبي البديع.
ولكن وكم أنا آسف للكن هذه. وكم كنت أحب ألا احتاج إلى إملائها. ولكن في القصة عيبان. أحدهما يسوؤني حقا ومهما ألم فيه الكاتب فلن أؤدي إليه حقه من اللوم، وهو هذا الخطأ المنكر في اللغة. هذا الخطأ الذي لا ينبغي أن يتورط فيه كاتب ما فضلا عن كاتب كالأستاذ توفيق الحكيم قد فتح في الأدب العربي فتحا جديداً لا سبيل إلى الشك فيه. أنا أكبر الأستاذ، وأكبر قصته، وأكبر (الرسالة) عن أن أقف عند هذه الأغلاط القبيحة التي يمس بعضها جوهر اللغة ويمس بعضها النحو والصرف ويمس بعضها الأسلوب وتركيب الجمل. ولا أتودد في أن أكون قاسيا عنيفا وفي أن أطلب إلى الأستاذ في شدة أن يلغي طبعته هذه الجميلة وان يعيد طبع القصة مرة أخرى بعد أن يصلح ما فيها من الأغلاط. وأنا سعيد بأن أتولى عنه هذا الإصلاح إن أراد. ولعل ما سيتكلفه من الطبعة الثانية خليق أن يعضه وأن يضطره إلى أن يستوثق من صوابه اللغوي فيما يكتب قبل أن يذيعه بين الناس.
أما العيب الثاني فله خطره ولكنه على ذلك يسير لأن القصة هي الأولى من نوعها كما يقولون. هذا العيب يتصل بالتمثيل نفسه فقد غلبت الفلسفة وغلب الشعر على الكاتب حتى نسي أن للنظارة حقوقا يجب أن تراعى فأطال في بعض المواضع، وكان يجب أن يوجز. وفصّل في بعض المواضع وكان يجب أن يجمل، وتعمق في بعض المواضيع وكان يجب أن يكتفي بالإشارة. ولعله يوافقني على أن من الكثير على النظارة أن يستمعوا في الملعب لهذه القصة الجميلة جدا، الطويلة جدا التي تقصها برسكا على غالياس وهي تودعه وقد اعتزمت أن تموت في الكهف مع عشيقها القديس.
هذا العيب عظيم الخطر لأنه يجعل القصة خليقة أن تقرأ لا أن تمثل. وأنا حريص أشد الحرص على أن تمثل هذه القصة، واثقا كل الثقة بأن تمثيلها سيضع يد الأستاذ على ما فيها من عيب فني وسيمكنه من اتقاء هذا العيب في قصصه الأخرى ومن إصلاحه في هذه(9/75)
القصة.
أما بعد فأني أرجو مخلصا أن تترجم قصة مدام خير إلى اللغة العربية وان تترجم قصة الأستاذ توفيق الحكيم إلى اللغة الفرنسية لتؤدي القصتان ما ينبغي أن تؤدياه من تحقيق الصلة الصحيحة المنتجة بين الشرق والغرب.(9/76)
القصَص
في الأدب الإيطالي الحديث
الرواية في بونتاسياف!
للكاتب الإيطالي لوسيو دامبرا
وفعلا، لم تمض ثمانية أيام حتى كانت الغرفة قد أعدت! وهذا الحادث العظيم، هذا الحادث الغريب، حادث إصرار (مارك سيريني) على أن تمثل روايته الحديثة ولأول مرة، في قرية حقيرة لا يتجاوز عدد سكانها الخمسة آلاف نسمة، هذا الحادث الذي لا يصدق، أثارت الصحافة حوله ضجة كبرى، اقتحمت حدود إيطاليا وأقلقت صحافة أوربا بأسرها. ولقد كانت هذه القضية رنانة كسائر قضايا (مارك سيريني) ورنانة أيضا كانت عودة رئيس الشركة الأمريكية من (بونتاسياف) إلى (الستيديو)، حيث كان المؤلف، وسيجارته في فمه، ممتداً على أريكة وثيرة، يفكر بسيدة النافذة الشهية!!!
- كل شيء الا هذا!. . . لقد ذهبت أتعابنا أدراج الرياح: أني أعود من (بونتاسياف) إذ ليس فيها مسرح!!!
- ليس فيها مسرح؟ هذا أمر عديم الأهمية: إن بناء مسرح لا يستغرق أكثر من شهر، وهو الوقت اللازم للحفظ والمراجعات.
- ماذا؟؟. . . بناء مسرح جديد؟. . . وفي ظروف شهر واحد؟؟ لم يتحرك (سيريني)،. . نظر إلى طاولة عليها رزنامة من المعدن اللماع. وقال:
- أجل، في شهر واحد!. . . نحن الآن في سبتمبر، ولن يزال البرد شديداً حتى في أكتوبر في هذه البلاد،. . . وبعد، فان بناء مسرح خشبي يتسع لألفين شخص، لا يمكن أن يستغرق أكثر من ثلاثة أسابيع.
- وتزيينه؟. . . وتنميقه؟. . . في ثلاثة أسابيع؟ لن يكون هذا المسرح سوى براكة. . . .
هنا انتفض (سيريني) وأجاب بلهجة قاسية:
- لن يتسابق الناس لمشاهدة المسرح، بل لمشاهدة روايتي!!!
- 4 -(9/77)
لنختصر: لم ينتجع وسيلة لحمله على تغيير رأيه، ولو كان رئيس الشركة التي تعاقد معه إيطالياً، لترك الأرباح التي قد تنجم عن هذا الاتفاق، ولترك المؤلف يسدر في عناده وجنونه، ولكنه كان أمريكياً، وللأمريكيين عقل خاص، وتفكير خاص يميزانهم عن غيرهم. ولم يمض شهر، حتى كان كل شيء قد تم: حفظت الرواية وروجعت وأقيم المسرح في بقعة جميلة. أما ما جرى في (بونتاسياف) في ذلك الوقت، فأمر لا يستطاع تصويره أو وصفه، ولا شك أن بينكم أناساً وجدوا فيها، في ذلك الحين، وهؤلاء وحدهم يستطيعون أن يذكروا كيف احتلت الغرف المعدة للإيجار احتلالا لا يفرق عن الاحتلال العسكري بشيء، وكيف أن الجموع الغفيرة تسابقت إلى فلورانسا وإلى (اريزو) لتبحث لها عن مبيت، وكيف أنها عادت إلى (بونتاسياف) لتحضر تمثيل الرواية، وتعود بعد منتصف الليل إلى إحدى المدينتين المذكورتين. . ولا شك انهم يذكرون أيضاً أنه كان بين المتفرجين أناس تقاطروا من أقصى البلاد، بينهم كثير من النقاد المسرحيين، ورؤساء شركات التمثيل الأجنبية. . . . وقد كان بينهم صحفيون اضطروا خدمة للفن أن يبيتوا ليلة كاملة في القطار، وان يضيعوا يوما كاملا في ساحة (بونتاسياف) وأن يمضوا ليلة ثانية متعبة، في دائرة البرق، حيث ظن عامل التلغراف المسكين، إن الساعة اقتربت، وإن القيامة قامت!!!
وليست هذه بالمعركة الأولى التي استبسل فيها (مارك سيريني) بطبعه الهادئ الرزين، ولكنها كانت أشد المعارك كلها وأحماها وطيساً، لأن تلك الرغبة الشاذة، التي شاءت أن تضطر محبي الفن للمجيء إلى (بونتاسياف) تركت أسوأ الأثر في النفوس، حتى أن القادمين كانوا على أتم استعداد لأن يثأروا لأنفسهم!
وهكذا فانه قبل أن يرفع الستار بساعتين، أسرع أصدقاء (سيريني) إليه، وأخبروه أن الجو مكهرب، وأن عواصف السخط والغضب لن تلبث أن تصدم الرواية صدمة عنيفة، ربما كانت لا تقوى على احتمالها، ولكن المؤلف أجابهم بلهجة حازمة:
- إذا كانت لديهم سهام فليسددوها!. . وإذا كان لديهم قنابل فليقذفوها!. . أما أنا ففي غنى عن آرائهم: لا يهمني هذا المساء، غير رأي شخص واحد!
- امرأة؟
- طبعاً!. . ومن تريدون أن يكون إذن؟. . وزير؟(9/78)
ولم يزد على ذلك كلمة لأنه كان يحرص كل الحرص على أن يخلص بسره لنفسه. . . أما الناس فقد ذهبوا في الظن كل مذهب. .
- 5 -
ومع ذلك، ورغم هذا الحرص فانه لم يضن على به. . من عادة (سيريني) أن يتخلف عن حضور رواياته، عند تمثيلها لأول مرة، ومن عادته أيضاً أن يدور حول المسرح كما تدور الفراشة حول الضوء، حتى إذا أخذ اللهيب بأحد أجنحتها لجأت إلى الهرب فإذا نسيت اللهيب وأثره في جسمها عادت تحوم حول الضوء وحول الخطر، و (سيريني) يحاول ان يتظاهر بالهدوء. وأن يتحدث عن أشياء لا مساس لها بالرواية حتى إذا أصابها الإخفاق فقد رزانته وشرع يصب جام غضبه طيلة الليلة بكاملها على تلك الجموع المأفونة التي لا تقدر الفن، ولا تفهمه، ولا تستحق أن تفهمه، ورماها بأقبح الوصمات وأشنعها.
أخذنا نتنزه سوية، ذلك المساء في أزقة القرية التي استحالت في ساعة من الزمن إلى ميدان تتزاحم فيه السيارات، ويتكدس بعضها فوق البعض الآخر. . وكان الشاعر يبتسم، ويطلعني بهدوء على الأسباب التي حدت به لأن يثير عليه سخط تلك الجموع الغفيرة، وكان يقول لي وهو يضغط على يدي:
- أفهمت؟. . أفهمت؟. . أني إذا كنت أصررت ألا تمثل روايتي لأول مرة إلا في (بونتاسياف) فلأني أريد أن استثير إعجابها!!. . تلك هي الغاية الوحيدة التي أرغب في إدراكها من غرامي الغريب!
- آه!. . . لو انك رأيتها في ذلك اليوم، لصهرك حبها رغم ما أنت عليه من (برود)، وبعد، فأنا لست أعتقد إن بين الذكور، رجالا ينطبق عليهم هذا الوصف، وإنما هم جميعاً في نظري، براكين هادئة. تثيرها مشاهدة امرأة، وتجعلها أشد هياجاً من البراكين الدائمة الإستعار! آه. . لو رأيتها وهي تطل من فتحة النافذة!. . . ها. . . . ها هي. . . . نافذتها!
- كانت نافذتها مغلقة، وهي ذات درفات خضر، وواجهة وردية. . . . كانت محكمة الغلق، لا يتسرب من خصاصها أقل بصيص نور، فسر (مارك) لذلك، وقال بلهجة المنتصر:
- لم يبق أحد في داره!. . . لقد ذهبت (المدينة) بأسرها لمشاهدة روايتي!. . . وهي، هي. . . هي في هذه الساعة، هناك، مأخوذة بجمال روايتي وقوتها، تكتسحها موجة الإعجاب(9/79)
التي أردت أن أتغلب عليها بها. . . . أني اقدم لها فخراً لا يعدله في العالم فخر. . . أقدم لها عيداً، بل مهرجاناً لا يحلم به أحد!. . . أي سحر؟. . . وأي عيون؟؟؟ آه!. . أني لا أتمنى إلا أن تبادلني الحب هذه الريفية الحسناء، أنا الشاعر المتعب. . أنا الشاعر الفتان، الذي تضايقه النساء، وتطارده. . تلك النساء اللواتي تجملهن المساحيق، وتزينهن (الكريمات) المختلفة. . . تلك النساء الكئيبات، اللواتي يلبسن جوارب بمائتين فرنك فقط. . . تلك النساء الفارغات القلوب، كبطونهن التي لا يملأنها خشية السمنة!!!
إن سيدة النافذة، على نقيض هذا كله: هي بسيطة رشيقة حقيقية الجمال، لها نفس، ولها قلب، ولها مواهب، ولها نباهة ولقد قرأت في عينيها ذلك الإعجاب اللامتناهي الذي تخصني به وتسبغه عليّ!
وأنا موقن أن هذه الحسناء قرأت رواياتي كلها، وأنها أصبحت تعرفها ولكن معرفتها بها لا يجوز أن تقارن بمعرفة صديقاتي المعجبات (باركهن الله) بما وضعت من روايات. . تلك الصديقات اللواتي يتسارعن لمشاهدة رواياتي عندما تعرض للتمثيل لأول مرة، وكأنهن يتسابقن (ليجبرن خاطري). . حتى إذا بدأ التمثيل أخذن في الثرثرة والمغازلة مع عشاقهن في زوايا المقصورات: إنهن لا يتقاطرن على المسرح من أجلي، أو من أجل رواياتي. . كلا!. . بل ليعرضن على الأنظار أثوابهن الحديثة!.
وألقى نظرة أخيرة على درفات النافذة، ثم أخذ يتجه نحو المسرح، كما يتجه الفراش نحو الضوء.
- أني أحبها. . أحبها حتى العبادة!. . ولأجلها وضعت هذه الرواية، وقد وضعتها بعاطفة لم اشعر بمثلها من قبل!. . أقسم لك على ذلك!. . . تصور. . . تصور انك ذات مساء، تبصر بين الحضور المرأة الوحيدة التي تحبك وتعجب بك إعجابا لا يحد بحدود، ولا يقاس بمقياس، تصور ذلك، وقل، ألا تدير (السانفوني) التاسعة إدارة لا تحسن مثلها في كل وقت؟ ألا تخرج منها ما لم يحلم (بتهوفن) نفسه أن يخرجه منها؟؟ إذن. . أنا اليوم أحارب هذه الجماهير كلها. من اجلها هي. أنا أحارب باسمها وبجمالها!
إن رواياتي إنما هي معارك، وحروب، وسباقات، إذن فهي لا تبعث على التثاؤب والملل، وإذن فهي لا تدع المتفرجين هادئين ساكنين، بل تحرك ما في نفوسهم من عواطف وميول(9/80)
وتحملهم على التفكير.
ماذا؟. انتصار؟. لم نكد ندرك المسرح، حتى هرع إلينا بعض الأصدقاء.
- انتهى الفصل الثاني منذ قليل: نجاح لا مثيل له!. . انتصار لا يعد له انتصار!. . ولكن أي جمهور في بدء التمثيل؟ جمهور عبوس حذر، إلا أنه لم يلبث أن خفف من حدته بالرغم منه حتى إذا كان التمثيل، لم يتمالك أيديه عن التصفيق وألسنته عن الهتاف: وهكذا، لم ينتهي الفصل الأول حتى ثارت عواطف التقدير، وانفجرت قنابل الإعجاب. أما الفصل الثاني، فهو الذي أتم الانتصار وجعل الستار ينزل بين رعود من التصفيق الحاد المتواصل، والهتاف العالي القاصف!!!. . . وقد اضطرت الممثلة (تيريز اندرياني) أكثر من عشر مرات متوالية أن تعود إلى المسرح، لتحية الجماهير المعجبة.
أيزاك شموش. حلب(9/81)
العدد 10 - بتاريخ: 01 - 06 - 1933(/)
من بريد الرسالة
بين الرسالة والمرأة
في بريد الرسالة بالأمس كتاب بالفرنسية، أنيق الشكل، جيد الخط، رائق الأسلوب، في رأسه وفي ذيله قرأته فذكرت بأسلوبه وإمضائه تلك المقالات الرقيقة التي كانت تتألق بالذكاء النسوي المصري في صدر (الليبرتيه) أيام كان يصدرها الأستاذ (ليون كاسترو). وسواء أكانت (الحياتان) واحدة أم اثنتين، فأن الأدب الذي يصدر عن هذه النفس والثقافة التي تظهر في هذا الأدب، يحملاننا على أن نناقش الآنسة الفاضلة في هدوء المنطق، ونعاتبها في حدود الرفق، ولا أقول إني أصطنع القول اللين، والحجاج الهين، لأن ذلك واجب الرجل في خطاب المرأة، فأن الآنسة تقول: (وما اعترفت منذ عرفت الرجل وسبرت قواه في مطالعاتي واختباراتي أن له من المزايا الفطرة ما يجعله قيماً على المرأة، وأن من هوان نفسي عليّ أن أقبل منه العطف لأني ضعيفة، أو اللطف لأني امرأة. . .)
شغلت الآنسة الصفحة الأولى من كتابها، بتقريظ الرسالة وكتابها ونحن مع الشكر لها نعتقد مخلصين أن مجهود الرسالة لا يزال لضآلته أبعد ما يكون عن تحقيق الأمل واستحقاق الحمد، ثم قالت: (ليس قصدي من هذه الكلمة أن أكون معك أو عليك فيما كتبته موفقاً عن المرأة، فأني أعتقد أن هذه المسألة لا تتعلق إلا بنا، ولا يكون الحكم فيها إلا لنا، وما دخول الرجل فيها إلا أثر من اعتقاده القديم أن في يده زمام هذا الجنس المنكوب يرخيه ويشده على هواه ` والأمر لا يخرج على كونه نظاماً طبيعياً يجري على سنة الحياة من هيمنة القوة على الضعف، وطغيان الأثرة الباغية على العدل الذليل. . . فحرية المرأة كحرية الأمة سبيلها الفعل وحجتهما القوة، أما الدفاع بالقول والإقناع بالحق فأصوات مبهمة كزفيف الريح المحبوسة في مخارم الجبل لا تدل على الطريق ولا تساعد على الفرج. لا أقصد كما قلت أن أناقش رجلاً في موضوع لا شأن له به، إنما أريد أن أقول لك إذا كان رأيك في المرأة هذا الرأي، وعطفك عليها هذا العطف، فلم حرمتها أن يكون لثقافتها مظهر في الرسالة بجانب ثقافة الرجل؟ فإن من يقرأ الرسالة في غير مصر يظنها تصدر عن بلاد كبلاد (الأسطورة الصينية) ليس فيها امرأة. .
سأنزل في الجواب على إرادة الآنسة (حياة) فلا أخوض معها في حديث المرأة، ولا أعتب(10/1)
عليها في انتقاص الرجل، مادام الفصل في خصومة الجنسين للطبيعة لا لأحدهما.
سأقصره إذن على ما أخذته الآنسة على الرسالة من إغفالها ثقافة المرأة، ونحن في ذلك إنما نجري على مذهبها الذي ارتضته وأعلته فلم نرد أن يتحدث الرجال عن شؤون النساء الخاصة، وفتحنا الباب ومنعنا أن يدخل منه غير أهله، ثم انتظرنا أن يصل إليه شيء يدل بقيمته وقوته على النهضة النسائية المزعومة، فلم يأتنا بعد تسعة أعداد من الرسالة إلا كتابان: أحدهما منك والآخر من آنسة تسمى (عفيفة سيد، شارع الشيخة صباح، طنطا).
فأما كتابك يا سيدتي فقد قبلته الرسالة (موضوعاً) ورفضته (شكلاً) لأن كتابك إياه بالفرنسية الخالصة تدل على تلك الثقافة الشوهاء التي لا ترضاها الرسالة للفتاة. فهل تظنين أن العربية تقل جمالاً في الفم الجميل والقلم المذهب عن الفرنسية؟ وهل تظنين أن جَرْس العربية يقل إمتاعاً في الصالون، وإيقاعا في (النجوى) عن جرس الفرنسية؟ وهل تعتقدين أن المصرية لا تكون حديثة لنشأة ولا عصرية الثقافة إلا إذا كتبت بالفرنسية، أو ارتضخت لكنة أجنبية؟ إن المصارف والمتاجر والشركات وأرباب الامتيازات يحتقرون العربية لأنهم (الانديجين) وأولئك الانديجين لا يزالون من خدر الذل في بلادة صماء يضيع فيها وخز الإهانة! ولكنك يا سيدتي تسمين حياة، وتشيرين في كتابك إلى حفظ القرآن وإقامة الصلاة. فكيف تسيئين بنفسك إلى كرامتك. وبيدك إلى لسانك!؟
هذا كتابك وهو في رأيي محتاج إلى عفو الوطن. أما كتاب الآنسة الأخرى فهو بالعربية، ولكنه عبث طفلي ترجين وأرجو أن يقف داؤه عند الآنسة (عفيفة) أتدرين علام لصقت غلافه؟ لصقته على رسالة ومقالة! فالرسالة تعتب علينا في إغفالنا باب المرأة. وترغب إلينا في نشر المقالة (وهي كما تقول قطعة بقلمها تشجيعاً لها ولزميلاتها على الكتابة. .) والمقالة عنوانها (قبلة حية في رسالة) وتقرئيها، ومعاذ الله إن تقرئيها، فإذا المتكلم عاشق داعر، وإذا المخاطب معشوقة هلوك!! فخبريني يا سيدتي هل استجملت الناقة، أم طبقت الآنسة مذهب (لاجارسون) حتى في هذه العلاقة؟ وهل يروقك بعد ذلك إن تكون لثقافة المصرية في الرسالة هذا المظهر الأجنبي، أو ذلك العبث الخلقي؟؟
بين النجف وبغداد
روينا في هذا المكان من العدد الثامن إن وزارة المعارف العراقية، رغبت في تغيير(10/2)
الأناشيد المدرسية، فقدمت إليها على الفور (جمعية الرابطة الأدبية في بغداد) ثلاثين نشيداً. . . ولكن كتاباً من النجف جاءنا اليوم يصحح الرواية ويقول: (إن الأناشيد نتاج قرائح الرابطة العلمية الأدبية بالنجف الأشرف مركز الثقافة العربية) ونحن نعلن هذا التصريح ونزيد عليه إن الشعر في العراق فراتي لا يستسيغ (كثيراً) ماء دجلة، ولنا على هذا الرأي تدليل سننشره في يوم قريب. ولئن عناك أن تسأل بعد ذاك عما صنعته (الرابطة الأدبية في بغداد) فأعلم إنها شربت الشاي مرة عند الرئيس، ومرة أخرى عند أحد الأعضاء، ثم أدركها الحر فرقدت بجانب (جمعية الثقافة العربية) في سرداب! ومن الذي تظنه يوقظها وقد هاجر البؤس بالرصافي إلى قرية الفلوجة، وظفر النعيم بالزهاوي إلى جوار الملك في شارع الأعظمية؟؟
أحمد حسن الزيات(10/3)
إلى الدكتور طه حسين من الأستاذ توفيق الحكيم
يا دكتور
يعنيك طبعاً أن تعلم كيف يرى الجيل الجديد عملك وعمل أصحابك، إن رسالتي إليك ليست حكماً يصدره الجيل الجديد، إنما هي تفسير لذلك العمل، لك أن تقره ولك أن تنكره. لا ريب إن العقلية المصرية قد تغيرت اليوم تحت عصاك السحرية، كيف تغيرت؟ هذا هو موضوع الكلام، إن شئون الفكر في مصر حتى قبل ظهور جيلك كانت قاصرة على المحاكاة والتقليد، محاكاة التفكير العربي وتقليده، كنا في شبه إغماء، لا شعور لنا بالذات، لا نرى أنفسنا ولكن نرى العرب الغابرين، لا نحس بوجودناولكن نحس بوجودهم هم، لم تكن كلمة (أنا) معروفة للعقل المصري. لم تكن فكرة الشخصية المصرية قد ولدت بعد. رجل واحد لمعت في نفسه تلك الفكرة فأضاء لكم الطريق: (لطفي بك السيد)، وسرتم ركضاً حتى بلغتم اليوم هذه الغاية، وإذا الجيل الجديد أمام روح جديدة وأمام عمل جديد. لم يعد الأدب مجرد تقليد أو مجرد استمرار للأدب العربي القديم في روحه وشكله، وإنما هو إبداع وخلق لم يعرفهما العرب. وبدت الذاتية المصرية واضحة لا في روح الكتابة وحدها بل في الأسلوب واللغة أيضاً، من ذا يستطيع أن يرد أسلوب طه حسين إلى أصل عربي قديم؟ بون شاسع بين الأمس واليوم. حتى أمس القريب كانت مقامات الحريري ورسائل عبد الحميد وبديع الزمان مثلاً تحتذي في كتابات حفني ناصف والمويلحي وغيرهما ممن رسفوا في أغلال التقليد راضين أو مرغمين. لقد بدأنا نعي ونحس بوجودنا، وأول مظاهر الوعي شخصية الأسلوب واستقلال طريقة التعبير وما يتبعها من ألفاظ وأخيلة، بهذا يبشر صاحبكم احمد أمين اليوم، ويصيح في هذا الجيل كي ينظر فيما حوله ويعبر عما يراه بخياله هو لا بخيال العرب. كل هذا جلي معروف، ولم أبعث برسالتي من أجله، حاجة مصر إلى الاستقلال الفكري أمر لا نزاع اليوم فيه، وعملك أنت وأصحابك لهذا الاستقلال أمر لا نزاع فيه أيضاً. ولقد مضى كلامكم في هذا، إنما الأمر الذي يحتاج إلى كلام هو معرفة مميزات الفكر المصري. معرفة أنفسنا: حتى تتبين لجيلنا مهمته. هذه هي المسألة، لقد فهمنا عنكم مميزات الأسلوب والشكل، وما فهمنا بعد جيداً مميزات النفس والروح، ما هي مميزات العقلية المصرية في الماضي والحاضر والمستقبل؟ ما روح مصر؟(10/4)
ما مصر؟ إن اختلاطنا بالروح العربية هذا الاختلاط العجيب كاد ينسينا إن لنا روحاً خاصة تنبض نبضات ضعيفة تثقل تحت ثقل تلك الروح الأخرى الغالبة. وإن أول واجب عليكم لنا استخراج أحد العنصرين من الآخر. حتى إذا ما تم تمييز الروحين إحداهما من الأخرى كان لنا أن نأخذ أحسن ما عندهما، وكان لكم أن تقولوا لنا: (ها نحن أولاء أنرنا لكم الطريق إلى أنفسكم فسيروا) لا بد لنا إذن أن نعرف ما المصري وما العربي؟ هذا السؤال ألقيته على نفسي منذ ست سنوات إذ كنت ادرس الفنين المصري والإغريقي. وكانت المسالة عندي وقتئذ: ما المصري وما الإغريقي؟ وأذكر أني أثرت هذه المسألة أمام بعض أصدقائي في حي (مونبارناس)، أذكر أني لخصت لهم الفرق بين العقليتين بمثل واحد في فن النحت سائلاً: ما بال تماثيل الآدميين عند المصريين مستورة الأجساد وعند الإغريق عارية الأجساد؟ هذه الملاحظة الصغيرة تطوي تحتها الفرق كله، نعم كل شيء مستتر خفي عند المصريين، وعار جلي عند الإغريق، كل شيء في مصر خفي كالروح، وكل شيء عند الإغريق عار كالمادة. كل شيء عند المصريين مستتر كالنفس، وكل شيء عند الإغريق جلي كالمنطق. في مصر الروح والنفس، وفي اليونان المادة والعقل. نظرةٌ أخرى في أسلوب النحت تدعم هذا الكلام. أن المثّال المصري لا يعنيه جمال الجسد ولا جمال الطبيعة من حيث هي شكل ظاهر، إنما تعنيه الفكرة، انه يستنطق الحجر كلاماً وأفكاراً وعقائد. على انه يشعر مع ذلك بالتناسق الداخلي، يشعر بالقوانين المستترة التي تسيطر على الأشكال، يشعر بالهندسة غير المنظورة التي تربط كل شيء بكل شيء، يشعر بالكل في الجزء، وبالجزء في الكل، وتلك أولى علامات الوعي في الخلق والبناء؛ هذا كله يحسه الفنان المصري لأن له بصيرة غريزية أو مدبرة تنفذ إلى ما وراء الأشكال الظاهرة لتحيط بقوانينها المستترة، فنان عجيب لا يصرفه الجمال الظاهر للأشياء عن الجمال الباطن. إنه يريد أن يصور روح الأشكال لا أجسامها، وما روح الشكل إلا القانون العام الأعلى المستتر خلفه؛ إن ولع المصريين بالقوانين الخفية لشيء يبلغ حد المرض، مرض إلهي، لو أن الآلهة تمرض لكان هذا مرضها: فرط البحث عن القانون! كل شئ في مصر إلهي، لأن مصر التي منحتها الطبيعة الخير واليسر وسهولة العيش وكفتها مشقة الإجهاد في سبيل المادة استلقت منذ الأزل تتأمل ما وراء المادة. . حظها في هذا حظ الهند: أمة(10/5)
كثيرة الخير كذلك دانية القطوف لا حاجة بها إلى الكفاح ولا عمل لها إلا استمراء ترف الحكمة العليا، انقطعت هي أيضاً من قديم تحت أشجارها المقدسة تبحث عما وراء الحقيقة.
مصر والهند حضارتان قامتا على الروح لأنهما قد شبعتا من المادة، الإغريق على النقيض، أمة لم تشبع من المادة، أمة نشأت في العسر والفاقة، أرضها لا تدر من الخير إلا قليلا، كان لزاماً عليها الكفاح في سبيل العيش، وكان حتماً عليها الجري وراء المادة، حرب تلو حرب، وفتح بعد فتح، وضرب في مشارق الأرض ومغاربها، على هذا النحو لم يكن للإغريق ذلك الضمير المطمئن ولا ذلك الشعور بالاستقرار، ولا ذلك الإيمان بالأرض الذي يوحي بالتفكير فيما وراء الأرض والحياة، إن عاطفة الاستقرار والإيمان ممزوجة بالدم عند المصريين، لأن المصريين نزلوا من بطن الأزل إلى أرض مصر، لا يعرف لهم نسب آخر على وجه التحقيق، واختلاف العلماء في أمر أصلهم لم ينته بعد، وفي كل يوم يبدو دليل على أن العمران والاستقرار وجدا في مصر قبل التاريخ المعروف، ولقد ظهرت الحضارة المصرية في التاريخ تامة كاملة دفعة واحدة، كما يظهر قرص الشمس في الأفق عند الشروق، ولقد قال سولون: إن الكهنة المصريين يعنون العناية كلها بذكريات تلك القارة العظيمة ذات المدنية الزاهرة التي أبتلعها المحيط قبل مبدأ التواريخ: (قارة الأتلانتيد). أترى كانت الحضارة المصرية استمراراً لتلك المدنية المندثرة؟. . . لم يقم دليل، على كل فرض. مصر أمة مستقرة مؤمنة زهدها عمرها الطويل وخيرها الكثير في مباذل الحياة، وهذا الزهد والتفكير فيما وراء الحياة ظهر أثرهما على وجه الفن المصري، ولا شيءيدل على عواطف أمة وعلى عقليتها مثل فنها. فلقد طالع العالم الحديث على وجه الفن المصري الصرامة والجد والعمق ولا أكاد أفتح كتاباً في الفن المصري حتى أجد كلمة (الصرامة) نعتاً من نعوت هذا الفن، ولا أفتح كتاباً في الفن الإغريقي إلا وجدت كلمة (الحياة) وكلمة (الإنسانية) من نعوت هذا الفن، نعم. الحياة هي كل شيء عند الإغريق، قد يدفعهما حب البحث إلى لمس حدود الحياة الأخرى فيلمسونها بالعقل والمنطق لا بالقلب والروح. فلسفتهم فلسفة العقل والمنطق والحياة، فلسفة الحركة لا فلسفة السكون، عند مصر والهند السكون، عند الإغريق الحركة، قرأت حديثاً (المقبرة البحرية) لـ (بول فاليري) وهو المتصل اتصالاً مباشراً بالفلسفة اليونانية. فإذا هو يشير في القصيدة إلى الحركة(10/6)
والسكون، وإذا الحركة عنده من خصائص الكينونة الواعية الفانية، والسكون من خصائص العدم الخالد غير الواعي، وهو يعارض زينون الألياتي في إنكاره للحركة ويتغنى في آخر القصيدة بانتصار الحركة على قصرها وفنائها، فهو في ذلك لم يخرج عن يونانيته المكتسبة. ولم يفهم في رأيي روح مصر والهند، ولم يشرف على ذلك العالم الخالد غير الواعي، كان دون هذا الإشراف والاتصال والتجرد التام من كل عقل آدمي أو منطق بشري، هذه هي الصعوبة في فهم مصر والهند، وهذا ما جعل الفن المصري سراً مغلقاً حتى أوائل هذا القرن، وما صرف الناس إلى دراسة اليونان وحدها، فهي واضحة المعنى يسيرة المنال. لأنها لزمت شاطئ الحياة.
حظ الإغريق في كل هذا حظ العرب. العرب أيضاً أمة نشأت في فقر لم تعرفه أمة غيرها، صحراء قفراء، قليل من الماء يثير الحرب والدماء، جهاد وكفاح لا ينقطعان في سبيل العيش والحياة، أمة لاقت الحرمان وجهاً لوجه، وما عرفت طيب الثمار وجري الأنهار ورغد العيش ومعنى اللذة إلا في السير والأخبار، كان حتماً عليها ألا تحس المثل الأعلى في غير الحياة الهنيئة، والجنات الخضراء، والماء الجاري، وألوان النعيم واللذائذ التي لا تنضب ولا تنتهي، أمة بأسرها حلمت بلذة الحياة ولذة الشبع، فأعطاها ربها اللذة ومنحها الشبع. كل تفكير العرب وكل فن العرب في لذة الحس والمادة، لذة سريعة منهومة مختطفة اختطافاً، لأن كل شيْ عند العرب سرعة ونهب واختطاف، عند الإغريق الحركة، أي الحياة، وعند العرب السرعة، أي اللذة، لم تفتح أمة العالم بأسرع من العرب، ومر العرب بحضارات مختلفة فاختطفوا من أطايبها اختطافاً ركضاً على ظهور الجياد، كل شيء قد يحسونه إلا عاطفة الاستقرار. وكيف يعرفون الاستقرار وليس لهم أرض ولا ماضٍ ولا عمران! دولة أنشأتها الظروف ولم تنشئها الأرض، وحيث لا أرض فلا استقرار، وحيث لا أستقرار فلا تأمل، وحيث لا تأمل فلا ميثولوجيا ولا خيال واسع ولا تفكير عميق ولا إحساس بالبناء، لهذا السبب لم تعرف العرب البناء، سواء في العمارة أو الأدب أو النقد، الأسلوب العربي في العمارة من أوهى أساليب العمارة التي عرفها تاريخ الفن، وإذا عاش لليوم فإنما يعيش بالزخرف، فن الزخرف العربي أنقذ العمارة العربية، إن العمارة العربية ـ إلا في مصر ـ ما هي في رأيي سوى زخرف لا بناء، فلا أعمدة هائلة ولا جبهة(10/7)
عريضة ولا وقفة قوية ولا بساطة عظيمة ولا روعة عميقة، إنما هي وشي كثير وجمال كجمال الحلي المرصع يهز البصر ولا فكر خلفه. أما فن الزخرف العربي فهو في الحق أجمل وأعجب فن للزخرف خلده التاريخ. والزخرف عند العرب وليد ذلك الحلم باللذة والترف، كل شيء عند العرب زخرف. الأدب نثر وشعر لا يقوم على البناء، فلا ملاحم ولا قصص ولا تمثيل، إنما هو وشي مرصع جميل يلذ الحس، فسيفساء اللفظ والمعنى، و (آرابسك) العبارات والجمل. كل مقامة للحريري كأنها باب جامع المؤيد، تقطيع هندسي بديع. وتطعيم بالذهب والفضة لا يكاد الإنسان يقف عليه حتى يترنح مأخوذاً بالبهرج الخلاب، كذلك الغناء العربي (آرابسك) صوتي، فلا مجموعة أصوات متسقة البناء كما في (الديتيرامب) أو (الأوركسترا) الإغريقية أو كما في (الكورس) الجنائزي المصري، ولا حتى مجرد صوت ينطلق حراً بسيطاً مستقيما. إنما هو صوت محمل بألوان المحسنات من تعاريج وانحناءات والتواءات وتقاسيم كأنها (ستالاكتيتات) غرناطية، لا يكاد يسمعه (القاضي الفاضل) حتى يستخفه الطرب ويضع نعله فوق رأسه؛ كان هذا في العهد الأول للموسيقى إذ كانت عند جميع الشعوب بسيطة عارية تخرج من القلب تعبيراً عما في القلب، أو رمزاً لفكرة من الأفكار. والموسيقى كالعمارة من الفنون الرمزية لا الشكلية، ولكن العرب لا يحبون الرموز، ولا طاقة لهم بالفن الرمزي، ولا يردون إلّا التعبير المباشر بغير رموز، وإلا الصلة المباشرة بالحس، فجعلوا من الموسيقى لذة للأذن لا أكثر ولا أقل، ولقد حاول الفارابي فيما أذكر التقريب بين الموسيقى العربية والموسيقى الإغريقية، وكان لا بد له من الإخفاق لأسباب قد أذكرها بعد، كذلك التصوير العربي على جماله ودقته ليس إلا مجرد تزيين وزخرف للكتب والمخطوطات لم يؤَدِ لغير تلك الغاية (المنياتور) الفارسي. قد يكون للدين دخل في تأخر النحت والتصوير عند العرب، غير أني أعتقد براءة الدين. أن العرب كانوا دائماً ضد الدين كلما وقف الدين دون رغبات طبائعهم، لقد حرم الدين الشراب، فأحلوا هم الشراب في قصور الخلفاء، وما وصفت الخمر ولا مجالس الخمر في أدب أمة بأحسن مما وصفت في الأدب العربي، لا شيء في الأرض ولا في السماء يستطيع أن يحول بينهم وبين اللذة، أما النحت أو التصوير الكبير فليس في طبيعتهم، لأن تلك فنون تتطلب فيمن يزاولها إحساساً عميقاً بالتناسق العام مبناه التأمل الطويل والوعي(10/8)
الداخلي للكل في الجزء وللجزء في الكل، وليس هذا عند العرب، فهم لا يرون إلا الجزء المنفصل وهم يستمتعون بكل جزء على انفراد، لا حاجة لهم بالبناء الكامل المتسق في الأدب، لأنهم لا يحتاجون إلا للذة الجزء واللحظة، قليل من الكتب العربية في الأدب تقوم على موضوع واحد متصل، إنما أكثر الكتب كشاكيل في شتى الموضوعات تأخذ من كل شيء بطرف سريع: من حكمة وأخلاق ودين ولهو وشعر ونثر ومأكل ومشرب وفوائد طبية ولذة جسدية، وحتى إذ يترجمون عن غيرهم يسقطون كل أدب قائم على البناء، فلم ينقلوا ملحمة واحدة ولا تراجيديا واحدة ولا قصة واحدة، العقلية العربية لا تشعر بالوحدة الفنية في العمل الفني الكبير، لأنها تتعجل اللذة، يكفيها بيت شعر واحد أو حكمة واحدة أو نغم واحد أو زخرف واحد لتمتلئ طرباً وإعجاباً، لهذا كله قصر العرب وظيفة الفن على ما نرى من الترف الدنيوي وإشباع لذات الحس، حتى الحكمة، وشعراء الحكمة كانوا يؤدون عين الوظيفة: إشباع لذة المنطق، والمنطق جمال دنيوي ولا استغرب غضب نيتشه على إيروبيد لإسرافه في هذا المنطق على حساب الموسيقى، ومن المستحيل أن نرى في الحضارة العربية كلها أي ميل لشؤون الروح والفكر بالمعنى الذي تفهمه مصر والهند من كلمتي الروح والفكر. إن العرب أمة عجيبة، تحقق حلمها في هذه الحياة، فتتشبث به تشبث المحروم، وأبت إلا أن تروي ظمأها من الحياة وأن تعب من لذتها عباً قبل أن يزول الحلم وتعود إلى شقاوة الصحراء، وقد كان. إن موضع الحضارة العربية من (سانفونية) البشر كموضع الـ (سكِيْرتزو) من سانفونية بيتهوفن: نغم سريع مفرح لذيذ!!
لا ريب عندي أن مصر والعرب طرفا نقيض: مصر هي الروح، هي السكون، هي الاستقرار، هي البناء، والعرب هي المادة، هي السرعة، هي الظعن، هي الزخرف!
مقابلة عجيبة: مصر والعرب وجها الدرهم، وعنصرا الوجود، أي أدب عظيم يخرج من هذا التلقيح! إني أؤمن بما أقول يا دكتور. وأتمنى للأدب المصري الحديث هذا المصير: زواج الروح بالمادة، والسكون بالحركة، والاستقرار بالقلق، والبناء بالزخرف! تلك ينابيع فكر كامل ومدنية متزنة لم تعرف البشرية لها من نظير، إن أكثر المدنيات تميل إما إلى ناحية الروح وإما إلى ناحية المادة.
حضارة واحدة قيل أنها استطاعت في وقت ما هذا المزج بين الروح والمادة وهذا الاتزان(10/9)
بين عنصري الوجود، تلك حضارة الإغريق. نعم أعود فأرد إلى أمة الإغريق اعتبارها، وأعترف أني عندما وضعتها في كفة المادة كنت متأثراً بكلام (تين) فضللت السبيل. (تين) عقل خلاب لكنه عقل. والعقل وحده بعيد عن فهم الجانب الروحي للمدنيات. ما هداني إلى الحق إلا القلب. . . ألا طول تأملي في جبهة (البارتينون). من دماغ ذلك الجواد الذي خلقته يد (فيدياس) فوق هذا المعبد خرجت أفكار توحي إلي بأن أولئك القوم كانوا أعمق مما نظن، وكانوا يشعرون بشيء آخر غير مجرد المادة الظاهرة، وما لبثت (ميلبومين) أن جاءتني ببينة أخرى، وتأملت قليلاً فرأيت القناع قد كشف. ذكرت أن أصل الإغريق جنسان مختلفان: اليونان القادمون من آسيا المعروفون عند الهنود باسم (اليافاناس) أي عباد (يونا) والدوريون الحربيون البرابرة الهابطون من الشمال، اله اليونانيين: (ديونيزوس) إله الدوريين (أبولون). وهاهنا تفسير الإغريق: في هذا الصراع بين ديونيزوس رمز الروح والقوى الشائعة والنشوة. . . وبين أبولون رمز الفردية والشخصية الفارزة والوعي، الصراع بين الروح والمادة، وبين القلب والعقل، وبين النشوة والوعي، ديونيزوس إله آسيوي فيما يخيل إلي، جلب من الهند بالأمراء. فغدا في اليونان ينبوع الموسيقى، لهذا السبب قدرت إخفاق الفارابي، أن الموسيقى العربية وليدة عقل واع، لأن العرب أمة الفردية والوعي والمنطق العقلي والظاهر المحسوس، إن العرب من عباد أبولون وهم لا يشعرون. إن العرب لا يمكن أن يفهموا ديونيزوس ولا نشوة ديونيزوس. تلك النشوة الدينية الجارفة التي تخرج صاحبها من سيطرة العقل والوعي كي تصله مباشرة بالطبيعة. إن أغاني عباد (باكوس) الحماسية في الغابات ومزامير الـ (ساتير) لشيء بعيد إدراكه على العقلية الفردية، شعور الإنسان في لحظة أنه انقلب مخلوقا له جسم جواد ورأس رجل أو أرجل ماعز. هذا الاتحاد بين الحيوان والإنسان إحساس ليس له مثيل إلا عند المصريين القدماء، وهذا التلاقي بين الأنواع وبين القوى في مخلوق واحد لهو عند الأولين بقية ذكرى تلك المحلوقات الإلهية البائدة التي كانت تحكم الأرض قبل ظهور الإنسان. . . مخلوقات لا هي من الإناث ولا هي من الذكور، ولا هي من الحيوان، ولا هي من الإنسان، لأن الأجناس والفصائل لم تكن قد فرزت. كذلك (الساتير) في الميثولوجيا الإغريقية رمز الإنسان الأول، ذلك الإنسان الداني من الحيوان القريب من(10/10)
الآلهة، يدنو من الحيوان بغريزته الجنسية المتيقظة ينبوع القوة الخالقة عند الإغريق كما هي عند المصريين، ويقرب من الآلهة بغريزته الروحية المتصلة بقوى الطبيعة الإلهية، فهو ما زال يحتفظ بقبس من الحكمة العليا بدون أن يشعر، وببريق من ذلك النور الروحي والإلهام الذاتي يرى به كتلة الزمن من ماضي وحاضر ومستقبل في شبه لمحة واحدة.
تلك القدرة الخفية هي حاسة بائدة كانت للإنسان الأول، وفقدناها اليوم، نعم فقدنا كل القوى الروحية التي منحتنا إياها الطبيعة يوم كنا نحبها ونتصل بها، ولم يبقى لنا اليوم إلا العقل المحدود والمنطق القاصر. وها نحن اليوم في هذا الكون الهائل مخلوقات منفردة منبوذة! أين ذهب ديونيزوس؟ وهل يبعث من جديد؟ وإذا بعث فهل يجد من يعرفه في هذا العصر ذي الحضارة المادية الفردية؟!
رجل واحد ما زال يذكر هذا الإله ويستطيع أن يعرفه إذا ظهر كل عرف غالياس أصحاب الكهف!! وهو وحده كذلك الذي يستطيع أن يستقبله باسم هذا العصر، هذا الغالياس العصري هو: (تاجور) انه يتكلم كثيراً عن ذلك الاتحاد بين الإنسان والطبيعة. وعن ذلك الفاصل المرفوع بين الحياة الخاصة والحياة العظمى التي تخترق الكون. وعن ذلك الحب بين الإنسان والجماد. هذا كلام جميل. لكن هل تراه يشعر بحقيقته؟ يخيل إلي أن تلك الحقائق قد انطوت بانقضاء دولة الإغريق. بل لقد انقضت قبل أن تنقضي دولة الإغريق. انقضت بطغيان منطق سقراط على روح هوميروس. انقضت بطرد ديونيزوس من تراجيديات ايروبيد (غضبة نيتشه المعروفة) انقضت بظهور براكسيتيل على فيدياس، انقضت بغلبة الإحساس العقلي على الإحساس الروحي، انقضت بانتصار (أبولون) في النهاية على (ديونيزوس). وهكذا اختل التوازن، ورجحت كفة المادة، وانطفأت الحضارة الإغريقية إلى الأبد. ولم ترث أوربا منها غير كنوز العقل والمنطق، وبقيت في الظلام كنوز ديونيزوس الخفية.
لم تنجح اليونان إذن النجاح المطلوب في تطعيم الروح بالمادة، فهل تأمل مصر بلوغ هذه الغاية يوماً؟ أرجو من الدكتور أن يجيب، أنت وأصحابك ومدرستك قد فرغتم من تصوير وجه الأدب المصري، ولم يبقى إلا صبغه باللون الخاص، وطبعه بالروح الخاصة، فما هو هذا اللون؟ وما هي هذه الروح؟ إن ردك على هذا السؤال نور يلقي على طريق الجيل(10/11)
الجديد.
(الرسالة): سيجيب الدكتور طه عن هذه الرسالة القيمة في العدد القادم(10/12)
نظرة في نظام بيعة الخلفاء
النمو الأول
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
- 1 -
جاء في صحيح البخاري إن النبي عليه الصلاة والسلام عندما جاءه الموت قال (ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبداً) فقال بعض من حضر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع وعندكم القرآن. حسبنا كتاب الله) فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول (قربوا يكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده) ومنهم من يقول غير ذلك. فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قوموا)، ولم يكتب لهم شيئاً.
ولعل الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام يريده من ذلك أن يأمر بطريق الحكم بعده، ولكنه لم يكن ليفعل شيئاً عبثاً فلم يمض في ذلك وترك الأمر لأصحابه وأمته يختارون لأنفسهم ويجتهدون في أمثل الطرق لحكومتهم.
ولم يكن من قبل ذلك نظام مقرر لاختيار الخلفاء فكان على المسلمين أن يبتكروا من الخطط أمثلها في نظرهم بحسب ما تقتضيه الظروف والأحوال. وقد كان في الإسلام دوائر متعددة عند موت النبي. فقد كان هناك الأنصار أهل المدينة، وبين ظهرانيهم المهاجرون من أهل مكة، وكان هناك أعيان مكة من القرشيين المقيمين في عاصمتهم القديمة. وخارج هاتين المدينتين كانت قبائل العرب، بعضهم من قبائل اليمن وبعضهم من قبائل مضر، وكان كل من هذه الدوائر يشعر بالغيرة والأنفة أن يكون تابعاً للدائرة الأخرى، إذ أن الإسلام وإن هذب عصبية العرب وصرفها نحو الخير، لم يقض عليها أو ينزعها من القلوب كلها. فرفع الأنصار صوتهم أول شيء فقالوا أنهم أحق بالأمر، وتنادوا باسم زعيمهم سعد بن عبادة، وهتف بعضهم هتافاً كأنما يدعو إلى تحكيم السيف بالأمر. ووقف المهاجرون إلى جانب إخوانهم الأنصار يجادلونهم بالحسنى، ويذكرونهم بما وجب عليهم من الحق في ذلك الوقت العصيب، وما كان الأنصار ليثبوا وراء داعي الشقاق من أجل الحكم، وهم الذين قنعوا من قبل بأن يتركوا غنائم النصر الذي أحرزوه في وقعة حنين للمؤلفة قلوبهم ورؤساء الأعراب الذين لم يكن لهم كبير أثر في نصرة الإسلام، وقنعوا بأن(10/13)
يعودوا إلى بيوتهم ورسول الله في رحالهم راضين بأداء واجبهم ورضى ضمائرهم جزاء على أعمالهم. ما كان هؤلاء ليحرصوا على الحكم بل سمحت نفوسهم به، ورضوا بأن يكونوا الوزراء دون الأمراء بعد أن لم يرضى المهاجرون بان يجعلوا منهم أميراً مع أميرهم.
في هذا الموقف تقررت أمور كثيرة ذات خطر عظيم في دستور دولة المسلمين. فتقرر أن يخرج الأنصار من الأمر فلا يكون الخليفة منهم بل يكون من إخوانهم المهاجرين من قريش. وتقرر كذلك أن تكون دولة الإسلام موحدة منذ أبي المهاجرون إلا أن يكون على المسلمين أمير واحد من المهاجرين، ولو قبل مبدأ أن يكون في المسلمين أميران أحدهما من أهل المدينة والآخر من المهاجرين من أهل مكة، لانقسمت دولة الإسلام إلى قسمين من أول أمرها ولسار تأريخها سيرة أخرى غير التي سار فيها.
ولم يكن الأنصار وحدهم الذين رفعوا رؤوسهم يتساءلون عن الأمر لمن يكون، بل إن قبائل العرب جميعها اشرأبت أعناقها تتطلع إلى الحوادث الجارية. فخرج بعضها عن الإسلام جملة، وقال بعضها يجب أن يكون الإسلام ديناً لا حكماً فامتنعوا عن أداء الزكاة التي هي رمز الحكم وحق الدولة على رعيتها. غير أن ذلك الأمر لم يتعد الحد في خطورته فاستطاع المسلمون في المدينة أن يبسطوا سلطانهم على القبائل مرةً أخرى وأصبحت لهم بعد شهور قلائل دولة متحدة متماسكة.
على أن طريقة اختيار أبي بكر نفسه، لم تكن طريقة اختيار بالمعنى الصحيح. ولم يكن الحال عند ذلك يسمح للناس أن يطيلوا التفكير في طريق الاختيار لعلمهم بما حولهم من المشكلات والأخطار. فبعد أن اتفق المهاجرون والأنصار على المبادئ العامة ورضي الأنصار بمكانة الوزراء دون مكانة الأمراء، ولم يبق موضع للتردد الكثير في قبول مرشح المهاجرين، ولو سمي رجل من أكابر الصحابة غير أبي بكر للقي قبولاً عند ذلك، ولكن المسلمين وفقوا أكبر توفيق في اختيارهم. وكان اختيارهم نتيجة شعور عميق وصراحة عقيلة نادرة، فلم يجاملوا ولم يحابوا، بل نطق عمر بما وافق هواهم، فسمى لهم أبى بكر فرضوا به ولم يتطلبوا أن يتبع اختيار خليفتهم رسم خاص ولا خطة تضمن صدق الاختيار. وأكبر الظن أنه لم يخطر ببالهم أن هناك طريقاً آخر غير أن يسمي أحدهم رجلاً(10/14)
يرضونه فيبايعونه فلم يطل الأمر بعد المناقشة الأولى بل ازدحم الناس على أبي بكر يبايعونه وهم قانعون مما كان يعرفونه من وداعته وقوته وقدمه في الإسلام. ولم يخل الأمر مع هذا من وجود بعض الساخطين على هذا الاختيار مثل سعد بن عبادة من أهل المدينة ومثل أبي سفيان من أهل مكة، ولكن سيرة أبي بكر في مدة حكمه أرضت عنه من كان كارهاً لطريقة اختياره منتقداً لها لما رأى فيها من السرعة وعدم التمام.
وكان أبا بكر نفسه يشعر بأن طريقة اختياره لم تكن معصومة من النقد فقد روي عنه أنه لما مرض مرضه الأخير دخل عليه عبد الرحمن بن عوف وكان بينهما حديث طويل جاء فيه أن أبا بكر كان يشعر بالندم الشديد على أنه لم يكن قد سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن هذا الأمر لمن هو حتى لا يختلف فيه الناس، وعما إذا كان للأنصار حق فيه أم هو وقف على قريش.
ولم يرض أبو بكر أن يترك الناس للاختلاف مرة أخرى فقد كانوا في المرة الأولى حديثي عهد بالرسول، فكان أثر شخصه العظيم داعياً إلى زوال كثير من الحرص وتملك الزهد في النفوس وخشي أبو بكر أن يكون للناس عند موته فرصة للخلاف مع وجود جنود المسلمين في وجهين عظيمين تلقاء مملكتي الفرس والروم، فرأى أسلم طريق أن يعهد إلى صاحبه المجرب ووزيره القوي المؤتمن عمر بن الخطاب.
غير أن طريقة استخلاف عمر كانت طريقة جديدة قابلها أهل المدينة بالرضى الصامت الذي لا يخلو من النقد الصامت، بل قد صعدت بعض أصوات النقد من بعض الزعماء، فأن طلحة مثلاً قيل أنه لام أبا بكر على اختيار عمر إذ كان يرى فيه شدة وصلابة، وقد روي أن عبد الرحمن بن عوف نفسه عندما دخل على أبي بكر في مرض موته استشاره أبو بكر في تولية عمر فأنكر عليه ذلك وقال إن فيه شدة وصلابة.
وعلى كل حال قد مضى أبو بكر في عهده إلى عمر وسن بذلك سنة جديدة، وهي أن الخليفة له أن يفرض على المسلمين أن يتبعوا رأيه بعد موته في تولية من يختار لهم بغير أن يكون لهم الحق في أن يحيدوا عنه، أو يعدلوا من رأيه، فكان تلك سابقة للطريقة التي سيتبعها عمر في رسم خطة اختيار الخليفة بعده.
غير أن أبا بكر وإن أبتدع سنة جديدة لم يخرج عن السنة التي رسمت في أول الأمر(10/15)
فاختار الخليفة بعده من المهاجرين.
ولما قتل عمر بن الخطاب كانت الدولة في حال غير حالها الأول فقد فتحت الفتوح وأستقر العرب في البلاد المفتوحة وأنشئوا فيها أمصاراً لهم وعظمت شوكتهم فلم يكن يخشى عند موته من خذلانهم إذا طالت مدة اختيار الخليفة بعض الطول. فلم يشأ عمر أن يترك الناس لطريقة اختيار أبي بكر خوفاً من كثرة التردد والاختلاف، وما قد ينجم عنه في بلاد مثل بلاد العرب يسهل أن يثور فيها تعصب القبائل والعشائر ولاسيما بعد أن صار في المسلمين زعماء كثيرون معروفون امتازوا في حوادث الفتح بحسن الفعال وأصالة الرأي ولو لم يكونوا من أصحاب السابقة في الإسلام الذين جرى المسلمون على تقديمهم في أول الأمر، وكذلك لم يشأ عمر أن يوصي إلى رجل واحد كما أوصى أبو بكر إليه فأنه رأى أن في ذلك الشيء الكثير من عبء المسؤولية والاستبداد بالرأي في وقت ليس فيه ما كان عند وفاة أبي بكر من الخطر على الدولة وجنودها في ميادين القتال. فابتكر عمر طريقته المعروفة وهي وسط بين فرض الرأي وبين ترك الاختيار، ففرض رأيه في ترشيح جماعة من الزعماء أولي القدم والسابقة في الإسلام، ولم يخرج عن السنة الأولى، فاختارهم جميعاً من المهاجرين وترك لهم بعد ذلك أن يختاروا واحداً منهم يرضونه في مدة ثلاثة أيام، وأمر زعيماً اسمه مسلمة بن مخلد ألا يدعهم إلا مدة تلك الأيام الثلاثة.
وكان اجتماع هؤلاء المرشحين أهل الشورى وطريقهم في الاختيار خطوة واسعة في سبيل بناء دستور عربي متين لو بلغ مداه لكان من أتم نظم الحكومات.
أخرج أحدهم نفسه من الأمر واجتهد اجتهاداً لا يصدر إلا عن قلب عامر بحب المصلحة العامة، وقضى الليالي الثلاث التي جعلت للاختيار وهو لا ينام ولا يستريح بل يقضي الوقت كله في سؤال الناس سراً وعلانية. فسأل الأنصار والمهاجرين وسأل زعماء المسلمين وسأل قواد الجنود الذين وجدهم في المدينة عند ذلك وهم يمثلون جنود العرب الذين بالامصار، فكان بذلك ساعياً إلى الاستنارة برأي مختلف الدوائر، واستشارة مختلف الطبقات، والنظر إلى الأمر من مختلف النواحي. فلم يكن بين هذا وبين الانتخاب العام إلا خطوة واحدة، وهي أن يحصر حق الانتخاب في جماعة تتوافر فيهم صفات معينة وان تؤخذ آراؤهم بطريقة منظمة.(10/16)
وقد تبين لعبد الرحمن من وراء بحثه أن الناس لا يقدمون أحدا تقديمهم لزعيمين من الصحابة من أهل الشورى وهما علي وعثمان، فلما استقر رأيه على اختيار واحد منهما ثارت في وجهه مسائل جديدة أولها المنافسة القديمة بين بيتي قريش: وهما بيت هاشم، وبيت أمية، وثانيهما ما كان في بيت هاشم من الاعتقاد بأن لهم الحق في الأمر لقرابتهم من رسول الله عليه الصلاة والسلام وخشي إذا هو اختار عليا أن يحمل ذلك على أنه إنما اختاره لقرابته من الرسول لا لفضله وصفاته السامية، فكان في أمره في حيرة شديدة، وخرج منها على أن يطرح على المرشحين سؤالاً يكون بمثابة استطلاع لبرنامج كل منهما إذا هو ولى الحكم. فجمع الناس في المسجد وعرض سؤاله فقال: (هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبى بكر وعمر؟) فرأى علي أن معنى ذلك تقييده فوق كتاب الله وسنه الرسول بفعل خليفتي المسلمين قبله. ورأى أنه لا يحسن به أن يقيد نفسه بغير الكتاب والسنة تاركاً لنفسه بعد ذلك الاجتهاد والنظر وإن خالف رأي صاحبيه. وكانت أجابته على ذلك أن قال: (اللهم لا ولكن على جهد من ذلك وطاقتي) وأما عثمان فانه قال: (اللهم نعم) وكان عبد الرحمن ممن يرون اتباع السلف فيما ساروا عليه منذ كانوا في ذلك مجتهدين، ومنذ دلت الحوادث على حسن سياستهم فيه وسلامة عاقبة حكمهم. فرأى اختيار عثمان ورفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان ثم قال: (اللهم اسمع واشهد. اللهم أني جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان) وازدحم الناس بعد ذلك على الخليفة عثمان يبايعونه.
فخرجت الأمة الإسلامية من ذلك الموقف بسابقة جديدة منظمة تنظيماً كبيراً صالحة لأن تكون أساسا لنظام وافٍ صالح لاختيار الخلفاء، ففيه نواة الانتخاب العام، وفيه نواة النظر والموازنة بين المرشحين، وفيه نواة إدخال جميع العرب حق الاختيار، سواءاً أكانوا من أهل المدينة أم من أهل جزيرة العرب أم من أمصار البلاد المفتوحة. وفيه فوق كل ذلك نواة لرسم خطة للحكم يسأل عنها الخليفة قبل توليته، ويكون اختياره بعد الإفصاح عنها والتصريح بها وبذلك يكون عليه الوفاء بما تعهد به من الشرط قبل استخلافه.
ولم يبطئ العرب فيتلقف هذه الحقوق ولم يتهاونوا في المطالبة به في عهد عثمان ولم يترددوا في الثورة عندما رأوا أن خليفتهم لم يف بما تعهد به.(10/17)
التجديد في الأدب
حول مقال الأستاذ أحمد أمين
للدكتور عبد الوهاب عزام
قرأت المقال الثاني الذي تكلم فيه الأستاذ عن (التجديد في العبارة) فرضيت آراء وأنكرت أخرى.
وأول ما آخذ على المقال أنه لم يحكم تحديده فالقارئ يحس أن كاتبه أراد أن يعالج التجديد في المعنى والعبارة معاً.
يقول الأستاذ في مستهل مقاله (واليوم أعرض لضرب آخر من ضروب التجديد وهو التجديد في العبارة. وأعني بالعبارة الجملة التي يؤدى بها المعنى على اختلاف ألوانها من حقيقة ومجاز وتشبيه واستعارة وكناية.) ولست أدري كيف يكون التجديد في التعبير الحقيقي؟ الحقيقة لفظ مستعمل فيما وضع له. فإذا أتفق معنى لشاعر في الجاهلية فأداه بألفاظ حقيقية ثم وقع المعنى بعينه لشاعر معاصر فأراد الإبانة عنه بلفظ حقيقي لم يمكن التجديد في الأداء إلا بالإسهاب أو الإيجاز وليس هذا ما يريده الأستاذ، أو بإيثار لفظ حقيقي على آخر مثله وهذا يرجع إلى بحث الألفاظ الذي فرغنا منه في مناقشة المقال الأول، إذا أراد شاعر معاصر أن يبين بألفاظ لا تجّوز فيه عن قول القتال الكلابي:
ولما رأيت أنني قد قتلته ... ندمت عليه أي ساعة مندم
لم يستطع هذا تغييراً يلائم العصر الحاضر، ولم يواته إلا أن يضع أبصرت مكان رأيت أو أسفت موضع ندمت أو يقدم أو يؤخر في الكلمات. وليس هذا هو التجديد في العبارة الذي عناه الأستاذ. أي تجديد في العبارة يستطيعه قائل يريد أن يترجم عن هذا المعنى.
يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم ... وترمى النوى بالمقترين المراميا
إنما يمكن التغيير في المجازات والكنايات والتشبيه والتمثيل مما يمكن فيه تأدية المعنى الواحد بطرق مختلفة، وتصوير الحقيقة الواحدة بصور شتى وألوان عدة تنجلي فيها أثر الخيال والمعايش المختلفة، والأزمان والبلدان المتباينة. وهو موضوع لا يغني فيه الإجمال ولا غنى به عن التفصيل:
1. بعض المجازات والكنايات جرت مجرى الحقائق حتى نسي أصلها أو كاد. ولا يدرك(10/19)
فيها التجوز أو الكناية إلا بالبحث والرجوع بالكلمات إلى أقدم أصولها المعروفة. وذلك مثل أسبل المطر، فلان زميل فلان. وأرهقه العمل، وراض نفسه على الأمر، ودهماء الناس، وأمثال هذا مما شاع استعماله حتى ساوى مجازه الحقيقة أو غلب عليها فلم يبق المعنى الحقيقي شاهداً بأصل الاستعمال ودالاً على التجوز في غيره، كما يعرف التجوز في قولنا زلّ في رأيه، وزرع المودة في قلبه، وسمع زئير الحرب، ببقاء هذه الألفاظ معروفة ذائعة الاستعمال في معانيها المحسوسة. وحكم هذا المجاز حكم الحقيقة لا تجديد فيه ولا تغيير على الأسلوب الذي يريده الأستاذ أحمد أمين.
2. وأما المجازات التي يظهر فيها التجوز، ويبين فيها التخيل فبعضها يخترعه الكاتب البليغ الذي يحس في نفسه المقدرة على تصريف الكلام وخلق العبارات. وهذا مأخوذ من عقل الكاتب، أو المتكلم وإحساسه وعلمه كما يسمي الجمل سفينة الصحراء ويسمي الرجل الجريء أسداً وذئباً الخ. وكما يسمى أحدنا الغواصة مثلاً نسر الماء، ومنطاد زبلين حوت الهواء، ويقول عن خبر فظيع جاءه بالتلغراف: هذه إحدى صواعق البرق، ويشبه الرجل العليم بأخبار العالم وأحواله بالراديو الخ. وينبغي ألا ننسى أن علم الإنسان وعقله ليسا مقصورين على البيئة التي يعيش فيها بل من هذه البيئة ومما رأى أو سمع عن بلادٍ غابرة أو حاضرة، وأمم ذاهبة أو قائمة. فقد يسوغ للكاتب المصري أن يستمد مثلاً أو تشبيهاً مما يعرف عن أمم الإسكيمو أو مما عرف عن الأمة المصرية القديمة أو الأمة العربية قبل الإسلام، أو من خرافات اليونان الأقدمين. فإذا قال عن رأي سيئ يظهر بمظاهر مختلفة أنه غول متلونة أو عن فكرة سخيفة في نفس باردة أنها كواحد من همج الإسكيمو يقطن بيتاً من الثلج لم يكن لأحد أن يقول له: أنك لم ترى الغول ولا عاشرت الإسكيمو فينبغي أن يكون بيانك خالياً من التشبيه بهما. وإنما شرط هذا أن يكون مصدر المجاز أو التمثيل معروفاً لا يقف بالقارئ عند غموض أو إغراب.
وضرب من المجازات وما إليها ينشا هذه النشأة ثم يذيع وتتداوله الأجيال حتى يصير مظهراً لبيان الأمة وخيالها لا لخيال كاتب أو متكلم كالذي ورثناه في لغتنا عن بلغاء العربية في الجاهلية والإسلام.
وهذا جدير بالاستعمال، فكل كاتب أو متكلم أن يتوسل به إلى البيان وإن كان مصدره(10/20)
غريباً غير مألوف، بل ينبغي المحافظة عليه بما يبين عن تاريخ الأمة وحياتها في طور من أطوارها.
فلا عيب أن يقول القائل: أخذه برّمته، وترك حبله على غاربه، وما له خف ولا حافر، ورموا عن قوس واحدة، وأعطى القوس باريها، وألقى عصاه، والقافلة تسير والكلاب تنبح، كالمستجير من الرمضاء بالنار، كمهدي التمر إلى هجر، أعقد من ذنب الضب، أعدى من الشنفري، مرق مروق السهم، أختلط الحابل بالنابل، أهدى من القطى، وهلم جرا.
ولغات الأمم الأخرى حفظت كثيراً من عاداتها وتاريخها ولست أضرب مثلاً باللغة الفارسية أو التركية أو الأردية فهي لغات شرقية لا تصلح حجة في هذا العصر، ولكن أضرب مثلاً من اللغة الإنكليزية والفرنسية: يقال في الإنكليزية لمن يبالغ في كلامه: (ينزع في القوس الطويلة) ولمن يخير بين أمور عدة: (عنده أوتار لقوس واحدة) وهذه العبارة الأخيرة في اللغة الفرنسية أيضاً. ويقال في الإنكليزية في تقدير المسافة: (على رمية سهم) كما يقال في العربية (مقدار غلوة). ويقال في الفرنسية لمن يتوسل إلى غايته بكل وسيلة: (يبري سهاماً من كل خشب). وأمثال هذا كثير. فما منع الإنكليز والفرنسيين استبدالهم بالأقواس والسهام آلات الحرب الحديثة منذ مئات السنين، أن يبقوا على العبارات التي حدثت في عهد الأقواس والسهام.
لست أقول ينبغي أن نلزم العبارات القديمة ونأبى كل عبارة حديثة فلا أحد يستطيع أن يحول بين الناس وبين الإبانة عما في أنفسهم بوسائل مشتقة من حياتهم ولكني أخشى أن تكون الدعوة إلى الجديد دعوة إلى هجر القديم، ونحن في هذا العصر، عصر الفتن أحوج ما نكون إلى التمسك بالقديم، والاستمساك دون التهافت في التقليد، والضلال بين القديم والجديد. ومن يمعن النظر في صحفنا ومنشآت طلبتنا يعرف كيف تركنا كثيراً من عباراتنا الجيدة الموروثة إلى عبارات غثة ضعيفة لا تكاد تبين عما وراءها.
ثم يتكلم الأستاذ عن مسايرة الأدب الغربي للزمن ووقوف الأدب العربي، فيقول: (ذلك بأن الأدب الغربي ساير الزمان وأعترف بكل ما حدث فيه وأستمد منه، على حين أن الأدب العربي الحديث أغمض عينيه عن كل ما كان، ولم يعترف بوجوده الخ).
ولو رددنا الأمور إلى نصابها وتجاوزنا ظواهر الأمور إلى بواطنها ما رأينا في هذا قصور(10/21)
الأدب العربي، ولا عجز أدباء العربية بل عرفنا فيه قصورنا في العلوم والفنون الحديثة أو حداثة عهدنا بها. الأدب ترجمان الحياة العامة فهو لا يتناول مسائل علم واصطلاحاته حتى تشيع أوليات هذا العلم بين الأمة شيوعا يدخل مصطلحاته في لغةالتخاطب0 ولا ينبغي للأديب أن يدخل في الأدب المسائل العلمية أو الأسماء التي لا تزال مقصورة على العلماء المختصين بها. فإذا جاوزتهم إلى جمهور الأمة ودخلت في لغة الكلام ساغ للأديب أن يتناولها. في الكيمياء، مثلاً، مسائل عويصة لا يعرفها إلا علماء الكيمياء فهذه المسائل ستبقى وقفاً على العلماء مخبوءة بين أجهزة الكيمياء، ولن تخرج إلى لغة الخطاب العامة فتدخل في الأدب إلا أن تصير الأمة أو جمهورها من علماء الكيمياء. وهناك مسائل من أوليات هذا العلم كصفات الأحماض وتأثير بعض العناصر في بعض.
وهذه تدخل في اللغة العامة وتتهيأ للدخول في الأدب حين يشيع في الأمة علمها فلا يختص بها الكيميائيون. ومن أجل هذا تجد طلاب الفلسفة أو الطب أو النحو يتفكهون بتشبيهات من هذه العلوم لا يفقهها غيرهم إذ شاع علمها بينهم وصلحت للدخول في لغة تخاطبهم. وإذا رجعنا إلى تاريخ الأدب العربي عرفنا أن اصطلاحات الفلسفة والمنطق وغيرهما لم تدخل في الأدب أول عهد المسلمين بهذه العلوم. ثم شاعت بعض قضاياها واصطلاحاتها فساغ لأبي نؤاس وأمثاله أن ينظموها في شعرهم. كما قال أبو نؤاس:
تأملُ العينُ منها ... محاسناً ليس تنفد
فبعضها (يتناهى) ... وبعضها (يتولد)
فالتناهي والتولد من اصطلاحات الفلاسفة، وكما قال البحتري:
وكأن الزمان أصبح (محمولاً) ... هواه مع الأخس الأخس
فهو فيما أظن يشير إلى قول المنطقيين إن النتيجة تتبع أخس المقدمتين. وكقول المعري:
طرق العلى مجهولة فكأنها ... (صم العدائد) ما لها (أجذار)
أدخل في شعره من أسماء الحساب العدد الأصم والجذر وكقول الفارابي في اصطلاحات الهندسة:
وهل نحن إلا خطوط وقعن ... على كرةٍ وقع مستوفز
محيط السماوات أولى بنا ... فماذا التنازع في المركز؟(10/22)
وقد يكفي في هذا أن تشيع القضية العلمية بين المتأدبين من الأمة ولا ينتظر بها أن تشيع بين الجمهور. ولا يتسع المجال للإفاضة في البيان هنا.
ومهما يكن الأمر فقد غلا الأستاذ إذ قال: (أما الأدب العربي فيحارب مترليوزا بقوس وسهم، ويضيء في أدبه سراجاً بزيت والناس قادمون على أن يغيروا المصباح الكهربائي بخير منه ويبكي الأطلال ولا أطلال، ويحن إلى سلع ولا سلع ويستطيب الخزامي والعرار ولا خزامي لدينا ولا عرار.) هل يستطيع أستاذنا أن يعرفنا بشاعر أو كاتب في مصر أو الشام والعراق يفعل هذا؟
ويقول الأستاذ: (وسبب آخر من أهم الأسباب في فقر الأدب العربي في التعبير. هو أن الأدب العربي الحديث أدب أرستقراطي لا أدب شعبي.) وأنا لا أخالف هذا الرأي في جملته ولكن لي فيه مآخذ.
(1) ليس حقاً أن أحاديث الخاصة من متعلمينا وتنادرهم وفكاهاتهم باللغة العامية. فأحاديث الخاصة من المتعلمين أقرب إلى لغة الكتابة من اللغة العامية. ومراقبة مجلس الأدباء والعلماء تشهد بما أقول.
وفي هذا نفسه بيان خير الوسائل إلى ما دعا إليه من (إزالة الحواجز القوية بين العامية والعربية على أي وجه يرضاه قادة الأمة.) وذلك أن قرب أحاديث الخاصة من لغة الكتابة يبين لنا الطريق التي ينبغي أن نسلكها لإزالة هذه الحواجز. فليس لنا من وسيلة إلا أن ترقى العامة حتى تستطيع أن تفهم عن الخاصة إذا حدثتها. فكلما شاع التعليم في الأمة ارتقت العامة إلى مستوى أقرب إلى لغة الأدب. ونحن اليوم سائرون في هذه السبيل وقد سمعت في السنين الأخيرة جماعة من العامة وأشباه العامة يخطبون ويتكلمون بلغة لا تخالف لغة الكتابة إلا قليلاً. وآلاف المتعلمين من طلاب مدارسنا وآلاف القارئين الذين يستطيعون مطالعة الصحف والكتب عاملون كل يوم للتقريب بين العامية والفصحى.
(2) ثم قد غلا الأستاذ حين قال: (وكل أمة قد كسبت من توحيد لغتها الكلامية والكتابية ما لا يقدر، فقد أصبح الشعب كله منتجاً أدباً وتعبيراً قوياً.) ليس في العالم شعب ينتج كله أدباً قوياً ولا يزال الخاصة من الأدباء هم منتجي الأدب وأئمته، بل أتفه الأدباء أقربهم إلى العامة. فلا يزال عند الأوربيين فوارق بين أدب العامة وأدب الخاصة وستبقى هذه الفوارق(10/23)
ما دام اختلاف العلماء والجهال في عقولهم ومشاعرهم. وكل الذي نبغيه أن يلتقي العامة والخاصة في مقدار من الأدب مشترك هو أعلى ما تسمو إليه العامة وأدنى ما تنزل إليه الخاصة. ولن يزول الفارق بين الأدبين أبداً.
وكيف يوفق الأستاذ بين دعوته إلى أن يساير الأدب العلم وتستحكم الصلة بين كلية الآداب وكلية العلوم وبين دعوته إلى توحيد الأدب والمساواة فيه بين الخاصة والعامة. أيمكن أن يكون جمهور الأمة آخذاً بحظه من كلية العلوم أيضاً.
(3) ثم الفكاهات والنوادر. يقول أستاذنا الفاضل. (حسبك دليلاً على ذلك أن النكت والنوادر، وهي من أهم أركان الأدب، لا تجد منها سائغاٍ في أدبنا العربي عشر معشار ما تجد في الأدب العامي. وإن النادرة تحكى بالعامية فنضحك إلى أقصى حد ثم تحكيها باللغة الفصحى فتخرج باردة تافهة)
نظر الأستاذ إلى هذه القضية من جانب واحد. والحق أن النكتة تبلغ مبلغها فيما وقعت فيه من حال وعبارة. فالذين يشهدون الواقعة المضحكة أو يسمعون الكلمة المضحكة أكثر ضحكاً لها ممن رويت لهم في غير أحوالها أو بغير ألفاظها، بل ينطق الرجل بالكلمة فيضحك لها الناس فإذا رواها غيره بلفظها في مثل حالها لا تبلغ من النفوس ما بلغته أول مرة لما فاتها من أثر القائل الأول. فإذا اختلفت العبارة فأحرى أن يختلف التأثير. فإذا ترجمت الفكاهة من لغة إلى أخرى ضاع أثرها كله أو بعضه وإذا نقلتها من عبارة إلى أخرى في لغة واحدة لم تبق على حالها الأول. فإن تكن النكت العامية تبرد إذا نقلت إلى العربية الفصحى فكم من نادرة فصيحة تموت إذا نقلت إلى العامية. وكثير من فكاهات الجاحظ و (كتاب الحمقى والمغفلين) لأبن الجوزي لا يمكن نقلها إلى العامية؛ فالفكاهات المتعلقة بالنحو والعروض والفقه ونحوها وكثير منها يضعف أثره وإن أمكن نقله. وإلا فكيف تترجم إلى العامية هذه العبارات:
قال رجل للحسن يا أبى سعيد. فقال كسب الدرانيق شغلك عن أن تقول يا أبا سعيد. وقدم رجل من النحويين رجلاً إلى السلطان في دين له عليه فقال أصلح الله الأمير لي عليه درهمان. قال خصمه: لا والله أيها الأمير إن هي إلا ثلاثة دراهم لكنه لظهور الإعراب ترك من حقه درهماً واعتبر كل ما في كتب الأدب من ملح تجد أكثرها يجري هذا(10/24)
المجرى.
ولا ريب أن لغة التخاطب ولغة الكتابة أو لسان العامة ولسان الخاصة كانا متقاربين في عهد الجاحظ ولم يكن بينهما ما بين الفصيحة والعامية اليوم. ولكن الفكاهات إذ ذاك كانت كما هي اليوم لا تصلح للنقل من لغة إلى أخرى. قال الجاحظ:
(ومتى سمعت حفظك الله بنادرة من كلام الإعراب فإياك وأن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها. فإنك إن غيرتها بأن تلحن في إعرابها وأخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير. وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام وملحة من ملح الحشوة والطغام فإياك وأن تستعمل فيها الإعراب أو أن تتخير لها لفظاً حسناً الخ)
وكذلك يقول قدامة بن جعفر في كتاب نقد النثر: (وللفظ السخيف موضع آخر لا يجوز أن يستعمل فيه غيره. وهو حكاية النوادر والمضاحك وألفاظ السخفاء فإنه متى حكاها الإنسان بغير ما قالوه خرجت عن معنى ما أريد بها وبردت عند مستمعها).
(4) وبعد فلا ينبغي أن تسف لغة الآداب العالية إلى مستوى العامة بل يجب أن ترقى العامة إلى مستوى لغة الآداب أو ما يقرب منه. على أن هذا التباعد بين ما يسميه الأستاذ (الأدب الأرستقراطي) وما نسميه (الأدب الشعبي) مظهر واحد من مظاهر الاختلاف بين عامتنا وخاصتنا، بين الفريقين تفاوت عظيم في العقل والمعرفة والأزياء والمساكن وطرائق المعيشة. ولا بد من تقريب المسافة بين العامة والخاصة في هذا كله قبل أن يشتركا في لغة واحدة ويستمتعا بأدب واحد فإن الأدب الصحيح ترجمان معيشة الأمة.(10/25)
التجديد في الأدب
للأستاذ أحمد أمين
- 3 -
من أوضح الظواهر أن الجمهرة العظمى من المتعلمين الذين درسوا أدباً عربياً وأدباً أجنبياً يعكفون على الأدب الأجنبي يتذوقونه ويكثرون من مطالعته، في جدهم إن شاءوا الجد، وفي لهوهم إن شاءوا اللهو، وهم إن قرءوا في الأدب العربي ففي القليل النادر، وإن فعلوا لم يطيلوا ولم يتعمقوا، وقل أن يدرسوا كتاباً دراسة جيدة، إنما أكبر همهم أن يقلبوا صفحات الكتاب ليقع نظرهم على أبيات من الشعر يستملحونها، أو قصة طريفة يتفكهون بها. ومكتبتهم، على قلتها، تمثل ميلهم، فالكتب الإنجليزية أو الفرنسية فيها غالبة، والكتب العربية قليلة نادرة.
ذلك ولا شك حال أغلب المثقفين ثقافة عصرية. ويذهب بعض الباحثين في تعليل هذه الظاهرة إلى أن السبب يرجع إلى فساد تعليم اللغة العربية وآدابها في المدارس، فإن أساتذتها لا يحببون إلى الطلاب الأدب العربي، ولا يصلون به إلى نفوسهم، وإنما هي أمثلة محدودة تتكرر عاماً بعد عام، ونماذج من الشعر والنثر تعرض مرة بعد مرة، ولا غرض من دراستها إلا أن يذكرها الطلبة عند الامتحان فيؤدوها كما تليت عليهم، ثم تذهب بذهاب الامتحان، لأنهم قد تجرعوها على مضض، فهم يفرحون بنسيانها فرح المريض، وقد شفي، بالخلاص من دواءٍ مر المذاق.
قد يكون هذا سبباً صحيحاً، ولكنه فيما أرى ليس بالسبب الجوهري، فإن بعض اللغات الأجنبية التي تدرس بيننا ليست دراستها بأحسن حالاً من دراسة اللغة العربية، ومع هذا فالطلبة يسيغون أدبها ويتذوقون كتبها بما لا يظفر ببعضه الأدب العربي.
أهم سبب عندي يرجع إلى موقف الأدبين الأدب العربي والأدب الأوربي.
ذلك أن كل أدب أوربي له قديم وحديث، والأدب الحديث هو الذي يناسب جمهور المتعلمين وعامة الشعب لأنه في الغالب يعرض لما يشعرون به فيعبر عنه التعبير الفني، فالأديب المحدث يرى ظاهرة اجتماعية فيضعها في قصة أو منظراً جميلاً فيضعه في قصيدة، أو معنى أثارته في نفوس قومه أحداث سياسية أو اقتصادية فيضعه في مقالة أو كتاب، فيقبل(10/26)
الجمهور على قراءة ذلك ويعجبون به، وسبب الإعجاب أن الأديب شعر بما يشعر به الجمهور، واستطاع أن يعبر عنه التعبير الفني الذي لا يستطيعه الجمهور. أما الأدب الأوربي القديم فإنما يناسب خاصة المتعلمين لأنه يتطلب دراسة لغوية وأدبية عميقة كما يتطلب، لتطلبه، أن يلم المتعلم بشيء كثير من المسائل التاريخية والاجتماعية التي أحاطت بالأديب وبالقطعة الفنية حتى يستطيع أن يفهمها فهماً صحيحاً، وليس ذلك في مكنة السواد الأعظم من الناس. فالذين يفهمون الإلياذة والأوديسة وخطب ديمستين قليل بالنسبة إلى الذين يقرأون الأدب الحديث ويفهمونه، وكذلك الذين يفهمون الأدب الإنجليزي أو الفرنسي في القرون الوسطى ويتذوقونه هم الخاصة من الأدباء، وإن قرأ الجمهور شيئاً من الأدب القديم فإنما يقرءوه مترجماً إلى اللغة الحديثة، أو معروضاً في شكل جديد قد ذللت فيه كل الصعوبات التي يحتمل أن يلقاها القارئ العادي. أما الأدب الإنجليزي أو الفرنسي الحديث فيكاد يكون حظ الإنجليز أو الفرنسيين جميعاً.
وسبب ذلك أن الأدب هو نقد الحياة في أسلوب فني، وإذ كانت كل أمة تفهم حياتها الحاضرة فهماً ما، وإن اختلفوا في مقدار الفهم، كان الأدب الحديث أقرب إلى فهمهم وأيسر متناولا لجمهورهم، وإذ كان الأدب القديم وصفاً لحياة قديمة لا يستطيع فهمها فهماً صحيحاً إلا من عرف بيئتها وتاريخها، كان ذلك الأدب أدب الخاصة.
وبعد فالأدب العربي أدب قديم لا حديث له، وإن شئت تعبيراً دقيقاً فقل إنه أدب قديم لم يستكمل حديثه، لذلك كان الأدب العربي أدب الخاصة لا أدب الجمهور.
لا يستطيع القارئ أن يفهم الأدب العربي القديم إلا بفهم دقيق للتاريخ، وفهمٍ بالغ للظروف الاجتماعية التي نشأ فيها الأدب ومعرفة واسعة بالجغرافيا، وعلم تام بقوانين الصرف المعقدة كأنها قوانين اللوغاريتمات ليعرف كيف يبحث في معاجم اللغة العربية عن كلمة غريبة، وليس يصبر على ذلك كله إلا المجاهدون الصابرون، وقليل ما هم.
يريد سواد المتعلمين أن يغذوا مشاعرهم من حب يحلل تحليلاً دقيقاً، أو إعجاب بمنظر طبيعي ملك عليهم نفوسهم، فأرادوا أن يصور هذا الإعجاب في قطعة فنية، أو تبرم بأسر ورق فهم يريدون أدباً يتغنى بالحرية ويحفز النفوس إلى تحقيقها، أو ألم من سوء حالة اجتماعية فهم يبتغون قصة تمثلها أو قصيدة تصفها، أو كتاباً يحللها، أو نحو ذلك من(10/27)
ضروب المشاعر فلا يجدها في الأدب العربي الحديث إلا قليلا نادراً فيضطر إلى الأدب الأجنبي يقرأه ويتغنى به ويستمرئه، وهو على الرغم من أن ذلك الأدب ليس بلغته، ولا يصف مشاعر تمثل بالدقة مشاعره، ولا يحلل حالات اجتماعية تشبه مشابهةٍ تامة حالاته، على الرغم من ذلك كله مضطر أن يقرأه، إذ ليس عنده من أدبه ما يكفي لغذائه، وفي الأدب الغربي كل صنوف الغذاء على اختلاف الأنواع وعلى اختلاف الأساليب؛ إن شاء سهلاً وجد السهل، أو صعباً وجد الصعب، أو بين ذلك وجد بين ذلك، وإذا غمض عليه لفظ استطاع أن يكشف عنه في المعاجم من أول درس تعلمه، فكيف لا يهمل بعد ذلك الأدب العربي ويعكف على الأدب الغربي؟
أن شئت فوازن بين ما يدرسه الطالب في المدارس الثانوية أو العالية في الأدبين، فهو في الأدب الغربي يدرس شكسبير وأمثاله فيجد موضوعاً شيقاً يمثل حالة من الحالات التي تتصل بنفسه، وتمس حياته الاجتماعية بقدر ما، قد صيغت في قالب فني رشيق، فخرج من الدرس يحبها ويحب موضوعها، أما في الأدب العربي فيدرس مختارات من جرير والفرزدق والأخطل، أو مختارات من مقامات البديع والحريري أو نحو ذلك، وهذه كلها لا تمثل ناحية اجتماعية يحياها أو ما يقرب منها، ولا فكرة عميقة حللت تحليلا واسعا، لذلك يخرج منها وهو لا يحبها، أو على الأقل يكون على الحياد منها.
لست أنكر أن في جرير وأمثاله، والمقامات وأمثالها، وفي الأدب العربي على العموم جمالا وفناً وإبداعا، ولكن ذلك لا يدركه إلا الخاصة الذين مرنوا طويلاً على الدرس وبذلوا الجهد في تدريب أذواقهم على تقويمه واستساغته، وليس ذلك في استطاعة كل الطلبة ولا أكثرهم.
فإن أنت نظرت إلى الأدب العربي الحديث فماذا ترى؟ ترى كثيراً من الأدب الغربي قد ترجم إلى العربية، وليس من الحق أن نعد هذا أدباً عربياً في جوهره وموضوعه، إذ ليس له من العربية إلا لغة ملتوية على النمط الغربي. وترى نتاجاً مبتكراً قليلاً، وأكثر هذا القليل مقالات وفصول جمعت بعد ذلك وسميت كتباً مجازاً، لا تربطها وحدة غالباً إلا بضرب من التمحل. والبقية الباقية من القليل هي التي يصح أن تسمى أدباً عربياً حديثاً لم يكتمل. ذلك في نظري أكبر سبب في انصراف جمهور المتعلمين عن الأدب العربي، فإن(10/28)
أريد إقبالهم عليه فلا بد من إنتاج حديث وافر يغذي كل مشاعر الحياة كما يغذي العقول، وليس من الحق أن ندعو السواد الأعظم إلى الأدب العربي قبل أن نستكمله أو على الأقل نوجد فيه ما يسد رمقهم، وأن أردنا الأنصاف فواجب أن ندعو الدعوتين: دعوة الأدباء بالعربية إلى أن ينتجوا، ودعوة القراء إلى أن يقرأوا.
وينجح الأدباء إذا اقتصروا على أن يحتذوا حذو القدماء شكلا وموضوعا دون أن يمسوا حياتهم الواقعية وبيئتهم الاجتماعية ومشاعرهم النفسية؛ فالأدب متغير، خاضع لقوانين النشوء والأرتقاء، فإذا تقيد أدباؤنا بالموضوعات التي عالجها القدماء وبالأشكال التي صب فيها الأدب القديم، عد أدبهم قديماً لا حديثاً، ولم يصلح علاجاً لما نصف من أمراض.
مثال ذلك: أنا إذا وضعنا أيدينا على مختارات البارودي، وهو كتاب ضخم في أربعة أجزاء أختار فيها الثلاثين شاعراً من شعراء العصر العباسي، وجدناه قد أختار نحو أربعين ألف بيت، منها أكثر من أربعة وعشرين ألفاً في المديح، وإذا أضفت الهجاء والرثاء إلى المديح وجدت جميع ذلك يقرب من ثلاثين ألفاً، والربع الباقي في الأدب والصفات والزهد والنسيب!
فترى من هذا إفراط الأدباء القدماء في وصف العواطف الشخصية من كرم ورثاء وهجاء، وتقصيره في أبواب كثيرة أهمها وصف المناظر الطبيعية، وتحليل الانفعالات النفسية، وغير ذلك من ضروب الأدب.
وهذا التقصير وقع في الأدب الأوربي القديم كما وقع في الأدب العربي، فلو قرأنا شعر هوميروس وفرجيل ودانتي وجدنا فيه قليلاً من وصف جمال الطبيعة من جبال وبحار ونجوم، على حين، الشعر الأوربي الحديث قد مليء بهذا الضرب من القول وأبدع الشعراء فيه إبداعا لا حد له فأفاضوا في القول في السماء ونجومها، والأشجار وازدهارها وذبولها، والبحار والصحراء وغيرها، ووجدوا في ذلك كله كنوزاً استمدوا منها شعرهم، وكان تقصير القدماء وإجادة المحدثين في ذلك قانوناً طبيعياً لأن الإعجاب بجمال الطبيعة نتيجة رقي كبير في الذوق، فإذا قصر أدباؤنا المحدثون في هذا كما هو حادث الآن وتابعوا الأقدمين في المديح والهجاء والغزل، فقط، فقد ظل نقص الأدب العربي على ما هو عليه.
كذلك يعيش الشرقي عيشة خاصة غير التي كان يعيشها آباؤه، سفرت المرأة بعد حجابها،(10/29)
وتغبر في العشرين سنة الأخيرة كل نظم الحياة تقريباً من معيشة بيتية ونظم اجتماعية، وحياة سياسية، وأصبح كل باب من هذه الأبواب يتطلب قصصاً جديداً وشعراً جديداً وكتباً أدبية جديدة، فأن نظر أدباؤنا إلى دواوين الشعراء الأقدمين ولم ينظروا إلى دواوين الطبيعة وصحائف العالم الذي فيه يعيشون، فلا أمل في شعرهم، ولا نثرهم وظل المتعلم منصرفاً عنهم إلى الأدب العربي على الرغم منهم.
ونوع آخر من الأدب يصح أن يستغله الأدباء، وهو أن يعمدوا إلى الأدب القديم، وأبطال الشرق، والأحداث التاريخية العربية فيجعلوا منها موضوعاً لدراستهم ثم يلقوا عليه أضواء مما وصل أليه العلم الحديث والأدب الحديث وعلم النفس الحديث، فيترجموه إلى لغة العصر ويبرزوه في شكل يناسب ذوق الجمهور ويحبب إليهم قديمهم.
أنهم إن فعلوا ذلك استطاع من لا يعرف لغة أجنبية أن يجد غذاءه في الأدب العربي، واستطاع أن يكون إنساناً مثقفاً تكفيه ثقافته، واستطاع من يعرف لغة أجنبية أن يباهي بأدب قومه كما تباهي كل أمة بأدبها، وفي ذلك اعتداد بشخصيتنا العربية الشرقية لا يستهان به.(10/30)
إلى الدكتور عوض
من الدكتور علي مصطفى مشرفة
قرأت في مقال لك منشور برسالة أمس إن بيننا وبين الشمس 92 , 000 , 000 ميلا في الصيف، 93 , 000 , 000 ميلا في الشتاء. ولما كنت أنت اعلم الناس بان بعد الشمس عنا اكثر صيفاً منه شتاء (بداهة، يقصد سياق الحديث من الصيف في النصف الشمالي للكرة الأرضية والشتاء كذلك إذ أن العباس بن الأحنف إنما عاش في هذا النصف).
كما أن 93 , 000 , 000 ميلاً هي متوسط بعد الشمس أي البعد حوالي وقتي الاعتدالين الربيعي والخريفي، وأما البعد في فصلي الربيع والصيف فأكثر من ذلك، ويبلغ أقصاه حوالي وقت الانقلاب الصيفي، فيزيد حينئذٍ بنحو 1: 60 من قيمته المتوسطة، أي بنحو 1 , 5 مليون ميل، وفي فصلي الصيف والخريف والشتاء يكون أقل من المتوسط، ويصل إلى حده الأدنى حوالي وقت الانقلاب الشتائي فيكون حينئذ أقل من قيمته المتوسطة بنحو60: 1 منها بنحو 1. 5 مليون ميل أيضا، فتكون نهايتاه العظمى والصغرى نحو94. 5 مليون ميل صيفاً ونحو 91. 5 مليون ميل شتاء. أقول لما كنت أنت أعلم الناس بذلك أردت أن أكتب هذا إليك لكي تبادر بتصحيح ما قد يكون علق بأذهان قراء مقالك الممتع من ان الشمس أقرب إلينا صيفاً منها شتاء.
وفي الختام أرجو أن تتقبل سلامي الخالص وإعجابي بمقالاتك التي أتتبعها في الرسالة بعناية مقرونة باللذة الفكرية.(10/31)
حول قصة مصرية
قرأت كلمة في العدد الثامن من الرسالة الغراء بعنوان (حول قصة مصرية) وصف فيها كاتبها قصتي (حكمت المحكمة) بأنها قشور للقصة الحقيقية، وكم كان بودي أن يذيلها حضرته بإمضائه حتى أشكره وأشد على يديه إستحساناً وطرباً، فإن لي غراماً بفن القصة القصيرة، وأكبر الظن أني لن أصل إلى غايتي فيه إلا على ضوء النقد
كل ما أريد أن أقول هو أني عالجت في أقصوصتي:
1. عادات الريفيين في مآتمهم
2. مركز العمدة في القرية المصرية
3. اعتزاز العربي بشرفه ودفاعه عن عرضه
4. خطأ القانون في عقاب المدافع عن عرضه ومسامحته المعتدي على هذا العرض
ولست أعتقد أن كل ذلك قشور كما وصفه الكاتب، بل أني أخاف أن ينطبق هذا الوصف على خطته التي رسمها للقصة.
إنه يتساءل:
1. كيف أتصل إبراهيم أفندي بابنة الأعرابي وهذه نقطة غير لازمة، يكفي أن يعرف القارئ من القصة أن الاتصال ممكن مادامت سلمى تخرج إلى الحقول ترعى غنمها.
2. وكيف كانت العلاقة بينهما؟ على خير ما تكون يا سيدي. هي علاقة حب ما في ذلك شك. ولن أترك موضوع قصتي لأحصي عدد القبلات التي طبعها إبراهيم أفندي على خد سلمى
3. كيف ظهرت هذه العلاقة وعرفها والد الفتاة؟ إن يكن الجواب صعباً فهو موضوع لقصة أخرى بوليسية، وأن يكن سهلاً مفهوماً ففي ذكره اتهام لذكاء القراء
وبعد فقد عاب حضرة الكاتب على القصة خلوها من أثر العواطف والمشاعر، وادعي إني لجأت في وضعها إلي الحوادث فسردتها سرداً كأنها خبر من أخبار الصحف اليومية، وفي هذا تجن على الحقيقة كثير كما ترى.
السيد أبو النجا. مدرس بالتجارة المتوسطة بالظاهر(10/32)
في الأدب العربي
ابن خلدون والتفكير المصري
للأستاذ محمد عبد الله عنان
(5)
على إن ابن خلدون كان من جهة أخرى يحظى بتقدير فريق قوي من الرأي المصري المفكر. وكان على رأس هذا الفريق المؤرخ العلامة تقي الدين المقريزي. فقد درس المقريزي في فتوته على ابن خلدون واعجب بغزير علمه، ورائع محاضراته، وطريف آرائه ونظرياته. ويتحدث المقريزي عن شيخه ابن خلدون بمنتهى الخشوع والإجلال وينعته (بشيخنا العالم العلامة الأستاذ قاضي القضاة) ويترجمه في كتابه (دور العقود الفريدة) بإسهاب وإعجاب، ويرتفع في تقدير مقدمته إلى الذروة فيقول: (لم يعمل مثلها، وانه لعزيز أن ينال مجتهد مثالها، إذ هي زبدة المعارف والعلوم ونتيجة العقول السليمة والفهوم، توقف على كنه الأشياء، وتعرف حقيقة الحوادث والأنباء، وتعبر عن حال الوجود، وتنبئ عن أصل كل موجود، بلفظ أبهى من الدر الظيم، والطف من الماء سرى به النسيم). وهو تقدير يعارضه فيه ابن حجر كما قدمنا، ويأخذ ابن حجر وتلميذه السخاوي على المقريزي موقفه من ابن خلدون، ويرميانه بالمبالغة والإفراط في تعظيمه وإجلاله، ويقدم لنا ابن حجر تعليلا لهذا الموقف، وهو إن المقريزي كان ينتمي إلى الفاطميين وابن خلدون يجزم بإثبات نسبهم، ثم يقول لنا: إن المقريزي غفل في ذلك عن مراد ابن خلدون، فانه كان لانحرافه عن آل علي يثبت نسب الفاطميين إليهم، لما أشتهر من سوء معتقد الفاطميين وكون بعضهم نسب إلى الزندقة وادعى الألوهية.
وقد تأثر المقريزي فوق تعظيمه وتقديره لابن خلدون بنظرياته تأثراً كبيراً. وظهر هذا الأثر واضحاً في كتابه (إغاثة الأمة بكشف الغمة) الذي انتهت إلينا نسخة وحيدة منه تحتفظ بها دار الكتب المصرية.
ففي هذا الكتاب الذي يقول لنا المقريزي انه كتبه في ليلة واحدة من ليالي المحرم لسنة 808 والذي يتحدث فيه عن محن مصر منذ اقدم العصور إلى عصره، ينحو المقريزي في الشرح والتعليل منحى شيخه وأستاذه ابن خلدون في مقدمته. فيقدم لرسالته بمقارنة موجزة(10/33)
بين الماضي والحاضر، وملخص لما جازته مصر من محن الغلاء والشَرَق منذ الطوفان إلى عصره، ثم ينفرد لنا فصلاً يتحدث فيه عن الأسباب التي نشأت عنها هذه المحن وأدت إلى استمرارها طوال هذه الأزمان، وفي هذا الفصل نرى منهج ابن خلدون في البحث والتعليل واضحاً، بل نرى المقريزي يستعمل ألفاظ شيخه وعباراته مثل (أحوال الوجود وطبيعة العمران وما إليها.) وفي رأي المقريزي إن أسباب الخراب والمحن، ترجع أولاً إلى توليه الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة، واستيلاء الظلمة والجهلاء عليها، وثانياً غلاء استئجار الأطيان، وزيادة نفقات الحرث والبذر والحصاد (نفقات الإنتاج) على الغلة، وثالثاً ذيوع النقد المنحط، ويتبع ذلك بنبذة في تاريخ العملة في الدول الإسلامية ومصر. ثم يتحدث عن طبقات المجتمع، وأوصاف الناس، ويقسم لنا المجتمع المصري إلى سبعة أقسام: _
(1) أهل الدولة.
(2) أهل اليسار من التجار وأولي النعمة من ذوي الرفاهة.
(3) الباعة وهم متوسطو الحال من التجار، وأصحاب المعاش وهم السوقة.
(4) أهل الفلح وهم أرباب الزراعة والحرث وسكان الريف.
(5) الفقراء وهم جل الفقهاء وطلاب العلم.
(6) أرباب المصالح والأجر وأصحاب المهن.
(7) ذوي الخصاصة والمسكنة الذين يتكففون الناس.
ويذكر أحوال كل فريق بالتفصيل، ثم يتحدث عن أسعار عصره وبخاصة أسعار المواد الغذائية ويختتم بشرح رأيه في معالجة هذه المحن، وهو أن يغير نظام العملة، فلا يستعمل منها إلا المكين الثابت من ذهب وفضة، وهي فكرة تثبيت النقد بعينها.
هكذا ينحو المقريزي في الشرح والتعليل، وهكذا نلمس أثر المؤرخ واضحاً في منهج تلميذه، ونستطيع أن نجد كثيراً من أوجه الشبه بين ما يعرضه المقريزي في رسالته، وبين ما كتبه ابن خلدون في مقدمته عن طبيعة الملك وعوامل فساده، وعن السكة، وعن أثر المكوس في الدولة، وأثر الظلم في خراب العمران، وكيف يسري الخلل إلى الدولة وتغلبها وفرة العمران والغلاء والقحط، وغير ذلك مما يتعلق بانحلال الدول وسقوطها بل نستطيع(10/34)
أن نلمح مثل هذا الأثر في بعض ما كتبه السخاوي نفسه في كتابه (الإعلان بالتوبيخ) عن قيمة التاريخ وأثره في دراسة أحوال الأمم، فهنا يبدو السخاوي أيضاً على رغم خصومته لابن خلدون متأثراً بفكرته الفلسفية في شرح التاريخ وفهمه.
وهنالك مؤرخ مصري أخر هو أبو المحاسن بن تغري بردي يشاطر شيخه المقريزي تقديره لابن خلدون ويشيد بمقدرته ونزاهته في ولاية القضاء ويقول لنا انه باشر القضاء بحرمة وافرة وعظمة زائدة وحمدت سيرته.
ويظهر اثر ابن خلدون أيضاً في اعتماد بعض أكابر الكتاب المصريين المعاصرين عليه والاقتباس من مقدمته وتاريخه، ومن هؤلاء أبو العباس القلشندي صاحب كتاب (صبح الأعشى) فانه يقتبس من ابن خلدون في مواضع شتى من موسوعته.
(6)
هذه صورة دقيقة شاملة لحياة ابن خلدون في مصر، وصلاته بحياتها العامة، وأثره في حركتها الفكرية المعاصرة.
وهذه الحقبة من حياة المؤرخ، وهي حقبة طويلة امتدت ثلاثة وعشرين عاماً، تخالف في نوعها وظروفها حياته بالمغرب، ففي المغرب عاش ابن خلدون بالأخص سياسياً يتقلب في خدمة القصور المغربية، ويخوض غمر دسائس ومخاطرات لا نهاية لها.
ولكنه عاش في مصر عالماً قاضياً وإذا استثنينا مفاوضاته مع تيمورلنك في حوادث دمشق، وسعيه إلى عقد الصلة بين بلاط القاهرة وسلاطين المغرب، فانه لم يتح له أن يؤدي في سير السياسة المصرية دوراً يذكر. وإذا كان ابن خلدون قد خاض في مصر، معترك الدسائس أيضاً، فقد كان هذا المعترك محلياً محدود المدى شخصياً في نوعه وغاياته.
وكانت حياة ابن خلدونفي مصر اكثر استقراراً ودعة، وأوفر ترفاً ونعماء من حياته بالمغرب، ولكن الظاهر إن سحباً من الكآبةوالألم المعنوي كانت تغشى هذه الحياة الناعمة. فقد كان ابن خلدون في مصر غريباً بعيداً عن وطنه وأهله، وكان يعيش في جو يشوبه كدر الخصومة وجهد النضال، ونستطيع أن نلمس ألم البعاد في نفس المؤرخ في بعض المواطن، فهو يذكر غربته حين يتحدث عن اتصاله بالسلطان إثر مقدمه ويقول إن السلطان (أبر مقامه وآنس غربته). وهو يكشف لنا عن هذا الألم في قصيدة طويلة نقلت إلينا(10/35)
التراجم المصرية منها هذه الأبيات المؤثرة:
أسرفن في هجري وفي تعذيبي ... وأطلن موقف غربتي ونحيبي
وأبين يوم البين موقف ساعة ... لوداع مشغوف الفؤاد كئيب
لله عهد الظاعنين وغادروا ... قلبي رهين صبابة ووجيب
ولا ريب إن هلاك أسرة المؤرخ كانت عاملاً في إذكاء هذا الألم المعنوي، وهو يحدثنا عن هذه الفاجعة بلهجة الحزن واليأس حين يقول: (فعظم المصاب والجزع ورجح الزهد).
وكان المؤرخ يؤثر حياة العزلة في فترات كثيرة، وهو يشير إلى ذلك في بعض المواطن، حيث يقول لنا انه: (لزم كسر البيت ممتعاً بالعافية لابساً برد العزلة). وتشير التراجم المصرية إلى هذه العزلة فيقول لنا السخاوي: (ولازمه (أي المؤرخ) كثيرون في بعض عزلاته، فحسن خلقه معهم وباسطهم ومازحهم). وكان المؤرخ يشتغل في هذه الفترات بمراسلة أصدقائه بالمغرب والأندلس من السلاطين والأمراء والفقهاء، وهو يشير إلى ذلك في عدة مواضع.
وقد يكون من الشائق أن نعرف أين كان يقيم المؤرخ بالقاهرة، ولدينا عن ذلك نصان نقلهما ابن حجر عن الجمال البشبيشي ويقول الجمال في أولهما (انه كان يوماً بالقرب من الصالحية فرأى ابن خلدون وهو يريد التوجه إلى منزله وبعض نوابه أمامه. . .) (فيلوح من هذه الإشارة إن المؤرخ كان يقيم مدى حين على مقربة من الصالحية في الحي الذي تقع فيه هذه المدرسة اعني حي بين القصرين أو في أحد الأحياء القريبة منه، وذلك لأن مركز وظيفته كقاض للقضاة كان بهذه المدرسة ولأن إيوان الفقهاء المالكية كان يقع بجوارها. وأما في النص الثاني فيقول لنا الجمال ما يأتي مشيراً إلى ولاية ابن خلدون للقضاء عقب عوده من دمشق سنة ثلاث وثمإنمائة (إلا انه (أي ابن خلدون) تبسط بالسكن على البحر واكثر من سماع المطربات. . . الخ) ويستفاد من ذلك إن المؤرخ كان يقيم في هذا الحين في أحد الأحياء الواقعة على النيل ولعله جزيرة الروضة أو لعله بالضفة المقابلة من الفسطاط، حيث كانت لا تزال بقية من الأحياء الرفيعة التي قامت هنالك مذ خطت الروضة وعمرت وصارت منزل البلاط في أواسط القرن السابع، وسكن الكبراء والسراة في الضفة المقابلة لها من الفسطاط. ويرجح هذا الفرض إن المدرسة القمحية التي كان(10/36)
يدرس فيها ابن خلدون بلا انقطاع كانت تقع على مقربة من هذا الحي.
هذا وأما مثوى المؤرخ الأخير، فقد ذكر لنا السخاوي انه دفن (بمقابر الصوفية خارج باب النصر) ويحدثنا المقريزي عن موقع هذه المقابر وقد كانت تقع بين طائفة من الترب والمدافن التي شيدها الأمراء والكبراء في القرن الثامن خارج باب النصر في اتجاه الريدانية (العباسية) ومقبرة الصوفية هذه أنشأها صوفية الخانقاه الصلاحية في أواخر القرن الثامن في هذا المكان وخصصت لدفن الصوفية، وقد كان المؤرخ كما نذكر مدى حين شيخاً لخانقاه بيبرس.
فهل يكشف لنا الزمن يوماً عن مثوى رفات المفكر العظيم فيغدو قبره أثراً جليلاً يحج إليه المعجبون برائع تفكيره وخالد آثاره؟(10/37)
من طرائف الشعر
شوقية لم تتم
ننشر اليوم (مشروع قصيدة) كان شاعر الخلود شوقي بك يريد أن ينظمها في (الصحراء)، ثم بدا له فتركها على حالها الأولي قبل أن تتم، فأثبتناها بخطه كما هي خدمة للأدب والتأريخ
يا مُصّلي أديمه ... من بني آدم طُهر
سبّح الرمل والحصى ... في نواحيه والحجر
وعلى ظُهر جوه ... صلَّت الشمس والقمر
جمعا عُزلة المدا ... ر إلى عزلة المدر
سبحا ثم سبحا ... بالعشايا وبالبُكر
وخِضَمَّا من الرما ... ل أواذيًّه الصَخر
ماله ساحل ولا ... من فحاءاته وزرَ
فيه من كل حاصب ... جلل الجو وانهمر
هب من كل جانب ... كالدَّبى اشتد وانتشر
رب أكفان مقمر ... منهُ هيًّئن أو حُفر
وفضاء كأنه ... حلم رائع الصور
العشايا سواحر ... في حواشيه والبكر
كل سار وسامر ... . . . . . .
ثم غير المرحوم هذه الأبيات الثلاثة المتقدمة بالأبيات آلاتية:
يا فضاء بسحره ... ولًّه الركب بالسًّحر
فتنتهم وجوهه ... واستخفتهمُ الصور
وشجاهم سكونه ... بالعشايا وبالبكر
لا تلمهم فإنما ... قائد إلا نفس الفِطر
كل نفس لها هوى ... كل نفس لها وطر
كم جمال ومنظر ... فرقا لذة النظر(10/38)
كل حسن ومنظر ... فيهما للهوا نظر(10/39)
وطن جبران خليل جبران
هو ذا الفجر فقومي ننصرف ... عن ديار ما لنا فيها صديق
ما عسى يرجو نبات يخلف ... زهرهُ عن كل ورد وشقيق
وجديد القلب أنى يأتلف ... مع قلوب كل ما فيها عتيق؟
هو ذا الصبح ينادي فاسمعي ... وهلمي نقتفي خطواته
قد كفانا من مساء يدعي ... إن نور الصبح من آياته
قد أقمنا العمر في واد تسير ... بين ضلعيه خيالات الهموم
وشهدنا اليأس أسرابا تطير ... فوق متنيه كعقبان وبوم
وشربنا السقم من ماء الغدير ... وأكلنا السم من فج الكروم
ولبسنا الصبر ثوباً فالتهب ... فغدونا نتردى بالرماد
وافترشناه وساداً فانقلب ... عندما نمنا هشيماً وقتاد
يا بلادا حُجبت منذ الأزل ... كيف نرجوك ومن أي سبيل؟
أي قفر دونها أي جبل ... سورها العالي ومن منا الدليل؟
أسراب أنتِ أم أنتِ الأمل ... في نفوس تتمنى المستحيل؟
أمنام يتهادى في القلوب ... فإذا ما استيقظت ولى المنام؟
أم غيوم طفن في شمس الغروب ... قبل أن يغرقن في بحر الظلام؟
يا بلاد الفكر يا مهد الألى ... عبدوا الحق وصلوا للجمال
ما طلبناك بركب أو على ... متن سفن أو بخيل ورحال
لست في الشرق ولا الغرب ولا ... في جنوب الأرض أو نحو الشمال
لست في الجو ولا تحت البحار ... لست في السهل ولا الوعر الحرج
أنت في الأرواح أنوار ونار ... أنت في صدري فؤاد يختلج(10/40)
القلب اليتيم
أرأيتِ النسيم مَرَّ على الرو ... ض يناغي الزهور بالتقبيل؟
ورأيتِ الغصون يهفو بها الشو ... ق فتلتف في عاق طويل؟
ونظرت العشاق: كل خليل ... طائر القلب في غرام خليل؟
يغمر الحب كل قلب ويسقي ... كل نفس من كأسه السلسبيل
غير قلبي، فقد خلا من نعيم ... الحب أو روضه البهج الظليلِ
بادليه الغرام ثم اقبسيه ... من سَنَا نورك البهي الجليل
طهريني بناره واتركيني ... شاردا في مراحه المجهول
وَدَعيني افن الشباب غراما=بين نوح ولهفة وعويل
قد مللتُ الحياة من غير حب ... واراني في الحب غيرَ مَلولِ
أمين عزت الهجين(10/41)
قلبي
قلبيِ الذيِ يحبه ... يرفُّ حولَ قده
يسبح فيِ مقله ... يرقص فوق خدّه
قلبي الذي استعار من ... لهَّفتهِ خُفوَقهُ
أعمى فانْ لاح له ال ... حسن رأى طريقهُ
قلبي المعنىّ طائرٌ ... داميةٌ جراحه
أكلما خَفّ له ... أثقلهُ جناحه؟
قلبي سراج في الدجى ... من ناظريك نورُهُ
أطفأه بُعدك يا ... حلوُ فمن ينيره؟
(سورية) حمص. رفيق فاخوري(10/42)
حينما كنا صغيرين
ذلك عهد وان تولى جديد ... مشرق النور عاطر النفحات
هو ماض من الحياة سعيد ... يملأ النفس في ربيع الحياة
كلما جد ذكره عاودتني ... عند ذكراه نشوة المستعيد
وإذا غاب طيفه وجهتني ... حرقة الوجد نحوه من جديد
يا زماناً عرفته حين كنا ... نشبه الزهر في معاني النقاء
وكأن الزهور ترنو إلينا ... في انتباه وغيرة واشتهاء
حين كنا كطائرين أصابا ... في ظلال الربيع غصناً وريقاً
ننهب اللهو جيئةً وذهاباً ... ونرى العيش ما حللنا طليقاً
كم نهضنا مع الطيور صباحاً ... نطلب اللهو في رواء الصباح
نسبق الطير خفة ومراحاً ... بين حزن الربى وسهل البطاح
كم سعينا إلى الرياض أصيلاً ... وقطفنا الزهور ملء يدينا
كم ضحكنا وكم لعبنا طويلاً ... كم جرينا وكم مشينا الهوينى
كم جمعت الزهور من كل غصن ... ووضعت الزهور بين يديها!
جمع الزهر كل طهر وحسن ... أين حسن الزهور من وجنتيها؟
اعرف الحب منذ كنت صغيراً ... مطمئناً إلى نعيم الحياة
ليتني قد بقيت طفلاً غريراً ... ساهي الطرف لاهي النظرات
ليت شعري أتذكر اليوم ودي ... أم تناسته والتباعد ينسي
وبحسبي من الصبابة وجدي ... ومن الهجر ما يعذب نفسي!
يا زماناً ذكرته في شبابي ... فتمنيت أن أعود غلاماً
وعجيب مع الشباب طلابي ... غير إن الزمان يأبى ابتساماً
محمود الخفيف(10/43)
صورة
لوليم وردزورث
أبدع بفن أبرزت آياته ... ذاك الغمام بحسنه المتألق
// لم يسه ثمة عن دخان خافت ... يسمو ولا عن ضوء شمس مشرق
واستوقف الماشين قبل غيابهم ... في ذلك الغاب الألفِّ المورق
وأيان ذلك الفلك يفتأ مرسيا ... فوق الخليج وماءه المترقرق
يا أيها الفن الذي يروي النهى ... ويظل يقبس كل حسن مونق
من روعة الآصال يقبس نوره ... أو لمعة الإصباح ذات الرونق
هي وهلة في الدهر مسرعة الفنا ... وافيتها ببنانك المترفق
فجلوتها لبني الممات جديدة ... وكسوتها ثوب الخلود المطلق(10/44)
متاعب الإنسان
لأندريه شنييه
// لكل شجون في الحياة كثير ... ولكن يواري عن سواء شجونهُ
وكل فتى يبكي لبلواه غابطاً ... فتى مثله باكي الفؤاد حزينهٌ
ولم يدر الإنسان بآلام غيره ... فهم مثلما يخفي الأسى يكتمونهُ
وكل يناجي نفسه في شقائه ... بان جميع الناس تسعد دونه
فخري أبو السعود(10/45)
في الأدب الشرقي
من الشعر التركي
للشاعر المرحوم إسماعيل صفا
ترجمة الدكتور عبد الوهاب عزام
(1) الشيخ البائس
احدودبت قامته، وارتعدت رجله ويده، وشحب لونه، وترنحت خطواته، ونمت أسرة وجهه عن فجائع حياته.
أن تنعم النظر في عينيه البارقتين، ومحياه الواضح، ولحيته البيضاء، تتبين انه طوف في الصحارى والبحار، وتهادته المدائن والقفار، وما جبينه المشرق إلا كتاب مفعم بالخطوب.
وقد غشى وجهه اشمئزاز من الحياة، وبرم بها، فالعالم أمامه مقبرة مكررة.
وتقرا في وجهه انه نضو حانات، شرب صفوها وكدرها، وتجرع ألوانا من سمومها.
رأيته لأول مرة، فقلت: ليت شعري من الرجل؟ ولست ادري لماذا زدت على الأيام شغفا بمعرفته، وكلفا بأستكناه أمره، انه يمر بداري كثيرا، فهو لا ريب أحد جيرتي، ولكن من هذا الشيخ البائس المحبوب الطلعة؟
كم لقيته شريدا تتقاذفه الطرقات، وتعثر به الخطوات، قد تأبط زجاجته، وقطب أسرته، فليت شعري من هو، وماذا يضطرب في ضميره؟
ذهبت يوما إلى أيوب، إلى غابة السرو المترعة بالأحجار وغصت في لجج من الفكر ما لها من قرار، ألست أرى الشيخ السكير؟ نعم انه هو. قد استند إلى شجرة من السرو وضرب بيده على لحيته مفكرا حزينا. وأمامه صفائح عتيقة قد استغرقت نظراته، واستبدت بأفكاره.
مشيت إليه على هينة حذراً، وقرأت ما كتب على القبر فعرفت حال الرجل ورثيت له، وجاشت في نفسي ثورة من الحزن والغم، وكان الذي قرأته هذه الأبيات:
(وا حسرتاه! إن صرصر الأجل العاتية، قد ذهبت بشجرة الأمل الناضرة، وقد مشى الموت الجبار على زهرة حياتي، فما الدنيا من بعد إلا مأتم، وما فرحي وعيدي إلا الحزن والغمّ).(10/46)
إن تاريخ رحلته واحسرتا قد أتفق: (جنت مقرا ولدي محمد فريدمك) (صارت الجنة مقر محمد فريدي) سنة 1299
(2) ليكن لك
ليكن لك ما غاب في العالم من جمال وحضر، وما ظهر من حُسن فيه واستسرّ، والسحائب بألوانها الباهرة، والصحارى بمرائيها الساحرة، وكل ما ترنم به العشق من غناء، وما إفاضه الوجد على ألسن الشعراء، وهذه الحدائق بنفحاتها ونغماتها، وهذه القبة المنيرة بشموسها وسياراتها، ومطلع الشمس في روائه، والقمر في لألائه والأزهار في حلل من الشفق، والأسحار مزدهرة في الغسق.
ليكن لك الجبال والبحار، والفلوات والأشجار، لتكن لك الدنيا دائمة السراء والسعادة والصفاء، ليكن لك في هذه الحياة كل ما تشائين، وليكن طوع أمرك ما تشائين، وليكن تحت طوعك ما تحبين.
ولكن كوني أنتِ لي يا حبيبتي، كوني أنت وحدك لي.
(3) قلت وأقول
قلت: لو إن الليل المظلم صار نهارا!
وقلت: حين أمضّي الشتاء: لو انه انقلب ربيعا معطارا!
قلت: ولو إن طودا تخلله الأشجار، وتزينه الرياحين والأزهار، مشرف على لجج البحار.
قلت: ولو هنالك صحارى ومروجا تمرح فيها الطير والحملان.
قلت: ولو وقعت في الصحراء الظباء، فكلما بصرت بي أجفلت وانطلقت حيث تشاء
قلت: ولو إن على الجبل شجرة دلب عتيقة ولو إني في ظلها وحيد، وعلى غصونها بلبل غريد!
قلت: ولو خلع القمر على الكائنات حلل الضياء، وغشت السكينة الأرجاء.
قلت: ولو إن الأرض كلها والسماوات معطرة الأرجاء مضيئة الجنبات.
قلت: ما كنت لأسعد بهذا كله إلا أن يسعد طالعي فيؤنسني حبيبي.
وأقول الآن: هب كل هذا ميسرا. إنه واحسرتا! ظل زائل، فلو ذهبت إلى عالم لا تحول(10/47)
لذاته، ولا تفنى مسراته!!(10/48)
العلوم
صور النجوم
للأستاذ عبد الحميد سماحة. مفتش مرصد حلوان
قسم الفلكيون من قديم الزمان النجوم إلى مجموعات ليتيسر حصرها ومعرفتها بسهولة، وصوروا هذه المجموعات بصور مختلفة وسموها بأسمائها، فكل نجم أعطوه اسم العضو الذي يقع عليه من الصورة، فالنجم الذي عند القلب في صورة العقرب، يسمى (قلب العقرب) والذي عند الرجل في صورة الجبار يسمى (رجل الجبار).
ومن الغريب أن تكون هذه الطريقة في تقسيم النجوم معروفة عند أمم مختلفة من سكان الدنيا القديمة على بعد الشقة بينها، ووجدها الأوربيون عند سكان بيرو وكندا عند اكتشاف الأمريكيتين.
ومن الصعب معرفة تاريخ تسمية الصور بأسمائها المعروفة الآن، ولكن من المقرر أن الكثير منها يرجع في تسميته إلى ما قبل الميلاد بنحو آلف وأربعمائة سنة، وقد أطلق اليونان على الكثير منها أسماء أبطال قصصهم التاريخية، وبقيت هذه الأسماء على مرور الزمن، ولكن العرب عندما ترجموا عن اليونان عربوا بعض الأسماء مثل الدلو أو ساكب الماء لكوكبة اكوريوس وأبدلوا بعض الأسماء بأدوارها التي تلعبها في القصص اليونانية مثل المرأة المسلسلة لكوكبة اندروميدا وتركوا البعض الأخر على أصله في اليونانية مثل قيطس لكوكبة وقنطورس لكوكبة
وأطلق العرب أسماء عربية بحتة على كثير من النجوم ولا تزال تطلق عليها عند الأوربيين مثل الذنب المعروف والرِّجل المعروف باسم والطائر المعروف باسم
ويجب إلا ننسى إن هذه المجموعات من النجوم لا تدل تماما في شكلها على صورة الأحياء المسماة بأسمائها، اللهم إلا في مخيلة أول من سموها بهذه الأسماء. فسبعة النجوم الرئيسية من كوكبة الدب الأكبر مثلا وهي تؤلف الهيكل الرئيسي لصورة دب كما هو ظاهر في الصورة، يمكننا مع قليل من التعب أن نرسم عليها صورة فيل أو نمر مثلا، هذا فضلا عن إن ثلاث النجوم التي تكون الذنب متباعدة بحيث نجد هذا الذنب في الصورة طويلا على غير ما هو معروف من إن ذنب الدب قصير جدا.(10/49)
وقد قسم بطليموس المتوفى سنة150 قبل الميلاد السماء إلى 48 كوكبة منها اثنتا عشرة في الدائرة الكسوفية وهي المعروفة بالبروج وإحدى وعشرون في نصف الكرة الشمالي، والباقي وهو خمس عشرة كوكبة في نصف الكرة الجنوبي.
وقد أضيفت كوكبات كثيرة إليها، ونقلت بعض النجوم من إحدى الكوكبات إلى الأخرى، ومعظم النجوم اللامعة في هذه الكوكبات له أسماء عربية أو لاتينية أو يونانية.
وليست الكوكبات فيما تتصل به من أسماء أبطال القصص مما يهم الفلكي، ولكن لا بأس من أن نسرد بعض ما يتصل بالمهم منها بالقصة اليونانية لشدة ولع الناس بها من هذه الناحية.
يروى إن كاسيوبيا وهي المعروفة عند العرب بذات الكرسي، زوجة قيفاوس ملك اثيوبيا كانت على جانب عظيم من الجمال، وكانت تباهي به الآهات البحر اللواتي توسلن إلى (نبتون) أن يرسل قيطس الغول إلى شواطئ الملك قيفاوس ليثار لهن، وأن قيفاوس أوحى إليه أن يربط ابنته (اندروميدا) إلى صخور الشاطئ فيغتالها الغول فداء لهم، ففعل، ولكن عند عودة برشاوش البطل العظيم من رحلة رأى ما حل باندروميدا فقاتل الغول حتى قتله وتزوج من الأميرة الحسناء. ويأتي في القصة انه بعد وفاة كاسيوبيا رفعت إلى السماء بجوار القطب، وأن الآهات البحار انتقاما لأنفسهن وضعنها بحيث يكون رأسها إلى الأسفل مدة نصف الوقت.
وبرشاوش هو ابن جيوبتر وقد أرسل ليقتل ميدوسا إحدى الشقيقات الثلاث وهي الفظيعة المعروفة في القصة باسم لها أنياب حادة ومخالب غليظة ورأس كرأس الثعابين، وكل من نظر إليها بعينيه صيرته حجراً جامداً لساعته، وقد احتاط برشاوش للأمر فاستعار درع مينرفا وحذاء عطارد ذا الأجنحة ولم ينظر إليها عند مقاتلتها بل إلى صورتها في الدرع، فقطع رأسها ثم عاد به، وكان يستعمله في مقاتلة الأعداء لأنه احتفظ بخاصيته الغريبة في أن يصير كل من ينظر إليه حجرا.
ومما يلاحظ إن العرب كانوا يسمون كوكبة هذا باسمي برشاوش أو حامل راس الغول، ومن أحفاد برشاوش واندرومينا (هرقل) المشهور في القصة اليونانية بمخاطراته الجريئة التي يبلغ عددها اثنتي عشرة، ويرى هرقل في الكوكبات المصورة جاثيا وقدمه اليسرى(10/50)
على التنين ولابساً لبدة الأسد الذي كان قتله أول أعماله المشهورة، وقد ذهب هرقل لإحضار التفاحات الذهبية من حديقة هسبريدز وقد كان يحرس الحديقة الثعبان الكبير لادون الذي لا تغمض له عين (وهو الممثل في السماء بكوكبة التنين، وهي نظراً لقربها من القطب لا تغيب تحت الأفق).
وغني عن البيان إن هرقل قتل التنين واحضر التفاحات، غير إنا لا نعرف لماذا صوروا هرقل جاثيا، وربما كان ذلك هو السبب في تسميته عند العرب باسم الجاثي على ركبتيه.
أما ذات الشعور فيروى إن الملكة برنيس زوجة بطليموس ملك مصر في القرن الثالث قبل الميلاد نذرت شعرها الجميل لمعبد الزهرة إذا عاد زوجها مظفرا من إحدى حروبه في آسيا وقد انتصر فوضعت الشعر في المعبد، ولكنه سرق في الليلة نفسها فغضب الملك لذلك غضباً شديداً، ولكن (كونن) الرياضي أراه مجموعة صغيرة من النجوم وقال له ها هي ذي فتعزى الملك وأطلق عليها اسم وسماها العرب كوكبة ذات الشعور.
عبد الحميد سماحة(10/51)
حلم الأستاذ مجنان
للدكتور احمد زكي
للأستاذ مجنان رأي بديع في مستقبل الطيران يشبه الأحلام في
حلاوتها. وإذا اعتبرنا انه المستشار الفني لوزارة الهواء الفرنسية وانه
درس خمسمائة جنس من أجناس الطيور، وعددا لا يحصى له من
الحشرات الطائرة، بقصد زيادة الطيران دقة وسهولة ويسراً، وانه
قضى في تلك الدراسة نيفاً وعشرين سنة، وإذا اعتبرنا انه قص هذا
الحلم الحلو في مجمع العلوم بباريس، وان العلم كثيرا ما أتانا بأحلام لا
نلبث أن وجدناها أولت تأويلا صادقا، إذا اعتبرنا كل ذلك صغينا إلى
الأستاذ بآذان واعية وقلوب مؤمنة، إن كان بها قليل من الريبة ففيها
كثير من الأمل، وان خّفت بها غرابة ما يقترح إلى ابتسامة التكذيب،
قعدت بها ابتسامة هادئة من سرور الطمأنينة والتصديق، ذكرياتُ
غريبات كانت بالأمس فأصبحت اليوم مألوفات لا تأخذ عيناً ولا
ترهف آذناً.
يرى الأستاذ انك في المستقبل القريب عندما تريد أن تزور صديقا لن تدخل إليه من باب بيته وإنما تطرق عليه باب سطحه، ولن يكلفك ذلك إلا أن تلبس جناحين لا تزيد مساحة الجناح منهما على أربع أقدام مربعة أو خمس وتقفز من سطح بيتك في الهواء فإذا بك تطير في الفضاء على بركة الله. وإنما يشترط أن يكون بعضلك من القوة ما يحرك الجناحين بسرعة بحيث يضربان عددا من الضربات بين الثلاث عشرة والعشرين في الثانية الواحدة. بالطبع لن يستطيع ذراعان إحداث هذا العدد من الضربات في ذلك الوقت القصير، لذلك يقترح الأستاذ أن تقوم الأرجل مقام الأذرع فتضغط على بدالين كبدالات الدراجات، إنما هنا يتحركان معا. وهذان البدالان يحركان جيرا يحرك جيرا اصغر منه(10/52)
وهكذا حتى تتصل الحركة إلى الجناحين، فإذا حركت رجلاك الجير الأكبر مرتين في الثانية، حرك هذا الأصغر منه أربع مرات، وحرك هذا الذي يليه وهو اصغر منه أضعاف هذه المرات، فلا تصل هذه الحركات إلى الجناحين وهما خفيفان جدا حتى يتحركا بما هو بما بين الثلاث عشرة والعشرين من الضربات. ولكن يجب أن يضرب الجناح في اتجاه رأسي وهو نازل فإذا صعد صعد في زاوية، وبهذه الطريقة يقدر المرء أن يسير في الهواء في سطح أفقي واحد، إلا إذا واجه تيارات هوائية فهذه ترفعه. أما الآلة فلن يزيد وزنها عن مائتين وعشرين رطلا والقوة اللازمة للطيران بها على الصورة المذكورة تبلغ ثمن حصان وهي القوة التي ينفقها العامل الذي يشتغل بجسمه كل يوم في عمله. وفي استطاعتك إذا أردت أن تقتصد في من قوة بدنك أن تستخدم محركا صغيرا لا يزيد حجمه كثيرا على حجم رأسك، وعندئذ تستطيع أن تسير أسرع من ذي قبل، وان تصعد في الجو إذا أردت، وتفرغ لتوجيه الآلة، وللبحث عن تيارات الهواء والاستفادة منها، وللمتعة الكبيرة بما يمر تحتك من أشباح الجوامد والأحياء.
وفي استطاعتك إن خشيت وقوف المحرك لخلل ما أن تحمل معك دسقطا من الدساقط المعهودة تقيك الهبوط السريع فالتهشيم، أما مادام المحرك يعمل والجناحان يضربان بالصورة التي كشفها الأستاذ من الطيور بالكمرة السريعة فلا خوف عليك ولا أذى فالصعود في الجو كالصعود في الجبل. ففي الجبل تستعين بعصا تقاوم فيها فعل الجاذبية الأرضية، وفي الهواء عصاك جناحاك تمسك بهما الهواء وتتشبث به كما تمسك بعصاك حجر الجبل، وللهواء جسم كما للجبل جسم وهو جامد بمعنى كما الجبل جامد، ولو كان لنا حس أدق من حسنا وعين أبصر من عيننا لأحسسنا جمود الهواء كما يحسه الطير.(10/53)
القصص
في الأدب الإيطالي الحديث
الرواية في بونتاسياف!
للكاتب الإيطالي لوسيو دامبرا
شرع (مارك) يبتعد، وهو ممسك بذراعي:
- وهي؟. . . . هي؟. . . . . آه! ليتني أستطيع مشاهدتها! ليتني أستطيع ذلك!. . . . إنها لا شك مسرورة الآن كل السرور بل هي الآن فخورة بهذا الانتصار الذي هو انتصارها!!!
ولكن أنى لي مشاهدتها أثناء التمثيل، والظلام يغشى القاعة كلها؟. . . خير لنا أن ننتظرها على بضع خطوات من منزلها. . . وانتظرنا. . . . . انتظرنا أكثر من ساعة، وإذا الستار ينزل بين إعصار شديد من الهتاف والتصفيق، فتسابق أصدقاء (سيريني) إليه، ليؤكدوا له نجاحه، وليقودوه إلى المسرح، لتحية الجماهير، ولكنه أبى أن ينزل على رغبتهم، لم يتحرك، بل لبث يحدق في تلك النافذة، شاحباً كئيباً!!!
أخذت الجماهير تتدفق، وقصدت جموعها تلك القهوة الحقيرة، التي ربحت في تلك الليلة ما لا يصدق؛ وبعد ساعة من الزمن، طفقت ترفض زرافاتها شيئاً فشيئاً، فأوى من أسعدهم الحظ باستئجار غرف في (بونتاسياف) إلى مضاجعهم، وانطلقت سيارات القسم الآخر تعدو وتتسابق، فلم تلبث القهوة أن أقفلت أبوابها، ولم يبق أحد مستيقظا، غير جماعة النقاد المسرحيين، الذين كانوا يتهافتون على دائرة البرق، ليبرقوا إلى صحفهم بهذا الانتصار، وبآرائهم فيه.
أما (سيريني) فأنه لبث واقفاً يحدق في تلك النافذة، ولا يرفع بصره إلا عنها، وقد كانت تلوح على وجهه إمارات الكآبة والحزن:
- طالع منكود!!!. . . أنا الذي لم يرغب في هذا الانتصار إلا لأتمتع برؤيتها عن طريقه. . .
ماذا كنا ننتظر بعد تلك الساعة؟ ليس من شك أنها عادت إلى دارها من حيث لم تقع أبصارنا عليها. . . ليس من شك أنها عادت، ومن وقت غير يسير؛ وأنا كذلك، وإذا(10/54)
(سيريني) يتأكد أن منزل عروس أحلامه، لا باب له من واجهته!!!
طفقنا نبحث عن الباب، فاهتدينا إليه، في زقاق ضيق. . . . لا شك أنها عادت، ولكن. . . لو كانت عادت، لأبصرنا الضوء من خصاص النوافذ، ولو برهة وجيزة. إلا أنا كنا إذا أمعنا في التفكير قلنا: وما يدرينا؟ هل نحن واقفون على هندسة الدار، حتى نعلم إذا كان إشعال النور في إحدى الغرف، لابد أن يظهر من تلك النوافذ؟
دقت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، في الكنيسة المجاورة، وكان التعب قد بلغ مني مبلغه، حتى كدت أسقط إلى الأرض إعياء وضعفاً، فشرعت أتوسل إليه أن يعود، ومازلت به حتى أقنعته بذلك. . . وهكذا بفضل الله، وبعد سلسلة لا حد لها من التأوهات المحرقة، والتنهدات الملتهبة، وبعد كثير من الحدس والتخمين، وبعد نواح شبيه بمراثي أرميا، وبعد أن رسم خططاً ليقوم بتنفيذها في الغد، بعد كل ذلك، أوى (سيريني) إلى فراشه، وهو يزأر ويزمجر، وتركني أرقد بسلام؛ وأنا ألعن في نفسي الحب الريفي الذي يحتل قلوب كبار رجال المدن!!!
- 6 -
وفي الصباح، عند الساعة العاشرة، أحتشد الناس في قهوة القرية الحقيرة. وكان (مارك) قد دعا رهطاً من أصدقائه لتناول الطعام في الهواء الطلق، رغبةً منه في استبقائهم حوله. وكان بين المدعوين الممثلة الشهيرة (تيريز اندرياني) وعدد غير يسير من أصدقائه في فلورانسا وروما. وفريق من النقاد المسرحيين. الذين كان الشاعر الرصين، الذي يعرف كيف يدير أعماله لتكون موفقة حتى في اشد أحواله اضطرابا، سيرجعهم بسيارته الخاصة إلى روما. وهنالك طفق اعظم أولئك النقاد مقدرةً، وأبعدهم صيتاً، ينقد الرواية نقداً وجيهاً. مسهباً، ويمتدحها في غير تحفظ ثم أخذ يبين كيف كان يضعها لو عهد إليه بتأليفها. ولكنه لم يكد يدرك نقطة التدليل على سداد رأيه ببرهان جليل من علم الجمال حتى تحول عنه (مارك سيريني) ولم يعد يكترث به. وبأروع جمله. . .
حدث حادثان عظيمان. . . ظهرت عروس أحلامه. ومن ورائها أمها. تخطر وتتهادى في ذلك الزقاق الضيق. متجهة نحو الساحة الكبرى. ولم يكد يتميزها تماماً حتى كان أحد أصدقائه الفلورانسيين. قد هرع إلى السيدتين. ورفع قبعته لتحيتهما. . . وقد لبث يتحد(10/55)
إليهما زهاء عشر دقائق. كاد (سيريني) ينفجر أثناءها. . . وقد انفجر. . . واخذ يطلع الجميع على سره: (هل تريدون أن تعلموا أصررت على أن تمثل رواياتي لأول مرة في (بونتاسياف)؟. . . إذن فاعلموا. إني لم افعل ذلك إلا من اجل هذه السيدة. التي أهيم بها هياماً جنونياً!).
وبكلمات قليلة أطلعهم على كل شيء. أطلعهم على قصة غرامه منذ وقوف سيارته تحت نافذتها. حتى انتظاره إياها في الليلة السابقة إلى ما بعد منتصف الليل بساعتين!
وكانت ترتفع عبارات الدهشة. والاستغراب. من ههنا وههنا. وكانت ترافقها في بعض الأحيان تعليقات مختلفة متضاربة. ورغم هذا كله ومع إن سيدة النافذة كانت ما تبرح تتحدث إلى (جيورجيني) صديقه الفلورانسي فأنها لم تلتفت إلى جهتنا قط. . . ولكن لا. . . لقد جادت علينا بنظرة قصيرة عندما لفت (جيورجيني) نظرها إلينا.
اخذ (سيرين) يلاحظ الأم. كانت تحمل عددا من مجلة (الليستراسيون) وكتاباً للصلاة تحت إبطها. . . وقد فتحت المجلة وارت صديقنا صفحة فيها. لم يملك أن يكتم دهشته على أثر النظر إليها
- هي تريه رسمي بكل تأكيد!. . . ولكن. . . لماذا يبدي (جيورجيني) هذه الدهشة.
وفي هذه اللحظة تماما، هز الفلورانسي يدي السيدتين، ورفع قبعته لتحيتهما ووداعهما، واتجهت السيدتان، دون أن تلتفتا إلى جهتنا نحو الكنيسة. . .
وعاد (جيورجيني) إلينا مسرعا، ولكن (مارك) كان قد أسرع لمقابلته، وسؤاله:
- من هي؟؟؟
- مدام (ازوري). . . عرفتها وهي طفلة في مدينة فلورنسا
- وماذا قالت لك؟
- لم تقل لي شيئا ذا أهمية!!!
- إذا لماذا نظرت إلي؟
- لم تنظر إليك قط!!!
-. . . إني أؤكد لك إنها نظرت إلي. . .
قال مارك ذلك. واحتد. . . فذكر (جيوجيني)، وبعد مدة(10/56)
- ها. . . ربما كان ذلك عندما سألتهما إذا كانتا ترغبان في التعرف إلى (مارك سيريني). . .
- وهي. . . ماذا. . . ماذا قالت؟
- لم تقل شيئا!!
- كيف لم تقل شيئا؟. . . هذا محال!. . . تكلم!. . . تكلم!. . . تكلم!. . .
- إني أستميحك عذرا يا (سيريني) من اطلاعك على جوابها!. . . إني لا أجد في نفسي الجرأة الكافية لذلك!!!. . . إني لا يسرني أن أسمعك ما لا يسرك!!!!
- قل!!!. . . قل!!!. . . قل وإلا سحقتك!!!
أما نحن، فقد كنا في غاية الدهشة، والاستغراب. . . و (جيورجيني) المسكين لم يك يفهم سببا لهياج الشاعر وثورته، وكان كلما شدَّد المؤلف عليه النكير، أزداد هو جموداً واضطرابا
- قلت لهما: هل ترغبان في التعرف إلى (مارك سيريني). . . هذا هو!. . . فنظرتا إليك. . . ولكن. . بعد ذلك. .
- ماذا بعد ذلك؟؟؟. . قل. . . تكلم. .
- وبعد ذلك. . . وبعد ذلك سألتني. . .
- ماذا سألتك؟؟
- سألتني. . . سألتني: ومن هو (مارك سيريني)؟؟
يا للصاعقة!!!
كان (سيريني) واقفاً، فهوى على كرسيه متهالكا، ثم قال بصوت ضعيف:
- وأنت، ماذا أجبتها؟
- لم اجبها بشيء. . . فقد تذكرت وقالت: (آه. . . أجل. . . أليس هو (مارك سيريني) مؤلف الأوبرا التي مثلوها مساء البارحة؟)
- (الأوبرا)!!!. . . (الأوبرا)!!!. . .
- إن التعبير غريب، أليس يسمون كذلك؟ ولكن ينبغي أن نتلمس لها عذراً، لأنها ريفية. وسكان الريف يسمون كل شئ يمثل في لغتهم (أوبرا). . .(10/57)
- ولكن. . . قل لي. . . (استطرد (سيريني) بصوت يكاد لا يسمع). . . قل لي، هل ذهبت على الأقل لمشاهدة (الأوبرا)؟
- كلا!!! لم تحظر التمثيل. . . لقد سألتها ذلك. . . لم تحضره لان زوجها مسافر. . . ومن جهة ثانية ليس لها رغبة في مشاهدة الروايات التمثيلية. إذ لديها ما يشغلها عن ذلك من الأعمال البيتية. . . لقد اعترفت لي بذلك. . . وقد اصبح لها ثلاثة أولاد فأنى لها ذلك؟؟؟
اخذ يردد (مارك) في نفسه. كيف لم تذهب؟. وكلمة (أوبرا) كادت تسحقه. . . ثم التفت إلي: (أوبرا). . . (أوبرا) أهذا يصدق؟؟؟
وعرض له خاطر آخر فسأل (جيورجيني)، ولكن. . . لماذا أرتك رسمي؟
- رسمك؟. . . أي رسم؟
- آه!. . . هل أصبحت أنت أيضاً (خبيثا)؟ لقد أرتك رسمي. . . أرتك إياه. . . إني موقن من ذلك!!! أولم تفتح لك الأم مجلة (الليستراسيون)؟؟؟
- مجلة (الليستراسيون)؟. . . آه. . . هذا صحيح. . . تذكر (جيورجيني). . . ولكنها لم تريني رسمك!!!. . . لعل من المستحسن أن أعلمك، بان زوجها مسيو (ازّوري) كيماوي، وبكلمة اصح، صيدلي، وقد اخترع في المدة الأخيرة حبوبا تقوي نهود النساء متى ما بلغن سنا معينة، وهو يحسب انه سيكسب بذلك الملايين، ولو سمعت السيدتان تتحدثان عن هذه الحبوب، لأيقنت إنها حبوب عجيبة جدا، ولقد أرتني الأم الإعلان الذي نشرته مجلة (الليستراسيون) عنها، وهو إعلان طريف، يصور الإلهين (جينون) و (فينيس) يتشادان من شعورهما وهما يتنازعان علبة من هذه الحبوب التي دعاها الصيدلي: مجددة الشباب!!!
- 7 -
كان هذا الحديث ضربة قاضية على آمال (سيريني) وأحلامه فارتمى على كرسيه خائراً، مضعضعاً، وأشار إلى (جيورجيني) بيديه، ألايتابع حديثه، وألا يعود إليه. . . أما نحن، فقد كنا غارقين في صمت رهيب، لا يعدله غير صمت المقابر، ولا أضنني بحاجة لأن أعلمكم، بان الدعوة وقفت عند هذا الحد، وان المدعوين عادوا إلى فلورنسا عادوا إليها ليتناولوا الطعام في مطاعمها.(10/58)
وقد تناولت الطعام مع (سيريني) في مطعم (ميليني)، وإذا الشاعر قد أضاع رشده، وفقد صوابه، وأعاد النقاد المسرحيين بالقطار إلى روما. . .
ولما فرغنا من الطعام، جعلنا نتناول الفاكهة، وإذا به ينفجر:
- أرابت؟. . . لقد صادفت في حياتي انتصارات واندحارات عديدة، ولكني لم اشعر في حياتي على أثر اندحار، بالخجل القاتل الذي تركه في نفسي انتصار البارحة كلا! لم اشعر قبل اليوم بمثل هذا الخجل السام!!!
- إن الألفي شخص الذين أطاعوا هواي، وتسابقوا إلى (بونتاسياف) لمشاهدة روايتي الحديثة، وتحيتها بأعاصير داوية من الهتاف والتصفيق. . . والجرائد الصافحة بالتقاريظ والانتقادات الفخورة بنشر اسمي ورسمي. . . والسياحة الموفقة التي ينتظر أن تصادفها فرقتي. . . وبرقيات التهنئة التي ما برحت تتقاطر علي من كل حدب وصوب. . . إن كل ذلك يا صديقي قد تلاشى واندثر!!!
ولإطفاء هذا اللهيب. . . ولإحداث الظلام بتلك الأضواء، لم تتكبد تلك الريفية التي كنت احسب إنها تعجب بي إعجابا، لا يعد التأليه بجانبه شيئا مذكورا. . . لم تتكبد مشقة كبيرة. . . إنما كفاها أن تسال ذلك الأحمق (ولكن من هو مارك سيريني؟)
كم يبدوا لنا العالم كبيرا. وكم هو صغير!!! إن اعظم العظماء، إذا خرجوا عن دائرة بضعة آلاف شخص، يصبحون مجهولين، لا يعرفهم أحد، ولا يأبه بهم أحد!!!
انظر هذه جريدة (لاناسيون) قد شغلت اكثر من نصف صفحة بالحديث عن روايتي، وهذا اسمي قد كتب فيها بحروف بارزة على أربعة عواميد. . . ويخيل إليك بعد ذلك إن جميع الناس أصبحوا يعرفون هذا الاسم، بل ربما ظننت انه ينبغي لهم بعد ذلك أن يعرفوه. . . ولكن الحقيقة هي إن لا أحد يتذكره، عندما يقلب الصفحة. . هو ذا الجارسون يتأهب ليقدم لنا القهوة، وهو قد طالع جريدة هذا الصباح، ادعه واسأله. من هو مارك سيريني)؟. . . إني أراهنك على زجاجة شمبانيا: انه سيسخر منك، وسيفتح لك عينين كبيرتين دهشتين.
إلا إن (مارك) لم يقدم لي شيئا من الشمبانيا، لأني أحسنت صنعا بعدم دعوة (الجارسون)، ولكن المؤلف لم ينقطع عن الشكوى والتذمر، وأخذ ينعى على نفسه جهوده الضائعة، ولم يتردد عن لصق بعض الوصمات بنفسه، لأنه زرع بذورا قوية من العمل الدائم، ليحصد(10/59)
بعد ذلك الموقف المزري الذي تقفه بلاده العاقة من نبوغه وعبقريته!!!
وأخيرا دعونا (الجارسون) لندفع له الحساب، وبينما (مارك) يعيد محفظته إلى جيبه، ابتسم الجارسون، وقال وهو يلتقط البقشيش:
- عفواً. . . ألم أحرز الشرف بخدمة (مارك سيريني)؟
فانتفض هذا الأخير وقال:
- وكيف عرفتني؟
- لقد أبصرت اسمك هذا الصباح منشورا في مجلة (الليستراسيون) وذهب يبحث عن العدد. ولم يلبث أن عاد به. وفتحه عند الصفحة التي نشر فيها رسم (سيريني) جديد بمناسبة تمثيل روايته الحديثة في (بونتاسياف) فنظرت أنا و (مارك) إليها. ولحظنا فجاء على الصفحة اليمنى. إزاء الرسم المنشور على الصفحة اليسرى تماما. أبصرنا يا لسخرية الصدف! أبصرنا (جينون وفينيس) يتنازعان علبة من الحبوب المجددة للشباب!!!
فخرج (مارك) من مطعم (ميليني) وقد هدأت أعصابه، وسكنت نفسه
هل ينبغي تهنئة (الجارسون) لأنه عرف (سيريني)؟. . . هل ينبغي تخطئة سيدة النافذة لأنها لم تعرفه؟
كلا أيها الأصدقاء! إن سيدة (بونتاسياف) الفاتنة قد ألقت علينا درساً مفيداً، ومفيداً جداً: ينبغي علينا أن ندير الاركستر وان نضع الروايات لا لغيرنا، بل لأنفسنا!!!
أما الشهرة، فهي كلمة جوفاء أيها الأصدقاء الذين أرادوني على الكلام كثيرا. الشهرة؟. . . كلمة لا أفكر فيها عندما أشير بعصاي اللدنة إلى أعضاء الاركستر. . . وهي الكلمة التي لم يعد (سيريني) يفكر فيها عندما يأخذ اليراع ليضع رواية جديدة. . . تمت
حلب. ايزاك شموش
قصة مصرية(10/60)
سفروت الحاوي
كان بمدينة بور سعيد رجل اسمه (سفروت الحاوي) يتردد على المقاهي فيعرض ألعابه السيماوية وحيله السحرية على الجالسين لقاء ما يجودون به عليه، وكان سفروت هذا لبقاً فكه الحديث سريع الخاطر قلما يخلو له أسبوع من حيلة جديدة، وبذلك اكتسب رزقا حسده عليه بنو مهنته.
وأهالي بور سعيد كما يعلم القراء اشتهروا بأنه قلما وجد لسان في شرق الأرض أو غربها لم يلموا منه ببعض مفردات. ولكن سفروت هذا فاق أهل بلده في ذلك فقد وهبه الله هبة اللغات فكان يتفاهم في لغتين، ويشرح حيله ويطلب أجره في تسع لغات.
كان سفروت رجلا طويل القامة نحيلا أسمر اللون، زينت له أمه أذنه اليمنى بحلقة فضية لأنه عاش لها بعد خمسة ماتوا في طفولتهم. وكان يسر في جلباب من السكرونة عليه معطف طويل محشو الجيوب وينادي بصوت طلق قوي:
(أنا سفروت الحاوي، أنا الحاوي سفروت، اطلع البيضة من الكتكوت، جلا جلا جلا جلا جلا ويترجم ذلك أو شبهه إلى ألسن مختلفة بينما (يفنط) أوراق اللعب بين يديه بمهارة نادرة.
وأغنى الله سفروت الحاوي جزاء استقامته وذكائه واقتصاده فجلب من ألمانيا لعباً سيماوية ثمينة واتخذ له صبية وسيمة الوجه جذابة القد أسمها بهية، وانتشرت شهرته بين أصحاب المقاهي والملاهي في بور سعيد فاستأجروه لإحياء ليال خاصة أدرت عليه وعليهم الربح الكثير.
وزاد طموح سفروت فبدل ثوبه الوطني ببدلة سوداء على مثال أبناء حرفته الغربيين، وأرسل شعره طويلا قائماً، واتخذ لنفسه لقب (بروفيسير)، ثم انتقل إلى القاهرة يشتغل بها في موسم السواح، ويتركها إلى الإسكندرية وغيرها من المصايف في موسم الحر.
كان سفروت كعادة الحواة يبدأ ألعابه بالمألوف من الحيل مثل كسر البيض ووضعه في إناء أمام النظارة، ثم إخراجه صحيحاً من آذانهم، ويتدرج من ذلك إلى الصعب العجيب مثل أكل الخرق البالية وقصائص الورق، وإخراجها من فمه أعلاما للدول المختلفة وهكذا حتى ينتهي إلى أصعب ألعابه وهي لعبة صندوق الإخفاء الألماني العجيب الذي اشتراه بمبلغ كبير.(10/61)
وأمر هذا الصندوق يظهر غريبا للمتفرجين، وبيانه إن سفروتا يأتي ببهية فيقيدها بالسلاسل والأغلال ويضعها في صندوق أمام المتفرجين، كان قد طلب إليهم فحصه قبل ذلك.
ويوصد الحاوي الصندوق بالأقفال ويربطه بالأحبال ويقف عليه، فيكفهر وجهه، ويقف شعر رأسه، ويتمتم ويتلو تعاويذ سليمان على الجن الحمراء، ويأمرهم سفروت أن يحولوا جسم بهية إلى المادة الهيولية. عندئذ يتصاعد من الصندوق بخار أحمر فينزل الحاوي عنه ويفتحه فلا ترى أثراً للفتاة فيه. ويقفل سفروت الصندوق ثانية، ويقف عليه فيكفهر وجهه ويقف شعر رأسه، ويدعو سليمان فتحضر الجن ثانية، فيأمرهم أن يسترجعوا جسم بهية، وينزل الدخان الأحمر من سقف المسرح ويفتح الحاوي الصندوق فإذا ببهية في أصفادها كما كانت.
حدث ذات مرة في موسم (رأس البر) أن تعاقد مدير فندق كبير مع (البروفيسير سفروت) على إحياء سبع ليال لتسلية المصيفين مقابل أجر طيباً فأمر الحاوي أن يبني له مسرح خاص في ردهة الفندق الكبيرة، وبدأ لياليه كالعادة، حتى كانت الليلة الثالثة ففي هذه الليلة بعد أن انتهى من لعبة الصندوق وبينما كان يجمع أدواته من المتفرجين ويعطيهم ما كان قد استعاره منهم أثناء الحفلة أعترضه رجل قصير القامة، بدين الجسم، يلمع العرق على وجهه الأسمر الأصفر، رجل من أقباط الصعيد في زعبوط أسود وعمامة سوداء يخاله الناظر من تجار الكسبة أو العجوة.
تقدم الرجل من سفروت خجلاً متردداً فقال: (نكتة اللعبة دي!. . . نكتة تمام يا أخينا). فوافق سفروت على قول الرجل ببرود وأدب مصطنع، ثم مضى إلى غيره، ذلك أن الناس كثيراً ما كانوا يأتون إليه بعد الحفلات يخبرونه أنهم يعلمون سر ألعابه أو أن ما فعله قد رأوه منذ سنوات أو ليلحوا عليه كي يعلمهم السر في حيلة أعجبتهم إلى غير ذلك من سخف كثيراً ما سايرهم فيه أو صرفهم عنه بسحرية غير جارحة، إذ لم يكن من الكياسة أن يجفو لهم في القول وعليهم مدار رزقه.
وتبع القبطي الحاوي وهو يردد في شيء من الذهول: نكتة جوي والله عبارة الصندوق دي!. . . . نكتة جوى. (فقال سفروت مستهزئاً! (إذا كان أعجبك فلم لا تشتري لك واحداً يا معلم! فلم يدرك الصعيدي أن الحاوي يهزأ به إذ كان يفكر في أمر ملك عليه انتباهه.(10/62)
انتهى سفروت وخرج كعادته يتمشى على شاطئ البحر ليريح نفسه من عناء العمل وليستنشق هواء الليل قبل أن يذهب إلى فراشه فإذا بالقبطي يقتفي أثره ويبادر بحديث الصندوق.
_ لا تؤاخذني يا حضرة. . . . أنا عاوز أكلمك، أنت أولاً أسمك إيه؟
_ خدامك سفروت
_ عاشت الأسامي يا سي سفروت. . . . تعرف ياسي سفروت عبارة الصندوج دي مش نكته جوى جوي برده!
- إياك أنت تكون اهتديت لسرها بنباهتك من ساعة ما سبتك؟
_ لألأ! مش غرضي.
وأدرك سفروت من لهجة محدثه أنه يحاول أن يكتسب صداقته؛ وكانت الليلة مقمرة، فلما نظر رأى عيني القبطي تلمعان بانفعال غريب فحدثته نفسه (ماذا يريد هذا الرجل مني؟) ولكن محدثه قطع عليه تفكيره.
- بجه مش تفتكر أن تخيبة المرة اللي معاك دي يخصر اللعبة بعض شيء؟
- برده يا خواجه لك حق، لكن يعني أمال حخبي مين؟
- ليه ما تخبيش واحد من المتفرجين؟ أهو ده يكون نكته تمام.
وأندهش سفروت من هذا الاقتراح الشاذ وأجاب ساخراً
- يبقى نكتة أوي إذا كان واحد يرضى يوالس معايه! طبعاً إذا كنت أنت متطوع يبقى كويس. دا حتى ما يبقاش فيه فائدة للصندوق. الزعبوط بتاعك ده كفاية أوي، الزعبوط ده يخبي دستة. ثم ضحك مقهقهاً.
- ما تآخذنيش يامعلم! أنا راجل أحب الهزار.
- ولكن الرجل الغريب الأطوار تجاهل وقاحة الحاوي أو هو لم يسمعه فقد نظر حوله كمن يريد أن يستوثق من عيون رقيب، ثم أدنى فمه من أذن محدثه هامساً. اسمع! أنا راضي، أنا أتفق وياك. وتلفت حوله في انفعال عصبي ووضع يده في عبه وأخرج منها محفظة نقوده فاخذ ورقة ذات خمسة جنيهات وهو يهمس.
- ما تفتكرشييا سي سفروت أني مجنون، يمكن أطواري تظهر غريبة لك شوية، لكن أنا(10/63)
مش مجنون. أنا عاوز أتعلم اللعبة دي، وآدي خمسة جنيه علشان تعلمهالي ونعملها بكرة سوى قدام الناس وساور الحاوي الشك في سلامة عقل الرجل، ولكن المال أغراه فبينما هو يقلب الأمر على وجوهه إذا صوت إمرأة يرتفع في وحشة الليل حوله.
- بولص!! بولص!
ونظر سفروت فإذا المرأة طويلة هزيلة في حبرة سوداء مقبلة عليهما.
وارتبك الرجل القبطي ارتباكاً واضحاً وظهر عليه الخوف، فقال مسرعاً:
- اسمع! دي مراتي أنا لازم أروح. أنا لازم أروح حالا. أنت اتفقت ولا لأ؟ فأخذ الحاوي الورقة من يد الرجل قائلاً:
- مادمت أنت عاوز كده مفيش بأس.
- يمكن تقابلني بكره الساعة تسعة الصبح علشان تعلمني؟
فرضي سفروت وانصرف الرجل إلى زوجته مسرعا كأنما هو يحرص أن لا تكشف عن صفة محدثه.
وفي اليوم التالي في الساعة المحدودة قابل الحاوي بولص وعلمه كيف يهبط قاع الصندوق مع الجزء الذي تحته من خشب المسرح بالضغط على زر خفي بأحد جوانبه، وكيف يفك أغلاله ويربطها بعد ذلك وكيف يرفع القاع إلى ما كان عليه.
وكان بولس برغم بدانته، وغرابة أطواره، وزعبوطه، ذكيا سريع الفهم تعلم في وقت قصير وأتقن اللعبة إتقان صبية الحاوي.
وكانت الحفلة في المساء وقام سفروت بألعابه كعادته الا انه كان كلما نظر إلى بولص رأى عينيه شاخصتين نحوه كأنما يربطهما بالحاوي خيط، فشعر بوساوس مقلقة وتوترت أعصابه وترك بهية تقوم بدور لا تحتاج فيه إليه فانسرق إلى البار وشرب بعضاً من الوسكي ثم رجع يعاود ألعابه.
وأتى دور الصندوق ولسفروت من حدة الذهن وجرأة الخمر ما ألهمه هذه الديباجة:
اعمل أمام حضرتكم الليلة أيها السيدات والسادة، ما لم يعمله حاو في العالم أجمع لا قبلي ولا بعدي، فإرضاء لزبائننا الكرام اتصلت قبل الحفلة بخادمي من الجن الأحمر المدعو جنجلوت. . . لا تضحكوا أيها السيدات، نعم، خادمي جنجلوت الخفيف الذي سخره لي(10/64)
سليمان. وبعد الجهد الجهيد أيها السيدات والسادة رضى جنجلوت أن يأخذ أحد حضرات المتفرجين هذه الليلة ويحوله إلى المادة الهيولية ويصطحب روحه في نزهه سماوية.
من منكم أيها السيدات والسادة يحب أن يخاطر هذه المخاطرة؟ من عنده الشجاعة والإقدام؟. . . ألو ألو. . . الا أونا الا دوه. . . دقيقتين فسحة بين الكواكب يا سيدتي الو؟. . . حضرتك؟ لا؟ طيب تعالي أنت يا ست يا أم برقع، لأ؟ طيب بلاش لأ يا سعادة البيه، انت ثقيل شويه على جنجلوت أنت يا أفندي يا صغير؟ بقي ما فيش حد يجبر بخاطر جنجلوت الجني الخفيف الضريف؟ ألو الو ألا أونا الا دوه. . . ما فيش في الصالة واحد شجاع.
وظل المتفرجون بين ذلك يضحكون ولكن سرعان ما اعتراهم الصمت والدهشة إذ رأوا أحدهم يرتقي المسرح فعلا، وفي هذا السكون ارتفع صوت المرأة ذات الحبرة السوداء كما ارتفع في وحشة الليلة الماضية.
- بولص!!! بولص بولص!!! ارجع هنا.
صوت وحشي جهوري تفضح نبراته قسوة قلبها وأنانيتها. وتبينت أغلبية أهل الفندق بولص تاجر الصعيدي المتيسر والرجل الصامت المنعزل مع زوجته القبيحة، دائماً في شرفة الفندق الغربي. وتهامسوا فيما بينهم يرقبون بدهشة ما يحدث، وهابت نفوسهم إذ رأوا شبه جنون في عيني الرجل ورأوا العرق يتصبب غزيرا من وجه الأسمر الأصفر. ولكن سرعان ما وجدت أنظار الخلعاء ما يثير الضحك في هيئة الرجل التعس، فنادى أحدهم ما تخافيش يا ستي ده المعلم بولص يخوف العفاريت ونادى آخر.
- حاسب يابولص لا الجن يركبك وقال ثالث: ما تتطرفشى يا معلم في السماء لحسن عزرائيل يشوفك.
وغير ذلك مما تقهقه له الجماهير ولا يكاد الفرد يبتسم له. وكررت المرأة أنا بأقول ارجع يا بولص. فلم يكن بذلك من أثر سوى إسراف الناس بالضحك.
قيد الحاوي بولص بالسلاسل والأغلال وأقفل الصندوق بالأقفال والحبال ووقف عليه واكفر وجهه ووقف شعر رأسه وتمتم وهمهم وحضرت الجن وتصاعد البخار الأحمر فنزل عن الصندوق وفتحه فوجده فارغاً كما يجب. حدث ذلك طبعاً بين قهقهة الناس وهتافاتهم.
واقفل سفروت الصندوق ثانية الخ. حتى نزل الدخان الأحمر من سقف المسرح، فرفع(10/65)
الغطاء ولكن بولص لم يرجع إليه! ارتبك الحاوي واقفل على عجل قائلا لنفسه (ربما لم أعطه الزمن الكافي) وشغل المتفرجين بلعبة أخرى بسيطة برهةً ما، ثم فتح الصندوق ثانية ولكن الصندوق بقي فارغا.
أدركت النضارة عدم وجود بولص فارتفع همسهم إلى ضجيج وتساءل البعض صائحا: فين المعلم بولص؟: أوع ليكون اختنق الرجل في الصندوق الخ الخ. .
فتحدث إليهم سفروت بحضور ذهنه المعتاد عن صعوبة رجوع بعض الأجسام من اللامادة إلى المادة، وخصوصا أجسام أهل الصعيد، حتى إذا استوثق انه أعطى الرجل ما يكفي من الوقت فتح الصندوق ثالثة ولكن بغير جدوى!!
لغط الناس وهاجوا وتسابق الشباب منهم يفحصون الصندوق ويعبثون بأدوات الحاوي، الذي أسرع إلى تحت المسرح يبحث عن بولص بغير نتيجة، وعلم مدير الفندق أيضا بالخبر فجزع وأرسل رجاله يبحثون. ولما رجع سفروت إلى الردهة اندفعت إليه المرأة ذات الحبرة السوداء اندفاع الأعاصير في أمشير وقد بلغ منها الغضب أشده.
- ازاي يعني تأخذ راجل طويل عريض تحويه! هي الدنيا سايبه ولا ايه!؟ مسخرة وقلة أدب!!
- يا ستي بس اهدي شوية دلوقت ايبان.
- يبان؟ أنا عاوزة جوزي دلوقت حالاً.
- هو أنا قلت له تعالى، ما هو هو اللي جه من نفسه.
- أبدا أنت حويته أنت راجل متختشيش.(10/66)
الكتب
شعر ونثر
وحي الأربعين. للأستاذ عباس محمود العقاد
ثورة الأدب. للدكتور محمد حسبن هيكل بك
عليّ دين ثقيل للأستاذ العقاد حيل بيني وبين أدائه إلى الآن. ويظهر أني لن أستطيع أن أؤديه جملة فلا بد من تأديته أقساطا. فبين يدي كتب ثلاثةقرأتها وأعجبت بها ولي فيها آراء وأحب أن أذيعها. وهي كتاب الأستاذ عن ابن الرومي وكتابه عن جوت وديوانه الأخير وحي الأربعين.
ولسست ادري لماذا آثرت أن يكونقضائي لهذا الدين عكسيا فابدأ بآخر هذه الكتب الثلاثة ظهوراً. ولعلي إنما آثرت البدء بوحي الأربعين لأنه شعر، ولأن الوقوف عند الشعر والشعراء عذب لذيذ للكتاب الذين لا يحسنون قرض الشعر. فهم يجدون في قراءته ونقده وتحليله لذة لا يجدونها في قراءة النثر ونقده وتحليله. ولعلي إنما آثرت البدء بهذا الديوان لأن نقده أيسر من نقد الكتابين الآخرين. أيسر علي، وأيسر على الشاعر الكبير نفسه. فلن يكون بيننا جدال طويل ولا قصير. ولن نحتاج إلى أن نرجع إلى كتب الأدب والتاريخ لنثبت رأيا أراه ويخالفني العقاد فيه أو رأياًيراه العقاد ولا أقره عليه. وإنما هي آراء وخواطر تثيرها فينفسي قراءة هذا الديوان وسأعرضها على العقاد وعلى قرائه الذين نقدوه والذين قرظوه دون أن أحاول أن أفرضها على أحد فرضا أو أن أتعصب لها أو أن أجادل عنها. ودون أن يكون للعقاد وأنصاره وخصومه أن ينكروا هذه الآراء أو يجادلوا فيها لأنها آراء تتصل بالذوق وتتصل بمزاج الكاتب وطبيعته وتأثره بالفن الجميلأكثر مما تتصل بالحقائق المقررة أو الأمور التي يكثر فيها الجدال والنضال.
وما أظن أن أحدا يطمع في أن يفرض علي ذوقا غير ذوقي أو طبيعة غير طبيعتي أو تأثر بالفن الجميل غير تأثري به لمن شاء أن يرضى ولمن شاء أن يسخط وأنا أوثر بالطبع رضى الناس على سخطهم ولكن إيثاري لهذا الرضى شيء وظفري به شيء آخر.
ولعلي آخر الأمر إنما آثرت البدء بهذا الديوان لان كلام الناس قد كثر فيه ولأن جدالهم قد أشتد من حوله ولأن نقاده قد غلوا حتى جاوزوا القصد وأنصاره قد أسرفوا حتى جاروا عن(10/67)
الحق فأحببت أن أقول في هذا الديوان كلمة، لا أقول أنها تقر الأمر في نصابه، وترد المختلفين إلى الوفاق، فليس إلى ذلك منه سبيل. ولكنها قد تصور رأى جماعة من المنصفين الذين لا يرضون عن آثار العقاد ولا ينكرونها لأنهم يغلون في حب العقاد أو يغلون فيبغضه، بل لأنهم ينظرون إليها من حيث هي آثار فنية خالصة تلائم أذواقهم أحيانا فيرضون، وتنافر أذواقهم حينا فينكرون. ومن حق هؤلاء الناس أن تصور آراؤهم وتظهر مذاهبهم في آثار كاتب مهما يقل فيه خصومه، فلن يستطيعوا أن ينكروا عليه البراعة، وشاعر مهما يقل أعداؤه فلن يستطيعوا أن يجحدوا حظه من الاجادة، وتوفيقه إلى شيء كثير جدا من الإبداع.
وأريد أن أقف وقفة قصيرة عند هذه الصفحات التيقدمها العقاد بين يدي ديوانه هذا لأقره في غير تحفظ، على ما ذهب إليه فيها من إن بين المجددين قوما يقلدون في التجديد، فيخطئون الفهم ويعدون الصواب ويتورطون في أحكام على الشعر والفن، لا خطر لها ولا غناء. وأن أقره أيضا في غير تحفظ على ما ذهب إليه في هذه الصفحات من أن للشاعر المجدد أن يطرق الفنون التي طرقها القدماء دون أن يمس ذلك تجديده أو يغض ذلك من براعته، بل قد يكون من الحق عليه أن يطرق هذه الفنون فيجددها ويبعث فيها حياة ملائمة للعصر والبيئة ولميول الجيل الذي يعيش الشاعر فيه.
فليس المدح عيبا من حيث هو مدح، وليس المدح فنا يجب أن يموت وإنما المدح فن من فنون الشعر لا بد من بقائه ما بقي الشعر، وما بقي بين الناس من يجيد ويحسن، وما بقي بين الناس من يرضى عن الإجادة ويحمد الإحسان للمحسنين. والهجاء فن من فنون الشعر لابد من أن يبقى ما بقي في الناس من يسيء وما بقي في الناس من يحب نقدا المفسد وتقويم المسيء. وقل في مثل ذلك في غير المدح والهجاء من هذه الفنون التي طرقها القدماء من العرب وغير العرب لا ينبغي أن تزول ولا أن تهجر، وإنما ينبغي أن تتطور لتلائم غيرها من أساليب الحياة العقلية والفنية التي يحياهاالناس على اختلاف البيئات والعصور.
ولكني وقفت مفكرا بعض الشيء عند هذا التعريف الذي أراد العقاد أن يعرف به الشعر حين يقول:(10/68)
(وان من أراد أن يحصر الشعر في تعريف محدود لكمن يريد أن يحصر الحياة نفسها في تعريف محدود، فالشاعر لا ينبغي أن يتقيدالا بمطلب واحد يطوي فيه جميع المطالب، وهو (التعبير الجميل عن الشعور الصادق) وكل ما دخلفي هذا الباب، باب التعبير الجميل عن الشعور الصادق، فهو شعر وان كان مديحا أو هجاء أو وصفا للإبل والأطلال وكل ما خرج عن هذا الباب فليس بشعر وان كان قصة أو وصف طبيعة أو مخترع حديث).
فالشعر عند العقاد كالحياة ليس إلى حصره ولا إلى تحديده من سبيل، أو هو كالحياة يحصر ويحدد إذا أمكن حصر الحياة أو تحديدها. ولكن العقاد بعد ذلك يعرف الشعر بأنه التعبير الجميل عن الشعور الصادق وهو بهذا التعريف نفسه قد حدد الشعر وجعله أضيق من الحياة. فليست الحياة كلها تعبيرا جميلا عن شعور صادق بل في الحياة شعور غير صادق يعبر عنه تعبير غير جميل، وفيها شعور كاذب يعبر عنه تعبيرا جميلا، وفيها شعور صادق يعبر عنه أحيانا تعبيراً جميلا وتعبيرا غير جميل. وإذا فليس الشعر كالحياة لا سبيل إلى حصره بل ليس الشعر كالحياة يحصر كما تحصر الحياة ويحدد كما تحدد الحياة. وإنما الشعر لون من ألوان الحياة وتحديده ليسمستحيلا ولا عسيرا وآية ذلك أن العقاد نفسه قد حاول هذا التحديد فعرف الشعر بأنه التعبير الجميل عن الشعور الصادق وجعل كل ما يدخلفي هذا الباب شعرا مهما يكنجوهره وكلما يخرج من هذا الباب لم يجعله شعراً مهما يكن شكله وصورته وموضوعه.
وأظن إن العقاد لم يوفق في هذا التعريف فماذا أراد بالتعبير الجميل اهو المنظوم أو المنثور؟ أم هما المنظوم والمنثور معاً؟ فان تكن الأولى فقد يدخل في تعريف الشعر من الكلام ما ليس منه وإن تكن الثانية، فقد يخرج الشعر المنظوم كله من هذا التعريف، وإن تكن الثالثة فكل كلام جميل يصف شعورا صادقا فهو شعر. وإذا ففيما تقسيم الكلام إلى شعر ونثر؟. سيقول العقاد إن هذا التقسيم قديم لا غناء فيه ولكن العقاد نفسه لم يسم نثره شعرا ولم يطلق لفظ الديوان الا على كلامه المنظوم. ووحي الأربعين فيما اعلم نظم كله لا نثر فيه الا الشرح والتفسير. فالتعريف إذا من هذه الناحية بعيد كل البعد عن الدقة التي يعرف بها العقاد. ويزداد هذا البعد إذا توسعت بعض الشيء في معنى التعبير الجميل، والموسيقى تعبير جميل، والغناء تعبير جميل. فكل فن جميل إذا، فهو شعر، وهذا كلام يقوله الكتاب(10/69)
حين يتجوزون أو حين لا يحرصون على التحقيق. فأما إذا أرادوا الإصابة والدقة فلا بد لهم من أن يلاحظوا فيه الوزن والقافية أو الوزن دون القافية أو الانسجام الموسيقي على كل حال. وهذا الشعور الصادق ما هو وما عسى أن يكون وهليطمئن العقاد حقا إلى أن كل ما يصفه الشعراء فيجيدون وصفه إنما هو نتيجة لشعور صادق حقا، أليس من الشعراء من يجيد الوصف لطائفة من العواطف، لا يجدها ولا يشعر بها شعورا صادقا وإنما هو يعرفها ويحسن معرفتها ويواتيه الفن فيجيد وصفها ويعبر عنها تعبيراً جميلا. وأظن العقاد يوافقني على إن المعرفة الجيدة شئ والشعور الصادق شئ آخر. والعقاد يعرف من غير شك هذا المثل الذي ضربه ارسطاطليس لبراعة الشعراء في التناقض وهو مثل بندار حين طلب إليه أن يمدح بغلا ولميعجبه الأجر، فاستكبر وذم البغل. فلما ضوعف له الأجر، جعل هذا البغل فرساً ذات جناحين. ومن المؤكد أن بندار لم يكن يشعرشعورا صادقا لا بمحاسن هذا البغل ولا بعيوبه وإنما كان يعرف هذه المحاسن والعيوب، وأعانه فنه فصورها تصويرا بديعا.
وكلنا يعلم إن الشعراء والخطباء يروضون أنفسهم على مدح الشيء وذمه، فيجيدون في المدح والذم جميعا ويعبرون عنهما تعبير جميلا دون أن يكون شعورهم بها صادق من غير شك، أو كاذبا من غير شك، وإنما هي البراعة الفنية الخالصة. وإذا فصدق الشعور قد يكون مزايا الشعر ومحاسنه، ولكنه لن يكون ركنا من أركان الشعر ولو قد جعلنا صدق الشعور ركناً من أركان الشعر لأسقطنا أكثر الشعراء من تاريخ الأدب في جميع اللغات. ولم يخطئ القدماء حين قالوا أن أعذب الشعر أكذبه. ولم يخطئ ارسطاطليس حين أباح للشعراء ما لم يبح للخطباء من الإسراف والإغراق. فلا بد إذا من ان يحقق العقاد تعريفه هذا للشعر ومن أن يحقق جزأيه جميعاً. ومع ذلك فهلل يصدق هذا التعريف على وحي الأربعين بحيث نستطيع أن نقول إن هذا الديوان كله تعبير جميل عن شعور صادق.
أما إن شعور العقاد بكل ما وصفه في ديوانه صادق فشيء أحسه في قوة لا تقبل الشك ولا الريب، ولكن بالقياس إلى بعض الأبواب. بالقياس إلى هذه الأبواب التي تظهر فيها شخصية العقاد ظهورا واضحا كل الوضوح. بالقياس إلى باب الغزل، مثلا هذا الذي تظهر فيه للعقاد شخصية خفية الظل جداً، حلوة الروح جداً، محبة للحياة جداً، مقبلة على اللذة(10/70)
جداً، في حب لها واقتصاد فيها. انظر إلى هذه الأبيات:
ياله من فم ... يالها من شفة!
يا لشهد بها ... كدت أن أرشفه
يا لزهر بها ... كدت أقطفه
حلوة ويحها! ... غضة مرهقة
حسرتي بعدها ... حسرة متلفة
ألست ترى فيها شخصية تحب الحياة وتكلف بها، وتحب اللذة وتوشك أن تسرع اليها، لولا أن شيئاً يصدها عنها صداً ويردها فترتد كارهة آسفة. وانظر إليه كيف وفق إلى الإبداع في تصوير هذه المعاني السهلة المألوفة، في لفظ جميل عذب كله أنيق، وكيف استطاع أن يصور من وراء هذه المعاني اليسيرة المألوفة، التي يجدها الناس جميعاً، ويراها الناس جميعاً، معنى آخر ليس يسيراً، ولا مألوفاً ولا شائعاً بين الناس وإنما هو مقصور على الذين يسلطون العقل على الحس ويحكمون الإرادة في العاطفة، ويجدون لذة في الرغبة الحادة يمسكها الحرمان الشديد. فالعقاد مفتون بصاحبته، مفتون بهذا الفم وهذه الشفة، شديد الظمأ إلى شدها، شديد الميل إلى زهرها، يود ولكنه لا يفعل، ويكاد ولكنه لا يحقق. ويجد لذة قوية في هذا الحب، وفي هذا الحرمان، يخرج عن طور اللذة الغرامية المألوفة إلى طور اللذة الفلسفية الخالصة.
في هذه الأبيات تظهر شخصية العقاد كما هي خفية جداً تهفو إلى الجمال وتصبو إليه، رزينة جداً تؤثر أن يكون استمتاعها بالجمال عقليا لا إثم فيه ولا جناح.
في هذه الأبيات تظهر براعة العقاد ويظهر كل ما يملأ قلب العقاد من غناء، يجمع بين الحلاوة والقوة، ويغري المغنين بتلحينها. في هذه الأبيات يتحققتعريف العقاد للشعر فهي تعبير جميل عن شعور صادق.
وقل مثل هذا في هذين البيتين وهما عندي من اجمل الشعر وأرقاه، وهما عندي يمثلان العقاد تمثيلا صادقا. يمثلان جموحه وتمرده، ويمثلان وداعتهوطمأنينته.
لا أرى الدنيا على نور الضحى ... حبذا الدنيا على نور العيون
هي كالراووق للنور فلا ... صفو الا صفوها العذب المصون(10/71)
فانظر إليه كيف نفر وشذ وجمح في الشطر الأول من البيت الأول. فلم ير الدنيا على نور الضحى كما يراها الناس جميعا، ولم يألفها على هذا النور كما يألفها الناس جميعا. ثم انظر إليه كيف ثاب وأناب وهدأ واطمأن وأحب هذه الدنيا، ولكن في نور العيون بعد أن اختصرت وهذبت ونفيت عنها الأعراض، واستبقيت منها الخلاصة الخالصة والصفو الذي برئ من كل كدر، حبذ الدنيا على نور العيون. ثم انظر إليه كيف فسر حبه لهذه الدنيا المصفاة في هذا البيت الجميل:
هي كالراووق للنور فلا ... صفو الا صفوها العذب المصون
فالعقادفي هذين البيتين لا يحب الدنيا المبتذلة التي يرخصها نور الضحى ويبيحها للناس جميعاً. وإنما يحب الدنيا المصونة الممتازة التي يحتويها نور العيون ولا يبيحها الا لطبقة خاصة من الناس هم الشعراء.
فإذا أردت، ويجب أن تريد دائماً مع العقاد، أن تتجاوز هذا المعنى الظاهر الذي يفهمه كل ذي حظ من الأدب، إلى الرمز الذي يريد إليه العقاد. وإذا ذهبت، ويجب أن تذهب دائماً مع العقاد، مذهب الرمزيين الذين يدلون بالقليل على الكثير وبالواضح على الخفي، فسترى إن هذين البيتين على قلتهما وقصرهما وضيقهما يسعان كل شيء ويصوران نفس الشاعر ونظرها إلى كل شيء. فالعقاد لا يحب الابتذال وإنما يحب الامتياز. ولا بأس عليه من ذلك ولا جناح عليه فيه، فالشاعر الذي يستحق هذا الاسم أرستقراطي بطبعه، وان كان أقدر الناس على تصوير الديمقراطية وفهمها وامدادها بالحياة.
وأكاد لا أشك في أن شعور العقاد صادق في كل هذا الباب من الديوان، ولو أني ذهبت أحلل الجيد من هذا الباب، وكله جيد، لما فرغت من التحليل في فصل ولا في فصول. وكم كنت أود لو أتيح لي أن أقف عند هذه القصيدة البديعة التي يسميها العقاد (المعاني الحية)، أو عند هذه الآية الشعرية التي يسميها العقاد (الغزل الفلسفي). أو عند هذه الآية الأخرى من بين الموشحات وهي التي سماها العقاد (ليلة البدر). فقد أجتمع للعقاد في هذه القصائد الثلاث من محاسن الشعر الرائع ما لم يجتمع له في غيرها من قصائد هذا الديوان. أجتمع له صدق الشعور وعلوه وصدق التصوير ودقته، وصدق الحس وامتيازه، وجمال اللفظ الذي لا غبار عليه، وأجتمع له التوفيق إلى المعاني النادرة التي قلما يقع عليها الشعراء(10/72)
عندنا، والمهارة في تأدية هذه المعاني بحيث يخدع عنها القراء والسامعين فيخيل إليهم أنهم يقرءون أو يسمعون شيئا مألوفا. وهم يقرءون ويسمعون كلاما من أندر الكلام وأنفسه وأعلاه. كلاما لا يصدر إلا عن شاعر حقا. أجتمع له في هذه القصائد جمال التعبير وصدق الشعور، وكاد يجتمع له جمال التعبير وصدق الشعور في كلهذا الباب لولا ألفاظ تنبو عن سمعي وأحسبها تنبو عن سمع كثير من الناس كلفظ المأرف في قوله:
لك وجه كأنه طابع الصد ... ق على صفحة الزمان المأرف
فلست ادري لماذا لا أحب هذه الكلمة في هذا البيت، ولما اشعر بأنها قلقة لا تستقر في مكانها الا كرها، ولما اشعر بأنها صغيرة ضئيلة بالقياس إلى الزمان. وكلفظ الطين الذي أنكره غيري من النقاد على العقاد في قوله في القبلة:
هي كأس من كؤوس الخالدين ... لم يشبها المزج من ماء وطين
فأنا لا أناقش في المعنى ولا اعتدي عليه بمحاولة إفساده أو الغض منه. ولكن ذوقي هذا الذي تأثر بأدبنا العربي القديم ينفر، بل يفر من هذا الطين الذي يقرن بالقبلة. وأنا أفهم إن يعتذر الشاعر بصحة المعنى ودقته وامتيازه وارتفاعه من مألوف الناس، ولكني مع ذلك لا أطمئن إلى هذا الطين الذي تقرن به القبلة، أو يقرن بها. وهنا تظهر خصلة من خصال العقاد التي تميزه من غيره من الشعراء المعاصرين. فهو من شعراء المعاني الذين يحرصون اشد الحرص على تصحيح معانيهم وتجويدها وتميزها والارتفاع بها عن المألوف، ولكنهم لا يتكلفون مع الألفاظ ما يتكلفونه مع المعاني من تخير وتدقيق في التخير ومن تحرج وغلو في التحرج. هم اتباع المعاني وهم يزعمون أن الألفاظ يجب أن تتبعهم وان تدين لهم، وهم لا يطلبون إلى الألفاظ الا أن تؤدي لهم معانيهم وتعرب عنها إعراباً صحيحاً لا لبس فيه. فان أتيح لها مع ذلك أن تكون جميلة جذلة ورقيقة وعذبة فذاك وإلا فليس عليهم بأس ولا جناح. ولكن العقاد خليق بإحدى اثنتين: فإما أن يصلح تعريفه للشعر فلا يشترط جمال التعبير وإما أن يصلح مذهبه في الشعر فيكون احرص على تجويد اللفظ وتجميله وتزيينه في السمع والقلب مما هو الآن. وأنا أؤثر له الثانية، فليس من الحق في شيء أن الشعر يستطيع أن يستغني عن جمال اللفظ بجمال المعنى وروعته ولعله يستطيع أن يستغني بجمال اللفظ عن جمال المعنى أحياناً. فالشعر موسيقى أولا، وهو إذا متجه إلى(10/73)
السمع، فإذا استطاع، أن يخدع السمع بجمال اللفظ وانسجامه، فقد يستطيع أن يخدع القلب والعقل وقد يستطيع أن يكتفي بالسمع وحده. والخير كل الخير أن يوفق الشاعر إلى الملائمة بين جمال اللفظ وجمال المعنى. والعقاد يوفق إلى هذه الملائمة كثيراً ولكنها تخطئه أحياناً.
تخطئه حين ينسى نفسه، ويعمد إلى الفلسفة ويريد أن يكون فيلسوفاً موضوعياً إن صح هذا التعبير، يعرض علينا الآراء الفلسفية في نفسها ومن حيث هي دون أن يبعث فيها شيئاً من شخصيته، أو من حياته كأنه العالم يقرر أصلاً من أصول العلم أو قانوناً من قوانينه. في هذه الحالة يتقن العقاد معانيه، ويصححها تصحيحاً لا غبار عليه. ولكن هذا الإتقان والتصحيح يستغرق جهده أو أكثره، ولا يكاد يبقي له الا ما يمكنه من النظم. وإذا شاعرنا مفكر من الطبقة الأولى ولكن نظمه يشبه نظم أبي العلاء، تنقصه السلاسة والنصاعة وصفاء الديباجة، وهذا الانسجام الذي يخلب سمعك ويملك عليك أمرك ويجعلك نهباً للشاعر يلقي في روعك ما يشاء.
كل هذه الخواطر تخطر لك حين تقرأ القسم الأول من وحي الأربعين. وأحب أن أكون منصفاً فلا يكاد الإنسان أن ينظر في هذا الديوان وفي غيره من دواوين العقاد، حتى يعجببالشاعر إعجاباً لا حد له، لأنه رفع نفسه ورفع الشعر معه إلى عالم لم يتعود شعراء العرب أن يعيشوا فيه، لا أكاد استثني منهم الا أبا العلاء. فالموضوعات التي يقصد إليها العقاد وينظم فيها الشعر موضوعات عالية كلها رفيعة، حتى إذا هبط العقاد إلى حيث يعيش الناس وشاركهم فيما تعودا أن يقرضوا الشعر فيه من الفنون لم يلبث أن يرتفع بهذه الفنون، ويحلق بها في جو لا يكاد يرقى إليه الطرف. وأكاد اجزم بأن العقاد لو استقامت له الألفاظ وأسمحت له اللغة، لمااستطاع أحد في هذه الأيام أن يساميه. ولكن لغته لا تمكنه من الأسف الشديد من أن يستمر محلقاً في الجو بل تثقل عليه وتثقل على معانيه وتضطره إلى الهبوط، فيهبط ومن حقه ان يظل عالياً. وهل يأذن العقاد في أن أنكر عليه خصلة أخرى في وحي الأربعين وهي هذه الشروح التي يقدمها بين يدي طائفة من قصائده الفلسفية والتي تترك في النفس أثراً مؤلماً ثقيلاً إلى حد ما، وتخيل إلى القارئ إن الشاعر قد تخير بعض الموضوعات الفلسفية التي طرقها الناس من قبله وأتقنوها بحثاً ودرساً فنظمها، ونظمها في(10/74)
غير توفيق إلى الوضوح فقدم هذا الشرح بين يديها وجعل شعره أشبه بالمتون منه بالشعر حقاً.
إن الذين يقرءون شعر العقاد ويذوقونه هم المثقفون المستنيرون، الذين تعودا أن يقرءوا الشعر وأن يفهموه، وأن يقرءوا شعراً أصعب من شعر العقاد وأشد منه إمعاناً في الغموض، فيستطيع العقاد أن يحسن بهم الظن وان يخلي بينهم وبين شعره ليفهموه كما يريدون وكما يستطيعون. وليسس على العقاد بأس أن يفهم شعره أحياناً على غير ما أراد هو فمن يدري. لعله أن يكون هو مخطئا وأن يكون قارئه مصيباً، ومن يدري لعله يعود إلى شعره يقرأه فيفهم منه غير ما كان أراد، قد يكون هذا عيباً في النثر ولكنه مزية من مزايا الشعر الرائع، ولو أن لي أن اقترح على العقاد لطلبت إليه أن يلغي هذه الشروح الفلسفية في الطبعة الثانية من هذا الديوان، إن لم تكن قد تمت. فأني اعلم أن الطبعة الأولى قد نفذت منذ حين.
ولست أدري لما لا أريد أن أقف، وأن أختم هذا الحديث دون أن آخذ العقاد بملاحظة أخرى أود أن يقدرها ويفكر فيها، وهي: أن التجديد في الشعر يتناول الألفاظ ويتناول المعاني من غير شك، ولكنه خليق أن يتناول الوزن أيضاً فلكل نفس مذهبها في التفكير، ومذهبها في التعبير، ولكلل نفس موسيقاها أيضاً. وإذا صدق هذا بالقياس إلى الأفراد فهو صادق بالقياس إلي الأجيال. والعقاد يعلم إن كل نهضة في الشعر خليقة بهذا الاسم تستتبع تغييرا في الوزن، واستحداثاً لفنون جديدة من التوقيع. كان ذلك في شعرنا العربي في الشرق وفي الأندلس. وكان ذلك في غير شعرنا من الأمم، وكنت أحب أن يكون ذلك في شعرنا الحديث، وكنت احب أن يكون العقاد من السابقين اليه، ولست يائسا من ذلك فان العقاد رجل خصب النفس قوي الحس دقيق الشعور واخلق بمن تجتمع له هذه الخصال، ويكون له معها خيال قوي بعيد المدى أن يجدد في الشعرفيحسن التجديد، وان يتجاوز التجديد في الألفاظ والمعاني إلي التجديد في الأوزان والقوافي.
اعترف بأني قرأت وحي الأربعين مرتين وأني أود لو أقرأه مرة ومرة، وأني واثق بأني سأجد في قراءته المقبلة من اللذة والمتاع ما يجعلني فيها راغبا وعليها حريصاً.
أهي المصادفة التي أردت أن أتحدث عن العقاد وعن هيكل في مقال واحد، أم هو تشابه(10/75)
قوي أو ضعيف بين هذين الأديبين دعاني إلى أن اجمع بينهما في هذا الفصل، وإن كان الاختلاف بينهما شديدا مغرقا في الشدة.
أما الذي لا اشك فيه فهو إن ظهور ثورة الأدب ليس هو الذي دعاني إلي الجمع بين هذين الأديبين فقد كنت أستطيع أن افرد لكل واحد منهما فصلاً ولعلي لو فعلت أرحت القارئ وأرحت نفسي من الإطالة ولعلي لو فعلت فرغت لكل واحد منهما فوفيته بعض حقه من النقد والثناء. ولكني وجدت نفسي مدفوعاً إلى أن انظمهما في سلك واجمعهما في فصل. وابحث بعد ذلك عما دفعني إلى هذا. وأظن انه الشعور الذي كنت أجده حين كنت انتقل من شعر العقاد إلى نثر هيكل، ومن نثر هيكل إلى شعر العقاد. فقد كان يخيل ألي أني انتقل بين أديبين مختلفين غاية الاختلاف. وإنما كنت انتقل من شعر كثيراً ما يشبه النثر إلى نثر كثيرا ما يشبه الشعر وكلاهما يمتاز بالخصب والثروة والعمق وكلاهما يمتاز بهذه الديباجة التي ينقصها الصفاء في كثير من الاحيان، وكلاهما يمتاز بإيثار المعاني وإعمال الألفاظ إلى حد بعيد. وهل أنا في حاجة إلى أن اصف هيكلا، واحمد فيه قلبه الزكي وعقله القوي، وبصيرته النافذة وفهمه الصحيح لحقائق الأشياء التي يعرض لها بالبحث والدرس. وهل أنا في حاجة إلى أن اصف هذا الخصب المدهش الذي يحار الإنسان في وصفه وفي تصويره، كلما فكر في هذه الجهود الهائلة التي يبذلها هيكل في غير انقطاع ولا تواني ولا فتور، والتي تستطيع مع هذا كله أن تحتفظ بقوة متشابهة لا يكاد يظهر فيها التفاوت ولا يكاد يعرض لها الضعف، فهيكل صاحب صحيفة يشرف عليها ويدير امورها، ويكتب فيها فصلا في كل يوم على اقل تقدير، وهو عضو في حزب سياسي يشارك زملائه فيما يعملون ويتحدث إليهم كل يوم في السياسة، إذا كان الصباح، وإذا كان المساء. وهو أديب يقرأ فيكثر القراءة وينوعها ويحسن تنويعها. يقرأ في الأدب العربي، ويقرأ في الأدب الانكليزي، ويقرأ في الأدب الفرنسي، ويقرأ في السياسة، ويقرأ في التاريخ، والغريب انه لا يكره أن يقرأ في علوم القانون وإن كان من رجال القانون وهو على هذا كله يكتب في الأدب في موضوعات مختلفة منه، يكتب في الأدب الإنشائي فإذا هو يصف فيبدع في الوصف، وإذا هو يقص فيجيد القصص، ويكتب في الأدب الوصفي فإذا هو ينقض الشعر وينقض النثر، ويوفق في هذا النقد إلى خير ما يطمع فيه الناقدون، وهو على هذا كله أب(10/76)
وزوج لا يبخل على أسرته بحقها عليه وهو صديق لا يبخل على أصدقائه بحقوقهم عليه. وهو رجل له مكانته الظاهرة في حياتنا الاجتماعية والسياسية، وهو ينهض بما تستتبعه هذه المكانة من حقوق وواجبات. الغريب مع هذا كله أنك تلقاه فإذا هو رجل هادئ مطمئن كأنه أفاق منذ حين قصير من نوم مريح، فهو لم ينشط كل النشاط بعد ولكنه بعيد كل البعد عن الخمود والفتور، ولا تكاد تتحدث إليه دقائق حتى يفتنك ويروعك فكأنك تتحدث إلى جني ولكنه جني عذب الروح لذيذ الحديث.
هذا هو هيكل. فالذي لا يقضي الإنسان عجبا من قدرته على الإنتاج المتصل، في السياسة وفي أي سياسة، في الأدب وفي أي أدب، دون أن يظهر عليه ضعف أو إعياء أو شئ يشبه الملل.
أصبحت ذات يوم لا أكاد اسم صاحبي يتلو علي صحيفة من صحف الصباح الا سمعت إعلانا في هذه الصحيفة عن كتاب لهيكل جديد هو (ثورة الأدب) وكان الإعلان أمريكيا لا عهد لهيكل بمثله. فهيكل من انشط الناس في الأدب والسياسة ولكنهم من أشدهم فتورا في الإعلان. فقلت يجب أن يكون هيكل قد تغير ذلك فليس عهدي به بعيدا، يجب أن يكون شيء من حوله قد تغير، يجب أن يكون الله قد رزقه عفريتا في الإعلان كما هو عفريت في الإنتاج. وما هي الا ساعة أو ساعتان حتى اقبل رسول يحمل ألي نسخة من الكتاب. وكنت اعرف هيكلا بطيئا في إهداء كتبه وكثيرا ما لمته في ذلك، وكثيرا ما أسرفت في الإلحاح لأظفر بنسختي مما كان يصدر من الكتب. فلم ازدد أمام هذه السرعة وهذا النظام الا دهشا، وما زلت إلى الآن دهشا لأني لم افهم بعد مصدر هذه السرعة وهذا النظام في الإهداء والإعلان. ومهما يكن من شئ فقد أسرعت فأعلنت كتاب هيكل إلى الناس في الكوكب كما أعلنته الصحف الأخرى، ثم أسرعت فبدأت في قراءة الكتاب. ولم يخفني عنوانه، أما لأن صديقي هيكلا لا يخيف مهما يثر، وأما لان الثورة مهما تكن لا تخيفني. ولم احتج إلى هذا التفسير الذي خيل إلى هيكل انه محتاج اليه، ليفهم الناس عنه هذا العنوان. فأي غرابة في أن يسمي أي كتاب في الأدب الآن (ثورة الأدب). وهل حياة الأدب العربي في هذه الأيام الا ثورة متصلة. نحن ثائرون حين ننشئ ونحن ثائرون حين نصف ونحن ثائرون حين ننقد. كل إنتاجنا الأدبي ثورة حتى الذين يسمون أنفسهم محافظي(10/77)
ويلحون في المحافظة ويتمدحون بها ويبتغون بها الوسيلة عند الذين يحبونها ويستغلونها. هؤلاء أنفسهم ثائرون يفرون من القديم الذي يحرصون عليه، يريدون أن يؤيدوه فإذا هم يجددونه ويغيرونه ويكفي أن تقرأ حتى في نور الإسلام وهي المجلة الرسمية للأزهر. فسترى فيها ثورة ومحاولة للتجديد، وحرصا على أن يظهر شيوخ الأزهر حين يفكرون ويكتبون ملائمين للعصر الذي يعيشون فيه. حياتنا الأدبية كلها ثورة إذا وكل كتاب نكتبه في الأدب فهو ثورة الأدب، لذلك لم اقف طويلا عند العنوان وإنما أسرعت فمضيت في قراءة الكتاب.
لم أجد في الكتاب شيئا جديداً وأرجو أن الا يغضب هيكل فالكتاب كله جديد ولكني أعرفه لا لأني قرأت كثيرا من فصوله حين نشرت في السياسة اليومية أو الأسبوعية بل لأني قرأته وسأقرأه كله في هيكل كما لقيته أو تحدثت إليه. فالكتاب صورة مطابقة اشد المطابقة وأصدقها وأجملها لنفس الكاتب. تقرأ في الكتاب فترى هيكلا وتسمع له وقد تنكر الرأي من آرائه فتهم بأن تتحدث بإنكارك هذا إلى هيكل كأنه جالس إليك تراه وتسمع منه وتريد أن تأخذ معه في الحديث. ليس في الكتاب شئ جديد وهو لذلك من اخطر الكتب واشدها غدرا لك ومكرا بك تمضي فيه فيخيل إليك انك تمضي في كلام مألوف ولكنك لا تكاد تفكر قليلا فيما تقرأ، أو لا تكاد تلح في القراءة، حتى يفتح لك هذا الكتاب أبواباً ويبسط أمامك آفاقا ما كنت تعرفها أو تفكر فيها من قبل وإذ كل شئ جديد، وإذ كل شئ طريف، وإذا الكاتب يخدعك ويمكر بك وان لم يرد خداعاً ولا مكراً.
أريد أن أعطي قارئ الرسالة فكرة دقيقة عن هذا الكتاب بشرط أن لا ألخصه ولا أحلله لا لأني لم اقرأه كما ظن هيكل بصديقنا المازني بل لأن تلخيصه يفسده ويذهب بجماله وقيمته الصحيحة وكيف تلخص في فصل واحد كتاباً يتناول التجديد والتقليد في الأدب ويتناول القصص والتمثيل ويتناول الأدب القومي ويحاول الإنتاج في هذا الأدب القومي، كيف تريد أن تلخص هذا الكتاب على اختلاف ما فيه من ثمرات وألوان. لقد حاول صديقنا المازني أن يلخصه فلم يوفق ولولا أن هيكلا شك في قراءته للكتاب لما تكلف المازني هذه المحاولة. أريد أذن أن أعطي قارئ الرسالة فكرة دقيقة عن هذا الكتاب دون أن ألخصه، ولعلي أوفق إن لاحظت أن لهذا الكتاب ناحيتين فهو تاريخ صحيح دقيق للأدب العربي(10/78)
المصري في هذه الأعوام الأخيرة من جهة وهو فلسفة أدبية رفيعة موضوعها أدبنا الحديث من جهة أخرى. فإذا كنت تريد أن تعرف كيف نشأت الخصومة عندنا بين القديم والجديد وكيف تطورت والى أين انتهت وما المؤثرات المختلفة التي ألحت عليها فقوتها حيناً وأضعفتها حيناً آخر، وإذا كنت تريد أن تعرف مقدار ما كسبنا من أنفسنا من شخصية قوية أو ضعيفة في فنون الأدب على اختلافها في الشعر والنثر رسائل وقصصا وتمثيلا. وإذا كنت تريد أن تعرف الصورة التي نرسمها لأنفسنا من الأدب القومي، والحقيقة التي استطعنا أن ننتهي إليها من هذا الأدب فأنت واجد هذا كله في هذا الكتاب. وأنت واجد في هذا كله قصصاً هيكلياً ممتعاً بديعاً. ثم إذا كنت تريد أن تجعل الأدب موضوعاً للتفكير والفلسفة كما يجعل الفلاسفة الطبيعة وما بعد الطبيعة موضوعاً لفلسفتهم وتفكيرهم فيحللون ويعللون ويشرحون ويفسرون ويتنبئون فستجد هذا كله في هذا الكتاب. فقد حلل هيكل وعلل، وقد شرح هيكل وفسر، وقد أرخ هيكل وتنبأ، ووفق هيكل إلى كثير جدا من الحق في هذا كله.
اظلم هيكلا واظلم نفسي إن قلت أن إعجابي بكتابه يمكن أن يحد فهو مرآة صافية نقية صادقة لحياتنا الأدبية منذ وضعت الحرب الكبرى أوزارها ولكني أظلم هيكلا، وأظلم نفسي إن قلت أني راض عن كتابه كل الرضا، مقر بكل ما جاء فيه. فبين هيكل وبيني خصومة قديمة ما أرى أنها تنتهي لأنه لا يريد أن ينهيها. ولغة هيكل هي موضوع هذه الخصومة. فهيكل من أصحاب المعاني بين الشعراء، وهيكل يهمل لغته إهمالا شديدا ويتورط في ألوان من الخطأ واضطراب الأسلوب، يدنيه أحيانا من الابتذال، والغريب انه لا يضيق بذلك ولا يجد به بأسا، ولا يعترف بأنه يسيء إلى نفسه والى أدبه معا. ولست أريد أن أحصى عليه هذه العيوب ولا أن اضرب لها الأمثال فهو لا ينكرها ولا يراها عيوبا، ولعله يتمدح بها أحيانا وهو مخطئ من غير شك. فان من المؤلم أن تبدو معانيه الجميلة الرائعة في ثياب رثة بالية في كثير من الأحيان. وهيكل كالسيل إذا عرض لموضوع اندفع فيه فجاء بالجيد الكثير ولكنه لا يسلم أحيانا من الغثاء. فكثيرا ما يتورط في الخطأ لأنه يسرع ولا يتكلف التحقق والتثبيت في بعض مسائل التاريخ. أنظر إليه في المقدمة يريد أن يذكر الأوديسا فيذكر الإلياذة ويضيفها إلى اليونان. والإلياذة هي قصيدة فرجيل، وهيكل يعلم ذلك حق العلم(10/79)
ولكنه نسى وصحح كتابه ولم يخطر له أن يتحقق مما يكتب. وانظر إليه في موضوع آخر حين يذكر تحرر الفرنسيين من آثار اليونان والرومان في القرن السابع عشر، كيف يذكر لابروير وموليير وهو يعلم حق العلم أن أولهما تأثر من غير شك بتيوفرايست، وإن الثاني تأثر من غير شك بتيرانس وبلوت. وتستطيع أن تأخذ هيكلا بطائفة غير قليلة من هذا الخطأ الذي مصدره الإهمال والسرعة، وشيء من الازدراء لتحقيق المحققين. ولو أني عرفت أن هيكلا يحفل بنقد الناقدين، أو نصح الناصحين لألححت عليه في أن يتخذ لفصوله الأدبية مصفاة، إن صح هذا التعبير، يصفى بها ما يكتب فيزيل منه الخطأ اللغوي ويزيل منه الإهمال في بعض الحقائق التاريخية.
أمتفق أنا بعد هذا كله مع هيكل في آرائه كلها حول القديم والجديد؟ ما أظن الا إننا نتفق في أكثرها ونختلف في أقلها. ولعل اختلافنا أن يكون ناشئاً من شيئين أحدهما هذا الإهمال الذي آخذ به هيكلا. والذي يدفعه إلى المبالغة ويضطره إلى التقصير أحياناً. والثاني أن هيكلا رجل أديب، ولكن اشتغاله المتصل بالسياسة قد أثر في تصوره للأشياء وحكمه عليها بعض الشيء. فهو يسرف حين يسئ الظن بما يكتبه الأوربيون عنا حين يمسون حياتنا الأدبية، فما أظن أن (جيب) وأمثاله يتخذون السياسة وأهوائها مقياساً لدراساتهم الأدبية، وهو يسرف حين يحسن الظن بنا وبحظنا من الخيال وقدرتنا على الإنتاج. ولكنه رجل سياسي حين يكتب في الأدب، يريد أن يدافع عن مصر والشرق كما يفعل في السياسة، ويريد أن يرضي المصريين والشرقيين كما يفعل في السياسة. أما أنا فأريد أن أدافع عن مصر والشرق ولكن بشرط أن لا يورطني هذا في تغيير الحقائق العلمية أو مسها بشيء من التشويه ولو قليلا. فالحق آثر عندي من أي شئ ومن أي إنسان.
أما بعد فمهما نأخذ به كتاب هيكل هذا، فلن نغض منه ولن يستطيع أحد أن ينكر أن هيكلا هو المؤرخ العربي للأدب العصري الحديث. وانه قد فرض بذلك نفسه، لا أقول على هذا الجيل وحده، بل أقول على الأجيال المقبلة أيضاً. وأنا واثق كل الثقة بأن كتابه هذا سيصبح من المصادر القيمة للذين يريدون أن يدرسوا أدبنا المصري في نهضته هذه الحاضرة.
طه حسين(10/80)
سلمى وقريتها
للسيدة (آمي خير)
بقلم الأستاذ الكبير م. ع.
هذه قصة لبنانية بأشخاصها وأماكنها ووقائعها، فرنسية بلغتها، وقد كتبت في مصر، وطبعت في باريس.
واسم المؤلفة مركب من لفظين: ثانيهما عربي، وأولهما أعجمي بهمزة مفتوحة بعدها مدة فميم مكسورة فياء ساكنة.
كنت في مجلس بعض الأدباء، فجرى حديث هذه القصة فيما تناوله السمر، قال قائل منهم:
- من تكون مدام آمي خير؟
- إن كنت لا تعرفها فقد فاتك نصف عمرك.
- أواه، كم فاتني عمر كله، وكم فاتني نصف عمر!
- آمي خير سيدة تحدرت أرومتها من منابت الأرز في لبنان إلى أمومة لا تعرف الأرز ولا لبنانه، ونبتت في أحضان البحر الصغير في مدينة المنصورة، وربيت تربية فرنسية خالصة في هذه المدينة المصرية الخالصة.
هنا أخذ كل واحد من الجماعة يدلي برأيه غير منتظر تمام الحديث، فمن قائل: أن مؤلفة (سلمى وقريتها) لا يمكن ان تعتبر الا فرنسية، لأن صبغة الثقافة الفرنسية قوية جداً تصهر النفوس وتحيلها فرنسية مهما كان أصلها، الثقافة الفرنسية وريثة الثقافة اليونانية التي وجهت الفكر البشري توجيهاً يونانياً ودمغت بطابعها العلم والحكمة والدين.
أنظر إلى الكونتس (دي نواي) التي رزئ بها الشعر منذ قريب، لقد ماتت فرنسية، وعدت فرنسا مصابها مصاباً قومياً. والثقافة هي التي جعلتها فرنسية، لا الدم الذي كان يجري في عروقها. ومن قائل: ان الثقافة الفرنسية مهما قوى سلطانها فهي لا تستطيع أن تصنع شيئاً في الدم السكسوني وأن كان لقاحاً، ذلك الدم النزاع بجوهره إلى غير منازع الفرنسيين.
كان في المجلس شاب لبناني فأخذته حماسة الشباب وصاح: ودم لبنان؟ أليس للدم اللبناني حساب؟ إنا لنهفو إلى بعض الثقافات ونقلد بعض الامم، لكنا على ذلك ذوو عرق في الشرق عريق. .(10/82)
وقال فتى من أهل الدقهلية:
- ما دامت السيدة قد نبتت بين البحرين فهي منصورية لحماً ودماً، والمنصورية مدينة لها من التاريخ ذكريات داوية من عهد ابن لقمان وداره، إلى عهد أبي سحلي وآثاره.
ثم عاد صاحب الحديث الأول يتمه: إن في السيدة (آمي خير) جمال المرأة الذكية، وفيها ذكاء المرأة الجميلة.
قال بعضهم: يا رفاقي على دين الدكتور (فريد الرفاعي) أفمن كانت بهذه المثابة تعنى نفسها بصنعة الكتابة؟
فانبرى للجواب صاحب الحديث:
- إن للسيدة (آمي خير) مشاركة جيدة في الفن والأدب، ولها ذوق من ألطف الأذواق، وهي على اتصال دائم بالمميزين من أهل الثقافات الغربية وإخوانهم من أهل الثقافات الشرقية، وتحاول أن تصل بين الثقافتين اللتين تحبهما على سواء.
تعطف على الفنانين والأدباء عطفا يسمو على اعتبارات الأجناس والأوطان والأديان لأنهم يؤدون رسالة الجمال في هذا العالم.
وكأنما تستصفي صواحبها تخيرا من ذوات الحسن البارع لأنها ترى المرأة الجميلة أيضا تؤدي رسالة جمال في هذا العالم المحتاج إلى جمال.
وتنقّل الحوار إلى (سلمى وقريتها) فمضى قائل يقول: موضوع القصة لا طرافة فيه، فان فتاة من بنات الفلاحين صبا إليها فتى من أبناء الأعيان ففتنت به، وكان بينهما كل ما يكون في كل حب من: عناق وقبل، وفرقت الأقدار بينهما وتزوجت (سلمى) شاباً من أهل قريتها كان يسر في قلبه حبها منذ زمان. لكن عقابيل الغرام الأول لم تزل تعاود سلمى حتى مرضت بالسل ووافاها حمامها.
ومن عجب إن المحبين في أقاصيصنا والمحبات يموتون بالسل دائما كأن جراثيم ذلك الداء لا تنتعش الا في صدور العاشقين!
قال آخر: يكون في كثير من الأحايين موضوع القصة بسيطا مطروقا لكن الكاتب يحسن تناوله فيبرزه في إطار من المعاني الشريفة والصور، ويسمو به إلى أفق الإبداع.
كان في حاشية المجلس رجل لم يشترك في شيء من الحديث وان أصغى إلى كل الحديث،(10/83)
فلما سكت القائلون تصدى للكلام:
- يشعر القارئ لكتاب (سلمى وقريتها) بأن مؤلفته أرادت أن تصور لبنان تصويرا شاملا. فهي ترسم الجبال شامخات عاربات يلمع الثلج فوق هاماتها. وتنحدر الوديان من حولها وهادا سحيقة. ومروجا خضراء، وتتناثر القرى في سفوحها وفي أحضانها وربما تسامت إلى ذؤاباتها، والينابيع تتدفق عن يمين وشمال بالعذب النمير والكروم والأشجار تجتمع جنات الفافا، وتفترق ألواناً وأصنافاً.
وتصف السيدة حياة القوم حين يجمعهم الشتاء أسارى، وحين يطلقهم الصيف احرارا، وتذكر أمرهم في بيوتهم، وحالهم في مزارعهم، وشأنهم في مجامعهم، وتنعت ما يأكلون وما يشربون وما يقولون وما يفعلون، وتمثل أفراحهم وأحزانهم، وجدهم ولعبهم، ورقصهم وغنائهم، وعشقهم وغزلهم، ولا تهمل شعائر الدين فيهم كل ذلك في أسلوب بسيط إن خلا من زينة الصنعة فهو لا يخلو من جمال السهولة والوضوح.
وفي الكتاب لمحات بسيكولوجية، وقصة سلمى نفسها مملوءة من هذه اللمحات التي تكشف عن معان نفسانية.
فإيثار سلمى لجميل فارس بالعشق ملحوظ فيه انه وريث وجاهة وغنى، وقد حسبته انصرف عنها بعد أن تلهى بمغازلتها، فثارت في نفسها للكرامة حمية بددها الغرام بابن السادة الأغنياء. وأبو سلمى عرف أن ابنته العذراء قد فتنها جميل، وتهامس أهل القرية بما بينهما فلم تخرجه الغيرة عن حدود الرزانة والحلم وزوج سلمى حين سمع حليلته تهتف في سكرات الموت باسم عشيقها، صدمه ذلك ففار فورة ثم انطفأ وعاد يريق دمعه عند أقدام سلمى.
أما أم سلمى فقد جعلتها مدام خير مثال الزوجة البرة الصالحة والأم الحكيمة الرحيمة.
ويوشك أن يكون أروع ما في (لبنان مدام خير) بعد منابع المياه ومزة العرقي هي أم سلمى.
وكان ذلك نهاية السمر بين القوم فتفرقوا مجمعين على أن (آمي خير) قد وصفت لبنان وأهل لبنان في كتاب (سلمى وقريتها) وصفا فيه روعة الدقة ولطف الملاحظة وحسن البيان.(10/84)
م. ع(10/85)
الفكر والعالم
للأستاذ إبراهيم المصري
يشتمل هذا الكتاب على مجموعة مقالات (أو دراسات كما يدعوها المؤلف)، ثم قطعة تمثيلية من أربعة فصول فهو إذن كتابان في كتاب واحد. وسنقصر كلامنا على أولهما.
الفكر والعالم كلمتان عظيمتان تدلان على كل ما في هذه الخليقة من مادة وروح. وقد تشك في أن هذا الكتاب الصغير يحوي بين دفتيه خلاصة الفكر وخلاصة ما في العالم. فإذا ما قرأت هذا الكتاب انقلب الشك يقينا، فالكتاب يخدعك بعنوانه الضخم، وليس به من عنوانه الا القليل.
ولكنك قد تجد في الكتاب متعة أقرب إلى النفس، لأنك تتصل بفكر خصب هو فكر المؤلف نفسه، وتتصل بعالم حي هو نفس المؤلف ومشاعره. إذ ليس الكتاب سوى صورة إبراهيم المصري، صورة ميوله وآماله، ومتاعبه وآلامه. وفي الرسالة الأولى من الكتاب، وعنوانها نجوى، يتمثل تفكير المؤلف، وأسلوبه في الكتابة. استمع إليه وهو يقول:
(. . . نهذب نفوسنا ونصقلها بشتى الأفكار والمعلومات. وما تزال الحيوانية الكامنة ترتع في قلوبنا وتستشره. ترق احساساتنا في بعض الأحايين، وتخمد أعصابنا ويغفو ذهننا العامل المجد، ويخيل إلينا أننا بلغنا قمة الحكمة، وسمونا إلى حيث يشترك العقل البشري بالقوة الإلهية المحركة الأولى.
وسرعان ما نتصل بالمجتمع، فنلمس الحقيقة فنكر راجعين والخيبة تملأ جوانحنا، والكمال الروحي يتباعد عنا شيئا فشيئا، حتى يتلاشىّ بغتة ويغيب عن الأبصار.)
وهكذا تقرأ في الكتاب صفحات وصفحات من العبارات المتراصة المشبعة بالصفات والكلمات المؤكدة تنساق في سلسة واحدة لتصور لك في الحقيقة وفي والنهاية أمرا واحدا: الوجه الشاحب، قد أحاطت الغضون فيه بالفم والجبين قبل الأوان. وذلك الشعر الغزير الكثيف الذي وخطه الشيب على رغم الشباب. وتينك العينين المتعبتين من أثر الإسراف في القراءة تغطيهما عدستان قويتان. تلك هي الصورة التي تبرز لك من خلال مطالعة الكتاب: صورة إبراهيم المصري وهو يجاهد في مضمار الحياة تطحنه المادة، ولكن ذهنه المستنير يأبى إلا أن ينتصر، وأن يحطم الجسم في هذا السبيل. . . (فلتنزل بي الطبيعة(10/86)
أشد كوارثها، ولتغمرني في الفقر والمرض حتى مغرقي، ولتمنحني جزءاً من فضيلة واحدة، ثم لتفعم نفسي بما شاءت من رذائل وآثام. . . فأنا راض. راض بالنقص الذي لا اعتبره نقصا. انه قوتي. وإنما الكون قد أوجدني لأسعى إلى الكمال لا لأبلغه).
وهكذا تلمح في هذه الصفحات النفس الثائرة الطامحة. يحدوها الرجاء حينا ويردها اليأس أحيانا، ولكنها لا ترتد ولا تهزم.
ويتابع الأستاذ إبراهيم المصري هذا الأسلوب، في رسائله الأخرى، حين يعطينا صورا لحياة عظماء عرفوا الشقاء وعرفوا الياس، ولكنهم ظلوا يعملون في عزيمة وصبر، كي يضيفوا إلى تراث الإنسانية شيئا خالدا. . . فهو يتكلم عن بروست وبودلير وميكائيل انجلو، وبيرون، مصورا لك حياتهم أو جانب منها، تصويرا دقيقا هو خلاصة لاطلاع واسع.
(ميم)
لم يستطيع صديقي (ميم) الذي كلفته نقد (الفكر والعالم) أن يطالع وينقد القطعة التمثيلية، التي تحتل النصف الثاني من الكتاب. وليس هنا مقام الأسف على الظروف التي اضطرت المؤلف أن يطبع الكتابين في كتاب واحد، وألا يستطيع أن يبرزهما للقراء في شكل جميل يليق بكل منهما. أما الرواية التمثيلية (نحو النور) فهي مشبعة بنفس الروح التي تبدو لنا خلال الرسائل فهي تمثل لنا رجلا نابغا شريف النفس ينشد الإصلاح بقوة وبعزم، وقد تألب عليه كل ما يمكن أن يعترض سبيل المصلحين من كوارث ونكبات، فمن فقر مدقع، إلى نفس أبية مسرفة في الإباء، إلى زوجة لا تفهم زوجها بل تخونه وتندفع في خيانته، إلى مجتمع جاهل فاسد يضطهده ويعنِّيه. كالمريض الذي يجمع كل ما لديه من قوة لكي يقتل الطبيب الذي جاء لعلاجه.
تلك هي الصورة الجليلة التي أراد المصري أن يبرزها لنا في شخص (محسن)، ولئن كانت الصورة التي رسمها المؤلف لا تنهض تماما إلى مستوى الموضوع الجليل الذي يعالجه. فأنها مع ذلك محاولة قيمة، وإنا لنرجو أن يعود الأستاذ لمعالجة هذا الموضوع الخطير مرة أخرى. بعد أن ترسخ قدميه في فن الكتابة المسرحي فإن الموضوع جليل حقا. ويمكن أن يعالج عدة مرار من نواح شتى.(10/87)
م. ع. م.(10/88)
العدد 11 - بتاريخ: 15 - 06 - 1933(/)
من بريد الرسالة
جواب الآنسة حياة
وكتاب آخر فرنسي، أنيق الشكل، جيد الخط، رائق الأسلوب، هادئ البيان، أتانا من الآنسة حياة!! فعجبت من إصرار هذا اللسان الأجنبي على التدخل الفضولي بين لسانين عربيين! ولكني لم أكد أسير في قراءته حتى تساير عن نفسي العجب، وتراجع عن وجهي القطوب، واتضح في ذهني العذر، وملكتني سورة من الحنق المر على نُظمنا التربوية والتعليمية التي شوهت في النشء عواطف الجنسية، وشتت في الشعب معاني الوحدة، وأخفقت كل الإخفاق في تكوين أمة واحدة النزعة والوجهة والثقافة.
تقول الآنسة الفاضلة: (. . . نعيت عليّ أني كتبت إليك بالفرنسية، والسبب في ذلك بعيد كل البعد عن التظرف والحذلقة والله يعلم وصواحبي يشهدن بما كان بيني وبين الراهبات المعلمات من الجدل العنيف كلما تعرّضن لديننا بالغمز، أو لتاريخنا بالعبث أو للغتنا بالزراية. . إنما أنا ومثيلاتي ضحية من ضحايا نظام مدرسي لم يقم ألا لتعليم الفتى (ميكانيكية) الحكومة. لأن قيامه لهذه الغاية جعل من طبيعته إغفال أمر البنت، فلجأ بها أولياؤها إلى المدارس الأجنبية، فنشأت هذه النشأة البتراء المشوبة، لا تعرف عن دينها إلا التشبه، ولا من لغتها وأدبها غير القشور.
لو كنت كتبت إليك بعربيّتي لحسبتني طفلة تجمجم بالكلام ولا تبين! ويكون من وراء ذلك انك لا تفهمني ولا تفهم عني، فكتبت إليك بالفرنسية لأن الإنسان يميل بطبعه إلى جهة القدرة لا إلى جهة العجز، ويؤثر بغريزته جانب الكمال على جانب النقص، ولئن تعرّضت بذلك إلى غضبك، فقد نجوت ولله الحمد من سخرك، وسخطك عليّ أحب إلى كرامتي من استخفافك بي.
ما كان أسعدني لو ملكت من لغتنا ما تملك فترجمت عن نفسي بمثل ما ترجمت عني في الفقرات التي نشرتها من كتابي.
أنا الآن أعالج في نفسي هذا النقص بالدرس المستمر لآداب العربية، وتكاد (الرسالة) أن تكون الوسيلة الوحيدة لهذا الدرس، فأنا أستوعب أبوابها المختلفة، وأتذوّق أساليبها المتنوعة، ويخيّل إلي أني قطعت إلى غايتي مرحلة كبيرة. ولكني أجد في (الرسالة) نفسها(11/1)
أن زعماء الكتّاب لا يزالون ينتقدون زعماء الكتّاب في مبادئ النحو وبسائط التراكيب!! فليت شعري أأقنط من دراستي أم أستمر؟. . . .)
والآنسة الفاضلة تسمح لي أن أقف هنا في ترجمة كتابها لأعجل بالنصيحة لها أن تستمر، فأن العربية لاطراد قواعدها في القياس، واتفاق تراكيبها مع الطبع، أبسط اللغات نحواً وأقربها غاية. ولكن آفتها يا سيدتي منهاج سيئ، ومعلم عاجز، وتلميذ كسول!! وستقرئين في الرسالة بعد صفحات من هذه المقالة بحثاً قيّماً في ثقافة المرأة للآنسة أسماء، وشعراً منثوراً في التصوف للآنسة ناهد، فتجدين في صياغتهما الحسنة، وعبارتهما الصحيحة، وأسلوبهما الرقيق، مشجعاً لك ومصدقاً لي. .
جواب الآنسة عفيفة
أجابت الآنسة عفيفة عن تعليقي الموجز بكتاب إنكليزي مسهب، وقد فضّلت أن تكتب جوابها بالإنكليزية لأنها تتهم بيانها العربي بالقصور لقرب عهدها بالكتابة، وتعتقد لذلك إننا أسأنا الفهم فأسأنا الإجابة، وبيان الآنسة سليم من القصور، بريء من العي، لأننا فهمناه على الوجه الذي أرادته. وهو رسالة غزلية إلى امرأة عن لسان رجل. أما القصد من اتخاذ الآنسة (دور) الرجل في موضوع غرامي - وهذا موضع الإنكار - فلم تذكره الكاتبة في حاشية الكتاب، ولم نفهمه نحن من طبيعة الشيء، فحملناه معذورين على العبث الذي نربأ بفتياتنا عنه.
أرادت الآنسة أن تكشف اليوم عن ذلك القصد في هذا الجواب، فقالت: إنها لم ترد أن تتحدث عن الحب، وإنما قصدت أن تضع نموذجاً للرسائل الغرامية في اللغة العربية يكون مبنياً على الشعور الصادق والمنطق السليم، لأنها تلقت رسالتين: واحدة من صديقة إنكليزية، وأخرى من صديقة مصريّة، فوجدت الأولى صورة صادقة لحياة الكاتبة، وحال البيئة، وروح الجماعة، من ألعاب وأصحاب ودرس، ولم تجد في الثانية إلا عواطف مبهمة، وجملاً مزوّرة؛ وأمثالاً محفوظة. ثم قرأت كتابين أحدهما للكاتبة (جين وبستر) وثانيهما للكاتب (سليم عبد الأحد) وموضوعهما (رسائل في الحب)، فوجدت الفرق بين هذين الكتابين، هو الفرق بين تينك الرسالتين. وأنا أحترم تفسير الآنسة الأديبة لقصدها وأسلمه من غير مناقشة، وأعتذر إليها إذن من نقد في غير محله، ولوم وجهته إلى غير(11/2)
أهله. ثم استميح سيدتي الأذن بمناقشة هذه الطريقة من حيث الفن. إنك تنتقدين ما قرأت من الرسائل العربية، لأنها تصدر من اللسان لا من القلب، وتنقل عن الحافظة لا عن الطبع، فهل تعتقدين أنك صدقت في نقل شعور العاشق حينما أخذت (دوره) في رسالتك وأنت لا تحسّين هذا الشعور ولا تدركين كنهه؟ لعلّك لو كنت أخذت (دور) الحبيبة أو (دور) (الخطيبة) لكنت أقرب إلى الصدق وأدنى إلى الإجادة، على أن هذه النماذج المصنوعة يا سيدتي أعجز من أن تعير الجامد روحاً والبليد حساً والعي إبانة، إن الفكرة أو العاطفة إذا أشرقت في الذهن أو في النفس وجدت الكلمة وخلقت الصورة على غير مثال ولا قاعدة، ذلك لأن الشعور وحده يوجد الفن كما ترين في توفيق الحكيم، ولكن الفن وحده لا يوجد الشعور كما ترين في عبد الأحد. وإن في الأدب العربي الحديث طرفة من هذا النوع الذي تريدين، هي آية من آيات الفن في دقة الصنعة، ولعلها لا تقل جمالاً عن تماثيل فدياس وصور رفائيل، ولكنها كهذه التماثيل وتلك الصور ينقصها شيء واحد هو كل شئ: ذلك هو الروح!! هل قرأت (رسائل الورد) للأستاذ الرافعي؟ أرجو أن تقرئيها، وأن تكتبي إليّ رأيك فيها. . .
أحمد حسن الزيّات.(11/3)
من طه إلى هيكل
أخي العزيز:
قرأت كتابك الممتع الذي تنشره الرسالة اليوم وستنشره السياسة بعد غد وسيقرؤه الناس مرتين، فَأْذَن لي في أن أشكر لك هذا الكتاب أجمل الشكر لأنه راقني، وأثار في نفسي من حبك، والإعجاب الشديد ببراعتك ولباقتك، ما تثيره آثارك الأدبية كلها في نفسي حين اقرأها، وَأْذَن حقاً لي في أن أعود فأثني عليك لأني لن أتعب من الثناء عليك، ولن يعنيني أن أدهشك أو أخجلك، وإنما تعودت أن أقول الحق سواء عليّ إرضائك حتى أنتهي بك إلى الخجل، أم أسخطك حتى أنتهي بك إلى الثورة، أو إلى غضب هادئ فيه مكر، هو أشد من الثورة وأحدث، فاخجل يا صديقي ما وسعك الخجل، وادهش يا صديقي ما وسعك الدهش، واغضب يا صديقي ما استطعت احتمال الغضب، فأنت كاتب بارع، وأديب فذ كثير الإنتاج كأنك الجني، قد أخذت تحب الإعلان بعض الشيء في هذه الأيام حتى أنك لتنشر ردك عليّ مرتين. وفيك إسراع إلى الحكم وفتور عن البحث ورغبة عن الاستقصاء تضطرك أحياناً إلى الخطأ وتصرفك أحياناً عن الحق. وفي أسلوبك الرائع البارع وبيانك الفائق الرائق شيء من الضعف يقربه أحياناً من الابتذال. ويخيل إلي أيها الصديق العزيز أن هذه الملاحظة وحدها هي التي آلمك بين الملاحظات الأخرى التي أخذت بها كتابك ثورة الأدب، فأذن لي في أن أصر عليها وألح فيها. وأذن لي في أن أسر أيضا على كل رأي فيك لا أغير منه حرفا، ولاأنقص منه شيئا. فأنت تجيد حتى تصل إلى الإبداع، وتضعف حتى تشرف على الابتذال. ولك أن تلومني ما شئت لأني لم أهدك إلى مواضع الضعف في أسلوبك فقد يئست من هدايتك، لأنك كما تقول محب لأسلوبك كما هو، مشغوف به على علاته، لا تريد أن تغيره ولا أن تصلح مواضع النقص فيه، وكل ما أخشاه أيها الصديق إنما هو أن تتهمني بالإسراف عليك والغلو في نقدك، وقد كنت هممت أن أضرب الأمثال من ثورة الأدب لضعف أسلوبك فيه أحيانا، ولكني كرهت ذلك واكتفيت بالإشارة. فأما وأنت لا تحب الإشارة ولا ترضى إلا التصريح. فأْذن لي في أن أضع يدك على طائفة من مواضع الضعف لا في ثورة الأدب بل في هذا الكتاب القيم الذي ترد به علي في الرسالة اليوم وفي السياسة بعد غد.
فأنت تقول في هذا الكتاب (ولست أخفيك) ولعلك توافقني على إن الخير في أن تقول(11/4)
(ولست اخفي عليك) وأنت تقول (ويرى أنها ما تزال لما تهدأ) ولعلك توافقني على أن لما هنا ثقيلة جدا مفسدة للأسلوب لوقوعها هذا الموقع النابي بين فعلين وأنت تقول (إذ وضعت تحت نظرك هذه العبارة) وأظنك توافقني على إن تحت نظرك هذه قريبة جدا إلى الابتذال. وأنت تقول (لن أرضى لنفسي أن أكون إلا أنا). ولعلك توافقني على أن الصواب إلا إياي.
ومثل هذا كثير أيها الصديق العزيز في هذا الكتاب وفي ثورة الأدب. ولعلك ترى إن الخطأ والابتذال شيء وان البساطة والإيجاز والقوة شيء آخر. وانك تستطيع، إن أردت، أن تكون بسيطا موجزا قويا دون أن تخطئ أو تدنو من الابتذال. أما بعد فقد أعجبني منك أيها الصديق انك سجلت في كتابك على ثنائي عليك كله تسجيلا. ففيم كان هذا التسجيل؟
أخائف أنت أن أنساه؟ وكيف أنسى ما سجلت المطبعة؟ أخائف أنت أن أنكره؟ فثق بأني قد أثنيت عليك صادقاً وما تعودت أن أعطي باليمين وأسترد بالشمال؟ بعض هذا المكر وبعض هذا الدهاء. فالأمر بينك وبيني أرفع من المكر وأمتن من الدهاء وأوضح من أن يحتاج إلى التسجيل والتشديد في الحساب.
أما عد فهل تأذن لي في ملاحظة يسيرة جدا كنت أود لو لم احتج إليها، ولكن حياة الأدباء في هذه الأيام تضطرني إليها. كم أحب للأدباء ألا يضيقوا بالنقد وألا يحفلوا بالرد عليه إلا أن تدعو إلى ذلك حقيقة علمية لا ينبغي إهمالها فماذا يعنيك أن يحسن رأي الناس أو يسوء في أسلوبك، فإن كان هذا يعنيك أو يؤذيك فالخير في ان تجعل هذا سرا بينك وبين نفسك لا أن تعلنه إلى الناس.
وأنا أرجو أيها الصديق العزيز أن تقبل مني تحية كلها الحب والإعجاب.
طه حسين(11/5)
إلى الأستاذ توفيق الحكيم من الدكتور طه حسين
سيدي الأستاذ
لست أدري أيعنيني حقا ويعني أصحابي، أن نعرف رأي الجيل الجديد
في جهدنا الأدبي وما أحدثنا من أثر في حياتنا الأدبية الجديدة. لأن
العلم الصحيح برأي المعاصرين لا سبيل له، أو لا تكاد توجد السبيل
التي توصل إليه. أو قل أن هذا الجيل الجديد نفسه قد يشق عليه جدا
أن يصور لنفسه فينا رأياً صحيحاً مستقيماً بريئاً من هذه العواطف
الحادة الجامحة التي تسيطر على نفوس الشباب، وتؤثر أشد التأثير
فيما يكونون لأنفسهم من آراء في الكتاب والشعراء المعاصرين. فهم
بين معجب يدفعه الإعجاب إلى الإغراق في الثناء، وبين ساخط يدفعه
السخطإلى الإغراق في الذم. وأكاد أعتقد أن ليس من اليسير لكاتب أو
شاعر أن يعرف رأي الناس فيه حقا، لأن هذا الرأي لا يظهرواضحا
جليا بريئا من تأثير العواطف والأهواء والظروف، إلاحين يصبح
الكاتب أو الشاعر وديعة في ذمة التاريخ. ومع ذلك فأنا أشكر لك أجمل
الشكر رأيك في أصحابي وفيّ، وثناءك على أصحابي وعليّ ويسرهم
كما يسرني أن يكون رأيك فينا صحيحاً، وأن يكون ثناؤك علينا خالصاً
من الإسراف في الحب الذي يدعو إلى الإسراف في التقدير.
لقد قرأت كتابك الممتع فترك في نفسي آثارا مختلفة، ولكن أظهرها
الإعجاب بهذا التفكير المستقيم العميق، وهذا الاطلاع الواسع الغني،
وهذا الاتجاه الخصب إلى تعرف الروح الأدبي لمصر في حياتها
الماضية والحاضرة والمستقبلة. وقد دفعني إعجابي بكتابك القيّم إلى ألاّ(11/6)
أختص به نفسي فآثرت به قرّاء الرسالة وأذعته فيهم. وأنا واثق بأنهم
قد رأوا فيه مثل ما رأيت وحمدوا منه مثل ما حمدت، وأثنوا عليك
بمثل ما أثنيت، وهموا أن يناقشوا بعض ما جاء فيه من الآراء كما
أريد أنا الآن أن أناقشها. ولست أدري أيقف أمر كتابك هذا عند إذاعته
في الرسالة وردي عليه، أو يتجاوزهما إلى مناقشة طويلة عريضة،
يشترك فيها كتاب مختلفون ونقاد كثيرون. فكتابك خليق بهذه المناقشة
لأن أسلوب التفكير فيه جديد قيّم، ومهما أفعل فلن أستطيع أن أتناول
كل ما أشعر بالحاجة إلى تناوله بالنقد والتمحيص من آرائك الكثيرة
المتباينة التي أفعمت بها كتابك إفعاماً. ولكني أقف عند طائفة قليلة من
هذه الآراء، لا أستطيع أن أدعها تمضي من غير نقد ولا تعليق.
وأول ما أقف عنده من هذه الآراء رأيك فيما تسميه شؤون الفكر في مصر، قبل الجيل الذي نشأنا فيه، فقد ترى أن هذه الشؤون كانت كلها محاكاة وتقليداً وتأثراً للعرب، واحتذاءً خالصا لمثلهم الأدبية، حتى جاء الأستاذ لطفي السيد ففتح لنا طريق الاستقلال الأدبي. وفي رأيك هذا شيء من الحق، لكن فيه شيئا من الإسراف غير قليل، فلست أعتقد أن الشخصية المصرية محيت من الأدب المصري محواً تاماً في يوم من الأيام، ولست أعتقد أن كلمة أنا لم يكن لها مدلول في لغة المصريين، ولست أعتقد أن المصريين كانوا في شبه إغماء حتى أقبل هذا الجيل الذي تتحدث عنه، فرد عليهم الحياة والنشاط. كل ما يمكن أن يصح لك هو أن الشخصية المصرية في الأدب كانت ذاوية ذابلة إلى حد بعيد في وقت من الأوقات لعلّه يبتدئ بآخر عصر المماليك. ولكن هذه الشخصية على ذبولها وفتورها لم تمت ولم تمح، بل ظلت حية تتردد أشعتها الضئيلة في آثار الكتاب والشعراء والعلماء، إلى أن كان العصر الحديث. ويكفي أن تقرأ الأدب المصري في أيام المماليك وقبل أيام المماليك، لتعلم أنّ شخصيتنا الأدبية كانت قوية منتجة، وكانت جذابة خلاّبة في كل فرع من فروع حياتنا(11/7)
المعنوية. كانت في الشعر بنوع خاص أقوى منها في هذه الأيام، وأقرأ ديوان البهاء زهير فستجد صورتك فيه واضحة، وستجد نفسك فيه ظاهرة، وستجد عواطفك فيه ممثلة، وستجد هذا كله أشد جلاء وقوة عند هذا الشاعر القديم منه عند شعرائنا المعاصرين. والأمر ليس مقصورا على هذا الشاعر، بل هو شائع في شعرائنا جميعا قبل فتح الترك لمصر. وهو كذلك شائع في كتّابنا وعلمائنا، ولو قد كانت شخصيتنا ضعيفة فانية وفاترة واهية، لما أتيح لنا أن نؤدي الحضارة الإسلامية ونحفظها من الضياع حين أخذ التتار والأوروبيون عليها أقطار الشرق والغرب. ولم تكن هذه الشخصية في عصور الضعف والوهن خفية ولا غامضة، فأنت تجدها واضحة في شعر هؤلاء الشعراء المتأخرين الذين عاشوا في أول القرن الماضي وفي أثنائه، والذين لا نحب شعرهم ولا نطيل النظر فيه، والذين يخيل إلينا انهم كانوا يقلّدون فيسرفون في التقليد، ولكنهم برغم هذا التقليد الشديد لم يستطيعوا أن يمحوا مصريتهم ولا أن يخفوها. ولست أستطيع أن أضرب لك الأمثال هنا فذلك شيء لا ينتهي، ولكني أؤكد لك أن حكمك على هذه الشخصية المصرية في الأدب محتاج إلى التصحيح، وأنت قادر على هذا التصحيح، إن قرأت أدبنا المصري كما تقرأ الأدب الغربي وكما تقرأ الأدب العربي القديم، ستجد فيه تقليداً، وستجد فيه بديعاً كثيراً، ولكنك ستجد فيه نزعة مصرية واضحة تحسّها حيثما ذهبت، وأينما وجهت من أرض مصر، وتجدها عند المصريين المعاصرين الذين لم تخرّجهم الثقافة الأوروبية عن أطوارهم المألوفة، في الشعور والتفكير وفي النظر إلى الحياة والتأثر بها والحكم عليها. هذه النزعة صوفية بعض الشيء، فيها مزاج معتدل من الإذعان للقضاء والابتسام للحوادث، وفيها مزاج معتدل من حزن ليس شديد الظلمة، ولا مسرفاً في العمق، ومن سخرية ليست عنيفة ولا شديدة اللذع ولكنها على ذلك بالغة مقنعة، تمضي في كثير من الأحيان، ولعلك تجد هذه النزعة نفسها قريبا جداً منك. لعلك تجدها في أهل الكهف. فجيلنا إذن لم يحدث شخصية مصرية لم تكن، وإنما جلا هذه الشخصية وأزال عنها الحجب والأستار، وجيلنا لم يمنحها الحياة، وإنما منحها النشاط، وزاد حظها من الاستقلال وغيّر وجهتها، فلفتها إلى الأمام بعد أن كانت تصر على الالتفات إلى وراء، وليس هذا بالشيء القليل. وأنا معجب بآرائك في الفن المصري، وفي الفن الإغريقي، ولكني لا أحب لك هذا الإسراع إلى استخلاص الأحكام(11/8)
العامة، وإقامة القواعد التي لا تثبت للنقد والتمحيص. وآية ذلك أنك أنت نفسك قد أحسست بعض هذا الإسراع فأصلحته حين قضيت على اليونان في أول الكتاب ثم قضيت لهم في آخره. وستر أنك أسرعت في الأولى وأسرعت في الثانية، وكنت خليقا أن تصطنع الأناة فيهما جميعا. فليس من الحق أن اليونان كانوا أصحاب مادة ليس غير، وليس من الحق أن روحية اليونان هذه التي أنكرتها في أول الكتاب، وعرفتها في آخره قد جاءتهم من إلههم ديونيزوس وحده. فحظ اليونان من الروحية قديم تجده بيّنا في شعرهم القصصي في الإلياذة والأوديسا قبل أن تظهر فيهم الآثار العنيفة لدين ديونيزوس، وأنت تعلم أن ظهور هذا الإله عند اليونان متأخر العصر، وأنه في أكبر الظن اله أجنبي جاءهم من تراقيا، وأنه لم يعطهم هذه الحياة الروحية العليا، التي نجدها عند سقراط وعند تلاميذه، وعند أفلاطون بنوع خاص، وإنما أعطاهم حياة روحية أخرى كلّها تصوف وكلّها طموح إلى عالم مجهول مختلط تحيط به الأسرار والألغاز، وتعبّر عنه الرموز والكنايات. وكان هذا النوع من الروحية ذا مظهرين مختلفين، أحدهما شائع مشترك، يساهم فيه الشعب كله، وأهل الريف منهم خاصة، والآخر مقصور على طائفة معينة، هي هذه التي تتعلم الأسرار وتشترك في إقامتها وإحيائها. فكان دين ديونيزوس أشبه شيء بطرق الصوفية عندنا، علمها الصحيح مقصور على خاصة المتصوفة، ونشاطها العملي الغليظ شائع في أفراد الشعب جميعاً. وقد كان أثر ديونيزوس في الأدب اليوناني قوياً عميقاً. وحسبك إنه إله التمثيل، ولكن روحية اليونان الخصبة حقاً، الممتازة حقاً، التي أزعم معتذراً إليك إنك لا تستطيع أن تجد لها شبيهاً ولا مقارباً في مصر الروحية. هذه الروحية اليونانية تجدها واضحة جلية، عذبة ساحرة عند فلاسفة اليونان من تلاميذ سقراط، وعند أفلاطون بنوع خاص. ستقول كما قال كثيرون من قبل: إن أفلاطون قد زار مصر، وأخذ منها. ولست أنكر روحية مصر، ولكني لا أعرف عنها شيئاً كثيراً، ولعلي مدين لليونان بما أعرفه من الروحية المصرية. ومهما يكن من شئ فأنت توافقني على أن اليونان لم يكونوا أصحاب مادة فحسب، ولم تأتهم روحيتهم من ديونيزوس وحده، وإنما اليونان مزاج معتدل من المادة والروح. هم الذين يحققون مثلك الأعلى من المزاوجة بين المادة والروح، والملائمة بين الحركة والسكون، وبين القلق والاضطراب، ولذلك كان اليونان هم الذين أخرجوا للإنسانية في العصر القديم(11/9)
أرقى تراث في الأدب والفن والفلسفة.
قلت إني لا أنكر روحية المصريين. وأقول أيضا إني مؤمن بروحية الهنود، ومعترف بتأثير الروحية المصرية والهندية في حياة اليونان. ولكني لا أعرف من روحية المصريين شيئاً كثيراً لأننا لا نعرف للمصريين فناً ناطقاً، لا نعرف لهم أدباً بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة. وأنت ترى معي أن الأدب هو أوضح مصور لحياة العقول والقلوب، لأنه يحقق مقداراً مشتركاً يمكن الاتفاق عليه، ويصعب الاختلاف فيه. فنحن إذا قرأنا الشعر أو النثر معاً، فهمنا فهماً واحداً أو فهمين متقاربين، ولكن الفن الصامت فن البحث والتصوير وما إليهما يثير في نفوس الناس معانٍ مهما تكن متقاربة متشابهة، فهي تختلف باختلاف الأشخاص والبيئات والعصور، ها أنت ذا تفهم من الفن المصري ما تفهم، ويشاركك فيه كثير من المثقفين ثقافة أوربية، ولكن أواثق أنت حقاً بأن قدماء المصريين كانوا يرون تماثيلهم وعماراتهم كما تراها، ويفهمونها كما تفهمها، ويستلهمونها كما تستلهمها؟ أرأيتك لو سألت مصرياً معاصراً لرمسيس عن رأيه في تمثال من التماثيل، أو عمارة من العمارات، أيقول فيهما مثل ما تقول؟ ومثل هذا يقال في الفن اليوناني، وفي كل الفنون الصامتة، فليس من الخير أن نعتمد عليها وحدها في تشخيص عقلية الأمم وروحيتها، إنما المشخص الصحيح للعقول والقلوب والأرواح هو الكلام، والكلام الجميل الذي نسميه الأدب ونقسمه شعراً ونثراً. فإلى أن يكشف لنا علماء الآثار المصرية عن أدب مصري قديم خليق بهذا الاسم أرجو أن تأذن لي في أن أشك في كثير جداً من هذه الأحكام التي يرسلها الأدباء والشعراء وأصحاب الفن على عقلية المصريين القدماء وروحيتهم، وبعدهم عن المادة، وقربهم من الروح.
كل هذه عندي أحكام يتعجل بها أصحابها، ويرسلونها على غير تحقيق، وإذن فقد يكون من الإسراف أن تتخذ هذه الروحية المصرية الغامضة التي يسرع إليها الشك، والتي تعجز عن أن تثبت للبحث، والتي توشك إن تكون خيالاً تخيلته أنت وتخيله أصحابك من الأدباء ورجال الفن أساساً لأدبنا المصري الحديث. فمن يدري لعل البحث عن آثار مصر أن يكشف لنا بعد زمن طويل أو قصير عن حياة مصرية قديمة تغاير كل المغايرةهذا الخيال الذي تحبونه تطمئنون إليه، ويخيل إليكم أن الفن المصري القديم يوحيه ويمليه وينطق به.(11/10)
نحن إذاً أمام أمرين أحدهما عرضة للشك الشديد، لا نكاد نعرف منه شيئاً، والآخر لا سبيل إلى الشك فيه؛ أحدهما حياة مصر القديمة وحضارتها العقلية - إن صح هذا التعبير - والآخر حياة العرب وحضارتهم. فإلى أي الأمرين نفزع لنقيم عليه بناء أدبنا الجديد؟ أإلى الشك أم إلى اليقين؟ وهنا يظهر الخلاف بينك وبيني شديداً حقاً، فقد أصلحت أنت رأيك في اليونان، ولا أستطيع مناقشتك في أحكامك على المصريين لأنها أثر الإلهام الفني، ولكن رأيك في العرب وآثارهم في حاجة شديدة جداً إلى التقويم. فقد كنّا نرى أن ابن خلدون جار على العرب فإذا أنت أشد منه جوراً وأقل منه عذراً. فقد يسّر الله لك من أسباب العلم بالتاريخ القديم، وتاريخ القرون الوسطى وتاريخ الحياة الأدبية والفنية والعقلية لمختلف الأمم والشعوب ما لم ييسّره لابن خلدون. فإذا قبل من هذا المؤرخ الفيلسوف أن يتورّط في الخطأ لأن عقله الواسع لم يحط من أمور اليونان والرومان والهند والفرس والمصريين القدماء بما نستطيع نحن الآن أن نحيط به أو نمعن فيه. فليس يقبل منك أنت هذا الخطأ وليس يقبل من المعاصرين بوجه عام. وقد ذهب إلى مثل ما ذهبت إليه جماعة من المستشرقين منهم دوزي ورينان، وأحسبكم جميعاً تظلمون العرب ظلماً شديداً وتقضون في أمرهم بغير الحق. فلو أنكم ذهبتم تقارنون بين العرب وبين الهنود والفرس، والمصريين القدماء لما كان من حقكم أن تقدموا هذه الأمم في الأدب على الأمة العربية بحال من الأحوال، لأننا لا نكاد نعرف من آداب هذه الأمم في تاريخها القديم شيئاً يقاس إلى ما بين أيدينا من الأدب العربي. فإلى أن يستكشف أدب هذه الأمم إن كان لها أدب أكثر من هذا الذي نعرفه، يجب أن نؤمن للعرب بالتفوق عليها في الشعر والنثر جميعاً. للمصريين فنهم، وللهنود قصصهم وفلسفتهم، ولكن للعرب شعرهم ونثرهم ودينهم، ولهم قصصهم أيضاً. فإذا أردت أن تقارن بين العرب والرومان فأظنك توافقني على أن الأدب العربي الخالص أرقى جداً من الأدب الروماني الخالص، أيأن الأدب الروماني إنما ارتقى حقاً حين أثّر فيه الأدب اليوناني، فالرومان تلاميذ اليونان في الأدب والفن والفلسفة، والعرب يشبهونهم في ذلك. ولكن العرب كان لهم أدب ممتاز قبل أن يتأثّروا بالحضارة اليونانية، ولم يكن للرومان من هذا الأدب الروماني الممتاز الخالص حظ يذكر. وقد تفوق الرومان في الفقه، ولكنهم لم يسبقوا العرب في هذه الناحية من نواحي الإنتاج، ولعل الأمة الوحيدة التي يمكن أن تشبه(11/11)
بالرومان في الفقه إنما هي الأمة العربية.
لم يبق إذن إلاّ أدب اليونان، هو الذي يمكن أن يقال فيه انه متفوق على الأدب العربي حقا، ولكن من الذي يقيس رقي الأدب في أمة من الأمم برقي الأدب في أمة أخرى؟ فإذا كانت ظروف الحياة العربية مخالفة أشد المخالفة لظروف الحياة اليونانية، فطبيعي أن تختلف الآداب عند الأمتين. وليس من شك في أن الأدب العربي قد صوّر حياة العرب تصويرا صادقا فأدى واجبه أحسن الأداء، وكل ما يؤخذ به الأدب العربي القديم هو أنّه لا يصوّر حياتنا نحن الآن، ولكن أواثق أنت بأن الأدب اليوناني القديم قادر على أن يصور الحياة الحديثة تصويراً يرضي أهلها؟! أمّا أنا فلا أتردد في الجواب على مثل هذا السؤال، فالأدب اليوناني القديم خصب غني ممتع من غير شك، ولكنه كالأدب العربي قد صوّر حياة القدماء، وهو قادر على أن يلهم المحدثين لا أكثر ولا أقل.
وأراك تذكر الفن العربي فتعيبه وتغض منه، وقد تكون موفقا في ذلك، ولكن أليس من الظلم أن تحمل هذا الفن على العرب وإنّما هو فن إسلامي ساهمت فيه الأمم الإسلامية المختلفة واستمدت أكثره من البيزنطيين. فإذا كان لك أن تعيب هذا الفن أو تحمده، فأحب أن تقتصد في إضافته إلى العرب، والخير أن تضيفه إلى الأمم الإسلامية. وأمر العرب بالقياس إلى الفن والأدب والعلم والفلسفة بعد العصر العباسي الأول، كأمر اليونان بالقياس إلى هذه الأشياء كلها بعد غارة الاسكندر على الشرق. كانوا ملهمين باعثين للنشاط دافعين إلى الإنتاج، مقدمين لغتهم وعاء لما تنتجه العقول والملكات على اختلافها، وقد يكون من الحق أن كل مقامة من مقامات الحريري أشبه بباب من أبواب جامع المؤيد، ولكن من الحق أيضا أن الآثار الأدبية التي تشبه مقامات الحريري والآثار الفنية التي تشبه أبواب جامع المؤيد كثيرة جدا عند اليونان في العصر المتأخر، وعند البيزنطيين، ولعل هذه الآثار اليونانية البيزنطية هي التي أحدثت عند المسلمين مقامات الحريري وأبواب جامع المؤيد. وأنت تميز اليونان بالحركة، وتميز العرب بالسرعة، وتستنبط من هذه السرعة ظلماً كثيراً للعرب، كما فعل أبن خلدون من قبل، وليس من شك في أن العرب يشاركون اليونان في الحركة، ولكن ليس من شك أيضاً في انك تغلو غلواً شديداً في وصفهم بالسرعة. إنما أسرع العرب في الخروج من باديتهم، ولكنهم حين بلغوا الأمصار استقرّوا فيها، وطال بهم(11/12)
المقام، فأثروا في أهلها وتأثروا بهم، وكانوا في القرون الوسطى أشبهالأمم باليونان في العصر القديم. ورأيك في الموسيقى العربية واليونانية في حاجة إلى التصحيح أيضا، فنحن نعلم من الموسيقى اليونانية شيئاً يسيراً غير مضبوط، ولا نعلم من الموسيقى العربية شيئاً، ولست أدري إلى أي أمة أو إلى أي جيل نستطيع أن نرد هذه الموسيقى، وهذا الغناء اللذين نتحدث عنهما. ولكن الشيء الذي لا أشك فيه هو أن من العسير جداً أن نردهما إلى العرب القدماء. وكل شئ يدل على أن الموسيقى والغناء العربي كما كان يعرفهما العرب أيام الأمويين والعباسيين وفي الأندلس كانا متأثرين أشد التأثر بالموسيقى البيزنطية والغناء البيزنطي. فإذا أردت أن تعيبهما فلا تنس أن تعيب أصلهما اليوناني القديم.
وأريد الآن أن أدع هذه المناقشات التي تمس أموراً جزئية وأن أخلص إلى جوهر الموضوع الذي تريد أن تعرف رأيي فيه، وهو: الروح المصري الذي ينبغي أن يقوم عليه الأدب الحديث ما هو؟ وما العناصر التي تؤلفه؟ وأنا استأذنك في أن أكون يسيراً سهلاً، لا متعمقاً ولا متكلّفاً، ولا باحثاً عن الظهر في الساعة الرابعة عشرة (كما يقول الفرنسيون) فالأمر أيسر جداً من هذا كله. عناصر ثلاثة تكون منها الروح الأدبي المصري، منذ استعربت مصر، أولها العنصر المصري الخالص الذي ورثناه عن المصريين القدماء على اتصال الأزمان بهم، وعلى تأثرهم بالمؤثرات المختلفة التي خضعت لها حياتهم، والذي نستمده دائماً من أرض مصر وسمائها، ومن نيل مصر وصحرائها. وهذا العنصر موجود دائما في الأدب المصري الخالص، قد حاولت تشخيصه بعض الشيء في أول هذا الفصل، فيه شيء من التصوف، وفيه شيء من الحزن، وفيه شيء من السماحة، وفيه شيء من السخرية. والعنصر الآخر هو العنصر العربي الذي يأتينا من اللغة ومن الدين ومن الحضارة، والذي مهما نفعل فلن نستطيع أن نخلص منه، ولا أن نضعفه ولا أن نخفف تأثيره في حياتنا، لأنه قد امتزج بهذه الحياة امتزاجاً مكوناً لها مقوماً لشخصيتها، فكل إفساد له إفساد لهذه الحياة ومحو لهذه الشخصية، ولا تقل انه عنصر أجنبي، فليس أجنبياً هذا العنصر الذي تمصر منذ قرون وقرون، وتأثر بكل المؤثرات التي تتأثر بها الأشياء في مصر من خصائص الإقليم المصري، فليست اللغة العربية فينا لغة أجنبية، وإنما هي لغتنا وهي أقرب إلينا ألف مرّة ومرّة من لغة المصريين القدماء. وقل مثل ذلك في الدين، وقل(11/13)
مثله في الأدب.
أما العنصر الثالث، فهو هذا العنصر الأجنبي الذي اثّر في الحياة المصرية دائماً، والذي سيؤثّر فيها دائماً، والذي لا سبيل لمصر إلى أن تخلص منه، ولا خير لها في أن تخلص منه، لأن طبيعتها الجغرافية تقتضيه، وهو هذا الذي يأتيها من اتصالها بالأمم المتحضّرة في الشرق والغرب. جاءها من اليونان والرومان واليهود والفينيقيين في العصر القديم، وجاءها من العرب والترك والفرنجة في القرون الوسطى، ويجيئها من أوربا وأميركا في العصر الحديث. فخذ الآن أي أثر أدبي مصري فحلله إلى عناصره التي يتكون منها، فستجد فيه هذه العناصر الثلاثة دائما. ولكنك ستجد بعضها أقوى من بعض بمقدار حظ المؤلف أو المنشئ من هذه الثقافات الثلاث المختلفة. بعض هذه الآثار يغلب فيه العنصر العربي، وبعضها يغلب فيه العنصر الأوربي، وقليل جدا منها يظهر فيه العنصر المصري القديم. فإذا لم يكن بد من أن أصور المثل الأعلى لروحنا المصري في أدبنا الحديث، فأني أحب أن يقوم التعليم المصري على شيء واضح من الملاءمة بين هذه العناصر الثلاثة فتشتد عنايته جدا بالتاريخ المصري، والفن المصري، والأدب المصري على اختلاف العصور. وتشتد عنايته جداً بالأدب العربي، والتاريخ العربي، والدين الإسلامي. ثم تشتد عنايته بالثقافة الحديثة. وأخوف ما أخافه على هذا الروح المصري شيئان: أحدهما أن تلهينا الثقافة الأوربية عن الثقافة المصرية والعربية، وكل شيء يغرينا بها ويغريها بنا فهي ضرورة من ضرورات الحياة، فمن الحق علينا أن لا نضيع حظنا منها، ولكن من الحق علينا ألاّ نفني أنفسنا فيها. الثاني أن نؤثر ثقافة أوربية على ثقافة أوربية فنؤثر الثقافة الإنكليزية (كما يريد قوم وكما تريد سياسة الدولة) أو نؤثر الثقافة اللاتينية (كما يريد قوم آخرون، وكما كانت تريد سياسة الدولة من قبل) هذا خطر لأنه يجعل الروح المصري الناشئ وجها لوجه أمام روح أوربية أقوى منه وأشد بأسا. فيوشك أن يخضع له ويفنى فيه، فلو قد فتحنا أبوابنا للثقافات الأجنبية على اختلافها، لانتفعنا بها كلها ولأضعف بعضها بعضا، وحال بعضها دون بعض أن يفنينا أو يسيطر علينا. لذلك تمنيت وما زلت أتمنى لو لم تفرض على مصر لغة بعينها من لغات الأوربيين، بل جعلت اللغات الحية الراقية كلها مباحة للطلاب يأخذون منها ما يشاءون.(11/14)
هذا الروح المصري الذي يتكون من هذه العناصر الثلاثة، هو الذي نشهده الآن عندك وعند كثير من أمثالك المثقفين، وهو الذي نجد في نشره وإذاعته بين المصريين جميعا، وهو الذي سيطبع أدبنا المصري الحديث بطابعه القوي سواء أردنا أم لم نرد. فشخصيتنا المصرية العربية أقوى بحمد الله من أن تمحى أو تزول، والحضارة الأوربية أقوى وألزم من أن نعرض عنها، أو نقصر في الأخذ بحظنا منها. ستسألني: ولكن الأديب؛ من أين يستمد خواطره، ويستلهم وحيه؟ فأجيبك: من هذه العناصر كلها، أو من أي من هذه العناصر شاء، سيكون منّا الأديب الذي يستلهم العنصر المصري القديم؛ أليس بين الفرنسيين من يستلهم اليونان؟ وسيكون منّا الأديب الذي يستلهم العنصر العربي؛ أليس من الفرنسيين من يستلهم الرومان؟ وسيكون منّا أن يستلهم العنصر الأوربي، أليس من الفرنسيين من يستلهم السكسونيين؟ بل من يستلهم الشرق الأقصى، أو الشرق الأوسط، أو الشرق القريب، بلى. والأمر كذلك عند الإنجليز وعند الألمان، وعند غيرهم من الأمم الحية. فأنت ترى أن أمر هذا الروح المصري أيسر من أن يدعو إلى الخوف أو يضطر إلى الحيرة وأكبر الظن أنّ مصدر هذه الحيرة وذلك الخوف إنّما هو اضطراب سياسة التعليم في مصر وقيامها على غير أساس، وسيرها في غير طريق، ولو قد وضحت هذه السياسة واستقامت منذ زمن بعيد لما تساءلنا الآن عن الروح المصري، ولا عن الأدب المصري من أين يستمد الحياة.
أمّا بعد؛ فقد كنت أريد أن أقتصد وأؤثر الإيجاز، ولكن الحديث معك أغراني بالإطالة وحببها إليّ، وأرجو أن لا أكون عليك ولا على غيرك من القرّاء، وأرجو أن تقبل تحيتي الخالصة.(11/15)
أدب اللفظ وأدب المعنى
للأستاذ أحمد أمين
من قديم اختلف علماء البلاغة، أهي في اللفظ أم في المعنى، وقد عقد عبد القادر الجرجاني فصلاً ممتعاً في آخر كتابه دلائل الأعجاز ذكر فيه حجج الفريقين، وقد كان فريق يرى أن المعاني مطروحة أمام الناس، والبليغ من استطاع أن يصوغها صوغاً جميلا، وإنّما يتفاضل الأدباء بجودة السبك وحسن الصياغة، ويرى الفريق الآخر أن المعاني هي مقياس التفاضل، وإنّ الأديب يفضل الأديب بغزارة معانيه، وجدة أفكاره، وأظن أن الزمان فصل في هذه القضية، إذ أصبح واضحاً أن حسن الصياغة، وجودة المعاني، عنصران أساسيان لابد منهما للأديب، وان من تجرد من أحدهما لا يسمى أديباً بحال، وان المثل الأعلى للأديب معان غزيرة سامية، وصياغة جيدة محكمة.
غير أنّ هناك - ولا شك - مواضع تراعى فيها المعاني أكثر مما يراعى فيها اللفظ وصياغته، كفصول النقد الأدبي، والمقالاتالعلمية الأدبية والمقالات التاريخية الأدبية؛ وتراجم الأشخاص ونحوها، فالغاية من هذه الموضوعات ليست اللذة الفنية، وإنّما الغرض الأول هو المعاني والحقائق، فيجب أن تكون غزيرة فياضة، وكل ما نتطلبه فيها من اللفظ أن يعبّر عن هذه المعاني في دقة ووضوح، أمّا القصد إلى محسنات البديع ومجملات الصناعة فلا داعي له، وربما كان إفراط الكاتب في هذه المحسنات حجباً للمعاني عن الأنظار، ومضلة للعقول عن الوصول إلى حقيقة المعاني، وهي أقوم ما في هذه الموضوعات.
وهناك ضرب آخر من الأدب كالشعر والقصص فيه مراعاة اللفظ وحسن السبك في المنزلة الأولى، ولست أعني أن الحقائق والمعاني فيهما مجرّدة من القيمة بل هي كذلك من مقدماتهما، والشاعر الذي يجيد السبك ولا يجيد المعنى ليس من شعراء الطبقة الأولى، وخير الشعراء من صح حكمه، واتسعت تجاربه في الحياة. وكان له علم عميق في كثير من الأشياء التي حوله ثم صاغ ذلك كله صياغة جميلة، وهذا الأدب الصرف كالشعر والقصص والقطع الفنية الأدبية، ليس الغرض الأولى منه نقل المعاني كما في الصنف الأول، وإنّما الغرض منه إثارة عواطف القارئ والسامع.(11/16)
والألفاظ - كما يظهر لي - لم توضع لنقل العواطف، وإنما وضعت لنقل المعاني، والألفاظ أعجز ما تكون عن نقل عاطفة الأديب إلى القارئ. فكيف أنقل إعجابي بالطبيعة أو أنقل حباً ملأ جوانحي، أو غضباً استفزّني، أو رحمة ملكت مشاعري؟ لم توضع الألفاظ لشيء من ذلك، إنما وضعت لنقل مقدمات ونتائج منطقية، ولكن ما حيلتنا وقد خلقنا عاجزين لم نمنح لغة العواطف، ولابد لنا من التعبير عنها ونقلها إلى قارئتا وسامعنا، لذلك استخدمنا لغة العقل مرغمين، وأردنا أن نكمل هذا العجز بضروب من الفن، كموسيقى الشعر من وزن وقافية، وكالسجع، وكل ضروب البديع، وليس القصد منها إلاّ أن تكمل نقص الألفاظ في أداء العواطف.
في هذا النوع من الأدب ليس من الضروري أن تكون معانيه جديدة، وربما يستطيع الأديب أن يجعل من المعنى المطروق قصيدة رائعة، أو قصة ممتعة، وكل ما فيها من جديد صياغتها الجديدة، وخيالها المبتكر، وليست وظيفة الأديب فيها أن يعلم الحقائق، إنما وظيفته أن يثير مشاعر الناس بها، ويعبر عمّا لا يحسنون التعبير عنه، وان كانت المعاني في نفوسهم، وبين سمعهم وبصرهم. كل إنسان يشعر بجمال الوردة، ولكن الأديب يملأ مشاعرك بجمالها، ويوحي إليك بمعان ترتبط بها، مثل اقتران تفتحها بتفتح الشباب ونشوة الأمل، أو ما تبعث من شجن. وجودة الأسلوب وحسن النظم قد يرقيان بالمعاني المألوفة فيخرجانها في شكل جذاب ولكن لا يمكن الأديب على كل حال أن يتبوأ مكاناً عالياً إذا أعتمد على الأسلوب وحده وكان مصاباً بالفقر العقلي.
في أدب كل أمة نرى أدب اللفظ وأدب المعنى، وفي الأدب العربي أمثلة واضحة لذلك، فمقامات الحريري والبديع أدب لفظ لا معنى، قلّ أن تعثر فيهما على معنى جديد، أو خيال رائع، وهما من الناحية القصصية في أدنى درجات الفن، ولكنهما تؤديان غرضا جليلا من الناحية اللفظية، ففيهما ثروة من الألفاظ والتعبيرات لا تقدر، ويظهر أن مؤلفيهما قصدا إلى تعليم اللغة وإمداد المتعلم بثروة كبيرة من الألفاظ والأمثال والتعبير، وتحايلا على ذلك بهذا الوضع الجذاب، فان كانا قد قصدا إلى ذلك فقد نجحا نجاحاً تاماً وان كان قصدهما غير ذلك فلا.
وشعراء القرون المظلمة بعد سقوط بغداد وكتابها أدباء ألفاظ: رواء في العين، ولا شيء في(11/17)
اليدين، بل إن أدب كثير منهم لا هو أدب لفظ ولا هو أدب معنى، يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، والمعري في لزومياته أديب معنى لا أديب لفظ، غزرت معانيه وقصرت ألفاظه، حاول أن يدخل المحسنات البديعية في شدة ففشل، قد التزم ما لايلزم فأضاع ما يلزم، والمتنبي - على الجملة - أديب لفظ ومعنى قد وقع من معاني الحياة على ما لم يقع عليه من قبله، ثم صاغه صياغة قوية حببته إلى النفس.
وبعد فيظهر لي أن الزمن سائر إلى تقويم المعاني أكثر من تقويم الألفاظ، وشأن الناس في تقويم الأدب شأنهم في تقويم الجمال في سائر الفنون، فمن لم يصلوا إلى درجة راقية من المدنية يعجبهم من الألوان اللون الزاهي كالأحمر القاني والأصفر الفاقع، ويعجبهم من الأجسام السمين القوي في ملامحه، ومن الأصوات الطبل والمزمار، فإذا بلغوا مبلغا كبيرا في الحضارة أعجبتهم الألوان المتناسقة والألوان الخفيفة، كما تعجبهم وحدة الفكرة التي تنسق الألوان المختلفة والمظاهر المتعددة، وأعجبهم من جمال الإنسان الرشاقة وخفة الروح، وأعجبوا بجمال الحركة، وقوّموا جمال المعاني أكثر مما يقومون جمال الملامح، ونظروا إلى جمال الروح أكثر مما ينظرون إلى جمال الجسم، حتى في جمال الجسم يقومون وحدة التناسق والنسبة بين الأعضاء أكثر مما يقومون جمال الوجه وحده، وفي الموسيقى تعجبهم النغمات الهادئة، والنغمات المتناسقة، والنغمات التي تمثل المعاني. كذلك شأنهم في الأدب يكرهون السجع الدائم، والكتابة التي اختفت معانيها أو ضاعت وراء الزينة المفرطة والزخرف الكثير، والقافية الطويلة على وتيرة واحدة، وتعجبهم البساطة في القول والزينة بقدر، والألفاظ كوسيلة لا غاية، يكرهون النكت كلها لعب بالألفاظ، والنكت تلذغلذغا صريحا، وتعجبهم النكتة أسست على معنى، والنكتة تلذع في إيماء ورقّه.
إن الأديب إذا رزق حظوة في السبك، وأصيب بفقر في المعنى كانت شهرته وقتية وقيمته محدودة الزمن، ولا يلبث الناس أن يدركوا ضعفه وفقره فينبذوه، والأديب الخالد من زاد في معارفنا ومشاعرنا بما في قوله من معنى وقوة.
أديب اللفظ فارغ الرأس قليل العلم بما حوله، قريب الغور، قد ستر كل هذا بزخرف القول كما تستر الشوهاء عيبها بالأصباغ، رخصت بضاعته فبالغ في التجمل في عرضها ولفت الأنظار إليها. وشعر إنها مزيفة فغضب لنقدها والتلويح بامتحانها. والأمة في طفولتها(11/18)
وشيخوختها يعجبها هذا النوع من الأدب، لأن خفة رأسها من خفة رأس أدبائها. ولأن العقول السخيفة يعجبها السحر والشعوذة وألعاب البهلوان، والأدب اللفظي المحظ نوع من هذا اللعب. فإذا نضج عقلها تغير ميزاتها ونفذ نظرها إلى أعماق الشيء، لتعرف ما وراء الظواهر. وإذ ذاك تقدر المعاني أكثر ممّا تقدر الألفاظ، ترى الألفاظ جسما والمعنى روحه. وترى المعني غاية واللفظ وسيلة. وتستحسن اللفظ لا لذاته، ولكن لأنه لفق المعنى.
تزين معانيه ألفاظه ... وألفاظ زائنات المعاني
ما أحوج أدبنا العربي الحديث إلى المعنى القوي الغزير في اللفظ الجميل البسيط!(11/19)
نظرة في نظام بيعة
الخلفاء
النمو الثاني.
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
- 2 -
هل استطاع التاريخ أن يصدر حكمه في ثورة الفرنسيين؟ إن هذه الثورة قريبة العهد، فحوادثها قريبة الحدوث وأكثرها مدون في وقته، مضبوط التاريخ وحكومة اليوم قائمة على تلك الثورة، ومن أكبر الجرائم في دولتها أن يعمل أحد على مس نظام الجمهورية الذي وضعته تلك الثورة، ومع ذلك فأنّا نجد الأفكار مقسمة مضطربة إذا تناولت ذكرها وحوادثها. فقوم من المؤرخين يتشيعون لها ويتغنون بكل ما كان فيها. وقوم آخرون ينكرون عليها فعالها، ويزوّرون من قاموا بها وآزروها.
وهل يستطيع العرب ألاّ أن يكونوا كذلك؟ فأن ثورتهم في مدة الخليفة عثمان لم تكن ثورة من كل الناس، وان اشترك فيها كل العرب بالرأي والقول، وتناولوها بين منكر ومنتصر. ولسنا بسبيل هؤلاء أو أولئك، ولكننّا نرى إنها مثل الثورة الفرنسية، ان اختلفت فيها الآراء فأن الكتّاب جميعا متفقون على انها كانت ظاهرة اجتماعية طبيعية. فلندع الخوف في هل كانت تلك الثورة حقا أم كانت باطلة، وحسبنا من القول أن يقال إنها كانت ثورة طبيعية، وإنها كانت خطوة في سبيل بناء الدستور العربي. وهي وان لم يشترك فيها كل العرب قد كان فيها ممثلون للأنحاء المختلفة من بلادهم، فقد كان فيها جماعة من مصر وجماعة من مصري العراق، كما اشترك فيها الأعراب من أنحاء جزيرة العرب. وقد جمعت جماعة من الزعماء كما ضرب فيها العبيد بسهم فعدد الثائرين كان محدودا، ولكن فكرة الثورة كانت شائعة، وكانت رقعتها كذلك محدودة، ولكن مدى الاشتراك فيها كان يشمل حدود الدولة العربية إذ ذاك. لسنا نقصد أن نقول إن العرب جميعا كانوا يريدون سفك دم الخليفة الشهيد، فقد كان هذا أبعد شيء عنهم، بل أن الفكرة ذاتها لم تكن في نفوسهم من أول الأمر، ولكن الثورة كانت في نفوس الجميع. وكانت ثورة طبيعية لا هي وليدة تدبير ولا هي بنت(11/20)
حادثة، بل كانت نتيجة فكرة اختمرت في النفوس حتى صارت عقيدة، ثم كان من الأمر ما كان عن عقيدة.
كان انتخاب سيدنا عثمان كما سبق القول نتيجة اختيار واسع الرقعة وكان كذلك قائماً على تعهد وبرنامج، ثم جرت حوادث على مرّ الأيام لاحظها العرب وأحصوها في نفوسهم، وإذا قلنا العرب فإنما نقصد جميع العرب سواء في ذلك من كانوا في قلب الجزيرة والحجاز ومن كانوا في الأمصار. وهل كان أهل الأمصار يتركون الأمر يسير كما يشتهي فئة من قريش وهم جنود الدولة الذين يوفرون له الفيء والأموال، ويعودون عليها بالنصر والفتح. ولسنا في حاجة إلى هذا التساؤل فحسبنا أن نتذكر أن اختيار عثمان كان قائما في ناحية منه على رضا جنود الأمصار، فإذا لاحظ هؤلاء الجنود كيف يذهب فيئهم في غير وجوهه انقلبوا ينتقدون رئيس الدولة الذي يسمح بمثل هذا، وإذا رأوا مشيختهم يُعزلون عن البلاد التي فتحوها لكي تسلم القيادة إلى فتية لا غناء لهم ولا تحيط بهم ذكريات المجد والفتح أحاطتها بالزعماء المعزولين نفرت نفوسهم وطفقوا يحصون على الوالي الجديد أعماله ويسيئون تأويلها أو يزيدون تأويلها قبحا. ومنذ بلغ الحال هذا المدى بدأ النقد يتخذ شكل الشكوى. ونطقت الألسنة بما دار في النفوس من التهم.
ولسنا نقصد أن نذكر الحوادث أو نسرد ما كان من الخطوات التي أدت إلى الثورة، فذلك معروف متداول، ولكننا نذكر أمرين لا غنى عنهما: الأمر الأول أن رؤساء العرب في المدينة اقتنعوا اقتناعا كبيرا بحق الشاكين ووجوب إزالة ما يشكون منه وبدأت نفوسهم تنحرف عن عثمان عندما رأوه لا يبدي الجد في إحقاق الحق وكان جديرا به أن يكون عند الحق مقيدا. والأمر الثاني أن الذين كانوا يأتون للشكوى لم يكونوا من أهل الفساد والعبث بل كانوا رجالات من الزعماء أتوا وقلوبهم موغرة تملؤها الشكوى، وما كانوا يقصدون سوى أن تزال مواطن تلك الشكوى بعد أن بثوها مرارا.
وما كانوا مدفوعين إلاّ بعامل واحد وهو الإصلاح. وكان أبعد شيء عنهم أن يفكروا في قتل الخليفة، ويثيروا بذلك المشكلات والعداوات أو أن ينقضوا بناء الدولة الذي كان لهم الفضل في بنائه فضلاً عن انهم من جنود الدولة الحريصين على الدفاع عنها وبسط سلطانها. وإذا كان لابد من ضرب المثل للتدليل على صدق مذهبنا في هذين الأمرين(11/21)
فأنّا نذكر القراء بما كان من عبد الرحمن بن عوف وهو كما نعلم صاحب اليد في اختيار عثمان. فأنه غير متهم إذا هو قام يذكر عثمان بما وجب عليه. ولقد بلغ به الأمر أن خاصم عثمان وحلف ألا يكلمه بكلمة حتى يفرق بينهما الموت، وقد بر بقسمه فقد قيل إنه لمّا حضرته الوفاة دخل عليه عثمان عائداً فأدار وجهه إلى الحائط ولم يكلمه. وذلك موقف كان يدعو إلى ترك الخلاف لو لم يكن الأمر قد بلغ حداً لا يرتاح الضمير إلى التساهل فيه. وإذا شئنا أن نكرر الأمثلة التي تدل على انحراف زعماء الصحابة عن عثمان في آخر الأمر لم نضق بالأمر، فقد غضب طلحة حتى كان فيمن يحرض على عثمان تحريضاً شديداً، وغضب عمار بن ياسر وبلغ الأمر بأبي ذر الغفاري أن نفي من المدينة، ولكنه لم يكن راضياً وإن لم يظهر شيئاً من غضبه بأكثر من كلمات قالها لعثمان أو لبعض أهله. ولقد كان علي (رض) في أشد المواقف فأنه كان في حيرة بين واجبه نحو صديق آخى بينهما رسول الله (ص)، وبين واجبه نحو العدل وهو بقية العهد الأول من عهود الإسلام، وهو البطل الذي ما كان يرضى بالحيد عن العدل مهما كان في سبيل ذلك من الأخطار. على انه كان مع ذلك يحاول أن يحمل الخليفة على الإصلاح لكي يتحاشى النكبة التي لاحت في الأفق.
وأما الأمر الثاني وهو حسن نية الثوار فليس أدل عليه من أنهم لم يرضوا بترك الأمر فوضى بعد قتل الخليفة، بل كانوا يعرضون الأمر على الزعماء. ويظهرون لهم وضوح حجتهم في ثورتهم، ولم يفكر أحدهم في أن يذهب إلى مصره ليضرم فيه النار، أو أن يهرب إلى بلده قبل أن يستقر الأمر ويتدارك ما كان من الخطب، فلم يكونوا بالمجرمين الذين متى تمت جريمتهم فزعوا هاربين من ضوء الشمس يحاولون أن يدخلوا في غمار الناس حتى لا تنالهم معرة فعلهم. فكانوا أشبه الناس بأصحاب يوليوس قيصر عندما قتلوه وقاموا بين الناس معترفين بما أتوه، وبأنهم إنما فعلوا فعلتهم دفاعاً عن الحق والحرية.
قتل الخليفة ولكن قتله كان غير مدبر تدبيراً محكماً نتيجة تفكير طويل، بل جاء عندما فزع الثوار إذ بلغهم أن الجيوش الموالية له تتحرك نحوهم لتبطش بهم من أنحاء الأمصار. وقد ذهب الخليفة ضحية الظروف القاسية التي كانت تخيم على دولة العرب والتي كانت تحتاج إلى رجل له عقلية غير عقلية عثمان. عقلية محضة لا تردد فيها بين العواطف المختلفة،(11/22)
ولا تنازع فيها بين جانبي العدل والميل الطائفي، فأمّا أن تكون عقلية دنيوية محضة تسير على الميل الطائفي والأثرة ولكنها تسير قُدُماً بغير تردد، وأما أن تكون عقلية عادلة محضة تسير مع العدل قدماً بلا تردد، وأما عثمان فقد كان قلبه مملوءاً بفكرة العدل، ولكنه كان لين العاطفة يصل قرابته، ولا يستطيع إلاّ أن يكون مائلاً نحو من لهم به مساس من رحم. فتردد بين الدافعين المتضادين، وكانت الكارثة من وراء هذا التردد.
ولما تم الأمر عاد الثوار إلى أنفسهم وكأنهم يريدون إنقاذ الموقف فقضوا أسبوعاً يبررون فعلهم، ويعرضون الخلافة على الزعماء. وقد أرادوا ألاّ يبعدوا عن السنن التي اختطها السلف وألاّ يحيدوا عمّا سار عليه العرب في بناء دستورهم منذ كانت دولتهم، فرأوا أن يرجعوا إلى آخر خطوة من خطى ذلك الدستور قبل الثورة، ألا وهي خطوة الشورى. ولم يكن الوقت ليسمح لهم بالسير بعد ذلك خطوة أخرى جديدة في سبيل تقدم ذلك الدستور وهي الخطوة التي كانت تنتظر لبلوغ نظام كفيل بتمثيل العرب واختيار أليقهم للخلافة إذ أنّ ذلك كان يستلزم الهدوء والاستقرار. فلمّا لم يستطيعوا السير إلى الأمام عادوا إلى حيث كانوا ورجعوا إلى المرشحين للخلافة بعد مقتل عمر. وكان بعضهم قد لحق بربه مثل عبد الرحمن بن عوف وكان بعضهم بعيدا عن المدينة، وهو الزبير. فعرض الخلافة على طلحة فأبى وكره أن يتقدم في مثل هذا الظرف خوفاً من التهمة، إذ كان ممن ظهر منهم التحريض الصريح على عثمان، وأمّا سعد بن أبي وقاص فقد كان أخرج نفسه منها منذ حادثة الشورى وأبى أن يعاود نفسه في ذلك الأمر، فلم يبق من المرشحين للخلافة من أهل الشورى إلاّ علي (ع). وقد عرض الثوّار الخلافة عليه فلم يرض بادئ الأمر، وأبى كل الإباء أن يقبلها.
وكان عليّ عند مقتل عمر (رض) أول المرشحين للخلافة، ولولا أنّه أبى أن يقيد نفسه بغير كتاب الله وسنة نبيّه، ورفض أن يحرم نفسه الاجتهاد على هذين الأساسين فيما يقابله من مسائل الدولة لكان هو الخليفة بعد عمر. ولمّا رأى الثوار أن كل أهل الشورى لا يواتونهم فيما يطلبون عادوا إلى عليّ وغيروا لهجة عرضهم وخاطبوه بما وجد في قلبه موقعا. وذلك أنهم بدءوا يظهرون لهم حال الدولة الإسلامية، وقد مضى عليها أسبوع بغير خليفة، وحدودها ممدودة إلى أعداء كثيرين. وإذا استطال الأمر بها لم يؤمن عليها من(11/23)
الضياع والانفراط. وهل كان عليّ يترك دولة الإسلام في مثل هذا المأزق ويتردد في قبول حمله والاضطلاع به؟ لقد كانت المشكلات واضحة لكل ذي عينين، وكان كل من عرضت عليهم الخلافة يرفضونها، وهم يخشون ما وراء قبولها من العقبات والأخطار والمتاعب. فلم يكن الأمر أمر خلافة وسلطة وسيادة بل كان الأمر أمر شقاق، وكان على الخليفة أن يحاول القضاء عليه، وأمر دولة تريد أن تنهار ويجب الاحتفاظ بها وحفظها من الضياع، وأمر شهوات وأغراض يريد أصحابها أن يصلوا إليها متسترين بالثأر، والواجب حماية المجتمع والدولة الإسلامية منها. وقد كان عليّ من بناة الدولة وأول أبطالها الذين تعرضوا للموت مرارا في سبيل بنائها، فلمّا أن جاءه الثوّار من ناحية ما يحيط بها من الأخطار ثار قلبه ونسي كل ما يمكن أن يلقى في سبيل الدفاع عنها، وقبل ما يعرضه الثوّار، وكان عن الخلافة راغبا. وقال عند ذلك كلمته القصيرة الكبيرة الدلالة: (قد أجبتكم لما أرى، وأعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وان تركتموني فإنما أنا كأحدكم، إلاّ أني أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم).
على أن هذه الثورة وإن كانت في مظهرها هدماً قد كانت في الحقيقة بناء له خطر عظيم في دستور الدولة العربية. فقد أظهر العرب بعنف أن الخليفة إذا قبل شرط المبايعة كان لزاما عليه أن يفي بما تعهد به، وانّه إن لم يفعل كان للشعب أن يعزله. فإن أبى أن يعتزل أو يعتدل كان للشعب أن يثور عليه. وإذن كان على الخليفة الذي يلي أمر العرب بعد ذلك أن يحتاط ويحترس في السير على منهاجه الذي بايع عليه. وبذلك تم بناء الدستور العربي الأول على أسس واضحة صريحة، فقد كان اختيار الخليفة في ذلك الدستور من حق العرب جميعا، ولكن السنّة التي سار عليها خلفاء العرب الأوائل جعلت اختيار الخليفة محصوراً، فما كان الخليفة ليختار إلاّ من قريش. وكان الخليفة يختار ممن تتوافر فيهم شروط الرجولة التامة والعدل الذي لا يعرف ميلا، وكان أساس الاختيار أن يعمل الخليفة بمقتضى برنامج صريح قائم على أحكام الكتاب والسنة والاستنارة بسنن الخلفاء الماضين. وكانت المبايعة من جانبين: جانب الشعب وجانب الخليفة فإذا خالف الخليفة شروط المبايعة كان للشعب أن ينقده ويطلب إليه الرجوع إلى المنهاج القويم وإلاّ كان له أن يثور عليه. ولم يقف نمو هذا الدستور بعد ذلك لنقص في القوة الحيوية في الشعب العربي. بل قد(11/24)
تكلّف خلفاء بني أميّة وبني مروان شيئاً كثيراً من العناء وارتكبوا جرائم كثيرة وخاضوا الحروب والمخاطر قبل أن يستطيعوا أن ينقضوا أسس ذلك الدستور.(11/25)
خواطر في الشعر العربي
للأستاذ محمود البشبيشي. المدرّس بدار العلوم
للرسالة الغرّاء فضل على الأدب العربي أن أتاحت لقرّائها فرصا
كثيرة للإطلاع على آراء ناضجة، وبحوث طريفة في الأدب العربي.
ولقد أثار كتابها الفضلاء موضوعات طليّة في هذه الناحية لقيت من
قادة الأدب والباحثين فيه عناية كبيرة، تردد صداها على صفحات
(الرسالة) وفي أندية الأدب، وإذا كان من حق الرسالة على أدباء
العربية أن يشكروا لها حسن مسعاها. فإن من واجبهم أن يبوحوا بما
يهتدون إليه من آراء حيال هذه الموضوعات، ليكون للأدب من
كتاباتهم وبحوثهم مدد لا ينقطع.
أثار الباحث المفضال (الدكتور محمد عوض) مسألة الشعر الذي لا يجري على سنن واحد، وكان موفقاً في تسميته (مجمع البحور) كما كان جدّ موفق في نقده وتجريحه حتى تركه هباءً تذروه الرياح. ولقد كانت صيحة (الدكتور) موفقة، نبّهت رجال العربية إلى خطر داهم ينتظر الشعر العربي من هذه الدعوة الباطلة التي لم تعدم لها أنصارا، ولم تعتمد في قيامها على دليل، لقد طالما صدّعت آذاننا بمثل هذه الدعوة، فمن داع إلى التحرر من القافية، إلى منادٍ بجمود الشعر العربي، إلى طارح لأوزان العروض المأثورة، إلى غير هذه النزعات الطائشة الغامضة، وأخيرا فوجئنا بفكرة التحلل من وحدة البحور، وقرض الشعر على غير نظام والسير فيه على غير هدى، ولقد كنّا نشفق على الشعر ذلك التراث المجيد أن تعبث به المحاولات، ثم يعود إلينا شيء من الطمأنينة، اعتماداً على ما فيه من مناعة تقيه هذه الألاعيب، غير أن دعاة هذه الفوضى الشعرية ما فتئوا يعاودون الكرّة بعد الكرّة يريدون أن يتسللوا في غفلة الرقباء إلى حمى الشعر فيستبيحوه، فإذا تم لهم ذلك لجّوا في طغيانهم، وقضوا على أنصع صفحات الأدب العربي، وأزهى رياضه، وانضر وجوهه، ثم نعبت غربانهم على أطلاله، وقطعوا ما بين حاضر الأمة وماضيها، وبنوا على أطلال ذلك(11/26)
الماضي المجيد، ما خيله لهم أهواؤهم من أمانيّ وأحلام.
لست أدري ماذا ينقم القوم من الشعر؟ وهو الذي ساير الدهر قرونا طوالا، وماشى الحضارات على اختلافها، واتسع للأغراض الشعرية على كثرتها، واستقبل حكمة العرب واليونان بعزة الواثق بنفسه، المعتز بقوته، فما دعاه غرض إلاّ لبّى، وما أهاب به جديد إلاّ استجاب، وما سمعنا أنه قعد عن حكمة المتنبي وأبي تمام، ولا تخاذل دون مباهج الحياة وأغراضها في بغداد والأندلس، ولا قصّر يوم طلب إليه ترجمة (الإلياذة). ولا يوم دعي لنظم (قمبيز) و (كيلوباترا)، بل ما رأيناه نفر ممن حمّلوه ما لم يخلق لأجله فضموا به العلم، وأطالوا به المتون، فالشعر العربي خصب بطبيعته، قابل للتجديد ومسايرة الزمن، ولكن في حدود العقل والمنطق، وفي حدود السليقة العربية، والحضارة العربية.
فماذا يريد القوم بعد ذلك؟ وأيّ غرض يرمون إليه؟ ماذا يريدون بمجمع البحور، وهو نوع لاحظ له من النغم الموسيقي، الذي هو روح الشعر، وسر تقدمه على النثر، هو لون من القول يريد أن يخدع الناس عن نفسه فلا يلبثون أن يعرفوا حقيقته، ويدركوا أنّه لا إلى الشعر ولا إلى النثر.
لقد أبان لهم (الدكتور الفاضل) أن هذا بدع من القول لم تعهده اللغات الأخرى، ولم ينزل إليه شعراؤها النابهون، أمثال (شكسبير) وصاحب الشاهنامة، وعهدنا بأصحاب هذه الدعاوى، إذا أخذهم الدليل أن يتشبثوا بأهداب التجديد، ويجروا وراء الأدب الغربي، فإذا كانت حجتهم داحضة، وأسبابهم واهية، وإذا كان فحول شعراء اللغات الأخرى لم يسفوا إلى (مجمع البحور) فماذا عساهم يقولون؟ ما أظن الباعث لأكثر هؤلاء إلاّ الطموح إلى الشهرة وذيوع الصيت، يستهينون في سبيله بلغتهم، وهي مناط العظمة، وديوان المفاخر، ومظهر الكرامة والعزّة القومية، هم يحسدون الشعراء على مكانتهم! ويحاولن ألاّ يقصروا في كل مظاهر العظمة، فيتعلّقون بأهداب الشعر، فإذا هو نافر منهم، ويرون معاناة الشعر أمراً عسيراً على طبائعهم، شديداً على نفوسهم، ويدركون أن العقبة الكؤود دون الذي يريدون، قوانين دعت إليها طبيعة الشعر كفن من فنون الموسيقى، وأقواها في نظرهم وحدة الوزن والقصيدة أو ما يعبّر عنه بالبحور، فلا يهدأ لهم بال، ولا يقر لهم قرار حتى ينفّروا الناس من هذه القوانين لعلهم أن يحطموها، فتصير طريق الشعر في زعمهم واضحة معبّدة، وعند(11/27)
ذلك يستوي الشاعر والمتشاعر، ويندس في زمرة الشعراء الملهمين من لا يمت إلى الشعر بسبب، وقد نسوا أن الشعر كالموسيقى والصوت الحسن لا ينقاد إلاّ لمطبوع عليه.
رويدكم أيّها الإخوان! فما أنتم ببالغي هذه الغاية! وإن تراءت لكم قريبة المزار، إنّ شعراً يفقد أهم عناصره وهي وحدة الموسيقى لجدير أن تمجه الآذان، وتنفر منه الطباع، وما كان هذا شأنه. فلن يرقى إلى درجة الشعر الصحيح ولن يجد من النفوس إلا احتقارا، ثم لا يلبث أن يقبر في مهده. وانه لخير مما تريدون أن يسمع الإنسان كلاما منثورا منسجما لا تكلف فيه، ولا تتعب أذنه في التوفيق بين أنغام مختلفة متنافرة، لاحظّ لها من الشعر، ولا روح لها من ألفة موسيقية، وان يوماً يستحيل فيه الشعر إلى ما ذهبتم إليه لهو يوم القضاء على الشعر العربي وجناية هذا على الأجيال المستقبلة أخطر مما تتصورون.
ليس يجدي ما تدعون إليه أن يتجلى على الناس في حلّة الشعر وأن يحمل بين يديه قيثارته، فلن تلبث الحلّة الخادعة، أن تبدو مهلهلة شتى الصور والألوان فتقذي بها الأعين، ولن تلبث القيثارة أن تظهر أوتارها المتناثرة فتحجبها الآذان. ولا يلبث ذلك المسمّى شعراً أن يبدو في حلّته عظاماً نخرة، لا تقوى على الهواء فتعود رفاتا سحيقاً، فاعملوا للتجديد إن كنتم صادقين على دعائم ثابتة من القديم، وإذاً يمضي أدبكم العربي المجيد في طريقه قُدُما، ويتسع لما شئتم من جديد نافع.(11/28)
من أدب الجاحظ
للأستاذ توفيق الحكيم
أستاذنا الكبير الدكتور طه
إني أشكر أهل الكهف الذين قادوني إليك. وإذا كان هذا هو الغرض من بعثهم في كتابي فقد حق البعث نجح. الحقيقة أن رعاية الدكتور طه أثمن ما منحني القدّيسون الثلاثة من كنوز. وأن صداقته التي أطمح إليها يوم أكون خليقاً بها هي مفتاح عملي الأدبي في المستقبل. إنه ليشق علي أن يمضي الأسبوع ولا ألقى الدكتور. فلقد وجدت في حديثه الجميل زاداً روحياً لا غنى لي عنه.
تشرفت بلقاء الأستاذ الجليل لطفي بك، ودار بيننا حديث طويل أرويه إن شاء الله عند اللقاء.
وبعد فقد كنت أقرأ الجاحظ منذ عامين فألفيت عنده كلاما كالحوار التمثيلي لم أر مثله في الأغاني. وقد بدا لي أن أنقل هذا الحوار على شكل (منظر صغير) دون تغيير في الألفاظ والمعاني. إنما سمحت لنفسي ببعض الحذف وبعض الملائمة بين وضع الحوار الأصلي والوضع المسرحي بغير أن أمس جوهر الموضوع. حتى يبقي الفضل للجاحظ وللأدب العربي، والحق إنه حوار يذكر بألفريد دي موسيه في (كوميدياته وأمثاله) أن عناصر كل نوع من أنواع الأدب والفكر موجودة عند العرب لكنها مجرد عناصر. فلماذا لا نستخرج هذه العناصر ونفصلها ونبوبها؟ لماذا لا نضع مثلا كل حوار من هذا الطراز في الشكل التمثيلي على قدر المستطاع. ونجمعه على انه نماذج تمثيلية من الأدب العربي. أو على أنه القديم بإلباسه حلّة جديدة دون تغيير للب؟ إذا صح هذا فإن مجال العمل في الأدب العربي القديم متسع. ولن تفرغ منه أجيال قادمة برمتها. والدكتور أول من بحث وحفر ونقب في آثار الأدب العربي. وأول من أدخل روح البحث والتنقيب في الجامعة. والجامعات هي ميدان لمثل هذا العمل. إذا كان الدكتور لا يوافقني على أن عناصر القصص التمثيلي موجودة عند العرب. فما تراه يقول في هذا (المنظر) وهو من تأليف الجاحظ:
الفراق(11/29)
المنظر: باب دار كبير، جارية كأنها قضيب يتثنى. يدنو منها شيخ ويسلم عليها فترد السلام بلسان منكسر وقلب حزين.
الشيخ: - يا سيدتي! إني شيخ غريب أصابني عطش فأمري لي بشربة من ماء تؤجري.
الجارية: إليك عني يا شيخ، فإني مشغولة عن سقي الماء وادخار الأجر!
الشيخ: يا سيدتي لأيّة علة؟
الجارية: (بعد تردد) لأني عاشقة من لا ينصفني، وأريد من لا يريدني!
الشيخ: (يتأملها) يا سيدتي، هل على بسيط الأرض من تريدينه ولا يريدك
الجارية: انه لعمري على ذلك الفضل الذي ركب الله فيه من الجمال والدلال.
الشيخ: يا سيدتي، فما وقوفك في الدهليز؟
الجارية: هو طريقه، وهذا أوان اجتيازه.
الشيخ: يا سيدتي. هل اجتمعتما في خلوة في وقت من الأوقات أم حب مستحدث؟
الجارية: (تتنفس الصعداء وتسيل دموعها على خديها كطل على ورد وتنشئ تقول):
وكنا كغصني بان وسط روضة ... نشم جنا اللذات في عيشة رغد
فأفرد هذا الغصن من ذاك قاطع ... فيا من رأى فردا يحن إلى فرد؟
الشيخ: يا هذه ما بلغ من عشقك هذا الفتى؟
الجارية: أرى الشمس على حائطه أحسن منها على حائط غيره، وربما أراه بغتة فأبهت وتهرب الروح من جسدي، وأبقى الأسبوع والأسبوعين بغير عقل
الشيخ: عزيز عليّ؛ وأنت على ما بك من الضنى وشغل القلب بالهوى وانحلال الجسم وضعف القوى، ما أرى بك من صفاء اللون ورقة البشرة. فكيف لو لم يكن بك من الهوى شيء؟ أراك كنت مفتنة في أرض البصرة!
الجارية: كنت والله يا شيخ قبل محبتي لهذا الغلام تحفة الدلال والجمال والكمال. ولقد فتنت جميع ملوك البصرة وفتنني هذا الغلام.
الشيخ: يا هذه ما لذي فرّق بينكما؟
الجارية: نوائب الدهر وأوابد الحدثان. ولحديثي وحديثه شأن من الشأن. وأنبئك أمري: إني كنت اقتصدت في بعض أيام النيروز، فأمرت فزين لي وله نجلس بأنواع الفرش وأواني(11/30)
الذهب، ونضدنا الرياحين والشقائق والمنثور وأنواع البهار. وكنت دعوت لحبيبي عدة من متظرفات البصرة فيهن من الجواري جارية شهران وكان شراؤها عليه من مدينة عمان ثمانمائة ألف درهم، وكانت الجارية قد ولعت بي، وكانت أول من أجابت الدعوة وجائتني منهن. فلمّا حصلت عندي رمت بنفسها عليّ تقطعني عضا وقرصا. . . فبينا نحن كذلك إذ دخل عليّ حبيبي. فلمّا نظر إلينا اشمئزّ لذلك، وصدف عني وعنها صدوف المهرة العربية إذا سمعت صلاصل اللجم، وعضّ على أنامله وولّى خارجا. فأنا يا شيخ منذ ثلاث سنين أسلّ سخيمته، وأستعطفه فلا ينظر إليّ بعين، ولا يكتب إليّ بحرف، ولا يكلّم لي رسولا.
الشيخ: يا هذه، أفمن العرب هو أم من العجم؟
الجارية: هو من جلّة ملوك البصرة.
الشيخ: من أولاد نيابها أو من أولاد تجارها؟
الجارية: من عظيم ملوكها.
الشيخ: أشيخ هو أم شاب؟
الجارية: (تنظر إليه شزراً): إنك لأحمق. أقول هو مثل القمر ليلة البدر أمرد أجرد، وطرّة رقعاء كحنك الغراب تعلوه شقرة في بياض. عطر اللباس ضارب بالسيف، طاعن بالرمح، لاعب بالنرد والشطرنج، ضارب بالعود والطنبور، يغني وينقر على أعدل وزن لا يعيبه شيء إلاّ انحرافه عني لا نقصاً لي منه بل حقداً لما رآني عليه.
الشيخ: يا هذه وكيف صبرك عنه؟
الجارية: (حالي معه كحال القائل):
أمّا النهار فمستهام واله ... وجفون عيني ساجفات تدمع
والليل قد أرعى النجوم مفكرا ... حتى الصباح ومقلتي لا تهجع
كيف اصطباري عن غزال شارد ... في لحظ عينيه سهام تصرع
الشيخ: يا سيدتي، ما أسمه وأين يكون؟
الجارية: تصنع به ماذا؟
الشيخ: أجهد في لقائه وأتعرف الفضل بينكما في الحال.
الجارية: على شريطة(11/31)
الشيخ: وما هي؟
الجارية: تلقانا إذا لقيته وتحمل لنا إليه رقعة.
الشيخ: لا أكره ذاك
الجارية: هو ضمرة بن المضيرة بن المهلّب بن أبي صفرة. يكنى بأبي شجاع، وقصره في المربد الأعلى. وهو أشهر من أن يخفى. (تصيح في الدار): يا جواري دواة وقرطاسا. .
الشيخ: يا سيدتي وجب حقك عليّ. ولزمتك حرمتي لطول وقوفي عليك، وكنت قد سألت شربة ماء. . .
الجارية: أستغفر الله! ما فهمنا عنك. (تصيح في الدار): أخرج إلينا شرابا من ماء وغير ماء (تقبل وصيفتان تحملان الدواة والقرطاس وتشمّر الجارية عن ساعدين كأنهما طومارا فضة ثم تحمل القلم وتكتب الرقعة. ثم تقبل ثلاثون وصيفة بأيديهن الكؤوس والجامات والأقداح مملوءة ماء وثلجاً وفقاعا وشرابا فيشرب الشيخ. .)
الشيخ: يا سيدتي. مع قدرتك على هذا من استواء الحال وكثرة الخدم والعبيد والجواري، فلم لا تأمرين إحدى الجواري أن تقف مراعية للغلام حتى إذا مرّ أعلمتك فتخرجين إليه.؟.
الجارية: لا تغلط يا شيخ.!
الشيخ: (يفهم مرادها ويطرق خجلاً من هفوته)!
انتهى المنظر. وكان في مقدوري أن أجعل منه فصلاً كبيراً. لكني آثرت أن أبقيه على أصله. لأن المسألة عندي هل نظهر العناصر مع بقائها على شكلها أو نتصرف بها ونستعملها كما نشاء؟ سنتكلم في هذا إذا التقينا في الأسبوع القادم.(11/32)
ثقافة المرأة
للآنسة أسماء فهمي (درجة شرف في الآداب)
اتجه خاطري نحو هذا الموضوع بعد قراءة تعليق (الرسالة) على خطاب الآنسة حياة التي تشكو من أن أصحاب (الرسالة) قد حرم المرأة أن يكون لثقافتها مظهر في مجلته بجانب ثقافة الرجل، ورد صاحب الرسالة بأنه لم يرد أن يسمح للرجال بالتحدث عن شؤون النساء الخاصة. ولست أفهم تماماً المقصود بشؤون النساء، أهي أمور الدار وتربية الأطفال، أم المراد مساهمة المرأة في ميدان التحرير وطبع الأدب بطابعها الأنيق الخاص، بصرف النظر عن الموضوعات النسوية البحتة؟
وسواء أكان المقصود الأمر الأول أم الثاني أم الاثنين معاً فأن موضوع ثقافة المرأة العامة، هو ما ينبغي أن يبدأ ببحثه حتى نتبين ما إذا كانت ثقافة المرأة تنحصر في دائرة خاصة، وهل يحسن أن يكون لها تعليم وتهذيب يختلفان عن تعليم الرجل وتهذيبه.
وقد لا يكون من غير الملائم لفت الأنظار إلى هذا الموضوع في الوقت الذي تطور فيه تعليم الفتاة في العشر سنين الأخيرة تطوراً عظيماً، فبعد أن كان تعليمها قاصراً على بعض الفنون المنزلية ومبادئ القراءة والكتابة وقشور اللغات الأجنبية، أصبحت تتلقى من العلوم ما يتلقى الفتى في المدارس الابتدائية والثانوية، كما أصبحت تدرس معه جنباً إلى جنب في الجامعات.
وبالرغم من أن مصر لم تبتدع ذلك النظام، وإنما نسجت فيه على منوال الأمم الراقية التي تأخذ عنها جل نظم الحضارة والعمران، فأن ذلك الانتقال لم يتقبله الكثيرون قبولاً حسناً بعد، لأنهم يرون فيه ضياعاً لوقت الفتاة التي خلقت لأن تكون أماً، زاعمين أن سيكولوجية المرأة وتركيبها النفسي، ووظيفتها في الحياة تستدعيان أعداداً خاصاً وتعليماً غير تعليم الرجل. ويظهر أن أنصار هذا المبدأ لهم تفسير خاص، لأغراض التعليم ومعنى الثقافة! أما ما يفهم عادة من الثقافة فهو كل ما من شأنه تهذيب النفس وصقل العقل وتقويم العاطفة وتوسيع المدارك وعلى ذلك يدخل تحت الثقافة العلوم بأنواعها والفنون والآداب والأخلاق، وكل ما يكتسب المرء من تجارب وتعليم عملي في الحياة. ولما كان هذا النوع من الغذاء العقلي والروحي لا يستغني عنه الإنسان الذي يصبو إلى الكمال، وكانت المرأة إنساناً لا(11/33)
تختلف، عن الرجل من هذه الناحية، فلا بد لها من غذاء عقلي ومعنوي أيضاً، ولما كان التكافؤ العقلي بين الجنسين أصبح من الأمور المسلم بها، وجب إذن أن يتغذّى عقل المرأة كما يتغذى عقل الرجل حتى تصل إلى حظ مثل حظه من الثقافة. نعم لا مفر الآن من تثقيف المرأة بالطريقة التي تتبع في تثقيف الرجل، إذ أصبح من الجلي الآن إن الطريقة القديمة لتعليم الفتاة لم تنتج غير مخلوق ناقص من نواح كثيرة، بدليل هجران الرجل لمنزله في كثير من الأوقات، لأن شريكة حياته تعجز عن أن تمده بالنصح والمعونة، كما تعجز عن جعل دارها مهبطاً للجمال والتسلية. أقول هذا القول وأشعر إنني لو قلته في بلد آخر متمدن غير مصر، لنظر الناس إليّ بمنتهى الدهشة، نظرتهم إلى من يخبرهم مثلاً إن النهار في الصيف أطول منه في الشتاء، ظاناً إنه يذكر لهم أمراً طريفاً!. . ولكن مصر التي سارت بخطى واسعة جداً في نواح كثيرة من نواحي التقدم والرقي مازالت تتردد في قبول بعض المبادئ التي تعد أساس الرقي الصحيح وعنوان الحضارة، أعني مساواة المرأة بالرجل في الحقوق وخصوصاً الثقافة.
وليس الغرض الرئيسي من تعليم الفتاة كما يظن الكثيرون تأهيلها لمزاولة مهنة من المهن كالمحاماة أو الطب أو الهندسة، وإنما الأهم أن تصل إلى حقها الطبيعي من اعتيادها التفكير المنظموإكسابها خلق الاعتماد على النفس والاعتداد بالكرامة، وذلك لا ينشأ إلا عند تبيّن مبلغ المقدرة الشخصية والاستعداد. ولا ضير إذا هي لم تستخدم تلك المعلومات بالذات في حياتها المنزلية إذ الغرض الأساسي من التعليم كما يقول أفلاطون في (الجمهورية): توجيه الروح إلى النور باعتياد التفكير المنتجوبالابتعاد زمناً ما عن قيود الماديّات. والواقع إننا نحط من شأن التعليم كثيراً إذا نظرنا إليه قبل كل شيء كوسيلة لتحقيق غرض مادي. فالتعليم يجب أن يعتبر غرضا في ذاته قبل أن ينظر إليه بتلك النظرة المادية سواء في حالة تعليم المرأة أو تعليم الرجل. سأل مرة أستاذ في إحدى الجامعات الكبرى تلميذه لماذا يتعلم تعليماً جامعياً ولم اختار التاريخ لفرع تخصصه. فكان جواب الطالب الصريح مما أهاج الأستاذ الذي لم ير مغضباً من قبل. وذلك انه أجاب إنما يتعلم ليحصل على درجة عالية تمكنه من الحصول على وظيفة تضمن له رغد العيش. . . ثار الأستاذ وغضب لأنه شعر أن تلميذه لا يتعلم لوجه العلم، وعلى ذلك فهو يفقد أهم شروط التهذيب الصحيح.(11/34)
فبغير هذا الشرط لا يمكن أن يمتزج العلم بالنفس أو بعبارة أخرى لا يمكن أن تحدث الثقافة. وعلى ذلك تكون المرأة امتن ثقافة وأعمق تهذيباً لو تعلمت تعليم الرجل لأنها في الغالب تتعلم العلم فيكون لإنتاجها مظهر جذاب لأنه بعيد عن المؤثرات المادية التي كثيراً ما تعترض تقدم الرجل. إلا أن ثقافة المرأة لا تكمل ولا يصبح لها أثر محسوس إذا علمناها علوم الرجل بينما تحرم مما يستمتع به من حرية وإرادة مستقلة، وتحاط بسياج من التقاليد العتيقة والرقابة الخانقة، فهي في هذه الحال تقول بمرارة: من لي بعيش الأغبياء. . . كما أنه لا يمكن أن يصدر عنها ثقافة عالية، إذ ينقصها بسبب قيودها الشخصية والابتكار والصراحة والنظرة العلمية. . وهكذا تبدو ثقافتها مبتورة وان تناهت في الظرف وتألق فيها الذكاء الباهر.
وهنا قد يسأل سائل: وما مبلغ أثر التعليم المنزلي في ثقافة المرأة؟ إني وإن كنت أريد تعليم المرأة تعليماً عالياً ابتغاء وجه العلم، أو استعداداً للعمل فلست ممن ينكرون ما للتعليم المنزلي من أهمية في ثقافة المرأة. وهو لا ينفعها عملياً فحسب، وإنما لهذا التعليم أثر جميل في إنتاجها العقلي أو مظهر ثقافتها. وقد كان يقال عن (جين أوستن) الكاتبة الإنجليزية التي اشتهرت ببراعة الأسلوب وسمو الخيال ودقة التحليل إنها إنما اكتسبت الطلاوة في التعبير، والدقة في التفاصيل، من تدريبها الطويل على استعمال الإبرة والمنسج. والواقع أن مثل هذا التعليم يكسب المرأة المقدرة على مراعاة النسب ودقة الأسلوب ودقة الحساسية، وكل ذلك يبدو واضحاً إلاّ أن ما يعترض عليه بشدة هو تضحية التعليم العام من أجل هذا التعليم المنزلي، بحجة عدم استخدامه عملياً في وظيفتها الخاصة. انه لمنتهى الظلم إلاّ ننظر إلى المرأة كإنسان له حق كامل في الحرية والتعليم قبل أن ننظر إليها كأم أو دمية منزل، بل أن منتهى الاستهتار بمواهب المرأة أن نكتفي منها بالقشور دون اللباب، فلا نحاسبها على عدم تعمقها في التعليم وإنما ننظر إليها نظرة كنظرة أهل العصور الوسطى، الذين كانوا لا يطلبون من المرأة أكثر من اتصافها بالعفة والصيانة. أما الصفات الأخرى كالذكاء وبُعد النظر والشجاعة والصراحة فلم يكن عليها إقبال يذكر؛ وإنما الاستكانة والخشوع كانا من أهم مميزات الكمال النسوي في تلك العصور. ولقد كانت (جرزلدا الصبور) التي تحملت مرارة هجر الزوج وقسوته مثل الفضيلة والأمومة الصالحة(11/35)
عندهم. . . وأخشى أن تكون (جرزلدا) هذه لا تزال المثل الأعلى للزوجة عند الكثير من الرجال. . .
إن التطورات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي تبعد الشقة كل يوم بين العصور الوسطى والعصر الحديث، تفرض علينا تغيير الآراء القديمة بالنسبة إلى مركز المرأة وثقافتها. ففي حياتنا الحديثة المتشعبة المسالك الكثيرة المطالب، المملوءة بالصراع والتنافس لم يبق مكان للمرأة الساذجة الضعيفة. وعلى ذلك كان من الخطأ الكبير أن نتعمد إنقاص تثقيف المرأة عن تثقيف الرجل، بل يجب أن يتناسب مقدار الثقافة مع وظيفة تلك التي تهز العالم بيسارها إذا ما هزت المهد بيمينها؛. . ولكن ماذا تكون النتيجة لو تعلمت المرأة كما يتعلم الرجل؟ هل تفقد مميزاتها الخاصة ولا يصبح هناك فرق بين ثقافتها وثقافته؟ الواقع أن الثقافتين لا تختلفان إلاّ شكلاً فقط، فيكون لثقافة المرأة وان اتحدت في الجوهر مع ثقافة الرجل طابعها الخاص، إذ تتجلى فيها ما تمتاز به المرأة من حنان ورقة وتأثر بالعواطف والهام وحدة ذكاء وشدة حساسية.
وإنا لنأمل أن نرى أثراً واضحاً لتلك الثقافة النسوية (في الرسالة) التي تعتبر بحق رسالة الروح الحديثة المملوءة قوة وابتكاراً وتجديداً.(11/36)
إلى الله. .!!
للآنسة ناهد محمد فهمي
رباه طالما حادثتك في ليل السريرة. . .!!
وطالما ناجيتك حزينة ومسرورة. . .!!
وكنت عقب صلواتي أسمع صوتك القدوس يدوي، صداه في أركان روحي المادية. .!!
عرفتك بالغريزة وأنا طفلة. .!!
فكنت أتأدب كلما ذكروا اسمك العظيم. .!!
لأني أعتقد دائماً أني في حضرتك. .!!
وكنت أضطرب محبة واحتراماً وعبودية، كلما فكرت أنك تراني دائماً. .!!
حادثتك وأنا في (الكُتّاب) اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فآمنت بك لرحمتك وحنانك. .!!
لأن الرحمة والحنان أول ما يفتقر إليهما الناشئ في هذه الحياة القاسية. .!!
عرفتك في (الليالي الممطرة). .!!
فكنت أقف ساعات منصتة للرعد، فهو جلجلة همساتك. . .!!
وكنت ارقب البرق. . فهو نور ابتسامتك. .!!
غفرانك يا رب!!
إذا تخيلتك هكذا (بمخيلتي) الإنسانية الضعيفة. .!!
عرفتك في الرّبيع. . . حين مرت يداك القادرتان على وجه الأرض. . . فتجلى صنعك البديع في النبات والورود، وعرفت رحمتك في تلك النفحات الربيعية العطرة وصوتك في أهازيج الطبيع ' البهيجة. .!! فأيقنت برحمتك وآمنت بجنتك. . .!!
عرفتك في (الصيف). . فاعتقدت بجبروتك وآمنت (بنارك) وفي الخريف فآمنت بالموت والفناء والمرض، وعلمت أنك الباقي ونحن الفانون. . .!
عرفتك في النهار عندما ملأت أنوارك عيني وبهرت آياتك لبي. .!!
وعرفتك في الليل حينما باحت لي النجوم
الزواهر بسرّ عظمتك، وبعث الظلام الحالك في نفسي معنى رهبتك. .!!
عرفتك في كل مظهر من مظاهر أكوانك ... وناجيتك في كل سورة من سور قرآنك(11/37)
ولكني بعد هذه المعرفة الطويلة، والمناجاة المتصلة اسمع في جوانب نفسي سائلاً يسأل: هل عرفتك حقيقة يا رب؟(11/38)
الأدب والحياة
للأستاذ زكي نجيب محمود
تطغى على العالم موجة مادية تجتاحه أصولاً وفروعا، وتريده على أن يحمل تراث الإنسانية الأدبي، منذ فجرها حتى اليوم الراهن، فيأخذ سمته نحو أليم، فيلقي بذلك التراث في لجة مالها من قرار، ثم يعود وقد أزاح عن كاهله ذلك العبء المضني من دموع الشعراء وأنينهم وهزّات نشوتهم وسرورهم، وغير ذلك من نزوات الطفولة التي لا تدعو إليها ضرورة ولا شبه ضرورة في هذا العصر الحديث، وأن يتوفر على أزيز المعامل ومقارع الآلات، التي لا ينبغي أن يطرب لسواها، أو ينصت لصوت غير صوتها!! وماذا يغني دانتي وشكسبير بجانب علوم الطبيعة والكيمياء، التي على أساسها تعمل المطارق وتدور الأرجاء!! وفي ذلك يقول الكاتب الإنجليزي توماس بيكوك: (الشاعر في عصرنا هذا نصف همجي يعيش في عصر المدنية، لأنه يقيم في الزمن الخالي، ويرجع بخواطره وأفكاره وخوالجه وجوانحه إلى الأطوار الهمجية، والعادات المهجورة، والأساطير الأولى، ويسير بذهنه كالسرطان زحفاً إلى الوراء. . . . . لقد كان الشعر نقرة تنبه الذهن في طفولة الهيئة الاجتماعية، ولكن من المضحك في عصر النضج العقلي أن نعني بألاعيب طفولتنا، ونفسح لها موضعاً من شواغلنا، فإن هذا سخف يشبه سخف الرجل الذي يشتغل بألاعيب الصبيان، ويبكي لينام على رنة الأجراس الفضية).
هكذا يقال عن الأدب الآن، كأنه عرض من أعراض الحياة، لا يمسها في الجوهر والصميم، والواقع أننا حين ننزل عن الأدب وسائر الفنون، فأننا إنما ننزل عن نفوسنا، لأن هذه وتلك شيء واحد اختلفت أوضاعه.
وللشاعر الفيلسوف طاغور تحليل يبين به موضع الفن من أساس الحياة، وأنه ضرورة لازمة لا مناص منها، ونحن نورد للقارئ خلاصة موجزة لذلك البحث الجليل:
من الحقائق البديهية، ان الإنسان مرتبط بهذا العالم بصلات شتى، فهو يعيش في مضطرب الحياة مدفوعاً بطائفة من الحاجات التي يتحتم عليه قضاؤها وهو في تلك المحاولة مضطر إلى أن يتصل بالعالم اتصالاً ليس له عنه منصرف ولا محيد.
فالحاجة الجسمية تملي عليه أن يفلح الأرض ويتعهد الزرع حتى يثمر له القوت، وأن(11/39)
يلتمس من الطبيعة مسكناً وملبساً يدفعان عنه الفقر والهجير.
والحاجة العقلية تريده على أن يمعن النظر ويستقصي البحث في مظاهر الكون، لان العقل لا يقنع بالنظر إلى الأشياء الخارجية دون أن يتتبع العلل ويكتشف القوانين العامة التي تنتظم جميع الجزئيات، فهو مطبوععلى هذا البحث ليخفف عن نفسه أعباء الحقائق الكثيرة التي تصادفه في حياته، باختزالها في عدد قليل من القوانين، أو في قانون واحد شامل إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
وليست حاجة الإنسان تقتصر على العقل والجسد، بل هو يحمل بين جنبيه نفساً لها مطمح تنشده وتسعى إليه، فهي بدورها مضطرة إلى أن تتصل بالكون كي تلتمس عند مظاهره ما تصبو إليه، وهي بحكم وجودها تعالج ضروباً من المشاعر، فهي تموج بالأمل واليأس والسرور والغضب وغير ذلك من ألوان الشعور.
ولكن هذه الروابط التي تصل الإنسان بالعالم لا تقتصر عليه دون سائر الحيوان، فهو يشاركه في الحاجة الجسمية ويشاركه في الحاجة العقلية - إن صح إطلاق هذه الكلمة على الحيوان الأعجم - كما يشاركه في مشاعره النفسية كذلك، إلاّ أن أهم ما يرتفع بالإنسان عن مرتبة الحيوان، إن هذا محدود في دائرة ضيقة جداً، لاتسع لأكثر من الضرورات التي يقتضيها استمرار الحياة، فهو يبذل ما يبذله من مجهود لحفظ كيانه، والاحتفاظ بجنسه، ثم لا يزيد على ذلك إلاّ بمقدار ضئيل، أما الإنسان فلا تكلفه الضرورة إلا بقدر محدود ثم يبقي لديه من القوة ما يجول به حرا من الأصفاد والقيود، مثل الحيوان في ذلك، مثل الزارع الذي ينوء بأعباء الدّين الفادحة فهو يكد ويكدح ويعمل ويشقى طول العام، فإذا ما حان الحصاد تسرّب الثمر إلى الدائن، ويخرج صاحبنا من المعركة صفر اليدين، أما الإنسان فهو في هذا التشبيه صاحب ضيعة واسعة النطاق، لا يفقد من دخله إلا جزءاً يسيرا، ثم ينعم بعد ذلك حرا لا يقف دونه سلطان ولا رقيب، أي إن لديه من ثروة الحياة ما يزيد على الحاجة الضرورية بقدر عظيم، وبذلك يتاح له من القوة والفراغ، ما يستطيع معه أن يعالج مختلف الشئون، لا باعتبارها واجباً حتماً تمليه ضرورة الوجود، ولكن على أنها أغراض في نفسها تقصد لذاتها.
فللحيوان مقدار من المعرفة ولا ريب، إلا أنها معرفة ضئيلة محدودة، يستخدمها في حفظ(11/40)
الحياة وكفى، فهو ملزم أن يدرس بيئته في شئ كثير من الدقة ليستطيع أن يتخذ لنفسه من أركانها مستقراً يؤويه، وليتمكن من الحصول على طعامه وشرابه في سهولة ويسر، وهو ملزم كذلك أن يعلم بعض خواص الأشياء من حيث اللدونة والصلابة مثلاً، ليبني ما يشاء من أوكار، ويعالج شؤون الحياة الأخرى، وهو لابد أن يعرف للفصول المختلفة علامات تدل على قدومها. حتى يتهيأ لأجوائها المتباينة بالريش أو الفراء، هذه وأشباهها معرفة لا ندحة عنها لكل أنواع الحيوان للذود عن كيانها والاحتفاظ بوجودها. ولكنها لا تزيد على ذلك إلاّ قليلا. والإنسان أيضاً. لديه تلك المعرفة اللازمة لاستمرار الحياة - حياة الفرد والجنس - ولكن معرفته لا تقف عند هذا القدر القليل، بل تفيض معرفته فيضاً غزيراً يطغى على تلك الحدود الضرورية، فهو يحصل جانباً من المعرفة لذاتها، وينشد العلم لأجل العلم، لا يبغي وراء ذلك قصداً ولا غاية. ومن هذا الفيض العلمي تنشأ الفلسفة والعلوم.
وللحيوان جانب خلقي غير منكور، فلديه كثير من الإيثار تراه واضحاً في حنان الأم على صغارها أيا كان نوعها ويبدو ذلك الإيثار بارزاً في هذه النحلة العاملة، وتلك النملة المثابرة، فهما تسعيان وتطوفان هنا وهناك، تجمعان القوت، ولكن لماذا؟ لخلية النحلة كلها أو لجماعة النمل بأسرها. وهذا المقدار الضئيل من الأخلاق، إنما أوجدته ضرورة الحياة عند الحيوان، أما الإنسان فقد رسم لنفسه من التشريع الخلقي ما يربي على حاجته الضرورية أضعافاً مضاعفة، فهو يفرض نفسه على الخير لأنه صالح للجماعة أولاً، ولكنّه لا يكتفي بهذا الفرض المتواضع، بل يمعن في ذلك إمعاناً بعيداً، فينشد الخير محضاً ويطلبه لذاته فقط ومن هذا الفيض الخلقي، نشأ علم الأخلاق.
وللحيوان شعور يحسه ويعبّر عنه، فهو يبغض ويحب، وهو يسر ويحزن، وهو يأمن ويخاف. ولكنه كذلك لا يعدو في التعبير عن مشاعره ذلك الحد الذي تقتضيه ضرورة الحياة. أما الإنسان، فعواطفه - وان تكن قد نشأت في الأصل لتلك الأغراض التي نشأت من اجلها عواطف الحيوان - إلا إنها قد جاوزت ذلك الحد تجاوزاً، وتركت في الأرض جذورها الأولى التي أخرجتها إلى الوجود، وانبسقت عالية منتشرة بغصونها في سماء اللانهاية، نعم لدى الإنسان من العواطف أضعاف أضعاف ما تتطلبه طبيعة وجوده، وهذا الفيض الغزير العميق من المشاعر التي تضطرم وتحتدم في الصدور لابد أن يجد متنفسا(11/41)
يتسلل منه، ليعلن عن نفسه في أنحاء الوجود. وقد كانت الثغرة التي تدفق منها ذلك الفيض الشعوري هو الفن الجميل في ضروبه المختلفة من أدب وتصوير ونحت وموسيقى وغيرها. إذ أتخذها الإنسان أداة للتعبير عما يحسه من شعور، وهذا الشعور الذي يلتمس طريقه إلى عالم التعبير في صورة فنية، إنما يكشف عن نفوسنا وما يدور فيها من إحساس. وبعبارة أخرى إن الفنون وسيلة لابراز مشاعر النفس الإنسانية ودون الأشياء المحسة التي تتعلق بها تلك المشاعر، وبذلك أتاحت للإنسان أن يسكب نفسه أمامه، فيراها ويلمسها، وليس له عن ذلك بد بحكم تكوينه، فهو حين ينظم قصيدة من الشعر أو يضرب على أوتار الموسيقى فان ذلك يوازي في قائمة الضرورات الإنسانية - الملبس والطعام -، ومن هنا كان الإنسان هو الحيوان الذي يعرف نفسه ويشعر بوجوده.
ولمّا كانت الآداب والفنون هي شخصيتنا تدفقت إلى العالم الخارجي في مختلف الأثواب، كان لا يصلح موضوعا للفن إلا ما يتصل بنفوسنا وينتظم في سلك مشاعرنا، أو تغذوه عواطفنا، فيكتسي الرضى أو السخط أو السرور أو الألم أو غيرها، وعندئذ يصبح جزءاً منا، يصح له أن يبرز في صورة فنية. فعلمنا أن الأرض تبعد عن الشمس كذا ميلا لا يصلح موضوعاً للفن لأنه لا يمس نفوسنا، أما منظر غروب الشمس فهو يثير فينا عاطفة ما (الإعجاب مثلاً) فيمتزج المنظر بنا، ويختلج في نفوسنا، ثم لا يلبث أن يسلك سبيله إلى التعبير. وهكذا كلما اجتمعت مشاعرنا حول شئ معين فإنها تجاهد في الإفصاح عن نفسها مستعينة في ذلك بالفنون، ولما كانت معظم الأشياء التي تصادفنا في الحياة تثير فينا لونا خاصا من العواطف، فالإنسان فنان في الكثير الغالب من نواحي الحياة. فهو يشيد دوراً فخمة لمسكنه وكان يكفيه كوخ خشن ضئيل، وهو يبني المعابد والمساجد الشامخة التي ترسل قبابها ومآذنها في الفضاء، لينفس عن عاطفته الدينية، وكان يكفيه حيز محدود في العراء لأداء فريضته، وهو يخطط المدن وينسق الحدائق ليرضي عاطفته الوطنية وهو يعني بأثاث منزله وجمال ملبسه إلى آخر دقائق الحياة. لماذا؟ لأنها تمس مشاعره فتصبح قطعة من شخصيته لا يسعه إلاّ إبرازهاوالإعلان عنها.
من ذلك نرى أن الفنون جميعاً هي الأداة التي يستخدمها الإنسان ليتمكن من صب الوجود نفسه. ثم يعود فيسكبها شخصية تنبض فيها الحياة، وقد اتخذت الفنون قوالب الجمال وسيلة(11/42)
إلى ذلك التعبير كالتصوير والموسيقى والعبارة الجميلة، فأدى ذلك إلى اقتران الآيات الفنية بمعاني الجمال فالتبس الأمر على بعض المفكرين وذهب بهم الظن إلى أن الجمال هو الغرض المقصود من الفنون. والحقيقة انه أداة فقط، استعملت للوصول إلى الغاية الحقيقية وهي إبراز الشخصية الإنسانية، وقد تبع ذلك جدل ونقاش حول موضوع لم يكن ليحتمل النقاش والجدل وهو أيهما افضل في الأدب؛ المعنى أم المبنى؟ فذهب فريق كبير إلى تفضيل العبارة الجميلة وحجتهم في ذلك أن المعنى أدخل في باب العلوم منه في باب الأدب، أما اللفظ الجميل فهو خالص لأنه قطعة من الجمال والجمال أساس الفنون! وفات هؤلاء أن جمال الأدب لا يتحقق إلاّ بمزج هذين العنصرين مزجاً (كيميائياً) لا يقبل التجزئة والتحليل، فأنت إذا أردت أن تتذوق لونا من ألوان الطعام فلا تعمد إلى تحليله إلى عناصره الأولى لتختبر كل واحد على حدة بل لابد لك أن تتناوله وحدة متماسكة. كذلك الحال في الأدب؛ الكل شئ آخر غير أجزائه. فالمعنى وحده قطعة من العلم واللفظ وحده كذلك جزء من علم البلاغة والنحو والصرف، فإذا مزجت بينهما كان لديك بذلك آية أدبية خالدة.
فالفنون ومنها الأدب هي أشخاصنا وأرواحنا في حين أن العلوم (كالأشياء نفسها) جامدة ميتة لا تتصل بنفوسنا ولا تظهر فيها الشخصية الإنسانية. وقد أحسن فكتور هوجو حين قال في كتابه (وليم شكسبير): (ينأى كثير من الناس في أيامنا هذه (ولا سيما المضاربون وفقهاء القانون) إن الشعر قد أدبر زمانه. فما اغرب هذا القول؟! الشعر أدبر زمانه! لكأنّ هؤلاء القوم يقولون؛ أن الورد لن ينبت بعد وان الربيع قد أصعد آخر أنفاسه وان الشمس كفت عن الشروق وانك تجول في مروج الأرض فلا تصادف عندها فراشة طائرة، وان القمر لا يظهر له ضياء بعد اليوم، والبلبل لا يغرد والأسد لا يزأر والنسر لا يحوم في الفضاء، وان قمم الألب والبرانيس قد اندكت، وخلا وجه الأرض من الكواعب الفواتن والأيفاع الحسان. . . لكأنهم يقولون انه لا أحد اليوم يبكي على قبر ولا أم تحب وليدها وأن أنوار السماء قد خمدت وقلب الإنسان قد مات).
والخلاصة أن الأدب والفن بوجه عام، ضرورة تحتمها المشاعر الزائدة على حاجة البقاء، وأنها صورة دقيقة لنفوسنا، تربطنا بالعالم برباط الصداقة والرحم، بخلاف العلوم، فإنها(11/43)
صورة العالم الخارجي ولا دخل للإنسان فيها، فهي من الإنسان بمثابة الزائر الأجنبي الذي لا تصله بنا وشائج القربى. وأحسب أننا لو خيّرنا بين العلم والأدب لما ترددنا لحظة في أن ننبذ العلم نبذاً، ونتمسك بالأدب ونعتز به اعتزازنا بالنفوس.(11/44)
في الأدب التركي
فهل كنت تعلمين؟
اذكري تلك الأيام، تلك الليالي المقمرة،
وحذارا أن تنسى سويعات الوصال الهنيئة،
وبينا الناس في مضاجعهم نيام يغطّون،
كان يصهرني النسيم المنبعث من شفتيك. . .
فهل كنت تعلمين؟
كنت تذهبين فأبقى مرتعشاً
وآوي إلى فراشي الموحش باكياً منتحباً،
أراقب النجوم والشهب المتساقطة كالمأخوذ،
كنت مفتوناً بسحرك منذ عرفتك. . .
فهل كنت تعلمين؟
ينبثق الفجر فاسمع وقع نعليك على السلالم فيرتج قلبي،
وأرقب قدومك متحرّقاً وقد أمضني الليل،
فإذا بك تقبلين والكتاب تحت إبطك،
فأشعر بمطرقته تحاول كسر ضلوعي بينما أنظر إلى صدرك المجلل بسواد ثوبك الرهيب.
فهل كنت تعلمين؟؟؟
حلب: ترجمة يحيى جركس
الذكرى
ولّى ربيع الحب من بعد ما ... ضحّى فؤادي كل ما يملك
وكنت أرجو قطف أثماره ... إذا بها يا أسفا تهلك
تركت عهد الحب في كوخه ... وقلت يقضى والأسى بعد حين
وعدت أدراجي وكل الذي ... خلفته للعيش قلب حزين
وخلت في طول النوى سلوة ... تغني عن الماضي وتخفي عليه(11/45)
إذا بذكراي وما أوجع ال ... ذكرى بهذا اليوم عادت إليه
حماه - إسماعيل العظم(11/46)
في الأدب العربي
مآثر العرب في الفلك
مقدمة
يعيب البعض على العرب انهم لم يكونوا عمليين، ولم يعرفوا من العلوم إلاّ قسمها النظري، وهذا الاعتقاد خطأ، ويظهر فساده جلياً ببعض الإلمام بتأريخ العلوم، إذ يتحقق لدى الباحث المنقب أن للعرب عدا ترجمتهم أهم نتاج قرائح الأمم التي سبقتهم إضافات هامة وابتكارات جمة مبينة على التجربة، على أساسها بنى الغرب حضارته، ولولاها لما تقدمت المدنية تقدمها الحاضر. والآن سأبحث بصورة مجملة عن أهم مآثر العرب في علم الفلك، وطبعاً لا يمكنني في هذه العجالة أن أجول كثيراً في هذا الموضوع فهو أجلّ من أن يوف حقه بمقالة، ولقد سبقنا الغربيون إلى البحث عن التراث العربي في الفلك وغيره من العلوم والفنون، وأظهروا الاكتشافات الفلكية التي للعرب وأثر ذلك في تقدم العلوم الطبيعية، وكان من ذلك أن اعترف المنصفون من علماء الفرنجة بخصب العقل العربي وفضل الحضارة العربية على حضارتهم التي ينعمون بها.
اعتناؤهم بالفلك:
لم يعرف العرب قبل العصر العباسي شيئاً يذكر عن الفلك، اللهمّ إلاّ فيما يتعلق برصد بعض الكواكب والنجوم الزاهرة وحركاتها وأحكامها، بالنظر إلى الخسوف والكسوف، وبعلاقتها بحوادث العالم من حيث الحظ والمستقبل والحرب والسلم والمطر والظواهر الطبيعية، وكانوا يسمون هذا العلم الذي يبحث في مثل هذه الأمور بعلم التنجيم، ومع أن الدين الإسلامي قد بيّن فساد الاعتقاد بالتنجيم وعلاقته بما يجري على الأرض لم يمنع ذلك الخلفاء ولا سيما العباسيون في بادئ الأمر أن يعتنوا به وأن يستشيروا المنجمين في (كثير من أحوالهم الإدارية والسياسية. فإذا خطر لهم عمل وخافوا عاقبته استشاروا المنجمين فينظرون في حال الفلك واقترانات الكواكب ثم يسيرون على مقتضى ذلك) وكانوا يعالجون الأمراض على مقتضى حال الفلك، يراقبون النجوم ويعملون بأحكامها قبل الشروع في أي عمل حتى الطعام والزيارة. ومما لاشك فيه أن علم الفلك تقدم تقدماً كبيراً في العصر(11/47)
العباسي كغيره من فروع المعرفة، وقد كانت بعض مسائله مما يطالب بمعرفتها المسلم كأوقات الصلاة ومواقع بعض البلدان المقدسة وقت ظهور هلال رمضان وغيره من الأشهر أضف إلى ذلك شغف الناس بعلم التنجيم، كل هذه ساعدت على الاهتمام بالفلك والتعمق فيه تعمقاً أدى إلى الجمع بين مذاهب اليونان والكلدان والهنود والسريان والفرس، وإلى إضافات هامة لولاها لما أصبح علم الفلك على ما هو عليه الآن.
قد يستغرب القارئ إذا علم أن أول كتاب في الفلك والنجوم ترجم عن اليونانية إلى العربية لم يكن في العهد العباسي بل كان في زمن الأمويين قبل انقراض دولتهم في دمشق بسبع سنين. ويرجح الباحثون أن الكتاب هو ترجمة لكتاب عرض مفتاح النجوم المنسوب إلى هرمس الحكيم، والكتاب المذكور موضوع على تحاويل سني العالم وما فيها من الأحكام النجومية، وأول من اعتنى بالفلك وقرب المنجمين وعمل بأحكام النجوم أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني، وبلغ شغف المنصور بالمشتغلين بالفلك درجة جعلته يصطحب معه دائماً نوبخت الفارسي، ويقال أن هذا لما ضعف عن خدمة الخليفة أمره المنصور بإحضار ولده ليقوم مقامه فسّير إليه ولده أبا سهل بن (نوبخت) وقد ساعد المنصور كثيراً إبراهيم الفزاري المنجم وابنه محمد وعلي بن عيسى الاصطرلابي المنجم وغيرهم، وهو الذي أمر أن يُنقل كتاب في حركات النجوم مع تعاديل معمولة على كردجات محسوبة لنصف نصف درجة مع ضروب من أعمال الفلك من الكسوفين ومطالع البروج وغير ذلك. وهذا الكتاب عرضه عليه رجل قدم سنة 156همن الهند قيّم في حساب السندهنتا، وقد كلف المنصور محمد بن إبراهيم الفزاري بترجمته وبعمل كتاب في العربية يتخذه العرب أصلاً في حركات الكواكب، وقد سمّاه المنجمون كتاب السندهند الكبير الذي بقى معمولاً به إلى أيام المأمون وقد اختصره الخوارزمي وصنع منه زيجه الذي اشتهر في كل بلاد الإسلام (وعول فيه على أوساط السندهند وخالفه في التعاديل والميل فجعل تعاديله على مذهب الفرس وميل الشمس على مذهب بطليموس، واخترع فيه أنواع التقريب أبوابا حسنة، وقد استحسنه أهل ذلك الزمان وطاروا به في الآفاق)، وفي القرن الرابع للهجرة حوَّل مسلمة بن احمد المجريطي الحساب الفارسي إلى الحساب العربي.
بعض فلكييّهم:(11/48)
زاد اهتمام الناس بعلم الفلك وزادت رغبة المنصور فيه، فشجع المترجمين والعلماء، وفي مدة خلافته نقل أبو يحيى البطريق كتاب الأربع مقالات لبطليموس في صناعة أحكام النجوم ونقلت كتب أخرى هندسية وطبيعية أرسل المنصور في طلبها من ملك الروم، واقتدى بالمنصور الخلفاء الذين أتوا بعده في نشر العلوم وتشجيع المشتغلين فيها، فلقد ترجموا إلى العربية ما عثروا عليه من كتب ومخطوطات للأمم التي سبقتهم وصححوا كثيراً من أغلاطها وأضافوا إليها.
وفي زمن المهدي والرشيد أشتهر في الأرصاد علماء كثيرون من أمثال (ما شاء الله) الذيألف في الأسطرلاب ودائرته النحاسية، وأحمد بن محمد النهاوندي. وفي زمن المأمون ألّف يحيى بن أبي منصور زيجاً فلكياً مع سند بن علي، وهذا أيضا عمل أرصاداً مع علي أبن عيسى وعلي أبن البحتري، وفي زمنه أيضا أصلحت غلطات المجسطي لبطليموس، وألّف موسى بن شاكر أزياجه المشهورة، وكذلك عمل أحمد بن عبد الله بن حبش ثلاثة أزياج في حركات الكواكب، واشتغل بنو موسى في حساب طول درجة من خط نصف النهار بناءً على طلب الخليفة المأمون، وفي ذلك الزمن وبعده ظهر علماء كثيرون لا يتسع المجال لسرد أسمائهم كلها، وهؤلاء ألّفوا في الفلك وعملوا أرصاداً وأزياجاً جليلة أدت إلى تقدم علم الفلك. أمثال: ثابت بن قرّة والمهاني والبلخي وحنين بن إسحاق والعبادي والبتاني الذي عدّه لالاند من العشرين فلكياً المشهورين في العالم كله، وسهل بن بشار ومحمد بن محمد السمرقندي، وأبو الحسنى علي بن إسماعيل الجوهري وأبو جعفر بن أحمد بن عبد الله بن حبش، وقسطه البعلبكي والكندي، والبوزجاني وابن يونس والصاغاني والكوهي والمؤيد العرضي وابنه وأبو الحسن، المغربي ومسلمة المجريطي وأبو الوليد محمد بن رشد وجابر بن الأفلح والبيروني والخازن والطوسي وابن الشاطر والفخر الخلاني وجمشيد والقوشجي والبطروجي والفخر المراغي ونجم الدين بن دبيران وعماد الدين الأنصاري وأولوغ بيك وقاضي زاده رومي والتيزيني والحزري وفتح بن ناجية وأبو الفتح عبد الرحمن والغزالي والتوفيقي وهبة الله والمدني ومبشر بن أحمد ومحمد بن مبشر. . . .
مآثرهم:(11/49)
بعد أن نقل العرب المؤلفات الفلكية للأمم التي سبقتهم صححوا بعضها ونقحوا الآخر وزادوا عليها، ولم يقفوا في علم الفلك عند حد النظريات بل خرجوا إلى العمليات والرصد، فهم أول من أوجد بطريقة علمية طول درجة من خط نصف النهار، وأول من عرف أصول الرسم على سطح الكرة وقالوا باستدارة الأرض وبدورانها على محورها وعملوا الأزياج الكثيرة العظيمة النفع، وهم الذين ضبطوا حركة أوج الشمس وتداخل فلك هذا الكوكب في داخل أفلاك أخر، واختلف علماء الغرب في اكتشاف بعض أنواع الخلل في حركة القمر إلى البوزجاني أو إلى (تيخوبراهي) ولكن ظهر حديثا أن اكتشاف هذا الخلل يرجع إلى أبي الوفاء البوزجاني لا إلى غيره. وزعم الفرنجة أن آلة الإسطرلاب من مخترعات تيخوبراهي المذكور مع ان هذه الآلة والربع ذا الثقب كانا موجودين قبله في مرصد المراغة الذي أنشأه العرب، وهم (أي العرب) الذين حسبوا الحركة المتوسطة للشمس في السنة الفارسية وحسب البتاني ميل فلك البروج على فلك معدل النهار فوجده 23 درجة و 35 دقيقة وظهر حديثا انه أصاب في رصده إلى حد دقيقة واحدة، ودقق في حساب طول السنة الشمسية وفي حساب إهليليجية فلك الشمس فاستطاع أن يجد بعد الشمس عن مركز الأرض في بعديها الأبعد والأقرب وقد كانت النتائج التي وصل إليها قريبة جدا مما وصل إليه العلماء الآن، والبتاني من الذين حققوا مواقع كثير من النجوم، وقال بعض علماء العرب بانتقال نقطة الرأس والذنب للأرض، ورصدوا الاعتدالين الربيعي والخريفي وكتبوا عن كلف الشمس وعرّقوه قبل أوربا وأنتقد أحدهم وهو أبو محمد جابر بن الأفلح المجسطي في كتابه المعروف بكتاب إصلاح المجسطي وكان جابر يسكن في إشبيليه في أواسط القرن السادس للهجرة. وقد دعم انتقاده عالم آخر، أندلسي وهو نور الدين أبو إسحاق البطروجي الإشبيلي في كتابه الهيئة الذي يشتمل على مذهب حركات الفلك الجديد، ويقول الدكتور سارطون إنه بالرغم من نقص هذه المذاهب الجديدة فإنها مفيدة ومهمة جداً لأنها سهّلت الطريق للنهضة الفلكية الكبيرة التي لم يكمل نموها قبل القرن العاشر وأبحاثهم في الفلك أوحت لكبار (أن يكتشف الحكم الأول من أحكامه الثلاثة الشهيرة وهي إهليليجية أفلاك السيارات) وأخيراً نقول أن العرب عندما تعمقوا في درس علم الهيئة (طهروه من أدران التنجيم والخزعبلات وأرجعوه إلى ما تركه علماء اليونان علماً رياضياً(11/50)
مبني على الرصد والحساب وعلى فروض تفرض لتعليل ما يرى من الحركات والظواهر الفلكية).
المراصد وبعض آلاتها والأزياج:
لم يصل علم الفلك عند العرب إلى ما وصل إليه إلا بفضل المراصد، وقد كانت هذه نادرة جداً قبل النهضة العلمية العباسية، وقد يكون اليونان أول من رصد الكواكب بالآلات وقد يكون مرصد الإسكندرية الذي أنشئ في القرن الثالث قبل الميلاد هو أول مرصد كتب عنه، ويقال إن الأمويين ابتنوا مرصداً في دمشق ولكن الثابت أن المأمون هو أول من أشار باستعمال الآلات في الرصد، وهو الذي ابتنى مرصداً على جبل قيسون في دمشق وفي الشماسية في بغداد، وفي مدة خلافته وبعد وفاته أنشأت عدة مراصد في أنحاء مختلفة من البلاد الإسلامية، فلقد ابتنى بنو موسى مرصدا في بغداد على طرف الجسر، وفيه استخرجوا حساب العرض الأكبر من عروض القمر وبنى شرف الدولة أيضاً مرصداً في بستان دار المملكة، ويقال أن الكوهي رصد فيه الكواكب السبعة. وأنشأ الفاطميون على جبل المقطم مرصدا عرف باسم المرصد الحاكمي، وكذلك أنشأ بنو الأعلم مرصدا عرف باسمهم، ولا ينبغي أن ننسى أن مرصد مراغة الذي بناه نصير الدين الطوسي في القرن السابع للهجرة من أهم المراصد التي قدمت بعلم الفلك تقدما محسوساً، ويوجد عدا هذه مراصد أخرى في مختلف الأنحاء كمرصد ابن الشاطر بالشام ومرصد الدينوري بأصبهان ومرصد البيروني ومرصد أولوغبك بسمرقند ومرصد البتاني بالشام ومراصد غيرها كثيرة خصوصية وعمومية في مصر والأندلس وأصبهان. . .
كان للرصد آلات وهي على أنواع، وتختلف بحسب الغرض منها، وهاك أسماء بعضها: اللبنة، والحلقة الاعتدالية، وذات الأوتار وذات الحلق، وذات السمت والارتفاع والآلة الشاملة، وذات الشعبتين، وذات الجيب، وذات المشتبهة بالناطق، والإسطرلاب وأنواعه المتعددة وقد اعترف الفرنجة بان العرب أتقنوا صنعته. وثبت أن الإسطرلاب وذات السمت والارتفاع والآلة الشاملة والرقاص وذات الأوتار والمشتبهة بالناطق كل هذه من مخترعات العرب عدا ما اخترعوه من المساطر والبراكير وعدا التحسينات التي أدخلوها على كثير من آلات الرصد.(11/51)
في هذه المراصد عمل المسلمون أرصادا كثيرة، ووضعوا الأزياج القيمة الدقيقة. وعلى ذكر الأزياج نقول أن مفردها زيج وفي معناه قال ابن خلدون (ومن فروعه (علم الهيئة) علم الأزياج وهي صناعة حسابية على قوانين عددية فيما يخص كل كوكب من طريق حركته وما أدى إليه برهان الهيئة في وضعه من سرعة وبطئ واستقامة ورجوع وغير ذلك يعرف به مواضع الكواكب في أفلاكها لأي وقت فرض من قبل حسبان حركاتها على تلك القوانين المستخرجة من كتب الهيئة. ولهذه الصناعة قوانين كالمقدمات والأصول لها في معرفة الشهور والأيام والتواريخ الماضية وأصول متقررة من معرفة الأوج والحضيض والميول وأصناف الحركات واستخراج بعضها من بعض يضعونها في جداول مرتبة تسهيلاً على المتعلمين وتسمى الأزياج) ومن أشهر الأزياج زيج إبراهيم الفزاري وزيج الخوارزمي وأزياج المأمون وابن السمح وابن الشاطئ وأبى حماد الأندلسي وابن يونس وأبى حنيفة الدينوري وأبى معشر البلخي والأيلخاني وعبد الله المروزي البغدادي والصفاني والشامل (لأبي الوفاء) والشاهي (لنصير الدين الطوسي) وشمس الدين وملكشاهي والمقتبسي (لأبي العباس بن أحمد بن يوسف بن الكمال) وو و. . .
الخلاصة:
وبالجملة فان للعرب فضلاً كبيراً على الفلك.
(أولاً) لأن العرب نقلوا الكتب الفلكية عند اليونان والفرس والهنود والكلدان والسريان وصححوا بعض أغلاطها وتوسعوا فيها وهذا عمل جليل جداً لاسيما إذا عرفنا أن أصول تلك الكتب ضاعت ولم يبق منها غبر ترجماتها في العربية وهذا طبعاً ما جعل الأوربيون أن يأخذون هذا العلم عن العرب فكانوا (أي العرب) بذلك أساتذة العالم فيه.
و (ثانياً) في إضافاتهم الهامة واكتشافاتهم الجليلة التي تقدمت بعلم الفلك شوطا بعيداً.
و (ثالثاً) في جعلهم علم الفلك استقرائياً وفي عدم وقوفهم عند حد النظريات كما فعل اليونان.
و (رابعاً) في تطهير علم الفلك من أدران علم التنجيم.
نابلس - فلسطين - قدري حافظ طوقان - عضو الجمعية(11/52)
الرياضية بلندن(11/53)
من طرائف الشعر
شوقية لم تنشر:
نظم شاعر الخلود شوقي بك مجموعة من رائع الشعر الحكيم السهل لتكون للأطفال أدباً وثقافة، ويسرنا أن ننشر اليوم قطعة منها لم تنشر من قبل وعنوانها المظنون (ولد الغراب)
ومُمهدٍ في الوكر من ... ولد الغُراب مُزقَّقِِ
كروُيْهبٍ مُتقلس ... مُتأزِّر مُتنطقِِ
لبس الرَّمادَ على سوا ... دِ جناحه والمفرقِِ
كالفحم غادر في الرَّما ... دِ بقيَّة لن تحرقِِ
ثُلثاه منقار ورَأ ... س والأظافرُ ما بقي
ضخْم الدماغ على الخلو ... من الحجى والمنطقِِ
من أمهِ لقي الصغ ... يرُ من البَليّة ما لقي
جلبَت عليهِ ما تذو ... دُ الأمهاتُ وتتّقي
فُتِنت به قتوهَّمت ... فيه قُوىً لم تُخلقِِ
قالت كبِرت، فثبْ كما ... وثَب الكبار وحلَّق
ورمت بهِ في الجو لم ... تَحرصْ ولم تستوثقِِ
فهوى فمُزق في فنا ... ء الدار شرَّ ممزق
وسمعتُ قافات تردّ ... دُ في الفضاءِ وتَرتقي
ورأيت غِرباناً تَفرّ ... قُ في السماء وتلتقي
وعرَفت رنَّة أمه ... في الصارخات النُّعَّق
فأشرْتُ فالتفتت فقل ... تُ لها مَقالة مُشفق
أطلقتِه ولو امْتحن ... تِ جناحَه لم تُطلقِ ِ
وكما ترفق والدا ... كِ عليكِ لم تترفقي
أصداء الربيع
قُمْ إلى الزمان وغيبْ ... سورة الهم في مجالي ربيعةْ
خلصَ القلب من مآتم كانو ... نَ وعاد الشادي إلى ترجيعه(11/54)
عبقتْ بالسهول أنفاس آذا ... رَ وساف المشتاق نفح الزهور
رقَّة في الفضاء شاعت ولطف ... ساغَ للنفس كالهوى في الصدور
واكتسى الدوح نظرة بعد عري ... ولكان ربَّ في المشيب الشباب
وتغنى الحمام فيه وساحتْ ... تحتَ أظلاله عيون عذاب
وكان الروض الذي نبهته ... من كرىً غفوةُ النسيم العليلِ
طرفةُ تملأ العيونَ بهاءً ... أخلصتها يُمنى حبيبٍجميل
قم إلى البشر والطلاقة وانفض ... عن محيّاكَ كدرَة الأيامِ
سيغول الحياة غول وتبقى ... مُتع العيش حسرةً في العظام
وَتناس الآلام يندملِ الجر ... حُ تنصب في مقلتيك الدموع
أنتَ أضريت بالفؤاد رزايا ... هُ فضاقت بما تكن الضلوع
أنت أحسست من شجونك ما خي ... لت واخترتَ أن تكونَشقيا
إنما الحزن والسرور اعتبارٌ ... لم يكونا لولاه في النفس شيا
أيها القلب قد أظلك آذا ... رُ ورّفت على الرُّبا آصاله
فتزوّدْ منهُ ليومك حظاً ... قبل أن يوحش القلوبَ زواله
لا تسل عن غدٍ وخَل المقادي ... ر فقد كنَّ في الغيوبِ وكانا
حسبنا من مغانم العيشِ يومٌ ... حاضرُ السعد عن غدٍ أغنانا
أيُها القلبُ إن دعاكَ التصابي ... وثنيت العنان ضل ضلالك
لا تجب داع الرشاد فقدماً ... شقيت في طلابه أعمالك
واعبد الحسن في الطبيعة طفلاً ... برئت روحه، وفي الغيد سحراً
وفتونا ينهي الفتى عن نهاهُ ... كلما دار بالمحاجر أغرى
أرسل الشوق لهفة، وخفوقاً ... يوهن الجسم أو يداوي ضناهُ
وابعث الحب في الجوانح برقاً ... يهتدي ناضري ضحى بسناه
(سورية) حمص_رفيق فاخوري(11/55)
في الأدب الشرقي
نامق كمال
للدكتور عبد الوهاب عزام
أبو الأدب التركي الحديث الذي نزل من أفكار الترك وقلوبهم منزلة لم ينزلها غيره. والذي لا تزال آثاره مدونة في التأريخ التركي الحديث، محفوظة في قلوب الجبل الحاضر. ولد سنة 1256هـ في أسرة مجيدة يجمع تاريخها كثيراً من كبار الدولة العثمانية وكان أبوه مصطفى عاصم بك فلكياً، وجدَّه - شمس الدين بك رئيس المابينفي عهد السلطان سليم الثالث، وأبو شمس الدين قعبودان أحمد راتب باشا الذي ينتهي نسبه إلى الصدر الأعظم - طوبال عثمان باشا.
وأبو الشاعر من يكي شهر وأمه من قونيجة في ألبانيا. وكان أبوه ديِّناً متصوِّفاً، فلمّا ولد المولود العظيم أخذه إلى أحد الدراويش فدعا له أن (يكون كمالاً للإسلام). تعلم كمال في دار أبيه ودرس فيما درس بها العربية والفارسية والفرنسية، ولم يتعلم في المدارس إلاّ تسعة أشهر.
وفي سن الثانية عشرة ذهب مع جده إلى قارص وكان يمضي أكثر أوقاته في الصين، ثم ذهب إلى صوفيا حيث شرع يقرض الشعر وهو في الرابعة عشرة من عمره. ثم عاد إلى اسطنبول وهو ابن17 فصار مترجماً في الباب العالي واتصل بجماعة من الأدباء الذين يكبّرون الشعراء القدماء ويسيرون على نهجهم فشارك في الشعر وعُرِّفَ به ونشر ديوانا صغيراً تسمى فيه (نامقا) كدأب شعراء الفرس والترك في اتخاذ اسم شعري يردده الشاعر في منظوماته فيعرف به.
وكان شناسي أفندي أحد أدباء الترك الذين تعلموا في فرنسا يحتذي الشعراء الفرنسيين ويحرض ناشئة الأدباء على اتباع أسلوب جديد في الأدب، وكان لمقالاته في جريدته (تصوير أفكار) أثر عظيم على نامق كمال وأضرابه من الشبان، فأُعْجِبَ كمال به وشارك في تحرير جريدته ودعا إلى تجديد تركيا في السياسة والأدب وعظمت مكانته. فلمّا فرّ شناسي أفندي إلى باريس 1280هـ (1864م) خلفه في تحرير الجريدة، فانتشرت (تصوير أفكار) انتشارا عظيماً.(11/56)
وقد ضاقت الحكومة العثمانية ذرعاً بمقالاته فأرادت أن تشغله ببعض المناصب فجُعِل متصرفا للقلعة السلطانية في غليولي زمنا قصيرا وهو في سن 23. وبعد حين أريد إرساله سفيراً إلى بلاد العجم فأبى. وانتهى الأمر بينه وبين الحكومة إلى أن فر هو وجماعة من أنداده إلى لندرة سنة 1282هـ (1866م) ويقال انه ذهب إليها إجابة لدعوة مصطفى فاضل باشا ونشر لندرة جريدة (المخبر) ثم نشرها في باريس ونشر بعدها جريدة (الحرية) وفي باريس درس الحقوق والاقتصاد السياسي وترجم بعض الكتب من الفرنسية.
ولما مات الوزير عالي باشا سنة 1287هـ رجع كمال إلى استانبول فنشر جريدة (عبرت) فصارت أعظم الجرائد التركية. ولا يزال أدباء الترك يحرصون على صفحات هذه الجريدة ومقالاتها، وكتب إذ ذاك قصة (وطن ياخود سلستريا) فلم تحتمل الحكومة جرأته وصرامته، فنفته إلى قبرص فحبس بها وكتب هناك قصته الأخرى (عاكف بك)
ولما تولى السلطان مراد رجع إلى استانبول بعد أن أقام في منفاه 38 شهراً، وشارك مدحت باشا وضيا باشا في تحرير الدستور. ولما تولى السلطان عبد الحميد لم يصبر على أقوال كمال وأفعاله، فأُوخذ وحبس خمسة أشهر ونصف، شغل أثناءها بقراءة التاريخ ابتغاء أن يكتب تاريخاً للجيش العثماني. ولما برأته المحكمة مما اتهم به نفاه السلطان إلى جزيرة متلين وهنالك كتب قصائد أعرب فيها عن شكاته وحزنه، وكتب قصتين (جلال الدين خوارز مشاه) و (جزمي) تناول فيهما بعض حادثات التاريخ الإسلامي. ثم جعل متصرفا للجزيرة التي هو بها ثم نقل إلى رودس وكانت أكثر ملاءمة لصحته. وفي رودس شرع يكتب تاريخ الدولة العثمانية وقد جمع بها مكتبة حافلة مكنته من التأليف، ثم جعل متصرفا لمتلين فعاد إليها وواصل كتابة تاريخه على رغم مرضه، حتى منعت الحكومة أن يطبع هذا التاريخ وأمرته ألا يستمر في كتابته، وبعد سنة توفي سنة 1305هـ.
لا يتسع المجال هنا لتعداد مؤلفات نامق كمال، ولكن يمكن إجمالها في الديوان وثماني قصص ومؤلفات تاريخية منها (أوراق بريشان) التي ترجم فيها لصلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح وسليم الأول ونوروز بك، ومقدمة في تاريخ الرومان والتاريخ الإسلامي وكتاب ردّ فيه مزاعم رينلن الفرنسوي سمّاه (رينان مدافعة نامه سى) وهو من احسن ما كتب في رد ما كتبه رينان عن الإسلام. ومقالات عديدة هي من أروع آثاره. ويتجلى في(11/57)
كتب كمال حماسته وغيرته وإخلاصه في سبيل وطنه والإسلام، كما يتجلى الخلق العظيم، والنفس الكبيرة، والعزة الماضية والصبر على المكارة، والخيال الرائع، والتصوير الجميل والأعراب الحر عن آرائه ومشاعره. ولا ريب ان كمالا هو خالق النثر التركي الحديث والذي مهد
للأدباء الطريقة المثلى في الشعر بعد أن هداه إليها شناسي أفندي: وهذه قطع من آثار نامق كمال وان آثاره لأعظم وأكثر من أن تبين عنها هذه القطع الصغيرة. قال من مقال منشور وعن الشعر والشعراء:
- 1 -
الشاعر مخلوق من البسمات الحزينة: بسمات الطبيعة في أشد أوقاتها وجداً وولهاً. ترى في ضحكة أثر البكاء كقطرات الندى على صفحة الورد، وتلوح في بكائه سمات الابتسام كقوس قزح في السحاب المكفهر. هو أشد الخلائق استئساراً للطبيعة ولكنه يحاول أن يسمو فوقها، بينا هو لا يحسن تدبير أمره، يبغي إن يدفع بذراعيه الضعيفتين كرة الأرض إلى مركز كمال جديد ومحور سعادة آخر. فإذا عيّ بما يريد أرسل أناته الحزينة كأنات البلابل في الأقفاص خلف الحجب السوداء، أو صاح صياح النسور قد حلّقت في اللوح حتى ضاق بأنفاسها الهواء فأهوت مسرعة تملأ الهواء، صر صرتها.
الشعر هذه الصيحات الأليمة والشعراء هؤلاء البؤساء الذين فطروا على هذه الفطرة، لا من يؤلف التفاعيل والأفاعيل من خمسة عشر حرفاً أو يستطيع أن يؤلف القوافي من ثمان وعشرين كلمة. . الخ
- 2 -
وهذه قطعة منظومة ختم كل بيت منها بكلمة (على رغم) فتمثل في هذا التكرار إصرار النفس الكبيرة وثباتها على الدهر القلُب:
لست أبالي إن أعود تراباً على رغم عمري، ولست أفرُّ من عنصري، على رغم الممات.
لا تجعلن نفسك أذلّ من التراب الذي تطأه، اثبت على عزيمتك على رغم الدهر الذي لا ثبات له.
ما تمثل لي الباطل حقاً قط، ولقد اعتمدت على (الحق) على رغم الآلهة كلها.(11/58)
لا يخفين داهيةٌ آراءه، أعرض على الناس ما تعرف على رغم الدهاة أجمعين.
إن كان لابد للحياة على ظهر الأرض من تمريغ الوجه بالتراب فاختر بطن التراب على رغم الحياة.
رأيت مسير الكائنات شراً فاعتزلها، ووقفت في هذه السبيل وحيدا على رغم الكائنات.
وما التفت قط إلى الحظوظ الفاتنة على رغم ما لاح في طالعي من آلاف الحظوظ.
- 3 -
وهذه أبيات من قصيدة حماسية طويلة.
رأيت ولاة العصر قد حادوا عن الإخلاص والصدق فهجرت المناصب عزيزا سعيدا إن جرثومة هذا الجسم تراب الوطن. فماذا يفيده أن يمزقه الجور والمحنة في سبيل الوطن؟
لا يعين الظلمة إلا الأوغاد كما تنعم الكلب في خدمة الصياد السفاح.
من يخشى لوم الناس ولا يستح من نفسه فنفسه أحقر الناس عنده.
إن انتقام العقلاء من الدهر أن يعتبروا بحادثاته فيزدادوا جدا وصرامة وإقداما.
انتصار الأمة في اتحاد قلوبها والرحمة في اختلاف آرائها
إن عزيمة الرجل المكين تدير العالم، والدنيا في اضطراب من ثبات أولي العزم.
ليس على الأسد المسلسل عار، ولكن العار على الفلك الذي بنصب لحرب أولي الهمم. نحن سلالة الكرام من بني عثمان اختمرت طينتنا بدم الشهادة ونحن أولو المجد والهمم العالية الذين اخرجوا من عشيرة صغيرة دولة مسيطرة على العالم ونحن أصحاب السجايا الرفيعة الذين يرون في ميدان الحمية تراب القبر أهون من تراب المذلة.
هلم أيها الفلك اجمع مظالمك كلها ثم اصمد إلى فان كلت عزيمتي في سبيل الأمة فأنا المرأة الهلوك. . .
أيها الظالمون احذوا منازلة أبطال الحق فان نار الحمية تصهر سيوف الظلم.
- 4 -
- وهذه رباعية دائرة على الألسن من مأثور قوله:
ما حملت في حياتي سلاسل الأسار
وان الدنيا تعرفني مبرأ من قيودها والآصار(11/59)
هذا ميدان الحمية لا تفر أيها الجبار
فليمحك الله من هذا العالم أو فليمحني.(11/60)
في الأدب الغربي
من الأدب الفرنسي:
للأستاذ شاتوبريان (1768 - 1848)
للأستاذ أبي قيس
ولد فرنسوا شاتوبريان في سان مالو وهو قدوة الكتّاب في القرن التاسع عشر، اقتبس عن الفصحاء المدرسيين كبسكال وبوسويه وفولتير، وتأثر ببلغاء الإبتداعيين كروسو وبرناردان، ولكنه لم يقلد منهم أحدا. هو مصور ماهر لا يصف إلا ما يشاهده بأم العين فيثير في مخيلة قارئه أروع المشاهد، ويبالغ في الإتقان والمحاكاة حتى يجعل الغائب كالشاهد، ففتح بذلك مغالق الطبيعة وكشف عن سواحر محاسنها.
وهو ذلك الشاعر الذي يصور ببراعة حركات الفؤاد ووثباته، والخطيب البليغ الذي يرتفع حجاب السمع لرائع تشبيهاته واستعاراته، ولم يظهر في القرن التاسع عشر أسلوب أفخم ولا أسلس ولا أكثر تنوعا من أسلوبه، فكان لتبسطه في فنون اليراع إماما للشاعر المبدع، والكاتب الممتع، والمؤرخ الصادق، والناقد المنصف، والخطيب المثير، والقصصي القدير؛ وحسبك دليلاً على مبلغ تأثيره في كتاب عصره أن فكتور هوجو كتب على دفتره المدرسي وهو في الخامسة عشرة ما نصه: (أريد أن أكون شاتوبريان أو لا أكون شيئا!)
ومن روائعه: الشهداء وروح النصرانية، ورحلة من باريس إلى بيت المقدس وهي التي عربنا منها للرسالة وصفه لعرب فلسطين وحوادث آخر بني سراج التي عربها الأمير شكيب الأديب المنتج العجيب، ولخصها صاحب النظرات واتالا التي نقلها أنطون فرح إلى العربية.
عرب فلسطين
العرب حيثما أبصرتهم في فلسطين ومصر أو في بلاد البربر، قد ظهروا لي بقامة أقرب إلى الطول منها إلى القصر، مشيتهم البخترية برشاقة طبعوا عليها وخلقتهم في أحسن تقويم: وجوه مسنونة وجباه مقوسة عريضة وأنوف يزينها القنا والشمم، وعيون نجل لوزية الشكل ذات نظر نديُّ عذب، ثم لاشيء يشعرك منهم بوحشة، وان لبثت أفواههم مطبقة(11/61)
أبداً: ذلك انهم إذا ما اخذوا في التحدث إليك أسمعوك لغة تطربك نغمتها ويفعمك شذاها، ولمحت ثغوراً يروعك البياض الناصع من ثناياها والشنب مما يذكرك بأسنان العسابر وبنات آوى
والعربي يرتدي على الأغلب جلباباً يشده الحزام على الخصر وتراه ينزع يده حينا من كم جلبابه هذا فيمثل لك الردية القديمة وتبصره حينا آخر يلف بعباءة من صوف فتكون له رداءً أو كساءً أو وقاءً من الحر بحسب التفافه بها أو طرحها على منكبيه أو رأسه وهو يمشي حافياً أو منتعلاً ويتسلح بالبندقية والخنجر والرمح الطويل.
إن القبائل ترحل قوافل، والإبل تمشي قطاراً، والبعير الأول منه يجره حبل من مسد حمار هو قائد القافلة: فهو لذلك قد أُكرم بإعفائه من الأثقال وبما حبوه من أنواع الرعاية والاختصاص والعشائر الموسرة تزين الأباعر بالمخمل المهدب والريش والبنود.
أما الجواد فإنه يكرم على قدر استيفائه لأقسام العتق والكرم ولكنهم مع ذلك لا يتسامحون في سياسته أبداً فلا يحبسون الخيل في الظل بل يعرضونها لِلَفْحْ الهواجر مربوطة بالأوتاد من قوائمها الأربع ربطاً تجمد له في مقرها، وهي أبداً مسرجة وكثيراً ما تقضي نهارها على ورد واحد، ولا تعلف في اليوم كله إلاّ حفنات من الشعير: ومثل هذا التقتير في العلف مع انه لا يَهْزِلُها كفيل بتعويدها السرعة والصبر والقناعة.
راقني كثيراً جواد عربي كان مقيداً في الرمضاء. وشعر عرفه منتشر، ورأسه منحنِ بين يديه التماساً لبعض الظل، وهو ينقد بعين وحشية صاحبه ناظراً إليه عن عرض شزراً فإذا ما أنت فككت قيده وقذفت بنفسك على ظهره أزبد وحمحم ثم نهب الأرض نهباً.
إن كل ما يروى لنا عن ولع العرب وغرامهم بالقصص هو حق لا مرية فيه وأنا مورد لك على ذلك مثالاً:
سمرنا ذات ليلة على الرمل من ساحل البحر الميت، وبات التلاحمة حول النار المتأججة وبنادقهم ملقاة إلى جانبهم على الأرض والخيل، وهي مثلنا على شكل دائرة موثقة بأوتادها، وبعد أن احتسينا القهوة وتجاذبنا أهداب الأحاديث سكت هؤلاء العرب ما خلا شيخهم الذي كنت المح من خلال سنا النار حركات وجهه الناطقة ولحيته السوداء وأسنانه البيض والأشكال المختلفة التي كانت تتشكل بها ثيابه وهو ممعن في سرد قصته. وكان أصحابه(11/62)
يصغون إليه الإصغاء كله، مائلين إليه برؤوسهم ومقبلين بوجوههم على اللهب وهم يصيحون تارة صيحة إعجاب وطرب، ويقلدون أوضاع الشيخ المحدّث تارة أخرى. وبعض رؤوس من الخيل كانت ممتدة فوق السامر بأعناقها وانك لتتبينها في العتمة فتكمل بها صورة تلك اللوحة الرائعة ولا سيما إذا أنت أضفت إليها ناحية من البحر الميت ومن جبال فلسطين!. (دمشق - أبو قيس)(11/63)
العلوم
الرياح
للدكتور محمد عوض محمد
لعلنا معشر المصريين من أقل الأمم اكتراثاً لأمر الرياح، نعيش حياتنا
كأننا لا يهب علينا إلاّ نسيم عليل أو ريح رخاء، لا نستثني من هذا
غير شهر أمشير الذي ننعته بالأرعن. ولا يلبث أن يمضي أمشير حتى
نتناسى أن في العالم عواصف وزوابع وأعاصير منها ما يثير التراب
وما يقتلع الشجر ويهدم المنازل والدور
على أن هبوب الزوابع حتى في بلادنا - بلاد النعومة والسهولة ليس بالشيء النادر. وكثيرا ما نحس في أمشير وغير أمشير من الشهور تلك الحركة العنيفة في طبقات الهواء، وأنها لتهيب بنا فجأةً ونحن عنها لاهون، فإذا أبوابنا تقرع بعنف. ونوافذنا تكسر، وإذا سحب من العشير المطّار تتخذ سبيلها إلى أعيننا وآذاننا وأنوفنا المرغمة.
وهذه الزوابع قد تدوم ساعة وبعض ساعة أو يوماً أو بعض يوم، ثم لا يلبث الهواء أن يعود نسيماً ولا تلبث الريح أن تعود رخاء، ونحن قوم سريعو النسيان ووطننا العزيز سريع الغفران.
ومع ذلك فما أجدرناأن يزداد اهتمامنا بأمر الرياح، فإنها من الأمور التي تعنى بها طوائف عديدة من الناس في كل زمن وكل بلد. فالشعراء مثلاً من أكثر الناس اهتماماً بالرياح. طالما ذكروها ونعتوها، وحملوها رسائل الغرام بل قد تبلغ بالواحد منهم الجرأة أن يحملها القبلات والآهات والأنات:
وإني لأستهدي الرياح سلامكم ... إذا أقبلت من نحوكم بهبوب،
وأسألها حمل السلام إليكم ... فإنْ هي يوماً بلغت فأجيبي!
وطالما أثارت شجونهم، وبعثت الحنين في نفوسهم والدمع في مآقيهم وما أسهل انهمال دموع الشعراء!
وكأني بك أيها القارئ تتوهم أن هذا كله ليس بأمر ذي خطر بل قد ترى أنه من السخف أو(11/64)
دونه السخف، وقد تكون في هذا مصيباً. ولكن إذا كانت نظرة الشعراء إلى الرياح خفيفة سخيفة فإن نظرات الملاحين إلى الرياح نظرات حادّة جادّة.
وليس من سبيل لإنكار ما للرياح من أياد بيضاء يوم كانت هي القوة الفعالة التي تدفع السفن على أديم الماء. فعلَّمت الناس أن يتعارفوا وأن يتعاملوا ويتعاونوا. وهدتهم لأن يتاجر بعضهم مع بعض وكيف يستطيعون. . ويا للأسف، أن يسطو بعضهم على بعض ويفتك بعضهم ببعض؟.
كانت الرياح هي الوسيلة الوحيدة إلى قطع البحار والتقريب بين البعداء.
ولئن كانت البواخر في غنى عن الرياح فإنها لم تزل تخشاها وترهبها، فإن الرياح ما برحت قادرة على إثارة موج كالجبال ترتعد لها فرائص الرّكب. ويرتاع له الملاّحون.
وهناك سفن جديدة لا تجري على صفحة الماء بل تشق عباب الهواء وتحلق فيه تحليق العقاب. وهذه تخشى الرياح وتحسب لها ألف حساب فلئن كانت دولة الرياح قد دالت على صفحات الماء فإن لها في عالم الطيران سلطاناً لا يزال في أشد عنفوانه.
ثم أن هنالك طائفة من الناس أشد خطراً من هؤلاء جميعاً أو على الأقل تعد نفسها أعظم خطراً من الناس جميعا - وهي طائفة العلماء، علماء الطبيعة الذين يدرسون ظاهراتها، ويحاولون أن يطلعوا على أسرارها. هؤلاء يهمهم أمر الرياح كما يهمهم كل شيء على وجه الأرض وعلى غير وجه الأرض، وهم ينعتونها ولكن لا على طريقة الشعراء فلا يحملونها سلاماً ولا كلاماً بل يقيسون سرعتها بإحكام ويعرفون اتجاهها بدقة ويشرحون لك ما يسببها وما لا يسببها ويعززون أقوالهم بأرقام ورموز يوهمونك بها أن في الأمر أسراراً غامضة وأن صدورهم هي خزانة تلك الأسرار.
والآن فلنتحدث عن الرياح حديث العلم أولاً ثم نعود فنتحدث عنها حديث الأدب وهكذا نقدم للقارئ الغذاء الدسم في البداية تاركين الحلوى إلى النهاية.
فلنذكر أولاً أن هذه الكرة التي تزحف كلنا على سطحها يحيط بها غلاف عظيم من الهواء: غلاف لم يسبر أحد غوره تماماً وقد يكون عمقه مائة ميل وقد يكون مائتين، بل قد يكون أكثر من هذا. وان سألت العلماء كيف عرفوا عمق الهواء ولو على وجه التقريب قالوا لك انهم يرقبون سقوط الشهب حين تندفع نحو كوكبنا العزيز، فإذا رأوها تأخذ في الاحتراق،(11/65)
علموا إنها قد بدأت تحتك بهوائنا فإذ استعانوا بآلات راصدة سليمة لم يتسرب إليها الخلل وكان عقل الراصد سليماً لم يتسرب إليه الخلل استطاعوا أن يعرفوا على وجه التقريب درجة ارتفاع الهواء عن أديم الغبراء.
وهنالك طرق أخرى يقاس بها عمق الفضاء ولكن لن أتعب نفسي وأجهد القارئ في شرحها وتفهمها. وقد يتفضل بعض الأصدقاء (من العلماء) بالرد على هذا المقال؛ ثم يتوسع في الشرح والبيان بما يشفي غلة الظمآن.
علمنا إذن أن هذا الكوكب يشمله الهواء من جميع النواحي. ولحكمة إلهية عظيمة قد أحيطت الأرض بهذا الغطاء الكثيف الذي يحول دون أن تنفذ إلى الفضاء رائحة ما بالأرض من أدران وآثام. وما يغشاها من بغي وظلم. . فلنحمد العناية التي عملت على وقايتنا شر الفضيحة، فلم تطلع سكان السماوات على ما انغمست فيها أرضنا من إثم ورجس وفسوق وعدوان.
هذا الغلاف العظيم الذي يحيط بالأرض ليس هادئا ساكناً بل فيه حركة دائمة. وهذه الحركة هي التي نحسها حين نحس بهبوب الرياح. وأول سؤال يعرض لنا طبعاً هو: لماذا يتحرك الهواء ولماذا تهب الرياح؟
إن الشاعر العربي يتساءل: (أم هبت الريح من تلقاء كاظمة؟) ويريد هو واتباعه من الغاوين أن يوهموا العالم إن الريح ما هبت من تلقاء كاظمة إلا لكي يستطيع حضرته إن يمزج دمعاً جرى من مقلة بدم! ونحن نؤكد للشاعر الفاضل إن الريح لا يهمها إذا كان يمزج دمعه بدم أو يمزج الماء بالراح أو الوسكي بالصودا. . وإذا كانت الريح قد هبت من تلقاء كاظمة، فما ذلك إلا لأن الضغط الجوي شديد (عال) في جهة كاظمة وخفيف يسير (منخفض) في الناحية التي كان بها الشاعر.
ولقد يقف القارئ عند كلمة الضغط هذه ويتساءل (وحق له أن يتساءل) كيف يكون في الجو ضغط شديد أو غير شديد؟ إنّا نسلم بان في الأرض ضغطا وظلما واستبدادا يتفاوت من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان ولكن أيكون في الهواء ضغط وهو تلك المادة اللطيفة؟
والجواب على هذا السؤال بالإيجاب. فان الهواء في بعض النواحي شديد الضغط ونواح(11/66)
أخرى خفيف الضغط، فيدفع الهواء من الناحية التي يشتد بها الضغط إلى الناحية التي يخف بها الضغط منحرفاً في سيره إلى اليمين قليلاً في نصف الكرة الشمالي وإلى اليسار في نصف الكرة الجنوبي.
وهكذا تحدث الرياح وكلما كان الفرق بين الضغطين كبيراً ازدادت الرياح شدة وقوة. فيكون الاختلاف بين الرياح: فمن نسيم عليل إلى إعصار عنيف.
ثم يعرض لنا سؤال آخر نحاول أن نفر منه فلا نستطيع إلى الخلاص منه سبيلا. ذلك إننا وان سلمنا بان الرياح انتقال الهواء من جهة ذات ضغط شديد (عال) إلى جهة ذات ضغط خفيف (منخفض)، فأننا لابد أن نتساءل لم كل هذا الاختلاف في الضغط؟ ألا يمكن تطبيق مبدأ المساواة المجيد ولو في الهواء، مع العلم بأن المساواة في الظلم عدل؟
هنالك لابد لنا أن نقرر والحزن يملأ قلوبنا إن ليس في العلم (ويا للأسف!) مساواة. انظر حيثما شئت تجد التباين والاختلاف! انظر إلى البحار تجد منها العميق الذي لا يسير له غور والضحل القريب المنال. والأنهار منها الضعيف القليل الماء ومنها المفعم السريع الجريان. ثم انظر إلى اليبس تر فيه جبالاً شاهقة قد رفعت رأسها فوق السحاب وفي ناحية أخرى ترى سهولاً مبسوطة وأودية وطيئة.
إذن فلا عجب إذا اختلف ضغط الهواء على وجه الأرض وأسباب هذا الاختلاف كثيرة، وأهمها من غير شك اختلاف حرارةالأقاليم، فحيث الحرارة الشديدة يتمدد الهواء ويخف وزنه وضغطه ويحاول الصعود إلى أعلى فيندفع الهواء من جهات حرارتها أقل من حرارة تلك الأقاليم ليحل محل الهواء المتمدد الصاعد ويسد الثغرة التي أوشكت أن تحدث. وإذا كنا نحن في مصر نحسّ رياحا آتية من الشمال ذاهبة نحو الجنوب (نحو خط الاستواء) مارة ببلادنا العزيزة فتنعشها وتبردها ومن اجلها أحببنا لمنازلنا أن تطل على الشمال. فان هذه الرياح هي من ذلك النوع وهي الرياح التجارية بالذات - تمر بنا وهي ذاهبة إلى الأقاليم الحارة لكي تحل محل ذلك الهواء الخفيف المتصاعد في تلك الأقاليم.
هذا بعض السبب في اختلاف ضغط الهواء من مكان إلى مكان. وهنالك أسباب أخرى مثل دوران الأرض وتوزيع الماء واليابس وغير ذلك من أمور لا نريد أن نطيل شرحها خوفاً من أن ينقلب هذا الحديث إلى درس من دروس الجغرافية.(11/67)
بقيت ملاحظة لابد منها وهي أن المصريين وعلى الخصوص الطبقة المثقفة منهم قلما يلاحظون الرياح وهبوبها واتجاهها. فقد يختلف اتجاه الرياح في اليوم الواحد من أيام الخماسين مرتين أو ثلاثا فلا تنتبه إلى هذا التغيير في اتجاه الريح. وأقصى ما نلاحظ أن الهواء حار أو شديد. وانه قد انقلب فصار هادئا بارداً.
وان المرء لتأخذه الدهشة حين يقارن هذه الحال بما كان عليه العرب من دقة الملاحظة لهذه الظاهرة الطبيعية وكيف استطاعوا أن يميزوا شكولها وضروبها فراقبوا اتجاهاتها المختلفة وأطلقوا على كل ريح اسماً يدل عليها. ثم لاحظوا ما بها من قوة وضعف وجعلوا لكل اسمه، وكذلك ميزوا الرطب منها والبارد والحار وما إلى ذلك.
ولئن كان العلماء اليوم يرقبون اتجاه الرياح ويقيسون سرعتها وشدتها ودرجة حرارتها مستعينين بآلات دقيقة فان العرب قد سجلوا هذا كله من غير استعانة بآلات. فمن حيث اتجاه الرياح نرى العرب قد ميزوا بين الرياح التي تهب من الشمال والجنوب والشرق والغرب، ورياح الشرق هي التي سموها الصبا ويقابلها من الغرب الدبور. وكانت الريح أحيانا تهب منحرفة عن الجهات الأربع الأصلية فكان العرب يدعونها عند ذلك بالنكباء.
ثم أرادوا أن يميزوا بين الرياح الضعيفة المريضة والقوية العنيفة فأكثرها هدوءاً النسيم التي تهب بنفس ضعيف ثم الرخاء السهلة ثم الحنون التي لها مثل حنين الإبل ثم تليها الرياح الشديدة فالبارح التي تهز الأشجار.
وتأخذه عند المكارم هزة ... كما اهتز تحت البارح الغُصن الرطب
ثم الهوجاء التي تجر وراءها ذيلاً من التراب ثم الزعزع ثم العاصفة، ثم الحاصب وهي التي تقشر الحصا من وجه الأرض (وأرسلنا عليهم حاصبا).
وكذلك ذكر العرب أنواعا خاصة من الرياح فالزوبعة هي التي تدور في الأرض دون ان تقصد وجهاً واحداً. والإعصار ريح تدور بقوة وتنعكس من الأرض إلى السماء. وهكذا تجد في العربية كثيراً من الدقة في التمييز بين الرياح القوية والضعيفة. أما ملاحظتهم للرياح الحارة والباردة فلا تقل عن هذا دقة. فالريح البليل هي المنعشة ذات الندى التي ليست بالحارة ولا بالقارسة وكذلك الصراد أبرد منها قليلا. أما الرياح الشديدة البرودة فهي العريّة التي تهب عادة من الشمال:(11/68)
وأنت على الأدنى شمال عَريَّة ... تذاب منها مرسغ ومسيل
ثم الريح الصرصر والحرجف والالوب.
أما الرياح الحارة فمن أسمائها الحرور والسموم والسعار وهذه الأخيرة اشدها حراً وسعيرا.
وليست هذه الأسماء كل ما ورد ذكره في كلام العرب عن الرياح بل أن هنالك أسماء أخرى عديدة. وما ذكرنا الذي أوردناه هنا إلا لكي يرى القارئ مبلغ دقة العربي في ملاحظة الظاهرات الطبيعية، وليس بين كل هذه الأسماء ما هو مترادف. بل لكل منها معناه الخاص الدقيق.
وبالطبع قد أكثر شعراء العرب من ذكر الرياح وبوجه خاص اكثروا من ذكر الصبا. وأهل الحجاز يدعونها صبا نجدٍ لأنها تهب عليهم من تلك الناحية.
وهي ريح لطيفة جافة ليست بالحارة ولا بالباردة. وأظن الإكثار من ذكرها في الأشعار يرجع إلى عذوبة اسمها اكثر مما يرجع إلى عذوبة المسمى. أو لعل شعراء نجد هم الذين أكثروا من ذكرها إذ كانوا يفدون إلى الحجاز ليتاجروا بما لديهم من تمر وسمن ووبر ثم تهيج الصبا شوقهم إلى أوطانهم فيصيح شاعرهم:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد؟ ... لقد زادني مسراك وجداً على وجد
فالأصل في التغني بريح الصبا أن يكون صادرا عن النجدي وهو في الحجاز ثم يقوم الآخرون بالتقليد.
وهنالك نظرية أخرى لا تقل طرافة عن هذه، وهي إن الوفود إذا أقبلت على مكة فان الفتى الحجازي قد يهيم بغانية من بنات نجد لا تلبث أن تعود بعد الحج إلى وطنها العزيز ويطير قلبه وراءها شعاعا. ولا يزال بعدها تهيجه روح الصبا وتشوقه.
أما بشار بن برد فزعم انه تستهويه الجنوب على إنها عادة رياح حارة شديدة الحرارة وللناس فيما يعشقون مذاهب!
هوى صاحبي ريح الشمال إذا جرت ... وأهوى لقلب أن تهب جنوب
وما ذاك إلاّ أنها حين تنتهي ... تناهى وفيها من عبيدة طيب.
ويعجبني في هذين البيتين مطابقتهما في المعنى لبيتين قالهما بعد بشار بألف سنة الشاعر الاسكتلندي الرقيق روبرت برنز. وهما قوله:(11/69)
وتعريب البيتين:
من بين الرياح التي تهب من مختلف الجهات
أحب حباً شديداً رياح الغرب
لأن هنالك تعيش الغادة الحسناء
الغادة التي أحبها أكثر من كل شيء
وهذا من أبدع الأمثلة التي يمكن أن تذكر في توارد الخواطر.
ولابد أن نختم الآن هذا المقال لان حديث الشعراء كحديث العفاريت إذا فتحته فمن الصعب أن تسده.(11/70)
القصص
قصة مصرية
سفروت الحاوي
- 2 -
ووقف الجمع برهة ينتظر رجوع الرجال الذين بعثهم صاحب الفندق وعلموا أنهم بحثوا عن بولص خارج الفندق وداخله من غير جدوى. فانفجرت المرأة ثانية بالصياح والتهديد
- أنا بقولَّك أب واغْطس بجوزي دلوقت أهه لحسن اوديك في داهية.
- يا ست يعني أنا حاخذه أعمل بيه ايه، ياريت كنت عارف طريقه وأنا كنت والله أجيبه لك.
- أمال راح فين الراجل؟
- والله يا ستي أنا علمي علمك.
- لأ. أبدا. أنت عارف طريقه! أنت سحرته بالجن الأحمر والأخضر بتوعك
- جن اخضر بتوعي؟!، هو أنت صدقت إني اعرف جن وسحر؟ يا ستي أنا راجل على باب الله وده كلام بس علشان أكل العيش تعالي وأنا أوريك الصندوق علشان تصدقي.
- اصدق؟ أنا ماعرفشي أمور الحوي دي، أنا حاوديك في داهيه. أنت خنقت الرجل علشان تاخذ فلوسه
ولوت المرآة وأمسكت بخناق الرجل بأصابع كأنها (كماشة النجار) فالتف الناس حولهما وأخذوهما إلى نقطة البوليس
ولما لم تكن على سفروت مسؤولية جنائية فقد أطلق سراحه بعد يوم فترك راس البر تتحدث عن هذا الحادث المدهش وسافر إلى غيرها من المصايف.
مر على ذلك الحادث عامان نسي فيهما الحاوي بولص وامرأة بولص إلا في فترات كانت تعاوده الذكرى فكان يتعجب للأمر في نفسه ويود لو عرف ما انتهى إليه أمرهما حتى إذا كان ذات مساء وهو يدخل باب ملهى من ملاهي العاصمة كان وقتئذ يشتغل به لمح بائع سميذ جالسا يعد قروشه على الإفريز وتبين فيه صاحبنا بولص فلما أيقن من صواب زعمه دنا من بائع السميذ هامساً:(11/71)
- أنت بولص بتاع واقعة رأس البر؟
فأنتصب البائع واقفا في رجفة تناثر معها بعض سميذه ونقوده وحاول أن يهرب ولكن سفروت أوقفه وأعاد عليه السؤال فأنكر واشتد في الإنكار وقال إن اسمه محمود وانه لا يعرف ما راس البر ولا من هو سفروت، ورأى الحاوي إن حديثهما وهياج محدثه قد يجمعان عليهما المارة فاخذ البائع إلى حارة باب المسرح الخلفي وهدأ خاطره وأكد انه لا يضمر له كرها ولا ينوي شراً وان كل ما به إنما هي رغبة شديدة في أن يعرف السبب الذي حدا به إلى فعلته الشاذة.
وبعد لأي اعترف البائع بأنه هو بولص ورضي أن يدخل مع الحاوي إلى غرفته الخاصة بالملهى حيث حدثه بخبيئة أمره. قال سفروت فيما تحدث به لبولص:
- طيب يعني مالئتش إلا صندوقي تختفي منه! ما كنت تسيبها وتمشي من غير شوشرة وفضيحة؟
قال بولص:
- ما جدرتش أبداً يا أخي. فكرة الهروب منها دي ما جاتش في دماغي إلا في راس البر، يظهر أنها زي اللي خمنت باللي في نيتي فكانت دائما في رجليهما تسيبيش 10 دجايج لما طهجتني وجطعتني العشم. تعرف بعد ما نزلت بالصندوق وبعته لك فاضي! أنا طرت على الفلوكة اللي كانت تستناني فوج عند الطابية أخذتها ورحت على دمياط ومن دمياط ببجور الفجر على مصر.
- يعني كنت بتكرهها للدرجة دي؟
- اكرهها؟ أنت متعرفشي جدا إيه يمكن الواحد يكره مراته ياسي سفروت، يكرهها ويكفر منها وينجن كمان. يا أخي أجول لها ياحنينة أنا في عرضك طلجيني. أبوس مركوبك يا حنينة تسيبيني. أعطيك 500 جنيه. أعطيك ألف جنيه. مفيش فايدة، يمكن أنت متصدجشي ياسي سفروت لكن أنا كنت راجل غني، أنا كنت بتاجر في 2000 جنيه وكان عندي بيت كويس وعشر فدادين طين ملح وده كله سبته لها. اعمل إيه! مفيش طلاج عندنا ياسي سفروت زي ما عندكم، هجيت وبعت سوداني وجصب وسميط واستحملت اجلام الشاويش وشخطه وعشت في أوده بريال في بولاج، كل ده عشان اهرب من وشها. جيت أغير ديني(11/72)
وأبجه مسلم مطجشي، ما هانش عليه ديني يا سي سفروت. دين الواحد زي ولده.
ولاحظ سفروت ان توتر أعصاب محدثه بلغ اشده ولاحظ دماً قرمزيا يترقرق في وجه الرجل الذي صبغته الشمس والقذارة بلون غرين النيل فحاول ان يهدئه ويواسيه ولكن بولص اندفع يقول:
_ دي ربت لي وجع الجلب والله يا سي سفروت. أنا كل مفتكر المره دي جلبي زي اللي يُجَفْ. لا ولأدهى من كده انها لسه بتعتش عني! الأنكت من كده إنها لا عاوزة فلوس ولا طين عاوزاني أنا بس.
_ يمكن بتحبك يا بولص.
_ بتحبني!! لأ. لأ. دا مش عبارة حب دا جنون. دي تكرهني زي العمى يا سي سفروت.
وانتهى حديث الرجلين بعد وقت فخرج بولص يبيع سميذه وذهب سفروت إلى مسرحه وهو يعجب لأمر الرجل.
وبعد بضعة أيام بينما سفروت يعد عدته للظهور على المسرح إذ دخل عليه بولص وبعينيه بريق الجنون الذي يكون به في ساعات هياجه، فلما رحب به الحاوي أظهر القبطي خشونة وجفاء كأنما هو يضمر عداء وشرا فسكت سفروت وقتا حتى تحدث بولص:
_ أنت فتنت عليّ؟
_ فتنت إيه؟!
_ أيوه أنت فتننت عليّ. أنت اللي بلغت عني للبوليس.
_ إزاي افتن عليك يا معلم؟! هو أنا لي صالح في كده؟ وحتى لو كان هو أنا راجل خسيس للدرجة دي؟ عيب ده يا معلم بولص متكلمشي كلام زي ده.
وقام بولص بعنف فأمسك بتلابيب الحاوي الذي ملكه الخوف والدهشة وصاح به قائلا:
- أنت مجوز؟ احلف لي بالطلاج انك مبلغتش البوليس.
ولم ير الحاوي بداً من القسم بالطلاق ثلاثا انه لم يفعل شيئا من هذا فهدأ بولص واعتذر ثم شرح ما حدث له قال.
- لما روحت امبارح جالت لي الولية جارتي أم شحاتة إن واحد شاويش جه يسأل عني في النهار مرتين. أول مرة جه لوحده وأم شحاتة جالت له إن مفيش ساكن اسمه بولص هنا.(11/73)
بعدين راح ورجع في المغرب ومعاه حرمة طويلة ووجفوا يتحروا في الحتة. أم شحاتة جالت إن الساكن اسمه محمود بتاع السميط، حامت الحرمة سألت عن وصفتي وأم احمد أعطتها وصفتي، حنينة جالت أهو هو دا بولص. تصدج يا سي سفروت والله ماجدرتش أبات في الأوده رحت اتلجحت في الجامع اللي جنبنا لحد الصبح اعمل إيه يا سي سفروت؟ اهرب من حنينة فين؟ المره دي مش ناوية تسيبني ألا ميت.
واتت بهية تذكر سفروت بعمله فودع هذا بولص وذهب إلى المسرح وقبيل الحفلة ذهبت بهية إلى غرفتها لتغير ثوبها استعدادا للدور الأخير وتركت الحاوي يشرح للنظارة أمر الصندوق ويعد له عدته، وتأخرت بهية فبينما هو يفكر فيما يفعل إذ أقبل بولص عليه من جانب المسرح بوجه أدكن وعينين بارقتين شاردتين مما ذكر الحاوي بوجه الرجل في الليلة المقمرة. تقدم بولص وبه من الرجفة والذعر ما شغل الحاوي عن حرفته وأنساه صيته وموقفه والنظارة الذين خفتت أصواتهم واشرأبت أعناقهم في انتظار ما يكون، وهمس بكلمات متقطعة كحديث المحتضر قال:
- خبيني. . . أنا في عرضك خبيني. . . مراتي بره ومعاها شاويش. . . حطني في الصندوج، حطني في الصندوج!!
ودخل القبطي إلى الصندوق بغير انتظار واقفل عليه بابه وقد ملك الدهش على سفروت أمره حتى فقد القول والفعل، ثم رجع إلى نفسه بعد برهة ليتبينها أمام حقيقة واقعة وليدرك ان لا مخرج له سوى ان يخفي الرجل داخل الصندوق.
وقال سفروت في نفسه: لو فلت القبطي فقد أسديت له يدا ولو لحقه البوليس فما علي من ذلك لوم ولا تبعة وليس هو بالمجرم ولا أنا بالخارق للقانون، وكل ما علي الآن هو أن أسرع في عملي وأعطيه الفرصة ليهرب ويقيني انه لن يرجع إلى الصندوق، فإذا دعوت بهية بعد ذلك فسوف تقوم بحيلتها كالعادة وأما إذا أخرجته الآن من الصندوق بالقوة فسوف يكون من ذلك هياج الناس وتعكير صفو المحفل ومسئوليتي أمام المدير.
ولم يتردد سفروت بل ربط الصندوق ووقف عليه وتحدث إلى النظارة المنذهلين عن جنه وهيوليته الخ الخ، حتى إذا انتهى من الديباجة نزل. رفع الغطاء وهو موقن أن بولص قد خرج من الصندوق إلى تحت المسرح ثم إلى ما شاء له قدره.(11/74)
ولكن بولص لم يخرج من الصندوق ولم يتحرك؟؟
روح بولص فقط هي التي بارحت الصندوق إلى بارئها أما جثته فقد بقيت لتستلمهاحنينة!!
قال أحد السامعين: غرضك بولص مات في الصندوق؟؟
فأجاب الراوي: نعم نعم، في رواية انه مات بالسكتة القلبية وفي رواية أخرى انه مات منتحرا بطعنة سكين في جنبه الأيمن وإن سفروت رأى دمه يسيل إلى المسرح، ولكن مهما اختلفت الروايات فمن الثابت ان زوجة القبطي وجدت جثته هامدة لما ارتقت المسرح مع ضابط البوليس.
وقال سامع ثان: طيب وجرى إيه لسفروت؟
فأجاب الراوي: حدثني صديقي احمد عن صديقه محمد أن الحاوي طَلَّق حرفته بعد هذه الحادثة وانه يشغل الآنترجمانا في بلدته بور سعيد ولكن الله أعلم بحقيقة الأمر
وسأل سامع ثالث: ما اتهموش سفروت بقتل الراجل! فتجاهل الراوي هذا السؤال لغباوة سائله.
م. م. م(11/75)
إلى بئر جندلي
للأستاذ الدمرداش محمد. مدير إدارة السجلات والامتحانات بوزارة
المعارف
- 1 -
في شتاء سنة 1908، وقبيل إجازة عيد الأضحى، دعاني خالي إليه وابتدرني قائلا وفي فمه ابتسامة:
_ هيا معي إلى بير جندلي. غداً مساءً سنغادر القاهرة.
_ بير جندلي؟ ما هذا؟
_ رحلة صيد في جبل المقطم تستغرق خمسة أيام، وسنكون مع أصدقائنا عائلة رشيد، وقد اعددنا لها العدة.
كانت مفاجأة، واترك للقارئ أن يتصور وقع هذه المفاجأة في شاب لم يبلغ الثامنة عشرة، لا يعرف عن جبل المقطم إلا القليل مما التقطه في طفولته من أفواه العجائز في أحاديثهم عن العفاريت والوحوش، أو عرفه من القراءة في كتب وضيعة تصور لك المقطم قفاراً ومفاوز لا نبات فيه ولا ماء، وانه مسكن المردة والجان ومأوى جبابرة اللصوص وقطاع الطرق ومرتع الوحوش الضارية من نوع السباع والأسود التي يرسمها نقاشنا البلدي على واجهات منازل الحجاج العائدين من الحجاز.
كان قد أزف الوقت فانصرفت أعد نفسي للرحلة على عجل، وأذكر الآن وقد مضى على الحادث ما يزيد على خمسة وعشرين عاماً، إني صرفت شطراً كبيرا من الليل في تصفح ما كان عندي من الخرائط، متفرساً في أسماء الجبال والسهول والأودية، باحثا بينها عن بئر جندلي، ولكني لم اظفر بطائل، وأذكر كذلك أني لم أنم في تلك الليلة إلا غراراً، فقد كنت مشرد العقل مهموما قلقاً تتوارد على ذاكرتي حكايات الوحوش وقطاع الطرق وقصص الأهوال التي لاقاها رواد الجبال، من عطش، وجوع، ومخاطر، فينقبض لها صدري وتثور هواجسي، ولولا إرادة قوية، وإيمان ثابت لتغلب الضعف على نفسي، ولأحجمت عن مصاحبة الجماعة.
بعد الغروب في اليوم الثاني أقلتنا عربة إلى منزل عائلة رشيد بشارع الدرب الأحمر(11/76)
بالقرب من المحجر على بعد عشر دقائق من القلعة - منزل عتيق من طابقين له باب كبير ثقيل ومن خلفه دهليز يؤدي إلى فناء رحب تحيط به الحجر والمرافق وتطل عليه النوافذ والشرفات - في هذا الفناء شاهدت جملين مناخين حولهما حركة عنيفة صامتة، فقد كان القوم منهمكين في إعداد لوازم الرحلة - فهذا يملأ قرب الماء حتى إذا ملأها تعهد متانتها ثم أحكم ربطها إلى جانبي البعير، وذاك يحزم الملابس والأغطية ثم يضعها على ظهره، وثالث يرتب علب المأكولات داخل صندوقين من الخشب ثم يشدهما بوثاق إلى ظهر البعير الثاني وهكذا - بعد أن تبادلنا التحية دخلنا حجرة واسعة قد جلس في صدرها رجل وسيم المحيا مليء الجسم طويل القامة كبير الشوارب وقد خط الشيب شعره، فاستقبلنا واقفاً مرحباً ثم قدمني إليه خالي قائلا:
عمك عبد الله بك كبير الأسرة.
فلثمت يده على ما كان متبعاً في ذلك الوقت فضمني إلى صدره وقبّلني في جبيني وقال وهو يلاطفني: إنك الآن يا ولدي تجيب داع التقاليد في أسرتك؟
بعد قليل هدأت الحركة في الفناء، ثم نهضت الجمال وخطت نحو الباب وقد أمسك بزمام الجمل الأول شيخ يناهز الستين في لباس بدوي وقد ارتسمت على وجهه جميع إمارات الثقة بالنفس والتوكل على الله، وكان يقود الجمل الثاني شاب بدوي كذلك ممشوق القامة نحيل الجسم قد عّلق على ظهره بندقيته وتدلّى من صدره حزام للخرطوش ولما مرّت الجمال أمام النافذة أطلّ عليها عبد الله بك وقال بصوت هادئ رزين:
- على بركة الله يا شيخ سويلم
فأجاب الشيخ بصوت متهدج فيه غنة وبحة: بارك الله فيكم يا بك
- أين الانتظار؟
- على نير الفحم يا بك
خرجت الجمال إلى الشارع وقد انتصفت الساعة التاسعة وبخروجها شمل المنزل سكون عميق. ثم اتجه عبد الله بك نحو نضد في جانب الحجرة قد ثبتت فيه آلة لحشو الخرطوش فأخذ يديرها بمهارة وخفة، وبعد ان قضى في ذلك نحو نصف ساعة تناول من علاّقة قريبة مناطق الخرطوش وملأ به عيونها ثم خرج.(11/77)
وبعد قليل عاد يتبعه أخوته الأربعة وهم جميعا في حلة الصيد من سترة مقفلة وسروال قصير وقد لفّوا حول الساق (القلاشين) ووضعوا فوق الرأس قبعات كبيرة على نحو ما يلبسه المهندسون زمن الصيف، فجلسنا نتجاذب أطراف الحديث، وفي نحو الساعة التاسعة والنصف دق الباب فصاحوا جميعا: ها قد أقبل الشيخ محمد - ثم دخل رجل في لباس بدوي فاستقبلوه باحتفاء وترحاب وبعد ان استوى في مجلسه سأل عن الجمال فقيل له أنها بارحت المكان منذ ساعة ثم نظر إليّ وقال من هذا الصغير؟ فقيل له ابن أخت احمد بك، فمال نحوي وقال بلهجة عذبة هل تصاحبنا يا آخي؟ فقلت نعم. فقال هكذا يكون الشباب يا سادة! - كان الرجل يكلمني وأنا مأخوذ فلم أر فيه إلا وجها صغيراً تحيط به لحية خفيف، وجسماً نحيلا وقامة قصيرة.
وفي تمام الساعة العاشرة وقف الشيخ محمد وتناول بندقيته وثبتها على ظهره وفعل مثله الآخرون ثم قال هيا بنا يا سادة. توكلنا على الله!، فخفق قلبي خفقاشديدا ثم تقدمنا وسرنا خلفه في صفوف.
(لها بقية)(11/78)
الكتب
ثورة الأدبمن هيكل إلى طه
أخي طه
لم تخلفني موعدك عند ظهور كتابي (ثورة الأدب) فقد عوَّدَتْني أُخُوَّتُكَ
الصادقة وصداقتك الخالصة كلما ظهر لي كتاب ان تتناوله بالبحث وان
تتناولني بالثناء. بل عودتني هذه الاخوة ان تتناول بعض فصول كتبتها
بالبحث فيها وبالثناء عليّ من أجلها. وتحت نظري الآن ثلاثة فصول
من قلمك العذب أحدها عن كتابي (في أوقات الفراغ)، والآخر رد على
نقدي كتابك في (الأدب الجاهلي)، والأخير عن الفصل الذي كتبت عن
النثر والشعر والذي احتواه كتابي الجديد. وفي كل واحد من هذه
الفصول كما في غيرها من فصول نشرت السياسة ونشرت الأهرام من
قبل هذا الثناء، وهذا البحث الذي يسعدني بما لك من أثر في مجهودي
وإنتاجي يجعلك صاحب فضل فيه كبير. ولست أخفيك أني مدين في
حيلتي ككاتب لأشخاص كثيرين شجعوني وآزروني وعاونوني بوحيهم
وبنقدهم وبحسن توجيههم إياي وأني ما أزال بحاجة إلى هذه المؤازرة
وإلى هذا الوحي إن كان قد قدر لي أن أنتج في الكتابة شيئاً جديداً
ولعلي أستطيع يوما أن أفي لأصحاب الفضل هؤلاء بفصل على الأقل
أكتبه، فما أستطيع اليوم أن أحصيهم وهم كثيرون. لكنك كنت وما تزال
يا صديقي في مقدمتهم كنت وما تزال كذلك حين ألقاك وأتحدث إليك
وحين أقرؤك واستمتع بجمال ما تكتب، وعظيم لذته ودسم غذائه وحين
أفكر فيك وفيما أثرت في الأدب وفي تاريخ الأدب العربي من ثائرات(11/79)
لما تهدأ. والحق انه إذا كانت ثورة الأدب مدينة في هذا العهد الأخير
لعدد غير قليل من الكتاب والأدباء فهي مدينة لك بأعنف ما فيها، مدينة
لك بأشد ما فيها طرافة. وبحسبي أن أذكر ذلك لتعلم كم يفكر فيك من
فكر وما يزال يفكر في ثورة الأدب، ومن يعتقد بل من يلمس هذه
الثورة ويرى أنها ما تزال لما تهدأ وأنها ما تزال تحطم وتهدم وتحاول
أن تبني كما حطمت الثورة الفرنسية النظم والطبقات. ولست أحاول
الرجم بما عسى ان تتمخض عنه هذه الثورة حين يستقر الأمر إلى
التوليد الهادئ المطمئن، ولعل صديقنا المازني أقدر مني على هذا
الرجم.
ولست أخفيك كذلك ان فصلك عن (ثورة الأدب) أثار مني ابتسامات دهشة وخجل متصلين من أوله إلى آخره فقد رأيتك تصورني فيه صورة لا أعرفها لنفسي، صورة جن لا ينقطع إنتاجه وأب لا يبخل على أسرته بحقها عليه، وصديق لا يضن على أصدقائه بحقوقهم عليه. فلست أعرف لنفسي من هذا كله شيئا. إنما أنا مقصر في حقوق أصدقائي، أكثر من مقصر في حق أسرتي. ثم ماذا تراني يا صديقي أنتجت؟ دعك من فصول يومية تكتب في الصحف فأنت أعرف الناس بتفاهة ما ينفق من مجهود في هذه الفصول. ودعك من العمل في حزب سياسي فأنت أدري بالسياسة المصرية: ما هي وما مبلغ الجد فيها. دعك من هذين وانظر وإياي فيما أنتجت. إنه لا شيء أو لا يكاد يكون شيئا، فأنا رجل بيني وبين الخامسة والأربعين شهور، وهذا أنا لا خيل عندك تهديها ولا مال، فليسعد النطق ان لم تسعد الحال. أم تحسب هذه الكتب القليلة مجهود جني؟! إن يكن ذلك فهو جني بليد ويطوف في الآفاق ثم يرضى من الغنيمة بالإياب، أو هو كما ذكرت جني هادئ مطمئن أفاق منذ حين قصير من نوم مريح. ولعلي لا آسف إذ أصف نفسي في ذلك على حقيقتها. وكل رجائي أن أصل من الحياة إلى حظ هادئ مطمئن يكفيني بعده أن أفي لأصدقائي بحقوقهم ولأسرتي بحقها وألا أكون هذا الرجل المقصر الذي يعذر الناس تقصيره ويتوهمونه لكثرة(11/80)
عمله، وما هي كثرة العمل وإنما هو تقصير من جعله الحظ مقصرا.
وتذكر يا صديقي انك دهشت حين رأيتني أعلنت عن (ثورة الأدب) إعلانا أميركياً وإني سارعت في إهدائي وكنت تعرفني أشد الناس فتورا في الإعلان والإهداء، وتتساءل إن كان الله قد رزقني عفريتا في الإعلان، وتكرر انك ما تزال دهشا لأنك لم تفهم بعد مصدر هذه السرعة في الإهداء والإعلان. وإني لجد حريص على أن تزول دهشتك. فلأدلك على هذا العفريت الذي رزقني الله في الإعلان والإهداء. هو النظام الجديد للمطبوعات والصحف. فقد تعلم أن هذا النظام يقتضي إجراءات، منها تقديم عدد من النسخ إلى إدارة المطبوعات ومنها أن أية هيئة علمية أو أدبية أو دينية أو ما أدري ماذا تستطيع أن توحي إلى الحكومة فتصادر الكتاب الذي يطبع، وقد تصادر المطبعة التي طبع الكتاب فيها. ولعلك لم تنس قصة كتاب الخطيب البغدادي في السنة الماضية وحسن بلائك في الإفراج عنه. وقد ابتلينا نحن من قبل بشيء من هذا حين طبعت وصاحبي المازني وعنان كتاب (السياسة المصرية والانقلاب الدستوري) فقد قدمنا منه خمس نسخ لإدارة المطبوعات وأخذنا بها إيصالا وأردت بنفسي أخذ خمسمائة نسخة من الكتاب فإذا البوليس يحيط بي ويقتادني وكتابي إلى قسم عابدين، وإذا به يأمر ألا ينشر الكتاب وإذا بي اضطر إلى الالتجاء للنائب العام وإلى انتظار أسبوع أو نحوه حتى يفرج عن الكتاب. أفليس من حقي وذلك ما رأيت أن احتاط لنفسي حتى لا يقودني البوليس والجند مرة أخرى إلى القسم. فإني لأؤكد لك يا صديقي طه إن مثل هذا الموقف ليس مما تستريح له نفسي ولا نفس أي رجل مثقف. ولتلاحظ يا صديقي أن عنوان كتابي (ثورة الأدب). . وإذا كنت مهما آثر ألاّ أخيفك أو كانت الثورة لا تخيفك مهما تكن فيخيل إلي إن غيرك يخاف حين أثور وإن لم أر نفسي يوماً في حاجة إلى أن أثور، ويخيل إلي أن غيرك يخاف من كلمة الثورة كما كان الأتراك في العهد الحميدي يخافون كلمة الثورة وكلمة الحرية ولا يأذنون بنشرها أو نشر ما يماثلها. ولكي أتقيِ البوليس والجند والذهاب إلى القسم أعلنت الكتاب للناس وسارعت إلى إهدائه أصدقائي حتى إذا صودر قبل نشره أو أصابته مصيبة من مصائب هذا العهد أكون قد تعزيت بما أهديت من بعض نسخه، وبأني أعلنته للناس فحل بي وبه ما حل من ظلم وهضم.(11/81)
هذا هو العفريت الذي لم تعرف يا صديقي مصدره. ولعلي إذ دللتك عليه وذكرت لك ما أصاب كتابي (السياسة المصرية والانقلاب الدستوري) عزيري عن خروجي على ما طبعت عليه من فتور في الإعلان والإهداء يعادل فتوري في حق أصدقائي وفي حق أسرتي. فان رأيتني مع ذلك بالغت في الاحتياط فظهرت في غير ما كان يليق بي أن أظهر فليس لي إلا أن أعتذر إليك وأن أعدك أني لن أعود إليها.
هذا عن شخصي. وما أدري يا صديقي ما عساي أقول لك فيما كتبت عن (ثورة الأدب) لقد أثار دهشتي وأثار خجلي فما كنت أحسبه ينال منك كل هذا التقدير، ولا كنت أحسبه جديراً به. وما عساي أقول في تقديرك الكتاب بأنه (تاريخ صحيح دقيق للأدب العربي المصري في هذه الأعوام الأخيرة من جهة وهو فلسفة أدبية رفيعة موضوعها أدبنا الحديث من جهة أخرى) وانه كتاب (تمضي فيه فيخيل إليك انك تمضي في كلام مألوف ولكنك لا تكاد تفكر قليلاً فيما تقرأ، أو لا تكاد تلح في القراءة حتى يفح لك هذا الكتاب أبواباً ويبسط أمامك آفاقاً ما كنت تعرفها أو تفكر فيها من قبل). وإذا كل شيء جديد. وإذا كل شئ طريف. وإذ الكاتب يخدعك ويمكر بك وان لم يرد خداعا ولا مكرا، (وان المؤلف هو المؤرخ العربي للأدب العصري الحديث، وانه قد فرض بذلك نفسه، لا أقول على هذا الجيل وحده، بل أقول على الأجيال المقبلة أيضا. . . وان كتابه هذا سيصبح من المصادر القيمة للذين يريدون أن يدرسوا أدبنا المصري في نهضته هذه الحاضرة) ما عساي يا صديقي أقول في هذا كله. أقول انه كثير. وانه أثار دهشتي وخجلي. واحسب صدق مودتك وإخلاص اخوتك كان لهما أثر غير قليل في إملاء هذه العبارات ومثلها عليك، كما كان لهما اثر غير قليل فيما كتبت عن شخصي.
ولعلك أنت شعرت بهذا، وخشيت من أن يتهمك الناس بالإسراف في الثناء على صديقك إسرافا بصرفهم عن حسنِ الاستماع له فأردت أن تحصي عليه وعلى كتابه بعض هنات تجعلهم أدنى إلى الإيمان بعدالة ثنائك. وأنت على حق فيما أحصيت من بعض الهنات وإن كنت قد أسرفت في بعضها. فقد ذكرت أن هيكلا: (من أصحاب المعاني بين الكتاب وأنه يهمل لغته إهمالا شديداً ويتورط في ألوان من الخطأ واضطراب الأسلوب، يدنيه أحيانا من الابتذال. والغريب أنه لا يضيق بذلك ولا يجد به بأسا ولا يعترف بأنه يسيء إلى نفسه(11/82)
وإلى أدبه معا) والحق يا صديقي إنني لا أضيق بشيء ولا أجد به بأساً. لكني أستأذنك في أن أوجه إليك شيئا من اللوم غير قليل. فنحن حقا مختلفان في أمر اللغة والأسلوب خلافاً سأتلو عليك سببه. لكني لم أعرف قط منك أن لغتي وأسلوبي يدنياني من الابتذال. بل عرفت منك غير هذا. ولعلي لا أخطئ إذا وضعت تحت نظرك بعض عبارات كتبتها أنت في هذا الشأن. فقد ذكرت حين كتبت في السياسة الأسبوعية في 13 مارس 1926 عن كتابي (في أوقات الفراغ). و (. . . كذلك كنت منذ عشرين سنة أو نحو ذلك حين كنت تكتب في (الجريدة) وكذلك أنت الآن. وإن يكن قد جد شيء فهو أنك ازددت فيما أنت فيه من القوة ثباتاً ورسوخ قدم، وانك استطعت ان تملك اللغة العربية وتسخرها لأغراضك، وقد كانت تستعصي عليك وتنتهي بك أحيانا إلى ما يكره سيبويه والخليل، وصديقك طه حسين. وأنت تذكر ما كان بيني وبينك من جدال متصل في هذا الموضوع. فقد كنت أتهمك بقلة البضاعة في اللغة العربية وكنت تجيبني بأني أزهري. وكان أستاذنا لطفي السيد يسخر منك ومني في رفق وحنان. وقد مضت أيام وأعوام وما زلت أنا أزهرياً كما كنت، أما أنت فقد أتقنت اللغة العربية إتقاناً وروّضتها حتى ذلت لك. فأنت تستطيع ان تقول إني أزهري وأنا لا أستطيع أن اتهمك بالضعف في اللغة العربية. ولكن لكل شيء حداً. فما رأيك في أنك أتقنت اللغة العربية، حتى لقد تسرف في هذا الإتقان وتصطنع من الألفاظ والأساليب ما يصح أن تعاب به لأنه أدنى إلى التقعر منه إلى شيء آخر. صدقني فأنت أزهري في بعض الأحيان. وكم لي عليك من فضل أيها الصديق العاق. ما زلت أعيب لغتك حتى أصبحت شيخاً قحاً). . . وقد ذكرت حين كتبت عن فصل الشعر والنثر في السياسة الأسبوعية بتاريخ 9 أغسطس سنة 1927: (أنت لا تكتب إلا اضطررت قرّاءك إلى الثناء والإعجاب، وأنت لا تسمع ثناءً ولا تحس إعجابا إلا ازددت إجادة وأمعنت في الإتقان. ولست ادري إلى أين يذهب بك هذا الإمعان في إجادة البحث وإتقان التفكير والتوفيق إلى الجمال الفني فيما تكتب. الخ) لعلي لم أخطئ إذ وضعت تحت نظرك هذه العبارات وما قد تذكر من مثلها لأوجه إليك شيئاً من اللوم غير قليل. فمالك يا صديقي وكلنا نعرف دقة ذوقك الأدبي، لم توجه نظري منذ تلك السنوات الطويلة إلى ما أتورط فيه من خطأ واضطراب في الأسلوب يدنيني أحيانا من الابتذال. لقد كان لي أثناءها متسع من(11/83)
الوقت لأوجه شيئا من الجهد أسلم به من هذا الذي لم تنبهني إليه إلا اليوم. أما ولم تفعل فلعلي لا أغلو يا صديقي إذا اتهمتك بأنك خدعتني كل هذه السنين وعبثت بي كل هذا العبث، وتركتني حتى تقدمت بي السن إلى حيث لا يستطيع الإنسان إصلاح ما أفسد الدهر.
أم أن الأمر ليس كذلك يا صديقي وأنك أنت قد ازداد ذوقك الفني دقة، زادت نقدك للغة والأساليب بأساً وشدةً، فأخرجني ذلك من حظيرة رفقك وتسامحك. إن يكن ذلك فأنت جدير من أجله بكل ثناء، جدير بكل تقدير على ما حباك الله مما كنت أود لو جاد عليّ ببعض منه.
أم إنني كنت يا صديقي على ما وصفت في سنة 1926 وسنة 1927 ثم عادت بضاعتي من اللغة العربية إلى مثل ما كنت تذكر قبل خمس وعشرون سنة من قلة، وعاد أسلوبي إلى الاضطراب أحيانا. إن يكن ذلك فلا حول ولا قوة إلا بالله. وإنّا لله وإنا إليه راجعون. فإما إن لم يكنه فلومي شديد إياك وعتبي عليك يقضي به عليك وفاؤك لصديقك أن تراجع كتبه كلها ما ظهر منها وما قد يظهر وان تزيل منها ما قد يكون فيها من اضطراب وخطأ، فان لم تفعل وجهت إليك اليوم ما وجهت أنت إلي في سنة1926 من تهمة عقوق الصداقة وعدم الوفاء بما لها من حق.
أحسبك ستبتسم حين تقرأ هذه العبارة لأنك تعلم أني لا أضيق بأسلوبي، ولا أجد به بأساً. ولعلك يا صديقي على حق. بل انك لعلى حق. فليكن أسلوبي ما يكون فلن أرضى به بديلا: فأسلوب الكاتب هو الكاتب. ولن أرضى لنفسي أن أكون إلا أنا. أنا بما فيّ من حسن وقبيح. من خير وشر. من عرف ونكر. والحمد لله الذي جعلني كما أنا، ولم يجعلني شراً مما أنا. والحمد لله الذي جعل كثيرين ممن تناولوا كتابي هذا وغيره من كتبي يعجبهم أسلوبي اكثر مما أعجبك يا صديقي.
وما لي أضيق بأسلوبي ولم اتخذ الأدب يوما صناعة ولا أنا توفرت على دراسة الأدب. إنما أنا رجل درس القانون ودرس الاقتصاد والسياسة ومال إلى قراءة الفلسفة والأدب لا إلى دراستهما دراسة انقطاع وتمحيص، وطبيعي أن يكون أسلوبي أسلوب الذين درسوا القانون والذين يرون ان تؤدي المعاني بألفاظ لا تزيد عليها ولا تضيق بها، والذين لا(11/84)
يعنيهم لذلك بهرجة اللفظ للفظ، وقد زادني حرصا على هذا الأسلوب إني رأيت مثله موضع الإطراء من طائفة من كبار الكتاب والفلاسفة. وأنت لا ريب يا صديقي قد قرأت نقد (تين) لفلسفة كوزن في أحد الأجزاء الثلاثة من كتابه (رسائل في النقد والتاريخ) ورأيت كيف جعل من أشد ما آخذه به أنه يطيل من حيث لا تقتضي الفكرة الإطالة، وكيف جعل ينقل الصفحة الكاملة من كوزن فيضع فكرتها في سطرين أو ثلاثة اسطر. هذا والأدب الذي أقرأ ينحو اليوم نحو هذا الأسلوب. فبعد أن كانت روايات روسو تقع في خمسمائة صفحة أو اكثر نزعت القصة شيئا فشيئا بأسلوبها إلى الإيجاز. لا في وقائعها، ولكن في بهرجة الألفاظ التي تقص بها تلك الوقائع، ولعل ميل العالم الحاضر إلى السرعة في كل شيء هو الذي عفى على الإطالة، فملّ الاستماع إلى الأشخاص الذين يعجبون بالاستماع إلى كلامهم حين يتكلمون فيطيلون القول لتطول لهم لذة هذا الاستماع، وملّ قراءة الأشخاص الذين يعجبون بألفاظهم حين يكتبون فيطيلون رسائلهم وكتبهم. لعل هذا الميل إلى السرعة هو الذي مال حتى بالأدب إلى أسلوب القانون، وهو الذي جعل الذين درسوا القانون في فرنسا وفي مصر وفي كل أمة من الأمم يجددون في الأساليب كما يجدد فيها الذين توفروا على دراسة الأدب، أو أكثر مما يجدد فيها هؤلاء في بعض الأحايين، والفن الحديث هو الآخر ينحو هذا النحو، فالبساطة والقوة هما اليوم أساسه، ويخيل إلي أن أسلوب هذا الفن وأسلوب الأدب وأسلوب القانون قد اتفقت اليوم وقد نفت الزخرف للزخرف، وأصرت على أن يكون اللباب هو الأساس في أساليبها جميعا. اللباب الذي يعطي القطعة الفنية طابعها والذي يقيم نظريات القانون ويحقق رسالة الأدب، اللباب الذي يقف من هذه جميعا كالبيت المشيد من غير حاجة إلى ما تعودته القرون الماضية من زخرف عصور الرومانتسم ومن زخرف الكلاسيك أنفسهم. ولعلك توافقني يا صديقي على الأسلوب هذا ولا ترى رأيا غبره وإن كان الخلاف بيننا على اللغة وعلى الأسلوب قديما. فقد درجت أنت من أزهريتك التي أشرت إليها إلى أسلوبك الجديد وجاهدت أنا ما استطعت الجهاد حتى وصلت إلى ما أنا اليوم.
لكني أعترف يا صديقي بأنك على حق حين آخذتني بأنني أسرع فيفوتني لذلك التحقق من بعض الشؤون وانك وقعت على هنّة ما كان يجوز لي أن أقع فيها حين أردت أن أذكر(11/85)
الأوديسا فذكرت الأنياد. وإذا ذكرت لك أنني أنا الذي قمت بتصحيح تجارب الكتاب فقرأته عدة مرات قبل طبعه رأيت أني أكبر جريرة. لكني اختلف وإياك وإن كنت لا أحسب ذلك خلافا فيما ذكرت عن لابرويير وموليير. فما اشك في انهما تأثرا بكتّاب اليونان ممن ذكرت ومن تعرف أكثر مما أعرف لأنك درستهم دراسة خاصة. ولكنني إنما أردت أن موليير ولابرويير لم يتخذا من تاريخ اليونان والرومان إطار أدبهما كما فعل راسين وكورني. بل اتخذا الحياة المحيطة بهما وتأثرا بها إطار أدبهما. وهذه خطوة في التحرر من آثار اليونان والرومان مهدت للخطوات التي بعدها. فان تكن إشارتك يا صديقي إلى طائفة من الخطأ تأخذ به كتابي إنما هي إلى خطأ من هذا النوع، فلعله لا يكون خطأ. ولعلنا نستطيع أن نتفق عليه اتفاقنا على أكثر ما في كتابي من آراء، وليس شيء احب إلى من أن أتفق وإياك وأن كنت أجد في اختلافنا لذة لا أجدها في خلاف يقع بيني وبين أحد غيرك.
وقد لاحظت يا أخي أن اشتغالي المتصل بالسياسة قد أثر في تصوري الأشياء وفي حكمي عليها بعض الشيء وذكرت لذلك مثلين:
أحدهما إني أسرفت حين أسأت الظن بما يكتبه الأوربيون عن حياتنا الأدبية بينما أنت تظن أن (جب) وأمثاله لا يأخذون السياسة وأهواءهامقياساًلدراستهم الأدبية. والثاني إنني أسرفت حين أحسنت الظن بنا وبحظنا من الخيال وقدرتنا على الإنتاج وإني إنما فعلت ذلك لأرضي المصريين والشرقيين في الأدب كما أفعل في السياسة. وانك أنت ترى هذا شرا لأنه تغيير للحقائق العلمية إرضاء لمصر والشرق، والحقائق آثر عندك من أي شئ، ومن أي إنسان. وإنني لأؤكد لك صادقا ان الحقائق العلمية آثر عندي أنا أيضا من كل شئ ومن كل إنسان. وإذا كان اشتغالي المتصل بالسياسة قد اثر في تصوري الأشياء وفي حكمي عليها فإنما كان أثره أن زادني تقليباً للأشياء، وامتحانا لها وتعمقاً في بحث ما تنطوي عليه وما ترمي إليه، وأنا معك في أن (جب) وأمثاله لا يتخذون السياسة وأهواءهامقياسا لدراستهم الأدبية. لكن دراساتهم هذه، ودراسات الكثيرين منهم على الأقل، يقصد بها أكثر الأمر إلى تنوير الساسة من أهل بلادهم، وإلى اطلاعهم على عنصر من عناصر حيوية الشرق هو في رأيهم، وهو في الواقع، أجلّ هذه العناصر خطراً. فإذا كانت الأهواء السياسية ليست هي التي توجه دراساتهم فدراساتهم يقصد بها في كثير من الأحيان إلى(11/86)
خدمة هذه السياسة وإن قصد بها كذلك إلى أغراض علمية بحتة. وما أحسبك تخالفني يا صديقي في أن كتاب (وجهة الإسلام) الذي ألفه خمسة من كبار المستشرقين المشتغلين بالأدب الحديث في بلاد الشرق المختلفة إنما هو كتاب سياسي مداه بحث ما وصلت إليه أوربا مما يسميه الأستاذ (جب) تغريب الشرق، وما يرجى لهذا (التغريب) في المستقبل من نجاح. وأنا لا أعيب هؤلاء العلماء المحترمين بهذا بل أحسدهم عليه أعظم الحسد. فهم به يخدمون أوطانهم ويخدمون العلم ويخدمون الحقيقة من ناحية سياسة بلادهم ومن ناحية الحضارة الغربية التي يريدون ان تظل المدنية الحاكمة في العالم. وهذه الخدمة الجليلة التي يقومون بها لأوطانهم وللعلم ولحضارتهم حقيقة علمية يسرّ لي اشتغالي بالسياسة الوقوف عليها. ولو أنك انقطعت للسياسة يا صديقي انقطاعي وأفنيت من تفكيرك فيها ما أفنيت أنا لوافقتني على هذه الحقيقة ولم تتهمني بالإسراف إذ علمتها، وما ذكرت أنا في مقدمة (ثورة الأدب) عن الحضارة التي نعمل جميعا لبعثها، وهل هي حضارة إسلامية أم حضارة عربية، واهتمام بعض الطلاب والطالبات الأوربيين برأينا في ذلك وحرصهم على إقناعنا بأنها حضارة عربية وليست حضارة إسلامية، إذاً صدق ظني، ففيه جانب من السياسة يعادل ما فيه من جانب البحث عن الحقيقة العلمية.
أما إني أسرفت متأثراً باشتغالي المتصل بالسياسة في حسن الظن بنا وبحظنا من الخيال وقدرتنا على الإنتاج فاحسب صديقي يوافقني على انه إذا زالت عوامل الفتور والضعف مما أشرت إليه في تضاعيف كتابي لما كان فيما قلت شيء من الإسراف. وإذا جاء اليوم الذي ينفسح فيه عندنا ميدان العلم وتزول كل العوائق التي تقف اليوم في سبيله والذي تتقرر فيه حرية العاطفة وحرية الحس وحرية الأدب، والذي يبعث فيه تراث هذا الشرق العظيم، والذي يكثر فيه المتعلمون تعليما صحيحاً منا كثرة تسمح بالتخصص في الأدب والانقطاع لفرع من فروعه، يومئذ يكون القول بقصورنا في الخيال وفي القوة على الإنتاج تجنياً على هذه البلاد وعلى الحقيقة، هذا إلا أن تكون يا صديقي من الذين يقولون بان الأوربيين ينتمون إلى الجنس الآري وهم لذلك أرقى منا ونحن ننتمي إلى الجنس السامي بالطبع. وما أحسبك تقول بهذا أو تعتبره حقيقة كما يود بعض العلماء في أوربا اعتباره بل أحسبك ترى هذه حقيقة سياسية يراد بترويجها تغريب الشرق والقضاء عليه بان يبقى(11/87)
خاضعا للغرب إلى الأبد.
واختم رسالتي هذه إليك يا صديقي بشكرك شكراً لا حد له وبان أشير عليك أن تقرأ كتيباً صغيراً كتبه بول جيزل عقب وفاة أناتول فرانس عنوانه ما ذكر فيه عن موليير وشكسبير وغيرهما من كبار الكتاب وما قاله النقاد فيهم. وإذا كنت أنت اكبر من هؤلاء النقاد، وكنت أنا لا شيء إلى جانب هؤلاء الكتاب الذين خلقهم القدر أعلاما في حياته الإنسانية بل في حياة الوجود كله فان فيما قرأت أنا من ذلك ما عزاني عن أسلوبي وعن بعض ما أخذت عليّ بحق من هنّات أؤكد لك إني سعدت بتنبيهك إليها اكثر ما سعدت بثنائك علي. أفليست الحياة جهاداً متصلا نحو الكمال، كل في حدود ما يطيق، وهل للكمال سبيل إلا المجهود المتصل والتهذيب الدائم لهذا المجهود وتشذيب ما يند عن الطريق السوي فيه حتى لا ننساق وراء الشذوذ فنضل الطريق السوي. وهذا فضل لك جديد أضيفه إلى سابق أفضالك علي وأرجوك أن تعتقد إني دائما.
صديقك الوفي المخلص
محمد حسين هيكل
1(11/88)
العدد 12 - بتاريخ: 01 - 07 - 1933(/)
ذكرى المولد
في مثل هذا الأسبوع من مثل هذا الشهر لسنة ثلاث وخمسين قبل الهجرة أعلن الله كلمته من جديد، في استهلال هذا العربي الوليد!!
وكانت قافلة الحياة يومئذ جائرة السبيل حائرة الدليل خائرة العزيمة. والعالم الإنساني يكابد في هيكله المنحل عوامل البلى من وثبة توبق الروح، وجاهلية توثق العقل، ومادية ترهق الجسد. وكانت الولاية عليه في ذلك الحين لأعقاب من الروم شفهم الفسوق والترف، وإخلاف من الفرس هدهم الغلول والطمع، والناس عدا هؤلاء وأولئك أوزاع وهمج. . اللهم إلا شعبا نبيل الفطرة اعتصم بالصحراء من هذا الفساد الشامل، فما عبث بضميره سلطان، ولا عدا على خلقه طاغية. . . نشّأته الطبيعة على سجاياها المرسلة، وراضته على نظمها المحتومة، وصفّاه (الانتخاب الطبيعي) بالغزو المتلاحق والدفاع المتصل، فأودى بضعيفه، وأبقى على قويه، حتى لم يدم على أديم الجزيرة إلا سيف صارم، وفرس جواد، ودارع بطل! ثم تنخل من هذه الصفوة الباقية في القرن السادس أمّة وسطا تحمل في قوة الحيوية، وكمال الرجولة، وصفاء الحس، المثل الأعلى للإنسان الأعلى (سوبرمان).
تلك هي الأمة العربية التي اختارها الله لقيادة شعوبه الحائرة، واختار منها محمدا لتبليغ رسالته الأخيرة. . .
بين إيوان كسرى وبلاط قيصر اهتز مهد العربي اليتيم في أرض مكة! فتصدّع لهزّته الإيوان، وتطامن لهيبته القصر!! وكأنما هتف بالعاهلين العظيمين من جانب الغيب هاتف: (اليوم ينتهي تاريخ ويبتدئ تاريخ! ليس بعد اليوم ملك ولا كاهن ولا سيد! إنّما العبادة لله، والقيادة للرسول، والسيادة للدين، والحكومة للعرب، والدنيا للجميع!!)
وبين عرش قيصر وعرش كسرى انتصب منبر النبي الكريم في سماء (المدينة) فتضاءل لجلاله عرش، وتقوّض لدعائه عرش! ثم انبثق نوره القدسي في مجاهل البدو ومعالم الحضر، كما يبتسم الأمل في قطوب اليأس، وتومض المنارة في ظلام المحيط! هنالك ظهرت الوحدانية على الوثنية، والغيرية على الأنانية، والإنسانية على العصبية، والإسلام على الجاهلية، ثم عرف الإنسان قدر الإنسان، وأدركت النفوس جمال الإحسان، ووجدت قافلة الحياة طريقها القاصد!
كان العالم يقاسي حين ولد محمد بن عبد الله تفكك الخلق، وتحلل الرجولة، وضياع المثل(12/1)
الأعلى، فكان أكمل ما في حياة (الأمين) هذه الصفات النوادر: خلق عظيم شهد به الله، ورجولة كاملة خضع لها الناس، ودين يجمع إلى سعادة الدنيا سعادة الآخرة، ورسالات الرسل إنما تعالج بظهورها الفساد الذي استشرى في العالم، والداء الذي استفحل في الناس.
فإذا كانت معجزة الرسول في القرآن، فان مجده في الخلق، وفوزه بالرجولة. والشعوب المختلفة التي صهرتها شخصية العرب، وطبعتها ثقافة العرب، لم تصل إلى الإخاء والوحدة إلا على منهاجه وهديه.!
ظهر رسول الله والعرب أشتات من غير جامع، وهمل من غير رابط، وأحياء من غير غرض، فاضت في نفوسهم الحياة، وزخرت في صدورهم القوّة، وصرفوا هذا النشاط العجيب إلى نزاع لا ينقطع، وصراع لا يفتر. فحمل إليهم وحده رسالة الله لا يسنده سلطان، ولا يؤيده جيش، ولا يمهّد له مال، فنفروا منها نفور الوحش المروّع! ثم رأوا فيها سيادةً لأسرة، وخضوعا لقانون، وخروجا على عرف، فقابلوها بالعناد وعارضوها بالحجاج ودافعوها بالكيد. آذوا الرسول في أهله وفي صحبه وفي نفسه، فما وهن عزمه ولا لانت قناته. وإنما قابل الأذى بالصبر، والسفه بالحلم، والفضاضة بالرقة، وهذا هو الخلق؛ ثم قارع الجدال بالتحدي، والمكابرة بالسيف، وهذه هي الرجولة: وبذلك الخلق وهذه الرجولة انتصر محمد وحده على العرب! وبذلك الخلق وهذه الرجولة انتصر العرب بعده على العالم!
فلينظر اليوم شعب محمد وأتباع محمد ماذا في نفوسهم من دينه. وفي أخلاقهم من خلقه، وفي أيديهم من تراثه؟؟ فإن وجدوا أن دينهم أصبح رسما محيلا في نفوس الخاصة، وأثرا مشوها ضئيلا في نفوس العامة، وأن أخلاقهم فقدوها يوم فقدوا الحرية، وأضاعوها يوم أضاعوا الملك، وأنّ تراثهم أصبح نهبا مقسّما بين شذاذ الشعوب وذؤبان الأمم، فليفيقوا من النوم، وليخففوا عن القدر اللوم، فإن الله لا يظلم الناس مثقال ذرّة! ومن عاند طبيعة الحياة فقتل في نفسه الطموح، وفي فكره التجدد، وفي عمله الابتكار، ورضى أن يكون في الدنيا كالأثر في المتحف، إنما يدل على ملك باد وشعب انقرض، كان يسيرا عليه أن يدع دينه للمبشرين، ووطنه للمستعمرين، ثم يقعد مقعد الخوالف يتحسّر على المجد المفقود، ويتعلل بالأماني الكواذب!!(12/2)
إن ذكرى مولد الرسول ذكرى انطلاق الإنسانية من أسر الأوهام، وطغيان الحكّام، وسلطان القوة. وتحكّم الجهالة. فما أجدر النفوس الذاكرة الحرة على اختلاف منازعها أن تخشع إجلالا لذكرى رسول التوحيد والوحدة، ونبي الحرية والديمقراطية، وداعية السلام والوئام والمحبة!! وما أخلق الزعماء الذين يحاولون اليوم توحيد العرب من جديد، أن يتخذوا منهاجه سبيلا إلى هذا العمل المجيد!!
أحمد حسن الزيّات.(12/3)
لغو الصيف
للدكتور طه حسين
من هنا يا آنسة؟ من هنا؟ ثم أشار إلى مائدة منعزلة كأنّما هيئت لقوم يريدون الخلوة واعتزال الناس. فلما انتهيا إليها أعجبهما مكانها الجميل على شاطئ النيل في ظل هذه الشجرة الضخمة الباسقة، قد مدّت أغصانها في قوة إلى أمام، حتى إذا تجاوزت بها الشاطئ حنتها نحو الماء، وغمستها فيه كأنما تريد أن ترتشف منه، ونظر الصديقان من حولهما فلم يريا أحدا، ومدّ الصديقان بصرهما أمامهما وأطالا النظر إلى النيل وهو يجري من تحت أقدامهما في قوة الشاب وهدوء الحكيم، ثم جلسا، وقال الرجل لصاحبته: هنا يحسن الحديث، قالت: ويحسن الصمت أيضا. وقد ظهرت على وجه صاحبها علائم تدل على أنّه لم يفهم عنها ما أرادت إليه، وأحسّت هي منه السؤال الذي لم ينطق به، فقالت وكأنها تجيب، إن تحدثنا تساقينا موسيقى الحوار، وإن سكتنا تساقينا نجوى الضمائر ووحي القلوب. ولنا في كلتا الحالين لذّة، ولنا في كلتا الحالين متاع، فخذ بأيهما شئت. قال فأيهما تريدين؟ قالت لا أريد شيئا إلاّ أن نترك أنفسنا على سجيتها. فإن انطلقت ألسنتنا سمعتها آذاننا، وإن آثرت نفوسنا الحديث الصامت وعته قلوبنا. قال وهو يضحك: أيسر من هذا كله وأدنى إلى التناول أن نتساقى ما يبرد الغليل، ويرد عنّا حرّ هذا القيظ، ثم دقّ يدا بيد في شيء من الرفق. فأقبل الخادم وتلقى عنه أمره وأنصرف.
وكان هو طويلا نحيفاً، ظاهر النشاط، خفيف الحركة، مكتمل القوة، لا يظهر عليه ما يدل على سنه إلاّ خيوط بيض متفرقة قد انتثرت في شعر رأسه انتثارا. وكان عذب الصوت، حازم اللهجة، معتدل الحديث، ولعله كان إلى الإبطاء فيه واصطناع الأناة أدنى منع إلى الإسراع والتعجل، وكان صوته يمتد من حين إلى حين، لا غضباً ولا تحمساً، ولكنه كان مقتنعا بما يقول، فكانت حدّة صوته ولينه يمثلان حظه من الإيمان والاقتناع بما يقول.
وكانت هي ربعة. ممتلئة الجسم، مستقيمة القد، معتدلة القامة، وكان وجهها مشرقا شديد الإشراق، منسقا بديع التنسيق، تمر به من حين إلى حين سحابة رقيقة جدا من حزن لا يكاد يتبيّنها إلاّ من اعتاد أن يلقاها ويطيل صحبتها والتحدّث إليها.
وكانت هذه السحابة الطارئة لا تمر بها وهي تتحدّث، إلاّ قطعت عليها الحديث فجأة، ثم لا(12/4)
تلبث أن تزول فيتصل الحديث، ولا تمر بها وهي تسمع إلاّ لهت عن محدثها لحظة ثم تزول، وإذا هي ترفع إلى محدّثها طرفا فيه شيء كثير جداً من الحياء والإشفاق، وتستعيده ما قال في صوت عذب، ولفظ حلو، يحسن مسّه للآذان ووقعه في القلوب. وكان صوتها هادئاً عريضاً يمثل نفسا هادئة غنية ممتلئة بالعواطف الخصبة والشعور الحي والعلم الغزير.
وكأن الفرصة أرادت أن ترضي حاجتها إلى الصمت، وحاجة صديقها إلى الكلام، فقد أقاما صامتين للحظة غير قصيرة ينظران إلى سعى النهر أمامهما، كأنهما ينتظران شيئا، وكأنهما يلهوان بالنهر وسعيه الهادئ القوي عمّا يضطرب في نفوسهما من الخواطر والآراء، ومن العواطف والأهواء، حتى إذا أقبل الخادم فهيأ المائدة وصفّ أكوابه وأطباقه، وانصرف راضياً عن نفسه مبتسما لضيفيه، نظرت هي إلى صاحبها كأنها تسأله أن يبدأ الحديث فقال: وقد فهم عنها ما كانت تريد، لسنا في حاجة إلى أن نبتدئ الحديث، وما علينا إلاّ أن نأخذه حيث تركناه حين انتهينا إلى هذا المكان الهادئ الجميل.
قالت فإن هدوء هذا المكان وجماله قد أنسياني حدّة ما كنّا فيه من حوار، واضطراب ما كنّا نتبادل من رأي، فلننظر القضية من أولها، فلعل هذا الهواء الطلق وهذا المنظر الحلو، وهذا السكون الساكن، أن تكون قد ردتك إلى شيء من الصواب وصدتك عما كنت فيه من جموح. فما أرى إلاّ أنّك تظلم الأدب والأدباء جميعا، وتقسط على الشبّان والشيب. وكم أحبّ لك أن تكون سمح النفس، رضيّ الطبع، مستعداً لشيء من التجاوز، تعذر طيش الشباب، وترفق بحدة الشيوخ. قال فأحب أن أعلم أين الشباب وأين الشيب، ومتى يكون الأديب شابّا، ومتى يكون الأديب شيخا. فهذا حديث طريف لم أسمع به في مصر قبل هذه الأيام، ولقد رأيت الأدباء منذ عرفت الأدب ينشئون النثر ويقرضون الشعر على اختلاف أسنانهم وتفاوت حظوظهم من القوة والضعف، فلا يختصمون في شباب ولا شيخوخة، وإنّما يختصمون في الرأي ويختصمون في الفن، يعين بعضهم بعضا، ويدافع بعضهم بعضا، لا يعتز الشيخ على الشاب بتجاربه وكثرة ما أنتج من الآثار، ولا يعتز الشاب على الشيح بحداثته وقوته، ونظرة شبابه، واتساع الأيام أمامه، وانبساط الآمال له. قالت لم تر ذلك من قبل ولكنك قد رأيته الآن. فأيّ غناء في أن تنكر شيئا حدث الآن لأنه لم يحدث من(12/5)
قبل، وأي فرق بينك وبين عامة الناس الذين يضيقون بالجديد، لا لشيء إلاّ لأنهم لم يألفوه ولم يطيلوا عشرته.
إنّ في الشباب نزوعا إلى الفوز، وطموحا إلى الظفر، وتعجلا لأتساع الشهرة وبُعد الموت، وكل هذا طبيعي، وكل هذا مألوف لأنه يلائم فطرة الشباب وأخلاقهم. ولا تنكره عليهم. ولا تصرفهم عنه، فإنّي أخشى أن يفت ذلك في أعضادهم. وأن يضعف من نشاطهم، وأن يرد جذوتهم هذه الجميلة إلى الخمود. قال لقد كنّا شبابا كما كانوا. وكان لنا من رفاقنا في الأدب أساتذة قد سبقونا إلى الحياة وتقدمت بهم علينا السن، وأخذوا من التجارب العلمية والفنية بحظوظ لم نأخذ بمثلها. فما حسدناهم وما أنكرناهم، ولا جاهدناهم ولا قصدنا إلى المكر بهم والكيد لهم، وإنما كنّا نقفوا آثارهم ونسمع لنصائحهم ونستعذب أحاديثهم، ولعلنا كنّا نحس ما بينهم وبيننا من خلاف، فلم يكن ذلك يغرينا بهم، ولا بصرفنا عنهم، وإنك لتذكرين كم كنّا نستعذب أحاديث حفني ناصف، وكم كنّا نحرص على أن نروي عنه كل ما كان يحدثنا به من هزل القول وجدّه. وإنك لتذكرين إنّا كنّا ننصرف عنه بعد الجلسة الطويلة معجبين به محبين له، ثم لا نلبث أن نستعيد ما سمعنا منه فننكر بعضه ونعرف بعضه الآخر، ولا يمنعنا ذلك من أن نتعجّل عودته إلى القاهرة آخر الأسبوع لنلقاه ونسمع منه ونتحدّث إليه. وما خطر لك ولا خطر لي ولا خطر لواحد من أصحابنا أن ينكر حفني ناصف لأنّه كان شيخا ولأننا كنا من الشبّان، أو يلوم حفني ناصف، لأنه سبقنا إلى الحياة والإنتاج، فسبقنا إلى الشهرة وبعد الصوت، إنّما كنّا نستعينه على أن نكون خيراً منه، وكان يعيننا على ذلك راضيا به مبتسما له راغبا فيه. قالت: فإنّي أحب لكم معشر الشيوخ أن تكونوا كحفني ناصف وأمثاله من أساتذتكم، لا تضيقون بأبنائكم إن ثاروا أو تمرّدوا أو لعبت برؤوسهم نزوات الشباب. هنا قال صاحبها في شيء من الغضب الضاحك: ومن زعم لك إنّي شيخ، هذا شيء لا أقرّه ولا أرضاه. قالت وهي مغرقة في الضحك، وما يعنيني أن تقرّه أو لا تقرّه، وإن ترضاه أو لا ترضاه، فأنت شيخ سواء أردت أم لم ترد. ألست قد أنفقت أكثر من ربع قرن تنشئ الرسائل وتنشر الفصول وتذيع الكتب؟ أليس قد اختلف إليك أجيال من الشباب فقرءوا ما كتبت، وسمعوا لما قلت، وتأثروا بهذا وذاك. فمنهم من ذهب مذهبك، ومنهم من ذهب مذهب فلان أو فلان من أصحابك. فكن شيخا أو لا تكن، فأنت أب على(12/6)
كل حال، ماذا أقول؟ بل أنت جد. فلم يختلف إليك جيل واحد وإنما اختلفت لديك أجيال، ولم تتخرج عليك طبقة من الكتّاب، وإنّما تخرجت عليك طبقات. ولست أدري ماذا يغيضك من الشيخوخة. وماذا يسوؤك منها؟ ولم تكره أن يراك الناس كما أنت؟ بل لم تكره أن ترى نفسك كما أنت. ولم تريد أن تطمع في غير مطمع؟ وتطلب ما لا سبيل إليه؟ فليس التصابي من الأشياء التي تحب أو يرغب فيها الرجل المحتشم، وقد عرفتك رجلا محتشما فأجعل نفسك حيث أراد الله أن تكون. قال في لهجة ماكرة وصوت عابث: فأنت شيخة إذن، فقد كتبت الكتب وأذعت الرسائل ودبجت الفصول، منذ عشرين سنة. قالت: بل منذ خمس عشرة سنة. قال: بل منذ عشرين. قالت: لم أكن أكتب حين شبّت الحرب. قال: بل كنت تكتبين، وإنّي لزعيم أن أذكرك بعض ما كتبت قبل أن تشب الحرب. قالت: فإنّي لم أكن قد بلغت الخامسة عشرة.
قال: لن أقول إنّك شيخة في السن، ولو قلت ذلك لكذّبني ما أرى وما أسمع. فعلا وجهها احمرار شديد، ومسّت يده في رفق كأنّما تريد أن تضربه. وهي تقول: متى تدع هذا العبث. ومضى هو في الحديث.
فقال: أنت على نضرة شبابك شيخة في الأدب. قد كتبت منذ زمن طويل، وعلّمت أجيالا مختلفة من الشباب وتخرّجت عليك طبقات مختلفة من الكتّاب. قالت تعال نتفق. لسنا شيخين ولا شابّين، وإنّما نحن شيء بين ذلك وأنت أدنى إلى الشيخوخة وأنا أدنى إلى الشباب. قال ولا هذا، فلا بدّ من أن نتفق على معنى الشيخوخة في الأدب، فليس يكفي أن نكون قد اصطنعنا الأدب منذ زمن طويل. وأثرنا في أجيال مختلفة من الكتّاب لنكون شيوخا، وليس من الحق أن كل أب شيخ، ولا أن كل جد شيخ. فقد نكون آباء، وقد نكون أجدادا، ولكننا على ذلك لسنا شيوخا، إنّما الشيخوخة ضعف. وما أرى إلاّ أنّ الشيخ هو الذي أخذه الضعف، وبلغ منه العجز والفتور، فاضطر إلى العقم، وحيل بينه وبين الإنتاج. أفترين إنّا قد انتهينا إلى هذه الحال؟ إنّك تكتبين في كل يوم، وإنّي أكتب في كل يوم. والناس يقرؤون لك ويقرؤون لي، والناس يعجبون بك ويرضون عن بعض ما أكتب. قالت بعض هذا التواضع، ولكنه مضى في الحديث فقال: وما زالت آمالك وآمالي في الأدب أبعد من أن تحد، وأوسع من أن تحصر، وما زلنا نتم الفصل أو الكتاب وإذا نحن نفكر في(12/7)
فصل جديد أو كتاب طريف، نريد أن نكتبه أو نذيعه، وما دمنا نجد هذه القوة، ونملك هذا النشاط ونعرض آثارنا على الناس، ومنهم هؤلاء الشباب، فلسنا شيوخا ولا قريبين من أن نكون شيوخا، قالت ليهلك هذا الشباب الذي تحبه وتحرص عليه، وتخشى أن يغتصبه منك الشبان، ولقد كدت أرضى منك بهذا الحديث وأحمد لك إحياء الأمل في نفسي لولا أجد من الضعف ما لا تجده، وأحس من الهزيمة ما لا تحس. فأنت تكتب وتفكر في الكتابة، وأنت تنشئ وتتهيأ للإنشاء، أما أنا فلا اكتب ولا أفكر في الكتابة وان كتبت فلا أكتب للناس وإنما أكتب لنفسي، ولا أتحدث إلى الناس وإنما أتحدث إلى نفسي. ولعلي لا أذكر الناس في هذا الحديث وإنما أذكر نفسي. إنما أنا شيخة قبل أن ابلغ سن الشيوخ. أمحزونة أنا لذلك أراضيه أنا به؟ لا أدري، ولعلي أحزن له حينا وأرضى عنه حينا آخر. ولكني على كل حال لا أجد في نفسي هذا النشاط الذي يمكنني من رفض الشيخوخة. قال في صوت هادئ حار: كلا يا سيدتي، هذه أزمة من أزمات الشباب ليس بينها وبين الشيخوخة سبب، وأنا زعيم بأن هذا الصيف لن ينقضي حتى يتحدث الناس عنك فيطيلوا الحديث، ويعجب الناس بك فيكثروا الإعجاب. وسأكون أنا أحد هؤلاء المتحدثين وأحد هؤلاء المعجبين ولكن حديثي عنك وإعجابي بك لن يقعا من نفسك إلا كما يقع منها حديث غيري من الناس وإعجابهم. قالت فأنت إذن تريد الثناء. قال: كلا وإنما أريد شيئاً آخر خيرا من الثناء , أريد أن اسبق الناس إلى قراءة شيء مما تكتبين. قالت دعني ودع ما أكتب ومالا أكتب وحدثني عن ظاهرة أخرى في الأدب المصري ظهرت عنيفة في هذه الأيام. قال وما هي؟ قالت ألست ترى غضب الأدباء من الشيوخ والشبان. قال دعي لفظ الشيوخ. فليس في أدبائنا شيوخ. فضحكت وقالت: ألست ترى أن الأدباء جميعا يضيقون بالنقد ولا يحتملونه، ولا يطيقون الصبر عليه. وكيف تفسر هذه الحدة؟ وأين تجد العلة لهذا الضيق؟ لقد كنت أريد أن أجد في هذه الحدة والضيق دليلا على شيوخة الأدباء، ولكني أراهما شائعين حتى عند الذين لا أشك ولا تشك أنت في انهم من الشبان. فهم أبغض للنقد والناقدين من كل إنسان. ومهما أعجب فلن ينقضي عجبي من كاتب أو شاعر ينشر نثره أو شعره على الناس في كتاب مطبوع أو في صحيفة سيارة فيخرجه بذلك عن ملكه الخاص، ويجعله بذلك ملكا للناس جميعا. ثم يأبى على الناس بعد ذلك أن يتصرفوا في ملكهم كما يريدون. قال: إن(12/8)
الكتاب والشعراء يسرفون على قرائهم ويكلفونهم شططاً، فهم يغضبون إن لم يقرأهم الناس، وهم يغضبون إن قرأهم الناس، ونالوهم بشيء من النقد ولو خفيفا. ولقد أتردد أحيانا في أن أقرأ الكتاب أو الديوان يرسله إلي صاحبه، لأني واثق باني قد أرى فيه غير ما يحب الكاتب أو الشاعر. فان سكت عنه أثمت في حق الأدب وفي حق نفسي، ولم يرض مني صاحب الكتاب أو الديوان بهذا السكوت، وان قلت ما أرى فتحت بابا من أبواب الجدال ليس إغلاقه بالأمر اليسير، ولعله لا يغلق الا على كثير من الموجدة. قالت: هذا اعوجاج في أخلاق الأدباء كنا ننكره على شيوخنا المتقدمين، وكنا نقدّر أن أدباء الحيل الحديث سيقومونه في أنفسهم والناس، فاخلفوا الظن، وكذبوا الرأي، وأصبحوا خليقين أن يقومهم المقومون سواء أرضوا بذلك أم كرهوه. فهمّ أن يتكلم، ولكنها مضت في الحديث قائلة: على انهم لا يضيقون بالنقد فحسب، ولكنهم يتهالكون على الثناء فما أشد ثورتهم على الناقدين! وما أحسن لقائهم للمقرظين! قال ومع ذلك: فإني اتهم كل مقرظ، وأسيء الظن بكل تقريظ، واعتقد اعتقاد الموقن أن النقد مهما يشتد ومهما يسرف صاحبه فهو أنفعوأجدى. لأن الكاتب إلى أن يعرف عيوبه ويتبين مواضع الضعف في آرائه وألفاظه وأساليبه، أحوج منه إلى أن يقال له أحسنت حين يحسن، وأصبت حين يصيب.
ومر فتى لم يبلغ السادسة عشرة، صبيح الوجه رث الزي حافي القدمين يحمل سلة فيها باقات من زهر، فوقف على الصديقين وقدم إليهما أزهاره. قال الصديق لصاحبته: اختاري. قالت أليس من الاختيار بد؟ قال الفتى لا بد من ذلك يا سيدتي فإني في حاجة إلى العشاء. هنالك اضطرب بصرها بين باقتين في إحداهما ورد، وفي الأخرى قرنفل. قال الرجل للغلام: ضع هاتين الباقتين، ثم التفت إلى صاحبته وهو يقول: أما أنا فأحب لثم الورد وشم القرنفل.(12/9)
الكيف لا الكم
للأستاذ أحمد أمين
روي أن ابن سينا كان يسأل الله أن يهبه حياة عريضة وإن لم تكن طويلة، ولعلّه يعني بالحياة العريضة حياة غنية بالتفكير والإنتاج، ويرى أن هذا هو المقياس الصحيح للحياة. وليس مقياسها طولها إذا كان الطول في غير إنتاج، فكثير من الناس ليست حياتهم إلاّ يوما واحدا متكررا، برنامجهم في الحياة أكل وشرب ونوم، أمسهم كيومهم، ويومهم كغدهم، هؤلاء إن عمّروا مائة عام فابن سينا يقدره بيوم واحد، على حين أنه قد يقدّر يوما واحداً (طوله أربع وعشرون ساعة) بعشرات السنين إذا كان هذا اليوم عريضا في منتهى العرض، فقد يوفق المفكر في يومه إلى فكرة تسعد الناس أجيالا أو إلى عمل يسعد آلافا، فحياة هذا (وإن قصرت) تساوي أعمار آلاف بل قد تساوي عمر أمّة، لأن العبرة بالكيف لا بالكم.
وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
وتقدير الأشياء بالكيف لا بالكم منزلة لا يصل إليها العقل إلاّ بعد نضوجه. أمّا الطفل في نشأته، والأمة في طفولتها فأكثر ما يعجبهما الكم، فالريفي عنده خير (الخيار) ما كبر حجمه وبيع بالكوم، والمدني خير (الخيار) عنده ما نحف جسمه وكان (كالقشّة) وبيع بالرطل. والطفل وأشباهه يرغبون بكثرة العدد لا بجودة الصنف، فحيثما مررت في الشارع أو زرت متجراً رأيت أكثر الترغيب في الكم (فأربعون ظرفا وجواباً بتعريفة)، و (دستة أقلام رصاص بصاغ)، وهكذا، وسبب هذا أن البيع والشراء يعتمدان على أدق قوانين علم النفس، والباعة من أعرف الناس بهذه القوانين التي تتصل بعقلية الجمهور، فهم يعلمون أنهم أكثر تقويما للكم، وأكثر انخداعا بالعدد، فهم يأتونهم من نواحي ضعفهم وموضع المرض منهم، وقل أن يرغبوهم في الشيء بأنه من (العال) أو (عال العال) لأن هذا تقدير للكيف وليس يقدره إلاّ الخاصة.
وكل إنسان قد مرّ بدور الطفولة، والأمم جميعها مرّت كذلك بهذا الدور فعلق بأذهانهم تقدير الكم ولم يستطيعوا أن يتحرروا منه مهما ارتقوا، وأصبحوا (حتى الخاصة منهم) ينخدعون بالكم من غير شعور وبلا وعي، وصار هذا مرضا ملازما، إنما يتحرر منه الفلاسفة وإلى(12/10)
حد، ألاّ ترانا نرى الرجل الضخم حسن الهيئة جميل الطلعة فنمنحه الاحترام، ولو لم نعرف قيمته، ونرى الرجل صغير الجسم غير مهندم الثياب فنحتقره لأول وهلة من غير أن نعرفه، وأساس معاملتنا بالإجمال احترام ذوي المظاهر الجميلة حتى يثبت العكس واحتقار ذوي المظاهر الوضيعة حتى يثبت العكس، وليس ذلك إلاّ من خداع الكم ولو أنصفنا لوقفنا على الحياد من الجميع حتى نتبين الكيف.
ونرى ذا العمامة الكبيرة واللحية الطويلة فنعتقد فيه العلم والدين، مع أن لا علاقة بين كبر العمامة وطول اللحية وبين العلم والدين وإن كان ثمّة علاقة فعلاقة الضدية، لأن الدين محلّه القلب والعلم موطنه الدماغ، وإذا مليء القلب دينا والدماغ علما أحتقر المظهر وأبى أن يدل على دينه أو علمه بمظهر خارجي بل هو إن امتلأ دينا وعلما أنكر على نفسه الدين والعلم وأعتقد أنه أبعد ما يكون عمّا ينشده من دين وعلم، وكذلك الشأن في اللباس الجامعي واللباس الكهنوتي.
وقديما أدرك العرب خداع الكم فقالوا: (ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل.)
وقال شاعرهم:
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد مزير
ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنّك الرجل الطرير
وفي كل شأن من شؤون الحياة وضرب من ضروب العلم والفن ترى خداع الكم ولنأخذ الأدب مثلا.
فالمؤلفون يعلنون عن كتبهم أنها في أربعمائة صفحة - مثلا - من القطع الكبير، والمتعلمون كثيراً ما باهوا بكثرة ما قرءوا والكتّاب بكثرة ما كتبوا، والصحافة كثيرا ما خدعت القرّاء بالكم. فكان مما اصطنعته زيادة عدد الصفحات في الجرائد والمجلات مع أن الصفحات وحدها كم ولا قيمة لها ما لم يصحبها الكيف، وكم أتمنى أن أرى جريدة أو مجلة ترغِّب قرّاءها بالكيف فقط وإن كنت أجزم بأن مصيرها الفشل لأن أكثر الناس لم يمنحوا بعد ميزان الكيف.
وقد جرت كثرة الصفحات في الجرائد والمجلات إلى تحوير الأسلوب إلى ما يناسبها فكان الأسلوب أحيانا كالعهن المنفوش يصاغ في صفحة، ما يصح أن يصاغ في عمود وفي(12/11)
عمود ما يصح أن يصاغ في سطر ولست أدري لم كان الناس إذا أرسلوا تلغرافا تخيروا أوجز الألفاظ لأغزر المعاني، ولم يفعلوا شيئا من ذلك في كتبهم ورسائلهم ومقالاتهم؟ ولعلهم يفعلون ذلك لأن الكلمات في التلغراف تقدر بالقروش وليس كذلك فيما عداها، إن كان هذا هو السبب دلّ على تقدير القرش اكثر مما يقدر زمن القارئ والكاتب، وفي هذا منتهى الشر، وفي هذا أقسى مثل لغفلة الناس في تقدير الكم لا الكيف.
وقديما عرض علماء البلاغة للكيف والكم في الأدب وسموهما اسماً خاصاً هو الإيجاز والإطناب، وعدوا الإيجاز أشرف الكلام والإجادة فيه بعيدة المنال لما فيه من لفظ قليل يدل على معنى كثير، ومثلوا للإيجاز والإطناب بالجوهرة الواحدة بالنسبة إلى الدراهم الكثيرة، فمن ينظر إلى طول الألفاظ يؤثر الدراهم لكثرتها، ومن ينظر إلى شرف المعاني يؤثر الجوهرة الواحدة لنفاستها، ولا يعدل عن الإيجاز إلى الإطناب إلا لإيضاح معنى أو تأكيد رأي.
والحق إن الأدب العربي في هذا الباب من خير الآداب، فاكثر ما صدر في عصوره الأولى حبات من المطر تجمعت من سحاب منتشر، أو قطرات من العطر استخلصت من كثير من الزهر.
وبعد، فلست أحب أن تكون كتابتنا كلها تلغرافات، وإذن لعدمنا ما للأسلوب من جمال، وما لتوضيح الفكرة وتجليتها وتحليتها من قيمة، وإنما أريد أن يكون المعنى هو القصد وهو المقياس فان أطنبنا فللمعنى، وإن أوجزنا فللمعنى.
وأريد أن يقوّم الناس الكيف للكيف، وإذا قدروا الكم فللكيف.
ولعل من ألطف ما كان، أني حين بلغت هذا الموضع من مقالتي أخذت أعد صفحات ما كتبت، فوجدتها قليلة العدد فآلمني ذلك لأني لم أبلغ ما حزرت أن يكون، ولأني خشيت أن يستصغرها صاحب الرسالة وقراء الرسالة وفرحت بهذه الملاحظة لأنها سدت فراغا ما في المقالة يكمل بعض ما فيها من قصر، ألسنا جميعا عباد (كم)، أو ليس هذا من نوع تقدير الخيار بالكوم؟(12/12)
الشعر المرسل أيضاً
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
نشرت الرسالة ترجمتين لقطعة من رواية (عطيل) الشهيرة إحداهما نثر والأخرى شعر مرسل وقد حاولت أن أعرف رأي الأصدقاء في أوقع الترجمتين في نفوسهم أهي الترجمة الأولى أم الثانية. وكان رأي الكثرة إنه الشعر المرسل. على أن بعضهم استدرك في قوله، فقال إن الذي يقرأ السطر الواحد من الشعر المرسل ثم يقف في آخره ينتظر ما اعتاد انتظاره من انتهاء المعنى يشعر بالمضاضة، ويقبح قي عينيه ذلك الأسلوب.
ولكنه إذا قرأ ذلك الشعر المرسل على سجيته فلم يقف إلا حيث يقف به المعنى وجده قولا سائغا لا قبح فيه.
وها أنا ذا أعرض على القارئ صفحة من رواية صغيرة لي بها علم وهي في شعر مرسل. وقف فيها رجل غجري يحاول إلانة قلب فتاة من جنسه جامحة العاطفة معرضة عنه. وهي تجيبه إجابة تمنع ودلال.
الفتى: جرحت فؤادي
بدلال يثير فيّ لهيباً
فأعيدي سعادتي وأعيدي
بسمات الرضا أعيدي حياتي
الفتاة: (ضاحكة ساخرة)
ليت قلبي يسير طوعي سميعاً
فيلبي نداء كل شفيع.
إن قلبي له هواه فيمضي
حيث شاء الهوى جموحاً عنيداً.
الفتى: كنتِ (ميسون) سلوتي وحياتي
فاذكري عهدنا القديم وعودي
لفؤادي الجريح يا ميسون.
الفتاة: (بعناد)(12/13)
إن ماء العيون يحلو جديدا
وجمال الغرام أن نتولى
كفراش الربيع بين الزهور
الفتى: (بتذلل)
أنت روحي. وكيف أحيا وحيدا؟
فانظري لي ببسمة لأداوي. . مهجتي
الفتاة (جامدة) إنه كلام ثقيل
الفتى: (غاضبا)
ويل نفسي - أما بصدرك قلب؟
الفتاة: (ضاحكة)
لا تحاول نوال حبي رجاءً
لا ينال الهوى بدمع وشكوى
إنما الحب آمر ليس يعصى
يأخذ القلب قاهراً منصورا
ولعل القارئ إذا اتبع نصيحة ذلك الصديق فقرأ ذلك القول كما يقرأ النثر واقفا عند نهاية المعاني وجد فيها ما يقبله ذوقه.
هذا وقد عرضت لي ترجمه بارعة لقصة أخرى من قصص شكسبير، وهي ترجمة أستاذنا المفضل محمد بك حمدي ناظر مدرسة التجارة العليا، وقد كانت ترجمة حلوة بديعة دقيقة في نثر حلو ممتع، واتفق أن قطعة من تلك القصة كانت كذلك مترجمة في شعر مرسل، فرأيت أن أتبع الموازنة الأولى بموازنة ثانية، لعل ذلك يكون أفسح في التدليل وأقوى إعانة على صدق الحكم.
وتلك القطعة المختارة هي في الموقف المشهور الذي وقفه أنطونيس يرثي قيصر بعد مقتله، وفيه استطاع تحويل رأي العامة من الحنق على قيصر والعطف على قاتليه إلى الثورة للثأر له والانتقام من أعدائه.
ترجمة الأستاذ حمدي بك:(12/14)
أنتوني: أيها الأخوان. أيها الرومان. بني وطني. أعيروني أسماعكم فإني ما جئت للتمدح بقيصر ومناقبه، ولكن لأواريه لحده وأهيل عليه التراب. فقد جرينا على أن ما يعمل الإنسان من شر يخلفه، وما يعمل من خير يرمس معه في غمار الرمم ولفيف الرفات، وهذا شأن قيصر معنا اليوم نتناسى مناقبه ونعدد معايبه. قال لكم بروتاس وهو رجل الشرف الصميم: إن قيصر طماع فان كان كذلك كان ذنبه يوجب الأسى والأسف كما كان جزاؤه أدعى للحزن والشجن، إني أقف بينكم الآن في جناز قيصر بإذن من بروتاس وهو رجل النبل والفضل وبإذن من زملائه الآخرين وكلهم مثله أجلاء نبلاء، ولكن قد كان لي في قيصر صديق حميم وبر كريم، لم أعهد فيه الطمع الذي يرميه به بروتاس رجل الفضل والشرف، أتاكم قيصر بالأسرى مكبلين فملأت دياتهم بيت المال، فهل كان في عمله هذا ما ينبئ عن طمع. كان قيصر يبكي شفقة ورحمة كلما ذرفت الفقراء دموع الفاقة والإملاق، وعهدي بالطماع أخشن طبعا وأغلظ كبدا، ولكن بروتاس يقول انه طماع وبرتاس كما تعلمون رجل الفضل والشرف. ألم تروا إني عرضت عليه التاج ثلاث مرات في (لوبركال) فكان يرفضه في كل مرة؟ فهل كان هذا لطمع فيه؟ ومع ذلك فان بروتاس يقول انه طماع، وبروتاس رجل الفضل والشرف. لا أريد أيها السادة أن أدحض دليل بروتاس ولا أن أقارعه الحجة بالحجة، وإنما أنا أقول ما أعرفه من الحق الصراح. لقد كنتم كلكم تحبون قيصر حباً جماً فهل كان ذا من غير داع وبلا مسوغ؟ إذن ما الذي يمنعكم الآن أن تقيموا عليه شعار الحداد؟ يا للعدالة! لقد أويت إلى قلوب الوحوش الضارية فغادرت الإنسان جباراً عتياً فاقد الرشد والصواب. عفواً سادتي إن قلبي مدرج مع قيصر في أكفانه فأمهلوني حتى يرتد إليّ.(12/15)
الترجمة الأخرى في شعر مرسل:
أيها الروم يا صحابي وقومي
أنصتوا ساعة لبعض مقالي.
لست آتِ أصوغ قيصر مدحاً
بل لأسعى مشيعاً لرفاته.
إنما تخلد الذنوب وتبقى
بعد ما خاضها على حين تثوى
حسنات الماضين بين القبور
فليكن حظ قيصر مثل هذا.
قد سمعتم (بروت) وهو كريم
قال يا قوم إن قيصر طاغِ
ولئن كان ما يقول صحيحا
كان هذا لاشك وزراً كبيرا
نال من أجله جزاءً أليماً.
فلندع ذكر ذاك - أني مدين
لبروت وصحبه إذ أجازوا
أن أقوم الغداة أرثي صديقي
فبروت كما علمتم كريم
وذووه كما عرفتم كرام:
كان نعم الصديق خلاً وفياً
لا. ولكن بروت ينقم منه
انه طامع حريص وأنتم
قد عرفتم بروت شهما نبيلا.
انه قد أتى بأسرى جموعاً
وحبانا فداءهم أموالا(12/16)
ملأت بالغنا خزائن روما.
أبهذا ترون قيصر يطغى؟
كان والحق إذ يصيح فقير
يسيل الدمع رأفة ولعمري
أن قلب الطغاة عات صليب.
غير أني أقول هذا وأنتم
قد سمعتم بروت وهو كريم
قال قد كان طامعا جبارا.
أرأيتم تلك الغداة وأنا
يوم عيد (الخصيب) إذ قد شهدتم
كيف قدمت نحوه التاج أرجو
لو تلقاه بالقبول ثلاثا
فأباه - أكان ذلك حرصا؟
لا ولكن بروت قد قال حقا
انه طامع. ولا شك فيه
فبروت كما علمتم شريف
ولئن قلت ما علمت فإني
لست فيه مكذبا لبروت.
أيها الناس كان قيصر منكم
في ثنايا القلوب وهو جدير.
فلماذا أرى العيون صلابا
جامدات. وفيم هذا الجفاء؟
لا! قد أصبح الرجال سواما
منذ طارت أحلامهم وكأني
بوحوش الفلات أرجح عقلا.(12/17)
أي رفاقي لا تعذلوني وعفوا
إن تعديت في المقال. فإني
ضاع لبي وضل عني فؤادي
فغدا عند نعش قيصر رهنا.
فدعوني حتى ألاقي فؤادي.
أنظروني حتى يعود جناني.
ولعلي أستطيع أن أسأل من لم أسأل من الأصدقاء بعد لأعرف رأيهم في هذه البدعة الأدبية أهي وسيلة صالحة أم هي مدخل إلى العبث والإسفاف؟ فان كان من الأدباء من يراها صالحة رجوت أن يبعث لنا منها قصة غنائية أو ملحمة بارعة بعد أن يكون قد فاض عليها من جمال روحه وروعة عبقريته.(12/18)
بين بريسكا وتوفيق الحكيم
بريسكا: أني أبغضك. أبغضك من أعماق قلبي.
ت. الحكيم: استغفر الله! لماذا يا سيدتي؟ ما جنايتي؟
ب: واحتقرك كما احتقر غالياس.
ت: لاحظي يا سيدتي قبل كل شئ أن ليست لي لحية غالياس!
ب: قل لي أنت قبل كل شئ: ماذا عليك لو أنك أبقيت لي مشلينيا؟. . لو أن قلمك تمهل لحظة صغيرة ولم يقصف تلك الحياة قبل أن يحضر غالياس وعاء اللبن. . .! ماذا كسبت أنت من موت مشلينيا قبل الأوان؟ لحظة واحدة صغيرة كانت كافية لإنقاذ الفتى. . لكنك ضننت بها أيها القاسي الظلوم!
ت: لست قاسيا يا سيدتي ولا ظلوما. ولو كنت أملك أمر بقاء مشلينيا دقيقة واحدة لأبقيته لك عن طيب خاطر.
ب: لو كنت تملك؟ ومن غيرك يملك؟!
ت: لا تحمّليني يا سيدتي هذه التبعة.
ب: جميل أن يتنصل خالق من تبعة خلقه كل هذا التنصل!!
ت: ما أظلم الإنسان! وما أحوج المبدعين إلى الرحمة والرثاء في هذا الوجود!
ب: نحن الظالمون وهم المظلومون! شيء بديع!
ت: إنكم تحملونهم التبعات وترمونهم بالظلم وهم براء من كل صفة من الصفات. فلا ظلم ولا عدل، ولا قسوة ولا حنان، ولا غضب ولا رضى، تلك عواطف لا يعرفونها ولا يشعرون بها. ولو أصغى إله لصوت آدمي لأنحلّ الكون في طرفة عين كما تنحل قصة أهل الكهف لو أني أصغيت إلى شخص واحد من أشخاصها! فأنت تريدين أن أؤخر موت مشلينيا دقيقة. ولا تعلمين أن هذه الدقيقة الواحدة كانت كفيلة أن تغير وجه القصة وتقلب مصير الأشخاص وتلقي عناصر الفوضى في العمل كله. كلاّ يا سيدتي. إني لم أرد موت مشلينيا ولم أرد بقاءه. ولم أحب ولم أكره. ولم أظلم ولم أعدل. إنّ المبدع لا يمكن أن يخضع لغير قانون واحد: (التناسق).
ب: هذا كلام تبرر به قسوتك.
ت: أنت يا سيدتي لا تعرفين ما مهنة المبدع! ثقي أن كلمة (قسوة) لا معنى لها في تلك(12/19)
المهنة.
ب: أنت كائن لا يمكن أن يفهمني ولا يمكن أن يفهم الحب.
ت: لا أفهمك، هذا صحيح. أمّا أني لا أفهم الحب فهذا غير صحيح.
ب: هل أنت تفهم الحب؟
ت: قليلا.
ب: هل أحببت في حياتك. .؟
ت: أيتها الأميرة. لا أسمح بالكلام في شؤوني الخاصة.
ب: معذرة. إنما أردت أن أعرف كيف فهمك للحب؟
ت: ماذا تريدين أن تعرفي. أحب الخالق وهو روح التناسق. أم حب المخلوق. .؟
ب: حب المخلوق. . حب القلب. . الحب ما أريد. صدقت ما دمت أنت خالقا وأنا مخلوقتك فإن بيننا تلك الهوّة. . فأنت لا تنظر إليّ بعين خاصة. ولا تعرفني معرفة خاصة. ولا تتصل بي اتصالاً مباشرا. إنما تنظر إليّ كعنصر من عناصر الكل المتسق. تنظر إلي بعين ذلك القانون الذي تحكي عنه، وينبغي أن تكون مخلوقا مثلي وعنصراً أو جزءاً مثلي حتى يكون بيننا ذلك الارتباط الخاص وذلك الالتفات الخاص. فهبك كذلك وهبني أحببتك فهل تحبني؟
ت: يا لكِ من ذكية ماهرة!
ب: أجب. إذا أحببتك. . .؟
ت: ومشلينيا؟
ب: دعنا الآن من مشلينيا.
ت: إذا أحببتني؟. . أنا. .؟
ب: نعم.
ت: إني أخشى هذا الحب.
ب: لماذا؟
ت: لأنك لن تحبيني.
ب: من أين لك العلم؟(12/20)
ت: هل رأيتني؟ إني لا أشبه مشلينيا في شيء. فليست لي فتوته ولا جماله ولا قوامه ولا ذراعاه ولا شفتاه. . .
ب: ولا قلبه؟
ت: أتردد قبل أن أجيب. قد يكون لي قلبه. لكن ثقي أني إذا شقيت في هذا الحب فإني لا أذهب إلى الكهف ولا أموت جوعا. أولاً ليس عندي كهف أموت فيه. وإن وجدنا الكهف فلسنا واجدين الشجاعة والصبر عن أكل الشواء والدجاج يوما واحداً. . .
ب: إذن ليس لك حتى قلبه!
ت: نعم وا أسفاه!
ب: إذن ما يصنع مثلك لو شقي في هذا الحب؟
ت: يذهب إلى كهف من كهوف النبيذ في مونمارتر. . ويؤلف قصصاً تمثيلية.
ب: مرحى!. مرحى. .!
ت: لا تغضبي أيتها العزيزة بريسكا.
ب: أهذا فهمك للحب؟
ت: ماذا تريدين إنّا لسنا قديسين!
ب: أنتم مبدعون!. . كنت أحسبكم خيراً من هذا!!
ت: كذلك قال غالياس يوما فيما أذكر عن القديسين الثلاثة إذ خالطهم وحادثهم. ألا تذكرين؟
ب: كنت أظنك على الأقل خيراً من غالياس المسكين فهماً للحب!!
ت: يشق عليّ أن يخيب ظنك فيّ يا عزيزتي!
ب: عزيزتك! كلا. لست أسمح لك. إنك تخاطبني كما لو كنت تعرفني من قبل. أو كما لو كنت لي بعلا!!
ت: حقيقة أيتها الأميرة. ليس لي هذا الشرف.
ب: تستطيع أن تنصرف يا هذا.
ت: أنصرف إلى أين أيتها الأميرة. .؟
ب: أتسألني؟ إلى حيث كنت. . إلى سمائك. .
ت: أين هي هذه السماء؟ في دمنهور؟ أو في قهوة (جراسمو)؟ ما أكثر أوهامكم أيتها(12/21)
المخلوقات!
ب: نعم ما أكثر أوهامنا. . وتخيلاتنا وخيبة آمالنا!. .
ت: ذلك أنكم تريدون أن تخضعوا كل شيء لخيالكم أنتم.
ب: صدقت. إنّا نتمثّل القديسين والآلهة كما تصورهم لنا عقولنا. .
ت: ثقي أن لو كشف المجهول يوماً لأعين البشر لصاحوا كلهم بكلمتك التي لفظت الساعة: (كنّا نحسبه خيراً من هذا. .!)
ب: ربما. .
ت: ذلك أنهم سيرون المجهول شيئا لا علاقة له بعقلهم، ولا بخيالهم، ولا بمنطقهم، ولا بعواطفهم، ولا ببشريتهم. .
ب: إنّا مخلوقات ماذا تريد من مخلوقات؟ إنا لا نستطيع أن نخرج من أنفسنا لنفهم ونرى شيئا غير أنفسنا.
ت: ومع ذلك فإن لهذه المخلوقات كنزاً لا يوجد عند الآلهة.
ب: القلب.
ت: نعم.
ب: إني أؤمن بما تقول. فها أنت ذا خالق من نوع تافه. . ليس لك القلب الذي لمشلينيا. .!
ت: أعترف أني أقل شأنا من حبيبك.
ب: ومع ذلك فقد اجترأت يدك على إطفاء حياته الجميلة. . .
ت: عدنا إلى الاتهام.
ب: إني أبغضك. . أمقتك. . أبغضك من أعماق قلبي. .
ت: سبحان الله! اقسم أن لا فائدة من مناقشة امرأة تحب.(12/22)
أدب القوة وأدب الضعف
للأستاذ محمود الخفيف
أحس إذ أتناول هذا الموضوع أني بين عاملين: عامل الحياء وعامل الفخر. أما الحياء فأول دواعيه أن أعقب أنا الصغير على مقال أستاذنا العلاّمة أحمد أمين. وأما الفخر فحسبي أن يقرأ لي الأستاذ سطوراً قد تحظى برضاه في موضوع كهذا يعنيه.
يرى الأستاذ (أن الشاعر المجيد هو الذي يثير العواطف بقدر، ويبنيها على أساس عميق) ويرى أن الأدب في العصر العباسي كان أدباً ضعيفاً. إن أنت حصرته وجدته بين باك ومادح ومستهتر، ثم يرى أن عود الأديب الشرقي على نحو عود المغني الشرقي أشجى أغانيه أحزنها، وخير نغماته أبكاها.
وعلى ذلك يسمي الأستاذ ذلك النوع من الأدب الباكي الذي يتعمق في إثارة العواطف أدباً مائعاً، وذلك الأدب الذي لا يثيرها إلاّ بقدر أدباً قوياً، فهل يسمح لي الأستاذ أن أتجرأ فأقلب هذا الوضع، فأسمّي ذلك الأدب الوجداني الحاد الذي يبالغ في إثارة العواطف أدباً قوياً، وذلك الأدب الذي لا يمت إلى العاطفة بصلة قوية أدباً جافاً أو مائعاً؟
أرى الأنغام الوجدانية الحادة أساس الأدب الحاد، ولن يكون الأدب الحاد مائعاً، وأرى العبارات الخالية مما يثير العواطف أو التي تثيرها بقدر أساس التفكير العقلي، والخطوة الأولى نحو الفلسفة (القوية) ولن تكون الفلسفة القوية أدبا قويا، وعلا ذلك فما يسميه الأستاذ أدبا مائعا هو في الواقع أدب قوي، وأما ما يسميه أدبا قويا فهو فلسفة قوية.
والأدب والفلسفة شيئان: فالأدب لغة القلب، والفلسفة لغة العقل، والإنسان إنما يبدأ بقلبه فيفرح أو يبكي ويحب أو يبغض ويرضى أو يغضب ويأمل أو ييأس ويثور أو يهدأ حسب ما يحس من عواطف، فإن كان لابد من تخفيف حماسته، فليكن ذلك بشيء من حدة عقله، ولكني لا أرى تجريده من ذلك الحماس ولا أحسب ذلك ممكنا، إذ ما القلب بغير حماس؟ ثم ما الأدب بغير عاطفة؟
وإذا اشتدت العاطفة فكيف يكون الأدب مائعاً، وكيف تشتد العاطفة إلاّ إذا اشتدت بواعثها؟ وإذا ما اشتدت بواعثها فما القوة إن لم تكن القوة في إظهارها قوية رائعة؟
إن الإنسان بطبعه عسوف عنوف، لا يسكن إلاّ لعجز، ولا يرتدع إلاّ من خوف، ولا يعفو(12/23)
إلاّ عن ضعف ولا يقنع إلاّ مضطراً، ولو أطلق له العنان لكان شره مستطيرا ومكره خطيرا بيد أنه على غلظته لا يخلو قلبه من عواطف نبيلة، ولكنها خامدة، وميول خيّرة ولكنها كامنة، ولذلك فهي في حاجة إلى الإبانة والتنبيه، والأدب الوجداني الحاد يخاطب القلوب فيهزها ويستثير ما كمن فيها من نبل فيبعثه، ولذلك كان هو عماد المصلحين ودعاة الإنسانية، فإنك إن تخاطب الإنسان في منطق وفي عبارات جافة فقلّما يصغي إليك، وإن استمع فقليلا ما يعي، وإن أنت بدأت بقلبه فهززته في رفق وألنته بأنغام قيثارتك ثم أهبت به فقد يهوي إليك.
تحدّث شكسبير عن تأثير الموسيقى في النفوس فبدأ بالعجماوات فقال ما بال تلك الوحوش الكاسرة تسمع أناشيد الموسيقى فتقع متراخية وتظهر كأنها مأخوذة حائرة؟ وما بال ذلك العدد المضطرب من الخيل الجانحة يسمع الموسيقى فيهدأ فجأة ويسير في نظام كأنما تذهب الأنغام ثائرته وتسحره عن نفسه.
والأدب الوجداني موسيقى النفس، وموقفه من القلوب البشرية الفطنة موقف الموسيقى الحسية من تلك الخلائق الهائمة الثائرة، فهو الذي ينفذ إلى القلب ويختلط بالنفس فيلائم بين ذراتها وينظم تموجاتها. ويقلل من عنف الإنسان وجبروته فيجعله رقيقا وادعاً.
ولا تثريب على الشاعر، أو القصصي، أن يبكي فيبكي عيوناً تكاد أن تتحجر، ويفتح آذاناً ضربت عليها المطامع المادية ويهز قلوباً كانت لا تحفل دعاء أو تجيب رجاء.
وهو إن بكى على نفسه فغير ملوم، فإنما ينطق بما يحس، وبذلك ينفس عن قلبه، وقد تخفق قلوب معه وتهوي أفئدة إليه، وها هو ذا البارودي الفارس يقول:
أفي الحق أن تبكي الحمائم شجوها ... ويبلي فلا يبكي على نفسه حرّ؟
وماذا عليهم إن ترنّم شاعر ... بقافية لا عيب فيها ولا نكر؟
وهو في بكائه غير ضعيف، بل إن حدة عواطفه لتنهض دليلا على قوته، وإلاّ فما أضعف جيته ولامرتين وهوجو وأبا فراس والمعرّي وغيرهم ممن ضربوا على أوتار حزينة باكية!
ولقد بكى هؤلاء في شبابهم أعني في أيام قوتهم وبكوا لقوة إحساسهم ونبالة قصدهم وكمال إنسانيتهم.(12/24)
ومن البلية أن يسام أخو الأسى ... رعى التجلّد وهو غير جماد
وليس من الضروري أن يكون الشعر المتناهي في وصف ما يلاقي المحب من عذاب غير مؤسس على عاطفة صحيحة، لأن مثل هذا الشعر يكون ترجمة لإحساس الشاعر فما دام أنه محب فله أن يعبر عمّا يحس، وليس لنا أن نتهمه في ذلك بضعف، بل أنه يكون ضعيفا حقاً إن هو أحسّ عذاباً من وراء حبه ثم لم يستطع الإفصاح عنه.
ولم يكن الأدب العباسي ضعيفاً، لما جاء فيه من بكاء ومديح واستهتار، فإن الأدب في كل عصر صورة لذلك العصر، فإذا عبّر أدباء العباسيين عمّا يحسّون فلم نتهمهم بالضعف؟ وإذا كان أدبهم حزيناً باكياً يتخلله المديح والاستهتار فكيف كان يتسنى لهم أدب غيره، وإذا هم تطاولوا في غير عزّة وتفاخروا بغير فخر وضحكوا في غير مرح، أفما كنا نتهم أدبهم بأنه سقيم زائف أو بعبارة أخرى ضعيف مائع؟
ثم أن الضعف السياسي لا يسلتزم أن يكون وراءه ضعف في الأدب، بل لقد يكون الضعف السياسي ذاته سبباً قوياً من أسباب قوة الآداب كما يحدث عند انقسام الدول الواسعة كما كان الحال في القرن الرابع، وكما كان الحال عند الإغريق في مدنهم الحكومية وكما كان الحال في النهضة الإيطالية الحديثة.
وليت شعري لم لا يكون بكاء الشعوب على ما يصيبها قوة واستنهاضاً للهمم؟ هزمت فرنسا في حرب السبعين وخرجت ألمانيا متفاخرة بالنصر، فخاطب أحد الأدباء الفرنسيين الألمان الظافرين بقوله (نعم قد انتصرتم علينا ولكن ليس لديكم شاعر يشيد بنصركم كشاعرنا هذا الذي يبكينا على مصابنا) فهل كان بكاء الفرنسيين في ذلك الوقت ضعفا؟ اللهم لا.
وأما ما جاء عن مصعب بن الزبير حين استخفه الطرب وعن استخفاف المنصور به لذلك حتى جعله يتمثل بتلك الأبيات التي أوردها الأستاذ، فأقول أن مصعبا كان متغزلا وأن المنصور كان متفاخرا وشتّان بين الموقفين، فهذا تستملح فيه الرقة واللين وذلك لا يليق فيه إلاّ الصرامة والشدة. وإذا كان في كلام مصعب ضعف فماذا يكون في كلام الرشيد وهو يخاطب جارية بهذا البيت:
أما يكفيك أنك تملكيني ... وأن الناس كلّهم عبيدي؟
وبعد فيعجبني من الأستاذ قوله أن أرقى الأدب في نظره ما أحيا الضمير وزاد حياة الناس(12/25)
قوة، وهذا في رأيي هو الأدب الوجداني القوي هو ذلك الأدب الذي يرقق القلوب ويستثير الهمم ويطهر النفوس، هو ذلك الأدب الذي يجعل من الشيخ شاباً فتياً، وهو ذلك الأدب الذي يملأ المحاجر بالدموع والقلوب بالشفقة والحنان.(12/26)
فلسفة سبينوزا
للأستاذ زكي نجيب محمود
لم يكد سبينوزا يبلغ سن الشباب حتى انكب على الفلسفة يدرسها دراسة
صادفت في نفسه هوى. فأخذ ينهل من مواردها العذبة ويؤثرها على
كل شيء وقد طالع فيم طالع فلسفة برونو فوقعت منه آراؤه موقع
الإعجاب وامتلأ ذهنه بما قاله ذلك الفيلسوف من: أن الوجود في
جوهره وحدة متجانسة وإن تعددت ظواهرها. إذ نشأت جميعها من
أصل واحد ثم اتخذت ألوانا مختلفة لا تغير من جوهر طبيعتها
المتجانس.
كذلك أعجبه رأي برونو المذكور القائل بأن الروح والمادة شيء واحد فكل ذرة من ذرات الكون يتحد فيها الجانبان: الروحي والمادي، وعنده أن موضوع الفلسفة هو إدراك تلك الوحدة التي تربط هذه الأشتات المتضاربة في الظاهر فترى الروح في المادة كما تلمس المادة في الروح.
ثم قرأ سبينوزا فلسفة ديكارت قراءة درس وتمحيص، فدعاه إلى التفكير الطويل برأي ديكارت في تقسيم الكون إلى شطرين: شطر مادي متحد في الجوهر على الرغم مما يبدو في الأجسام المادية من إختلاف وشطر روحي متجانس في جوهره كذلك، وهو عبارة عن مجموع القوى العقلية الحالّة في مختلف الأجسام وتدير هذه الشطرين وتشرف عليهما قوة إلهية عليا. . . قرأ سبينوزا ذلك فلم يوافق على شطر الكون واختمرت في نفسه على الفور فكرة وحدة الوجود التي تقول بأن الكون شطر واحد لا يتجزأ، وهذه الفكرة هي المحور الذي تدور حوله فلسفة سبينوزا، وها نحن أولاء نتناولها بالشرح والتحليل.
يقول سبينوزا أن في الكون حقيقة واحدة خالدة، هي عبارة عن قانون عام شامل لا ينقص ولا يزيد. هذه الحقيقة الخالدة، أو هذا القانون الشامل، لا يمكن أن يعبر عن نفسه ويفصح عن حقيقته إلاّ بواسطة الأجسام المادية، فاتخذ من تلك المادة التي تملأ جوانب الكون، قوالب وأشكالا لكي يبرز عن طريقها إلى عالم الواقع المحسوس، وهذه الصور والأشكال(12/27)
المادية التي تتخذ وسيلة للتعبير عن ذلك القانون الخالد، لا تظل على هيئة خاصة معينة، فهي متغيرة متبدلة أبداً، بل قد تزول وتفنى، ولكن تلك الحقيقة نفسها باقية خالدة لا تفنى ولا تزول، بل لا تنقص ولا تزيد، وهي لا تفتأ تلبس هذا الثوب المادي وتخلع ذاك إلى أبد الآبدين. ذلك كما تقول أن للدائرة قانوناً لا يتغير، يخضع لناموسه كلما وجد أو يوجد من الدوائر، وإن كانت الدوائر نفسها تمحى وتتجدد، الا أن قانونها يظل باقياً لا يعتريه التبدل أو الفناء. فأجسامنا، وأفكارنا وهذه الأرض التي نعيش عليها، وكلما يحتوي الكون من أشياء، كل ذلك صور مختلفة تستخدم لإبراز الحقيقة الكائنة وراءها، والتي لا يمسها معنى من معاني التغيير والتبديل، إنما القوالب المادية وحدها هي التي تخضع لذلك التبديل والتغيير.
فالطبعة على هذا الأساس مزدوجة الجوانب، فهي فعالة حيوية منشئة من ناحية (قارن في فلسفة برجسون) وهي منفعلة متأثرة منشأة من ناحية أخرى، هذا الجانب المنفعل المتأثر من الطبيعة: هي أجزاؤها المادية، هي هذه الجبال والبحار والمزارع والرياح وما إلى ذلك من الصور المادية التي لا يحدها الحصر، أما الجانب الفعال المنشئ فهي تلك القوة الكامنة وراء هذه الصور المادية، وهي التي خلقتها خلقاوأبدعتها إبداعاً أو بعبارة أوضح هو الله عز وجل. . .
ويقصد سبينوزا بكلمة (الله) ذلك القانون الثابت الذي لا يجوز عليه التغيير أو الفناء، تلك القوة الفعالة التي تنظم الكون وتباشر ترتيب ما يطرأ من أحداث على المادة التي تملأ جوانب الكون.
ولولا تلك القوانين العامة التي يسير بمقتضاها العالم، لتداعى الكون بعضه على بعض، مثل ذلك مثل الجسر (الكوبري)، فهو في حد ذاته كتلة من المادة، ولكنه مشيد على أساس من القوانين الرياضية والميكانيكية، التي وإن تكن مختفية لا تظهر بشكل محسوس، في مادة الجسر، الا أنها كامنة فيه ولو اختل واحد منها انهار البناء على الفور. فالعالم المادي بمثابة ذلك الجسر، والله سبحانه وتعالى من هذا العالم بمثابة تلك القوانين التي لا ترى ولكنها لا تنكر.
وعلى هذا الاعتبار تكون إرادة الله وقوانين الطبيعة شيء واحد، وكل ما يقع من حوادث(12/28)
عبارة عن النتيجة الآلية المحتومة لتلك القوانين الدائمة، أي أنها ليست عبثا ولا فوضى. فهذا العالم تسيره تلك الإرادة العليا، وليس مخيرا في كثير ولا قليل مما يفرض عليه فرضاً، وليس له عن تنفيذه نحيد. والإنسان - ككل جزء آخر من أجزاء العالم - يسير كذلك في هذه الطريق المرسومة، الا أنه قد تبلغ به الأنانية حدا بعيدا فيظن انه المقصود من خلق هذا الكون الفسيح، وأن هذه الطبيعة وما فيها إنما وجدت من أجله ولصالحه، ولكن لا يجوز للفيلسوف بحال من الأحوال أن ينظر إلى العالم هذه النظرة الشخصية الضيقة فواجب أن نجرد أنفسنا من نزعتنا البشرية، حتى يتسنى لنا أن ندرك الكون مستقلا عنا، بعيدا عما تمليه أغراضنا، وأن ندرسه دراسة موضوعية كحقيقة عارية لا تؤثر فيها الميول الإنسانية. فلا ننسب الخير والشر لهذا الشئ أو ذاك لأن الخير والشر نسبيان للبشر، وليس لهما وجود في الواقع، فإذا ما حكما على شيء قي الطبيعة بأنه عبث وشر، أو أنه يثير فينا السخرية فذلك لأننا لا نعرف الأشياء الا معرفة جزئية، ولأننا نريد أن تسير الامور كما نشتهي نحن، وحسب ما تمليه عقولنا، لأننا نجهل أن الكون وحدة لا تتجزأ، فما نحكم عليه بأنه شر ليس في الحقيقة شرا بالنسبة للقوانين التي تسير الطبيعة بمقتضاها، ولكنه شر بالنسبة لطبيعتنا نحن بعد فصلها وانتزاعها من تلك الوحدة الكونية. فالشر والخير أوهام لا تعرفها الحقيقة الخالدة. لا ولا الجمال والقبح لأنهما كذلك أوصاف اصطلح عليها الإنسان. فالشيء الجميل والشيء القبيح هما في نظر القوانين العامة سواء ولا تفضيل لأحدهما على الآخر. هكذا يريد سبينوزا أن نجرد أنفسنا من كل النزعات والميول والأغراض وأن ننظر إلى العالم من وجهة نظر الواقع، لا من وجهة نظرنا نحن. حتى نصدر أحكاما صحيحة. يجب أن ننظر إلى العالم نظرة مجردة كما ننظر إلى المثلث مثلا، فأنت لا تحكم عليه كما يقع في نفسك، فيكون لك فيه رأي ولي فيه رأي آخر، لا بل ننظر إليه بالنسبة إلى القانون العام المجرد الذي يتحكم في جميع المثلثات على السواء فيكون المثلث عندك كما هو عندي وعند أي إنسان. فلننظر إذن إلى هذا العالم من وجهة نظر قوانينه الثابتة الشاملة حتى لا يتغير باختلاف الميول والأشخاص. ويزعم سبينوزا: أن تلك النظرة الشخصية قد أفسدت علينا فهم الله سبحانه وتعالى فهما صحيحا، فأخذنا ننسب إليه صفاتنا نحن، لماذا؟ لأننا أبصرناه من نافذة نفوسنا، ولم نتجرد لنطل عليه من(12/29)
جانب الحقيقة والواقع، فنحن مثلا نتصور الله في صورة المذكر دائما، ولا نرضى أن نصبغه بصبغة التأنيث، نقول هو ولا نقول هي، وليس ذلك الا نتيجة لخضوع المرأة لسلطان الرجل، كذلك ننسب إليه كل الصفات التي نراها حسنة كاملة لا من حيث الواقع ولكن من حيث حكم العقل البشري المحدود بميوله وأغراضه. وقد كتب سبينوزا في ذلك إلى أحد معارضيه يقول: (إذا اعترضت عليّ بأنني لا أريد أن أصف الله بالنظر والسمع والملاحظة والإرادة وما إلى ذلك من الصفات. . . فأنت إذن لا تعرف الإله الذي أتصوره وأحسب أنك لا تستطيع أن تتخيل مثلا أعلى من الصفات السالفة الذكر، وإني لا أستغرب منك هذا القصور في الخيال لأنني أعتقد أن المثلث إذا استطاع أن يعبر عن نفسه لقال كذلك أن الله يتميز بصفات المثلث. كما تقول الدائرة أن طبيعة الله دائرية. وهكذا ينسب كل شيء إلى الله من الصفات ما يراها في نفسه)
الله عند سبينوزا هو مجموع الأسباب والقوانين جميعا وقوته هي مجموع القوى العقلية الكامنة في كل أجزاء المادة المنتشرة في الزمان والمكان.
لأن لكل شيء في الوجود جانبا عقليا أي روحيا، كما أن الامتداد، أي الجسم، جانب آخر.
ولكن ما هو العقل وما هي المادة؟ ذهب الخيال الجامح ببعضهم إلى حد القول بان المادة روح كلها وليس الجسم الا محض فكرة، كما جمد الخيال عند بعض آخر إلى حد القول بأن العقل مادة كله، وليست الأفكار الا عمليات جسمية، وذهب فريق ثالث إلى أن العقل والمادة مستقل بعضهما عن بعض الا انهما متوازيان في عملهما أي أن العقل يفكر والجسم يتحرك دون أن يكون بين ذلك التفكير وهذه الحركة علاقة ما. يستعرض سبينوزا هذه الآراء جميعا فيرفضها جميعا، فلا المادة روحية ولا العقل مادي ولا هما مستقلان متوازيان إذ ليس هناك شيئان متميزان: عقل ومادة، حتى نبحث عن العلاقة بينهما بل ثمت شيء واحد فقط وعملية واحدة فحسب لها مظهران أو جانبان، فأنت تراها الآن باطنيا في صورة الفكرة ثم تراها خارجيا في صورة العمل. فالعقل والجسم وحدة لا تتجزأ، وكل أجزاء الوجود لها هاتان الشعبتان الممتزجتان المتحدتان، وبعبارة أخرى المادة التي في الكون والروح التي في الكون شيء واحد ذو وجهين، وبعبارة ثالثة، الطبيعة والله شيء واحد، وإذا كان الأمر كذلك من توحيد العقل والجسم أي أن الروح والمادة وجعلهما شيئا واحدا فلا(12/30)
اختلاف إذن بين الإرادة والذكاء، ما دامت الإرادة هي عبارة عن نزوع الجسم إلى عمل معين، والذكاء هو القوة الفكرية الخالصة، وها نحن أولاء قد رأينا أن أعمال الجسم وقوة الفكر ليسا إلا ناحيتين من حقيقة واحدة.
الإنسان إذن بعقله وجسمه وحدة لا تقبل التقسيم وعماد وجوده هو الرغبة اللاشعورية في البقاء، فالرغبة اللاشعورية عند سبينوزا هي كنه الإنسان وجوهره (قارن إرادة الحياة عند شوبنهور وإرادة القوة عند نيتشه) وكل الغرائز خطط دبرتها الطبيعة لحفظ الفرد أو النوع، والسرور والألم ينشآن عن إشباع الغرائز أو تعطيلها، فليس السرور والألم سببا لرغباتنا كما يذهب فريق من المفكرين ولكنهما نتيجة لها. نحن لا نرغب في الشيء لأنه يسرنا ولكنه يسرنا لأننا نرغب فيه، ولا بد لنا أن نرغب فيه لأنه يشبع لنا الغرائز التي تمهد لنا سبيل البقاء. ولا بد أن يكون القارئ قد سارعت إليه النتيجة الطبيعية لهذه المقدمات وهي أن ليس ثمت إرادة حرة، وأن الإنسان مجبر على السير في طريق معينة مرسومة ليس له أن يحيد عنها قيد شعرة، لأن ضرورات الحياة تحدد الغرائز والغرائز تملي الرغبات والرغبات تخلق الأفكار والأعمال المعينة.
وقد يتوهم الإنسان انه حر فيما يفكر ويعمل ومنشأ ذلك الظن الخاطئ انه مدرك لرغباته ولكنه يجهل الأسباب التي تسوق إليه الرغبات فيخيل إليه انه إنما تولدت بمحض إرادته، والحقيقة أن هناك من الدوافع الغريزية ما تحتم عليه أن يحقق هذه الرغبة أو تلك رغم أنفه، فهو يدرك النتائج فقط ويجهل الأسباب الدافعة إليها، ويشبه سبينوزا الإنسان في ذلك بقطعة من الحجر الملقى الذي لا بد له من أن يسقط في مكان معين تبعا لقوة الدفعة، فلو فرضنا أن ذلك الحجر الملقى له إدراك كالإنسان لظن انه إنما يسقط في هذا المكان الخاص وفي هذه الساعة المعينة لأنه يريد ذلك وهذا لأنه يجهل اليد التي دفعته فقسرته على تصرف لا يستطيع أن ينحرف عنه.
وهكذا تخضع أعمال الإنسان لقوانين ثابتة ثبوت القوانين الهندسية ومعنى هذا ان الإنسان جزء لا يتميز من سائر أجزاء الطبيعة بل يندمج فيها ويخضع لناموسها.
الإنسان ظاهرة مادية ككل الظواهر الأخرى يتحكم فيها ذلك القانون الشامل الذي يكمن وراء الكون جميعا ولا ينفصل عنه بل يكون معه كلا لا تنفصم عراه. وقد ضربنا مثلا(12/31)
بذلك الجسر (الكوبري) وقوانينه الميكانيكية، نحن أجزاء من ذلك التيار الذي يجرف أمامه كل شيء تيار القانون العام والسببية، ولما كان ذلك القانون هو الله فنحن إذن أجزاء من الله تعالى ولو أن الأفراد تفنى بالموت الا أن تلك الحقيقة الخالدة التي تتمثل فينا باقية لا تموت. أجسامنا خلايا في جسم الجنس والأجناس أعضاء من جسم الحياة، وبهذا الدمج - دمج الفرد في الكل. يقول شاعر هندي (اعلم أن روحا واحدا ينظم نفسك في الكل وانبذ الوهم الذي يفصل الأجزاء عن كلها الشامل.)
وباعتبار الإنسان جزء من كل فهو خالد، ذلك لأن القانون الذي يسيره لا يفنى بفنائه كما قدمنا، بل هو أبدي تظهر آثاره في الأفراد بعد الأفراد. فأنت إذا محوت مثلثا مخطوطا على ورقة أمامك فليس معنى ذلك فناء القوانين التي تخضع لها المثلثات لان هذا المثلث المعين الذي محوته لم يكن شخصية منفصلة عن زملائه المثلثات بل هو يضبط الجميع ناموس واحد لا يعتريه التغير والفناء. وقل مثل هذا تماما في أفراد الإنسان. يموت الواحد ويبقى قانونه ممثلا في سائر الأفراد وهذا هو معنى الخلود عند سبينوزا، وهو كما ترى ليس خلود لأفراد بل خلود لقوة وقانون، وذلك يتضمن بالطبع إنكار الثواب في الحياة الآخرة جزاء الفضيلة الدنيوية، وهو يقول في ذلك: (إن هؤلاء الذين ينظرون للفضيلة كأنها عبودية مفروضة عليهم من الله تعالى ولا بد أن يمنحهم الله جزاء على قيامهم بهذا الفرض الثقيل إنما هم أبعد ما يكونون عن فهم الفضيلة على الوجه الصحيح. فالفضيلة أو طاعة الله هي سعادة في نفسها يشعر الإنسان بالطمأنينة والنعيم في أدائها فعلام تنتظر الجزاء؟ انك تكون كرجل أسكنه سيده قصرا فخما وأعد له فيه كل ألوان النعيم فيظل يرتع فيه وينعم ثم هو بعد ذلك ينظر من سيده أجر البقاء في ذلك النعيم!!)
والخلاصة أن الطبيعة تسير بمقتضى قوانين كامنة في صورها كما تكمن قوانين الصوت مثلا في جهاز الراديو، فكما أنك لا تستطيع أن تقول هذا هو الجهاز المادي للراديو وتلك هي قوانينه النظرية منفصلة بل هما شيء واحد لا ينفصل كذلك لا يمكنك أن تقول هذا هو العلم المادي وتلك هي القوة الروحية التي تسيره، لأنهما متصلان في وحدة لا تتجزأ. وبما أن هذه القوانين تسيطر على كل جزء من أجزاء الوجود (والإنسان واحد منها) فالإنسان يسير بمقتضى تلك القوانين الثابتة. ولا يتمتع بذرة من الحرية في تصرفاته.(12/32)
وهناك جوانب أخرى من فلسفة سبينوزا، فقد كتب رسالة في الأخلاق وأخرى في النظام السياسي وكنا نحب أن نتناولهما بالشرح الموجز لولا ضيق المقام فلعلنا نوفق إلى تحقيق ذلك في مقال آخر.(12/33)
عمالقة الأشجار
للدكتور محمد بهجت. خريج جامعة كاليفورنيا
لا ريب أن العالم كان مسكونا بكائنات على جانب عظيم من الضخامة
فالعلم يخبرنا عن (الداينصور) العظيم الذي يوجد هيكله العظمي
الهائل بالمتحف البريطاني مع هياكل أشباهه من عظائم الحيوان
وأغواله، وكذلك (العنقاء) أو الطير العظيم أو المسمى (بتروداكتيلس)
ولم يكن هذا الأخير طيراً بمعنى الكلمة أو وطواطا بل نوعا من
العظايا الهائلة اكتسب خصوصية الطيران.
دبت هذه الحيوانات المرعبة على ظهر الأرض في العهد (الميوسيني) كما يسميه علماء طبقات الأرض أو عهد منتصف الحياة، وذلك من ملايين السنين الخالية!! ويحتمل أنها عاشت قبل الإنسان بكثير.
ويظهر أن هذه الحيوانات انقرضت فجأة بفعل وبتأثير بركان عنيف أباد معظم المخلوقات، ثم تبع ذلك العصر الجليدي فأتى على آخرها ولم يترك لنا من آثارها الا عظاما نخرة أقامها العلم هياكل هائلة ووقف الإنسان مبهوتا فاغرا فاه. أما في البحار فلا يزال بها من المخلوقات العظيمة ما لم تنقرض كأقربائها الدواب فالحوت الهائل يمخر البحار ويشق عبابها واذكر أنهم اقتنصوا وحشا منه في المحيط الهادئ قرب شاطئ كاليفورنيا الجنوبي منذ سنتين وكان يزن سبعين طنا!!
كذلك كان الحال في المملكة النباتية، كانت لها عمالقتها، كانت هناك أشجار ضخمة تؤلف غابات شاسعة تشمل المناطق الشمالية من أوربا وأمريكا، ولا ريب أنها أظلّت وحمت الكثير من تلك الوحوش، ومن هذه الأشجار شجرة (السيكويا) - ملكة النباتات - التي قاست ولا ريب كل المحن التي ألمت بالكائنات الحية التي عاصرتها ولكنها نجت من دونها وعاشت إلى هذا الوقت تخبرنا في صمت رهيب عن ماض بعيد مليء بالكوارث والخطوب.
وتنتمي شجرة السيكويا إلى العائلة المخروطية أي عائلة الصنوبر ويجد منها نوعان:(12/34)
(سيكويا مبرفيرنس) و (سيكويا جايجانتيا) ولا يوجدان في مكان ما على ظهر البسيطة إلاّ في ولاية كاليفورنيا. فيوجد النوع الأول نامياً على ساحل المحيط في شمال الولاية حيث الطقس بارد صيفا وشتاء وحيث الرطوبة متوفرة طول السنة، وفي منطقة يبلغ طولها 450 ميلا بموازاة الساحل، ويقل تدريجيا كلما ابتعد عن البحر وامتد شرقاً إلى الجبال الساحلية. وأما خشبه فضارب إلى الحمرة ويعرف في مصر بالجوز الأمريكاني الذي يصنع منه الأثاث، وأما النوع الثاني فيوجد بداخل الولاية ومنتصفها في ثلاثة أحراج متقاربة في قمة جبال السييرا على ارتفاع عظيم من سطح البحر. ومن العجب أنه لا توجد أشجار متفرقة من هذا النوع فكأنها خافت على نفسها نوائب الحدثان وخشية الانقراض فتجمعت في هذه الأحراج متقاربة كما تتقارب أفراد القطيع إذا أحسّت خطراً.
وعندما اكتشف النوع الثاني الذي هو أضخم من الأول في سنة 1855، أرسلت منه نماذج إلى إنجلترا فأسماه النباتي لندلي (وللنجتونيا) تمجيداً لأسم الجنرال ولنجتون الذي قهر نابليون والذي كان في ذروة المجد وقمّة الشهرة إذ ذاك، فأخذت الأمريكان النعرة الوطنية إذ عزّ عليهم أن تسمى شجرة أمريكية بإسم رجل إنجليزي فأسموها (واشنطجطونيا) نسبة إلى جورج واشنطن أبى الأمريكيين. وأخيرا قر الرأي على جعل اسمها الجنسي سيكويا نسبة إلى رجل من متوحشي الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين لم يصب مجدا بالفتح وإراقة الدماء، بل بعقلية جبارة وعبقرية نادرة. ينتمي هذا الهندي إلى قبائل (الشيروكي) التي كانت ضاربة في تخوم ولاية جورجيا الجنوبية، تزوج أبوه الأبيض من أمه الهندية ثم لم يلبث أن هجرها فاعتزلت وابنها ركنا في غابة ونشأ نشأة هادئة تغاير نشأة أترابه الهنود الذين يتلقنون فنون الصيد والقنص والحرب وغيرها من أعمال الفروسية في سن مبكرة فكان يساعد أمه على أعمال المنزل أو فلاحة الأرض وقطع الأخشاب، فلما شبّ وترعرع احترف الصياغة ونبغ فيها نبوغا عظيما وذاع صيته ذيوعاً كبيراً ثم وجد أن البيض يغيرون على وطنه ويقتطعون أراضيه ويجلون أهله وعشيرته عن مساقط رؤوسهم فأحزنه ذلك وأخذ يفكر في الأمر وخرج من تفكيره بضرورة مقاومة المدنية بالمدنية.
ولما أدرك بثاقب فكره ان السر في تفوق البيض وتمدينهم ينحصر في مقدرتهم على التفاهم قراءة وكتابة قرر أن يخترع لغة لقومه فنبذ الصياغة وعكف على الدرس في الغاب وأخذ(12/35)
يكد ذهنه ويحفر في قشور الأشجار إلى أن وصل بعد ثلاث سنين إلى اختراع رموز تمثل كل كلمة أو فكرة في لغة قومه، ولكن هذه تكاثرت لدرجة يصعب على الأذهان استيعابها ففكر مرة أخرى واهتدى أخيرا إلى أن الصوت هو مفتاح اللغة فكدّ واجتهد إلى أن خلق حروفا أبجدية فاستطاع أن يكتب لغة أغنى بمفرداتها من لغاتنا!! بعد ذلك علمها قومه فتهافت عليها صغيرهم وكبيرهم إلى أن حذقوها، ومن ثم تحسنت أحوالهم العمرانية وازدادت ثروتهم وخطوا في سبيل المدنية خطوة واسعة، ولكن جشع الأبيض وظلمه كانا دائبين. فما زال بأراضيهم يغتصبها بقوة السلاح إلى أن تشردت قبائل الشيروكي وتقلصت حدودهم. لم يقف سيكويا عند هذا الحد بل خرج وهو في الثانية والثمانين من عمره في صحبة صبي صغير ليدرس لهجات الهنود المختلفة ويضع بعد ذلك لغة عامة للهندي الأحمر. فعبر السهول والجبال ولكن مات رفيقه الصبي من مشاق الرحلة فسار وحده ضاربا في الفيافي المقفرة والغابات الموحشة والجبال الشامخة المكسوّة بالجليد، إلى أن وقفه الضعف والإعياء فحطّ رحله قرب حدود المكسيك لآخر مرة. ودفن حيث مات في حفرة عادية، ولم تلبث الذئاب أن نبشت قبره وبعثرت عظامه.
هذا رجل من عظماء العالم قل من يعرفه، حتى قبره امتهن ولم تكن عليه أقل إشارة تدل على عقله الراجح ونفسه العظيمة ولكن العبقرية لا تفنى فقدر لأسمه أن يقترن بهذه الأشجار الخالدة وسوف يخلّد معها إلى أبد الآبدين.
وأشعر بعد طول هذه المقدمة أن أقصر كلامي على حرج واحد من الأحراج الثلاثة، لا لأنه أهمها فقط بل ولأنه أعجبها. . .(12/36)
حاجة اللغة العربية إلى دراسة الثقافة اليونانية
من محاضرة للمستر اربري أستاذ اللغة والآداب اليونانية
واللاتينية في كلية الآداب
انقضى نحو ألف من السنين والعالم الإسلامي مُولٍ ظهره لليونان وثقافته، ولم يبدأ الاهتمام بهذه الثقافة مرة أخرى إلاّ في الجيل الحديث، وهذه العودة إلى دراسة الآثار اليونانية ليست أقل الظاهرات التي امتازت بها النهضة العلمية والأدبية الجديدة في البلاد الناطقة بالضاد. وقد كان لمصر فضل السبق في هذا الميدان كدأبها في جميع الحركات الهامة.
ونظراً لأن أشعار هوميروس هي أول ثمرة أنتجتها قرائح اليونان، فكان من الملائم جداً أن يكون أول ما ترجم إلى العربية حديثاً من الآثار اليونانية إلياذة هوميروس. وقد بدأ سليمان البستاني ذلك العمل الشاق في عام 1887، واستطاع أن يخرج للناس في سنة 1904 ترجمة عربية كاملة منظومة. ومن الظلم البين أن يحاول الإنسان نقد هذا العمل الجليل أو الحط من شأنه، ماذا يهمنا أن نقرر بأن النظم ليس من مرتبة عالية، أو أن المعنى الأصلي - بل والروح أيضا - لم يدركه المترجم أحيانا؟ حقيقة أنه من سوء حظ المترجم أنه اختار للترجمة ملحمة لكي يظهر فيها مقدرته على النظم، فان اللغة العربية لا يلائمها هذا الضرب من القريض بنوع خاص (كذا) نظراً لما لها من نظام معقد في الوزن والقافية. ولكن على رغم هذا، الأجدر بنا ألاّ نطبّق قواعد النقد الأدبي على تلك الترجمة، بل ننظر إليها كأنها بشير ينبئنا بما يمكن للأدب العربي أن يبلغ إليه بعد.
ولا أظن أن بي حاجة إلى أن أحصي لكم المترجمات الأخرى التي ظهرت في هذا القرن. فكلنا نعلم جهود الأستاذين لطفي السيد بك، والدكتور طه حسين في هذا الباب. فبفضل ما بذلاه من جهود أصبحت اللغة العربية مرة أخرى غنية بما ترجم من آثار الفيلسوفين أفلاطون وأرسطو. وواجب على كل محب لرقي الآداب والعلوم العربية أن يشجع كل عمل من هذا القبيل. ولكني الآن أريد أن أتساءل، ومن المهم جدا أن أتساءل، هل من المستحب ترجمة الآثار اليونانية واللاتينية إلى اللغة العربية في الوقت الحاضر؟ وإذا كان هذا مستحبا، فهل يكتفي بالترجمة عن التراجم التي في اللغات الأوربية الحديثة؟ أم هل من اللازم أن يكون المترجم ملمّا بالأصل اليوناني أو اللاتيني للكتاب الذي يترجمه؟ ولنبدأ(12/37)
بالرد على السؤال الثاني. فنرى من البديهي أن الترجمة عن ترجمة، شيء لا يكفي ولا يغني، وإذا جاز لنا أن نضرب مثلا فلنتصور كاتباً فرنسياً يريد أن يطلع قومه على جمال الأدب العربي ولكنه بدلاً من المبادرة إلى تعلم العربية يلجأ إلى ترجمة إنجليزية أو ألمانية للكتاب الذي يريد أن ينقله، ثم يكتفي بنقله على هذه الصورة إلى اللغة الفرنسية. فكيف يستطيع مثل هذا الكاتب إذا أراد ترجمة المعلقات مثلا بهذه الطريقة، أن يحتفظ بما فيها من خيال شعري، ونظم البديع؟ أو إذا أراد نقل رسالة من تلك الرسائل الدقيقة المعنى التي ألّفها ابن العربي أو مقالة من مقالات الجاحظ البليغة، فهل يمكن أن تكون ترجمة الترجمة التي يقدمها للقراء، إلاّ بمثابة شبح لشبح؟ ولو أني قابلت رجلا من هذا القبيل لأبديت له إعجابي بحماسه وغيرته، ثم طلبت إليه بكل ما لدي من أدب وحزم أن يبدأ بدراسة العربية خمس سنين ثم ينظر بعد ذلك هل في وسعه أن ينهض بذلك العبء.
فإذا كان لابد من نقل الآثار اليونانية واللاتينية إلى العربية، فليس من شك في أن هذا العمل الخطير يجب أن ينهض به علماء من الناطقين بالضاد، لهم إلمام تام بهاتين اللغتين. وليس من وسيلة أخرى لإتمام ذلك العمل على الوجه الأكمل، بل أني أذهب إلى أبعد من هذا فأقره بأن العمل لا يستحق أن يعمل بأي شكل آخر.
ولكن هل من اللازم القيام بذلك العمل؟ قد يتساءلون: أليست آدابنا وحدها كافية لتثقيف المصري في عصرنا هذا؟ أليس الأولى بمن لغتهم العربية، أن يقصروا دراستهم على الأدب العربي اللهم إلاّ فريق المتخصصين؟ ثم على فرض أنه من المستحب لأسباب كثيرة أن ندرس لغات وأدبيات أجنبية، ألا يكون الأفضل دراسة اللغات الأوربية والآسيوية الحديثة؟ وما دامت اللغتان اليونانية واللاتينية قد ماتتا منذ قرون عديدة، أليس الأولى بنا نحن أن نتركهما في رمسهما؟ وإلاّ فما الفائدة التي تجنيها اللغة العربية والآداب المصرية من دراسة تلك الآثار اليونانية واللاتينية بما لا يمكن الحصول عليه بشكل أكمل وأحسن بدراسة الآداب الحديثة؟
لقد جاء في كتاب (الفلسفة في الإسلام) تأليف دي بوير العبارة الآتية: (إن أجلّ شيء خلقه لنا العقل اليوناني في الفنون وفي الشعر وفي التاريخ، لم تصل إليه أيدي الشرقيين. وكان من الشاق عليهم أن يفهموه لجهلهم حياة الإغريق. فنرى مثلا مؤرخي العرب قادرين على(12/38)
ذكر أمراء اليونان حتى كيلوباترا، وكذا قياصرة الروم. ولكنهم كانوا يجهلون المؤرخ تيو سيديد، ولا يعرفون اسمه. أما هوميروس فلم ينقلوا عنه غير جملة واحدة وهي: (لا يكون الحكم إلاّ لواحد). ولم يكن لهم أدنى دراية بالشعراء والروائيين من الإغريق.
ولكن مثل هذا الحكم ليس عادلا تماما. حقيقة لم يكن للمسلمين الأولين إطلاع على القسم الأعظم من أدب اليونان. ولم يكن لهم علم بحياة الإغريق، ولم يهتموا بمعرفتها، ولكن لو أن المصادفة ساقت إليهم هذه الآثار المجيدة، أكان يتعذر عليهم أن يتذوقوها ويقدروها حق قدرها. أليس الأرجح أن شعبا متوقد الذكاء، شديد الإحساس بالجمال، مثل الشعب العربي هو أقدر الناس على تقدير محاسن الأدب اليوناني، كما أمكنه أن يقدر ويفهم دقائق الفلسفة اليونانية؟ ولكن ظروفاً سيئة حالت بين العرب والأدب اليوناني. ففي وقت نشأة الإسلام كانت الدولة البيزنطية يغشاها ظلام. وأشد العصور التي مرّت بها حلكة وظلاما هي المدة ما بين 641 و 850. ويحدثنا عن الحالة في أول هذه الفترة فيقول في كتابه عن تاريخ الدراسات اليونانية واللاتينية: أن القيصر ليو الثالث الذي استطاع أن يرد إغارة العرب على القسطنطينية. وأن يعيد تنظيم الإمبراطورية سواء من الناحية الحربية أو المدنية. لم يصنع مع هذا كله شيئا لتشجيع العلوم. بل لقد حرم معهد العلوم الإمبراطوري من ممتلكاته بالقرى من أيا صوفيا. وطرد رئيس المعهد ومعه إثنا عشر معلما كانوا يتولون مع نيوريس الفنون والفقه. وكذلك يروي بعض المؤرخين انه أمر بإحراق مكتبة المعهد، وبها نحو ثلاثة وثلاثين ألفاً من المجلدات في موضوعات دينية وغير دينية، ولئن كانت هذه حالة دولة اليونان في هذا العصر أي في العصر الذي اتسع فيه نفوذ الثقافة اليونانية في البلاد العربية، فكيف ترجو أن يعنى العرب بدراسة الآداب اليونانية واللاتينية؟ أما الفلسفة والعلوم المفيدة فقد كان لها عندهم المكان الأول، نظرا للظروف الخاصة التي دعت للاهتمام بهما: إذ كانت الفلسفة عندنا على الجدل الديني، والعلوم النافعة مثل الطب والهندسة، من بواعث الراحة المادية للإنسان. وكذلك يجب ألاّ تنسى أن العرب كان لهم أدب زاهر لا مراء في أنه من الرقي بمكان عظيم. وكأنما وجد الناس في القصائد الجاهلية وفي المدائح والمراثي والمنظومات المختلفة التي تغنى بها الشعراء الأمويون والعباسيون، وجد الناس في هذا كله بغيتهم من الخدمة الأدبية. أما النثر فانه من بعد تلك المعجزة(12/39)
الأبدية: (القرآن) قد جعل يرتقي حتى بلغ في أيدي كبار الأساتذة أمثال الجاحظ والحريري والهمذاني على مرتبة عالية من الكمال. وبهذه الصورة نما للعرب أدب خاص ممتاز وأصبح تراثا عظيما آل اليوم إلى البلاد الإسلامية.
ولكني وإن علمت ما امتاز به هذا التراث من عظمة واتساع ورقي. فإني على ذلك لا أتردد في أن اقرر بأن الذكاء العربي قادر بعد على إنتاج ثمرة لا تقل عن تلك المنتجات. بل لقد تفوقها وأنا زعيم بأن بلوغ تلك الغاية على أكمل وجه إنما يكون بدراسة آداب اليونان والرومان.
إن جميع الآداب الأوربية الحديثة مدينة دينا لا يمكن حصره للآداب اليونانية واللاتينية، وحسبنا أن نذكر تلك الحقائق المألوفة عن عصر النهضة في غرب أوربا وكيف أن استكشاف الآداب اليونانية من جديد - على أثر استيلاء الأتراك على الأستانة وانتشار العلماء والأسفار اليونانية في أوربا - كان باعثا لحياة جديدة في ميدان العلم والأدب، ووسيلة لغرس بذور الآداب القومية في كل بلد من البلاد الأوربية. . . .
في الوقت الحاضر نرى الآداب الأوربية الحديثة تدرس بحماس وبتقدير يبعثان على الإعجاب. وحاشاي أن أحاول الغض من هذا الحماس والنشاط. بل أني لأرى في المقالات التي كتبها المنفلوطي ومدرسته والكتّاب المعاصرون أمثال العقاد ومنصور فهمي وسلامة موسى وغيرهم من أعضاء ذلك الرهط النابغ من الكتّاب بعثاً جديداً في الأدب العربي. وخصوصا وفوق كل شيء نرى تلك النهضة في نبوغ شوقي الذي لا يضارع إعجابنا به إلاّ حزننا على فقده. وفي تلك الروايات التمثيلية التي أثمرها فكره الناضج الجميل.
ولكن إذا ما ذهبنا لرؤية رواية من رواياته تمثل في أحد المسارح فلنذكر أن الفن التمثيلي إنما ولد في بلاد اليونان، وإن ما خلفه الإغريق من القطع التمثيلية التي هي للعالم ذخر يعتز به ويحرص عليه، منذ خمسة وعشرين قرنا، لأنها هي أكمل وأبدع الروايات التمثيلية التي أنتجها الفكر البشري. لنذكر ونحن نقرأ روايات شكسبير وكورني وجوتيه، انه لولا اليونان لما كانت تلك الآثار وكذلك فنون الأدب الأخرى، فان مرجعنا فيها إلى أدب اليونان والرومان، الذي هو المنبع والمرجع لكل من آداب الأمم العربية. والآن يحق لنا أن نتساءل هل يجوز أن تستبعد الآثار اليونانية من النهضة الجديدة التي يعيش في ظلها كل مصري(12/40)
في وقتنا هذا سواء أدرك ذلك أم لم يدركه، وسواء رغب في ذلك أم رغب عنه؟ ومن ذا الذي تبلغ به الجرأة على أن ينادي بالاكتفاء بالأدب الأوربي عن الأدب اليوناني، والاستغناء عن المثال اكتفاء بالقياس؟
قال الأستاذ جيب في كتاب (تراث الإسلام) مقارنا بين أدب اليونان والعرب؟: (من أهم مميزات الأدب العربي والفارسي أنه عاطفي وأن الطالب الذي نشأ على حب المثل اليونانية في الأدب لن يجد في أدب العرب والفرس تلك الصفات التي امتاز بها أدب اليونان والتي هي السر في قوته الساحرة الباقية على مدى الزمان، وبرغم ما فيه من قوة الصياغة التي قد يفوق فيها قوة الصياغة في أدب اليونان، فإن فيه جمودا وفي أدب اليونان تنوعا، وفيه إغراق ومبالغة وفي أدب اليونان شدة ووقار، وقد بلغ الكتّاب اليونان واللاتين ما بلغوه من العظمة بتوخي البساطة والسهولة وعدم الاندفاع. بينما الكاتب الشرقي ينسج آياته فيملأها بالبديع الغامض من اللفظ، ويلتمس لها الاستعارات والكنايات البعيدة الخلاّبة. واليوناني يؤثر في الفكر بواسطة الجمال الخالص. أما العربي أو الفارسي فيؤثر في الحاسة أو في الخيال بما يأتي به من الألوان الساحرة).
والآن أليس من المحتمل أن قد يتاح لأبناء مصر أن يوفقوا بين المثل الأدبية العربية واليونانية؟ أليس ممكنا أن تعليما يتناول دراسة الأدبين العربي واليوناني في آن واحد، قد يأتي بنتائج لا يحلم بها أحد، ويوجد في الأدب العربي ثروة جديدة، إذ يكون سببا في خلق مسرح قومي وأناشيد وقصائد وتاريخا ونقدا أدبيا، وهذا كله يجمع مزايا كل من الأدبين ويفوق كلا منها؟ فهل يكون أملاً بعيداً أن نرجو أن الجامعة المصرية قد تصبح يوما ما ذات شهرة عظيمة في أمور كثيرة، ومنها أنها المعهد الذي يساعد على إيجاد مثل ذلك الأدب؟
في القرن الثالث الهجري، كتب الجاحظ وهو بالبصرة: (إننا لو لم تكن لدينا كتب الأوائل التي خلّدوا فيها حكمتهم وعلمهم والتي ذكروا فيها تاريخهم وأعمالهم حتى نكاد أن نراهم بأعيننا. ولو لم تكن عندنا ثروة تجاريهم، لكان حظنا من الحكمة والعلم صغيرا ضئيلا). هكذا كتب الجاحظ وما كان نصيبه من حكمة القدماء إلاّ نزرا يسيرا. فهل نكون نحن أقل اعترافاً منه بالجميل مع أن نصيبنا أكبر وأوفر؟(12/41)
بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام
للأستاذ محمد عبد الله عنان
في أواخر أكتوبر من العام الماضي، كان قد انقضى ألف ومائة عام كاملة على حادث كان له أعظم الآثار وأبعدها في تاريخ الإسلام والنصرانية، بل كان كلمة الفصل الحاسمة في مصاير الإسلام والنصرانية.
هذا الحادث الجلل، هو موقعة بلاط الشهداء التي تعرف في التواريخ الإفرنجية بموقعة (توراوبواتييه)، والتي نشبت بين العرب والإفرنج في سهول فرنسا على ضفاف اللوار في أوكتوبر سنة 732.
وقد مضى على بلاط الشهداء ألف ومائة عام، وتغير وجه التاريخ، ومحيت آثار الإسلام من غرب أوربا ومن الأندلس منذ نحو أربعة قرون. ومع ذلك فإن ذكريات بلاط الشهداء ما زالت حيّة في الغرب، وما زالت وقائعها وآثارها التاريخية موضع التقدير والتأمل من جانب المؤرخ الغربي. وكان انقضاء الألف ومائتي عام على حدوثها، ذكرى جديدة نظمت من أجلها الاحتفالات في فرنسا، وكانت مثار تأملات وتعليقات جديدة، تدور كلها حول الصيحة التاريخية القديمة: لو لم يرد العرب والإسلام في سهول تور، لما كانت ثمة أوربا نصرانية، بل لعلّه ما بقيت نصرانية على الإطلاق، ولكان الإسلام اليوم يسود أوربا، وكانت أوربا الشمالية تموج اليوم بأبناء الشعوب السامية ذوي العيون الدعج والشعور السود، بدلاً من أبناء الشعوب الآرية ذوي الشقرة والعيون الزرق.
وهذا الحادث الجلل، وهذه الذكريات والتأملات التي آثارها وما زال يثيرها، هي موضوعنا في هذا الفصل. وسنعنى بشرح مقدماته وتفاصيله على ضوء أوثق المصادر العربية والغربية، وسيرى القارئ بعد إذ يتلو هذه التفاصيل، أن التاريخ الإسلامي كله قد لا يقدم إلينا حادثا له من الخطورة والأهمية وبعد الأثر ما لموقعة بلاط الشهداء.
- 1 - افتتح العرب إسبانيا، وغنموا ملك القوط في سنة 97 - 98هـ (711 - 712) م على يد الفاتحين العظيمين طارق بن زياد وموسى بن نصير، في عهد الوليد بن عبد الملك، وأضحت أسبانيا من ذلك التاريخ كمصر وأفريقية ولاية من ولايات الخلافة الأموية، وتعاقب عليها الولاة من قبل الخليفة الأموي، ينظمون شؤونها، ويدفعون الغزوات الإسلامية(12/43)
إلى ما وراء جبال البرنيه (البرت أو الممرات) في غاله (جنوب فرنسا)، فلم تمض عشرون عاما على افتتاح الأندلس حتى استطاع العرب أن يجتاحوا ولايات فرنسا الجنوبية، وأن يبسطوا سلطانهم على سهول الرون وأن يتقدموا بعيدا في قلب فرنسا.
ولكن إسبانيا المسلمة على حداثة عهدها لم تلبث أن اضطرمت بالفتن والمنازعات الداخلية، ولم تلبث النصرانية أن أفاقت من دهشتها الأولى، وتأهبت للنضال والمقاومة، ولقي العرب بعد ثورة الظفر التي اجتاحت جنوب فرنسا، هزيمتهم الأولى في موقعة تولوشة (تولوز) في ذي الحجة سنة 102هـ (يونيه سنة722 م) وقتل أميرهم وقائدهم السمح بن مالك، فارتدوا إلى سبتمانيه بعد أن فقدوا زهرة جندهم وسقط منهم عدة من الزعماء الأكابر.
وقطعت الأندلس بعد ذلك زهاء عشرة أعوام من الاضطراب والفوضى، وخبت ثورة الفتح، وشغل الولاة بالشؤون والمنازعات الداخلية، حتى عيّن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي واليا للأندلس في صفر سنة 113هـ (أبريل سنة 731م).
ولسنا نعرف كثيراً عن سيرة الغافقي الأولى، ولكنا نعرف أنه من التابعين الذين دخلوا إلى الأندلس، ثم نراه بعد ذلك من زعماء اليمانية وكبار الجند ونراه في سنة 102هـ، على أثر موقعة تولوشه ومقتل السمح بن مالك، يتولّى قيادة الجيش وإمارة الأندلس باختيار الزعماء والقادة مدى أشهر، ثم لا نسمع عنه بعد ذلك، حتى يولّى إمارة الأندلس للمرة الثانية من قبل الخليفة سنة 113هـ. على الذي لا ريب فيه هو أن عبد الرحمن الغافقي كان جنديا عظيما ظهرت مواهبه الحربية في غزوات غاليا، وحاكما قديراً، بارعاً في شؤون الحكم والإدارة، ومصلحا مستنيراً يضطرم رغبة في الإصلاح، بل كان بلا ريب أعظم ولاة الأندلس وأقدرهم جميعا. وتجمع الرواية الإسلامية على تقديره والتنويه برفيع خلاله، والإشادة بعدله وحلمه وتقواه، فرحبت الأندلس قاطبة بتعيينه، وأحبه الجند لعدله ورفقه ولينه، وجمعت هيبته كلمة القبائل، فتراضت مضر وحمير، وساد الوئام نوعا في الإدارة والجيش، واستقبلت الأندلس عهدا جديدا.
وبدأ عبد الرحمن ولايته بزيارة الأقاليم المختلفة فنظم شؤونها وعهد بإدارتها إلى ذوي الكفاية والعدل، وقمع ألفتن والمظالم ما استطاع، ورد إلى النصارى كنائسهم وأملاكهم المغصوبة، وعدّل نظام الضرائب وفرضها على الجميع بالعدل والمساواة، وقضى صدر(12/44)
ولايته في إصلاح الإدارة وتدارك ما سرى إليها في عهد أسلافه من عوامل الاضطراب والخلل، وعني بإصلاح الجيش وتنظيمه عناية خاصة فحشّد من الصفوف من مختلف الولايات وأنشأ فرقا جديدة مختارة من فرسان البربر بإشراف نخبة من الضبّاط العرب وحصّن القواعد والثغور الشمالية وتأهب لإخماد كل نزعة إلى الخروج والثورة.
وكانت الثورة توشك أن تنقض في الواقع في الشمال، وبطلها في تلك المرّة زعيم مسلم هو عثمان بن أبي نسعة الخثعمي حاكم الولايات الشمالية. وكان ابن أبي نسعة (أو منوزا أو مونز كما يسميه الإفرنج) من زعماء البربر الذين دخلوا الأندلس عند الفتح مع طارق. وقد عيّن واليا للأندلس قبل ذلك بثلاثة أعوام ولم يطل أمد ولايته، ثم عيّن حاكما للولايات البرنيه وسبتمانيه. وقد كان الخلاف يضطرم منذ الفتح بين العرب والبربر. وكان البربر يحقدون على العرب إذ يرون أنهم قاموا بمعظم أعباء الفتح واستأثر العرب دونهم بالمغانم الكبيرة ومناصب الرئاسة. وكان ابن أبي نسعة كثير الأطماع شديد التعصب لبني جنسه وكان يؤمل أن يعود إلى ولاية الأندلس ولكن عبد الرحمن فاز بها دونه فزاد ذلك في حقده وسخطه وأخذ يترقب الفرص للخروج والثورة.(12/45)
إلى الدكتور هيكل
بإذن الدكتور طه
عزيزي هيكل
حوار ناعم صاغته أناملكما القديرة. وحجاج ذو غمزات تواثبت فيه من كل جهة مع يراعاة الربيع، مهبات الصبا ونفحات النرجس.
إن ما نثرتماه على طريق القرّاء أشبه (بأقاحي الخميلة وحريرها) ولكني لهذا خفت أن يكون ما بين طيات النرجس وتحت الحرير نفاثة طائشة، من حشرة ساهية تضرب ما بين الدعاب البريء، فتصيب من غيركما مقتلا للهوى أو ميلا وليداً للفن.
بل خفت على رغم ما صرّحت به، أن تعود فتعتصم من الغلط. اغلط يا صديقي هيكل، بل يا صديق قرّائك، إذ لا معرفة بيني وبينك إلاّ ما بلغني من فيض قلمك. اغلط وأكثر من الغلط الموهوم. وكسر من هذه القيود التي كسر بعضها من قبلك طه. كسرها لنفسك ولنا. كما كسرها لنا وله. وأعلن، أعلن عن جهدك، عن كتبك، فاسمك للقرّاء شعر موسيقي يتهلل له الضمير المسجون. أعلن لنعرف نحن، قريبين أو بعيدين، أن منّا رجال العمل والتفكير. أسمك مجد لقارئيك وللعربية. كلاّ! لست بذلك أمريكيا، فأرباب القلم أجمعوا أن يكون لهم جمعيات ومجلات ومشروعات عدّة لمجرد الإعلان الأدبي في أقطار العالم المتمدن.
أسلوبك شائق، عباراتك كصفوف جيش أعدت للهجوم. أفكارك تلتهب ما بينها التهاب القنابل: هذا جيشان نفسك المزدحم! أكثر من شخصيتك، أسكب نفسك كأنوار الشمس، يتلذذ بالحياة العلمية والوطنية فيها من يقرؤك.
إن أغلاط أكابر الكتّاب هي صك تحرير النشىء الصاعد.
بيروت. حبيب شماس
والرسالة تسأل السياسة
أهذا الكتاب الرقيق على ما فيه خير أم ذلك الخزي الذي نشرته يوم الاثنين فأهانت بنشره اللغة والأدب والذوق والعراق؟!(12/46)
بنت فرعون تحب
للأديب حسين شوقي
الأميرة (تتي) تعسة جدا لأنها تحب ولكن حبها مستحيل لأنه بشري. . يا للكفر! بنت الفراعنة، بنت الآلهة تحب رجلا فانيا؟ حقا إنه لخطب جلل! ماذا تفعل الأميرة في حيرتها واضطرابها الوجداني؟ ستطلع الملكة على سرها علّها تعينها في الخطب فهي أمها ذات الصدر الحنون، برغم ما يزعمه الناس في أن تلك الأم من منبت ربّاني، وبرغم ما يحيطونها به من مظاهر العبادة والتقديس. ذهبت الأميرة إلى الملكة فأطلعتها على جلية الأمر. . . فحزنت الملكة من أجل ذلك حزنا شديدا، لعلمها بأن أبنتها لن تحقق حلمها اللذيذ، وقد كان لها هي أيضا في صباها مثل هذا الحادث ولم يشفها منه إلا سيل من الدموع. . الملكة في حيرة من أمرها لأن حب تتي ليس حبا زائلا كما توهمت أول وهلة بل هو حب مرضي في درجته الثالثة. . والأميرة آخذة في الذبول، على أن شحوب وجهها قد زادها رونقا وجمالا،. . أتطلع الملكة بدورها فرعون على الأمر؟ كلا! لا فائدة من ذلك لأن فرعون ليس بشرياً وإنما هو إله عابس نحت قلبه من صوان نوبيا الأصم. . ولو عرف السر لقضى على العاشق وهو فتى إغريقي في جيشه. .
هدأت الملكة من روع (تتي)، ولكن من إذن يخرج الملكة من حيرتها؟ الكاهن الأكبر؟ أجل! هو صديقها وهو رجل قادر مهيب مقرّب كما يزعم الناس من الآلهة متصل بهم اتصالا وثيقا. . أطلعت الملكة الكاهن على السر، ولكن ماذا يعمل الكاهن! الكاهن يحك صلعته حيرة، لأن الحب كما يعلم شيطان متعب لا يعبأ بالرقي والتعاويذ، بل يسخر من الآلهة والناس على السواء!.
قال الكاهن بعد أن عصر قريحته: حسنا يا مولاتي سنقيم تمثالا لآمون الرب الأكبر في حجرة الأميرة عساه يطرد ذلك الجني الخبيث الذي اختبأ في قلب الفتاة. . ثم مرت الأيام والتمثال لا يأتي بمعجزة، إلاّ أنه زاد في زينة الحجرة لأنه كان جميل المنظر صنع كله من الذهب الخالص. . أمّا العاشق واسمه بالاس وهو من منبت إغريقي كما قدمنا فقد كاد يجن من هذه الخرافات، فضلا عن أنه كان يحب الأميرة حبا جمّا، تلك الفتاة التي كان يدعوها بحق: الظبية الأفريقية. .(12/47)
ولكن ماذا يفعل بالاس في قوم يشركون الآلهة في كل شأن من شؤون الحياة؟ التقى بالاس ذات ليلة بالأميرة تحت شجرة الجميز الكبرى القائمة في إحدى زوايا القصر، حيث اعتاد الفتى والفتاة أن يتناجيا بلغة كوبيدون الشجية، كلما سنحت لهما الفرصة، فقال بالاس: أميرتي! هيا نهجر هذا البلد الذي حرّم الحب تحت سمائه، حيث يسعد القط والضفدع فيؤلهان ويقدسان، بينما يشقى البشر. . لنذهب إلى يونان الجميلة. . فأجابت تتي في حماسة: ما أعظم شوقي إلى رؤية وطنك المحبوب ذي الجبال الشاهقة التي يرتقى منها الناس إلى مقر الآلهة في الأولمب!!.
ولكن عادت تتي فقطبت حاجبيها قائلة: ولكني أخشى غضب الآلهة وسخطهم علينا يا بالاس! فصاح بالاس: كلا يا حبيبتي لا تخشي شيئا لأن الحب الذي يحرك قلبينا: ما هو الا هبة من نفس أولئك الآلهة. أعد بالاس بعد تلك المقابلة زورقاً وجهزه بالزاد لرحلة طويلة، وفي ليلة ظلماء حمل بالاس الأميرة إلى الزورق نازلا في النيل إلى البحر الأبيض، ولم ينس أن يحمل معه أيضا التمثال الذهبي الذي وضع في حجرة تتي لشفائها من الحب، ولما سألته الأميرة في دهشة عن سبب حمله للتمثال كذلك، أجابها مبتسما: هذا. . . مهرك يا حبيبتي!
كرمة بن هانئ. حسين شوقي(12/48)
في الأدب العربي
عكاظ والمربد
للأستاذ أحمد أمين
من أبعد الأماكن أثراً في الحياة العربية عكاظ والمربد، وقد كان أثرهما كبيرا من نواح متعددة: من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الاجتماعية ومن الناحية الأدبية، ودراستهما تضئ لنا أشياء كثيرة في تاريخ العرب.
ولكن يظهر لي أنه لم يعن بهما العناية اللائقة، فلا نرى فيما بين أيدينا الا كلمات قليلة منثورة في الكتب يصعب على الباحث أن يصور منها صورة تامة أو شبهها، ومع هذا فسنبدأ في هذه الكلمة بشيء من المحاولة في توضيح أثرهما وخاصة من الناحية الأدبية.
عكاظ
في الجنوب الشرقي من مكة وعلى بعد نحو عشرة أميال من الطائف ونحو ثلاثين ميلا من مكة، مكان منبسط في واد فسيح به نخل وبه ماء وبه صخور، يسمى هذا المكان (عكاظ)، وكانت تقام به سوق سنوية تسمى سوق عكاظ، وقد اختلف اللغويون في اشتقاق الكلمة فقال بعضهم: اشتقت من (تعكظ القوم) إذا تحبسوا لينظروا في أمورهم، وقال غيرهم سميت عكاظا لأن العرب كانت تجتمع فيها فيعكظ بعضهم بعضا بالمفاخرة أي يعركه ويقهره، كما اختلفت القبائل في صرفها وعدم صرفها، فالحجازيون يصرفونها وتميم لا تصرفها، وعلى اللغتين ورد الشعر:
قال دريد ابن الصمة: (تغيبت عن يومي عكاظ كليهما)
وقال أبو ذؤيب:
إذا بُنى القباب على عكاظ ... وقام البيع واجتمع الألوف
وكان للعرب أسواق كثيرة محلية كسوق صنعاء، وسوق حضرموت وسوق صحار وسوق الشحر، انما يجتمع فيها - غالبا - أهلها وأقرب الناس إليها. وبجانب هذه الأسواق الخاصة أسواق عامة لقبائل العرب جميعا، أهمها: سوق عكاظ، وسبب عمومها وأهميتها على ما يظهر:(12/49)
(1) أن موعد انعقادها كان قبيل الحج، وهي قريبة من مكة وبها الكعبة، فمن أراد الحج من جميع قبائل العرب سهل عليه أن يجمع بين الغرض التجاري والاجتماعي بغشيانهم عكاظ قبل الحج، وبين الغرض الديني بالحج.
(2) أن موسم السوق كان في شهر من الأشهر الحرم - على قول أكثر المؤرخين، والعرب كانت في (الشهر الحرام) لا تقرع الأسنة، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يهيجه تعظيما له، وتسمى مضر الشهر الحرام بالأصم لسكون أصوات السلاح فيه، وفي انعقاد السوق في الشهر الحرام مزية واضحة، وهي أن يأمن التجار فيه على أرواحهم، وإن كانوا أحيانا قد انتهكوا حرمة الشهر الحرام فاقتتلوا كالذي روي في الأخبار عن حروب الفجار كما سيجيء، ولكن على العموم كان القتل في هذا الشهر مستهجنا، قال ابن هشام: إني آت قريشا فقال: إن البراض قد قتل عروة وهم في الشهر الحرام بعكاظ، الخ وقد قال ذلك استعظاما لقتله.
(فكان يأتي عكاظ قريش وهوازن وغطفان والأحابيش وطوائف من أفناء العرب) وكانت كل قبيلة تنزل في مكان خاص من السوق، ففي الخبر أن رسول الله ذهب مع عمه العباس إلى عكاظ ليريه العباس منازل الأحياء فيها، ويروى كذلك أن رسول الله جاء كندة في منازلهم بعكاظ بل كان يشترك في سوق عكاظ اليمنيون والحيريون. يقول المرزوقي: كان في عكاظ أشياء ليست في أسواق العرب، كان الملك من ملوك اليمن يبعث بالسيف الجيد والحلة الحسنة والمركوب الفاره فيقف بها وينادي عليه ليأخذه أعز العرب، يراد بذلك معرفة الشريف والسيد فيأمره بالوفادة عليه ويحسن صلته وجائزته ويروي ابن الأثير عن أبي عبيدة (ان النعمان ابن المنذر لما ملكه كسرى ابرويز على الحيرة كان النعمان يجهز كل عام لطيمة - وهي التجارة - لتباع بعكاظ). فترى من هذا أن بلاد العرب من أقصاها إلى أقصاها كانت تشترك في هذه السوق. واختلفت الأقوال في موعد انعقادها، وأكثرها على أنه كان في ذي القعدة من أوله إلى عشرين منه، أو من نصفه إلى آخره، قال الأزرقي في تاريخ مكة.
(فإذا كان الحج. . . خرج الناس إلى مواسمهم فيصبحون بعكاظ يوم هلال ذي القعدة فيقيمون به عشرين ليلة تقوم فيها أسواقهم بعكاظ، والناس على مداعيهم وراياتهم منحازين(12/50)
في المنازل تضبط كل قبيلة أشرافها وقادتها، ويدخل بعضهم في بعض للبيع والشراء، ويجتمعون في بطن السوق، فإذا مضت العشرون انصرفوا إلى مجنة فأقاموا بها عشرا، أسواقهم قائمة، فإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى ذي المجاز ثم إلى عرفة؛ وكانت قريش وغيرها من العرب تقول لا تحضروا سوق عكاظ والمجنة وذا المجاز الا محرمين بالحج، وكانوا يعظمون أن يأتوا شيئا من المحارم أو يعدو بعضهم على بعض في الأشهر الحرم وفي الحرم.)
وظيفته: كانت سوق عكاظ تقوم بوظائف شتى فهي (أول كل شيء) متجر تعرض فيه السلع على اختلاف أنواعها، يعرض فيه الأدم والحرير والوكاء والحذاء والبرود من العصب والوشى والمسير والعدة ويباع به الرقيق ويعرض فيه كل سلعة عزيزة وغير عزيزة، فما يهديه الملوك يباع بسوق عكاظ ويتقاتل ابن الخمس مع الحارث بن ظالم فيقتله ابن الخمس ويأخذ سيف الحارث يعرضه للبيع في عكاظ، وعبلة بنت عبيد بن خالد يبعثها زوجها بأنحاء سمن تبيعها له بعكاظ.
ونسبوا إلى عكاظ فقالوا: أديم عكاظي أي مما يباع في عكاظ. ولم تكن العروض التي تعرض في سوق عكاظ قاصرة على منتجات جزيرة العرب، فالنعمان يبعث إلى سوق عكاظ بمتجر من حاصلات الحيرة وفارس لتباع بها ويشتري بثمنها حاصلات أخرى، بل كان يباع في عكاظ سلع من مصر والشام والعراق، فيروي المرزوقي أنه قبل المبعث بخمس سنين حضر السوق من نزار واليمن ما لم يروا أنه حضر مثله في سائر السنين، فباع الناس ما كان معهم من إبل وبقر ونقد وابتاعوا أمتعة مصر والشام والعراق. وكانت السوق تقوم بأعمال مختلفة اجتماعية، فمن كانت له خصومة عظيمة انتظر موسم عكاظ (كانوا إذا غدر الرجل أو جنى جناية عظيمة انطلق أحدهم حتى يرفع له راية غدر بعكاظ فيقوم رجل فيخطب بذلك الغدر فيقول: ألا أن فلان ابن فلان غدر فاعرفوا وجهه، ولا تصاهروه ولا تجالسوه ولا تسمعوا منه قولا، فان اعتب وإلا جعل له مثل مثاله في رمح فنصب بعكاظ فلعن ورجم.) وهو قول الشماخ:
ذعرت به القطا ونفيت عنه ... مقام الذئب كالرجل اللعين
ومن كان له دين على آخر أنظره إلى عكاظ، ومن كان له حاجة أستصرخ القبائل بعكاظ(12/51)
كالذي حكى الأصفهاني أن رجلاً من هوازن أسر فاستغاث أخوه بقوم فلم يغيثوه فركب إلى موسم عكاظ وأتى منازل مُذْحَجَّ يستصرخهم. وكثيراً ما تتخذ السوق وسيلة للخطبة والزواج فيروي الأغاني أنه اجتمع يزيد بن عبد المدان وعامر بن الطفيل بموسم عكاظ، وقدم أميّة بن الأسكر الكناني وتبعته ابنة له من أجمل أهل زمانها فخطبها يزيد وعامر فتردد أبو هاشم، ففخر كل منهما بقومه وعدد أفعاله في قصائد ذكرها.
ومن كان صعلوكا فاجرا خلعته قبيلته (إن شاءت) بسوق عكاظ وتبرأت منه ومن فعاله كالذي فعلت خزاعة: خلعت قيس بن منقذ بسوق عكاظ أشهدت على نفسها بخلعها إياه وأنها لا تحتمل له جريرة ولا تطالب بجريرة يجرها أحد عليه.(12/52)
من طرائف الشعر
كليوبطرة تناجي القصر
قطعة نظمها شاعر الخلود شوقي بك في رواية كليوبطرة ثم بدا له فأسقطها منها فلم تنشر.
أيها القصر أترْعى عهدنا ... وتفي أن عز في الناس الوفى؟
لا تضع عندك أسرار الهوى ... واختزنها في الزوايا والحني
واتخذ ختماً على أشيائه ... إن أشياء الهوى كنز سنى
ذكريات كلما حركتها ... ضاع من جدرانك المسك الزكي
قُبَل: لم يحصها إلاّ الهوى ... طِبنَ بالصبح وطيّبن العشى
يجد الجسم لها همساً كما ... خفق السنبل أو رن الحلى
وعناق كالجفون اشتبكت ... والغصين التف باللدن الطري
أيها القصر انقضى عرس الهوى ... وطوى الأصباح ليل الأنس طي
وقديماً في الليالي لم تدم ... بهجة العرس ولم يبق الدوى
القرآن والتعليم
عرض مشروع التعليم الإلزامي على مجلس الشيوخ فاقترح الأستاذ حسين والي حفظ القرآن لتلاميذ التعليم الأولى. فهز ذلك من صديقنا الهراوي فبعث إلى الرسالة بهذه الأبيات:
قل (لوالي) عُوذت بالقرآن ... هل درى نبل قصدك المجلسان؟
وقفةُ منك للكتاب والدي ... ن تولى تسجيلها الملكان
ليت شعري والخُلق في الناس فوضى ... هل له وازع سوى القرآن؟
نحن في أمة تداركها الل ... هـ بلطف ورحمة وحنان
خدَعتها حضارة الغرب حتى ... كان منها عداوة الإيمان
فانبرت للفسوق والنكر والبغ ... ي جميعا والإثم والعدوان
فإذا لم يكن من الدين حصن ... تتمادى في الغي والعصيان
إنّ هذا القرآن يهدي إلى الرش ... د ويدعو لصالح الإنسان
أصلح الله سعيكم هل أبيتم ... أن تمدوا القرآن بالسلطان؟(12/53)
لا تقولوا: في الحافظين غناء ... بعض هذا! فما تفيد الأماني؟
غير مجد أن يحمل الوحي صوت ... يتغنى للأجر والإحسان
نحن نبغي القرآن علما وفهما ... يخلقان الكمال في الشبان
نحن نبغي القرآن لفظا ومعنى ... فهو صقل الحجا وصقل اللسان
نحن نبغي القرآن دينا ودنيا ... يتجلى في هديّه الحسنيان
ليس مثل القرآن سحر من اللف ... ظ وهدى وحكمة في المعاني
نحن نبغي القرآن في معهد الدر ... س وفي كل منزل ومكان
الهراوي
رويدك قلبي
صبا القلب من شوق وحنّ إلى مصرا ... رويدك قلبي لا حنين ولا ذكرا
تشوقك مصرٌ لا فؤاد بها إلى ... لقائك مشتاق ولا كبد حرّى
تركتُ بمصر قبل بيني وديعة ... من الود فاستولى عليها الردى غدرا
وما حفظت مصر ودادي ولا رعت ... بعادي ولا صانت كما خلتها السرّا
فؤاد رحيم كان مس حنانه ... أرق على قلبي من القطر أو أسرى
حننت له حينا وشاطرته الجوى ... وحنّ إلى عودي وشاطرني الذكرى
ولو دام لي في مصر عذب وداده ... لما اسطعت بعد اليوم عن أرضها صبرا
سلا اليوم ذكري في الثرى وتفردت ... بحمل الأسى والشوق مهجتي الحسرى
أحن له ما راح دهري واغتدى ... وما عشت أبلو بعد أمر له أمرا
وأسقي بدمعي ذكره كلما هفا ... وهاجت بصدري لوعة تلهب الصدرا
يعود إلى أوطانه كل نازح ... فيحمد ظلا في حماها ومستذرى
وأحيا غريبا طول عمري مفردا ... رجعت لمصر أو تناءيت عن مصرا
لندن. فخري أبو السعود(12/54)
في الأدب الشرقي
من الأدب التركي الحديث
محمد بك عاكف
للدكتور عبد الوهاب عزام
لا أريد أن أعرف اليوم بصديقي عاكف بك، ومكانته بين شعراء الترك، وكيف استحق أن يسمى (شاعر الإسلام)، وعسى أن أعود إليه في مقال آخر حين يأذن لي تواضعه وحياؤه أن أكتب عنه، ولكني أعرض قطعة من الجزء الأول من ديوانه المسمى (الصفحات) عنوانها (سيفي بابا) أي (الأب سيفي) أو (عمنا سيفي) بلغة مصر.
ولست في حاجة إلى أن أبين للقارئ العزيز ما يفوته من جمال القطعة حين تترجم منثورة عاطلة من حلية النظم، ولا سيما نظم عارف بك المحكم السلس الذي يعمد إلى الموضوع الآنف. لم يألفه النظم ولم يَرُضه الشعراء فإذا هو ريّض مذلل موطأ للشعراء كأنهم درجوا عليه قرونا.
سيفي بابا
عدت البارحة إلى داري فقيل لي: (سيفي بابا) مريض طريح الفراش.
- ليت شعري ماذا به؟
- لا ندري. غير أن ابنه مرّ علينا مصبحاً فأخبرنا.
- ليتني كنت هنا. وا أسفاه. إليّ بالفانوس. أين عصاي؟ عجلي يا بنيتي. سأبيت هناك إن تأخرت فلا تنتظروا أوبتي. الطريق طويلة موحلة.
- لا بأس! لسنا وحدنا الليلة، فقد جاءت خالتكم.
العكّاز في يمناي، وفي اليسرى فانوس مكسور الزجاج تبص فيه شمعة، والمطر منهمر، والوحل إلى الحيازيم، ليس للسابل منجاة من الغرق، لولا أن أرواح الأحجار، أحجار البلاط التي دفنها البلى تنبعث أمامه فتدعوه إلى الاعتصام بها. ما زلت كالعقعق، أحجل من حجر إلى حجر، ممطراً شآبيبالرحمة على موتى الأحجار. لا تسل عمّا عانيت، ما جاوزنا الأحجار إلاّ لنسبح في البحيرات سبحا، كان فانوسي يعوم فينثر الشرر حوله. كنا وإياه(12/55)
زورقين يتباريان، لا أدري كم سبحنا ولكنا انتهينا إلى البر، فأخذ فانوسي يحس ما حوله قليلا قليلا، وكان الجهد قد بلغ مني مبلغه، ولكنه كان أشد تعبا، وكنت أرى عليه خمار الكد والنعاس، تارة يصطدم كالأعمى بجدار غير مطلي، وتارة تتساقط أشعته الميتة على قبر، وحينا ينطلق تحت سقف دار خربة، وحينا يتخطى معبدا دارسا، وطورا أراه يطوف في زوايا مقفرة مخوفة، ثم يعترض أفظع الرجال لقاء غير هياب.
وعارٍ تدثر في ثوب من حالك الليل، يأوي إلى طنف، هو والويل مضطجعا في مهاد من الرغام. تخاله نائما وكيف ينام؟
وجماعات من البؤساء، ضن عليهم بالبيوت الشقاء، وأوكار خرست أصداؤها، وبيوت خاوية على عروشها، وأسراب النساء أشتات مطلقات، وأشتات من أفراخ هذه الزيجات المبثوثة، وأكوام من القمامات جاثمة في الظلمات: أسرات هائمات في الأزقة تحمل بيوتها على ظهورها، وقاطع طريق بالليل وهو في وضح النهار سائل، وشريد، وشحاذ، ولص وقاتل.
مناظر هائلة كلما بصر بها الفانوس الأعمى أبى إلاّ أن يريني إياها ولست أدري لماذا.
شرب الفانوس من ماء المطر فقال (جز) لا فظاً آخر أنفاسه. فانقلبت أعمى يتحسس طريقه بالسمع واللمس، وما أشد هذا هولاً! وصارت العكازة لي عينا ويدا ورجلا، لا أكذب الله، لقد استشعر قلبي الفزع.
أشكر الله، هذه ثلاثة فوانيس تمر أمامي. فلو استقامت على الطريق غير معرجة فسرت في أثرها! ما حاجتي إليها. قد اهتديت الطريق. أقول (اهتديت الطريق) وقد بلغت غايتي فهذه دار صديقي القديم. أأرى ضوءً؟ إن لم يكن فلا ريب إنه قد هجع. لابد أن يكون في وسط الباب حبل في طرفه خشبة، فإذا وجدته فجذبته ففتحت الباب. أجل. ولكن الباب موجف أحسب أن خارجا قد خرج الآن. ما لي ولهذا؟ قذفت نفسي داخل الدار ونزعت الجرموق من رجلي وتقدمت ثم ملت ذات اليمين فإذا سلم ذا أربع مراق أو خمس شق عليّ الارتقاء فيه قليلا. وملت نحو اليسار، وعالجت الستر الغليظ البالي المنسدل على الباب فوقع في أذني صوت الصديق الفقير.
(أين كنت يا بني؟ ما تفقدتني قط. لك العذر، والذنب لي إذ لم أخبرك. أعرف أن عملك(12/56)
كثير وان دارنا بعيدة. هلم فأسترح قليلا فلا شك أنك قد جهدت. أوقدت جارتنا النار منذ قليل فإن تكن مقرورا فأنبش في الموقد، قلّب النار وأصطل)
كانت غبشة الحجرة موحشة، فقلت لو أضاء هذا الفانوس! وقدحت علبة من الثقاب حتى أمسكت آخر الأعواد فأدنيته من رأس الشمعة فهبط النور على عينها العمياء، كما تكحل العين بالميل. انفتح ستر الظلام قليلا فتجلى للعين مرأى البؤس العريان. فلو كنت شاعرا ما استطعت أن أصوره، فإنها فلاكة لا يدركها الخيال. زحف (سيفي بابا) إلى الموقد ناشرا على ركبتيه عباءة بالية.
قد أغلى جارنا الزيزفون منذ حين فلو وجدناه! لا تقم، أنا أبحث عنه.
(إن أصبناه شربنا منه فهو نافع. هذا هو ذا يا بني. لا تبحث لا تبحث)
ووقعت يدي على مغلاة بطينة فأخذت أغلي الماء وأسقيه قدحا بعد قدح، فاستبان الدم قليلا في وجه صاحبنا الهرم.
- خبرني ماذا كانت علتك؟ لعل زكاما أصابك فهذا شتاء قارس جدا.
- قطر الماء من سقف محمد أغا وصعدت إلى السطح لإصلاح القراميد فأصابني البرد منذ خمسة عشر يوما. قل: ما لك وللقراميد أيها الأحمق! أراني العام مشترك اللب، ولست أدري أهي الشيخوخة أم ماذا. ولكن هب أني لا أصعد إلى السطوح لإصلاح القراميد فمن لي بالخبز؟ أيحسن أن أقعد كالأعمى وأبسط يدي إلى كل لئيم؟ يا بني من لم يكدح من أجل الخبز في هذه الدنيا فهو عار الأصدقاء، وسخرية الأعداء. وإلاّ فالشيخ الذي جاوز الخمسة والسبعين ليس كفئا للعمل، وليس عليه إلاّ أن يفرغ للوضوء والصلاة. مرضت فلم أجد أحدا يمرضني. عثمان دائب ليل نهار يطلب عملا يقتات منه. ولست أدري متى تدرك يده القوت. نحن في الساعة الثالثة الآن وهو لم يعد. ما أفضع الوحدة! يمضي الأسبوع يا بني لا يسقط إليّ أحد. قد بلغت مني الوحدة هذه المرة ما لا أطيقه.
- سأعرقك وأثقل غطاءك هذه الليلة فإني أحسبك إن عرقت كثيرا تماثلت.
دع الشيخ يعرق ملففا في لحافه. . . رقدت على كليم بجانب الموقد وشرعت أتحسس النوم ولكن هيهات هيهات. . وكان التعب قد غلبني فأغفيت، فلما لاحت تباشير الصبح استيقظت فقلت ينبغي أن أنصرف، ولكن لابد أن أدخل السرور على هذا الشيخ المعدم. لم أجد في(12/57)
كيسي شيئا، لم أجد عشر بارات، لم أجد إلاّ خاتمي ذليلا منكسرا.(12/58)
في الأدب الغربي
الذئب في الأدبين العربي والفرنسي
وصف الفرزدق صداقته وذئبا عاهده على ألاّ يخونه، فكان وفياً، ووصف الشريف الرضي ذئبا أصبح غرضا لقسي نوازع، وطعمة لرهط جائع؛ ووصف البحتري ذئباً هزيلا سدد إليه نصالاً أوردته منهل الردى، في قصائد تراها في دواوين هؤلاء.
وقد رأيت أنها في موضوع واحد - هو الذئب - فما المجلية بينها إذا جرت معا في حلبة السباق؟ وما التي تقرب من المثل الأعلى في الموضوع؟ وهل لها في غير العربية مثيل أو شبيه؟
وما دام في الفرنسية لهذه القصائد ند، وما دام بين الشعراء الفرنسيين من نظم في هذا الموضوع، فسنعرض لقصائدهم هذه بالنقل علّنا نستطيع الموازنة بينها كلها أو البحث فيها كلها، ولعل قصيدة (ألفرد دفيني) الشاعر الفرنسي الفذ في (موت ذئب) أقرب ما قرأت إلى هذه الروائع، فستكون أول ما نترجم، وأما الموازنة بينها فستكون في عدد تال إن شاء الله.
موت ذئب
خفت السحب إلى القمر المتألق، كما يخف الدخان إلى الحريق، واسودت الغابات فبلغ سوادها الأفق، وكنا نمشي على النبت الأخضر الندي دون أن ننبس بكلمة. فلمحنا في الظلام الكثيف تحت أشجار الصنوبر مخالب الذئاب التي كنا نطاردها منذ هنيهة.
فأنصتنا حابسين انفاسنا، وسمرنا أرجلنا إلى الأرض، فلا الغابة ولا السهل يتنفسان في وجه الريح الساكنة، اللهم إلاّ دولاب هواء حزينا كان يصعد في السماء زفرة وداع أليمة، لأن الهواء ارتفع عن الأرض فلا يصيبه منه شيء.
وكان كل شيء ساكنا، حين تقدم الصياد الشيخ خافض الرأس يتحرى ويدقق، فنظر إلى الرمل الذي اضطجع عليه منذ قليل ثم قال:، وهو الذي لم تؤخذ عليه هفوة، إن هذه الآثار آثار مخالب ذئبين كبيرين وجرويهما تبخرت منذ وقت غير بعيد.
فهيأ كل منا سكينه، أخفينا بندقياتنا وبريق حديدها الأبيض، ووقفت وثلاثة من رفاقي نرمي ببصرنا إلى الأمام، فإذا عينان تتقدان بالشرر، وأربعة أشباح أخرى رشيقة ترقص في(12/59)
وسط الأعشاب على ضوء القمر.
كانت الذئاب تشبه الراقصين بحركاتها، تلعب في صمت ورزانة عالمة أن على قيد خطوتين منها عدوها الإنسان، مضطجعا بين جدران بيته لم يأخذ النوم بمعاقد أجفانه بعد.
وكان الذئب الأب واقفاً على بعد أمام الشجرة وزوجه مستريحة كصنم المرمر الذي عبده الرومان ومنه انحدر روموس ورومولوس.
وأقعى الذئب ومخالبه غائصة في الرمل، حين علم أنه هالك لا محالة، لأن عدوه باغته وملك عليه سبيله، وامسك بفمه الملتهب عنق أجرأ كلابنا، ولم يحول عنه فكيه الحديديين على رغم طلقاتنا النارية التي اخترقت جلده، وعلى رغم مدانا الحادة التي مزقت أحشاءه، ولكنه لما أحس بأن فريسته فارقت الحياة قبل أن يفارقها هو، أفلته من فكيه، ونظر إلينا مرة وأتبعها أخرى إلى جسمه فرأى المدى غارقة في أحشائه، ورأى نفسه سابحا في بحر دمائه، تحيط به البنادق، فحدق فينا ثانية واضطجع وهو يلعق ذنبه بفمه، ويلقف نزيف الدم من كلومه، ودون أن يجرب أو يبحث كيف يموت، أغمض عينيه الكبيرتين ومات دون أن يصرخ صرخة واحدة. . .
أسندت جبهتي حينذاك إلى بندقيتي واستسلمت للأفكار فلم أجد سبيلا إلى متابعة تلك الصور المريرة التي سيصبح عليها أولاده الثلاثة، وتصورت حال الأم وقد أرادت أن تشارك زوجها في حمل عبء هذه التجربة الخطرة، ولكن واجبها يقضي بان تنقذ أولادها، وأن تعلمهن كيف يتحملن الجوع، ويصبرن على ملاقاة الموت، وأن تحذرهن دخول المدن لئلا يخدعن بالعهد الذي قطعة الإنسان للحيوان، هذا الحيوان الذي يجري أمامه في الصيد، ويخدمه. . كل ذلك ليؤويه وهو سيد السهل والجبل. .
وا أسفاه! لقد فكرت كثيراً في معنى عظمة هذا الاسم الذي يتحلى به بنو الإنسان، وعدت إلى نفسي خجلاً أتهم الإنسان بالضعف والجبن.
أنت وحدك أيها الحيوان علمت كيف يجب أن نغادر الحياة وأوزارها، فليس فيما نعمله في الحياة الدنيا، وفيما نتركه عليها ما يستحق الذكر الا الصمت. هو العظمة، وكل ما سواه ضعف.
آه!. . لقد فهمت معنى نظرتك أيها المسافر المستوحش لأنها نفذت إلى أعماق فؤادي قائلة:(12/60)
- (إذا استطعت فاجعل نفسك، على تفكيرها وحلمها، واثقة مطمئنة من القضاء والقدر. الشهيق والبكاء وصلاة الخوف كلها جبن، فاعمل بثبات عملك الطويل الشاق، في الطريق الذي شاء الحظ أن يدعوك إليه، ثم. . تألم. . ومت. . مثلي دون أن تنبس بكلمة).
حلب. سامي الدهان
بنجن على ضفاف الرين
للشاعرة الإنكليزية
كان ثمة جندي ملقى على الأرض في بلاد المغرب ينتظر موته. لم تعن به ممرضة، ولم تذرف الدمع على فقده امرأة.
ولكن عني به صديق وقف إلى جانبه وهو يلفظ النفس الأخير. ومال على المحتضر بنظرات كلها إشفاق وحسرة ليسمع ما قد يقول.
تناول الجندي المشرف على الموت يد رفيقه وقال بصوت متهدج مرير: لن أراك يا وطني - يا وطني العزيز بعد: بربك خذ رسالتي وابلغها أصدقائي البعيدين كل البعد، فقد ولدت في بنجن - في بنجن على ضفاف الرين!
قل لاخوتي ورفاقي عندما يحتشدون حولك، ليسمعوا قصتي المحزنة في مزرعة الكرم، قل لهم إننا قاتلنا بشجاعة وإقدام، فلما انتهى اليوم كانت الجثث مبعثرة فوق الثرى عليها صفرة الموت تحت الشمس الغاربة وبين الموتى جنود مارست الحرب وعركتها، صدورهم دامية من اثر الطعن، وبعضهم صغير السن لم يلبث أن أظلم صبح حياته، وواحد منهم من بنجن - من بنجن الجميلة على ضفاف الرين.
قل لامي أن اخوتي الباقين سيكونون لك خير عزاء! قل لها لقد كنت عصفوراً هائماً يحسب وطنه القفص وقد كان أبي جنديا وكنت في طفولتي أهتز طربا عندما أسمعه يقص عن الحروب أروع القصص.
فلما مات وتركنا نتقاسم ميراثه المتواضع قلت لهم خذوا ما شئتم ولكن دعوا لي حسام أبي. وبشغف الطفولة المرحة علقته حيث تسطع الشمس على حائط الكوخ في بنجن - بنجن الهادئة على ضفاف الرين.(12/61)
قل لأختي لا تبك عليّ ولا تحزن!
إذا رأت الجنود عائدة إلى مستقرها بخطى مطمئنة فرحة، قل لها لا تبك، ولا تعول بل لتنظر إليهم بفخر وزهو لأن أخاها كان جنديا مثلهم، ولم يكن يهاب الردى. وإذا تقدم إليها أحد الرفاق من الجند يخطب ودها فاسألها باسمي أن تنصت إليه، لا آسفة ولا مانعة: ولتعلق ذلك السيف القديم في موضعه، سيف أبي وسيفي حبا في بنجن القديمة - بنجن الغالية على ضفاف الرين.
وثمت فتاة أخرى ليست بأخت، صحبتها في الأيام السعيد السالفة، ستعرفها من ذلك الحبور الذي يتلألأ في عينيها، بريئة لم يمسها العار، متهكمة يحلو لها أن تهزأ وتسخر. غير أني أيها الصديق أخاف على أشد القلوب جذلاً من أن يثقلها الحزن.
قص عليها حديث الليلة الأخيرة من حياتي، لأنني سأموت قبل طلوع القمر. ستذهب من جسدي الآلام وتخرج روحي من السجن. كأنني أحلم بها وأنا واقف معها نشاهد الشمس وهي تغرب وراء تلال بنجن المكسوة بالكروم - بنجن الجميلة على نهر الرين.
إني أرى النهر الأزرق يتدفق ماؤه، واسمع أو يخيل إليّ أني اسمع: أناشيد الألمان التي كنا نغنيها في صوت متناسق عذب فنتردد بين النهر والسهول المنحدرة في جوف الليل الصامت الهادئ. إني أرى عينيها محدقتين فيّ، ضاحكتين زرقاوين، وكأنني أسير إلى جانبها، في تلك الطرق المحببة إليّ، تلك الطرق التي أذكرها بالإجلال والتقديس، وأحس بيدها الصغيرة آمنة في يدي. ولكنا لن نلتقي مرة أخرى في بنجن - في بنجن العزيزة على ضفاف الرين
أخذ صوته الأجش يضعف ويفنى، وصارت قبضته كقبضة الطفل وارتسمت في عينيه أشباح الموت، ثم تنهد وامسك عن القول.
فمال عليه صديقه لينهضه؛ ولكن سراج حياته كان قد خبا.
لقد مات الجندي المسكين في أرض نائية عن وطنه. عندئذ طلع القمر على مهل واطلّ على الكون وعلى الرمال المخضبة بالدماء إثر المعركة، وعلى الجثث المتناثرة (المبعثرة).
وفي هدوء، أرسل أشعته الشاحبة على ذلك المنظر المفزع. كما يرسلها على بنجن البعيدة - بنجن الجميلة على نهر الرين.(12/62)
محمود فهمي رزق
أغنية. . لفكتور هوجو
يولد الفجر، وأنتِ موصدة الأبواب! فلم يا حسنائي الرقود، ساعة يقضة الورود؟
فهلا تستيقظين؟
اسمعي يا فاتنتي عناء محبك وبكاءه!
كل يقصد حماك المبارك.
فالفجر يشدو. . (أنا النهار!)
والعصفور يغرد: (أنا الموسيقي!)
وقلبي يردد: (أنا الحب!)
اسمعي يا ساحرتي غناء محبك ونواحه!
أعبدك كملاك، واحبك كامرأة.
والإله الذي كمّل خلقي بك
جعل حبي خصيصاً لك
ونظري لرؤية جمالك!
اسمعي يا غادتي غناء محبك ونحيبه
حلب. سامي الدهان(12/63)
العلوم
الاقيانوغرافيا أو تقويم المحيطات
بقلم الدكتور حسين فوزي مدير إدارة أبحاث المصائد
قلما استطاع المرء مهما امتدت ثقافته أو رقّ شعوره أن يدرك وهو على شاطئ البحر مدى ذلك الجزء من الأرض يغطيه الماء. وعبثا يعلم أن البحار تغمر نحو ثلاثة أرباع الكوكب الذي نعيش عليه. وأنى له أن يقدّر معنى هذه الحقيقة ويفهم أثرها في تطور المخلوقات، بل في تاريخ البشرية منذ ظهر الإنسان على سطح البسيطة؟ وماذا يعلم عابر المحيط من أمره إذ يرى سفينته العظيمة تتلقفها الأمواج وسط دائرة الأفق المطبق على سطح زاخر من الماء؟ وهل أدرك في تلك اللحظات أنه رب سابح فوق هوات عميقة، لو أن جبال أيفر ست اقتلعت من رواسيها وغاصت في البحر لابتلعتها تلك الهوات دون أن يظهر أثر لقمّتها الشامخة بتاج جليدها الأبدي؟ وكيف يدري أسرار تلك المياه وحركاتها وما أودعته من مخلوقات كأنها أسرار الجنة مغلقة في قماقمها؟ وأنى له أن يفهم أثر الأفلاك في ذلك المنبسط العظيم من الماء؟ وكيف يطلع على المآسي الدائرة على أساس تنازع البقاء وسط ذلك الخضم الهائل؟
أدرك الشعر عن طريق إحساسه شيئا من تلك العظمة البالغة. ووقف الشعراء يقارنون بين اليابسة وما عليها، فهناك تترك العصور الجيولوجية طابعها في الثلاجات والجبال والكهوف والوديان. والعصور التاريخية آثارها في المعابد والمقابر والمنازل. ولعل الصحراء أشد ما على اليابسة قدرة على الكتمان، ومع ذلك فقد تنجح أو لا تنجح في إخفاء معالم الحضارات في بطون كثبانها، وبين البحر وقد شهد معالم التاريخين، وتنازعته القوى الطبيعية والقوى البشرية، واتصلت بين شواطئه الحضارات. وهو عدا زئير أمواجه صامت لا يفشي سراً من أسراره.
تأمل البحر الأبيض تلك البحيرة الضئيلة وسط المحيطات. در حوله وطالع أثر الحضارات العظيمة التي قامت على شواطئه. هنا فينيقيا ومصر ويونان وروما والبندقية وجنوا وعصر الأسبان (الربنسانس) والقرن التاسع عشر. أنصت إلى صفحته المصقولة لتستخرج حديثاً وحيدا. نثه عن ذلك الماضي، سله عن سفن يونان عائدة من طروادة لعله(12/64)
مخبرك بخبر اوديسيوس أو اينياس. أو عن سفائن الفرس وما أصابها من تمستوكل في سلاميس. أو عن أسطول كليوبطرة لتعلم كيف باع انطونيوس ملك العالم في اكتيوم مطاردا الهاربة الجميلة. سله عن محاربة بونابرت في أبي قير. أو عن أجدادنا الأقربين في نافارين، ذهبوا ليخنقوا حرية يونان وما استطاعوا أن يدافعوا عن حريتنا. سله عن ذلك التاريخ القريب والبعيد، بل سل عن الجاريات المنشآت وكانت منذ لحظة صروحا شامخة يمرح على سطوحها ألوف من الناس. أيّ جواب تتلقى من البحر غير اصطخاب أمواجه أو تلألؤ الشمس فوق صفحته اللازوردية؟
وليس من عجب أن نجد البحر في أساطير الأقدمين ركنا من أركان القوة الهائلة المجهولة المحيطة بالبشر. فقد طغى على البشرية جمعاء ذات يوم فأغرقها إلاّ فرقة صالحة استوت سفينتها على جبل الجودي.
وشطر (مردخ) العملاق (تيامات) فجعل من أشلائه الأرض والسماء. وركّز الأولى وكانت على شكل جبل متوّج بالسحب فوق البحر الذي تبزغ الشمس من شرقه لتغوص في غربه، وأمر جيهوفا الماء أن يغيض في مكان لتظهر اليابسة وسمّاها الأرض أقام صرح السماء كالقبة على سطح البحر.
واقيانوس أبو الآلهة تقمّص بحراً أحاط باويقومينا واتصل بالبحر الأبيض عند أعمدة هرقليس. ونفذ تحت الأرض لينبثق فوق سطحها عيونا وغدرانا وانهارا.
وقصّت عليّ جدتي حكاية ثور معروف يحمل الأرض على قرنه. وينقلها من قرن إلى قرن كما أنقل ثقل جسمي من ساق إلى ساق، حين يعاقبني مدرس الجغرافيا بالوقوف إلى الحائط وقد أردت تحويل خرافات جدتي إلى حقائق جغرافية.
- وأين تنتهي الأرض يا جدتي؟
- عند جبل قاف يا بني.
- وماذا بعد جبل قاف؟
- تنين يحيط بجبل قاف يا بني.
- والتنين يا جدتي؟
- سابح في البحر الذي يحيط بالدنيا والثور واقف على جزيرة من جزر ذلك المحيط. . .(12/65)
وهكذا.
ولقد حاول اليونانيون أيضا تحويل أمثال هذه الصور الخرافية إلى حقائق جغرافية.
ولكن هيرودوت أنكر وجود بحر يحيط بالأرض من الشرق، وقد عرف في مصر خبر بعثة وجهها نيخو الثاني سنة 600 قبل الميلاد. في البحر الإريتري - بحر البلاد الحمراء أي بلاد العرب، فدارت حول أفريقيا حتى عادت إلى مصر بعد ان اخترقت أعمدة هرقليس (جبل طارق). ولم يصدق هيرودوت ما ذكر عن ملاحي تلك الرحلة من أنهم شاهدوا الشمس تشرق وتغرب عن يمينهم في إحدى مناطق طوافهم.
ورأى ارسططاليس الرأي القائل بأن الإريتري والاطلانطيقي بحر واحد، وتضاءلت الدنيا أمام علمه حتى قال باستطاعة سفينة شراعية ان تسافر في رياح ملائمة من أعمدة هرقليس (جبل طارق) حتى الهند.
وجاء العالم الإسكندري بطليموس في القرن الثاني قبل الميلاد وقال بان أفريقيا تتصل شرقاً اتصالا تاما بآسيا، وأن المحيط الهندي بحر داخلي. وكان يعتقد هو أيضا أن غرب أوربا قريب من شرق آسيا. ويرجع إلى هذا الرأي الذي ارتآه عالم كبير كبطليموس بعض الفضل في اعتزام كولمبوس الوصول إلى الهند من غرب أوربا واكتشافه أميركا.
وهكذا ظلّ العالم يتخبط في تفهم مدى المحيطات حتى بدأ البرتغاليون والإسبانيون رحلاتهم المجيدة في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر. واستطاع فاسكو دي جاما تطويق رأس الرجاء الصالح. واكتشف كولمبوس جزر الأنتيل وقد حسب انه وصل إلى آسيا، ولم يدر انه كان في أسبانيا اقرب إلى آسيا منه وهو في دنياه الجديدة.
وسافر ماجلان من إسبانيا مخترقا الاطلانطيق فالمضيق الذي حمل أسمه فيما بعد فالمحيط الهادي. ومع انه قتل في الفلبين فقد عادت بعثته إلى إسبانيا بعد إتمام طوافها حول العالم في ثلاث سنوات.
وهكذا استطاع العالم في أقل من نصف قرن (1492 - 1522) أن يعرف أضعاف ما عرفه الأقدمون عن البحار، وإذا استثنينا رحلات العرب في المحيط الهندي بعد ذلك التاريخ فان الاستكشافات فقدت نشاطها منذ أوائل القرن السادس عشر حتى قام الكابتن كوك برحلته في البحار الجنوبية في أواخر القرن الثامن عشر. حينئذ استطاع الملاّحون أن(12/66)
يتصوروا عن المحيطات صورة اقرب إلى الحقيقة.
وإذا كانت الجغرافيا تشمل وصف المحيطات باعتبارها جزءاً من الكوكب الأرضي فقد اختصت الاقيانوغرافيا بدراسة المحيطات كوحدة كونية تغمر ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، ومع أن الاقيانوغرافيا تحاول أن تجد لها نسبا عريقا في جميع الاكتشافات السالفة الذكر، فالواقع أنها لم تنشأ كعلم مستقل إلا في النصف الأخير من القرن الماضي.
وعلينا الآن أن نترك التاريخ لحظة إذا أردنا ان نعرف إلى أي حد يحق للايقيانوغرافيا ان تتصل بنسبها إلى الاستكشافات الجغرافية قديما وحديثا، ولا يمكننا معرفة ذلك قبل الإجابة على السؤال التالي: ما هي الاقيانوغرافيا؟
الاقيانوغرافيا هي وصف أحواض المحيطات والظواهر التي تبدو على سطحها والعوامل والتفاعلات الحادثة في بطنها. ودراسة القاع وتكوينه منذ أن ينحدر الشاطئ القارّي تحت الماء حتى أبعد الأعماق، ودراسة المياه التي تملأ أحواض المحيطات وما فيها من مواد عالقة أو ذائبة وأثر الضوء والحرارة على المياه ومحتوياتها.
هذه هي الاقيانوغرافية الاستاتيكية
وفهم أثر الرياح والقوى العالمية (جاذبية القمر) على سطح الماء من أمواج ومد وجزر. ودراسة أثر الثلوج القطبية وما تسببه من تيارات.
تلك هي الاقيانوغرافيا الديناميكية
ودراسة الأحياء التي تغشى القاع أو تعيش في طبقات الماء المختلفة. وتلك هي الاقيانوغرافيا البيولوجية.
يظهر من هذا العرض السريع أن الاقيانوغرافيا تستعين بعلوم مختلفة. فدراسة خصائص الماء وما بها من مواد ذائبة أو عالقة، وأثر الضوء والحرارة عليها وحركة التيارات تقتضي تطبيق علوم الكيمياء والطبيعة. ودراسة القاع وتكوينه ليست الا تطبيقا جيولوجيا. كما أن تحديد مرتفعات هذا القاع ومخفضاته - بطريق قياس الأعماق - هي عملية طبوغرافية. وفهم أثر الرياح على سطح الماء يقتضي فهم الجو نفسه بطريق علم الأرصاد (الميتيورولوجيا) وتقدير ارتفاع المد وانخفاض الجزر وتوقيتهما يحتاج إلى معارف فلكية. وفي كل هذا يلجأ الاقيانوغرافي إلى الرياضيات لحصر تلك الظواهر الطبيعية، في دائرة(12/67)
المعادلات والقوانين. كما أن من البديهي أن ترتكز الاقيانوغرافيا البيولوجية على علمي الحيوان والنبات.
وقد يتساءل نوع من القراء، وقد فرغ من هذا التعداد، وما فائدة كل هذه الدراسات؟ وهذا النوع من التساؤل طبيعي في الناس ولكنه يتخذ في مصر لهجة يشوبها غير قليل من السخرية، ويظهر أننا برغم ما يبدو من مقدار نجاحنا في دوائر العمل (أو فشلنا بالأولى) رجال عمليون بالفطرة.
فإذا حدثتنا عن فينوس ميلو، أو مخلدات ميكلانج، أو بدائع دورر، أو نظرية آينشتاين. أو ناقشتنا في قيمة مؤلف عظيم انتهينا بك إلى (جميل!) (ولكن ما فائدة كل هذا؟) إذ يجب على المؤلف والفيلسوف والمصور والحفار ان يحض على فضيلة أو ينشئ مصنع طرابيش ليكون لعمله قيمة في نظر أبناء: (مصر. . . قطعة من أوربا).
ومن حسن حظ الاقيانوغرافيا أن تجيب السائل عن سؤاله بأكثر من جواب. على أننا قبل أن ننوه (بفوئد) الاقيانوغرافيا لن نتردد في القول بأنه إذا كان الأصل في البحث العلمي هو رغبة الإنسان في استخدام القوى المحيطة به، فانه يرجع في غير قليل إلى رغبة البشرية في فهم تلك القوى لمجرد ألفهم.
وإذا كان الكشف العلمي قد أدى إلى حضارة اليوم فان هذه الحضارة لم تكن لتبلغ هذا المبلغ لو لم يكن من اجل صفات الذهن البشري أن يفكر لمجرد التفكير، محاولاً فهم كنه الظواهر المحيطة به. وإلاّ فما الأديان وما الفلسفة؟
وإذا كان الإنسان قد قام برحلاته في المحيطات لغرض عملي، فليس معنى هذا أن ننسى فضل المفكر الذي يقف بشواطئ المحيط حائراً متسائلا إلى أين تمتد مياهه. ناظراً إلى السماء متسائلا ماذا وراء النجوم. والإنسان الأول قبل أن يعد عدته للانتفاع بمنتجات البحار، وقف بشواطئها يتأمل مياهها لا لشيء إلاّ لأن الإنسان حيوان مفكر. ثم لمح مخلوقا غريبا يلمع في طبقات الماء فغاص وراءه أو فكر في طريقة لصيده، لا لشيء إلاّ للرغبة في تعرف هذا المجهول. ثم أدرك بعد ذلك انه يستطيع الانتفاع بلحم هذا المخلوق في غذائه. رأيت أن لا مناص لي من أن أنتحي هذا الجانب من التفكير في عرض الكلام عن الاقيانوغرافيا. قبل أن أتحدث عن فوائدها، ذلك لأن هذه الفوائد مهما كبر شأنها فلن(12/68)
تستطيع أن تفسر للذهن العادي معنى المجهود الذي بذلته وتبذله الإنسانية لكشف البحار. ولقد سئمت أذني سماع سؤال واحد في الأيام الأخيرة بمناسبة البعثة الأجنبية التي تستعير السفينة الاقيانوغرافية المصرية (مباحث) للكشف العلمي بالمحيط الهندي. (ما فائدة هذه الرحلة؟)
وكان جوابي واحدا في كل مرة: (لا فائدة منها إلاّ أن تضيف كنزاً من المعرفة إلى كنوز العالم)
ما فائدة الاقيانوغرافيا
رأينا في بدء هذا المقال كيف جهد الملاحون جهدهم في تعرّف أنحاء الاقيانوسات. ولا يكفي في معارف الملاح أن يعلم باتجاهات الرياح وكيف يجد الجهات الأصلية في الليل والنهار. فهو إذا رفع نظره دائما إلى النجمة القطبية كان نصيبه من البحر نصيب ملاح (الراين) في أنشودة هايني (لوريلاي) إذ تأسر بصره الجميلة الجالسة عند أعلى الصخرة تمشط شعرها الذهبي، فإذا بقاربه يرتطم بالصخور ويتحطم.
فالملاح يجب أن يعرف من أعماق البحر ما يقيه شر المياه الضحلة لذا كان سبر الأعماق من أقدم ما قام به الإنسان من دراسة اقيانوغرافية. على أنه إذا كان سبر الغور هاما قرب الشواطئ وما إليها من مواضع قريبة القاع، فلم يكن يهم الملاح أن يعرف اعمق ما يصل إليه البحر. ويغلب على الظن أنه كان يعتقد بأن غوره في بعض الجهات لا نهائي كالجو. وأول محاولة سجلها التاريخ لقياس الأعماق البعيدة هي ما قام به ماجلان، إذ دخل المضيق المعروف الآن باسمه وأدلى مقياس أعماقه وهو ثقل معلق بحبل لا يزيد طوله على بضع مئات من الأمتار، فلم يرتكز الثقل على قاع، ولذا اعتقد انه وصل إلى أعمق بقعة في المحيط. والواقع أن العمق في مضيق ماجلان لا يتجاوز 4000 متر في حين انه اكتشفت أعماق أبعد من هذا (نحو 10000 متر).
كذا يهم الملاح معرفة نوع القاع في الأعماق القريبة. وقد روى هيرودوت خبر العلامة التي يعرف بها الملاحون اقترابهم من شاطئ مصر (وهو شاطئ منخفض لا يرى إلاّ عن قرب) فهم إذا عاد ثقل مقياس الغور محاطا بالطين وسجل عمق أحد عشر ذراعا عرفوا انهم على مسيرة يوم من شواطئ مصر.(12/69)
وإذا كانت الأعماق السحيقة لا تهم الملاح فهو مهتم في جميع أنحاء البحر بالعميق منها وقريب الغور بمعرفة اتجاه التيارات. وقد لاحظ بنيامين فرانكلين في سنة 1770 وكان مديرا للبريد في إنجلترا الجديدة أن البريد المرسل من إنجلترا يصل أميركا على السفن الأميركية أسرع من وصوله على السفن الإنجليزية. فأخبره القبطان الأميركي بخبر تيار بحري يتجه في المحيط الاطلانطيقي إلى الشرق تنتفع به السفن الأميركية في الذهاب وتتجنبه في الإياب. بينما تجهل أمره السفن الإنجليزية. وحينما سافر فرانكلين إلى فرنسا حرص على تدوين ملاحظاته عن هذا التيار (جولفستريم) ورسم خريطة له ظلت سراً حتى طرد الإنجليز من مستعمرتهم الأميركية الكبيرة، وقد كان هذا الاكتشاف بدء عهد الملاحة الترمومترية. إذ كان الملاح يتعرف وجوده في طريق هذا التيار بملاحظة ارتفاع درجة حرارة الماء من معدل معروف للاقيانوس في المناطق التي لا يمر بها التيار. وللملاحة الترمومترية فائدة عظمى في الضباب إذ يدل انخفاض درجة حرارة الماء انخفاضا سريعا وغير عادي على اقتراب السفينة من جبال ثلجية عائمة.
ويعرف الملاح أيضا حركات المد والجزر. إذ بدون معرفتهما تتعرض سفينتهم لأخطار الارتطام بالصخور كما لا يستطيع تعيين وقت دخوله المرافئ.
ويعنى صانعو السفن ومهندسو الموانئ بدراسة خصائص ماء البحر لاختيار المواد التي ينشئون منها قاع السفن وحواجز المياه والأرصفة فلا تؤثر فيها مياه البحر وما بها من أملاح ذائبة وخصوصا كلورور الصوديوم.
وإذا سقنا الملاحة والهندسة البحرية مثلا على الفنون والحرف التي تنتفع بالمعلومات الاقيانوغرافية فان علينا أن نشير إلى حرفة تعد مدينة للاقيانوغرافيا بغير قليل من تقدمها. تلك هي حرفة الصيد. ولقد سبق أن كتبنا عن (بحوث مصائد الأسماك) وهي في البحار فرع من الاقيانوغرافيا محدود بأغراض نفسية محضة. وسنعود في فرص أخرى إلى هذا الموضوع وإنما نكتفي الآن بالإشارة إلى كنوز البحار من أسمك وحيتان ووحوش وسلاحف ولآلئ ومرجان وأعشاب ينتفع بها الإنسان لغذائه وزينته وتدخل في صناعاته إذ يستخرج منها الزيوت والأسمدة واليود الخ.
وأخيراً عرف المتتبعون أخبار العلم بخبر تلك المحاولة الجبارة التي يقوم بها جورج كلود(12/70)
للانتفاع بقوى المحيطات الحرارية. فهذا العالم الفرنسي يبني تجاربه على أساس ظاهرة كشفت عنها الاقيانوغرافيا. وهي أن اختلاف درجة الحرارة بين السطح والقاع في البحار الاستوائية كبير إلى حد إمكان تحويل هذا الاختلاف إلى قوة محركة.
هذا عن الفوائد العملية المباشرة. أما عن فائدة الاقيانوغرافيا للعلم نفسه فقد وجد فيها علم الأرصاد خير معين على تفهم الظواهر الجوية على سطح الأرض. فالجو بحر غازي يتأثر بالحرارة والضغط وجميع العوامل الأخرى التي تؤثر في البحر. ولما كان هذا الأخير بطيء التأثر بالنسبة إلى الجو الأهوج، فأن بطئ الظواهر البحرية خير معوان على تفهم ظواهر الجو السريعة كما يفهم الإنسان حركات العدو، أو القفز العالي عن طريق فيلم سينمائي يدار ببطء، كما أن سطح المحيط هو خير منطقة لدراسة الجو في أبسط مظاهره، فبينما تكثر المرتفعات والمنخفضان على سطح الأرض ويتغير الضغط الجوي تبعا لها، نرى البحر بسطحه المستوي وصفحته المائية يحول دون التغيرات السريعة في الضغط الجوي الناشئة في الأرض عن مرتفعاتها ومخفضاتها. كذا برودة الهواء وسخونته أقل استعداداً للتغير الكبير السريع فوق الماء منها فوق اليابسة.
وكان من الطبيعي أن تنتفع الجيولوجيا من الاقيانوغرافيا، ففي دراسة قاع المحيطات الحالية وتفسير تكوينها ما يعين الجيولوجي على أن يفسر تكوين بحار العهود الجيولوجية المنقرضة.
وتبدو استفادة علم الحيوان من الاقيانوغرافيا بمقارنة مجموع الحيوانات الأرضية والحيوانات البحرية المعروفة. فإذا فتحت أي كتاب حديث في علم الحيوان عند الفهرس وجدت أن فصائل الحيوانات البرية لا تمثل إلاّ نسبة ضئيلة في مجموع الحيوانات المعروفة.
وبعد أليس هذا طبيعياً؟ فمساحة البحار تعادل نصفا وضعفي مساحة اليابسة. وإذا كانت الأحياء الأرضية تعيش فوق السطح أو تغادر هذا السطح قليلاً لتطير في الهواء، فالأحياء المائية تغشى المحيط عند سطحه وفي جميع طبقاته وفوق قاعه. فأي عجب أن تكون أكثر بكثير من الأحياء البرية؟ ونعرف أن عمق المحيط يتراوح بين متر وعشرة آلاف متر، هذا إلى أننا الآن أقرب إلى حصر الأنواع الأرضية منا إلى الإحاطة بجميع الأنواع(12/71)
البحرية.
الآن وقد عرفنا أغراض الاقيانوغرافيا نستطيع الحكم بأنه إذا حق لهذا العلم أن يتصل بنسبه ونشأته إلى رحلات جوّابي البحار حتى أواخر القرن الثامن عشر، فان عهد الاقيانوغرافيا الحقيقي لم يبدأ إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهذا ما ستراه في مقالنا التالي إذ نتابع قصة البحار قاصرين حديثنا على بعثات الاستكشاف الاقيانوغرافي.(12/72)
القصص
قصة سودانية
تاجوج ومحلق
ما كنت أحسب قبل أن يحدثني صديقي حمدان، إن بجانب الغاب أكواخا تحوي جمالا، وأن في أواسط البيد جنات يرف ورد الحياة الفيّاح فيها، وتتفتح أكمام العيش الهني عن زهرات من الحب السعيد والهوى البريء.
لذلك لم تتهيأ لي الفرصة لركوب السفين حتى انتهزتها ميمماً الجنوب إلى أن رست بنا على مرسى الغاب المزعوم.
وهناك انتقلت من ظهر السفين إلى ظهر الهجين، فأخذ يخب بي بين نجاد ووهاد، تارة في رأد الضحى، وطوراً في طفل الأصيل، حتى انتهيت إلى حيث أراد الدليل.
فأدرت ناظري فيما حولي من الأدغال يخفق قلبي روعة، ويذهب لي حيرة، وإذا بشيخ كهل قد ائتزر بمئزر، والتفع برداء، يقوم في جفاء البداوة، وجفوة الأعراب، ماذا تريد يا زول؟ قلت التمتع والاستطلاع، فأربد وجهه، وانقبض جبينه، وكأنما الشر قد جثم بين عينية، فانخلع قلبي حذر أن أكون استبحت حماه، ولكن صديقي دلف إلينا بسرعة، وحيا البدوي في حديث مرسل ينم عن سابق معرفة، وقديم صحبة، فهدأت نفسه وسكن غضبه، وانبسطت أسارير وجهه، ثم أقبل علي باشاً مصافحا.
فسألت ممن الرجل؟ قل: من بني عقيل بن جعفر بن أبي طالب، قلت: وأنا من بني الحسين بن علي بن أبي طالب، فعاد إلي مصافحا معانقا، وكانت المصافحة حارة، والعناق طويلا.
ثم ساق رواحلنا إلى كوخ من القش بجانب خيمة من الوبر، ونادى: يا ليلى! ابن العمومة من بني هاشم شرف أحياء العرب، فبرزت ليلى من خبائها كما يبرز البدر من خلال الغيوم، ثم قالت: يا بشرى! هذا ابن الريف، قرّة العين، وسليل الحسين، وأطلقتها زغرّدة دوّت في الفضاء، فمال حمدان برأسه وقال: لها الله ليلى من فتاة بارعة الحسن تامة الجمال! أنظر تر جسما مستقيما منتصبا كأنه قضيب بان، وعينين سوداوين فيهما سحر وفيهما دلال، وشعراً لا معقوصا ولا مظفوراً وإنما هو مدلّى كخيوط الليل، ووجهها تمتزج(12/73)
حمرته بسمرته فيبدو من امتزاجهما دم جذاب يرق حتى ليكاد يكون روحا، وثغرا كأنما يبسم عن در، ويفتر عن لؤلؤ فقلت: يا سبحان الله! أما قرأت: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم. . وكان حمد مضيفنا تجاوز الكوخ ليدعوا بعض غلمانه، فقلت لحمدان (وكان من طبعه الانقباض) إن كنت رجلا حقا فأطلقها ضحكة عالية في وادي الهموم، كما أطلقتها ليلى زغرّدة في أجواز الهواء. قال: كيف؟ والمدنية الحديثة جعلت فينا أمزجة منقبضة وطبائع سوداوية، فأضعنا نضارة الشباب في هم مبرح. ولم نتلقى غفلات العيش على ما في طيها من نعم وخيرات، كما يتلقى قطان البادية من الأعراب، وسكان الغابات من عجائز السود، شظف الحياة، وضيق العيش. بصدر رحب، وثغر بشوش.
قطعت علينا الحديث خادم عجوز سوداء لليلى. أتت ولا شيء يسترها غير رقعة تحجب سوءتها، ثم مدت سماطاً بديع النسيج الا أنه مهلهل، وعادت فأتت بمبخرة فيها عود أو صندل
ثم أتى حمد وخلفه جزور فنحره، وحمله الخدم بعد لطهيه، وجاءت أقداح الشاي واستمرت تدور المرة بعد المرة، وحمد يحدثنا بحديث عذب فيه رطانة الزنوج، ولحن الأعراب
حدثنا انه يتصل بعرب الحمران، وأن لهم أحاديث كالمسك، في الهوى العذري، والحب الطاهر، وأن منهم (تاجوج ومحلق) الذين ضربت بحبهما الأمثال، وتحدثت عن عفتهما الركبان
قلت: ومن تاجوج ومحلق؟
فأجاب، كانت تاجوج فتاة جميلة، لم تر بلاد السودان فتاة أجمل منها إلى اليوم، وقد بلغ من جمالها أن الناس كانوا يحثون المطايا ليروها ثم يعودوا، وكان أبوها يدعى (الشيخ أوكد) شيخ القبيلة، أحبها ابن عمها (محلق) وتزوجها، وفي يوم أسكره الحب وتيمه الغرام، فألح عليها ان تتجرد من ثيابها وتمشي أمامه عارية فامتنعت حياء، ألح مرة أخرى فامتنعت، ثم ألح ثالثة فقالت، إذا أطعتك فماذا تفعل؟
قال: أنفذ كل طلب لك
قالت: أقسم، فأقسم، فتجردت ومشت أمامه ذهابا وإياباً. إلى أن قال: كفى كفى!
ثم قال، اطلبي الآن ما تريدين. قالت: أن تطلقني في الحال، فطار صوابه، فوقع على(12/74)
قدميها يقبلهما ويسألها العفو فأبت الا البر بقسمه، فطلقها وهام على وجهه ينشد في حبها الأشعار كمجنون ليلى.
ثم تزوجت بعد طلاقها رجلا من وجهاء قبيلتها فتأثّر محلق فغلبه على ماله، المرة بعد المرة ثم رده إكراما لتاجوج.
وأخيرا اشتد عليه الكرب وأضناه الحب، فألح على أهله أن يمكنوه من رؤيتها، فذهبوا إليها وأخبروها لحاله فرقت له، وذهبت لرؤيته، فإذا هو طريح الفراش وحوله نساء ينددن بها ليصرفن قلبه عنها، فلما دخلت لم يسعهنّ الا الوقوف احتراما لجمالها وإعجاباً بها، وأجلسنها إلى جانب سريره فلما رأته على تلك الحال تنهدت وقالت:
أإلى هذا الحال وصلت يا حشاي وأنا لا أدري؟ ثم وضعت رأسه على ركبتها وكان قد أغمي عليه، فلما أفاق نظر إليها وأنشد أبياتا منها هذا البيت الذي ننقله بلغته ولحنه وصورته:
حبك في الضمير قاطع لأكباده ... تقتلي الزول سريع قبل الشهادة)
ثم شهق شهقة ومات مسلماً الروح.
ثم أطرق حمد طويلا برأسه إلى الأرض وعاد فنظر إليّ ساهما وقال: حدث بعد ذلك أن غزانا عرب (الهدندوة) فوقعت تاجوج أسيرة في أيديهم فاختلفوا فيها اختلافا كاد يفضي إلى سفك الدماء وأراد كل فريق أن تكون تاجوج من نصيبه
فنهض أحد مشايخهم وكان حازما، ونادى: (تاجوج) من خبائها، فلما أقبلت طعنها بخنجره في صدرها فماتت وحسم النزاع.
ماتت تاجوج، ولكنها ظلت حية في نفوس الذين قتلوها كما هي حية في قلوب بني وطنها جميعاً ولا زال قبرها إلى اليوم يزار (في رأس النيل) بين خور جب وكسلا، وما زال أهل السودان يضربون بها وبمحلق الأمثال.
ثم جاء الطعام على عادة العرب (كسرة، مرقة، وشواء) فكانت رغبتنا في التهام حديثه أكثر من رغبتنا في التهام طعامه
فقلت وهو يستطعمني فأطعم، ثم ماذا بعد؟ فان أعذب الحديث حديث المائدة خاصة مع العرب الأجواد فقال: ثم إن بطناً من عرب الحران حلّ بهذا المكان القريب من هذه الغابة(12/75)
فأنجباني أنا وليلى، فكنت معها كمحلق مع تاجوج، غير أنها وفت لي فلم تستبدل بي زوجاً، ووفيت لها فلم أدخل عليها زوجة، مع كثرة تعدد الزوجات في هذا الحي الذي ننزل به
وما كدنا ننتهي من طعامنا وشرابنا وأحاديثنا حتى كانت الشمس مضيفة للغروب، والقمر يستعد للجلوس على عرش السماء، بعدها، فتهيئنا للجولان بالغابة ومعنا معداتنا من حراب ورماح، وموعدنا ببقية الحديث رسالة أخرى.
محمد البنداري. مدرس بالخرطوم(12/76)
إلى بئر جندلي
للأستاذ الدمرداش محمد. مدير إدارة السجلات والامتحانات بوزارة
المعارف
- 2 -
وبعد دقائق انحدرنا إلى ميدان المنشية وأخذنا طريقنا إلى مقبرة الأمام الشافعي، وبعد أن اخترقناها أقبلنا على قرية البساتين فكانت في سكون لا يسمع من حولها إلاّ نباح الكلاب وصرير الصراصير، ثم مررنا بمقابر اليهود فاستقبلنا حارسها وأخبر الدليل بمرور الجمال.
كان الليل باردا والسكون شاملا وضوء القمر فاترا يملأ الأرجاء، وكنا نسير في صمت وأمامنا الدليل منحن قليلا إلى الأمام يجد في السير بقدم ثابتة ونحن نتبعه ونتابعه.
معنا السلاح والذخيرة، ومعنا الماء والزاد، ومعنا الدليل الخبير المجرب، ونحن جماعة أشداء، فمم الخوف؟ كانت تجول هذه الأفكار بخاطري وانظر إلى الرفاق وهم يسيرون على هيئة الجند فتتملكني روح زهو وفخار، واشعر بنشاط وقوة، فيرتفع رأسي ويتسع صدري وألاحق الدليل وأتقدم الجماعة، والنفس طافحة بشراً وغبطة. بعد ساعة مال الطريق نحو الشرق، ثم أخذنا نرتقي هضبة وأخذت تتلاحق التلال وتعلو، وقبيل نصف الليل غاب القمر وخيم الظلام وأصبح منظر الوادي رهيباً موحشا، وهنا قال الدليل: (وادي التيه يا سادة) في هذا الوقت كنا نتقدم في واد متسع تعلو الهضاب على جانبيه وهو ينثني بينها تارة يمينا وطورا شمالا.
وعند الساعة الثانية صباحا وصلنا حيث كانت تنتظرنا الجمال في ناحية من الوادي، وقد جلس بجانبها سويلم يدخن غليونه بينما انشغل على الجمال بإمداد بؤرة التدفئة بالعشب الجاف، كان قد طال بنا السير أجهدنا أصبحنا في حاجة إلى الراحة بل إلى النوم، فاستلقينا على الأرض قريبا من الجمال ثم غلبنا النعاس فنمنا.
كنا نائمين في العراء وليس علينا غطاء، فاستيقظنا عندما لاح الصباح بعد نوم قصير وأجسامنا ترتعد وأطرافنا ترتجف من شدة البرد، وكانت الطبيعة هادئة وبزوغ الشمس من وراء الجبال فتناً ساحرا، وكنت أطيل النظر فيما حولي واسأل نفسي: أنا في حلم أم في(12/77)
يقظة؟ فقد زال عنائي وغدوت مرحا فرحا نشطا، وبعد أن تناولنا فطورا ساخنا بسيطا ذهبت الجماعة بصحبة الدليل إلى الصيد وبقيت أنا ومحمد بك لنسير مع الجمال، وقد تواعدنا أن نلتقي ظهرا على بئر دجلة.
كان الصباح لطيفا منعشا، والشمس مشرقة، وقد وجدت في محمد بك خير صاحب، فقد كان لطيف المعشر حلو الحديث على علم بالصيد وطرق الجبال والأودية، فاستأنست به، واطمأنت نفسي إليه فاخذ يقص عليّ في حماس ونحن نسير الهوينى خلف الجمال ما وقع له في رحلاته السابقة من مخاطر عجيبة، ونوادر لطيفة، وبعد أن سرنا هكذا نحو ساعة ضاق الوادي وانتهى بنا إلى هضبة عالية فارتقيناها على مهل، وكان صعودنا على جرف في طريق لولبي شديد الانحدار، لا يزيد عرضه على القدم ومن تحته هوّة عظيمة، وقد اجتازت الجمال هذا المنحدر الوعر من غير مشقة، فكانت متزنة الخطوات متئدة متنبهة تحاذر السقوط أو الزلل، وبعد ساعة أخرى أخذنا نهبط وادياً عظيما كثير التعاريج جدرانه قائمة، وتقوم على جانبيه الروابي العالية، والقمم الشامخة، وقبل الظهر بساعة وصلنا بطن الوادي بسلام، واتجه سويلم إلى ناحية فيه وأناخ الجمال، أشار بيده إلى كوّة مرتفعة في الجدار الجنوبي للوادي يظللها نتوء من الجبل كبير البروز، وتكتنفها أحجار ضخمة تجعلها كالوكر في مأمن من الرياح والأمطار، وقال هنا نمضي الليلة، فحملنا إليها الغطاء وبعض الحاجات وفرشنا أرضها بسجادة واعددنا في ناحية منها موقداً جمعنا بالقرب منه عشبا جافا من شيح وشوك وطرفاء، ثم هيأ محمد بك للجماعة طعاما دسما من لحم مسلوق وأرز وخضار، وبعد الظهر بساعة أقبل الصيادون يحملون أرنبين كبيرين وقد لفحت الشمس وجوههم وبدا عليه التعب، وبعد أكلة شهية تفرقنا في الوادي نتفرج على مناظره الطبيعية البديعة، وتقع بئر دجلة على عشر دقائق من معسكرنا جهة الشرق في حضن شلال فخم يعله خانق جميل، والبئر في مسقط السيل وعمقها نحو ثلاثة أمتار تمتلئ بالماء وقت الأمطار ويفيض ماؤها وقت الجفاف، والوادي كثير العشب وافر الكلأ، يسبح في فضائه أنواع من العصافير والحدأة، وترعى فيه الإبل والماعز، وبعد الغروب عدنا إلى المعسكر وقد خيم الظلام واشتد البرد وشمل الوادي سكون موحش، وبعد العشاء آوينا إلى الفراش ونمنا ملء الجفون حتى قبل الفجر، وكان منظر الوادي في السحر فاتناً يستهوي الأفئدة(12/78)
ويملأ النفس دهشة وروعة، وفي الصباح الباكر توجهنا للصيد وبقى عبد الله بك وسليمان بك بالسير مع الجمال، واتفقنا أن نلتقي عصرا على بئر جندلي.
خرجنا من وادي دجلة مع بزوغ الشمس وأخذنا طريقنا فوق الهضاب وفي الأودية متوغلين شرقا لا نتبع طريقا معينة، وكان في القيادة حسن بك وهو صياد ماهر خفيف الجسم رشيق الحركة بصير بالصيد وضروبه. وبعد قليل أقبلنا على واد وافر العشب فا بصرنا أرنبا يقطع عرض الوادي بسرعة البرق يتلوه ثان وثالث، وفي لمح البصر اختفت وراء الصخور وكان لمنظرها وهي تعدو أثر مدهش في الجماعة، فاندفعوا وراءه لا يلوون على شيء، وفي المقدمة حسن بك ينهب الأرض نهبا كأنه الجواد في حلبة السباق. وفي لحظات توسطنا الوادي وبدأت المطاردة، وما أن رأتنا الأرانب حتى قفزت إلى وهدة ثم مرقت كالسهم إلى أخدود، ثم تسلقت الجبل ونحن في أثرها نتبعها من غير هوادة، نرتقي الهضاب ارتقاء، ونلقي بأنفسنا من الجبال إلى السهول إلقاء، وإشارات القائد تقذف بنا يمينا أو يسارا، طورا مقبلين وطورا مدبرين، مرة في صياح وجلبة، ومرة في حذر وسكوت، تارة نعلو وتارة نهبط، وهكذا كانت تستمر المطاردة ساعات متواليات والحيوان التعس ينتقل من ساحة إلى ساحة، يطلب النجاة وراء الصخور وفي الصدوع وفوق الربى وتحت الأرض، ونحن وراءه نحاول دفعه إلى السهل وهو يأبى الا الوعر، تقوده غريزة البقاء فان اخطأ المسكين التقدير وحم القضاء ضاق النطاق وعز الفرار وتلقفته نيران البنادق من كل صوب فيخر صريعا ضاربا أعلى المثل في الزوغان والعناد، والصبر على الجهاد. وقد بلغ حماس القوم في المطاردة هذا اليوم حد الجنون، وكاد يقضي على أحدنا، وهو أحمد بك بالموت على أبشع صورة لولا أن قدرت له السلامة، ذلك أنه اندفع وهو مأخوذ وراء غزالة فجرت الغزالة إلى جرف صاعد في جدار الجبل، فلحق بها وأطبق عليها ولكنها أفلتت منه، ولما انطلق وراءها انهار الجرف فهوى بجسمه من شاهق فتشبث بصخرة ناتئة وأصبح معلقا بين السماء والأرض.(12/79)
الكتب
الأمواج.
لأحمد الصافي النجفي
يتغنى الشاعر العراقي الفاضل في هذا الديوان بنغمات جديدة طريفة. فهو لا يسمعك مدحا في أمير أو سلطان، ولا تجد في شعره تلك العواطف المبتذلة، وليس في الكتاب نسيب يستحق الذكر. وإنما يتغنى الشاعر في ديوانه هذا بأنشودتين جليلتين الأولى الفضيلة والثانية الوطنية. وليس الموضوعان بالشيء الجديد، ولكنه يتناولهما بطريقة جديدة، ويسمعك في الأنشودتين نغمات جديدة. ولقد عاش شعراء العرب هذه القرون الطويلة وهم يحرقون فنهم بخورا أمام أصنام بشرية زائلة، ألم يأن لهم أن يقضوا قرونا أخرى يمجدون الفضيلة والوطن وهما من الموضوعات الخالدة؟
ولكي يفهم القارئ كيف يتناول المؤلف هذه الأغراض نذكر هنا القطعة الآتية:
قد كثر الفقراء ظلم ذوي الغنى ... لم يكثر الفقراء حكم الباري
كم عاش قوم من طوى، قوم وكم ... عمرت ديار من خراب ديار!
فلرب قصر بالجماجم مبتنى ... ولرب نهر بالمدامع جاري
كم مجتن ثمرا ولم يغرس، وكم ... من غارس لم يجن من أثمار!
عجز الفقير عن استعادة حقه ... فأحال ذنب الفقر للأقدار
أغني! لا تسخر بزفرة بائس ... كم من دخان منذر بالنار
وفي الكتاب قطع وقصائد كثيرة تردد هذه النغمة وأمثالها. وكلها دليل على أن الشاعر يرى أن عليه واجبا نحو وطنه ونحو بني جنسه، وان الشعراء يجب أن يكونوا رسل إصلاح لا مجرد عصافير تغرد وتطرب، وتنشدك ما تعاني وما تكابد، وما تحرق لها من مهج، وما سال من عيونها من دمع، إلى آخر ما هنالك مما تجيش به أشعار الأدب الضعيف.
وفي عدد مضى من الرسالة مقالة للأستاذ أحمد أمين في أدب القوة وأدب الضعف، وبهذه المناسبة نرى واجبا علينا أن نعلن أن هذه (الأمواج) من أدب القوة. .
ويتناول المؤلف أحيانا موضوعات أخرى في الوصف مثل قصيدته في (الشاي) و (الحنين إلى الطبيعة) و (الليل والنجوم) ولكن نزعة الوطنية والفضيلة هي الغالبة البارزة.(12/80)
فقراء الرسالة قد قرءوا في عدد سابق قصيدة لهذا الشاعر وهي قصيدة (الفلاح). ومن يتأمل تلك القصيدة والقطعة التي أتينا بها هنا يستطيع أن يدرك مواضع القوة والضعف في أشعار (الصافي). أما مظاهر القوة فبادية واضحة، وأما موضع الضعف فهو في نظرنا أن الشاعر (وكأنه في هذا كشأن اكثر المجددين من شعراء هذا العصر) تشغله العناية بالمعنى عن العناية باللفظ، فألفاظه لا تنهض إلى مستوى معانيه الا قليلا. ونحن نؤاخذه أنه أحيانا يهمل العبارة اللفظية إلى درجة الخطأ كما جاء في قصيدته (بين شاعر وصاحب فندق) ورويها هي التاء الساكنة بعد ألف المد ويقول فيها:
قد جاء رب المنزل لي سائلا ... يقول ما شغلك في ذي الحياة
فقلت شغلي الشعر في نظمه ... ادفع عني جحفل النائبات
قال وهل بالشعر تحيا وهل ... تملي به أحشاؤك الجائعات
ثم يقول:
وكنت أدعى عجميا بهم ... كأنني لست ابن عرب أباة
فرحت للبدو وعاشرتهم ... فلم أجد لي مشبها في البداة
ومعروف أن التاء في الحياة وأباة والبداة في الوقف تنقلب هاء. . . وكذلك قد يذكر الشاعر ألفاظا كنا نود الا يذكرها مثل قوله:
أريد لثم كفها ... لولا اختشا عقابها
فلفظ (اختشا) ليس من الألفاظ التي يأسف الإنسان على فقدها من شعره.
على أن هذا لا يحط من قدر (الأمواج) كديوان شعر عصري لأديب مفكر قوي. وأنا لنرجو أن يهتم القارئ المصري خاصة بهذه الثمار القيمة التي تنضجها روح الأدب في العراق وسوريا.
م. ع. م(12/81)
الورد الأبيض
مجموعة أقاصيص مصرية
بقلم محمد أمين حسونة
الأستاذ محمد أمين حسونة كاتب من شباب الكتاب خصب الخيال طبع القريحة لامع الذكاء جم النشاط كثير الحركة، عني على الأخص بالجانب القصصي من الأدب المصري الحديث فعالجه في توفيق وإجادة، ومجموعة (الورد الأبيض) باكورة نظيرة من ربيعه المونق جمع فيها ثلاث عشرة أقصوصة ثم سماها باسم الأقصوصة الأولى، وتقرأ هذه الأقاصيص فترى أثر مواهبه ظاهراً في وصف الأشخاص وتصوير المناظر ورسم البيئة وسلسلة الحوار، ومن خير الأمثلة على براعة فنه ودقة ملاحظته وصدق شعوره الأقصوصة الثانية (في الواحة). فلو انه أوتي من سلامة التعبير ما أوتي من سلامة التصوير والتفكير لكان له في هذا ألفن شأن غير هذا الشأن، وخطر غير هذا الخطر، على أن أسلوبه أحيانا يرتفع إلى درجة محمودة من البلاغة كقوله في ختام (في الواحة).
(ويعود عدنان في صبيحة اليوم التالي بعد أن أصيب بجرح عميق في صدغه، فيفتش عن مأوى فلا يجدها، ويطوف بالبادية نهارا وليلا، يسأل الرمال والحصى فلا تهديه، ويناجي النجوم والسحاب فتمر في طريقها ولا تجيبه. . . . ويعثر على جوادها مصادفة ملقى إلى جانب الصخور وقد طمرت الرمال نصفه الأدنى. . . . فيدرك لأول وهلة ما حدث لصاحبته، وأي مصرع لقيت المسكينة؟ فيحاول أن يبكي فيستعصي عليه الدمع، ويتحجر الأسى في مآقيه، ويرجع ثانية إلى مقره شريد النفس كاسف البال، تلوح على محياه إمارات اليأس والقنوط. .!!) وعسى أن يتدارك الأستاذ في الطبعة الثانية ما وقع في هذه الطبعة من أغلاط النحو والإملاء ومخالفة العروض فيما رواه من الأبيات.
كواكب في فلك
للأستاذ توفيق وهبة
يشتمل هذا الكتاب على نحو عشر قصائد وعدة مقطوعات من الشعر؛ وعدد كبير من المقالات القصيرة مما نشره المؤلف الفاضل في صحف مصر وسوريا. ولذلك تغلب(12/82)
النزعة الصحفية في كثير من المقالات، فهي عادة قصيرة لا تتجاوز صفحتين أو ثلاث، ولهذا يختار المؤلف عادة موضوعات سانحة قصيرة كموضوع (عبادة المال) أو (على سطح البحر) حيث يتكلم عن خشية الراكب متن البحار. و (تركيا والألقاب) و (التأنق والتجمل) و (الرأي العام) وهلم جرا. وقد يرى البعض أن هذه الموضوعات في حاجة إلى التوسع والتعمق، لكن المؤلف عرف كيف يلم بكل منها إلمامة قصيرة، ولكنها في كثير من الأحيان لا تخلو من جمال: أنظر إلى قوله من مقال (خطاب عن الموسيقى).
إن الكون كله قصيدة أنشدتها الطبيعة
إن الملائكة تغني
إن الطيور تغرد
إن حفيف الأوراق والأشجار غناء
إن زمهرير الرياح غناء الغضب
إن هينمة النسيم غناء الرقة والعذوبة
وفي الكتاب بحث في موضوع المبارزة بشيء من التفصيل وشرح الاعتبارات القانونية للمبارزة في مختلف البلاد. ليس هذا البحث وأمثاله أحسن شيء في الكتاب. بل خير ما فيه هو تلك القطع الأدبية، التي يصور بها المؤلف عاطفة أو فكرة أو خيالا، وكنا نود لو أسقط المؤلف مقاله عن (العرى) وعن (حفظ القلوب) فما كان يفقد الكتاب من قيمته شيئا. أما القصائد والمقطوعات، فمن رأينا أنها دون المقالات طبقة. وإلى القارئ مثالا يستطيع به أن يقارن بينه وبين ما ذكرنا له من منشور، قال يهنئ صديقا بالزواج:
بارق البشر بهيا طلعا ... فابسمي إن به كل الرجا
أنت رمز الطهر والحسن معا ... وأبوك الندب رمز للحجى
م. ع. م
1(12/83)
العدد 13 - بتاريخ: 15 - 07 - 1933(/)
شروح وحواشي
الشعر بعد أميريه:
عام مضى أو كاد على يومي حافظ وشوقي! فهل شعب القلوب الدامية عنهما سلوان، وعزى النفوس الآسية منهما عوض؟ لا يزال الجزع يهفو بالأفئدة على مستقبل الشعر اليتيم، ولا يزال الصمت الموحش يقبض الصدور في خمائل الوادي، بلى، نشط في مصر القريض، وتجاوبت الأفراخ النواهض بالأغاريد، ولكن أصواتها الناعمة الرخوة لم تملأ الأسماع ولم تطرد الوحشة، ولاحت في سورية المهاجرة مواهب النبوغ، ودلائل القيادة، ولكن البعاد يبدد الصوت القوي، والاغتراب يوهن الجهد الجهيد. كان اسم حافظ واسم شوقي علمين على الشعر في العهد الأخير، وكان الناس يؤمنون بقوة أدبية لازمة تظاهر نهضتنا، وتساير ثقافتنا، في هذين الشاعرين. فكلما خفقت القلوب لنزوة من الألم، أو لنشوة من الأمل، أصغت الأسماع تنتظر من رياض (الجيزة) أو ربى (حلوان) تلحين هذه العواطف، أو تدوين هذه المواقف. فلما خلا مكان الرجلين وقع في الأوهام وجرى على بعض الأقلام أن تلك القوة زالت وأن زمان الشعر ذهب! فحاول عشاق الأدب ورواد القريض أن يقرّوا في الرؤوس سلطان هذا الفن، ويقروا في النفوس وجود هذه القوة. فحشدت جماعة (أبولو) جميع وحداتها، وعزفت جوقتها على جميع آلاتها، وشرّقت الصحف والمجلات بفيض القرائح الشابة، ودعا الكهول القرَّح إلى عقد موسم للشعر، والزمن الذي يمحص الأشياء فينفي البهرج، الزائف ويثبّت الحق الصريح، هو الذي يعرف مكان هذه الجهود، من عالم الفناء أو من عالم الخلود.
موسم الشعر:
وقع في نفس الأستاذ الهراوي منذ شهرين أن يدعو الشعراء إلى مواضعة الرأي في إقامة موسم للشعر، فلبّى فريق، وتأبّى فريق، ورأت جماعة (أبولو) في الدعوة إحتكاراً لفضل الفكرة، واقتصاراً على بعض أغراض الشعر فأهملتها، ثم قررت أن تقوم هي بمهرجان سنوي جامع. ثم سعى بين الجماعتين ساع من حسن النية وشرف القصد فاتفقتا على العمل معا، ثم اجتمع أعضاؤهما في دار لجنة التأليف والترجمة والنشر، ونظروا في نظام الجماعة ومنهاج العمل، ومضى الشعراء الموظفون يلتمسون من معالي وزير المعارف(13/1)
شرف الرئاسة للموسم فأجاب الملتمس، ثم اضطربت الألسنة والأقلام بالفكرة التي قام عليها، والغاية التي يقصد إليها، فلم نخض مع الخائضين وإنما تحدثنا إلى القائم بالدعوة نستجلي منه الغرض فما أجاب إلا جمجمة، فقلنا ليس في الأمر إذن إلا قصائد تنشد على المسرح، وتصفيق يدوي في الحفل. ثم ريح لينة تذهب رخاء بهذه الأصوات إلى مجاهل الأبد.
ولكن موسم الشعر تولى أمره نفر من كبار الأدباء فرسموا خطته وعينوا وجهته ونشروا ذلك في بيان للناس فجعلوا وجوده أمرا لاشك فيه، وتسجيله عملا لابد منه.
أصبحت (جماعة موسم الشعر) بحكم البيان المنشور مجمعاً أدبيا له وسائله وله أغراضه. فأما وسائله فقرض الشعر الفصيح ووضع البحوث في الأدب، وإلقاء المحاظرات في الموسم، وأما أغراضه فإقامة موسم عام للشعر العربي في مدينة القاهرة. و (العمل للاحتفاظ في الشعر العربي بقوة الأسلوب ووضوحه، والجري على ما تقتضيه ضوابط اللغة من الصحة وما تتطلبه خصائص البيان من بعد الأسلوب عما يضعفه أو يفنيه في غيره أو يقطع صلة حاضرة بماضيه، وتقريب ما بين الشعر العربي وغيره مع المحافظة على السنن العربي والعمل لتنوع أغراضه وفنونه وأخيلته ومعانيه، وإبراز الحياة الحاضرة والمدنية القويمة في صورها الصحيحة، والمحافظة في الشعر على الذوق العربي مع مماشاته لحاجات العصر وروحه. وتوجيه الشعراء إلى القيام بحاجة العامة والتلاميذ من الشعر في أغانيهم وأناشيدهم، وحفّز مواهب الشعراء إلى تهيئة السبل لظهورها والانتفاع بها، وخدمة اللغة العربية ونشر آدابها وتقويم ملكاتها وتنمية ثروتها من الألفاظ والمعاني والأخيلة، وتوثيق الصلات الأدبية بين مصر والأقطار العربية الأخرى.)
والرسالة تؤيد هذه الأغراض السامية من غير تحفظ، وتدخر غبطتها بها وتصفيقها لها ليوم التنفيذ؛ فإن صوغ الأماني ووضع الأنظمة وإذاعة العزم شيء، وتجويد العمل وتنفيذ الفكرة وتحقيق الغرض شيء آخر. ولعلك تذكر أن (مجمع اللغة العربية الملكي) سُن له قانون، ورصدت له أموال، ورشحت له رجال، ودعيت إليه دعوة، ووعدت به حكومة، ومع ذلك فقد انقضى عليه عام وهو لا يزال كما كان منذ سنين عدة من عدات المنى، وحديثاً من أحاديث الظنون!!(13/2)
عيد المولد:
لعل أروع المظاهر الإسلامية في مصر مولد الرسول، لأنه ائتلاف منسجم من جلال الدين وأبهة الحكومة وابتهاج الشعب، ولكنه كذلك أدل الدلائل على البطء الفاتر في شيوع المدنية وارتقاء الذوق في مهد الحضارة القديمة، وأسبق الشرق القريب إلى الحضارة الحديثة!
إن كنت ذهبت إلى هذا الاحتفال منذ بضعة أيام، فثق أنه هو الذي ذهب إليه أجداك منذ عشرات الأعوام!: خيام مضروبة على الثرى الجديب، ومطاعم منصوبة على الطريق المغبر، وملاعب كنماذج الصناعة في عهد (ما وراء الفن)، وملاه يراها المثقف فبظن نفسه في مصر غير مصره، أو في عصر غير عصره!
أظهر المظاهر في هذا العبد شيئان: الأسهم النارية وهي الشيء الوحيد المدني. لأنها الشيء الوحيد الأجنبي! والحلوى، وهي موضع البلوى ومحل النظر!: حوانيت خشبية وقتية ثابتة أو منتقلة، تكدست فوق رفوفها البالية ألوان (السمسمية والحمصية والسكرية والعلف)، ثم قامت على حواشيها تماثيل وعرائس هشّة من الحلوى الرديئة، عليها غلائل فاقعة الألوان من الورق المصبوغ، وكل ذلك في غير ذوق ولا جمال ولا فن، وكل ذلك من غير غطاء ولا وقاء ولا ستر! إنما هي مهبط للذباب والغبار، طول الليل وطول النهار! يراها الخاصة فيشمئزون من شكلها القبيح، وقذرها البادي، وبائعها الوسخ، ويحملها العامة إلى بيوتهم في المناديل الغليظة والجرائد القديمة فيحملون مثابة للنمل ومباءة للجراثيم!
إن حلوى عيد الميلاد في ديسمبر، وألعاب يوم الحرية في
يوليو، مثلان أجنبيان في سلامة الذوق وجمال المظهر وحسن
المتاع، فلتبق حلوانا وطنية، ولتبقَ ألعابنا شرقية، ولكن ارفقوا
بالذوق والجمال والصحة فأدخلوا عليها شيئاً من المدنية! أحمد
حسن الزيّات(13/3)
لغو الصيف
للدكتور طه حسين
(2)
من هنا، يا أستاذ من هنا! وأذن لي في أن أسعى بين يديك فلا بد لك من دليل. ثم سعت أمامه رشيقة أنيقة في طريق طويلة جميلة، يحفّها من جانبيها الشجر والزهر، وفيها قليل من ضيق، وشيء من التواء. وقد استمتعت الأشجار القائمة على جانبيها بشيء من الحرية عظيم لا يستمتع به الناس في هذه الأيام، فمدت أغصانها كما شاءت في غير نظام، حتى اختلط بعضها ببعض والتف بعضها ببعض. وجعلت الآنسة تسعى أمامي رشيقة رفيقة، وتجدُّ في التفريق بين هذه الأغصان الملتفّة المتعانقة لتشقّ طريقها وطريق صاحبها، وكأنها كانت تجد في ذلك شيئاً من العسر اللذيذ، فكانت تحاول أن تعتذر بهذه الجُمل السهلة اليسيرة الفارغة التي تقال في مثل هذه الحال: ليست الطريق سهلة هنا، يجب أن تحتاط، وما رأيك في هذه الأغصان التي تريد أن تداعبنا وإن لم نطلب إليها المداعبة؟ حقاً لقد أسرفنا في إهمال هذه الأشجار فأسرفت في الانتفاع بحريتها. وكان صاحبها يجيب على هذه الجمل بضحك فارغ لا يدلُّ على شيء إلا على أنه لم يكن يجد ما يقول. لأنه لم يكن يسمع لهذه الجمل التي تلقى إلا بإحدى أذنيه. وقد كانت نفسه كلها مفتونة بهذه الطبيعة الحرة المطلقة، وبما بينها وبين حياة الناس في هذه الأيام من تناقض واختلاف. ولعله كان يُعجبْ بهذا القوام المعتدل الذي كان يسعى أمامه في رفق، ويجاهد هذه الأغصان في لباقة وظرف، ولكنه كان يخفي حتى على نفسه هذا الإعجاب الذي لو أحسّتْه صاحبته لضاقت به ضيقاً شديداً. حتى إذا طال سعيهما في هذه الطريق الخفيّة الملتوية انتهيا إلى رقعة واسعة رحبة من الأرض، وقد فرشت ببساط ناعم كثيف من العشب، وانتثرت فيها قطع بديعة من الزهر، قد نسِّقت أحسن تنسيق وأجمله، وقامت في وسطها مائدة قد نثرت عليها أوراق الورد في كثرة تلفت النظر. فلما انتهيا إلى هذا المكان الهادئ الباسم الجميل، أرسلت من صدرها زفرة ضاحكة وهي تقول: لقد انتهى الجهد وآن للمتعب أن يستريح، اجلس يا سيدي فهنا يحسن الحديث فيما أظن. قال: بل هنا يحسن الاستماع. قالت: الاستماع لمن! الاستماع لماذا؟ قال: الاستماع لك والاستماع لهذا الصمت الناطق من حولنا.(13/4)
قالت: دع عنك الاستماع لي فما أحسب إلا أنك قد سئمته، أو ستسأمه، وما أحسب إلا أنك قد زهدت فيه أو ستزهد فيه حين يستأنف بيننا الحوار، فيستأنف بيننا الحوار من غير شك، ولكن حدِّثني عن الاستماع للصمت كيف يكون؟ وحدثني عن الصمت كيف ينطق أو كيف يصدر عنه الكلام؟ وكأنا في أثناء هذا الحديث قد أخذا مكانهما إلى المائدة وجهاً لوجه. وكان صاحبها حائر النظر بعض الشيء يردده بين السماء والأرض، ويردده بين قطع الزهر المنتثرة من حوله وبين آنية الزهر القائمة على المائدة، وبين أوراق الورد المنثورة بين يديه. قالت: ألست قد زعمت لي منذ أيام أنك تحب لثم الورد وشم القرنفل فهذا هو الورد تستطيع أن تمتع نفسك به كيف أحببت، أنظر إليه مختلفاً ألوانه مستوياً على سوقه، بعضه قد هام بالحياة والضوء فانبسط لهما انبساطاً وأخذ يلتهمهما التهاما، وبعضه قد أحبهما، ولكنه يسمو إليهما في استحياء فيتفتح لهما قليلا قليلا، وبعضه يحسّهما وينعم بهما ولكنه لا يكاد يشعر بهذا الحس وهذا النعيم، فهو أكمام لم تتفتح بعد. وانظر إليه أسيراً في هذه الآنية لم يبق فيه من الحياة إلا ذماء يسير يمسكه عليه هذا الماء الذي تحتويه الآنية. وانظر إليه صريعاً قد فقد الحياة وتفرقت أوراقه، وانتثرت بين يديك غضة، ولكنها تسرع إلى الذبول أو يسرع إليها الذبول.
وهذه زهرات من قرنفل قد هُيِّئتْ لك وفرقت في آنية الورد تبعث إليك عرفها هادئا قويا. فماذا تريد فوق هذا؟ قال: لا أريد إلا أن تمضي في هذا الحديث الذي أخذت فيه منذ الآن، فإني لا أعرف ترجمة عن هذا الصمت الذي كنت أريد أن اسمع له أبْلغْ من هذه الألفاظ التي ينثرها حديثك العذب. قالت: وما زلت مشغوفاً بالعبث لا تفرغ منه إلا لتعود إليه. لقد أنبأتني عن حبك للورد والقرنفل، فها أنت ذا بين الورد والقرنفل، فحدثني أنت بحديثهما فأنت أعلم به وأقدر عليه مني. قال: ما أعرف يا آنسة أن لهما حديثاً يحكى، فان كان لهما حديث فما أعرف أن أحداًيستطيع أن يحكيه غيرهما فاستمعي لهما إن شئت، وغيركِ فاسمعيني حديثهما إن شيءتِ، فإنما أنت زهرة بين الزهر.
قالت: كأنك تريد أن تحفظني. فاعلم أنك لن تبلغ ما تريد، ولن تثير حفيظتي، ولن تصرفني عما أزمعتُ من أن أسمع منك حديث الورد والقرنفل. فلا تلتوِ به فلن ينفعك الالتواء. وأقبلت خادم تسعى وهي تحمل صينية عليها إبريق وأكواب. فوضعت إبريقها،(13/5)
وصفّت أكوابها، وانصرفت متثاقلة. وكانت عجوزاً شمطاء قد انحنت قامتها، وأسرف الذبول في وجهها، فلم تكد تبقى فيه قطرة من حياة. وكان منظرها في هذا الفناء مناقضاً أشد المناقضة لما يحيط بها من هذه الحياة القوية، فهمّ أن يتكلّم، ولكن صاحبته قالت وقد فهمت عنه ما كان يريد: ومع ذلك فهي أنشط منك للحياة، وأحرص منك على نعيمها ولذّاتها، لا يفوتها موسم، ولا يفلت منها عيد، ولا تقصَّر عن فرصة إن سنحت لها لتشترك فيما يراه الناس سعادة ونعيماً أو لهواً وصفواً. وهي بعد هذا كله صماء مغرقة في الصمم تستطيع أن تتحدث إليها وتصيح بها فلن تسمع لك ولن تفهم عنك. وهي بعد هذا وذاك قد نيَّفت على الستين، ولكن هات حديث الورد والقرنفل. ثم عمدت إلى الإبريق فملأت منه قدحين وهي تقول: لقد أنسيت، فهذا يوم الورد تستطيع أن تراه وأن تشمه، وأن تلمسه، وأن تلثمه، وأن تشربه أيضاً. فليس في هذا القدح بين يديك إلا ماء الورد.
والآن تحدث، فقد يحسن الحديث. قال: أيّ حديث يحسن في مصر وما أعرف بلداً أفضح لسر الحديث، وأكلف بنشره وإذاعته من هذا البلد. أتذكرين؟ قالت: وكيف لا أذكر؟ إنك تشير إلى مجلسنا ذاك على شاطئ النيل، وإلى حديثنا هناك عن شيوخ الأدب وشبابه. فقد نشر هذا الحديث في الرسالة. قال: ومع ذلك فلم يكن في مجلسنا ولا قريباً منه أحد. قالت: ولست أنت قد ألقيته إلى من أذاعه، هذا شيء لا شك فيه. قال: ولا أنت، هذا شيء لم يخطر لي. قالت: وإذن؟ قال: وإذن فهو طائر من هذه الطير التي تؤوي إلى الأغصان إذا كان الأصيل ودنا الليل فتسمع حديث الناس وتعيه، وتلقيه في روع الكتّاب والشعراء. أو هو جنيُّ من هذه الجن التي تألف شاطئ النيل فتقيم في ظل الأشجار التي تقوم عليه، أو تسكن تحت هذا الماء الذي يجري فيه، وتسمع أحاديث الناس والأشياء وتعيها فتنقلها إلى الكتاب والشعراء وتنطق بها ألسنتهم، وتجري بها أقلامهم. ولهذا لست مسرفاً في حب الحديث، وفي حب الحديث عن هؤلاء الذين لا يحبون أن يتحدث الناس عنهم إلا بما يريدون لا بما يريد الناس. قالت: من الظواهر التي لا تحتاج ملاحظتها إلى دقة ولا إلى ذكاء أن مصر مفشية للسر، قليلة الحرص على الكتمان. أنظر إلى بيئاتها المختلفة، فلن ترى لها سراً. أحاديث ساستها وقادتها وأدبائها وأصحاب الأعمال فيها ذائعة شائعة يعرفها الناس جميعاً ويتناقلها الناس جميعاً. ومصدر هذا في أكبر الظن أن طبيعة مصر نفسها(13/6)
صافية واضحة، مسرفة في الصفاء والوضوح، سماؤها صحو دائماً، لا يتكاثف فيها الغمام، ولا يتراكم فيها السحاب، وأرضها مبسوطة هينة لا ترتفع فيها الجبال الشاهقة، ولا تنتثر فيها الكهوف والأغوار، ولا تنبت فيها الغابات الكثيفة الملتفّة، فأمرها كله ظاهر، وحديثها كله شائع، وشمسها المشرقة دائماً لا تؤتمن على سر مصون. على أننا لم نقل في حديثنا ذاك شيئاً يسوء الأدباء أو يغضب أحداً، فليس من إذاعته بأس وإن كنت لا أحب ذلك، ولا أرتاح إليه، ولا أخفي عليك أني إنما أثرت أن يكون اجتماعنا الليلة عندي لأني واثقة أن لنا من العزلة ما نحب، وبأن أحداً لن يستطيع أن يندسّ لنا، أو يتسمّع علينا. قالت: إلا هذه الطير التي تؤوي إلى الأغصان إذا أقبل الأصيل ودنا الليل، وإلا هذه الجن التي تستظل بالأشجار وتتضاءل أحيانا حتى تتخذ لنفسها منازل في ثنايا العشب وبين أوراق الأزهار. في هذه الطير، وفي هذه الجن، وفيما يحيط بنا من الزهر والشجر من يسمع لنا وينمّ بما نتساقى من ماء الورد، وما يجري بيننا من لغوِ الحديث، قالت: وأيُّ بأس بأن يذاع ما يجري بيننا من لغو الحديث؟ إنما يكره الناس جد الحديث ويخافونه، فأما لغو الحديث فالناس مزدرون له، أو راغبون فيه. قال: وهل تظنين أنا نستطيع أن نأخذ بالجد حين نعرض للحديث عن الأدب والأدباء في مصر؟ وأين تجدين الجد في حياة الأدب والأدباء؟ أتجدينه في هذا الحوار الذي يطول ويطول حتى يثقل ويمل حول ألفاظ وقعت في كتاب، أو حول رأي رآه ناقد في كتاب، أو حول حديث كان بين كاتبين، أو مناظرة يسيرة كانت بين أديبين؟ أليس هذا كله دليلاً على فراغ البال واحتياج الأدباء إلى ما يشغلون به أنفسهم عن هذه الأحاديث الطوال الثقال التي تضيّع الوقت، وتفني الجهد دون أن تنفع أو تفيد؟ قالت: هذا حق ولكن الأدباء أصحاب كلام وما داموا يتكلمون فهم يؤدون حق الناس عليهم فالناس لا ينتظرون منهم إلا أن يكتبوا لهم ما يقرؤون. قال: لا كل ما يقرؤون بل ما ينتفعون به إذا قرؤوه. قالت: هنا نختلف فقد ينبغي أن نتفق أولاً على معنى الانتفاع بما يقرأ أنت تريد إذا قرأت كتابا أو فصلا أن تفيد شيئا جديدا أو أن تضيف علما إلى علم وأن تنمي حظك من الثقافة أو أن يثير ما تقرأه في نفسك عاطفة أو لونا من ألوان الشعور وأنت لا ترضى من القراءة دون هذا.
فأنت عسير ليست السبيل إلى إرضائك سهلة ولا ويسيرة. وأنت لذلك تلتمس قراءتك عند(13/7)
قليل جدا من أدباء الشرق وعند عدد غير كثير من أدباء الغرب. ولكنك تخطيء كل الخطأ حين تزعم أن القراء جميعا يطلبون إلى الكتّاب مثل ما تطلب إليهم. ولو قد فعلوا لكان الأدباء شر الناس حالاً وأدناهم إلى العجز والإفلاس. أنت وأمثالك تشقون على الأدباء فيما تطلبون ولكني أنا وأمثالي لا نطلب إليهم كل هذا أو لا نطلبه إليهم في كل وقت، فنحن نحب أن ننتفع إذا قرأنا ولكنا نكتفي من القراءة بما دون ذلك. نريد منها أن تلهينا إذا ركبنا الترام أو القطار وان تعيننا على إنفاق الوقت إذا لم يمكنا نشاطنا من العمل وان تدعو إلينا النوم إذا أبطأ علينا. ولا تغضب أن زعمت لك إننا قد نضيق بالقراءة الخصبة الغنية ونؤثر عليها هذه القراءة السهلة الفارغة التي لا تنفع ولا تضر ولكنها تعين على إنفاق الحياة. وأنت تستطيع أن تنكر على أدبائنا ما شئت ولكنك لن تستطيع فيما اعتقد أن تنكر عليهم انهم يكتبون لنا من الكتب وينشرون لنا من الفصول ويثيرون بيننا من ألوان الخصومة والحوار ما يمكننا من أن نركب الترام والقطار ومن أن نقرأ إذا أجهدنا العمل ومن أن نتعجل النوم إذا طال انتظارنا له. وأنت تظن أن هذا قليل وأؤكد لك أن هذا كثير فليس الأمر ذو الخطر في الحياة هو أن نتعلم ونثقف أنفسنا وإنما الأمر ذو الخطر حقاً هو أن نحتمل الحياة وأدباؤنا يعينوننا على احتمال الحياة حقا بما يكتبون ويذيعون. قال: قد يكون هذا حقا ولكنه مؤلم ثم سكت وأطال السكوت. وسكتت هي فأطالت السكوت. ثم مد يده إلى قدحه فاستنفد ما كان فيه من ماء الورد. وأراد أن يعود إلى صمته ولكنها سألته باسمة: فيم هذا الصمت الطويل! أمستمع أنت لحديث الزهر؟ أم مشفق أنت من الطير والجن أن تنم عليك بما تقول؟ هنالك ابتسم ابتسامة شديدة المرارة وقال في صوت حزين: كلا لست استمع للزهر ولا أخاف الطير والجن وإنما أستمع لنفسي وأخافها. فهل تعلمين أنك قد بغضت إليّ الكتابة والإنتاج الأدبي منذ اليوم. قالت وهي مغرقة في الضحك: أنا! ولماذا؟ قال: من يدري؟ لعلي لا أكتب ولا أنشر إلا لأعين القراء على أن يركبوا الترام والقطار وينفقوا الوقت إذا أضناهم العمل ويتعجلوا النوم إذا أبطأ عليهم النوم. قالت: لم أقل هذا وهبني قلته أليس كذلك يكفيك أن تكون عوناً لقرائك على احتمال الحياة؟ قال: لا. قالت: انك لواسع الطمع عظيم الكبرياء. ثم مدت يدها إلى أناء من آنية الزهر فأخذت منها قرنفلة وضعتها في صدره ووردة أدنتها من فمه. وقالت: لتلتمس عزاءك عند هذه الوردة(13/8)
وهذه القرنفلة فما أرى إلا انهما قادرتان على هذا العزاء. ولكنك مخطئ أن ظننت انك قد أنسيتني بهذا الحديث قصة الورد والقرنفل فما زلت أذكرها وأنتظرها. فتحدث. قال: إنها يا آنسة قصة طويلة وليس هذا وقت البدء فيها. فإذا عدت من رحلتك السعيدة إلى أوروبا فسأحدثك بها، وأنا زعيم بأنك ستجدين في الاستماع لها لذة ورضى.(13/9)
آفة اللغة هذا النحو. . .
أذكر أن الطالب الناشئ كان يدخل الأزهر فيجد أول ما يقرأ من كتب النحو شرح الكفراوي على متن الأجرومية، وهذا الكتاب شديد الكلف بالأعراب، يأخذ به المبتدئ أخذا عنيفا قبل أن يعلمه كلمة واحدة من أقسام الكلام ووجوه النحو. يفتحه الصبي المسكين فلا يكاد يقول (بسم الله الرحمن الرحيم) حتى يصيح به الشارح أو المقرر أن أنتظر حتى أعرب لك البسملة! وهنا يسمع لأول مرة بحرف الجر الأصلي والزائد، ويعلم بطريقة أن له في البسملة تسعة أوجه نشأت من رفع الرحمن ونصبه وجره، مضروبة في رفع الرحيم ونصبه وجره، ثم يمضي المعرب في إعراب هذه الأوجه بالتخريج العجيب والحيلة البارعة حتى تقف قدرته عند وجهين لا يجد لهما مطلعا ولا مأتى فيمنعهما، وهما جر الرحيم مع رفع الرحمن أو نصبه؛ ثم يخشى بعد ذلك الجهد أن يعبث النسيان الساخر بهذه الدقائق الغالية فيسجلها في هذين البيتين وهما:
أن ينصب الرحمن أو يرتفعا ... فالجر في الرحيم قطعاً منعا
وأن يُجر فأجِز في الثاني ... ثلاثة الأوجه خذ بياني!
يأخذ الطالب هذا البيان على العين والرأس ثم يخطو خطوة فتقع عينه على العنوان الأول في الكتاب وهو (باب الإعراب) وهنا يقول له الشارح: قل باب الأعراب بالرفع أو باب الأعراب بالنصب أو باب الأعراب بالجر فلن تعدو وجه الصواب في أي حالة!! فالرفع على أن (باب) خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذا باب الأعراب، أو على أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره: باب الأعراب هذا محله، والنصب على أنه مفعول به لفعل محذوف تقديره: اقرأ باب الأعراب، وأما الجر فعلى أنه مجرور بحرف جر محذوف تقديره: أنظر في باب الأعراب!! ثم يصعد الطالب في معارج النحو على كتاب من هذا الطراز بعد كتاب، حتى يتسنم ذروته، وليس في ذهنه مذهب صحيح ولا قاعدة سليمة. وماذا تنتظر من مثل هذا الخلط غير إفساد الذوق وإضعاف السليقة، وطبع القرائح على هذا الغرار من التفكير العابث والتقدير الهزيل؟ جنى هذا النحو الفوضوي على الناشئين في معاهده فعمى عليهم وجوه الأدب، ثم فتح لهم من الجدل اللفظي والتخريج اللغوي أودية وشعابا يقصر دون غايتها الطرف. فعندهم كل صواب يمكن أن يخطَّأ، وكل خطأ يمكن أن يصوّب وكل كلام على أي صورة يجب أن يفسر أو يؤّول! أخرق القواعد، وأقلب الأوضاع، وأنطق(13/10)
اللفظ على أي حركة، واستعمله في أي معنى، فانك واجد ولا شك من هؤلاء من يلتمس لك وجها من وجوه (البسملة) السبعة، أو مخرجا من مخارج (باب الأعراب) الثلاثة!
عرفت أيام الطلب شيخا قد ابتلي بهذه الشعوذة، فحشا جسمه بهذا العبث النحوي حتى ليرشحه من جلده، ويرعفه من أنفه، ثم يتكلم فيتعمد اللحن القبيح، فإذا أنكر عليه منكر انفجر عن هذا الهوس فذكر لكل خطأ وجها، ولكل وجه علة، ثم يقول في تفيهق وزهو: (لولا الحذف والتقدير، لفهم النحو الحمير) وسمعت أن شيخا ضعيف البصر ممن يسوغ في فهمهم كل كلام، قرأ قول الرسول (ص) (المؤمن كيِّس فطِن، فصحّفها: المؤمن كيس قطن! وراح يحملها على التشبيه فيقول: معناه أن المؤمن أبيض القلب كالقطن: وزعموا أن شيخا كبيرا كان يفسر كتاب الله وهو لا يحفظه، فرأى قوله تعالى: (إذ يبايعونك تحت الشجرة) فقرأها أذئبا يعونك. . . وكتب في تعليلها وتأويلها أربع صفحات من القطع الكبير بالحرف الصغير!!. وحدثوا أن ممتحنا من هذا النمط، كتب في ورقة طالب راسب: (لا يصلح) ثم ظهر لأمر خارج عن إرادته أنه ناجح، فكتب تحت هذه الجملة: (قولي لايصلح، صوابه يصلح ولا زائدة) والأحاديث مستفيضة عمن نكبوا بهذه الدراسة دون أن يكون لهم من المنطق ضابط، ولا من الطبع دليل.
إن ما نجده في النحو العربي من التناقض والشذوذ وتعدد الأوجه وتباين المذاهب إنما هو أثر لاختلاف اللهجات في القبائل، فقد كان رواة اللغة يرودون البادية ويشافهون الأعراب، فيدونون كلمة من هنا وكلمة من هناك، فاجتمع لهم بذلك المترادفات والأضداد، وتعدد الجموع والصيغ للفظ. واختلاف المنطق في الكلمة، والنحاة مضطرون إلى أن يمطوا قواعدهم حتى تشمل هذه اللحون، وتستوعب تلك اللغات، فأغرقوا القواعد في الشواذ، وافسدوا الأحكام بالاستثناء، حتى ندر ان تستقيم لهم قعدة أو يطرد عندهم قياس. وزاد في هذه البلبلة أن أسرف أعاجم النحاة في التعليلات الفاسدة، والتقديرات الباردة، منذ نهج لهم ذلك النهج ابن أبي اسحق الحضرمي، فجعلوا النحو ضربا من الرياضة الذهنية، والقضايا الجدلية، التي لا يصلها باللغة سبب، ولا يقوم عليها فن ولا أدب. ليس من شك في أن دراسة النحو على هذا الشكل تفيد في بحث اللهجات في اللغة، ودرس القراءات في القرآن، ولكن دراسته لضبط اللغة وتقويم اللسان أمر مشكوك فيه كل الشك. نحن اليوم(13/11)
وقبل اليوم إنما نستعمل لغة واحدة، ونلهج في الفصيح لهجة واحدة، فلماذا لا نجرد من النحو القواعد الثابتة التي تحفظ هذه اللغة، وتقوم تلك اللهجة، وندع ذلك الطم والرم لمؤرخي الأدب، وفقهاء اللغة، وطلاب القديم، على أن يطبقوه على الحاضر، ولا يستعملوه في النقد. وإنما يلحقونه بتلك اللغات البائدة التي خلق لها وتأثر بها، فيكون هو وهي في ذمة التاريخ وفي خدمة التاريخ.
لقد صنعت المدارس المدنية شيئا من ذلك، فنجحت بعض النجاح في تجريد (نحو) عام يكاد يسير في وجه واحد، ولذلك لا تجد المتخرجين فيها يتقارعون في النقد بالنحو القديم، ويقصرون المناظرة على هذا الجدل العقيم. ولكن فريقا ضئيل الشأن من بقايا الثقافة القديمة في مصر والعراق، لا يزالون يظنون أنا مجبرون على إخضاع ألسنتنا وأقلامنا لتلك اللهجات البالية، فيقعد بهم تخلف الذهن وضعف الملكة وكلال الذوق، عند هذه البقايا الأثرية ينبشون عنها قبور البلى، ثم ينثرونها كالشوك في طريق الأدباء الموهوبين، ويتبجحون بان هذا اللغو هو اللغة!!
يقرؤون الكتاب القيم للعالم الباحث، أو للأديب المجدد، فيعمون عن خطر البحث في نفسه، ومجهود الباحث في بحثه، ولا يرون إلا حرفا وقع مكان حرف، أو جمعا لم يجدوه في كتب الصرف! لا نريد أن نسمي الأسماء ولا أن نضرب الأمثال، فحسب الشذوذ أن يدل على نفسه، وحسبنا أن نهيب بالعلماء والأدباء أن يشذبوا هذه الزوائد من لغتنا لتقوى، ويُنَحُّوا هذه الطفيليات عن أدبنا لينتعش.
الزيات(13/12)
رأي في أوراق الورد
للآنسة عفيفة سيد
قلنا في العدد الحادي عشر في معرض الرد على الآنسة الفاضلة عفيفة (إن في الأدب العربي الحديث طرفة من هذا النوع الذي تريدين (الرسائل الغرامية) هي آية من آيات الفن في دقة الصنعة، ولعلها لا تقل جمالا عن تماثيل (فدياس) وصور (رفائيل) ولكنها كهذه التماثيل وتلك الصور ينقصها شيء واحد هو كل شيء: ذلك هو الروح)
أردنا بتلك الطرفة أوراق الورد (وقد كتبناها سهوا رسائل الورد) للأستاذ الرافعي. ثم رجونا من الآنسة عفيفة أن تقرأها وتبدي رأيها فيها، فقرأتها ثم بعثت إلينا بهذه الرسالة.
سيدي الأستاذ:
ما كان الأمر يحتاج إلى رجاء (فرسائل الورد) أو (أوراق الورد) أسم مشوق يستميل القلب ويستهوي النفس. ومن ذا الذي لا يسرع إلى أوراق الورد لتبهج قلبه، وتزيل كربه، وتهذب إحساسه، وتغذي خياله؟
غير أني لم أكد أطالع رسالتين من رسائل الورد حتى عرفت سبب الرجاء، وقلت لعل الأمر كان يحتاج إلى ألف رجاء. إذ وجدت إن من العسير علي بل من المتعذر أن امضي في مطالعتها، وكدت أن ابعث إليك برأيي فيها مكتفية بما طالعت، غير أني وجدت من الإسراف أن احكم على الكتاب بقراءة رسالة أو رسالتين، فمضيت في المطالعة والله يعلم كم مرة انقبضت نفسي، وكم مرة اعتراني الملل، حتى زهدني في أن أدلي برأيي فيها.
ولعلك يا سيدي الأستاذ لو كنت دفعت بي إلى الوراء سبعمائة عام مضت لوجدت في (البهاء زهير) صورة صادقة لنفسي، ومرآة جلية لعواطفي وشعوري، بل لذكرني لفظه الرقيق ومعناه الدقيق رقة طبيعة مصر وعذوبتها، بل لوجدت في مقطوعاتها الحية ما يجعلني أن أتخيل إن كاتبها معاصرا لنا اكثر من كثير من معاصرينا الموجودين.
حاولت أن أقف على الفكرة التي تدور حولها (أوراق الورد) فلم أوفق، فهي رسائل مفككة لا يتصل بعضها ببعض، لا تترجم عن عواطف صحيحة ولاعن شعور صادق. يعرض علينا الكاتب عواطف مبهمة فيها تكلف وفيها صنعة، دون أن يبعث فيها شيئا من شخصيته وميوله وعواطفه. لا أثر فيها لروح الجماعة أو البيئة التي خضع لها الكاتب. هو متكلف(13/13)
متصنع، وإلا لأطلق لشعوره العنان وترك نفسه على سجيتها، فلا يتسامى عن وصف الحياة الاجتماعية، ولاعن الحوادث اليومية، مما يسميه هو حشواً، لأن المترجم الصادق هو من يعني بالصغيرة قبل الكبيرة فلا يتقيد بقيود لفظية ولا معنوية ولا يضع بيننا وبينه حجابا كثيفاً.
يسير الكاتب إلى غرضه في المعنى القليل إلى كثير من التعقيد اللفظي، ليخلق منه فلسفة، فإذا أراد أن يقول ما قاله شوقي:
لا أمس من عمر الزمان ولا غد ... جمع الزمان فكان يوم لقاك
يقول في صفحة 245:
(قد عرفنا أن لنا أعماراً محدودة، أفلا يجوز أن ساعات الهناء والسعادة إنما كانت محدودة لأنها أعمار لأعمارنا؟ فبضعة أشهر من الجفاء أو البعد يكون عمرها هو ساعة اللقاء التي تنفق بعدها، وسنة كاملة من عمل يكون عمرها يوم سرور إن كان هذا صحيحا فما أقصر عمرك يا عمري!. . .)
فها هو ذا شعر شوقي لرقة لفظه وسهولة معناه، يكاد أن يكون نثراً، أما نثر (أوراق الورد) فمحتاج إلى طول أناة لتعرف قصده وتقف على مرماه.
أنا يا سيدي الأستاذ لم أعرف السر في توجيهك نظري إلى (أوراق الورد) فإذا كان قصدك أن تدفع بالبرهان قولك: إن الفن وحده لا يوجد الشعور فهذا الكلام لا يحتاج إلى برهان، وأنا مؤمنة به كل الإيمان. وأما إذا كنت تعني جادا أن تطلعني بقراءتها على جمال في الأدب العربي الحديث، لعله لا يقل جمالا عن تماثيل (فدياس) وصور (رفائيل)، فأرجو ان يسمح لي سيدي الأستاذ ألا أشاركه هنا الرأي، فأوراق الورد لا جمال فيها إذ لا معنى لها، والمعنى مصدر الروح، وهو إن حلَّ في الشيء المادي كونه وناسب بين أجزائه، وجعلها وحدة لا تنفصم.
إذن لا جمال حيث لا روح ولا وحدة ولا تعبير والمعنى مصدرها جميعا.
أرجو أن يتفضل سيدي الأستاذ فيدلني على موضع الجمال فيما سأنقله إليه نموذجاً لما اشتمل عليه الكتاب (من رسالة في العتاب صفحة 207)
(. . . ما هذا يا سيدتي وليس خيط عمري في إبرتك. . . ولا ما يتمزق من أيامي تصلحه(13/14)
(ماكينة الخياطة) بقدرتك، وان كنت أنا أقل من (أنا)، فلست أنت بأكثر من (أنت)
(. . . فان كان قلبك يا سيدتي شيئا غير القلوب فما نحن شيئا غير الناس، وان كنت هندسة وحدها في بناء الحب، فما خلقت أعمارنا في هندستك للقياس، وهبي قلبك خلق (مربعاً) أفلا يسعنا (ضلع) من أضلاعه؟ أو مدوراً أفلا يمسكنا محيطه في نقطة من انخفاضه أو ارتفاعه؟ وهبيه (مثلثاً) فاجعلينا منه بقية في (الزاوية) أو (مستطيلاً) فدعينا نمتد معه ولو إلى ناحية. . . ما بال كتابنا يمضي سؤالاً من القلب فيبقى عندك بلا (جواب) ونبنيه نحن على حركة قلوبنا فتجعلينه أنت مبنياً على (السكون) ثم لا محل له من (الإعراب). . . الخ).
أما الصور والتماثيل التي تفوز منا بإعجاب الجمال، فيكاد أن يكون لها روح، أو لها روح بالفعل من معانيها التي حدت بعبقرية المثال أو المصور إلى تصوير الأفكار الجيّاشة بمخيلته، فهي معبرة عن الرجاء، أو الحب، أو الحكمة، أو الخوف، أو الوداعة، أو الطهارة.
وسقراط كان يقول عن خبرة انه يجب على المثال أن يصور حالة الذهن في تمثاله، وكانت تماثيل الإغريق لها أثر كبير في تقرير مزاج الأمة. هذا رأيي في (أوراق الورد) وكم أحب أن اقرأ كلمة الأستاذ الفاصلة. . .
والرسالة تترك الكلمة للأستاذ السيد مصطفى صادق الرافعي
إلى الصديق الراحل(13/15)
دُودٌ على عُود
للدكتور محمد عوض محمد
ها أنت ذا، أيها الصديق، قد استويت ومن معك على ذات ألواح ودسر. وقد أذنت ساعة الرحيل، ولم يبق بد من الفراق، فلم نجد مناصًا من النزول إلى البر، تاركيك على ظهرها، غير آسف لفراقنا، ولا مستشعر لوعة على تركنا. . . وانطلق الصفير والزئير يشقان الفضاء، فإذا السلالم قد رفعت، والأهلاب قد جذبت من قاع البحر. وإذا سفينتك آخذة في الابتعاد على مهل كأنها لا تريد أن تؤلمنا ببعدكم مرة واحدة؛ وإذا مناديلنا تخرج من جيوبنا بيضاء ناصعة، وقد حملتها الأيدي أعلاما تهزها هزاً؛ وبين الجوانح قلوب تخفق خفقان الأعلام، ولكن أعينكم لا تراها. وها أنتم أولاء وقوف بأفريز السفينة، تخفق مناديلكم بأيديكم خفقانا فاتراً، لم ينبعث من قلب حزين، ولا نفس آسفة؛ وعلى ثغوركم ابتسامة تعبت في تأويلها وتفسيرها؛ وأحسبها ابتسامة الرثاء والإشفاق: إنكم ترثون لنا، معشر المقيمين، وتنظرون إلينا كأننا من نوع آخر غريب عنكم، نوع يعيش عيشة الأشجار: تنشأ حيث تغرس، ثم تنمو عليها الغصون والأوراق، والزهر والثمر؛ وهي باقية في مكانها لا تبرح: وكلما تقدم بها العهد ازدادت تشبثا بمنبتها، وتعلقا بمغرسها، لا تعرف ما ركوب البحار، ولا لذة التنقل والأسفار. . .
أجل كنتم تنظرون إلينا نظرة إشفاق، وكأنكم بعض الآلهة تلقي نظرة من السماء على ما دونها من الكائنات. . . وفي تلك الساعة رأيت دموعا كثيرة تنهمل، ولكنه كانت تتساقط من عيون المودعين، لا الراحلين. . فيا ويل الشجى من الخلي؟ ويا ويل المجهود من المجدود!
وعجبت لك أيها الصديق، كيف ترحل عنا باسم الثغر، قرير العين مثلج الصدر. وأنت تعلم انك راحل عنا أشهرا طوال، لا ترانا فيها ولا نراك، أليس للود القديم حرمة، ولا للحب لمؤلف رعاية؟ وهذا الوطن العزيز الذي أنبتك ثراه وغذّاك هواؤه، وأظلك دوحه، وأنضجتك شمسه، مالك لا تحس لفراقه جزعا ولا أسفا؟ بل كأنك بهذا الفراق جد مغتبط، ولهذا الرحيل مشتاق متلهف! لا تحاول الإنكار! إن سرورك بهذا البعاد أكبر من أن يخفيه التكلف، وما أنت ممن يحسنون تصنع الأسف، بل إن بك شوقا شديدا بادياً لمغادرة هذه(13/16)
الديار، وكأنك لا تحيا بيننا تلك الشهور من كل عام، إلا لكي تقضي هذه الأشهر بعيداً عنا. فيا عجبا! أي شيء هذا السم الزعاف الذي يملأ هواء بلادنا، ويحملنا على أن نجد في البعد عنها، ويُنفِّر الابن البار من أمه البرّة؟ أهو هواؤها الحار، أم مجتمعها الفاتر، أم ما يحيق بها من ظلم وجحود، ومن حرج وضيق؟
لقد أخذت سفينتك تبتعد، ولم تلبث أن اختفت عن الأبصار وأضحت كأمل البائس لا تزداد على المدى إلا بعدا. وكأني بك واقفا على ظهرها، تتنفس نفسا عميقا، لكي تخرج من رئتيك ما قد ثوى فيهما من هواء؛ كأنك لا تريد أن تحتفظ حتى بهذا القدر القليل من الذكرى. . . بل تريد أن تأخذ عدتك لحياة جديدة، وأيام سعيدة. فما أخلفك إلا تبقي للشقاء الغابر في نفسك أثراً؟
لكن أمامك في السفينة أيام لا أراني غابطك عليها، بين أناس قد اتخذوا الدعة شعاراً، يصبحون كسالى، ويمسون كسالى، لا يعرفون جدّاً ولا دأبا، أقصى همهم أكلة لذيذة يصيبونها! أو رقدة طويلة يستطيبونها، وما عرفت الناس أدنى إلى الأنعام في مكان منهم على ظهر سفينة. . . قصارى جهد كل منكم أن يقتل الوقت، وأن يتخذ لذلك سبلا شتى: فمنكم العاكف على الشراب، لا يشفي غليله الإسراف فيه. ومنكم المكب على الورق يتسلى بإتلاف القليل من دراهمه أو الكثير. وبعضكم يلتمس اللهو في ألعاب تافهة، أو في تقليب صفحات كتاب هزيل. إذ لا يستطيع أن يجشم نفسه مشقة أو جهداً.
ولقد تقدم العالم في طريق المادة، وجاء الاختراع بسفن ذات قوة وجسامة، ولكن الركب ما برحوا اليوم كما كانوا في قديم الزمن: دود على عود!
أحسبك تتوهم أن سيتاح لك وأنت بالسفينة أن تلتقي بأعظم الرجال، واجمل النساء، ولست أدري على أي َعمدٍ قام في نفسك مثل هذا الرجاء؟ وهو لعمرك جدير بما يصيبه من الخيبة المرة بعد المرة. انك تظن أن العظمة والجمال في العالم من الكثرة بحيث يجوز أن يكون لكل سفينة تشق البحار نصيب منهما، وخيل اليك ان السفينة خير دار تلقاهما فيها، حيث لا مفر لهما منك. وان المجال الضيق كفيل بان يجعل الناس بعضهم مقبلا على بعض والوقت طويل مديد، لابد للناس ان يتعاونوا على قطعه بالحديث والسمر: فالفرصة أذن مؤاتية (فيما كنت تزعم) لأن تنعم نفسك بحديث العظمة ومرأى الجمال.(13/17)
وما اشد ألمك حين ترى نفسك بين أناس ككل الناس، او أتفه من كل الناس. وان المجال الضيق قد حال بينك وبين الهرب منهم. والوقت الطويل الفسيح قد حباك الفرصة اللازمة لان تعجب كيف استطاع بنو الإنسان أن يشتملوا على كل هذه التفاهة والبلاهة.
لكن، صدقني ان الذنب ذنبك أنت إذ تركت نفسك يحلق بها الأمل الكاذب. فليست ام الدنيا ولودا للعظمة والجمال بالدرجة التي صورها لك الوهم. وما جل بنيها لو فتشت الا الطغام. وليس ببدع إن خلت سفينتك مما كنت تتمناه، ثم نظرت حولك فلم تجد على ظهرها سوى دود على عود.
ولقد تشرق عليكم الشمس صبحا، وملؤها الروعة والبهاء، فتضرج وجنات المشرق بالنجيع، ثم تسكب على صفحة الماء نضاراً وسحراً، وأنتم في أسَّرتكم الضيقة القلقة راقدون، يحاول كل منكم النعاس وسط دمدمة الآلات، وصرير الأبواب والجدران؛ فلا تصيبون من النوم سوى شيء غريب، ليس بالنوم الهادئ، ولا باليقظة أو السهاد، بل هو أشبه بغفلة المخدرين، تتخللها إفاقات قصيرة المدى. . . وأخيراً تنهضون من رقادكم المضطرب، ويقبل بعضكم على بعض تتثاءبون، وتتحدثون أتفه الحديث.
وعند المساء تميل الشمس إلى الغروب، وقد أحاطت بها السحب طبقات بعضها فوق بعض، وهي تنحدر وسطها في شيء من الحيرة، كأنما تلتمس بينها طريقها إلى المغرب. تارة تحتجب وراء سحابة قاتمة حمراء، وطورا تستتر وراء أخرى استتاراً جزئياً لا يكاد يخفيها، كأنها الحسناء في الغلالة، وتارة تنحسر السحب عنها تماما فتبدو للعين كاملة، لكنها ضعيفة لا تبهر البصر، وكأن، سير النهار قد أنهك قواها وأدال منها. فبات من السهل عليك أن تقف أمامها، محدقا في محياها آمنا، وهي كلما ازدادت ميلا إلى المغيب ازدادت ضعفاً وسقما. . . لكنها استطاعت أن تملأ السماء بشعاع أحمر قاني، ونشرته أيضاً على صفحة الماء؛ وقد اختلطت هذه الألوان كأنها بعضها ببعض، فكان منها صور تعجز الوصف.
وأنت تذكر أيها الصديق، أننا قد اتفقنا (وقلما نتفق) على ان هذا المنظر: الشمس الغاربة وسط السحاب المنشور، فوق صفحات اليم، هو أبدع شيء في الطبيعة كلها! وما أخالك الا آلماً اشد الألم، حين تنظر إلى من معك من أهل السفينة، تحاول ان تتحدث إليهم بما يبعثه(13/18)
هذا المنظر في نفسك من إحساس وإجلال. . . وفي تلك اللحظة يُؤذن مُؤذن العِشاء، فإذا هم يغادرونك في شعرك وسحرك، ويتسللون إلى حجرة الطعام، راغبين عن لذة لا يعقلونها إلى لذة يفهمونها ويستمرئونها. . . وإن الصخور الصماء لتحس من معانِ ذلك الغروب البديع أكثر مما تحسه أفئدة أصحابك هؤلاء وما هم لعمرك، سوى: دود على عود.
ولقد يكون البحر لكم أول الأمر صديقاً، وبكم رفيقا. ولكنه بعد ذلك قد ضاق بكم ذرعا، فأراد ان يريكم انه مثلكم يا بني آدم، ليس ذا وجه واحد. بل إن له أوجها كثيرة، وقد أراكم من قبل صفحة فيروزية زرقاء، ووجها هادئا، أملس ناعما. كأنه سهل فسيح من مرمر أزرق. وكانت جاريتكم تجري عليه في اعتدال واتزان، لا تهتز ولا تميل وكلكم فرح بذلك مسرور. تحسبون أن الوقت قد طاب وأنكم بنجوة من العذاب. ثم رأى البحر أن يريكم وجهاً من أوجهه الأخرى. فعبس وتجهم، وثار ومار، وتطاير من وجهه الشرار. وانقلب صفاؤه إلى كدر، وهدوءه إلى انفعال، وحلمه إلى مكان، ورزانته إلى رعونة، وعلا موجه من كل جانب، ووثب رذاذه على باخرتكم، ودخل إلى نوافذ حجراتكم، وجعلت السفينة تتمايل من اليمين إلى اليسار، ثم من اليسار إلى اليمين ومن الخلف إلى الامام، ثم من الأمام إلى الخلف، سكرى من غير سكر، صرعى من غير صرع.
ولم تك الا لحظة حتى انقلب اطمئنانكم إلى اضطراب، وامتلأت نفوسكم جزعا وقلوبكم هلعا. وانصرفتم عن الطعام والشراب، وعن اللعب والحديث واستحالت رؤوسكم إلى قطعة من صداع واوجاع، وضعفت أرجلكم عن حمل أجسامكم، فارتميتم على سرركم، وأسلمتم أمركم إلى بارئكم.
فيا عجبا! لقد أمعن الإنسان في الإبداع والاختراع، واستحدث كل هذه السفن الهائلة ذات السرعة والفخامة. . . ثم لا يزال ركبها اليوم كما كانوا في عهد عمرو وعمر: دود على عود
تلك أيامكم على ظهرها أيها الصديق. وإني لأرجو لك بعدها سفراً هينا ورحلة ميمونة، وما أجدرك الا تجعلها كلها عبثا ولعبا.(13/19)
توفيق الحكيم
للدكتور حلمي بهجت بدوي
لشبابنا المثقف شكوى تواضَعَ على صيغتها على اختلاف ألوان ثقافته،
وتلك الشكوى هي نقص الغذاء الفكري في الحياة المصرية. وقد كان
لتبين وجه هذا النقص آثار بغيضة، فهو أولا منتشر في النفس في
مزيج من السأم والتشاؤم، وهو على أي حال باعث في العزيمة خوراً
وفي الهمة فتورا، وهو بعد ذلك (وهنا وجه السوء) دافع إلى المغالاة
في التقدير. إذ كثيرا ما يصيب الصيغة الصحيحة هوى من النفس
فتظل في عرف الناس صادقة على مدى الزمن وإن تساقط بعد ذلك
وجه الصواب فيها. وكان من أثر هذا النقص أن نظر الشباب إلى
الجانب الفكري من الحياة المصرية فتخيله مستنقعا آسنا، فانصرف
عنه أما إلى الحياة المادية وما فيها من لهو وعبث، واما إلى مصدر
ثقافته مستعينا بالكتب والمجلات الأجنبية.
فلم يكن غريباً بعد ذلك انه كلما بدا وميض من النور في حياتنا الفكرية لم يلق الا أعينا مغمضة، وإذا أينع زهر صغير صادف بردا فذبل والتوى.
أزمة الغذاء الفكري شر أذن، انما شر منها روح التشاؤم الذي فشا في هذا الشباب المثقف، وكلمة السر التي جرت على الألسنة في سهولة عجيبة من انه لا سبيل إلى تلمس هذا النوع من الغذاء في الإنتاج المصري والتي تنتهي إلى قتل العناصر السليمة التي قد تنهض لتغذية حياتنا الفكرية.
وإذا أنا ذكرت الإنتاج المصري فاني أرسل هذه الكلمة على معنى خاص. فأنا استبعد الترجمة لأنها ليست الا وسيلة لتغذية من كانت ثقافتهم عربية محضة، او لتهيئة الاتصال بين ثقافتين مختلفتين. وأنا استبعد كذلك النقد لكي استبقي بعد ذلك صورة واحدة , هي الخلق(13/20)
وإذا أنا استبعدت النقد فليس ذلك لأنني أخرجه عن معنى الإنتاج، أو لأنني أتمثله ضعيف الشأن في تمويننا بالغذاء الفكري وانما استبعده لأنه مرهون بالخلق ومن أجل ذلك كان النقد الذي أينعت أثماره في مصر هو ذلك النقد للإنتاج الأوروبي وللإنتاج العربي القديم. أو ذلك النوع من النظرات العامة التي تتلمس أوجه النقص والكمال فيما لدينا من إنتاج لترسم صورته الحقيقية جميلة كانت أو قبيحة.
وقد ظهر أخيراً كتاب أهل الكهف لتوفيق الحكيم وهو من نوع الإنتاج الذي أقصده. ولا أذكر كتاباً قابله النقد في مصر بعناية وتقدير بمثل ما قوبل به هذا الكتاب ولست أتعرض هنا لنقده بعد أن وفاه حقه الدكتور طه حسين والأساتذة مصطفى عبد الرزاق والمازني وهيكل بك ومحمد علي حماد وغيرهم من فضلاء الكتاب.
ذلك أن مؤلف أهل الكهف صديقي ربما كان تقدمي لنقد كتابه (والأمر كذلك) مثيراً لريبة مشروعة. وهل هناك من شك في إنني سوف أحيط كتابتي بإطار من العطف الذي تبرره شريعة الصداقة، أو ليست الصداقة في بعض وجوهها نوعا من التعاون الخالص وضرباً من التنابذ في سبيل النجاح!
وإنما حلا لي أن اكتب عن تاريخ حياة هذا الكتاب. وقد قدرت في تلك الصداقة التي كانت تلقي الريبة على نقده تزكية لا غبار عليها للكتابة عن تاريخ حياته، وما تاريخ حياته الا وجه من تاريخ حياة مؤلفه وقطعة من شخصيته لعلي أجدر الناس بالكتابة عنهما.
منذ عشر سنوات خلت كان توفيق الحكيم طالبا في مدرسة الحقوق ومؤلفا مسرحياً ملحقاً بمسرح حديقة الازبكية، وقد تقدم إلى هذا المسرح في روايات عدة بعضها مؤلف وبعضها مقتبس عن المؤلفات الأوروبية. وقد قرأت هذه الروايات في ذلك الوقت وكنت عندئذ هاويا لكل ما يتعلق بالمسرح. وكان من بين هذه الروايات رواية مؤلفة عنوانها (المرأة الجديدة) وموضوعها مشكلة المرأة في الجيل الحالي وقد لاقت هذه الرواية من النجاح ما لاقت، وقد يكون دون ما تستحق وقد لا يكون، وقد لا يزال توفيق الحكيم ينظر إلى رواياته الأولى بعين لا تخلو من الحنو والعطف وقد يكون هذا الشعور مفهوما من جانبه، أو ليست أعمال الشخص كأطفاله إذا حظى السليم منها بالحب أختص العاطل منها بالعطف والحنان!
وكنت انظر حينئذ إلى توفيق الحكيم بعين الأمل، ذلك إنني كنت أراه منصرفا إلى فنه تمام(13/21)
الانصراف، في إخلاص وإيمان، شاعراً بأن هذا الفن يجري في دمه، وهو لم يشعر بذلك شابا فقط. وانما هو هم احتواه صبيا فمراهقا. فهو لا يعيش الا من اجله، ولا يفكر الا فيه. وإذا اطمأن اليك مرة فحدثك عنه أدهشك ذلك الحماس الذي ينبعث منه، وتلك النشوة التي يغرق فيها إلى آذانه فتأخذ بلبك وبلبه.
من أجل ذلك كنت أنظر إليه بعين الأمل، ولكن لم يكن أملي فيه محددا بل كان أملاً غامضاً لعل مصدره ما في الشباب من صحة وثورة وتفاؤل، وعلى أي حال لم أكن آمل في نجاحه الا من ناحية الكتابة الفكهة، وقد بعث هذا في نفسي روايته (المرأة الجديدة)، إذ كتبها وهو يقصد عين الجد فإذا به أصاب دعابة لذيذة، وكنت المح في دعابته نوعا من العمق لم اكن متيقنا منه، وانما كنت أحس به وأنا بين المصدق والمكذب.
إلى أن سافرنا منذ ثماني سنوات إلى باريس بعد انتهاءنا من دراسة الليسانس، وكان المقصود من سفرنا دراسة دكتوراه الحقوق وبهرنا عند وصولنا ازدهار الفن والأدب في باريس، وظهر لنا جليا ناطقا محددا ذلك الجانب الروحي والفكري من الحياة الذي حرمنا من نعيمه في مصر، كيف أينعت أزهاره في هذا البلد، كيف كان داني القطوف، عجيب الألوان، شهي الرائحة. ويدرك من يتذوق هذا الجانب من الحياة كيف يحلو الري بعد هذا الظمأ والامتلاء بد طول الطوى. فهل كان من المعقول أن يعيش توفيق الحكيم في باريس وهي مهبط الفن والأدب وأن يمر بهذا الفن والأدب وفي دمه ذلك الحماس، وفي روحه ذلك الخلوص والانصراف فلا ينهل من الفن والأدب الا بقدر ما ينهل الناس لمجرد الغذاء الفكري؟ ما مضت بضعة أشهر على إقامتنا في باريس حتى بدأت انظر إليه بعين ملؤها الاحترام. . . الاحترام الغامض أيضاً.
ذلك أني رأيته وقد انصرف عن اللهو وعما يحصل كل شاب من باريس عادة، عن باريس اللاهية، عن باريس الضاحكة
الماجنة؛ انصرف عن كل هذا بنفس آمنة مطمئنة. وإذا به وأحياء باريس عشرون حياً يبدأ أولها في مركز المدينة وينتهي آخرها بأطرافها يسكن الحي العشرين، وما أظن مصريا قد هبطت قدمه إلى هذا الحي غير توفيق، ومن كان يفكر في زيارته من أصدقائه.
قرأ كتاب تين عن فلسفة الفن فانبثق له من هذا الكتاب قبس من نور فتعلق به وقد شعر(13/22)
انه باستهوائه إياه لابد واصل إلى استكمال تثقيفه، وإلى إدراك مكنونات الفن أسراره ومنعطفاته. وانكب على دراسته انكبابا. والكتاب يتحدث عن فن التصوير والنحت أكثر مما يتحدث عن غيرهما، فهو ذاهب إذن لزيارة متحف اللوفر في زيارات دورية، وقد اصبح له هذا المتحف بمثابة الجامعة للطالب. وهو مصطحب هذا الكتاب كصديق مرشد. وهو متثبت من مطابقة التدليل البديع الذي يجري به قلم متين عن كيفية نشوء فن ما، في بيئة ما، على تلك المجموعة التي لا تقًّدر من كنوز الصور في متحف اللوفر. وهو قد قرأ الكتاب واستوعبه استيعابا وهضمه هضما، ثم شاهد كيف استخلص تين حياة هذه القطع الفنية من جنس الفنان والوسط الذي أحاط به والوقت الذي ظهرت فيه.
ولكن أنّى له ان يفهم فن التصوير فهما واعيا، وثقافتنا المصرية في هذا الشأن معروفة! ان كتاب تين ليس الا خلاصة محاضرات كان يلقيها على طلبة مدرسة الفنون الجميلة في باريس فهو يتقدم به إلى أناس على قدر متقدم من الثقافة الفنية، وقد شعر توفيق بعد قراءته للكتاب بالنور يبهره، فأدرك أن هناك جمالا لم يكن يحس بوجوده قبل ذلك وعالما آخر تراءى له ولكن في إطار من السحب والغيوم، وأحس في الوقت نفسه انه لم يدرك كنه هذا الجمال بعد ولم يدخل هذا العالم الجديد.
وكان أن عرضت له فرصة يتعجل بها سد هذا النقص الذي كان يقض مضجعه، فلم يتردد في التعلق بأهدابها، فهو قد تعرف في ذات يوم إلى شاعر فرنسي أخنى عليه الفن والأدب، ولعله البقية الباقية من جماعة من مذاهب الشعر، فرأى فيه توفيق رجلا مثقفا ثقافة واسعة، ذا مكانة في لأدب والشعر وإن جار الزمان عليه وعلى مذهبه. فجعل يمد هذا الشاعر البائس بإعانة مالية نظير استعانته به في فهم أسرار اللوفر ومتحف رودان والمكتبة الأهلية. ثم انكب على القراءة انكبابا، ولكن الإنتاج الأوروبي هائل فيه الغث وفيه السمين، وإلى جانب الإنتاج الحديث يوجد الكلاسيك وهو لا يقل هولاً، والوقت من ذهب، لابد أذن من ان يختار ما يقرأه من بين هذا كله، وهو شاعر بالمراحل الواسعة التي لابد له من قطعها ليستعيض عما ضيعه من أيام شبابه في قراءات كان يتخبط فيها دون هدى او مرشد، وهو يستعين أذن بصاحبه الفرنسي في هذا الاختيار، وهو يستمع إليه في دروس خاصة منظمة، جعل صاحبه يعايرها له كما يعاير الدواء للمريض، وإذا به الآن قوي البنية(13/23)
بعد هذا الهزال الطويل، عبل الذراعين بعد هذا الضعف والتهالك.
وهو لا يكتفي بعد ذلك بالتهام الكتب واستيعابها، وانما هو يجعل من قراءاته أداة للتأمل والتفكير. فهو يركن إلى الوحدة في غالب أيامه يهضم فيها ما قرأ، وهو يجلس في قهوة نائية وقد فتح امامه كتابا ذراً للرماد في العيون، ثم يظل يسبح في بحر خياله وهو مغتبط بهذه الوحدة كبير بها، وكأنه قد أدرك قول ابسن: (ان الرجل الوحيد المنفرد هو الرجل القوي).
وكنت دائماً أتلقى ثمرة ذلك التأمل الطويل، فهو يغيب عني أسبوعين او ثلاثة ثم يزورني فاجلس إليه ساعات متوالية لا ينقطع فيها حديثه، وهو دون شك قد اختار موضوع هذا الحديث قبل حضوره. ودون شك كان هذا الموضوع شاغله الوحيد في هذه الأسابيع الماضية، وإذا بي أمام محاضرة طويلة عريضة. . . متشعبة، ولكنها مبوبة تبويبا كاملا، مرتبة ترتيبا بديعا. وإذا لها خاتمة تلم بأغراضه، وإذا بي غارق في نشوة صافية، وإذا أنا أفكر في هذا الموضوع وذاك الحديث، لا في اثناء إنصاتي إليه فقط بل بعد انصرافه عني أيضاً.
أنصرف في حين ما إلى قراءة ما كتب عن قدماء المصريين وعن روحهم العميق، وإذا هو شاعر بمصريته العريقة كيف هي تتمشى في دمه، وإذا هو محدثك عن هذا الروح في فخر وإدراك لا في مجرد زهو ونعرة، وإذا أنت يبهرك هذا الإفضاء ويتملكك نوع من الحماس، وتتكشف لديك آفاق جديدة، وتتحلل في ذهنك ألغاز كنت تحار في تعليلها أو كنت تعللها تعليلا غامضا، وإذا الأمل الذي كان يدب في نفسك دبيبا مبهما في مستقبل مصر وفي روح مصر قد تحدد لديك تحديدا كاملا لأنك تشاهد النور بعد أن حجبه عنك ستار، وتلمس الحقيقة بعد أن كانت وراء حجاب، وتشعر بما في روح مصر من عبقرية خاصة بعد أن أدركت أسبابها فلم يصعب بعد ذلك أن تأمل فيما تؤدي إليه من ثمرات.
وهو لم ينس المسرح (فنه العزيز عليه) في وسط هذا كله، فهو يشاهد التمثيل من الكوميدي إلى الأوديون إلى مسارح البولفار إلى مسارح لا يدركه ملل ولا سأم وهو لا يذهب لمجرد اللذة الفكرية، بل أيضاً للدرس والوعي. وهل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك وتلك النار المقدسة تنفخ في صدره وتوطد من عزمه لا تدركها هوادة ولا خمود!(13/24)
ويدهشك بعد هذا انه في يوم ما منصرف عن هذا كله، عن قراءاته وعن مسارحه، عن اللوفر ورودان وبقية المتاحف وإذا به يشغله شيء واحد: الموسيقى، ماذا؟ توفيق الحكيم الذي كان يكاد يشترك في تلحين رواياته الموسيقية في مصر، توفيق الحكيم الذي كان مولها بالموسيقى الشرقية غارقا وراء أسرارها يستمع الآن إلى الموسيقى الغربية؟
لقد أدرك معنى، انها إحدى الفنون السبعة فهو الآن منكب على دراستها انكباباً، ولا بأس أن يستعين بأصدقائه الفرنسيين على فهمها، وهو منصرف إلى الأوبرا والأوبرا كوميك وإلى صالات الموسيقى السمفونية، ولا بأس من أن يذهب إلى الأوبرا ولو لم يقتدر الا على أعلى التياترو، ولا بأس من أن يتسلل بلباسه الغريب المتواضع على درج أوبرا باريس الفخمة، ومن بين أزياء المساء الفاخرة ولآلئ الجواهر الثمينة!.
وإذا به يتدرج كالطالب في المدرسة فهو معجب أولاً بسان ساينس وببيزيه وموسيقاهما ذات النغم الشرقي، ثم هو منتقل بعد ذلك إلى الإعجاب ببتهوفن وموسيقاه الرومأنتيكية وهو بعد ذلك مشيد بذكر فاجنر وموسيقاه القوية، وهو أخيراً يستمع إلى موسيقى استرافنسكي وغيره من المحدثين.
سأله أخيراً المكاتب الفني لإحدى الجرائد المصرية عما أوحى إليه بأهل الكهف فكاد ينطلق لسانه بأسم بيتهوفن، وقد قص علي هذه الحادثة فلم أملك نفسي من الابتسام.
ولماذا لم ينطلق لسانك؟
فكان رده الذي كنت أتوقعه والذي من أجله ابتسمت:
- يضحكون مني!
وهو في وسط هذا التموين الهائل الذي كان يمون نفسه به اخذ (ومن ساعة متقدمة) يحاول الإنتاج، فجعل يزاول الكتابة بالفرنسية، فكتب قطعا من الحوار وجعل يعرضها على بعض أصدقائه الفرنسيين، ولم يثن عزمه عن الكتابة إلمامه الابتدائي بالفرنسية، فهو مثابر مجد على رغم ذلك، وهو في النهاية قد عثر على صيغته، وإذا بأصدقائه الفرنسيين يشهدون له بانه في توجيه الحوار واسع الحيلة، وإذا بعضهم يذكر عند قراءته لتوفيق بورثوريس الكاتب الفرنسي الشهير وحواره المقتضب المتماسك.
وكنت أراقب هذا النماء عن قرب مغتبطا به، سعيداً بمشاهدتي هذه الثمرة كيف غرست، ثم(13/25)
كيف نمت، ثم كيف ترعرعت وأينعت، ولم ينشأ شعوري بهذه السعادة عندما نشر كتاب أهل الكهف، وعندما استقبله النقد هذا الاستقبال العظيم، وانما هو قد نشأ من زمن بعيد! عندما قرأت (أهل الكهف) مخطوطة من ثلاث سنوات قبل أن تتخاطفها أيدي المدرسة الحديثة، بل عندما قرأت (شهرزاد) مخطوطة منذ أربع سنوات لما أرسلها إلي توفيق في باريس بعد عودته إلى مصر ولما حملتها راكضا إلى الدكتور ماردروس (وهو أديب فرنسي ترجم ألف ليلة وليلة إلى اللغة الفرنسية وزوج مدام لوس دلارو ماردروس الكاتبة الفرنسية المعروفة) ليقرأها وليرى من أي زاوية نظر مؤلف مصري إلى قصص الف ليلة وليلة.
بل شعرت بذلك منذ خمس سنوات عندما كنت أقرأ أولاً بأول الصفحات الاولى من رواية (عودة الروح) عندما كان مؤلفها يحاول ترجمتها إلى اللغة الفرنسية.
عند ذلك كله تحدد أملي فيه بعد ان كان غامضا، وتبدد ذلك التشاؤم الذي كنت أنظر به إلى جونا الفكري، وأدركت ان لدينا مؤلفا نفاخر به المؤلفين الأوروبيين نقرأه في لذة وإعجاب، إعجاب بهذا المنظار الخاص الذي ينظر به إلى الأشخاص والأشياء والحوادث فيكتشف فيها نواحي فذة.
نعم فقد تمر أمامنا الحادثة لا نفكر في أن نعلق عليها اهمية خاصة: ولكنها تستوقفه فيناقشك فيها. ويبدأ يصور لك فيها تصويرا غريبا، فإذا هي امتدت، وإذا هي ذات جسم وكيان، وإذا بها نواح من الأهمية بمكان، وإذا أنت دهش بعد ذلك كيف مرت عليك ولم تلحظ فيها كل ذلك.
كنت أتحدث مرة إلى أحد أصدقائنا عن روايات توفيق الحكيم وتسلسل الحديث إلى أن ذكرت لمحدثيه أن توفيقا قد كتب رواية اسمها (الخروج من الجنة)، فكان رده عليّ:
وطبعا شخصيات الرواية ثلاث: آدم وحواء وإبليس! فلم أتمالك من الابتسام، ذلك ان عنوان الرواية ليس الا رمزا وان اشخاص الرواية عصريون فليسوا آدم وحواء وانما هم محمود وإقبال وغيرهما من أبناء آدم وحواء.
وقد ابتسمت لقول صاحبي لأنه لفظه في اطمئنان عجيب، وسر اطمئنانه انه قد قرأ (أهل الكهف) ورأى كيف استخلص مؤلفها تلك القطعة الفلسفية من القصة التي لا يجهلها مصري(13/26)
وقرأ (شهرزاد) فرأى ثمرة التأمل الذي أوحت به قراءة الف ليلة وليلة إلى صديقنا توفيق، فإذا هو كتب رواية بعنوان (الخروج من الجنة) فهو لا شك قد عالج خروج آدم وحواء لأن هذه الحادثة قد استوقفته، ولابد انه قد نظر إليها من زاويته الخاصة فصبّها رواية مسرحية!
خرج صاحبنا من مجرد عنوان الرواية ومن ان مؤلفها توفيق الحكيم بهذه النتيجة التي يراها طبيعية، وهو حريص على ان يكون استنباطه بتلك النتيجة من تلقاء نفسه، فهو لا يسأل عن أشخاص الرواية وانما هو يبادر بذكرهم من تلقاء نفسه شأن من فهم روح مؤلف أهل الكهف!.
بهذه الموهبة الفذة وبهذه الثقافة الشاملة وهذا المجهود الجبار يتميز توفيق الحكيم، وهو قد أدرك أن الأدب ليس مجرد سليقة نطلقها فتنطلق، أو إلهاما يوحى إلينا به فنرسله على طبيعته، وانما هو إلى جانب ذلك وقبل ذلك علم ودراسة لابد فيهما من المثابرة على القراءة، والانكباب على المذاكرة والإلمام بجميع نواحي الفنون، والتأمل في كل ما نقرأ ونشاهد. وكتاب أهل الكهف الذي لاقى ما لاقاه من نجاح لدى النقد في مصر، والذي لا أشك في انه سوف يستقبل استقبالا عظيما لدى النقاد الأوروبيين إذا ما ترجم إليهم، هذا الكتاب إذن لم يكن ثمرة مصادفة، لم يكن زهرة صغيرة أينعت في المستنقع المصري وانما هو دوحة هائلة غرسها غارس ثم تعهدها بالصيانة والتهذيب.
وبعد، فاني أدرك ان مقالي هذا قد يرسم على الشفاه ابتسامة ذات مغزى!! (هو صديق يقوم بالدعاية لصديقه)
ولأمر ما، يهمني ان ارفع هذا الخطأ المحتمل، فان مؤلف (أهل الكهف) وكتابه ليسا في حاجة إلى دعاية بعد أن اجمع النقاد على تقدير الكتاب.
وانما حاولت أن أرسم صورة لتاريخ حياة الكتاب بان قدمت صورة من تاريخ حياة مؤلفه، اظهر بها جانباً هيأت لي الصداقة التي تجمعني ومؤلف هذا الكتاب أن ألم به، فأثرت أن يطلع قرّاء الكتاب على هذا الجانب.
وربما كان لي غرض آخر من هذا المقال: هو أن يدرك شبابنا المتأدبون ان فن الأدب لا يكتفي فيه بالموهبة، او بالاعتقاد في تلك الموهبة، ثم ارسال القلم في كتابات لا تقدمنا خطوة واحدة وانما هو إلى ذلك اطلاع وتأمل، لا في الشعر والنثر بأنواعه فقط بل كذلك(13/27)
في النحت والتصوير والموسيقى، ولا في الإنتاج العربي وحده، بل كذلك في الإنتاج الأوروبي، ولست أحاول ان ارسم بهذا خطة، فالخطة مرسومة مقدما، بل هي بديهية من البديهيات وانما قصدت لفت النظر.
فإذا أتى اليوم الذي نرى فيه شبابنا المشتغلين في الأدب قد أدركوا هذه الحقيقة كنا سعداء: توفيق الحكيم، وكاتب هذه السطور، وكل من يجري في دمه الإخلاص لهذا البلد المنكود بكل ما تحتويه كلمة الإخلاص من معنى.(13/28)
عمالقة الأشجار
للدكتور محمد بهجت. خريج جامعة كاليفورنيا
(2)
حرج ماريبوزا
يقع في قمة جبال السييرا على ارتفاع ستة آلاف قدم. سمي كذلك لوجوده بمقاطعة بهذا الاسم. (وماري بوزا) كلمة إسبانية معناها (أبو دقيق) وكان أول من لمح رؤوسأشجاره عن بعد رجلا يسمى (أوج) في سنة 1855 ولكن رجلا آخر يسمى (جالن كلارك) اكتشفه عام 1857 وإليه يرجع الفضل في ذلك. يصل إليه الزائر من طريق ضيقة لا تتسع لأكثر من عربة، شديدة الانحدار والتعاريج تمر وسط غابات كثيفة مكتظة بأنواع الصنوبر التي تعطر الجو دواما. وغالباً ما تكون حافة الطريق هي حافة هوة بعيدة القرار يغطى منحدرها آلاف الأشجار. وكثيراً ما يصادف الإنسان قطيعا من الغزلان يعترض الطريق ترنو إليه بأعين سوداء كبيرة هادئة ثم لا تلبث ان ترتاع وتقفز في رشاقة نادرة وتختفي في ظلمات الغاب. ومن وقت إلى آخر تخترق الأذن نغمة لطير جميل الريش يتفيأ ظلال الأغصان. أو يقفز أمامك سنجاب صغير يقف على خلفيتيه ويرفع ذيله الطويل على ظهره حتى يكاد يلامس مؤخر رأسه، ينظر اليك لحظة ثم ينقلب راجعا في سرعة البرق. وأحيانا يصادفك دب أسود الفرو لامعة ينظر اليك متكاسلا ثم يدير رأسه إلى الناحية الاخرى متباعدا عنك غير عابئ بك.
وأخيراً تنتهي الطريق إلى الحرج الذي لا تتجاوز مساحته ميلين مربعين. وهناك يشعر الزائر انه دخل في معبد فسيح معطر الأرجاء ذي عمد هائلة، لا تستطيع الشمس أن ترسل الكثير من أشعتها إلى أرضه لكثافة رؤوس الأشجار، فالظل لذلك وارف ظليل والهواء بارد عليل، واما الصمت فرهيب شامل وما هي الا برهة حتى تملك الإنسان خشية ورهبة فيصمت هو الآخر ويتأمل! أشجار باسقة تحلق رؤوس بعضها في الجو إلى ارتفاع مائة وعشرة من الأمتار. ويبلغ قطر البعض الاخر عشرة أمتار!! يرفع الإنسان رأسه ليدرك سمو هذه المخلوقات النبيلة ولكنه لا يلبث أن يطأطئه في خشوع وذهوليميد بالحيرة ويضج بالأسئلة. ترى كم من السنين قامت هذه العمد النباتية في مكانها لا تبرحه، تحمل الثلوج(13/29)
شتاء على اذرعها الضخمة المنبسطة وتحتمل الزمهرير ولطمات البروق وجلجلة الرعود وهطول الأمطار وتدفق السيول؟ يقول بعضهم ثمانية آلاف سنة ويقول بعضهم أربعة آلاف!! ومهما يكن التقدير فإنها ولا شك أسنّّ المخلوقات الحية وأعظمها. كيف لا والشجرة (الصغيرة) التي تجاوزت الخمسمائة ربيع لا تزال في ميعة الصبا وأما التي سلخت من الزمن الفي سنة فلا تزال في سن الكهولة!! إذا نظر الإنسان إلى شيخ قارب المائة أو جاوزها شعر بوقار السن وجلاله، وخشع لتلك المسحة الهادئة الحزينة التي تطبعها عليه يد الهرم. فما بالك إذا نظر إلى مخلوق عمره ستة قرون؟ ومع هذا فلا ترى ضعفا ولا تقوساً ولا تهدما بل ترى شموخا وقوة وعظمة. ترى اصلها كأنه أبو الهول ناشبا أظفاره الضخمة في جانب فريسة هائلة، ترى التمكن والرسوخ. نعم ان عليها روح الكآبة والحزن ولكنها كالجبار المكتئب يرفع رأسه إلى السماء في جمال وروعة غير عابئ بما في جنبه من طعنات أو في نفسه من وخزات. وحقيقة ترى بعضها محترق الجانب او القلب غير انها لا زالت حية باسقة تهزأ بكوارث الطبيعة وهوجها، تطالع فيها رمز الصبر والاحتمال والخلود، ثم انها كتاب تاريخي ضخم استوعب الكثير من تاريخ القرون ولكن كيف السبيل إلى حل رموزه وطلاسمه؟ هيهات! تقف صامتة، تنظر مبتسمة ساخرة، ولكنها لا تبوح بمكنون فؤادها فكأنها حفيظة لسر الدهر.
ولكل من هذه العمالقة اسم معروف يعرف به، فهذه شجرة مارك تواين تخلد اسم الكاتب المشهور وهي أطولأشجار العالم اذ يبلغ ارتفاعها 331 قدما، وهذه شجرة جالن كلارك مكتشف الحرج وهذه شجرة واشنجطن، وهذه شجرة غروب الشمس وهي آخرة الأشجار التي تغيب عنها أشعة الشمس. وتلك شجرة الإسطبل التي تؤوي خمسة عشر حصاناً جذعها الأجوف، وتلك شجرة المنظار التي احترق من جوفها ما طوله خمسون قدما فأصبحت كالمنظار ترى من داخلها السماء. ثم تلك شجرة (واوونا) - تلك الشجرة العجيبة التي شق في أحشائها طريق في سنة 1880 ارتفاعه ثماني أقدام وعرضه احدى عشرة تمر منه عربات الزوار الذين يحجون إليها من أنحاء المعمورة. ومع هذا لا تزال حية تضحك من أقزام الإنسان الذي أعمل فيها قواطعه ومناشيره وأجرى عليها هذه العملية الجراحية القاسية من غير ما مسكن أو مخدر!!. . . وترى وسط الحرج (العملاق الرمادي)(13/30)
وهو من أضخم ما على البسيطة من أشجار ومن أطولها عمراً. يبلغ ارتفاعها 204 ومحيطها 104 أقدام، رأسها غير كامل لأنه محترق، ويظهر أن صاعقة انقضت عليه فأطارته. يبلغ سمك قشرتها الذي يكسو خشبها نحو 75 سنتيمترا، والعادة أن يكون لونه لون القرفة، اما في هذه الشجرة المعمرة فاللون رمادي يشهد بمعاركة الرياح والأمطار والشمس وعناصر الطبيعة الأخرى القاسية قرونا طويلة، واقفة كأنها تصارع الزمن بسيف متكسر فهي كالبطل المنهوك المثخن بالجراح تغيب بين أضلاعه النصال والسهام. فمن ذا الذي يرى هذا المخلوق النبيل ولا يحني رأسه في خشوع وإعظام وإكبار؟ من ذا الذي لا يقف بأصلها ضارعا بعد أن يشعر بعظمة الخالق والمخلوق؟ وسأحاول تصوير ضخامتها بما يلي من الأمثلة:
1 - إذا وقف عشرون رجلا في حلقة مقفلة حول أصلها بحيث تتلامس أطارف أصابعهم مع امتداد أذرعتهم فانهم يستطيعون تطويقها تماما.
2 - إذا شق في أصلها طريق يمكن أن تمر منها مركبتان من مركبات الترام جنبا إلى جنب.
3 - إذا أمكن ان تقور قاعدتها بحيث تشبه الغرفة استطاع اربعة عشر شخصا أن يجلسوا على مقاعد حول مائدة مستديرة في وسطها من غير ما تزاحم.
4 - إذا قطع ونشر خشبها أنتجت ما يربو على نصف مليون قدم من الخشب.
وبجانب آخر من الغاب يرى عملاق هائل صريعا ممددا يسمونه (الملك الساقط) دون عظمته وضخامته عمد قدماء المصريين الصوانية المتساقطة في المعابد. مؤثرة والله رؤية ذلك الطود الأشم بل ذلك الملك منزوع التاج منطرحاً على الأرض جسماً بلا روح (ذلك الطود الذي عاصر الأهرام حيا وها هو ذا لا يزال يسابقها في حلبة العمر إذ يأبى خشبه الاستسلام للعفن وللاضمحلال والفناء مع أن جنبه يلامس الأرض منذ مائتي عام!! وقد صورت أكثر من مرة وعليها عربة بستة أحصنة وعدة سيارات وجمع غفير من الرجال.
ولعل اهم ما يتساءل عنه الزائر المتحير هو كيفية تكأثر هذه الأشجار وحفظ نوعها. وربما تأخذه الدهشة إذا علم انها تتكاثر من بذرة في حجم الخردلة!! وتوجد هذه البذرة مع غيرها في مخروط صغير لا يزيد حجمه على حجم البيضة الكبيرة. وقد يحتوي المخروط على(13/31)
ثلاثمائة بذرة. وتنتج الشجرة عددا هائلا من هذه المخاريط ولكن ما ينبت من بذورها قليل جداً.
وقبيل الغروب عندما يتأهب الزائر لمغادرة ذلك المكان الساحر يرى ضربا آخر من الجمال إذ تنفذ أشعة الشمس في حزم عريضة تشق ظلام الغاب إلى سوق تلك الأشجار فتضيء جوانبها المغضنة بفيض من النور البديع يشف عن لون محمر يزري بأجمل ألوان رخام إيطاليا المصقول. اما الجوانب المقابلة فتكون معتمة مصبوغة بلون بنفسجي شفاف. . . بعدذلك ترى نفسك مضطراً إلى مغادرة المكان اذ يهجم الظلام سريعا. فإذا ما خرجت من الحرج إلى الطريق استطعت ان ترفع صوتك بالحديث بعد أن كنت تهمس، ثم تؤخذ بجمال الجبال عند الغروب. عجبا!! كيف يمكن ان تصطبغ رؤوس تلك الجبال ومنحدراتها وأشجارها بهذا اللون البنفسجي البديع الذي لم يستطع العلم تقليده إلى الان؟. . . وان استطاع فاي جن يمكنهم ان يصبغوا به مثل تلك السطوح الهائلة في ذلك الوقت القصير؟!! ثم بعد ذلك أيضاً تنطبع صور تلك الأشجار العجيبة في ذاكرتك إلى مدى العمر، وتقف فيها، بارزة قوية بحيث تراها وتحسها وتحن إليها وأنت في أي ركن من اركان العالم.(13/32)
العبقرية علم وأدب وفن
للأستاذ الحوماني. أديب جبل عامل
قبل الكلام على واحد من هذه الثلاثة يجب ان نتكلم على النفس التي هي مصدر العلم والفن اللذين هما مصدر الحياة التي هي مصدر العلم.
والنفس هنا هي جماع ما في الجسم من جوهر، واما النفس التي هي نواة الحياة في الحي مجردة عن الخصائص التي تعرضها، فهي السر الكامن في الجسم الحي الحساس ينبعث عنه الفعل أو ينفعل هو بما يعرضه في الحياة.
فهي على هذا التحديد الاعتباري. مجمع الخصائص في الإنسان كالإرادة والفكر والعقل ونحوها من أمهات العمل الخارجي او الداخلي. ولما كان المرء عبارة عن شخصيته التي يمتاز بها، وهي نتاج هذه الخصائص، وكان هذا الجسم قشرة لذلك الجوهر أطلقت النفس على المرء بمجموعه قلبا وقالبا.
فالنفس التي هي مصدر العمل وعكسا هي أم الإرادة التي هي مصدر العمل طرداً لا عكساً، أي ان النفس تفعل وتنفعل واما الإرادة فتفعل ولا تنفعل إذا صح ان كبت الإرادة انما هو انفعال النفس لا انفعال الإرادة كما سيمر بك.
اما مصدر هذه النفس وإرادتها التي يتطور بها الإنسان بله الحيوان روحا وبدَناً فإنما هو تلك القوة المالئة هذا الكون او لعلها هي نفس الكون او لعل الكون إحدى جزئيّات معناها الكلي.
ولم اكن لأومن كل الإيمان انها (أي النفس الناطقة) نتيجة تفاعل هذه الخلايا او انها احدى خواص هذا التركيب الجسدي، أو انها هي هو، أو انه ظرف يشتمل عليها وان كان بعضها اقرب إلى العقل من البعض الآخر.
لا أومن بشيء من ذلك ولا بعدمه على رغم أني اعتقد باقتسام خصائص النفس اجزاء الجسم كالدماغ والقلب والأعصاب.
لا أومن كل الإيمان ولا اجحد كل الجحود ضرورة انه لم يثبت لديّ ان الكائن مطلقا إنما هو نتيجة تفاعل المكين كما لم يثبت لديّ عدمه مطلقا.
فقد تكون الروح من الجسد مكان اللون والنور من الأجرام المرئية كما قد تكون منه مكان(13/33)
الطعم من الثمر والعطر من الزهر وقد تكون منه مكان الصدي والسير من السيارة كما قد تنزل منه منزلة السائق منها فتكون غيره.
ولعلي لم آل جهدا في التفكير بما يقفني على هذه القوة (مصدر النفس) واكتناه حقيقتها الغامضة أو لعلي لم أحجم عن درس أي كتاب اتصل بي صادرا عن أي مفكر في العالم للبحث عن هذه القوة، فلم يزدني كل ذلك علما بما وراء ما أحس إلا انه أمر فاتني حسه ففاتني اكتناة سره، ولم أكن لأقول فيه إلا من وراء الحدس والظن ولعل ما نقوله في تلك النفس التي توحي إلينا الفكر وتحرك ألسنتنا بالنطق، انما هو من قبيل الخوض في هذا التيار الحافل بأسرار هذه القوة الغامضة فلم نقل فيه إلا تخرصاً وحدسا.
ثم ما هي حقيقة هذه الإرادة؟
وما هو هذا الفكر؟
هل هي وليدة انفعال تلك القوة العليا؟
وهل هذا الفكر الذي نجول به في عالم النفس هو وليد ما يصدر عن هذه الإرادة من عمل؟ ام هما معا فعل تلك القوة الاولى أم نتيجة انفعالها؟
وهل من الممكن لو لم يصدر عن الإرادة عمل في الحياة ان يتكون هنالك فكر يتدبر هذا العمل فنقول قد كانت إرادة ولم يكن فكر وسيبقى وتهرم الإرادة ثم تموت؟ أي أن الإرادة هي التي أوجدت الفكر، والفكر سيتغلّب عليها بما يعضده من نواميس الاجتماع التي يسنُّها فيخلق الإرادة حينئذ من جديد ويصبح الإنسان ملكا.
ومهما يكن من شيء فلا بد لنا قبل التعمق في لبحث عن الفكر من تحرير الإرادة، وهذا التحرير يستلزم كلمة تتناول ما وراء هذا العمل الخارجي من عامل داخلي.
الانفعال:
هو الانتقال من عوارض النفس بما يفاجئها من حوادث خارجية او تصورات داخلية، فالغضب الذي هو نتيجة انفعال النفس بما يثير حفيظتها ويمتهن قدرها والسرور الذي هو نتيجة انفعالها بما تتلقاه من نبأ سار هما من العواطف التي هي نواة الشاعرية في النفس والتي تنبعث عن هذا الانفعال.
وقد يكون الانفعال غير مفاجئ فينجم عن أمر الإرادة للنفس بما يكبتها كاليأس الذي يتسرب(13/34)
إلى النفس تدريجا بما تحدوها الإرادة إلى فعله من وراء الأمل فتخفق في تحصيله جملة ويبقي لها رجاء بالحصول عليه، ثم يضمحل هذا الأمل تدريجا فيضغطها اليأس ويكون من وراء ذلك حزن عميق ينشأ عن انفعالها بالإخفاق.
وقد ينشأ هذا الانفعال العميق بما تتلمسه النفس الشاعرة أمام مشهد اجتماعي له جلاله كالأثر الفخم والجند الزاحف او منظر طبيعي له جماله كالحدائق الغضة والخمائل الملتفة والمروج الخضراء، كل ذلك يفعل في النفس ما يبعث فيها السرور او الحزن فتنفعل به. فالانفعال من عوارض النفس لا الإرادة، ضرورة انها تنفعل بما لا تريد.
الإرادة:
أكما تتأثر نفسك الشاعرة بأحد المشاهد الاجتماعية أو المناظر الطبيعية فتنقبض أو تنبسط، والفكر من ورائها يشرف على ثورتها ويحول دون طغيانها فينشأ بين جمالها وجلاله أثر في الخارج هو نتيجة فعله وانفعاله، أكذلك كانت هذه النفس وليدة القوة الاولى مصدر القوى الكونية، وكانت الإرادة من لوازمها الذاتية ضرورة بقاء الحي حيا فهي لا تنفك عن النفس منذ الأزل؟
ثم لا بد لنا من تمهيد بسيط هو أن في الأثر جزءاً من مؤثره، سواء أكان الأثر معنويا ام ماديا كالحكمة والفن في الإجرام التي نبتدعها. فالحكمة في الأثر أعني الغاية التي كان لها إنما هي جزء من عقل المؤثر المجرد يشير إلى عظمته في نوعه من هذه الناحية، والفن فيه هو جزء من عقله المتخيل المبدع يشير إلى عظمة المؤثر من حيث خياله وتصويره في رقيه الفكري.
ومجموع الحكمة والفن في الأثر هو الجمال، فجمال الجرم المبتدع هو ما يروعك فيه من شكل ولون وهو الفن، ومن سمو غاية وهي الحكمة، وكذا الأثر المعنوي، ففي البيت الواحد من الشعر أو الفقرة الواحدة من النثر جزء من روح الشاعر أو الناثر تلمسه روح النافذ البصير من ورائهما.
وهكذا الصورة والقلم ونحوهما من نتائج الفكر المادي ففيهما جزء من روح الصانع يتراءى للحكيم من وراء صنعه. فجلال هذا الروح وجماله بجلال هذا الأثر وجماله.
ففي قول القائل:(13/35)
لا يغرنك في الشام رجالُ ... موّهوا بالرياء وجه الفرنسي
ربما أثرت العيون من الكح ... ل وخلف الجفون منبت ورسِ
تتجلى روح لم تكن، وأنت الشاعر، لتلمسها في قول الاخر:
لا يغرنك منهم نفر ... أظهروا نحوك حبا ووداد
لو تبدى لك ما قد أظمروا ... لرأيت النار في وسط الرماد
وهكذا فانك لا تستطيع ان تقابل ما في الكرسي بما في الساعة من حكمة الصانع، فبقدر ما في الصانع من عظمة يبدو لك ما في صنعه من جمال او جلال.
وكون هذا الأثر مرآة مصدره كما نشاهد من وقوفنا على روح الشاعر بدراسة شعره وفكرة الفنان بتحليل فنه هو أمر متحقق في الخارج لا شبهة فيه.(13/36)
بلاط الشهداء بعد الف ومائتي عام
للأستاذ محمد عبد الله عناق
(2)
وكان أثناء غاراته أو رحلاته في (اكوتين) قد اتصل بأميرها الدوق (أودو) وتفاهم معه، وكان الدوق مذ رأى خطر الفتح الإسلامي يهدد ملكه يسعى إلى مهادنة المسلمين، وقد فاوضهم فعلا، فأنتهز كارل مارتل محافظ القصر وزعيم الفرنج هذه الفرصة لإعلان الحرب على الدوق، وكان يخشى نفوذه واستقلاله، وغزا كوتين مرتين وهزم الدوق فكان أودو في الواقع بين نارين يخشى الفرنج من الشمال والعرب من الجنوب، وكانت جيوش كارل مارتل تهدده وتعيث في أرضه (سنة 731 م) في نفس الوقت الذي سعى فيه عثمان بن أبي لسعه لمحالفته والاستعانة به على تنفيذ مشروعه في الخروج على حكومة الأندلس والاستقلال بحكم الولايات الشمالية , فرحب الدوق بهذا التحالف وقدم ابنته الحسناء (لاميجيا) عروسا لعثمان، وفي بعض الروايات أن أبن أبي نسعة أسر ابنة الدوق في بعض غاراته على اكوتين ثم هام بها حبا وتزوج منها. وعلى أي حال فقد وثقت المصاهرة عرى التحالف بين الدوق والزعيم المسلم، ورأى ابن أبي نسعة كتمانا لمشروعه ان يسبغ على هذا الاتفاق صفة هدنة عقدت بينه وبين الفرنج، ولكن عبد الرحمن ارتاب في أمر الثائر ونياته، وأبى قرارالهدنة التي عقدها وأرسل إلى الشمال جيشا بقيادة ابن زيان للتحقق والتحوط لسلامة الولايات الشمالية، ففر ابن أبي نسعة من مقامه بمدينة الباب الواقعة على (البرنيه) إلى شعب الجبال الداخلية فطارده ابن زيان من صخرة إلى صخرة حتى أخذ وقتل مدافعا عن نفسه، وأسرت زوجه لاميجيا وأرسلت إلى بلاط دمشق حيث زوجت هناك من أمير مسلم. ولما رأى أودو ما حل بحليفه واستشعر الخطر الداهم تأهب للدفاع عن مملكته، وأخذ الفرنج والقوط في الولايات الشمالية يتحركون لمهاجمة المواقع الإسلامية، وكان عبد الرحمن يتوق إلى الانتقام لمقتل السمح وهزيمة المسلمين عند أسوار تولوشة، ويتخذ العدة منذ بدء ولايته لاجتياح مملكة الفرنج كلها، فلما رأى الخطر محدقا بالولايات الشمالية لم يرَ بداً من السير إلى الشمال قبل أن يستكمل كل أهبته، على انه استطاع ان يجمع أعظم جيش سيّره المسلمون إلى (غاليا) منذ الفتح، وفي أوائل سنة732م (أوائل سنة(13/37)
114هـ) سار عبد الرحمن إلى الشمال مخترقا أراغون (الثغر الأعلى) ونافار (بلاد البشكنس) ودخل فرنسا في ربيع سنة 732م، وزحف تواً على مدينة (آرل) الواقعة على نهر الرون لتخلفها عن أداء الجزية واستولى عليها بعد معركة عنيفة نشبت على ضفاف النهر بينه وبين قوات الدوق أودو، ثم زحف غرباً وعبر نهر الجارون وانقض المسلمون كالسيل على ولاية اكوتين يثخنون في مدنها وضياعها، فحاول أودو ان يقف زحفهم، والتقى الفريقان على ضفاف الدوردون فهزم الدوق هزيمة فادحة، ومزق جيشه شر ممزق، قال ايزيدور الباجي: (والله وحده يعلم كم قتل في تلك الموقعة من النصارى) وطارد عبد الرحمن الدوق حتى عاصمته بوردو (بردال) واستولى عليها بعد حصار قصير، وفر الدوق في نفر من صحبه إلى الشمال، وسقطت اكوتين كلها بيد المسلمين ثم ارتد عبد الرحمن نحو الرون كرّة أخرى، واخترق الجيش الإسلامي برجونيا واستولى على ليون وبيزانصون ووصلت سريّاته حتى صانص التي تبعد عن باريس نحو مائة ميل فقط، وارتد عبد الرحمن بعد ذلك غرباً إلى ضفاف اللوار ليتم فتح هذه المنطقة ثم يقصد إلى عاصمة الفرنج. وتم هذا السير الباهر. وافتتح نصف فرنسا الجنوبي كله من الشرق إلى الغرب في بضعة أشهر فقط. قال أدوار جيبون. (وامتد خط الظفر مدى ألف ميل من صخرة طارق إلى ضفاف اللوار. وقد كان اقتحام مثل هذه المسافة يحمل العرب إلى حدود بولونيا وربى ايكوسيا. فليس الراين بأمنع من النيل او الفرات، ولعل أسطولاً عربيا كان يصل إلى مصب التايمز دون معركة بحربة، بل ربما كانت أحكام القرآن تدرَّس الآن في معاهد أكسفورد وربما كانت منابرها تؤيد لمحمد صدق الوحي والرسالة).
أجل كان اللقاء الحاسم بين الإسلام والنصرانية، والشرق والغرب، على وشك الوقوع. وكان اجتياح الإسلام للعالم القديم سريعا مدهشا، فانه لم يمضِ على وفاة النبي العربي نصف قرن حتى سحق العرب دولة الفرس الشامخة، واستولوا على معظم أقطار الدولة الرومانية الشرقية من الشام إلى أقاصي المغرب، وقامت دولة الخلافة قوية راسخة الدعائم فيما بين السند شرقا والمحيط غربا، وامتدت شمالاً حتى قلب الأناضول، وكانت سياسة الفتح الإسلامي مذ توطدت دولة الإسلام ترمي إلى غاية أبعد من ضم الأقطار وبسطة السلطان والملك. فقد كان الإسلام يواجه في الأقطار التي افتتحها من العالم القديم، أنظمة(13/38)
راسخة مدنية واجتماعية تقوم على أصول وثنية أو نصرانية، وكانت النصرانية قد سادت أقطار الدولة الرومانية منذ القرن الرابع، فكان على الخلافة ان تهدم هذا الصرح القديم وان تقيم فوق أنقاضه في الأمم المفتوحة نظما حديثة، تستمد روحها من الإسلام. وان تذلل النصرانية لصولة الإسلام سواء بنشر الإسلام بين الشعوب المفتوحة او بإخضاعها من الوجهة المدنية والاجتماعية لنفوذ الإسلام وسلطانه، وكان هذا الصراع بين الإسلام والنصرانية قصير الأمد في الشام ومصر وافريقية، فلم يمضِ نصف قرن حتى غيّر الإسلام هذه الأمم بسيادته ونفوذه، وقامت فيها مجتمعات إسلامية قوية شاملة، وغاضت الأنظمة والأديان القديمة ثم دفعت الخلافة فتوحها إلى أقاصي الأناضول من المشرق وجازت إلى إسبانيا من المغرب. فأما في المشرق فقد حاول الإسلام ان ينفذ إلى الغرب من طريق قسطنطينية، وبعثت الخلافة جيوشها وأساطيلها الزاخرة إلى عاصمة الدولة الشرقية مرتين: الأولى في عهد معاوية بن أبي سفيان سنة 48هـ (668م) والثانية في عهد سليمان بن عبد الملك سنة 98هـ (717م) وكانت قوى الخلافة في كل مرة تبدي في محاصرة قسطنطينية غاية الإصرار والعزم والجلد ولكنها فشلت في المرتين وارتدت عن أسوار قسطنطينية منهوكة خائرة.(13/39)
إلى روح شوقي بك
خيم الليل وفي آفاقه ... شهب ترمي إلى الأرض سناها
ملكت عينيْ كئيب عاشق ... قد رعتْه مذ تبدّت ورعاها
شاعر قد ضاقت الدنيا به ... فَرَنا شوقًا إلى رحب سماها
روحه الثكلى بكت فقد المنى ... أين للباكي أسى مثل أساها؟
بات يدعو الله في أحزانه ... عله يشفي من النفس ضناها
أطلق اللهم قيدي في الهوى ... وأبنْ عن مهجتي الحرى جواها
وأعد نفسي إلى حيث الورى ... في سماء الحب لم تعبد سواها
كل يوم للردى سخرية ... تجرح القلب وللناس صداها
تتراءى لي تهاويل الأسى ... بين خذلان حياتي ورجاها
كحسان عاريات تكتسي ... من لهيب النار ما يدمي حشاها
وأثبات تتنزى حسرة ... والمنايا تتهادى في خطاها
كلما في الليل مالت نجمة ... خلتها نفسي دهاها ما دهاها
أو رأيت الطير في دوحته ... والخريف السوء عرَّاها حلاها
خلته العاشق في وحدته ... واجماً يذكر أياماً قضاها
عذبات الأنس ما عانقتها ... وثمار اللهو لم أجن جناها
زهرة الجثمان في ريعانها ... وركاب العمر لم تبلغ مداها
والأماني لم تزل في فجرها ... باسمات الثغر والأمن غطاها
عطفت روحي على ريحانها ... عطفة الأم على مهد فتاها
ثم ولت وهي عبرى بعدما ... لثمت منها خدوداً وشفاها
غالها الدهر بسهم صائب ... فغدت تذبل في زهو صباها
ثم فاضت روحه طاهرة ... وجرت في مقلة الشمس دماها
صدح البلبل لما أشرقت ... وصداح الطير نوع من بكاها
حلب. عمر أبو قوس
دعابة(13/40)
ما أنت في ثوبك بدر الدجى ... كلا ولا أنت غزال شدَن!
أنت وربي فتنة صورت ... للناس من كل أنيقٍ حسن
تستأسرُ الآهَ فتهفو لدي ... مرآك من كل فؤادٍ فتن
لا تحتجب بالبعد عنا فما ... يعرف فضل الحسن إن لم يبَنُ
وأنت في ذاتك سر وذا ... حسنك في أبصارنا قد علن
يا نعمتي في محنتي، داوني ... يا سكني إما تجافي السكن
تعال زَوّد شفتي قبلةً ... من قبل أن يُسرع فيك الزَّمن
حمص. رفبق فاخوري(13/41)
الحرية في الكتابة ومدى التجديد فيها
لست أقصد بحرية الكتابة ما يقصده كتاب السياسة حين يكتبون عن
الصحافة والصحف، وما يجوز للصحف أن تتعرض له وما لا يجوز
لهل الخوض فيه، وانما اقصد ذلك القدر من الحرية الذي ينبغي أن
يتمتع به الكاتب الأديب حين يكتب مقالته أو ينشئ رسالته، وأسأل:
أهو قدر غير محدود؟ وهل هي حرية غير ذات نهاية أو حد؟ أم هو
قدر من الحرية مهما اتسع أفقه وطال قطر دائرته فإن له حداً لا ينبغي
للأديب أن يتجاوزه، وقواعد لا ينبغي له أن يطغى عليها فيمحوها أو
يغير منها؟ وقد دعاني إلى هذا التساؤل ما قرأته في العدد الأخير من
الرسالة للأديب الفاضل حبيب شماس يخاطب فيه الدكتور هيكل بك
فبقول له: (اغلط واكثر من الغلط الموهوم وكسِّر من هذه القيود التي
كسر بعضها من قبلك طه) ويختمه بقوله: (ان أغلاط أكابر الكتّاب هي
صك تحرير النشء الصاعد)
وليست المسألة أن يخطئ الدكتور هيكل أو يصيب، ولا أن يكسر الدكتور طه قيودا من قيود الأدب او يتركها تغل الأيدي والأقلام وإنما المسألة مسألة اللغة العربية وما وضع لها من قواعد وحدود، كما وضع لغيرها من لغات العالم كله، فان هذه الأغلاط والأخطاء إن أبيح للدكتور هيكل وغيره من كبار الكتاب ان يقعوا فيها، فليس لأحد بعد ذلك أن يحضر على النشء الصاعد ما أبيح للنشء الذي صعد، وسيحاول أولئك المخطئون من النشء ان يبرروا أخطاءهم كما يفعل كبار كتّابهم وقادتهم من الأدباء، ولكنهم عندئذ لن يقدموا دليلاً على صحة ما كتبوا كما لم يقدم أكابر الكتاب دليلا على صحة ما كتبوا، وانما سيؤول الأمر في ذلك كله إلى إرادة الكاتب وهواه، وسنعود في قواعد اللغة العربية إلى مثل ما نحن فيه الآن من خلاف للنقد الأدبي، أهو قائم على قواعد وأسباب بعينها، أم هو قائم على الذوق وحده؟ وسيرى كلُ في اللغة العربية ما يريد، هذا يرفع المفعول وذاك ينصبه وذاك يجر(13/42)
الفاعل وهذا ينصبه، فإذا سألته في ذلك أو نقدت قوله قال لك: دعني فاني هكذا أكتب، وهكذا أريد، ولن أغير في كتابتي ولن اكتب غير ما أريد. وستنفرد اللغة العربية إذن بهذا الأسلوب الغريب المتعدد الذي لا ضابط له من قواعد ولا قياس، فتفوق بذلك لغات الأرض قديمها والحديث، وسيكون ذلك كله باسم التجديد في اللغة والأدب. ان هذه اللغة العربية ليست لغتنا نحن المصريين، وانما هي لغة طغت على اللغة المصرية، واحتلت مكانها فصارت لغتنا وأخذناها ونحن راضون بها مطمئنون إليها، فهي لغة كتاب السواد الأعظم من المصريين ولغة نبيهم الكريم، فأما أن نحرص عليها وعلى قواعدها ونسير وفق مناهج أصحابها، وأما أن نغير تلك القواعد ونجعلها موافقة لطبيعة عصرنا وأمزجتنا، ونصطلح على قواعد لا يختلف فيها نشء صعد ولا نشء صاعد، أما قبل ذلك التجديد فليس لنا إلا أن نتبع ما لدينا من قواعد اللغة ونحوها. سيقال أن هذا التجديد الذي يحدثه كبار الكتاب فيما يكتبون سيصبح مع الزمان قواعد تتبع ونماذج تحتذى، بل هو قيل بالفعل، ولكن ليس كل الكتاب من الأكابر، وليس من الممكن أن نقصر التجديد على كبار الكتاب ونحظره على الناشئين منهم، ولسنا نأمن على اللغة من هؤلاء الناشئين أن يفسدوها من حيث أرادوا لها تجديدا وإصلاحا. للكتاب أن يغيروا من الأساليب كيفما يشاءون، وأن يصطنعوا الإطناب أو الإيجاز كما يريدون، فان هذا كله خير للغة ودليل على غناها ومرونتها، ولكن في حدود القواعد المرسومة والنحو الموضوع، ولا يهمني أن تكون تلك القواعد جديده نصطلح عليها الآن أو أن تكون هي التي بين أيدينا والتي أجاهر بأنها في حاجة كبيرة إلى الإصلاح، فالمقصود هو أن ننزع اللغة من براثن الفوضى، وما دام الكتاب كباراً ففي وسعهم من
غير شك أن يكتبوا فيحسنوا الكتابه، وأن يعرضوا أفكارهم الناضجة وآثارهم الأدبية فيحسنوا عرضها، وأن يحافظوا مع ذلك كله على قواعد اللغة.
إسكندرية. محمد قدري لطفي. ليسانسييه في الآداب(13/43)
في الأدب العربي
عكاظ والمربد
للأستاذ أحمد أمين
(2)
وقد يتفاخر الرجلان من قبيلتين فيفخر كلٌ بقبيلته ومكارمها فيتحاكمان إلى حكم عكاظ كما فعل رجل من قضاعة فاقر رجلا من اليمن فتحا كما إلى ذلك الحكم.
ومن كان داعيا إلى إصلاح اجتماعي او انقلاب ديني كان يرى أن خير فرصة له سوق عكاظ، والقبائل من أنحاء الجزيرة مجتمعة، فَمَنْ قَبِلَ الدعوة كان من السهل أن يكون داعيا في قومه إذا دعا إليهم، فنرى قس بن ساعدة يقف بسوق عكاظ يدعو دعوته ويخطب فيها خطبته المشهورة على جمل له أورق فيرغِّب ويرهِّب ويحذِّر وينذر.
ولما بعث رسول الله (ص) اتجه إلى دعوة الناس بعكاظ لأنها مجمع القبائل، روى الواقدي أن رسول الله أقام ثلاث سنين من نبوته مستخفياً ثم أعلن في الرابعة فدعا عشر سنين، يوافي الموسم، يتبع الحجاج في منازلهم بعكاظ والمجنة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلِّغ رسالة ربه ولهم الجنة، فلا يجد أحداً ينصره حتى انه يسأل عن القبائل ومنازلهم قبيلة قبيلة، حتى انتهى إلى بني عامر بن صعصعة فلم يلق من أحد من الأذى ما لقي منهم، وفي خبر آخر أنه أتى كندة في منازلهم بعكاظ فلم يأت حيا من العرب كان ألين منهم، وعن علي بن أبي طالب (ع): إن رسول الله (ص) كان يخرج في الموسم فيدعو القبائل فما أحد من الناس يستجيب له نداءه ويقبل منه دعاءه، فقد كان يأتي القبائل بمجنة وعكاظ ومنى حتى يستقبل القبائل، يعود إليهم سنة بعد سنة حتى كان من القبائل من قال: أما آن لك أن تيأس منا؟ من طول ما يعرض عليهم نفسه حتى استجاب هذا الحي من الأنصار.
وروى اليعقوبي أن رسول الله (ص) قام بسوق عكاظ عليه جبة حمراء فقال: يا أيها الناس قولوا لا اله إلا الله تفلحوا وتنجحوا، ويتبعه رجل يكذبه وهو أبو لهب بن عبد المطلب. كذلك كان لعكاظ أثر كبير لغوي وأدبي، فقد رأينا قبائل العرب على اختلافها من قحطانيين وعدنانيين تنزل بها، وملك الحيرة يبعث تجارته إليها، ويأتي التجار من مصر والشام والعراق، فكان ذلك وسيلة من وسائل تفاهم القبائل وتقارب اللهجات، واختيار القبائل(13/44)
بعضها من بعض ما ترى أنه أليق بها وأنسب لها، كما أن التجار من البلدان المتمدنة كالشام ومصر والعراق كانوا يطلعون العرب على شيء مما رأوا من أحوال تلك الأمم الإجماعية. وفوق هذا كانت عكاظ معرضا للبلاغة ومدرسة بدوية يلقى فيها الشعر والخطب وينقد ذلك كله ويهذب، قال أبو المنذر: (كانت بعكاظ منابر في الجاهلية يقوم عليها الخطيب بخطبته وفعاله وعد مآثره وأيام قومه من عام إلى عام فيما أخذت العرب أيامها وفخرها) وكانت المنابر قديمة يقول فيها حسان:
أولاء بنو ماء السماء توارثوا ... دمشق بملك كابرا بعد كابر
يؤمون ملك الشام حتى تمكنوا ... ملوكا بأرض الشام فوق المنابر
فيقف أشراف العرب يفخرون بمناقبهم ومناقب قومهم. . . فبدر بن معشر الغفاري. . . كان رجلا منيعاً مستطيلا بمنعته على من ورد عكاظ فاتخذ مجلسا بهذه السوق وقعد فيه وجعل يبرح على الناس ويقول:
نحن بنو مدركة بن خندف ... من يطعنوا في عينه لا يطرف
ومن يكون قومه يغطرف ... كأنهم لجَّة بحر مُسدَف
فيقوم رجل من هوازن فيقول:
أنا أبن همدان ذوي التغطرف ... بحر بحور زاخر لم ينزف
نحن ضربنا ركبة المخندف ... إذ مدَّها في أشهر المعرف
وعمر بن كلثوم يقوم خطيبا بسوق عكاظ وينشد قصيدته المشهورة:
ألا هي بصحنك فاصبحينا
والأعشى يوافي سوق عكاظ كل سنة، ويأتي مرة فإذا هو بسرحة قد اجتمع الناس عليها فينشدهم الأعشى في مدح المحلق والنابغة الذبياني تضرب له قبة أدم بسوق عكاظ يجتمع إليه فيها الشعراء فيدخل إليه حسّان بن ثابت وعنده الأعشى والخنساء فينشدونه جميعا ويفاضل بينهم وينقد فيما زعموا قول حسان:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى
فيقول لحسان قلْلَت العدد ولو قلت الجفان لكان أكثر. وقالت يلمعن بالضحى ولو قلت يبرقن بالدجى لكان أبلغ في المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقاً.(13/45)
ودريد بن الصمة يمدح عبد الله بن جدعان بعد أن هجاه فيقول:
إليك أبن جدعان أعملتها ... محففة للسرى والنصب. . الخ
وقس بن ساعدة يخطب الناس خطبته المشهورة فيذكرهم بالله والموت ورسول الله يسمع له، والخنساء تسوم هودجها براية وتشهد الموسم بعكاظ وتعاظم العرب بمصيبتها في أبيها عمرو بن الشريد وأخويها صخر ومعاوية، وتنشد في ذلك القصائد، فلما وقعت وقعة بدر وقتل فيها عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة أقبلت هند بنت عتبة إلى عكاظ، وفعلت كما فعلت الخنساء، وقالت اقرنوا جملي بجمل الخنساء ففعلوا، فعاظمت هند الخنساء في مصيبتها وتناشدتا الأشعار: تقول إحداهما قصيدة في عظم مصيبتها وترد الأخرى عليها، وعلى الجملة فكانوا في عكاظ يتبايعون ويتعاكظون ويتفاخرون ويتحاجون، وتنشد الشعراء ما تجدد لهم، وفي ذلك يقول حسان:
سأنشر ما حييت لهم كلاما ... ينشر في المجامع من عكاظ
فمن هذا كله نرى كيف كانت عكاظ مركزا لحركة أدبية ولغوية واسعة النطاق كما كانت مركزا لحركة اجتماعية واقتصادية.
نظام سوق عكاظ
كانت القبائل (كما أسلفنا) تنزل كل قبيلة منها في مكان خاص بها، ثم تتلاقى أفراد القبائل عند البيع والشراء أو في الحلقات المختلفة. كالذي حكينا أن الأعشى رأى الناس يجتمعون على سرحة، أو حول الخطيب يخطب على منبر، أو في قباب من أدم تقام هنا وهناك، ويختلط الرجال بالنساء في المجامع، وقد يكون ذلك سببا في خطبة أو زواج أو تنادر وكانت تحضر الأسواق (وخاصة سوق عكاظ) أشراف القبائل. وكان أشرف القبائل يتوافون بتلك الأسواق مع التجار من أجل أن الملوك كانت ترضخ للأشراف، لكل شريف بسهم من الأرباح، فكان شريف كل بلد يحضر سوق بلده، إلا عكاظ فانهم كانوا يتوافون بها من كل أوب).
والظاهر أن المراد بالملوك هم الأمراء ورؤساء القبائل الذين يرسلون بضائعهم لبيعها في أسواق العرب كملك الحيرة والغساسنة وأمراء اليمن ونحوهم (وكانت القبائل تؤتي لرؤسائها إتاوة في نظير إقامتهم بالسوق، فقد ذكر اليعقوبي في تاريخه أخبار أسواق كثيرة(13/46)
كان يعشرها أشرافها) أي يأخذون العشر. وفي عكاظ كانت القبائل تدفع لأشرافها هذه الإتاوة (فهوازن كانت تؤتي زهير بن جذيمة الإتاوة كل سنة بعكاظ، وهو يسومها الخسف وفي أنفسها منه غيظ وحقد) وكانت الإتاوة سمنا وأقطا وغنما. (وكان عبد الله بن جعدة سيدا مطاعا وكانت له إتاوة بعكاظ يؤتي بها، ويأتي بها هذا الحي من الازد وغيرهم، ومن هذه الإتاوة ثياب).
وكان الأشراف يمشون في هذه الأسواق ملثمين، ولا يوافيها (عكاظ) شريف إلا وعلى وجهه برقع مخافة أن يؤسر يوما فيكبر فداؤه، فكان أول من كشف طريف العنبري، لما رآهم يطلعون في وجهه ويتفرسون في شمائله، قال: قبح من وطّن نفسه إلا على شرفه، وحسر عن وجهه وقال:
أو كلما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إليّ عريفهم يتوسم
فتوسموني إنني أنا ذلكم ... شاكي السلاح وفي الحوادث معلم
إلى آخر الأبيات.
وكان على سوق عكاظ كلها رئيس إليه أمر الموسم وإليه القضاء بين المتخاصمين، قال أبو المنذر: وتزعم مضر أن أمر الموسم وقضاء عكاظ كان في بني تميم. . . وكان من اجتمع له ذلك منهم بعد عامر بن الظرب العدواني سعد بن زيد بن مناة من تميم، وقد فخر المخبل بذلك في شعره:
ليالي سعد في عكاظ يسوقها ... له كل شرق من عكاظ ومغرب
حتى جاء الإسلام فكان يقضي بعكاظ محمد بن سفيان بن مجاشع
تاريخ عكاظ:
من العسير جدا أن نحدد بدء عكاظ فلم نجد في ذلك خبراً يصح التعويل عليه. يقول الآلوسي في بلوغ الأدب (انها اتخذت سوقا بعد الفيل بخمس عشرة سنة) ولكن إذا بحثنا في الأحداث التي رويت في عكاظ وجدنا ذلك غير صحيح فهم يروون (كما قدمنا) أن عمرو بن كلثوم انشد قصيدته في عكاظ وعمرو بن كلثوم كان على وجه التقريب حول سنة500 م.
كذلك إذا عدنا إلى ما رواه المرزوقي في الأزمنة والأمكنة عن رؤساء عكاظ وجدنا انه(13/47)
عدهم قبل الإسلام عشرة أولهم عامر بن الظرب العدواني. وهذا (من غبر شك) يجعل تاريخ عكاظ أبعد مما يحكي الآلوسي بزمان طويل كذلك يروي الأغاني ان عبلة زوجة عبد شمس بن عبد مناف باعت أنحاء سمن بعكاظ.
وظلت سوق عكاظ تقوم كل سنة وكانت فيها قبيل الإسلام حروب الفجار، وهي حروب أربع وكان سبب الأولى على ما يروى، المفاخرة في سوق عكاظ. وسبب الثانية تعرض فتية من قريش لأمرأة من بني عامر بن صعصعة بسوق عكاظ. وسبب الثالثة مقاضاة دائن لمدينهِ مع إذلالهِ في سوق عكاظ، وسبب الأخيرة أن عروة الرجال ضمن ان تصل تجارة النعمان بن المنذر إلى سوق عكاظ آمنة فقتله البراض في الطريق.
فكلها تدور حول سوق عكاظ وهذه الحروب كانت قبل مبعث (النبي صلى الله عليه وسلم) بست وعشرين سنة وشهدها النبي وهو ابن أربع عشرة سنة مع أعمامه وقال: كنت يوم الفجار أنبل على عمومتي
واستمرت هذه الحروب نحو أربع سنوات. وقد كانت هناك نزعتان عند اشراف العرب، نزعة قوم يقصدون إلى السلب والنهب وسفك الدماء لا يصدهم صاد ولا يرعون حتى الأشهر الحرم ويتحرشون بالناس فيمد أحدهم رجله في سوق عكاظ ويتحدى الأشراف مثله أن يضربوها فتثور من ذلك الثائرة.
وفريق يميل إلى السلم ودرء اسباب الحروب ونجاح التجارة والأسواق بتأمين السالكين وعدم التعرض لهم بأذى.
جاء في تاريخ اليعقوبي: (انه كان في العرب قوم يستحلون المظالم إذا حضروا هذه الأسواق فسموا (المحلون) وكان فيهم من ينكر ذلك وينصِّب نفسه لنصرة المظلوم والمنع من سفك الدماء وارتكاب المنكر فيسمون الذادة (المحرمون) فأما المحلون فكانوا من أسد وطيء وبني بكر بن عبد مناة وقوم من بني عامر بن صعصعة وأما الذادة المحرمون فكانوا من بني عمرو بن تميم وبني حنظلة بن زيد مناة وقوم من هذيل وقوم من بني شيبان. . . فكان هؤلاء يلبسون السلاح لدفعهم عن الناس.
وكان من اشهر الداعين إلى السلم عبد الله بن جدعان فقد كان إذا اجتمعت العرب في سوق عكاظ دفعت أسلحتها إلى ابن جدعان ثم يردها عليهم إذا ظعنوا، وكان سيدا حكيما مثرياً.(13/48)
ويظهر أن أصحاب هذه النزعة الثانية وهم الذادة هم الذين سموا هذه الحروب حرب الفجار لما ارتكب فيها من الفجور وسفك الدماء وهم الذين تغلبوا فيما بعد ونجحوا في وقف هذه الحروب (ودعوا الناس أن يعدوا القتلى فيدوا من فضل. وان يتعاقدوا على الصلح فلا يعرض بعضهم لبعض) وربما كان من أثر ذلك حلف الفضول وقد عقد في بيت عبد الله بن جدعان هذا.
واستمرت عكاظ في الإسلام وكان يعين فيها من يقضي بين الناس، فعين محمد بن سفيان بن مجاشع قاضيا لعكاظ وكان أبوه يقضي بينهم في الجاهلية وصار ذلك ميراثا لهم.
ولكن يظهر ان هذه الأسواق ضعف شأنها بعد الفتوح فأصبحت البلاد المفتوحة أسواقا للعرب خيراً من سوق عكاظ، وصار العرب يغشون المدن الكبيرة لقضاء أغراضهم، فضعفت أسواق العرب ومنها عكاظ. ومع ذلك ظلت قائمة وكان آخر العهد بها قبيل سقوط الدولة الأموية. قال الكلبي: (وكانت هذه الأسواق بعكاظ ومجنه وذي المجاز قائمة في الإسلام حتى كان حديثا من الدهر، فأما عكاظ فإنما تركت عام خرجت الحرورية بمكة مع أبي حمزة المختار بن عوف الأسدي الأباضي في سنة129 خاف الناس ان ينهبوا وخافوا الفتنة فتركت حتى الآن، ثم تركت مجنه وذو المجاز بعد ذلك).
واستغنوا بالأسواق بمكة وبمنى وبعرفة. . . وآخر سوق خربت سوق حباشة خربت سنة197. أشار فقهاء أهل مكة على داود بن عيسى بتخريبها فخربها وتركت إلى اليوم.
فعكاظ عاصرت العصر الجاهلي الذي كان فيه ما وصل إلينا من شعر وأدب، وجرت فيها أحداث تتصل بحياة النبي (ص) قبيل مبعثه، مهدت السبيل قبيل الإسلام لتوحيد اللغة والأدب وعملت على إزالة الفوارق بين عقليات القبائل، وقصدها النبي (ص) يبث فيها دعوته، وعاصرت الإسلام في عهد الخلفاء الراشدين والعهد الأموي ولكن كانت حياتها في الإسلام اضعف من حياتها قبله، وبدأ ضعفها من وقت الهجرة لما كان من غزوات وحروب بين مكة والمدينة او بين المؤمنين والمشركين، فلما فتحت الفتوح رأى العرب في أسواق المدن المتحضرة في فارس والشام والعراق ومصر عوضا عنها، ثم كانت ثورة أبي حمزة الخارجي بمكة فلم يأمن الناس على أموالهم فخربت السوق، وختمت صحيفة لحياة حافلة ذات اثر سياسي واجتماعي وأدبي.(13/49)
من طرائف الشعر
شوقية لم تنشر
وهذه قطعة اخرى من أدب الأطفال عنوانها (الرفق بالحيوان) نظمها شاعر الخلود شوقي بك ولم تنشر.
الحيوان خّلْق ... له عليك حق
سخرَهُ الله لكا ... وللعباد قبلكا
حمولة الأثقال ... ومرضع الأطفال
ومطعم الجماعة ... وخادم الزراعة
من حقه ان يرفقا ... به وألا يرهقا
ان كلَّ دعه يسترح ... وداوه إذا جرح
ولا يجمع في داركا ... أو يظم في جواركا
بهيمة مسكين ... يشكو فلا يُبين
لسانه مقطوع ... وما له دموع(13/51)
بين صياد وأسد
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
// لاقى أسامة وهو الضيغم الضاري ... في الغاب صياد آساد وإنمار
فقال واليدُ تحوي بندقيته ... يلقي عليه سؤال العاتب الزاري
يا ليث قل لي: لماذا أنت ذو ولعٍ ... بقتل باقورة ترعى وبَقار
فقال بالقتل يغريني السعار فسل ... من كان يقتل لهواً بالدم الجاري
وقد أحاول قتل النفس مثئرا ... والقتل للهو غير القتل للثار
وربما اضطرني للقتل معترض ... وما على القاتل المضطر من عار
القتل فيه حياة لي سأشكر من اجله من ... له حياتي بأنياب وأظفارِ
أصوم يومي وحسبي أن يكون على ... دم عبيطٍ لظبي صدتُ إفطاري
لأنت أضعف مخلوق ويدهشني ... ما في سلاحك من سحر وأسرار
ان القضيب الذي تلهو يداك به ... يكاد يخطف منه البرق إبصاري
وتعتري رجفة مني الفؤاد لدى ... سماع صوت له كالرعد هدار
وهذه الأرض من خوفي سأهجرها ... فلست تسمع بعد اليوم أخباري
لأنت أعدى عدو لي يطاردني ... وأنت أجدر من عاد بإكباري
قد كنت أحمي عريني أن يطوف به ... وحش وأني ذاك القسوَر الضاري
إذا زأرتُ فإني مثل راعدة ... أو انقضضت فاني شبه إعصار
وقد أهاجم جاموسا فاصرعه ... بضربة من يميني ذات آثار
ما اكثر الوحش في الآجام وأغلة ... وما بها كل ذي ناب بمغوار
واليوم إني على ما فيّ من ثقةٍ ... بقوتي خائف من زندك الواري
الليل منك إذا ما جن يسترني ... أما النهار فواشٍ غير ستار
إني أقر بأوزاري التي عظمت ... لو كان يذهب إقراري بأوزاري
ان كنُت أقتل ذا شر يهاجمني ... فقد قتلتم الوفا غير أشرار
بالسيف، بالنار، بالغازات خانقة ... وبابتعاث الوباء الفاتك الساري
ونحن إما أردنا البطش ننذركم ... وتفتكون بنا من غير إنذار(13/52)
ندنو فنقتل بالأنياب عن كثب ... وتقتلون برغم البعد بالنار
كانت لنا الأرض ملكا قبل خلقكم ... من صلب قرد طريد آكل الفار
سل إن شككتَ رجال العلم يعترفوا ... بما أقول وما ذو الجهل كالداري
بلى أضرُّ إذا ما وجعت مفترسا ... لكني لست في شبعي بضرار
\ لا أوثر القتل حُباً في محاسنه ... بل ان في حاجتي بعثاً لإيثاري
خلقت ليثا هصوراً وسط غابته ... ولم أكن أنا في خلقي بمختار
إني بكوني رِئْبالاً لمفتخرٌ ... فلا تعيبنَّ أخلاقي وأطواري
وجدت في الغاب نفسي ضاريا أسداً ... فهل يعير مني الهازئ الزاري؟
ولست تعلم ما نفسي ترى حسناً ... فان رأسك يحوي غير أفكاري
أما الحياة فليست مثل ما زعموا ... مقسومة بين أشرار وأبرار
أدير عيني في الأحياء أرقبها ... فلا ألاقي أمامي غير أشرار
ان القوي ليبقى والحياة وغى ... في البرِّ في البحر، في الأجواءِ في الغار
ولا يعيش عزيزا غير مجترئ ... ولا يموت ذليلا غير خوار
تود سجني لو تستطيع في قفص ... ويمقت السجن حر شبل أحرار
الخريف والزهرة
همس الخريف لغرسة فواحة ... ضحك الربيع لها وبرعم عودها
اليوم يرقصك النسيم وتلتوي ... بيد النسيم من الزهور قدودها
اليوم تفرح بالربيع خمائل ... جليت مطارف زهوها وبرودها
اليوم تسكركِ الطير وتسمعي ... ن على الغصون مرنما غريدها
لكن غدا! وغدا إذا خف الهوى ... وذوت أزاهير المنى وورودها
يمشي الشحوب على محاسنك التي ... سطعت يزيل خطوطها ويبيدها
وأمد كفي للزهور تهزها ... تيهاً، فيفرط شذرها وفريدها
فذري حياة للعذاب تألفت ... ويل الشقاء يشوبها ويعودها
قالت حياتي يا خريف عزيزة ... وأنا على رغم الشقاء أريدها
أنا كالغواني تستلذ العيش ما ... فتئت تشع ميولها وخدودها(13/53)
قال الخريف: أميتها وتميتني ... قال الربيع: تعيدني وأعيدها
خليل هنداوي
عبقر
لأسرة المعلوف قدم سابقة في الأدب، وعبقرية خالقة في الشعر، ورحم الله فوزي المعلوف فقد ابتدأ الشعر من حيث انتهى غيره ولو لم يحتضر وهو في ريق العمر لأرى الناس كيف يتحضر الشعر ويتجدد الأدب. وقد نبغ اليوم من هذه الأسرة الكريمة الشاعر الشاب شفيق المعلوف: فقد نظم ملحمة عنوانها (عبقر) ثم نشرها في البرازيل. وسنكتفي اليوم باختيار شيء منها على ان نعود إلى الكلام عنها في عدد قادم.
قال من الفاتحة:
يا يقضة تنفض عن مقلتي ... إغفاءة طارت وحلماً نأى
ان الضحى صعد أنفاسه ... على سراجي فغدا مطفأ
ومن تكن حالته حالتي ... لم يستعض بالسيئ الأسوأ
ما الفرق في نومي وفي يقظتي ... وكل في يقظاتي رؤى؟
شيطان الشاعر:
على الربى استلقى شعاع الضحى ... يعبث فيه الأرج العاطر
فعانق الزهر وضمتهما ... غمامة علقها الناظر
غمامة بينا أراها إذا ... شيطان شعري تحتها سائر
كأنه لما بدا خفية ... أظهره فوق الثرى ساحر
في فمه من سقر قطعة ... منها يطير الشرر الثائر
ووجهه جمجمة راعني ... أنيابها والمحجر الغائر
كأنما محجرها كوة ... يطل منها الزمن الغابر
أقبل نحوي قائلا إنني ... طوع لما يقضي به الآمر
أتيت والليل طوى ذيله ... فعم صباحاً أيها الشاعر
قلت لشيطاني: أمن حالق ... أتيتني ام من شقوق الثرى؟(13/54)
فقال إني جئت من بقعة ... خافية تدعونها عبقرا
تسوس فيها الجن عرافة ... ترى بزجر الطير ما لا يرى
الشعر ولاّها شياطينه ... فسادت الهوجل والهوبرا
ساحرة مطلسم مسحها ... تطوي بها الأجيال والأعصرا
تقفوا السعالي أثرها كلما ... أججت المندل والعنبرا
جن من النور جلابيبها ... في كل سعلاة ترى نيرا
تضطرب الأرض متى أقبلت ... قاذفة عزيفها المنكرا
فقم بنا صاح إلى عبقر ... نجوس ذاك المجهل الأوعرا
وانطلق الشيطان في الجو بي ... كأنه النيزك أو أسرع
مكنت من فقاره قبضتي ... مندفعا أصنع ما يصنع
حتى تهاوى بي إلى موضع ... ما راقني من قبله موضع
غمائم زرق على متنها ... منازل جدرانها تسطع
تثور في أبراجها ضجة ... بها يضيق الأفق الأوسع
فقال هذي عبقر ما ترى ... وضجة الجني الذي تسمع
عزت على الأنس فمن حولها ... أبالس الأبراج تستطلع
أنحاؤه الأربع مرصودة ... تحرسها الزعازع الأربع
ما أفلت الإنسي من زعزع ... الا تلقى صدره زعزع
الشهوة:
جنية تمعن في وثبها ... كأن شيئا حولها راعها
حُلَّتها كالضوء شفافة ... عن بشرة تزيد إشعاعها
كأنما الشمس التي كورت ... من حلقات النور أضلاعها
ألقت إلى الأرض بما أبدعت ... ليكبر العالم إبداعها
إن بسطت ذراعها أحجمت ... ملتاعة تود إرجاعها
ثم أراها وهي مأخوذة ... تطوي على ما لا أرى باعها
من عالم الأجساد مبلوَّة ... بنهمة تود إشباعها(13/55)
لشهوة في نفسها طاردت ... في ظلمة الأدغال اتباعها
تعانق الأرواح حتى إذا ... خابت مضت تحمل أوجاعها
شفيق المعلوف(13/56)
في الأدب الشرقي
من الأدب التركي الحديث
بين صديقين
من ريف الأناضول إلى خمائل الأستانة
للكاتب الاجتماعي يعقوب قدري
من يدري مدى الحيرة التي تنتابك والدهشة التي تستولي عليك حينما يقع بصرك على إمضائي في آخر هذه الرسالة؟
فقد انقضت أعوام وأنا لم اكتب حرفا وأنت لم تخط إلي سطرا. ولا ريب انك ستجد في صوتي الذي اخترق حجاب هذا الصمت الطويل رجعا لصدى غريب من أصداء ما وراء الطبيعة. وهل أنا (والحق يقال) إلاّ رجل يخاطبك من وراء الطبيعة ويناديك؟؟
ان هذه الحرب الطاحنة والفوضى الجارفة قد بدّلتا كل شيء؛ حتى اصبح كل من خرج منهما سالما ذا أنباء وأخبار كأنما هو بأسرار القيامة عالِمْ وعلى أدوار ما قبل التاريخ واقف.
ان هذه السنين الخمس من أعمارنا مملوءة بحوادث خمسة عصور، فالأشياء التي كنا نعلمها والملامح التي كنا نعهدها قد أصبحت غريبة عنا ليس بها من عهد. وأنا اليوم لا أجد في نفسي القدرة على أن أتتذكر أيام الصبا التي كنا نقضيها مجتمعين والكتب التي كنا نقرؤها مشتركين والأعمال التي كنا نقوم بها متعاضدين والخيالات التي كنا نبني عليها سعادتنا متفائلين، وكل ما أستطيع أن أتذكره أننا لم نكن في تلك الأيام أسعد بالا ولا أحسن حالاً منا في هذه الأيام.
وأنا أريد ان أوضح لنفسي هذا بنفسي فلا أوفق، فيخيل إلى الآن إنني كنت بإنشاد الشعر مشغوفا، وانك كنت بالرسم مفتوناً، ففي السنة الأولى من عهد الانقلاب كنت أنا في عالم الآداب شاعرا معروفا بعض المعرفة، وكنت أنت في عالم الصناعة النفيسة رساما مشهورا بعض الشهرة وأننا كنا اكثر رفاقنا اهتماما للملبس واكتراثا للمسكن واحتفالاً بالمأكل: فكنا نقضي أيامنا بالذهاب إلى المآدب الفاخرة او بالسعي في ترتيب الملاهي الساهرة.(13/57)
على أنني أتذكر ان شهرتنا الصغيرة وثروتنا التي كانت تمهد لنا السبيل إلى رغباتنا والإعجاب الشديد الذي كان يظهره رفاقنا بنا، كل ذلك لم يكن ليروي ظمأ نفوسنا الصادية، ولا ليطفئ حرارة قلوبنا المتأججة. وكنا إذا ما انفردنا بأنفسنا نتشاكى ما يجول في خواطرنا من رغبات، وما يختلج في ضمائرنا من نزعات: فلطالما كنا نحتقر محيطنا وبيئتنا، ونشمئز من عالمنا وإقليمنا، فكانت ضالتنا المنشودة، أوربا. . . .
وكنا حين نسير في الشوارع، إذا تطاير إلى أثوابنا الوحل، أو تناثر على أحذيتنا الغبار، اشمأزت نفوسنا، واكفهرت وجوهنا، وزفرنا زفرة وصحنا: (هل يستطيع الإنسان ان يعيش في هذه البلاد؟!)
وأخيراً ذهبت أنت إلى روما، وأنا إلى باريس. ولكن يخيل إليّ ان تلك الرسائل التي كنت ترسلها إلي من روما، وأرسلها اليك من باريس، كانت مملوءة بنفس الشكاوي، مغمورة بعين الأحزان. فكنت تقول: (ان مظاهر الصنعة الباهرة، ومشاهد الفن الساحرة، لا تكفي لترويح روحي المعذبة، وتسكين نفسي المضطربة، وبالرغم من وجودي بين الجدران، وتحت السقوف التي زيَّنها (ميخائيل آنجلو) و (رفائيل) بريشتهما البديعة، فإنني منقبض النفس ولهان، مشرَّد الفكر حيّْران وان ذلك السجين الذي يحبس في الأقبية الضيقة ذات الهواء الفاسد، والحلك الدامس، لا يعرف معنى القسوة والشدة، مثلما أعرف فما الذي أريد، وعما أبحث؟. . .)
هكذا كنت تقول، وكنت أجيبك: (أجدني في هذه المدينة الكبرى وحيدا، أرجو السلوان فلا أجده، والتمس العزاء فلا ألقاه. فمن أنا بين هذه الجموع الغفيرة، ومن يدري بي؟ فان الجنون والخبال كادا يخالطاني لولا كتبي التي كانت تعيد إلى نفسي الأمل والتفاؤل بين الفينة والفينة!)
لم يمضِ زمن طويل حتى عدنا أدراجنا إلى الأستانة، فكنت أنت قد سئمت الرسم، وكنت أنا قد تركت الشعر.
فكنت أقول: (قد قيل كل شيء، وشعر بكل شيء، فما الفائدة من ترديد الأقوال التي مجتها الاذواق، وتكرير الاحساسات التي نفرت منها الأسماع؟؟)
وكنت تقول: (ما الذي يرسمه الإنسان ويصنعه، بعد ان رأى جدران كنيسة (سيكستين)(13/58)
المزخرفة البديعة وسقوفها الملونة الجميلة؟ فيجدر بالرسام اما ان يكون فناناً كأنجلو، واما ان يترك الرسم لأهله).
وكانت الحياة تمتد أمامنا وتنبسط، ونحن نسير يمنة ويسرة كالتائه في البادية القفراء التي لا حد لها ولا نهاية.
فكنا في وطننا وبلدنا، وبين أخداننا وخلاننا، مهذارين لا عمل لنا ولا شغل، نطوف الشوارع حيارى، ونجول في الأزقة كسالى. وكنت كلما استيقظ من النوم افتح عيني وأنا في سريري وأقول: (يا إلاهي! كيف أقضي هذا اليوم أيضاً؟!) وأئنُّ أنيناً شجيَّا كأن بين جنبي داء مبرحاً وفي أحشائي ناراً ملتهبة، وهكذا كنت أضيق بالحياة ذرعاً، واسخط على العالم كرهاً، وبينا أفكر ذات صباح في عثار جدي، إذ خطر ببالي خاطر لم أفكر فيه من قبل: ذلك هو خاطر الذهاب إلى مزرعة أبي، لعل الهم يسري عني قليلاً، والغم يهجرني ملياً.
فكنت تضحك مني يا أخي، وأنا أفارق الأستانة ضحكا مشوبا بالألم، وممزوجا بالحنان وتقول: (الحياة الريفية في الأناضول؟. . . ان ذلك لبعيد عنك؛ وسوف نرى!!)
ها قد مضت ستة أعوام: أنا هنا! ولا أكذبك إنني تألَّمت في أوائل قدومي، فساورني الهم والشجن واستولى عليَّ الغم والحزن؛ ولكني باعدت عن نفسي تلك الهموم، وشمرت عن ساعد الجد وأخذت أسعى وأتعب، بعد ان سئمت الحياة المدنية المتكلفة، وضجرت من العيشة البلدية المتصنعة فملت إلى الأرض أفلحها، وإلى الحيوانات أخدمها، وإلى الزروع أتعهدها. ولم تمضِ سنة واحدة على مجيئي حتى حوَّلت ذلك البناء الصغير إلى قصر كبير، وتلك البحيرة الكدرة الآسنة التي كانت للجواميس مقيلاً، وللخيول مشربا، إلى بحيرة صافية الماء، طيبة الرائحة. وكان يخترق المزرعة جدول أجرد ليس على ضفتيه نبات ولا شجر فأصلحت مجراه وغرست على جانبيه أشجار الصنوبر، فغدا اليوم روضة ذات منظر يملأ العين، ويبهج القلب. وان تلك الأراضي الواسعة الجرداء، والبراري الشاسعة القفراء، قد استرجعت حيويتها بفضل السماد والعناء، فأخذت تدر علينا الحب الكثير، والرزق الوفير.
واما أنا يا أخي! فرئيس (أغا) قرية، تراني وأنا أجول في الأراضي، وأطوف في البراري ممتطياً صهوة جوادي، قابضا على سوطي، محمر الخدين، مخشوشن اليدين، قد أكسبني(13/59)
العمل قوة العضلات، ووهبني الجهد حدة النظرات.
نعم! ان مسعاي قد أصابه اثناء الحرب بعض الإخفاق، ومزرعتي قد امتدت إليها يد الإملاق، وذلك لتلبية الشبان داعي الدفاع عن الوطن، وكان يجدر بي أنا أيضا الذهاب حيثما ذهبوا والتوجه أينما توجهوا، ولكن الأرض لم تدعني أذهب، ولم تتركني أجيب. ففضلت البقاء بين الأطفال والنساء أسعى لسد عوزهم وقضاء حاجتهم.
وأنا يا أخي ما كتبت اليك هذه الرسالة الا لتعرف ان السعادة قد توجد في الأماكن التي لا تخطر على البال، والمواضع التي ليست بذات جمال، ولتعلم انها لا تتوافر بالشهرة ولا الثروة ولا بالسفاهة والعزلة، وإنما تتوفر بالعمل المنتج في الارياف، والسعي المتواصل في المزارع.
فانك إذا كنت لا تزال في ذلك المكان المظلم الضيق الذي تركتك فيه، فاسمح لي أن أقول ان كل جهد تبذله فيما لا يثمر ضلالة عمياء تبعث القلق والندم، وكل سعي تقدمه فيما لا ينتج جهالة صماء توجب الخيبة والخذلان.
سورية. الريحانية. عمر لبسروق(13/60)
في الأدب الغربي
لامرتين والخريف
لامرتين شاعر رائق الفكر سليم الأسلوب رقيق العبارة. وهو واحد من
شعراء فرنسا المجيدين في القرن التاسع عشر. وإليه يعزى الفضل في
إحياء الشعر الغنائي الفرنسي الحديث.
حياته:
ولد في ماكون في (21 - 10 - 1790). وكان ابوه ملكيا متحمسا. وقد اضطر بعد عهد الإرهاب إلى الاعتكاف في ضيعته في بلدة ميلي مقربة من مسقط رأسه ماكون. وهناك شب ونما في أسرة حنون ومناظر طبيعية غاية في الجمال.
وقد ألقيت مقاليد تربيته إلى قسيس كريم كان لحبه للأقاصيص وكلفه بها أثر كبير في لامرتين حين كتب قصته (جوسلان أرسله أبوه بعد ذلك إلى كلية ليون ثم إلى مدرسة بليه الاكليريكية. وكانت دراسته حتى ذلك الحين ضئيلة تافهة قومها بعد خروجه من المدرسة بمطالعاته العديدة وبإمعانه النظر في الطبيعة وبجريه وراء الأحلام والخيال.
انتظم عام 14 في فرقة حرس الملك لويس الثامن عشر، ولم يتركها الا بعد (المائة يوم). وفي عام 1820 نشر مجموعة من الأشعار باسم (التأملات). وقد لاقت هذه المجموعة نجاحا منقطع النظير، وكان لها اثر كبير في شهرة لامرتين وتوجيه حياته في طريق العظمة والمجد. وفي العام التالي عين كاتبا لسر المفوضية الفرنسية بفلورنسا. ونشر عام 1823 مجموعة شعرية جديدة سماها (التأملات الجديدة) ثم دخل، بعد ذلك بسبع سنين، (الاكاديمية الفرنسية) وعكف علىّ الرحلة والأسفار فزار بلاد اليونان وسوريا وفلسطين. وكتب عند عودته، سياحة في الشرق.
غير ان الحياة السياسية جذبته إليها فرغب فيها، ومال إليها فرشح نفسه للنيابة وفاز في الانتخاب عام 1833 دون ان يكون له آراء أو مبادئ سياسية مرسومة محددة، ثم اندمج شيئا فشيئا في صفوف المعارضة. ووجهته أشعاره نحو الآراء الديمقراطية فاستقبلها وحفل بها. ويبدو ذلك جليا واضحا في مؤلفه (تاريخ الجيرونديين) عام 1847. وقد ساعد على(13/61)
سقوط الملكية بتمهيد الطريق لثورة يولية 1830 التي انتهت بخلع شارل العاشر، وبتنصيب مجلس النواب الفرنسي دوق أورليان (لويس فيليب فيما بعد) ملكا على الفرنسيين. وانتخب لامارتين عام 1848 وزيرا للخارجية في الحكومة المؤقتة التي تألفت من الجمهوريين والاشتراكيين حين ملَّت فرنسا حكم فيليب، الا أن لامارتين اضطر إلى اعتزال السياسة والعودة إلى الحياة الخاصة بعد ان حلَّ لويس نابليون المجلس وشتت أعضاءه عام 1851.
وقد كانت كهولة لامرتين محزنة اذ اضطر تحت عبء الحاجة للمال إلى الانقطاع إلى الإنتاج العاجل المهين لعبقريته والقاتل لذكائه. وقضى في 25 - 2 - 1869م بعد ان باع اكثر عقاره الموروث.
شعره:
هو شاعر عظيم ولكنه ليس بفنان موهوب، هو (هاوي الشعر) كما يقول هو عن نفسه. وهو لا يستطيع حين يعوزه الوحي والإلهام ان يفعل مثل غيره من الشعراء فيلجأ إلى كفاءته ومقدرته في الصياغة والتأليف ليسد بها حاجته وليشبع بها رغبته. غير ان مجموعة أشعاره الأولى (التأملات) تكفي من غير شك لأن تجعل من لامرتين شيخا للشعر الفرنسي الحديث. وقد ساعد على ذلك ان مجموعته الشعرية هذه تضمنت كل الصفات الغنائية التي فاتت شعراء القرن السالف الذين كانوا ينظمون أشعارا موسيقية في كل الموضوعات دون ان يفيضوا عليها شيئاً من أرواحهم. اما لامرتين فينشدنا ما أحس من فرح أو حزن ومن سرور أو ألم ومن راحة أو وصب.
وعبقرية لامرتين في مرونة أشعاره وتنوعها وفي تعبيره الدقيق عن العواطف السامية والإفصاح عنها الإفصاح كله.
وهو شاعر الطبيعة. عرف روح الأشياء وكنهها دون ان يتجشم مرة محاولة تصويرها وتلوينها وهو يحب على الأخص ساعات الغسق وفصل الخريف الذي تمتزج بمظاهره الأخيلة والأوهام في رقة وعذوبة. وهكذا يتلاشى فكره الذي ليس له من غاية محدودة في سحابات مبهمة عديدة وهو بعد ذلك يعرف كيف يستخلص لنا منها فكرة ويفصح عما يجول في خاطره في موسيقى عذبة جذابة.(13/62)
وقد بلغ لامرتين بوضوح الأسلوب وصفائه وتوافق نظمه وإيقاعه (وهما خلتان لازمتان للكاتب) درجة لم يبلغها شاعر قط. وقد أبدع لامرتين (دون تكلف أو جهد أو صقل) في نظم أشعاره وترقيتها وتنغيمها. غير ان البساطة والسهولة اللتين نظم بهما أشعاره أساءتا إليه من حيث لا يدري، فقد جعلتاه عرضة للسهو واستعمال العبارات المبهمة الغامضة والقوافي النابية الركيكة وذلك نجده بوضوح حتى في القطع الجيدة القليلة من شعره.
مؤلفاته:
كتب لامرتين، غير أشعاره الغنائية التي أشهرها (التأملات الشعرية) و (التأملات الجديدة) أشعاراً اخرى قصصية وفلسفية نذكر منها (موت سقراط وجوسلان وسقوط ملاك). هذا إلى مجموعة من المذكرات والقصص مثل (رحلة في الشرق وروفائيل جرازيلا). وقد كتب أيضا في التاريخ (تاريخ الجيرونديين) ولم ينس في أخريات أيامه أن يكتب (دروسا عامة في الأدب).
والقطعة التي اعرض لترجمتها اليوم هي قطعة من مجموعة أشعاره التأملات الأولى. وقد كتبها في خريف عام 1819.
ولم تكن حالته الصحية وقتئذ على حال من الثبات والاستقرار. فقد كان نهبا لشتى الآلام والعلل. هذا إلى صدمة تلقاها من قبل اذ رفضت خطبته الآنسة ماريان اليسا بيرسن الإنجليزية التي أصبحت له فيما بعد زوجة. وهو يشير في الفقرة السابعة إلى هذا الأمل الضائع.
وقد أوحى بها إلى لامرتين نوبة حادة من الحزن والكمد وقد صار موضوعها من الموضوعات التي يتميز بها شعر جماعة (الرومانتكيين). فالخريف؛ صورة من الفناء والموت يحمل بين طياته الحسرة والندم على السعادة الذاهبة.
وقد كتب في هذا الموضوع نفر من الشعراء الإنجليز والفرنسيين الا ان لامرتين اسبغ عليه فيضا من التغييرات الدقيقة استخلصها من حس رقيق وخيال واسع وقريحة خصبة. قال:
1
سلام عليك أيتها الخمائل المكللة بفضلة من الخضرة! ويا أيتها الأوراق المصفرة المتناثرة(13/63)
على العشب سلام عليك أيتها الأيام الأخيرة الجميلة! ان حداد الطبيعة يلتئم وألمي ويتفق ومشاربي.
2
وها أنذا أسير في الطريق المنعزل حالماً مفكِّراً ويحلو لي ان أرى ثانية وللمرة الأخيرة الشمس الكاسفة وقد أخذ شعاعها الواهي الضئيل يكشف الطريق بعد لأي لقدمي وسط ظلمة الخمائل الحالكة.
3
حقاً أني أجد في لحاظ الطبيعة المحجبة حين تقضي في أيام الخريف جاذبية وسحرا، انها وداع صديق، بل هي ابتسامة لشفتين سيلجمهما عما قريب الموت إلى الأبد.
4
وها أنذا وقد شارفت أفق الحياة، ما زلت أتلفت وأنا ابكي أمل أيامي الطويلة المتلاشي، وانعم نظري في حزن وحسرة في محاسن الحياة التي لم أتمتع بها بعد.
5
يا أيتها الغبراء، ويا شمس ويا وديان، ويا أيتها الطبيعة الجميلة الحلوة، إني مدين لكن بدمعة وأنا على حافة قبري! ما أعبق النسائم بالعطور! وما أنقى الضوء! وما أجمل الشمس في نظر المحتضر!
6
كم أودُّ الآن أن استشف هذه الكأس وقد امتزج فيها الرحيق بالمرّْ. فلربما تبقى لي في هذه الكأس التي أتناول فيها الحياة، قطرة من الشهد.
7
ولربما أخفى لي المستقبل أيضا في ثناياه أوبة لسعادة ضاع الأمل فيها! ولربما تفهم نفسي؛ من بين الصفوف، نفس أجهلها فتجيبني!. . .
8
تسقط الزهرة تاركة عطرها للريح الدبور، وهذا وداعها للحياة وللشمس. وها أنذا أموت! وروحي حين تفيض تتصاعد كرجع صوت حزين شجي.(13/64)
محمود فهمي ادريس. ليسانسييه في اللغة الفرنسية وأدبها
(الرسالة) نشرنا هذه المقالة تشجيعا لشبابنا الناشئين في الأدب ولعلهم قبل ان يفكروا في الكتابة يستكملون أداتها الضرورية من نحو وبيان، فان إهمال ذلك شر ما يؤاخذ به الكاتب.(13/65)
العلوم
الاشعاع
للدكتور أحمد زكي. وكيل كلية العلوم
الاشعاع من أظهر ظواهر الوجود وأهم حادثاته الدائمة، تجده في المثل الصغير الحقير كما تجده في المثل الهائل الكبير، فالشمعة يحترق دهنها فيشع من احتراقه نور مضطرب ضئيل، يجهد ان يبدد من ظلمة الليل ما استطاع حتى يتبدد هو والنجوم تتوقد في السماوات العلى فتشع فتبعث في القبة الموحشة السوداء روحا وتبعث فيها جمالاً، ويتأجج هذا التنور السيار الهائل تلك الشعلة الدوارة الأبدية التي أسميناها الشمس، فتشع علينا بالنور والدفء، وبالهدى والحياة.
هذه أمثلة للإشعاع معروفة مألوفة، لأن العين تراها ولكنها ليست كل ما في الوجود من ذلك. ففي غير المألوف إشعاعات كثيرة لا تراها العين كشفها العلم. فالإشعاع اللاسلكي مثل حادث قريب الوقوع لا يزال يملأ قلوبنا بالإعجاب، ورءوسنا بالفكر والتأمل والحيرة، ولكنه ليس الا بعضا من كل، ومثلاً من مثل. تحدث ظواهر بينة الخلاف شديدة التغاير، وهي على شدة تغايرها وظاهر تناكرها وتعدد أسمائها حبات في عقد واحد وحلقات في سلسلة مطردة وأفراد من أسرة واحدة، تختلف سمة وتقاسيم ولوناً، ولكن تحت هذا الظاهر المضطرب باطن مستقر تلتقي جميعها فيه، وتتوحد جميعها عنده. ولكل شعاع من تلك الأشعة حكاية رائعة، وأحدوثة جميلة تنطق عن صبر للإنسان لا ينفد، وعن حيلة لا تعرف الخيبة، لا في استكشاف تلك الأشعة فحسب، بل في إلجامها وركوبها وتأنيسها حتى تكون ذلولاً طيِّعاً لا تنفر الا إذا أراد الإنسان منها النِفار، ولا تبطش الا حين يريدها على البطش. تناول السير اسحق نيوتن اظهر انواع الاشعاع بالبحث فأمرَّ أشعة الشمس في منشور ثلاثي من الزجاج، فبدل ان تخرج بيضاء كما دخلت، خرجت خليطا من أضواء عدة ذات ألوان عدة. فأعاد تجربته ثم أعاد فخرج على أن ضوء الشمس الأبيض مزيج من عدة أضواء، أي ان إشعاعها وان ظهر متجانسا خليط من جملة إشعاعات مستقلة الحدوث. وأسمى هذا المزيج بالطيف، فكان هذا هو الحجر الأول في بناء علم الإشعاع الحديث.
وانتقل الإنسان يسأل نفسه بعد ذلك: وكيف تسافر أشعة هذا الضوء؟ قال نيوتن انها تسافر(13/66)
في خطوط مستقيمة، وقال بنظريته المعروفة وفسر بها بعض الظواهر الضوئية كالانعكاس، وبالتدرج أخذ عقل الباحثين يقتنع بالشبه الذي بين سفر الضوء على متن الفضاء، وسفر الأمواج على متن الماء، حتى اهتدوا إلى إثبات أن أضواء الطيف إنما اختلفت ألوانها من الأحمر إلى البرتقالي إلى الأصفر إلى الأخضر إلى الأزرق إلى النيلي إلى البنفسجي لاختلاف في الطول بين موجاتها، واهتدوا كذلك إلى ان الضوء الواحد ذا اللون الواحد إذا ضعف أو اشتد فإنما يحدث ذلك لضعف الموجة او اشتدادها، اعني زيادة ارتفاعها وانخفاضها، او نقصهما عن مسارها المستقيم في الفضاء، وان شئت فسمِ ذلك اتساعها، اما طولها فثابت لا يتأثر ما بقي اللون على حاله، فان تغير طول الموجة تغير اللون، فاللون الأحمر أطول موجة من البنفسجي؛ ولو انك وقفت في مسار هذين اللونين وعددت موجات الأحمر التي تمر عليك في ثانية، وعددت مثال ذلك من البنفسجي لوجدت عدد موجات الأحمر أي ذبذبته أقل لطول موجتها من ذبذبة البنفسجي. وخرج العلماء من هذا كله بان الشعاعة تتعين وتتحدد بذبذبتها وبطول موجتها وبسعتها.
بعد ذلك تساءلوا عما يحمل موجة الضوء من مكان إلى مكان. موج البحر يحمله الماء. وتهز الحبل فتسير فيه موجة تبتدئ من حيث مسته يدك وتنتهي حيث ربطته من الحائط. فالحبل أو كتانه هو الذي حمل موجته. فأي مادة حملت موجة الضياء حتى أتتنا من الشمس والقمر والكواكب؟ ليست هي مادة الهواء، فإنما الهواء غلاف كقشرة البرتقالة يلف الأرض ولا يصعد إلا أميالا نحو السماء، وليست هي مادة مما نعرف من المواد، بل ان الضوء يسير في الفراغ، فإن الأنابيب المفرغة بالمعنى الذي نفهمه لا تعوق الضوء في انسيابه. ولكن الموجة طاقة متنقلة، والطاقة لابد ان يتقمصها شيء. فما هو هذا الشيء الذي عجزت حواسنا الموهوبة عن إدراكه وآلاتنا مهما دقَّت عن كشفه؟ والآلات كثيرا ما بصرت بما عميت عنه العين، وسمعت ما صمت عنه الآذان، وناءت بأثقال توافه لا تحفل بها اليد. ما هو هذا الشيء المعدوم في وجوده، الموجود في عدمه؟ ان هذا الشيء معدوم عند العقل العادي الذي لا يؤمن الا بالذي يراه، ولكنه موجود عند العقل العلمي الذي يتخذ من الآلات حواس جديدة فوق حواسه الخمس، ويتخذ من حقائق العلم وتجارب العلم وماضي العلم وحاضره ومآسيه ومفارحه دروسا وعبراً، ويتخذ من التفكير العلمي وحواره وحجاجه(13/67)
واستنتاجه منطقا جديدا غير منطق الشراب والطعام والملبس والمركب. موجود عند ذلك العقل العلمي الذي لبس جناحين من ذكر للماضي عاصم من خدعاته وثقة جريئة في المستقبل لا تعرف إلا الإمكان، يطير بهما في مجاهل لا يغني فيها السمع والبصر، ومفاوز على حدود البشرية أشبه بالمعاني منها بالمباني، وبالأرواح اللطيفة منها بالأجسام الكثيفة، هذا الشيء الذي لابد أن تسير فيه موجات الضوء موجود عند ذلك العقل العلمي بالرغم من ظاهر انعدامه، منظور بالرغم من خفائه، ملموس ولو أفلتته الاصابع. وإذن فلا بد له من اسم. فأسموه الأثير. وما مادته؟ لست أدري ولا المنجِّم يدري. وما خواصه؟ لا يعرفها حتى الذي اسماه. سئل الأستاذ أوليفر لودج العالم الطبيعي المعروف عن تعريف له فقال في كلمات ثلاث: هو شيء يتموج. وان كان لابد لك من تعريف فقل انه شيء له من الخواص ما يأذن بانتقال موجات الضوء فيه على نحو ما نعرف وفقا للقوانين التي نعرف، والسرعة الهائلة التي نعهد. فمثلا نعرف ان سرعة الموجة تتوقف على كثافة المجال الذي تنطلق فيه، ونعرف ان الضوء في سيره يقطع في طرفة العين ولمحة الخاطر مسافات يصعب على خيال المرء تصويرها، فنستنتج من هاتين الحقيقتين ان الكتلة التي في سنتمتر مكعب من هذا الأثير لابد ان تكون هائلة المقدار. وبعد ان درس العلماء الوان الطيف وهو كالسلم بدرجاته السبع، أسفلها الأحمر وهو أطولها موجة وأبطأها ذبذبة، وأعلاها البنفسجي وهو أقصرها موجة وأسرعها ذبذبة أخذوا يبحثون عن موجات أسفل من الأحمر وأطول منه موجة، وعن اخرى أعلى من البنفسجي وأقصر منه موجة، فهدتهم التجارب إلى صدق ما حدسوا: إلى موجات دون الأحمر وهي الموجات التي تنتقل بها الحرارة من بين ما تنتقل، وإلى موجات فوق البنفسجي وهي موجات ذات خواص كيميائية تستخدم في التصوير الشمسي، وأمرها الآن معروف ومشهود، وكلا هذين النوعين من الاشعاع غير منظور، فالعين لا ترى الا سلَّم الطيف بدرجاته السبع.
وأحس الطبيعيون بأن شعاعات أخرى لابد موجودة فيما دون الأحمر غير التي اكتشفت، فأجرى العالم الطبيعي (هرثر) تجاربه فكشف بها عن موجات جديدة غير مرئية وجدها شبيهة بموجات الضوء والحرارة، الا انها اكثر طولا واقل ذبذبة، وسميت باسمه. وفي الناحية الاخرى في أعلى السلم اكتشفت موجات غير مرئية اخرى قليلة الطول كثيرة(13/68)
الذبذبة، سميت بالأشعة الكهربائية المغناطيسية، ثم تلتها الأشعة (السينية) المعروفة بأشعة (اكس) وقد أفادت الطب اكبر فائدة وهي تنفذ في الرصاص إلى نحو من خمسة سنتمترات. واليوم نتحدث عن الأشعة (الكونية) صعد الأستاذ منطاده في بالونه المشهور إلى طبقات الجو العليا في طلبها، وتحدثت عنها وعنه الجرائد منذ أشهر قليلة. وهذا الاشعاع الجديد لا يتوقف انبعاثه على الكرة الأرضية التي لنا الحظ بالعيش عليها فهو ينبعث صباح مساء في الصيف والشتاء غير آبه لنا أو لها، وينبعث حاملا طاقة واحدة لا تزيد ولا تنقص ينفذ بها في الرصاص بضعة أمتار وفي الماء نحو 800 قدم. ما أثر هذه الأشعة الجديدة اكتشافا، الأزلية مولداً، فيما على الأرض من حياة؟ ما أثرها في حياة النبات والحيوان وفي حياتنا نحن وارثي الأرض وما عليها؟ يقول الأستاذ السير جيمس جينز ان هذه الأشعة تحلل في الثانية الواحدة ملايين الجزئيات من أجسامنا. ان كان هذا حقا فما اثقل النعاس الذي كنا فيه حتى نمنا كل هذه القرون والأجيال عن أمر له هذا المساس القريب بذواتنا. ويا ترى كم من أمواج اخرى في هذا الفضاء تعمل فينا وفي أجسامنا وفي أرواحنا، ونحن عنها غافلون. وهل يا ترى سنجد في هذا النوع من الاشعاع تفسيرا لبلي الجديد وشيخوخة الشباب وفناء الحي. أذكر من سنوات عدة كلمة للسير أوليفر لودج لا أنساها الا إذا نسيت حضرته الرائعة، تروعك منها قامته الطويلة وكتفاه العريضان ورأسه العظيم يطل عليك من فوق جسمه الكبير مجللا بالشيب ولحية وقورة بيضاء صافية كصفاء ايمانه، وعينان وادعتان تنظر اليك منهما حقب من الزمان امتلأت علما وفكرا في مبنى الوجود ومعناه. كان يحاضرنا في جمع حافل أتى يستمع للعالم الشيخ فساقه ختام المقال إلى عفو من الكلام قال: (أنا هنا واقف بينكم في القرن العشرين في قاعة مملوءة بأنواع عدة من أمواج عدة (يقصد الأمواج اللاسلكية) منبعثة في اتجاهات عدة وكلنا صموت نتسمع ولكننا لا نسمع شيئا. ولكننا جميعا برغم ذلك مؤمنون بوجودها. ولو أني وقفت بينكم هذا الموقف في القرن الغابر أحدثكم عن هذي الأمواج لقلتم خرف أصابه مس الكبر. الفرق بين الموقفين فرق بين الزمنين، ذلك أني اليوم أستطيع أن أعيركم هذه الأذن الجديدة (وأشار إلى سماعة اللاسلكي التي تلتقط الأمواج) تسمعون بها ما عجزت عن سماعه آذانكم. ثم دار الأستاذ بعينيه في أرجاء الحجرة الواسعة في صمت وبطئ كأنما يستوحي جدرانها ثم قال: (ليت(13/69)
شعري كم بهذه الغرفة الآن من أمواج غير التي نحن بصددها، وليت شعري أي الآذان يبتدعها الإنسان لادراكها، وليت شعري متى يكون هذا. . . وأنّى، واين؟) ثم صمت يفكر وصمتنا ننظر. فقال (ما الخاطر يرد لي ولك في آن وبيننا الأقطار العريضة والبلاد الواسعة؟ ما النذير يأتي قلبي وقلبك بالشر فيصدق حينا ويكذب حينا؟ ما الايحاء؟ ما الوحي؟) وفنيت جملته في تمتمة لم نسمعها، ورسمت يمناه في الهواء دوائر كأنما كانت تستكمل له رأياً لم يبح به أو فكرة وجد من الكياسة لا يذيعها، او لعله الهام جاءه على غير احتساب فشاء ان يتذوقه في مخدعه فردا قبل ان يكون للجماعة شأن فيه. وفي العلم الهام كما في الشعر الهام، وكما في النبوة وحي؟(13/70)
القصص
قصة مصرية
دموع بريئة
للأستاذ محمود الخفيف
عرفته في الثامنة عشرة، طويل القامة في غير افراط، نحيل الجسم في غير هزال، مهيب الطلعة في غير تأنق، حلو الحديث في غير تكلف، ولست أذكر وقد مضى على تعارفنا نحو ستة أعوام ما الذي جذبني إليه حينما رأيته لأول مرة حتى لقد امتزجت روحي بروحه، أهو هدوءه ورزانته ام نشاطه وهيبته؟ وكل ما أتذكره الآن هو أني رأيته فأحببته ولشد ما أبهج نفسي أن رأيته يحس نحوي ما أحس نحوه فما هي الا أيام حتى توثقت عرى المودة بيننا واستحكم الوفاق بين قلبينا وصار كلأنا يأنس بصاحبه ويهش للقائه ويحرص على رضائه. ولما عاشرته وتبينت خلاله أعجبني منه أدبه الجم ووقاره العاقل وقلبه الرحيم وأكبرت منه نظراته الهادئة ونفسه المتوثبة وعواطفه الثائرة وشبابه المرح وروحه الجذابة.
وتبينت فيه شاعراً يقدس الجمال ويعشق الطبيعة في خيال خصب وذهن متوقد وحس دقيق كما تبينت فيه على حداثته فيلسوفا بعيد النظر دقيق الملاحظة حلو الفكاهة عذب الروح ورأيته مشغوفا بالحياة مقبلا عليها قانعا بحظه منهما راضيا عن نفسه غير ساخط على أحد. ولقد جعلني منذ ان تعارفنا موضع سره يحدثني في غير تحفظ ويجد عزاء طيبا في ان يبثني لواعج نفسه وخطرات حسه كما يجد هناء سائغا في أن أشاطره مسراته وأسباب سعادته. وكان حديثه تارة حزينا يستدر الدموع وتارة بهيجا يملأ جوانب النفس سروراً وغبطة وكان يقص عليَّ مشاهداته في الحياة غير انه كان يشفعها بآرائه او يمزجها بخواطره فيكسبها بذلك قوة تحرك القلب وتستثير العواطف. وكنت أحرص على أحاديثه إذ أرى فيها خواطر فتى كبير القلب راجح العقل. غاب عني شهرا فأشفقت أن يكون قد مسه الضر وأردت أن أذهب إليه ولكن الخادم أحضر إليَّ كتابا تبينت خطه على غلافه ففضضته في شغف فإذا به يخبرني انه سيكون عندي في المساء، ومرت الساعات ثقالا(13/71)
حتى كانت الثامنة فإذا هو يطرق الباب ثم يفتحه في هدوء. ودخل عليَّ شاحبا مكدوداً واجما مهموما. ومد إليَّ يده وكأنه قرأ في وجهي إشفاقي وتلطفي، فابتسم ابتسامة قصيرة ثم جلس وقد اتكأ بمرفقه على حافة القعد وأسند رأسه إلى قبضة يده، وشملته كآبة مرعبة دق لها قلبي فأنا اعرفه ثائر العواطف واسع الرحمة يستوقف بصره بكاء بائس فتدمع مقلتاه، ويطرق أذنه أنين ملتاع فيملك عليه مشاعره وكثيرا ما اظهرت له إشفاقي فكان يضحك مني قائلا: لا حيلة في ذلك فتلك جبلته. ولقد كان يتهم نفسه بالطفولة ولكنه كان يعود فيفتخر بهذه الطفولة التي تملأ قلبه رحمة وحناناً. واطرق قليلا ثم رفع رأسه وقال وهو يضحك ضحكة غريبة تعبر عن الأسى والألم: (هو شهر، ولكنه قرن في حوادثه) وتالله لقد ألهب شوقي بتلك العبارة فاصخت بسمعي إليه وأقبلت بكليتي عليه وفهم هو من نظراتي أني استعجله فهز رأسه هزة عصبية وقال:
لله ما اغرب هذا المسرح الهائل مسرح الحياة الذي يموج بالناس في غير نظام وكل يلعب دوره حتى يسدل الستار عليه فإذا هو في طي الفناء وفي أغوار الأبدية. هذا ضاحك مستبشر وهذا فرح فخور. وهذا بائس محزون وهذا حائر مشدوه وهذا مستسلم وهذا مغتر متطاول وهذا. . . وأخيراً يتساوى الجميع فيساقون في سكوت كل إلى حفرته.
قلت أمرك عجب ايها الصديق وهل هذا ما يحزنك هذا الحزن؟ لكأني بك قد اجتمعت فيك كل هذه الصور. ماذا أحزنك وعهدي بك مرحا خلي البال؟ وتنهد الفتى تنهدا عميقا وقال:
(على المسرح المرعب او قل في زواياه التي لا تراها الا الأعين البصيرة او التي لا تراها الأعين الا مصادفة، على هذا المسرح الصاخب المضطرب وفي هذه الزوايا المتوارية عن الأنظار يوجد من المآسي والآلام ما يتفطَّر له القلب حقاً. . .)
وقاطعته قائلا: هون عليك يا فيلسوفنا الصغير وما لك ولهذا الانقباض وأنت في زهرة العمر؟
فنظر إلي نظرة لوم وقال:
(ما حيلتي وتلك جبلتي؟ يراني الناس ضاحكا فرحا فيظنون أني خلو من الهموم، وتالله ما ضحكي الا خداع مني لنفسي ومغالبة لشعوري، هو كالزهر الصناعي يغالط به الطفل نفسه. . . ولكن. . . أراك على حق فسأضحك وسألعب وسأنسى كل شيء. . . نعم سوف(13/72)
اضحك مع الضاحكين. . . وسوف لا ابكي بعد اليوم مع احد او على احد. . .)
وضاحكته استطلع دخيلة نفسه وحقيقة أمره فاعتدل في جلسته وتوثب وتحفز واستجمع قوته ثم قال في قوة وعزم
هو دور لعبه أمامي ويا ليتني لم أره ولكن ما اسخف لعبته هذه!. . . ليكن ما يكون وليكن ما قدر وهو كائن.
قلت مالأمر؟ انك تحيرن. فاستطرد في صوت أبح لم اسمعه منه قبل اليوم وقال:
(هن فتيات أربع جئن فسكنَّ في المنزل المجاور لنا وكان قبل مجيئهن تسكنه سيدة وابنها وهو فتى في نحو الخامسة والعشرين ولقد تبينت بعد مجيئهن إنهن اخوته وكان أول ما رأيتهن في ظهيرة يوم عندما عدت إلى المنزل ففتحت النافذة كعادتي في كل يوم وإذا بي أراهن أمامي لا يكاد يفصلني عنهن إلا نحو سبعة أمتار وما وقعت أنظارهن عليّ حتى جرين مسرعات إلى داخل الحجرة واقفلن الباب من ورائهن إلا صغراهن وهي في العاشرة تقريبا فقد ظلت ترمقني بنظرات ساذجة بريئة وكأنها وكانت تجيد (لعبة اليويو) قد أرادت أن تريني مهارتها فأخذت تلعبها وتنظر إلي، فابتسمت فضحكت ودخلت إلى أخواتها صائحة لاعبة. ومضيت أنا إلى بعض المجلات فجعلت اقلبها ولكن نظري كان كثير الاتجاه دائما نحو هذا المنزل أو نحو ذلك الباب، وأنت يا أخي تعرفني أحب الاستطلاع ولا أكاد استقر حتى تصل نفسي إلى ما تريد فجلست اختلس النظرات وأتظاهر بالنظر إلى الصحيفة التي في يدي فرأيت كبرى البنات وهي في العشرين تقريبا قد وقفت إلى الباب فرأيتها ذات حظ من الجمال غير قليل غير انه جمال شاحب حزين. ومرت أختها الصغيرة أمامي وهي في نحو السادسة عشرة تكسو محاها سمرة خفيفة وهي فتاة ضاحكة والعينين مرحة جريئة النظرات سريعة الحركة خفيفة الروح إلى حد عظيم. أما وسطاهن فلم تظهر طول ذلك اليوم. ولست ادري وأيم الله لم ضايقني ذلك، وكل ما أذكره هو إني أحسست بانقباض وضيق لعدم ظهورها. على إني ما لبثت أن اضحك بل وسخرت من نفسي ومضيت إلى كتبي ونسيت من أمرها ومن أمرهن كل شيء. وفي صبيحة اليوم التالي نزلت إلى عملي فتبينت وجهها من خلال زجاج النافذة، جميلة رائعة الجمال دعجاء المحاجر بيضاء الوجه دقيقة الأنف حلوة اللفتة ناهدة الصدر. وفي ظهر ذلك اليوم رأيتها(13/73)
واقفة فلم تهرب كعادتها بل رفعت إليّ بصرها ثم دخلت حجرتها في هدوء ورزانة. لا أكتمك يا أخي أني شعرت بميل نحو تلك الفتاة كان أول أمره معتدلا عاديا. فقد أعجبني منها رشاقة جسمها واتزان حركاتها وتناسق أعضائها وغضارة بشرتها وجمال محياها وكانت عيناها الدعجاوان ترسلان من أشعتهما حرارة الشباب فتهز قلبي وتفتح جوانب نفسي حتى لقد صرت أجد في النظر إليها متعة وهناء أشبه بهناء النفس في حلم هادئ جميل. غير أن ما جذبني إليها حقا هو تلك النظرات الحزينة الهادئة التي كانت تتخلل نظراتها اللامعة القوية وتلك البسمات الخفيفة الفاترة التي كانت لا تلبث أن يطفئها وجوم غريب وإطراق مؤثر. وازداد ميلي إليها إلى أن كنا صبيحة يوم فسمعت وأنا بين النوم واليقظة نحيبا متقطعا ولست ادري لم انصرف ذهني إليها لاول وهلة؟ فقفزت إلى النافذة فرايتها ووجهها بين كفيها باكية تئن أنيناً موجعا. وأنا أترك لك أن تقدر لنفسك مبلغ ما نالني من الحزن في تلك اللحظة الرهيبة ولقد كدت أن أصيح بها أن كفكفي دموعك يا فتاة لولا انها أفاقت سريعا من غشيتها ومسحت دموعها في هدوء ثم نظرت إلى الشمس المشرقة نظرة حزينة يهتز قلبي كلما ذكرتها ودخلت بعد ذلك إلى مخدعها. ومنذ ذلك اليوم عرفت طعم الألم حقا وكانت تتمثل لي صورتها فيكتنفني من الألم اللاذع ما يزق شغاف قلبي ويحرك مكامن وجدي ولا سيما وقد تكرر ذلك منها كثيراً في الصباح أحيانا وفي المساء أحيانا اخرى.
وأخيراً. . . وأخيراً حم القضاء ووجدت نفسي أسير تلك الفتاة الحزينة الباكية ولك ان تعجب مني ما شئت أنا الذي طالما سخرت من الحب وهزأت بالعاشقين، أنا الذي طالما وصفت لك الحب بانه حلم من أحلام الشباب الخادعة وسراب خلب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجد شيئا، أو فورة دماء واضطراب مزاج لا أقل ولا أكثر، ولكن الإنسان ضعيف لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا.
ولماذا أحببتها؟ أهو جمالها الساحر قد ملك على نفسي أم هو حزنها العميق قد صادف عطفا وحناناً في قلبي؟ ولكن مالي أبحث عن سر حبها ومتى كان الحب أمرا يقبل التعليل ويخضع للتحليل! مالي لا أقول أني أحببتها لأنني أحببتها ولتضحك بعد مني ماشئت ولكن لم تضحك؟ أليس الحب تفاعلا نفسانيا أو مزيجا روحانيا يأتي بكل سهولة وبغير أدنى(13/74)
ترتيب؟
أحسست باهتمامي بأمرها وإشفاقي عليها فكانت تشكرني بابتسامة عذبة وصرت أرى في عينيها ما يدل على الاعتراف بالجميل، ولكني كنت لا أرى في نظراتها ما يدل على أنها تبادلني حبي وتطارحني هيامي، انها كانت نظرات شكر وامتنان وتالله كانت تؤلمني أحيانا ولكني كنت في سكرة الحب أعلل النفس بالآمال واترك للغد القول الفصل والحكم الأخير. ولكن تصرمت أيام دون أن اجرؤ على مخاطبتها ولو بالتحية.
وراقبتها مرة فرأيتها تتأهب للخروج وثارت نفسي واعتراني جنون الشباب وامتدت يدي إلى ملابسي فلبستها دون ان اشعر بشيء أو ادري ماذا افعل وسرت في أثرها وأن فؤادي ليخفق وأن نفسي كلها لتهتز إلى أن رأيتها تجلس وحدها على حافة قناة صغيرة كانت تقرب من المنزل وقد أطرقت قليلا ثم رفعت رأسها فإذا هي تراني أمامها فساورها مزيج من الدهشة والابتسام والخوف والارتياح والغضب والرضى. ولست ادري من أين جاءتني تلك الشجاعة في تلك اللحظة الدقيقة؟ فقلت في ثبات:
هل لي يا فتاة أن أسألك سؤالا صغيراً؟
فنظرت إلي نظرة عميقة فيها كثير من المعاني. ويح نفسي إني لأراها الآن، أرى تلك العينين الدعجاوين وتلك التقاطيع الحلوة وذلك الفم الجميل وتينك اليدين الرشيقتين.
قالت وما سؤالك يا فتى؟
قلت: هل لي ان اعرف سبب حزنك وبكائك؟
فسرت رعدة قوية في أعضائها وتمشت صفرة فاقعة في وجهها وكأنني هززت بذلك السؤال كل كيانها وتمتمت بكلمات لم اسمعها ثم قالت:
شكرا لك على اهتمامك بأمري. لست أستطيع أن أجيبك على ما سألت.
قلت ولكني أريد ان اعرف.
فعظمت دهشتها وبدا على محياها ذهول وخوف ثم قالت في حدة مصطنعة:
وما شأنك أنت والسؤال عن هذا؟
قلت أني. . . أني. . . أريد. . . أرجو. . .
فساورها الشك في عقلي فلقد قرأت هذا الشك في نظراتها، وحدجتني بنظرة طويلة وقد(13/75)
اغرورقت بالدمع مقلتاها ثم أشاحت بوجهها عني فألحفت وتوسلت فقالت:
اليك عني واتق الله في فتاة ضعيفة بريئة.
قلت لا أستطيع البعد عنك.
ثم انهمرت دموعي فصدقت وقالت وهي تنتفض من شدة الاضطراب:
حسبتك أحد أولئك الشبان الذين لا أخلاق لهم ولقد هممت أن أصرفك في قسوة.
ثم نظرت إلي طويلا دون ان تتكلم فقلت في صوت خافت متقطع: ستكونين لي منذ الآن.
فتجهمت قليلا ثم ابتسمت ابتسامة فهمت من معانيها الندم والحسرة والألم وهزت رأسها كأنها تريد ان تقول لي انك لا تدري من الأمر شيئا ثم قالت:
دعني بربك ولا تشغل نفسك منذ اليوم بأمري فلن يجديك ذلك نفعا وستبدي لك الأيام صحة قولي وصدق نصحي.
وكأنها ارتاعت لوقع ذلك على قلبي فقالت وهي تبكي:
آه ليتني أستطيع!. ليتني أستطيع!. اتركني أشكرك على. . . وغلبها الحزن والبكاء فأجهشت كما يجهش الطفل. فتظرفت إليها ولاطفتها ثم تناولت يدها فلم تمانع ولما أردت ان اجذبها نحوي نهضت قائمة وسارت لا تلوي على شيء ولم تلتفت وراءها وغابت عن بصري في منعطف، فبقيت في مكاني جامدا كالصخر ثائرا مضطربا ثم مرت علي دقائق افتقدت فيها نفسي وحسي.
ومرت أيام وأنا أتجنب النظر إليها ما استطعت، أيام كنت أثنائها كالذي يتخبطه الشيطان من المس ولقد بلغ من نفسي أنني كنت أرى الأسرة كلها حزينة كأنما هم مقبلون على أمر خطير. ولما ضاقت بي الدنيا كتبت إليها اطلب عفوها وأبثها لواعج نفسي. وفي صبيحة يوم جلسن جميعا يبكين حول أمهن وأنا حائر مشدوه لا ادري من أمرهن شيء فناديت البدال فأقبل وهو فتى طيب القلب فقلت له: أتدري يا فتى سر هذا الحزن؟ وأشرت إليهن دون أن يرينني.
قال أو ما تعلم؟
قلت كلا.
قال ان صاحب المنزل قد (أوقع الحجز) عليهن أعقبه بائع الخبز بحجز مثله وفاء لما(13/76)
عليهن من الدين وقد قرب يو البيع.
قلت وقد دق قلبي دقا عنيفا: هل مات أبوهنَّ؟
قال خير لك الا تعرف عنه شيئا، ثم قال:
كان أبوهن تاجرا من كبار التجار وكان عظيم الثراء ولكنه لم يرع النعمة وراح يقامر مرة ويسرف مرة ويتعاطى المخدرات بكثرة مخيفة وهو الآن نزيل السجن من سنتين.
وارتفع الدم بغزارة إلى وجهي وأحسست بحرارة كحرارة المحموم ومرت غشاوة فحجبت بصري ورأيت الجو بعد برهة اصفر مكفهرا ثم قلت:
وأخوهن؟
قال هو شاب عاطل لا يجد لنفسه عملا مع انه يحمل شهادة عالية. مناه أصدقاء والده كثيرا بوظيفة ولكن أين هي الوظائف الآن؟ وكثيرا ما نصحناه ان يلجأ إلى عمل، أي عمل حر ولكن يظهر أن الأبواب سدت في وجهه.
قلت ولم لم يتقدم احد لخطبة البنات من قبل؟
قال بلى خطبت الكبيرتان ولكن خطيبيهما تركاهما بعد ما جرى لأبيهن ما جرى. ثم سكت البدال وقال في ألم: مع ان البنت الوسطى ولعلك تعرفها ذات الشعر الأصفر كانت تحب خطيبها لدرجة الجنون.
فصرفته ودخلت حجرتي كئيبا ملتاعا وذرفت الدمع سخينا.
وسكت صاحبي برهة ثم قال في نبرات حزينة: أرأيت كيف يقضي هؤلاء الإغفال على أنفسهم واموالهم وأولادهم؟ الا قاتل الله الجهالة انها اصل الفواجع والآلام. ثم قال دونك فاسمع البقية، وبدت منه حركة عصبية ظاهرة في يديه وعينيه وصوته المبحوح وصدره المجروح، قال:
في صبيحة اليوم التالي سمع سكان البيوت المجاورة صراخا عاليا ففتحوا النوافذ فوجدوا الدخان يتصاعد من نافذة المطبخ في ذلك المنزل أما أنا فكأني كنت اعلم بما سيجري من قبل فسكت ولكنه كان سكوت اليأس وتجلدت ولكنه كان تجلد الإغماء. وهرع الناس فدخلوا المطبخ فإذا هي ممدودة على الأرض لا تبدي حراكا ولم يحترق منها الا شعرها وقرر الطبيب ان الوفاة بالاختناق. وارحمه لك يا. . . حتى النار أكبرتك وأشفقت من ان تلهب(13/77)
هذا الجسد الطاهر ولكنك جدت بغدائرك الذهبية التي طالما قطعت إليها الأعين وخفقت لرؤيتها القلوب.
وهنا لم يتمالك صاحبي نفسه فأجهش كما يجهش الصبي وناولني قصاصة من الورق فقرأت فيها ما يلي:
وصلتني كلمتك الرقيقة يا صاحبي فضممتها إلى صدري وقبلت الخطاب من أجلك وذرفت الدمع سخينا شفقة عليك. سامحني واعف عني وسنتقابل في الحياة الاخرى حيث لا شقاء ولا عذاب وأرجو أن تستغفر لي الله في صلواتك، الوداع والشكر الجميل!
ولما تلوت تلك الورقة وجدته قد غلبه النوم وطول الجهد فأخذت رجليه برفق ومددتها على المقعد وعمدت إلى ملحفة فنشرتها عليه وخرجت على أطراف أصابعي وتركته لينام عله يجد في النوم بعض الراحة وسألت الله ان يشفق به في أحلامه وأن يهبه العزاء والسلوان.
محمود الخفيف(13/78)
إلى بئر جندلي
للأستاذ الدمرداش محمد. مدير ادارة السجلات والامتحانات بوزارة
المعارف
3
لحظة رهيبة مرعبة، ولولا أن ملك الجماعة زمام عقولهم وتصرفوا
بما يستلزمه الموقف من بديهة حاضرة وهمة عالية، لسقط أحمد بك في
الهاوية، ولا أدري الآن، وقد توالت الحوادث بسرعة مدهشة، كيف
نسي الرفاق أن ينتشلوا زميلهم من ورطته، وعلى كل حال فقد انتهى
الحادث بسلام، وعاد الجماعة إلى ما كانوا فيه من مطاردة الأرانب،
وعند الظهر كانوا قد أنهكهم التعب وأضناهم الجوع، فملوا المطاردة
وقنعوا بما أصابوه في ذلك اليوم وكان شيئا كثيراً، فحثوا المطايا في
السير كي يصلوا وادي جندلي في الموعد المضروب.
وكانوا حينئذ يسيرون على ظهر ربوة عالية وعن يسارهم نحو الشمال، جبل اليحموم الأزرق بلونه القاتم، وعن يمينهم نحو الجنوب جبل أبو شامة بقمته العالية (2300) قدم وكانوا كلما توغلوا شرقا تغيرت معالم الجبال وزادت ارتفاعا، والأودية خضرة وعمقا، وقبل الأصيل اقبلوا على واد شديد الانخفاض كثير التعاريج كبير الشبه بوادي دجلة ونظروا من علٍ فابصروا الجمال ترعى في باطنه والاستعداد قائم حولها لتهيئة الطعام وإعداد مكان المبيت، فطابوا نفسا وقرُّوا عيناً.
يقع بئر جندلي على خمسين كيلو مترا من القاهرة على ارتفاع 300 متر من سطح البحر، وقد قضينا بالقرب منه ليلتين ويوما وسط طبيعة نقية هادئة مشرقة في صحبة أصدقاء مخلصين حباهم الله الصحة والبشر وسلامة الطوية، حقيقة انها سويعات تعد من أسعد فترات الحياة واصفاها، وقد وافق اليومالثالث من رحلتنا أول أيام العيد، ففي الصباح صلينا ونحرنا غزالة ثم قضينا اليوم في الوادي نلعب ونضحك ونتسابق ونمرح ونمزح كأننا(13/79)
الأطفال الصغار. وبعد الغداء جلسنا إلى الدليل نستمع لحكاياته الطريفة عن حياته فقال وقد مال في جلسته واسند ظهره إلى حجر كبير، وعقد يديه على رأسه: من خمس وعشرين سنة كنت شابا شقيا أجوب الصحراء شرقا وغربا شمالا وجنوبا لا أستقر على حال، وفي مرة نزلت السويس وقت موسم الحج فتحككت بشيخ مغربي يحمل خرجين كبيرين ينوء بثقليهما فظن أني أسديه المعونة فمد يده إلى رأسي ودعا لي بالهداية ودعاني أن أرافقه إلى الحجاز، وقد كان فأديت الفريضة واستقبلت الكعبة، وبصوت عميق خلته يخرج من كل جسمي دعوت الله ان يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، فاستجاب الله دعائي، وعدت من الحج صالحا طاهر القلب شديد الإيمان، والتحقت بالأزهر فمكثت فيه خمسة عشر عاما إلى ان قطعت عني الجراية في عهد الشيخ محمد عبده، فتحولت إلى التجارة وشغلت بعرض الدنيا ولكني وقد ناهزت الخمسين لا زلت شديد الحنين إلى الجبل فأخرج إليه كلما سنحت الفرصة فأقضي فيه أياما قريبا من الله بعيدا عن المدينة وكدرها ثم أعود وقد تطهرت نفسي وهدأ عقلي واستراح جسمي. ثم انه على غير انتظار امسك عن الكلام وترقرقت دمعة في عينه وتحول ببصره عنا وأطرق برأسه ثم أطبق عينيه ونام.
كان البرد في تلك الليلة شديدا فآوينا إلى مضاجعنا مبكرين وأشعلنا نارا كبيرة لنصطلي، وفي أول الليل اكفهر الجو وعصف الريح وأبرقت السماء وأرعدت وانهمر مطر غزير ثم اخذت الصواعق تنقض من حولنا، والبرق يومض بلمعان يضيء الفضاء كأنه نور النهار، والماء يتدفق إلى الوادي بدويِّ شديد، ثم فاض الوادي بسيل عنيف جارف، فكان مشهدا رائعا. وبعد ساعة انقشعت السحب وصفا أديم السماء واشرق الوادي بنور القمر فسرى عنا ما ساورنا من قلق واضطراب، ثم نمنا نوم الهناء والعافية. وقبل الفجر استيقظت على صوت حركة غير عادية بمعسكرنا فوجدت الجماعة يتقلدون سلاحهم وعلامات الاهتمام بادية على وجوههم وأبصرت الدليل ينزل إلى وهدة متوسطة ويقف وراء صخرة كبيرة ويتجه ببصره نحو البئر ثم يتبعه عبد الله بك ويهمس في أذنه بكلمات ويحتمي هو الآخر وراء حجر كبير ثم تتفرق باقي الجماعة على الصخور المجاورة ويتخذونها متاريس يكمنون وراءها وينصبون بنادقهم على حوافيها. دهشت لهذا الاستعداد وانتقلت إلى حيث كان خالي رابضاً واستوضحته في صوت خافت جلية الأمر فأشار إلى(13/80)
الدليل وقال، انه رأى شبحين ومعهما بعير هبطا إلى الوادي بالقرب من البئر وبعد أن عقلا الدابة أخذا ينسلان نحو مربط الجمال ملتزمين السفح، فقلت هل تراهما؟ قال ان البئر بعيد والضوء ضعيف والرؤية متعذرة.
وبعد قليل صاح الدليل (ها! أكمنوا لا تطلقوا النار) ثم انه أطلق عيارا في الهواء وعندها برز رجلان إلى عرض الوادي واندفعا نحو الجمال فصاح الدليل (جماعة أطلقوا النار في الهواء) فدوى في سكون الليل صوت البنادق كأنه زمجرة المدافع فذعر الرجلان لهذه المباغتة ووقفا مكتوفي اليدين علامة التسليم، فانتقل إليهما سويلم الجمال وقادهما إلى حيث كان الدليل فقالا أنا قادمان من المرج قاصدين وادي الحقول على البحر الأحمر في أمر مستعجل، وفي المساء كنا نجتاز اليحموم الأزرق فشاهدنا ناركم فعرجنا عليكم لنستدفئ وما قصدنا بكم سوءا ولكنها مداعبة على عادة البدو. وبعد أخذ ورد من الدليل على قولهما سألهما عن البعير فقالا انهما وجداه ضالا فساقاه أمامهما حتى لا يقع غنيمة في يد (أولاد علي) اسم قبيلة، وبعد ان نفحناهما بطعام وكبريت انصرفا بسلام وقد تنفس الصبح ولاح.
قضينا اليوم الرابع في الصيد كذلك فوق سفوح جبل القطامية على ثلاث ساعات شرقي بئر جندلي وعند الظهر التقينا بوادي الغز بجبل أبو شامة حيث كانت تنتظرنا الجمال وبتنا فيه تلك الليلة وفي صباح اليوم الخامس غادرنا أبا شامة راجعين عن طريق البعيرات فوق مشارف وادي دجلة وبعد سير حثيث دام عشر ساعات من غير انقطاع وصلنا القاهرة عند العشاء ونحن على احسن حال وفي أجود صحة.
(الرسالة) لاحظ القارئ ولا ريب ان عبد الله بك واخوته يمثلون جيلا من الناس أولع بالصفة الباقية من صفات الفتوة وهي الصيد. والصيد رياضة بدنية نفسية تربي في النفوس أخلاق الرجولة كالنخوة والمغامرة والقوة وقد كانت ولا تزال ديدن الملوك والأمراء والقادة فعسى ان يكون لهذا الجيل بقية في مصر. وان يكون لهذه البقية أثر صالح في توجيه الناشئة لمثل هذه الرياضة.(13/81)
الكتب
أهل الكهف
للدكتور علي مصطفى مشرفة
عزيزي الأستاذ توفيق الحكيم
لطالما تاقت نفسي إلى رؤية أدب عربي أجد فيه الغذاء الروحي واللذة الفكرية اللذين الفتهما فيما اطلع عليه عادة من الأدب. ومع إيماني باليوم الذي يرتفع فيه أدبنا إلى المستوى العالمي كنت اشعر بان هذا اليوم سيجيء بحكم طبيعة الأشياء متأخرا، فربما رآه أهل جيلي، وربما حبت به الظروف أبناء جيل قادم. فلما قرأت (أهل الكهف)، الذي تكرمت عليّ بنسخة منه، علمت علم اليقين ان اليوم الذي كنت أترقبه قد طلع وملأت شمسه الآفاق. تعلم أنني لست من الأدباء ولا من (المستأدبين)، وإنما نظرتي إلى الأدب، كنظرتي إلى غيره من نواحي الفن الإنساني: نظرة الرجل المثقف العادي يطلب الجمال والإلهام الصادق حيث يجدهما، كما يتطلب مستوى خاصا من التفكير المطلق المخلص فيه لوجه الحق حيث وجد. وفي رأيي ان (أهل الكهف) قد ارتفع من كل هذه النواحي إلى أسمى ما قرأته وان كانت لي ملاحظة على كتابك فربما كانت شيئا من التحديد في دائرة ما تناولته فيه من الموضوعات، فما كان أشوقني إلى رؤية بعض المسائل الاجتماعية مثلا تعالج بنفس القلم الذي صور لنا إيمان المسيحيين الأولين وقابل لنا بين الحقيقة والتاريخ! ولكن لعل ذلك شراهة مني، فالوليمة ولا شك فاخرة وان كانت تشحذ شهية أمثالي. لا تنتظر مني نقدا فنيا لروايتك التمثيلية فأشخاص الرواية كلهم أحياء يتحركون ويلمسون (ربما كان الملك أقل الشخصيات وضوحا ولعلك تريده عديم الشخصية) والمواقف على أشد ما تكون من التشويق والتأثير. وإلى حد ما، أستطيع أن أرى، ستكون روايتك ناجحة على المسرح إذا استطعت ان تجد لها ممثلين يفهمون أدوارهم فيها، وأظنها تكون ناجحة بدون ذلك. لم يبق عليَّ بعد هذا الا ان أشكرك على التحية التي انطوى عليها إرسالك نسخة من كتابك إليَّ، وأن أرجو ما انتظره لك من التوفيق والسلام.
النجوم في مسالكها(13/82)
تأليف الأستاذ جيمس جينز
وترجمة الدكتور أحمد عبد السلام الكرداني
كتاب جليل الموضوع لطيف الحجم أنيق الطبع كان محله من المكتبة العربية خاليا. وضعه السير جيمس جينز احد أساطين علم الفلك في العصر الحديث بأسلوبه المشرق وبيانه الرائع وعرضه الحقائق العلمية العويصة في معرض سهل المأخذ قريب التناول، وذلك ما انفرد به بين العلماء، وتميزت به كتبه بين الكتب. بسط المؤلف في هذا الكتاب (خلاصة ما انتهى إليه العلم الحديث في الكون ونظامه واصله ونشوئه، وتركيب أجسامه وذراته، وتولدها وانحلالها، وبحث مدى الكون من حيث هو محدود أو غير محدود ومتمدد أو منقبض، وعرج على الطاقة والإشعاع والنسبية، ثم بحث الحياة في عالمنا والعوالم الاخرى في الكون) واستوعب تفصيل هذه المباحث الطريفة في ثمانية فصول وأربعة ذيول. قرأها الدكتور أحمد عبد السلام الكرداني ناظر مدرسة القبة الثانوية (وهو في هذا الموضوع ثقة) فاعجب بمادته وطريقته فترجمه ترجمة أمينة رصينة. ولم يقف جهد الأستاذ المترجم عند أمانة النقل. وإنما تجاوزها إلى مسألتين خطيرتين هما تمصير الكتاب، وتحقيق المصطلحات، فمصَّر الكتاب بأن وضع للقارئ المصري مصورا للنجوم يبين ما يرى منها في القاهرة على الدوام او في بعض الأيام، كما وضع المؤلف مصوره مراعيا فيه موقع إنجلترا وحال القارئ فيها. وحقق المصطلحات بالرجوع إلى مظانها العربية ككتاب عجائب المخلوقات للقزويني ومحاضرات السنيور نللينو المستشرق الإيطالي، ثم جعل للكتاب لحقا يشتمل على فهرس أبجدي شامل لمواده، وقائمة بأسماء النجوم والسيارات باللغتين العربية والإنجليزية، وقائمة ثانية بالحروف العربية المقابلة للحروف اليونانية والرومانية، ثم قائمة ثالثة بالمصطلحات وما يقابلها بالإنجليزية، وأثر الجهد والعناية بادٍ في ترجمة الكتاب وتحقيقه وصوره وطبعه. وحسبه مزية أن يكون السير جيمس مؤلفه، والدكتور الكرداني مترجمه، ولجنة التأليف والترجمة ناشرته، ومطبعة دار الكتب المصرية طابعته.
أ. ح(13/83)
رحلة إلى بلاد المجد المفقود
بقلم وريشة مصطفى فروخ - مطبعة الكشاف ببيروت
كتاب أنيق الشكل جيد الطبع، لا تكاد تتناوله حتى تدرك أن صاحبه من رجال الفن، فهو بقلمه وبريشته، على غلافه صورة لناحية من جامع قرطبة وقد كتب عنوانه من الخارج ومن الداخل بخطين مختلفين طريفين، وتناثرت فوق صحائفه طائفة من الصور التقطت بعضها عدسة التصوير، ونقشت بقيتها ريشة المؤلف الفاضل فجاء في مجموعها جامعة بين الجمال والفائدة، ولذلك فالكتاب من هذه الناحية طريف خفيف الظل. وتقرأ في أوله كلمة تحت عنوان (الأندلس) فتلمس فيها إعجاب الكاتب بتلك البلاد وتشوقه إليها، بل هيامه بها قبل زيارتها، تلمس ذلك في مثل قوله (أجل شغفت بها طفلا وشابا وسأحتفظ بهواها مدى الحياة) وكأنك لشدة حماسته تسمع صوته ولست تقرأ عبارته، ولذلك فالكتاب من هذه الناحية قوي الروح عميق الأثر. ولقد أحسن الكاتب صنعا بأن مهد لكتابه بكلمة في أهمية الفن، ثم بلمحة في الفن العربي عامة، والأندلس خاصة، ثم بعجالة في تاريخ الأندلس. قضى المؤلف أربعة أيام في مجريط، ثم اتخذ سبيله إلى طليطلة ويسميها المنيعة، فمتع نفسه بجمال آثارها ثم عاد إلى مجريط فاتخذ القطار من محطة مديوديا إلى قرطبة دار العلم كما نعتها، فزار جامعها ووصفه وصفا مسهبا واتى له بطائفة من الصور البديعة ثم سار إلى أشبيلية، وهي عنده مدينة الطرب وهناك زار قصر الزهراء ووصفه وصفا دقيقا، ومن إشبيلية سار إلى أختها غرناطة مقر الحمراء فوصفها في حماس قوي وإعجاب شديد. ومما أحمده للمؤلف تلمسه الروح العربية في تلك البلاد، مما يشهد بدقة ملاحظته، ففي مجريط أحس تلك الروح في كرم أهلها، ووفرة الطعام على موائدهم، وفي طليطلة رآها في نوافذها وأبوابها الدمشقية وفيما يعرضه الباعة في الطرقات من أقمشة زاهية الألوان، من أساور وأقراط و (بقج) مقصبة وأسلحة وحلي. . . الخ وفي قرطبة وإشبيليةوغرناطة تجلت له تلك الروح في عادات الناس وفي شكل المنازل ذوات الردهات الفسيحة والأبواب والنوافذ العربية , وفيما رآه من أمثال بائعي (البوظة) والليمونادة، وهم يضربون صحونهم ويصيحون في لحن عربي على نحو ما يشاهد في شوارع دمشق.
ولئن قدرت قيمة الكتب بما تتركه من أثر في نفوس قارئيها فإني أشهد أن هذا الكتاب من(13/84)
أجمل الكتب في بابه ومن أعظمها فائدة، وكما أن تلك الآثار المخزونة الجميلة التي وصفها تعد دمعة أرسلها التاريخ على ما فات من مجد العرب فان هذا الكتاب يعتبر بدوره دمعة كريمة على ذلك المجد وعلى تلك الآثار. بيد أني على الرغم من إعجابي أصارح المؤلف بان أسلوبه مع الأسف لا يتمشى مع روح الكتاب ولا يتناسب مع ما يحتويه من فن وادب، ولولا حماسة الكاتب، ودقة وصفه وتدقق معانيه لفقد الكتاب بذلك الأسلوب كثيرا من قوته، هذا عدا ما فيه من هفوات تاريخية لا أحبها له، كقول المؤلف: إن معاوية بن هشام ابن عبد الملك المسمى بالداخل أتى من الشرق هارباً عام 759م والواقع أن الذي جاء هاربا من الشرق هو ابنه عبد الرحمن الداخل، وكان ذلك عام 756م. وقوله إن العرب طردوا من الأندلس في القرن الرابع عشر، والصحيح انهم لم يطردوا إلا في أواخر القرن الخامس عشر عام 1492م. ولكن ذلك لن ينقص من جوهر الكتاب إلا كما ينقص من جمال الحسناء شذوذ بسيط في نظام ملبسها والمؤلف كفيل بأن يزيل هذا النقص حتى يكون الكتاب من جميع جهاته جديرا بفنه وعلمه وأدبه؟
م. الخفيف
1(13/85)
العدد 14 - بتاريخ: 01 - 08 - 1933(/)
شروح وحواشي
ذكرى حافظ:
عجبت لهذا البؤس العنيف الملح كيف لازم حافظاً في عمره الأول ثم أبى ذكراه أن يفارق في عمره الثاني!!
قطع هذا البؤس مع الشاعر مراحل عمره الفاني جميعا فترك حياته المضطربة من غير منارة ولا مرفأ وداره الموحشة من غير ولد ولا زوج، واسمه النابه من غير جاه ولا مجد، وقلبه الشاعر من غير عزاء ولا أمل، ثم فرق بينهما الموت فانقلب حردان يعبث بما خلف الشاعر في الدنيا وفي الناس من أثر وذكرى، فتنكر الحكومة حافظا لأن من أسماء البؤس السياسة، وتهمل الخاصة حافظا لأن من أسماء البؤس النكران، ويغفل الشعب حافظا لأن من أسماء البؤس النسيان، وتثور الحفيظة من هذا الجحود بأصدقاء حافظ فيعتزمون إقامة حفل وتأليف كتاب وتشييد ضريح، ولكن البؤس المغيظ يطوف على أولئك الأصدقاء في دورهم، فيقول لأغنيائهم: امسكوا عن البذل، ولأدبائهم: امسكوا عن الكتابة، فحسب كل امرئ ما تباكره به الصروف كل يوم من هموم ومغارم! ويذكر الشباب الذين طالما هدهد الشاعر عواطفهم بأغانيه، وخلد مواقفهم بقوافيه، أن يوم الذكرى يقع في الحادي والعشرين من شهر يوليو. فيريدون أن يكفروا اليوم عن تقصير الأمس، فيقرر (اتحاد الجامعة المصرية) إقامة حفلة تأبينية، ثم يعلن عن مكانها وزمانها في الصحف، ويتقدم إلى الأدباء والوجهاء بالدعوة، ويعد الأستاذ (البشري) كلمته فيمن أعد، ثم يقبل من ظاهر القاهرة إلى نادي الاتحاد فلا يجد غير البواب يتحدث إلى نفر من زملائه، عن تعويض الحكومة للنوبيين وموعد أدائه! فيعجب الأستاذ ويغضب، ويستمر عجبه وغضبه يومين حتى يقرأ في بعض الصحف أن اتحاد الجامعة قد رأى تأجيل الحفلة إلى الأسبوع الأول من نوفمبر لتكون حفلة جامعية يشترك فيها أساتذة الجامعة وأقطاب الأدب. . . وأعجب من عجب الأستاذ ألاّ يخطر هذا السبب الخفيف ببال الاتحاد، إلا بعد إعلان الحفلة وتحديد الميعاد!! بؤسا لك يا بؤس حافظ!! لقد أسرفت في العبث حتى اتهم الوفاء، وتظنن البعداء وتردد على السنة الناس قول صاحبك:
فما أنت يا مصر دار الأديب ... وما أنتِ بالبلد الطيب(14/1)
على أن حافظا وقد فرض على أدب العصر سلطانه، وأجرى على لسان الدهر بيانه، وكتب في ثبت الخالدين أسمه لا يضره بعد ذلك نكران المنكر، ولا ينفعه عرفان العارف!
جاد الله بالرحمة ثراه، كلما تجددت في النفوس ذكراه، وجزى بالخير (أبولو) فقد كان عددها الخاص بالذكرى أخلص تحية صعدت إلى هذه النفس الكريمة، من هذه الدنيا اللئيمة!
تعليق على تعليق:
روى صاحب التعليقات في (البلاغ) أن أديبا مصريا علل شيوع الألفاظ (الجنسية) في أدب الدولة العباسية، بأن العربي لكثرة ما خالط الإبل والخيل والحمير فقد طبيعة الحياء، فأصبح يقول ما يشاء ويفعل ما يشاء! ولو صح هذا التعليل المضحك لكان الأدب الأموي أمعن في المجون والأدب الجاهلي أدخل في الإباحية لصلتهما الوثيقة بحياة البداوة، وهما على النقيض من ذلك أعف الآداب العالمية، وأكثرها استعمالا للأساليب الرمزية. ثم كان من رأي الأستاذ المعلق أن السبب في ذلك إنما يلتمس في طغيان الحضارة لأن الكتاب الإنجليز مثلا لا يتحرجون اليوم أن يذكروا ما كان يتحرج منه بشار وأبو نؤاس بالأمس. والواقع أن فحش المجون في الأدب العربي لم ينبت في أصله ولم يأته من أهله، فإن شعراء المجون لم يكونوا بديا من العرب، وإنما كانوا من الموالي الذين أساءوا خلق الأمراء بالعدوى. وأفسدوا أدب الشعراء بالقدوة، وأكثر الأشعار المجونية إنما كان ينشد في المجالس الخاصة، ويروى على الألسنة الخاصة ويدون في الكتب الخاصة. فلو كان أولئك الأدباء يكتبون للنشر ويؤلفون للجمهور كما نفعل اليوم لطووا في نفوسهم أكثر ما نشروا. ولا تجد اليوم أديبا من الأدباء، إلا وله مثل هذه الأشياء، ولكنه يقصره على خاصته فلا يعلنها في الناس ولا يدونها في الكتب.
كوبري الخديوي إسماعيل:
كذلك كتبت الحكومة بخط الثلث الجميل على مدخل الجسر الجديد بقصر النيل، فهيأت للعابر المفكر موضوعا للتفكير يقطع به طول الجسر في راحة ولذة:
بماذا نعلل بقايا الألفاظ التركية في دواوين الحكومة المصرية، ولم يعد لأمتنا بالتركِ صلة(14/2)
ولا للغتنا بالدخيل حاجة؟
منذ سنوات تخلص الترك من العرب وقد كانوا خاضعين لسلطانهم الأدبي فرأوا من الغضاضة على استقلالهم أن يظل لسانهم خاضعا للساننا، وأدبهم تابعا لأدبنا، فأخذوا يحررون التركية من الألفاظ العربية (وهي معظمها) ويستبدلون بها ألفاظا تركية خالصة أو إفرنجية مشوبة ثم ترجموا القرآن وتركوا الأذان. وأعجموا الصلاة، وفرضوا التركية فرضا على الأجانب في المدارس والمصارف والأسواق. ومنذ سنوات تخلص العراقيون من الترك (وقد كانوا خاضعين لسلطانهم السياسي) فكان أول ما عملوه أن طهروا العربية من شوائب التركية في الدواوين والقوانين والمدارس والجيش. واستبدلوا بهذه الألفاظ الدخيلة على أصالتها وكثرتها ألفاظا عربية صريحة.
ومنذ قرن ونيف تخلصت مصر من الترك ولكنك ما تزال تسمع في البيوت تيزا وأبلة وأبيه وإنشته، وفي المدارس قلفة وطابور ويمكخانة وبحيث جزيرة، وفي الدواوين ألفاظا وأساليب ليس إلى حصرها من سبيل وأما في الجيش فأسماء رتبة وفرقه وعتاده ومصطلحاته وإيعازا ته كلها تركية فبماذا نعلل هذا؟ تعليل ذلك فيما أظن أن الأمة المصرية من أشد الأمم الشرقية إحتفاظا بالقديم، وتسليما بالواقع، ورضا بالحاضر مع ما قد يكون في ذلك كله من شر فليس من طبعها ذلك القلق السامي الذي يدفع النفوس إلى التجدد ويحفز الأمم إلى التقدم ويربأ بالإنسان أن يقنع من حياته بالنصيب الأخس، وتقدم الأمم على هذه الحال في سبيل الكمال عسيرا أو بطيء.
رفقا بالقوارير يا أبا السامي!
نشرنا في عددنا الأخير رأيا للآنسة عفيفة في (أوراق الورد) للأستاذ الرافعي، ورأت الرسالة مؤاتاة الفرصة ليمتع الأستاذ قراءها بفصل من فصوله الرائعة فتركت له الكلمة وتفضل الأستاذ فكتب. ولكنه حين وضع يده على الدواة ليتناول القلم الذي كتب به (أوراق الورد) أخطأ فتناول القلم الذي كتب به (على السفود). لحظنا هذا السهو حين قرأنا هذه الكلمة فطويناها معتقدين إن الكاتب الكبير سيتبعها كلمة أخرى تكون منها مكان (بدل الغلط)، تشاركها في الإعراب وتنفرد دونها بالصواب.
أحمد حسن الزيات(14/3)
لغو الصيف
للدكتور طه حسين
سمعت طرقا خفيفا فرفعت رأسها وصوتها آذنة بالدخول، ومدت عينها إلى الباب فلما فتح لم يرعها إلا صديقها الأديب يسعى إليها مشرق الوجه باسم الثغر مبسوط اليد مرتبكا مع ذلك شديد الحياء. قالت وقد غشي وجهها احمرار رقيق زاده جمالا وحبا إلى النفوس، مصدره الدهش لهذا المقدم غير المنتظر، أو مصدره زيه المهمل وثوبها الذي لبسته لنفسها لا للناس ولم تكن تقدر إن الطارق أحد غير الخادم التي تعودت ان تطرق عليها الباب في رفق إذا كانت الساعة الخامسة من كل يوم لتحمل إليها الشاي، فلما رأت صديقها ارتاعت لمرآه، وقالت في دهش وخجل واضطراب: (أنت من أين أقبلت؟ انجمت من الأرض أم هبطت من السماء؟) قال ولم يكن اقل منها ارتباكا واضطرابا: نعم أنا أقبلت من حيث تريدين ولكن لي إليك حاجة يا آنسة أعرضها عليكِ قبل التحية، وأتمنى لو تجيبينني إليها قبل السؤال والجواب، فسيكون السؤال طويلا دقيقا، وسيكون الجواب ملتويا مرتبكاً، ولكن حاجتي يسيرة فاسمعيها مني واقضيها لي، ثم لنأخذ بعد ذلك فيما تحبين، قالت وقد أخذت تثوب إلى نفسها وإلى ثوبها: من أين أقبلت؟ وكيف أراك في نيس وقد تركتك في القاهرة على انك ستقضي فيها الصيف؟ قال ثقي يا آنسة إني قد سمعت سؤالك ووعيته ووعيت ما يحيط به من عجب وإنكار أني سأجيب وسأحاول أن أزيل هذا العجب وأمحو هذا الإنكار ولكن حاجتي اسمعيها واقضيها قبل كل شئ. قالت لا قبل أن نجلس، ثم عادت إلى كرسيها وقد حولته شيئا عن المائدة وأشارت إليه أن اتخذ هذا الكرسي وأخذت تجمع صحفاً كانت منثورة على المائدة، ثم قالت مبتسمة: وما عسى أن تكون هذه الحاجة التي تقدمها بين يدي تحيتك، وقد بعد العهد بينك وبيني والتقينا من وراء البحر، فقد تركتك منذ أسبوعين، قال بل منذ عشرة أيام إن لم أخطئ الإحصاء، فقد زرتك قبيل السفر. . . فقطعت عليه الحديث قائلة نعم، قد ذكرت فهات حاجتك فإني لم أتعود أن انتظر تحيتك وعبثك كل هذا الوقت الطويل؛ قال حاجتي يسيرة وهي إلا تلومني ربة الدار، فقد مكرت بها واحتلت عليها، وما زلت أخدعها عنك وعني حتى تركتني أطرق الباب وأدخل عليك في غير استئذان سابق. فأغرقت في الضحك حتى استلقت إلى كرسيها وهي تقول: إنها لحاجة عسيرة، لست أدري(14/5)
كيف أقدر على إرضائها وقد أذنت لك فيما كنت تريد وطرقت الباب وفاجأتني بغير إذن سابق مني بذلك، وفيم كان كل هذا المكر، وفيم كان كل هذا الاحتيال؟ ومتى استباح أمثالك أن يفاجئوا أمثالي على هذا النحو، وفي مثل هذا الوقت من النهار؟ هنالك اشتد ارتباكه حتى بلغ الاضطراب أو كاد يبلغه، فلم يكن يقدر أنها ستلقاه هذا اللقاء ولا إنها ستنكر هذه المفاجأة، ولعله كان يظن بل كان يوقن أن سرورها بلقائه سيكون أشد من حاجتها إلى الاستطلاع، وسيكون أشد من إنكارها بهذه المفاجأة فلما رأى منها هذا الإلحاح في السؤال والتشدد في النكير فقد ما كان يملك من الأسباب، واختلط عليه الأمر فلم يدرِ ماذا يصنع ولم يعرف كيف يقول. ولو انه كان على شئ من البصر بصاحبته والعلم بدخيلة نفسها لرأى انه لم يكن مخطئاً حين قدر أنها ستبتهج بلقائه ولكنه كان شديد الذكاء قوي الفطنة واسع الحيلة ما بعد عن النساء وعن صاحبته هذه خاصة، فإذا لقي واحدة منهن أو لقي صاحبته هذه فهو رجل ساذج أول الأمر، لا حظ له من ذكاء ولا من فطنة، ولا قدرة له على ثبات أو فهم، حتى إذا اتصل الحديث وتنوع استرد ملكاته قليلا حتى يعود كدأبه في الحياة العادية، ذكي القلب قوي الفطنة متصرفا في ألوان الحديث. فلما رأت ارتباكه واختلاط الأمر عليه واضطراب لسانه في فمه دون أن يبلغ الإفصاح عما كان يريد، رقت له وأخرجته من حيرته بإجابته إلى ما كان يريد وإعلانها إليه إنها لن تلوم صاحبة الدار ولن تظهر لها سخطا ولا إنكارا.
ثم قالت: والآن حدثني من أين أقبلت وكيف أراك هنا اليوم، وقد تركتك في القاهرة منذ عشرة أيام؟ أنجمت من الأرض أم نزلت من السماء؟ قال إن عشرة أيام تكفي لقطع الأمد من القاهرة إلى الإسكندرية ولعبور البحر إلى مرسيليا (وطولون) ولبلوغ مدينة نيس حيث تقيمين قبل أن تستأنفي السفر إلى تلك المدينة الصغيرة الجامعية من مدن فرنسا الوسطى لتسمعي دروس الصيف. قالت فأني لا اشك أن عشرة أيام تكفي لهذا كله ولا اكثر من هذا كله ولكن تركتك في القاهرة غضبان أسفا لأنك ستقضي الصيف حيث لم تكن تعودت أن تقضيه، ولعلك تذكر انك كنت تحسدني وتسرف في الحسد على هذه الرحلة الجامعية التي كنت أزمعتها ولعلك تذكر انك ما زلت تصور لي حزنك ويأسك حتى رحمتك وأشفقت عليك، فكيف استطعت أن تفارق القاهرة وترحل عن مصر تظفر بزيارة باريس؟ فأنت(14/6)
ذاهب إلى باريس من غير شك، قال نعم أنا ذاهب إلى باريس، وماذا تكون فرنسا بدون باريس وبدون الحي اللاتيني ومونبارناس ومونمارتر؟ وقد زعموا أن الحركة الأدبية والفنية قد أخذت تنتقل الآن من مونبارناس إلى. . . قالت حسبك قد علمت هذا كله وعرفت رأيك فيه وسنعود إليه ولكن كيف تركت القاهرة؟ وكيف أتيت إلى باريس؟ قال وأي شئ أيسر من ذلك يا آنسة؟ إنما يستغرب هذا من رجل كانت تمسكه الأزمة في مصر ويعجز أجر السفينة أو نفقات الإقامة في فرنسا، فهذا الرجل إذا أتيح له السفر بعد امتناعه عليه يمكن أن يسأل أنّى لك هذا في مثل هذه الأيام الشداد. فأما إذا كان الذي يحول بين الرجل وبين السفر إرادة وزير من الوزراء أو عناد رئيس من الرؤساء فما أيسر أن يريد الوزير وقد كان لا يريد، وما أسهل أن يلين الرئيس وقد كان متأبيا عنيدا، وهذه قصتي فما زلت برئيسي حتى رق لي وما زلت بوزيري حتى عطف عليّْ. قالت صنع الله للرئيس وللوزير معا فلولا ظرف أحدهما وعطف الآخر لما أتيح لك أن ترى باريس.
قال بل لما أتيح لي أن أسعد بلقائك في نيس وأن اسعد باصطحابك ساعة أو ساعات على ساحل البحر، هذا الساحل الجميل الهادئ القوي معا حيث نستطيع أن نرى البحر والجبل وقد دنا كلاهما من صاحبه في مودة وألفة وحيث نستطيع أن نرى الطبيعة الحرة القوية والحضارة البديعة المترفة وهذه القصور الشاهقة تشرف على البحر وتشرف عليها الجبال، وحيث نستطيع أن ننشد قصيدة بودلير هذه القصيدة الرائعة التي كنت تغنينها في القاهرة أجمل غناء، أتذكرين؟
لقد عشت دهرا طويلا تحت أروقة واسعة تضيفها شمس البحر، قالت نعم كل هذا أذكره، وكل هذا افهمه وكل هذا لا تفسير له إلا انك قد رجعت إلى صوابك واسترددت قواك موفورا واستأنفت ما ذهب من العبث والمزاح. فقد آمنت انك سعيد بلقائي وقد آمنت انك ستسعد وسأسعد معك بقضاء ساعة أو ساعات على هذا الساحل الجميل.
وقد آمنت بأن رئيسك خليق بالشكر لأنه رق لك بعد أن قسا عليك وان وزيرك حري بالثناء عليك لأنه لطف بك بعد أن كان شديدا عنيفا ولكني لن أتحدث إليك الآن ولن اسمع منك الحديث عن الجبل والبحر ولا عن الصخور والقصور، فقد يتاح لنا الحديث عن هذا كله بعد حين. إنما أحب أن أسمع منك أنباء مصر، قال أنهما لخليقان بالشكر والثناء حقا(14/7)
ولا سيما حين تعلمين. . . قالت لا أريد أن أعلم شيئا. قال وهو يضحك ضحكا ملئه المكر والإلحاح: بل يجب أن تعلمي لتضاعفي الشكر وتجزلي الثناء فإني لم أرحل للسياحة ولا للراحة ولا لرؤية باريس وإنما رحلت. . . قالت لأمر من أمور الدولة فستدرس شأنا من شؤون التعليم أو فنا من فنون النظام أو لونا من ألوان الإدارة أو شيئا من هذه الأشياء التي يرحل الموظفون لدرسها في أوروبا أثناء الصيف، فيسرحون ويمرحون ويلهون ويلعبون ويكتبون في آخر الصيف تقريرا يرفعونه إلى الرئيس أو إلى الوزير، فيتلقى الوزير أو الرئيس هذا التقرير ويتلقى صاحبه كلمة شكر وثناء وقد فهم الرئيس عن صاحب التقرير وفهم صاحب التقرير عن الرئيس ما يريد كل منهما أن يفهم عن صاحبه، وأؤكد لك أني أضاعف شكري لصاحبيك وثنائي عليهما؛ ولكن أرحني من حديثهما كما أرحتني من حديث البحر والجبل والساحل وعد بي إلى مصر. قال ما أشد شوقك إلى مصر وتلهفك إلى الحديث عنها! ألم تشبعي من مصر وقد أقمت فيها سنة كاملة منذ رحلتك الأخيرة؟ أمشتاقة أنت إلى مصر ولما يمض على فراقك إلا عشرة أيام؟ قالت فإني لا أريد ان تحاسبني على ما أجد أو لا أجد من الشوق إلى مصر وعلى ما أحس أو لا أحس من الضيق بمصر، وإنما أريد أن تحدثني عنها كيف تركتها؟ وكيف تركت أهلها؟ ثم مست هذا الزر الكهربائي الذي لا تخلو منه غرفة من غرف الفنادق فما أسرع ما أقبلت الخادمة فهمت أن تطلب إليها الشاي ولكنه اعترض دون ذلك وقال: ماذا تريدين أجننا حتى نتناول الشاي في غرفة مغلقة والجو صحو والماء صفو والشمس توشك أن تنحدر إلى مغربها فترسل على الجبل والبحر. . قالت حسبك فإني أستطيع أن أتم ما تريد أن تقول. قال وإذن فهلم نتناول الشاي حيث نستطيع أن نستمتع بهذا الجمال الذي لا نجده في مصر، وكان حازما ملحا، فلم تجد بدا من أن تسمع له وتستجيب لدعائه، فصرفت الخادم ونهضت فغابت عنه قليلا في غرفة مجاورة متصلة بالغرفة التي كان فيها. ثم عادت إليه وقد اتخذت زيها المنظم المنسق الذي عرفه في القاهرة، فلما رآها اطمأن إلى هذا الزي الذي كان يألفه، ولعله أسف على ذلك الزي المهمل الذي كان أعجبه والذي كان قد أخذيطمئن إليه. وما هي إلا لحظات حتى كانا يسعيان معا في هذه الطريق الجميلة على ساحل البحر تلك التي يسمونها في نيس طريق الإنجليز.(14/8)
وكان طرفه حائرا بين البحر وهذه الفنادق الضخمة المشيدة، وهؤلاء الرجال والنساء الذين كانوا يذهبون ويجيئون في هذه الطريق وقد اتخذوا للرياضة والشاي زينتهما. لكنها لم تتح له الاستمتاع بهذه الحيرة، فما أسرع ما ردته إلى مصر وحديثها، وعادت تسأله عن المصريين كيف تركهم. قال ولم يخف شيئا من الضجر الباسم العابث تركتهم من خمسة أيام كما تركتهم أنت منذ عشرة أيام، وكما سيتركهم كل مسافر ويلقاهم كل عائد، وكما يترك كل رجل من الناس أي جيل من الأجيال، تركتهم قوما كراما يكرمون آبائهم وأمهاتهم، ويؤثرون أبنائهم وبناتهم، ويشفقون من الآلام، ويسرعون الى اللذات، ويكثرون القول، ويقصدون في العمل، ويفرون من الدور، ويستقرون في الأندية، ويطيلون الحوار في الأدب والسياسة، ويقرءون الصحف ويعبثون بكتابها. . . قالت ياله من سيل جامح لا يقف ولا يهدأ ولا يتئد، ولا يتخير ما يحمل، ما عن هذا أسألك، وما طلبت إليك أن تصور لي المصريين كما تراهم أنت بهذا الرأي المظلم القاتم، الذي لا يعجب بشيء ولا يرضى عن شيء، بل ينكر كل شيء، إنما سألتك. . . قال ياله من جدول هادئ متئد، عذب ظريف، لا يحمل غثاء ولا جنادل، وإنما هو صافي الصفحة نقي الأديم، كله رضى وكله ابتهاج، وكله أمل، إنما تسألينني عن الأدباء أليس هذا ما كنت تريدين، قالت هو هذا، ومتى رأيتني أتحدث إليك عن غير الأدباء؟ قال فقد تركت الأدباء في شغل شاغل وهم مقيم، يقولون فيطيلون، ويعملون فلا يبلون، وكأنهم هذا القطار الذي يهم بالحركة فيكثر فيه الضجيج والعجيج والقعقعة والاضطراب، وهو ثابت في مكانه لا يريم، لأن الله لم يأذن له بالحركة بعد، أو لأن أداة من أيسر أدواته لم يتح لها أن تشترك في العمل مع أخواتها، قالت وما ذاك؟ قال انهم يذكرون حافظاً، فقد دار العام على وفاته، ولم يصنع له أحد شيئا. فهم يلومون أنفسهم وهم يلومون غيرهم، وهم يلومون مصر كلها، يلومون الشعب لأنه قصر غير عامد، ويلومون الحكومة لأنها تعمدت التقصير، حتى إذا أسرفوا في اللوم وأعياهم الإسراف عزوا أنفسهم وعزوا الشعب الذي قصر عن غير عمد، والحكومة التي قصرت عن عمد بأن حافظا كان أديبا حقا، فلا غرابة في أن تدركه حرفة الأدب. وقد كان حافظ رحمه الله حسن الحظ، ميسرا له في الأمر بالقياس الى زميله في حرفة الأدب منذ اكثر من ألف سنة. فأنت تذكرين أنها قد أدركت ابن المعتز فانتزعته من الخلافة، ولما يقم فيها يوما(14/9)
ولم يكفها أن تنتزعه من الخلافة، فانتزعته من الحياة على شر الأحوال واشدها نكرا، ما حافظ فقد كان بائسا في حياته لم يعرف النعيم، والبؤس أيسر من الخلع، والبؤس الدائم أيسر من البؤس الطارئ، بعد طول النعمة وحسن الحال، وقد مات حافظ على فراشه، والموت الهادئ أيسر من الموت العنيف، وحافظ بائس بعد موته لم يجتمع له الناس، ولم تمتلئله الأوبرا، ولم تلق فيه الخطب المدبجة. ولا القصائد المنمقة. وقبر حافظ مجهول أو كالمجهول ولكن هذا البؤس كله ليس شيئا بالقياس الى بؤس آخر أشد وأمض، وهو هذا الثناء المتكلف، وهذا الإكبار المصنوع، وهذه الخطب والقصائد التي لا يراد بها وجه الله، ولا وجه من قيلت فيه، وإنما يراد بها وجه الذين يصرفون السياسة ويسيرون أمور الناس كما يحبون، والى حيث يحبون، فقد كان حافظ ومازال بائسا، وكان حافظ ومازال شقيا، ولكن شقاء حافظ سعادة، وبؤس حافظ نعيم، وما كان أحق شوقي رحمه الله واجدره، بأن يشارك حافظا في هذا البؤس المجيد، فقد كان شوقي كما كان حافظ مجداً لمصر وللشرق وللأدب العربي؛ ولكن السياسة استأثرت بشوقي فازدردته ازدرادا. وعجزت عن أن تستأثر بحافظ، وأي غرابة في هذا؟ لقد كان شوقي رحمه الله هينا لينا رفيقا رقيقا، وكانت في حافظ صلابة الشعب وغلظته، وخشونة الشعب وشدته.
قالت وهي محزونة: ولكن بؤس حافظ مهما يكن مجيدا بالقياس إليه فهو عار على مصر، ومن حق مصر لنفسها أن تكشف هذا العار، وكانا قد بلغا ناديا من هذه الأندية التي يكون فيها الرقصمع المساء والتي يؤخذ فيها الشاي، فاتخذا مكانا منزويا فيه دون أن يتفقا على ذلك، إنما هي رغبتهما في اتصال الحديث، وزهدهما في هذا المتاع الذي يتهالك عليه الناس، ولم ينقطع حديثهما وقتا طويلا إنما هي لحظة طلبا فيها الى الخادم ما كانا يريدان، ثم اتصل بينهما الحديث، ولكنه لم يمس أمير الشعراء ولا شاعر النيل. قال ومع ذلك فلم تسأليني عن مصر والمصريين وأنت ترين مصر وأدباءهافي فرنسا كأحسن ما تحبين أن تريهم؟ قالت في فرنسا؟ وأين ذاك؟ قال ماذا تصنعين إذن منذ تركت السفينة؟ ألا تقرئين؟ قالت لا. قال بل تكتبين، وقد كان ينبغي أن أفهم هذا، ولعلى قد فهمته حين رأيت تلك الصحف المنثورة على المائدة، والتي أسرعت الى جمعها وإخفائها حين رأيتني مقبلا عليك كأنك خفت أن أمد إليها يدا، أو أن أختلس إليها نظرة، قالت لا تقل هذا ولا تسرف في(14/10)
التجني، فما كنت أستطيع أن أمضى في الكتابة وقد أقبلت، وما كان ينبغي لي أن أدع المائدة مختلطة كما كانت، قال فإذا سألتك أن اقرأ بعض هذه الصحف التي كانت منثورة فهل تأذنين؟ قالت هذا شيء آخر دعنا من هذه الصحف المنثورة فستقرأها يوما ما، ولكن حدثني أين وكيف أستطيع أن أرى مصر والمصريين في فرنسا؟ قال تستطيعين أن ترى مصر والمصريين في فرنسا الآن، وفى هذا المكان، وعلى هذا النحو، ثم أخرج لها صحيفة النوفيل ليترير ونشرها، وقال انظري، فنظرت فدهشت فسكتت، ثم قالت هذا غريب! صفحة أدبية عن مصر لا يكاد يكتب فيها مصري! قال ولو ترجم ما فيها للمصريين لرأوا أنفسهم كما يرونها في المرآة الصافية الناصعة، أليس قد صور لهم كاتب أمير شعرائهم العظيم تصويرالا يصفه من قريب ولا من بعيد؟ أليس قد زعم هذا الكاتب إن قد كان لأمير الشعراء خصوم كلهم بغيض؟ أليس قد أذاع هذا الكاتب بين الفرنسيين والأوربيين الذين يقرءون هذه الصحيفة صورة عن شاعر مصر وعن أنصاره وخصومه لا تلائم رأي مصر ولا حاجتها، وإنما تلائم رأى السياسة القائمة،؟ قالت سأقرأ هذا الفصل، ولكن انظر قال وما تريدين أن أنظر؟ أتظنين أني لم اقرأ هذه الصفحة قبل الآن؟ ماذا تنكرين؟ فصل لصديقنا الأستاذ أنطون الجميل عن المجمع اللغوي الملكي، أي غرابة في هذا؟ قالت وهى تضحك ضحكا حزينا، الغرابة أن يعلن عن هذا المجمع في فرنسا ولما يوجد في مصر بعد، قال لم يوجد الآن فسيوجد بعد عام! قالت فقد كنت أحب من صديقنا، بل كنت أحب لصديقنا أن ينتظر حتى يوجد هذا المجمع بالفعل قبل أن يكتب عنه فيطيل، فقد أرى أن فصله غير قصير، وما عسى أن يكتب بعد أن يوجد المجمع؟ قال ليس على صديقنا بأس من أن يكتب عن مجمع إن لم يوجد بالفعل فهو موجود بالقوة، ولا سيما إذا طلبت إليه الكتابة وأثقل عليه في الطلب، وليس إسراعه الى الكتابة في شيء هو الى الوهم اقرب منه الى الخيال فضلا عن الحقيقة الواقعة هو الذي أنكره عليه أو ألومه فيه، إنما أنكر عليه فهمه للمجامع اللغوية وتصويره لتاريخها عند العرب، أترين الى أسواق الجاهليين؟ لقد كانت مجامع لغوية عند الأستاذ انطون الجميل، ثم أترينالى مدارس اللغة والنحو والأدب في البصرة والكوفة وبغداد وفى حلب ودمشق والقاهرة وقرطبة؟ لم تكن من المجامع اللغوية في شيء عند الأستاذ انطون الجميل. هذا كثير ألا ترين ذلك؟ قالت وأكثر منه أن يستجيب صديقنا لدعوة(14/11)
السياسة، وان يرضى صديقنا لنفسه أن يضع الأدب من السياسة هذا الموضع، وقد كنت أرى أنه يجب إخضاع السياسة للأدب، لأكتبن إليه، قال لا تفعلي، فليس هو الآن في القاهرة، أنه يطوف في لبنان فانتظري حتى تعودي ويعود، ثم خذي معه في هذا الحديث، ولكن اقرأي هذا الفصل وفكري فيه، فهو فصل من فصول الصحف السيارة في مصر لا أكثر ولا أقل.
ولكن حدثيني أتريدين أن تطيلي الإقامة في نيس؟ قالت وأنت حدثني كيفوقعت الى نيس وأنت تقصد الى مدينة النور؟ قال وهل يكون النور إلا حيث أنت يا آنسة؟ قالت مغيضة: هل تعلم انك تثقل علي أحياناً بهذا العبث السخيف؟ قال ما أردت هذا ولا فكرت فيه، وما أرى أني ألام إن كنت ثقيلا، فلعل الثقل أن يكون بعض طبيعتي؟ فخذيني كما أنا، قالت فان لم يعجبني منك هذا، قال فاحتمليه على أي حال فلعل عندي ما يهون عليك احتماله، أتريدين أن تطيلي الإقامة في نيس؟ قالت سأقيم أياما، وأنت؟ قال سأقيم فيها ما أقمت إن لم يثقل عليك ذلك، وسنرتحل معا حتى إذا كنا في بعض الطريق تخلفت أنت في مدينتك الجامعية الصغيرةفاصطليت فيها حر الصيف ونار العلم والأدب، ومضيت أنا الى باريس، ومن يدرى، لعل نار الأدب والعلم أن تستهويني فأتخلف وقتا طويلا أو قصيرا، وهل أنا فراشة تستهويها النار، ولا تكره أن تحترق بها؟ قالت في شيء من التفكير: أنت مقيم في نيس ما أقمت، مرتحل عن نيس إذا ارتحلت عنها، متخلف حين أتخلف، مصطل للنار التي أريد أن اصطليها. قال هذه خطة مرسومة، وكيف تريدين يا آنسة أن تغيري ما رسم القضاء؟(14/12)
التجديد في الأدب
للأستاذ أحمد أمين
(4)
الشعر
من قديم حاول الأدباء والنقاد أن يضعوا تعريفا للشعر فاختلفت تعاريفهم لاختلاف أنظارهم، ولأن كلمة الشعر استعملت في معاني مختلفة، فكان كل أديب يعرفه حسب نظره، وحسب المعنى الذي يرمي إليه، وكان سواء في ذلك أدباء العرب والإفرنج.
ذلك أن الشعر (على العموم) يتكون من عنصرين أساسين وهما الوزن والقافية أولاً، وإثارة المشاعر ثانيا، فإذا فقد الكلام عنصرا من هذه العنصرين لم يصح أن يسمى شعرا، غير أن بعض العلماء طغى عليه النظر إلى عنصر الوزن فعرفه تعريفا أفقده روحه، فقالوا أن (الشعر هو الكلام الموزون المقفى) ومثله قول بعض الفرنج (أي كلام موزون يسمى شعرا سواء أكان جيدا أم رديئا) وعلى هذا التعريف فألفية ابن مالك شعر، وقواعد الحساب المنظومة شعر، والمتون الفقهية المنظومة شعر، كما أن بعض العلماء طغى عليه النظر إلى روح الشعر ومعناه فعرفوه تعريفا أفقده موسيقاه، كالذي قال بعضهم (الشعر فيضان من شعور قوي نبع من عواطف تجمعت في هدوء) ومثله قول رسكن: (الشعر إبراز العواطف النبيلة من طريق الخيال) وهو تعريف يصح أن يكون للأدب كله نثره وشعره بل للفن جميعه من أدب ونحت وتصوير وموسيقى.
وابن خلدون نقد التعريف بأنه الكلام الموزون المقفى وقال انه اصبح تعريفا عند العروضيين لا يصح عند البلاغيين ثم اختار أن يعرفه (بأنه الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف المفصل بأجزاء متفقة في الوزن مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله الجاري على أساليب مخصوصة. وعيب هذا التعريف انه ممل وانه لم يلتفت إلى مزية الشعر وروحه وهو إثارة المشاعر واستقلال كل جزء منه في غرضه ومقصده ليس من العناصر الأساسية التي يصح أن تدخل في التعريف.
فلو قلنا إن الشعر هو الكلام الموزون المقفى المنبعث عن عاطفة والمثير لعاطفة كان تعريفا أقرب إلى الصواب.(14/13)
فإذا وجدت نوعا من الأدب يجمع الوزن والاتصال بالمشاعر فسمه شعرا وإلا فلا.
والشعر يثير المشاعر بما فيه من خصائص (فأولاً) بأوزانه وقوافيه ولذلك كان المعنى الواحد إذا قيل مرة شعراً ومرة نثرا كان في الشعر أقوى أثرا (وثانيا) بلغته فللشعر لغة غير لغة النثر ولسنا نعني بلغة الشعر الكلمات الغريبة أو أنواع البديع أو نحو ذلك فقد يكون الشعر في منتهى الرقي وكلماته في منتهى السهولة وهو كذلك خلو من كل أنواع البديع إنما الذي نعينه أن للشاعر ملكة لا يمكن أن نوضحها تمام الوضوح، بها يستطيع أن يتخير من ألفاظ اللغة ما يرى أنها ابعث للمشاعر. وهو كذلك يضعها في قوالب يتخيرها من القوالب العديدة والتراكيب اللغوية المختلفة، وهذا هو ما يجعل الشاعر شاعرا فقد يكون عندنا شعور فياض كالشعور الذي عند الشاعر أو أغزر منه ولكن ليس لنا هذه القدرة على الإفصاح واختيار الألفاظ والقوالب والتراكيب ومن ثم كان من المستحيل ترجمة الشعر إلى شعر لأن الترجمة لا ترينا ما للشاعر من قدرة فنية على اختيار الألفاظ والأساليب، والذي نترجمه هو المعنى الذي حواه الشعر وما فيه من تصوير وخيال. ويعد المترجم أمينا إذا هو استطاع أن ينقل هذا، أما طريقة الأداء فلا يمكن ترجمتها. نعم إن بعض الشعراء قد يقرأ القطعة من الشعر ويكون له قدرة فنية فيصوغ هو شعراً مستمدا من وحي ما قرأ وقد يجري مع الأول في واد واحد وتكون له عذوبة ما للأول ولكن ليس هذا ترجمة على الإطلاق.
كذلك يثير الشاعر الشعور بما عنده من لطف النظر أو الإلهام أو اللقانة أو ما شئت فسمه، فللشاعر روح غامض طبع عليه لا يكتسب بتعلم، به ينظر إلى الأشياء نظرا خاصا وبه يبعث الشعور عند السامع. ولعل هذا هو الذي جعل شعراء العرب يعتقدون أن لكل شاعر شيطانا ينفث فيه الشعر. ولأمر ما خلط العرب فسموا النبي شاعراً أحيانا وكاهناً أحيانا (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذَكَّرون) وللشاعر نظر باطن للحياة يغوص فيها ويستخرج معانيها ويعرضها في شعره، ولأن الشعر هو معنى الحياة كان شعر كل عصر مرآة له. وقديما قالوا: (الشعر ديوان العرب) والحق انه ديوان الأمم تسجل فيه حياتها وأفكارها ومشاعرها. فالشاعر يعطينا صورة روحية حية أكثر مما يعطينا إياها التاريخ. والشعراء عادة في مقدمة قومهم شعوراً وشعرهم إيذان بالفلسفة وإرهاص لها، فهم(14/14)
يلهمون الشيء إلهاما غامضا ثم يتضح ما أُلهموا به على مر الأزمان وتأتي الفلسفة بعد فتشرح وتحلل وتدلل.
أما الوزن في الشعر فهو موسيقاه وله قيمة كبرى في الشعر حتى عُد أهم فارق بينه وبين النثر، والشعر يحلو بالموسيقى الجيدة ويضعف شأنه إذا ساءت موسيقاه. وارتباط الشعر بالموسيقى أشد من ارتباط الفنون الأخرى كالنقش والتصوير حتى كان الرومان يقولون: (إن الشعراء ليسوا إلا مغنين يترنمون بشعرهم ويغنون به لأنفسهم ولمن شاء أن يردده بعدهم).
ومن أنواع الشبه بين الموسيقى والشعر ما لاحظه بعضهم من أن كلا منهما يتنوع أنواعا متماثلة. فالصوت يختلف عن الصوت من نواح أربعة:
(1) من ناحية الطول والقصر (2) والغلظة والرقة (3) والارتفاع والانخفاض (4) ومن ناحية مصدر الصوت كعود أو قانون.
وهذه النواحي الأربعة يمكن أن نراعيها في الشعر، فمن النوع الاول اختلاف التفاعيل طولا وقصراً فالرجز أقصر في التفاعيل من الطويل وهكذا. ولهذا الاختلاف تأثير كبير في الأذن الموسيقية.
كذلك نرى في الشعر ما يتناسب مع الشدة والضعف والغلظة والرقة. فالشعر قد يناسبه (أحياناً) حروف وكلمات ضخمة قوية وقد يناسبه حروف وكلمات لينة رخوة كالذي قالوا في قوله:
ألا أيها النوام ويحكموا هبّوا ... أسائلكم هل يقتل الرجل الحب؟
فالشطر الاول قوي شديد والثاني رخو ناعم
وفي الشعر ما يناسبه الهدوء والدقة كشعر الغزل، ومنه ما يناسبه الشدة والبطش، ويناسبه إنشاده في قوة وجلبة كشعر الحماسة. ونلاحظ في الموسيقى إن النغمة الواحدة إذا وقعت على الكمنجة ثم وقعت بعينها على البيانة كانت النغمتان مختلفتين تأثيرا، وهذا يقابله في الشعر القافية فالقصيدة على قافية قد يكون لها أثر لا يكون إذا قيلت على قافية أخرى وهكذا.
والشعر أقل تقدما وأبطأ خطى من النثر سواء في ذلك اللغة العربية وغيرها من اللغات،(14/15)
وسبب ذلك على ما يظهر أن الشعر لغة العواطف والنثر لغة العقل، والمشاعر والعواطف قليلة التغير بطيئة الرقي، وما حدث فيها من تغير فأكثره تغير في الشكل لا في الموضوع، أما العقل فراق أبدا وثاب في الرقيّْ ومظهر ذلك الرقي العلمي الذي نحسه من سنة إلى أخرى. ولأن الشعر تعبير شخصي وأعني بذلك أن الشاعر يعرض علينا في شعره مشاعره ونظراته إلى الحياة وإحساسه بها أما الناثر فعالمي إنساني يعرض الشيء كما هو لا كما يرى. تحس في الشعر دائما بالشاعر يحدثك عن نفسه وتحس في النثر بعقل يخاطب عقلك، وان شعرت بالناثر فمن وراء حجاب ومن أجل هذا خضع النثر للمنطق ولم يخضع له الشعر، ترى في الشعر غالبا مبالغة لا يرضاها المنطق وتناقضا لا يقره المنطق وتحكما في الحكم لا يؤيده المنطق، وتخبطا وهراء يغتفرهما العقل في الشعر ولا يغتفرهما في النثر. وهذه الظاهرة وهي سير النثر إلى الأمام في سرعة وقفز وسير الشعر في بطء وتمهل هي التي جعلتنا نتذوق الشعر العربي في العصر العباسي وما بعده أكثر مما نتذوق النثر في ذلك العصر، لأن الصلة بين نثرنا والنثر القديم صلة ضعيفة قد خالفناها كل المخالفة ولم يبق منها إلا أساس التركيب الذي تقتضيه طبيعة اللغة، بل أن مسافة الخلف بين نثرنا والنثر من عشرين سنة بعيدة كل البعد، وعلى العكس من ذلك الشعر فالفرق بين الشعر القديم والحديث قليل تافه، ومع هذا فالشعر يجب أن يخضع لسنة النشوء والارتقاء ويجب أن يتقدم ويجاري الزمان كما حدث في الشعر الغربي. يجب أن يتقدم الشعر في كل من عنصريه عنصر الوزن وعنصر المعنى، ففي الوزن نرى إن العرب في الجاهلية صبت شعرها في ستة عشر بحرا وكان خضوعها لهذه البحور لا لأنها حصرت كل ما يمكن أن يكون ولكن ابتكروا أولاً بحرا أو بحرين ثم جاء الخلف فزادوا هذه البحور شيئا فشيئا لا يهديهم في الابتكار إلا الأذن الموسيقية: وهم لا عيب عليهم في ذلك ولكن العيب عيب من أتى بعدهم فقد سوّا هذه البحور ولم يشاءوا أن يخرجوا عنها قيد شعرة وقد تحكم العلماء والأدباء في أذواق الناس فأبوا عليهم أن يقولوا في غيرها أو أن يشذوا ولو قليلا عنها. وهو تقديس في غير محله لأن أوزان الشعر كما قلنا هي موسيقاه، وكما تطورت الموسيقى في العصور واخترعت نغمات وولد من القديم نغمات جديدة، وكانت موسيقى العصر العباسي غير موسيقى العصر الأموي، وهما غير موسيقى الجاهلية، كان واجبا أن(14/16)
يغير الشعراء موسيقى الشعر ولا يقفوا عند الحد الذي رسمه الجاهليون، وعجيب أن نسمح في عصرنا للموسيقى الشرقية أن تطعم بالموسيقى الغربية ونهيئ آلاتنا للتوقيع عليها بهذه النغمات الجديدة، ونهيئ آذاننا لسماعها ثم لا نفعل ذلك في الشعر! نعم أخذ بعض الناس يتحللون من قيود البحور والقوافي الجاهلية كما فعل الأندلسيون بالموشحات وما إليها، ولكن وقف من بعدهم على اختراعهم ولم يسيروا على سننهم في التقدم. يجب أن يتحرر نوابغ الشعراء من هذه القيود ويشعروا بما يحسون ويوقعوا على النغمة التي يرتضون وليس الحكم بيننا وبينهم هو البحور الستة عشر ولكن الحكم هو الأذن الموسيقية، والأذن الموسيقية وحدها. وكما نرجع في كل فن إلى الخبيرين نستفتيهم ونحتكم إليهم فكذلك في هذا الضرب يجب أن نحتكم إلى من رقت أذنهم الموسيقية وأذواقهم الفنية وليس في هذا ضير على ثروتنا القديمة في الشعر فإنا باختراعنا بحورا وأوزاناً نزيد في ثروتنا إلى ثروتهم، كما نزيد في موسيقانا إلى موسيقاهم، وفي علمنا إلى علمهم.
أما من حيث الموضوع ومعاني الشعر فمجال القول فيه أوسع، وتقصير الشعراء فيه أبين ولئن كانت تعد الشعر ديونها تسجل فيه نزعاتها وآمالها وحياتها فأنا أخشى أن يكون الشعر العربي سجلا ناقصاً لم يدون فيه إلا وقائع قليلة من نزعات كثيرة، وصفحات ضئيلة من حياة حافلة مركبه معقدة. لقد دون الشعر كثيرا من وقائع المديح والرثاء والغزل والخمريات وما إليها وهذا حسن، وهو ضرب من الشعر لابد منه، ولكن ليس هذا كل مشاعرنا ولا أكثرها لقد مررت في هذا العام على تلاميذ مدارس ثانوية خارجين من لعب الكرة فسمعت بعضهم يصيح (يا محني ديل العصفورة، ومدرستنا هي المنصورة) فجرت من عيني دمعة على ما نحن فيه من ضعة وانحطاط وقلت أين الشعراء يضعون الأناشيد تجاري نفسية الطلبة، وترقي من مشاعرهم وتزيد في روحهم حماسة وقوة وتميز الطبقة المتعلمة من طبقة العامة وأمثالهم؟ وأتى كشّافة العراق ينشدون الأناشيد المختلفة في المناسبات المختلفة، فلم يجد كشافة مصر ما يجيبونهم به ويساجلونهم فيه إلا هراء من الكلام وسخفا من الغناء، ثم أين الشعراء يضعون أغاني للشعب وأغاني للمتعلمين تناسب حياتهم وموقفهم الاجتماعي؟ نعم تنبه بعض الشعراء لهذا ووضعوا أغاني أرقى ممن وضع من قبلهم ولكن أكثرها بكاءً وحنين وذوبان وهي من الأدب الذي سميته أدباً مائعاً، والذي لا يصح لأمة(14/17)
ناهضة أن تقتصر عليه، بل أين شعراء الشرق الذين تغنوا بما حوته طبيعة بلادهم من جمال إبداع فرقوا ذوق شعوبهم وأشعروهم بجمال الطبيعة، وغذوا عواطفهم وعودوهم تقدير الجمال والهيام به؟ لقد قصر شعراء العرب قديما وحديثا في هذا الباب فلا نعثر منه في الأدب العربي إلا على قليل، وهذا القليل لا يكفينا الآن ولا يسد رغباتنا لأن شعر الطبيعة قد رقِّيَ عند الأمم وأصبح مؤسس على شيئين لابد منهما وهما علم بالطبيعة ومعرفة بقوانينها، وحب للطبيعة وهيام بها ثم صياغة ذلك كله في قول ساحر جذاب.
وهذا الضرب من الشعر قطع فيه المحدثون من الغربيين شوطا بعيدا وسبقوا فيه من قبلهم بمراحل طويلة (وبعد هذا كله) أين الشعر الاجتماعي العربي الذي يساير نزعات أمم الشرق ومطامعها وآمالها في الحياة؟ إن أمم الشرق تنزع إلى الحرية وتأمل أن تتبوَّأْ في العلم الإنساني المكان اللائق بها، وتنشد ضروبا من الإصلاح الاجتماعي ترى الحاجة ماسة إليه وكلها مجال فسيح للشعر يلهب حماستها ويقوي إيمانها ويهديها سبل الحياة. فأين الشعراء الذين وقفوا هذه المواقف وقادوها قيادة صالحة؟ إن عواطف الأمم الشرقية ساغبة تنتظر من يغذيها ولا تجده. الحق أن أدباء النثر قد أدوا رسالتهم خيراً مما أداها أدباء الشعر، وفي كل من الفريقين تقصير؟(14/18)
صور من التاريخ الإسلامي
عمر بن عبد العزيز 62 - 101 هـ
للأستاذ عبد الحميد العبادي
3
ود الحكماء من قديم لو أن ملوك الأرض كانوا فلاسفة أو لو أن الفلاسفة كانوا ملوكاً؛ أذن لاقترنت السياسة بالأخلاق على أساس ثابت مطرد. وتعاونتا جميعا على النهوض بالمجتمع الإنساني، ولاستحال علمنا المضطرب جنة راضية ونعيما مقيما.
وكثيرا ما كتب الحكماء في نظم عامة ابتدعتها أخيلتهم وزعموها توفر على الناس في هذه الدنيا اللذة والسعادة، وتنفي عنهم الألم والشقاوة: فعل ذلك أفلاطون في (الجمهورية) والفارابي في (أهل المدينة الفاضلة) وتوماس مور في (اوطوبيا) كما فعله كثير غير هؤلاء ممن ترسم آثار أفلاطون ونسج على منواله.
هذا الحلم الجميل تحقق أو كاد في التاريخ مرة واحدة على ما نعلم، وذلك على عهد الخليفة العربي المسلم عمر بن عبد العزيز، فهو رجل ألقت إليه المقادير بزمام أعظم دولة في الأرض في زمنه، ومع ذلك استطاع أن يقدع شهوته حتى كاد يميتها، وأن يروض نفسه حتى ردها إلى الرضا بالقليل الأقل. ثم تجرد لإصلاح رعيته من طريق العدل والرفق والرحمة فأذاقهم لذة الأمن واليسر والرضا. وفوق هذا وذاك قد ترامت همته إلى ما وراء قومه وبلاده، فطمع أن يجمع شعوب الأرض طراً في نظام واحد يقوم على مبادئ الاخوّة والعدالة والمساواة. وقد وفق ابن عبد العزيز في هذا المطمع البعيد توفيقاً حدَّ من مقداره يا للأسف، أن عجلت إليه المنية وهو لا يزال في ميعة العمر وعنفوان الحياة.
قد اجتمع في تكوين هذه الشخصية العجيبة عاملا الوراثة والبيئة معاً، فأبوه عبد العزيز قد ولي مصر عشرين سنة دلَّت على ثقافته العالية واضطلاعه بأعباء الحكم، وبصره بتآلف القلوب، وجده مروان بن الحكم هو ذلك السياسي الجريء العارف بنفسية الأفراد والجماعات، والخبير بانتهاز الفرص عند إمكانها. وأما نسبه لأمه، فأمه أم عاصم بنت عاصم بن
عمر بن الخطاب، وكفى بانتسابه إلى تلك الشخصية العظيمة تعريفا بسبب من أسباب(14/19)
ورعه وجراءته في الحق على نفسه وغيره.
وليس أثر البيئة في تكوين بن عبد العزيز بأقل من أثر الوراثة فقد ولد بالمدينة عام 62هـ وشب بها على أصح الروايات. فلما ولى أبوه مصر عام 65 هـ حمل إليه، ولبث بمصر زمنا ما، نعم فيه بصحبة أبيه ومشاهدة آثار الحضارة المصرية والبيزنطية، وهنا رمحته دابة فشج شجته التي عرف من أجلها بأشج بني أمية، فلما بلغ سن التأديب بعث به أبوه إلى المدينة ليتأدب بها وينشأ نشأة إسلامية مدنية، وكانت المدينة إذ ذاك بيئة مركبة غير بسيطة، يعرف فيها من يحللها الروح الديني الصحيح ماثلا في نفر من بقايا الصحابة وكبار التابعين، أمثال أنس بن مالك وعبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، كما يعرف فيها الجانب الأرفه من الحياة ممثلا في مثل عبد الله بن جعفر أول نصير لصناعة الغناء العربي، وطائفة من المغنين والقيان يتقدمهما معبد ومالك بن أبي السمح المغنيان المدنيان الشهيران. ثم أن المدينة كانت إذ ذاك من الناحية السياسية موطنا للمعارضة التي تستند إلى الكتاب والسنة في مقاومة الحكومة الأموية. في هذه البيئة تخرج أبن عبد العزيز، فروى الحديث عن حملته ورواته، ولقف صناعة الغناء وأعانه على المساهمة فيها صوت ندي عذب. كما أشرب روح الحكومة الإسلامية القديمة التي كانت تختلف عن الحكومة الأموية اختلافا كبيراً. إلى ذلك كله كان أبن عبد العزيز فتى مليح الخلقة ناعماً مترفاً كعادة فتيان بني أمية. يروى أنه أبطأ يوماً عن الصلاة فسأله مؤدبه صالح بن كيسان عن سبب إبطائه فقال (كانت مرجلتي تسكن شعري) فكتب مؤدبه بذلك إلى أبيه، فبعث أبوه رسولا فلم يكلمه حتى حلق شعره.
في عام 85 هـ توفي عبد العزيز بن مروان بمصر، وكان أبنه عمر قد تم تأدبه بالمدينة، فأجتذبه الخليفة عبد الملك بنمروان إلى الشام وزوجه من أبنته فاطمة، ثم ولاه (خناصرة) وهي بليدة من أعمال حلب واغلة في البادية. فلبث والياً عليها سنتين كانتا من أنعم سني حياته وحياة زوجه. وقد أعجبته خناصرة حتى أنه عندما استخلف اتخذها منزلاً على عادة ملوك بني أمية في إيثارهم سكنى البادية على الحاضرة. وفي عام 87هـ اختاره الخليفة الوليد بن عبد الملك لولاية المدينة بدلا من هشام بن إسماعيل المخزومي الذي أساء السيرة في أهلها، ولا شك أن الوليد إنما اختار عمر للمدينة لما يعلم من المشاكلة القوية بينه وبين(14/20)
هذه الولاية، ثم أنه بعد قليل ضم إليه مكة والطائف فاصبح عمر بذلك أميرا على الحجاز كله.
كانت حكومة عمر ابن عبد العزيز بالحجاز (87 - 93) حكومة شورية أبوية يمازجها من ناحيته الشخصية مقدار غير قليل من الحرص على الترف والتنعم. فلأول قدومه المدينة اصطفى عشرة من العلماء اتخذهم نصحاء ومستشارين يصدر في الأمور عن رأيهم، ثم عكف على إصلاح شؤون الحجاز فهدم المسجد النبوي وأعاد بناءه على نحو أوسع وأروع، وأصلح الطرق، وأكثر من الآبار وتيسر بذلك الماء في ذلك القطر الظميء، كما أنه عمل بالمدينة فوارة يستقي منها أهلها، وقد اعجب الخليفة بتلك المنشآت عندما زار المدينة سنة 91هـ وأمر للفوارة بقوام يقومون عليها، وأن يسقى أهل المسجد منها، ففعل عمر ذلك. ومن مظاهر بساطة عمر في إمارته بالحجاز انه جلس مرة في المسجد يرتِّل القرآن بصوته العذب فتأذّى بذلك سعيد أبن المسيب على غير علم منه بصاحب الصوت، فلم ير عمر بأساً بان ينتحي ناحية أخرى من المسجد. وبلغه أن قاضيه على المدينة استخفه الطرب عندما سمع جاريته تغني حتى أخرجه من وقاره، فعزله عمر، ولكن القاضي المعزول تحدى الأمير لسماع الجارية، فسمعها عمر وكاد هو أيضا يستخف فعذر القاضي وردَّه إلى عمله. وعندما قدم الفرزدق الشاعر المدينة وكانت السنة ممحلة وخاف أهل المدينة لسانه رفعوا أمرهم إلى عمر فأخرجه من المدينة ونهاه أن يعرض لأحد من أهلها بمدح أو بهجو. أما من حيث حياة عمر الشخصية في تلك الفترة فكان مترفا مسرفا في الترف، يرخي شعره ويسبل أزراره ويلبس الثوب تبلغ قيمته مئات الدنانير، ويكثر من الطيب حتى لتقصف ريحه إذا مشى مشيته (العمرية) وهي مشية كان يتبختر فيها ويختال، ولملاحتها كانت الجواري تأخذها عنه.
حادث واحد نغَّص على أبن عبد العزيز إمارته على الحجاز: ذلك مصرع خبيب بن عبد الله بن الزبير فقد نقم الخليفة الوليد من خبيب أشياء بلغته عنه وكتب إلى عمر أن يضربه فضربه عمر ضرباً كان فيه هلاكه. وقد جزع عمر لذلك جزعا شديداً، ويقولون انه لبس المسوح سبعين يوما حدادا على خبيب، ثم أقلع عن ذلك. فلما استخلف دفع ديَّة خبيب إلى أوليائه، ومع ذلك كان يرى أن الله لابد مؤاخذه لذلك الذنب، فكان إذا بشره أحدهم بالجنة(14/21)
قال: (وكيف بخبيب!).
وغدا الحجاز ينعم بأمن وعافية مما ابتليت به الأمصار الأخرى ولا سيما العراق من الفتن والقلاقل، ولذلك أخذت فلول ثوار العراق والخوارج تفد على الحجاز فراراً من وجه الحجاج وسيفه المسلول، فكان بن عبد العزيز يجيرهم ويحميهم. ثم لم يكتف بذلك فكتب إلى الخليفة يندد بعسف الحجاج وبطشه. فاضطغنها الحجاج عليه وكتب إلى الخليفة يشكو من أن أمير المدينة يجير (مراق) العراق وان ذلك موهن له. وقد نظر الخليفة في الأمر ملياً، ثم رأى أن يشدُّ أزر الحجاج في هذه الخصومة، فالعراق أخطر من الحجاز والحجاج أولى بالمصانعة من عمر بن عبد العزيز، فصرف عمر عن الحجاز بأميرين أحدهما للمدينة والآخر لمكة. فكان أول ما صنعاه أن أخرجا من الحجاز إلى الحجاج كل عراقي في الجوامع والأغلال، وتوعدا كل حجازي أنزل عراقيا أو آجره داراً.
خرج ابن عبد العزيز من الحجاز إلى الشام مغاضبا للخليفة الوليد، وقد ساءه أن عزل عن إمارة المدينة حتى قال لمولاه مزاحم وهو ببعض الطريق: (أخشى أن أكون ممن تنفيه المدينة) إشارة إلى الحديث الوارد في أن المدينة تنفي خبثها. فلما حصل بالشام شغل نفسه بالغزو فراراً من وجه الوليد والتماس الأجر والسلوى. فلما توفي الوليد عام 96 هـ وولي سليمان بن عبد الملك لزمه عمر، وكان أثيراً عنده يستشيره سليمان وينزل على رأيه في كثير من الأمور، على إن عمر نفعه أن عزل عن الإمارة على النحو المتقدم فقد دفعه ذلك في السنوات الست التي قضاها بالشام قبل أن يستخلف (93 - 99) إلى النظر في حال الدولة العربية في أواخر القرن الأول الهجري.
نظر فإذا الدولة الإسلامية قد أبعدت في التخلي عن الصفة الدينية التي كانت لها قديما وأسرفت في الاصطباغ بالصبغة الزمنية المتطرفة، أليست حكومة عبد الملك والوليد والحجاج ويزيد بن المهلب حكومة تجبر وطغيان؟ أليست حكومة سليمان حكومة الشهوة العطشى والجسد المنهوم؟ لقد أصبح السلطان يعتمد في شد أركانه وتقوية دعائمه على القوة الغشوم والسيف المرهف. أما العدل وأما الرفق وأما الرحمة فلم يعد لكل ذلك عنده محل ولا حساب. ونظر فإذا أموال الدولة قد عراها الخلل والاضطراب من كل نواحيها. فنحو ثلث أموال الدولة قد استحال ملكا خاصا لبني أمية وأكثر الضرائب يجبى من غير وجوهه،(14/22)
ويصرف في غير مصارفه الشرعية. فكثير من الأراضي الخراجية التي لا يصح تملكها قد استحالت أرضاً عشرية يتملكها أفراد من المسلمين يؤدون عنها الزكاة التي مقدارها أقل من مقدار الزكاة. وكثير من الموالى أو مسلمي الأعاجم لا يزالون مع إسلامهم يؤخذون بالجزية لغير ما سبب سوى أن العمال لحظوا في إسلامهم معنى الفرار من الجزية فأبوا أن يعفوهم منها. هذا فوق أن هؤلاء الموالي لم يكونوا والعرب سواء في الحقوق، فكانوا يغزون إلى جانب العرب دون أن يكون لهم عطاء. ثم إن عدم إنفاق الزكاة في مصارفها الشرعية قد ادى إلى كثرة الفقراء والمساكين والمرضى والزمنى ممن جعل لهم الشرع حقا في الصدقات العامة ثم نظر فرأى بأس الأمة الإسلامية بينها شديد، قد توزعت الفرق المتباغضة والأحزاب المتناحرة، فمن شيعة يطوون الصدور على الإحن لما نالهم به بنو أمية من أذى ومساءة، ومن خوارج يتحينون الفرص لهدم النظام القائم وإحلال نظامهم محله، ومن موال قد ساءهم إلا يسوى بينهم وبين العرب في الحقوق العامة، ومن مضرية ويمينية وربعية كل يحاول أن يكون له النفوذ السياسي من طريق الولاية على الأقاليم والتأثير في السلطان نفسه. هذا في الداخل أما في الخارج فرأى عمر إن الجهاد الذي شرع على عهد النبي (ص) لمنع العدوان على النفس والعقيدة والذي كان على عهد الشيخين ضرورة اقتصادية ملحة قد استحال في زمن الأمويين أداة للتوسع في السلطان وجر المغنم الوافر والسبي الرائع حتى قال الشاعر:
ألا ذهب الغزو المقرب للغنى ... ومات الندى والجود بعد المهلب
نظر عمر في كل ذلك فرده إلى سبب جوهري واحد هو انحراف الجماعة الإسلامية عن الأساس الذي قامت عليه، أساس الدين. والدين عند عمر هو الدين المتصل بالحياة العامة يمدها ويغذيها بقوته المعنوية والممسك لشؤون الجماعة أن تضطرب وتصبح فوضى، هو الدين الذي أثره في الحاكم شعور قوي بالمسؤولية وعمل صادق على إسعاد العباد والترفيه عنهم والذي أثره في المحكومين اقتضاء للعدل إذا حرموه وأنفة من الضيم والذل إذا ما أريدوا عليهما، الدين عند عمر بن عبد العزيز: هو الحق والإنسانية عبر عنهما بلفظ واحد.
وبينا عمر يرسل الفكر في أنحاء الحياة الإسلامية العامة متعرفا عللها إذا به في الوقت نفسه قد أخذ يخضع لتطور نفساني عنيف. لقد أخذ حرصه على الترف والتنعم يضعف(14/23)
رويدا رويدا وميله إلى الزهد والتنسك يقوى شيئا فشيئا وأصبحت نظرته إلى الحياة نظرة إلى متاع قليل زائل لا يعدل شيئا بجانب طمأنينة النفس وراحة الضمير كما أصبح دائم التفكير في الموت وفيما بعد الموت، فالموت آت لا ريب فيه؛ والموت برزخ مؤد إما إلى جنة وأما إلى نار والمنتهى على كل حال رهين بما يكون عليه المرء في العدوة الدنيا من ذلك البرزخ الرهيب.
ما سر هذا التطور العجيب الذي جعل من ابن عبد العزيز الناعم المترف ناسكاً زاهداً متصوفاً؟ نتبين ذلك السر في نفسية ابن عبد العزيز من جهة؛ وفي مقدار تأثره بالحياة الإسلامية العامة لذلك العهد من جهة أخرى.
لقد كان في عمر نزوع طبعي إلى الزهد فهو كما رأينا من سلالة عمر بن الخطاب؛ وكان في طفولته يحاول التشبه بخاله الزاهد عبد الله بن عمر ولما تورط في أمر خبيب لبس المسوح سبعين يوما يأسا من غضارة ولذاذة الحياة فلما نصح بالإقلاع عن ذلك أقلع. ثم أن الحياة الإسلامية قد ألمت بها في أواخر القرن الاول نزعة زهد جاءت كرد فعل للمادية التي طغت عليها إذ ذاك. هذه النزعة التي تحولت بعد ذلك إلى الحركة الصوفية المشهورة نتبينها في طبقة العباد والنساك التي يتكلم عنها صاحب العقد الفريد طويلا. وقد خضع عمر لتأثير هذه الطبقة وهو في المدينة فكان من أشد الناس تأثيرا فيه عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة. فلما صار بالشام خضع لتأثير رجلين يعتبران بحق من أقطاب عصرهما علما وزهدا وورعا. هذان هما الحسن البصري ورجاء بن حيوة الكندي. أما الحسن فقد اتصل به عمر من طريق المراسلة ولعله قد أخذ عنه كراهية القول بالقدر الذي ينسب إلى الحسن خطأ. وأما رجاء فقد كان مستشار سليمان بن عبد الملك وكان لذلك أقرب إلى عمر وأقوى به اتصالا.
وبعد فلئن كان النظر في الأحوال العامة قد انتج لعمر ضرورة الرجوع إلى الدين في إصلاح غيره؛ فقد انتج له مزاجه الخاص وتأثره بالزهاد من أهل عصره ضرورة الزهد من اجل إصلاح النفس وتهذيبها. الدين والزهد، هاتان هما الخلتان اللتان كانتا تعمران فؤاد عمر وقلبه عندما أخذ صلحاء الشام يرشحونه للخلافة.(14/24)
الثقافة المصرية وكيف تستفيد من ثقافة الجاحظ
الأدبية والعلمية والسيكولوجية
للأستاذ مصطفى عبد اللطيف المحامي
دعونا في مقال نشر بالسياسة الأسبوعية إلى الرجوع إلى الثقافة العربية بدوية كانت أم حضرية وأهبنا بالمثقفين ثقافة عالية أن يصرفوا جهودهم إلى بعث تلك الثقافة وتغذية ثقافتنا المصرية بمادة مفيدة صالحة وذكرنا في ذلك المقال أسماء بعض زعماء الثقافة العربية. ومن بينهم أبو عثمان بن بحر الجاحظ أحد أعلام العصر العباسي ومن أكبر زعماء الفكر الإسلامي.
وها نحن نعود أولاء إلى هذه الدعوة وتأييد تلك الفكرة بذكر شيء من ثقافة الجاحظ الواسعة، تلك الثقافة التي يباهي بها العرب ويعجب لوفرتها الجيل الحاضر لأنها ثقافة تزيد في الوفرة على ثقافة جوت الألماني وديدرو الفرنسي ودستوفسكي الروسي وغيرهم من ذوي الثقافات الواسعة الرفيعة.
والحق أني بعد أن تصفحت جمهرة من مؤلفات الجاحظ وما كتب عنها لم أجد وصفا أصدق عليها من أنها كالبحر اللجب الزاخر تحوي الجوهر كما تحوي الصدف، فأنت إذا تناولت تلك المؤلفات ألفيت بحوثا شائقة في الأدب وملاحظات قيمة في العلم ومعلومات رائعة في سيكولوجية الإنسان والحيوان وأفكارا كالأمواج متزاحمة متلاحمة تشرق عليها أنوار الثقافات الفارسية واليونانية والهندية.
هي ثقافة ثرة متعددة النواحي يتطلب تصويرها كتبا مفردة ولكني سأحاول أن أتناول في اختصار ثلاث شعب منها، وهي ثقافة الجاحظ: الأدبية، والعلمية، والسيكولوجية. واكتفي برسم خطوط لتلك الثقافات تاركا إخراج صورة كاملة لها لمن هم أقدر مني عليها. وغايتي من المقال كما سبق إظهار روائع الثقافة العربية وبيان صلاحيتها لتغذية ثقافتنا المصرية، إذ فيها خير مادة لنا وخير ثقافة.
ثقافة الجاحظ الأدبية
ونحن إذا قلبنا البصر فيما صدر عن الجاحظ من المؤلفات الأدبية الكثيرة أدركنا قطعا نفع(14/25)
تلك المؤلفات لثقافتنا وصلاحيتها لتغذية إلهاماتنا. ويحتاج بحث هذه المؤلفات إلى كتاب مفصل. ولكني سأقصر بحثي على وصف رسالة الجاحظ الموسومة (بالتربيع والتدوير) وهذه الرسالة أعتقد أنها تكفي لرسم صورة تامة عن أدب الجاحظ وأسلوبه الرصين المونق ومعانيه البليغة وميله إلى خلط الجد بالهزل في كتاباته. وهذه الرسالة مدبجة في احمد بن عبد الوهاب من معاصري الجاحظ ومن ذوي النفوذ والمقربين لدى الخلفاء، وهي تمثل في أوضح بيان جمال الرصف والقدرة على ملكية العبارة. ومن المستحسن أن أصف هذه الرسالة وآتي بفقر منها: ابتدأ الجاحظ الرسالة بالقدح في احمد والزراية بعقله، وطرح عليه مائة سؤال منها الخفيف ومنها الثقيل ومنها الجدي ومنها المضحك حتى إذا ما آذاه وجرحه جرحا يكاد يقطر دما وأدرك فداحة ما صنع أسرع إلى قلمه فمسحه من الدم ودهنه بالمرهم ليأسو الجرح ويداوي ما بضع سنان القلم، فاخذ يقدم وجه العذر ويدير اليراع بالمغفرة ويزكي صفات احمد ويطنب في مدحه ويسرف. فها هو ذا يسم أحمد في مفتتح الرسالة بالادعاء وينعته بالجهل يقول: (كان احمد بن عبد الوهاب مفرط القصر ويدعي أنه مفرط الطول وكان جعد الأطراف قصير الأصابع وهو يدعي البساطة والرشاقة، وكان كبير السن متقادم الميلاد وهو يدعي انه معتدل الشباب حديث الميلاد. وكان ادعاؤه لأصناف العلم قدر جهله بها، وتكلفه للإبانة عنها على قدر غباوته فيها. . . وكان قليل السماع غمرا. . . يعد أسماء الكتب ولا يفهم معانيها ويحسد العلماء من غير أن يتعلق فيهم بسبب).
واستطرد يقول بعد كلام طويل فصيح: (فلما طال اصطبارنا حتى بلغ المجهود منا وكدنا نعتاد مذهبه ونألف سبيله، رأيت أن أكشف قناعه وأبدى صفحته للحاضر والبادئ وسكان كل ثغر وكل مصر بان أسأله عن مائة مسألة أهزأ به فيها وأعرف الناس مقدار جهله).
وأخذ يلقي عليه الاسئلة في خلال الرسالة ومنها قوله: (خبرني ما تقول في الفراسة؟ وما تقول في أسرار الكف؟ وما تقول في النظر في الأكتاف! وخبرني متى تستغني الحية عن الغذاء! ومتى ينتفع الضب بالنسيم! وخبرني ما السحر وما الطلسم وما الدنهش! وما قولهم في اللبان الذكر!؟).
وبعد أن سقاه سخراً وأشبعه تهكما وجعله ضحكة الضاحكين وهزأة الساخرين انبرى يشدو بذكره ويتغنى بمدحه مما يجعلنا نعجب من الجاحظ ومن تناقضه الظاهر ومن انقطاع(14/26)
الملابسة المنطقية بين هجو الفارط المفرط ومدحه اللاحق المفرط. استمع إليه يقول في مدح أحمد: (وهل على ظهر الأرض جميل حسيب أو عالم أديب إلا وظلك أكبر من شخصه وظنك أكثر من علمه، واسمك أفضل من مغناه، وحلمك أثبت من نجواه، وصمتك أفضل من فحواه!). . . ثم تأخذه الأنفة وتغطيه العزة فيتسامى على أحمد بالمعرفة ويتفاضل بالحكمة. يقول: ـ فأنت والله يا أخي تعلم علم الاضطرار وعلم الاختيار وعلم والأخبار أني أشد منك عقلا، واظهر منك حزما والطف كيدا وأكثر علما وأوزن حلما وأخف روحا وأكرم عينا. . . وأنت رجل تشدو من العلم وتنفق من الأخبار، وتموه نفسك وتعز من قدَّرك وتتهيأ بالثياب وتتنبل بالمراكب). . . وأخيرا يحس الجاحظ شدة ما ساقه من الذنب إليه فيعمد إلى تلطيفه ببيانه الساحر الجذاب فيقول: (فان أنت عاقبتني فقد رغبت عن النبل والبهاء، وعن السؤدد والسناء، وصرت كمن يشفي غيظا أو يداوي حقداً أو يظهر القدرة أو يحب أن يذكر بالصولة. ويشفع هذا بكلام يتنفس الملق والدهان يقول: (وأني لك بالعقاب وأنت خير كلك، ومن أين اعتراك المنع وأنت أنهجت الجود لأهله؟ وهل عندك إلا ما في طبعك؟ وكيف لك بخلاف عادتك؟).
وأكتفي بهذا الاقتباس الطويل الذي تعمدت أطالته لإثارة القارئ لتلاوة هذه الرسالة برمتها ليتذوق جمالها الفني وحلاوة عباراتها وعذوبة مائها، وهذه الرسالة عندي لا تمثل الجمال الفني للعبارة بل أنها تمثل جمال المعنى وبلاغته. وللجاحظ رسائل أخر شائقة متقدمة في الفصاحة متناهية في الرصانة والسلاسة والجزالة وهي آية قائمة على تفوق الرجل في أدب المقال وإحسانه فيه أقصى إحسان. والمجال يطول بذكر شيء عن هذه الرسائل ونسرد أسماء بعضها ليدرك القارئ كيف تنبه الجاحظ منذ قرون لمعالجة موضوعات تهز العواطف والمشاعر والانفعالات. فرسالة البخلاء تحوي قصصا غريبة عن بخلاء عصره وعاداتهم، ورسالة الحاسد والمحسود تهجن الحاسد وتذم انفعال الحسد. ورسالة (العشق والنساء) تصف عاطفة العشق وكيف يخنع لها الجبابرة وكيف خنع لها الحجاج الطاغية. وكتابه (المحاسن والأضداد) تناول فيه ذكر محاسن كثيرة من العواطف الفردية مثل عواطف الصدق والعفو والمودة والوفاء والشجاعة والسخاء وحب الوطن؛ ومدح فيه انفعال الغيرة وذمه في صفحات معدودة. وهذا الكتاب لا تظهر فيه شخصية الجاحظ الخلاقة لأن(14/27)
مادته منقولة عن الأعراب. وعلى العموم فمؤلفات الجاحظ الأدبية بجملتها تفتق اللسان وتقوي العارضة وتمدنا بثروة واسعة من التعابير الجميلة وتعطر أفئدتنا وتنعش صدورنا بمعانيها اللطيفة الفريدة. يقول المسعودي في هذا الصدد: (كتب الجاحظ تجلو صدأ الأذهان وتكشف واضح البرهان) ويقول ابن العميد: (كتب الجاحظ تعلِّم العقل أولاً والأدب ثانيا. . .)
ثقافة الجاحظ العلمية
ويعني ابن العميد بهذا القول أن يقول أن كتب الجاحظ تعلم العلم أكثر من أنها تعلم الأدب، والواقع أن كتب الجاحظ الأدبية لا العلمية تتضمن ملاحظات بارعة وإشارات دقيقة ومعلومات قيمة يمكن أن تبنى عليها بحوث علمية رائعة.
حدثني أحد المهتمين بالثقافة العربية أنه قرأ رسالة التفاح للجاحظ في مكتبة بألمانيا فوجد بها ملاحظات وتجاريب للجاحظ مدهشة منها أن الجاحظ كان يكتب بمادة كيمياوية بعض الأسماء على التفاحة قبل نضجها. فتظهر الأسماء على التفاحة بعد النضج، وكأنها خلقت على هذه الصورة وكأن الأسماء نقشت على التفاحة نقشا طبيعيا. وذكر أن الجاحظ أبان في هذه الرسالة كيف تتلون التفاحة في الطبيعة: فالقمر يخلع عليها اللون الأصفر والشمس تهبها اللون الأحمر. وهذه الحقائق لا أعلم مبلغ صدقها. ولكني أثبتها بقصد الإثارة للبحث عن هذه الرسالة ونشرها. ولا شك في أن رسائل الأدب لا تخلو من معلومات مفيدة للعلم فما بالنا بالرسائل والكتب العلمية مثل كتب: النبات، والمعادن، والكيمياء، والطب وغيرها التي لم نطلع عليها وا أسفاه إلى الآن، والتي أفاد منها الغربيون واستقوا آراءهم. فقد جاء في دائرة المعارف الإسلامية أن كازويني وداميري اعتمدا في بحوثهما العلمية على كتاب الحيوان والنبات للجاحظ، ونحن وان كنا قد عثرنا في مطالعاتنا على طائفة من حقائقه العلمية فان هذه الحقائق تعتبر نقطة من محيط. وشعاع من شمس قد يهدف ذكرها في هذا الموضع إلى سوء التقدير وغباوة الحكم، ولهذا فإني اكتفي هنا بتوضيح مذهبه في البحث وطبعه العلمي وحبه للتحقيق والتدقيق. فها هو ذا يقدم لأحد كتبه في الحيوان بالتعوذ بالله من أن يدعوه شغفه بإتمام كتب الحيوان إلى أن يصل الصدق بالكذب أو يدخل الباطل في تضاعيف الحق. أو يتكثر بقول الزور أو يتلمس تقوية ضعفه باللفظ للحسن وستر قبحه(14/28)
بالتأليف المونق. وهذه الأقوال لا تصدر إلا من رجل وهب ضميرا علميا يزعه عن الأوهام وينزهه عن ذكر المغالط ويدعوه إلى التثبت من العلة وتنقية الثقة من الريبة، وتطهير الحجة من الشبهة.
وأنا لنراه في كتبه ومؤلفاته يستند كثيرا إلى التجربة ويعتمد على الملاحظة، فإذا ما أعوزته التجربة ولم تتيسر له الملاحظة رجع إلى ثقة من الثقات للمذاكرة فإذا لم يجد الثقة الذي يعتمد عليه ويتذاكر إليه ربأ به ضميره عن نقل المعارف نقلا مهما كان مصدرها. فها هو ذا في كتب الحيوان تناول ذكر كثير من الحيوان والطير والحشرات ورجع إلى ما كتب أرسطو في الحيوان، وأخذ عنه بعض ما حققه بنفسه أو قامت التجربة على صدقه. ورفض أن يثبت في كتبه معلومات غريبة عنه، فنراه مثلا لم يكتب شيئا عن (السمك) مع أن ارسطو أفاض وأشبع القول في هذا الموضوع. ولكن الجاحظ أبى أن ينقل عن ارسطو شيئاً في هذا البحث؛ وعلة ذلك انه لم تتوفر له الملاحظة عن السمك وعن طباعه وأحواله وأنه سأل البحريين عن بعض الحقائق الواردة في كتب ارسطو فلم يصل منهم على قول محقق؛ لهذا ترك هذا الباب كلية ولم يكتب فيه حرفا.
وأنا لنتمنى أن نجد مثقفا مصريا أو شرقيا يخصص نفسه؛ وينفق عمره في التنقيب عن كتب الجاحظ العلمية في مظان وجودها ومحال مكامنها. وينقلها إلينا ليخدم بذلك الثقافة المصرية. لأن البحوث التي لدينا عن الجاحظ كلها موجزة مجملة؛ وكلها تركت الناحية العلمية جانبا. فالسندوبي قصر بحثه الواسع على (أدب الجاحظ) وترك علمه. واستقى مادته من جمهرة صالحة من الكتب الأدبية، والأستاذ خليل بك مردم كتب بحثا مجملا مفيدا عن الجاحظ وثقافته. والأستاذ أحمد أمين كتب فصلا بديعا موجزا عن الجاحظ ومس الناحية العلمية مساً خفيفا. وليس من شك في أننا في حاجة إلى من يدرس الجاحظ درسا واسعا من جميع نواحيه. واليوم الذي نجد هذا الرجل هو اليوم الذي نقع فيه على ثقافة ممتعة، ونواح طريفة للتفكير العربي.
ثقافة الجاحظ السيكولوجية
ومن النواحي الطريفة لثقافة الجاحظ الناحية النفسية أو السيكولوجية. وهذه الناحية ماثلة بجلاء في طائفة من كتبه. وهي أشد ما تكون جلاء في كتب الحيوان السبعة. فقد تناول في(14/29)
هذه الكتب نفسيات الحيوان والطير والحشرات وتحدث عن أخلاقها وطباعها وعاداتها وضمنها معلومات عجابا وملاحظات دقاقا تشهد بسعة ثقافة الجاحظ وبأنه أنفق عمرا طويلا في معاشرة الطير ومؤالفة الحيوان ومراقبة الحشرات، وانه هام من أجل ذلك في الغياض وتوغل في بطون الأودية وركب البحار وسكن الصحاري ونبض قلبه مع النبات واهتز لسحر الطبيعة: ففي كلامه عن الحيوان تحدث عن نبالة الكلب وذكر انه يتخير أنبل موضع في المجلس، وتحدث عن القط وذكر انه لئيم خؤون وشره شديد الشراهة. وفي الوقت نفسه يؤثر أولاده بالأكل على نفسه!
وتكلم عن الديك وإيثاره الدجاج على نفسه في سن الشباب؛ فإذا هرم صار أنانيا لا يعرف إلا نفسه. وتكلم عن الفيل وجرأة قلبه وقوة عزمه بينما هو يفزع من القط فزعاً شديدا! وتكلم عن اليربوع وسعة حيلتها وانها علمت الفرس والروم الاحتيال واتخاذ المطامير على تدبير بيوتها. وأفاض في ذكر عداوة الحيوان بعضه لبعض، فالأسد عدو للكلب يشتهي لحمه والذئب يشتهي لحم الثعلب والثعلب يصيد القنفذ وهكذا. وفي الفصول التي عقدها عن الطير أفاض في ذكر الحمام والعصافير. فذكر أن العصافير لا تقيم في الدار إذا خرج أهلها منها وأنها شديدة العطف والبر بأولادها وتحتمل الأخطار في سبيل الذود عنها. وتحدث عن الحمام فذكر حبه للناس وأنس الناس به وأنه لا يهجر الدار إذا هجرها أهلوها وأنه لا يغير. . . وفي الفصول التي عقدها عن الحشرات تكلم عن النحل وكمال غريزته وعن خلق الخلية وما فيها من غرائب الحكم وعجائب التدبير وكيف يتضافر النحل في عمل الخلية. فمنه ما يقوم بجمع المادة من الشجر والزهر. ومنه ما يبني البيت ومنه ما يقوم لعمل الشمع. وتكلم عن العنكبوت وبداعة نسجه. وطريقته الحكيمة في صنع مصيدة من خيوطه لإيقاع الذباب وصيده. وتكلم عن عداوة القنفذ للحية والحية للعصافير والعصافير للجراد والجراد لفراخ الزنابير والزنابير للنحل والنحل للذباب والذباب للبعوض، وغير هذا من أجناس هذه المعلومات وأشباهها مما وعته صفحات كتب الحيوان. وقد ذكرنا وشلا منها، ولا ريب أن المشتغلين بعلم النفس يجدون في هذه الكتب معلومات قيمة مفيدة. وبالأخص المهتمون بعلم النفس التجريبي الحديث الذي تدور بحوثه على درس الحيوان والحشرات. فجدير بنا أن نهتم بهذه الكتب التي سبقنا الغربيون إلى تعرف خطرها وقدرها(14/30)
ونباهتها.
الخلاصة
ونخلص مما تقدم إلى أن الجاحظ كان رجلا مثقفا بكل معنى الكلمة، ولأقصى درجة من درجات الثقافة العالية، فقد وعى أدبه ثروة وجمالا وملاحة، وحوى علمه براعة الملاحظة وصدق التجربة، وتغلغلت نفسه في أعماق نفوس البشر ونفوس الحيوان. وسلك مذهب الحرية في الدين فأحب جمال الدين وشعر العقيدة. ولم يتحرج من اعتناق مذهب المعتزلة برغم مخالفته للرأي السائد. وقصارى القول أن الجاحظ أديب العلماء وعالم الأدباء غير مدافع؛ وفيلسوف عملي لا مذهبي وعالم يكثر الملاحظة والتفكير. وملاحظاته أغزر من تفكيره. فجدير بنا بعد هذا أن نتذوق ثقافته فنذوق روح الحياة وننشق عطر البحث ونستمتع بجمال الأسلوب ولذة المعرفة.
ميت غمر. مصطفى عبد اللطيف المحامي(14/31)
من الشعر المرسل
ذو الفأس
للآنسة سهير القلماوي. ليسانسيه في الآداب
جان فرانسوا ميلين رسام فرنسي عاش في النصف الاول من القرن التاسع عشر. وقضى أخريات حياته في الريف على مقربة من غابة فونتينبلو حيث رسم لوحاته الريفية المشهورة. أشهر هذه اللوحات لوحة (الانجلوس) وهي تمثل فلاحة وفلاحاً سمعا صوت جرس الكنيسة فهما يصليان خاشعين. ومن أشهر لوحاته (ذو الفأس)، وهي تصور فلاحاً متكئاً على فأسه وقد بلغ به التعب والبؤس أقصى درجات الألم. تلك الدرجة التي يشعر فيها الإنسان أنه فقد حواسه.
جاء بعد الرسام ميلين الشاعر الأمريكي أدوين مركهام فنظم قصيدة أوحاها إليه هذا الفلاح المتكئ على فأسه. ولقد أذاعت هذه القصيدة صيت الشاعر حتى أصبح يعرف باسم مؤلف ذي الفأس.
وهذه قصيدة أوحتها إلي قصيدة الشاعر مركهام والرسام ميلين. ولقد راعيت فيها خاصتين من خواص الشعر العربي: وهما الوزن وتمام المعنى في البيت الواحد وأهملت الخاصة الثالثة وهي القافية. واشعر تماما إن إهمال القافية لا يحس به ما دام المعنى كاملا في البيت الواحد فهل يشعر القارئ بمثل ما اشعر؟
ذو الفأس
متكئاً على الفأس في انكسار ... منحني الظهر من الهموم
ينظر في الأرض بلا انتهاء ... فليس إلا نحوها المصير
قد أوهنت عظامه السنين ... وغضنت جبينه العصور
وقسوة المسعى وراء العيش ... قد أفقدته جزءه الإنساني
من أطفأ الشعلة من حياته؟ ... من رده وثوره سواء؟
لا يعرف اليأس ولا الرجاء ... لا يعرف الآمال والأحلاما
ما المجد عنده وما الجمال؟ ... ما الجاه؟ ما السمو؟ ما الخلود؟(14/32)
ما أبعد الهوة بين هذا ... وبين حلم العالم المنشود!
إذاك من قد أبدع الرحمن؟ ... إذاك من قد كوّن العظيم؟
إذاك من قد خصه الجبار ... بالعقل والعرفان والسلطان؟
يا سادة العبيد والأراضي ... هذا الذي قد صنعت أيديكم!
هذا الذي قدمتم لقاء ال ... غفران والرحمة من باريكم!
يا سادة العبيد والأراضي ... كيف لقاء الرب يوم الدين؟
يوم مثوله أمام الله ... بعد سكون الساع والسنين!(14/33)
في الأدب المصري القديم
فنون الشعر الفرعوني (القصائد، القافية، الأوزان، البديع،
الجناس)
للأستاذ حسن صبحي. مؤلف قصص البردى
يحفظ التاريخ للمصريين القدماء سبق الابتكار في كل ناحية من نواحي المدنية. فنراه يسجل لهم أولوية الصناعة كما ينعتهم بالزراع الاول، ثم يقص علينا من أنباء بعثاتهم التجارية إلى النوبة والى الشام والى العراق ما مكن لذوي المطامع منهم أن يستبسلوا في الإغارة على هذه البلاد بين حين وحين، وهم إذ ينتصرون يملكون الأرض ومن عليها فينشرون من أسباب المدنية بين أهل هذه البلاد ما بقي أثره إلى اليوم فيها سواء كان في أساليب الزراعة أو في طرائق الصناعة أو طرق التجارة، أو كان في اللغة والنحت والتصوير أو الموسيقى والرقص والشعر مما بقي أثره لهذا الوقت الحاضر في روح كل فن أو مهنة أو صناعة تمت للعصر القديم في أي من هذه الأقطار بصلة.
وكما كان المصريون في كل فن الأول فقد كانوا أيضا الشعراء الاول في هذا العالم، رأوا وأحبوا ما يحيط بهم من جمال الطبيعة الهادئة ومناظرها المتكررة الساكنة، فنظموا الشعر وقصدوه في وصف النيل ومجراه وفي مطلع الشمس ومغربها وفي فضية القمر وشحوبه، وفي خضرة الحقل ووحشة القفار. ثم عاشوا بين أسباب المدنية التي أقاموها فوجد الحب والبغض والحسد والشكر وقامت الحروب وأقيمت الصلوات، وأحسوا كل هذه الصور في الحياة فقالوا الغزل والحمد وهجوا واستعدوا وأشادوا واستنهضوا، وكان لابد لقول هذه الصور المختلفة من الحياة من قوالب تصاغ فيها، فخلقت القوالب وكانت القصائد والقوافي والأوزان والسجع، وتطور افتنانهم ورقى فدخلته التباديل ولعب فيه الجناس اللفظي. أليست هذه كلها أحدث فنون الشعر المصري؟
القصائد المصرية
مذ خلق المصريون القدماء لأنفسهم الكتابة الهيروغليفية وهم يكتبون الشعر في صورة غير صورة النثر. يكتبونه مقطوعات مشطرة ثلاثية أو رباعية الشطرات، متقاربة الطول(14/34)
مرتبطة المعنى، تستقل كل مقطوعة منها في مناسبة تميز المقطوعة من غيرها، حتى في أقدم صور الشعر، قبل أن يفطن المصريون إلى ضرورة فصل الشطرات عن بعضها بنقط حمراء في كتابته للدلالة على الوقف.
وانك لتجد في القصيدة التالية ما يعطيك صورة حقيقية لأقدم أشكال الشعر المصري وهي منقولة عن الأصل الهيروغليفي: أنت تبحر في سفينك العطري الخشب
يملأه الرجال من المقدمة إلى السكان
فتصل إلى مضيفتك العامرة هذه
التي ابتنيتها لنفسك
يملأ فمك النبيذ والخمير
والخبز واللحم والفطير
وتذبح الثيران وتفتح الأدنان
وتنشد الأغاني كلها أمامك
يضمخك كبير معطريك بالدهون الزكية
ويحمل إليك الأكاليل سقاتك
ويقدم إليك الطيور ناظر فلاحيك
كما يقدم إليك السمك صيادك
القوافي
وليس التشطير والمقطوعات وحدها هي ما تدل على شعرية النظم المصري وتميزه من النثر، لكن القوافي أيضا تدل عليه وتميزه. ولو أنها من نوع غير الذي نعرفه في شعرنا الحاضر في أية لغة من اللغات. فقد كانت قوافي الشعر المصري قوافي استفتاح يستهل بها الشاعر أبيات قصيدته ويكررها في مستهل كل مقطوعة كما ترى في القصيدة التالية المنقولة عن الهيروغليفية والمعروفة بقصيدة (جدل المتعب من حياته مع روحه):
شوف كم هو بغيض اسمي
شوف أكثر من رائحة الدود
في أيام الحر حين تكون السماء ساخنة(14/35)
شوف كم هو بغيض اسمي
شوف أكثر من صيد السمك
في يوم الصيد حين تكون السماء ساخنة
شوف كم هو بغيض اسمي
شوف أكثر من رائحة الطير
أكثر من مستنقع فيه إوز
إلى آخر القصيدة الطويلة التي تبدأ دائما؛ (شوف كم هو بغيض اسمي)، وأنا إذ أعرب اللفظ المصري القديم إلى اللفظ الحديث الدارج (شوف) إنما أريد أن أعطي القارئ فكرة صحيحة عن معنى اللفظ الأصلي الذي يراد به أكثر من الرؤية بالعين، ومقصود به أن يلفت نظر القارئ أو السامع في تعجب لمبلغ التشبيه من نفسه ووقعه فيها. مما تحمله كلمة (شوف) الدارجة التي نستعملها في حديثنا الآن عندما نريد لفت النظر والحس إلى التعجب من أمر نهتم له.
الأوزان الشعرية
من النقائص الكبيرة في دراستنا لِلُغَةْ المصريين القدماء عدم معرفتنا معرفة أكيدة لنطق ألفاظها كما كانوا ينطقونها. وكل ما استطعنا أن نصل إليه في هذا النطق الذي احتفظت به اللغة القبطية لألفاظها وهي تأخذها من المصرية فتكتبها بحروف إغريقية وتخضعها حتما لاختلافات كثيرة متباينة يرجع بعضها لاختلاف نطق اللهجات المصرية بين صعيدي وبحيري وفيومي وأخميمي، والبعض لاختلاف نطق حروف الكتابة الإغريقية عن المصرية، والآخر لتدخل كثير من الكلمات الأجنبية في المصرية، وأخيرا لاضطرار الأقباط إلى نحت كثير من الألفاظ الجديدة مما يتفق مع تطور العمران وازدياد مقتضيات الحياة واتساع أسبابها.
لهذا كله نعتمد في أوزان الشعر على ما لدينا من الشعر المصري المتأخر الذي كتب في عهد المسيحية وبقي لنا باللغة القبطية يعطينا صورة هي أقرب الصور إلى الأصل القديم من غيرها.
والثابت الآن من قواعد النحو والصرف في اللغة المصرية القديمة التي أصبحت راجحة(14/36)
التفسير في العصر الحاضر إن كل كلمة ذات معنى في اللغة اسما كانت أو فعلا أو صفة لم تكن تحتوي إلا على حرف متحرك واحد شديد الحركة، وإذن فكل شطرة من شطرات الشعر المصري تحتوي على وقفتين أو ثلاث أو أربع هي مواقع الحروف المتحركة الشديدة الحركة بينها وهدات متفاوتة الطول والقصر تكون الميزان الشعري للشطر، وتكون بهذا الوصف ميزانا شعريا مطلقا لم تصل بعد إلى ربط صنوفه وتبويبها.
واليك مقطوعة من الشعر المصري المتأخر بنصها القبطي مشار تحت مواضع الحركة الشديدة في شطراتها بخطوط قصيرة والى جانبها تعريبها ولم أجد خيراً منها مثلا لبيان أوزان الشعر المصري:
النص المصري (بالقبطية) التعريب
ارشان إرأومي بوك ابشمو رجل آخر يذهب للخارج
تفر اورومي شاف اكتوف ابف أييدور سنة ثم يعود إلى بيته
أ - أرخيليتس بوك اتانزيف لكن أرحيليتس ذهب للمدرسة
اس أوميشي انهوا بينآ وأبف هو فكم هي الأيام حتى انظر إلى وجهه
البديع
والشعر المصري يفيض بالبيان والبديع، وهو في كل أطواره وعهوده يدل على أن الشاعر المصري لم يكن يكتفي بالسطر الواحد في المقطوعة ليدل على معنى يريد أن يصوره في صورة بارزة جميلة فاكسب بتلك الفصاحة لغته ثوبا أنيقا رقيقا. صوّر دقة إحساسه بما كان يبديه من العبارات المتشابهة المعنى المختلفة الألفاظ البديعة الاختيار، التي يقتضي تخيرها نعومة في الذوق وعلو لا يتفق لكل الناس. فهو يقول حين يتحدث عن (تحوت)
(يستيقظ القاضي - يظهر تحوت)
والقاضي هو تحوت إله الحكمة ثم يقول عن الملك.
(وعندئذ تكلم أصحاب الملك وأجابوا أمام ربهم)
وربهم هو الملك لكن لكل من الجملتين معناها الخاص على رغم تشابه الغرض. ثم انظر كيف يصف واقعة في موضع آخر: (أولئك الذين يدخلون إلى هذا القبر. . . أولئك الذين يرون ما فيه)(14/37)
هاتان الجملتان تبدوان للقارئ السطحي تكراراً، لكن القارئ الدقيق الإحساس يستطيع أن يتبين فيهما فرقا أراده الشاعر المصري القديم. هو يريد أن يأخذ يد الداخل إلى القبر فيضعها على ما في القبر من نقوش وتحف اكثر مما فيه من شيء آخر. أليس في هذا منتهى دقة الحس ونعومة التصوير؟
الجناس
وكما يشتهر المصريون في الوقت الحاضر بحبهم الشديد للجناس اللفظي الذي تفيض به الأغاني والأشعار الدارجة فان أجدادهم المصريين القدماء هم أصل التراث الفني البديع الذي يلذ للقارئ أن يطالعه وينعم بفكاهاته.
خذ مثلا الأغنية المصرية الدارجة:
يا دي الجمال والدلال والحب ونهاره
والشَّعر فوق الجبين كالليل ونهاره
والدمع فاض م الجفون كالبحر وانهاره
قلبي أسير في هواك ويحل انهاره؟
والكلمات الأخيرة في كل الأبيات متشابهة النطق لكنها تؤدي معاني مختلفة تمام الاختلاف.
مثل هذا الجناس كثير في الشعر المصري وجميل لكنه مستحيل الترجمة لأن اللعب فيه يدور على الألفاظ في علاقاتها بالمعاني، فإذا ما تغير اللفظ بترجمته فقد الجناس بطبيعة الحال. ومع ذلك فسأحاول أن أنقل هنا بضعة شطرات من هذا الشعر الذي يحتوي الجناس وأنا أعربه عن المصرية بتصرف كبير لأوفق فيه ألفاظ الجناس وأقربها للفهم لا أكثر ولا أقل، هي قصيدة طويلة في وصف عربة الحرب قال فيها واصفها:
(عرفت رأسها كل البلاد وخر لها القواد)
ورأس العربة أي مقدمتها، وإذ دخلت في ركاب الملك كل البلاد فقد عرفتها، ولأنها مصنوعة على شكل رأس كبش رمزا لآمون إله هذا العصر فان القواد جميعهم خروا سجداً لهذا الرأس. ثم يقول:
(مقابض عربتك عنات وعشتر)
يريد بذلك من جهة مقابض العربة التي يمسكها الملك وهو يحارب فيها، من الجهة الأخرى(14/38)
أن القابضين على زمام العربة هما إلها الحرب في الغربة.
ولا يستطيع القارئ مطلقا أن يتذوق جمال هذا الجناس إلا وهو يقرأ النص المصري القديم الذي يدل على مبلغ ما وصل إليه المصريون من الافتنان في الشعر والصنعة الشعرية ومبلغ حبهم للنكتة والتورية منذ أربعين قرنا مضت، ناطحتهم فيها شدائد توهن أصلب الأعواد ومع ذلك لم تذهب بروحهم الكبيرة ونفسهم المرحة مدى هذه القرون الطويلة.(14/39)
نهضة الشعر العربي وموسم الشعر
رسالة من الدكتور أحمد زكي أبو شادي
سيدي محرر (الرسالة):
اسمح لي أن اشكر لكم عنايتكم بخدمة الشعر العربي. ولقد أتيح لي الاطلاع على فاتحة العدد الأخير من (الرسالة) إذ أشرتم إلى حالة الشعر العربي بعد شوقي وحافظ ثم تكلمتم عن فكرة موسم الشعر، وإني حباً في الإنصاف الأدبي وفي خدمة الحقيقة التاريخية أستأذنكم في التعليق على فاتحتكم بهذه السطور القليلة.
لقد أصبتم في إشارتكم إلى ضياع شعر الناسبات بعد شوقي وحافظ. وأما الشعر الفني الأصيل المتسامي بالنفس الإنسانية فقد ازداد تألقه، وإن الشعب الذي تُصقَل عواطفه بمثل هذا الشعر والذي يتجه به إلى مثل أعلى لن يكون الخاسر بفقدان شعر الحماسة الجوفاء والوطنية العمياء وأمداح المواسم المعهودة. . . إن أحسن ما في شوقي وحافظ حي دائم تضاف إليه الآن جهود الشباب الشاعر المثقف المتوثب. وقد أصبتم بقولكم: (إن الزمن الذي يمحص الأشياء فينفي البهرج الزائف ويثبت الحق الصريح هو الذي يعرف مكان هذه الجهود من عالم الفناء أو من عالم الخلود).
بدأ نشاط (جمعية أبولو) منذ تكوينها في حياة كل من شوقي وحافظ وبرنامجها هو لم يتبدل. وقد كان ولا يزال من المبادئ الأصلية للجمعية أن الشعر العربي لم يغنم فنياً من استخدامه في المناسبات السياسية وغيرها استخداماً لا ضوابط له. ويرجع للجمعية الفضل في وقف ابتذال الشعر في الصحف والقضاء على جعله مادة للتكسب الوضيع وفي الارتفاع بتعريف الشعر والتسامي بغاياته مع العمل على إبراز المجهول من الشعر العصري الجيد وإظهار الشعراء القادرين الخاملين وما هم بالقليلين.
ستصلكم هذه الكلمة وعدد (ابولو) المخصص لذكرى المرحوم حافظ. ومن دراستكم له وللعدد الذي خصصناه من قبل لذكرى المرحوم شوقي ستقتنعون أننا لسنا من يجحد جمال القديم، فللفن جماله كيفما كانت صبغته ونزعته، وفي الوقت عينه لسنا من يتجاهل روح العصر والتطور الذي بلغته الفنون الجميلة جميعها اتجاهاً وتعبيراً ونحن جدّ حريصين على أن ينال الشعر العربي نصيبه من كل هذا واثقين من حيويتنا الشاعرة الفسيحة الأفق.(14/40)
إن الروح العالمية التي دعتنا إلى اختيار اسم (أبولو) لجمعيتنا ولمجلتنا هي نفس الروح التي نصت في دستور جمعيتنا على إقامة مهرجان سنوي وعلى تمثيل العالم العربي. ففكرة إقامة موسم سنوي للشعر هي فكرة أصلية لجمعيتنا وغير صحيح نسبتها إلى أي هيئة أو فرد آخر، ولم يدر بخلد صديقنا الهراوي سوى استغلال الموسم النبوي للشعر الديني، ويرجع لأعضاء جمعيتنا الذين لبُّوا الدعوة إلى اجتماعه الأول الفضل في التخلي عن هذه الفكرة والدعوة إلى إقامة موسم سنوي للشعر الخالص، وكل هذا ثابت لا شك فيه.
لم تغضب جمعية (أبولو) إلا عندما رأت استغلال مبادئها وبرنامجها بأسماء أخرى، واقتران ذلك بدعايات ضدها، فان صديقنا الهراوي وصحبه من المحافظين ما كتموا يوماً خصومتهم لجمعية أبولو فقد كانوا وما يزالون وسيبقون دائماً خصوماً لها، لأن الجمعية ذات روح تعاونية قوية وتأبى إباءً فكرة الإمارات والوزارات الشعرية وعبادة الأفراد وتعمل بالروح التي أطراها شوقي في قوله:
لعلّ مواهباً خفيت وضاعت ... تُذاع على يديك وتُسْتَغَلُ
بينما أصدقاؤنا الأعزاء يحلمون دائماً بالمجد الشخصي على غير ابتكار رائع يؤهلهم إلى شئ من هذا الحلم.
كذلك يرجع إلى (جمعية أبولو) الفضل في تقدير رعاية وزارة المعارف وفي ضم الصفوف وترك الحزبية والمعاونة على تكوين (جماعة موسم الشعر) التي نالت (جمعية أبولو) أغلبية الكراسي في إدارتها وبعد الاعتراف بمنزلة وجهود (جمعية أبولو) ودعوتها إلى مناصرة موسم الشعر بكل قواها لم يبق هناك خلاف في هذه المسألة وإن بقيت الذكرى واليقين بأن هذا لن يكون آخر خلاف بيننا وبين إخواننا المحافظين، وأنهم لن يتورعوا عن استغلال آراء الجمعية في أي وقت مع الطعن فيها.
وتفضلوا بقبول إعجابي وولائي.(14/41)
تجديد التقليد
(بهذا العنوان نشرت مجلة المغرب التي تصدر بالرباط هذا المقال فأحببنا أن يطلع أدباؤنا عليه)
في مصر اليوم جماعة من حاملي الأقلام بلغ بها حب التجديد إلى حد أنها رأت التقليد الذي يرسف في أغلاله كتاب العربية وشعرائها قد بلي وقدم، وأنه في حاجة ماسة إلى التجديد فراحت تسود أوراق الصحف والمجلات بالنهي عن تقليد العرب وأسلوب العرب، وتفكير العرب، وكل ما هو من العرب. . . لا لتضع في محله شيئاً جديداً مبتكراً، ولكن لتحاكي الغرب وأسلوب الغرب وتفكير الغرب! وكل ما جاء عن الغرب وإن لم تشعر بذلك، أليس هذا تجديدا. . . للتقليد؟ أو ليست هي جماعة المجددين؟ وعدم فهمكم لها جعلكم ترمونها بعدم القدرة على التفكير بالعربية وأساليبها الضادية؛ وكيف تكون غير قادرة على هذا وهي التي تعلمت في أوروبا وقضت شهوراً وأعواماً في (حي مونبارناس) والحي (اللاتيني). . . وهلم جرا. لا ليس هذا (عجزاً يتظاهر بالقدرة وجهلا يتستر بالتحذلق) كما زعم الزيات بل سيل التجديد طغى حتى على التقليد وأراد تجديده.
أتدري ماذا تنكر هذه الجماعة على العربية؟ تنكر عليها أنها خالية من القصة والرواية ومن (التراجديا والكومديا والميتولوجيا) وأن أدبها ليس منقسما مثل الأدب الغربي إلى (كلاسيكي ورومانتيكي) وأن شعرها ليس منقسما إلى (أبيك وليريك) وأن جن شعرائها لم يتأله ولم يتخذ (أبولو): ذلك الاسم العالمي اسما له، وأن التاريخ العربي الإسلامي ليس منقسما كالتاريخ الغربي إلى: (العاديات والقرون الوسطى وعصر النهضة والعصر الحديث والعصر الحاضر)
وصفوة القول أن ذنب العربية هو عدم مجيئها على النمط الغربي، وقد تكون جديرة بأن تقلدها جماعة المجددين المصريين لو أنها احتوت على مثل تلك الأقسام، وأخشى مع هذا أن لو كان مثل ذلك للعربية دون الغرب لألفته قديما بالياً ويكون مع ذلك الحق معها؛ لأنها ليست جماعة المبتكرين بل جماعة المجددين، وكل ما يهمها هو التجديد لا الابتكار. ولو كان يهمها هذا لأخرجت لنا عوض هذا التقليد المشوه والصخب الفارغ والكلام الأجوف إنتاجا فكريا صحيحاً، ولست أنكر أنها جاءتنا (بمعجزات) فنية جديدة كل ما فيها غربي إلا بعض ألفاظ وحروف عربية.(14/42)
وهنا ضرب الكاتب المثل برسالة الأستاذ توفيق الحكيم إلى الدكتور طه حسين، ثم لخص بعض رأي الأستاذ وعقب عليه بقوله: هذا رأي الكاتب، أما رأيي أنا فهو أن مصر القديمة لولا تلقحها بعناصر أجنبية لما كان لها أدب وفكر؛ والتاريخ بالباب وهو أصدق مرشد وأعظم برهان، فلولا الإغريق لما كانت مدرسة الإسكندرية الفلسفية، ولولا العرب لما كان لمصر أدب أو فكر حديث يذكر ولا ذكرت مصر في تاريخ العالم إلا بفنها وهندستها الدينية؛ والحقيقة أن تلك الجماعة إنما تريد إبدال المقلد: إبدال العرب بالغرب؛ وقد بلغ تطرف صاحب مقال (الرسالة) إلى حد أنه رمى الكاتب الوحيد الذي ابتكر جديداً في العربية ولم يحاك أحداً بالتقليد. وكتاب المويلحي (حديث عيسى بن هشام) لا يزال قريب العهد، وما يعنيني الأسلوب إذا كان الكتاب غربيا مبتكراً؟ ولم تنتج مصر بعده جديداً سوى (الأيام) لطه حسين. ومنذ سنوات كانت جماعة المجددين المصريين تبرق وترعد بمحاسن المدنية الغربية وأفضليتها وسوء الحضارة الشرقية. ولما أراد الله رفع الستار عن مساوئ الأولى وظهر إفلاسها بعد الحرب فبرز كتاب أوروبيون عظام للتنديد بها وتفضيل الحضارة الشرقية في عدة نواح وخصوصا الروحية منها، أخذت هذه الجماعة نفسها تمجدها تقليداً لهؤلاء لا عن عقيدة، وهذا حد التقليد!
إني لا أنكر على هؤلاء الكتاب حملتهم على التقليد وإنما أنكر عليهم أولا سعيهم في إبدال المقلد بدون كبير فائدة. وثانيا أنهم بدلا من أن يشتغلوا في ابتكار جديد والعمل على الإنتاج الصحيح يضيعون وقتهم في الصخب. أما خلق أدب مصري قومي فهو (مودة) بالية قديمة بالنسبة لمن يتخذ لقب مجدد؛ على أن الأدب الجميل جميل في كل محل وتحت كل شمس وقمر و (ألف ليلة وليلة) حجة لذلك. وأما أن يكون عدم وجود الرواية والقصة سبب فقر أدبنا العربي فهذا غلط، فلربما جاء فكر عربي عند نضوجه بشيء أفضل من القصة والرواية، شيء يلائم طباعنا وأدبنا؛ وإن كان لا بد منهما فسيجيئان في وقتهما حسبما تنضج وتختمر الفكرة في عقول أبناء العربية، ولا يكفي قولنا لهما كونا فيكونان لأن النبوغ يتدفق من تلقاء نفسه ولا يستخرج، وكذلك تقسيم الأدب العربي على النمط الغربي؛ وله تقسيمه الذي لا يحتاج إلا إلى إصلاح وضبط. ويكفي مثلاً لفساد تطبيق أقسام التاريخ الأوربي على التاريخ العربي الإسلامي، أني كنت أقرأ كتابا عن تاريخ الإسلام والعرب(14/43)
لكاتب مجدد جرى فيه على الأسلوب الغربي في التقسيم، جاء فيه: (. . . وقد كان آباؤنا يتخبطون في بحر الجهل والتعصب طيلة القرون الوسطى. . .) والكل يعلم أن القرون الوسطى في التاريخ العربي هي أزهى المدنية الإسلامية العربية.
وأرجو لمصر أن تخرج من هذا المخاض بخير وعافية بفضل ما بقي صالحا سالما من أبنائها الكرام، وأن يسفر هذا المخاض عن إنتاج صحيح مبتكر؛ وألا تكتفي جماعة المجددين بإبدال المقلد فحسب.
محمد حصاّر(14/44)
العبقرية علم وأدب وفن
للأستاذ الحوماني
أمامك ما تحسبه في الطبيعة كائنا ومكيناً من عظمة وقفت عقولنا دون حدها أو تصورها، فكنا أمامها ولا نزال حائرين لا إلى الرشد كل الرشد فنتبين مصدرها، ولا إلى الجهل كل الجهل فنصدف عنها بطبعنا. لأن الحي لا يستطيع أن يفكر فيما وراء حياته. فهو يريد أن يقيس ما خفي عنه على ما بدا له، ولعل ما يبدو له هو خلاف الحقيقة التي ينشدها من وراء ما يحس إذ يمكن أن يكون ما يتراءى له اليوم حقيقة ينكشف عنه الغد خيالا، نتيجة كذب في حس أو خطأ في فكر.
وربما كان ما يأتيه العقل في يقظته وهو قيد الحواس حلماً يبدو له بعد تحرره من رق هذه الحياة الدنيا، فتكون نسبة ما نأتيه اليوم إلى ما ندركه بعد الموت كنسبة ما نأتيه في الحلم إلى ما ندركه في اليقظة.
فإذا ثبت لدينا أن في الأثر لا محالة جزءاً من روح المؤثر ثبت بداهة إن هذه النفس جزءا من القوة المسيطرة على الكون أو القائمة به ضرورة، إنها (أي النفس) إحدى جزئياته الداخلة في مفهوم كلياته.
فالإرادة كما يبدو لنا هي أول خصائص النفس وقد كانت الكنز الأولى في خزانتها ولكن هل هي الجزء الذي ينم على الفكرة التي ابتدعتها في الكون؟
قد تكون كذلك إذا ثبت لنا أنها هي جماع ما في النفس من جمال، ولكن أنّى لها أن تكون كذلك وليست هي المثل الأعلى في الإنسان بله الحيوان بداهة أن مناطها في النفس حب البقاء والسيادة والاستمتاع؟ فالمرء يريد بطبعه ألا يتناول من الخارج إلا ما يتصل ببقائه وسيطرته واستمتاعه.
فإذا كان ذلك مناطها ورأينا أن الصلاح كثيرا ما يكون في كتبتها وصدها عما تأتيه، علمنا إذ ذاك أن المثل الأعلى في النفس الذي يشير إلى حكمة الصانع الاول هو غير الإرادة.
ثم إذا استعرضنا ما تأتيه هذه الإرادة من عمل بعد تنفيذه أو في طريق هذا التنفيذ، نحس بشيء يشعرنا بصحة هذا العمل أو فساده. فما هو أذن ذلك الشيء الذي نشعر به في أنفسنا غير الإرادة؟(14/45)
هل هو ذاتها، فيصبح كون الشيء ضداً لنفسه أم غيرها فيثبت لدينا أن الحي مركب من إرادة تفعل، ونفس تفعل، وتنفعل وشيء آخر يشرف عليهما فيكوّن من الفعل والانفعال مثلا أعلى هو ذلك الجزء المنبعث من الحكمة المبدعة الأولى؟
ثم على فرض وجود هذا الثالث، فهل وجد مع النفس كالإرادة ثم نمّاه فعل الإرادة في الخارج إلى حد أصبح معه ذا سلطة عليها في كثير من الأحيان؟ أم هل تكون في النفس من تصادم الإرادات ضرورة بقاء المجموع ليضمن بقاء الفرد فيكون وجوده متأخرا؟
وهذا إنما يتضح في إجماع العقول الناضجة مثلا على استحسان أمر له علاقة في بقاء المجموع واستقباح أمر آخر يتعلق بفساد المجتمع فيربِّي هذا الإجماع المستمر في النفوس ملكة كبت الإرادات والمحاكمة بينها فتكون هذه الملكة أم هذا الموجود الثالث الذي نسميه فكراً تارة ومعقولا تارة أخرى، إن صح تعاقب هذين اللفظين على معنى واحد كما سيمر بك.
وعلى كلا الأمرين فأنا نشعر أن في ذواتنا نفوسا تتدافع وتتصادم في الحياة فتحرك هذه القوالب بأمر من الإرادة أو تتحرك هي بإرادة أخرى تتصادم وإرادتها، ذاتية كانت أو عرضية.
ثم نشعر إن ضمن هذه النفوس إرادات تسيِّرها إلى ما خلقت له طبعا، فهي تريدك على الطعام والشراب والمتعة ضرورة أن هذه من مقومات حياتك.
ونشعر بعد ذلك أن هنالك ما يستعرض هذه الأوامر الإرادية ثم يعرضها على الحياة فيصل بها إما إلى صلاح فيستمر معها وأما إلى فساد فيصدها. ذلك هو الفكر قبل الحكم وهو يستعرض ويقيس، وهو نفسه العقل والهوى بعد الحكم متسلطاً على الإرادة أو خاضعاً لها.
ومن الصعب جدا تحديد أي الثلاثة في طريق تحديد الآخر منها لشدة تمازجها والصلات المتأصلة بينها.
وربما كان أصدق تأويل لها هو أن النفس إنما هي الوسيلة الأولى لتنفيذ أوامر الإرادة والأعضاء هي الوسيلة الثانية. على أن العقل هو الحاكم الأعلى المشرف على المجموع، ينتهي الحكم عنده سلبا أو إيجابا. فالإرادة في الطبع تأمر والعقل يوقع والنفس تنفذ مباشرة، في الداخل أو بواسطة الأعضاء في الخارج. والنفس تنفرد دونهما في النوم والجنون(14/46)
والإغماء ونحوها، إذا صح أن لا إرادة للمجنون بناء على إن الإرادة مناط أمر النفس بما يعوزها طبعا لا اجتماعا، والمجنون قد يفعل ما يضره في الطبع بله الاجتماع. فالإرادة لا تحمل الحي إنساناً كان أو حيواناً على أن يلقي بنفسه من شاهق كما يفعله المجنون أحيانا، من اجل ذلك تتحقق فيه النفس دون الإرادة والعقل.
وهكذا هي في النائم دونهما إذا صح أن العقل الباطن الذي هو زعيم الأحلام ليس إلا خيال العقل الظاهر الذي هو زعيم اليقظة وحقائقها كما اعتقد، لا أنه حقيقة مستقلة تتكون من تجاريب العقل الظاهر التي أخفق معها في حاضره أو ماضيه. ولكن العقل اليقظ المتخيل الذي ينتزع من الحقائق خيالا غريبا ينطبع خياله هذا في مرآة النفس فيفعل فعله منتزعا من أخيلة الحقائق في اليقظة أخيلة غريبة في النوم: وإذا لم يكن العقل الباطن هو نفس العقل الظاهر يبدو ضعيفا لضعف مركزه العصبي المتأثر بالنوم إلى حد يختل معه نظامه، فيكون تناهي العقل بالحدة إلى درجة التخيل المبتدع. وتناهيه بالضعف إلى درجة خرافات الأحلام. وكلاهما ينتزع من بين حقيقتين أو حقائق خيالا مزعجا في الحلم أو رائعا في اليقظة، وكما يصيب في يقظته المغيبات أحيانا كذلك هو في حلمه. . . إذا لم يكن كذلك فهو خياله المنطبع على مرآة النفس يتضاءل لبعده عن الحقيقة فيظهر مبتراً منقطعا.
وأما الإرادة والعقل فملزومان للنفس لا انفراد لهما دونها، فحيثما وجدت الإرادة والعقل كانت النفس ولا عكس.
ماذا وراء النفس بعد الإرادة؟؟
يقولون أن هنالك عقلا وفكراً وخاطراً وضميراً، ان هنالك ذهنا وفطنة وذاكرة وذكاء، إن هنالك شعورا وعاطفة وخيالا. وليست العبرة في تعداد هذه الخصائص في الإنسان ولا في نسبتها إليه وإنما العبرة في تحديد كل منها وبيان ما يميزها من غيرها من الخلال ولغموض هذه الفروق نرى الكثيرين يخلطون في الكلام عليها، من أجل ذلك يجمل بنا قبل تحديدها إن نتمثل فيما يعرضها واضحة الحدود.
لنفرض أن لك صديقا حميما قد كثر غشيانك إياه في منزله الذي يضمه وأجمل فتاة قد اقترن بها، وفي كل زيارة ينمو في جسمك حب هذه الفتاة، لما ترسل إليك من نظراتها الساحرة ويملأ نفسك من ورائها جمال نفس يفيض على فمها رقة وابتساما، والى جانب هذا(14/47)
الحب تنمو في نفسك صداقة الزوج لما يغمرك به من فضل وإحسان إلى رقة طبع ودماثة خلق وليس ما تربي في نفسك من ولاء أخيك وحب فتاته بأقل مما يحمل الزوج لك من ولاء. وتشعر به الزوجة نحوك من غرام.
تبادلتما هذا الحب وبدا لك جليا واضحا هيامها بك وشوقها لك من عينيها الشاخصتين إليك ونظرها المسبغ عليك، ثم بدا لك أن تزور صديقك في وقت كنت مضطراً معه إلى أن تراه، وكان هو مضطراً فيه إلى ان يغادر مكانه، فكنت والزوجة خليين في منزل واحد وعلى مقعد واحد يناجي كل منكما الآخر بما يجول في نفسه، فيبدو جليا على عينه رقة وفي حديثه تقطعا وفي حركاته اضطرابا. ثم امتد الأمر بكا إلى أن هم كلاكما بصاحبه فكانت هي أشد ثورة منك، فأول ما تتحرك فيك الإرادة والرغبة؛ ولكنك قبل أن تنفذها أو تباشر بتنفيذها تلحظ ما يحف بهذا العمل الذي أقدمت عليه بدافع قوة الإرادة الحيوية، تلحظ ما يحف بهذا العمل (وهو إشباع نفسك من جمالها) من أمور خارجية منها ما يدفعك إليه ومنها ما يردعك عنه. فمن الاول التمتع بالجمال الماثل أمامك والذي هو في متناول يدك، ثم أمان العاقبة وشيوع الأمر المفضي بك إلى العار ثم إشباع نفسها من جمالك لتأمن مكرها فيما إذا هي أخفقت منك.
ومن الثاني خيانة صديقك البار بك والتعدي على جمال ليس لك فيه حق، وتشويه هذا الجمال بما تخفيه من دخيل داء.
لابد من ملاحظتك هذه الأمور واستعراضها جملة أو متفرقة في زمن واحد أو أزمنة مختلفة تتخللها فترات قصيرة. فأي العوامل كان أقوى أثرا في نفسك لقوته في الخارج كانت له السيطرة عليك داخليا فكان قائدا لك.
فأما أن يكون الاول فيجذبك إليها وتلبث زمنا ما تعبث بجمالها والشهوات تقيمك وتقعدك بين يديها. وأما أن يكون الثاني فيصدك عنها وتخرج ناصع الجبين مطمئنا إلى راحة الوجدان.
تجري هذه المحاكمة بناءاً على سلامته بذلك واستقامة نظام الحياة فيك وإلا فلضعف الأعصاب. وهي بعض مراكز هذه الخصائص تأثير قوي في صرف الإرادة وتعضيدها.(14/48)
بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام
للأستاذ محمد عبد الله عنان
3
وأخفق مشروع الخلافة في فتح الغرب من تلك الناحية ولقي الإسلام هزيمته الحاسمة في المشرق أمام سور بيزطية وقامت الدولة الشرقية في وجه الإسلام حصنا منيعا يحمي النصرانية من غزوه وسلطانه. ولكن جيوش الإسلام جازت إلى الغرب من طريق إسبانيا وأشرفت من هضاب البرنية على باقي أمم أوروبا النصرانية ولولا تردد الخلافة وخلاف الزعماء لاستطاع موسى ابن نصير أن ينفذ مشروعه في اختراق أوربا من المشرق إلى المغرب والوصول إلى دار الخلافة بطريق قسطنطينية ولكان من المرجح أن تلقى النصرانية ضربتها القاضية يومئذ وأن يسود السلام أمم الشمال كما ساد أمم الجنوب ولكن الفكرة قبرت في مهدها لتوجس الخلافة وترددها.
على أن الفتوح التي قام بها ولاة الأندلس بعد ذلك في جنوب فرنسا كانت طورا آخر من أطوار ذلك الصراع بين الإسلام والنصرانية، فقد كانت مملكة الفرنج أعظم ممالك الغرب والشمال يومئذ، وكانت تقوم في الغرب بحماية النصرانية على نحو ما كانت الدولة الرومانية في الشرق بل كانت مهمتها في هذه الحماية أشق وأصعب، إذ بينما كان الإسلام يهدد النصرانية من الجنوب كانت القبائل الوثنية الجرمانية تهددها من الشمال والشرق؛ وكانت الغزوات الإسلامية تقف في المبدأ عند سبتمانيا ومدنها؛ ولكنها امتدت منذ ولاية السمح إلى اكوتين وضفاف الجارون، ثم امتدت إلى شمال الرون وولاية بورجونيا وشملت نصف فرنسا الجنوبي كله، وبهذا بدا الخطر الإسلامي على مصير الفرنج والنصرانية قويا ساطعا؛ وبدت طوالع ذلك الصراع الحاسم الذي يجب أن يتأهب لخوضه الفرنج والنصرانية كلها.
كانت المعركة في سهول فرنسا أذن بين الإسلام والنصرانية. بيد أنها كانت من الجانب الآخر بين غزاة الدولة الرومانية والمتنافسين في اجتثاء تراثها؛. كانت بين العرب الذين اجتاحوا أملاك الدولة الرومانية في المشرق والجنوب؛ وبين الفرنج الذين حلوا في ألمانيا وغاليس. والفرنج هم شعبة من أولئك البربر الذين غزوا رومة وتقاسموا تراثها من(14/49)
(واندال وقوط والان وشوابيين). فكان ذلك اللقاء بين العرب والفرنج في سهول فرنسا اكثر من نزاع محلي على غزو مدينة أو ولاية بعينها: كان هذا النزاع في الواقع أبعد ما يكون مدى وأثراً. إذ كان محوره تراث الدولة الرومانية العريض الشاسع؛ الذي فاز العرب منه بأكبر غنم ثم أرادوا أن ينتزعوا ما بقي منه بأيدي منافسيهم غزاة الدولة الرومانية من الشمال.
وكانت هذه السهول الشمالية التي قدر لها أن تشهد موقعة الفصل بين غزاة الدولة الرومانية تضم مجتمعا متنافرا لم تستقر بعد قواعده ونظمه على أسس متينة. ذلك أن القبائل الجرمانية التي عبرت الرين وقضت على سلطان روما في الأراضي المفتوحة كانت مزيجا مضطربا من الغزاة الظمأى إلى تراث روما من الثروة والنعماء.
وكان القوط قد احتاجوا شمال إيطاليا منذ القرن الخامس وحلوا في جنوب غاليس وإسبانيا؛ ولكن هذه الممالك البربرية لم تكن تحمل عناصر البقاء والاستقرار فلم يمض زهاء قرن آخر حتى غزا الفرنج فرنسا وانتزعوا نصفها الشمالي من يد حاكمه الروماني المستقل بأمره وانتزعوا نصفها الجنوبي من القوط وحلت في غاليس سلطة جديدة ومجتمع جديد. وكان الغزاة في كل مرة يقيمون ملكهم على القوة وحدها ويقتسمون السلطة في نوع من الاقطاع، فلا يمضي وقت طويل حتى تقوم في القطر المفتوح عدة إمارات محلية. ولم يعن الغزاة بإقامة مجتمع متماسك ذي نظم سياسية واجتماعية ثابتة ولم يعنوا بالأخص أن يندمجوا برعاياهم الجدد، فكان سكان البلاد المفتوحة من الرومان والغليين الذين لبثوا قرونا يخضعون لسلطان رومة ما تزال تسود فيهم لغة رومة وحضارتها. ولكن القبائل الجرمانية الغازية كانت تستأثر بالحكم والرياسة وتكون وحدها مجتمعا منعزلا لبثت تسوده الخشونة والبداوة أحقابا قبل أن يتأثر بمدنية رومة وتراثها الفكري والاجتماعي. وكان اعتناق الفرنج للنصرانية منذ عصر كلوفيس أكبر عامل في تطور هذه القبائل وتهذيب عقليتها الوثنية وتقاليدها الوحشية. ثم كان استقرارها بعد حين في الأرض المفتوحة؛ وتوطد سلطانها وتمتعها بالنعماء والثراء بعد طول المغامرة والتجول وشظف العيش وحرصها على حياة الدعة والرخاء، عوامل قوية في انحلال عصبيتها الحيوية وفتور شغفها بالغزو واذكاء رغبتها في الاستعمار والبقاء. وهكذا كانت القبائل الجرمانية التي عبرت الرين تحت لواء(14/50)
الفرنج واستقرت في غالا قد تطورت في أوائل القرن الثامن إلى مجتمع مستقر متماسك نوعا. ولم تكن غاليس قد استحالت عندئذ إلى فرنسا ولكن جذور فرنسا المستقبلة كانت قد وضعت وهيأت الأسباب والعوامل لنشوء الامة الفرنسية. بيد أن هذا المجتمع رغم تمتعه بنوع من الاستقرار والتماسك كان وقت أن نفذ العرب الى فرنسا فريسة الانحلال والتفكك، وكان الخلاف يمزقه كما بينا وكانت اكوتين وباقي فرنسا الجنوبية في يد جماعة من الأمراء والزعماء المحليين الذين انتهزوا ضعف السلطة المركزية فاستقلوا بما في أيديهم من الأقاليم والمدن. ثم كانت القبائل الجرمانية الوثنية فيما وراء الرين من جهة أخرى تحاول اقتحام النهر من آن لآخر وتهدد بالقضاء على مملكة الفرنج. فكان الفرنج يشغلون برد هذه المحاولات ويقتحمون النهر بين أونة وأخرى لدرء هذا الخطر ولإرغام القبائل الوثنية على اعتناق النصرانية. فكانت المسألة الدينية أيضا عاملا قويا في هذا النضال الذي يضطرم بين قبائل وعشائر تجمعها صلة الجنس والنسب. ولم ينقذ مملكة الفرنج من ذلك الخطر سوى خلاف القبائل الوثنية وتنافسها وتفرق كلمتها.
هكذا كانت مملكة الفرنج والمجتمع الفرنجي في أوائل القرن الثامن أعني حينما نفذ تيار الفتح الإسلامي من أسبانيا الى جنوب فرنسا. وكان قد قضى منذ وفاة النبي العربي الى عهد هذا اللقاء الحاسم بين الإسلام والنصرانية (سنة 732م) مائة عام فقط، ولكن العرب كانوا خلال القرن قد افتتحوا جميع الأمم الواقعة بين السند شرقا والمحيط غربا واكتسحوا العالم القديم في وابل مدهش من الظفر الباهر، واستولوا على جميع أقطار الدولة الرومانية الجنوبية من الشام الى أقاصي المغرب وأسبانيا، وعبروا البرنيه الى أواسط فرنسا. هذا بينما أنفقت القبائل الجرمانية الشمالية أكثر من ثلاثة قرون في افتتاح أقطار الدولة الشمالية ومحاولة الاستقرار فيها.(14/51)
في الأدب العربي
من طرائف الشعر
مداعبات شوقية لم تنشر
ظفرنا بثلاث قصائد من الشعر الفكه لشاعر الخلود شوقي بك نظمها ولم يتمها (في الدكتور محجوب ثابت ومكسويني). ومكسويني هذا كان حصانا بائسا يجر مركبة الدكتور ولا يزور الإسطبل إلا لماما، فألح عليه اللغب والسغب حتى لصب جلده ووهن جلده فمات، وكان في حياته وموته موضوعا طريفا لكثير من الشوقيات الغر؛ نشر بعضها ولا يزال البعض الآخر مطويا. وسنكتفي اليوم بهذه القصيدة التي قالها الشاعر على لسان خلفه بعد موته. وكان الدكتور محجوب يومئذ معتقلا في قصر النيل عقب الثورة مدة الخلاف بين الزعيمين سعد وعدلي.
سيوفُ أبيه من خمسين عاما ... لواصق بالجدار بغير سلِّ
علاها العنكبوت فكان غمدا ... على غمد قديم العهد خلّ
ولى كالخيل اصطبل ولكن ... أفارقه وأترك فيه طلى
سلوا (بار اللواء) و (صُلْتَ) عني ... ومصطبة السرى الشيخ الأجل
من المَرشال أطلب رد روحي ... وعودة فارسي وفكاك خلي
وأنذر أن تفضل صوم عام ... ومثلي من يصوم ومن يصلي
والا مُتّ دون الحق جوعاً ... كذلك مكسويني مات قبلي
ويا كمبوت فيمَ كسرت قلبي ... وأمسِ الحادثاتُ كسرن رجلي
وما الدكتور مجنون بسعد ... ولا هو بالمحلل شتم عدلي
ولكن قبلة الدكتور مصرٌ ... وسودان يراه لها كظل
بقصر النيل بات وكل سجن ... وان كان الخورنقَ لا يُسلي
أقضي الليل حول السجن شوقاً ... للحيته أناجيها: أطِلِّي
تشير من النوافذ لي وتومي ... كغانية هنالك ذات دلِّ
ولولا الديدبان دنوت منها ... وكنت أنا الممشط والمفلي(14/52)
نجوى
لشاعر الشباب السوري أنور العطار
أقول لنفسي في هذه الساعة وفي هذا المكان: كنت ذات يوم محبوبا. ولقد أحببتها ولقد كانت جميلة. ثم خبأت هذا الكنز في نفسي الخالدة. ورفعته الى الله!. . . (الفريد دي موسيه)
إليكِ أبعثُ أحلاماً مُروعةً ... منزوعةً من فؤادٍ جِدّ محروبِ
ما تستنيمُ الى صمتٍ فيغمرُها ... لكنها أُختُ تسهيدٍ وتعذيبِ
تظلُ تُقلِقٌ هذا القلبَ صارخةً ... حتى تلِمُّ بطيفٍ منك محبوبِ
كباغمٍ موجعٍ أفضى الهزالُ بهِ ... الى مرامٍ عسير الدركِ محجوبِ
إن عللوُهُ بما ينسيه مطلبهُ ... أوحى الخيال إليه ألف مطلوبِ
يصوِّرُ الدمعُ ما يعيا اللسانُ به ... ومدْمعُ الطفلِ موشيُّ الأساليبِ
لهفي عليه تُمنيه الرؤى عبثاً ... كأنه لُعبة بين الألاعيبِ
أقصيتني عنك لا عهدٌ ولا أملٌ ... سوى عذاب على الأيام مصحوبِ
وعشتُ بعدكِ مخطوفَ الفؤادِ هوى ... مغرَّباً في دياري أيَّ تغريبِ
خيبتني فطويت العمر مكتئباً ... ما كان أوجعَ حرماني وتخييبي
خلفت نفسي آمالا مصرعةً ... ما في قرارتها غيرُ الأكاذيب
ترى السماوات تابوتاً قد انسدلت ... على جوانبه سودُ الجلابيب
من الهوى أن يعود العمر طافحةً ... أيامهُ بصبّي كالحلمِ موهوبِ
يبني منَ الشفقِ الرفاف زورقُه ... ويستحيل الى أُنسِ وتحبيبِ
هذي الأماني أضنتني مآربها ... يا ويحها كم أداريها وتلهو بي!
منحتها خافقا نهلانَ من أملٍ ... يهزُّ بالشدو أرواحَ المطاريب
فما جزتني على ودي بعارفةٍ ... تبقى ضماداً لجرحٍ غير مرؤوبِ
الكون بعدك أنقاضٌ مبعثرةٌ ... كمعبدٍ من عراكِ الدهر مخروبِ
ترى به مقلتي المسلوبُ رونقها ... دار الحريب ومأوى كلِّ منكوب
مشت عليه الليالي وهي هازئةٌ ... نكراء تقرع مشعوباً بمشعوبِ(14/53)
لا دُمْيتي بت أرعاها وأعبدُها ... كناسكٍ ذاب في جوفِ المحاريب
ولا دُعائي أدَّت بي معارجُهُ ... الى مطافٍ شهي الحُلمِ مرغوب
وأين لا أين مني همس فاتنة ... أفنيتُ في حسنها حبّي وتشبيبي
غابت فولت عن الدنيا بشاشتها ... فلست ألمحُ فيها غير تقطيب
وقد بدا العيش خلواً من مفارحه ... مجللًا بشجاً كالليلِ غِربيبِ
والحقل بعدك تؤذيني زيارتُه ... فانثني عنه والترداد يغري بي
لا أستطيع أُجيل الطرفَ مفتقداً ... آثار حُبٍّ كدمع الفجرِ منهوبِ
مافي خمائله حسنٌ ولا القٌ ... ولا أزاهره تخضلُّ بالطيب
إذا خيالكِ لم يبهجه مؤتلقاً ... فالحقل في ماحلٍ كالقفر مجدوب
غشيته وفؤادي ما يُفيق جوى ... ما كان أجدرني عنه بتنكيب!
هنا تذوقتُ سِرّ الحب مغتبطاً ... من غير ما مأثمٍ فيه وتتريب
هنا من الحب سِفرٌ رائع عجب ... قد ضم أقدس تذكاري وتجريبي
هنا شبابي مد الله سرحته ... رَبا وما فيه من وزر ولا حُوب
هنا الهوى كان طفلا في محفته ... وكان أمتعَ مولودٍ ومربوب
لما حبا هلل الوادي له فرحاً ... وقد تقلب فيه أي تقليب
فرشتُ بالزهر المنضور ملعَبه ... فرفّ يزهو بتنضيدٍ وترتيب
وحينما سَعِدَ الوادي بمطلعِه ... رمى به الموت في هُلكٍ وتتبيب
وراعني أن أرى الأطيار ساكتةً ... خرساء من غير ترنيم وتطريب
لا النهر يُوحي إليها ناغماً هزِجاً ... سكرانَ يركض في اثناء مَلحوب
ولا النسائم تذكي في جوانحها ... أشعار قلب من الأوجاع مكروب
تكاد إن أخذت عيني خيالتها ... تردها بين تصديق وتكذيب
لم يبق من أُنسها الحالي سوى أثر ... من إِسمك العذب فوق الجذْع مكتوب
خَشعتُ بالقرب منه ذاهلا حسراً ... كهيكل في شعاب الأرض منصوبِ
قدسته فمشى ثَغرِي يقبله ... ومدمعي بين محبوس ومسكوب
تقتات نفسي بالذكرى ويؤنسها ... خيالكِ الحلوِ في صَحوي وتغييبي(14/54)
وقد أراك فينسى القلب لاعِجَه ... ولا يطيف بيأسٍ منكِ محلوب
تبارك الحلم الرّفَّاف كم غلبتْ ... غيابة منه حزناً غير مغلوب
حججت بيتكِ في وهمي فما سَعِدتْ ... روحي بود نقي النبْع مصبوب
كأنما نسي الحسن الذي طَفَحَتْ ... منه السماوات إدلاجي وتأويبي
فتّشت في ساحة عن ظل موحية ... غيداَء غطت على سحر الرعابيب
ناديتها باسمِها فارتَعت مرتجفاً ... من موحش دائب الإنصات مَرهوبِ
فما رأيت لها ظلا ولا أثراً ... وملت الدَّار من بحثي وتنقيبي
خَلتْ مقاعد كانت أمسِ مونقةً ... فغامت اليومَ من نَسجِ العناكيبِ
أحسُّ منه صدى صوت أقدسه ... أسرى الى الخلدِ من وخد وتقريب
كأن بالأذنِ من نجواه وشوشةً ... تبكي على أمل في الغيب مغصوبِ
مشى مع النور لا تثنى عزيمته ... عجْلان يدفع ألهُوباً بألهوبِ
يلوح في الفلك الفضي متشحاً ... بلامع من شعاعِ الخلدِ مصبوبِ
ما زال يطوي الفضاء الرحب مختفياً ... كتائه في فجاج الغيبِ مَحزوبِ
حتى ترامى على عرش الالهِ أسىً ... وذاب في لاهب بالحب مشبوبِ(14/55)
مجمرة الأفق
// لله عند المغيب موقفنا ... وللهوى عندنا تباريحُ
نرتقب الليل فوق رابية ... يعبق منها العَرار والشِّيح
والشمس في أفقها معلقة ... من حولها للسحاب توشيح
كأنها والسحاب مجمرة ... أطار عنها رمادها الريح
ليلاي ماج الغدير وارتجحت ... للّيل في حضنه مصابيح
دونك روضا كأن أغصنه ... صدر لضم العشاق مفتوح
هُزي أراجيحه، فهل خلقت ... إلا لأحلامنا الأراجيح؟
لا شمس غابت، ولا ظلام دهى ... ولا غصونٌ هفت ولا ريح
لكنه حبنا فما اختلجت ... في الروض لولا غرامنا روح
شفيق معلوف(14/56)
شاعرة
غادة جرت ذيول الأدب ... وتغنت بقريض العرب
يأسنُ الشعر فان مر على ... ثغرها عاد بنشر طيب
تنطق الألفاظ معذوذبة ... بفم حلو اللمى معذوذب
درر خارجة من درر ... تلك لم تثقب وذي لم تثقب
شد ما يأسر لبي قلم ... مرهف في أنمل مختضب
يا رعى الله قواما لينا ... ينحني كالقوس خلف المكتب
ويمينا بضة ناعمة ... خلقت للجد لا للعب
طبع النقس عليها شامة ... كالتي في خدها الملتهب
أن في قرطاسها مرقمها ... كأنين العاشق المكتئب
وحنا بين يديها رأسه ... كانحناء الساجد المقترب
غادة مرآتها ان نظرت ... صفحة من صفحات الكتب
يا إله الشعر باركها إذا ... سبحت في موجه المصطخب
احفظ الهيفاء من تياره ... ليس بحر الشعر سهل المركب
يا فتاة الخدر عوذتك من ... سهر الليل ونجوى الشهب
وشرود الفكر في جنح الدجى ... وهروب اللفظ عند الطلب
أتركي جفنك ينفث سحره ... في خيالي وقفي عن كثب
لا تقولي الشعر بل أوحي به ... أنت خصب للخيال المجدب
إنما الشعر محيط فاسلمي ... ودعي أمواجه تقذف بي
إنه عبء على حامله ... ما لهذا العبء إلا منكبي
محمود غنيم(14/57)
يا ليتني!
عينيَّ هل من صوب دمع مسعد؟ ... نفدت دموعي والأسى لم ينفد
روح فقدت حنانها البر الذي ... لا يُستظل بمثله إن يفقد
ما زلت في حزن عليها مرمض ... وتحير في إثرها وتلدد
جاءت وراحت أشهر لم تنصرف ... عن ودها روحي وقد صفرت يدي
وتجيء أعوام وتذهب أشهر ... لا يرتوي من وجهها الطرف الصدي
يا ليتني قد كنت حاضر يومها ... وسعدت قبل رحيلها بتزود
وشهدت أنتها بليِّن مهدها ... ورأيت سكتتها بجافي المرقد
لما نضت أوصاب داء مسقم ... من بعد طول تصبر وتجلد
ورمت قيود معيشة ما عاشها ... في الناس غير مثقَّل ومقيد
لولا حذاري أن يفجعها الأسى ... ويؤودها صرف الحمام المعتدي
ويزيدها شجنا على أشجانها ... لوددت لو عاشت وكنت أنا الردي
ونعمت في لحدي بهاطل دمعها ... ينهلُّ لي وبشوقها المتجدد
وحنانها الصافي يظل مزاوراً ... قبري يروح مع الزمان ويغتدي
وأقر جسمي في التراب موسداً ... ذاك الفؤاد يعودني في العوَّد
قد كان ذلك راحتي لا ما أرى ... من حيرة تضني وعيش مكمد
فخري ابو السعود(14/58)
في الأدب الشرقي
من الأدب التركي الحديث
عبد الحق حامد
للدكتور عبد الوهاب عزام
شاعر الترك الأكبر، حمل لواء الشعر أكثر من خمسين عاما غير منازع، ولا يزال على المرض والشيخوخة مطمح الأبصار، وقبلة الأفكار. ولد سنة 1267 هـ فهو الآن في الخامسة والثمانين من عمره المبارك، وما فتئ مذ بلغ العقد الثالث فياضا بالشعر والنثر يسلك فيهما المسالك المختلفة موفيا على الغاية، بالغا من الجمال والجلال النهاية، حتى كتب أكثر من ثلاثين كتابا، ثروة يفخر بها الأدب التركي بل يتحلى بها الأدب الإنساني. وليس يتسع المقام هنا للإبانة عن شعره ونثره، أو الإفاضة في وصفه والكشف عن نواحي النبوغ والإعجاز في طبعه، ولكني أعرض لكتاب واحد من كتبه:
في سنة 1302 كان الشاعر في الهند فمرضت زوجه، فسافر بها راجعا دياره فماتت في الطريق ودفنها في بيروت. وكانت في سن الخامسة والعشرين، وشاعرنا يومئذ ابن خمس وثلاثين.
كانت وفاة فاطمة قيامة في نفس عبد الحق وفي الأدب التركي. كتب في البكاء عليها زهاء ألف وخمسمائة بيت في كتابين أكبرهما وأولهما سماه (مقبر) وهو صرخة ما تزال مدوِّية في الأدب التركي منذ خمسين عاما. ولن يمحى صداها في الحياة ما بقي في الإنسان قلب وما بقي للشعر التركي قارئ والثاني سماه (أولو) أي الميت.
يقول جناب شهاب الدين وهو من أعاظم أدباء العصر:
إن (المقبر) ومقدمته فتحا عصراً جديداً في أدبنا المنظوم والمنثور. ولم تؤثر وفاة فاطمة في حياة الشاعر وحده بل في آداب الأمة كلها. . . ولا ريب أنه قد ولد من القبر الذي في بيروت شاعر جديد أعظم من شاعرنا الأول. إن (المقبر) أعظم وأجمل تمثال في آدابنا، ولست أرتاب في أن هذه البديعة التي كتبت على حافة البقاء قد قدر لها الخلود.
(المقبر) ثورة هائلة بعث فيها الشاعر أناته وعبراته وصيحاته وكل ما في قلبه وعقله.(14/59)
ينظر الى القبر باكيا فيطير به الفكر في أرجاء العالم، ويصعد به الى الله ثم يطوي فكره شيئا فشيئا ويهبط به الى القبر ليطير عنه الى السماوات كرة أخرى. وهو في ثورته واستسلامه يذكر القارئ بقصيدة فكتور هوجو. التي رثى بها ابنته.
ثارت ثائرة بعض النقاد على حامد (ومقبره) حينما نشره إذ رأوا فيه لغة غير مفهومة، فكان في جلال الحزن وشدة الألم أسمى من أن يبالي المدح أو الذم. وما كتب الشاعر كتابه ليكون بديعة أدبية. بل أراد، كما يقول: أن يبني بالشعر قبر الحبيبة، لا يكترث بالناس حين يبنيه؛ ولا يبالي بما يقولون فيه.
وقبل أن أعرض على القارئ نموذجا من (المقبر) أترجم مقدمته المنثورة التي يراها بعض الأدباء عهدا جديدا في النثر، كما يعدون الكتاب عصراً جديداً في الشعر. قال:
(المقبر): وهو آخر ما كتبت، كتب لتخليد وجود أصابه الفناء. وأنا أعلم أنه ليس في (المقبر) أثر من المعاني الشعرية التي تنطوي عليها المقابر. وإنما (المقبر) صيحة حسرة منبعثة من العدم، فلن يظفر قارئه بشيء، ولكنه عندي شيء. أجل أن الفكر حين يجوس خلال الكتاب ليطوِّف في مقبرة ثم يخرج منه كما يخرج من المقابر؛ لا يفقه شيئا. . .
قراءة فاتحة هذا الكتاب كاستيعابه كله، والإحاطة بما فيه كالتفكير في اسمه. لقد كتب هذا الكتاب في مقبرة، فهو وحي من الألم لمن يعرفون الكاتب السيئ الحظ، ووحي من الكلال لمن لا يعرفونه.
من يسألني: لماذا تنشر على الناس آلامك في هذه الصورة وكان يسعك أن تكتمها في قلبك، أو تكتبها ولا تنشرها؟ فذلك جوابي له: لا يبقى من هذه الأجساد المتهافتة في وادي الصمت إلا أحفان من التراب، وكذلك لا يبقى في القلب من أحب الذكريات إلا خيال دارس، ولست أقنع بهذا الخيال.
وأما نظم الكتاب وحفظه بين أوراقي فمصيره أن يبلى كما تبلى الأعضاء الميتة والأفكار اليائسة ولست أرضى بهذا البلى.
هل يضمن نشر الكتاب خلودها كما رجوت؟ لا، ولكن مهما يكن من شيء فـ (المقبر) أطول مني عمراً. ومن أجل ذلك نشرته، إنه قبر مبني من الصيحات التي في قلبي؛ أود أن تكون كلماته كالكلمات التي نقشت على الأحجار. هيهات. . .! كل صيحة في هذا (المقبر)(14/60)
قبر منفصل ولكن فيها كلها دفيناً واحداً، هو الإنسانية التي تجلت لي في الوجه الذي أحببته. كتبت هذا الكتاب لأقرأه وحدي، فقليل من يشاركني إحساسي. بل لا أود أن يشاركني أحد في هذا الإحساس خشية أن لا تكون هذه المشاركة إلا بالتجريب. أريد أن أبكي وحدي على المسكينة التي بكيتها، وهذه الوحدة عندي سلوان لأنها أكبر العذاب.
ألا يرى القارئ أن هذه المقدمة كذلك تشبه كتابا كتب لي وحدي. وبعد، فليست العبارة المكررة في (المقبر) إلا كلمة واحدة، وليست هذه الكلمة إلا قبرا: كما تنتهي الأصوات كلها الى النفس الأخير.
لا أرتاب أن (المقبر) كآثاري الأخرى سيفنى، بل أعرف أن الأبدية كلها لا تفي بحفظ آلامي على حالها، وسيصعد الكتاب الى حضرة الخالق ودماء هذا الجرح سيالة من قلبه.
من القلوب مالا يجتمع فيه السرور والآلام، ومن القلوب مالا يزول حزنه بما يصيب في الدنيا من سعادة وجد، ولكن هذا الحزن لا يحول دون السرور، وفي بعض القلوب يخيم السرور والحزن معا، ومن أجل ذلك تلوح السلوة في الحزن أحيانا، ويبين الألم في الابتسام.
ومن القلوب ما يزيد الفرح أحزانها. ومن هذه الآلام آلامي. أود أن أطرب ليزيد حزني، ولست بمستطيع أن أفهم الناس ذلك، فلغة هذا الإحساس تكبر على الأفهام. فلأصمت!
إن القارئ الذي يريد أن يعد (المقبر) شعراً لأنه من آثاري لن يجد فيه من شاعريتي أثراً. ولكنه إذا فكر يسمع صرخات يستطيع أن يحسبها شعراً، وما هذه الصرخات إلا عجز البشر.
أعظم الشعر وأجمله وأصدقه أن يعيا الإنسان بالبيان فيصمت حين تنوء به إحدى الحقائق الهائلة. ولكن (المقبر) يخطب ولا يصمت. يعجز الإنسان أحيانا أن يعرف خيالا لا خطر له لما يبهره من جماله، ويقصر أحيانا عن إدراك الفكر الطائر عن عقله لما يفوته من علائه. ويعيا أحيانا بفهم الإحساس المولود من قلبه لما يهوله من عمقه. وفي هذا العجز يرسل صيحاته، أو يشدو بما لا يفهم من كلماته. أو يصمت فلا يترجم عن حسراته، فيأخذ قلبه فيطؤه بقدمه فيحطمه. وهذا كله شعر.
(المقبر) يتضمن إحساسا ولده قلبي. ولكنه في بعض نواحيه غريب كل الغرابة عما يروي(14/61)
من شاعريتي. يجد القارئ فيه لغتين لا تشبه إحداهما الأخرى، حتى يحسب أنه قد تعاقب على (المقبر) كاتبان. بل يبعد بعضه مني حتى أعيا أنا بفهمه.
فأما حديثي فيه عن الماضي (وهو أكثر مواضعه خرابا على أنه أحبها إليّ) فيبكي من يعدونني شاعرا، ويزيد صدق من لا يعدونني من الشعراء. وبعض مواضعه ليس من شعري، بل هو أشبه بقبر فتاة في ميعة الصبا.
أول هذين من النقائص الأدبية، والثاني من النقائص الإنسانية. وما يرجع الى تصوير الفضائل ناقص أي نقصان.
وبعض نواحيه لا يستطيع أن يمكث في الأرض لأنه صيحات. (المقبر) في جملته يراه كثير من الناس أثرا باردا، ولكنها البرودة التي تحرق قلبي.
لابد لعالم الأدب من آخرة، والمقبر من هذه الآخرة علامة، (المقبر) قبر حياتنا الأدبية، والمقبر زوالي.
(المقبر) يبين عن فكر واحد بأساليب شتى، ألفاظه عند الخاصة لا شيء، ولكن هيكله قبر ميت عزيز فهو عندي شيء. (المقبر) خفيف في جانب ثقل المصيبة التي أصابتني، فارغ في جانب عمقها، عدم في جانب شعرها، ولكنه بالقياس اليّ شيء. ينبغي أن يكون (المقبر) ضريحاً لا قبرا، معبداً لا ضريحا، كوكبا لا معبدا، فضاء لا ينتهي لا كوكبا. ولكنه وا أسفاه، لم يبلغ أن يكون قبرا.
(المقبر) ينبغي أن يكون منبرا ينزل إليه نور إلهي، ولا يستطيع أن يصعد إليه الفكر الإنساني، يجب أن يكون (المقبر) محشرا. هيهات! لا أقول يجب ألا أظهر فكري بل يجب أن يكون مما لا يمكن ظهوره. (المقبر) يئن أبدا. وان دل هذا الأنين الأبدي على العمق فوا حسرتاه أنه لا يعدو أن يكون قبرا. إن معنى هذا (المقبر) ظواهر المقابر.
ذكرت النقائص الأدبية والنقائص الإنسانية. نعم ماذا عسى أن افعل؟ ماذا أفعل لتصحيح الخطأ وأكبر الخطأ صادر من المصحح.
إن الأبيات يجب أن تصنع للوقائع الجليلة، والأفكار الجميلة، كما تبنى الهياكل للأسماء الكبيرة، وبأسماء الوجوه الجميلة. والقبر هيكل بناه الله فكيف نستطيع نحن أن نصور ونجسِّم؟(14/62)
أي شاعر جسَّد امرأة جميلة فصورها للذين لم يروها؟ أي قلم حكى المحاسن الطبيعية على وجهها؟ إن الذي يلهمنا أحسن ما نشعر ونكتب هو الطبيعة، وهذا الشعر يشبه الصورة التي تتراءى في الماء لا بد لها من مصدر خارجه.
بعض أكابر الأدباء يدعون أن مزايا الشاعر تتولد من نفسه وليس هذا رأيي. إن محاسني (إن كانت) هي للجبال والمروج والوجوه الجميلة والأزهار. وأما سيئاتي فهي لي. أقول قبل أن أختم:
ان المصيبة التي اخبرني بها (المقبر) قلبت شعري كما قلبت كل شيء في. فهل صعدت صدمة هذا الانقلاب بفكري أو هبطت به؟ يعرف ذلك إخواني.
انظروا كيف عجزت عن كتابة كلمات حتى في المقدمة؟
الانقلاب الذي ذكرت هو قيامي في نقطة أو في فضاء غير محدود حيث تصطدم السماء والقبر. بقى قلبي طويلا بين هاتين القوتين الهائلتين، كلما اقتربتا شعرت بالعزاء وكلما ابتعدتا غمرني اليأس.
ثم اتحدتا فتحطمت فظهر (المقبر). فهل هذا شعر؟ محال. كان يجب أن يتحد القبر والسماء أو بعبارة أصدق أن يبقيا مفترقين، وكان يجب أن أنوح في الافتراق والاستغراق فيكون هذا شعرا.
أنا لا استحسن معظم ما كتبت قبل (المقبر) وبعضه يعجبني قليلا، وأما المقبر فلا يعجبني قط، ولكني أحبه كل الحب. لا يعجبني لأن صلة هذا الكتاب بالأدب واهية، وأحبه لأنه (هي).
لعل (المقبر) يشبه الشعر عند من يرون الخليقة كلها شعراً، وهو عندي يذكرني بشاعرة، شاعرة كانت شعر القدرة الصانعة كل ما في (القبر) على نقصه وحشوه. روحانية متوفاة، ومعنوية روح.
(المقبر) حالها وصورتها وخيالها وهيكلها وقبرها وحياتها التي ذهب الدهر بمحاسنها. ثم أكرر فأقول: (المقبر) (هي) ومن أجل ذلك أحببته.
ولكن (المقبر) في نظر الأدب طفل دميم: طاهر، ولكنه ليس جميلا، وفيلسوف حقير: حكمة ولكنها ذات ريب، وحسن معيب: صيحة ولكن ذات صناعة، وقير مشيد: ليس حزينا ولكنه(14/63)
قبر: مغرب ولكنه متلألئ، جمال ولكن بغير حب، شعر ولكنه ذو قافية، لأجل هذا لا أحبه.
الفكر نهايته الموت، والشعر نهايته الألفاظ والقوافي، فماذا أصنع؟
إن لم يكن (للمقبر) بد من فكر شرعي فهذا الكتاب قبر متوفاة، أسأل زائريه الفاتحة.
وفي العدد الآتي نعرض على القارئ مثالا من شعر (المقبر) ان شاء الله.(14/64)
في الأدب الغربيّ
الزهرية المصدوعة
لسوللي برودوم
ترجمة الأستاذ أبي قيس عز الدين علم الدين. عضو المجمع
العلمي العربي
سوللي برودوم شاعر فرنسي ولد بباريس سنة (1839 - 1908) وتثقف بها في شبابه بثقافة علمية متينة، اكتسب منها عنايته الشديدة بتدقيق العبارات وتوضيح الدلالات، وقد امتزج ذلك بما أوتيه من قوة الإحساس وسعة الاحلام، ولم يتخرج إلا من المدرسة البرناسية التي تعلم فيها كما قيل: (أن ينظم بصعوبة قصائده السهلة).
وقد برع في التعبير عن أدق عواطف القلب البشري وأصدقها، براعته في قصائده الفلسفية المشتملة على أسمى المعاني وأنبلها.
وأما قصيدته الموسومة بالزهرية المصدوعة فان لها شهرة ذائعة في الغرب، وهي من آيات سوللي والروائع الرمزية الخالدة، وقد عرف بها ناظمها لبعد شهرتها فقيل له: شاعر الزهرية المصدوعة وفيها أبدع الإبداع كله بتشبيه القلب الجريح الذي نضب دمه فذبلت زهرة محبته بالإناء الصديع الذي جف من الصدع ماؤه، فظمئت زهرة نبتته وذبلت أخيراً، والذي جرح القلب هو قسوة المحبوب وتماديه في هجرانه، تمادياً حرمه ندى عطفه وحنانه، قال:
شهدت الإناء الذي في ... هـ تقضي من الزهر سوسنة وادعة
قد اصطدم اليوم (ويحاً له) ... بمروحة صدمة صادعة
لكنها لم تك غير لمس
فلم تثر من ضجة أو حس
ومع أنه كان صدعا لطيفا ... وما ظنه أحد بالشديد
فقد كان تأثيره، وهو سار، ... ببلوره كل يوم يزيد
وقد سرى به الصدع خفيا(14/65)
فامتد في الإناء تدريجيا
وماء الإناء، وفيه الحياة ... غدا يتقطر من صدعه
فجفت عصارة أزهاره ... وغاض الرحيق جنى طلعه
لم ينتبه لذاك حي يعلم
لا تلمسوه! إنه محطم
ورب يد غضة قد تحب ... أناملها وهي تبدو لطيفة
تمس شغاف القلوب فتخ ... دشه خدشة قد تخال خفيفة
ينصدع القلب لها من نفسه
ذابلة زهرته ليبسه
وقلب يرى أبداً في العيو ... ن صحيحاً وما هو قلب صحيح
نما جرحه فبكى صامتاً ... وبالجرح يشعر قلب الجريح
وجرحه العميق هذا مؤلم
لا تلمسوه! إنه محطم
دمشق(14/66)
حديث الطبيعة
لشاعر الطبيعة وردز ورث
أهاب صديقي ذات صباح ... لدن رونقُ العيش غضٌ نضِر
هنالك عند البحيرة إذ ... جلست أطيل لديها النظر:
أراك قضيت سحابة يوم ... ك منفرداً فوق ذاك الحجر
ففيم اعتزالك يا صاح تمضي ... حياتك بين الرُّؤى والذكَرْ؟
وكتبك أين؟ شعاع الحياة ... يُبيِّن من أمرها كل سر
إليها! وفز بتراث الجدود ال ... لذي لآتي العصُر
تقلب في أمك الأرض عيناً ... كأن ولدتك لغير وطر
كأنك أول من ولدته ... ولم يحيى قبلك حي غَبَر
فقلت: وهل أُذُنٌ تأتلي ... عن السمع، أو مقلة عن بصر؟
سواء على الجسم إن رمت منه ... الشعور وإن لم ترمه شَعَر.
رأيت الطبيعة ذات قُوّى ... تغلغل في مُهُجات البشر
تغذي النفوس وهن سكون ... ولم نشق فيها النهى والفكر
أتحسبنا لن ننال الحقيقة ... دون طلاب طويل عسر
وهذي الطبيعة آثارها ... شواهد ناطقة بالعبر؟
فأن ترني لحديث الطبيع ... ة أنصت في صمتي المستمر
فلا تسألني علام قضائي ... حياتي بين الرؤى والذكر
فخري أبو السعود(14/67)
محمد
للشاعر الفيلسوف جيته
بقلم الأستاذ الجليل معروف الأرناءوط
أولع جيته شاعر ألمانيا الأكبر وأديب الإنسانية الأعظم في شبابه بأشعار الشرق وأقاصيصه، وبلغ من ولعه بمحاسن الشرق حداً جعله يتهافت على دراسة ماضي شعوبه، وفي سنة 1772 قرأ جيته للمرة الأولى ترجمة القرآن للأستاذ ماغرلين فسحرته بلاغة سورة إبراهيم، كما استهوته طفولة محمد، هذه الطفولة البارعة التي أمضاها في بيت حليمة السعدية مرضع الرسول اليتيم، وكان جيته على نصرانيته يشعر بصفاء الإسلامية وطهارتها، فعكف على دراسة حياة محمد وخرج من هذه الدراسة التي وهب لها عواطفه واحساساته بروايته التمثيلية (محمد) وهي مأساة في ثلاثة فصول أودعها جيته أرق أشعاره وأعذبها، وكان أمتع فصول هذه الرواية التي لم تنقل لسوء الحظ الى اللغة العربية ذلك الفصل البارع الذي صور فيه شاعر ألمانيا الأكبر محمد معتزلاً قومه ليعيش في الريف، وفي هذا الفصل يتحدث الرسول الى الكواكب، ثم يفتح صدره لله فيغمره بنوره الخالد، ويخرج يتيم مكة بعد ذلك الى العالم نبياً ورسولاً.
ومما هو جدير بالذكر أن رواية محمد لم تكد تظهر في ألمانيا حتى راح خصوم جيته يتهمونه بالكفر والخروج على النصرانية فنشر جيته على أثر ذلك رسالته المشهورة وعنوانها: لماذا آمنت بمحمد، وذكر فيها أنه أحب محمد كما أحب عيسى بن مريم، وانه يرى في الإسلام ديانة الخلق السامي الصحيح.
وقد نقلنا بعض فقرات من هذه الرواية العظيمة ليقف القراء على رأي سيد أدباء العالم في سيد أنبياء العالم.
الفصل الأول - المشهد الأول
(محمد ينظر الى الكواكب. . .)
أواه! لا أستطيع ان أفرق بينك يا أشعار السماء، الا ترين الى نفسي وقد برح بها شجن بليغ عنيف، لقد كان من أرضى أماني هذه النفس أن تهب احساساتها لكل كوكب؟ فما قدرت على ذلك؟ فأي هذه النجوم الفواتن يسلفني السمع ويسترق صلاتي؟ أي هذه النجوم(14/68)
ينظر الى طرفي الدامع الضارع؟
أي كوكب العشية الساجية الرخية الظل، أنك لتجوز نواحي الأفق، في حاشية من بروق فتانة، ثم تواريك هذه الغلائل الرقيقة فتنأى عني فأناديك، ألا عُد الى مسفرك وأنظر اليّ، فأنني أولعت بك أشد الولع، وهمت بفتونك وإشراقك.
أثابك الله أيها القمر، أنك لأفضل من يرشد هذه الكواكب، ويقودها الى عوالم الضياء والبهاء، فأنر طريقي ولا تذرني هائماً في هذه الظلمات مع شعبي السادر الحائر!
وأنت أيتها الشمس التي تخلع ظلها على الأشياء والناس، ظلليني بنورك البهي وقودي خطواتي، ولا يحجبك عني سحاب أو ضباب!
أواه! أتتوارين عن عيني في الأسداف البعيدة أيتها الشمس، يا من غدا أمرها فتنة لجميع الناس.
من يجذبني إليك أيها القدير العظيم، من يقربني منك يا من خلق الأرض والشمس والقمر والسماء وخلقني أنا في لحظات، من يقربني منك فأغسل قلبي بنورك الذي لا يغيب.
المشهد الثاني (محمد، حليمة)
(محمد): أي حليمة! لماذا جئت في هذه الساعة الهانئة الصافية؟ أكان وفودك عليّ لأثارة حياتي الراكدة الساجية؟
(حليمة): جنّب نفسك الخوف يا بني فأني ما زلت أبحث عنك منذ غارت الشمس واطفل النهار، ناشدتك الله الا تعرض شبابك الرقيق الناعم لأسواء الليل ومخاطره.
(محمد): يفرق الرجل الرديء الخبيث من متوع النهار كما يفرق من سحر الليل، وذلك لأن الرذيلة تجلب التعاسة، أما أنا فلست ذلك الرجل الذي يعاف متوع النهار وبهاء الليل، فلقد غمر الله نفسي بضوئه، وخلق من حولي عالماً يزهر شبابي ويريق عليه سحره وفتونه.
(حليمة): ولكني أخاف عليك وأنت في عزلتك في هذا الليل البهيم أن يدهمك اللصوص والسراق.
(محمد): ألا ترين إليّ؟ أنني لم أكن وحدي في هذا الريف الضحيان فلقد أبى الله سيدي ومولاي وخالقي إلا أن يصاحبني في هذه الوحدة.
(حليمة): أرايت الله يا بني؟(14/69)
(محمد): وأنت ألا تبصرينه؟ أنه غير بعيد عني، ولا يبرح يتراءى لي عند الينبوع الدافق الهادر، وتحت السرحة الغناء، وفي الظل الرقيق البهي. . لقد توافى إلي من عليائه فأحسست حرارة حبه، وشق صدري وأنتزع من قلبي حوباته حتى يتاح لي أن أفهم معنى حبه!
(حليمة): ولكنك تحلم! إذن كيف يقدر لك أن تحيا وقد شق الله صدرك؟
(محمد): سأصلي صلاتي لله فلعله يضيء عقلك فلا يبدو لك حديثي غامضاً مبهماً
(حليمة): وأي اله هذا الذي تعبد؟ أهو اللات أم هو هبل؟
(محمد): أي شعبي التعس! أنك لتظل السبيل وتنزع الى الحجارة والأصلاد فتجعل منها الهاً يعبد! ولكني ما زلت أحبك على شديد تعسك، وهذا الحب الشديد العنيف هو الذي يحفزني الى مصارحتك بأن هذه الحجارة التي تصلي لها لا تستطيع أن تستمع لك، وليس في ميسورها أن تفتح لك ذراعيها.
(حليمة): أين يسكن الهك؟
(محمد): إنه في كل مكان يا حليمة!. .(14/70)
العلوم
الحمى داء ودواء
للدكتور أحمد زكي. وكيل كلية العلوم
الحمى من قديم الزمان عرض مخوف وطارق مرهوب، وكثيرا ما كان رسول الموت وقائد الحي تحدو ركبه الى وادي الفناء. ولكن في هذه الأيام القريبة الماضية نشأت فكرة أخذت تحل محلا ذا بال في رؤوس البحاث من الأطباء، أو رؤوس القليل منهم الذين لا تزعجهم غرابة الخاطر، ولا يصرفهم عن الأمر خروجه عن المألوف. ومحصول هذه الفكرة أن الحمى ذلك العدو القديم للحياة قد تنقلب، أو يمكن تأليفها وقلبها الى صديق نصير، فبدل أن تكون عوناً على الداء، تصبح عوناً على الشفاء، في بعض الأمراض التي عجز عنها الطب وحار فيها الأطباء.
وحكاية هذه الفكرة بسيطة بقدر غرابتها، ومنشؤها تافه بالرغم من خطورتها، وهي في ذلك جرت على سنة جرى عليها كثير عليها من المستكشفات التي غيرت من سطح الأرض، وتحكمت في مستقبل الإنسان. ذلك أنه منذ خمسة أعوام في معامل للكهرباء كبيرة مشهورة لاحظ مديرها المستر (وتني) أن المهندسين الذين كانوا يمكثون في مجال الكهرباء الأستاتيكية لناقلات الراديو ذي الذبذبات العالية، ولو زمناً قليلاً، يحترون وترتفع فعلا درجة حرارتهم. وأذاع المدير في تقرير له هذه الحقيقة، ولكنها لم تسترع اهتمام أحد في عالم الطب. ولحسن الطالع لم يكن (وتني) طبيباً فلم يأبه لهذا الخذلان، وكان يهوى الحقيقة أنى وجدها، وكان واسع الإطلاع كثير القراءة، فذكر أنه قرأ مرة أن العالم النمسوي الأستاذ (وجنار ياوديج) شفى عدة أشخاص مجذومين مشلولين من أثر الجذام المعروف بالزهري بأن أصابهم عامداً بداء الملاريا، وذكر أن هذا الحادث أثار مناقشات حارة بين رجال الطب في أوروبا، ثارت في سبب هذا الشفاء أهو الملاريا أم ظروف عارضة لا علاقة لها؟ وانتهى النقاش الى غير خاتمة.
ذكر (وتني) ذلك، وكان جاهلاً بالطب، وذكر أن الملاريا تصحبها حرارة عالية، فتراءى له في لمحة أن الحمى التي تصحب الملاريا ربما كانت هي السبب الأول في الشفاء، ذلك أنها تطبخ ميكروب الجذام فتهلكه. وتراءى له أنه لو صح هذا لكان للحمى التي تحدثها الكهرباء(14/71)
مثل هذه الصفة. على أثر هذا أستأجر خبيرة في علم وظائف الأعضاء أسمها الآنسة (هوزمر) فأثبتت له أن الفئران وأمثالها من الحيوانات القارضة يمكن أصابتها في المجال الكهربائي بأي قدر يراد من الحمى. وبعد ذلك أستخدم الدكتور (كربنتر) وهو بكتريولوجي ذو خبرة وأمانة، فعدى كثيراً من الأرانب بالجذام ثم وضعهم في المجال الكهربائي ليصيبهم بالحمى فشفاهم بذلك.
نشرت هذه الأبحاث منذ ثلاث سنين، كان من المنتظر أن تثير في عالم الطب عاصفة، ولكنها لم تثر إلا نسائم خفيفة، وسبب هذا أن الطب امتلأ في السنوات الأخيرة بأكاذيب كثيرة وشعوذة مهينة للعلم، صدرت عن علماء أو متعالمين، وعدا هذا فالجديد أينما سار يجر وراءه ظلاً من الريبة، ولاسيما إذا كان الجديد بالغاً في الغرابة، شديد المناقضة للمعروف، وقد تكون بساطته سببا لتهامه، وتعقده شفيعاً له الى قلوب الناس وعقولهم.
لم يجزع (كربنتر) للذي لقي من جمود القوم، وأخذ سبيله فبنى صندوقاً أشبه شيء بناووس الموتى، وأغرى قوماً يؤمنون بالتضحية في سبيل الخير بالدخول فيه، فاستطاع بالكهرباء أن يرفع درجة حرارتهم، لم يلبث قليلاً حتى وجد أنه بضغط زر أو إدارة عقرب يستطيع أن يتحكم في حرارة المريض رفعاً أو خفضاً مقلداً بذلك حمى الملاريا، ولم يلبث أن ذهب هذا العلاج بجنون ثلثي المرضى الذين عالجهم. ولكنه كان علاجاً مؤلماً شديد الوطأة، وهو فوق ذلك لا يؤتمن، لأن المريض أثناءه يتصبب عرقاً يتجمع يتجمع فتتركز الطاقة الكهربائية، فيحدث من هذا تفريغ ينشأ عنه شرر وبرق يحرق جلد المريض، ولعل جنون المرضى في الأحوال المذكورة كان رحمة، فلولاه لخافوا الألم ونظروا في العاقبة فاحجموا.
لو أن تجربة (وتني) وقفت عند هذا الحد لما قدر لها النجاح، ولكانت طرفة نفعها للعلم وللتاريخ فحسب، ولظل الطبيب الى الأبد يعالج هذا الداء بالزرنيخ، ذلك العقار السام الذي لا تؤدي القناطير منه الى شفاء تام لا شبهة فيه. ولكن في يوم شات مثلج من يناير عام 1931 بالولايات المتحدة بلغ رجلا من العلماء ما كان من أمر التجربة، ففكر فخال لساعته أنه لو صنع خزانة على مثال الناووس وأمَرَّ فيها تيارا من الهواء الساخن بقدر لبخر بذلك العرق المتساقط من المرضى فحماهم خطر الحريق. وبعد عشرة أشهر كان هذا العالم مع رفقة آخرين آثروا جميعا ستر أمرهم الى حين قد أتموا الخزانة في حجرة من مستشفى(14/72)
متداع ببقعة بغرب الولايات لا تسمى. وكان فاتحة أعمالهم أن وضعوا فيها ضحية من ضحايا الزهري (ولم تكن الخزانة تهيأت للهواء الساخن يمر فيها) ولكن الرجل كان في المرحلة الأخيرة من المرض يعاني كربه فلم يبال أحيّاً خرج من الخزانة أم ميتاً، ولعله رأى فيها وسيلة انتحار أضمره لا تصم ذويه من بعده، واليوم هذا الرجل حي يرزق إن كان يشكو شيئا فذلك انه لا يكتسب من عمل يومه بمقدار ما يحب.
وأدخل الهواء في الخزانة على درجة 50 مئوية وكانت هذه الحرارة تظن كافية لتجفيف قطرات العرق المتجمعة على أجسام المرضى، ولكن هذا الظن لم يتحقق كله، وعلى رغم ذلك جرى العمل على ما رسم بفضل مهندس شاب مخلص قيم على جهاز الهواء، وممرضات صبورات كن يبعثن من لطفهن وأنوثتهن وحنانهن الأمل والرجاء، في قلوب المرضى التعساء، وهم في الخزانة، في ألم من الداء وهول من الدواء.
وفي ذات أحد من الآحاد اشتعلت النار بالخزانة فانقض في نصف ساعة بناء عام، فكنت لا ترى إلا ركاما من فحم ورماد وأنابيب منصهرة وأسلاك ملتوية، والى جانب هذا الحطام المهندس الفتي والممرضات بعيون شاخصة حجبت أبصارها الدموع.
لم تستطع النار ولا الدمار اللاحق أن يضعف من همة تلك الرفقة الكريمة في صراعها في سبيل الخير. فلم يمض قليل من الزمن حتى أقاموا خزانة جديدة أقرب الى الغرض وأكثر إراحة للمرضى، وقد يكون بعض النفع من البلاء. وجاءت النقالة بعد النقالة تفرغ في الخزانة الجديدة حمولتها من أجسام أهلكها الجذام وأعقابه، وما لبث الكثير منهم أن خرج من المستشفى على رجليه يسعى كالناس يحدوه رجاء جديد في حياة جديدة. من ذلك شاب بلغ الزهري الى أعصابه وشرايينه فلم يكن يستطيع الحراك ولا إطعام نفسه. حم في الخزانة ثلاث مرات كل مرة خمس ساعات فاستطاع بعد ذلك أن ينال فمه بيده. وبعد الحمى الثامنة استطاع أن يقف لأول مرة على قدمين مرتعدتين، وذلك بعد عام من بدء العلاج، وهو الآن يزاحم الأحياء بالمناكب في الطرقات يسعى الى رزقه سعيهم الى أرزاقهم.
ومن ذلك طفل في التاسعة من عمره جاءت تقوده أمه لأن الزهري كان أصاب عينيه فلم يكد يفرق بهما بين نور النهار وظلمة الليل، حم تسع مرات فارتد إليه بصره كما كان.(14/73)
وعولج اثنا عشر مريضاً ممن شل الزهري أجسامهم وذهب بعقولهم فعاد إليهم جميعا صوابهم إلا واحداً. وعولج آخرون ظاهرهم الصحة وفي دمائهم خبث المرض فتطهروا بعد الحمى من الداء الدفين النائم الذي قد يستيقظ يوماً من أيام العمر فيودي بصاحبه بعد أن يذيقه ألوان الشقاء.
وتتجه الأبحاث في الوقت الحاضر الى محو مرض الزهري وهو في أدواره الأولى قبل أن يستقر الميكروب في جثمان المريض ويتغلغل فيه الى حيث أصول الحياة ومنابتها، وقد لا يمضي عقد من الزمان حتى يمكن تأمين ملايين البشر من هذا البلاء الذي لا تزيده الأيام إلا انتشاراً، ففي أمريكا وحدها نحو من عشرة ملايين مسهم هذا الوباء، أما بالعدوى وأما بالوراثة. وفي مصر يفتك الداء في ذوي الخطايا والأبرياء على السواء، وهو في مأمن من الإحصاء.
وسوف تقوم دون انتشار هذا الجهاز الجديد عقبات، منها انه غالي الثمن فليس في استطاعة كل مطبب حيازته، ومنها انه معقد ككل جهاز في أول نشأته، ومنها أن التطبيب به ليس من الأمور اليسيرة إلا في أيد خبيرة قديرة، وبقوامة ممرضات لبقات صبورات تدربن خصيصاً لهذا العلاج الجديد. وهي كلها عقبات هينات عرفت حيلة الإنسان كيف تتخطى الألوف من أمثالها، وإنا لما تأتي به السنون لمرتقبون.(14/74)
القصص
كلبتي بلوتا
بقلم الأديب حسين شوقى
(من المظنون إن العبقرية لا تغيب طويلا عن (كرمة ابن هاني) فان البواكير التي تتفتح عنها قريحة حسين شوق في الشعر والقصص لابد أن تذكرها بمهبطها الاول ومألفها القديم. ولعلك واجد في هذه القصة الساذجة من رقة الحديث وخفة الأسلوب ما يبعث الأمل في هذا الظن)
إذا سقت إليك الحديث الآن عن كلبتى (بلوتا) فإنما هي حجة أصطنعها لأذكر فصلا من عهد الطفولة اللذيذة التي تنعش ذكراها النفس كأنما هي على حد تعبير المصريين القدماء: مكان رطب ظليل في يوم قيظ لافح. .
(بلوتا) كلبة إسبانية. حصلنا عليها في برشلونة أثناء المنفى، على سبيل الهدية. . وكان صاحبها من رجال السلك السياسي اضطرته المهنة أن يغادر إسبانيا الى بلد آخر بعيد، وكان يخشى ما تجره إليه بلوتا من متاعب أثناء الطريق، فرأى أن يهديها إلينا. .
قدمتنابلوتا بعد ظهر يوم من أيامالشتاء ضاح جميل، وكنا مجتمعين في الحديقة ننظر ذلك العضو الجديد في أسرتنا!
حقا! ما كان أجمل بلوتا بشعرها الأبيض الناصع ذى اللفائف المتعددة، لأنها كانت من النوع الذي يشبه الخراف في فروته. . .
وكانشعرها مقصوصا على شكل يحاكى لبدة الأسد، أرسلوه الى آخر الصدر ثم حلقوا النصف الباقي بالموسى. . وكان في عنقها طوق أحمر يبدو احمراره بين الخصل المكدسة من تلك الفروة القطنية. .
وكانت بلوتا في تلك اللحظة تمشى الهوينى في خيلاء وتيه كأنها تطلب منا أن نتأمل حسنها في أناة، أو ربما لم يكن في استطاعة المسكينة أن تمشى أسرع من ذلك لبدانة جسمها. . وقد سميت من أجل هذا بلوتا أي الكرة. .
وألفت بلوتا عشرتنا في أقصر مدة، حتى كانت تضايقنا بهذه الألفة. . إذ لم يعد في استطاعتنا أن نذهب الى أي مكان بدونها. وكان في إحدى ضواحي برشلونة متنزه جميل(14/75)
تتوسطه بحيرة حفت بالأشجار الكثيفة الملتفة فكنا نقصد هذا المكان في أيام الصيف فنتغذى على ضفاف البحيرة، فكانت بلوتا ترافقنا الى هذا المكان. . بل كانت تتقدمنا إليه في المسير. فإذا ما شاهدت الماء جن جنونها فتلقي بنفسها في البحيرة وتظل تسبح طول النهار رائحة غادية في عظمة وأبهة كأنما هي مدرعة تختال فوق عباب الأطلنطيق!
فإذا دعوناها الى الانصراف أبت مغادرة الماء، فكان لابد من الاحتيال عليها لاخراجها منه، وكانت أنجح الحيل معها أن نلوح إليها من الشاطئ بقطعة من السكر، لأنها كانت مولعة بأكله. فإذا خرجت لتلتهمه قبضنا عليها بسرعة!
لشد ما كانت بلوتا تعبد الماء!، إنها لتحملني على أن اصدق الرأي القائل بتقمص الأرواح! فليت شعري في أي نوع من السمك قد حلت روح بلوتا من قبل يا ترى؟
ألفت بلوتا كلاب الحي كذلك، حتى كان لها من بينهن العشاق الكثر. . لأن كلاب الأسبان ككلاب الشرق يملن أيضا الى الأجسام البضة!
وإذا كان لبلوتا (كما تقدم) شكل الأسد، فلم تكن لها أبدا شجاعته، فإنها كانت تولى الأدبار عندما يحتدم الشجار بين عشاقها (من أجلها) وتعود فتختبئ تحت سريري. .
والأمر الغريب إن بلوتا كانت على علاقة حسنة حتى مع القطط! كانت مثال التسامح صادقة الإيمان بمبادئ لوكارنو السلمية!
ولما كانت بلوتا بدينة الجسم فقد عولت ذات يوم على أن أجرب على جسمها التمارين الرياضية لاخفف من شحمها المتكدس، فكنت في صباح كل يوم أطرحها على الأرض ثم اشد يديها الى الخلف، ورجليها الى الأمام. . مرارا عديدة. . حتى تئن المسكينة من التعب والالم، وكلما كان والدي يراني منهمكا في ذلك، كان يلومني على عملي صائحا، ما أقسى طبيعة الطفل! أما أنا فكنت أفعل هذا لأنتقم لنفسي على حساب بلوتا المسكينة، مما كنت أعانيه من الشدة في التمارين الرياضية بمدرستي من أستاذها الألماني
ولشد ما كانت بلوتا ذكية أيضا!
كانت لها حجرة نوم تحتالسلم طولها متران في مثلهما عرضا. . وكانت الخادم تأتى كل ليلة الى الصالون حوالي الساعة العاشرة فتأخذها من بيننا لتذهب بها الى تلك الحجرة فتغطيها باللحاف، لأن ليالي برشلونة الشتوية قارسة البرد، فإذا أبطأت الخادم في بعض الليالي في(14/76)
الحضور، كانت بلوتا تذهب بنفسها الى حجرة نومها ثم تعود الى الصالون وفى فمها غطاؤها، وتظل منتظرة على هذه الحال حتى تحضر الخادمة فترافقها الى مضجعها!.
وكانت بلوتا تعبد الشكولاته! واليك ما صنعته بي ذات مرة: كنتأنا أيضا أحب الشكولاته. . فكنت اشتري منها كل يوم (لدى عودتي من المدرسة) بما قيمته عشرة قروش، لأن مرتبي لم يكن يسمح لي وقتئذ وا أسفاه أن أشتري بأكثر من هذه القيمة. . وكنت آكلها سراً حتى لا يشاركني فيها أحد. . ولكن بلوتا بذكائها الفطري العجيب كانت تدرك الأمر فتقف أمامي حينما تعرف إن القرطاس بجيبي، ولا تبرح مكانها حتى أناولها قطعة منه. . ففي ذات يوم كنت جالسا الى مكتبي، عاكفا على دراستي ولم أعطها في تلك المرة حصتها من الشكولاته، فلم يكن منها إلا أن دست يدها خلسة في جيبي فسرقت القرطاس وذهبت دون أن اشعر، فلما وضعت يدي في جيبي لأخرج قطعة من القرطاس لم أجده، ولكنني عرفت في الحال من هو السارق، فأسرعت الى السرير حيث اعتادت بلوتا أن تختبئ لأنقذ ما يمكن إنقاذه، فوجدتها ويا للأسف قد التهمته كله!. . وكانتالشكولاته قد لوثت ذقنها. . لقد غاظتني في ذلك اليوم لأنه كان يوم عطلة ولم يكن في استطاعتي أن اشتري قرطاسا آخر. . فلما انتهت الحرب الكبرى، وسمح لنا بالعودة الى مصر، أردنا أن نتعجل الرجوع الى الوطن المحبوب فاجمعنا الرأي على أن نركب أول باخرة تغادر أوربا، لذلك قصدنا البندقية لنلحق بباخرة إيطالية كانت تتأهب للسفر بعد أيام قلائل، ولما كان السفر طويلا شاقا على السكة الحديدية من برشلونة الى البندقية، فقد تركنا بلوتو عند بعض الأصدقاء في برشلونة ليرسلها إلينا في مصر على الباخرة التي تسافر من برشلونة مباشرة الى بور سعيد بعد شهر من ذلك التاريخ، وما كان أسعدنا وأسرنا حين جاءتنابرقية تنبئنا بوصول بلوتا الى بور سعيد!. هرع في مساء ذلك اليوم الى محطة القاهرة والدي وأخي وأنا لاستقبالها. . فلما وصل القطار إذا بنا نجد بلوتا سوداء اللون كأنها أحد عمال المناجم، لأن المسكينة قطعت المرحلة ما بين بور سعيد والقاهرة في عربة الفحم!.
عرفتنا بلوتو في الحال. . وكم كان سرورها عظيما! فكانت تارة تقبل أيدينا وطورا تجذب أرديتنا، ومرة أخرى تقفز في الهواء، على رغم بدانتها. . أما ركاب القطار فكانوا ينظرون إليها دهشين. . ولما عدنا بها الى المنزل استطاعت بلوتا بقوة شمها الحاد أن تعرف حجرة(14/77)
والدتي فقفزت الى سريرها بفحمها وغبارها فايقظتها، ولم تنج بلوتا في تلك الليلة من عقاب محتم إلا لفرط اشتياقنا إليها بعد غيبتها الطويلة!
ولكن مسرات هذا العالم وا أسفاه قصيرة المدى! كما يقول سرفانتس. . فانه لم تمض على بلوتا أشهر قليلة في مصر حتى مرضت مرضا شديدا اضطرنا الى قتلها كي تستريح مما كانت تكابد من عذاب وألم ثم دفناها بالحديقة تحت الشجرة الكبيرة بالقرب من السور الخلفي. . ثم حفرت اسمها وتاريخ ميلادها ووفاتها على شاهد من المرمر نصبته على قبرها. ومالك تستكثر على بلوتا الوفية الذكية هذا الإكرام وفى الكلاب ناس كما في الناس كلاب؟(14/78)
بلياس ومليزاند
للفيلسوف البلجيكى موريس ماترلنك
ترجمة الأستاذ حسن صادق
أشخاص القصة:
1. اركل ملك الموند
2. جنفييف أم بلياس وجولو
3. بلياس حفيد إركل
4. جولو
5. مليزاند
6. إينيولد الصغير ولد جولو من زوجه الاول
7. طبيب
الفصل الأول
المنظر الأول:
(غابة في وسطها ينبوع ماء بعيد الغور تجلس على حافته مليزاند - يدخل جولو)
جولو - أقحمني النزق تيه الغابة الكثيفة، وأخاف أن يعييني الخروج منها. . . الله يعلم الى أي مكان قادنيالجواد وهو ضال في جموحه! وقد جمعت فزعيفي يمناي وقدمي، ثم صببته في جروح قاتلة تفتحت في جسمه الملتهب، ولكنه أصر على الجموح وأسرف في الغضب، ولما ضللت الطريق أفلت مني وأمعن في الهرب. فقدت الجواد ويقيني أني هالك في هذا المكان الموحش. . . ستأكل الطير من رأسي وتلغ الضواري في دمي، ولن يعرف كلابي السبيل الي، سأعود الى البيت راجلا إذا اهتديت الى الطريق. . . ما هذا؟ أخرير ماء أسمع أم هنين بكاء؟ آوه! من هذا الراقد على العشب، المطل على صفحة الماء الهادئ؟ فتاة على حافة الينبوع تنوح! (يسعل) إنها لا تسمع صوتي ولا أرى وجهها (يقترب من مليزاند ويلمس كتفها) لم تبكين؟ (تنتفض مليزاند وتنهض مذعورة تريد الهرب). خلي عنك الفزع فلست مارداً وما أنا من الشياطين. لماذا تبكين وحدك في هذا(14/79)
المكان الموحش؟
مليزاند - ابتعد عنى! لا تقربني!
جولو - لا تخافي ولا تجزعي. لن يصيبك منى سوء. . . آوه! ما أجملك!
مليزاند - إليك عني أو ألقيبنفسي في الماء!
جولو - إني بعيد، بيني وبينك خطوة. أترينني؟ إني باق في مكاني أتحامل على هذه الشجرة. ولا تحزني ولا تخافي. هل أصابك مكروه أم رماك أحد بشر؟
مليزاند - أوه! نعم نعم! (ثم تتنهد تنهده عميقة)
جولو - ومن الذي أشقاك؟
مليزاند - كل الناس أشرار
جولو - وماذا أصابك؟
مليزاند - لا أريد أن أبوح به! لا أستطيع التعبير عنه!
جولو - كفكفي دموعك. أين مقامك؟
مليزاند - لقد هربت. . . نعم هربت!
جولو - أدركت ذلك. ولكن من أين هربت؟
مليزلند - ضللت الطريق. . . واصطلح علي الخوف والحيرة في سكون الغابة. لست من أهل هذا البلد، ولم أولد حيث تراني
جولو - من أي بلد تكونين؟ وأين مولدك؟
مليزاند - من بلد بعيد المزار
جولو - ما هذا الشيء الذي يشع في جوف الماء بريقا؟
مليزاند - أين هو؟. . . آه! إنه التاج الذي أعطاني إياه. . . لقد سقط في الماء أثناء بكائي
جولو - تاج؟! من الذي أهدى إليك تاجا؟ سأبذل جهدي في انتشاله
مليزاند - لا تفعل، لم أعد اشتهيه. تلاشت رغبتي فيه. متمناي الساعةأن أموت
جولو - هين علي انتشاله فانه من حيلتي قريب
مليزاند - ليس لي رغبة فيه، إذا انتشلته، ألقيت نفسي في مكانه
جولو - اطمئني بالا وقري عيناً. . سأنزل على مشيئتك، وأتركه في مستقره، في(14/80)
استطاعتي مع ذلك إخراجه من الماء بلا عناء! إنه رائع بديع! هل مضى على هروبك زمن طويل؟
مليزاند - نعم نعم. . . من أنت؟
جولو - الأمير جولو حفيد أركل ملك ألموند الشيخ
مليزاند - أوه! بدأ الشيب يدب في فوديك!
جولو - بعض شعرات بيضاء نثرها الزمن على رأسي
مليزاند - وعلى لحيتك أيضا. لماذا تحدق في هكذا؟!
جولو - أرنو الى عينيك. . . انك لا تغمضينهما لحظة واحدة!
مليزاند - أغمضهما في الليل.
جولو - مالي أرى الحيرة في لحاظك؟
مليزاند - أمارد أنت؟
جولو - إني بشر مثلك.
مليزاند - لم وطئت هذا المكان؟
جولو - أجهل ذلك الجهل كله. كنت أصيد في الغابة فرأيت خنزيرا وحشيا فانطلقت وراءه بجوادي. ولكني أخطأت الصيد وضللت الطريق. . . ماء الشباب يترقرق في وجهك، ما عمرك؟
مليزاند - بدأت أشعر ببرودة الهواء!
جولو - أتأتين معي؟
مليزاند - كلا سأبقى هنا.
جولو - من ضعف الرأي أن تبقى وحدك في وحشة الغابة ولن تستطيعي قضاء الليل في سكون يروع القلبويفزع النفس. . . ما اسمك؟
مليزاند - مليزاند.
جولو - تعالي نخرج من الغابة.
مليزاند - إني باقية.
جولو - ستخافين وحدك ظلمة الليل. ومن يدرى. . . ربما تكون الغابة ذات وحوش. . .(14/81)
الليل كله، وبمفردك؟! أقلعي عن عنادك وتفهمي قولي. هاتى يدك.
مليزاند - لا تلمسني.
جولو - لن ألمسك فلا تصيحي. سيكون الليل حالك السواد شديد البرد. تعالي معي
مليزاند - إلى أين أنت ذاهب؟
جولو - لا أدري. . . إني ضال مثلك (يخرجان).
المنظر الثاني:
(ردهة في القصر. إركل وجنفييف جالسان يتحدثان)
جنفييف - سأتلو عليك ما كتبه الى أخيه بلباس: (وجدتها ذات يوم عند الغبشتسكب الدمع الغزير على حافة ينبوعفي الغابة، إني اجهل عمرها وأصلها ولا أعرف لها وطنا. ولا أجرؤ على سؤالهالأنها نابية الطبع يستقر في نفسها الذعر الشديد، ويقيني أنها عانت أمرا أدخل على نفسها الاضطراب والهلع. وإذا سئلت عما حدث لها، استخرطت في البكاء دفعة واحدة وملأت الجو بالتنهدات العميقة التي تفرض على السائل الصمت والخشوع. وقد مضى على زواجي منها ستة أشهر، ولا أعرف اليوم من أمرها أكثر مما عرفت في ساعة اللقاء الأولى. ولكنى آمل أن أصل إلى ما أريد بعد وقت وجيز، وليس هذا ما يهمني يا بلياس، يا من أعزه أكثر من شقيق ولو أننا لسنا من صلب واحد، وإنما الذي يشغل بالي ويقض مضجعي هو أمر العودة الى أحضانكم والعيش بينكم كما كنت قبل الزواج. ولذلك أكتب إليك ضارعا أن تعبد لي الطريق. أعلم علم اليقين أن أمي تعفو عني فرحة مستبشرة. ولكنى أخاف إركل على الرغم من طيبة قلبه وسراوة خلقه، لا. . هدمت بهذا الزواج صروح أمله وخيبت فجأة كل خططه السياسية. وأخوف ما أخافه ألا يشفع لي الى حكمته جمال مليزاند وسحرها الحي، فإذا قبل بعد سعيك الجميل أن يستقبلها في بيته كما يستقبل ابنته، فأشعل مصباحا بعد أيام ثلاثة وضعه في أعلى البرج المطل على البحر، حتى أستطيع رؤيته من السفينة التي أقيم فيها مع زوجي. وإن رفض رجاءك فإني ذاهب الى نية بعيدة ولن تروني). كيف ترى؟
إركل - وماذا أقول؟ إن ما حدث يبدو غريبا لأننا لا نرى دائما إلا عكس ما يهيئه القدر. . . كان في كل حين يتبع نصحي، وقد اعتقدت أن زواجه من الأميرة (إرسول) يهيئ له(14/82)
أسباب السعادة، ولذلك تقدمت إليه أن يذهب الى أهلها ويخطبها إليهم! لم يكن في مقدوره ان يعيش منفردا، وقد ثقلت عليه الوحدة بعد موت زوجه، وحزت في جلباب نفسه الحزينة. لو تم هذا الزواج الذي كنت أرغب فيه لوضع حداً لحروب طويلة وأحقاد قديمة! لم يشأ ذلك. فليكن الأمر كما أراد. إنى لم أجعل من نفسي قط عقبة تعترض حظ إنسان، وهو يعرف مستقبله أحسن مني. وربما انتج عمله نفعا لا ندركه اليوم
جنفييف - كان في كل أدوار حياته حازما رزينا بعيد النظر، وقد وقف كل حياته بعد موت زوجه على ولده الصغير (راينيولد) لقد نسى كل شئ. . . والآن ماذا نصنع؟
(يدخل بلياس)(14/83)
الكتب
النجوم في مسالكها. . أدب جديد
للأستاذ محمد عبد الواحد خلاف
ليطمئن دعاة الجديد من كتابنا الأدباء فلست بمقاسمهم فخر نصر
أحرزه، ولا بمنازعهم فضل طريق شقوه، وليطمئن أنصار القديم فلست
بمنتقص تراثا عزيزا قدسوه، ولا عائب جمالا فتنوا به وألفوه، ولكني
مطلعهم على واد جديد من أودية الأدب تلتقي عنده وجهاتهم، ويجدون
فيه جميعا ما ينفع غلتهم.
سيجد فيه عشاق المعاني المبتكرة منبعا خصبا، ولا يعوزهم معه امتداد في الخيال أو سعة في التأمل أو عمق في التفكير، وسيجد فيه عشاق الصياغة البارعة، والأنغام الرنانة مشاهد سحرية تتجلى في وصفها بدائع صناعتهم، وآفاق خلابة يطيب فيها ترديد أنغامهم، ومسارح للجمال أشد استهواء وأروع تناسقا من كل ما مر بخاطرهم. ففيه مبعث التفكير ومهبط الوحي لمن كان عصى الابتكار، يضنيه تلمس الخيال، ويجهده أن يلد كل يوم جديد، وفيه ذخيرة الرأي ومادة الوصف لمن كان غنيا باللفظ والصياغة فقير المعاني، هذا الأدب هو ما أسميه أدب العلم.
وقد يبدو غريبا إمكان التزاوج بين العلم والأدب، فقد ألفنا أن نرى العلم سلكا من الحقائق الجافة يؤلف بينها منطق صارم دقيق، وألفنا لغة العلم مضغوطة جافة مشحونة بمصطلحات موضوعة تجعل بينها وبين الغريب عن العلم حجابا، وألفنا الأسلوب العلمي محبوكا لا يكاد يطل عليك من خلف عباراته روح إنسانية تفيض عليه الحياة، فهو جسم سليم الأعضاء تام التركيب، ولكنه ميت لا روح فيه، وهذا شر ما ضيق دائرة العلم وحصره في طائفة المشتغلين به.
والأدب؟ لقد ألفنا الأدب متمردا على مقاييس المنطق الجافة يحمل رسالته للقلوب لا للعقول، هو روح يفيض على كل مادة فيسبغ عليها حياة خالدة، هو نفس الأديب مقطرة تشف من وراء كل عبارة يسطرها، هو موسيقى الإنسانية تتجاوب أصداؤها في كل قلب،(14/84)
ومن أجل ذلك كان الأدب رسالة عامة يفهمها الناس جميعا ويطربون لها، فكيف التقى الأدب والعلم؟
إن الثقافة الحديثة هي التي قربت بين المتباعدين، وألفت بين المتنافرين، فلقد أنتجت كثيرا من العلماء المتأدبين، أو الأدباء العالمين، وقد وجد هؤلاء من حقائق العلم ما هو أعجب من أوهام الخيال، وبصروا بعين العلم مشاهد ترتد عنها العين غير العلمية كليلة لا تبلغ جمالها ولا تدرك ما فيها من فتنة.
وسمعوا بأذن العلوم موسيقى رائعة دقيقة لا تصل الى الأذان غير العلمية، ووصل العلم بين الماضي والحاضر، والقريب والبعيد، والحياة والفناء، والمادة والطاقة.
وسلك الكل في وحدة (كونية) تضاءلت أمامها الوحدة (الإنسانية) وطلع علينا أدب كوني أسمى وأروع وأبدع من الأدب الإنساني الضيق.
حطم الأدباء العالمون الحواجز التي كانت تعزل العلم عن الجماهير، وأسبغوا مواهبهم الأدبية على حقائق العلم فكسوها حلة فتانة قربتها للجماهير، فكانت غذاء لعقولهم وشفاء لقلوبهم. . .
وبين يدي مثل رائع لهذا الأدب العلمي هو كتاب (النجوم في مسالكها) الذي وضعه بالإنجليزية العلامة السير جيمس جينز، ونقله الى العربية صديقنا الدكتور أحمد عبد السلام الكر دانى.
هو سياحة في الكون على أجنحة الخيال العلمي، تعبر بك ملايين السنين والأميال وتنقلك الى عوالمه، وتقف بك عند السيارات والكواكب، وتخترق بك الشمس، وتريك أسرار كل هذه العوالم وستنسى نفسك وأنت تسبح مع الكاتب كما نسيت نفسي؛ ثم تؤوب منها كما عدت منها وقد امتلأت يقينا بجلال الله وعظمته، وشعوراً بقدرته وبالغ حكمته، وسترى كما رأيت مبلغ غرور الإنسان وهو ليس إلا هباءة حقيرة في جزء حقير من الكون! وتعجب كيف طوعت له نفسه أن يناصب العداء هذا الخالق العظيم الذي دبر هذا الكون الذي لا ندرك مداه فأحكم تدبيره.
ومالي أقطع عليك بالوصف لذة تلك السياحة وأنت لابد قارئها وواجد فيها ما وجدت. وفوق ما وجدت، ولقد وفق صديقي (الكر دانى) كل التوفيق في تعريب الكتاب فجاءت عباراته(14/85)
طلية واضحة دقيقة، ويبدو في كل صفحة من صفحاته مجهود في اللغة يهنأ عليه الأستاذ المعرب كل التهنئة.
ولن ينقص من قيمة هذا المجهود الكبير تلك الحملة الظالمة التي حملها كاتب مقنع في جريدة الأهرام على تعريب هذا الكتاب، وراح يتلمس عثرة للمعرب فلم يجد إلا بضعة ألفاظ عابها عليه وهى مفخرة له.
إن عبارة النقد تنم عن كاتبها وسوء نيته، وإني لأرجو أن يمر بها المعرب وتمر بها لجنة التأليف والترجمة والنشر مر الكرام، وسيجدون من أنصاف القراء وتقديرهم لهذا الكتاب القيم ما يكفيهم عناء الرد عليه.
أكرر التهنئة لصديقي (الكر دانى) وأرتقب مع القراء مجهودات أخرى له في الأدب العلمي الذي نفتقر إليه أشد افتقار.(14/86)
أربعون يوما من عام 1914
تأليف الجنرال موريس
ترجمة الضابط محمد عبد الفتاح إبراهيم
تأبى حركة الترجمة في مصر إلا أن تكون قوية عنيفةواسعة النطاق حتى تشمل كل نواحي الحياة وشتى ضروب التفكير، فهذه آيات الأدب الغربي الرائعة، وألوان العلم المختلفة تنقل الى اللغة العربية. ويطالعنا المصريون فيشاطرون العالم المتمدن علمه وأدبه، حتى لتكاد العقلية المصرية أن تندمج في العقلية الأوربية اندماجا تاما، ولم تقتصر حركة الترجمة على الآداب والعلوم، ولكنها امتدت فتناولت شعبا وأطرافا متنوعة دقيقة، نعم امتدت حركة الترجمة حتى شملت الثقافة الحربية أيضا! فهذا كتاب (أربعون يوما من عام 1914) وضعه بالإنجليزية الجنرال موريس ونقله الى العربية الضابط الفاضل محمد عبد الفتاح إبراهيم. وأول ما نلاحظه إن المعرب ضابط في الجيش!!
ولست أشك في أن القارئ يسيء الظن. كما كنت أنا أسيء الظن بضباطنا جميعاً من حيث الرغبة في الاطلاع والدرس. فنحن إذن نسجل الثناء للمعرب الفاضل مضاعفاً، فقد اثبت نشاطا أو ميلا الى النشاط العلمي بين ضباطنا، وهو فوق ذلك قد ساهم بكتابه هذا في حركة التعريب الشاملة بنصيب محمود.
والكتاب تاريخ دقيق لأربعين يوما من سنة 1914، تلك السنة التي رفع فيها الستار عن أكبر مأساة شهدها التاريخ، إذ انطلقت صيحة الحرب العظمى تدوي في أرجاء العالم دويا شديدا، فارتج منها رجة عنيفة امحّت في أثرها دول وأنشئت أخرى. ففيه تحليل للخطط الحربية التي رسمها الألمان والفرنسيون، فتشعر حين قراءته بالمهارة البارعة التي كانت تبدو من قواد الفريقين، فهي محاورة طريفة بين الألمان والفرنسيين على الحدود الغربية، أقرب الى مباريات اللهو واللعب منها الى أي شيء آخر: هذا يريد أن يأخذ خصمه على غرة ويحيط بجناحيه أو يغزو قلبه، وذلك يفسد عليه خطته بمهارة فائقة تدعو الى الإعجاب. ويخيل إليك وأنت تقرأ الكتاب أنك بصدد رقعة للشطرنج بين لاعبين، يكيد كل واحد منهما للآخر وينصب له الأحاييل (ولكن لم تكن وا أسفاه قطع ذلك الشطرنج من خشب أو عاج، وإنما كانت أرواحا بشرية تحصد حصدا بغير حساب) الكتاب لذيذ ممتع(14/87)
حقاً، وجدير بكل ضابط وكل مشتغل بالتاريخ ان يقرأه ويقتنيه، ولغة المعرب سلسة، فيها كثير من الدقة في التعبير والشرح، لولا بعض الأخطاء النحوية التي نؤاخذه عليها، وأظنها اكثر من هفوات يجوز أن تجتمع في كتاب واحد. نذكر قليلا منها على سبيل المثل: في صفحة52 وردت هذه العبارة: تسود الجنود روحا غريبة وصحتها روح غريبة. وفى ص 208 لم يكن ذو دراسة، وصوابها لم يكن ذا دراسة. وأمثال هذه الأخطاء كثيرة في الكتاب نرجو المعرب أن يتداركها بالتصحيح في الطبعة الثانية إن شاء الله، كما نرجو أن يكون اكثر دقة في تعريب الأسماء الجغرافية، فيذكرها كما هي شائعة معروفة في الكتب العربية ولا ينقلها حرفا بحرف، فمثلا في صفحة 38 ذكر مدينة باسل وهى تنطق بال بحذف السين، فذلك أكثر نفعا لقراء الكتاب.
ز. ن. م
28(14/88)
العدد 15 - بتاريخ: 15 - 08 - 1933(/)
بين النيل والاكروبول
إلى الشباب أسوق الحديث
رحلت إلى بعض بلاد الغرب وإلى بعض أمم الشرق فلم أجد شعبا كهذا الشعب هان وجوده على نفسه، وأنطمس تاريخه في ذهنه، فأعطى الضيم عن يد وهو صابر!!
أسرف في اللين حتى رمي بالجبن، وأمعن في التسامح حتى وصف بالبلادة، وأفرط في التواضع حتى نسى الأنفة، وبالغ في إكرام الغريب حتى أصبح هو الغريب!!
فليت شعري يا ابن العرب أو يا سليل الفراعين من أين داهمتك هذه الذلة؟!
نسب يزحم النجوم، وحسب يَطُول الدر، وماض كالشمس نفذ إلى كل أرض وسطع في كل أفق، وواد كرفرف الخلد زخر بالغنى وفاض بالنعم! فكيف لا يرفع رأسك هذا النسب، ولا ينصب صدرك هذا الماضي؟
مالك تمشي في أرضك خافت الصوت، خافض الجناح، ضارع الجنب، كأن النيل يجري لغيرك، وكأنما الآثار تتحدث إلى سواك؟!
لقد أصبحت في بلدك المنكود تحيا حياة الجسم كما يحيا الأجير والخادم، أما حياة الروح التي ينبض فيها القلب بعزة القومية وصلف الوطنية، فقد أماتها فيك الوباء الوافد من كل مكان!
إن إخوانك في سورية لا يحبون الغريب إلا صيفا، وان إخوانك في العراق لا يكرمون الأجنبي إلا ضيفا، أما الدود الذي يمتص الدم ويقذي العيون ويغثى النفوس فلا يجد مغذاه ومرواه إلا على النيل!! وليت الذي قاسمنا أنعُمَ الوادي الحبيب يذكر فضيلة الإحسان، ويشكر عطف الإنسان على الإنسان!! إنما يتمتع بخيرنا تمتع الغازي الفاتح، في يمناه سيفه، وفي يسراه قانونه، فإذا عاملناه احتقرنا، وإذا عاتبناه انتهزنا، وإذا ضج المغبون، أو صاح المسروق، أو صرخ الجائع، ضربه (الخواجة) ضربته، ثم استعدى عليه دولته!!
في أي بلد من بلاد العالم اليوم يأتي محام أجنبي، ليدافع عن مجرم من جنسه أجرم على هذا البلد، فيجد له القضاء في قلب قضاء هذا البلد، وقانوناً بجانب قانون هذا البلد، وقوة فوق قوة هذا البلد، ثم يقوم بين يدي قضاة من جنسه فيقول في بلاغة ديمستين وحماسة مَنْ، لا أدري:(15/1)
(أظهروا أيها السادة أنكم قضاة تنشقون هواء الأكروبول، وانكم لا تخوضون في ماء النيل العكر)
معك الحق كله يامتر بابا كوس! لقد تركت أثينا في اليونان ثم عبرت البحر فوجدت أثينا في مصر!! فالفنادق للروم، والمطاعم للروم، والمقاهي للروم، والمواخير للروم، ودور السينما للروم، وقاضيك من الروم، وجانيك من الروم، وبقالك من الروم، وحلاقك من الروم، وخادمك من الروم! وإذا طلبت الماء، أو أردت الكهرباء، أو ركبت الترام، أو دخلت البنك، أو قصدت المتجر، وجدت كل ذلك في أيدي أقوام سحنتهم غير مصرية، ولغتهم غير عربية!! فإذا سألت (مخالي) عن المصريين قال لك أنهم أجراء عند (خريمي) في المزرعة، أو سكارى عند (يني) في البار!! معك الحق كله يامتر بابا كوس أن تهين شعبا يسمع إهانته في كل يوم وفي كل مكان فيغضي ثم يمضي! وأي إهانة آلم وأشنع من (الامتيازات) وهي طعن في إنسانيته وقدح في كفايته وتجريح لعدله!! ولكن الحق يبرأ منك حين تقول وأنت وريث أرسطو ومِدْرَهُ أثينا إنك لم تقصد بهذه الجملة إهانة مصر، وإنما هي: (عبارة من عبارات البلاغة التي يستعملها المتكلم عادة) فلسنا من البلاهة بحيث يخدعنا عن جد الجريمة هزل الاعتذار!!
رحم الله أستاذنا المهدي! لقد كان يرى الرجل المتمدن يرمي الرجل المتمدن بالكلمة العوراء يندى لها جبينه، ويغلي منها دمه، فما هو إلا أن يقول الشاتم المتمدن للمشتوم المتمدن (سحبتُها) حتى يجف عرق الجبين، ويكف غليان الدم! فيقول الأستاذ بلهجته العربية:
(عجيب!! كلمة قيلت كيف تُسحَبْ! ولطمة أصابت كيف تُسترد؟!)
لا نريد من شبابنا أن يدفعوا البغي بالبغي، وإنما نريد منهم أن يفهموا الواغلين أن كدر النيل ليس من أهله، وأن الطريق الذي يسفي عليه الغبار والأقذار هو الطريق الذي فتحه لهم الاقتصاد المستعمر، فإذا ملناه ونظفناه عادت إلى نيلنا نقاوته، وإلى شعبنا كرامته
ليس على الأجنبي من حرج في أن يزاحمك في بلدك، فإنما جهاد الدنيا زحمة، وهو حين ينافسك ينافسك في حمى القانون، ويغالبك في حدود الطبيعة، وإنما الحرج كله عليك إذا ظللت تشتري وهو يبيع، وتغرم وهو يغنم!!
نضَّر الله الشباب العاملين!! لقد أخذوا يَجْلون عن وجه مصر الجميل غيرة القرون وذلة(15/2)
الأحداث وإهانة الدخيل! نزلوا ميدان الاقتصاد جنودا متطوعين، وعمالا متواضعين، فعرفوا أين تكون المعركة الفاصلة بين الاستعباد والحرية، وبين الاستعمار والحق، وشقوا الطريق القاصد إلى إنقاذ مصر من احتلال دولي شديد الخطر قبيح الأثر لإتكائه على العدل واعتماده على القانون
إن (عيد الوطن الاقتصادي) و (مشروع القرى) و (تعاون الشباب) و (تعاون الطلبة) و (جماعة تمصير مصر) وشركات الدخان والألبان والإعلان والجزارة والمقاهي. . . فتح مبين في جهاد مصر الفتاة، وإن تَحَلَل الشباب المثقفين من ربقة التقاليد وإسار العرف فلا يرون غضاضة في أن يقيموا المشارب والقهوات في مولد النبي ومولد الحسين يكونون فيها الطهاة والباعة والنُّدُل والمديرين، لهو تحلل لحاضر الطموح الناهض، من قيود الماضي القنوع العاجز. وليس على أولئك الشيوخ الذين مكنوا بجمودهم وقعودهم للأجنبي فطغى بيده، وبغي بلسانه، إلا أن يطووا معهم هذه الصفحة المخزية من تاريخ مصر، ويتركوا الشباب يجدد ما بلى، ويدعم ما وهى، ويسد ما خلَّ
إن شطط المبشرين قد انقلب إلى تبشير بالإسلام ودعاية إلى المؤسسات الخيرية، فهل تنقلب سفاهة (الممتازين) إلى إعزاز القومية المصرية، وتحقيق الأماني الوطنية؟؟
احمد حسن الزيات(15/3)
لغو الصيف
للدكتور طه حسين
أيهما خير ياآنسة؛ أن نفترق الآن لنلتقي غدا، أم أن نظل كما نحن رفيقين في السفر والإقامة؟ قالت: بل أن نفترق لنلتقي بعد شهرين في القاهرة أو بعد شهر في باريس. وحسبنا أن قد أقمنا معاً أسبوعاً كاملا في هذه المدينة من مدن البحر نلتقي إذا أصبحنا، ونلتقي إذا أمسينا ولا يفرق بيننا إلا الليل، قال: فإنك إذا قد سئمت هذا اللقاء وطال عليك أمده، وأخذت تودين لو فرقت بيننا النوى دهرا طويلا أو قصيرا! وما رأيك في أني بعيد كل البعد عن هذا السأم، كاره كل الكره لهذا الفراق الذي تحبينه وتطمحين إليه؟ قالت: لك أن تفهم رأيي كما أحببت وأن تقدره كما شئت، وأن ترضى عنه أو تسخط عليه، فمن المحقق أني لم أره لك وإنما رأيته لنفسي، ومن المحقق أني لم أعلنه إليك إلا وأنا محتملة لنتائجه عالمة بموقعه من نفسك وتأثيره فيها، ولن يغير من رأيي ما تبدى وما تعيد، فقل لي: إلى اللقاء ودعني أهيئ أمري فقد دنت ساعة السفر، قال: ما شككت في أن ساعة السفر قد دنت، ولكن الذي أشك فيه هو أن دنو هذه الساعة يضطرنا إلى أن نفترق، فقد نستطيع أن نسافر معا كما أقمنا معا. قالت: فإني لا أريد. قال: ما رأيت كاليوم ظرفا ولا رفقا ولا حسن مودة للأصدقاء، سنفترق يا آنسة ما دمت حريصة على هذا الفراق فهل تأذنين في أن أصحبك إلى القطار. قالت: ولا هذا فإني لا أحب هذا الوداع السريع البطيء في وقت واحد. ولا أحب أن يفترق الناس لأن قوة غريبة عنهم تكرههم على أن يفترقوا فلنفترق منذ الآن واكتب إلي، ولعلنا نستطيع أن نلتقي في باريس. فان أعيانا ذلك ففي القاهرة متسع للقاء المتصل والحديث الطويل. ثم صافحته في قوة وعلى وجهها ابتسام يشبه العبوس، وفي وجهه عبوس يشبه الابتسام.
ولم يكد يقبل المساء حتى كانت ماضية في قراءتها لا يصرفها عنها شيء، كما كان قطارها السريع ماضيا في سيره لا يقفه عنه شيء وكانت حركة الناس من حولها لا تسكن، وحديث الناس من حولها لا ينقطع، وأصوات الناس من حولها لا تهدأ. ولكن شيئا من ذلك لم يكن ليلهيها عن هذا الكتاب الذي غرقت فيه. حتى إذا انتهت بها القراءة إلى شيء من الجهد والإعياء، ووضعت كتابها لتستريح ورفعت رأسها تجيل الطرف فيما حولها لم يرعها إلا(15/4)
صديقها الأديب جالسا أمامها جلسة المتأدب الخاضع الذي ينتظر أن يفرغ سيده له ويلتفت إليه. فلما رأته لم تدهش ولم تنكر، ولكنها أظهرت ضيقا به وغضبا عليه، وقالت في لهجة حازمة: أتعلم أني أكره هذا النوع من اللعب، وأنك توشك أن تغيظني وتحفظني وتصرفني عنك إن مضيت فيه؟ قال في صوت خافت غير مطمئن: أعلم ذلك حق العلم وآلم له أشد الألم، ولو استطعت أن أكون عندما تحبين ما أثقلت عليك، ولا ترددت في طاعتك، ولا تحولت عما يرضيك. ولكن ما رأيك في أني لا أحب أن أموت، قالت ولم تملك نفسها من ضحك غالبته فغلبها: لا تحب أن تموت؟ قال نعم لا أحب أن أموت، ألم تفهمي بعد؟ قالت: ومتى رأيتني أحل الألغاز؟ قال: والغريب أنك قد عاشرت الفرنسيين فأطلت عشرتهم وأتقنت لغتهم وآدابهم الرفيعة والشعبية حتى كأنك واحدة منهم. فكيف يغيب عنك ما يتحدثون به كلما هموا برحيل أو فراق، وهل تعلمين شعراً وجد عددا ضخما من الرواة، تختلف طبقاتهم وتتفاوت منازلهم كهذا الشعر الذي ينشده الفرنسيون كلما هموا أن يفترقوا إنما السفر ضرب من الموت بالقياس إلى المحبين، قالت: وقد نسيت غضبها واطمأنت إلى طبعها، وخرجت من التكلف ولاءمت بين حديثها ومظهرها، وبين ما وجدت من الغبطة بلقائه الذي كانت ترجوه، والذي كانت تغضب وتحزن لو لم تظفر به، فأنت إذا تريد إلى هذا اللغو من الحديث، قال أنت تزعمين أنه لغو أما أنا فأراه الجد كل الجد، والحق كل الحق. ولولا أن السفر ضرب من الموت لما كرهه المحبون، ولا سخط عليه الشعراء، ولا تغنوا آلامه وأحزانه. ولولا أن السفر ضرب من الموت حين يفرق بين الناس لما رأيتني الآن في هذا المكان بعد أن افترقنا على أن لا نلتقي حتى يمضي شهر أو أكثر من شهر.
ولكني فكرت بعد أن افترقنا، فرأيت أني ميت بالقياس إلى كل الأصدقاء الذين تركتهم في مصر، مهمل بالقياس إلى كل هؤلاء الناس الذين كانوا حولي في نيس، والذين سألقاهم في باريس، وأني لاحتفظ من الحياة إلا بشعاع ضئيل، هو هذا الذي أحسه حين أصحبك وأسمع لك وأتحدث اليك، فشق علي أن أجود بهذا الشعاع، وأن أسلم نفسي للموت المطبق والإهمال المطلق شهراً وبعض شهر، ولولا خوف الموت والضيق بالإهمال ما خرجت عن طاعتك ولا خالفت عن أمرك، ولا عرضت نفسي لهذا الغضب اللاذع وهذه الثورة المهينة. قالت: فقد عدت إلى ذكر الغضب والثورة كأنك تريد أن أنكرهما أو أعتذر منهما أو أنبئك(15/5)
بأني تكلفتهما تكلفا، واصطنعتهما اصطناعا. قال: لا تنكري شيئا ولا تعذري من شيء، فأنا معترف بأني ملح، وأنا معترف بأني مثقل في الإلحاح، ولكنك تعودت احتمالا لهذا الثقل، وتجاوزا عن هذا الإلحاح، فدعي حديثهما وحديث الغضب والثورة، وحدثيني عن هذا الكتاب الذي لم تكادي تقبلين عليه حتى ألهاك عن كل شيء، وصرفك حتى عن هذه المناظر البديعة الخلابة التي تعرضها عليك الطبيعة عرضا سريعا أثناء سير القطار. قالت: هذا كتاب تعجب إن عرفت أني أقرأه للمرة الخامسة، فأنا لا أعرف كتابا أهون ولا أيسر ولا أمتع ولا ألذ من هذا الكتاب أثناء السفر الطويل، أو حين يلح على الحزن الثقيل. هذا كتاب من كتب كورتلين، قال: هو كتاب (قطار الساعة الثامنة والدقيقة السابعة والأربعين) قالت: هو ذاك، قال: فإني لم أقرأه خمس مرات، لكني قرأته ثلاثا، ولولا أني علمت أني سأصحبك في القطار لقرأته للمرة الرابعة! فأنا مثلك معجب بهذا الكتاب إعجابا لا حد له، والغريب أني لا أدري بماذا أعجب من هذا الكتاب! بمعانيه أم بألفاظه أم بأسلوبه، أم بهذه الصور الرائعة التي يعرضها علينا في غير انقطاع؟ أم بهذا كله مما أعرفه، وما أحسه دون أن أعرفه، فهذا الكتاب عندي آية من آيات الأدب الفرنسي. قالت: وعند كثير من الفرنسيين أيضا، وإذا لم تكذبني الذاكرة فقد كان أناتول فرانس مشغوفاً به شغفاً عظيما، لست أدري أكان يعده بين آيات الأدب أم لا. وأني لأرجو أنه لم يضعه بين هذه الآيات فقد كان أناتول فرانس يضيق بآيات البيان ويرى أنها ثقيلة مملة، وليس في هذا الكتاب شيء من الثقل ولا الإملال. قال: ومع ذلك فان في هذا الكتاب ألفاظا لا تكاد تحصى وجملا لا يكاد يبلغها العد، وكلها خارج على النحو الفرنسي، مخالف لأساليب البيان المألوف. قالت: فهذا مظهر من مظاهر الجمال في هذا الكتاب، ومصدر من مصادر الإعجاب به، وسبب من هذه الأسباب التي تضطرنا إلى مراجعة النظر فيه. وما رأيك لو أن كورتلين أنطق أبطاله بهذه اللغة الفرنسية الفصحى، وأجرى على ألسنتهم هذه الجمل الأدبية الرائعة التي تجدها في كتب كورتلين نفسه وفي كتب غيره من الأدباء؟. إذا لما وجدت في الكتاب لذة كهذه اللذة التي أجدها الآن، ولعلي أن أعجز عن المضي في قراءته إلى آخره فضلا عن أن أقرأه مرات. إن للغة الفصحى خطرها وقيمتها، وهي مقياس البيان وظرف الأدب، ولكنها قد تسخف وتسمج إذا جرى بها لسان هذا الجندي الذي اتخذه كورتلين بطلا لقصته.(15/6)
قال: هذا حق ومهما أنس فلا أستطيع أن أنسى هذه الجملة الطريفة التي يرددها جندي كورتلين كلما وقف موقف الحرج أمام الكابتن: ` فلولا هذه اللحنة الظريفة الشائعة، التي تجري بها ألسنة العامة من الفرنسيين والتي أذاعها كورتلين، حتى تفكهت بها الخاصة لما كان لهذه الجملة موقع في النفس حسن، ولا منزل من القلب عجيب. قالت: وكل كلام الجندي وكلام رفاقه ظريف محبب إلى النفوس لأن ما فيه من اللحن والتواء الأسلوب يصور روح الشعب كما هي صريحة مستقيمة لا غموض فيها ولا التواء. قال فأنت إذا من أصدقاء اللغة العامية وأنصارها، وماذا لو عرف أعلام البيان في مصر عنك هذا الرأي؟. قالت: لا أصنع شيئا فليس يعنيني أن يعرفني أو ينكرني أعلام البيان في مصر أو في غير مصر. وما تعودت قط أن أرى الرأي فاسأل نفسي عن حظه من رضى الناس أو غضبهم. قال: قد علمت ذلك حق العلم وجربته حق التجربة، ولم تمض ساعات على هذه التجربة اللذيذة الأليمة معا. ألست قد زعمت لي؟ قالت: لم أزعم لك شيئا! فلا تعبث ولا تفسد علينا بهذا الاستطراد ما نحن فيه من الحديث، لست من أصدقاء اللغة العامية، ولكني لست من أعدائها. وما أذكر أني كتبت شيئا باللغة العامية، وما أظن أني سأكتب بها شيئا؛ لأني لا أحب ذلك، ولو أحببته ما قدرت عليه. ولست أرضى أن تصبح اللغة العامية لغة البيان الأدبي، ولا أعطف على كاتب يتعمد الكتابة بها ويتخذها ترجمانا لما يريد أن يعرضه من الخواطر والآراء، ولكني على هذا كله لا أستطيع أن أمحو هذه اللغة، ولا أستطيع أن أنكر أن لها جمالا تنفرد به أحيانا وتعجز عنه اللغة الفصحى. ولا أستطيع أن أمحوها من قلوب الأشخاص الشعبيين وأضع مكانها اللغة الفصحى، وأوفق مع ذلك إلى تصوير هؤلاء الأشخاص الشعبيين تصويرا صادقا كل الصدق، جيداً كل الجودة، متقنا كل الإتقان. قال وهو يبتسم ابتسامة ملؤها المكر والخداع: ألا تعجبين أن ينتهي بنا الحديث عن كورتلين إلى الحديث عن توفيق الحيكم؟ قالت: ومن توفيق الحكيم؟ ما سمعت به قبل اليوم!. قال: فأنت إذا من أهل الكهف. قالت: وأي عجب في أن أكون من أهل الكهف، ومتى زعمت لك أني أعرف الناس جميعا أو أقرأ للناس جميعا؟!. قال فان أهل الكهف عنوان قصة لتوفيق الحكيم هذا الذي لم تعرفيه ولم تسمعي به، وأؤكد لك أني اكره لك هذا الجهل. فتوفيق الحكيم شاب خليق أن يعرف، ومن العيب كل العيب أن يجهله أديب(15/7)
شرقي. ولكنك قد أقررت على نفسك بأنك من أهل الكهف فلا لوم ولا تثريب. قالت: قد أقررت وأنا خليقة أن ألام فأنبئني عن توفيق الحكيم، وكيف انتهينا من حديث كورتلين إليه، وأي سبب بين هذا الشاب المصري وهذا النابغة الفرنسي؟ قال: بينهما سبب لا أدري الآن ما هو، ولعله أن صدقت الظنون وتحققت الآمال أن يكون التفوق والنبوغ، ولعل الله قد أذن لمصر أن يكون فيها كورتلين كما كان في فرنسا. قالت: فإني لا أحب الإطالة، ولا أحب الالتواء، فأوضح وأبن عما تريد. قال توفيق الحكيم يا آنسة شاب مصري، ظهر فجأة بقصة تمثيلية أنت أحد أشخاصها. قالت: أنا أحد أشخاصها! ماذا تقول؟ قال: نعم! لأن أشخاصها أهل الكهف، ولست أريد أن أطيل في تقريظ هذه القصة. وإنما أقول أني قرأت في هذا العام قصصا تمثيلية كثيرة ظهر بعضها بالفرنسية، وبعضها بالإنجليزية، وبعضها بغير هاتين اللغتين. وترجم أليهما أو إلى إحداهما، فكانت قصة أهل الكهف هذه خير ما قرأت من هذه القصص كلها وأحسنها موقعا من نفسي، وأشدها إثارة لإعجابي. ولست أدري أمعجب أنا بموضوعها أم بأسلوبها السهل، أم بألفاظها الساذجة أم بتحليلها الدقيق أم بهذا كله، ولست أشك في أن إعجابي بها سيضاعف منذ اليوم لأنك أحد أشخاصها. ومن يدري لعلك برسكا التي صورها توفيق الحكيم! قالت: وقد ضاقت بهذا المزاح: لو كنت برسكا لما جهلت مبدعي! قال: كم بين الناس يعرفون مبدعهم؟ قالت: وقد كتب صاحبك هذه القصة باللغة العامية؟ قال: لا، بل بلغة لا تبعد كثيرا عن العامية. وليست هذه القصة هي التي ذكرت حين تحدثنا عن كورتلين، فان لتوفيق الحكيم قصة أخرى غير تمثيلية سماها عودة الروح. والغريب أن أهل الكهف ظفرت أول الأمر بإعجاب الشباب والشيوخ جميعا. فلما ظهرت عودة الروح تنكر لها بعض أعلام البيان في مصر، ودعا هذا التنكر بعضهم إلى أن يراجعوا إعجابهم بأهل الكهف فيخففوا منه ويقتصدوا فيه. أما الشباب فأضافوا إعجابا إلى إعجاب، ورضى إلى رضى وبدءوا يتخذون هذا الكاتب الشاب قدوة لهم ومثالا. قالت: وماذا ينكر أعلام البيان من عودة الروح؟ قال لغتها، فهي ككتاب كورتلين أبطالها شعبيون فينطقهم المؤلف بلغة الشعب. ولعله يغرق في ذلك بعض الشيء، وأعلام البيان يكرهون ذلك ويحرصون على إلا تظهر آيات البيان إلا في اللغة الفصحى، وهم يضنون بهذا الشاب على أن ينفق جهده الخصب ويضيع وقته العزيز في هذه اللغة(15/8)
المبتذلة، قالت: ولكن القصة نفسها ما رأيهم فيها؟ فليست القصة ألفاظا خالصة ولا معاني خالصة، وإنما هي قوام من الألفاظ والمعاني، ولا بد من أن يستقيم لها جمال اللفظ وجمال المعنى، فهب ألفاظها رديئة عند أعلام البيان فما حكمهم في معانيها؟ قال: قرأها بعضهم لم يظهر رضى ولا سخطا، ولم يستطع بعضهم الآخر أن يقرأها فعابها لأن لغتها العامية صرفته عن قراءتها. قالت: فهذا بخل بالإنصاف وتجاوز للقصد، وقد شوقتني إلى أن أقرأ هذين الكتابين، ولكن هلا حدثتني عنهما حين كنا في القاهرة. قال ومتى حدثتك في القاهرة عما كنت أريد أن أحدثك عنه، إنما نلتقي فتمضي الأحاديث بيننا كما تريد هي لا كما نريد نحن، ولولا أني سألتك عن هذا الكتاب الذي تقرئين لما جرى بينك وبيني ذكر لتوفيق الحكيم، وهل فرغنا من الحديث عن أنفسنا لنتحدث عن هذا الأديب الجديد. قالت: كم كنت أحب أن اظفر بكتابيه لأفِرَّ إليهما منك ومن نفسي فقد يخيل إلي أنا نسرف في الحديث عن أنفسنا ونغلوا في الإعراض عن غيرنا. وقد يخيل إلي أن بين هؤلاء الكتاب الناشئين من هم أحق بعنايتك وعنايتي من هذا اللغو الذي نخوض فيه كلما التقينا. قال: وعلى ذكر كورتلين وتوفيق الحكيم، ما رأيك في هذا الكتاب الفرنسي الجديد الذي كثر الكلام فيه، واختلف فيه أدباء فرنسا كما اختلف أدباء مصر في كتاب توفيق الحكيم؟ قالت: وما ذاك أيضا؟ قال ماذا، ألم تقرئي كتاب سيلين الذي سماه سياحة في آخر الليل؟ ألم تقرئي ما كتب النقاد حول اللغة التي ألف فيها هذا الكتاب؟ قالت لا، قال وهو يضحك: معذرة فقد أنسيت أنك نائمة، وأنك من أهل الكهف. قالت: وقد رمته بكتابها مغيظة منه محنقة عليه: هبني نائمة فما لك لا توقظني وما اختلافك إلي في القاهرة، وما لزومك لي في نيس، وما مرافقتك لي في هذا القطار على كره مني. قال وقد أغرق في الضحك: إنما رافقتك في القطار يا آنسة لاوقظك، ولأخرجك من الكهف، ولأنبئك بأن في مصر شابا يقال له توفيق الحكيم كتب قصة يقال لها أهل الكهف، وأخرى يقال لها عودة الروح. وبأن في فرنسا أديبا جديدا يسمي نفسه سيلين، وقد أظهر كتابا أسماه (سياحة في آخر الليل) اختلف الناس فيه اختلافا كثيراً. قالت: فيم اختلفوا قال: في لغته فهو أيضا مسرف في حب العامية، وأنا معجب بكتابه إعجابا شديداً، مبغض للغته بغضا شديداً لأنه يتعمدها تعمداً ولا تدفعه اليها الحاجة ولا الضرورة ولا الرغبة في التصوير الصادق والتعبير الصحيح. وكل هذه الكتب(15/9)
عندي أستطيع أن أعيرك إياها لتقرئي وتحكمي ثم لنتحدث بعد ذلك. قالت: فابدأ بقصة أهل الكهف فأعرني إياها منذ الآن فسأنفق ليلتي بينها وبين كورتلين. قال: ولكن أليس خيرا منها ومن كورتلين ان ننفق ساعة أو بعض ساعة؛ لا أقول في الحديث فقد يظهر انك سئمته وضقت به؛ وانما أقول في العشاء فإني اسمع جرس الخادم يدعو اليه؟!(15/10)
الاشعاع
للأستاذ احمد أمين
كتب أخي الدكتور احمد زكي في مجلة الرسالة مقالا ممتعا في الإشعاع في (باب العلوم) تكلم فيه عن اشعاع الشمعة والنجوم والشمس والإشعاع اللاسلكي وموجات الضوء واختلافها، فأوحت مقالته إلي معاني في الإشعاع النفسي.
ان للنفوس والعقول إشعاعات لا تقل جمالا عن إشعاعات النجوم والكواكب، نشعر بها وقد لا نستطيع التعبير عنها، وهي أشد غموضا وتعقدا من الإشعاع الحسي، وهي مختلفة أكثر من الاختلافات بين أشعة الألوان من حمراء وبنفسجية وتحت الحمراء وفوق البنفسجية وما بين ذلك، وهي مختلفة في القوى أشد من اختلاف المصابيح الكهربائية، فلئن كانت قوة المصباح شمعة أو شمعتين أو ألفا أو ألفين فللنفوس قوى تختلف إلى ما لا نهاية له صغرا وضآلة، والى ما لا نهاية له عظمة وسناء
لعلك تشعر معي أنك ترى الرجل أو تحادثه أو تجالسه أو تسمع لمحاضرته فيشع عليك نوعا من الاشعاع يخالف الآخر قد تحسن التعبير عنه وقد لا تحسن، فهذا يشع عليك سرورا وأريحية واطمئنانا، وهذا يشع حزنا ووجدا ورقة وحنانا، وذاك يشع هيبة وجلالا ووقارا، وآخر يشع ضعة وذلة وهوانا، وقد تحس من رجل بنوع من الأشعة تدركه وتستطعمه، ولكنك لا تستطيع وصفه كما إذا أكلت كمثرى وتذوقتها وأردت أن تصف طعمها لمن لم يذقها.
في الناس من إذا جالسته أشع عليك نورا أضاء لك ما بين جوانبك فأدركت نفسك، وأشع نورا على العالم الذي حولك فتبينته وعرفت محاسنه ومساوئه، وأدركت مكانك منه، ورأيت كل شيء حولك صافيا لينا كأنك تنظر اليه من مصباح (المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار).
وفي الناس من يجالسك فتتلقى منه أشعة مظلمة تنقبض لها نفسك وتظلم جوانبها وتحس بميل إلى الفرار منها، وتتنفس الصعداء إذا بعدت عنها ونجوت من ظلامها وخرجت إلى النور.(15/11)
قديما قالوا: (ان وردة عمر أهيب من سيف الحجاج) ذلك لأن عصا عمر معها يد عمر ومعها نفس عمر، وهي تشع جلالا وعظمة وتخضع أمام أشعتها نفوس الجبابرة، ويحس كل من وقعت عليه هذه الأشعة أنها صادرة من مستودع قوي دونه المصباح الكهربائي، البالغ ما وصل اليه العلم من القوة، وأما سيف الحجاج فمعه نفس الحجاج، وهي تشع من غير شك قوة، ولكنها قوة على الجسم لا على الروح، قوة تخاف وتُرهب ولكن لا تُحترم ولا تحب، أشعة عمر كانت تطاع سرا وعلنا، وأشعة الحجاج تطاع علنا لا سرا، لذلك كفت عمر عصاه، ولم يغن الحجاج سيفه
هذا الاشعاع هو السر في أنك تلي عظيما فيملؤك أثرا ويملؤك قوة، بهيئته، بنبرات صوته، بطريقة تعبيره، بنظراته، بإشاراته، بهزة رأسه، بحركة يديه، فكان في كل عمل من هذه الأعمال يوصل بينك وبينه تيارا كهربائيا قويا يهزك هزا عنيفا. قد لا يحدثك طويلا، وقد لا يكون لكلامه في الواقع قيمة ذاتية، ولكنه يوقظ نفسك ويحيي روحك، وتبقي رنات كلماته في الأذن الأيام والليالي، تعمل عملها في هدوء حينا وعنف حينا، وأصدقك أني لقيت عظيما من هذا النوع يوما فخرجت من عنده مملوءا حماسة وقوة وحياة، حتى إذا بلغت إلى محطة الترام لأركبه إلى مسافة بعيدة عفت الركوب لأنه يبعث على السكون ونفسي ثائرة، والمشي في شدة القيظ ظهر أنسب لها وأكثر اتفاقا لما هي فيه من نشاط وقوة. إذا ذكرت الآن كلامه لم أجده ذا قيمة، وكثير من الناس يتكلمونه ويتكلمون خيرا منه وأسمى وأعمق، ولكن أحدا منهم ليس له هذا الاشعاع ولا قوته وعظمته. وحدثني من أثق به أن الأستاذ جمال الدين الأفغاني كان يرتطن عجمة، ولم يكن فصيح اللسان ولا سلس القول، ولكن تجلس معه فيشعلك نارا دونها فصاحة الفصيح وبلاغة البليغ، لانها النفس مستودع كهربائي قوي يصعق أحيانا، ويضيء أحيانا، ويدفع للحركة أحيانا
والرجل العظيم، أو الكاتب الكبير، أو المؤلف القدير، يخرج ما ينتجه كتلة من الأشعة من جنس نفسه. ألست تقرأ المقالة أو الكتاب فيشع عليك معاني مختلفة، منها الهادئ الرزين، ومنها القوي المتين، منها المضحك، ومنها المبكي. منها الذي يأخذ بيدك فيحلق بك في السماء، ومنها ما يدفعك إلى الحضيض، وآية هذا الاشعاع أنك تقرأ المقالة أو الكتاب فيبعث عندك من المعاني ما لا تدل عليه الألفاظ، من طريق الحقيقة ولا المجاز، بل ما بين(15/12)
السطور يشع كالسطور نفسها، أولست ترى مقالة الاشعاع في باب العلوم أَشَعَّتْ عليَّ معاني في باب الأدب؟
ليسم هذا علماء النفس تداعي المعاني، أو ليسموه إيعازا أو اقتراحاً أو ليسموه ما شاءوا، فليست الا إشعاعات نفسية من جنس الإشعاعات التي يشعها الأشخاص في كلامهم وحديثهم وحركاتهم فتلقف منها من المعاني ما يقرب وما يبعد. وفي الأماكن كذلك أشعة مختلفة، فشارع عماد اليدن يشع رغبة في اللهو وميلا إلى مسرات الحياة، والمساجد تشع ميلا للعبادة وتمجيدا لله، والبحر الجليل يشع عظمة وجلالا، ونجوم السماء تشع حسنا وجمالا، والبنك يشع حبا في المال، والجامعة تشع حباً في العلم، بل وكل بلد يشع نوعا من الأخلاق، وإلا فلم يذهب المصري إلى إنجلترا وقد اعتاد الفوضى في حياته ومواعيده وصحوة ونومه، فما هو الا أن يطأ أرضها حتى ينقلب خلقا آخر دقيقا في نظامه، دقيقا في معيشته؟ ويذهب المصري إلى ألمانيا فيكون في بيئة علمية فيشرب من مشربهم ويسير سيرتهم، فإذا عاد هذا وذاك إلى مصر عادا سيرتهما الاولى، ما هو الا الجو النفسي تلقى فيه أشعة نفسية مختلفة الاثر، مختلفة الألوان
ومن قوانين هذا الاشعاع النفسي أنه في كثير من الاحيان يعتمد على الفاعل والقابل معاً، واعتماده على القابل أبين فيه من الاشعاع الحسي، فاللون الأبيض أبيض عند كل الناس، والأحمر أحمر عند كل الناس، الا من أصيب بعمى اللون، وليس كذلك الاشعاع النفسي، فالخطيب يخطب وإشعاعه يختلف باختلاف السامعين، والكلمة قد تهدي ضالا وقد تضل هادياً، كما يقول المثل الإنجليزي (إن الليل الذي يغمض عين الدجاج يفتح عين الخفاش) وهذا هو السبب في أنك تستخف روح إنسان وغيرك يستثقله، وتعجب بقول متحدث ومن بجانبك يستسخفه، وتتفتح نفسك لكتاب وغيرك ينقبض منه، ما هذا الا لأن الاشعاع الواحد يختلف باختلاف من وقع عليه الشعاع، وإن هناك تفاعلا قوياً بين مصدر الاشعاع وقابله، ومن أجل هذا قد ترى لصا في مسجد وعابدا في حانة.
وموسى الذي رباه جبريل كافر ... وموسى الذي رباه فرعون مرسل
والأرض يمطرها السحاب، فمنها جنان ناضرة، ومنها صحراء مجدية قاحلة، والنار تضيء للساري فيهتدي وللفراش فيحترق(15/13)
لقد أثبت العلم الاشعاع اللاسلكي وأصبحنا نسمع الآن من الراديو أصوات الموسيقى في أوربا، وسنسمعها من أمريكا، وسنسمعها من أنحاء العالم، ومعنى هذا أن في جو مصر تموجات من أوربا وأمريكا وأنحاء العالم، وإذا كان هذا في المادة فإشعاع النفوس أبعد مدى، وأنفذ شعاعا، وأسرع سيرا. وإذا كان في حجرتي أمواج هوائية من مناحي العالم يظهرها الراديو، فان في حجرتي ملايين واكثر من الملايين من إشعاعات نفسية تشع من السماء ومن الأرض ومن النفوس البشرية، ومما لا يعلمه الا الله. وما الفكرة تصدر عني، ولا الإلهام ألهم به فلست أعرف له مصدرا وليس يخضع لقوانين المنطق ولا نظريات الاستنتاج، ولا الظواهر النفسية تتعاقب علي فلا اعرف تعليلها من انقباض وانبساط، وسمو وانحطاط، وكدورة وصفاء، وظلمة وضياء الا أثر من هذا الاشعاع
ان وراء هذا العالم المادي عالما روحانيا نفسيا أسنى وأبهى، وإذا كان للأجسام والحواس جو يحيط بها قد امتلأ أشعة من نجوم وكواكب وشموع ومصابيح، فللنفس جو يحيط بها اشتبكت فيه أشعة نفسية لا عداد لها. وإذا كان للعين أفق يختلف باختلاف النظر قصرا وطولا، فللنفوس أفق يختلف كذلك، فبعضها ينفذ إلى ما وراء الحجب ويستمد منه ما يستخرج العجب، وبعضها قصير المدى قريب المتناول. ولئن كانت قوانين الاشعاع الحسي لما يستكشف منها الا قليل، فقوانين الاشعاع النفسي أشد تعقدا وأكثر التواء غموضا، والعاكفون على دراستها، والموفقون لاستكشاف بعضها أقل وأندر. خضع كل الناس للإشعاع المادي، وخضع كل الناس للإشعاع النفسي، ولكن آمن بالأول كل الناس، وما آمن بالثاني الا قليل.
هل تنبعث من عالم النفس شرارة قوية تضيء جوانب النفوس؟ وهل يبعث العالم النفسي موجة قوية تعم العالم وتهزه هزة عنيفة فينتبه من سباته، ويهب علماؤه لتنظيم الحياة الروحية كما نظموا الحياة المادية، ويتخصص علماء النفس لاستكشاف قوانين الاشعاع النفسي كما استكشف الماديون قوانين الاشعاع الحسي، ثم ينتفعون وينفعون الناس كما انتفعوا بقوانين الضوء وما اليه، وإذ ذاك يكون الناس أسعد حالا وأهدأ بالا وأكثر اطمئنانا؟ من يدري!!!(15/14)
صور من التاريخ الإسلامي
عمر بن عبد العزيز 62 - 101هـ
للأستاذ عبد الحميد العبادي
3
لم يكن عمر بن عبد العزيز صاحب حق في الخلافة بمقتضى نظام الخلافة الأموية. ولكن ذيوع فضله وسموه الروحي على سائر بني أمية لفت اليه نظر أولي الحل والعقد من صلحاء الشام أمثال رجاء بن حيوة الكندي وابن شهاب الزهري ومكحول الشامي، فلما مرض سليمان بن عبد الملك بدابق مرضه الذي مات فيه ولم يكن له ولد بالغ يعهد اليه، لم يزل به رجاء بن حيوة وأصحابه حتى كتب عهده لعمر بن عبد العزيز، ثم من بعده ليزيد ابن عبد الملك. ثم أمر فأخذت البيعة من بني أمية لمن سمى في عهده دون أن يعينه لهم، فلما قبض سليمان وأعلن الأمر إلى بني أمية جددوا البيعة لعمر على كره منهم (20 صفر سنة99)
شرع عمر في تنفيذ برنامجه الإصلاحي منذ تم له الامر، ولقد كان له من زهده، ومناصرة العلماء له، ومؤاتاة أهل بيته: زوجه فاطمة، وابنه عبد الملك، وأخيه سهل، ومولاه مزاحم، أقوى عون على ما أراد. بدأ عمر بمنصب الخلافة ممثلا فيه فجرده من كل مظاهر الأبهة ورده إلى بساطته القديمة؛ ولا أدل على ذلك من كلام ابن عبد الحكم قال: (ولما دفن سليمان وقام عمر بن عبد العزيز قربت اليه المراكب؛ فقال ما هذه؟ فقالوا مراكب لم تركب قط يركبها الخليفة أول ما يلي. فتركها وخرج يلتمس بغلته؛ وقال يا مزاحم ضم هذه إلى بيت مال المسلمين. ونصبت له سرادقات وحجر لم يجلس فيها أحد قط كانت تضرب للخلفاء أول ما يلون، فقال ما هذه؟ فقالوا سرادقات وحجر لم يجلس فيها أحد قط يجلس فيها الخليفة أول ما يلي، قال يا مزاحم ضم هذه إلى أموال المسلمين، ثم ركب بغلته وانصرف إلى الفرش والوطاء الذي لم يجلس عليه أحد قط، يفرش للخلفاء أول ما يلون، فجعل يدفع ذلك برجله حتى يفضي إلى الحصير، ثم قال يا مزاحم ضم هذه لأموال المسلمين.
(وبات عيال سليمان يفرغون الأدهان والطيب من هذه القارورة إلى هذه القارورة، ويلبسون ما لم يلبس من الثياب حتى تتكسر. وكان الخليفة إذا مات فما لبس من الثياب أو(15/15)
مس من الطيب كان لولده، وما لم يمس من الثياب وما لم يمس من الطيب فهو للخليفة بعده. فلما أصبح عمر قال له أهل سليمان هذا لك وهذا لنا، قال: وما هذا، وما هذا؟. . . ما هذا لي ولا لسليمان ولا لكم ولكن يا مزاحم ضم هذا إلى بيت مال المسلمين. ففعل، فتآمر الوزراء فيما بينهم فقالوا: أما المراكب والسرادقات والحجر والشوار والوطار فيه رجاء بعد أن كان منه فيه ما قد علمتم، وبقيت خصلة وهي الجواري نعرضهن، فعسى أن يكون ما تريدون فيهن، فان كان وإلا فلا طمع لكم عنده. فأتى بالجواري فعرضن عليه كأمثال الدمى، فلما نظر إليهن جعل يسألهن واحدة واحدة من أنت؟ ولمن جئت؟ ومن بعثك؟ فتخبره الجارية بأصلها ولمن كانت وكيف أخذت فيأمر بردهن إلى أهلهن ويحملهن إلى بلادهن حتى فرغ منهن. فلما رأوا ذلك أيسوا منه وعلموا أنه سيحمل الناس على الحق)
ثم عمد إلى النظام الإقليمي فأصلحه بأن عزل العمال المتشبعين بروح الحجاج، عزل يزيد بن المهلب وحبسه في مال كان للدولة في ذمته، ونفى نفرا من بني عقيل أسرة الحجاج، وولى عمالا جددا لم يحفل في تخيرهم بعصبياتهم ولا بقدرتهم على جمع الأموال كما كانت الحال من قبل، ولكن بحسن سيرتهم وطهارة ذمتهم، فكان من عماله عدي بن أرطاة الفزاري والي البصرة، وعبد الحميد بن عبد الرحمن القرشي والي الكوفة، وعبد الرحمن بن نعيم القشيري أمير خراسان، وأبو بكر بن حزم أمير المدينة، والسمح بن مالك الخولاني أمير الأندلس. وقد شد أزر الولاة بقضاة عدول، فجعل الحسن البصري على قضاء البصرة، وعامرا الشعبي على قضاء الكوفة كما جعل أبا الزناد كاتبا لأمير الكوفة. ولم يكتف عمر بذلك في إصلاح الإدارة الإقليمية بل تقدم إلى العمال في أمر العقوبات ألا يأمروا بقطع أو صلب قبل مراجعته هو أولاً.
ثم ثنى عمر بالمسائل المالية فرد المظالم، والمراد بالمظالم الأموال التي استولى عليها بنو أمية بغير حق، وقد بدأ في ذلك بنفسه فخرج لبيت المال عن كل مال لم يرض سبب تملكه، حتى لم يبق له الا عقار يسير ببلاد العرب يغل عليه غلة يسيرة فوق عطائه الذي كان يبلغ مائتي دينار في العام، ثم أخذ يتتبع أموال بني أمية يرد منها ما ليس مشروع الملكية إلى مستحقه، وقد هاج ذلك سخط بني أمية عليه، وذهبوا ينعون عليه أخذه أموالهم باسم (المظالم)؛ فلم تلن لغامزهم قناته، وأراهم أنه لا يحجم عن بلوغ الغاية في التنكيل بهم(15/16)
إذا اقتضى الأمر ذلك. يروي ابن عبد الحكم (ان رجلا من أهل حمص أتاه يخاصم روح بن الوليد بن عبد الملك في حوانيت بحمص كان أبوه الوليد أقطعه إياها، فقال له عمر أردد عليهم حوانيتهم؛ قال له روح: هذا معي بسجل الوليد، قال وما يغني عنك سجل الوليد والحوانيت حوانيتهم، قد قامت لهم البينة عليها؟ خل لهم حوانيتهم. فقام روح والحمصي منصرفين، فتوعد روح الحمصي، فرجع الحمصي إلى عمر، فقال هو والله متوعدي يا أمير المؤمنين، فقال عمر لكعب بن حامد وهو على حرسه: أخرج إلى روح يا كعب، فان سلم اليه حوانيته فذلك، وان لم يفعل فأتني برأسه! فخرج بعض من سمع ذلك ممن يعنيه أمر روح بن الوليد فذكر له الذي أمر به عمر، فخلع فؤاده. وخرج اليه كعب وقد سل من السيف شبرا، فقال له: قم فخل له حوانيته! قال نعم! نعم! وخلي له حوانيته)
وسار عمر في إصلاح الشئون المالية على الأساس الشرعي، فالأموال ينبغي أن تجبى من وجوهها وتنفق في مصارفها الشرعية، فمن أسلم من أهل الذمة سقطت عنه الجزية، وقد اسقط الجزية فعلا عن كثير من موالي خراسان وأهل مصر، وقال مقالته المشهورة (إن الله بعث محمدا هاديا ولم يبعثه جابيا) ونهى عن أن تصير الأرض الخراجية أرضا عشرية ابتداء من سنة 100 هـ مع عدم التعرض للحقوق التي اكتسبت من قبل، وألغى وظيفة مالية وظفها أخو الحجاج بن يوسف على اليمن فوق الزكاة، ونهى العمال عن اقتضاء أطلاق مالية لم يرد بها الشرع، وقد جمعها في كتابه إلى عامله على الكوفة فقال (ولا تحمل خرابا على عامر، ولا عامرا على خراب، أنظر إلى الخراب فخذ منه ما أطاق وأصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذ من العامر الا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض، ولا تأخذن في الخراج. . . أجور الضرابين، ولا هدية النيروز والمهرجان، ولا ثمن الصحف، ولا أجور الفيوج، ولا أجور البيوت، ولا دراهم النكاح، ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض)
وقد وسع عدل عمر أهل الذمة من هذه الناحية كما وسع المسلمين، فانه لما شكا اليه أهل نجرانية الكوفة تناقص عددهم إلى العشر مع بقاء جزيتهم على حالها، أمر برد جزيتهم إلى العشر (البلاذري، ص 67) كذلك رد جزية قبرس إلى ما كانت عليه وقت الفتح وألغى ما زاده عليها عبد الملك بن مروان (البلاذري 154) ويروي البلاذري أيضا (ص 422) انه(15/17)
(وفد عليه قوم من أهل سمرقند فرفعوا اليه، أن قتيبة دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين على غدر، فكتب عمر إلى عامله يأمره أن ينصب لهم قاضيا ينظر فيما ذكروا، فان قضى بإخراج المسلمين أخرجوا، فنصب لهم جميع بن حاضر الناجي، فحكم بإخراج المسلمين على أن ينابذوهم على سواء. فكره أهل سمرقند الحرب وأقروا المسلمين) وأبلغ من ذلك في الدلالة على تحري عمر العدل المطلق ما رواه البلاذري (ص 124) قال (قال ضمرة عن علي بن أبي حملة، خاصمنا عجم أهل دمشق في كنيسة كان فلان قطعها لبني نصر بدمشق، فأخرجنا عمر منها وردها إلى النصارى) ويروي البلاذري أيضا (ص 125) أن الوليد بن عبد الملك قد أدخل كنيسة يوحنا في مسجد دمشق بغير رضا النصارى (فلما استخلف عمر بن عبد العزيز شكا النصارى اليه ما فعل الوليد بهم في كنيستهم، فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاده في المسجد عليهم. فكره أهل دمشق ذلك وقالوا نهدم مسجدنا بعد أن أذنا فيه وصلينا ويرد بيعة، وفيهم يومئذ سليمان ابن حبيب المحاربي وغيره من الفقهاء، وأقبلوا على النصارى فسألوهم أن يعطوا جميع كنائس الغوطة التي أخذت عنوة وصارت في أيدي المسلمين، على أن يصفحوا عن كنيسة يوحنا ويمسكوا عن المطالبة بها، فرضوا بذلك وأعجبهم. فكتب به إلى عمر فسره وأمضاه) ذلك موقف عمر بن عبد العزيز من أهل الذمة. أما ما ينسب اليه في بعض كتب الفقه من تحامل عليهم، وانه كتب إلى عماله بعزلهم عن أعمال الدولة وأخذهم بألوان من الاضطهاد والتضييق عليهم (الخراج لأبي يوسف 73) فغير مؤتلف مع المستيقن من سيرته على فرض صحته، وقد يكون نوعا من العقاب كان يعاقب به ذميو الحدود الإسلامية إذا هموا بمظاهرة العدو على المسلمين.
وكما كان عمر حريصا على جباية الأموال العامة من مصادرها الصحيحة. فقد كان كذلك حريصاً على أن تنفق في مصارفها الشرعية. فمن حيث الفيء، قد فرض لذرية المقاتلة وعيالهم عملاً بسنة عمر بن الخطاب التي ترك بنو أمية العمل بها، وكتب الى عامله في الكوفة (وانظر من أراد من الذرية الحج فعجل له مائة يحج بها). وفرض لعشرين ألفا من الموالي كانوا يغزون بخراسان بغير عطاء. وأظهر استعداده لان يحمل من بيت المال إلى خراسان أموالا إذا كان خراجها لا يفي بعطاء أهلها. ومن حيث أموال الزكاة، فكانت صدقات كل إقليم تقسم على عهده في فقراء أهله، وقد قسم في فقراء البصرة كل إنسان(15/18)
ثلاثة دراهم وأعطى الزمني خمسين خمسين، وفرض للفقيرات من عوانس النساء، وأعتق كثيرا من الرقاب. وقد كتب إلى أحد عماله (ان اعمل خانات في بلادك، فمن مر بك من المسلمين فاقروهم يوما وليلة، وتعهدوا دوابهم، فمن كانت به علة فأقروه يومين وليلتين. فان كان منقطعا به فقووه بما يصل به إلى بلده) وأمر عماله بقضاء الديون عن الغارمين فكتب اليه بعضهم (أنا نجد الرجل له المسكن والخادم وله الفرس والأثاث في بيته) فكتب عمر (لابد للرجل من المسلمين من مسكن يأوي اليه رأسه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، وأثاث في بيته، فهو غارم فاقضوا عنه) ولما رأى عمر أن ليس للشعراء حق في بيت المال جعل يجزهم من عطائه وماله الخاص على قلته، بالدراهم والدنانير المعدودة، وقد أدرك الشعراء سبب تحرجه هذا فكانوا يقبلون منه العطاء اليسير أو الرد أحيانا بغير عطاء، ولم يقصروا في مدحه وقدره.
على ان أهم ميزة تميز عمر بن عبد العزيز من غيره من خلفاء الإسلام ورؤساء الدول طراً فيما نعلم انما هي رغبته الصادقة في نشر لواء السلم، لا على بلاده وحدها ولكن على العالم بأسره. ولبيان ذلك نقول انه عمد في داخل الدولة الإسلامية إلى الأحزاب التي ناوأت الأمويين منذ قام ملكهم فترضاها وحملها على ما يريد من إيثار السلم والعافية. فالشيعة استجلب مودتهم بان منع سب علي بن أبي طالب على المنابر، وبأن رد على العلويين (فدكا) التي رآها حقا قديما لهم قد غصبوه. والخوارج قد كبح جماحهم من طريق المجادلة بالحسنى والإقناع بالحجة والبرهان. فعندما ظهر شوذب الخارجي بأرض فارس أمر عمر ألا يقاتلوا حتى يسفكوا دما أو يفسدوا في الأرض، وكتب في الوقت نفسه إلى شوذب يطلب اليه المناظرة في دعواه، فأنفذ اليه الخارجي اثنين من فقهاء الخوارج ليناظراه. وقد استطاع عمر أن يهدم كل حجة أورداها الا ما احتجا به من إقراره يزيد بن عبد الملك على ولاية العهد مع ما يعلم من قبح سيرته، وكان من وراء هذه المناظرة الطريفة أن انضم أحد الخارجيين إلى عمر، وأما الآخر فعاد إلى أصحابه وأنهى إليهم على ما يظهر من سيرة الخليفة ما حملهم على السكون طوال عهده. أما الموالي فقد قطع أسباب شكواهم، بأن أسقط الجزية كما رأينا عنهم، وبأن فرض لمقاتلتهم عطاء. وأما العصبية القبلية من يمنية ومضرية وربعية فقد هدأ من حدتها، بأن ردع الشعراء الذين كانوا يذكون نارها، وبأن(15/19)
اختار ولاته بالنظر إلى كفايتهم لا إلى قبائلهم.
أما من حيث العلاقات الخارجية، فقد سلك عمر بن عبد العزيز في الأمر مسلكا بدعا لم يسبق اليه ولم يلحق فيه. ذلك أنه أقفل جميع الجيوش الإسلامية التي كانت تغزو وراء الحدود، أقفل مسلمة ابن عبد الملك وكان مرابطا حول أسوار قسطنطينية وأعانه على القفول بأموال بعث بها اليه. وأقفل الغزاة بما وراء النهر على كره منهم كما أقفل من كانوا يغزون بالسند. على أن عمر لم يقف في هذا الأمر الخطير عند هذا الحد، بل اتبع العدول عن سياسة العنف بالدعوة السلمية إلى الإسلام. يروي البلاذري أنه لما أقفل الجيوش التي كانت تغزو بما وراء النهر كتب إلى ملوك تلك الجبهة من الترك يدعوهم إلى الإسلام فأسلم بعضهم. ولما انتقض ملوك السند كتب إليهم يدعوهم إلى الإسلام والطاعة على أن يملكهم ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، قال البلاذري (وقد كانت بلغتهم سيرته ومذهبه فأسلم جيشبة والملوك وتسموا بأسماء العرب) كذلك كانت سياسته بازاء بربر المغرب الذين أشجوا الجيوش العربية زهاء ثمانين عاما. يقول البلاذري (ثم لما كانت خلافة عمر بن عبد العزيز ولى المغرب إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر مولى بني مخزوم، فسار أحسن سيرة ودعا البربر إلى الإسلام، وكتب إليهم عمر كتبا يدعوهم بعد إلى ذلك، فقرأها إسماعيل عليهم في النواحي فغلب الإسلام على المغرب. ويذكر المؤرخ اليوناني تيوفان أن عمر كتب أيضا إلى الأمبراطور البيزنطي يدعوه إلى الإسلام.
وكأن عمر بن عبد العزيز قد اطلع بلحظ الغيب على نظمنا الحديثة التي تفرض على الدولة الأشراف على التعليم والعمل على نشره بين أبنائها. فقد أراد تعليم الناس كما يؤخذ من قوله في رواية ابن عبد الحكم (ان للإسلام حدودا وشرائع وسننا. . . . . فان أعش أعلمكموها وأحملكم عليها) بل لقد أخذ في ذلك بالفعل فبعث يزيد بن أبي مالك الدمشقي والحارث بن محمد الأشعري إلى البادية ليفقها الناس وأجرى عليهما رزقا. ثم هو أول خليفة أمر بجمع أحاديث رسول الله وتدوينها. نقل السيوطي (ان عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر محمد بن خزم أن انظر ما كان من حديث رسول الله (أو سننه فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء. وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصبهان عن عمر بن عبد العزيز انه كتب إلى الآفاق ان أنظروا إلى حديث رسول الله (فاجمعوا) قال في فتح الباري(15/20)
يستفاد من هذا ابتداء تدوين الحديث النبوي
وبعد، فماذا كان اثر تلك الجهود كلها؟ لقد أدت إلى الغاية التي كان يرمي أليها عمر. فقد طاف بالأمة الإسلامية اذ ذاك طائف الزهد والورع والتدين اقتداء بخليفتها، والناس على دين ملوكهم كما قالوا قديما. يروي الطبري (وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ مصانع وضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه، فإنما يسأل بعضهم بعضا عن البناء والمصانه، فولي سليمان فكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يسأل بعضهم بعضا عن التزويج والجواري، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل، ما وردك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ وما تصوم من الشهر؟ وأصبح الناس وقد شملتهم نعمتا الرضا واليسر. قال (كثير) يخاطب عمر ويمدحه:
تكلمت بالحق المبين وانما ... تبين آيات الهدى بالتكلم
وصدقت موعود الذي قلت بالذي ... فعلت فأمسى راضيا كل مسلم
وروى ابن عبد الحكم قال (قال يحيى بن سعيد: بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات أفريقية فاقتضيتها وطلبت فقراء نعطيها فلم نجد بها فقيرا، ولم نجد من يأخذها مني، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها رقابا فأعتقتهم وولاؤهم للمسلمين)
نعم، لقد أغنى عمر الناس جميعا إلا نفسه وأهله. فلم ير ولي قوم أعف عن مالهم منه، ولم ير أهل بيت أصبر على الطعام الخشن والثوب المرقوع والبيت المتهدم منه ومن أهل بيته. ولقد أراح عمر الناس ولكنه أتعب نفسه، فكان حركة دائمة يعمل ليل نهار حتى ذهبت نضرته واحترق جسمه. وزاده هما فقدانه في آجال متقاربة من عهده القصير أحبابه وأعوانه: ابنه عبد الملك، وأخاه سهلا، ومولاه مزاحما، فلم يقو جسمه على احتمال العمل والألم، فاسلم الروح بخناصرة في 25 رجب سنة 101 ولما يعد التاسعة والثلاثين من عمره. وقد دفن بدير سمعان قريبا من دمشق.
لا ندري ماذا كان عمر صانعا لو مد له في حياته؟ أغلب الظن انه كان يتلافى موضع الضعف من إصلاحه فيقيم هذا الإصلاح على أساس ثابت لا يتزعزع بمجرد موته. ومهما يكن من شيء فقد فاز عمر بن عبد العزيز بتقدير أنصاره وخصومه على السواء. فهو عند أهل السنة مجدد المائة الأولى وآخر الخلفاء الراشدين، وقد رضى عنه العلويون وأهدى(15/21)
إلى روحه في أواخر القرن الرابع شاعرهم الشريف الرضي أبياتا من الشعر حارة جميلة، بل ان العباسيين عندما قامت دولتهم احترموا قبره فلم ينبشوه كما نبشوا قبور غيره من بني أمية، على أن أبلغ من وصفه وابنه رجل كان يحكم الظروف السياسية خصمه العنيد بل عدوه اللدود، ذلك ملك الروم أليون الثالث. أخرج ابن الجوزي عن محمد بن معبد قال (أرسل عمر بن عبد العزيز بأساري من أساري الروم ففادى بهم أساري من المسلمين. قال فدخلت على ملك الروم يوما فإذا هو جالس على الأرض مكتئبا حزينا. فقلت ما شأن الملك؟ فقال أو ما تدري ما حدث؟ قلت ما حدث؟ قال مات الرجل الصالح! قلت من؟ قال عمر بن عبد العزيز، ثم قال ملك الروم: لأحسب انه لو كان أحد يحيى الموتى بعد عيسى بن مريم لأحياهم عمر بن عبد العزيز. ثم قال إني لست أعجب من الراهب أن أغلق بابه ورفض الدنيا وترهب وتعبد، ولكني أعجب ممن كانت الدنيا تحت قدميه فرفضها وترهب)
أما نحن فنلحظ فيه خير نزعاته واشرف عواطفه: نلحظ فيه حبه للسلام وسعيه في توفيره في العالم، فهو بحق داعية السلام في القرن الأول الهجري والثامن الميلادي، وكفى بذلك مفخرة في الدنيا، وقربة في الآخرة.(15/22)
أوراق مالية في القرن السابع الهجري
للدكتور عبد الوهاب عزام
كيخاتو بن أبا قا خان بن هلاكو خامس ملوك المغول المسمين ايلخانية كان كما يقول مؤلف (حبيب السيرَ) أسخى بني هلاكو: كان يفيض جودا في موائده، ولا يقف به حد في الإسراف واللهو.
وقد اختار لوزاراته صدر الدين الزنجاني المعروف بصدرجهان. ولم يكن الوزير مخالفا مولاه في التبذير. فخلت الخزائن واشتدت الحاجة إلى المال، وضاق بالملك الأمر، فبدا للوزير أن يأخذ عن أهل الصين سُنَّة كانت معروفة عندهم في ذلك العصر: هي التعامل بأوراق تغني غناء الحجرين الكريمين أو المعدنين النفيسين: الذهب والفضة. وليس الفرق بين الورَق والورِق ذا خطر.
أمر الوزير بطبع أوراق للتعامل سميت (جاو) وأنشأ في كل ناحية دارا لطبع الأوراق سميت (جاو خانة) وشرع قانونا يحتم على الناس الإقلال من تداول الذهب والفضة جهد الطاقة
وكانت الأوراق كما وصفها رشيد الدين الشيرازي في تاريخه المعروف بتاريخ (وصّاف) والمؤرخون المعاصرون على هذا الشكل:
ورقة مستطيلة عليها كلمات صينية، وفوقها باللغة العربية كلمة الإسلام: (لا إله الا الله محمد رسول الله) اتباعا للمألوف في المسكوكات الإسلامية. وتحت هذا اسم الكاتب ودائرة كتب فيها قيمة الورقة. وكانت القيمة تختلف من نصف درهم إلى عشرة دنانير. ومما كتب على هذه الأوراق هذه الكلمات الهائلة: (أصدر ملك العالم هذه الجاو المباركة سنة 693هـ، فمن غيرها أو محاها يقتل هو وزوجه وأولاده ويصادر ماله)
وأرسلت إلى المدن منشورات تبين فوائد التعامل بهذه الأوراق، وتبشر الناس أن الفقر والبؤس سيزولان لا محالة ان دام التعامل بها. ومما جاء في هذه المنشورات هذا البيت:
جاو أكردر جهان روان كردد ... رونق ملك جاودان كردد
وترجمته: (إذا راجت في العالم الجاو دام رونق الملك أبدا)
ومما جاء في قانون هذه الأوراق أن الورقة التي تمزق أو تبلى ترد إلى الجاوخانه ويعطى(15/23)
صاحبها ورقة أخرى تنقص عنها عشر القيمة.
ثار الناس على هذه الأوراق، فيروى أنه جُعل موعد تداولها في مدينة تبريز شهر ذي القعدة 693هـ، فلما جاء الموعد أقفلت الحوانيت ثلاثة أيام ووقفت الأعمال وأبى الناس أن يقبلوا الجاو المباركة.
وكان أعظم رجال الدولة نصيبا من سخط الناس وبغضهم عز الدين المظفر الذي وكل إليه إخراج الأوراق والقيام عليها. ومما قيل فيه:
تو عز ديني وظل جهاني ... جهانر اهستئ تو نيست درخور
أزان كبر ومسلمان ويهودي ... بس أز توحيد حق واللهه أكبر
همى خوانندأز روى تضرع ... بنزد حضرت داراي داور
خدايا بر مراد خويش هركَز ... مبادا درجهان يكدم مظفر
وترجمتها:
(أنت عز الدين وظل العالم،=ولكن بقاءك شر على العالم، ومن أجل ذلك ترى المسلمين واليهود والمجوس بعد توحيد الله وتكبيره يتضرعون إلى الحكم العدل: ربنا لا تجعله ساعة واحدة مظفرا بمراده)
انتشرت الثورة في مدن كثيرة حتى ذهب كبراء المغول إلى السلطان كيخانو فكلموه في أمر هذه الأوراق البغيضة حتى رضى بإلغائها.
رسائل حزينة(15/24)
القلب المحطم
رسالة إلى صديق
بغير هذا اللون من الصور الشاحبة الحزينة، كنت أود أن أصور لك عواطفي ومشاعري، وبغير هذه السطور التي تترقرق في خلالها دموع البث والشكوى، كنت أحب أن يجري بالكتابة إليك قلبي. ولكني لا أريد أن أخدعك في شأن من شئون نفسي. وما أحسبك تريدني علي أن أصنع لك كلاما عن راحة القلب وهدوء الضمير في الوقت الذي تعصف بي الأحداث فيه عصفا يزلزل كيان النفس، ويزعزع أشد الأفئدة احتراماً لقوانين الأرض، وإيماناً بعدالة السماء، لقد شغلت في مطالع الشباب وبواكر الصبى بما يشبه أن يكون استجابة حارة لرغبات القلب ونوازع الهوى، وألهتني متعة اليوم عن التفكير فيما عسى أن يطلع به الغد، وقنعت بتلك النشوة التي يملأ بها الحب شعاب القلب في عالم تتألق حواشيه بالبسمات والأحلام. وكنت لغفلتي أحسب الحياة ستظل على هذا النحو رخية لينة، وأن الحب ما دام يعمرها ويخلع عليها من مفاتنه سلاما وابتساما ونورا، فثمة ملقى العصا، وغاية الأمل، ونهاية المطاف. فلو أنني أحطت هذه الحياة الأثيرة لديَّ بسياج يكفل لها على الأيام بقاءً واطرادا لما تعثرت في أذيال هذه الخيبة الأليمة. ولما صرت إلى ما أعانيه اليوم من تعس وشقاء.
أيها القلب! لقد سعدت بالحب حلما ذهبياً سلسل في نواحيك الأمل، وأشاع في جوانبك الرجاء، ولكنك شقيت به يقظة رهيبة تكشفت لك في ضوئها عناصر الجريمة من خيانة وغدر وعبث اليم بقداسة العهد والوفاء. فهل تراك يا قلب معتبرا بما أسلفك الحب من تجاربه القاسية الأليمة، فتظل بنجوة عن الوقوع في شرك البسمات المغريات، والنظرات القاتلات، ترسلها العيون الذابلة المريضة؟ أتراك معتبراً بعد أن عرفت أن الحب إنما يصور لك الحياة روضة مسحورة تشدو بلابلها، وتَطرد جداولها، وتتأرج بالعطر الجميل أزاهرها؟ ثم. . ثم تجف الروضة وتغيض الجداول وتصمت الأطيار، وتتحطم الأماني، وتتبدد الأحلام. وإذا الدنيا مناحة قائمة. وإذا الحب الذي سعدت به تلك اللحظات الخاطفة يستحيل إلى حسرة الماضي، وفجيعة الحاضر، ولعنة المستقبل. وإذا تلك الأناشيد الداوية تحور إلى أنين خافت، وآلام دفينة خرساء. وإذن ففيم هذا التهالك العجيب على تلك الشجرة(15/25)
الملعونة وقد بلوت المر من ثمرها؟ وفيم تلك الخفقات السريعة المتلاحقة كلما رنت إليك غانية بنظرة. أو توامضت لك على شفتيها ابتسامة؟ وهذا الجسم الذي أذبلت زهرته، وأيبست عوده، وعطلت نشاطه، وصرفته عن مثله العليا، وفجعته في أقدس ما كان يرجيه من أمل ويحرص عليه من سعادة، ألا تأخذك فيه عاطفة من الإشفاق والرحمة، فتدعه يفرغ لما تتطلبه الحياة من جهاد طويل الشقة، وعر المسالك، فادح الأعباء. أيها القلب! انك أن تظل سادرا في غوايتك، فإني لأخشى أن أناجيك غداً بقول الشاعر:
أقول لقلبي كلما ضامه الأسى ... إذا ما أبيت العز فاصبر على الذل
برأيك لا رأيي تعرضت للهوى ... وقولك لا قولي، وفعلك لا فعلي
فان تك مقتولا على غير بغية ... فأنت الذي عرضت نفسك للقتل
عبد الوهاب حسن. قسم النشر. وزارة المالية(15/26)
منهن ومنهن
للأستاذ عبد القادر المغربي. وكيل المجمع العلمي العربي بدمشق
وإن من النسوان من هي روضة ... تهيج الرياضُ دونها وتصوَّح
ومنهن غُلٌّ مقفل لا يفكه ... من الناس إلا الأحوذي الصَّلنقَحُ
يقول حكيم العرب: إن النساء مختلفات في طباعهن وأمزجتهن وغرائز نفوسهن: فمنهن امرأة حسنة السجايا طيبة الأخلاق، تشبه الروضة فيما اشتملت عليه من خضرة وزهر، وطيب ماء، ورقة هواء. بل أن الرياض الحقيقية ذات الخضرة والنضرة، قد (تهيج) أي يصفر نباتها و (تَتَصوَّح) أي تيبس أو تذبل أوراقها. أما تلك المرأة فهي روضة لا تهيج ولا تتصوَّح، وإنما تبقى ناضرة الخضرة، طيبة الشذا طول حياتها.
هذه واحدة من النساء يا سعادة مجتمعها بها.
ومنهن واحدة أخرى وصفها الشاعر في البيت الثاني بأنها كالغُلّ. وهو القيد المقفل أي المشدود على عنق الرجل أو يديه، يمنعه الحركة ولا يقدر على فكه إلا (الأحوذيُّ الصَّلَنقَحُ)
(الأحوذي) الحاذق في السَّوق، الذي يعرف كيف يسوق الدابة ويحملها على السرعة في السير. فبينا ترى غيره يقطع بها مسافة عشرة أيام تراه هو يقطع بها ثلاثة أيام. وذلك لأنه (صَلَنقح) أي صيَّاح شديد الصوت. (وصلنقح) كلمة غريبة وثقيلة على السمع، غير أنها قد تروج لدى القارئ المنصف مذ يرى المقام يقتضيها، والسياق يواتيها، والقافية تناديها.
ووصف امرأة السوء بالغل معهود عند العرب، ومنه قولهم: (هي غل قمل. وجرح لا يندمل) ومعنى (قَمل) أن الغُلَّ أحيانا يكون من جلد غير مدبوغ ويكون على الأسير الذي يدوم أسره ويطول عهده بالاغتسال فيتسخ بدنه ويعشش القمل في غله ويأخذ يرعى في تجاليده فيؤذيه ويمنعه طيب المنام وهكذا حال امرأة السوء في البيت الذي تعيش فيه.
قد يعترض معترض على البيت الثاني بأن فيه إحالة، ومعنى (الإحالة) في اصطلاح علماء النقد الأدبي أن يكون الكلام معدولا به عن وجه الصواب
وهنا قد شبه الشاعر امرأة السوء بالغل الموثق المحكم الشد. ثم قال انه لا يفك هذا الغل إلا سائق صيّاح شديد الصوت(15/27)
ولكن هل من عادة القيود المحكمة الشد أن تفك وتحل عقدها بكثرة الصياح والجلبة؟
ربما كان في هذا الاعتراض شيء من الحق. فماذا كان يجب أن يقال إذن؟
كان ينبغي أن يقال في البيت الثاني هكذا:
ومنهن مُهر شامسُ لا يروضه ... من الناس إلا الأحوذي الصلنقح
فيكون المعنى أن من النساء من تكون كالمهر الشامس (أي الشموس) الذي يكثر شروده ولا يقدر على ترويضه وتليين شكيمته إلا الرجل الذي يعرف كيف يسوسه ويؤدبه بالانتهار ورفع الصوت والصخب عليه.
فتقول: ولكن كلمة (شامس) غير مأنوسة الاستعمال والمعروف (شموس) فماذا يمكن أن يحل محلها من كلمات اللغة؟
أقول يمكن أن يقال في البيت هكذا:
(ومنهن مهر كوسَجٌ لا يروضه. . . الخ).
و (الكوسج) من الخيل: الفرس الذي تريده على السير فلا يسير حتى تضربه.
فيقول القارئ معنى (الكوسج) حسن. ولكن لفظة اشتهر في معنى خفة شعر اللحية فلا أرى استعماله هنا. هات كلمة سواها يا أستاذ
فأقول هاكها:
ومنهن مهر خارط لا يروضه. . . الخ.
و (الخارط) الفرس الذي يجذب رسنه من يد ممسكة ثم يفلت شاردا لا يلوي على شيء.
ومثل (الخارط) الخَرُوط.
ولذلك تسمى المرأة الفاجرة التي جذبت رسنها من يد أسرتها (خروط)
يقول القارئ: وكلمة (خارط) أيضا قبيحة اللفظ وكفى (بالخرط) قبحا.
على أن استقباح القارئ لكلمة (خارط) في غير محله. وليس معه حق فيه: إذ كيف يستثقل كلمة (خارط) وهذه كلمة (خارطة) بمعنى الأطلس الجغرافي يتلفظ بها كثيرا. ويسمعها من صبيانه وبناته وهم يدرسون في بيته، ومن سائر التلامذة وأساتذتهم يقولونها عشرات من المرات في اليوم. كل هذا لا تستثقل معه أيها القارئ الكريم كلمة (خارطة) وتقوم الآن فتستثقل كلمة (خارط) وتتشاءم بها!!(15/28)
ومع هذا فدونك كلمة رابعة وهي:
(ومنه مهرٌ ضاغنٌ لا يروضها الخ.)
ومعنى (الضاغن) الفرس الذي لا يعطي كل ما عنده من الجري حتى يضرب، أو هو الفرس الذي إذا مشى كان كأنه يرجع القهقرى. ويمشي إلى الوراء.
وقبل أن يبادرني القارئ بالتأفف من كلمة (ضاغن) أذكره بالأسرة اللغوية التي تنتمي إليها كلمة (ضاغن)، ولو لفظا،:
فان تلك الأسرة وجميع سلالتها مقيمة بيننا محببة إلينا. شائعة على ألستنا:
فالضغن أم الأسرة ومن نسلها (الأضغان) و (الضغينة) و (الضغائن) و (تضاغن) القوم و (اضطغن) فلان على فلان
فهل بعد هذا يصح للقارئ أن يتجهم لكلمة (ضاغن) ويدعي غرابتها. ويطلب أن يستبدل بها سواها؟
دمشق(15/29)
في الأدب المصري القديم
النيل والحضارة المصرية (ملخص فصل من كتاب)
للأستاذ (آ. موريه)
كان المصريون أصحاب ألسنة لا تعرف الملل في النطق، على أن ما جاءنا من آثارهم الأدبية هو ثروة قليلة بالنسبة إلى ثمار شعب يحكي عنه منذ أربعة آلاف عام، وفي هذه الأعمار التاريخية قامت مآثر أدبية تختلف صفاتها الاجتماعية والطبيعية. والأدب كما هو في مصر وغير مصر، مرآة تتمثل فيها الحياة الاجتماعية.
نشأت المآثر الأولى في (الدولة القديمة) مصحوبة بأدب ديني صرف مقيد بتعاليم الكهنة، وهذا الأدب هو النصوص الجليلة والآثار المعروفة (بموضوعات الأهرام) والتي تحفظ كثيرا من التاريخ القديم، والديانة القديمة، والحركة العقلية، والجزء الثاني منها هو عبارة عن نصوص منقوشة على حجارة، وحكم هذا الأدب حكم الزخرفة وبقية الفنون، لم يكن المراد منه الا تزيين الهياكل والقبور، ومن الواجب أن يكون خاضعا حتى في مظهره الخارجي لهيئة العمارة، وفي قبور (ممفيس) فصول شعبية لا يتلاءم أسلوبها الحر مع الطقوس والتقاليد، وهذه الفصول الخرافية تطلعنا على اللهجة العامية؛ بل تكاد توحي لنا عن نفسية الشعب. . . .
هذه أغنية قديمة للراعي الذي يسوق قطيعه بين أتلاع الأرض ناثرا بذوره
(الراعي هو في الماء مع الأسماك يتناجى مع (صنف من السمك) ويتبادل التحيات مع (صنف من السمك) يا مغرب من أين جاء الراعي؟ انه من بلاد المغرب)
وهنالك مقطوعة مرفوعة لأوزيريس الملقى في النهر. وقد هشمته الأسماك، وأجزاؤه المتناثرة على الأرض قد أخصبت تلاع الأرض. والذين يحملون، على أكتافهم، الأسياد الضخام؛ يخففون من أتعابهم بأنشادهم.
(إن حاملي الهودج هم في سرور
ولأن يكون الهودج ملآن خير من أن يكون فارغاً)
وعصر ثان تفتح في عهد الثورة الاجتماعية بين المملكة القديمة والمملكة الوسطى. فازدهرت الفصاحة فيه أيما ازدهار، وترك الأدب الديني محلا للأدب الاجتماعي، فانقضى(15/30)
عصر الأدب الحجري وأصبح يدون منه شيء على ورق البردي، وبهذا خفف الفكر عنه بانعتاقه من السجن الحجري. فأصبح كل شيء يدعو إلى الملاحظة، ويغري بالتأمل، وأصبحت العقول المثقفة تشعر بالضيق وتحس بالشك واليأس، والشعب تدفعه عوامل الرغبة إلى المعرفة واللذة، نشوان بنجاح جرأته، وكما يكون الأمر في كل ثورة، تصطدم الحركة العقلية بالقوة الجارفة، فلا يكاد يجد العقل متسعا ولا فراغا للإنتاج، على أنه برغم ذلك قام بعض متأملين معتزلين وألقوا بذورا مثمرة في هذا المجتمع يوم ثورته. وفي عهد ملوك (هيراكليوبوليس) دوَّن المصريون (تعاليم للملك مريكارا) وهجاء الضائع، وأنين الفلاح. وكلها مرايا تنعكس فيها الحالة السياسية التي شرحناها من قبل. وفي العهد نفسه نشأت موضوعات مختلفة (أيام الفوضى) وضعها أصحابها على لسان حكيم هرم أو كاهن، وشكاوي طرحها (مبغض للبشرية) بينه وبين نفسه، وفي كل هذا نرى الشعور الديني قد ضعف شأنه، وهنالك حيث تحطم النظام الاجتماعي الاول نرى التعاليم الاعتقادية قد تقوضت ووهن تأثيرها في النفوس.
في الأسرة الثانية عشرة على أثر الانعتاق من الروابط السحرية التي تلت عصر الثورة، حل شيء من الثقة في النظام، وأصبح المجتمع تسيطر عليه شرائع عادلة، والأدب الجديد الديني المنقوش على الصفائح والتوابيت، وعلى ورق البردي كان يعمل على إنماء الخواطر التي تدفع بالإنسان الفاضل إلى التلذذ بالنعيم الإلهي في العالم الثاني. وفي هذا العصر ازدهرت مدرسة أدبية عنيت بتهذيب اللغة وتنقيح الأسلوب، ونحن مدينون لأصحابه بقصص لطيفة منها (سيروت) و (الغريق) وهذه قصة حادثية تحوي أهواء مسافر طرحته المقادير في صحراء، أو ساقته إلى بحار مجهولة. وهنالك مشروع ساعد على تهذيب موظفي الحكومة وتثقيفهم، فنشأ من كل ذلك موضوعات وصفية وعاطفية وقصصية تؤلف أدب ذلك العصر كله، بل الأدب (الكلاسيكي) لمصر القديمة
والأدب، في الدولة الحديثة، فاض معينه، وتوثبت أمواجه إلى شواطئ حرة، وأساليب غير مقيدة. والدولة الحديثة قد حطمت قيودها وفتحت لنفسها ينابيع جديدة (للتحسس) حتى أصبحت الفنون في عهد (العماونه) عالمية.
والأدب الحديث حطم قيود المدرسة الأدبية واستطاع أن يدخل على لغته المختارة بساطة(15/31)
اللغة العامية. ولم يكن من طريق الاتفاق ما رأيناه في كتابات (ايكوناتون) لأول مرة من التطورات الصرفية والنحوية التي طغت على الأسلوب الخاص ولهجة الشعب بما فيها، وأدخلت (أداة التعريف وأفعال المساعدة، والبناء الصرفي (أو الاشتقاق). والقصص الصغيرة التي كتبت للأطفال خير مثال لنا، والأدب الديني نفسه قد تطور وتشذب ليدنو من أدب الشعب وروحه: وأغاني (آمون) الذائعة الصيت تبث بسلامة قلب محبة الخلائق المتواضعة.
بعض نصائح أخلاقية من تعاليم (آتي):
يقول: (ضاعف الخبز الذي تحمله لأمك، واحمله لها كما حملته لك، عندما ولدت وبعد ولادتك بشهور، حملتك على حضنها، وثلاثة أعوام ظل ثديها يدر في فمك، فلم يأخذها سأم منك ولم تقل لنفسها يوما: لماذا أصنع هكذا؟ قادتك إلى الكتاب وبينما أنت تتعلم الكتابة كانت تنقل لك من بيتها خبزا ونبيذا. وغدا إذا صرت كبيرا وصار لك امرأة، ووجب عليك تدبير منزلك فأرجع بصرك إلى العصر الذي كنت فيه طفلا على حضن أمك يوم لم تصخب عليك ولم تبسط يدها لله الذي لم يسمع لها أنينا. . .)
ثم يذكر الأخلاقي علاقة الرجل مع المرأة فيقول:
(احترس من المرأة الأجنبية المجهولة في مدينتها، هي كالماء الواسع العميق لا يدري ما تحت أعماقه
واحذر المرأة التي يغيب بعلها، وتتصدى لك كل يوم قائلة لك (إنني جميلة) ليس هنالك من شهود، ولكن الخطيئة عظيمة جدير صاحبها بالموت إذا فشت!)
خليل هنداوي
-(15/32)
على ذكر الشعر المرسل
الشكل والموضوع حول قصيدة الآنسة سهير القلماوي
في الأدب كما في القانون شكل وموضوع، وكما يرفض القاضي الطعن في حكم ما شكلا ويقبله موضوعا، فقد يرفض القاريء قصيدة ما شكلا وان قبلها موضوعا، والشكل في الأدب لا يقل في خطره عن الموضوع، فكم من قطعة أدبية أفسد أسلوبها موضوعها، وكم من قصيدة ذهب قبح نظمها بجمال معناها، وكم من قصيدة رقيقة اللفظ جميلة الأداء، في كلماتها عذوبة وفي نظمها اتساق، غير أن المعنى الجليل فارق فيها اللفظ الجميل، والخيال السامي بعد فيها عن الأداء الحسن، وهي مع ذلك خالدة على الدهر سائرة كالمثل.
وقد قرأنا للآنسة الأديبة سهير القلماوي في عدد الرسالة الماضي قصيدة نظمتها، فراعت فيها كما قالت خاصتين من خواص الشعر العربي وهما الوزن وتمام المعنى في البيت الواحد، وأهملت الخاصة الثالثة وهي القافية، فعنيت بالموضوع وأهملت الشكل، وكان الأجدر بها وقد أرادت أن تتبع سنة التجديد في الشعر العربي ألا تجيء إلى ركن من أهم الأركان الفنية فيه فتمحوه وتهمله وتقرب الشعر بذلك إلى النثر، فلست أرى الشعر المرسل إلا نثرا موزونا نخشى أن تمتد إليه يد التجديد فتنتزع منه الوزن أيضا. ولو قد أنصفت لأهملت تمام المعنى في البيت الواحد وراعت القافية فهي التي تعد بحق وباطراد من خواص الشعر العربي البارزة التي تميزه من كل شعر سواه، والتي أكسبته روعة خاصة، وأشركت الحس مع العقل فيه، وهيأت له السمع والإدراك، وجمعت للقارئ بين لذة التوقيع ولذة الفكر والفهم، وربما قيل أن التوقيع إنما جاء من الوزن لا من القافية، ولكن اصطدام القارئ بحروف متغايرة في أواخر الأبيات يشعره بفقدان الوزن في ثناياها.
أما تمام المعنى في البيت الواحد فلم يكن من خصائص الشعر العربي، وإنما كان من خصائص الشعراء العرب، فليس يدخل إذن في أصول الفن الشعري التي لابد للشعر منها كالوزن القافية، فقد كان العرب أميل إلى الإيجاز والإلمام بالمعنى في غير توسع ولا إطناب، ومن هنا كان حرصهم على إتمام المعنى في البيت الواحد كبيرا، حتى جرى الكثير من أبياتهم مجرى الأمثال لاحتوائه على المعنى الجليل في اللفظ القليل، ومن هنا جاز لنا وقد تغير العصر وبعد الزمان وتغيرت الأذواق إلا نتبع سنة القوم في ضرورة إتمام المعنى(15/33)
في البيت الواحد، على أن الشعر العربي لم يخل من قصائد لا يمكننا أن نقف فيها على كل بيت لعدم تمام المعنى فيه، ولكنه خلا تماما من قصيدة لم تنته بحرف واحد.
وقد يقال أيضا أن الشعر إذا أطلق من قيده وأعفى الشعراء من التزام القافية فيه أصبح الأمر مألوفا تقبله الأذواق وتعتاده الأسماع، ولكننا إذا عدنا إلى قراءة الشعر العربي القديم وما نظمه المحدثون من شعر مقفى، وهذا كله كثير ثمين فسنشعر بالفرق بين الشعرين وسنعود إلى القافية نستحسن مراعاتها والتزامها، ولا أحسب أحدا يدعونا إلى ترك الشعر القديم وإهماله لنفسح المجال للشعر المرسل في غير حاجة ملحة ولا ضرورة ملجئة، وإذن فالتجديد في الشعر بإرساله دعوة لا تقوم على أساس من الفن يصلح لأن يطغى على القافية فيمحوها من الشعر العربي
وتشعر الآنسة ان المعنى إذا تم في البيت الواحد لم نحس بإهمال القافية، وهذا صحيح إذا كان الشعر معنى فقط لا دخل للحس فيه، ألا ترى الآنسة أن بعض أبيات قصيدتها وقد راعت فيه القافية كان ألذ للسمع من البعض الآخر الذي أهملتها فيه. هذا قولها:
قد أوهنت عظامه السنين ... وغضنت جبينه العصور
وقسوة المسعى وراء العيش ... قد أفقدته جزءه الإنساني
ألا ترى أن إهمال القافية في البيت الثاني قد جعله نابيا غريبا على السمع، فقبله الإدراك لحسن معناه، ورفضه السمع لاختلافه مع سابقه في مبناه؟ وهذا قولها:
يا سادة العبيد والأراضي ... كيف لقاء الرب يوم الدين؟
يوم مثوله أمام الله ... بعد سكون الساع والسنين
ألا ترى أن مراعاة القافية فيه قد كسبه جمالا وتهيأت له الإسماع والافهام؟ أؤكد للآنسة أن إهمال القافية لا يغني عنه تمام المعنى في البيت الواحد، وان شعور الكاتب نفسه لا يكفي دائما للحكم على آثاره الأدبية.
محمد قدري لطفي. ليسانسييه في الآداب(15/34)
فلسفة سبينوزا
للأستاذ زكي نجيب محمود
شرحنا في المقال السابق فلسفة سبينوزا الميتافيزيقية التي تتلخص في أن في الكون حقيقة واحدة خالدة، هي عبارة عن قانون عام شامل لا ينقص ولا يزيد. هذه الحقيقة الخالدة، أو هذا القانون الشامل، لا يمكن أن يعبر عن نفسه ويفصح عن حقيقته إلا بواسطة الأجسام المادية، فاتخذ من تلك المادة التي تملأ جوانب الكون، قوالب وأشكالا لكي يبرز عن طريقها إلى عالم الواقع المحسوس، وهذه الصور والأشكال المادية التي تتخذ وسيلة للتعبير عن ذلك القانون الخالد، لا تظل على هيئة خاصة معينة، فهي متغيرة متبدلة أبدا، بل قد تزول وتفنى، ولكن تلك الحقيقة نفسها باقية خالدة لا تفنى ولا تزول، بل لا تنقص ولا تزيد، وهي لا تفتأ تلبس هذا الثوب المادي وتخلع ذاك إلى أبد الآبدين. وذكرنا أن ذلك القانون الأعلى وهذه الطبيعة شيء واحد لا يقبل التجزئة.
ونزيد في هذا المقال أن نتناول بالشرح الموجز فلسفته الأخلاقية والسياسية إتماما للبحث:
الذكاء والأخلاق
للأخلاق فلسفة متضاربة متناقضة، فهذا الفيلسوف يدعو إلى نظام أخلاقي معين، وذاك يروج لنقيضه، وثالث يقف بين بين، يأخذ من هذا وذاك بمقدار. فهذه المسيحية تبشر بفضائل الاستكانة والتواضع، وتدعو الناس إلى العطف والرحمة والإيثار، وتعلم الناس أنهم جميعا سواسية لا يمتاز رجل على رجل، ترد الشر بالخير، وتميل في السياسة إلى الديمقراطية المطلقة من كل القيود، وهي تعتبر المحبة أساس الفضيلة. . وذانكم مكيافلي ونيتشه يدعوان الناس إلى التخلق بأخلاق الرجولة القوية الصحيحة، وينكران المساواة بين الناس، فمنهم الضعيف ومنهم القوي، وفيهم العبقري الفيلسوف وفيهم الغبي الأبله، ويحفزان الناس إلى نبذ السلم والمغامرة في معمعان العراك والقتال ليحرز النصر من هو جدير بالنصر، وليتربع على الحكم من يستحق الحكم والسلطان، والفضيلة عندهما هي القوة، ويميلان في السياسة إلى الاستبداد والأرستقراطية الوراثية، فمكيافلي يصرح في كتابه (الأمير) بكل جرأة: (أن الأمير الذي يريد حفظ كيان دولته، لابد له في كثير من الأحيان أن يخالف الذمة والمروءة والإنسانية والدين) كما يحبذ نيتشه سياسة بسمارك التي تنتصر(15/35)
بالحديد والدم.
وبين هذين النقيضين يقوم نظام أخلاقي وسط بين حب المسيح وقوة نيتشه، دعا إليه أرسطو، ومؤداه المزج بين أخلاق الضعف وأخلاق القوة، ويريد أن يلقى بزمام الأمر إلى العقل المثقف الحكيم، فهو وحده الذي يصح أن يؤتمن على اختيار الأخلاق الملائمة للمواقف المختلفة، فهو يعرف متى يلبس لبوس الحنان والعطف، ومتى يتنمر ليفترس، ومعنى ذلك أن الفضيلة عند أرسطو هي الذكاء، ويميل في السياسة إلى مزيج من الأرستقراطية والديمقراطية
ثم جاء سبينوزا فأخذ ينسج من هذه الصور وحدة خلقية متناسقة. وهو في هذا يسير سيرا منطقيا دقيقا حتى ينتهي إلى نتائجه التي يقدمها، فهو يبدأ بتقريره أن السعادة هي الغرض المقصود من الأخلاق الفاضلة. ولكن ما هي هذه السعادة التي نتجه نحوها ونقصد إليها؟ هي عنده في بساطة لا لبس فيها ولا غموض، وجود السرور وارتفاع الألم. ولكنا نعود فنقول: وما السرور والألم؟ أهما حالتان معينتان؟ أم هما نسبيان يختلفان باختلاف الأشخاص؟ هنا يجيب سيبنوزا بأنهما ليسا حالتين، أي ليس ثمة حالة مستقرة يقف عندها المرء قائلا: هنا السعادة، وهناك الألم. إنما السعادة شعور بانتقال النفس إلى درجة أدنى إلى الكمال، والألم شعور بانتقالها إلى مرتبة أبعد عنه. ولما كان الكمال عنده هو القوة، لا قوة نيتشه الغاشمة العمياء التي تقوم على الغريزة الوحشية، ولكنها القوة العقلية المتزنة. فكلما درجت صاعدا في سبيل هذه القوة العقلية كنت أقرب إلى الكمال، وكنت بالتالي سعيدا مطمئن النفس. ومعنى هذا أن العواطف والمشاعر هي مسالك أو طرق تسير فيها النفس، مقبلة نحو القوة تارة، مدبرة عنها طورا. (لاحظ العلاقة بين كلمتي ووكذلك بين كلمتي ولتدرك العلاقة القوية في اللفظ بين ألفاظ الحركة وألفاظ العواطف والمشاعر. ومثل هذه العلاقة موجودة أيضا في اللغة الفرنسية) فالفضيلة والقوة عند سبينوزا شيء واحد، أي أن الفضيلة هي زيادة فاعلية النفس التي تعمل على حفظ البقاء. وكلما اتسعت مقدرة الإنسان على حفظ وجوده ازداد ما يتحلى به من فضيلة. وبعبارة أوضح يعتقد سبينوزا أن أساس الفضيلة هي الأنانية المعتدلة التي تعينك على الاحتفاظ بوجودك، وهو لا يرى في حب الشخص لنفسه ضررا يلحق بالأخرين، واذن فلا خير في أن تضحي بنفسك من أجل(15/36)
غيرك إلا إذا كان في ذلك قوة لك، وهكذا يجب أن يحب كل إنسان نفسه، وان يلتمس كل وسيلة ممكنة تأخذ بيده إلى مرتبة أدنى إلى الكمال
فأنت ترى من ذلك أن سبينوزا لا يبني الأخلاق على الإيثار والخير الطبيعي، ولا على الأنانية البشعة والشر الطبيعي، ولكن على أنانية معقولة لا يجد منها مفرا لحفظ البقاء وعنده أن هذه الأنانية المعتدلة التي يمليها منطق الحياة نفسها لا يمكن أن تباعد بين مصالح الأفراد، أو تبذر بذور البغضاء في النفوس، لذلك تراه لا يتمالك نفسه حيرة في هذا التحاسد والتنابذ والكراهية، وهو يائس من أن يبرأ المجتمع من علله وأمراضه قبل أن يهذب الناس من هذه العواطف ويصلحوها، وهو ينصح لنا أن نبادل أعدائنا حبا بكره، ذلك لأن الكراهية تنمو وتتغذى إذا وجدت لها صدى من كراهية مثلها في نفوس الآخرين. وهو بمحاربة هذا التباغض، ينشد فينا النخوة الحق والرجولة الصحيحة، فأنت حين تشعر بالكراهية نحو غيرك، فإنما يكون ذلك اعترافا صريحا منك بانحطاطك دونه وخوفك منه، لأنك لا تكره عدوا تثق بأنك تستطيع أن تتغلب عليه في سهولة وتدحره في غير عناء.
وإذا كانت عواطفنا الغريزية كما نرى حائرة السبيل يعوزها الدليل الأمين، فلا يجوز إذن أن نلقي بزمامنا اليها، إنما يجب أن يكون الفكر وحده رائدنا، ولكن سبينوزا لا يريد أن نكبح الغرائز جملة واحدة، لا بل نستغلها ونتخذ منها دافعا يسوقنا تحت سيطرة العقل وإشرافه، فتكون هي بمثابة قوة البخار الذي يدفع القطار، ويكون العقل بمثابة السائق الذي يتحكم في سيره ووقوفه، وحجته في عجز الغرائز وحدها عن القيادة، انها متضادة الأغراض متضاربة المقاصد، فإذا ما تركناها على سجيتها، انطلقت كل واحدة تسعى في إشباع رغبتها، دون أن تراعي صالح الكل، وإذن فلابد من رقابة رشيدة تعمل أولا وقبل كل شيء لما فيه خير الشخص كمجموعة متحدة، بأن نكبح بعض الغرائز حينا، ونطلق بعضها الآخر حينا، حسب ما يتطلبه الموقف، ومعنى ذلك كله أن الفضيلة مرهونة بالمعرفة أو الذكاء
والذكاء وحده هو الوسيلة التي نستطيع بها أن نحرر أنفسنا من سيطرة الغرائز التي تفرض عليها سلوكا معينا، وتعمل جهدها لقسرنا عليه، فنحن عبيد لها بقدر انسياقنا لما تمليه علينا، أي أن سلبية العاطفة عبودية للآنسان، وحريته في فاعلية العقل. فالحرية(15/37)
الشخصية متوقفة على المعرفة، وفي ذلك يقول ديوي أستاذ الفلسفة في جامعة كولمبيا بالولايات المتحدة: (إن الطبيب أو المهندس يكون حرا في فكره وعمله بمقدار ما تتسع معرفته في المهنة التي يباشرها، وقد تكون هذه المعرفة مفتاح الحريات جميعا)
بناء على ذلك يكون السوبرمان (الإنسان الأعلى) الذي ينشده سبينوزا هو الذي يستطيع أن يحرر نفسه من سلطان الغرائز، وليس هو الذي يتخلص من القيود الاجتماعية العادلة كما صوره نبتشه. يقول سبينوزا: (ان من يعملون الخير بناء على إرادة العقل، ويلتمسون النفع الذي يدل عليه المنطق الصحيح، هؤلاء في الواقع ينشدون مع خير أنفسهم صالحا للإنسانية عامة) فلأن تكون عظيما لا يعني أن تضع نفسك فوق مستوى البشر لتنشب أظفارك في أعناقهم كما يريد نيتشه، ولكن العظمة هي أن تترفع عن سخف الرغبات الغريزية، التي لا يشرف عليها عقل متزن حكيم، ليست العظمة في أن تحكم الآخرين، وإنما هي في أن تحكم نفسك
هذه الحرية التي تستطيع أن تنعم بها من السيطرة على نفسك هي أشرف مما يسمونه حرية الإرادة، لأن الإرادة مجبرة مسيرة، أو قل ليس ثمة إرادة ما، لأن الإرادة والفكر وجهان لحقيقة واحدة. وهنا يلاحظ سبينوزا أن ليس في جبر الإرادة نقيصة يؤسف عليها، بل هو يهذب الأخلاق ويسمو بها إلى مستوى رفيع، فهو يعلمنا ألا نحتقر انسانا، كائنا ما كان موضعه من المجتمع، لأنه غير مسئول عن ذلك الموضع، إنما كتبت له الإرادة العليا أن يكون حيث هو. والجبر كذلك يوحي إلينا الرضى عما قد يبديه الدهر من قسوة وغلظة، لأننا نعلم أنه إن ظلم وجار في ناحية معينة، فلابد أن يكون ذلك لصالح الكل، ما دامت الأفراد جزءا من جسم الوجود المتحد
الرسالة السياسية
كان صوت سبينوزا واحدا من تلك الأصوات التي انطلقت تصيح بحرية الإنسان. ففي نفس الوقت الذي كان فيه (هوبز) يدافع عن الملكية في إنجلترا، ويقاوم بنظريته قوة الشعب الإنجليزي التي أخذت تناهض استبداد الملك، كتب سبينوزا فلسفته السياسية، وهي تعبر تعبيرا صادقا عن الديمقراطية التي بدأ يختلج حلمها الجميل في نفوس الناس عندئذ، والتي أخذت تنمو وتنمو حتى بلغت ذروتها عند روسو، ثم تدفقت ثورة عنيفة في فرنسا(15/38)
يقدم سبينوزا بادئ الأمر هذه البديهية التي لا تحتمل الشك، وهي إن الإنسان في أول نشأته كان يعيش منفردا غير مجتمع، فلا يرتبط مع غيره بقانون ولا نظام، لا يفهم معنى الحق ألا ما يستطيع أن يستولي عليه بالقوة، وإذن لم يكن ذلك الإنسان الأول يدرك معنى الخير والشر، لأنهما عبارتان اصطلح عليهما بعد تكوين المجتمع، إذ أطلقتا على بعض الأعمال التي تواضع عليها الأفراد، أما قبل ذلك فكان الفرد يتصرف حسب ما تملي عليه شهوته، وبالطبع لم يكن مسئولا عن تصرفاته إلا أمام نفسه، ومعنى هذا أن الجريمة لم يكن لها وجود في الحياة الطبيعية الأولى، لأنها لا تدرك إلا في حالة المدنية، حيث يتفق الجميع على تحديد الخير والشر، ويصبح كل إنسان مسئولا عن ذلك أمام هيئة معترف بها هي الدولة
وأنت تستطيع أن تتمثل الحياة الطبيعية الأولى التي لم تكن تفرق بين الخير والشر، أو بعبارة أخرى بين ما يجوز عمله وما لا يجوز، في علاقة الدول بعضها مع بعض، إذ لا يربطها نظام خلقي معترف به في قوة النظام الذي يربط الأفراد، ولا تشرف عليها سلطة عامة نافذة الإرادة كما هي الحال بين الأفراد، لذلك كان الحق في العلاقات الدولية هو القوة (يلاحظ أن اسم الدولة العظمى بالإنجليزية هو وفي هذا إشارة صريحة تؤيد هذا المعنى) إذ لا تفهم الدول على وجه الدقة معنى الخير والشر كما يفهمها الأفراد
كان الناس إذن يعيشون بادئ الأمر كما تعيش الدول الآن، ليس لأحدهم عند الآخر حقوق، ولكن لم يلبث الإنسان أن شعر بحاجته إلى التعاون لدرء ما يتعرض له من الخطر، فاتفق الأفراد فيما بينهم على أن يتآزروا إذا دهمهم داهم من سوء، ومعنى ذلك أن الإنسان ليس مدنياً بالطبع، ولكنه اجتمع لدفع أخطار الحياة. وحسبك دليلا أن تلقى نظرة عجلى على الغرائز الإنسانية، لترى كيف أن الغرائز الاجتماعية أضعف جدا من الغرائز الفردية، فالإنسان يسعى لخيره أولا ثم يسعى لخير الدولة، بل هي الأنانية أيضا التي تدفعه للسعي وراء خير الدولة، لأنها دولته هو، ويريد أن يسعد بسعادتها.
اضطر الإنسان إذن إلى الاجتماع بعد تلك الحياة الفردية، فتواضع الجميع على حدود خاصة لا يجوز لواحد أن يشذ عنها، بحيث يصبح لكل إنسان الحق في أن يتصرف كيف شاء، دون أن يخرج على تلك الحدود المرسومة، أي أن له أن يستمتع بكل ما له من قوة(15/39)
شخصية دون أن يغير على حرية الآخرين، وبعبارة أخرى اتفق الأفراد على أن ينزل كل منهم عن بعض حقوقه الطبيعية لهذه الجماعة المنظمة، في مقابل أن يأمن ويطمئن على حقوقه الباقية، أي أن قانون الجماعة يجب ألا تزيد وظيفته على الأشراف العام، بحيث يسعى كل فرد حرا، في غير تضارب ولا تنافر بين الأفراد، أي أن القانون الكامل يجب أن يكون للأفراد بمثابة العقل للعواطف: يحسن تصريفها بحيث يزيد نشاطها من قوة الكل، دون أن تتعرض واحدة منها لنشاط الأخرى
(فالغرض الأسمى من الدولة إذن، لا أن تحكم الناس، ولا أن تحد من مجهودهم، بل يجب أن تؤمن الإنسان من كل المخاوف، حتى يعيش ويعمل في طمأنينة تامة. . . الغرض من الدولة أن تدع الناس يعيش بعضهم بجانب بعض، كل يستغل قوته العقلية في صالح المجموعة، حتى لا تتبدد قواهم في التنابذ والتنافر، إذن فالغرض الأسمى من الدولة هو الحرية)
وظيفة الدولة العليا أن تكفل للأفراد حريتهم، ومعنى ذلك أن الديمقراطية هي المثل الأعلى لنظام الحكم، ثم يستدرك سبينوزا بقوله أن ضرر الديمقراطية الوحيد هو ميلها إلى وضع غير الأكفاء في مناصب الحكم، ولذلك ينصح علاجا لذلك أن يتسلم إدارة الدولة جماعة من ذوي العقول الجبارة، كي يسيروا بها بعيدا عن مواطن الزلل. . . .
وفاضت روح سبينوزا وهو يكتب للناس رسالة الحرية(15/40)
ياليتني. . .
إذا أطل البدر من خدره ... فإنما يطلع كي تنظريه
وان شدا البلبل في وكره ... فإنما يشدو لكي تسمعيه
وان يفح عطر زهور الربى ... فإنما يعبق كي تنشقيه
يا ليتني البدر الذي تنظرين!
يا ليتني الطير الذي تسمعين!
يا ليتني العطر الذي تنشقين!
أواه لو تصدق (يا ليتني)!
إيليا أبو ماضي(15/41)
العبقرية. علم وأدب وفن
للأستاذ الحوماني
واختلال نظام الحياة في الجسم مدعاة كبرى لاختلال نظام الحياة في الروح لشدة تلازمهما بشدة امتزاجهما، فإذا كان لمحيطك جزء فيك ولك فيه مثل ذلك بصحبتك إياه زمنا ما، فما قولك بصحبة الروح للجسم أزمانا يقصر العقل دون حدها؟
ولا تنس أنك وأنت تلحظ ما يدفعك اليها مستعرضا ما يحف بها من هذه العوامل، أنك جد عاجز عن لحاظ ما يردعك عنها من مرجحات العفاف.
وهكذا تراك، وأنت تلحظ مرجحات الفعل قاصراً بطبعك أن تلحظ مرجحات الترك، ضرورة أنه يستحيل على المرء أن يفكر في أمرين في وقت واحد فيجمع بين النقيضين، فاحفظ هذه لترجع اليها قريبا.
فالذي يدفعك إلى هذا العمل أو سواه من وراء الإرادة لقوة عوامل الدفع من الخارج في نفسك، والذي يردعك عنه لقوة نقيضها من عوامل الردع، والذي تستعرض به هذه العوامل أو غيرها في المجتمع، والذي يميز هذه الخواطر وهو يتصفحها فيفاضل بينها، والذي يخزنها في إحدى زوايا النفس أو يطبعها على صفحات القلب، والذي يستخرجها عند مسيس الحاجة إليها ويبحث عنها فيما إذا خفيت وراء الضمير، والذي يدرس بها الحوادث الخارجية درساً يستحيل مَلكَة في النفس تعصمها عن الزلل في الحياة، والذي تحس به ما تمسك إليه الحاجة في نفسك أو في بدنك، والذي يلهب جسمك تصوره ويحدم صدرك بما يتأثر به من عامل، والذي يزاوج بين محسوساتك فيستخرج من الحقيقة خيالا عن طريق الإبداع في التصوير، كل ذلك واحد لا تتعدد حقيقته، وجزئي فيك من ذلك المعنى الكلي تتعدد أسماؤه بما يتكيّف به من شكل ولون خارجيتين
فإذا استعرض الحوادث وحاكم بينها ليميز حسنها من قبيحها كان فكراً، وإذا حملك على فعل الحسن لقوة ما يحفه من عامل خارجي كان عقلا. وإذا دفع بك إلى اقتراف الإثم لما تحصّل عنده من ترجيح بسبب ما يحفه من عامل كان هوى، فإذا خزن ما يمر به من خواطر في إحدى زوايا النفس سمي حافظة، ثم إذا هو استخرجها بعد حين أو راح يبحث عنها سمي ذاكرة(15/42)
وإذا درست به الحوادث فربى فيك ملكه الاستنباط سمى حذقاً ودهاء، وهكذا قد تتصور به مباشرة أو عن طريق حواسك ما تنفعل به نفسك فينتج سروراً أو حزناً ينتجان لذة أو ألما فتدعو ما ينتج عنه عاطفة.
وقد يبدع في التصوير أو يتصور مرغما بدافع الوهم الخارجي فيعطيك على طريق العبث بالحياة أو الخطأ في التصور صورا خيالية ينتزعها من الحقيقة فتسميه خيالا أو وهماً
فالعقل والفكر والحذق والحافظة والذهن والفطنة والذكاء والحلم والهوى النفس الأمارة بالسوء والشيطان، كل ذلك مصدر، واحد لهذا العمل الخارجي، يتلون بالعوامل التي تحف بالعمل محسنه ومقبحه، يلبس لكل مؤثر لونا غير لونه مع مؤثر آخر، ويدعى معه باسم كان قد دعي مع غيره باسم آخر
أما استلزامه في الدين حكم الجبر فذلك مما أرجحه، والدين إنما كان لتربية المجتمع تدريجا ليستحيل الهوى فيه عقلا، ويحول المثل الأدنى فيه مثلا أعلى بحكم التطور، إذ الخصائص النفسية بعد الإرادة غرائز تكونت من الكسب الاجتماعي، والجبر لا مناص منه قبل هذه الاستحالة وبعدها، فالمرء مع الهوى المطلق مجبر على كونه شيطانا، ومع العقل المطلق مجبر على كونه ملكا.
فعلى هذا يكون مناط المثل الأعلى والمثل الأدنى في المرء واحدا ولكنه باعتبارين مختلفين، ولا عجب في ذلك فالمرء يجمع الأضداد، فبينما هو الحليم الرزين في حالة، إذا هو الأحمق الطائش في حالة أخرى، وبينما هو الشجاع المقدام في مشهد، إذا هو الجبان الرعديد في مشهد آخر، فليس ذلك ناشئا فيه إلا بفضل هذا السر الغامض الكامن في نفسه المتلونة. وربما استقام لنا أن نخص المثل الأعلى بالعقل، ونعزو المثل الأدنى للإرادة، إنما لابد لنا ونحن نمشي مع رغباتنا إلى العمل السيء بعد المحاكمة العقلية وثبوت قبح هذا العمل لدى العقل أن نتساءل أين ذهب عنا ما نسميه عقلا فلا نحصله إذ ذاك إلا بعد أن نلتفت إليه؟
فما هو هذا الذي نلتفت به إلى العقل؟
هل هي الإرادة وهي التي تدفعنا؟
ثم أين يكون العقل ونحن في انغماس بما تحملنا الإرادة على الخوض فيه خلاف العقل؟(15/43)
فهل نفقده إذ ذاك ويكاد يكون جزءاً مقوما في النفس، والنفس بمجموعها تيار لا ينفك متلاطما، ولا يخبو له نشاط حتى يتعطل ما يمسكه من آلة.
فهل يذهب به إذ ذاك اختلال مركزه العصبي بينما نستطيع استرجاعه بأقل التفات؟
(النبطيه) جبل عامر(15/44)
بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام
للأستاذ محمد عبد الله عنان
وبينما قامت الدولة الإسلامية ثابتة وطيدة الدعائم، وقامت في جميع أقطار الخلافة حكومات محلية قوية ومجتمعات إسلامية مستنيرة، وجيوش غازية منظمة، إذا بمجتمع القبائل الجرمانية غزاة رومة من الشمال ما يزال إذا استثنينا مملكة الفرنج على حالته من البداوة والتجوال والتفرق. وكان الفرنج هم قادة القبائل الجرمانية في هذا الصراع الذي نشب في سهول فرنسا وآذن طوره الحاسم بعبور المسلمين إلى فرنسا في ربيع سنة 732، وكان سيل الفتح الإسلامي ينذر باجتياح فرنسا منذ عشرين عاما أعني مذ عبر المسلمون جبال البرنيه بقيادة موسى بن نصير لأول مرة واستولوا على سبتمانيا ثم اقتحموا بعد ذلك وادي الرون واكوتين أكثر من مرة. ولكن مملكة الفرنج كانت يومئذ تشغل بالمعارك الداخلية وتقتتل حول السلطان والرياسة حتى ظفر كارل مارتل بمنصب محافظ القصر، وأتفق أعواما أخرى في توطيد سلطانه؛ بينما كان خصمه ومنافسه أودو أمير أكوتين يتلقى وحده ضربات العرب. فلما استفحل خطر الفتح الإسلامي وانساب نحو الشمال حتى بورجونيا منذ ولاية الهيثم فزع الفرنج وهبت القبائل الجرمانية في أوستراسيا ونوستريا لتذود عن سلطانها وكيانها.
وكان الخطر داهما حقيقيا في تلك المرة لأن المسلمين عبروا البرنيه عندئذ في أكبر جيش حشد وأتم أهبة اتخذت منذ الفتح. وكان على رأس الجيش الإسلامي قائد وافر الهمة والشجاعة والبراعة هو عبد الرحمن الغافقي وهو أعظم جندي مسلم عبر البرنيه. وكان قد ظهر ببراعته في القيادة منذ موقعة تولوشة حيث استطاع إنقاذ الجيش الإسلامي من المطاردة عقب هزيمته ومقتل قائده السمح والارتداد إلى سبتمانيا. وتبالغ الرواية الفرنجية في تقدير جيش عبد الرحمن وأهبته فتقدره بأربعمائة ألف مقاتل، هذا غير جموع حاشدة أخرى صحبها لاستعمار الأرض المفتوحة. وهو قول ظاهر المبالغة. وتقدره بعض الروايات العربية بسبعين أو ثمانين ألف مقاتل، وهو أقرب إلى الحقيقة والمعقول. بل لقد أثارت هذه الغزوة الإسلامية الشهيرة وهذا الجيش الفخم خيال الشاعر الأوربي الحديث، فنرى الشاعر الإنجليزي سوذي يقول في منظومته عن ردريك آخر ملوك القوط:(15/45)
(جمع لا يحصى، من شام وبربر وعرب وروم خوارج. وفرس وقبط وتتر عصبة واحدة. يجمعها إيمان هائم راسخ الفتوة. وحمية مضطرمة واخوة مروعة. ولم يك الزعماء أقل ثقة بالنصر. وقد شمخوا بطول ظفر. يهيمون بتلك القوة الجارفة التي أيقنوا أنها كما اندفعت حيثما كانوا بلا منازع ستندفع ظافرة إلى الأمام حتى يصبح الغرب المغلوب كالشرق. يطأطيء الرأس إجلالاً لاسم محمد. وينهض الحاج من أقاصي المنجمد. ليطأ بأقدام الإيمان الرمال المحرقة. المنتثرة فوق صحراء العرب وأراضي مكة الصلدة)
ونفذ عبد الرحمن في جيشه الزاخر إلى فرنسا كما قدمنا في ربيع سنة 732م (أوائل سنة 114هـ) واقتحم وادي الرون وولاية اكوتين وشتت قوى الدوق أودوا طبق ما أسلفنا، وأشرف بعد هذا السير الباهر على ضفاف اللوار. وتقول بعض الروايات الكنسية أن أودو هو الذي استدعى عبد الرحمن إلى فرنسا ليعاونه على محاربة خصمه (كارل مارتل). ولكن هذه الرواية مردودة غير معقولة لما قدمنا من أن أودو هو الذي بادر إلى مقاومة عبد الرحمن ورده، وكانت مملكته وعاصمته أول غنم للمسلمين. وكان ملك الفرنج يومئذ تيودريك الرابع، ولكن ملوك الفرنج كانوا في ذلك العصر أشباحا قائمة فقط. وكان محافظ القصر كارل مارتل هو الملك الحقيقي يستأثر بكل سلطة حقيقية وعليه يقع عبء الدفاع عن ملكه وأمته، وكان منذ استفحل خطر الفتح الإسلامي يتخذ أهبته ويحشد قواه، ولكن عبد الرحمن نفذ إلى قلب فرنسا قبل أن يتحرك للقائه. وترد الرواية الإسلامية هذا البطء إلى خطة مرسومة مقصودة فتقول في هذا الموطن (فاجتمعت الفرنج إلى ملكها الأعظم قارله وهذه سمة لملوكهم، فقالت له ما هذا الخزي الباقي في الاعقاب؟ كنا نسمع بالعرب ونخافهم من جهة مطلع الشمس حتى أتو من مغربها استولوا على بلاد الأندلس وعظيم ما فيها من العدة والعدد يجمعهم القليل وقلة عدتهم وكونهم لا دروع لهم. فقال لهم ما معناه: الرأي عندي ألا تعترضوهم في خرجتهم هذه، فانهم كالسيل يحمل من يصادره، وهم في إقبال أمرهم، ولهم نيات تغني عن كثرة العدد، وقلوب تغني عن حصانة الدروع، ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ أيديهم من الغنائم ويتخذوا المساكن ويتنافسوا في الرياسة ويستعين بعضهم ببعض، فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر) ونستطيع أيضا أن نعلل تمهل كارل مارتل بقصده إلى ترك خصمه ومنافسه أودو دون غوث حتى يقضي المسلمون على ملكه(15/46)
وسلطانه فيتخلص بذلك من منافسته ومناوأته.
وعلى أي حال فان عبد الرحمن كان قد اقتحم أكرتين وجنوب فرنسا كله، حينما تأهب كارك مارتل للسير إلى لقائه. وجاء الدوق أودو بعد ضياع ملكه وتمزيق قواته يطلب الغوث والنجدة من خصمه القديم أعني كارل مارتل. وكان كارل قد حشد جيشا ضخما من الفرنج ومختلف العشائر الجرمانية المتوحشة والعصابات المرتزقة فيما وراء الرين يمتزج فيه المقاتلة من أمم الشمال كلها، وجله جند غير نظاميين نصف عراة يتشحون بجلود الذئاب وتنسدل شعورهم الجعدة فوق أكتافهم العارية. وسار زعيم الفرنجة في هذا الجيش الجرار نحو الجنوب لملاقاة العرب في حمى الهضاب والربى حتى يفاجئ العدو في مراكزه قبل أن يستكمل الأهبة لرده. وكان الجيش الإسلامي قد اجتاح عندئذ جميع أراضي أكوتين التي تقابل اليوم من مقاطعات فرنسا الحديثة جويان وبريجور وسانتونج وبواتو. وأشرف بعد سيره المظفر على مروج نهر اللوار الجنوبية حيثما يلتقي بثلاثة من فروعه هي (الكريز) (والفيين) (والكلين)
ومن الصعب أن نعين بالتحقيق مكان ذلك اللقاء الحاسم في تاريخ الشرق والغرب والإسلام والنصرانية. ولكن المتفق عليه انه هو السهل الواقع بين مدينتي بواتييه وتور حول نهري (كلين) (وفيين) فرعي اللوار على مقربة من مدينة تور. والرواية الإسلامية مقلة موجزة في الكلام عن تلك الموقعة العظيمة وليس فيها لدينا من المصادر العربية عنها أي تفصيل شامل. وإنما وردت تفاصيل للرواية الإسلامية عن الموقعة نقلها إلينا المؤرخ الأسباني كوندي سنعود إليها بعد. وتفيض الرواية الفرنجية والكنسية بالعكس في حوادث الموقعة وتقدم إلينا عنها تفاصيل شائقة ولكن يحفها الريب وتنقصها الدقة التاريخية. وقد رأينا أن نجمل وصف الموقعة أولا بما لدينا من أقوال الروايتين ثم نورد كلتيهما بعدئذ بتفاصيلها.
انتهى الجيش الإسلامي في زحفه إلى السهل الممتد بين مدينتي بواتييه وتور كما قدما، واستولى المسلمون على بواتييه ونهبوها وأحرقوا كنيستها الشهيرة، ثم هجموا على مدينة تور الواقعة على ضفة اللوار اليسرى واستولوا عليها وخربوا كنيستها أيضا. وفي ذلك الحين كان جيش الفرنج قد انتهى إلى اللوار دون أن يشعر المسلمون بمقدمه بادئ بدء، وأخطأت الطلائع الإسلامية تقدير عدده وعدته. فلما أراد عبد الرحمن أن يقتحم اللوار(15/47)
لملاقاة العدو على ضفته اليمنى فاجأه كارل مارتل بجموعه الجرارة. وألفى عبد الرحمن جيش الفرنج يفوقه في الكثرة فارتد من ضفاف النهر ثانية إلى السهل الواقع بين تور وبواتيه. وعبر كارل مارتل اللوار غرب تور وعسكر بجيشه إلى يسار الجيش الإسلامي بأميال قليلة بين نهري كلين وفيين فرعي اللوار.(15/48)
في الأدب العربي
عكاظ والمربد
للأستاذ أحمد أمين
المربد
أما المربد، على وزن منبر، فضاحية من ضواحي البصرة؛ في الجهة الغربية منها ما يلي البادية، بينه وبين البصرة نحو ثلاثة أميال. كان سوقاً للإبل، قال الأصمعي: (المربد كل شيء حبست به الإبل والغنم. . . وبه سميت مربد البصرة؛ وإنما كان موضع سوق الإبل) وهو واقع على طريق من ورد البصرة من البادية ومن خرج من البصرة أليها. ويظهر أنه نشأ سوقاً للإبل، أنشأه العرب على طرف البادية يقضون فيه شؤونهم قبل أن يدخلو الحضر أو يخرجوا منه.
وقد كان العرب في بادية العراق قبل الفتح الإسلامي؛ ونزلت فيه قبائل من بكر وربيعة، وكونوا فيه أمارة المناذرة في الحيرة؛ فكان هذا الإقليم معروفاً لهم وكانت الرحلات من البادية إلى العراق، ومن العراق إلى البادية في حركة مستمرة (ومعلوم أن البصرة إنما خططت في الإسلام في عهد عمر بن الخطاب ونزل بها العرب على منازلهم من يمنية ومضرية) ولكن يظهر أن المربد كان قبل أن تخطط البصرة، وكان قبل الإسلام؛ وربما فهم ذلك من قول الطبري: بعث عمر بن الخطاب عتبة بن غزوان فقال له أنطلق أنت ومن معك حتى إذا كنتم في أقصى أرض العرب وأدنى أرض العجم فأقيموا. فأقبلوا حتى إذا كان بالمربد وجدوا هذا الكذان قالوا ما هذه البصرة.
وقال في اللسان (في مادة ب ص ر) وقال أبن شميل: البصرة أرض كأنها جبل من جص وهي التي بنيت بالمربد وإنما سميت البصرة بصرة بها. ولكن أخباره في الجاهلية منقطعة أو معدومة مما يدل على قلة خطره إذ ذاك، إنما كان له الخطر بعد أن فتح العرب العراق وسكنوه وخططوا البصرة، فقد أنشئت فيه المساكن بعد أن كان مربداً للإبل فقط. واتصلت العمارة بينه وبين البصرة حتى قالوا فيه: (العراق عين الدنيا، والبصرة عين العراق، والمربد عين البصرة، ودارين عين المربد)(15/49)
وقد كان المربد في الإسلام صورة معدلة لعكاظ، كان سوقاً للتجارة، وسوقاً للدعوات السياسية وكان سوقاً للأدب. جاء في كتاب (ما يعول عليه) المربد كل موضع حبست فيه الإبل. . ومنه سمي مربد البصرة لاجتماع الناس وحبسهم النعم فيه. كان مجتمع العرب من الأقطار، يتناشدون فيه الأشعار؛ ويبيعون ويشترون وهو (كسوق عكاظ) وقال العيني: (مربد البصرة. . . محلة عظيمة فيها (البصرة) من جهة البرية كان يجتمع العرب من الأقطار ويتناشدون الأشعار ويبيعون ويشترون).
وليس يهمنا هنا أثره السياسي والأدبي، وهما مرتبطان بعضهما ببعض أشد الارتباط. فلا داعي للتفريق بينهما؛ فقد كانت الأحزاب السياسية تنتج أدباً من خطب وشعر، وكانت الخطب والشعر تقوي الأحزاب السياسية وتساعد في تكوينها والحروب بينهما.
المربد في عصر الخلفاء الراشدين
كانت أهم الأخبار في ذلك العصر ما كان بعد قتل عثمان أبن عفان من سير عائشة أم المؤمنين إلى البصرة، فأنها نزلت بفضاء البصرة ورأت أن تبقى خارجها حتى ترسل إلى أهلها تدعوهم بدعوتها، وهي المطالبة بدم عثمان، وبعبارة أخرى الخروج على عليّ؛ وكان معها طلحة والزبير، ثم سارت إلى المربد معهما وخرج إليها من قبل دعوتها، وخرج إلى المربد كذلك عامل عليّ على البصرة، وهو عثمان بن حنيف ومن يؤيده، وأصبح المربد وهو يموج بمن أتى من الحجاز ومن خرج من البصرة، حتى ضاق المربد بمن فيه؛ ورأينا المربد مجالاً للخطباء ممن يؤيد عائشة ومن معها، ومن يؤيد علياً وعامله. أصحاب عائشة في ميمنة المربد وأصحاب علي في ميسرته؛ ويخطب في المربد طلحة ويمدح عثمان بن عفان، ويعظم ما جنى عليه ويدعو إلى الطلب بدمه ويخطب الزبير كذلك وتخطب عائشة أم المؤمنين بصوتها الجهوري ويؤيدهم في ميمنة المربد، ويقولون صدقوا وبروا وقالوا الحق وأمروا بالحق، ويؤثر قول عائشة في أهل الميسرة فينحاز بعضهم أليها ويبقى الآخرون على رأيهم وعلى رأسهم عثمان بن حنيف، ويخطبون كذلك يبينون خطأ الدعوة وأن طلحة والزبير بايعا علياً فلا حق لهما في الخروج عليه، ويؤيدهم أبو الأسود الدؤلي وأمثاله.
وهكذا ينتقل المربد إلى مجمع حافل، فيه الدعوات السياسية مؤيدة بالحجج والبراهين وفيه(15/50)
معرض البلاغة من خطب طويلة وجمل قصيرة متينة، وفيه الجدل والمناظرة وبحث أهم الأحداث في ذلك العصر، وهو مقتل عثمان بن عفان، وتحديد المسؤولية في قتله. ولم تفد هذه الحرب اللسانية فانتقلت إلى حرب بالسلاح وأصبح المربد ساحة للقتال.
المربد في عهد بني أمية
كان العصر الأموي أزهى عصور المربد، ذلكم لأن العرب كانوا قد هدءوا من الفتح واستقرت الممالك في أيديهم، وأصبح العراق مقصد العرب، يؤمه من أراد الغنى وخاصة البصرة، جاء في الطبري (أن عمر بن الخطاب سأل أنس بن حجية وكان رسولاً إلى عمر من العراق فقال له عمر: كيف رأيت المسلمين؟ فقال إنثالت عليهم الدنيا فهم يهيلون الذهب والفضة، فرغب الناس في البصرة فأتوها) وكان المربد باب البصرة يمر به من أرادها من البادية، ويمر به من خرج من البصرة إلى البادية، ويقطنه قوم من العرب كرهوا معيشة المدن، ويقصده سكان البصرة يستنشقون منه هواء البادية، فكان ملتقى العرب، وكانوا يحيون فيه حياة تشبه حياة الجاهلية من مفاخرة بالأنساب وتعاظم بالكرم والشجاعة، وذكر لما كان بين القبائل من أحن، فالفرزدق يقف في المربد ينهب أمواله فعل كرماء الجاهلية (حكي في النقائض أن زياد بن أبي سفيان كان ينهى أن ينهب أحد مال نفسه، وأن الفرزدق أنهب أمواله بالمربد، وذلك أن أباه بعث معه إبلاً ليبيعها فباعها وأخذ ثمنها فعقد عليه مطرف خز كان عليه، فقال قائل لشد ما عقدت على دراهمك هذه، أما والله لو كان غالب ما فعل هذا الفعل فحلها ثم لأنهبها، وقال من أخذ شيئاً فهو له، وبلغ ذلك زياداً فبالغ في طلبه فهرب. . . فلم يزل في هربه يطوف في القبائل والبلاد حتى مات زياد.)
وكان الأمويون على وجه العموم يعيشون عيشة عربية ويحتفظون بعربيتهم، أن أخذوا شيئاً من الحضارة صبغوه بصبغتهم وحولوه إلى ذوقهم وكذلك فعل عرب البصرة، أرادوا أن يكون لهم من مربد البصرة ما كان لهم من سوق عكاظ في الحجاز فبلغوا غايتهم. وأحيوا العصبية الجاهلية. وساعد الخلفاء الأمويون أنفسهم على أحيائها لما كانوا يستفيدون منها سياسياً، فرأينا ظل ذلك في الأدب والشعر، ورأينا المربد في العصر الأموي يزخر بالشعراء يتهاجون ويتفاخرون، ويعلي كل شاعر من شأن قبيلته ومذهبه السياسي، ويضع من شأن غيره من الشعراء ومذاهبهم السياسية.(15/51)
ومن أجل هذا خلف لنا المربد أجل شعر أموي من هذا النوع. فكثير من نقائض جرير والفرزدق والأخطل كانت أثرأ من آثار المربد قيلت فيه، وصدرت عما كان بينهم من منافرة وخصومة. يروي الأغاني أن جريراً والفرزدق اجتمعا في المربد فتنافرا وتهاجيا وحضرهما العجاج والأخطل وكعب بن جعيل ألخ في خبر طويل.
كان كل من جرير والفرزدق يلبس لباساً خاصاً ويخرج إلى المربد ويقول قصائده في الفخر والهجاء، والرواة يحملون إلى كليهما ما قاله الآخر فيرد عليه. قال أبو عبيدة (وقف جرير بالمربد وقد لبس درعاً وسلاحاً تاماً وركب فرساً أعاره إياه أبو جهضم عباد بن الحصين.) فبلغ ذلك الفرزدق فلبس ثياب وشى وسواراً وقام في مقبرة بني حصن ينشد بجرير والناس يسعون فيما بينهما بأشعارهما فلما بلغ الفرزدق لباس جرير السلاح والدرع قال:
عجبت لراعي الضأن في حطمية ... وفي الدرع عبد قد أصيبت مقاتله
ولما بلغ جريراً أن الفرزدق في ثياب وشى قال:
لبست سلاحي والفرزدق لعبة ... عليه وشاحاً كرج وجلاجله
وما زالا كذلك يتهاجيان ويقولان القصائد الطويلة الكثيرة حتى ضج والي البصرة فهدم منازلهما بالمربد فقال جرير:
فما في كتاب الله تهديم دارنا ... بتهديم ماخور خبيث مداخله(15/52)
من طرائف الشعر
مداعبات شوقية لم تنشر
قصيدة أخرى لم تكتمل، قيلت في مكسويني حصان الدكتور محجوب ثابت أيام الثورة المصرية حين كان الدكتور يرتاد (بار اللوا) وجريدة الأهرام.
تُفدّيك يا مكس الجياد الصلادم ' ... وتفدى الأساةُ النُطسُ من أنت خادم
كأنك إن حاربت فوقك عنتر ... وتحت أبن سينا أنت حين تسالم
ستُجزى التماثيل التي ليس مثلها ... إذا جاء يوم تُجزى البهائم
فأنك شمسٌ والجياد كواكب ... وأنك دينار وهنَّ الدراهم
مثال بساح البرلمان منصَّب ... وآخر في (بار اللوا) لك قائم
ولا تظفر (الأهرام) ألا بثالث ... مزاميرُ داود عليه نواغم
وكم تدَّعي السودان يا مكس هازلاً ... وما أنت مسوَدٌ ولا أنت هازل
وما بك مما تبصر العين شُهبةً ... ولكن مشيب عجَّلته العظائم
كأنك خيل الترك شابت متونها ... وشابت نواصيها وشاب القوائم
فيا ربَّ أيام شهدت عصيبة ... وقائعها مشهورة والملاحم
وهذه قصيدة أخرى لم تكمل قيلت في الدكتور محجوب أيام الثورة أيضاً والشاعر يشير فيها إلى ألفي جنيه كان الدكتور قد أكتنزها وحرص عليها في بنك حسن باشا سعيد
قل لأبن سينا لا طبي ... ب اليوم ألا الدرهم
هو قبل بقراط وقب ... لك للجراحة مرهم
والناس مذ كانوا علي ... هـ دائرون وحُوَّم
وبسحره تعلو الأسا ... فل في العيون وتعظُم
يا هل ترى الألفان وق ... فٌ لا يمس ومَحْرم
بنك السعيد عليهما ... حتى القيامة قيم
لا شيك يظهر في البنو ... ك ولا حواة تخصم
وأعفَّ من لاقيت يل ... قاه فلا يتكرَّم(15/53)
الغريب
للشاعر الوجداني الرقيق أحمد رامي
يا نسيم الفجر ريّان الندى ... مالذي تحمل من أرض الحبيب؟
فرح الكون بلقياه غدا ... والأسى غَيمانُ في عين الغريب
غرَّد الطير وغنى ... كل إٍلفْ يتهنى
وأنا قلبيَ حنا ... أرسلَ الشكوى وأنا
آهةٌ تترى ... مقلة شكرى
تيصر الأحباب من بين الدموع ... رائح منهم وغاد
وترى بالظن أيام الربيع ... لخيالي وفؤادي
يا نسيم الفجر
نادياً بالزهر
رنم الدوح ورَن الجدول ... وسرت في الجو أنفاس العبير
وبدا النور فصاح البلبل ... داعياً للشدو أسرابَ الطيور
والنجوم ... في الغيوم
لبست منها نقاب
والشفق ... في الأفق
لونه وردٌ مذاب
كل ما في الكون بشرٌ وهنا! وأنا؟
أنا ما زلت غريباً مفرداً ... في ديار عزّني فيها الحبيب
فرح الكون بلقياه غداً ... والأسى غيمان في عين الغريب(15/54)
احساساتي
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
قال الأستاذ حفظه الله من كتاب خاص:
نزلت قبل أسبوعين تقريباً من السيارة عند باب السوق. أريد مقابلة أحد الكتبيين فسقطت مغمى عليّ، فحملوني في عربة إلى داري. وبعد انتباهي قلت لعل يومي قد أقترب، ونظمت قصيدة (حساساتي) ورجحت نشرها في رسالتك الغراء.
قد أنَى يا منيتي أن تعودي ... بي إلى حيث كنتُ قبل وجودي
حيث لا أقتني شعوراً يُريني ... كيف أدنو للفوز بالمقصود
حيث لا نبض في عروقي ولا ضر ... بُ لقلبي ولا حراك لعُودي
هوِّني يا نفس فعلّكِ تستطي ... عين عن هوة الردى أن تحيدي
ليت أن الحياة ترجع في يو ... م إلى جسم الميِّت الملحود
ليس من هنا الموت يا نفسُ بدُّ ... فهو للناس من تراث الجدود
يا أمانيّ فارقيني ويا نف ... سُ وداعاً ويا حُشاشةُ جودي
بعد أيام قد تقاربن مني ... أنا يا نفسي وداعاً لا محالة مودي
وسواء عليّ من بعد موتي ... أن تبيدي معي وألا تبيدي
وسواء أكنتُ أحيا سعيداً ... قبل موتي أم لم أكن بسعيدِ
وإذا كنتِ لا تبيدين، نفسي ... تبعاً لي فأستبشري بالخلود
وإذا الشيخ بات يشكو الوَنَى وال ... وهن فالموت عنه غيرُ بعيدِ
سيقولون شاعر غاب في اللح ... د وكم غاب مثله في اللحود
لا تخافي عليَّ فالموت سهل ... لا كما ينعتونه بشديدِ
لا تخافي، فالموت ليس على الأر ... ض ولا في سمائها بجديد
سبقتني إلى المقابر موتي ... أنا في الراحلين غيرُ وحيد
من قضى نحبه فنام بقبر ... لا يبالي طول الليالي السود
غير أني ما سئمت حياتي ... وهبوطي وهادَها وصعودي
فأرى راحة بقبري وان نا ... لت على وجه الأرض مني جهودي(15/55)
أننا، والفراق صعب، سننقض ... إلى غير ملتقى وشهود
جمع الدهر حقبة شملنا ث ... م رمته يداه بالتبديد
ما بلغنا من اللبانات يا نف ... سي سوى النزر بعد جهد جهيدِ
أنت يا (ليلى) كنت ماثلة لي ... كلَّ يوم في يقظتي وهجودي
أنا ماض إلى لقاء المنايا ... بخُطىً ليس مشيها بوئيد
عانقيني قبل النوى لوداعي ... وضعي الجيد ساعة فوق جيدي
وانظريني بأعين باكيات ... ترسل الدمع مثل دُر نضيد
لهف نفسي على صُبابة عيش ... هو لولاك لم يكن برغيدِ
أبِّنيني يا نفس فوق ضريحي ... بقواف رقيقة وأعيدي
غن لي يا هزار أغنية النو ... م على قبري كي يطيب رقودي
ولعلَّ الصبا تمر رخاءً ... فوق ملحودتي فتنعش عودي
لستُ أدري أللفناء سنمضي ... بعد ما قد نموت أم للخلود؟
حبذا لو حظيت من بعد موتي ... بحياتي التي انتهت من جديد
أنني في شك وان ملأ واسم ... عي بوعدٍ يروونه ووعيد
لا تثق بالجمهور يا عقل يوما ... أن رأي الجمهور غير سديد
ولعلي رجوت ما ليس يرجى ... ولعلي حمدت غيرَ حميد
بعد نومي على فراشٍ وثيرٍ ... عن قريب أنام في أخدودِ
لا أنيس ولا نسيم ولا نو ... رٌ يزيل الظلام من ملحودي
آه يا نفس إن ذلك سهل ... لو نسينا ما فيه من تجريد
يوم لا نبصر الربيع ولا نص ... غي لأنغام البلبل الغرِّيد
شاعر الروض يرسل الشدو شجواً ... جاثماً فوق ناعم أملود ِ
يوم لا تطلع النجوم علينا ... باسمات من السماء كخُودٍ
يوم لا يسفر الصباح لنا من ... جانب الشرق قائماً كعمود ٍ
يوم أيدي الردى تجردني من ... كل مالي من طارفٍ وتليدِ
أنا يا صحبي واحدٌ كنت منكم ... فاذكروني ولا تنسَوا عهودي(15/56)
أنا في قبري اليوم عنكم بعيدٌ ... وأنا عنكم فيه غير بعيدِ
خير قبرٍ يسقى تراب حفيري ... هو يا صحبي عبرةٌ من ودودِ
وإذا كان للفقيد بقلبٍ ... خافقٍ مثوى، فهو غير فقيدِ
ولعل البكاء غير ' مُسلٍ ... ولعل البكاء غير مفيدِ
تأكل الأرض كل حيٍّ فلا تُب ... قي على والدٍ ولا مولودِ
اسألوها هل امتلأت تقل من ... شرهِ في الجواب، هل من مزيد؟
أممٌ كلها تبيد فتأتي ... أممٌ أخرى بعدها للبيود
سوف يقفو ركب إلى الموتِ ركباً ... ثم لا أشدو خلفه بنشيدي
إنني إن أهلِك فَمنْ لقريضي ... يتغنى به ومن لقصيدي؟
حشروني والجامدين، على ما ... أخذوا من آبائهم، في صعيد
إنني منذ كنت أشدو بشعري ... كان يُوحي إليَّ بالتجديد
أنا لا أدعي الزعامة فيه ... غير أني أبث فيه وجودي
قلت شعراً فكاد يأكلُ لمّا ... سمعوه كالنار قلب الحسودِ
فدَعوني مقلداً ينظم الشع ... ر كما كان في زمان الرشيدِ
كذبوا أنني إلى اليوم ما قلد ... ت غيري، مالي وللتقليد؟
حبذا الليل والنهار بعيني ... إنني مغرم بكلِ جديدِ
وجديد القريض قرب ' معاني ... هـ وبعدٌ له عن التعقيد
وشعورٌ كأنه فلق الصب ... ح إذا فاض ضوءه من بعيدِ
لا تُرد للشعور مني حداً ... فهو شيء يسمو عن التحديد
حبذا النقد لم يكن حين يغزو ... نائلاً من كرامة المنقودِ
لا أغالي، فربما قلت شعراً ... لم أكن في قرضي له بالمًجيد
ليس في الأرض شاعر قد نجا في ... كل ما قاله من التفنيد
منه بكر يطري، ومنه عوان ... لم تحن رتية الكعاب الخريد
قلته لاهياً به في شبابي ... من هموم الهوى وبرح الصدود
يومَ للغيد كنت أصبو ومن ذا ... ليس يصبو إلى الحسان الغيد؟(15/57)
ثم أرهفتُه فكان سلاحي ... ثم غنيتُه فكان نشيدي
ثم صيّرته مِجَنّاً يقيني ... في (فَروقٍ) من شرّ عبد الحميد
ثم أودعته حقائق تسمو ... فأتى جامعاً لكل مفيدِ
حِكَمٌ تهدم التقاليد قد كا ... نت تُراعي من أهلها للجمود
عاب في الروض العندليب غراب ... قائلاً صه فأنت غير مجيد
فمضى العندليب في شدوه غي ... ر مبالٍ بقول ذاك البليد
قائلاً ليس للغراب بروض ... زهرُه الغضُّ باسم أغرودي
أنا للورد قد تفتَّح أشدو ... فهو إن أصغى تم لي مقصودي
يمّمي يا نفسي السماء فاني ... لا أرى في الثرى طريق الخلود
هي ممتدة لغير تناه ... وهي منبثَّة لغير حدود
اهتدي بالشعرَى وبعد خفاهاً ... من بياض للفرقدين استفيدي
إنما خشيتي ضلالُك في تل ... ك المحاني الكثيرة التجعيد
لا تهابي فلستِ أول روح ... وَغَلت في هذا الفضاء المديد
لا تهابي فأنتِ يا نفس بعدي ... مثل صمصامٍ ليس بالمغمود
ربما جاءوا يمنعونك فيها عن ... وصول إلى المقام الحميدِ
أنهم قد يثبطونك عنه ... بشهاب يلقونه من بعيدِ
فاصدميهم بما لديك من القوة ... في صولة الكَمَيِّ العنيد
وإذا ما قسوا عليك فلاقي ... هم بقلب أقسى من الجلمودِ
وإذا ما والوك ِفيها فوالي ... وإذا ما عدوا عليك فذودي
ولقد كان الحق في كل جيل ... ضائعاً بين سائد ومسود
إن تلك السماء كالأرض هذي ... حومةُ تدمى للكفاح الشديد
لا يخيفنّك اللقاء بحرب ... هي بالنار تلتظي والحديد
أنتِ حاربتِ للتحرر أعوا ... ماً طوالاً فحاربي من جديد
أنتِ في الأرض ما تطأطات حتى ... تخضعي في السماء أو تستفيدي
إنما أنت للتمرد لا لل ... خسف والرسف في ثقال القيودِ(15/58)
وإذا ما لاقيت سداً منيعاً ... فأخرقيه بجرأة الصنديدِ
أسرعي واجتازي عوالم تحشو ... سُدُماً قد أسرفن في التحشيد
مسرعات إلى التوسع لا ير ... ضين ألا أخذ المكان البعيدِ
ليست الطالعاتُ يفجأن، الا ... رُسلاً جئن من وراء الوجود
إنما مستقر قافلة الأر ... واح في غير العالم المشهود
للذي يبتغي الولوج جريئاً ... ليس باب السماء بالمسدودِ
أنت روح ترقى إلى حيث شاءت ... لا حجاب لها عن التصعيد
لا تخافي هلكاً من الضرب فيها ... أنت روح والروح ليس بمودِ
إنما العز من نصيب الذي يج ... رأ والذل حصة الرِّعديدِ
أنتِ إن تعزمي يَهُنْ كلُّ صعبٍ ... لا ينال المرادَ غيرُ المُريدِ
أحمد البارئ الذي يتساوى ... عنده أيماني به وجحودي
قيل أن الشهيد يحيا لدى الر ... بِ فمن ذا في الأرض غير شهيد؟
إنما هذه حقائق صرَّحْ ... تُ بها صادعاً بلا تمهيدِ
فأسمعيها ولا تبوحي بها لل ... ملأ الأعلى حول عرش المجيدِ
كلنا مؤمن يسبّح للرح ... من في ظل عرشه الممدودِ
إنني ما سجدت يوماً لغير ال ... له فالله وحده معبودي
اسألي الله أن يخفف سجني ... في حفيري وأن يفك قيودي
وسلامٌ عليك يوم فراقي ... وسلامٌ عليّ يوم همودي(15/59)
في الأدب العربي
الذئب في الأدبين العربي والفرنسي
- 2 -
قص علينا الشاعر الفرنسي (الفرد ده فيني) حديث المعركة التي نشبت بينه وبين الذئب، وانتهت بموت الذئب ميتة سكينة وطمأنينة، بعد أن تظاهر عليه أربعة من الرجال ببنادقهم ومداهم، يشد أزرهم في هذه المعركة كلب من الكلاب الضارية، سقط هو قتيلاً، وأنياب الذئب الحادة في عنقه قبل أن يسقط الذئب قتيلاً برصاص بنادق الصائدين ومداهم. فصور لنا في هذه الحكاية صورة واضحة تمثل إقدام الذئب وجرأته، وثبات الأم ورصانتها، تستبقي لتعلم أولادها تحمل الجوع، وتحيا لتحذرهم من احتمال الخضوع. وتمثل كذلك احتقار الذئب للحياة وزرايته بها، فقد تركها بعينيه الواسعتين، وأستودعها بنظرتين قويتين، أولاهما إلى أعدائه، وثانيتهما إلى أعضائه، ثم أغمضهما ومات ميتة جبار، بل أستاذ في الجبروت يحق أن يتلذذ عليه (فيني) ليلقي عنه هذا الدرس الأخلاقي. فكيف كان أمر شعرائنا مع ذئابهم؟
ذئب الفرزدق:
كان كل ما عرضه علينا الفرزدق من حديثه مع ذئبه أنه عشاه وصرفه:
وأطلس عسال وما كان صاحباً ... دعوت لناري موهناً فأتاني
فلما دنا قلت أدن دونك أنني ... وإياك في زادي لمشتركان
فبتّ أقدُّ الزاد بيني وبينه ... على ضوء نار مرة ودخان
فقلت له لما تكشر ضاحكاً ... وقائم سيفي من يدي بمكان
تعش فان عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
وأنت أمرؤ يا ذئب والغدر كنتما ... أُخيين كانا أرضعا بلبان
ولو غيرنا نبهت تلتمس القِرى ... أتاك بسهم أو شباة سنان
وأنا لترعى الوحش آمنة بنا ... ويرهبنا أن نغضب الثقلان
لا يريد بذلك ألا أن يدلنا على ما عنده من كرم وسخاء، وشجاعة عند اللقاء، لا يصرفه عن طعامه إقبال الذئب عليه ووقوفه بين يديه، فهو الذي قد بينه وبين الزاد، وأناله منه ما أراد،(15/60)
مع أنه يعرف ما للذئب من طبيعة الفتك والغدر، ولكنه يعتمد ساعد قوي وسيف باتر.
فقصيدته أذن قصيدة بدوية ليس فيها غير التمدح بالكرم والشجاعة، والجمال الفني فيها قليل.
ذئب البحتري
أما البحتري فقد قدم لنا قصة سينمائية جميلة عن نفسه وذئبه:
وأطلس ملء العين يحمل زوره ... وأضلاعه من جانبيه شوىً نهد '
له ذنب مثل الرِّشاء يجره ... ومتن كمتن القوس أعوج منأد '
طواه الطوى حتى أستمر مريره ... فما فيه ألا الروح والعظم والجلد '
يقضقض عضلاً في أسرتها الردى ... كقضقضة المقرور أرعده البرد '
سما لي وبي من شدة الجوع مابه ... بيداء لم تعرف بها عيشة رغد '
كلانا بها ذئب يحدث نفسه ... بصاحبه، والجد يتعسه الجد '
عوى، ثم أقعى فأرتجزت، فهجته ... فأقبل مثل البرق يتبعه الرعد '
فأوجرته خرقاء تحسب ريشها ... على كوكب ينقض والليل مسود '
فما أزداد ألا جرأة وصرامةً ... وأيقنت أن الأمر منه هو الجد '
فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها ... بحيث يكون اللب والرعب والحقدُ
فخر وقد أوردته منل الردى ... على ظمأ لو أنه عذب الورد
وقمت فجمَّعت الحصى فاشتويته ... عليه وللرمضاء من تحته وقد '
فأرانا ذئبه رؤيا عين، في لونه الأطلس، ومتنه الأعوج المقوس، وجسمه المنهوك، وعظامه المقضقضة، حتى ملأ قلوبنا رهبةً منه، وخوفاً على صاحبه، ثم صور لنا المعركة التي نشبت بينهما حتى كأننا نراها، وكما أنه أجاد في تصوير تلك المعركة وإبرازها إلينا محسوسة مشهودة، لم يقصر في تصوير جرأته وجرأة ذئبه، واستماتة كل منهما في الذب عن نفسه والغيلة على عدوه، حتى جعلنا نؤمن بعظمته وعظمة ذئبه.
كل ذلك في قوالب متينة محكمة في وضوح وجلاء، وفن بديع مونق يملأ البصر والبصيرة، ولعله قد وفق في هذا شعراً إلى ما لم يوفق أليه أديب نثراً.
ذئب الرضي(15/61)
أما ذئب الشريف الرضي فانه ذئب البحتري نفسه، وأما الرضي فأنه أبو عبادة:
وعاري الشوى والمنكبين من الطوى ... أتيح له بالليل عاري الأشاجع
أغيبر مقطوع من الليل ثوبه ... أنيس بأطراف البلاد البلاقع
قليل نعاس العين إلا غيابةً ... تمر بعيني جاثم القلب جائع
إذا فات شيء سمعه دل أنفه ... وإن فات عينيه رأى بالمسامع
تظالع حتى حك بالأرض زوره ... وراغ، وقد روعته، غير ظالع
ولما عوى والرمل بيني وبينه ... تيقن صحبي أنه غير راجع
تأدب والظلماء تضرب وجهه ... إلينا بأذيال الرياح الزعازع
له الويل من مستطعم عاد طعمة ... لقوم عجال بالقِسي النوازع
أخذ ظاهر، وانتحال بين، وهو مع ذلك قد أفاض على حديثه من جمال الفن ما كاد ينسينا حديث أبي عبادة، فلئن فاته حسن تصوير البحتري للمعركة فلم يفته حسن جمالها وتصويرها في صورة صغيرة في بيت واحد:
له الويل من مستطعم عاد طعمة ... لقوم عجال بالقسي النوازع
دل به على جرأة في مبتداها، وظفر بالعدو في منتهاها.
فإذا وضعنا القصة الفرنسة الحديثة بجانب القصة العربية القديمة وجدنا الفرق بينهما جلياً واضحاً، فالقصة العربية كل الغرض منها التمدح بالكرم والعطاء، والافتخار بالثبات عند اللقاء، وما هذه الصورة المخيفة التي صور بها الذئب إلا لينفذ منها الشاعر إلى ما يريد من مدح نفسه بالشجاعة، فليس فيها صورة خاصة لموت الذئب وساعة نزعه، بل أن الشريط لينقطع عند خبر موته، لأنه لا يهم هؤلاء الشعراء الاسترحام عليه أو الرثاء له، فهو عدو غدار نال حتفه بسيف الشاعر البتار وكفى، فليس بين موت ذئابهم إذن وموت أي حيوان أي فرق.
وأما القصة الفرنسية فهي على وحدة موضوعها وصورة ذئبها الخالدة التي ما تبرح مخيلة القارئ، ولا تنفك تعاوده كلما ذكر الذئب، سامية الغرض جليلة لمغزى نبيلة القصد، فالغرض منها اجتماعي تربيوي ذو شأن، فهو يريد أن ينبه القارئ إلى ما يجب عليه من إجابة دعوة القدر بهدوء وسكون، وتلبية نداء الموت في سبيل الواجب برزانة وصمت،(15/62)
لأن الصمت هو العظمة، والبكاء والأنين وأشباههما جبن ونذالة.
فقصيدة (فيني) إذن مجلية في الحلية التي أنشأناها، وهي وحدها تقرب من المثل الأعلى، لأن العقلية غير العقلية والعصر غير العصر وثقافة فيني غير ثقافة هؤلاء الشعراء.
سامي الدهان(15/63)
لعلوم
كيمياء الروح
للدكتور أحمد زكي
الكيمياء علم طوّاف جوّال سلك من العالم مسالك لم يدانه في سلوكها علم، ونزل من الأرض منازل لم ينزل في مثلها عرفان، فطورا تراه في البلقع الأجرد ينقر الصخر وينكت في الترب يستخرج معادنه ويتعرف جواهره، وطوراً تراه في الريف الأخضر يطعم النبات بالقوت الأنسب ويسقيه بالقدر الأوفق، وإذا مرض طبَّبه بصنوف الأدوية وحماه من الحَشَرِ بشتيت العقاقير، وطوراً في المدينة، في الحديقة الفسيحة، وفي الجنينة الصغيرة الأنيقة يعنى بزهرها ووردها وبنفسجها، أو بعنبها وتفاحها وبرتقالها ويوسفيها، عنايته بسنبلة القمح ولوزة القطن في الحقل في ظاهر البلد، وتجده في البيت إما في المطبخ قد سبق الطاهي إليه لا بصنوف الأطعمة المستطابة فحسب بل بالآنية والنار، وأما لدى غانية الدار جلس في متزينها ينتظرها بدقيق الأرز ودهن الحيوان وزيت الأزهار وصبغة الأرض ترطب بها جلداً وتورد خداً وتصبغ رمشاً وتزجِّج حاجباً، ويغنيك عن هذا التعداد المفصل أن تسير في حجرة من حجر البيت، وتنظر إلى ركن من أركانه، بل إلى جدران هذه الحجرات وسقوفها وأرضها، فلن تجد شيئاً لا تدخله الكيمياء. كذلك تجد علم الكيمياء في الشارع وفيما فيه من ذي حركة أو سكون، وفي المصنع تصنع الإبرة الصغيرة أو القاطرة الكبيرة، وفي المستشفيات وفي المقابر، وفي كل مظهر من مظاهر المدنية ومظاهر الحياة من مأكول وملبوس ومركوب، وكذلك في مظاهر الموت.
ولهذا الأتساع انقسمت الكيمياء إلى أقسام عدة: فالكيمياء العضوية وغير العضوية والكيمياء الطبيعية والهندسية والحيوية وهلم جرا. ولكن كل هذه موضوعها المادة، موضوعها الأجسام الملموسة الموزونة، سواء في ذلك الأجسام الجامدة والأجسام الحية، وهي إذا عالجت الأجسام الحية فهي لا تُعنى أو لم تكن تعنى ألا بمادتها الصامتة وهيولاها الجامدة دون حياتها وروحها. ولكن العلم طموح، والكيمياء علم، فكان من هذا أن بدأت تطمح إلى ما طمحت اليه وعجزت عنه القرون، تطمح إلى لمحة وراء المادة، ونظرة تختلسها من خلف ذلك الحجاب الأزلي الكثيف الذي فصل ما بين الجسام وأرواحها، تطمح إلى تفهم(15/64)
العقل، لا من حيث الخلايا المخية التي هي مركزه، بل من حيث هو اسم لكل مظاهر الذكاء والغباوة والحب والبغض والغضب والحلم واليقظة والنوم، فتكوِّن من ذلك أو كاد يتكون علم جديد لا أجد إسما أنسب له من (كيمياء الروح)
وطريقة هذا العلم الجديد كطريقة كل علم، يبدأ بالمعلوم ليتعرف المجهول. والمعلوم هنا الجسم والمجهول النفس، فهو يحدث تغيرات في الجسم ويرقب أثرها في النفس. وليست علاقة الجسم بالنفس بجديدة، فقديماً عرفنا الصيام يشحذ الفكر إلى حين، والطعام الكثير يثلمه حتى يسلم صاحبه إلى النوم. وسمعنا الفلاسفة والمفكرين في قديم الأزمان يعافون الطعام رغبةً في صفاء البصيرة وجلاء الذهن. ونسمعهم اليوم يترسمون في ذلك سنّة السلف، فغاندي يعيش على اللبن والبرتقال، واينشتين يقنع من اليوابس والسوائل بالقليل الميسور الذي لا يقنع الولد الصغير. ولكن هذه ملحوظات يلحظها الإنسان عفوا وهو لا يدري أين يلحظها ولا متى، وإن هي حانت فهو لا يتعمد لحظها ألا إذا ملكت عليه انتباهه.
ولكن هذا العلم الجديد ينتظر الحوادث ويجثمُ على مرقب عال طلباً للفرص التي قد تمر، وهو إلى جانب هذه الحوادث وتلك الفرص السانحة يخلق لنفسه الحوادث ويفتتح مواطن للتجارب يكون هو العامل الأكبر في إحداثها، والمهيمن الأول على إدارتها وتوجيهها.
جاءت الحرب العالمية فأجاعت كثيراً من الخلق في الأمم المختلفة، وكان من أشدهم جوعاً ألمانيا، وكان من أشد أهلها تأثراً بذلك أطفالها، فتهيأت الفرصة للبحث، فجاء هذا العلم يبحث في الغذاء الذي كان كانت تتعاطاه تلاميذ المدارس أْيام السنوات العجاف، في مقداره ونوعه وعناصره، ويبحث في ذلك لا في أثر ذلك في أجسامهم فحسب، بل في أثره في عقولهم ونفسيتهم وروحهم، لا إجمالاً بل تفصيلاً، فعاهات النفس كعاهات الجسم، وخلل الروح كخلل المادة التي تتقمصها، أي أنها مثلها تختلف في الكيف كما تختلف في الكم، ولكل عاهة أسم إن كان الآن فيه كثير من الإبهام، فأنه إبهام ينجلي لا شك بطول البحث وكثير من الأناة والجلد. وخرج العلم من هذا البحث إلى أن أربعين في المائة من التلاميذ فقدوا مقداراً كبيراً من طاقتهم العصبية العامة بسب فقدهم عناصر هامةً في الطعام، وخرج على أن اختلافات خاصة في الشخصية وتغيرات محدودة في الطبع ترتبط بنقص في بعض جواهر الغذاء الذي كان. ومن النتائج التي خرجوا عليها علاقة بينة بين مرض(15/65)
عصبي خاص، مظهره اضطراب وخوف، وبين خلو الطعام من الشحوم الفسفورية والأحماض الدهنية غير المشبعة، ومن الأستيرولات. وليس معنى هذا أن هذه الشحوم مفيدة دائماً في كل مرض. فقد درس شارل مرسيه عالم الأعصاب الإنجليزي المعروف عدة من المرضى بعقولهم فزاد غذائهم من الشحم والسكر والنشأ ونقصه من اللحم فوجد أن الجمع بين هذه الزيادة وهذا النقص زاد المرضى سوءاً على سوء. ولم يجد هذا هو الحال في كل المرضى، دليلاً على أن المرض يختلف، ولو جمع المرضى ظاهر واحد نسميه الجنون. على أننا قديماً قلنا الجنون فنون. ومن الدراسات الأحدث أثر (الفيتامينات) في نفسية الأصحاء. و (الفيتامينات) طائفة من المواد الكيمياوية موجودة في الطبيعة في كثير من الأغذية ولا سيما الفواكه ولتشابهها وتعددها أعطوها حروفاً أ، ب، ج وهلم جراً بمثابة أسماء لها. درسوا الأثر الناشئ من قلة الفيتامين ج في الغذاء أو انعدامه فيه فوجدوه يسبب في النفس هموداً تستتر وراءه حدة في الطبع وقابلية للتهيج شديدة. وهذه النتيجة تتفق تماماً مع ما لاحظه رواد القطب الشمالي من المستكشفين لما قلت مواردهم وخف زادهم، وهو زاد قليل الفيتامينات أو عديمها بطبيعة الحال. فأنهم كانوا دائماً يجدون الكسل في نفوسهم وحب الشجار في قلوبهم، يثورون أليه للسبب الحقير التافة كأنما يجدون فيه متنفساً من ضيق.
وهناك نوع من الجنون يصحبه مثل هذا الهبوط في النفس يعتري الرجل وقد أكتمل نموه وبلغت حيويته أقصاها. دخل هذا المرض في دائرة علم الكيمياء الروحي من سنوات قريبة واسترعى همة كثير من البحاث، وقد بدأوا يصفونه لا بخلل نفسي محض بل بخلل في الجسم واضطراب في وظائفه. أي أن ذلك العقل ساء لما ساءت كيمياء التربة التي أنبثق فيها، وتلك الشخصية الوقورة ضاع اتزانها لما ضاع أتزان بين الغدد التي تهيمن في الجسم على دخل السكر إليه وخروجه منه واختزانه فيه. ومصداق هذا أن المرض الذي نحن بصدده يكثر في الأسَر المصابة بالبول السكري، ولعل هذه الحقيقة هي أول ما لفت البحاثَ إلى تلك الغدد ودرس وظائفها في هذا الصنف من المعتوهين. والنوم، ذلك الطلسم الذي أعيا سره الأولين والآخرين، بدأوا يسلطون عليه شعاعات من ذلك العلم الجديد لعلهم يردون أصله الى الكيمياء، وحديثاً نشر (هرمان زندك) نظرية بناها على دراسات مبدئية(15/66)
لم تنضج بعد، مؤداها أن الغدة النخامية وموضعها بقاعدة المخ، بها مادة كيميائية تسمى بالهرمونات، وهي واحدة من عدة مواد توجد في الجسم تسمى بالهرمونات، وهرمون هذه الغدة به عنصر البروم، فإذا بدأ النوم يخرج هذا الهرمون البرومي إلى سائر المخ شيئاً فشيئاً حتى يضيع كله، فإذا أستيقظ الإنسان أخذت هذه الغدة تحشد البروم، حتى إذا تكوَّن فيها بقدر معلوم أتى المرء النعاس، وخرج البروم يسير سيرته الأولى. بالطبع هذه النظرية في حاجة إلى بحث كثير من غير واحد لتأييدها، ولكنها إذا تأيدت وأتضح لنا أن النوم ما هو إلا محاولة الجسم إعادة أتزان كيميائي في الرأس لكان في الإمكان إحداث هذا الاتزان في المعمل والاستغناء عن النوم، وبذلك يتضاعف عمر العامل المنتج.
لا نريد أن نعدد كل ما صنع هذا العلم ولا كل النتائج التي خرج عليها ولا الظنون التي لا تزال تساوره ولم تدخل بعد في مضرب الحقائق، فأنه علم وليد، ولكننا نريد أن نؤكد العقيدة البارزة في كل أعماله وهي أن مظاهر الروح الخارجية وثيقة الارتباط بالتفاعلات الكيميائية للجسم الذي تسكنه، وأن الإنسان إذا أنصت يفكر في ضحولة أو عمق، أو تكلم يقرع الحجة بالحجة أو إذا هو سرّ فضحك فزاط وقصف أو تجهم واكتأب فتجرع الحزن في هدوء وصمت، أو إذا هو أحب أو أبغض أو خاف أو تجرأ، فإنما يفعل ذلك بجسمه لا بروحه وحدها، يفعل ذلك بالعقاقير الكيميائية التي بدمه ولحمه وغدده وعصبه وخلاياه جميعاً، وأن هذه الانفعالات تسبب شدتها وكثرتها إجهاداً للمراكز الجسمية التي تصنع هذه العقاقير، وأخص تلك المراكز الغدد التي تقوم بسب العقاقير التي تفرزها بموازنات عدة لتفاعلات متناقضة شتى ينشِأ من اختلالها اختلال الجسم والروح. ولا أدل على هذا من نظرة يلقيها المرء في معترك الحياة التجارية في هذه المدينة الحاضرة حيث تتصارع قوى العيش الهائلة وتصطدم العواصف والآمال تصادم الجبال، أعني بذلك البورصات، فقد دل الإحصاء على أن عدد الإصابات التي سببها تلف يعتري تلك الغدد، كالبول السكري وصنوف معروفة من الجنون، يزداد بعد كل زوبعة من زوابع المضاربات.
وإن كانت انفعالات الروح الطائشة تتلف معمل الجسم الكيميائي الذي في صلاحه صلاحها، كان من الطبيعي إذا اعترى التلف الروح (ذلك السر المعجز) أن نبحث عن سبب هذا التلف في حجرات المعمل، وأن نرد غازات كريهة نشمها ولا نراها تخرج من مداخن(15/67)
النفس، إلى الأسباب التي سببتها في بوادق البناء وقواريره، وهذا عمل العلم الجديد: (كيمياء الروح).(15/68)
لقصص
الباسمة
قصة مصرية
للآنسة سهير القلماوي. لسانسييه في الآداب
سكت القوم وكأنهم ينصتون إلى نغم سماوي جميل. وكأن النغم قد حملهم من الأرض الدنسة إلى السماء الطاهرة، واستمرت هي في عزفها تهز أوتار القلوب هزاً ضعيفاً مطرباً ثم أتمت عزفها والتفتت إلى السامعين فإذا كل منهم مشدوه، ألهاه الطرب وأنساه النغم أن يظهر إعجابه أو سروره. ورنت ضحكتها العذبة الجميلة فتنبه السامعون ودوى المكان بالتصفيق الشديد.
كنت في السامعين ولم أكن أعرف عنها ألا أنها عذبة الابتسامة وضاحة المحيا، يشع من نفسها سحر عجيب يملأ ما حولها حياة فرحة نشيطة. سألت عنها فقيل أنها تتكسب بعزفها هذا لتعول طفلها الصغير الوحيد. ورحت أسأل عنها هذا وذاك فعرفت أنها شخصية فذة، شخصية نادرة عجيبة. مات أبوها وهي في سن الطفولة، وفقدت أقرباءها واحدا وراء الآخر حتى فقدت زوجها منذ زمن يسير. ولكن الغريب من أمرها أنها برغم هذا كله كانت مبتسمة ومتفائلة دائما. لقد صغرت الدنيا في عينها ولم يسلمها هذا الاستصغار إلى الألم أو الحزن أو اليأس. فهي لم تكن يوماً ما تؤمل من الدنيا شيئاً حتى يخيب أملها فيها. ثم هي لا توقن بشيء من أمر آخرتها. كل ما تعرفه أنها تعيش وأن الحياة شيء بهيج يجب أن تستمتع بها كل الاستمتاع، فمن يدري لعل نهايتها قريبة! بل لعل ألواناً من العذاب تنتظرها بعد حين!
كانت شديدة الشغف بالطبيعة، تخرج أليها كلما استطاعت تستنشق نسيمها وأريج أزهارها، وكأنما تستنشق حياة جديدة فتزيد حيويتها ويزداد بشرها وسرورها.
منذ ذلك اليوم أصبحنا صديقين تزداد معرفة كل منا بالأخرى، يوماً بعد يوم، فيزداد لذلك حبنا ويستوثق رباطنا. ولقد صحبتها في بعض محاولاتها الأخيرة، فقد حاولت لتزيد كسبها أن تطرق ميدان الأدب ثم ميدان التعليم فطرقتها جميعاً وأخفقت في كل منها إخفاقاً لا ذنب(15/69)
لها فيه
ولكنها كانت ترجع من كل خيبة وكأنها أول الظافرين وآخرهم! ثم لا يلبث فشلها أن يستحيل سريعاً إلى أمل جميل وعزم وطيد. وفي ذات يوم مرض ابنها مرضاً شديداً فعاونتها على علاجه والسهر عليه رغم إبائها ذلك.
وفي ليلة طاغية شديدة البرد اضطررت إلى تركها بجانب وحيدها العليل. وفي الغد عدت أليها فوجدتها محمرة العينين تنفرج شفتاها عن ابتسامة ساخرة مرة مؤلمة. ترى ماذا حل بهذا الوجه الصبوح المستبشر الذي لم يقو الدهر على قلب ابتسامته أو تشويهها؟ واتجه نظري أولاً إلى الطفل ماذا حل به وأين هو؟ وأخيراً علمت أن طفلها الوحيد الذي كان يربطها بالحياة فارق الحياة أمس مساء. فانهمرت دموعي على رغم ما حاولت من حبسها وأحسست بفراغ حولي وكأنما نار ألهبت رأسي وعيني، فأخذت أبكي وأبكي وظلت هي تكفكف عبراتي وتواسيني وكأني أنا الثكلى المكلومة، أيمكن أن تكون عديمة الإحساس؟ كلا لقد عرفت من حساسيتها الشيء الكثير، ولعل نظرة واحدة إلى ذلك الوجه الجميل تقنع الناظر بالآلام التي تحاول إخفاءها.
كل المصائب التي توالت عليها لم تغبر ابتسامتها، ولكن موت طفلها غير ملامح وجهها كلها. يا ليتها بكت! يا ليتها استطاعت أن تبكي!
وظلت نحو شهر في صراع بين الحزن وبين طبيعتها المرحة الضاحكة، تحاول بكل ما أوتيت من إرادة وعزم أن تتغلب على مصابها فتبتسم كما كانت تبتسم ولكن ابتسامتها أصبحت مبكية مؤلمة تبعث الشفقة والألم بعد أن كانت تبعث المرح والحياة.
لقد لازمت فراشها منذ أيام وكانت متعبة مريضة خائرة الأعصاب فذهبت أعودها يوماً فلم أجد بالدار أحداً، سألت عنها مرتاعة، وأخيراً علمت أنها فارقت الحياة أمس مساءً، سألت ماذا حل بها وأي أمر جديد انتابها؟ فعرفت أنها لم تصب بشيء جديد، وإنما فارقت الحياة وكأنها الشمعة تحترق. فارقتها شيئاً فشيئاً وقد لاقت ربها وعلى فمها ابتسامة رضا وطمأنينة، مرّ إذ ذاك بخاطري قول الشاعر الأمريكي برانيت، ذلك القول الذي كانت تردده أثر كل فشل أو مصاب، والذي ظلت تردده كثيراً في آخر أيامها: (هكذا عش، حتى إذا ما نادى منادي الموت لا تسر إليه كالعبد مسوقاً إلى سجنه بل سر إليه بأيمان ثابت وطمأنينة(15/70)
تامة كمن يسحب غطاءه عليه ليستسلم إلى حلم عذب جميل).(15/71)
النجوم
للقصصي الفرنسي ألفونس دوديه
عندما كنت أرعى الماشية على جبل (اللبرون) كنت أقضي أسابيع طويلة لا أبصر في خلالها مخلوقاً حياً غير كلبي (لابري) وقطيعي في المرعى، وقسيس جبل (الأور) وبعض عمال (البيامون) مارين من هناك في سبيلهم، تلك الجماعة التي أخرستها الوحدة وشغلتهما عن تسقط أخبار قرى الساحل ومدنه. ولهذا كنت أشعر بالسعادة تمر بي كلما سمعت رنين أجراس بغلنا آتيا يحمل إليّ الزاد كل خمسة عشر يوماً، مرة مع أجيرنا ومرة مع عمتي. فكنت أتلقى منهما أخبار البلد من تعميد وزواج وغير ذلك، وأهتم خاصة بما آلت أليه أبنه سيدي الآنسة ستيفانيث، هذه الآنسة التي فاقت أترابها بجمالها الفاتن، وأستفهم بلباقة عما إذا كانت تكثر من حضور الحفلات العامة أو قضاء الليالي الراقصة، وهل تقدم إلى خطبتها أحد، كل ذلك كنت أقف عليه دون أن أترك لمحدثي سبيلاً يلحظ منه هذا الاهتمام البالغ. ومن يسألني الآن لماذا كانت تعنيني هذه الأمور أجبه بأني شاب في العشرين من عمري وأن الآنسة ستيفانيت أجمل فتاة رأيتها في حياتي.
وفي ذات مرة كنت أنتظر الزاد يوم الأحد فتأخر عن موعد وصوله، فحملت ذلك في الصباح على (حفلة القداس الكبير) وفي الظهر على أن الدابة لم تستطع متابعة سيرها لرداءة الطريق بعد هبوب العاصفة الشديدة، وفي الساعة الثالثة بعد الظهر تماماً، بينما الجو في صفاء أديمه، والجبل يرفل في حلته اللؤلؤية. وخرير المياه يشنف أذني. سمعت رنيناً مطرباً كأنه رنين الناقوس في عيد الفصح، فتحققت أن الدابة التي أنتظرها آتية، ولما تبينتها ملياً لم أر معها لا الأجير ولا العمة وإنما رأيت عليها. . أتعرف من!. . . آنستنا! نعم آنستنا ستيفانيت نفسها، فقد شاهدتها منتصبة على ظهر البغل بين السلال، موردة الوجنتين كأن نقاوة الهواء وطراوة الجو بعثتا في وجهها الحياة.
وقبل أن تطأ قدماها الأرض أخبرتني أن الأجير المسكين مريض لا يغادر فراشه، وأن عمتي (نوراد) غائبة منذ أيام عند أبنائها، ولما سألتها عن سبب إبطائها أجابت (إني ضللت الطريق) ولكن من يبصرها في أبهى زينتها، بشريطها الحريري المغطى بالزهر، وردائها اللماع الحواشي، يحكم بأنها كانت تلهو بالرقص لا بالتفتيش عن الطريق بين الأدغال.(15/72)
آه ما ألطف هذه المخلوقة التي لم تملها عيناي وما أجملها! كنت بالأمس أشاهدها أحياناً في الشتاء وأنا عائد في المساء من الحظيرة إلى المزرعة لأتناول طعامي، فكانت تدخل غرفتها وهي في زينتها وكبريائها دون أن تكلم أحداً من الخدم. . . حينئذ علمت أني ما تأملتها من قبل في مثل هذا القرب. وبعد أليست الآن واقفة أمامي في هذه الخلوة التامة فلم لا أعانقها؟
ولما أفرغت (ستيفانيت) السلال أخذت تتأمل ما حولها باهتمام ثم نزعت ثوبها الفضفاض، الذي لا ترتديه ألا أيام الآحاد، خوفاً عليه من التلف، ودخلت المراح تريد أن تشاهد المكان الذي أنام فيه، وفراش القش المغطى بفروة الخروف، ومعطفي الضخم المعلق على الجدار، وهراوتي الغليظة، وبندقيتي العتيقة، فكان في هذه الأشياء مسلاة لها.
- إذن أنت تقضي أيامك في هذا المكان أيها الراعي المسكين؟ لا بد أن تكون قد مللت الحياة في هذه الوحشة وتلك العزلة! وإلا فقل لي ماذا تفعل، وفيم تفكر؟
فهممت بأن أجيبها: (أني أفكر فيك يا سيدتي) كما هو الواقع، ولكني كنت في حالة اضطراب شديد، فلم أجد كلمة واحدة أقولها لها. ولما توسمت وجهها لاحظت أنها شعرت بما يجول بخاطري، وكأني بها أرادت أن تزيد في حيرتي وتلعثمي لتتلذذ في قرارة نفسها، فقالت:
- وصديقتك العنزة الذهبية اللون، هل تزورك أحياناً؟ أنا لا اشك في إخلاص هذه الشيطانة التي لا يلذ لها الجري إلا على رؤوس الجبال. . .
ولكن ستيفانيت بوجهها الضحوك، ورأسها المنحني، وإسراعها في العودة إسراعا كاد يجعل في زيارتها إغماضة عين، كانت أشبه بهذه الشيطانة المذكورة.
- أستودعك الله أيها الراعي.
- سلاماً يا سيدتي.
ولم أتم جوابي حتى كانت في طريقها وليس معها غير سلالها الفارغة. ولما اختفت عن ناظري في المنحدر خلت أن الحجارة المتناثرة من حوافر الدابة كانت تقع على قلبي واحدة بعد واحدة.
ومع أنها أصبحت بعيدة عني فقد ظل صوت الحجارة المتناثرة يدوي في أذني. وبقيت حتى أزف المساء كأنني في غفوة لا أتحرك من مكاني خوفا من أن يتبدد هذا الحلم اللذيذ.(15/73)
ولم أصح الا على صوت يناديني من السفح. وكان الليل بدأ يرخي سدوله والقطيع أخذ يزاحم بعضه بعضاً ليدخل الحضيرة. وبينما أنا أفتش عن مكان الصوت ظهرت أمامي فجأة الآنسة ستيفانيت، ولكن بغير الهيئة التي قابلتني بها في المرة الأولى. قابلتني وهي ترتجف من البرد والخوف، وأثوابها مبللة، فعلمت حينئذ أن فيضان نهر (السورغ) في الوادي بعد تلك العاصفة الشديدة أخذ عليها الطريق، فخافت على نفسها إن هي اجتازته. والأغرب من ذلك أنها ساعة ودعتني ما كان يجب عليها أن تفكر في الرجوع إلى المزرعة، وما كان بإمكاني ان اترك القطيع وحده لأرافقها في طريقها الوعر.
ويظهر أن فكرة الإقامة هذه الليلة في الجبل كانت تزعجها ولا سيما عندما كانت تفكر في قلق أهلها عليها. فكنت أهديء من روعها واطمئن بالها بما أستطيع اليه سبيلا. واذكر أني قلت لها أن ليالي يوليو قصيرة، وان السماء يصفو أديمها بعد حين.
وأشعلت النار بسرعة وأخذت أدفئ قدميها وأجفف أثوابها. ثم قدمت اليها شيئا من الجبن والحليب. ولكنها لم تكن لتفكر في الدفء ولا في الأكل تلك الساعة، واسترسلت في النحيب حتى كدت أبكي لبكائها.
ولما أرخى الليل سدوله تماما ولم يبق على قمة الجبل غير شعاع حائل من الشمس، والا قطفة من نور في حواشي الأفق؛ أمسكت بيد الآنسة وأدخلتها المراح لتستريح، فتمددت على فروة ناعمة الصوف كنت قد فرشتها على القش الطري، ثم خرجت من عندها لأجلس لدى الباب متمنيا لها ليلة سعيدة. . .
ويشهد الله أني لم تخامرني فكرة سيئة قط، بالرغم من نار الحب المتأججة في دمي. ولكني كنت فخوراً جداً لأن في زاوية من المراح تنام في حراستي ابنة سيدي كأنها نعجة أثمن من تلك النعاج التي ترمقها بنظرات الاهتمام وأشد منها بياضا.
والحق يقال إنني لم أرَ السماء من قبل بمثل هذا الصفاء الذي رأيتها به في تلك الليلة. ولا النجوم بمثل هذا النور الساطع الذي كانت ترسله. .
وفجأة فتح باب المراح: وظهرت منه ستيفانيت. فالغنم كانت تزعجها بأصواتها فتمنع عنها لذة النوم. لذلك أحبت ان تأتي قرب النار. ولما لاحظت منها ذلك وضعت معطفي على كتفيها وأرّثت النار ثم أدنيتها مني. وبقينا مدة جالسين جنبا إلى جنب لا نجد حديثا نفتحه(15/74)
ولا حادثا نشرحه.
ويعلم الذين قضوا بضع ليال في الفلوات أن عالما خفيا يهب من سباته ساعة ينام الإنسان في هذا الانعزال التام والسكون العميق، في هذه الساعة تستيقظ الطبيعة، فالينابيع تغني بصوتها العذب، وترسل المياه الراكدة بريق لألائها السماوي. وتأخذ الأشباح تروح وتجيء، وترتفع في الهواء أنغام خفية وأصوات كالحفيف، وكأن الأغصان أخذت تمتد والأعشاب تنمو. فالنهار يعطي الحياة للمخلوقات الحية، أما الليل فيعطيها للأشياء الميتة. وهذا مما يرعب الإنسان إذا لم يكن له به سابق عهد أو عادة. . ولهذا كانت الآنسة ترتجف أبداً من الخوف، وتلتصق بي كلما سمعت صوتا كأنها طفلة صغيرة.
وفي ذات مرة تعالت جلبة محزنة من المستنقع في الوادي وارتفعت إلينا تموجاتها مع الأثير. ثم رأينا شهابا جميلا يهوي فوق رأسينا من عل ويتجه نحو ذلك المستنقع كأن الضجة التي كرهنا سماعها تحمل معها بارقة خير. فسألتني ستيفانيت:
- ماذا جرى؟
- نفس دخلت الجنة يا سيدتي.
فرسمنا الصليب على صدرنا ثلاثا وبقيت هي تنظر إلى السماء بنفس مطمئنة، ثم قالت:
- أصحيح ما يقال عنكم معشر الرعاة أنكم سحرة؟
- لا يا سيدتي، إنما نحن اقرب هنا إلى النجوم من سكان السهل، ولذلك فنحن أكثر منهم علما بما يجري فيها.
ثم وضعت يدها على فؤادها وقالت:
- ما أكثر هذه النجوم وما أجملها! أنا في حياتي ما رأيت هذا المنظر. . . . هل تعرف أسماءها أيها الراعي؟
نعم أيتها الآنية. . . . انظري! فوق رأسينا تماما ترين (طريق سان جاك) (المجرة) الممتدة من فرنسا إلى إسبانيا، تلك الطريق التي اختطها (سان جاك دي غاليس) ليري الفاتح العظيم (شارلمان) سبيله عندما كان يحارب (العرب) وعلى مسافة منها ترين محفة الأرواح (بنات نعش الكبرى) بأقطابها الأربعة الساطعة. وعلى مقربة منها (الحيوانات الثلاثة). والنجم الصغير المقابل للثالثة هو (السائق)؛ وانظري من حولها هذه النجوم الهاوية، إنها(15/75)
النفوس التي لم يقبلها الخالق في جنته. . . . وتحتها بقليل ترين (المشط) أو (الملوك الثلاثة) (الجوزاء) التي نستعين بها على معرفة الوقت. فيكفي أن القي عليها نظرة واحدة لأتأكد أن نصف الليل قد انقضى. وعلى مسافة منها للجنوب يلمع (جان دي ميلان) سراج الكواكب كلها (الشعري اليمانية) واليك الحكاية التي يرويها الرعاة عنها:
في ذات ليلة دعيت الشعري اليمانية و (الملوك الثلاثة) والثريا إلى حفلة زواج إحدى صديقاتها النجوم. فتقدمت الثريا رفيقتيها وانطلقت حتى استقرت في أعالي طبقات الجو كما ترينها؛ ولحق بها (الملوك الثلاثة) بطريق أدنى؛ أما الكسول (جان دي ميلان) فقد أخره نومه عن اللحاق بها، فاغتاظ ورماها بعصاه ليقفها في مكانها. ولهذا يطلقون أحيانا اسم (جان دي ميلان) على (الملوك الثلاثة).
ولكن اجمل النجوم وأكبرها قدرا (نجمة الراعي) التي تنير لنا الطريق في الفجر عندما نخرج بالماشية إلى المرعى، وفي المساء عندما نعود بها إلى الحظيرة. ونسميها أيضا (ماغلون) وهي الجميلة التي تمشي دائما إثر (بير دي بروفانس) (زحل) لتتزوج به كل سبع سنوات مرة واحدة.
- ماذا تقول! وهل من زواج عند النجوم؟
- نعم أيتها الآنسة.
ولما أخذت اشرح لها محور هذا الزواج أحسست بشيء ناعم يثقل على كتفي في لطف ورقة؛ فنظرت فإذا برأسها الناعس متكئا علي، وإذا بشرائطه الحريرية وتخاريمه اللطيفة وشعره المجعد يحتك بي إلى أن بدأت الكواكب تصفر في سمائها، وأخذ ضوء الفجر ينبثق في الأفق البعيد ليمحو أثرها. أما أنا فكنت أتأمل الفتاة النائمة بشيء من الحزن الخفيف. لا أفكر في هدأة الليل وصفائه إلا بكل ما هو جميل وشريف. وعلى جوانبنا تتابع النجوم سيرها ببطء وسكوت كأنها قطيع من الغنم. وبين الفينة والفينة كنت أشعر أن ألطف وأجمل نجمة كانت قد أظلت الطريق فهبطت إلى كتفي فنامت عليه بهدوء. . . .
كيفون (لبنان). محمد كزما(15/76)
بلياس ومليزاند
للفيلسوف البلجيكي موريس ماترلنك
ترجمة الدكتور حسن صادق
اركل - من القادم؟
جنفييف - انه بلياس وفي عينيه أثر البكاء.
اركل - هذا أنت يا بلياس؟ اقترب مني حتى أراك في النور.
بلياس - تسلمت يا جدي رسالة من صديقي مارسيللوس في الوقت الذي تسلمت فيه كتاب أخي. . . إن هذا الصديق العزيز علي يعاني ألم الاحتضار. وهو يستقدمني إليه ليراني قبل أن يفارق العاجلة. ويقول في رسالته إنه يعرف بالدقة اللحظة التي سيموت فيها، وأني أستطيع الوصول إليه قبل حلول تلك اللحظة إذا شئت. إني ذاهب إليه في الحال.
اركل - يجب عليك أن تنتظر قليلا، على الرغم من ذلك أننا لا ندري ماذا تعده لنا عودة أخيك. ثم هل نسيت أن أباك ملقى على فراشه في الغرفة التي فوقنا، وقد شفه الداء وبراه السقم؟ أليس من الجائز أن يكون أشد مرضا من صديقك؟ ومن أولى برعايتك وعطفك، الوالد أم الصديق؟ (يخرج)
جنفييف - لا تنس أن تشعل المصباح الليلة يا بلياس (يخرجان متفرقين).
المنظر الثالث
(أمام القصر. تدخل جنفييف ومليزاند)
مليزاند - ما هذا السكون المعتم الذي يخيم على الرياض؟ انه يدخل على النفس الرهبة والاكتئاب! وما هذه الغابات الكثيفة الجاثمة حول القصر؟!
جنفييف - لما وطئت هذا المكان أثار هذا المنظر العجب في نفسي وأخذ منها مأخذا شديدا. انه رائع مخوف يغرق كل من رآه في التأمل العميق. توجد أمكنة لا يرى الإنسان فيها نور الشمس ولا ضوء القمر، فإذا ما طال مقامه بها ألفها واطمأن إليها. . . قضيت في هذا القصر الموحش أربعين عاما أو تزيد قليلا. . . لو نظرت إلى الناحية الاخرى لرأيت نورا ينبعث من ماء البحر.
مليزاند - أسمع حركة قريبة منا.(15/77)
جنفييف - نعم. أحد الناس يسير نحونا. . . آه! انه بلياس. .
ما يزال التعب باديا في أسارير وجهه وفي خطواته المتثاقلة. . . لقد انتظركما طويلا.
مليزاند - إنه لم يرنا.
جنفييف - أعتقد أنه رآنا، ولكنه لا يعرف ما يجب عليه عمله، بلياس، بلياس، أهذا أنت؟
بلياس - نعم. إني آت من شاطئ البحر.
جنفييف - ونحن أيضا كنا نبحث عن مكان ينعم بشيء من النور، ولكننا لم نجد مكانا أقل ظلمة من هنا. كنا نرجو أن نجد البحر منيرا فألفيناه قاتماً مكفهرا. . .
بلياس - ستهب الليلة عاصفة كما هبت من قبلها عواصف في الليالي القليلة الماضية. . . ومع ذلك أرى الجو هادئا في هذا المساء، والسماء مصحية والبحر ساكنا لا تعروه رعدة ولا تعلوه موجة، قد يركب البحر الليلة إنسان وهو مطمئن الخاطر مثلوج الفؤاد، حتى إذا بعد عن الشاطئ، دهمته العاصفة، وحطمت السفينة، وابتلعه اليم في جوفه. . .
مليزاند - أرى شيئا يخرج من المرفأ.
بلياس - لا بد ان يكون هذا الشيء سفينة كبيرة. . . الأنوار عالية، وسنرى السفينة بعد قليل حينما تبلغ الموضع الذي فيه أشعة الضوء.
جنفييف - قد يحجبها عن عيوننا الضباب الراقد على سطح البحر فلا نراها.
بلياس - كأني بالضباب يعلو في دءوب وبطء. . .
مليزاند - نعم. . . أرى الآن على البعد نورا ضئيلا لم أره قبل ذلك.
بلياس - هذا هو ضوء منارة. .، توجد منارة أخرى لم نرها بعد.
مليزاند - بلغت السفينة الحيز المضيء. . . إنها الآن بعيدة عن الشاطئ.
بلياس - إنها تبتعد مسرعة وقد نشرت كل شراعها.
مليزاند - وهي التي جازت بي إلى المرفأ. . . إن لها شراعا كبيرا أعرفه حق المعرفة.
بلياس - سيباغتها الليلة هياج البحر!
مليزاند - ولماذا أقلعت في هذا المساء؟. . . اختفت عن الأبصار أو كادت. قد تحل بها كارثة في وحشة الظلام!
بلياس - الليل يبسط على الكون ظلمته في سرعة غريبة (سكوت)(15/78)
جنفييف - حان الوقت لدخول القصر. بلياس، دل مليزاند على الطريق. إني ذاهبة لأرى (اينيولد) الصغير وامكث بجانبه بعض لحظات (تخرج)
بلياس - لم أعد أرى شيئا على سطح البحر.
مليزاند - أرى أنوارا أخرى. . .
بلياس - إنها المنائر الأخرى. . . أتسمعين صوتا يأتينا من البحر؟ إنه زفيف الرياح وقد مسحت عن عينيها فتور الكرى. . . هاتي يدك. . . الطريق من هنا.
مليزاند - انظر. . . انظر. . . في يدي أزهار كثيرة!
بلياس - اعتمدي على ذراعي. . . ان الطريق كثيرة الالتواء شديدة الانحدار، والظلام حالك متكاثف. . . في نيتي الرحيل غدا.
مليزاند - أوه! لماذا تنوي الرحيل؟ (يخرجان)
الفصل الثاني
المنظر الأول
(عين ماء في الحديقة. يدخل بلياس ومليزاند)
بلياس - تجهلين دون ريب هذا المكان الذي قدتك إليه. . . إني افزع إليه في كثير من الأوقات فرارا من شدة القيظ. . . الحر خانق اليوم، حتى تحت ظل الشجر!
مليزاند - أوه! الماء صاف!
بلياس - وهو بارد منعش كعهدي به أيام الشتاء. . . هذه عين ماء عتيقة أهملت منذ زمن بعيد، وأظنها كانت تأتي بالمعجزات. . . كانت تشفي الأعمى ولذلك ما يزال الناس يطلقون عليها (عين العمى)
مليزاند - ولم تعد تنتج هذا الأثر؟
بلياس - من يوم أن ضعف بصر الملك وشارف العمى لم يعد يتردد على العين أحد.
مليزاند - ما أثقل الوحدة على صدر الإنسان في هذا المكان! إني لا أسمع فيه حسا ولا ركزا!
بلياس - السكون التام الغريب يألف هذا المكان في كل حين ويستطيب صحبته في كل آن. . . انظري إلى الماء، انه في سبات عميق. . . اجلسي إذا شئت على هذا المرمر الذي(15/79)
يحيط بالعين. . . فوق رأسك شجرة الزيزفون لا تخترقها أشعة الشمس.
مليزاند - سأرقد على المرمر. . . إن شوقاً ملحاً يدفعني إلى رؤية القاع.
بلياس - لم ير قط. . . قد تبلغ العين في عمقها البحر.
مليزاند - قد يرى الإنسان قاعها إذا وضح فيه شيء يلمع.
بلياس - لا تنحني هكذا!
مليزاند - أرغب في لمس الماء.(15/80)
الكتب
النجوم في مسالكها
هذا هو النقد الذي بعث به إلى الرسالة الأستاذ عبد الحميد سماحة منذ عددين. وكنا على وشك أن ننشره لولا أن رأيناه بروحه ومعناه منشوراً في الأهرام بإمضاء ناقد، فلما كتب الأستاذ في الأهرام انه هو وزميله غير هذا الناقد الحاقد، وأنه ينتظر ظهور نقده في الرسالة ليعلن في الكتاب جملة رأيه، نشرناه اليوم متبوعاً بتعليق للأستاذ الغمراوي حتى لا تحول بين علم الأستاذ وبين جهل المترجمين الذين أقروا الكتاب! وحتى تهيئ الفرصة لمن أحسنوا الظن بالأستاذ أن يوازنوا بين نقده وبين نقد (ناقد)
قال الأستاذ سماحة بعد المقدمة:
يبدو لي ان شخصية المؤلف كان لها تأثير شديد على المترجم فالتزم الترجمة الحرفية التزاما في مواضع كثيرة شوهت من جمالها في الأصل الإنجليزي وأخرجتها في بعض الأحيان عن معناها الحقيقي حتى أصبح من الصعب فهمها دون الرجوع إلى الأصل الإنجليزي.
مثال ذلك: ما جاء من الصفحة الثامنة (وعلى ذلك فلا أقل من 000 , 300 , 1 أرض يمكن أن يزج بها في الشمس، وفي الأصل الإنجليزي 1 , 300 , 000
وما جاء في صفحة 74 (رأى السير اسحق نيوتن ان هذا الانحناء المستمر نحو الأرض في مسار القمر إنما يعين أن الأرض تجذب القمر جذبا مستمرا)
. .
وفي الأصل الإنجليزي ص 69 وفي صفحة 77: (منذ عهد نيوتن برهنت الحقائق الفلكية فوق كل شك غير جزاف صدق ما نقرره) وفي الأصل الإنجليزي:
,
وفي آخر صفحة 94: (وليس هناك نواة تستطيع أن تقبض على كهاربها بقوة في طوقها أن تصمد لمثل هذه الحرارة) وفي رأيي أنها لو وضعت في الصيغة الآتية لكانت أدل على المعنى المقصود: (وليس هناك نواة تستطيع أن تستبقي كهاربها في أطواقها عند مثل هذه الدرجة العالية من الحرارة) وما جاء في صفحة 107: (ولما تكلمنا عن وجه السماء في(15/81)
الفصل الأول لم تكن النجوم في اعتبارنا إلا وراءاً بعيداً عن نقط ضوئية) فهنا أيضا يكاد يكون المعنى غير مفهوم.
وفي صفحة 42 في آخر الفقرة الأولى جملة مكررة ليست موجودة في الأصل الإنجليزي (فالجو في النجم يتدخل بالتدريج في مادة النجم نفسها لأن النجم وجوه مصنوعان من مادة واحدة، فالانتقال يتم تدريجيا من مادة الجو إلى المادة الأساسية للنجم نفسه لأن تكوينها واحد)
وفي صفحة 55 وضع المترجم شرحا عن عطارد ذكر فيه أن رؤيته بمصر صعبة نسبياً، والحقيقة أن رؤية عطارد ممكنة في مصر.
أما ترجمة بقدر بمرتبة، فلا زلت على رأيي الذي كاشفته به قبيل إصدار الكتاب وهو أن النحت هنا غير جائز بالمرة إذ أن كلمة قدر هي اصطلاح فني يدل على درجة لمعان النجم ويقابلها في الإنجليزية وكلاهما أقدم على الزمن من جينز ومؤلفات جينز وليس لمؤلف أو لمترجم أن يثور على الاصطلاح بغير ما سبب قوي وبمثل هذه السهولة، أما ما أشار اليه المترجم في مقدمة صفحة ح من أنه راجع كتاب محمود باشا الفلكي لمعرفة أسماء النجوم والكوكبات العربية، فالذي أعرفه أن محمود باشا ليس له مؤلفات باللغة العربية أو على الأقل في هذه الناحية من البحث، وأن الكتاب الذي يشير إليه الدكتور الكرداني هو كتاب (الدرر التوفيقية في علم الفلك والجيوديزية) والمؤلف هو إسماعيل بك مصطفى الفلكي وليس محمود باشا، أما ما يصح أن نسميه تمصير الكتاب فقد نجح بذلك المترجم إلى حد كبير، وهو مجهود يستحق الثناء، فأكرر تهنئتي له واشكره على ما نسبه لي في مقدمة الكتاب.
تعليق الأستاذ أحمد محمد الغمراوي
أظن أهم ما في نقد الأستاذ سماحة قوله أن الترجمة في مواضع كثيرة حرفية شوهت من جمال الأصل وأخرجته في بعض الأحيان عن معناه الحقيقي حتى أصبح من الصعب فهمها دون الرجوع إلى الأصل. وهذا النقد لو صح لكان عيباً كبيراً في الترجمة لا يمكن الاعتذار عنه بحال. لكن الأمثلة التي ساقها الأستاذ سماحة توضيحا لرأيه هذا تكفي في ذاتها لنقضه. فقد ذكر أمثلة ثلاثة قرن في كل منها الترجمة بمقابلها من الأصل وأشار في(15/82)
كل إلى الموضع الذي لم يرضه من الترجمة والى ما يقابله. والذي لم يرضه في كل مثال هو في الغالب كلمة في جملة، وهذا يقرب مسافة الخلف بيننا وبينه إذ لو كانت الترجمة حرفية بالمعنى الذي يزعم لكانت الجملة كلها محل اعتراض لا كلمة واحدة منها أو كلمتان فإذا رجعنا إلى الكلمة أو التعبير الذي أعترض عليه لم نجد لهذا الاعتراض محلا. فالجمل العربية في جميع الأحوال إلا لشخص لا يعرف معنى مثل (يزج بها) و (شك غير جزاف). ولم يدر بخلد المترجم ولا المراجع أن في أي هذين التعبيرين ما يستغلق على أحد اللهم إلا على تلميذ يكون من صالحه عندئذ أن يكشف أو يسأل عما استغلق عليه. ثم الجمل العربية في جميع الأحوال ليست ترجمة للأصل حرفا بحرف بل فيها من التصرف قدر بسيط ينجيها من الحرفية المكروهة من غير أن يحرمها من الدقة.
على أن يحسن بنا أن ننبه هنا إلى أن الحرفية في الترجمة ليست دائما مكروهة وإنما تكره عندما يختلف الذوق في اللغتين. فإذا اتفق الذوقان كما يحدث في مواطن غير قليلة لم تكن الحرفية شيئا مكروها بل كانت مستحبة أو واجبة لأنها عندئذ تكون أسهل وأدق وأرضى للضمير الذي يطالب بالأمانة المطلقة في الترجمة كما يطالب بالأمانة المطلقة في النقل. فليس بعيب على مترجم أن يلتزم الأصل حتى في التراكيب ما دام مثل هذا الالتزام لا يؤدي في الترجمة إلى ما يأباه ذوق اللغة المنقول إليها أو يخالف معنى الأصل المنقول عنه. وليس في الأمثلة التي جاء بها الأستاذ سماحة ما يمكن ان يدل على أن الترجمة التي نحن بصددها فيها ما يخالف الذوق العربي أو يفيد معنى لا يفيده الأصل الإنجليزي. حتى الجملة التي قال أنها مكررة في صفحة 42 تكررا ليس في الأصل الإنجليزي معناها نفس معنى الجملة التي قبلها وإن اختلفت عنها كثيرا في اللفظ، فلو كان هذا التكرار مقصودا من المترجم لكان فيه ما يشهد بأنه يذهب إلى ما وراء الحرف بكثير إذا رأى ان توضيح المعنى يستدعي ذلك. لكن أكبر الظن أن الجملتين ترجمتان لجملة إنجليزية واحدة كان يراد اختيار واحدة منهما فحال دون ذلك سهو أو شبهة ثم لم يفطن إلى تكرار المعنى عند المراجعة لاختلاف التركيب من ناحية ولأن مثل هذا التكرار قد يلجأ اليه المؤلف لتوضيح أو لتوكيد.
وكون الأستاذ سماحة قد فطن إلى أن التكرار هنا غير موجود بالأصل يقظة منه محمودة(15/83)
من غير شك كنا نود لو أنها ساعفته حين أراد التعرض للجملة التي أخذها عن آخر صفحة 94 فقد التبست عليه كلمة (طوق) بمعنى الوسع والطاقة بكلمة (طوق) بمعنى كل ما استدار بشيء، فاقترح الجملة التي يراها القارئ في مكانها من نقده. ولو كان هذا هو المعنى المقصود لكانت الجمل هي المثل الوحيد الذي جاء به الأستاذ على سوء الترجمة، لأن الجملة تصبح مضطربة غير مفهومة لو كانت كلمة (طوق) فيها معناها مدار كما فهم الأستاذ سماحة وكما تدل عليه جملته التي اقترح. ولو أن الأستاذ تجشم مراجعة الأصل في هذا أيضا لتدارك قلمه قبل ان يفرط منه ما فرط أو لعل الأستاذ سماحة راجع الأصل واستباح مع ذلك أن يتصرف في ترجمته. هذا التصرف الغريب لأنه من الآخذين بمذهب التصرف الواسع في الترجمة. وهو مذهب له أنصاره لسهولته.
ولأنه يحل شخصية المترجم محل شخصية المؤلف، ولعل هذا هو السر في أن الأستاذ سماحة عاب على المترجم أن سمح لشخصية مؤلف كتاب (النجوم في مسالكها) بالتغلب على شخصيته. ولو كانت المسألة مسألة مغالبة بين شخصيتين لكان هذا عيبا لكننا نفهم واجب المترجم على عكس ما يفهم الأستاذ، نفهمه على انه جهاد في سبيل إظهار شخصية المؤلف كما تتجلى في كتابه، وإخفاء شخصية المترجم تماما إن أمكن. واكبر صعوبة في الترجمة كما نراها هي في ذلك الإظهار وهذا الاخفاء، اذ ليس من السهل أن يتخلى مترجم عن شخصيته ويجتهد في تقمص شخصية مؤلف مكانها ليخرج للناس ترجمة تكون في اللغة المنقول إليها مثل الأصل في اللغة المنقول عنها. هذا مثل أعلى في الترجمة يقترب الإنسان منه كما يشاء من غير أن يبلغه. ويظهر أن الدكتور الكرداني قد نجح في الاقتراب منه إلى حد أن التبس الأمر على الأستاذ سماحة فظن المسألة مسألة شخصية غلبت شخصية، وما هي إلا مسألة مبدأ في الترجمة قائم على الأمانة والتضحية قد أفلح الأستاذ المترجم في اتباعه وتوخيه.
بقيت الملاحظتان الفلكيتان اللتان ذكرهما الأستاذ سماحة. فأما مسألة قدر ومرتبة فإنا نظن الحق معه فيها، وإن كان هذا ليس معناه أن يحرم مثل الأستاذ الكرداني من إبداء رأيه بصورة عملية في مسألة مصطلح من مصطلحات لم يستقر الناس فيها بعد على قرار. وإما مسألة رؤية عطارد فان القول الذي كان قاله الدكتور الكرداني من أنها صعبة نسبيا لا(15/84)
ينبغي أنها ممكنة كما يقول الأستاذ سماحة. ولعله يحسن هنا إنصافاً للاثنين أن نقول أن الدكتور الكرداني أراد أن يستوثق من الأمر فسأل الأستاذ سماحة فكان رأيه أن رؤية عطارد غير ممكنة في مصر، فراجعه في ذلك حتى اتفقا على خير تعبير هو (صعبة نسبياً) وقد غيره الدكتور الكرداني بعد إلى (سهلة نسبياً). فإذا كان الأستاذ سماحة يخبرنا الآن أن رؤية عطارد ممكنة يريد سهلة فمرحبا بخبره، لكن كان الأولى أن يقول سهلة أن كان هذا مراده فان لم يكن هذا مراده فقد أقر الرأي الأول ولم يكن في ملاحظته فائدة للناس.
وأما مسألة الفلكي باشا فهو إسماعيل مصطفى باشا لا محمود باشا، فملاحظة الأستاذ سماحة هي في صميمها حق، إلا في ما تفيده من أن المترجم قال انه راجع محمود باشا الفلكي فان ما قاله المترجم في مقدمته لا يفيد إلا انه خالف من غير أن يستلزم انه راجع. وعلى أي حال فان معلومات المترجم التي نسبها للفلكي باشا في صلب الكتاب هي كما أذن لنا المترجم أن نقول مأخوذة كلها عن الأستاذ سماحة وان سماه الأستاذ سماحة إسماعيل بك وسمته نسخة دار الكتب للدرر التوفيقية إسماعيل مصطفى باشا. وهذي كانت إحدى أيادي الأستاذ التي نوه بها الدكتور الكرداني في مقدمته وأراد أن ينوه بها بصورة عملية فطلب إليه أن ينقد الكتاب.
وبعد فقد كنا نود لو قصر الأستاذ سماحة نقده على الناحية الفلكية التي هو من رجالها فاشبع فيها القول، أما الناحية اللغوية فلها رجالها، وكثير منهم من أعضاء لجنة التأليف والترجمة والنثر التي تولت إخراج الكتاب.(15/85)
العدد 16 - بتاريخ: 01 - 09 - 1933(/)
على الشاطئ. . .!
الشاطئ شاطئ استانلي! واليوم يوم الأحد! والطرقات الجميلة الصاعدة إلى هذا الخليج البهيج تصب فيه أنماطاً من الناس في أنماط من اللباس، وكلهم في سن أهل الجنة! وكنت في هذا التيار الحار المتدفق كأنني السمكة الغريبة تفقد الاختيار وتخشى كل شيء! هبطت مع الهابطين إلى هذا الشاطئ على سلم من سلالمه ثم أرسلت فيه عيني فإذا هو مستدير على صدر الماء استدارة الهلال البازغ على صدر السماء، وإذا النجوم الزواهر من الأنس تختلج في قلب هذا الهلال اختلاج العواطف الرقيقة تتماس في رفق ثم تتفرج عليه في سهولة!! أخذت أخطو وئيدا بين العذارى المتجردات على استحياء وارتباك! فلما لم أجد فيهن حتى من تتقي النظر باليد كما فعلت (متجردة النابغة) حين تسقط نصفيها ولم ترد إسقاطه، أرسلت نفسي على طبيعتها في هذا الحي المباح وذكرت الأستاذ (الثعالبي) وهو يقول لي بالأمس في لهجة جازعة: (اذهب بربك إلى (استانلي) ثم صف لي ما تراه). هاتان عيناي يا صديقي مفتوحتين، وهاتان أذناي مرهفتين! فماذا أرى وماذا أسمع؟؟ أكشاك أنيقة الصنع والوضع تدرجت طبقاتها الثلاث على حضن الشاطئ! ومظلات شتى الألوان قد ركزت هنا وهناك في منحدر الساحل وجمع حاشد عار كسوق الرقيق في ألف ليلة وليلة قد بعثر أمام الأكشاك وتحت المظلات وفوق الرمال وبين المياه،. وصراع لذيذ عنيف بين أفواج البر وأمواج البحر تتخلله صيحات وضحكات كرنين الفضة المصفاة وأحاديث كهمس الأوتار تطير من بين الشفاه البواسم؛ كما تطير أنفاس الصبي الحالم، ولكنها لا تصعد إلى حيث يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح! وبيئة أجنبية ناسها غير ناسنا وإحساسها غير إحساسنا ولغتها لغة فرنسا لا لغة مصر، وسمرتها سمرة الشمس لا سمرة الجنس!! فعلام إذن هذا الجزع الباكي، والقوم إنما يجرون على أعراقهم ويعملون على مقتضى أخلاقهم وبين فتياتنا وفتياتهم من العرف الإسلامي حجاب، ومن الحياء الطبيعي وازع؟! كنت ألقي على نفسي هذا السؤال حين جرجر البحر إحدى موجاته الضخام إلى أعلى الساحل، فجريت إلى فوق أتقي هذا المدَّ المفاجئ فإذا بي واقف إزاء ظُلة جميلة منعزلة، قد انبطحت تحتها فتاة ناهد لم تقع العين منذ الصباح على اكمل منها صورة! وكانذعر السائرين من هجمة البحر قد لفتها لتنظر فلما وقع بصرها عليّ نهضت نهضة الظبي الفزِع تحيي بالعربية أستاذها القديم!(16/1)
- أوه! فلانه؟!
- نعم! ويسرني أن أراك بعد خمس سنين
- هل أنت وحدك هنا؟
- كلا بل معي أخي. . . وقد أتعبه صراع الأمواج الثائرة فذهب إلى (الكابين)
- وكيف حال البك؟
- الحمد لله خير حال! وما أكثر سؤاله عنك وأشد شوقه إليك! لقد كان جالساً بالكازينو ثم أنصرف إلى البيت منذ قليل. قالت ذلك تلميذتي الأرستقراطية المسلمة وهي تنصب كرسياً طويلاً من القماش دعتني إلى الجلوس عليه، ثم جلست هي على كرسي آخر، وكانت كأمها حواء لا يستر جسمها العاري الا (ورقتان) خصفتهما عليه، من أمام ومن خلف! فسرعان ما ذكرت ذلك المكتب الفخم الذي كانت تجلس قُبالتي عليه لتستعد لامتحان البكالوريا وهي ملففة بثوبها الأزرق الأنيق المسبل، وعيناها الساجيتان لا تفارقان الصحيفة حياء وخفرا، وثغرها الحَييُّ الدقيق لا يرسل سهل الكلام الا في تلعثم وبطئ!! لم تدعني الآنسة في ذكراي الا ريثما ردت التحية على فتاة في مثل حالها وجمالها، كانت تسير في رفقة شاب شديد السمرة غطى كتفيه شعر كثيف، كصوف الخروف.
- هذه ابنة فلان وهذا الذي معها أخوها، وهذه أبنه فلان وهذا أبن عمها، وهذه المضطجعة في الشمس بنت فلان ومحادثها صديق من أصدقاء أخيها. . . . .
- لولا علمك يا آنسة لحسبت هؤلاء جميعاً أجانب!
- وما الذي يحملك على هذا الحسبان؟
- هيف القد واكتناز اللحم واتساع الحرية
- ذلك من أثر الرقص والرياضة، ستكتب ولا شك عن أستانلي شيئا في الرسالة!
- وهل قرأت ما كتب عنه؟
- قرأته ولم أسغه، لأنه شديد المبالغة سطحي النظر، وأي بأس في أن تمتع المصرية جسمها كله بأشعة الشمس وماء البحر كالغربية؟؟
- لا بأس وأظنها تدرك ذلك كله في شاطئ خاص وفي لباس مناسب
- إن شمس الشواطئ كما تعلم إنما تقصد لخصائص أشعتها، وكلما تعرض أكثر الجسم لها،(16/2)
كان أكثر انتفاعا بها، والأمر في الشواطئ كالأمر في المراقص والمرايض، يهيمن على الحياة فيها روح رياضية عالية، تُغني كل إنسان بشأنه عن شأن غيره، فالراقص لا يفكر إلا في الرقص، والمرتاض لا يفكر إلا في الحركة والمستحم كذلك لا يفكر إلا في الأمواج والأشعة.
- ابدئي بالمثال قبل القاعدة يا آنسة. أين تجدين الروح الرياضية في هذه المرأة التي علت صدر هذا الرجل لتتعلم فوقه السباحة؟ وأينتجدين الروح الرياضية في هذين الجسمين الراقدين على الرمل يتلامسان بشهوة، ويتناجيان بنشوة، وقد انمحى من حولهما البحر والشاطئ والناس؟؟
أرى يا آنسة أن المرأة تسيء إلى نفسها بهذا التبذل (حتى من الجهة النسوية الخالصة) فإنها متى فقدت سحر المحجوب، وجاذبية المجهول، أصبحت كسائر الإناث من سائر الحيوان.
عفواً يا آنسة إذا اصطنعت في خطابك لهجة الأستاذية، فإنها لا تزال أقوى الصلات التي أمتُّ بها إليك.
ألا تلاحظين أننا في الجد نتطور ببطء موئس، وفي الهزل نتطور بسرعة جامحة؟! لقد كنا بالأمس نتجادل في السفور وها نحن أولاء اليوم نتجادل في العُري!!
أستودعك الله يا آنستي! وأسلم على أبيك وأخيك.
ثم أخذت طريقي على الشاطئ الشهوان وفي نفسي كلام حبسته! على أن من الظلم الموروث
أن الرجل يشارك المرأة في الذنب ثم يفردها بالعقوبة! فالأب يقود ابنته عارية إلى الشاطئ، والزوج يجلس مع زوجه عارية على المقصف؛ والأخ يتعرى مع أخته في الكشك والبحر، ثم يندلع لسان النقد على المرأة وحدها فيتهمها بخنق الفضيلة ويرميها بذبح الخلق!!
يا قوم، لقد فتشتم في الشواطئ كثيراً عن حياة المرأة، ففتشوا فيها ولو قليلاً عن نخوة الرجل!!
أحمد حسن الزيات. الإسكندرية(16/3)
الأمل اليائس
للدكتور طه حسين
ولدت في آخر القرن السابع عشر سنة 1697. وماتت في آخر القرن الثامن عشر سنة 1780، وجمعت لنفسها من مزايا هذين العصرين، ما جعلها أبرع الناس أدبا وأشد الناس شكا، وأوسع الناس أملا، وأقتم الناس يأسا، وأظهر الناس فرحا، وأعمق الناس حزنا. ولكني أنسيت أن أسميها. وقد كان يجب أن أبدأ بتسميتها هذا الحديث. فهي ماري دي فيشي شمبرند
التي يعرفها تاريخ الآداب الفرنسية باسم مدام دي ديفان
كان مولدها ونشأتها في هذه السنين القائمة التي ختمت حكم لويس الرابع عشر. وأدركها اليتم طفلة فأرسلت إلى دير من هذه الأديرة التي كان يرسل إليها بنات الأغنياء. وكانت أسرتها عريقة في الشرف والنبل، متقدمة في خدمة الدولة. محتفظة بمكانة رفيعة بين أشراف الأقاليم. وكانت هذه الأسرة من أشراف بورجوني، وأهل هذا الإقليم من فرنسا معروفون بالنشاط القوي وحدة الذهن، وذلاقة اللسان، وحب الحياة، وإيثار ما تقدمه إلى الناس من لذات. فلم يطل مقام هذه الصبية في ديرها الأرستقراطي حتى ظهر من حديثها وسيرتها ما أقلق الأسرة، وأقلق رئيسة الدير. ويجب أن يكون هذا الذي ظهر من سيرتها وحديثها خطيراً جداً. فلم تكن أسر الأشراف لتقلق من شيء يسير. ولم يكن أهل الأديرة ليضيقوا إلا بالشيء الذي لا يطاق. ذلك بأن حياة الناس في ذلك العصر كان قد أخذها الفساد الخلقي، من جميع نواحيها، حتى استهانوا بكل شيء، وتجافوا عما لم يكن يتجافى الناس عنه إلا في مشقة وعنف. وحسبك أن تعلم أن الأديرة كانت قد استحالت في ذلك العصر إلى قصور فخمه يلهو فيها من أبناء الأشراف وبناتهم من لم تسمح له ظروف الحياة بالعمل في السياسة أو في الجيش، ومن لم تتح لهن ظروف الحياة أن يظفرن بالزوج. وكان بنات الأشراف خاصة يتخذن من هذه الأديرة دورا للعبث واللهو، يسترن ذلك بستار رقيق من اسم الدين. ولم يكن ليتحرجن من استقبال الزائرين والزائرات، ولا من إقامة الحفلات الراقصة، بل كان الرقص والموسيقى جزأين أساسيين من برنامج التعليم الذي كان يلقي إليهن فيها: فإذا استطاعت صبيتنا هذه أن تزعج أسرتها، ورئيسة الدير بما(16/5)
أظهرت في سيرتها وأحاديثها من خروج على التقاليد، فيجب أن تكون قد أتت أمراً عظيما. وهي قدأتت أمراً عظيما حقا، فقد كانت تجادل في الدين ولما تبلغ الثانية عشرة، وكان جدالها هذا خطرا مخيفا. لأنها كانت تنكر أصول الدين إنكارا. وقد استعانت الأسرة ورئيسة الدير على جحود هذه الصبية بعظيم من عظماء الكنيسة وخطيب من أبرع الخطباء في عصره وهو فدعي هذا الحبر للقاء هذه الطفلة ومحاورتها، فلما رآها سمع لها وتحدث إليها وانصرف عنها يائسا وهو يقول إنها لظريفة. فلما سألته رئيسة الدير عما تصنع لردها إلى طريق الحق أطال الصمت ثم قال: ضعي في يدها كتابا من أرخص كتب الدين، ثم لم يزد على ذلك شيئا. وذكرت الصبية حين تقدمت بها السن حوارها مع هذا الحبر العظيم، فقالت: إن عقلي قد أضطرب أمام عقله، وقالت أني لم أذعن لحجته وانما أذعنت لجلاله؛ ومعنى ذلك أن الخصمين التقيا فلم يقنع أحد منهما صاحبه. فلما بلغت هذه الفتاة العشرين أو جاوزتها قليلا، زوجت من رجل شريف، عظيم الخطر، من حكام الأقاليم. ولكنها لم تكد تقضي معه أشهراً حتى أنكرته وضاقت به وكرهت عشرته كرهاً شديداً. وكانت تقول عنه إنه يبذل أقصى ما يستطيع ليسؤك ويصرفك عنه. على أنها قد أقنعته بالرحلة إلى باريس. ولم تكد تصل إلى هذه المدينة وتستقر فيها حتى اندفعت في حياة اللهو والعبث، اندفاعاً لفت إليها الناس، وجعلها موضوع الأحاديث في هذه المدينة الباسمة اللاهية.
وكان لويس الرابع عشر قد مات، وكان أمر الدولة إلى الوصي الذي أقيم على الملك، الصبي لويس الخامس عشر. وكان هذا الوصي صاحب لهو لا حد له، وصاحب مجون وعبث لا حد لهما أيضاً. وكان الناس قد ساروا سيرته كأنما أرادوا أن يعوضوا ما فاتهم في تلك الأيام الحزينة التي ختمت حكم الملك الشيخ، وما أسرع ما اتصلت صاحبتنا بقصر الوصي واشتركت فيما أقام فيه من حفلات، ثم اتصلت بالوصي نفسه، وأصبحت له خليلة ولكن حبه لها لم يتجاوز خمسة عشر يوماً. على إنها قد ربحت من هذا الحب القصير ستة آلاف من الجنيهات الفرنسية، تصرف لها في كل عام ما امتدت لها الحياة. وأسرفت صاحبتنا في اللهو حتى أنكرها أصحاب اللهو من أهل باريس، وحتى ساءت الصلة بينها وبين زوجها، فافترقا دهراً ثم كان بينهما صلح لم يطل، وعادا إلى الفرقة. ثم كان بينهما(16/6)
صلح آخر، قوامه أن يلتقيا على الغداء والعشاء. وإلا يعيشا معاً، ولكن هذا الصلح نفسه لم يتصل أيضاً، ففرق بينهما وعاد الرجل إلى قصره في الأقاليم وأقبلت هي على لهوها في باريس لا تدع فناً من فنون العبث إلا أخذت منه بحظ عظيم، على أنها لم تكد تجاوز الثلاثين حتى تبينت أن ما هي فيه من الأمر باطل كله، وحتى سئمت اللهو وعافته، وأخذت تحس انصراف الناس عنها. فآوت إلى أخ لها قسيس أقامت عنده دهراً ثم انصرفت عنه إلى أخ آخر لها في الأقاليم، ثم عادت مرة أخرى إلى باريس. واتصلت بقصر من قصور الأشراف كان يؤوي أكبر من تعرفهم فرنسا وأوروبا من الأباء والفلاسفة، وأصحاب الفن، وفي هذا القصر ظهرت قيمتها الأبية، واستكشفت براعتها في الحديث وتبين الذين عاشروها أنها امرأة ليست كغيرها من النساء، بل ليست ككثير من الرجال، وانما تمتاز بقلب ذكي، وعقل قوي، ولسان فصيح عذب، ومهارة في تصريف الحديث لا تبلغ الإعجاب وحده، ولكنها تبلغ إعجاز المحدثين مهما تكن منزلتهم، ومن ذلك الوقت أخذ أمر هذه المرأة يعظم. وشأنها يرتفع، لا من حيث أنها امرأة جميلة خلابة. تحب اللهو وتسرف فيه، فقد كانت في ذلك الوقت قد بدأت تقصر عن اللهو وتعري أفراس الصبي ورواحله، كما يقول زهير، بل من حيث أنها امرأة أديبة أريبة يستطيع أن يستمتع بحديثها، وعشرتها، وبراعتها ذوو العقول. وقد آثرتها صاحبة القصر إيثارا عظيماً حتى لم تكن تصبر على فراقها، وأحبها فولتير وكلّف بها منتسكيو وأطاف بها أعلام الأب والفلسفة من الفرنسيين يستبقون إلى مودتها، وما هي إلا أن تتخذ لنفسها داراً في باريس وتدعو إليها أصدقائها هؤلاء من الأباء والعلماء والفلاسفة يسمرون عندها يوم الأربعاء من كل أسبوع. ثم تضيق هذه الدار بمن يقصد إليها من رجال فرنسا وأوروبا على اختلافهم فتتحول عنها إلى دار أخرى رحبة تستأجرها في دير من هذه الأديرة الأرستقراطية في باريس. وفي هذه الدار التي استأجرتها كانت تقيم قبلها مدام دي منتسبان خليلة لويس الرابع عشر، تلك التي ملأت حياة الملك العظيم لذة وإثماً، وكلفت رجال الدين من حوله مشقة وجهداً، والتي كانت تؤوي إلى هذا الدير من حين إلى حين تستغفر الله من خطاياها وتضرع إليه في الوقت نفسه أن يحفظ عليها هذه الخطايا. أقامت صاحبتنا في هذه الدار ونظمت استقبالها لأعلام فرنسا مرتين في الأسبوع يتناولون عندها العشاء ويسمرون إلى(16/7)
قريب من آخر الليل، ويتحدثون فيما شئت من أدب وعلم، ومن فلسفة وفن، ومن سياسة وحرب. ولكنها لم تكن تحب أن تشارك الأباء والعلماء والفلاسفة فيما كان يجري بينهم من حوار؛ لأنها كانت تكره الأب والعلم، وكانت تكره الفلسفة خاصة وتضيق بها ضيقاً شديداً، وكانت تعنى بأشخاص زائريها أكثر مما تعنى بما كان عندهم من علم، أو أدب، أو فلسفة. كانت مسرفة في الشك وكان إسرافها في الشك يصرفها عمّا كان يكلف به الناس في عصرها من هذه الفلسفة الحرة الغالية التي كانت تعمل في الهدم أكثر مما كانت تعمل في البناء. وتتقدم السن بصاحبتنا وقد مات زوجها وأصبحت حرة حتى أمام القانون، وقد جدّت بتنظيم حياتها وانصرفت عن اللهو والمجون إلى حياة الجد ولذة الحديث والسمر، ولكنها على ذلك اتخذت لها خليلاً عاشت معه عيشة الأزواج، لم تكن تحبه ولكنها لم تكن تكرهه، إنما كانت تستعين به على احتمال الحياة، كما كانت تستعين بكل شئ على احتمال الحياة، فقلما عرف تاريخ الآداب امرأة ضاقت بالحياة كما ضاقت بها هذه المرأة، بل قلّما عرف تاريخ الآداب رجلاً ضاق بالحياة كما ضاقت بها هذه المرأة. كانت متشائمة كأشد ما يكون التشاؤم، وكانت تردد هذه الكلمة التي تقربها من أبي العلاء: إن شر من ابتلينا به من الشقاء، إنما هو الحياة. وكانت تستعين بإسرافها في المجون والعبث، ثم في الجد والإنتاج الأبي على احتمال الحياة، ولعلها لم تله، ولم تعبث ولم تجد الاّ لتنسى الحياة وتنصرف عن نفسها. فقد كانت تكره العزلة وتخافها خوفاً شديداً، فكانت تسهر الليل، ولا تنام الا قليلاً في النهار، وتنفق وقتها قارئة أو لاهية أو مستقبلة. ولا تكاد تبلغ الخمسين من عمرها حتى يتم الله محنته لها، وحتى يأخذها الشقاء من كل وجه. فهذا حجاب رقيق يلقى شيئاً فشيئاً بينها وبين النور، ثم يتكاثف هذا الحجاب قليلاً قليلاً، وهي تحس ذلك وتجزع له وتلجأ إلى الأطباء والسحرة، والمشعوذين، فلا تجد عند أحد منهم شيئاً. والحجاب يتكاثف ويتكاثف، حتى يستحيل إلى سور صفيق يقطع كل سبب بينها وبين الضوء وإذا هي عمياء.
أفتظن ذلك قد غير من سيرتها أو اضطرها إلى شيء من القصد والاعتدال، ليس من شك في أنها قد حزنت لذلك حزناً عميقاً ولكنه حزن أضيف إلى حزن. حفظته في أعماق نفسها ولم تظهر منه للناس شيئاً. إنما كتبت إلى بعض أصدقائها من أعلام الأب والسياسة تنبؤهم بهذه الكارثة فمنهم من رق لها كفولتير، ومنهم من عبث بها كمنتسكيو، وكلهم قد مضى في(16/8)
إكبارها، والاختلاف إليها، لم يغير من سيرته شيئا كما لم تغير هي من سيرتها شيئا. فظلت مائدتها تقام يوم الاثنين والأربعاء من كل أسبوع، وظلت تختلف إلى الأوبرا والملاعب، وتشترك في الحفلات كما كانت تفعل من قبل. واتخذت لها رفيقة فتاة من أهل الأقاليم ولدت في أسرة شريفة ولكن مولدها لم يكن شرعيا، وكانت هذه الفتاة مدموازيل لسبيناس ذكية بارعة الذكاء، حساسة قوية الحس، مثقفة واسعة الثقافة، وكانت المودة بينها وبين سيدتها قوية متينة، دامت عشر سنين لم يكدر صفوها مكدر. ثم لاحظت صاحبة الدار أن زوارها أو فريقا منهم إذا انصرفوا عنها لم يخرجوا، وانما أتموا سمرهم عند الفتاة، فغاظها ذلك وكانت القطيعة بين الصديقتين، ولكنها لم تكن قطيعة مألوفة إنما كانت حدثا من أحداث العصر في باريس، انقسم له الأباء والفلاسفة انقساما عظيما، تعصب بعضهم للشيخة وتعصب بعضهم للفتاة، وكانت كثرة الفلاسفة وعلى رأسهم ' أنصار الفتاة وكانت الأرستقراطية المعتدلة والمحافظة من أنصار الشيخة.
ثم استأنفت الحياة المنظمة طريقها عند صاحبتنا، واتخذت الفتاة لها ناديا أو صالونا أدبيا واشتدت المنافسة بين هاتين المرأتين. وصاحبتنا الآن في الثامنة والستين من عمرها قد فقدت البصر منذ ثمان عشر عاما، وعظمت مكانتها في أوروبا حتى لم يكن عظيم من الأوروبيين يزور باريس ألا رأى حقا عليه لنفسه ولمكانته أن يلقاها ويتحدث إليها. وفي أكتوبر من هذه السنة1765 زار باريس رجل من عظماء الإنجليز هو هوراس ولبول كان أبوه روبير وزيرا وكان هو عضوا في البرلمان. فلما مات أبوه ترك السياسة، وانصرف إلى الأب والفن، وكان في الخمسين من عمره. ولم ير هذا الرجل بدا من أن يزور صاحبتنا هذه ويغشي ناديها كما كان يغشي أندية الأب والسياسة كلها في باريس. فلما رأى هذه الشيخة أنكرها، وكتب إلى صديق له يصفها بأنها عجوز عمياء فاجرة العقل. على أن وقتا قصيرا لم يمض على هذه الزيارة حتى تغير الأمر بين هذا الإنجليزي وهذه الفرنسية، وتكررت الزيارة فوقع الإنجليزي من نفس هذه المرأة موقعا غريبا رد إليها الشاب بل رد إليها الصبي فأحبته. وأنا أعني بهذه الكلمة معناها. أحبته وقد أشرفت على السبعين ولم يرفض هو هذا الحب. ومن المحقق انه لم يلق هذا الحب بمثله، ولكنه أضمر لهذه المرأة مودة قوية صادقة لم تغيرها الأيام واظهر بها إعجابا لا حد له. واتصلت أسباب(16/9)
المودة والحب بينهما ما أقام في باريس، فلما رجع إلى لندرة اتصلت بينهما الكتابة، وكان يأتي إلى باريس من حين إلى حين ليرى حبيبته أو ليرى عاشقته، أو ليرى يتيمته، كماكانت تسمي نفسها، فقد كانت تسمي نفسها يتيمه وتسميه هو وصياً. وكان هو يسميها ابنته الصغيرة. وكان الحنان بينهما كأقوى ما عرف الناس من الحنان بين المحبين. وكانت نتيجة هذا الحب أربع مجلدات نشرت بعد موتها وفيها ثمانمائة من الرسائل التي اتصلت بينهما. وهي آيات من آيات الأب الفرنسي لا أكثر ولا أقل، فيها تصوير لهذه العواطف النادرة، الشاذة، التي لم يألفها الناس والتي تملأ قلوبهم مع ذلك رحمة وبرا، وإشفاقا، وعطفا. وما رأيك في هذه الضريرة التي نيفت على السبعين والتي تكتب لصاحبها رسائل حب وغرام كرسائل الفتيات اللاتي لم يتجاوزن العشرين. على أن صاحبها كان إنجليزيا، ومعنى ذلك انه كان يخافالسخرية، والمزاح، وكانت الرقابة مضروبة على الرسائل في إنجلترا ذلك الوقت. فكان صاحبنا مروعا دائما يخشى أن تفض رسائل صاحبته، وأن يعرف ما فيها من هذا الحب الغريب، فيتندر الناس به في القصر وفي الأندية. فكان يرد صاحبته إلى القصد في تصوير عواطفها الحارة، وكانت هي تخاصمه في ذلك، وكان الأمر يفسد بينهما أحيانا، ولكنه لا يلبث أن يعود إلى خير ماكان. وانقطعت رسائله عنها مرة فكتبت إليه: يظهر انك لا تريد أن تظهرني من أمرك على شيء، فاحذر أيها الوصي أن تصبر على ذلك فاني خليقة إن فعلت أن أرسل إليك سكرتيري وأن أكلفه الإسراع إلى لندرة وآمره أن يلزمك وأن يرسل إلي بأنبائك، وأن يعلن إلى الناس جميعا وفي كل مكان أني يتيمتك، وأنك وصيي، وأني أحبك، وأن يهيأ لي عندك مكانا فالحق به، وأعلن إلى الناس جميعا ما بيننا، لا أخاف فضيحة مهما تكن، فاختر لنفسك بين الفضيحة والكتابة إلي. ولعلها كانت في بعض الوقت تذعن وتطيع، وترد نفسها إلى القصد ثم تثور فترسل نفسها على سجيتها وتطلق حبها صريحا حراً. وكذلك عاشت هذه المرأة خمسة عشر عاما، استرد قلبها فيها شبابه كله وتبينت هي وتبين هو وتبين الناس في عصرهما، ومن بعدهما أن ما اندفعت فيه هذه المرأة من العبث واللهو، ومن المجون والفساد، ثم من الجد الخصب والنشاط المنتج، كل ذلك لم يكن إلا ضيقا بالحياة وافتقاداً لهذا النور الذي يحببها إلى النفس. وهو الحب، ومصارعة لهذا العدو الفاتك وهو اليأس، فلما بلغت السبعين أو كادت(16/10)
تبلغها ظفرت بالحب عند هذا الإنجليزي، وظفرت به من غير طريقه كما كان يقول المعاصرون، فان العيون هي أوضح طرق الحب إلى النفوس، ولكن الحب قد يسلك إلى النفوس طريق الآذان كما قال شاعرنا القديم. وأكبر الظن أن صوت هذا الإنجليزي هو الذي حمل الحب إلى نفس هذه الفرنسية فثبته فيها تثبيتا.
وفي سنة 1780 ماتت هذه المرأة وكتبت قبل موتها بقليل جدا إلى صاحبها كتابا تنبؤه فيه بقرب آخرتها. وتنبؤه بأنها لا تأسف لفراق الحياة، لأنها لا ترى في الحياة خيراً بعد أن كتب إليها أن لا تلقاه. وتنصح له بأن يستمتع بالحياة ما استطاع، وتنبؤه بانه سيحزن عليها، فليس من اليسير أن يتعزى الناس عمن كان يؤثرهم بالحب. فلما أتمت إملاء كتابها هم سكرتيرها الشيخ أن يقرأه عليها كعادته، فلم يستطع لأنه كان يقطع قراءته بالبكاء. هنالك أحست هذه المرأة المتشائمة اليائسة التي أسرفت في سوء الظن بالناس؛ أحست أن هذا السكرتير لم يكن يعمل عندها ليعيش. فقالت له بصوت خافت فيه نغمة الموت، وفيه مع ذلك نغمة الرضى والغبطة أكنت تحبني إذا؟
هذه صورة من صور هذه المرأة وهي من غير شك أشد هذه الصور اتصالا بالنفوس، وتأثيرا بالقلوب. ولكن لهذه المرأة صورا أخرى عظيمة الخطر جدا في حياة الأب الفرنسي. فقد كانت ناقدة، ولها في أدباء فرنسا، وفي كبار أدبائها خاصة آراء قيمة تثير الإعجاب لرقتها ولبراعة الصياغة التي كانت تعلن فيها. كانتتؤثر فولتير، وكانت تضيق بروسو فانظر إلى هذه الجملة البديعة التي تنقد فيها أسلوب جان جان: (إن لروسو حظا من الوضوح، ولكنه وضوح البرق، وله حظمن الحرارة ولكنها حرارة الحمى).
واتصلت هذه المرأة بأصحاب السياسة، واتصلت بالعظماء والأشراف وكانت منهم، وقد كتبت إليهم وتلقت منهم الكتب وقد صورتهم وصوروها، فهذه ناحية أخرى من حياتها لها أثرها في توضيح التاريخ السياسي والاجتماعي لفرنسا في القرن الثامن عشر وقبل الثورة الفرنسية الكبرى.
وبعد فلعل أحسن ما كتب عن هذه المرأة إلى الآن فصلان كتبهما سانت بوف في أحاديث الاثنين تستطيع أن تقرأ أحدهما في الجزء الأول، وثانيهما في الجزء الرابع عشر، فان أردت الإيجاز المقنع فاقرأ الفصل الذي نشر عنها في (مجلة العالمين) أول أغسطس، فان(16/11)
أبيت أن تتكلف القراءة أو تشق على نفسك بالبحث فقدر هذا الوصف الذي كان يصفها به فولتير، وفكر فيه فانه يعطيك منها صورة قوية، تملأ نفسك رحمة وإعجابا. فقد كان فولتير يسميها: (الضريرة المبصرة).(16/12)
بين اليأس والرجاء
للأستاذ أحمد أمين
صوتان لابد أن يرتفعا في كل أمة ويجب أن يتوازنا حتى لا يطغي أحدهما على الآخر، صوت يبين عيوب الأمة في رفق وهوادة، ويستحث على التخلص منها والتحرر من قيودها، وصوت يظهر محاسنها ويشجع على الاحتفاظ بها والاستزادة منها. والصوتان معا إذا اعتدلا كونا موسيقى جميلة منسقة تحدو الأمة إلى السير إلى الأمام دائما، هي موسيقى الجيش تبعث الرجاء والأمل، وتمنى بالنصر والظفر، فان بغي أحد الصوتين كانت موسيقى مضطربة تهوش النفس وتدعو إلى الفوضى والارتباك، وإذا كان (الدور) في الموسيقى يكون منسجما كله، وشذ أحد أصواته لحظه فيكون (نشازا) يخدش السمع ويجرح النفس، فما ظنك (بدور) كله (نشاز)؟
مما يدعو إلى الأسف أن صوتا في الشرق علا كل صوت، وهو ليس خير الأصوات وأحبها إلى النفس، هو صوت اليأس والتثبيط يتغنى به كل أصناف الدعاة، فخطيب المسجد تدور خطبته دائما على أن من يخطبهم ليسوا مؤمنين حقاً، فقد ارتكبوا من الأوزار، واجترموا من الآثام ما أخرجهم عن الإيمان الحق، وأبعدهمعن الدين الصحيح، ولو آخذهم الله بأعمالهم لأمطرهمحجارة من السماء، أو خسف بهم الأرض، ثم يصب هذاالمعنى كل أسبوع في قالب، وكل القوالب تختلف أشكالها، ويتحد معناها، ويخرج السامع دائما وقد ملأه اليأس، وانقطع به الرجاء، إلا أن يتداركه الله بعفو ليس جزاء على عمل. ودعاة اللغة والأب يلحون في أن اللغات الأجنبية خير من اللغة العربية، وأن الأبالأجنبي أدب الثقافة والفن والعلم، ولا شيء من ذلك في الأب العربي، وأن من شاء أن يفتح عينيه فليفتحهما على أدب أجنبي ولغة أجنبية، وإلا ظل أعمى، وموجز دعوتهم أن يتحول الشرق في لغته وأدبه إلى الغرب في لغته وأدبه، لا أن يختار من لغة الغرب وأدب الغرب ما تلقح به لغة العرب وأدب العرب.
ودعاة الاجتماع أدهى وأمر، فليس في الشرق كله ما يسر، قد جرده الله من كل حسن، فلا طبيعة جميلة ولا مناظر جذابة، ولا شيء فيه يأخذ باللب ويدعو إلى الأعجاب، والقمر في الغرب أنور منه في الشرق، والبحر الأبيض قد جمل منه ما لامس الغرب، وقبح ما لامس(16/13)
الشرق، وكل شيء في عادات الشرق وتقاليده تعافها النفس، وينفر منها الطبع، وعلى الجملة فالله تعالى الواهب ما شاء لمن شاء قد جعل الحسن كله في ناحية، وقال له كن الغرب فكان، وجمع القبح كله في ناحية وقال له كن الشرق فكان، وهم إذا لم يقولوا ذلك كله جهاراً آمنوا به أيمانا، وصدرت عنه أفعالهم، واتجهت إليه حياتهم. ودعاة العلم من هذا الطراز، فكتب العلم العربي إنما تصلح لدارس التاريخ أو طعمة للنار، وماذا فيها إلاّ تخريف أو تحريف، قد كانت نتاج القرون الوسطى، ونحن نتاج العصر الحديث (ومالي وللسياسة ودعاتها فلأهربن منها إتقاء لنارها) ومجالسنا صدى لهذا الصوت، فإذا أستثنيت عُشر معشارها فكلها نقد للأخلاق وطعن في حياة الشرق، وتهجم على حال أمتهم، وتجهم لكل ما يصدر منهم، وقلّ أن تسمع صوتاً ينطق بمدح أو يعجب ببطولة، أو يتغنى بعمل مجيد.
هذه نغمة مملولة كانت أجني على الشرق من كل عيوبه، ولن تفلح أمة من غير ذخيرة تعتز بها، ومجد طارف وتليد تعتدٌ به، ونعرة قومية تدعوها إلى الفخر والإعجاب، ولأمر ما قال تعالى (كنتم خير أمة أُخرجت للناس) وليس عبثاً أن يكون في أناشيد الألمان (ألمانيا فوق الجميع) وأن يعتقد بعض الأمم في أنفسهم أنهم شعب الله المختار، ونحو هذا ممّا ينعش الأمل، ويدعو إلى العمل.
تلك ظاهرة نفسية لا مجال لإنكارها، فاعتقد الغباوة في طفلك وكرّر عليه اعتقادك تقتل كل ما فيه من ذكاء، وأعلن أنه ذكي وشجعه على ما يبدر منه من ضروب الذكاء تستخرج أقصى ما عنده من عقل. وفي المثل الإنكليزي (دَعَوا الكلب عقورا فشنق) يعنون أنهم اعتقدوا في كلب سوءاً وسمّوه عقورا وظلوا يطلقون عليه هذا الاسم حتى صدر منه من أفعال السوء ما أستوجب قتله. وفي أمثالنا العامية (قالوا للفلاح يا حرامي شرشر منجله) ذلك أن الاتهام يحمل على ارتكاب الجريمة من ناحيتين: من ناحية الإيعاز، فمن اتهمته فقد أوعزت إليه واقترحت عليه العمل وأظهرت له الجريمة ماثلة أمام عينه حيناً بعد حين، ومن ناحية أن أكبر ما كان يمنعه من الشر خوفه أن يتهم بالشر، فإذا اتهمته فقد كان ما يخشاه، وأقدم على ما كان يتحاماه، هذا إلى ما يوحيه الاتهام الدائم من شعور باطني يسيره نحو العمل وفق الاتهام، وهذا هو السر في(16/14)
أن بعض قوانين تسن لمعاقبة بعض أنواع الإجرام فتكون سببا لكثرة الإجرام، ثم ترفع فيقل الإجرام، لأن وجود القوانين كان موعزا بارتكابها، ولعل أنواعا من الآثام زادت بكثرة الكلام فيها من جهلة الوعاظ ممن لم يحسنوا دراسة النفوس وقوانينها. إذا سقط الفتى فأريته أن سقطته قابلة للعلاج، وأخذت بيده لانتشاله، كفّر عن سقطته وعاد إلى حاله، وإن أنت أريته أن سقطته لا تغتفر، وأنه لم يصبح إنسانا استمر يسقط أبدا. وكثير من الساقطين والساقطات لو أحسوا في الناس استعدادا لقبولهم، وشعروا أنهم يفسحون لهم في صدورهم لعدلوا عن سقطتهم، ونهضوا من عثرتهم.
وبعد فليس الشرق، بدعا من الخلق، إن اعتز أحد بماض فليس أمجد من ماضيه، وإن كان لكل أمة غريبة محاسن ومساوِ فللشرق محاسنه ومساويه، وإن كانت مساوئ الغرب لم تمنعه من نهوضه فلم تمنع الشرق مساويه من نهوضه؟ ليس أعوق للشرق من هذا الصوت الكريه يصدر من دعاته فيبعث اليأس وينفث السم. أيها الدعاة: كسروا قيثارتكم هذه التي لا توقعإلا نغمة واحدة بغيضة، واستبدلوا بها قيثارة ذاتالحان صنعهاطَب بأدواء النفوس عليم، واكثروا من ألحان تبعث الأمل، وتدعو إلى العمل، وتزيد الحياة قوة، ولا تشهروا برذيلة إلا إذا أشدتم بفضيلة، ولا تسمعونا صوت المعاول، إلا إذا أريتمونا حجر البناء.(16/15)
ستانلي باي!
لأستاذ كبيرلم يشأ أن يتعرف لقرائنا اليوم
نعم هو ستانلي باي الذي تكتب عنه الآن الجرائد اليومية كل يوم. والذي تكتب عنه المجلات الأسبوعية كل أسبوع000
فما للرسالة لا تساهم في حديثه وقد أصبح حديث جميع من في مصر00؟ أفليس هو الذي يزوره (الأستاذ الصاوي) فيتكلم عنه في (الأهرام) يومين متتاليين؟ أليس هو السر في (قطر الندى) كما يسميه أهل الاسكندرية الظرفاء. وهو نفس ما يسميه مدير السكة الحديدية (قطار البحر)؟ أليس هو الذي حرمته القاهرة فقام فنانوها من مديري المسارح والصالات ينقلون مشاهده إلى مسارح القاهرة؟ أليس هو الذي يشغل بال حكمدار بوليس الاسكندرية ورئيس نيابة الاسكندرية؟ ثم أليس هو الذي استلفت أخيراً نظر رجال الدين، على رغم ما هم آخذون فيه من توزيع (الطوابع) الجديدة التي ابتكروها لاسترداد هيبة الإسلام وإعلاء كلمة الدين؟!
إن الرسالة وقد جعلت مهمتها أن تقاوم حيرة الأمة بتوضيحالطريق كما جاء في عهدها لا تستطيع أن تفتك من قيود التحدث إلى الأمة في هذا الموضوع الذي يشغل الدنيا والدين على السواء! ولقد كان من حق قراء (الرسالة) أن ينتظروا كلمة من بعض أقلامها المعهودة أو تعليقا من حامل شعلتها الوضاءة. ولكن يخيل إلينا أن هذه الأقلام قد استراح كل منهاإلى موضوع فهو لا يفتأ يتقلب فيه، وقد استقل كل منها ببحث فهو لا ينفك يجول في حواشيه، فالدكتور عزام مثلا في محمد اقبال وعبد الحق حامد ونامق كمال. والأستاذ العبادي مابين زرياب وعمر بن عبد العزيز. والأستاذ أمين أخيرا في عكاظ والمربد. والدكتور طه أخيراً أيضا في لغو الصيف ما بين مصر وما وراء مصر000 ولكن لا عن طريق ستانلي باي والسلام!
فلم يبق بعد ذلك الا أن يتقدم الفضوليون الذين لا يريحون ولا يستريحون. وإني أعوذ بالله (وأنا أثير هذا الموضوع) أن أكون أحد هؤلاء000 كنت من رواد هذا الشاطئ منذ نحو عشرة أعوام، وما زلت أزوره كل عام. فأقسم لك صادقا أن لست أدري فيم هذه الضجة التي بدأت تقوم حوله هذه الأيام؟ 000 لقد كان الطريق إليه فيما مضى متعبا متربا. فتعبد(16/16)
واستقام. وكان شاطئه مجهدا مرهقا في السير لغزارة رماله، فقام إلى جانبه افريز ممهد سهل يجعل السير فوقه متعة من متع الحياة. وكانت (اكشاكه) على غير نسق، يقوم فيها الكبير إلى جانب الصغير، والوجيه إلى جانب القمئ، والعالي المشرف إلى جانب المنخفض الوضيع. فتناوله الذوق السليم بالتهذيب حتى أصبح في صورتهالحالية درجات متماثلة بعضها فوق بعض كأنه القلادة الفرعونيه تزين صورةذلك الشاطئ الجميل. هذا هو الشاطئ نفسه ما بين يومه وأمسه000 أما أهله فهم هم أهل (ذلك) الزمان. وأما زيهم فهو زي (هذا) الزمان! فمن أراد أن يثور بالشاطئ فلست أدري لم لا يثور بكافة الطرقات التي تغشاها السيدات؟ وهل أنت ترى فوق ذلك الشاطئ إلا من ترى في الترام وفي غير الترام من مسالك الإسكندرية وشعابها؟ إنهم وحق أبيك ليس فيهم من خلق جديد، ولكنهم يبدون في الطريق بزي الطريق وينزلون إلى البحر في زي البحر. فانظر أية الزينتين أدعى للفتنة وأيتهما أقرب إلى الفجور؟. . .
هذه سيدة في عربة الترام تراها وثوبها يغطي جسمها (وقبعتها تغطي رأسها) وحذاؤها يغطي رجليها. فهل حقيقة تغطى شيء من ذلك؟ ألست ترى تحت القبعة شعراً مصفوفاً وجدائل بعضها يتدلى فوق الأذن، وبعضها يزين الجبهة. وبعضها يمر فوق الخد لتلعب ضدية الألوان دورها في إبراز محاسن العنصرين. . . إشراق الوجنة، وفحومة الخصل؟! ثم انظر ماذافعل الثوب بالجسم؟ ألم يفصّله تفصيلاً؟ ألم يلف مفرطحه وينهض بمسترخيه؟ ويضغط هنا وينسدل هناك؟ ثم ينشق فوق الصدر تلك الإنشقاقة الماكرة التي يبدو منها انفلاق الثديين! إنما مثل هذا الذي يفعله الثوب في جسم صاحبته كمثل المعلم الذي يمسك (بمؤشره)
فيؤشر به لتلاميذه على هذا الموقع من الخريطة حيث (مجمع البحرين) وعلى ذلك حيث (مفرق الجبلين) وهكذا. . . .
إن كل قطعة في لباس المرأة العصرية إنما يؤدي اليوم غرضاً واحداً هو إبراز ذات المحاسن التي كان المقصود به أن تسترها.
أمّا اعتبارات الجد والاحتشام وما إلى ذلك من تلك الأغراض التي أتخذ الإنسان الأول من أجلها اللباس فقد انطوت مع أهلها ومع زمانها. . . ثم دعني أعود بك إلى الحذاء. أفلا(16/17)
يتخذه النساء مخرماً مهلهلاً مثقباً؟ وهو على الرغم من كل ذلك يلبس فوق الجلد بغير جوارب أو نحوها. فحدثني بعد هذه الصورة وكن صريحاً. . أي المنظرين أشهى للعين وألفَت لنظرها؟ أهي القدم الحافية أم المستورة تحت مثل هذا الحذاء المفضوح؟ أهو الجسم الصريح الهادي على علاّته أم ذلك المرائي المتحصّن في كل تلك الغلائل. . . هذه تبرز نهديه. . . وتلك تضغط كشحيه. . . وغير هذه وتلك من الخرق والمزق التي تغريك كل قطعة منها بكشف ما دونها ومعرفة ما ورائها! إن ما يثير الرجل من المرأة ليس هو ظهرها المتجرّد، ولا هي سيقانها العارية، ولكنها نظرتها الساجية التي ترخيها في وجه الرجل كأنما تدافعه عن نفسها وهي إنما تراوده بها عن نفسه! وليست المرأة العارية هي التي تبعث الفتنة، فقد علمنا أن في هذه الدنيا قبائل كاملة يعيش نساؤها عاريات وسط الرجال. فلم نسمع بأن ذلك كان مدّعاة إلى أن يتخطف الرجال بعض هؤلاء النساء. ولا أن تشيع الفتنة والفساد في تلك البيئة بسبب هذا العراء. ولقد علمنا من الجانب الآخر بأن الفتنة على شرما تكون هنا في طرقات القاهرة والإسكندرية حيث (الملاءات) التي تنسدل من الرأس إلى القدم، ومع ذلك فإنها لا شأن لها إلا أن تحسر الأرداف، وتنحسر عن بعض السيقان، تبدى جانباً منها وتضن بالجانب الآخر، إمعاناً في الفتنة واستفزازاً للغرائز.
إني أحدثك صادقاً أن الرجل يكون في البحر أو فوق الشاطئ تموج حوله السيقان، وتصطخب الأثداء، وتتلألأ الظهور، وتترقرق النحور، فلا يشغله كل ذلك بمثل ما يشغله في الطريق وقوف امرأة تميل على جوربها ترفعه، أو انشغال أخرى بذيل ثوبها ترخيه على ساقيها بعد إذ هفا به من فوقهما النسيم. وعلى الرغم من كل ذلك فأن النيابة، والبوليس، والصحافة، ورجال المطافئ، ورجال الدين، كل أولئك يعلنون الحرب عواناً على: (شاطئ ستانلي باي)
مصطاف(16/18)
أحياء ذكرى ابن خلدون
نشر الأستاذ محمد عبد الله عنان فصولاً في الرسالة أرَّخ فيها
العلامة ابن خلدون، فكانت هذه الفصول ولاغرور خير ما
كتب في تاريخ هذا العلامة، بيد أن الأمر الذي يرجوه الناس
ودعا إليه الصحافي العجوز في مايو سنة 1932 بالأهرام لم
يتحقق ولم نصل إليه. دعا هذا الصحافي الفاضل إلى إحياء
ذكرى ابن خلدون لكي ينتفع هذا الجيل وما بعده بهذه الذكرى
الطيبة، وقام الكتّاب على أثر ذلك يبينون ما نعمل لأحياء هذه
الذكرى، وكان من رأي الأستاذ احمد زكي باشا أن ينصب له
تمثال، وأن يبحث عن قبره ليشيّد. وكان من الآراء القيّمة
النافعة أن يطبع تاريخ ابن خلدون ومقدمته وينشرا على الناس
بنفقات طبعهما. وهذا الرأي كان خير الآراء وانفعها، وقد
انقضى عام وبعض عام بغير أن نرى أحدا قد نهض لأحياء
هذه الذكرى. ولقد كنت قرأت في صيف سنة 1923 للمرحوم
تيمور باشا بحثا في الهلال، أبان فيه أنه لا يوجد في ما طبع
من مقدمة ابن خلدون طبعة صحيحة، وأنه رأى بخزانة
الأستاذ زكي باشا نسخة مخطوطة صحيحة بقلم ابن خلدون
نفسه، فرجعت إلى أحمد زكي باشا لأسأله عما قال تيمور باشا(16/19)
فأجاب بأن لديه حقيقة نسخة مخطوطة مصححة بقلم ابن
خلدون، وأنه في سنة 1930أتى بصورتها عن النسخة
الأصلية الموجودة بمكتبة عاطف أفندي بالأستانة، وزاد على
ذلك بأنه يدعو من يشاء إلى طبعها ونشرها. ولما استيقنت من
وجود هذه النسخة أرسلت خطابا إلى رئيس لجنة التأليف
والترجمة والنشر، رغبت إليه أن تعمل اللجنة على نشرهذا
الأثر الجليل، فرد عليَّ حضرته في أغسطس سنة 1927 بأن
اللجنةتضع اقتراحنا موضع البحث، ففرحت بهذا الجواب
وجعلته بشرى أذعتها بجريدةالمقطم الغراء بين الناس. وها قد
انقضى ستة أعوام كاملة بغير أن يتحقق مارجونا. ولما كان
من أغراض اللجنة الموقرة نشر الكتب القيمة، وليس من
شكفي أن تاريخ ابن خلدون بمقدمته الموجودة بالخزانةالزكية
هو خير ما ينشر من كتب الأوائل في هذا العصر، فاني أعيد
الرجاء على صفحات الرسالة إلى هذهاللجنة الموقرة، لتعمل
على طبع هذا التاريخ ومقدمته، ويكون ما كتبه الأستاذ عنان
تصديرا لهذا التاريخ، وبذلك تكون اللجنةقد أدت للعلم
والأبأجل عمل، ولابن خلدون أجمل ذكرى. محمود أبو ريه.(16/20)
مطالعاتفي التصوف الإسلامي
تمهيد - كشف المحجوب - عوارفالمعارف
- 1 -
يمتاز العصر الذي نعيش فيه بأنهعصر نهضة فكرية تناولت الحياة العامة والخاصة للأفراد والجماعات ويمتاز هذا العصر أيضا بما استحدث فيه الباحثون من مناهج علمية لهاقيمتها وأثرها في كشف الحقيقة التي يقصد إليها كل باحث. على أن هذه النهضة مهماتكن عامة شاملة، وهذهالمناهج العلمية الحديثة مهما تكن دقيقةمنتجة، الا أننا لا نزال نرى أن في تاريخ الفكر الإسلامي ناحية خصبة ممتعة طريفة قد أعرض عنها الباحثون من الشرقيين إعراضاً هو أقرب مايكون إلى الإهمال الشنيع منه إلى أي شيء آخر. على حين ترى الباحثين من المستشرقين قد عنوا بهذه الناحية عناية خاصة فائقة. فكشفوا عن خباياها وأظهروا ما اشتملت عليه من فكر عميق وشعر رقيق. وأحسوا بماتثيره في نفوسهم هذهالآثار من متعة عقلية ولذة شعورية. هذه الناحية التي أهملها الشرقيون وعنى بهاالمستشرقون هي ناحية التصوف الإسلامي وما أنتج فيه من مؤلفات لها مكانتها الأبية، وقيمتها الفكرية بين ما أنتج العقل البشري عامة، والعقل الإسلامي خاصة.
وليس أدعى للأسف ولا أبعث على الحسرة من أنك إذا أردت أن تعرف شيئا عن تاريخ التصوف الإسلامي: نشأته وتطوره، وأن تلم إلماما كافيا بمن ظهر من متصوفة، من شعر ونثروإرشادات وإيماءات تلتمس هذا كله عند المستشرقين في لغاتهم الأوربية المختلفة. وتلتمس هذا كله بصفة خاصةعند ماسينيون في الفرنسية وعند نيكلسون في الإنجليزية. وأنت لاشك واجد عند هذين العالمين ما تطمع فيه من بحث منظم وأسلوب علمي دقيق، وتصوير جميل بديع لهذه الشخصيات الفذة العجيبة التي ظهرت إبان العصور المتعاقبة لتاريخ التصوف الإسلامي. وأنك حين تتصفح كتابامن كتب المستشرقين فليس من شك في أنك ستعجب بمهارتهم الفائقة في البحث وبمقدرتهم الغريبة على جمع الأخبار ولم شعث الآثار وتحقيقها على ضوء المنهج العلمي الحديث بحيث ينتهون من هذا كله إلى الحقيقة الثابتة التي لا يأتيها الشك من بين يديها ولا من خلفها. وليس من شك أيضاً في أنك ستقدر(16/21)
ما بذل هؤلاء القوم من جهد، وما تحملوا من مشقة وألم في سبيل إخراج ما أخرجوا من أبحاث منظمة وأسفار قيمة. وليس أدل على عناية المستشرقين بالحضارة الإسلامية عامة وبالتصوف خاصة من أن أحدهم وهو العالم الكبير والباحث الجليل المسيو لويس ماسينيون قد قضى أعواما طوالا يجوب فيها البلادالإسلامية المختلفة باحثا عن نصوص صوفية لم يسبق نشرها، وقد وفق فيما قصد إليه توفيقاً عظيماكانت ثمرته هذا الكتاب القيم المسمى (مجموعة نصوص لميسبق نشرها تتعلق بالتصوف الإسلامي) ناهيك بان المسيو ماسينيون قد تعرض إلى بحث شخصية قوية جداً من شخصيات التصوف الإسلامي وأعني بها شخصية الحلاج. فكانت ثمرة بحثه هذا السفر الضخم حقاً، الخالد حقا، في تحليل شخصيةالحلاج ونفسيته، والإبانة عنمذهبه وعن رأي المدارس الإسلامية المختلفة فيه. وليس أدل على عناية المستشرقين أيضاً بهذه الناحية القيمة الممتعة من أنهم قد عمدوا إلى ما أنتج المتصوفة من مؤلفات فأوسعوها درساوتحليلا وما هي الا أن تناولوها بالترجمة إلى لغاتهم وشرحوها وعلقوا عليها. وما هي الا أن طبعوها وأذاعوها في الناس. وما هي الا أن قرأت هذه المؤلفات ونوقشت. وانتهى هذا كله إلى أن اختلف المستشرقون حول هذه الكتب فمنهم من تعصب لها ومنهم من تعصب عليهاومنهم من رأى فيها رأيا غير الذي يراه غيره. ومن هنا كثرت المؤلفات الأوربية في التصوف. على حين أنك إذا أردت أن تعثر على كتاب في العربية يعطيك صورة واضحة جلية لنشأة التصوف وتطوره في الإسلام فانك لن توفق إلى بغيتك، ذلك لأن الشباب المثقف عندنا قد ضاق صدره بكتب التصوف القديمة كما ضاق بغير كتب التصوف منالآثار الإسلامية وغير الإسلامية، فأنت إذا طلبت إلى شاب مصري مثقف أن يطالع كتابا عربيا قديما في التصوف فمن المؤكد أنه لا يكاد يقرأ منه صفحة أو صفحتين حتى تضيق نفسه، ويحرج صدره، ويستولي عليه الملل والسأم، فيلقي بالكتاب إلقاء على أن لا يعود إليه مرة أخرى. ولعل عذره في ذلك هو أن ما تكلفه قراءته وما تحمله مشقة مطالعته إنما هو كتاب مختلط مضطرب لم ترتب أبوابه. ثم هو ضخم طويل إن عرف أوله فقد لا يعرف آخره. وأكبر الظن أن شبابنا حين ينظر إلى الآثار الإسلامية هذه النظرة التي هي أقرب إلى الازدراء منها إلى أي شيء آخر، أقول أن شبابنا مسرف على نفسه وعلى الحضارة الإسلاميةمسيء إلى نفسه وإلى(16/22)
الحضارة الإسلامية. ولو قد تجمل بالصبر على ما يقرأ وتضرع بالثبات على ما يقرأ. واستعان بالفهم المستقيم لما يقرأ. لانتهى منه إلى ما يشبع رغبته ويرضى حاجته العقلية والشعورية. وإذن فما أجدر شبابنا المثقف أن يعمد إلى هذه النواحي المهملة من تراثنا المجيد فيتناولها بحثاً وتحليلاً، وتفسيراً وتأويلاً، بحيث يخضعها لمناهج البحث الحديث فهي كفيلة بأن تشعره بما في قراءته من لذة قوية ومتاع خصب.
وأحب أن أحدثك في سلسلة من الفصول عن التصوف الإسلامي. فأتناول في بعضها الحديث عن بعض المؤلفات التي أودعها أصحابها مسائل التصوف ونظرياته. وأتناول في بعضها الآخر تحليل بعض الشخصيات القوية التي ظهرت في تاريخ التصوف الإسلامي فكان لها أكبر خطر وأعظم أثر. وبهذا أكون قد قمت بجزء من الواجب على كل شاب مصري مثقف أن يقوم به نحو هذا التراث الإسلامي المجيد. وأحب بعد هذا كله أن أتناول في هذا الفصل كتابين عنى بهما المستشرقون فترجموها إلى لغاتهم، وذلك لأن هذين الكتابين يعدان من أهم الكتب التي تظهرنا على المسائل الصوفية، والإشارات الباطنية، وما ينسب إلى المتصوفة من أقوال في هذه الإشارات وهذه المسائل. هذان الكتابان أحدهما (كشف المحجوب) للهجويرى. والثاني (عوارف المعارف) للسهروردي.
- 2 -
أما مؤلف (كشف المحجوب) فكان معاصراً للقشري الصوفي الفارسي الذي عاش بنيسابور وتوفي عام 465 هـ (1072 م) والذي يعرف بمؤلفه المشهور (الرسالة القشيرية) ولم تكن لكشف المحجوب هذه الروح النقدية المؤسسة على قواعد علمية راسخة، فهو كتاب من هذه الكتب التي يمتاز مؤلفوها بالقدرة على جمع المسائل الصوفية وأخبار المتصوفة، ووضعها في أقسام وأبواب. هذا فضلاً عن أن هذا الكتاب قلما يذكر فيه شيء عن تواريخ الأشخاص الذين يتحدث عنهم.
ولعل أكثر ما يذكر لك عن الشخص الذي يعرض له قولاً أو قولين من هذه الأقوال التي تنسب إليه. وانه ليكتفي بهذا القول أو بهذين القولين فيعمد إليهما بالشرح والتفسير ولكنه شرح غامض وتفسير مبهم. ومن الحق كل الحق ألاّ يثق الباحث المدقق ثقة تامة بكل ما ينسب إلى المتصوفة من أقوال وما ينسب حولهم من قصص كتلك التي يذكرها الهجويري(16/23)
في كتابه. وإنما هو مضطر على العكس إلى أن يأخذ هذه الأخبار وهذه القصص وهذه الأقوال إلى البحث العلمي الصحيح فينكر بعضها حين يلزم الإنكار ويشك في بعضها الآخر حين يجب الشك. ويرجح طائفة منها إذا كانت هناك حاجة إلى الترجيح ويؤكد طائفة أخرى حين لا يجد الشك سبيلاً إلى ما يؤكد بحيث ينتهي من هذا كله إلى الحقيقة الثابتة الراسخة التي لا تقبل شكاً ولا تحتمل جدلاً. وإذا كنا نلمس في تضاعيف المؤلفات الصوفية أموراً من شأنها أن تحملنا على التفكير وتدعونا إلى الشك فلا بد لنا من أن نقف من هذه المؤلفات موقفاً إن لم يكن موقف المتشكك المرتاب، فلا أقل من أن يكون موقف المحقق المدقق الذي لا يبغي من وراء تحقيقه وتدقيقه الا وجه الحقيقة خالصاً صافياً لا تشوبه شائبة. ولعل الهجويري نفسه قد قدم لنا مثلاً لما من شأنه أن يحملنا على الشك في صحة بعض ما يذكر في كتب التصوف القديمة. فهو
حين يتحدث عن الخلوي يقول: (هو مترجم الأولياء المعروف ولكي يفسر المذاهب الصوفية الأساسية فقد نسب إلى شخصيات عديدة قصصاً ألفها هو. . .). ومهما يكن من شئ فتلك مسألة نتركها الآن لنعرض إلى تلخيص الكتاب الذي نحن بصدده.
يرجع الهجويري بداية التصوف إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلّم، كما يذكر تحت اسم (أهل الصفا) فريقاً من الصحابة الذين وقفوا حياتهم على التضحية وكانت معيشتهم أقرب إلى الإعراض عن الدنيا والزهد فيها، منها إلى الإقبال عليها والميل إليها. ولعل أشهر هؤلاء الصحابة رجلان: أحدهما بلال الحبشي والآخر سلمان الفارسي.
أما في الجيل الأول من التابعين فأقوى الشخصيات التي ظهرت وذكرها الهجويرى شخصية الحسن البصري. وليس ثمة شك فيما لهذه الشخصية من أثر قوي وخطر عظيم في تاريخ الحضارة الإسلامية. فأسم الحسن البصري يذكر على رأس دراسات إسلامية متعددة. فهو يذكر في دراسة القرآن والنحو وعلم الكلام وغير ذلك من فروع الثقافة الإسلامية المتنوعة.
ويذكر مؤلف (كشف المحجوب) بعد جيل الحسن البصري أربعة وستين صوفياً أخذ يعددهم حتى دنا من العصر الذي كان يعيش فيه. وانك تراه يذكر فيمن يذكر من هؤلاء المتصوفة أبا حنيفة وابن حنبل وداود الطائي. أما الصوفيون الحقيقيون، وبعبارة أدق (المتخصصون)(16/24)
فمن بين الذين يذكرهم ذو النون المصري وابن أدهم والبسطامي. وهذه الأسماء الثلاثة كثيراً ما يتردد ذكرها في المؤلفات الصوفية نظراً لما لها من قيمة ولما لعبت من أدوار في تاريخ التصوف الإسلامي. ويذكر الهجويرى بعد هؤلاء عشرة من المتصوفة المعاصرين له أشهرهم القشيري. ثم فريقاً كان لا يزال حياً وقتئذ في الأنحاء المختلفة لبلاد الفرس. ويأتي بعد هذا كله فصل طويل عن إحدى عشرة طائفة صوفية وقد جعل لكل طائفة مقالاً خاصاً تناول فيه ناحية معينة من مذهبها. ويرى السواد الأعظم أن الخلاف الذي شب بين هذه الطوائف لم يكن ذا أهمية وأنه ليس الا وسيلة يستعان بها على تفسير المذاهب المختلفة، فالطائفة الأولى مثلاً تذكر الرضى من بين الأحوال بدلاً من أن تجعله بين المقامات. ويعقب الهجويرى على هذا بمقال عن الرضى. والطائفة الأخيرة تظهرنا على رأي المتصوفة في مسألة فلسفية نفسية ذات خطر. ذلك أنها كانت تؤمن بالتناسخ. ومن هنا ترى مؤلف (كشف المحجوب) يذيل كلامه عن هذه الطائفة بمقال عن الروح. وفوق هذا كله فان المؤلف قد بسط مذهب المتصوفة في صورة أخرى موضوعة في أحد عشر فصلاً مثلها في هذا العدد كمثل الفصول التي سبقتها. وانه ليجعل عنوان كل فصل من هذه الفصول هكذا: (كشف المحجوب الأول والثاني والثالث. . . إلى الحادي عشر) والمحجوبات هنا تقابل المسائل الجوهرية للدين الإسلامي (وحدانية الله - الإيمان - الوضوء - الصلاة. . . الخ) فكل مسألة من تلك لها تفسير صوفي. أو هي بعبارة أخرى تقابل فصلا من فصول التصوف. وأنك لتلاحظ في هذا القسم حرية التفسير والتأويل التي اصطنعها المتصوفة في فهمهم للدين. فأنت ترى مثلافي صفحة (301) من الترجمة الإنجليزية التي وضعها الأستاذ نيكلسون وطبعتها ونشرتها لجنة أحياء ذكرى جب: (الصلاة عبارة عن تعبير يجد فيه المريدون الطريق الموصل لله من البداية إلى النهاية. وفيهتنكشف لهم المقامات. والطهارة للمريدين هي التوبة. وأنت حين تولي وجهك نحو القبلة معناه انك تخضع نفسك للمدبر الروحي. وأنت حين تصلي واقفامعناه انك تذل نفسك. وتقابل تلاوة القرآن التأمل الباطني. وإطراق الرأس هو التواضع. والركوع والسجود هما معرفة الإنسان لنفسه والتسليم هو الانفصال عن الدنيا. ويحل محل الاعتراف بالإيمان الأنس بالله) وآية ذلك هي أن كل حركة عملية يمكن تأويلها تأويلا صوفيا وأن كل رياضة(16/25)
جسمية تقابلها عاطفة روحية.
- 3 -
ولنترك الآن كشف المحجوبلنقف وقفة قصيرة عند الكتاب الثاني الذي أريد أن أحدثك عنه وأعني به (عوارف المعارف) ويمتاز هذا الكتاب بأنه أكثر تقسيما وأوفر تنظيما من سابقه. ثم هو أقدر على أظهارنا على منشأ العلوم الصوفية والإبانة عن آداب المتصوفة ومذاهبهم وأخبارهم وأقوالهم بحيث يمكن اعتباره كتاباتعليميا بكل معاني الكلمة. وليس أدل على قيمة هذا الكتاب من أن ويلبرفورس كلارك قد ترجمه. ومن أن بعض المستشرقين ينظر إليه كأنه تحفة أدبية لها قيمتهابين الأسفار العربية الكلاسيكية التي تسودها روح المنطق ويسيطر عليهاأسلوب البحث والاستقصاء. ومن أن البارونكارا دي فو قد تكلم عن هذا الكتابفي مؤلفه عن الغزالي ثم أعاد الحديث عنه مرة أخرى في كتابه (مفكري الإسلام). فهذا كله يظهرك على ما للكتاب من خطر وما فيه من غناء.
أما مؤلف الكتاب فهو شهاب الدين السهروردي أحد أعقاب أبي بكر رضيالله عنه. كان تلميذا لعمه أبي النجيب وللصوفي المعروف عبد القادر الجيلي. وكان شيخا لمشايخ بغداد. التف حوله عدد ضخم من المتصوفة والزهاد وله غير مؤلفه الذي نحن بصدده طائفة لابأس بها من الأشعار، مات في بغداد سنة 632هجرية. وأبو النجيب عم المؤلف الذي أشرنا إليه آنفا صوفي أيضا. أورد شهاب الدين الذي ذكرهكثيرا في كتابه فهو يبدأ كل أبواب هذا الكتاب أو جلها بهذه العبارة: (حدثنا شيخنا شيخ الإسلام) يعني عمه.
وقد كتب عنه ياقوت في معجمه مقالا بديعا اعتبره فيه أذكى أبناء سهرورد. سافر في شبابه إلى بغداد حيث درس الشريعة والفقه. ثم إلى أصفهان. وكان يعمل كسقاء ولم يكن يعيش إلا من عرق جبينه. وبعد أسفاره هذه عاد إلى بغداد حيث كان يلقى تلاميذه الذين درسوا عليه الشريعة وحيث تولى رياسة النظامية. ثم قصد بعد هذا إلى دمشق سنة 558 هـ حيث أولاه نور الدين الزنجانى شرفاً كبيراً. وهناك أسس طائفة من الصوفية، ويعقّب ياقوت على كلامه عن أبي النجيب بقوله: أن ابن أخيه مؤلف عوارف المعارف كان من أبرز شخصيات عصره لما له من مواهب، ولما كان عليه من صلاح وتقوى، أجلّه الخليفة الناصر وخلع عليه لقب شيخ مشايخ بغداد. ولهذا الخليفة ألّف شهاب الدين السهروردى(16/26)
كتابه عوارف المعارف. ويقول عنه ابن خلّكان في وفيات الأعيان انه كان فقيهاً شافعي المذهب تخرج عليه خلق كثير من الصوفية في المجاهدة والخلوة وصحب عمه أبا النجيب والشيخ أبا محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلي. . . . ولد بسهرورد في أواخر رجب سنة 539 هـ وتوفي في المحرم سنة 683 هـ.
هذه ترجمة موجزة لحياة مؤلف عوارف المعارف. أما الكتاب نفسه فقد بلغ من الخصوبة والطول بحيث أنه وضع في أكثر من ستين باباً. ولابد لنا من وقفات عند أهم هذه الأبواب التي بسط فيها المؤلف منشأ علوم الصوفية، وآدابهم وأخلاقهم وإشاراتهم وأحوالهم ومقاماتهم. فكل أولئك مسائل خليقة بالبحث، جديرة بالدرس. وهذا ما أرجو أن أعرض له منذ الفصل التالي بحيث أكوِّن لديك صورة صادقة لهذا الكتاب تمكنك من أن تتعرف مكانته وتقدر قيمته وتتبين ما له من خطر وما فيه من غناء.
محمد مصطفي حلمي. ماجستير في الآداب(16/27)
الزينة عند قدماء المصريين
أناقة الرجال، الزي والحلاقة والحلي، زبرجة النساء، الثياب،
الأصباغ، العطور
للأستاذ حسن صبحي
(تلبس ثيابا من الكتان الناعم
وتركب الخيل وتحمل لهاالسوط الذهبي في يدك
لك سرج جديد شغلته أيدي الشوام
وتجري أمامك العبيد يصدعون بما يؤمرون
يدهن جسمك كبير معطريك بطيب الكيمي
وفمك مليء بالنبيذ والخمير. . . . . . الخ)
(من قصيدة تحية المعلم. . من الشعر المصري القديم
يالها من أناقة وفخامة! ثياب من كتان ناعم! وسوط الركوب موشى بالذهب! وسرججديد من صنع أهل الشام! وعبيد سياس يجرون أمام السيد المعلم يفسحون له الطريق ويصدعون لما يأمرهم به! وعطور وطيب يدهن به جسمه! وأية أناقة تعدل هذه الأناقة! وأين هاتيك الأناقة الرائعة، والفخامة في الثياب وفي المركبوفي الخصاصية مما نحن عليه الآن , ومما نظنه منتهى ما وصلت إليه مدنية القرن العشرين بعد الميلاد!
لسنا نحن نصف أزياء المصريين فنتهم بالتحيز لأجدادنا , بل هم المصريون أنفسهم يتحدثون عن أزيائهم في هذا الشعر القديم، ولا يتركون لمتشكك فرصة ما في أن يظن بهم غير ما يصفون، فيخلفون في قبورهم الثياب الكتانية البيضاء الناعمة، والحلي الذهبية المطعمة بالجواهر والأحجار، ويخلفون القفازات. والصنادل الجلدية الفاخرة، ويخلفون السروج المزركشة، بالذهب والفضة، والسياط المنقوشة الموشاة بالذهب والفضة وكرائم الأحجار، وآنية مرمرية وأخرى رخامية تحوي عطوراً فيها السوائل وفيها الصلب وفيها ما بينهما من معاجين ومقشطات، ويخلفون غير هذا وذاك صورا على الجدرانتمثلهم في هذه الثياب الرقيقة، وهاتيك الحلي الثمينة، وتلك الأناقة الرشيقة، وتمثلهم وهم يدهنون، وهم(16/28)
يعطرون، وهم يتزينون!. . . أفنستطيع بعد هذا أن ننكر على القوم ما كان لهم من (تواليت)!؟ وتواليت دي لوكس أيضا؟!
أناقة الرجال:
نظر المصريون إلى الرجل من نواحي الرجولة التي تبعده كل البعد عن المرأة ونواحي الأنوثة فيها؛ فالرجل يجب أن تبدو منه عضلاته دليلاً على القوة والبأس، ألم يخلق للعمل والحرب؟ إذن: فليترك صدره ليبرز ما عليه من الفورسبس (عضلات الصدر) أمام الأعين، دليلاً على قوة الرجل أو هزاله، وليخلي عن ذراعيه من الثياب ليظهر ما فيها: بايسبس وترايسبس (عضلات الذراعين فوق الرسغ والكتف) فيميز الناس فيه القدرة والعجز، ولتحلى تلك الصدور البارزة القوية بالعقود والمدليات وتلك الأذرع والمعاصم بأساور من ذهب أو ما يشبه الذهب، كي تستلفت العين إلى ما فيها من شدة وبأس وكمال في النمو، هي ما يقترن بلفظ (الجمال) في الرجل، وما يميز جمال الرجل عن جمال المرأة. هذا الجمال في النمو وفي الشكل توجده الطبيعة في الأصل، ولكنها تكل للرجل تعهده والعناية به، فهو لابد مستمر في القيام على إظهاره في أجمل صورة له، وهل يتم له هذا الإظهار إلا لمداومة النظافة والرياضة والعناية؟ والنظافة لم تكن بعيدة المنال على المصريين فقد كان النيل دائماً الأب الرحيم، يغتسلون فيه، وفي ترعه، وفي مياهه يجرونها في قنوات إلى بيوتهم، ونقرأ في قصصهم عن أحواض الاستحمام التي كانت تبنى في القصور، كما نقرأ عن ضرورة الاغتسال قبل الصلاة، لضرورتها لرفع الحدث الأكبر، أي أنها جعلت ركناً من أركان دينهم كما ينص الإسلام على ضرورة الوضوء والاغتسال قبلالصلاة وبعد الحدثين. وإذا عرفت أن المصري القديم لم يكن يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يعمل إلا بعد أن يؤدي صلاته لألهه، وعرفت أن الدين كان في دم المصري القديم إلى حد أن أفقر الناس كان يبني دار دنياه من طين، بينما يبتنى لنفسه في حياته قبراً من أغلى الأحجار التي يستطيع شراءها، ويسمى هذا القبر: (البيت الأبدي) بينما يدعو مسكنه الدنيوي (بيت الاختبار)؛ إذا عرفت هذا كله أدركت مبلغ تدخل الدين في كل شيء، ومكان النظافة الشخصية من نفس كل مصري تبعاً لعقيدته.
الحلاقة(16/29)
والنظافة عند المصري القديم ليست الاغتسال بالماء فقط، إذ نرى من صورهم الكثيرة جداً، أنهم كانوا يقصون شعور رؤوسهم، ويقصرونها لتميز رؤوسهم عن رؤوس النساء، ثم كانوا حليقي الوجوه، لا لحى ولاشوارب، ولم يكونوا يكتفون بقصها أوقطعها، ولكنهم كانوا يحلقونها بالأمواس لتكون وجوههم نظيفة خالية المسام، تميزهم عن غيرهم من الشعوب التي كانت ترخي ذقونها وشواربها كشعب فلسطين وشعب ليبيا وغير هؤلاء ممن ظهرت صورهم على الآثار بلحى وشوارب سوداء طويلة. وقد يعجب القارئ إذ يعلم أن المصريين عرفوا أمواس الحلاقة منذ خمسة آلاف عام، لكنها حقيقة خلفوا آثارها لنا، إذ يحوي المتحف المصري طائفة كبيرة من هذه الأمواس مصنوعة صناعة متقنة من شظايا الجرانيت والاردواز والبازلت الصلبة التي تتحمل الترقيق والتشحيذ، وتقاوم استمرار استعمالها في الحلاقة. وإذ نمر بالاغتسال وبالحلاقة بعد الزي، وهي أوليات التواليت، فإننا نصل إلى أقصى مراتب التواليت، وهي ما سميته من قبل (تواليت دي لوكس).
التواليت العالي
لم يكن للرجل العادي نصيب في التواليت العالي، الذي لم يكن يعرفه غير أفراد الطبقة الممتازة. من الملوك والكهنة والوزراء والكتاب والأعيان. هؤلاء كانوا يستمدون من ثروتهم وسلطانهم ما يستطيعون أن يقتنوا به العطور والأدهان يطلون بها أجسامهم كي تطيب رائحتها وينعم جلدها وتبرق بشرتها، فيبدو كل ما فيها من جمال الرجولة وأناقتها. وكانوا يلبسون في أيديهم القفازات، لا يتقون بها البرد، وصدورهم وظهورهم عارية، ولكن ليقبضوا بها على الأقواس ويشدونها حين يطلقون منها السهام، ويكملون بها زينتهم وأناقتهم. ثم يضعون في أقدامهم صنادل أنيقة من الجلد الموشى بالخيوط الذهبية، مبالغة في الأناقة والرفاهية. هذه صورة حقيقية للرجل المصري من الطبقة الممتازة: رجل كامل النمو في جميع أجزاء جسمه، لا يستر منه غير عورته، بسروال قصير من الوسط إلى الركبتين مصنوع من الكتان الأبيض المثني (بليسيه)، يلبس فوق صدره عقوداً وخرزا وفي معصميه أساور من ذهب، حليق الوجه منسق شعر الرأس قصيره، لا يضع على رأسه شيئاً، يلبس قفازا من الجلد وصندلاً من الجلد ويمسك بيده سوطا من الجلد موشى بالذهب(16/30)
يسوق به فرسا يمتطيه وتحوطه مظاهر الفخامة والأناقة والرجولة! هل منكم من يعطيني صورة أكمل لأناقة الرجولة من هذه الصورة بعد مضي خمسة آلاف عام على هذه الأناقة وعلى هذا التواليت؟!
زبرجة النساء
لم تكن المرأة المصرية القديمة محجبة، ولم تكن للرجل مجرد متعة، إذ كانت تشاطره العمل في الملك، وفي الكهانة، وفي الحقل، وتقوم في نصيبها في البيت أيضاً. تربى أطفالها، وتجهز بيتها، وتطهي طعام أسرتها، وتحيك ثياب زوجها وصغارها ونفسها. وكل هذا يضعنا وضعاً صحيحاأمام حالة المرأة المصرية كي نفهم على أي أساس كانت تقوم المرأة بعمل تواليتها في مصر. كانت المصرية (ربة بيت) فثوبها يجب أن يكون طويلاً يستر ذراعيها وصدرها وكعبها، لكنهكان أنيقا ليجاري أناقة رجلها، فهو إذن ثوب يجمع بين الحشمة والأناقة، يستر أنوثتها المغرية، ويبرز أنوثتها الطبيعية غير المثيرة. ثوب طويل ضيق ذو ثنيات (بليسيه) يكون في معظم الأحوال أبيض ناصعا تتجلى فيه نظافتها وأناقتها، يسدل عليه في بعض الأحيان ثوب شبكي من خيوط ذهبية أو فضية، ويتدلى فوق هذا الثوب شعرها الأسود الفحمي الطويل، مصفوفا منسقا في ضفائر ملتوية، هي آية في الأعجاز والأناقة إذا قيست بتنسيق الشعر في العصر الحاضر.
ولم يكن السمن من سمات الجمال المصري، فقد حرص المصريون القدماء على تصوير نسائهن في نحافة ورشاقة كأمثلة ونماذج للجمال النسوي، وامتدحوا نحافة السيقان في أشعارهم وغزلهم، إذ يقولالملك خوفو لكبير أمنائه حين أراد النزهة في قارب: (هيا احضر عشرين فتاة نحيفات السيقان والأذرع، ناهدات الصدور، لم يخلق مثلهن من قبل) من قصة الملك خوفو والسحرة: قصص البردي.
العطور
لم يكن نصيب هذا الجسم المستور الجمال، من العناية والتواليت لأقل من نصيب جسم الرجل، فاتنا نقرأ في النصوص: إن المرأة كانت تطلي جسمها بالعطور والأدهان لتصقله وتجعله براقا ناعما تحت ثيابها، ونرى في الصور فوق شعر المرأة قطعة من الدهن(16/31)
العطري الأبيض، ينحل دهنها فوق الشعر شيئا فشيئاً كي يحفظ له طراوته ولمعانه، وفي وصف المرأة في نصوص المصريين كثير يدل على طيب أريج ثيابها وجسمها.
الأصباغ
لم يكن بياض البشرة في مصر القديمة يعتبر جمالا، ذلك أن شمس مصر اللافحة تخرج ذلك اللون الخمري البديع، الذي يجعل من بشرة المصريات خلابة وظرفا لاتصل إليه البشرات الأوروبية البيضاء الناصعة، إذن فقد كانت النسوة المبيضات اللون تسعى إلى الوصول للمثل الأعلى في جمال البشرة، فيعمدن إلى الحناء وهي من النبات المصري الأصيل فيصبغن بها أجسامهن ووجوههن لتصبح لهن تلك البشرة النحاسية الخمرية الظريفة. وهذا ما يطابق تمام المطابقة الغرض الذي استعملت فيه (البودرة) الأوربية. أليس منشأ البودرة هو الحصول على بياض يقترب من بياض المثل الأعلى للجمال الأوربي؟
والأحمر؟ فيم تحتاجه المرأة الخمرية اللون؟ المحمرة البشرة بطبيعتها؟ ثم أي جمال تشاهده الآن في تلك الشفاه الحمراء في لون (الطماطم) بين خدود خمرية وشعر أسود في لون الفحم؟ أنها تبعث في العين تنافراً قل أن يرضي أحدا. لهذا لم يعرفه المصريون في زينتهم مع معرفتهم للونه ومسحوقه في تلوين الجدران البيضاء، وفي التصوير على الفخار، وفي الكتابة على البردي. لكنهم عرفوا (الكحل) ووضعوه في عيونهم، وجعلوا منه ألوانا متباينة بين الأسود الفحمي والأخضر القاتم، والأزرق الداكن، والعسلي الغميق، وكلها لتطابق ألوان الشعر والعيون والأهداب، وتتمشى مع تناسق ألوان هذه الأجزاء من الجسم. وإليك صورة جميلة للمرأة المصرية القديمة:
امرأة رشيقة في ثوب رقيق ناعم من الكتان ذي ثنيات طويلة يستر كل جسمها ويدل على مواضع الجمال الطبيعي فيه، ذات وجه خمري يبدو فوق هذا الثوب الأنيق بجماله الطبيعي، خفيفة حمرة الشفاه، بيضاء الأسنان، سوداء العينين مكحولتهما بكحل يطابق لونه لون حبة عينها، ومرسلة الشعر الأسود في ضفائر على كتفيها، ينتشر أريجه وطيبه وعطوره، وتضع في قدميها صندلا رقيقا يزيدها رشاقة وأناقة. .
هذه هي مثل الأناقة المصرية، والتواليت المصري منذ خمسة آلاف عام!. . . .(16/32)
حي بن يقظان
لمحة عن النظريات والمذاهب الفلسفية التي توحيها مطالعة الكتاب
لكتاب حي بن يقظان مقام جليل في تاريخ الفلسفة العربية، سجل
لصاحبه شهرة واسعة في القرون الماضية لاسيما في بدء نهضة
الإفرنج. ولا نزال نذكر إلى الآن مؤلفه ابن الطفيل كلما طالعنا كتاب
(روبنسن كروزو) لديفو الإنجليزي، فنحن وإن كنا بغير حاجة في هذا
العصر إلى ما في هذه القصة من نظريات عقلية أو مذاهب عملية
نرتب عليها أعمالنا في الحياة، لا نزال نحفظ لمؤلفها فضل الأسبقية
في مثل هذا الفن القصي الفلسفي ونريد أن نذكرها كلما أتينا على ذكر
ديفو وبطل قصته روبنسن كروزو. ولست أريد من ذلك أن قصة
روبنسن هي ككتاب حي بن يقظان قلباً وقالباً ولكن أريد أن أشير إلى
شبه في الفكرة ومجانسة في الفن القصصي.
ولننتقل بعد هذه الكلمة إلى ما نحن بصدده من استخراج النظريات والمذاهب الفلسفية من قصة حي بن يقظان لنتبين قيمة هذا التراث الفلسفي الخيالي في أدبنا العربي. لا نريد أن نقول (قبل أن نأتي على تلخيص القصة) أن ابن الطفيل قد ضمنها زبدة التعاليم الفلسفية العربية، والمذاهب العملية وصاغها في قالب خيالي جذاب تستشف من وراءه شخصية الفيلسوف الوادعة، وفكرته الخاصة التي تنهتك سراعاً للخبير، فكان بذلك سابقاً لديفو وإضرابه من الإفرنج القصصيين: فأول ما يستلفت نظرك أيها القارئ الكريم من هذا الكتاب هو عنوانه الرمزي الغريب: حي بن يقظان. فمن هو هذا (حي)؟ وابن من؟ ابن يقظان. . . هذا الاسم رمزي في مدلوله وهو في عرفهم ابن من لا ينام أي الله عزّ وجل. وتفتح الكتاب فإذا هناك مقدمة وجيزة في نقد الفلاسفة الإسلاميين، ونظرة سريعة في الحكمة المشرقية سيشرحها لك مفصلا عند الحديث على بطله حي.
كل الكتاب نظريات وثبت للمذاهب الفلسفية، فأول ما تفاجأ به أيها القارئ هي هذه(16/34)