ـ[مجلة الرسالة]ـ
أصدرها: أحمد حسن الزيات باشا (المتوفى: 1388هـ)
عدد الأعداد: 1025 عددا (على مدار 21 عاما)
[الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع، ورقم الجزء هو رقم العدد](/)
العدد 1 - بتاريخ: 15 - 01 - 1933(/)
الرسالة
. . . وأخيراً تغلب العزم المصمم على التردد الخوار فصدرت الرسالة: وما سلط على نفوسنا هذا التردد إلا نُذُر تشاع وأمثال تروى. . وكلها تصور الصحافة الأدبية في مصر سبيلا ضلت صواها وكثرت صرعاها فلم يوفِ أحد منها على الغاية، والعلة أن السياسة طغت على الفن الرفيع، والأزمة مكنت للأدب الرخيص، والأمةمن خداع الباطل في لَبْس من الأمر لا تَمَّيز ما تأخذ مما تدع! فلما تناصرت على هذه الوساوس حجج العقل، ونوازع الواجب، وعِدَات الأمل، أُصبحت الأسباب التي كانت تدفع إلى النكول بواعث على الإقدام وحوافز للعمل، لأن غاية (الرسالة) أن تقاوم طغيان السياسة بصقل الطبع، وبهْرجَ الأدب بتثقيف الذوق، وحيرة الأمة بتوضيح الطريق.
أجل هذه غاية الرسالة! وما يَصْدِفنا عن سبيلها ما نتوقع من صعاب وأذى، فإن أكثر الناهضين بها قد طووا مراحل الشباب على منصة التعليم، فلا يعييهم أن يُخلقوا بُرْد الكهولة على مكتب الصحافة، والعملان في الطبيعة والتبعة سواء، ومن قضى ربيع الحياة في مجادب ذلك، لا يشق عليه أن يقضي خريفها في مجاهل هذا!
أما مبدأ الرسالة فربط القديم بالحديث، ووصل الشرق بالغرب. فبربطها القديم بالحديث تضع الأساس لمن هار بناؤه على الرمل، وتقيم الدَّرَج لمن استحال رقيه بالطفور! وبوصلها الشرق بالغرب تساعد على وجدان الحلقة التي ينشدها صديقنا الأستاذ أحمد أمين في مقاله القيمبهذا العدد. والرسالة تستغفر الله مما يخامرها من زهو الواثق حينما تَعِد وتتعهد. فإن اعتمادها على الأدباء البارعين والكتاب النابهين في مصر والشرق العربي، واعتصامها بخلصانها الأدنين من أعضاء لجنة التأليف والترجمة والنشر، وهم صفوة من خرَّجت مصر الحديثة في مناحي الثقافة، إذا اجتمعا في نفسها مع ما انطوت عليه من صدق العزم وقوة الإيمان أحدثا هذه الثقة التي تِشيع في الحديث عن غير قصد.
على أن للرسالة من روح الشباب سندا له خطره وأثرهُ، فإنهم أحرص الناس على أن يكون لثقافتهم الصحيحة مظهر صحيح. وما دامت وجهة الرسالة الأحياء والتجديد، وطبيعة الشباب الحيوية والتجدد، فلا بد أن يتوافيا على مشروع واحد!
فإلى أبناء النيل وبَردى والرافدين نتقدم بهذه الرسالة، راجين أن تضطلع بحظها من الجهد المشترك في تقوية النهضة الفكرية، وتوثيق الروابط الأدبية، وتوحيد الثقافة العربية، وهي(1/1)
على خير ما يكون المخلص من شدة الثقة بالمستقبل.
وقوة الرجاء بالله.
أحمد حسن الزيات(1/2)
حوادث وأحاديث
أحمد حسن الزيات
شوقي وحافظ
تصدر الرسالة والأسى لا يزال يرمض القلوب على حافظ وشوقي. ولئن رمت المنون لسانيهما الذليقين بالصمت الأبدي، فقد تركت حظيهما يتنازعان الذكر على ألسن الناس. وكان حظ شوقي في مماته كما كان في حياته شديد السطوع قوي البهر فكسف حظ أخيه! وكاد حافظ البائس يضيع في شوقي المجدود كما ضاع موت المنفلوطي في موت سعد!
كان لشوقي المأتم الحافل، والتأبين الفخم، والوفود تترى، والحفلات تقام، والمراثي تفيض بها الصحف، والحكومة تطبع كل ذلك بالطابع الرسمي، فتزيده أبهة وروعة! وكان لحافظ المأتم المتواضع، والجنازة الصامتة، والتأبين الموعود، وأصدقاء خلص يئنون في كل حين أنة، ثم يتركونها تتلاشى كما يتلاشى الرجع البعيد!!
الزعامة والشعر
خلا ميدان الشعر فجأة من قائديه العظيمين فحدث في صفوف الشعراء اضطراب وفوضى! وقام في (السقيفة) المقلدون والمجددون يقولون: منا أمير ومنكم أمير! وهناك أرسل الدكتور طه حسين حُكمه المعروف فزاد الخلاف شدة والجدال حدة! قضى للعراق بأمارة الشعر التقليدي. فغضبت مصر! وكان الأستاذ الهراوي أشد المصريين حنقاً وأعنفهم خصومة. فهو يقول في إستنكار وأنفة. إنه بايع الشاعرين، مبايعة علي للشيخين! ثم ينشد في ذلك أبياتاً فيها معارضة وفيها شدة وفيها جمال، وينتهي إلى أن هذا الحُكم قد أخزى مصر وقضى على نهضة الشعر!! ثم يعود فيستطرد إلى لوم الناقدين والمجددين، وينعى على وزارة المعارف إنصرافِها عن تعضيد الشعر، ويقترح عليها، والله أن تنشئ في ديوانها قلماً يسمى قلم الشُعراء تحمل عنهم فيه أكلاف العيش، وتغلق عليهم باب الغرفة، ثم تقول لهم: قولوا شعراً! ونسي صديقنا الهراوي أن يطلب إلى الوزارة أن تزود كل شاعر بسبحة يعد عليها أبيات الشعر، كما يعد صوفيو التكية كلمات الذكر!!
أما شعراء الشباب الذين لا يجرون على أسلوب الهراوي والزين والكاشف ومحرم ونسيم؛(1/3)
فهم راضون ببراءة مصر من معرة التقليد ماضون كل المضي إلى التفوق والتميز من طريق الإنتاج والتنافس.
وسورية؟
وسورية التي تجعل من خمائلها ورباها وادي عبقر، وتدل بشعرائها المجددين في الوطن والمهجر، لا يرضيها أن تمر الزعامة بأراضيها إلى العراق دون أن تحيّ أو تلتفت على الأقل! فلقد هبت (العاصفة) تدافع رأي الدكتور في حدة وعنف، وتقول مع السيد نجار: ما للدكتور يرسل الزعامة إلى العراق في طيارة، وكان يكفيه أن يرسلها إلى صاحبها مطران في سيارة.؟
والعراق؟
والعراق هل اغتبط بهذه الزعامة؟ أما الرصافي فيرجو أن يكون خليفة لشوقي وحافظ ثم يسعه ما وسعهما من حُكم التاريخ وتقدير النقد. وأما الزهاوي فأنا اعلم إنه يؤثر أن يكون في ساقة المجددين على أن يكون في طليعة المقلدين. والظاهر أن شعراء العراق قد سرهم هذا التفضيل على علاته، ولكن ساءهم أن يوجه إلى شاعرين معينين. فقد نشر (أديب متقاعد) في جريدة الأخبار البغدادية فصلاً قيماً ينكر فيه استعمال الإمارة والدولة في لغة الشعر ويتساءل عمن جاد على شعراء مصر بهذه الألقاب، ويلاحظ بالحق حرص المصريين على الألقاب وزهد العراقيين بها. ويشكر للدكتور طه ترجيحه العراق على أية حال، ولكنه ينكر رأيه في تعيين جهة الزعامة، (لأنه رأي فرد بعيد عن العراق فلا يصح الاستناد إليه في حكم من الأحكام).
ثم تعصف النخوة في رأس الشاعر الشَاب محمد مهدي الجواهري فيرسل إضبارة كبيرة من شعره إلى الدكتور طه وكأنه يقول له: لو كنت قرأت هذا الشعر لما وجهت الزعامة إلى غير هذا الشاعر!
وإذن؟!
وإذن نستميح صديقنا الدكتور أن يدعها الآن فوضى حتى تسفر جهود الشباب عن عبقرية هذا الزعيم!. .(1/4)
مصر في دورة الفلك
للدكتور محمد عوض محمد
الأستاذ بمدرسة التجارة العليا
على الرغم مني أعود إلى التفكير فيك، وعبثاً أحاول أن أصرف فكري إلى حديث غير حديثك، وذكر غير ذكرك. .
ولماذا أصرف فكري عنك؟
ألأني آلم إذ أفكر فيما تعانين، وما قد عانيت على مر السنين؟ ألم تعد في النفس بقية من الشجاعة؛ فأقابل بها الحقيقة؛ وإن كان أعذب ما فيها علقماً مريرا؟. .
ألعلي أخشى أن أدمنت التفكير فيك، أن أكون أبداً مقطب الجبين، سجين الكآبة، ثائر الفؤاد؛ لا أستقر على قرار، ولا أعرف للحياة لذة: فلا يبسم لي ثغر، ولا تقر لي عين؟
لماذا أصرف الفكر عنك؟
ألأني رويت من نميرك، وغذيت من ثراك، ونشقت من نسيمك، ورتعت في رياضك، وأظلني دوحك، وأطربني شدو غناء أطيارك. وهداني بدرك المنير إلى سر الجمال، وسماؤك الصافية إلى وحي الخيال، ونجومك اللامعة إلى جلال الكون، وشمسك المشرقة إلى قدرة الخالق؟
مع هذا أحاول أن أصرف فكري عنك؟ فأي عقوق هذا العقوق؟ وأي جحود هذا الجحود؟
أي مصر؟
لقد كنت من قبل عظيمة جليلة. كنت من قبل ورأسك يسامي النجم. وقد ترامت على أقدامكِ الأمم؛ لتقتبس منك النور؛ وتلتمس منك الهداية. لقد كنت وفي كفك الهائلة صولجان من الذهب ذو كرة مشرقة لامعة. يوم أن كانت الشعوب الأولى في ظلامها الحالك؛ مالها موئل غيرك؛ يوم لا نور إلا نورك؛ ولا هدى إلا هديك.
كانت في كفك كنوز الحضارة؛ وكنت تنثرينها بسخاء؛ للقريب والبعيد. فباتوا وهم أغنياء بما التقطوا من خيراتك، وما اقتبسوا من هباتك.
ثم حالت الحال، فأمسيت وقد تحطم الصولجان، وكسر الجناح وانتُهك الحمى! وذُلَ الأنف العزيز وانسَكَبَ الدمع العصي!!(1/6)
فماذا دها الكون؟ وأي إصبع قد أدارت الفلك تلك الدورة الهائلة، حتى قلبته رأساً على عقب؟
يقولون إنك قد عقمت!. .
عقمت فأصبحت لا تلدين الأحرار، ولم يعد ثراك ينبت الأبطال! أجل يزعمون أن تُربَتكِ لم تعد تخرج إلا الزعانف والقزم: الذين همهم من العيش شهواتهم. ويعيشون فوق ثراك كالحشرات الطفيلية، يستمرئون خيره، ويحتسون رحيقه، ثم لا يخطر لهم أن يذودوا عن حوض رواهم، وموئل آواهم، ودوحة أظلهم فرعها وغذاهم ثمرها. . ما هم بالرجال ولا بأشباههم، ولا يجري في عروقهم دمٌ، بل جبن مذل. وخنوع مهين!
يقولون هذا كله عن بنيك يا مصر. فيا ليتهم كذبوا فيما أدعوه ويا ليت بنيك ينهضون لتكذيبهم!
أي مصر!
يقولون أن العام ربيع بعده صيف، يتلوهما خريف وشتاء. فهل مضى ربيعان وبان؟
أكتب لك الشتاء الأبدي والزمهرير السرمدي؟
إن كان هذا حكم الدهر فما أجوره! إن كان هذا حكم القضاء فما أقساه!(1/7)
حلقة مفقودة
للأستاذ احمد أمين
الأستاذ بكلية الآداب بالجامعة المصرية
في مصر حلقة مفقودة لا نكاد نشعر بوجودها في البيئات العلمية مع أنها ركن من أقوى الأركان التي نبني عليها نهضتنا. وفقدانها سبب من أسباب فقرنا في الإنتاج القيم والغذاء الصالح.
تلك الحلقة هي طائفة من العلماء جمعوا بين الثقافة العربية الإسلامية العميقة وبين الثقافة الأوربية العلمية الدقيقة، وهؤلاء يعوزنا الكثير منهم؛ ولا يتسنى لنا أن ننهض إلا بهم، ولا نسلك الطريق إلا على ضوئهم.
إن أكثر من عندنا قومتثقفوا ثقافة عربية إسلامية بحتة وهم جاهلون كل الجهل بما يجري في العصر الحديث من آراء ونظريات في العلم والأدب والفلسفة لا يسمعون بكانت وبرجسون، ولا بأدباء أوربا وشعرائها، ولا بعلمائها وأبحاثهم. اللهم إلا أسماء تذكر في المجلات والجرائد والكتب الخفيفة لا تغني فتيلا ولا تستوجب علما. وطائفة أخرى تثقفت ثقافة أجنبية بحتة يعرفون آخر ما وصلت إليه نظريات العلم في الطبيعة والكيمياء والرياضة ويتتبعون تطورات الأدب الأوربي الحديث وما أنتج من كتب وروايات وأشعار، ويعلمون نشوء الآراء الفلسفية وارتقاءها إلى عصرنا، ولكنهم يجهلون الثقافة العربية الإسلامية كل الجهل. فان حدثتهم عن جرير والفرزدق والأخطل أشاحوا بوجوههم واعرضوا عنك كأنك تتكلم في عالم غير عالمنا؛ وان ذكرت الكندي والفارابي وابن سينا قالوا أن هي إلا أسماء سميتموها ما لنا بها من علم، وماذا نحصل من هؤلاء إلا على جمل غامضة ومعان عميقة لا تفيد علما ولا تبعث حياة. وبالأمس كنت أتحدث مع طائفة من المتعلمين عن البيروني العالم الإسلامي الرياضي المتوفي سنة 440 هـ وما كشف من نظريات رياضية وفلكية وان المستشرق الألماني سخاو يقرر أنه أكبر عقلية عرفها التاريخ في كل عصوره. وأنه يدعو إلى تأليف جمعية لتمجيده وإحياء ذكره تسمى جمعية البيروني. فحدثني أكثرهم انه لم يسمع بهذا الاسم ولم يصادفه في جميع قراءاته وهو يعرف عن ديكارت وبيكون وهيوم وجون ستوارت مل كثيرا، ولكنه لا يعرف شيئا عن فلاسفة(1/8)
الإسلام. ومثل ذلك قل في الأدب العربي والأوربي والعلم العربي والأوربي كل ثقافته العربية في كتاب القواعد وأدب اللغة للمدارس الثانوية أن كان قد بقي منها شيء في ذاكرته.
هاتان الطائفتان عندنا، يمثل الأولى خريجو الأزهر ودار العلوم ومدرسة القضاء، ويمثل الأخرى نوابغ خريجي المدارس العصرية والبعثات الأوربية. أما الذين حذقوا العربية والعلوم الإسلامية ونالوا حظا وافرا من الثقافة الأجنبية فأولئك هم الحلقة المفقودة في مصر، وفقدانها سبب الركود في الحياة العقلية والأدبية.
ذلك أن الأولين إذا أنتجوا فعيب إنتاجهم أنهم لم يستطيعوا أن يفهموا روح العصر ولا لغة العصر ولا أسلوب العصر، وإنما التزموا التعبير القديم في الكتابة، والنمط القديم في التأليف، وتحجرت أمثلتهم ومل الناس بلاغتهم، وعمادها رأيت أسدا في الحمام وعضت على العناب بالبرد، وعشرة أمثلة من هذا الطراز. ومل الناس نحوهم ومداره ضرب زيد عمرا ورأيت زيدا حسنا وجهه، وسئم الناس منطقهم، وكله الإنسان حيوان وكل حيوان يموت فالإنسان يموت وهذا حجر وكل حجر جماد فهذا جماد. ضجوا بالشكوى لأن الناس لا يسمعون منهم، وضج الناس بالشكوى لأنهم لا يأتون بجديد ولا يضعون القديم في شكل جذاب، ولا يلمسون الحياة التي يحيونها ولا البيئة التي يعيشون فيها فانصرفوا عن الناس وانصرف الناس عنهم ورضوا أن يعيشوا في جوهم الخاص ورضى الناس منهم بذلك وسلكوا سبيلا غير سبيلهم واتبعوا دليلا غير دليلهم.
وأما الآخرون فضعفت ثقافتهم العربية الإسلامية، فلما أرادوا أن يخرجوا شيئا لقومهم أمتهم أعجزهم الأسلوب والروح الإسلامي. فلم يستطيعوا التأليف ولا الترجمة وحاولوا ذلك مرارا فلم يفهم الناس منهم ما يريدون وسبوا القراء ورموهم بالضعف والانحطاط، وسبهم القراء ورموهم بالعي وانهم لا يفهمون ما يكتبون فعاشوا في أنفسهم ولأنفسهم ورضوا من الغنيمة بالإياب.
كان من نتيجة ذلك أن الأدب العربي الإسلامي والعلم العربي الإسلامي والفلسفة العربية الإسلامية على غناها ظلت دفينة لا ينتفع بها، تنتظر جبلا جديدا يسيغها ويهضمها ويبرزها في شكل تألفه الناس، وأن الأدب الغربي والعلم الغربي والفلسفة الغربية حرم منها أكثر(1/9)
الشرقيين ولم يصل إليهم إلا نوع خفيف ينشر في المجلات والجرائد وأمثالها يقرؤها الناس ليطردوا بها الضجر أو يستعطفوا بها النوم، فأما أدب غزير وعلم عميق وكتب محترمة ومجلات قيمة فقليل نادر.
والذي جر إلى فقدان هذه الحلقة أن التعليم عندنا سار في خطين متوازيين لم يلتقيا، فالتعليم العربي الإسلامي سار في خط، والتعليم المدني الحديث سار في خط آخر، ولم تكن هناك محاولات جدية لتلاقي الخطين أو ربط بعضهما ببعض.
لا أمل في إصلاح هذه الحال إلا بالعمل على إيجاد الحلقة المفقودة وهي تذوق الثقافتين، والاغتراف من المنهلين، وإخراج أدب وعلم وفلسفة غذيت بما للعرب والإسلام من ثقافة، ولقحت بما للأوربيين من ثقافة ومنهج، فيها اللغة العربية قوية رصينة وروح الإسلام قوية متينة. وفيها ما للأوربيين من عرض للمسائل جذاب ونهج في الكتابة رشيق وفيها مقارنة شهية بين ما أنتجه الأولون والآخرون. لو تم ذلك لرأيت التاريخ الإسلامي يعرض على القراء في شكل محبوب يقرئونه ويستسيغونه، ورأيت الأدب العربي يقدم إلى الجمهور في ثوبه الجديد فيألفونه ويحبونه ورأيت الفلسفة الإسلامية يغاص عليها غوصاً عميقاً ثم تخرج من أصدافها وتجلى للقراء درة لامعة.
هذا هو السبب في نجاح رفاعة باشا ومدرسته فأنتجت إنتاجا غذى عصرهم بل كان فوق كفايتهم؛ فقد أرسل رفاعة إلى فرنسا بعد أن درس في الأزهر وتعمق في العربية والعلوم الإسلامية فلما حصل على الثقافة الفرنسية وضع يده على المنبعين فأخرج هو ومدرسته للناس ما استساغوه وأحبوه ونهضوا به ولم يكن كذلك من لحق بهم وخلف من بعدهم.
وقد كان إخواننا الهنود أسبق منا إلى إيجاد هذه الحلقة والانتفاع بها. أخرجوا التاريخ الإسلامي في ثوب جديد على نمط ما يكتب الغربيون ولكن بروح إسلامي وكتبوا في الدين الإسلامي والفقه الإسلامي بلغة العصر وروح العصر ونظام العصر كما فعل السيد أمير علي والسيد محمد إقبال فقد تضلع هذان العالمان الجليلان من الثقافة الإسلامية والأوربية؛ وأشرب قلباهما حب الإسلام فأخرجا كتباً يقرؤها الشباب المثقف فيحبها ويحب موضوعها ويستزيد منها، ويقرؤها الشباب المتعلم المتخصص في الطبيعة والكيمياء فيجدها تتمشى مع العلم الذي ثقفه والنهج الذي ألفه. وتقرأ للسيد محمد إقبال فتجده يعرض لفلسفة (كانت) فإذا(1/10)
هو فيها دارس عميق والغزالي فإذا هو باحث خبير فيما يكتُب ويعرض لشعراء الألمان كجوته فيحلله تحليلا يدعو إلى الإعجاب ويتكلم في المعتزلة والصوفية فإذا هو قد تغلغل في أعماقهم واستبطن دخائلهم ثم عرض تعاليمهم كما يعرض الأوربي فلسفة قومه شيقة عذبة لذيذة.
ولكن الهنود يعرضون وآسفاه ذلك باللغة الإنجليزية فلا يغذون جمهورنا ولا يسدون حاجة العالم العربي إنما يتغذى الشرق بهذا يوم توجد هذه الحلقة المفقودة في العالم العربي كمصر والشام فيحيي آثار الأولين بأسلوب الآخرين، ويوم يكسر هذا الحاجز الذي يحجز بين علم الشرق وعلم الغرب، ويوم يلوى الخطان المتوازيان فيلتقيان.(1/11)
أثر الثقافة العربية في العلم والعالم
بقلم احمد حسن الزيات
- 1 -
الشعوب كالأفراد، فيها من يولدون على حكم الطبيعة، ويعيشون على هامش الحياة، ثم يغوصون في ظلال العدم، لا ينعم بهم وجود، ولا يغنم منهم إنسان، ولا يعبأ بهم تاريخ. وفيها من يقبلون إقبال الربيع ينضرون الحياة بالجمال، ويمرعون الأرض بالخصب، ويفيضون على الدنيا سلاما ووئاما وغبطة! أولئك الذين يصطفيهم الله من خلقه لإعلاء حقه، فيودعهم سره ويحملهم رسالته فيعيشون لأجلها، ثم يموتون في سبيلها، بعد أن يخلدوا في صدر الزمان وعلى وجه الأرض آثار جهادهم في الله، وجهودهم للناس، وفضلهم على المجتمع. وهؤلاء هم أدلاء ركب الحياة، وحمال ألوية الخليقة، يقلون قلة الصفوة، ويبطئون إبطاء الخير، ولكن آثارهم تشغل ذهن العالم. وأخبارهم تملأ سمع الزمن!!.
هذا التاريخ على طوله وفضوله لم يسجل من الأمم التي بلغت رسالات الله بالخير والجمال والحق إلا أربعا: العبران في الدين والسلم، واليونان في الفن والعلم، والرومان في النظام والحكم، والعرب في كل أولئك جميعا!
(والعرب في كل أولئك جميعا) فقرة أقولها وأنا أعلم أن الشك فيها سيحك الآن في بعض الصدور. لأن ما أقرته التعاليم المريضة في الأذهان من أن اليونان والرومان هم مصادر الثقافة العالمية، وأن العرب أعجز بفطرتهم عن العلم، وأبعد بطبيعتهم عن التمدن، يجعل هذه القضية على إطلاقها سخيفة!
لقد أن للنظر الصحيح أن يرى، وللعقل المجرد أن يحكم!. أما الأحكام التي صدرت عن موتوري الشعوب وتجار العقائد وورّاث الأحقاد فلا وزن لها في نظر المنطق ولا شأن لها في رأي العلم.
كان العرب في الشرق فاتحين وحاكمين فلا بدع أن تعصف ثورة العصبية، وتقوم دعوة الشعوبية، وتظهر فكرة الإسماعيلية والإسحاقية. ويبقى من آثار ذلك ما نشاهده اليوم وقبل اليوم في سياسة الترك والفرس من ازورار عن العربية واضطغان على العروبة. وكان العرب في الغرب فوق ذلك شرقيين ومسلمين فلم يكن بد من تصادم العقائد وتعارض(1/12)
الطبائع وتحكم الجهالة. فتنشأ محاكم التحقيق، وتصدر عقوبة التحريق والتمزيق، ويشاب التعليم بالتضليل والتلفيق. ويبقى من آثار ذلك أن تظل كنيسة الحمراء تقرع نواقيسها أربعاً وعشرين ساعة قرعاً متداركا في ثاني يناير من كل عام ابتهاجا بجلاء العرب عن الأندلس! فكيف يرجى من هؤلاء وأولئك الإقرار بفضل العرب على الثقافة. والاعتراف بجميلهم على الحضارة. وفي النفوس من غلبة الفاتح وترا، ومن عظمة الحاكم حقدا، ومن دين المجاهد إحنة، ومن سلطان الدخيل نفور؟ والنهضة الحديثة لم تستطع بفلسفة ديكارت وحرية الفكر ونزاهة التعليم أن تصفي العقول من شوائب هذه المذهبية القديمة، فلا يزال نفر من العلماء يكابدون ازدواج الشخصية فيهم. فهم يجمعون في أهاب واحد بين رجلين مختلفين: حديث يتأثر بالدراسة الشخصية والبيئة الخلقية والفكرية. وقديم يتكون على بطئ من تراث الأجداد ومخلفات القرون. وهذا الرجل العتيق هو الذي يتكلم في أكثر الناس، فيملي عليهم الآراء، ويلبس عليهم وجوه الحق. فإذا تنبه الرجل الحديث وتكلم وقع صاحبهما في التناقض وتعسف من جرائهما في الحكم. وأصدق الأمثلة على هذا الصنف من الباحثين العالم المؤرخ (ارنست رنان) خالق فكرة السامية والآرية، وأعدى الكتّاب للأمة العربية. فان ازدواج الشخصية فيه جعل آراءه في العرب متناقضة يدفع آخرها أولها. له محاضرة معروفة عن الإسلام ألقاها في السربون؛ وقد جهد أن يدلل فيها على وضاعة شأن العرب في التاريخ وقلة غنائهم عن العلم؛ ولكن الرجلين القديم والحديث كانا يتعاوران الكلام على لسانه فينقض أحدهما ما أبرمه الآخر. فبينما هو يقول مثلا: (أن العلوم والآداب والحضارة مدينة بازدهارها وانتشارها للعرب وحدهم طوال ستة قرون؛ وان التعصب الديني لم يعرفه المسلمون إلا بعد أن دالت دولة العرب وخلفهم على ولاية الإسلام الترك والمغول) إذا به يقول بعد ذلك: (أن الإسلام كان لا ينفك مضطهدا الفلسفة والعلم وانه جعل من دون الحرية الفكرية سدا في كل بلد احتله). ثم يعود فيفيض القول في فضل العرب على القرون الوسطى وفيما كانت عليه إسبانيا من الرخاء والارتقاء في عهدهم. فإذا فرغ من ذلك سارع الرجل القديم فيه إلى القول بأن الذين نهضوا بالعلم من المسلمين لم يكونوا من العرب وإنما كانوا من سمرقند وقرطبة واشبيلية؛ وأنساه شيطانه أن هذه البلاد عربية وأن الدم العربي والعلم العربي قد تغلغلا في أصولها منذ طويل؛ وأن(1/13)
تقسيم العرب إلى عرب وعرابوفون سلاح لا تفلت منه أمته نفسها إذا حلل هذا التحليل نسبها وأدبها. ثم تنتهي المعركة بين الرجلين في (رينان) بقوله في صراحة مفاجئة: (ما دخلت مسجداً قط إلا تملكني انفعال شديد هو لو أفصحت عنه نوع من الأسف على أني لم أكن مسلما!).
على أن هناك فريقا من صفوة العلماء الأوربيين تحرروا من حكم الهوى، وتحللوا من قيد الغرض، فأقروا الحق في نصابه، وأرجعوا الفضل إلى أهله سنجعلهم شهودنا في إثبات ما نقول. فأن أشد ما شهد امرؤ على نفسه واقرب الآراء إلى الحق رأي الفرد في جنسه.
كان العالم شرقه وغربه في أوائل القرن السابع للميلاد قد استحال كونه إلى فساد. فحضارته تتحطم بالترف والرخاوة. وسياسته تتحكم بالغلول والأثرة؛ وأخلاقه تتفكك بالسرف والشهوة، وعقائده تتنزى بالجدل والتعصب ودماؤه تهدر بين الروم والفرس لغير غرض أسمى ولا مبدأ مقدس. وكانت شعوبه منذ طويل قد فقدت مثلها العليا فهي تعيش عيش الهمل السوائم: فلا عظمة روما تحفز الرومان، ولا مجد السلف يهز الفرس، ولا سمو الغاية يسدد وثبة البربر.
على هذه الحال خرجت أمة العرب برسالتها الدينية والخلقية إلى هذا العالم المنقض والهيكل البالي فجددت أخلاقه على الرجولة؛ وطبعت عقيدته على التسامح، ورفعت مجتمعه على المحبة؛ وصمدت للجهاد والفتح في سبيل هذا المثل الأعلى لا تطمح من دونه إلى سلطان ولا تطمع من ورائه في غرض حتى أنشأت فيما دون القرنين ملكا طبق الأرض. وحضارة هذبت العالم وثقافة حررت العقل ولم يكن ذلك مستطاعا لغير الأمم الموهوبة التي هيأها الانتخاب الطبيعي لتبليغ رسالة أو تجديد دعوة أو تحقيق (اديال وكأين من أمة قوضت سلطان أمة أو أمم. ولكنها لم تعد ما يفعل منسر من اللصوص سطا على قافلة أو قطيع من الوحوش عدا على قرية، فالشعوب الجرمانية والهونية والسلافية تعاقبت غاراتها على الرومان في الشرق والغرب فاجتاحوا ملكهم؛ والقبائل التركية والمغولية قد دهموا العرب فثلوا عرشهم. ولكن شعباً من هذه الشعوب لم يصغ قلبه للمدنية؛ ولم يجد فتحه على الإنسانية فظلوا بعداء عن الحضارة غرباء عن العلم الا ما كان من ترويجهم بعد لحضارة المغلوب وثقافته.(1/14)
أماالقبائل العربية فلم يكادوا يضعون عن كواهلهم عتاد الحرب وينفضون عن وجوههم غبار الصحراء؛ حتى صعدوا في مراقي الحضارة بسرعتهم في طريق الفتوح. واستطاعوا أن يرفعوا على أنقاض اليونان والرومان والفرس حضارة ثابتة الأصول باسقة الفروع لا يظهر في عناصرها المختلفة الا روح الإسلام وفكر العرب، ثم كانت من القوة بحيث طاولت الدهر، وصاولت المغير، وأخضعت لسلطانها حضارات لم تخضع لفاتح من قبل. وسخرت لدعايتها خصوماً لم يتحرروا من آثارها بعد.
ولو رحنا نتلمس أسرار هذه القوة وأسباب تلك العظمة وجدناها أولاً في الهام الطبع وسلامة الفطرة وجاذبية المثل الأعلى وثانيا في القابلية الطبيعية لفقه الحضارة، وهي صفة لا تكتسب عفو الحاضر ولا طوع التقليد. وإنما تتأصل في الشعب بتقادم عهده في الثقافة وطول رياضته على التمدن. فالعرب لم يكونوا جميعا كما يصورهم الأدب القديم جفاة الطباع بداة الاجتماع. وإنما كان منهم في اليمن والحجاز والشام والعراق متحضرون لابسوا أرقى أمم العالم بالتجارة منذ ألفي سنة، وكان لهم قبل الإسلام ثقافة أدبية ومدنية لغوية لم يكن من المعقول أن تظهرا في التاريخ فجأة. فان تطور الأفراد والشعوب والأنظمة والعقائد تدريجي بطيء لا يبلغ كماله الا حالا على حال ودرجة بعد درجة. والحق أن الأخبار والآثار والعقل تتناصر كلها على إثبات حضارة عربية في المدن الجاهلية. وإذا كان بدو الجزيرة هم الذين أنتجوا الشعر وفتحوا الفتوح فان حضر الحجاز هم الذين حكموا الناس ونشروا المعرفة وأقاموا الحضارة.(1/15)
في تعدد الأوضاع البلبلة والضياع
للأستاذ عبد القادر المغربي
عضو المجمع العلمي العربي بدمشق
الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي علم من أعلام الأدب وعضو نابه من أعضاء المجمع العلمي العربي وقلم بارع من أقلام مجلته الزاهرة. وله بمصر وصحافتها صلة قديمة. فلقد تولى التحرير بجريدة المؤيد حينا من الدهر كانت مقالاته في النقد والاجتماع موضع الإعجاب من صفوة الشباب وناشئة الكتاب لطرافة أسلوبها وحرية تفكيرها. وقد ثقف اللغة الفرنسية في عهد الكهولة فاستمد منها في جهاده الأدبي قوة عظيمة. ولا يزال الأستاذ بجلد الشبيبة وحكمة الشيخوخة يزاول التعليم في كلية الآداب بدمشق والتحرير بمجلة المجمع وقد تفضل أيضاً فمنح بعض هذا الجهد القيم (مجلة الرسالة).
أعرض على حضرات قراء هذه (الرسالة) مثالا واحداً من أمثلة الحيرة التي تعتري النقلة والمترجمين عندما يريدون وضع كلمة جديدة أو نقل كلمة أعجمية إلى لغتنا العربية ولا سيما إذا كانت من مصطلحات العلوم الفلسفية أو النفسية أو الاجتماعية.
كثيرا ما تتردد في كتابات المشتغلين بالفلسفة الحديثة كلمتا ويريدون بكلمة التفكير في الأمور من حيث مظاهرها الخارجية ومن دون أن يكون للانفعالات النفسية تأثير فيها.
فيريدون بها التفكير في الأمور لا من حيث مظاهرها الخارجية بل من حيث وقعها في نفس المفكر وتأثيرها في شعوره الباطني.
هذا ما يمكن أن يقال في تفسير الكلمتين تفسيراً إجماليا. ولما أراد كتاب العرب أن يضعوا لهما كلمتين عربيتين اختلفوا في الوضع أو الاختيار اختلافا كبيرا.
وربما كان أسبق هؤلاء الواضعين كتاب الأتراك. فقالوا في ترجمة وهو ما نفكر به باطنيا (لاهوتي) وفي ترجمة وهو ما نفكر به خارجيا (ناسوتي).
وقام من الأتراك العثمانيين كاتب المعي هو بابان زاده أحمد نعيم فاستحسن أن يقال مكان لاهوتي (أنفسي) ومكان ناسوتي (آفاقي) نسبة إلى كلمتي (الأنفس والآفاق) ناظراً في ذلك إلى الآية القرآنية الكريمة (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).
أما كتاب العرب في مصر فربما كان نجاري بك رحمه الله هو أول من أعلن ترجمة هاتين(1/16)
الكلمتين إلى العربية في معجمه الكبير (الفرنسي والعربي) المطبوع سنة 1905 م.
فقد فسر كلمة وهو ما نفكر به باطنيا بكلمة (جوهر) وفسر كلمة وهو ما نفكر خارجياً بكلمة (عرض).
ثم جاء بعد نجاريمن كتاب مصر من ترجم كلمة (بالذاتي) وكلمة (بالموضوعي).
وقال غير هؤلاء بل نترجم (بالفاعلي) وكلمة (بالمفعولي).
ثم وصل إلى كتاب العرب في العراق: فترجم الأستاذ الكبير ساطع بك الحصري كلمة وهو ما نفكر به باطنيا بكلمة (شخصاني) نسبة سريانية إلى كلمة (شخص) على حد قولنا (جسماني وروحاني) في النسبة إلى الجسم الروح.
وفسر كلمة وهو ما نفكر به خارجيا بكلمة (شبحاني) نسبة إلى (الشبح) الذي يرى من بعيد. ملاحظا أن معنى (الشبح) يراد أحيانا من كلمة ومنه تسمية البلورة الصغيرة في آلة التصوير الشمسي وهي التي تلتقط صور الأشباح الخارجية فترتسم فيها.
ولم يكد يذيع الأستاذ ساطع بك رأيه فيترجمة الكلمتين ويبرهن على صحته حتى عارضه الأستاذ إسماعيل مظهر في مجلة (العصور) مدعياً أن ترجمة كتاب مصر لهما (بالذاتي) و (الموضوعي) خير من ترجمة الأستاذ ساطع لهما (بالشخصاني) و (الشبحاني).
وسئل الأب أنستاس الكرملي عن ترجمة هاتين الكلمتين فأجاب في مجلد السنة السادسة من مجلة (لغة العرب) بما نصه: يقابل في لساننا كلمة (الذهني) والثاني يقابله في لغتنا كلمة (الخارجي). قال أبو البقاء في كلياته عن الأول كذا وعن الثاني كذا. . .
ثم نقل الأب الكرملي عبارة أبي البقاء بطولها وقفى عليها بقوله (فأنت ترى من هذا أن تعريف كل من (الذهني) و (الخارجي) تعريف صحيح على ما يفهمه الإفرنج في هذا العهد. ولا نعرف للحرفين المذكورين كلمتين أخريين، ومن يعرفهما فليذكرهما لنا اهـ).
هذا ما قاله كتابنا على اختلاف أمصارهم في ترجمة هاتين الكلمتين، وقد دار محور النزاع بينهم حول سبعة أزواج من الكلم وهي:
لاهوتي. ناسوتي
أنفسي. آفاقي
جوهر. عرض(1/17)
ذاتي. موضوعي
فاعلي. مفعولي
شخصاني. شبحاني
خارجي. ذهني
ومن هذا نرى النقلة والمترجمين لا يرجعون فيما شجر بينهم الا إلى أنفسهم. ولا يستمدون الحكم في فصل الخلاف اللغوي الا من ذوقهم. والأذواق مختلفة، ولا تحكيم مع اختلاف المحكمين. والقراء حيارى بين هذا المترجم، وذاك الواضع. وفي تعدد الأوضاع البلبلة والضياع، فلم يبق الا أن يتولى المجمع أمر الوضع، فيجمع الشتات ويرأب الصدع.(1/18)
اللغة العربية كأداة علمية
للدكتور علي مصطفى مشرفه.
الأستاذ بكلية العلوم
تجتاز اللغة العربية في عصرنا الحالي مرحلة من مراحل تطورها سيكون لها أثر واضح في مستقبلها. فاللغة التي كان عرب البادية يتكلمونها بسليقتهم فيصفون بها حياتهم ويعبرون بها عن مشاعرهم في صحرائهم وبين إبلهم وآرامهم والتي صارت بعد ذلك لغة الكتاب والفلاسفة في عصور المدنية الإسلامية؛ يتناولون بها سائر المعاني الأدبية والفلسفية. تلك اللغة قد كتب عليها أن يصيبها الخمول فتبقى مئات السنين بعيدة عن مجهودات البشر الأدبية والفلسفية والعلمية ثم ها نحن نراها اليوم وقد بعثت من مرقدها في ثوب جديد فصارت لغة الكتابة والتأليف، لغة الخطابة والتعليم في عصر انتشرت فيه مدنية جديدة وعمته حضارة مستحدثة؛ تختلف في مظهرها الخارجي وفي المحمل العقلي المرتبط بها إختلافاً بيناً عن حضارات القرون الوسطى. فاللغة العربية تبعث اليوم كما بعث الفتية بعد أن ضرب على آذانهم في الكهف سنين عددا فتجد نفسها في عالم جديد موحش لا تأنس إليه ولا يأنس إليها وهو لعمري موقف نادر تقفه لغتنا لعله فريد في بابه. لذلك كان لزاما على الأدباء والمفكرين من أهل اللغة العربية من عصرنا الحالي أن يحوطوها بعنايتهم وأن يهيئوا لها أسباب الحياة الطيبة في بيئتها الجديدة حتى تتكيف بالبيئة وتجنح إليها كما تتوتر لها البيئة وتحتويها. فاللغة كالكائن الحي في تفاعل مستمر مع البيئة التي تحيط به فأما تلاءما فاشتد الكائن وتكاثر ونما وأما تنافرا فاضمحل وتضاءل وهلك.
وإذا نحن قارنا البيئة الفكرية الحديثة بما كانت عليه في أيام ازدهار الحضارة العربية فلعل أول ما يسترعي نظرنا من الفوارق تغلب الروح العلمية على تفكيرنا الحديث. فالمدنية الحالية كما يدل عليه تاريخها مدنية علمية، مدنية كشف واختراع، مدنية استنباط وتحليل، ولذا كان مظهرها الخارجي غاصا بالآلات والعدد تكتنف الناظر إليها عن اليمين وعن الشمال. فلا عجب أن تشعر لغة العيس والسهام بوحشة بين الطيارات والمدافع الرشاشة. ومما لا شك فيه أن التقدم الذي حدث بمصر وفي سائر البلاد العربية في العصر الحالي قد كان من شأنه العمل على المقاربة بين اللغة العربية الحديثة وبين بيئتها. فمن ناحية قد(1/19)
تطورت اللغة بأن دخلت عليها كلمات وعبارات مستحدثة نشأت الحاجة إليها كما تغيرت معاني الألفاظ ومدلولات التراكيب بما يتفق والتفكير الحديث، وهجرت الألفاظ الغربية علينا أو التي لا لزوم لها، فنشأ عن ذلك تهذيب في اللغة قربها إلى عقولنا وساعد على حسن استخدامها. ومن ناحية أخرى بانتشار التعليم بين طبقات الأمة وبزيادة تبحر متعلميها في مختلف العلوم والفنون قد انتشرت الألفاظ والتراكيب العربية وشاع استعمالها في طول البلاد
وعرضها كما تكونت طوائف من العلماء والمفكرين بيننا يكتبون ويخطبون ويؤلفون في سائر العلوم والفنون فنشأت ثروة من الأدب العلمي والأدب الفني الحديثين يصح أن تتخذ مرجعاً لعلماء اللغة في دراستهم للغة العربية الحديثة. الا أننا مع ذلك لا نستطيع أن نزعم أن الشقة بين اللغة وبيئتها قد تلاشت تماما. فلا تزال هناك مدلولات عديدة لم تتسع اللغة للتعبير عنها بحيث يشعر المتعلم منا بنقص في لغته عندما يحاول الكلام في كثير من المواضيع العلمية والفنية. كما أنه من ناحية أخرى يوجد نقص كبير في عدد المتعلمين الذين يحسنون الكتابة أو الخطابة بلغة متفق على صحتها.
وبعبارة أخرى كل ما يمكن أن يقال أن اللغة العربية الحديثة لا تزال في دور التكوين.
لو أتتيح لنا أن ننظر إلى مستقبل اللغة العربية فترى ماذا نجد؟ هل نجد لغة واحدة يكتبها ويتكلمها المتعلمون من أهل مصر وأهل العراق وأهل الشام وغيرهم من الأمم العربية بفروق ضئيلة؛ لا تزيد على الفروق بين لغة أهل استراليا ولغة أهل إنجلترا. وهل تكون هذه اللغة قريبة من اللغة العربية التي أكتبها الآن قرب لغة الإنجليزي المتعلم الآن من لغة شكسبير؟ أم هل نجد لغات مختلفة لغة في مصر وأخرى في العراق وأخرى في لبنان، مثلها كمثل اللغة الألمانية واللغة السويدية واللغة الهولندية في تقاربها وتباعدها، كل لغة متأقلمة بلهجة أهلها ولا صلة بين أيها وبين لغة هذا المقال الا كالصلة بين اللغة الألمانية واللغة اللاتينية. وبعبارة أخرى هل ستحيا اللغة العربية وتنتشر أو ستموت وتندثر وتحل محلها لغات أخرى! أن مآل اللغة العربية في مستقبلها متوقف علينا نحن اليوم. فاللغة كما قدمت في دور التكوين ولذا ففي يدنا قتلها وفي يدنا أحياؤها. أما قتلها فيكون بالجمود بها عن تطورها الطبيعي كما يكون بعدم التعاون بين الأمم المختلفة من أهلها على توحيدها(1/20)
والمحافظة على وحدتها. وأما إحياؤها فيكون بالتبصر والحكمة وحسن الرعاية والتمشي بها في السبيل الطبيعي لرقيها كلغة حية واحدة. ومن حسن الحظ أن لدينا اليوم من الوسائل ما نستطيع به المحافظة على لغتنا في مصر وفي سائر البلاد العربية، فانتشار المطبوعات وسهولة الانتقال من بلد إلى أخرى والإذاعة اللاسلكية كل هذه عوامل قوية على توحيد اللغة وتعميمها إذا نحن أحسنا استخدامها وتنظيمها.
ولست أتعرض في هذا المقال للغة الأدبية بل أترك ذلك لأدبائنا وكتابنا وإنما أريد أن أشير إلى بعض الصعوبات التي تصادف لغتنا اليوم كأداة للتعبير العلمي. فمن جهة لا تزال كمية التأليف العلمي في مصر وفي الأقطار العربية ضئيلة بحيث لا يمكن بحال ما أن تعتبر ممثلة لحالة العلم في العالم اليوم، ومن ناحية أخرى يعوز المؤلفات العلمية الموجودة التهذيب كما يعوزها التجانس في المصطلحات، فكثير من المدلولات العلمية لا توجد الصيغ اللفظية لها، وبعض المدلولات توجد لها صيغأما ضعيفة أو غير صالحة، كما انه توجد في بعض الأحايين صيغ متعددة للمدلول الواحد مما يؤدي إلى نوع من الفوضى في أدبنا العلمي يجب علينا تلافيها. والطريقة المثلى للتقدم تكون بتأليف لجان من الأخصائيين لمراجعة المؤلفات الموجودة وتهذيبها والعمل على تجانسها كما تكون بتكليف القادرين منا وتشجيعهم فرادى ومجتمعين على وضع المؤلفات في مختلف الفروع العلمية حتى تتألف لنا ثروة من الأدب العلمي يصح أن يعتمد عليها علماء اللغة في استخلاص المصطلحات والعبارات العلمية في لغتنا الحديثة وتحديد معانيها ومدلولاتها بمعاونة العلماء الأخصائيين في ذلك. ويجب أن اذكر بهذه المناسبة أن من العبث أن يحاول علماء اللغة وضع المصطلحات العلمية وضعا قبل ورودها في المؤلفات العلمية وشيوع استعمالها فان ذلك يكون من باب التسرع وقلب النظام الطبيعي لتطور اللغة وهو في الغالب مجهود أكثره ضائع إذ لا يمكن التنبؤ بما إذا كان مصطلح من المصطلحات سيبقى ويدخل في صلب اللغة أو سيموت ويحل غيره محله.
بقيت نقطة أريد أن أتعرض لها وهي العلاقة بين المصطلحات العربية ومصطلحات اللغات الحية الأخرى. ففي رأيي انه من الجائز استعمال مصطلح أجنبي في لغتنا (بعد تحويره ليتفق مع ذوق اللغة وأوزانها) بشروط أن يكون هذا اللفظ مستعملا في جميع اللغات العلمية(1/21)
الأخرى أو في معظمها. ومثل هذه الألفاظ تكون في الغالب مشتقة من اصل إغريقي أو لاتيني لا جناح علينا نحن إذا اشتققنا منه كما اشتق غيرنا. أما الألفاظ الأجنبية المقصورة على لغة واحدة أو لغتين فرأيي أن يكون له عندنا لفظ عربي مرتبط بأدبنا وتفكيرنا.
ولا يتسع المجال لزيادة التفصيل فليس المراد من هذا المقال أن أدخل القارئ في مسائل فنية هو في غنى عن بحثها وإنما أرجو أكون أثرت من نفسه الاهتمام بهذا الموضوع الذي هو من أهم المواضيع المرتبطة بحياتنا وتقدمنا.(1/22)
رسالة الأديب في مصر
بقلم الأديب عبد الحميد يونس
وقف الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل وقفة طويلة في كتابه (الأبطال) عند البطل في صورة الأديب وعرفه بأنه (. . الرجل الذي يردد لنا نفسه الملهمة، وأقول الملهمة لأن ما نسميه بالعبقرية أو الصدق أو الموهبة أو صفة البطولة التي لا نجد لها اسماً خليقاً بها تدل على أن الأديب هو الذي يعيش في أعماق الأشياء؛ في الحقيقي، في الإلهي؛ في الخالد الذي يوجد أبداً والذي لا تراه الدهماء، لأنه يختفي وراء الزائل الحقير دائماً أبداً. الأديب هو الذي يذيع هذا الخفي للناس بالقول أو بالعمل؛ وحياته إذن قطعة من قلب الطبيعة الذي لا يعتوره الفناء) ثم استعان بآراء الفيلسوف الألماني (فخته) الذي أذاع سلسلة محاضرات في موضوع (طبيعة الرجل الأديب) قال فيها أن كل الأعمال التي يعملها الناس والأشياء التي تقع عليها أبصارهم في هذه الدنيا ليست الا ثوباً أو مظهراً إحساسياً يجثم وراءها ما أسماه (فكرة العالم الإلهية) وهي (الحقيقة التي توجد في أعماق المظاهر جميعا) وهي بالطبع لا تظهر لعامة الناس لأنهم يعيشون بين المظاهر والماديات. فرسالة الأديب أن يميز لنفسه وللناس هذه الفكرة الإلهية بما فيها من روعة وجمال وقوة وأن يقف إلى جانبها معجبا متعجبا؛ وان يذيعها في الناس حتى يكونوا أنعم بحياتهم وأقدر على فهم وجودهم. عليه أن يسمو بهم فوق رغبات العيش المادي من طعام وشراب وكساء وأن يحررهم (ولو إلى حد ما) من قيود الزمان والمكان.
وأظنك تستطيع أن تتخذ هذا التعريف مقياسا توازن به بين الأدب الحي والأدب الميت. فكما يوجد في هذا العالم أطباء ودجالون يدعون الطب كذلك يوجد أدباء وأدعياء يدعون الأدب. وإذا كنت تحرص الحرص كله على التمييز بين النقود الصحيحة والنقود الزائفة وهي التي تحصل بها على أغراضك المادية فالأجدر بك أن تكون أكثر حرصا على التمييز بين الآثار الأدبية الصالحة والآثار الأدبية الزائفة وهي التي تحصل بها على أغراضك الروحية.
والأديب يولد ولا يصنع (كما يقول الإنجليز) أي أنه رجل لا يكتسب صنعة الأديب بالتعلم والمران ما لم يكن موهوبا بطبيعته. بيد أن هذه الموهبة كالشجرة ما لم تثقف وتشذب فلن(1/23)
تؤتي أكلها لذيذا شهيا. . .
نخرج من هذا بأن الأديب في مصر هو الأديب في غير مصر وأن رسالته هنا هي بعينها رسالته هناك وكل ما في الأمر إختلاف طرائق التعبير. على أن مهمة أديبنا أشق من مهمة الأديب الغربي لأن الغربيين يعرفون لأديبهم قدره فيبسطون له في الرزق حتى ينصرف إلى الإنتاج الأدبي الصالح بيننا ينكر المصريون أديبهم ويضيقون عليه الخناق وهم إن اعترفوا له بشيء فإنما يكون هذا الاعتراف بعد أن يفارق هذه الدنيا. ولهذا دون شك أثره البالغ في خلق الأديب فهو أما أن يتزلف إلى السلطات الحاكمة أو يترضى الأمراء والزعماء فإذا لم يستطع هذا أو ذاك أخذ يتملق الجمهور! ولا تتهمني بالمبالغة فأمامك تاريخنا الأدبي الحديث فهو حافل بأسماء الأدباء (وأشباه الأدباء) الذين كانوا أقرب إلى المتسولين منهم إلى أي شيء آخر. والذين انحطوا بصناعة الشعر والنثر إلى الدرك الأسفل حتى أصبح الأدب نوعا من (البهلوانية) في التعبير فإذا ألحت عليهم الحقيقة أتخذوا في إذاعتها فنون اللف والدوران والمواربة! وما أقل أولئك الذين عافت نفوسهم التمسح بأذيال السادة أو التعلق بأردان الجماهير! والأديب (بل وشبه الأديب) معذور لأن الجماعة لا تريد إلا من يسليها ويدخل السرور عليها أما الذي يكشف لها عن المثل العليا ويظهرها على الفرق بين حاضرها وهذه المثل فهو أبغض الناس إليها!
والأديب المصري الذي يريد أن يؤدي رسالته على الوجه الأكمل يصطدم بعقبتين كلتاهما صعبة شديدة. فما بالك إذا علمت أنهما متآخيتان، هاتان العقبتان هما (السياسة والتقاليد).
أما السياسة فقد طغت علينا وأفسدت مزاجنا الأدبي حتى اضطربت موازين النقد في أيدي الكتاب ورجال التعليم يجورون في أحكامهم على الأدباء جوراً ظاهراً: والطلاب والقراء في حيرة ليس مثلها حيرة. وأسرفت السياسة في طغيانها اشتدت جنايتها على الأدب حتى أنصرف الأدباء إلى السياسة وأدركوا أن الشهرة الأدبية لن تأتيهم إلا على حساب الشهرة السياسية!
والتقاليد أمرها غريب حقاً فهي من محاربتها للأدب والأدباء تتستر وراء الدين حيناً ووراء السياسة حيناً آخر. تظهر مرة وتختفي مرات. وويل للأديب الذي يتهم بالإلحاد. وويل للأديب الذي يتهم بالخيانة. وويل للأديب الذي يتهم بالإباحية! لو كان موظفاً طرد من(1/24)
وظيفته. ولو كان عالماً جرد من شهادته. ولو كان كاتباً حورب في صحيفته!
على أن الأديب القوي هو الذي يصمد لهذا كله ويمضي في إذاعة رسالته مؤمنا بانتصاره. أو قل بانتصار آثاره تدفعه الفكرة الإلهية التي فيه. فإذا اعترف له أبناء عصره بفضله عليهم وعلى الأجيال المقبلة من بعدهم فذاك. وإلا فقد كتب أسمه في ثبت الخالدين. . .
وأدباء مصر في هذا الزمن هم (الطلائع) التي تتعرض للأخطار وتتلقى عن بقية الجيش السهام تتلوها السهام؛ والطلقات تعقبها الطلقات. فعليهم أن يضربوا المثل الصالح لأبناء الجيل الجديد.
وأني لأعلم أن مهمة الأديب المصري في الجيل المقبل ستكون أسهل من مهمة أخيه في هذا الجيل لان الأخير عليه إلى جانب مهمته الأساسية مهمة أخرى هي (التمهيد) وتعبيد طرائق التعبير من نحت ألفاظ. وإصلاح ألفاظ. ومن خلق قوالب أدبية لم يكن لها في تقاليد الأدب العربي وجود كالدرامة والشعر القصص والمقال الاجتماعي وما يتطلبه هذا كله من التغيير في قواعد النظم والكتابة.
وليذكر أولئك الذين يغرمون بتأليف المجامع اللغوية أن إصلاح اللغة لا يقوم به النحات والعروضيون وأصحاب الأبحاث (الفيلولوجية) وإنما يقوم به الأدباء والأدباء وحدهم لأنهم بطبيعة رسالتهم اقدر على ابتكار الألفاظ التي تتلاءم مع المعاني. والأساليب التي تتفق والأغراض. ثم هم اقدر على إذاعة هذه الأساليب وتلك الألفاظ في الناس. ثم يأتي بعدهم أصحاب النحو والعروض وعلوم اللسان يستخرجون من آثارهم القواعد العامة ويرتبونها ويصنفونها ويضعون المطولات والقواميس فيها!
فليمض الأدباء المصريون (وهم قلة) في تحقيق الرسالة السامية التي وجدوا من اجلها والتي يعيشون لها. والتي يجب أن يموتوا في سبيلها كما يموت كل صاحب رسالة يؤمن برسالته وليكن عزاءهم خلود آثارهم؛ وأحرى بالناس أن يقدروا الأديب الذي لا يعيش لنفسه وإنما يعيش لهم!. . .(1/25)
في الأدب العربي - العبقرية والقريحة
أو
شوقي وحافظ
بقلم احمد حسن الزيات
فجيعة الشعر العربي في حافظ وشوقي يعز عليها الصبر، ويُعْوز منها العوض، ويصرف أساها الناقدين عن تقويم الميراث العزيز إلى تعظيم الموروث الأعز. وليس مما يزكو بالمنصف أن يجشم نظره رؤية الحق من خلال الدموع، فأن في ذلك اعتداء على العقل أو إساءة إلى العاطفة. وهذه الكلمة إنما نستجيز ذكرها اليوم لأنها إلى الهتاف بالعظيمين أقرب منها إلى النقد، ولأن ما يكتب عنهما الساعة إنما هو تقييد لعفو الرأي وتمهيد لأسباب الحكم الصحيح.
شوقي شاعر العبقرية وحافظ شاعر القريحة. وتقرير الفرق بين الموهبتين هو تقرير الفرق بين الرجلين. فالقريحة ملكة يملك بها صاحبها الإبانة عن نفسه بأسلوب يقره الفن ويرضاه الذوق. ومن خصائصها الوضوح والاتساق والأناقة والسهولة والطبيعية والدقة. أما العبقرية فضرب من الإلهام يستمر استمرارا تجددياً فتلازم أحياناً وتنفك حيناً. ومن أخص صفاتها الأصالة والإبداع والخلق. فالرجل العبقري إذن يعلو ثم يسفل تبعا لقيام العبقرية به أو إنفكاكها عنه. وهو يَشخُب الشعر غالبا فيرسله من فيض الخاطر كما يجئ دون تنقيح له ولا تأنق فيه، ثم هو في عظام الأمور سباق وفي محاقرها متخلف، لأن الجليل يوقظ خاطره ويحفز طبعه والتافه الوضيع ينخزل عن مكانه فلا يبلغ موضع التأثير فيه وقد يعني لسبب من الأسباب بعامي الأشياء أو سوقي الآراء فيبعث فيه من روحه ما يحييه، ومن حرارته ما يقويه، ومن أشعته ما يظهر فيه الطرافة والجدة كما تظهر الشمس كرات التبر في عروق الصخور! فالقريحة كما ترى توجد الصورة والعبقرية تبدع المخلوق. ومزية الأولى في الصنعة وتقديرها في التفصيل، ومزية الأخرى في الابتكار وتقديرها في الجملة. فإذا قرأت قصيدة لذي القريحة راقك منها جرس الحروف ونغم الكلمات واتساق الجمل وبراعة البيت، ولكنك تفرغ منها وليس لها اثر في نفسك ولا صورة في ذهنك. أما العبقريات فحسبك أن تذكر عنوانها لتشعر بها، وتتصور موضوعها لتتأثر منها.(1/26)
ذو القريحة يقول ما يقول الناس، ولكنه يصوره بقوة ويؤديه بدقة وينسقه بذوق ويهذبه بفن، وذوو العبقرية على نقيضه، ينظر ويشعر ويفكر ويقدر على طريقته الخاصة. فإذا وضع خطة أو رسم صورة أو بحث فكرة أخرجها على طراز فَذ فتحسبها مبتكرة وقد تكون مسبوقة، لأنه استطاع بقوة لحظه ولقانة طبعه أن يريك فروقا لم ترها، ويقفك على تفاصيل لم تتصورها، ويفجر لك النهر من حيث لم يستطع غيره أن يفجر الجدول. . والرجل العادي ينظر بالعين فكأنه لسطحيته لم ير! والعبقري يرى باللمح فكأنه لزكاته لم ينظر!
على أن هناك فرصا للكمال تجتمع فيها على الوئام العبقرية والقريحة، فيسلم الفنان حينئذ من التفاوت القبيح بين إصعاده وإسفافه، أو بين جيده ورديئه. لأن العبقرية إذا غفت خلفتها القريحة، والقريحة إذا كبت سندتها العبقرية. على ذلك تستطيع أن تقول أن أبا نواس وأبا فراس والشريف من رجال القريحة وإن أبا تمام وأبا العتاهية والمتنبي من رجال العبقرية، وإن البحتري وابن الرومي ممن جمع في الكثير الغالب بين الموهبتين. وتستطيع كذلك أن تعلل أمثال قول البحتري في أبي تمام: جيده خير من جيدي ورديئي خير من رديئه؛ وقول الأصمعي في أبي العتاهية: أن شعره كساحة الملوك يقع فيها الجوهر والذهب والخزف والنوى، وقول الثعالبي في المتنبي: كان كثير التفاوت في شعره فيجمع بين الدرة والآجُرَّة، ويتبع الفقرة الغراء بالكلمة العوراء، وقولهم في ابن الرومي: إنه امتاز بتوليد المعنى واستقصائه وسلامة شعره على الطول.
اخطرُ ببالك بعد ذلك حافظا تجد أول ما يبهرك منه لفظه المونق وأسلوبه المشرق وقافيته المروضة وصوره الأخاذة. فأما الروح والموضوع فأصداء منبعثة من الماضي في فردياته وآراء مقتبسة من الحاضر في اجتماعياته، فحافظ لم يستطع لضيق مضطربه وقصور خياله وضعف ثقافته أن يعنى بغير الشكل والصورة، وكانت هذه العناية من اليقظة والحرص بحيث لم تغفل عن خلل ولم تعي بصقال. فإذا تهيأ للشعر أو للنثر عمد إلى الآراء التي تختلج حينئذ في النفوس وتستفيض في المجامع وتتردد في الصحف فيجمعها في باله ويديرها في خاطره ثم يكون همه بعد ذلك أن يصوغها فيحسن الصوغ ويسبكها فيجيد السبك، وتقرأ بعد ذلك أو تسمع فإذا نسق مطرد وأسلوب سائغ وشئ كأنك سمعته من قبل ولكن عليه طابع حافظ ووسمه.(1/27)
وحافظ يتحمل من بناء القصيدة رهقاً شديداً، لأنه يلدها فكرة فكرة، ويبض بها قطرة قطرة، ويتصيد المعاني فيقيدها في مفردات أو مقطوعات، فربما وقع له ختام القصيدة قبل مطلعها، وعثر على عجز البيت قبل صدره، ثم يعود فيرتب هذه الأبيات لأدنى ملابسة وأوهى صلة! وتجئ الصنعة البارعة فتخدعك عن الخلل بالطلاء، وعن التفكك بارتباط الأسلوب.
ثم أخطرُ ببالك بعد ذلك شوقي تجده غير محدود بالصنعة ولا مقيد بالشكل، وإنما هو فيض يسخر بالحدود، ونور ينفذ من الستور، وإلهام يتصل باللانهاية، وشاعر كالمتنبي أو كهوجو يفتح مطلع القصيدة فكأنما يفتح لك باب السماء! فأنت من شوقي حيال شاعر روحه أقوى من فنه، وشعره أوسع من علمه، وحكمته أمتن من خلقه، وقدرته أكبر من استعداده، فلا تشك في انه وسيط لروح خفية تقوده، ورسول لقوة إلهية تلهمه، ثم تفارقه حينا تلك الروح وتفرق عنه هذه القوة فيعود رجلاً أقل من الرجال، وشاعرا اضعف من الشعراء، فينظم في افتتاح الجامعة ومشروع القرش وما إلى ذلك، فيأتي بما لا وزن له في النقد ولا مساغ له في الذوق!
وشوقي تحت وحي العبقرية يتنزل عليه الموضوع جملة، ثم يشغله عن تفاصيله التفكير في الغاية والتحديق في الغرض فيرسله من فيض الخاطر شعراً متسلسلا متصلا تضيق عن معانيه ألفاظه كما تضيق شطئان الرمل عن الفيضان الجائش المزبد. . ومن ثَمَّ كان التجديد والتعقيد والتدفق والعُمق من أقوى خصائص شوقي، كما كان التقليد والبساطة والكزازة والسطحية، من أبين خصائص حافظ.
وهنا نحجز القلم عن وجهه فلا نمعن في تحليل شاعرينا اليوم، فان لذلك إبانه ومكانه، ثم نرسل العين هتانة
المسارب أسى على ماض طويل انقطع، ونغم جميل تبدد، وحلم لذيذ تقضى، وكاهنين من كهان عطارد طواهما الخلود، ثم ترك بعدهما رسالة الشعر عرضة للشعوذة والجمود.(1/28)
حلقات في الأدب
في الفسطاط
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت مدينة الفسطاط منذ القرن الثاني للهجرة مركزاًللتفكير والآداب , يحج إليها كثير من أعلام المشرق. وكانت مصر قد بدأت تتبوأ مكانتها الفكرية والأدبية بين الأمم الإسلامية، منذ استقرت شئونها السياسية في عهد الدولة العباسية. ولم تكن مصر منذ افتتحها الإسلام أكثر من ولاية تابعة للخلافة. ولكنها كانت بين ولايات الخلافة أشدها احتفاظاً بشخصيتها وألوانها القومية؛ وكانت منذ البداية تأخذ نصيبها في بناء صرح التفكير الإسلامي؛ ولكنها كانت تشق طريقها الخاص. وكانت منذ الفتح مركزاً هاماً للسنة والرواية، يحتشد فيها جماعة كبيرة من الصحابة الذين اشتركوا في الفتح والتابعين الذين عاصروهم. وفي القرن الأول أيضا وضعت بذور الحركة الأدبية فنمت وأزهرت بسرعة , حتى أنه يمكن القول أن مصر كانت منذ القرن الثالث قد كونت أدبها الخاص. ولم يأت القرن الرابع حتى كان هذا الأدب يتميز بخواصه المصريةالقوية مما عداه من تراث التفكير العربي في المشرق والأندلس.
وكانت الفسطاط عاصمة الإسلام في مصر منذ قيامها عقب الفتح سنة 21هـ (641م) حتى منتصف القرن الرابع. وقد قامت بجوارها مدينتا العسكر والقطائع دهراً. ولكن العسكر كانت مركزاً للإمارة والإدارة فقط، وكانت القطائع وهي مدينة بنى طولون مدينة بلاط فقط، أما الفسطاط فكانت قلب الإسلام النابض في مصر، ومهد التفكير والآداب في تلك العصور وحتى بعد أن قامت القاهرة المعزية سنة 358هـ (969م) لم تفقد الفسطاط أهميتها الفكرية والأدبية، بل لبثت بعد ذلك عصوراً تشتهر بحلقاتها ولياليها الأدبية. وكانت هذه الحلقات والليالي الأدبية من محاسن الفسطاط، يشيد بأهميتها وجمالها أدباء المشرق والمغرب الوافدين على مصر. وكانت في الواقع نوعا من الأبهاء الأدبية فيها الأدباء والشعراء، للقراءة والسمر والجدل والمساجلة , وكانت مهاد اللقاء والتعارف بين الأدباء المحليين والنزلاء الوافدين من عواصم الإسلام الأخرى.
وقد بدأت هذه الحلقات الأدبية في الفسطاط منذ القرن الأول. ولكنها كانت في بدايتها فقهية(1/29)
دينية , وكانت لها أهميتها في تمحيص السنة والرواية. وكانت تجمع بين جماعة من أقطاب الفقهاء والحفاظ والمحدثين الذين يعتبرون في الطبقة الأولى بين فقهاء الإسلام ورواة السُنة، مثل يزيد بن حبيب، والليث بن سعد، وعبد الله بن وهب، ثم الشافعي وأصحابه. ثم اتخذت هذه الحلقات طابعاً أدبياً، فكان يمزج فيها بين الكلام والأدب، وكان معظم فقهاء هذا العصر أدباء أيضا ًيأخذون من الأدب بحظ وافر، ولبعضهم في الشعر والنثر براعة خاصة. ونستطيع أن نذكر من هؤلاء الأمام محمد بن إدريس الشافعي قُطبْ الشريعة وحُجة التشريع، فقد كان أيضاً أديباً مبرزاً له في الشعر والنثر محاسن وروائع وكذلك آل عبد الحكم الذين نذكرهم بعد؛ وأبو بكر الحداد قاضي مصر؛ والحسن بن زولاق المؤرخ فقد كان هؤلاء جميعاً من كبار الفقهاء والأدباء وكان الفقه والحديث والأدب تمتزج معاً في مجالسهم وأسمارهم. . ولعل أبهى حقبة في هذه الحلقات الشهيرة في تاريخ الفسطاط مستهل القرن الثالث الهجري ففي ذلك الحين كان الإمام الشافعي نزيل الفسطاط وكان مدى الأعوام التي قضاها بمصر منذ قدومه إليها في أواخر سنة 198هـ (813م) حتى وفاته في رجب سنة 204هـ (819م) قطب الحركة الفكرية فيها وكعبة الصفوة من فقهائها وأدبائها يجذبهم إليه غزير علمه ورفيع أدبه، وبارع خلاله. وكانت حلقات الفسطاط الأدبية شهيرة قبل مقدمه لكنه اسبغ عليها بهاءً وسحراً وروعة. وكان أبو تمام الطائي الشاعر الأكبر إذا صحت الرواية عن مقدمه إلى مصر صبياً واشتغاله بسقي الماء في المسجد الجامع يغشى هذه المجالس الأدبية في حداثته وفيه تفتحت مواهبه الأدبية والشعرية. والظاهر انه كان طبقاً لهذه الرواية يقيم في الفسطاط في خاتمة القرن الثاني أو فاتحة القرن الثالث أعني في نحو الوقت الذي كان فيه الشافعي نزيلها. وكان أشهر هذه الحلقات أو الأبهاء حلقة بني عبد الحكم , وهم أسرة مصرية نابهة كثيرة المال والوجاهة؛ أنجبت عدة من كبار الفقهاء منهم عميد الأسرة عبد الله بن عبد الحكم المصري، وهو من أقطاب الفقه المالكي وأولاده محمد وسعد إبنا عبد الحكم وكلاهما فقيه ومحدث كبير وعبد الرحمن بن عبد الحكم أقدم مؤرخ لمصر الإسلامية. وقد كان بنو عبد الحكم منذ القرن الثاني أعلام الفقه والتفكير والأدب في مدينة الفسطاط وكانت دارهم كعبة العلماء والأدباء ومنتدى للدراسات والأسمار الأدبية الرفيعة، وكانت حلقاتهم العلمية والأدبية تجذب أكابر(1/30)
العلماء الوافدين على مصر من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، فلما قدم الإمام الشافعي إلى مصر كان بنو عبد الحكم أول من استقبله وأكرم وفادته؛ وأمدته الأسرة النابهة بالمال ونظمت له سبل الإقامة والدرس؛ وكانت أول من انتفع بعلمه وأدبه. وبث مقدم الشافعي في آداب الفسطاط روحاً جديدة واشتهرت مجالسه وحلقاته الفقهية والأدبية. وكانت حقبة علمية أدبية زاهرة (198 - 204هـ) وكانت حلقات المسجد الجامع أو جامع عمرو منذ إنشائه سنة 21هـ (641م) قلب الفسطاط الفكري وكانت تعقد فيه مجالس القضاء الأعلى كما كانت تعقد مجالس الفقه والأدب الخاصة. وصحن المسجد الجامع شهير في تاريخ الفسطاط الأدبي وقد كان مدى قرون ندوة فكرية أدبية جامعة وكانت بين جدرانه توجه حركة التفكير والآداب في مصر الإسلامية. ويبدو مما كتبه مؤرخو الفسطاط في هذا العصر أن هذه الحلقات دورية وكانت منظمة برغم صفتها الخاصة. أنها كانت تعقد كل يوم تقريباً في المسجد الجامع. ولكن الظاهر أن أهمها ما كان يعقد يوم الجمعة؛ وأن مجالس الجمعة كانت تعتبر كموسم أسبوعي يغص المسجد فيه بجمهرة الفقهاء والأدباء والقراء والنظارة. وفيها كانت البحوث الكلامية، والمناظرات الأدبية، والمطارحات الشعرية والرواية التاريخية تنظم في حلقات فرعية أو متعاقبة.
وكانت هذه الحلقات الأدبية الشهيرة تتأثر بتطور السياسة والأهواء السياسية والدينية، إذ كانت موئل التفكير والدعوة إلى مختلف المذاهب الفقهية والأدبية. ففي سنة 226هـ مثلاً أمر محمد أبن أبي الليث قاضي قضاة مصر تنفيذا لرغبة الخليفة الواثق بالله، بالقبض على جميع الفقهاء والمحدثين والأدباء باسم الامتحان في مسألة خلق القرآن وهي المعروفة بالمحنة فملئت السجون بالمنكرين لخلقه من العلماء والأدباء، وأغلِقَ المسجد الجامع في وجه المالكية والشافعية، وفضت حلقاتهم العلمية والأدبية، ومنعوا من زيارة المسجد، ومن بث آرائهم ونظرياتهم وأخذ بنو الحكم فوق أخذهم بالمحنة بتهمة أخرى، وهي تبديد أموال طائلة ائتمنوا عليها من علي بن عبد العزيز الجروي، وهو زعيم خارج تغلب حيناً على بعض نواحي مصر ثم أخمدت ثورته، وأتهم بالخيانة، وقضي بمصادرة أمواله، فأتهم بإخفائها بنو عبد الحكم، وقبض عليهم وعذبوا واستصفيت أموالهم أداء لما قضي به وتوفي بعضهم في السجن (سنة 237هـ) ثم أفرج عنهم بعد ذلك، ولكن هذه المحنة ذهبت بوجاهة(1/31)
الأسرة النابهة وجاهها وهيبتها فأضمحل نفوذ هذه الأسرة وتضاءلت أهمية هذه الحلقات الأدبية الباهرة التي اشتهرت بتنظيمها وعقدها زهاء نصف قرن. وفي نفس العام أمر الحارث بن مسكين قاضي القضاة بمطاردة الفقهاء الحنفية والشافعية وإخراجهم من المسجد الجامع وقطع أرزاقهم وحظر اجتماعاتهم.
وهكذا شتت شمل المجتمع الفكري في الفسطاط حينا وانزوت حلقاتها الأدبية الزاهرة حتى منتصف القرن الثالث ولكنها عادت فانتظمت وازدهرت واستعاد المسجد هدوءه وسكينته وردت حرية الاجتماع والدرس. وجاءت الدولة الطولونية (254 - 292هـ) (868 - 905م) فازدهرت في ظلها الآداب والفنون وكان أحمد بن طولون أميراً مستنيراً يحب العلوم والآداب ويرعاها بتعضيده وحمايته، ويجل مجالس العلم وحلقات الأدب. وكانت الفسطاط ومسجدها الجامع أيضاً مثوى الحلقات والمجالس العلمية والأدبية في هذا العصر؛ لأن مدينة القطائع التي شيدها إبن طولون لم تكن كما قدمنا سوى مدينة بلاط وبطانة. ونبغ في هذه الحقبة القصيرة عدد كبير من الأدباء والشعراء وبكت دولة الشعر دولة بني طولون عند ذهابها أيما بكاء فقال شاعرها سعيد القاص من قصيدة طويلة رائعة: -
طوى زينة الدنيا ومصباح أهلها ... بفقد بني طولون والأنجم الزهر
وفقد بني طولون في كل موطن ... أمر على الإسلام فقداً من القطر
تذكرتهم لما مضوا فتتابعوا ... كما أرفض سلك من جمان ومن شذر
فمن يبك شيئاً ضاع من بعد أهله ... لفقدهم فليبك حزناً على مصر
لبيك بني طولون إذ بان عصرهم ... فبورك من دهر وبورك من عصر
وفي أوائل القرن الرابع كانت الفسطاط تضم جماعة كبيرة من أقطاب المفكرين والأدباء وكانت أبهاؤها ومجالسها الأدبية حافلة زاهرة. ففي تلك الفترة اجتمع من زعماء التفكير والأدب أبو القاسم بن قديد وتلميذه أبو عمر الكندي مؤرخ الولاة والقضاة، وأبو جعفر النحاس المصري الكاتب والشاعر، وأبو بكر الحداد قاضي مصر، وأبو القاسم طباطبا الحسيني الشاعر، وأبو بكر بن محمد بن موسى الملقب بسيبويه مصر، والحسن بن زولاق المؤرخ الأشهر وكثيرون غيرهم؛ فكان لاجتماع هذه الصفوة العلمية والأدبية البارزة في هذه الفترة أثر كبير في ازدهار الحركة الفكرية بمصر في أوائل القرن الرابع.(1/32)
فكانت حلقات الأدب في أوج نشاطها وكان المسجد الجامع يومئذ جامعة حقة يموج بهذه الاجتماعات العلمية والأدبية الشهيرة. وكانت دولة التفكير والأدب في بغداد قد أخذت في الضعف والاضمحلال وأخذت مصر تتأهب للقيام بدورها في رعاية التفكير الإسلامي في المشرق وكان بنو الإخشيد، محمد بن طغج وولداه انوجور وعلي ثم وزيرهم الخصي النابه كافور، مدى دولتهم التي استمرت زهاء ثلث قرن (324 - 358هـ) (935 - 969م) حماة للعلوم والآداب. وقد انتهى إلينا من آثار الحسن بن زولاق المؤرخ، أثر هام يلقي ضياء على تاريخ الحركة الأدبية المصرية في هذا العصر وهو كتاب (أخبار سيبويه المصري) وهو أبو بكر بن موسى الذي سبقت الإشارة إليه وقد كان صديقاً لابن زولاق وزميلا له في الدرس على ابن الحداد. وكانت له أخبار ومُلح ونوادر أدبية طريفة عُني ابن زولاق يجمعِها في هذا الكتاب. وفي دار الكتب نسخة خطية وحيدة من هذا الأثر لا ريب إنها من اقدم المخطوطات العربية التي وصلت إلينا بل لقد انتهينا في تحقيق شأنها إلى أنها اقدم مخطوط أدبي مصري وصل إلينا وأنها من آثار عصر الفسطاط ذاته وبخط ابن زولاق نفسه.
وفي اثر ابن زولاق هذا إشارات كثيرة إلى حلقات الفسطاط الأدبية في عصره في النصف الأول من القرن الرابع الهجري.
ويبدو من سياق كلامه أن المسجد كان مثوى لأهم هذه الحلقات وأشهرها وأنها كانت كما قدمنا دورية منتظمة تعقد على الأغلب في عصر يوم الجمعة وتجتمع بين الفقهاء والأدباء وينعقد فيها الجدل الكلامي والحوار الأدبي والشهري. والظاهر أيضاً أن هذا الجدل والحوار كان ينتهي أحياناً إلى بعض ما ينتهي إليه في عصرنا من مرارة واتهام وتراشق وأن بعض المفكرين الأحرار كانوا ينقمون من عصرهم ما ننقم من عصرنا أحياناً من اعتداء على حرية الرأي والبحث وأن بعضهم كان يرمى بتهم المروق والإلحاد إذا أطلق لنفسه حرية البحث والرأي على نحو ما يشير إليه سيبويه المصري في قوله من قصيدة أوردها ابن زولاق:
أما سبيل اطراح العلم فهو على ... ذي اللب أعظم من ضرب على الرأس
فأن سلكت سبيل العلم تطلبه ... بالبحث أبت بتفكير من الناس(1/33)
وإن طلبت بلا بحث ولا نظر ... لم تضح منه على إيقانٍ إيناس
وأنبذ مقالة من ينهاك عن نظر ... نبذ الطبيب بذل القرحة الآسي
وهذه ظاهرة فكرية خطيرة يسجلها الشاعر المصري على عصره أعني أوائل القرن الرابع (حول سنة 320 - 340هـ) وهي تدل على أن الجدل العلمي والأدبي كان يرتفع يومئذ الى مرتبة الأيمان والعقيدة وينحدر أحيانا أخرى إلى درك التراشق والمهاترة. كذلك هنالك في قول الشاعر ما يدل على أن بعض المفكرين والأدباء كانوا يؤثرون الصمت على الجهر بآرائهم خيفة الاتهام والوقيعة.
وقد كانت حلقات المسجد الجامع بلا ريب أهم الحلقات الأدبية العامة ولكن هناك في أقوال ابن زولاق ما يدل على أنها كانت تعقد أيضاً في المساجد الأخرى. فمثلا كان الشاعر الأكبر أبو الطيب المتنبي الذي وفد على مصر سنة 346هـ (957م) ليستظل بحماية الأخشيد يجلس في مجلس يعرف بمسجد ابن عمروس وهناك يجتمع إليه الأدباء والشعراء؛ وكانت حلقة المتنبي بلا ريب من أهم مجالس الشعر والأدب والفلسفة في هذا العصر. وأما عن الحلقات والأبهاء الخاصة فيشير ابن زولاق إلى المجالس العلمية والأدبية التي كان يعقدها محمد بن طغج (الإخشيد) وولده انوجور ثم مجالس الوزيرين ابن الفضل جعفر بن الفرات والحسين بن محمد المارداني. والظاهر أن هذه المجالس والحلقات الأدبية كانت يومئذ من تقاليد الحياة الرفيعة وكانت نوعا من الترف الذي يأخذ به الأمراء والعظماء والأسر الكبيرة فان لهم جميعاً على نحو ما بينا في سير الأبهاء الأدبية في تلك العصور أكبر نصيب وذكر، ويرجع إليهم في أقامتها ورعايتها أكبر الفضل.(1/34)
من طرائف الشعر
النكران
الفأس والشجرة
للدكتور محمد عوض محمد
كانت الفأس قطعة من حديد ... وحدها لا تطيق حزاً وقطعاً
فرأت دوحة: فقالت: (هبيني ... يالك الخير! من فروعك فرعاً!)
امنحيني يداً، تشدي بها أز ... ري فأزداد في البرية نفعاً
فحبتها فرعاً متيناً وظنت ... أنها أحسنت بذلك صنعاً!
باتت الفأس بعدها ذات حول ... يصدع الصخر والجنادل صدعاً
وتناست أنى لها ذلك الحول ... فجاءت لدوحة الأمس تسعى!
أن هوت نحوها بقسوة ذي غل ... وحقد كأنه حقد أفعى
ضربتها ضربات طالب ثأرٍ ... فهوت للثرى: فروعا ًوجذعاً!!
وحي الحياة.
لوجهك هذا الكون يا حُسْنُ كله ... وجوهٌ يفيض البشرُ من قسماتها
وتستعرضُ الدنيا غريبَ فنونها ... وتعرب عن نجواكَ شتىَّ لغاتها
ولولاكَ ما جاش الدَجى بهمومها ... ولا افترَّ ثغر الصبح عن بسماتها!
ولا سعدتْ بالوهم في عالم المنى ... ولا شقيتْ بالحبِّ بين لِداتها
ولا حيَيَتْ الفَّنان إلهام فنِّه ... ولا رُزقَ الإبداع من نفحاتها
فوا أسفا يا حسن لِلّحظة التي ... تطيش لها الأحلام من وثباتها!
فوا أسفاً يا حسن للحّظة التي ... يعزُ على الأوهام جمع شتاتها!
وما هي إلا الصمت والبرد والدُّجى ... ودنيا يشيع الموت في جنباتها!
فناءٌ تضجُ الريح من ظلماته ... وتفزع فيه البوم من صرخاتها
وتنتثر الأزهار من عذباتها ... وتعَْرى الغصون النُّظْر من ورقاتها
ويغشى السماء الجهمُ من كل ديمةٍ ... تخدِّد وجه الأرض من عبراتها(1/35)
هنالك لا الدنيا ولا البهجة التي ... عَرَفْتَ، ولا الأيام في ضحكاتها!
ولكن رَوَى النفس التي كنت حبها ... ونافثَ هذا السحر في كلماتها
مضت غير شعرٍ أودعت فيه وحْيَها ... إليك فخذ يا حُسن وَحيَ حياتها!
علي محمود المهندس(1/36)
في الأدب الشرقي
صفحات من الشعر الهندي
- 1 -
من ديوان رسالة الشرق
لشاعر الهند العظيم محمد إقبال
بقلم الدكتور عبد الوهاب عزام
المدرس بكلية الآداب
محمد إقبال هو شاعر الهند العظيم، وأكبر شعراء الإسلام في عصرنا. درس الفلسفة في إنجلترا وألمانيا وتزود من الفلسفة القديمة والحديثة ما شاء له الذكاء والاجتهاد، وعلم الفلسفة في جامعات الهند سنين كثيرة. وهو اليوم قائد من قادة الأفكار في الهند.
وله من الشعر دواوين عدة بلغ فيها الغاية. نظم واحداً منها باللغة الأردية وسماه (بانك درا) أي صلصلة الجرس. ونظم خمسة بالفارسية وهي:
(زبور العجم)، (وأسرار خودي)، (ورموز بي خودي) (أسرار الذاتية ورموز اللاذاتية)، (يبام مشرق) (رسالة المشرق) وقد جعله جواباً للقصائد المشرقية التي نظمها الشاعر الألماني جوته. وآخرها (جاويدنامه) (الكتاب الخالد).
والقطع المترجمة هنا مأخوذة من (يبام مشرق).
الحياة:
بكى سحاب الربيع في جنح الليل فقال:
إن هذي الحياة بكاء مستمر!
فتلألأ البرق الخاطف أن (قد غلطت. إنها لمحة من الضحك!.) ليت شعري من أخبر البستان بهذا، فهو حديث مستمر بين الندى والورد.؟!
الله والإنسان:
الله(1/37)
خلقتُ العالم من ماء واحد وطينة واحدة، فخلقتَ انت الفرس والتتار والزنج. خلقت من التراب الحديد، فخلقت انت السيوف والسهام والمدافع، وخلقتَ الفأس لأغصان الشجر والقفص للطائر الغرّيد.
الإنسان
خلقتَ الليل فخلقتُ المصباح. وخلقتَ الطين فخلقتُ الآنية: خلقتَ الصحارى والجبال والرُّبي فخلقتُ الجنات وحدائق الورد والطرق المشجرة.
أنا الذي صنع المرآة من الحجر!.
وأنا الذي صنع الدواء من السم!.
اليراعة:
سمعت اليراعة تقول: لستُ كالنملة ينال الناس أذاها.
ولستُ كالفراشة، فأني اشتغل ولا احمل منَّة لأحد. إذا صار الليل اشد حلكا من عين الظبي أنرت بنفسي لنفسي الطريق!!.
الحقيقة:
قالت العقاب بعيدة الرأي للعنقاء: أن الذي يراه ناظري سراب! فأجاب ذلك الطائر: أنت ترين. ولكني أعلم أنه ماء. فارتفع صوت السمكة من لجة البحر: أجل يوجد شيء وهو في هياج واضطراب!!. .
الحكمة والشعر:
ضل أبو علي في غبار الناقة، وأخذت يد الرومي بستر المحمل!
هذا غاص حتى ظفر بالجواهر، وذاك دار مع الغثاء على وجه الماء.
الحق إن لم تكن فيه حرقة فهو حكمة. وإنما يصير شعراً حين يقبس من نار القلب!. .
الوحدة:
ذهبت الى البحر فقلت للموج المصطخب: أنت في طلب دائم فما خطبك؟ في جيبك آلاف اللآلئ، فهل في صدرك كما في صدري، جوهر من القلب!. .(1/38)
فاضطرب وجزر عن الشاطئ ولم يحر جواباً!.
ذهبت إلى الجبل فسألت ما هذا القرار؟ ألا ينال مسمعك آهات المحزونين وصيحاتهم؟! أن يكن العقيق في أحجارك قطرات من الدم فحدثني فأني مُرَزّأ.
فانقبض وصمت ولم يحر جواباً!.
قطعت طريقا سحيقا وسألت القمر: يا جوّاب الآفاق! هل قدر لك منزل لم يوجد؟ العالم من شعاع وجهك حديقة من الياسمين. فهل نور شامتك من تجلي قلب لا يوجد؟
فرأى رقباء بين الأنجم ولم يحر جواباً!.
تخطيت القمر والشمس وصرت الى حضرة الخالق. قلت ليس في عالمك ذرة واحدة تعرفني! العالم خلو من القلب، وأنا، هذه القبضة من التراب كلها قلب!. المرج جميل، ولكنه ليس كفء نغماتي.
فتبسم ولم يحر جواب!.
الحور والشاعر:
جواب منظومة جوته (المسماة الحور والشاعر)
الحور:
لا ترغب في الخمر ولا ترفع بصرك إليَّ. عجيب انك لا تعرف طرائق الصحبة!
هذه الأنفاس التي تصهرها والغزل الذي تغني به كلها نغمة الطلب وكلها حرقة الأمل.
أي عالم من الجمال خلقتَ بألحانك؟ فهذه إرم تلوح لي كطلسم من السيمياء.
الشاعر:
تخدعن قلوب السائرين بكلام لاذع، ولكن لذته لا تبلغ وخزة الشوك! ماذا أصنع؟ أن فطرتي لا تسكن الى المقام وان له لقلبا قلقا كالصبا بين الحدائق!
كلما اطمأن ناظر الى وجه جميل خفق قلبي وراء وجه أجمل.
إني أريد من الشرر نجماً، ومن النجم شمساً. لا أبغي منزلا فان موتي أن أقرَّ. كلما تناولت قدحا من حميا الربيع قمت فأنشدت غزلاً آخر مشوقا الى ربيع جديد. إنما أطلب غاية الذي لا غاية له بعين لا تصبر، وقلب دائم الرجاء. تموت قلوب العشاق بجنة الخلد لا بألحان الألم والغم، والمؤاساة.(1/39)
نسيم الصبح:
آتي من صفحات البحار وقمم الجبال، ولكني لست أدري من أين أهب!.
أبلغ الطائر المحزون رسالة الربيع، وأنثر في منزله فضة الياسمين.
وأتقلب في المرج، والتف على أغصان الشقائق، فأبعث من مسامها اللون والرائحة. وأتعلق رفيقا رفيقاً بأوراق الورد والزهر حتى لا تنوء أغصانها بجولاتي!.
وإذا رأيت شاعرا هاجه غم العشق خلطت بنغماته نفساً بعد نفس.
الصقر والسمكة:
قالت سمكة صغيرة لفرخ الصقر:
ان كل ما ترى من سلاسل الأمواج هو البحر. فيه وحوش أشد زمجرة من الرعد القاصف. وفيه صنوف الأهوال ظاهرة وخفية. وفيه السيول جائشة تقلع الصخور، وتغشى كل شيء. وفيه جواهر متلألئة ولآلىء نيرة. وليس الى الخروج منه سبيل! هو فوقنا وتحتنا وفي كل مكان. هو أبد الدهر فتى مائج متلاطم. لا يناله من دوران الأيام زيادة ولا نقص.
اتقد وجه السمكة بحرقة الحماسة، فضحك فرخ الصقر، وارتفع من الساحل الى الدوح وصاح: أنا الصقر فمالي وللأرض؟ أن الصحارى، وهي بحار، تحت أجنحتنا. دع الماء وتعوّد سعة الهواء. حكمة لا تدركها الا العين البصيرة.
العشق:
هذه الكلمة الآخذة بالقلوب، والتي هي سر وليست بسر. أنا أخبرك من سمعها وأين سمعها؟
أسترقها الندى من السماء فأوحاها الى الورد، وسمعها عن الورد البلبل، ونثَّتها عن البلبل ريح الصبا.
حداء
(نغمة حادي الحجاز)
يا ناقتي الخطارة ... وظبيتي المعطارة
وعدَّني والشارة(1/40)
والمال والتجارة ... ودولتي السيارَة
حُثي الخُطى قليلاً ... منزلنا قريب!
جميلة الرواء ... مطربةُ الرغاء
محسودةُ الحوراء ... وغيرةُ الحسناء
بُنيَّةَ الصحراء!
حُثي الخُطى قليلاً ... منزلنا قريب!
كم غصتِ في السراب ... في وقدة اليباب
وسرتِ لم تهابي ... في الليل كالشهاب
والنوم عنك نابي
حُثي الخُطى قليلاً ... منزلنا قريب!
قطعة غيم غادي ... سفينة الروَّاد
كالِخضر في البوادي ... تمضين في سداد
فلذة قلب الحادي!
حُثي الخُطى قليلاً ... منزلنا قريب!
حرقتك الزمام ... وسيرك الأنغام
يتعبك المقام ... لا الجوع والأوام
والسفر المدُام
حُثي الخُطى قليلاً ... منزلنا قريب!
ممسيةٌ في اليمن ... مصبحة في قَرن
ترين حزَنْ الوطن ... كالخز تحت الثفن
إيه غزال الختن!
حُثي الخُطى قليلاً ... منزلنا قريب!
بدر السماء نعسا ... خلف التلال خنسا
والصبح قد تنفسا ... مزَّق هذا الغلسا
والريح تزجي نفسا(1/41)
حُثي الخُطى قليلاً ... منزلنا قريب!
لحني دواء السقم ... والروح ملء نغمي
يحدو الركاب كلمى ... من جارح وبلسم
هلم بنتَ الحرم!
حُثي الخُطى قليلاً ... منزلنا قريب!(1/42)
في الأدب الغربّي
الشاعر المحتضر
قصيدة من عبقريات لامرتين
ترجمها وأهداها إلى روح شوقي
أحمد حسن الزيات
تحطمت كأس عمري وهي مُترعة، وتصرمت حياتي زفرات في كل نَفَس، وَعيّ َبإمساكها ما أرسلت من عبرات وحسرات، وقرع الموت بجناحه الناقوس الباكي عليَّ مؤذناً بساعتي الأخيرة، فليت شعري أنوح أم أغني؟؟!.
لأغَنِّ ما دامت أناملي لا تزال على القيثار، لأغن ما دامت المنون تلهمني، وأنا على باب الآخرة ما تلهم البجعة من صرخة موزونة وأنة ملحونة، وإذا لم تكن النفس شيئا غير الحب والألم فلم لا يكون وداعها لحناً قدسياً؟؟!
إن القيثار يبعث أجملألحانه حين ينكسر، والمصباح يرسل أبهى أضوائه حين يخمد، والبجعة ترفع طرفها الى السماء حين تسلم الروح، والإنسان وحده يرجع البصر إلى الوراء ليعد أيامه ويبكيها!!
وما هذه الأيام التي تستدر حوالب عينيه؟ شمس تشرق متقطعة، وساعات تمر متشابهة، وخير تمنحه ساعة فتسلبه أخرى، ثم عمل يتلوه راحة، وألم يتبعه أحيانا حلم!
ذلك هو اليوم، ثم يمحو آيته الليل!
لِيبْك ذلك الذي أشتد على حطام الدنيا حرصه، وتعلق بأمانيها سببه، ثم يرى حبل مستقبله يَنْبَتّ، وظِل آماله يتقلص! أما أنا فأترك الدنيا في سهولة ويسر لأن جذوري منها كجذور النبتة الرخوة من الأرض، تهب عليها رياح المساء فتقلعها!
الشاعر أشبه شيء بالطيور الغوابر، لا تعشعش على الضفاف ولا تقع على غصَون الغاب وإنما تهدهد نفسها على متون الموج، ثم تمر مغردة على بعد من الشاطئ، فلا يعرف الناس من أمرها، غير ما يسمعون من صوتها!
أبداً لم تدرب يدي على الوتر الرنان يد مخلوق؛ لأن ما تلهمه روح الله لا تعُلِّمه يد إنسان(1/43)
فالجدول لا يتعلم كيف يجري في المنحدر، والنسر لا يتعلم كيف يشق بجناحيه الهواء، والنحلة لا تتعلم كيف تؤلف العسل!
الناقوس تقرعه القوارع في مكانه العالي ليوم بشرى أو يوم نعي، فينوح مرة ويشدو مرة، وأنا كنت بهذا الناقوس أشبه! طهرني الألم كما طهره اللهب , وحركت الأوتار المختلفة أوتار قلبي فأخرجت لكل عاطفة نغمة!
أنا كالقيثارة (الأيولية) تعزف طول الليل من تلقاء نفسها على خطرات النسيم، وتمزج خرير المياه بأنينها الرخيم، فيقف السائر حيران دهشاً مما يسمع! يطرب ويعجب ولا يدري مصدر هذه الزفرات المقدسة!
قيثارتي تخضل غالباً بالدموع! وما الدموع للمرء إلا كندى السماء للأرض! وهيهات أن ينضج القلب تحت السماء الصافية! فالكأس المصدوعة يسيل عنها عصير الكروم، والريحان الذابل إذا وطئته قدماك، تَضوَّع شذاه بين خطاك!
خلق الله نفسي من نغمة محرقة، فمن يتصل بها يحترق بلهبها! فيا عجبا لمنحة القدر!! أنا أسرفت في الحب ومن ذلك الإسراف أموت! ما لمست شيئاً قط إلا حال إلى رماد! كذلك رجوم السماء الساقطة على أشجار الخَلنَج، تنطفيء بعد أن تدمر كل شيء!
ولكن العمر! لقد استوفى اجله. . والمجد! آه! وما يعنيني من صدى نغمة باطلة تنتقل من عصر الى عصر، وسمعة كاللعبة البراقة تنحدر من جيل الى جيل؟ أيها الذين وعدهم المجد سلطان الغد! استمعوا الى هذا اللحن الذي يخرج من قيثارتي! هل تجدون لرنينه أثراً في الأذان، بعد ما حمله الهواء الى غير هذا المكان؟!
شهد الله أني منذ حييت لم أذكر هذا الاسم العظيم إلا بإزراء، ولطالما عصرت هذه الكلمة التي أخترعها هذيان الإنسان فلم أجد غير هواء، هنالك لفظتها كما تلفظ الشفتان قشرة يابسة.
في سبيل هذا الأمل الخالب، في هذا المجد الكاذب يرمي الإنسان في مجرى الزمن اسمه وهو عابر، فيلَقفه التيار، وتضعفه الأيام كلما سار، حتى يصير حطاماً تعبث به أمواج الدهر، ثم تحمله على غواربها من عصرٍ الى عصر، حتى تلقي به في لجج النسيان!
أنا كذلك القي اسمي بين تلك الأسماء العائمة، على هذه الأمواج المتلاطمة، ثم اتركه على(1/44)
هوى الرياح والأمطار يطفو ويرسب! فهل يكون بذلك شأني أعظم ومقامي أرفع؟ ولماذا وكل ما هنالك أسم؟! وهل تسأل البجعة الطائرة في جو السماء إذا كان ظلها لا يزال طافيا على أديم هذه الغبراء؟!
تسألني لماذا كنت أغني؟ سل البلبل لماذا تتجاوب أغاريده وأناشيد الجدول طوال الليل؟! أنا أنشد يا صحابي كما يتنفس الإنسان، ويشدو العصفور، ويعزف الهواء، ويخر الماء!
الحب والدعاء والغناء ثلاث تقسَّمن كل حياتي!. . ولم آسُ ساعة الموت على فائت مما يتشوف إليه الناس في دنياهم إلا على زفرة حارة تتصَّعد الى الله، وسكرة طروبة تهبط من القيثار، وصمتة عاشقة تعمق حين يتعانق قلب وقلب!
إن مثولك خاشعاً أمام الجمال تسمع رجفان أوتار المزِْهر، وترى حديث الهوى يمتزج مع أنغامه ويسري في حشاك، وتستقر الدموع من العين المعبودة كما يستقر النسيمأنداء الفجر من الزهرة المطلولة. . .
وترى طافها الشاكي يصَعَّد حزيناً في السماء كأنما يطير مع النغم، ثم يرتد واقعاً عليك وهو بالحرارة العفيفة يجيش، وتبصر من خلال أهدابها المسبلة شعاع نفسها كالنار المضطربة في حالك الليل البهيم. . .
وترى ظلال أفكارها على جبينها الزاهر ترف، والكلام على شفتيها المثقلتين يموت، ثم تسمع بعد هذا الصمت الطويل هذه الكلمة ترن حتى تبلغ أذن الجوزاء! هذه الكلمة، كلمة الآلهة والناس هي: (إني احبك!)
ذلك هو الذي يساوي في الحياة زفرة!!
زفرة!! حسرة!! كلام لا معنى له!
على جناح الموت، روحي تطير إلى السماء! تطير حيث ترى العين شعاع الأمل يضيء! تطير إلى حيث طارت النغمة التي خرجت من مزهري! تطير إلى حيث صعدت جميع زفراتي!.
الإيمان (وهو عين الروح) قد اخترق ظلماتي كما تخترق عين العصفور ما وراء الظلال الحزينة. ثم باحت لي غريزته النبوية بما إستسر من حظي! وكم مرة اقتحمت نفسي آفاق المستقبل حتى بلغت السماء محمولة على أجنحة اللهيب، فتقدمت بذلك الموت!(1/45)
لا تنقشوا اسمي على قبري الكئيب العابس، ولا تثقلوا بالبناء ظلي الخفيف، أن قليلا من الرمل يكفيني! لست وا أسفاه حريصاً ولا غيوراً!. ثم لا تتركوا من الفراغ أمام القبر الا مقدار ما يضع الزائر العابر ركبتيه!
حطموا هذا المزهر وذرُّوا حطامه في الهواء والماء واللهب فانه لم يجاوب أهازيج النفس إلا بنغمة واحدة! أن مزهر الساروفين يرتجف تحت أناملي! وعما قليل أعيش معهم في عالم النغمات، وأقود بقيثارتي ألحان السموات!
وعما قليل!! أن يد الموت الثقيلة قد قطعت الوتر!
انقطع بعد أن أرسل في أمواج الهواء، نغمة شاكية صماء، صمت مزهري البارد يا رفاقي! فخذوا مزاهركم، وأدخلوا نفسي عالم البقاء، بين خفق الأوتار وترجيع الغناء!. .(1/46)
بيت الراعي
للشاعر الفرنسي الفريد دى فني
مهداة من المترجم إلى الأستاذ الجليل احمد لطفي السيد بك
الى إيفا
- 1 -
إذا كان قلبك وهو يتخبط عانيا كالنسر الجريح، لفرط ما أبهظته الحياة، قد قضى عليه أن يحمل كقلبي فوق جناحه المهيض عالماً بارداً مضنياً!
إذا كان لا يخفق بغير نزيف جرحه الأبدي، وقد أصبح لا يرى الحب؛ نجمة الصادق ينير له الأفق المتلاشي!
- 2 -
إذا كانت نفسك المكبلة كنفسي، قد أضنتها الأغلال ومر الطعام، فتركت المجداف فوق زورقها المنحوس، وأطلت برأسها الممتقع باكية على صفحة الماء باحثة وسط الأمواج عن طريق مجهول، فرأت - وهي ترتعد - كلمة الجماعة مرقومة فوق كتفها بالحديد.
- 3 -
إذا كان جسمك الحيّ الرعديد تخجله النظرات، وهو يضطرب بالأهواء الدفينة!
إذا كان يبحث لجماله عن حرم مصون، يحكم إخفاءه، عن المستهتر الجارح!
إذا كانت شفتك تجففها سموم الكذب وجبهتك الجميلة تحمر خجلا إذا مرت بأحلام مجهول غير عفيف، يراك أو يسمعك!.
- 4 -
إذا فارحلي بشجاعة اهجري المدن، لا تدنسي بعد اليوم قدميك بغبار الطريق، أشرفي من سماء أفكارنا على المدن الذليلة كأنها صخور القدر لاستعباد البشر! الغابات المترامية والحقول، المنبسطة ملاجئ فسيحة، طليقة، كأنها البحر يحيط بجزر معتمة. سِيري بين الحقولْ وبيمينك زهرة!
- 5 -(1/47)
الطبيعة تنتظرك في صمت رهيب، العشب يرسل فوق قدميك سحابة الماء، وزفرة الوداع التي ترسلها الشمس فوق الأرض تحرك زهر الزنبق، فكأنه المباخر. الغابة قد نقبت صفوف أشجارها المترامية، وها هو الجبل يختفي والسيسبان ينشر مقاعده العفيفة فوق الأمواج الناصلة.
- 6 -
ها هو ذا الشفق المحب يتوسد الكرى وسط الوادي، فوق زمرد العشب، وذهب الحشائش. تحت القصب الحيية، في المجرى المنعزل، وتحت غابة الأحلام التي ترتعد في الأفق. ها هو يتمايل متسللا وسط عناقيد الزهور البرية، يلقى معطفه الرمادي فوق شواطئ المياه، ويشق عند ظهور الليل باب سجنها!.
- 7 -
فوق جبلي قصب كثيف لا تستطيع أقدام الصائد أن تتخلله. يرفع رأسه الجامح الى ما فوق جباهنا، ويؤوي في الليل الراعي والغريب. تعالى أخف فيه حبك وخطيئتك المقدسة. فإذا اضطرب أو لم يكن علوه كافياً شيدتُ لك بيت الراعي!
- 8 -
يسير الهوينا على عجلاته الأربع. سقفه لا يعلو فوق جبهتك وعينيك سيسبغ الياقوت وخدّاك على عربة الليل لونهما! المدخل عاطر والمخدع واسع معتم. هنالك بين الأزهار سنتخذ وسط الظلال فراشا صامتا لشعرنا المجتمع!
- 9 -
سأزور إن أردت بلاد الجليد. هنالك حيث يشع نجم الحب ويلتهب!. هنالك حيث تصطدم الرياح ويحاصرها الجليد!. هنالك حيث يختفي القطب تحت الثلوج. سنسير كما تشاء المصادفات الى غير سبيل مقرر. وفيم اهتمامي بالزمان؟ وفيم اهتمامي بالمكان؟ سأقول جميلاً ما تراه عيناك جميلا!.
- 10 -
ليهدي الله ذلك البخار الصاعق الى غايته فوق تلك القضب الحديدية، التي تخترق الجبال ليقم ملك كريم على ذلك الموقد الصاخب عندما يدب تحت الأرض أو يهز بجبروته(1/48)
القناطر. عندما يخترق المدن بأسنان نيرانه التي تلتهم المراجل أو عندما يقفز الأنهار بوثبات أسرع من وثبات الوعل، وقد حما قفزه.
- 11 -
ما لم يسهر الملك ذو العينين الزرقاوين على طريق البخار. ما لم يحلق فوقه ويحميه وسيفه بيده؛ ما لم يعد كل دفعة من دفعات الرافعة. ما لم يستمع الى كل دورة من دورات العجلة في رحلتها الجبارة. ما لم يلق ببصره على الماء وبيده على النار كي يتهلل الموقد السحري بالنصر. كفانا حجر صغير يلقيه طفل!
- 12 -
لقد عجل الإنسان بركوب ذلك الثور الحديدي الذي يدخن ويصفر ويخور، وما يعلم أحد ماذا يحمل هذا الأعمى الخشن في جوفه من زوابع عاصفة! ها هو المسافر يسلمه راضياً كنوزه! ويلقي إليه بوالده العجوز وأبنائه رهائن كما كان يفعل الفينيقيون بما يقذفونه في جوف ثورهم المشتعل ناراً ليرده ترابا يلقيه تحت أقدام اله الذهب.
- 13 -
على أنه يجب أن نقهر الزمان والمكان، فأما نصر وأما موت. التجار يتنافسون، والذهب يتساقط كالمطر من دخان البخار الذاهب! الزمان والغاية هما العالم في نظرنا! كل يقول لنفسه هيا، ولكن لا سلطان لأحد على ذلك التنين الذي اخترعه أحد العلماء. أننا نلعب بما هو أقوى منا جميعا!
- 14 -
وعلى كل ليختط كل شيء سبيله، وليخدم النظر العمل فيحمله على أجنحة النار ما أتسع رحاب قاطرات البائع لكل نبيل، وما خدمت شريف العواطف. لتحل البركة على التجارة ذات الرمز الموفق ما دام الحب الذي يعبث بالمعقول قد أصبح في مكنته أن يخترق في يوم دولتين كبيرتين!. 0
- 15 -
ومع هذا فما لم نكن إزاء صديق يرسل صيحات اليأس، وحياته مهددة بالخطر. أو إزاء فرنسا التي تدق البوق لتدعونا الى ساحات الوغى أو اتصال العلم أو إزاء أمٍّ تحتضر في(1/49)
سرير موتها، وتود جاهدة أن تلقي ببصرها الرقيق الحزين على ذويها قبل أن تغمض عيناها إلى الأبد.
- 16 -
لنتجنب السكك الحديدية ما دامت الرحلة بها مجردة عن كل لذة، حيث تجري على تلك الخطوط وكأنما هي سهم انطلق في الفضاء من قوسه الى غرضه، وسط أزيز الهواء، وهكذا ترى الإنسان وقد قذف به الى بُعد لا يستنشق، ولا يرى من الطبيعة الا ضباباً خانقاً يخترقه برق خاطف!
- 17 -
لن نسمع بعد اليوم وقع سنابك الخيل على الطرق الملتهبة. وداعا أيتها الرحلات البطيئة! تلك الأصوات التي نسمعها عن بعد! ضحكات المارة توقف العجلات عن السير. ثم تلك المنعطفات غير المتوقعة في مختلف المنحدرات، صديق نلقاه فننسى معه الزمان. الأمل في الوصول إلى مكان مهجور في وقت متأخر!
- 18 -
لقد تغلبنا على الزمان والمكان! لقد مدّ العلم حول كرة الأرض خطاً مستقيماً نحساً. لقد ضيقت معارفنا من فضاء الأرض وأصبح خط الإستواء عبارة عن حلقة صغيرة ضيقة. لا صدفة بعد اليوم. سيتخذ كل وجهته لا يعدو المكان الذي يحتل من بدء الرحلة غارقا في تقديرات صامتة باردة!
- 19 -
محال على الأحلام الوادعة الملتهبة بالعاطفة أن ترى قدمها الأبيض معلقا بها من غير أن ترتجف مشمئزة لأنه لا بد لها من أن تلقي على كل مرئي نظرة طويلة كالنهر المتدفق وأن تستجوب في لهفة كل شيء وأن تدرس في عناية كل سر الهي، وأن تسير وتقف، وتسير ورأسها منحن.(1/50)
العلوم
النوم واليقظة
بقلم الدكتور احمد زكي
الأستاذ بكلية العلوم
النوم، ما أحلاه! أو هكذا يقول المجهود اللاغب قد استنفد النهار طوقه واستفرغ قواه.
النوم ما أعزه وأغلاه! أو هكذا يقول المريض تعذّر عليه القيام وسرى السقام في عظامه بصنوف الآلام. فلا هو بالصحيح الصاحي فتحمله كالناس رجلان، ولا بالغافل العافي فتغمض له عينان!. أمساؤه كأصباحه ونجوم ليله كشمس نهاره!.
النوم، ما أروحه! أو هكذا يقول المكروب أفعم الهّم صدره حتى كاد يصدّعه، وثار الفكر الملحّ برأسه حتى كاد يطير به، يطلب النوم فيتأبى عليه، والنوم كالسائمة الهائمة تشرد عن طالبها، فيحتال عليه بالفكر اقتناصاً، فيفكر ثم يفكر، ولكن في دائرة لا مبدأ لها ولا منتهى!.
النوم كالهواء والماء غلا حتى عز أن يكون له ثمن، منحة الله العظمى، وعطيته الكبرى، لا يستأثر بها غني ولا توصد الخزائن دونها عن فقير. وعَّمت فلم يختص بها الإنسان، فكان للخلائق أجمعين أنصبة منها، حتى النبات له من ذلك نصيب!.
نعم حتى النبات فهو في النهار يعمل كالإنسان سعياً وراء القوت، فيأخذ من الهواء أكسيد الفحم فيهضمه فأما الفحم فيستبقيه غذاء صالحا يزداد به في الجسم بسطة وفي الأفرع إنبساقاً، وأما الأوكسجين فيطلقه في الجو فضلة لا حاجة به إليها حتى إذا جاء الليل كف عن العمل وهجع إلى الصباح ليعود إلى ما كان عليه في أمسه!.
غريب فعل هذه الشمس في الخلائق. تغيب فتنام الأرض ومن عليها، وتطلع فتنشر أشعتها اليقظة والحياة، أو الأصح أن نقول أن نصف الأرض ينام حيث الشمس غائبة بينما نصفها الآخر صاح حيث الشمس طالعة، فالنوم واليقظة دوّاران كالشمس يدوران على الناس من المشرق الى المغرب. وعلاقة الشمس بالنوم ليست مصادفة وليست عادة ابتدعها الإنسان ثم ألفها، ولكنها علاقة اقتضتها طبيعة الحياة وطبيعة الأجسام الحية وطبيعة النوم كذلك. ومن اجل هذا عمت حتى شملت كل ذي حياة. حتى السمك يقل حسه في الليل ويهدأ حيث هو(1/51)
من الماء. . ومن أطرف ما رأيت انهم أعلنوا في لندن منذ أعوام خلت أن الشمس ستكسف بعد طلوع الشمس بقليل. وكنا نسكن بظاهر المدينة فقمنا مبكرين نشهد هذا المشهد الجليل. فذَّر قرن الشمس وخرجت الطيور على العادة من أوكارها تسعى الى الرزق. ولكن ما هي الا أن احتجبت الشمس وجلل الأرض ما يشبه الغسق حتى وجدنا هذه الطيور تعود الى أوكارها زرافات ووحدانا مخدوعة عن صباحها، ولم يكن بعد قد جف نداه.
وهذا نظام كما ذكرنا عام اقتضته ضرورة الحياة، وله شواذ الا أنها لا تكون الا لضرورة من ضرورات الحياة كذلك. فكما نرى بين الناس من يضطره العيش إلى القيام والناس تجوع، والى الهجوع والناس قيام نرى من الحيوانات كالمفترسة ما يلبس رداء الظلام يتحسس فريسة نائمة، ومنها الضعيف الهياب كالحشرات والجرذان يتخذ من الليل نهارا يطلب القوت تحت ستاره في أمان واطمئنان. ومن النباتات أجناس رخصت لها الطبيعة بمثل هذا الشذوذ. فبينما نرى الكثير من الشجر تتهدل أغصانه بعض الشيء وتغمض أزهاره وتنحبس عطورها بمغيب الشمس، نرى القليل كنبات التبغ يسير على النقيض فتتفتح أزهاره في الليل ويفوح طيبه وما كان للطبيعة أن تأذن لهذا النبات في رخصة كهذه لولا أن فيها حياته وبها ضمان إنساله، فأن فَراش الليل ينجذب إلى الزهرة الذكر بشذاها، فيحط عليها طلباً لجناها، ثم يشيل عنها متحملا بلقاحها، فيحط به على زهرة أنثى فيتم إثمارها.
أما جوهر النوم وكنهه فقد حار فيهما العلماء كما حاروا في كل شيء يتصل بالمخ وتوابعه من حيث الصحة والمرض ومن حيث الإدراك والتفكير. ولا غرابة في ذلك، فالإنسان أمتاز من الكائنات بخلقه، والمخ أعقد ما في هذا الخلق، وبه ساد الخلائق، وبه تحكم فيها وورث الأرض، وبه سيرث أجرام السماوات. غير انه مما لا شك فيه أن النوم يعطل في الإنسان التعقل والتفكير، وكذلك الإحساس، وتلك جميعها من مظاهر اليقظة. ولا تدوم فترة ما بين اليقظة والنوم أكثر من دقيقة أو دقيقتين، وعندئذ يدخل الرجل الصحيح المعافى في النوم كما يجب أن يكون، وتنقطع الصلة بينه وبين هذا العالم ساعة أو ساعتين، تكون فيها صحيفة ذهنه بيضاء من كل شر أو خير، فهو كالميت وليس ميتا، ثم تقرب الصلة بعد ذلك بينه وبين العالم الحي، وهنا تتدخل الأحلام. وليس النوم ذو الأحلام بالنوم العميق، ولا أدل(1/52)
على ذلك من أن أحلام النائم تتأثر بما يحدث حوله، فقد يقع كتاب في الغرفة فيتمثل للحالمكأن بيتاً ينهد، أو جبلاً ينقض. كذلك تتشكل أحلام النائم وفقاً لما يحدث في جسمه، كأن تتوعك أمعاؤه أو تتخم معدته فتضيق أنفاسه فيرى أن لصاً مجرماً أخذ بتلابيبه وضيق عليه الخناق، أو أنه أُلقي به في اليم فسد عليه الماء منافس الهواء. فالرؤى على هذا نوع من الكرى بين الوسن الخالص واليقظة الخالصة، ولا تكون راحة الجسم فيها تامة، ولو جمعته بالحور الحسان على أرائك من خز وجمان. وكما كان الدخول في النوم تدرجا كان الخروج منه تدرجا ولا يستغرق هذا التحول أكثر من دقيقتين.
ومع أن الإنسان يتعطل تعقله وحركته إذا هو نام الا أن أعمال جسمه الأخرى التي لا تتصل بمراكز المخ الرئيسية لا تتعطل ولا تكاد تتأثر الا قليلا، فالقلب يدق ولا تقل دقاته الا يسيراً، والمعدة تفرز العصارات الهضمية، والأمعاء تتحرك حركاتها الدودية، ويجري امتصاص الطعام فيها بمقدار ما يجري في الصحو. والدورة الدموية تجري كعادتها، إلا أن مخ النائم يقل دمه، بينما يكثر الدم مقابل ذلك في الأعضاء والأطراف لاتساع أوعيتها. ففقر الدم في المخ نتيجة من نتائج النوم، وكثيرا ما يكون سببا من مسبباته. ألا ترى أنك إذا أكلت فأثقلت جاءك النعاس فلم تستطع لسلطانه دفعاً؟ وسبب هذا أن المعدة تجذب الى نفسها أكثر الدم ليعينها على الهضم فيقل نصيب المخ منه. كذلك تقل حرارة الجسم في النوم تبعاً لنقص نشاطه، فأن كل عمل من أعماله نتيجة تفاعل كيميائي يصحبه احتراق بعض مادته. فإذا قل نشاط الجسم قل احتراقه فقلت حرارته. وإذا نحن قدّرنا نتاج احتراق الجسم في الأربع والعشرين ساعة بنحو 3000 سعر حراري وجدنا انه ينتج من ذلك القدر 600 من الأسعار في ثماني الساعات التي ينامها، وينتج 750 منها في ثماني الساعات التي يستريح فيه غير نائم، والباقي وقدره 1650 ينتجه في ثماني الساعات التي يكد فيها ويعمل. ولقلة دخل الجسم من الحرارة أثناء النوم يتغطى المرء حين ينام بكل موصل رديء للحرارة كالألحفة ونحوها ليقلل خروج الحرارة منه فيتم بذلك توازنه الاقتصادي. ومن أجل ذلك أيضاً يختل هذا التوازن على الأغلب والناس نيام، فيصابون بأزمة داخلية يعبرون عنها بالبرد.
وقد وضع العلماء نظريات عديدة في أسباب النوم لا داعي للإلمام بها لأنهم لم يجمعوا على(1/53)
إحداها. وقد حاول قوم في عصر المحاولات الغربية (الذي نحن فيه) أن يستغنوا عن النوم بالمران، فكانوا كمن يحاول أن يستغني عن الشراب والطعام. ويختلف القدر اللازم منه للإنسان بإختلاف عمله وحركته وخموده، كذلك يختلف على ما هو معروف بأختلاف الأعمار، فالطفل الرضيع ينام أغلب يومه، ثم تقل حاجته منه حتى تبلغ في الشباب ثماني ساعات، ثم تزيد في القلة. فقد تنزل في الشيخوخة إلى ثلاث ثم تنعدم بالطبع عند نفاد الزيت واحتراق الفتيل.(1/54)
العالم النسائي
تباشير الانقلاب
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
تحيي الرسالة صديقها الزهاوي بقصره الجديد من ضاحية بغداد تحية طيبة، وتعده بأن تعنى بدرس آثاره وتحليل أشعاره عناية ظاهرة، ثم تعاتبه في رقة ولطف على أن يختار لعددها الأول هذه القصيدة.
من بعد ما انتظرت حقابا ... ثارت فمزقت الحجابا
عربية عرفت أخيراً ... كيف تنبذ ما أرابا
كان الحجاب يسومها ... خسفاً ويرهقها عذابا
إن الألى قد أذنبوا ... هم صيّروه لها عقابا
وسيطلب التاريخ من ... ناس لها ظلموا حسابا
سألت لها حرية ... تغنى فما لقيت جواب
حتى إذا ما استيأست ... خرقت بأيديها النقابا
فرأت أمام سفورها ... للمجد أفنية رحابا
ذهبت كزوبعة لها ... صخب فأحمدت الذهابا
أحسنت يا ابنة يعرب ... صنعاً وأتبعت الصوابا
فلقد كفاك غضاضة ... ذاك الشقاء بما أصابا
ليس الجمود سوى خنو ... ع قد يجر لك التبابا
ان الحياة لتبتغي ... في عصرنا هذا انقلابا
ظهرت تباشير له ... تبني المنى منها قبابا
خوضي الى المجد الأثي ... ل - إذا أرديته - الصعابا
وتنكبي الوهد الذي ... يخفيك واطلبي الهضابا
أما العباب فانه ... ان حال فاقتحمي العبابا
الحق حقك فانشدي ... هـ في محاولة طلابا
وإذا أبوا فخذيه منه ... م في محاججة غلابا(1/55)
لا تعبئي أبداً بغر ... بان يواصلن النعابا
وذري من الدين القشو ... ر جميعها وخذي اللبابا
لا خير في ناس إذا ... أفحمتهم ولوا غضابا
عزووا الحجاب الى الكتا ... ب فليتهم قرأوا الكتابا!
ان التعصب مانع ... أن تبصر العين صوابا
ما عاش شعب نصفه ... قد شل من داء أصابا
الحق يزهق باطلا ... قد زين، والصدق الكذابا
ما كان خدرك غير سجن ... مظلم يولى اكتئابا
قولي إذا أخطأت ... أخطأ، أو أصبت لقد أصابا
أني لأرجو أن أرى ... التوقير في الفتيان دابا
وألوم من مردوا فلم ... يبغوا عن السفه اجتنابا
كم من خراف حين أد ... جي ليلها انقلبت ذئابا
لما رأت لحماً طري ... اً أبرزت ظفراً ونابا
ولرب فاتنة العيو ... ن لحاظها تحكي الحرابا
وترى خصائل شعرها ... فتخالها تبراً مذابا
زفت الى وحش فس ... لت في حيازته اكتئابا
وأجاعها شحاً ولم ... يحسب لجوعتها حسابا
هل ظن أن المرهق ... الغرثان يلتهم الترابا
ولقد غلى منها الأسى ... فتفجرت تبكي المصابا
ان الأسى أما غلى ... ليفجر الصم الصلابا
ونعاتب الأقدار لو ... يسمعن من أحد عتابا!
ولقد يخر الدمع ... محمراً فتحسبه شهابا
ذم الجهالة أنها ... ما أورثت الا خرابا
قالت ألا بعداً لمن ... سمع الدعاء وما أجابا
يا ماء أهلي أين أن ... ت فأنني أشكو اللهابا(1/56)
يا قبر (ليلى) أنت تحو ... ي فيك زنبقة كعابا
حيتك واكفة الحيا ... تهمي فتسكب انسكابا
كم مثلها من نسوة ... يرجين في الصبر الثوابا
يلوين من جور الرجا ... ل - وقد تبر من - الرقابا
أولست في وأد البنا ... ت من الرجال ترى العجابا
مالي رجاء في الشيو ... خ وإنما أرجو الشبابا
من كل وثاب إذا ... أغريته اقتحم الصعابا
الناس في الآراء يخ_تلفون بعداً واقترابا
بسم المنى لأقلهم ... خطأ وأكثرهم صوابا
أني أرحب بالألى ... بلد الرشيد بهن طابا
من سيدات للعرو ... بة جئن يرفعن القبابا
أوليننا النعم الرغا ... ب وما توخين الثوابا
بل خدمة الوطن العزيز ... بهن عن بعد أهابا
نعم سأشكرها ومن ... لا يشكر النعم الرغابا؟!
وكذلك تشكر كل أر ... ض - عضها الجدب - السحابا
يا (نور) هذا الحفل قد ... جازت بطولتك النصابا
لا تحسبي للمرجفين ... (ومن روى عنهم) حسابا!(1/57)
الجمال والحب
هل يشترط الجمال في المرأة لإثارة الحب؟
آراء طائفة من أعلام النساء والرجال
هل يجب أن تكون المرأة حسناء لكي تحب؟ هذا سؤال طرحته صحيفة نسوية فرنسية ظهرت حديثا هي (جريدة المرأة) وتقدمت بسؤالها الى جماعة من الأكابر ذوي الرأي والمكانة الاجتماعية، رجالا ونساء، وقد رأينا لطرافة هذا الاستفتاء، أن ننقل خلاصة ما أدلى به أولئك الكبراء في هذه المسألة النفسية الخطيرة.
الرأي النسوي
ونبدأ بما يراه الرأي النسوي في ذلك ممثلا في أقوال طائفة من شهيرات النساء.
قالت مدام دوسان الفنانة الباريزية الكبيرة التي تعد نموذجا من أبدع النماذج لجمال الفرنسية وسحرها، والتي تحمل أرفع أوسمة (الشرف) وتشغل في المجتمع الباريزي أرفع مقام:
(ماذا يعني أولا أن تكون امرأة حسناء؟ يوجد ألف شكل لتكون المرأة حسناء، وألف آخر لتكون جذابة، ومائة ألف أخرى لكي لا تكون قبيحة! والحسن ليس شرطاً فقط لكي تحب المرأة، ولكن يجب أن تكون المرأة حسناء لأسباب كثيرة أخرى، يجب أن تكون حسناء بالصدفة. ففي مدننا المروعة حيث تأبى الأشجار ذاتها الحياة، يغدو القوام النسوي الساحر آخر بهجة تقدمها الطبيعة للأعين. ويجب أن تحاول المرأة أن تكون حسناء، فتلك مدرسة بديعة للإرادة. صحيح أن المرأة الحسناء تكون أحيانا فوزاً مدهشاً للطبيعة، ولكنها أكثر ما تكون امرأة استطاعت أن تصلح زينتها وأن تصقل رواءها، أو بعبارة أخرى امرأة استطاعت أن تكون قاسية على نفسها. وقد نعتقد متى فاجأنا إحدى أولئك النسوة تنظر الى المرآة خلسة أنها تعجب بنفسها. وهذا خطأ كبير. فهي في الحقيقة تدرس نفسها، وتضبط نفسها بصرامة حفية، وتتقدم في تفهم وسائل الحسن. ولكنها لن تعترف بذلك مطلقا، ولها في ذلك كل الحق.
ولا يوجد حسنان متماثلين. فقد يكون الجمال هو وسامة الخلقة، ولكنه قد يكون أيضا بشرة وردية وشعراً أشقر، أو يكون نبرة الصوت. أو طريقة الابتسام، ولو دققنا البحث فمن ذا(1/58)
الذي لا يتمتع بلمحة من الجمال؟
على أنه يجب البحث وراء الجمال لاعتبارات صحية؛ والصحة من أنفس موارد الجمال. وواجب ألا يغرينا منظر الجمال السقيم، فهو كالأثواب الغريبة، قلما يتاح له النجاح. ولكن اضطرام الحياة، والتفاؤل، والحماسة وسائل محققة للاحتفاظ بصباحة الطلعة، وثبات القامة، ولمعان العين.
ولكن ماذا يجب لكي تحب المرأة! هذا هو لب السؤال. حقاً أن الحسن لا يضر، ولكنه ليس بذي عصمة، والجمال مثل المال، لا يحقق السعادة حتما. هذه المرأة الفتية النحيلة، ذات الجمال الخطر، التي تسحرك على لوحة السينما حيث يقتتل اثنان من اجلها، قد أرادت في الأسبوع الماضي أن تنتحر بالسم لأن الرجل الذي تحبه هجرها من اجل فتاة صغيرة من الرعاع لا ميزة لها الا أنها تحسن الطهي. ولكن تأمل أيضا هذه المرأة التي تسير جامدة دون تأنق، فأن لها زوجا يعبدها منذ عشرين سنة لأنها في نظره تجمع بين كل المحاسن. أن المسألة كلها حظوظ فقط.
ومع ذلك فيجب أن نجتهد في استكمال روائنا، وفي الظهور بديعات مشرقات، إذ أن ما نثير من اهتمام أو حماسة يشرق بدوره من حولنا. فنحن نعجب بجمال الممثلات، ولكن روح أدوارهن هو الذي يذكي هذا الجمال ويطيل اجله.
هل يجب أن تكون المرأة حسناء لكي تحب؟ أود أن أجيب أنه يجب أن تحب المرأة لكي تكون حسناء.)
وقالت مدام لوسي ديلاري مردروس الكاتبة والمثالة الشهيرة: (لست أعتقد أن الجمال شرط لإثارة الحب. فالجمال مسألة مفاجأة وظهور على المسرح. ونحن نعتاد النظر إليه كما نعتاد القبح، وهذا هو الخطر. ونحن نعرف الكلمة السائرة: أنها حسناء حتى لا ينقصها شيء. ولكن من سوء الطالع الا ينقص المرأة شيء، إذ يجب أن يمكن المرء من العناية والاختراع لأجل إنسان ما. فهذا التعاون من جانب ذلك الذي نحب ضروري جداً. والرجل يذكر دائما أن حواء قد خلقت من أحد أضلاعه. وإذن ففي بعض الأحوال قد تفوق جاذبية القبح جاذبية الجمال؛ فان محيا قبيحاً يثير الجزع والألم، ويحاول المرء أن يصلحه بلا انقطاع. وليس معنى ذلك أن المرأة يجب أن تكون قبيحة لكي تحب. ولكني اعتقد أن الحب(1/59)
لا تذكيه خلقة الشخص، ولكن يذكيه إلهامه، وكذلك دلالة محياه، فإن دلالة ساحرة أفضل من خلقة وسيمة.
وقالت مدام ماريز باستيه الطيارة الشهيرة:
(لست أعتقد أن الرجل يبحث عن الجمال في المرأة اكثر مما نبحث عنه نحن النساء في الرجل. ومن سوء الحظ أن يعرف الرجل أنه جميل وهذا ينطبق أيضا على بعض النساء الحسان. وعلى أي حال فان الحسان يظفرن بكثير من النجاح. فهل يحبهن الرجال أكثر من غيرهن؟ ولكن الأخريات أين هن؟ يخيل إلي أنه لا توجد ثمة وجوه قبيحة).
وقالت مدام جني وهي أخصائية شهيرة في شئون الجمال والزينة (أن ما يدهشني دائما هو ما ألاحظه من ضآلة الدور الذي يؤديه الجمال في الحب. فالرجل تغريه أشياء غير الجمال. ولست أستطيع أن أجد لذلك أي تفسير، فهنالك نساء مبتذلات ونسوة من أحط الرعاع، يرتكب من أجلهن رجال ممتازون أشنع ضروب الطيش. وإذن فلنقل مثل ما قالت كارمن: أن الحب لا يعرف أي قانون).!
رأي الرجل
واليك رأي الرجل في تلك المعضلة الاجتماعية الدقيقة. ممثلا فيما أدلى به أكابر الرجال:
قال الأستاذ هنري روبير عضو الأكاديمية الفرنسية ونقيب المحامين السابق:
(لا بأس أن تكون المرأة جميلة ولكن ذلك ليس ضرورياً وأني لأفضل مائة مرة امرأة ذكية طيبة القلب وليست عاطلة من الوسامة على امرأة وافرة الحسن ليس لها قلب ولا ذكاء.
أن المواهب العقلية في المرأة لها قيمة كبيرة. وللذكاء النسوي دقائق ندهش لها بحق. والنساء اللواتي يخلبننا هن أولئك اللاتي يستطعن أن يقلن شيئا، فهنالك شيء لا يمكن وصفه، وهو أوقع جداً في إثارة الحب من الجمال: ذلك هو السحر. وهنالك من ضروب السحر نوع لا أستطيع مقاومته، ذلك هو سحر الصوت. وبعد فما قيمة المبادئ في هذا الموضوع؟ أن الإنسان حيوان العادة، فإذا ما اعتاد شيئا فانه لا يعنى بالتحليل).
وقال نيكولا سيجور الكاتب الأشهر:
(ان الجمال مقر ملوكي للحب، والخفاء هو الذي يجعله ينفتح ظافراً مختاراً. والمرأة الحسناء هي قدس طبيعي، بل هي التنزيل الوحيد على الأرض.(1/60)
وللجمال أهمية كبرى في إثارة الحب. وهو هبة أرفع من المواهب والعبقرية والفضيلة، إذ أن المرأة الحسناء يجتمع في شخصها كما يقول رينان، كل ما تستخلصه العبقرية بمشقة وفي لمحات ضئيلة.
ولهذا فان ظهور امرأة حسناء يضع الرجل أمام المعجزة وجها لوجه. ويثير في نفسه اضطرابات كتلك التي يعرضها هوميروس بأسلوبه الخالد حينما يصف اجتماع شيوخ طروادة على الأسوار وهم يلعنون المرأة الغريبة التي جاءت لتبث في مدينتهم بذور الخراب والموت. ولكن هيلانة ما كادت تظهر حتى نهض أولئك الذين يلعنونها مضطربين يقول بعضهم لبعض: أنه لحق أن نتحمل الضرر من أجل امرأة لها ذلك الحسن.
وفي باريس نعرف كما عرف اليونان الأقدمون، أن الجمال مقدس وانه لؤلؤة الخليقة، والصورة المادية الوحيدة لما نسميه المثل الأعلى.
على أن هنالك خواص عجيبة أخرى تحل محل الجمال، وتخلق الجمال لدى المرأة التي لم تحظ بقسامة الخلقة. ولا ريب أن السحر والظرف، والذكاء تجذب الرجل وتخضعه. وما تغنمه الحسناء توا بظهورها، تستطيع أن تغنمه أية امرأة أخرى بوسائل أخرى.
ويخيل إلى أن ما يأتي بعد الجمال، هو خصب الحياة، وانتعاش الملامح، وما يستشفه الرجل من الحساسية حلال المحيا. فهذه تؤثر فيه تأثيراً قوياً ناجعاً.)
وقال الدكتور شابا عضو المجمع العلمي ورئيس جمعية الفنانين:
(لا ريب أن الجمال يعاون كثيراً على إثارة مشاعر الحب. بيد أنه يوجد نساء غير حسان، ولكنهن اكثر جاذبية من الحسان. وللسحر خفاء لا يعلل، فان السحر الذي تبثه امرأة ما في نفس رجل ما. قد يقتصر أحيانا على هذا الرجل.
ولكل امرأة على الأقل لحظة من السحر. وهذه اللحظة قد تقرر مصير حياتها كله. ويحدث أحياناً أن نرى نساء هن نماذج الجمال باردات منكمشات، فإذا هن بقبس يسطع في العين، أو حركة في جانب الثغر، فيحدث ذلك تغييرا في المحيا. وهذه الحالة تقع كثيراً للفتيات المحدثات. وإذا من المهم أن نكتشف لديهن ما هو خاف عليهن وعلى ذويهن، وما قد يعود يوما عاملا في إثارة الحب الذي يثرنه).
قال الدوق ليفي ميربو المؤرخ الأشهر:(1/61)
(ليس الجمال شرطا لإثارة الحب. فإذا احب رجل امرأة وافرة الحسن، فهو غالباً آخر من يلاحظ جمالها، ولا ريب أنه يكون سعيداً بذلك، ولكن الجمال لم يكن أول ما أثار اضطرابه الأول. فالذي يثير ذلك هو الهام الحب، ذلك الإلهام الشهير الخالد. هو السحر الذي يتطور بتطور العصور. وليس وسامة الخلقة وانتظام التقاطيع. فان جوزفين بوهارنيه لم تكن وافرة الحسن، وكانت كليوباطرة (تلك المرأة الهائلة) اقل جمالا من أوكتافيوس).(1/62)
القصص
على هامش السيرة
حفر زمزم
للدكتور طه حسين
- 1 -
كان عبد المطلب سمح الطبع رضي النفس سخي اليد حلو العشرة عذب الحديث. وكان عبد المطلب أيضاً قوي الإيمان تملك قلبه وتسيطر على نفسه نزعة دينية حادة عنيفة، ولكنها غامضة، يحسها ويخضع لها، ولكنه لا يتبينها ولا يستطيع لها فهما ولا تفسيراً. أبوه من مكة حيث التجارة والثروة، وحيث المكر والدهاء، وحيث الوثنية السهلة التي لا تحرج فيها ولا مشقة. وأمه من يثرب حيث الزراعة والصناعة اليسيرة، وحيث اليهودية تجاور الوثنية فتضعفها وتنقص من ظلها وتكاد تمحوها، وحيث الأخلاق اللينة والشمائل الحلوة وحيث الظرف ونعومة الحياة.
ولد في يثرب ومات عنه أبوه فلم ينقله الى مكة فنشأ بين أخواله وتأثر بحياتهم وتخلق بأخلاقهم وسار سيرتهم حتى بلغ الشباب أو كاد، ثم أقبل عمه فأنتزعه من إقليمه السهل الهين الى إقليم أخر صعب عسير، تجدب فيه الأرض ولا تبتسم له السماء الا قليلا. يرحل أهله الى الآفاق. فهم يأخذون من الناس ويعطونهم ويبادلونهم الأخلاق والشمائل كما يبادلونهم المنافع وعروض التجارة، ولعل أخلاق يثرب وخصال مكة قد اختصمت في نفس هذا الغلام، ولعل اختصامها قد طال، ولعل اختصامها قد قصر. ولكنها على كل حال قد انتهت إلى شيء من الاعتدال آخر الأمر. فلم يكتمل الفتى شبابه حتى كان فتى من قريش، ولكنه يمتاز من بقية فتيان قريش. فيه ذكاؤهم وفطنتهم وفيه إباؤهم وعزتهم ولكن. فيه دعة لم تكن مألوفة عندهم، وفيه شدة في الدين قلما كانوا يرضونها أو يبسمون لها. على أن خصلة أخرى ميزته منهم أشد التمييز، فلم يكن يصدر في حياته، كما كانوا يصدرون عن الروية والتفكير وطول التدبر، وإنما كانت تدفعه الى العمل والاضطراب في الحياة قوة خفية يحسها ويأبى عليها ويغلو في الإباء، ولكنه يضطر الى أن يذعن لها ويصدع بأمرها،(1/63)
وكانت هذه القوة تصدر إليه أمرها في أشكال مختلفة، تدفعه الى العمل حينا، وكأنها إرادته الخاصة قد ملكت عليه حسه وشعوره؛ فهو لا يستطيع عنها انصرافاً ولا يملك لها خلافاً. وتتمثل له حيناً آخر شخصاً واضح المخايل بيّن الصورة، يلم به إذا إشتمله النوم فيأمره أن يأتي كذا وكذا من الأمر. وتنتهي إليه مرة ثالثة صوتاً رفيقاً ولكنه ملحّ يملأ أذنيه بقظان، ويملأ أذنيه نائما يحثه على أن يأتي كذا وكذا من الأمر، وكان في هذا الصوت غموض، وكان في هذا الصوت إبهام، وكان في هذا الصوت جلال مصدره هذا الغموض والإبهام، وكان الفتى ينكره ويرتاع له، وكان الصوت يغمره ويلح عليه. وكان الفتى يخاف هذا الصوت ويهواه، وكان الصوت يتجنب الفتى حتى يؤيسه من نفسه، يلم به فيكثر الإلمام. ولم يكن هذا الصوت يقع في أذن الفتى بألفاظ كالتي تقع في آذان الناس إنما كان يصطنع ألفاظاً خاصة غريبة الجرس غريبة المعنى.
كانت إليه رفادة الحاج وسقايته بعد عمه المطلب، فكان يطعم الناس إذا حجوا البيت ويسقيهم، يجمع لهم الماء في أحواض من الأدم، وكان يجد في جمع هذا الماء لسقاية الحجيج جهداّ وعسراّ، فبينما هو نائم ذات يوم أو ذات ليل، أتاه آت رأى شخصه ولم يتبين له إسماً ولا شكلاً وقال له في صوت رفيق غريب فيه أنس وفيه وحشة: احفر (طيبة) قال. وما طيبة؟ فأنصرف الشخص وأنقطع الصوت، وأفاق الفتى وفي نفسه ذعر وعجب وأمل. وحاول أن يعود الى النوم لعله يرى هذا الشخص، أو يسمع هذا الصوت أو يتبين هذا الحديث ولكن النوم كان قد خاصم عينيه وأنصرف عنه مع هذا الشخص الغريب، ففكر وأطال التفكير، وقدّر وأطال التقدير، وتقلب في مضجعه فاكثر التقلب، حتى ضاق بالنوم واليقظة وسئم مضجعه. فجلس يرقى ببصره الحائر الى السماء لعل شمس النهار أو نجوم الليل تفسر له هذه الرؤيا، ويخفض بصره الى الأرض لعله يجد في إطراقه تفسير هذه الرؤيا، ويمد بصره نحو الكعبة لعل صنما من هذه الأصنام المنصوبة يوحي إليه بتعبير هذه الرؤيا. ولكن السماء صامتة والأرض ساكنة وعلى أصنام الكعبة شيء كأنه الوجوم، فيرتد الى الفتى بصره متعباً مكدودا، وتهوى نفسه الى قرارة ضميره لعلها تجد لهذا الرمز تأويلا، فلا تجد شيئا، فيشتد بها الذعر ويزداد فيها العجب، ويبقى لها الأمل. وينهض الفتى فيضطرب مع الناس فيما يضطربون فيه من أمور الحياة.(1/64)
ثم يقبل الليل ويأوي الفتى إلى مضجعه، وقد أنسى كل شيء الا أنه قد مشى كثيراً وأجهد نفسه كثيرا، وأنه أشد ما يكون حاجة الى أن يبسط عليه النوم جناحيه. ها هو ذا مغرق في نوم هادئ مطمئن، قد هدأ من حوله كل شيء واطمأن في نفسه وجسمه كل شيء. ولكن ما هذا الشخص الغريب يقبل ساعيا إليه في أناة، حتى إذا دنا منه قال له في صوت رفيق غريب فيه أنس وفيه وحشة (احفر بَرَّةَ) وجسم الفتى هادئ مطمئن ولكن نفسه ثائرة مضطربة، ولسانه يتحرك في ثقل وصوته ينبعث من بين شقتيه خفيفا رقيقا بهذه الكلمة (وما برة؟) فينصرف الشخص وينقطع الصوت، ويفيق النائم وجلاً مذعوراً معجباً آملاً، ويفكر ويقدر ويتقلب. ثم ينهض فيسأل السماء ولكنها صامتة! ويسأل الأرض لكنها ساكنة! ويسأل أصنام الكعبة ولكنها مغرقة في البله والوجوم! ويضيق الفتى بنفسه وبالسماء والأرض والأصنام فيهيم على وجهه يلتمس في الحركة والاضطراب نسيان هذا الطائف الذي يفزعه ويغريه. ثم يعمل الناس في أمور الحياة، وينقضي النهار بخيره وشره وحلوه ومره، ويقبل الليل شيئاً فشيئاً فيبسط أرديته السود على ما يحيط بمكة من جبال وآكام وما يزال يمد في هذه الأردية حتى يغمر كل شيء ويستر كل شيء لولا هذه المصابيح الضئيلة التي تشب في الأرض، وهذه النجوم القليلة التي تضطرب في السماء. وقد سمر الفتى مع السامرين فسمع أحاديث التجار عن غرائب الأقطار، هذا يحدث عن قصور بصرى وعظمتها وهذا يحدث عن الخورنق والسدير وهذا يذكر غمدان، وهذا يصف أخلاق اليمانين ومكرهم بالتجار وهذا يتحدث عن سذاجة أهل الشام وانخداعهم لغربان العرب، وهذا يذكر ما أفاد من ربح حين باع الأدم في الحبشة، وهذا يذكر في القوم ما حمل لهم من خمر بيسان، وهم في أثناء هذا كله يتندرون على العجم والأعراب، ويتفكهون بأحاديث أولئك وهؤلاء؛ ويسخرون من أولئك وهؤلاء. حتى إذا تقدم الليل واطمأن كل شيء تفرقوا، ونهض الفتى ثقيلا فمشى الى بيته متباطئا يود لوفّر من النوم، ويود مع ذلك لو نام فألم به هذا الطيف. أنظر إليه! أنه ليتردد أيقذف بنفسه في أمواج النوم هذه التي تتمثل أمام عينه. لم يبق على الشاطئ يقظان يداعب النوم ولا ينام ليتردد ما استطاع، ليمتنع على النوم ما وسعه الامتناع، فان هذه الأمواج المصطخبة أمامه، تستطيع أن تطغي على الشاطئ فتغمره، وتغمر معه كل شيء. وكيف يستطيع هذا الفتى أن يمتنع عليها وما استطاعت أن(1/65)
تمتنع عليها جبال مكة هذه التي تحيط بها من كل ناحية! أنظر أترى حركة؟ اسمع! أتحس نبأة؟ كل شيء هادئ! كل شيء مطمئن! فما نبوُّك وما امتناعك؟ هلم الى النوم لا تخف شيئاً! أن هذه الأمواج تريح ولا تغرق، اقبل الى هاتين الذراعين اللتين تمتدان إليك فستنس بينهما كل شيء، ومن يدري لعلك تجد بينهما شفاء لنفسك الحائرة! وأطبق الفتى جفنيه وأندفع أمامه فاشتملت عليه أمواج النوم كما اشتملت على غيره من الناس والأشياء. ولكن ماذا؟ هذا شخص يتقدم ساعياً هادئاً كأنه عش على الهواء، حتى إذا دنا يمشي من الفتى قال في صوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة (أحفر المضنونة) جسم الفتى هادئ، ولكن صورة من الحيرة قد ارتسمت على جبهته، وهذا صوت خفيف رقيق ينبعث بين شفتيه وهو يقول: ما المضنونة؟ فينصرف الشخص وينقطع الصوت، ويفيق الفتى مذعوراً مأخوذاً، قد أظلم في نفسه كل شيء، وأحاط اليأس بعقله وقلبه وضميره. لا يرتفع بصره الى السماء ولا ينخفض الى الأرض، ولا يمتد إلى أصنام الكعبة، ولكنه يدور حائراً! وينهض الفتى وهو يقول: ما أرى الا أني سأجن! لئن أصبحت لآتين الكاهن، فلعلي أجد عنده من هذا العارض شفاءً.
أقبل أيها الصبح أسرع في الخطو، إرفق بهذه النفس الحائرة، هلم الى سوطك المشرق المضيء، فبدد به هذه الأشخاص المائلة، فرِّق به هذه الظلال المضطربة من حولي. ويقضي الفتى ليلا طويلا ثقيلا، حتى إذا كست الشمس بضوئها النقي ظواهر مكة وبطاحها أسرع الفتى الى المسجد يريد أن يقص أمره على الكاهن. ولكنه لا يكاد يبلغ مجالس قريش في فناء المسجد، حتى تذهب عنه حيرته ويفارقه وجومه، ويمتلئ قلبه اطمئناناً وثباتاً؛ ماذا؟ أأزعم للكاهن أني مجنون وتشيع في هذه المقالة ويضحك مني حرب بن أمية ولداتُه ويتندر عليَّ فتيان مخزوم؟ كل، ما أكثر هذه الخيالات التي تسكن الى نفسها في قبور الموتى! وتختبئ في الكهوف والأغوار ما أضاءت الشمس، واستيقضت الطبيعة. فإذا أظلم الليل ونام الكون انتشرت هذه الخيالات في الجو فمنها ما يصعد في السماء يرعى النجوم، ومنها ما يهبط الى الأرض يروِّع الناس. وما أرى أن هذا الطائف الذي يؤرقني منذ ثلاث إلا خيالاً من هذه الخيالات لعله ظل ميت من موتى قريش قد أنسيه قومه فهم لا يزورونه، ولا يقربون إليه لعله شيطان من هذه الشياطين التي تلح على الأنس فتتقاضاهم الطاعة(1/66)
وتخضعهم لسلطانها كرهاً. لعله نذير من أحد الآلهة يطالب بالضحية والقربان، لقد مضت أيام ولم تقدم الى الآلهة شاة ولم ينحر لهم جزور، ولم تصطبغ أرض المسجد بهذا الدم الحار القاني الذي تحب الآلهة لونه ورائحته. إيه يا عبد المطلب، تقرب الى الآلهة بضحية ترضيهم لعلهم يرضون، ولعلهم يكفون عنك هذا الشر! وأقبل الفتى على مجلس من مجالس قريش، فتحدث وسمع ولكنه كان شارد النفس فلم يطل الحديث ولا الاستماع ونهض مولياً، فلما انصرف عن القوم قال حرب بن أمية لمن حوله أرأيتم إلى سرى بني هاشم، أني لأراه محزوناً، أني لأعرف في وجهه الهم، لم يحدثنا اليوم عن مآثر أبيه ومفاخر عمه.
ومضى الفتى الى أهله، فلما دخل على امرأته أنكرت عودته إليها من الضحى، فاستقبلته دهشة وهي تقول: إيه يا شيبة ما خطبك؟ أني لأنكرك منذ أيام. أراك مؤرق الليل، قلق النهار، قليل الحديث، طويل التفكير. ولقد هممت أن أسألك مرات، ولكني خشيت ردَّك علي وانتّهارك لي. فأني لأعلم فيكم معشر قريش رقة للنساء، ودعابة معهن. ولكني لا أجد عندك ما أجد عند قومك، فأنت صامت إذا خلدت إلى أهلك، وأنت مقطب الجبين أن أظلك معهم سقف. تحدث ما يحزنك؟ اخرج عن هذا الصمت الذي لزمته، كن رجلاً من قريش، أشرك أهلك فيما يعنيك، لقد أذكر يوم أنبأني أبي أنك خطبتني إليه، لقد فرحت بهذا النبأ، لقد كنت أتحدث الى أترابي في البادية بأني سأصبح امرأة من قريش، أجد من نعمة الحياة ولينها ومن ظرف الزوج ورقته ما لا يجدن تحت خيام بني عامر بن صعصعة، ولكني وجدت نعمة وليناً، ووجدت حباً وعطفاً، ووجدت عناية لا تعد لها عناية، ولم أجد أحب ما كنت أطمح إليه، لم أجد منك ابتسام الثغر، ولا انبساط الجبين، ولا انطلاق اللسان. قالت ذلك وأنتظرت هنيهة. فأجابها زوجها بصوت هادئ حزين. عزيز علي يا سمراء ما تجدين من حزن، وما تحسين من خيبة الأمل. أني لأحبك كما يحب الضمآن ما ينقع غلته من الماء العذب. أني لآنس إليك أنسا يزيل عن نفسي كل هم ويحبب ألي الحياة ويرغبني فيها. أني لأشتاق إلى التحدث إليك والاستماع لك والأنس بك، ولو خيرت لما عدلت بمجلسك مجلس قريش ولا ببيتك فناء المسجد ودار الندوة. ولكن، قوة خفية عاتية طاغية تملك عليَّ نفسي وتأخذ عليَّ كل سبيل وتدفعني الى حيث لا أدري ولا أريد. أبه يا سمراء، أني لمؤرق الليل، قلق النهار مفرق النفس منذ ليالي، وأني لأخشى على نفسي شراً. هذا(1/67)
طائف يلم بي إذا أغرقت في النوم فيأمرني بصوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة أن أحفر شيئاً يسميه طيبة ويسميه برة ويسميه المضنونة، فإذا سألته عما يريد أنصرف شخصه وأنقطع صوته، وأفقت حائراً مذعوراً. لقد هممت يا سمراء أن أقص رؤياي هذه على الكاهن، وأن أصف له ما أرى وما أجد، ولكني أشفقت أن يتحدث الناس عني أني مجنون، أو أن يتندر بي فتيان قريش فيقولوا: أن له رَئِيَّا من الجن. أشيري ماذا ترين؟ قالت سمراء: هِوِّن عليك ولا تغل في الخوف ولا تسرف في الإشفاق، ما أكثر ما يلم أمثال هذا الطيف بالناس عندنا في البادية، فلا يحفلون ولا يأبهون، ومع ذلك فما يمنعك أن تتقرب أنت إلى الآلهة في غير توسط للكاهن، ولا توسل به، قم فضح لهم وقرب إليهم فسيرضون، وسيرضى الفقراء والجائعون، وسيغيظ ذلك قوما من قريش.
وما هي الا ساعات حتى كان فناء المسجد يموج بالناس، فيهم الفقراء، قد أقبلوا من البطاح والظواهر. وفيهم الأغنياء قد أقبلوا يقدمون الضحايا بين أيديهم. هؤلاء يتنافسون أيهم يغلي الضحايا ويكثر منها. وأولئك ينتظرون ويمنون أنفسهم بغريض اللحم وجيده، لقد سمعوا بأن عبد المطلب يريد أن يضحي، وان بني هاشم قد حفلت لذلك، فكرهت أمية أن لا تفعل فعلهم وكرهت مخزوم أن تسبقها عبد مناف، فأقبل أشراف قريش يستبقون في التضحية، ويتنافسون في القربان! تنافسوا. تنافسوا أيها الأشراف! استبقوا أيها الأغنياء! فان في ذلك شبع الفقراء وسعادة الأشقياء.
وقضت مكة يوما دامياً سمينا، كثر فيه الطعام وكثر فيه الشراب ورضيت فيه الأصنام، وسعد الفتى بما رأى، ونسى الفتى ما كان يهمه وينغصه، وقدر الفتى أن قد صرف عنه الشر ورد عنه المكروه، ورضيت سمراء. فتحدثت كثيراً، وسمعت كثيرا وأضحكت زوجها وابنها الحارث بملح الأعراب، ونوادر البادية. وقالت لزوجها وهي تمسح رأسه: أحبب إليَّ بهذا الطائف الذي أرقك وأضناك، فقد حقق أملي وأراني ما كنت أطمح إليه. ورسم في قلبي صورتك جميلة خلابة، فلن أراك منذ اليوم (مهما تكن الخطوب) إلا باسم الثغر، منبسط الجبين، منطلق اللسان. وهل السعادة إلا لحظات قصار، تصيبنا ولم ننتظرها ولم نقدر لها حسابا! فما أسعد القلب الذي يحتفظ بهذه اللحظات حين تمر، ويتخذها ذخراً للأيام، وما يعرض فيها من الخطوب. قال عبد المطلب: إذن فأنت راضية يا سمراء أن رضاك(1/68)
ليقع من نفسي المحزونة موقع الماء من الأرض المجدبة. انعمي بما أنت فيه، وأنتظري أن يقدر الله لك خيراً منه. فلو قد صرفت عني هذه القوة العاتية الطاغية لأريتك يا سمراء كيف تطيب الحياة، وكيف ترق حواشي العيش.
وأوى الفتى إلى مضجعه راضياً مسروراً، واستقبل النوم مبتهجا له راغباً فيه، ولكن هذا الشخص يقدم عليه ساعيا في هدوء، كأنما يمشي في الهواء، حتى إذا دنا منه انحنى عليه، ووضع على جبهته يداً باردة خفيفة، وقال في صوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة. احفر زمزم. واضطرب جسم الفتى كله واضطربت نفس الفتى كلها وأنفتحت شفتاه عن هذه الكلمة: وما زمزم؟ قال الطيف بصوت رفيق مؤنس، قد فارقته الغرابة والوحشة ومازجته سخرية ورحمة. (لا تُنْزَح ولا تذَم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم) قال الفتى: (الآن قد وعيت) فتولى عنه الطيف باسما وهو يقول: (الله أنتم أيها الناس لا يكفيكم الوحي، ولا تفقهون إلا سجع الكهان. رويداً عما قريب سيضئ الصبح) ونهض الفتى مبتهجاً مسرورا. فلما أصبح دخل على سمراء مشرق الوجه مضيء الأسارير. قالت وهي تسعى إليه: أيهما أحب إلى نفسي إشراق وجهك أم إشراق الشمس؟ ما أرى إلا أنك قضيت ليلا هادئا. قال: أنعمي صباحا يا سمراء لقد طابت الحياة منذ اليوم، أن هذا الطائف الذي يلم بي منذ ليالي، طائف خير يأتي بالنعمة والغيث، انه يأمرني أن إحتفر في فناء المسجد بئرا، فلأفعلن منذ اليوم، ولئن ظفرت بها ليشربن الحجيج في غير جهد ولا عسر. هلم يا حارث خذ معولا ومكتلا ومسحاةً واتبع أباك. ويتبعنه الماء إلى عرفات. .(1/69)
الشيخ عفا الله
قصة مصرية
بقلم الأستاذ محمود تيمور
حدثني صديقي، قال:
منذ عشرين عاماً كنت أسكن جهة درب سعادة. ذلك الحي القديم ذو الشارع الضيق والمباني المتزاحمة الأثرية. وكنت إذ ذاك في التاسعة عشرة من عمري أحضر لإمتحان الشهادة الثانوية. وفي أوقات فراغي كنت أجلس أمام البوابة أتفرج على الرائح والغادي. وكان يمر أمام الدار (من وقت لآخر) شيخ بملابس بسيطة ضامر الوجه، بلحية خفيفة فيها آثار الشيب ظاهرة. هادئ المشية. يسير في وقار. منكس الرأس على صفارته يناجيها بألحان شجية. فكنت استوقفه وأطلب منه أن يسمعني شيئاً من أنغامه. وكانت جميع ألحانه تحوي كثيرا من معاني اليأس والحنو. ولاحظت أنه قنوع يرضى بالقليل. وكان إذا استرسل في صفيره خيل لك أن الصفارة تتكلم وتنوح كأنها تحاول أن تفشي سراً! وهو على طهارة قلبه ومظاهر الصلاح الناطقة على وجهه، لا يؤدي أي فرض من فروض الصلاة، ولا يذهب إلى الجامع مطلقا! ولا يتكلم عن شيء اسمه مغفرة ورحمة. وإذا ذكر اسم الله أمامه طأطأ رأسه ذليلا، وتمتم بألفاظ متقطعة غير مسموعة!.
وتوثقت بيني وبين الشيخ ألفة ساذجة. وحاولت أن استوضحه حقيقة آلامه فلم يرض أن يبوح لي بشيء. فاحترمت رغبته وصممت أن لا أفاتحه في هذا الموضوع. وظل الرجل وقتا ما لغزاً لا أستطيع الوصول إلى حله. ومرت الأيام والشيخ يزورنا مرة في الأسبوع فأحظى منه بألحان شجية، وحديث هادئ جميل!. وكان يسترسل في الكلام بعض الأحيان فتفلت منه من غير وعي جمل وكلمات بدأت تكشف لي شيئا من سره. وكان ينشد لي كثيراً من المواويل الريفية في الحب والتشبيب بالنساء وكان إذا لفظ كلمة (الغيط) لفظها مفخمة منغمة واتسعت عيناه ولمعت بوميض غريب. واتسع صدره وتمددت طاقتا أنفه وهو يستنشق في شغف الهواء الذي يحسبه هواء الريف. ثم يعقب ذلك تنهد حار عميق، ومناجاة طويلة لصفارته وباغته ذات يوم بقولي:
- اقسم بالله لقد اكتشفت سرك يا شيخ (عفا الله)!(1/70)
فارتعد مذعوراً. وأتممت كلامي:
- انك فلاح من الريف
فنظر ألي بحيرة وقال بعد تردد:
- وهل أستطيع أن أنكر (أصلي)!
- وانك تتألم من حب دفين.
فأمسك بيدي وشد عليها، وقال:
- اسكت يا سيدي، اسكت:
- وانك ارتكبت معصية كبرى، وتريد التكفير عنها
فامتقع وجهه ونظر ألي محملقا، وقال:
- أعالم سري. .؟ أعالم سري؟. .
وأخذت استدرجه في القول حتى لان. وبدأ يروي لي قصته كالآتي:
لم اكن أدعى بالشيخ (عفا الله) فيما مضى، بل كنت اعرف (بسرحان) وهو اسمي الحقيقي، وكان لي أخ يدعى (محمد الرخ) كان إماما لمسجد القرية التي نشأت فيها. وكان قد تجاوز الأربعين، بينما كنت في السابعة عشر. أو كنت اعتبره كأبي واحبه حبا عظيما وكان هو الآخر يحبني كابن له: وقد حفظني القرآن وعلمني أصول الدين وأشركني معه في خدمة المسجد. وكنت قد بدأت أتعلم الصفير في ذلك العهد على شيخ طريقة مجذوب يجيد التوقيع على الصفارة وإنشاد القصائد الصوفية. ولما برعت في الصفير كان يلتف حولي على باب الجامع. بعد العشاء. جمع كبير من الفلاحين يستمعون إليَّ.
وكانت زوجة أخي قد توفيت منذ عام، فتزوج بفتاة في الخامسة عشر لم تقع عيني على املح منها. لها جاذبية غريبة سحرتني وخبلت عقلي. رأيتها للمرة الأولى فلم أتمالك أن أحببتها حبا تملك على جميع مشاعري وكبلني بالرغم مني بقيود ظالمة لم استطع التخلص منها. وخجلت من نفسي ومن أخي واعتبرت هذا الحب الشائن اكبر خيانة لذلك الشخص الذي وهبني حنانه وإخلاصه وثقته، وأردت أن أحطم هذه العاطفة الذميمة، ولكني لم استطع فكتمتها في قلبي ولم أبح بها الا لصفارتي! فقد كانت عزائي الوحيد في نكبتي.
وكنت أتعمد أن لا أخلو بزوجة آخي أتحاشى أن أكلمها إلا في الأمر الضروري. وكنت(1/71)
امكث بعيدا عن الدار في فحمة الليل، أناجي حبي بالحان الشكاية والنوح. وحدث مرة أن كنت في موضع خلوتي غير بعيد عن الدار، اصفر في شبه غيبوبة، وأنا ملتذ بآلامي إذ شعرت بإحساس غريب فرفعت رأسي. والتفت حولي فوجدت (هنية) زوجة آخي جالسة غير بعيدة عني تنظر ألي في صمت وخشوع. فذعرت وقمت من فوري وأنا أقول:
- أنت هنا. .؟
- منذ برهة وجيزة. . . إني أحب صفيرك وأشعر عند سماعه برغبة في البكاء.
وتحركت أريد الهرب، فأمسكت بطرف جلبابي وقالت:
- لماذا لا تريد أن تجلس؟
فصرخت بالرغم مني قائلا:. .
- دعيني!
فنظرت إليَّ دهشة ولم تتكلم. ثم قالت:
- ما الذي يدعوك إلى كرهي. لماذا تهرب مني. .
وبغتة أجهشت بالبكاء. فشعرت كأن قلبي يتمزق وأن دماغي يحترق. ثم هبطت عليها دفعة واحدة، وأخذتها بين ذراعي، وأنا أقول:. .
- أنا أكرهك يا هنية!. .
وأنحنيت عليها أشبعها ضما وتقبيلا معبرا عن حبي الكبير بأحر العبارات. . وكانت الفتاة مستسلمة إليَّ في نشوة وغرام!.
وبينما نحن على هذا الحال إذ طرق سمعنا أصوات من بعيد فصحونا من حلمنا اللذيذ. ورأينا على جسر الترعة أشباحا تسير متمهلة. فاضطربت هنية وهمست في أذني قائلة:
هذا أخوك عائد مع المستأجرين.
ثم قامت دفعة واحدة وقالت:
- سوف أسبقه إلى الدار، متخذة طريق الغيط.
وقامت تعدو كالظبي المذعور، وأنا أراقبها في لهفة حتى ابتلع الظلام شبحها الجميل! وسرت أنا إلى الدار متمهلا في طريق الجسر فوجدت أخي قد جلس أمام الطعام منتظراً حضوري، ولما رآني صاح بي مداعبا:(1/72)
أيصح أن تتركنا ننتظرك. تعال يا ملعون وشاركنا الطعام!. أريد أن أقص عليك كيف أجْرت الفدادين هذا العام بقيمة لم اكن احلم بها.
وجاءت (هنية) ووضعت العيش أمامنا. وجلست مبتعدة قليلا عنا. وبدأنا نأكل. وكنت منهمكا في تفكيري، لا أفهم شيئاً مما يرويه لي أخي، مع تظاهري بالإصغاء إليه. وكنت أرفع بصري بين وقت وآخر نحو (هنية) فأجدها مسبلة الأجفان في شبه ذهول تأكل بحركات ميكانيكية، ووجهها ممتقع. وحدث مرة أن رفعت نظرها إليّ واشتبكت عينانا. وخيل لي أن وجهي يدنو من وجهها، وأن شفتينا على وشك التلاقي. وبغتة سمعت صرخة اهتزت لها الدار فارتعت، وتنبهت لنفسي فرأيت (هنية) تشهق بالبكاء قائلة:
لا أستطيع! لا أستطيع!
وهب أخي فزعا نحوها. وضمها إلى صدره وهو يقول:
- ما لك يا هنية؟. ما لك؟.
ليس لي رغبة في الأكل. دايخة. أريد أن أنام.
- قومي يا حبيبتي لتستريحي. .
وقامت متجهة نحو حجرتها، وهي معتمدة على ذراع أخي. وكنت شاهد هذا المنظر وأنا في شبه خبل. أشعر بأني قد تحجرت وصرت جزءاً من الأرض التي كنت أنا جالس عليها.
وعاد أخي بعد هنيهة، وقال لي:
- المسكينة أجهدت نفسها اليوم في أعمال الدار.
وكنت لا أطيق أن أنظر إلى أخي في هذه اللحظة فقمت من فوري ووجهتي الباب. وسألني أخي؛
- إلى أين؟
- إلى الجامع. أريد أن اصلي العشاء. ثم أقفله أعود.
وخرجت أعدو إلى مأواي المختار (الذي قابلت فيه (هنية) منذ وقت قريب) وارتميت على الأرض أمرغ وجهي في الموضع الذي كانت جالسة فيه، وأنا أنشج نشيجا حارا وأمضيت ليلتي هناك، وأنا لا يهنأ لي مضجع. أبكي وأغفو وأحلم، ثم أصحو برجفة تزلزل جسمي،(1/73)
وكان يتراءى لي شبح أخي في يقظتي ونومي. يحوم حولي يريد أن يقتلني، فكنت العنه بأشنع اللعنات. وفي الفجر غلبني نعاس عميق، لم أصحو منه الا عند الظهر. وفتحت عيني وأردت النهوض فخانتني قواي، إذ كنت أشعر بآلام شديدة وضعف هائل.
فجلست مستندا إلى جذع شجرة خلفي وأخذت استعيد قواي شيئا فشيئا. وكان الغم يخيم على قلبي، وشعور الندم الشديد يكتسح نفسي. فقمت مهرولا نحو الجامع، واعتذرت لأخي عن تأخيري بمختلف الأعذار ثم هبطت على يده اقبلها، وأنا أقول له:
أني احبك يا أخي!. واقسم بالله أني احبك حبا لم يضمره ابن لأبيه. أريد دائما أن أنال رضاك وعفوك. قل لي أتحبني!.
فأجابني:.!
- ما هذا الكلام يا سرحان. هل رأيت مني غير الحب الكبير؟. أنت ابني بل أنت افضل من ابني:.
ونظرت إلى أخي فوجدت آيات الإخلاص مرتسمة على وجهه. فأندفعت اقبل يديه من جديد؛ وأنا ابكي بصوت عال. وأنتابتني نوبة عصبية شديدة، فارتميت على الأرض في حالة تشبه الصرع. ولما أفقت وجدت نفسي ممددا في ركن من أركان الجامع وأخي بجانبي مهموم الخاطر من اجلي؛ يمرضني ويحنو عليّ.
ومضى أسبوع وأنا لا اقصد الدار الا في أوقات قليلة. وكثيرا ما كنت أتناول الطعام في الجامع، وأنام ليلا فيه، ولو استطعت لأمتنعت تماما عن الذهاب إلى المنزل. ولكني كنت احتاط للأمر حتى لا يشك أخي في سلوكي. وكنت أجاهد ما أمكن في سبيل ضبط عواطفي وأكلم (هنية) أمام أخي كلاما عاديا متحاشيا دائما النظر إليها. وإذا تصادف وخلونا نحن الاثنان برهة صغيرة ظللنا صامتين منكسي الرأس وإذا تقابلت الأعين اهتزت منا الأجسام كأن مستها الكهرباء.
ومضت الأيام والنار تأكلني أكلا، أنام نوماً سيئاً، وأقضي يقظتي في شبه أحلام مشوشة. وإذ أديت صلاتي أخطأت الأداء وكان قلبي مسرحا لمختلف الاحساسات المتباينة، الغضب والرحمة، والكفران، والتوبة والحب والبغض تتطاحن كلها باختلاط.
وتركت الدار (يوماً) بعد منتصف الليل بقليل وخرجت أعدو كالوحش المطعون وأنا أردد:(1/74)
- أنه معها في الحجرة. إنها له. . وهو يتمتع بها. . .
وهمت على وجهي لا أدري أي وجهة اقصد. وأخيرا وجدت نفسي أمام الجامع فدخلته بدون وعي وارتميت على الأرض أعض يدي واضرب رأسي في الحائط، وأنا ما زلت أردد قولي: انه معها في الحجرة. . إنها له. وهو يتمتع بها. . .
وبينما كنت على هذه الحالة، شعرت بيد وضعت على كتفي. فالتفت مذعورا. فإذا (هي) أمامي. . هي (هنية) في تلك الساعة الموحشة من الليل، وفي ذلك المكان المنعزل. فأخذتها بين ذراعي بلا كلام واحتضنتها بوحشية وأنا أهذي.
وأمضيت معها ساعة غرام عنيفة، من أشهى ساعات الوجود. وأقسم لك انه ليس على وجه الأرض منذ خلقت الدنيا شخص نال مثلي نعيم تلك الساعة. إنها ساعة تساوي أعماراً بأكملها.
وبعد ذلك نمنا متعانقين. . . وتنبهت فإذا الباب يقرع. وإذا ضوء الشمس يغمر المكان، وسمعت صوت أخي يقول:
- افتح يا سرحان
فوجدتني أجيب بلا وعي:
- سأفتح في الحال
وكان للجامع نافذتان مشبكتان بالحديد. وليس ثمة مخبأ تستطيع أن تختبئ فيه هنية أو منفذ تنفذ منه إلى الخارج. فأختبل عقلي. ولكن خاطراً مر برأسي فقلت لها هامسا!
- أصعدي إلى السطح. . أصعدي سريعاً
فقامت هنية وصعدت في الحال إلى السطح؛ وقمت أنا إلى الباب ففتحته. وتظاهرت بالفتور الشديد ودخل أخي وعليه شيء من مظاهر الغضب. وقال:
- أما زلت تنام في المسجد يا سرحان؟ اليس لنا دار تسعك معنا؟
- يحلو لي الآن أن أتعبد في المسجد حتى مطلع الفجر!. .
وجلس أخي صامتا. وبعد برهة تكلم بلهجة قلقة.
- لقد أستيقضت من النوم؛ فلم أجد هنية بجانبي. وقد بحثت عنها طويلا في الدار فلم اعثر عليها. .(1/75)
فارتجفت. ولكني تغلبت على ضعفي وقلت:
- لعلها تكون قد خرجت لتملأ جرتها من الترعة
- ربما. . إنما. . . .
ثم ابتلع ريقه وتمتم بكلمات لم أفهمها وقام وقال:
- هيا نصل الصبح!
وقمنا إلى الصلاة. ولكن أي صلاة هذه التي أديتها في ذلك الوقت. كانت صلاة للشيطان لا لله! وأنتهت الصلاة. وبدأ الناس يفدون على الجامع وأصبحت في حالة يرثى لها. وأخيراً خرج أخي عائداً إلى الدار. وما كاد يفعل حتى انسللت صاعدا إلى سطح الجامع لأدبر حيلة لهرب هنية. وما كانت أشد دهشتي حينما رأيت السطح خالياً. ودرت فيه وأنا كالمخبول، ابحث هنا وهناك. وشعرت بإحساس غريب يجذبني نحو حافة السطح. وما كدت أشرف منه إلى الأرض حتى صرخت مرتاعاً. ووجدت نفسي بعد لحظة على الأرض ولا أدري كيف نزلت. وكانت هنية ملقاة بجوار الجدار تئن أنينا خافتا فدنوت منها وأنا في جزع ولهفة وأمسكت بها وسألتها عما أصابها ففتحت عينيها بصعوبة وقالت:
- لقد انكسرت يا سرحان. انكسرت!
وكانت تعض على شفتيها محاولة كتم تأوهاتها!
فاحتضنتها وأنا أواسيها وأشجعها. وسمعتها تقول:
- آلامي لا تطاق. . أني أموت!
وحملتها بكل عناية واحتراس. وأنا أكاد اجن من الحزن، وذهبت بها إلى دار أم عبد الجليل. وكانت امرأة وفية ولي محبة. وأخبرتها بشيء من الحقيقة ورجوتها أن تذهب إلى أخي لتبلغه خبرا ملفقاً. فقامت المرأة من فورها إلى داره.
ونقلوا هنية إلى دارنا وقد أشاعت أم عبد الجليل أنها سقطت من سطح منزلها بينما كانت تأتي بوقود لها!
ومضى يومان وهنية تعيش في أتون متقد من آلام لا يتصورها العقل. أما أنا فكنت أذهب إلى زريبة المواشي، وأحكم أقفالها عليّ. ثم انهال على وجهي باللطم. وأنفجر في نواح طويل وأنا أقول:(1/76)
- أنا سبب كل هذا!. أنا الذي يجب أن يعذب!. أنا الذي يجب أن يموت!
وماتت هنية في اليوم التالي ودفناها في قرافة القرية باحتفال بسيط. أما حالتي يوم وفاتها فقد اعتراني خبل غريب، فلم أصدق أنها ماتت. وكنت أؤدي عملي الذي كلفت به في مأتمها ببساطة وهدوء، بل كان يعتريني بعض الأحيان نوبات ضحك يعقبها خمول ووجوم. ولكن بعد أيام بدأت أشعر برد فعل شديد، فأخذت أهيم في الغيطان؛ وأختبئ في الذرة، وأنا ابكي وأندب بلا انقطاع. وأخيرا هدأت حالتي نوعا فعدت إلى عملي في الجامع. ولكن مرآي ذلك الجامع كان يزيد شجوني وعذابي. فتتمثل أمامي جريمتي كلما وطئت عتبته ويخيل لي أني أسمع صوت سقوط جسم من أعلى السطح إلى الأرض. فتعتريني قشعريرة واخبىء وجهي في يدي وأجهش بالبكاء.
لقد عملت المستحيل لكي أضلل أخي؛ وأبعد شكه من ناحيتي وتحملت أكبر العذاب في سبيل إخفاء جرمي. ولم اكن أجسر على النظر إليه. وكان يخيل إلي أنه يرفع يده في وجهي يريد سحقي.
ومضت الأيام وسري ينمو ويتضخم في قلبي فأشعر بثقله الهائل. ويخيل ألي في كل وقت إن قلبي يتمزق وان السر يطير منه ويعلن إلى الملأ فضيحتي. وكانت أيام عذاب لا أظن عذاب الجحيم يفوقها.
وفي ليلة عقب صلاة المغرب خرجت لأروح عن نفسي قليلا فقادتني قدماي، بدون شعور، إلى المكان الذي سقطت فيه هنية بجوار حائط الجامع. وبغتة قابلت أخي وجها لوجه ولا أدري ما لذي أرسله إليّ في هذه الساعة وفي هذا المكان. أهي المصادفة أم شيء آخر. لا ادري!. ووقفنا أمام بعضنا بالقرب من ذلك الجدار الرهيب. وشملنا الصمت برهة. وبغتة وجدت نفسي أصرخ وأقول:
- لا تقربني!. لا تقربني!.
وأندفعت أجري كالمجنون أهيم على وجهي. وكان هذا آخر عهدي بأخي وبتلك الديار!. وأخذت منذ ذلك الوقت أطوف المدن، وأعيش عيشة الطريد الشريد.
ثم أطرق الشيخ عفا الله صامتا. وشاهدت دمعة تتحدر في بطأ على خده. فقلت وأنا شديد التأثر بما سمعت.(1/77)
- لماذا لا تعود إلى صلاحك، وتطلب مغفرة الله.
فرفع عينيه وقال:
- لقد تألبت عليْ الأقدار. وسأظل حتى النهاية ذلك المتمرد العاصي.
ثم سحب صفارته من عبه في هدوء وأخذ يوقع عليها لحنا شجيا فيه معنى الصبابة والتضحية. وكان منتشياً، بلحنه يتذوق آلامه الدفينة في شبه غيبوبة مسكرة.(1/78)
في الأكاديمية الفرنسية
انتظم في سلك الأكاديمية الفرنسية أخيرا عضوان جديدان هما الكاتب القصصي بيير بنوا، والمؤرخ الأشهر جوسلان لينتر. والأول هو أصغر (الخالدين) سنا. فهو لا يتجاوز الأربعين من عمره، مع أنه لا يرقى في الغالب إلى هذا الشرف الرفيع سوى رجال قطعوا معظم مراحل العمر وأشرفوا على الستين أو السبعين. وينتمي بيير بنوا إلى أسرة من الضباط وقد كان أيام الحرب الكبرى ضابطاً في الجيش. فلما انتهت الحرب عاد إلى الأدب. وسرعان ما ظهر في ميدانه، وحاز ذروة الشهرة حينما اخرج روايته الأخيرة (الاتلانتيد). وهو يتربع اليوم في كرسي المؤرخ الشهير لافيس.
وأما المؤرخ لينتر، فهو باحث محقق اشتهر بالأخص بتحقيقه في تاريخ الثورة الفرنسية، وله في ذلك (باريس أيام الثورة) و (سقوط الجيرونديين) وقد اشتهر بتاريخ مختصر كتبه عن نابليون يمتاز بطرافته وفكاهته وقد حل في الأكاديمية مكان الروائي الشهير (رنيه بازان) وهو يربى على السبعين من عمره، ولكنه ما زال وافر الإنتاج يشتغل في التحرير في جريدة (الطان) ويكتب فيها باب (التاريخ الصغير).
العالم المسرحي والسينمائي
بنات اليوم على مسرح رمسيس
للأستاذ محمد توفيق يونس
بدأ الموسم التمثيلي هذا العام متأخرا عن موعده العادي، وكان أسبق الأيدي إلى هصر الستار عنه فرقة رمسيس بتمثيلها رواية (بنات اليوم) لمديرها الأستاذ يوسف وهبي. وهي قطعة ناجحة في أربعة فصول شائقة الموضوع، قوية الحوار، سريعة الحركة الا أن فيها بعض الطول. وكلامنا عن الرواية يتناول أمرين موضوعها وبناءها. أما الموضوع فحيوي جليل خليق بالعناية والنظر، هو موضوع الأسرة المصرية الذي طالما أثار الانتقاد، وبعث على الشكوى.
فبنات اليوم من الروايات ذوات الفكرة التي تبحث في نظام الأسرة وتنبه إلى الخطر الذي تتعرض له من الزواج المبني على اختلاف المشارب، وتباين الطباع، وتنافر الأهواء،(1/79)
الذي تعقده المصادفة ولا يقوم على أساس من حرية الاختيار وائتلاف المزاج.
أحسن المؤلف اختيار موضوعه وأجاد بسطه وإن كان قد عنى بالتأثير أكثر من عنايته بالتحليل والتعليل.
جمع المؤلف بين اثنين مختلفي الأفكار برباط الزواج وقد نكد حظ الزوج به وساء طالعه فزوجته تختلف عنه عقلية ومزاجاً ولكنه سرعان ما يجد في أختها (لطيفة) فتاة تستطيع أن تفهم سر نفسه وتنظم أمور حياته. ويحلو الحب للعاشقين ولكن الزوجة (خديجة) تعلم أمرهما إذ يعثر أبوها على رسائل باللغة الفرنسية تبادلها الحبيبان فيطلب منها قراءتها فتعرف الحقيقة ولكنها تكتمها، مدعية أن ليس فيها ما يريب. ولكن لطيفة تحمل فتأتي إلى عيادة حبيبها وزوج أختها (الدكتور صادق) ليجهضها بعد أن ادعت أنها مسافرة لضيعة إحدى قريباتها. ولكن خديجة تفاجئها فإذا علمت أن أختها في خطر نسيت نفسها واهتمت بأمرها. ولكن الحالة تتحرج بدخول (سامي) خطيب لطيفة وابن عمها. وتنقذ الزوجة الموقف ثانياً فتدعي أن أختها اصطدمت بسيارة فجاءت إلى الطبيب.
تنقضي فترة من الزمن يأتي بعدها عم لطيفة يطلب يدها لأبنه سامي فيوافق الأب ولكن الابنة ترفض فلا يأبه لها ويمضي في تنفيذ إرادته. وتخلو لطيفة بابن عمها فتعلن إليه أنها لا تستطيع أن تقبله زوجاً لأنها لا تحبه. ويعود الأب فيملي عليها إرادته ولكنها لا تطيع، فيثور ويحتد فتضطر الفتاة إلى أن تعلن أن رفضها للزواج من أبن عمها إنما كان لإنقاذه وتسأل سامي أيقبل أن يتزوج من فتاة ساقطة سلمت نفسها لغيره. فيجن جنون الأب ويسألها عن الجاني فيخبره صادق بالواقع بعد أن ينبئه أن جهله وغطرسته وتشبثه بتزويج ابنته الكبرى قبل الصغرى كالتاجر الذي يريد التخلص من بضاعته القديمة قبل الجديدة قد دفعهما إلى هذا الموقف الأليم. لكن الأب لا يسمع ولا يرحم فإذا البيت شعلة من نار تحاول لطيفة أن تطفئها فتلقي بنفسها في النهر فيلحق بها صادق وسامي.
وتنجو لطيفة ويطردها أبوها فتبحث عن عمل فتلجأ إلى بيت حقير يأويها. أما صادق فيسجن لقاء جريمته ثم تنقضي مدة السجن فيعود إلى حبيبته ويتفقان على أن يغادرا البلاد معاً ليستأنفا الحياة من جديد. ثم تقبل خديجة وابنها ترجو من زوجها أن يتركه لها فيودعهما باكياً مستغفراً. ولهذا الموقف أثره في نفس لطيفة فتأبى الرحيل مع صادق حتى يبقى(1/80)
لزوجته وابنه وتسأل سامي إن كان يقبل توبتها ويرضى بها زوجة فيوافق راكعا.
هذا مجمل الرواية أو بالأحرى مجمل الحادث الأصلي فيها ولم نعرض من الأشخاص إلا الأساسيين في العمل. فالرواية مليئة بالحوادث مزدحمة بالأشخاص وكان أجدر بالمؤلف أن يسير إلى غايته قدما حتى لا يضعف أثر الحادث الأصلي في الرواية ولا يقطع سلسلة العمل الأساسي بمشاهد ثانوية وشخصيات فضولية. هذه المشاهد في ذاتها قوية الوضع وتلك الشخصيات خفيفة الظل، ولكن قيمتها بالنسبة إلى الرواية ضئيلة وصلتها بها واهية، وأثرها عكسي في الواقع يخمد من حدة الشعور ويعوق وجهة الدفع الروائي نحو النهاية.
وكذلك يقطع العمل أثناء الرواية بحلول تكاد تكون حاسمة يمكن أن تقف الرواية عندها والروايات الحديثة تنتهي دون خاتمة ولا حل تاركة المجال للتفكير والتأمل.
وفي الرواية شيء من التصنع كتصريح الزوج انه هو المعتدي على عفاف أخت زوجته، وعلى عمل الأب على زج زوج ابنه في السجن مع ما في ذلك من فضيحة للأسرة جميعها.
إذا غضضنا النظر عن هذه المآخذ استطعنا أن نقول أن الرواية جميلة قوية مؤثرة ذات مواقف درامية صادقة ومناظر إنسانية رائعة تسترعي سمع المشاهد وتأسر لبه.
ولا عجب فقد درس الأستاذ يوسف وهبي المسرح وخبر الجمهور فضرب على أوتاره الحساسة واستطاع أن يظفر منه بالإعجاب والإقبال ولا يسعنا نحن الا أن نحييه ونهنئه ونرحب به عاملا من عوامل بناء المسرح المحلي.(1/81)
العدد 2 - بتاريخ: 01 - 02 - 1933(/)
رسالة الشباب
عن يسارك وأنت خارج من ميدان الأبرا إلى عابدين باب عتيق ضخم، لا تجد بينه وبين جيرته انسجاما في طراز، ولا التئاما في ذوق، تدخله فكأنما تدخل داراً من دور الترك، أو ديراً من ديور الروم: دهليز قاتم رحب، وفناء كالح رطب، ودرج رخامي يصعد بك طبقتين إلى جمعية القرش!
في هذا الربع الموحش يعمل الشباب النضر! ومن هذا الطابق الرهيب ينبثق الروح الذي يهز القلوب، ويشغل الأذهان، ويملأ الصحف، ويحرك الأيدي ويرصد الأهبة لافتتاح (مصنع الطرابيش) عما قليل!
تدخل فتجد مقترح المشروع وكاتب سره وهو فتى لا تزال على محياه الأبلج قسمات اليفاعة! يجلس في غرفة عارية من الأثاث، على مكتب مغطى بأشتات الورق ومن حوله رفاقه الأبرار يجيبون دعاءه، أو يناقشون آراءه، أو يطلبون إمضاءه، والعواطف المشبوبة النبيلة تجيش في هذه القلوب الغضة فتنسيها في النهار الراحة وفي الليل النوم! جلست هنيهة في هذه الغرفة الجرداء الوسيعة، أرى الإخلاص يتمثل في المخايل، والأمل يتدفق في الحديث، والشباب المرح اللاهي يحول إلى كد دائب وصبر غالب ووقار مرهوب، ثم اسمع أخبار اللجان ومعدات المهرجان وحركة المطبوعات وجمع التبرعات وإصدار الطوابع إلى مختلف الجهات، فقلت لنفسي: يا لله! أقيادة جيش تقرر الخطط وتحفظ السلام وتعز الوطن، أم خلية نحل تدير الأمر وتجمع الرحيق وتصنع العسل؟!
لقد كان الشباب في نهضتنا السياسية الروح الذي أحيا الشعور، والضوء الذي هدى الجمهور والدعوة التي دار عليها الرأي!
وهاهم أولاء في نهضتنا الاقتصادية يرفون رفيف الأملاك حول بنك مصر وشركاته؛ ويضيفون إلى هذا البناء الرفيع المحكم شرفات تزيده جمالا وروعة! يريدون (والشاب قادر إذا أراد) أن يتجمع من القرش الواحد رؤوس أموال لمصانع شعبية. كما يتجمع البحر من قطرات المطر، والجبل من ذرات الرمل!!
فمن ذا الذي لا يساهم في هذا المشروع الخطير بهذا القرش الحقير وفي كل لحظة تلفظ اليد أمثاله في توافه الأشياء وضئال الأمور!
إن نشئنا ليؤدون رسالة الشباب كما تؤدي الزهور رسالة الفردوس.(2/1)
ولقد رأيت إخوانهم في فلسطين والشام والعراق ينتعشون بهذا التعبير، ويسيرون على هدى هذا الشعاع.
فافسحوا في المجال لعزم الصبي ينهض برأي الكهولة!
فان الوطن لا ينهض إلا بشبانه، وأن الشجر لا يثمر إلا بأغصانه،
أما الشيوخ فكالجذوع، هم الأصل والمدد والسند، ولكنهم الصق بالأرض وأميل إلى السكون وأقرب إلى الجمود، فلا تقوى على تحريكهم رياح الأمل، ولا تغرد على حطبهم طيور السماء!
أحمد حسن الزيات.(2/2)
خواطر وصور
(قروش) فكرية
مهداة إلى (القروش) النقدية!
للأستاذ عباس محمود العقاد
الشعور السعيد
أسعد الشعور ما امتزج فيه شعور الإنسان بنفسه وشعوره بغيره، أو ما كان فيه الشعور بالغير ضربا من الشعور بالنفس. ومن هذا القبيل شعور الأب بابنه والحبيب بحبيبه والمشهور بشهرته: يرى نفسه في غيره ويرى غيره في نفسه، فيلتقي فيه الرضى عن النفس والرضى عن الدنيا. وهما تمام الرضى الذي يحيل الألم والشقاء سروراً وسعادة.
كراهة الأخيار
قد يكون الشرير الذي يشتد بغضه لأهل الخير من أقرب الأشرار إلى الأخيار. لأنه يحس بما فقد ويحس بما امتاز به غيره فيحسدهم. والحسد إعجاب معكوس، أما الشرير الذي لا يبغض أهل الخير فإدراكه للخير قليل، وطلبه للامتياز والرجحان ضعيف.
حرية الفكر
فرق بين من يجترئ على العقائد الراسخة لقوة في نفسه، وبين من يرتاب فيها لتحلل في طبيعته يعجزه أن يمسك العقيدة القوية ويحتويها.
إصابة الجاهل
الساعة المعطلة تكون أضبط الساعات جميعا في لحظة من اللحظات، وكذلك العقل الصغير الخابي يصيب مرة حيث لا تصيب كبار العقول.
أنانية الشيوخ
دين المنفعة يغلب على الشيخوخة لأنها عهد الضعف والأدبار، لا لأنها عهد الخبرة والمعرفة.(2/3)
العظماء
حاجة الناس إلى العظيم حاجتهم إلى إرضاء غرورهم لا إلى إرضاء غرور العظيم.
الشعر والشيخوخة
إذا قال الشيخ لا حاجة بي إلى الشعر فلا ترث للشعر بل ارث له هو لأنه ينعى نفسه.
وإذا قالت الأمة لا حاجة بي إلى الشعر فصدقها، واعلم أنها قد شاخت، فلا حاجة بها إلى الشعر، ولا إلى غيره من علامات الفتوة والحياة.
الخوف وحب الحياة
الخوف المفرط من الموت علامة الجهل بقيمة الحياة لا علامة المعرفة بتلك القيمة، لأن الذي يؤثر كل حياة على كل موت يقبل الحياة على أي شكل من الأشكال، ويقبلها على اقبح الأشكال، والذي يقبلها على أقبحها لا يعرف لها قيمة تصان.
الزهد والمتعة
الزاهد الذي يروض نفسه على الزهد بتقبيح الدنيا ليس بزاهد، لأنه لا يترك إلا نجسا قبيحا حين يترك دنياه، والأشرف منه نفساً ذلك الذي ينعم بالدنيا لأنها عنده نفاسة وجمال.
تفاؤل القوة والضعف
يتفاءل المرء ثقة منه بالقدرة على مغالبة الخطوب، أو قلة مبالاة بعواقب الهزيمة، وهذا تفاؤل القوة.
ويتفاءل المرء خداعا لنفسه كي لا يجشمها التأهب لملاقاة الخطوب والتفكير في عواقبها، وهذا تفاؤل الضعف.
الانتقاد والحرية
ليست كثرة الانتقاد دليلا على الحرية في كل حين.
إن الناس يكثرون الانتقاد حين يجهلون الحرية، لأنهم لا يرون للآخرين حقا في التصرف كما يشاءون.
الكبرياء(2/4)
الكبرياء اعتداء، أو رد اعتداء.
الواقعيون والخياليون
التعويل على المحسوسات دأب جميع الناس، لكن صاحب النفس الكبيرة يحس ما لا يحسه أصحاب النفوس الصغار، فيعده هؤلاء من الخياليين. . لأن محسوساته غير موجودة عندهم، فهي ضرب من الخيال.(2/5)
صديق
للأستاذ احمد أمين
الأستاذ بكلية الآداب
- 1 -
لي صديق اصطلحت عليه الأضداد، والتقت فيه المتناقضات، سواء في ذلك خلقه وخلقه وعلمه.
حي خجول، يغشي المجلس فيتعثر في مشيته، ويضطرب في حركته، ويصادف أول مقعد فيرمي نفسه فيه، ويجلس وقد لف الحياء رأسه، وغض الخجل طرفه، وتقدم له القهوة فترتعش يده، وترتجف أعصابه، وقد يداري ذلك فيتظاهر أن ليس له فيها رغبة، ولا به إليها حاجة، وقد يشعل لفافته فيحمله خجله أن ينفضها كل حين، وهي لا تحترق بهذا القدر كل حين، وقد يهرب من هذا كله فيتحدث إلى جليسه لينسى نفسه وخجله، ولكن سرعان ما تعاوده الفكرة فيعاود الهرب، وهكذا دواليك حتى يحين موعد الانصراف، فيخرج كما دخل، ويتنفس الصعداء حامدا الله على أنه لم يخر صعقا، ولم يدركه حينه كربا وقلقا.
من اجل هذا اكره شيء عنده أن يشترك في عزاء أو هناء. أو يدعى إلى وليمة أو يدعو إليها، يشعر أنه عبء ثقيل على الناس وانهم عبء عليه، يحب العزلة لا كرها للناس ولكن ستراً لنفسه، ويأنس بالوحدة وهي تضنيه وتبريه.
ثم هو (مع هذا) جريء إلى الوقاحة، يخطب فلا يهاب، ويتكلم في مسألة علمية فلا ينضب ماؤه، ولا يندى جبينه، ويعرض عليه الأمر في جمع حافل فيدلي برأيه في غير هيبة ولا وجل، وقد تبلغ به الجرأة أن يجرح حسهم، ويدمي شعورهم فلا يأبه لذلك، ويرسل نفسه على سجيتها فلا يتحفظ ولا يتحرز.
يحكم من يراه في حالته الأولى أنه أحيا من مخدرة، ومن يراه في الثانية أنه أوقح من ذئب وأصلب من صخر، ومن يراه فيهما أنه شجاع القلب، جبان الوجه.
وهو طموح قنوع، نابه خامل، يرمي بهمته إلى أبعد مرمى، وتنزع نفسه إلى أسنى المراتب، وتحفزه إلى أبعد المدارك، فيوفر على ذلك همه، ويجمع له نفسه، ويتحمل فيه أشق العناء، وأكبر البلاء، ولا يسأم ولا يضجر. وكلما نال منزلة ملها، وطلب أسمى منها.(2/6)
وبينا هو في جده وكده، وحزمه وعزمه إذ طاف به طائف من التصوف، فاحتقر الدنيا وشؤونها، والنعيم والبؤس والشقاء والهناء وسمع قول المتنبي:
ولا تحسبن المجد زقا وقينة ... فما المجد الا السيف والطعنة البكر
وتركك في الدنيا دويا كأنما ... تداول سمع المرء أنمله العشر
فهزئ به وسخر منه، واستوطأ مهاد الخمول ورضي من زمانه بما قسم له، وبينا يأمل أن يكون أشهر من قمر، ومن نار على علم، يسافر في الشرق والغرب ذكره، ويطوي المراحل أسمه إذا به يخجل يوم ينشر اسمه في صحيفة، ويذوب حين يشار إليه في حفل ويردد مع الصوفية قولهم (ادفن وجودك في ارض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه) يعجب من يراه مجدا خاملا، ومعرفة نكرة، وعاملا مغمورا.
وأغرب ما فيه أنه متكبر يتجاوز قدره، ويعدو طوره. ومتواضع ينخفض جناحه، وتتضاءل نفسه. يتكبر حيث يصغر الكبراء. ويتصاغر حيث يكبر الصغراء. يتأله على العظماء حتى تظن أنه نسل ألا كاسرة ووارث الجبابرة ويجلس إلى الفقير المسكين يؤاكله ويستذل له، هو نسر أمام الأغنياء، وبغاث لدى الفقراء لا تلين قناته لكبير، ويخزم أنفه الصغير.
يحب الناس جملة، ويكرههم جملة. يدعوه الحب أن يندمج فيهم، ويدعوه الكره أن يفر منهم فحار في أمره، فامتزج الحب بالكره، فاستهان بهم في غير احتقار.
صحيح الجسم مريضه. ليس فيه موضع ضعف ولكن كذلك ليس فيه موضع قوة. يشكو المرض فيحار في شأنه الطبيب فيحنق على الأطباء ويرميهم بالعجز، وما العاجز إلا جسمه لم يستطع أن ينوء بنفسه.
كذلك كان رأسه. مضطرب. مرتبك. كأنه مخزن مهوش، أو دكان مبعثر وضع فيه النعل القديم بجانب الحجر الكريم، يؤمن بقول الفقهاء: القديم على قدمه، ثم يدعو إلى التجديد. ويتلاقى فيه مذهب أهل السنة بمذهب أهل النشوء والارتقاء، ومذهب الاختيار بمذهب الجبر، وحب الغني بمذهب أبي ذر وتجتمع في مكتبته كتب خطية قديمة قد أكلتها الأرضة، ونسج الزمان علها خيوطه، وأحدث الكتب الأوربية فكرا وطبعا وتجليدا. ولكل من هذين ظل في عقله، وأثر في رأسه. يسره تأبط شرا في بداوته وصعلكته و (جوته) في حضارته وإمارته ويؤمن لشاعرية هذا وذاك. يسمع إلى الملحدين فيصغي إليهم، وإلى المؤمنين فيحن(2/7)
شوقا لذكراهم، يهمل في صلاته ويحافظ على صومه. إن ألحد فكره لم تطاوعه طبيعته، وإن كفر عقله آمن قلبه. ومن أصدقائه السكير والزاهد، والفاجر الداعر والعابد. وكلهم على اختلاف مذاهبهم يصفه بأنه يجيد الإصغاء كما يجيد البليغ الكلام.
سرت معه سيرة من جنسه، فأحببته وكرهته، ونقمت منه ورحمته، وكنت أنس به واستوحش منه، يبعد عني فأتوق إليه، ويطول مقامي معه فأتبرم به.
وأخيرا، لم يقو جسمه على هذه الأضداد مؤتلفة، والمتناقضات مجتمعة. فعاجله الشيب في شبابه، وتقوس ظهره في ربيع عمره، وأصبح مترهل العضل، منسرق القوى، يظنه من رآه أنه بلغ أرذل العمر، ولداته في رونق الشباب وميعة النشاط.
بلغني مرضه، فلم أدركه إلا جنازة فشيعته إلى أن أنزل حفرته وأجن في رمسه ونفضت من ترابه الأيدي!
وعدت موجع القلب باكيا، ضيق الصدر، مكروب النفس، أخذني من الحزن عليه ما تنقض منه الجوانح، وتنشق له المرائر، فعلمت أن حبي له كان أعمق من كرهي إياه، وأن نقمتي عليه لم تكن الا مظهراً من عطفي عليه، أني كنت أقسو عليه رحمة به! رحمة الله عليه فقد حطم بعضه بعضا، ومضى قتيل روحه شهيد نفسه!(2/8)
مسارح الأذهان
مشروع القرش
دلالته على مبدأ التضامن القوي
للدكتور محمد حسين هيكل بك
أذاعت جماعة مشروع القرش في العام الماضي أكثر من نشرة كتب فيها كبار الكتاب وذوي الرأي حتى لقد أصبح الإنسان يشعر حين يفكر في كتابة شيء جديد للمشروع وأصحابه بشيء من المشقة غير قليل. ذلك شأني على الأقل لأنني لا أريد أن أتناول موضوعا إلا أن يكون له مساس أو اتصال بالقرش ومشروعه. وقد طلبت إلى جماعة القرش منذ اعتزمت إصدار هذا العدد من (الرسالة) أن أكتب ففكرت وفكرت وفكرت حتى انتهيت أخيرا إلى ما اكتب اليوم عن دلالة هذا المشروع من ناحية الاتجاه الاقتصادي وتأييده لمبدأ التضامن الاقتصادي على غيره من المبادئ وتأييده لهذا المبدأ في حدود الاقتصاد القومي اكثر من تأييده إياه في المدى الواسع الذي يعتبر العالم كله وحدة اقتصادية يجب أن تعمها روح التضامن من غير تقيد بالتفكير القومي ومن غير خضوع للمبادئ الاشتراكية المتطرفة.
أنا لا أظن أن الذين بدءوا التفكير في مشروع القرش بدءوه متأثرين بهذا المبدأ الاقتصادي أو ذاك. بل أغلب الظن أنهم بدءوه متأثرين بخضوع مصر الاقتصادي لغيرها من الأمم خضوعا تستطيع بشيء من المثابرة أن تتخلص من نيره. وإذن فهي فكرة الاستقلال الاقتصادي تدفع إليها عاطفة وطنية كالعاطفة التي دفعت إلى النهضة في سبيل الاقتصاد السياسي هي التي حركت في نفوس السابقين إلى فكرة مشروع القرش الدعوة إلى مشروعهم وإبرازه من حيز الفكرة إلى حيز العمل. لكن ذلك لا يغير شيئا من دلالة المشروع على نحو ما قدمنا بل هو يزيده تأييدا. فلو أن فكرة الاستقلال الاقتصادي وحدها هي التي كانت الدافع والمحرك ولم تخلطها فكرة التضامن القومي لرأينا الدعوة إلى هذا الاستقلال تلبس ثوبا آخر وتظهر في صورة أخرى. ومن قبل دعا الداعون إلى تأليف شركة لإنشاء بنك مصر تحقيقا لفكرة الاستقلال الاقتصادي ونجحت الدعوة نجاحها الباهر(2/9)
ومن قبل فكر بنك مصر وألف الشركات المختلفة التي يساهم فيها ويشرف عليها وكان لها من التوفيق الحظ الأكبر. وفي هذه الظروف جميعا كانت فكرة الاستقلال الاقتصادي هي الحافز الأول، وكانت العاطفة الوطنية التي تطمح إلى هذا الاستقلال طموحا صادقا هي اكبر عون على الاكتتاب ثم على النجاح.
وكان ممكناً إنشاء مصنع للطرابيش على الطريقة التي أنشئت بها شركة غزل ونسج القطن، وشركة مصايد الأسماك، وكان ممكناً إنشاء مصنع للأصواف بالطريقة ذاتها. لكن مشروع القرش تأثر بالفكرة التي قدمنا فوجهته في سبيل الاستقلال الاقتصادي وجهة جديدة! وجهة تضامن عام في حدود الاقتصاد القومي لا يطبعها الطابع الفردي الذي يطبع الشركات المختلفة التي تصبو أولا وبالذات إلى الربح، بل يطبعها طابع الإيثار من جامعي القرش ومؤلفيه ومنظمي استثماره الإيثار الذي يجعل المرء يحب لغيره ما يحب لنفسه ويعمل لخير غيره بمقدار ما يعمل لخير نفسه، وان كان إيثارا محدودا بالحدود القومية. ولهذا الإيثار القومي عذره وفضله. له عذره في أنه رد فعل طبيعي لثائرة الغرب وحرصه في أن يستأثر بخيرات العالم كله وأرزاقه تاركا للشرق ما يكفي لإقامة حياته كي يجد ويشتغل أجيراً لحساب الغرب الذي يؤيد أثرته هذه بالمدفع والغواصة والطيارة وله فضله في أنه إنهاض قومي لمصر كي تشعر بما تقدر عليه من غير كبير مشقة أو تضحية. وإنهاض يقوم به شبابها فتيات وشبابا لخير الوطن غير ناظرين جزاء ألا أنهم أدوا للوطن خدمة شعروا بأن أداءها واجب عليهم.
والشعور بالتضامن الاقتصادي على الوجه الذي يلقى شباب القرش على الناس درسه مقدمة لحيوية قوية تربط الأمة بروابط التضامن الأكيدة فيما سوى الميدان الاقتصادي من مرافق حياتها. فالرجل الذي يدفع القرش ويلبس طربوشاً
مصرياً بثمن معتدل يشعر بأنه يؤدي خدمة وطنية تعود عليه هو في الوقت نفسه بفائدة سريعة. وهذه إحدى فضائل التضامن في كل شيء. وهذا الشعور يجعل كل مصري يقدر أن كل خدمة يؤديها الإنسان لوطنه وكل قرش يدفعه له يعود عليه وعلى أمثاله بفائدة مضاعفة لما دفع. فكما أن قرشك الذي دفعته في العام الماضي سيجعلك تلبس الطربوش تدفع ثمنه خمسة عشر قرشا بدلا من خمسين كذلك يجب أن تسأل عن كل قرش تدفعه ماذا(2/10)
يعود عليك أو على الوطن من نفعه؟ فإذا لم يعد بمثل هذه الفائدة المضاعفة فاعلم أن الذين ائتمنوا عليه يغتالونه وأنهم لذلك غير أمناء، وانهم لا يقدرون معنى التضامن القومي وواجبهم إزاءه بل يقدرون فائدتهم الشخصية ناسين فائدة مواطنيهم، ناسين بذلك فائدة الوطن، مضحين بمصالحه في سبيل منافعهم الذاتية، وفي سبيل وصولهم السريع إلى الثروة على حساب غيرهم.
إذا صدقت رسالة مشروع القرش التي قدمنا وكانت بشيرا بتقدير المصريين لمبدأ التضامن ولو في الحدود القومية فقد آن للمصريين أن يستبشروا حقا بمستقبل قريب تتطور فيه النظرة إلى الحياة من مختلف نواحيها تطوراً محسوساً. فنظرية التضامن لا تقف عند الميدان الاقتصادي بل تمتد به إلى ميادين النشاط جميعا، وفي مقدمتها ميدان الإنتاج الفكري والفني. ونظرية التضامن لا يحدها زمن، بل هي تقوم على أساس أن الثروة المادية والثروة المعنوية لأمة من الأمم هما جميعا ثمرة مجهود الأجيال المتعاقبة، وأن لأهل القبور فيها نصيبا اكثر مما لأهل الدور، وأننا جميعا وحدة متماسكة في السعي والعمل بدأت من أول الزمن إن كان للزمن أول وتستمر على الزمن ما بقى الزمن. فإذا وقر الشعور بهذا الرأي في النفوس كان من آثاره أن يحس كل بأنه مدين للمجموع اكثر مما هو دائن له، وان تضامنه مع المجموع في المجهود العائد على المجموع وعليه بالفائدة من خضوعه لسلطان الأنانية الغرور. وهنالك يشعر حقا بان واجباً عليه أن يبني لا أن يهدم، وأن يكون منتجا اكثر منه مستهلكا؛ وأن يعمل لخير غيره عمله لخير نفسه. وهنالك تزول البغضاء من النفوس فتحل محلها المحبة وتتلاشى فكرة التنافس لتقوم مقامها فكرة التعاون ويقضي في النفوس على شهوات الحقد والغيرة والغرور الكاذب لتقوم مقامها فضائل العطف والحنو والتواضع الجميل. وأنت قدير متى صورت هذا التطور كله لنفسك أن تصور الشجاعة الجديدة التي تغمر وادينا الخصب الجميل وان تقدر سعة الخطوات التي تخطو في سبيل الحق والخير والسعادة.
لعل شبان القرش وفتيانه يوافقونني على أن هذه النوازع النفسية الجميلة تجول بخواطرهم مبهمة عند البعض أقل إبهاما عند الآخرين ولعلهم إذا خلوا إلى أنفسهم وفكروا في الأمر يرون أنهم لم يفتحوا عهد مصنع الطرابيش أو مصنع الصوف وكفى، وإنما هم يفتحون(2/11)
السبيل إلى طور جديد يريدون أن يطبعوا به حياة وطنهم. ولعلهم يقدرون عظمة هذا التطور الجديد وعظمة ما يجب على الشباب من مجهود تنهض بعدته أجيال الشباب المتعاقبة لتزيده قوة وإثماراً. ثم لعلهم يحسون أن في الحياة قرشاً غير القرش المادي الذي أدفعه من جيبي. فيها القرش المعنوي والقرش الروحي الذي يعاون على إذكاء معنى التضامن الروحي في النفوس بمقدار ما يعاون القرش المادي على تحقيق معنى التضامن الوطني في الحياة الاقتصادية. هذا القرش المعنوي، وهذا القرش الروحي، الذي يستطيع كل مصري أن يؤديه استطاعته أداء القرش المادي.
- في أي ناحية يجب أن ينفق وأي مصنع يجب أن يقدم كأثر من آثاره؟! هذا ما أترك للشباب البحث فيه ويقيني أنهم مهتدون إلى خير ما يثمر البحث في هذه الناحية كما اهتدوا إلى خير ما أثمر البحث في ناحية القرش. وهم اقدر على تصوير التضامن المعنوي والتضامن الروحي وما يثمران!. .(2/12)
مجمع اللغة العربية الملكي
لأستاذ كبير
في مجلة باريس التي ظهرت أول يناير فصل قيم، دقيق مستفيض عن المجمع العلمي المصري، الذي أنشأه بونابرت في القاهرة في شهر أغسطس سنة 1798. تقرأه فيعجبك لفظه العذب وأسلوبه المتين، ودقة صاحبه في البحث وعنايته بالتفصيلات، وعنايته قبل كل شيء وبعد كل شيء وفوق كل شيء بتمجيد فرنسا وبونابرت، وما كان لهما من أثر بعيد في أحياء مصر الحديثة، وتمهيد السبيل أمامها إلى الرقي المادي، والمعنوي جميعاً.
وربما أحسست (وأنت تقرأ هذا المقال) شيئا من الحزن الخفي يمازج هذا الفخر الظاهر، الذي يملأ نفس (المسيو ف. شارل ليرو) كاتب هذا الفصل. لأن هذا الجهد العنيف الخصب المعجز، الذي أنفقه الفرنسيون أثناء إقامتهم القصيرة بمصر في أواخر القرن الثامن عشر لم يؤت الثمر الذي كان ينتظره بونابرت وأصحابه، والذي كان الفرنسيون يودون أن يكون شيئاً غير الفخر والذكرى.
ولعلك تعلم أن هذا المجمع العلمي المصري الذي أنشئ في القاهرة منذ قرن وثلث قرن، على نظام المجمع الفرنسي، وسعى إلى نفس الأغراض العلمية والأدبية التي كان يسعى لها هذا المجمع وسعى بعد ذلك إلى أغراض عملية كانت تحتاج إليها سياسة الفاتحين وإدارتهم. لعلك تعلم أن هذا المجمع لا يزال قائماً إلى الآن أعيد تنظيمه سنة 1859 وهو الآن يعمل كما كان يعمل آخر القرن الثامن عشر يبحث أعضاؤه عن الرياضة والطبيعة والطب والعلوم الاقتصادية والسياسية والفنون والآداب، ويبحث الآن كما كان يبحث من قبل عن حلول عملية لبعض المسائل التي تمس الزراعة والري والصحة وما إلى ذلك وهو يعتبر كأنه فرع من المجمع العلمي الفرنسي المستقر في باريس ولأعضائه إذا ذهبوا إلى مدينة النور أن يشهدوا جلسات هذا المجمع. وهو دولي كما يقولون فيه علماء يمثلون الأجانب الذين يقيمون في مصر على اختلاف جنسياتهم، وفيه مصريون. ولكن مصر لا تكاد تحسه ولا تشعر به وإن إعانته الحكومة المصرية بالمال، وإن كثر ما ينشره من الكتب والمذكرات، وإن أصدر نشرته في نظام واضطراد لأن لغته ليست اللغة العربية وإنما هي اللغة الفرنسية غالباً والإنجليزية أحياناً. ولست ادري أنشر هذا الفصل في مجلة باريس(2/13)
بمناسبة المرسوم الملكي الذي صدر في منتصف الشهر الماضي بإنشاء المجمع الملكي للغة العربية أم هي مصادفة مطلقة؟ أرادت أن تشتغل مجلة من اكبر المجلات الأوربية بالمجمع العلمي المصري القديم، وفي الوقت الذي تشتغل فيه الصحف المصرية والأندية المصرية بالمجمع الملكي الجديد.
ولكن شيئا يدعو إلى التفكير على كل حال حين نقرأ الفصل الذي نشرته مجلة باريس وهو نشاط الفرنسيين وإسراعهم إلى إنشاء هذا المجمع وفتور المصريين وإبطاؤهم في إنشاء مجمعهم اللغوي.
أيام قليلة لا تكاد تبلغ الخمسة كفت لأن يتكلم بونابرت في مجمعه العلمي إلى بعض العلماء الفرنسيين الذين كانوا يرافقونه ويصدر إليهم أمراً بان يجتمعوا فيضعوا له نظماً ويرشحوا له أعضاء ولأن يجتمع هؤلاء العلماء فيضعوا النظام ويرشحوا الأعضاء ولأن يصدر المرسوم ويعقد المجمع جلسته الأولى وما هي إلا أسابيع قليلة حتى يجمع العلماء الفرنسيين الذين كانوا مفرقين في الإسكندرية ورشيد ليأخذوا مجالسهم في مجمع القاهرة ولا يكاد يعقد المجمع جلسته الأولى حتى يبدأ البحث وتقرأ المذكرات وتنشر الرسائل وكانت المطبعة والمعامل قد أعدت من قبل وما هي الا أعوام حتى يظهر هذا الأثر الخالد لهذا المجمع وهو كتاب وصف مصر.
أما نحن فنفكر في مجمعنا اللغوي منذ أعوام طوال ونحاول إنشاءه فلا نوفق. فكرنا فيه أن صدقتنا الذاكرة في أوائل هذا القرن وقبل الحرب الكبرى وفكرنا فيه وحاولنا إنشاءه أثناء الحرب وفكرنا فيه بعد الهدنة وفكرنا فيه بعد الاستقلال، واعددنا له مشروعا ومشروعا ومشروعاً وكان بعض هذه المشروعات يضيع فلا يهتدى إليه، وبعضها ينام فيطيل النوم وبعضها يقبر قبل أن تنبعث فيه الحياة. وأخيرا وبعد التفكير والتقدير، وبعد الذهاب والإياب، وبعد السفر والإقامة صدر المرسوم، وقيل في البرلمان أن المجمع اللغوي قد أنشئ. وهو قد أنشئ حقاً ما دام المرسوم الذي ينشئه ويحدد أغراضه ويرسم شكله ويبين له خطة العمل قد صدر ونشر وتحدثت عنه الحكومة في البرلمان. ولكنه منشأ بالقوة لا بالفعل، لأن مكانه لم يعرف وأعضاءه لم يختاروا وأبحاثه لم تنشر، والوجود بالقوة خير من العدم على كل حال. أنفق بونابرت أياما لينشئ مجمعاً ينتج بالفعل في واد مجدب من العلم(2/14)
والفن والأدب. وأنفقت مصر ثلاثين عاما لتنشئ مجامعها وتنشر أبحاثها.
وشيء أخر يدعو إلى التفكير حين نقرأ الفصل الذي نشرته مجلة باريس. فالمجمع المصري القديم الذي أنشأه بونابرت لم يكن مقصورا على جنسية بعينها، وكان فيه منذ إنشائه قسيس يوناني شرقي، وهذا المجمع لا يزال إلى الآن دوليا، لا تستطيع أمة أن تقول لها فيه الكثرة حتى ولا مصر التي تؤويه وتنفق عليه وتمكنه من الحياة ونشأ عن ذلك أن مصر هذه التي تؤوي وتمد بالمال لا تستطيع أن تقول أن مجمعها المصري يعترف بلغتها على أنها اللغة الرسمية ومجمعنا اللغوي الجديد دولي أيضاً، سيمثل فيه الشرق العربي كله، وستمثل فيه أمم أوربية مختلفة، يشتغل بعض أبنائها باللغة العربية. وقد تكون اللغة العربية لغة المجمع الجديد وقد يستعين أعضاؤه بالفرنسية أحياناً وبالإنجليزية أحياناً أخرى، وربما كانت هذه اللغة أو تلك ايسر وأدنى إلى أن يفهم بعض الأعضاء بعضاً. وكذلك يكون في مصر مجمعان دوليان أحدهما علمي قديم والآخر لغوي جديد. وكذلك تضرب مصر للناس أحسن الأمثال في الإيمان بأن العلم يجب أن يكون فوق الأوطان والقوميات واللغات الخاصة!
وشيء آخر يدعو إلى التفكير حين نقرأ الفصل الذي نشرته مجلة باريس، وهو أن المجمع الذي أنشأه بونابرت كان يعقد جلساته في اتصال غريب لا يعرف الراحة ولا الهدوء، وهو الآن يعقد جلساته مرات في الشهر أثناء سنة العمل، لا يستريح إلا في الصيف حين يتفرق الأعضاء.
أما مجمعنا اللغوي الجديد فسيجتمع شهرا في العام في الشتاء أو في الربيع، فإذا فكرت في أن المجمع العلمي المصري واحد من مجامع تعد بالعشرات. وانه لو استراح من العمل لم يكد العلم يخسر كثيراً وأن مجمعنا اللغوي الناشئ بالقوة سيكون يوم ينشأ بالفعل واحداً من مجامع لا تبلغ أصابع اليد الواحدة عداً، وأنه يريد أو يراد له أن يضع معاجم في اللغة منها العادي ومنها التاريخي وان يجدد اصطلاحات العلوم والفنون وينشئ منها ما لم يوجد وأن يشرف بعد هذا كله على حياة الأدب واللغة وصفائهما. نقول إذا فكرت في هذا كله وافقتنا على انعقاد مجمعنا اللغوي شهرا كل عام في الشتاء أو في الربيع أقل جدا من أن يتيح له النهوض ببعض ما يطلب إليه. ولكن المجمع اللغوي قد وجد على كل حال ولو بالقوة(2/15)
(وماش خير من لاش) كما يقول المثل ومن يدري لعل أعضاءه لا يكادون يجتمعون لأول مرة حتى تشرب قلوب بعضهم حب بعض ويعز كل منهم على صاحبه ويكرم في نفسه، فلا يفترقون بل يبقون في القاهرة يعملون طول الخريف وطول الشتاء وطول الربيع، ولا يفترقون في الصيف الا كارهين!.(2/16)
صور من التاريخ الإسلامي
أبو ذر الغفاري
للأستاذ عبد الحميد العبادي
الأستاذ بكلية الآداب
العربي القديم من أبسط الناس طبيعة، وأوضحهم سريرة، وأصرحهم لسانا، وأشدهم استمساكا بما يراه الحق، وأعظمهم حمية، أن يجري عليه ذل أو ضيم. ثم هو من اكثر الناس قناعة، وأرضاهم من حطام الدنيا بالكفاف.
ذلك الخلق، الذي قد لا ترضى عن بعض نواحيه النظريات الأخلاقية الحديثة، يرجع إلى البيئة الطبيعية والاجتماعية التي نشأ العربي في حجرها، صيغ على مثالها. فالبادية محدودة الحاجة، ونظام القبيلة الاجتماعي إنما هو نظام الأسرة مكبراً. وكم للناس من فضائل هي وليدة بيئتهم، وإن شئت فقل: كم من فضائل الناس ما هو مرزوق غير مجلوب، وموهوب غير مكسوب!.
ولقد جاء الدين الإسلامي مطبوعا في جملته بالطابع العربي، موسوما بسمته، قد سلك إلى الحقيقتين الدينية والاجتماعية اقرب السبل، وعبر عنهما أوجز تعبيره وأبلغه، فهو من ناحية يأمر بالتوحيد المحض، ومن ناحية أخرى يأمر بالتسوية بين الناس في الحقوق العامة، وبالأخذ من الدنيا بحساب.
ولكن شاء الله أن ينبعث العرب من جزيرتهم غزاة فاتحين، وان يحووا مواريث أمم التبس عليها أمر الحقيقتين المذكورتين، فلم يلبث العرب أن تأثروا بتلك الأمم وانتقلت إليها أدواؤها وأصابهم ما أصابها من لبس واضطراب. فأما الحقيقة الدينية السهلة فقد صيّرها غلاة الفقهاء والمتكلمين، وأهل الأهواء والنحل، أمراً صعباً مستصعباً، له ظاهر وباطن، وقريب وبعيد.
ليس من موضوعنا أن نفيض فيما طرأ على الحقيقة الدينية في صدر الإسلام، ولكن موضوعنا مقصور على ما عرى الحقيقة الاجتماعية فنقول إن هذه أيضاً قد ضل عنها رجال السياسة ضلالا بعيدا. فأفسدوا بذلك النفس العربية الساذجة، وأبدلوها بالزهد في(2/17)
الدنيا شغفا بها، وتهالكا عليها. نعم أن أبا بكر وعمر أنفقا جهدا غير يسير في سد ذرائع هذا الخطر، وبدءا في ذلك بأنفسهما. فكانا مضرب المثل في القناعة والزهد وخشونة العيش. وحاول ثانيهما أن يحمل الناس على القصد والاعتدال فلم يقسم بينهم الأرض المفتوحة عنوة، ثم زاد فمنع قريشا من الخروج إلى البلدان المفتوحة الا بأذن وإلى أجل. فلما شكوه خطبهم خطبة قال فيها تلك المقالة التي تفيض قوة وتصميما. . . . . ألا وان قريشا يريدون أن يتخذوا مال الله معونات من دون عبادة، ألا فأما وابن الخطاب حي فلا! أني قائم دون شعب الحرة فآخذ بحلاقيم قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار. فلما ذهب عمر لسبيله وولى عثمان تنفست قريش وسرى عنها، وأقبلت تستغل لين ذي النورين وحياءه الجم، فانطلقت إلى الأمصار تقتني المال الوافر والعقار الواسع والاقطاعات المترامية على ضفاف دجلة والفرات والنيل، وتتملك أرضا هي بحكم نظام عمر وقف على عامة المسلمين يشركون جميعا في غلته. فأثرت قريش وربلت، وصارت إلى رفاغة عيش لهم تلم لها من قبل بخيال. يحدثنا أبو الحسن المسعودي فيقول: (وفي أيام عثمان اقتنى جماعة من أصحابه الضياع والدور، منهم الزبير بن العوام، بنى داره بالبصرة وهي المعروفة في هذا الوقت. . . . . وابتنى أيضاً دورا بمصر والكوفة والإسكندرية وما علم من دوره وضياعه فمعلوم غير مجهول إلى هذه الغاية. وبلغ مال الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار، وخلف الزبير ألف فرس وألف عبد وألف أمة وخطاطا بحيث ذكرنا من الأمصار. وكذلك طلحة بن عبيد الله التيمي، ابتنى داره بالكوفة المشهورة به هذا الوقت المعروفة بالكباسة بدار الطلحتين وكانت غلته من العراق كل يوم ألف دينار، وقيل اكثر من ذلك (!) وبناحية سراة (؟) اكثر مما ذكرنا، وشيد داره بالمدينة وبناها بالآجر والجص والساج؛ وكذلك عبد الرحمن بن عوف الزهري، ابتنى داره ووسعها وكان على مربطه مائة فرس وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم، وبلغ بعد وفاته ريع ثمن ماله أربعة وثمانين ألفا. وقد ذكر سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت حين مات خلف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار. وابتنى المقداد داره بالمدينة في الموضع المعروف بالجرف على أميال من المدينة وجعل أعلاها شرفات، وجعلها مجصصة الظاهر والباطن. ومات يعلى بن أمية وخلف خمسمائة ألف دينار وديونا(2/18)
على الناس وعقارات وغير ذلك) ثم يقول المسعودي (وهذا باب يتسع ذكره ويكثر وصفه فيمن تملك من الأموال في أيامه، ولم يكن مثل ذلك في أيام عمر بن الخطاب، بل كانت جادة واضحة وطريق بينة).
مهما يكن من المبالغة في هذا النص، فهو لا ريب يشير إلى حال كانت لا بد مثيرة لمعارضة جادة غير هازلة، فالعهد بصاحب الشريعة الإسلامية والشيخين كان لا يزال قريبا، ومبادئ الإسلام الديمقراطية لم تنمح بعد من الأذهان، وقد وجد نوعان من المعارضة لهذه الحال: نوع يستند إلى العنف والقوة المادية، وكان بالأمصار الكبرى، حيث الجند الذين شادوا الدولة بسيوفهم والذين اصبحوا يرون قريشا استأثرت بحقهم في الفيء، وبلسان هؤلاء يقول شاعر من أهل الكوفة: -
يلينا من قريش كل عام ... أمير محدث أو مستشار
لنا نار نحرفها فنخشي ... وليس لهم فلا يخشون نار
ومن هذا القبيل معارضة أهل المدينة. ولكنها كانت ذات صوت خافت ممجمج لأن المدينة لم تعد محل القوة المادية في الدولة العربية فقد خلفها في ذلك الأمصار المذكورة. والحق أن الأوس والخزرج قد أدوا الواجب الذي من اجله لقبوا (بالأنصار) ثم أخذ نجم مجدهم السياسي في الأفول. وأما النوع الآخر من المعارضةفكان يستند إلى الدليل الشرعي وإلى مبدأ الحق والعدالة. وهذا كان يحمل لواءه عاليا رجل قوال اللسان، ثبت الجنان، صريح في الحق كل الصراحة: ذلك أبو ذر الغفاري.
كانت غفار من القبائل الضاربة حول المدينة، وكانت في الجاهلية تحترف قطع الطريق واعتراض القوافل التي تمر من أرضها وهي حرفة لم يكن بها بأس في عرف ذلك الزمان، فنشأ أبو ذر نشأة أعرابية، واتصف بما يتصف به الأعراب عادة من صدق اللهجة وصراحة القول، ومرن على حياة البادية بما فيها من خشونة وسذاجة. ويقال أنه بقوة عقله وصفاء ذهنه أدرك ما عليه قومه من فساد العقيدة، فاطرح الأوثان ووحد الإله وذلك قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين. فلما نبئ عليه السلام وبلغت أبا ذر دعوته، وجد مشاكلة قوية بين هذه الدعوة وبين ما كانت نفسه اطمأنت إليه من قبل، فرحل إليه من فوره، وما هو إلا أن لقيه وسمع منه القرآن حتى أسلم وكان خامس خمسة هم كل الجماعة(2/19)
الإسلامية آنذاك. ولقد أبى إلا أن يجهر في مكة بدينه الجديد فتعمدته قريش بالأذى ثم ذكرت أنه من قوم تمر عيرها من أرضهم، فكفت عنه.
عاد أبو ذر بعد ذلك إلى البادية فدعا قومه إلى الإسلام فأسلم بعضهم، ثم أسلم سائرهم عندما هاجر الرسول إلى المدينة، وبذلك أصبحت غفار من القبائل التي ظاهرت الرسول في محاربته قريشا. وقد لبث أبو ذر في قومه إلى أن تمت الهجرة وانقضت أيام بدر وأحد والخندق ثم قدم المدينة وخرج مع الرسول في غزوة تبوك ولزم صحبته إلى أن توفي عليه السلام فكان بذلك من أكبر رواة الحديث.
وقد وردت أحاديث تشير إلى أخلاق أبي ذر فيروى أن النبي سمعه يقول لآخر (يا بن الأمة) فقال عليه السلام (ما ذهبت عنك اعرابيتك بعد) وتخلفت بأبي ذر راحلته عن الجيش في غزوة تبوك فتركها أدرك الجيش ماشيا وحده فقال الرسول (. . . يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده)، وورد فيه أيضاً (ما أفلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من ذي لهجة اصدق من أبي ذر).
وأقام أبو ذر بعد وفاة الرسول بالمدينة، فلما كانت خلافة عمر بن الخطاب ألحقه عمر في العطاء بأهل بدر تشريفا لقدره وان لم يكن منهم، فعرض له خمسة آلاف درهم في السنة. ثم خرج إلى الشام، وغزا مع معاوية ارض الروم سنة 23 هـ وجزيرة قبرس سنة 27 هـ.
فلما وقف تيار الفتوح العربية منتصف خلافة عثمان أقام أبو ذر بالشام فرأى ما آل إليه المسلمون من الحال التي سبق وصفها. رأى رجال الدولة تسمى الفيء مال الله توصلا بهذه التسمية الخادعة إلى الاستئثار به أو التصرف فيه كما يشاءون. ورأى المجتمع قد استحال فريقين متباينين: أغنياء مترفين وفقراء معدمين، فأثارت تلك الحال حفيظة أبي ذر وهو الذي شهد دورة الفلك كاملة، ورأى العرب في جاهليتهم وما صاروا إليه في خلافة عثمان، فنصب نفسه لمكافحة تلك الحال مهما جر عليه ذلك. فأعلن برنامجه في الإصلاح. فأما الفيء فيجب أن يسمى (مال المسلمين) لا (مال الله) وأما الأغنياء فيجب أن يرد فضل أموالهم على الفقراء، وذهب أبو ذر إلى المسلم (لا ينبغي له أن يكون في ملكه اكثر من قوت يومه وليلته أو شيء ينفقه في سبيل الله أو يعده لكريم) أخذ ذلك من ظاهر قوله تعالى(2/20)
(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) وبذلك البرنامج أصبح أبو ذر داعية اشتراكيا صريحا. وقد شاعت دعوته في فقراء الناس ومجاويحهم فثاروا بالأغنياء وطالبوهم أن يشركوهم في أموالهم، فتوجه الأغنياء بالشكوى إلى أمير الشام لذلك العهد: معاوية بن أبي سفيان.
أحب معاوية قبل كل شيء أن يختر صدق أبي ذر فيما يدعو إليه، فبعث إليه في جنح الليل بألف دينار ولما كان الصبح أرسل إليه يستردها بحيلة إحتالها فوجد أبا ذر قد فرقها كلها، فعلم معاوية أن الرجل يفعل ما يقول. فأقبل يجادله فيما يدعو إليه وعلى سبيل الترضية له قبل أن يسمي الفيء (مال المسلمين) بدلا من (مال الله) ولكن أبا ذر أصر على أن ينزل الأغنياء عن فضل أموالهم للفقراء، وعبثا حاول معاوية أن يقنعه بأن الآية التي يستدل بها إنما نزلت في أهل الكتاب وحدهم. وأعيا معاوية أمر أبي ذر فجنح إلى أخذه بالشدة فنهى الناس عن مجالسته وتهدده بالقتل فلما لم يجد كل ذلك رفع أمره إلى عثمان فأمره بأشخاصه إليه، فأشخصه إليه على شر حال.
لم يكن أبو ذر في المدينة بأسعد منه في الشام فقد حاول عثمان أن يصرفه عن دعوته، ويريه أنه لا يملك أن يجبر الناس على الزهد وعلى أن يؤدوا غير فريضة الزكاة، وان كل الذي يملك هوان يدعو المسلمين إلى الاجتهاد والاقتصاد. ولكن أبا ذر كان يريد برنامجه كاملا، وولع به أهل المدينة والتفوا حوله، فرأى عثمان آخرة الأمر أن يحصر الخطر في أضيق دائرة ممكنة فنفى أبا ذر إلى الربذة وهي مكان في البادية ناء عن المدينة. والظاهر أن عثمان لم يرد أكثر من إبعاد أبي ذر عن الناس، فالروايات تقول أنه أجرى عليه رزقا يناله كل يوم وأنه لم يمنعه إلى الاختلاف إلى المدينة من حين لآخر حتى لا يرتد أعرابياً.
لم يكن أبو ذر ثائرا ولكن طالب إصلاح أرتآه. ومما يدل على عدم نزوعه إلى الثورة أنه وهو في منفاه مر به ركب من أهل الكوفة ممن كان منحرفا عن عثمان فطلبوا إليه أن ينصب راية يلتف حولها كل من كان على شاكلته وشاكلتهم، فأبى ذلك بتاتا ونهاهم عنه: وأما مذهبه في الإصلاح فلا شك أنه ابن بجدته، فالإسلام لا يحظر الثروة ولا الملكية، ولا يوجب على المسلم حقا في ماله غير الزكاة، وكل ما ينهي عنه الإسلام في هذا الصدد إنما هو أن تجعل الثروة غرضا مقصودا لذاته.(2/21)
وعندي أن حركة أبي ذر الاشتراكية تمت بنسب قوي إلى حركة مزدك الشيوعي الذي ظهر بفارس على عهد قباذ وكسرى أنو شروان، والذي كاد يقلب نظام المجتمع الفارسي رأسا على عقب لولا عزم أنوشروان وحزمه. فإذا عرفنا أن اليمن خضعت لفارس قبيل الإسلام وان يهوديا من أهل صنعاء يعرف بابن السوداء ادعى الإسلام في خلافة عثمان وجعل يطوف الأمصار الإسلامية داعيا إلى الثورة، وانه هو الذي حرك أبا ذر لما أنس فيه من الميول الاشتراكية، إذا عرفنا ذلك كله فقد وضحت الصلة بين الحركة الشيوعية الفارسية القديمة وبين الحركة الاشتراكية التي أوشكت أن تقع في الدولة الإسلامية على عهد ثالث الخلفاء الراشدين.
لبث أبو ذر في منفاه نحو ثلاث سنين يعاني ألم الوحشة وكبر السن وخيبة الأمل فلما أدركه الموت في سنة 32 هـ كانت وفاته مؤثرة ودالة على شدة ثباته على مبدأه حتى النهاية، وعلى أنه حقا قد مشي وحده، ومات وحده، يروي ابن سعد في طبقاته أنه عندما حضرت الوفاة أبا ذر حارت امرأته في أمرها لتوحدها في تلك الفلاة (فكانت تشد إلى كثيب تقوم عليه فتنظر ثم ترجع إليه فتمرضه، ثم ترجع إلى الكثيب، فبينما هي كذلك إذا هي بنفر تحذ بهم رواحلهم كأنهم الرخم على رحالهم، فألاحت بثوبها، فاقبلوا حتى وقفوا عليها، قالوا ما لك؟ قالت امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه. قالوا ومن هو؟ قالت أبا ذر. ففدوه بآبائهم وأمهاتهم، ووضعوا السياط في نحورها، يستبقون إليه حتى جاءوه. فقال لهم. . . . . . . . . ولو كان لي ثوب يسعني كفناً لم أكفن إلا في ثوب هو لي، أو لامرأتي ثوب يسعني لم أكفن إلا في ثوبها، فأنشدكم الله والإسلام الا يكفنني رجل منكم كان أميرا أو عريفا أو نقيبا أو بريدا. فكل القوم قد كان قارف شيئا من ذلك إلا فتى من الأنصار قال أنا أكفنك فإني لم اصب مما ذكرت شيئا، أكفنك في ردائي هذا الذي على وفي ثوبين في عيبتي من غزل أمي حاكتهما لي. قال أنت فكفني. . . فكان ذلك الفتى الأنصاري هو الذي تولى تجهيزه ثم دفنوه جميعا.
وهكذا انطفأ سراج هذه الشخصية الفذة العجيبة. أنها لا شك من تلك الشخصيات التي يقدمها الزمن عادة بين أيدي الأحداث الخطيرة إنذارا للناس وإقامة للحجة عليهم إذا لج بهم الغرور فلم يرعوا ولم يزدجروا.(2/22)
على أن روح أبي ذر لم يكن ليغيب مع جثمانه في تلك الفلاة البلقع، فقد ظل صوته داويا إلى أن تحقق ما أنذر به المدينة من (غارة شعواء وحرب مذكار) ووقفت الفتنة الكبرى التي يقال أنها أنتجت كل فتنة حدثت في الإسلام. ولقد كانت غفار ممن نهض فيها وألقى في نارها حطبا.(2/23)
العلم والخلق
للدكتور منصور فهمي
أستاذ الفلسفة بكلية الآداب
وجهة العالم في أن يدرك الأمور على ما هي عليه، ونشاطه في أن يكسب للمعرفة من ميدان الجهل، وأن ينشر النور حيث يخيم الظلام. ووجهة الخلقي في أن يصور الأمور على ما ينبغي أن تكون عليه الأمور، وأن يلفت الأنظار إلى مثل عليا تحفز بالناس للتسامي إليها والارتفاع بأنفسهم وبالحياة الراهنة إلى ما هو أرفع من أنفسهم وأرفع من الحياة الراهنة.
ولطالما اضطربت الإفهام واستغلق الأمر على الباحثين حيث تعرضوا لاستجلاء الصلة بين العلم وبين الأخلاق فحسبوا أن الوشائج بينهم مقطوعة حين نظروا إلى وجهتين مختلفتين: وجهة من يصف ويعلل، ووجهة من يرتضي مثالاً ويوجه إليه، وجهة من يهز صوته الفكر ويتردد صدى هذا الصوت بين جوانب الدماغ، ووجهة من تؤم نغماته تجاويف القلب وتسري في أقنية الدم، وعلى أسلاك العصب لتدفع بالنفس كلها إلى العمل.
ولطالما رأى غير قليل من المفكرين أن العلم النظري وثمراته التطبيقية لا تؤثر في الناس لتهذيبهم على نحو ما تؤثر العقائد الدينية والفلسفة والمثل العليا، حتى أن بعض قادة الفكر في الزمن الحديث أمثال (بسكال) و (ديكارت) اصطنعوا لأنفسهم ذلك الرأي فتخطوا العلم ليجدوا في الدين وفي العرف مرشدا لسلوكهم ومأمنا لأحكامهم وتقديرهم في اتخاذ الحسن من الأفعال وتجنب القبيح منها، وفي اتخاذ السبيل لراحة النفس واطمئنانها. بل قد ذهب غير قليل من مفكري عصرنا إلى إساءة الظن بالعلم فحملوه أوزار الحروب القاسية، وأخطار الفراغ الممل، وأضرار الثورات الاجتماعية العنيفة ومساوئ المطامع والتنازع الحاد، حتى وقد يبالغون في لوم العلم إلى حد أن يروا على نحو ما يرى (أيشتين) في أنه ذلك المسيء إلى الحريات الإنسانية، فمن ينظر إلى تلك المصانع وما فيها من آلات منوعة، وأعمال موزعة، يتبين أنها تتناصر جميعا على استعباد عدد من العمال وفير، وتسخيرهم تسخيراً آلياً تضمحل معه نفوسهم، وتهن من تأثيره كرامتهم، بل ربما يذهب الذاهبون في مذهبهم العدائي للعلم إلى حد أقسى مما تقدم، فلا يشفع له عندهم فضل(2/24)
المحسن إلى البشر إذ يقاوم الأمراض الفتاكة، وييسر المسافات البعيدة، ويرفه الخلق في كثير، فمع ذلك ورغم ذلك قد ينكرون على العلم قيمته وفضله لأن من يستطيع الإحسان في شيء قد تكبر تبعته ويعظم إثمه إذا هو استخدم سلاحه للإساءة والعدوان وهو عارف لمواضع الإحسان. وأي إساءة اعظم من إساءة الحروب المعززة بجهود العلم؟ وأي عدوان أشد من تحويل عدد عديد من الناس إلى صنف من المخلوقات يستغرق في الإنتاج شهوة ومن غير قصد، ويستغرق في الاستهلاك شهوة، ومن غير حد؟.
على أن هذا النحو من النظر العدائي ربما كان بعض مصدره ما تتعرض إليه النفوس واللغات أحياناً من الخلط بين الوسائل وغاياتها، وبين العلل ومعلولاتها، وبين الحال والمحل مما هو شائع ذائع.
وعلى هذا النحو خلط الكثيرون بين العلم المحض الخالص وبين نتائج العلم وتطبيقاته في شؤون الحياة، وكذلك قد ظلموه على نحو ما يظلم السيف المهند في يد الجندي الجبان.
وليس حظ السذج والعامة في الخلط بين العلم وتطبيقاته بأربى من حظ بعض الخاصة وأشباههم في هذا الأمر. وقد يطلب الكثيرون من معاهد العلم ودوره أن تفيض عليهم وعلى أبنائهم من المتعلمين بما ينتفع به الناس انتفاعا عمليا حتى شاعت في السنين الأخيرة عندنا وعند غيرنا من الأمم بدعة العلم العملي والتعليم العملي ونادى بها أكثر من كاتب، وقال بها أكثر من مشتغل بشؤون التعليم. ولو أنصف هؤلاء وهؤلاء لأعترفوا للعلم بطبيعته النظرية، وقدروا له حرصه على المعرفة لذاتها فحسب دون تقدير لنتائجها الضارة أو النافعة.
لكن غير المشتغلين بالعلم الخالص من أفراد الناس بخاصة هم الذين وجهوا نتائج العلم للخير والشر وللحسن والقبيح، دون أن يكون للعلم في ذاته دخل في ذلك التوجيه. فما على العلم إذن وما له إذا استخدم الإنسان بعض آثاره ليعيث بها فسادا أو ليصلح بها في الوجود؟.
ليس في قانون البحث العلمي ما يلزمنا أن نحكم بأن غازا من الغازات يجب أن يتوجه لحيث يحيي أو لحيث يميت! وليس في قانون العلم أن جوهرا من الجواهر يجب أن يكون سما ناقعا أو بلسما نافعا! لكن طبيعة الإنسان بما فيها من رفعة أو ضعة هي التي تستخدم(2/25)
السم لتجعل منه الدواء أو لتجعل منه الداء، وهي التي تستخدم الشيء الواحد ليكون نعمة أو نقمة. فمدار الخير أو الشر إذن إنما هو منوط بالإنسان. . . على أن الناظر المدقق لو أنه تأمل مليا لوجد أن العلم يشمل عدة عناصر تهيئ النفس للتسامي والخير. ذلك لأن العلم بشيء من الأشياء، وتكشف الحق في جهة من الجهات، وإطلاق النور في مكامن الديجور كل ذلك إنما يشعر بعظمة العقل وجدارة الإنسان، وفي الشعور بالعظمة والجدارة أول مصدر للخلق ونبالته. ولست أريد في هذه الكلمة الوجيزة أن أتعرض لما يحدثه العلم واصطناعه في تقوية الاستعدادات الخلقية الكريمة، وحسبي أن أنبه طالب العلم إلى أن العلم في جوهره نبيل وأن المنتمي إليه يجب أن يكون نبيلا. فيا طالب العلم لا تأثم في حقه فتتوجه به إلى منخفض من الحياة، وإلى ما في الدنيا من ضعة! واعمل دائما على أن تعلو بعلمك إلى السماء وتحلق به حيث شرف النفس ورفعة المقصد وآفاق المعاني السامية وعالم الخير.(2/26)
التجديد في الدين
للأستاذ أمين الخولي
المدرس بكلية الآداب
مقال لمشروع القرش، وحول مشروع القرش، يحضر النفس ذكر الشباب، والتضامن والاستقلال والحياة والقوة وتجديد مجد مصر. . ثم نحن الآن في رمضان: صوم وزهد وتدين. . فمن تداعى هذه المعاني يأتلف العنوان (التجديد في الدين).
عنوان قد يطلع على البعض جريئا بل ربما كان مزعجا لكثير من المتدينين الذين يتعجلون الحكم على الأشياء قبل اختبارها ويبتدرونها بتلك الأحكام الغاضبة السريعة. فان يفعلوا ذلك قبل الفراغ من المقال فهذا هو الذي يفقد أحكامهم قوتها وحرمتها. وإن يتريثوا حتى يقرءوا فسيرون أنهم كثيرا ما يثورون في وجه من لا يستحق منهم الا التقدير.
عنوان قد يكون نابيا قلقا عند غير المتدينين. لأنهم يرون في الشيوخ صورة المحافظة المسرفة، بل يعتبرونهم حجر عثرة في سبيل التجدد على اختلاف ألوانه. ويحملونهم تبعة الكثير مما أوقف الشرق وأخره. ويرونهم جند الرجعية ومرجعها. ويصدر الكثيرون عليهم أحكاما رهيبة. لكنها سرية قل من يجرؤ على مجاهرتهم بها. فأصحاب تلك الآراء والأحكام قد يعدون هذا العنوان دعابة مازحة ومفارقة فكهة. لكنهم إن يتعجلوا الحكم كذلك قبل أن يقرءوا فهذا بعض تطرفهم الذي يفقد جهادهم قوته ويعوق نجاحه. وان يطمئنوا حتى يقرءوا فسيرون أن كثيرا مما ثاروا فيه على الدين ليس من الدين في شيء وأن الدين غير المنتسبين إلى الدين.
العنوان حقيقة صحيحة صريحة لا فكاهة فيه ولا مروق (إن شاء الله) ففي الدين فكرة واضحة عن التجديد تبين ناموسا كونيا وتنبه إلى سنة اجتماعية مطردة لا تتبدل. إذ ورد في الحديث (أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها) أو ما هذا معناه. وهو حديث صحيح نص على صحته متقدمون منهم البيهقي والحاكم ومتأخر ون منهم ابن حجر والعراقي. . وراجت فكرة التجديد في الإسلام. وعني العلماء ببيان مجددي كل مائة وتعيين أسمائهم وأعمالهم والترجمة لهم. . . ولا أريد هنا وفي هذه الإلمامة الصحفية، أن أعني باستقصاء تاريخ فكرة (التجديد في الدين) بل اكتفي بأن أشير في ذلك(2/27)
إلى مجموعة تنتظم من خير التجديد والمجددين صورة كاملة من الهجرة إلى اليوم، وهي تتألف من منظومة للسيوطي في هذا الموضوع سماها (تحفة المهتدين في بيان أسماء المجددين) ومطلع هذه المنظومة:
لقد أتى في خبر مشتهر ... رواه كل حافظ معتبر
بأنه في رأس كل مائة ... يبعث ربنا لهذه الأمة
منا علينا عالما يجدد ... دين الهندي لأنه مجتهد
وعلى هذه المنظومة شرح للشيخ محمد المراغي المالكي الجرجاوي الذي عاش في القرنين الثالث والرابع عشر الهجريين وسمى هذا الشرح (بغية المفتدين، ومنحة المجدين، على تحفة المهتدين. . . الخ) شرح فيه منظومة السيوطي ثم اكمل أسماء المجددين نظما إلى عصره وشرح نظمه على طريقة شرحه نظم السيوطي.
وفي بيان الدينيين لمعنى التجديد تراهم يقولون: أنه نفع الأمة، ودفع المكاره عن الناس، ونصرة الحق وأهله، وإحياء ما أندرس من أحكام الشريعة، وما هي من معالم السنن وما خفي من العلوم الدينية ويتحدثون عن تغير الحياة واستحداث أشياء تحتاج إلى تناول جديد وحسبك من قولهم في معنى التجديد ما ورد في المجموعة السابقة من عبارة النظم والشرح ممتزجتين وهي: (وإنما كان مجدداً لأنه أي المبعوث فينا مجتهد وشأن المجتهد التجديد. . . .) ولأن اكتفوا في الأزمنة الأخيرة بالاجتهاد المقيد فبحسبهم أن أناطوا التجديد بالاجتهاد وفسروه به أبعدوه عن التقليد الذي هو آفة العقول وعلة الجمود. وتراهم حين يعدون أسماء المجددين في كل طبقة قد يعددون المجددين ويخصون كل مجدد بفرع من فروع العلم أو العمل. فيوسعون الدائرة توسعة محمودة.
تلك فكرتهم في تجديد الدين: وأنها لفكرة في التجديد متزنة رزينة مقدرة لنظام الحياة وتدرجها معادية للجمود وقاضية عليه قاتلة لأهله. . . . وإذا كان الدين وهو وحي الهي والإسلام وهو رسالة لا رسالة بعدها هو الذي يقرر لأهله أن نظام الحياة العاملة يحوجه إلى التجدد ويهيئ الله له على الزمن من ينفي عنه مظاهر الجمود، وعوامل الوقوف؛ إذا كان هذا حال الدين، وذاك شأن الإسلام، فمرافق الحياة، وظواهر المعيشة التي لا ثبات لها ولا استقرار، والتي هي وليدة الظروف وصنعتها، اشد حاجة إلى التجدد والتغير. . . .(2/28)
وإذا كانت البعثة الدينية التجديدية منة على المتينين، وفضلا من الله ونعمة، فالمنتسبون إلى الدين حين يقاتلون المبعوثين لهذا التجديد، ويجمدون على ما وجدوا عليه آبائهم، إنما ينكرون نعمة الله، ويصدون عن سبيله ويبغونها عوجا (وما هم ببالغيه) وهم، وبين أيديهم ذلك الأثر، وعليهم ذلك الواجب لا يأثمون بجمودهم إثما واحدا! بل آثاما كثيرة: إثم لأنهم لا يتجددون وإثم لأنهم لا يجددون وإثم لأنهم يعوقون المتجددين المجددين في تعنت أصم لا يميز الخبيث من الطيب مهما تبينا ولا يعرف داعي الله من داعي الشيطان.
مصر والتجديد في الدين
وما ننسى أن الكلمة لمشروع القرش وحول مشروع القرش. فلنعد إلى مصر المتجددة بجهاد شبانها، مصر ذات الحيوية الفياضة وصاحبة الشخصية الخالدة والتي أسدت إلى الإنسانية والحضارة أطهر الأيادي وأشرفها على تطاول السنين وتمادي الأيام. نعود لنقول أن مصر كعادتها في ذلك قد اضطلعت من تجديد الدين بالحظ الأوفر وساهمت فيه بالنصيب الأكبر على سعة الإمبراطورية الإسلامية وترامي أرجائها وانتظامها الواسع الأفيح أقطار الدنيا القديمة. فأنت حين تعرض أسماء أولئك المبعوثين المجددين على رؤوس المئات خلال الثلاثة عشر قرنا من تاريخ الهجرة تراهم يعدون هكذا:
في المائة الأولىعمر بن عبد العزيز
في المائة الثانيةالشافعي
في المائة الثالثةابن سريج العراقي أو أبو الحسن الأشعري
في المائة الرابعة الباقلاني أو الاسفراييني
في المائة الخامسةالغزالي
في المائة السادسة الفخر الرازي
في المائة السابعة ابن دقيق العيد الشافعي
في المائة الثامنة البلقيني أو غيره
في المائة التاسعة السيوطي
في المائة العاشرةالرملي أو غيره
في المائة الحادية عشرة عبد الله ابن سالم البصري(2/29)
في المائة الثانية عشرة الدردير
في المائة الثالثة عشرة احمد الشرقاوي
في المائة الرابعة عشرة. . . . . . . . . . . .؟
وتجيد نظرك في هذه الجريدة من الأسماء فترى (كما لاحظ القدماء أنفسهم) أن الكثرة المطلقة من هؤلاء المجددين مصرية رجال أنجبتهم وآوتهم وعلمتهم مصر ذات الفضل العتيد على المدنية منذ عرفها بنو آدم، فبين هؤلاء الثلاثة عشرة مجددا ثمانية من المصريين هم: عمر بن عبد العزيز وليد مصر الناشئ بها، والشافعي الذي حمته وفيها علم، وابن
دقيق العيد القشيري المنفلوطي، والبلقيني المنسوب إلى بلقينة قرب المحلة، والسيوطي والرملي المنسوب إلى رملة قرب
منية العطار تجاه مسجد الخضر، والدردير العدوي، والشرقاوي الجرجاوي. وان شئت عددت لمصر منهم تسعة فمصر في القرن الرابع عشر الهجري هي قلب الشرق الخافق وعقله المفكر وقد تصدرت في شجاعة ونبل لحمل أعباء تلك القيادة منذ بدأ ذلك الشرق يمسح عن عيونه آثار النوم ويتهيأ ليقظة نشطة باهرة تمدها عزمة قاهرة تكتب له النجاة وترد له حقه في الحياة. . . ولا أريد اليوم أن أُسمي مجدد هذه المائة أو مجدديها من المصريين حتى لا أحابي أحداً، ولا ألقن رأياً وإنما أترك الكلمة في ذلك لشبان الشرق وشبان مصر.
يا شبان الشرق ها أنتم أولاء تطالعكم قوى التجديد من حيث تخشون عناصر الجمود؛ وها هو الإسلام الدين الحي يدفعكم دفعا إلى مسايرة نواميس الكون؛ ومجاراة نظم الجماعات الإنسانية؛ وهذا تاريخكم المجيد يغذي حاضركم الحديث فلا عذر اليوم لكم إذا لم تثبت تلك العزمات لتسمع الدهر صوتا أصغى إليه أزمانا وحدا له فسار؛ ومضى حيث صرفه واحكم فيه.
يا شباب: هاكم ماضيا مجيدا في الصدارة والزعامة، لم يدع ميدانا إلا حله، وها هي ذي مصركم معلمة الدنيا قد أنهت إليكم لواء هذه الزعامة وقد بايعها الشرق وعرف مكانها وعاندها الغرب وجحد حقها. والحياة العاملة اليوم إنما تكتب للأمة الصناع والشعب الدؤب(2/30)
فلا بد أن تتصدر مصركم ما تصدرت من باقي الميادين قديما وسيبني ثبات شبانها بمشروعهم العملي صروحا سامقة من القوة المادية تشهد أن الذين عرف أسلافهم كيف يجمعون الفلسفة ويعينون العلم ويذودون عن الأديان يعرفون هم جيدا كيف يؤصلون الصناعة على أساس أبقى على الدهر من الدهر.(2/31)
في الأدب العَرَبيّ
حلقات الأدب في الفسطاط
للأستاذ محمد عبد الله عنان
(2)
لبثت الفسطاط عاصمة الإسلام في مصر منذ قيامها سنة 21 هـ (641م) حتى سنة 358هـ (969م). وفي ذلك العام كان الفتح الفاطمي، وكان قيام القاهرة المعزية التي وضعت خططها الأولى في شعبان سنة 358، ونشأت القاهرة بادئ بدء مدينة ملكية فقط لتكون قاعدة للدولة الجديدة ومنزلا للخلافة الفاطمية، ونشأ جامعها الأزهر الذي أسس بعد قيامها بأشهر قلائل (جمادى الأولى سنة 359هـ) مسجدا للإمامة الجديدة فقط. ومضى زهاء نصف قرن قبل أن تبدو العاصمة الجديدة في شيء مما تميزت به بعد ذلك بين الأمصار الإسلامية من عظمة وروعة وبهاء، وقبل أن يبدأ الجامع الأزهر تاريخه الأدبي الباهر. ولكن ظلت الفسطاط بعد ذلك عصورا تحتفظ بمكانتها الأدبية، ولبثت حلقاتها ولياليها الأدبية شهيرة بين أدباء المشرق والمغرب. وبدأ الجامع الأزهر ينافس المسجد الجامع في حلقاته ومجالسه الأدبية منذ عهد الخليفة العزيز بالله، إذ استأذن وزيره الشهير يعقوب بن كلس سنة 378 هـ أن ينظم بالأزهر على نفقته بعض مجالس القراءة والفقه. وفي خاتمة القرن الرابع، في عهد الحاكم بأمر الله، أنشئت دار الحكمة بالقاهرة ونظمت مجالسها، فكانت مثوى للمجالس العلمية الكلامية والفلسفية.
ولسنا نتحدث عن القاهرة ومكانتها العلمية والأدبية بين الأمصار الإسلامية في العصور الوسطى، ولا عن أزهرها الذي غدا فيما بعد أعظم جامعة إسلامية، كذلك لسنا نتحدث عن دار الحكمة ومجالسها الشهيرة التي كانت تتخذها الخلافة الفاطمية أداة لتحقيق دعوات دينية فلسفية غامضة، فذلك ليس موضوعنا. وإنما نتتبع تاريخ الفسطاط الأدبي، بعد قيام القاهرة، منافستها العظيمة الفتية.
فقدت الفسطاط أهميتها السياسية والرسمية، ولكنها احتفظت عصورا أخرى بأهميتها الاجتماعية والأدبية وفي فترات كثيرة كانت تتفوق على القاهرة بطابعها الأدبي. وهذا ما يشيد به أدباء المشرق والأندلس الوافدين على مصر في عصور مختلفة. ومن هؤلاء أمية(2/32)
بن عبد العزيز بن أبي الصلت الأندلسي الذي وفد على مصر في أوائل القرن السادس الهجري في عهد الأفضل شاهنشاه. ودرس الحركة الفكرية والأدبية في مصر يومئذ كتب عنها رسالة لم يصلنا سوى شذور قليلة منها. وفي هذه الشذور يتحدث أبن أبي الصلت عن بعض أدباء مصر وعلمائها، ومجالسهم واجتماعاتهم بما يدل على أن الفسطاط كانت ما تزال مركزا هاما للحركة العلمية والأدبية. ووفد ابن سعيد الأندلسي إلى مصر بعد ذلك بنحو قرن، نحو سنة 637هـ (1240م)، ولبث بها أعواماً طويلة يدرس شئونها وأحوالها، فإذا بالفسطاط ما تزال تحتفظ بأهميتها الأدبية، وإذا بها ما تزال مثوى للأدباء ومركزاً لأبهاء الأدب، وإذا لياليها الأدبية ما تزال شهيرة. ويفرد أبن سعيد في كتابه (المغرب في حلى المغرب) فصلا كبيراً للفسطاط عنوانه: (كتاب الاغتباط في حلى الفسطاط) يتحدث فيه عن المدينة، وزياراته لها واجتماعاته بأدبائها، ولا سيما شاعرها الكبير جمال الدين أبي الحسن الجزار، أشهر شعراء مصر في هذا العصر، وما لقيه من كرم وفادته وشهده من رائع أدبه، وقد كان الشاعر الكبير يومئذ، على ما يظهر شاباً في عنفوان شاعريته لأنه توفي بعد ذلك بنحو أربعين سنة في (679هـ1282م) وهو صاحب الأرجوزة التاريخية الشهيرة المسماة (بالعقود الدرية في الأمراء المصرية) وفيها يستعرض ذكر أمراء مصر وملوكها منذ عمرو بن العاص إلى الملك الظاهر بيبرس، وكانت الفسطاط قد عادت يومئذ فاستعادت كثيراً من بهائها السالف، وأهميتها الاجتماعية القديمة بسبب قيام المدينة الملكية الجديدة التي أنشأها الملك الصالح في جزيرة الروضة المقابلة للفسطاط (638هـ) واتخاذها قاعدة للسلطنة، وانتقال البلاط والحاشية إليها، وسكن كثير من الأمراء والكبراء بالفسطاط في الضفة المقابلة لنهر النيل، وهو ما يشير إليه أبن سعيد في قوله، (وقد نفخ روع الاعتناء والنمو في مدينة الفسطاط الآن لمجاورتها للجزيرة الصالحية (جزيرة الروضة)، وكثير من الجند قد أنتقل إليها للقرب من الخدمة، وبني على سورها جماعة منهم مناظر تبهج الناظر).
ويشير ابن سعيد في كتابه السالف الذكر إلى ليالي الفسطاط واجتماعاتها الشائعة في الليالي القمرية وأشهرها ما كان يعقد في القرافة مما يلي المقطم في قبة الإمام الشافعي التي كانت قد أنشئت على قبره. وكان المسجد الجامع قد عفت أهميته شيئاً فشيئاً مذ قام منافسه القوي،(2/33)
الجامع الأزهر وغيره من المساجد والمدارس الجامعة بمدينة القاهرة، ولكننا نراه ما يزال حتى القرن السابع مثوى للأدب واجتماعاته، وبرغم عفائه وقدمه ونسيان أمره، كانت تعقد في عرصاته حلقات للقراءة والدرس، وهو ما يشير إليه ابن سعيد أيضاً خلال وصفه للمسجد الجامع في منتصف القرن السابع، بيد أن هذه الحلقات لم تكن من الأهمية والرونق والانتظام مثلما كانت عليه في القرون الأولى يوم كان المسجد الجامع مجتمع الأمراء وأقطاب التفكير والأدب. وكانت يومئذ أقرب إلى الصبغة المدرسية. ومع ذلك فقد بقي للمسجد الجامع حتى ذلك العصر كثير من ذكرياته الأدبية المجيدة. وهي كعبة الأدباء والشعراء. يجتمعون فيه كلما سنحت فرص الاجتماع لعقد الأسمار والمطارحات الأدبية. وإليك نموذجاً لهذه الاجتماعات الشهيرة أورده ابن فضل العمري في موسوعته الكبيرة (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) في حديثه عن المسجد الجامع.
(حكي على بن ظافر الازدي. قال: روى لي أن الأعز أبا الفتوح ابن قلاقس وابن المنجم اجتمعا في منار الجامع في ليلة فطر ظهر بها الهلال للعيون. وبرز في صفحة بحر النيل كالنون. ومعهما جماعة من غواة الأدب الذين ينسلون إليه من كل حدب. فحين رأوا الشمس فوق الليل غاربة. وإلى مستقرها جارية ذاهبة. وقد شمرت للمغرب الذيل. واصفرت خوفاً من هجمة الليل. والهلال في حمرة الشفق. كحاجب الشائب أو زورق الورق. فاقترحوا عليهما أن يصنعا في ذلك الوقت الزيه. على البديه. فصنع ابن قلاقس:
انظر إلى الشمس فوق النيل غاربة ... وانظر لما بعدها من حمرة الشفق
غابت وأبقت شعاعاً منه يخلفها ... كأنما احترقت بالماء في الغرق
وللهلال، فهل وافى لينقذها ... في إثرها زورق قد صيغ من ورق؟
وصنع ابن المنجم:
يا رب سامية في الجو فمت بها ... أمد طرفي في أرض من الأفق
حيث العشية في التمثيل معركة ... إذا رآها جبان مات للفرق
شمس نهارية للغرب زاهية ... بالنيل مصفرة من هجمة الغسق
وللهلال إنعطافة كالسنان بدا ... من سورة الطعن ملقى في دم الشفق
(وحكي على بن ظافر أيضاً، قال: أخبرني ابن المنجم الصواف بما معناه: قال، صعدت(2/34)
إلى سطح الجامع بمصر في آخر رمضان مع جماعة فصادفت به الأديب الأعز أبا الفتوح بن قلاقس ونشو الملك علي بن مفرج بن المنجم وشجاعا المغربي في جماعة من الأدباء. فانضمت إليهم. فلما غابت الشمس وفاتت، اقترح الجماعة على ابن قلاقس وابن المنجم أن يعملا في صفة الحال. فكان ما صنعه نشو الملك:
وعشى كأنما الأفق فيه ... لازورد مرصع بنضار
قلت لما دنت لمغربها الشم ... س ولاح الهلال للنظار
اقرض الشرق صنوه الغرب دين ... ارا فأعطى الرهين نصف سوار
وكان الذي صنعه ابن قلاقس:
لا تظن الظلام قد أخذ الشم ... س وأعطى النهار هذا الهلالا
إنما الشرق اقرض الغرب دي ... نارا فأعطاه رهنه خلخالا
ونحن نعرف أن الشاعر المصري الإسكندري الأشهر ابن قلاقس كان من شعراء النصف الأخير من القرن السادس الهجري (532 - 607 هـ) وكذلك ابن المنجم من شعراء هذا العصر. وإذن فقد كان المسجد الجامع، حتى أوائل القرن السابع منتدى لأكابر الأدباء والشعراء، وكانت الفسطاط لا تزال شهيرة بلياليها وحلقاتها الأدبية، حتى بعد ذلك بنحو نصف قرن على نحو ما يشير إليه ابن سعيد الأندلسي.
ومنذ أواخر القرن السابع الهجري نرى الفسطاط تفقد أهميتها الاجتماعية والأدبية شيئاً فشيئاً ونرى المسجد الجامع وقد غمره النسيان والعفاء. وقلما نظفر في سير القرن الثامن بما ينبئ عن مكانة الفسطاط أو أهميتها الاجتماعية أو الأدبية. بل نرى الفسطاط في هذا العصر تنتهي إلى ضاحية متواضعة لمدينة القاهرة. ونرى القاهرة تغمر بعظمتها وبهائها وأهميتها العلمية والأدبية عاصمة الإسلام الأولى في مصر. ونراها مثوى كل حركة فكرية أو أدبية. ونرى الجامع الأزهر كعبة العلماء والأدباء لا في مصر وحدها بل في العالم الإسلامي كله، على أن مؤرخ الآداب في مصر الإسلامية لا يسعه - حين يعالج تاريخ الآداب في عصور الإسلام الأولى - إلا أن يلاحظ أهمية الدور الكبير الذي أدته الفسطاط وحلقاتها ولياليها الأدبية، وأداه مسجدها الجامع في تطور الحركة الفكرية والأدبية في مصر.(2/35)
من طرائف الشعر
نداء للشباب
كن قويا، كن عزيزا
للدكتور محمد عوض محمد
الأستاذ بالتجارة العليا
أتحنو عليك قلوب الورى ... إذا دمع عينيك يوماً جرى؟
وهل ترحم الحمل المستضام ... ذئاب الفلا أو أسود الشرى؟
وماذا ينال الضعيف الذليل ... سوى أن يحقر أو يزدرى؟
لقد سمع النسر نوح الحمام ... فلم يعف عنها ولم يغفرا
انقض ظلما ليغتالها ... وأنشب في نحرها المنسرا
وما رد عنها الأذى ذلها ... ولا أنها ما جنت منكرا
فكن يابس العود صلب القناة ... قوي المراس متين العرى!
ولا تتطامن لبغي البغاة ... وكن كاسراً قبل أن تكسرا
وأولى لمن عاش مثل الثرى ... ذليلا لو احتل جوف الثرى
قلوب الأنام كصم الصفاة ... وشق على الصخر أن يفجرا
أرى أيدياً لاغتيال تمد ... فأجدر بها الآن أن تبترا!
إذا كنت ترجو كبار الأمور ... فأعدد لها همة أكبرا!
طريق العلا أبداً للأمام ... فويحك هل ترجع القهقرى؟
وكل البرية في يقظة ... فويل لمن يستطيب الكرى!
كن جميلا تر الوجود جميلا
للأستاذ إليا أبو ماضي
أيهذا الشاكي وما بك داء ... كيف تغدو إذا غدوت عليلا
أن شر الجناة في الأرض نفس ... تتوقى قبل الرحيل الرحيلا(2/37)
وترى الشوك في الورود وتعمي ... أن نرى فوقها الندى إكليلا
هو عبء على الحياة ثقيل ... من يظن الحياة عبئا ثقيلا
والذي نفسه بغير جمال ... لا يرى في الوجود شيئا جميلا
ليس أشقى ممن يرى العيش مراً ... ويظن اللذات فيه فضولا
أحكم الناس في الحياة أناس ... عللوها فأحسنوا التعليلا
فتمتع بالصبح ما دمت فيه ... لا تخف أن يزول حتى يزولا
وإذا ما أظل رأسك هم ... قَصِّر البحث فيه كي لا يطولا
أدركت كنهها طيور الروابي ... فمن العار أن تظل جهولا
ما تراها والحقل ملك سواها ... اتخذت فيه مسرحا ومقيلا
تتغنى والصقر قد ملك الج - وعليها والصائدون السبيلا
تتغنى وعمرها بعض عام ... أفتبكي وقد تعيش طويلا
تتغنىُ وقد رأت بعضها يؤ ... خذ حياً والبعض يقضى قتيلا
فهي فوق الغصون في الفجر تتلو ... سوّر الوجد والهوى ترتيلا
وهي طورا على الثرى واقعات ... تلقط الحب أو تجر الذيولا
كلما أمسك الغصون نسيم ... صفقت للغصون حتى تميلا
فإذا ذهب الأصيل الروابي ... وقفت فوقها تناجي الأصيلا
فاطلب اللهو مثلما تطلب الأ ... طيار عند الهجير ظلاً ظليلا
وتعلم حب الطبيعة منها ... واترك القال للورى والقيلا
فالذي يتقي العواذل يلقى ... كل حين في كل شخص عذولا
أنت للأرض أولاً وأخيراً ... كنت ملكا أو كنت عبداً ذليلا
كل نجم إلى الأفول، ولكن ... آفة النجم أن يخاف الأفولا
غاية الورد في الرياض ذبول ... كن حكيما واسبق إليه الذبولا
وإذا ما وجدت في الأرض ظلاً ... فتفيأ به إلى أن يحولا
وتوقع إذا السماء اكفهرت ... مطرا في السهول يحيي السهولا
قل لقوم يستنزفون المآقي ... هل شفيتم من البكاء غليلا(2/38)
ما أتينا إلى الحياة لنشقى ... فأريحوا أهل العقول العقولا
كل من يجمع الهموم عليه ... أخذته الهموم أخذاً وبيلا
كن هزاراً في عشه يتغنى ... ومع الكبل لا يبالى الكبولا
لا غراباً يطارد الدود في الأر ... ض وبوماً في الليل يبكي الطلولا
كن غديرا يسير في الأرض رقرا ... قا فيسقي عن جانبيه الحقولا
تستحم النجوم فيه، ويلقى ... كل شخص وكل شيء مثيلا
لا وعاء يقيد الماء حتى ... تستحيل المياه فيه وحولا
كن مع الفجر نسمة توسع الأز ... هار شماً وتارة تقبيلا
لا سموما من السوافي اللواتي ... تملأ الأرض في الظلام عويلا
ومع الليل كوكبا يؤنس الغا ... بات والنهر والربى والسهولا
لا دجى يكره العوالم والنا ... س فيلقى على الجميع سدولا
أيهذا الشاكي وما بك داء ... كن جميلا ترى الوجود جميلا(2/39)
في الأدب الشرقي
الأدب الفارسي والأدب العربي
للدكتور عبد الوهاب عزام
الأستاذ بكلية الآداب
- 1 -
أمة ذات حضارة فاتت التاريخ أوليتها، ونظم أمرتها الحقب الطويلة يقوم عليها ملوك مسلطون رفعوا إلى مستوى فوق البشر أقدامهم، وأقر لهم بهذا رعاياهم، وقد طار صيتهم في الآفاق فملأ جيرانهم رهبة وإكبارا. أمة ذات دين نصر الملوك ونصروه فاشتد قوامه على كل مخالف وارهبوا كل متبوع. نزلت هذه الأمة أرضا وسطا بين مهد الآريين والساميين يجاورها في الغرب بابل وأشور، ويصاقبها في الشرق الهند. ثم يتصل بها من الشمال والشمال الشرقي الترك والصين. فاض بها سلطانها حتى غزت اليونان في عقر دارهم، وغزت كثيرا من أوربا الشرقية الجنوبية. وملكت الشام وفلسطين ومصر. وكانت الحرب من بعد سجالا بينها وبين الروم. كانت بلادها طريقا للتجارة بين الشرق والغرب. وموصلا بين حضارتيهما. وكانت موئلا للفلسفة اليونانية. وملجأ للعائذين من فلاسفة اليونان. تلكم أمة الفرس التي يقول فيها مهيار:
قومي استولوا على الدهر فتى ... ومشوا فوق رءوس الحقب!
عمموا بالشمس هاماتهم ... وبنوا أبياتهم بالشهب!
وأخرى من الأمم عريقة في البداوة وأبية على كل عسف، حديثة عهد بالخضوع حتى لسلطان الله، أنضجتها البداوة فإذا هي قوية نشيطة ذكية متوقدة، وأورثتها معيشتها وحروبها ضروبا من العزة والشجاعة والفروسية والصبر على المكاره، والقناعة بالقليل، وجمع كلمتها وأنار قلوبها الدين، وتلكم هي أمة العرب.
- 2 -
بينما كان الإسلام يجمع شمل العرب كان الفرس مسيطرين على عرب الحيرة يتخذونهم عوناً على الأعراب، وعلى الرومان (كما كان الرومان يستعينون بالغساسنة في الشام)(2/40)
وكان الفرس كذلك مسيطرين في اليمن والبحرين. وقد أعظم العرب شأنهم فهابوهم وسموهم الأسد، وسموا قبائل ربيعة التي كانت تجاور الفرس وتأبى عليهم أحياناً (ربيعة الأسد من أجل ذلك) وعرفوا من أخبارهم وعاداتهم ما جعلوه مضرب المثل، وعرفوا كذلك دينهم حتى يقال أن من بني تميم من كان يعبد النار. وفي ذكر القرآن للمجوس كثيراً دلالة على هذا.
فلما استقام للعرب أمرهم خلص اليمن بغير عناء وأسلم الفرس هناك، حتى قاتلوا مع المسلمين الأسود العنسي المتنبىء، وكذلك أجلى عامل كسرى على البحرين أيام أبي بكر، وأسلم هناك من أسلم ودفع الجزية من بقي على دينه. ثم تمادى بالمسلمين الفتح فإذا هم يقاتلون في جهات العراق عرباً وفرساً قد تخالطوا حتى لم يتميز بعضهم من بعض وحتى كان العرب يداً مع الفرس على العرب إبان الفتح، فخالد بن الوليد يقول لأهل الحيرة: أعرب أنتم فما تنقمون من العرب؟ فيحتجون لعربيتهم بأنهم ليس لهم لسان غير العربية. تغلغل المسلمون في فتح بعد آخر، صلحاً وحرباً فإذا هم ينازلون الأكاسرة أنفسهم، وأيقن الفرس أن الأمر جد لا هزل، وكان قد اجتمع أمرهم بعد الفرقة ليزدجر السادس فساقوا على العرب جيشا حشدوا فيه من عدد الحرب وجندها ما لا عهد للعرب به، ولم يكن بد للعرب من المقاومة فاستنجدوا الخليفة عمر فأهمته حرب فارس، وندب الناس إليها فتثاقلوا إعظاما لأمر الفرس واستفز عمر العصبية العربية؛ ورضى أن يدعى إلى الحرب مسلمهم وغير مسلمهم. وقد اهتم الفرس بأمر القادسية أيما اهتمام، وارتقب العرب عقباها من العذيب إلى عدن أبين ومن الأبلة إلى ابلة، كما يقول الطبري.
وكانت القادسية أول موقعة عظيمة حشد لها الجمعان ما استطاعوا، ولكنها لم تكن أعظم الوقائع ولا آخرتها فموقعة نهاوند التي سماها العرب فتح الفتوح، وهي آخر الوقائع العظيمة، كانت بعد القادسية بسبع سنين، وبينهما وقائع، وكان ملك الفرس يزدجرد، لا يزال يكر على العرب في الحين بعد الحين، ويستمد الترك وقد تعقبه العرب إلى أقصى الشرق، واستمر على ذلك حتى سنة 31. سبعة عشر عاما بعد القادسية فبينا يتهيأ لصلح العرب على بعض الأقاليم قتله بعض اتباعه كما قتل دارا من قبل بينما يتعقبه الاسكندر المقدوني. وبذلك تم للعرب الاستيلاء على فارس رغم الثورات التي كانت تظهر في الحين(2/41)
بعد الحين إلا جهات في طبرستان وجيلان لم تفتح إلا بعد قرنين وبقى بعد ذلك أمراء في جهات نائية قرونا طويلة.
- 3 -
فتح العرب الأقطار باسم الدين فلم يكن الا أن يسلم الفارسي فإذا هو واحد من المسلمين الفاتحين، ثم كان حكمهم على رغم مصائب الحروب وفظائعها عدلا لا عنف فيه. وكان في الفرس على هذا من وجدوا في الفتح الإسلامي مخلصا من اضطهاد ديني، فقد كانت الزردشتية شديدة على من شذّ عنها، أو وسيلة إلى جاه.
فالديلم من جند الفرس انحازوا للمسلمين (بعد القادسية وأسلموا) وعاونوا في واقعة جلولاء، ثم استوطنوا الكوفة. ونجد من الفرس مثل (أبي الفرخان) الذي عاون العرب في فتح الري فولي عليها. ونجد مرزبان مرو يخذل يزدجرد ويرسل أمواله بعد أن قتل إلى أمير العرب هناك.
وقد أعطى العرب الفرس الذين قاتلوا معهم حظهم من الغنائم وفرض عمر في العطاء لمثل المرزبان في المدينة وأحسن العرب إلى الفلاحين الذين لم يقاتلوا. ويقول الطبري (عن أهل فارس) وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم على أفضل ما كانوا في زمن الأكاسرة فكانوا كأنما هم في ملكهم الا أن المسلمين أوفى لهم وأعدل عليهم فاغتبطوا وغبطوا. وقد بقى الفرس أحراراً في دينهم وبقيت معابد النار في الجهات كلها ولا سيما في فارس. فقد حكى المؤرخون كالاصطخري وابن حوقل أنه لا توجد قرية في فارس بغير معبد للنار، وان جمهور أهلها من عبدة النار وانهم في شيراز لا يمتازون من المسلمين في مظاهرهم وكانت معابد النار تحمى ويعاقب مخربوها.
وإنما تناقص عدد الزردشتيين بدخول كثير منهم في الإسلام، وقد دخلوا فيه أفواجا حتى شكا عامل خراسان إلى عمر بن عبد العزيز قلة الجزية فأرسل إليه أن الله بعث محمداً صلعم هاديا ولم يبعثه جابيا. على أنهم بقوا كثيرين إلى عصر قريب. ويقول أن كرمان حين حاصرها محمد خان قاجار كان فيها 12 ألف أسرة زردشتية.
إنما أفيض في هذا لأبين أن العرب والفرس بعد الفتح لم يكونوا في نضال مستمر. وان العرب لم يستعبدوا الفرس كما يحسب بعض الناس. لم يفعل العرب الا أن حطموا الحدود(2/42)
الوطنية فشاركوا الفرس في جماعة أوسع. ونالوا من العلوم والآداب التي تعاونت عليها الأمم الإسلامية، ونالوا عليا المناصب. فالبرامكة مثلا كانوا يدبرون للعباسيين ملكا أعظم وأوسع مما كان يديره بزرجمهر لانوشروان.
- 4 -
الآداب الفارسية الحديثة تؤرخ من القرن الرابع الهجري (تقريباً) - كما يأتي - فماذا أصاب اللغة الفارسية في ثلاثة القرون التي تلت الفتح الإسلامي؟ وماذا أصاب الفرس في هذه القرون؟
في إجابة هذين السؤالين يجب أن نفرق تفريقاً تاماً بين الكلام على الفرس، والكلام على اللغة الفارسية.
فأما اللغة الفارسية فالكلام عنها من جهتين: من حيث أنها لغة تخاطب ومن حيث أنها لغة العلم والأدب. فأما من الوجهة العلمية فقد وقفت اللغة وقفة طويلة، ولم يؤلف فيها إلا كتب قليلة معظمها في الدين، ويمكن أن يقال أنها عقمت تماماً بعد قرنين من ظهور الإسلام، فالكتب التي ألفت في العصر الإسلامي وبقيت على الزمن لا تتجاوز عصر المأمون، وهي كتب دينية قليلة أراد بها الزردشتيون الدفاع عن دينهم والإبقاء عليه. ولكن كان للغة الفهلوية عمل أعظم من هذا أبقى أثراً هو حفظها آداب الساسانيين وتاريخهم في كتبها لتكون مصدرا للترجمة إلى اللغة العربية، ولتكون من بعد أساساً للآداب الفارسية الحديثة. فقد بذل رجال الدين أو الموابذة وملاك الأراضي أي الدهاقين جهدهم في حفظ كتبهم، وكان الساسانيون من قبل ذوي عناية بالكتب وحفظها. ويمتاز إقليمان في إيران بأن كانا موئل الآثار الفارسية: فارس وخراسان (كما امتازت طبرستان بوعورة أرضها وكثرة غاباتها فبقى فيها استقلال الفرس مدة طويلة) فأما خراسان فكانت مبعث الشعر الفارسي الحديث، وأما فارس مهد الدول الفارسية القديمة فقد لاذ بجبالها جماعات من الزردشتيين، فعكفوا على درس آدابهم القديمة وحفظ كتبها. فحصن شيز في جهة أرجان كان مسكن مجوس خبراء بإيران وتاريخها. وكان به صور الملوك والعظماء وتاريخهم، هكذا يقول الاصطخري وابن حوقل، ويؤيد هذا ما يقوله المسعودي: أنه رأى في اصطخر عند أسرة فارسية كبيرة كتاب الملوك يتضمن صور الملوك وأزمتهم ووصف آثارهم. ويتصل بهذا ما(2/43)
رواه صاحب الفهرست عن أبي معشر إن الفرس القدماء خزنوا كثيراً من كتبهم في أصفان في بناء عظيم بقي إلى زمان أبي معشر، أن الناس عثروا على كتب فيه، ثم يقول ابن النديم (اخبرني الثقة أنه أنهار سنة 350 أزج آخر عن كتب كثيرة لا يهتدي إلى قراءتها). والذي رأيته أنا بالمشاهدة أن أبا الفضل ابن العميد أرسل في سنة نيف وأربعين كتباً متقطعة أصيبت بأصفان في سور المدينة وكانت باليونانية إلخ.)
ففي أمثال حصن شيز وبناء أصفان حفظت الكتب القديمة التي ترجمت إلى العربية أيام الدولة العباسية.(2/44)
في الأدب الغربيّ
حزن أولمبيو
لفيكتور هوجو
ترجمة ابن عبد الملك
لم تكن الحقول غبراء، ولا السماء كدراء حين أقبل يقضي ذمام هذه الربوع التي سال في ثراها قلبه الجريح المثخن وإنما كان ضوء النهار يتألق في أفق لازوردي غير محدود، ويتدفق على بساط من أديم الأرض ممدود. وكانت النسائم عابقة بالعطور، والمروج حافلة بالخضرة والزهور.
وكان الخريف طلق الجوانب، والسماء مذهبة الحواشي، والربى حانية الخمائل المونقة على السهل وقد ضربت في خضرتها صفرة قليلة.
والطيور هاتفة بأغاريدها الشجية القدسية ووجوها إلى الله الذي ينم عليه كل كائن، ويسبح بحمده كل شيء، كأنما كانت تقول له شيئا عن الإنسان!!
أراد الولهان أن يرى كل شيء: يرى الغدير الطامي الذي يصطفق بجانب العين، والطلل البالي الذي استنفد ما في كيسيهما بالصدقة، وسرحة الدردار العتيقة المعوجة وخلوات الحب في أجواف الغاب المترامية، والشجرة التي استغرقا تحتها في القبلات فذهلا عن كل شيء.
بحث عن الحديقة والبيت المنعزل والبستان الحادر، والدرابزون الذي يغيب البصر من خلاله في ممشى منحرف. وكان يمشي متكسر الوجه من الحزن، شاحب اللون كثير الهم فيرى وا أسفاه لدى كل شجرة شبح الأيام الخوالي يقوم منتصبا على وقع خطاه المتئدة الثقيلة!.
تجول طول النهار على طول المسيل وقد ملك إعجابه وجه السماء الضاحك، ومرآة البحيرة المصقولة.
ثم قيد بصره ما راعه من صور الطبيعة في الحقول، فتأملها مليا ثم ذهب مع أحلامه حتى المساء.
تجول طيلة النهار ذاكراً والهفي عليه مخاطره اللذيذة ناظرا من أعالي السوج دون أن(2/45)
يجرؤ على الولوج كأنه صعلوك من صعاليك الهند.
فلما آذنت الشمس بالمغيب أحس في صدره وحشة القبر وفي قلبه لوعة الهم، فجأر بالشكوى وهتف بالنجوى يقول:
أيها الألم! لقد أردت أنا المشترك الخاطر المسعور الفؤاد أن أعلم هل الإناء لا يزال محتفظا بالسائل؟ وان أرى ماذا فعل هذا الوادي السعيد بما خلفت فيه من قلبي؟.
ما اقدر الزمن اليسير على أن يغير كل شيء!
ايه أيتها الطبيعة ذات الوجه الضاحك والجبين الأغر! ما أسرع ما تنسين! وما أشد ما تقطعين العلائق الخفية التي تربط قلوبنا بكثرة استحالاتك وتغير حالاتك!.
أن غرفنا التي اتخذناها من ورق الشجر الألف قد تهدمت.
والشجرة التي حفرنا عليها اسمينا قد ماتت أو تحطمت.
وورودنا النابتة في الحظيرة قد عبثت بها أيدي الأطفال الذين يقفزون فوق الحفرة!
والعين التي كانت تشرب منها ساعة القيظ وهي هابطة من الغاب قد قام على موردها جدار!!
لله ما كان اجمل يدها حين كانت تغترف بها الماء ثم تدعه يتساقط من خلال أصابعها كنثير اللؤلؤ الرطب!!
لقد رصفوا الطريق الغليظ الوعر الذي كنا نسير فيه جنبا إلى جنب فترتسم على رمله النقي قدمانا، ويكون أثر قدمك الرقيقة الأنيقة بجانب قدمي سخرية حسناء، وضحكة استهزاء!!
والحاجز الحجري الذي قام على حد الطريق حقبة طويلة ذلك الحاجز الذي كان يحلو لها أن تجلس فوقه في انتظاري قد هد ركنه اصطدام العجلات الموقرة بالأعباء، وهي آيبة تئن في المساء!!
والغابة أصبحت حطاما هنا وبسقت أدواحها هناك! ولم يكد يبقى من كل ما حللناه وتقمصناه شيء حي!
وأكداس الذكريات تبددها الرياح الأربع ككومة من التراب الخامد البارد قد ألوت بها الريح الدبور!!(2/46)
وا ويلتاه! ألم يعد لنا إذن وجود؟ هل مضت مدتنا وانقضت لذتنا؟ أما يرجعها إلى صرخاتنا الضارعة الضائعة شيء؟
النسيم يداعب الغصون وأنا أبكي! ومنزلي ينظر إلى ولا يعرفني!
والآن سيمر غيرنا من حيث مررنا، وسيرد آخرون هذا المورد الذي عنه صدرنا، والحلم الذي بدأناه سيواصلون رؤياه، ولكنهم مثلنا لا يستطيعون أن يبلغوا مداه!
وذلك لأن الناس في هذه الحياة لا ينعمون ولا يكملون، سواء في ذلك الخبيثون والطيبون.
وسيستيقظون جميعا في مكان واحد من الحلم، إذ كلهم يبدءون في هذا العالم ثم يتممون في غيره.
أجل ستأتي نوبة آخرين، فينعمون في ظلال هذا الكون الساكن الآمن الفاتن بما وهبت الطبيعة للحب من خيال وجلال ولذة!
وسيرث غيرنا حقولنا وطرقاتنا وخلواتنا، ويستولي من لا تعرفين على غابتك يا حبيبتي! ويقبل بعض النسوة الهوج إلى هذا الماء يبتردن فيه فيكدرن غمره الذي لمسته قدماك العاريتان فتقدس!
يا الله! إذن ذهب الحب الذي أحببناه في هذا المكان باطلا! ولم يبق لنا شيء من هذه الربوات المزهرة التي امتزج فيها لهبانا فانصهر بهما جسمانا واتحد قلبانا.
هيهات قد استرجعته الطبيعة التي لا ترحم ولا تتألم!
بالله! نبئنني أيتها المسايل الممرعة، والجداول المترعة، والعرائش الموقرة بالعناقيد، والأغصان المثقلة بالأعشاش والأغاريد! وخبرنني أيتها المغائر والآجام والأدغال! هل تطربن قلباً غير قلبنا بهذه الأغاني، وتناغين حباً غير حبنا بهذه الأناشيد؟
لقد كنا ندرك مرامي كلامك، ونجعل مشاعرنا كلها أصداء لرجع أنغامك، ونرهف أسماعنا لالتقاط ما يبدر أحياناً من بليغ شعرك، دون أن نميط الحجاب عن خبيئة سرك!
أيتها الطبيعة المجلوة في هذا الخلاء الجميل!
متى رقدت أنا وهي تحت صفائح القبر فهل تظلين جامدة أمام موتنا وموت حبنا، توالين حفلاتك وأعيادك، وتواصلين بسماتك وإنشادك؟
ألا تقولين لطيفنا إذا ما رأيتهما يجولان بين رباك وخلواتك، وفيما ألفا من جبالك وغاباتك،(2/47)
ما يقوله جميع الأصدقاء لإخوانهم القدماء من سرائر القلب ونجاوى الضمير؟
هل تستطيعين أن تري دون أن يلوعك الحزن ويرمضك الأسى شبحينا يطوفان بمواقع خطواتنا، ومواضع خلواتنا، وأن تريها تقودني في عناق مكتئب إلى ينبوع منتحب يئن في خفوت وهمس؟
وإذا ما لجأ عاشقان إلى جوارك، واختفيا عن العواذل تحت ستارك، وخبآ سرورهما بين أزهارك، فهل تسرين إليهما هذه الكلمة:
(أيها الراتعان في رياض الحياة! اذكرا من طوح بهما الدهر في قفار الموت!)
لعمرك ما هذه المروج والعيون والغابات والسماوات والبحيرات والسهول والحزون إلا عادة مستردة! يعيرنا الله إياها لحظة من الزمن لنضع فيها قلوبنا وأحلامنا وغرامنا ثم يستردها.
ثم يطفئ بعد ذلك سراجنا ويدفن في حلك الليل شعاعنا. ثم يوحي إلى الوادي الذي انطبعت فيه صورنا ونفوسنا أن يطمس آثارنا، ويمحو أسماءنا وأخبارنا.
لا بأس!! أنسينا أيتها الدار! وانكرينا أيتها الحديقة! ولا تذكرينا يا ظلال! واحتل عتبتنا يا عشب! وغط آثار قدمينا يا عوسج! وغردي أيتها الطيور! وتدفقي أيتها الجداول. وتكاثري أيتها الأوراق. فان الذين طويتم صحيفة ذكرهما لا ينسيان!
وكيف ننسى وانتم خيال الحب نفسه! أنتم الواحة التي يلاقيها المسافر في وقدة الصحراء، والخلوة العظمى التي بكينا بها أحرّ بكاء، وكل منا يده في يد الآخر!
كل الأهواء تمضي مع العمر. بعضها يحمل نقابه وبعضها يحمل مديته كدبر النحل يسافر جذلان شاديا وجماعته تضمحل وتقل وراء الأكمة.
إلا إياك أيها الحب فلا شيء يمحوك! أنت السحر وأنت الفتنة! وسواء أكنت مشعالا بدويا أم مصباحا حضريا فأنت الذي تشرق في العيون وبين الضلوع، وتستولي علينا بالبسمات وخاصة بالدموع! أن الناس في الشباب يلعنونك، ولكنهم في المشيب يعبدونك!(2/48)
بيت الراعي
للشاعر الفرنسي الفريد دفني
- 2 -
- 1 -
أيها الشعر أيها الكنز. يا جوهرة العقل. أن عواصف القلب كزوابع البحر لن تستطيع أن تعوق رداءك المتعدد الصبغة عن أن يجمع ألوانه، لكن ما أن يراك السوقة وأنت تلمع فوق جبهة نبيلة حتى تضطرب حواسهم لبريق سناك الناصل في أعينهم، الغامض على أفهامهم، فتنطلق ألسنتهم بالنيل منك وقلوبهم تكاد تنخلع من الهلع.
- 2 -
إنما يخشى حماسة الإلهام ضعاف النفوس. أولئك الذين لا يقوون على الاستقلال بعبئه والصبر على لظاه. وفيم تنكبه والحياة تضاعفها نيران العاطفة ولكم من قبس الهي تصيبنا ناره من حين إلى حين. تلك هي الشمس وهو الحب وهي الحياة ومع ذلك فهل من يود أن تنطفئ نارها. أننا نعتز بها ونحن ساخطون عليها.
- 3 -
لقد أستحقت إلهة الشعر ابتسامات التهكم وإمارات الاستهتار التي يستثيرها مرآها منذ أن اتجهت ببصرها إلى العاهرين فأضطرب مقالها ونزل صدقها منزل الشك وحرم عليها أن تعلم الحكمة وأصبحت اليوم إذا صاحت بعابري الطريق أن أفسحوا أفسح لها السائر في غير هيبة ولا احترام.
- 4 -
يالك من فتاة لا عفة لها. يا ليتك صنت وقارك يا سليلة ارفيوس. إذا ما كنت تذهبين إلى حيث لا يليق بك إلى الشوارع وملتقى الطرق تنشدين الأغاني بصوتك المختنق المتهدج. إذا ما كنت تلصقين بجانب فمك باقة الشعر اللاذعة كالذبابة، وبجانب عينك الزرقاء معنى الرمز المستهتر.
5 -
لقد سقطت منذ حداثتك. ففي اليونان أسكرك عجوز بقبلته وكان أول من خلع عنك ثوب(2/49)
كهنوتك ثم أجلسك على فخذيه بين جماعة من الشبان، ولا يزال على جبينك آثار من غض قبلاته! وفي ولائم هوراس كنت تغنين وأنت تثملين بالشراب، وجاء فولتير فقادك إلى البلاط تحت أبصارنا جميعاً.
- 6 -
يالك من قسيسة خبت نارها. هاهم أعظم الناس خطراً لا يضعون على جباههم من تاجك إلا بعضه. هاهم تقف أقدامهم وكأنما يتعثرون في خطاياك حتى أنه لمن الإهانة لأحدهم ألا يكون شاعراً. ينثرون أفكارهم مع رياح المنصة فتدور بها عمياء كالقدر ثم تحملها إلى غير مستقر.
- 7 -
متكبرون متعالون في مواقفهم الكاذبة وأن مادت الأرض تحت أقدام أولئك التريبون خطبهم الفانية تتملق الجماهير التي تلتف حولهم وتصفق لعباراتهم أولئك الجماهير الذين يتجددون باستمرار في هذه المسارب الضيقة. هؤلاء النظارة لا يحملون لأولئك الممثلين السياسيين إلا أزهاراً لا رائحة لها وما لها من غد في أغلب الأحيان.
- 8 -
ُافْقهم تحده جدران صالتهم حيث يقومون بألعابهم الكاذبة والشعب يسمع عن بعد ضوضاء مجادلاتهم ولكنه لا ينظر إلى تلك الألعاب الا كما ينظر أبناؤه ونساؤه مضطربين إلى ذلك الحدث العجب. آلة البخار ذات المائة ذراع.
- 9 -
ترى الفلاح المعتم يسخط عندما يوقف محراثه ويترك فلاحته لينتخب ومع ذلك ها هو أحد محامي اليوم قد استقر في أعماق نفسه احتقار ما نصيبه الخلود. ذلك المحامي الذي يشك في خلود النفس ويعتقد في خلود أقواله هو. أيها الشعر أنه يسخر من رموزك الموقرة وأنت للمفكرين الحقيقيين موضع الحب الذي لا يفنى.
- 10 -
كيف تصان الأفكار العميقة ما لم تتجمع نيرانها في ماستك النقية التي تحفظ سناها المتركز. تلك المرآة الصافية الوهاجة المتينة (بقايا ما يبيد من دول) ذلك الحجر الخالد(2/50)
الذي تعثر به أقدامنا عندما نبحث عن أنقاض المدن الفانية فلا تجد لها من أثر.
- 11 -
أيتها الماسة الفريدة ليضيء شعاعك للعقل الإنساني مواضع خطواته البطيئة المتخلفة. ليضعك الراعي على قمة منزله لكي نستطيع أن نرقب عن بعد الشعوب تطوى سبيلها. لما يصح النهار وما نزال عند أوائل أشعته الفضية التي تسبق بزوغ الفجر وتميز أفق السماء من مستوى الأرض.
- 12 -
ما تكاد الشعوب تفطن لنفسها وسط حشائش العوسج التي نبتت حولها وهي غارقة في سباتها. ها قد أخذت أيديهم المتضافرة تشق سوقها لتضع الجهاز الأول. ما تزال البربرية تمسك أقدامنا في غمدها. وما يزال رخام الأزمنة الساحقة يعلو إلى ما فوق خواصرنا. ما أشبه كل رجل نشيط بالإله (ترميس).
- 13 -
على أن روحنا الوثابة تفيض بالنشاط، فلنشق الحجب عن مكنون قواها والمكنون موجود وان توارى عن النظر. للنفوس عالم تجمعت به كنوزها وان لم نستطع لها لمسا. بين أحضان الله تضام الوجود وفي منطقه تركزت حكمة البشر كما تركزت أجسامنا في فضاء الأرض.
محمد عبد الحميد مندور
ليسانسيه في الآداب(2/51)
العُلوم
بين الكأس والطاس
بقلم الدكتور احمد زكي
أستاذ الكيمياء بكلية العلوم
الخمر قديمة كالإنسان، خلقها من خلق الهم، وأبدعها من أبدع الحس، وأرادها أن تبقى على الدهور والأحقاب من أراد ألا يكون الكون خيراً كله ولا شراً كله.
الخمر لا وطن لها لأن الأرض وطنها، عرفها المصري والفينيقي، والإغريقي والروماني، ويعرفها التركي والألماني، والفرنسي والأمريكي، والخمر لا دين لها فقد اعتنقت جميع الأديان؛ عصرها كهان المجوس، وباركها أحبار اليهود، واتخذها يسوع رمزاً لدمه فعتقها من بعده القسيسون والرهبان، وحرمها الإسلام فاستحلها الخلفاء لما صارت الخلافة ملكا عضوضا. لم يحل لهم أنس إلا بها ولم يطب نغم إلا عليها ولا لذ غزل الا في دبيبها ونشوتها.
والخمر لا مدنية لها فقد عرفتها كل المدنيات، عرفتها أبان إشراقها ونشأتها وازدادت بها علما وهي في كبد سمائها وأوج صولتها، ثم غربت على الأكثر فيها كما تغرب الشمس في لجة البحر المحيط. كذلك شربها المدني في كؤوس من ذهب بين عمد المرمر وعلى رنين القيثار، وشربها الوحشي حيث لا كأس غير صحاف القرع ولا عمد غير غاب الغيل، ولا رنين غير زمر القصب وقرع الطبول.
وجاءت المدينة الحاضرة بعلمها وعددها، وبطبها وإحصائها وبتجاريبها في الأفراد وتجاريبها في الجماهير، وخرجت على أن لعنة الناس في الخمر وخسرهم في ذوب الرحيق. وتكونت في كل أمة أمة تدعو إلى السبيل الجديدة وتبشر بالرسالة الجديدة باسم العلم وباسم الاقتصاد في قوى العمال لزيادة الإنتاج. وزادت الدعاية حتى أن أمة من اكبر الأمم عددا أكثرها عدة وأحدثها حضارة صوت ناخبوها بتحريم الخمر، فصدر القانون بطلاق بنت الحان، فأغلقت المخامر أهدرت الدنان، وحاطوا أمريكا بسياج ثقيل من عسس يمنع الداء أن يدخل، والداء بالجسم دفين، والجسم قد يعتل من جرثومة تغزوه ولكن اكثر(2/52)
علته من جرثومة للموت ولدت فيه. وما هي الا سنة فأخرى حتى سالت الخمر في أمريكا سيلان الماء فيها، سدت عليها منافذ الماء، ومهابط السماء، فتفجرت كالزيت من منابع في أرضها، في عقورها ديارها، فعبها الناس اغتراقا، وعبها رجال القانون معهم؛ ومتى أبطل مداد الأوراق ما جرى به مداد الأعراق؟ ولما أصبح القانون، ذلك الشيخ الوقور المهاب، يصفع في السر أقل ويصفع في الجهر أكثر جاء منتخبوهم منذ أسابيع فرحموا الشيخ فعقروه، وهكذا عادت الخمر الشيخة تتهادى إلى عرشها، فلما استقرت فيه نظرت للإنسان فابتسمت وكان من ورائها الأجيال فابتسمن أيضا.
وبعد فما الخمر الا الكحول، وهو ماء ولا ماء، ماء في مظهره ونار في مخبره، وقد اتخذ أشكالا عدة، وأسماء عدة فأسموه البيرة أسموه النبيذ وأسموه الوسكي وكل هذه تحويه أن قليلا أو كثيرا وهي تفقد أسماءها بفقده، ومن السخف ما يباع أحيانا بأنه بيرة لا كحول فيها. والبيرة تنتج من تخمير الشعير وبها ما بين 4 إلى 10 في المائة من الكحول ومقدار لا بأس به من أجسام صلبة ذائبة شبه السكر نتجت من تحلل النشاء الذي كان بالشعير. والبيرة المعتادة لونها اصفر وطعمها مرير بسب عشب يضاف إليها. والنبيذ ينتج من تخمير عصير العنب وبه ما بين 6 إلى 8 في المائة من الكحول ولونه أحمر ويتعاطاه الكثير من الفرنجة على الطعام كما يتعاطون الماء. وهناك نوع آخر من النبيذ ويسمى البرط وبه ما بين 15 إلى 20 في المائة. وبالأنبذة غير الكحول مواد سكرية وحوامض كحامض الطرطير تعطيها طعما ذاعقا. أما حسن طعمها وطيب ريحها اللذان يشيد بهما الشعراء فيرجعان على الأكثر إلى اتحادات بين ما بالأنبذة من حوامض وما بها من كحولات إذ (تتأستر) هذه بتلك فتنتج ما يشبه الزيوت العطرية طعما وطيبا. ويزيد هذا (التأستر) على الزمن، لذلك تختزن الخمر فلا ترى الشمس أحقابا طوالا. قال أبو نواس يتمدحها:
عتقت حتى لو اتصلت ... بلسان ناطق وفم
لأحتبت في القوم ماثلة ... ثم قصت قصة الأمم
وأما الشمبانيا فهي أخت النبيذ، فأبوهما الكرم، إلا أن لونها أصفر، ويرجع هذا إلى أنهم يعصرون العنب سريعا فلا يمهلون الصبغة التي بقشرته أن تجري في العصير فتخمره،(2/53)
وغير هذا فانهم يختزنون هذا العصير في أبان تخمره في زجاجات مقفلة سنتين وثلاثا فينحبس بها غاز الكاربون الناشئ من التخمر تحت ضغط كبير، لذا تفور الشمبانيا عند فتحها، ولذا كان طعمها حريفاً كالكازوزة بسبب هذا الغاز ومقدار الكحول الذي بها كالذي بالنبيذ تقريبا.
ويوجد عدا هذه من الأشربة الروحية أنواع لا حصر لها يختلف مقدار الكحول الذي بها اختلافا كبيرا، ومن ذلك الوسكي ويحضر من تخمير الحبوب ثم تقطيرها، والكونياك ويحضر بتقطير النبيذ ولذلك ترتفع نسبة الكحول بكليهما إلى 30 و 60 في المائة. ومن الناس من يتخذ من كحول الحريق شرابا وهو يحتوي نحوا من 90 في المائة من الكحول الخالص ويضيفون إليه أصباغا وزيوت تجعله غير سائغ في الحلق، ولكن حلوق الجهال من الفقراء يسوغ فيها كل كريه مر. ويشرب المرء الخمر كائنة ما كانت فتمتص المعدة فالأمعاء الكحول امتصاصا سريعا فيذهب إلى الدم ثم إلى كل غشاء من أغشية الجسم فيحترق فيها إلى غاز الكاربون والماء احتراقا سريعا كذلك، ولا تبقى منه بالجسم بقية، فهو ليس بطعام بالمعنى المعروف ويخرج مقدار من الكحول قد يعلو إلى 8 في المائة في البول ومن الرئة في التنفس، لذلك تشم رائحته في الفم. ومن الناس من يسترق الشراب ثم يحسب أن رائحته علقت بأشداقه فيغسل فاه حاسبا أنه قد تستر، ويسير في الناس مطمئنا ورئتاه تدفعان بالسر في صوت جهير ابلغ من صوت الشفاه.
ويتعاطى الناس الكحول للأثر الذي يكون منه في المخ والأعصاب فأول ما يحدثه نشوة تثور فيها قوى المخ فيشتد الفكر ويحتد الخيال ولكنه فكر ثائر وخيال مضطرب، وتزول عن الإنسان أثناء ذلك الدقة في العمل ويقل ضبطه للأمور فتكثر الأخطاء. قام الأستاذ (دلنج) أستاذ فن العقاقير بجامعة ليفربول بتجارب على زوجه فكان يسقيها مقادير مختلفة من الكحول ويملي عليها قطعا تكتبها على الآلة الكاتبة ويعدّ الأخطاء. وخرج من ذلك على علاقات طريفة بين مقادير الكحول وبين الأخطاء الناتجة دلت في مجموعها على أنه بالرغم من حدة الذهن وسرعة الإلهام تقل قدرة الضبط في الإنسان. قيل لشاعر فكه في ذلك فقال: إذن لا بأس عليّ من الخمر، استوحي بها في الليل، وأصحح أخطاء الوحي بالنهار. ولعل من اجل هذا أن من الشعراء والكتاب من كان لا يكتب إلا إذا شرب، وذلك(2/54)
مشهور عن الكاتب الإنجليزي المعروف شارلز دكنز، فقد كان لا يكاد يستفيق، كان كالشمعة يضيء للناس وهو يحترق. وتعقب دائما فترة الإيحاء هذه فترة خمود عميق يكل فيها الذهن وتنثلم الحواس.
وفعل الخمر بالعواطف يناهض فعلها بالعقل، فمن الناس من يخف به الفرح حتى ليذهب بوقاره، ومنهم من تأتيه الكآبة فلا يكاد يحبس دمعه، ومنهم من يرتاع فيهلع قلبه خوفا وفرقا، ومنهم من يشجع فيغفل عن عواقب الأمور. ومن المثل الأخيرة الجراحون فان منهم من لا يستطيع حمل المشرط إلا إذا نقع حواسه بنقيع إبنة العنب.
ولعل هذا ما حدا إلى الجمع بين الخمر وبين كل لذة ولا سيما ما اتصل منها بعاطفة كالغناء والنساء. وهو الذي جمع كذلك بين الخمر وبين كل كآبة، فكم من عزيز قوم تجهمت له الحياة في حب أو وشيجة أو مال فلم يطقها، ولم يطق الموت، فأمات نفسه حيا بالكأس تتلوها الكؤوس. وقد وجدوا أن المستهلك من الشراب يزيد في الضائقات المالية التي تعتري الأمم زيادة كبرى.
ولعل اخطر ما في الشراب الإفراط فيه حتى تتأصل عادته. يشرب الشارب فيكثر، ويشرب والمعدة ملأى بالطعام ويشرب وهي خالية فيكون امتصاص الجسم له في الحالة الأخيرة أشد وسريانه أسرع والى المخ أوحى؛ فتقصر فترة الانتعاش الأولى إلى العدم وتسرع الحواس فتغيم والبصر فيتغبش فيرى الواحد اثنين، وتصيت الأذن ويخف الرأس ويضيع الحكم على الأمور ويرغو الفريسة ويزبد وتأخذه رغبة في الشجار والتحطيم، ثم يسقط جسدا هامدا في غشية تتعطل فيها قوى المخ جمعاء إلا النزر اليسير الذي يكفي لإجراء الدم وإخراج الأنفاس، ثم يصحو من نوم عميق محموم الجسد مصدع الرأس فاقد القوى، بالأذن رنين لا يسكت، وبالقلب وجبة لا تسكن، فلا يجد خلاصا من تلك الأعراض المؤلمة إلا بإعادة الجرعة وهي حقا تزيلها وتزيلها سريعا. قال الأعشى:
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
ولكنه شفاء لا يدوم إلا قليلا، فيأخذ المسكين يتداوى من داء بداء حتى يصبح الشراب عادة أشد تأصلا في أعراقه من تأصل الروح فيها، وتسوء في هذه الأثناء معدته لأن الكحول مهيج شديد لأغشيتها، ويعتريه فيه التهاب مزمن لا تنفع فيه حيلة الأطباء، وتتحلل مادة(2/55)
كبده فتتليف أو تتدهن؛ وتقل مقاومة الجسم عامة للأمراض، ولكن اخطر من هذا أن المخ يفسد فيصبح صاحبه في اضطراب دائم ورعشة لا تهدأ وإذا هو أتاه النوم العاصي فبأحلام مروعة أروع منها أحلام اليقظة إذ ترى عينيه في الجهرة الجرذان تخرج من الحيطان والزبانية تختبئ له في كل الأركان، وتسمع أذنه الأحياء المتحركة تسبه والأشياء الجوامد تلعنه ويتسابق جسمه وعقله إلى الفناء في منحدر زلق لا تقف الرجل فيه!(2/56)
القصص
على هامش السيرة
حفر زمزم
للدكتور طه حسين
(2)
لا هم قد لبيت من دعاني ... وجئت سعي المسرع العجلان
ثبت اليقين صادق الأيمان ... يتبعني الحارث غير وان
جذلان لم يحفل بما يعاني ... لا هم فلتصدق لنا الأماني
ما لي بما لم ترضه يدان
كان صوت عبد المطلب يندفع بهذا الرجز عريضا يملأ الفضاء من حوله، نقيا يكاد يبعث الحنان فيما يحيط به من الأشياء. وكان كل شيء مستقر لا يضطرب فيه الا هذا الصوت العريض النقي وإلا هذه الذراع التي ترتفع بالمعول قوية ثم تهوي بها محتفرة ثم تدعه إلى المسحاة فتغرف بها التراب في المكتل، وإلا هذا الغلام الناشئ يرقب حركة أبيه ويسمع صوته ويرد عليه رجع هذا الصوت كلما وصل في الدعاء إلى هذا البيت.
لا هم فلتصدق لنا الأماني
حتى إذا امتلأ المكتل حمله بذراعيه الضعيفتين وأسرع بشيء من الجهد إلى خارج المسجد فألقى ما فيه ثم عاد وأبوه يرفع المعول في الجو ويهبط إلى الأرض ويملأ فضاء البيت بصوته النقي العريض والعرق يتصبب على جبينه ولكنه لا يحس جهدا ولا يجد إعياء. وكانت الشمس قد ألقت على الأرض رداءً من النور نقيا ولكنه ثقيل همد له كل شيء وآوى له الناس إلى بيوتهم يقيلون. وانقطعت له الحركة وخفتت الأصوات إلا هذه الجنادب التي يروقها وهج الشمس ويسكرها لهب القيض فتصدح بالغناء إذا سكت كل شيء وقد اخذ الغلام يحس لذع الجوع وحر الضمأ ولكنه لا يقول شيئا بل لا يكاد يفكر في شيء، إنما سمعه وقلبه لصوت أبيه، وعيناه للمكتل والتراب، ونشاطه لإفراغ المكتل إذا امتلأ. وهما في ذلك إذا غلام يسعى قد أرسلته سمراء يحمل إلى الرجل والغلام شيئا من طعام وشراب(2/57)
حتى إذا انتهى إليهما وضع ثقله وقال: مولاي هذا غداؤك وغداء الصبي قد أعدته سيدتي العامرية هيأته بيدها وهي تعزم عليك لتصيبن منه ولترفقن بنفسك ولترفهن على هذا الصبي الحدث: لقد قال الناس جميعا وهدأ كل شيء لهذا الوهج الذي يصهر الأبدان ويحرق الجلود وأنت فيما أنت فيه من جد يضني وجهد يهلك لا تقيل ولا تستريح ولا تريح هذا الطفل الذي لم يتعود الجهد والعناء. بعض هذا يبلغك ما تريد. ولكن عبد المطلب لم يسمع للغلام إلا بأذن معرضة، ولم يستقبله إلا بوجه مشيح، إنما هو ماض في رجزه واضطراب يده بالمعول ارتفاعا في الجو وهبوطا إلى الأرض، والصبي يتبعه بسمعه وقلبه، ولكن عينه ربما اختلست نظرة قصيرة ملؤها الجوع والظمأ والنهم إلى هذه السلة وما فيها. وربما وقف ذهنه الصغير عن متابعة أبيه وانصرف إلى ما في هذه السلة يعدده ويحصيه ويتمثله. أن فيها لشواء غريضاً وأن فيها للبناً يمازجه عسل هذيل الذي حمله خاله فيما حمل من هدايا البادية حين أقبل يزور أخته منذ أيام. وأن فيها لماء عذبا ومن يدري؟. لعل سمراء قد نقعت فيه شيئا من زبيب الطائف، فأنها تجيد ذلك وتحسنه. وعبد المطلب ماض في رجزه وفي حركة يديه بالمعول والمسحاة وقد امتلأ المكتل فيهم الصبي أن يحمله ليلقي ما فيه ويدنو الغلام يريد أن يعينه في ذلك. ولكن عبد المطلب ينهره نهرا عنيفا (إليك يا غلام فما لهذا الأمر إلا عبد المطلب وأبنه).
ويمضي الصبي بالمكتل ويعود، ولكن الرجز قد أنقطع وذراع عبد المطلب لا تضطرب بالمعول صعودا وهبوطا، وإنما هو مطرق إلى الحفرة ينظر فيها فيطيل النظر ثم يرفع بصره إلى السماء فيطيل رفعه ثم، يدير عينه من حوله كأنه يريد أن يلتمس شيئا أو أن يلتمس أحداً. ثم يدعو ابنه في صوت ملؤه الدهش والحيرة والرضى والإشفاق:
(هلم يا حار أنظر هل ترى ماء؟ - كلا يا أبت وإنما أرى ذهبا وسلاحا - ومع ذلك فلم أوعد بذهب ولا سلاح، وإنما وعدت بالماء لسقي الحجيج: أن وراء هذا الأمر لسرا. ولكن هلم يا بني فما أرى الا أن الظمأ والجوع قد أجهداك).
وأقبل الرجل وابنه على السلة فأصابا مما فيها ذاهلين واجمين ما أحسب أنهما وجدا لما يصيبان طعماً وأحسا له ذوقا، يصرفهما عنه هذا الذهب الذي يتوهج في الحفرة وهذا السلاح الذي يظهر أنه كثير ثقيل. حتى إذا فرغا من طعامهما عاد عبد المطلب إلى الحفرة(2/58)
فيستخرج ما فيها فإذا غزالان من ذهب نقي ثقيل وإذا سيوف ودروع. فيكبر ويرفع صوته بالتكبير ويسرع إليه أفراد قليلون كانوا قد بدءوا يفدون إلى المسجد كدأب قريش حين كانت تخف وطأة القيظ. فإذا رأوا هذا الكنز دهشوا ثم تصايحوا ثم يفيض الخبر فيتجاوز المسجد وإذا شباب قريش وشيوخها يقبلون سراعاً مزدحمين يسرع ببعضهم حب الاستطلاع ويسرع ببعضهم الآخر الطمع في الغنيمة ويسرع بفريق منهم باعث ديني غامض فيه خوف وفيه رجاء وفيه إكبار للآلهة وتوقع للمعجزة الخارقة. حتى إذا توافوا جميعا واستوثقوا من أن عبد المطلب قد وجد كنزاً وعرفوا حقيقة هذا الكنز وقوموا ذهبه الخالص وصناعته البارعة وما فيه من سيوف ودروع أداروا أمرهم بينهم. لمن يكون الكنز؟ قال هشام بن المغيرة إنما هو لقريش فقد وجد في المسجد وكل ما وجد داخل الحرم في أرض عامة فهو لقريش. وقال حرب بن أمية: إنما هو لبني عبد مناف فهم الذين إحتفروا وهم الذين ظفروا وما ينبغي لقريش أن تغلبنا على خير ساقته إلينا الآلهة. وتنازع القوم وطال النزاع واختصم القوم واشتدت الخصومة وعبد المطلب صامت مطرق لا ينطق بكلمة ولا يأتي بحركة. هنالك صاح به حرب: ما لك لا تقول وأنت الذي وجد الكنز وأنت احقنا بان ترى رأيك فيه!. قال عبد المطلب في هدوء وأناة ما ينبغي أن يكون الكنز لأحد حتى نستشير الآلهة فما حفرت ولا ظفرت الا بأمر خفي وما أرى إلا أن للآلهة في ذلك إرادة وقدرا لا نبلغهما حتى نسأل الكهان. هنالك وجمت قريش وغضب بنو عبد مناف وأنكروا جميعا في أنفسهم أن يشرك عبد المطلب معهم الآلهة في هذا الكنز الدفين. ولكنهم لم يقولوا شيئا وما كان لهم أن يقولوا شيئا! ومن الذي يستطيع أن يرد قضاء الآلهة؟ حمل الكنز إذن إلى الكعبة وأقبل القوم إلى الكاهن يسألونه أن يضرب بالقداح وها هو ذا يضرب بقداحه ثم يضرب ثم يضرب بين قريش والكعبة فتخرج القداح للكعبة ثلاثا ويصيح عبد المطلب لقد ظهر قضاء الله فليكن ما أراد! تفرقوا يا معشر قريش. . تفرقوا يا بني عبد مناف فليس لأحد منكم في هذا الكنز نصيب. أما هذا الذهب فسيضرب صفائح على باب الكعبة، وأما هذه السيوف فستعلق عليها، وأما هذه الدروع فستدخر في خزائنها. ثم ألتفت إلى أبنه وقال هلم يا حارث اتبعني لنمض فيما كنا فيه. وتفرقت قريش وفي صدورها غل وحنق. ولكن ثلاثة نفر من أهل الظواهر أنتحوا ناحية وأقاموا يرددون الطرف بين الكنز والكعبة وعبد(2/59)
المطلب. ثم انصرفوا وقد فهم بعضهم بعضا. وأصبح الناس ذات يوم وإذا الكعبة قد جردت مما علق عليها من ذهب وسلاح.
وراح عبد المطلب مع المساء إلى أهله محزونا مكدودا راضيا مع ذلك لم يفارق قلبه الأمل. فاستقبلته سمراء فاترة لم تسع إليه ولم تبتسم له. ولكنها لم تعرض عنه ولم تتجهم له. فلما سألها عن هذا الفتور أطالت الصمت وألح في السؤال. قالت: وبم تريد أن ابتهج ولم تريد أن ابتسم؟ لقد علمت منذ زفني أبي إليك أني قد تزوجت رجلا لا كالرجل. لقد أحببتك ولكني أنكرتك. لقد أملت فيك ويئست منك. ثم عاد إلى الأمل أول أمس ثم ها أنت ذا ترد إلى اليأس مظلما حالكا قبيح الوجه بشع المنظر كأنه الغول. ماذا!؟ يأم بك الطائف أربع ليال يهيب بك ويلح عليك رامزا حينا مصرحا حينا مصراً دائماً حتى إذا أذعنت لأمره وانتهيت إلى ما سيق إليك من خير وادخر لك في الأرض من غنى زهدت فيه وانصرفت عنه وأشفقت أن تسلمه إلى قريش أو إلى عبد مناف. فيقال (ألقى بيده ونزل عن غنيمته فصرفت ذلك عنك وعنهم إلى هذه البنية تحليها بالذهب وتعزها بالسلاح! وماذا تصنع الأحجار القائمة بذهبك وسلاحك!؟ لله أنتم يا معشر قريش!؟ أنكم لتكبرون من هذا البناء المنصوب ما لا نكبر نحن في البادية ولولا حاجاتنا ومنافعنا لما هبطنا إلى بطاحكم هذه حاجين ولا معتمرين ولكنكم قوم ضعاف تكبرون ما لا يكبر ويغركم أن أفئدة الناس تهوي إليكم تحسبونهم يقبلون إليكم بالدين وينصرفون عنكم بالطاعة، وإنما يقبلون عليكم بما عندهم من عروض. وينصرفون عنكم بما تحملون لهم من الآفاق. هلا طاولت قريشا وانتظرت بهذا الكنز حتى تروح إلى، لقد كان فيه غنى لك ولهذا الصبي الذي تعنيه وتضنيه منذ ألم بك ذلك الطائف. هلا تريثت أو اصطنعت الأناة إذا لاحتويت الكنز ولأصبحت أغنى قريش وأكثرهم مالا ولما استطاعوا بنو عبد شمس أن يكاثروك بما يملأ خزائنها من الدراهم والدنانير. إذا لأقبلت إليك بنو عامر بقوتها وبأسها فأعزتك ومنعتك من قريش ولكنك أشفقت وملأ قلبك الفرق وعبثت بنفسك بقية من كبرياء فأفقرت نفسك وقضيت على ابنك هذا أن يكون دون بني حرب ثروة ومالا. قال عبد المطلب محزونا: هوني عليك يا سمراء وأقلي اللوم فما أرى أنك تفقهين مما ترين شيئا. لا أحب لوجهك هذا النضر أن تعلوه غيرة الحرص على المال وما أحب لصوتك هذا العذب أن تشوبه مرارة(2/60)
الحديث عن المال. وما أرضى لك وإن نسلتك أشراف بني عامر أن تغضي من أمر قريش. أن فيكم أهل البادية لطباعاً غلاظاً ونفوساً يملؤها الطمع أنتم لا تحسون الدين ولا تقدرون الغيب ولا تؤمنون الا بما ترون ولا تخافون الا القوة الظاهرة. لقد كنت احسب أن مقامك الطويل بمكة قد غير نفسك بعض الشيء فإذا أنت اليوم كما كنت يوم أنحدرت من بادية نجد إلى هذه البطحاء. هوني عليك ولا تشغلي نفسك بما لست منه في قليل ولا كثير. لقد أمرني الطائف أن أحتفر ووعدني أن أجد الماء لأسقي الحجيج لا أن أجد الذهب لأغنيك وادخل الخصب على بني عامر. فليس هذا الذهب لي ولا لقريش وإنما مخبوء لأمر يراد وأني لمن قوم لا يحبون الغصب ولا يستأثرون بما ليس لهم ولا يعقدون الحقوق، فان تكن غلظة الأعراب وجفوة البادية وجحودها قد شاقنك فذمي رحالك غداً وألمي بأهلك فهم أحق بك وأدنى إليك. قال ذلك ونهض مغضبا وتركها واجمة بهذا الحديث العنيف تقاوم غيظا لم يلبث أن استحال إلى دموع غلاظ تحدرت على خديها كأنها لؤلؤ العقد قد خانه النظام.
وارتفع صوت عبد المطلب بالتكبير حتى امتلأ به المسجد وفاض من حوله وحتى اضطربت له مجالس قريش في أفناء البيت فخف الناس إليه وهم يقولون: ما نرى ابن هاشم هذا إلا مطروقا يلقى من الجن شططا ويريد أن نلقى منه شططا. اقبلوا إليه سراعاً يزدحمون وقد آلى أشرافهم لئن وجدوه قد ظفر بكنز أو عثر على غنيمة ليغلبنه عليها وليعطنه منها نصيب رجل من قريش وانتهوا إليه. وهو يكبر ويصيح هذا طي إسماعيل هذه بئر زمزم، هذه سقاية الحاج، لقد صدق الوعد وتحقق الأمل.
فنظروا فإذا عبد المطلب قد وجد الماء، وإذا هو يستقي فيشرب ويسقي ابنه، ويرسل الماء بيديه من حوله كأنه يريد أن يسقي الأرض والهواء والناس. هنالك ابتسموا له ورفقوا به وقالوا: لقد بررت بقومك يا شيبة وانبطت لهم هذا الماء يستقون منه إذ ضنت عليهم الينابيع فوصلتك رحم، لتعرفن لك قريش هذه اليد. قال ما أنتم وذاك؟ هذه بئري قد حفرتها، وكشفت طيها بأمر هبط إلى من السماء. وهذا شرب ساقه الله إلى سأسقيكم منه أن أردت. ولكني اسقي الحجيج منه قبل أن أسقيكم فبذلك أمرت وأنا على ذلك قائم. قالوا يا ابن هاشم أنك لتسرف على نفسك. وتشط على قومك وتختلق إلى السماء. أن هذه الأرض ليست لك(2/61)
وإنما هي لله ثم لقريش، وأن كل ما وجد فيها فهو لله ثم لقريش، وإنا لم نشهد أمر السماء حين تنزل إليك ومتى تنزل أمر السماء على الناس إلا من طريق الكهان. فأين الكاهن الذي أمرك أن تحتفر؟ قال: يا قوم خلوا بيني وبين الماء. فوالله لن تبلغوا مني شيئا أنكم تكثرونني بعددكم وعديدكم. ولكن الذي أمرني باستنباط هذا الماء حري أن يردعني كيدكم ويحميني من ظلمكم. أنكم تستضعفونني حين ترون أني أبو واحد ولكن الذي سخرني لهذا الأمر خليق أن يمنحني من الولد من أكاثركم به وأني اقسم لئن منحني من الولد عشرة ذكورا أراهم بين يدي لأضحين له بواحد. وسمع بنو عبد مناف مقالة عبد المطلب فثارت نفوسهم وتعصبوا له وقاموا من دونه يردون عنه عدوان قريش وكاد الشر أن يقع بين القوم ولكن عبد المطلب قال: يا قوم فيم قطع الأرحام وحفر الذمم وإراقة الدماء؟ أني والله ما أوثر نفسي من دونكم بشيء فإن أبيتم أن تؤمنوا لي فهلم إلى حكم فليقض بيننا. قال الملأ من قريش لقد أنصفكم ابن أخيكم من نفسه. فليكف بعضكم عن بعض ولنحتكم إلى كاهنة بني سعد هذيم فما نعرف أبصر منها بمواقع الحكم.
وكانت قافلة قريش تتجهز للرحلة إلى الشام فاجمع القوم أن يصحبها رسلهم إلى الكاهنة في معان. فلما فصلت العير صحبها عبد المطلب في عشرين من بني عبد مناف وأرسلت قريش معها عشرين من بطونها المختلفة ومضى القوم ترفعهم النجاد وتحطهم الوهاد حتى طال بهم السفر ونفد ما كان معهم من ماء واشتد بهم الظمأ واحرق أكبادهم الصدى وغدوا ذات يوم في فلاة مبسوطة يحار بها الطرف دون أن يهتدي إلى أمد ليس فيها عين ولا بئر ولا شجرة ولا عشب وإنما هي ارض ملساء جرداء تقع عليها أشعة الشمس الملتهبة فتلهبها تحت الأقدام وقد يئس القوم من كل روح وقنطوا من كل وجهة فاجتمعوا يتشاورون. قال قائل منهم يا قوم إنما هو الموت فانتم بين اثنتين: أما أن تموتوا ضيعة وتصبح أجسامكم نهباً لسباع الأرض والجو لا تواريكم يد في التراب ولا تؤوي نفوسكم إلى جدث تطمئن فيه وأما أن يقوم بعضكم على بعض ويواري بعضكم بعضا فيكوم لكل منكم حفرته وتعرف نفوسكم إذا هامت في الفضاء الواسع وألمت بأهلها في بطاح مكة وظواهرها كيف تهتدي إلى أجسادها فتلم بها وتسكن إليها. والرأي أن يحتفر كل منكم حفرته، وان تقيموا فأيكم ذهب الصدى بنفسه ورآه أصحابه وبكوا عليه. فلا يذهب منكم ضيعة إلا رجل واحد تمتد(2/62)
به الحياة إلى أقصى أجل. قال ذلك قائلهم ونهض فأخذ يحفر حفرته. وتناقل القوم بعض الشيء يفكرون في أولادهم وآخرتهم ويذكرون مكة ومن تركوا فيها من أهل وولد ومال. ويذكرون الشام وينظرون إلى ما كانوا يحملون إليها من تجارة ويفكرون فيما كانوا ينتظرون أن يحققوا فيها من ربح. وتقدم رسل قريش إلى الكاهنة يتلاومون في البئر وفي خصومتهم لصاحب الحق. ثم ينهضون والموت يثقل نفوسهم فيعمد كل منهم إلى سنان يخط به حفرته في الأرض.
كل ذلك وعبد المطلب ساكت ساكن لا يقول ولا يومئ ولكنه نهض فجأة وقال بصوته العذب العريض: (يا معشر قريش ما أعجزكم! ها أنتم أولاء تلقون بأيديكم وتنتظرون الموت وتقطعون ما بينكم وبين أهلكم وولدكم من أسباب الحياة، وان فيكم لبقية من قوة وان في ابلكم القدرة على الحركة وفضلا من النشاط لا والله ما أنا بمسلم نفسي للموت حتى يكرهني عليها، هلم فاضربوا في هذه الأرض فلعل الله أن يجد لكم من هذا الضيق فرجا) ووقعت ألفاظ عبد المطلب هذه من نفوس الناس موقع الغيث وإذا الآمال تحيا. وإذا النشاط يتجدد وإذا القوم ينهضون إلى رواحلهم وإذا هم يؤثرون أن يتخطفهم الموت على أن يسعوا هم إليه وينهض عبد المطلب إلى راحلته حتى إذا جلس عليها وزجرها نهضت به وهمت لتندفع ولكن ماذا! ماذا يسمع القوم؟ ماذا يرون؟ هذا عبد المطلب يصيح بأعلى صوته مكبرا وهم يلتفتون فإذا عين غزيرة قد أنفجرت تحت خف الراحلة وإذا هي تفور وإذا الماء ينبسط من حولها فينقع غلة الأرض المحترقة قبل أن ينقع غلة القوم الظماء!.
هلم يا معشر قريش إلى الماء الرواء! قد فجره الله لكم من الصخر الصلد. هلم فاشربوا واسقوا ابلكم وأملأوا مزادكم هلم فانعموا بهذا الماء الصافي النقي البارد في هذه الفلاة القاتمة المحرقة.
والقوم يضجون بالرضى والغبطة وأن للإبل من حولهم لأطيطاً ملؤه الرضى والغبطة أيضاً. ومن ذا الذي زعم أن نفوس الناس وحدها هي التي تجد اللذة والألم وتشعر بالسرور والحزن، روى الناس ورويت الإبل، ورويت الأرض وقالت رسل قريش لعبد المطلب عد بنا يا شيبة إلى مكة فقد قضي علينا وان الذي سقاك في هذه الصحراء وأنقذنا بك من الهلاك هو الذي سقاك في مكة وساق إليك ما تروي به الحجيج.(2/63)
وأقبل البشير على سمراء ينبئها بأن زوجها قد عاد إليها سالما موفوراً مظفراً. فقالت وعلى ثغرها ابتسامة الكئيب المحزون: (حبذا شيبة مسافراً وحبذا شيبة مقيماً! ولكن شيبة لن يخلص لي منذ اليوم. أنه لا يريد كثرة الولد. وأي نساء قريش تستطيع أن تمتنع عليه). ثم أشرقت شمس الغد على عبد المطلب وهو يسعى إلى عمر بن عائذ المخزومي ليخطب إليه فاطمة وهي أم جماعة من ولده بينهم عبد الله.(2/64)
قصة عراقية
صديق الكلاب
بقلم احمد حسن الزيات
شرب عبد الواحد وسقانا ثلاثة أقداح من الشاي المعطر. ثم أطلق من حنجرته القوية جشأة طويلة عريضة كخوار العجل، ثم حضأ النار بأنامله وشيع ضرمها في بقية الفحم؛ ثم أشعل منها (سيكارته) العربية وأرسل في رفق دخانها الرقيق الأدكن. وبانت على معارف وجهه شهوة الكلام. وكان كلبي الصغير قد لاذ من قرص البرد بجانب الموقد، فهو ينطوي وينتشر تبعا لما يغلب على جو الغرفة من نفخ النسيم أو لفح اللهب. فرأيته يطيل النظر إليه في طرف ساكن ووجه ساهم. فقلت له مداعبا: لعلك ذكرت بالكلب حبيبتك وهي في خبائها بين كلابها وشائها. فابتسم ابتسامة العذراء الخفرة وقال: الحمد لله ما ذكرت على فقري حياة البر مذ هجرتها، ولكني ذكرت رجلا كان في بغداد يدعى (أبا الكلاب). فسألته وما حديث أبي الكلاب هذا يا عبد الواحد؟ فلمع في عينيه البشر، لأن سروره كان في أن يتحدث وتسمع. وذهب به شيء من التيه لأن شعوره بأنه يعلم ما لا نعلم يرفعه قليلا فوق قدره، لذلك تراه عند الحديث يجلس جلسة النظير، ويلهج لهجة الأمير، ويقرر تقرير العالم.
قص عليَّ هذه الأقصوصة وهو منها على يقين جازم، وما كان أسرني وأسرك لو استطعت أن أنقلها إليك بلغته الجميلة التي تأخذ من لحن بغداد ومن لحن البادية. على أني سأحاول ما أمكنني القدرة أن أترجمها ترجمة صادقة تكشف عن أثرها في نفسه وفعلها في نفسي.
كان في بغداد منذ خمسين عاما أسرة كريمة تعتز بنسب العرب من جهة الأب. وتتصل بنسب الترك من جهة ألام فهي مزاج معتدل من عقليتين متباينتين لا يجمع بينهما غير الدين. والدين في مثل هذه الحال يكون أوثق عقدا وأمتن أسبابا لقيامه مقام الجنسية الجامعة والعصبية القريبة؛ فالوالدان صالحان تقيان لا يفهمان من العروبة إلا النبوة والقرآن، ولا من التركية إلا الخلافة والسلطان، ولا يعرفان عن بغداد وفروق إلا أنهما بلدان في وطن واحد، والولدان جميلان باران يكبر الذكر منهما الأنثى بخمس سنين، وقد درجا معا من مهد الفضيلة، ثم ترعرعا في حنان الأبوين على كفاف من العيش يؤتيه متجر غير نافق.
لم يشغل عبد الواحد باله كثيرا بتفصيل حياة هذه الأسرة الصغيرة. فكان كلامه عنها مرسلا(2/65)
مجملا لا يحلل طبيعة شخص، ولا يحدد تاريخ حادث، ولا يعين مكان منزل، حتى أسماء الأب والابن والبنت لم يجد في ذكرها ما يفيد الحديث!.
فهو يحذف ما يزعمه فضولا ويسير قدما إلى هيكل الموضوع وعقدة الحادث، فيقول أن الغلام كان عمره اثنتي عشر ربيعا حينما صحب خاله إلى الأستانة. والأستانة يومئذ كانت منتجع الخواطر ومهوى القلوب الطامحة إلى السطوة أو الثروة أو العلم. فهل كانت هجرته إلى دار الخلافة تثقيفا لنفسه، أو تخفيفا عن أبيه، أو مساعدة لخاله، على تدبير متجره وماله؟ كل ذلك يجهله راوي الحديث فما يعلم الا أنه شدا شيئا من العلم في إحدى مدارس القسطنطينية تحت عين وليه وعونه، ثم أندفع في غمار المدينة الصاخبة يداور الأمور ويتلمس المكاسب، ثم أوغل في مدن البلقان وشعاب الأناضول، حينا في خدمة الجيش، وحينا في طلب العيش حتى أنقطع علم ما بينه وبين أهله. كان الغريب النازح يهاجم الأخطار في كل فج ويصارع الأقدار في كل لج، وكل همه أن يجمع من المال ما يضمن له ولأسرته خفض العيش في ظلال بغداد الجميلة. فلما ملأ الدهر يديه بما أمل كان وا أسفاه ربيعه قد أدبر، وربعه قد أقفر، وحلمه قد تبدد!! فان والديه البائسين قد ألح عليهما من بعده الحزن والضر والفقر حتى انطفأ سراجهما في حولين متعاقبين بعد انقطاع خبره لبضع سنين. وأما البنية اليتيمة فقد حنا عليها بعض ذوي المروءات من أهل البيوتات فضمها إلى حرمه، وواسى يتمها الحزين بعطفه وكرمه.
عاد المهاجر إلى وطنه يحمل في جيبه المال وفي قلبه الآمال فما وطأت قدماه ثرى العراق الذهبي حتى ازدحمت الذكريات على خاطره، ومرت الحوادث المزعجات أمام ناظره، ولكن شعوره في لذة العودة إلى الأرض التي ابصر عليها الدنيا، والسماء تقبل منها الروح، والهواء الذي رف عليه بالصبا، والماء الذي نضح قلبه بالنعيم، والأسرة الحنون التي يراه إليها الشوق. والمستقبل الباسم الذي ينتظره في بغداد، قد شعب فؤاده وشفى كبده ومسح ما به.
عرف المحلة والدار بعد لأي لطموس المعالم القديمة. ثم قرع الباب بيد مرتجفة فإذا المالك الجديد يخرج إليه! فاقبل عليه المسكين لهفان ضارعا يسأله: هنا كان مهبط نفسي فأين أبى؟ وهنا كان مسقط رأسي فأين أمي؟ وهنا كان لي مهد وأخت وملعب وجيرة، فقل لي(2/66)
بربك يا سيدي أين تحمل بكل هؤلاء القدر؟ وكان بين المسئول والسائل حوار قصير عرف منه البائس أن ريح المنون قد عصفت بأهله. فارتد إلى الفندق لا يملك دمعة ولا قلبه، ثم قضى حينا من الدهر ذاهب القلب يكابد غصص الكرب ويعالج مضض الهموم حتى رأم الزمان والأيمان جروح صدره.
وقع في نفس الوحيد الحزين أن يتزوج ليعيد إلى سجل الوجود اسم أسرته فاقترحت عليه جارة له عجوز أن تخطب إليه فتاة يقولون أن بينها وبين بني فلان عاطفة رحم. ويؤكدون أنها تنزع إلى عرق كريم لطبعها المهذب وجمالها المحتشم فاطمأن قلب الخطيب إلى رأي الخاطبة واختلفت العجوز بينه وبين ولي الفتاة حتى تم الوفاق وسمي الصداق وعينت ليلة الزفاف.
زفت العروس إلى زوجها فبهره ما رأى من جمال وأحس من ظرف وسمع من أدب، فافتر في وجهه السرور وحمد الله على حسن توفيقه، ثم أتقضى شهر العسل على خير ما يجد زوج من زوجه.
وفي ليلة تجاذب العروسان أطراف السمر وشققا بينهما الحديث حتى أفضى إلى علاقتها بوليها فلان (بك) فأحب الزوج أن يعرف درجة القرابة بينهما، فغضت الفتاة من طرفها وشاعت حمرة الخجل في وجهها، وقالت في صوت خافت متهافت من الخزي والخوف: الحقيقة أنه ليس بيني وبين هذا الرجل قرابة!! وإنما هو نبيل محسن أواني ورباني بعد ما فجعني البين في أخي، والموت في أبي، وأنا يومئذ في حدود الثانية عشر. ثم تتابعت الأسئلة من الزوج، وتسارعت الأجوبة من الزوجة وكان كل من أنجاب عن خبايا الغيب حجاب امتقع لونه وأقشعر بدنه، واشتد وجيب قلبه، وكانت هي كلما رأت منه ذلك نسبته إلى إنخداعه في أصلها فمضت تفصل المأساة وتصور الفاجعة بالكلام والدمع، عسى أن تعطف قلبه على مصابها، فلا يفكر في طلاقها وعذابها، ولكنها لم تكد تلمس الحجاب الأخير حتى رأت زوجها قد وقف شعره وانتفخ سحره وارتعدت أطرافه، ثم أنفجر صارخا يقول: وا ويلتاه! وا مصيبتاه! لقد تزوجت أختي!. . . . ثم خر مغشيا عليه. فلما ثاب إليه بعض رشده نظر إلى أخته فوجدها فاقدة الوعي فتركها وابتدر الباب وخرج مسرعا لا يلوي على شيء ولا يلتفت إلى أحد!.(2/67)
خرج طريد القدر من بيته خروج (أوديب الملك) من قصره ثم هام في الطرق الضيقة المتشابكة يسأل الرائح والغادي عن مفتي بغداد، فلما ادخل عليه باح له بسر الخطيئة فهول عليه التركي بعقابها، وبالغ في جرائرها وأعقابها. ثم أفتاه بعد الاستشارة والاستخارة والرؤيا أن الله لا يكفر هذا الجرم إلا إذا صدف عن متاع الحياة، وخرج عن أثيل الملك، واستتر بأخلاق الثياب، وقضي بقية عمره في جمع الخبز للكلاب الشوارد!
أذعن الخاطئ البريء لحكم الفقيه الأحمق ونزل للزوجة الأخت عما يملك، وارتدى طمرا من غليظ الكرباس وجعل على عاتقه مخلاة ومضى يقرع كل بيت ويقصد كل مطعم ويجمع الفتات والخبز ثم يقف بالميدان فيقسمه بالسوية على من أجاب الدعوة من كلاب الحي.
لم يمض غير قليل حتى عرفه الناس وألفته الكلاب فصار يمشي في الأزقة وخلفه منها قطيع، وينام في العراء وحوله من شدادها حرس مطيع، وتحين الوجبة العامة فلا تجد كلبا طليقا في بغداد إلا أجاب نداءه. وتناول من يديه المحمومتين غداءه، ولكن الوالي رأى على طول الزمن أن يدي أبي الكلاب على رعيته عافية وربيع فسمن هزيلها وكثر قليلها حتى اختنق بلهاثها النهار؛ وصم بنباحها الليل، وأصاب الناس من عظاظها وأمراضها شر كبير. فأقام في ظاهر المدينة حظيرة واسعة ثم أمر الشرطة فصادوا الضواري وألقوها فيها. فكان أبو الكلاب على عادته يجمع الطعام والعظام ثم يذهب إلى ضيوف الحظيرة فيطعمها ويسقيها ثم يتهالك على الأرض من اللغوب فيرقد مكانه حتى الصباح.
وفي ضحوة يوم من الأيام أولم الوالي لأسراه وليمة السفاح فما نجا من بعدها لاهث ولا نابح، وجاء أبو الكلاب فرأى ألافه الخلصاء على أديم الأرض صرعى لا يتملقن بعين ولا يبصبصن بذنب!! فعظم على المسكين أن يرى مثال الصداقة يموت وشبح الجريمة يحيا فتساقط بجانب السور مهدود القوى صريع اليأس ولبث مكانه لا يأكل طعاما ولا يذوق مناما حتى لحق بربه.(2/68)
مدام دي لوزي
بقلم أناتول فرانس
من (علبة الصدف)
- 1 -
دخلت فمدت بولين دي لوزي إلى يدها. ثم لزمنا الصمت حينا. وكانت قد ألقت في شيء من الإهمال على أحد الكراسي طرحتها وقبعتها من الخوص.
وفتحت على المعزف صلاة أورفيه. ثم دنت من النافذة، ونظرت إلى الشمس تهبط في الأفق الدامي. فقلت لها آخر الأمر، أتذكرين الكلمات التي نطقت بها منذ عامين يوما بيوم، في اسفل هذا التل، وعلى شاطئ هذا النهر الذي تديرين إليه عينيك الآن؟ أتذكرين أنك، وأنت تديرين حولك يدي المتنبئة، قد أريتني معدما أيام المحنة، أيام الجرائم والهول؟
لقد وقفت على شفتي إعلان حبي إليك وقلت: (عش، وجاهد في سبيل العدل والحرية!) سيدتي، لقد مضيت جريئا منذ دلتني على الطريق يدك التي أغمرها كما كنت أحب بالدموع والقبل. لقد أطعتك، فكتبت، وخطبت. أنفقت عامين أجاهد في غير هوادة أولئك الأغمار الجياع الذين ينشرون الاضطراب والبغض، والزعماء الذين يسحرون الشعب بهذه المظاهر العصبية يصورون بها حبا كاذبا، والجبناء الذين يضحون في سبيل الفوز القريب.
فاضطرتني إلى الصمت بحركة من يدها وأشارت أن استمع! هنالك سمعنا في ثنايا الهواء العطر، هواء الحديقة حيث تصدح الطير، صيحات بالموت تأتي من بعيد: (إلى المشنقة أيها الأرستوقراطي! ليوضع رأسه على الرمح!).
وكانت شاحبة، ساكنة قد وضعت إصبعا على فمها.
قلت، إنما هو الطلب يجد في أثر أحد البائسين. فهم يهاجمون الدور ويقبضون على الناس نهارا وليلا في باريس. ولعلهم يدخلون هنا. يجب أن أنصرف حتى لا أعرضك للشر. فمع أني لا أكاد أعرف في هذا الحي، فأنا في هذه الأيام ضيف خطر.
قالت: أقم!
وللمرة الثانية مزقت الصيحات الهواء الهادئ في المساء. وكان يخالطها وقع الخطى وطلق النار. كانوا يدنون وكنا نسمع: (سدوا المنافذ، لا يفلت الوغد!)(2/69)
وكانت مدام دي لوزي ظاهرة الهدوء، يعظم حظها منه كلما قرب الخطر.
قالت لنصعد إلى الطبقة الثانية؛ فقد نستطيع أن نرى من ثنايا النافذة ما يحدث خارج البيت.
ولكنها لم تكد تفتح الباب، حتى رأت في الدهليز رجلا ممتقعا مختلط الهيئة، تصطك أسنانه، وتصطدم ركبتاه من الاضطراب. وكان هذا الشبح يغمغم بصوت مختنق: أنقذوني خبئوني!. . . ها هم أولاء. . لقد اقتحموا بابي؛ وأغاروا على حديقتي. . هم يدنون. .
- 2 -
عرفت مدام دي لوزي (بلونشونيه) الفيلسوف الذي يسكن الدار المجاورة، فسألته في صوت شديد الخفوت:
هل بصرت بك طاهيتي؟ فهي يعقوبية!
أجاب لم يرني أحد.
قالت الحمد لله، أيها الجار!
ثم قادته إلى غرفة نومها حيث تبعتهما. ولم يكن بد من الحيلة، ولم يكن بد من أن تجد مخبأ تخفي فيه (بلونشونيه) أياما، أو ساعات على الأقل، حتى تخدع الطالبين وتتعبهم. واتفقنا على أن أراقب المسالك إلى البيت حتى إذا آذنتهما أنسل الصديق البائس من باب الحديقة الصغير.
ولم يكن في أثناء ذلك يستطيع أن يثبت على قدميه. كان رجلا مصعوقا.
وحاول أن يفهمنا أنهم يجدون في طلبه، هو عدو القسيسين والملوك، لأنه إئتمر بالدستور مع مسيو (دي كزوت) وأنضم في 10 أغسطس إلى المدافعين عن قصر التويلري. ولم يكن هذا كله الا اتهاماً دنيئاً. إنما الحق أن (لوبان) كان يتبعه بحقده وموجدته؛ كان لوبان جزاره، وكثيرا ما هم أن يضربه بالعصا ليأخذه بأن يحسن وزن اللحم، ولكنه الآن يرأس لجنة الحي الذي يقوم فيه حانوته.
وبينا هو يغمغم بهذا الاسم مختنق الصوت، خيل إليه أنه يرى لوبان نفسه، فأخفى وجهه بيديه. وكان لوبان يصعد حقا في السلم. فأحكمت مدام دي لوزي رتاج الباب ودفعت الشيخ خلف ستار. ودق الباب، وعرفت بولين صوت طاهيتها، التي كانت تصيح بها أن افتحي،(2/70)
وان لجنة البلدية بالباب ومعها الحرس الوطني، يريدون أن يفتشوا، يزعمون أن بلونشونيه في البيت، وأنا واثقة بأنهم مخطئون، فما كنت لتخفي وغدا كهذا، ولكنهم لا يريدون تصديقي.
فصاحت مدام دي لوزي من وراء الباب حسن! فليصعدوا! أطلعيهم على البيت كله من أسفله إلى أعلاه.
وسمع البائس بلونشونيه هذا الحوار فأغمي عليه خلف ستارة، ولم ترد عليه الحياة إلا بعد مشقة حين نضحت صدغيه بالماء. فلما أفاق قالت الغادة للشيخ في صوت خافت: اعتمد على صديقي، واذكر أن النساء مكرة.
ثم أقبلت في هدوء ودعة كما لو كانت تعاين بعض شؤون البيت إلى السرير، فجذبته من مكانه قليلا، وفضت الغطاء واستعانت بي فهيئنا بين وسائده الثلاث فراغا مما يلي الحائط.
وبينا هي في ذلك إذا ضجيج عظيم للأحذية، والقباقيب، والكرانيف والأسواط الغلاظ يسمع في السلم. فقضينا ثلاثتنا دقيقة ملؤها الروع، ولكن الضجيج صعد قليلاً قليلاً فوق رءوسنا. فعرفنا أن الحرس قد بدءوا بقيادة الطاهية اليعقوبية يفتشون على البيت. وكان السقف يضطرب، وكان يسمع للقوم نذير، وضحك غليظ، وضرب بالأرجل والحراب في الجدران. فتنفسنا ولكن لم تكن في الوقت سعة. واعنت بلونشونيه أن يدخل في الفراغ المهيأ بين الوسائد.
وكانت مدام دي لوزي، تهز رأسها وهي تنظر إلينا. فقد كان للسرير بعد هذا العبث شكل مريب. فحاولت أن ترده إلى هيئته الأولى، ولكنها لم تفلح.
قالت: لا بد من أن أنام فيه. ثم نظرت في الساعة، فإذا هي السابعة مساء.
فقدرت أن إسراعها إلى النوم في هذه الساعة سيبعث الريبة. ولا سبيل إلى التفكير في تكلف المرض: فان الطاهية اليعقوبية خليقة أن تفضح هذا المكر.
فلبثت على هذا النحو مفكرة لحظات، ثم إذا هي بهدوء وبساطة وحياء، ملؤه الجلال تخرج من ثيابها أمامي، ثم تدخل في سريرها وتأمرني أن أخلع نعلي وأتجرد من ثيابي وهي تقول: يجب أن تكون خليلي وان نفاجأ في هذه الحال. فإذا أقبلوا لم تجد من الوقت ما تهيئ فيه زيك وتصلح من شكلك. فتفتح لهم في لبسة المتفضل وقد أنتثر شعرك. . .(2/71)
وكان كل شيء قد تم كما قدرنا حين هبط الحرس الوطني صاخبا ساخطا.
وأخذ بلونشونيه البائس رعشة عنيفة كان السرير يضطرب لها اضطراباً.
وكان تنفسه من القوة بحيث كان يجب أن يسمع من خارج الغرفة.
قالت مدام دي لوزي: يا للخسران لقد كنت شديدة الرضى بهذه الحيلة. وبعد فلا ينبغي أن نيأس فلعل الله أن يعيننا.
واضطرب الباب لصدمة قوية.
قالت: من الطارق؟
فأجيبت: هم ممثلوا الأمة.
قالت: ألا تنتظرون حينا؟
قيل: افتحي وإلا كسرنا الباب.
قالت: هلم فافتح يا صاحبي.
وما هي إلا أن كانت المعجزة فانقطع اضطراب بلونشونيه وزحيره فجأة.
- 3 -
وكان أول الداخلين لوبان وقد اتخذ منطقته وتبعه اثنتا عشرة حربة.
فأدار بصره بين مدام دي لوزي وبيني ثم قال: بخ، بخ! لقد استكشفنا عاشقين! معذرة أيتها الحسناء!
ثم التفت إلى الحرس وهو يقول: إنما الأخلاق للثائرين. ولكن هذه المصادفة رغم حكمته قد ملأته سرورا.
فأقبل حتى جلس على السرير وأخذ بذقن الحسناء الأرستقراطية وهو يقول: نعم أن هذا الفم لم يخلق ليردد في الليل والنهار: أبانا الذي في السماء!.
ولو قد فعل لعظمت الخسارة، ولكن الجمهورية قبل كل شيء. إنما نبحث عن الخائن بلونشونيه. هو هنا، لا اشك في ذلك. لا بد لي منها. لأتقدمنه لتضرب عنقه. ولأكونن بذلك سعيداً.
قالت: فتشوا عنه إذن.
فنظروا تحت الأثاث وفي الخزائن، وادخلوا الحراب تحت السرير، وحبسوا الوسائد(2/72)
بالخناجر.
وكان لوبان ينظر إليه بمؤخر عينه وهو يحك أذنه. فأشفقت مدام دي لوزي أن يوجه إليه أسئلة محرجة، فقالت أنت تعرف البيت كما اعرفه يا صاحبي. فخذ المفاتيح وطوف بمسيو لوبان بكل مكان. وأنا اعلم أنك ستجد لذة وسرورا في إرشاد المخلصين للوطن.
فقادتهم إلى الكهف حيث نثروا ما فيه من حطب وشربوا عددا ضخما من القناني. ثم شق لوبان بكرنفته الدنان المترعة. فلما خرج من الكهف الغارق في النبيذ أذن بالرحيل. فصحبتهم حتى أغلقت من دونهم الباب، وأسرعت أعلن إلى مدام دي لوزي أن قد نجونا.
فلما سمعت هذا النبأ عطفت رأسها إلى الفراغ بين السرير والحائط، ونادت: مسيو بلونشونيه! مسيو بلونشونيه.
فأجابها رجع نفس ضئيل.
هنالك صاحت الحمد لله! لقد روعتني فقد كنت أرى أنك قضيت!. ثم التفتت إلى قائلة: مسكين أنت أيها الصديق لقد كنت تجد لذة عظيمة في أن تقول لي من حين أنك تحبني، لن تقولها لي بعد اليوم.(2/73)
العَالم النسَائي
شعوري نحو مصر والمصرية
كاتبة هذا المقال سيدة سويسرية واسعة الثقافة دقيقة الملاحظة
صافية الشعور وقد وعدت الرسالة أن توالي الكتابة في هذا
الموضوع فلها الشكر. (المحرر)
مصر اسم يخلب اللب ويسحر القلب ويستثير حتى في أجفى الناس طبعاً صورة هذا البلد الفاتن والطبيعة الخصيبة والبدر اللامع ويلهم النفوس ذكرى هذا الماضي العريق والمدنية القديمة والعظمة الفرعونية وقصص ألف ليلة وليلة الرائعة، وقد أنهكتها جهود المدنية الأولى فاستجمت بعد هذا الشوط البعيد حقبة طويلة من الدهر ما تزال تتذوق فيها خيال هذا الماضي العظيم وسلطانها السالف!
وكم من عاشقين غمرتهم شمسها الضاحكة بالفرح والسعادة ودفء القلوب!
وكم من خياليين جاشت نفوسهم في ربوعها ومجاليها بالأخيلة السعيدة والأحلام البهيجة!
وكم من مترفين ملئوا فراغ حياتهم وخيالهم بمباهجها ومناظرها وقضوا شهوة التطلع من عجائبها ومن المتناقضات فيها!
أليست تجمع في الواقع الكثير من هذا التناقض؟ فيجاور الجاه العريض والرغد الوفير البؤس الساحق والفقر المدقع؟
الست ترى السيارات الفخمة ذات الفرش الوثيرة عند مداخل الملاهي والغلمان الضريرين يستدرون الرحمة ويسألون العطف في أسمال رثة؟!
على أن المدنية تسير فيها الآن بخطى واسعة سريعة. ففي الحين بعد الحين يبدو بين الناس رأى ناضج أو صناعة رائجة فتكون الدليل الساطع على الفوز والنجاح. على أن كثيرا ما فارت حماسة الناس ثم قرت، واتقدت شعلتهم ثم خبت، ما أشد حاجتهم إلى ملكة الاستمرار والاستقرار!
ولطالما سئلت عن رأيي وشعوري في مصر. وكان جوابي واحدا لا يتغير، أنها ككل بلاد العالم فيها الطيب والخبيث، على أننا إذا قدرنا أن العوامل الاجتماعية وظروف الحياة(2/74)
تخلق الأمم كما تخلق الفرد وجب ألا يغيب عن أذهاننا تأثير هذه الظروف والعوامل حين الحكم على مصر التي تجاهد الأيام لاستعادة عظمة القرون الأولى.
فإذا أردت أن أتحدث عن شيء فيها فأنا أتحدث عن أقوى العوامل أثرا في تكوينها، وهو المرأة في مختلف أطوارها وأدوارها ومسؤولياتها وواجباتها.
وقد يبدو للنظرة الأولى أن أثرها ضئيل، فما وجه العلاقة والخطر بين هذا المخلوق الخانع قليل الحظ من العلم ومن عظمة الأمة ومجد الوطن؟
لقد قضيت الآن في مصر ثلاث سنين شعرت فيها بجاذبية غريزية تجذبني نحو المرأة، واغلب ظني أنها تحتاج إلى عناية اكثر وجهد أوفر، فأنها أس الحركة الروحية وجماع الأسرة وروحها الجياشة وشريك الزوج ومربية الأطفال وربة الدار.
ولقد استطعت أن اقدر وأنا أعيش في بيئة مصرية محضة أن المرأة لا تستطيع أن تكون كل ذلك إلا إذا بذلت أعظم مجهود وتغلبت على كل صعوبة فأنها ما تزال ترسف في أغلال العادات وتعليمها لا يزال ناقصا، وشعورها العميق الذي ولده التقليد القديم بأنها مخلوق تافه الشأن ضئيل الوجود يقتل في نفسها أسمى معاني الحياة.
وهي بطبيعتها مقلدة غير مستقلة، فكم شاهدت سيدات الأسرة الواحدة لا يختلفن في القناع والمعطف والفراء وقد نبذن عصابة الرأس الشرقية التي كانت تلائم الوجه الشرقي كل الملائمة.
على أن البدء عسير عادة، والمرأة المصرية ما تزال في خطوات التطور الأولى، بل قد يكون البدء في بعض الأحيان مثيرا للإشفاق والنقد، فإننا إذا لاحظنا زينتها وتجملها رأينا ما يبعث أحيانا على السخرية، فليس اضحك من وجه شرقي الملامح زاد الكحل عينيه الدعجاوين سوادا، وشفتين خضبهما الأحمر القاني، وشعر قد حاله الأوكسجين إلى اصفر فاقع.
فنصيحتي إلى المصرية العزيزة أن القصد والبساطة في التجمل والزينة هما سر رشاقة المرأة وأناقتها.(2/75)
اشتراك الفتاة في الحياة العملية
أنا إن أقدمت على الخوض في هذا الموضوع فلست أبشر بمبدأ جديد لم تعرفه مصر، أو افتح بابا موصدا في هذا البلد العزيز فكلنا يعرف ما تقوم به الريفية المصرية من الأعمال فهي والرجل على قدم المساواة في العمل بل قد تبذه في كثير من نواحي الحياة مما يقصر عنه باع فلاحنا وتضرب فيه الريفية بسهم عظيم، على أنني بمعالجة هذا الموضوع أريد أن أوجه النظر إلى حياة الفتاة المدنية فاستعرض بعض نظمها وأتتبع بعض أدوائها علني أوفق إلى إيصال صوتي إليها.
وفي نطاق هذه الكلمة أخرج من دائرتي بنات الطبقة الفقيرة المعدمة فهؤلاء غير ملومات ولا يمكن أن ينسب إليهن أو إلى أوليائهن أي تقصير فهن بحكم ظروفهن قد هدتهن الطبيعة إلى استنباط وسائل العيش فكن اقدر من غيرهن على خوض غمار الحياة على رغم ما بهن من فاقة وما يحيط بهن من إملاق، ولكنما أنظر إلى فتاة الطبقة الوسطى وفتاة الطبقة الغنية لأرى هل نظرت إحداهما إلى الحياة نظرة عملية تتفق وعصرنا الحديث؟
قد ينكر البعض علي هذا التساؤل ولكني أريد أن أصل إلى الحقيقة لا يشوبها ملق ولا يموهها خداع، أريد أن أنظر إلى أخواتي وأترابي بعين الحقيقة والواقع.
حقا أن البعض متعلمات والبعض مقبلات على التعليم ولكني أرى الكثيرات لا يأخذن الحياة بعلمهن فيمهدنها لمستقبل عملي مجيد. أرى الكثيرات وقد قنعن بقشور التعليم دون اللباب وقبعن في عقر دارهن مكتفيات ببضع كلمات جوفاء يتشدقن بها خلال التفنن في التبرج وقضاء الساعات أمام المرآة.
الحق أن مثل هذه النتيجة لا تساوي عناء الدرس وليس فيها لهذا البلد غناء.
هلا كان منهن من نظرن إلى أنفسهن والى وطنهن وجعلن من حياتهن متسعا لخدمة الاثنين! ماذا يفيد الأمة وآنساتها متأنقات جميلات ولكن على حساب الرجل التعس الذي يعولهن؟ ماذا يفيد الأمة وآنساتها مستهلكات غير منتجات منفقات ثروات الرجال في المخازن الأجنبية لقاء ثوب أنيق أعجبهن وأداة زينة استغوتهن؟ أريد أن تستثمر الفتاة العلم الذي تعلمت. أريد أن تشعر الرجل أنها لم تعد ذلك الحيوان المدلل الذي يعيش على حسابه ولمتعته. أريد أن تقاسم الفتاة الرجل في العمل والكسب والتمتع بالحياة. أريد فتاة مصرية عاملة تعمل وتزاحم في الحياة بالمنكبين تستشعر لذة العمل وتنهض بمصرنا العزيزة وتربأ(2/76)
بنفسها أن تكون قعيدة البيت أسيرة المرآة، أريد الفتاة أن تثأر لخمولها الماضي الطويل وتستقبل الدنيا بنفس ملؤها العزم والحزم تزينها الكرامة ويتوجها العفاف.
ترى هل من تستجيب لدعائي؟ ترى هل من تنهض من أجل مصر؟ أن قلب مصر ليخفق، وان مصر لتزخر بالحياة وان هو الا أن نتسابق إلى العمل حتى نهز العالم بجلال نهضتنا ونمضي كما بدأنا مصريين لنا نفوس أبية وأيدي فتية وأثر في الحضارة غير منكور.
تحية أبو العلا
مدرسة بمدرسة غمرة الابتدائية(2/77)
النقد
لاتينيون وسكسونيون
أترضى أم نسخط حين تعنى الصحف السيارة بالأدب والنقد وحين تتفق مع كبار الأدباء والنقاد على أن يحرروا لها ما تحتاج إليه من الفصول فيهما؟ في ذلك ما يدعو إلى الرضى من غير شك فهذه الصحف السيارة منتشرة وهي اشد إنتشاراً من الكتب وأدنى إلى نفوس الناس وعقولهم والى عيونهم وآذانهم من المحاضرات والأحاديث فهي إذا تخدم الأدب والنقد حين تذيع رسالتهما في اكثر عدد ممكن من الناس، وهي إذا تخدم الناس حين تنشر فيهم الثقافة الأدبية وترفع دهماءهم إلى حيث يستطيعون أن يروا ويذوقوا جمال الأدب الرائع وآيات الفن الرفيع. وهي لهذا وذاك تخدم الأدباء والنقاد أنفسهم لأنها تعرفهم إلى اكبر عدد ممكن من الناس في أقطار مختلفة من الأرض فترفع ذكرهم وتعلي قدرهم وتنشر دعوتهم وتكسب لهم الأنصار والمؤيدين وهي بعد هذا كله وقبل هذا كله تخدم نفسها حين تستعين بالأدباء والنقاد على كسب القراء وتستعين برضى القراء على احتكار الأدباء والنقاد. كل هذا حق ولكن هناك حقا آخر يظهر أن ليس من سبيل إلى الشك فيه وهو أن عناية الصحف السيارة بالأدب والنقد لا تخلو من ضرر، ومن ضرر قد لا يكون قليلا. فالأدب والنقد في حاجة إلى الأناة والروية وإمعان التدبر وإطالة التفكير فإذا لم يظفر الأدب والنقد بهذا كله فهما عرضة للضعف والفتور وهما عرضة للتقصير والقصور وهما عرضة لتجاوز الحق والتورط في الباطل وهما عرضة لهذا كله للإساءة إلى أنفسهما وللإساءة إلى الأدباء وللإساءة إلى القراء أنفسهم. فإنما يكون الخير في نشر الأدب والنقد إذا نشرا على وجههما جميلين رفيعين منصفين متبرئين من هذه العيوب التي تفسد جمال الفنون العليا. وأظنك لا تخالفني في أن حياة الصحف السيارة وضروراتها وحاجتها القاهرة إلى أن تظهر في نظام وتصدر في وقت معين وتعطي قراءها ما تعودت أن تعطيهم في كل يوم أبعد الأشياء عن ملاءمة ما يحتاج إليه الأدب والنقد من الأناة والروية ومن التدبر وإطالة التفكير. ولعلك قرأت في بعض الكتب التي قصت علينا حياة أناتول فرانس وفصلت لنا بعد موته أطرافا من سيرته وأطواره في حياته الأدبية أنه شقي بهذا ثم تعوده فسخر منه وازدرى الصحف والأدب والقراء ونفسه أيضاً وعبث بهذا كله. فكان في بعض الأحيان(2/78)
من اقل الناس عناية بما يكتب للصحف وتحريا فيه للحق ولا سيما حين كان يكتب لبعض الصحف الأجنبية فكان يلفق لهذه الصحف أي شيء ويضع اسمه في آخره ويأخذ أجره على هذا التلفيق ساخرا بالصحيفة وقرائها معتزاً باسمه منتفعاً بما يقع في يده من المال كل شهر أو كل أسبوع.
ويعظم على الأدب والنقد خطر ما تحتاج إليه الصحف السيارة من السرعة والنظام حين لا يكون الأدباء الذين يكتبون لها في الأدب والنقد مقصورين على أدبهم ونقدهم بل تضطرهم ظروف الحياة العامة والخاصة إلى أن يتجاوزوهما فيكتبوا في السياسة أيضا. فهذه السياسة على أنها من حيث هي شر على الأدب لأنها تستغرق من جهد الأديب وميوله وعواطفه مقداراً عظيما كان ينبغي أن يخلص للأدب، يشتد شرها ويعظم لأنها تتأثر هي أيضا بحاجة الصحف إلى النظام والسرعة وبطروء الأحداث السياسية وتطورها واضطرار الكاتب إلى أن يتبع هذا التطور ويسايره ويكتب في ألوانه المختلفة. فإذا أضفت إلى هذا كله أن للأديب أو الناقد حياته الخاصة بقسميها المادي والمعنوي وحياته الاجتماعية التي تضطره إلى أن يستقبل ويزور ويجامل ويتقبل المجاملة، عرفت مقدار الجهد الضئيل الذي تظفر به فصول الأدب والنقد في الصحف من الأدباء والنقاد.
خطرت لي كل هذه الخواطر حين قرأت فصلا قيما نشرته جريدة الجهاد الغراء لصديقي الأستاذ عباس محمود العقاد صباح الثلاثاء 17 يناير.
أراد الأستاذ العقاد أن ينقد كتاب الأستاذ أنطون الجميل في شوقي شاعر الأمراء. ولم أكن أشك في أن الأستاذ سيشتد على الكتاب ومؤلفه وعلى شوقي أيضا. فمذهب الأستاذ في الأدب العصري معروف واقل ما يوصف به أنه بعيد كل البعد عن الإعجاب بشعر شوقي وعن الإقرار للذين يعجبون بهذا الشعر. وقد أشارك الأستاذ في كثير جدا من آرائه في شوقي والمعجبين بهما. ولكن الشيء الذي أخالف فيه الأستاذ اشد الخلاف والذي أكتب من اجله هذا الفصل هو هذه المقدمة التي بسطها بين يدي نقده لكتاب الأستاذ أنطون الجميل. وعرض فيها لما سماه نقد اللاتينيين ونقد السكسونيين. وأحب أن لا يغضب الأستاذ العقاد إذا اصطنعت الصراحة في بسط رأيي في هذا الفصل فلعله يوافقني على أنه في حقيقة الأمر غير راض عن الكتاب ولا مؤمن ولكنه أراد أن يكون ناقدا مجاملا لبقاً فاستعار من(2/79)
اللاتينيين ما يعيبهم به من المجاملة واللباقة في النقد لم يرد أن يصارح الأستاذ أنطون جميل بأن كتابه لا يرضيه من كل وجه لأنه حريص على مقدار ولو محدود من المجاملة بين الزملاء. ولم يرد أن يعيد على الناس حديثه في شوقي وشعره لأن شوقي قد مات منذ وقت قصير والنظم الاجتماعية تقضي بشيء من المجاملة للموتى وللذين رزئوا فيهم أشهراً على اقل تقدير. لم يرد هذا ولا ذاك. ولم يكن يستطيع أن يهمل كتاب الأستاذ أنطون الجميل فضلا عن أن يقرضه تقريضاً خالصاً لأن في هذا أو ذاك ظلماً لرأيه وكتمانا لما يعتقد أنه الحق فسلك في نقده هذه الطريقة الغريبة التي لا تخلو من التواء. اعتذر للأستاذ أنطون الجميل بثقافته اللاتينية وأخذه المذهب اللاتيني في النقد عما تورط فيه من خطأ بين وحكم غير مستقيم على شعر شوقي. ولست ادري أظفر الأستاذ العقاد بإرضاء الأستاذ أنطون الجميل أم لم يظفر؟ أوفق إلى مجاملته أم لم يوفق؟ أوفق إلى مجاملة شوقي والذين رزئوا فيه أم أخطأه هذا التوفيق؟ لست ادري ولكني اعلم علم اليقين أنه ظلم الثقافة اللاتينية وظلم النقد اللاتيني وظلم قراءه جميعا وأظن أن إرضاء الأستاذ أنطون الجميل أو مجاملته أهون على الأستاذ العقاد وأهون على الأستاذ الجميل نفسه من ظلم العلم والأدب والقراء جميعا.
واغرب ما في هذا الفصل الذي كتبه الأستاذ العقاد تناقض لست ادري كيف تورط فيه وهو فيما أعلم من أشد الكتاب المعاصرين في الأدب استقامة في الحكم وإيثارا للقصد وحرصا على الإصابة في التفكير. بدأ الأستاذ فصله بأن من العسير جدا أن يوفق الناس إلى الحق حين يعممون أحكامهم على الأمم والشعوب. وعلل ذلك تعليلا حسنا مستقيما ولكنه لم يلبث أن التمس لنفسه وسيلة للحكم العام على الأمم والشعوب. بل على ما هو أعم من الأمم والشعوب على الأجناس. فزعم أولا أن للاتينيين مذهبا في النقد وان للسكسونيين مذهبا آخر وان هذين المذهبين يختلفان فيما بينهما اشد الاختلاف. وزعم بعد ذلك أن أخص ما يمتاز به المذهب اللاتيني (الأناقة). وأخص ما يمتاز به المذهب السكسوني (البساطة) أو (الفطرة).
وفسر هذا بأنك إذا قرأت الناقد الفرنسي رأيت رجلا أنيقا لبقاً يقدم في أحد الصالونات كاتبه الذي ينقده على الأوضاع الاجتماعية المألوفة مجاملا متكلفا وقد يومئ إيماء خفيفا إلى(2/80)
بعض العيوب ولكن على سبيل النكتة أو على سبيل الحيلة في التماس الدفاع عن هذا الكاتب الذي ينقده أو الرجل الذي يقدمه إلى الصالون. أما الناقد السكسوني فهو لا يحفل بالأوضاع الاجتماعية وإنما يهجم بك فورا على الحياة الفردية، على الحياة الإنسانية، على الرجل من حيث هو رجل لا من حيث هو فرد من جماعة. ومعنى هذا أن نقد اللاتينيين سطحي مخالف لأصول العلم وان نقد السكسونيين هو النقد العلمي الصحيح الذي تجد فيه الفائدة وتجد فيه الغناء. وأنا احب أن يعذرني الأستاذ العقاد إذا قلت له في صراحة أني كنت أنتظر منه كل شيء الا التورط في هذا الخطأ الصارخ والظلم المبين. فليس من الحق بوجه من الوجوه أن الاختلاف بين النقاد اللاتينيين والسكسونيين عظيم إلى هذا الحد الذي يتصوره الأستاذ. فليس هناك نقد لاتيني ونقد سكسوني، وإنما هناك نقد فحسب. فقد يعتمد على هذا الذوق الفني العالي الذي أحدثته الثقافة اليونانية اللاتينية وورثته عنها الأمم الحديثة على اختلاف أجناسها وبيئاتها. فكل النقاد من الفرنسيين والإيطاليين والألمانيين والإنجليز قد قرأوا آيات البيان اليوناني واللاتيني وذاقوا آيات الفن اليوناني والروماني وكونوا لأنفسهم أو كونت لهم هذه القراءة ذوقا عاما مشتركا بينهم يختلف في ظاهره ولكنه لا يختلف في جوهره لأن هذا الجوهر واحد مستمد من هوميروس وبندار وسوفوكل وارستوفان وأفلاطون وسيسيرون وتاسيت ومن إليهم. نعم وهذا النقد الحديث يعتمد على أصول أخرى غير الذوق، أصول تشبه العلم أو تحاول أن تكون علما وضعها أرسططاليس ومن جاء بعده من نقاد اليونان والرومان وسموها علم البيان. يعتمد النقد الحديث عند الأمم الأوربية مهما تختلف أجناسها على هذين الأصلين: الذوق الذي تكونه الثقافة اليونانية اللاتينية، والعلم الذي وضعه أرسططاليس وأصحابه. وللأستاذ أن يدرس على مهل وفي أناة وروية من شاء من النقاد المحدثين في أي أمة من الأمم الأوربية فسيرى أن هؤلاء النقاد جميعا يتفقون في أن نقدهم يقوم على هذين الأصلين اللذين أشرت إليهما. فإذا اختلفوا بعد ذلك فإنما يختلفون في الأشكال والصور باختلاف أمزجتهم الخاصة وباختلاف البيئات التي يعيشون فيها ويكتبون لها.
عسير جدا أن يقال إذا أن هناك نقدا لاتينيا ونقدا سكسونيا وأن هذين النقدين يختلفان في الجوهر والطبيعة، ثم اعتذر إلى الأستاذ بعد هذا من أني لا أستطيع ولا أظن أن أحداً(2/81)
يستطيع أن يقره على رأيه في النقد اللاتيني، بل أنا لا أقضي العجب من تورط الأستاذ في إعلان هذا الرأي الغريب فليس من الحق أن النقد اللاتيني سطحي وليس من الحق أن هذا النقد يعتمد على الأوضاع الاجتماعية ويهمل الإنسان من حيث هو إنسان. هذا كلام لا يمكن أن يقبل مع أن من الأشياء المقررة التي يتلقاها الشبان في المدارس أن قوام الأدب الفرنسي الكلاسيكي إنما هو بالضبط: إلغاء هذه الفروق والأوضاع الاجتماعية التي تمتاز بها الأمم والشعوب فيما بينها بل التي تمتاز بها البيئات المختلفة في أمة بعينها والاتجاه إلى الإنسان من حيث هو إنسان إلى هذا القدر المشترك بين الناس جميعا من العقل والشعور. على هذه القاعدة يقوم الأدب الفرنسي الكلاسيكي كما يقوم عليه الأدب اليوناني القديم والأدب كله بما فيه من شعر ونثر ونقد، فكيف يقال في أدب يقوم على هذا الأصل أنه سطحي يقوم على الظواهر والأوضاع الاجتماعية.
ولأدع الأدب بمعناه العام ولأتحدث عن النقد وحده ولن أحدث الأستاذ عن نقد بوالو وفولتير وغيرهما من النقاد الذي عاشوا قبل الثورة فان حديث هؤلاء يطول، وإنما أتحدث إلى الأستاذ عن النقد الفرنسي في القرن الماضي، واسأله كيف يستطيع أن يقول أن هذا النقد سطحي يعتمد على (الأناقة) و (اللياقة) والأوضاع الاجتماعية ويهمل الحقيقة الإنسانية البسيطة؟ ألم يقرأ سانت بوف؟ أن قراءة لفصل واحد لهذا الكاتب الذي ملأ الدنيا نقدا لأنه أنفق في النقد صفوة حياته تقنع الأستاذ ومن هو اقل من الأستاذ جدا إلماما بالأدب والنقد بان سانت بوف كان أبعد الناس على أن يكون رجلا من رجال الصالونات يقدم الكتاب والشعراء إلى الناس في أناقة ولباقة وظرف ومجاملة. ولعل الأستاذ يعلم أن أهم ما أخذ به سانت بوف من العيب إنما هو تعمقه أسرار الناس وبحثه عن دخائلهم وتتبعه لحياتهم الفردية فما ينبغي أن يعرف وما ينبغي أن يجهل وعرضه هذا كله على الناس لأنه كان يرى أن فهم الأدب رهين بفهم الشخصية الفردية للأدباء الذين ينتجون. ولو قد وقع شوقي رحمه الله بين يدي سانت بوف كما وقع لمارتين لقرأ الأستاذ العقاد في نقد شوقي صحفا ترضيه كل الرضى وتخالف كل المخالفة ما قرأه الأستاذ في كتاب صديقنا أنطون الجميل. لم يكن سانت بوف رجل صالونات وإنما كان يغشى الصالونات فيرى ما كان يحدث فيها ويتخذه وسيلة لتعرف ما يقع من وراء الأستار.(2/82)
كان اقل الناس انخداعا بما يتحدث به الأدباء عن أنفسهم وبهذه الصور الخلابة التي يعطونها لحياتهم فيما ينشئون من شعر أو نثر، فكان يبلغ بذلك أقسى القسوة. فليقرأ الأستاذ إن أراد أحاديث الاثنين وليقرأ الصور وليقرأ كتابه عن شاتوبريان وأصحابه وليقرأ كتابه عن بورويال وتين؟ ماذا يقول الأستاذ عنه؟ أكان صاحب أناقة ولباقة واعتماد على الأوضاع الاجتماعية وهو الذي أنفق جهدا عنيفا ليقيم النقد الأدبي على أساس من العلم؟ وقد قرأ الأستاذ من غير شك لا أقول كتبه في نقد الفرنسيين بل أقول كتابه في تاريخ الأدب الإنجليزي.
زعموا أن بشاراً سئل عن جرير والفرزدق أيهما أشعر؟ ففضل حريرا وقال فيما قال أن النوار امرأة الفرزدق فبكاها النائحات برثاء حرير لامرأته:
لولا الحياء لعادني استعبار ... ولزرت قبرك والحبيب يزار
فليسمح لي الأستاذ أن اذكره بأن الإنجليز أنفسهم لا يزالون يعتمدون إلى الآن على كتاب تين في تاريخ الآداب الإنجليزية ومع ذلك فليس أدبهم في حاجة إلى من يؤرخه من الأجانب.
وبرونتير ماذا يقول فيه الأستاذ؟ أكان صاحب أناقة ولباقة وظرف وصالونات وهو أقل النقاد الفرنسيين حظا من هذا كله، وهو أول من حاول أن يقيم النقد الأدبي على مذهب دروين في تطور الأنواع وفي النشوء والارتقاء. وأميل فاجبه ولنسون وبيدييه وجول لمتر واناتول فرانس وبول بورجيه وبول سودي والنقاد الذين لا يزالون يملئون الصحف والمجلات الكبرى في فرنسا نقدا في الأدب والفن، ما بال الأستاذ لا يقرؤهم ليتبين أحق أن النقد اللاتيني يعتمد على الأناقة واللباقة والأوضاع الاجتماعية والتماس والنكتة.
لقد فرغت الآن من قراءة فصل للكاتب الفرنسي مارسل دوشومان في مجلة العالمين التي صدرت في أول يناير لو قرأه الأستاذ لعرف أن النقد الفرنسي أبعد ما يكون النقد عن لهو الصالونات وظرفها. في هذا الفصل يحاول الكاتب أن يهدم أسطورة آمن بها الأدباء جميعا عن حياة شاتوريان كانت تصور دعابته ولهوه وكان هو قد انتهى في آخر حياته إلى تصديقها والتخييل إلى الناس أنها قد وقعت بالفعل فإذا الكاتب يثبت بالأدلة القاطعة أن هذه الأسطورة لا تعتمد على أساس ويعتذر إلى القراء لأنه أضاع عليهم قصة غرامية كانوا(2/83)
يجدون فيها لذة وجمالا. كلا ليس النقد اللاتيني سطحيا ولا يستطيع من قرأ منه شيئا ذا بال أن يقول أنه سطحي بل هو مضطر إلى أن يقول مع الكاتب الفرنسي برونتير أن النقد الحديث إنما نشأ ونما آتى أطيب الثمر وأصحه وألذه في فرنسا وفي فرنسا وحدها.
وأنا أحب أن لا يظن الأستاذ العقاد أني أدافع هنا عن الثقافة اللاتينية على حسابات الثقافات الأخرى. فأنا من أشد الناس إكبارا للثقافة السكسونية وإعجابا بما عرفت منها. ولكني كنت وسأظل من أقل الناس حديثا عنها وحكما عليها لأني لا أحسنها وأحب أيضا أن لا يعتقد الأستاذ أني اكتب هذا الفصل متأثرا بالثقافة اللاتينية التي نشأت عليها كما نشأ الأستاذ أنطون الجميل. فالناس جميعا يعلمون أني نشأت على الثقافة العربية الخالصة ولم أتصل بالثقافة الأوربية الا بعد أن تقدم بي الشباب.
إنما هو الحق الذي يجب أن يقال، والعلم الذي يجب أن ينصف والقراء الذين يجب أن نجتهد في أن لا نقدم إليهم الا ما نثق بأنه الحق الذي لا غبار عليه. والحق الذي لا غبار عليه في هذه المسألة هو أن الأستاذ العقاد تعجل وجامل فأخطأ الصواب، وأقام أحسن الدليل على أن التعميم في الأحكام على الشعوب مزلة للأقدام وسبيل إلى الظلم.
أما بعد فأن لي في كتاب الأستاذ أنطون الجميل رأيا أن لم يظهر في هذا العدد فسيظهر في العدد الذي يليه.(2/84)
الشلوك
عمالقة السود واكثر الهمج وحشية
للرحالة الكبير الأستاذ محمد ثابت
الشلوك طائفة من الزنج تحتل قسما من منطقة السدود في أعالي النيل ويحكمهم ملك يسمى ولا يزالون يتعقبون ملوكهم إلى الجد السادس والعشرين ودولة هذا الـ أو كما يلقبونه تمتد غرب النيل بين كاكا وتونجا وشرق النيل من جنوب كودوك إلى التوفيقية وعلى ضفتي السوباط الأولى ولهم نحو 1300 قرية من أكواخ مخروطية من القش والطين يسكنها نحو أربعين ألفاً. وهم خاضعون تماما لملكهم الذي يبلغه الجواسيس كل أمر جل أو صغر أولاً بأول، ومن أقصى حدود بلاده إلى مركزه المختار في قاشودة على بعد ستة أميال من كودوك. وهم معروفون بالقوام السمهري وبطول السوق وبروز عضلاتهم، جلدهم لامع براق والمقاتل منهم لا يرى خارج كوخه بدون حربته الطويلة ذات السن العريض. ومعها حربتان قصيرتان (ولا يحملون الأقواس والسهام) وسلاح من خشب كأنه الوتد مدبب الطرف ويستخدمون صحافا بعضها من خشب مستدير والبعض من جلد فرس الماء.
وأخص ما يسترعي النظر شعور الرجال التي يرسلونها تنمو ثم يشكلونها أشكالا غريبة بعد أن تبطن بروث البقر. أما النساء فيحلقن مقدم الجمجمة ويتركن شعراً قصيراً جداً في مؤخرها فتبدو المرأة كأنها صلعاء. ويتعهد شعر الرجال (حلاق) عمله محترم لديهم يتوارثه عن أجداده وهو في شهرته ومقامه يلي الرماة والمقاتلة، يأتي الرجل ويجلس أمام كوخ الحلاقة في الشمس المحرقة ويبدأ الرجل غسل الشعر ونفشه ببول البقر ثم يترك مدة في الشمس تناهز نصف ساعة وأنت ترى القمل والحشرات تجري على رقبة الرجل، وأيدي الحلاق والرائحة الكريهة منبعثة منها تعبق في الجو. وخلال ذلك يعد الحلاق المادة التي سيشكل بها الشعر. فيأتي بإناء من فخار ويخلط به بعض الطين والروث والبول والصمغ ويعجنه ثم يبطن به الشعر في مهارة فائقة ثم يجفف في الشمس ويأخذ في قطع زوائد الشعر بمدية حادة ويدهن جسد الرجل ببول البقر الذي يستخدمونه جميعا رجالا ونساء. بعد ذلك يرش فوق الشعر مسحوقا من حرق روث البقر ممزوجا بالثرى ليأخذ الشعر لونه المطلوب. والعادة أن يتعهد الحلاق شعر رجلين معا لكي يعرف كل نظام شعره إذا ما رأى(2/85)
شعر أخيه ولا تستخدم المرآة عندهم. وأجر هذا العمل شاة أو معزى، ويغلب أن يتعهد الشبان شعرهم هكذا قبل الزواج والحرب وقبل الرقصة الدينية. ولكي لا يفسد نظام الشعر إذا أحس أيلام الهوام التي تتزايد في رأسه كل يوم يضع الحلاق أثناء العملية إبرا من الخشب فتخلف خروقا منها يمكن للرجل أن يحك رأسه بعصي مثلها. وأصعب ما يعانيه الشخص من شعره ليلا إذ ينام على قطعة من خشب يرفعها حاملان وهو لا ينجو من هذا العذاب ولا من عذاب القمل الا إذا مات أحد أفراد العائلة، فعندئذ يجب حلق الرأس وتركها حتى ينمو الشعر ويستأنف تعهده من جديد.
ومما يعانيه شبانهم الاختبار الذي يجوزونه كي يحوزوا لقب المقاتلة في سن الخامسة عشرة فتصحب كل واحد منهم خليلته ويذهب الجميع إلى ضفة النهر، وتمسك كل خليلة برأس صاحبها وتميلها نحو النهر وتأخذ في تشجيعه على أن يحتمل ما سيحل به من ألم. وسرعان ما يجيء طبيب ويشق جبهة الغلام بمدية حادة فلا يجرؤ واحد أن يتأوه وإلا كان خزيا كبيرا، وبعد ذلك تغسل الفتاة الدم في النهر وتنتهي الحفلة. وكل صبية هذا الجيل يلقبون باسم حيوان معين يتخذ شعارهم كالأسد أو الأفعى وما إليها. وكثيرا ما تقطع المدية شريانا فيموت الصبي من كثرة ما يفقده من الدم، والذي يعيش منهم يصبح مساهما في بقر القبيلة ويخول له الحق في الاشتراك في الرقص العام وينظر إليه الجميع نظرهم إلى الرجال. قبيل اجتياز هذا الاختبار يعتبرون أطفالا مفتقرين إلى حماية الرجال وينامون في أكواخ الخدم.
والشلوك أهل مياه وانهار لا عمل لهم سوى الرعي وصيد حيوان السمك فهم يسيرون في المياه بسرعة مدهشة حتى ولو غاصوا فيها إلى أكتافهم. ولا يذبحون ماشيتهم قط بل يستمدون منها اللبن. وبعد ذلك تستخدم بدل النقود في المبادلة وهي لديهم مقدسة ويبتاعون من النوبيين شمالهم الفول السوداني وهو غذاء رئيسي عندهم وقلما يزرعون شيئا، اللهم إلا بعض الذرة والطباق فهم كسالى. وكل عائلة تحل كوخين أو ثلاثة يحوطها سور في جانبه الداخلي إسطبل. البيوت نظيفة تحوي ثلاثة أكواخ واحد للزوج وزوجه والثاني للطبخ والثالث للخدم والأولاد. وأحب مشروباتهم المريسة وزوارقهم جذور منقورة من نخيل، أو أعواد توثق في شكل مجوف يحمله الرجل إذا شاء. والشلوك إذا صادوا فرس الماء حفظوا(2/86)
لحمه لوقت الحفلات، وإذا صاد أحدهم فرسا بدون مساعدة غيره لبس سوارا من عاج حول ذراعه. وكثيرا ما يهاجمهم وحش كالأسد والفهد فيرديه الواحد منهم بحربته وعندئذ يأخذ جلده ليحفظه ويلبسه في الحفلات ليدل على بسالته.
والشلوك يعيشون في قرى مكتظة عكس أمم الباري والنوير الذين لا تزيد مجموعتهم على عائلة واحدة، فالشلوك لهم نظام عائلي وثيق وقانون موحد لذلك قلما تقتتل شيعهم وكثيرا ما يستعملون السم الذي يلطخون به سهامهم في قتل الغير. وملكهم لا يذوق طعاما ولا شرابا إلا بعد أن يتناول من أحد تابعيه قبلة. أما زينتهم فعقود من خرز ملون تلبس صفوفا بعضها فوق بعض وقد تغطي الرقبة كلها وقسما من الصدر، وهي دليل الغنى والجاه ويلبسها الرجال أيضا. واللون الأزرق عندهم بشير الحظ السعيد لذلك يلبسه الأطفال فكلما كثر الخرز دل على جاه أبويه. وبعض الشبان يلبسون سوارا في الساعد والعقب، وهذا يدل على أنهم قتلوا من الحيوان أسداً أو فهدا أو فيلا. والطبخ والزراعة أو الخزف والمريسة وحمل المياه من عمل النساء. أما الرجال فلا يصح لهم أن يقوموا بهذه الأعمال المهينة إلا إذا طعنوا في السن. ولعمل المريسة يوضع بعض الذرة في سلة مع مسحوق من روث البقر والثرى وكلها توضع في ماء راكد لمدة أسبوع حتى تتخمر، ثم تنقل إلى جرة من فخار وتغلى في الماء ويؤخذ السائل العلوي ويبرد ثم يشرب، وكلما نضبت أضيف الماء إليها وأعيد غليها وهكذا وهذا الخمر قوي مسكر.
ويخال بعض الناس خطأ أن اللحم أهم غذاء لديهم على أنهم لا يأكلون إلا لحوم السمك وأفراس الماء، أما لحوم البقر فلا تؤكل إلا في الحفلات. ومن أطعمتهم المحبوبة خليط من مسحوق الفول السوداني والذرة والسمك النيئ تطهى في جرة من فخار، وكذلك لحم فرس الماء يمزج بالفول السوداني وعشب اسمه صفصاف. وتكثر حفلات الرقص بعد شرب المريسة في الليالي القمرية خصوصا ليلة البدر وكلهم يرقصون والحراب في أيديهم، وقد لعب الخمر بلبهم ويقرع القوم طبولهم المزعجة وسط القرية التي تتجمع بيوتها في شكل دائرة تتوسطها ردهة فسيحة والطبول تقرع من وسطها في باكورة الصباح إعلانا للناس بأن حفلة الرقص ستقام الليلة. وكلما اختلفت قرعات الطبول اختلفت حركات الرقص ودلت على الغرض منه أهو للمطر أم الحرب أم الدين أم الفتيات أم الموت ورقصة(2/87)
الفتيات تبدأ بعد بزوغ القمر مباشرة والغرض منها تعارف الفتيان بالفتيات إذ ترى الفتيان قبل الغروب مرحين انتظارا لملاقاة فتياتهم ويصرفون زهاء الساعة في تعهد شعورهم ولبس جلود القطط والأنمار والتحلي بصنوف لا تحصى من الخرز والودع وما إليها. وقبيل الغروب تفد الجماهير شبانا وشيبا وتصف جرار المريسة بحجومها الكبيرة وسط الدائرة والى جانبها أطباق من الذرة واللحم نصف المطبوخ، فإذا ظهر النور بدأ المسنون من النساء والرجال في دائرة ومن داخلها جماهير الشباب من الجنسين ويظلون مرحين يتحادثون حتى يقبل الزعيم ومن خلفه اتباعه يحملون الطبول وأدوات الموسيقى فينصت الجمع ويتداخل الفتيان والفتيات في صفين ثم تعزف الموسيقى والطبول وبين أن وآخر يرتل الكل أغنية. وما تكاد تنتهي حتى يعلو قرع الطبل وتموج صفوفهم وبيدهم الحراب التي تتلألأ في ضوء القمر. ثم يسرع أحدهم إلى الوسط مخترقاً صفوف الشابات والشباب وهناك يتمايل ويهاجم كأنه يصارع وحشاً ثم يعاد الغناء ثانية، وبعد ساعة على تلك الحال يشرب الكل المريسة، ويبدو صف آخر من الراقصين بعد انسحاب الأول الذي يظل عاكفا على جرار المريسة يرتشف منها ما يشاء، وأخيراً يختلف الكل في الرقص تاركين الحراب ويتقدم كل شاب في صف الشبان إلى فتاة في صف الفتيات وترفع السواعد بمحاذاة الأكتاف ويقفز كل زوج قفزات منظمة لكن دون أن يلمس الفتى خليلته والفتيات يظهرن دلالهن ويحاولن أسر الرجال واستمالتهم بما يفوق ما تأتيه المرأة الغربية، فهي مثلا تبرز ثدييها بين آن وآخر ثم ترفع عنهما قطعة القماش المهفهفة ثم تعيدها وكثيرا ما يفعل ذلك أمام القاضي في المحاكم فتؤثر فيه وما يكاد الليل ينتصف حتى تكون المريسة قد أخذت بلبهم فيختفي الحابل بالنابل وبمجرد انسحاب الزعماء والمتقدمين في السن يأتي الشبان والشابات بما لا يتصوره العقل بل وبما يستنكره الخلق الفاضل القويم.
الزواج: ولا تتزوج الفتاة قبل الخامسة عشرة وبفضل رقصة الفتيات يمكنها أن تتعرف بالكثير من الفتيان، والزوجة يمكن شراؤها بالقطعان، وللرجل شراء ما استطاع من الزوجات. لأن ذلك دليل الجاه والغنى، وقبل أن تتم صفقة الشراء هذه يجب أن توافق هي على هذا الزوج وفي العادة تكون قد رغبت فيه أبان حفلات الرقص، وهي تحب أن يكون غنيا بقطعانه ومزارعه، والعجيب أن الفتاة تؤثر الزوج الذي يستطيع بماله أن يشتري(2/88)
زوجات كثيرات غيرها. وقبل إتمام الزواج تقدم الهدايا (الشبكة) كعشر من المعزى وثلاث من الحراب وعشرين خطافا للصيد (سنارة) وما إليها. وخلال تلك الفترة يبدأ التعارف بينهما (نظام شبيه بنظام الغرب) ففي حفلة الرقص يقود الأخ أخته إلى حلقة الرقص والخجل يبدو على وجهها وهناك يسألها زعيم القبيلة أن تعترف بجميع علاقات الحب التي حصلت مع فتيان آخرين من قبل وهي تخشى ألا تقول الصدق لأن الأخبار كلها تصل الزعيم أولا بأول. وبعد تلك المداولات بين الزعماء والعروس تقرع الطبول فينصت الجميع وهنا تكرر الفتاة ذكر أسماء الفتيان الذين أحبوها من قبل فيحضر كل منهم إلى وسط الدائرة ويحكم عليه من الماشية والأغنام ومتى جمعت تلك القطعان قدمت كلها مهراً للزوج، أما الفتاة فلا عقاب عليها متى صدقت في الاعتراف ومتى أقر الزعماء ذلك ولا عار على الفريقين من ذلك فالاعتراف من جانب الفتاة والغرامة من جانب الفتى عقاب كاف وترضية حسنة. والظاهر أن هذا التصرف لا يرمي إلى منع الفساد الخلقي بقدر ما يرمي إلى تزويد الزوجين بالمال والمتفرجين بالطعام والشراب والرقص.
وعند ميلاد غلام تقدم الهدايا للأب من قطعان يربو عددها بالتوالد حتى إذا ما أضحي الطفل رجلاً قدمت له بعد أن يجوز (حفلة الرجال)، وإذا مات أحدهم دفنت الجثة أمام الكوخ الذي كان يقطنه ويلف الجسم في أفخر ما كان لديه من ثياب أن وجدت والى جانب الأسلحة وأدوات الطبخ وكل ما يلزم للحياة الأخرى ما عدا أدوات الزينة. والجسم يمد في القبر على ظهره وتوضع تحت الرأس وسادة من خشب للرجال ومن قش للنساء والأطفال. وإذا مات الزعيم دفن داخل باب كوخه وأغلق سنة كاملة، بعدها يهدم. وعند دفن الميت تقام حفلة (رقص الموتى) فيجتمع الأهل وقد لطخوا جسومهم برماد من حرق روث البقر ويولول الجميع وفق قرعات الطبول البطيئة ويمثل الراقصون ما يدل على شجاعة المتوفى وفضله ويقدم الناس لأهله الطعام والشراب وتستهلك مقادير عظيمة من المريسة وقبل شروق شمس اليوم التالي ينسى الحزن بتاتا.
وفي رقصة الموت يمثلون موقعة يؤخذ فيها النساء والأطفال والماشية أسرى وهذه الرقصة تقدم في أي وقت من النهار بمجرد سماع القوم لقرع الطبول نداء لها فيتزين كل بما لديه من أدوات البسالة من ريش وجلود وحراب وما إليها ويتقدم المقاتلون ذهابا وجيئة(2/89)
ويضربون الأرض برجولهم وحرابهم التي كثيرا ما تنثني أو تتكسر ثم يهاجمون الأكواخ التي فيها أسرارهم ويسوقونهم فيها بشراسة زائدة وسط تهليل يصم الآذان مسرعين نحو الزعيم والدماء تسيل من الجروح التي تخدش بها وجوههم وجسومهم ثم يتقدم الطبيب بعد فيضمدها بعصير بعض الأعشاب.
وإذا قام نزاع بين قبيلتين أدى إلى قتال عنيف ولا تتنازل إحداهما عن الأخذ بالثأر إلا إذا تساوى عدد الضحايا من الفريقين ولا يمكن لأية قوة مقاومتهم لأنهم يلجأون إلى صيد الناس بسهامهم المسمومة.
تاريخهم: ويرجح بعض الكاشفين أنهم وفدوا من منطقة البحيرات ولم يحلوا مكانهم هذا إلا منذ أربعة قرون. وفي سنة 1504 غزوا سنار لكن غزاهم البقارة سنة 1861 وفي 1874 ثاروا على الحكومة المصرية في السودان وفي 1890 خلال ثورة المهدي ثاروا ضد تجار الرقيق من العرب والدراويش لكنهم هزموا وسيق عدد كبير منهم إلى أم درمان ولهذا السبب تجدهم يبغضون العرب، ويظهر أنهم يمتون بصلة إلى الدنكا وبعض قبائل البحيرات مثل (كافروندو) لتقارب لغاتهم وبعض عاداتهم.
الدين: ولهم إله اسمه (فوك قادر ومسيطر خلق كل شيء إلا أنهم خاضعون لما يسمونه نيكوانج وهو خليط من الوثنية وعادت الأجداد والأرواح، فهم يرون أن أول جد لهم هو نيكوانج الذي يعمل وسيطا بينهم وبين الإله الأعظم الذي لا يدركه أحد وهو (فوك) فهم يقولون في وقت الضيق (أن فوك قد غضب علينا) ويصلون لنيكوانج للشفاعة وروح هذا تحل كل ملوكهم ويرون أن روح الموتى تزورهم في المنام وتؤثر على حياة الأطفال، وهم يتخيلون الله دوامة هوائية تنتابهم كثيرا وتحمل الرماد عقب إحراق العشب في عمد سوداء عالية، ويقولون بأن الله أسود اللون لأنه لا يرى ويسكن الظلام، وإذا مات الإنسان عاد إلى ربه، وعند الصلاة يقول الشلوك: يا إلهي اتركنا وحدنا ننجو فأنت عظيم، لا يمكن لأحد أن يتكلم معك أنت الله ومن تقتل منا يموت. أنت مقر روحنا فاتركنا ننجو، والباقون يستمعون وهم منصتون وحرابهم في أيديهم بعضهم واقف والبعض راكع. ولتقريب فكرة الآلهة من الناس يفترضون له وكيلا شبيها بالإنسان هو نيكوانج. يتوسلون إليه قائلين: نيكوانج قد أعطاك الله الأرض فاحكم الشلوك وارج لنا ربك يجعل البقرة التي سنذبحها(2/90)
قربانا مقبولاً لديه، ثم يقتلون البقرة ويغسلون دم الحربة بالماء ويخلطون هذا الماء بالروث الذي يخرجونه من أحشائها ويرشونه على الناس جميعا. ورأيهم في الخلق يتلخص في أن الله هو الخالق، خلق طبقتين مسطحتين: العليا وهي السماء والسفلى وهي الأرض ثم خلق النبات والشجر. وأول حيوان ظهر الجاموس ثم الإنسان وكلم الله الجاموسة قائلا: تعالي غداً أعطك حربة. فسمع الإنسان ذلك وذهب خلسة لما خيم الظلام فلم يره الله فتقدم وهو يمشي على أربع وينفر كأنه الجاموس فقال الله من هذا؟ فأجاب أنا من له قرون متجهة إلى الوراء فجزع الله وأعطاه الحربة ولما جاءت الجاموسة تخور قال الله ألست أنت التي أخذت السلاح مني؟ قالت لا بل الإنسان فأعطاها قرونها وأهاجها على الإنسان أنى لاقته.
ولما خلق الإنسان كان أحمر اللون لأنه شغل من طين النهر ثم ذهب إلى التربة السوداء وخلق الجنس الأسود ولما انتهى خلقه فرك يديه فسقط الطين منها فتاتا هو القمل الذي التصق بشعر الإنسان وضايقه ولذلك اخترع له الله الموس للتخلص منه. وفريق منهم يرى أن الله أمر زوجته فولدت توأمين أسود وأبيض وكانت تحب الأسود وتبغض الأبيض وأمر الله بتربيتهما. وحدث مرة أن مد الأب رجله وأمر أن يلعقها الولدان فخضع الأبيض لأنه عبد وأبى الأسود فأحب الله لذلك الأبيض وحاباه وقال لزوجه إن ابني هو هذا وسأملكه على الأسود يبيع فيه ويشتري وسأمده بالأسلحة التي تسوده على كل شيء.
والطبقة الأرستقراطية تشمل أو وأولاده نيارت وأحفاده ني آريت - وأحفاد أحفاده كواني آريت وهؤلاء فقط هم وارثو الملك أما العائلات المتفرعة عن الملوك الأقدمين فتسمى أورورو ولهم نفوذ عظيم. إلى هؤلاء طبقة قوية وهم أطباء السحر تتمثل فيهم قوة القسس والأطباء وام نيكوانج يسمى كي يا تتمثل في التمساح ولذلك قدسوه وفي كل قرية هيكل لنيكوانج وهو كوخ باسق حوله كوخان عاليان يزين أعلاها حراب بيض النعام وذلك لأن نيكوانج وفد من الصحراء يمتطي نعامة. وإذا مات الملك تزوج صغار زوجاته من بعض أقربائه أما الطاعنات في السن فيصبحن خفر المعابد وبنات الزعماء هن بنات نيكوانج وعند زواجهم تقدم الضحايا لزوجة نيكوانج الكامنة في بطن التمساح فيؤخذ عنز ويذبح على حافة نهر. وعجيب أن تفد التماسيح لأكل الدم أما اللحم فيرسل لحارسات المعابد وهم إذا رأوا دوامة ترابية سجدوا لها لظنهم أن الله (فوك) يسير مختبئا فيها وهذه(2/91)
العواصف تكثر في شهور الجفاف خصوصا بعد اشتعال النار الذي يكثر عندئذ في العشب والغابات.
وإذا تخلف المطر أقاموا رقصته لمدة ثلاث ليال أو أربع حول معبد نيكوانج عند الغروب وهذه هي الرقصة الوحيدة التي يلبسون لها الأردية. والعادة أن ينتظر الزعيم كوجور بعد الجفاف متحينا فرصة يرجح نزول المطر فيها ثم يقرع الطبول للرقص ويصلون وهم وقوف وجوههم إلى السماء في غير حراك ساعات طويلة وكلهم أيمان بأن المطر سينزل سراعاً وفي داخل المعابد ترى مذبحا للضحايا من الغنم يقام من الخشب وترى فوقه بعض الطعام والمريسة يقدمها كل من أراد التقرب من الوسيط نيكوانج.
حفلة تتويج الملك: والملك ينتخبه زعماء القبيلة من أفراد العائلة المالكة، وفي يوم التتويج يفد من فاشودة إلى الضفة الجنوبية لنهرهم المقدس تحوطه مجامع الحرس بحرابهم ويجتمع أهل القبائل بجيوشهم سائرين من القرى نحو أسبوعين على الأقدام. ويجب أن لا يتخلف أحد الزعماء ويلبس الملك جلبابا مخططا وحزاما مزدوج اللون الأزرق والأحمر وطربوشا أحمر قانيا وهو شعار الملكية ثم يركب حماراً ويظهر على ضفة النهر يحوطه الجند من العمالقة وعليهم الجلباب الأحمر فيحيي الجماهير الملك بحرابهم المرفوعة حتى يجلس على جلد نمر ويقدم أهل كاكا أقصى بلاد الشلوك شمالاً عجلا أبيض ويقدم أهل تونجا أقصى بلادهم جنوبا فتاة صغيرة. والبلاد يقسمها النهر المعدني قسمين جار ولواك ولكل منها زعيم وتحت هذين زعماء القرى فيتقدم أهل الشمال بالثور إلى النهر في مواجهة الملك ويهجم زعيمهم فيخترق الثور بحربته ثم تتبعه سهام الناس من كل جانب فيسقط الثور ويسيل الدم إلى النهر ثم يتقدم زعيم الجنوب إلى الملك وبيده الفتاة عارية فيستلمها الملك ويصيح الكل قائلين (أيوه! أيوه!) وعندئذ يمكن لأهل الشمال أن يتخطوا النهر إلى الضفة الجنوبية. ويبدأ التتويج بأن يغسل الملك بالماء الساخن ثم بالماء البارد لكي لا تؤذيه تقلبات الجو حراً وبرداً ثم يعامل بخشونة وقسوة من الجميع وعليه أن يطيع ويخضع لكي يتعلم التواضع ثم يركع له الجميع إجلالا لأنه ابن نيكوانج ثم يلبسونه خفاً في قدميه من جلد فرس الماء الغفل الخشن ليمضي به على مضض فيفهم معنى الفقر والتقشف ثم يقدم له الخدم بعض لحم الغزال وفرس الماء إشارة إلى توافر اللحم والقناعة في أكله ثم تقدم(2/92)
المريسة بمقادير كبيرة لكن عليه أن لا يسرف في شربها ليدلهم على أنه قنوع ثم يجري إليه ثلاثة شبان بحرابهم تصوب إلى صدورهم فيدفعها الملك بيده إلى تلك الصدور حتى تدمى دلالة على أنه سيحكم حكما صارماً لكنه في عدل ورحمة. وأخيراً يقف الملك ويخاطب الزعماء ثم يتقدم منثنيا فيركع الجميع إجلالا (وهذا ما يفعله القوم دائما كلما رأوا الملك) وهو يتكلم في تؤدة ووقار فيجيب القوم بصيحاتهم (أيوه! أيوه!) كلما فاه بعبارة واحدة.(2/93)
في التلفون
بين بتاح في عهد أحمس بطل استقلال مصر وعبد الجليل أحد
متطوعي القرش.
- ألو! ألو! من أنت؟
- أنا بتاح ومن أنت؟
- أنا عبد الجليل
- في أي مدينة تكون وما جنسيتك.
- أنا في البدرشين، أنا حيث تمثال رمسيس العظيم ملك مصر الفاتح، أنا في منف. . . العاصمة العظيمة التي امتلأت في عهدكم بالحكماء والقضاة ورجال العلم والفن فأين أنت؟
- أنا في نفس المدينة لكن يخيل إلى أن زمن ما يفصلنا. أنه يشبه الجبال العالية والصحارى المديدة الفسيحة. فأية أعجوبة هذه التي جعلت الأرواح تعبر الأزمان لقد أثار إعجابنا عجلاتنا التي تطوي الأرض طياً ولكن ها هو ذا شيء عجيب آخر يطوي الزمن لكن ماذا تفعل في منف.
- أنا أعمل عملا جليلا. لو استطعت أن تمد يدك وراء الأجيال إلى يدي لشعرت بالدم يجري فيها حاراً ملتهباً إن الفرح الذي يملأ نفسي لتتضاءل أمامه كنوز العالم ومفاخره.
- أن الذي تقوله عجيب. . . فأنت تصف ما أحس به تماما. فأني أنتفض سعادة وأني لأشعر أن الدنيا تصغر في عيني أمام هذا المبدأ العظيم الذي تخرج مصر لتحققه. فهل أنتم تفعلون ما فعلناه نحن منذ قرون. ماذا تفعل في منف؟
- أني هنا اجمع القرش
- تجمعون القرش؟ ماذا تعني
- أعني أننا نجمع من كل مصري شيئا يتبرع به. شيئا تافها من ثروته. فإذا جمعنا هذه الثروات الضئيلة جمعنا ثروة ضخمة - وماذا تفعلون بهذه الثروة الضخمة؟ لست أفهمك فلعل الاتصال الذي بني وبينك قد اضطرب، فان عقلي لا يستطيع أن يدرك من الذي يجمع هذه الثروات الصغيرة ولمن يجمعها - ثم لماذا. آه، لعلكم تخشون المجاعة فتجمعون اليوم ما يقيكم شرها غداً وليس هذا شيئا عجيبا. لا يا صديقي لسنا نجمع هذه الثروات الصغيرة(2/94)
لشيء مما يجري في بالك. بل نجمعها لنشيد بها مصانع تخرج لنا ملابس نلبسها ومآكل نأكلها، وأثاثاً نؤثث به بيوتنا.
ولكن من الذي يقوم بهذا الجمع؟ - الشعب، الشبان الذين أنا أحدهم. فأنا أترك العاصمة حيث الراحة والترف والهدوء. لأجوس خلال منف التي أصبحت قرية صغيرة فيصيبني التعب، وألقى أحيانا الأعراض، وأرى غالبا الفقر، فتذهب نفسي حسرات في الحالين ومع ذلك لست أيأس ولا أتقهقر.
- أنه إحساس الأمة، بدأ غامضاً، ثم اتضح شعورا ثم استحال فكرة ثم تجسد عملا.
- لا بد أن تكونوا شعبا ناضجاً جدا. أن القوة التي فيكم هي القوة التي خلقنا بها الفنون وأوجدنا العلم ولكن في نفسي سؤالا يضايقني فدعني أسألك إياه! ماذا كنتم تلبسون قبل هذه المصانع التي تريدون تشييدها. هل كنتم عراة. ثم ماذا كنتم تأكلون. هل كنتم في صوم؟ - لا، لقد كنا نشتري ثيابنا من غيرنا من الدول كذلك كنا نبتاع طعامنا. هل سمعت صرختي التي دوت. لقد أحسست بمثل مروق السهم في جسمي حين سمعتك تفوه بهذه الحقيقة المريرة. لقد شعرت بالألم، حين عرفت أن أحفادنا يعيشون متسولين لا يعرفون كيف يحيكون ثوبهم أو يصنعون طعامهم. . أنتم أهون من العبيد ماذا كنتم تفعلون لو منعوا عنكم الطعام، وحجزوا عنكم الثياب. - اطمئن، اطمئن يا أخي. فمصر اليوم من أولها إلى آخرها في ثورة على هذا الحال الأسود. وهو ينقشع وتبدو من بعد أضواء فجر جميل. فها أنا ذا قلت لك أننا نخرج فنؤسس مصانع تغسل عن كرامتنا هذه الإهانة التي جعلتك تصرخ. ومصر أنت تعرفها تستطيع أن تنتج لأبنائها كل شيء الثياب التي يلبسون، والطعام الذي يأكلون. ولكن أبناء أوروبا القارة التاجرة التي لم تعرفوها، عودونا أطعمة خاصة، وألواناً من الثياب بعينها، فأصبحنا لا نستطيع أن نعيش بدونها فاستوردناها منهم. ثم خلقوا لنا صنوفا من الزينة فاشتريناها منهم ودفعنا ثمنها غالياً. وبذلك تسربت أموالنا إلى جيوبهم.
إن أشد أنواع الاستعباد استعباد الروح والفكرة. ففي بلادنا اليوم أعداء ولكنا لا نحس بهم لأن معتقداتنا ونظام حياتنا وأسلوب تفكيرنا، لم يصلوا إليها ولم يؤثروا عليها. فنحن أحرار ولكنهم هم أنفسهم المستعبدون فقد جاءوا إلى مصر فغيرت عاداتهم وأخلاقهم وجعلتهم أمة جديدة (لعلك أنت في منف لتحارب هؤلاء الأعداء) - نعم، أنا مع مئات الألوف من أبناء(2/95)
مصر كل منا في صدره قلب لو وضعت يدك عليه لأحسست بعالم يهتز ويموج، في أيدينا سهامنا وأقواسنا وهي تشتعل حرارة هي حرارة هذه القلوب. ثم ترتفع من حناجرنا أهازيج هي أهازيج الفوز والانتصار. وأمامنا قائد هو أحمس تحيطه الأفئدة وتجري وراءه الأرواح، وتتابعه العيون. لا يقول شيئا إلا فعلناه ولا يشير بيده إلا أسرع إليه الشباب كله، في جسمه جروح لا تعد وفي جبينه شج هو خير من تاج. سنسير اليوم صفوفاً صفوفاً تحجب كثرتها قرص الشمس، وتسير أقدامنا تطرق الأرض طرقة متسقة موسيقية تطمئن لها الروح فتنشط لها النفس. ثم تتقدمنا العجلات الحربية فيها الشبان الذين كشفت ثيابهم عن أذرعهم القوية الجبارة، وصدورهم التي ترتفع وتنخفض انتظاراً للمعركة التييرتفع فيها اسم مصر، أني سعيد يا أخي، أني سعيد، فدعني أغني وأرقص. فان ساعة الفوز قادمة - ولكن ألا تفكر في أنك قد تموت!
- أموت! ما أبدع وما أروع! وهل ثمة ميتة أعز من هذه الميتة؟ لقد مات في معركة أمس صديق لي فلما اقتربت منه أساعده وجدت شفتيه تضطربان وعليهما بسمة. ثم همس في أذني. . ما أسعدني ليهبك الله شرف هذا الموت!
ولقد أصاب سهم جنب ابن عمي، فذاق عذابا لو نال الأهرام لذابت، ولكنه كان يغمض عينه ويضغط على شفتيه، وتملأ الصفرة صفحة وجهه وهو لا يكاد يئن. أنه يستعذب الألم، أنه يستطيب العذاب، ما دام ذلك من أجل هذا الوطن الذي نعيش فيه. إن مصر لتهب القوة والجلد والصبر. أنها لتخلق من الجبناء الضعفاء مغامرين أقوياء. دعني يا صديقي أغني فان ساعة المعركة قادمة، سنمضي مثلكم في جيوشنا السلمية: صفوف منظمة، أساليب محكمة وأيمان يملأ القلب. كل سنة نشيد مصنعاً تصنع فيه الكرامة المصرية العتيدة سليمة من جديد. وفي كل لحظة نبشر بمصر التي وهبت للدنيا الفن والحكمة، وعلمتها الزراعة والصناعة ورفعت للعالم مشعلا لم يرتفع له منذ آلاف السنين.
سيد فتحي رضوان
سرير رقم 33 المستشفى الإسرائيلي 15 يناير سنة 933(2/96)
العَالم المسرحيّ والسِّينمائِي
للأستاذ محمد توفيق يونس
خاتمة الرواية الحديثة
أصاب نقدي على رواية (بنات اليوم) شيء من البتر أثناء الطبع جعل قولي في خاتمة الرواية وحلها غير مفهوم فأحببت أن أوضح هذه الفكرة فأقول:
قام على هذا الموضوع خلاف شديد بين أنصار المذهبين الرومانتيكي والواقعي. فهؤلاء يأخذون على أولئك ختامهم الروائي الذي ينتهي في المآسي بالذبح العام والقتل الشامل. وربما ادخلوا بعض أشخاص الرواية في هذه الرواية لأنها أسهل طريق للتخلص منهم. أما في الكوميديات فغالباً ما يسدل الستار على مكافآت عظيمة، وجوائز سنية، وعيش رغيد يبعد عن الحقيقة كل البعد.
رأى الواقعيون أن المسرح وهو قطعة من الحياة يجب أن لا يفصل عنها. فليس من الفن والواقع في شيء أن يعامل المؤلف القطعة التي اختارها من الحياة كأنها كائن قائم بنفسه. لذلك كان من الواجب عليه، وهو يسير بروايته إلى الغاية، أن يترك في نفوس جمهوره أثراً بأن الدنيا لا تزال مستمرة الحركة فيخرجون وهم يشعرون (بعد أن كوفئت الفضائل، وعوقبت الرذائل، وحققت الرغائب) أن أشخاص الرواية لم يزيدوا ولم يقلوا عن كونهم آدميين سيجدون ولا شك أفراحا جديدة وأحزانا أخرى مكتوبة لهم في سجل القدر. أما في الروايات القديمة فقد كان المؤلف يجعل النهايات حاجزا بين الحاضر والمستقبل كأنما العالم بعد ختام روايته قد وصل إلى نهايته.
الجامحة على مسرح بريتانيا
رفع الستار وبدأت الرواية. الحوار شائق لذيذ، والعمل محكم جميل، والتحليل قوي دقيق، ولكنا نشعر كلما تقدمت الرواية ونما العمل بجو أجنبي، فالحادث غريب، والبيئة غريبة، والأشخاص غير مصريين وإن كان الكاتب (الأستاذ طاهر حقي) قد أعارهم أسماءنا وألبسهم ثيابنا. فليست الرواية مصرية في الواقع؛ وإذا كان الكاتب قد اقتبسها فكان ينبغي أن يعرضها في صيغة تلائم الذوق المصري، ويعنى فيها باللون المحلي حتى لا يجد(2/97)
المشاهد نفسه في جو لا يحسه ولا يألفه ولا يتأثر به، وأمام أشخاص لا تدنيه بهم معرفة ولا تربطه بأحدهم صلة. وإذا كان التوفيق بين فكرة الرواية الأصلية والصبغة المحلية متعذرا فكان أجدر به ترجمة الرواية كما هي حتى لا يسئ الاقتباس، ويخطئ المغزى، ويخدع الجمهور.
أما التمثيل فلم يكن في مجموعه صحيحا متسقا. ونجاح الرواية في الواقع يرجع إلى بطلتها السيدة فاطمة رشدي، فقد لبست دورها ببراعة وحذق وكانت في موقعها في ختام الفصل الثاني جديرة بالإعجاب حقا.
الرواية السينمائية المصرية
شهدت القاهرة هذا الأسبوع محاولتين جديدتين في سبيل إيجاد الرواية السينمائية المصرية الصحيحة، (الزواج) للسيدة فاطمة رشدي، ثم (كفري عن خطيئتك) للسيدة عزيزة أمير وهي أول من وضع الحجر التاريخي للسينما المصرية. وهذه حركة نقابلها بالغبطة، وإن كنا نلاحظ على روايتنا السينمائية بوجه عام عدم توفر الأصول الفنية فيها، وكثرة ما بها من نقائص وعيوب. ولن تقوم الرواية السينمائية المصرية وتنهض الا على أساس من المعرفة الصحيحة والدرس الطويل. ومن الضروري أن يعهد بها إلى فنيين زاولوا السينما وأدركوا دقائقها، وفهموا حقائقها، وعرفوا أسرارها. وإذا كانت جهود الأفراد تعجز عن القيام بما يتطلبه هذا الاستعداد من نفقات، فلدينا شركة قائمة هي شركة مصر للتمثيل والسينما تستطيع أن تسد هذا الخلل وتقضي هذه الحاجة. ولنا وطيد الأمل أن تدخل الميدان وتساهم في وضع أساس الرواية السينمائية المصرية فنستقدم الخبيرين نسترشد بفنهم ونهتدي بتجاريبهم حتى ينتظم العمل من وجوهه الفنية جميعا.
ولقد رأينا ما كان لاشتراك المسيو روبير بدرويز المخرج بشركة جومون في رواية (كفري عن خطيئتك) من أثر جميل وتقدم محسوس فخرجت الرواية واضحة متسقة منتظمة. ولا يسعنا نحن إلا أن نرحب بهذه الخطوة الحميدة وأن نقابل بالتشجيع ونذكر بالخير مجهود عزيزة أمير والسادة أحمد الشريعي وتوفيق المردنلي ومحمد صلاح الدين وزكي رستم.(2/98)
العدد 3 - بتاريخ: 15 - 02 - 1933(/)
بين السوامر والصحف
الرسالة وقراؤها:
خرجت الرسالة إلى قرائها على الحال التي سمحت بها صعوبة البدء وأثالة العمل. فاستقبلوها إستقبالا ما وقع في الظن ولا تعلق به الأمل. ولا يزال البريد يحمل إلينا كل يوم رسائل الأصدقاء والقراء تفيض بحسن الظن، وجمال العطف، وكرم التعضيد، ومحض النصيحة. ومن هذه الرسائل الكريمة ما يستحق النشر لدقة ملاحظاته، أو رقة أدبه. أو سداد رأيه؛ ولكن دورانه على الثناء والتقريظيجعل في نشره إتهاما لخلق الرسالة.
وقلما تجد أنبل عاطفة من رجل يعنى بعملك لذاته، ثم يحمِّل نفسه ووقته لجهد الكتابة إليك صفحات في تأييده وقدره، ثم لا يريد بعد ذلك أن يبوح لك باسمه!!
فإلى هؤلاء تتقدم الرسالة بموفور الشكر على ما يرجون لها من خير، وما ينيطون بها من ثقة، وتسأل الله أن يؤكد بها أسباب التوفيق حتى تتحقق الظنون وتصدق الأماني.
آراء القراء:
من الكرام الكاتبين من يطلب إلى الرسالة المزيد في التعمق والإفاضة، ومن يرغب في شيء من الفكاهة والبساطة، ورأي الأولين أن تقصر على أدب الخاصة، ورأي الآخرين أن تستدرج ذوق العامة، والرسالة ترجو أن توفق بين الرأيين، بأن تتخذ طريقها بين بين، ثم تنشر الحين بعد الحين أعداداً خاصة بما تجمع لديها من البحوث المستفيضة والدراسات العميقة والقصص الضافية.
لأشاغيل طرآنة:
للأستاذ محمد بك مسعود أثر جميل على الثقافة العامة منذ
زمن طويل. وعهد القراء بأسلوبه سائغ المورد مأنوس اللفظ
فيما نشر من صحف وألف من كتب. ولكنه منذ توفر محاكاة
الأستاذ وحيد في تحقيق اللغة. ومباراة شيخ العروبة في(3/1)
تمحيص التاريخ، بدت على أسلوبه الصحيح أعراض الغرابة
التي تلا زم اللغويين، والإعتداد الذي يساور العلماء.
ولا نحب أن نعرض لهذه الروح المنبثة في المنظارة (الطرطوشية) وأمثالها. فإنها بين عالمين جليلين لا يجهلان أن المن يفسد العلم، وأن شهوة التغلب تظلم الحقيقة، إنما نرغب إلى الأستاذ مسعود أن يوافقنا على أن حياة اللغة في أحياء اللفظ الذي لا نظير له في مألوف الكلام، أما استبدال صيغة مهجورة بصيغة مشهورة كاستعمال أشاغيل بدل شواغل، وطرآنية بدل طارئة، وصروح مكان صراحة، وقدور في موضع قدرة، ومشيوخاء بدلاً من شيوخ، فأحياء شر من الموت، وبيان أغمض من العي!!
التجديد والتقليد:
صديقنا الهراوي على تجديده ينكر التجديد، ويزعم إن كلمتي قديم وجديد ينقصهما التحديد، وكنت أحب أن أكون في جانبه حين قرأ في الأهرام (نفثات شاعر) لصديقه وزميله الأستاذ نسيم، إذن لأخذت إعترافه بأن في الشعر جديداً وقديماً، وأن الحطيئة قد يسمى عبد المطلب وقد يسمى نسيماً: وإلا فإلى من كان ينسب هذا الشعر لو لم ينشر تحته أسم صاحبه؟
وما زعزعتني الحادثان كشامخ ... رسا بهضاب فوقه واكام
وللدهر مرنان رددت سهامها ... وقابلتها من حعبتي بسهام
فقدت صديقي اللذين تبوآ ... من الشعر أعلى ذروة وسنام
وأصبحت في جيل نبا بي ودهم ... وساء ثوابي بينهم ومقامي
وليس لهم غيري إذا جد جدهم ... وخطب الرزايا حولهم مترام
ولو شئت كانت لي زعامة شعرهم ... وكنت لمن يأتم خير إمام
شوارد تزري بالحطيئة هاجيا ... وتعي جريرا في مديح هشام
له الحمد ثم الحمد ما ذر شارق ... وما در غيم بارق برهام
وما ذرعت بطحاء مكة أينق ... تحن بأرزام لها وبغام
وما شدت إلا كوار فوق متونها ... وقيدت بشزر محصد وزمام
وبعد فأن الشاعر الذي يجعل للشعر جبلا وجملا ويتخيل الهضاب والآكام والجعاب والسهام(3/2)
والأرزام والبغام، ويذكر بطحاء مكة وأكوار النوق وهو في رياض الجزيرة وعلى ضفاف النيل، ويزعم أنه موئل قومه وليس من الزعامة في كثير ولا قليل؛ لا يسوغ في العدل الأدبي أن يقيد على حساب هذا الجيل: إن تعدد الأساليب في العصر الواحد أثر طبيعي لاختلاف العوامل المؤثرة في كل شاعر؛ ولكن الأسلوب الذي لا ينسجم مع أمور الحياة؛ ولا يتصل بشعور الأحياء، لا يدخل في هذه الأساليب، ولا يدل وجوده على شاعر ولا أديب.
الشبان والشيب:
كتب الأستاذ إبراهيم المصري فصلا قيما في البلاغ عن (أدباء الشباب وأدباء الجيل الماضي) نعى فيها على هؤلاء إستئثارهم بالمجد وإحتكارهم للشهرة وإنكارهم في سبيل ذلك جهود الشباب. وخشى أن يكون ذلك الأئتمار المضمر بالأدب الشاب تخوفا من انهزام أدب أنتشر لخلوالميدان، وأشتهر بطول الإعلان، فلا يجلد بطبعه للتنافس والنقد. وقال أن شيوخ الكتاب في الغرب لإخلاصهم لرساتهم الأدبية وثقتهم بملكاتهم الفنية، يسددون خطى النبوغ الناشئ، ويرفعون ذكر الشباب الموهوب، ويمهدون السبيل لخلافة الجيل الحاضر، ثم يهيب بالعزائم الفتية أن تعلن الحرب المشروعة على هؤلاء القادة الذين كسبوا هذه العناوين من غير جهد، ونالوا هذه النياشين من غير حرب.
والرسالة تقر الأستاذ المصري على رأيه وترى من الجناية على الأدب أن تطغى أثرة الكهول على هذا الطموح. وأن تكون الهيمنة على الصحافة وسيلة لكبت هذا الروح، وتعلن أنها بطبيعتها ومبدئها أن تكون ملتقى الوئام بين الجيلين، وسفير السلام بين الفريقين.
العراق ومجمع اللغة العربية:
ينام صديقانا الحصري والزهاوي ملء الجفون في قصريهما المتقابلين على طريق الأعظمية ولا يعلمان أنهما أقضا مضجع وزارة المعارف المصرية ليلة: فقد روت الصحف المحلية أن الأستاذين الكبيرين جميل صدقي الزهاوي وساطع بك الحصري رفضا ترشيحهما لعضوية المراسلة للمجمع وجرى في خلال ذلك ذكر لجنة التأليف والترجمة، فظنت السياسة أن هذا الترشيح كان إقتراحاً من لجنة التأليف والترجمة التابعة للمجمع،(3/3)
وإذن يكون هذا الرفض تسفيها للوزارة من جهة، ودليلا على إعراض البلاد العربية للمجمع من جهة أخرى. فأخذ الوزارة من مقال السياسة المقيم المقعد، وأصدرت بلاغا رسميا تكذب فيه أن يكون منها عرض، ومن الأديبين رفض. ووجه الوفاق بين المعارف والسياسة أن لجنة التأليف والترجمة هذه ليست تابعة للمعارف المصرية وإنما هي لجنة من لجان المعارف العراقية، تنظر في تأليف الكتب العربية ونقل المؤلفات الغربية. أما كيف دخل في اختصاصها ترشيح الأعضاء، فذلك أمر تسأل عنه وزارة (الزوراء).(3/4)
مسارح الأذهان
الأدب والعلم
للأستاذ أحمد أمين
الأستاذ بكلية الآداب بالجامعة المصرية
مرت كلمة الأدب والعلم في اللغة العربية في أدوار عدة، استعملوا كلمة الأدب أحياناً فيما يرقى الخلق ويهذب النفس واستعملوها بمعنى أوسع حتى عدوا أفحش شعر لجرير والفرزدق والأخطل أدباً، وعدوا خمريات أبي نؤاس وغلمانياته أدباً كما يعد الفنان بعض الصور فنا وإن كانت صورة لوضع مستهجن أو فعل فاضح، وكذلك الشأن في كلمة العلم، كانوا أحياناً لا يستعملونها إلا في العلم الديني، ثم توسعوا في معناها حتى شمل كل ما ينتجه العقل والفن. وفي العصور الحديثة فرقوا بين الأدب والعلم ورسموا لكل دائرة، ومن ثم كانت الصحيفة أو المجلةأحياناً أدبية، وأحياناً علمية، وأحياناً أدبية علمية، وأصبح من المضحك أن نقول علم الأدب لأنالعلم غير الأدب، وأصبح لدينا من يسمى (أديباً) فلا يكون عالماً، وعالماً فلا يكون أديباً، وقد يكون أديباً عالماً ولكن كلمة (عالم) الأزهرية إنما إشتقت من العلم بالمعنى الواسع الذي يشمل الأدب والعلم معاً.
وبعد فما الفرق بين العلم والأدب وما الذي يجعل الأدب أدباً والعلم علماً؟
الحق إن كلمة الأدب والعلم من الألفاظ الغامضة التي نفهمها نوعاً من الفهم فإذا أردنا تحديدها حرنا في أمرها، كالجمال والعدل والخيال والحرية والعبودية، وإذا سألنا (حتى الخاصة) في معناها أجاب كل حسب ميوله وأغراضه وحسب طبيعة فهمه للكلمة. وهناك أشياء لا نشك في أنها علم أو أدب، فلو سئلت عن نظريات الهندسة وقانون اللوغارتمات وقوانين الحساب والطبيعة والكيمياء فذلك علم بالبداهة، وإذا سئلت عن قصائد بشار وأبي نؤاس والمتنبي ومقامات الحريري فذلك أدب لا علم، ولكن ما حدود الأدب وما حدود العلم؟
قد عودتنا الطبيعة أن الأضداد تفهم ما تباعدت، فإذا ما تقاربت حدودها صعب فهمها، ما أسهل ما تقول أن هذا ظل وهذا شمس، ولكن عند تقارب الظل من الشمس تجد خطوطاً يصعب أن تقول أهي ظل أم شمس، وما أسهل ما تقول إن هذا الماء حار أو بارد إذا(3/5)
إشتدت حرارته وبرودته ولكن ما أصعب ذلك إذا أخذ الحار يبرد والبارد يسخن فأنك تصل لا محالة إلى درجة يعسر عليك الحكم فيها بالحرارة أو البرودة.
أكبر ظاهرة في التفريق بين الأدب والعلم إن الأدب يخاطب العاطفة، والعلم يخاطب العقل، فإذا قلت إن زوايا المثلث تساوي قائمتين فإنك تخاطب العقل ولا تمس العاطفة وإذا قال المتنبي:
خلقت ألوفاً لو رحلت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكياً
فهو يمس العاطفة أولا، ومن أجل هذا كانت الجملة الأولى علماً وبيت المتنبي أدباً.
العالم يلاحظ الأشياء يستكشف ظواهرها وقوانينها وعلاقتها بأمثالها وما يحيط بها، على حين إن الأديب لا ينظر اليها إلا من حيث أثرها في عواطفه وعواطف الناس، ينظر النباتي إلى شجرة الورد فيدرس كل جزء منها والتغيرات التي تطرأ عليها من وقت بذرها إلى وقت فنائها، ومن أية فصيلة هي، وما علاقتها بالفصائل التي تقرب منها، أما الأديب فينظر إلى أجزاء الشجرة منسقة متناسبة ويرى أنها لم تخلق إلا لزهرتها الجميلة، وأن بين الزهر وقلبه نسباً، يعجب بحمرة لونها على خضرة أوراقها ويذهب خياله في ذلك كل مذهب. أما النباتي فيبحث لم كانت الزهرة حمراء وأوراقها خضراء. عالم الحياة لا يرى في الفتاة المحبوبة إلا إنساناً خاضعا لكل أبحاث البيولوجيا أما الأديب فيرى في محبوبته شيئاً وراء كل ما يبحث عنه العالم، هي الحياة وهي الدنيا وهي النعيم إذا وصلت والبؤس إذا صدت، أو يقول مع القائل:
ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن أليم
فالكلام إذا لم يثر عاطفة لم يكن أدباً فإذا هو خاطب العقل وحده كان علماً، وإذا أمعن في إثارة العاطفة كان أمعن في الأدب. وليس الأدب وحده هو لغة العاطفة فقد تفوقه في هذا الموسيقى فهي قادرة على أن تضحك وتبكي، وتسر وتحزن، وتسر سروراً حزيناً، وتحزن حزناًسارا وتؤلم ألما لذيذا، وتلذ لذة أليمة، وتثير الشجاعة حتى لتدفع إلى الموت، وتنفث الخمول حتى لتدعو إلى النوم، تقدر الموسيقى أن تفعل كل ذلك في العاطفة وهي اقدر من الأدب لأن الأدب يخاطب العاطفة بواسطة الكلام ومن طريقة أما الموسيقية فتخاطب العاطفة وجها لوجه من غير وسيط، تؤثر فيك أدوار العود والقانون والبيانو ولو لمتصخب(3/6)
بكلام ولو لم تفهم أي معنى منها، بل تكره أن تفهمالا النغم وحلاوته والتوقيع وعذوبته. أما الأدب فلما أعتمد الكلام والكلام إنما يفهم بالعقل كان لا بد للقطعة الأدبية من قدر من العقلومن المعاني تستثار بها العاطفة وتهيجمنها المشاعر. وارتباط العاطفة بالأدب هو الذي منح الأدب (لا العلم) الخلود، فالنتاج الأدبي خالد أبدي لا النتاج العلمي، فقصائد أمريء القيس والنابغة وجرير والفرزدق وبشار وأبي نؤاسوالمتنبي كلها خالدة تقرؤها فتلتذ منها كما يلتذ منها من كان في عصرهم، فأن احتاج إلى شيء فتفسير ما غمض من الألفاظ والمعاني، وهو بعد يشعر بشعورهم ويسر كسرورهم، ثم القطعة الأدبية لا تمل، تقرؤها ثم تقرؤها فتسر منها في الثانية سرورك منها في الاولى، تتعشق تلاوتها وتكرارها، وليس ذلك هو الشأن في العلم فحقائق العلوم خالدة ولكن منتجات العلوم غير خالدة فما في كتاب أقليدس من نظريات هندسية خالدة ولكن الكتاب لايقرؤ الآن إلا من أراد أن يرجع إلى تاريخ الهندسة، وكل كتاب في الهندسة يموت بمرور سنين عليه ولا تعود له قيمة إلا القيمة التاريخية مهما حوى من نظريات جديدة وترتيب جديد، وكذلك كتب الحساب والجبر والطبيعة والكيمياء والفلك ليست خالدة وإن كانت الحقائق التي فيها خالدة، بل الطبعة الثانية من هذه الكتب تقضي على الطبعة الأولى بالفناء إذا دخلها تغيير، وليس طالب علم الآن يرجع إلى ما ألف من خمسين عاما إلا إذا أراد أن يؤرخ العلم ولكن طالب الأدب يرجع إلى ديوان المتنبي ليتذوق أدبه ويلذ مشاعره كما كان ذلك منذ ألف عام، وقد حفظت بعض قصائده ولا أزال أستمتع بترديدها ولكن إن أنت قرأت كتاباً في الرياضة وفهمت ما فيه لا تستطيع في الحال أن تعيد قراءته إلا على مضض.
والسبب في هذا (على ما يظهر) أن عواطف الإنسان لم تتقدم كما تقدمت عقولهم، قد ترقى العواطف شكلاً فترى أن الإحسان إلى الفقير بإعطائه درهماً ليس خيراً ولكن خيراً منه بناء مستشفى وإنشاء ملجأ ونحو ذلك، ولكن العاطفة هي هي في أساسها، وقد ترقى عاطفة الحنو الأبوي فلا ترى مانعاً من دفع الأولاد إلى حرب الحياة وجوب الأقطار، ولكن العاطفة في أساسها واحدة. أما العقل فوثاب دائماً راق أبداً، في الشكل وفي الأساس يرى حلالا اليوم ما كان حراماً بالأمس ويرى حقاً الآن ما كان باطلاً من قبل ويخترع كل يوم جديداً ويصوغ حياته وفق الجديد. ومن أجل ذلك لا يلذ له أن يقرأ عقل السابقين إلا كما(3/7)
يقرأ تاريخهم ولكن عواطفه هي هي ركزت وثبتت فتلذذ اليوم بما يمثل عواطف الأقدمين وإن كرت عليها الدهور وتوالت العصور، وليس الأمر بهذا القدر من السهولة في الفصل بين الأدب والعلم. فهناك أنواع يصعب الفصل فيها حتى على الخاصة أأدب هي أم علم، هناك أدب (معلم) وهناك علم (مؤدب) هناك تاريخ صيغ صياغة أدبية فلا يكتفي بسرد الحقائق وتعيين سبب وقوعها وإنما يضع ذلك في قالب يثير شعورك للإحتذاء والقدوة أو للحب أو الكراهة. وهناك فلسفة صيغت في قالب قصة، وهناك طبيعة وكيمياء صاغتها يد صناع ماهرة في الفن تحمل قلم أديب فأخرجت منها موضوعات شيقة تثير عاطفة الجمال وتستخرج الإعجاب بما في هذا العالم من إبداع وفن.
هذه الموضوعات وأمثالها ليست أدباً خالصاً ولاعلماً خالصاً وإنما هي علم أدبي أو أدب علمي، هي أدب بمقدار ما تثير من عاطفة، وهي علم بمقدار ما فيها من حقائق.
العلم لغة العقل، والأدب لغة العاطفة، ولكن لابد في هذه الحياة أن يلطف العلم بالأدب، والأدب بالعلم، فالعقل إذا جمح استخف بالشعور وجعل الحياة ثمناً للعلم، وهو إذا مزج بشيء من الأدب مس الحياة ورفّه على الناس، والعاطفة إذا شردت كانت ثوراناً وهياجاً. ألا ترى التعجب يزيد فيكون نباحاً، والعشق يهيم فيكون جنوناً؟(3/8)
حظ الأديب في مصر
للأستاذ عبد العزيز البشري
خاض بعض أفاضل الكتاب في هذا الحديث فتظاهروا على أن الأدب لا يجدي في مصر على أهله، وإن هو أجدى بعض الأحيان ففي شح وتقتير، إذ هو في بلاد الغرب يعود بالغنى والثراء، وقد يعود بأوسع الغنى وأضخم الثراء. وراحوا يتشعبون مذاهب العلل والأسباب لهذه الحال: ومن بين هذه الأسباب قلة عدد المتعلمين في البلاد، وفتور هؤلاء عن اقتناء كتب العلم والأدب، وخاصة إذا استخرجت منه أثمانها، وانتشار الأدب الرخيص تنتضح به بعض المجلات الأسبوعية فيقبل عليه الشباب من المتعلمين ومن لا يزالون في طريق التعلم مطاوعة للشهوة، ولأنه لا يحتاج إلى كد ولا مطاولة. وكذلك أضافوا الأمر إلى أثرة الناشرين وإستغلالهم حاجة الأدباء وضعف وسائل هؤلاء إلى القيام بنشر آثارهم بأنفسهم. ثم إلى عدم عناية القادرين، من أي صنف كانوا، بالأدب الرفيع يذكونه بألوان المعونة والتشجيع.
وكل هذه الأسباب لا تعدو في رأي الحق الواقع في كثير ولا قليل. وعلى ذلك لم أدفع القلم اليوم لمناقشتها والتماس سواها، وإنما لأسرد تاريخاً موجزاً لصلة الأدب بالمادة في بلادنا إبتداء من الجيل الذي شهدنا طرفه إلى غاية هذا الجيل الذي نعيش فيه. كان الأدب من بضع وخمسين سنة مجرد حلية وزينة يتكلفه المتأدبون إما للمفاكهة والتعابث والتظرف، وأما للزلفى طلبا للتمكين من المنصب أو الحظوة عند أولي الأمر، أو أستخراجا للإحسان.
لم بكن الأدب، في الجملة، إذن يطلب غرضاً سامياً سواء من إمتاع النفس باطلاعها على ما في الكون من فتنة وجمال، أو معالجة القضايا العامة وملابسة الأسباب الدائرة بين الناس. فكان الشعر في الجملة أيضاً، يدور في المذاهب التي سلكها العرب الأقدمون من مدح وهجاء، وفخر وغزل ورثاء؛ على أنه، حتى في هذه الأغراض الضئيلة لم يكن أكثره على شيء من الخطر سواء في سمو المعاني أو في قوة الأداء. بل كان نسلاً ضعيفاً متزايل الأجزاء. وكيف يشعر لا يزيد على أنه نقض دارس مما أزل شعراء العهد العثماني: التماس المحسنات البديعية من جناس وتورية واستخدام، بالغة ما بلغت المعاني وواقعاً ما وقع نظم الكلام.(3/9)
أما النثر، وأعني النثر الفني بالضرورة، فكان أشد نسولة وأبلغ تزايلا؛ كلام لا يكاد يجري لغرض أو يستشرف إلى غاية؛ إنما هو السجع يلتزم فيه كله فترى فيه السخن والبارد، والحلو والحامض.
لم يكن من شأن هذا المقال أن يعرض للأسباب التي بعثت هذا الأدب القوي العالي الذي نذوقه اليوم، فذلك مبسوط في كتب تاريخ الأدب العربي. وإنما عقدنا هذا الكلام لأيراد موجز من تاريخ التكسب بالأدب عندنا في العصر الحديث كما ذكرنا في صدر هذا المقال.
لقد كان التكسب بالشعراء، في الجملة، من طريق واحدة، هي أن طائفة ممن يتكلفون نظم الكلام كانت الحاجة تبعثهم إلى أن يرتصدوا إلى حكام البلاد وأعيانها وموسريها حتى إذا دخلت على أحدهم نعمة من أي لون كانت أو مات له ولد أو نسيب بادروا بأزجاء التهنئات يموهون حروفها بماء الذهب، أو المراثي يجللون رقاعها بالسواد، ولا يزالون يختلفون اليه في طلب العطية. وقد لا يظفرون، في الغاية ألا بتسريح بغير إحسان. ولقد أساء هؤلاء إلى الأدب إساءة بالغة، بحيث نشأت ناشئة الجيل الماضي وهي لا تكاد ترى في الأدب إلا الكدية، ولا في الأديب إلا أنه شحاذ! أما التكسب بالنثر فكان له طريق آخر أقبح من ذاك وأخزى. وذلك بأصدار صحف صغيرة حقيرة قد تظهر مرة في الأسبوع أو في الشهر أو في نصف العام. ومادة كسبها في الواقع من تخويف ضعاف النفوس بتشهيرهم وطلب معايبهم والتدسس إلى مكارههم إلى أن يشتروا أعراضهم، فأن فعلوا وإلا فلأمهم الهبل.
ولقد إنتهى، والحمد لله، هذان الضربان من التكسب بالأدب ولم يبق لهما في بلادنا، على ما أرى، من أثر. ولعل ذلك راجع إلى تغير فهم الناس لمعنى الأدب، وإرتفاعهم به على ذلك الهوان، وإلى إنتشار الثقافة بوجه عام، وإلى خشية سطوة القانون بوجه خاص.
وليس معنى هذا أنه لم يكن هناك لا أدب ولا أدباء، بل كان الشعراء وخيار الكتاب، إلا أنه لم يكن يتكسب أحد من هؤلاء (ما عدا الصحفيين المحترفين) بصنعة القلم.
نعم كانت الصحافة بمعناها الصحيح، ولا زالت مهنة كريمة نبيلة تجدي على أصحابها وعلى المشتغلين بها ما يعودون به على شملهم، بل ما قد يغنيهم ويضيف إليهم الثروات الضخام. أما هواة البيان على حد التعبير الحديث، فلم يكن لهم من هذه الجدوى نصيب.
ثم كانت (الجريدة) وقام على شأنها الأستاذ العلامة الكبير أحمد لطفي السيد بك، فرأى أن(3/10)
يدعو نفراً من كبار العلماء والكتاب إلى تغذية الجريدة من وقت لآخر بالمقالات المتخيرة المنتقاة في مختلف أسباب الحياة، واجتعل لهم ذلك الجعالات. ولعله في ذلك كان متهدياً بسنة الصحافة في الغرب.
على أنه لما إشتدت قوة الصحافة في مصر وعظم انتشارها بحكم إطراد الحضارة وكثرة المتعلمين، وإزدياد تتبع الجمهرة للأسباب العامة وشدة إهتمامهاً بها (اضطرت) كبريات الصحف، بنوع خاص، إلى العناية بتجويد تحريرها، وإغزار مادتها، حتى لقد جردت بعض صفحاتها لطريف البحوث في شتى العلوم والفنون، وفوق أنها أضعفت وظائف محرريها أضعافاً. فقد جعلت كذلك تؤجر الكاتبين فيها من غير محرريها بما لم يكن يحلم به أحد من عشر سنوات خلت. هذه حقيقة للأدباء أن يغتبطوا بها، وإذا كان المدى بين حظوظهم وبين حظوظ رصفائهم في الغرب لا يزال فسيحاً، فلهم من الأمل في القريب مزيد إن شاء الله.
بقى الحديث في التكسب بالأدب من طريق نشر الكتب ودواوين الشعر. والذي شهدناه من أعقاب الجيل الماضي ولا نشهد غيره إلى اليوم. أن الكسب من هذه الطريق يكاد يكون مكسوراً على جماعة الوراقين كما قال بحق بعض كبار الكاتبين على إنني أرجو منه أن يأذن لي في إستثناء أصحاب الكتب المقررة للتدريس، فاؤلئك وحدهم المجدودون، أو الذين كانوا مجدودين إلى وقت قريب. لقد كان الأدب عندنا، ولعله لا يزال عند الأكثرين إلى الآن ينتظم في سمط الكماليات، والكماليات عند أكثر الناس ليست حقيقة بأن يخف المرء اليها، اللهم إلا إذا واتته عفواً، أو بغير مشقة ولا جليل إنفاق. فبات بديهاً ألا تنفق كتب الأدب حتى تعود على أصحابها بنفقات طبعها بله الثروة وكرائم الأموال.
أما كتب العلم، فأن العلم يطلب في بلادنا على أن يفضي إلى إحراز شهادة رسمية تقلد محرزها منصباً حكوميا، ً فإذا لم يكن الأمر على هذا فلا كان علم ولا كان تعليم!
هذه حقيقة واقعة أرى إن إنكارها ضرب من الغش والتدليس مشايعة لهوى الجمهور، والعياذ بالله! لعل واحداً في كل ألف من الذين ختموا دروسهم في بلادنا هم الذين يشقون كتاباً علمياً لا تدعوهم إلى شقه حاجة المهنة. نعم لعل في الألف من المتعلمين واحداً أو دون الواحد هم الذين يطلبون العلم ويراجعون مدوناته ليكملوا أنفسهم، وليتزيدوا من(3/11)
معارفهم، ويفسحوا في ملكاتهم. العلم عسير الهضم، يكد الذهن ويجهد النفس، ففيم مكابدته وشدة المطاولة في تحصيله ما لم تقض بتحصيله ضرورة ملحة قاسية، من إرهاق الولي أو إلحاح الحاجة، أو جموح الشهوة إلى المنصب يعرض الجاه، ويعز في الأهل والصحاب!. فكيف تريدون أن تنفق عندنا كتب العلم للعلم؟!. . . . . .
أما الكتب المقررة للتدريس فهي التي كانت إلى وقت قريب، تدر على أصحابها الكثير بل الذي يستطيعون أن يكاثروا به أعلى مؤلفي الغرب قدراً وأبعدهم صوتاً! ولا أحسب أن هذا الأجداء كله يرجع إلى فضل المؤلفين وحده وعظم تجويدهم لما يخرجون من فنون الكتب، بل لعل شيئاً من ذلك يعود إلى أن هذه الكتب مفروضة فرضاً على العديد الأكبر من تلاميذ المدارس تشتريه وزارة المعارف لهم أو تريدهم على شرائه، وإلا خذلوا في الإمتحان وأفلتتهم الإجازات، أو على الأصح فاتهم التأميل في المناصب الحكومية، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
الواقع أن أكثر الكتب المقررة موف على الغاية من التجويد والإحسان، ولكنها غير مدينة في رواجها إلى هذا التجويد والإحسان. بل هي مدينة في ذلك، مع الأسف الكثير، لأنها مفروضة على التلاميذ فرضاً، ولو قد عدل عنها ما أخرجت المكتبات عشر ما خرج منها على أسخى تقرير. وهذه الحقيقة المرة القاسية ترينا مبلغ حظ العلم والأدب في هذه البلاد.
ومهما يكن من شيء فأن لنا أن تغتبط، ولو قليلاً، إذا نحن قسنا حاضرنا بماضينا القريب، فبين مؤلفينا من يستردون من أثمان مؤلفاتهم ما أخرجوا لطبعها، وفيهم من تفضل عليهم من الربح الكثير أو القليل. وكل الذي نرجو أن تطرد همم الشباب في تحصيل العلم الصحيح، وتتجرد عزائمهم في طلب الأدب العالي، معرضين عن إلتماس هذا الأدب الهين الرخيص. هنالك تنبعث في البلاد الحياة القوية العزيزة، وهناك يجازى العلماء والأدباء بما يكافئ الجهد العظيم.(3/12)
أثر الثقافة العربية في العلم والعالم
بقلم أحمد حسن الزيات
(2)
فرغ العرب من رسالتهم الدينية بانقضاء الفتوح، ولم يكد الأمر يستوثق لهم والنظام يستقر بهم وظلال الامن ترف عليهمحتى أخذوا يبلغون العالم رسالتهم العلمية بذلك العزم الذي لا ينكل عن خطة ولا يقف دون غاية. وكان مهبط الوحي بتلك الرسالة بغداد لأنها البلد الأول الذي رفرف عليها السلام وتدفق فيه الغنى واشتد به الخلاط وتجمعت لديه شتى الوسائل. ومن خير هذه الوسائل التي حققت هذا الشرف للعراق أن علماء النساطرة الذين نفوا إليه من الممالك الرومانية الشرقية لأسباب دينية، كانوا قد أنشأوا في إديسة من بين النهرين مدرسة تنشر علوم اليونان والرومان، ولما أغلقها الأمبراطور زينون الأوزريالي لأسباب دينية أيضاً، لاذوا بأكناف بني ساسان فلقوهم لقاء جميلاً، وأقام لهم أنوشروان في جنديسابور مدرسة وصلت ما انقطع من تلك الحركة.
وكان الأمبراطور جستنيان يومئذ قد فتح باب الجور على أساتذة المدارس الأفلاطونية في أثينا والإسكندرية فألجأهم للجلاء والشراد فما اعتصموا منه إلا بفارس. وأخذ هؤلاء وأولئك ينقلون إلى السريانية والكلدانية كتب أرسطو وسقراط وجالينوس وأقليدس وأرخميدس وبطليموس، فكان ما ترجموه من العلوم ومن خرجوه من العلماء نواة صالحة لهذه النهضة المباركة التي نهد لها الخلائف الأولون من بني العباس. كان أول من تلقى وحي هذه الرسالة الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور فأنشأ المدارس للطب والشريعة واستقدم جرجيس بن بختيشوع رأس أطباء جنديسابور ونفراً من السريان والفرس والهنود فترجموا له كتباً في الطب والنجوم والأدب والمنطق. ثم حملها من بعده الرشيد فنفخ فيها من روحه ونشرها في العالم بروحه وترجم في زمنه ما وجد من كتب الطب والكيمياء والفلك والجبر والنبات والحيوان. فلما تلقاها المأمون لم يبق من كتب العلوم والفنون والصناعة شيء في العبرانية واليونانية والسريانية والفارسية والهندية إلا نقل إلى العربية. ولم يقف العرب عند الدرس في هذه المترجمات وإنما أقبل بعضهم على تحصيل اليونانية واللاتينية ليرجعوا بهما إلى بعض تلك الأصول. وفي مكتبة الاسكوريال ما يثبت ذلك من(3/13)
قواميس عربية يونانية وأخرى عربية لاتينية قد ألفها العرب للعرب. ثم أقبل الناس في الشرق والغرب على هذه العلوم يعالجونها بالشرح والتحليل حتى اجتازوا سراعاً دور التلمذة والتقليد إلى دور الابتكار والتجديد، فهبوا ينشئون المدارس ويقيمون المراصد ويمحصون المسائل ويؤلفون الرسائل ويؤسسون المكاتب، وقد جروا في ذلك إلى أبعد الغايات. ذكر (بنيامين دتودليه) أنه رأى في الاسكندرية عام 1173م عشرين مدرسة، فما ظنكم ببغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة وأشبيلية وطليطلة وغرناطة وقد كان فيهن عدا العدد الوفر من مدارس الثقافة العامة جامعات للثقافة الخاصة وما يتبعها من وسائل البحث كالمعامل والمراصد والمكاتب؟ وأنكم لتكبرون ما بذله العرب من الجهود الجبارة في سبيل المدنية والعلم إذا قستموه بما خلفوه من البحوث وما ألفوه من الكتب. فقد تناولوا أصول المعارف الإنسانية بالتقصي الدقيق والغوص العميق حتى فرعوها إلى ثلاثمائة علم أحصاها طاشكبرى زاده في كتابه مفتاح السعادة. ثم استنزفوا الأيام في معاناة التأليف على صعوبة النسخ وكثرة المؤونة وقلة الجدوى، فتركوا للعالم ذلك التراث الضخم الذي اشتملت عليه مكاتبهم في الشرق والغرب. فقد ذكر (جيبون) في كتابه عن الدولة الرومانية أنه كان في طرابلس على عهد الفاطميين مكتبة تحوي ثلاثة ملايين مجلد أحرقها الفرنج سنة 502هـ، وقال المقريزي انه كان في خزانة العزيز بالله الفاطمي مليون وستمائة ألف مجلد نزل بها ما نزل بمصر من الأحداث فأغرقت في النيل أو ألقيت في الصحراء تسفى عليها الريح حتى صارت تلالاً عرفت بتلال الكتب! وروى المقري انه كان بخزانة الحكم الثاني بقرطبة أربعمائة ألف مجلد فيها أربعة وأربعون للفهرس، وأبلغها الأستاذ جوستاف لوبون إلى ستمائة ألف، ولاحظ بهذه المناسبة أن شارل الحكيم الذي اعتلى عرش فرنسا سنة 1364 أي بعد خلافة الحكم بأربعمائة سنة، لم يستطع أن يجمع في المكتبة الأهلية بباريس حين أسسها إلا تسعمائة مجلد كتب ثلثها في علوم الدين. ناهيكم بالثمانين ألف مجلد التي دمرها (كيمينيس) في ساحات غرناطة وبما أحرقه التتار في بخارى وسمرقند وأغرقه هلاكو ببغداد عاصمة العلم والعالم في ذلك العهد! ويلوح لي أنه ليس في ذلك كثير من المبالغة، فأن في المؤلفين من تبلغ تصانيفه بضع مئات، وإن في المؤلفات ما يقع في عشرات المجلدات، فلأبي عبيدة مائتا كتاب، وللكندي واحد وثلاثون ومائتان، وللرازي(3/14)
مائتان، ولأبن حزم أربعمائة، وللقاضي الفاضل مائة. وجاء في نفح الطيب أن مؤلفات عبد الملك بن حبيبعالم الأندلس قد بلغت الألف. على أن توالي الفتن والمحن على العالم الإسلامي لم يبق للعصر الحديث من هذا الكنز المذخور والمجد المسطور إلا ثلاثين ألفاً وزعت على مكاتب العالم! يزعم بعض المتعصبين من العلماء الأوربيين أن العرب إنما كانوا في العلم حميلة على اليونان ونقلة عنهم، فليس لهم أصالة فكرية ولا عقلية فلسفية، ولو لم يكن للعرب على زعمهم من الأثر إلا أنهم أنقذوا هذه الكتب من عدوان الأرضة، وحفظوا تلك العلوم من طغيان الجهالة، حتى أدوها صحيحة نقية إلى العصور الحديثة لكان لهم بذلك وحده الفخر على الدهر والفضل على الحضارة. فكيف والواقع غير ما يدعون بشهادة المنصفين منهم؟ فأن ملايين الكتب التي دمرتها بربرية أسلافهم في الغرب، وأشباه أسلافهم في الشرق، لم يكن ما نقل منها عن خوالي الأمم إلا بضع مئات كانت أساساً لبناء باذخ ضخم شاده العرب، ونواة لدوحة باسقة ظليلة رواها وغناها الإسلام. فالطب قد أخذوا أصوله عن أبقراط وجالينوس وبعض السريان والهنود، ولكنهم نقوا هذه الأصول من الشعوذة، ورقوها بالترتيب، ونموها بالتجربة، وانتقدوا مذاهب القدماء في تعليل بعض الدواء، استحدثوا في التشخيص والعلاج نظريات وعمليات ووسائل أطبق الباحثون على إنها لم تعرف من قبلهم، ولم تنسب إلى غيرهم، ككشفهم علاج اليرقان والهيضة، وأحذ المرضى بالصفد والتبريد والترطيب في الفالج والحمى واللقوة على غير ما ألف الأقدمون. فعل ذلك صاعد بن بشر ببغداد فنجح تدبيره فأقتدي به سائر الأطباء بعده. وهم أول من أستعمل المُرْقد في الطب، والكاويات في الجراحة، وصب الماء البارد لقطع النزيف. وقد فطنوا إلى عملية تفتيت الحصاة، وعين أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي المعروف عند الفرنح (بالبوكاريس) موضع البضع لإخراجها، وهو ماعينه متأخرو الجراحين من الفرنج. وأبو القاسم هذا هو الذي قال فيه الأستاذ هالير: (إن كتبه كانت المنهل العام الذي نهل منه جميع الجراحين بعد القرن الرابع عشر) وأبو بكر محمد بن زكريا الرازي أول من كتب في أمراض الأطفال، وألف في الجدري والحصبة، وأستعمل الكحول والحجامة في الفالج. والرئيس أبو علي بن سينا أمير الأطباء وجالينوس العرب كما يلقبه الفرنج وضع كتابه القانون فكان شريعة الطب في العالم زهاء ستة قرون. وكان عمدة التدريس في(3/15)
جامعات فرنسا وإيطاليا ولم ينقطع تدريسه في جامعة مونبلييه ألا أواسط القرن التاسع عشر. وقد تعرض فيه بالتفصيل الدقيق إلى علم الصحة وقرر نظرية (الهجين) الرياضي وهي نظرية كان المظنون أنها من ثمرات العلم الحديث. ومن الأقوال المأثورة أن الطب كان معدوماً فأحياه جالينوس، وكان متفرقاً فجمعه الرازي وكان ناقصاً فأكمله ابن سينا. وإذا مضينا نذكر أمثلة مما جدد سائر الأطباء العرب كإبن زهر وإبن رشد وإبن باجة وإبن طفيل إستبحر القول والتاث علينا تحديده وحصره. وفي كتاب طبقات الأطباء لأبن أبي اصيبعة وتراجم الحكماء لأبن القفطي وتاريخ الطب العربي للكلركما ينقع غلة المستزيد. وللعرب القدم الأولى واليد الطولى في الصيدلة والكيمياء والنبات، وهي في رأيهم شعب من علم الطب أو لواحق به، فهم واضعوا أصول الصيدلة وأول من مارس تحضير العقاقير واستنباط الأدوية. وكذلك هم أول من ألف في الأقرباذين على هذا النمط، وأقام حوانيت الصيدلة على هذا الوضع. وظل العرب معتمدين في المارستانات والصيدليات. على أقراباذين وضعه سابور بن سهل في منتصف القرن الثالث من الهجرة حتى نسخه أقرباذين ابن التلميذ المتوفي سنة 560 ببغداد. ولا تزال أسماء العقاقير التي أخذها الفرنج عن الشرق في كتبهم على وضعها العربي المرتجل أو المنقول. ولا نزاع اليوم في أن علم الكيمياء الصحيح إنما يؤرخ وجوده بجهود العرب فيه. فأنه في سبيل العثور على الإكسير أو إنكاره هدوا إلى عمليات أساسية ومركبات كيميائيةكان لها الأثر الظاهر في تأسيس هذا العلم. والإفرنج يعترفون للعرب بأنهم عرفوا التقطير والترشيح والتصعيد والتذويب والتبلور والتكليس، وإن جابر بن حيان وأخلافه قد استنبطوا طائفة من الأحماض التي تستعمل اليوم. كذلك برع العرب في علم النبات وبخاصة ما يتصل منه بالطب، فقد استفادوا مما كتبه دسقوريدس وزادوا عليه ما وفقوا اليه من شتى الأنواع ومختلف الشكول. والعلماء لسان واحد في أنه لم يأت بين دسقوريس اليوناني ولِنييه السويدي المتوفي سنة 1707 أطول باعا ولا أوسع اطلاعا في هذا العلم من أبن البيطار المالقي. فأنه درس كتاب دسقوريدس ثم رحل إلى بلاد اليونان وأقصى ديار الروم فحقق أنواع النبات بنفسه، وأتصل ببعض من يعانون ذلك فاستعان بفهمه على فهمه، وأضاف علمهم على علمه، ثم عبر إلى المغرب فقام بمثل ذلك، وطلب منابت العشب في مصر والشام فدرسها حق(3/16)
الدراسة ثم وضع بعد طول الدرس وسعة الخبرة كتابه الموسوم بجامع مفردات الأدوية والأغذية فكان أجمع الكتب في فنه، ومرجع الأوربيين في موضوعه. ولا يقل عن ابن البيطار في التفوق والفضل معاصره ومآزره رشيد الدين بن الصوري المتوفيسنة 639 فقد من إتقانه أنه كان يخرج إلى الأودية والفلوات في درس النبات ومعه مصور قد أستكمل آلته وأصباغه، فيشاهد النبات ويحققه ويريه المصور في أبان نباته وفي وقت كماله ثم في حال ذراه ويبسه، فيعتبر لونه ومقدار ورقه وأغصانه وأصوله ثم يصوره في كل طور من أطواره بالدقة. وذلك غاية ما بذلته الأمانة العلمية اليوم من الكمال. أما أثر العرب في العلوم الرياضية والطبيعية والفلكية فبحسبنا أن نشير إلى أنهم أول من نقل الأرقام الهندية إلى أوربا، وأول من أستعمل الصفر في معناه المعروف، وأن كلمة الجورتمي اللاتينية مشتقة من أسم الخوارزمي محمد ابن موسى المتوفي سنة 220هـ وأن الجبر بأسمه العربي يكاد يكون علماً عربياً بعد أن وضع الخوارزمي كتابه في الجبر والمقابلة. وقد قال (كاجوري) في كتابه تاريخ الرياضيات: (إن العقل ليملكه الدهش حينما يقف على أعمال العرب في الجبر.) وفي مادة المثلثات من دائرة المعارف البريطانية أن العرب أول من أدخل المماس في عداد النسب المثلثية. وهم الذين استبدلوا الجيوب بالأوتار وطبقوا الجبر على الهندسة وحلوا المعادلات التكعيبية. وفي الفيزياء أو علم الطبيعة كشفوا قوانين لثقل الأجسام جامدها ومائعها، وبحثوا في الجاذبية وقالوا بها. وكان أبو الحسن علي بن إسماعيل الجوهري أول من وضع مبادئ الضوء وأوضح أسباب انعكاسه عن النجوم، وأصلح الخطأ الشائع يومئذ من أن الأشعة تنشأ في العين ثم تمتد إلى المرئيات. وتشهد دائرة المعارف البريطانية في مادة الضوء أن بحوث العرب فيه هدت العلماء إلى اختراع المنظار. وفضل العرب على الفلك من البينات المسلمة، فقد رصدوا الأفلاك وألفوا الأزياج وابتكروا آلات الرصد وصححوا أغلاط اليونان والهند وحسبوا الكسوف والخسوف ورصدوا الأعتدالين الربيعي والخريفي وقالوا باستدارة الأرض ودورانها على محورها. وذكر (سكوت) في كتابه المملكة الأندلسية أن عالماً من طليطلة رصد أربعمائة رصد ونيفا ليحقق أبعد نقطة في الشمس عن الأرض ولم يختلف حسابه في ذلك عن أدق المباحث الحديثة إلا بجزء من الثانية. ويقول (كاجوري) أن اكتشاف بعض الخلل في حركة القمر يرجع إلى أبي الوفاء(3/17)
الفلكي الزرجاني لا إلى تيخوربراهي. وقد عد لالاند الفلكي الفرنسي البتَّاني في العشرين فلكياً المشهورين في العالم كله ولا تزال طائفة الاصطلاحات العربية في الفلك مستعملة في كتب الفرنجكالسمت والنظير والمناخ والمقنطر والسموت فضلا عن أسماء النجوم والعربي منها لا يقل عن النصف. وأما أثرهم في الفلسفة المدرسية فأن الكندي والفارابي وإبن سينا في الشرق، وإبن باجة وإبن طفيل وإبن رشد في الغرب، قد توفروا على فلسفة اليونان بالدرس والشرح والتمحيص حتى جددوا دارسها وجلوا طامسها وكملوا ناقصها ووسموها بسمة الحرية والعبقرية والنضوج. وقد أثار أبن سينا بتفكيره الحر المنظم، وعقله القوي المنطقي، مسائل من العلم تشغل أذهان الباحثين اليوم. ووضع إبن طفيل قصته الفلسفية (حي بن يقظان) فأبان عن قوة نادرة في التفكير، وموهبة عجيبة في التصوير، واستيعاب موجز للأفلاطونية الحديثة. وقد نقل هذه القصة إلى اللاتينية (إدوار بوكوك) سنة 1671 فظهر أثرها سريعاً في قصة (روبنسون كروزويه) وشهد رينان لأبن رشد في كتابه عنه (أنه أعظم فلاسفة القرون الوسطى ممن تبع أرسطو ونهج سبيل الحرية في الفكر والقول) ودخلت العالم المسيحي فلسفة إبن رشد وفلسفة أرسطو فكان الاعتراض عليهما شديداً والإعجاب بهما أشد. وكان اللاهوتيون في القرون الوسطى يعجبون بأبن رشد وسعة علمه ودقة فهمه ونفاذ بصيرته ولكنهم كانوا يخشون أثر رأيه الجريء في العقائد. وتجدون (دانتي) في الملهاة القدسية قد جعل أبن رشد وأبن سينا في المقام الذي جعل فيه عباقرة الرجال من جهنم. تلك يا سادتي إشارات مبهمة مجملة إلى جهود العرب في العلم وآثارهم في الفكر تجدون بيانها وتفصيلها في تاريخ هذه العلوم، عرضتها بهذا الأِجمال على سبيل المثال لنقول لأصحاب ذلك الرأي الظنين الأفين أن التجديد في العلم يستلزم الاستقصاء البالغ والتمثيل التام والفكر المستقل، وإن العرب كما قال البارون (كارادفو) لم يكونوا نقلة للعلوم فحسب. ولكنهم بذلوا الجهد في إصلاحها وتحقيقها، وأفرغوا الوسع في بسطها وتطبيقها، حتى أدوا أمانتها إلى العصر الحديث.(3/18)
فلسفة شوبنهور
للأستاذ زكي نجيب محمود
عصره:
سادت في أوروبا روح التشاؤم في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وتملك النفوس يأس قاتل، وارتفعت بذلك أصوات الشعراء والفلاسفة في كل ناحية من نواحيالقارة: بيرون في إنجلترا، ودي موسيه في فرنسا، وهيني وشوبنهور في ألمانية.
ولقد يقف المرء امام هذه الظاهرة العجيبة وقفة لا تطول كثيراً حتى يجد اسباب ذلك في طبيعة ذلك العصر وظروفه التاريخية: فقد انفجرت الثورة في فرنسا ودوت في أرجاء أوروبا دوياً اهتزت من حوله عروش، وكان لصوتها صدى في كل الصدور وأثر عميق في كل النفوس، فمن أشراف ناقمين ساخطين، إلى زراع يهللون لها ويكبرون. . . ثم كانت واقعة وترلو فخفت ذلك الصوت الداوي، وعزل نابليون على صخرة سنت هيلانة الصامتة الموحشة في عرض المحيط، وعاد (البوربون) إلى ملكهم في فرنسا، وعاد في ذيلهم أشراف الإقطاع يطالبون بأملاكهم، وانتشرت في أوربا حركة رجعية تعمل على طمس معالم الثورة والتجديد.
كم من ملايين الشباب زهقت نفوسهم عبثاً، وكم من عامر الأرض بات خراباً بلقعاً. . . فكنت لا ترى على وجه أوربا إلا آثاراً خربة وأنقاضاً هنا وهناك، ذلك لأن الجيوش النابليونية الجرارة من ناحية، وأعداءها من ناحية أخرى، أخذت تروح وتجيء اكثر من عشرين سنة قضت فيها على الأخضر واليابس، وخلفت القرى والمدائن ينتابها فقر مدقع وبؤس شامل.
ماتت الثورة الفرنسية وكأنما انتزعت معها روح الحياة من أوربا، لأن قلوب الشباب الطامح في كل بقعة من بقاعها كانت قد صغت إلى الجمهورية الناشئة وعاشت في ظلال الأمل الوارفة حيث أملت في مستقبل ذهبي سعيد، فما هي إلا أن وقعت الواقعة في وترلو حتى تحطمت كل هذه الآمال وتبدلت بمأساة سنت هيلانه ومؤتمر فينا فدبت في النفوس روح اليأس التي ملكت على الناس شعب الحياة، وأثَّر ذلك في النزعة الدينية أثرين مختلفين: أما الطبقة الفقيرة الجاهلة فقد التجأت إلى الدينتجد في كنفه السلوى والعزاء، وأما(3/19)
الطبقة المفكرة فطغت على قلوبهم موجة إلحادية، ولم تعد عقولهم تسيغ أن يكون ثمة مدبر أعلى لهذا الكون.
فأما فريق العقيدة والدين فقد أقتنع بأن هذه النكبات ليست إلا إذلالاً للنفوس جزاء وفاقاً بما نزعت إليه من الإعتزاز بحكم العقل ونبذ العقائد وراء الظهور. وأما فريق الإلحاد فقد ارتأى أن اضطراب أوربا ينهض دليلاُ قوياً على فوضى الحياة وعبثها، وعلى رأس هؤلاء بيرون وهينيوشوبنهور.
فلسفته:
1 - العالم فكرة
يرى شوبنهور أن الوساطة الوحيدة بين الإنسان والعالم الخارجي هي الحواس والمشاعر، فأنت إذا رأيت شجرة انطبعت صورتها في ذهنك، وهذه الصورة إنما انتقلت عن طريق عدسة العين، فقد تكون مطابقة لحقيقتها الخارجية وقد لا تكون، وقل مثل ذلك في كل معلوماتك عن أجزاء الوجود، فالصورة التي كونهاذهنك عن هذه الدنيا هي فكرة خلقتها حواسك ولا يتحتم أن يكون لها حقيقة واقعة مطابقة لها وإذن فالإنسان كما يقولون دنيا نفسه، وأن في الوجود من الدنى بمقدار ما فيه من عقول بشرية.
يخلص شوبنهور من هذا بأن الواجب الأول هو دراسة العقل قبل البدء بدراسة المحسوسات، لأن في دراسة العقل المفتاح الذي نصل به إلى حقائق الوجود الخارجي.
2 - العالم إرادة
يكاد يجمع الفلاسفة على أن كنه العقل وجوهره هما الشعور والفكر، إلا أن شوبنهور يرفض ذلك رفضاً، ويقول بأن الشعور إن هو إلا قشرة خارجية لعقولنا لا يعرف على وجه الدقة ما تحويه في باطنها، فهذا الغلاف المفكر يخفي وراءه إرادة لا شعورية، لا يخمد لها نشاط، ولا تنتهي لها رغبات وآمال، وهي التي تملك زمام الإنسان في كل حركاته وأعماله، أما هذا المنطق الذي نحتكم إليه في كثير من شئوننا، والذي يخيل إلينا أنه نابع من العقل الواعي، هو في الواقع ملجم بهذه الإرادة الباطنية، فنحن لا نريد الشيء لأن هناك من الأسباب المنطقية ما يدفعنا إلى ذلك، ولكننا نخلق الأسباب خلقاً إذا كنا نريده إرادة لا شعورية. فالأسباب نتيجة لا مقدمة!! بل نستطيع أن نذهب إلى أبعد من هذا الزعم(3/20)
فنقول: إننا إنما نخلق الفلسفات ونبتدع الديانات لنخفي في طياتها رغباتنا الخفية.
ابحث في كل نواحي النشاط الإنساني، تجد دوافعه مشتقة من الإرادة اللاشعورية، لا من العقل والشعور. فهذا التنافس والتناحر على أسباب العيش من طعام ولذات، إنما ينبع من (إرادة الحياة) التي يبطنها كل كائن في طوايا نفسه، حتى شخصية الفرد لا تتكون من أعماله العقلية ولكن من نزواته اللاشعورية التي يندفع اليها بإرادته الخفية؛ ومن هنا كانت الديانات على اختلافها تعد الجنة للإرادة الطاهرة (أي القلوب) ولكنها لا تعترف بالعقول الكبيرة ولا تحسب لها في جناتها حساباً.
وليست سيطرة الإرادة مقصورة على الحياة الفكرية، بل تتعداها إلى الدائرة الفسيولوجية. فإرادة الحياة خلقت أوعية يجري فيها الدم، وإرادة المعرفة خلقت مخاً يصل إلى شتى المعارف، وإرادة القبض على الأشياء خلقت الأيدي، وهكذا نشأ كل عضو بعد نشوء إرادة وظيفته، فحركات الجسم هي في الواقع إرادات مجسمة بل الجسم كله إرادة متبلورة.
إذن فالارادة، لا العقل، هي كنه الإنسان بل كنه الكائنات الحية جميعاً، هذه الإرادة التي نتحدث عنها هي رادة الحياة، وليس الحياة أياً كان لونها، ولكن (إرادة الحياة الكاملة).
وليست هذه الإرادة مقسمة بين الأفراد، أعني ليس لكل فرد إرادته المستقلة تعبث به كيف شاءت، ولكنها إرادة واحدة تتناول الحياة بأسرها كتلة واحدة وشيئاً لا يقبل التجزئة، فالفرد ليس حقيقة في ذاته ولكنه ظاهرة لحقيقة، فهو جزء من كل متماسك، ومحتوم عليه بحكم إرادته أن يسير في طريق مرسوم حتى لا يضطرب نظام ذلك الكل المتحد. ومن هنا نشأت رغبة التناسل مثلا، فهي ليست رغبة فردية، ولكنها رغبة الحياة بأسرها وهي وحدها التي تسخر الأفراد لصالحها بل أن هؤلاء الأفراد الصورة المحسة التي تظهر فيها إرادة الحياة.
يقول سبينوزا: لو أن حجراً ألقي في الهواء وكان لديه شعور وإدراك لظن أنه إنما يتحرك بمحض إرادته الحرة وأنه هو الذي يختار الزمان والمكان اللذين يقع فيهما. وما أشبه الإنسان في حياته بذلك الحجر الملقى: كلاهما تدفعه قوة خارجية وكلاهما يتوهم أنه حر لا سلطان على إرادته.
نعم، إرادة الحياة في عمومها حرة التصرف لأنه ليس هناك إرادة تحد تصرفها ولكن كل(3/21)
قالب من قوالب الحياة، أي كل جسد مادي يدب فيه جزء من الحياة، محدود ولا ريب بتلك الإرادة الكلية سواء أكان ذلك القالب الحي نوعاً أم فرداً أم عضواً من فرد.
3 - العالم شر
ما دامت الإرادة أساس الحياة فالحياة شر كلها. ذلك لأن الإرادة مبعث لسلسلة من الرغبات لا تنقطع. والرغبة عادة تمتد إلى أكثرمما يستطيع الإنسان تحقيقه: وهكذا يظل الإنسان مدفوعا في حياته بآلاف الدوافع من الآمال التي إن تحقق بعضها فمعظمها خائب فاشل، وهو أمام هذا الفشل الذي يغمره في كل خطوة يخطوها يستحيل عليه أن يتذوق في حياته سعادة مطلقة، ثم هو لا مناص له من هذه الرغبات التي يسوق بعضها بعضاً، لأن جوهر الإنسان إرادة كما بينا، فإذا هو تخلص من إرادته فقد تخلص من نفسه؛ ولابد لهذه الإرادة أن تعيش وتتغذى، وهذه المطامع المستمرة في حياة الفرد هي الوقود الذي تخلقه الإرادة لنفسها.
والحياة كلها شر كذلك، مادامت الآلام هي طبيعة مادتها التي تتكون منها، وليست السعادة إلا حالة سلبية يقف فيها تيار الآلام. وما اصطلحنا على تسميته بالسعادة إنما هي الحالة التي ينعدم فيها وجود الألم، أعني أن ليس ثمة سعادة إيجابية. وقد أشار أرسطو إلى هذه الحقيقة بقوله أن الحكيم لا يجوز له أن يبحث عن السعادة، بل يجب عليه أن يسعى وراء التخلص من آلامه.
وفوق هذا كله، فالحياة شر كلها لأنها عراك دائم، فأينما سرت صادفت تناحراً وتنافساً وجهاداً، فكل نوع يقاتل في سبيل المادة والزمان والمكان.
نعم لا ريب أن الحياة قاسية مؤلمة، وليس يعجب شوبنهور إلا من متفائل يبتسم لهذا العالم ويقول لو أن أشد الناس تفاؤلا طاف بالمستشفيات والسجون وساحات الحروب ليشهد ألوان الألم والعذاب، ولو أنه رأى البؤس الذي يتوارى خجلاً في اركان الأكواخ المظلمة. نعم لو أبصر هذا وذاك وما هو شر من ذلك جميعاً لأنقلب متشائماً يئوساً على الفور. وإلا فحدثني بربك من أين اشتق دانتي صورة جحيمه إلا من هذا العالم الذي نعيش فيه، ومع ذلك فقد كونها صورة ما أهولها من صورة!! ثم انظر كيف اصطدم بمشكلة سقطت أمامها عبقريته عجزاً وإعياء عندما أراد أن يصور جنة سعيدة لأنه التمس من الحياة أجزاء الصورة التي(3/22)
يريد فعز عليه المثال!!
4 - الفلسفة
رأينا كم يدفع المرء من الشقاء ثمناً باهضاً لأنفاسه! وعلمنا أن الحياة بما تحوي من شر تجارة خاسرة لا تساوي ثمنها!!. ولكن ألا نستطيع أن نرسم طريقاً للسعادة؟ ذلك ميسور إذا تغلب جانب العقل والمعرفة على جانب الإرادة والرغبة من الإنسان. فأنت عاجز عن إدراك السعادة إذا تملكت الإرادة منك الزمام، وأنت عاجز عن إدراك السعادة بالمال والجاه، وهي على قاب قوسين منك إذا أسلمت قيادك إلى العقل واستطعت أن تضغط على الإرادة حتى تحصرها في حيز ضئيل. ويعتقد شوبنهور أن الإعجاز لا يكون في إخضاع العالم بأسره بقدر ما يكون في إخضاع الإرادة. . . . . . إذن فالفيلسوف وحده هو الذي يستطيع أن يتغلب على شقاء الحياة. لأنه صورة من المعرفةغير المقيدةبالإرادة، وإذا استطاع الفكر أن يتخلص من قيود الرغبة والهوى أمكنه أن يرى الأشياء على حقيقتها المجردة.
فالفلسفة هي عبارة عن النظر المجرد عن الارادة، هي إنكار الذات عند النظر إلى مظاهر الوجود واعتبارها حقائق في ذاتها دون أن تربطها بالحياة البشرية.
5 - الفن
نحن إذن ننشد تحرير المعرفة من استعباد الإرادة، ننشد إنكار الشخص لنفسه عند نظره للأشياء، وليس هذا المنشود إلا الفن في أصح معانيه. فالفنان العبقري يحاول أن يرى الأشياء من وجهة صفاتها العامة لا يعبأ كثيراً بالأشباح المادية التي تمثل تلك الصفات فموضوع الفن هو تجسيد الكلي العام في جزئي من الجزيئات والصورة الفنية يجب أن تكون المثل الأعلى للشيء المصور، ومعنى ذلك أن صورة البقرة مثلاً لكي تكون من آيات الفن الرفيع، يجب أن يتجمع فيها كل مميزات هذا النوع وما يتعلق به من صفات، كأن نوع البقرة كله قد تركز في هذه البقرة الواحدة. وصور الأشخاص يجب أن تقصد لا إلى الدقة الفوتوغرافية، بل إلى عرض كل ما يمكن عرضه من صفات الإنسان عامة في ملامح الشخص المصور، إذ الواقع أن الفنان سيصور صفات، وليست الأجسام إلا وسائل فقط لإبراز تلك الصفات.
ولنوجز هذا في عبارة أخرى: نقول أن الصورة الفنية لشيء ما يجب أن تكون عبارة عن(3/23)
(المثل الأفلاطوني) لذلك الشيء، وبقدر ما تقرب الصورة من ذلك المثل الخيالي تكون قيمتها الفنية. فطربنا لجمال الطبيعة أو الشعر أو التصوير إنما يصدر عن تأمل الأشياء في حقيقتها الواقعة دون أن يمتزج ذلك التأمل بوجهة النظر الشخصية. فسواء لدى الفنان أن يرى غروب الشمس من قصر منيف أو من كوة في سجن مظلم.
فالفن يمحو بؤس الحياة وعللها بأن يعرض علينا صوراً خالدة من وراء هذه الصور الفردية الزائلة.
6 - الدين
وإذا كانت الفلسفة وسيلة لاتقاء شرور الحياة بما تستطيعه من إخضاع الشهوة لحكم العقل، وإذا كان الفن عاملاً من عوامل السعادة لأنه لا يعبأ بالأشباح المادية التي تتحرك أمامنا وإنما يعنى بحقائق هذه الأشياء الخالدة، فالدين طريق ثالث يؤدي إلى سعادة النفس وطمأنينتها لأنه بدوره عبارة عن إخضاع الإرادة لحكمة العقل، فالصيام الذي تفرضه الأديان جميعاً يقصد منه تدريب النفس على قهر إرادتها أو شهوتها.
7 - حكمة الموت
وبعد، فما أعجب أن تكون الحياة كما هي شروراً وآلاماً، ومع ذلك تتخذ لها من أنفسنا عوناً على الانتشار والذيوع!! يصيح شوبنهور بأعلى صوته أن الحياة سوء وشر ويجب أن نقضي عليها قضاء مبرماً. ولكن كيف؟ الحل عنده بسيط وهو أن نهجر النساء هجراً جنسياً لأنهن أس البلاء بما يقدمن للرجال من فتنة وأغراء. وهو يتساءل: إلى متى تدفعنا الحياة أمامها دفع الخراف وهي لا تحوي إلا شقاء وعناء؟ متى نستجمع كل ما نملك من قوة وشجاعة لنصيح في وجهها أن الحياة أكذوبة وخدعة. أن نجاة الإنسان وخلاصه إنما هو الموت!
-(3/24)
لماذا ترجمت فرتر
(إلى الصديق الذي سألني هذا السؤال وهو طليق الحرية في بغداد فأجبته وهو سجين في كركوك)
تسألني لماذا ترجمت فرتر. . . والجواب عن هذا السؤال حديث، والحديث غداً سيكون قصة، وليس يعنيك اليوم منها إلا ما نجم عنها:
قال ((جوت) يوماً لصديقه (اكيرمان): (كل امرئ يأتي عليه حين من دهره يظن فيه أن (فرتر) إنما كتب له خاصة) وأنا في سنة 1919 كنت أجتاز هذا الحين!: شباب طرير حصره الحياء والانقباض والدرس ونمط التربية وطبيعة المجتمع في دائرة ليس فيها من الواقع غير وجوده،. . . وإحساس مشبوبيتوقد شعوراً بالجمال، وقلب رغيب يتحرق ظمأ إلى الحب، ونوازع طماحة ما تنفك تجيش، وعواطف سيالة ما تكاد تتماسك. . . . .! فالطبيعة في خيالي شعر، وحركات الدهر نغم، وقواعد الحياة فلسفة!. . وكان فهمي لكل شيء وحكمي على كل شخص يصدران عن منطقأفسد أقيسته الخيال، وزور نتائجه المثل الأعلى. ثم غمر هذه الحال التي وصفت هوى دخيل هادئ ولكنه مُلِحّ، فسبحت منه في فيض سماوي من النشوة واللذة، وأحسست أن وجودي الخالي قد امتلأ، وقلبي الصادي قد ارتوى، وحسي الفائر قد سكن، وتخيلت أن حياتي الحائرة قد أخذت تسير في طريق لاحِب تنتثر على مدارجه نواضر الورود، وترف على جوانبه نوافح الريحان، وتزهو على جوانبه ألوان عبقر، وترقص على حفافيه عرائس الحور!. . ورحت أسلك هذا الطريق السحري محمولاً على جناح الهوى كأنني (فوست) على جناحي (ميفستوفاليس) حتى ذكرني الزمان الغافل فأقام فيه عقبة أصطدم عندها الخيال بالواقع، والحبيب بالخاطب، والعاطفة بالمنفعة!! على أنني بقيت على رغم الصدمة حياً ولا بد للحي أن يسير!!
تطلعت وراء العقبة أنظر الطريق فإذا الأرض قفر والورد عوسج والريحان حمض، والعرائس وحوش. فشعرت حينئذ بالحاجة إلى الرفيق المؤنس!. . ولكن أين أنشد ما أبغي وحولي من الفراغ نطاق مخيف، وأمامي على أسنة الصخور أشلاء وجثث!!؟ هذه أشباح صرعى الهوى تتراءى لعينيَّ، وهذه أرواح قتلاه تتهافت عليّ، وهذه سجلات مصارعهم بين يدي، فلم لا أحدو بأناشيدهم رواحلي، وأقطع بمناجاتهم مراحلي، وألتمس في مواجعهم لهواي عزاء وسلوة؟؟(3/25)
قرأت هيلويز الجديدة، ورينيه، وأتالا، وأدولف، ودومينيك، وماريون دلورم، ومانون ليسكو، وذات الكميليا، وجرازيلا، ورفائيل، وجان دكريف، وتوثقت بأشخاصها صلاتي، وتصعدت في زفراتهم زفراتي، وتمثلت في نهايتهم المحزنة نهايتي. ولكنهم كانوا جميعاً غيري، نتفق في الموضوع ولكن نفترق في الوضع، كالنساء النوادب في مناحة، تندب كل واحدة منهن فقيدها وموضوع الأسى للجميع واحد هو الموت!!
فلما قرأت (آلام فرتر) سمعت نواحاً غير ذلك النواح، ورأيت روحاً غير هاتيك الأرواح، وأحسست حالاً غير تلك الحال!! كنت أقرأ ولا أرى في الحادثة سواي، وأشعر ولا أشعر إلا بهواي، وأندب ولا أندب إلا بلواي، فهل كنت أقرأ في خيالي أم أنظر في قلبي، أم هو الصدق في نقل الشعور والحذق في تصوير العاطفة يظهران قلوب الناس جميعاً على لون واحد؟؟
كنا يومئذ في مايو والطبيعة تعلن عن حبها بالألوان والألحان والعطر، ونفسي تحاول أن تعلن عن هواها بالدموع والشعر، فآلامي تجيش في عيني، وعواطفي تتنزَّى على لساني وبلابلي تتوثب في خاطري، وكلها تطلب السبيل إلى العلانية، (والشكوى في الحب كالطفح في الحمى كلاهما عرض ملازم) فلما قرأت (فرتر) تنفس جواي المكظوم، واستغنى عن البيان هواي المكتوم، لأنني لو كنت صببت مهجتي على قرطاس لما كانت غير (فرتر)، وهل فرتر إلا قصة الشباب في كل جيل؟ رجل شديد الحس قوي العاطفة يتقسم الخيال (والايديال) نواحي نفسه، ورجل آخر بارد الطبع عملي الفكر يعرف دائماً كيف يجر النار إلى قرصه، وامرأة بينهما يجذبها إلى الأول طبعها الغزلي وقلبها الشاعر ويربطها بالثاني عقلها المادي ووعدها المأخوذ. . . هذا هو موضوع آلام فرتر وهو عينه موضوع آلامي. . . فلم لا أنقله إذن إلى لغتي لينطق عن لساني كما ترجم صادقاً عن ضميري؟؟
فنيت في (جوت) وقادني إلهامه وروحه، وأهَبْتُ بلغة القرآن والوحي أن تتسع لهذه النفحات القدسية فأسعفتني ببيانها الذي يتجدد على الدهر ويزهو على طول القرون. ثم أصبح فرتر بعد ذلك لنفسي صلاة حب ونشيد عزاء ورُقْيَة هم!! كأنما كان (جوت) يناديها من وراء الغيب حين يقول في تقدمته لفرتر: (وأنت أيتها النفس. . . إذا أشجاك ما أشجاه من غصة الهم وحرقة الجوى فاستمدي الصبر والعزاء من آلامه وتلمسي البرء والشفاء في(3/26)
أسقامه، واتخذي هذا الكتاب صاحباً وصديقاً إذا أبى عليك دهرك أو خطؤك أن تجدي من الأصدقاء من هو أقرب اليك وأحنى عليك؟؟
أ. الزيات(3/27)
كسوف حلقي للشمس
يقع في يوم فبراير سنة 1933
للأستاذ عبد الحميد سماحة. مفتش مرصد حلوان
(إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد
ولا لحياته)
(حديث شريف)
حسبنا أن يكون في ذلك دليل مفحم للذين يتقولون القول وينسبون إلى الكواكب سعادة قوم وشقاء آخرين، وهي بريئة من هذا وذاك. ولكن أنى لنا أن نقنعهم وفريق يتخذها وسيلة للكسب، وفريق آخر يتخذها رجاء وسلوة.
لقد انقضى ذلك العهد الذي حسب الناس فيه أن بين الكواكب وبين الأفراد والشعوب في سعادتهم أو شقوتهم وانتصارهم أو هزيمتهم ارتباطاً. وتقدمت الدراسات الفلكية في القرنين الماضيين تقدماً عظيماً، وأصبح في استطاعة الفلكيين أن يقيسوا درجة حرارة النجوم كما يقيس الطبيب درجة حرارة المريض، واستبانوا أبعادها وأحجامها وأوزانها وتركيبها! ولم تعد الظواهر الفلكية منذرة بالحروب والبلاء، أو مبشرة بالسعادة والرخاء بل أصبحت تجربة علمية كبيرة تجربها الطبيعة فيستغلها العلماء إلى أقصى حد فيما لا يتيسر لهم تجربته على ظهر الأرض. فهناك مثلاً كثافة السديم نراها أدنى مليون مرة من كثافة أية مادة تصل إليها أيدينا بينما هي في بعض النجوم أعلى بمقدار مليون من كثافة أية مادة على الأرض! فليت شعري كيف يتسنى لنا أن نعرف طبيعة المادة من التجارب التي نجريها في المعمل ولا يزيد مدى كثافة المواد التي بين أيدينا على واحد في مليون المليون من المدى الكلي لكثافة المادة في الطبيعة؟؟
لقد أصبح من الصعب إيجاد الحد الفاصل بين أنواع العلوم الطبيعية؛ وتقدمت الاكتشافات العلمية وهي سلسلة الحلقات، فمن إلكترونات أقطارها كسور من ملايين الملايين من البوصة، إلى سدائم تقاس بمئات الآلاف من ملايين الملايين من الأميال! فكل زيادة في معلوماتنا الفلكية تزيد حتماً في معلوماتنا في الطبيعة والكيمياء والعكس بالعكس.(3/28)
لهذا كان اهتمام العلماء بالظواهر الفلكية عظيماً، فهم يستغلونها في أبحاثهم، ويقيسون عليها نظرياتهم، وكثيراً ما كانت الأرصاد الفلكية سبباً لاكتشافات عظيمة كان للبشرية منه نفع مادي جليل الشأن. مثال ذلك غاز الهليوم أكتشف أولاً في تحليل طيفي للشمس أثناء كسوفها في عام 1868. وهذا الغاز كما نعلم عظيم المنفعة لأنه الغاز الوحيد الصالح لملء المناطيد. ونحن إنما نذكر هذا الحادث العظيم على سبيل المثال للذين يزنون العلوم بمقدار ما يمكن أن تدر عليهم أو على البشرية من نفع مادي؛ ولكن الغاية الأولى من الدراسات الفلكية هي البحث وراء الحقائق العلمية وحدها ولذاتها، وهي غاية تدافع عن نفسها بنفسها.
لقد أصبح كل طالب يعرف أن الأرض ومثلها الكواكب السيارة الثمانية الأحرى إنما تدور حول الشمس في مدارات دائرية، وأن القمر يدور حول الأرض بمدار دائري أيضاً. وأنه إذا توسط القمر بيننا وبين الشمس حجب أشعتها عنا فتنكسف الشمس؛ ولكن يجب أن نضيف هنا أن مدار القمر حول الأرض يميل بمقدار خمس درجات على مدار الأرض حول الشمس، فالثلاثة لسن في مستوى واحد على الدوام، ولولا ذلك لحدث كسوف للشمس كلما كان القمر في المحاق حيث يتوسط وقتئذ بين الأرض والشمس.
لقد حسب الفلكيون أن كسوفاً حلقياً للشمس سيشاهد في القطر المصري في يوم الجمعة الموافق 24 فبراير سنة 1933 يبتدئ في الساعة الثالثة والدقيقة 43 مساء، وينتهي في الخامسة والدقيقة 29 مساء من نفس اليوم.
أجل ستنكسف الشمس في ذلك اليوم، وبين هذين الزمنين المحددين بالضبط لا محالة، ولكن لا سبيل في ذلك إلى التفاؤل ولا إلى التشاؤم، فليست الشمس والقمر والأجرام السماوية المختلفة الأخرى إلا آيات بينات لأولي الألباب.(3/29)
في الأدب العربي
العوامل المؤثرة في الأدب
(1)
ليس الأدب إلا التعبير القوي الصادق عن مشاعر المرء وخواطره
وأخيلته، وهذه تتأثر بأحوال العيش وأنواع العقائد وأطوار المجتمع
وأنظمة الملك وتقلبات السياسة، ومن المفيد الإلمام بهذه العوامل المؤثرة
في الأدب لتكون دستور المؤرخ وشريعة الأديب ونبراس الباحث فيما
يصدر عن الإنسان من كد الأذهان وفيض القرائح.
فمن هذه العوامل (طبيعة الإقليم ومناخ البلد) وأثرهما في حياة الناس وسلائل الأجناس معلوم في بدائه العقول. فأحوال الإقليم هي التي تنهج لساكنيه سنن معاشهم ونظام اجتماعهم. وتكون الكثير الغالب من أخلاقهم وطباعهم، ومناظره هي التي تربي ذوق أبنائه، وتغذي كتابه وشعراءه، فالشعر الجاهلي مثلاً صورة صادقة لطبيعة البادية وحياة البدو: فألفاظه خشنة كالجبل، ومعانيه وحشية كالأوابد، وأساليبه متشابهة كالصخر، وأخيلته مجدبة كالقفر، ولن تجد في غير الجزيرة العربية أمثال الشنفري وتأبط شراً والسليك بن السلكة من هؤلاء الشعراء الصعاليك الذين تغنوا بحياة البادية ومناظرها وأباعرها وغزلانها وكثبانها وأطلالها وجبالها بشعر متين الحبك صادق الوصف جاف اللفظ عنجهي الخيال. وقد أختلف الشعر في شبه الجزيرة نفسها باختلاف الأماكن: فهو في نجد غيره في الحجاز، وهو في أهل الوبر غيره في أهل المدر. ولهذا العامل وحده نعزو انقراض الأراجيز وهي أقدم الأطوار لشعر البادية حين إرتحل ناظموها من الصحارى المجدبة إلى سواد العراق وريفه. وفي حواشي العراق وظلاله، وخمائل نجد وجباله، أخضر عود الشعر واستقام وزن القصيد ومن ثم قال القدماء أن امرأ القيس ومهلهل بن ربيعة وعمرو بن قميئة هم أول من قال الشعر وأطال القصائد، وما كانوا في الواقع إلا زعماء النهضة الأدبية في هذه البلاد.
وظل عامل الطبيعة يفعل فعله في الأدب خلال القرون، فخالف بين الشعر في عواصم الشرق وبينه في الأندلس فقد وجد(3/30)
الشعراء العرب في أوربا ما لم يجدوه في آسيا من الأجواء المتغيرة والمناظر المختلفة والأمطار المتصلة والجبال المؤزرة بعميم النبت، والمروج المطرزة بألوان النور، فهذبوا الشعر وتأنقوا في ألفاظه ومعانيه، ونوعوا في أوزانه وقوافيه، ودبجوه تدبيج الزهر، وسلسلوه سلسلة النهر، وسلكوا به مسلك التنوع والتجديد. وهذا العامل هو الذي يخالف اليوم بين الأدب في مصر وبينه في الشام والعراق. فالطبيعة المصرية تكاد أن تكون نائمة: فالجو معتدل في جميع الفصول لا يكاد يختلف، وحقول الوادي الحبيب لا تعرى من الزهور والزروع، والسماء السافرة والصحراوان الوسيعتان لا تكاد مناظرهما تتغير. فإذا لم تكن طبيعة بلادنا نائمة فهي على الأقل مسالمة، لأنها لا تزعجنا بالزلازل العنيفة، ولا تهزنا بالعواصف الرعن، ولا تخزنا بالبرد القارس والحر اللافح، فطبعت أهلها على الوداعة والفكاهة والبشاشة والكسل والمحافظة على القديم من العادات والأخلاق والآداب فلا تتطور هذه الأمور في مصر إلا بمقدار. ولذلك تجد شعرنا منضد اللفظ جيد السبك بطيء التجدد هادئ الأسلوب لين العطف لا يأخذ الأمور إلا بالملاينة والرفق. بينما تجد الشعر في الشام شديد الحركة كثير التنوع سريع التجدد قلق الأساليب لتعدد المناظر واختلاف الصور وتقلب الطبيعة ونشاط الحياة. وهو في العراق قوي أبي ثائر ساخط متوثب منتشر على ألسنة الخاصة والعامة لالتهاب المخيلة وتوقد الشعور وصفاء الحس من إفراط الطبيعة في الحر والبرد وغلبة الحياة البدوية على كثرة السكان.
على أن هذا العامل قد أخذ يضعف منذ أواسط القرن الماضي لسهولة المواصلات وكثرة المخترعات وانتشار المدنية، فيستطيع الإنسان أن يعيش في آسيا وأفريقيا كما يعيش في أوربا، وسيزداد ضعفاً في المستقبل دون أن يمحي ويبيد.
ومنها (خصائص الجنس) فشعر العرب يختلف عن شعر اليونان في المذهب والخيال والغرض، وشعر ابنالرومي يختلف عن شعر ابن المعتز وقد نشأ في بلد واحد وعصر واحد، لأن الجنس الآري أميل إلى الاستقصاء والتفصيل والتحليل والتعمق، والجنس السامي لذكاء قلبه وحدة خاطره يفهم الشيء في لحظة، ثم يلخصه في لفظة، فهو أميل إلى التعميم والأجمال والبساطة. ومنها (دوام الحرب بين جنسين أو أمتين لفتح بلاد أو صد عاد أو تحرير وطن). فأن هذه الحروب تتمخض عادة عن أبطال ينمون في الخيال، ويعظمون(3/31)
في الصدور، ويكبرون في الزمن، حتى تنسب إليهم الخوارق، وتخلع عليهم المحامد، فتسير بذكرهم الرواة، وتتحدث بأفعالهم القصاص، وتنتقل شهرتهم من فم إلى فم ومن جيل إلى جيل، وهي في خلال ذلك تتسع وتفيض حتى تصبح سيرهم لدى الشعب حديثاً وطنياً يجب أن ينشر، وتراثاً قومياً يحرصعلى أن يزيد، فيقيض الله لهذه السير المتجمعة على طول الدهور شاعراً سمح القريحة فينظمها بأسلوب شائق ونمط جميل، كذلك دارت الإلياذة الإغريقية على حروب اليونان لأهل طروادة. ومهابهاراته الهندية على الحرب التي نشبت بين نيدهو وبني كرو، والشاهنامة الفارسية على تاريخ الأكاسرة ووصف الحرب التي اشتعلت بين أهل إيران وأهل طوران، وقد كانت تلك الحروب مفخرة الفرس الأولين ورمزاُ للخلاف الدائم بين ألهي الخير والشر (وكذلك دارت أغاني رولان الفرنسية على حروب الفرنج لعرب الأندلس. وهذا هو الشعر القصصي أو الملاحم الذي خلا منه الشعر العربي لأسباب لا يتصل ذكرها بموضوع اليوم) على أن عامل الحروب قد أثر في النثر العربي والشعر العامي وأن لم يؤثر في الشعر الفصيح. فأن نشوب الحروب الصليبية قد اقتضى تدوين بعض القصص الحماسية كقصة عنترة وسيرة بني هلال والأميرة ذات الهمة إثارة للنفوس وتحميساً للشعب وتفريجاً من الهم.
ومنها (طبيعة العمران وتوزع الثروة وما يتصل من ذلك من حال الاجتماع) فأن تقدم الحضارة ورخاء العيش ونماء الثروة تؤثر في الذوق، وتزيد في الصور؛ وتساعد على نشر العلوم، وتنوع في معاني الشعر وأساليب الكتابة. وشاهد ذلك أن مدن الحجاز حينما زخرت بالمال ونعمت بالفراغ منذ خلافة عثمان إلى أواخر القرن الأول للهجرة تدفق أهلها في اللهو وعكفوا على الغناء وألقوا أزمتهم في يد الصبابة وانقطع شعراؤها إلى الغزل فافتنوا فيه وتصرفوا في معانيه وأغفلوا سائر أنواع الشعر الأخرى كعمر بن أبي ربيعة وجميل بن معمر وكثير عزة. وشاهد آخر على تأثير الأحوال الاجتماعية في الفنون الأدبية هو شيوع البذاء والفحش في شعر بعض البغداديين على عهد الرشيد والمأمون.
فقد حدث شئ من ذلك في الجاهلية وفي العصر الأموي حين كان الفرزدق وجرير ومن لف لفهما يتجاوبون بالفحش ويتهاجون بالبذاء، إلا أن ذلك لم يكن مقصوداً لذاته، وإنما كان يقال هجاء للعدو وسباباً للخصم. أما الفحش في شعر أبي نؤاس ومطيع بن أياس وحسين(3/32)
الضحاك وابن سكرة الهاشمي وابن الحجاج فقد كان صادراً عن خلق وناقلا عن طبع ومعبراً عن حالة. فالشعراء يقولونه ويفعلونه، وأهل البيوتات وذوو الثمالة يسمعونه ولا ينكرونه، فيما ذا نعلل ذلك الفساد الذي نال الطباع العربية الحرة فجعلها تمتهن الكرأمة وتلقي شعار الحشمة؟؟ إذا عللناه بمفاسد الترف حين تطغى الحضارة ويثور البطر كان هذا التعليل وحده غير فاصل ولامقنع. فأن أكثر أمم التمدن الحديث اليوم قد غرقوا في اللهو وشرقوا بالنعيم وأمعنوا في الخلاعة، ثم لا تجد النوابغ من شعرائهم وكتابهم يجرءون على أن ينعوا أنفسهم بالفواحش أو يجهروا في كتبهم بالفضائح، وناهيك بما حدث لفكتور مرجريت حين نشر قصة لاجرسون.
إنما الأشبه بالحق أن هناك سبباً آخر يساعد هذا السبب وهو كثرة الرقيق، وتأثير الرقيق إنما حدث من جهتين: أولاهما قيام العبيد على تربية الأحداث في كرائم الأسر، وفي كثرة العبيد دناءة في الطباع ووقاحة في القول فأفسدوا النشء وعودوهم هجر القول وفحش الحديث، وأخراهما إقحام الجواري والسراري خدور العقائل فأعدينهن من أخلاقهن بالمجانة، فسقطت المرأة من عين الرجل فأخذها بالعنف وضرب عليها الحجاب وأقام عليها الخصية على عادة الفرس وأقصاها عن تربية الولد وتدبير البيت وأتخذها للمتاع واللذة، فكان من ذلك أن فشت في الخاصة أخلاق العبيد والأماء فتنادروا بالفحش وأكثروا الشعر في الأحماض والمجون. وإليك شاهداً آخر على تأثير الأحوال الاجتماعية والأمور المادية في فنون الآداب: ظهر أدب العامة أو الشعر باللغة العامية في بغداد والأندلس في عصر واحد، ففي بغداد ظهر المواليا على لسان صنائع البرامكة من العامة، وظهر نوع آخر ذكره ابن الأثير صاحب المثل السائر قال: (بلغني أن قوماً ببغداد من رعاع العامة يطوفون بالليل في شهر رمضان على الحارات وينادون بالسحور ويخرجون ذلك في كلام موزون على هيئة الشعر وان لم يكن من بحار الشعر المنقولة من العرب، وسمعت شيئاً منه فوجدت فيه معاني حسنة مليئة وأن لم تكن الألفاظ التي صيغت بها صحيحة) ولكن الشعراء والأدباء استخفوا به واحتقروه فلم يقلدوه ولم يدونوه ولم يأبهوا لأربابه. وحاول أحد الأطباء الأدباء وهو محمد بن دانيال الموصلي أن يبتكر نوعاً جديداً من الأدب أقتبسه من ألعاب خيال الظل فألف كتاباً سماه طيف خيال فحبط عمله.(3/33)
وأما في الأندلس فأبتدع عبادة بن ماء السماء القزار الموشح، وأبتكر أبو بكر بن قزمان الزجل، فطرب الناس لهما وأعجبوا بهما وأقبل أمراء القريض وزعماء الأدب على نظمهما وجمعهما فنبغ فيهما النوابغ واشتملت على روائعهما الكتب. فم السبب إذن في استهجان البغداديين لأدب العامة وعزوفهم عنه، واستحسان الأندلسيين له ونبوغهم فيه؟ السبب يعرفه المؤرخ الباحث في بغداد وهو أن بغداد كانت شديدة الأرستقراطية لأنها موطن الأشراف وذوي الأحساب والمثالة والثروة، فكانوا يترفعون عن الشعب ويستخفون بأدبه وذوقه وذكائه. ويجدون من الغضاضة أن يتحلوا بحليته ويجروا على أسلوبه؛ ولكن الأندلس كانت ديمقراطية غنية كأمريكا اليوم، فلم يعتز أحد فيها بالنسب لتساويهم فيه، ولا بالثروة لعموم الرخاء فيهم، وحسن توزيع الثروة بينهم، فكانت منازل الخاصة والعامة متصاقبة. وأذواقهم وآدابهم متقاربة. لذلك لم يتأبه الشعراء والأدباء عن تقليد الأدب العامي وتدوينه.(3/34)
من طرائف الشعر
تطور في الجماد
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
ما حياة قديمها غير باد ... لك إلاّ تطوُّر في الجماد
أنها تبتني لها في نظام ... كل ما يقضي حاجها من عتاد
وإذا ما الجماد رثَّت قُواه ... ذهبت كلها الحياةُ بداد
وهي ليست إذا نظرتَ اليها ... في جميع البقاع غير جهاد
ولقد يهلك الذي يتوقَّى ... ولقد لا يعيش أهلُ الحياد
ولدتها الأرض الكريمة بكراً ... وسقتها السماء دَرَّ العهاد
ليس منا الأجساد بالروح تحيا ... إنما يحيا الروح بالأجساد
إنما الأرض وهي ما نحن نسعى ... فوقه ما بين رائح أوغادِ
كوكب مظلم يطوف من الشم ... س حثيثاً بكوكبٍ وقاد
كفَراش يدور حول سراج ... واهج ما لزيته من نفاد
وعلى وجهيها نهارٌ وليل ... فهي لا تستغني عن الأضداد
كل ما في الوجود فهو لعمري ... من نواميس الكون في أصفاد
ولعل الزمان في دوره يجم ... ع بين الآزال والآباد
وكأن المجرَّ نهرٌ مديد ... وردته من النجوم صواد
وكأن الوجود فاض على الشط ... طين اذ عَبَّ سيله في الوادي
ويراه الحجا شموساً تُعاني الس ... بح في لانهاية الأبعاد
وأحاطت بما هنالك أسر ... ارٌ لعيني تجللت بسواد
من شداد الغموض فيها يحار ال ... عقل والعقل بعض تلك الشداد
جل كون قد حف باللا تناهي ... عن شبيه له وعن أنداد
أترى أن ماله قِدَمٌ في ال ... كون ذو حاجة إلى أيجاد
عالمٌ يختفي وآخر يبدو ... والذي يختفي عتادُ البادي
وفسادٌ يجيء من بعده كو ... ن وكون يجيء بعد فساد(3/35)
ليس موت الآباء إلا ضماناً ... لحياة الأبناء والأحفاد
أنا في جوهري قديم على الأ ... رض وإن كان حادثاً ميلادي
أنا جزء من عالم ماله من ... آخر ينتهي به أو نفاد
ليست الأرض غير قبرٍ مُوارٍ ... لرفات الآباء والأجداد
قل لمن طال في التراب كراهم ... هل لكم يقظة وراء الرقاد؟
غيَّر الدهر كلَّ عضو بجسمي ... غير قلب لي في الحبِّ هو هادِ
لم تكن مني الصبابة في شي ... خوختي غير جمرة في الرمَاد
ولقد حاقت بي المصائب تترى ... من أناس عاشرتهم في بلادي
ولمن في حياته خالط النا ... س كثيراً أحبَّة وأعاد
أيّ ذنب لي إن تباعدت الشق ... قة بين أعتقادهم وأعتقادي؟
كلما خالف الجماعة في الرأ ... ي جريء رموه بالألحاد!
ثلَّة منهم العيون تريني ... ما تكنّ الصدور من أحقاد.
عدَّني ان أردت في سعداء ال ... قوم أو عدَّني من الأنكاد
إنني في جميع ما أنا آتٍ ... مكره ليس في يديَّ قيادي
أنا هذا ولستُ أقوى على تغ ... يير ما في خلقي أو استعدادي!
أنا بالشعر وحده متسلٍ ... إنه كل طارفي وتلادي
وإذا وافته المنيّة قبلي ... فاحفروا حفرة له في فؤادي
وإذا مت قبله فهو يرثي ... ني لو ظل حافظا لودادي
أيها الناقد المهين لشعري ... أنت ما بالنزيه في النقَّاد
لا تحقر بنات فكري فتلكم ... كلُّ ما خلَّفت من أولاد
حان ذاك اليوم الذي ليس تورى ... فيه ناراً إذا قدحتُ زنادي
ما ألذ الحياةَ لو هي دامت ... غير أن المنون في المرصاد!
حبذا عهدٌ سالف لم أكن في ... هـ لغير الجمال بالمنقاد!(3/36)
مزايا الحجاب
للدكتور محمد عوض محمد
رُويداً! أنَحْزَن أم نطربُ؟
فَذِي قصة شأنها اعجبُ:
فتاة من الزِّنج تهوى الرجالَ
وعنها رجال الورى ترغبُ
قضت زهرة العمر تبغي الحليلَ
فما جاءها خاطبٌ يخطب
وقد صدَّ عنها وُوُلى الفرارَ
شبابُ بني الزنج والأشيبُ
ونَفَّر منها بني جنسها
مُحَيَّا لها كالح مُرْعب
وصوت وليس كصوت الكنار،
ولكنه البوم إذ تنعب
وأنفٌ مناخره كالجِفانِ
ذباب الملا حوله تلعب
ومن مِشْفَرٍ فوقه مِشْفَر
كعقربةٍ فوقها عقرب.
وإذ يئست من بني قومها
وعَزَّ لها فيهم المطلبُ
أتت أرض مصر ملاذ الغريب
وحيث لكل امرئ مهربُ
وألقت عصاها وقالت: (هنا
سأسعى لإدراك ما أرغبُ)
وقد أُعجبت بنظام الحجاب(3/37)
وما فيه من حِكَمٍ تُعْجِبُ
فقالت: (حمدتك ربَ الورى،
لأن الوجوه هنا تحجبُ
ويَسدُلُ كل النساء النقابَ
إذا ما رقيب أتى يرقبُ
فلا يعلم الناس ما تحته
أظبيٌ من الغيد أم ثعلب
وهل وجهها مشرق في النقا
ب أم غيهب فوقه غيهبُ؟
وهل ساقها فوقها جوْرب
أم الجلد من طبعه جورب؟
وما لا تراه عيون الأنام
فأنفسهم نحوه تجذب.
وقد صدقتْ؛ فرآها فتىً،
واقبل من خلفها يدأب
رآها فأعجبه قدّها
وقد يسحر القدّ أو يخلب!
فقال لها: (يا حياتي: ارحمي
فتى صادق الحب، لا يكذب.)
فكان السلام وكان الكلام،
وكان القران وما يعقب
وراجت بضاعتها وانثنت
ومُجْدِبُها مُمْرِعٌ مخصبُ. . .
وكم سلعة كسدت سوقها
وفي أرض مصر لها طُلَّبُ!!(3/38)
لقاء!!
للشاعر الشاب علي محمود طه المهندس
طال انتظارك في الظلام ولم تزل ... عينايَ ترقب كل طيفٍ عابر
ويطير سمعي صوب كل مُرِنَّةٍ ... في الأفق تخفق عن جناحي طائر
وترفُّ روحي فوق أنفاس الربا ... فلعلها نَفَسُ الحبيب الزائر!
ويخفُّ سمعي إثر كل شعاعةٍ ... في الليل تومض عن شهاب غائر
فلعلَّ من لمحات ثغرك بارق ... ولعلها وضح الجبين الناضر!
ليلٌ من الأوهام طال سهاده ... بين الجوى المضني وهجسِ الخاطر
حتى إذا هتفت بمقدمكَ المنى ... وأصختُ أسترعي انتباهةَ حائر
وسرى النسيم من الخمائل والربا ... نشوانَ يعبق من شذاك العاطر
وترنم الوادي بسلسل مائه ... وتلت حمائمُه نشيد الصافر
وأطلَّت الأزهار من ورقاتها ... حيْرى. . . تعجَّبُ للربيع الباكر
وجرى شعاع البدر حولك راقصاً ... طرباً على المرج النضير الزاهر
وتجلَّت الدنيا كأبهج ما رأت ... عينٌ وصورها خيال الشاعر
ومضتْ تكذبني الظنون فأنثني ... متسمعاً دقات قلبي الثائر
وإذا بنا في الروض تملأ خاطري ... سحراً وأملاً من جمالك ناظري!
متعانقين على الزهور ونحن في ... شكٍ من الرؤيا وحلمٍ ساحر
غبنا عن الدنيا وغابت خلفها ... صور لماضٍ لا يغيبُ وحاضر
حتى إذا حان الرحيل هتفت بي ... فوقفت واستبقت خطاك نواظري
وصرختُ بالليل المودع باكياً ... والدمع يشفع لي وأنت مغادري
يا ليتنا لم نصحوا منه وليتنا ... ما أعجلته رحى الزمان الدائر!
ولقد أتت بعد الليالي وانقضت ... وكأننا في الدهر لم نتزاور
بدلت من عطف لديك ورقة ... بحنين مهجور وقسوة هاجر
وكأنني ما كنتُ إلفك في الصبا ... يوماً ولم تك في الحياة مناصري
ونسيتَ أنتَ، وما نسيتُ وأنني ... لأعيش بالذكرى، لعلك ذاكري!(3/40)
في الأدب الشرقي
الأدب الفارسي والأدب العربي
للدكتور عبد الوهاب عزام. أستاذ بكلية الآداب
(2)
ولا ننسى بعد أن اللغة الفارسية بقيت لغة الدواوين المالية في إيران حتى زمان عبد الملك بن مروان.
ولا ريب أن اللغة الفارسية بقيت لغة التخاطب في إيران بين العامة على الأقل، ولا سيما في القرى والنواحي البعيدة، فأنا قد وجدناها منذ القرن الرابع ترتقي إلى أن تكون لغة الآداب؛ واللغة لا تموت جملة واحدة ولا تخلق جملة واحدة. على أن كثيراً من الدلائل يثبت إنها كانت لغة الكلام في هذه الفترة أي قبل عصرها الأدبي الحديث، وقد انتقلت منها كلمات كثيرة إلى البلاد العربية مع النازحبن من الفرس وتأثرت بها لهجات بعض العرب.
فرسل عبد الملك بن مروان إلى المختار بن أبي عبيدحينما جاءوا معسكر ابن الأشتر , ,، لم يسمعوا كلمة عربية، وعبد الله بن زياد وهو أمير عربي كانت فيه لكنة فارسية (أخذها من زوج أمه) (والفرس الذين عرفوا العربية لم يخلصوا من لغتهم ولهجتها) وقد روى الجاحظأن الحجاج قال لنخاس فارسي: أتبيع الدواب المعيبة من جند السلطان؟ فقال: (شريكاتنا في هوازها وشريكاتنا في مدائنها وكما تجيء تكون) قال الحجاج ويحك ما تقول؟ فقال بعض من كان اعتاد سماع الخطأ وكلام العلوج بالعربية حتى صار يفهم مثل ذلك: يقول شركاؤنا بالأهواز والمدائن يبعثون إلينا بهذه الدواب فنحن نبيعها على وجوهها. وأبو مسلم الخراساني على فصاحتهالتي جعلت رؤبةابن الحجاج يقول: ما رأيت أعجمياً أفصح منه (كان لا يستطيع النطق بالقاف) وقد رؤى المؤرخون أن إبراهيم الإمامحينما أوصى أبا مسلم قال له: وان استطعت ألا تبقي في خراسان لساناً عربياً فافعل. مما يدلنا على أن لغة الجمهور كانت فارسية. ونجد الشاعر العماني يتملح بذكر الألفاظ الفارسية في مدائح الرشيد
ويحدثنا الجاحظ أن لغة أهل البصرة بل لغة أهل المدينة كان بها كثير من الكلمات الفارسية في أيامه، يدلنا على بقاء الفارسية وتأثيرها البعيد، ويحدثنا أيضاً أنه سأل خادماً له إلى من(3/42)
أرسل هذا الغلام؟ فقال إلى أصحاب السند نعال: يعني النعال السندية.
وأمثال هذا في كتب الأدب كثيرة. ولأمر ما ثار النزاع منذ أيام أبي حنيفة على قراءة القرآن بالفارسية. ثم بابك الخرميكما يؤخذ من الفهرست كان لسانه متعقداً بالأعجمية، و (به آفريد) الفارسي المتنبي على عهد أبي مسلم لما أراد أن يضع لأتباعه كتاباً وضعه بالفارسية. وأنتم تعلمون ما دخل العربية من الفارسية لا سيما في أسماء الطعوم والأثاث. هذه جملة تثبت أن اللغة الفارسية لم تمت في هذه الفترةإن كان هذا في حاجة إلى الإثبات.
وأما الفرس أنفسهم فقد خلطهم الفتح والإسلام بالعرب، أي خلط، فالقبائل العربية انتشرت في الأرجاء الفارسية، والفرس انتقلوا إلى البلاد العربية أسارى أو مهاجرين طلباً للرزق أو العلم أو المناصب. فالمدينة على نأيها كان بها فرس، وهم قتلوا هنالك عمر وسعيد بن عثمان بن عفان.
وسرعان ما تعلم الغرس العربية وشاركوا في العلوم الإسلامية. ولكن كان للفرس قبل قيام الدولة العباسية حال تختلف عن حالهم بعدها كل الاختلاف.
كانت دولة الأمويين عربية وقليل من غير العرب من سموا فيها إلى الدرجات العليا، وكان العرب، لأنهم أصحاب الدين والدولة ولأنهم الذين أقاموا الملكونشروا الدين، يرون أنفسهم أجدر بالرياسة وأولى بالشرف على ما كان فيهم من الاعتداد بأنفسهم والفخر بأنسابهم منذ أيام الجاهلية. فسخط الفرس من أجل ذلك عليهم، ولكن الفرس لم يكونوا قد أفاقوا من دهشة الفتح الإسلامي ولم يكونوا قد تمكنوا في الإسلام واللغة وامتزجوا بالعربامتزاجاً يمكنهم من منافسة العرب، وما كان العرب قد ضعفوا وتغيروا وتفرقوا في الأقطار. بقي الفرس ساخطين فاستعان بهم الثائرون على الأمويين، فكانوا عوناً للمختار بن أبي عبيد ولعبد الرحمن بن الأشعث، فكان جيش المختار من الموالي إلا قليلاً وقد عتب العرب عليه إذ استعان بالعتقاء من الموالي ثم أعطاهم حظهم في الغنائم. ولما قال رسل عبد الملك لأبن الأشتر: أجأت تقاتل جيوش الشام بهؤلاء؟ أجاب ما هؤلاء إلا أبناء أساورة الفرس.
وإذا نظرنا إلى أن جيش المختار كان أول من ثأر للحسين بن علي وقتل من قتله عرفنا أحد الأسباب التي جمعت بين التشيع والفرس منذ أمد بعيد، فقد كان للعلويين والفرس سواء في كراهة الأمويين فتحابوا. جاءت الدعوة العباسية وقد تهيأت الأسباب ليأخذ الفرس(3/43)
مكانهم في الأمة الإسلامية فكانوا أخلص دعاة هذه الدولة وإليهم يرجع الفضل في إقامتها، وقد رأى نصر بن سيار في هذه الدعوة خطراً على العرب والإسلام فقال فيما قال:
تعزي عن رحالك ثم قولي ... على الإسلام والعرب السلام
كانت الدعوة العباسية خليطاً من الدين والعصبية الفارسية فأبو مسلم كان فارسياُ ومسلماً غيوراً مخلصاً، وقد أسلم من أجله كثير من دهاقين الفرس وهو الذي قتل المتنبي الفارسي سر (به آفريد) حين إنتهز فرصة الدعوة فقام يحيي الزردشتية؛ وكان أبو مسلم قد دعاه من قبل فأسلم وسود. هذا المزج يتمثل حتى في تسمية أهل خراسان الرماح التي خرجوا بها لنصرة العباسيين: كافركوب (أي مضارب الكفار) فهو أسم مركب من كلمة عربية متصلة بالدين ومن كلمة فارسية. وما يتفكه به هنا قول بعض الشعراء:
وولهني وقع الأسنة والقنا ... وكافر كوبات لها عجر قفد
بأيدي رجال ما كلامي كلامهم ... يسمونني مرداً وما أنا والمرد؟
ومهما يكن فلا أخال البيروني قد أخطأ حين سمى الدولة العباسية (دولة خراسانية شرقية).
كان للدعوة العباسية وما عقبها من قيام الدولة نتائج كثيرة، وإنما يعنينا منها ما يتعلق بالفرس، فقد انتعشت الآمال في نفوسهم ومكنت لهم في الدولة وخلطتهم بالعرب خلطاً تاماً وكان من مظاهر هذا الانتصار في بلاد الفرس ظهور دعوات جديدة وثورات: (به آفريد) أنتهز الفرصة لوضع دين قريب من الزردشتية. فأعجلهأبومسلم وقتله. وقد أعجب الفرس بأبي مسلم أيما اعجاب، فلما مات أنكر المسلمية موته وقالوا أنه اختفى وسيجئ مهدياً من بعد، ومنهم من قال انه نبي بعثه زردشت وإنه لم يمت كما لم يمت زردشت. وقد دعا إلى هذا داعية في بلاد الترك يعرف باسم إسحاق التركي ولكنه فارسي. وقام صديق من أصدقاء أبي مسلم أسمه سنباد يقول: أن أبا مسلم اختفى في صورة حمامة بيضاء، ثم يعلن أنه سيذهب لهدم الكعبة انتقاماً لصديقه، وقد جمع حوله زهاء مائة ألف ولكن ثورته لم تلبث طويلاً. وتلت ذلك ثورات يوسف البرم والمقنع الخراساني وعلي مزدك، وبابك الخرمي، وأكثرها مصحوب بذكرى أبي مسلم. ثم جاء القرامطة وفعلوا ما فعلوا وكان منهم ابن أبي زكرياالذي شرع لهم أن من أطفأ النار بيده قطعت يده، ومن أطفأها بفمه قطع لسانه وهذا من أثر الزردشتية. كل هذه مظاهر تحتاج إلى شرح واستقصاء ولها دلالتها(3/44)
على بقايا العصبية الدينية والجنسية في نفوس الفرس. هذا في بلاد الفرس، وأما أثره في سياسة الدولة وفي حاضرة الإسلام بغداد فقد كان للفرس الرجحان على العرب عند الخلفاء منذ قيام الدولة، وقد بلغ الأمر غايته حين تنازع الأمين والمأمون فكان المأمون في مرو من أقصى خراسان أشبه بخليفة فارسي وقد أعانه الفرس على حرب أخيه الذي كان يعتز بالعرب. وروي أن أول شعر فارسي نظم في مدح المأمون كان إذ ذاك. فلما غلب المأمون تمت الغلبة للفرس، ثم استمروا مسيطرين على الخلفاء حتى أديل منهم لأتراك المعتصم؛ حتى إذا قامت الدولة الفارسية ملك بنو بويه بغداد إلى أن كان طور السلطان التركي فأديل منهم للسلاجقة.
ساس الفرس الدولة على قواعد الساسانيين، وقلد الخلفاء وغيرهم الفرس في ملابسهم ومساكنهم وطعامهم وشرابهم؛ أم ر الخليفة المنصور أن تلبس القلنسوة الفارسية، وأتخذ هو ومن بعده الحلل المذهبة على الأساليب الفارسية، وقد أبقى الزمن من نقود الخليفة المتوكل ما يظهر هذا الخليفة في مظهر فارسي كامل. ومن الكلمات الجامعة في هذا ما قاله المتوكل حين أراد إصلاح السنة المالية ورد النيروز إلى مكانه من العام فأحضر الموبذ ليستعين به، فقال الخليفة. قد كثر الخوض في ذلك ولست أتعدى رسوم الفرس. وسأله رأيه في الإصلاح.(3/45)
الخلاص.
للشاعر الهندي رابندرانات طاغور
من كتاب ظهر حديثاً بعنوان (الزورق الذهبي).
ترجمة الأستاذ عبد المسيح وزير
(الأستاذ عبد المسيح وزير أحد كتاب العراق القليلين الذين يتتبعون تطور الثقافة الحديثة بشغف ولذة. وهو المترجم الفني لوزارة الدفاع العراقية، وصاحب الأثر الحميد في مصطلحاتها العسكرية ومغذي أكثر الصحف بالأبحاث العلمية والأدبية.)
تجلس العاشقة المنكوبة في حبيبها إلى حديقة أزهار تفتحت عن رائع زهوها. فتجبل لمعشوقها الراحل تمثالاً من طين يبرز رويداً رويداً في شبه الصورة المحفوظة في ذاكرتها.
تتفرس في التمثال ثم تحدق إلى الماضي فيجول الدمع في عينيها.
وفي كل يوم ينزل ظل متكاثف يكتنف الصورة المنقوشة في لوح قلبها. فالرسم الذي كانت تراه بالأمس بارزاً جلياً تلفيه اليوم متضائلاً مموهاً. وكما تطبق الزنبقة وريقاتها ليلاً تسدل العاشقة الستار على ذكرى غرامها.
تثور سورة غضبها على نفسها. ويأخذ الخجل مأخذه كله منها. فتعمد إلى التقشف. فتعيش على الثمار والماء، وتنام على أديم الأرض.
وكلما دنا التمثال من الكمال بعد عن شبه الصورة المكنونة في ذاكرتها. ويخيل إلى العاشقة أن ذلك التمثال لا يشبه صورة إنسان على الأرض، ولكنها تخدع نفسها فتحسبه شبه الحبيب الذي فقدته إلى الأبد.
تعبد التمثال مع عبادتها الزنابق. وتوقد حوله سرجاً مصوغة من ذهب. فيعبق المكان بالرائحة المنبعثة من زيت السرج. وتتراكم الأزهار والشموع يوماً فيوماً حول التمثال إلى أن يختفي. يتقدم إليها طفل ويقول: (نريد أن نلعب هاهنا).
- (أين؟)
- (بجانب دميتك)(3/46)
فتجيبه قائلة: (لن أسمح لقدم بالدنو من هذا المكان)
ويقول طفل آخر: (نريد أن نقطف بعض أزهارك)
- (أي أزهار تريدون قطفها؟)
- تلك الزنابق القريبة من الدمية الكبيرة
فتقول له: (لن أسمح ليد بمس تلك الأزهار)
ويطلب إليها طفل آخر قائلاً: (أخرجي ذلك السراج وأنيري سبيلنا). فترفض طلب الولد بقولها: (لن ينقل ذلك السراج من مكانه)
يتوافد الأطفال عليها أفواجاً أفواجاً. فتنصت إلى هذرمتهم، وتشهد تواثبهم في مرحهم وجذلهم. فتستغرق في التأمل هنيهة.
ثم تنتبه من غفلتها مذعورة فتتورد وجنتاها خجلاً.
بعد ذلك يفتتح معرضاً في المدينة المجاورة فيزورها شيخ طاعن في السن ويسألها قائلاً: (ألا ترافقيني ايتها الحبيبة إلى المعرض؟)
(أني لا أستطيع ذلك)
وتهرع إليها فتاة تناديها قائلة: (هلمي بنا إلى المعرض!)
(لا أتمكن من مرافقتك، لأنني لا أستطيع الاستغناء عن لحظة أقضيها في سبيل ذلك)
ويمسك طفل بهدب ثوبها متوسلاً إليها بقوله: (خذيني معك إلى ذاك المعرض العظيم).
ولكنها لا تستطيع الانقطاع عن تأمل منية قلبها طرفة عين.
وفي جنون الليل تسمع صوتاً كهدير الرعد. لأن مئات الزوار وألوفهم يجوزون القرية في طريقهم إلى المعرض.
وعندما تفيق من نومها يسكت وقع أقدام الزوار تغريد الطيور. فتشعر برغبة في الذهاب إلى المعرض، ولكنها تتذكر آنذاك أنها لا تستطيع ذلك، إذ ليس في وسعها أن تهمل عبادة إلهها (صنم عشيقها الراحل) يوماً واحداً.
وفي الصباح تبكر مسرعة إلى الحديقة.
فأين الصنم، يا ترى؟
يمر الزوار زرافات بالقرية وقد عفا أثر الحديقة واختفى الصنم، أما سيل الرجال الجارف(3/47)
فلا يقف لحظة عن جريانه، تناجي نفسها في لهف قائلة: (أين حبيبي؟).
فيهمس في أذنها هامس قائلاً: (هو بين عابري السبيل هناك!).
وفي اللحظة ذاتها يتقدم اليها طفل ويقول لها: (خذيني معك)
(إلى أين؟)
(ألست ذاهبة إلى المعرض)
(بلى. أني لذاهبة)
فتجوز حديقة الأزهار وتنضم إلى قافلة الزوار، لانها وجدت فقيدها المنشود بين الأحياء.(3/48)
في الأدب الغربي
القرية المهجورة
للشاعر أوليفر جولد سمث
(أوبرن) يا جنة في سفح وادينا ... يا نفحة السحر من فردوس ماضينا
حيث السعادة للحصاد: عافية ... تشد منه، وخيرات أفانينا
وحيث تبدو بواكير الربيع بها ... غيسا قبل أن تغشى البساتينا
وحيث يخلف فيك الصيف بهجته ... زهراً يرف، وأطياراً تغنينا
معاهد كنت أغشى في عرائشها ... ثرى بُلَهنيَة قد طاب أردانا
مقاعد من شباب كله مرح ... سقيت فيها الهوى والسحر خلصانا
جررت ذيل شبابي في خمائلها ... تيها، ومليت فيها اللهو ألونا
حيث السعادة فيها وادعة ... تعز من كل شيء فوقها هانا
لكم وقفت لأستملي مناظرها ... وأملأ العين سحراً جد مختلس
أشاهد الكوخ في أظلال أيكته ... والجدول العذب يجري غير محتبس
وألمح البيعة الزهراء مشرفة ... من سفح رابية في دجنة الغلس
أصغي الو الليل والطاحون ... صاخبة والطير تشدو بصوت ناعم الجرس
هناك في دغل هذا الدوح كم أنست ... فيه الطفولة مغنى من مغانينا
كانت مطاف الهوى في طيب عزلتها ... حينا. . وكانت مطافاً للأسى حينا
كم حمل النسم من أطرافها عبقا ... تساجل الشيب أو همس المحبينا
وكم حمدنا ليوم اللهو مقدمه ... فيها لنحيي بها أصفى ليالينا
يوم ترفه عنها النفس ما لقيت ... من المتاعب في رفق وإبطاء
ويجمع الحاصدون الغر شملهم ... في ظل فينانة الأغصان فرعاء
تحويهم حلقات من شبابهم ... فيرقصون على المزمار والناء
يناجزون من الألعاب أروعها ... والشيب يلحظهم إغراء
وإن يمل من الألعاب صحبتهم ... أستأنفوا طارفاً في اللهو وأنغمروا
كل ينافس في الصبر وفي جلد ... رفيقه - ليقال الغالب الظفر(3/49)
وكي تداول الآفاق سيرته ... وينشر الحي ما أبدى فيشتهر
قد استخف بما يلقاه من تعب ... والترب يعلو جبينا منه والعفر
بيننا ترى سامرا في القوم مغتبطا ... يروي النكات لهم والكل مبتهج
يتلوا عليهم طريفاً من نوادره ... حلواً يكاد مع الأرواح يمتزج
ورب ساجية الأجفان فاتنة ... ظلت ترانيه منها أعين دعج
وتفهم الأم ما ترمي فتحدجها ... حدج الملأمة في صمت فتنزعج
آها لعهدك (يا أوبرن) أذكره ... وكيف تنفع ذكرى تنبعث الأسفا
هذي المفاتن كانت في ترادفها ... توحي إلى قلب أهليك الهوى الشغفا
على خمائلها فاضت مراتعها ... سحراً - ورفت على أدغالها طرفا
مفاتن أذوت الأيام بهجتها ... وصيرتها الليالي للبلى هدفا
(أوبرن) أين تولت من مغانيك ... هذه الملاهي وفرت من روابيك؟
لقد تمشت يد العاتي عليك فلم ... ترحم قلوب الحزانى من أهاليك
وقد علاك شحوب من تعسُّفها ... ووحشة قد تمشت في مراعيك
بأي حكم زمان صار يحكمها ... فرد - وكانت تراثاً في أواليك
كانوا جميعا (فأمسى جمعهم بدداً ... والربع أقوى) وكان الربع مأنوساً
والسهل لم يبق فيهبعد نضرته ... إلا بقية زرع كان مغروسا
والجدول العذب لم نبصر تألقه ... كما عهدنا - وفيه اليومُ معكوساً
لكن سرى وهو بالأعشاب مختنق ... يشق مجراهبين الغاب محبوسا
وفي مفارجك الخضراء حل بها ... ضيف غريب من الأدغال قد هتفا
هذا هو (الرخم) يبني وكره ويرى ... مستمكنا في ذرى الأغصان مشترفا
وفي طلولك تدوي البوم ناعبة ... تنعى بصوت كئيب ماضيا سلفا
آها لعهدك يا أوبرن أذكره ... وكيف تنفع ذكرى تبعث الأسفا
هذي خمائلك الخضراء ذاوية ... حلت مباهجها. دالت دواليها
تواثبت فوقها الأعشاب هائشة ... والمحل أصبح ضيفا راعيا فيها
واليوم أهلك في خوف وفي وجل ... من بطش منفرد الأحكام طاغيها(3/50)
قد بدلوا عيش أرض غير أرضهم ... وبدلوا ود أهل غير أهليها
م. ع. الهمشري(3/51)
نفسية قطة
للكاتب الفرنسي تيوفيل جوتييه
نقلها عن الإنجليزي الأستاذ أحمد أمين
قطتي بيضاء الصدر، قرنفلية الأنف. زرقاء العين، تعيش معي على خير ما يكون الصديق لصديقه. إن نمت نامت تحت قدمي. وأن جلست على كرسي أكتب جلست هي علي متكئة تحلم، وإذا مشيت في الحديقة تتبعني وإذا أكلت زاحمتني، فحالت (أحياناً) بيني وبين لقمتي. أستودعني ذات يوم صديق لي ببغاء أخضر ريثما يعود من سفره. فأستوحش من منزلي، وشعر أنه غريب، فتسلق القفص حتى أعلاه، ثم جثم ساكتاً مرتعداً.
وكانت قطتي لم تر ببغاء قط، فكان مخلوقاً جديداً أمام عينيها، أدهشها منظره فكانت أشبه بقطة محنطة من آثار الفراعنة، وأستغرقت في التأمل كأنها تستعيد في ذاكرتها كل ما درسته من التاريخ الطبيعي على سطح الدار وفي حديقة المنزل؛ وكان ما يدور بفكرها يتجلى في نظراتها حتى لأستطيع أن أتبين من عينيها خلاصة أفكارها كما لو كانت تعبر بقول بليغ ومنطق فصيح. كانت كأنها تقول: (ليس هذا المخلوق دجاجة خضراء) ولما بلغت من درسها هذه النتيجة تركت المائدة حيث كانت ترصد الببغاء وربضت في ركن من أركان الحجرة مبسوطة الذراعين مطرقة الرأس ممطوطة الظهر، كأنها نمر يتربص غزالا ورد الغدير.
كان الببغاء يتتبع حركاتها في اضطراب، وقد نفش ريشه ورفع ساقه المرتعشةوسن منقاره على إنائه الذي يأكل فيه، وهدته غريزته إلى أن هناك عدواً يدبر الكيد له.
ثم أخذت القطة تسدد إلى الببغاء نظرات حادة وهو ينظر إليها فاهما حق الفهم ما يجول بخاطرها. فكأنها كانت تقول (لا بد أن تكون هذه الدجاجة لذيذة الطعم على الرغم من أنها خضراء).
وكنت أرقب هذا المنظر باهتمام موطناً نفسي أن أتدخل عند الحاجة.
ثم دنت القطة من الببغاء وأنفها القرنفلي يرتعد، وعيناها تضيقان، وأظافرها تنقبض وتنبسط، وعمودها الفقري يرتفع وينخفض، وأخذت تمني نفسها قرب الحصول على طعم لذيذ، كما يمني الشره نفسه إذا دعي إلى مائدة صفت عليها ألوان الطعام الشهي.(3/52)
ثم انحنى ظهرها فجأة كما تحنى القوس في يد الرامي، ووثبت وثبة فإذا هي بجانب القفص. فأيقن الببغاء بما هو فيه من خطر وقال بصوت خافت رزين: (هل أفطرت يا جيمس؟) وهي كلمة تعوّد الببغاء أن يقولها كما علمه سيده. فأخذ القطة من الرعب مالا يوصف؛ فلو أن طبولاً دقت وصحافا كسرت، وطلقات نارية دوت، ما روعت القطة كما روعت من هذه الكلمة! إرتدت إذ ذاك إلى الوراء وعلى وجهها أنها غيرت كل آرائها في هذا الطائر، وكان يخيل إلى من ينظر إليها أنها تقول: (ما هذا طائراً. إن هذا إلا إنسان صغير).
هب الببغاء يغني بصوت عال، لأنه تحقق أن كلامه خير وسيلة يدفع بها عن نفسه.
نظرت القطة ألي نظرة أستفهام فلم يقنعها جوابي. فخبأت نفسها في فراشي ولم تتحرك طيلة يومها.
وفي اليوم التالي عاودتها شجاعتها فعاودت الكرة على الببغاء ولكنها لاقت في يومها ما لاقت في أمسها، فاعترفت بهزيمتهاوقررت أن تعامل هذا الطائر باحترام كما تعامل الإنسان.(3/53)
بيت الراعي
للشاعر الفرنسي دفني
(3)
1. أيفا. من أنت؟ وهل لك من علم بطبيعتك؟ أتعلمين. لم خلقت وما هو واجبك في الحياة؟ أتعلمين أن الله لكي يعاقب الرجل (مخلوقه) على خطيئته الأولى إذ امتدت يده إلى شجرة المعرفة شاء أن يكون حبه لنفسه في كل زمان وفي كل أدوار حياته غرضه الأول. مهموم بحب نفسه مهموم بأن يرى نفسه.
2) ولكن إذا كانت إرادة الله شاءت أن تسكني إلى جانبه أيتها المرأة. أيتها الرفيقة الرقيقة. أيفا. أتعلمين السر في ذلك؟ إنما هو لكي يرى نفسه في مرآة نفس أخرى. إنما هو لكي يسمع تلك الأغنية التي لا يمكن أن تصدر إلا عنك. ذلك الفيض الإلهي الذي يتردد في هذا الصوت العذب. إنما هو لكي تقضي في أمره وأن كنت له أمة. لكي تحكمي في حياته وإن أخضعك لقوانبنه.
3. في أقوالك المرحة جبروت المستبد. في عينيك سطوة القوة، وفي مرآك أمارة السلطان، حتى لقد شبه ملوك الشرق في أغانيهم نظراتك في هول وقعها بنزول الموت. كل يحاول جهده أن يثني من أحكامك المتسرعة. على أن قلبك الذي يكذب جسارة مظاهرك سريع ما يخضع لضربات القدر من غير مقاومة ولا دفاع
4. لعقلك وثبات كوثبات الغزال، إلا أنه لا يستطيع السير من غير مرشد ولا معين. الأرض تدمي قدميه، والهواء يضني جناحيه، وعينه يعشو بصرها عن ضوء النهار إذا سطع لألاؤه. وإذا اتفق أن سمت به الفكرة في دفعة من دفعات حماستها إلى مستقر علوي اضطربت بها الرياح وعجزت عن أن تمسك نفسها من غير خوف ولا ضجر.
5. ومع ذلك فليس فيك مافينا من خصائص الجبن إذ تتردد صيحات المظلوم في قلبك، ويدق بها نبضه كالأرغن في سكون الكنيسة المطبق، يتأوه متألماً كأنه يرجع صوت ألم تلقاه. للهيب ألفاظك تتحرك الجماهير وبدموعك تمحي آثار كل إهانةونكران للجميل. بيمينك تهزين الرجل فينهض وسلاحه بيده.
6. إليك يجمل أن تنتهي كبريات الشكوى التي تأن منها البشرية الحزينة. عندما يتضخم(3/54)
القلب بالموجدة نرى هواء المدن يكاد يخنقهكلما دق، ومع ذلك تسمو تنهداته إلى ما فوق الدخان الأسود لتنعقد كلمة واحدة نسمعها بوضوح.
7. تعالي إذن. ما السماء عندي إلا إطار تخيط بك زرقته. ويغمرك ضوؤه ويحميك جداره، ما الجبل إلا معبدك والغابة قبابه. العصفور فوق الزهرة لا ترنحه الرياح والزهرة لا ينبعث أريجها والطائر لا يجري أنينه إلا ليصفوا الهواء الذي تستنشقين. ما الأرض إلا بساط لقدميك الجميلتين كأقدام الطفل.
8. أيفا: سأحب كل مخلوق، وسأتأمل في نظراتك الحالمة التي ستنشر في كل ناحية أضواءها المتعددة الألوان فتنشر معها لذتها السحرية وسكونها الضاحك. تعالي ضعي يدك الطاهرة على قلبي الممزق. لا تتركيني وحيداً مع الطبيعة لأنني أعرفها حق المعرفة لكي لا أخشاها.
9. أراها تخاطبني قائلة: ما أنا إلا ذلك الملعب الذي لا تحركه أقدام اللاعبين. درجاتي الزمردية وساحاتي المرمرية وأعمدتي الرخامية صاغتها يد الله. هيهات أن أستمع إلى صيحاتكم أو إلى تنهداتكم بل ما أكاد أحس بالمهزلة الإنسانية التي تمر فوق ظهري باحثة لها عبثاً عن متفرجين بُكْمٍ في السماء.
10. فأنا أطوي البشر بجانب من غير أن أسمعهم أو أبصرهم كما لا أميز بين أجحار النمل ومسحوق رفات الإنسان. لا علم لي بأسماء الأمم التي أقلها. يسمونني أمهم وما أنا إلا قبرهم. شتائي يلتهم أموتهم قربانا له، وربيعي لا يستمع لصلوات غرامهم.
11. لقد كنت قبل أن توجدوا دائماً معطرة وجميلة يوم كنت أترك للرياح شعوري المنحلة، وأسلك في السماء طريقي المعتاد فوق قب الميزان ذي الكفات الإلهية. فلما وجدتم ذهبت وحيدة في صمت رهيب أعبر الفضاء الذي تتقاذف فيه الكائنات، وأشق الهواء بجبهتي وثديي الناهدين.
12. هكذا تخاطبني الطبيعة في صوت حزين متعال، وأنا أبغضها في نفسي وأرى دمنا في أمواج مياهها، وجثث موتانا تحت حشائشها تغذي بعصيرها جذور غاباتها. وأقول لعيني اللتين قد ترياني فيها جمالا (حولا نظراتكما إلى غيرها) وأسكبا دمعاتكما على سواها. ليكن حبكما لما سوف لا تريانه مرتين.(3/55)
13. آه! تُرى من سوف يشاهد جمالك ورقتك مرتين أيها الملك الشاكي الذي يتكلم بتنهداته؟ ترى من سوف يولد مثلك حاملا قبلة كما تحملين فيما ترسله عيناك من بارقات النظر في ترنحات رأسك المنكس. في هذا القد المضني الساكن في دعة إلى فراشه، ثم في تلك الابتسامة النقية النقية التي تفيض بالحب والألم.
14. عيشي أيتها الطبيعة، وعيشي إلى الأبد فوق أقدامنا وفوق جباهنا مادامت تلك سنتك؛ عيشي وأحتقري (إن كنت ربة حقاً) الإنسان، ذلك العابر سبيل الذي كان من المقدر أن يقوم عليك ملكاً، فإنني أحب جلال الألم البشري فوق ما أحب ملكك ومظاهره الكاذبة. هيهات أن تنالي مني صيحة حب!
15. ولكن أنت أيتها السائحة المتهاونة! أما تريدين أن تضعي رأسك فوق كتفي وتستسلمي لأحلامك؟ تعالي نشاهد ونحن على مدخل منزلنا المتحرك من مرَّ ومن سيمر من البشر. لسوف تدب الحياة فيما يحمله إلى الشعر من صور الإنسانية عندما تمتد أما منزلنا آفاق الأرض الصامتة إلى غاياتها البعيدة.
16. وهكذا نسير غير تاركين وراءنا فوق تلك الأرض العاقة التي مر عليها أمواتنا من قبل إلا شبحنا. سنتجاذب الحديث عنهم عندما تظلم الآفاق، ويحلو لك أن تسلكي سبيلا ممحوا لتستغرقي في أحلامك مستندة إلى الأغصان الضئيلة باكية حبك العابس المهدد كما بكت (ديانا) على شواطئ تبعها.
محمد عبد الحميد مندور. عضو بعثة كلية الآداب بباريس(3/56)
القصص
على هامش السيرة
الفداء
للدكتور طه حسين
أصبحت سمراء محزونة كاسفة البال تبدو على وجهها المتجعد وجبينها المقطب كآبة مظلمة، لم تحاول في هذا اليوم أن تخفيها أو تخفف من حدتها كما تعودت أن تفعل منذ أعوام وأعوام، فقد عرفت سمراء ألم الحزن منذ احتفرت زمزم، ومنذ ظهر حرص زوجها على الولد، ورغبته في كثرة العدد، ومنذ خطب فاطمة المخزومية فأحبها وكلف بها، وانصرف إليها عن كل شيء وعن كل إنسان. ومنذ كثر ولد فاطمة من البنين والبنات واشتد لذلك حبعبد المطلب لها وكلفه بها، وانصرافه إليها، وتجافيه عن زوجه الأولى تلك التي أضاءت له سبيل الشباب وأعانته على احتمالأثقال الحياة الأولى.
نعم عرفت سمراء ألم الحزن في هذه الأعوام الطوال من حياتها، ولكنها كانت على بداوتها امرأة لبقة بارعة الجمال، زكية القلب، تعرف كيف تخفي عن زوجها ما يكره، وكيف تلقاه بما يحب.
وكانت توفق بفضل هذه اللباقة وهذا الذكاء إلى أنتستميل إليها زوجها. وربما إضطرته إلى أن ينقطع إليها وقتاً ما وينسى زوجه الأخرى إلى حين، ولكن يوما أقبل يحمل إلى سمراء شراً ليس فوقه شر وألماً ليس بعده ألم، أصبح هذا اليوم مظلماً، فما أمسى حتى أظلمت له حياة سمراء كلها، ذلك أنه مضى بموت إبنها الوحيد، فأذاقها مرارة الثكل واليتم والترمل جميعاً. فقد كان الحارث لها إبناً تجد عنده قرة العين، وأباً تحس منه العطف وحنو الآباء، وكان هو يجد ألمها، ويعرف أسراره ويجد في الطب لهذا الألم، فكان يبالغ في رعاية أمه وحمايتها، وكان شديد الحرص على أن يلقاها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وعلى أن يطيل المكث معها والتحدث إليها، يشركها في جد أمره ولعبه، يستشيرها ويظهر قبول مشورتها والاستماع لنصحها. فكان يقوم منها في أكثر الأحيان مقام أبيه، وكان يعزيها بحبه وبره عما كانت تجد من الوحشة حين يصد عنها زوجها فيطيل الصدود. فلما مات الحارث مات(3/57)
معه أمل سمراء، ولم تلق الحياة إلا بوجه محزون كئيب يصور قلباً مكلوماً مظلماً. وقد جزعت سمراء لهذا الخطب وأشتد جزعها، وطال، ولكن أي شيء يبقي على الأيام! ولقد ذهبت الأيام الطوال بحدة هذا الجزع وشدته، كما ذهبت بنضرة شباب سمراء وكما ذهبت بحياة إبنها الحارث، وكما ذهبت بحب زوجها عبد المطلب، وأصبحت وقد تقدمت بها السن وأمتحنتها حوادث الدهر امرأة مذعنة لحكم القضاء، لا تنكر شيئاً ولا يسرها شيء محزونة ولكن في دعة! ملتاعة ولكن في هدوء!
وقد أحست إنكار الناس من حولها لما يرون من حزنها وكآبتها. وما يجدون من انقباضها عنهم. فجدت ما استطاعت في إخفاء ما تجد وكتمان ما تحس، وأحتفظت لنفسها بهذا الكنز الحزين، كنز الذكرى وما تثيره من العواطف وما تهيجه من اليأس. وتركت للناس من نفسها شخصاً عادياً يبتسم حين يبتسمون، ويرضى حين يرضون ويشاركهم في أكثر ما يجدون من عاطفة أو شعور.
على إنها كانت تجد شيئاُ من الرضى وراحة النفس حين تجد من زوجها عطفاً عليها أو أنساً إليها. وكان زوجها منذ أصابها هذا الخطب شديد الرفق بها، كثير الزيارة لها يصفيها مودة خالصة قوية، ولكنها خالية أو كالخالية من هذا الحب الذي يحيي قلوب النساء.
أصبحت سمراء في هذا اليوم محزونة ظاهرة الحزن، كئيبة بادية الكآبة. أقبل عليا إماؤها الثلاث يحيينها تحية الصباح فردت عليهن تحيتهن رداً فاتراً، ثم جلست وجلسن وأخذت مغزلها وأخذن مغازلهن، وعملت أيديهن في الغزل وسكتت ألسنتهن عن الكلام. وكانت سمراء تدع مغزلها من حين إلى حين وتظل ساكتة واجمة، وربما إنحدرت من إحدى عينيها دمعة حارة فأسرعت إليها تزيلها بيدها دون أن تقول شيئاً. والأماء صامتات ينظرن في حزن عميق إلى مولاتهن الحزينة، ولا تستطيع واحدة منهن أن تبدأها بالكلام. فلما طال عليهن هذا الصمت وهذا الحزن وثقل عليهن ما كان يجدن من ألم وما كان يملأ قلوبهن من حب للاستطلاع ورغبة في الكلام وميل إلى تعزية مولاتهن. اجترأت (ناصعة) وكانت أشجعهن قلباً وأطولهن لساناً. لأنها كانت تعرف مكانتها عند سمراء، فقالت: لقد أصبحت يا سيدتي على حال ما رأيناك عليها منذ زمن بعيد، فقد كنا نراك محزونة كئيبة ولكنك كنت تجاهدين الحزن وتدافعين الكآبة وتتكلفين الرضى، وكنا نجد من ذلك ما يشجعنا على(3/58)
تسليتك وتلهيتك بالحديث حيناً وبالغناء حيناً آخر؛ تقص عليك كل واحدة منا ما حفظت من أخبار بلادها، وتغنيك كل واحدة منابما تعلمت من الغناء في رطانتها الأعجمية. وكذلك كنت تسمعينأقاصيص سورية وأخرى حبشية وأخرى يونانية. وكنت تسمعين أغاني في لغات أجنبية قليلاً ما تعجبك ولكنها كانت ترسم على ثغرك الابتسام في اكثر الأحيان، أما اليوم فلم نر منك الا حزناً قاتماً، ولم نسمع صوتك العذب، ولم يرعنا الا هذه الدموع التي تسفحينها في صمت أليم. تكلمي يا مولاتي! بيني ماذا تجدين؟ ماذا أحزنك اليوم؟ تكلمي واحسني ظنك بنا، فقد نستطيع أن نعينك على الحزن كما كنا نستطيع أن نبعث في قلبك السرور. نحن إماء ولكننا نساء نجد الحزن كما تجدينه، ونحس اللوعة كما تحسينها. ولعل حبنا للبكاء أشد من حبنا للضحك، ولعل حرصنا على الحزن أشد من رغبتنا في السرور. ولعلنا إن شاركناك في الحزن والألم جارينا طبائعنا، وأرسلنا نفوسنا على سجاياها. فليس في حياتنا وإن كنت لنا مكرمة ما يسر أو يرضي، وأي شيء يسر أو يرضي في حياة الأمة الغربية التي لا تملك نفسها، ولا تحس إلا ذل الرق ولا تستطيع أن ترضى حقاً أو أن تسخط حقاً إلا إذا خلت إلى نفسها، وأنى لها أن تخلو إلى نفسها! تكلمي يا سيدتي ماذا يسوءك وماذا يغشى وجهك بهذا الغشاء الحزين؟ قالت ناصعة ذلك وانتظرت أن تجيبها سمراءولكنها لم تظفر بجواب، وإنما رأت دموعاً تنحدر ثم تنهمر ثم تستحيل إلى زفرات حارة ونحيب غير منقطع، هنالك محا الحزن ما بين السيدة الحرة وإمائها من فروق، فأسرعن إليها يهدئنها ويرفقن بها. هذه تقبلها، وهذه تمسح دمعها، وهذه تمر يدها على رأسها، وهن جميعاً يبكين لهاويبكين لأنفسهن. وقد هدأت سمراء بعض الشيء، وسكنت نفسها الثائرة إلى هؤلاء الإماء الرفيقات فابتسمت لهن في حزن، وشكرت لهن ما أظهرن لها من مودة وعطف، وطلبت إليهن العودة إلى ما كن فيه من عمل، وأخذت هي مغزلها وجعلت تديره في يدها ولكن ناصعة لم تلبث أن عادت إلى الكلام فقالت وهي تتكلف الابتسام وتتصنع الضحك: ليس يغني عنك الصمت يا مولاتي فأنا نعلم ما تسرين كما نعلم ما تعلنين، ولولا خوفنا منك وإكبارنا إياك لقصصنا عليك القصة التي تحزنك وتجري دموعك الحرة على خدك النقي. ولكن أنى لنا أن نبلغ منك هذه المكانة وإنما أنت سيدة ونحن إماء! قالت سمراء كفي عن هذا الحديث يا ناصعة فقد أنسيت اليوم أن بيني وبينكن(3/59)
فرق ما بين السيدة وإمائها، ولست أرى منكن الآن إلا نساء تعسات مثلي. إنما نحن أخوات في الشقاء والبؤس، وما ينفعني أنني حرة وأنا مثلكن مقيمة على الضيم محتملة للذل، مذعنة لصروف القضاء! لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً ولا أستطيع أن أبرح هذه الدار! وإلى أين أبرحها! لقد ذهبت غارة بني أسد بأبي وأخي، وأصبحت أمي وأخواتي مثلكن إماء مثلكن، لا أعرف من أمرهن شيئاً ولمينهض فتيان بني عامر للثأر! ليت شعري ماذا يصنع أبو براء بأسنته! ماله لا يلاعبها لقد ذهب الموت بابني وأصبحت أسيرة في يد عبد المطلب، أسيرة لا كالأسرى: يجفوني ولا أستطيع له بغضاً ولا قلى كما يفعل الأسرى. وإنما أحبه ولا أجد عن داره منصرفاً، هاهو ذا قد عاد من رحلته إلى اليمن منذ ثلاث، فلما بلغ مكة أسرع إلى هالة بنت وهيب فقضى عندها أولى لياليه وأول أيامه لأنها أحدث زوجاته به عهداً. ثم أصبح فانتقل إلى نتيلة فأقام عندها يوماً وليلة. ثم أصبح فانتقل إلى فاطمة فأقام عندها يوماً وليلة وما أرى إلا أنه سيقبل بعد حين، فيلم بهذه الدار إلمامة قصيرة ثم يسرع إلى هالة! فما أشد شوقه إليها وقد حدثت أنه أقبل من اليمن كأحسن ما يكون الرجال سمة وابرع ما يكونون جمالاً، وحدثت أن هالة أنكرته حين رأته فقد ودعنا أبيض الرأس وعاد فاحم الشعر، كأنه لم يتجاوز الثلاثين. وقد أنكرته من الغد قريش كلها لما رأت من سواد لمته. ولكنه أزال عجب قريش حين أظهر لها هذا الخضاب الذي حمله من اليمن، والذي يرد الشيب شباباً، والذي أسرعت قريش إليه فاشترت منه وأختضب به شيبها فإذا أهل مكة كلهم شباب. كل ذلك ولم أر عبد المطلب، ولم أحس منه ذكراً لي وحنيناً إلي. وماذا يصنع؟ ليس لي شباب هالة، ولا جمال نتيلة ولا ولد فاطمة! وإنما أنا عجوز فانية، يتيمة وحيدة ليس لها أب ولا أم ولا ولد، أنا هذا الحمل الثقيل، الذي يضيق به صاحبه، ولكنه يأبى أن يلقيه ويتخفف منه مخافة أن يصفه الناس بالضعف أو القصور.
قالت ذلك وأغرقت في بكاء طويل شاركها فيه إماؤها الثلاث. ولكن ناصعة لم تلبث أن قالت: أهذا كل ما تعلمين من أمر زوجك يا سيدتي؟ إنك إذا لتجهلين كل شيء ولا تعلمين إلا أقل أمره خطراً، وأن عندي من أمر سيدنا ما لو قصصته عليك لأرضاك ولخفف لوعة الحزن هذه التي تحرق فؤادك الكئيب. لن تري زوجك اليوم يا مولاتي فهو عنك في شغل، لقد كان راضياً مسروراً حين كان يرى نساءه ينكرن سواد لمته ويعجبن بشبابه الجديد،(3/60)
وحين كانت قريش تستبق إليه تشتري منه هذا الخضاب بما أحب من مال، ولكنه محزون منذ أمس، مغرق في حزن لا قرارة له، فهو خليق بالرثاء. إنك تحبينه يا سيدتي وستنسين إعراضه عنك، وسترثين له، وإني أخشى أن تخفي إليه حين تعرفين نبأه. قالت سمراء في شيء من الجزع بدأ هادئاً ولكنه لم يلبث أن اشتد قليلاً قليلا حتى بلغ أقصاه: ماذا تقولين وبم تتحدثين؟ وهو محزون! هو خليق بالرثاء لماذا؟ أبيني متى علمت بذلك؟ وكيف أخفيته علي؟ ما الذي يحزنه؟ ما الذييسوءه؟ ما الذي يجعله أهلاً للرثاء؟ ما الذي يضطرني إلى أن أخف إليه لأعزيه وأواسيه؟ قولي، أسرعي، لا تخفي علي شيئاً. قالت ناصعة: مهلاً يا سيدتي أرفقي بنفسك ولا تذهبي بها في الخيال كل مذهب، لابأس عليه في نفسه، ولا في ماله ولكنه يمتحن منذ أمس في بنيه. هوني عليك إن في هذه المحنة لعزاء لك عن فقد حارثك العزيز. أتذكرين يوم احتفر زمزم فنذر لئن أوتي من الولد عشرة ذكوراً. . . . . . . قالت سمراء: يراهم ليضحين بواحد يا بؤس هذا اليوم! لقد عرفت هذا النذر فكان مصدر شقائي كله، عرفت أنه سيستكثر من النساء ورأيت مدية التضحية ممدود إلى عنق قد تكون عنق ابني العزيز. منذ ذلك اليوم كرهت النساء جميعاً لأني رأيت في كل واحدة منهن ضرةلي، ومنذ ذلك اليوم رأيت شبح الموت مقيماًبهذا البيت ما أقام فيه ابني مفارقاً لهذا البيت ما فارقه أبني، ومنذ ذلك اليوم لم أر ابني في يقظة ولا في نوم إلا رأيت الموت له ظلاً، أتمي حديثك يا ناصعة. قالتالفتاة: لقد ذكر زوجك أمس وهو يتحدث إلى فاطمة نذره هذا وذكر أن أبناءه الذكور قد بلغوا عشرة أحياء يراهم بمولد طفلهحمزة فأقسم ليوفين نذره، وليضحينبأحد أبناءه وليجعلهم تسعة منذ اليوم حتى تتمهم له هالة أو نتيلة أو غيرهما عشرة أو تزيد بهم على العشرة. ولم يكد يعقد هذه اليمين التي جزعت فاطمة وشاركها بناتها في الجزع. أشفقت على الزبير وأبي طالب وعبد الله وغيرهم من بنيها.
وبلغ الخبر نتيلة فخافت على العباس، وبلغ الخبر هالة فجزعت على حمزة وثارت لكل امرأة قبيلتها. وألح الناس على الشيخ؛ تأبى كل قبيلة أن تكون التضحية منها. ومضى الشيخ في يمينه فجمع إليه بنيه وأنبأهم بنذره فكلهم أقره وكلهم أطاعه وكلهم ألح عليه ليوفين بالنذر ولتقدمن الضحية. وليس لقريش منذ أمس حديث إلا هذا النبأ هم يتناقلونه ويكبرونه وينكرونه وقليل منهم من يقر الشيخعلى هذا العزم الفضيع. قالت سمراء وهي(3/61)
مضطربة، ثم قالت الفتاة: ثم أقبل الشيخ ببنيه إلى الكعبة مع الصبح فأجال فيهم قداحه فخرج القدح على أحب بنيه إليه. وآثرهم عنده، قالت سمراء وقد سالت من عينيها دمعتان محرقتان: خرج القدحعلى عبد الله قالت الفتاة: نعم. فأخذ الشيخ بيد ابنه يقوده إلى المذبح وفي يده المدية ولكن بناته جميعاً وأمهن قمن دون الفتى صائحات يستصرخن بني مخزوم ويستصرخن قريشاً كلها ويمنعن الفتى بحياتهن. وأقبلت إحداهن إلى الشيخ ضارعة ثائرة معاًفقالت: إذا كانقلبك قد استحال إلى صخر فلا ترق لأبنك الشاب ولا لأمه الشيخة ولا لأخواته البائسات، وإذا كانت شريعة قريش قد قست وجفت وغلظت حتى جعلت للآباء على أبناءهم حق الحياة والموت كأنهم الرقيق أو الحيوان، فدعنا نحتكم في هذا الفتى إلى رب هذا البيت فهو أوسعمنك رحمة وأجدر منك أن يضن بهذا الشباب على الضياع وأن يربأ بهذا الدم الذكي أن يراق. لنحتكم إلى رب هذا البيت في أمر هذا الفتى، لنقرع بينه وبين هذه الإبل الكثيرة التي تسيمها في الحرم ولنبلغن من ذلك ما يرضي رب هذا البيت.
وكانت قلوب قريش قد تفطرت حزناً وتصدعت أسى لقول هذه الفتاة وهي تبكي، وقد التزمت أخاها تعانقه وتقبله وتغسل وجهه الناصع بدمعها الغزير وهي تصيح: لأموتن قبل أن تموت. فما زالت قريش بالشيخ تلاينه حيناًٍ وتخاشنه حينا حتى اضطرته إلى أن يقبل تحكيم الآلهة.
قالت سمراء وقد بلغ بها الهلع أقصاه: ثم ماذا؛ قالت الفتاة ثم لا أدري تركتهم يتأهبون لإجالة القداح بين الفتى والإبل وأقبلت لأقصعليك النبأ فرأيتك فيما كنت فيه من حزن عميق.
قلت سمراء يا بؤس لهذه الحياة! لا يسعد فيها الناس بخير مهما يكثر كل السعادة، ولا تشقى فيها الناس بشر مهما يعظم كل الشقاء. أسعيدة أنا بموت الحارث أم شقية؟ لو قد عاش لذقت الآن ما تذوقه فاطمة من هذا الحزن اللاذع والخوف المهلك ولكني كنت أوثر مع ذلك أن يعيش فقد كان يمكن أن تخطئه القداح، وقد كان يمكن إن لم تخطئه في المرة الأولى أن تخرجعلى الإبل من دونه وقد كنت أستمتع به أعواماً، ولكن هلم لا مقام لنا الآن لنسرع إلى حيث هم لنشاركهم فيما يجدون. وا حسرتاه! إني لصادقة الحزن! إني لصادقة الخوف! إني لشديدة الإشفاق! إني لشديدة الرجاء، ولكن فاطمة ستضن بي سوءاً وستقدر أني أقبلت غير(3/62)
بريئة النفس من الشماتة، قالت ذلك ونهضت يدفعها حزنها الخالص ويردها خوفها من سوء الظن، ولكنها أسرعت مع ذلك وأسرع معها إماؤها. ولم تكد تتقد م في الطريق نحو المسجد حتى سمعت أصواتاً ورأت إضطراباً ثم تبينت في الأصوات فرحاً ورأت على الوجوه بشراً، وعرفت أن القدح قد خرج بعد لأي على مائة من الإبل. وأن عبد المطلب يؤذن في الناس أنه سينحر هذه الإبل بين الصفا والمروة، وأنها حرام عليه وعلى بني هاشم، مباحة لغيرهم من الناس والحيوان والطير.
فأسرعت سمراء حتى اختلطت بفاطمة وبناتها وهن سائرات يحطن بالفتى ويحلن بينه وبين غيره من الناس، حتى إذا بلغن البيت ألفين فيه امرأتين تبكيان إحداهما هالة بنت وهيب أم حمزة وزوج عبد المطلب، والأخرى بنت عمها اليتيمة آمنة بنت وهب. هنالك أقبلت سمراء هادئة باسمة إلى الفتاة فكفكفت من دموعها؛ وضمتها إليها وقبلت جبينها الطلق، ثم التفتتإلى عبد الله وهي تقول: هلم يا فتى فقبل أهلك فمهما تغل لها في المهر فلن تبلغ هذه الدموع التي ذرفتها حزناً عليك. ثم نظرت إلى فاطمة وهي تقول: ألا ترين أنها أحق فتيات قريش أن تكون له زوجة!(3/63)
الرجل صاحب الكلب
قصة مصرية.
للأستاذ محمود تيمور
حدثني الراوي قائلاً:
عندما كنت طالباً في مدرسة الزراعة بالجيزة كنت أتردد في أوقات فراغي على قهوة صغيرة بالقرب من الشارع العمومي يجري بجوارها جدول صغير وتتهدل فوقهاأغصان شجرة عتيقة. وكنت أعتبرها حلقة الاتصال بين الحضر والريف أو بين المدنية والحياة الساذجة البدائية. فبينما تكون جالساً في مقعدك البسيط تشرب القهوة في هدوء وتصغي إلى خرير الماء وتشم رائحة النبات إذ بك تسمع دوي ترام أو سيارة ويمتلئ أنفك برائحة البنزين والتراب.
وكان يتردد على هذه القهوة رجل بدين الجسم كروي الوجه بأنف أفطس وعيونصغيرة يلبس بدلا من المعطف حرملة من اللون الأزرق الكالح ويلف رأسه بشال قديم مهلهل. وكنا في ذلك الوقت على أبواب الشتاء. وكنت ألاحظ عليه مظاهر الجربعة. وأعتقدت أنه من أرباب المعاشات الفقراء. وأذكر أنني لم أذهب إلى القهوة مرة واحدة ولم أجده. أراه دائماً في ركنه المعهود بجوار باب القهوة منتفخاً في جلسته يدخن النارجيلة ويحتسي القهوة ويزعق بين فترةوأخرى على الخادم يصدر إليه أوامره الممضة. يصحب معه دائماً كلباً أسود بشع الهيئة من فصيلة الأرمنت. يزعج القهوة بنباحه الثقيل. كان سيده يبالغ في تدليله والإعتناء به. ويكلمه ببعض كلمات إنجليزية بلهجة سقيمة لا تتعدى قوله: كام هير جيمي كام هير ماي دير.
ولا أدري ما الذي دفعني إلى أن أهتم بهذا الرجل وكلبه وأدقق في ملاحظتي إياهما. مع نفوري منهما.
وذهبت مرة إلى القهوة فوجدت عويساً ماسح الأحذية يتشاجر معه. وكان الرجل يشتم الغلام بصوته العريض الوقح وهو منتفخ الأوداج محمر العين يبصق أماه بصقات متوالية. ورأيت الكلب ينبح ماسح الأحذية بشدة ويجذب بأسنانه طرف ثوبه. فتحاشيت التدخل بينهما وقصدت إلى مكاني بجوار الجدول ومعي كتاب الزراعة المصرية لأذاكر فيه. وجاء(3/64)
صاحب القهوة فحسم الخلاف وشتم عويسا وأرضى الأفندي ببعض كلمات لا تخلو من تملق. وترك الكلب ثوب الغلام وذهب إلى سيده فنظر إليه مليا وهو يبصبص بذنبه ثم تمدد تحت أقدامه ونام.
وجاءني عويس يمسح لي حذائي كالمعتاد فمددت له قدمي في حركة آلية غير ملتفت إليه وأنشغل الغلام بالمسح وأنا بالتفكير وبعد برهة خاطبت عويسا ووجهي لا يفارق الكتاب. .
- من يكون هذا؟
فأجابني وهو منهمك في عمله.
- واحد حكيم لا طلع ولا نزل. يدعي أنه كان حكيمباشي في الجيش في الزمن الماضي.
- والآن؟
- على المعاش
ثم رفع رأسه إلي وقال:
تصور يا بيه أنه يريد أن يعطيني قرش تعريفة واحد في مسح حذائه ووضع شريط جديد له. وأي جزمة هذه التي مسحتها. ربنا لا يوريك أؤكد لك أن الورنيش لم يمسها منذ أن كان جنابه في الجيش. .
قرش تعريفة واحد نظير مسحة وشريط جديد. الله الغني يا سيدي. . هذا خلاف الخدمات التي أؤديها له بدون مقابل. ولو كان شخصاً فقيراً لقلنا نخدمه لوجه الله ولكنه رجل عاكم. عاكم تمام.
وسمعت الحكيمباشي يبصق بشدة على الأرض فخفف عويس من حدته وهمس قائلاً:
- تصدق بالله، لو ذهبت إلى بيته لظننت انك في مزبلة أو مربط بهائم. . . . . لم كل هذا والدنيا أخرتها موت. فضحك واردم على هذه السيرة. .
وغبت عن القهوة بضعة أيام. وبينما كنت مرة في الترام منهمكاً في قراءة (البلاغ) إذ شعرت بشخص يدخل العربة، وكانت مزدحمة بالركاب، ويحشر نفسه بين الجالسين وسمعت همهمة استياء من كل ناحية. ورفعت بصري لأرى من الداخل فوقع بصري أول وهلة على كلب اسود ضخم بشع الهيئة عرفته على الفور. ورأيت أمام مقعدي الحكيمباشي يمسح وجهه المحتقن المعقد ويشد حرملته على أكتافه ويدفع جاره وهو يدمدم. وتلاقت(3/65)
أعيننا. وشعرتبأنني ابتسم له. وشاهدته يجيبني مجاملة بابتسامة سطحية خاطفة. وبعد لحظات قال لي مندفعاً:
- يدفع الواحد منا ستة مليمات لهذه الشركة الملعونة ليحظى بمثل هذه الجلسة المرهقة. نحن آدميون ولسنا بهايم حتى يحشروننا هكذا كأننا في عربة للحيوانات. لماذا لا يزيدون عربة على كل قطار في مثل هذه الأوقات. أقسم بالله ان سوارس الذي تدفع فيه ثلاثة مليمات فقط أحسن ألف مرة من هذا الترام.
فوافقته موافقة تامة. وأخذت أذم له الشركة بدوري. فظهر على وجهه الارتياح وأخذ يناقلني الحديث بلهجة ودية ومن غير تكلف كأنه يعرفني منذ أعوام، وقال:
- لم تحضر إلى القهوة منذ أيام
- كنت مشغولاً جداً. لقد هجمت علينا الدروس.
- إيه يا بني لو كنت معنا في الجيش لأستصغرت من شأن مشاغلك. . كنت أنا لا أجد الوقت الكافي لأتناول كوب اللبن في الصباح.
- حضرتك خدمت في الجيش مدة طويلة؟
فأجاب بلهجة متزنة وهو يعبث بسلسلة ساعته. .
- 45 سنة، 45 سنة وأنا أعيش في الخيام وعلى ظهور الجياد. أضمد جروح الجرحى وأعنى بالمصابين. ثم أخرج بعد هذه الخدمة الطويلة العريضة الشاقة بمعاش لا هو في العير ولا في النفير. . . لا مكافأة ولا يحزنون. .
ثم مال علي وهو يبتسم وقال:
- ألم تسمع المثل القائل: آخر خدمة الغز علقة.
وكان قد خلا مكان بجواره فنظر إلى كلبه الذي كان ممدداً تحت أقدامه وقال له وهو يفرقع بإصبعه. .
- كام هير جيمي. كام هير ماي دير.
وأشار له إلى المحل الخالي، فقام الكلب وبعد أن تمطى وتثاءب في هيئة شنيعة قفز بجوار سيده والناس يرمقونه بالنظر الشزر. وألتفت إلي الحكيمباشي وقال وهو يلاطف كلبه. .
- لم أر في حياتي كلباً وفياً كجيمي هذا. أنه إنسان وليس بحيوان. لقد إستغنيت به عن(3/66)
البنين فهو أبني وعن الخدم فهو تابعي الأمين. وعن الحراس فهو حارسي الذي يبذل دمه في سبيلي. أتصدق أنني لا أعاشر سواه في منزلي.
ثم نظر إلى كلبه وقال:
- أوه جيمي أي لاف يو فري ماتش
وكان بجواري شيخ معمم فسمعته (يمصمص) بشفتيه ويتمتم قائلاً:
- لله في خلقه شؤون!
ووقف الترام على إحدى المحطات ودخل العربة محمد أفندي زكريا الموظف ببنك الكومرسيال الإيطالي فسلم علي في بشاشة. ثم إلتفت إلى الحكيمباشي وقال:
- أهلاً أسعد بك. في غاية الأشواق يا حبيبي.
وتحدثنا برهةً في العموميات، ثم رأيت أسعد بك الحكيمباشي ومحمد أفندي زكريا يفتحان باب البحث في المسائل المالية. فسكت وأصغيت لهما. وأخذا يتعمقان قليلاً قليلا فلم أعد أفهم من كلامهما شيئاً. وكانت أمثال الكلمات. . الكامبيو والبورصة وسندات الشركة البلجيكية وأسهم البنك العقاري والرنت الفرنساوي تطن في أذني طنيناً مزعجاً، وارتسمت على وجه أسعد بك أشد مظاهر الاهتمام فوجدت عينيه تحملقان في وجه محدثه حملقة الجائع الشره، وطاقتي أنفه تتسعان كأنهما تستجديان الهواء. . . وأخيراً وصلنا الجيزة فسلم أسعد بك علينا ونزل لأنه كان يسكن في هذه البلدة. أما أنا ومحمد أفندي زكريا فتابعنا ركوبنا إلى الأهرام إذ كنا نرغب في تناول الشاي في (مينا هاوس) وملت على محمد أفندي وقلت له:
- إن لصاحبك باعاً طويلاً في الأمور المالية.
- إنه يا عزيزي يلعب بالجنيهات في سوق المضاربة كما تلعب الأولاد (بالبلى)
- وهل يكسب؟
- لم أسمع مرة واحدة أنه خسر.
ومرت الأيام وكثرت مقابلتي لأسعد بك في القهوة وتوثقت بيني وبينه روابط الصداقة. وأتضح لي أنه شخص غير مزعج كما توهمت قبل معرفتي إياه. فكان إذا رآني في ركني المعهود منكباً على كتابي أذاكر درسي أحترم عملي ولم يفتح فمه بكلمة. أما إذا لاحظ أنني(3/67)
لا عمل لي دعاني إلى الجلوس معه. ولا أذكر أنه أكرمني بفنجان قهوة. أو قدم لي سيكارة واحدة. أما حديثه فكان سخيفاً ولكنه مسل للغاية. معظمه حكايات عن حياته الماضية في الجيش ونوادر عن كلبه لا تخلو طبعاً من مبالغات ومغالطات. وكان إذا تكلم عن كلبه لمعت عيناه بوميض غريب وخيل إليك أنه يتكلم عن ابن وحيد له وهبه كامل محبته وحنانه.
وتغيبت بضعة أيام عن القهوة ثم عدت إليها فكان أول شئ لاحظته هو أن أسعد بك غير موجود. ولما جاءني غلام القهوة سألته عنه فلم يفدني شيئاً. وبعد قليل ظهر عويس ماسح الأحذية. وكان مسروراً يخبط بظهر فرشته صندوقه فسألته:
- ما الخبر يا ولد؟
- خبر عظيم جداً يا بيه.
- لقد أخذوا كلب أسعد بك في عربة الكلاب.
- يا شيخ!
- شاهدت ذلك يعيني رأسي.
ونالني شئ من الأسف. ولكنني لم أهتم بالأمر كثيراً. وأعتقدت أنني سأرى في الغد صديقي وكلبه يحتلان ركنهما المختار في القهوة.
وبعد انقطاعي بضعة أيام ذهبت إلى القهوة فوجدت أسعد بك وبحثت بعيني عن الكلب فلم أجده. وكانت عينا صديقي مربدتين حائرتين ووجهه محتقناً. وسلمت عليه فسلم علي في اقتضاب وصمت فلم أشأ أن أثقل عليه. وقصدت إلى مكاني وفتحت كتابي وبدأت دراستي ولكنني ما كدت أفعل حتى سمعته يتكلم في لهجة شرسة وكأنه يتحدى إنساناً أمامه قائلاً:
يأخذون الكلب ويطلبون مني جنيهاً مقابل إطلاق سراحه! جنيه! هذا نصب، نهب. . إخص على دي مصلحة.
وبصق بصقة كبيرة. ثم أتم كلامه. . .
-. . مع أني أفهمتهم أني حكيم. . حكيمباشي الأورطة التاسعة التي قهرت العصاة في الأبيض ودارفور. رجل مقامي معروف وماضي مفعم بجليل الأعمال. مصلحة دون! لا تعرف أصحاب المقامات. . إخص. .!(3/68)
وبصق بصقة أخرى. وكان يتكلم دون أن يلتفت ناحيتي. ولكني كنت متأكداً أن الكلام موجه إلي إذ لم يكن في القهوة غيرنا. فرأيت من باب المجاملة أن أعير حديثه اهتمامي. وقلت:
- جميع مصالح الحكومة بايظة.
فاحتد في كلامه وهو ينظر أمامه دائماً وقال:
- الا هذه المصلحة. إنها ليست بايظة فقط. إنها غير موجودة. . . . . أتصدق أنهم يرفضون شهادتي الرسمية بأن الكلب غير مكلوب وأنه ليس من الكلاب الضالة، ويقولون أن الإجراءات يجب أتتبع مجراها. إجراءات؟ هه!. . سأريهم كيف تتخذ أمثال هذه الإجراءات معي ومع كلبي. سأريهم. .!
وضرب بشدة على المائدة والتفت إلي هذه المرة وعيناه تشعان باللهيب وقال:
- لقد أرسلت عريضة اليوم إلى وزير الحربية لتخلية سبيل كلبي في الحال. . في الحال.
فأجبته على الأثر.
- حسناً فعلت.
وفي الغد سافرت مع فرقة من طلبة المدرسة إلى الصعيد وقضينا هناك أسبوعاً كاملاً نتنقل بين ربوعه متفرجين على آثاره العظيمة. وفي اليوم التالي لعودتي إلى القاهرة قصدت إلى قهوتي المعروفة. فرأيت عويسا جالسا القرفصاء على الأرض بجوار إحدى الموائد وأمامه صندوقه ينتظر زبائنه. فناديته وسألته على الفور.
- ماذا جرى لكلب أسعد بك؟
فابتسم ابتسامة عريضة وقال:
- تعيش أنت!
- قتلوه؟
- منذ أربعة أيام.
ألم يدفع أسعد بك المبلغ؟
- يدفع المبلغ! انه يرضى أن يدفع لهم عينيه! ولا يتجاوز لهم عن الجنيه.
وشاهدت أسعد بك آتيا صوب القهوة يتوكأ على عصاه الغليظة ويسير في ثقل وإعياء، ولما(3/69)
اقترب منيابتسم لي ابتسامة هزيلة وسلم علي ثم جلس. وأشار إلى المقعد الذي أمامه وقال:
- تفضل اجلس
جلست وبدأنا نتحادث في أمور تافهة. وكانت لهجته مهملة ونظراته فيها بعض الشرود. ولم يتكلم بكلمة واحدة عن جيمي فعلمت أنه لا يريد الخوض في هذا الموضوع. ثم خيم علينا صمت ثقيل فاستأذنت وقصدت إلى ركني.
ومنذ ذلك الحين اختلت مواعيد أسعد بك ولم أعد أراه دائماً في القهوة كلما ذهبت. وغير عادته في فنجان القهوة السادة الذي كان لا يحيد عنه ولا يزيد عليه واستبدل به بضع كوؤس من العرق. وكان كلما ثارت الصهباء في رأسه اندفع يتكلم في إسهاب ممض وبصوت مرتفع كأنه يصرخ أو يشتم. وكانت موضوعاته دائماً لا تخرج عن سبهمصلحة الطب البيطري وسب العالم كله على السواء. كان يقول دائماً:
- الدنيا كلها نهب في نهب. إخص بلا قرف. وبدأ يضيفني على شرب الزبيب معه ويقول لي:
- لا تخش ضرراً. أنا حكيم. إن الزبيب مقو للدم وفاتح للشهية. أحسن المشروبات كلها.
وأصبح مجلس أسعد بك لا يطاق. فلم أكن أنعم بتلك المحادثات المسلية. ولم يكن يتركني أذاكر دروسي في هدوء. بل كاندائماً يقلقني بصياحه المزعج ويضطرني إلى الإنصات له وتحبيذ كلامه. وكان إذا رآني مقصراً في الالتفات إليه جاء إلى مائدتي ونقل مشروبه إليها واحتل مقعداً بجواري وبدأ يسح بشكاياته وشتائمه.
وحدث مرة أن جاء صاحب القهوة بحساب الشهر (وكان من عادة أسعد بك أن يدفع الحساب شهرياً) فأخذ الورقة من يد الرجل وألقى عليها نظرة عابسة ثم صاح في وجهه:
- مائة قرش؟ جنيه! أما لصوص صحيح! لن أدفع هذا المبلغ ماحييت ودعك الورقة ورماهافي وجه صاحب القهوة. وأراد الأخير أن يتفاهم معه في لطف فأقترب منه ومعه الحساب وأخذ يوضح له عدد الطلبات التي طلبها. فدفعه أسعد بك بشدة وصاح. .
- اذهب من أمامي لن ادفع شيئا. كلكم لصوص أولاد كلب. فأحمرت عينا صاحب القهوة وقال:
- اللصوص وأولاد كلب يا حبيبي هم الذين لا يؤدون ما عليهم.(3/70)
- اخرس! أتعرف من الذي تكلمه؟ أنا أسعد بك حكيمباشي الأورطة التاسعة في الجيش المصري.
- وماذا يهم؟ أنا أريد نقودي. ليس هذا الجنيه كجنيه مصلحة الطب البيطري الذي لم تدفعه إنقاذاً لكلبك. هذا جنيه ثمن مشروبات جررتها من محلي. .
ورأيت سحنة أسعد بك قد انقلبت وصارت كسحنة النمر الهائج وقال وصوته يرتجف:
- ماذا تقول يا وقح؟ جنيه الطب البيطري! أتظن أنني قد بخلت بالجنيه في سبيل إنقاذ كلبي؟ أتجرؤ على هذا القول يا لعين؟ أنا أرضى أن ادفع مائة جنيه لا جنيها واحداً من أجله. . ولكنني لا أدفع للصوص أولاد الحرام، كلكم تستحقون ضرب الصرم، ورأيته يدس يده المرتجفة في جيبه في حركة شاذة ويخرج ورقة مالية من ذات المائة قرش وينهال عليها تمزيقاً في وحشية غريبة ويقول:
- أتستطيع أن تقول إنني لا أستطيع أن ادفع جنيهاً. .
ثم قام وأنشب أظافره في رقبة الرجل. وقامت بين الاثنين معركة حامية استدعيت من أجلها الشرطة.
وساءت أحوال أسعد بكفلم أعد أراه الا مخموراً رثالهيئة ممزق الملابس. قوي الشبه بهؤلاء المشردين مدمني المخدرات الذين تراهم في الطرق يستجدون المارة. وكان لا يسكت لسانه عن النقود وبالأخص عن الجنيه الذي لم يدفعه إنقاذاً لكلبه، وكان يؤكد لي في حماس غريب أنه لم يدفع هذا الجنيه نكاية في مصلحة الطب البيطري وليفهمهم أنه ليس مغفلاً أو ضعيفاً. وكان يروي الحكاية لكل من يقع عليه بصره في القهوة أو في الطريق وهو يصيح ويهدد ويشتم. وإذا لم يجد من يكلمه رأيته يحدث نفسه محتداً وهو يلوح بيده في حركات شاذة.
وانقلبمن شحيح متكالب على المال إلى مسرف متلاف لا تعرف يمينه ما تنفقه شماله. وسمعت أنه كثيراً ما يذهب إلى مصلحة الطب البيطري ليفدي الكلاب الضالة ويخرج لها رخصاً بمبالغ لا يستهان بها. وكان يحرضني دائماًعلى التبذير ويقول:
- اصرف وبحبح على نفسك.
وقابلت مرة محمد أفندي زكريا الموظف ببنك الكومرسيال فروى لي أخباراً مزعجة عن(3/71)
أسعد بك قال: أنه يضارب الآن بجنون ويخسر خسائر فادحة.
وحلت الإجازة السنوية وانقطعت عن زيارة القهوة ثلاثة أشهر كاملة ولما عدت إليها رأيت كل شئ فيها لم يتغير. وكانت مائدتي المختارة في موضعها بجوار الجدول تظلها أغصان الشجرة العتيقة. فكأنني لم أفارقها إلا منذ ثلاثة أيام. واستقبلتني الوجوه التي أعرفها كل بابتسامته الخاصة. وألتفت حولي مشرق الوجه وأنا أقول:
- كل شئ كما هو!
وبغتة قلت لعويس الذي كان يمسح مقعدي في هرج وسرور ويهيء نفسه لمسح حذائي. .
- أين أسعد بك؟
فتوقف عن عمله ورفع بصره إلي وقد غابت ابتسامته وانقطع ضجيجه المرح وقال بلهجة قابضة:
- ألم تسمع عنه شيئاً؟
- كلا
- لقد أرسلوه إلى المارستان. كانت حالة المسكين في المدة الأخيرة عبرة. وكنت أنا الذي أعتني به.
- ما هذا الكلام؟
- الحقيقة ما أرويها لك.
- وهل يمكن أن نزوره في المارستان؟
ومد عويس صندوقه تحت قدمي وبدأ يمسح في هدوء. وقال في لهجة غريبة:
- كلا يا سيدي لا تستطيع أن تزوره. . . لن تراه أبداً. . ونكس رأسه. . . فنكست رأسي أنا أيضاً وبدأت أستغرق في تفكيري الحزين.(3/72)
قصة عراقية
تريد أن تحب. . .؟
للأستاذ أنور شاءول
الأستاذ أنور شاءول كاتب عراقي وشاعر غزلي رقيق يمارس المحاماة ويزاول الصحافة ويصدر مجلة (الحاصد) وهي أرقى المجلات الأسبوعية في بغداد. وهو ثاني إثنين أقاما القصة العراقية على قواعد من الفن الصحيح وله فيها كتاب الحصاد الأول. (الرسالة)
فرغت من قراءة المقال وفي هذه المرة لم ترم المجلة بعنف ويأس شأنها كل يوم إنما وضعتها بلطف قرب وسادتها ثم مدت يدها تضغط على زر المصباح فساد الظلام.
وفي حلكة الغرفة كانت عيناها مفتوحتين يلتمع فيهما بريق غريب. لم تستلم للنوم لأنها كانت تشعر بحاجة ملحة إلى الإنتباه والتفكير. عجباً أيمكن أن يكون شقاؤها الملازم قد أشرف على النهاية فتشرق شمس الغد ضاحكة وتقبل السعادة المفقودة لترتمي بين أحضانها؟
إنه مقال (في الحياة والحب والجمال) لا مثيل له فيما قرأته قبل يوم من تلك الفصول المطولة. أنه قطعة من وجد، فلذة من قلب بل هو حياة مثلى مصغرة لما حنت إليها بعد نكبتها قبل سنتين. ولكن هذا المقال لم يثر من اهتمامها قدر ما أثار منه كاتب المقال، ذلك اللوذعي القدير المتفنن ذو القلم الساحر الذي استطاع ما لم يستطعه قبله من أهاجة الجمرات الكامنة من أعماق صدرها.
فمن هو هذا الكاتب؟
المقال مذيل بإمضاء ولكن الإمضاء لا يشير إلى شخصية حقيقية إنما هو من تلك الإمضاءات المستعارة المبتكرة. (سمير النجوم). ومن هو هذا سمير النجوم؟ وضغطت على زر المصباح فتفجرت الأنوار تغمر الظلمة وكانت المجلة في يدها فجلست متكئة على وسادتها وراحت تطالع المقال ثانية. وهي في كل فقرة من فقراته تستمهل النظر فتطلق لأفكارها الجامحة العنان. لم تعرف (م) كم مرة أعادت تلاوة ذلك المقال في تلك الليلة. ولم يكن ليهمها أن تعرف ذلك. وعندما دقت الساعة إثنين بعد منتصف الليل تذكرت أنها آوت إلى فراشها في منتصف الساعة الثامنة.(3/73)
و (م) من هي؟
هي تلك الزنبقة التي ما كاد ثغرها يفتر في الحديقة الغناء فتمتص الندى وتتشرب العصير وتستحم بأنوار الشمس حتى قطعت عنها الطبيعة مجاري المياه فراحت تشكو العطش وتحذر الهلاك!.
هي الزوجة الحسناء بالأمس المترعة الكأس سعادة قدسية، الأرملة البائسة اليومالممتلئة الجوانح شعوراً غريباً علوياً!.
يا للجمال الرائع تلامسه يد الأسى بأصابعها النارية! يا للقلب الفارغ بعد امتلاء تتسرب إليه الوحشة والحنين بين الذكريات الوامضة الجميلة!
ويا ليالي الشتاء ما أطولها وما أقسى بردها على هذه الحمامة الوحيدة الوادعة!
توفي زوج (م) ولم يمر على زاوجهما أكثر من عام فخلف شريكة حياته ولا سلوى لها سوى طفلة في مهدها وذكريات طيبة مشوبة بمرارة الفراق الأبدي. من الذي سيبادلها الحديث الحلو؟ الابتسام؟ القبلات والعناق؟ ومن سيشاطرها الحياة شهورها وسنيها؟!
أحبت وحيدتها شأن كل أم وأفرطت في الحب ولكن هذا الإفراط ما كان ليخفف من مصابها بشريك حياتها. ومرت الأيام والأشهر وتصرم عام وبعضه و (م) تستهدف سهام الحياة.
فتتألم ذلك الألم الأخرس الذي يجيش في نفس جريح خانته قواه فما استطاع كلاماً حتى ولا أنينا!.
سل الوسادة عما بللها من دمعها الغزير في ظلمات الليل! سل النجوم عما تصعد إليها من حسرات على أجنحة الرياح! وسل المرآة الصافية عما صوب إليها من نظرات حزينة! ومن خلال لآلئ الدموع كانت عيناها تنظران بخيلاء كسير إلى الجمال المضاع.
- إنني ما زلت حسناء. . . جاذبيتي ما زالت ثائرة. . . وقلبي فارغ. . . هل سيظل هكذا. . .؟ ولماذا يظل هكذا. . . . . .؟
تجول هذه الأفتكارات وأشباهها في رأس (م) فلا تلبث أن ترتمي على كرسي قريب وتجهش بالبكاء. فإذا ما دنت إليها طفلتها تصيح (ماما) انقلبت من البكاء للضحك ومن الإجهاش للقهقهة، وبقي شيء لم يتغير هو الألم الممض في قلبها الوديع.
(أريد أن أحب). . وحي علوي هبط على نفس (م) هبوط قطرات الطلعلى الزهرة العطشى(3/74)
ولامس كل عاطفة من عواطفها ملامسة لفحة الموقد للجسم البارد ولكن أين من تحب؟ ومن هو؟ وكيف الحصول عليه؟.
شاب في مقتبل العمر، ممشوق القوام، ضحوك الوجه، براق العينين؛ جرسي الصوت؛ محبوب المعشر؛ مثقف؛ ذكي؛ ذلك من كانت تبحث عنه أو تحاول أن تبحث عنه (م) ليملأ فراغ قلبها الفتي.
ولكن أين نجده ومجتمعنا من القساوة بحيث يراقب منها الحركات والسكنات ويحصي عليها حتى أنفاسها. طريقها طويلة شائكة فهل تسير وهي حافية القدمين أم تنكص الأعقاب؟ (أريد أن أحب) كانت وحياً هابطاً ما أن له مرد.
بعد تفكير أيام بلياليها وصلت إلى أن بإمكانها أن تحب أحد كواكب السنما، وكواكب السنما كثيرون تتمتع بجمالهم وأصواتهم في السنما الناطق كل أسبوع، فما عليها إلا أن تحب أحدهم مثال روبرت مونتكومري أو كلارك كابل أو موريس شفاليه أو جاك بوكانان أو شارلس فارل أو رامون نوفارو أو أي كوكب آخر تقبل على إقتناء صوره ومشاهدة أفلامه وقراءة أخباره وتتبع كل أثر من آثاره. وهي فكرة جميلة تخفف من لواعجها ولكنها لا تطفئ أوار قلبها! إنها في حاجة إلى حب حقيقي، فلتبحث عن أمنيتها في غير هذه السبيل.
- لماذا لا تطالع الروايات العصرية التي ما زال أشخاصها أحياء يرزقون! فإذا ما تملك إعجابها بطل ما فلتبحث عنه عساها تصل إلى معرفته والانتصار عليه فتفوز به وعلى رأسها إكليل (كيوبيد) وإلى جانبها عشيقها العزيز المغلوب!
فكرة جميلة جداً حاولت أن تخرجها إلى حيز الوجودفقرأت أكثر من خمسين رواية فلم تظفر بمطمح أنظارها وأفكارها فأشاحت بوجهها حزينة ولهى!
وكومضة البرق الخاطف تحت جنح الظلام خطر لها خاطر أنست إليه ورأت فيه مخرجاً لهاً من هذه الحالة الأليمة، هو أن تبحث عمن (تريد أن تحب) في الجرائد والمجلات المحلية منها بوجه خاص، ففي هذه الصحف يكتب العشرات من الكتاب والقصصيين والشعراء فما عليها إلا أن تطالعها بانتظام حتى تعثر على ضالتها المنشودة.
مقالات! قصائد من الشعر المنظوم أو المنثور! كلمات مأثورة لا يحصى لها عدد! هذا سياسي؛ ذلك أديب؛ الآخر عالم. ألا إنهم كثيرون؛ كثيرون جداً ولكنهم على رغم كثرتهم لم(3/75)
يثر واحد منهم كامناً في نفس (م) فكانت تطالع ما ينشرونه ثم لا تلبث أن ترمي الصحيفة جانباً ثم يتملكها شعور هو أقرب إلى النفور منه إلى سواه. حتى كانت تلك الليلة السعيدة التي وقع نظرها فيها على مقال (سمير النجوم) في الحياة والحب والجمال فتنفست الصعداء وبرقت أسارير وجهها وخفق قلبها خفقة غريبة لم تستطع (م) تأويلها إلا بأنها عثرت على من تريد أن تحب.
والمجلة التي نشرت مقال (سمير النجوم) أسبوعية كانت (م) تشتريها صباح كل أحد من بائع الجرائد المجاور لدارها أما اليوم فقد كتبت إلى إدارة المجلة ترجو أن تعدها مشتركة في ثلاث نسخ أرسلت بدل الاشتراك السنوي عنها سلفاً.
وكان نهار الأحد التالي فصدرت المجلة، ويا لحزن (م)! فهي بعد انتظار أسبوع كامل كان أطول من عام لم تقرأ شيئاً لـ (سمير النجوم) ويا لوحشة القلب!
(أريد أن أحب) وحي أخذ يتجسم مفعوله في نفس (م) يوما فيوما باعثاً الأمل في أعماقها؛ وفي الأسبوع الرابع قرأت ودمع الفرح تترقرق في أجفانها مقالاً ثانياً لسمير النجوم عنوانه (السعادة، الزواج والمال) فكان له أثر عميق في نفس (م) فأعادت قراءته ثانية وثالثة ورابعة حتى أوشكت أن تحفظه عن ظهر قلب.
وفي الأسبوع التالي نشر (سمير النجوم) قصيدة في 21 بيتاً بعنوان (قلبي. .) كل بيت من أبياتها يسيل رقة وجمالاً، فكررتها (م) حتى حفظتها كلها وراحت تتغنى بها صباح مساء.
وظلت (م) تتعقب آثار (سمير النجوم) عشيقها؛ مثلها الأعلى، معبودها، فتلتهمها التهاماً ولا تقرأ سواها. وفي أحد الأيام فكرت حقاً في الأمر وارتأت أن عليها أن تعمل عملاً جازماً في هذا الشأن فتقول لسمير النجوم وجهاً لوجه (أني احبك. . احبك إيه الكاتب القدير. . احبك أيها الفتى الجميل. .) فكيف تصل إلى ذلك؟ وأجهدت فكرها وإذا بوحي الحب يهبط فيلهمها أن تدعو (سمير النجوم) (برسالة تبعثها إليه بواسطة المجلة) لتناول الشاي لديها في مساء الثلاثاء القادم. ما أبدعها فكرة مصيبة سهلة التنفيذ.!
وفي هدوء الليل جلست إلى مكتبها تحبر الدعوة إلى سمير النجوم وكان القلم يرتجف بين أناملها فتكتب وتشطب وتمزق ثم تكتب وتشطب وتمزق ثم تعود فتكتب وتشطب وتمزق. .
هذه كلمة خشنة. . هذه جملة مفككة. . هذا تعبير غير صحيح. . وأخيراً استقرت على أن(3/76)
تكون الدعوة كما يلي:
(أنا إحدى المعجبات بكتاباتك الفياضة بالروح. أتشرف بدعوتك إلى تناول الشاي في داري الواقعة. . . في الساعة الخامسة زوالية من عصر الثلاثاء القادم. أهلاً بك منذ الآن).
قرأتها ثانية وثالثة فأعجبتها، عند ذلك وضعتها في غلاف معطر وكتبت عليه: إلى الكاتب المحترم سمير النجوم - بواسطة مجلة. . . الغراء.
وحين استلقت على فراشها أرادت أن تقرأ الرسالة للمرة الأخيرة قبل أن تلتحف فتناولتها وتلتها بصوت عال كأنها تريد أن تتحسس موسيقى نبراتها فصدمتها منها الجملة الأولى (أنا إحدى المعجبات) لا. . لا لا. . يجب أن تكون هكذا (أنا معجبة ألخ. .) لماذا أتحدثإليه عن إعجاب الغير؟
ونهضت إلى مكتبها تعيد تبييض الرسالة وبعد هنيهة كانت تساورها الأحلام الجميلة. بعد ثلاث ساعات يأزف الموعد. كل شئ منظم بذوق سليم. الأواني، الطنافس، الوسائد، الصور، في وسط الغرفة رسم لها كبير يريك ثديها الأيمن تغطيه ملاءة حريرية شفافة، مجموعات الرسوم الفنية، الراديو غرامافون، السكاير، العطور. ما أعظمه يوماً في التاريخ.!
لم يبقى إلا ساعتان
لم يبق سوى ساعة ونصف!
ساعة واحدة فقط. . ثلاثة أرباع الساعة. . نصف ساعة. . ربع ساعة. . ما لقلبها يدق سريعا سريعا. .؟ ما لها لا تستطيع الثبات على المقعد. .؟ إنها تروح وتغدو كأن في صدرها ناراً تحركها. .
بقي عشر دقائق. . تسع. . سبع. .
وأحست بقلبها كأنه يريد أن يتحرك من مقره وبصدرها يعلو ويهبط. . وبأفكارها وأنظارها زائغة لا تستقر على قرار.
تن. . تن. . تن. . تن. . تن
دقت الساعة خمسة فطرق الباب على الأثر فهرولت تستقبل سعادتها المنتظرة.
فتحته قليلاً وهي تقول بصوت عذب متقطع. تفضل!(3/77)
فدخل سمير النجوم يتوكأ على عصاه. . كان شيخاً تجاوز الستين، محدودب الظهر، غائر العينين. . . . . .
- مساء الخير سيدتي. .
- تفضل!!
وأومأت إليه أن يدخل غرفة الاستقبال وركضت إلى غرفتها فارتمت على فراشها تبكي بكاء الأطفال. . .
أنور شاءول المحامي. بغداد(3/78)
رحلة إلى دير طورسينا
للأستاذ الدمرداش محمد. مدير الامتحانات والسجلات بوزارة المعارف
1
كنا تسعة من الرفاقمن شعوب مختلفةجمعتنا المصادفات فأحسسنا رغبة مشتركة للقيام برحلة إلى قلب شبه جزيرة طور سيناء لزيارة ديرها الشهير (دير سانت كاترين) فاتفقنا على تنفيذ الرغبة رغم ما تنطوي عليه من مشقة ومتاعب جمة ولكنها كانت رغبة ثائرة دفعتنا إلى العمل بحماس شديد ساهم فيه الشباب منا والكهل والشيخ على حد سواء. وبعد أن استكملنا عدتنا من مرافق السفر والإقامة وتزودنا بكل ما يلزمنا من معلومات وخرائط. استأجرنا أربع سيارات من نوع معروف بالمتانة ومقاومة الصدمات والرجات العنيفة. ثم جعلنا إحداها لحمل المعدات والأخريات لركوب الجماعة.
تستغرق هذه الرحلة عادة أسبوعاً كاملاً ثلاثة أيام في الذهاب ويومين في الإقامة والتفرج على الدير ومثلهما في العودة، هذا إذا لم تصادفك عراقيل في الطريق ولكن كثيراً ما يضيع على المسافر يوم أو بعض يوم في إصلاح ما قد تصاب به سيارته من عطب أو في إنقاذها من ورطة، فقد تغوص عجلاتها في الرمل ولا يتيسر إخراجها منه إلا بجهد ومشقة، وتعتبر الكثبان الرملية من أكبر معطلات الانتقال السريع في الصحراء. وهي تعترض الطريق في كثير من الجهات، وكذلك جلاميد الصخر وهيمنتشرةفي كثير من الوديان ومجاري السهول، الا أنها أقل خطورة من الكثبان.
والمسافة بين القاهرة والدير نحو 425 كيلو متراً يقطعها المسافر عادة في ثلاثمراحل من القاهرةإلى السويس، والمرحلة الثانية إلى أبي زنيمة على خليج السويس، والمرحلة الثالثة من أبي زنيمة إلى الدير.
غادرنا القاهرةبعد ظهر يوم الخميس 23 أبريل 1931 بساعتين قاصدين السويس عن طريق الصحراء، فوصلناها
في الأصيل وبتنا فيها. وفي اليوم الثاني عند الفجر عبرنا قنال السويس إلى الضفة الشرقية عند نقطة الشط، وبعد أن فحصنا سياراتنا ورتبنا معداتنا انطلقنا نسير نحو الجنوب في طريق رملي منبسط (وعن يميننا خليج السويس وعن يسارنا تلال تتدرج في الارتفاع كلما(3/79)
بعدت عنا نحو الشرق) وبعد ساعة من الشط مررنا بعيون موسى وهي عبارة عن واحة صغيرة قريبة من الخليج خالية من السكان وبها عين ماء راكدة ونخيل وبعض أشجار أخرى.
وعند الظهر قطعنا وادي الغرندل. وهو واد عريض يسير من الشرق إلى الغرب، كثير الشجيرات، وافر الكلأيتوسطه مجرى من الماء العذب. وبعد وادي الغرندل تتغير طبيعة الطريق فيصير صخريا في كثير من أجزائه كثير التعاريج والالتواءات بين انخفاض وارتفاع، وتقوم في جهته الغربية سلسلة من جبال عالية تحجب البحر ونسيمه. وقبيل العصر برزت أمامنا جبال المنجنيز بلونها الأدكن وعلوها الشاهق. وبعد أن مررنا بوادي الطيب وهو كوادي الغرندل كثير الماء، أنعطف الطريق نحو الغرب وبعد أن اجتزنا مضيقاً بين جبلين، انحدرنا نحو البحر إلى سهل واسع مواز للخليج تقع أبو زنيمة في طرفه الجنوبي وعلى مرفأ صغير للسفن وهي عبارة عن قرية صغيرة بها منشئات شركة المنجنيز ومستودعاتها ومساكن الموظفين والعمال ومسجد ومدرسة أولية ونقطة بوليس ومكتب للبريد والتلغراف ودكان صغير (كانتين) قد يجد فيها المسافر بعض ما يلزمه كالأطعمة المحفوظة والبنزين والسجاير، وبالقرب من الدكان المذكورة مستودع للماء العذب الذي يؤتى به من السويس في البواخر والشركة تعطيه للمسافر من غير مقابل.
كان وصولنا إلى أبي زنيمة قبل الغروب بساعة فلم نشأ المبيت بها بل تابعنا السير والطريق بعدها لمسافة ليست قصيرة ضيق يسير فوق صخور عالية تشرف على البحر من جهة وتحف بها الجبال من الجهة الأخرى، وعند الغروب وصلنا إلى نقطة بوليس لخفر السواحل واقعة على البحر تبعد عن السويس نحو 154 كيلومتراً فبتنا بالقرب منها. وفي صباح اليوم الثالث تابعنا السير جنوباً في الطريق المؤدي إلى الطور مبتعدين عن الطريق الشرقي للدير لكثرة رماله الناعمة وهو الذي تسلكهعادة سيارات مصلحة الحدود. وعند الظهر وصلنا إلى نقطة تفرع منها طريقيتجه شرقاً وهو طريق وادي فيران الموصل إلى الدير فتبعناه وبعد ساعة (وكان تقدمنا بطيئاً جداً لليونة الأرض وكثرة الجلاميد بها) دخلنا وادي فيران العظيم، وهو من أجمل الوديان التي شاهدتها. طوله نحو 120كم، كثير التعاريج وجباله جرانيتية شاهقة ذات ألوان متعددة بين أبيض وأسود وأحمر، وجوانبها(3/80)
تكاد تكون رأسية وقممها مخروطيةتناطح السحاب والوادي كثير العشب والخيرات. وتقع واحة فيران في منتصفه طولها نحو أربعة كيلومترات، يرويها نبع من الماء الزلال يتفجر من جوانب الصخر، ويسيل في مجاري تتخلل بساتين الواحة وترويها، والواحة عامرة بالناس والحيوان والمزروعات والحشائش، ففيها من الحيوانات الجمل والغنم والماعز، ومن المزروعات القمح والشعير والبقول، ومن الأشجار النخيل والليمون المالح والتفاح والنبق والتين والزيتون والسرو والعنب والصبير وغير ذلك من الأشجار البرية التي لا أعرف لها أسماء.
كان وصولنا إلى الواحة قرب الغروب بساعة فنزلنا ضيوفاً على الحديقة التابعة للدير وبتنا تلك الليلة بها، وقد رحب بنا الراهب المشرف على الحديقة وزاد في إكرامنا فهيأ لنا عشاء شهياً مركباً من شاة مشوية وبعض البقول المطبوخة والفواكه المحفوظة.
وبعد العشاء جلست إلى الراهب أستمع لما يقول وهو من أصل يوناني يتكلم العربية برطانة ولكنها مقبولة مفهومة قال: جئت هذه الواحة موفداً من قبل المطرانية منذ ستة عشر عاماً وكنت قد جاوزت الستين فوجدت فيها ما كنت أنشده من العزلة وطيب الإقامة ولا يزيدني مرور الأيام إلا التصاقاً بها ومحبة فيها وقد عشت مع هؤلاء البدو الطيبين عيشة عائلية لم تشب عشرتنا طول هذه المدة أي شائبة، وكل ما أتمناه أن تكون حجرتي الصغيرة هذه (مشيراً إلى حجرة تتوسط الحديقة) وهي التي آوتني طول هذه السنين في قيظ الصيف وزمهرير الشتاء، أتمنى أن يكون فيها لحدي كذلك. ثم سكت وأطرق برأسه، وبعد أن تثاءب طويلاً أخذ يرتل نشيداً دينياً بصوت خافت ونغمة عذبة شجية طربت لها واهاجت عواطفي حتى كدت أبكي ثم اتجه إلى ناحية في الحديقة ودعانا نرقب الهلال من ربى سربالة فكان مشهداً لم أر أجمل منه.
ومظهر الحديقة وحسن تنسيقها يدلان على ما يبذله هذا الشيخ من عناية ومجهود، ويقوم على خدمتها جماعة من البدو بإرشاده وله عندهم مكانة واحترام، وهو يعيش بينهم آمناً مطمئناً ويعيشون في كنفه مسالمين قانعين، وهو المتصرف في شئون النبع فلا يسمح لبساتين الأهالي من مائه الا بما يزيد عن حاجة حديقته. ويشرف على الواحة جبال سربالة بجدرانها القائمة وقممها الضاربة نحو السماء برؤوس مخروطية كالسهام. وقد شاهدنا بين(3/81)
الربى مبان قديمة قيل لنا أنها منازل رومانية أثرية ومن بينها صوامع للرهبان.
وفي صباح اليوم الرابع تابعنا السير بين مناظر طبيعية رائعة خلابة وكان تقدمنا بطيئاً كاليوم السابق لتصعيد الطريق وقبل الظهر مررنا بقبة على ربوة بجانب الوادي قيل لنا أنها مقام نبي الله صالح عليه السلام وبعدها تغيرت معالم الوادي واتجهنا نحو الجنوب ثم مال بنا الطريق نحو الشرق وارتقى بنا في واد شديد الانحدار، وهناك في أحضان جبال ثلاثة وعلى ارتفاع ألف متر من سطح البحر أو يزيد، ظهرت لنا حديقة الدير بأشجارها الباسقة ومن خلفها الدير نفسه رابضاً عند سفح جبل موسى كالحصن ثابت الأركان عالي الجدران تعلوه المنازل والأبراج.(3/82)
النقد
لاتينيون وسكسونيون
لم أحب أن تنتقل المناقشة بين الأستاذ العقاد وبيني من نقد اللاتينية
والثقافة السكسونية. ولست أحب أن تنقل هذه المناقشة إلى هذا
الموضوع. ولست أريد ولا أستطيع أن أجاري العقاد في المفاضلة بين
هاتين الثقافتين.
ذلك لأني أحب هاتين الثقافتين جميعاً وأوثرهما جميعاً وأريد أن أتثقف بهما جميعاً بل أريد أن أتثقف بكل ثقافة أستطيع أن أصل إليها وأن أظفر منها بحظ سواء كان ذلك من طريق القراءة في النصوص الأولى أو من طريق القراءة في التراجم. وإذا كنت أشكو شيئاً أو أضيق بشيء فهو أن قدرتي ووقتي لا يسمحان لي بأن أقرأ كل شئ، وأن آخذ من كل ثقافة بطرف قوي أو ضعيف طويل أو قصير. ولم أفهم قط مناقشة في تفضيل ثقافة على ثقافة أو إيثار ثقافة على ثقافة بالقياس إلى أديب كالأستاذ العقاد، أو إلى رجل مثلي كل همه أن ينتفع ما استطاع بالثقافات الإنسانية على اختلافها.
بل أذكر أن مسألة الثقافات المختلفة قد فرضت نفسها فرضاً في بعض الأوقات حين كنت أستطيع أن أوجه التعليم في بعض البيئات المصرية بعض التوجيه: فكرهت دائماً أن أؤثر ثقافة على ثقافة، ووقفت دائماً موقف الخصومة العنيفة من الذين كانوا يريدون أن يفرضوا على مدارسنا الثقافة اللاتينية أو الثقافة السكسونية، ودعوت وسأدعو دائماً إلى أن تكون مدارسنا وجامعاتنا ملتقى لأعظم حظ ممكن من الثقافات، وأن يترك للطلاب وأسرهم حق الاختيار بين هذه الثقافات. وقد دعوت وسأدعو دائماً إلى ألا تفرض على طلابنا وتلاميذنا لغة بعينها من لغات أوربا الكبرى، وإنما تدرس هذه اللغات الكبرى كلها في المدارس ويختار منها الطلاب وأسرهم ما يشاءون. وحجتي في ذلك أن للثقافات كلها قيمة خصبة وأن منفعتنا الصحيحة إنما تتحقق يوم نأخذ منها جميعاً بحظوظ مختلفة فلا نكون أسرى الإنجليز ولا أسرى الفرنسيين ولا أسرى الألمان وإنما نكون مصريين قبل كل شئ يأخذون بحظهم من الثقافات الحية حسب أمزجتهم ومنافعهم وحاجاتهم وطاقاتهم أيضاً. وإذا كان هذا(3/83)
مذهبي في الصلة بيننا وبين الثقافات الحية فمن غير المعقول أن أجادل في تفضيل ثقافة على الأخرى، والذين قرءوا الفصل الذي كتبته في الرسالة يذكرون أني لم أوثر اللاتينيين على السكسونيين ولم أفضل هؤلاء على أولئك، وإنما أنكرت وما زلت أنكر على الأستاذ العقاد زعمه أن النقاد اللاتينيين يؤثرون الظواهر والأوضاع الاجتماعية ويتتبعون النكت ومراسم الصالونات على حين يعنى النقاد السكسونيون ببساطة الطبيعة وبالرجل من حيث هو رجل.
هذا بالضبط هو موضوع الخلاف بين الأستاذ العقاد وبيني. ويسرني أن الأستاذ قد برئ في الفصل الذي كتبه رداً علي من أن يكون قد أراد أن يعم اللاتينيين كلهم بهذا الحكم. فهذه البراءة في نفسها إنصاف لهؤلاء النقاد اللاتينيين اللذين جنى عليهم مدحالأستاذ أنطون الجميل لشعر شوقي رحمه الله.
وليس الدفاع عن النقاد اللاتينيين تعصباً لثقافتهم اللاتينية أو تنكراً لثقافة السكسونيين وإنما هو العلم ينبغي أن يقر الأشياء في نصابها. وليس من الحق بحال من الأحوال أن نقد اللاتينيين كله أو أكثره أو نصفه أو ثلثه كما أراد الأستاذ العقاد أن يصوره؛ وإنما النقد اللاتيني كان دائماً وما زال نقداً جدياً يقصد إلى طبيعة الكاتب أو الشاعر في بساطتها. ويقصد إلى الرجل من حيث هو رجل، وقد يصطنع في ذلك التأنق والظرف ولكن ذلك ليس عيباً له ولا غاضاً منه وإنما يعيبه ذلك ويغض منه لو لم يكن في النقد اللاتيني إلا تأنق وظرف؛ فأما وفيه بحث وتحقيق، فأما وفيه التماس لطبيعة الكاتب والشاعر في بساطتها. فقد يكون التأنق والظرف شيئاً لا بأس به ولا معنى للزهد فيه.
وعجيب جداً من الأستاذ العقاد أن يكره الاعتراف بأن النقد الحديث كله يقوم رغم تطوره واختلاف المذاهب الحديثة فيه على الثقافة الأدبية اليونانية واللاتينية وعلى ما شرعه ارسططاليس في كتاب الخطابة والشعر من أصول البيان. غريب جداً كره الأستاذ العقاد لهذه الحقيقة. فأن العقل الأوربي كله مهما تكن بيئته ومهما تكن جنسية أصحابه ومهما يكن حظه من التطور وليد العقل اليوناني الروماني سواء رضينا أم كرهنا. ولست أدري لماذا يقبل الأستاذ العقاد أن تكون طبيعة ارسططاليس ومنطقه وإلهياته ورياضيات اقليدس أصولاً لطبيعة الأوربيين المحدثين ومنطقهم وإلهياتهم ورياضياتهم ولا يرضى أن يكون نقد(3/84)
اليونانيين والرومانيين أصلاً للنقد الحديث، مع أن اتصال الأدب الحديث بالأدب اليوناني واللاتيني مازال أقوى وأشد وأمتن من اتصال العلم الحديث بالعلم اليوناني. ولست أدري لم يرضى الأستاذ العقاد أن يكون تفكير اليونانيين والرومانيين في السياسة والتشريع أصلاً من أصول التفكير الأوربي الحديث في السياسة والتشريع ولا يؤمن للنقد بمثل هذه الصلة؟ أم هل الأستاذ العقاد ينكر أن يكون بين العقل الأوربي الحديث وبين العقل اليوناني الروماني صلة ما بين الأصل والفرع؟ فأن كان هذا مذهبه فليس من السهل أن نلتقي أو أن نتفق، بل ليس من السهل أن يلتقي الأستاذ أو يتفق مع الأوربيين أنفسهم. ومن الذي يزعم أن رقي النقد الحديث وبعد ما بينه وبين أصله القديم يقطع الصلة بينهما؟ وما عمل التطور إذن في حياة الأحياء؟ وهل بيننا نحن المتحضرين المترفين وبين آبائنا الذين كانوا يسكنون الكهوف والأغوار ويهيمون في الأحراش والغابات صلة! أم هل نحن قوم قد خلقنا أنفسنا وابتكرناها ابتكاراً؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يوافق الأستاذ العقاد على أن النقد لا يمكن أن يكون علماً يذكر قبل أن يوجد علم النفس الحديث؟ أما أنا فلا أعرف أن النقد علم ولا أحب له أن يكون علماً وإنما أرى كما قلت في غير هذا الموضع أن يكون النقد مزاجاً من العلم والفن وهو على هذا النحو قد وجد منذ عهد بعيد، وجد منذ كان السفسطائيون يعلمون الناس في صقلية وأثينا صناعة الخطابة وفن الجدل. وجد حين كان أرسطوفان يوازن بين ايسكولوس وايروبيدس أمام النظارة من اللاتينيين وهو يمثل لهم قصة الضفادع أو عيد سبرس، وجد حين وضع ارسططاليس فن الخطابة وفن الشعر وأستمر في روما عند سيسرون وعند خلفائه من نقاد الرمان، ووجد ذلك عند العرب. ووجد عند الأوربيين المحدثين قبل أن يوجد علم النفس الحديث. إنما الذي نستطيع أن نوافق الأستاذ عليه هو أن هذه الفنون من النقد القديم قد أصبحت الآن لا ترضينا ولا تغنينا كما أصبحت طبيعة ارسططاليس وطب ابن سينا وفلك جالينوس لا تعجبنا ولا تغنينا، ولكن هذا الشيء وما يذهب إليه الأستاذ العقاد شيء آخر. أما أنا فاعتذر إلى الأستاذ من أني لا أستطيع أن آخذ الأشياء هذا الأخذ السهل الهين القريب ولا أن اقف بها عند أصولها القريبة وإنما أحب أن أتبعها وأن اتبعها إلى ابعد ما أستطيعأن اصل إليه من الأصول، وقد يكون ذلك عيباً من عيوب الثقافة العربية التي نشأت عليها أو من عيوب الثقافة اللاتينية التي تأثرت بها(3/85)
ولكني حريص على هذا العيب لأني أراه الأصل الصحيح لكل بحث علمي له صبغة من الجد. ولست أشك في أن الأستاذ العقاد نفسه حريص على هذا العيب لأن الثقافة السكسونية تكبره أشد الإكبار ويخيل إلي أن قد كلن سكسونيا ذلك الرجل الذي لم يرضه أن ينتهي بالإنسانية إلى آدم فترقى بها أو تنزل في طبقات الحيوان الأخرى. ولست أدري لم نقر دروين حين يرد الناس إلى القردة ولا نقر الأديب الذي يرد النقد الحديث إلى نقد ارسططاليس؟
وبعد فأيهما أنشأ صاحبه: أهو علم النفس الذي انشأ النقد أم هو النقد الذي انشأ علم النفس الحديث؟ مسألة غريبة بعض الغرابة لأن المعروف أن علم النفس فرع من فروع الفلسفة قد تطور حتى أصبح الآن علماً تتناوله المعامل بالدرس والتحليل، والنقد فن من فنون الأدب. ومع ذلك فهذه الغرابة لا تثبت إذا فكرنا في أن هذا النقد إنما هو تحليل للآثار الأدبية وإن هذه الآثار الأدبية إنما هي صور لنفوس الأدباء الذين أنشئوها لنفوس القراء الذين استمتعوا بها. فدراسة الآداب دراسة للنفس الإنسانية. وليست هذه الفكرة جديدة ولا عصرية وإنما هي قديمة جداً عليها أعتمد ارسططاليس في كتاب الخطابة والشعر وعليها أعتمد العرب أنفسهم في فنون البيان. ومن المحقق الذي لا شك فيه أن الدراسات النقدية التي نشرها (سانت بوف) قد أعانت جداً على تكوين علم النفس الحديث. ومن المحقق الذي لا شك فيه أن (تين) كان ناقداً ولكنه ألف كتاب العقل الذي لا يزال له خطره العظيم في علم النفس الحديث. فليس وجود النقد الحديث نتيجة لنشأة علم النفس، وإنما النقد مؤثر جداً في نشأة علم النفس ومتأثر جداً بهذا العلم، وكلاهما قديم وضع اليونان أصوله الأولى. وأنا معتذر إلى الأستاذ العقاد من الرجوع دائماً إلى اليونان فقد أراد الله أن نرجع إليهم دائماً كل ما أردنا تاريخ مظهر من مظاهر الحياة العلمية أو الفنية أو الأدبية.
وهنا أريد أن أعاتب الأستاذ العقاد عتاباً رفيقاً. فقد زعم الأستاذ أن (سانت بوف) لا يشهد لمذهبي في نقد اللاتينيين، وإنما يشهد لمذهب الأستاذ لأنما في (سانت بوف) من مزايا راجع إلى تأثره بالثقافة السكسونية والدم السكسوني. ذلك أن أم سانت بوف من أصل إنجليزي وأنه كان يؤثر الشعر الإنجليزي على الشعر الفرنسي في بعض الفصول التي كتبها عن الإنجليز، وفي بعض رسائله الخاصة.(3/86)
أما أن (سانت بوف) كان يؤثر الشعر الإنجليزي على الشعر الفرنسي فذلك شيء مشكوك فيه جداً لأن (سانت بوف) لم يكن يؤثر شيئاً أو قل كان يؤثر كل شيء أو قل ان أردت التحقيق أن أخص ما يمتاز به هذا الناقد العظيم أنه كان شاكاً مسرفاً في الشك يقر اليوم شيئاً ويعدل عنه غداً ويجوز أن يرجع إليه بعد غد. ولقد أراد (أميل فاجيه) أن يشخص عقلية (سانت بوف) فقال أنه لم يؤمن بشيء ولم يقتنع بشيء ولم يؤثر شيئاً على شيء حتى حين أعتنق الكاثوليكية في الدين والرومنتسم في الأدب، وخدع عن نفسه زعماء الدين حتى هم (لامنيه) أن يستصحبه إلى روما، وزعماء الرومنتسم، حتى فتن عظيمهم (فيكتور هيجو).
كان (سانت بوف) إذا عني بشيء جديد من شعر أو نثر أو تاريخ فتن به فتنة المؤمن الفاني في الأيمان حتى إذا أتقنه وقتله بحثاً وفهماً زهد فيه وانصرف عنه ونفر منه نفوراً شديداً. ولم يكن هذا دأبه في حياته العقلية والأدبية فحسب. بل كان دأبه في حياته العملية والشعورية. فقد كلف بالمذاهب السياسية كلها وزهد فيها كلها وكلف بالكاثوليكية حتى فتن الكاثوليك وبالبروتستنطية حتى شغف به البروتستنطيون. وقال عنه (فاجيه) انه لم يكن يستطيع ان يحب امرأة بعينها او كان يستطيع أن يحب النساء جميعاً. وإذن فلا ينبغي ان يخدعنا (سانت بوف) حين يثني على الشعر الإنجليزي ثناء المفتون به، فلعله لم يكد يفرغ من هذا الثناء حتى أنكره. وهو كذلك قد أثنى على الشعر الفارسي حين ظهرت ترجمة الشهنامة ثناء المفتون به وهو مع ذلك لم يعرف الفارسية ولم تفتنها ثقافته حقاً، وهب هذا الناقد العظيم قد آثر الشعر الإنجليزي حقاً على الشعر الفرنسي ولم يخدع نفسه ولم يخدع الناس عن رأيه الصحيح في ذلك فمن ذا الذي يزعم مخلصاً أن هذا يكفي لإثبات أن الناقد مدين بمزاياه للثقافة الإنجليزي؟ أؤكد للأستاذ أني لم أعتقد يوماً من الأيام أنه هو مدين حتى بوحي الأربعين وغيره من دواوينه ولا بكتابه عن ابن الرومي ولا بكتابه عن جوت ولا بأبحاثه الكثيرة الممتعة لثقافته الإنجليزي الخصبة التي يحبها ويذود عنها. وإنما هو مدين بهذا كله كما يرى (سانت بوف) لشخصيته ولبيئته الخاصة التي نشأ فيها عقله والتي لا تكاد تتجاوز الكتب التي قرأها والمعاني التي فكر فيها والمسائل التي عرض لدرسها. فحب (سانت بوف) لشعر الإنجليز إن صح لا يجعله مديناً بأدبه للإنجليز. وأين يقع تأثير الثقافة(3/87)
الإنجليزي في (سانت بوف) من تأثير الثقافة الفرنسية فيه؟ والذي كتبه سانت بوف عن الإنجليز وعن الأجانب كلهم ليس شيئاً يذكر بالقياس إلى ما كتبه عن الفرنسيين في كتبه الضخمة المدهشة في هذه المجلدات الستة عن بورويال وفي هذه المجلدات الثمانية عن الصور، وفي هذه المجلدات الثلاثة والعشرين التي سماها أحاديث الأثنين، وفي هذين المجلدين عن شاتوبريان وأصحابه. أين يقع ما كتبه (سانت بوف) عن الإنجليز مما كتبه عن الفرنسيين بل مما كتبه عن اليونانيين واللاتينيين؟ فالأستاذ العقاد يعلم بالطبع أن (سانت بوف) عين أستاذاً للأدب اللاتيني في الكوليج دفرانس، ولما منعه الطلاب من إلقاء دروسه عن فرجيل لأنه كان يؤيد سياسة الإمبراطورية الثانية طبع الدروس التي لم يستطع إلقاءها فكان منها كتاب قيم عن صاحب الانيادة. وقد كتب (سانت بوف) عن كثير من الشعراء اليونانيين وعن الإسكندريين منهم خاصة. فما بال الأستاذ العقاد يرى تأثر سانت بوف في نقده بالثقافة الإنجليزي ولا يرى تأثره بالثقافة اللاتينية واليونانية لأنه أحب شعراء اللاتين واليونان، وبالثقافة الإيطالية لأنه كتب عن شعراء إيطاليا في عصر النهضة، وبالثقافة الألمانية لأنه كتب عن جماعة من الألمان وعن جوت؟ أما أن أم الناقد العظيم كانت من أصل إنجليزي فالأستاذ يبالغ في نتيجته، فقد كانت أم (سانتبوف) نصف إنجليزية كما تقول دائرة المعارف البريطانية، وذلك أن أباها كان بحاراً فرنسياً وأن أمها كانت إنجليزية. فإذا كان الأستاذ العقاد يرى أن هذا يكفي ليكون (سانت بوف) مديناً بمذهبه في النقد للإنجليز فليسمح لي بألا أذهب معه في هذه الطريق لأنها طريق شديدة الالتواء. للوراثة أثرها في تكوين الفرد ولكن من الإسراف أن نذهب في تقدير هذا الأثر مذهب الأستاذ ومن الغريب أن الذين أرادوا أن يدرسوا مذهب (سانت بوف) في النقد لم يحفلوا بهذا العنصر الإنجليزي في تكوينه، فلم يلتفت (فاجيه) ولا (لنسون) إلى أم (سانت بوف) كثيراً. أما تين فرأي الأستاذ العقاد فيه عجيب، فهو يرى أني لم أوفق حين استشهدت به أيضاً لأن عمه علمه الإنجليزية في صغره ولأن تين شغف بالآداب الإنجليزية فكتب لها تاريخاً، ولكن الأستاذ العقاد نفسه تعلم الإنجليزية صغيراً وشغف بها وقرأ كثيراً من الآداب الإنجليزية. والثقافة العربية ضعيفة بالقياس إلى الثقافة الإنجليزية. ومع ذلك فأنا لا أطمئن إلى الحكم بأن الأستاذ مدين بأدبه للإنجليز. فكيف إذا عرفنا أن الثقافة الفرنسية التي نشأ(3/88)
فيها تين ونبغ بفضلها قوية تستطيع أن تثبت للثقافة الإنجليزية، وأن تين لم ينبغ بتاريخه للآداب الإنجليزية وإنما نبغ بكتب أخرى أجل خطراً من هذا الكتاب، نبغ بكتابه عن لافونتين الذي نال به الدكتوراه من السوربون، ونبغ بكتابه الضخم الذي أرخ فيه فرنسا الحديثة، ونبغ بكتابه عن العقل، ونبغ بكتابه في فلسفة الفن. فهل يظن الأستاذ بعد هذا كله أني لم أوفق حين اتخذت سانت بوف وتين أعلى مثل للنقد اللاتيني الفرنسي؟ وما ذنبي أنا إذا كان الله قد أراد أن يكون هذان الرجلان رمزين خالدين لحياة الأدب الفرنسي في القرن الماضي؟ وقد بعدنا جداً عما كنا بسبيله من تشخيص النقد الفرنسي اللاتيني، أهو نوع من تتبع النكتة وتأنق الصالونات أم هو نقد بأدق معاني كلمة النقد؟ لن ينفع الأستاذ العقاد أن يحتاط وأن يقول أنه لم يرد النقاد الفرنسيين جميعاً، وإنما أراد كثرتهم أو قلتهم، فليس من الحق أن كثرة النقاد الفرنسيين أو قلتهم كما يظن الأستاذ. وإنما الحق الذي لا سبيل إلى الشك فيه أن السمة الفنية الخالصة هي أظهر ما يتصف به النقد الفرنسي، وأن من ظلم العلم والحق أن يقال في هذا النقد غير ذلك. وأما بعد فهل يسمح لي كتاب آخرون أرادوا أن يخوضوا معنا في هذا البحث بأن أتحدث إليهم حديثاً قصيراً ولكنه لا بد منه. فأما أحد هؤلاء الكتاب فالأستاذ سلامة موسى الذي تفضل فجلس مجلس القاضي وأصدر بين الثقافتين حكم الواثق المطمئن في أسطر ما أحسبها تتجاوز العشرة، ووجد طريقاً إلى أن يقارن هذه الأسطر القليلة بين الإنجليز والفرنسيين وبين أناطول فرانس وبرنارد شو وأن يقول أن الفرنسيين قادوا العالم في القرن الثامن عشر وإن الإنجليز يقودون العالم الآن. أظن أن الأستاذ سلامة موسى يوافقني على أن هذه المسألة أعسر وأعظم خطراً من أن يقضي فيها بجرة قلم وبهذا الإيجاز الذي لا يمكن أن يوصف بأقل من أنه يدعو إلى الابتسام.
وأما الكاتب الآخر فهو الأستاذ محمد علي غريب، فقد كتب الأستاذ في البلاغ فصلاً أشهد أنه أضحكني وأضحكني ضحكاً فيه إعجاب كثير. فهو يسخر من العقاد ومني لأنا نتناقش في مسألة كهذه لا تصلح موضوعاً للمناقشة ولا تنتهي المناقشة فيها إلى نتيجة عملية. وله كل الحق في أن ينكر هذه المناقشة لولا أنه يخطئ حين يطلب إلى كل بحث أو مناقشة أن تكون له نتيجة عملية. قد تكون المناقشة خيراً في نفسها وقد يكون من القصور أو التقصير(3/89)
ألا يكتب الناس إلا ليحققوا غرضاً عملياً، وقد يكون إحقاق الحق في نفسه أهم غرض ينبغي أن يكتب من أجله الكتاب. وقد يكون الأستاذ مخطئاً أيضاً حين يزعم أن ليس في مصر نقد أدبي مصري ويكفي أنه هو ينقد الأستاذ العقاد وينقدني. وقد يكون الأستاذ مخطئاً أيضاً حين يزعم أننا نجادل في الأدب الأجنبي ولا ننتج شيئاً، فأنا أظن أن الأستاذ العقاد قد أنتج شعراً ونثراً وأظن أني لم أنفق حياتي عبثاً. وأنا أحب أن ينقدنا الناقدون بل أنا شديد الحرص على هذا النقد وقد أفتن به أحياناً، ولكني أحب أيضاً أن يتلقى هؤلاء الناقدون نصحنا لهم لقاء حسناً، لعل أحسن ما ننصح به لهم ألا يسرفوا على أنفسهم ولا على الناس.(3/90)
الكتب
ضحى الإسلام
ألفه العلامة أحمد أمين الأستاذ بكلية الآداب ونشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر في 450 صفحة من القطع الكبير وقدم له (الدكتور طه حسين بهذه المقدمة) وستعود الرسالة إلى هذا الكتاب القيم فنقول كلمتها فيه. قال الدكتور:
أراد ناقد من نقاد التمثيل أن يثني على قصة راقته، وملكت عليه إعجابه، وكان صاحب القصة له صديقاً حميماً فتوقع أن يلام في الثناء عليه، ولكنه لم يتحرج من إهداء هذا الثناء إلى صديقه في غير تردد ولا تحفظ. وأعلن في صراحة (أعجبتني) أن من خيانة الأصدقاء أن تتخذ صداقتهم وسيلة إلى جحود مالهم من حق وإخفاء مالهم من فضل، وتجاملهم هذه المجاملة السلبية التي تدفعك إلى أن تتردد وتتحفظ، وتقدم إليهم ثناء ممتقعاً شاحباً، حتى لا تتهم بالإغراق، ولا توصف بالمحاباة. وحتى لا يسوء ظن قرائك بنصيبك من الأنصاف، وحظك من الاستقلال.
رأى ذلك الناقد (وأنا أرى معه) أن هذا النحو من معاملة الأصدقاء خيانة منكرة، وظلم قبيح. وأنه فالوقت نفسه نوع من اتهام النفس، والإسراف في سوء الظن بها. فليس ينبغي للناقد أن يصدر (فيما أرى من رأي) عما يقول الناس فيه أو ما يمكن أن يقولوا فيه، وإنما هو مدين لنفسه ولقرائه بما يعتقد أنه الحق الخالص، سواء أرضي الناس أم سخطوا، وسواء أوافق رأيه هوى القراء، أم أنحرف عنه.
وعلى هذا النحو من الاستعداد عمدت دائماً إلى النقد، واجتهدت ما استطعت أن لا أظلم الصديق لصداقته، ولا الخصم لخصومته، وليس الظلم مقصوراً على أن تغضَّ من العمل الأدبي أو العلمي، أو تنقص من قيمته لأن صاحبه صديق لك، أو حرب عليك. بل هناك ظلم أقبح من هذا وأشنع، وهو أن تثني على من لا يستحق الثناء أو تغلو في حمد من لا يستحق الحمد إلا بمقدار، وأن تحمد الخصم لأنه خصم، ولأنك تكره أن يقول الناس فيك خاصمه فعجز عن إنصافه وتحامل عليه.
ولست أريد أن أخون صديقي (أحمد أمين) بالإسراف في الثناء عليه، ولا أن أخونه بالغض منه والتقصير في ذاته، وإنما أريد أن أنسى صداقته، وأهمل (ولو لحظة قصيرة) ما بيني(3/91)
وبينه من مودة كلها صفو وإخاء استطعنا أن نجعله فوق ما يتنافس الناس فيه من المنافع وأغراض الحياة، وإنما أريد أن أنصفه، وأشهد لقد فكرت وقدرت، وجهدت نفسي في أن أجد شيئاً من العيب ذي الخطر أصف به هذا الكتاب الذي أقدمه إلى القراء فلم أجد، ولم أوفق من ذلك إلى قليل ولا كثير.
وليس ذنبي أن (أحمد أمين) قد قصد إلى عمله في جد وأمانة وصدق، وقدرة غريبة على احتمال المشقة والعناء، والتجرد من العواطف الخاصة. والأهواء التي تعبث بالنفوس، فوفق من ذلكإلى أعظم حظ يستطيع العالمأن يظفر به في هذه الحياة. نعم؛ وليس من ذنبي أن (أحمد أمين) قد استقصى فأحسن الاستقصاء، وقرأ فأجاد القراءة، وفهم فأتقن الفهم، واستنبط فوفق إلى الصواب. ليس من ذنبي هذا ولا ذاك، وليس من ذنبي أن (أحمد أمين) بعد هذا كله، وبفضل هذا كله، قد فتح في درس الأدب العربي باباً وقف العلماء والأدباء أمامه (طوال هذا العصر الحديث) يدنون منه ثم يرتدون عنه، أو يطرقونه فلا ينفتح لهم، ووفق هو إلى أن يفتحه على مصراعيه، ويظهر الناس على ما وراءه من حقائق ناصعة، يبتهج لها عقل الباحث والعالم والأديب، ليس شيء من هذا ذنبي أنا! وإذا لم يكن بد من أن يلام أحد لأن عالماً مصرياً قد وفق إلى هذا الفوز المبين، أهدي إلى اللغة العربية كتاباً لم يسبق إلى مثله، فليُلَم هذا العالم المصري نفسه، وليعاقب (أحمد أمين) لأنه ظفر بهذا الفوز.
لقد اختار (أحمد أمين) لكتابه عنوانه هذا (ضحى الإسلام) وهو لا يقدر إلا أن الضحى يأتي بعد الفجر، وأنه وقد أظهر (فجر الإسلام) يجب أن ينغمس في ضحاه. أما أنا، فكنت أفهم معه هذا الفهم، وأذهب معه هذا المذهب، ولكني لم أكد أبدأ معه قراءة الكتاب حتى أخذت أحس شيئاًلم أرد أن أتحدث به إليه، مخافة أن يكذب ظني مضينا في قراءة الكتاب، ولكننا مضينا، ومضينا حتى أتممنا هذا الجزءالذي نقدمه إلى القراء. فإذا هذا الشيء الذي كنت أحسه يزداد وضوحاً وجمالاً وقوة. وإذا ظني يصدق شيئاً فشيئاً حتى يصبح يقيناً وإذا أنا مؤمن إيماناً لا يشوبه الشك بأن هذا الكتاب الذي أنا سعيد بتقديمه إلى القراء يلقي على تاريخ الإسلام في العصر العباسي الأول نوراً رائعاً وضاء قوياً هو أشبه شيء بنور الضحى.
فالكتاب (ضحى الإسلام) لأنه يدرس تاريخ الحياة العقلية للمسلمين في القرن الثاني(3/92)
للهجرة، وهو (ضحى الإسلام) لأنه قد جلى هذه الحياة وأظهرها للناس كأوضح ما يمكن أن تكون، وكأجمل وأبهى ما يمكن أن تكون، ولست أدري أيهما أهنئ بهذا الفوز (أحمد أمين) لأنه قد جدوألح ومضى في الجد وإلحاح، حتى انتهى إلى هذا التوفيق، أم الجامعة المصرية لأنها قد اهتدت إلى (أحمد أمين) ووكلت إليه ما وكلت من أنواع الدرس وفنون البحث، ولعل الخير كل الخير في أن أصرف هذه التهنئة عن (أحمد أمين) وعن الجامعة إلى الذين يقرءون اللغة العربية، ويعنيهم أن يؤرخوا آدابها، ويستكشفوا ما اشتملت عليه من الكنوز التي كانت مجهولة إلى الآن، هؤلاء أحق بالتهنئة لأنهم سيسيرون منذ اليوم إلى أغراضهم في طريق واضحة سهلة معبدة، يغمرها نور الضحى.
لن تكون حياة المسلمين منذ اليوم، كما كانت من قبل، غامضة مضطربة، يتحدث عنها مؤرخو الآداب بالتقريب لا بالتحقيق، ويقولون فيها بالظن لا باليقين. ذلك عصر قد انقضى، وألقى بينه وبين الذين سيؤرخون الآداب ستار صفيق. ألقاه (أحمد أمين) وأصبح الذين يقصدون إلى تاريخ الأدب قادرين منذ اليوم على أن يحققوا ويستيقنوا، ويسيروا فيبحثهم على بصيرة وهدى.
ما أكثر ما كنا نضيق صدراً بهذه الرموز الغامضة التي كان يلجأ إليها مؤرخو الآداب حين كانوا يذكرون تطور الحياة الإسلامية (أيام بني العباس) بفضل الاختلاط بين العرب وغيرهم من الأمم. وبفضل اتصال العقل العربي بالعقول الأجنبية، وبفضل الترجمة والمترجمين؛ والتأليف والمؤلفين. كانت هذه الألفاظ كلها رمزاً إلى الآن تدل على أشياء كثيرة، ولكنها لا تدل على شيء. تُصَوِّرُ أمام الباحثين صوراً مختلطة مضطربة لا تحصى ولا تستقر، فهي ذاهبة أبداً، جائية أبداً، غامضة أبداً. نسعى إليها، ولا نظفر بها. أو يصرفنا عنها الكسل العقلي؛ الذي هو آفة حياتنا الأدبية في هذا العصر.
أما الآن فقد ضبطت هذه الصورة أحسن ضبط وجليت أحسن تجلية، وأصبحنا إذا ذكرنا تطور الأمة العربية أو الأمم الإسلامية في القرن الثاني للهجرة نعرف بل نحس حقيقة هذا التطور ومصدره، والآماد التي انتهى إليها، وأصبحنا إذا ذكرنا الحياة الاجتماعية للمسلمين في هذا العصر لا نقول كلاماً مبهماً، وإنما نقول كلاماً يدلعلى ما يراد به أحسن دلالة وأجلاها؛ يدل على طبيعة هذه الحياة وما تقوم عليه من اتصال بين الأفراد والجماعات،(3/93)
على اختلاف الأجناس والبيئات والأمزجة، يدل على طبيعة الزواج الذي كان يكون بين هؤلاء الناس فيخلط دماءهم خلطاً، أو قل يمزجها مزجاً، يدل على طبيعة الرق الذي محا الشخصيات الفردية والاجتماعية لكثير من الأفراد والأمم، وصهرها كلها في مرجل واحد هو الدولة الإسلامية، فكون منها شخصية جديدة كل الجدة، طريفة كل الطرافة، هي شخصية الأمة الإسلامية.
نعم ويدل على هذه الطبقات التي كان يتألف منها الجسم الاجتماعي، للأمة الإسلامية، والتي كانت تتقسم فيما بينها الأعمال الكثيرة المختلفة، التي يحتاج إليها هذا الجسم لا ليحيا فحسب، بل ليرفه هذه الحياة ويرقيها، ويأخذ فيها بأعظم حظ ممكن من الترف المادي والعقلي والشعوري جميعاً.
وإذا ذكرنا الثقافة اليونانية، فلن نفهم منها منذ اليوم هذا المعنى المبهم الذي نرمز إليه بالفلسفة أحياناً، ولكنا سنعرف بالضبط مقدار ما أخذ العرب عن اليونان، وكيف أخذوه، ومن أين أخذوه، وكيف أساغوه أولاً، ثم تمثلوه بعد ذلك؟. وقل مثل هذا في الثقافة الهندية والفارسية، أستغفرالله بل خيراً من هذا، قل أكثر جداً من هذا فما أعلم أن باحثاً عن تاريخ الأدب العربي وفق إلى تحقيق الصلة بين العرب والهند، أو بين العرب والفرس إلى مثل ما وفق إليه (أحمد أمين) وهو (بعد هذا كله) أول من بسط هذا في اللغة العربية بسطاً يطمئن إليه الباحث الذي يسلك إلى بحثه طريق الجد والصدق، لا طريق العبث والتضليل.
وإذا ذكرنا الثقافة المسيحية والثقافة اليهودية، فلن نفهم منهما منذ اليوم ما كنا نفهمه من قبل، من أن اتصال المسلمين باليهود والنصارى قد أحدث بين أولئك وهؤلاء ضروباً من التأثير العقلي العام.
ولكننا سنعرف طبيعة هذا التأثير ومقداره ومصدره، ثم سنضع أيدينا على مظاهر هذه الحياة الجديدة، فيما أنتج المسلمون من أدب وعلم وفن.
أستطيع أن أقول إن (أحمد أمين) حينما انتدب لتأليف هذا الكتاب قد أتخذ لأمة المحارب، ووضع أمام عينيه غرضاً أقسم ليبلغنه، أو ليعدلن عن إظهار الكتاب. وهذا الغرض: هو تخليص الحياة العقلية الإسلامية في القرن الثاني من الغموض والإبهام، وما زال بهذا الغموض والإبهام حتى أجلاهما عن موقفهما، وانتزع منهما حياة المسلمين العقلية إلى(3/94)
منتصف القرن الثالث للهجرة. وكان يزورني كل أسبوع ومعه طائفة جميلة رائعة من الغنائم التي كان يكسبها في هذه الحرب الشاقة المتصلة، فأقاسمه سعادته بالظفر، واغتباطه بالفوز.
ولست أحب أن تقدر أني أعمد في هذا الكلام إلى ضروب المجاز وألوان التمثيل لأزين القول وأنمقه، ولكني أحب أن تستيقن أني إنما أقول الحقخالصاً من كل زينة، بريئاً من كل تنميق. فقد كان تأليف هذا الكتاب حرباً عنيفة طويلة مملة بين المؤلف وبين الغموض والإبهام. وكان المؤلف كلما تقدم خطوة وقف ينظم انتصاره، ويصوغ ثمراته هذه الصيغة الجميلة التي ستراها في فصول هذا الكتاب ويتأهب في الوقت نفسه لهجمة أخرى يكسب بها موقعة أخرى، وينتصر بها انتصارا جديداً.
ومع أن المؤلف قد أنفق جهداً قوياً في أن يجنبك مشاركته فيما كان يحتمل من عناء، ويلقى من مشقة، ويذوق من مرارة الصبر والمصابرة، ومطاولة المسائل المعضلة التي كانت تعرض له. فأنت واجد أثر هذا كله في فصول الكتاب، حين ترى المؤلف يسير في أناة تشبه البطء، ويعرض عليك جزئيات ضئيلة، تشبه أن تكون إغراقاً في التفصيل، وتقليداً للجاحظ في حب الأستطراد، ولكن إثْبُتْ لهذا البطء، واصبر لهذا التفصيل، وامض مع الكاتب في رفق وأناة فسترى أن نتيجة هذا الثبات والصبر والرفق أقوم جداً مما كنت تظن، وأنفس جداً مما كنت تنتظر، وأن الكاتب لم يتورط فيها تورطاً، وإنما قصد إليها قصداً، وتعمدها تعمداً. لأنه لم يكن يستطيع أن يعدل عنها حتى يضحي بالأمانة العلمية، والتحقيق الذي يفرضه البحث الحديث فرضاً على العلماء. ولا تَخَفْ من هذا البطء، ولا تشفق من هذه المطاولة، فلن يعترضك ملل، ولن يفل من حدك سأم، ولن تضيق بالكتاب لحظة، فقد عرف الكاتب كيف يهون عليك طول الطريق إلى غايتك، وكيف يبث أمامك في هذه الطريق من الزهر ما يستهوي عينك، وكيف ينشر حولك في هذه الطريق من الأصداء الحلوة ما يخلب أذنك. وأنا زعيم بأنك ستحتاج إلى أن تعيد قراءة بعض الصحف وبعض الفصول، وسترى أن الكاتب على إبطائه وأناته مسرع مسرف في السرعة بعض الأحيان.
أشهد لقد وفق (أحمد أمين) في هذا الكتاب إلى الإجادة العلمية والفنية معاً: أستكشف الحياة العقلية الإسلامية استكشافا لم يُسْبَقْ إليه، ثم عرضها عرضاً هو أبعد شيء عن جفاء العلم(3/95)
وجفوته، وأدنى شيء إلى جمال الفن وعذوبته.
فلينعم القراء بفصول هذا الكتاب، ولينعم المؤلف بما ينعم به الظافر حين ينتهي إلى فوز لا تشوبه شائبة. ولتكن هذه الحياة الجادة الخصبة المنتجة (في تواضع ولين جانب) التي يحياها (أحمد أمين) درساً نافعاً، ومثلاً صالحاً للذين يريدون أن يحيوا في مصر حياة العلماء.
طه حسين(3/96)
المنهل الصافي
لأبي المحاسن بن تغرى بردى
للأستاذ عبد الله عنان
من آثارنا التاريخية النفيسة كتاب (المنهل الصافي، والمستوفي بعد الوافي)، تأليف أبي المحاسن بن تغرى بردى المؤرخ المصري الكبير المتوفي سنة 874هـ (1469م) وهو معجم ضخم للتراجم يقع في ثلاثة مجلدات كبيرة، وتوجد منه نسختان خطيتان بدار الكتب المصرية. وفيه يترجم المؤلف أعلام الإسلام منذ أوائل الدولة التركية ويبدأ بالمعز أيبك التركماني زوج شجرة الدر وملك مصر (648 - 55هـ) أعني منذ منتصف القرن الثالث عشر الميلادي إلى منتصف القرن الخامس عشر، ويفيض بوجه خاص في سير أعلام مصر والشام من ملوك وساسة وجند وعلماء وأد باء، ويترجم أيضاً بعض ملوك النصرانية وأمرائها في هذه العصور، مرتباً ذلك كله على حروف المعجم. وقد جعل أبو المحاسن مؤلفه تكملة أو ذيلاً لمعجم الصفدي الشهير (الوافي). ولهذا الأثر قيمة تاريخية خاصة، لأن مؤلفه وهو من أمراء البلاط القاهري في القرن التاسع الهجري لم يتأثر في وضعه بمؤثرات أو أهواء خاصة، ولا سيما فيما يتعلق بترجمة معاصريه، حسبما يشير إليه هو في مقدمته، إذ يقول إنه وضع كتابه (غير مستدعى إلى ذلك من أحد من أعيان الزمان، ولا مطالب به من الأصدقاء والأخوان ولا لتأليفه وترصيعه من أمير ولا سلطان). والمعنى الذي يقصده المؤلف بهذه الإشارة ظاهر؛ فقد كانت معظم التراجم في عصره توضع بوحي معين أو تحقيقاً لشهوات لخصومات السياسية والأدبية، التي جعلت من كتاب القرن التاسع ومؤرخيه أحزاباً أدبية متنافرة متخاصمة. ولكن أبا المحاسن يقدم لقارئه سيَّر معاصريه والقريبين من عصره في صور أكثر استقلالاً وحرية في التقدير والحكم.
هذا الأثر المصري النفيس ما زال مخطوطاً لم ينشر، كمعظم آثارنا الأدبية. ولكن المستشرق المعروف الأستاذ (فييت) مدير دار الآثار العربية، أخرج لنا منذ عهدقريب بالفرنسية مجلداً ضخماً عن محتويات (المنهل الصافي) وسماه بنفس الأسم، ونشر ضمن مجموعة المجمع العلمي المصري، وكان ضمن مجلدات ثلاثة من وضعه قدمها أخيراً إلى جلالة الملك. والواقع أن كتاب مسيو فييت هذا لا يمثل كتاب (المنهل الصافي) لا في كثير(3/97)
ولا قليل من محتوياته. فهو على رغم كونه يقع في 480 صفحة كبيرة، ليس أكثر من فهرس الكتاب الأصلي، يمهد له مسيو فييت بمقدمة صغيرة يصف فيها الكتاب ومحتوياته، ويحصي عدد التراجم التي يتضمنها (وعددها 2822ترجمة) حسب صفات أصحابها من أمراء وقادة وساسة وتجار وأدباء وعلماء. . ألخ، ثم يكتفي في كل ترجمة بذكر أسم صاحبها وتاريخ مولده ووفاته ورقم الورقة التي يشغلها من المخطوط الأصلي؛ ويذكر المراجع الأخرى التي تشير إلى هذه الترجمة، وأخصها كتاب النجوم الزاهرة لنفس المؤلف (أبي المحاسن) وخطط المقريزي، وإبن حجر، والسخاوي. . ألخ، ثم يذيل ذلك بفهرس أبجدي عام. وهذا مجهود له قيمته من الوجهة العلمية بلا ريب. ولكنا نلاحظ أن الفائدة التي تترتب عليه بالنسبة لكتاب المنهل الصافي ليست كبيرة، فهو كما قدمنا فهرس أو دليل فقط للبحث في الكتاب الأصلي. والتراجم التي يتضمنها الكتاب الأصلي مرتبة على حروف المعجم، ولم يكن عسيراً على الباحثين أن يستخرجوها منه. وليس مما يقدم البحث كثيراً أن يرشدنا مسيو فييت إلى أرقام المجلدات والصحائف، وأن يحيلنا في التراجم إلى مراجع يعرفها كل مشتغل بالتاريخ المصري. وكان خيراً لو أن مسيو فييت بذل هذا المجهود في نشر الكتاب نفسه أو جزء منه، لأن هذا الفهرس الضخم يقع في نحو الخمسمائة صفحة، أعني نحو نصف المخطوط الأصلي، وقد أنفق في إخراجه ما يكفي لإخراج مجلد ضخم على الأقل من المخطوط الأصلي. على أننا نرجو أن تتقدم لنشر هذا الأثر المصري النفيس لجنة التأليف والترجمة والنشر، إلى جانب كتاب (السلوك في دول الملوك) الذي تشتغل الآن بطبعه فتسدي بذلك إلى التاريخ المصري وإلى البحث فيه خدمة جليلة.(3/98)
العدد 4 - بتاريخ: 01 - 03 - 1933(/)
ملكة الجمال
للدكتور طه حسين
هناك ابتسامة تتردد كثيراً قبل أن ترتسم على بعض الثغور. وتتألق في بعض الوجوه. أو قل إن هناك ثغوراً ووجوها تتردد كثيرا قبل أن تقبل أن ترتسم عليها، وتتألق فيها بعض الابتسامات. أو قل إن هناك نفوساً تتردد كثيرا قبل أن تتخذ ثغورها ووجوهها مظاهر لهذا الذي يعرب عنه الابتسام في بعض الظروف. وقد فكرت في هذه الابتسامة المترددة، وفي هذه الثغور والوجوه والنفوس التي تتردد بين الرضا والسخط، وبين ما يظهرهما، ويدل عليهما من الابتسام والعبوس، حين قرأت في الصحف أخبار ملكة الجمال وتشريفها لمصر بزيارتها السعيدة الموفقة.
فكرت في هذه الابتسامة المترددة، لأني أحسست ترددها على شفتي، فرأيتهما تحاولان الانبساط ثم تعودان فتنفرجان وتنبسطان بالابتسامة، ثم تستقر عليهما هذه الابتسامة التي كانت مترددة؛ ولكنها تستقر في سخرية إلا تكن شديدة المرارة، فليس فيها شيء من حلاوة الرضا. ذلك لأني لا أدري أوفقت الإنسانية حين فتحت على نفسها هذا الباب الظريف السخيف، الذي يدخل عليها منه ظرف كثير، ويدخل عليها منه سخف كثير؟ ومن يدري لعل الظرف والسخف صديقان لا يفترقان، وحليفان لن يختصما، أو تتغير الأرض ومن عليها وما عليها. وهذا الباب الظريف السخيف الذي يبعث الرضا ويبعث السخط، والذي يغيظ ويلهي هو باب المسابقة إلى الفوز بسلطان الجمال!
خطرت هذه الفكرة لكاتب فرنسي، ليس هو من المتعمقين في الجد، ولا هو من المتهالكين على الهزل. وإنما هو كاتب خفيف ظريف، يرضى في سهولة، ويرضي الناس في يسر، وتنفق عندهم سوقه في غير مشقة. وأكبر الظن انه يسخر من الناس ومن نفسه وأكبر الظن انه إنما يرضي الناس ويعجبهم لأنه يسخر منهم، يستهزئ بهم ويخيل إليهم أنه يجد كل الجد حين يسوق إليهم الأحاديث، مع أنه لا يزيد على أن يهزل أشد الهزل وألطفه، ولعله إنما يفعل هذا كله، فيهزل جاداً ويجد هازلاً لأنه صحفي، أو قل لعله إنما أصبح صحفيا رائجا نافق السوق لأنه يفعل هذا كله. وأنا اعتذر إلى الصحفيين ولكني أعتقد أن صاحبة الجلالة الصحافة إنما أقامت عرشها العظيم على هذه الدعائم المتينة الصلبة من(4/1)
سياسة الجمهور. وإنما تساس الجماهير في ظل الديمقراطية أحسن سياسة وأجداها حين تلبس لها ثوب الجد وأنت تهزل، وترتدي لها رداء الهزل وأنت تجد، وتظهر لها على كل حال من نفسك ما تريد أن تظهر لا ما ينبغي أن تظهر. هذا الكاتب الفرنسي اللبق الذي فتح للإنسانية باب الجمال على مصراعيه وأثار في رءوسهاالفارغة فكرة المسابقة إلى سلطان الحسن هو (موريس دواليف). خطرت له هذه الخاطرة ذات يوم وهو يمزح، أو ذات ليل وهو يلهو، فتحدث فيها إلى صديق أو صديقين ثم إلى زميل أو زميلين ثم إلى إدارة الجرنال. وما أصبح الصباح حتى ملأت الفكرة باريس. وما أمس المساء حتى ملأت الفكرة فرنسا. وما كان الغد حتى ملأت الفكرة أوربا، وما مضت أيام حتى ملأت الفكرة الأرض كلها ولعبت برؤوس الناس جميعا. وهذا مصدر آخر من المصادر المادية لسلطان صاحبة الجلالة الصحافة هو أنها ترى الرأي فإذا هو أمام الناس جميعا أو أمام جماعات ضخمة منهم في وقت واحد أو في أوقات متقاربة. ومن حوله المغريات والمرغبات والمثيرات للميل. فيلقى الناس بعضهم بعضا وقد قرءوا الصحيفة وإذا هم يتساءلون: وما رأيك في هذه الفكرة الطريفة الظريفة معا فكرة موريس دواليف في هذه المسابقة التي ستدعى إليها الفتيات لإظهار ما لهن من جمال بارع وحسن فتان. ثم تعود أصداء الدعوة من باريس وفرنسا وأوربا وأطراف الأرض إلى الجورنال، وإذا الفكرة قيمة، وإذا التجربة الأولى تهيأ ثم تتم، وإذا للجمال ملكة في فرنسا، وإذا البلاد الأخرى تسير مسيرة فرنسا، وإذا لكل بلد ملكة للجمال، وإذا المسابقة أوربية بين صاحبات الجلالة القومية. وإذا لأوربا ملكة، ثم للعالم كله ملكة، وإذا نظام جديد قد أقيم، وإذا الديمقراطية المتطرفة والاشتراكية الغالية والأرستقراطية المعتدلة والأوتقراطية المسرفة. كل هذه النظم المختلفة المتباعدة قد اتفقت على الإذعان لسلطان الجمال.
ولكن سلطان الجمال وان استعار ألقاب الملكية، أحاط نفسه بألوان القوة وضروب الأبهة، ضعيف نحيف، فاتر قصير المدى كالجمال نفسه، فهو ملك، ولكنه أشبه بالجمهورية، وأي جمهورية؟ أشبه بالجمهورية القديمة؛ جمهورية اليونان والرومان لا يدوم السلطان فيه لصاحبته أكثر من سنة، وهو ملك، ولكنه لا يورث، وإنما يكسب بالانتخاب، وأي انتخاب!! انتخاب ضيق محدود متأثر بالأغراض والأعراض السياسية في كثير من الأحيان، فيجب(4/2)
أن يكون ملك الجمال قسمة بين الشعوب تتبادل سلطانه فيما بينها، تظفر به فرنسا ثم تمره إلى بلجيكا، وهذه تمره إلى هولندا، وعلى هذا النحو حتى يكون لكل شعب حظه من هذه السيادة العالمية البريئة. البريئة؟ مسألة فيها نظر! فهي سيادة بريئة بالقياس إلى الشعوب والأقاليم والمدن والقرى، ولكن براءتها تتعرض للشك والخطر في كثير من الأحيان، ذلك أن هذا الملك الطارئ السريع الزوال يعبث برؤس الملكات وأسرهن، ومن طبيعة الملك أن يعبث برؤس الا إذا اعتمد على دستور صحيح متين، وليس لملك الجمال دستور، وملك الجمال لا يعبث برؤس الملكات وحدهن، وإنما يعبث برؤس كثير من الرعية أيضا، من الشبان والشيوخ وأصحاب الملاعب والمراقص والسينما، ثم ملك الجمال فصيح على هذا العبث، فهو يجري أقلام الكتاب في الصحف، ويطلق ألسنة السيدات في الصالونات، ويزيد هذا كله في الدوار واضطراب العقول. لذلك لا تكاد ملكة ترقى إلى عرش الجمال حتى يصبح مصيرها بعد الخلع - أستغفر الله - بعد الاعتزال مشكوكا فيه. وأكبر الظن أنها صائرة إلى ملعب من ملاعب اللهو، أو ناد من أندية الرقص، أو دار من دور السينما، أو إلى هذه جميعا.
فملك الجمال في حاجة إلى دستور يضمن الملكة الا يكون ارتقاؤها إلى العرش وسيلة إلى ابتذالها.
على أن ناحية أخرى من نواحي هذا العبث الذي يعبثه ملك الجمال بالعقول خليقة بالملاحظة، فملكات الجمال يؤمن بملكهن عادة، ويصدقن أنهن ملكات حقا، وكثيرا ما تؤمن لهن الجماعات بهذا الملك، فيصبح المزاح جداً واللعب حقا لا شك فيه، وينشأ عن هذا الجد الطارئ وعن هذه الحقيقة الإضافية الموقوتة التي لم يفكر فيها اينيشتين بعد، لون من الحياة الذي يبعث هذه الابتسامات المترددة التي تحدثت عنها أول هذا الفصل.
أنظر إلى ملكة الجمال التي شرفت مصر بزيارتها هذه الأيام لم تكد تهم بهذه الزيارة حتى سبقتها الأنباء فطربنا واستشعرنا شيئا من الغبطة لا حد له وتفضلت صاحبة الجلالة الصحافة فقامت لزميلتها في الملك بما يجب من الإعلان ونشر الدعوة. ثم وصلت ملكة الجمال فلم يكن بد لصاحبة الجلالة الجميلة من أن تتناول الشاي عند صاحبة الجلالة الفصيحة البليغة. وكانت دار الجهاد ملتقى الملكتين على مائدة صديقي توفيق دياب،(4/3)
وتفضلت الملكتان ملكة الجمال وملكة الكلام بشيء من العطف الغالي الكثير على طائفة من الرعية المولهة المفتونة، وكنت ممن مسهم هذا العطف. ولكن ملكة أخرى ثقيلة ممقوتة تبسط سلطانها الآثم على الناس في الشتاء وهي صاحبة الجلالة البغيضة الأنفلونزا حالت بيني وبين الاستمتاع بهذا العطف السامي من صاحبة الجلالة الجميلة وصاحبة الجلالة الفصيحة. فأسفت وما أشد ما أسفت!
وملكة الجمال ظريفة كما ينبغي أن تكون فلم تكد تصل إلى مصر حتى أدت طائفة من الواجبات بفرضها عليها جلال الملك وسماحة الجمال فقيدت اسمها في قصرها الملكي العالي ثم ثبت فزارت رئيس الوزراء. فلما فرغت من السلطة التنفيذية تعطفت على السلطة التشريعية فتفضلت بزيارة البرلمان. فأدى وكلاء الأمة واجبهم بين يدي جلالتها كأحسن ما تكون التأدية.
ثم لم تكد صاحبة الجلالة تفرغ من مصر الرسمية حتى تفضلت ففكرت في مصر المعارضة. والملك فوق الأحزاب فتعطفت بزيارة حضرة صاحب الدولة رئيس الوفد المصري ثم فكرت في مصر التي لا تشتغل بالسياسة وإنما تشتغل بالإصلاح الاجتماعي والاقتصادي فتفضلت بزيارة حضرة صاحبة العصمة رئيسة الاتحاد النسائي وزارت دار الاتحاد وشهدت فيه التمثيل وزارت دور الصناعة والتجارة وهي في هذه الزيارات تؤدي لكل حقه بما فطرت عليه من جمال وظرف وأدب ورشاقة وخفة روح، وإذا جلالة أخرى رسمية تشرف مصر وهي الجلالة الإيطالية فينقطع حديث الجمال ويبتدئ حديث السياسة. وليست هذه الصحيفة من السياسة في قليل ولا كثير، فلتكتف إذا بأن ترحب في صدق وإخلاص بصاحبي الجلالة الإيطالية ثم لتعد إلى ملكة الجمال، فلتتمن لها التوفيق بعد الملك كما وفقت أثناء الملك ولتلتفت بعد ذلك إلى القارئ الكريم فننصح له بأن يقرأ قصة تمثيلية بديعة أنشأها الكاتبان الفرنسيان جورج بيرولويس فرنويل، موضوعها ملكة الجمال وعنوانها (مس فرانس) فسيجد القارئ في هذه القصة جداً وهزلاً وفكاهة وصراحة ولذة قوية على كل حال.(4/4)
شعر جديد
لأستاذ كبير
في يوم واحد هو يوم 19 من هذا الشهر قرأت في جريدتين محترمتين من جرائد الصباح قصيدتين إحداهما من شعر آنسة تلقب نفسها (فتاة الصعيد) والأخرى لشاب شاعر من إخواننا السوريين.
فتاة الصعيد توجه تغريدها المنظوم إلى رجل كبير من زعمائنا فتقول:
احبك مهما أثار الخبر ... كوامن حقد إذا ما انتشر
أرى صورة لك في لوحة ... فيلهب قلبي هوى مستعر
وشاعر الشباب السوري يقرظ سيدة كبيرة هي أيضا في كل شيء الا في سنها، ألقت محاضرة في بعض النوادي فيهتف على آثارها:
الله اكبر من سحر البيان ومن ... سحر بعينيك خلى الحفل نشوانا
هذا يدير على الألباب خمرته ... وذا يدير على الأسماع ألحانا
وما علمنا في الأدب العربي أن امرأة أرسلت كلمة (أحبك) في شعر سائر إلا رابعة العدوية حين قالت تخاطب ربها:
أحبك حبين حب الوداد ... وحبا لأنك أهل لذاكا
فابتدعت فنا من الشعر الغرامي صوفيا لا يدرك مراميه الا أهل الأذواق والمواجد.
قد يكون في سن الآنسة أو في شكلها أو في غير ذلك من أمرها ما يغفر لها التصايح بالحب في الميادين العامة. ولكنا على ثقة من أن فتيات الصعيد لا يعرفن الهوى المستعر.
ومن صليت منهن نار الحب ماتت شهيدة الكتمان تردد أنفاسها الخامدة قول العباس بن الأحنف:
لأخرجن من الدنيا وحبكمو ... بين الجوانح لم يشعر به أحد
فصاحبتنا بلا ريب ليست صعيدية ونسبتها إلى الشعر كنسبتها إلى الصعيد، يشهد بذلك قولها في منظومتها على سبيل المدح:
وغيرك في زعمه كاذب ... ومن ذا سواك زعيم، فشر
أما شاعر الشباب السوري فقد كان من حقه إذ يحضر مجالس العلم والأدب أن يشغله شيء(4/5)
آخر عن ملء عينيه من شيء غيره.
وليس بمنكر أن يتحدث الشعر عن العيون السواحر، لكن حديث العيون لا يكون في محاضرة أدبية ولا يكون في النادي الكاثوليكي.
غير أن شاعرنا المسكين يعترف بأنه كان سكران حين نحت قريضه. وما كان أجدره بحد السكر حتى يصحو من خمر العيون ثم لا يقول الشعر إلا صاحيا ولا يسكر بعدها إلا في ألحان من خمر الدنان.
ليت شعري ما الذي يزين هذه البدع في أذواق شبابنا؟ ويا خوفي أن يحسبوها من أثر ثقافة لاتينية أو سكسونية على حين لا من ثقافة هي ولا من ذوق!(4/6)
خواطر وصور
بعض الناس
للأستاذ محمد عبد الواحد خلاف
عرفت فيمن عرفت من الناس رجلا اجتمع له كل ما يشتهي من جمال في المظهر، كان مديد القامة في غير شذوذ، مكتنز العضلات في غير ترهل، حسن قسمات الوجه في غير تخنث، اشرب لونه حمرة تنطق بما حباه الله من عافية في بدنه، محمود الملبس لا تنقصه فيه أناقة ولا حسن انسجام. وكان يغشى ناديا اختلف إليه جماعة من الإخوان فاستشعرت له أول الأمر هيبة وتوسمت فيه خطرا، وكان أحد الرفاق يتحدث في أمر شديد الاتصال بذاته فرأيت لهذا الرجل نظرة ساخرة. أدركت معها أنه يعلم عن هذا الحديث ما لا يعلم قائله، ولم يطل بي الانتظار حتى رأيته قد استولى على الحديث وأخذ يذكر عن نفسه وتجاربه المتصلة به كثيراً، وتشعب الحديث، وأثار الاستطراد ذكر مسائل مختلفة، وكان هو فارس كل ميدان والحجة في كل موضوع، وكان إذا ما اشتد الجدل علا صوته حتى غلب على كل صوت، وإذا أعوزه في دعوى أن يقيم الدليل، أفحم مناظريه بالضجيج والتهويل. وتكرر التقائي به حتى هان عليّ أمره، وصرت لا أحفل لقول يقوله. ولكني كنت أجد في دعواه العريضة شيئا من الفكاهة يروح عن النفس بعض ما تلقاه من جد الحياة.
وقرأ خبيث من الرفاق في إحدى الصحف خبر اعتصاب الحمالين لخلاف بينهم وبين رؤسائهم، فبيَّت في نفسه أمراً يهتك به ستر هذا الدعي. وأقبل صاحبنا يتهادى في مشية بطيئة وقورة وقد تدلى من بين شفتيه سيكار فاخر. واشرق وجهه بتلك الابتسامة الساخرة التي توحي إلى الرائي هو أن الناس عليه، وعلمه من حقائق الأمور ما لا يعلمون. فتلقاه المداعب الخبيث بتهليل المعجب الذي وقف على ما أخفاه من فعال، وبدا عليه ما يشبه الخجل والحياء لافتضاح مكرمة يأبى عليه تواضعه أن تنشر وتذاع. وقال له الصديق المداعب: (لك الله من بطل! لقد لمست في الأمر أصبعك، وشممت منه ريحك، وقلت منذ قرأت الخبر أنها لا شك إحدى أياديك في نصرة الضعفاء. ولكن نبئني كيف وفقت في جمع كلمة أولئك الحمالين مع انقطاع كل صلة بينك وبينهم، وكيف تم لك تدبير أمرهم؟).
وأشفقت من وقع تلك السخرية اللاذعة المكشوفة على نفس صاحبنا، ووجدت فيها قسوة(4/7)
شديدة على هذا الغر. ولكني عجبت حين وجدته يهز رأسه في أناة هزة الواثق، ويذكر أنها بداية حملات يقوم بها في رد حقوق المهضومين، وأن هذا شيء لا يستحق الذكر إلى جانب ما ستظهره الأيام من جهوده العظيمة في هذا السبيل.
وانطلقت من الأفواه ضحكات طويلة عددتها سخرية وعدها هو طرب إعجاب وتقدير، وبدأت بعد هذا أرثي للرجل وأشفق عليه مما سيحيق به من السخرية والازدراء في كل مجتمع يغشاه، حتى كانت بعض الحركات العامة فوجدت الرجل يتصدر مجالسها مسموع الكلمة عالي المنزلة!
أدركت عند ذلك أن أولى الناس في هذا البلد بالرثاء، هم ذوو الفضل والحياء.
أقيلوا عثرات الناس
نشأت نشأة محافظة جعلتني أغلو في استنكار زلات الشباب. واشتد بالنقمة على كل عاثر، ولا يتسع صدري لتلمس عذر لخاطئ. وكنت أجافي من أعرف عنهم ذلك واشتط في الحكم عليهم، فلا أرجو منهم خيرا أبداً.
وكان لي صديق ألف الله قلبينا برباط من الود الصادق أنزله من نفسي أكرم منزل، وباعد بيننا طلب الرزق حينا، فلما التقينا بعد طول غياب وجدت على وجهه غمامة من الاكتئاب دلتني على انه يعاني بين جنبيه هماً مبرحاً ثقل عليه حمله. وكان كلما هم أن يفضي إلي بوجيعته ساوره شيء من الخوف فطواه في صدره. وما زلت أترفق به، حتى قص علي قصته، وعلمت انه في إحدى ثورات العواطف جمحت به نفسه، وأفلت منه قيادها فزلت قدمه، وأتى ما يأتيه كثير من الناس. ولم يجد فيما روى به حسه من متع غناء عما فقده من رضى نفسه وطمأنينة وجدانه، فهو لهذا بائس حزين.
وسكت الصديق ونظر إلي نظرة جازعة لما يعلمه عني من القسوة في الحكم على مثل تلك العثرات. والعجيب من أمري أني وجدتني أكثر محبة لهذا الصديق بعد أن قص علي قصته، وأشد فهما لظروفه ووجدتني أرى عثرته مقالة، وزلته مخفورة ورحت أهون عليه الخطب وأتلمس السبيل لتهدئة أعصابه.
وخلوت لنفسي بعد ذلك وفكرت كيف يتغير حكمنا على الأشياء بتغير فاعليها، ليس منا من أمن العثار. وإذا وقانا الله شرها في أنفسنا فقد يعثر حميم نعزه. فلم نقبل عثرات الأولياء(4/8)
ونتلمس العذر لأخطاء أنفسنا ومن نحبهم ثم نقسو في الحكم على من بعدت بيننا وبينهم الصلات؟
علمتني هذه الحادث أن أقيل كل عاثر وارحم كل خاطئ. وانظر إلى كل زلات الناس على أنها أمراض تعالج بالرفق والعطف والرحمة.
اللذائذ والآلام أوهام
ليست اللذائذ الا بعض خدع الطبيعة تغرينا بها على أداء وظائفنا الحيوية، الست ترى أحدنا إذا مر وهو جائع بمقربة من طعام وفاحت رائحته فمست خياشيمه، أو لاحت صور فرأتها عيناه سال له لعابه وتحرق شوقا إلى التهامه حتى إذا ما ملأ منه معدته وأدى ما تتطلبه الطبيعة لحفظ الذات صد عنه كارها ولم تثر فيه رائحته ومرآه شهوة.
كذلك الحال في كل لذائذ الحس لا تبهر الا جائعا ولا تثير غير صادئ فإذا ارتوى منها زهد فيها.
ومثل اللذائذ الآلام فهي إحساس خادع ينبه المحروم من أداء وظائفه الحيوية إلى أدائها.
واحسبنا نستطيع بشيء من رياضة النفس والمران على حكم الاعصاب، أن نصل إلى منزلة نغالب بها إلى حد كبير خداع الطبيعة فلا تثيرنا كثيرا لذائذ الحس وآلامه.(4/9)
السلوة
للأستاذ عبد الحميد العبادي
. . . . . . وكان صاحبي كلما سئم تكاليف الحياة، وضاق ذرعا بمعاشرة الناس، التمس الراحة فيما تيسر له من أمور ثلاثة: العزلة، والطبيعة، والماضي البعيد.
أما العزلة فتفرغ عليه هدوء السر: وراحة البال: ثم هي فوق ذلك تهيئ له أسباب التفكير في نفسه، وتعينه على أن يستعرض عمله، وأن ينقده في تؤدة وأناة. وصاحبي شديد الأخذ لنفسه. مسرف في تعهدها ومحاسبتها على الصغيرة والكبيرة، فربما بات ساهرا متململا لبادرة بدرت منه، أو زلة زلها لسانه. وهو بعد حريص على راحة ضميره وطمأنينة قلبه. فان استطاع أن يقيم علاقته بالناس على أساس من العدل والأنصاف فذلك، وإلا فليكن المظلوم غير الظالم والمقتول غير القاتل. من أجل ذلك كانت العزلة كثيرا ما تفتح عليه باب ألم معنوي شديد، بيد أنه ألم في شرعه محتمل مستعذب، يصلى ناره، راغبا ويخلص منها مغتبطا راضيا.
وأما الطبيعة، فهي عنده الأم الرءوم: إليها يستريح ويسكن، ومن جمالها ينهل ويعل، وفي حجرها تنبعث نفسه المجهودة، وتهيج عاطفته المكدودة. قد فتن بالطبيعة وحياة الطبيعة، حتى ليكاد مزاجه يساير فصول العام إنبساطاً وانقباضاً، وابتهاجاً واكتئابا، ولولا بقية إيمان لانقلب صابئا يسجد للشمس عند شروقها وغروبها. ويهتف للقمر حين بزوغه وأفوله، ويساهر النجوم والأفلاك من طلوعها لمغيبها. ولصار حلوليا يرى في ثنايا الجبال وأهضاب الأودية وفي الأجمة الملتفة والصحراء البلقع، جنا تراءى له في غدواته وروحاته، ولفتاته ولمحاته، تحاول أن تستدرجه لتستهويه، وتستميله لتفتنه، أجل! ولولا أثارة من تماسك وتصاون، لحنا على النبتة الواهية، ولكبر للدوحة العالية، ولأجهش للصخرة الراسية على ساحل البحر المتغلغل: ولا ندفع بقول الشعر يساجل الطير: لحنا بلحن وتغريداً بتغريد.
على أن صاحبي ليس بالناسك ولا الزاهد. وقد يكون في قرارة نفسه، وحقيقة أمره، مرحا طروباً، ويود، على شدة انصرافه عن الدنيا؛ ألا ينسى نصيبه منها، ولكنه متزمت متشدد؛ يريد للقوم صفواً من النفاق والدهان، خلوا من الحقد والاضطغان، فأما وقد أعجزه ذلك؛ فقد(4/10)
أصبح يرى ضالته المنشودة في الغابرين الأولين من أهل القرون الخالية: أصبح يراها في الماضي البعيد، والماضي عنده عالم حافل بأعلامه وأحداثه، زاخر بخيره وشره: لا عيب فيه سوى أن القدم قد صهره ومحصه، وأن الموت قد نفى خبثه عن طيبه، وزغله عن صميمه، فبدت فيه كل نفس على حقيقتها، ومثَّل كل حادث على جليته، من أجل ذلك اصطفى صاحبي من الماضين خلانا وأصدقاء، قد أصفاهم الود، وأخلص لهم الحب؛ وأن اختلفت الدار، وبعد المزار؛ لقد أدرك صاحبي أن الموت حق والحياة باطل.
تكاءدت الهموم هذا الفيلسوف يوما، فخرج من منزله، وقد طفلت الشمس للغروب، فما زال يتخير الأمكنة والبقاء؛ حتى آوى إلى صخرة قد استقبلت بحرا خضما، واستدبرت مرجا معشوشبا مدهاماً؛ وفي شرقيها المدينة هائجة مائجة؛ صاخبة داوية؛ وفي غربيها قصر عتيق مثلم الجنبات متداعي الأركان.
فأخذ الفيلسوف مجلسه من ذلك المنظر الفخم؛ وجعل تارة يسرح الطرف في البحر الواسع؛ فتطير شعاعا فوق صفحته أشجانه؛ وتذوب في هدير أمواجه آهاته وأحزانه، وتارة ينثني نحو المرج يداعب منثور زهره؛ ويتسمع سجع طيره، وأخرى يلتفت إلى القصر يسأله أخبار من نزلوه ثم ارتحلوا عنه، وكانوا أحاديث. حتى إذا ما ارتوى الفيلسوف من نسيم البحر؛ وعبير الزهر، وحديث القصر؛ تناول هراوته، وزر معطفه، وعاد يؤم المدينة متثاقل الخطى، مرددا قول الشاعر:
أن الطبيعة أم نستجير بها ... من جانب للبرايا غير مأمون!(4/11)
مسارح الأذهان
مشروع مقالة
للأستاذ احمد أمين. أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب
1
جلست إلى مكتبي وأمسكت بالقلم واستعرضت ما مر علي أثناء الأسبوع لأختار منه موضوعا أكتب فيه، فخطر لي أن أكتب في المساجلات الأدبية التي دارت بين شيخ العروبة والأستاذ مسعود في (الطرطوشي ولاردة)، وبين الدكتور زكي مبارك والأستاذ عبد الله عفيفي في كتاب (زهرات منثورة)، وبين الدكتور طه حسين والأستاذ العقاد في (اللاتينيين والسكسونيين). وقلت أن هذا موضوع طريف جدير أن يكتب فيه الكاتب ويعرض فيه لنوعي النقد اللذين ظهرا في كتابة هؤلاء الأدباء؛ فأحد النوعين قاس عنيف، تورط فيه الأربعة الأولون حتى يخيل إلي أنه لم يبق إلا أن يتسابوا بالآباء، أو يتضاربوا بالأكف، ويتبارزوا بالسيوف! والآخر عفيف خفيف كالذي سلكه طه والعقاد، فيه لذع، ولكن بالإيماء والإشارة، وفيه مهاجمة عنيفة، ولكن للفكرة لا لقائلها، ويخيل إلي أنهما إذ تقابلا تعانقا، ومهما أطالا فلن يتباغضا، ليس في أسلوبهما إدلال وفخر وإعجاب وعجب، كالذي بين شيخ العروبة ومسعود، وليس فيه إسفاف وتنابز بالألقاب وإدخال للعمامة والقبعة في وسط المعمعة، كما بين عبد الله عفيفي وزكي مبارك! يدعو أحدهما الآخر إلى التلمذة له، ويلقي كلاهما درسا في النحو على أخيه، ويذكر أن من الألفاظ ما لو ذكرته لهاج بي قراء الرسالة يوسعونني تأنيبا وتجريحا، ولغضب عليً صاحب الرسالة فعاقب مقالتي بإهمالها.
وقلت من الحق أن تصرخ في وجه هؤلاء، وأن تعلن أن نقدهم يعجبك موضوعا ولكن لا يعجبك شكلا، وأن الذوق إذا رقى اكتفى في الخصام بلمحة، وأن الأديب يعجبه التعريض والتلميح، ويشمئز من الهجو المكشوف والتصريح، وأن العامة إذا تسابوا أقذعوا، وأن أولي الذوق إذا تخاصموا كان لهم في الكناية ومراتبها، والإيماء ودرجاته، والتعريض ومقاماته، مندوحة من الأسلوب العريان والصراحة المخزية، وأن الحقيقة الواحدة يمكن أن تقال على ألف وجه، يتخير الأديب أحسنه، على حين لا يعرف العامي إلا وجها واحدا يتلوه(4/12)
الضرب، وأن في أعناق شيوخ الأدب حقا للناشئة من المتعلمين الذين يضربون على قالبهم ويسيرون على منوالهم، وأن هؤلاء الناشئة ليجدون في هذه الصحف والمجلات مدرسة تثقفهم وتغذيهم، ثم هم بعد قادة الأدب وهداة الأمة، فلو أنا علمنا النشء هذا النقد الذي لا يرعى صداقة ولا يأبه لوفاء كان علينا وزرهم، ووزر الأجيال بعدهم، وكانت مدرستنا التي ننشئها قاسية البرامج فاسدة الطريقة.
وقلت: ان هذه الطريقة لا تخدم الحق كما يزعم أصحابها، فلسنا نطلب منهم أن يسكتوا على باطل، وأن يغمضوا عن خطأ. بل نحمد منهم جدهم في خدمة الحق، وسهرهم في كشف الصواب، ولكنهم يسيئون إلى الحق إذا ظنوا أنه لا يؤدي الا بهجر، ولا يكشف إلا بسباب، والحق إذا عرض في أدب كان أجمل وأجدى على رواده، وإذا عرض في سفه حمل المعاند أن يصر على عناده، وحمل الخجول أن يكتم آراءه في نفسه حتى لا ينهش عرضه ولا تبتذل كرامته، فقل التأليف وضعف الإنتاج.
جال كل هذا في نفسي، ولكني خفت أن أكتب مقالتي في هذا الموضوع، وقلت إن فعلت هاجوا بك وتركوا خصومتهم لخصومتك، وتصادقوا لعداوتك، وقالوا أتلقي علينا درساً في الأدب ونحن أساتذة الأدب؟ ومن أنت وما شأنك؟ وجلسوا مني مجلس الملكين يسألون ويسفهون. وأنت ما أغناك عن هذا الموقف! وما أبعدك من هذا المأزق! فتركت هذا الموضوع وعدلت عن المشروع.
ففيم أكتب إذن؟
2
كنت في الترام عصر يوم من هذا الأسبوع، فصاح بائع الجرائد: المقطم! البلاغ! فلم ألتفت إليه لأني كنت قرأتهما. فلم يصدق أني سمعت فصاح صيحة أنكر من الأولى، فكان موقفي منه هو موقفي، فأمعن في الصراخ وأمعنت في البرود، فما وسعه إلا أن صعد لترام ومسني بالمقطم والبلاغ، فاضطررت إلى أن أقول أني قرأتهما ليصدق أني سمعت وفهمت!
وقلت: إن هذا موضع للكتابة طريف، أدعو فيه إلى دقة الحس ورقة الشعور وظرف المعاملة، فان ذلك لو كان لأغنانا عن كثير مما نلاقي من عناء وجفاء، وما معاملاتنا الا كالآلة بلا زيت: تسير ولكن تصدِّع.(4/13)
على أنني قلت أن هذا الموضوع من جنس الأول، فلو أن أساتذة الأدب رقوا في نقدهم، لرق بائعو الجرائد في عرضهم.
فعرضت عن هذه إذ عرضت عن تلك.
3
وجلست في مجلس يجمع طائفة مختارة من الأدباء، فعُرضَت بعض القصائد والمقالات، فما من قصيدة أو مقالة إلا استحسنها قوم واستهجنها آخرون، ورأيت من استحسن لم يستطع أن يقنع من استهجن، ولا من استهجن قد استطاع أن يقيم الدليل على من استحسن، ورأيتهم إذا تناقشوا في المعقولات أطالوا حججهم وسددوا براهينهم، وذكروا لقولهم الأسباب والنتائج، وهم أعجز ما يكون عن ذلك في الفنون والآداب.
فقلت هذا موضوع جيد، أليس من الممكن أن يوضع للذوق منطق كما وضع أرسطو للعقل منطقا؟ فلتكتب في (الذوق الفني) ولتحاول أن تبين أسباب الخلاف ووجه الصواب ووجه الخطأ، وترسم سلما للرقي في الذوق تعرف به من اخطأ ومن أصاب، وتبين به علة الخطأ في المخطئ والإصابة للمصيب، وكيف تحكم على ذوق بأنه أرقى من ذوق، كما تحكم على عقل أنه أرقى من عقل.
ولكني رأيت الموضوع عميقا يحتاج إلى أن أفرغ له وأهجم عليه ابتداء من غير أن أشتت فكري في موضوعات مختلفة فأرجأته إلى حين.
وقلت: ما الذي يمنع أن أجعل مشروع المقالة مقالة؟ فليكن!(4/14)
إلهتي
ما رونق البدر إلاّ ... أشعة من عيونك
ما سحر بابل إلا ... إشارة من جفونك
هديتي لآلهي ... فنوره في جبينك
وحيرتي فيه بعض ... من حيرني في شئونك
وأنت سر وجودي ... فكيف أحيا بدونك؟
صالح جودت(4/15)
قلب!!
يا حسان النبات هاكن قلبي ... زهرة لا تزال في الأكمام
ملؤه في الصميم عرف شذى ... من حنان ورقة وهيام
طله باكر الندى فهو غض ... لم تفارقه روعة الاحتشام
لقنته الطيور في الأيك لحنا ... وقعته قيثارة الإلهام
وهو نسج الطبيعة الحر قد صا ... نته عن كلفة وعن أوهام
يرقب الشمس أن تغذيه بالن ... ور حتى يبيح سر الختام
يوم يفتر بعد طول اغتماض ... عن غرام لم يفوق كل غرام
جنين - فلسطينح أ(4/16)
أثر الثقافة العربية في العلم والعالم
بقلم أحمد حسن الزيات
3
لم يشهد الشرق فاتحا قبل العرب يفتح البلدان والأذهان ويستعمر
الألسنة والأفئدة في وقت معا. فاليونان والرومان غزوه بالسيف
والحضارة والعلم، ولبثوا الحقب الطوال يمكنون لأنفسهم فيه، ويطبعون
آثارهم في أكثر نواحيه، حتى إذا وهنت اليد القوية، وأمكن من يده
السلطان الغريب، تنكرت المعارف وعفت الآثار.
وكان ما كان من ملك ومن ملك ... ثم انقضى فكأن القوم ما كانوا!
ولكن العرب تدول دولتهم وتزول صولتهم ويعمل الفاتح الغشوم في رجالهم السيف، وفي آثارهم النار، حتى إذا ظن انه ملك، وان عدوه هلك، إذا بالعرب يقولون له في كل مكان وفي كل إنسان؛ أنا هنا! وإذا بالمغير المزهو يستسلم لهذه القوة الخفية فتحتل خواطره ومشاعره وكيانه، ثم ينقلب على الرغم منه داعيا لخلافتها ناشرا لثقافتها! فهل رأى التاريخ مثيلا لهذه الأمة التي حكمت الناس ظاهرة ومضمرة؟ وهل رأى التاريخ ضريباً لهذا الشعب الذي طبع قسما كبيرا من الدنيا بطابعه منذ ثلاثة عشر قرنا ثم لا يزال هذا الطابع على رغم العوادي جلي السمات واضح الدلالة؟ فسلطان العرب على العالم قد زال منذ قرون، ولكن ثقافتهم ما تنفك قائمة في الشرق الإسلامي حتى اليوم! ومن الشبيه باللغو أن نفصل أثر هذه الثقافة في أفريقيا وآسيا، فان من خضع للعرب من شعوب هاتين القارتين قد انقطع ما بينهم وبين أسلافهم من صلات اللغة والأدب والعقائد والتقاليد، فأصبحوا لا يتكلمون ولا يفكرون ولا يعتقدون ولا يعيشون إلا بما للعرب من جميع ذلك. وذو الحيوية القوية منهم كالفرس استطاع بعد حين أن يجمع فلول لغته من يد البلى فأعادها إلى الحياة بعد ما اقتبس لها من الألفاظ العربية ما يشارف الستين في كل مائة، فضلا عن استمداده من العربية الروح والحرارة والبلاغة والخط. ومع ذلك ظل الفرس ومن فعل فعلهم يستعملون العربية إلى وقت قريب في التأليف والتعليم والأدب كما كان الأوربيون في(4/17)
القرون الوسطى يستعملون اللاتينية لمثل ذلك. على أن الثقافة العربية لم تقف في الشرق عند حدود الفتوح وإنما تجاوزتها إلى حدود الهند والصين على يد التجار من العرب، والمهاجرين من الفرس، والغازين من الترك والمغول، فالعرب نقلوا في رحلاتهم التجارية طائفة كبيرة من المعارف إلى تلك البلاد ظنها الأوربيون فيما بعد أصيلة فيها. وقد ألح العلامة سديو الفرنسي صاحب كتاب تاريخ العرب في التدليل على هذا الرأي. والرياضي النابغ محمد بن احمد البيروني المتوفى سنة 430 نقل إلى الهند أثناء اتصاله الطويل بمحمود الغزنوي خلاصات قيمة من العلوم العربية نقلها الهنود إلى السنسكريتية في مثنويات من النظم. وكوبلاي خان المغولي أدخل في الصين طب العرب وبعض ما ألف من الكتب في بغداد والقاهرة. ثم أخذ الفلكي الصيني (كوشيوكنج) أزياج ابن يونس المصري من جمال الدين الفارسي ونشرها في بلاده.
وبينما كان الشرق من أدناه إلى أقصاه مغمورا بما تشعه منائر بغداد والقاهرة من أضواء المدينة والعلم، كان المغرب من بحره إلى محيطه يعمه في غياهب من الجهل الكثيف والبربرية الجموحة، وكان حظه من الثقافة يومئذ ما تضمه حصون الأمراء المتوحشين من بعض الكتب، وما يعلمه الرهبان المساكين من قشور العلم. وانقضى القرن التاسع والقرن العاشر للميلاد وأولئك الأمراء في قصورهم يتبجحون بالأمية ويرتعون في الدماء، وهؤلاء الرهبان في ديورهم يمحون الكتابة من روائع الكتب القديمة لينسخوا على صفحاتها الممحوة كتب الدين، حتى أزال الله الغشاوة عن بعض العيون فرأوا من وراء هذا الظلام الداجي بقعة من المغرب تسطع فيها شمس المشرق، فلما تبينوا أن البقعة هي جزء من أسبانيا، وان النور قبس من نور بغداد، استيقظفي نفوسهم طموح الكمال الإنساني فطلبوا العلم فلم يجدوه إلا عند العرب. ففي سنة 1130 أنشئت في طليطلة مدرسة للترجمة تولاها الأسقف (ريموند) وأخذت تنقل جلائل الأسفار العربية إلى اللاتينية وأعانهم على ذلك إليهود، فبعثت هذه الترجمة في أوربا الخامدة شعورا لطيفا وروحا طيبة، وتضافرت على هذا المجهود النبيل قواعد أخرى للترجمة طوال القرون الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر حتى بلغ ما ترجموه من العربية يومئذ ثلاثمائة كتاب أحصاها الدكتور (لكلارك) في كتابه تاريخ الطب العربي وأحصاها غيره أربعمائة. وكان أكثر ما ترجم في هذه العهود(4/18)
كتب الرازي وأبي القاسم الزهراوي وابن رشد وابن سينا وما نقل إلى العربية من اليونانية لجالينوس وأبقراط وافلاطون وأرسطو واقليدس الخ. . . وظلت هذه الكتب المنقولة منهاجا للتعليم في جامعات أوربا خمسة قرون أو ستة، واحتفظ بعضها بقوته وقيمته حتى القرن التاسع عشر ككتب ابن سينا في الطب مثلا، وكان ابن رشد هو المهيمن المطلق على الفلسفة في جامعات فرنسا وإيطاليا وبادو على الأخص ابتداء من القرن الثالث عشر. ولما أراد لويس الحادي عشر تنظيم التعليم سنة 1473 أدخل في المنهج فلسفة ابن رشد وارسطو. فلولا وجود العرب في الأندلس وترجمة علومهم في صقلية والبندقية لما تهيأ للقرون الوسطى أن تظفر بكتاب من كتب اليونان ولا أثارة من علم العرب، ولما تيسر لطلاب العلم من الأوربيين أن يردوا مناهله الصافية في جامعات اشبيلية وقرطبة وطليطلة. قال المؤرخ الإنجليزي جورج ملر في كتابه فلسفة التاريخ: إن مدارس العرب في أسبانيا كانت هي مصادر العلوم، وكان الطلاب الأوربيون يهرعون إليها من كل قطر يتلقون فيها العلوم الطبيعية والرياضية وما وراء الطبيعة. وكذلك أصبح جنوب إيطاليا منذ احتله العرب واسطة لنقل الثقافة إلى أوربا. وممن ورد تلك المناهل الراهب جربرت الفرنسي. فانه بعد أن ثقف علوم اللاهوت في (أورياق) مسقط رأسه جاب عقاب (ألبيرانس) والوادي الكبير حتى ورد اشبيلية. فدرس فيها وفي قرطبة الرياضيات والفلك ثلاث سنين. ثم ارتد إلى قومه ينشر فيهم نور الشرق وثقافة العرب فرموه بالسحر والكفر، ولكنه ارتقى إلى سدة البابوية سنة 999 باسم سلفستر الثاني. كذلك تخرج على علماء قرطبة (شانجة) ملك ليون واستوريا، وأولع بعض أمراء إيطاليا بالعربية وعدوها لغة الأدب العالي، وأوصى قومه الراهب (روجر بيكون) الإنجليزي في كتبه بتعلم اللغة العربية وقال: (إن الله يؤتي الحكمة من يشاء، ولم يشأ أن يؤتيها اللاتين، وإنما آتاها اليهود والإغريق والعرب) وروى فولتير أن جميع ملوك الفرنج كانوا يتخذون أطباءهم من العرب واليهود، وذكر مثل ذلك (جيبون) في الفصل الثاني والخمسين من كتابه تاريخ اضمحلال الدولة الرومانية وسقوطها، وزاد عليه أن مدرسة (سالرنو) التي نشرت الطب في إيطاليا وسائر أوربا كانت غرس العبقرية العربية. وقال المسيو ليبري (امح العرب من التاريخ تتأخرنهضة الآداب في أوربا قرونا طويلة) وتلك حقيقة لا ريب فيها. فان العرب كانوا الحلقة التي لابد منها لصلة المدنية(4/19)
القديمة بالمدنية الحديثة. فهم الذين وقفوا أوربا على مخلفات اليونان وغير اليونان، وهم الذين عالجوا هذه العلوم بالتجربة والاختبار لا بالحفظ والتكرار، حتى جلوا غامضها ونقدوا زائفها ورفعوا مباحثها على أساس من النظر الصحيح. ومالنا نحمل تبعة الكلام ونتعرض للنقض والإبرام وقد كفانا الأمر ثقاتهم ومنصفوهم؟ قال المؤرخ الإنجليزي (ولز) في كتابه ملخص التاريخ: (هب العرب يظهرون ما خفي من مواهبهم فبهروا العالم بما أتوه من معجزات العلم وأصبح لهم السبق بعد اليونان فبعثوا كتبهم من مراقدها. ونفخوا فيها من روحهم الحياة والقوة، فجعلوا بذلك سلسلة العلوم متصلة الحلقات محكمة السرد لا يمسها انقطاع ولا وهن. فإذا كان اليونان آباء الأبحاث العلمية المبنية على الصراحة والأمانة والوضوح والنقد، فان العرب مربوها؛ وما جاءنا العلم والمدنية الا عن طريقهم لا عن طريق اللاتين) وأنكر كاتب من الإنجليز فضل اليونان على العلم الحديث وعزاه كله إلى العرب قال: إن العلم الحقيقي إنما دخل أوربا عن طريق العرب لا عن طريق اليونان، فان الرومان أمة حربية، واليونان أمة ذهنية، وأما العرب فكانوا أمة علمية.
لبث الفرنج يا سادتي في طور التخرج والنقل حين أخذوا عن العرب، أكثر مما لبث العرب في هذا الطور حينما أخذوا عن اليونان. فان من اليسير أن نعد كثيرا من العرب قد بذوا أساتذتهم من اليونان قبل انقضاء قرن على الترجمة، ولكن من المستحيل أن نعد من الفرنج مؤلفا واحدا قبل القرن الخامس عشر كان يعمل شيئا غير النقل عن العرب أو الجري على أسلوب العرب، فرجور بيكون، وليونارد دبيز، وأرمان دفيلنوف، وريمون لول، وهرمان الدلماشي، وميخائيل سكوت، ويوحنا الاشبيلي، وسان توما، وألبيرلجراند، والفونس العاشر أمير قشتاله، لم يكونوا غير تلاميذ للعرب أو نقله عنهم. قال مسيو رنان: إن البير لجراند مدين بعلمه كله لابن سينا، وسان توما مدين بفلسفته لابن رشد.
أسمعوا يا سادتي ما يقول (بترارك) شاعر إيطاليا العظيم ينعى على قومه تخلفهم في مضمار العلم وقعودهم عن مجاراة العرب، والشاعر من رجال القرن الرابع عشر فلا جرم أن شهادته حجة: قال في لهجة مرة من الإنكار والتعجب:
(ماذا! ماذا! أبعد ديموستين يستطيع شيشرون أن يكون خطيبا، وبعد هوميروس يستطيع فرجيل أن يكون شاعراً، وبعد العرب لا يستطع أحد أن يكتب؟ لقد ساوينا الإغريق غالبا(4/20)
وشأوناهم حينا. وإذا شأونا الإغريق فقل شأونا جميع الأمم ولكن ما عدا العرب! يا للجنون! يا للضلال! يا لعبقرية إيطاليا الراقدة أو الخامدة!!)
هذه يا سادتي صفحة واحدة من صفحات الثقافة العربية تعب فيها الإيجاز وضاق عنها الوقت. ظهر فيها أثرها العلمي العالمي على عموميته وإجماله ناصع البيان مشرق الدلالة. وتراءى من خلالها الذهن العربي ساطع العبقرية باهر الجلالة، فهل من الإخلاص للإنسانية والمدنية أن نترك هذا التراث الفكري العجيب يذهب ضحية لخطأ الحكم في الماضي وسوء الفهم في الحاضر؟ أن الثقافة اليونانية وهي أقدم من العربية لا تزال تستغل، وأن الأدب الأوربي ليستمد من روحها قوة ومن قديمها جدة، وأن ثقافة العرب وهي عصارة أذهان الشعوب وخلاصة أديان الشرق لحرية أن تبعث في آدابنا القوة وفي أخلاقنا الفتوة وفي نهضتنا الطموح والحركة على أن هناك صفحات ناصعات من هذه الثقافة في الخلق والأدب والفن سنجعلها موضوع محاضرة أخرى في فرصة أخرى. . .(4/21)
رفائيل
للدكتور عبد الوهاب عزام
البارحة بعد نصف الليل أتممت قصة رفائيل قراءة. وكنت بدأت قراءتها منذ زمان بعيد فتطاول الأمد، وتثاقلت النفس، تثاقل الغم والحزن على قلبي جوليا ورفائيل.
ما حسبت قط أن الحزن الذي شربته جرعات، وأشربه قلبي وأحسسته حينا بعد حين يبلغ بي هذا المبلغ. بلى؛ أذكر أني في إحدى الليالي وقفت القراءة إشفاقاً على نفسي حينما بلغت برفائيل وجوليا حديقة منسو. وحم هنالك الوداع! أذكر أني حينئذ وضعت الكتاب على حافة السرير، وألقيت على الوسادة رأسا بنوء بالهموم، فماج بي الليل وطار الفكر في أرجاء السماوات، وقذف القلب بأحزانه زفرات، ودارت النفس في أعماق من الظلام والفكر ما لها من قرار. ولكني ما حسبت قط أن الحزن آخذ بي إلى هذه الغاية. وأذكر في هذه القصة مواقف موجعة، ومشاهد مروعة. أذكر جوليا ورفائيل، وهما في نفسيهما مأساتان أحكم الله تأليفهما. وبعث بهما إلى الأرض في صفحات الحادثات أو في صفحات لا مرتين ليقرءوا على مر الأيام. . وأذكر البحيرة، بحيرة (برجيه) يوم جمع القضاء بين حبيبين لا يعرف أحدهما الآخر، فكأنهما التقيا على موعد بعد أن برح يهما الشوق، وأمضهما الانتظار، ويوم حان فراق اكس، ورحلت جوليا إلى باريس فتبعها رفائيل يرقبها عن كثب وهي لا تدري، وينجدها كلما عرض لها ما تكره؛ حتى أبلغها دارها ثم رجع، وأذكر تلاقيهما في باريس يجتمعان على هوى عذري، وفرح هو أشد ضروب العذاب، في ملتقى حبيبين هو أشبه بمأتم تهيأ فيه للقضاء الذي ليس منه مفر. ويوم يبيع رفائيل لؤلؤة أمه وهو يبلها بدمعه ليستطيع الإقامة على مقربة من جوليا، ويوم ذهب إلى أمه فأخبرها أن الطبيب أشار عليه بالمسير إلى سافورا، فلا تجد أمه بدا أن تقسو على أعز صديق وأنفس ذخيرة وأجمل ذكرى: الشجرات اللاتي يظللن المنزل واللاتي حنون على هذه الأسرة دهراً طويلا! فكان في ظلالهن مسارح اللهو ومدارج الصبا لرفائيل وأمه وأبيه. فانظر كيف تضطرها الأقدار، أن تسلط الفأس على هذه الأشجار!
كل أولئك أذكره، وأنها لذكرى ممضة. ولكن ما حسبت قط أن يبلغ الحزن بي هذا المدى!
البارحة بعد نصف الليل أخذت الكتاب أقرأ الوريقات القليلة الباقية ونفسي تضطرب فزعا(4/22)
مما سيلقاها في ثنايا هذه الصفحات التي بدت كأنها صحف الغيب تنفتح عن المقادير واحدا بعد آخر.
حتى إذا بلغ رفائيل الكوخ الذي حمل إليه جوليا، فلم ير الا ظلاما ولم يسمع بين الظلام نأمة حي، فدار يقبل الجدار والجدار، حتى بلغ المكان الذي ركع فيه بين يدي جوليا وهي في غشيتها يوم البحيرة. ثم يتحامل إلى جدول يأكل على حافته ما يمسك ذماءه. على ذكرى قاتلة، وحرقة يعيا بها الوصف.
قرأت حتى جاء الملاح إلى رفائيل برسالة من صديقه لويس يبلغه رسائل جوليا، فعاد رفائيل إلى حجرته يسير إلى مهلكه على شعاع ذاو من أشعة الشمس الغاربة. يفض رفائيل الغلاف عن رسالة لويس ثم عن رسائل باريس فإذا كتاب معلم بالسواد، وإذا خط (ألن) لا خط جوليا. يقرأ سطورا سوداء تنعى إليه جوليا. وينظر بصره الزائغ فإذا خط جوليا نفسها، أجل خط جوليا نفسها، ولكنها كلمة أرادت قلمها عليها وهي في غمرات الموت تعزي رفائيل عن نفسها، فلله ما أفظعها تعزية! تركت رفائيل يخر مغشيا عليه. وخررت على فراشي فبكيت ثم بكيت ثم لج بي البكاء.
وحاولت سدى أن أسكن جأشي أو أكفكف دمعي، ما تعمدت البكاء ولا رجوته، ولا خلت أن أنتهي إليه، ولكنه كان وحيا من الحزن والدمع لا أعرف من أين هبط، بل ثورة من هموم راكدة، وأحزان كامنة، كانت قصة رفائيل لها كقداحة الزناد. أو كضربة مسحاة على نبع يدافع الثرى لينفجر.
كذلك انتهت بي قصة رفائيل، وكذلك أبكي لامرتين بعد مائة سنة شاعراً مجهولا يشبه لامرتين طبعاً مكتئباً، وقلبا منقضباً، ونفساً ملتهبة. شاعرا قد يبلغ به الاعتداد بنفسه أن يظن أن ليس بينه وبين أن يكون لامرتينا آخر الا (التأملات).
كذلك فعلت بي قصة رفائيل، فلما أفقت لم أدر أأساء إلى لامرتين أم أحسن، ولم أدر أأحمد صديقي الزيات أم ألحاه؟.(4/23)
هذا الغروب. . .
للأستاذ راشد رستم
شهدت غروب الشمس في كل ناحية من نواحي هذا الوادي الفسيح الممتد: رأيت الشمس من أعلى الهرم الأكبر تذهب مع ذهب الصحراء، ورأيتها تختفي وراء صفحة الماء، أو تودع حسرى خلف جبال ليبيا، أو تغيب كاسفةً وراء الأفق بين أطلال وآثار، أو تغوص في لجة الغيب تحت إشراف المنائر وأعالي الأشجار، أو تحتجب عن الأبصار وسط جمع من كثيف السحاب، أو تذوب في سماء صافية تمسحها من لوحة النهار يد الليل القاتمة، ولها في كل حال ما شاءت لها الأيام من وحشة ومن وراء.
وهؤلاء القدماء آباء هذا القطر القديم كانوا يسيرون، هادئين طائعين، مع الشمس حتى الغروب: كم أعطتهم حياة وحرارة! وكم أمدتهم بأسباب الخلود في الجلمود! وهم اليوم قد غابوا عنها. أما هي فما غابت عنهم ولن تغيب عنا وإنما يأتي اليوم الذي نغيب نحن فيه كما غابوا وكما تلقيناها نحن عن الأجداد سيتلقاها عنا الأحفاد.
وهذه الشمس المانحة، تسير عبر الوادي سابخة، كما كانوا يقولون، تقبل عليهم نياما وتتركهم أيقاظا، تمنهحم بهجة النهار، وتنزل عليهم سكينة الليل، ولكنها بين ذلك قد تأتيهم وقت الغروب بالوحشة ذات الخفايا والظلمات، حتى ليظنون في يقين أن هذا الغروب وداع للنور وتسليم بظلمة الوجود.
ينقطعون عن الحي الصاخب المتحرك، ويدخلون البيوت الهادئة الساكنة كأنهم يدخلون القبور، وفي السكون مع الهدوء تنشأ الحركات - ولكنهم يتركون الفضاء الواسع والنجم الساطع ويخضعون لكابوس الليل الزائل، يسيرون بالركب وئيدا مستسلمين، يضمهم وينضمون إليه وهم فيه صامتون، إلا ما كان أمراً لصارخ بالسكوت، أو زجراً لسريع بالهدوء، أو همساً لآمل باليأس الممقوت. . .
أما أنا فما ساءني غروب في هذا الوادي الخصيب، بل دلني كل غروب، في اختلاف حالاته، على انه حركة تتلوها حركات، وانه علامة للفصل، تنبئ عن وجه جديد بشروق جديد، في نور جديد بأمل جديد. . وهكذا حييت مع هذا الفاصل، متصلا دائما بالأمل الجديد. . .(4/24)
ولم أسأل نفسي ولن أسألها عما يكون مع الشروق الجديد، ولن أسأل غيرها عن غدها إذ الكل على الغد عيال، وما عرفنا عند الناس علم الغيب ولا عناوين الأيام.
إنما أناجي نفسي كل غروب: ماذا أعددت للغد أيتها النفس الساكنة في قلق، الآملة في يقين؟ ماذا هيأت من أثر يضاف إلى آثار سابقات، أو من حسنة تمحو سيئات، أو من بسمة تذهب بالآهات، فيكون ذلك منك فهماً لمعنى الواجب بل لمعنى الحياة. . .
حتى إذا سحبت الشمس بعد غروبها ذيل ضيائها وتمكن الليل من الأحياء، فأني أودع صاحبي وأقول: قم يا صاح فللغروب شروق، وللمساء صباح. . .(4/25)
فلسفة نيتشه
للأستاذ زكي نجيب محمود
لسنا نحسب أن داروين، حينما أذاع رأيه في تنازع البقاء وبقاء
الأصلح، كان يدور في خلده أن ذلك الرأي سيكون له من العمق
والسيطرة الفكرية ما له اليوم، وأنه لن يقتصر على الأحياء من نبات
وحيوان، بل سيتعداها إلى كل لون من ألوانالنشاط الإنساني؛ فأساليب
الحكم، والدين، والأدب، والفن، والفلسفة، كل هذا وما هو أدق من هذا
وأجل، يحاول الكتاب الآن أن يخضعوه إخضاعاً لقانون تنازع البقاء.
فعسانا لا نسرف في القول إذا زعمنا أن داروين هو رب الفكر
لحديث، يتأثر خطاه آلاف المفكرينوالكتاب، وأصبح بقاء الأصلح
غرض الرمي في الكثير الغالب من أبحاث العلم والفلسفة والفن جميعاً.
وفلسفة نيتشه هي واحدة من تلك الفلسفات العديدة التي يرجع نسبها إلى قانون داروين، فقد استولد نيتشه ذلك القانون واتخذ منه مقدمة، ثم استخرج فلسفته كنتيجة لازمة لتلك المقدمة، ولم يجد التردد إلى نفسه سبيلا في إذاعتها في الناس على خطورتها، واقعة ما وقعت من نفوسهم.
ما دام قانون تنازع البقاء وبقاء الأصلح يسيطر على كل مظاهر الحياة، فلابد للواهن أن يخور ويتلاشى، ولابد للقوة في كل شيء أن تظفر آخر الأمر، وإذا فالمثل الأعلى للفضيلة هي القوة دون سواها، والضعف هو علة العلل وآفة التقدم. فأيا كانت الأخلاق التي تثبت قدمها في معترك البقاء، فهي الفضيلة وهي الخير، وأيا كانت الأخلاق التي تخور قواها فتسقط صريعة في الميدان لتخلي الطريق لسواها فهي الرذيلة وهي الشر.
هكذا يبدأ نيتشه منطقه ثم يتابع هذا المنطق إلى نهايته، حتى يصل آخر الأمر إلى نتيجة خطيرة كل الخطر: إلى نبذ المسيحية بل إلى نبذ الأديان جميعا ما دامت تنتشر مبادئ العطف والإيثار والاستسلام؛ ثم ينادي بدوره بوجوب القسوة والقوة والعنف لأنها قوية،(4/26)
ولأنها أقدر على البقاء.
الإنسانية في حياتها وفي تقدمها تحتاج إلى القسوة دون الرحمة، وإلى الكبرياء دون التواضع، وإلى الذكاء والسيطرة دون الإيثار. أما هذه المساواة والديمقراطية التي اتجهت إليها الشعوب في التاريخ الحديث، فإنما تقف عقبة كؤوداً في سبيل الانتخاب الطبيعي للبقاء، فليس في الكثرة العددية والجموع البشرية كمال الإنسانية المنشود. ولكن في الصفوة القوية العبقرية وحدها. إذا فليس من المنطق في شيء أن تكون المساواة أساس الأجتماع، تلك المساواة التي تحد من قوة القوي، وتضيف إلى الضعيف قوة مصطنعة أبتها عليه الطبيعة. فلننبذ الديمقراطية نبذ النواة، ولنخل الطريق أمام القوة لكي تستطيع أن تتبوأ مكانها وتتحكم في أعناق الجماهير، وليكن المثل الأعلى في الحكم هو بسمارك وأشباهه الذين يسوسون الشعوب بالنار والحديد.
الأخلاق
أراد نيتشه أن يقوض بناء الأخلاق السائدة من أساسه، ليقيم على أنقاضه بناء خلقياً جديداً. أراد أن يبيد هذا النوع الإنساني ليخلق ضرباً آخر من الإنسان قوياً عنيفاً ذكياً كما يريد: هو السوبرمان (الإنسان الأعلى).
فقد شهد التاريخ نوعين مختلفين من الأخلاق: أخلاق نبيلة سامية، كانت شعار الشعوب القديمة، وبخاصة الرومان. إذ كانت الفضيلة تعني الرجولة والجرأة والشجاعة، وأخرى وضيعة دنيئة ظهرت في الشرق، اصطنعها اليهود اصطناعاً أيام ضعفهم. حيث الفضيلة عبارة عن مجموعة من صفات ترجع في أصولها إلى الخوَّر والاستكانة والذل. فالخضوع قد خلق التواضع خلقا، والعجز كون الإيثار تكويناً، وهكذا نسج القوم حولهم نسيجا من الأخلاق الهزيلة الخائرة يدرعون بها حيث لا مقدرة لهم ولا سلطان، ونزعت النفوس إلى السلم والتماس لنجاة، بعد أن كانت تلتمس مواضع القوة والخطر؛ فحل الخداع والمكر محل القوة، والإشفاق والعطف مكان الصلابة والعنف، وجاء التقليد دون الابتكار والإنشاء، وقام الضمير حكماً يلتجأ إليه مقام التفاخر بالشرف. . فالشرف وثني، روماني، أرستقراطي؛ أما الضمير فأثر من آثار اليهودية فالمسيحية فالديمقراطية.
ويقول نيتشه إن الأنبياء استطاعوا بما أوتوا من قوة الشخصية. وسحر البيان أن يزينوا(4/27)
للناس ذلك النوع الهزيل من الأخلاق، حتى رسخت في نفوسهم وأصبحت عقيدة ليس إلى نبذها من سبيل، فإتقلبت الأوضاع، وأصبح الفقر والضعف هما جوهر الفضيلة، والقوة والثراء عنوان الرذيلة.
وقد بلغ هذا التقدير الخلقي أقصى حدود التقديس أيام المسيح الذي جعل الناس جميعا سواسية، ومن هنا أشتق العصر الحديث مبادئ الديمقراطية والاشتراكية، التي يعتقد نيتشه أنها الطريق المؤدية إلى الدمار والخراب.
ولكن الطبيعة تأبى الا أن تهدي الإنسانية سواء السبيل، فزودتها بإرادة غريزية لا تخطئ ولا تطيش لها سهام، فأنت إذا أمعنت النظر في الطبائع البشرية، أيقنت أن هذه الأخلاق السائدة من عطف ورحمة وإيثار وتضحية وما إلى ذلك، ليست الا ستاراً رقيقاً يخفي وراءه دافعاً غريزياً يمتلك من الإنسان قياده، نعم ذا أنت أمعنت في تحليل النفس الإنسانية، وجدت (إرادة لقوة) مستقرة في صميم الأعماق، تسير بالإنسان حيث تشاء. أعني أن الإنسان يلتمس القوة والسيطرة في كل ما ينزع إليه من أعمال وما يجيش في نفسه من مشاعر، وهذا الحب الذي يتخذه كثيرون دليلا على الإيثار بحجة أن التضحية فيه واضحة لا تحتاج إلى دليل هو في أعماقه رغبة في التملك، فما يبذله المحب في سبيل حبيبه يدفعه ثمنا للسيطرة على مخلوق آخر!! بل يزعم نيتشه أكثر من هذا فيقول إن من يتفانى في البحث عن الحقائق، لا يصرف مجهوده في سبيل الله من دونه. بل هو في الواقع يحاول أن يمتلك الحقائق قبل الآخرين.
وإرادة القوة هذه تملي على الإنسان ألوان الفلسفة وشتى ضروب الفكر، فمخطئ واهم من يحسب أنها تمثل الحقائق الواقعة، وإنما هي صورة منعكسة لرغباتنا، فالفيلسوف لا يضع المقدمات الصحيحة ثم يستنبط منه حكمته، ولكن الفكرة تنشأ وتتكون في ذهنه أولاً ثم يجيء بعد ذلك المنطق الذي يبررها.
فهذه الرغبات الغريزية المستترة وراء تلك الحجب الكثيفة من الأخلاق الظاهرة، هذه (إرادة القوة) هي التي توجه ميولنا وتكون آراءنا.
فالمنطق إذا ثوب رياء نخدع به أنفسنا، أو بعبارة خرى، تتخذ إرادة القوة من المنطق مبررا لأعمالها أمام العقل الإدراكي، ولكن الرجل القوى لا يحاول أن يستر إرادته وراء(4/28)
هذا الستار المنطقي الشفاف، الرجل القوي لا يعرف الا منطقا بسيطاً ينحصر في كلمتين، هما: (أنا أريد) ومتى أراد فلا حاجة إلى التماس المبررات. ولكن جاءت المسيحية فعكست الأوضاع الطبيعية. وأصبح الرجل القوي يستحي من قوته، ولابد له من البحث عن منطق لرغباته. وبذلك أخذت الأخلاق الأرستقراطية القوية الصالحة تذوي وتندثر، ونهضت قطعان الشعوب تقيم على أنقاضها صرحاً جديداً للأخلاق التي تلائم ضعفهم، وليس من سبيل إلى الشك في أنه إذا أرغمت أنوف الأقوياء، وأخذت السوقة تتبوأ مكان الزعامة من الإنسانية، فهي سائرة بخطى حثيثة إلى الدمار والفساد. ولسنا بحاجة إلى أن نقول إذا كانت الشفقة والرحمة والسلام خيراً، فليست الصراحة والعنف والحروب بأقل منها نفعا للمجتمع الإنساني: وبديهي أن هذه الأخلاق قد دافعت عن بقائها طوال العصور، ولم تبق الا لأنها نافعة وصالحة. ولولا أن (الشر) خير لاختفى من الوجود. فمن الحمق أن ننشد خيراً مطلقاً. بل لابد للأخلاق أن تتطور في الخير والشر على السواء، أي لابد للخير والشر أن يقفا جنبا إلى جنب، وأن يأخذ كل سبيله إلى الارتقاء.
السوبرمان
ما دامت الأخلاق تنزع إلى القوة في تطورها، فغرض الإنسانية لا يجوز أن يلتمس في السمو بالطبقات جميعا، وإنما يلتمس في تكوين نخبة صالحة؛ في تكوين السوبرمان، ومن العبث أن ينصرف المجهود البشري نحو إسعاد السوقة. بل يجب أن يتجه بكل قوته نحو إبادة هذا النوع من البشر، وإيجاد نوع أعلى مرتبة في الأخلاق؛ وانه لخير للإنسانية ألف مرة أن تتلاشى وتندثر من الوجود إذا لم تكن سائرة نحو تحسين النوع والارتفاع به. فليس المجتمع غرضا في ذاته، إنما هو أداة لزيادة قوة الفرد ونمو شخصيته، وهذا الفرد القوي السامي هو السوبرمان. الذي يؤمل نيتشه أن يخرج من أحضان الإنسان الحالي، وهو لا يعتمد في ذلك على الانتخاب الطبيعي، بل يريد أن يتعمد تكوينه بوسائل التربية، لأنه لاحظ أن تطور الحياة الطبيعي لا يعمل على إيجاد الفرد القوي الممتاز، وأن الطبيعة أقسى ما تكون على خيرة أبنائها، فلا سبيل إلى السوبرمان إلا بالانتخاب الصناعي والأخذ بوسائل (اليوجنية) والتربية الكاملة، وهو يقترح لتحقيق ذلك أن نعني بزواج الرجال الأقوياء من نساء ذوات قوة ممتازة، حتى لا يكون الزواج لمجرد التكرار، بل أداة للتسامي،(4/29)
فإذا ما أنتج ذلك الزواج نسلا، أعددنا له مدرسة خاصة تروضه على القسوة والعنف والجرأة والشجاعة، لا يتردد في تنفيذ أغراضه مهما اعترض سبيله من عقبات، غير عابئ بشر أو بخير، فليس الخير إلا ما يزيدنا شعورا بالقوة، وليس الشر الا ما تخور معه العزائم.
الأرستقراطية
الأرستقراطية وحدها هي الطريق إلى السوبرمان، فيجب أن نبحث الديمقراطية من أصولها، وأن نحطم في سبيل ذلك المبادئ المسيحية بأسرها لأنها والديمقراطية صنوان.
الديمقراطية معناها الدمار، معناها أن يتصرف كل جزء من الكل العضوي كيفما شاء، معناها التحلل والفوضى، معناها استخفاف بالعبقرية والنبوغ. معناها استحالة ظهور العظماء، إذ كيف يخضع العظيم لمهزلة الانتخابات، وهذه الشعوب تنبذ النفوس الكبيرة الحرة الجريئة نبذ الكلاب للذئب الجسور؟ نعم تنبذ النفوس الثائرة على القيود والعبادات، والتي لولاها لظلت الإنسانية حيث بدأت في ركود مميت. فكيف السبيل إلى استنبات السوبرمان في مثل هذه التربة الجدباء؟ كلا! لا سبيل إلى ذلك في مثل هذا المجتمع الذي يرفع على أكتافه رجل الأغلبية دون الرجل العبقري العظيم. في مثل هذا المجتمع الذي يحاول عبثا أن يسوي بين أفراد جعلتهم الطبيعة درجات بعضها فوق بعض.
وإذا كان نيتشه ينادي باقتلاع الديمقراطية وتحطيمها. فهو بالتالي يسخر من الاشتراكية لأنها وليدة الديمقراطية وربيبتها، فإذا كانت المساواة السياسية عدلاً، أفلا تكون المساواة الاقتصادية عدلا كذلك؟
لا! العدل أن لا مساواة بين الرجال، والطبيعة نفسها تأبى هذه المساواة وتسعى جهدها في تباين الأفراد والطبقات والأنواع.
الحوت الكبير يلتهم السمك الصغير، هذه سنة القوة وخلاصة الحياة؛ فلتكن كذلك سنة الإنسانية ومثلها الأعلى في الأخلاق بغير مواربة ولا رياء.
نقد
يدعو فردريك نيتشه الإنسان الحالي إلى الفناء والتضحية بنفسه في سبيل السوبرمان، ومن(4/30)
التناقض الظاهر أن يصدر عنه نداء بالتضحية في الوقت الذي يؤكد فيه أن الأخلاق القوية الصحيحة هي التي تدور حول الأنانية والاعتزاز بالنفس! كيف تريدني على إنكار نفسي وتمهيد الطريق لسواي، أستغفر الله بل تدعوني إلىإخلائها وتركها لمن هو خير مني، وفي هذا من الاستكانة والضعف ما يعود نيتشه فينكره أشد إنكار؛ ولم لا أثبت أنا في الميدان؟ ولم لا أكون أنا السوبرمان المنشود بعد إصلاح ما اعوج من طبيعتي؟ كذلك يريد نيتشه أن يقوض الأخلاق السائدة التي تعتمد على الرحمة والإيثار والعطف، ويقول أن ذلك خلقه الضعيف خلقا ليتقي به القوي وقسوته؛ وكم كنا نود أن نسأله كيف تغلب الضعيف حتى سادت آراؤه وأصبحت أخلاقا معترفا بها؟ وأين كانت الأرستقراطية القوية عندما شهرت صفوف الشعب في وجهها هذا السلاح الرهيب؟
الحق الذي لا شك فيه أن النزعات والأخلاق جميعا قد فرضها القوي على الضعيف فرضا، فان كان بها من الوهن شيء، فلا يقع تبعته إلا على عاتق القوي الذي يروج لحكمه نيتشه.(4/31)
بين كرامة الثقافة وضآلة المهنة
في العالم الأوربي والأميركي ملايين المثقفين الذين تلقي بهم المقادير مكرهين إلى المهن الضئيلة في غير رفق ولا رحمة، فلا يقال إن العلم بذلك قد أهينت كرامته وانتهكت حرمته، لأنهم يفهمون العلم على أنه سبيل الرجولة التي تدفع بصاحبها إلى الضرب في زحمة الحياة في غير ترددأوتبرم حتى يساهم في الإنتاج وقد أنف من أن يعيش حميلة على غيره. . أما نحن فنفهم العلم على أنه الوسيلة إلى المكاتب الفخمة والمراوح الجميلة والأبهة المرموقة والفخفخة المغبوطة، ولذلك أصبحت للعلم في مصر كرامة (محلية) خاصة بهذا البلد التعس ينبغي إن ذكرتها أن ترفق بها , وألا تشتد عليها وإلا فقد أدميتها بشدتك وآذيتها بقسوتك. .!
هذا الترفه في مظاهر الحياة آية الأمم عندما تدب إليها الشيخوخة ويمضي عهد شبابها. ولست أجد شاهدا على صدق هذا أعدل من الدولة الرومانية التي أصابت في عهد فتوتها من الغنى والثراء والأسرى ما أدخل الغرور إلى نفوس أبنائها، فمالواعن فلاحة الأرض واستثمارها، وجنحوا عن الاشتغال بالجندية إلى اللهو والترف، فلم يغن عنهم ما لهم وعبيدهم وفنونهم وآدابهم وقوانينهم وعلومهم. وارتج عرش دولتهم أمام القبائل المتوحشة من الصقلب والكلت والجرمان. وما لبث التاريخ أن شهد مصرع الدولة العظيمة ومجدها يتوارى، وعزها يغرب، وجلالها يميل إلى الانحدار. .!
نعلم أن من طبيعة المجتمع أن يحن إلى الكمال، وينزع إلى المثل الأعلى، ولا يقيم على حب (الواقع) فيطمح إلى ما ينبغي أن يكون. ولا أكاد أشك في أن المجتمع لا يسعه أن يحقق مثله الأعلى كما ينبغي أن يحقق إن ظلت المهن التافهة مقصورة على الأميين والجهلة. لأن جمودهم الذهني وظلامهم العقلي يحولان دون تطور هذه المهن وتدرجها إلى الكمال. وهكذا حدثنا تاريخ الزراعة في مصر. . شغل بها الجهلة ومال عنها المثقفون من طلاب الزراعة الذين انطلقوا كلما أتموا دراستهم يبحثون عن وظيفة يظفرون فيها بالمكتب والمروحة وما إليهما من راحة ونعيم. . فكانت النتيجة أن الفلاح المصري ما زال يستخدم من الآلات ما كان يستخدمه أجداد أجداده الأولين. ولو مارس المهنة المثقفون من طلاب الزراعة لتطورت على أيديهم وسارت إلى الكمال بين الحين والحين. وبدت آياتها في شتى مناحيها، ولكن هؤلاء قد جهلوا أن غاية العلم تنحصر في (خدمة المجتمع). ولست(4/32)
في شك من أن السائح الذي يرى معالم النهوض تبدو في مصر واضحة في العمارة والعلم والفن والاقتصاد، ثم يشهد الانحطاط لذي يدب في مهنة الزراعة عندنا سيأخذه الذهول والعجب. . . إذا أردنا أن نحقق للمجتمع مثله الأعلى الذي ينشده ويحن إلى تحقيقه فلنعد إلى شتى طبقاته ونوجد بينها التعاون الفكري ليوجد التوازن في التطور الذي يعم الحياة ويسود مرافقها. . .
وأظن أن المجتمع يحسن إلى نفسه كثيرا إن هو غير نظرته إلى المهن التافهة، لأن الاحتقار الذي يصبه الناس عليها يباعد بينها وبين رغبة المثقفين في الاشتغال بها. . كان توماس كارليل يتغنى بالبطولة ويناشد الإنسانية عبادة أصحابها وإجلال شأنهم. فما تاريخ الإنسانية في زعمه الا تاريخ العظماء من أبنائها. .! ولكن سبنسر يقول إن البطل يبني عظمته على حساب من يبخل عليهم المجتمع باحترامه. . . فمن جهاد الجندي المسكين استعار القائد عظمته ومن شقوة العامل المعذب استمد الثري راحته. فمن الظلم والجور أن نقول أن تاريخ الإنسانية بأسرها تاريخ العظماء من أفرادها. .
ولكن الإنسانية قد بدأت تكفر عن سيئاتها حين هبت تحيي الجندي المجهول (في ميدان الحرب) وترفع من شأنه وتجل من ذكره، وقد بقي عليها أن تمضي إلى إجلال الجندي المجهول في ميدان السلم، إذ ما زالت تعيش على عرق جبينه في الكثير من مناحي حياتها. وأكبر ظني أن هذا الإجلال الذي سيظفر به الجندي المجهول قبل أن يواريه التراب خير ما يمهد للمثقفين الطريق إلى الاشتغال بالمهن الضئيلة.
تساءل صاموبل سمايلر: أيهما يخفض أو يرفع من شأن الآخر: المهنة أم الإنسان. .؟ إنما يرفع من شأن المهنة التافهة ناضج الفكر سليم العقل، وكأنما تستعير المهنة من جلاله جلالة، ومن رهبة مكانته قداسة. . وهذا بالإضافة إلى نتاجها الذي سيربو ويزداد على يديه. . واعتبر عكس هذا في المهن الرفيعة العالية يوم يشغلها من ليس أهلا لها.
ولا ينبغي أن نخشى على عبقرية المثقفين أن تنزوي وتفنى في تفاهة المهنة، فان العبقرية الصحيحة لا تستكين لظلم الزمان ولا تخضع لحكم القدر، وان آياتها لتبدو وتلوح ولو كرهت ظروف صاحبها وعملت على طمس معالمها. . فاتركوا المثقفين يعملوا ويضربوا في زحمة الحياة حيثما ألقت بهم المقادير، والجهاد خير محك للعبقرية وأصدق ميزان لها.(4/33)
توفيق الطويل(4/34)
في الأدب العربي
العوامل المؤثرة في الأدب
2
ومن العوامل المؤثرة في الأدب الأديان وما يتصل بها من الأخلاق والمعتقدات، وتأثير الأديان في الأدب أمر ثابت بأدلة الطبع والسمع فأنها تخلق موضوعات جديدة لمصنفات جديدة. وتؤثر في الأخلاق والعواطف تأثيرا يتردد صداه في مناحي الأدب. على أن تأثيرها الذي يعنينا الآن هو إيجادها لأنواع خاصة من النظم والنثر، فان بنى الإنسان منذ أفزعتهم تهاويل الطبيعة وأدهشتهم تعاجيب الفلك أحسوا بقوة القوى فألهوها كما فعل اليونان والهنود، أو نسبوا الأعاجيب الممتعة الخيرة لمبدأ، والتهاويل المفزعة الشريرة إلى مبدأ آخر كما فعل الإيرانيون الأقدمون، ثم امتلأت نفوسهم بجلالها وجمالها وعظمتها ففاضت على ألسنتهم بالأناشيد والصلوات، فكان من ذلك الشعر الديني وهو مبدأ كل شعر في كل أمة، ومن أقدمه أناشيد (رع) عند المصريين، وأناشيد (فيدا) عند الهند البرهميين، وأناشيد (جالا) عند الإيرانيين، وأناشيد (أرفيه) عند اليونانيين، وسفر أيوب عند العرب.
وعندي أن الشعر العربي لم ينشأ في الصحراء على ظهور الإبل وإنما نشأ كذلك في المعابد العربية أبان انفصال العرب عن الأسرة السامية الأولى، فظهر على ألسنة الكهان باسم السجع ومن أقدمه سفر أيوب على أرجح الآراء. وربما عدت إلى بسط هذا الرأي في فرصة أخرى.
وتأثير الأديان في الآداب غير متحد ولا متشابه لاختلاف العقول في إدراك هذه القوة الخفية، فاليونان قد عددوا آلهتهم وجسدوها على صور البشر، ونسبوا إليها ما للإنسان من كرم ولؤم وغضب وحلم وحرب وسلم وعفة ودعارة وزواج ولذة، ولم يميزوهم من الناس الا بالقوة والخلود. لذلك كان شعرهم الديني في الآلهة أشبه بشعرهم الدنيوي في الملوك: يصف الخوارق والعظائم والقوة، ولا ينم عن رحمة الخالق وخشوع المخلوق، ولا يدل على الرجاء الذي يبعث على الطاعة، ولا على الخوف الذي يردع عن المعصية.
أما بنو إسرائيل فقد وحدوا الله وبرءوه من النقص، ونزهوه عن المثل وملئوا صدورهم بهيبته وعزته وجلالته، فكان شعرهم في ذاته العليا فياضاً بالتقديس والإجلال والابتهال(4/35)
والاتكال وللبكاء والرجاء والخوف. كذلك يختلف تأثير الدين الواحد في الأدب باختلاف الأزمان والبلدان وطبقات الناس ونظام الحكم، فان في كل دين من الأديان السماوية قسما وجدانيا اجتهاديا يختلف أبناؤه في فهمه اختلافهم في الطبائع والمنازع والغاية. فأشعار الخوارج مثلا تنضح بالدماء وتطفح بالحماسة لتعصبهم وتصلبهم وجعلهم غاية الإسلام جهاد مخالفيهم في الرأي، وأشعار الشيعة تفيض بإجلال زوج البتول وصهر الرسول وتمجيد ذكرى بنيه وتمثيل آلامهم، ورثاء من قتل من أعلامهم. وأشعار الصوفيين تصف مقاماتهم وتذكر إشاراتهم وتكثر من الكناية بالخمر والسكر والعشق والعبق عن شدة تعلقهم بالله. ولا يقتصر تأثير الأديان على النظم وإنما يؤثر كذلك في النثر، فلولاها لما كانت النبوءات عند الإسرائيليين، ولا التعازي عند الفرس، ولا خطب المنابر ومقامات الوعظ عند المسلمين والمسيحيين.
ومنها: العلوم النظرية والتجريبية. وتأثيرها العام في ترقية العقل وتقوية الشعور وتنمية الصور لا يحتاج إلى تمثيل ولا تدليل، ولكن لها تأثيراً خاصاً في خلق أنواع طريفة من الآداب كالشعر التعليمي مثلا وهو نوع من الشعر يجمع بين رشاقة اللفظ ولطف التخيل وجودة الوصف ودقة البحث وحقائق العلم. وتراه في الآداب الأجنبية القديمة والحديثة أرفع وأمتع منه في الآداب العربية، فان من الغضاضة على الفن والإساءة إلى الذوق أن ندخل فيه منظومة ابن عبد ربه في التاريخ، وألفية ابن مالك في النحو. وقد استحدث اليونان في النثر المحاورات الفلسفية كمحاورات أفلاطون، وهي نوع طريف من الأدب الإغريقي قلده شيشرون في محاوراته في الأخلاق والفلسفة والبلاغة. كذلك احدث انتشار العلوم نوعا من القصص الخيالية تمتزج فيها حقائق العلم بروعة الخيال وغرابة الحوادث تحقيقا لرأي من الآراء أو تشويقا لعلم من العلوم كما فعل الفرنسيان فلا مريون الفلكي وجول فيرن القصصي. وكما صنع من قبلهما أبو بكر محمد بن عبد الملك بن طفيل الأندلسي في رسالة حي بن يقظان، فقد أراد بوضع هذه القصة أن يشرح كيف يستطيع الإنسان بمجرد عقله أن يتدرج من المحسوسات البسيطة إلى أسمى النظريات العلية، ولكنه يعجز عن إدراك أرقى الحقائق بغير وحي من الله أو هداية من نبي، ثم كان من نفاق العلوم التاريخية في صدر القرن التاسع عشر، وميل الجمهور إلى دراسة الماضي، أن ظهر في إنجلترا(4/36)
القصص التاريخي، ابتدعه الكاتب الإنجليزي (ولترسكوت) واقتفاه في فرنسا (الفريد دفني) في رواية خمسة مارس. وفي ألمانيا (جورج ايسبرس) في قصته المصرية وردة. وفي مصر جرجي زيدان في رواياته الإسلامية. وللعلوم فضل ظاهر على اللغة في المادة والاسلوب، وأثر قوي في ترقية النثر خاصة لأنها تكسبه القوة والدقة والوضوح. وما ارتقى النثر في أمة من الأمم إلا بعد تقدمها في الحضارة ورقيها في العلم، لأن النثر لغة العقل كما ان الشعر لغة الخيال. فالنثر اليوناني لم يرق الا بعد عصر هوميروس بأربعة قرون حين دون تاريخ توسيديد ومحاورات أفلاطون وخطب ديمستين. والنثر العربي لم يرق الا أوائل الدولة العباسية على يد ابن المقفع، والنثر الفرنسي لم يرق الا بتأثير الفلاسفة والرياضيين في القرنين السادس عشر والسابع عشر كبسكال وديكارت.
ومن تلك العوامل: أحوال السياسة الداخلية، فإن لمدها وجزرها، ولانتقاض حبلها أو أتساق أمرها، أثراً بالغا في فنون الآداب يختلف باختلاف حاله.
ففي خلافة معاوية مثلا انتشر الهجاء المقذع في العراق، وفاضت بحور الغزل الرقيق في الحجاز، وما علة ذلك إلا سياسة هذا الخليفة، فقد كان يخشى العراق على عرشه الواهي الدعائم، فساسه بالتفريق وإحياء العصبية وإذكاء التنافس بين الشعراء والقبائل ليشغل الناس عن الخصومة في خلافته بالخصومة في أمر جرير والفرزدق والأخطل، وكان يستوحش من ناحية الحجاز فاعتقل شباب الهاشميين في مدنه، وسلط عليهم الترف وشغلهم بالمال وخلى بينهم وبين الفراغ فعكفوا على اللهو والصبابة والغزل. وبعد خلافة المتوكل العباسي ازدهر الأدب العربي وازداد ابتكارا وانتشارا وكثرة. وعلة ذلك السياسة أيضا، فان الخلافة العباسية قد انتقض حبلها في أواخر عهد المأمون وانصدع شملها في عهد المتوكل باستقلال الولاة في فارس والشام ومصر والمغرب. فكان ضعف السياسة قوة للأدب لأن الشعراء والأدباء والعلماء بعد أن كانوا مكدسين في بغداد لا يريمون عنها تفرقوا في الممالك الجديدة فوجدوا من أمرائها وأجوائها ما ساعدهم على وفرة الإنتاج ورفع شأن الأدب. وللأحوال السياسية كذلك أثر في خلق فنون جديدة من الأدب أو ترقية ما كان منها، ومثل ذلك النوع الذي يسميه الفرنج بالخطابة السياسية كالخطب الرائعة التي ألقاها ديمستين في مجالس اليونان العامة حين كان فيلبس ملك مقدونيا يتربص بحرية أثينا(4/37)
وسلامتها ريب المنون، وكتلك التي ألقاها شيشرون في مجالس الأعيان دفاعا عن شؤون الجمهورية الرومانية، وقد نفق هذا النوع في مصر الحديثة على لسان الزعيمين الكبيرين مصطفى باشا كامل وسعد باشا زغلول، وهذا الفن وليد الحرية السياسية والحياة الديمقراطية والأنظمة الدستورية. فإذا منيت الشعوب بالاستعباد أو طغيان الاستبداد تلاشى وانقرض، كما تلاشى في اليونان حينما وقعوا في العبودية، وانقرض عند الرومان حين فدحهم طغيان القياصرة، وهناك الشعر السياسي أيضا كالشعر الذي كانت تصطنعه الأحزاب والفرق في صدر الدولة الإسلامية. ومن ذا الذي ينسى فيضان بحور الشعر وطغيانها في بغداد ودمشق حين أعلن الدستور العثماني؟ لقد كان الظلام ضاربا على العيون، والجهل غالبا على الافئدة، والجمود مستوليا على العواطف، وقوى العرب المنتجة معطلة، وأياديهم العاملة مغللة، فكان إعلان الدستور بسمة الأمل في قطوب اليأس، وومضة المنارة في بحر مكفهر الجو بالضباب مضطرب الموج بالعواصف، فاهتزت النفوس وانطلقت الألسن وصدحت البلابل تنعى الليل وتبشر العيون بالصباح.
كذلك من هذه العوامل اختلاط الأجناس المختلفة العقليات والعادات والاعتقادات بالمصاهر والمجاورة في أمة واحدة، وأثر هذا العامل أظهر ما يكون في دولة العباسيين في بغداد ودولة الأمويين في قرطبة، فان حضارتيهما نتيجة اختلاط شعوب مختلفة لكل شعب منها خصائص ومزايا أكملت نقص الآخر وساعدته على العمل والإنتاج ففي البلدين اتصلت المدنية السامية بالمدنية الآرية فالتقى التصور العميق بالتصوير القوي، والعقلية العلمية بالوجدان الشعري، وكان من أثر هذا اللقاح في الفكر والعقل ما يعلل لنا وفرة المعاني الجديدة في شعر بشار وأبي نواس وأبي العتاهية وابن الرومي. ولولا هذا اللقاح المخصب العجيب لظل الأدب العربي ظامئ الجذوع دقيق الفروع ذابل الأوراق واحد المذاق قليل الثمر.
ومنها التقليد والاحتذاء، والتقليد فطري في الإنسان لا يستطيع بدونه أن يتكلم ولا أن يتعلم ولا يملك لنفسه اكتساب عادة ولا تربية خلق، ولولا الاحتذاء لما كانت فنون الآداب، لأن الشعر والنثر إنما يصاغان على قواعد وأساليب خاصة. وما مراعاة هذه القواعد والأساليب إلا اقتداء الأديب بمن سبقه سواءً أكان إقتداؤه مقصودا منه أم غريزيا فيه.(4/38)
على أن التقليد الذي نقصد إليه هنا هو تقليد أمة لأخرى لشدة ارتباطها بها، أو لاعتقادها السمو في آدابها، وقد أشرت منذ هنيهة إلى مثال من ذلك وهو ظهور القصص التاريخية في إنجلترا وانتقالها إلى الأمم الأخرى بالاحتذاء، ولقد كان للتقليد في الآداب القديمة شأن نابه وأثر ظاهر. فالشعر اللاتيني في عصر أغسطس عاف أساليبه الفطرية وأوزانه القديمة، واغترف من بحور الشعر اليوناني فحاكاه في أوزانه وأنواعه ومعانيه، والأدب الفرنسي قبل (رنسار) و (ماليرب) كان حائراً بين اللاتينية والإغريقية، والتمثيل إنما نشأ بديا في كنائس رومية وباريس أثناء القرون الوسيطة لتمثيل صلب المسيح وآلام الشهداء الذين أوذوا وقتلوا في سبيل المسيحية على نحو ما يفعل الفرس من تمثيل ما أصاب أهل البيت من الخطوب والاضطهاد والمحن، ثم انتشر التمثيل بالتقليد في سائر الأمم. ولما حييت الآداب اليونانية واللاتينية واطلع أدباء الغرب على ما صنف فيهما من الروايات التمثيلية تهافتوا على تقليدها واقتباسها فدخل فن التمثيل من جراء ذلك في طور جديد. ولو شاء الله لأدبنا الكمال من نقصه لألهم المترجمين في عصر المأمون أن ينقلوا روائع الأدبين الإغريقي واللاتيني من الشعر والقصص والروايات والخطب والملاحم كما نقلوا العلم والحكمة، إذن لقلدهم أدباء العرب في ذلك ولسدوا في الأدب العربي خللا ما بريء منه حتى اليوم. إنما استفادالأدب العربي من التقليد في فن الحكايات والأمثال حين ترجم ابن المقفع وبعض الكتاب شيئا من القصص الفارسي ككليلة ودمنة وهزار افسانه ودارا والصنم الذهب، فكان ما ترجموه حديا للعرب ونموذجا لهم في وضع ما وضعوه منها.
أما الأدب الفارسي والأدب التركي فهما صنيعة التقليد ونفحة من نفحات الأدب العربي، فان الفرس حينما استولى الإسلام على أفئدتهم ولغته على ألسنتهم ظلوا زهاء قرنين يقرضون الشعر بالعربية دون الفارسية. فلما هبوا في القرن الثالث يستردون مجد أجدادهم، ويطاردون العربية ونفوذها من بلادهم، ويوحون إلى شعرائهم من أمثال الدقيقي والفردوسي أن يجددوا مفاخر الأسلاف بتأليف المنظومات القصصية والأناشيد القومية لم يجدوا ذلك ميسورا إلا باحتذاء الشعر العربي واقتباس أوزانه وبديعه وكذلك فعلوا في النثر فقد أخذوا يوشونه منذ أوائل القرن الخامس برشيق الألفاظ وغريب المجاز وزخرف البديع اقتداء بما نشر في أقاليم العجم الشمالية الشرقية من الكتب التاريخية العربية التي كتبت(4/39)
بالسجع المونق ككتاب اليميني الذي ألفه أبو نصر العتبي للسلطان محمود الغزنوي.
وأما الأتراك العثمانيون فانهم حين أخذوا يدونون أشعارهم في أوائل القرن الثامن اقتبسوا من الفرس بعض الأوزان العربية مدداً لأوزانهم القديمة، ولكنهم ابتداءً من القرن التاسع أغفلوا أوزانهم واصطنعوا العروض الفارسي فجروا علىمناهجه وفنونه. وظل الأدب التركي صورة من الأدب الفارسي يترسم خطاه ويردد صداه حتى منتصف القرن الماضي حين هب الوزير ضيا باشا المتوفى سنة 1295 للهجرة يقوض دعائم الشعر القديم وينعى على الشعراء ما هم فيه من جمود وقصور ورق، فانضوى إليه رهط من الشعراء المجددين ككمال يكن وأكرم بك وناجي أفندي فأنقذوا أدبهم من سخف التقليد، وقووه بالابتكار والتجديد، هذا مثل من التقليد العاجز الذليل الأعمى. أما التقليد البصير القوي المستقل فهو الذي يهذب أدبنا اليوم ويتمم نقصه، فالأقصوصة والقصة والرواية، والأسلوب المهذب والفن التمثيلي، كل أولئك قد أخذ بفضل تقليد الفرنج ينبت في حقوله، ويضيف فصولا خالدة على فصوله.
هذه هي أقوى العوامل التي تؤثر في الآداب على اختلاف لغاتها، وهي تعمل أما مجتمعة وأما منفردة، والواجب على مؤرخ الآداب أن يحلل ما تركب من أفعالها المتنوعة كما يحلل العالم بالميكانيكا القوة الناتجة ثم يردها إلى القوى البسيطة الفاعلة. وهيهات أن يقف الأديب على هذه العوامل ما لم يكن المؤرخ في عونه، ولا يتسنى للمؤرخ أدراك كنهها الا بالاستقصاء البالغ والبحث الشديد في أحوال الشعب الذي يدرسه ويؤرخه. وكل تعليل لأطوار الأدب وظواهره قبل دراسة هذه العوامل ضرب من التخرص لا يطمئن عليه القلب.(4/40)
البيروني
(إنه أكبر عقلية عرفها التاريخ في كل عصوره). . سخاو
تمهيد:
قرأت في العدد الأول من الرسالة في مقالة (حلقة مفقودة للأستاذ أحمد أمين) ما يلي:
(وبالأمس كنت أتحدث إلى طائفة من المتعلمين عن البيروني العالم الإسلامي الرياضي المتوفى سنة 440هـ وما كشف من نظريات رياضية وفلكية، وأن المستشرق الألماني (سخاو) يقرر انه أكبر عقلية عرفها التاريخ في كل عصوره وانه يدعو إلى تأليف جمعية لتمجيده وإحياء ذكره تسمى جمعية البيروني. فحدثني أكثرهم أنه لم يسمع بهذا الاسم ولم يصادفه في جميع قراءاته، وهو يعرف عن ديكارت وبيكون وهيوم وجون ستوارت مل كثيراً ولكنه لا يعرف شيئا عن فلاسفة الإسلام).
عند قراءة هذه القطعة تبادر إلى ذهني أمران: أولاً روح الإنصاف عند بعض علماء الفرنج، ثانياً جهل المتعلمين منا بفلاسفة الإسلام والعرب وفحول علمائهم. . . أما الأمر الأول فليس بغريب على رجل سيطرت عليه روح العلم الصحيحة التي لا تعرف غير توخي الحقيقة أن يجاهر بما يعتقد حتى ولو كان ما يجاهر به مما لا يسر أبناء وطنه، على حين أننا نجد بعض علماء الغرب قد أغار على الكتب العربية وادعى ما فيها لنفسه، وبعضهم لم يذكر المصادر العربية التي اعتمد عليها أو نقل عنها، وقد أتينا بأمثلة على ذلك وعلى أن العرب سبقوا الفرنج إلى اكتشاف بعض النظريات والأبحاث الرياضية في مقالات نشرناها في مجلة المقتطف الغراء.
وأما الأمر الثاني فقد يكون لدى هؤلاء المتعلمين مبرر ولا سيما أن تاريخ بعض رجالنا السالفين قد أحيط بسحب كثيفة من الإبهام، وفقد البعض الآخر منه، وكان لكسلنا وخمولنا الأثر الأكبر في إهمال نوابغ العرب وتبيان مآثرهم في مختلف فروع المعرفة، ولكن مما لا شك فيه أن هذا التبرير حجة علينا ومن واجبنا بل من دعائم نهضتنا القومية أن نتولى أمر الكشف عن حقيقة رجالنا ومآثرهم بأنفسنا، وبذلك (وعلى الأقل) نضع حدا لادعاءات بعض المتعصبين وبعض المتفرنجين منا الذين يزعمون أن العرب لم يكونوا مخترعين مستنبطين، وانهم لم يكونوا الا نقلة عن غيرهم. وقد عنيت بوضع كتاب يبحث في أثر(4/41)
العرب على العلوم الرياضية وما أخذه الغربيون من هذه العلوم، وتأثير ذلك في تقدمها. والمقالة التالية مجمل من ترجمة نابغة من نوابغ العلماء المسلمين قال عنه سخاو: (انه اكبر عقلية عرفها التاريخ في كل عصوره).
مولده ومنشؤه
هو محمد بن أحمد أبو الريحان البيروني الخوارزمي أحد مشاهير رياضيي القرن الرابع للهجرة ومن الذين جابوا الأقطار ابتغاء البحث والتنقيب. ولد أبو الريحان في خوارزم عام 362هـ - 873م ويقال أنه اضطر أن يغادر مدينة خوارزم على أثر حادث عظيم إلى محل في شمالها اسمه (كوركانج) وبعد مدة تركه وذهب إلى مقاطعة جرجان حيث التحق بشمس المعاني قابوس أحد أحفاد بني زياد وملوك وشمكير، ثم عاد إلى كوركانج وتمكن بدهائه أن يصبح ذا مقام عظيم لدى بني مأمون ملوك خوارزم. وبعد أن استولى سبكتكين على جميع خوارزم ترك أبو الريحان كوركانج وذهب إلى الهند فبقي مدة طويلة (ويقال انه سافر فيها أربعين سنة) يجوب البلدان ويقوم بأبحاث علمية كان لها تأثير في تقدم بعض العلوم. وقد استفاد البيروني من فتوح الغزنوبين في الهند وتمكن من القيام بأعمال جليلة؛ فانه استطاع أن يجمع معلومات صحيحة عن الهند، ويلم شتات كثير من علومها ومعارفها القديمة. وأخيرا رجع إلى غزنة ومنها إلى خوارزم ولم يعرف بالضبط تاريخ وفاته. وإنما الراجح أنه توفي سنة 440 هجرية - 1048 ميلادية.
تنقلاته العلمية ومآثره:
كان البيروني رياضيا وفلكيا وطبيباً ومؤرخا وجغرافيا. وهو أبرز شخصية بين علماء عصره الذين بفضلهم كان للعرب عصر ذهبي تقدمت فيه العلوم تقدمها المعروف. قرأ فلسفة الهند وله فيها وفي الرياضيات والفلك مؤلفات كثيرة، وهو من أوسع علماء الإسلام اطلاعا على آداب الهند وعلومها ويقال انه ضرب بسهم وافر في الجغرافيا حتى أن أبا الفداء كان يعتمد أحياناً في أبحاثه الجغرافية على كتب أبي الريحان. قال سيديو: إن أبا الريحان (اكتسب معلوماته المدرسية البغدادية ثم نزل بين الهنود حين أحضره الغزنوي فأخذ يستفيد منهم الروايات الهندية المحفوظة لديهم قديمة أو حديثة، ويفيدهم استكشاف أبناء(4/42)
وطنه ويبثها لهم في كل جهة مر بها، وألف لهم ملخصات من كتب هندية وعربية، وكان مشيرا وصديقا للغزنوي استعد حين أحضره بديوانه لإصلاح الغلطات الباقية في حساب بلاد الروم والسند وما وراء النهر. وعمل قانوناً جغرافياً كان أساسا لأكثر القسموغرافيات المشرقية؛ نفذ كلامه مدة في البلاد المشرقية ولذا استند إلى قوله سائر المشرقيين في الفلكيات، واستمد منه أبو الفداء الجغرافيا في جداول الأطوال والعروض وكذا أبو الحسن المراكشي. . .) ويعترف
(سمث) في الجزء الأول من كتابه تاريخ الرياضيات أن البيروني كان ألمع علماء زمانه في الرياضيات، وان الغربيين مدينون لكتبه في معلوماتهم عن الهند وعلومها الرياضية، والبيروني ذو مواهب جديرة بالاعتبار، فقد كان يحسن السريانية والسنسكريتية والفارسية والعبرية عدا العربية، وفي أثناء إقامته بالهند كان يعلم الفلسفة اليونانية ويتعلم هو بدوره الهندية، ويقال انه كان بينه وبين ابن سينا مكاتبات في أبحاث مختلفة ورد أكثرها في كتب ابن سينا. وكان يكتب كتبه مختصرة منقحة بأسلوب مقنع وبراهين مادية. لكنه لم يتعد أن يوضح القوانين الحسابية بأمثلة ما، قال اليبروني عن الترقيم في الهند: إن صور الحروف وأرقام الحساب تختلف باختلاف المحلات، وان العرب أخذوا أحسن ما عندهم (أي عند الهنود) والقطعة التي قالها في ذلك هي لدينا ولا مجال لذكرها الآن. وهو من الذين بحثوا في تقسيم الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية، وكان ملما بعلم المثلثات وكتبه فيه تدل على أنه عرف قانون تناسب الجيوب. ويقال انه وبعض معاصريه عملوا الجداول الرياضية (للجيب والظل) وقد اعتمدوا في ذلك على جداول أبي الوفاء البوزجاني.
وعمل اليبروني تجربة لحساب الوزن النوعي، واستعمل في ذلك وعاء مصبه متجه إلى أسفل، ومن وزن الجسم بالهواء والماء تمكن من معرفة مقدار الماء المزاح، ومن هذا الأخير ووزن الجسم بالهواء حسب الوزن النوعي، واستطاع أن يجد الوزن النوعي لثمانية عشر عنصراً ومركباً بعضها من الأحجار الكريمة، وله أيضا كتاب في خواص عدد كبير من العناصر والجواهر وفوائدها التجارية والطبية، وهو وابن سينا من الذين شاركوا ابن الهيثم في رأيه القائل بأن شعاع النور يأتي من الجسم المرئي إلى العين.
مؤلفاته(4/43)
من اشهر مؤلفات البيروني التي وصلت إلى أيدي العلماء كتاب (الآثار الباقية عن القرون الخالية) وهذا الكتاب يبحث فيما هو الشهر واليوم والسنة عند مختلف الأمم القديمة من آشوريين ويونانيين إلى وقت البيروني، وكذلك في التقاويم وما أصاب ذلك من التعديل والتغيير وفيه جداول تفصيلية للأشهر الفارسية والعبرية والرومية والهندية والتركية تبين كيفية استخراج التواريخ بعضها من بعض، وتجد فيه أيضا جداول لملوك آشور وبابل والكلدان والقبط واليونان قبل النصرانية وبعدها، ولملوك الفرس قبل الإسلام على اختلاف طبقاتهم. ولم يقتصر الكتاب على ذلك بل بحث في المتنبئين وأممهم من أهل الأوثان وأهل البدع في الإسلام، وغير ذلك من الموضوعات التي يتعلق بالأقباط وأعيادهم، وأعياد النصارى على اختلاف طوائفهم. . .
يقول كشف الظنون عن هذا الكتاب: (إنه كتاب مفيد، ألفه لشمس المعالي قابوس وبين فيه التواريخ التي تستعملها الأمم. . .) ومنه أيضا يستدل على أن البيروني أول من استنبط تسطيح الكرة. وقد فصل ذلك في كتابه المذكور الذي يدل أيضا على أن له استنباطات جليلة في الفلك والرياضيات، وقد ترجم (سخاو) الآثار الباقية المذكورة إلى الإنكليزية، وطبع عام 1879م في لندن، وله كتاب تاريخ الهند، وقد ترجمه أيضا سخاو إلى الإنكليزية وطبع الأصل في لندن سنة 1887م والترجمة فيها سنة 1888م، وفيه تناول البيروني لغة أهل الهند وعاداتهم وعلومهم.
واعتمد عليه (سمث) وغيره من المؤلفين عند بحثهم في رياضيات الهند والعرب، وله كتاب تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة وقد ترجم إلى الإنكليزية عام 1887م، وكتاب مقاليد علم الهيئة ما يحدث في بسيط الكرة. وفي هذا الكتاب بحث في (شكل الظل) اعترف فيه بان (الفضل في استنباط الشكل الظلي لأبي الوفاء بلا تنازع من غيره)، وقد كنا نشرنا هذا في مقالنا عن البوزجاني في مجلة المقتطف. وجاء أبو الريحاني في بعض كتبه على ذكر قسم من الكتب القيمة التي دخلت في زمن العباسيين والتي كان لها اثر كبير في تقدم علوم الفلك والرياضيات، فقد أتى ذكر على المقالتين اللتين حملهما أحد الهنود إلى بغداد في منتصف القرن الثاني للهجرة، فالمقالة الأولى في الرياضيات والثانية في الفلك، وبواسطة الأولى دخلت الأرقام الهندية إلى العربية واتخذت أساسا للعدد،(4/44)
والثانية اسمها (سدها نتا) التي عرفت فيما بعد باسم كتاب (السند هند) ترجمها إبراهيم الفزاري وكان نقلها بداءة عصر جديد في دراسة هذا العلم عند العرب. مما مر نستنتج أن البيروني كتب في تاريخ الرياضيات عند الهنود والعرب. ولولاه لكان هذا الموضوع اكثر غموضا مما هو عليه الآن، كما إن أكثر الكتب الحديثة التي تبحث فيه (في الرياضيات عند الهنود والعرب) تعتمد في الأغلب على كتبه كما يتضح لمن يتصفح كتب تاريخ العلوم الرياضية. وله مؤلفات أخرى يربى عددها على المائة والعشرين، منها: كتاب القانون المسعودي في الهيئة والنجوم، وقد ألفه لمسعود بن محمود الغزنوي، وكتاب استيعاب الوجوه الممكنة في صنعة الإسطرلاب، وكتاب استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها، وهو مسائل هندسية أدخل فيها طريقته التي ابتكرها في حل بعض الأعمال، وكتاب العمل بالإسطرلاب، ومقالة التحليل والتقطيع للتعديل، وكتاب جمع الطرق السائرة في معرفة أوتار الدائرة وكتاب جلاء الأذهان في زيج البتاني، وكتاب التطبيق إلى تحقيق حركة الشمس، وكتاب في تحقيق منازل القمر. وتمهيد المستقر لتحقيق معنى الممر، وكتاب ترجمة ما في براهم سدهانه من طرق الحساب، وكتاب كيفية رسوم الهند في تعلم الحساب، وكتاب استشهاد باختلاف الأرصاد، وقد ألفه البيروني لأن أهل الرصد عجزوا عن ضبط أجزاء الدائرة العظمى بأجزاء الدائرة الصغرى، وكتاب الصيدلة في الطب (استقصى فيه معرفة ماهيات الأدوية ومعرفة أسمائها واختلاف آراء المتقدمين فيها وما تكلم كل واحد من الأطباء وغيرهم فيه، وقد رتبه على حروف المعجم)، وكتاب الإرشاد في أحكام النجوم، وكتاب في إفراد المقال في أمر الظلام، وكتاب تكميل زيج حبش بالعلل وتهذيب أعماله من الزلل، وكتاب الجماهر في معرفة الجواهر، ومقالة في نقل ضواحي الشكل القطاع إلى ما يغني عنه، وكتاب تكميل صناعة التسطيح، وله كتاب التفهيم لأوائل صناعة التنجيم، وهذا الكتاب لم يطبع بعد ولابد ان تكون بعض نسخ خطية منه موجودة في المكاتب الأوربية والمصرية، وهو لدينا في نسخة خطية نسخت منذ تسعين سنة عن نسخة قديمة، وهو يبحث في الهندسة والحساب والعدد ثم هيئة العالم ثم أحكام النجوم وذلك (لأن الإنسان لا يستحق سمة التنجيم الا باستيفاء هذه الفنون الأربعة)، وقد ألفه على طريقة السؤال والجواب ولغته سهلة سلسلة، ونترك التفصيل عنه الآن لكتابنا الذي نؤلفه.(4/45)
نابلس. فلسطين. قدري حافظ طوقان(4/46)
من طرائف الشعر
الشاعر والسلطان الجائر
للأستاذ إيليا أبو ماضي
أمر السلطان بالشاعر يوما فاتاه
في كساء حائل الصبغة واه جانباه
وحذاء أوشكت تفلت منه أخمصاه
قال: صف جاهي، ففي وصفك لي للشعر جاه.
ان لي القصر الذي لا تبلغ الطير ذراه
ولي الروض الذي يعبق بالمسك ثراه
ولي الجيش الذي ترشح بالموت ظباه
ولي الغابات، والشم الرواسي، والمياه
ولي الناس، وبؤس الناس مني والرفاه
إن هذا الكون ملكي. . أنا في الكون اله!!
ضحك الشاعر مما سمعته أذناه
وتمنى أن يداجي فعصته شفتاه
قال: أني لا أرى الأمر كما أنت تراه
إن ملكي قد طوى ملكك عني ومحاه
القصر، ينبئ عن مهارة شاعر ... لبق، ويخبر بعده عنكا
هو للآلي يدرون كنه جماله ... فإذا مضوا فكأنه دكا
ستزول أنت ولا يزول جلاله ... كالفلك تبقى إن خلت فلكا
أنا من حواه بعينه وبلبه ... ولئن حواك وحزته صكا!
والروض؟ إن الروض صنعة شاعر ... سمح طروب رائق جزل
وشى حواشيه وزين أرضه ... بروائع الألوان والظل
لفراشة تحيا له، ولنحلة ... تحيا به، ولشاعر مثلي
ولبلبل غرد يساجل بلبلا ... غردا، وللنسمات والطل(4/47)
ولديمة تذري عليه دموعها ... كيما تقيه غوائل المحل
فإذا مضى زمن الربيع أضعته ... وأقام في قلبي وفي عقلي
والجيش معقود لواؤك فوقه ... ما دمت تكسوه وتطعمه
للخبز طاعته وحسن ولائه ... هو (لاته الكبرى) (وبرهمه)
فإذا يجوع بظل عرشك ليلة ... فهو الذي بيديه يحطمه
لك منه أسيفه ولكن في غد ... لسواك أسيفه وأسهمه
أتراه سار إلى الوغى متهللا ... لولا الذي الشعراء تنظمه؟
وإذا ترنم هل بغير قصيدة ... من شاعر مثلى ترنمه؟
والبحر. . قد ظفرت يداك بدره ... وحصاه. . لكن هل ملكت هديره؟
أمرجت أنت مياهه؟
أصبغت أنت رماله؟
أجبلت أنت صخوره؟
هو للدجى يلقى عليه خشوعه ... والصبح يسكب وهو يضحك نوره
هو للرياح تهزه وتثيره ... والشهب تسمع في الظلام زئيره
للطير هائمة به مفتونة ... لا للذين يروعون طيوره
للشاعر المفتون يخلق لاهيا ... من موجه حوراً، ويعشق حوره
ولمن يشاهد فيه رمز كيانه ... ولمن يجيد لغيره تصويره
يا من يصيد الدر من أعماقه ... أخذت يداك من الجليل حقيره
لا تدعيه. . فليس يملك، أنه ... كالروض جهدك أن تشم عبيره
ومررت بالجبل الأشم - فما زوى ... عني محاسنه، ولست أميرا
ومررت أنت فما رأيت صخوره ... ضحكت ولا رقصت لديك حبورا
ولقد نقلت لنملة ما تدعي ... فتعجبت مما حكيت كثيرا
قالت: صديقك ما يكون؟ أقشعماً؟ ... أم أرقم؟ أم ضيغماً هيصورا؟
أيحوك مثل العنكبوت بيوته؟ ... حوكا؟ ويبني كالنشور وكورا؟
هل يملأ الأغوار تبرا كالضحى؟ ... ويرد كالغيث الموات نضيرا(4/48)
أيلف كالليل الأباطح، والربى ... والمنزل المعمور والمهجورا؟
فأجبتها: كلا، فقالت: سمه ... في غير خوف (كائنا مغرورا)
فاحتدم السلطان أي احتدام ... ولاح حب البطش في مقلتيه
وصاح بالجلاد: هات الحسام ... فأسرع الجلاد يسعى إليه
فقال دحرج رأس هذا الغلام ... فرأسه عبء على منكبيه
قد طبع السيف لحز الرقاب ... وهذه رقبة ثرثار
اقتله. . واطرح جسمه للكلاب ... ولتذهب الروح إلى النار!
سمعا وطوعا سيدي - وانتضى ... غضبا يموج الموت من شفرتيه
ولم يكن إلا كبرق أضا ... حتى أطار الرأس عن منكبيه
فسقط الشاعر معروضا ... يخدش الأرض بكلتا يديه
كأنما يبحث عن رأسه ... فأستضحك السلطان من سجدته
ثم استوى يهمس في نفسه ... (ذو جنة) أمسى بلا جنته
أجل! هكذا هلك الشاعر ... كما يهلك الآثم المذنب
فما غص في روضة طائر ... ولم يتطفئ في السما كوكب
ولا جزع الشجر الناصر ... ولا اكتأب الجدول المطرب
وكوفئ عن قتله القاتل ... بمال جزيل وخد أسيل
فقال له خلفه السافل ... ألا ليت لي كل يوم قتيل!
في ليلة طامسة إلا نجم ... تسلل الموت إلى القصر
بين حراب الجند والأسهم ... والأسيف الهندية الحمر
إلى سرير الملك الأعظم ... إلى أمير البر والبحر!!
ففارق الدنيا ولما تزل ... فيها خمور وأغاريد
فلم يمد حزنا عليه الجبل ... ولا ذوى في الروض أملود
في حومة الموت وظل البلى ... قد التقى السلطان والشاعر
هذا بلا مجد، وهذا بلا ... ذل، فلا باغ ولا ثائر
عانقت الأسمال تلك الحلي ... واصطحب المقهور والقاهر(4/49)
لا يجزع الشاعر أن يقتلا ... ليس وراء القبر سيف ورمح
ولا يبالي ذاك أن يعذلا ... سيان عند الميت ذم ومدح
وتوالت الأجيال تطرد ... جيل يغيب وآخر يفد
أخنت على القصر المنيف فلا ... جدران قائمة ولا العمد
ومشت على الجيش الكثيف فلا ... خيل مسومة ولا زرد
ذهبت بمن صلحوا ومن فسدوا ... ومضت بمن تعسوا ومن سعدوا
وبمن أذاب الحب مهجته ... وبمن تأكل قلبه الحسد
وطوت ملوكا ما لهم عدد ... فكأنهم في الأرض ما وجدوا
والشاعر المقتول باقية ... أقواله، فكأنها الأبد
الشيخ يلمس في جوانبها ... صور الهوى، والحكمة الولد(4/50)
البحر
للدكتور محمد عوض محمد
أيها الزاخر ذو الصدر الرحيب! ... كم طوى صدرك من سر رهيب!
قد شهدت الكون والكون فتى ... وسترعاه إلى وقت المشيب
كم قرون عصفت وانقرضت ... وخطوب قد مضت إثر خطوب
ومحياك رزين، ناظر ... بابتسام تارة أو بقطوب!
ساخراً مما يلاقيه الورى ... من نعيم زائل أو من كروب
هازئاً مما أثاروا بينهم: ... من جدال أو خصام أو حروب
ثائراً حينا، وحيناً هادئاً ... باعثا رعبا، وأمناً للقلوب!
مهلكا حينا، وحيناً منقذاً ... كعدو ناقم أو كحبيب
باسماً طوراً وطورا عابساً ... في كلا الحالين ذو شأن عجيب
لابساً للدهر ثوباً أزرقا ... يسحر الأعين ذا حسن مهيب
حلة تزهر بها الدنيا كما ... تخطر الحسناء في الثوب القشيب
زرقة الفيروز تحكيها وإن ... كبرت عن أن تضاهي بضريب
عانقتك الشمس من جو السما ... وهي تجري من شروق لغروب
هل رأى العالم في غير كما ... كيف يحلو مزج ماء بلهيب
قلبك الهادئ لا تزعجه ... زعزع نكباء جدت في الهبوب
لم تحرك منك إلا ظاهرا ... دفعته لشمال أو جنوب
تحته قلب عميق ساكن ... هازئ من حادث الدهر العصيب
ليت شعري ما الذي تضمر في ... قلبك الهائل من أمر غريب!
عالم آياته قد أتعبت ... فكرة الحاسب أو عقل الأريب(4/51)
لقاء
للأستاذ محمود الخفيف
هزها الشوق والخيال فغنت ... وحباها الغرام لحنا جميلا
أسرعت في مسيرها وتأنت ... ثم مالت لتستريح قليلا
أنظر الزهر كيف يرنو إليها ... والمح العشب كيف يبدو نضيرا
وارقب الغصن كيف يحنو عليها ... واسمع الطير كيف تشدو سرورا
فتن الكون كله بفتاة ... بث فيها الجمال سحراً حلالا
مذ تبدت على بساط نبات ... كست الكون بهجة وجلالا
هي كالزهر رونقا وبهاء ... وهي كالطير خفة ودلالا
هي كالماء رقة وصفاء ... صاغها الله للجمال مثالا
هي كالصبح روعة وابتساما ... وهي كالفجر ريبة وحياء
وهي كالشمس حدة واحتداما ... وهي كالبدر رقة وسناء
أطلقت في الخلاء صوتاً رخيما ... مثل سجع الحمام عند البكور
هادئا ناعما شجيا رخيما ... دق في الوصف عن أدق الشعور
ذكرت حبها وقالت كلاما ... من رقيق العتاب سامي البيان
لم ترد بالعتاب إلا سلاما ... وحديث العتاب جم المعاني
ضحكت برهة ولكن عراها ... أثر هذا السرور شيء عجاب
عبست فجأة وخارت ... وسعت الهم نحوها والعذاب
أنظر الدمع كيف يجري سخينا ... أغرق الخد يأبى انقطاعا
واسمع اللحن كيف صار أنينا ... يملأ القلب رأفة والتياعا
هتفت باسمي وهي تحسب أني ... لا أراها ولم أزل في بعادي
ويح قلبي! أيهرب القلب مني؟ ... ويح نفسي! أشعلة في فؤادي؟
أبصرتني فكفكفت مقلتيها ... وعراها وقد رأتني اضطراب
وعراني وقد هرعت إليها ... نشوة ثم رجفة واكتئاب
قد دهاني عند اللقاء إختبال ... وعصاني فلم يترجم لساني(4/52)
حين لم يبق للسان مجال ... ترجم الدمع عن أدق المعاني
أمهلتني هنيهة ثم قالت ... ويح نفسي لقد سمعت عتابي
واطمأنت لحيرتي ثم مالت ... تطل البعد وهي ترجو اقترابي
قلت مهلا ترفقي بفؤاد ... شفه الوجد والحنين إليك
جئت أسعى إليك بعد بعاد ... ووضعت الفؤاد بين يديك
لست أرضى الخلود عنك بديلا ... فحياتي رهينة بهواك
لا ولا المجد أرتضيه خليلا ... غاية المجد أن أنال رضاك
لك نفسي إذا أردت فداء ... أنت روحي وأنت غاية نفسي
لا أدرى في الوجود عنك عزاء ... أنت عيني وأنت سمعي وحسي
أطرقت عفة وأغضبت حياء ... إذ رأتني محدقا في اشتياق
وأرتني تمنعا وإباء ... وإباء الدلال حلو المذاق
لست أنسى جمال ذاك المحيا ... بين زهو الصبا وطهر العفاف
وحديثا وعاه قلبي شهياً ... أين من وصفه بليغ القوافي؟
لست أنسى طلاقة وبهاء ... وانتشاء وغفلة وابتساما
لست أنسى تعففاً وحياء ... وانتباها وفطنة واحتشاما
لست أنسى تلهفا وافتتانا ... وهي تصغي إلى حديث اغترابي
لست أنسى ترفقا وحنانا ... ما أحيلاه بعد طول الغياب!
إن هذا اللقاء يملأ قلبي ... كل حين مسرة وهناء
فأراها على البعاد وحسي ... ذاك حتى يجود دهري عزاء(4/53)
ثم ماذا؟
ثم ماذا يا دهر؟ هل من جديد ... أجتني منه لوعتي وعنائي؟
هات ما قدر القضاء علينا ... ولتفض كأس عيشنا بالشقاء
// لست أخشى القضاء إن قصد العد ... ل. ولكن أخاف ظلم القضاء
ورضينا بالظلم. . لو أن دهري ... ينتهي ظلمه بهذا الرضاء
سخريات هذي الحياة وسر ... لم يزل غامضا على الأذكياء
أي معنى للزهر يولد في الرو ... ض صباحا وينتهي في المساء؟
أي معنى للحسن أصبح فيه ... كل صب نضواً من البرحاء
ثم يخبو ضياه حتى كأن لم ... يك بالأمس بالوضئ الرواء
وترى دمعة الحنين إليه ... حول الدهر سيرها للرثاء!
غدرات الأيام تأتي سراعا ... وسراعا تمضي ليالي الهناء
رب ليل ظللت أرشف فيه ... كل ما شئت من معاني الصفاء
ورأيت الغرام أيقظ مني ... شعر نفس أشفت على الإغفاء
فخلقت البديع من كل معنى ... وجلوت الجمال للشعراء
هكذا بت، لا فؤادي شاك ... من هواه، ولا حبيبي ناء
فأتى الصبح بالخطوب التوالي ... من عذاب وفرقة وجفاء
فتساءلت: كيف جرع قلبي ... غصة البين بعد حلو اللقاء؟
أين قلبي؟ فقدته في غرامي ... أين عيني؟ أذبتها في بكائي. .
ورجائي أضاعه لي دهري ... في شبابي، يا رحمتا للرجاء!
لسواء علي عشت سعيدا ... أم قضيت الحياة في بأساء
فالزهور التي ذوت ظامئات ... كالزهور التي ذوت في الماء
والطيور التي تغرد في الأي ... ك سرورا مصيرها للبكاء. .
عشت في عالم تهيج شجوني ... كلما قيل: عالم الأحياء
علموني كيف الغباء لأحيا ... هانئا بينهم حياة الرخاء
وامنحوني بعض الرياء لعلي ... أرتوي غيلة ببعض الرياء!
مصطفى كامل الشناوي(4/54)
في الأدب الشرقي
الأدب العربي والأدب الفارسي
للأستاذ عبد الوهاب عزام. أستاذ الأدب الفارسي بكلية الآداب
3
وكان من آثار هذا الاختلاط والتنافس ظهور الشعوبية من فرس وغيرهم، وهم الذين قاموا يردون على العرب دعواهم في فضلهم على الأمم. ولم يقتصر الشعوبية أن يسووا أنفسهم بالعرب، بل تمادى الجدل بهم إلى تفضيل غير العرب عليهم، كان من الشعوبية غير الفرس، وكان من الفرس أنصار للعرب، ولكن النزاع كان في معظمه نزاعا بين العرب والفرس خاصة. وقد تناضل الفريقان عن كثب، وأرسلوا الكلام إلى غاياته في غير تحرج.
فعلان الشعوبي الفارسي وهو نساخ في بيت الحكمة أيام الرشيد والمأمون، كتب كتاب الميدان الذي (هتك فيه العرب وأظهر مثالبها) كما يقول ابن النديم، وسهل بن هارون صاحب خزانة الحكمة في عهد المأمون كان شديد العصبية على العرب، وقد كتب رسالة في البخل وكأنه أراد بها الزراية بالجود الذي كان عمدة مفاخر العرب، وسعيد بن حميد بن البختكان لم يتحرج، وهو على مقربة من الخلفاء، أن يكتب كتابا يسميه فضل العجم على العرب، وأشباه هؤلاء كثيرون، وقد استمر النزاع في الكتب عصوراً طويلة، وليس يسعنا أن نستقصيه الآن.
بعد هذا كله نسأل السؤال الذي يفهم جوابه استنتاجا مما تقدم: ما أثر الفرس في الآداب العربية؟
مهما تحدث الناس عن النزاع بين العرب والفرس، فان هذا النزاع لا يشرح لنا كل شيء، كان المتنازعون إما من الرؤساء ومن التف حولهم، وإما من الطامعين في الزعامة والمناصب. فأما العلماء أكثرهم فكانوا كدأبهم في كل زمان يعملون ولا تسمع أصواتهم، وهم الذين تعاونوا على إغناء اللغة العربية بالكتب في شتى الفنون. فقد تقدم الفرس النجباء لحمل الأمانة العلمية منذ العهد الأموي، وثابروا فإذا هم المتقدمون في كل فن: في التفسير، والحديث، والفقه، حتى علوم العربية من نحو وصرف وعروض، والآداب العربية شعرها ونثرها، قديمها وحديثها، وما عنوا بالكلام عن الفرس والعرب. وكانوا يتحرجون أن(4/56)
يخوضوا في هذا، وكان حسبهم أن ينصروا الدين وعلومه، ولو كان لابد لهم أن يتجاوزا إلى أخذ الفريقين لآثروا نصرة العرب تدينا وتقوى. وحسبنا أن نذكر هنا أمثال الحسن البصري، والبخاري، ومسلم، والأمام أبي حنيفة، ومحمد بن جرير الطبري، وابن قتيبة، وابن فارس. على أن المتعصبين أنفسهم قد اتخذوا العربية لغتهم، فلم يكن لهم بد من إمدادها بمعارفهم طوعا أو كرها. والحق أن كراهيتهم للعرب لم تكن كراهة للغة العربية. وأصدق شاهد على هذا أبو عبيدة اللغوي: كان شعوبيا متعصبا على العرب، وأصله يهودي فارسي، وأنت تعلم ما أجدت مؤلفاته على اللغة العربية، وما بذل من جهد لحفظها ورواية آدابها، ومن هذه الآداب كتابه في مثالب العرب.
للفرس يد أخرى على الآداب العربية، هي ترجمتم ذخائر لغتهم إلى اللغة العربية ترجمة حاذق قد اتخذ العربية من لغته بديلا. ولعل عصبيتهم حفزتهم إلى هذا ليحفظوا آثارهم من الضياع وتقوم لهم الحجة بما يترجمون على فضل آبائهم، وعظم حضارتهم، وقد بدأت هذه الترجمة - فيما يظن - أيام الخليفة هشام بن عبد الملك: ترجم جبلة بن سالم كاتب هشام سير ملوك الفرس، ثم جاء زعيم المترجمين ابن المقفع، وعبد الحميد بن أبان، وآل نوبخت. وقد عد صاحب الفهرس أربعة عشر مترجما غير ابن المقفع وأسرة نوبخت.
والكتب التي ترجمت من الفارسية أقسام ثلاثة:
1. كتب في الحكمة: وهذه ليست ذات خطر، فإنما هي فلسفة اليونان جاءت من طريق الفرس، وكان العرب يأخذونها من مصادر خير من الفارسية.
2. كتب في التاريخ والقصص: مثل كتاب (خداي نامه) أو سير الملوك، وكتاب التاج في سيرة أنوشروان اللذين ترجمهما ابن المقفع، وسيرة أردشير، وسيرة أنوشروان، اللتين ترجمهما أبان اللاحقي. وبعضها مأخوذ عن السجلات الرسمية الفارسية. وهذه الكتب لها أثرها في كتب التاريخ العربي. وهي أصل لكل ما في الكتب العربية من تاريخ الفرس وأساطيرهم، فأخبار الساسانيين في الطبري مثلا مأخوذة منها. يثبت هذا مقارنة الكتب العربية بعضها ببعض وبالكتب الفارسية كالشاهنامه. فهذه الكتب على اختلاف مصادرها المباشرة تتفق في سرد التاريخ اتفاقا يؤدي إلى الاعتقاد بأنها أخذت من أصل واحد.
3. كتب المواعظ والآداب والسياسة وما يتصل بها: مثل عهد (أردشير بابكان) إلى ابنه(4/57)
سابور. وعهد أنوشروان إلى ابنه هرمز، وجواب هرمز إياه، ورسالة كسرى إلى زعماء الرعية، وكتاب (زادان فرخ) في تأديب ولده، وآيين نامه الذي ترجمه ابن المقفع، وقد أمدت هذه الكتب اللغة العربية بثروة من الحكم الأخلاقية والأقوال المأثورة تتجلى في مثل كتب ابن المقفع: كليلة ودمنة، والأدب الكبير، والأدب الصغير، واليتيمة، وهي أصل لكتب الأخلاق العربية التي ألفت من بعد، ومن هذا النوع الكتب التي عرفت باسم المحاسن، أو المحاسن والمساويء، مثل: المحاسن لعمر بن الفرخان الطبري (في عصر المأمون). والمحاسن المنسوب لابن قتيبة. والمحاسن والمساوئ للبيهقي، والمحاسن والأضداد للجاحظ، فهذه الكتب لها نظائر في الفهلوية ألفت حتى في العصر الإسلامي. وهي معروفة باسم شايد نشايد، أو (شايسة نشايسة).
كتب التاريخ وكتب المواعظ لها أثر كبير على الأدب العربي بالمعنى الأخص. أعني الكلام البليغ نظمه ونثره، فهذه الأساليب المسهبة السهلة التي تقدم بها عبد الحميد وتلاه فيها ابن المقفع وغيره تأثرت بالأساليب الفارسية كما كانت موضوعاتها فارسية. وقد ذكر أبو هلال العسكري في الصناعتين وهو يحتج على أن البلاغة ترجع إلى المعاني: ذكر أن الذين عرفوا لغات غير العربية نقلوا بلاغتها إلى العربية في كتابتهم، وضرب مثلا بعبد الحميد الكاتب إذ أجدت على العربية بلاغته الفارسية، وأمر آخر يرجع إلى الشعر: هو الشعر المزدوج الذي نظم به أبان بن عبد الحميد كتاب كليلة ودمنة وغيره، فقد نظم شعراء الفرس فيما بعد كل ما نظموا من قصص في هذا النوع من النظم وسموه المثنوي. فلعل هذا النوع من أثر الفرس على اللغة العربية أيضا على قلة معرفتنا بحال الشعر عند الفرس قبل الإسلام.(4/58)
طرف من شعر السلاطين
هذه طرف من شعر سلاطين آل عثمان، وقد نبع منهم شعراء كثيرون، ولبعضهم دواوين متداولة. وأعظمهم أثراً في الشعر بايزيد الثاني، ومحمد الفاتح، وسليم الأول، وسليمان القانوني، وسليم الثاني، (وكل واحد من هؤلاء أب لمن بعده) ثم مراد الثالث، ومراد الرابع، ولكل من هؤلاء السلاطين الشعراء اسم عرف به في الشعر فالفاتح (عوني) وسليمان القانوني (محيي) وهلم جرا.
وقد يشوق القارئ أن يسمع إلى السلاطين يتحدثون عن سرائرهم ليرى أن الدولة والسلطان لا يرفعانهم عن مستوى الآلام والآمال.
ومن يظن أن السعادة ملك وغنى وصيت وجاه وجبروت فليسأل سليمان القانوني، وإرادته قضاء محتوم، وقوله في العالم قانون، ليسمع أن السعادة ليست ملك (سليمان)، وأن العروش لا تسمو على الأشجان.
السلطان محمد الفاتح (عوني)
أيها الساقي هات المدامة! ّفسيذهب البستان من اليد،
سيأتي الخريف، وتذهب الحديقة والربيع من اليد
أيها الحبيب! أوف بالعهد، ولا يغرنك الجمال والنضرة
ياملكي، قد جعلتني أسيراً في سلسلة طرتك
ويا رب لا تحررني من هذه العبودية
جور الحبيب، وطعان العدو، وحرقة الفراق، وضعف القلب
لهذه الألوان من الآلام خلقتني يا رب!
قد اجتمع على إحراقي وهدمي
حرقة القلب، ونار الآهات، ودمع العين
السلطان بايزيد الثاني (عدني)
يبدى لنا الفلك حينا حبا ووفاء
ويتقلب حينا فيبدل بالنعمة ألف نقمة!
ما عهدت من قبل تلك الآلام التي احتملت في سبيل العشق(4/59)
وكذلك ترى هذه البدور العاشق ما لم يره
هاأنذا أتحامل في طريق العشق غريبا!
والجميلات يتغامزن بي
لا تحسبن هذا الفلك الغدار يمكن للسرور
فانه يضمر جوراً ويبدي صفاء
قد سير طبيبي آلامي بنظرة واعدة
كأنه لقمان تذهب يده بالسقام
إن ضللت طريق العشق فسل (عدني)
فهو يهدي إلى السبيل كل من أضل طريقه يهدي!
السلطان سليمان القانوني (محيي)
إن الذي يؤثر الفقر لا يريد عرشاً ولا إيوانا
ولا يبغي لنفسه إلا من زاد الأحزان
ولن يتبوأ عرش القناعة ملكا حرا
لا يريد أن يكون سلطانا على سبعة الأقاليم كلها
إنما أهل العشق من يقيم في دار الحبيب
يجن ولكن لا يريد الصحاري ولا الجبال
يا محبي: من يشرب قدحا من يد حبيبه
لا يرد حتى ماء الحيوان من يد الخضر
لا شيء أعظم من الدولة في هذا العالم
ولكن الدولة في هذه الدنيا لا تزن نفساً واحدا من العافية
ما هذا الذي يسمى سلطنة إلا ضوضاء الخليقة
وما في هذه الدنيا سعادة ولا جد كالوحدة
دع هذا العيش واللهو فإلى الفناء المصير
وإذا أردت الصديق الباقي فلا شيء كالطاعة
إن يكن عمرك عدد الرمال(4/60)
فلن يبلغ ساعة واحدة في زجاجة هذا الفلك
إن ترد الحضور يا محبي فأفرغ قلبك
فليس للوحدة مقام كزاوية العزلة(4/61)
في الأدب الغربي
معنى الشعر
للشاعر الإنكليزي درنكووتر
(المستر جون درنكووتر نزيل مصر الآن من أقطاب الشعر الإنكليزي الحاضر وله عدة مجموعات شعرية وقطع مسرحية شهيرة، ولد سنة1882 وبدأ حياته العملية كاتبا في إحدى وكالات التأمين. وهو الآن أستاذ الأدب الإنكليزي بجامعة برمنجهام. وأشهر مؤلفاته (إبرهام لنكولن). وهي قطعة مسرحية رائعة. ومنها مجموعة شعرية عنوانها (رجال وساعات) وهي أولى مجموعاته و (العصيان) وغيرها. وقد دعت الجامعة المصرية المستر درنكووتر ليلقي خمس محاضرات عن الشعر الإنكليزي. فألقى الأولى منها يوم الخميس 17 فبراير في الجمعية الجغرافية الملكية، وموضوعها
(معنى الشعر) وهذه خلاصتها):
قال مستر درنكووتر:
تقوم اليوم كثير من الصعاب الخطيرة والمسائل الهامة التي تزعج معظم دول العالم. وهذه المسائل تشغل عقول المفكرين جميعا. ولكن أحدا لم يوفق إلى حلها، بيد أنهم على يقين من أمر واحد: هو أن هذا الحل لا يحقق ما لم تتناول مسائلنا بروح متبادل من التفاهم وحسن النية، وهذا هو الجوهر، فالناس لا يود بعضهم لبعض سوى الخير، ولكن ذلك لا يتم إلا بالاحتكاك الشخصي: فإذا ما اقتنعنا بوجوب التعامل بتعقل، خفت متاعبنا.
ورمز هذا الروح المشبع بالتفاهم وحسن النية: هو الشعر، فالشعر يعني بالأشياء الكونية الخالدة الخالقة، والشعر يبغض الظلم، وتبديد النشاط البشري، وخيبة الأمل، وقد خلق للاحتشام، والتسامح، والاحترام المتبادل.
فمما يشجع إذن أن يعمل شيء في تلك الأيام العصيبة لتقوية التفاهم بين الشعوب. وهذا بلد (يعني مصر) قد دعا شاعراً من بلد آخر ليأتي ثم يتحدث عن شعر بلاده، وهي بلاد ذات لغة وتقاليد، وذات أغراض سطحية أخرى، فهذا في نظري أمر وافر الحكمة؛ وإني لفخور بأن أنتهز هذه الفرصة التي قد يعدها كثير من الساسة خارجة عن نطاق عملهم، ولكني أراها عملا حرا كريما من أعمال السياسة.(4/62)
ثم قال مستر درنكووتر: إنه سيحاول أن يبين في محاضراته أمرين: الأول أن يلفت النظر إلى جمال الشعر الإنكليزي في ذاته، والثاني أن يبين أن الخلافات السطحية بين الشعر الإنكليزي والشعر المصري (العربي) ليست في الواقع أكثر من سطحية، وإنه عندما نتأمل الحقائق التي يعنى بها الشعر، نجد الحياة البشرية تضطرم في نفس الشاعر، سواء أكانت بين الفلاحين المصريين أم بين الفلاحين الإنكليز، أو بين طلبة جامعة إكسفورد وكامبردج أم بين طلبة جامعة القاهرة، أو شاعر أيرلندي مثل يتس أو شاعر عربي مثل شوقي. ثم قال أنه قرأ (مجنون ليلى) التي ترجمها مستر أربري، فدهش إذ رأى مبلغ ما هنالك من تشابه بينها وبين ما يكتبه شاعر كمستر يتس.
ولكن يجب أن أقول أني لم أدهش، لأننا نعرف أن هذه هي طريقة الشعر، فالشعر لا يعرف الحواجز التي تقيمها بين الشعوب مصالح التجارة أو السياسة، بل تقيمها العادة والإقليم، والشعر يذهب إلى أعماق الحياة ويرى أن أعماق الحياة لا تختلف بالنسبة لمختلف الشعوب، وأنها واحدة في العالم بأسره.
فإذا كنت أحدثكم فأرجو ألا تعتبروني سائحاً من بلد أجنبي، ولكن صديقا يتحدث باسم الشعر عن أشياء يجب الا يظن متأملاها أن أحدهما غريب عن الآخر: واسمحوا لي أن أكون جريئا، فأستميح عفوكم في بيت لشاعركم شوقي.
ولست أعتقد، بعد الذي غمرني به المصريون من العطف، أنني رجل متعثر ضال.
ثم قال مستر درنكووتر: ما هو الشعر؟ يمكن أن نقول: أنه (الفن) فالفن في كل خواصه الجوهرية كالشعر سواء بسواء. والشعراء لا يخلقهم الشعر، ولكن الشعراء هم الذين يمدون العالم بعلم النظريات الشعرية، وإذن فالشعر هو فهم تام للتجارب، وإبراز هذا الفهم في صيغ الألفاظ. وعقولنا جميعا مهما اختلفنا في الجنس واللون والمركز والآراء والأطماع نستقبل جميعا في كل وقت أسفارا ضخمة من التجارب، والمسألة هي كيف نفهم هذه التجارب، والعقل القوي دائما سيد تجاربه؛ وهنا يتدخل الشاعر، فالشاعر لا يختلف في النوع عن أقرانه، ولكنه يحتاج إلى فهم أعمق لهذه التجارب، وهذا الإجهاد، وهذه الرغبة، وهذه الضرورة هي المجد، وهي المأساة في حياة الشاعر. هي المجد إذا استطاع أن يرضي هذه الضرورة؛ وهي المأساة لأن معظم هذه التجارب لا يمكن أن يحقق ويفهم.(4/63)
والشاعر يعتبر أحياناً محسناً عاما؛ وهذا صحيح إلى حد ما؛ ولكن الشاعر لم يكن قط باختياره محسناً خلقياً، فالشاعر حين يكتب لا يفكر في فعل الخير؛ فهو يتفهم تجاربه فقط. وإذا اعتقد الشاعر نفسه محسنا عاما، فانه يتعثر في عمله. ذلك لأنه يفكر عندئذ فيما قد يراه الناس في عمله، ويكتب تحت هذا الأثر، بدلا من أن يقول الحقيقة.
ثم قال: أن الشعر في كل أمة يتأثر إلى حد ما بالأقاليم والمناظر وما إليها، وأن مناظر الخريف الإنكليزية وتناثر أوراق الشجر، والسماء الشهباء، وفصل الكآبة، قد أثرت في عقول ألوف وألوف من الإنكليز، ولكن رجلا واحدا لاحظها وفهمها؛ ثم أخرج منها أصدق صورة، وصاغ قطعة من أبدع ما في الشعر الإنكليزي؛ وكان هذا الرجل شكسبير. وكذا البلبل وأغاريده، فقد نفذت إلى ذهن فتى يقيم في ضاحية لندن فاخرج عنها قصيدته الخالدة (نشيد إلى البلبل) وكان هذا الشاعر كيتس.
(والفن كله هو التعبير عن التجارب؛ ولكن الشعر لا يعبر عنها إلا باللفظ. وذلك لأن الألفاظ تستعمل للتعبير عن كثير من الأشياء العادية. ولذا وجب أن يستعمل الشاعر الألفاظ بطريقة تجعلها حية دائما. والشعر أعظم من الشعراء، فهؤلاء يموتون، ولكن شعرهم يبقى دائما حياً صبوحاً)(4/64)
كلمات في البحث العلمي
ترجمة الأستاذ احمد أمين
قال فرنسيس بيكون:
(لم أجد نفسي صالحة لشيء صلاحيتها لدرس الحقيقة، ذلك أني منحت عقلا له من النشاط والمرونة ما يمكنه من إدراك وجوه الشبه بين الاشياء، وله من الثبات ما يعينه على تعرف وجوه الخلاف، ولأني منحت رغبة في البحث، وصبرا على الشك، وغراما بالتفكير، وبطأ في الجزم، واستعدادا للنقد، وعناية بالترتيب، ولأني ليس لي ولع بالجديد، ولا إعجاب بالقديم، وأكره كل أنواع الخداع، لذلك أرى أن لي طبيعة تألف الحقيقة، ولها بها اتصال).
وقال هكسلي:
(إذا تكلمت عن الأغراض التي كانت نصب عيني من يوم أن بدأت حياتي العلمية فتلك باختصار هي أن أستزيد من المعلومات الطبيعية، وأن أطبق طرق البحث العلمي على كل قضايا الحياة جهد الطاقة وقد نما الاعتقاد عندي بأنه لا يخفف آلام النوع الإنساني إلا الإخلاص في الفكر، والإخلاص في العمل، ومواجهة العالم كما هو بعزم ثابت بعد أن تمزق عنه ثوب الرياء الذي خلعه عليه المراءون).
وقال فارادي:
(يجب على الفيلسوف أن يصغي لكل رأي، ولكن لا يكون مصدر الحكم الا نفسه، لا يخدع بالظواهر ولا يميل إلى فرض فروض خاصة، ليس تابعا لمذهب معين، وليس له في اعتقاده أستاذ، لا يحترم الأشخاص ولكن يحترم الحقائق. غرضه الأسمى الوصول إلى الحق، فان هو أضاف إلى ذلك الجد في السعي كان خليقا أن يخترق حجب الظواهر، ويصل إلى حقائق العالم).
وقال السير ميكائيل فوستر في خطبة له في المجمع البريطاني سنة 1899:
(أن الصفات التي تلزم الباحث في العلم ثلاث:
1. يجب أن تكون طبيعته متموجة تموج ما يبحث عنه، فالباحث وراء الحق يجب أن يكون مخلصا للحق، والباحث في أحوال الطبيعة الصادقة يجب أن يكون صادقا.
2. يجب أن يكون يقظ العقل، فأن الطبيعة إنما تفهم بالإشارة أو تهمس في الأذن بأوليات(4/65)
أسرارها، فعلى الباحث أن يكون مستعدا لفهم إشاراتها مهما دقت، ولسماع أصواتها مهما خفيت.
3. الشجاعة، وأعني بها التحمل والصبر)
وقال نيكون:
(أن الحق يظهر من الخطأ بأسرع مما يظهر من الخلط والغموض، فإذا بدأنا نحدد الخطأ بدأ الخطأ يختفي كالذي يحكي عن الجني إذا بدا يتجسد سنحت الفرصة للقبض عليه.
وصور (دارون) اشتباك العالم تصويرا دقيقا محكما وسمى ذلك (نسيج الحياة) فقال إن العالم كله سلسلة متصلة مشتبكة وأوضح ذلك بأن للقطط علاقة بمحصول البرسيم، وليس يقع طائر الا وقد يحدث من وقوعه أعمال واسعة النطاق. فالقطعة الصغيرة من الطين قد تعلق برجل الطائر ويرمي بها إلى الأرض فتتصل بها بذرة (تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) وهناك دورة لا تنقطع للمادة، والقوة فقد تؤثر (1) في (ي) ولو لم تعلم (ي) بـ (1) فهناك علاقة بين تقليل الأشجار ووباء الحشرات، وبين الطيور وانتثار البذور، وبين ضوء الشمس وصيد أنواع من السمك، وهذه الأمثلة قد تظهر بادئ بدء كأنها ألغاز، ولكن إذا بينت الارتباطات المتسلسلة وضحت وضوح الشمس).
وقال آخر: (غرض العلماء أن يروا العالم شفافا وأن يجعلوه (سينما) عقليا، صوره المعروضة أسباب متعاقبة تمر أمام أعيننا بدون انقطاع)
وقال كارل بيرش:
(يجب على العالم أول كل شيء أن يزيل العوامل الشخصية من أحكامه، وأن يقدم على ما يقول برهانا تقبله عقول الناس كما يقبله عقله، وأن يعني بتقسيم الحقائق وملاحظة تسلسلها وارتباط بعضها ببعض)(4/66)
القرية المهجورة
للشاعر أوليفر جولد سمث
أتى عليك زمان كله رغد ... يفيض فوق رباك الخير مطردا
وكان عهدك والفلاح مغتبط ... يأتي له الرزق من غلاته رغدا
لكن تنكرت الأيام وامتلكت ... هذي البلاد قساة أغلظوا الكبدا
فعطلت من ليالي الأنس أربعها ... والأهل قد هجروها، لا أرى أحدا
(أوبرن) يا لمحة السحر التي اختلست ... لقد طواك زمان كله عِبرُ
لكم رجعت إليك اليوم مكتئبا ... والنفس ولهانة والقلب منفطر
أرتاد فيك مكانا كان يؤنسه ... ظليل كوخك أو نسرينك العطر
فتملأ الذهن أفكار تراوحني ... بذكريات عهود كلها صور
لما رمت بي النوى في دار غربتها ... وذقت فيها نصيب الحزن والتعب
ركبتها ولقلبي الصب أمنية ... في أن يكون إلى (أوبرن) منقلبي
وكنت أحرص في جهدي الطويل على ... قنديل عمري حرص المشفق الحدب
ألكي أقضي في قومي بقيته ... أروي لهم كل ما لاقيت من عجب
دعوهم حول نيراني لأطرفهم ... بعد العشي بأخباري وأهوالي
كأنني أرنب في الدوِّ أفزعها ... صيد فعدت لوكري بعد إجفال
قد كنت أحلم في آفاق دسكرتي ... وكان عودي إليها جل آمالي
فذاك أحسن شيء سحر بهجتها ... وذاك خير معادا تربها الغالي
يا عزلة الريف يا مكنون روعته ... يا إلف شيخوخة الإنسان في الكبر
آها على طيب أحلام رزئت بها ... وسدتها فيك بين الماء والشجر
ما كان أصفى نعيم المرء لو ختمت ... مشيبه راحة في دوحك الخضر
يجفو الحياة وما تحويه من خدع ... غرارة ونعيم غير ذي أثر
ما كان أعذب ذاك الصوت سيرسله ... وحي المساء ليفني في أصائلك
قد كنت أمشي وئيد الخطو منتشيا ... أصغي له وهو يعلو من منازلك
والليل أرخى على الراعي ستائره ... فخب يحدو الرواعي في خمائلك(4/67)
وقد تهادى الإوز الغر في شغف ... على مياهك. . يلهو في جداولك
يا لهف نفسي عليك اليوم قد سكنت ... عن سكب ألحانها هذي الأغاريد!
لم يبق في الغاب من صوت يجاوبه ... صدى السكون ولا للريح ترديد
ولم تعد فيك تحيي الأنس ثانية ... في الليل فتيانك الطيب الصناديد
لم يبق غير عجوز جد عانية ... أو ثاكل هَّدها هَمٌ وتسهيد
قد أكرهتها حياة لا تبدلها ... من مأكل خشن أو مشرب رنق
فقوست ظهرها فوق الضفاف على ... هشائم العشب تجنيها أو الورق
وثم ترجع في ضعف يغالبها ... لكوخها توقد النيران في الغسق
ظلت لتبقى على الوادي مؤرخة ... له وتطوي بقايا العمر في قلق
هناك في أجمة كانت تشارفها ... أشجار مهتزة الأزهار فيحاء!
قد أوحشتها غصون لا تشذبها ... عناية فتدلت جد لفاء!
هناك من بين أغصان محطمة ... تغشى المكان. . وبين الظل والماء
يقوم مرتبع القسيس في خفر ... مستحيياً يتوارى تحت أفياء!
قد كان شيخاً وقور الذات متقيا ... يخشى الإله ويقضي الليل أوابا!
يعده القوم من أهل اليسار وإن ... لم يحو غير التقى ذخرا وأسلابا!
وكان في الناس محبوبا ومحترما ... يلقي الغريب ويلقي الأهل أحبابا
لم يقرب المدن من إثم يطوف بها ... بل كان يطوي القرى للوعظ جوابا!
ما زال سائله المسكين يقصده ... وضيفه الشيخ يرعاه بلا برم!
ولم يزل يجلس الجندي مصطليا ... في داره موقد النيران من أمم!
يروي له كل ما لاقى وتلذعه ... نار الجراح فيشكو شدة الألم
والشيخ جانبهم دوما يقاسمهم ... آلامهم بحنان غير متهم
يظل كالطائر الشادي يرف على ... صغاره فوق أغصان الخميلات
يحتال كيما يطيروا. . ثم يحملهم ... إلى جناب خصيب في السماوات!
قد راح يزجر من يبطئ ويسعفه ... إذا تخلف عن طير الجماعات!
يهديهم نحو كون لا يطوف به ... غير السعادة في علوي جنات!(4/68)
م. ع. الهمشري(4/69)
العلوم
سبيل الإنسان والطبيعة.
للدكتور احمد زكي. أستاذ الكيمياء بكلية العلوم.
الطبيعة تسير في كل ظواهرها وحوادثها على قوانين مرسومة منذ الأزل، وستسير فيما يظهر على تلك القوانين الموضوعة إلى الأبد.
وقد كان الإنسان القديم يعجب بهذه الظواهر، وتأخذه الرهبة، ويلبسه الإجلال والإكبار عند اعتبار تلك الحوادث، ولكن لم يحفزه شيء إلى تفهمها، ولم تجش في نفسه رغبة إلى تعرف أسبابها، لأنها كانت تستأذن على عقله فُرادي وأشتاتا ثم تُركَم فيه على غير نظام كما يركم المتاع عند تاجر الأمتعة القديمة، فالحذاء البالي إلى جانب المرآة الصقيلة، والكتاب القيم بجوار قدر الطعام. وكان عقله صبياً، والعقل قد يصبو في الشيخ، والعقل قد يشيخ في الصبي، وعقل الصبي في القرن العشرين قد يزيد على عقل الشيخ في قرون الحياة الأولى، وعقلي وعقلك اليوم ليسا من خلق هذا الجيل، بل هما تراث لأجيال جاء دوري ودورك في احتوائه، وقد أورِّثه أعقابي من بعدي وتورثه أعقابك من بعدك وفيه نقص، وقد أورثه وتورثه وفيه زيادة، ولكن لا شك أن ما يورثه جيل جيلا من ذلك يزيد بمر الأجيال بزيادة التجارب وتسلسل الثقافات وتتابع المدنيات.
ولما تفتح الذهن الإنساني أخذ يدرك بين ظواهر الكون العديدة أشباها برغم تراكمها، وبدأ يبصر بين الأشياء منها وجوها للخلاف برغم خفائها وتعسرها، وأخذ يرتب ما دخل عقله شتيتا فيقرب بين المتعارفات، ويباعد بين المتناكرات، وأصبح ما يدخل عقله يقصد من فوره إلى مكانه من ذلك النظام وما يستأذن على رأسه يُؤذن له ولكن من باب دخل فيه من قبله أجناسه، وبهذا العقل المنظم، وبما فيه من وحدات متآلفة متخالفة مترابطة، أخذنا نحن بني الإنسان نتفهم الطبيعة، فاستكشفنا أن لها قوانين، وأن لها مُثُلا تنسج عليها في كل ما تصنع، ونماذج تحتذيها في كل ما تأتيه.
وقد يتراءى لنا نحن بني العدم والفناء أن الطبيعة تشذ عن مثلها أحياناً، وتخرج عن مألوفها أطوارا، وما في الطبيعة من شذوذ، ولا هي تخرج عن مألوف، وإنما هو سوء فهم منا لمألوفها، وقصور منا عن إدراك نواميسها، وما ذلك القانون الذي شذت عنه، ولا(4/70)
الناموس الذي خرجت عليه، إلا من خلقنا نحن، فنحن الألى أوجدناه، ونحن الذين فرضناه وفرضنا اطراده. فلما لم نجده مطرداً سمينا ذلك شذوذاً، ولما لم نجد القاعدة التي ابتدعناها متبعة أسمينا نواقضها استثناء.
على أننا أثناء ذلك لم نفقد حبنا للنفع، ولم تنقض فينا الرغبة في الفائدة، فكنا لا نكشف سراً ناقصاً من أسرار الطبيعة الا ونتساءل كيف ننتفع به في بيوتنا، وكنا لا نزيح الستار عن عجيبة من عجائب الكون لم نفهمها كل الفهم حتى نتساءل كيف نستفيد منها في مدننا وأسفارنا، وما ضرنا ونحن بنو المادة أن تكون قوانين الطبيعة ناقصة ما دمنا نستهدي بها إلى البخار يحملنا من بلد إلى بلد؟ وما ضرنا ونحن بنو النفع أن تكون لنواميس الطبيعة استثناءات ما دمنا نصنع بعونها الطوائر من المعدن والخشب، ونبني المواخر تشق البحر ولا تعبأ بما فيه من أمواج وأنواء؟ ونجحنا في هذا السبيل نجاحا زاد أقدامنا فيه ثباتاً. فبدل أن كانت الغاية مقصورة على فهم الكون ودرس طبائعه، وقبل أن نفهم الكون وندرس طبائعه فنشتفي من ذلك، تطلعنا إلى محاكاة الطبيعة، إلى إنتاج ما تنتج، إلى خلق ما تخلق، إلى التحريك بمثل ما تحرِّك، والتسكين بمثل ما تسكن، وعمدنا إلى مناهضتها كذلك، إلى إماتة ما تحيي، وإلى إحياء ما تميت، إلى تحريك ما تسكْن وتسكين ما تحرّك، وإلى توجيهها إلى ما أرادت وإلى ما لم ترد. هذه غاية ابن آدم: يريد أن يخلق وهو مخلوق، ويحل الوثاق عن قوى للطبيعة هو بها موثوق، ويسيطر على عالم قليل ما هو فيه، وكان الناس يرون في ذلك افتئاتا من المخلوق على الخالق، فأصبحوا يرون فيه تمجيدا من المخلوق للخالق، وكانوا يرون فيه زندقة ومروقا وعصياناً، فأصبحوا يرون فيه إيمانا وتخشعا وتعبدا، وتبينوا أن سر الإنسان من سر الله، وأن ما يأتيه الإنسان إنما يصدر عن فطرة وفطنة هي لله ومن الله.
حاول الإنسان أن يقلد الطبيعة في أمور عدة، فبلغ غايته في البعض، وفات الغاية في البعض، وخاب في كثير من الأمور.
رأى النبات يخرج ألوانا تشبه ما في الطيف من ألوان ويخرج ألوانا على ما في الطيف من ألوان، ولكن النبات بطيء في عمله، والإنسان خُلق من عَجَل، والنبات لا يجود من ألوانه إلا بالنزر اليسير، والإنسان يريد منها الوافر الكثير، والنبات يجود منها بعدد على(4/71)
كثرته قليل، والإنسان يريد منها عددا كآماله لا حد لها ولا حصر. فأخذ يبحث ويدأب ويصمد ويصابر الجيل بعد الجيل حتى أتى من الأصباغ بما تحسده الطبيعة عليه، أو لعل الأوفق أن نقول بما تغتبط الطبيعة به، فالإنسان بعضها. أتى من الأصباغ بما يطابق أصباغ النبات أحياناً ويشابهها أحياناً، وأتى منها بما يفوقها زهواً وإشراقاً، وأتى منها بعدد يكاد يجل عن الحصر وخلط بينها فأتى بكل لون وقعت عليه أعين الأحياء وهم أيقاظ صاحون، وكل لون وقعت عليه أعينهم وهم نيام يحلمون، أتى بألوان تزري بألوان الربيع في إبانه، وتستحقر ما يتنزل به وحي الشاعر عند صفاء قريحته وفي سمو خياله.
ورأى الإنسان الطائر يطير فأراد أن يقلده في طيرانه، رآه طليقا من قيود الأرض مالكا أعنة الهواء يسرح في أبعاد ثلاثة من طول وعرض وارتفاع، فأراد أن يكسر قيده ويستعير للهواء أعنة ويزيد على بعدي هذا السطح الأرضي بعداً ثالثا، وبعد خيبة تتلوها خيبة، وبعد نفس تتبعها إلى خالقها أنفس، وُلدت الطائرات، ولم تولد كالإنسان في ساعة ولا يوم ولا عام، وإنما يوم ميلادها كان حقبة من الزمان، فلم تكن بنتاج ذهن، ولكن نتاج أذهان، وأصبح إنسان هذا العصر يطير في الجو كيف شاء وحيث شاء، وحصد بنو اليوم حصادا حصدت في سبيله رقاب بني الأمس.
ومن أحدث الأمثلة في تقليد الإنسان للطبيعة ما جاءت به الأنباء منذ قريب بما يحق لنا أن نسميه ثورة قصد العلم إليها في الإضاءة والضياء. كنا في الأزمنة الأولى نقنع في حلك الليل بالضوء القليل يخرج علينا من حريق الخشب مع فحمه ودخانه، وحمدنا القدر لما هدانا إلى الزيوت والشموع نشعلها على هوانا ونطفئها على هوانا، وزدنا للقدر حمدا لما تهيأت لنا مدخنة من زجاج وضعناها على المصباح فوقتنا سخامه، وجاء المصباح الكهربائي فوجمنا له حيناً نحسبه من عمل السحرة أو صنع الشياطين، ولما اطمأننا إليه زدناه على السنين شدة وزدناه جمالا، وكنا نحسب أن هذا غاية المنى ومنتهى الأمل، ولكن الإنسان بعد أن وجم لهذا المخلوق الجديد مستغربا معجبا، وبعد أن رباه ونماه فخورا زاهيا، وجد أخيرا أنه لم يبلغ به هواه. ونظر إلى الشمس في بياض ضيائها وبارح سناها فابتسمت له أو ابتسمت منه، فوجد فيها الغاية التي ليس من بعدها غاية. وتبين فيها آية الطبيعة الكبرى والمثل الذي تضاءل بجواره الأمثال. فرجع يقسم ألا يفتر له عزم حتى(4/72)
يأتي بمثل هذا السنا والضياء.
وجاءت البشائر في الأشهر القريبة الماضية بأنه نجح في هذا أو كاد. وأنه استعاض عن المصباح الكهربائي الأثري، أو الذي سيصبح عن قريب أثريا، بمصباح جديد لا فتيل فيه. وإنما ملئت زجاجته بمزيج من غازين بنسب خاصة تمر فيه الكهرباء فيخرج منه ضياء يشبه ضياء الشمس في أمرين: في نصوع بياضه وفي انتظام توزعه. وهو فوق ذلك لا يتكلف من الكهرباء ألا خمس ما كان يتكلف المصباح القديم، أو الذي نرجو أن نسميه في القريب العاجل قديماً. وهم يعدوننا أنه لا يمضي شهر حتى تضاء أميال من الطرق بجوار لندن بهذا الضياء الجديد. وهم يعدوننا أنه لن تمضي سنوات حتى يستعاض بمصابيح الشوارع وما يحملها من عمد طويلة بأنابيب متواصلة من هذا الضياء تمد على الأرض على جانب الطرقات. فلا يكون ثمة حاجة إلى إنارة العربات والسيارات في الليل أو في النهار الذي صنعه الإنسان.(4/73)
القصص
أديب
للدكتور طه حسين
- 1 -
زعموا أن من أظهر خصائص الأديب حرصه على أن يصل بين نفسه وبين الناس، فهو لا يحس شيئا إلا أذاعه، ولا يشعر بشيء إلا أعلنه. وهو إذا انظر في كتاب أو خرج للتروض أو تحدث إلى الناس فأثار شيء من هذا في نفسه خاطرا من الخواطر، أو بعث في قلبه عاطفة من العواطف، أو حث عقله على الروية والتفكير لم يسترح ولم يطمئن حتى يقيد هذا الرأي أو تلك العاطفة أو ذلك الخاطر في دفتر من الدفاتر أو على قطعة من القرطاس. ذلك لأنه مريض بهذه العلة التي يسمونها الأدب، فهو لا يحس لنفسه وإنما يحس للناس. وهو لا يشعر لنفسه وإنما يشعر للناس، وهو لا يفكر لنفسه وإنما يفكر للناس، وهو بعبارة واضحة لا يعيش لنفسه وإنما يعيش للناس. وهو حين يأتي من الأمر هذا كله يخادع نفسه أشد الخداع ويضللها أقبح التضليل. فيزعم أنه مؤثر لا يريد أن يستمتع وحده بنعمة الإحساس والشعور والتفكير، وإنما يريد أن يشرك الناس في هذا الخير الذي تنتجه طبيعته الدقيقة الخصبة الغنية، فإذا كان متواضعا معتدل الرأي في نفسه فهو شقي تعس محزون يجب أن يعلن إلى الناس ما يجد من شقاء وتعس وحزن. لعلهم يرثون له أو يرأفون به أو يشفقون عليه، وربما لم ير في نفسه إيثارا ولم يحسس أنه شقي، وإنما آثر نفسه بالخير وأحبها قليلا أو كثيرا فهو يسجل ما يحس وما يشعر وما يفكر ليحفظه من الضياع، وليستطيع العودة إليه من حين إلى حين كلما خطر له أن يستعرض حياته الماضية. وكثيرا ما تعرض له الفرض التي تحمله على أن يستعرض حياته الماضية، والذاكرة قصيرة ضعيفة. فلم لا يسجل خواطره وعواطفه وآراءه التي يتكون منها تاريخه الفردي الخاص ليعود إليه كلما دعاه إلى ذلك جد الحياة أو هزلها، وما أكثر ما يدعو جد الحياة وهزلها إلى أن يستعرض الإنسان حياته الماضية وما اختلف عليه فيها من الأحداث.
يخدع الأديب نفسه هذه الضروب من الخداع. ويعللها بهذه الألوان من التعللات، وحقيقة الأمر أنه يكتب لأنه أديب لا يستطيع أن يعيش إلا إذا كتب، يكتب لأنه محتاج إلى الكتابة(4/74)
كما يأكل ويشرب ويدخن لأنه محتاج إلى الطعام والشراب والتدخين. وهو حين يكتب قلما يفكر فيما يحسن أن يكتب، وما ينبغي ألا يعرفه القرطاس أو يجري به القلم، كما أنه حين يأكل ويشرب ويدخن قلما يفكر فيما يلائم صحته وطبيعته ومزاجه من ألوان الطعام والشراب وأصناف التبغ؛ إنما هي حاجة تضطره إلى الحركة فيتحرك، وتدفعه إلى العمل فيعمل. فأما عواقب هذه الحركة ونتائج هذا العمل فأشياء قد يتاح الوقت للتفكير فيها في يوم من الأيام حين تصبح أمرا مقضيا لا ينصرف عنه، ولا سبيل إلى التخلص منه.
إذا كان هذا كله صحيحاً، وأكبر الظن أنه صحيح، فيجب أن يكون صاحبي الذي أريد أن أتحدث إليك عنه أديبا، فلست أعرف من الناس الذين لقيتهم وتحدثت إليهم رجلا أضنته علة الأدب واستأثرت بقلبه ولبه ونفسه كصاحبي هذا، كان لا يحس شيئا ولا يشعر شيئاً ولا يقرأ شيئاً ولا يرى شيئاً ولا يسمع شيئاً إلا فكر في الصورة الكلامية، أو بعبارة أدق في الصورة الأدبية التي يظهر فيها ما أحس وما شعر وما قرأ وما رأى وما سمع. وكان يجد مشقة شديدة في إخفاء تفكيره هذا على الناس، فكثيرا ما كان يقول لأصحابه إذا رأى شيئا أسخطه أو أرضاه: ما أخلق هذا الشيء أن ينشئ صورة أدبية ممتعة للسخط أو الرضى، وكان يقضي نهاره في السعي والعمل والحديث حتى إذا انقضى النهار وتقدم الليل وفرغ من أهله ومن الناس وخلا إلى نفسه أسرع إلى قلمه وقرطاسه وأخذ يكتب ويكتب ويكتب حتى يبلغ منه الإعياء. وتضطرب يده على القرطاس بما لا يعلم ولا يفهم، وتختلط الحروف أما عينيه الزائغتين، ويأخذه دوار، فإذا القلم قد سقط من يده، وإذا هو مضطر إلى أن يأوي إلى مضجعه ليستريح، ولم يكن نومه بأهدأ من يقظته، فقد كان يكتب نائماً كما كان يكتب يقظاً، وما كانت أحلامه في الليل إلا فصولا ومقالات، وخطبا ومحاضرات، ينمق هذه ويدبج تلك كما كان يفعل حين كانت تجتمع له قواه العاملة كلها، وكثيرا ما كان يحدث أصدقاءه بأطراف غريبة قيمة من هذه الفصول والمقالات التي كانت تمليها عليه أحلامه فيجدون فيها لذة ومتاعا، وكثيرا ما كان يقرأ عليهم فصولا من النثر ومقطوعات من الشعر أملتها عليه يقظته وسجلتها يده حين كان يخلو إلى نفسه بعد أن يكون قد ملأ عينيه وأذنيه وحسه وشعوره وقلبه وعقله بما يحيط به من الأشياء، وبما يمسه من الناس ومن الحياة، وكان أصدقاؤه إذا سمعوا منه هواجس الأحلام أو خواطر اليقظة ألحوا عليه أن(4/75)
يذيع ذلك وينشره، فيبتسم ثم يهزأ ثم يمتنع عليهم ويلح في الامتناع، لأنه كان يؤمن بأن ما يكتبه لم يصل بعد إلى أن يكون خليقا بأن يقدم إلى المطبعة، فهو كان يخاف المطبعة ويكبرها ويحيطها بشيء من التقديس غريب، وكان يتحدث بأن ما يقدم إلى المطبعة من الآثار المكتوبة أشبه شيء بما كان يقدمه الوثنيون القدماء إلى آلهتهم من الضحية والقربان، وبما يتقدم به الآن المؤمنون المترفون إلى إلههم من الصلاة والدعاء. فمن الحق أن تصطفى الضحية وأن يتخير القربان، وأن تكون الصلاة قطعة من النفس، وأن يكون الدعاء صورة للقلب، والعقل جميعا، وكان صاحبنا يرى أن ليس فيما كتب ضحية تصطفى، ولا قربان يختار، وانه لم يوفق بعد إلى أن يودع القرطاس قطعة من نفسه، أو يسطر عليه صورة قلبه وعقله، فما زالت الآماد بينه وبين المطبعة بعيدة، وما زالت الأستار والسجف دونه مسدلة، فليكتب إذا لنفسه لا للمطبعة، فإذا ضاق بنفسه وبما تملي فليظهر أصدقاءه على شيء منه ليرضي هذه الحاجة القوية التي نحسها جميعا إلى أن نشرك الناس فيما نجد من حس أو شعور، والحق أن صاحبي لم يكن يقدم على هذا الا كارهاً مضطرا حين لا يجد بداً من الاقدام، أو حين يسأله أصدقاؤه عما أحدث بعدهم، وكان حياؤه يمنعه من إظهار عقله وقلبه، كما يمنعه من عرض جسمه عاريا على الناس، ولكن أصدقاءه لم يكونوا في حاجة إلى أن يروا شخصه عاريا، وكانت حاجتهم شديدة إلى أن يروا نفسه كما هي، لأنها كانت جميلة خلابة تروعهم حينا وتثير في نفوسهم الحب والمودة دائما.
كان قبيح الشكل نابي الصورة تقتحمه العين ولا تكاد تثبت فيه، وكان إلى القصر أقرب إلى الطول، وكان على قصره عريضاً ضخم الأطراف مرتكبها، كأنما سوى على عجل فزادت بعض أطرافه حيث كان يجب أن تنقص، ونقصت حيث كان يحسن أن تزيد، وكان وجهه جهما غليظاً يخيل إلى من رآه أن في خديه ورما فاحشا، وكان له على ذلك أنف دقيق مسرف في الدقة، منبطح غال في الانبطاح، قد اتصل بجبهة دقيقة ضيقة لا يكاد يبين عنها شعره الغزير الجعد القاصم، لم تكن قد تقدمت به السن بل لم يكن جاوز الثلاثين، ولكن علامات الكبر كانت بادية على وجهه وقده لا يخدع عنها أحد، كان على قصره مقوس الظهر إذا قام، منحنياً إذا جلس، ولعل إدمانه على الكتابة والقراءة وإسرافه في الانحناء(4/76)
على الكتابة أو القرطاس هما اللذان شوها قده هذا التشويه، وقلما كان وجهه يستقيم أمامه، إنما كان منحرف العنق دائما إلى اليمين أو إلى الشمال؛ وقلما كانت عيناه الصغيرتان تستقران بين جفونه الضيقة، إنما كانتا مضطربتين دائما لا تكادان تستقران على شيء حتى تدعاه مصعدتين في السماء، أو تنحرفا عنه إلى ما يليه من إحدى نواحيه. ولم يكن صوته عذبا ولا مقبولًا، وإنما كان غليظاً فجاً، ولكنه مع ذلك لم يكن يخلو من نبرات حلوة تجري عليه إذا قرأ شيئا فيه تأثر وانفعال، وكان له ضحك غليظ مخيف يسمع من بعيد، بل كان كل ما يصدر عن صوته غليظاً مخيفاً، يسمع من بعيد، ولم يكن للنجوى معه سبيل، وكثيرا ما ضايقه ذلك حين كان في باريس، وكثيرا ما حمل ذلك الناس عامة وأصدقاءه خاصة على أن يضيقوا به ويجتنبوه إذا لقوه في قهوة أو ناد أو ملعب من ملاعب التمثيل. وهو على رغم هذا كله كان أحب الناس ألي وأكرمهم علي وآثرهم عندي وأحسنهم مسلكا إلى نفسي ومنزلا من قلبي، كان يزورني فانصرف إليه عن كل شيء، وأقضي معه الساعات، فإذا تركني خيل ألي أني لم أقض معه الا اللحظات القصار. وكنت إذا أعياني الدرس واحتجت إلى الرياضة أو الراحة، آثرت زيارته والتحدث إليه والاستماع له على كل ما كانت تقدم إلى القاهرة أو باريس من أنواع الرياضة والراحة.
- 2 -
فقد عرفته في القاهرة قبل أن يذهب إلى باريس ثم أدركته إلى باريس بعد أن سبقني إليها، عرفته مصادفة وكرهته كرها شديدا حين لقيته لأول مرة؛ كنا في الجامعة المصرية القديمة في الأسبوع الأول لافتتاحها وكنت أختلف إلى ما كان يلقى فيها من المحاضرات حريصاً عليها مشغوفاً بها معتزماً أن لا أضيع حرفاً مما يقول المحاضرون. وكان مجلسي لهذا دائماً قريبا من الأستاذ، فأني لمصغ ذات ليلة إلى الأستاذ وإذا بصوت من ورائي ينطلق بالحديث هادئا ولكنه، على هدوئه يغمر أذني جميعا، ويكاد يخفي علي صوت الأستاذ، فأجد في التخلص منه فلا أفلح، وأضيق بهذا الصوت ويضيق به صاحباي اللذان يكتنفانني، فنلتفت إلى صاحب الصوت نطلب إليه الصمت فلا يسكت الا ريثما يستأنف الحديث، ونراجعه مرة أخرى فلا يحفل بنا، فنشكوه إلى الأستاذ فيضطره الأستاذ إلى الصمت، حتى إذا انتهت المحاضرة وخرجنا من غرفة الدرس رأيناه قد وقف لنا ينتظرنا، فيعرض لنا في غلظة،(4/77)
فإذا زعمنا له أن من حقنا أن نسمع الأستاذ، وأن ليس له أن يصرفنا عنه قهقه قهقهة مخيفة، وقال في صوت ما نشك أن الأستاذ قد سمعه: (وماذا تريدون أن تسمعوا؟ ولكنكم معذورون، جئتم من الأزهر فكل شيء عندكم قيم، وكل شيء عندكم جديد).
واجتهدنا بعد ذلك في أن نجتنب مكانه من غرفة المحاضرات، وأن نختار لأنفسنا مجلساً بعيداً منه أقصى غاية البعد. تركناه ولكنه لم يتركنا، وكأنما عمائمنا كانت تغريه بنا وتحرضه علينا، فلم نكن نخرج من محاضرة حتى يعرض لنا ويأخذ بجبتي أو قفطاني وهو يسألني (أأعجبتك المحاضرة؟) فان قلت (نعم) قال: وماذا أعجبك منها؟ وهل فهمتها على وجهها؟ وكان يقول لي: هون عليك من هذا الحرص على المحاضرات، ولا تتهالك عليها هذا التهالك، فهي أقل غناء مما تظن وخير لك أن تقرأ من أن تسمع، فلما ألح علي في ذلك سألته وإذا كنت ترى هذا الرأي فما اختلافك إلى الجامعة؟ وما استماعك للمحاضرات وما تهويشك علينا بصوتك العالي وحديثك الذي لا ينقطع؟ فضحك وقال: الجامعة شيء جديد أحب أن أراه، وقد سئمت القهوة، ولو لم يكن في الجامعة الا أنت وأصحابك هؤلاء الذين تتفتح عقولهم للعلم الحديث فيتلقون ما يسمعون في كلف ونهم مصدرهما الجهل العميق، لكان هذا كافيا لأن اختلف إلى الجامعة واستمع للمحاضرات. ثم سألني ذات يوم: أين تقيم؟ أجبته: أقيم في حي كذا. قال: ومع من تقيم؟ قلت: مع جماعة من الأهل والأصدقاء كلهم يطلب العلم في الأزهر أو في المدارس المدنية، قال: إن منزلك بعيد وليست بيئتك بالتي تحب، فأنا لا أحب مجالس الطلبة، وأنا مع ذلك حريص على أن أجلس معك وأتحدث إليك فأطيل الحديث، بل أنا حريص على أن أقرأ معك بعض الكتب، فلابد إذا من أن نلتقي، ومن أن نلتقي في نظام واطراد فليكن ذلك عندي، ولك علي أن أردك إلى أهلك وأصدقائك قبل أن يتقدم الليل، ودون أن تجد في ذلك مشقة أو تحتمل فيه عناء. وكان يقول هذا بصوته الغليظ العريض في لهجة الحازم الواثق بأن أمره سيطاع، وقد هممت أن أرد عليه معتذراً، وما كان أكثر المعاذير! فلم أكن أستطيع أن أسهر ولا أتعرف إلى أحد دون إذن من أخي، وكان علي أن أغدو مع الفجر إلى درس الأصول، ولم يكن بد من أن أستعد لهذا الدرس وغيره من دروس الأزهر، وأن أعوض هذا الوقت الذي أضيعه كل مساء في الجامعة على كره من أخي في القاهرة وأسرتي في الريف. هممت أن(4/78)
أعتذر ولكنه لم يمهلني ولم يتح لي أن أقول حرفا، وإنما استوقف عربة ودفعني فيها دفعا وأمر خادمي الأسود الصغير أن يجلس إلى جانب السائق، وجلس هو إلى جانبي وقال للسائق بصوته الغليظ العريض: إلى القلعة، وكنت أسكن في أقصى الجمالية، فلما أخذت أقدر بعد الأمد بين داره وداري، وهممت أن أتكلم وضع يده على كتفي وقال: ألم أقل لك أني سأردك إلى حيث تقيم؟!
- 3 -
وقطعت بنا العربة أحياء مختلفة، ومضت بنا في أجواء متباينة وكنت أحس اختلاف الأحياء وتباين الأجواء فيما يصل إلي من أصوات الناس وحركاتهم، ومن اضطراب الأشياء من حولنا كما كنت أحس ذلك في سير العربة نفسها وفي لهجة السائق وهو يدفع الناس أمامه ويطلب أن يتنحوا له عن الطريق، أو أن يجنبوا أنفسهم خيله وعربته.
كان الحي رشيقاً أنيقاً، وكان الجو سمحاً طلقاً، وكانت الحركات والأصوات من حولي لا تخلو من شدة وعنف، ولكن فيها ظرفا وتأنقا، حتى إذا بلغنا شارع محمد علي ضاقت الطريق واشتد أمامنا الزحام وكثر من حولنا الصياح، وأخذت أصوات الأطفال ونساء الشعب تختلط بأصوات الرجال من العمال وسائقي عربات النقل، وانتشرت في الجو روائح ثقيلة تمتاز منها روائح البصل والثوم وقد أخذت تعمل فيهما النار، وارتفع صوت السائق واتصل، وكثر نذيره، وتحذيره وكثر من حوله لوم الناس له وتأنيبهم إياه، وتردد في الهواء هذا الصوت المعروف الذي يحدثه السائقون بأسواطهم حين يأتون بها هذه الحركة التي يرعون بها الخيل وينبهون بها المارة، ثم نتفسح الطريق وتتسع، ويصفو الجو، ويخف الهواء، وتهدأ الحركة، ويتنفس السائق مطمئنا، وتمشي الخيل رفيقة، ولكن ذلك لا يطول إلا ريثما تنعطف العربة ذات اليمين، وإذا نحن في حارة ضيقة هادئة قد ثقل فيها الهواء وفسد فيها الجو وكثرت في أرضها الأخاديد فالعربة تقفز بنا قفزا والسائق يهز سوطه في الهواء ويحذر وينذر في هدوء ورضى، ويدعو ذلك بعض النوافذ إلى أن تفتح، ويثير ذلك بعض الصبيان فيخرجون من بيوتهم أو من أوكارهم يبيتون بالسائق، ومنهم من يتعلق بالعربة ثم ينصرف عنها، ونحن نضحك من هذا كله ونضحك من السائق خاصة وهو ينظر أمامه ويلتفت وراءه ويضرب الهواء بسوطه ويطلق لسانه بألفاظ ترق حتى(4/79)
تبلغ المداعبة الحلوة، وتغلظ حتى تصل إلى الشتم القبيح، وكل ذلك يصل إلى نفسي فيحدث فيها آثارا مختلفة، ولكنها على اختلافها تتفق في شيء واحد هو الطرافة لأني لم أكن تعودت ركوب العربات، ثم يقف السائق فجأة وننزل من العربة، وإذا صاحبي يقول لي لم نبلغ البيت بعد، ولكننا انتهينا إلى حيث لا تستطيع العربة أن تمضي، فهل تعودت التصعيد والرقي في الجبل، فأنا لا أحب أن أسكن في السهل المنبطح فأكون كغيري من الناس، وإنما أحب أن أشرف على القاهرة وأن أخيل إلى نفسي أني لست منغمسا فيها وأني أدخلها إذا غدوت إلى عملي مع الصبح وأخرج منها إذا رحت إلى بيتي مع الليل، ولست أخفي عليك أني أجد لذة قوية حين أدخل المدينة مع النهار هابطاً إليها من هذه الربوة كأني أغزوها وأسقط عليها سقوط النسر على فريسته، وأجد لذة أخرى ليست أقل من تلك اللذة قوة حين أمضي النهار كله في المدينة مضطرباً مع الناس فيما يضطربون فيه من عمل، خائضا مع الناس فيما يخوضون فيه من حديث، مشاركا للناس فيما يأتون من خير وشر، نافعاً ضاراً منتفعاً محتملاً للضرر، حتى إذا كان المساء ضقت بهم وضاقوا بي وأويت إلى جامعتكم هذه الجديدة أريح نفسي بما اسمع من كلام فيه الممتع وفيه السخيف، ولكنه على كل حال ليس بذي غناء، حتى إذا أخذت بحظي من هذه الراحة الأولى رحت إلى بيتي فلا تسل عن هذا الشعور العذب الذي ينبسط على قلبي شيئا فشيئا، كلما دنوت من هذا المكان أحس كأني أنسل من المدينة وأتخفف من أثقالها وألقي آثامها من ورائي وأطهر جسمي ونفسي من أوضارها وأدرانها حتى إذا رقيت هذه الربوة وبلغت قمتها هذه (وكنت قد أحسست الجهد من الصعيد في طريق عالية ملتوية) وقفت وقفة من كان في مكروه فخلص منه، وأرسلت زفرة يخيل ألي أنها تحمل بقية ما علق بنفسي من شر المدينة، ثم تنفست ملء رئتي مرة ومرة ثم أقبلت هادئا مطمئنا قصير الخطى إلى هذا الباب. وهنا وقف ودق الباب دقتين ففتح لنا ثم أغلق من دوننا.(4/80)
رحلة إلى دير طور سينا
للأستاذ الدمرداش محمد. مدير إدارة الامتحانات والسجلات وزارة
المعارف.
2
ها قد وصلنا بعد ثلاثة أيام وبعض اليوم على ظهر مطية القرن العشرين ونحن على أحسن حال، فترجلنا أمام الباب وأرسلنا إذن الدخول إلى المطران مع أحد خدمة الدير، وبعد برهة خرج إلينا أحد القساوسة فرحب بنا ثم قادنا إلى دهليز ضيق كمداخل الطوابي انتهى إلى طريق صاعد، ثم إلى طرقة تطل على كنيسة، ثم ارتقينا سلما انتهى إلى باحة مكشوفة فيها حجرة استقبلنا فيها واقفا رئيس الدير، وبعد أن صافحنا جلس وجلسنا على مقاعد وثيرة، بعد تبادل عبارات التحية والترحيب دخل الخادم يحمل بين يديه صينية من الفضة عليها كؤؤس صغيرة بها شراب الزبيب، فطاف بها علينا، ثم خرج وعاد يحمل صينية أخرى عليها أقداح كبيرة فيها قهوة لم أذق ألذ منها، ثم وفد إلى الحجرة قساوسة الدير بملابسهم الكهنوتية السوداء، وقبعاتهم العالية، وكان عددهم ثمانية، فحيونا ببشاشة ولطف، وجلسوا على المقاعد القريبة من الرئيس، وبعد حديث قصير وأسئلة شتى وقف الرئيس وانصرف إلى مكتبه، وقادنا القسوس إلى الأماكن المعدة لنزولنا، وهي صف طويل من الحجرات أمامها ممشى مسقوف ويتوسطها دورة مياه ومطبخ وحجرة للمائدة. والحجر كثيرة الأثاث والرياش، ففيها الأسرة والمقاعد والدواليب والصور وأرضيتها مغطاة بالسجاجيد والأبسطة، وحجرة المائدة كاملة المعدات، وبالجملة قد توافر في مكان الضيافة جميع وسائل الراحة مع النظافة وحسن الترتيب.
ونوافذ الحجرة تطل من علو شاهق على مدخل الدير وحديقته، وتشرف على الجبال والوديان والمسالك لمسافة بعيدة.
وبعد أن استرحنا وتناولنا الغداء تفرقنا في نواحي الدير للفرجة وخرجت أنا وأربعة من الرفاق نصعد إلى قمة جبل المناجاة أو جبل موسى عليه السلام.
وتبدأ الطريق المؤدية إلى القمة من قاعدة الدير في الجهة الجنوبية صاعدة رأسية تقريبا على درج من حجر مرصوص يشبه الدرج العادي، وقد مكثنا نصعد هذه السلالم نحو(4/81)
ساعتين ونحن نلهث لهثا شديدا من فرط ما أصابنا من الإعياء، وقبل بلوغنا القمة اجتزنا فجوة في الجبل دخلنا منها إلى رحبة فيها كنيسة وحديقة صغيرة ينمو فيها شجر السرو، تسقى من نبع يفيض ماؤه العذب على جوانب الصخر.
استرحنا قليلا ثم استأنفنا الصعود، وبعد نصف الساعة تقريبا وقفنا على قمة جبل موسى، وهي على ارتفاع 2200 متر من سطح البحر (نحو 8000 قدم) وكان الهواء باردا والسماء صافية والشمس تؤذن بالمغيب. فأجلنا النظر فيما حولنا، فكان منظرا ساحرا بديعا لم تر العين أجمل منه، فضوء الشمس ينعكس على القمم بلون أحمر كلون الشفق، وعلى جوانب الجبال بلون أزرق قاتم كالدخان وبلون أحمر مشرب بالزرقة على الربى والتلاع، وفي الجنوب البعيد ماء البحر الأحمر يتلألأ تحت أشعة الشمس، ومن تحتنا تتقابل الوديان وتتقاطع متجهة كل صوب كأسارير الوجه العجوز فلما عدت إلى نفسي وجدتني مسند الظهر إلى حائط مسجد صغير، وعلى بعد خطوات منه كنيسة صغيرة كذلك، فلم أتمالك ان دخلت المسجد أنا وصديقي الأستاذ فريد أبو حديد (ألبسه الله ثوب العافية) وركعنا لله ساجدين بقلوب خاشعة ونفوس طافحة بالذكريات التاريخية والدينية، وعند خروجنا من المسجد لمحنا جماعة من البدو رجالا ونساء وأطفالا وقد جلسوا في وهدة تحت جدار المسجد من جهته المقابلة، حول نار أوقدوها للتدفئة فلما رأونا هبوا إلينا مهللين مكبرين، فصافحناهم وتبادلنا وإياهم التحيات والتمنيات، ثم سألناهم عن سبب وجودهم، هنا في هذا البرد القارص، فقالوا قد جرت العادة من قديم الزمان أن نجتمع هنا يوم وقفة عيد الأضحى المبارك، ثم نقضي الليلة، وفي الصباح نصلي صلاة العيد في هذا المسجد العتيق وننحر وبعد تبادل التهنئات والدعوات الصالحات نتفرق عائدين إلى ودياننا.
ملأنا العين بهذه المناظر الفريدة ثم عدنا أدراجنا إلى الدير وقد غابت الشمس وظهر القمر، فكان الهبوط أسهل من الصعود وأكثر خطرا بسبب الظلام.
في صباح اليوم الخامس جلنا في الدير ومشتملاته وملحقاته. فالدير نفسه من حيث هندسته وأسواره وطرقاته ومخابئه وأقبيته وسلالمه الحلزونية الكثيرة وأبراجه وعيون المدافع ومواضعها أكثر شبها بالحصن منه بالدير، والحقيقة أنه بني ليكون معقلا للرهبان يقيهم غزوات البدو، والمشهور أنه بدئ في تشييده سنة 527 ميلادية أثناء حكم الإمبراطور(4/82)
البيزنطي يوستينيانوس.
يبلغ طول الدير نحو 300 متر وعرضه نحو 200 متر وارتفاعه في المتوسط نحو 15 مترا وهو مبنى بحجر الجرانيت المنحوت، ويوجد في فنائه كنيسة كبيرة ينزل إليها بسلالم، وهي عامرة بالتحف الثمينة من شمعدانات وثريات ومصورات وما إلى ذلك من الأشياء الكنسية ذات القيمة الغالية، والكنيسة أفخر مباني الدير وأجملها من حيث المباني والزخرف، ولها برج عال معلقة فيه الأجراس النحاسية الكبيرة، وتقام فيها الشعائر الدينية في أوقاتها.
وفي الجهة الشرقية من الدير صوامع الرهبان، وهم لا يخرجون منها الا نادرا، وقد تقابلت مصادقة بواحد منهم أثناء تجوالي في الدير فرأيته شيخا ضعيفا لا يقوى على السير الا بصعوبة، وبمجرد أن وقع نظره علي أسرع إلى أقرب صومعة واختفى فيها بحالة عصبية دهشت لها، وعدد رهبان الدير الآن لا يزيد على العشرين مع أن عددهم قبل الحرب كان كبيراً، وهم من شعوب مختلفة، معظمهم من روسيا والأمم السلافية الأخرى، وليس لهؤلاء الرهبان من عمل في الدير إلا النسك والعبادة، أما شئونه الأخرى من إدارة وإقامة شعائر وحراسة فهي من وظائف القساوسة. وبالقرب من الكنيسة وفي مستو أعلى منها جامع أثرى صغير مفروشة أرضه بالبسط، وفيه منبر صغير ويلتصق بالجامع مئذنة مرتفعة. وهو يفتح للصلاة في أوقاتها الخمسة.
وفي أقباء الدير شاهدت طاحونة يديرها بغل، وبجوارها مخبز يصنع فيه الخبز اللازم لرجال الدير وللتوزيع على البدو على حسب العادة التي جرى عليها الرهبان من زمن بعيد.
وفي الجهة الشمالية حجر القساوسة ومكتبة الدير وكانت مغلقة. وأمام الدير حديقة واسعة منسقة تنسيقا حسنا، وبها كثير من أشجار السرو والتين والزيتون والموالح والكروم، ومزروع فيها شتى البقول والخضر والزهور الجميلة، وفي ناحية منها كنيسة الجماجم، وهو بناء حديث جمعت فيه جماجم وعظام الرهبان والقساوسة الذين توفوا بالدير من عصور بعيدة. وقد رصت فيها صفوفا بعضها فوق بعض ووضع في صناديق خاصة تكريما لأصحابها، أما لمكانتهم الكهنوتية أو لقيامهم أثناء حياتهم بعمل مجيد للدير.(4/83)
ويسقى الدير والحديقة من عيون عذبة على شكل آبار قليلة الغور. وبعد ظهر هذا اليوم تفرقنا نجوس خلال الوديان القريبة، ومن أجمل المشاهد منظر الصوامع المنتشرة بين الربى على الجبال المحيطة بالدير، وترى بجانب كل صومعة شجرة سرو طويلة أو نخلة تسقى من نبع أو ثؤلول يسيل ماؤه على الصخر فيفيض في المنخفضات والثقوب، وفي الوصول إلى هذه الصوامع صعوبة لوعورة الطريق أو انزلاقها أو انحدارها الشديد، وللقساوسة حكايات ونوادر ظريفة طريفة يروونها عن تاريخ كل هذه الصوامع أو المشاهد لا يقع المجال هنا لسردها.
وفي صباح اليوم السادس قفلنا راجعين إلى القاهرة فوصلناها سالمين مغتبطين في مساء السابع.(4/84)
الكتب
في الصيف لطه حسين
(في الصيف) بعد (الأيام) دليل بعد دليل على ملكة أخرى كانت مجهولة في هذا الذهن العجيب! فقد كان عهد الناس بصديقنا طه عالما غزير البحر، وباحثا جريء الرأي، وناقدا نافذ البصيرة، وجدليا دامغ الحجة؛ أما الكاتب الذي يستشف بالإلهام حجب الغيب، وينمق بالخيال صور الحقيقة، ويحيي بالعاطفة خمود الفكرة، فظل مغموراً بين الأديب الذي يبحث في ضوء العقل، والأستاذ الذي يدرس في حدود العلم، فلم يكد يظهر الا في صفحات من ذكرى أبي العلاء نسي فيها المعري وذكر نفسه، وفي مقالات نشرت في السفور صور فيها عواطفه وحسه، حتى نشرت (الأيام) فعجب الناس أن يكون وراء هذا العقل المتمرد هذا القلب الشاعر، واقبلوا في دهشة يتعرفون إلى طه التلميذ والأخ والزوج والوالد، ويتحدثون إليه في منازله ومباذله وبين أهله، فيجدون من اللذة في أحاديثه، أمثال ما وجدوا من الفائدة في بحوثه، ثم جاء كتاب اليوم قاطعا في الدلالة على بلوغ هذه الشخصية الأدبية الغاية في كل ناحية من نواحي الأدب، حتى الناحية التي لا يغنى فيها الخيال عن الواقع، ولا السماع عن النظر!
قرأ (في الصيف) أديب كبير فطلب إلى طه في شيء من الدعابة أن يترك العلم إلى القصص، وتقرأ أنت (في الأدب الجاهلي) فتقول هذا اختصاصه وتلك مادته، ولعلك إذا سمعته يحاضر أو قرأته يناظر تقول هذا عمله وهذه غايته. وأبلغ آيات العبقرية أن تكون في كل مادة أصيلة، وفي كل موضوع سامية، وفي كل غاية مبرزة.
طه قصصي من طراز خاص، أو هو لم يشأ إلى اليوم أن يكون على غير هذا الطراز. فالأيام وفي الصيف طوائف شتى من الذكريات والتأملات والملاحظات أنثالت في وقت الفراغ على ذهن شديد النفاذ، وفكر دقيق الملاحظة، وشعور صادق الحس، ثم ألف بينها خيال كروح المنطق فيه لذة وفيه عقل، وأبان عنها أسلوب كأسلوب الحديث فيه طلاوة وفيه فضل، ثم تقرأ قليلا وإذا بك متصل بالكتاب، مغمور بشعوره، مسحور بحديثه، مشغول بتفكيره، يخرج بك من موضوع إلى موضوع، وينقلك من موضوع إلى موضوع، دون أن يدع لك السبيل إلى استرجاع الذكريات التي هاجها بذكرياتها، واستقبال الخواطر(4/85)
التي جددها بخواطره، فأنت منه كما تكون من البحر الداوي لا تدري بماذا استولى على مشاعرك؟ أبحلاله أم بجماله أم بسعته أم بروعته أم بكل أولئك جميعا؟ ثم تفرغ من القراءة وتعود إلى نفسك فتقول: ربما ولدت هذا المولد؛ ونشأت هذا المنشأ، ودرت هذه الدراسة، وسحت هذه السياحة، ورأيت هذه الصور، وعرضت لي مثل هذه الخواطر، ونعمت بمثل هذه الأسرة، ولكن أولئك كله جف في خيالي كما يجف نمير الماء في العود الذابل، ومات في خاطري كما يموت رنين الصوت في الصخر الأصم! ولكنها في الأيام أحيا ما تكون في ذهن، وفي كتاب (في الصيف) أزهى ما تكون في خيال!! ذلك إذن هو الفن الذي يخص الله به إنسانا دون انسان، وذلك إذن هو ما ينقص الناس فيجدونه في الفنان!!
(في الصيف) لا يروعك منه الحادث، ولا تدهشك المفأجاة، ولا تشوقك العقيدة، ولا تفتنك الصنعة، فانه كما قلت لك مجموعة من الذكريات والتأملات يتشقق بعضها كما تتشقق الأحاديث، وإنما يأخذ بلبك منه الصدق في تصوير الفكرة، والحذق في نقل الشعور، والنفس التي تشتد في المجتمع حتى تشتط، وترق في الأسرة حتى تضعف، والروح التي تحلق فوق الأحداث متمردة، وتخفض الجناح لأهواء الطفلين الحبيبين حانية، والألمعية التي تصور بالظن فلا تخطيء اليقين، وتسمو على جناح الخيال فلا تفوت الحقيقة، والأسلوب الذي يحار في تعريفه البيان المكتوب، وأقل ما يصفه به الكاتب العجلان أنه تفضيل في غير إملال، وبساطة في غير ابتذال، وتدفق في غير كدورة، وجدة في غير عجمة، وإهمال نادر يجره وتجرفه الحركة، ومذهب جديد كثر في ناشئة الكتاب من يحاول الجري عليه.
إن في هذا الكتاب صفحة ضاقت بما يضيق به القلب الصديق! نشرتها ظروف وستطويها ظروف، وسيطيل النظر فيها من يعني بفهم هذه النفس الكبيرة على حقيقتها، ودرس ما تتأثر به من العوامل في بيئتها، وان في هذا الكتاب صفحات على نحو ما في (الأيام) من ذكريات الأزهر، وأحاديث إخوان الصفا من طلابه، وآلاف الجمود من شيوخه، ولن يتذوق ما فيها من جمال الفن الا من حي هذه الحياة وشعر هذا الشعور، وان في هذا الكتاب صفحات خالدات لن تجد كثيرا من أمثالها في الأدب العالمي! تلك ما كتبت عن فرنسا عامة وعن الألزاس خاصة.(4/86)
أما التحليل والتمثيل فلن يغنياك عن قراءته شيئا، وفي اعتقادي أن خير ما يسر به الإنسان نفسه أن يغيب عن دنياه في دنيا هذا الكتاب ساعة أو ساعتين!
الزيات(4/87)
ضحى الإسلام أو أحمد أمين
- 1 -
إذا قرأت ضحى الإسلام عرفت أحمد أمين، وإذا عرفت أحمد أمين فكأنك قرأت ضحى الإسلام، وكمال المعرفة بالاثنين أن تفهمهما معا، لأنك لا تجد تلازما بين شيئين أشد مما هو بين هذا الرجل وما يكتب، فإذا ألف أو أنشأ مقالا أو ترجم فصلا ظل باقيا وراء كلماته، وخلال سطوره، يعرض عليك الصور، ويقرر لك الآراء، بطلعته الباسمة في غير افترار، ولهجته الحازمة في غير أمر، وعقله القوي في غير عنف، وطبعه الحيي في غير ضعف، وأسلوبه الهادئ في غير فتور فلا تدري أتقرأ أم تسمع، وكتاب في يدك أم رجل معك!
وهو في بروز الشخصية العلمية يتفق مع صديقه طه، ثم يختلف بعد ذلك عنه في كل شيء.
أستبن الجاحظ في أدبنا القديم، وأحمد أمين في أدبنا الحديث، ثم قل بعد ذلك فيما يشبه التعميم: أن كل كتاب متى أخرجه إلى الناس مؤلفه، يكاد من وهن الصلة به لا يعرفه، وإنما تظل مسائله في قلقها أشبه بالطيور المقنوصة، لا تفتأ نزاعة إلى الجو الذي عاشت فيه، وإلى الوكر الذي أخذت منه. فإذا كثر الحديث عن احمد أمين منذ ظهر فجر الإسلام، واستفاض هذا الحديث عنه منذ نشر ضحى الإسلام، فذلك لأن هذين الكتابين وحدهما فتح في الآداب العربية، ونصر للعقيدة الإسلامية، ومجد للعقلية المصرية، لم يهيئهما الله في الغابر والحاضر لهؤلاء الا على يد احمد أمين.
ومعاذ الله أن نهجم على الحق وندخل على القارئ برأي لا يقره الضمير ولا يرتضيه العلم، فقد قضينا العمر بين أشتات المؤلفات العربية، نكابد ما يكابد غيرنا من تناقض وتعارض وغموض، ثم عالجنا التأليف وبلونا ما يعانيه ناشد العلم في بيد دونها بيد، ثم قرأنا هذين الكتابين فأكبرنا فيهما الجهد الذي لايكل، والعقل الذي لا يضل، والبصيرة التي تنفذ إلى الحق من حجب صفيقة، وتهتدي إليه في مسالك متشعبة.
نشأ أحمد أمين نشأة أزهرية، ونعني بهذه النشأة ما يلازمها من نمط خاص في الحياة والتربية والدراسة والوجهة، ومن غريب هذه النشأة أنها تساعد على الهبوط كما تساعد على الصعود، فمتخرجو الأزهر إما قادة للشعب وإما حميلة عليه، لأن حرية التعليم فيه(4/88)
كانت تهيئ كل نفس لما خلقت له: فهذا تعده ليكون قارئا في ضريح أو إماما في زاوية، وذاك تعده ليكون مستشارا في محكمة أو أستاذا في جامعة، واحمد أمين كمحمد عبده وسعد زغلول وطه حسين قد زوده الأزهر بخير ما فيه من صبر على الدرس. واتكاء على النفس، واستقصاء لأطراف البحث، ثم دفعه إلى الحياة دفعا فاستكمل ثقافته في مدرسة القضاء ثم اشتغل بالتعليم، ثم تولى الحكم بين الناس في المحاكم الشرعية، ثم ثقف على نفسه اللغة الإنجليزية، ثم تبوأ كرسيه في الجامعة المصرية، وها هو ذا بكتابيه يحتل مكان الزعامة العلمية.
إن ألمع ما في شخصية هذا الرجل متانة خلقه، ولأمر ما شغف منذ شب بتدريس (الأخلاق)، وترجمة (الأخلاق)، وتأليف (الأخلاق)، ولسر ما يتجدد انتخابه بالإجماع رئيسا للجنة التأليف والترجمة والنشر تسع عشرة مرة في تسع عشرة سنة متوالية!!
إن نجاح الأستاذ احمد أمين في الحياة نجاح للعلم وفوز للفضيلة، لأنه لم يعتمد في شهرته العلمية على الإعلان
و (التهويش). ولا في مناصبه الحكومية على الاستخذاء والملق. وإنما يجري في عمله على الأخلاص، وفي معاملاته على الحق، وفي علاقاته على الشرف. وما حياته الحافلة إلا مثل للحياة العاملة في غير ضجيج، الناصبة في غير ملل، المثمرة في غير غرور ولا دعوى، فهي أشبه شيء بالنبع السلسال العذب، يسيل حلو الخرير تحت شواجن الأدغال، وفوق مطمئن الأرض، فيروي العطاش ويمرع السهول، في غير هدير ولا صخب!
ذلك هو الكاتب، وأما الكتاب فنرجو أن نوفق إلى تحليله في العدد المقبل.(4/89)
العدد 5 - بتاريخ: 15 - 03 - 1933(/)
بين السوامر والصحف
أسير الجهاد:
بين عشية وضحاها نزل صديقنا الأستاذ محمد توفيق دياب من قصر صاحبة الجلالة الصحافة، إلى سجن المجرمين من سلاب الأموال وقتلة الأنفس، لأنه رأى رأياً في سياسة هذا البلد عن إخلاص وعقيدة فلم يقره عليه القانون القائم، وحاولت صاحبة الجلالة أن تعصمه من أمر القضاء بالرحمة، ومن تنفيذ الحكم بالعفو، ومن قسوة التنفيذ بالرجاء، فما رجعت بطائل. وظهر أن جلالة الصحافة كجلالة الحسن: رواء في العين، ولا سلطان في اليدين!!
إنا نؤمن بعدالة القضاء كما نؤمن بحكمة القدر؛ ولكن في السجن الموحش المظلم فُرجة قد ادخرها القانون لضحايا العدل؛ فإذا لم تتسع لأمثال دياب فلمن تتسع؟ أن الكاتب الذي يحرق مخه وعصبه ليضيء الطريق لشعبه، ويغذي حيوية قومه بعصارة عقله وقلبه، ولا يبتغي من وراء جهاده غير مرضات وطنه وربه، لجدير باحتمال قسوته إذا قسا، واغتفار زلته إذا زل.
أن خطأ الاجتهاد في الرأي لا يعتبر جريمة الا في اصطلاح القانون الذي تسنه الحكومات له، فإذا ما اتسعت الصدور، أو تبدلت الأمور، عاد العمل بالقول المأثور: للمجتهد أجران إذا أصاب، وأجر إذا اخطأ. فإذا كانت جريمة الأستاذ دياب من النوع الذي يحرُم هنا ويحل هناك، ويوجب العقوبة اليوم ويقتضي المثوبة غداً، فأن شديدا على الضمير أن يعامل في سجنه معاملة الجناة والعصاة، فيعيش في غير شكله، ويشتغل في غير شغله، ثم يحرم لذة الجسم فلا يستريح، ومتعة الروح فلا يقرأ، وحق المريض فلا يعالج.
درس في الإحسان:
زار صاحبا الجلالة الإيطالية وادينا الحبيب فحلاّ في ربوعه حلول السعادة، ونزلا من أهله منزل الاجلال، وأفاضا على عاصمته وصعيده غمراً من سراوة الملك، ونبالة الخلق، ثم اختصا فقراء الإسكندرية بقرابة ألف جنيه على ما روى المقطم، فكان هذا العطف السامي موضعاً للتفسير والتأويل، ومثالا لاختلاف العقول في الاستنباط والتعليل، فمن قائل أن صاحب الجلالة أراد تعميم الإحسان في أجناس بني الإنسان، والإسكندرية شبه دولية، ومن(5/1)
قائل أنه أراد تخصيصه، وكثرة الجالية الإيطالية، تنزل ربوع الإسكندرية. والأمر في كلتا الحالين مثل في شرف الغاية، لأن مبعث التعميم عاطفة الإنسانية، ومبعث التخصيص عاطفة الوطنية.
كلام طرآني:
ذكرنا في معرض الكلام عن أسلوب الأستاذ محمد بك مسعود أنه (منذ توفر على محاكاة الأستاذ وحيد في تحقيق اللغة، ومباراة شيخ العروبة في تمحيص التاريخ، بدت على أسلوبه الصحيح أعراض الغرابة التي تلازم اللغويين، والاعتداد الذي يساور العلماء).
وهذا الكلام كما ترى نزيه القصد بريء الدلالة. ولكن الأستاذ وحيدا وريث العجَّاج، وخليفة الزجَّاج قد طوع لنفسه أن يرد عليه في الأهرام بهذا الرد فقال:
(جاء في مقال للأستاذ الكبير المفضال محمد مسعود هذا اللفظ (طرآني) فقال له كاتب في صحيفة أغربت في الكلام إغراب وحيد وشيخ العروبة (يعني برهان العلم والأدب أحمد زكي باشا)
(وأني أقول للكاتب رأى القارئون عدوته (بفتح العين وإسكان الدال) ليس الطرآني من غرائب الكلام. وكفى قولي له أنك تراه من بلاغة اللغة في كتاب الزمخشري (أساس البلاغة) الذي قيل فيه: ومن خصائص هذا الكتاب تخير ما وقع في عبارات المبدعين. قال الأمام الزمخشري في أساس البلاغة: رجل طرآني، وحمام طرآني، لا يدري من أين جاء، وكلام طرآني الخ.
(اجتزئ بقولي لكاتب (ذي عدوة) ما قاله الأعرابي: ليس هذا بغريب ولكنكم في الأدب غرباء)
ونحن نقول بدورنا للأستاذ الجليل: لقد أغربتم فلم نفهم، وأفصحنا فلم تفهموا، فإذا كنا في الأدب غرباء، فأنتم في اللغة أدعياء، أليس كذلك؟
وهذا أيضاً!
أخذ صديقنا الأستاذ أحمد أمين على بعض كتابنا أنهم إذا تناظروا تخاصموا، وإذا تناقشوا تشاتموا، ونسي أن يقول كذلك أنهم إذا نقدوا تلمسوا أسباباً للنقد تدل على سوء القصد،(5/2)
وأحدث الأمثلة على ذلك أن الأستاذ (ع. ع) وهو أديب نابه لا يُتهم في علمه ولا في فهمه، قد كتب في البلاغ بمناسبة ضحى الإسلام يقول ما مؤداه: أن أدباءنا قد استمرءوا (مائدة العراق) فهم إذا كتبوا في الأدب كتبوا عن العراق، وإذا بحثوا في العلم بحثوا في العراق، ثم نعى على صاحب ضحى الإسلام أن يغفل مصر، وفيها أنشئ الأزهر، وإليها هاجر العلماء. ولو قرأ الأستاذ الكتاب لوجد فيه فصلا عن مدرسة الإسكندرية. بل لو قرأ المقدمة لوجد المؤلف يقول: (عنيت بضحى الإسلام المائة سنة الأولى للعصر العباسي) وفي هذه المائة سنة لم يكن أسس الأزهر ولا سقطت بغداد! ومن الغريب أن يقول الأستاذ للمؤلف: إن طول النظر مرض ذكرته الأطباء، وهو يعلم أن قصر النظر كطوله سواء بسواء!(5/3)
خواطر وصور
المتردد
أعرف رجلا يعيش رخي الصدر آمن السِّرب في دار بهيجة وأسرة حبيبة ورفقة مخلصين، تلقى ذات يوم كتاباً من صديقين يدعوانه إلى رحلة خارج القطر كانت منذ زمن طويل منتجع خاطره ومهوى فؤاده، فوجد من فرصة الفراغ وجمال الربيع ووفاق الخليط مغرياً جديدا بها، ودافعاً شديداً إليها، وكان صديقاه يطلبان جواباً حاسما سريعاً. فوقف الرجل بين الأمرين وقفة المتخير المتحير، لا يدري أيظل في هذا المكان المحبوب الذي يستبقيه، أم يرحل إلى ذلك البلد الجميل الذي يستدعيه؟
بدأ تردده هادئاً مقبولا كهدهدة المهد، ثم ما لبث أن عاد مزعجاً مملولا كاضطراب البحر. كان ترجُّحه بين الإقامة والظعن أشبه بتأرجح الزورق على الماء الهادئ يدفع إلى الأحلام والأوهام. والمتردد واسع الخيال كثير الفروض، فأخذ يقلب الأمرين في خاطره: يوازن بينهما منفردين، ويتمناهما مجتمعين، ويطمع أن يدركهما متعاقبين.
أزف الموعد والصديقان ينتظران الجواب إيجاباً أو سلبا، فلابد أن يخرج من عماية هذه الحيرة ليكتب إليهما، جلس جلسة الكاتب وأخذ أهبته للكتابة، ولكنه لم يكد يقر على الصحيفة يده حتى ساوره الشك فأمسك! واخذ فكره يتنقل بين المكانين، ويفاضل بين المعنيين، حتى انتهى به التردد إلى أيثار البقاء.
آثر البقاء لأن الصديقين ربطاه بعدة خفيفة، لا بكلمة شريفة، ولأن في المتردد جرثومة من جراثيم الكسل؛ المترددون أميل إلى الكف والاحجام، دون العمل والإقدام. ذلك إلى أن مخيلته الخصيبة قد انبتت له من الذرائع والأسباب ما وافق هواه: كيف يصدف عن مسرة هادئة أكيدة، إلى أخرى جديدة غير أكيدة؟ أنهم يمتدحون ذلك البلد الطيب هوائه وجمال مناظره، ولم يعلموا أن في الرحلة إليه والحلول فيه أضرارا تخاف وتحذر! أين يجد ما يعدل زوجته العزيزة وداره الجميلة وحديقته البهيجة؟ لقد أصبحت هذه الثلاث أجمل في نظره وأجمع لخيره منها قبل ذلك!
أليس من الحمق والجحود أن يغمط الإنسان مثل هذه السعادة؟ على أن هذا البلد بعيد الشقة، ولا بد للراحل إليه أن يبيت ليلة في القطار على فراش لا وثير ولا وطئ، أو يعبر البحر(5/4)
متعرضاً لدواره وأخطاره، وإذا أصابه مرض في الطريق أو في الفندق فماذا تكون عاقبة أمره؟ ذلك فضلا عن الغذاء الدنيء والمسكن الوبئ والعناء المبِّرح.
أجمع صديقنا في الأمر رأيه، ووطن على البقاء نفسه، فكتب الكتاب بالرفض ودفعه إلى الخادم ليحمله إلى مكتب البريد القريب، ولكن الخادم لم يكد ينطلق بالكتاب حتى تحرك الشك في نفسه، وتغير المنظر الماضي في عينه، فكأنما سحر ناظره. أو تبدلت مشاعره!
ذلك البلد الذي استخف به منذ قليل تجلى لعينيه في صورة جذابة أنيقة، وتلك الأحاديث العجيبة التي سمعها عنه تواردت على ذهنه تباعا منمقة الحواشي بسحر جمال المفقود، وحب استطلاع المجهول، ثم تمثلت أمام عينيه فوائد تلك الرحلة وملذاتها، فعاد باللائمة على نفسه! كيف عميت بصيرته عن هذه المنافع جمعاء؟ وكيف إعتاقه عن هذا الأمر مئونة الاتفاق والنصب؟ أن متاعب السفر هي الصحة والقوة والحياة! ولا شيء أذهب للعمر وأقتل للمرء من أن يظل قعيد بيته مخلداُ إلى عيشة رغيدة وادعة. وحياة متشابهة مملة، تلك فرصة ما يحسب الدهر بمثلها يجود!
رحلة ممتعة مفيدة! وإخوان صدق ملئوا ظرفا وعلما! أن ذلك الرفض ضرب من البله والجبن!
تحول ذلك التوبيخ أسى وحسرة، وبلغ به الحنق والشوق والخجل حد الهياج والقلق، فأهوى بيده إلى الجرس، وصاح بأحد الخدم أن يرد عليه الكتاب وحامله، فقال له: أن الخادم يا سيدي أنصرف إلى وجهه منذ ربع ساعة!
فارتد الرجل كاسفاً حزينا، وانقلب ما حوله مظلما قبيحا، واستولى الضجر على نفسه، وأصبح بيته الجميل الرحب أضيق في عينيه من كفة الحابل، ثم ما لبث أن عاد إلى نفسه وأخذ يفكر في جواب الخادم، فقرر أن المسافة إلى مكتب البريد يقطعها الخادم راجلا في ربع الساعة، فإذا قطعها هو على سيارة استطاع أن يوافيه قبل أن يضع الكتاب في صندوق البريد.
وما هو إلا رجع البصر حتى أنطلقت به السيارة يشق صوتها المزعج زحام الطريق؛ ولكنه لم يضع قدمه على عتبة البريد حتى كان الخادم خارجا منه وقد أنجز عمله!. بهت صديقنا وكاد يستسلم لليأس لولا أن مر ذكر التلغراف على خاطره، فبرقت أساريره وقال:(5/5)
أن الرسالة البرقية تصل قبل الكتاب فتنسخه. ثم أخذ طريقه إلى مكتب التلغراف وبدأ يكتب الرسالة، ولكنه ما بلغ الكلمة الرابعة حتى جمدت يده على الورقة! قال في نفسه: أن الرسالة البرقية كالكلمة الملفوظة إذا قيلت فلن تسترجع، وسأكون بها مقيدا مأخوذا، ألقى القلم وخرج من المكتب يتنسم الهواء، واخذ يمشي أمام الباب ذهابا وجيئة وهو يسائل نفسه: أيكتب أم لا يكتب؟
دقت الساعة دقتين فارتعد وقال: ما لي أتردد؟ يجب أن أقطع الرأي، فأن الوقت وأن طال لا يسع المطال، ثم فكر وقدر، فجاء برأي خليط مبهم لم يلبث أن نزل عنه، وظل واقفا يتصفح وجوه الآراء ليرى الرأي القاطع نصف ساعة كان فيها فريسة الهم والضجر!
إستقبح من نفسه هذا الضعف الشديد، فاقتحم المكتب، وأتم الرسالة ودفعها إلى العامل وهو يقول في نفسه: سأتبعها بأخرى إذا بدت لي في الأمر بداءة.
ثم انكفأ راجعا إلى بيته يستعد ويتأهب! واقسم أن منظر ذلك البيت الذي يريد أن يفارقه غدا سيحيي في مخيلته صورة رائعة الجمال شديدة السحر، وأن زوجه وكتبه وأزهاره وأشجاره ستملك عليه وجدانه. فلا يمنعه الخجل أن يصبح ناكثا ما أمرَّ وناقضا ما أبرم!
لعل في القراء من يحمل وصف هذا الرجل على المبالغة، ولكني أؤكد لهم أن مكانه من الصدق مكان صورته الشمسية.
أن التردد مرض من الأمراض لا يؤبه له لندرته. يصيب المرء في حياته العملية، فيغل يده، ويشل عقله، ويتركه فريسة للألم من ضعفه، والخجل من صحبه. تظهر أعراضه في صغار الأمور وكبارها، فيكون في انتقاء الثوب، واختيار الحالة، وفي الإقدام على الزيارة القصيرة، والرحلة الطويلة، ويدخل في لذاذات الرجل وأعماله، كما يدخل في أدباره وإقباله.
جرت بين هذا الصديق نفسه وبين زوجه هذه المحاورة منذ اسبوع، فأنا أنقلها إليك بنصها لتزداد به معرفة.
قال وهو يهم بالخروج إلى مكان عمله:
- زينب! اتشيرين علي بأن آخذ مظلتي؟
- افعل يا علي ما تشاء.(5/6)
- أتظنين أن السماء تمطرنا اليوم؟
- وما يدريني؟
- آخذها والسلام!
- حسناً تفعل.
- ولكنها تضايقني إذا لم تمطر السماء.
- دعها إذن!
- ولكن المطر إذا نزل بلل طربوشي وثوبي.
- خذها إذن!
- ما هذه الحماقة؟ وما هذا التردد بين الأمر والنهي؟
ليس للمشير إلا رأي واحد! فهل ترين أني احسن إذا أخذتها؟
- نعم!
- سآخذها إذن.
- ولكن الهواء دافيء، والسماء مصحية، وأخشى إذا دام الجو كذلك أن اذهل عنها فأفقدها؛ سأتركها قطعاً!
ثم سار يريد الخروج فلمحها معلقة على المشجب فأخذها وهبط السلم ذاهلاً، متباطئاً، حتى بلغ البواب فدفعها إليه.
احمد حسن الزيات(5/7)
مسارح الأذهان
تراثنا القديم
للأستاذ أحمد أمين
خبران أثرا في النفس أبلغ التأثير، وآثارا في القلب كوامن الأسى والأسف.
أولهما أن أديبا كبيرا، وخطيبا خطيرا طلب من إحدى المكاتب القاموس المحيط للفيروزابادي، فأرسلته إليه، فاستبقاه أياما ثم رده شاكرا لأنه لم يستطع أن يعرف طريقة الكشف فيه، وإذا استطاع فلا يفهم ما يقول، ولا يتبين ما يشرح. لذلك يعتذر عن شرائه ويطلب بدلاً منه معجما من المعاجم الحديثة، كأقرب الموارد، ومحيط المحيط، والبستان، لسهولة الكشف فيها، ووضوح القصد من معانيها.
والثاني أن مجلسا من مجالس المديريات قرر إنشاء مكتبة يتردد إليها طلبة المديرية ومثقفوها، وعهد إلى بعض رجاله اختيار الكتب الصالحة فلم يختر فيما اختار كتابا قديما كالقاموس المحيط ولسان العرب وتاريخ الطبري وتاريخ ابن الأثير والأغاني والعقد الفريد ونفح الطيب، وإنما قصر اختياره على ما أنتجه الأدباء المحدثون من روايات وقصص وتاريخ حديث، وأدب من الوزن الخفيف.
راعني ما في هذين الخبرين من دلائل مؤلمة، وما يحملان من نتائج خطيرة!. دلالة الخبرين أن تيار الفكر إنما يسير نحو الثقافة العصرية، وأن المثقفين إنما يعتمدون على ما تخرجه المطابع من آثار للثقافات الأجنبية، فأما تراثنا القديم وما فيه من ثراء ضخم فتنبو عنه أذواق الناشئة ومن يقودهم ويختار لهم. ولا يقبل عليه الا المستشرقون وأمثالهم من علماء قليلين يسيرون نحو الفناء، دون أن يخلف من بعدهم خلف يقوم على هذا التراث فيحفظه ويستثمره.
ولهذه الظاهرة أسباب أهمها:
أن هذه الكتب جارت عصرها ولم تجار عصرنا، فالتعبير معقد. والمعنى غامض، والتأليف مشتت، والمصطلحات جامدة، والأمثلة واحدة فقطع هذا كله الصلة بين القديم والحديث، ولم يستطع أن يتفهم هذه الكتب القديمة الا من نشأ عليها، وأنفق أكثر العمر في فهم عباراتها، وحل معمياتها، وكثير منهم وقف عند ألفاظها ومصطلحاتها، ولم يسعفه الزمان بالتغلغل في(5/8)
أعماقها. واكتناه أسرارها، واستخراج كنوزها، فلما نشأ الجيل الجديد وقد تعلم أول أمره في رياض الاطفال، واسلمته هذه إلى مدارس ابتدائية وثانوية يجتهد مدرسوها أن يعلموا على أحدث طرق البيداجوجيا، ويقرأ تلاميذها في كتب ألفت على غرار الكتب الأوربية في الشكل والموضوع، أصبح الخريجون لا يربطون جديدهم بقديم آبائهم، وصارت الكتب الأوربية أشهى إلى نفوسهم وأقرب إلى عقولهم من كتب الأدب العربي والفلسفة الإسلامية، وكتب القانون الفرنسي أحب إليهم من كتب الفقه الإسلامي وهكذا. وهم إذا نظروا في هذه الكتب العربية هزئوا بها وضحكوا منها! فإذا وقع نظرهم في الفقه على تحديد ماء الطهارة بأنه عشر في عشر بذراع الكرباس، قالوا ما لنا ولذراع الكرباس؟ إنما نعرف الذراع البلدي والذراع المعماري، وإذا رأوا نظام أخذ العشر قالوا ماذا يقابل ذلك من نظام الضرائب والجمارك؟ وإذا نظر الأطباء في كتاب القانون لابن سينا وقفوا أمام أحاجي لا طاقة لهم بها، وإذا نظر الأدباء في الأغاني والعقد وأمثالهما رأوا شرا كثيرا وخيراً قليلا! وكان ما فهموا أندر مما لم يفهموا.
الحق أن هذه مشكلة كبيرة تحتاج في علاجها إلى مهرة الحكماء، وأن ما في كتب أسلافنا من ثروة يحتاج إلى عقول كبيرة تضع منهجا قويما للاستفادة منها.
ونحن بين اثنتين: إما أن تتخصص منا طائفة صالحة لترجمة ثروتنا القديمة إلى لغة العصر وروح العصر وأسلوب العصر، فيستطيع ناشئتنا أن يضعوا أيديهم على تراث آبائهم، وإما أن يتثقف أكبر عدد ممكن بنوع من الثقافة الشرقية القديمة، فضلا عما عندهم من الثقافة الحديثة، فيجمعوا إلى مواردهم الأجنبية الموارد العربية، ويخرج نتاجهم متشبعا بالروحين، مستمدا من الثقافتين.
فإن لم يكن هذا ولا ذاك خشيت بعد قليل أن تصبح كتبنا القديمة غير صالحة الا للأرضة تعيث فيها، والعنكبوت ينسج عليها، ويكون شأننا معها كما قال ابو العلاء:
سيسأل قوم ما الحجيج ومكة ... كما قال قوم ما جديس وما طسم(5/9)
إسكندر يقتل صديقه!
للدكتور عبد الوهاب عزام
إسكندر يثبت عرشه وسلطانه وهيبته وكبرياءه في مقدونية واليونان، ثم يتوجه تلقاء آسيا.
الفريقان من اليونان والفرس يلتقيان على نهر (كرانيكوس) الصغير عام أربع وثلاثين وثلاثمائة، فيتاح لإسكندر أول فتح في آسيا، وتخضع له المدائن حتى سرديس، فقد دانت له آسيا الصغرى كلها.
ثم يتقدم صوب الجنوب، فيجتاز طوروس ويسير تلقاء الشام. وإذا جيش دارا، الجيش اللهام الذي لا يغلب من قلة رابض في طريقه. وفي سهل إسوس الضيق بين الجبال والبحر تزدحم مئات الألوف في المعترك، ويسقط في البحار مائة ألف من الفرس، ويفر دارا وينهب معسكره، وتؤسر أمه وزوجه وابنتاه. . فانظر إسكندر قد قهر (الملك الأعظم) ملك الفرس الذين طالما فخر اليونان بأنهم احتملوا صدمتهم، وردوهم عن بلادهم!!
يتقدم الفاتح العظيم فيقهر مدن الشام، وتقاومه صور وتتحدى جبروته وسلطانه، ثم تخر أمامه بعد حصار سبعة اشهر، فيقتل منهم ثمانية آلاف، ويؤسر ثلاثون ألفا فيباعون عبيدا، ويصلب على القلاع ألفان عبرة ونكالا! ذلكم إسكندر الفاتح العظيم، وذلكم جزاء من يقف في سبيله!
ويفتح إسكندر مصر عام اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، ويرفع نسبه إلى أمون. ثم يجمع جنده ويسير إلى العدو الأكبر الملك الأعظم. يجتاز الفرات ودجلة إلى حيث يعسكر دارا. وهنالك على مقربة من أطلال نينوى العظيمة التي تندب مجد آشور الغابر، وعلى سبعين ميلا إلى الشمال والغرب من مدينة أربيل، ليس بعيدا من ملتقى عبد الله بن علي العباسي، ومروان بن محمد خاتمة الخلفاء الأمويين، حيث سقطت دولة وقامت دولة! هنالك تراءى الجمعان، وعسكر إسكندر تجاه دارا، ويشير (برمينيو) على الفاتح المقدوني أن يهاجم عدوه ليلا، فيأبى مجد إسكندر وكبرياؤه، فيقول له: (أنا لا أسرق النصر). ثم يلتقي الجمعان، وتدور الدائرة على دارا وجنوده، فيفر صوب المشرق. أرأيت بابل العظيمة مدينة السحر والعلم؟ ها هي تفتح أبوابها لإسكندر ويباركه كهنتها. ويطوي الملك الشاب المراحل إلى سوس وأصطخر حاضرتي الفرس، لا يصمد لمدينة إلا فتحها، ولا يعمد لجيش إلا مزقه.(5/10)
تمتد الفتوح والآمال والنشوة والكبرياء بإسكندر إلى ما وراء النهر في طريقه شطر الهند، بعد أن طارد دارا حتى عثر به في الطريق قتيلا.
إسكندر العظيم في مدينة سمرقند عام سبع وعشرين وثلاثمائة. قد طوى المراحل والممالك ما بين مقدونية ونهر سيحون. ينعم هنالك بالشباب والظفر والملك الفسيح، والكنوز التي لا تحصى، والجند الذي لا يعد إسكندر الآن أعظم ملك في العالم كله.
ويدعو أصحابه وقواده إلى مأدبة في سمرقند، فيأكلون ثم تدور الكأس حتى يثمل القوم أو يكادون، ثم تترع للملك المظفَّر كؤوس من الإطراء والإعجاب والآجال والإكبار، ويغلو المتملقون المعجبون فيرفعونه فوق الأبطال جميعاً. ويدعون أن أعماله المعجزة لا تكون إلا عن نسب ألهي، بل يرفعونه إلى مستوى الآلهة كهرقل. ويشارك الملك الشاب في إعظام مآثره والإعجاب بها، ثم لا يقنع بما فعل، فيجعل لنفسه ما نال أبوه من ظفر آخر عهده، ويغض من فيليب وإن كان أباه!.
يسخط المقدونيون من الزراية ببطلهم القديم، ولكنهم لا ينبسون. و (كليتوس) رابض ينظر إلى إسكندر ومادحيه ساخطا محملقا. كليتوس أيحد قائدي الفرسان، كليتوس الصديق القديم أخو (لانيس) حاضنة إسكندر التي قتل اثنان من أبنائها تحت رايته، كليتوس الذي نجى إسكندر في معركة كرانيكوس حين أبصر أحد الفرس يهوي بسيفه إلى الملك من خلفه فسارع كالبرق فضرب السيف فقده دون رأس الملك. كليتوس هذا لم يستطع صبرا على الغض من فيليب! قال كليتوس: ما لهؤلاء المادحين يضعون أقدار الغابرين ليرفعوا عليها مجد الحاضرين؟ أن فيليب كان عظيما! ثم تأخذه الحدة فيقول: (ليست مآثره دون مآثر ابنه! لا، أن مآثره لأعظم. فقد خلق الرجل لنفسه ملكا وجيشا. وإنما صلت أيها الملك بما أورثك فيليب من ملك ممهد وجند مدرب. إنما ظفرت بفضل هؤلاء المقدونيين الذين تحقرهم اليوم وتقدم الفرس عليهم. ألم تقتل برمنيون العظيم؟)
هاج الحاضرون وقذفوا كليتوس بالجدل والتوبيخ. وثار ثائر إسكندر الفتى الفاتح الذي سخر ملك مصر وبابل وآشور وفارس، إذ قرعت أذنه لأول مرة نبأة ناقد يعترض كلامه ويرد عليه دعواه. غضب إسكندر وصاح بكليتوس يزجره ويجادله، وانحاز الحاضرون للملك المعجب بنفسه، وكليتوس كالأسد يزمجر ويرد الكلمة بمثلها، ثم ينتفض قائما ويصيح(5/11)
مادا يده إلى الملك: (اذكر أن حياتك دين لهذه اليد التي نجتك يوم كرانيكوس! وأصغ لصوت الحق الصراح، أو تجنب دعوة الأحرار إلى مأدبتك، واختص العبيد بصحبتك!)
اهتاج إسكندر لموقف كليتوس ولذكرى كرنيكوس وبرمنيون، فنهض يتحسس خنجره، فإذا الخنجر بعيد قد نحاه أحد الحاضرين. فينادي الحرس مغضبا هائجا ويأمر أن ينفخ في الصور إيذانا للجند، فما أطاع أحد أمر الملك الهائج النشوان، وتقدم نحوه بطليموس (وبردكاس) القائدان الكبيران فأحاطا به وأمسكا يده برفق يسكنان ثورته، ويكسران حدته، ويحيط آخرون بكليتوس يخرجونه من البهو، فيأبى أن يخرج فيعترف بأنه أساء واعتدى. ويقول إسكندر: (وا أسفاه! إن قوادي قد غلوني كما فعل بسوس بدارا. وإنما لي من الملك اسمه). ويتقدم إسكندر تلقاء كليتوس، ولا يجرؤ القواد أن يقفوه قسرا، ثم ينقض كالصاعقة فينتزع حربة من أحد الجند فيغمدها في صدر كليتوس الصديق القديم!
يرتاع الحاضرون. ويفيق إسكندر من نشوته وثورته وعنجهيته، فيفتح عينيه فإذا كليتوس طريح يضطرب في دمه.
خرج إسكندر من البهو يعدو إلى فراشه، فارتمى عليه ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب، يبكي بدموع عزت على الخطوب الشداد، وغلت في الحوادث السود. ويتمادى به البكاء، وكلما كفكف دمعه تمثل له صديقه طعينا بيده، ويلعن نفسه نادما، ويهتف باسم كليتوس وأخته لانيس، ثم يقول: ويلي! أنا الغادر الكنود. لقد جزيت كليتوس ولانيس شرا بما أحسنا ألي. لست بعد اليوم جديرا بالحياة.
ويجتمع إليه صحبه يعزونه. ويسوغون ما عمل، فلا يزداد الا حزنا واكتئابا وندما وأسفا، ويجتمع الجند المقدونيون فيجمعون على أن كليتوس قتل بحقه، وأنه ينبغي الا يدفن، فيغضب إسكندر ويقول: كلا! أنه سيدفن بأمري. ويأتي الكهنة فيقولون: أن الملك لم يقتل صديقه بيده، ولكنها نقمة من الإله (ديونسوس) أجراها على يد الملك انتقاما لنفسه بما حرم القربان في هذه المأدبة. ثم يأتي الفيلسوف (انكشر خوس) فيقول: أيها الملك أن الذي أنت فيه لعجز. وأنك أيها الملك العظيم والفاتح القاهر لجدير بأن تحل وتحرم وتحق وتبطل بإرادتك لا أن تخضع للقوانين التي سنها الناس. ثم يأتي كلستنوس الفيلسوف فيجهد أن يهون على الإسكندر ما فعل.(5/12)
فارق إسكندر مضجعه بقلب كليم إجابة لنصحائه وإجابة لواجبه في هذه البلاد النائية. ولكني أحسب الجرح قد ذهب مع إسكندر إلى قبره!
إسكندر العظيم لم يعظم عليه مطلب، ولا بعدت على همته غاية، ولا ثبتت في طريقه دولة، ولا وهن قلبه في سلم ولا حرب، ولكن إسكندر الفاتح القاهر، والملك المسلط، لم يحتمل وخزة واحدة من وخزات الضمير، فخر كالطفل يبكي ويتململ، وكاد يبخع نفسه فرارا من الندم!
أن عذاب الضمير هو العذاب الأكبر، ولكن لا يعرفه الا ذوو الضمائر، وقليل ما هم!
لله در كليتوس! لقد ذهب مثلا في الوفاء، وأين في الدنيا الأوفياء؟
ولله در كليتوس صريع الوفاء! ولله در إسكندر صريع الوجدان!.(5/13)
مجمع البحور وملتقى الأوزان
للدكتور محمد عوض محمد
يحسن بنا كلما دخل الأدب العربي في طور جديد، أو ظهرت به بدعة جديدة، أن نقف لحظة لنحقق أمر هذا الطور الجديد، وهذا المنهج الذي يريد بعض الأدباء أن ينهجه. وبديهي أن الكائن الحي يجب أن يكون في تبدل أبداً وفي تحول. لكن يجمل بنا من آن لآن أن نقف قليلا لنحلل هذه الاتجاهات الجديدة، لكي نكون على بصيرة من أمرنا، ولكي نمشي على علم وهدى. فان بعض السبل الجديدة يؤدي إلى الخير، وبعضها لا يفضي إلى شيء.
وقد ظهر في عصرنا هذا ضرب جديد من الشعر، لم يعرفه الأوائل ولا الأواخر، ولا نعرف في شعراء الشرق من عرب وترك وفرس من نحا هذا النحو، ولا في شعراء الغرب في الأدب الإنجليزي والفرنسي والألماني، ممن له شأن وخطر، من سلك هذا السبيل: وأن كان بين قراء (الرسالة) من يعرف شاعرا ذا شأن طرق هذا الباب من قبل. فقد يسرنا أن نعلم عنه ما جهلناه.
أما هذا الضرب من القريض (وقد سميناه مجمع البحور) فأنه يسوغ للشاعر في المنظومة الواحدة والموضوع الواحد، أن يجمع بين ما شاء من بحور الشعر، بلا قيد ولا شرط؛ فينتقل كما شاء وشاء له الهوى من وزن إلى وزن بلا سبب ظاهر وبدون أي قاعدة مفهومة أو غير مفهومة. فيبدأ منظومة بالخفيف مثلا، ويمضي فيه إلى بيتين أو إلى أبيات، ثم يعرج على البسيط فينظم فيه أيضاً بيتين أو ثلاثة. ثم يميل فجأة إلى الرمل ثم إلى الكامل. وهكذا لا يزال ينتقل من بحر إلى بحر. ويثب من وزن إلى وزن، والمنظومة واحدة والموضوع واحد.
ليس من شك في أن هذا الضرب من الشعر جديد. ولو أن المتنبي وهو الأمر الناهي في مملكة القريض، قيل له أن فلانا ينظم القصيدة الواحدة فيجعلها من بحور شتى، لقال لمحدثه: (يا هذا أن شاعرك مثله كمثل الطاهي الذي يخلط الحلو بالحامض، والمائع بالجامد، والرطب باليابس، والصلب بالشهد؛ ثم يرجو بعد هذا أن يكون في ما طهاه شفاء وغذاء).
مفهوم أن يكره الإنسان التقيد بالقيود من أي نوع كانت. والنفس تثور من آن لآن، تحاول(5/14)
تحطيم السلاسل التي تقيدها وتمنعها من ارتياد منهل الحرية عذبا نميرا. وقد رأينا منذ زمن كيف ابتدع بعض الشعراء نظم القريض مرسلا، من غير قافية ثابتة؛ لكن مع الاحتفاظ بالوزن. وكان لهذا الضرب من القريض أنصاره، الذين نادوا بأنه سيرقى بالشعر العربي إلى سماء ما طاولته سماء. ثم لم تلبث تلك النار أن باخت، وتلك الأصوات أن خفتت. وأصبحنا اليوم وأكثر الأدباء متفق على أن إرسال القافية لا يلائم الشعر العربي؛ فلم نكد ننعم بتلك الحرية حينا حتى عدنا بأنفسنا طائعين إلى حمل السلاسل والأغلال، مضحين بتلك الحرية العروضية التي لم تنتج لنا الا كل فاتر تمجه النفس.
ثم جاءت بعد هذا بدعة أكبر وأخطر. وهي بدعة (مجمع البحور) التي وصفناها. ومما يؤسف له أن يكون شاعر من أجلّ الشعراء شأنا وهو (شوقي) على ما به من قدرة ومكانة، وهو الشاعر ذو النفس الطويل. الذي ما كان يعييه أن ينظم فيطيل ما شاء الإطالة. وهو الذي نظم (صدى الحرب) و (مقدونيا) و (نهج البردة). أنه برغم هذا رأى الا يلتزم وزنا واحدا في روايته التي كتبها أخيرا. فأحياناً كان شخص من أشخاص الرواية يسأل السؤال في وزن، فيرد عليه بوزن آخر. وكثيرا ما ينتقل المتكلم إلى وزن جديد، وموضوع الحديث لم يتغير.
لقد قيل أن لشوقي في ذلك أسوة بكبار الشعراء الروائيين أو القصصيين، وهذا ليس بصحيح. فان جميع روايات شكسبير من وزن واحد وهو المسمى وملحمتا هوميروس كلتاهما من بحر واحد، والفردوس الضائع لملتون كلها من وزن واحد. والشهنامة والمثنوي كلها ذات وزن واحد. وبرغم ما قيل وما يقال عن روايات شوقي، فان كثيرا من الناس يقر بأن هذا الإكثار من الأوزان قد افقدها قسطا كبيرا من الحسن.
ونحن نسوق هنا على سبيل المثال قطعة من (قمبيز) وهي الرواية التي تفوق صواحبها في هذا الأمر.
جاء في المنظر الأول من الفصل الأول الحوار الآتي بين نتاتس وعمها فرعون (أمازوس):
نتاتس: نفريت يأبى المسير هب لي ... مكانها منك يا أمازوس
فرعون: أنت التي تذهبين، نتاتس: لم لا؟ ... فرعون: هذا هو النبل يا نتاتس(5/15)
بخ بخ بنت أخي
نتاتس (في استنكار): أنت يا قاتل عمي ... لا. . أبي يأبى وأمي
في هذا الحوار القصير الذي يتألف من ثلاثة أبيات ومصراع واحد، ثلاثة أوزان مخلع البسيط ومنه البيتان الأولان ومجزوء الرجز ومنه المصراع الذي يليهما. ثم مجزوء الرمل ومنه المصراعان الأخيران.
وقد يرى بعض الناس أن من الغلو في الحرية أن يكون أحد المصراعين في البيت الواحد والثاني من بحر آخر. ولكن في الحق أن هذا هو التطور المنطقي لمجمع البحور. فإذا كان مستحسنا أن يغير الإنسان الوزن بعد بيتين أو ثلاثة، فليس هناك معنى لأن يمتنع المرء عن تغييره في كل مصراع، بل وفي اقل من مصراع. وقد فعل ذلك أيحد الأفاضل في الجزء الثالث من (أبولو) في قصيدة من هذا النوع عنوانها (الشراع) جاء فيها:
وأنتزع عنك كساء الليل ثوبا: (رمل)
شحبا (؟)
تحتك اللجة السحيقة تدوي (خفيف)
فوقك اللانهاية الأبدية (=)
وأمامك الأفق البعيد يضلل (كامل)
والقارئ الذي يهمه هذا الضرب من الشعر يجب أن يرجع إلى هذه القصيدة لأنها خير مثال له بين أيدينا. ولولا ضيق المقام لتمثلنا بكثير من أبياتها.
وقد جاء في العدد الرابع من الرسالة منظومة للشاعر الفاضل إيليا أبو ماضي عنوانها الشاعر والسلطان الجائر. وقد أعجبنا بما فيها من خيال بديع، واكن افتتاحها بنوع خاص منبئاً بأن المنظومة من الدرر الغوالي. الا أن هذه الدرر كانت ذات نظام مختلط غذ جعل الشاعر يغير من وزنها ست مرات أو سبعا. فلا تكاد الأذن تطمئن إلى نغمة، حتى يستبدل بها نغمة تخالفها وتغايرها. والذين اكتفوا بقراءة القطعة الأولى حكموا بأن القصيدة من أحسن الشعر؛ وأما الذين قرءوها إلى النهاية فقد أسف كثير منهم على أن الشاعر قد افقد المنظومة حسنها لهذا الاضطراب في النظم؛ لأن لكل بحر أثرا خاصا في النفس، وهذا التقلب السريع مما يزعج الخاطر وينفر الأسماع.(5/16)
لسنا بحاجة لأن نسرد للقارئ أمثلة أخرى ندل بها على هذه الظاهرة الجديدة، التي بدت في كتابات بعض الشعراء، وليس من شك في أن (مجمع البحور) هذا سيكون شأنه شأن الشعر المرسل، سينادي به بعض الكتاب حينا، وقد يستفحل أمره زمنا ما. ثم لا يلبث أن تخمد جذوته، ويذهب كما ذهب أخ له من قبل.(5/17)
فلسفة برجسون
للأستاذ زكي نجيب محمود
ثورة على المادية
كثيرا ما يبدأ الفكر الإنساني بدراسة نفسه، ثم ينتهي إلى إحدى نتيجتين: فهو أما أن ينظم العقل في سلك المظاهر المادية التي تخضع للقوانين الآلية الصارمة، ثم ينصرف بناء على ذلك إلى دراسة الوجود المادي بما فيه من صور وأوضاع؛ وأما أن ينتهي إلى إنكار ذلك الوجود المادي جملة وتفصيلا، واعتباره من خلق العقل وتكوينه، ثم يتجه على هذا الأساس إلى دراسة العقل وحده، لأن في دراسته دراسة للوجود بأسره، ما دام هو الذي خلق هذا خلقا، وأنشأه إنشاء.
إذا فقد أنقسم الفلاسفة إلى قسمين مختلفين: فريق ينصرف بأسره إلى العلوم الطبيعية لأنها السبيل إلى تفهم مظاهر الكون، وفريق ينكب على دراسة النفس انكبابا، لأنها هي كل شيء. ونحن نستطيع أن نقول في شيء من الدقة أن تاريخ الفلسفة الحديثة ينحصر في هذا العراك العنيف القائم بين علم النفس والعلوم الطبيعية، فهذه تنشد الحقيقة في دراسة الظواهر المادية، وقد ترى في طريقها من بوارق الأمل الباسم ما تمضي معه في بحثها ثابتة اليقين موطدة العزيمة، وذلك يلتمسها في دراسة النفس دون المادة وهو مؤمن أن ليس أقوم من تلك السبيل سبيل.
ولكن جاء القرن التاسع عشر، فانعرج ذلك المجرى الفكري بعض الشيء، واتجه إلى دراسة المظاهر المادية اتجاها مباشراً، دون الوقوف على هذه النفس الإنسانية وقفة تحليلية، ولعل ذلك راجع إلى أن الإنسان قد خيل إليه أن العلوم الرياضية والميكانيكية وما إليها، هي التي دفعت به في العصر الحديث هذا الدفع السريع، وله عذره في هذا الظن. ما دامت الصناعة التي تدوي أرجاؤها في أوربا، والتي قلبت الحياة رأسا على عقب، هي ربيبة تلك العلوم. . . إذا فلماذا لا تدرس هذه العلوم الطبيعية دون سواها؟ هكذا اصطبغت الفلسفة في القرن الماضي بصبغة مادية، وذهبت في الفضاء صيحة ديكارت التي ألح بها في أن تبدأ الفلسفة سيرها من النفس ثم تتابع طريقها إلى العالم الخارجي.
انطوى القرن التاسع عشر أو كاد، فبدأ الإنسان يفيق بعض الشيء من تلك الفتنة التي أخذه(5/18)
بها الانقلاب الصناعي، واخذ الفكر ينزع عن نفسه شيئاً فشيئاً ذلك الثوب المادي الذي أشتمله واحتواه حينا من الدهر. ويبحث عن حقيقة الوجود في (الحياة) التي تدب في أنحاء الكون، لا في حركة القصور الذاتي التي تنتظم الجماد، وما زال الفكر يمعن في هذه النزعة الجديدة حتى كادت الحياة تدب في المادة نفسها، واصطبغت العلوم الطبيعية بصبغة حيوية، وهكذا كتب لها أن تلقي السلاح وتندحر أمام علم النفس فيما نشب بينهما من عراك.
ولعل شوبنهور هو أول من فطن إلى (الحياة) هي أساس الوجود؛ ثم جاء برجسون في عصرنا الحاضر وتناول هذه الفكرة بحثا واستقصاء، حتى استطاع بقوة أيمانه أن يجذب إليها أنظار هذا العالم الذي طغت عليه روح اللاأدرية والشك طغيانا مروعا.
عكف برجسون على دراسة المذهب المادي، وخلاصته أن العالم كتلة موات من المادة والحركة، وأن الحياة والفكر وكل خصائص الإنسان ليست سوى أعراض مختلفة لتفاعل المادة والقوة التي تحرك دقائقها، فكان كلما أمعن في تلك الدراسة، ازداد يقينا بفساد ذلك المذهب، وهو يتساءل في دهشة: إذا كان العقل مادة وكانت كل عملية عقلية عبارة عن هزة عصبية لا أكثر ولا أقل، فما فائدة الشعور؟ أليس مجرد وجود الإدراك دليلا قويا على ضرورته؟
يقول المذهب المادي أن ليس ثمة (حياة إرادية)، أي ليس في الوجود تلك القوة الحيوية التي تريد هذا فتعمله، ولا تريد ذاك فتنبذه، وكل ما هنالك حالات مادية متتابعة، كل حالة نتيجة لما قبلها ومقدمة لما بعدها؛ وهنا يتساءل برجسون: إذا كان الوجود وما يحوي في لحظة معينة نتيجة آلية للحظة التي سبقتها (دون أن تكون هناك قوة مدركة تنشئ وتكون وتختار) وإذا كانت تلك اللحظة السابقة بدورها أثراً آليا للتي سبقتها، وهكذا دواليك، فنحن إذا سنسير في هذا التسلسل حتى نصل إلى السديم الأول، ونتخذ منه سببا لكل ما طرأ على الكون من أحداث، لا فرق بين دقيقها وجليلها! ماذا؟ هل يريدنا ذلك المذهب على أن نعتقد بأن السديم هو السبب فيما كتبه شكسبير مثلا؟ وأنه العلة في خطابه أنطوني وهملت؟!
هكذا أخذ برجسون من منطق الماديين ما يكفي وحده للرد عليهم ودك مذهبهم من أساسه.
العقل والجسم
لعل ما حدا بالإنسان إلى النزعة المادية في تفكيره هو ارتباطه بالمكان ارتباطا وثيقا، حتى(5/19)
خيل إليه أن الحياة ليست الا هذه الصور المكانية التي يحسها؟ ولكن الحق الذي لا ريب فيه هو أن جوهر الحياة وروحها إنما ينحصران في الزمان أكثر مما يتعلقان بالمكان؛ والزمان في الواقع عبارة عن تراكم صور كونية فوقها فوق بعض، أو إن شئت فقل صورة كونية واحدة امتدت على طول الزمان وأخذت تنمو وتتزايد شيئا فشيئا، ومعنى ذلك أن الماضي من بدئه الأزلي لم يفن، وإنما آخذ يتقدم فتتزايد أحداثه قليلا قليلاً إلى أن تضخم فكون الزمان الحاضر. وإذا كان الزمان عبارة عن مجموع الصور التي مرت على الوجود فيستحيل أن يكون المستقبل مشابها للماضي، لأن في كل خطوة زيادة تضاف إلى تلك الكومة المتراكمة، وفي كل دقيقة ينشأ شيء جديد ليس نتيجة لمقدمة سابقة ولكنه خلق خلقاً ولا يمكن استنتاجه قبل حدوثه. فالتغير سنة الحياة وألزم صفاتها.
والذاكرة عند الإنسان هي الوعاء الذي يمتد مع الزمن فيختزن فيه هذه الصور المتراكمة المتزايدة، لكي تكون لنا عونا في حياتنا، إذ كلما اتسعت دائرة الحياة اتسع معها نطاق الاختيار، أي يعرض للإنسان مؤثرات عدة تستدعي منه سرعة اختيار للتلبية المناسبة لكل من تلك المؤثرات. وهذه المؤثرات وتلبياتها تكون في الإنسان إدراكا يستعين به في كل ما يعرض له من مشكلات.
فالكائن الحي كتلة فعالة مؤثرة. لأنه يضيف إلى العالم قوة ونشاطا، وليس الإنسان كما صوره الماديون آلة ميكانيكية لا حول لها ولا قوة، ينفعل ويتأثر بعوامل البيئة دون أن يكون مركزا للخلق والزيادة. ففي قولنا أن الإنسان مدرك لما يعمل اعتراف ضمني بحرية اختياره.
قلنا إن وظيفة الذاكرة هي استدعاء الصور الذهنية التي مرت بنا في التجارب الماضية مقرونة بما سبقها وما تلاها، فتتمكن بذلك من الحكم في المواقف المشابهة التي قد تعرض لنا، حكما صادقا. ولكن للذاكرة فوق هذا عملا آخر، فبوساطتها نستطيع أن نستوعب الخلود بأسره في دقيقة واحدة، وفي ذلك تحرير لنا من قيود الضرورة الطبيعية التي تخضع لها الأشياء الجامدة. يخطئ إذا من يحسب الإنسان آلة صماء في يد القوانين المادية، إنما هو كائن مدرك، حر الإرادة، قادر على اختيار سلوك معين؛ والاختيار خلق وإنشاء، فليس الإنسان رتيبا في حياته كالحيوان المحدود بغرائزه.(5/20)
وإذا فليس العقل والمخ (أي الجسم) شيئاً واحداً؛ صحيح إن الإدراك العقلي يعتمد على المخ، يسمو وينحط تبعا لسلامة هذا أو انحطاطه، ولكن كما تعتمد ملابسك على المشجب. تظل عالية ما دام المشجب مثبتا في الحائط، وتهوي إذا ما سقط من مكانه، وبديهي أن ذلك لا يدل على أن الملابس والمشجب شيء واحد.
فالمخ مجموعة من التصورات وردود الأفعال، أما الإدراك فهو تلك القوة التي تختار من بين تلك المجموعة ما تريد. المخ هو المجرى الذي يسير فيه تيار الإدراك، ولكن ليس الماء ومجراه شيئاً واحداً، وأن يكن ذلك محدودا بهذا، ولا بد له أن يخضع لإلتواءاته وتعاريجه.
وإذا كان هذا هكذا، فما الذي حدا بنا إلى الاعتقاد بأن العقل والمخ شيء واحد؟ لعل ذلك راجع إلى أن جزءاً من عقولنا، وهو ما نسميه بالذكاء، قد نشأ وتطور لكي يمارس الأجسام المادية ويتفهمها، فاكتسب من هذا الميدان المادي كل تصوراته وقوانينه، وهكذا أخذ الارتباط الذهني بين العقل والمادة ينمو شيئا فشيئا، حتى انتهى بنا الأمر إلى الظن بأنهما شيء واحد؛ ولكن هذا الذكاء الذي يكشف لنا عن العلاقات التي تصل المظاهر الكونية بعضها ببعض، عاجز كل العجز عن إدراك الامتداد الزمني وما يعرض فيه لتلك المظاهر من تغير وخلق، أو بعبارة أخرى هذا الذكاء الذي يفكر في الصور المادية لا يستطيع أن يدرك ما في الكون من حياة، لأنه يلتقط صورا متلاحقة بعضها يجيء في إثر بعض، أي أنه يلتقط صورة الكون في هذه اللحظة، ثم صورته في اللحظة التي تليها، ثم صورة ثالثة في التي تليها وهكذا، ومعنى ذلك أن العالم الخارجي في نظر العقل عبارة عن جملة صور لحظية تملأ كل صورة منها الكون بأسره؛ هذه الصور تتلو الواحدة منها الأخرى لحظة بعد لحظة، وكل صورة لحظية من هذه الصور تمثل الحقيقة الخارجية من أول الماضي إلى آخر المستقبل. الا أن تلك الصور تظل مستقلة في الذهن، لا يتناولها الاستمرار أو الحركة التي تربطها جميعاً، مع أن الحياة ليست الا في وصل هذه الصور المجزأة. مثل العقل في ذلك كمثل الشريط السينمائي الذي يلتقط عددا من الصور المتلاحقة، لا حياة في كل منها على حدة، فإذا ما دبت فيها الحركة والاستمرار، واتصل بعضها ببعض، كونت حياة، أو شيئاً يشبه الحياة. ولن يكون في هذه الصور التي تصلنا عن طريق الحواس شيء من(5/21)
الحياة، حتى يتناولها تيار الحركة الدائم الذي يربط أشتاتها ويكون منها حقيقة واحدة يطرأ عليها التغير والتبدل كلما مر عليها شطر من الزمان.
صحيح أن كل صورة حسية هي جزء من الحياة، ولكن مجموعها لا يكون مجموعة الحياة، إلى أن يتحقق في أجزائها شرط الاتصال والربط، فكما أن كل جزيئي من الخط المنحني يمكن أن يكون جزءا من خط مستقيم بدليل أنهما يتماسان في أي نقطة شئت، ومع لك لا تستطيع أن تقول: بما أن أجزاء هذا هي أجزاء ذلك، إذن فالخط المنحني هو خط مستقيم؛ كذلك قل في الحياة والمظاهر الطبيعية، فليست الحياة هي مجموعة المظاهر الطبيعية، على الرغم من أن تلك المظاهر هي الجزئيات التي تتكون منها الحياة.
يستنتج من هذا أن العقل ليس هو الأداة الصالحة لأدراك الحياة، لأن هذا مطلب فوق مقدوره واكثر مما يستطيع، إذ العقل كما بينا يميل إلى استعمال الوجود لصالحه، وهذا الاستعمال يتطلب منه وقف تيار الحياة الذي يدب في الكون، وتجزئة الوجود للتمكن من بعضه، فالعقل والحواس آلات للتجزئة، والغاية منهما تيسير الحياة لا تصوير الوجود، أي أنها تتناول الوجود في ظاهره ولكنها لا تنفذ إلى باطنه. . . ولما كانت المعرفة الحقيقية هي التي تتمشى مع الوجود في تحوله، وتتغلغل في باطن الاشياء، وتحسها إحساسا مباشرا كما يحس الحمل الوديع وجوب الفرار من غائلة الذئاب؛ فالبصيرة وحدها هي الأداة الصالحة لذلك النوع من المعرفة المباشرة، لأنها حاسة الحياة التي تنقل تلك الوحدة الحيوية التي تربط أجزاء الوجود.
التطور خلق وإنشاء
لا يمكن أن يكون تطور الحياة على تلك الصورة البشعة القاسية التي رسمها دارون وسبنسر، إنما التطور خلق مستمر، وتجديد متواصل، وتغير لا ينقطع.
الانتخاب الطبيعي عند دارون هو الأساس الذي تقوم عليه نشأة الأعضاء والوظائف والأنواع. ولكن لم يكد يستوي ذلك المذهب على قدميه، حتى أحاط به من الصعاب والمشكلات ما لم يقو على رده فكاد يخر صريعاً وهو ما يزال في يفاعته.
كيف يستطيع الانتخاب الطبيعي أن يفسر نشأة حاسة الأبصار مثلا! أولا، لا بد أن نسلم بأنه من المستحيل أن تكون العين قد نشأت على هذه الصورة المعقدة من بادئ الأمر، فإذا(5/22)
فرضنا أنها تكونت بعد سلسلة من الاطوار، فهل من اليسير أن تقنع عقلا سليما أن تلك الأدوار التي مرت بها عين الإنسان تطابق تمام المطابقة الدوار التي مرت بها الحواس الابصارية لأنواع الحيوان جميعا؟! مع أن الانتخاب الطبيعي أساسه المصادفة المحضة! وهل من الجائز أن تكون سلسلة المصادفات التي تعاقبت على عين الإنسان وأذنه وأنفه وسائر أعضائه الأخرى هي التي تعاقبت على أعضاء الحيوانات جميعاً؟!
وإذا سلمنا (جدلا فقط) بأن تلك المصادفة السحرية العجيبة جائزة في أنواع الحيوان لتشابه المؤثرات التي تحيط بها جميعا. فما قولك في الحيوان والنبات، وهما نوعان يسيران في طريقين مختلفين أتم اختلاف؟ كيف يتفق الاثنان على طريقة واحدة للتناسل؟ كيف يوفق الحيوان، عن طريق المصادفة، إلى اختراع الذكورة والأنوثة أداة للتكاثر، ثم يوفق النبات نفس هذا التوفيق وعن طريق المصادفة أيضاً؟!!
كلا! يستحيل أن يكون هذا الأساس الواهي قاعدة التطور، ولابد أن يكون في أجزاء الوجود (مهما تنوعت أشكالها) قوة كامنة متشابهة في الجميع؛ هي الحياة. وهذه الحياة الحالّة في كل شيء تخلق فيه ميلاً خاصاً وتوجيهاً معينا يؤثران في كل جزئي من جزئياته، وهكذا يظل الجسم المادي يتشكل ويتغير حسب ذلك التوجيه الذي تمليه تلك الحياة الدافعة الكامنة فيه. وليس ثمة قوة خارجية تعمل على التطور كما خيل إلى دارون وأشياع مذهبه.
هذه الحياة الشاملة تسعى جهدها للتغلب على الجمود المادي وطمس معالمه من الوجود، فهي تتغلب على الموت بالتناسل، وأن ضحت في سبيل ذلك الافراد؛ وهي تبذل كل ما تملك من قوة لتحرير نفسها من قوانين المادة وأغلالها؛ فوقوف الحيوان وسيره وسعيه وكل ما يأتي من ضروب الحركة والنشاط، هو في الواقع تحد من الحياة لتلك الأغلال والقيود.
كانت الحياة في مبدأ ظهورها أشبه ما تكون بالمادة في جمودها واستقرارها، لأنها كانت تتمثل في النبات وحده، والنبات كالجماد في سكونه واستحالة سعيه وحركته؛ ولكنها ما لبثت أن نشدت الحرية من تلك القيود المادية؛ وراحت تسعى وراء ذلك المثل الاعلى، فاخترعت أنواع الحيوان، وزودتها بشتى الأعضاء التي يستطيع أن يحقق بها شيئا من تلك الحرية المنشودة، ثم ما لبثت أن عقدت أمالها في واحد من تلك الحيوانات جميعا: هو(5/23)
الإنسان. فلا شك في أن الحياة تحاول ما استطاعت أن تسخر من قيود المادة، ونحن نضحك ونسخر إذا ما رأينا كائنا حيا يتصرف كما تتصرف الكتلة المادية الجامدة، كان تزل قدمه فيسقط بقوة الجاذبية كما تسقط قطعة الحجر.
يتضح من لك أن الحياة قد سارت في تطورها خلال مراحل ثلاث:
الأولى: مرحلة النبات إذ كانت أقرب ما تكون إلى سكون المادة وجمودها.
الثانية: مرحلة الحيوان الغريزي كالنحل والنمل الذي يتحرك ويسعى، ولكن في حدود مرسومة وخطة معلومة.
الثالثة: مرحلة الحيوان الفقري، الذي أخذ يسير في طريق الفكر، ولن يزال هذا الفكر ينمو ويشتد ويستقيم، فهو ذخر الحياة وأملها الذي سيحقق لها ما تنشد من حرية.
هذه الحياة التي لا تفتأ تخلق وتغير وتبتدع، والتي تلتمس الحرية من قيود المادة، هي الله، فالله والحياة اسمان على مسمى واحد. ولكنه اله ذو سلطان محدود بقيود المادة، وليس مطلق الإرادة كما تصوره الأديان، الا أنه دائب في التخلص من أغلاله وأصفاده؛ وأغلب الظن أن الحياة ستظفر آخر الأمر، ونكاد نوقن أنها ستتغلب على الموت، فيتحقق لها الحرية والخلود. فكل شيء جائز في نظر الحياة ما دام في الزمن امتداد.
وبعد. فما أجمل أن يرتفع صوت برجسون بشيرا بما في الكون من حياة فعالة خالقة، ليقف تيار المادية الذي طغى على أوربا في القرن الماضي، حتى غمرها بين ثناياه، وكم كنا نود أن نشترك معه في ثل ذلك العرش الذي كان يتربع عليه اله العقل، ولكن على شريطة الا يدعونا إلى تقديس اله آخر: هو البصيرة؛ لأنها قد تخطيء كما تخطيء الحواس.(5/24)
في الأدب العربي
ابن خلدون في مصر
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 1 -
ترددت خلال العام الماضي دعوة لأحياء ذكرى المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون لمناسبة انقضاء ستمائة عام على مولده، فاستجابت دوائر التفكير والأدب في جميع البلاد العربية لهذه الدعوة الكريمة، وأقيمت عدة حفلات علمية للإشادة بذكره وخالد آثاره، ولا سيما في تونس مسقط رأسه ومطلع مجده، وفي مصر مقام شيخوخته ومثوى رفاته؛ وحفلت المجلات والصحف حينا بمختلف البحوث عنه. ولكن ناحية من حياة المفكر الكبير لم تلق كبير عناية، تلك هي حقبة مقامه بمصر، وصلته بها، وأثره فيها؛ وهذا ما نريد أن نعنى به في هذا الفصل تحية لذكرى المؤلف والفيلسوف الاجتماعي الأشهر.
غادر ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون تونس في منتصف شعبان سنة 784 هـ (أكتوبر سنة 1382م)، فوصل ثغر الإسكندرية في يوم عيد الفطر بعد رحلة بحرية شاقة، ويقول ابن خلدون في (تعريفه) عن نفسه، أنه قدم إلى مصر لينتظم منها في ركب الحاج، وأنه لبث بالإسكندرية شهرا يهيئ العدة لذلك، ولكن لم يتح له يومئذ أن يحقق هذه الغاية، فقصد إلى القاهرة، وكان قضاء الفريضة حجته الظاهرة في مغادرة تونس، واستئذان سلطانها أبي العباس في السفر إلى المشرق. ولكن ما يقصه ابن خلدون من الحوادث قبل ذلك يدل على أن مغادرته لتونس كانت فرارا؛ وكانت خشية من بطش سلطانها، وغدر بلاطها. وكان ابن خلدون قد أنفق نحو ربع قرن في خوض غمار السياسة ودسائس القصور، وتقلب في خدمة معظم سلاطين المغرب والأندلس، وذاق نعم الرياسة ومحن النقمة مرارا، وعانى مرارة السجن والأسر وخطر الهلاك غير مرة. ولم تهدأ نفسه المضطرمة بشغف المغامرة والنضال والدس الا في كهولته، يوم أعيته الحيل، وغلبته الأرزاء والمحن، وفقد عطف معظم القصور التي تقلب فيها، وأضحى يتبرم بقضاء تلك المهام السلطانية التي كان يتخذ قضاءها وسيلة للنفوذ والرياسة. عندئذ عافت نفسه غمر السياسة ودسائس القصر، فارتد في أواخر سنة 776هـ، إلى قلعة نائية منعزلة بناحية أولاد عريف بالمغرب الأوسط؛(5/25)
وهنالك أنقطع للبحث والتأليف مدى أربعة أعوام، وأخذ في كتابة تاريخه الضخم، وأنجز منه مقدمته الشهيرة وعدة مجلدات أخرى. ثم رأى أن يقصد إلى تونس ليستكمل مراجعه في مكاتبها، وكانت بينه وبين سلطانها وحشة؛ فاستأمنه وحصل على رضائه؛ وغادر مقامه النائي إلى تونس فوصل إليها في شعبان سنة 780. وهنالك اشتغل بإتمام مؤلفه بتكليف السلطان ورعايته حتى أتمه ورفعه إلى السلطان، ومدحه يومئذ بقصيدة طويلة أوردها في (تعريفه). وكان ذلك لنحو عامين من مقدمه إلى تونس (782 - 1380م).
وهنا ألقى ابن خلدون نفسه في معترك جديد من الدسائس، وقصده رجال البطانة بالكيد والسعاية لدى السلطان، وأغروه أكثر من مرة باستصحابه إلى غزواته ومهامه الخطرة، فخشى ابن خلدون عاقبة السعاية، ولم يجد في تونس ما كان ينشده من هدوء وسكينة، فانتهز فرصة وجود السلطان في تونس، ووجود سفينة مصرية في مرساها تقصد الإسكندرية، فألح على السلطان في الإذن له بالسفر لقضاء الحج، وركب البحر بمفرده تاركا أسرته في تونس، فوصل الإسكندرية كما قدمنا في يوم عيد الفطر سنة 784.
كان مقدم ابن خلدون إلى مصر إذا، نوعا من الفرار وخيفة البطش والمحنة، ولم يكن قضاء الفريضة قصده المباشر، بل كانت حجته الظاهرة. وكان يرجو بلا ريب أن يقضي بقية أيامه بمصر في هدوء ودعة، وأن ينعم بذلك الاستقرار الذي لم تهيئه له بالمغرب حياة النضال والمغامرة. وكان يومئذ في الثانية والخمسين من عمره، ولكنه كان وافر النشاط والقوة، يتطلع دائما إلى مراتب النفوذ والعزة؛ وكانت القاهرة يومئذ موئل التفكير الإسلامي في المشرق والمغرب، ولبلاطها شهرة واسعة في حماية العلوم والآداب، فكان يرجو أن ينال قسطه من هذه العناية والحماية. ووصل ابن خلدون إلى القاهرة في أول ذي القعدة سنة 84 - نوفمبر سنة 1382؛ فبهرته ضخامتها وعظمتها وبهاؤها كما بهرت سلفه ومواطنه الرحالة ابن بطوطة قبل ذلك بنصف قرن وكما بهرت على كر العصور كل من رآها من أعلام المشرق والمغرب. ولا غرو فان المؤرخ لم ير بالمغرب سوى تلك المدن الصخرية المتواضعة، ولم ير بالأندلس حيث قضا ردحا من الزمن، مدينة في عظمة القاهرة وروعتها. وهو يهتف للقاهرة اثر مقدمه ويحييها بحماسة تنم عن عميق إعجابه وسحره وتأثره، ويصفها في تلك الفقرة الرنانة: (فرأيت حاضرة الدنيا، وبستان العالم،(5/26)
ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك؛ تلوح القصور والأواوين في جوه. وتزهو الخوانق والمدارس والكواكب بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه؛ قد مثل بشاطئ النيل نهر، ومدفع مياه السماء، يسقيه العلل والنهل سيحه، ويجبي إليهم الثمرات والخيرات ثجة؛ ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم. . .)
ولم يكن ابن خلدون نكرة في مصر. فقد كان المجتمع القاهري يعرف الكثير عن شخصه وسيرته؛ وكانت نسخ من مؤلفه الضخم ولا سيما مقدمته الشهيرة قد ذاعت قبل ذلك بقليل في مصر وغيرها من بلدان المشرق، وأعجبت دوائر العلم والتفكير والأدب بطرافة مقدمته وجدتها وروعة مباحثها. فلم يكد يحل بالقاهرة حتى أقبل عليه العلماء والطلاب من كل صوب. يقول ابن خلدون في كبرياء وتواضع معا: (وأنثال عليّ طلبة العلم بها يلتمسون الإفادة مع قلة البضاعة، ولم يوسعوني عذرا) وهذا ما تشير إليه التراجم المصرية؛ فيقول أبو المحاسن بن تغري بردي في ترجمته لابن خلدون: (واستوطن القاهرة وتصدر للإقراء بالجامع الأزهر مدة، واشتغل وأفاد) ويقول السخاوي: (وتلقاه أهلها (أي أهل مصر) وأكرموه وأكثروا ملازمته والتردد عليه، بل تصدر للإقراء بالجامع الأزهر مدة. . .). جلس ابن خلدون للتدريس بالأزهر، والظاهر أنه كان يدرس الحديث والفقه المالكي، ويشرح نظرياته في العمران والعصبية وأسس الملك ونشأة الدول؛ وغيرها مما عرض إليه في مقدمته. وكانت هذه الدروس خير إعلان عن غزير علمه، وشائق بحثه، وساخر بيانه. وكان ابن خلدون محدثا، بارعا رائع المحاضرة، يخلب لباب سامعيه بمنطقه وذلاقته. وهذا ما يحدثنا به جماعة من أعلام التفكير والأدب المصريين الذي سمعوه أو درسوا عليه؛ ومنهم المؤرخ الكبير تقي الدين المقريزي الذي سمعه ودرس عليه فتى وكذا الحافظ ابن حجر؛ فقد درس عليه وأنتفع بعلمه ووصفه بقوله: (وكان لسنا فصيحا، حسن الترسل وسط النظم؛ مع معرفة تامة بالأمور خصوصا متعلقات المملكة) ونقل السخاوي عن الجمال البشيشي أنه (كان فصيحا مفوها جميل الصورة) وعن الركراكي (أن محاضرته إليها المنتهى).
وهكذا استطاع ابن خلدون لأول مقدمه أن يخلب الباب المجتمع القاهري، وأن يستثير(5/27)
إعجابه وتقديره؛ ولكن صفاء الأفق من حوله لم يدم طويلا كما سنرى، وفي أثناء ذلك اتصل ابن خلدون بأمير من أمراء البلاط يدعى علاء الدين الطنبغا الجواني، فشمله برعايته، وساعده على التقرب من السلطان والاتصال به. وكان السلطان يومئذ الظاهر برقوق؛ وقد ولى الملك قبيل مقدم ابن خلدون بأيام قلائل (أواخر رمضان سنة 784)، فأكرم وفادة المؤرخ واهتم بأمره؛ يقول ابن خلدون: (فأبر مقامي. وانس الغربة ووفر الجراية من صدقاته، شأنه مع أهل العلم) وبذا تحققت أمنية المؤرخ من الاستقرار والمقام الهادئ في ظل أمير يحميه ويكفل رزقه، ولم يمض قليل على ذلك حتى خلا منصب للتدريس بالمدرسة (القمحية) بجوار جامع عمرو وهي من مدارس المالكية فعينه السلطان فيه. ويعني ابن خلدون في تعريفه، بوصف مجلسه الأول في هذا المعهد؛ فقد شهده جمع من الأكابر أرسلهم السلطان لشهوده؛ والتفوا حول المؤرخ. وألقى ابن خلدون في ذلك الحفل خطاباً بليغاً، يحرص على إيراده بنصه. وقد تكلم فيه بعد الديباجة عن فضل العلماء في شد أزر الدولة الإسلامية. وعن تغلب الدول. ثم أشاد بما لدى السلاطين المصرية من فضل في نصرة الإسلام، وإعزازه، ومن همم في إنشاء المساجد والمدارس، ورعاية العلم والعلماء والقضاة، ثم دعا للملك الظاهر، وأشاد بعزمه وعدله وعقله؛ وعطف بعدئذ على نفسه، وما أوليه من شرف المنصب في تلك العبارة الشعرية: (ولما سبحت في اللج الأزرق، وخطوت من أفق المغرب إلى أفق المشرق، حيث نهر النهار ينصب من صفحة المشرق، وشجرة الملك التي اعتز بها الإسلام تهتز في دوحه المعرق، وأزهار الفنون يسقط علينا من غصنه المورق. . أولوني عناية وتشريفاً، وغمروني إحساناً ومعروفاً، وأوسعوا همتي إيضاحاً ونكرتي تعريفاً، ثم أهلوني للقيام بوظيفة السادة المالكية بهذا الوقف الشريف. . . إلخ)(5/28)
اثر اللغة العربية في العالم الإسلامي
للسر دنسون روس. مدير مدرسة اللغات الشرقية بلندن
هذه ترجمة المحاضرة الأولى من المحاضرات الثلاث التي ألقاها السر دنسون روس باللغة الإنجليزية في قاعة الجمعية الجغرافية إجابة لدعوة الجامعة المصرية وقد نقدته الجامعة على كل محاضرة خمسين جنيها وسننشر ترجمة المحاضرتين الأخريين تباعا في الأعداد المقبلة.
تمهيد:
أشعر وأنا أختار موضوعا مثل هذا لمحاضرة في الجامعة المصرية، أنه ينطبق علي المثل القائل (كمن يجلب الفحم إلى نيوكاسل) أو على حد تعبير الفرنسيين (كمن يحمل الماء إلى البحر) أو كما يقول العرب (كمن ينقل التمر إلى البصرة) أو (كمن يبيع الماء في حارة السقائين).
إذ كيف يجرؤ شخص مثلي لا يخرج عن كونه تلميذاً يدرس العربية أن يقوم ببحث في هذه اللغة العظيمة على مرمى قوس من الأزهر؟ إن اعتذاري عن هذا ينبغي أن يكون اعتذار النملة أمام عرش سليمان.!
وربما قيل عن عنوان محاضرتي أنه تقرير لقضية مسلمة، فالعربية لغة القران والحديث وتأثيرها في العالم الإسلامي حق لا ريب فيه.
ولكنني أرجو أن أسوغ عنواني هذا بأن أبين تأثير اللغة العربية في تلك الممالك التي تتكلم لغات أخرى، وتتكلمها لا على أنها واسطة لفهم العقائد وإقامة الشعائر الدينية؛ بل لأنها عامل منتج من الثقافة العامة.
ذلك لأنه ينبغي أن نعلم حق العلم أن ليس ثمة دين عالمي آخر قامت فيه اللغة الأصلية للكتب المقدسة بذلك الشأن الخطير كما هو الحال في الإسلام.
فإذا اعتبرنا البوذية والمسيحية وهما ديانتان تقومان بالدعاية فأننا نلاحظ أن كتبهما المقدسة إذا أذيعت في ممالك أخرى فإنما تذاع بلغة تلك الممالك. خذ لذلك مثلا تلك المجموعة الضخمة مجموعة القوانين البوذية المعروفة باسم (السلات الثلاث) فأنك تجدها تقرأ في الصين واليابان مترجمة إلى لغة تلك البلاد. حقاً أن لغة الهند الأصلية قد اختفت كما اختفت(5/29)
البوذية نفسها من الهند.
وقل مثل هذا عن التوراة والإنجيل فأنهما يقرءان في الأمم المسيحية بلغة كل منها دون أن تقوم العبرية أو المسيحية بأي شيء في حركات الدعاية التي تقوم بها الجمعيات الدينية.
وأن اللغة الوحيدة التي يمكن مقارنتها بالعربية من حيث أنها واسطة للتعاليم الدينية إنما هي اللغة العبرية، على أن هناك اختلافاً بين الحالتين من بعض الوجوه وإن اتفقت اللغتان في أن كلتيهما تدين بخطرها الأساسي إلى أنها لغة الكلام المنزل من عند الله. فأما العبرية فنجد أن كل تقي من اليهود يحفظ بعضا منها، ولكن اليهودية لا تعتبر الآن من الأديان الواسعة الانتشار وذلك على الرغم من انتشار جماعات اليهود في أنحاء العالم. وأنك لتجد طوائف وطنية منهم في الهند وأثيوبيا لا يعرفون من العبرية الا قليلا.
ويجب أن نتذكر أني إنما أبحث في التأثير اللغوي الذي أحدثه القران لا في رسالة النبي، وعلى ذلك فأظنني أستطيع تقرير تلك الحقائق دون أن أسيء إلى الحاضرين من المسيحيين واليهود.
أن التأثير الذي تركته التعاليم البوذية والكتب العبرية المقدسة في آداب الممالك البوذية والمسيحية لا يقل شأنا عن تأثير القران إن لم يكن أكثر في ناحية الفن.
ولكن ما حدث في الصين وفي أوربا هو أن تلك الكتب المقدسة قد أصبحت جزءاً من الآداب القائمة إذ ذاك وكانت تلك الآداب غنية بالأبحاث والموضوعات الدنيوية، وفيما يتعلق بأوربا نقول أنه لما كانت اللغات الحديثة قد اشتقت من اللاتينية والتوتونية القديمة، فأنه لما ترجم الإنجيل إلى تلك اللغات، أصبح ذلك الكتاب هو المؤثر الثابت فيها كما يشهد بذلك الجهد الذي بذله لوثر في وضع أساس الألمانية الراقية الحديثة.
نعم لقد لعبت اللاتينية بين الكاثوليك دوراً مشابهاً لذلك الدور الذي لعبته العربية بين المسلمين (ولكن اللاتينية لم تكن لغة التنزيل).
الموضوع:
ولنعد الآن إلى الموضوع الأساسي لمحاضرتي. وستكون الممالك التي يتناولها بحثي هي تلك التي لا يزال الإسلام سائداً فيها ولكن لا تتكلم العربية، أعني بلاد الفرس وبلاد الهند وما وراء النهر وتركيا.(5/30)
أن دخول الشرق الأدنى والشرق الأوسط والهند تحت نفوذ العرب (وقد كانوا أنفسهم حديثي العهد بالدخول في الدين الجديد وقبول (الوحدانية السامية) قد أدى إلى ثورة عظيمة (في الأدب والثقافة) لا تقل في خطورتها من حيث قوتها وتمامها، ومن حيث أنها مبدأ عهد جديد، عن ذلك التغير الذي طرأ على العقيدة الدينية.
ويرجع هذا في أساسه إلى ذلك التأثير المعجز الذي أحدثه القران في نفس كل من أعتنق الإسلام.
فإن القران وهو كلام الله الذي أنزل على رسوله قد قوبل من المسلمين قاطبة بالاحترام والإجلال، أولاً، من أجل عباراته ذاتها لأنها تنزيل من الله، وثانيا لما اشتمل عليه من الآيات البينات، ومن أجل ذلك كان لزاما على من يقبل الإسلام أن يقبل معه اللغة العربية، تلك اللغة التي نزل بها القران وأرسل بها الرسول.
وهنا لا نجد لغة غريبة غير مستعملة لا يفهمها الا عدد محصور من العلماء كما كان الحال في ديانة زرادشت والديانة الهندية، بل نجد (لغة حية) يتكلمها أولئك القوم الذي دعوا سكان الممالك التي فتحوها إلى الدخول في الدين الجديد.
إن الرقي الفجائي الذي طرأ على اللغة العربية وأحالها إلى لغة مهذبة مكتوبة ليعد من أعجب الأمور إذا تذكرنا أنه في الوقت الذي ظهر فيه الرسول لم يكن لدى العرب (أدب لغة) بالمعنى الذي يفهم من هذه العبارة، وأن استعمال الخط كان قليلا إلى درجة كبيرة بدليل أنه في أثناء الكفاح بين المسلمين وأعدائهم كما حدث في بدر وأحد كان المتبع أن يبقي المسلمون على حياة من يعرفون الكتابة من الأسرى.
ولكن العرب قد أخرجوا فحول الشعراء الذين تغنى الناس بشعرهم في طول شبه الجزيرة وعرضها، وأن كان الاختلاف لا يزال قائماً بين الباحثين فيما إذا كانت هذه الأشعار قد ظهرت حقاً في الجاهلية أم في الإسلام.
والذي ما يهمنا هو أن بين هذه الأشعار طائفة يمكن اعتبارها في المنزلة الأولى لا في أدب العرب فحسب، ولكن في أدب العالم اجمع.
وكان القران يمثل اللهجة التي كانت شائعة في الحجاز. وإلى أن قام الخليفة عمر (بمراجعاته) الرسمية الدقيقة للقران، لم يكن هناك أي كتاب في النحو، كما لم يكن هناك أي(5/31)
قاموس عربي، وكان الفرس أول من ميزوا أنفسهم باستنباط بعض القواعد النحوية من القران. وبعد هذا أخذ الأذكياء في العالم الإسلامي يحذقون هذا اللسان الصعب، وابتدأ الناس ينافس بعضهم بعضا كل بما حصل من اللغة، ومنذ ذلك الوقت، فيما بين إسبانيا وسمرقند، أخذ الكثير من الشعراء المطبوعين، الذين كانوا من قبل في حاجة إلى أداة يظهرون بها إبكارهم ينظمون الشعر بالعربية. ولقد شرعوا أول أمرهم يحاكون الأشعار البدوية التي لم يكن لهم بموضوعاتها علم مباشر، ثم أخذوا يطرقون من الموضوعات ما تميل إليه قلوبهم، وما يوافق طبيعتهم وبيئتهم.(5/32)
موسى بن شاكر وبنوه الثلاثة
للأستاذ قدري حافظ طوقان. عضو الجمعية الرياضية بلندن
منشؤهم
ظهر موسى بن شاكر في عصر المأمون ولمع في سماء العلم ولا سيما في الهندسة وانبثق منه ثلاث نجوم: محمد واحمد وحسن نبغوا في الرياضيات وعلم الهيئة والفلسفة، وكان لهم في ذلك مؤلفات نادرة عجيبة. وهؤلاء الأربعة (ممن تناهى في طلب العلوم القديمة وبذل فيها الرغائب واتعبوا فيها نفوسهم وأنفذوا إلى بلاد الروم من أخرجها إليهم فأحضروا النقلة من الأصقاع والأماكن بالبذل السني، فاظهروا عجائب الحكمة، وكان الغالب عليهم من العلوم الهندسة والخيل والحركات والموسيقى والنجوم وهو الأقل. .).
ويقال إن موسى مات صغيرا وقد خلف أولاده الثلاثة صغاراً اعتنى بهم المأمون كثيراً، ووصى بهم إسحاق بن إبراهيم المصعبي وأمره بالاهتمام بهم والمحافظة عليهم، وانقطعوا إلى العلوم يبحثون عنها فغاصوا فيها واستطاعوا أن يجيدوا أكثرها. فأكبرهم وهو أبو جعفر محمد أجل اخوته عالماً بالهندسة والنجوم والمجسطي، وكان جمّاعة للكتب، ومضى عليه زمن كان مدخوله السنوي أربعمائة ألف دينار. أما أحمد فقد كان دون أخيه في العلم الا صناعة الحيل فقد تعمق فيها، وأجادها وتمكن من الابتكار فيها، وفاق القدماء المحققين في هذا العلم مثل (أيرن)، وأما حسن فقد كان منفردا في الهندسة، ومع أنه لم يقرأ من كتب الهندسة الا ست مقالات من كتاب اقليدس في الأصول، فقد حدث نفسه باستخراج مسائل لم يستخرجها أحد من الأولين (كقسمة الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية، وطرح خطين بين خطين ذوي توال على نسبة، فكان يحللها ويردها إلى المسائل الأخرى ولا ينتهي إلى آخر أمرها، لأنها أعيت الأولين). وحكي عنه أنه كثيرا ما كان يغرق في الفكر في مجلس فيه جماعة فلا يسمع ما يقولون ولا يحسه.
مآثرهم
ثبت أن المأمون أمر بني موسى بقياس درجة من خط ونصف النهار لإيجاد محيط الأرض، وقد أجروا حسابهم ذلك في سنجار كما أجروه ثانية في الكوفة. ومن توافق(5/33)
الحسابين علم المأمون صحة ما حرره القدماء في هذا الصدد وهم الذين كملوا الزيج المصحح، وحسبوا الحركة المتوسطة للشمس في السنة الفارسية، وحددوا ميل وسط منطقة البروج المسماة بالاكليتيك في مرصدهم المبني على جسر بغداد المتصل بالباب المسمى بالطاق، وعرفوا فيها فروق حساب العرض الأكبر من عروض القمر وقد عول ابن يونس في أرصاده الفلكية على أرصادهم، وعمل أحدهم وهو محمد تقويمات لمواضع الكواكب السيارة. ولأبناء موسى في الحيل كتاب يعرف بحيل بني موسى، وهو عجيب نادر، يشتمل على كل نادرة وقد يكون هو الكتاب الأول الذي يبحث في الميكانيك ولقد وقفت عليه فوجدته من أحسن الكتب وأمتعها، وهو مجلد واحد وهي (أي الحيل) شريفة الأغراض عظيمة الفائدة مشهورة عند الناس ويحتوي هذا الكتاب على مائة تركيب ميكانيكي عشرون منها ذات قيمة عملية. وقد كتبوا في فن الآلات الروحية وهذا العلم (يتبين فيه كيفية أيجاد الآلات المرتبة على ضرورة عدم الخلاء ونحوها من آلات الشراب وغيرها، ومنفعته إرتياض النفس بغرائب هذه الآلات كقدحي العدل والجور. . و. . و. .) وعلى ذكر قدح العدل وقدح الجور يقول كشف الظنون في الجزء الأول ص 137 ما يلي: (أما الأول (قدح العدل) فهو إناء إذا امتلأ على قدر معين يستقر فيه الشراب، وأن زيد عليها ولو بشيء يسير ينصب الماء ويتفرغ الإناء عنه بحيث لا يبقى قطرة، وأما الثاني (قدح الجور) فله مقدار معين أن صب فيه الماء بذلك القدر القليل يثبت، وأن مليء يثبت أيضاً، وأن كان بين المقدارين يتفرغ الإناء، كل ذلك لعدم إمكان الخلاء. . .) واكثر هذه الآلات توضح أنواعا من الحيل العلمية وهي مبنية على المبادئ الميكانيكية المنسوبة لهيرو الإسكندري. وقد اهتموا بنقل احسن الكتب اليونانية، حتى أن أحدهم وهو محمد ذهب إلى بلاد اليونان ابتغاء الحصول على مخطوطات تبحث في الرياضيات والفلك، واستعملوا منحني نيكوميدس في تقسيم الزاوية إلى ثلاثة أقسام متسأوية، واستعملوا الطريقة المعروفة الآن في إنشاء الشكل الاهليليجي، أما الطريقة فهي أن تغرز دبوسين في نقطتين وأن تأخذ خيطا طوله اكثر من ضعف البعد بين النقطتين، ثم بعد ذلك تربط هذا الخيط من طرفيه وتضعه حول الدبوسين، وتدخل فيه قلم رصاص فعند إدارة القلم يتكون الشكل الاهليليجي، وتسمى النقطتان بمحترقي الاهليليجي أو بؤرتيه. وفي أحد مؤلفاتهم في الهندسة استعملوا القانون(5/34)
المعروف بقانون (هيرون) لمساحة المثلث إذا علم طول كل ضلع من إضلاعه. ولا يفوتنا أن نذكر أنه نسب إلى أبيهم موسى القول بالجاذبية، يدلنا على ذلك ما جاء في كتاب بسائط علم الفلك للعلامة صروف الذي يقول: (وهذا التفاعل بين الأجرام السماوية الذي يطلق عليه اسم الجاذبية العمومية انتبه له بعض العلماء من قديم الزمان، فأشار إليه بطليموس صاحب كتاب المجسطي حاسباً أنه هو الذي يجعل الأجسام تقع على الأرض متجهة نحو مركزها، وهو الذي يربط كواكب السماء بعضها ببعض. ويقال أن موسى بن شاكر المهندس الذي نشأ في أوائل القرن الثالث الهجري انتبه له أيضاً وقال به)
مؤلفاتهم
كتب بنو موسى في موضوعات مختلفة: في الهندسة والحيل والطب والمساحة والمخروطيات وعلم الهيئة، وقد أجادوا في ذلك إلى درجة أثارت إعجاب كثير من العلماء، فمن تآليفهم كتاب بني موسى في الغرطسون وكتاب مساحة الاكر وكتاب قسمة الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية، ووضع مقدار بين مقدارين ليتوالى على قسمة واحدة، وكتاب يبحث في الآلات الحربية.
ولأحدهم هو أحمد كتاب بين فيه بطريق تعليمي مذهبا هندسيا وهو ليس في خارج كرة الكواكب الثابتة كرة تاسعة.
ولحسن: كتاب الشكل المدور والمستطيل. أما محمد فله كتاب حركة الفلك الأولى وكتاب الشكل الهندسي وكتاب الجزء وكتاب في أولية العالم، وكتاب على مائية الكلام، وفي الفهرست ينسب إلى محمد كتاب المخروطيات، ولكن كتاب كشف الظنون يقول في هذا الكتاب ما يلي:
(. . . وقال أبو موسى شاكر الموجود من هذا الكتاب سبع مقالات وبعض الثامنة، وهو أربعة أشكال، وترجم الأربع الأول منه أحمد بن موسى الحمصي، والثلاث الأواخر ثابت بن قرة. . . أصلحه الحسن واحمد بن موسى بن شاكر. . .)
قدري حافظ طوقان. نابلس. فلسطين(5/35)
طرائف من شعر الشباب
مناجاة غدير
للأستاذ محمود الخفيف
شاق نفسي الجلوس فوق حرير ... من نسيج الربيع ينطق حسنا
كنت قبل الشروق عند غدير ... يملأ النفس من أغانيه لحنا
كل ما في الوجود حلو جميل ... يبعث البشر في الفؤاد نديا
ونسيم الصبح عذب بليل ... باعث في الربوع نشراً ذكيا
ساد حولي السكون لولا غدير ... عبقري الخيال سامي البيان
ثائر هادئ معنى صبور ... رائق الحس مستفيض المعاني
زاده الصبح والسكون رواء ... وكساه الربيع ظلا ظليلا
وحباه الشباب منه مضاء ... فترى الماء دافقاً سلسبيلا
يا غدير الصباح هيجت قلبي ... أنت للنفس رحمة وعذاب
لست أدري وقد تملكت لبي ... أترنمت أم عراك انتحاب؟
يا غدير الصباح لحنك عذب ... باعث في الفؤاد شتى المعاني
يا غدير الصباح هل أنت صب ... تعرف البعد في الهوى والتداني؟
أي معنى أردت أن فؤادي ... حركته لما تقول شجون
ويح نفسي لقد ملكت ودادي ... فعرفت الخشوع كيف يكون
هيه يا أيها الغدير فأني ... أن ترنمت أو بكيت سميع
يا غدير الصباح افصح وزدني ... أن قلبي بما تقول ولوع
أن ترنمت يا غدير فحسبي ... من دواعي السرور ذاك الغناء
وإذا ما بكيت حركت قلبي ... فبقلبي لكل باك رثاء
لست يا أيها الغدير بشاك ... كيف تشكو ولست تعرف ظلما!
لست يا أيها الغدير بباك ... كيف تبكي؟ أأنت تعرف هما؟
لم تجرب شماتة من عدو ... أو تحمل إساءة من صديق
أو تقاس البعاد بعد دنو ... أو تعان الظنون بعد وثوق(5/36)
لم تسهد بجفوة من حبيب ... أو تعذب بغيرة وارتياب
أو تفاجأ بفتنة من رقيب ... أو تروع بنبوة من صحاب
لم تصادف تفاخراً من دعي ... أو تبادر بغلظة من جليس
أو تشاهد تطاولا من غبي ... أو تجرع إهانة من خسيس
لم تخف يا غدير قط عذاباً ... أو تذق يا غدير للحزن طعما
أو تقابل لدى الحياة صعابا ... كيف هذا ولست تعرف وهما؟
أنت يا أيها الغدير طروب ... ناعم البال لست تزهب رزءا
مطمئن إلى الحياة لعوب ... لست تدري عن المنية شيئا
يا غدير الصباح زدني غناء ... وأملأ القلب من غنائك وحيا
كل لحن سواك عاد هباء ... يا غديرا لقد وعيتك وعيا(5/37)
في الليل
اسكتي يا طيور! لا تملئي الليل ... غناءا بصوتك الخلاب
توقفي يا غصون لا تتناغي ... بحديث الهوى وهمس العتاب
طاب لي مجلساً بعيداً عن السم ... ار، في نجوة من الأصحاب
فتنتني سكينة الليل، واللي ... ل سكون يطير بالألباب
واحتواني الظلام حتى كأني ... قطعة منه في سواد أهاب
وكان السماء صحراء خرسا ... ء بدا نجمها كومض السراب
وكان الليل البهيم عباب ... وأنا سابح بهذا العباب
بين شطين من ظلام قد امت ... دا امتداد العصور والأحقاب
نام زهر الرياض في سرر العش ... ب ونامت على السفوح الروابي
وسرت روح شاعر يعبد الحس ... ن فرفت في الليل بين السحاب
إنما الليل للذي يعرف اللي ... ل وما فيه من معاني عذاب
قدس الليل، أنه هيكل السح ... ر ووحي الهوى وستر الشباب
أمين عزت الهجين(5/38)
الله وراء كل شيء
شقيت نفسه فضلت هداها ... وتجلى إلهها في هواها
زعمت أن طينها أزلي ... كذبتنا وحق من سواها
ولئام النفوس أن تلف مولا ... ها حفيا بها عصت مولاها
ضلة للعقول لم تك شيئاً ... ثم كانت فأنكرت من براها!
قف حيال السماء ليلا وسائل ... سفن النيرات من أجراها!
سفن موجها الأثير ولا يع ... لم إلا ربانها مرساها
جاوزت في العيون حد التقصي ... فتراها ولا تكاد تراها
أن تطالع أبصارنا مبتداها ... فإلى الله ربها منتهاها
واسأل الوردة اكتست كل لون ... من كساها ومن حباها شذاها؟
ألبستها الأوراق كف قدير ... فأرتنا لثم الشفاه الشفاها
أبرزتها عذراء من خدركم ... في حياء توردت وجنتاها
ودعتها مليكة الزهر لما ... ألبستها الرياض تاج نداها
فأصغ للجواب منها تجدها ... باسم من حاكها تحرك فاها
شجرات في الروض مشتبهات ... شهوة الآكلين فأطعم جناها
ذقت هذي فما أمر جناها ... ثم هذي فقلت ما أحلاها!
ما اختلاف الطعوم والماء فيها ... واحد، والتراب أصل غذاها؟
صاغها مثلما أراد بديع ... قد نفينا عن ذاته الأشباها
ثم سائل بلابل الأيك تشدو ... فيهز الأملاك لحن غناها
وتناجي القلوب وهي تغني ... فتذيب القلوب في نجواها
من بري هذه الحناجر عيدا ... ناً وأنشأ قيثارة في لهاها؟
أنه مبدع كسا الطير ريشاً ... وحباها في الجو ملكا وجاها
هذه النملة الدقيقة خلقاً ... كيف تسعى وكيف تبني قراها؟
هذه النحلة اكتست حبرات ... من طهي شهدها وسل حماها؟
قل لشمس النهار من جلاها ... واسأل الأرض من أدار رحاها؟
واسأل الريح كيف تسجي سحابا ... واسأل السحب كيف يهمي حياها(5/39)
ثم سائل بروقها مشرعات ... هل تضج الرعود خوف أذاها
واسأل الدوح كيف شب لظاه ... واسأل الراسيات من أرساها
مدها في الثرى وأعلى ذراها ... قادر في غد يحل حباها
ضل في التيه من أبى الرشد تيهاً ... يا أخا العقل لا تكن تياها
يجهل العقل كنهه وهو عقل ... وجدير أن يدرك الا كناها
قل له ما الأثير وهو فضاء ... أن يحمل رسالة أداها؟
ثم ما الكهرباء وهي قريب ... منه وهو البعيد عن معناها؟
قل له ما ارتباط جسم بروح ... ظل فيها دراسة واكتناها؟
هل أعنا الأعصاب حين أصاخت ... أذناها وإذ رنت مقلتاها؟
أو أعنا للقلب نبضا ضعيفا ... تستمد الأبدان منه قواها
أو أعنا الأنفاس مطردات ... وهي في النوم لا تني رئتاها
إن خلف العقول ربا حكيما ... أودع الكائنات سر بقاها
عبد الغني المنشاوي - المدرس بالمدرسة الخديوية(5/40)
في الأدب الشرقي
نظرات في الأدب الفارسي منذ نشأته إلى إغارة التتار
للدكتور عبد الوهاب عزام
مهما تختلف الآراء في تاريخ اقدم أثارة من الأدب الفارسي الحديث فان مؤرخا يستطيع أن يقول أن ظهور هذا الأدب صحب ظهور الإمارات الوطنية في إيران، فهذه الإمارات بعثت الأمل في نفوس الفرس وأتاحت لهم فرصة يستطيعون فيها التقرب بالمدائح وغيرها إلى أمراء يفهمون عنهم، ويعجبون بهم، ويسرهم أن تحيا آداب لغتهم وآثار آبائهم.
وأمر آخر يسترعي نظر مؤرخ الآداب الفارسية، هو ظهور هذه الآداب في الديار النائية عن البلاد العربية وعن بغداد حاضرة الخلافة والمدنية الإسلامية، إذ كانت هذه الديار أبعد من سلطان الأدب العربي الذي كان ترجمان حضارة الإسلام كلها حقبا طويلة. ثم استقلال الإمارات كذلك يبدأ في الأقطار النائية، وإنما تنقص الأرض من أطرافها. ومن أجل ذلك أتيح لخراسان البعيدة مهد أول دولة فارسية عظيمة في العصر الإسلامي أن تكون مبعث الأدب الفارسي الحديث. ولم تنل هذا الشرف فارس مهد الدول القديمة على تبريزها في العلم وتقدمها على خراسان فيه. حتى يقول أبو أحمد الكاتب كاتب الأمير إسماعيل بن احمد الساعاتي:
لا تعجبن لعراقي رأيت له ... بحرا من العلم أو كنزا من الأدب
واعجب لمن ببلاد الجهل منشؤه ... أن كان يفرق بين الرأس والذنب
يريد ببلاد الجهل ما وراء النهر وجهات خراسان.
ولى المأمون طاهر بن الحسين خراسان ثم جعلها ولاية لذريته فاستمروا يلونها حتى سنة 259 نحو 50 عاما. ولكنها كانت أمارة صغيرة قصيرة المدة. وكانت الأسباب لما تتهيأ لانبعاث الأدب الفارسي. ثم بنو طاهر لم يعنوا بالأدب الفارسي، وروي أن رجلا أهدى كتابا إلى عبد الله بن طاهر وهو في نيسابور فسأله ابن طاهر ما هذا؟ قال قصة (وأمق وعذراء) التي ألفها بعض الحكماء للملك أنوشروان، فقال الأمير: نحن قوم نقرأ القران ولسنا في حاجة إلى غير القران والحديث. فما لنا ولهذه الكتب التي ألفها المجوس؟ ثم أمر ألقى الكتاب في الماء، وأمر أن يحرق كل كتاب في ولايته بلغة المجوس. ويقول عوفي(5/41)
عن آل طاهر: أنهم لم يكن لهم اعتقاد في لغة الفرس.
وفي سنة 247هـ سنة موت المتوكل ظهر في الشرق يعقوب بن الليث الصفار وهزم جند الخليفة أول الأمر وقال (كما يروي نظام الملك) أنه يريد خلع الخليفة، وكان شيعيا فيما قال، وخلفه أخوه عمرو إلى أن استنجد الخليفة المعتمد بني سامان فهزموه وأزالوا دولته.
والفرس يرون في يعقوب بطلا فارسيا لأنه أول ثائر على الخلفاء. أقام سلطانه على رغمهم اكثر من أربعين عاما. وقد سوغت لهم هذه العقيدة أن نسبوا إلى طفل ليعقوب أنه نطق بأول بيت من الشعر الفارسي الحديث، وفي الحق أن بلاد الفرس لم تعد إلى حكم الخلفاء الحقيقي بعد ثورة يعقوب.
ولكن أول دولة فارسية عظيمة لها أثر يذكر في الأدب الفارسي كانت الدولة السامانية. والسامانيون ينتسبون إلى بهرام جوبين أحد أعيان الفرس الذي ثار أيام الساسانيين على كسرى برويز، والبيروني يؤيد هذه النسبة. وقد بعثت الآداب الفارسية مع هذه الدولة (فيما نعلم).
وبينما كان السامانيون متسلطين في خراسان وما وراء النهر ظهر بنو بويه وعظم سلطانهم حتى استولوا على بغداد سنة 334، وساقوا نسبهم إلى بهرام كور أحد ملوك السامانيين؛ وما زالوا يصرفون الأمر حتى أديل منهم للغزنوية ثم للسلاجقة.
ظهرت دولة بني سبكتكين في غزنه وأديل لهم من سادتهم السامانيين أو (كما يقول بديع الزمان):
أظلت شمس محمود ... على أنجم سامان
وسبكتكين تركي لا فارسي ولكنه مكَّن لنفسه في بلاد الفرس، وكان لدولته شأن عظيم في آدابهم. وجاء السلاجقة فنسخوا كل هذه الدول، وكان لهم من السلطان وبسطة الملك ما لم يتح لدولة قبلهم من غير الخلفاء؛ وكان مه هؤلاء أو بعدهم دول ذات شأن: منها الدولة الزيارية في طبرستان التي منها شمس المعالي قابوس بن وشمكير وابنه منوجهر فلك المعالي وحفيده كيكاوس عنصر المعالي، ودولة ملوك خوارزم الصغيرة التي قضى عليها محمود، وملوك خوارزم العظام الذين تسلطوا على معظم إيران قرناً وربع قرن والذين كانوا سببا في إغارة التتار وكانوا أول هلكاهم، والدولة الغورية التي قضت على الغزنويين(5/42)
في أفغانستان.
هذه هي الدول التي صرفت أمور الفرس منذ القرن الرابع الهجري، ويرى منها أن الفرس لم يفلحوا في إقامة دولة عظيمة تضم أرجاء بلادهم، وإنما كان السلطان الشامل لدولتين تركيتين الغزنوية والسلاجقة، وما عرفنا أن ثورات فارسية عظيمة حاولت التخلص من هاتين الدولتين، وهذه مسألة جديرة أن تغير آراء الذين يريدون تفسير كل حركة في إيران في تلك القرون بالعصبية الفارسية.
الآن نرجع إلى الأدب الفارسي نراقب منشأه ونتعقب تطوره منذ بدأ إلى عصر التتار؛ فأما ما بعد التتار فنرجئ الكلام فيه إلى مقال آخر.
إنا لا نعرف شيئا عن الشعر الفارسي قبل الإسلام حتى ليظن أن الفرس لم يكن لهم منه حظ كبير، ولأمر ما نسب بعض كتاب الفرس أول شعر فارسي إلى بهرام جور، وقالوا: أنه اخذ الشعر من العرب إذ تربى في الحيرة. يذكر هنا محمد عوفي في لباب الألباب وشمس قيس في كتاب المعجم، ويزيد الأخير أنه قرأ في بعض الكتب الفارسية أن علماء عصر بهرام لم يستهجنوا منه الا قول الشعر، وأن آذرباد بن زرادستان الحكيم بالغ في نصحه ليترك الشعر تنزها عن معايبه؛ ثم يقول أن بهرام انتصح ومنع أولاده وذوي قرباه أن يقرضوا الشعر. ثم يقول: من أجل هذا كانت مدائح باربد وأغانيه عند كسرى برويز كلها منثورة لا نظم فيها.
ويقول ابن قتيبة:
(وللعرب شعر لا يشركها أحد من الأمم الأعاجم فيه على الأوزان والأعاريض والقوافي والتشبيه ووصف الديار والآثار، والجبال والرمال والفلوات وسرى الليل، والنجوم. وإنما كانت أشعار العجم وأغانيهم في مطلق من الكلام (منثور) ثم سمع بعد قوم منهم أشعار العرب وفهموا الوزن والعروض فتكلفوا مثل ذلك في الفارسية وشبهوه بالعربية.)
وأما في العصر الإسلامي فلا ريب أن الشعراء الذين يعرفهم تاريخ الأدب لا يتقدمون العصر الساماني. غير أن في كتب الأدب الفارسي روايات عن شعر قيل قبل هذا العهد، وهي على علاتها لا تخلو من دلالة على أدب فارسي أقدم مما نعرف عسى أن يبينه التاريخ يوما.(5/43)
يقول محمد عوفي معللا ظهور الشعر الفارسي الحديث ما يأتي مترجما مختصراً: (حتى إذا سطعت شمس الملة الحنيفية على بلاد العجم جاور ذوو الطباع اللطيفة من الفرس فضلاء العرب واقتبسوا من أنوارهم ووقفوا على أساليبهم واطلعوا على دقائق البحور والدوائر وتعلموا الوزن والقافية والردف والروي والايطاء والإسناد والأركان والفواصل. ثم نسجوا على هذا المنوال).
ثم يروي أبياتا أربعة لشاعر اسمه عباس مدح بها المأمون في مرو سنة 193 منها:
كس برين منوال بيش ازمن جنين شعري نكفت ... مر، زبان بارسي را هست تا اين نوع
بين
ليك زان كفتم من اين مدحت ترا تا اين لغت ... كيرد أز مدح وثناء حضرت تو زيب
وزين
وترجمتها:
ما قال أحد قبلي شعرا كهذا وما كان للسان الفارسي عهد به، وإنما نظمت لك هذا المديح لتزدان هذه اللغة بمدحك والثناء عليك.
فأعطاه المأمون ألف دينار عينا، وبالغ في اكرامه، يستمر عوفي فيقول: (ولم ينظم الشعر الفارسي أحد بعده حتى كانت نوبة آل طاهر وآل الليث فظهر شعراء قليلون، فلما كانت دولة السامانيين ارتفع علم البلاغة، وظهر كبار الشعراء).
ويروي شمس قيس: أن أول من قال الشعر الفارسي أبو حفص السغدي من سغد سمرقند وكان حاذقا في الموسيقى، وقد ذكره أبو نصر الفارابي وصور آلاته الموسيقية وقد عاش حتى سنة 300هـ وينسب إليه هذا البيت:
آهوى كوهي دردشت جكونه دودا؟ ... جوندار ديار بي يار جكونة رودا؟
(كيف يعدوهذا الظبي الجبلي في الصحراء؟، أنه لا حبيب له فكيف يسير بغير حبيب؟)
فأما رواية عباس المروي فأن المؤرخ الناقد يرتاب فيها لأن غريبا أن يبدأ الشعر الفارسي بهذا الأسلوب المتين ثم يصمت الشعراء أكثر من مائة سنة لا يؤثر عنهم شيء. وأما رواية السغدي فراجعة إلى العصر الذي بدأ فيه الشعر الفارسي وسجل لنا التاريخ بعض شعرائه.
ومهما يكن من شيء فاتفاق مؤرخي الآداب على أن أول شاعر فارسي عظيم هو أبو جعفر(5/44)
الرودكي شاعر نصر بن أحمد الساماني، الذي يسميه معروفي البلخي (سلطان شاعران) ويقول فيه البلعمي: أنه لا نظير له بين العرب والعجم، ويعترف الدقيقي والعنصري بتقدمه.(5/45)
الأدب الياباني
للأستاذ أحمد الشنتناوي
كانت اليابان إلى عهد قريب محجوبة عن أنظار العالم المتمدين بحجب كثيفة لا يكاد المرء يتبين ما يجري وراءها بين أبناء تلك الأمة العظيمة من عادات وتقاليد، وكان الأدب الياباني بنوع خاص من أغمض مظاهر الحضارة اليابانية أمام الباحث، ويرجع ذلك إلى صعوبة اللغة اليابانية وغرابة أحرفها الهجائية وعدم إقبال الأدباء والعلماء على تعلمها، مع أن الآداب اليابانية غنية في مادتها متنوعة في أبوابها، وتعد بحق بين الآداب العالمية الرائعة.
وليس هناك أمة من الأمم تكون آدابها جزءا هاما من تاريخها مثل أمة اليابان، فأفراد الشعب هناك على اختلاف طبقاتهم يستسيغون الشعر ويطربون لموسيقاه، بل هم شعراء بسليقتهم لا فرق في ذلك بين النساء والرجال؛ فالأمة كلها تشترك في مهرجان الشعر الذي يقيمه الإمبراطور كل عام، فيأخذ كل ياباني في إنشاد أطيب ما جادت به قريحته، ويذكرون أن الإمبراطور (ميدي) وهو جد ميكادو إمبراطور اليابان الحالي كان يشجع هذه المهرجانات الشعرية، فيخصص الجوائز الثمينة للفائزين، وقد ألف هو نحو مائة ألف مقطوعة شعرية.
أما شغف الياباني بباقي فروع الأدب فلا يقل عن شغفه بالشعر، لهذا كانت الآداب اليابانية غنية في مادتها رائعة في أسلوبها إنسانية في معانيها، ولكن تلك الآداب العالية لم تتخط حدود اليابان الجغرافية لصعوبة اللغة التي كتبت بها، ثم زاد من صعوبة تلك اللغة دقة المعاني وعمق الأفكار التي حملها إياها اليابانيون، والتي لا تصدر الا من أبناء الشرق الصميمين في مدنيتهم الشرقية، ويكفي أن نقول أن كلمة (امرأة) لها في اللغة اليابانية ما يزيد على أربعة وعشرين لفظا مرادفا، كل لفظ يستعمل في حالة معينة وظروف خاصة حسب مكانة المرأة المخاطبة الاجتماعية أو الشخصية، أو درجة الاتصال بها. كذلك لفظة (أنت) لها ما يقرب من اثنى عشر مرادفا؛ وهذا التعدد في الألفاظ يدلنا على مقدار الدقة التي يتوخاها الياباني في تعبيراته الاجتماعية والأدبية، وليس هذا في نظرنا دليلا على رقي اللغة أو غناها فقط، إنما يدل كذلك على الشعور الدقيق والحساسية الراقية، والآداب(5/46)
العالية هي في لبها وجوهرها إحساس دقيق وشعور متدفق.
وإذا كان فن التصوير الياباني له اثر واضح على الآثار الأوربية فأننا لم نسمع قط أن الآداب الغربية متأثرة بالآداب اليابانية، ولم يمنع هذا أن يكون العكس صحيحا، فالأدب الياباني غاص بالتراجم العديدة لكثير من الآداب الأوربية العالمية، فجميع المؤلفات القيمة من إنجليزية وفرنسية وألمانية وروسية نقلت إلى اللغة اليابانية، وهذا دليل واضح على تعلق هذا الشعب الناهض بالآداب على اختلاف منابتها.
والعصر الذهبي للآداب اليابانية الكلاسيكية هو عصر (هايين) من 784 - 1186 إذ انتعشت فيه الآداب اليابانية وظهرت فيه عدة قصص غرامية وتاريخية، كما أنه لم يخلو من النشرات الأدبية الانتقادية، ولعل أهم ما يلفت النظر في ذلك العصر هو ظهور أديبتين يابانيتين شهيرتين وهما (موراساكي) و (سي) وموراساكي اسم ياباني معناه زهرة البنفسج وصاحبته أديبة في أسلوبها فخامة وحلاوة وفلسفة لينة بينما (سي) ومعناها النور تمتاز بشعورها الفياض وأسلوبها السهل الممتنع وأشهر قصة لموراساكي؛ هي قصتها المسماة غنسي وهي وصف محكم وصورة طبق الأصل وملاحظات دقيقة مدهشة عن الحياة في البلاط الياباني في القرن الحادي عشر. وهي كثيرة الشبه بالحياة في بلاط لويس الرابع عشر، وقد اتخذت لها بطلا سمته (غنسي) وهو عبارة عن دون جوان آخر، أي مخلوق حر بكل معنى الكلمة، يأتي ما يشاء من الأفعال دون النظر إلى ما كان يأتيه يتماشى مع الاعتبارات الدينية أو الإنسانية أو الاجتماعية أو لا يتماشى، إنما كل همه إرضاء شهواته وملاذه، فكانت له عدة مخاطرات غرامية. وهذه القصة تعطيك صورة واضحة للحياة اليابانية الاجتماعية في عهد (موراساكي)، ولا تسل عن العذوبة والروعة التي كتبت بها الحوادث الغرامية التي خاض غمارها (غنسي) وكل ذلك في أدب وحشمة وتورع.
أما الأديبة الأخرى (سي) فكانت معاصرة لموراساكي وتعيش معها في البلاط الياباني، ولقد عرفت بالكبرياء والصلابة في رأيها، وكتاباتها ملآى بالنقد والتجريح، كذلك كانت لها قدرة على وصف الطبيعة وما بها من حيوان وطير وصفا بليغا دقيقا.
ولنذكر هنا قطعة لها قصيرة في وصف فصول السنة الأربعة قالت:(5/47)
(أن الذي يسحرني في الربيع هو الفجر يتهادى في مشيته على قمم الجبال، بينما كل شيء يضيء رويدا رويدا، وقطع السحاب اللازوردية تسبح في الفضاء جماعات جماعات. . . . . . . .)
(أما في الصيف فالذي يسحرني فيه هو الليل. . . يعجبني منه القمر المنير. .! وتسحرني الليلة الليلاء، حيث يطير في جوها الحالك الحباحب المشعة هنا وهناك. . وإذا تساقط المطر في تلك الليلة فأنه يزيد في جمالها وسحرها. . .
والذي يسحرني في الخريف هو المساء عندما ترقد الشمس في مغربها مرسلة سهامها اللينة نحو قمم الجبال العالية، فتسرع الغربان نحو أعشاشها تطير جماعات مثنى وثلاث ورباع! حقا أنه منظر فيه حزن وجمال. . . . وما اجمل المنظر وأبهاه إذا لاح في الأفق البعيد سرب من الطيور البرية الصغيرة!. . بعد ذلك تختفي الشمس وتزأر الرياح وتخرج الهوام والحشرات من مخابئها صائحة مهللة. كل ذلك مما يهيج في النفس ألما لذيذا. . . والذي يسحرني في الشتاء هو سقوط الثلج إذا ما تنفس الصباح، فتكتسي منه الأرض حلة بيضاء ناصعة، وعندما يقر البرد توقد النيران للتدفئة، حتى إذا ما انتصف النهار وخفت وطأة البرد ترى جمرات النار وقد تحولت إلى رماد ابيض، وذلك هو الحزن بعينه. . .!)
وفي القرون الأربعة التي أعقبت عصر (هايين) نجد القصة والشعر الياباني لا ينتقلان من مكانهما بعيدا، الا أننا نجدهما يتأثران كثيرا بالفلسفة البوذية، فينتعش الأدب التاريخي ويولد الأدب المسرحي في اليابان، وأبطاله (كابوكي) و (نو) وفي عام 1642 يظهر في سماء الأدب الياباني (سيكاكو) وهو أستاذ الأدب الواقعي في اليابان، وقد خلف هذا الأديب مؤلفات وافرة وتلاميذ كثيرين وكانت الآداب اليابانية قبل عهده تعد في جملتها آدابا أرستقراطية كتبت لخواص الناس وأهل الثقافة منهم، فأتى سيكاكو وجعل من الأدب الياباني أداة للإفصاح عن مشاعر الإنسانية وعواطفها وهمومها وأحزانها أي تلك النواحي العامة التي قد يشعر بها رجل الطريق قبل أن يشعر بها رب الجاه والسلطان. وهو في وصفه وتحليله لتلك العواطف الإنسانية راعى الدقة التي يلاحظها النباتي في وصفه لزرعه؛ أو عالم الحيوان في دراسته لحشرة من الحشرات. وتظهر هذه المقدرة بأجلى بيان في قصته المسماة (حياة امرأة) وصف فيها سيكاكو كيف تكون حياة المرأة الخليعة(5/48)
المستهترة التي لا يهمها من عيشتها الا إشباع شهواتها وقضاء ملاذها، ولكن حياة الدعارة والمجون نهايتها دائما محزنة مبكية فنرى في نهاية القصة تلك المرأة التي كانت بالأمس زينة المجالس وبهجة الناظرين تهجر العالم بعد أن عضها البؤس بنابه، وتنزوي بين منعطفات الجبال في كوخ حقير من القش والخرق البالية. . .!
ولعل (تيكاماتسو) أشهر كاتب درامي في اليابان، فهو يعد بحق شكسبير الأدب الياباني. ولكنه اقتصر في مؤلفاته على الإشادة بذكر العواطف الإنسانية العالية وتحليلها كالحب والشرف والإخلاص والعفاف، ويعده البعض بين زمرة الشعراء لأن رواياته كتبها كلها نظما، ولكننا لا ننسى أن معظم كتاب اليابان الأقدمين كتبوا آثارهم شعرا لأنهم عشقوا الشعر وطربوا لأنغامه الموسيقية فألهاهم ذلك عن كل شيء آخر. (وتيكاماتسو) هذا خالق الدراما اليابانية التي تصف الحياة اليومية وتتغلغل في أعماقها وتكشف عما بها من محاسن ومعايب، وتعبر عما تختلج به قلوب الآلاف من المظلومين والمساكين.
ظل الحال على هذا المنوال حتى الثورة اليابانية التي شب لظاها عام 1867 والتي يرجع سببها إلى الروح الغربية التي بدأت تتسرب إلى بلاد اليابان الهادئة المطمئنة حوالي ذلك الوقت، فتأثرت الآداب اليابانية كما تأثر الفن الياباني، كذلك لم يسلم من هذا التيار الجديد الحياة الاجتماعية نفسها، فتغير سلوك الفرد ونظام الأسرة، حتى المساكن وأنواع الأطعمة دخل عليها شيء كثير من التعديل والتغيير، وغذى المجتمع الياباني شيء آخر جديد مغاير لليابان إبان عهد هايين أوسيكاكو، وبدأ الشعب الياباني يقف على مسرح الحياة بنفسه بعد أن كان إلى هذا العهد مشاهدا متفرجا لما يقع بين ظهرانيه، اذ بعد أن هدأ تيار الثورة وخمدت الحروب الأهلية حوالي سنة 1880 ظهر في الأفق شعاع جديد لامع يبشر بمستقبل أدبي جديد لم تلبث أن أشرقت في أثره شمس الآداب اليابانية الحديثة وهي موضوع الكلام في مقالنا الثاني إن شاء الله.(5/49)
في الأدب الغربي
قصة فيلسوف عاشق
للدكتور طه حسين
لا أعلم أن الفلسفة تحضر الحب على أهلها، بل الذي أعلمه أن الفلسفة
حب كلها. وليس اسمها الا لفظاً من ألفاظ الحب؛ ولكن هذا الحب إذا
احتل قلباً شغله عن كل شيء واستأثر بكل ما فيه من قوة وعاطفة
وهوى، ولم يدع من ذلك للحياة اليومية العاملة الا شيئا يسيراً جدا.
فالفلسفة حب الحكمة، وهذه الحكمة شديدة الغيرة، شديدة الاثرة، لا تحب الشركة ولا ترضاها، ولا تسمح لعشاقها بأن يصفوا بودهم شيئاً أو أحداً غيرها. فمن فعل ذلك أو شيئاً منه، فليس هو من الحكمة في شيء؛ وإنما هو رجل مثلي ومثلك يغشى الأندية، ويضطرب في الشوارع، ويعيش مع الناس، وليس له حظ من المدينة الفاضلة التي يسكنها ويسيطر عليها عشاق الحكمة وحدهم.
لذلك كان أمر هذا الفيلسوف الذي أحدثك عنه عجباً من العجب، وفنا من هذه الفنون النادرة التي لا يظفر بها المؤرخون والقصاص الا في مشقة وعسر، وإلا على أن تفرق بينها القرون الطويلة والعصور البعيدة. والذي أعرفه أن التاريخ لم يظفر قبل فيلسوفي هذا العظيم بعاشق قد دلهته الحكمة، وعبث بلبه جمال ألهتها العليا؛ ولكنه على ذلك استطاع أن يشغف بآلهة أخرى يشركها مع هذه الآلهة التي كان يصورها اليونان في صورة أثينا، تلك التي خرجت من رأس أبيها زوس، تامة الخلق، مكتملة الشباب، فيها جمال فتان؛ ولكن فتنته تخلب بقوتها لا برقتها.
لم يعرف التاريخ عاشقاً من عشاق أثينا استطاع كما استطاع فيلسوفي العظيم، أن يشرك معها امرأة من النساء في حبه وهيامه، وأن يختصها من هذا الحب والهيام بمثل ما اختص به آلهة الحكمة نفسها، وأن ينتهي به الأمر إلى أن يخلط ابنة زوس بابنة بابيس، ويتخذ منهما شخصاً واحداً يحبه ويقدسه، ويصوغ له ديناً قويا خصبا، ويحاول أن يبسط سلطان هذا الدين على الإنسانية كلها، أو على الإنسانية المسيحية على أقل تقدير.(5/50)
أظنك قد عرفت هذا الفيلسوف، فهو (أغست كونت) مؤسس الفلسفة الوضعية، وواضع علم الاجتماع، وصاحب السلطان العظيم على العقل الفرنسي، ثم الأوربي، ثم الأمريكي، عصرا طويلا من القرن التاسع عشر. وأظنك قد عرفت هذه المرأة التي زاحمت الفلسفة في قلب (أغست كونت) فكادت تغلبها عليه، أو غلبتها عليه بالفعل؛ ثم أصبحت إلهة للفيلسوف يعبدها كما يعبد النصارى المسيح، وكما كان الوثنيون من اليونان يعبدون أثينا أو أرتميس. ثم أصبحت إلهة لجماعة من تلاميذ الفيلسوف المتفرقين في أطراف الأرض، ثم أقيم لها معبد لا يزال يحج إليه إلى الآن في باييس، وأقيمت لها معابد متفرقة في أمريكا الجنوبية. حيث لا يزال للفيلسوف اتباع يشايعونه في القسم المتطرف من فلسفته.
هذه المرأة هي (كلوتلد دي فو) وأظنك تطمئن الآن وقد سمعت هين الاسمين، الا أني لا اخترع ولا اتبع الخيال، ولا أضع قصة؛ وإنما أكتب فصلا من فصول التاريخ. وليس من الضروري أن يلجأ الكاتب إلى الخيال والاختراع، ليستطيع أن يمتع قراءه، وأن يؤثر في نفوسهم ويثير فيها هذه العواطف الحادة المختلفة التي تعبث بها حين تحس لذة أو الماً، وحين تجد حبا أو بغضا، وحين تشعر بحزن أو سرور. فقد تكون الحقائق الواقعة أبرع وأروع من أحسن القصص الخيالية وأبدعها. ولكني في حاجة إلى أن اقدم إليك شخص هذين العاشقين قبل أن أحدثك عن عشقهما، وأقص عليك ما كان بينهما من غرام.
نشأ أغست كونت مع القرن التاسع عشر، ولم يكد يتوسط العقد الثاني من عمره حتى ظهر تفوقه في العلوم الرياضية، ولم تكد تتقدم به السن قليلا حتى عرف له هذا التفوق، وإذا هو حجة في هذه العلوم، وإذا هو لا يقف عندها ولا يقتصر عليها؛ وإنما يفكر في الصلة بينها وبين بقية أنواع المعرفة الإنسانية من جهة، ويفكر من جهة أخرى في الحياة الأوربية المضطربة بعد الثورة والإمبراطورية، فيحاول أن يضع ترتيباً جديداً للعلوم، ويوفق إلى ما يريد، ويحاول أن يجد نظاماً جديداً تقوم عليه الحياة الأوربية، فيوفق أيضاً، ويصبح لهذين النوعين من التوفيق صاحب الفلسفة الوضعية ومؤسس علم الاجتماع.
ولكن فلسفته الوضعية هذه، كانت حديثة ثائرة لا تستأثر بالقلوب استئثاراً مطلقا، ولا تقطع على أهلها سبيل الحياة. فسمحت لعاشقها (أغست كونت) أن يعيش كما يعيش الناس، وأن يحب كما يحبون. فعاش وأحب. ولكن أي عيشة وأي حب؟ تركت الفلسفة قلبه حرا،(5/51)
وشغلت عقله كله، فاختار في الحب بحسه وقلبه، ولم يختر بعقله، فيا بئس ما اختار! اختار امرأة جشمته الأهوال، وعلمته كيف تحتمل الآلام، وكيف يتجرع الإنسان مرارة الغيظ: كانت هلوكا فاجرة. وخيل إلى (أغست كونت) أنها نقية طاهرة، فأحبها وأظهرت له الحب، وخطبها فقبلت الخطبة، وتزوجها فقبلت الزواج. وما هو الا وقت قصير حتى تبين من أمرها ما كره. فخاصمها وقاومته، وأنذرها فازدرته، وحاول أن يعاقبها فثارت به، وصبر الرجل فصابر حتى جن. وإذا هو يلقي نفسه في النار، وإذا الشرطة تستنقذه وتدفعه إلى المستشفى، فيقيم مع المجانين حينا ثم يفيق فيستأنف الفلسفة، ويستأنف التعليم، ويستأنف الحب والعذاب. ويجن مرة أخرى، ويفيق وتنقطع الصلة بينه وبين امرأته في غير طلاق، لأن القوانين الفرنسية لم تكن تبيح الطلاق يومئذ. فنشاطه إذا موقوف على الفلسفة والتعليم.
وفي سنة 1840 كان فيلسوفنا ممتحنا في مدرسة الهندسة وكان بين الشباب الذين تقدموا إليه في هذا الامتحان غلام في الخامسة عشرة من عمره، هو (مكسيمليان ماري). رآه الأستاذ الفيلسوف وسأله، فأحبه واعجب به، ورأى أن الخير في ألا يقبله هذا العام. فأجله سنة ثم قبله بعد ذلك، واتصلت بين الأستاذ وتلميذه محبة لن تلبث أن بلغت أقصاها، وإذا الفتى يميل إلى أستاذه وفلسفته وإلى الحرية خاصة، وإذا هو يستقيل من المدرسة ويتبع الأستاذ ويتتلمذ له ويعيش من التعليم في المدارس الحرة على كره من أبيه. وفي سنة 1844 يتزوج هذا الفتى ويعيش مع امرأته في بيت الأسرة، حيث يزوره الأستاذ من حين إلى حين، وهناك يلقى أخته (كلوتيلد) فلا يكاد يسمعها ويتحدث إليها، حتى تبتدئ بينه وبينها قصة الغرام.
وكانت كلوتيلد هذه في الرابعة والعشرين من عمرها ولكن حياتها كانت ممتلئة بالخطوب. كان أبوها رجلا من الطبقة الوسطى، عمل في جيش الإمبراطورية وارتقى في آخر عهد الإمبراطور إلى رتبة الكابتن، ثم سقطت الإمبراطورية فأحيل إلى الاستيداع، وعاش من مرتبه العسكري الضئيل. وكانت أم الفتاة من أسرة شريفة من أهل اللورين، فنشأت (كلوتيلد) نشأة فيها بؤس وضيق؛ ولكن فيها احتفاظا شديداً بتقاليد الطبقة الوسطى، ولم تكد تتجأوز الخامسة عشرة حتى زوجت من رجل يحمل اسما من أسماء الأشراف. ولكن حظه من الشرف كان قليلا، وهو (ميودي فو). اقترن بالفتاة وعين جابياً للضرائب، وقضى مع(5/52)
امرأته أعواماً لا هوبالسعيد ولا هو بالذي يمنح امرأته قسطاً من السعادة. ثم أصبح الناس ذات يوم، وإذا هو قد هب إلى سفر مجهول، وما هي الا أن يبحث عنه ويفتش عن أمره، حتى يظهر أنه قد بدد أموال الدولة، وشيئاً كثيراً من أموال الناس في اللعب، ثم هرب من فرنسا، إلى حيث لم يعرف من أمره شيء.
فظلت هذه المرأة الشابة معلقة، لا هي بالمتزوجة، ولا هي بالمطلقة، محزونة، بائسة، لا أمل لها في الحياة. عادت إلى أسرتها تعيش بينها، وعكفت على نفسها تعيد وتبدي ما يجول فيها من خواطر الألم والحزن، ثم أخذت تكتب ما تحس وتقيد ما تجد، وإذا هي كاتبة لها حظ من أدب ونصيب من خيال. وكان جمالها معتدلا لا إسراف فيه. وكانت المحنة قد أفادتها رصانة ورزانة، وأفاضت على شخصها شيئاً من الحب يعطف النفوس عليها، وأجرت في حديثها شيئاً من العذوبة الحلوة الهادئة، يحببها إلى القلوب.
فلما لقيها الفيلسوف في بعض زياراته لأخيها، نظر إليها فلم تكد تبلغ نفسه، ونظرت هي إليه فأنكرته وأكبرته. أنكرت شكله الدميم، وصورته القبيحة، وخلقه المضطرب المرتبك، وأنكرت صوته الغليظ، وحديثه المتكلف. ولكنها أعجبت بذكائه، وأكبرت عقله وفلسفته، وسكتت عنه، وسكت عنها. واتصلت الزيارات، واتصل اللقاء. وأخذت نظرات الفيلسوف تستقر على الفتاة، وأخذت أذن الفتاة تطمئن إلى حديث الفيلسوف، ولكن أحداً منهما لم يشعر بأن صاحبه قد وقع من نفسه موقعاً خاصاً.
كان الفيلسوف يزور الأسرة ثلاث مرات في الأسبوع، وكان يجد لذة ودعة في هذه الزيارة، كان يلقى ثلاثاً من النساء: أم تلميذه وكانت مشغوفة بالتصوير، تحاول دائما أن تصور الفيلسوف، وزوج تلميذه وكانت موسيقية تطربه بالتوقيع على البيانو، وكلوتيلد أخت تلميذه وكانت أديبة تحدثه عن الأدب وعن قصتها التي أنشأتها وسمتها (لوس) ورمزت فيها لحياتها الخاصة، وربما أنشدته شيئا من شعرها. ولم يكن الفيلسوف يحب الأدب ولا يحفل بالشعر، ولكنه كان يجد لذة في أدب كلوتيلد، ويذوق الجمال في شعرها وإن لم يكن هذا الشعر جميلا، وإن لم يكن مستقيم الوزن أحياناً. وكان الفيلسوف يتحدث إلى كلوتيلد عن فلسفته الوضعية، وعن مجلداته الخمسة التي ظهرت تذيع هذه الفلسفة في الناس، وعن أنصاره وخصومه، وعن دروسه في الفلك. وكانت الفتاة تعجب بهذا كله، وإن لم تكن(5/53)
بطبعها مشغوفة بالفلسفة. وكان الفيلسوف يلتمس إرضاءها والتقرب إليها على غير شعور منه، فيذكر لها براعة النساء في الأدب والفلسفة، وكان هذا الحديث يروقها ويتملق كبرياءها، وكانت الفتاة تكبر في نفسها حين ترى الفيلسوف قد رآها لثقته أهلا. وذات يوم سقطت على الفيلسوف من السماء سعادة لم يكن يقدرها ولا ينتظرها ولا يحسب لها حساباً. زاره تلميذه ومعه أخته، وكان الفيلسوف في جماعة من العلماء، وكان الحديث علمياً عميقاً، فابتهج الفيلسوف وأعجبت الفتاة، وجلست تسمع في إكبار وتثاؤب خفيف لحديث العلماء، ثم همت تريد أن تنصرف فجمع الفيلسوف شجاعته كلها في يديه واستأذن الفتاة في أن يزورها في بيتها الخاص، فأذنت. هنالك بدأت الخصومة بين آلهة الفلسفة وآلهة الجمال. هنالك اضطرب (أغست كونت) بين العقل والقلب، وبين التفكير والحب. هنالك أخذ الفيلسوف يسأل نفسه: ما قيمة هذا العلم الخالص الجاف؟ وما قيمة هذا التفكير العميق العقيم؟ ومتى كان الرجل رجلا بعقله دون قلبه؟ ومتى كان الإنسان أنسانا بالتفكير دون الحب؟ إن الإنسان لا يستطيع أن يفكر في كل وقت، ولكنه يستطيع أن يحب دائماً. وإذا فقد تكون آلهة الفلسفة مسرفة في الطغيان، وقد يكون من الممكن أن يتخذ (أغست كونت) رأسه معبداً لأثينا وقلبه معبداً لكلوتيلد.
وابتدأت زيارة الفيلسوف للفتاة في بيتها. وإذا الحب يعلن، وإذا الفيلسوف يلح في حبه ويسلك إلى إقناع الفتاة بهذا الحب طرقاً، منها الملتوي، ومنها المستقيم. ولكن كلوتيلد لا تحب ولا تهوى، إنما تعجب وتكبر، فهي ترده عنها في رفق، وتطلب إليه مودته دون حبه، فلا يكاد يعرف منها هذا حتى يضيق بنفسه وبالحياة، وحتى تضيق به حصته، ويعجز جسمه ورأسه عن احتمال هذا الخذلان، فهو مريض يلجأ إلى السرير أياماً، وهو مشفق أن يعاوده جنونه القديم، على أنه يبل من مرضه، ويحاول أن يجدد عهده بالفتاة، ولكنها تحظر عليه زيارتها في بيتها، وتعده باللقاء عند أمها مرتين في الأسبوع، فلا يكفيه ذلك، فتعده بلقائه مرة ثالثة، فلا يكفيه ذلك أيضاً، وتتصل بينهما كتب فيها حوار حلو ملؤه الحنان حين يصدر عن الفتاة، عنيف معوج ملؤه الفلسفة حين يصدر عن الأستاذ، ثم يستحيل هذا الحب في نفس الفيلسوف إلى شكل جديد، فليس هو حباً عادياً كهذا الذي يكون بين الناس، وإنما هو التقاء شخصين عظيمين قد خلقا ليلتقيا ثم ليتعاونا على إصلاح الإنسانية وإنهاضها.(5/54)
هي إذن قد خلقت له ولن يدعها ولن يتخذ غيرها زوجاً، إذا ماتت زوجه النائية، ثم تستحيل هذه العواطف ويستحيل هذا التفكير إلى فن من الفلسفة، يضعه (أغست كونت) في رسالة، ويهدي الرسالة إلى الفتاة بهذا العنوان: (رسالة فلسفية في التذكار الاجتماعي). في هذه الرسالة يتغير رأي (أغست كونت) في المرأة ومكانتها الاجتماعية تغيراً تاماً. فقد كان منذ أشهر يكتب إلى تلميذه (ستوارت ميل) فيرى أن ليس في المرأة أمل ولا خير، أما الان فهو يرى المرأة عنصراً أساسياً في الإصلاح الاجتماعي الذي وقف نفسه عليه، وقد سرت الفتاة بهذه الهدية، وكبرت في نفسها فزارت الفيلسوف مع أمها شاكرة له.
هنالك نشط الأمل وتجددت الحياة، واعتقد الفيلسوف أنه سعيد. واستأنف إلحاحه على الفتاة، واستأنفت الفتاة مدافعته عن نفسها، واحتالت في ذلك حتى زعمت له أنها قد أحبت من قبله فتى كان لحبها أهلا، وأحبها الفتى وسعد بهذا الحب؛ ولكن لم يجدا إلى الزواج سبيلا، لأن الفتى كان معلقا مثلها يخاصم امرأته ولا يستطيع لها فراقا، فيئست من الحب والسعادة، وأزمعت أن تنصرف عن لذات الحياة أبدا. ولكن الفيلسوف مغرم، والغرام لا يعرف اليأس، وهو إذا كان صحيحاً قويا قد يتحول ويتشكل، ولكنه لا يزول. وما الذي يمنع غرام كونت أن يتخذ شكلا فلسفيا ولو إلى حين. لقد كان عود نفسه الحرمان منذ دهر طويل، فألغى القهوة منذ عشرين سنة، وترك التدخين منذ عشر سنين، ثم ألغى النبيذ ثم ألغى الفاكهة، ثم اتخذ ميزانا يزن به ما يلائم حاجة جسمه من الطعام الخشن، وكان ربما يكتفي بالكسرة من الخبز يتبلغ بها، وهو يفكر في إخوانه من الناس الذين قد لا يظفرون بمثلها. وما دام قد سيطر على نفسه إلى هذا الحد، وعودها هذا الحرمان في الطعام والشراب، فما له لا يزيد هذه السيطرة وما له لا يعود نفسه الحرمان لا في الحب بل في لذات الحب. إذا فليبق حبه قويا حارا؛ ولكن ليظل هذا الحب نقيا طاهرا مجدبا من كل لذة، ولينتظر، وليجتنب اليأس، فكل شيء يدني الفتاة منه، وكل شيء يدنيه من الفتاة. لقد أصبحت زميلة له منذ نشرت بعض الصحف السيارة لها قصتها التي وضعتها عن نفسها فأصبحت كاتبة مثله تتحدث إلى الناس في الأدب كما يتحدث هو إلى الناس في الفلسفة. هما إذا زميلان، بل هما اكثر من زميلين؛ فقد أخذت الفتاة تدنو من مذهبه في الفلسفة، وتحس ميلا إلى آرائه الاجتماعية، وتكون منه مكان التلميذ والنصير. فليحب إذا وليصبر، وفي أثناء ذلك(5/55)
كانت أم الفتاة تقول لها: لولا أن مسيو كونت قبيح دميم لقلت أنه يتملقك ويدور حولك كما يدور العاشقون حول من يحبون، ومع ذلك فإن من الحق عليه لك ولنفسه أن يفكر في أن هذه الزيارات المتصلة المنظمة، لا تليق بك ولا به لأنها تخالف العرف المألوف أشد الخلاف.(5/56)
الوادي
للشاعر الفرنسي لامرتين
إن قلبي المكلوم، المتقطع رجائه حتى من الأمل، لن يزعج الأقدار بعد الآن بابتهالاته كما كان يزعجها من قبل.
ولكن أيها الوادي، يا مأواي في أيام طفولتي، أفسح لي مجالا (ولو ليوم واحد) فأعيش في ربوعك في انتظار المنون.
ها هي ذي الطريق الضيقة المؤدية إلى ذلك الوادي المظلم:
هنا، في أحضان هذه الروابي، تقوم أشجار تلك الغابات الكثيفة، فترسل ظلها على وجهي الشاحب، وتحوطني بسكون مسكر.
وهناك جدولان يسيران تحت (جسور) من الأعشاب المخضوضرة، فيرسمان في انسيابهما تعاريج الوادي ومنحدراته، وتراهما بين الفينة والفينة، يمزجان تموجاتهما الفضية بألحان خريرهما العذبة، ثم يتلاشيان قريبا من المنبع، بعيداً عن أعين الناس.
وأيامي في انسيابهما أشبه بهذين الجدولين! فهي تمضي وتتلاشى دون أن يشعر بها الناس، ودون أن تحدث ذلك الخرير العذب! أما نفسي الكئيبة الملتاعة فهيهات أن تعنى بحياة يوم جميل من أيام حياتي.
إن خمائل الوادي الفينانة، بظلها المخيم، دفعتني لقضاء النهار كله على ضفاف جداولها، فنفسي الحساسة تغفو على أنغام خرير المياه، كما يغفو الطفل في مهده على صوت المناغاة.
هناك تحوطني الطبيعة بأسوار من العشب الاخضر، وبأفق محدود، لكنه فسيح لناظري.
إنني أحب أن اثبت قدمي، وأن أبتعد عن الناس لأسمع خرير المياه، ولأتمتع برؤية السماء.
لقد رأيت في حياتي أموراً كثيرة، وشعرت باحساسات جمة، وملأت أيامي عشقا. والآن جئت أستوحي الطبيعة في هدوئها الشامل.
أيتها الأماكن البهيجة الجميلة! كوني لي تلك الضفاف التي ينسى الإنسان بقربها كل شيء، فقد أصبح سر سعادتي في النسيان.(5/57)
هنا يطمئن قلبي؛ هنا ترتاح نفسي؛ هنا تلفظ ضوضاء العالم البعيد أنفاسها الأخيرة كما يلفظ الصوت البعيد أنفاسه حين تبعد به الشقة قبل أن يصل مع النسيم إلى الأذن الحائرة.
من هنا، ومن خلال هذه الغيوم الصافية، أرى ماضي حياتي يختفي في ظلام دامس، تاركا لنفسي ذكريات حية لحبي، كما تترك اليقظة في نفس المستيقظ صور خيالات جميلة لحلم لذيذ قد استفاق منه.
يا نفسي! خذي حظك من الراحة في هذا المنزل الأخير كما يأخذ المسافر الطافح قلبه بالامال، حظه من الراحة، قبل أن يدخل أبواب المدينة، يستنشق هنيهة نسيم المساء المعطر.
ولننفض نعالنا كما يفعل هذا المسافر، لأننا لن نمر ثانية في هذه الطريق التي اجتزناها مملوءة بالغبار، ولنتذوق مثله أيضاً، في آخر مرحلة من طريقنا، هذا الهدوء الذي يبشرنا بضجعتنا الأبدية.
أيها الإنسان! إن أيامك المعدودة، التي تشبه في حلكتها وقصرها أيام الخريف، تنحدر بك كما ينحدر الظل على جوانب الهضاب. فالصداقة تخونك، والرحمة تعرض عنك، إلى أن تتركاك في طريق القبر وحيدا.
ولكن الطبيعة هنا تدعوك إليها لتبثك أشواقها، فارتم في أحضانها.
عندما يقلب لك كل شيء ظهر المجن، عندما يخونك كل شيء ويعرض عنك، ترى الطبيعة على حالها المعهودة. فالشمس نفسها تشرق طيلة أيام حياتك.
أن الطبيعة لم تزل كما كانت عليه بالأمس، ترشدنا تارة بنور حقيقتها، وتظللنا أخرى. فلا تأسف أيها الإنسان لكل ما تضيعه من متاع الحياة الدنيا. وتعال تعبد ذلك الصدى وألحان تلك الموسيقى العلوية كما كان يتعبدهما (فيثاغورس) من قبلك.
دع الطرف يناج الغزالة في سمائها نهارا، والأشباح في محرابها ليلا؛ واسبح مع الغيوم على بساط الريح؛ واخترق غابات الوادي الظليلة مع أشعة ذلك الكوكب الخفي.
إن الله خصك أيها الإنسان بالعقل والفطنة لكي تتحقق بهما وجوده. فاستجله في صحيفة الطبيعة، فإن في سكونها وهدوئها صوتا يهتف باسمه.
من منا لم يسمع هذا الصوت يدوي في أعماق قلبه؟(5/58)
بيروت. محمد كزما(5/59)
غيرة
قد زرعنا بين أفواف الربا ... وردة الحب لإقبال الربيع
داعبتها عند إقبال الصبا ... نسمة الآصال والصبح الوديع
خلع الروض شذاه بعدها ... وحبتها اللون وجناتُ الحبيب
فهي كالنار، ولكن عندها ... تشتهي الأفواه تقبيل اللهيب
كأن قلبي مسرح الود الندِي ... وسقته العين أمواه الحياه
وعزيز أن أرى غرس يدي ... تحتويه بين عيني الشفاه
وردة الحب استباحت ادمعي ... وتولت عند إقبال الخريف
عذبت قلبي وأبكته معي ... وأرتني كيف إذلال الضعيف
محمود محمد منتصر(5/60)
العلوم
أسرع كمرة في العالم
صورة تؤخذ في جزء من 40000 من الثانية
إذا أردت أن تصور جسما ثابتا، كتمثال من الحجر، كفاك في ذلك أن تثبت أمامه كمرة غاية في البساطة، تتكون من خزانة مظلمة، بسطحها القريب من التمثال عدسة تركز الأشعة المنبعثة منه على فلم حساس في السطح المقابل من الخزانة، فترتسم عليه الصورة المرغوبة. ثم يستخرج الفلم في الظلام ويثبت بالطرق المعروفة. ومن أهم الأمور التي يراعيها المصور مدة التجلية أي مدة تعريض الفلم للضوء، وهي تتوقف على أمرين: أولهما درجة إحساس الفلم، وثانيهما شدة الضوء الذي ينير التمثال. وفي المثل الذي نحن بصدده يكفي أن يغطي المصور عدسة هذه الكمرة البسيطة بورقة مقواة سوداء، فإذا حان وقت التصوير جلى عن الفلم مدة ثانية أو ثانيتين أو ثلاث أو أربع حسب ضوء الشمس الحاضر، وذلك بإزاحة الغطاء ثم رده سريعاً إلى مكانه.
هب بعد ذلك أنك تريد تصوير رجل من لحم ودم، وهب أنك وقفته مكان التمثال وجليت عن الفلم ثلاث ثوان أو أربع، فهل تدري ما الصورة التي تخرج لك؟ صورة مغبشة على الأغلب لأن الإنسان ليس له سكون الحجر، فهو لا يستطيع صبراً على الوضع الواحد، فيتحرك فيتخذ أوضاعا كلها ترتسم على الفلم فتخرج الصورة مبهمة الحدود متضاعفة الخطوط مختلط بياضها بسوادها. فتجد نفسك عندئذ في حاجة إلى تقصير مدة التجلية حتى لا يتحرك الرجل، ومعنى هذا أنك بحاجة إلى زيادة حساسية الفلم، ومعنى هذا أيضاً أنك بحاجة إلى زيادة شدة الضوء، فبدل أن تصور في نور الصباح الأول أو في نور المساء الأخير، تصور والصباح ضاح مشرق، وعندئذ تكفيك بعض الثانية عن الثواني الكثيرة.
هب بعد هذا أنك تريد أن تصور رجلا وهو يسير، أو حيوانا كقطة أو كلب لا تستطيع أنت أن تريده على السكون، أو هب أنك تريد أن تصور حصانا وهو يجري، أو طائرا إذ يطير، أو قطارا ينهب الأرض، فقد لا تنفعك تجلية الفلم ثانية أو عشر الثانية، فالقطار الذي يسير بسرعة 60 كيلومتراً في الساعة يقطع في الثانية الواحدة نحو من 17 مترا. فانظر كم صورة تنطبع عندئذ على الفلم في الثانية الواحدة، وتخيل مقدار تغبش الصورة(5/61)
الحاصلة.
فكان لا بد من تقصير مدة التجلية تقصيرا كبيرا كان تكون مدة التجلية جزءا من مائة من الثانية أو من مائتين، ولما كانت اليد الإنسانية لا تستطيع كشف العدسة وتغطيتها بهذه السرعة كان لا بد من ابتداع غطاء تحركه قوة آلية كقوة الزنبركات مثلا، وتدخلت الكيمياء لتزيد في حس الأفلام لكي تتأثر بالضوء في المدة القصيرة الجديدة. وتقدم الإنسان في اختراع الكمرات السريعة حتى أصبح تصوير المتحركات أمراً سهلا لا يكلف تعبا ولا إجهادا، وأصبح مألوفا حتى لا يثير استغرابا ولا إعجابا. وصرنا نحلل بها حركات الحيوان لنعرف منها تفصيل سيره، ونحلل حركات الطائر لندرك منها كنه طيره، وصرنا نجمع هذه الوحدات التي تحللت إليها الحركة، والعناصر التي تقسمت إليها أفعال الحيوان والإنسان، فنعرضها على الشاشة البيضاء متتابعة متواصلة، فنحكي من حوادث الوجود ما نشاء أين نشاء ومتى نشاء.
ولكن من حوادث الوجود ما يحدث في مدد قصيرة تنافس العين في لحظتها والخاطر في لمحته، فلا بد من تقصير مدة التجلية إلى ما يسبق لحظة العين ويقاصر لمحة الخاطر، وإذن فلا بد من الزيادة في حساسية الافلام، ولا بد من زيادة الضوء حتى يزيد على ضوء الشمس، فجد الباحث بعد الباحث، وعاون المفكر المفكر، وتضافر الطبيعي والكيميائي، والرجل النظري والرجل التطبيقي؛ حتى جاءت الأنباء حديثاً بأسرع كمرة عرفها الزمن، كمرة إذا صدقت الأخبار العاجلة تصور الصورة في جزء من أربعين ألفا من الثانية، اخترعها أستاذان من أساتذة معهد الصناعات بماساشوسيت بالولايات المتحدة، وهي تعتمد بالطبع على فلم شديد الحس، ولكن اكبر اعتمادها على دورة كهربائية تستطيع أن تحدث برقة ضوئية أسطع من شمس الظهيرة مرات وهي تعدل في شدة ضوئها 40000 مصباح كهربائي مركزة كلها في صعيد واحد، قوة الواحد منها خمسون واطاً.
وقد استطاعا أن يصورا بها أموراً عدة لا تستطيع أن تصورها الكمرات السريعة المعروفة، نذكر من ذلك صورة للماء النازل من الصنبور، فهذا يخرج تحت ضغط وتسير قطراته في السيل المندفع بسرعة كبيرة، وإلى هذا فهي تتحرك في كل جهة بحركات تختلف سرعاتها باختلاف تدافع القطرات واتجاهها، وتراها في الصورة المرفقة كأنما قال(5/62)
لها الله اجمدي مكانك فجمدت، وتراها على غير ما تراها العين من الانسجام والملاسة.
ومن ذلك صورة للمضرب إذ يضرب به اللاعب الكرة في اللعبة المعروفة بالجلف، فأنك ترى الكرة المصنوعة من المادة الصلبة القوة قد انبطحت من قوة الضربة؛ ولأن انبطاحها لا يستغرق الا جزءاً من الثانية في غاية الصغر كان من المتعذر على العين أن تراه؛ وكان من المتعذر على الكمرات العادية أن تسجله. وبقي أمراً مفروضا حتى أتت الكرة السريعة فجعلته رأى العين، والعين جهيزة الحجج، إذا رأت قطعت قول كل خطيب.
على أنه لا يفوتنا أن ننبه إلى أن كل صورة لشيء متحرك، مهما كان نوعها، وبأي كمرة صورت، ما هي الا مجموعة من صور لا حصر لعددها. هب أنك أخرجت يدك من جيبك فوضعتها تحت ذقنك؛ وهب أن هذا حدث في ثانية واحدة، فأنك لتجد يدك اتخذت عدداً من الأوضاع لا حد له. فما دامت يدك في حركة مستمرة ففي كل أجزاء الثانية، مهما صغر، وضع خاص به يختلف عن وضع الجزء الذي يليه من الثانية، ومن الطبيعي أننا كلما زدنا في التجزئة قل الخلاف بين أشكال هذه الأوضاع العديدة حتى تعجز العين الإنسانية عن إدراكه. فصور الكمرة السريعة المرفقة هي في الواقع عدة من صور عجز حس الإنسان عن إدراك الفروق بينها، فحس الإنسان لدقائق المكان محدود، كما أن حسه لدقائق الزمان محدود.
ولعل هذا التثلم في الإحساس نعمة من نعم الله، ولو أن هذه الحدة في الإحساس بالزمان والمكان أعطيت لي هبة لترددت كثيراً في قبولها، لأني إن قبلتها لم أجد في الكون شيئا ناعماً، حتى أكثر المرايا انصقالا تصبح في عيني كسطح الصخرة المتهشم، ولأني أن قبلتها تراءت لي الدنيا تموج بمخلوقات أنا الآن عنها أعمى، وتكشف لي في طيات الدنيا التي أعرفها وفي حواشيها دنى أنا سعيد بجهلها، ولأني أن قبلتها لم يكن للفظة السكون موضع من قاموس لغتي، ولأصبحت أحس في هدوء هذا الليل وأنا أكتب هذه الكلمة على مكتبي هذا الساكن، وفي حجرتي هذه الهادئة كأني اكتبها في عربة رجراجة من عربات الترام إذ تمر نهاراً في أشد أحياء المدينة صخباً وجلبة، وأخيراً لأني أن قبلتها وقبلت زيادة الإحساس بالزمن أصبحت ثانيتي ساعة وأصبحت ساعتي سنة وسنواتي ألوفاً.(5/63)
الأنفلونزا أو النزلة الوافدة
للدكتور سامي كمال
النزلة الوافدة مرض مستوطن في القطر المصري، فلا يمر شتاء دون أن نسمع ببعض إصاباته؛ لكن هذه الإصابات لا تأخذ شكلا وبائياً، وتظهر عادة في فصل الشتاء مقرونة بسابق التعرض لبرد شديد أو للرطوبة، وعاقبتها دائما حميدة.
وتظهر هذه النزلة الوافدة في جميع أنحاء العالم، كما تظهر عندنا، ويكثر عدد المصابين بها في البلاد الحارة، وتقل إصاباتها عادة عند حلول فصل الربيع.
وهي تنتقل بالعدوى بواسطة جراثيم خاصة؛ تلك الجراثيم عبارة عن بذور تتفاوت في حيويتها وتأثير إفرازاتها، لأن الجراثيم لا تؤثر الا بفعل هذه الإفرازات التي هي من أقوى السموم وأشدها فتكا بالإنسان.
فإذا صادفت أجساماً قوية قاومتها، أما إذا عرضت لها أجسام ضعيفة فأنها تقوى عليها، وتشتد بانتقالها على غيرها، وتزداد قوة إذا تهيأت لها ظروف خاصة، كما حصل ذلك في نهاية الحرب العظمى عام 1918 إذ وجدت الإنسان ضعيفاً جائعاً منهوك القوى والأعصاب ففتكت به، ومات بالنزلة الوافدة في العالم عدد يفوق عدد من مات في ميادين القتال.
هنا تكون وبالا، وهنا تكون خطراً على العالم أجمع، حيث تنتقل مع المسافرين بسرعة الطائرات والسيارات.
وهذا النوع من النزلة الوافدة الوبائية يسمى عادة باسم الوطن الذي نشأ فيه، ففي عام 1918 كانت اسبانيا، وهي في هذا العام إنجليزية.
وكل الأخبار تدل على أن خطر هذه الوافدة الإنجليزية أقل بكثير من سابقتها الإسبانية. وأوبئة الوافدة تتشابه في مجموعها من حيث الأعراض. لكنها تتفاوت من حيث مضاعفاتها وخطرها على العموم.
ومدة حضانتها، أي من وقت العدوى إلى وقت ظهور أعراضها لا تزيد على اليومين.
أما أعراضها فزكام واحتقان في أغشية الحلق والمجاري الهوائية مع قشعريرة وحمى وشعور بتكسر في الجسم وعطس وسعال، وهي سريعة العدوى خصوصاً لأن اكثر الناس لا ينعكفون في دورهم عند الإصابة بها، بل يستمرون في مزاولة أعمالهم، يذهبون(5/64)
ويجيئون ويختلطون بالناس.
وهم لو عرفوا كيف تحصل العدوى وعزلوا أنفسهم في بيوتهم وحجراتهم لدرءوا عن أنفسهم وعن عائلاتهم وعن مواطنيهم شر هذا المرض.
أن العدوى تحصل بواسطة العطس أو السعال اللذين ينقلان جراثيم المرض مباشرة إلى السليم.
لذا يتحتم على المريض أن يتحاشى العطس أو السعال في وجه الناس وليفعل ذلك يميناً أو شمالا.
كذلك من يخالط المرضى يجب عليه أن يحتاط بوقوفه جانبا غير هياب ولا وجل، يخدم في رفق ثم يغسل يديه، ويستعمل مطهرات الفم والأنف، ويجب أن تكون غرفة المريض معرضة لأشعة الشمس يتجدد الهواء فيها مراراً كل يوم ثم يلازمها المريض عند أول الشعور بالمرض، ويستعمل الأطعمة السائلة والمعرقات والمشروب الساخن وهو خير علاج بجانب الأسبرين والكينين عند الاحتياج حسب أمر الطبيب مع استعمال مطهرات الأنف والحلق.
ومن خير الاحتياطات الابتعاد عن حضور الاجتماعات العامة خصوصا في المحلات المغلقة، واستعمال مطهرات الأنف كزيت الأوكالبتوس صباحاً ومساء، ومطهرات الحلق مثل الماء المضاف إليه نقط اليود والابتعاد عن المرضى.(5/65)
بحوث مصائد الأسماك وماهيتها
للدكتور حسين فوزي. مدير إدارة أبحاث المصائد
ليس المخلوق الحي مع ما هو عليه من مظهر الوحدة سوى مجموعة
مركبة من مواد عضوية وغير عضوية، تربطها ببعضها قوى طبيعية
هي نفس القوى الصادرة عن الكون المحيط بها، لذا يتقدم الباحث
لدراسة هذه المجموعة كوحدة حية أولاً، ثم كجزء من ذلك الكل أو
الوسط الذي يعيش فيه ثانياً. وقد أطلقت كلمة بيلوجيا (علم الحياة) على
مجموع هذه الدراسات: دراسة أشكال المخلوق الحي وأوضاعه في
الفضاء وهي (المورفولوجيا) ودراسة أوصاف أجهزته وأعضائه وهي
(علم التشريح) والبحث عن تطور هذا المخلوق من البويضة حتى
يصبح كامل الخلق وهو (الايمبريولوجيا) (علم الأجنة) ودراسة
وظائف أجهزته وأعضائه وهي (الفيزيولوجيا). ودراسة الحياة
وقوانينها وتطوراتها الكونية، والوسط الذي تعيش فيه المخلوقات باحثة
عن غذائها، والغازات الضرورية لتنفسها، وكذا اثر هذا الوسط فينا.
وتوزيعها حسب تطوراته تلك هي (الايكولوجيا).
والأحياء المائية تتميز من غيرها بأن الوسط الذي تعيش فيه هو الماء. وهذا النوع من الحياة هو أهم الفروق بينها وبين الأحياء الاخرى، لأنها فيما عدا ذلك تتنفس وتتغذى وتتناسل وتؤدي أعضاؤها نفس الوظائف التي تؤديها الأحياء الهوائية. وإنما تتطور هذه الوظائف ويتطور شكل المخلوقات المائية تبعا للوسط الذي فرض عليها مظاهرها الخاصة.
والأسماك فصيلة من المخلوقات المائية استرعت اهتمام الإنسان منذ اقدم العصور لأنها مصدر هام لغذائه. فالإنسان منذ النشأة الأولى كان صيادا قنصا. على أنه ثمة أحياء مائية أخرى أنتفع بها الإنسان أما لغذائه أو لأغراض نفعية أخرى. نكتفي منها بالإشارة إلى(5/66)
الصدفيات (كالجندوفيلي وأم الخلول)، وذوات القشور (كالجمبري واللانجوست) لغذائه. وإلى الإسفنج وحيوانات اللؤلؤ والمرجان والسلاحف المائية والتماسيح (الباغة والجلود) لزينته ونظافته. وإلى الدرافيل والحيتان لصنع الجلود واستخلاص الزيوت. وإلى بعض الأسماك لاستخلاص سماد (الجوانو) والغراء الحيواني والمستحضرات الطبيعية كزيت كبد البكلاه (زيت كبد الحوت) وإلى الأعشاب البحرية التي يستخرج منها اليود وينتفع بها في الأسمدة.
ونقصر هذا المقال على بحوث الأسماك وهي بحوث يمكن تطبيقها على الأحياء المائية الأخرى مع بعض تغيير في الطرائق يقضي به تكوينها المختلف ونوع حياتها الخاص.
أول ما يعنى به من يدير شأنا من الشؤون كمنجم أو بحيرة هو أن يعرف ما تحويه التربة من معادن في طبقة مخصوصة، أو ما يعيش في البحيرة من مخلوقات نافعة أو ضارة، لذا كان أول ما يهم خبير المصائد هو أن يستعرض المخلوقات التي تعيش في مياهه فيعمل لها سجلا، وعلى أساس هذا السجل يستطيع أن يتعرف طرائق بحثه. وأن مؤلفا جليلا مثل (أسماك النيل) (لبولانجيه) أو (أسماك البحر الاحمر) لكلونتسنجر لهو محاولة موفقة في هذا السبيل، فعلى خبير المصائد أن يجمع المعلومات من المصائد المصرية المختلفة عن أنواع الأسماك التي تدخل أسواقنا، بل والأنواع الأخرى التي لا يهتم بها صيادونا أو لا يعرفون طرق صيدها. وليس عمل قائمة بجميع اسماك المياه المصرية سهلا كما يتراءى لأول وهلة. فمنذ ظهر كتاب (وصف مصر) الذي قامت به البعثة الفرنسية الملحقة بحملة بونابرت إلى يومنا هذا لم تبلغ بعد قائمة أسماكنا حد التمام خصوصا في البحرين الأحمر والأبيض، فثمة أسماك لا يعرف صيادو البحر الأبيض طرق صيدها (وأخصها الأسماك الرحل). كما أن طرق الصيد في البحر الاحمر لما تزل على حال من البساطة يتعسر معها الحصول على جزء كبير من الأسماك التي تعيش في ذلك البحر.
فأمام أخصائيي المصائد في مصر سنوات طويلة يقضونها في البحث المتواصل حتى تتم قائمة الأسماك المصرية مرتبة حسب الأنواع والفصائل والأجناس. كما ينبغي أن تدعم هذه القائمة بمتحف كامل يضم نماذج من جميع أسماكنا جيدة الحفظ جلية العرض.
كذلك يعنى الأخصائي بمعرفة مواطن الأسماك، فثمة اسماك تقطن الماء العذب وأخرى(5/67)
تقطن الماء الأجاج، وغيرها تعيش في البحار، أو تنتقل بين الماء العذب وماء البحر. ومن الأسماك البحرية ما تعيش على القاع، وتفضل نوعا من القاع، رمليا أو صخريا أو طينيا، ومنها ما تغشى الصخور وفرجاتها، ومنها ما تعيش في طبقات الماء العليا أو السفلى متنقلة بين مناطق البحر سريعة الحركة.
وفي مياه النيل يهمنا أن نعرف مواطن كل نوع من أسماكه، تلك التي تأوي إلى الحشائش أو تعيش على القاع الطيني. وتلك التي تقاوم التيار أو تقاوم كمية من الملوحة تسمح لها بالحياة إذا ما وصلت مع المصارف إلى بحيراتنا ذات الماء الأجاج.
فإذا عرفنا مواطن كل نوع من السمك وجب علينا أن ندرس توالده، فعندما تبلغ الأسماك طولا معلوماً يختلف باختلاف الأنواع ينضج جهازها التناسلي، فتمتلئ مبايض الأنثى بأجسام كروية تبدو للعين المجردة كما يظهر لك بفحص قطعة من البطارخ، وليست هذه إلا مبيضاً ممتلئاً ببويضات أنثى البوري الناضجة. وإذ تنضج الأنثى فهي بادئة بالمبيض، وذلك بأن تلقى بالآلاف من بويضاتها في الماء، أما على قاع رملي أو طيني، أو بين الحصى أو الأعشاب المائية أو في شقوق الصخور، أو في أوكار محفورة في الطين، أو بين طبقتين من الماء حيث تبقى البويضات عائمة بفعل ثقلها النوعي وكذا ينضج الذكر عند طول معلوم يقرب من طول الأنثى، ويغلب أن يكون أقل قليلا. وينتج جهازه التناسلي خليات سريعة الحركة لا تراها العين المجردة. ففي موسم التوالد تتآلف الذكور والأناث، فما تكاد تلقى الأنثى بويضاتها في مكان من الأمكنة التي سلف ذكرها حتى يتقدم الذكر إلى ذلك المكان ليلقي بملايين من تلك الخليات السريعة الحركة بجانب البويضات التي لا حراك بها، وتسرع تلك الخلايا إلى الاندماج في البويضات. وقد يجتمع للبويضة بضعة من تلك الخلايا، فلا ترضى منها بغير واحدة تتغلغل داخلها وتمتزج بها كل الامتزاج. وينفث هذا الاتصال في البويضة حياة جديدة إذ تنقسم (وهي خلية واحدة) إلى ملايين من الخلايا تتطور حتى تصبح مخلوقا صغيرا لا يشبه والديه فهو محوط بغشاء رقيق هو غشاء البويضة الخارجي يذيبه ثم يخرج إلى الماء مزودا بكيس محي يكون غذاءه في الأيام الأولى. فإذا ما نفذ ذلك الغذاء أصبح الجنين سمكا صغيرا يسعى وراء غذائه، وهو لا يزيد طولا على بضع ملليمترات. ولا يزال يكبر حتى يبلغ بدوره الطول الذي تنضج فيه(5/68)
أعضاؤه التناسلية إن ذكرا وإن أنثى.
على أن السمك وقد بلغ ذلك الطول لا يبيض طوال السنة، لأن عملية نضوج الجهاز التناسلي عملية دورية تبلغ تمامها في وقت معين من السنة؛ يختلف باختلاف الأنواع؛ فمن أسماك تبيض في الشتاء وأخرى في الربيع أو الخريف أو الصيف. وقد يستمر مبيضها أياما أو شهورا. وكذا يتبع الذكر تطوراً موازيا لتطور كل أنثى من نوعه.
وفهم أمثال هذه الحقائق (كمعرفة عمر الأسماك والطول الذي ينضج عنده جهازها التناسلي) من أهم القواعد التي يستند عليها التطبيق العملي. لأنه لما كان من الضروري أن يسمح لأكبر عدد من الأسماك بالتوالد وجب أن نعرف وقت هذا التوالد لحماية النوع برد عادية الصياد عنه، وهذه الحماية لا تتناول الأبوين فحسب، بل يجب أن تتناول البويضات وأفراخها.
ولذا كان من المهم أيضاً معرفة المناطق التي تغشاها الأسماك وقت التوالد فيمنع الصيد فيها. من ذلك مثلا أنواع البلطي التي تبيض وتفرخ بين الحشائش المائية (كالبردي) فيجب إبعاد الصيادين عن تلك المناطق أثناء موسم التوالد.
ومن أسماكنا كالبوري والطوبار ما يترك الماء العذب أو البحيرات الشاطئية ليخرج إلى البحر فيفرخ.
ولما كان مخرج هذه البحيرات إلى البحر بوغازاً ضيقاً، أصبح واجبا منع الصيد بتاتاً في البواغيز الموصلة بين البحيرة والبحر للسماح للبوري والطوبار بالخروج إلى البحر، ولأفراخه (وهي تقدر بالملايين) بالعودة إلى البحيرات.
كأننا بهذه المعلومات البيولوجية استطعنا أن نفي بالشرط الأول من شروط علم الحيوان التطبيقي. وهي حماية النوع بمساعدة الطبيعة في مجهودها نحو بقائه.
على أن هذه المعلومات يمكن الانتفاع بها على وجه آخر، إذ يمكن للأخصائي أن يقلد الطبيعة في عملها بإعداد أمكنة خاصة لأفراخ الأسماك وتعهدها بالعناية، وذلك برد أعدائها عنها وتغذيتها تغذية تساعد على نموها العاجل، كذلكيستطيع نقل الأسماك من جهة تكثر فيها إلى جهة صالحة لنموها وتوالدها ولكنها فقيرة منها.
وفي البحار تتخذ هذه المسائل طابعها الخاص، ولكن الدراسة تقضي هنا أيضاً بتعرف حياة(5/69)
الأسماك البحرية من سرعة نموها إلى أمكنة توالدها إلى هجرتها.
لقد كان حديثنا حتى الآن عن السمك نفسه تلك الوحدة الحية التي ليست سوى جزء من كل. وهذا الكل هو الوسط الذي يعيش فيه الأسماك ولها به صلات وثيقة، لذا كانت دراسة هذا الوسط تعادل في الأهمية دراسة السمك نفسه، هذا الوسط متجانس ظاهراً. ولكن كم من العوامل تجعل من هذا التجانس الظاهر اختلافات عديدة، ومن الطبيعي أن يتأثر المخلوق المائي بتلك العوامل، لقد كانت جميع المخلوقات في ظلام التاريخ الجيولوجي تعيش في الماء مرنة التكوين سهلة التأثر بالعوامل المحيطة، وقد احتفظت المخلوقات التي لا تزال تعيش في الوسط المائي بتلك المرونة التكوينية التي كانت الأصل في تعدد الأنواع، ودراسة الوسط المائي دراسة تفصيلية تلقي ضوءا جديدا على عوامل التطور.
على أن لهذه الدراسة أهميتها العملية، فالوسط المائي يشطر أعمال الأخصائي شطرين: بيولوجيا المياه البحرية، وبيولوجيا المياه العذبة، وقد يتصل الشطران إذ يختلط وسط آخر كما يحدث ذلك في بحيراتنا الساحلية، أو يختلط بحران من تكوين وطبيعة مختلفين كما حدث ذلك بحفر قناة السويس.
ما منشأ اختلافات المياه العديدة والماء وسط متجانس؟ أولها وأهمها وجود المواد الذائبة فيه، وينشأ عن وجود هذه المواد ظواهر كيميائية طبيعية أهمها (الأسموز) ومن أظهر المواد الذائبة في البحار كلورو الصوديوم. والمخلوق المائي يعيش في حالة توازن كيميائي طبيعي مع الوسط المحيط به، ولقوة الأسموز اليد الطولي في هذا التوازن، فإذا نقلنا سمكة من اسماك الماء العذب إلى البحر اختل هذا التوازن، وعجزت السمكة عن مقاومة هذا الاختلال طويلا ثم ماتت. وكذا العكس.
على أن هناك غير قليل من الأسماك دخلت من البحر إلى البحيرات الساحلية، وتعودت مياها اقل ملوحة من مياه البحر، بل قد تصل في عذوبتها إلى ما يدنيها من مياه الأنهار. بل هناك أسماك تتحمل الحياة في الماء العذب والبحر على السواء. على أن تلك الأسماك البحرية التي تعودت الحياة في الماء العذب أو الأجاج تدفعها فطرتها إلى العودة إلى البحر لتفرخ. وإذا أمتنع عليها الوصول إلى البحر أصابها العقم، وتلك حالة ثعابين السمك (الأنقليس) والبوري والطوبار من أسماكنا المصرية.(5/70)
ويعرف سكان المنزلة والبرلس وأدكو تلك الظاهرة حق المعرفة. إذ تخرج آلاف البوري والطوبار إلى البحر في مواسم معينة يطلقون عليها (الخرجيات).
وقد اكتشف الأستاذ (يوهانس شميدت) اكتشافا يعد من أغرب ما وصل إليه الكشف العلمي في البحار، وهو أن ثعابينالسمك التي تعيش في الأنهار والبحيرات الأوربية تخرج إلى عرض الاقيانوس الاطلنطيقي لتفرخ قرب جزر (الأنتيل) عند منطقة تسمى بحر سارجاس.
وتهاجر ثعابين السمك الأمريكية شرقا لتلتقي بثعابين السمك الأوربية في منطقة بحر سارجاس.
فإذا انتهى موسم الأفراخ اتجهت أفراخ الثعابين الأوربية شرقا وأفراخ الثعابين الأمريكية غربا حتى يصل كل منها إلى قارته. فيدخل الأنهار في شكل أسماك مستديرة زجاجية بيضاء اللون. وهي ما تسمى بالحنكليس. وتعرف مصر هذه الظاهرة، أي خروج ثعابيننا إلى البحر وعودة آلاف الحنكليس إلى البحيرات الشاطئية ودخولها نهر النيل.
وتلك ظواهر نراها رأي العين في مصر، ولو أننا لا نزال في شك مما إذا كانت الثعابين المصرية تفرخ وسط الأطلانطيق أو في البحر الأبيض المتوسط.
لقد أوردنا تلك الأمثلة لنبين إلى أي حد وصلت مرونة تلك الأسماك في تقبلها تغير قوة الاسموز.
كما يهم الباحث معرفة الأكسجين الذائب في مياه ما، لأنه يتوقف عليه تنفس الأسماك. الا أن احتياج نوع من السمك إلى كمية من الأكسجين لا يوازي احتياج نوع آخر. فقد يموت نوع إذا هبط مقدار الأكسجين الذائب إلى 4 جرامات في اللتر مثلا، بينما يقاوم نوع آخر حتى يبلغ الأكسجين جرام ونصف في اللتر. ثم تبدو عليه علامات الضيق حتى يموت.
ولكل هذا أثره في مواطن الأسماك، أسماك لا تعيش الا في مجاري المياه الجبلية حيث المياه جارية تذيب في تدفقها كمية كبيرة من الأكسجين. وافضل مثل على هذا سمك (الترونا) المعروف في البلاد ذات المجاري السريعة الجبلية كسويسرة واسكتلندا وكندا الخ. . وأسماك تعيش في الأودية كسمك الكارب والتانش في أوربا وجميع أسماك مياهنا العذبة.
كذلك يهم الباحث معرفة درجة حرارة المياه وحركاتها كالتيارات والمد والجزر لأن كل(5/71)
واحدة من هذه المسائل أهميتها في دراسة الأسماك. فهذا النوع يفرخ إذ تصل حرارة المياه التي يعيش فيها إلى درجة معينة، وذاك النوع يغشى المياه الهادئة كي يفرخ في مأمن من التيار الخ. .
وقد سبق الكلام عن أهمية دراسة القاع لمعرفة الأنواع التي تغشاه، ودراسة القاع تدخل ضمن علم الصخور وهو فرع من الجيولوجيا.
ودراسة غذاء الأسماك يتطرق بنا إلى دراسات بيولوجية أخرى. فعلينا أن نعرف نوع الغذاء، فمن اسماك تتغذى على اسماك اصغر منها، أو حيوانات صدفية أو ذات القشور أو ديدان. إلى اسماك لا تتغذى الا بالنباتات المائية.
وعلى أخصائي الأسماك أن يتعرف جميع الأنواع التي تكون ذلك الغذاء، وحياة هذه الأنواع، ومما لا شك فيه أن لنوع الغذاء أثرا واضحا في شكل الأسماك. فتلك الأنواع التي تحتاج في غذائها إلى المطاردة السريعة يتخذ جسمها الشكل المغزلي، وهو أوفق الأشكال للحركة السريعة. كما نرى في التونة والبلاميطة. وتلك الأنواع التي تجد غذائها على القاع يتطور شكلها تبعا لحياتها الهادئة، فهي مفرطحة كما نرى ذلك في سمك موسى وأشباهه.
ولا يستطيع خبير المصائد أن يقرر صلاحية بحيرة أو بركة لتربية نوع خاص من السمك قبل أن يقرر نوع الغذاء الذي يقتات منه، بل وأفضل تغذية تعجل في نموه وتكسب لحمه صفات شهية.
رغبنا في هذا المقال أن نمر سراعاً على شتى المسائل التي تتناولها بحوث مصائد الأسماك. وهي متعددة الوجوه لا يستطيع فرد واحد أن يضطلع بها، بل هي في حاجة إلى فرقة من أخصائيين ذوي ثقافة علمية قويمة تشمل علوما مختلفة منها التاريخ الطبيعي بأنواعه (علم الحيوان والنبات والجيولوجيا) وعلوم الكيمياء والطبيعة، وعلم الأرصاد الجوية ومبادئ الإحصاء.
على أننا لم نأت على آخر ما يتعين على أخصائي بحوث المصائد أن يعرفه. إذ أن هذه العلوم تتبع في تطبيقها العملي الظروف الخاصة بكل إقليم.
ولنضرب مثالا لذلك نظام الري في مصر، من ري الحياض وما إليه من تيارات وقنوات. وري الدلتا بترعه ومصارفه واتصاله بالبحيرات الشاطئية. وأثر الخزانات والقناطر، تلك(5/72)
مظاهر مائية تكاد تكون خاصة ببلادنا. وهي لهذا تفتح أمام خبير المصائد فتحا جديداً في التطبيق العلمي. إذ من العبث أن يطبق الإنسان بلا تبصر طرائق بلاد على بلاد أخرى، وإنما عليه أن يجد لكل حالة ما يلائمها معتمدا على دراسة متينة، وتجربة متعددة الوجوه، وفهم للظواهر الخاصة بالبلاد.(5/73)
القصص
مشاهدات غربية
للأستاذ محمد احمد الغمراوي. أستاذ الكيمياء بكلية الطب
- 1 -
في منجم
كانت ليلة السبت 18 فبراير سنة 1878 موعد انعقاد الجمعية الطبيعية الكيميائية في الكلية، وكان المقرر أن يذهب أعضاؤها لزيارة منجم فخم على بعد ميلين أو ثلاثة من نوتنجهام. فبعد أن تناولنا الشاي بالكلية خرجنا ومعنا الرئيس الأستاذ بارتن فركبنا الترام إلى المنجم، وهناك وجدنا بعض رجاله ينتظروننا، فقيل لنا أنه لا بد من أن يحمل كل منا مصباحا يستضيء به، وقادونا إلى غرفة المصابيح أو بالأحرى مخزنها، وقد ذكرني حين دخلته بمخزن القناديل في مسجد البلد أيام كان المسجد يضاء بالقناديل، فقد كانت رائحة الزيت المحترق تفوح من المصابيح الموقدة المصفوفة. وكان كل مصباح عبارة عن فتيلة داخل اسطوانة قصيرة من الزجاج متصلة من أعلاها بمخروط ناقص من شبك الحديد، يظاهره مثله من صفائح النحاس، وهذا ينتهي بحلقة يحمل منها المصباح تلتقي عندها أسلاك تتصل بالقاعدة وتصون زجاجتها. هذا هو مصباح (دافي) اخترعه السير (همفري دافي) لأول مرة سنة 1815 وهو على بساطته جم النفع، لأن شبكته الحديدية تحول بين اللهب: لهب المصباح (أو لهب ما قد يدخله من غازات ربما تصاعدت من شقوق يصيبها العامل في اقتطاعه الفحم) وبين أن يمتد إلى ما قد يخالط هواء المنجم من غاز قابل للالتهاب، فيحترق دفعة واحدة فينسف ما حوله. وتلك خاصة من خواص ما شابه الحديد والنحاس من المعادن أنها لسهولة سريان الحرارة فيها إذا لامست غازا ملتهبا أخذت من حرارته ما يكفي لتخفيض درجتها عن درجة الالتهاب، فإذا نفذ الغاز منها إلى خارجها نفذ غير ملتهب.
حمل كل منا مصباحا وذهبنا لننزل المنجم فإذا المنزل إليه فوهتان كأنهما بئران متجاورتان منصوب عليهما قوائم متشابكة من الحديد عظيم حجمها وارتفاعها، تحمل في أعلاها جهازا(5/74)
يتدلى منه سلسلة متينة، تحمل في طرفيها صندوقين كل صندوق في فوهة. والسلسلة من الطول بحيث إذا حاذى أحد الصندوقين وجه الأرض، مس الآخر أرض المنجم على عمق خمس وسبعين ومائتي ياردة. هذا هو الرافع الذي يرفع به الفحم إلى سطح الأرض ولكنه لا كالذي نعرف عن الرافع، فأنه على سماجته التي لا تليق بما جعل له، عجيب في نظامه وحركته. وهو يتحرك بالكهرباء: يدير العامل مفتاحا في إحدى تلك القوائم، فيدق جرس صغير ثلاث دقات في باطن الأرض وفي ظهرها ايذانا، وعندئذ يهوى أحد الصندوقين ويرتفع الآخر بسرعة ثلاثين ميلا في الساعة. وكل منهما في بدء هبوطه يدع سلسلة كان قد رفعها تقل حاجزا من خشب فيسد باب الفوهة، فإذا ما قارب الصندوق مقره في صعوده رفع السلسلة فأنفتح الباب.
بدأنا النزول منتصف الساعة السابعة، فدخل منا عشرة صندوقا فوسعهم مع العامل واقفين متلاصقين. وإذا في أرض الصندوق قضيبان حديديان إذا بلغ الصندوق أرض المنجم كونا جزءاً من السكة الحديدية الممتدة فيه، وعليهما توقف عربات الفحم وترتفع بما فيها إلى سطح الأرض. والهابط إلى المنجم يشعر بما لعلك شعرت ببعضه إذا كنت هبطت راكبا بعض مصاعد الحوانيت التجارية أو المباني الكبرى. يخيل إليه أن الرافع قد هوى من تحت قدميه، ويقوى هذا الشعور عنده كلما زادت سرعة الهبوط حتى إذا بدأت تتناقص في النصف الآخر من المسافة وأحس حمل أرض الرافع لقدميه أكثر من قبل خيل إليه أنه صاعد وليس بصاعد. وفي صعوده يشعر بعكس ما شعر في هبوطه. فلما تكامل عددنا داخل المنجم ذهبنا إلى غرفة الملابس فخلع بعضنا فيها رداءه، ثم سرنا في طرق فيها بعض سعة سقوفها أقبية مبنية، ونورها مصابيح كهربائية، نريد زيارة الجهاز الكهربائي الضخم الذي يجر عربات الفحم من مسافة لا تقل عن ميل. ولا تظن العربات تتحرك كما يتحرك الترام، ولكن بحبل غليظ مشدود بها إذا دار الجهاز دارت اسطوانة كبيرة بسرعة كبيرة فالتف عليها الحبل فانجرت العربات. ثم ذهبنا فرأينا مرابط الخيل التي تجر العربات فيما وراء الميل، فإذا هي ليست أسعد حالا من خيول جر الأثقال في مصر. وهي شر منها في أنها قائمة نائمة تحت الأرض لا ترى الشمس بعد نزولها المنجم حتى تموت.
ثم سرنا بعد ذلك ميلين في طرق تضيق حتى لا تكاد تتسع لشخصين يسيران جنباً لجنب،(5/75)
كانت من قبل عروق الفحم في الأرض فنقبها العامل بصبره ومعوله، نائما على بطنه ومستلقيا على ظهره ومائلاً على جنبه ومنحنيا وقائما. وكلما نقب خطوات إلى الارتفاع المرسوم جاء بالأخشاب الغليظة فجعلها سقفا يحمل طبقات الفحم أو الطين حتى لا تنهال؛ تحمله من جانبيه قوائم من مثله أقيمت عمودية على جانبي الطريق. ولم يخل سيرنا في تلك الطرقات من تعب، فكثيرا ما كنا نسير فيها منحنين نحس السقف بأعيننا والأرض بأرجلنا؛ ولكنا كنا نتخذ من ذلك كله فكاهات نضحك لها. فمن كان يرانا عندئذ كأن يرى أشباحا يحمل كل منها مصباحا، ولم يخل منظر المصابيح يتلو بعضها بعضا من بهجة في تلك الظلمة؛ ثم كان يسمع أصواتا تتجاوب، فلا يكاد القائد يقول (وكثر ما كان يقول) رأسك والخشبة! حتى يرفع بها صوته من خلفه، ولا يزال فم يلقى بها إلى فم كلما مر بالخشبة شخص حتى تبلغ آخر الصف. وقد تسمع بين ذلك هذا يصيح: وا دماغاه! وذاك: وا ركبتاه! أو تسمع سائلا يسأل وآخر يجيب. وأحيانا إذا استقام الطريق كانت ترتفع أصوات بعض الغناء نغنيه معا، فنجد له عندئذ ما يجد الجندي الذي أتعبه السير الموسيقى. وكنا نظن أننا ذاهبون لنرى القاطعات الكهربائية التي تقتطع الفحم؛ فإذا بالقائد يقودنا كل تلك المسافة ليرينا الفحم أين هو! فلما سألناه عن القاطعات قال هي في جهة أخرى لا نصل إليها من موقفنا ذلك الا عند منتصف الليل. فرجعنا أدراجنا نقول: متى نبلغ؟ ولم نبلغه الا بعد الثامنة، فكتب كل منا أسمه في دفتر الزائرين ثم صعدنا فزرنا المولد الكهربائي الذي يدير تلك الآلات كلها؛ فإذا بآلات يحار فيها الفكر في غرفة عرضها عشرون خطوة وطولها خمس وعشرون، ويكفي لتقدير عظم آلاتها أن التيار يتولد عن قوة محركة كهربائية قدرها 2500 فولت، ولعل ترام القاهرة لا تزيد القوة المحركة لتياره على خمسمائة.
والعامل في منجم الفحم يتقاضى أجرا كبيرا لما في عمله من الخطر والمشقة، وهو يحاسب على كل طن يقتطعه، وقد يقتطع ما يؤجر عليه سبعة جنيهات في الأسبوع. وقد وجدنا أن المنجم مقسم إلى مناطق صغيرة كل منطقة لها رمز من عدد أو حرف تعرف به ويعرف به العامل فيها. وكلما ملأ عامل عربة كتب رمزه على كل قطعة ظاهرة من فحمها ليعرف أنها له فتضاف إلى حسابه. والمنجم الذي زرناه كان يستخرج منه في اليوم في ذلك الحين مائة(5/76)
وألف طن من الفحم لقلة العمال، وقبل الحرب كان يستخرج منه حوالي طن في اليوم.(5/77)
المبارزة
للكاتب الروسي اسكندر بوشكين
كنا نعسكر في قرية روسية صغيرة، وأنت تدرك بالطبع حياة الضباط وما تكون عليه، نؤدي في الصباح التمرينات العسكرية ونتدرب على ركوب الخيل، ثم نتناول طعام الغداء عند قائد الفرقة أو في المطعم اليهودي، فإذا جاء الليل أخذنا نشرب الخمر ونلعب الورق، ولم يكن لنا غير هذا الجانب الضئيل من التسلية، لأن الفتيات الناضجات لم يكن يسمح لهن بالخروج، وكنا ننفق الوقت معا حتى إذا اجتمعنا لم تجد بيننا فرداً لا يرتدي الملابس الرسمية.
ثم تعرفنا على شخص من غير الجنود، ومع أنه كان في الخامسة والثلاثين تقريبا كنا نعتبره أكبر من هذا بكثير، وكنا نعتقد في حكمته وكثرة تجاربه، ولقد أسرنا نحن الشبان بكرمه وقوة شخصيته وما فطر عليه من التهكم وعدم الاكتراث. وخيل إلينا أن وراء هذا كله شيئا يكتمه، وأن بين ضلوعه سراً يطويه، ولقد نبئنا أنه كان في فرقة الفرسان يشهد له الجميع بالتفوق والنشاط، ثم استقال منها فجأة لسبب مجهول، واعتكف في هذه القرية الصغيرة؛ ومع قلة معاشه كنا نراه ينفق عن سعة ويفتح بيته لنا نحن الضباط، فإذا جلسنا إلى مائدته استطعنا أن نأكل ثلاثة أصناف من الطعام، وأن نشرب الكثير من كؤوس الشمبانيا؛ ولم نكن نعرف شيئا من شؤونه الخاصة، غير أن الذي يعد له طعامه هو خادمه العجوز الذي كان في مطلع حياته جنديا؛ ولم يجسر أحد على سؤاله عن حياته أو ماضيه.
وكانت له مكتبة حافلة بالكتب (معظمها خاص بالجندية وما يتصل بها) يعيرها مسروراً ولا يسأل عنها بعد ذلك، كما أنه إذا استعار كتابا لم يفكر في رده إلى صاحبه. . فإذا دخلت غرفته وجدت جدرانها مغطاة بظروف الرصاص فيكسبها ذلك شكل عش الزنبور؛ ولم يكن في داره من معالم الترف غير مجموعة ثمينة من البنادق والأسلحة.
وهو يرتدي في الغالب سترة رثة، فإذا نظرت إلى ملامح وجهه وجدته روسيا في الصميم، مع أنه يحمل اسما أجنبيا. ولقد كان ماهراً في الرماية إلى حد أنه يصوب بندقيته إلى خوذة الواحد منا فيصيبها دون أن ينال صاحبها بسوء. . وكثيراً ما تحدثنا عن المبارزة، ولكن (سيلفيو) (ولنسمه بهذا الاسم) لم يكن يشترك معنا في الحديث، فإذا ما سأله أحدنا عما إذا(5/78)
كان قد تبارز في حياته، رد بالإيجاب ولم يزد، وخيل الينا أنه يكره هذا الموضوع لأنه يثير ذكرى حادثة معينة قتل فيها فرد معين من ضحاياه العديدين.
وفي ذات يوم كان يتناول طعام الغداء في منزل (سيلفيو) ثمانية أو تسعة من الضباط، وكنت أحدهم، واذكر أننا شربنا وأسرفنا في الشراب، فلما انتهينا من طعامنا رجونا من مضيفنا أن يكون أمين الصندوق في لعب الميسر، ولكنه رفض، لأنه قلما يلعب، فلما أصررنا طلب لنا الورق وجلسنا إلى جانبه على شكل دائرة وأخذنا نلعب.
لم يتحدث الرجل أثناء اللعب ولم نجره إلى المعارضة أو الشرح، وكان إذا أخطأ أحدنا أعطاه ماله أو حجز ما عليه لنفسه. وكنا جميعا نعرف طريقته. . وحدث أثناء اللعب أن ضاعف أحدنا (وكان ضابطا حديث العهد بمعسكرنا) رهانه على ورقة بالذات دون قصد منه لانشغاله وذهوله، فما كان من سيلفيو الا أن تناول قطعة الطباشير وكتب المبلغ المطلوب فقط. . عارض الضابط وأراد أن يصحح خطأه، ولكن سيلفيو لم يعره اهتمامه، وظل يدير اللعب كان لم يحدث شيء. . وهنا تناول الضابط الطلاسة ومحا الأرقام، فأجاب مضيفنا على ذلك بأن أعاد كتابتها في هدوئه المعهود. كان الضابط متأثراً بالشراب وباللعب وبضحكات زملائه الساخرة فظن أنه أهين، وتناول شمعدانا رمى به وجه سيلفيو ولكنه انحنى قليلا إلى الأمام فأخطأته الضربة، فدمدمنا جميعا انتظرنا ماذا يكون بينهما.
وقف مضيفنا شاحبا، وسدد إلى الضابط نظرات دونها نظرات النسور وقال له (لتغادر المكان يا سيدي ولتشكر الله على أن ما حدث كان في بيتي).
ولم نشك لحظة في نتيجة هذا الحادث وما سوف يسفر عنه من قتل زميلنا الجديد. ونظرنا جميعا إليه وهو يغادر المنزل في وجوم معلنا استعداده لمقابلة سيلفيو في الوقت الذي يراه. وطبيعي الا يستمر اللعب بعد ذلك كثيراً لأننا انصرفنا واحدا بعد واحد لما رأيناه على مضيفنا من علائم الذهول والانفعال. ولم نكد نعود إلى معسكرنا حتى أخذنا نتحدث فيما سيؤول إليه هذا الحادث الفريد.
وفي صبيحة اليوم التالي عندما كنا نقوم بتمريننا العادي على ركوب الخيل تساءلنا هل مات الضابط أم لا يزال على قيد الحياة؟ ولكنه ظهر بيننا، فعجبنا للأمر وأمطرناه وابلا من الأسئلة، فأجابنا أنه لم يتلق دعوة ما إلى المبارزة من سيلفيو، وأسرعنا إلى زيارة الرجل(5/79)
في منزله فوجدناه يتدرب على إطلاق الرصاص وقد الصق بالباب غرضا جعل يصوب الطلقات إليها له تباعا فلا يخطئه. فلما رانا تلقانا كعادته، ولم يذكر لنا شيئا عن حادث الليلة الماضية. . ومرت ثلاثة أيام والضابط لا يزال على قيد الحياة، ونحن نتساءل (ألا يتبارز سيلفيو؟) أجل لن يتبارز الرجل! بل راح يشرح الأسباب العرجاء التي لم تقنع أحدا منا.
وهذا الرفض وذلك الاحتمال من جانب الرجل أساء إلى سمعته بيننا نحن الشبان، لأن الشباب لا يغتفر الجبن، ويعتقد أن الشجاعة خير الصفات التي يجب أن يتصف بها المرء في جهاد الحياة، وأن الشجاع يستبيح لنفسه كل شيء: يحلل الحرام ويحرم الحلال. ولكن سرعان ما نسينا كل شيء بعد مدة، وسرعان ما استعاد سيلفيو مكانته القديمة بيننا.
وفي الحق أن رأيي في هذا الرجل لم يعد إلى ما كان عليه، لأنني رومانتيكي في خيالي وتفكيري، ولقد أحببت هذا الرجل اكثر من غيره، مع أنه كان لغزاً للجميع. وكنت أتصوره دائما بطلاً لدرامة رائعة. وكنت واثقا من أنه يحبني، فإذا انفرد بي ترك تهكمه اللاذع وراح يتحدث معي في شتى المواضيع، ولكني بعد الحادث المعروف لم أكن أطمئن إليه ولا أرتاح إلى حديثه، لاعتقادي أنه أهين ولم يغسل إهانته بالدم، وكنت أتحاشى مقابلته أو النظر إليه.
وكان الرجل من الذكاء ونفاذ البصيرة بحيث أدرك تماما سبب تغيري، وخيل ألي مرتين أنه يريد أن يتحدث ألي في هذا
الموضوع ولكنني تحاشيته ولم يصر من جانبه علي الحديث.
عبد الحميد يونس(5/80)
الكتب
فتح العرب لمصر
تأليف الدكتور ألفرد. ج. بتلر
وتعريب محمد فريد أبو حديد
للأستاذ عبد الحميد العبادي. أستاذ التاريخ بكلية الآداب
سمعت أستاذنا الجليل احمد لطفي السيد بك يقول مرة ما معناه: أننا الآن في دور النقل والتعريب من حياتنا العلمية. وهو قول لا غبار عليه، فان زمن الاقتصار على تراثنا العلمي والأدبي القديم قد انقضى منذ عهد بعيد، وزمن الابتكار في العلم والأدب لم يأت بعد، وينبغي أن يتقدمه زمن نتوفر فيه على نقل أصول العلوم والفنون والآداب الغربية إلى لغتنا العربية إقتداء بما فعل السلف الصالح في صدر الدولة العباسية.
أننا بهذا التوفر نبث في حياتنا العلمية روحا جديدا، ونكسبها مادة جديدة وأسلوبا في البحث والعرض العلمي جديدا، ونكون قد مهدنا للحياة العلمية المستقلة، وأعددنا لها أساسا قوياً راسخا لا يخشى عليه من تطاول البنيان ومرور الزمان، ونكون قد أدينا واجب العلم والوطن والإنسانية جميعا.
لكن الترجمة الصحيحة عبء ثقيل مضن يقتضي كثيرا من الجهد والتضحية. فهي من ناحية المترجم تتطلب غزارة علم وأدب، وإنكارا شديدا للذات، يستعذب معه المترجم أن يكون أسيرا للمؤلف الذي ينقله، وقليل من الناس من يصبر على مثل هذا العناء. ثم هي تقتضي من ناحية الناشر، وبخاصة في بلدنا هذا، أن يوطن نفسه على الخسارة المادية تصيبه مما ينشر، فإذا استطاع أن يخرج من الأمر كفافا لا له ولا عليه فحسبه ذلك.
والناشر يُعد تاجر يقيس قيمة الكتب بالفائدة المادية المرجوة منها، فماذا يحمله على أن يعرض ماله للضياع؟
من اجل هذا كسدت سوق الترجمة في بلدنا، وتأثرت حياتنا الأدبية بهذا الكساد تأثرا شديدا، حتى أصبحت لا شرقية ولا غربية، ولا قديمة ولا حديثة، ولكن الحمد لله، فقد أخذت هذه الحال تؤذن بالتحول والزوال. وآية ذلك ما نسمعه عن التفكير في وضع قاموس عربي(5/81)
جديد يجمع شتات اللغة التي أصبحت إلى حد بعيد سماعية غير مدونة. ومن آيته أيضاً ما ترجم في السنوات الأخيرة من غرر أدب الغرب وعلمه. نذكر من هذه الغرر على سبيل المثال: كتاب الجمهورية لأفلاطون، وكتاب الأخلاق، وكتاب الكون والفساد، ونظام الأثينيين لأرسطو، وآلام فرتر لجوته، وفاوست له أيضاً، والشاهنامه للفردوسي، وأصل الأنواع لدارون، ثم كتاب فتح العرب لمصر، وهو الذي سقنا هذه المقدمة تمهيدا للتعريف به أصلا وترجمة.
ألف كتاب (فتح العرب لمصر) منذ ثلاثين سنة بحاثة إنجليزي هو الدكتور الفرد. ج. بتلر، ونقله إلى العربية منذ عام صديقنا الأستاذ محمد فريد أبو حديد، ثم نشرته في هذه الأيام لجنتنا المباركة لجنة التأليف والترجمة والنشر. والكتاب يقع في قرابة ستمائة صفحة مكسورة على ثلاثين فصلا وبضعة ملحقات. في الفصول الأربعة الأولى يعرض المؤلف الحال السياسية العامة للدولة الرومانية في أوائل القرن السابع الميلادي ويتكلم عن الثورة التي انتهت بأن أصبح هرقل عاهل الدولة المذكورة، وفي الفصل الخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع يتكلم عن غزو الفرس الشام ومصر، فنهضة هرقل واسترداده الإقليمين المذكورين وعقده مع الفرس صلحا أعاد إلى الروم شرفهم العسكري، فالحال الأدبية للإسكندرية خاصة لذلك العهد. وفي الفصل العاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر يتكلم عن ظهور الإسلام، وفتح العرب الشام ومصر، واضطهاد قيرس البطريرك الملكاني للأقباط في السنوات العشر السابقة على الفتح. ومن الفصل الرابع عشر إلى الثالث والعشرين يفصل المؤلف الكلام عن حوادث الفتح العربي لمصر، فيتكلم عن زحف عمرو بن العاص على مصر وبلوغه مدينة مصر، فغزوة الفيوم، فواقعة عين شمس، فحصار حصن نابليون وأخذه، فالزحف على الإسكندرية والاستيلاء عليها، فاخذ المدن الساحلية الشمالية، فانتهاء السيادة الرومانية على مصر. ومن الفصل الرابع والعشرين إلى الثلاثين يتكلم المؤلف كلاما ممتعا موضوعه حال الإسكندرية وقت الفتح، ومكتبتها المشهورة، وحريق هذه المكتبة المنسوب إلى عمرو، وغزو عمر لبرقة وطرابلس، والنظام الإداري الإسلامي الذي وضع لمصر عقب الفتح. ثم يتبع المؤلف هذه الفصول بملحقات حقق فيها، بصفة خاصة، شخصية المقوقس، والترتيب الزمني لحوادث(5/82)
الفتح العربي. والكتاب إلى جانب ذلك كله مزود بخرائط ورسوم تعين على فهم موضوعه.
من هذا العرض العام يتبين القارئ أن المؤلف قد أحاط بموضوع الفتح العربي لمصر أتم الإحاطة، واستوعب وقائعهكل الاستيعاب، والحق أن الدكتور بتلر قد جلا موضوعا من أوعر موضوعات التاريخ الإسلامي، وحل كثيرا من ألغازه: أوضح شخصية المقوقس وكانت غامضة، ورتب حوادث الفتح ترتيبا أدنى إلى الصحة منه في أي مصدر قديم، وأتى بالقول الفصل في حريق مكتبة الإسكندرية، وبين وجه الخلاف القديم في فتح مصر، أصلحا كان أم عنوة؟ على أن الكتاب يؤخذ بنقص جوهري واحد: ذلك أن المؤلف عنى بالجانب السياسي والديني فقط من حال مصر قبيل الفتح وأغفل شئونها الإدارية والاقتصادية على ما كان لها من أثر قوي في سهولة انتقال مصر من حكم الروم إلى حكم العرب. ولقد ظهر في هذا الموضوع في العشرين سنة الأخيرة بحوث قيمة كنا نود لو أن الكتاب طبع طبعة ثانية تضمن نتائجها. من هذه البحوث: (النظام العسكري لمصر البيزنطية) لجان ماسبرو، و (الإدارة المدنية لمصر البيزنطية) لجرمين رويارد.
ثم أننا لا نوافق المؤلف على تصويره لغارة عمرو على الفيوم، فهو يرى أن عمرا عندما بلغ رأس الدلتا ورأى قلة من معه من الجند، وحرج موقفه بين جنود الروم جنوبا وشمالا، أرسل إلى الخليفة عمر بن الخطاب يستمده، ورأى في الوقت نفسه أن يشغل جنده ويستنقذهم من الخطر ريثما يصل المدد، فتكلف عبور النيل إلى شاطئه الغربي، وأغار على الفيوم ثم عاد فعبر النيل ثانية، فوجد المدد قد قدم من المدينة. لا شك أن هذه طريقة غريبة جدا في الخلاص من المواقف العسكرية الحرجة، ثم هي لا تأتلف بحال مع ما عرف عن عمرو من شدة الدهاء وبعد المكيدة. يضاف إلى ذلك أن المصادر العربية من حيث هذه الغزوة نوعان: فنوع لا يعرفها بالمرة، ونوع يعرفها، ولكنه يوردها على صورة تجعلها أقرب إلى المعقول من الصورة المذكورة؛ ومع ذلك لم يعتمد عليها المؤلف واكتفى بمتابعة يوحنا النقيوسي بحجة إنه أقدم عهدا من كل المصادر العربية. ولكن القدم وحده لا يكون دائما دليلا على صحة المصادر التاريخية. كذلك يؤخذ على المؤلف حكمه في الفصل الحادي عشر بأن غزوة تبوك المشهورة كانت فشلا، لأنها لم تؤدي إلى ما كان الرسول يرمي إليه بها من مصادمة الروم. والحق أنها أدت إلى ما كان النبي (ص) يرمي إليه من(5/83)
شد سلطانه السياسي على شمال الحجاز. بقيت ملاحظة يسيرة: لقد توهم المؤلف أن مسيلمة المتنبئ ظهر باليمن (ص131) والصحيح أنه ظهر باليمامة.
ومع ذلك فهذه الملاحظات لا تنقص من قيمة الكتاب العلمية، وحسب القارئ أن يعلم أن الدكتور بتلر قد أقام في كتابه، تاريخ الفتح العربي لمصر على أساس علمي متين، وأنه إلى الآن لم يظهر في ذلك الموضوع كتاب آخر يدانيه، فضلا عن أن يفوقه.
أما الترجمة العربية لكتاب فتح العرب لمصر فأحب قبل كل شيء أن أهنئ صديقي فريدا على توفيقه فيها أخلص التهنئة. فقد جاءت صورة صادقة للأصل مطابقة له فقرة فقرة وجملة جملة. هذا مع سهولة العبارة وسلاستها ووضوحها، مما يشهد للأستاذ فريد بالبراعة في صناعة الترجمة. ولكن ليت شعري أي مترجم، ولو كان الأستاذ فريد نفسه، يترجم زهاء الستمائة صفحة ثم لا يهفو قلمه ولا ينحرف عن الأصل الذي ينقل عنه يمنة أو يسرة؟ على هذا الاعتبار أهدي إلى الأستاذ فريد هذه الملاحظات اليسيرة.
جاء في صفحة 25 هذه العبارة (النذر اليسير) وصوابها (النزر) بالزاي المعجمة. وفي صفحة 27 عرب اسم المستشرق المشهور بـ (دي جويجة) وصوابه (ده غويه) ووردت في صفحة 27 أيضاً كلمة (المونوفيسية) واحسن منها أن يقال (المذهب اليعقوبي). وجاء في صفحة 123 (هزيمة تبوك) بدلا من (فشل غزوة تبوك) وهو المقابل للأصل، وفي صفحة 83 ترجمت (بالفقه) وصوابها (اللاهوت)، وجاء في صفحة 218 (تسور الزبير إلى الحصن) والصواب أن يحذف حرف الجر، وفي صفحة 228 ترجمت بـ (قناطر) وأصح من ذلك (جسور) لأن العرف جرى بإطلاق اللفظ الأول على البناء الثابت الذي يعقد فوق الأنهار وهو غير المراد من اللفظ الإنجليزي. وجاء في صفحة 255 (وكانت مسلحة المدينة) بدلا من (وكانت حامية المدينة). وفي صفح 406 (وقال عنه النواوي) وصوابه (النووي) بدون ألف المد.
على أن هذه الملاحظات أيضاً لا تضر الترجمة شيئا. وإذا كان الكتاب مثالا يحتذى من حيث دقة البحث العلمي، فترجمته العربية مثال ينسج على منواله من حيث أمانة النقل وصحة التعريب.(5/84)
ضحى الإسلام
ما كان لي أن اقف مع الذين يتحدثون عن الأستاذ المحقق (احمد أمين) ولا أن أساهم في الكلام عن علمه ومؤلفاته، لأن ذلك شأن لا يضطلع به الا كبار أهل العلم والفضل ليكون لكلامهم من القيمة ما يكافئ مكانة هذا العالم الكبير، ولكني وأنا أطلب العلم والأدب وادرسهما منذ ربع قرن (وما زلت مجداً في سبيلي) أجد لزاماً علي وقد قرأت كتابه الممتع (ضحى الإسلام) أن أبين في كلمة صغيرة لأخواني طلاب الأدب والعلم ومن يعنون بدراستهما مقدار ما أخذت من هذا الكتاب ومدى انتفاعي به.
أخذت هذا الكتاب يوم صدوره اخذ المشوق اللهفان، لأني كنت ارتقب صدوره بعد أن بزغ (فجره) من زمن غير قليل، ولم البث أن عكفت على قراءته عكوفاً لم أدع معه النفس أن تتطلع إلى شيء غيره من متاع الحياة حتى انتهيت منه.
وفي الحق أني لا أستطيع أن أصف وصفا دقيقا مقدار ما استمتعت به من هذا الكتاب، ولا أن أصور تصويراً صادقاً مبلغ ما فيه من علم وبحث، ولكني لو أردت أن أصف أمري بعد أن فرغت من قراءته في عبارة صغيرة لقلت: (أني على كثير ما قرأت من كتب العلم والأدب لم أفد من كتاب مثل ما أفدت من هذا الكتاب) فقد كشف عن الحياة العقلية الإسلامية في القرن الثاني للهجرة بما لم يكن معروفا مثله لأحد؛ فظهرت أشياء لم تكن تعرف من قبل، ووضحت أمور كانت غامضة أو مبهمة، وصححت مسائل كان الناس يعلمون منها غير الذي حققه ببحوثه العميقة عالمنا الجليل.
ولقد شهدت في هذا الكتاب الممتع كيف سارت حياة الإسلام في الحقبة التي أرخت فيه، وتنورت على هدى تحقيقه ما أثر في هذه الحياة من مختلف النواحي وما تأثرت به هذه النواحي، حتى لكنت أحسب وأنا أدرس هذا الكتاب أن الحياة العقلية الإسلامية قد صورت تصويراً صادقاً على لوحة السينما بحيث لا يخفى منها شيء، ولا يحتجب منها وجه.
وأني لأقرر في صراحة أني بعد أن قرأت كتابي (فجر الإسلام وضحاه) قد تغير رأيي في كثير من أمور ديننا الحنيف كنت فهمتها من بعض كتب العلم، وأصبحت بذلك مضطراً إلى أن أعود إلى هذه الكتب لأقرأها ثانية حتى أفهم ما فيها على حقيقته.
هذا بعض ما أخذته من كتاب (ضحى الإسلام) بقدر (قريحتي وفهمي) أنشره وأؤذن بصوت الحق أن هذا الكتاب الفريد تجب دراسته على الأديب والعالم والديني والمؤرخ(5/85)
وجوباً.
جزى الله عالمنا الجليل لقاء ما ناله من تعب، وتحقيق في سبيل العلم خير الجزاء، وأعانه على إتمام ما انتدب له من خدمة العلم أنه سميع الدعاء.
المنصورة - محمود أبو رية(5/86)
الهيام
لعبد الرحيم مصطفى قليلات
هذا الكتاب ديوان شعر. وعنوانه (الهيام) قد يخدع القارئ لأول وهلة، فيحسب أن الديوان أكثره أو كله نسيب. والحقيقة أن العنوان مقتبس من الآية (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) وقد هام هذا الشاعر في أودية كثيرة، والكتاب الذي بين أيدينا هو ثمرة هذا (الهيام)، وأشعار الكتاب مقسمة إلى خمسة أبواب: الأول: في الدين والأخلاق؛ الثاني: في الثقافة والاجتماع؛ الثالث: في تهذيب المرأة ومحبتها؛ والرابع: في الفكاهة؛ والخامس: وهو أطول الأبواب جميعا، في الأناشيد. ومنه يتبين للقارئ أن المؤلف لم يدع هيأة من الهيئات في بلده الا علمها كيف تتغنى بأعمالها وشئونها، وكثير من هذه الأناشيد يصحبه توقيعه مكتوبا بالعلامات الموسيقية، وسيسر المصريون إذ يرون هذا الشاعر السوري الفاضل قد ختم الكتاب بنشيد جميل (دمعة على سعد) ومعه لحنه، ولم يتح لنا أن نسمع توقيعه.
وقد أعجبنا في الكتاب كله تلك الروح الدينية والوطنية والخلقية العالية التي يحسها القارئ في كل صفحة من صفحاته. وقد عالج المؤلف عدة مواضع من الأهمية مكان، ولكن يخيل إلينا أن الشاعر يكتب بسرعة وبكثرة هائلة لا تسمح له بتنقيح شعره واختيار عباراته وألفاظه. وليس من شك في أنه لو تأنى وتريث لأتى بشعر جليل، وهو أحسن ما يكون حين يقص علينا قصة. وسيسر القارئ من القسم الفكاهي، وقد أعجبنا منه بنوع خاص قطعته البديعة (ليلة القدر). ومن أجل هذه القطعة وحدها يستحق الكتاب أن يقتنى.
م. ع. م.(5/87)
العدد 6 - بتاريخ: 01 - 04 - 1933(/)
في الربيع. . .
منذ أيام تيقظت الطبيعة من رقادها الطويل، وأخذت تنضح جفنها الوسنان بأنداء الربيع، وتبحث عن حللها وحلاها في خزائن الأرض، وتأهب كل حي ليحتفل بشبابها العائد وجمالها المبعوث. فالحياة الهامدة تنتعش في الغصون الذابلة، والطيور النازحة تعود إلى الأعشاش المقفرة، والأفنان السليبة تتفطر بالأوراق الغضة، وبأرض النبت يحوك على أديم الثرى أفواف الوشى، والنسيم الفاتر يروض أجنحته ليحمل إلى الناس رسالة الزهور، وسر الحياة يستعلن في الحي فينتشي ويمرح، وطيوف الهوى تمس القلوب فتهفو وتختلج، والعالم كله يسبح في فيض سماوي من الجمال والنشوة والغبطة؛
اللهم إلا الإنسان!!
فقد حاول بادعائه وكبريائه أن يكون عالماً بذاته، فكان نشوزاً في نغم الكون، ونفورا في نظام العالم، فلو أنه اقتصد في تصنعه وائتلف كما كان بالطبيعة، لاتَّحَدَ الآن مع الربيع فشعر بتدفق الحياة في جسمه، وإشراق الصفاء في نفسه، وانبثاق الحب في قلبه، وأحس أنه هو في وقت واحد زهرة تفوح، وخضرة تروق، وطائر يشدو، وطلاقة تفيض على ما حولها البشر والبهجة!
لا يكاد يقبل على أوربا الربيع حتى تختلط أناشيد الشعراء وأغاريد البلابل في تمجيده وإعلانه، لأنه يفد إليهم فيرد عليهم النور والدفء والزهر والجمال والحركة.
أما نحن فلا نكاد نفطن لحلوله ولا لرحيله، لأن العالم كله على ضفاف الوادي يوم من أيام الربيع: فجره النديُّ يناير، وضحاه الزاهر أبريل، وظهره الساطع يوليو، وأصيله الرخيُّ أكتوبر!
فليس للربيع المصري على سائر الفصول فضل إلا بذلك السر الإلهي الذي تتشقق عنه الأرض، فيسري في العود، ويشيع في الجو، ويدب في الأجسام، وينشأ عنه هذا البعث الصغير!
ففي الربيع يشتد الشعور بالجمال وبالحاجة إلى التجمل، فترى الشباب بجنسيه يستعير ألوان الرياض، وعبير الخمائل، ومرح الطيور، ويحتشد في دور الملاهي، وصدور الشوارع، فيخلع على الوجود وضاءة الحسن، وعلى الحياة رونق السعادة!
وأجمل شيء في ربيع القاهرة أصائله وأماسيه!(6/1)
ففي هذين الوقتين تزدهر شوارع القاهرة الحديثة بزهرات شتى الألوان من بنات الإنسان، فتملأ الجو عطراً، والعيون سحراً، والقلوب فتنة!
وهنالك على أفاريز الطرق، ومشارف المقاهي، تقف أبصار الكهول والشيوخ حائرة مبهورة تلسع بالنظر الرغيب هذا الحسن المصون! وبين النظرة والنظرة عَبرة جافة تَصعَّد أسى على شباب ذاهب لا يرجع، وجمال رائع لا يُنال!
وفي الربيع تضطرم العواطف والعزائم في الشباب، فينفحون بالأمل والطموح والحب نَفَحان الورُود النِواضر بِعَرْف الطيب! فقصائدهم الغزلية تنثال كل يوم على بريد (الرسالة) فيحول بينها وبين استيعاب (نشرها) العَطِرِ صفحاتها المعدودة.
وكتبهم القيمة تظهر فياضة بالأفكار الوثابة، والعواطف المشبوبة: كالفكر والعالم، والشعبية، وعلى طريق الهند، والحياة الثانية، والربيع، والضحايا، وغير ذلك مما نقرأه الآن لنعود إلى نقده وتحليله بعد.
ومشروعاتهم الاقتصادية والثقافية تظهر موسومة بطابع الإقدام والإخلاص والوطنية؛ كمشروع تعاون الشباب لمزاولة الأعمال الحرة، ومشروع القرى لتثقيف العامة.
وفي الربيع تحتدم الطباع في الأدباء الكهول، فيثب بعضهم على بعض بالهجو المقذع والنقد اللاذع، ويتنافرون تناقر النسور على الصخور، والطيور الوديعة جاثمة في ظلال الغصون ترقب المعركة على بعد، فكلما رأوا الريش المنتوف والدم المنزوف، كبّروا واستبشروا، ودعوا الله في أغرودة شامتة أن يتفانى الفريقان، ليخلو الجو من البزاة والعقبان!
وأدباؤنا الكهول شديد بعضهم على بعض! فهم يسخون بالنقد الممِض، ويضنون بالتقريظ العادل، كأنما العصر لا يحتمل غير كاتب من الكتاب، والمكاتب لا تحتمل لغير كتاب من الكتب!
ويعجبني الأستاذ صاحب رواية (الهادي): عرف أن الأدباء ربما خرجوا عن نقدها وتقريظها بالصمت كالعادة، فكتب هو في مدحها فصلا في البلاغ. والإنسان أولى الناس بخيره، وأعرف بقيمة عمله من غيره.
وفي الربيع تتقد حَمِية العروبة في العرب. فتسمع اليوم في فلسطين والشام أبناء الشعب(6/2)
الخالد، ووراث المجد التالد، يصرخون صراخ الأسد في راقد العدل أن يستيقظ، وفي غائب الحق أن يثوب!
وترى في العراق حطام السياسة البالية تكسحه الريح كسحها للهشيم، ثم تقوم على هذا الطلل المنسوف حكومة فيها حيوية الربيع، ولكن ليس فيها شبابه!
والشباب في العراق كالشباب في مصر منذ سنين: يحاول القائمون على أمره أن يربوه تربية الدجاج: ينقنق دائراً بين الحَب والماء، ويبحث في الأرض ليذهل عن السماء، ويأبى الشباب إلا أن يكون طيراً يحتقر القفص، ويقتحم الجو، ويسمو إلى الغاية! والغد على كل حال يومه!.
أحمد حسن الزيات(6/3)
الخجول
خجول بطبعه، ضعيف الثقة بنفسه، إن تحدث ظن حديثه مملولا فيقتضبه، أو معروفاً فتحمر بالخجل وجنتاه، ويبتل بالعرق جبينه. . ويحاول التخلص من موضوعه فلا يعرف، فيتلعثم لسانه، ويموت على شفتيه كلامه.
إذا أراد شراء حاجة، كان كمن يحاول فعل شيء محرَّم، فهو يخرج من شارع إلى شارع، ويمر من أمام حانوت إِلى أمام حانوت، دون أن يجرؤ على دخول واحد منها!! ولا يزال كذلك حتى تكل رجلاه، فينكفئ راجعاً إلى بيته؛ فإذا كانت الحاجة شديدة، نسي خجله لحين، ثم استجمع ما استطاع من الشجاعة، ودخل رابع حانوت يقابله. فيطلب ما يشاء في صوت المسترحم، فإذا ما أحضر إليه، لم يفكر في جودة الصنف ولا في غلاء الثمن. . بل يؤدي الثمن فوراً. . ويغادر المحل منتصرا. .!!
إذا قابل صديقاً انضمت يمناه إلى يسراه وأخذتا تتحاكَّان! فإذا كانت إحداهما مشغولة، ارتفعت الثانية إلى ذقنه. . أو إلى طربوشه. . أو إلى أذنه. . . .
والسلام! أمر ما أشقه! فهو يبدأه والصديق على مسافة طويلة، ثم يحيي بصوت خافت لا يكاد هو يسمعه.
هذا إذا كان الصديق بازائه، ولا مفر له من لقائه، أما إذا استطاع أن يهرب فهو يوفر على نفسه كل هذا العناء في خفة يحسده عليها اللص!
إذا دعوته إليك، اعتذر وبالغ في الاعتذار، فإذا ألححت في الدعوة، دفعه خجله إلى الإجابة، وكم تكون تضحيته عظيمة في هذه الحالة! فهو يتحمل ساعة ما أشقها على نفسه! كلها عمل وإجهاد فكر. . . لا يكاد يدخل الحجرة حتى يصطدم بأول كرسي يقابله، فإذا ما حاول إعادته إلى وضعه الأول اصطدمت يده بالمنضدة. . . .
إذا قدمت إليه القهوة اعتذر عن شربها. . ولكنه يتناول الفنجان عندما يقدمه إليه صديق، ولا يكاد يمسكه حتى تقوم في الفنجان عاصفة تدفع بالقهوة يمينا وشمالا، ولا مفر لها من هذا الاضطراب، ما دام هو بعينه حال يده. .!!
إذا طلب إليه صديق أن يقرضه مبلغا من المال، امتدت يده إلى جيبه فأخرج المطلوب دون وعي ولا تفكير!!
وقد يحتاج هذا المال بعد أيام، وتضطره الحاجة إلى الذهاب إلى صديقه، فإذا ما بلغ البيت(6/4)
نسي سبب المجيء، وكاد يعود أدراجه. . . ولكن الحاجة تلح عليه. . فتدفعه إلى داخل المنزل. . فإذا ما قابل الصديق نسي كل شيء. . .!!
وهو شاب مثقف، له غرام بالأدب الحديث، وله آراء سديدة فيه، ولكنه عندما يعارَض، ينسى آراءه ويعتقد أنها خاطئة، وإن كان لا يعرف وجه الخطأ فيها. . .!!
قدِّر لي أن أسمع حديث حبه وغرامه. .، وقد كان هذا منه غريبا، ولكن أغرب منه غرامه، فقد رأى حبيبته مارة أمام بيته في خفة الغزال، وجمال الزهرة، فأعجب بها، ووقع في شراك حبها. .، وكان يظفر منها كل يوم بنظرة في هذا المكان وفي هذا الوقت. . أما اسمها ومنزلها وأسرتها فذلك أبعد شيء يفكر فيه. . .
أليس الخجل كالتردد (مرضا من الأمراض يصيب المرء في حياته العملية فيغل يده ويشل عقله) ويجعل الحياة في نظره عبثا لا يحتمل، ولغزا لا يحل؟
سليمان محمود جاد(6/5)
الزهرة
الزهرة ابنة الصباح، وجمال الربيع، ومنبع العطر، وظرف العذارى، وغرام الشعراء!
هي كالإنسان، قليلة البقاء، سريعة الفناء. ولكنها تُساقط أوراقها على الأرض في أناقة ولين!
كان القدماء يُجملون بها كؤوس موائدهم، ويتوجون بها رؤوس حكمائهم، ويجلّلون بها أجساد شهدائهم. أما اليوم، فتذكارا لهذه الأيام الغابرة نضعها نحن في معابدنا، ونعبر بألوانها عن مشاعرنا: فالأمل باخضرارها، والطهر بياضها، واشتعال الحب باحمرارها، والغيرة باصفرارها. فهي كتاب رشيق أنيق. يجمع بين دفتيه تاريخ الحب وثورات القلوب، ولكن لا أثر فيه للفتن والحروب!
محمد توفيق يونس(6/6)
من رسالة إلى صديق
حول التجديد
. . . الجديد جديد في مظهره، قديم في جوهره، لا يصلح موضعاً لدرس ولا موضوعاً لحديث.
ستقول: إذن ما بال هذه القصائد الرائعة التي يجلوها الشعراء والمقالات الرائقة التي يدبجها الكتاب؟ فأقول لك إنك إذن تفهم من كلمتي القديم والجديد غير ما أفهم، وتريد من مدلولهما غير الذي أريد. كأنك تريد بهما ما كان يريده الأقدمون حين كانوا يتمارون في شعر امرئ القيس وجرير وأبي نواس وأبي تمام والبحتري والمتنبي وابن هانئ. والأقدمون كما تعلم إنما كانوا يختلفون في شكل الشعر لا في موضوعه، فهم يتكلمون في اللفظ الجزل والركيك، والأسلوب الرصين والمهلهل، والمعنى المسروق والمطروق، والتشبيه المنتزع من وجوه البادية أو من صور الحضر، والمطلع الجيد والرديء، والتخلص الحسن والقبيح، ويجرون في كل ذلك على أذواق تختلف باختلاف الطبقات والبيئات والصناعات والأجناس. وعذرهم في ذلك واضح. فالشعراء لأسباب فطرية واجتماعية، لم يقدموا إليهم الا نوعاً واحداً من الشعر هو ما يتعلق بالوجدان والعاطفة. فكان النقاد أمام وحدة الشعر العربي ونقصه، مسوقين إلى أن يقصروا جهودهم على لفظه: يحكون معدنه، ويعجمون عوده، ويسبرون غوره بالموازنة والمقارنة والتعقب. والشكل الخارجي حكمه حكم اللباس والأثاث والآنية: يتغير بتغير الزمان والمكان والحالة، ليس لأحد في ذلك حيلة.
فهل ترى أن أبا نواس مجدد بالإضافة إلى أمرؤ القيس، لأنه بدأ قصيدة بوصف الخمر، وتكلم في الغلمان والطرد؟ أو أن المتنبي مجدد بالإضافة إلى أبي نواس، لأنه داف شيئاً من فلسفة اليونان في شعره؟ أو أن مطرانا مجدد بالإضافة إلى المتنبي، لأنه ذكر القطار والكهرباء، ولوّن أدبه بأدب الغرب؟ أني لا أرى في مثل هذا التفاوت الظاهري تجديداً، ما دام الشعر قد ظل في كل هذه العصور واحداً في موضوعه وطريقه ونوعه ووزنه. . أما تغير الشكل فذلك فعل القانون العام الذي يغير أبدا كل شيء.
وهل قصد أحد من هؤلاء وأولئك إلى هذا التجديد المزعوم فجاهد في سبيله أهل جيله، كما(6/7)
فعل أرباب المذهب الاتباعي والابتداعي والواقعي في فرنسا مثلا؟؟ لم يكن شيء من ذلك، لأنهم لم يختلفوا كما اختلف الفرنج في الموضوع والينبوع حتى تتباين الأغراض من تلك المواضيع، وتتشعب المسالك إلى هذه الينابيع. وهل سمعت أن الناس اختلفوا يوم تركوا العلبة إلى الكوز والكوب والقدح والجام؟ أم علمت أنهم اختصموا كلما تغيرت موادها من الجلد إلى الخشب، ثم إلى الخزف. ثم إلي الزجاج، ثم إلى المعدن؟ كلا! لم يسمع أحد بذلك، لأن اللبن والماء وهما القصد والغاية لم يتغيرا منذ خلقهما الله. أما حين تغير الشراب من اللبن إلى الخمر فقد حدث الخلاف وتشعب الرأي وتعددت المذاهب.
الحق أن التجديد لا يحدث، والجديد لا يكون، الا متى وجد القِصص والتمثيل في الشعر فيكمل، ودخلت الأقصوصة والقصة والرواية في النثر فيتم. أما ادعاء التجديد بالدعوة إلى العامية وترجمة الأساليب الغربية فعجز يتظاهر بالقدرة، وجهل يتستر بالتحذلق!
ا. الزيات(6/8)
السائل
بينما كنت أسير في إحدى الطرق، وقفني سائل مسكين بوجه شاحب، وعينين داميتين، وشفتين متقلصتين، وقدمين مرتجفتين. فقلت في نفسي:
أُوه! ما أتعس هذا الشقي!
قدَّم إليَّ يده الحمراء النحيلة القذرة، وطلب مني صدقة بصوت يخنقه بالبكاء.
فوضعت يدي دون أن أفكر، وقد أخذتني الشفقة على هذا البائس، وضعتها في جيوبي، ثم جعلت أبحث فيها عن شيء أعطيه إياه، ولكني وا أسفاه لم أجد شيئاً، لا نقوداً ولا ساعة، حتى ولا منديلا!
صار موقفي حرجا، وما زال السائل ماداًّ إليَّ يده واثقاً كل الثقة من العطية!
لم أعرف ماذا أعمل!. وفي النهاية أخرجت يدي وأنا حيران خجل، ثم مددتها وصافحت يده الممدودة قائلا:
(أنا آسف يا أخي فليس معي شيء).
ولم أكد أتم هذه الجملة حتى رأيت عيني السائل وشفتيه تفترَّان عن ابتسامة رقيقة، وإذا به يضغط على يدي شاكراً ممتنا وهو يقول:
(حسناً يا أخي! شكراً لك! إن هذه أيضاً صدقة!)
م. يونس(6/9)
التجديد في الأدب
للأستاذ أحمد أمين
- 1 -
موضوع ثار فيه الجدل بين الكتَّاب، واحتدم فيه الخلاف بين الباحثين. هل أدبنا العربي يحتاج إلى تجديد؟ وهل سواء في ذلك شعره ونثره؟ وتعصب قوم للقديم يذودون عنه ويحافظون عليه، ولا يسمحون بأي تغيير فيه. وهب المحدثون ينعون علىالمحافظين جمودهم، وينذرونهم بسوء العاقبة إن هم ظلوا متمسكين بالقديم معرضين عن الجديد.
ولكن أسوأ ما يسوئني في هذا الموضوع وأمثاله الغموض والإبهام؛ فإذا سألت المجددين ماذا يريدون بالتجديد وما ضروبه وما مناحيه وماذا يقترحون أن يدخلوه على الأدب العربي جمجموا بالقول وأتوا بكلمات غير محدودة المعنى، ولا واضحة الدلالة. وقد يجوز إذا حددوا أغراضهم وأبانوا عن مقاصدهم، أن يوافقهم المحافظون أو أكثرهم، ولا يكون ثمة خلاف، وإن يكن فخلاف معروف تقام عليه حجج واضحة.
من أجل هذا كله أحاول أن أعرض لوجوه التجديد التي يخيل إليّ أنهم يريدونها، وأدلي برأيي فيها، وأدعو الكتاب أن يساهموا فيها بآرائهم، ويستدركوا ما يفوتني من حججهم وأغراضهم:
في أدب كل لغة عناصر ثابتة لا يعتريها تغير ولا ينالها تجدد، هي قدر مشترك من الأسلوب والتراكيب وتأليف الجمل؛ به تمتاز اللغة من سائر لغات العالم. وينفرد أدب الأمة عن آداب العالم، وقدر مشترك من الفن، نتبين به الجيد من الأدب في كل عصر وكل جيل، هو فوق البيئة وفوق العوامل السياسية والاجتماعية، وفوق ما يطرأ عليها من كل تغيير.
وهذا وذاك هما اللذان يجعلاننا نتذوق الأدب الجاهلي، وندرك ما فيه من جمال، ونشعر بما فيه من نقص. ويستطيع الأديب منا أن يعرف خير ما قال امرؤ القيس، وما قال طرفة، وما قال زهير؛ وهو الذي يجعلنا نتذوق ما في القرآن الكريم من جمال في الأسلوب والمعنى. وندرك ما في العصر العباسي إلى عصرنا هذا من نثر وشعر، ونزنه ونقومه، ونحكم على بعضه بالحسن والجمال والقوة، وعلى بعضه بالضعف والقبح والغموض.(6/10)
ولولا هذا القدر المشترك لانقطعت الصلة بيننا وبين القديم فلا نحس له جمالا، ولا نتذوق له طعما.
وهذا النوع من العناصر لا يقبل تجديداً ولا تغييرا، إذ بتغييره تضيع اللغة وتفقد مشخصاتها، فلو قلبنا تركيب الجمل رأساً على عقب، أو لم نراع الوضع الذي تسير على نهجه اللغة، لكان لنا من ذلك لغة جديدة، ليس بينها وبين الأولى نسب.
وهناك نوع آخر من العناصر في اللغة والأدب، خاضع للتغيير، قابل للتشكل، يتأثر بالبيئة وبدرجة الحضارة، وبالأساليب السياسية، وبالحياة الاجتماعية، وغير ذلك.
وفي هذا النوع يكون التغيير والتجديد. ومن أجل هذا التغيير كانت الفروق واضحة بين الشعر العباسي والشعر الجاهلي، في التعبير والتشبيه والأسلوب والموضوع ونحو ذلك. ومن أجل هذا أمكن الأديب إذا عرض عليه نوع من الأدب، أن يعرف عصره ولو لم يعرف قائله؛ لأنه يستطيع أن يتبين خصائص كل عصر ومميزاته، ويطبق ذلك على ما يعرض عليه من شعر أو نثر. ومن أجل هذا أيضاً ترى الفرق واضحاً بين لغة الأدباء الآن وبين لغتهم منذ عشرين عاماً. وتجد الفرق واضحاً بين لغة الجرائد المصرية اليوم، وبين لغة الجرائد السورية والعراقية، وإن كانت كلها تصدر باللغة العربية، وتشترك في العناصر الأساسية.
وهذا التغيير أو التجديد في الأدب وتأثره بما حوله خضع له الأدب العربي وكل أدب على الرغم من المحافظين والجامدين؛ فقد رأينا في العصر العباسي مدرسة وعلى رأسها الأصمعي لا تحب إلا الشعر الجاهلي، ولا تحب من المحدثين إلا من قلّد القدماء. ورأينا من كان يُنْشدُ الشعر فيستحسنه، فإذا قيل له انه محدث استهجنه واتهم ذوقه؛ ولكن هذه المدرسة أخضعها الزمن لحكمه، ونشأ أدب عباسي جديد، احتفظ بالعناصر الأساسية للأدب العربي ولم يأبه لما عداها وكان الفرق كبيراً بين الأدبين كما قال الجاحظ: كم من الفرق بين قول امرئ القيس:
تقول وقد مال الغبيط بنا معاً
وقول علي بن الجهم:
فبتنا جميعاً لو تُراق زجاجة ... من الماء فيما بيننا لم تَسَرَّبِ(6/11)
وجاء المتنبي وعلى أثره المعري فجددا في الشعر من ناحية الأسلوب ومن ناحية المعاني، فأنكر عليهما أدباء عصرهما نزعتهما الجديدة، حتى رأينا من بين العلماء من أبوا أن يعدوهما في الشعراء. ثم حكم الزمن على هؤلاء العلماء ووضع المتنبي والمعري في مكانهما اللائق بهما.
وكان هذا هو الشأن في كل عصر، حتى عصرنا الحديث، نشأ قوم تأثروا بالأدب العربي القديم وحذوا حذوه، ولم يخرجوا قيد شعرة عنه. فلو ركبوا الطائرة قالوا ركبنا الهودج والبعير، وإذا استهلكت البنزين قالوا رعت السَّعدان، وسموا الجنيهات الإنجليزية وعملة الورق دراهم ودنانير، وإذا لم يكن لهم من الأمر شيء قالوا لا ناقة لنا ولا جمل، إلى كثير من أمثال ذلك.
وتأدب قوم بالأدب الغربي إلى ثقافتهم العربية، فثاروا على كل ذلك واختلفوا بينهم في مقدار هذه الثورة، فقوم يريدون أن يتحرروا من الأوزان والتزام القوافي، وآخرون يريدون أن يتحرروا من التشبيهات البالية والمجاز العتيق، وآخرون يعافون بعض الأساليب القديمة، والموضوعات التي جرى عليها السابقون. وكان صراع بين الطائفتين نعرض له بعد.
على كل حال دلتنا أحداث الزمان على أن عوامل البيئة في التغيير والتجديد لا يمكن أن تقاوم، كما دلتنا على أن ليس كل تجديد يصادفه التوفيق ويتسع له صدر الزمن، وأن نجاح من نجح من دعاة التجديد وفشل من فشل منهم إنما كان خاضعا لقوانين طبيعية ظاهرة حيناً وخافية أحياناً، وأن نوع التجديد إن كان صالحا وكان مما تسمح به القوانين الطبيعية للأدب فمعارضة المعارضين لا يكون لها من أثر إلا أن تؤخر زمن الإصلاح، وهو واقع لا محالة يوما ما، وإذا لم تسمح بها هذه القوانين كانت دعوة التجديد صيحة في فضاء، أو خطاً في ماء.
وبعد فأي أنواع التجديد يتطلبه المجددون؟ وهل من خير الأدب العربي قبوله أو رفضه؟
إن أول أنواع التجديد وأبسطها تجديد الألفاظ، لأنها مادة الأديب الأولية، وخيوطه التي ينسج منها قطعته الفنية.
وتجديد الألفاظ على ضربين:(6/12)
(1) اختيار الألفاظ التي تناسب العصر ويرضاها ذوق الجيل الحاضر، لأن لكل أمة في كل عصر ذوقاً خاصاً بها تختار ألفاظا تناسبها وتأنس بها، وتمج ألفاظا لا تستحسنها ولا تستسيغها، وذوق الأمة في حياة مستمرة، فهو كذلك في عمل مستمر إِزاء الألفاظ، وأدباء كل عصر لهم معجم يخالف معاجم اللغة القديمة. فلو أن أديباً استعمل كلمة (هَبَيَّخ) للجارية الحسناء لكفت في إسقاط قصيدته أو مقالته. ولو استعمل كلمة بُعاق للمطر أو السيل لدل على فساد ذوقه، وسوء أدبه، ومن أجل ذلك لا يستحسن في هذا العصر بعض ما كان يستحسن في عصور سابقة. فقد كان يستحسن من أبي الطيب قوله:
وترى الفضيلة لا ترد فضيلة ... الشمس تشرق والسحاب كَنَهْورا
ولكن كنهورا الآن ثقيلة في اللفظ كريهة على السمع، وهذا بديهي لا يحتاج إلى إطالة. وكل من جهل هذه الحقيقة لا يفلح أن يكون أديباً، لقد أراد الأستاذان الشنقيطي وحمزة فتح الله أن يحييا غريب الألفاظ ويستعملاه في قولهم وكتابتهم ففشلا كل الفشل، وكان الناس يستظرفون ذلك منهما كما نستظرف فتاة حضرية لبست ثياب بدوية، وفهموا أن ذلك ليس جدا من القول، وليس طبيعيا أن تعيش بداوة القرن السابع في حضارة القرن العشرين. إنما يحيا الأديب يوم يوفق لاختيار الألفاظ الرشيقة التي تناسب ذوق عصره، والعصر الآن أميل إلى السرعة والاقتصاد، وكلاهما يتطلب الوضوح والجلاء لا الغموض والغرابة.
لذلك أصبحت في معاجم لغتنا ألفاظ كثيرة ليس لها قيمة إلا أنها أثرية تحفظ فيها كما تحفظ التحف في دار الآثار.
والضرب الثاني: ألفاظ تخلق خلقا، تلك الألفاظ التي تساير المدنية الحديثة بكل ما اخترعت من أدوات وصناعات، وما ابتكرت من فن وعلم ومعاني وآراء، واللغة العربية اليوم، قاصرة كل القصور في هذا الباب، فليس لدينا ألفاظ لكثير مما اخترع وابتكر، وهذه مشكلة المشاكل اليوم وقبل اليوم تجادل العالم العربي فيها طويلا ولما يستقر على حال.
وكان لقصور الألفاظ أثر كبير في ضعف الأدب. فكيف يستطيع الأديب أن يصف حجرة وكل ما فيها من أثاث ليس له ألفاظ تدل عليه؟ وكيف يستطيع الكاتب أن يؤلف رواية، وهو في كل خطوة يعثر بمسميات لا أسماء لها؟ ولذلك يهرب كثير من الأدباء من التعبير الخاص إلى التعبير العام، فإذا أراد أن يصف رجلا يلبس طربوشاً قال انه يلبس عمارة أو(6/13)
قلنسوة، والحقيقة انه لا يلبس عمارة ولا قلنسوة، وإنما يلبس طربوشا، وإذا أراد أن يقول انه يضرب على البيانو قال إنه عزف على آلة موسيقية، وهذا منتهى الفقر في التعبير.
كل هذا حقن الأفكار في أدمغة الأدباء، وسبب ضعف الوصف والرواية وغيرهما في الأدب العربي الحديث، وجعل الأدباء يفرون إلى الموضوعات الإنسانية العامة، والأفكار الميتافيزيقية، فان نحن شئنا أن يكون الأدب ظلاً لحياتنا، وحياتنا الآن، وجب أن نحل مشكلة الألفاظ حتى يطلق الأدباء من أغلالهم، وإلا ظلوا يدورون حول أنفسهم، وظل أدبهم غذاء ناقصا للأمة ليس فيه كل العناصر التي لا بد منها للحياة.
وهناك تجديد في مناحي أخرى غير الألفاظ نعرض لها في مقالات تالية إن شاء الله.(6/14)
الثور في مستودع الخزف
للدكتور محمد عوض محمد
جعل الثور يطوف في نواحي المدينة، ويجول في طرقاتها في ساعة غفل فيها الرعاة، وغاب الحراس. فلم يزل يمشي على غير هُدىً، حتى ساقه القدر المحتوم إلى مستودع الخزف:
في دار صغيرة متعددة الحجرات، جمع أهل المدينة تراثهم الخالد (أو الذي حسبوه خالداً) من خَزَف قديم وحديث.
وصناعة الخزف أقدم صناعات الإنسان جميعاً. بدأ يمارسها منذ آلاف السنين، وهو بعد في مثل سذاجة الأطفال، فكانت في العصور الأولى شكولاً ساذجة، وصوراً بسيطة. يراد بها النفع والفائدة، لا الزينة والحسن، فلا نقش فيها ولا تزويق، ولا إتقان في الصنع ولا إبداع. ثم لم تزل ترقى برقي الإنسان، وتمشي وإياه جنبا إلى جنب، وتحاكيه في تقدمه ورفعته، حتى غدت فناً من أجلّ الفنون، وصناعة من أشرف الصناعات. وأبدع فيها الخيال البشري أيَّما إبداع، فأصبح منها اليوم ما يعد تحفة القرون وفخار الفنون.
وهذه المدينة عريقة في صناعة الخزف البديع، قد نبغ فيها في جميع العصور، رهط من كبار رجال الفن، فرفعوا في العالم ذكرها. وحلقت شهرتها في سماء الفنون. ولم يكن لها في هذه الصناعة ضريب.
وفي هذه الدار الصغيرة، قد أودع أهل المدينة خير ما أنتجته قرائح بنيها على مدى القرون، لكي تكون معرضاً لهذه الصناعة، يزورها الناس في كل آونة، فتنعم عيونهم بما فيها من جمال باهر، وتنعم نفوسهم بما يبعثه الجمال في النفس من سعادة وغبطة. فكان بابها مفتوحاً النهار كله، يقصد إليها الناس على الرحب والسعة، في كل ساعة من الزمان.
وفي ساعة نامت فيها ملائكة السعد واليمن، واستيقضت أبالسة النحس والشؤم، ساقت المقادير العجيبة الغريبة، ذلك الثور العنيف المخيف، إلى هذه الدار - من دون الديار جميعاً!
ولم يلبث طويلاً حتى حملته أرجله إلى داخل الدار. فأجال عينيه فيما حوله، فإذا أمامه آيات الفن، مصفوفة على المناضد والرفاف: من أواني قد ألبستها الحسن يد صناع،(6/15)
وتعاونت على نقشها وتصويرها البراعة والخيال. . . ها هنا صور تمثل الطبيعة بزهرها ونَوْرها، وخضرتها ونضرتها، وأنهارها وعينها، ونبتها ودوحها، ومائها وسمائها. . . وهناك صور تمثل الطبيعة كما يراها خيال العبقري، لا كما يراها الناس، فيزيد في حسنها حسناً، وفي شكولها أشكالا وضروباً. . .
وها هنا صور للحياة، تذكرنا وصف أبي نؤاس للكؤوس، تتمثل فيها الناس في جدهم ولعبهم، وفي سرورهم وكمدهم؛ وحين يريحون وحين يسرحون؛ وحين يدأبون وحين يمرحون. . ومن تماثيل ذات حسن عزيز؛ كأنما نصبت هناك لتقيم المعاذير لمن عَبَدَ الأوثان، ومجَّد الأصنام: منها القائم الناهض، والجاثم الرابض، والمتكئ والمستلقي، والساكن الهادئ، والثائر النافر. . بعضها قد ألبس ثوباً أو بعض ثوب. وبعضها عارٍ إلا من الحسن. وكلها آيات في الإبداع والابتكار.
فتباركت الأيدي القديرة، التي أحالت الطين والصلصال، إلى كل هذا الجمال والجلال!.
رأى الثور هذا كله، وما برأسه إدراك للفن أو تقدير للحسن؛ وما في غريزته فهم لهذا الجمال المتَّسِقِ المؤتلف، وهذه الصناعة الباهرة الساحرة. . .
كلا. . . بل في غريزته عنف وبطش، وتحطيم وتدمير، فأجال فيما حوله نظرة بهيم. ثم تراجع إلى الوراء قليلا، شاهراً قرنين حديديين كالفولاذ. واندفع نحو تلك التحف والطرف وصال فيها وجال. . وهي (وا أسفاه!) هَشَّة ضعيفة، سهلة المكسر، لا حول لها أمام العنف ولا قوة. فطاحت تلك الآيات إلى الثرى، وتناثرت قطعها الغالية في جوانب الدار!
وحملق الثور في التدمير الذي أحدثه، وكأنما راقه منظره. فأعاد الكرة، المرة بعد المرة.
وما هي الا دقائق معدودة، حتى لم يبق بالدار تمثال قائم، ولا إناء منصوب؛ بل استحالت جميعا إلى شظايا مبعثرة، وأجزاء متناثرة. وقد اختلط بعضها ببعض، فما تميز العين جديدها من قديمها، ولا طارفها من تليدها؛ ولا آنيةً من تمثال، ولا رأساً من جسم. . . لقد صارت جميعاً أكداساً من الخزف المحطم، ليس فيها من الجمال أثر، ولا يرى فيها شاهد على براعة الصناعة.
في بضع دقائق استطاع هذا البهيم العنيف أن يقضي على تراث القرون، وثمار القرائح، وخلاصة الفن؛ وأن يحيل هذه الدار، ولم يكن لها نظير في جمال التنسيق، إلى دار فوضى(6/16)
قد شاع فيها الخراب والدمار!
ولم يكن بالدار غير فتاة ترعاها. هالها أن رأت ذلك الثور المخيف، وأحست بالشر، يوشك أن يحدق بالدار ومن بها. فغافلته وهو يلهو بالكسر وبالتحطيم؛ وانطلقت تنشد النجدة والمعونة. . .
وبعد لأى أقبل الناس، علَّهم أن ينقذوا البقية الباقية. فلم يجدوا بقية باقية. . .
وهل شفي الغليل أن قُتل الثور ومُزِّق كل مُمَزق؟
إن دماء ثِيَرَةِ الأرض جميعا لا تعادل آية واحدة من آيات الفنون!
ويلُ الورى من عَنيفٍ أحمقٍ خَرِفِ، ... كأنه الثورُ في مستودع الخزفِ
رأى جمالا وفناً ليس يفهمه ... وهاله ما رأى من مُبْدَع الطُّرَفِ
فلم يزل مُرْهِفاً قَرْنَيه، مندفعاً ... يجري، فيكسر ما ألْفَى من التحف
كأن في صدره حقداً ومَوْجِدة ... لكل شيء بديع الصنع مؤتلف
وكيف يدرك (ثور) أنَّ ذي تُحَف ... للحفظ والصون، لا للمحوَ والتلفِ؟(6/17)
فلسفة برجسون
نشرت (الرسالة) بحثاً قيما لحضرة الأستاذ زكي نجيب محمود لخص فيه فلسفة برجسون أحسن تلخيص وأوفاه، وهي تلك النظرية التي تسود عالم العلم الآن، والتي صار لها الرجحان التام على كل ما خالفها من المذاهب والآراء.
وإنني على شدة إعجابي بالطريقة الشيقة الواضحة التي عرض فيها بحثه، وبما دعمه من الحجج القوية، والأدلة الساطعة التي تثبت بأجلى بيان إن الأصل في الكائن الحي هو الروح لا الجسم، وإن الروح كائن مستقل بذاته، وأنه هو الذي يسيطر على الجسم، وهو الذي يديره ويوجهه حسب إرادته الذاتية. وإن الكائنات الحية من نبات وحيوان وإنسان، خلقت أنواعها خلقاً مستقلا، ووضعت في الدرجات والمنازل التي عينتها لها الروح بمطلق إرادتها، لا بطريق النشوء والتطور؛ كما كانت تذهب إلى ذلك الآراء المادية البائدة. أقول مع إعجابي بذلك وبغيره مما شيد به أركان النظرية، وأقام عليه بناءها المحكم. أراه قد انتهى إلى نتيجة لا تتفق مع هذه المقدمات، ولا تسير مع أحكام العقل؛ بل بعضها يناقض بعضا.
تلك النتيجة هي قوله في ختام بحثه: (هذه الحياة التي لا تفتأ تخلق وتغير وتبتدع، والتي تلتمس الحرية من قيود المادة هي الله (تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) فالله والحياة اسمان على مسمى واحد؛ ولكنه إله ذو سلطان محدود بقيود المادة، وليس مطلق الإرادة كما تصوره الأديان؛ إلا أنه دائب في التخلص من أغلاله وأصفاده. وأغلب الظن أن الحياة ستظفر آخر الأمر الخ. . .)
فنرى من ذلك أنه جعل الله والحياة شيئاً واحدا، وبعد أن وصف هذا الشيء بأنه أساس الوجود وبأنه هو الخالق وهو الذي عيّن الحياة درجاتها ومراحلها وخلق لها أعضاءها ووظائفها، وسخر لها المادة تسخيرا، عاد فجعل هذا الشيء الذي هو الحياة، وهو الروح، وهو الله، خاضعا لقيود المادة، وأنه يجاهد ليتخلص منها. وهذا لعمر الحق تناقض لا يقبله العقل ولا يقول به أحد.
إنه لا بد من أحد أمرين: فأما أن تكون الروح هي الأصل في الوجود والمادة طارئة عليها أو العكس، فإذا كانت الروح هي الأصل (كما ذهب الأستاذ إلى ذلك وبرهن عليه) فلا ريب في أن هذه الروح مستقلة الإرادة مالكة لتمام حريتها، وأن وجودها لذاته لا يحتاج في قوامه(6/18)
إلى شيء، وانه مطلق. فليت شعري ما هي العوامل التي جاءت بعد ذلك وأخضعت الروح للمادة الطارئة وقيدتها بأغلالها وأصفادها؟. أما إذا كان العكس أي إذا كانت المادة هي الأساس، فهذا ما لا يسعنا فرضه، لأن النظرية لا تقول بذلك، بل أنها قامت على هدم هذا الأساس، وقد نجحت في ذلك نجاحا باهرا، حتى لا يكاد يوجد الآن من يقول به.
وعلى هذا يكون الغرض الأول (وهو أساسية الروح واستقلالها عن المادة وتسلطها عليها) هو الواجب التسليم به، ولا يكون ثمة معنى لارتباط هذا الروح بالمادة ارتباط خضوع، ثم لا أدري ماذا يريد الأستاذ بقوله: أن الله أو الحياة يجاهد ليتخلص من قيود المادة. فإذا فرضنا أنه نجح (كما توقع هو ذلك) فماذا يكون بعد نجاحه؟ وأي حالة يصبح عليها؟ أهي شيء غير استقلاله بذاته ونيله حريته التامة؟ ولماذا لم يكن ذلك من الآن بل ومن قبل ما دام هو الأساس في الوجود؟
أما اعتباره الحياة كائناً مستقلاً ذا شخصية موجودة تدافع وتناضل عن نفسها فما ذلك الا وهم، لأن الحياة أمر معنوي لا يقوم الا في الذهن وليس له وجود في الخارج، وكذلك سائر المعاني الكلية مثل العلم والإرادة والقوة فأنها لا توجد في الخارج، بل الذي يوجد منها إنما هو أفراد موصوفون بالحياة أو العلم أو الإرادة أو القوة، وذلك مبسوط في كتب المتكلمين والمناطقة فلا حاجة للتوسع في شرحه هنا؛ وإذا كان المر كذلك فما هي تلك الحياة التي يقول بوجودها وأنها هي الله؟ مع أننا لا نرى الا أفراداً من الأحياء سواء أكانوا من نوع الإنسان أم الحيوان أم النبات، وفي غير أفراد هذه الأنواع لا نرى للحياة وجودا.
الحقيقة أننا لا يمكننا إساغة النتيجة التي انتهى إليها حضرة الأستاذ الباحث بالصورة التي هي عليها، ولا يمكن التوفيق بينها وبين المقدمات التي وضعت بين يديها. فدفعا لهذه الإشكالاات، وتخلصا من هذه المتناقضات، يجب أن نضعها على النحو الذي يحكم به العقل والمنطق، بل الذي تقضي به البديهة: وهو أن نميز الروح التي قلنا إنها أساس الوجود، وأنها تخلق وتدبر من الروح المخلوقة والخاضعة لقوانين الوجود ونواميس المادة، ثم نميز كذلك هذه الروح المخلوقة والتي لها صفة الحياة من المادة المائتة، ونعتبرهما متباينين في الجوهر وفي درجة الوجود، وبعبارة أخرى تكون النتيجة هكذا:
إن للعالم روحاً هي أساس وجوده، وهذه الروح موجودة لذاتها لا عن شيء آخر، ولا لعلة،(6/19)
وإن وجودها مطلق، وسلطانها غير محدود، وأنها هي التي أوجدت كل شيء بمحض إرادتها، وهي التي خلقت المادة وخلعت عليها الحياة بجميع مراتبها، وهذه الروح يجب أن يكون لها كل صفات الكمال والبراءة من جميع شوائب النقص، تلك الروح هي ذات الله تبارك وتعالى.
وما نظن هذه النتيجة تكون موضع بحث فضلاً عن أن تكون موضع خلاف، لأنها هي التي يحتّمها العقل والتي أجمع عليها رجال العلم والفلسفة في كل عصر - الا شواذ لا يعتد بهم ممن يقولون بالحلول أو بوحدة الوجود كسبينوزا وجيوردانو وأضرابهما.
تلك هي ملاحظتنا نقدمها إلى الأستاذ الفاضل عن إخلاص، راجين أن يحلها محلها من الاعتبار، ولا يفوتنا هنا أن نكرر إعجابنا وعظيم اغتباطنا بمبحثه النفيس ومجهوده الموفق.
سيد أحمد فهمي(6/20)
خواطر!
ضجة!
هي موسيقى كلها نشوز، موسيقى خفاقة مضطربة؛ يثيرها فرد بل تثيرها في الفرد يده اليمنى، وليست الموسيقى الا تعبيراً عن الذوق والإحساس. وقد اشتهر المصريون من يوم خوفو وأترابه بالذوق الرفيع، والإحساس السامي. . .
والمصريون أمة مرحة طروب؛ وإذا كان هناك شك فقد بطل الشك، وأثبت نزعة المرح في أمتنا بائع العرقسوس!
في أحيائنا الوطنية وأنصاف الوطنية يسير هذا الرجل يحمل إلى صدره آنية ضخمة، خرج من فوهتها لوح من الثلج طويل يترجح بين البياض والسمرة. . . ويمسك بيده اليمنى وعاءين من النحاس الأصفر، يتنافران أحياناً؛ فإذا تجاذبا تعانقا، وكانت قبلتهما تلك الموسيقى التي يضج لها الشارع، وتطل عليها الملاليم، وتملأ لها الكوبات، ويحسوها الناس فرحين، وتنفرج الشفاه عن لفظ الجلالة. .!!
وعلم الله أن بائع العرقسوس وشراب العرقسوس، لا يستحقان هذا التقدير، وليس من الذوق أن يثيرا هذه الضجة المزعومة، وإلا كان لبائع التمر هندي أو الرمالي أو جروبي أن يسير وفي معيته طبل بلدي.!!
تقليد!
يزعمون أن التقليد لا يفيد، وأن المقلد أعرج بالقياس إلى صاحب الفكرة، أو كالتل بالنسبة للجبل، ويعطينا الزاعمون أمثلة من الأدب، فيقولون: إن الأدب الروماني ظل للأدب اليوناني، ولهذا كان الأدب الروماني ضعيفاً بالقياس إلى أدب اليونان. ثم يعرجون على حياة الجماعة، فيقولون: إن تقليد الناس للناس في مظاهر حياتهم معناه أن المقلد يستمر على ذيل القافلة يتطلع ولا يتقدم، ويبصر ولا يفكر.
وسواء أكان هذا الرأي صواباً أم خطأ فأنا أرى أن تقليد الإنسان للإنسان هو قضاء على تفكير المقلد، وعبودية لعبقريته الكامنة. وأن النفس التي تعيش على تفكير نفس أخرى، أجدر بالزراية وأحق بالتثريب.
فتياتنا في مصر أردن خلع البراقع وأردن تقليد الغربيات، فماذا اخترن لرؤوسهن من(6/21)
لباس؟ اخترن (البيريه) وما أعجب وضع هذا البيريه على الرأس! ذلك الوضع الذي يحتاج إلى حارس يراقب رأس الآسنة! محافظة على ذلك البيريه الذي تنافر مع معظم الرأس وتجاذب مع بعضه، مصغياً إلى الشمال جدا. .! وحسب موقع البيريه من الرأس أنه يترجح بينها وبين الأرض، وأنه في حاجة إلى إنسان يراقبه من عثرة السقوط! أما لون البيريه فأغلب الظن أنه تقليد أعمى لجوارب كرة القدم في ملاعب القاهرة. .!
أنا لا أكره البيريه وإنما أكره وضعه من الرأس ولونه السخيف. . .
سخاء!
لعل طبيعة السخاء في المصريين تغلب على طبائعهم جميعا، وليس يشك عاقل في أن السخاء طبيعة محبوبة ترضاها الإنسانية المعذبة التي لا تجدها في كثير من الأحيان. ولكن، نعم، ولكن السخاء قد يركب العقل والقلب ويصبح نوعا من الإسراف، فيه ثورة على أمن الناس وراحتهم!. .
في الترام أو في السيارات العمومية تجد هذا السخاء يمتط ويعرض وتطول حباله فإذا به ثورة. . سحاء يدفعه الوفاء حيناً وتدفعه المظاهر أحياناً، هذا يريد أن يكلف نفسه ما وسعت فيتحمل عن صديقه عبء التذكرة. . . والصديق يأبى أن يستغرقه هذا الفضل!. ويرغب في أن يكون سباقاً في هذا المضمار!
وتقوم ثورة تحسها في اللسان، وقد اجتمعت عنده أغلظ الايمان، وتراها في العينين الزائغتين، وفي اليدين المندفعتين، تحمل القروش إلى المحصل! وتبدأ الثورة رويداً رويداً ثم تتكاتف الألسنة، وتبرق العيون، وتندفع الأيدي؛ هذا يريد أن يدفع، وذاك يود أن يسبق صاحبه، والمحصل يظل حائرا، وقد وسعت يده أكثر مما يطلب، ويرجو إن أمكن أن تصل يد قبل أختها. فأغلب الظن أن يدي الصديقين تصلان معاً في فترة واحدة، وفي عاصفة من التهليل والتكبير!. أما الراكبون فلست أشك أنهم لا يغضبون، لأنهم في هذا السخاء سواء يعلنونه ما ملكت إيمانهم وما وسعت جيوبهم، وكم أخاف أن تقوم هذه الضجة فلا يجد أحدهما في جيبه غير ثمن تذكرته، وتصبح ثورة السخاء هباء في هباء، والناس من حولهما يضحكون أو يأسفون؟!.
إبراهيم عبده(6/22)
باقة من حديقة أبيقور
لأناتول فرانس
- 1 -
ماهية الحقائق العلمية
انه لخطأ كبير أن نظن الحقائق العلمية تختلف اختلافا جوهريا عن تلك التي نشاهدها كل يوم وهي إن امتازت بشيء فبسعة إحاطتها ومبلغ دقتها، أما من الوجهة العملية فالاختلاف عظيم الأهمية، ويجب أن لا ننسى في نفس الوقت أن قوة الملاحظة عند العالم مقصورة على ظواهر الأشياء وما يجري في الطبيعة، ولكنها لن تستطيع أن تنفذ إلى باطن المادة أو تعرف شيئا عن حقائق الأشياء؛ والعين التي تستعين بالمجهر ما تزال عينا إنسانية؛ نعم أنها أكثر إبصارا من العين المجردة، ولكنهما لا تختلفان في الوسيلة. وان العالم ليزيد من صلات الإنسان بالطبيعة ومعرفته بها، ولكن يستحيل عليه بأي حال أن يحدد الخواص الجوهرية لتلك العلاقات المتبادلة بين الأثنين، وهو يشاهد كيفية حدوث بعض الظواهر الطبيعية ولن سبب حدوثها بمثل هذه الكيفية يبقى عليه كما هو علينا سرا محجوبا وبابا مغلقا.
وإننا لنبوء بالخيبة اللاذعة حين نتطلب في العلم قانونا أخلاقيا، فقد كان الناس يعتقدون منذ ثلاثمائة سنة أن الأرض مركز الكون، ولكننا نعلم الآن أنها جزء من الشمس قد انفصل عنها وأن هذا الكون الذي نحن فيه كذرة التراب الهائمة إنما هو في حركة دائمة وعمل مستمر لا ينفك ينشأ ثم يبيد، وأن الأجرام السماوية لا تفتأ تموت ثم تولد. ولكن من أية ناحية قد تغيرت طبائعنا وأخلاقنا بهذه الاستكشافات العظيمة؟ أترى الأمهات قد تأثر حبهن لأطفالهن قوة وضعفا؟ أم ترى تقديرنا لجمال المرأة قد كثر أو قل؟ أم أن نبض قلب البطل المغوار في صدره قد اختلف عن ذي قبل؟ كلا! فلتكن الأرض كبيرة أو صغيرة فماذا يعني الناس من كل هذا؟ أن في سعتها ما يكفي ليجعل منها مسرحاً للألم والحب، فهما منبعان متلازمان لجمالها الذي لا ينفد، نعم الألم ما أجله وأقدسه! وما أجهلنا بقدره وقيمته! فنحن ندين له بكل ما هو حسن فينا وكل ما يجعل الحياة جديرة بالعيش فيها، ندين له بعاطفة الرحمة والشجاعة وسائر الفضائل، وما الأرض الا ذرة من الرمل في اللانهاية المجدبة(6/24)
للعوالم التي تحيط بنا.
ولكن إذا كان على الأرض وحدها نقاس الخلائق المتعددة فهي أعظم قدراً من تلك العوالم بأجمعها، بل هي كل شيء والباقي لا شيء، فبدونها لن يكون للفضيلة ولا للعقل وجود. وما هو الذكاء إذا لم يكن فناً يقصد به إبعاد الألم؟ على إنني أعلم أن هناك عقولا كبيرة قد تطلعت إلى آمال أخرى غير هذا، فقد كان رينان يعلل نفسه في فرح الواثق بحلم هو انتظار قانون أخلاقي مؤسس على العلم إذ كان يثق به ثقة لا حد لها، وكان يعتقد أنه ما دام العلم قد استطاع أن يتخذ في الجبال نفقاً فلن يعجز عن تغيير العالم برمته في المستقبل، ولكنني لا أظن مثله أنه قادر على أن يجعل منا آلهة كاملة، والحق أقول أنني لا أريد ذلك ولا أرغب فيه، فإنني لا أحس في نفسي عناصر الألوهية بعد غض النظر عن بساطتي، فضعفي عزيز عليّ محبب ألي وهو نقص ولكنه أهم مميزات وجودي.
سذاجة العلماء
لقد عهدت العلماء كالأطفال في سذاجتهم وبعدهم عن الادعاء، وفي كل يوم نلقى أدعياء يتوهمون أنهم محور العالم، ومن المؤسف أن يعتبر كل منا نفسه مركز الكون. وهذا وهم شائع في جميع الناس لا يخلو منه الكناس العابر تنبئه به عيناه حين ينظر حوله فيرى قبة السماء تستدير به من كل الجهات، جاعلة إياه مركز السماء والأرض، وقد يتزعزع هذا الاعتقاد في نفس من يفكر تفكيراً عميقاً، فالتواضع وهو شيء نادر بين المتعلمين ما زال أندر منه بين الجاهلين!
ماهية الجهل
الجهل شرط ضروري لا بد منه لا للسعادة فحسب بل للحياة نفسها. فلو أحطنا بكل شيء علماً لما استطعنا احتمال الوجود ساعة واحدة، لأن الشعور الذي يحببه إلينا أو يجعله محتملا على الأقل إنما ينبع من الأباطيل ويتغذى بالأوهام، فلو استطاع إنسان أن يستحوذ كمالا له على الحق المطلق ثم يفلته من يديه لبادت الدنيا واختفى العالم كما يختفي الظل، فالحق الإلهي كيوم القيامة يسحق هذا الوجود سحقاً.
حنفي غالي(6/25)
في الأدب العَرَبي
القصة المصرية
للأستاذ جيب. أستاذ الأدب العربي في مدرسة اللغات الشرقية بجامعة
لندن
جاء ابتداء ظهور القصة كفن من فنون الأدب في مصر متأخراً، إلى حد أننا نلتمس العذر لمن يدرس الأدب المصري، إذا هو رجع إلى ما أنتجته من قبل (مدرسة الكتاب السوريين) من الآثار ليبحث عما إذا كان هناك في الأصل علاقة بينها وبين نمو القصة.
وفيما عدا ما يحتمل من أن نجاح القصصيين السوريين قد شجع الكتاب المصريين على إنتاج نوع من القصص يلائم شعبهم، ستبقى (القصة المصرية) وهي موضوع هذا المقال، أثناء البحث مستقلة تمام الاستقلال عن تاريخ القصة السورية.
أما المؤثرات الغربية، فقد ظهرت بوضوح فيما ولى ذلك من الأطوار كما أنها استخدمت استخداما مباشرا، ولكن على الرغم من هذا فان (آداب التسلية) في مصر قد ظلت لمدة طويلة تعتمد على ما خلفه العرب من النماذج الأدبية العالية، والنماذج العرفية التي درج الناس عليها. فلما آن لها أن تتحرر من تبعيتها لتلك النماذج، كان تحررها ببطء وبعد تردد، ومن ثم كان نجاحها في ذلك الاتجاه فردياً موزعا، ولم يكن نتيجة لحركة تطور مستقيمة.
ونحن في الواقع إذا أردنا أن نتحدث عن (نمو) القصة في مصر، فلا بد أن نمد في معنى هذا اللفظ (القصة) حتى يشمل شعبة واسعة من فنون الكتابة يربطها جميعا رباط الخيال القصصي، وإن كان بينها كثير لا يمكننا مطلقا أن نعتبره قصة إذا قصدنا المعنى الحقيقي لهذا اللفظ.
ويعزى تأخر مصر في هذا الميدان، ميدان القصة، إذا هي قورنت بتركيا والهند (وهما المركزان الأساسيان الآخران للثقافة الإسلامية) إلى عدة عوامل أوضحناها في مقال سابق في صدد الكلام عن الأسباب الأدبية، والأسباب التعليمية التي كانت عقبة في سبيل ظهور آداب للتسلية من نوع جديد في مصر. ونستطيع أن نضيف اليوم إلى تلك العوامل أن المصريين وجدوا غنية ومتاعا فيما خلفه العرب من آداب عالية متنوعة، مما لم يكن له(6/27)
مثيل في كلتا اللغتين التركية والأردية. وهناك بعض عوامل محلية خاصة سنعرض لها في شيء من التفصيل في بحثنا هذا، ولكننا نحب أن نشير الآن إلى تلك الحقيقة التي تحوي شيئاً مما سنعرض له، وهي أن تلك الطبقة المحصورة التي تعلمت تعلما حديثاً في مصر، كانت تستطيع أن تجد بغيتها في الأدب الفرنسي والأدب الإنجليزي، ومن أجل ذلك انعدمت في الدوائر الأدبية البواعث التي تشجع على تأليف كتب التسلية بالعربية. فلما أمست الحاجة إلى هذا النوع من الكتب، كان المسلك الطبيعي الذي سلكه الأدباء هو إقبالهم على ترجمة القصص الفرنسية والإنجليزية، وفضلوا ذلك على أن يقوموا بإنتاج أدب قصصي جديد لا يرجون له انتشاراً، إذ كان ذلك العمل يتطلب منهم خلق فن جديد من فنون الكتابة.
ولما كانت هذه القصص قد ترجمت ترجمة سقيمة، ولم يراع في اختيارها حالة مصر الاجتماعية، ولا حالة الثقافة العامة، ولا الذوق الأدبي في البلاد. فان قبول القراء لها على الرغم من عيوبها ليدل على انه كان هناك شعب يتذوق هذا النوع من الأدب ويقدره حق قدره.
على أن هناك كتاباً يصح اعتباره مقياسا للكياسة والمهارة اللتين ينبغي أن يتصف بهما من يريد القيام بترجمة قصة أوربية، بحيث يجعلها تلائم ذوق شعب ثقافته إسلامية كالشعب المصري، ذلك الكتاب هو ترجمة عثمان جلال لقصة (بول وفرجيني) فان تلك الترجمة على ما فيها من الاختصار والتصرف في الجملة ظلت محافظة على الروح الأصلية وعلى ما جاء في الأصل من المعاني. أضف إلى ذلك أن استعمال السجع في عبارات سهلة. ووضع المؤلف بعض المقطوعات الشعرية محل الأفكار الفلسفية التي وردت في الأصل، قد أكسب هذه الترجمة مسحة عربية، لم توجد مع الأسف في معظم ما عاصرها أو جاء بعدها من الكتب المترجمة. ويمكننا أن نستشهد على ذلك بالفقرة الآتية:
(وما أنت أيتها الصغيرة فلا عذر لك في السفر، ولا بد من تسليمك للقضاء والقدر، وأن تطيعي أمر الأقارب وإن ظلموا وأن تسلمي لمل به حكموا، فإن سفرك وإن كان لا أحد يرضاه، فهو على ما حكم الله. فلقد أنزل تعالى في كتابه العظيم، على لسان نبيه الكريم: قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربى، وإن سفرك إن شاء الله لنعم العقبى، أفتعصين الله ما أمر، أم تسلمين للقدر).(6/28)
وهناك غير هذا الكتاب مئات أخرى بينها عدد ليس بالقليل حرص فيه المترجمون على الأصل إلى درجة تختلف قلة وكثرة عما ذكرنا، ونخص بالذكر تلك التراجم التي قام بها المنفلوطي، وإن كان ينقصها كثير من مزايا ترجمة عثمان جلال، على الرغم من براعة أسلوب المنفلوطي. والذي يعنينا في هذا الصدد الكتب المترجمة من أنها كثيرة وأنها صادفت رواجا عظيما.
ونستطيع أن نتبين ميل الكتاب المصريين إلي المحافظة على ما خلفه لهم العرب من الأوضاع الأدبية التقليدية، (الا أن يضيفوا إليه بعض العناصر الجديدة) في تلك القصة التي تعد أول قصة مصرية بالمعنى الذي أشرت إلى وجوب اعتباره في صدد الكلام عن القصة المصرية، وهي (رواية عذراء الهند أو تمدن الفراعنة لمنشئها الضعيف احمد شوقي) عام 1897. وهي من أوائل مؤلفات الشاعر النابه احمد شوقي. ولم توضع هذه القصة على نمط قصص ألف ليلة وليلة أو على طراز قصص السيرة، وإنما وضعت على نمط تلك الأقاصيص الخرافية الشهيرة التي تعرف (بالحواديت). وقد سار المؤلف في توسيعها على الطريقة التي تتبع في (القصص التاريخية). على أني أقرر صراحة أن هذه القصة مما لا يمكن أن يستسيغه العقل، من حيث الخطة ومن حيث ما حشر فيها حشراً من المخلوقات الخرافية كالسحرة والعرافين، مما لا تكاد تخلو منه صفحة من صفحاتها، ولكنها ورثت مما سبقها من (الحواديت) المشهورة ميلاً شديداً إلى الحركة والمخاطرة فعوض ذلك عليها بعض مساوئها، وإننا لنشعر بشيء من اللذة أثناء قراءة الصفحات التي لم تحشر فيها الخرافيات لأنها تعد بين القصص الحي.
أما ما تدين به تلك القصة (للقصة التاريخية) فهو طريقة سرد التاريخ في ثنايا القصة. ولقد تعرضت هذه القصة لشرح عظمة مصر القديمة. وهي جديرة بالاعتبار من هذه الناحية. على أن خطرها الحقيقي إنما يرجع إلى أنها كتبت بذلك الأسلوب الفخم الذي قلد شوقي زعامة الشعر في الأدب المصري. ويعد النثر المسجوع فيها من أفصح ما عرف من هذا النوع ولقد كانت الفقرات تجري على روى واحد أربع مرات أو خمسا في غير إملال. وكانت تتخلل هذه الفقرات بعض المقطوعات الشعرية الرائعة للمؤلف. وأن الإنسان ليأسف على انه لم يتح لهذا الأسلوب موضوع آخر ومواد أخرى غير التي استعمل فيها.(6/29)
بجانب تلك المحاولة التي قام بها شوقي، ظهرت محاولة أخرى بعد ذلك ببضع سنوات كانت أبعد نجاحا وأعظم أثراً وهي التجاء الكتاب إلى ذلك الضرب المعروف بالمقامات، وهي تعد في نظر من يدرسون الأدب العربي في العصور الوسطى أقرب ضروب الكتابة في ذلك الوقت إلى القصة بمعناها الحقيقي. ولقد ظلت المقامة تستعمل في شكلها التقليدي حتى أواخر القرن التاسع عشر. وعلى الأخص على يد ناصيف اليازجي وعبد الله باشا فكري، ولكنها كانت في يدي هذين الرجلين وغيرهما من كتاب مدرستهما مقصورة على الموضوعات القديمة ولم يكن لها بحياة عصرهم غير ارتباط قليل.
ولكن ظهر بجانب هذه المقامات نوع آخر لجأ إليه الكتاب فيما طرقوه من الموضوعات وعلى الأخص في النقد الاجتماعي؛ وأقبل عليه عدد من الكتاب المصريين فأخرجوا طائفة من الآثار الأدبية؛ كانت إحدى المظاهر الخاصة التي امتاز بها الإنتاج الأدبي في السنوات العشر التي سبقت عام 1914.
ويعد (حديث عيسى ابن هشام) لمحمد إبراهيم المويلحي (1858 - 1930) أقدم وأحسن تلك المجموعة الجديدة، بل أن هذا الكتاب في تصوراته وطريقته ليكاد يصل إلى القصة بمعناها الحقيقي. ولقد لجأ المويلحي أيضاً في ذلك الكتاب إلى الخرافيات، لأن الخيط الذي يربط أجزاءه، هو تجارب أحد الباشوات الذين عاشوا في عهد محمد علي، وقد بعث هذا الباشا من مرقده فهاله ما وجد من الظروف الاجتماعية الغريبة التي لم يألفها في القاهرة التي استحالت إلى مدينة أوربية. وبهذه الوسيلة تسنى للمؤلف أن ينتقد في حوار ممتع حالة عصره، وأن يقارن ذلك بالماضي مظهرا ما في الحاضر من مساويء، أهمها ولع أهله بتقليد الأوربيين تقليدا مرذولا. على أن هذا الكتاب، كما لاحظ محمود تيمور، ينقصه الخواص الجوهرية للقصة، وأعني بها الخطة البسط، ولكنه في تصوير الأشخاص قد نجح إلى درجة جديرة بالاعتبار. ولقد أضيف إلى الطبعة الأخيرة لهذا الكتاب جزء آخر سمي (بالرحلة الثانية) غيرت فيه المناظر الأولى بمناظر باريس أبان المعرض العظيم عام 900، وبذلك تسنى للمؤلف انتقاد مساوئ التشبه بالغربيين، وأوضح معايب المدنية الغربية لدى منابعها. ومما هو جدير بالملاحظة أن الباشا لم يرجع ثانية إلى قبره، ذلك إلى مثله في الكتاب ما يحملنا على الظن بان المؤلف قد نسى الفكرة التي بدأ بها كتابه.(6/30)
ولا يعزى نجاح هذا الكتاب وشهرته إلى القصة نفسها ولا إلى مغزاها بقدر ما يعزى إلى براعة الأسلوب والمقدرة على الوصف، فإن المؤلف يقلد تقليدا متقنا الخصائص الحسنة التي يمتاز بها أسلوب المقامة مضافا إلى ذلك سهولة حديثة وظرف. ويتخلل عباراته المسجوعة حوار في لغة سهلة حديثة. ولقد يلجأ المؤلف إلى اللفظ العامي الاصطلاحي فيستعمله في غير تردد، وذلك على الرغم من أن الحوار نفسه كان يتطرق كثيرا إلى عبارات وصفية مسهبة. وكان السجع مزيجا متقنا من القديم والحديث مما أكسب الأسلوب طرافة ورونقا، وجعل القارئ يستمتع بأثر من الآثار الأدبية الحية جدير بأن ينافس آثار المنفلوطي في الأسلوب مع تفوقه عليها في عمق الحس وحسن الترتيب.
وتستطيع أن تضيف إلى كتاب المويلحي كتابين آخرين، جرى فيهما صاحباهما على سنّة المويلحي في اختيار طريقة المقامة للكتابة في النقد الاجتماعي، وإن كانا أقل منه لباقة ورقة، أولهما (ليالي سطيح) لمحمد حافظ إبراهيم وهو أقوى منافس لشوقي في زعامة الشعر العصري (1871 - 1932) وظهر هذا الكتاب عام 1907. وخطة هذا الكتاب بسيطة تتلخص في أن جماعة من الناس كانوا يشكون في ليالي متوالية ما يلاقونه من مساوئ الأحوال السائدة في مصر، فيجيبهم على التوالي صوت خفي مبيناً أسباب ما يضجون منه من المساوئ في نثر مسجوع تتخلله بعض المقطوعات الشعرية، واصفاً لهم الدواء. على أن خطة الكتاب تأخذ بعد ذلك في التغير تدريجا حتى يصير الجزء الأكبر منه عبارة عن محاورات في نثر مرسل سهل تضيع فيه المعالم الأصلية للكتاب. ولقد قوبل هذا الكتاب بحماس وإقبال في الدوائر الأدبية المصرية ولكن مما تلذ ملاحظته في هذا المقام أن أصواتا عالية قد ارتفعت في ذلك الوقت منددة باستعمال السجع في مثل هذه المؤلفات.
أما ثاني هذين الكتابين فهو (ليالي الروح الحائر) للكاتب السياسي والمؤلف المسرحي محمد لطفي جمعة. ولقد سار المؤلف في هذا الكتاب على طريقة المقامة بالدقة، دون أن يلجأ إلى السجع. ويلاحظ في كتابه أثر كتّاب (المدرسة السورية الأمريكية) واضحا خصوصا في هذا النوع من الإنشاء المعروف باسم الشعر المنثور أو الشعر الحر. أما المتحدث في هذا الكتاب فهو روح غير مجسمة كما يفهم من اسمه، وأغلب هذا الحديث في انتقاد الأحوال الاجتماعية في مصر، ولقد أشار زيدان بحق إلى جمال هذا الكتاب وفصاحة أسلوبه. وفي(6/31)
نظري أنه في هذه الناحية أهم منه في الناحية الأخرى: ناحية التعمق في الأفكار التي تعرض لشرحها.
وقبل أن أترك هذه المجموعة المتشابهة أحب أن أشير هنا إلى كتاب آخر عظيم الشبه بها وإن امتاز منها في الروح ثم في الأسلوب إلى حد كبير، ذلك هو مجموعة الفصول التي جمعت تحت عنوان (أين الإنسان) لمؤلفها الشيخ طنطاوي جوهري. ولقد قدمت هذه الرسالة إلى المؤتمر الدولي الذي انعقد في لندن عام 1911. أما المتكلم في هذه الرسالة فهي روح سماوية، وأما الحديث فانه يدور حول التقدم العالمي والإخاء البشري. ولم يلجأ الكاتب إلى استعمال السجع، وهذه الرسالة مفخرة للأدب العربي العصري، وهي جديرة بأن تكون موضوع دراسة خاصة، ولكني أكتفي هنا بالإشارة إليها لخروجها عن موضوع بحثي.
ويمكننا أن نتبين في هذه المؤلفات عدة محاولات مجتمعة لإيجاد نوع جديد من الأدب، يسد حاجة جمهور قارئ جديد، ويتصل بعض الاتصال بمشاكله ونظراته إلى الحياة، بحيث يسهل تناوله، ويثير اهتمامه، ويلائم خياله. على أن أصحابها لم يصادفوا نجاحا في تلك المحاولات لأنها كانت أقرب إلى الأدب العالي منها إلى آداب التسلية، فلم يقبل عليها الا عدد صغير من خاصة القراء.
وبدل أن يطرقوا موضوعات جديرة طريفة تسري عن الجمهور ما يلاقيه من متاعب الحياة نراهم يوجهون اهتمامهم إلى هذه المتاعب نفسها فيتناولها بالدرس والتحليل، وأدهى من ذلك انهم كانوا يسلكون في كتاباتهم طريقة الوعظ الجافة، أضف إلى ذلك انهم لم يسلموا من تسلط الفكرة القديمة، فكرة العصور الوسطى، التي تنظر إلى الأدب كوسيلة من وسائل المباهاة والظهور، سواء في ذلك ساروا على الطريقة القديمة أو من قاموا بترجمة بعض المؤلفات الغربية كعثمان جلال والمنفلوطي، ولم يخل الكتاب السوريون من التشيع بهذه الفكرة أيضاً وحتى كتاب الأقاصيص التافهة التي تركت في زوايا النسيان الذي استحقته منذ ظهورها، قد قصدوا في كتاباتهم إلى ذلك الغرض الوعظي الخلقي. ويظهر لنا من هذا أن أولئك الكتاب كانوا ينظرون إلى القصص التي تكتب للجمهور نظرة ازدراء مما كان له أكبر الأثر في تأخر نمو القصة كفن من فنون الأدب العربي.(6/32)
ابن خلدون في مصر
للأستاذ محمد عبد الله عنان
(2)
وانه لمنظر شائق ذلك الذي يقدمه إلينا ابن خلدون عن مجلسه في ذلك اليوم ومن حوله العلماء والأكابر يشهدون الدرس الأول لذلك المفكر المبدع. وهو يحرص على تدوينه كما يحرص على تدوين الأثر الذي يعتقد أنه أحدثه إذ يقول: (وانفض ذلك المجلس وقد شيعتني العيون بالتجلة والوقار). وفي ذلك ما يدل على ما كان يشعر به ابن خلدون من كبرياء وثقة من أنه كان شخصية ممتازة تجب أحاطتها بمظاهر خاصة من التكريم والرعاية. ثم كانت الخطوة الثانية في ظفره بمناصب الدولة، وتعيينه قاضيا ًلقضاة المالكية في أواخر جمادى الآخرة سنة 786 (أغسطس 1384م) مكان القاضي المعزول جمال الدين بن خير السكندري. وكان ارتفاعه إلى هذا المنصب الذي هو رابع أربعة تعتبر من أهم مناصب الدولة إيذانا بوثوب العاصفة من حوله، واضطرام تلك الخصومات التي كدرت صفو مقامه، وادالت نفوذه، واقتلعته من المنصب غير مرة. يقول ابن خلدون في سخرية: (وأقمت على الاشتغال بالعلم وتدريسه إلى أن سخط السلطان قاضي المالكية يومئذ في نزعة من النزعات الملوكية. فعزله واستدعاني للولاية في مجلسه وبين أمرائه. فتفاديت من ذلك، وأبى الا مضاءه). وقد عرف ابن خلدون هذه (النزعات الملوكية)، وعرف أنها تبطن من الشر والنقم في معظم الأحيان أكثر مما تسبغ من العطف والنعم. ولكنه يريد أن نفهم أن ارتفاعه إلى منصب القضاء لم يكن نزعة ملوكية فقط. وإنما أختاره السلطان كما يقول (تأهيلا لمكانه وتنويهاً بذكره).
ونستطيع أن نقدر أن ولاية ابن خلدون لخطة القضاء لم تكن حادثاً عادياً، فقد كان أجنبياً. وكان تقدمه في حظوة السلطان، وفي نيل الناصب سريعاً. وكانت مناصب التدريس والقضاء دائما ًمطمح جمهرة الفقهاء والعلماء المحليين؛ ولم يكن مما
يحسن وقعه لديهم أن يفوز بها الأجانب الوافدون دونهم. وإذا فقد تولى العلامة المغربي منصبه في جو يشوبه كدر الخصومة والحسد. وجلس بمجلس الحكم في المدرسة الصالحية بحي بين القصرين، فلم يمض سوى قليل حتى ظهرت من حوله بوادر الحقد والسّعاية(6/34)
ويقول لنا أبن خلدون في سبب هذه العاصفة التي ثارت حول توليه القضاء، كلاما طويلا عما كان يسود القضاء المصري يومئذ من فساد وأضطراب، وما يطبع الأحكام من غرض وهوى، وعما كان عليه معظم القضاة والمفتين والكتاب والشهود من جهل وفساد في الذمة؛ وأنه حاول إقامة العدل الصارم المنزه عن كل شائبة، وقمع الفساد بحزم وشدة، وسحق كل سعاية. وغرض: (فقمت في ذلك المقام المحمود، ووفيت عهد الله في إقامة رسوم الحق وتحري العدالة. . . . لا تأخذني في الله لومة. ولا يرغبني عنه جاه ولا سطوة، مسويا بين الخصمين، آخذ الحق الضعيف من الحكمين، معرضا عن الشفاعات والوسائل من الجانبين، جانحاً إلى التثبت في سماع البينات، والنظرة في عدالة المنتصبين
لتحمل الشهادات؛ فقد كان البر منهم مختلطاً بالفاجر، والطيب متلبساً بالخبيث، والحكام ممسكون عن انتقادهم فيتجاوزون عما يظهر عليهم من هناتِهم. لما يموهون به من الاعتصام بأهل الشوكة، فأن غالبهم مختلطون بالأمراء، معلمون للقرآن وأئمة للصلوات، يلبسون عليهم بالعدالة فيضنون بهم الخير، ويقسمون الحظ من الجاه في تزكيتهم عند القضاة، والتوسل لهم، فأعضل داؤهم، وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس منهم؛ ووقفت على بعضها فعاقبت فيه بموجب العقاب، ومؤلم النكال. . .) ثم يعدد نواحي الفساد التي شهدها، وجدّ في إصلاحها وقمعها، وكيف مضى في سبيله (من الصرامة وقوة الشكيمة) وكيف احتقر شفاعات الأعيان والأكابر خلافاً لما اصطلح عليه زملاؤه القضاة من قبولها، حتى ثار عليه السخط من كل ناحية، وسلقته جميع الألسن وكثرت في حقه السعاية لدى البلاط.
وهذا التعليل الذي يقدمه لنا أبن خلدون عن سبب الحفيظة عليه، واضطرام الخصومة حوله، معقول يحمل طابع الصراحة والصدق. بل هذا ما تسلم به التراجم المصرية المعاصرة والقريبة من عصره. فيقول أبو المحاسن مثلاً مشيراً إلى ولايته للقضاء: (فباشره بحرمة وافرة، وعظمة زايدة، وحمدت سيرته، ودفع رسائل أكابر الدولة، وشفاعات الأعيان، فأخذوا في التكلم في أمره. . .) ويقول ابن حجر والسخاوي: (فتنكر (أي ابن خلدون) للناس بحيث لم يقم لأحد من القضاة لما دخلوا للسلام عليه، مع اعتذاره لمن عيبه عليه في الجملة، وفتك في كثير من أعيان الموقعين والشهود، وصار يعزر بالصفع، وشبهة(6/35)
الزج، فإذا غضب على إنسان، قال زجوه فيصفع حتى تحمر رقبته) وفيما ينقل السخاوي قصد إلى التعريض والانتقاص، وسنرى أنه شديد الوطأة على أبن خلدون يشتد في نقده وتجريحه؛ ولكن في قوله ما يؤيد أن ابن خلدون كان يصدر في قضائه عن نزاهة وحزم وصرامة؛ بل هو يشهد لابن خلدون بذلك صراحة، حينما يقول عنه في موضع آخر: (ولم يشتهر عنه في منصبه الا الصيانة. .).
انقضت العاصفة على ابن خلدون إذا لأشهر قلائل من ولايته وكثر السعي في حقه والإغراء به حتى (أظلم الجو بينه وبين أهل الدولة) على حد تعبيره، وفقد حظوته وما كان يتمتع به من عطف ومؤازرة. وأصابته في ذلك الحين نكبة أخرى هي هلاك زوجه وولده وماله. وكان منذ مقدمه ينتظر لحاق أسرته به؛ ولكن سلطان تونس حجزها عن السفر ليرغمه بذلك على العودة إلى تونس فتوسل إلى السلطان الظاهر أن يشفع لديه في تخلية سبيل أسرته به، ففعل، وأطلق سراح الأسرة وركبت البحر إلى مصر. ويروي لنا ابن خلدون نبأ الفاجعة في قوله: (ووافق ذلك مصابي بالأهل والولد. وصلوا من المغرب في السفين، فأصابها قاصف من الريح، فغرقت، وذهب الموجود والسكن والمولود؛ فعظم المصاب والجزع، ورجح الزهد، واعتزمت على الخروج عن المنصب) ولم يمض سوى قليل حتى أقيل المؤرخ من منصب القضاء، أو بعبارة اخرى، حتى عزل. بيد أنه يريد أن نفهم أن هذا العزل جاء محققاً لرغبته إذ يقول: (وشملتني نعمة السلطان أيده الله في النظر بعين الرحمة، وتخلية سبيلي من هذه العهدة التي لم أطق حملها، ولا عرفت فيما زعموا مصطلحها، فردها إلى صاحبها الأول وأنشطني من عقالها؛ فانطلقت حميد الأثرة مشيعاً من الكافة بالأسف والدعاء وحميد الثناء، تلحظني العيون بالرحمة، وتتناجى الآمال في العودة) والخلاصة أن ابن خلدون يؤكد لنا إن عزله كان نتيجة التحامل والحقد والسعاية فقط، وأنه أثار استياءً وأسفاً في المجتمع القاهري، وأنه غادر منصبه موفور الكرامة والهيبة. بيد أننا سنرى، حسبما يشير في قوله المتقدم، أنه كان يرمى بجهل الأحكام والإجراءات وأنه لم يكن بذلك أهلا لتولي القضاء، وانه كان مشغوفاً بالمنصب، أشد ما يكون حرصاً عليه.
وكان عزل ابن خلدون عن منصب القضاء لأول مرة في السابع من جمادى الأولى سنة 787 هـ (يوليه 1385م)، أعفي لنحو عام فقط من ولايته، فأنقطع إلى الدرس والتأليف(6/36)
كرة أخرى.
على أن هذا العزل لم يكن إيذاناً بسخط السلطان ونقمته؛ فقد لبث ابن خلدون في منصب التدريس بالقمحية؛ ولم يمض سوى قليل حتى عينه السلطان أيضاً لتدريس الفقه المالكي بمدرسته الجديدة التي أنشأها في حي بين القصرين (المدرسة الظاهرية البرقوقية). واحتفل ابن خلدون كعادته بالدرس الأول، وألقى خطابا بليغا يدعو فيه للسلطان، ويعتذر عن قصوره في تواضع ظريف. وشغل بالدرس في المعهدين حتى كان موسم الحج عام تسعة وثمانين، فأعتزم عندئذ أداء الفريضة، وأذن له السلطان وغمره بعطائه، وغادر القاهرة في منتصف شعبان؛ وقصد إلى الحجاز بطريق البحر؛ ثم عاد بعد أداء الفريضة، بطريق البحر أيضاً حتى القصير؛ ثم أخترق الصعيد بطريق النيل، فوصل القاهرة في جمادى الأولى سنة تسعين (790 هـ)؛ وقصد السلطان تواً واخبره بأنه دعا له في الأماكن المقدسة، فتلقاه بالعطف والرعاية. ثم خلا كرسي الحديث بمدرسة صرغتمش فولاه السلطان إياه بدلا من تدريس الفقه بالمدرسة السلطانية؛ وجلس للتدريس فيها في المحرم سنة إحدى وتسعين، وألقى خطاب الافتتاح كعادته في حفل فخم، وأعلن أنه قد قرر للقراءة في هذا الدرس كتاب الموطأ للإمام مالك؛ ويعرفنا ابن خلدون بموضوع درسه الأول في ذلك اليوم، فقد تكلم فيه عن مالك ونشأته وحياته وكيفية ذيوع مذهبه، ثم يقول لنا في كبريائه المعهود: (وأنقض ذلك المجلس، وقد لاحظتني بالتجلة والوقار العيون، وأستشرت أهليتي للمناصب القلوب، وأخلص النجا في ذلك الخاصة والجمهور).(6/37)
أثر اللغة العربية في العالم الإسلامي
للسير دنسون روس. مدير مدرسة اللغات الشرقية بلندن
- 2 -
الهند:
سأبدأ الآن بالهند مبيناً ما تدين به تلك البلاد للعرب. وكلكم تعلمون أن الفتوح الأولى للقوات الإسلامية في الهند، لم تذهب بهم بعيداً داخل تلك البلاد، ومن ثم كانت قليلة الأثر هناك، ولكن الأتراك في القرن العاشر استطاعوا أن يتوغلوا بالإسلام إلى مسافات بعيدة داخل الهند، إلى أن كان القرن الثالث عشر، وهنا نرى أول ملك إسلامي يتبوأ عرش (دلهي).
ولننظر الآن ما كانت عليه أحوال تلك البلاد في ذلك الوقت، نرى قبل كل شيء أنه كان يوجد في الهند آداب واسعة، هندوكية وبوذية، وكانت تتجلى في اللغات الكلاسيكية التي لم يكن يفهمها الا طائفة محصورة من الناس. ثم يأتي بعد ذلك أن الهنود كانوا وثنيين، وأنهم كانوا أول عدو من غير أهل الكتاب صادفهم المسلمون.
ويعتبر في الحقيقة أتراك أواسط آسيا أول من نشر الإسلام بشكل واسع في الهند، وكان هؤلاء الأتراك يتكلمون التركية بينما كانت ثقافتهم فارسية، وهي تلك الثقافة الفارسية الحديثة، التي ظهرت فجأة في بلاط (سميندس) في بخارى.
وعلى ذلك يكون الإسلام قد أدخل في الهند لغتين: العربية لغة الدين، والفارسية لغة الشعر؛ وكانت العلاقة الوثيقة بين اللغة الفارسية، واللهجات السائدة في الهند الشمالية، هي بلا شك السبب في أن مسلمي الهند قد اختاروا الفارسية واسطة لآدابهم دون العربية والتركية، واستمر الحال كذلك بينهم حتى القرن الخامس عشر، إذ لم تصل اللغة الأردية (وهي خليط من الهندية والفارسية، إلى المستوى الذي تصلح معه لأن تكون واسطة أدبية) الا في ذلك القرن.
ولم يك مسلمو الهند قادرين على تذوق العبقرية التي امتازت بها العربية بالسرعة التي كانت عند غيرهم من الفرس، ولكن حدث على مر الأيام أن أنجبت الهند أدباء نابهين، ومما هو جدير بالملاحظة أن بعضاً من النصوص العربية الأنيقة كان من وضع أدباء الهند(6/38)
في العصور الأخيرة.
وإني أميل بعد ذلك إلى أن أقرر أن أعظم تغيير أحدثته الثقافة الإسلامية، بعد ذلك التغيير الهائل، وهو دخول هذا العدد العظيم من الهند في دين التوحيد، إنما هو ما طرأ على الهند من الميل إلى تذوق التاريخ.
فإن هذا العلم لم يصادف هوى في قلوب الهنود من قبل، إذ كان يعتبر أمراً مادياً صرفا في نظر قوم مفكرين وفلاسفة بالسليقة. وهذا هو السبب في أن التاريخ الهندي القديم قد جمع بصعوبة عظيمة، وكان الاعتماد في جمعه على ما عثر عليه من السكة والتماثيل، دون أن يكون هناك بجانب هذه الأشياء مخلفات كتابية.
ولا تزال التواريخ بل القرون التي ظهر فيها بعض الحكام الأولين موضع جدل ومناقشة. فلما ظهرت الهند الإسلامية، دبت الحماسة في قلوب الناس فجأة نحو كتابة التاريخ، وكان من نتيجة ذلك أن دونت مع التوسع أخبار جميع ملوك دلهي ابتداء من القرن الثالث عشر.
وينبغي أن لا يفوتني هنا أن أذكر إدخال الحروف الهجائية العربية في الهند، وانتشار الكتابة بين الناس على العموم، في بلد كان كلما يتعلق بالعلم والكتابة فيه محصوراً في أيدي البراهمة.
أواسط آسيا وبلاد فارس:
مهما أطنبنا في وصف الأثر الذي تركه تعلم اللغة العربية في عقول سكان أواسط آسيا والهند، فلن يعد ذلك منا إسرافا أو مبالغة، فإن الأثر الذي تركته العربية في عقول الأتراك والفرس، ومسلمي الهند، كان أجل شأنا وأعظم خطراً من الأثر الذي تركته اللاتينية في عقول الأدباء من أهل أوربا في العصور الوسطى.
فمع أن اللاتينية كانت الواسطة للكتابات الدينية والعلمية، لم يكن هناك ميزة أخرى من ورائها سوى تلك المهارة الأدبية التي كان يتصف بها كل من ثقفها. إذ كان قبل حركة الأحياء الكاثوليكية بزمن طويل، نصف سكان أوربا ينظمون الشعر ويتغنون به، كما أن بعض اللغات كانت قد اتخذت فعلا شكلا محدوداً، واصطبغت بصبغة البيئة التي وجدت فيها.
ولم يكن الأمر كذلك في العربية، فان العربية قد أمدت المستنيرين في أواسط آسيا بثقافة(6/39)
تعتبر جديدة من جميع الوجوه. وبثت في قلوب هؤلاء أفكارا طريفة، وفتحت أمام أعينهم عوالم جديدة، وبعبارة أخرى، فان العربية أمدت الفرس والأتراك والهنود (بلغة جديدة) ولا غرابة في ذلك، فانه بالقضاء على الديانات القديمة قضاء ظاهراً، وبحلول العربية محل اللغات القديمة في المسائل الأدبية، ثم باستبدال الثقافة الإسلامية بكل ما يرجع في أصله إلى الثقافة الآرية، كل أولئك يحملنا على القول بأن العربيةأمدت بلاد فارس بخزائن جديدة من العلم، إلى جانب لغة مكتوبة منظمة. أو قل أمدت الفرس (ببعث قومي جديد مع ثقافة حديثة) وكل ذلك في وقت واحد، فلقد أتحفت العربية أواسط آسيا بالشعر العربي الذي غيّر وجه الشعر هناك، ثم بالفلسفة اليونانية، وغيرها من العلوم.
ونستطيع أن نقول أن المجوسية لم يكن لها الا معنى ضئيل في عقول معظم الرعايا الساسانيين، وكان لا يفهمها الا طائفة الكهنة، بينما كانت لغة الكتب المقدسة وهي الفهلوية لا يكاد يفهمها إلا رجال الدين، وطائفة الموظفين الرسميين.
فمن السهل أيضاً أن نتصور الأثر المباشر الذي أحدثته العقائد الإسلامية في الفرس، بله الروعة والدهشة للتي تركهما في نفوسهم ذلك الكتاب المقدس الذي نزل بلسان سهل مبين.
هذا وينبغي أن لا ننسى أنه في الأيام الأولى قبل إدخال الشكل، وخلو العربية من الحروف التي تعين الساكن والمتحرك لم يكن من السهل قراءة اللغة العربية، ولكن العربية كانت على أي حال أسهل من الفهلوية، إذ كان نظام هذه الأخيرة في الكتابة أصعب نظام عرف حتى ذلك الوقت. ولكن حينما ظهرت مدارس النحو في الكوفة والبصرة، أصبح من السهل ضبط العربية واستيعابها.
وهذا البحث يؤدي بنا إلى الهجاء العربي، وإلى فن الإملاء، ذلك الفن الذي كان حتى ذلك الوقت مجهولا تمام الجهل في فارس والهند.
أحس الناس وعلى الخصوص غير العرب منهم فضلا عن الزهو الذي داخل نفوسهم بتعلم اللغة العربية، سرورا وميلا عظيما نحو تلك الحروف المرنة السهلة وهي الحروف الهجائية العربية. ولقد كان لهذه الحروف في نفوسهم مثل ما للصور من الجمال الفني ولا سيما إذا نقشت على ظاهر المباني، أو إذا حفرت على الأضرحة والمقابر سواء ما كان منها ثلثاً أو كوفياً أو نسخاً.(6/40)
ولست (إلى حد كبير) أشك في أن هذه الزخرفة الأنيقة في رسم الحروف العربية إنما كانت نتيجة لتحريم تصوير الأشخاص في العهود الأولى. ولكن بحث هذه النقطة ربما يخرج بي بعيداً عن الموضوع.
ويجب ألا ننسى أن العرب لم يدخلوا معهم إلى تلك البلاد أي شيء في شكل فني، وأن الفرس كانت لهم تقاليد فنية ترجع إلى ما يزيد على ألف سنة. ومما يدعو إلى الدهشة أن الإغريق وقد حكموا الفرس فعلا نحو قرنين لم يتركوا فيها أي أثر أدبي، كما انهم لم يتركوا شيئا من هذا في الهند. وكذلك لم يترك فتح الفرس لمصر أي أثر في تلك البلاد. وهكذا استمر الفرس حتى الفتح الإسلامي محتفظين بآدابهم منعزلة تماما عن أي تأثير من غيرهم.
وكانت آداب الفرس محدودة من جهة الانتاج، فلم يكن لديهم عدا بعض الكتب الدينية الا مجموعة من السير والتواريخ كما أنهم ترجموا أمثال بيدبا عن السنسكريتية.
على إن بعض القطع الفهلوية تدلنا على أن الفرس قد أكثروا من الشعر، وربما كانت (المناظرة) ترجع في أصلها إلى الفرس ولكن الأوزان والقوافي العربية كانت أمرا جديدا بالنسبة لهم. وان المرء ليعجب لتلك السرعة التي أخذ بها الفرس هذه الأشياء.
وأريد أن أختتم كلامي بكلمة عما تدين به العربية للفرس. كلنا نعرف أن خلفاء المسلمين في دمشق وبغداد كانوا يدينون للفرس بكل المسائل المتعلقة بالحكم ونظام الملك، ومما يذكر عن أحد الخلفاء الأمويين أنه قال: (أني لأعجب من أمر هؤلاء الفرس: لقد حكموا ألف سنة دون أن يحتاجوا إلينا مرة. بينما نحن لم نستطع مدة المائة سنة التي حكمناها أن نستغني عنهم لحظة).
إن العلم الإسلامي في القرون الأولى كان يدين للإغريق بالمسائل العلمية والفلسفية، ولكنه كان يدين للفرس بما وصل إليه من الآداب الجميلة. وما علينا لكي نفهم أثر الفرس في تلك الثقافة العربية الفخمة إلا أن نستعيد أسماء هؤلاء الشعراء والكتاب المجيدين لنرى عدد من يرجع منهم إلى الفرس من حيث الأصل أو المولد.
(محمود الخفيف)(6/41)
طرائف من شعر الشباب
عتاب
للأستاذ محمود الخفيف
أي ذنب جنيت؟ أن فؤادي ... مذ أردت الجفاء يخفق رغبا
أي ذنب جنيت غير ودادي ... أيكون الوداد عندك ذنبا؟
ذاك ذنبي وكيف أقلع عنه؟ ... إن ذنبي تعلتي ورجائي
ذاك دائي ولست أشفق منه ... فهو برئي وسلوتي وعزائي
كيف أُجْزَى على الوداد جفاء! ... وأُسام العذاب من غير ذنب!
كيف أرجو مع الجفاء عزاء! ... إن هذا الجفاء يُذهب لبي
يخفق القلب إن خطرت ويهفو ... وتَمُرين في سكون غريب
وتظنين أنني عنك أغفو ... كيف أغفو ومهجتي في لهيب؟
لست أنسى وقد مررت سريعا ... لم تبالي بحيرتي واضطرابي
نظرة منك خلفتني صريعا ... نظرة الهجر والجفا والتغابي
أزجر القلب إذ أراك وأبدى ... غضبة الحر وابتئاس الوَلوع
أكتم الحزن والتألم جهدي ... فإذا ما مضيت فاضت دموعي
كنت قبل الجفاء طلق المحيا ... أنهب اللهو والسعادة نهبا
كنت طوع الشباب حرا قويا ... لا أرى في الحياة سهلا وصعبا
كنت كالسيل دافقاً لا أبالي ... بملام ولا أخاف رقيبا
هادئ النفس لا أهاب الليالي ... لا أرى في الوجود شيئاً رهيبا
كنت كالطائر المغرد ضحكا ... مستفيض السرور عذب الشباب
كنت كالطفل لست أعرف شكا ... مطمئن الفؤاد جم التصابي
أسبق الشمس كل يوم شروقا ... فأحيي الصباح فوق التلال
أنزل السهل حيث شئت طليقا ... مشرق الوجه سابحاً في الخيال
يرقص الزهر عن يميني اختيالا ... وتغني الطيور صوب يساري
ويفيض الغدير عذباً زلالا ... رائع الحسن مثل وجه النهار(6/42)
كنت جم النشاط أقضي نهاري ... (كفَراش الربيع بين الزهور)
دائم الوثب لا يقر قراري ... أملأ السمع من غناء الطيور
جعل الحب كل شيء نضيرا ... وأثار الجمال كامن حسي
وسها الدهر فاغتدوت قريرا ... كل ما في الوجود يبهج نفسي
كنت أنت الجمال ملء عيوني ... كنت أنت الحياة تملك لبي
كنت أنت الهناء ملء جفوني ... كنت أنت الشعور يملأ قلبي
كنت وحي القريض ينفث سحرا ... في فؤادي فيستجيب لساني
أنظم الدر من حديثك شعرا ... أين من وقعه رقيق الأغاني؟
أعشق الكون كله في هواك ... إذ أرى الكون في هواك جميلا
أطلب المجد كي أنال رضاك ... لا أرى في الجهاد عبئاً ثقيلا
كم سقانا السرور كأساً دهاقا ... وحبانا الشباب عيشاً رضيا
كم نهلنا من الوداع رحيقا ... وشربنا الغرام عذبا شهيا
ويح نفسي أذاك عهد تولى؟ ... أم تريدين بالجفاء عتابي؟
ولعمري لقد سئمت فهلا ... آمل الوصل بعد طول العذاب؟
من رآني يهوله اليوم لوني ... واكتئابي ولوعتي وذبولي
وهن العظم في الصبابة مني ... ودهى الناس حيرتي وذهولي
يهمس الناس: قد علاه اصفرار ... ويشير العليم في غير همس
أيها الناس إن دائي خطير ... أو ليس الغرام يضني ويؤسي؟
قتل الحب كم أحل دماء ... من دماء الشباب في غير حق!
ولكم أورث النفوس عناء ... واستباح القلوب في غير رفق!
ليت قلبي يطيعني في غرامي ... حطم القلب في الهوى كبريائي
أيها القلب أنت أصل سقامي ... واكتئابي ومحنتي وبلائي
ويح نفسي! أما لهمي انتهاء؟ ... كدت أقضي صبابة ونحولا
ويح قلبي! أما لقلبي ارعواء؟ ... أو لم يأن أن يثوب قليلا؟
شهد الله، لو تحرر قلبي ... لتمنيت أن يعود أسيرا(6/43)
فاقتليني إذا أردت بذنبي ... سوف أبقى بما جنيت فخورا
كدت أهوى الشقاء لولا اشتياقي ... لذة الحب لوعة واضطراب
أن بعد الغياب يحلو التلاقي ... ويلذ الهوى وينسى العذاب
أخدع القلب في الهوى وأسَرِّي ... عن فؤادي بأنني سأراك
أن هذا الخيال يشرح صدري ... كيف بالوصل حين ألثم فاك؟(6/44)
الفلاح
رفقاً بنفسك أيها الفلاح ... تسعى وسعيك ليس فيه فلاح
// لك في الصباح على عنائك غدوة ... وعلى الطوى لك في المساء رواح
هذي الجراح براحتيك عميقة ... ونظيرها لك في الفؤاد جراح
في الليل بيتك مثل دهرك مظلم ... ما فيه لا شمع ولا مصباح
فيخر سقفك إن همَت عين السما ... ويطير كوخك إن تهب رياح
هذي ديونك لم يسدد بعضها ... عجزاً، فكيف تسدد الأرباح؟
بغضون وجهك للمشقة أسطر ... وعلى جبينك للشقا ألواح
عَرق الحياة يسيل منك لآلئاً ... فيُزان منها للغنى وشاح
قد كان يجديك الصياح لديهم ... لو فجر الصخرَ الأصم صياح
يتنازعون على امتلاكك بينهم ... فلهم عليك تشاجر وكفاح
كم دارت الأقداح بينهم ولم ... تملأ بغير دموعك الأقداح!
حسب الولاة الحاكمون على القرى ... أن ثَمّ أجساد ولا أرواح
كيف التفاهم بين ذينك: نائح ... يشكو العذاب، وسامع مرتاح
قد أنكروا البؤس الذي بك محدق ... أفينكرون الحق وهو صراح؟
يا غارس الشجر المؤمل نفعه ... دعه فان ثماره الأتراح
اقلعه فالثمر اللذيذ محرم ... للغارسين وللقوي مباح
أصبحت تورثك الحقول أسى فما ... يهتاج أنَسك نشرها الفياح
أفنت حقولك آفة أرضية ... عاثت بها وشعارها الإصلاح
سر ببؤسك فاضح لذوي الغنى ... لو أن سرك في البلاد يباح
يا ريف ان كتاب بؤسك مشكل ... يعيا بحل رموزه الشراح
أطيار روضك غالها باز العدا ... وعدا على أسماكك التمساح
الورد قد خنقته أشواك الربى ... ظلما وفر البلبل الصداح
يا ريف ما لك شرب أهلك آجن ... رنق، وشرب ولاة أمرك راح؟
النجف. أحمد الصافي النجفي(6/45)
وداع
أذكري يوم أن رحلت اذكريه ... لا قضى الله بعد ذلك بينا
يوم كنا على المحطة نبغي ... لو يطول الوقوف ثمَّ علينا
قد أخذنا لنا مكاناً قصيا ... فذكرنا غرامنا واشتكينا
ونخاف القطار يأتي، فنمضي ... ننظر الساعة التي في يدينا
بل خدعنا نفوسنا (يا سعاد) ... وعبثنا بعقربيّ ساعتينا
نحسب الوقت بالدقيقة حتى ... قدم (القطر) من بغتة فبكينا
وتضنين بالفراق، إلى أن ... دق صوت الناقوس في أذنينا
فركبت القطار، ثم تهادى ... فحكانا، ونحن نمشي الهوينى
لم يكن بعد، غير بضع ثوان ... واختفيتم عن عيننا واختفينا
افترقنا ولم نبل غليلا ... ولنا اليوم أشهر ما التقينا
لا جزى الله يوم بينك خيرا ... كم أسال الدموع من مقلتينا!
محمد برهام(6/47)
بعد الحب
// لم تكن للحياة قبل لقائي ... بك معنى، فأنت معنى حياتي
زهَرُ الروض كان خلوا من العط ... ر فأمسى معطَّر النَفحاتِ
وليالي الربيع كانت بلا سح ... رٍ فباتت ظلالها ساحراتي
وبنفسي لحن سجين عن الحب ... وناي مشوش الصرخات
أنت أطلقته فدوَّم في الصد ... ور غني بأعذب النغمات
والهوى يصبغ الحياة بلون ال ... ورد حتى تعود شتى النبات
إنني إن أسفت آسف للما ... ضي، تولى لم أدر طعم الحياة
هو عهد مضى، وعيني عليها ... حجب من ستائر مظلمات
ثم جاء الهوى ففتح عينيَّ ... فأبصرت فتنة الكائنات
فإذا بالجمال يسبح في الجو ... ويسري شذاه في النسمات
وإذا بالجمال يسبح في الرو ... ض ويهدي شذاه للزهرات
كل ما في الجمال حلو مع الحب ... فيا حب أنت سر الحياة
أمين عزت الهجين(6/48)
في الأدب الشرقي
نظرات في الأدب الفارسي
منذ نشأته إلى إغارة التتار
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 2 -
يروي عن الرودكي أنه نظم شعراً كثيراً جداً يقدره بعضهم بألف ألف بيت. وأنه نظم كليلة ودمنة، ولكن ليس عندنا من شعر الرودكي كله الا قطع منها نحو242 رباعية، ومن الحكايات المأثورة المشهورة عن هذا الشاعر ما ذكره نظامي العروض، أن الأمير نصر بن أحمد خرج بجيشه إلى هراة فأعجب بهوائها وثمارها، وبقى يتردد في أرجائها أربع سنين حتى ضاق العسكر ذرعاً، ولم يستطيعوا صبراً عن أوطانهم وأولادهم، فذهبوا إلى الرودكي وجعلوا له خمسة آلاف دينار على أن ينظم شعراً يشوق الأمير إلى بخارى. فنظم قصيدة وجاء الأمير وهو يصطبح، فغناها على المزهر فما أتم الأبيات حتى نهض الأمير مسرعا إلى فرسه لا يصبر حتى يلبس حذاءه، وتوجه إلى بخارىلا يلوي على شيء، فلم يدركه الناس الا بعد فرسخين، وهناك قدم له الحذاء فلبسه.
وأول هذه الأبيات:
بعرى جرى موليان آيد همي ... بعرى يا لهربان آيد همي
(ما يزال يهب علينا نسيم نهر جيحون ... وما نزال ننشق على بعد روح الأحباء)
ثم يؤثر على الرودكي شعر من نوع الدوبيت أو الرباعي. وهو ضرب فارسي. فهذا أول شعراء الفرس ينظم على أساليب العرب وعلى أسلوب آخر، وهذا ينبئ بما سيكون عليه الشعر الفارسي الحديث من الجمع بين الصبغتين العربية والفارسية.
ثم نجد هذا الشاعر يسبق إلى نظم القصص، إذ نظم كليلة ودمنة، وهذه ميزة أخرى من مزايا الشعر الفارسي كلف بها الشعراء من بعد.
توالى الشعراء من بعد الرودكي وارتقى الشعر على الزمن حتى بلغ غايته.
شجع السامانيون الآداب الفارسية، ولمنصور بن نوح منهم شعر فارسي، فنبغ في أيامهم(6/49)
شعراء يقاربون الثلاثين، ثم شرعوا يؤلفون ويترجمون الكتب من العربية إلى الفارسية، فترجم تاريخ الطبري وتفسيره (وألف لهم بالفارسية كتاب أبي منصور والهروي في الطب) ومنه نسخة مخطوطة في فينا، وهي أقدم مخطوط فارسي (سنة 447 هـ) وألف لهم كذلك كتاب في التفسير. فهذه الكتب الأربعة أقدم نثر فارسي بأيدينا.
وأما بنو بويه فليس لهم أثر في الأدب الفارسي، وأكثر أمرائهم كانوا شعراء في العربية. ووزيراهم ابن العميد، والصاحب من حملة لواء الأدب العربي لا الفارسي، وحسبنا أن الصاحب لم يقصده به الا شاعران فارسيان هما المنطقي والخسروي، على كثرة شعراء العربية الذين مدحوه.
وكان الزياريون في طبرستان من حماة العلوم والآداب، ولكن شيخهم قابوس كان أميل إلى العربية، وقد مدحه الخسروي السرخسي من شعراء الفرس، كما اتصل بابنه منوجهر الشاعر الفارسي الذي سمى نفسه منوجهري تبعاً لسيدة. وقد ألف كيكادس حفيد قابوس كتابه قابوس نامه بالفارسية لتربية ابنه.
وكان من المتصلين بقابوس أبو علي بن سينا، وله شعر بالفارسية، وقد ألف كتابه دانش نامه علائي بعد موت قابوس، فأهداه إلى علاء الدولة أبي جعفر كاكوية في اصفهان وسماه باسمه.
وكان محمود بن سبكتكين في غزنة مقصد كبار الأدباء والعلماء، وأثر عنه وعن ابنه محمد شعر فارسي. فمن شعرائه: العنصري والأسدي، والعسجدي، والفردوسي الذي قدم له الشاهنامه، فلم يعطه محمود ماأراد فغاضبه وهجاه، وقد ألف شرف الملك من شعراء محمود كتابا في الديوان بالفارسية سماه كتاب الأصطفا. ويقال إن اليميني من شعراء محمود أيضاً كتب تاريخ محمود بالفارسية، وكتب البيروني كتاب التفهم في النجوم بالفارسية والعربية.
وفي عصر السلاجقة، ذلك العصر المديد نبغ شعراء كثيرون جداً عد منهم عدني أكثر من مائة - وأعظمهم الأنوري والخاقاني نظامي الكنجري، والأزرقي، وظهير الغارياني، وناصر خسرو والخيام، وبابا طاهر، والفصيحي، ومسعود سعد، والأديب صابر، والمعزي، وعمق البخاري، وسوزني، ونظامي العروض؛ ومن الصوفية: أبو سعد بن أبي الخير، والأنصاري، ثم مجد الدين سنائي، وفي نهاية هذا العصر فريد الدين العطار.(6/50)
ولا ريب أن هذا العصر أزهى عصور الشعر الفارسي.
ومن المؤلفين والكتاب في هذا العصر نظام الملك الوزير مؤلف سياستنامه، والغزالي والسجزي الفرخي مؤلف ترجمان البلاغة في الشعر والصناعات البديعية، والرشيدي السمرقندي مؤلف زينت نامه في علم الشعر، ورشيد الدين وطواط مؤلف الكتاب الذائع الصيت: حدائق السحر في دقائق الشعر، والبهرامي مؤلف غاية العروضيين وكنز القافية، والأسدي مؤلف لغة الفرس، وشاهمر دامه بن أبي الخير مؤلف الموسوعة (نزهة نامه لملاني) ألفها لعلاء الدولة، وخاص بك أمير طبرستان آخر القرن الخامس، والباخرزي مؤلف دمية القصر، ومؤلف طرب نامه وهي رباعيات فارسية، وأبو المعالي محمد بن عبيد الله مؤلف كتاب بيان الأديان في آخر القرن الخامس. ومن مؤلفي الصوفية الهجويري صاحب كشف المحجوب وهو من أقدم الكتب الصوفية، ألف في القرن الخامس.
ومن المترجمين من العربية إلى الفارسية. الجرباذقاني، ترجم تاريخ العتبي للفارسية، وجمال القرشي مترجم الصحاح، وفراهي الذي نظم قاموساً عربياً فارسياً يقرأ في مدارس إيران حتى اليوم، والزوزني الذي كتب معجما عربيا فارسيا سماه ترجمان القرآن، ونصر بن عبد الحميد مترجم كليلة ودمنة.
وفي العصر القصير الذي بين السلاجقة والمغول نجد من الشعراء العطار وجلال الدين الرومي وسعدي الشيرازي وغيرهم. ونجد من المؤلفين ابن اسفنديار مؤلف تاريخ طبرستان، وفخر الدين الرازي مؤلف الاختيارات العلائية، ونصير الدين الطوسي، وشمس قيس مؤلف المعجم، ومحمد عوفي مؤلف لباب الألباب.
هذه نظرة عامة غير شاملة ولا بالغة. ترينا كيف بدأ الأدب الفارسي شعرا ونثرا، وكيف توإلى مع الدول المختلفة. ويكفي هنا أن يقال إن لباب الألباب يحتوي على 27 ملكاً نظموا بالفارسية و43 وزيراً، و69 عالماً، ويذكر من الشعراء تسعة وثلاثين ومائة.
ولأجل أن ندل على حظ الأقطار المختلفة من هذا العدد نقول: ان خراسان وهي مهد الأدب الفارسي الحديث ينالها 31 من العلماء الذين نظموا بالفارسية و55 من الشعراء. وما وراء النهر 13 من العلماء، و22 شاعراً. والعراق 16 من العلماء و16 من الشعراء. وغزنة وما يليها 22 شاعراً. فخراسان أوفرها حظاً.(6/51)
بعد هذا يحق لنا أن نسأل ما مميزات هذا الأدب الفارسي الإسلامي في الشعر والنثر؟
فأما الشعر فيشارك الشعر العربي في موضوعه من الهجاء والمدح والغزل والفخر والوصف (في ميل إلى المبالغة) ويمتاز بأشياء:
(1) ذكر ملوك الفرس القدماء وأبطالهم مثل فريدون ورستم، وزال، وكأس جمشيد، وقد سرى هذا إلى الشعر العربي الذي نظم في بلاد الفرس كشعر بديع الزمان وأمثاله.
(2) يمتاز الشعر الفارسي بميزتين عظيمتين: الشعر القصصي والشعر الصوفي.
فأما الشعر القصصي فقد أولع الفرس به في كل عصر، وقد رأينا أن أبان بن عبد الحميد نظم كتاب كليلة ودمنة بالعربية، وأن الرودكي أول شعراء الفرس الكبار نظم هذا أيضاً، ومن الأدلة على ولع الفرس بالقصص قصة يوسف وزليخا، فهذه القصة مأخوذة من القرآن، ولكن شعراء العرب لم يهتموا بها، وأما الفرس فقد نظموها مراراً، نظمها من كبارهم الفردوسي وجامي. ونظمها آخرون. ورواية وامق وعذراء التي قيل أنها قدمت لعبد الله بن طاهر فأمر بطرحها في الماء؛ نظمها العنصري شاعر محمود الغزنوي، ثم الفصيحي في رعاية كيكادس الزياري ونظمها أربعة شعراء آخرون.
وحسبنا شاهنامه الفردوسي التي حاكاها شعراء كثيرون فألفوا شاهنمات لم تنل ما نالته من القبول والصيت؛ ومن القصص المنظومة رواية خسرو وكل، وبلبل نامه لفريد الدين العطار، وسلامان وايسال لمولانا جامي وغيرها مما لا يتسع المقال لتعديدها.
وأما الشعر الصوفي فقد بدأه أبو سعيد بن أبي الخير من بلدة مهنا في خراسان، وأبو عبد الله الأنصاري من هراة. نظما فيه قطعاً ورباعيات، ولكن لم يكثر فيه التأليف الا بعد مدة طويلة، إذ نبغ طليعة فرسانه سنا، الغزنوي، ثم قفاه العطار ثم تلاه إمام الصوفية مولانا جلال الدين الرومي صاحب المثنوي الذي يسمى القرآن في اللغة الفارسية، ويقال لمؤلفه لم يكن نبيا ولكن أوتي كتاباً.
ومن بعد غارات التتار نبغ لسان الغيب شمس الدين حافظ الشيرازي والشيخ عبد الرحمن الجامي الذي يعد آخر شعراء الفرس العظام.
والحق أن اللغة الفارسية تبذ سائر لغات العالم بهذا النوع من الشعر النفسي الإنساني الفلسفي الذي يرتفع عن جدال المذاهب وعصبيات الأجناس، وينفذ إلى بواطن الأشياء(6/52)
فيرى الوحدة الإلهية المتجلية في مظاهرها العديدة.(6/53)
الأدب الياباني
للأستاذ أحمد الشنتناوي
- 2 -
انتهينا في مقالنا الأول من الكلام عن الأدب الياباني حتى نهاية العقد الثامن من القرن التاسع عشر، أي بعد أن هدأت الثورة اليابانية الأهلية وابتدأت بوادر التجديد تظهر في جميع نواحي الحياة اليابانية كما هي العادة دائما عقب الثورات الاجتماعية الخطيرة التي تظهر في الأمم. وكان حظ الأدب الياباني من هذا التجديد عظيما إذ لم يلبث أن ظهر في الميدان الأدبي (كويو) وهو مؤسس المدرسة الأدبية الحديثة في اليابان المسماة (أصدقاء المحبرة) وكان هو وتلاميذه وأتباعه يدينون بالمذهب الواقعي، ولا يكتبون الا القصص المفعمة بالمشاعر الرقيقة، والتي تتزاحم فيها العواطف والنزعات المختلفة، متخذين كتاب الحياة مصدرا ومعينا لما يكتبون ويصفون. وبالرغم من تباين أتباع (كويو) في الأعمار والمراكز الاجتماعية والأزمنة التي عاشوا فيها كانوا يضربون جميعا في مؤلفاتهم على هذا الوتر الحساس الذي طرب له (كويو) فاتخذه شعاراً لمدرسته الأدبية الحديثة، ونعني به المذهب الواقعي. ولم يعمر (كويو) طويلا بل توفي في عنفوان شبابه بعد أن طبقت شهرته جميع أنحاء اليابان. وتعد قصته الموسومة (بشيطان الذهب) أبلغ أعماله الأدبية على الإطلاق. ولقد اشترك مع (كويو) في تأسيس تلك المدرسة الأدبية الحديثة أديب آخر يدعى (روهان) ولو أن هذا لم يكن يميل إلى المذهب الواقعي، بل كانت الروح الغالبة على مؤلفاته هي الروح الخيالية الدينية الفلسفية. كذلك اكتسب هذا الأديب شهرة فائقة بقصة ألفها تدعى (بوذا المدلل) وهو لم يكتب شيئا آخر غير تلك القصة، ولو أن العمر امتد به إلى ما بعد تاريخ هذا الكتاب بكثير.
وبعد الحرب الصينية اليابانية أخذت الآداب الغربية تطغي على اليابان رويدا رويدا، وكان أعظمها أثرا مؤلفات تولستوي وإبسن إذ ترجمت إلى اليابانية آثارهم وآثار غيرهم من زعماء الأدب الأوربي أمثال موبسان وهوجو وزولا وغيرهم حواليعام 1896 حتى وقف العقل الياباني حائرا أمام هذا السيل الجارف من الآداب الأوربية؛ وحاول (كويو) وأتباعه أن يدخلوا روحا جديدة تحليلية على الأدب الياباني، وفعلا أصدروا عدة مؤلفات تعبر(6/54)
أصدق تعبير عن نفسية الشعب الياباني الحديث، كما تعصب فريق آخر لأدب زولا وحاولوا تقليده.
وبعد انتهاء الحرب الروسية اليابانية التي شب أوارها عام 1905 نجد الآداب اليابانية تزيد صبغتها الغربية وتقوى، فأننا نجد مثلا (هجوتسو) أحد أساتذة جامعة (واسدا) في طوكيو يعود بعد سياحته الطويلة في ربوع أوربا ويؤسس مدرسة أدبية جديدة هي تحوير للمدرسة الأدبية الفرنسية المعروفة بالمدرسة الطبيعية، حسبما تقتضيه البيئة اليابانية وأذواق الشعب الياباني. وأهم المبرزين في تلك المدرسة هما
تبدأ الحرب العالمية بعد ذلك ويخفت صوت الآداب الأوربية نوعا ما، فتجد الآداب اليابانية المجال أمامها متسعا لكي تقف بنفسها في الميدان، وتسمع صوتها للملأ، فتقوم في اليابان حملة عنيفة على الأدب المكشوف، وهو شعار المدرسة الطبيعية، ويطلب أصحاب تلك الحملة بإلحاح أن تكون الآداب وسيلة لطب المثل العليا، وأنها يجب أن تسير في جو محتشم طاهر، وأصبح هؤلاء فيما بعد زعماء المدرسة (الإنسانية) وهؤلاء لم ينجحوا الا في القضاء على أصحاب الأدب المكشوف، ولكنهم في الوقت نفسه ظلوا في إسار الآداب الغربية. ولعل أشهر هؤلاء الجماعة وأرسخهم أدبا هو (أريزيما) وأشهر أعماله الأدبية قصته المسماة (تلك المرأة) وهي تاريخ حياة امرأة حديثة (مودرن) تمثل في جملتها العقلية اليابانية في ذلك العهد الذي تشبع بالروح الغربية، ويمكننا أن نعتبر هذه القصة مثالا لحالة الأدب الياباني في ذلك العصر الذي أغارت فيه الحضارة الغربية على بلاد الشمس المشرقة.
والمتصفح لتاريخ الأدب الياباني منذ أقدم عصوره إلى الآن يمكنه أن يلاحظ بكل وضوح مقدار اختلاف العقلية اليابانية عن العقلية الغربية. فالذي تنفرد به العقلية اليابانية هو سرعة استعدادها لاعتناق كل ما هو جديد. بل التهامه التهاما دون التأمل والنظر فيما إذا كان الطعام الذي ستتناوله في مقدرتها هضمه أم لا. وليس معنى هذا أنها عقلية عديمة القدرة على التمييز والاختيار ولكن هذا التمييز وهذا الاختيار يأتيان بعد فترة من الزمن بعد أن تملك النفس زمامها وتألف رؤية الشيء الجديد ويذهب عنها بريقه ولمعانه. ويمكننا أن نذكر لك أن اليابان كانت تعشق أدب تولستوي عام 1894 فتحولت عنه إلى سودرمان(6/55)
وهوبتمان عام 1896، ثم تحولت عنهما عام 1897 إلى موبسان وزولا وهوجو ثم منهم إلى ترجنيف عام 1898 ثم إلى نيتشه عام 1901 ثم إلى مكسيم جوركي ومترلنك عام 1902 وأخيرا انتهى بها التنقل والمطاف إلى تشيكوف وواجنر عام 1903. وإذا عرفنا هذا لا نعجب إذا رأينا اليابان تحتفل احتفالا عظيم الشأن بالعيد المئوي للشاعر شيلر، أو إذا رأيناها تخصص الصفحات الأولى من جرائدها ومجلاتها المحترمة للكتابة عن إبسن ومؤلفاته ومكانته الأدبية الممتازة عقب وفاته. لهذا يمكننا أن نعتبر الآداب الغربية نوعا من أنواع (المودة) التي تروح وتغدو كل عام بين أوربا واليابان.
ولم يعقب هذا اللقاح المتعدد الأنواع والأجناس الا نوعا من الآداب أشبه شيء بالثوب الذي تزدحم فيه الألوان دون تناسق أو تآلف أو ترتيب، ولكن يصح الآن أن نقول أن الآداب اليابانية قد تخلصت من جميع تلك العناصر الغربية بل يمكن أن نميز فيها بوضوح اتجاهين يابانيين جديدين. فانه بعد المدرسة الإنسانية التي أنشأها (سيرا كابا) عقب المدرسة الطبيعية ظهرت مدرسة أخرى جديدة تدين بالمذهب الواقعي جعلت همها مخاطبة الجماهير والتحدث إليهم عن معايب الطبقة الرأسمالية الغنية؛ وكان زعيم هذه المدرسة الجديدة (كيكوتي) الذي أسس عام 1911 في اليابان جمعية أدبية أطلق عليها اسم (جمعية القصصيين) ولا يزال أثر هذه المدرسة نافذ المفعول حتى اليوم، لأن آثار (كيكوتي) وأتباعه الأدبية قد لاقت هوى في نفوس العدد الأكبر من اليابانيين لأن رجال المال هم القابضون على زمام الأمور في تلك البلاد.
أما الاتجاه الآخر فهو أن جماعة من كتاب اليابانيين الحديثين أخذوا على عاتقهم أن يصفوا في كتاباتهم حياة الطبقة الدنيا من اليابانيين أي طبقة العمال ومن إليهم، وقد تعمقوا في هذا الوصف حتى أنك تكاد تلمس بيديك في كتاباتهم هيكل البؤس والتعس المخيم على هذه الطبقة الفقيرة.
وخلاصة الموقف الأدبي الآن في اليابان هو أن هناك في الميدان أربع فرق من الأدباء تتنازع الجمهور الياباني، فالفريق الأول هم أصحاب المدرسة الكلاسيكية الذين يعشقون الآداب لذاتها، وهؤلاء يمثلون الطبقة الأرستقراطية من المجتمع، ويقفون وجها لوجه أمام الفريق الثاني أي الأدباء الذين يعبرون عما تكنه صدور الطبقة الدنيا من آلام وآمال وهموم(6/56)
وأحزان؛ ثم الفريق الثالث وهم أدباء المدرسة الحديثة الذين يحبون التجديد في كل شيء حتى في العواطف الإنسانية ويطلقون عليهم تهكما اسم (المدرسة الاستقراضية) وآثارها مع ذلك لا تخلو من الطرافة في نواحي عدة منها. أما الفريق الرابع فهم أدباء المدرسة الشعبية وينضم تحت لوائها العدد الأكبر من أدباء اليابان وهم يخاطبون الشعب الياباني كأنه كتلة واحدة لا تباين فيها ولا اختلاف.(6/57)
في الأدب الغربيّ
قصة فيلسوف عاشق
للدكتور طه حسين
- 2 -
واتصلت زيارة أغوست كونت لأسرة كلوتيلد، واشتدت الصلة بينه وبينها متانة وقوة؛ وأخذت تزول من هذه الصلة بقايا هذه التكاليف الاجتماعية التي تواضع الناس عليها في حياتهم المألوفة، والتي لا يزيلها ولا يمحوها الا المودة الخالصة إذا بلغت أقصاها، أو الحب الصحيح إذا انتهى إلى غايته. وألحت الأسرة في التعريض بهذه الزيارات المتصلة، وبهذه الصلات التي كانت تتخلص شيئاً فشيئاً من التكلف والاحتشام. ونزعت الفتاة نفسها وقتا طويلا في أن تتحدث إلى الفيلسوف بهذه الريبة التي أخذت تثور حولهما في نفوس الأسرة؛ ولكنها انتهت إلى أن أنبأته بما عندها من ذلك فاستمع لها، ولم يحتج إلى تفكير وتقدير ليمتلئ قلبه سروراً وغبطة، وليأخذه شيء من الكبرياء غريب في ظاهر الأمر، ولكنه مألوف عند العشاق والمحبين. وماله لا يسر ولا يغتبط والحجب ترفع كل يوم بينه وبين من يهوى؛ وماله لا يأخذه الكبر ولا يملأه التيه وهو يثير الريبة في نفوس الأسرة، ويضطرهم إلى أن يشعروا بحبه للفتاة وبأن الفتاة لا تزدريه ولا تفرط في ذاته، ولا تنظر إليه في غير عناية ولا اكتراث. لعلها لا تحبه كما يحبها ولكن في قلبها عاطفة ما تعطفها عليه وتدفعها إليه. ومن يدري؟ لعل هذه العاطفة أن تنمو وتقوى وتخضع لما يخضع له الإنسان بملكاته وعواطفه من التطور، فتستحيل من المودة الخالصة إلى الحب العنيف. وإذا فما له لا يستأنف سعيه وإلحاحه؟ وما له لا يدور حول قلب الفتاة لعله يجد سبيلا لبلوغه والوصول إليه. وقد فعل. فهذا الحنان الذي كان قد كظمه في نفسه أو أسبغ عليه لوناً من الجد يجعله إلى الود أقرب منه إلى الحب، قد أخذ يتجرد من ثوبه المتكلف ويظهر على حقيقته وفي صورته الصحيحة، وقوته التي لا تبقي على شيء. وهذا التحفظ الذي كان اصطنعه في الحديث يزول شيئاً فشيئاً. وإذا هو صريح، وإذا هو يجدد إعلان الحب، ويكرر هذا الإعلان ويحيط الفتاة بشباك من الطلب والأمل والتضرع والاستعطاف والأغراء الذي يتجه إلى العقل حيناً وإلى الشعور حيناً آخر. وكيف تريد أن تفلت الفتاة من(6/58)
هذه الشباك جميعاً وهي لا تكاد تخلص من واحدة حتى تتعثر في أخرى. هي مضطرة إذا إلى أن تسالم بعض الشيء وتصانع إلى حد ما، وتنهزم عن خط الدفاع الأول كما يقولون.
وهل كانت هي في نفسها منصرفة عن الفيلسوف حقاً راغبة عن حبه كل الرغبة؟ لست أدري ولكنها على كل حال عجزت عن المقاومة فكتبت إلى أجوست كونت تنبئه بهذا العجز وتظهره على ذات نفسها وتبين له رأيها في التخلص من هذا الموقف الدقيق ورأيها أنها لم تكن تقدر أن أحداً يكلف بها ويتهالك عليها، وأنها هي لا تكلف بأحد ولا تتهالك على أحد، ولكن أملها إن صح أن يكون لها أمل في الحياة، إنما هو طفل تقف عليه حبها وحنانها وقوتها ونشاطها. وهي إذا شاركت رجلاً في الحياة فإنما قوام هذه الشركة الوصول إلى تحقيق هذا الأمل. وهي حريصة كل الحرص على أن يكون شريكها إن ظفرت به رجلا ممتازا مرتفع النفس كبير القلب خليقا بالإكبار. وهي تجد هذه الخصال كلها في الفيلسوف ولا تكره أن تتخذه شريكا في تحقيق هذا الأمل وخلق هذه الطفل. ولكنها لا تريد أن تخدعه ولا أن تغره فهي لا تحبه بالمعنى المألوف لهذه الكلمة وحياتها ليست بالشيء النفيس الذي يحرص الناس على الاشتراك فيه. فهي بائسة تحتاج إلى من يعزيها وهي فقيرة تحتاج إلى من يعولها. وهي لا تحمل لشريكها الا مودة صادقة وإخلاصا لا حد له.
ويقرأ الفيلسوف هذا الكتاب فيجن جنونه وتدور به الأرض ثم تهدأ نفسه، وتشرق في وجهه الدنيا وتبتسم له الأيام. وهل كان يطمع في أن تقبل كلوتيلد منه مثل هذا وترضى أن تكون خليلة وتقاسمه الحياة وتشاركه في خلق إنسان؟ وهو قابل إذا وهو راض وهو سعيد وهو واثق بأن هذه خطوة ستتبعها خطوات وهو يكتب إليها ويمضي كتابه على هذا النحو: زوجك المخلص أجوست كونت.
وتزوره ذات يوم زيارة المستسلمة المستعدة للوفاء بالوعد وإنفاذ هذه الشركة، فيلقاها فرحاً مبتهجا ثم يجلسها ويجثو بين يديها ويقدم إليها صلاة فلسفية حارة. ولكنه عالم لا حظ له من براعة الأدباء ولا من براعة الرجال الذين تعودا عشرة النساء والتلطف لقلوبهن، فصلاته فلسفية، وحديثه بعد ذلك عملي كله وحركاته حين يضطرب في غرفته منظمة قد قدرت تقديراً. فهو لا يرفع شيئاً الا بحساب ولا يضع شيئاً الا على نظام ولا يأتي حركة الا إذا كانت لها علة ظاهرة وتأويل معقول وهو يتحدث عن دخله وعما سيحتاجان إليه من نفقة(6/59)
وعن ترتيب البيت وعن النظام المادي للحياة. وهو على هذا كله دميم لا جمال في شكله ولا روعة، قصير متقدم البطن مضطرب الوجه. فأين يقع هذا المنظر؟ وأين يقع هذا الحديث؟ وأين تقع هذه الحركات المنظمة من قلب امرأة لم تتجاوز الثلاثين بعد؟ ما أسرع ما ضاقت بهذه الشركة ورغبت عنها، وما أسرع ما ضحكت من نفسها في نفسها، وما أسرع ما استيقنت أنها كانت تحاول أمراً لا قبل لها به ولا قدرة لها عليه، وما أسرع ما نهضت وهي تقول: لقد تقدم الوقت دعني أكتب إليك. وما أسرع ما خرجت من الباب وهبطت السلم وبلغت الشارع ومضت، والفيلسوف ينظر إليها من النافذة. فإذا هي تسرع أمامها لا تلتفت ولا تلوي على شيء وتكتب إلى الفيلسوف بعد ذلك معتذرة متعللة قائلة إنها قد تعجلت الوعد وتبين لها أنها في حاجة إلى التفكير الطويل وأن الخير في أن تمهل نفسها لترى. فلا يكاد الكتاب يصل إلى الفيلسوف حتى يحس أنه قد آذاها بحديثه فيكتب إليها متلطفاً ملحاً. وتمضي هي في إبائها. ويشتد هو في إلحاحه حتى إذا أثقل عليها أجابته في شيء من الشدة والصرامة أنها لا تستطيع أن تبيع نفسها ولا أن تساوم فيها فان كان يقنعك ما أعرضه عليك من المودة الخالصة الطاهرة فذاك ولك أن تلقاني في بيت أسرتي كدأبك من قبل ولا بد لي من ستة أشهر أفكر فيها وأروى وإلا فإني عائدة إلى ما كنت فيه من وحدة وعزلة. هنا يفيق الفيلسوف من ذلك السكر الذي كان قد غمره وملأ عليه قلبه وعقله. ويعود إلى حاله الأولى ليس شديد الرجاء ولكنه ليس يائسا بل هو بعيد كل البعد من اليأس واثق بأن العاقبة له وبأن الفوز لن يخطئه مهما يكن من شيء، سيصبر إذا وسيستأنف حياته الأولى فيلقى الفتاة في بيت أسرتها مرتين في الأسبوع.
وكلاهما سيئ الحال ضيق ذات اليد. أما هي فتبحث عن عمل لتعيش منه أو لترفه به بعض الشيء حياتها الضيقة الخشنة. وهي لا تتردد في أن تشغل مكان السكرتير في مكتب من المكاتب أو عند رجل ذي مال ان ظفرت به. ولكنها لا تظفر بشيء ولا بأحد الا فيلسوفها الذي قد وثقت به واطمأنت إليه. فهي لا تخفي عليه من أمرها شيئاً وهو يعدها بالمعونة ويعرض عليها أن يقرضها ما تحتاج إليه، بل يؤكد لها أن كل ما يملك من المال ملك خالص لها تستطيع أن تأمر فيه بما تشاء. نعم ولكنه هو لا يملك شيئا أو لا يكاد يملك شيئا، أعماله شاقة ونفقاته ثقال والمستقبل أمامه مظلم. هو يلقي دروساً(6/60)
رياضية في بعض المدارس الحرة ولكن صاحب المدرسة يريد أن يلغي هذه الدروس رغبة في الاقتصاد، وهو يكسب شيئا من مدرسة الهندسة ولكنه في حاجة إلى أضعاف هذا الذي يكسبه. وهو يلح على تلاميذه في إنجلترا أن يرتبوا له رزقا معلوما، ولكن التلاميذ لا يؤمنون لأستاذهم بهذا الحق وهو مضطر إلى أن يرزق امرأته ثلاثة آلاف فرنك في كل عام، ولا بد له من أن ينقص هذا الرزق وأن يختزل منه ثلثه. وهو على هذا كله يعمل، وهو على هذا كله يحب وهو حريص على ألا يقصر في ذات فلسفته ولا في ذات عشيقته. وعشيقته أيضاً تعمل لخدمة الأدب أن أعجزها ان تعمل لكسب المال. لقد نجحت قصتها الأولى بعض الشيء فما لها لا تكتب قصة أخرى وقد بدأت كتابة هذه القصة واتخذت نفسها لها موضوعاً مع شيء من الرمز والإيماء وأخذت كلما كتبت شيئا أرسلته إلى الفيلسوف، فيقرأ ويعجب ويهيم. ويقرظ فيسرف في التقريظ.
ويستأنف زياراته للأسرة محتملا ما يرى من الأعراض يقابله بمثله في كثير من الأحيان. حتى إذا كتب أخو الفتاة رسالة في الرياضة وعرضها على أستاذه ونظر الأستاذ فيها وأطال النظر فلم تعجبه. فيضطر إلى أن يعلن رأيه إلى تلميذ في غير تردد وإلى أن يتحدث إلى الفتاة بأن حبه لها وحرصه على مودة أخيها لن يمنعاه من أن يعلن رأيه في هذا الكتاب الذي لا خطر له. هنالك يزداد سخط التلميذ على أستاذه وهذا هو الذي يدور حول أخته ويشرب القهوة في البيت مرتين في كل أسبوع، ثم لا يشجع تلاميذه ولا يعترف لهم بما يوفقون إليه من فضل.
ويشتد إنكار الأسرة على الفتاة وتثبت هي لإنكارهم، فتجادلهم في أستاذها وتذودهم عنه، وتخرج من عندهم مكدودة متعبة وتؤوي إلى بيتها وقد فقدت أو كادت تفقد الشجاعة والنشاط. فتفكر في الفيلسوف، وفي أنه الرجل الوحيد الذي يؤثرها بالحب، ويصفيها المودة والعطف، فتنازعها نفسها إليه. ولكن نفوراً قوياً يمسكها أن تندفع في هذا الحب. فتكتفي بالشكوى، وتقبل من الفيلسوف عطفه وحنانه، ومعونته المالية أيضاً. وكانت أعراض الضعف قد ظهرت عليها، فأخذت تحس فتوراً وانحلالا. وأخذت تقاوم سعالا متكرراً مضنياً ولم تقدر إلا أن ما تحسه عرض من أعراض هذا الجهد الذي تلقاه. فصبرت واحتملت وجدّت في كتابة قصتها، وجدّت أيضاً في الأنس إلى الأستاذ وأذنت له أن يزورها في بيتها(6/61)
الخاص، فأحيت أمله، وبالغت في إحياء هذا الأمل حين أهدت إلى الأستاذ باقة من الزهر الصناعي صنعتها بيدها، وأرسلت معه أبياتاً من الشعر لا قيمة لها، ولكن الفيلسوف رآها آية من آيات البيان.
وزارها الفيلسوف ذات يوم فإذا هي متعبة تلقى من الآلام جهداً شديداً فتحدث إليها وأطال الحديث واطمأنت هي إليه اطمئناناً شديداً، فلما نهض لينصرف اختلس قبلة من فمها، ولكنه لك يكد يبلغ بيته حتى كتب إليها كتاباً مشهوراً يعتذر فيه من هذه القبلة، لأنه لم يكن يثق حين اختلسها بأن نفسه كان نقيا طيب النشر. وردت عليه في هذه السذاجة البديعة: (لا بأس عليك فأنا التي منحتك قبلة صديقة مخلصة).
ويشتد المرض والفقر بالفتاة. ويشتد الهيام والبؤس بالفيلسوف، وتزول بينهما الكلفة، وتكثر الزيارة عندها وعنده، ويعرض عليها خادمته لتعينها على الحياة. فتأبى، وتقضي الشتاء وحيدة عاملة لا يسليها عما تجد الا زيارات الفيلسوف لها وعطفه عليها، وقد عرضها على الطبيب فقدر لها مرضاً أخذ يعالجه وهو بعيد كل البعد عما كانت تجد. واشترك الفيلسوف في الأوبرا على فقره ليسلي صاحبته بالموسيقى من حين إلى حين. ولكنه لم ينس الحب ولم يفكر في الأعراض عنه فهو ما زال يلح على الفتاة ويتقاضاها هذه الصلة المادية التي تتوج ما بينهما من ائتلاف العقل والقلب وهي تأبى حتى إذا أثقل عليها فأسرف. كتبت إليه تذعن لما يريد. وهي تقول: إنك تطالب بأجر ما تبذل لي من ود ومعونة فلن أماطل في تأدية هذا الأجر. هنالك استحى الفيلسوف واستكبر فرفض هذا التسليم وأبى الا صلة مصدرها الحب والرغبة.
وزارته ذات يوما وهي مكدودة قد أجهدها المرض، واشتدت بها الحمى فلما انتهت إلى البيت استلقت على وسادة ونظر إليها هو، وأن في عينه لحباً لا حد له، وشهوة لا حد لها. وإذا هو يرى عينيها الزائغتين من الألم وخديها الذين توردهما الحمى فلا يرى الا جمالا مغرياً وحسناً فتانا. وهي مستلقية أمامه لا حول لها ولا طول، وهو قادر عليها؛ ولكنه ليس قادراً على نفسه. فهو يشتهي إلى حد الهيام ولكن عقله ووقاره يأبيان عليه هذا الغصب. فتنحل هذه الشهوة الحادة العنيفة إلى حب وقور، فيه شيء كثير من جلال الدين. والمرض والبؤس يلحان على الفتاة، والحب والفقر يلحان على الفيلسوف وإذا هي قد لزمت غرفتها،(6/62)
ولزمتها خادمة الفيلسوف. وجاء الطبيب فلم يشك في أنها مسلولة مشرفة على الموت. وكثر تردد أمها عليها وكثر تردد الفيلسوف أيضاً. وكانت بين الأم والفيلسوف حول هذا الجسم الناحل وهذه النفس التي تتأهب لمفارقة الحياة، خصومات مؤلمة ولكنها لا تخلو من فكاهة. فأما الأم فكانت أسيرة الأوضاع الاجتماعية، أسيرة هذا الحب الذي يعطف المرأة على ابنتها. وأما الفيلسوف فكان أسير هذا الحب الفلسفي، ولم يكن يتردد في أن يعلن أنه وحده صاحب الأمر في هذا البيت لأنه الزوج الخالد للفتاة. ولم لا؟ لقد كان ينهض بكل ما تحتاج إليه، ويعرف من تمريضها ما ظهر وما خفي. لقد كتبت إليه مرة تقول: ما أشد حاجتك إلى الرحمة أيها العاشق التعس، فلم تظفر من خليلتك الا بشر ما يظفر به الأزواج. وكان مؤلماً جداً، وباعثاً للابتسام أحياناً أن يرى الفيلسوف جاثياً أمام السرير وهو يصلي إلى الفتاة فيدعوها أخته وزوجه وابنته. ويؤكد لها ويقسم ليعصمنها من الموت، ولأن عبثت الطبيعة بجسمها فليضمنن هو لنفسها الخلود. ولم لا؟ ألست أرقى امرأة عرفتها الإنسانية. لقد لقيت أرقى عقل عرفته الإنسانية، فلن يكون للفناء عليك ولا علي سلطان.
وساءت حالة الفتاة ودعي القسيس ليهيئها لاستقبال الموت فلم تمانع هي ولم يمانع هو. وأقبل القسيس فأدى عمله والفيلسوف يراه ويسمع له ساخطا حتى إذا انصرف أقبل فأنكر هذه العادة الدينية التي تنتزع المريض انتزاعاً من الحياة لتدفعه بين ذراعي الموت.
أقبل عذب الصوت رضي النفس حنون القلب فجثا إلى السرير وحنى على الفتاة وأخذ يحدثها أحاديث عذبة كلها أمل وكلها رحمة. ثم انصرف وعاد فإذا الأسرة كلها مجتمعة وإذا هم يأبون عليه أن يصل إلى المريضة. فتثور ثائرته ويخرج عن طوره ويأبى أن ينصرف ويهم بإخراجهم جميعا لأن المريضة زوجه وخليلته وهي له وحده دونهم، بذلك اعترفت له وعلى ذلك أقسمت له فيجب أن يخلى بينه وبينها. فأما الأم فتنكر وتبكي وتستخذي. وأما الأخ فيقبل على أستاذه منذرا. وأما الأب الشيخ فيقبل هادئا وقوراً يطلب إلى الفيلسوف أن يدع المريضة لأهلها.
فانظر إلى الفيلسوف وقد جثى أمام الشيخ ضارعاً مستعطفاً حتى رق له الشيخ فقال أنصرف الآن ولك علينا أن ندعوك إذا استيئسنا منها. خرج الفيلسوف فلزم داره فلما كان من غد جاءه الرسول فأقبل مسرعاً حتى انتهى إلى البيت. فلما رأته الأسرة انفرجت له(6/63)
وخلت بينه وبين غرفة الفتاة. فدخل وأغلق الباب من دونه وأرتجه فأحكم إرتاجه. وأقام ساعات طوال لا يخرج ولا يدخل عليه أحد. ويستطيع الخيال أن يذهب كل مذهب في تصور ما قال الفيلسوف للفتاة المحتضرة أو ما عمل أمام هذا الحب العظيم الذي كان الموت يغلبه عليه قليلاً قليلاً. فلما تقدم النهار ودنى المساء فتح الباب وخرج صامتا لا يلوي على شيء. فأقام في داره ولم يشهد الجنازة ولم يشيعها إلى القبر. وماذا يعنيه من الجنازة؟ لقد حاول أن يصل إلى هذا الجسم فلم يجد إليه سبيلا وحاول أن يصل إلى هذه النفس فلم تقاومه ولم تمتنع عليه، وإنما أسرعت إليه فأقامت في عقله وقلبه. لم تمت كلوتيلد وإنما أودعته خير ما فيها فهي إذا في قلبه، هي إذا تقاسمه حياته الذائلة حتى إذا انقضت هذه الحياة الموقوتة امتزجت بنفسه فكانت منها نفس واحدة خالدة. عكف الفيلسوف في داره على هذه الصورة يعبدها ويهيم بها وما هي الا أن استحال حبه لكلوتيلد ديناً وضعت له التقاليد وألوان الصلوات والعبادات. وأغرب من هذا كله أن الحياة الظاهرة للفيلسوف لم تتغير. فدروسه كانت تلقى في نظام ومجلاته كانت تقرأ في نظام ورسائله كانت تقرأ ويرد عليها في نظام أيضاً.
ما أعجب أمر الإنسان تراه ساذجا يسيرا وأن شخصه لشديد التعقيد.(6/64)
فولتير المؤرخ
للأستاذ زكي نجيب محمود
لبث التاريخ قروناً يتلوها قرون، وهو لا يحسب للشعوب حساباً، ولا
يعنى بحياة الإنسان قليلا ولا كثيراً، إنما ملئت سطوره وأفعمت
صفحاته بذكر الملوك والأمراء، فكان تاريخ الأمة هو تاريخ ملوكها،
أما سائر الطبقات، التي هي في الواقع لحمة الحياة وسداها، وهي
الإنسانية بأسرها، هي مبعث القوى والنشاط جميعاً، فكانت لا تظفر من
المؤرخ بسطر واحد فضلا عن صفحة أو كتاب.
بقيت الحال كذلك ما بقيت الشعوب بعيدة عن دوائر السيطرة والحكم، ثم ما كادت تنهض أوربا نهضة الأحياء، ويستيقظ الناس من ذلك السبات العميق، وتبدأ الديمقراطية الصحيحة تنشر ألويتها، وتجد سبيلها إلى صميم القلوب، حتى انقلب ذلك الوضع الخاطئ، واتخذ شكله المستقيم، وأصبحت الشعوب وحياتها عند التاريخ كل شيء.
ولكل انقلاب رسوله الأمين، ورسول ذلك الانقلاب في كتابة التاريخ هو فولتير، الذي يمثل في شخصه حلقة الاتصال بين العهدين، وجسر التطور بين المنهجين.
كان فولتير كثير القراءة والاطلاع إلى حد النهم، وكلما تقدمت به السن ازداد في ذلك إمعاناً وإدمانا، حتى احتوى في نفسه شطراً عظيما من عصارات الأذهان البشرية التي سبقته إلى الوجود، فلم يسعه أمام ذلك الإنتاج العقلي الغزير، الا أن يكبر العقل الإنساني إلى درجة التقديس، وقد أوحى إليه ذلك الإكبار أن يجرد قلمه للارتفاع بمكانته إلى أعلى عليين. فأخذت تلك اليراعة العبقرية تدبج الفصول التي تظهر فيها عظمة العقل ظهورا واضحاً لا يخطئه النظر، ثم تطورت عنده تلك النزعة فولدت في نفسه عنصراً جديداً، هو حب الإنسانية والفناء من أجلها، فأخذ يسمو بها بمقدار ما يصب غضبه ونقمته على أيدي الجهالة السوداء التي اعترضت سبيل تقدمها، وكانت عثرات في طريقها. هذا التقديس للعقل وللإنسانية، وهذا السخط الذي أراد أن يسحق به عوامل الجمود على اختلاف ألوانها، كان أول عنصر جديد أدخله فولتير في كتابة التاريخ.(6/65)
ونحن إذا تتبعنا مؤلفاته التاريخية، التي كتبها في مراحل عمره المختلفة، أدركنا على الفور تدرج تلك النزعة في نفسه تدرجاً أدى بها إلى تلك الخاتمة التي ذكرنا.
كانت باكورة مؤلفاته التاريخية (حياة شارل الثاني عشر) الذي كتبه ولم يزل يرسف في أغلال التقاليد، التي أملت عليه مثله الأعلى، فأخرج كتابه للناس آية في تمجيد شارل، وإكليلا من الزهر يتوج به هامة ذلك الملك، الذي سما به إلى مرتبة رفيعة لا يدانيها من البشر إلا الأقلون. وكل عبقريته انه نشر الدماء وبعثر الأشلاء!! وانه خاض في أوروبا من الشمال إلى الجنوب، فاحتواها في قبضته من تركيا إلى السويد!! ولكن نفس فولتير لم تضطرب فيها عاطفة واحدة نحو ذلك الشعب الذي نسج حول مليكه تلك العظمة الحربية بخيوط من أرواحه وما ملكت أيديه، كلا ولم يحسب حساباً لتلك الشعوب التي داسها شارل تحت أقدامه، وأذل أعناقها لتخلي أمامه الطريق!.
يسجل ذلك الكتاب أولى مراحل فولتير الفكرية، ولكنه لم يكد يفرغ من كتابه ويذيعه في الناس، حتى اتجه بسائره إلى دراسة العلوم الطبيعية والرياضية: إلى دراسة ما أكتشفه نيوتن وما أرتاه لوك. وهنا آمن بعظمة العقل الإنساني إيمانا لا تزعزعه الريب والشكوك، وما هي الا أن عاد إلى ميدان التاريخ يجول فيه ويصول، ويبحثه في ضوء إدراكه الجديد ولبه المأخوذ بجلال الإنسان. فأخذ يعالجه بأسلوب لم يعهده التاريخ من قبل، بعيد كل البعد عن الطريق التي انتهجها في كتابه عن شارل الثاني عشر.
بهذه النزعة الناشئة. وفي هذا الضوء الجديد، نشر مؤلفه المشهور عن لويس الرابع عشر، الذي أن قرأته فلن تتجاوز ورقات قليلة، حتى تلمس هذا الأسلوب التاريخي الجديد، وتدرك المدى البعيد الذي انتقلت إليه عقليته في كتابة التاريخ. فبينما هو يسرد عليك في كتابه الأول قصة واحد من الملوك، تراه يصور في كتابه الثاني عصراً بكل ما أحتوى من ضروب الحياة. بل تستطيع ألا تجشم نفسك مؤونة القراءة لتتبين هذا الفرق بين الكتابين، ويكفي أن تلقي نظرة عجلى على عنوانيهما لتدرك ما تناول وجهة نظره من تطور وانقلاب؛ فعنوان الكتاب الأول (تاريخ شارل الثاني عشر) وعنوان الثاني (عصر لويس الرابع عشر) في كتاب شارل أخذ يسرد في تفصيل وتطويل ما طرأ على حياة ذلك الملك من أحداث، وما كان يطبع شخصيته من ضروب المميزات والفضائل، أما في هذا الكتاب(6/66)
الأخير، فقد تتبع الشعب في نزعاته وميوله وحركاته، وقد ذكر في مقدمته أنه. (لن يصف حياة رجل واحد، بل سيعني بأحوال الشعب جميعاً) فبينما تراه يلم إلماماً سريعاً بأخبار الحروب، تراه يذكر في إطناب نواحي الحياة الأخرى التي لم تحظ قبل فولتير بصفحة واحدة من صفحات التاريخ. فقد عقد فصلا للتجارة والحكومة الداخلية، وآخر للحالة المالية، وثالثاً لتاريخ العلوم، كما اختص الفنون الجميلة بفصول ثلاث. وعلى الرغم من أنه كان يعتقد ان النزاع الديني لا يستحق الا القليل، الا أنه أفسح لأخبار الكنيسة في عصر لويس الرابع عشر من كتابه مكاناً واسعاً، لأنه لم يشك في أنها لعبت دورا خطيراً في شؤون الحياة، التي أراد أن يصورها في مؤلفه هذا تصويرا دقيقاً.
ولكنا يجب أن نلاحظ أن هذا الكتاب، وإن يكن خطوة واسعة وانقلاباً خطيرا في دراسة التاريخ، الا انه لم يخل من شوائب الماضي إذ أطال فولتير (في غير ما موجب للتطويل) في تفصيل حياة لويس الرابع عشر نفسه، وما كان يتقلب فيه من ضروب اللهو والعبث والمجون، ثم حاول بعد ذلك أن يقيم الدليل على سمو مكانته وعظمة مجده، وأن يدفع حراب النقد التي كانت تصوب إلى أسمه من كل حدب وصوب.
كان ذلك الكتاب إذن وصلة التطور بين عهدين، لأنه ثار على القديم من ناحية، وتعلق بأسبابه من ناحية أخرى، ثم ما كادت تنطوي سنوات أربع، حتى طلع على العالم بسفره الجليل في أخلاق الشعوب، الذي يعتبر بحق أسمى ما أنتجه العقل الإنساني في القرن الثامن عشر.
لم يعن فولتير في هذا الكتاب كثيرا بدسائس البلاط، وتتابع الوزارات، وما أصاب الملوك من سعود ونحوس، ولكنه حاول أن يترسم آثار الإنسانية في سيرها وتقدمها مرحلة بعد مرحلة، فهو يقول فيه (أريد أن أكتب تاريخاً للمجتمع الإنساني، غير معني بما نشب فيه من حروب، وأن أبين في جلاء ووضوح كيف كان يعيش الأفراد في حياتهم العائلية الخاصة، وما هي الفنون المختلفة التي كانوا يعالجونها، ذلك لأن الموضوع الذي أنا بصدده، هو تاريخ العقل البشري، فلن أسرد الحوادث التافهة الحقيرة، ولن أعني بأخبار الأمراء والعظماء وما قام بينهم من ملوك فرنسا من قتال وعراك، ولكني سأدرس المراحل التي اجتازها الإنسان حتى انتقل من الهمجية إلى المدنية).(6/67)
وهكذا ضرب فولتير مثلا أعلى للتاريخ كيف يكون، فاهتدى بهديه المؤرخون من بعده، وأخذوا يدرسون ما هو جدير بالدرس ويسقطون من حسابهم تلك التفصيلات الجافة المملة التي لا تتصل بالحياة الا بسبب واه ضئيل، والتي غصت بها مجلدات التاريخ من قبل.
لم يكن فولتير في تلك الروح الجديدة الا مرآة صافية ينعكس فيها ما تضطرب به نفوس القوم في القرن الثامن عشر، لذلك لم يكن هو الكاتب الوحيد الذي اختط لنفسه هذا النهج، بل عاصره منتسيكو وتيرجوا، اللذان نسجا على هذا المنوال في كتابة التاريخ.
وهكذا بدأ المؤرخون يحولون موضوع الدراسة من أشخاص الملوك والأمراء، إلى حياة الشعوب وما يرتبط بها من مصالح. فأخذوا ينقضون الآراء العتيقة البالية، ويبذرون في النفوس بذور القلق والاضطراب، ثم يحتقرون تلك الشخصيات، التي كانت تملأ عظمتها النفوس من قبل، والتي كانت أقرب إلى الآلهة منها إلى البشر.
وبذلك انقلب التاريخ معولا لهدم الملكية والأرستقراطية بعد أن كان أداة قوية للدعاية لسلطانهم. وأصبح قيثارة تنبعث منها نغمات الديمقراطية، وتقديس الإنسان، وتمجيد الأيدي العاملة؛ ثم أخذت تلك الألحان الجديدة تدوي أصداؤها في جنبات أوروبا عامة وفرنسا خاصة، حتى انتهت بالثورة الكبرى، التي ثلت العروش ودكت قوائم الأرستقراطية دكاً. ولعل ما حدا بفولتير إلى انتهاج هذا الأسلوب في كتابة التاريخ، هو ميله إلى التعميم في دراسته للأشياء. فهو لا يطمئن للبحث في الجزئيات، الا إذا كان ذلك على سبيل الاستشهاد وضرب الأمثلة التي تؤيد قاعدة عامة ومبدأ شاملا. لهذا تراه قد أقام التاريخ على أساس المراحل التي اجتازتها الإنسانية عامة في تطورها؛ أما الملوك ومن إليهم فهم بمثابة الجزئيات من تلك الكتابة الإنسانية؛ فلا يجوز دراستها لذاتها. ولم تقتصر تلك الروح التعميمية على كتابة التاريخ. بل اشتملت روايته أيضاً. فهو لم يحاول أن يصور فيها عواطف أفراد وأخلاق آحاد. إنما قصد إلى إبراز روح العصر الذي وقعت حوادث الرواية فيه.
كان من النتائج الطبيعية لهذه السبيل التي سلكها فولتير في كتابه التاريخ بناء على إكبار العقل الإنساني، وإجلال صفوف الشعب، التي هي نسيج الحياة الاجتماعية ومادتها، انه كان يزهو بحاضره إذا قاسه إلى الماضي، كما كان قوي الأيمان، مزدهر الأمل في مستقبل(6/68)
الإنسانية، ما دامت جادة في طريقها لا تلوي على شيء، أو على الأصح لا يلويها عن تلك الجادة المستقيمة شيء. لذلك كان يضيق صدرا بمن عاصره من الكتاب الذين كانوا إذا أرسلوا بصرهم إلى المستقبل، ارتد حسيرا إليهم، وإذا جالوا الطرف في حاضرهم، قتلهم اليأس والقنوط؛ فكانوا يولون وجوههم إلى الوراء، يستعيدون صورة الماضي، التي كان يخيل إليهم أنها أقرب إلى الخير والكمال. والشعوب إذا دب فيها دبيب العجز والقعود، التمست في الماضي مثلها إلا على، أما إذا كانت فتية قوية، فهي تنظر إلى المستقبل يحدوها الأمل والرجاء. وليسمح لي القراء أن استطرد قليلا فأقول أنني لا اطمئن إلى هذه اللوعة التي يتردد انينها الحين بعد الحين، أسفاً وحسرة على (السلف الصالح) الذين غيبهم التاريخ في جوفه العميق، سواء أكان هذا السلف من المصريين القدماء أم من العرب. إنما يجب ان نذكر أولئك وهؤلاء كما يذكر الشاب القوي طفولته الضعيفة العاثرة، لا كما يذكر الشيخ المتهدم شبابه الفتي الضائع.
أعود فأقول أن فولتير قد ضاق صدراً بتلك الطائفة من الكتاب، التي كانت تنشد مثلها الأعلى في الحياة الماضية، فلم يتردد في أن يذيع في الناس صورة ذلك الماضي المظلم الغشوم، وأن يطلع أمته على حقيقة العصور الوسطى التي كانت تتخبط في ديجور الجهل والفوضى، حيث كانت أشنع الجرائم ترتكب بغير قصاص، وأشراف الإقطاع يبطشون بالناس بطش العزيز المقتدر بغير حساب؛ وبذلك عرف فولتير كيف يهدم تلك الفئة الضالة المضللة، وعرف كيف يمحو هذا الإعجاب السخيف المصطنع بالماضي البالي العتيق، كما عرف كيف يبسط للناس في الأمل الوارف الظلال؛ وكان المعول الذي اتخذه لتحطيم ذلك جميعا، هو سخره اللاذع وتهكمه القارص بهؤلاء الذين يعيشون في الحاضر بأجسادهم، وفي الماضي بنفوسهم وعقولهم (فليستمع الجامدون!!) وقد أخذ عليه بعض النقاد، انه إنما لجأ إلى السخر عندما أعوزه المنطق الذي يدعم به ما يقول! فأين إذن من هو أقوى من فولتير حجة وأسد منطقا؟! ولسنا نشك في أن من المنطق الا يناقش تلك الطائفة بالمنطق! وإلا فحدثني بربك كيف تجد الحجة العقلية سبيلها إلى نفوس هؤلاء، الذين نبذوا الجديد لأنه جديد، ومجدوا القديم لأنه قديم، مع أن العكس أولى وأقوم، لأنه أقرب إلى سنة الحياة؟!.
لله در فولتير في تلك السخرية التي صادفت أهلها وأصابت مرماها، فقد استطاع أن يسحق(6/69)
رجال الدين سحقاً، وأن يسقط أعلام الفكر في عصره، الذين أرادوا أن يعودوا بالإنسانية أدراجهاإلى الماضي، وعرف كيف يزلزل عروش هؤلاء وأولئك (وكانت مكينة حينئذ) زلزالا عنيفا، بأن احتقرهم وازدراهم، تارة بالإهمال والحذف، وطورا بتصويرهم في كتاباته في صور تبعث القراء على الضحك.
نعم استطاع فولتير أن يقوض سلطان الكنيسة المخيف، وان يهزأ بالدراسات الكلاسيكية، التي كانت موضع الإعجاب والتقدير حينا طويلا من الدهر. ولكنه لم يكن هداما وكفى، بل أقام على تلك الأنقاض بناءً قويا من الأمل في المستقبل بعد اليأس من الإصلاح، ومن العناية بالشعوب دون الملوك، بعد أن كانت تلك الشعوب في زوايا الإهمال والنسيان وقد استعان على ذلك جميعا بقوة المنطق تارة، وبالسخرية اللاذعة طورا، حتى كتب له النجاح والتوفيق.
هكذا كان فولتير من رسل الديمقراطية في الطليعة، ومن أبطال الثورة الفرنسية في المقدمة، لأنه حطم ذلك التقديس الإلهي الذي كان يحيط بالملوك ورجال الدين، ثم رفع الشعب حتى تبوأ تلك المكانة السامية، فلوح له بمستقبل مزدهر هنيء سعيد، فلعبت تلك الأماني الحلوة بأفئدة القوم، وضاقوا بحياتهم صدرا، وبدأ القلق يساور النفوس. تعجلا لذلك المستقبل الموعود، فأخذ الشعب يتحفز ويتوثب، إلى أن هب في الثورة الكبرى، وحطم ما كان يرسف فيه من أصفاد وأغلال.
لم يعد لويس السادس عشر الحقيقة حين قال، وقد وقعت عينه في السجن على كتب فولتير وروسو: (لقد انقض هذان الرجلان ظهر فرنسا) ويقصد بذلك أسرة البوربون.
ذلك هو فولتير، الذي لم يكن واحداً في عداد الأفراد، بل احتوى في شخصه عصراً بكل ما فيه من عقل وروح، حتى قال عنه فكتور هوجو: (إذا ذكرت فولتير، فقد ذكرت القرن الثامن عشر).
وهذه هي آثار ما كتبه من أدب وتاريخ، واضحة في النعرة الديمقراطية التي تحتوي الأرض من أقصاها إلى أقصاها، فحق له أن يقول: (إن الكتب تحكم العالم).(6/70)
العلوم
مركز الكون
للأستاذ عبد الحميد سماحه. مفتش مرصد حلوان
في يوم 22 يونيه سنة 1633 وقف العالم الإيطالي الكبير جاليليو جاليلي أمام المحكمة المؤلفة بأمر من قداسة البابا وقتئذ، لسماع الحكم عليه بشأن عقيدته العلمية. وصدر الحكم المشهور فكان لطمة جريئة على وجه الحقيقة العلمية، ليس لها مثيل في التاريخ.
ثبت لدى المحكمة أن جاليليو اعتقد اعتقاداً فاسداً ومنافياً للتعاليم السماوية، بأن الشمس هي مركز الكون وأنها لا تتحرك من الشرق إلى الغرب، وإنما الأرض هي التي تتحرك، وأنها ليست مركز الكون، فحكمت عليه بأن يرتد عن عقيدته هذه وأن يعلن لعنته عليها، واحتقاره لها. ثم بالغت المحكمة في قسوتها، فقضت على جاليليو بالسجن؛ لولا أن تداركته العناية الإلهية، فقد أشفق البابا على الشيخ العظيم، وألغى في اليوم التالي الجزء الأخير من الحكم، ولكنه قضى عليه بأن يلزم عقر داره في الريف، وألا يتصل بأحد الا بأذن خاص.
هكذا جرحت كرامة العلم في شخص واحد من أعز أبنائه. ولم يكن جاليليو في الحقيقة هو صاحب هذه النظرية، فقد زعم بدوران الأرض والقمر والكواكب السيّارة، حول نار مركزية فيلالاوس حوالي القرن الخامس قبل الميلاد. ومن بعده ارستاركس العظيم أحد علماء مدرسة الإسكندرية في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد؛ فقد قال بأن الشمس والنجوم كلها ثابتة لا تتحرك، وأن الأولى هي مركز الكون؛ وأن الأرض تتحرك حول محورها مرة كل أربع وعشرين ساعة، وحول الشمس مرة كل سنة، فيتسبب عن حركتها الأولى ظاهرة الليل والنهار، وعن حركتها الثانية ظاهرة الفصول. ولكن أرسطو اعترض على ذلك اعتراضا عظيما فقال: لو أن الأرض تدور حول الشمس لتسبب عن ذلك تغيير ظاهري في مواقع النجوم؛ ولما كانت الأرصاد الفلكية لا تحقق هذه النتيجة، زعم أرسطو بأن الأرض ثابتة لا تتحرك، وأنها مركز الكون. وعلى هذا الأساس وضع علماء الفلك التفسيرات المختلفة لحركة الكواكب السيارة في السماء. ومع أن الأرصاد لم تؤيد تفسيراتهم المعقدة لم يجرؤ واحد منهم على الأنداد عن تعاليم أرسطو الفيلسوف العظيم دهراً طويلا؛ حتى كان منتصف القرن السادس عشر، وفيه نشر كتاب للعالم البولندي كبرنكس وفيه(6/71)
يفسر المؤلف حركة الكواكب السيارة على أساس نظرية أرستاركس القديمة تفسيراً سهلا، تتحقق بواسطة الأرصاد. فيقول بأن الأرض وجميع الكواكب السيارة تدور حول الشمس. ولكن ما كاد ينشر الكتاب حتى قامت قيامة الكنيسة والجامعات على السواء، وأوصدوا أبوابهم من دون نظرية كبرنكس الجديدة، ووضعوا أصابعهم في آذانهم إذ لم يرق في نظرهم أن يكون مهد الإنسانية ومهبط روح الله عيسى عليه السلام على مثل ما يدعيه كبرنكس في نظريته.
ثم كانت حرب طاحنة بين الحقيقة والوهم، كان النصر فيه حليف الحقيقة؛ لأن جاليليو كان قد أبى بالبراهين العملية على صحة نظرية كبرنكس؛ فرأى بمنظاره الجديد كيف أن الزهرة تتشكل بأشكال مثل أشكال القمر. وبرهن على أن ذلك لا يكون إلا نتيجة لدورانها حول الشمس. ثم جاءت البراهين تلو البراهين على صحة نظرية كبرنكس حتى ثبتت وأصبحت مما لا يقبل الشك. وتعتبر هذه الحقيقة الحجر الأساسي في علم الفلك الحديث، بل ربما كانت هي أهم الحقائق العلمية على وجه الإطلاق.
بعد ذلك تقدمت الأبحاث العلمية في هذا الاتجاه فوجد أن الشمس بدورها ليست الا واحدة من مجموعة شموس، أو نجوم مثلها يقدر عددها بمائة ألف مليون وهذه المجموعة تسمى المجموعة المجرية، وهي المحدودة في السماء بذلك السديم العظيم المعروف (بسكة التبانة) وهي تشبه في شكلها عجلة السيارة، وتدور حول محور عمودي على سطحها مار بالمركز، وان الشمس مع ذلك ليست هي مركز المجموعة، بل ولا قريبة منه، ولذلك تدور حول المركز بمعدل مائتي ميل في الثانية.
ولما تقدمت وسائل الرصد، خطت الأبحاث العلمية خطوة كبيرة أخرى في هذا الاتجاه، فوجد أن ملايين عديدة من المجموعات كالمجموعة المجرية، وهي المعروفة بالسدائم الخارجة عن المجرة. فالسديم (م 31) من المرآة المسلسلة مثلا يبلغ قطره ربع قطر المجموعة المجرية، ووزنه يعادل وزن خمسة آلاف مليون شمس؛ وانه كالمجموعة المجرية يدور في الفضاء حول محور عمودي على مستوى سطحه.
وتبدو هذه المجموعات في المنظار مختلفة الأشكال نظراً لتباين أوضاعها بالنسبة إلينا. أما الأبحاث العلمية الحديثة فنسبتها كلها إلى أصل واحد وإلى سلسلة واحدة من التطورات،(6/72)
فالكروي التام منها مثل (3379 يصبح كرويا ناقصاً مثل السديم (4621 ومع مضي الزمن يصبح كالعدسة المتعصرة من الجانبين مثل السديم (4594 ثم يصير كالقرص أو عجلة السيارة مثل السديم (4565 أو السديم المجري نفسه. وفي منتصف هذه السلسلة من التطورات يبدأ تكون النجوم.
ترى إذن كيف أن مركز الأرض في الكون ضئيل إلى أقصى حد؛ فهي أحد أفراد المجموعة الشمسية تدور حول الشمس (التي هي مركز المجموعة) مرة كل سنة. أما الشمس فهي واحدة من مجموعة عظيمة من نجوم أو شموس تعد بآلاف الملايين؛ وهي الأخرى تدور حول مركز المجموعة. ومثل هذه المجموعة مجموعات كثيرة تعد بالملايين متشابهة في تكونها ومنشئها وتطوراتها.
هذا هو مركز الأرض بالنسبة إلى الأجرام السماوية الأخرى فكيف لو نقيس عليه آمالنا ومطامعنا ومتاعبنا في هذه الحياة؟(6/73)
الشاي
في عام 543 بعد الميلاد، حضر من الهند إلى الصين ناسك متعبد، يذيع في الناس دينه ويدعو إلى الخير والسلام. وما وطئت رجلاه أرض الصين، حتى نذر أن يصوم عن النوم تسعة أعوام، يتأمل فيها فضائل ربه (بوذا) ويعدد مناقبه، ويسبح بآلائه وحمده، وظل على هذه الحال صاحياً ثلاثة أعوام، ثم غلبه النوم، فلما استيقظ استشاط غضباً من نفسه. ولما كان لكل زلة عقاب، قص أجفان عينيه، وألقى بهما إلى الأرض. ثم أخذ من جديد في التأمل والتعبد خمس سنين أخر، ثم بدأت رأسه تميل للنعاس، ولكن وقعت يده اذ ذاك على شجيرة قريبة، فأخذ يتلهى بمضغ أوراقها، فوجد فيها القوة على مغالبة النوم، ووجد فيها اليقظة المنشودة، فأتم تسعة الأعوام المنذورة في يقظة وتهجد. وكانت هذه الشجيرة تسمى بالصينية (شا).
بهذا تتحدث أساطير الصين. ومهما يكن من الأمر، فلا شك أن الشاي أول ما عرف في الصين، ثم انتقل منها إلى اليابان، وهناك زرعوه تعمداً، ثم انتقل غرباً إلى الهند، فأوربا. ولعل أكثر الأمم الأوربية شرباً للشاي، الأمة الإنجليزية، حتى ليظن ظان أنه نبات متوطن بها، وأن عادة شربه نشأت بداءة في تلك الجزيرة الغربية، ثم تفشت في الأمم مشرِّقة. وليس الأمر كذلك، فان الشاي كان شيئاً نادراً في إنجلترا في منتصف القرن السابع عشر، وكان ثمن الرطل منه نحو عشرة من الجنيهات. وكان شراباً جديداً يسقاه الخاصة في مقاهي مختارة. ولما بدأ يدخل المنازل كانوا يغلونه كما يغلون الخضر، ثم يصفونه، فأما الماء فيصبونه في البلاعة جهلا، وأما الورق فيبسطونه كالمربيات على الخبز المزبود فيأكلونه. وبالطبع صحح هذا الخطأ سريعاً تجار لهم في ذلك مصالح، وزاد المستهلك من الشاي في تلك البلاد عاما بعد عام، حتى أربى في السنوات الأخيرة على 400 مليون رطل بمعدل نحو من ثمانية أرطال للفرد في العام.
والشاي أوراق شجيرات لا يكاد يزيد ارتفاعها على متر ونصف المتر، تظل خضراء طول العام، فلا تعرو في الخريف، تحمل وريقات صغيرة، يتراوح طولها بين خمس السنتيمترات والعشر، لها شكل كسنان الرمح، وحرف ذو أسنان. وتزرع تلك الشجيرات فلا يقطف منها شيء في العام الأول، فإذا حانت السنة الثانية تهيأت وريقاتها للقطاف، ويزداد المقطوف منها بتتابع الأعوام. ولما كانت تزرع لورقها، لا لخشبها أو ثمرها، كان(6/74)
لا بد من تقليم أفرعها، كي لا تطول مُصعِدَة، وينتج عن هذا خروج أفرع جديدة من جوانب الأفرع المقلمة، أفرع تكتسي كلها بالورق فيكثر المحصول من الأوراق. وبعد قطف الأوراق تنشَّر على حصر لتجف وتذبل، ثم تدرج وتبرم باليد في ضغط على أسطح من الخشب، والقصد من ذلك تكسير الخلايا لتجود بزيتها العطري، فتطيب رائحته. ويعقب ذلك عملية الاختمار فتعرض الأوراق لدرجة حرارة تتراوح بين 35، 40 درجة مئوية، فتتحول من اللون الأخضر إلى الأصفر، ثم يقتم لونها إقتماما، وذلك بسبب الخمائر التي فيها، فهي تؤكسد بعض حامض التنيك الذي بالورق، فتستحيل إلى مادة ذات لون قاتم تكسب الشاي لونه المألوف. وعملية الاختمار هذه من الأهمية بالمكان الأول، وعلى إجادتها تتوقف جودة الشاي.
أما الشاي ذو اللون الأخضر الذي يباع في الأسواق فيحضر بطريقة كطريقة الشاي الأسود الآنفة، غير انه يحمص قبل تخميره في أوعية تسخن بالغاز تسخيناً هيناً، وهذا التسخين يقتل بعض تلك الخماير التي كانت سبباً في أكسدة حامض التنيك، وفي إحداث اللون القاتم، فإذا تخمرت الأوراق بعد ذلك، قامت بالتخمير بقية الخمائر التي لم يقتلها التسخين، ولهذا يظل الشاي حافظاً لشيء من إخضراره الأول وانفتاح لونه.
والشاي يحتوي مواد كيميائية كثيرة، أهمها ثلاثة أصول: أولها الزيت الطيار، وهو الذي يكسب الشاي نكهة تصعد إلى أنف شاربه فتجد منها السبيل إلى قلبه ونفسه. ومقدار هذا الزيت بالغ في القلة، ولعله لو زاد لما طاب الشاي شرابا. وثانيهما حامض التنِّيك، ويسمى التنِّين كذلك؛ وهو مادة صلبة سحيقة بين البياض والسمرة تذوب في الماء. ويبلغ مقدار التنين في الشاي على العادة من 10 إلى 17 في المائة من وزن الأوراق. والتنين قابض شديد، تعرف أثره في لسانك إذا تذوَّقته. وسبب قبضه انه يرسِّب الزلال والمخاط اللذين باللسان والفم، وبأغشية الجسم الأخرى كالتي تتبطَّن بها القناة الهضمية من معدة وأمعاء. فتجف تلك الأغشية وتنقبض وتقل إفرازاتها. ولذلك كان التنين دواء للإسهال، ودواء للالتهابات التي تعتري القناة الهضمية. فانه فضلا عن تقليل الإفرازات، فإن الراسب الذي يحدثه عند التقائه بمخاط جدران الأمعاء الملتهبة، يقي هذه الجدران مس الطعام في سيره واحتكاكها بما فيه من بقايا خشنة مؤذية. ويستخدم التنين دواء للثة الدامية، وفي التهاب(6/75)
الحلق فيتعاطى غرغرة. هذه كلها لا شك فضائل ولكن في المرض، أما في الصحة فهي مؤذيات يزيد أذاها بالإسراف من شرب الشاي. فمن ذا الذي يحب الإقلال من إفرازاته الطبيعية التي عليها مدار الهضم؟ ومن ذا الذي يحب أن يستعيض عن معدته الطرية الملساء بما فيها من مخاط بمعدة كجلد القرب؟ عرفت سيدة عجوزا يؤذيها الشاي خفيفا، ولكنها تستريح عليه إذا كان ثقيلا كلون الدم السكيب. وكانت تتتعاطاه في بدء كل طعام وفي آخره؛ وما ذاك الا أنها كانت قريحة المعدة لا تحتمل مس الطعام وإن لان. ولكن ليت شعري عمَّ يتساقاه فلاحونا عافاهم الله، فتلك بكارجهم لا تكاد تطفأ من تحتها النار، فيقذفون فيها بالماء فالشاي، فالماء فالشاي، حتى يصبح الشراب أقتم من طالعهم الأسود، أعن أمعدة قريحة يتساقونه فيجدوا فيه شفاء من ألم؟ أم لأنهم لم يجدوا في سوء الغذاء وقلته وفي الامراض الكثيرة المتوطنة بمصر كالبلهارسيا والانكلستوما أداة كافية لهد قواهم فاتخذوا من الشاي في العقد الاخير أداة جديدة تقتل في بطأ وطول؟
وثالث الأصول التي بالشاي وأهمها مادة قلوية تسمى بالكافيين، وإن شئت قلت القهوتين، وإن شئت قلت الشايين، وهذه كلها معناها الأصل الفعّال في الشاي أو في القهوة المتعارفة؛ فالأصلان واحد. وهذا الأصل أهم ما في هذين الشرابين من الأصول الطبية. أما أثره فيظهر في مراكز المخ العليا، فهو يزيد في يقظة العقل عامة، وفي المقدرة على الحكم في الأمور وعلى حسن الاستنتاج، وربط الفِكَر. وهو يذهب بالتعب عقليا كان أو جثمانياً. ولعل شرب الناس له في العصر بعد انقضاء أكثر عمل اليوم، كان لحكمة اهتدى إليها الشاربون بغريزتهم. وهو فوق ذلك يدرّ البول.
وللشاي في الأمم المدنية الحديثة أثر اجتماعي كبير، فقد اتخذت منه تلك الأمم وجبة خفيفة، خفيفة على المعدة وعلى الجيب على السواء، يجتمع عليها أهل الأعمال يتحدثون برهات قصيرة، وأهل المودة يتسامرون ساعات قليلة، ويلتقي عليها الأحباب في برء وعفة، يتجاذبون أطراف الأحاديث الحلوة، ببطون بالطعام خفيفة، وقلوب بالحب مفعمة ثقيلة.(6/76)
القصَص
يوم عصيب في جبل المقطم
للأستاذ محمد الدمرداش محمد. مدير إدارة السجلات والامتحانات
بوزارة المعارف
كان ذلك في يوم جمعة في شهر فبراير سنة 1919، ولم أكن وقتها حديث عهد بجبل المقطم، أو قليل خبرة بوديانه وطرقاته، ولكنها حالة طارئة من النوع الذي يبتلى به رواد الصحراء. فتودي بهم أو تجعلهم يتخبطون فيها على غير هدى، إلى أن تنتشلهم العناية الألهية (كانت تجربة قاسية ولكن الله سلم)، ولا يظنن القارئ أن هذه التجاريب وأمثالها تصد رواد الجبال والصحراوات عن رحلاتهم، بل هي مما يزيد في خبرتهم وحماستهم ويجعلهم (معيدين) يقدمون غير هيابين أو وجلين.
خرجت من منزلي في هذا اليوم في الصباح الباكر، وبصحبتي أحد الأصدقاء نقصد زيارة الغابة المتحجرة الكبرى بجبل المقطم على أربع ساعات من القلعة بالسير الحثيث جهة الجنوب الشرقي وكان اليوم صحواً، والطقس معتدلا، والهواء ساكناً، وكنا على عزم أن نعود بعد الظهر بقليل، فلم نأخذ معنا ماء ولا طعاما سوى شطيرتين (سندوتش) لكل منا. وكانت ملابسي خفيفة وليس معي من مرافق الرحلات الجبلية سوى عصا قصيرة.
وصلنا المنشية في منتصف الساعة السابعة، ثم درنا حول القلعة من جهة (عرب اليسار) وبعد أن اجتزنا تكية سيدي المغاوري أخذنا نرتقي الجبل؛ وبعد نصف ساعة وصلنا هضبة المقطم السفلى، وبعد أن مررنا بقلعة الجبل ومقام سيدي
الجيوشي أخذنا طريقنا إلى هضبة المقطم العليا، ثم أخذنا نسير في نفس الطريق الذي يسلكه عادة الذي يقصدون (عيون موسى) وبعد ساعة مررنا بعيون موسى، ثم انحدرنا إلى وادي اللبلابة وهو واد متسع قليل الارتفاعات، فأخذنا طريقنا فيه متجهين نحو الجنوب وبعد ساعتين من عيون موسى وصلنا الغابة المتحجرة الكبرى بعد أن قطعنا نحو 18 كيلو متراً.
كانت الساعة وقتئذ العاشرة والنصف. وكنا على أحسن ما نكون نشاطاً وسروراً، وكانت الشمس ساطعة، والهواء دافئاً منعشاً، وبعد أن استرحنا قليلا تناولنا ما كان معنا من الطعام.(6/77)
ثم انطلقنا نجوس خلال الغابة باحثين مستطلعين. فهذا جذع شجرة ملقى على الأرض تخاله من بعد أنه جذع شجرة حقيقي. فإذا تبينته عن قرب وجدته قطعة من الصخر الرملي. فالرمل قد حل مكان الخلايا النباتية بألوانها وأشكالها وتعرجاتها، وإذا طرقته بقطعة من الصخر أعطى صوتاً له رنين المعدن (وهذا فرع شجرة حل به ما حل بالجذع) وقد قضينا في الفرجة نحو الساعتين، وكان كل شيء حتى الآن على ما يرام، ولكن لم نكد نتهيأ للرجوع حوالي منتصف الساعة الواحدة. حتى شعرنا بأن ريحاً شمالية غربية باردة بدأت تهب في وجوهنا، ثم تلبد الأفق من جهة الغرب بسحب كثيفة، وزادت سرعة الريح. وبعد قليل انتشر في الجو ضباب كثيف وحوالي الساعة الواحدة سقط رذاذ خفيف وبدأت الشمس تحتجب وراء السحب.
فلما تغير الحال كما رأيت عولنا على العودة مسرعين، فاتجهنا نحو الشمال الغربي قاصدين السير في نفس الطريق الذي سلكناه في الصباح ونظراً لتلبد الجو بالضباب واختفاء الشمس. اعتمدنا في تعرف الجهات على هبوب الريح، فجعلنا نسير في الاتجاه المضاد لهبوبه. وبعد أن سرنا نحو ساعة بالسير الحثيث لحظت أن معالم الطريق بدأت تتغير. فلم أهتم لذلك ظناً مني أنه ربما انحرفنا قليلا جهة الشرق أو الغرب، ولكن بعد ساعة أخرى أدركت أني أسيره في طريق لم آلفه من قبل فساورني بعض القلق وأخذ صاحبي يسألني عن موضعنا بالنسبة للقلعة ومتى نصل وهكذا من الأسئلة المتنوعة، كنا قد وصلنا في هذا الوقت إلى واد صخري عميق ظننته لأول وهلة وادي عيون موسى. ولكن بعد أن نزلناه وسرنا فيه قليلا تأكدت انه غيره، وهنا أمطرتنا السماء مدراراً فتبللت ملابسنا وتوحل الطريق فأعاقنا عن السير، ثم برد الجو، فلم نر بداً من الالتجاء إلى مغارة قريبة لنستريح فيها قليلا، فلما خف المطر استأنفنا السير في نفس الاتجاه، وبعد ساعة أخرى أدركت تماماً أني أسير على غير هدى وأيقنت بعد أن تنكر الطريق أني قد ظللت، فتملكني ضيق شديد وساورتني المخاوف وأخذت أندب سوء المصير في هذه المفاوز حيث لا ماء ولا طعام ولا غطاء، ولكني وجدت من الحكمة ان أخفي حالي عن صاحبي، فكتمت كربي وتكلفت الاطمئنان تكلفا وكنت كلما سألني عن القلعة وعن سبب تأخرنا أجبته أنا لابد واصلان إن شاء الله، ولكن بالرغم من محاولتي إخفاء اضطرابي وتصنعي الهدوء لحظ(6/78)
صاحبي في وجهي شدة الحيرة والقلق، فأخذ يشكو الجوع والبرد والتعب، وزاد الطين بلة أن ثارت في وجهنا في هذه اللحظة زوبعة رملية شديدة وهطل المطر كأنه أفواه القرب فعميت عيوننا وأصبحنا غرقى في لجة من الماء والوحل، وكنا عندئذ نسير على ظهر جبل عال لا يزيد عرضه على عشرين متراً، وعن شمالنا واد عميق جدرانه قائمة كالطور ولا يقل انخفاضه عنا عن مائة متر أو يزيد، وعن يميننا واد آخر كالأول الا أنه أكبر اتساعا وأقل انحداراً، وكان الظلام منتشراً في كل مكان، وريح باردة
عاتية تسفي في وجوهنا الرمل والتراب باستمرار، فتعذرت الرؤية واشتد بنا الكرب وتوقعت في كل خطوة أن نهوى في هوة عميقة أو نسقط على الأرض من الإعياء. طلب مني صاحبي ونحن في هذا الموقف الحرج أن نأوي إلى ملجأ يقينا البرد والمطر وشكا إلى ما حل به من التعب المضني. فطيبت خاطره وشجعته ثم أفصحت له عن حقيقة موقفنا بكلمات قليلة ورجوته أن يصبر، وقلت له أن الليل قد داهمنا وليس لنا من واق في هذه الجبال الا رحمة الله. وأن الوقوف عن الحركة يضر بنا فملابسنا مبللة وبطوننا خاوية والبرد قارص ولا فائدة من التذمر، ثم أردفت ذلك قائلا: ربما كنا أقرب إلى السلامة مما يبدو لنا الآن. فلما وقف صاحبي على ما نحن فيه اضطرب كثيراً ولكن لم يلبث لحسن الحظ أن سلم أمره لله وقال سر بنا وسأتبعك فالله سبحانه يتولانا بلطفه وهدايته. ثم قال: ولماذا لا نسير في عكس اتجاهنا خصوصا وإنا قد جربنا السير في اتجاه مضاد للريح ولم نصل إلى غاية. فقلت له ربما لحظت أني دائما أسير والريح في وجهي وذلك لأني أعلم أن هبوب الريح في مصر في هذا الشهر من السنة يكون عادة من الشمال الغربي أو الغرب، فالسير في هذا الاتجاه أسلم عاقبة ما دمنا لا نملك وسيلة أخرى من وسائل الاهتداء إلى الجهات الأصلية. ولا بد أن يؤدي بنا السير آجلا أو عاجلا إلى وادي النيل. فقال عسى! ثم سكت. وبعد أن قطعنا مرحلة أخرى رأيت من الحكمة أن التجئ إلى الوادي بسبب الظلام الدامس والبرد القارص فاخترت نقطة ظننت أنها ربما تكون أقل خطورة للهبوط إلى الوادي، وأشرت إلى صاحبي أن يتبعني وأن يكون حريصاً منتبها وأن يستجمع كل قواه حتى لا تزل قدمه فيهوى إلى الحضيض، فأومأ بالإيجاب، وفي أقل من نصف ساعة وصلنا بطن الوادي بسلام وبعد أن استرحنا قليلا أخذنا طريقنا متبعين تعاريج الوادي قائلاً(6/79)
في نفسي إن كتب علينا البقاء في هذه البيداء هذه الليلة فسنجد في إحدى المغاور ملجأ وحماية.
بعد أن سرنا في الوادي نحو كيلومتر فطنت إلى أننا متجهان نحو منبع الوادي من اتجاه الحشائش في أنحائها. فعدنا أدراجنا مؤملا إن نحن واصلنا السير أن نصل إلى مدخل الوادي في وقت قريب، وعندها ربما نهتدي إلى طريق يوصلنا إلى مكان يكون لي به معرفة.
في هذا الوقت العصيب ظهرت بارقة أمل على غير انتظار بددت كثيراً من غمنا وكآبتنا وأعادت إلينا شيئا من الطمأنينة والثقة، كانت الساعة السادسة والنصف مساء عندما أدركت أن لي بالوادي الذي نسير فيه معرفة سابقة من بعض الشواهد والعلامات. وبعد قليل ترجح عندي من تعاريج الوادي ونظامها إنا نسير في (وادي دجلة) ثم لم نلبث طويلا حتى ثبت لي من علامة مميزة في الحائط الجنوبي للوادي، وهي فتحة مغارة لها شكل خاص، من أن الوادي هو وادي دجلة حقيقة، فكدت أطير من الفرح وأخذتني نشوة سرور أعجز عن وصفها ولا يشعر بمثلها الا من كان في مثل موقفنا وحالتنا عندما تنتشله العناية الإلهية من ضيق مهلك إلى سلامة مؤكدة، ثم أخذت أفكر فيما عسى أن يكون قد جرى لنا حتى تحولنا عن وجهتنا الأصلية إلى هذا الوادي.
ووادي دجلة واد طويل يبلغ طوله من مدخله حتى نهايته نحو أثنى عشر كيلومتراً، كثير التعاريج ينتهي بشلال غاية في الجلال. يقصده كثيرون من محبي الرحلات الجبلية للتفرج على مشاهده الفريدة ومناظره البديعة ويقع مدخل الوادي في الشرق من (طره) وعلى بعد ساعة ونصف منها، وتمتد بينهما سلسلة من التلال تخفي مدخل الوادي وتجعل الوصول إليه متعسرا. وعقب الأمطار الغزيرة يترع الوادي بالماء ويخرج منه أحياناً سيل جارف يهدد المنطقة حول طره بالإتلاف والغرق.
وبعد أن بشرت صاحبي بالخلاص من الورطة، وبعد أن انتعش وعادت إليه بشاشته أخذت ونحن نسير في الوادي أقص عليه بعض ما صادفته من المواقف الحرجة في رحلاتي السابقة وكيف كنت أخرج منها في كل مرة سالما بتوفيق الله. وبفضل الاطمئنان ورباطة الجأش وقوة ذاكرتي التي تحفظ كثيراً من العلامات المميزة للجبال والوديان التي أزورها.(6/80)
المبارزة
للكاتب الروسي اسكندر بوشكين
لا يعبأ الذين يعيشون في العواصم بالحوادث الصغيرة لانشغالهم بما
هو أهم وأخطر. ولا يتصورون ما يكون لهذه الحوادث على ضآلتها
من الخطر والأثر في المدن الصغيرة والقرى البعيدة. . مثال ذلك
وصول البريد، ففي يومي الجمعة والثلاثاء من كل أسبوع تكتظ مكاتب
المعسكر بالناس. هذا ينتظر نقوداً وذاك رسالة وهؤلاء يسألون عن
الصحف. كل يتلقف ما له في شغف واهتمام. وأذكر أن رسائل سيلفيو
كانت تعنون إلى معسكرنا، وانه كان يزورنا وقت وصول البريد
لتسلمها. وفي أحد هذه الأيام تسلم خطابا، فلما لمح اسم الجهة الصادر
منها حتى لمعت عيناه وأسرع بفضه وقراءته في تأثر وحماس.
وبالطبع لم يدرك أحد سواي هذه التغيرات التي بدت في ملامح وجهه
وحركات يديه لانشغال الجميع بقراءة رسائلهم.
وبعد لحظات التفت الرجل إلينا قائلاً (يضطرني العمل إلى مغادرة القرية هذا المساء، وأنا لذلك أدعوكم لتناول الغداء معي اليوم للمرة الأخيرة، وكلي أمل ألا أحرم من لقائكم جميعا) ثم أشار إليّ بالذات وقال (وكم أتمنى أن أراك بينهم!) ثم أسرع بمغادرة المكان كما أسرع كل منا إلى جناحه الخاص بعد أن اتفقنا على إجابة الدعوة.
ووصلت إلى منزل سيليفيو في الساعة التي عينها فوجدت ضباط الفرقة جميعا هناك، ورأيت كل أثاث المنزل قد جمع وربط استعداداً للرحيل، وأبصرت الجدران عارية من أغلفة الرصاص. . جلسنا إلى المائدة وأكلنا هنيئا وشربنا حتى ثملنا، وكنا نكثر من الخمر التي ما أن نصبها في الكؤوس حتى تغرينا بزبدها ورائحتها فنتجرعها، ولما انتهينا (وكنا قد أطلنا الجلوس) لبسنا قبعاتنا وهممنا بالانصراف راجين لمضيفنا العزيز التوفيق في رحلته، فأجاب شاكراً وأخذ يرد تحية ضيوفه واحداً واحداً حتى جاء دوري فأسر إليّ (إنني(6/82)
أريد أن أتحدث إليك برهة من الزمن!) فلم أر بداً من المكوث بعد انصراف الآخرين.
جلس كل منا قبالة صاحبه وأخذنا ندخن في سكون، وقد كان سيليفيو متعبا شاحب الوجه، وان عجبت لشيء فلم أعجب الا من هذا التغير الفجائي الذي بدا عليه، فقد غاض ذلك السرور الذي أشرق به وجهه ساعة الغداء، واختفى بريق عينيه وضعفت نظراته وأصبح منظره وهو ينظر إلى سحائب الدخان المتصاعدة من غليونه منظر الشيطان!
وبعد بضع دقائق قال: (قد لا نلتقي بعد هذا المساء، ولذلك أرى من واجبي أن أشرح لك بعض أمور لا أشك في أنك تساءلت عنها بينك وبين نفسك. . . وأنا وإن كنت لا أعير آراء الشباب اهتماما سأخبرك عما تريد لأنني أميل إليك وأعجب بك!) ولما رآني أسكت وأتحاشى نظراته أفرغ غليونه وواصل حديثه (لقد دهشت على ما أرى لتصرفي مع الضابط السكير رسيانوف في الليلة التي تذكرها ولا شك، وأظنك عجبت عندما علمت إنني لم أغسل الإهانة التي لحقتني ومع هذا فأنا اعتبر عدم إقدامي على مبارزة ذلك الأحمق كرماً مني، لأني (وقد كان اختيار السلاح لي) أثق بانتصاري عليه وقتله مهما كان السلاح، ومهما كانت طريقة المبارزة، ولكني في الواقع لا أملك حياتي!؟).
نظرت إليه في دهشة واستغراب. . . ومضى يقول: منذ ستة أعوام تلقيت ضربة من شخص لا يزال على قيد الحياة!؟ هنا زادت دهشتي فسألته مسرعا: أو لم تقابله؟. لا ريب في أن ظرفا خاصا منعك من لقائه فأجاب: (لقد قابلته، وهذا ما أسفر عنه لقاؤنا).
وقام وأحضر من صندوق قريب قلنسوة من القماش الأحمر لها زر معقود وضفائر مموهة مثل القبعات التي يسميها الفرنسيون ولما لبسها رأيت ثقبا يدل على أن رصاصة اخترقتها على مسافة بوصة واحدة من الجبهة!
وواصل حديثه قائلا (أنت تعرف أنني كنت في فرقة الفرسان الإمبراطورية، وتعرف خلقي فأنا أحب أن أسود الجميع، ولقد كانت هذه الرغبة في السيادة أيام شبابي قوية إلى درجة الجنون، وكانت لذة الشبان في المشاجرة وقت ذاك، ولهذا كنت شيخ المتشاجرين وزعيمهم في الفرقة، وكنا نفخر بالسكر والعربدة، أما أنا فكنت أفوق في الشراب (ب) الشهير في أغنية دافيدوف. . لي في كل يوم مبارزة أمثل فيها الدور الأول أو الثاني فينظر ألي زملائي نظرة الإعجاب، أما رؤسائي فكانوا يعتقدون أنني كالطاعون الذي لا خلاص منه(6/83)
ولا نجاة!
(وظللت أعيش وسط معالم الانتصار وعلائم الرهبة حتى نقل إلى فرقتنا شاب غني من أسرة نبيلة، وأنا لا أريد أن أذكر لك اسمه، ولكن ثق أنني لم أقابل شخصاً له حظ هذا الشاب، فيه كل ما تتصور من القوة والنشاط، وكل ما تحلم به من الجمال والرشاقة، وكل ما تتمناه من الذكاء وسرعة البديهة والرقة في الحديث بل كل ما تصبو إليه من الثروة والبذخ. . . فيه كل هذا وأكثر منه: إقدام غريب لا يعبأ بالخطر أو الموت، ولا يفكر في الهزيمة. . . فما أن وصل هذا الشاب فرقتنا حتى تلاشى نفوذي وزالت سطوتي، وقد أراد أول مجيئه مصاحبتي لما رآه من الزعامة المعقودة عليّ، ولكني قابلته بفتور ولذلك تركني دون أن يظهر عليه شيء من التأثر).
(وأقول لك الحق لقد كرهته لما رأيت من شغف الجميع به واحترامهم إياه ولما شاهدته من إعجاب السيدات به وتهالكهن عليه وكم حاولت أن أجره إلى الشجار معي بأسلوبي التهكمي اللاذع وسخريتي المتصلة، ولكنه كان يجيب على ذلك بسرعة خاطره وذكائه وميله إلى السرور. . كنت أجدّ دائما وكان يمزح دائما، وفي النهاية بينما كنا في منزل بولندي نحضر حفلة من حفلات الرقص أسررت في أذنه جملة مهينة لكرامته لما رأيته من شغف ربة البيت به وصدوفها عني مع أنها كانت تعبدني قبل أن تتعرف إلى هذا الشاب الغني الجميل فما كان منه الا أن صفعني، فأسرعت إلى سيفي وأسرع إلى سيفه. . وقامت الدنيا وقعدت. وفقد بعض السيدات صوابهن، واندفع زملاؤنا وحالوا بيننا وبين الشجار؛ ولكنا غادرنا المكان رغبة منا في المبارزة الصريحة حتى يغسل كل واحد منا الإهانة التي لحقته بالدم!
(وذهبت مع شهودي الثلاثة إلى المكان المعهود، وكنت أنتظر غريمي في قلق واضطراب. . طلعت الشمس وأخذت حرارتها تزداد شيئاً فشيئا، وأتى يتهادى في مشيته مرتدياً قميصه واضعاً رداءه الرسمي على كتفه، يحمل في يده قبعته التي ملأها بفاكهة الكريز ولم يكن معه غير شاهد واحد.
أقمنا الشهود في نقطتين تبعد إحداهما عن الأخرى باثنتي عشرة خطوة، وكان من حقي أن تكون طلقتي الأولى، ولكني رفضت لما كنت أخشاه من أخطائه في حالتي العصبية. ورفض هو الآخر ولذلك تركنا المسألة للمصادفة وكانت في جانب هذا الشاب الذي أفسده(6/84)
الحظ الحسن. أطلق رصاصته ولكنها اخترقت قبعتي ولم تصبني بسوء، وجاء دوري فشعرت أنه تحت رحمتي فأستطيع إذا شئت أن أسلبه نعمة السعادة بل نعمة الحياة. . نظرت إليه في شوق، وكنت أنتظر أن أراه ممتقعاً شاحب الوجه. ولكن خاب ظني لأني رأيته يأكل فاكهته في هدوء واطمئنان ويلقي بالبذور إلى ناحيتي فتتساقط تحت أقدامي).
(فكرت في نفسي ماذا أجني من أخذ حياة هذا الشاب الذي لا يعنى بالحياة! ولمعت عيناي عندما خطر لي خاطر غريب، وأفرغت بندقيتي وقلت له، يخيل ألي أنك لا تهتم كثيراً بموتك أو حياتك في هذه اللحظة، وأنك تعنى بأفكارك أكثر من عنايتك بالمبارزة. . ليكن ما تراه فليس عندي الرغبة في إزعاجك.
فأجاب: أحب أن تلزم عملك فقط، وأرجو أن تطلق رصاصتك ولكن يجب أن تذكر أن لك أن تطلقها في المكان والزمان اللذين تشاء، وأنا رهن إشارتك في كل حين!)
(غادرت المكان وأنا أقول لشهودي أنا لا أرغب في إطلاق رصاصتي في هذا اليوم وانتهت المسألة وقت ذاك على هذه الصورة
ثم أرسلت استقالتي من الجيش واعتكفت في هذه القرية المتواضعة وأنا لا أفكر في غير شيء واحد هو الانتقام، وقد جاء وقته!)
وعندئذ أخرج سيليفيو الرسالة التي تلقاها هذا الصباح من أحد معارفه (ولعله محاميه) يقول له في أن الرجل (المطلوب) سيتزوج في القريب العاجل من فتاة رائعة الجمال. . ثم مضى في حديثه يقول (وليس من شك في أن الرجل المطلوب هو عدوي الذي أريد الانتقام منه. وها أنا ذاهب إلى موسكو. وسأرى إذا كان يقابل الموت وسط أفراح العرس بالفتور الذي قابله به وقت ذاك. وفي يده رطل من فاكهة الكريز)
ولما نطق بهذه الكلمات ألقى بقبعته إلى الأرض. منفعلاً ثم أخذ يسير في الغرفة جيئة وذهاباً كما يسير النمر المحبوس! ولم أعترضه أثناء حديثه فقد ملك لبي واسترعى انتباهي وأثار في أنواعاً متضاربة من العواطف.
ودخل أحد الخدم يقول لسيده. إن العربة قد أعدت، وهنا تناول سيليفيو يدي وصافحني في حرارة، وركب العربة التي كان فيها صندوقان يحتوي أحدهما على أسلحة الرجل وبنادقه ويحتوي الآخر على أدواته وملابسه. . ثم حياني مرة أخرى قبل أن تتحرك العربة، وفي(6/85)
الحق لقد كان وداعاً مؤثراً. . .
عبد الحميد يونس(6/86)
العدد 7 - بتاريخ: 15 - 04 - 1933(/)
في العيد. . .
في ذات مساء اشتد فيه الصراع بين بواكر الربيع وأواخر الشتاء، ارتفع من بين ضجيج القاهرة ولغط النهار الراحل، طلقات ضعيفة من مدفع عتيق. . وتألقت في شرفات المآذن الشم مصابيح الكهرباء بغتة. . فعلم الناس بمقتضى التقاليد أن غداً يوم العيد. .!
راح قوم يقضون ليلهم بين وحشة القبور ورهبة الموت، في غير إدِّكار ولا اعتبار ولا خشية! وبات آخرون يتعهدون كباش الأضاحي بالعلف، ويشحذون لصباحها المدى والسواطير. . .!
وأصبحت القاهرة دامية البيوت، حامية المطابخ، شديدة الجلبة: وبيوت الله التي نزل فيها العيد من السماء، تنتظر المؤمنين للصلاة والدعاء، فلم يغشها إلا فئات من العمال والبوابين والخدم!.
أما السراة والأوساط، فقد خرجوا من هندام الأمس، واهتمام اليوم، يستقبلون العيد في القهوات والحانات، بين لعبة النرد الصاخبة، وأحاديث الدواوين المعادة! فإذا تلاقى في الطريق صديقان، أو تراءى في القهوة قريبان، تبادلا في فتور تحية العيد، ثم مضى كل منهما لشأنه!!
ذلك هو العيد أو ما يقاربه في مصر وفي سائر البلاد العربية.! فلولا مرح طافر يقوم بالأطفال في هذا اليوم لعطلة المدارس، وجدة الملابس، وسحر النقود، وفتنة اللعب لمرَّ كسائر الأيام حائل اللون تافه الطعم بادي الكآبة!
فليت شعري ماذا حاق بنا من الأحداث والغِيَر حتى غاضت ينابيع المسرة في القلوب، وماتت أحاسيس البهجة في النفوس، وتحللت أواصر المودة بين الناس، وآل أمر العيدين (وهما كل ما بقى في أيدينا من مظاهر الوحدة الدينية والعزة القومية) إلى هذه الصورة الطامسة والحال البائسة؟!
لا نستطيع أن نتهم حسرة الحزن على الماضي، وذلة الضعف في الحاضر، فإن أعياد اليهود وإن فقدت بذلك مظهرها الاجتماعي، لم تفقد روعة الدين في الكَنيس، ومتعة الأنس في البيت، وجمال الذكرى في الخاطر.
وأعياد إخواننا في الوطن والجنس والمجد والأسى من نصارى الشرق لا ينقصها الرواء والإخاء واللذة.(7/1)
كذلك لا نستطيع أن نتهم المادية والمدنية، فانهما (وإن جنَتا على بعض الأخلاق الكريمة كالإخاء والإخلاص والمروءة والرحمة) لم تجنيا على نزعات السرور في النفوس، ولم تقضيا على غرائز اللهو في الطباع، بل ازداد الناس بهما في ذلك شراهة وحدَّة.
والأعياد الأجنبية التي تشهدها مصر في ذكرى الميلاد ورأس السنة غاية في نعيم الروح والجسم، وآية في سلامة الذوق والطبع، وفرصة ترى فيها القاهرة (وهي متفرجة) كيف تفيض الكنائس بالجلال، وتزخر الفنادق بالجمال، وتشرق المنازل بالأنس، وتمسي الشوارع وبيوت التجارة ودور اللهو مسرحا للحسن، ومعرضاً للفن، ومهبطاً للسرور، وتصبح أعياد القلة القليلة مظهراً للفرح العام، ومصدراً للابتهاج المشترك!
وهي من وراء ذلك كله من أقوى العوامل في توثيق العلاقة بين الله والإنسان بالصدقات، وبين الأصدقاء والأقارب بالهدايا، وبين الكبار والصغار باللعب، وبين الإنسان والإنسان بالمودة.
إذن ما هي الأسباب الصحيحة التي مسخت حياتنا هذا المسخ، وشوهت أعيادنا هذا التشويه، فجعلت المظاهر فيها خروفا يذبح ولا يضحَّي، ومدافع تساعد المآذن ولا تجاب، وأياما كنقاهة المريض كل ما فيها همود ونوم وأكل؟؟
الحق أن لذلك أسباباً مختلفة، ولكنها عند الروية والتأمل ترجع إلى سبب رئيسي واحد: هو غيبة المرأة عن المجتمع الإسلامي. . . ذلك السبب هو علة ما نكابده من جفاء في الطبع، وجفاف في العيش، وجهومة في البيت، وسآمة في العمل، وفوضى في الاجتماع.
كرهنا الدور لاحتجاب المرأة، وهجرنا الأندية لغياب المرأة، وسئمنا الملاهي لبعد المرأة، وأصبحنا كالسمك في الماء، أو الهباء في الهواء، نحيا حياة الهيام والتشرد، فلا نطمئن إلى مجلس، ولا نستأنس لحديث!
فإذا لم تصبح المرأة في البهو عطر المجلس، وعلى الطعام زهر المائدة، وفي النَّدِي روح الحديث؛ وفي الحفل مجمع الأفئدة، فهيهات أن يكون لنا عيد صحيح، ومجتمع مهذب، وحياة طيبة؛ وأسرة سعيدة!.
أحمد حسن الزيات(7/2)
التجديد في الأدب
للأستاذ أحمد أمين
- 2 -
عرضت في مقالي السابق للبحث في الألفاظ وما تتطلب من جِدة؛ واليوم أعرض لضرب آخر من ضروب التجديد وهو التجديد في العبارة، وأعني بالعبارة الجملة التي يؤدَّى بها المعنى على اختلاف ألوانها، من حقيقة ومجاز وتشبيه واستعارة وكناية.
ومما لا شك فيه أن البليغ يستمد تشبيهاته واستعاراته وما إلى ذلك مما يحيط به من بيئة طبيعية واجتماعية. فالأدب الجاهلي (مثلاً) صورة صادقة لمعيشة العربي في الجاهلية؛ إذا بكى، فإنما يبكي الأطلال والمنزل الداثر والرسم العافي. وإذا رحل، فعلى ناقة أو بعير. وإذا أعجبه نبت، فالشيح والقيصوم، والخزامى والعَرار. وإذا ذكر النسيم، فصبا نجد. وإذا حن إلى مكان، فموطنه من الرقمتين ورَضوى وثَبير. كذلك كان في تشبيهاته واستعاراته وأمثاله: يستوحي ما يحيط به، ويستلهم ما يقع حسه عليه. فقال: استنوق الجمل، وهو أعز من الأبلق العقوق، وأبدت الرغوة عن الصريح، وهم أكثر من الحصى، وهو ليث غابة، وما تُحَلُّ حَبْوته، وألقى حبله على غاربه، وقصُرت الأعنة، واشتجرت الأسنة، وزلزلت الأقدام من رنين القِسِي، وقراع الرماح، وطحنهم طحن الرحى، ومطله مطل نعاس الكلب، وكالباحث عن حتفه بظلفه، وحط راحلته، وضرب أوتاده، وألقى عصاه، والقافلة تسير والكلاب تنبح. إلى كثير من أمثال ذلك، فهم في كل هذا يصفون حياتهم، ويشتقون منها تشبيهاتهم، ويضربون منها أمثالهم.
وتتابع أدباء العرب بعدُ يزيدون في التعبير، تبعاً لتغير المعيشة الاجتماعية، وتقدمهم في الحضارة. فقالوا: صندل الشراب وعنبره (وكأن أخلاقه سبكت من الذهب المصفى) ويكاد يسيل الظرف من أعطافه، ويمازج الأرواح لرقته (قد دس له الغدْر في الملَق) وهو من صيارفة الكلام، يتطفل على موائد الكتاب، وكأن ألفاظه قطع الرياض، وكأن معانيه نسم الآصال. وهكذا كانت العبارات المحدثة في العصر العباسي تخالف من وجوه كثيرة العبارات الجاهلية والأموية.
وقد جارى المؤلفون الأدباء: يدونون ما اخترعوا، ويقيدون ما أبدعوا. فرأينا عبد الرحمن(7/3)
الهمذاني يجمع في كتابه (الألفاظ الكتابية) العبارات المختارة من جاهلية وإسلامية ورأينا الحصري يملأ كتابه (زهر الآداب) بفصول يعنونها (ألفاظ لأهل العصر) يجمع تحتها ما اخترعته أهل عصره من تعبير رقيق وتشبيه أنيق. ونهج المؤلفون بعد هذا المسلك حتى كانت خاتمتهم إبراهيم اليازجي في كتابه (نجعة الرائد وشرعة الوارد) جمع فيه أحسن العبارات والألفاظ مما قال السابقون والمحدثون إلى عصره.
وبعد، فلو قارنا بين الأدب العربي الحديث، والأدب الغربي في هذا الباب، أعني باب العبارة، وجدنا في أدبنا العربي قصوراً ظاهراً، وضعفاً بيناً.
ذلك أن الأدب الغربي ساير الزمن، واعترف بكل ما حدث فيه، واستمد منه، على حين أن الأدب العربي الحديث أغمض عينه عن كل ما كان، ولم يعترف بوجوده. نظر الأدب الغربي إلى ماضيه وحاضره ومستقبله؛ ولم ينظر الأدب العربي إلا إلى ماضيه. وزّع الأدب الغربي لفتاته لينظر نظرة شاملة وثبَّت الأدب العربي عينيه فيما وراءه، فلم ينظر إلا إلى قديمه، فكان ناقصاً، لا يسايرنا ولا يصفنا ولا يمس حياتنا، وإنما يمس حياة آبائنا.
اعترف الأدب الغربي بالأدب القديم فأخذ منه خيره، واعترف بالدنيا الحديثة فاستمد تشبيهاته واستعاراته منها، رأى في دنياه مخترعات ومستكشفات لا حد لها من كهرباء ومواد كيميائية وطيارات وغواصات وغازات وأضواء وراديو وما لا يحصى كثرة. كل هذه الأشياء قلبت الحياة الاجتماعية رأساً على عقب. فلماذا لا تقلب الأدب؟ فأقبل الأديب عليها يتعرفها، ويستلهمها تشبيهات واستعارات عصرية طريفة، كان له منها ما أراد.
ورأى الأديب علم النفس ينمو ويرقى ويحلل أعمال الإنسان تحليلاً علمياً دقيقاً، ويعرض لكل المظاهر اليومية من ابتسامة وعبوس ورضى وغضب، فأخذ بحظ وافر منه واستعان به في أدبه وتعبيراته حتى استطاع أحد الكتاب الفرنسيين (وهو مارسل بروست أن يحلل ابتسامة سيدة في ست صفحات، ورأى نُظماً في الحكم تقوم وأخرى تسقط وكان لها من الأثر في حياة الناس وعقليتهم ما يخيل إليك معها أنهم أصبحوا بها خلقاً آخر، فجعل يتتبع هذه التغيرات ويقتبس منها ما شاء ذوقه الأدبي.
كل هذا وأمثاله جعل الأدب الغربي يسير محاذيا لكل نظم الحياة ويشاركها في رقيها واتجاهها، إن استضاء الناس بمصباح كهربائي فالأدب يعبر عنه ويستعير منه ويشبه به،(7/4)
وإن كان نظام الحكم ديمقراطياً فالأدب ديمقراطي، والصور التي يصورها ديمقراطية، ويتعمق السيكولوجي في بحثه فيتعمق الروائي في تحليل شخصيات روايته، وهكذا كانت الاختراعات والصناعات والعلوم ونظم الحكم والسياسة والأدب تسير معاً، لا يخطو عنصر منها خطوة إلى الأمام حتى يدرك الآخر سر تقدمه فيعمل على أن يحتذيه. أما الأدب العربي فيحارب متراليوزا بقوس وسهم، ويضيء في أدبه سرا جابزيت، والناس اليوم قادمون على أن يغيروا المصباح الكهربائي بخير منه، ويبكى الأطلال ولا أطلال، ويحن إلى سلع ولا سلع، ويستطيب الخزامي والعرار ولا خزامي لدينا ولا عرار. من الحق أن نحب القديم الجميل ونحفظه ونتعلم منه ونعجب بما فيه من مظهر عاطفة حية وشعور قوي، ولكن لا ننشئه. وإذا قلناه وجب أن نقول معه ما نحياه ونعيش فيه
إذا أنت لم تحم القديم بحادث ... من المجد لم ينفعك ما كان من قبل
وقفت العبارة العربية حيث كانت في العصر العباسي، ولم تتقدم إلا قليلا بما اقتبس من الأدب الغربي، والذي نتطلبه من التجديد فيها أن نستمد من حياتنا الواقعية، ومن كل ما يحيط بنا جملا حية تلائم ما في نفوسنا، وأن نخترع عبارات من المجازات والاستعارات والتشبيهات والكنايات نستمدها من الحياة التي نعيشها، وما وصلت إليه علوم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد.
وقد عاق الأدب العربي الحديث عن الوصول إلى هذه الغاية عوائق كثيرة أهمها:
(1) ما سبقت الإشارة إليه من أن المخترعات ليس لها أسماء، وأن أئمة اللغة لم يرضوا أن يستعملوا الكلمات الأجنبية ولا وضعوا لها أسماء عربية، وتركوا الأدباء في حيرة من أمرهم، فكيف يستطيعون أن يستلهموها في جملة لتكسب المعنى قوة، وهم يفرون من التلفظ بها، ويخشون من علماء اللغة استعمالها، لذلك رضينا من الأدب بالعدول عنها جملة وتفصيلا، حقيقة ومجازا. وبهذا سد أمام الأديب العربي باب من أوسع الأبواب وأغزرها فائدة.
(2) وسبب آخر من أهم الأسباب في فقر الأدب العربي في التعبير، هو أن الأدب العربي الحديث أدب أرستقراطي لا أدب شعبي، وأعني أرستقراطية العلم لا أرستقراطية المال، ذلك أن الأدب الإنجليزي أو الفرنسي أو الألماني، أدب شعب لا أدب طبقة خاصة (نعم قد(7/5)
يرقى الأدب الإنجليزي مثلا) فلا يفهمه إلا الراقون، ولكن بجانبه أدب إنجليزي شعبي، لا يختلف عن أدب الخاصة في ألفاظه وتراكيبه وإن اختلف في دقة المعنى وبساطته، (أما الأدب العربي فأدب خاص لطائفة المتعلمين تعلماً راقياً فحسب، لا يشاركهم فيه العامة وأشباه العامة، وللعامة أدب بلدي خاص، يستمتعون به في أغانيهم ونكتهم وزجلهم وموالياتهم) وحتى الخاصة، لا يتذوقون الأدب العربي إلا في الكتب والمجلات والجرائد، أما أحاديثهم وتنادرهم وفكاهاتهم فباللغة العامية، وليست أمة من الأمم الحية الآن بين لغتها اليومية ولغتها الأدبية من الفروق ما بين اللغة العربية واللغة العامية.
نتج من هذه الظاهرة نقص كبير في الأدب العربي الحديث، لأن استعمال الكلمات والعبارات في البيت وعلى المائدة وفي الشارع يكسبها حياة قوية ويزيدها صقلا ومرونة، ولو اقتصر في استعمالها على الكتب كانت حياتها ناقصة، لا يهذبها الاستعمال ولا يرقيها الصقل اليومي. وحسبك دليلا على ذلك أن النكت والنوادر وهي من أهم أركان الأدب لا تجد منها سائغا عذبا في أدبنا العربي عشر معشار ما تجده في الأدب العامي، وأن النادرة تحكي بالعامية فتضحك إلى أقصى حد، ثم تحكيها باللغة الفصحى فتخرج باردة تافهة، وأن كثيراً من الألفاظ والتعبيرات العامية قد أفادها الاستعمال روحا قوية فإذا عبرت عنها بالعربية لم تجد لها من التعبير قوة العامية وحسن دلالتها على المعنى.
وكل أمة قد كسبت من توحيد لغتها الكلامية والكتابية ما لا يقدر، فقد أصبح الشعب كله منتجا أدباً وتعبيراً قويا، وأصبح الحديث عن المائدة وفي حجرة الجلوس وفي التمثيل والسينما يخرج أدباً جديداً ويحيي أدباً قديماً، والأمة كلها تتعاون في الإنتاج الأدبي، هذا بتعبيره الرقيق، وهذا بنكتته ونوادره، وهذا بقصته وأمثاله، وهذا بشعره، وهكذا.
وليس كذلك الحال في الأدب العربي، فالأمثال والنوادر والحكايات باللغة العامية، والأحاديث اليومية وقضاء كل شؤون الحياة باللغة العامية، وليس للغة العربية إلا الكتاب وما إليه، ولذلك أصبح عندنا أدبان أدب أرستقراطي هو هذا الشعر والكتب التي تؤلف، والمجلات والجرائد التي تنشر، وأدب شعبي هو الزجل والأغاني والحواديت وما إليها، وبين الأدبين فواصل كبيرة وحواجز متينة، وفي هذا ضرر كبير على الأمة والأدب معاً، أما الأمة فلأن شعبها لا ينتفع بنتائج المتعلمين منها، وأما الأدب فلأنه ليس أدباً صحيحاً، إذ(7/6)
الأدب الصحيح هو ما كان ظلا لحياة الأمة الاجتماعية كلها لا لحياة طبقة خاصة منها.
ولا أمل لحياة الأدب العربي من هذه الناحية إلا بإزالة الحواجز القوية بين العامية والعربية، على أي وجه يرضاه قادة الأمة، ويحفظ للغة العربية مكانتها من حيث هي لغة الدين ورابطة الشعوب الشرقية. إذ ذاك تصبح اللغة حية، والتعبيرات حية؛ وإذ ذاك تزول الحيرة التي نعيش فيها الآن، فإنك تستعمل اللفظ العامي والعبارة العامية، فلا تجد لهما نظيرا في العربية، وإن وجدت لهما نظيراً فنظير ميت ليس فيه حياتهما. كنت أقرأ الآن في جريدة فوجدت فيها كلمة (بعبع) وكنت أسمع فسمعت من يقول: إنه بيت (مُبَهْوَأ) ومن يقول (رزق الهبل على المجانين). ووجدتني إذا أجهدت نفسي قد أعثر على تعبيرات عربية مرادفة لها أو قريبة منها. ولكن ليس فيها حياتها، لأن الحياة وليدة الاستعمال، وأريد الاستعمال الشعبي. وهذا أحد الأسباب في أن مقالات الأستاذ فكري أباظة، والمجلات الهزلية، والهزلية الجدية، لها من الرواج في أوساط الجماهير ما ليس لغيرها، وتتفتح لها نفوس شعبية أكثر مما تتفتح للمقالات العربية الصرفة؛ وترن الكلمة أو العبارة في الأذن رنيناً دونه رنين العربية الكلاسيكية.
(3) وسبب ثالث هو أن الحواجز عندنا بين العلم والأدب قوية متينة، وإن شئت فقل إنه ليس هناك صلة بين كلية العلوم والآداب، وأن الثقافة التي يتثقفها الأديب ينقصها (غالباً) قدر ضروري صالح من المعلومات العلمية، تجعله يستطيع أن يلم إلماماً ما بالمخترعات والمستكشفات، ويستغلها في أدبه. وهذا القدر يلقفه الأديب الأوربي في بيته وفيما يقع في يده من كتب ومجلات أولية، ثم في مدرسته. وأدباء الطبقة الأولى منهم كانوا على حظ عظيم من الثقافة العلمية استغلوها في منتجاتهم، فأصبحت هناك أنواع من الأدب، ومن التعبيرات والتشبيهات القوية التي تعتمد على الثقافات العلمية، أخذها منهم الشعب واستساغها. أما برنامج الأديب العربي فقاصر من هذه الناحية كل القصور؛ ولذلك كان نتاجه قاصراً كل القصور.
وهناك أنواع من التجديد في الأسلوب والموضوع والنثر الفني والشعر والقصة وغيرها، نعرض لها فيما بعد.(7/7)
صور من التاريخ الإسلامي
زرياب المغني
للأستاذ عبد الحميد العبادي
- 2 -
إذا قدر للأندلس أن يكتب تأريخها الفني والاجتماعي، فلا شك أن أنضر صفحة في ذلك التاريخ المجيد وأعجبها تكون صفحة أبي الحسن علي بن نافع المغني الملقب بزرياب. فهو رجل استطاع وحده أن ينقل أمة بأسرها من حال البداوة إلى حال الحضارة، وذلك بشيئين اثنين: تحبيب الموسيقى إليها، وتنظيم حياتها اليومية.
فتح المسلمون الأندلس في العقد الأخير من القرن الأول الهجري، وانتشرت قبائلهم العربية والبربرية في بسائطها وحزونها ولكنهم ظلوا حتى أواخر القرن الثاني بداة جفاة كلما اجتمعت كلمتهم لم يلبثوا أن تفرق بينهم الإحن والعداوات المنبعثة عن العصبية القبلية، فكأنهم لا يزالون ضاربين في هضاب نجد وسهول تهامة ومفاوز إفريقية. ثم أخذت شؤونهم السياسية تستقر وتتسق بفضل مجهودات المتقدمين من أمراء الدولة الأموية الأندلسية: عبد الرحمن الداخل، وهشام، والحكم، وعبد الرحمن الأوسط. أما الأحوال الاجتماعية فظلت على ما كانت عليه فسادا واضطرابا.
وعلى العكس من ذلك كان المشرق الإسلامي في ذلك الزمان فقد إستبحر فيه العمران وبلغت المدنية الإسلامية فيه غايتها، وتعلق فيه ذوو الدعة واليسار بأسباب الكمال من شؤون الحياة، بعد أن استكملوا الضروري، والحاجي منها على حد تعبير ابن خلدون. وقد ساعفهم في ذلك عامل الدين وعامل التاريخ معا. فأما المعتدلون منهم فكانوا يستندون إلى أن الدين الإسلامي دين يسر يحب من المؤمن أن يكون هينا لينا موفور الحظ من الظرف والكياسة غير فظ ولا غليظ القلب، ولا ناسٍ نصيبه من الدنيا. وأما المتطرفون فوجدوا في تقاليد الفرس والروم الاجتماعية ما جعلهم يؤثرون العاجلة ويحرصون على لذة الحياة الدنيا ومتعها، أياً كانت الطرق الموصلة إليها.
وقد تألفت من هؤلاء طبقة أرستقراطية، مرهفة الأذواق، رقيقة الطباع، ترى في الموسيقى، ومجالس الأنس والطرب، وحفلات السمر خير ما ينقعون به غلة تلك الأذواق(7/8)
المرهفة والطباع المترفة. هذا هو السبب المباشر في تقدم صناعة الغناء في ذلك الزمان، وبلوغها الغاية على أيدي إبراهيم المهدي، وإبراهيم الموصلي، وأبنه إسحاق. وهذا هو السبب كذلك في استفاضة مجالس الأنس والطرب لذلك العهد في مدن الشرق الإسلامي عامة وبغداد خاصة، وفي بلوغ هذه المجالسدرجة من التأنق يمكن تصورها إذا عرفنا أنهم وضعوا لها آدابا كانوا يأخذون بها من الندماء، والجلساء، والسمار.
من ذلك أن يكون الغناء قوامها، وأن يحتفل لها بلبس الثياب المصبغة الأنيقة، وأن يزين المجلس بالأزهار والرياحين، وألا يحضرها إلا من كان مهذباً، خفيف الروح، حاضر البديهية، قادراً على قول الشعر وارتجاله، فضلا عن تذوقه وروايته عندما يقتضي المقام ذلك.
إلى هذا المشرق اتجه أمراء بني أمية الأندلسيون، وهم أبناء خلائف دمشق ورصافتها، يستهدونه فنانين ومعلمين يهذبون ما غلظ من طباع العرب والبربر والمولدين، وينظمونها جميعاً في نسق واحد. وقد أهدى المشرق إلى المغرب غير واحد من المغنين أمثال علون، وزرقون، ولكن زرياباً كان أعظم هؤلاء جميعاً وأبعدهم أثراً.
كان أبو الحسن علي بن نافع مولى للخليفة المهدي العباسي، ولسواد لونه، وحلاوة شمائله لقبوه بزرياب تشبيها له بطائرأسود غريد يعرف عندهم بهذا الاسم. وقد تكاملت لزرياب كل أسباب النبوغ والتفوق موهوبها ومكسوبها، فكان شديد الذكاء، لطيف الحس عارفا بالنجوم والجغرافية، شاعراً فصيح اللسان، غير أنه كان إلى الغناء أميل وبه أشغف، وقد درسه علماً في كتب الأقدمين من حكماء اليونان، وعملاً على أستاذه اسحق الموصلي زعيم المغنيين في ذلك الوقت، ولشدة افتتان زرياب بالموسيقى كان تفكيره فيها لا يكاد ينقطع حتى أنه ليلهم النوبة والصوت وهو نائم، فيهب من نومه مسرعاً، ويقيد ما وقع له أو يلقيه على جاريتيه غزلان وهنيدة، ثم يعود إلى مضجعه عجلا، ومن ثم قيل انه كان يأخذ ألحانه عن الجن كما قيل في إبراهيم الموصلي نفسه. قالوا وكان يحفظ عشرة آلاف مقطوعة من الأغاني بألحانها. ولم يأل زرياب جهداً في أن يأخذ نفسه بالأدب الرفيع والسلوك العالي المصطلح عليه في البيئة التي كان يعيش فيها ببغداد، بيئة البلاط وقصور الأمراء ورؤساء الدولة العباسية.(7/9)
ويذكرون أن السبب في هجرة زرياب من المشرق إلى المغرب، انه غنى يوما في حضرة هارون الرشيد، فأخذ الخليفة بصناعته وظرفه وطلب إلى اسحق أن يعنى به حتى يفرغ لسماعه. ولكن اسحق لم يلبث أن تحركت في صدره عوامل الغيرة والحسد والحقد على تلميذه، فخلا به وخيره بين الموت والحياة، بين أن يقيم ببغداد فيعرض حياته للهلاك ومهجته للتلف، وبين أن يذهب في أرض الله العريضة فينجو بحياته، ووعده إذا هو اختار ثاني الأمرين أن يعينه على الرحيل بما شاء من المال، وغير المال. فأختار زرياب الرحيل عن المشرق بأسره، ووفى له اسحق بما وعده من المعونة.
وتذكره الرشيد بعد أن فرغ من شغله الذي كان منهمكاً فيه وطلب إلى اسحق إحضاره فقال (ومن لي به يا أمير المؤمنين؟ ذاك غلام مجنون يزعم أن الجن تكلمه وتطارحه ما يزهي به من غنائه، فما يرى في الدنيا من يعدله، وما هو إلا أن أبطأت عليه جائزة أمير المؤمنين، وترك استعادته، فقدر التقصير به والتهوين لصناعته، فرحل مغاضبا ذاهبا على وجهه مستخفياً عني، وقد صنع الله تعالى في ذلك لأمير المؤمنين فأنه كان به لمم يغشاه ويفرط خبطه، فيفزع من رآه). يقول المقري (فسكن الرشيد إلى قول اسحق وقال على ما كان به (فقد فاتنا منه سرور كثير).
خرج زرياب يؤم المغرب، فلما كان بأفريقيا أتصل بصاحبها زيادة الله الأغلى. ولكنه لم يطب له المقام بها فرحل عنها إلى المغرب الأقصى، وهنا كتب إلى الحكم بن هشام، أمير الأندلس المعروف بحبه للموسيقى، يستأذنه في دخول الأندلس والصيرورة إليه، فأذن له الأمير في كل ذلك من فوره. وعبر زرياب البحر إلى عدوة الأندلس، وبينما هو يتأهب للرحيل إلى قرطبة إذ سمع بوفاة الحكم فهم أن يعود أدراجه إلى المغرب لولا أن كتب إليه الأمير الجديد، عبد الرحمن الأوسط، يستقدمه ويعده أن ينيله كل ما تصبو إليه نفسه من مال وجاه. فقدم عليه زرياب، ويروون أن عبد الرحمنأحتفل لمقدمه أعظم احتفال إذ خرج بنفسه من قرطبة لتلقيه. وما هو إلا أن سمعغناءه وحديثه حتى شغف به فغمره بفضله وإنعامه وأجرى عليه من الرواتب والأرزاق الشيء الكثير، حتى لقد كان يركب وبين يديه مائة مملوك. وقدمه الأمير على سائر المغنين وبلغ من شدة شغفه به أن جعل في قصره باباً خاصاً يستدعيه منه كلما أحب سماع غناءه الرائع وحديثه العذب الطريف.(7/10)
وقد لقي زرياب النعمة بمثلها وجزى المعروف بالمعروف، ولكنه قصد إلى ذلك من طريق غير مباشر، قصد إليه من طريق النصح والإخلاص للأندلس التي أصبحت له وطناً، وأهل الأندلس الذين أصبحوا أهلا له ومعشراً. فعكف على رفع مستوى الموسيقى الأندلسية وعلى النهوض بالمجتمع الأندلسي حتى يداني المجتمع الشرقي ببغداد وقد وفق فيما قصد إليه كل التوفيق.
يمكن القول إن زريابا نهض بالموسيقى الشرقية نهضة جديدة مطبوعة بطابعه وذلك بما أدخله على العود من إصلاح وتحسين، وبما استن من طرق جديدة في إلقاء الغناء وتعليمه. فقد أتخذ لنفسه وهو بالمشرق عوداً جعله على الثلث من وزن العود القديم، وصنع أوتاره من حرير لم يغزل بماء ساخن يكسبها أناثة ورخاوة، وأتخذ بمها ومثلثها من مصران شبل أسد (فلها في الترنم والصفاء والجهارة والحدة أضعاف ما لغيرها من مصران سائر الحيوان، ولها من قوة الصبر على تأثير وقع المضارب المتعاورة بها ما ليس لغيرها). فلما كان بالأندلس زاد أوتار العود الأربعة المقابلة للطبائع الأربع وتراً خامساً يقوم مقام النفس من الجسد، فأكتسب به عوده ألطف معنى وأكمل فائدة كما يروي المقري. وأتخذ مضراب العود من قوادم النسر بدلا من مرهب الخشب (وذلك للطف قشر الريشة ونقاءه وخفته على الأصابع وطول سلامة الوتر على كثرة ملازمته إياه). وأما من حيث إلقاء الغناء فقد رسم زرياب أن يبدأ في الإلقاء بالنشيد بأي نقر كان، ثم يؤتي في أثره بالبسيط ويختتم بالمحركات والأهزاج. أما مذهبه في تعليم الغناء فيقول المقري (وكان إذا تناول الإلقاء على تلميذ يعلمه أَمرَه بالقعود على الوساد المدور المعروف بالمسورة، وأن يشد صوته جدا إذا كان قوي الصوت، فأن كان لينه أمره أن يشد على بطنه عمامة فأن ذلك مما يقوي الصوت ولا يجد متسعا في الجوف عند الخروج على الفم فان كان ألص الأضراس لا يقدر على أن يفتح فاه، أو كانت عادته زم أسنانه عند النطق، راضه بأن يدخل في فيه قطعة خشب عرضها ثلاثة أصابع، يبيتها في فمه لليالي حتى ينفرج فكاه. وكان إذا أراد أن يختبر المطبوع الصوت المراد تعليمه من غير المطبوع أمره أن يصيح بأقوى صوته يا حجام! أو يصيح آه! ويمد بها صوته، فأن سمع صوته بها صافياً ندياً قوياً مؤدياً لا تعتريه غنة ولا حبسة ولا ضيق نفس، عرف انه سوف يَنجُبْ وأشار بتعليمه، وأن وجد خلاف(7/11)
ذلك أبعده). هذه العبارة تشير في صراحة إلى أن زرياباً انشأ بالأندلس في أوائل القرن الثالث عشر الهجري ما يصح أن نسميه بلغة الوقت الحاضر معهداً لتعليم الموسيقى الشرقية.
ولم يكن زرياب أقل ابتكاراً في شؤون الحياة اليومية منه في مجال الموسيقى والفن، وهذا محل العجب من سيرته. فقد ابتكر لأهل الأندلس ألوانا من الطعام فاستطابوه ونسبوا بعضها إليه، وعلمهم أن يشربوا من آنية الزجاج الرقيق بدلاً من آنية المعدن، وهو أول من اجتنى لهم البقلة الشهية المعروفة بالهليون وكانوا لا يعرفونها من قبل. وعلمهم أن يبسطوا فوق ملاحف الكتان أنطاع الأديم اللين، وأن يبسطوا سفر الأديم فوق الموائد الخشبية فذلك أنظف لها وآنق لمنظرها. وعلمهم أن يلائموا بين ما يلبسون وبين فصول السنة الأربعة، فيتدجوا من الخفيف الأبيض صيفاً إلى الثقيل الملون شتاء، ولفتهم إلى أنواع من الطيب والعطر لم يلبثوا أن أقبلوا عليها وفضلوها على ما كانوا يتعطرون به من قبل، كما علمهم كيف ينظمون شعورهم تصفيفاً وتدويراً وإرسالاً.
لا ندري بالدقة متى توفى زرياب والغالب أن وفاته كانت في إمارة الأمير محمد عبد الرحمن الأوسط (238 - 273هـ) وكما رزق زرياب الحظوة عند أهل الأندلس في حياته فقد رزقتها ذكراه عندهم بعد مماته. ذلك بأن مذهبه في الغناء وما رسمه لهم من أسلوب المعيشة ظل باقياً متوارثاً فيهم حتى آخر أيامهم. فلما انتهى أمر الأندلس وخرج من تبقى من أهلها إلى بلدان أفريقيا الشمالية أنتقل إليها بانتقالهم مقدار غير قليل من صناعة زرياب وآدابه. يقول ابن خلدون عند ذكره زرياباً (فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف وطمأ منها بإشبيلية بحر زاخر وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بأفريقية والمغرب وانقسم على أمصارها وبها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها وتناقص دولها) ويقول المقري (وكان زرياب قد جمع إلى خصاله هذه الاشتراك في كثير من ضروب الظرف وفنون الآداب ولطف المعاشرة وحوى من آداب المجالسة وطيب المحادثة ومهارة الخدمة الملوكية ما لم يجده أحد من أهل صناعته حتى اتخذه ملوك أهل الأندلس وخواصهم قدوة فيما سنه لهم من آدابه واستحسنه من أطعمته فصار إلى آخر أيام أهل الأندلس منسوباً إليه معلوما به).(7/12)
كان أهل رومية على عهد نيرون يلقبون سريا من سراتهم اسمه بطرونيوس برب الظرف وسلامة الذوق لأنه كان عندهم مضرب المثل في ذلك. أما أهل الأندلس فقد وصفوا زرياباً بأنه (معلم الناس المروءة) وهو لاشك أجمل وصف يوصف به وأحقه بأن يحفظه عليه التاريخ ويذكره به.(7/13)
الزهرية العاطلة.
للأستاذ راشد رستم.
لا أجد هنا من يضع لي الزهر في غرفتي، وأنا الذي أحب الزهر
قريباً مني، أضمه إلى صدري حنيناً، وأشمه لتسمو به روحي بعيداً،
أحب العطر منه، وأحب العطف عليه.
ليس غيري إذن يضع الزهر لي في غرفتي، بل أختاره بنفسي وأرعاه وحدي.
واليوم اشتريت من الزهّارة الفتية الناضرة، باقة من ذلك الزهر الذي تحبه. . . . . (روحي).
لم تدر فتاة الزهر الجميلة لماذا سألتها السماح لي اليوم أن أنتقي بيدي أنا تلك الزهرات الحبيبة التي سأجعل منها وحدها دون غيرها، حديقتي في هذا اليوم.
سكتت فتاتي الحسناء راضية، وتَنحَّت هادئة، ونظرت إليَّ في سرور وابتسام وعجب!. ولِمَ تعجب؟ ومن عاشر الزهر لا يغضب.
لم ترني الفتاة قبل اليوم ألمس أزهارها بيدي، إنما أشير إليها بالطرف وهو كليل فتفهم مني قصدي، وتجمع لي زهراتي المختارة، تنتقيها من بين أخواتها برشاقة في حنو وعطف.
تبتسم الفتاة بسمات اللطف والرقة، وكأني بها تعلم سري عن الزهرات وهي تجمعها فتحدثها بها جهراً تقول: ما أحلاك أيتها الوردة الحمراء، المملوءة عطراً وعطفاً وشوقاً وحرارة!. . وأنت أيتها الزهرة الفاتنة مثال الرشاقة والخفة والحلاوة! وأنت يا حبيبة الفؤاد! تعالي تعالي يا زهرة الحب والإخلاص والحنان! أما أنت فيا للفتوة ويا للحياة!. وما أسعد الفتى بالفتاة؟ وأنت يا ربة الدلال والكمال. تقدمي! تقدمي! خذي مكانك هنا بين زميلاتك الرشيقات!.
هكذا كانت الزهرة تناجي وتنادي وتداعب هذه الزهرات النواعم، وهي تجمعها من هنا وهناك وتنسقها ثم تلفها في حرزها لتحميها، ثم تلتفت في رقة الفاتنات المائلات وتقول: تفضل يا حبيب الزهر فخذ زهراتك المحبوبات، وبودي لو أطلعت عليك معها، أو لو علمت سرها معك!!. ثم تعود مسرعة إلى زهرها.
نعم أتيت اليوم بذلك الزهر الذي تحبه. . . (روحي)، وهي لا تعلم أنني جئت به!(7/14)
ليس له اليوم شريك من زهرات أُخر.
هذا الزهر الذي تحبه (. . .) أشمه يوماً في كل عام، فيحييني طول العام!
وبعد. . فليس له عندي زهرية تصونه وتماشيه، ولا بد له من زهرية خاصة ترضيه وتحميه وتحييه.
ولكن هل أخشى هذه الزهرية ألا تحمل إليَّ هذا الزهر يوماً ما؟.
أم هل أخشى هذا الزهر ألا يكون في هذه الزهرية يوماً ما؟.
أم أخشى يوماً تحمل إلي فيه هذه الزهرية زهراً غيره؟.
نعم. قد يأتي هذا اليوم الذي أخشاه، وقد أرى بعيداً عني هذا الزهر الذي تحبه (. . .) والذي أحب أن أرعاه.
ولكني لا أخشى أن تكون الزهرية يوماً عاطلة!
ألم تحمل لي هذا الزهر يوماً من الأيام؟
وهل هذا اليوم ينسى مع الأيام؟
أني لأرجو أن تبقى الزهرية بعد اليوم عاطلة على الدوام، فهي عاطلة أحب إليّ منها خالية بعد هذا اليوم الذي أخشاه ستظل كنفسي التي تحمل دوماً ذكريات كنَّ في يوم من الأيام. . . . حقيقة موجودة. وواقعة مشهودة. . .
المعادي - راشد رستم(7/15)
جلال الدين منكبرتي
للدكتور عبد الوهاب عزام
سارت جيوش التتار تقذف بالموت والدمار. (وفتحت يأجوج ومأجوج وهم من حَدب ينسلون). خرَّت المدائن لصولتهم فأسروا وقتلوا، ثم سلّطوا الماء والنار فأخربوا ودمروا. وانطلقوا في جحافل من السيوف والسهام والنار والدخان، والدماء والماء، والهول والفزع.
وعلاء الدين ملك خوارزم. قد أوقد النار فلم يستطع إطفاءها، وفتح باب الشر فلم يقدر على إغلاقه. لم يفن جنده ولم تثبت عزيمته. فما زال يهجر المدينة بعد المدينة حتى اعتصم بجزيرة في بحر الخَزَر فهلك بها.
ورث جلال الدين ملك أبيه. وإنما ورث الضراب والطعان، وعرشاً في أشداق المنون، تخاض إليه الأهوال، وتقطَّع دونه الآمال. لقد ذهب الملك وعلاء الدين معاً. وورث جلال الدين دَين أبيه من الكفاح والنضال، ورث القتال الحاضر , والملك الغابر.
هلَّم جلال الدين!: ادفع عن رعيتك ملا يُدفع، وأختر لنفسك وليس في الشر خيار: هما خطتا إما إسار وذلة وإما دم، والقتل بالحر أجار.
تحفز البطل تحفز الأسد، وتقهقر ليثب، ولكن المغول كانوا في أثره حيثما سار، يطوون وراءه الليل والنهار، حتى خرج من ملكه وقارب الهند. وهنالك صف جلال جنده وهم:
عصابة ليس لهم ديار ... إلا ظهور الخيل والغبار
فهزم عدوه الجبار في ست معارك.
يلقى المنية في أمثال عُدَّتِها ... كالسيل يقذف جلموداً بجلمودا
ولكن طوفان المغول أعظم من أن تثبت فيه صم الجلاميد أو يغنى فيه العزم المرير والبأس الشديد.
فذلكم جلال الدين على نهر السند وأولئكم المغول على نهر السند. يكرّ عليم كالأسد المُحرَج ويَصدقهم القتال من الفجر الى الظهيرة، يموت في يمينه الحسام بعد الحسام، وينفق تحت عزائمه الجواد بعد الجواد. فلما سدت على العزائم سبل النصر، وضاقت بالمجال حيل الأبطال، حمل على عدوّه فحطمه، ثم انثنى إلى النهر فأقتحمه، والموت خزيان ينظر. تلك لجة النهر تموج بجلال الدين وجنده، وفوقهم من سهام المغول وابل منهمر. وفي الهمم(7/16)
القعساء تستوي الغبراء والدأماء. أعجب الأعداء بهؤلاء الأبطال فوقفوا معجبين ينظرون.
غرق معظم الجند وخرج البطل ببقايا القتل والغرق ليلقى بهم عدواً آخر. فهذا (جودي) أحد أمراء الهند يغير على البطل المرزَّأ لينفيه من أرضه. وهذا جلال الدين على العلات يصمد للمغير فيهزمه، ثم جاءه مدد من جنوده فتقدم في أرض الهند وأقام بها حيث شاء على رغم (قراجه) أمير السند وأيلتتمش أمير دهلي إذ تحالفا وحالفا عليه الدهر.
وما جهد هذا الدهر إلا هزيمة ... إذا نازلت عزم الكرام كتائبه
أتحسب جلال الدين بلغ من الجهد غايته، ومن الجلد نهايته، وقد أعذر إلى المجد والملك والرعية؟ أتحسبه قد فقد ملكه جميعه، وهزم في أرض غريبة فهو حريّ أن يطلب في فجاج الأرض مفراً أو يلتمس في زواياها مستقراً؟ كلا! إنه فقد ملكه ولم يفقد رجاءه، ولا عزمه، ولا إباءه. إن له ملكاً وإن يكن في يد العدو الجبار وإن له عرشاً وإن يكن في ذمة الزمان الغدّار. إن أمامه في عراك الخطوب ثماني حجج تطير فيها بين المشرق والمغرب همته. وتنقله من حرب إلى حرب صرامته. ويسلمه من مصيبة إلى مصيبة حظه.
يشق بين الأهوال طريقه إلى كرمان ففارس فأصفهان فالري. ثم يصمد للخليفة العباسي الناصر فيهزم جنده ويقتل قائده ويسوق المهزومين إلى أسوار بغداد.
ثم يستولي على تبريز ويتخذها دار ملكه، ويغير على الكرج كأن أعداءه ليسوا أكفاء نضاله. وبينما هو في تفليس جاءه نبأ هائل. وناهيك بخيانة الأعوان في حومة الطعان: أنبئ أن براقا الحاجب والي كرمان قد مالأ المغول. فبادر من تفليس إلى كرمان ليعاقبه بخيانته. ثم يرتد من كرمان إلى الشمال ليحارب التركمان والملاحدة فيهزمهم ويجزيهم بما اقترفوا في غيبته. ويشرق تلقاء دامغان ليهزم جيشاً من المغول. ويرجع إلى الغرب حين يعلم إن الكرج تألبوا عليه. فيلتقي الجمعان وتأبى على جلال الدين شجاعته ومضاؤه إلا أن يبارز أبطال الكرج. وقد قتل أربعة من صناديدهم وِلاءً ثم حمل على الكرج فهزمهم أجمعين.
هذه سنة سبع وعشرين وستمائة وجلال الدين يعمل ليؤلف أمراء المسلمين ويضرب بهم هذا العدو المدمر فلا يمهلهم عدوه فيباغته ثلاثون ألفا من المغول فينهزم أمامهم ولكن ليستولي على مدينة كنجة.(7/17)
عشر سنين نازل فيها جلال الدين منكبرتي أحداث الزمان مجتمعة وغلب فيها جهد الأعداء وخيانة الأصدقاء، وجالد عدو المسلمين وخليفة المسلمين. وحارب المغول والتركمان والملاحدة والكرج.
أرأيت جلال الدين نجما يدور به فلك من الخطوب بين المشرق والمغرب؟ أعلمت أن الرجل العظيم يخلق أحداث التاريخ ولا ينقاد لها. إن يكن ما يروى عن جلال الدين مستحيلا فكم بين حقائق التاريخ من مستحيلات.
غياث الدين أخو جلال الدين يمالئ الأعداء أيضاً فانظر إلى البطل العظيم عام 628 وقد أجتمع عليه الأعداء وخانه الأخوة والأصدقاء وناء بقلبه خذلان أعوانه لا بطش أقرانه. ها هو ذا مكتئبا حزيناً مشرداً يسير في قرى الكرد ولعله كان ليحاول أن يخلق من عزمه جنداً وحرباً وانتصاراً وملكاً. ولكن رجلاً من الكرد باغته ففتك به:
أتته المنايا في طريق خفية ... على كل سمع حوله وعيان
ولو سلكت طريق السلاح لردها ... بطول يمين واتساع جنان
ولكن النفس العظيمة التي ملأت العدو والصديق هيبة وإعجاباً لا تموت بموت الجسد، فقد أكبر الناس أن يموت البطل الذي غلب الموت في كل معترك. فبقوا أكثر من عشرين عاما يتحدثون أن بطلهم حي وأنه ظهر في هذا المكان أو ذاك. بل حاول بعض الناس أن يلبسوا عظمته ويحملوا أسمه فناءوا بالعبء فأخذهم المغول بغير عناء.
يا شباب الشرق! قلبوا صفحات مجدكم فإن أعظم المصائب أن تمحى ذكرى الآباء من صدور الأبناء. وأن لكم في جلال الدين لعبرة.(7/18)
مجمع البحور
إلى الدكتور محمد عوض محمد
قرأت مقالكم الممتع، تحت عنوان (مجمع البحور وملتقى الأوزان) فوجدت فيه من الطرافة ما يدل على التفوق في الذوق، غير أني أخذت عليكم فيه مأخذين أدلي بهما إليكم وإلى قراء مجلة (الرسالة) الكرام.
(1) قد ذهبتم إلى أن الشعر المرسل قريب العهد في الحدوث. وهذا غير الواقع فقد أنشد أبو عبيدة لأبنة أبي مُسافع وقد قتل أبوها يوم بدر:
فما ليثُ غريفٍ ذو ... أظافير وأقدام
كحييّ إذا تلاقوا
وَ ... وجوه القوم أقرانُ
وأنت الطاعن النجلا ... َء مزبدٌ آنًِ
وبالكف حسامٌ صا ... رم أبيض خذامُ
وقد تركب بالركبِ ... وما نحن بصحبانِ
وتجدون هذه الأبيات في (الموشح) للمرزُباني، (ص20) ومن يدري؟ فلعل هناك كثيراً من قصائد الشعر المرسل ذهبت بها أيدي الضياع. والمعروف أن الأستاذ الزهاوي هو الشاعر الوحيد في المحدثين الذي رفع لواء الشعر المرسل، ولا أعلم العلة التي حدت بكم إلى إغفال ذكره في الموضوع، وهو معيد الفكرة إلى نشأتها الأولى.
(2) أنكم عبتم على أمير الشعراء عدم التزامه وزناً واحداً في رواياته؛ وأنا أقول: لو أن شوقي رحمه الله أجهد نفسه، وتكلف الكثير حتى جاء برواياته، من بحر واحد وقافية واحدة لقال الناس ولقلت أنت أيضاً: إن شوقي قد وضع في عنق الشعر طوقاً يغله به في عصر الحرية والإنطلاق، وأنه مقلد وقديم في عهد التمرد والابتكار. ولكنا إذا صرفنا النظر عن كل هذه الاعتبارات، ونظرنا إلى الموضوع من حيث أن تلك الروايات إنما وضعت للتمثيل خاصة، تجلى لنا الموقف الذي ظهر في شوقي وهو يقدم لأدب الضاد مادة طريفة دلل بها على أن لغة القرآن لا تضيق بكل ضرب من ضروب التفكير، وكل فن من فنون الأداء وأن في الشعر ما يصلح أداة للتمثيل.
أنا لا أختلف وإياكم فيما يحدثه نظم القطعة الواحدة من بحور متعددة من الشعور بنفرة(7/19)
الانتقال المباشر في الموضوع الواحد. ولكن هذه المفارقة النافرة في الذوق لا يبقى لها أثر متى لا حظنا أن الشعر خاص بالتمثيل وأنه نظم ليلقى على المسرح بغير لسان واحد. فانتقال الإلقاء من هذا إلى ذاك مما تضيع به فائدة المحافظة على البحر والقافية في قاعة التمثيل فضلا عما يحدثه التمثيل ذاته في أنفس السامعين من الاتجاه إلى الحادثة وتسلسل المواقف دون الالتفات إلى أن هذا يسأل من بحر الخفيف وذاك يرسل الجواب من بحر الطويل. وقد حضرت روايات شوقي التي مثلتها الفرق المصرية في العراق فلم أجد في نفسي أثراً لاختلاف البحور والقوافي ولم أسمع من غيري شيئا من هذا. ويظهر أن فكرتكم قد تولدت من القراءة المجردة دون أن تقترن بالروح التي تبعثها مشاهدة التمثيل. وما كان شوقي بعاجز عن أن يوحد البحور والقوافي في رواياته بشيء من الجهد وهو أمير الشعراء، ولو كان قد تكلف اجتياز هذه العقبة الكأداء لما وفق في الموضوع إلى المدى الذي انتهى إليه من البراعة في حبكة الرواية والإتيان بأرفع الخواطر سمى ذلك لأن الشعر ذاته في حاجة (بالتمثيل) إلى كل هذه التوسعة وإلا طغت الألفاظ على المعاني وجاءت المواقف في شيء كثير من البرود والجفاف مهما بلغ الشاعر حظا عظيما من فيض العبقرية. ويظهر أن الأبيات التي استشهدتم بها من رواية قمبيز ليست ثلاثة ومصرعا (بفتح الراء) وإنما هي أربعة أبيات باعتبار قوله:
بخٍ بخٍ ... بنتَ أخي
بيتاً واحداً مصرعاً (بتشديد الراء) كما يدل عليه التشكيل في الرواية وعلى حد قوله في (قمبيز) أيضاً:
النوبُ جيلْ ... حر أصيلْ=يقضي الديونْ
نحن الأسود ... حمر الجلودْ=حمر العيونْ
لنا لبدْ ... من الزردْ=هي الحصونْ
إلى آخر القطعة (ص 98) وهناك كثير من أمثال ذلك وهو بحر جديد يستسيغه الذوق طبعاً. وبذلك يرتفع ما يؤخذ على شوقي من استساغته اختلاف البحر في البيت الواحد، وذلك لا يصح صدوره من شاعر، لأن البيت في الشعر وحدة مستقلة الذات في القصيدة، وهذا الاستقلال يفرض معه اتحاد البحر في البيت الواحد.(7/20)
وبعد فإني أرجو لا يكون هذا الدفاع مبرراً لما جريت عليه في تأليف روايتي الشعرية (رسول السلام) من عدم التقيد ببحر واحد وقافية ثابتة والاكتفاء بموسيقية الوزن فحسب، إنما أرجو فيه إصلاحا لما علق في بعض الأذهان من أن روايات شوقي فقدت أكثر جمالها بفقدها اتحاد الوزن والقافية. ويكفي الشعر التمثيلي أن يحتفظ بنغمة الوزن وحدها ما دام المسرح لم يخصص لقائل واحد وإنما هي مشاهدة عدة وممثلون كثيرون قد يكون هذا التنويع في البحور والقوافي، ملائماً لإبراز ملامح الجمال التي تنسجم مع الموقف ومن فيه.
بغداد. حسين الظريفي(7/21)
مشروع تعاون الشباب
صيحة من قلب الشباب لإنقاذ الشباب
للأستاذ حافظ محمود
في الوقت الذي يزاحم القنوط آمال الشباب في ساحة العمل والنشاط قد ارتفع صوت ينادي الشبان إلى الخلاص مما أحاق بحياتهم العملية من ضغط وإرهاق، يقول لهم أن في يد الشباب معجزة الثروة الطائلة إذا هم ادخروا من أموالهم المتواضعة بضعة قروش تحتسب لهم أساساً للمساهمة في إنشاء شركات مصرية صناعية تزيد في كسبهم ناحية لن تزيدهم الأيام إلا سعة وتجديدا.
ذلك هو مشروع تعاون الشباب الذي يتقدم إلى شباب الأمة المصرية بهذه الفكرة الناضجة، يفصل لهم رءوس الأموال تفصيلا، يستطيع كل فتى وكل فتاة إلى الاشتراك فيه سبيلا. فخمسة قروش ما أسهل توفيرها في كل شهر مرة واحدة لمن أراد، وأكثر من مرة واحدة للقادرين!
فحسبنا من المصريين واحد في المائة من تعدادهم يؤمنون بتنفيذ هذه الفكرة. إن واحداً في المائة من خمسة عشر مليونا مصريا إذا ادخروا خمسة قروش لكل منهم شهرياً اجتمع لنا في عام واحد تسعون ألفا من الجنيهات. وهو مبلغ يحسب في تاريخنا الاقتصادي الناشئ بالشيء الكثير. فأنت حين تراجع تاريخ إنشاء بنك مصر وتعلم أنه قام أول ما قام على ثمانين ألفا فقط لا بد واجد من نفسك بعد هذا إحساسا طيبا نحو هذه التسعين ألفا من الجنيهات التي يستطيع شبان المدن المصرية وحدهم أن يدخروها في سنة واحدة من بقايا نفقاتهم النثرية في غير عنت ولا إرهاق.
أن الحركة الاقتصادية هي ميزة العصر الحاضر على كل العصور، ومن الأمثلة التي تساق في هذا البحث أن مصر تستورد سنويا من الخارج بما يقرب من المليون جنيه غرائر (زكائب) خشنة ساذجة، مع مصلحة التجارة والصناعة بعد درسها لصناعة الغرائر علميا قد تبينت إننا نستطيع أن ننشئ بتسعين ألفا من الجنيهات أو يزيد قليلا هذا المصنع العظيم الذي يغنينا عن بذل مليون أو ملايين بضرورة التكرار سنويا للمصانع الخارجية.
هذا كله إنما يقوم دليلا قويا على صلاح الدعوة التي يدعوها (مشروع تعاون الشباب) لفتح(7/22)
آفاق جديدة يرتادها شبان مصر في حياة الأعمال الحرة، ويزيد فخرهم فيها أنهم هم المنشئون، وهم العاملون، وهم الذي يفيدون ويستفيدون.
ذلك أن القائمين بدراسة هذا المشروع وتنفيذه فكروا أول ما فكروا ألا تكون قروش الشباب هبة أو عطاء، فليس العطاء من تاريخ الاقتصاد في شيء، إنما جعلت هذه القروش الخمسة التي يكرر الشباب المصري ادخارها لمشروع تعاون الشباب وسيلة ميسورة تنتهي بالجميع إلى أن يصبحوا مساهمين في الشركات التي ينشئونها بأموالهم. فيكونون قد أنشئوا للصناعة في مصر منشآت جديدة من ناحية، وفتحوا لأنفسهم طريقاً إلى الربح من ناحية ثانية. وزادوا على هذا وهذا أنهم يبذرون بما يعملون بذور النزعة الاقتصادية المنتجة في أرض البلاد.
فأنت ترى أن الفكرة في هذا المشروع لم تكن وليدة رأي عارض أو تقليد أصم. إنما هي فكرة ولدتها حاجة الحياة المصرية إلى كثير من المنافذ التي تنفذ منها جهود الشباب إلى ما يهيأ لهذه الشبيبة المصرية مستقبلا أكثر رخاء ورغداً، وأنت ترى في تضاعيف هذه الفكرة نزوعا إلى تحقيق الديمقراطية الاقتصادية إذ تفتح وسائل المشروع أبواب المساهمة في تأسيس الشركات والمصانع أمام أصحاب خمسات القروش كما تفتحها أمام أصحاب الآلاف أو الملايين، وهي نزعة علمية صالحة جديرة بالتقدير والاعتبار.
كان هذا المشروع فكرة، ثم انقلبت الفكرة صوتا ينادي شباب مصر إلى العمل في سبيل مستقبلهم ومستقبل بلادهم. والواقع أن في مصر مشكلة يصح أن تسمى مشكلة الشباب، وأن هذا المشروع حل من أوفق الحلول لهذه المشكلة الضخمة فأولئك الألوف الذين تخرجهم المدارس كل سنة إلى أين يذهبون بما تسلحوا من علوم وفنون؟ لقد ضاقت سبل الرزق عن أن تسد حاجاتهم، وعز على أوليائهم والأغنياء من أهلهم أن يضحوا في سبيلهم، وحقت عليهم التجربة القاسية التي سيخرجون منها إما ظافرين بمعنى سام من معاني الرجولة التي تعرف قيمة الاعتماد على نفسها، وإما حاملين أثقال الخيبة التي لا رجولة فيها.
لم يبق أمام الشبيبة المصرية إلا أن تعنى بمستقبلها: تدبر له الأمر وتنفذ ما فيه بناؤه، بناء يقوم على أسس مادية ثابتة لا تتعرض لها أيدي الآخرين. ولعل مشروع تعاون الشباب هذا(7/23)
هو الترجمة الحرفية لهذا كله، فهو محاولة مرضية في خلق شيء لمستقبل الشباب بجهود الشباب وماله من قليل المال وكثير النشاط. وربما كان حتما لزاما على إخواننا الشبان أن يوجهوا جهودهم في تنفيذ هذا المشروع على الوجه الذي يحقق آمالهم أملا فأملا ليثبت لهم في سجل الأيام أنهم عرفوا واجبهم فأدوه، وآمنوا بحقهم فسعوا إليه.
أما وسائل التنفيذ لهذا المشروع فقد أحسن أو يحسن القائمون به تنظيمها، فلكل خمسة قروش تودع لحساب المشروع (كوبون) مرقوم بالرقم المسلسل، مختوم بالخاتم المسجل، ممضي إمضاء رسمية. وهذه الكوبونات التي يتقاضاها المساهمون في هذا المشروع تودع قيمتها أو أثمانها لحساب المشروع في بنك مصر إيداعاً ليس فيه صرف ولا حل إلا يوم تنعقد الجمعية العمومية للجان المشروع بعد ستة أشهر، فتحصى المجموع عدداً وتقرر ما ينشأ به من صناعة ومن يقوم على الإنشاء من الأعضاء الأخصائيين البارزين. يومئذ تأذن الجمعية لثلاثة من الرؤساء أن ينفقوا على عملية التأسيس بحساب معلوم تحت رقابة مسؤولة.
هذه وسيلة من وسائل النجاح للمشروع يزيد عليها أن القائمين بعملية التوزيع في ذاتها ليسوا فتية غير مسؤولين، إنما هم أعضاء لجان في وزارات الحكومة ومصالحها ومدارسها يشرف عليها رؤساء من أكبر الرؤساء. وهم يشتركون في المسئولية عن كل ما يوزعون حفظاً وضماناً لما يجمعون.
أما المال الذي يجمع فهو مضمون في خزائن بنك مصر، وأما ملكيته فهي لأصحاب خمسات القروش أنفسهم تعود عليهم أرباحه يوم تنشأ الشركة ويكونون فيها مساهمين، وأما نوع الصناعة التي تؤسس بمال المشروع هذا فمتروك أمرها لقيمة رأس المال الذي يمكن جمعه وتوفيره لهذه الغايات كلها التي يسعى إليها المشروع من إنشاء صناعات وطنية إلى فتح أبواب جديدة للرزق. فلجنة المشروع تضع نصب أعينها إذن غرضين: صناعة لا مزاحمة فيها للمواطنين، ومصانع يتطلب العمل فيها أكبر عدد ممكن من أيدي الشباب المواطنين.
إن كل غرض من هذين الغرضين اللذين يسعى إليهما مشروع تعاون الشباب جدير بعطف الأمة وتقديرها، وإذا كان قلب الأمة موزعا في قلوب الشباب فما أحرى هذه القلوب أن(7/24)
تنصت إلى نداء (تعاون الشباب) ثم تجاوبه بالإقبال والبذل والعمل في سبيل الحرية التي تلمس بالأيدي ويحس بها الأفراد جميعاً.(7/25)
في الأدب العربي
القصة المصرية
للأستاذ جيب
أستاذ الأدب العربي في مدرسة اللغات الشرقية بجامعة لندن
- 2 -
أول قصة مصرية بالمعنى الحقيقي خرجت إلى الوجود، وهي غفلاء من أسم مؤلفها، فلم تلق أول الأمر إلا اهتماماً قليلاً من جانب المتعلمين، تلك القصة هي (زينب) مناظر وأخلاق ريفية، بقلم فلاح مصري - القاهرة، مطبعة الجريدة عام 1914. ومؤلفها هو الدكتور محمد حسين هيكل، ولما كان غداة نشرها محامياً صغير السن طموحاً لم يشأ أن يذكر أسمه مخافة أن يقف ذلك عقبة في سبيل عمله.
خرجت (زينب) خروجاً تاماً، في لغتها وأسلوبها وموضوعها وفي الطريقة التي عالجها بها المؤلف عن جميع ما تقدم من الآثار في الأدب العربي. وليس هناك علاقة بينها وبين قصص زيدان التاريخية، وقصص فرح إنطوان، فلقد كتبت كما يتضح من عنوانها لتصوير الحياة الاجتماعية في الريف بسلسلة من الحوادث تدور حول فتاة قروية.
ونستطيع أن نسرد الحكاية في أيجاز، فنقول، أن زينب وهي فتاة قروية جميلة، قوية الإحساس، بعد علاقة بريئة بشاب متعلم يدعى حامد أبن صاحب الأرض في القرية، قد أحبت فتى يقال له إبراهيم، ولكنها تزوجت رغم أنفها وبمشيئة والديها من صاحبه حسن. فحرصت على وفائها وولائها له، ولكنها ظلت على حبها لإبراهيم، ولقد أدى التنازع بين هاتين العاطفتين، عاطفة الحب وعاطفة الإخلاص الزوجي إلى تأثير سيئ في صحتها، ولما علمت بدخول ابر أهيم في الجيش بلغ ذلك من نفسها مبلغاً عظيما حتى أضناها الحزن ثم أودى بحياتها، وبجانب هذه الخطة تقوم حكاية أخرى. وهي تلك العلاقة بين حامد وابنة عمه، وهي فتاة من فتيات المدن، ثم اختفاؤه عندما أخفق مسعاه في التزوج منها.
ويتضح من ذلك أن الخطة على العموم أقل من أن تكفي لملء أربعمائة صفحة، وبالقصة من جهة أخرى عيوب سنعرض لها الآن. وينبغي أن نتذكر أن تلك القصة ليست أول(7/26)
مجهود لشاب صغير السن فحسب. بل هي كذلك أول مجهود من نوعه في أدب فني، فيجب أن ينظر إليها مع هذا الاعتبار، والواقع أن ما في القصة من تفاصيل تستوجب النقد، يقل شأنه، إذا قارناه بتلك الحقيقة وهي أن هناك مجهودا بذل، وأن تلك القصة تعتبر شيئاً جديداً من نوعه أضيف إلى الأدب العربي.
ويعد بناء هذه القصة ممتعا من الناحيتين الوصفية (والسيكلوجية) وواضح أن القصة إنما قصد بها انتقاد تلك الروح الرجعية التي ما زالت تسيطر على طبقة خاصة من الناس على الرغم من التقدم الحديث، على أن نجاحها في هذا السبيل لم يكن تاما، إذ أن الشخصيات نفسها لم تركب بدرجة كافية، اللهم إلا شخصية حامد، وهي بلا شك تمثل إلى حد كبير شخصية المؤلف نفسه. كذلك نلاحظ أن تصوير الأشخاص والحوادث بطريقة (درامية) جاء ضعيفا بالجملة.
وكانت النتيجة أن تعليقات المؤلف (السيكلوجية) كانت تأتي على لسانه هو بطريقة أقرب إلى طريقة الكتب المدرسية مع استعمال ضمير المتكلمين الجمع. ويظهر تدخل المؤلف بشكل أوضح في مواضع الوصف. ولقد ذكر هيكل بك في مقدمة الطبعة الثانية الظروف التي وضع فيها كتابه، وذلك حين كان يطلب العلم في باريس وجد به الحنين إلى وطنه، فجعل يتمثل في ذهنه جميع مظاهر الحياة القروية، ومجالي الطبيعة في مصر، ويظهر أثر ذلك في كل صفحة من صفحات الكتاب تقريبا، في قطع وصفية مسهبة للمناظر الطبيعية، كالشمس والقمر والنجوم والمحاصيل والجداول والبرك. . . الخ، ولقد يرتفع أسلوبه في ذلك إلى درجة عظيمة من الفخامة والروعة الموسيقية، ولكن طول الوصف مما يسبب السآمة وتشتيت الذهن. ففي كل حادثة وفي كل منظر وصف وتعليق، مما جعل القصة في بعض المواضع تسير متعثرة. أضف إلى هذا أن الكاتب كان يعمد أحيانا إلى قصص استطرادية تافهة، لا تمت بصلة قوية إلى القصة الأصلية، لا لغرض سوى أن يستطيع بواسطتها أن يضيف بعض الفقرات الوصفية، ثم بين الفينة والفينة تظهر بعض جمل مثقلة بالوصف الى درجة تفقد معها مبناها ومادتها.
ولكن يجب ألا ننسى أن هذه الفقرات الوصفية تحمل من المعاني إلى ذهن القارئ المصري أكثر مما تحمل إلى غيره، وإن تأثيرها الفني في نفسه، يعد أحد الأسباب الرئيسية التي(7/27)
قامت عليها شهرة هذه القصة عند المصريين.
أما ما حوته من المباحث الاجتماعية، فكان أكثر تمشيا مع الخطة، إذ كان من المحتم أن يتلمس المؤلف أسباب المساوئ التي ذكرها وأسباب المأساة النهائية، وأن يرجع ذلك إلى أصله في العادات الاجتماعية. ويغلب على القصة من أولها إلى آخرها التعرض لنقد المساوئ التي أنتجها التمسك بالعادات البالية، ولكن النقد الاجتماعي لم يحشر بالطريقة التي حشرت بها الفقرات الوصفية (والسيكلوجية) ويرجع ذلك إلى أن المؤلف قد أجراه على لسان حامد، وهو شاب متعلم متأثر بأفكار قاسم أمين وغيره من المصلحين الاجتماعيين، على أن المؤلف كان يلجأ هنا أيضاً في بعض الأحيان إلى اصطلاحات الكتب المدرسية.
وكان تنظيم الأسرة وتحرير المرأة هما المحور الذي تدور عليه انتقادات المؤلف الاجتماعية، أضف إلى ذلك بعض مظاهر الحياة الاجتماعية في مصر، كبعض الحرف البعيدة كل البعد عن حقائق الحياة، مثل حرفة طبيب القرية (الحكيم البلدي) ومشايخ الطرق الذين يتجرون بتضليل العامة وغير ذلك.
أما شعور المؤلف القومي، فكان مضمراً أكثر منه صريحا وإن كان قد أظهره في بعض المواضيع، وبخاصة عند إشارته إلى حقارة الخدمة العسكرية، تحت سيطرة الأجنبي.
أما أسلوب القصة فقد سار الكاتب فيه على الأسلوب الأدبي الحديث مع تهذيبه في أغلب الأحيان في اللفظ والتركيب، ويلاحظ فيه من جهة أثر الاصطلاحات العامية الخاصة بدلتا مصر، ويتضح ذلك في اقتضاب بعض الجمل، وفي طريقة الانتقال وغيرها، كما يلاحظ فيه من جهة أخرى أثر الفرنسية، ويظهر ذلك في طول الجمل والتوائها مع كثرة الجمل الفرعية والمعترضة التي تدخل على الجملة الرئيسية، مثال ذلك الجملة التي تبتدئ بالفقرة الآتية (ومن الظلام روافه) صفحة 37 من الطبعة الأولى و34 في الطبعة الثانية وكذلك الجملة التي تبتدئ بقوله: ولم تكن إلا لحظات. . . ص 89 في الطبعة الأولى و 70 في الثانية.
أما ما يتعلق بتلك المشكلة الصعبة، مشكلة أسلوب الحوار فقد لجأ هيكل بك في شجاعة إلى استعمال اللغة العامية إذا كان الحوار بين الفلاحين، أما إذا كان بين الطبقات المتعلمة فيتركهم يتكلمون اللغة الفصحى.(7/28)
ويتضح مما قدمنا أن عنصر الخيال في زينب أقل منه في مثيلاتها من القصص الأوربية المتوسطة، وأن ما في القصة من فقرات عقلية ووجدانية (وهي في الواقع العنصر الشخصي فيها) يسمو على الناحية القصصية. ولقد ذكر الكاتب في مقدمة الطبعة الثانية أن القصة فضلا عن مظاهرها الخاصة تأثرت أيضاً بطريقة القصة الفرنسية السيكلوجية الحديثة، ولكنا على الرغم من ذلك (إلا إذا ثبت تماما أن القصة قد جرت في تفاصيلها وأسلوبها وخطتها على نمط القصة الفرنسية) نقول أنه يستحيل علينا أن ننكر على زينب أنها أول قصة مصرية كتبت بقلم مصري للقراء المصريين، وأن شخصياتها وأوضاعها وخطتها قد اشتقت من الحياة المصرية الحاضرة.
لم تلق هذه القصة إلا اهتماما قليلا حينما نشرت في عام 1914، ولكنها لاقت بعد ذلك نجاحاً كبيراً لما اتسعت دائرة القراء. وكان إعادة طبعها في عام 1929 بناء على طلب الجمهور، وقد أدى إلى ذلك عدة عوامل نذكر منها أنها زادت في إحساس الناس بقوميتهم، وأن مؤلفها قد ارتفع صيته في عالم الأدب، وأنها اختيرت موضوعا لأول (فلم سينمائي) أخرج في مصر.
ومن أجل ذلك أصبحت القصة موضع بحث، وكتب في نقدها بعض مقالات كان معظمها مدحا وتقريظا. ومن أحسن ما كتب في هذا الصدد مقالتان طويلتان للمازني في السياسة الأسبوعية بتاريخ 27 أبريل و4 مايو سنة 1929. وحدث أن كتب بعد ذلك كل من هيكل بك ومحمد عبد الله عنان سلسلة مقالات في السياسة الأسبوعية في أوائل عام 1930 ذات فائدة كبيرة فيما يتعلق بنشأة القصة في مصر.
يسائل هيكل بك عن أسباب ذلك الضعف وذلك الفقر الغريبين اللذين يمتاز بهما الأدب العربي الحديث في القصة، مع أن المصريين يمتازون بمقدرة طبيعية على سرد القصص. ولقد علل ذلك بعدة أسباب منها: فقدان المقدرة على طول الخيال، والفرق بين لغة الكتابة ولغة التخاطب، وكسل الكتاب المصريين. ولكن ليس في هذه الأسباب ما يمكن اعتباره السبب الحقيقي وإن بدا في الثاني منها بعض الوجاهة. ويذكر هيكل بك بعض الأسباب الفرعية الأخرى ومنها (1) نسبة الأمية الهائلة في مصر، وهي تحول دون أي تقدير حقيقي من جهة، وتكون سببا في قلة العوض المالي من جهة أخرى (2) عدم التشجيع من(7/29)
جانب الطبقات العالية والطبقات الغنية، وربما كان السبب في ذلك أن هؤلاء لم يجدوا تشجيعا من جانب المرأة وبهذه المناسبة يشير المؤلف إلى أثر المرأة في فرنسا في القرنين السابع عشر والثامن عشر والى أهمية تشجيع المرأة للحركة الأدبية في الأدب العربي القديم (3) الحط من قيمة الأدباء في مصر والتشهير بهم علنا من منافسيهم وممن هم أقل منهم منزلة (4) انشغال الناس بالمسائل السياسية والاقتصادية وميل الكتّاب إلى الاهتمام بالناحية السياسية أكثر من اهتمامهم بالناحية الأدبية.
ويوافق عنان على تلك الأسباب في الجملة، غير أنه يقول أن ثانيها هو أكثرها خطرا، فإن الوسيلة الحقيقية إلى نمو القصة في مصر تنحصر في مركز المرأة الاجتماعي ويشير عنان إلى أن الدور الذي لعبته المرأة في إنهاض الشعر العربي القديم لم يكن له علاقة بالقصة، لأن أساس القصة إنما يوضع في مجتمع تلعب فيه المرأة دورا خطيرا ويكون المجتمع متأثرا بنفوذها خصوصا في رسم مستوى الخلق والسلوك. وكان من نتيجة فقدان هذا الأثر ضيق مجال الأدب العربي القديم والأدب الأوربي في العصور الوسطى ونقصهما في جمال الشعور والعواطف. ولا يزال هذا الضيق موجودا في الأدب العربي الحديث لأن المستوى الاجتماعي لم يزل كما هو لم يتغير. وتعتبر قصة زينب إحدى الشواذ التي تنهض دليلا على صحة القاعدة، فإن نجاحها إنما يرجع إلى تلك الحرية النسبية التي تتمتع بها المرأة في الحياة الريفية. وعلى ذلك فإن عنانا لا يشارك هيكل بك في تفاؤله، ففي نظره أنه لا يمكن أن تتقدم القصة المصرية ما لم تتحسن تلك الظروف القائمة، ولا يمكن أن تترجم أو تمثل العواطف والأخلاق السائدة في الحياة الاجتماعية. ولا ينتظر أن يكون لها مستقبل في التطور الأدبي الحديث ما دامت الحياة الإسلامية محافظة على تقاليدها الموروثة. ومما قاله في هذا الصدد (استطعنا أن نقطع بأن المجتمع الإسلامي لا يمكن (متى بقي تطوره وتقدمه محصورين في المبادئ الإسلامية الخالدة أو في التقاليد التي كانت أثرا لهذه المبادئ) أن يظفر كتاب القصص العربي يوما بمادة واسعة أو غزيرة كالتي يقدمها المجتمع الغربي إلى كتاب الغرب أو أن يغدو الأثر الذي يفسحه للمرأة ذات يوم وحيا للفن والجمال).
ولقد أدت مقالة عنان إلى رد من جانب هيكل بك يتعرض فيه إلى الناحية (السيكلوجية)(7/30)
للموضوع، وهي مقالة جديرة بأن تقرأ بمزيد الاهتمام. يقرر الكاتب أن الضعف الحقيقي في القصة القصيرة والقصة الطويلة في مصر إنما يرجع إلى عدم المقدرة على تفهم الحياة والى حاجتنا إلى تربية العواطف، فإن العواطف النبيلة لا يمكن أن تثمر في حياة اجتماعية يقف فيها الشعور عند نقطة تقوم معها الأغراض الجسدية مقام أي عاطفة سامية من عواطف النفس الإنسانية. وإن أي فن لا يكون في الأصل قائما على حب الفنان لناحية من نواحي الحياة لا يمكن مطلقا أن يصل إلى درجة الكمال، وتطور غريزة الحب إلى عاطفة إنسانية سامية يحتاج إلى تدريب طويل شاق وقد لا يكفي لبلوغ ذلك جيل بل عدة أجيال. وحتى فضيلتا الإحسان والعطف يندر وجودهما في مظهرهما الاجتماعي الراقي في مصر. ولم يزل الحب أيضاً قريبا من الغرائز الأولية، ومن النادر أن يعثر المرء في هذه الناحية على مثل من المثل العليا الجميلة. وأخيرا يتلمس الكاتب أسباب نقص التهذيب العاطفي في انعدام وسائل التربية التي تقصد إلى هذا الغرض في المنزل، كما يتلمسها في طرق التعليم القديمة التي تعد أدخل في باب الحرف منها في باب الإنسانية.
ولم يكن من السهل مرور هذه المناقشات دون أن تثير معارضة من جهات مختلفة وسنوضح أحد هذه الانتقادات الشهيرة عند الكلام على قصة المازني (إبراهيم الكاتب) ولقد صدرت تلك المعارضة عن صفوف المثقفين. ومما قاله أحدهم في هذا الصدد. . . . ما هذه المناقشة الطويلة حول القصة؟ لقد سار الأدب العربي بدونها في الماضي ولم ينقص ذلك من قدره، وإن التطلع إلى إيجاد القصة فيه الآن ليعد مثلا جديدا من أمثلة تقليد الأوربيين تقليدا ضارا ينذر بتقوض دعائم الحياة الاجتماعية في الشرق. إن القصة الغربية بما فيها من نقص وتزييف وعدم ملاءمة للتقاليد الاجتماعية في الشرق قد أثرت تأثيرا هداما في حياة مصر الاجتماعية. أفنسعى بعد ذلك وراء هذا الداء الوبيل؟(7/31)
ابن خلدون في مصر
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 3 -
ثم عين المؤرخ في وظيفة أخرى هي مشيخة (نظارة) خانقاه بيبرس، وهي يومئذ أعظم الخوانق أو ملاجئ الصوفية؛ فزادت جرايته، واتسعت موارده. ولكن أمد سكينته لم يطل، فقد نشبت فتنة خطيرة أودت بعرش الظاهر برقوق بطلها ومدبرها الأمير يلبغا الناصري نائب حلب؛ وكانت نظم البلاط القاهري وظروفه وما يضطرم به من الدسائس والخيانات مما يسمح بتكرار هذه الفتن؛ وكان يلبغا الناصري نائب السلطنة من قبل، وزعيم عصبة قوية من الأمراء والفرسان؛ وكان الظاهر برقوق من جملة أمرائه وتابعيه؛ ولكنه استطاع في فتنة سابقة (رمضان سنة 784) أن يظفر بالعرش دونه، وأن يجرده من سلطته ونفوذه، وأن يقصيه إلى الشام. ثم سنحت فرصة الخروج ليلبغا، فسار إلى القاهرة في أتباعه وتحول أنصار برقوق عنه، ففر من القلعة، ودخل يلبغا الناصري القاهرة، وأعاد الصالح حاجي السلطان المخلوع إلى العرش، وقبض على برقوق وأرسله سجينا إلى الكرك (جمادى الأولى سنة 791). ولكن ثورة أخرى نشبت بقيادة أمير آخر يدعى منطاش، فقبض على الناصري، وسار إلى دمشق لمحاربة برقوق الذي استطاع أن يفر من سجنه؛ فهزمه برقوق وعاد إلى القاهرة ظافراً منصوراً، واسترد عرشه في صفر سنة 92، لبضعة أشهر فقط من عزله. ويخصص ابن خلدون في (تعريفه) فصلاً لهذه الحوادث، ويمهد له بشرح فلسفي اجتماعي يتحدث فيه عن نهوض الدولة بقوة العصبية واتساع ملكها، ثم طغيان الحضارة والرفاهة عليها، وخروج الأقوياء منها عليها، وبثهم فيها روحاً جديداً من القوة، وتكرر هذه الظاهرة، ثم يطبق نظريته على دول المماليك المصرية منذ صلاح الدين، ويقص تاريخها باختصار. وهنا يبدو ابن خلدون كما يبدو في مقدمته، ذلك الفيلسوف الاجتماعي الذي يعنى بتعليل الظواهر والكائنات، واستقرائها في حوادث التاريخ.
والظاهر أن ابن خلدون قد عانى من جراء هذه الفتنة، ففقد مناصبه وأرزاقه كلها أو بعضها بسقوط الحزب الذي يتمتع بعطفه ورعايته. فلما عاد الظاهر برقوق إلى العرش ردت إليه. يدل على ذلك قوله في التعليق على عود الظاهر: (ثم أعاده إلى كرسيه للنظر في مصالح(7/32)
عباده، وطوقه القلادة التي ألبسه كما كانت، فأعاد لي ما أجراه من نعمته).
ولبث ابن خلدون على ذلك أعواما ينقطع للبحث والدرس، وهو يقف بالتعريف بنفسه عند هذه المرحلة، حتى مستهل سنة سبع وتسعين (797) في الترجمة المتداولة الملحقة بتاريخه. ولكنه يمضي في هذا التعريف مراحل أخرى، في النسخة المخطوطة التي أتينا على ذكرها؛ ويفصل حوادث حياته حتى مختتم سنة 807، أعني قبل وفاته ببضعة أشهر. والنسخة المخطوطة أكثر تفصيلا وإسهاباً حتى فيما تتفق فيه مع النسخة المتداولة من مراحل الترجمة؛ ولهذا آثرنا الرجوع إليها إلى جانب النسخة المتداولة في كل ما هو أوفى وأتم مما تقدم ذكره من المراحل. غير أن النسخة المخطوطة ستكون منذ الآن وحدها مرجعنا فيما سيأتي من تفاصيل حياة المؤرخ حتى وفاته.
ليس في حياة ابن خلدون في هذه الفترة ما يستحق الذكر سوى سعيه إلى عقد الصلات بين البلاط القاهري وسلاطين المغرب ويجمل ابن خلدون ذكر هذه الصلات الملوكية، ويصف المراسلة والمهاداة بين صلاح الدين وبني عبد المؤمن ملوك المغرب؛ وبين الناصر قلاوون وملوك بني مرين؛ ويصف الهدايا المصرية والمغربية؛ ثم يعطف على مساعيه في عقد الصلة بين الملك الظاهر وسلطان تونس؛ وملخصها أنه كتب إلى سلطان تونس بحثه على إهداء ملك مصر، فأرسل إليه هدية من الجياد النادرة، ولكنها غرقت مع السفينة التي كانت تحمل أسرة المؤرخ كما قدمنا. ورد الملك الظاهر بإهداء سلطان تونس؛ ثم بعث سنة تسع وتسعين إلى المغرب ليشتري عدداً من الجياد، فزود ابن خلدون الرسل بالإرشاد والتوصية. ولكنهم عادوا بهدية فخمة كان سلطان تونس قد أعدها وتأخر إرسالها؛ وعدة هدايا أخرى قدمها أمراء المغرب، ومنها خيل مسومة، وعدد وسروج ذهبية. ويصف لنا ابن خلدون يوم تقديم الهدايا وعرضها ثم يقول لنا إنه شعر يومئذ بالفخر وحسن الذكر بما (تناول بين هؤلاء الملوك من السعي في الوصلة الثابتة على الأبد).
لبث ابن خلدون بعيداً عن منصب القضاء زهاء أربعة عشر عاما، يحول بينه وبين توليه، على قوله، ذلك الجناح من البلاط الذي شغب في حقه، وأغرى السلطان بعزله؛ فلما ضعف ذلك الحزب وانقرض رجاله، انتهز السلطان أول فرصة لرده إلى منصبه وكان ذلك في منتصف رمضان سنة إحدى وثمانمائة (مايو سنة 1398م) على أثر وفاة ناصر الدين(7/33)
التنسي قاضي المالكية. وكان ابن خلدون عندئذ بالفيوم يعنى بضم قمح ضيعته التي يستحقها من أوقاف المدرسة (القمحية) فاستدعاه السلطان وولاه القضاء للمرة الثانية. ثم توفي السلطان بعدئذ بقليل؛ في منتصف شوال؛ فخلفه ولده الناصر فرج، وسرى الاضطراب إلى شئون الدولة، واضطرمت الفتن والثورات المحلية حينا. فلما استقرت الأمور نوعاً، استأذن المؤرخ في السفر إلى بيت المقدس، فأذن له؛ وجال ابن خلدون في المدينة المقدسة، يتفقد آثارها الخالدة؛ وشهد المسجد الأقصى، وقبر الخليل، وآثار بيت لحم، ولكنه أبى الدخول إلى كنيسة القيامة (قبر المسيح). يقول لنا (وبناء أمم النصرانية على مكان الصليب بزعمهم، فنكرته نفسي، ونكرت الدخول إليه) ثم عاد من رحلته ووافى ركاب السلطان أثر عوده من الشام في ظاهر مصر، ودخل معه القاهرة في أواخر رمضان سنة 802.
وفي المحرم سنة ثلاث عزل ابن خلدون من منصب القضاء للمرة الثانية. وسترى أن هذا العزل كان نتيجة لسعي منظم من خصوم المؤرخ، وأن تكراره كان مظهراً بارزاً لذلك النضال الذي كان يضطرم بينه وبين خصومه داخل البلاد وخارجه. ولم يمض قليل على ذلك حتى جاءت الأنباء بأن تيمورلنك قد انقض بجيوشه على الشام واستولى على مدينة حلب في مناظر هائلة من السفك والتخريب (ربيع الأول سنة 803هـ - 1400م) ثم اخترق الشام جنوبا إلى دمشق. فروعت مصر لهذه الأنباء، واضطرب البلاط أيما اضطراب، وهرع الناصر فرج بجيوشه لملاقاة الفاتح التتري ورده، واصطحب معه القضاة الأربعة وجماعة من الفقهاء والصوفية ومنهم ابن خلدون. ولا ريب أن المؤرخ لم ترقه هذه المفاجأة التي ذكرته بما عاناه بالمغرب من تلك المهام السلطانية الخطرة؛ بل هو يقول لنا صراحة أنه حاول الاعتراض والتملص، لولا أن غمره يشبك حاجب السلطان (بلين القول، وجزيل الأنعام). ويفرد المؤرخ فصلا لحوادث تلك الحملة، ويمهد له بتعريف عن نشأة التتار والسلاجقة. وكان سفر الحملة في ربيع الثاني سنة 803، فوصلت إلى دمشق في جمادى الأولى، ونزل ابن خلدون مع جمهرة الفقهاء والعلماء في المدرسة العادلية، واشتبك جند مصر تواً مع جند الفاتح في معارك محلية ثبت فيها المصريون؛ وبدأت مفاوضات الصلح بين الفريقين. ولكن مؤامرة دبرها نفر من بطانة السلطان لخلعه(7/34)
اضطرته للعودة سريعاً إلى مصر؛ فترك مصر لمصيرها، وأرتد مسرعاً إلى القاهرة فوصلها في جمادى الآخرة. وعلى أثر ذلك وقع خلاف بين القادة والرؤساء حول تسليم المدينة. وهنا تغلب المؤلف نزعة المغامرة كما تغلبه الأثرة.
فقد خشي أن تقع المدينة في يد الفاتح، فيكون نصيبه الموت أو النكال؛ ورأى أن يعتصم بالجرأة، وأن يغادر جماعة المترددين إلى معسكر الفاتح، فيستأمنه على نفسه ومصيره. ويحدثنا المؤرخ عن ذلك بصراحة، فيقول على ما شجر بين القادة من خلاف (وبلغني الخبر، فخشيت البادرة على نفسي، وبكرت سحراً إلى جماعة القضاة عند الباب، وطلبت الخروج، أو التدلي من السور لما حدث عندي من توهمات ذلك الخبر). وانتهى المؤرخ بإقناع زملائه فأدلوه من السور، وألفى عند الباب جماعة من بطانة تيمورلنك وأبنه شاه ملك الذي عينه لولاية دمشق عند تسليمها فأنظم إليهم، والتمس مقابلة تيمور؛ فساروا به إلى المعسكر أدخل في الحال إلى خيمة الفاتح. ويصف لنا ابن خلدون ذلك اللقاء الشهير في قوله: (ودخلت عليه بخيمة جلوسه، متكئاً على مرفقه، وصحاف الطعام تمر بين يديه تشريها إلى عصب المغل، جلوساً أمام خيمته حلقاً حلقا. فلما دخلت عليه، فانحنيت بالسلام وأوميت إيماءة الخضوع، فرفع رأسه، ومد يده إليّ فقبلها؛ وأشار بالجلوس فجلست حيث إنتهت، ثم استدعا من بطانته الفقيه عبد الجبار بن النعمان من فقهاء الحنفية بخوارزم فأقعده يترجم بيننا).(7/35)
البيروني أيضاً.
نشرتم في ص20 من الجزء الرابع من الرسالة ترجمة للبيروني حسنة التأليف والمضامين متناولة لكثير من مناحي الرجل العلمية والفنية، ولكنها مغفلة لمنحاه الأدبي المصطلح عليه في عصره، وهذا مما تعنى به الرسالة ويصيب منها هوى فيه، فللبيروني كتاب (شعر أبي تمام) قال ياقوت الحموي: (رأيته بخطه لم يتمه) وكتاب التعلل بإجالة الوهم في معاني نظم أولي الفضل، وكتاب تاريخ أيام السلطان محمود وأخبار أبيه، وكتاب المسامرة في أخبار خوارزم ذكره ياقوت أيضاً في مادة (خوارزم) وكتاب مختار الأشعار والآثار، قال ياقوت: (وإنما ذكرته أنا هاهنا لأنه كان أديباً أريباً لغوياً وله تصانيف في ذلك) ولم يذكر في الترجمة المذكورة في الرسالة كتابه (تقاسيم الأقاليم)، قال ياقوت (وجدت كتاب تقاسيم الأقاليم تصنيفه وخطه وقد كتبه في هذا العام) وليس هو الذي أشير إليه في الرسالة بما نصه (وعمل قانوناً جغرافياً كان أساساً لأكثر القسموغرافيات المشرقية) وله كتاب (اعتبار مقدار الليل والنهار) وسبب تأليفه أن السلطان محمود الغزني ورد عليه رسول من أقصى بلاد الترك وحدث بين يديه بما شاهد، في ما وراء البحر نحو القطب الجنوبي (كذا) من دور الشمس عليه ظاهرة في كل دورها فوق الأرض بحيث يبطل الليل، فتسارع السلطان على عادته في التشدد في الدين، إلى نسبة الرجل إلى الإلحاد والقرمطة، على كونه بريئاً منهما، فقال أبو نصر أبن مشكان للسلطان (أن هذا لا يذكر ذلك عن رأي يرتئيه ولكن عن مشاهدة يحكيه) وتلا قوله عز وجل (وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا) فسأل السلطان أبا الريحان عن ذلك فأخذ يصفه له على وجه الاختصار ويقرره على طريق الإقناع، وكان السلطان في بعض الأوقات يحسن الإصغاء ويبذل الإنصاف، فقبل ذلك وانقطع الحديث بينه وبينه وقتئذ، وبعد تولي ابنه مسعود للسلطنة انبعثت القضية ائتنافاً وفاوض البيروني يوماً فيها وفي سبب اختلاف مقادير الليل والنهار في الأرض وأحب من أبي الريحان البرهان ليجتزئ به عن العيان، فقال له أبو الريحان (أنت المنفرد اليوم بامتلاك الخافقين، والمستحق بالحقيقة اسم ملك الأرض، فأخلق بهذه المرتبة إيثار الاطلاع على مجاري الأمور وتصاريف أحوال الليل والنهار ومقدارها في عامرها وغامرها) وصنف له ذلك الكتاب المتقدم ذكراً بطريق يبعد عن مواضعات المنجمين وألقابهم ويقرب تصوره من فهم من لم يرتض بهذا العلم ولم يعتده، وكان السلطان قد مهر في العربية فسهل(7/36)
له وقوفه عليه وأجزل إحسانه إليه، وكذلك صنف كتاباً في (لوازم الحركتين) بأمر هذا السلطان. قال ياقوت (وهو كتاب جليل لا مزيد عليه مقتبس أكثر كلماته عن آيات من كتاب الله عز وجل وكتابه الآخر المعنون بالدستور الذي صنفه باسم شهاب الدولة أبي الفتح مودود بن السلطان شهيد، مستوف أحاسن المحاسن) وذكر له صاحب روضات الجنات غير ما جيء به في الرسالة كتاب (تسطيح الكرة) وكتاب (الاستيعاب في علم الإسطرلاب) وهو غير (العمل بالإسطرلاب) وكان كبيراً على ما قال مؤلف الروضات، وكتاب (تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن) وكتاب (التفهيم في صناعة التنجيم) بالعربية والفارسية، وكتاب (الأظلال) ورسالة في تهذيب الأقوال ومقالة في استعمال الإسطرلاب الكرى وأخرى في تلافي عوارض الزلة في دلائل القبلة، وكتاب اختصار بطليموس القلوذي، وكتاب الأطوال للفرس، وتاريخ الهند وهو مجلدات، ونفهم من كلام صاحب الروضات أن العلماء اختلفوا في أسمه فترجمه بعضهم في باب (المحمدين) وبعض مع الأحمدين وفعل هو الأمرين، وأن صلاح الدين الصفدي ذكره في تاريخ (الوافي بالوفيات) وذكره صاحب طبقات النحاة ومؤلف رياض العلماء وحمد الله المستوفي الفارسي في نزهة القلوب، وذكره القفطي في ترجمة (بطليموس القلوذي) الذي أسلفنا ذكراً له، قال (وما أعلم أحداً تعرض لتأليف مثل كتابه المعروف بالمجسطي ولا تعاطى معارضته بل تناوله بالشرح والتبيين كالفضل بن أبي حاتم التبريزي وبعضهم بالاختصار والتقريب كمحمد بن جابر البتاني وأبي الريحان البيروني الخوارزمي مصنف كتاب القانون المسعودي ألفه لمسعود بن محمود بن سبكتكين وحذا فيه حذو بطليموس. . .) وذكره شمس الدين الشهرزوري في تاريخ الحكماء فقال (أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني وبيرون مدينة في السند. . .) وقال ياقوت (وهذه النسبة معناها: البراني لأن بيرون بالفارسية معناه: برا، وسألت بعض الفضلاء عن ذلك فزعم أن مقامه بخوارزم كان قليلا وأهل خوارزم يسمون الغريب بهذا الاسم كأنه لما طالت غربته عنهم صار غريباً، وما أظنه يراد به إلا أنه من أهل الرستاق، يعني أنه من برا البلد) وأقول أن التكلف في تخريج نسبته ظاهر، فالشهرزوري اتبع قوله السابق ما صورته (وبيرون التي هي منشأه ومولده بلدة طيبة فيها عجائب وغرائب، ولا غرو فان الدر ساكن الصدف) وقد ألحق في كتابه آثار(7/37)
الباقية المطبوع في ليبزيج ثبت لكتبه فيه اسم (112) تأليفاً.
بغداد. مصطفى جواد
من طرائف الشعر
شوقية لم تنشر
نظم شاعر الخلود المغفور له شوقي بك هذه القصيدة في منفاه ولم يتمها. فنشرناها للأدب والتاريخ:
وسقيمة الأجفان لا من علة ... تحيي العميد بنظرة وتميته
وصلت كتربيها الحديث بضاحك ... ضاحٍ كمؤتلف الجمان شتيتُه
قالت تغربت الرجال، فقلت في ... ضيم أريد بجانبي فأبيته
قالت نُفيت، فقلت ذلك منزل ... وردَته كل يتيمة ووردته
قالت رماك الدهر، قلت فلم أكن ... نِكساً ولكن بالأناة رميته
قالت ركبت البحر وهو شدائد ... قلت الشدائد مركب عُوِّدته
قالت أخِفت الموت قلت أمُفلت ... أنا من حبائله إذا ما خفته؟
لو نلت أسباب السماء لحطني ... أجل يحل لحينه موقوته
قالت لقد شَمِتَ الحسود فقلت لو ... دام الزمان لشامت لحفلته
قالت كأني بالهجاء قلائداً ... سارت، فقلت هممت ثم تركته
أخذتْ به نفسي فقلت لها دعى ... ما شاءت الأخلاق لا ما شئته
من راح قال الهُجر أو نطق الخنا ... هذا بياني عنهما نُزَّهته
الله علمنيه سمحاً طاهرا ... نَزِه الخلال وهكذا علمته(7/38)
كشافة العراق
للأستاذ محمد الهراوي
هذي العراق وأهلها الغر ... تهتز من طرب بهم مصر
أبناء بغداد، وهم شهب ... في أفق مصر الأنجم الزُّهر
نزلوا بساحتها، وقد نزلوا ... حيث الحشا والقلب والصدر
كشافة شدوا رحالهمو ... لا البر يعييهم ولا البحر
ومن السلام عليهمُ بشر ... ومن الحمية فيهمُ جمر
عن مصر حيتهم مواسمها ... وعن الربيع الطير والزهر
لله بغداد ومصر معاً ... فهما الحما والموطن الحر
أختان من رحم ومن نسب ... غذى أصولهما الدم الطهر
ولقد توارثتا معاً أدباً ... ينبيك عنه النثر والشعر
ولقد تشابهتا فأرضهما ... من جنة، والكوثر النهر
والدين وحد بين قومهما ... رمياتهم، والمطمح الوعر
ماضيهمو مجد، وحاضرهم ... جد، وللمستقبل النصر(7/39)
من أدب الزنوج
ترجم الأستاذ ايليا أبو ماضي هذه الأنشودة من أناشيد الزنوج في أمريكا واضطهاد البيض اياهم معروف
فوق الجميزة سنجاب ... والأرنب تمرح في الحقل
وأنا صيَّاد وثاب ... لكن الصيد على مثلي
محظور إذ أني عبد
والديك الأبيض في القُن ... يختال كيوسف في الحسن
وأنا أتمنى لو أني ... أصطاد الديك ولكني
لا أقدر إذ أني عبد
وفتاتي في تلك الدار ... سوداء الطلعة كالقار
سيجيء ويأخذها جاري ... يا ويحي من هذا العار
أفلا يكفي أني عبد؟(7/40)
الهوى والشباب
للأستاذ بشارة الخوري
الهوى والشباب والأمل المن ... شود توحَى فتبعث الشعر حيا
والهوى والشباب والأمل المن ... شود ضاعت جميعها من يديا
يشرب الكأس ذو الحَجِيِّ ويبقى ... لغد في قرارة الكأس شيَّا
لم يكن لي غد فأفرغت كأسي ... ثم حطمتها على شفتيا
أيها الخافق المعذب يا قلْ ... بي نزحت الدموع من مقلتيا
أفحَتْم عليَّ إرسال دمعي ... كلما لاح بارق في مُحَيا؟
يا حبيبي لأجل عينيك ما ألْ ... قى وما أوَّلَ الوشاة عليا
أأنا العاشق الوحيد لتُلقي ... تبعات الهوى على كتفيا
اسقني من لماك أشهى من الخم ... ر ونم ساعة على راحتيا
أنا ميتٌ غدا مع الفجر فاسكب ... نغمات الحنان في أذنيا(7/41)
موطني
لنزيل البرازيل: إلياس فرحات
نازح أقعده وجد مقيم ... في الحشا بين خمود واتقاد
كلما افتر له البدر الوسيم ... عضه الحزن بأنياب حداد
يذكر العهد القديم ... فينادي
أين جنات النعيم ... من بلادي
زانها المبدع بالفن الرفيع ... منصفا بين الروابي والبطاح
ملقيا من نسج أبكار الربيع ... فوق أكتاف الربى أبهى وشاح
حبذا راعي القطيع ... في المراح
ينشد اللحن البديع ... للصباح
موطني يمتد من بحر المياه ... ممعنا شرقا إلى بحر الرمال
بين طوروس وبين التيه تاه ... بجمال فائق حد الجمال
ذكره يغري فتاه ... بالمعالي
أنا لا أبغي سواه ... فهو مالي(7/42)
في الأدَبِ الشرقي
نظرات في الأدب الفارسي
منذ نشأته إلى إغارة التتار
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 3 -
وأما ألفاظ الشعر ففيها كثير من الألفاظ العربية وعليها طابع عربي في تركيبها، ولكن أثر العربية في الشعر أقل منه في النثر.
وأما قوافيه وأوزانه فلا يمكن تفصيلها في هذا المقال، وحسبنا أن نقول إن الفرس يكثرون من الشعر المزدوج الذي يسمونه المتنوي وهو شعر القصص كلها، وأكثروا كذلك من الدوبيت أو الرباعي، وعندهم ما يسمونه تركيب بند، أو ترجيع بند، وهو قريب من الموشحات العربية، وعندهم الشعر المردف وهو الذي تكرر في آخره كلمة واحدة ويعتبر الروي والقافية ما قبل هذه الكلمة. وجملة القول أنهم لم يسهلوا القوافي العربية وإن اخترعوا ضروبا فيها.
وأما الوزن فجدير بالتدقيق جداً، فان الفرس حاكوا العرب في أوزانهم أول الأمر ولكنهم سرعان ما نبذوا أشهر الأوزان العربية. فالطويل والمديد والبسيط والوافر والكامل، وهي بحور الدائرة الأولى، لم ينظم فيها الفرس إلا جماعة من المتقدمين أرادوا إظهار براعتهم كما يقول شمسي قيس. ونظموا في الرمل والرجز والخفيف والمضارع والمجتث والمتقارب (وهو وزن الشاهنامة) وأولعوا بالهزج ولعاً شديداً حتى جعلوه أصلا فرَّعوا منه أصناف الرباعي وخرجوا به عن أصله العربي.
ويلاحظ أنهم لم يقفوا بالبحور عند المقادير العربية، فالرمل قد يأتي مثمناً والرجز كذلك وما جاءا قط كذلك في شعر العرب، والهزج (مثلا) الذي هو سداسي الأصل عند العرب ومجزوء وجوباً ينظم منه الفرس مثمنا. ثم تصرف الفرس في الزحاف والعلل تصرفاً كثيراً جدا، واشتقوا من الدوائر العربية بحورا أخرى قريبة من البحور الأصلية مثل الغريب والمشاكل والقريب.(7/43)
وقد أراد بعض المستشرقين أن يعلل الخلاف بين الأوزان العربية والفارسية الخ بما بين طبائع الأمتين من اختلاف.
ويقول شمسي قيس أن سبب نقل الطويل والمديد والبسيط أن أجزاءها غير متناسبة في حركاتها وسكناتها ويطيل في بيان ذلك. ولا يمكن الفصل في هذه المسألة إلا بعد بحث مفصل في أوزان الشعر العربي وعلاقتها بالكلمات العربية، وفي تطور الأوزان العربية في الشعر الفارسي وتبيين ما بين هذا التطور ولغة الفرس من صلة، وبعد بحث طويل شاق لم تتهيأ وسائله.
وأما النثر الفارسي فأثر العربية عليه أبين: الألفاظ العربية فيه أكثر، والتركيب قريب من التركيب العربي، ولكن لا بد من الفرق بين النثر الأدبي - نثر الرسائل والمقامات ونثر الكتب، فأما الأولى فقريبة من الشعر، وأما الثانية فيفرق فيها بين كتب التاريخ التي هي قصص يستعمل فيها الكلام المعتاد غالبا وبين المؤلفات العلمية مثل كتب الفقه والتوحيد والبلاغة والطب وهلم جرا. فهذا الصنف الأخير يكاد يكتب بألفاظ عربية، وتستعار فيه كل الاصطلاحات العربية، فاصطلاحات البلاغة وضروب البديع واصطلاحات العروض أخذت برمتها، وما زادوه فيها اشتقوه من العربية أيضا، ثم المؤلفات كلها علميا وأدبيا يتخللها كثير من المقتبسات العربية، ففي كتب الدين الآيات والأحاديث، وفي كتب الأدب والتاريخ كثير من الأبيات والأمثال والمأثورات، وقد تجد من ذلك أسطرا كثيرة متوالية.
قد عرفنا حال اللغة الفارسية في إيران إجمالاً، وكيف بدأت وكيف تطورت وكيف شاركت في فنون كثيرة. وقد يتردد في نفس القارئ هذا السؤال: ماذا أصاب اللغة العربية في تلك البلاد بعد أن صار لها لغة أدبية خاصة؟ هل استبدت اللغة الفارسية بالآداب ولم يبق للعربية فيها مجال؟ والجواب كلا!!
قد تقلبت الغير باللغتين ولكن يمكن أن يقال أن العربية احتفظت بالسيادة في الأطوار كلها فيما عدا الشعر. فأما أدلة هذا وتفصيله ففي هذه الكلمة الموجزة.
لا ريب أن المؤلفات العربية التي ألفت في بلاد فارس ما بين أول القرن الرابع وغارات التتار أكثر جداً من نظائرها الفارسية، ولكن ينبغي أن نفرق بين الشعر وبين غيره أيضاً فإن الأمر فيهما لا يجري على سنن واحد:(7/44)
فأما العلماء المؤلفون فلا حرج على باحث أن يقول أنهم كلهم كانوا يعرفون اللغتين، وقد ألف بعضهم فيهما ولكن المؤلفين بالعربية أشهر ذكرا وأعظم أثرا. وحسبنا أن نذكر ابن مسكويه وابن سينا والبيروني والعتبي والغزالي والرازي والزوزني والتبريزي والنسفي والبيضاوي والطوسي.
وأحسن مقياس في هذا أن نعمد إلي جماعة ممن ألفوا باللسانين لنرى أمؤلفاتهم العربية أكثر وأعظم أم الفارسية. ولا أحسب الأمر يحتاج إلى عناء، فيكفينا أن نذكر الغزالي فنحن نعرف مؤلفاته العربية وليس له في الفارسية إلا رسالتان: كيمياء السعادة ونصيحة الملوك، وقد صرح في الأولى أنه ألفها بالفارسية ليفهم العامة. وفخر الدين الرازي له زهاء 33 مؤلفا يعرف منها في الفارسية واحد فقط هو اختيارات علائي، ونصير الدين الطوسي على تأخر زمانه له نحو 50 مؤلفا قليل منها الفارسي. والبيضاوي ألف تفسيره بالعربية ولم يمنح الفارسية إلا كتابا صغير أسماه نظام التواريخ.
وأما الشعر وما يتصل به فلا ريب أن النبوغ كان لشعراء الفرس أو لشعراء الفارسية، فليس فيمن شعروا بالعربية ببلاد الفرس أمثال الفردوسي أو الأنوري أو العنصري، ولكن أكثر العلماء الذين اتخذوا العربية لغة علم كانوا ينظمون شعرا عربيا. وكثير من شعراء الفرس نظموا شعرا عربيا كذلك. وحسبنا أن نعرف أن الثعالبي وهو من رجال القرن الرابع ذكر في الجزء الثالث والجزء الرابع من اليتيمة واحدا وخمسين ومائة من معاصريه الذين نظموا الشعر العربي في أرجاء بلاد الفرس وهم أكثر من كل شعراء الفرس الذين ذكرهم عوفي وهو في القرن السابع.
ومن الشعراء الذين نظموا باللغتين بديع الزمان الهمذاني وأبو الفتح البستي وقد ضاع ديوانه الفارسي، والبديع البلخي الذي مدح أحد الأمراء بشعر ملمع. وعطاء بن يعقوب الكاتب وكان له ديوانان عربي وفارسي، والباخرزي، وابن سينا، والشيخ سعدي. ومن الكتاب رشيد الدين وطواط صاحب حديقة الشعر وله رسالة عربية منشورة في رسائل البلغاء.
لم يكن حال اللغتين سواء في العصور كلها فقد كانت الفارسية منذ ظهرت في صعود بينما كانت العربية في هبوط (وهذا الهبوط كان أبين في الشعر منه في العلم، فالراوندي مؤلف(7/45)
راحة الصدور ينقل أبياتا عربية بليغة لأحد وزراء السلاجقة ثم يأسف على ذلك الزمن ويقول: أن وزراء زمنه لا يفهمون مثل هذا) وصاحب المعجم من رجال القرن السابع يقول أن شعراء زمانه يعرفون اللغتين ولكنه لما نظم كتابه في العروض بالعربية نقم عليه أدباء فارس حتى قسم الكتاب قسمين المعجم والمعرب.
ذعوني يقول: فان كل مستعرب يعرف الفارسية وليس كل شاعر فارسي يعرف العربية، على أن اللغة الفارسية نفسها لم تكن قد ضبطت قواعدها كقواعد العربية حتى نجد شمسي قيس في القرن السابع يشكو من هذا ويشرح القواعد شرح المستنبط الذي لم يسبق أطوار الترجمة.
والخلاصة أن العربية فيما عدا الشعر حلت مكانة فوق الفارسية حتى غارات التتار التي عصفت بالحضارة الإسلامية وأصابت العلوم والآداب بضربات لم تفق منها حتى اليوم.
والكلام عن اللغتين بعد سقوط بغداد لا يجري على هذا النمط، وعسى أن تتاح فرصة للكلام عن ذلك.
حول الأدب الياباني
كتب إلينا الأديب نادر الكزيري من ندوة المأمون بدمشق يلاحظ على الأستاذ أحمد الشنتناوي أنه لم يشر في آخر مقاله (الأدب الياباني) إلى أنه منقول بالنص عن مقال فرنسي نشر في عدد يناير سنة 1933 من مجلة الشهر تحت عنوان (إقليم اليابان الأدبي) ولعل ذلك سهو من الكاتب يتداركه إن شاء.(7/46)
في الأدَب الغربيّ
في الأدب الروسي
تولستوي
ناحية من نواحي فلسفته
طفل خجول نفور من الناس، لكنه رقيق المشاعر شديد الحس جياش العاطفة. ثم جندي يحارب في سبيل الوطن. مستهتر متهتك مبالغ في الاستهتار. وهو ملحد مغرق في الإلحاد ساخر بالدنيا. ثم هو كهل شديد الإيمان قوي الثقة في الحياة.
وأخيراً تتمخض حياة الروائي الكبير عن شيخ يعتزل ثروته ويترك المدنية بكل زينتها وخداعها ونفاقها ليعمل جنباً إلى جنب مع فلاحيه، وليفيض قلبه حنانا على الإنسانية المعذبة. وليصبح شخصية خالدة على ممر الدهور.
هكذا كان تولستوي وهكذا كانت حياته.
ثم فلسفة قوية مليئة بالحياة هي فلسفة الإيمان والعاطفة، وعاطفة قوية صريحة يدعمها العقل، ويحركها التأمل، ويفيض عليها الإلهام نورا عميقا.
هكذا كانت فلسفة تولستوي.
فلن تجد في فلسفته هذه المشكلات المنطقية، وهذا اللف والدوران وهذا التكلف والتعمل اللذان تجدهما في كثير من الفلسفات. بل لم يحاول تولستوي مرة أن يضع كتابا في الفلسفة أو يجمع آراءه في صوره مرتبة منمقة.
ففلسفته في شتات رواياته التي تتجاوز العشرين. وهي في شتات أشخاص هذه الروايات التي تعبر كل واحدة منها عن ناحية من نواحي المؤلف نفسه: عن شكه أو سخريته، عن إيمانه أو إلحاده.
ولذلك ففلسفته محببة إلى النفس. يقدمها في لون من أشهى الألوان إلى القلب: في صورة قصة أو في صورة ذكريات.
وهو لم يكن يكتب ليرتزق من وراء كتبه كمعظم الروائيين. ولم يكن يكتب ليضحك من الناس أو يسخر منهم كما فعل أناطول فرانس. بل كان يكتب معبراً عن عاطفة قوية أحست(7/47)
بالحياة، وشكّت في الإله، ثم آمنت به من بعد شك. ثم اعتزت بالحياة من بعد سخرية.
وهو لم يبحث في الإله وصفاته، أو في الروح وطبيعتها، أو في الجسد وعلاقتها بالروح، أو في الزمان والمكان، أو في ترتيب الخلق والموجودات، أو فيما شابه ذلك من أمهات المسائل التي تشغل بال الفلاسفة. بل كانت فلسفته من صنف آخر لا يقل جودة ولا ينقص عظمة ولا عمقا. حاول فيها أن يخفف من الآلام الإنسانية وعذابها، وأن يرشد الفرد والجماعة إلى الطريق السوي. وأن يرسم لهما مثلا أعلى يعملان من أجله. فلسفة بحثت في جميع أمراض الإنسانية فشخصت الداء وبينت مواضع الضعف. ثم أخيرا أرشدت إلى أنواع العلاج.
وقد عالج تولستوي سعادة الفرد وكيف يمكن تحقيقها، ووصف عيوب المجتمع الذي نعيش فيه. وبيّن سخافاته ومتناقضاته والطريق إلى علاج هذه المتناقضات. وبحث في الدين والعلم والفن وأخيرا في كل ما يمس المجتمع الإنساني وما يتصل بأفراد هذا المجتمع بسبب.
وسنحاول في هذه العجالة أن نطلعك على ناحية من نواحي فلسفته. ناحية حاول فيها أن يرسم للفرد مثلا أعلى. وأن ينهج له الطريق إلى السعادة التي ينشدها.
كل منا قد تساءل ما الحياة وما قيمتها؟ ولماذا نحياها هكذا؟ أخلقنا لنشقى أو عشنا لنموت؟
وكل منا مرت به ساعات من السخط على الحياة أو الابتسام لها. لا ندري لماذا نبتسم ولماذا نسخط؟
وكل منا يرغب في سعادة هادئة مطمئنة، سعادة لا يفوز ولم يفز ويظهر أنه لن يفوز بها! ومع ذلك فنحن دائبون في العمل لها. وهي دائبة في البعد عنا.
ومر بخلد تولستوي هذه الشكوك وانتابته هذه الحيرة وجرى وراء السعادة، فأقبل يرتوي من منهل الحياة: يعربد ويتهتك ويتمتع بكل ما حرم ولذ، ونال من الحياة ما لم ينله غيره.
فهو من أشراف الروسيا، له من المجد ما لهم، وله من العبيد ما يزيد على سبعمائة. وهو غني في غير حاجة إلى عمل يرهقه، أو رئيس يخضع له، والطبيعة وإن لم تزوده بوجه جميل، قد أعطته من جمال الروح ورقة العاطفة ما خفف من حدة قبحه، وقلل من بشاعة منظره، وتزوج فأخلصت له زوجته، وتمتع بأشهى ما تصبو إليه نفس من وفاق عائلي(7/48)
وذرية صالحة.
ماذا يريد بعد هذا من أطايب الحياة ولذات المعيشة؟
على أنه لم يفز بالأمل المنشود. ولم يظفر بالسعادة ولا بظلها، بل كان ينتابه شعور بسخف الحياة وعبثها.
فهي إما ساكنة هادئة، ولكنها مملة جافة. وهي إما مضطربة هائجة، ولكنها مؤلمة قاسية. وهي في كل هذا سخيفة من دون معنى ولا غرض ولا غاية واضحة. أيعتزلها كراهب؟ ولكن أنى له الخبز الذي يملأ بطنه الجائع؟ وما قيمة حياة يعتزلها المرء؟ وأنى للإنسانية أن تعيش إذا قدر لكل فرد أن يعتزل العالم؟ وهل يجد الإنسان في العزلة راحة وهدوءا؟
أيحياها كما حيتها مئات الأجيال من قبله، وكما ستحياها من بعده؟ ولكن هذه سخافة لا تطاق. وما الذي يحمله على أن يتعذب ويتألم ويقاسي ليكون نعجة من نعاج هذا العالم يسمن ليذبح، أو يهزل ليمرض ويموت؟ أيعتقد في حياة أخرى ليست هذه الدنيا إلا مزرعة لها؟ وما يكون إذن معنى الحياة؟ أهي تجربة سخيفة؟ وماذا يمنعنا من اختصار هذه التجربة؟ ولماذا لا نسرع فنأتي على حياة بائسة لندرك أخرى أسعد منها أو أقل منها سخفا.
وأخيراً ما هي السعادة؟ وما الطريق إليها؟ أهي ثروة وضياع وجاه؟ ولكن تولستوي جربها فلم تبدد شكوكه ولم تشبع مطامعه بل أصابه منها ملل قاتل لا يدري كنهه، وسأم مروع زهده فيها.
أهي درس وقراءة واطلاع؟ ولكن تولستوي قرأ وقرأ أحسن ما أنتجه بشر، فلم ترضه هذه القراءة، ولم تضع حدا لشكوكه، وأخيراً ما فائدة الاطلاع والمعرفة والعلم؟
وقف تولستوي من الحياة هذا الموقف، وأخذ يفكر ويجهد نفسه في التفكير لعله يوفق إلى تعريف الحياة. وأخذ يقرأ لعله يصل إلى حل يطمئن إليه أو فلسفة يرضى عنها. ولكنه حاول عبثا وبدا له أخيراً أن الفكر وإعنات الروية لن يجديا شيئا. وتملكه يأس وأخلص فيه. ولكن ما لبث أن أشرق عليه نور جديد: نور الإيمان في الله، ونور الاعتقاد في الحياة وفي عظمتها. نور وهاج قوي يقف أمامه العقل خاشعا، ولا يستطيع العلم المادي بكل جبروته أن يجابهه أو يسخر منه!
أنريد فهما للحياة ولسر وجودنا فيها؟ أنريد فوزا بالسعادة؟ حسن! فلنعمل ما تطلبه منا(7/49)
الحياة. ولتنفذ مشيئة الله. وما غاية الحياة؟ هي أن نعمل ونجيد ما نعمله. وليكن عملنا في سبيل الغير، ولنضح بأنفسنا في سبيلهم، ولنحبهم كما نحب أنفسنا بل أكثر مما نحبها. ولنتعاون معهم، ولننم جميع قوانا من عقلية وجسمية، ولنحسن استخدامها في خدمة الآخرين: التعاون، الحب، العمل، ثالوث مقدس هو سر الحياة وسر السعادة. ليمتد حبنا إلى جميع أفراد الإنسانية. ولنعمل لإخواننا في البشرية، ولننس أنفسنا فنكون بذلك قد أدينا مهمة الحياة التي خلقنا من أجلها وفي هذا طمأنينة لنا وهدوء.
لقد أسأنا فهم الحياة. وحسبناها مسرحا لقتال دام يفترس فيه القوي الضعيف، ويلتهم فيه الكبير الصغير. ثم اتهمناها بالقسوة وما هي بقاسية بل هي أعز شيء في الوجود.
وبحسبنا السعادة في هذا النضال السمج، وبحسبنا الراحة في هذا القتال العنيف.
بالغنا في الأنانية، أردنا الحياة لنا وحدنا، أردنا مالا وجاها وحبا وبنين لأنفسنا ولأنفسنا وحدها.
والحياة لا تريد منا هذا، فالفرد ذرة لا معنى له في الوجود دون غيره. ذرة من أصغر ذرات العالم، فإذا ما اجتمعت هذه الذرات واتحدت وتعاونت استطاعت أن تصل إلى أقصى سعادتها وهي مستطيعة أن تنال جميع أمانيها، فإذا ما اختلفت وتناحرت وتفرقت أصبحت لا شيء. وهي واقعة في شقاء لا خلاص منه.
لقد ظننا بالحياة شراً، وقد حاولنا أن نجعل من قانون سخيف ندعوه تنازع الحياة وبقاء الأصلح قانونا للحياة. فالأفراد في تنافس، والأمم في تناحر، ومن هذا النزاع الدائم يتولد البؤس واليتم والفقر والآلام، وتتولد الإنسانية عاجزة خادعة ماكرة ضعيفة.
لننس هذه الأحقاد مرة واحدة، ولنتعاون، ولينس الفرد أنه خلق لنفسه، وليجعل غايته خدمة غيره. خدمة أولاده، خدمة أفراد الإنسانية جمعاء، إذن يخف كل شقاء. وتعم السعادة الجميع. سنقول هذا خيال شاعر وأمل فيلسوف.
ولكن تولستوي لا يقول لك ضح بنفسك لأن في التضحية نبلا أو جمالا. وهو لا يقول لك كن خيّرا لأن الجنة للخير والنار للشرير. وهو لا يزعم أن في خدمة الآخرين قياما بواجب لا تستطيع أن تفهم من فرضه عليك. هو يقول لك أحب جارك واعمل لغيرك، لأن هذا هو قانون الحياة، ولأنك لا تملك عنه محيداً، وهو يقول ضح بنفسك لأنك ستضحي بها مرغما(7/50)
إذا أبيت. هو يقول لك سامح عدوك وأدر له خدك الأيسر إذا أصاب منك خدك الأيمن لأن في الخلاف شقاء لك وله.
وليس في هذا جري وراء خيال أو مثل أعلى يضاف إلى غيره من الأمثلة العليا. ولكن جرب بنفسك. اقتنع بأنك خلقت لغيرك وسترى أي سعادة ستجلبها عليك هذه التجربة، لن يخيفك الموت بعد هذا لأنك سترى فيه إفساحاً للطريق أمام غيرك. لن تعبأ بالآلام تصيبك لأنك سترى فيها تخفيفا لآلام اخوتك من البشر.
أما إذا أبيت هذا، وضننت بنفسك أن تكون ضحية في سبيل الآخرين، فكن أنانيا جشعا وابلغ المجد على أكتاف الناس، واجمع حولك من متاع الدنيا ما تسرقه وما لا تسرقه، ولكنك لن تكون سعيدا. وستظل شقيا بائساً، ولن تشعر براحة ما دام لديك ذرة من ضمير. وستمعن الحياة في السخرية منك، تجعلك آلة لها تنفذ مشيئتها، وستكون ضحية على رغم أنفك، وستعيش خائفا وجلا من الموت أو من خصم قوي، وسيؤنبك ضميرك، ولا يلبث أن يضيع ما أنفقت حياتك من أجله، سيلتهم مالك وجاهك من هو أقوى منك، أو لا تلبث أن تموت، فيتمتع به غيرك، وبذا تكون الحياة قد انتقمت منك شر انتقام.
وليس معنى خدمتك للغير أو تضحيتك بالنفس أن تنسى ذاتك أو تعتبرها كمالاً مهملًا في الوجود. إذ هي شرط من شروط الحياة وشرط هام لا تستطيع الإنسانية أن تتحقق بدونه، ولكنها ليست غاية الحياة، وليس من أجلك وحدك قد كانت الحياة.
وليس معنى هذا أن تكبت غرائزك أو تحمل نفسك ما لا تطيق. بل وجِّه نشاطك إلى ما خلق له. .
في مثل هذه اللغة البسيطة الساذجة القوية يحدثك تولستوي. ولا يضير فلسفة تولستوي أن تبدو شعرية عاطفية إذ هي لا تكاد تخرج عما قالته الأديان. فالمسيحية ومن قبلها اليهودية ومن بعدها الإسلام تبشر بما قاله تولستوي. وكلها حضت على التعاون وقالت أن المؤمنين اخوة وأحب لغيرك ما تحب لنفسك. وكلها رفعت من شأن العمل للآخرين وكلها حضت على الإيثار وكلها أمرت بالتقرب إلى الله وحده وجعلت منه رمزا للوحدة.
لم يأت بجديد. ولكنه أحب أن يثبت أن ما قالته الأديان صحيحا، وأنه عملي، وأنه الطريق الأوحد إلى السعادة الفردية والإنسانية، وأحب فوق هذا أن يبين أن ما قالته الأديان ليس(7/51)
مثلا أعلى يصعب تحقيقه، بل هو الغاية التي لا محيد عنها، والشيء الذي نعمله كارهين أو راضين.
لقد رأى أن الحياة لا معنى لها في الأفراد مشتتين. بل لا يمكن تصورها إلا في الأفراد مجتمعين متعاونين. وقد رأى أن للحياة غرضا بسيطا هو أن يلتئم الأفراد ويتحدوا، هو أن تجتمع الذرات الإنسانية لتصبح ذرة واحدة كبيرة ترجع إلى خالقها. وفي هذا الاتحاد كل سعادتها.
ولم ير الحياة الدنيا إعداداً لحياة أخرى كما ترى معظم الأديان بل وجد فيها سلسلة لا تنقطع. فليس في موت الأفراد انتهاء للحياة. بل موتهم معناه بقاؤهم في نسلهم، ومعناه حلقة جديدة قد تكون أحسن استعدادا وأكثر تضامنا.
وهو متفائل راض مطمئن على مصير الإنسانية، فهي تسير إلى الوحدة منفذة في ذلك مشيئة خالقها.
وهو يرى أن كل ما فينا أعد لتنفيذ غاية الحياة. ففينا حب الحياة لنستطيع أن نحيا، وفينا حب النشاط والحركة وكره السكون حتى نعمل، وفينا الجانب الحيواني بكل غرائزه لنستطيع أن نعمل، وفينا العقل لنفهم كيف نعمل والى أي غاية نسير، وفينا الضمير ليؤنبنا وليحاربنا إذا ما حاولنا الحياد عن الغاية المرسومة لنا. وفينا غريزة النسل لتخرج ذرية أقوى تستطيع أن تتمم ما تريده الحياة إذا ما ضعفنا أو متنا.
يعد تولستوي الشقاء الذي نشعر به نتيجة طبيعية لمخالفتنا ضمائرنا التي تفهم وحدها الغرض الوحيد من الحياة. وتنبهنا كلما حدنا عن الطريق المستقيم، وهذا الشقاء داع إلى تفكيرنا في أنفسنا. والى شعورنا بالحياة وغرضها.
ويعلل تولستوي الحيرة والقلق اللذين يستوليان على المرء بأنهما نتيجة لإهماله واجبه المقدس في الحياة، وإغفاله العمل، أو لمقته الآخرين وترك معونتهم. وهذه الحيرة نفسها خطوة أولية نحو الشعور بالحياة والتأمل فيها والوصول إلى فهمها.
وهو يرى في العقيدة والإيمان ملجأ حصينا من الشك والتورط فيه. إذ العقيدة النيرة الحية البعيدة عن التعصب، هي التي تدفعك إلى العمل وحب الغير وتجعلك طفلا فرحا سعيدا وهي التي تجعلك هادئا قرير العين بالحياة.(7/52)
قد تقول أن هذا شيء تعرفه. وأنه لم يأتك بجديد. ولكن تولستوي لم يحاول أن يبهرك بآراء غريبة تضعها بين آلاف الآراء، ولم يحاول أن يتحفك بطريف الأفكار. بل أراد أن يرشدك إلى منهاج السعادة في الحياة وهو منهاج عملي جربه بنفسه فنجح فيه نجاحاً باهراً.
أحب جارك. أحب لكل إنسان ما تحبه لنفسك؛ اعمل لغيرك، ففي كل هذا سعادتك.
لا تقل أن غيرك لا يعمل لهذا، فليس معنى تقصيره أن تقصر أنت، ولا تسأل لماذا تكون أنت الوحيد الذي يختط لنفسه هذا الطريق.
بل اعتقد أن الناس لا بد صائرون إليه، وأن لا مرية في أنهم منتهون إلى اتباعه. فلماذا لا توفر على نفسك شقاء؟ ولماذا تضن على نفسك بالطمأنينة والسعادة؟
ذلك جانب من فلسفة تولستوي. وهناك جانب آخر عالج الرجل فيه المجتمع ومساوئه، وموعدنا به عدد قادم.
شهدي عطية الشافعي. خريج قسم الاجتماع والفلسفة من
الجامعة المصرية(7/53)
من الأدب الفرنسي
الطبيعة والإنسان
لفيكتور هوجو
شمسُ هذا النهار قد غربت في ... أُفْقها خلفَ مكفهرّ السحاب
وغداً تعصفُ الرياح، ويأتي ... بعدَ ذاك الظلامُ داجي الإهاب
وَيَلِي الفجرُ بعد ذاك مضيئاً ... مُرسِلاً نورَه خلالَ الضباب
فنهار، فليلة - خطواتُ الد ... هرِ والدهرُ ممعن في الذهاب
سوف تمضي هذي الدهورُ جميعاً ... سوف تمضي معاً لغير مآب
سائراتٍ على جِباهِ الرَّوابي ... ووجوهِ البحارِ ذات العُباب
ومياهِ الأنهارِ وهْيَ جَوَارٍ ... لامعات مِثل اللجين المذاب
وعلى الغاب وهو يَدْوي بأروا ... حِ الأُلى قد قَضَوْا من الأحباب
وستَبقَى وجوه تلك الأواذي ... وستبقى جباهُ تلك الهضاب
البوادي الغضونِ لا عنْ مشيب ... أو فتورٍ في عنفوان الشباب
وستبقى بواسق الغاب ذات ال ... خُضرة المستمرَّة الجلباب
سوف تبقى على الزمان جميعاً ... في شباب مجَدّدٍ وتصابى
وستَبقى الأنهارُ تحمل من تل ... ك الرُّبَى ما تلقيِ به في العُباب
ذاك، أمَّا أنا فها أنا يَحْني ... كلُّّ يوم رأسي ويُوهِن قابي
وقشْعَرِيرةُ البرودة تحت الشم ... س أمست تَدِبُّّ في أعصابي
وسأقضي نحبي وَشيكا سريعاً ... وسْطَ عيدِ الطبيعةِ المِطْرابِ
وسأمضي، فلا يَضير مُضِيِّ ... ذلك الكونَ أو يُحِسُّ غيابي
فخري أبو السعود(7/54)
من الأدب الإنجليزي
كنار يموت
للدكتور و. ج. لونج
في الصيف الماضي ضربت خيمتي خلف عين ماء وسط الغاية، وكنت كثيرا ما أستلقي بجوارها لا لأشرب، بل لأكون بقربها برهة ألاحظ في هدوء حبيبات سيالها البارد تنسل من ثنايا أرضها السوداء، محوطة بفقاقع راقصة، ثم تضرب في زحمتها الدائمة نباتي السرخس والطحلب المحيطين بشواطئ العين، ومن حين إلى آخر كانت الحيوانات البرية تسمع نداء دعوتها الخافت لمن أحرقه العطش، فتأتي مسرعة مهطعة. ولكنها حينما تراني تتراجع إلى مرقبها من نبات السرخس. حيث تختبئ هناك متسمعة، ولكن الغدير الصغير يستمر في ندائه الخافت، فسرعان ما تخرج من مخبئها معتبرة إياي صديقا لها لطول جلوسي بقرب غديرها.
وفي ذات يوم ذهبت إلى الغدير، فرأيت على غصن شجرة دائمة الخضرة كنارا صغيرا طالما لاحظته من قبل مستريحا بجوار الغدير، أو متنقلا في دعة هادئة فوق الأعشاب السندسية، وخيل إلي أنه ما كان يأتي إلى هنا إلا لشغفه بحب الغدير مثلي، فنادرا ما رأيته يستقي منه، ولكنه كان دائما هناك، لقد كان كهلا وحيدا. وقد أخذ اللون الأغبر يغير على تاجه اللامع السواد، وأخرج له العمر الطويل قشورا كثيرة حول ساقيه، ولم يكن لتبين عليه الرهبة أو تتملكه رعشة الخوف. فكأنما بعث فيه كر الليالي وداعة الحياة، فكان يتحرك مبتعدا في أناة إذا ما اقتربت من مكانه، ولكنه لا يذهب بعيدا، وبلغت به الوداعة أنه كثيرا ما قاربني يظنني لاهيا عنه بتحديقي الدائم في الغدير.
واليوم قد جلس على هذا الغصن المعلق فوق مياه الغدير، في هدوء أكثر من هدوئه الأول، وكان وديعا مستسلما، حتى لم يبد نفوراً حينما مددت يدي أتحسسه، بل اتكأ في سكون ودعة على إصبعي وأسبل عينيه في طمأنينة، ومضت نصف ساعة، وهو في حالته هذه مسرور يهتز مهوما من آن إلى آخر، فاتحا عينيه في فترات، محدقا بها في اتساع، كلما وضعت له على إصبعي نقطة من الماء الذي رواه صغيرا، وصاحبه كبيرا. ولما أقبل المساء وصمتت ألسنة الغابة واستولى عليها سكون موحش، وضعته في رقة ولطف على(7/55)
الشجرة الفينانة؛ حيث راح في سبات عميق قبل أن أوليه ظهري، وفي الصباح كان موقعه أقرب إلى الغدير الحبيب، وعلى غصن دني من غصنه بالأمس، واستكان مرة أخرى في كنف أصابعي، ورشف في امتنان قطرات الماء من فوق أناملي.
وفي المساء وجدته ناشبا بحذر من جذور شجرته المعهودة، وقد تدلى رأسه إلى أسفل، وعلقت مخالبه بلحاء الجذر علوقاً أبديا، وقد لمس منقاره في خفة ذلك الماء النمير، وقد فتح فكيه قليلا للمرة الأخيرة، وراح في سبات دائم آمن، بجوار الغدير الذي عرفه طوال حياته. وظل بجواره إلى أن لفظ الروح في جنباته؛ بجوار الغدير الذي قبلت مياهه منقاره قبلة الوداع، وحفظت صورته في أعماقها إلى اللحظة الأخيرة.
لقد ذهب هذا الكنار كما يذهب أغلب سكان الغابة في هدوء وفي أمن، بجوار الغدير الذي عاش على حبه، ومات بقربه. وليست قصته إلا مشهدا من فصل الموت في رواية الغابة يتجدد دائما باستمرار: فحين يحس الحيوان بغريزته تدفعه إلى البعد عن رفاقه، يمعن في البعد حتى يصل إلى غدير أحبه، ويرقد هنالك مختفيا في انتظار الراحة القادمة، وحينما يأتيه الموت لا يظنه إلا غفوة تأخذ تعبه معها، ثم يعود بعدها حرا طليقا، وهناك في رقدته الأبدية تخفيه أوراق الأشجار، التي ألفها وألفته؛ عن أعين أصدقائه وأعدائه على السواء. . .
محمد أبو الفتح البشبيشي(7/56)
العُلوم
القهوة
للدكتور أحمد زكي. أستاذ الكيمياء بكلية العلوم
جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد الذبحاني شيخ من أشياخ اليمن عاش في منتصف القرن التاسع الهجري (منتصف القرن الخامس عشر الميلادي) وكان متواليا رياسة الإفتاء بعدن، تعرض عليه الفتاوي فيقر منها ما يراه صوابا ويصحح ما احتاج منها إلى تصحيح. عرض له أمر اقتضى خروجه من عدن إلى بر الأعاجم، وأغلب الظن أنه الحبشة، وعاش في أهله دهراً يشرب معهم شراباً لم تعرفه الأعارب، فلما رجع إلى عدن مرض فتذكر الشراب فأحضر شيئا من ذلك الحب وحمصه وطبخه بالماء كما كان يطبخه الأحباش، فخف عنه المرض وذهب عنه السوء، ووجد فيما وجد من خواصه أنه يذهب بالنعاس والكسل ويكسب البدن خفة ونشاطاً. وكان من أمر الشيخ بعد هذا أنه سلك طريق التصوف فصار هو وغيره من الصوفية يستعينون بهذا الشراب الجديد على السهر وقيام الليل في التعب والأذكار، وأسموه القهوة، ومن ثم انتشر شرب القهوة فشمل الفقهاء والعوام، هؤلاء يستعينون بها على مدارسة العلوم، وأولئك للمثابرة والمجالدة في معالجة الصناعات والفنون. وبلغت القهوة مكة فشربها بعض الأشياخ والقضاة وارتاب فيها أئمة آخرون، أما من شربها فرآها شراباً حلالا طيباً مما أخرجته الأرض بإذن الله، والله يقول (خلق لكم ما في الأرض جميعاً) وأما من أباها فرآها شراباً حراما مسكراً يحصل بشربه ضرر في الأبدان والعقول، وكان لهم في ذلك جدل طويل وحجاج مستفيض انقلب إلى محنة وفتنة، وكثر التعصب لها وعليها من الجانبين، وشاع التقاطع والتدابر بين الفريقين، وبلغ الغضب بنفر من الأتقياء الصالحين البررة الأطهار أن حدثوا عن رسول الله (ص) أنه قال من شرب القهوة يحشر يوم القيامة ووجهه أسود من أسافل أوانيها.
ولم يهل القرن العاشر الهجري حتى ظهرت القهوة في مصر وكان أول ظهورها في الجامع الأزهر برواق اليمن، فكان اليمانيون ومن ساكنهم من أهل الحرمين وبعض العامة يجتمعون للأذكار والمدائح على طريقتهم كل ليلة اثنين وجمعة، فتقدم إليهم القهوة في ناجود كبير من الفخار الأحمر، وكان يغترف منها النقيب بسكرَّجة صغيرة، ويسقيهم الأيمن(7/57)
فالأيمن، وهم على الذكر عاكفون، وكانت تذهب بالكسل والنعاس عنهم، فكانوا لا ينصرفون حتى يصلوا صلاة الصبح مع الجماعة من غير عناء ولا تكلف. وانتشرت في الناس فاجتمعوا على شرابها في بيوت خاصة بها وفي الأسواق.
ومن هذا العهد ظلت القهوة بين مكة والقاهرة تحلل عاما وتحرم عاما، يناهضها حكام وفقهاء، ويشايعها حكام وفقهاء، تباح فتشرب في الحرم الشريف جهراً، وتمنع فيعزر شاربها ويطاف به في الأسواق، ويكبس العَسَس بيوتها ويخرجون من فيها عل حالة شنيعة، بعضهم في الحديد وبعضهم في الحبال، فيسجنون ويجلدون.
ولا شك أن المعارضين للقهوة كان منهم أناس يخلصون لها الكراهة في ذاتها لما كانوا يرون من أثرها السيئ فيمن أدمنها من عامة الناس، فكثير منهم من تغيرت حواسه وساء عقله وتنكرت هيئته.
ولأنها كانت تباع في أماكن على هيئة الحانات يجتمع فيها الناس من رجال ونساء بالدف والرباب، أو بالشطرنج والمنقلة، وغيرها يلعبونها للميسر، فساء الأتقياء هذا المنظر القبيح، ووقع مشهده من قلوبهم موقع سوء.
وكان من الناس من يدس الخمر في القهوة فزادت كراهتها عند العارفين بذلك.
أما الحكام ممن كرهوا القهوة، فكانت أغلب كراهتهم من اجتماع الناس على تلك الصورة؛ وأوجسوا من هذا التجمهر خيفة. ولما كان حفظ النظام من أوجب واجبات السلطان، ولما كانت الفتنة من عمل الشيطان، كان لا بد من قتلها قبل أوانها، ودرء بوادر السوء قبل استفحالها.
ولعل أقوى من ناصر القهوة في هذا الصراع مشايخ الصوفية في كل البقاع الإسلامية: أحبوا الذات الإلهية وفنوا فيها وتغزلوا وشببوا بها؛ وكأن الغزل لا يحلو إلا بالصهباء، والتشبيب لا يكون إلا مع بنت ألحان، فاتخذوا من القهوة خمرهم، ومن فناجينها كؤوسهم، وذكروها وأكثروا ذكرها في أشعارهم، فقال ابن الفارض (سقتني حميا الحب. . .) وقال آخر من الأولياء الصالحين يصفها:
شرابُ أهل الله فيها الشفا ... لطالب الحكمة بين العباد
نطبخها قشراً فتأتي لنا ... في نكهة المسك ولون المداد(7/58)
فيها لنا تبر وفي حانها ... صحبةُ أبناء الكرام الجياد
كاللبن الخالص في حِله ... ما خرجت عنه سوى بالسواد
وقال آخر:
وقهوة لا غم تُبقي إذا ... قابلك الساقي بفنجانها
لا يوجد الغم بحاناتها ... قد خضع الغم لسلطانها
بمائل نغسل أكدارنا ... ونحرق الهم بنيرانها
يقول من أبصر كانونها ... أُفٍّ على الخمر وأدنانها
ولم تكد تستقر القهوة في الشرق العربي حتى تسربت إلى أوربا عن طريق القسطنطينية والبندقية في القرن السابع عشر الميلادي. وأنشئ أول مقهى في إنجلترا عام 1652م، ولم تلق القهوة في الغرب ترحاباً خالصاً كله، فقد قامت في وجهها معارضة شديدة على نحو ما عانته في الشرق، ففي ألمانيا كان لا بد لتحميص البن من رخصة يعطيها الحاكم، وفي إنجلترا حاول شارل الثاني أن يحرِّم المقاهي باعتبارها مراكز للقلاقل الثورية والنزعات الحادة السياسية. ولكن القهوة شاعت برغم ذلك ولعبت في الحياة الاجتماعية الأوربية في القرن السابع عشر فالذي يليه دوراً ذا خطر كبير. ومن أوربا انتشرت القهوة في كل بلاد الله، وكانت اليمن مصدر البن الوحيد إلى مختتم القرن السابع عشر، فأصبح بعد ذلك يزرع في بقاع كثيرة من أفريقية الحارة، وفي الهند الغربية، وفي الهند الشرقية، ولا سيما في البرازيل فهي البلد الذي ينتج الآن نحواً من ثلثي محصول العالم، والبن له كالقطن لمصر، وربما كان أشد خطراً.
والبن بذور لثمر شجرة دائمة الاخضرار، قد تطول إلى ستة أمتار والسبعة في منابتها الطبيعية، ولكنها تقصر عن ذلك كثيراً إذا هي زرعت، ولهذا الشجر زهر أبيض ناصع يكتسي به عند ازدهاره، فيكون له رونق وجمال يزيد فيها ما ينفح منه من عطر وطيب، لذتان للعين والأنف لا يطولان، فعمر الزهر بالغ في القصر. إلا أن الشجر يزدهر مرتين وثلاثا وأكثر من ثلاث في العام الواحد. وتطيب الثمرة بعد ازدهارها ببضعة أشهر، فيحدث من ذلك أنك تجد على الشجرة الواحدة ثمرات من ازدهارات متلاحقة، بعضها وليد وبعضها بالغ. والثمرة خضراء وهي فجَّة، فإذا أخذت في النضوج اصفرَّت ثم تستحيل الى لون(7/59)
أحمر قرمزي شديد. وتجنى الثمرة باليد انتقاء أو تترك حتى تسقط من الشجرة بهزها. وهي بعد ذلك تجفف بفرشها على الأرض في الشمس الحارة، وقد تترك حتى تجف على أغصانها. ثم يزال عن بذور البن القشر فالذي يليه من غشاء شديد اللصوق بالبذور كان لباًّ فجف وانضمر وذلك بالدق الخفيف في الهواوين، أو بضرب البذور بالمطارق. وحتى الفرك باليدين يكفي لتخريجها، وهذه طريقة اليمن وما جاورها من البلاد، ولكن بالبرازيل طرق أحدث من هذه لا تستدعي تجفيف الثمرة بل تدهك بالآلات دهكا فتفصل البذور بذلك عن لب الثمرة الطري.
ثم تحمص البذور على ما هو معروف في اسطوانات دوارة فوق النار فتفقد بذلك مقداراً من وزنها لا يزيد على الخمس، والمفقود ماء وبعض أبخرة تنشأ من تخلل الدهن والسكر الذي بالبذر وشيء من الأصل الفعال بالبن المسمى (بالقهوتين) وحرارة التحميص يجب أن لا تزيد على 200ْ درجة مئوية بكثير وإلا فقد البن الكثير من عطره. وإذا انتهى تحميصه وجب الإسراع في تبريده. ثم يطحن بعد ذلك. ويجب أن لا يطحن البن بل ألا يحمص قبل طبخه بزمن طويل فإنه يفقد عطره سريعاً، ويجب كذلك حفظه في أواني مغلقة فإنه شديد الامتصاص للأبخرة والروائح كريهة كانت أو عطرة فيمتص رائحة الجاز والجبن الفاسد. وأهم أغراض التحميص اثنان: أولهما توليد الطيب فيه وتوليد النكهة التي تُشهَّي القهوة إلى النفوس، فالبن الأخضر خال منهما، وثاني الأغراض تهشيش الحب ليسهل دقه، فالأخضر جامد مستعص، والتحميص صناعة لا يَحذِقها إلا القليلون.
ويحتوي البن على مواد كيمياوية عدة منها عطر ودهن، وهو كالشاي يحتوي التنين والقهوتِينَ الذي إن شئت أسميته الكافيين وأن شئت فالشابين، وهو الأصل الفعال في القهوة والشاي كليهما، ومن أجله يُشربان، وهو لا يتغير في القناة الهضمية وإنما يمتص كما هو في الدورة الدموية فيذهب إلى المخ فيكون له الأثر المحمود على نحو ما فصل في مقالة الشاي السالفة: من زيادة في قوة الفكر وإصابة الحكم وامتلاك النفس، ولكن استحالة الأفكار إلى أفعال قد تتعطل به، فيعتري الإنسان ترددُ، وذلك ليقظة العقل الشديدة، ويزيد حس الإنسان بكل ما سر وساء، وهو ينعش الجسم ويزيل التعب عضلياً كان أو نفسيا، ويؤخر النوم ويدر البول. هذه بالطبع فوائد كلها قد تنقلب مضار بزيادة المشروب من القهوة،(7/60)
فالقهوتين عُقَّار سام يصحب التسمم به تلهف إلى الماء وألم في المعدة والأمعاء، وقيء شديد وإسهال ودوار في الرأس وارتعاد في الأطراف. ويتضح أثر القهوتين من حالة رجل أدخل مستشفى (بلفي) بنيويورك به أعراض شديدة من سوء في الهضم بالغ، وفقر دم متناه، وعجز تام في الحركة، وأزمة في القلب بالغة، وضيق في الصدر شديد. كان هذا الرجل يشرب في اليوم 30 فنجانا من الشاي بلا طعام.
سباع البحر كادت تكسب الحرب
مات في الأسابيع الماضية القبطان الإنجليزي (ودوارد) مات في بلدة (رامزجات) بإنجلترا وله من العمر 82 سنة. وهو الرجل الذي خطر له في مدة الحرب أن يجري تجربة عُدّت في أول الأمر عرضا من تلك الأعراض التي تأتي للإنسان وقد أشتد خياله واحتد وتهيأ لدخول البيمارستانت، ولكنها عدت في آخر الأمر تجربة لو ساعدها الحظ لأنهت الحرب وحقنت الدماء ولو بغلبة فريق على فريق.
تلك التجربة هي رياضة سباع البحر على تتبع الغواصات الألمانية، وهذه السباع تشبه عجول البحر غير أنها أكبر منها، وله عُرف بيِّن وآذان كبيرة وحظ من الذكاء وافر.
بدأ هذا الرجل باستئذان السلطات الحكومية، والسلطات في العادة مرتابة حذرة جامدة محافظة، ولكن خطر الحرب يحرك الجامد ويذهب بالحذر، فأذنت له وحشرت إليه ما في البحر من آساد، فبدأ بدراسة الأصوات التي تصوتها الغواصة في الماء، ثم اجتهد فاخترع آلة تئز مثل أزيزها، وفي بحيرة راض هذه الآساد على إتباع هذا النغم أين سار في الماء، فأصبحت تتبعها أحسن اتباع، وفاقت في دلالتها على اتجاه الغواصة كل الآلات الطبيعية المعروفة، ووضعت على رءوس هذه الحيوانات البحرية كمامات من أسلاك الحديد تمنع أسماك البحر أن تقترب منها خشية أن تسترعي انتباهها فتحيد عن غرضها، ونجحت التجربة نجاحاً باهراً. ولكن. . . عرف الألمان ذلك بطريق الوحي أو الإيحاء فأجروا غواصاتهم مثنى وثلاث ورباع فهوشوا على السباع الآذان، وخيبوا التجربة للقبطان.(7/61)
القصَص
يوم عصيب في جبل المقطم
للأستاذ محمد الدمرداش محمد. مدير إدارة السجلات والامتحانات
بوزارة المعارف
- 2 -
(في المقالة الأولى وصف الكاتب كيف ظل هو وصديقه في جبل المقطم حتى اهتديا بعد الغروب إلى واد لهما به معرفة سابقة، وهو وادي دجلة، فاتخذا طريقهما فيه نحو مدخله.)
مضت ساعة على هذه الحال ولم نصل بعد إلى مخرج الوادي، فقال صاحبي ألا من نهاية لهذا الوادي؟ فقلت لم يبق إلا ساعة واحدة، فقال وماذا بعد ذلك؟ قلت إما أن نقصد (طره) ونركب القطار إلى باب اللوق، وأما أن نذهب إلى المنشية عن طريق البساتين ومدافن الإمام الشافعي. فقال أنه يفضل الطريق الأخير، فقلت لا بأس وعلى كل حال فالزمن اللازم لقطع المسافة في الحالتين لا يقل عن ساعتين من مدخل الوادي، فتضجّر صاحبي ونظر إلى ساعته ثم قال. . أننا لن نصل إلى بيوتنا قبل نصف الليل. فلم أجبه بشيء، وبعد سكون طويل عاد وسألني: هل من خوف علينا في هذه الجهات النائية الموحشة من الوحوش أو اللصوص؟ فقلت كن مطمئنا فالله معنا وهو يحمينا. فقال: كيف ذلك وليس معنا ما ندفع به عن أنفسنا غير هذه العصا (مشيرا إلى عصا قصيرة كنت أحملها في يدي) وقبل أن أجيبه عن سؤاله عثرت قدماه بحجر كبير فكاد يسقط، فتألم وتضجر ثم سكت، وغشينا سكون عميق، لا نسمع فيه غير وقع أقدامنا على أرض الوادي الصخرية وصفير الريح في صدوع الصخور وثقوبها.
ولا أطيل القول. فقد كانت الساعة التاسعة عندما وصلنا مدخل الوادي. وما كدنا نتجه نحو بلدة البساتين حتى أمطرتنا السماء مدرارا مرة أخرى، واشتد الظلام حتى لا نرى أمامنا أكثر من نصف المتر، ولكن ذلك لم يمنعنا من الاستمرار في السير والجد فيه، ثم أخذنا نرتقي أول تل في طريقنا وهو يرتفع عن السهل نحو 50 مترا. وحدث هنا أمر كان يقضي علي لولا لطف الله في تلك الليلة الليلاء، فعندما كنا نتسلق التل إلى ظهره صاح بي صاحبي مستنجدا فالتفت فجأة إلى الوراء لأتبين ما حل به، وكنت متشبثا بكلتا يدي بحجر(7/62)
في جدار التل، فلم أشعر إلا وقد زلقت يداي واختل توازني وأخذ جسمي يتدحرج بعنف إلى الأرض، ولكن قدرت لي السلامة، فصدمني حجر آخر منعني من الهبوط بعد أن أصبت في رأسي وركبتي إصابة بسيطة، ولما استعدت توازني انتصبت واقفا وأنا أكاد لا أصدق بالنجاة، ثم سمعت صاحبي يناديني وقد بلغ ظهر التل، فاتكأت على عصاي وأخذت طريقي إليه وفي رأسي دوار من أثر الصدمة، وعندما أدركته استرحنا قليلا وقد سرى عني بعض الغم، ثم لحظت الريح تهب من الجنوب الغربي فاستغربت ذلك وأدركت السر في وجودنا مكان يبعد عن الغابة المتحجرة الكبرى بنحو 12 كيلو مترا جهة الجنوب الغربي مع أن سيرنا منذ الظهر كان في اتجاه الشمال حسب ظني. فلما تغير اتجاه الريح من الشمال الغربي إلى الجنوب الغربي درنا معها في منحنى واسع من غير انتباه. فلما استرحنا قمنا متجهين نحو البساتين فبعد أن قطعنا في التل مسافة طويلة أخذنا ننحدر نحو القرية، وهنا انقشعت السحب وصفا أديم السماء وظهرت النجوم فألقيت نظرة على ما حولي ولشد ما دهشت حين وجدتنا لا نزال نسير أمام مدخل وادي دجلة قاطعين عرض المدخل من الجنوب إلى الشمال؛ فكظمت دهشتي وحيرتي وعدلت اتجاهي مرة أخرى. وعدنا فارتقينا التل مرة أخرى وبعد قليل تبين لي أيضاً أننا لا نزال نسير أمام وادي دجلة. أمر غريب محير لم أر في تعليله إلا شيئا واحدا وهو أن رأسي فقد الاتجاه! فلما صرت إلى هذه الحال أشرت على صاحبي بالجلوس للراحة، فقال ولماذا؟ فقلت له قد ضللنا الطريق مرة أخرى! فما كاد يسمع هذه الكلمة حتى خارت قواه وسقط على الأرض، وأخذت جسمه رعدة شديدة، وأقسم أنه لا يبرح مكانه، ثم استولى عليه النعاس فنام نوما عميقا، فجلست بجانبه وأخذت أفكر في الأمر وأنا حزين بائس، وقام بعقلي أن أعود إلى الوادي ملتمسا لنا ملجأ نأوي إليه حتى الصباح. بيد أني رأيت قبل تنفيذ هذه الفكرة أن أقوم بمحاولة أخيرة، فخلعت سترتي وألبستها عصاي وغرست العصا بالأرض بجانب صاحبي لتكون علما أستدل به عن مكانه عند عودتي، ثم صعدت أعلى قمة بالقرب منا مستكشفا ما حولنا، فأدرت بصري في الجهات الأربع فلمحت جهة الغرب وراء الأفق ضوءا ساطعا ظننته أول وهلة ضوء مصانع شركة الأسمنت بالمعصرة. فهرولت إلى صاحبي أزف إليه هذه البشرى فأيقظته من نومه قائلا لقد أبصرت ضوءا قويا جهة الغرب سوف يهديني(7/63)
طريق السلامة. فلم يكترث لقولي. ويظهر أن النوم كان قد أراح عقله وجسمه نوعا، فنهض في نشاط وقال: هيا بنا مغمغما بكلمات لم أتبينها، ثم اعتمد على كتفي بإحدى يديه وأخذنا نسير وقد عولت هذه المرة أن أتبع مسيل الوادي من غير انحراف، فأخذت طريقي مع مجرى السيل خطوة خطوة، وكان جسمي وعقلي متعبين. وعيناي غائرتين ضعيفتين. وعلى الجملة كانت حالتي سيئة، وكنت أشعر بيده على كتفي كأنها حجر ثقيل. فكنت أنقلها من كتف إلى كتف من غير أن أزعجه في سكونه. بعد أن سرنا على هذه الحال ساعة ونصفا انكشفت أمامنا أضواء شديدة ساطعة انشرح لها صدر صاحبي وعاودته بشاشته، فأخذ يمزح ويعيب هيئتي الرثة، فوجهي مغبر شاحب، وطربوشي من الأمطار فقد شكله وأصبح متهدلا كاسيا رأسي حتى أذني، وبدلتي تقلصت وضاقت؛ فارتفع طرف بنطلوني إلى قرب ركبتي واسترخى جوربي، فغطى حذائي وامتلأ الحذاء بالماء والوحل، وعلى الجملة فإن شكلي كان مضحكا وهيئتي تدعو إلى الشفقة والرثاء.
بعد أن فرج صاحبي بعض كربه بأمثال هذه المهاترة سألني فيم أفكر؟ فقلت أني أستغرب وجود هذه الأضواء الشديدة في هذه البقعة؛ فقال مازحاً: لا تستغرب فربما كان الجن قد نصبوا لهم هنا عرسا، فقلت تعوّذ بالله فحسبنا ما أصابنا هذا اليوم. وبينما نحن في هذا الحوار سمعنا صوتا غريبا يرن في الفضاء، فوجمنا لهذه المفاجأة الجديدة ثم أنصتنا بشدة خلت معها أني أسمع دبيب الحشرات في بطن الأرض، وأخذنا نحدق يمينا وشمالا عسى أن نهتدي لمصدر الصوت فلم نر شيئا. وبينما نحن في اضطراب وحيرة رن الصوت في الفضاء ثانية، وكان في هذه المرة جليا: سمعنا (هولت!) (هولت!) فقلت لصاحبي بلهفة: قف! فقال ما الخطب؟ قلت يظهر أننا في وسط معسكر للجنود الإنجليزية، فقال يا سوء المصير! فقلت له اطمئن ولا تخف، وبعد قليل تقدم إلينا ثلاثة من الجنود الإنجليزية مدججين بالسلاح وسألونا هل معكم سلاح؟ فأجبنا مأخوذين ليس معنا سوى هذه العصا. فقالوا تقدما، فتقدمنا ثم قادونا إلى خيمة قريبة مضروبة بالقرب من المعسكر فوجدنا بها ضابطا شابا على كرسي وأمامه منضدة وهو مشغول بالقراءة في كتاب أمامه. فلما لمحنا نظر إلينا شزراً وسألنا وهو يتثاءب: هل أنتما هاربان من المعسكر؟ فأجبت: لسنا جنودا، فقال بخشونة: أقصد أنكما أسيران هاربان من المعسكر، فقلت: عفوا لسنا من الأسرى،(7/64)
فقال وهو يحملق فينا: من أنتما إذن؟ فقلت: أنا فلان ووظيفتي كذا وزميلي فلان ووظيفته كذا، فكتب ذلك في ورقة أمامه، ثم قال: ما خطبكما؟ فقصصت عليه حكايتنا بإيجاز، فلم يكد يسمع طرفا منها حتى اعتدل في كرسيه وألقى الكتاب جانبا، وأصغى إلينا بانتباه، وما كدت أنتهي حتى مد يده إلينا مصافحا ثم غمرنا بلطفه وكرمه، أمر لنا بكرسيين من القماش فجلسنا، ثم أمر لنا بقدحين من الشاي وبعض البسكويت فشربنا وأكلنا، وبعد أن شكرته على إحسانه وجميل عواطفه قال أن واجبه يقضي عليه بعد أن سمع قصتنا، وتحقق من صدقنا أن يخلي سبيلنا، ولكنه يرى أننا في غاية التعب والضعف، فهو يدعونا لنكون في ضيافته حتى الصباح، فشكرته كثيرا على معروفه واعتذرت إليه ثم رجوت منه أن يأمر لنا بمرشد يقودنا إلى محطة السكة الحديد، فقال ولماذا لا تمكثان هنا هذه الليلة؟ فقلت ألا ترى يا سيدي أننا في الساعة الثانية صباحا ولا بد أن أولادنا الآن في قلق شديد على مصيرنا. وقبيح بنا أن نطيل عذابهم أكثر من ذلك، فاطرق قليلا ثم أمعن النظر فينا وقال: حسنا هيا بنا. فأركبنا سيارة أقلتنا إلى محطة طره، ثم ركبنا القطار إلى باب اللوق، ومنها قصدنا منزلينا شاكرين لله سبحانه فضل العناية والرعاية.(7/65)
المبارزة
للكاتب الروسي اسكندر بوشكين
مرت السنون، ودعتني مصلحة الأسرة للعيش في هذه القرية المظلمة في مقاطعة (يرنا)؛ وكم تمنيت لو أتيحت لي العودة إلى حياة الجندية وما كان لي فيها من متعة الاجتماع ولذة الشباب؛ وكانت حياتي هنا مملة في تشابه أيامها قاتمة لندرة حوادثها، أقضي وقتي حتى الغداء في التحدث إلى المالك أو في مراقبة العمال ومشاهدة المباني الجديدة، فإذا جن المساء (وخصوصا أمسيات الشتاء والربيع الطويلة المزعجة) لم أجد ملهاة ولا تسلية، فقد قرأت الكتب القديمة الموجودة كلها، واستعدت من خادمتي العجوز (كربلوفنا) القصص التي تحفظها أكثر من مرة، ولم أكن أميل إلى أغاني القرويين لما فيها وفي معانيها من الحزن والألم والحسرة، وحظي من هذا كله كثير. أما الشراب فقد كنت أتجرع كل ما تصل اليه يدي على رداءة نوعه وحدة طعمه، وقد تمنيت أن أكون سكيراً كهؤلاء الذين تكتظ بهم هذه القرية الغريبة.
وكان جيراني الأقربون جماعة من السكيرين، حديثهم زفرات متصلة وأنات متقطعة. فكيف لا أوثر الوحدة على الاجتماع بهؤلاء؟ ولم أجد حلاً لهذا السأم سوى التبكير في اليقظة، والتأخير في تناول الغداء. حتى يطول نهاري ويقصر ليلي.
وعلى بعد أربعة فراسخ من منزلنا توجد المقاطعة الجميلة التي تملكها (الكونتس بيروفنا) ويسكن هذه المقاطعة وكيل السيدة، أما هي فلم تزرها غير مرة واحدة في الشهر الأول من زواجها.
وفي يوم من أيام العام الثاني لحياتي في هذه القرية سمعت أن الكونتس وزوجها سيقضيان الصيف في مقاطعتهما، ولقد وصلا حقا مع حاشيتهما في النصف الأول من شهر يونية.
وليس من شك في أن قدوم جار غني يعتبر حادثا هاماً في حياة الريف. وقد تحدث الناس عن هذا الحادث قبل حدوثه بثلاثة أسابيع، ولا يزالون يتحدثون فيه حتى اليوم مع مرور ثلاثة أعوام عليه. أما أنا فلم يثر فيّ غير الشعور بقرب سيدة شابة رائعة الجمال، حتى إذا جاء الأحد الأول على إقامتهما تناولت غدائي وأسرعت إلى قصرهما لأقدم نفسي للسيدة بصفتي جارها القريب وخادمها المطيع.(7/66)
قادني الحاجب إلى المكتبة فبهرني أثاثها البديع ومساحتها المتسعة، هنا رفوف صفت الكتب والمجلدات فوقها على كل منها اسم مكتوب بالبرنز، وهناك تماثيل ومرآة، وعلى الأرض بساط أخضر عليه سجاجيد عجمية رائعة النقوش، ولما لم أكن متعوداً هذه المناظر المترفة شعرت بضآلة مركزي وضعة شأني، وداخلني شعور غريب فيه من الحيرة والخجل ما فيه، وأصبحت كالفلاح الساذج الذي يطلب مقابلة الوزير!
فتح الباب ودخل رجل في الثانية والثلاثين أو يقاربها، فما رآني حتى هش لي وابتسم في وجهي. . . أخذت أسرد عبارات التحية المعروفة كأن أقول أنني مسرور بلقائه وأن. . . وأن. . . ولكنه وقفني عند حدي بحديثه الطريف ورحب بي.
وما أن استعدت هدوء نفسي أمام ابتسامته وتواضعه حتى فتح الباب ودخلت الكونتس، هنا اصطكت ركبتاي وانعقد لساني. . . لقد كانت آية من آيات الجمال والرشاقة، وكم حاولت أن أجيبها فلم أستطع ولاحظ الكونت اضطرابي فراح يقدمني إلى زوجته في أسلوب عادي كأنني صديق قديم.
وجلت بنظري في المكتبة حتى استقرت عيناي على الصور ولم أكن من غواة الصور أو نقادها، ولكن صورة واحدة استوقفتني لا لما تمثله من المناظر السويسرية الساحرة ولكن لأن طلقتين اخترقتاها واحدة فوق أخرى!
إلتفت إلى الكونت وقلت (ما أجمل هذه الصورة!) فرد مبتسما (نعم! وهي على جمالها لها عندي مركز خاص. هل تحسن إطلاق الرصاص؟)
فأجبت على سؤاله مسرعاً لأنني وجدت فرصة سانحة للتحدث في موضوع أفهمه (أجل!. وأنا أستطيع إصابة بطاقة على بعد ثلاثين خطوة) وهنا تدخلت الكونتس (حقا!. . وأنت يا عزيزي هل تستطيع إصابة بطاقة على بعد ثلاثين خطوة؟)
فأجاب الرجل: (لا أدري! لقد كنت ماهراً في الرماية أيام شبابي. . وقد مضى علي أربع سنوات لم ألمس فيها بندقية)
قلت (صدقني يا سيدي أنك لا تستطيع إصابة البطاقة على بعد عشرين خطوة وأنا أراهنك على ذلك، لأن الرماية تحتاج إلى مران مستمر. . وأذكر أنني لم أستعمل بندقيتي شهرا كاملا أيام كنت في الجيش لأنها كانت عند مصلح الأسلحة. . أتدري ماذا حدث؟ لقد(7/67)
أخطأت زجاجة على بعد خمس وعشرين خطوة لا مرة واحدة ولكن أربع مرات متتابعة! وكان لفرقتنا قائد يحب المزاح دائما فقال: أظنك تحترم الزجاجة أيها الصديق! فالتمرين واجب. . وأذكر أن أمهر من قابلت في هذا الضرب من ضروب الرياضة رجل غريب كان يتدرب على إطلاق الرصاص ثلاث مرات قبل الغداء على الأقل. . وكما أنه لا يستطيع نسيان الكونياك لا ينسى بندقيته مطلقا!).
ورأيت الزوجين يعجبان من حديثي ويقبلان على الإنصات.
سألني الكونت (وما طريقته؟). فأجبت (سأقص ذلك عليكما. . كان إذا رأى ذبابة على الحائط. . أنت تضحكين يا سيدتي؟ أقسم لك أن ما أقوله حق لا ريب فيه. . ثم ينادي خادمه. كوسكا هات بندقيتي! فيأتي له بها ثم. . طراخ! فإذا بالذبابة منبطحة على الحائط!)
فصاح الكونت: (يا لها من مهارة! وما اسمه؟) فأجبت (اسمه سيلفيو يا سيدي) فانتفض الرجل واقفا وهو يقول (سيلفيو؟ وهل عرفت سيلفيو؟)
قلت (أعرفه؟ لقد كنا صديقين. . وكان سيلفيو معي في الفرقة؛ وها قد مضت خمسة أعوام على ذلك. . هل تعرفه أنت؟)
فقال الكونت (أجل أعرفه تماما. أو لم يخبرك عن حادث فريد وقع له؟)
- (أخبرني كيف لطمه شاب وقح على وجهه في مساء أحد الأيام)
- (وهل ذكر لك اسم هذا الشاب الوقح؟)
(لا لم يطلعني على اسمه. . آه!) وهنا استدركت لأنه يغلب على ظني أن الشاب هو الكونت وقلت (عفوا سيدي. . لم أكن أعلم!. ولكن يغلب على ظني أنه أنت!) أجاب الكونت في ارتباك: (أجل هو أنا. . وهذه الصورة ذات الثقب نتيجة لقائنا الأخير!)
هنا اعترضت الكونتس قائلة (نشدتك الله يا عزيزي ألا تتحدث في هذا الموضوع، إن مجرد التفكير فيه يرعبني حتى اليوم!) ولكن الكونت لم يحقق رجاءها بل قال (يجب أن يعرف السيد كل ما يتصل بالموضوع، فهو يعلم كيف أهنت صديقه فمن الواجب أن نروي له كيف انتقم ذلك الصديق.)
ودعاني الرجل إلى الجلوس قريبا منه في مقعد ذي مسند وأخذت أنصت لهذه القصة.
تزوجنا منذ خمسة أعوام وقضينا شهر العسل في هذا المنزل؛ وفي الحق لقد كانت أهنأ أيام(7/68)
حياتي لو لم تعكرها هذه الحادثة المزعجة.
وفي مساء أحد الأيام ركبت مع زوجتي للنزهة ولكن الجواد جمح بنا حتى ارتاعت زوجتي ورجتني أن أعود بالعربة إلى الإسطبل أما هي فستعود سيرا على الأقدام، ولم أكد أصل إلى الدار حتى رأيت عربة سفر أمام الباب. وقيل لي أن إنسانا لم يذكر اسمه ينتظرني لمهمة خاصة في المكتبة. . أسرعت إلى هناك فوجدت رجلا لا يزال في ثياب السفر له لحية طويلة، وأخذت أتذكر أين رأيته قبل ذلك. .
وقال الرجل: أولا تذكرني أيها الكونت؟، وكان صوته مضطربا. . فصحت عند ذلك: سيلفيو!
وأقول الحق لقد وقف شعري من الرعب. وقال صاحبنا جئت لأطلق رصاصتي. فهل أنت مستعد؟، ورأيت بندقيته بين طيات ثيابه وعددت اثنتي عشرة خطوة ورجوته أن يسرع في مهمته لأن زوجتي في الطريق إلى المنزل؛ ولكنه قال أريد النور أولا، لذلك طلبت الشموع.
ثم أغلقت الباب وأمرت ألا يسمح لأحد بالدخول، ورجوته مرة أخرى أن ينجز مهمته فرفع بندقيته وأخذت أعد الثواني ولم أكن أفكر في غير زوجتي حتى إذا انقضت دقيقة كاملة خفض بندقيته وقال (أنا آسف جداً لأن بندقيتي ليست محشوة ببذور الكريز! والرصاص كما تعلم صعب الاحتمال! ولكن تعال نفكر في المسألة مرة أخرى. . لا أرى مبارزة فيما أنا مقدم عليه. . بل هي أقرب ما تكون إلى القتل، وليس من عادتي إطلاق الرصاص على شخص أعزل من السلاح، هيا نبدأ المبارزة من جديد فنرى أينا يبدأ. . . وأعددنا ورقتين كتبتا في الأولى رقم 1 وفي الثانية 2 ووضعناهما في القبعة التي أصبتها في المبارزة الأولى. . . وتناول كل منا ورقة دون أن ينظر فيها فإذا بورقتي رقم واحد وهنا صاح سيلفيو ((لا أنكر أيها الكونت أن حظك حسن كحظ الشيطان!))
لم أفهم غرضه وأجبرني على أن أطلق رصاصتي التي لم تصبه بل أصابت الصورة التي تراها!
وأشار الرجل إلى الصورة التي استرعت انتباهي أول جلوسي وصار وجه الكونت أحمر قرمزيا وأصبح وجه زوجته كوجوه التماثيل الرخامية البيضاء. أما أنا فقد تعثرت بين(7/69)
شفتي أنة خافتة وأتم مضيفي قصته:
أشكر الله لقد أخطأته رصاصتي: أما هو فقد كان رابط الجأش ثابتاً ينتظر. . فتح الباب فجأة ودخلت زوجتي فلم تكد ترانا على هذه الصورة حتى ألقت بنفسها عند أقدامي، وهنا استعدت شجاعتي وقلت لها، عزيزتي، ألست ترين أننا نمزح؟ اذهبي واشربي قدحا من الماء ثم عودي الينا، وعند عودتك سأقدم إليك صديقي وزميلي القديم، ولكنها لم تصدقني وسألت سيلفيو في رهبة وتأثر، هل أصدق زوجي فأعتقد أنكما تمزحان، فأجاب، انه يمزح دائما يا سيدتي، اتفق مرة أن صفعني وهو يمزح، وأصاب قبعتي برصاصته وهو يمزح، ومنذ دقائق أخطأني وهو يمزح أيضا، والآن جاء دوري لأضحك قليلا!، ثم استعد، ولكن زوجتي جثت بين قدميه. . . عندئذ قلت لها، انهضي يا عزيزتي! ألا تخجلين من نفسك؟؛ ثم وجهت حديثي إليه وقلت هل تريد أن يغشى على هذه السيدة؟ فلتطلق رصاصتك! قل نعم أو لا! فأجاب: لن أطلق رصاصتي فقد تم غرضي، ها أنت ذا ترتعد من الخوف وها هو وجهك كوجوه الموتى، وهذا كل ما أطمع فيه. . ولكن أذكر أنني أعطيتك فرصة ثانية وكنت أظن أنك لن تخطئني. . . لن تنساني بعد الساعة. . سأتركك لضميرك يرى رأيه فيك!.
واتجه نحو الباب، ثم التفت إلى الصورة دون أن يستعد وأطلق رصاصته فوق رصاصتي تماما! وهنا أغمي على زوجتي ولم يستطع الخدم الوقوف في وجهه وقد كانت الأبواب تفتح أمامه في سرعة حتى وصل إلى عربته ومضى. . أما أنا فلم أعد إلى نفسي إلا بعد مدة طويلة.
إلى هنا انتهى حديث الكونت، وهكذا سمعت هذه القصة الرائعة ولم أر بعد ذلك سيلفيو ولم أسمع عنه إلا أنه قاد جماعة من الثوار في الفتنة التي أشعلها (اسكندر ابسلانتي) وأنه قتل فيها عندما كان العدو في (سكولياني). . .
عبد الحميد يونس(7/70)
قصة مصرية
حكمت المحكمة!. . .
عم الأسف رجال القرية ونساءها عندما علموا بوفاة ابنة عبد الدايم المسعودي (وهو من الأعراب الذين يسكنون الخيام في أرضهم) فأما الرجال فقد أشفقوا على عبد الدايم لأنه فقدها وفقد أمها في عام واحد، فلم يبق له من بعدهما من يرعى غنمه ويعنى بشئون بيته. وأما النساء فقد ذكرن أن سلمى ماتت فجأة فلم تمرض كغيرها، وأنشأن يترحمن على شبابها وحلو ابتساماتها. . . وتدافع الأهالي وراء نعشها يشيعونها إلى مقرها الأخير. ثم أقبلوا على والدها يعزونه بكلماتهم المحفوظة وهو يرد عليهم بمثلها، فهو (عظم الله أجره) وهم (شكر الله سعيهم) ورجع الجميع إلى بلدتهم ليقيموا ليالي المأتم الثلاث وليسمعوا ما تيسر من القرآن، وعند الغروب خرج أهالي كفر المعداوي كل (بطبليته) إلى المأتم وعليها عشاؤه الممتاز استعدادا لإطعام المعزين من البلاد المجاورة، وجلسوا بعد الصلاة، وقد تنحنح المقريء إيذانا بقراءة القرآن، فأنصتوا وأطفئوا سجائرهم ثم بدأ القارئ بصوت منخفض غير مسموع تدرج به قليلا قليلا حتى أصبح يغطي على همس بعضهم بالتحية لبعض، ويخفي أحاديثهم عن الشئون الزراعية (وقد بدءوها بعد أن بدأ الفقيه بقليل) بنغمات يطرب البعض لها فيمص ويردد لفظ الجلالة اعتبارا واستحسانا. أما عبد الكريم الدايم فقد كانت تبدو على سيماه علامات التفكير العميق والحزن الدفين، ولكنه كان يتجلد للقادم فيسلم عليه ويتقبل تعزيته شاكرا.
وانقضت ليالي المأتم. . . . وتلفت عبد الدايم حوله فلم يجد إلا غنمه ونفسه فقبع في خيمته لا يزور أحدا، وإنما كان يزوره من فاته العزاء في حينه. وانتقد أهل القرية فيما بينهم إبراهيم أفندي لأنهم لم يروه في المأتم، ولكنهم علموا بسفره إلى القاهرة منذ أيام فلما عاد لحظوا أنه لم يقم بواجب التعزية لعبد الدايم، فبرموا بغطرسته واستكباره، ولكن ما حيلتهم وهو ابن العمدة!
مرت الأيام بعد ذلك سراعاً فأوشكت بفعلها أن تصرف أذهان الناس عن مصاب عبد الدايم لولا أنهم رأوا عجبا. رأوه وقد طوع للموسى أن تجذ شاربيه الطويلين وتعبث بلحيته المستعصية حتى أسفرت ذقنه بعد احتجاب طويل، مع أنهم يعرفون في الأعراب تمسكهم(7/71)
بشواربهم ولحاهم، ولم ينسوا مبالغة عبد الدايم في هذا، فلم يبق إلا أن الحزن قد أساء إلى عقله فحسن له جنونه أن يظهر على هذه الصورة الجديدة.
وذهب الحاج عبد المطلب وهو أحد مشايخ البلد إلى (دوار) العمدة في المساء جريا على عادته فوجده جالسا في عدد من حاشيته يتحدث إليهم في السياسة عن مصطفى كمال وكيف طار وراء الإنجليز، ويعرج على الاقتصاد فيعلل لهم نزول الجنيه الإسترليني بتعليلات ما أنزل الله بها من سلطان. ولما انتهى العمدة من حديثه اتجه بنظره إلى الحاج عبد المطلب وسأله عن جديد، فأنشأ شيخ البلد يسرد له صنوفا من الأخبار ويتبسط في شرح تفاصيلها إلى أن قال وما رأيكم في عبد الدايم المسعودي؟ يظهر أن الرجل قد جن بعد وفاة ابنته، ولم يكن العمدة على علم بما جرى للحية عبد الدايم فهز رأسه من اليمين إلى اليسار هزات سريعة مستفسراً، وتسابق الجميع إلى إجابته فحدثت جلبة وضوضاء نفذ لهما صبر العمدة فوصفهم بوصف البرابرة: واحد يسمع ومائة يتكلمون، وأشاح عنهم بوجهه إلى الحاج عبد المطلب يسأله عما جرى فلما أخبره بأن عبد الدايم أصبح حليق الذقن والشارب تردد في تصديق ذلك ولكنهم أكدوا له صحة الخبر فرفع حاجبيه في عجب ودفعه حب الاستطلاع إلى أن يأمر شيخ الخفراء باستدعائه.
وجاء عبد الدايم بعد قليل فدهش العمدة عند مرآه وسأله عن سبب حلقه للحيته فأجاب ساخرا إنه رأى واحدا من أهل القرية يضحك منها فآثر أن يزيلها. وقابل أحد الجالسين سخريته بمثلها فقال: (وكيف استغنيت عنها مع أنك كنت تمسح فيها يديك بعد أكل الثريد؟) فتجهم وجه الأعرابي وجحظت عيناه وقال (لما اتسخت أزلتها) فقال العمدة (وما ذنب شاربك؟) فأجاب (صغرت في نظر نفسي فحلقته) وخرج مغيظاً محنقاً. . .
وكان بالمجلس شيخ معروف في القرية بالنباهة ودقة الملاحظة فقال للعمدة (إن لم تخني فراستي فلا بد أن أحدا اعتدى عليه اعتداءاً خطيراً أقسم بعده، كما هي عادة بعض الأعراب، ليحلقن ذقنه وشاربه تشبها بالنساء حتى يأخذ بثأره). فأخذت هذه الملاحظة مكانها من نفوس الحاضرين وصار كل منهم يعلق عليها بما يؤيدها، أما العمدة فقد همه الأمر وحسب لتهديد عبد الدايم حسابه، فهو داهية شديد البأس وتداول الأمر مع مشايخ البلد فأفهمه الشيخ عبد المطلب (وكان على جانب من العلم) أن من واجبه العمل على منع(7/72)
الجرائم قبل وقوعها واطمأن العمدة إلى هذا الرأي فعزم على تبليغ المركز وقام إلى التليفون واتصل بالمعاون.
وعلم المأمور بالأمر فضحك من عقلية عمدة المنشية الذي يجد في حلق رجل لحيته وشاربه خطرا على الأمن العام خصوصا وأنه كان يرى فيه من قبل سذاجة وقلة حيلة، فأمر ملاحظ البوليس أن يستدعيه ليوبخه على تصرفه ويطلب إليه أن يكون في حكمه على الحوادث أبعد نظرا وأكثر رزانة. ورجع العمدة ونفسه تفيض أسفا على تبليغ الأمر للمركز بعد ما راعته ضربات الملاحظ على المكتب، وجرحت عزته شتائمه فكان يسب مشايخ بلده الذين حسنوا له التبليغ ويخص منهم الشيخ عبد المطلب وهو المتحذلق الذي أشار إليه بالعمل على منع الجرائم قبل وقوعها. ولكنه كان يحاسب عقله فلا يجد في عمله مأخذا، ويستشير ضميره فيلقاه راضيا عن قيامه بواجب وظيفته، ثم يرجع بذاكرته إلى الماضي القريب فيذكر أنه لما قتل في قرية بجوارهم سويلم العربي حلق ابنه جويفل لحيته وشاربه حتى أخذ بثأر أبيه فأطلقهما في السجن، وهكذا اختصمت أفكاره فضاع صوابه. . . .
أسدلت يد الأيام ستار النسيان على هذا الحادث حتى جاء يوم فرفع الستار. . . . في صبيحته امتطى إبراهيم أفندي صهوة جواده يقصد السوق فعاد الجواد يعدو إلى مربطه بعد قليل وكان العمدة مطلا من شباك داره فلما رآه انخلع فؤاده لأن ذلك معناه أن سوءاً حل بولده. ونزل يجري في الطريق الموصل إلى السوق منفعلا هائجا فلحق به أهل القرية من كل صوب ولم يذهبوا بعيدا حتى وجدوا إبراهيم أفندي ملقى بجوار مزرعة للقصب يتلوى ألما ورأوا أن رصاصة استقرت في فخذه.
يا لهول الفاجعة!! حتى أبناء العمدة يعتدى عليهم!! ولم تحم الشبهات إلا حول عبد الدايم فانبث الخفراء في أزقة القرية يبحثون عنه بعد أن لم يجدوه في خيمته، واهتزت الأسلاك تنقل الخبر إلى النيابة؛ أما الجريح فقد نقل إلى مستشفى الزقاقيق ليسعف بالعلاج. وبعد برهة وصل وكيل النيابة ثم تبعه ضابط المباحث على رأس قوة من البوليس ففتشوا بيت عبد الدايم فلم يجدوا شيئا يفيد التحقيق، فخطر لضابط المباحث أن يفتش مزرعة القصب لأنه استبعد أن يظل عبد الدايم محتفظا ببندقيته، ورجح أن يكون قد ألقاها فيها فبعثر رجاله في أنحائها وإذا برجل منهم يعثر على بندقية. . وإذا بالبندقية حديثة الطلق. . . . وإذا بكل(7/73)
من رآها يشهد أنها لعبد الدايم.
اكتفت النيابة بهذا الدليل فقبضت على عبد الدايم ولكن سر الجناية ظل غامضا حتى وصل إليها بلاغ من مجهول يقول فيه (لقد علمت من أحد المصادر أن سلمى عبد الدايم المسعودي لم تمت ميتة طبيعية وإنما قتلها أبوها لأنه علم باتصالها بإبراهيم أفندي بن عمدة كفر المعداوي. وقد كان يمكن كشف هذه الجناية في حينها لو أن طبيب المركز رأى الجثة قبل دفنها، ولكنه صرح بالدفن مكتفيا بقول حلاق القرية إنها ماتت بسكتة قلبية) فانتقل وكيل النيابة فوراً مع الطبيب الشرعي إلى قبر سلمى وأمر بإخراج جثتها وقال الطب كلمته فإذا بها ماتت خنقا. . . . وختمت النيابة أبحاثها وبدأت التحقيق. . . . .
س - إبراهيم أفندي يقول أنه رآك تطلق عليه الرصاص.
ج - أبداً
س - وماذا تقول في البندقية التي عثرنا عليها في القصب وهي لك؟
ج - لم تعد لي بندقية منذ أخذها الإنجليز مني وهم يجمعون السلاح في سنة 17.
س - وابنتك سلمى؟ لدى النيابة شهود يقررون أنها لم تمرض مطلقا وأنهم رأوها أمام خيمتها قبل أن تموت بقليل؟ فهل مرضت وشكت واحتضرت وأسلمت الروح في أقل من ساعة؟
ج - هو كذلك، فإنها ماتت بسكتة قلبية.
س - ولكن الطبيب الشرعي أثبت أنها ماتت خنقا.
ج - إذن تكون قد خنقت نفسها.
س - ولماذا حلقت ذقنك وشاربك بعد موتها؟
ج - خطر لي أن أتزوج فحلقتهما كي أبدو صغير السن.
س - ولكنك قلت في مجلس العمدة كلاما يستفاد منه أن أحدا اعتدى عليك فحلقتهما حتى تأخذ بثأرك.
ج - لم أقل ذلك وإنما كنت أسخر من قوم رأيتهم يسخرون مني.
س - لقد وصل إلى علم النيابة أنه كان بين ابنتك وبين إبراهيم علاقة وأنك من أجل هذا قتلتها وأردت أن تقتله.(7/74)
فضرب الأعرابي جبهته في عصبية ويأس ورمى وكيل النيابة بنظرة شزراء ثم اندفع يقول إذن فاسمع. إني اعترف بأني قتلت ابنتي وإني أطلقت الرصاص على إبراهيم. خذني إلى السجن فإني أريد أن أتلهى بأشغاله الشاقة عن لؤم الناس وظلم القانون.
واقفل المحضر بعد أن تليت عليه أقواله فأقرها وأمضى. . .
السيد أبو النجا(7/75)
الكتب
ضحى الإسلام أو أحمد أمين
- 2 -
ضحى الإسلام كصاحبه شديد الوضوح، سديد المنهج، غزير البحر، جم التواضع، تقرأه فتتسابق معانيه إلى فهمك، وتتساوق أغراضه إلى ذهنك، فلا تشك في أن مؤلفه قد استبطن دخائل موضوعه، وأحاط بأصول بحثه وفروعه، لأن المعنى إذا اتضح في الذهن واتسق في الشعور أسفر عنه البيان في إشراق وسهولة وقوة، وما يتعقد الأسلوب إلا من غموض الفكرة أو طموس الصورة أو ضعف الملكة.
اسمع صاحب الضحى أو اقرأه تجده في حاليه واضحا صريحا ثقة، لأنه يتكلم عن روية، ويشرح عن فهم، ويكتب عن تفكير، ويؤلف عن دراسة، أما فترة الشك والتردد فنهايتها بداية عمله.
موضوع الكتاب الحياة العقلية للمسلمين في القرن الأول من العصر العباسي، والعقلية الإسلامية يومئذ كانت أشد العقليات تركيباً، وأكثرها تعقدا، وأوفرها نتاجا، لأنها مزيج عجيب من آثار شتى لجنسيات متعددة، وحضارات متنوعة، وثقافات مختلفة، فتحليل هذا المزيج إلى عناصره الأولية كما يفعل الكيميائي، ورد هذه القوة الناتجة إلى قواها البسيطة المحركة كما يفعل الميكانيكي، أمر لم يضطلع به إلى اليوم غير أحمد أمين، لأن الوسائل التي تهيأت له من مواهبه ومكاسبه وبيئته وعصره لم تتح مجموعة لأحد من قبله، فلو أنه اجتمع لمؤرخينا السالفين مع سلامة الفطرة، ونفاذ البصيرة، وسعة الاطلاع، الوقوفُ على علوم الاجتماع، ومذاهب النقد ومناهج البحث، لما تركوا لنا التاريخ على هذه الحال المضنية من النقص والمبالغة والفوضى، ولكن هذا التاريخ الذي قنع بأخبار الحرب والفتح، والولاية والعزل، والولادة والوفاة، واغفل الكلام في تبدل الأحوال والأطوار، وتغير الميول والأفكار؛ وتطور العادات والمعتقدات، في طبقات الأمة، هو نفسه الذي استخلص منه احمد أمين كتابيه فجر الإسلام وضحى الإسلام على هذا النهج الواضح والنسق المطرد! فاعتبر في نفسك أي عقل إستجلى هذا الغموض، وأي فكر استغل هذا النقص، وأي صبر ساعد هذا الجهد!(7/76)
سار المؤلف في تحرير كتابه على خطة سديدة، وتبويب متناسق. فجعله جزئين متساويين: بسط في الأول العوامل التي أثرت في العقلية الإسلامية وهو الذي ظهر، وفصّل في الثاني الآثار التي نشأت عن هذه العقلية نفسها وهو الذي سيظهر. ثم كسر كلا من الجزئين على بابين: فالأول على الحياة الاجتماعية وعلى الثقافات الدينية والمدنية، والثاني على الحركات العلمية ومعاهد العلم وحرية الفكر، ثم على المذاهب الدينية وتاريخ حياتها وأشهر رجالها وأهم أحداثها.
فموضوع الجزء الذي في يدينا الآن إذن هو العوامل المؤثرة في الحياة العقلية الإسلامية في شباب الدولة العباسية، وهذه العوامل أما مادية نشأت من طبيعة الاجتماع كاختلاف الأجناس، وصراع الطوائف، ونظام الرقيق، ومظاهر الترف من مجون ولهو، ونتائج البؤس من يأس وزهد، إلى غير ذلك مما أسبوعيته فصول الباب الأول الستة وأما أدبية نشأت من تداخل الثقافات الفارسية، والهندية، واليونانية، والعربية، واليهودية، والنصرانية، وما يتبع ذلك من تمازج الآداب والمعتقدات والأنظمة، وقد استقصى المؤلف أطرافها في فصول الباب الثاني الستة.
وهذا الوضع المنطقي المحكم قد ضمن لآراء الكتاب أن تطرد، ولأجزائه أن ترتبط، ولأبحاثه أن تجتمع، فجاء من حيث التأليف مدمج الفصول، مرسوم الوجهة، محدود الغاية، بريئا مما يجره عدم الخطة أو فسادها من استطراد مشت في جهة، وإخلال مرهق في جهة أخرى، وتلك مزية قل أن تجدها في كتاب.
صاحب ضحى الإسلام شديد اليقظة، مستقل الرأي، لا يعرض قولاً دون مناقشة، ولا بحثا دون تقدمة، ولا رأيا دون دليل، ولا تشعر وأنت تقرأه أن هناك رأياً معينا تسلط عليه، أو فكرة سابقة أثرت فيه، فهو يخطِّئ (جولد زهير)، كما يخطّئ ابن خلدون، ويعرض الثقافات الدينية المختلفة بميزان واحد ولسان واحد.
تبدو هذه اليقظة، ويتجلى هذا الاستقلال، منذ الكلمة الأولى في الكتاب؛ إذ يفطن إلى الخطأ الذي جره على بعض المؤرخين الكسل والتقليد في تصويرهم سقوط الأمويين وقيام العباسيين حداً فاصلا بين حياتين مختلفتين للأمة الإسلامية، تبتدئ الثانية عند انتهاء الأولى، ثم يتجليان في سائر الفصول وعلى الأخص في الشعوبية والاسترقاق والزندقة،(7/77)
فليس وراء ما كتبه فيها مراغ لمستزيد.
وصاحب ضحى الإسلام أديب بارع، وعالم ضليع، يظهر أدبه في الصور التي رسمها كصورة الرشيد، والتراجم التي وضعها كترجمة ابن المقفع، وتلك الصورة وهذه الترجمة نموذجان عاليان لكاتب التاريخ ومؤرخ الأدب. ويتحقق علمه في كثرة المصادر التي رجع إليها، ووفرة النتائج التي حصل عليها، وعرضه للثقافات، ولا سيما الهندية، عرضا ينم عن اطلاع واسع واستقراء دقيق وصبر نادر.
وكل ذلك والتواضع الأصيل في الطبع يأبى للمؤلف أن يصدق ما يقوله العلماء، والمستشرقون من أنه مثال الباحث الجامعي الحق، وكتابه نموذج البحث العلمي الصحيح.
الزيات(7/78)
جولة في ربوع أفريقية لمحمد ثابت
بقلم الدكتور محمد عوض محمد
ليس من السهل أن نجد في هذا القطر كله لمحمد ثابت ضريبا ولا
شبيها في حبه للرحلات البعيدة، وفي التضحية بوقت نفيس وبمال
أنفس، في سبيل إرضاء هذه الرغبة السامية، التي تدفعه في كل صيف
إلى أطراف العالم، لكي يرى بعينيه تلك الأقطار البعيدة التي طالما
سمع عنها وتاقت نفسه لمشاهدتها. . وأي امرئ لا يملك الإعجاب
الشديد حين يرى محمد ثابت ينفق من ماله القليل الذي ادخره بكثير
من حرمان النفس، ينفق عشرين جنيها كاملة من أجل رحلة بالسيارة
من (كمبالا) على بحيرة فكتوريا إلى (فورت بورتال) على سفح
رونزوري (مسافة لا تزيد كثيرا على ما بين القاهرة والإسكندرية)
لكي يمتع الطرف بالتأمل في تلك الجبال الشامخة ساعات قلائل، وقد
اختفت قللها تحت غشاء كثيف من السحاب والضباب. ثم يعود أدراجه
إلى كمبالا لكي يستأنف سياحته الطويلة.
وفي المصريين كثير ممن ينزحون عن قطرنا صيفا. . . ولكن هؤلاء لهم شأن غير شأن صديقنا ثابت، وقصة غير قصته. فهؤلاء قبلتهم إما فيشي أو كارلسباد يتداوون بمائها الشافي بما أنزلوه بأجسامهم من نتائج الإفراط أو التفريط. أو قبلتهم باريس حيث يحيون حياتهم في القاهرة، يجلسون النهار كله وشطرا من الليل في مقاهي مدينة النور (وهم لا يرون من نورها شيئا) يقضون وقتهم قعودا كسالى يتحدثون وهم في ميدان الأوبرا بذلك الصوت المصري الجهوري فيسمعهم جميع من بالبوليفارد، يعلنون عن أنفسهم، وما في أنفسهم شيء يستحق الإعلان، ومنهم من هو شر من هذا. . وأي شر؟ ولكن مالي أكدر نفسي بالكلام عن هؤلاء وأنا أريد أن ينشرح صدري بالكلام عن محمد ثابت؟(7/79)
منذ ثلاثة أعوام جال محمد ثابت في ربوع أوربا، فلم يزل ينتقل من قطر إلى قطر حتى بلغ جزيرة أيسلندة وكان من الدائرة القطبية قاب قوسين أو أدنى. . . وفي الصيف التالي يمم شطر المشرق وجال في بلاد الهند والصين واليابان؛ وفي الصيف الماضي حملته السفينة باسم الله مجراها ومرساها إلى شرق أفريقية وجنوبها. فاخترق خط الاستواء للمرة الأولى (إذ لا أظنه اجتازه في جولته الآسيوية) ثم عاد إلى مصر بطريق البر والنهر (نهر النيل) مجتازا بلاد كينيا وأوغندة والسودان المصري.
وإني ليحزنني أن إعجابي الذي لا حد له بالرحالة محمد ثابت لا ينصرف إلى الكتاب الذي بين يدي الآن (جولة في ربوع أفريقية) فإن شخصية المؤلف لم تنصف شخصية الرحالة. ولم تقم بالواجب نحوها.
فتحت (جولة في ربوع أفريقية) وأنا أتوقع أن أطالع كتابا يصف لي رحلة المؤلف وحركاته وسكناته بدقة، ويصور لي كل شيء رآه، وما مر به من الحوادث. لكي أشعر أنني معه ألازمه في رحلته أسافر كما يسافر وأرى ما يرى. وهذه هي اللذة الخاصة التي أجدها في مطالعة كتب الرحلات. لكن محمد ثابت لم يفعل هذا بل أخرج لنا كتابا يتضمن بيانات (لا أنكر أن أكثرها نافع مفيد) عن جغرافية شرق أفريقية، وقد ضاع حديث الرحلة بين الفصول الجغرافية كما تضيع قطع الذهب وسط أكوام من التراب فكنت أجده لأقل المناسبات يترك موضوع الرحلة تماما، ويأخذ في كتابة فصل جغرافي في شيء من الإسهاب، ولكنه خارج عن موضوع الرحلة. ففي صفحة 76 بيان طويل عن السكر وزراعته لا في أفريقية وحدها بل وفي غيرها من الأقطار، ويتكلم في صفحة 56 و57 عن بلاد روديسيا والكنغو مع أنه لم يرهما ولم يمر بهما، ويكتب فصلا طويلا عن جبل كلمنجارو مع أنه رآه عن بعد مائة كيلو متر، وفصلا عن تاريخ أوغندة أو عن نقل السفن إلى بحيرات فكتوريا منذ عشرات من السنين. وبيانا عن الكركدن ولم يره، وفصلا طويلا عن الشلوك اقتبسه من دراسته الخاصة لا مما رآه في رحلته.
وهذه التفاصيل الخارجة عن الرحلة قد طغت على حديث الرحلة حتى لم يبق منه إلا القليل. وإني أريد أن أذكر لصديقنا الفاضل أن أمامنا كتبا كثيرة نستخلص منها تاريخ أفريقية وجغرافيتها!. ولكن الذي بنا إليه شغف شديد، والذي يستطيع هو وحده أن يعطينا(7/80)
إياه، هو كتاب عن رحلة محمد ثابت. ولهذا كان أمتع فصول الكاتب على الإطلاق هو ذلك الجزء الذي يصف لنا فيه كيف منع من دخول جنوب أفريقية، وكيف جنت عليه مصريته في تلك الأقطار النائية. هذا الفصل للقارئ هو بمثابة الجوهرة وسط الأحجار.
ويخيل إلي أن محمد ثابت لم يكن يكتب مذكرات (يومية) أثناء رحلته. ولو فعل لكان لديه محصول وافر يغنيه عن تلك الفصول الجغرافية. وإنك لتقرأ الكتاب فلا تستطيع أن تستبين منه تفاصيل حركات السائح. فقد دخل (نيروبي) ولكنه لا يذكر لنا في أي تاريخ نزل بها. وبات ليلة في (ناكورو) فلا يخبرنا أين بات. ويمر بأوغندة ويقضي بها أياما، ولكنك لا تعرف متى دخلها ومتى خرج منها. ولست أستطيع أن أعزو هذا الإغفال إلا لشيء واحد هو أنه لم يكتب مذكرات يومية أثناء السياحة. ولهذا أرجو منه في سياحته المقبلة ألا ينام ليلة قبل أن يدون مشاهدات يومه. وسيرى القراء الفرق بين الكتاب الجديد والقديم.
بقى أني وجدت هفوات يسيرة أريد أن أنبه المؤلف الفاضل اليها وهي (ص6) أن لفظ عنوان كتاب لا أسم أحد المؤلفين، وشيبا وسبأ كلمة واحدة (ص7) فيقال بالإنجليزية ملكة شيبا وبالعربية ملكة سبأ وهي بعينها السيدة الفاضلة التي دخلت صرح سليمان وحسبته لجة. . . ونهر النيل (ص169) لم يعد أعظم نهر في العالم، لا من حيث الطول ولا من حيث ما يجري فيه من الماء. . ويطليموس الجغرافي (ص169) لم يعش قبل الميلاد بل في القرن الثاني بعد الميلاد، وغابات ايثوري في الناحية الغربية لجبال رونزوري فلا يمكن أن ترى من حصن يورتال. والغورلا يا سيدي ثابت حيوان ليس له ذنب (ص197) فقد اضطر إلى أن يستغني عن هذه الزائدة استعدادا لأن يكون إنساناً مثلي ومثلك ومثل كواكب السينما، وأخيرا لا أوافق المؤلف على أن قطن الجزيرة يزرع في الشتاء ويحصد في الربيع. . بل يزرع في أواخر الصيف (ابتداء من أغسطس) ويحصد في الشتاء ابتداء من يناير. (ص269)
وإني لأرجو من صديقنا السائح الفاضل رحلة سعيدة في الصيف الآتي وأن يتحفنا بعدها بكتاب عن تلك الرحلة وعن نفسه لا عن شيء آخر.(7/81)
العدد 8 - بتاريخ: 01 - 05 - 1933(/)
شروح وحواشي
عام 1352 أشرقت الشمس على الدنيا شمس محرم في اصفرار يشبه الكسوف أو انكسار يقارب المذلة! كأن صبحه الضاحي لم يغرق الكون بالنور، ويخرج العالم من الضلالة! وكأن يومه الأغر لم يغير وجه الزمان وينتصب علما في تاريخ الخليقة! أو كأن الهجرة التي يشع هذا اليوم بذكراها لم تدفع الإنسانية في طريق الكمال آلافاً من المراحل وهي على بعيرين هزيلين يتنكبان الجواد ويمشيان على كلال ووجل! وكأن الفلك لم يدر به القرون الطوال على دين حرر العقول، وملك طبق الأرض، وحضارة مدنت العالم! ولكن ليت شعري لم لا تنكسف شمس المحرم، وهي إنما تطلع اليوم على أطلال من المجد والملك والخلق لا تبعث في العين غير الدموع، ولا في النفس غير الكآبة؟!
لقد أصبحنا وما نملك لذكرى الهجرة إلا مظهرا وضيع الشأن قاصر
الدلالة: عطلة رسمية في الحكومة، وحفلة كلامية في جمعية الشبان!
أما المظهر الشعبي الذي يغمر الشعور بالبهجة، ويعمر القلوب بالعزة،
فكأن نفوسنا لم تتهيأ له بعد!
وفي العراق (وا أسفاه) يستقبلون المحرم بلدم الصدور بالأكف، وضرب الظهور بالسلاسل، وإقامة المناحات في الشوارع والمنازل، فيضيع بذلك عيد المجد النبوي في مأتم السبط الشهيد، وتأبى هذه المصادفة المشئومة على حكومة بغداد، أن تجعل يوم الهجرة عيداً من الأعياد.! وفي سائر البلاد الإسلامية يمر هذا اليوم المسكين فلا يعلنه تقويم ولا يحفله أحد!
رحماك اللهم! فأين الشرق من الغرب!! وأين المحرم من يناير؟!
نهضة العراق: كثر اليوم حديث الصحف المحلية عن العراق ونهضة العراق، وفي ذلك رضا للعاطفة التي أحملها لهذه البلاد الكريمة يدفعني إلى إعلان هذا الفوز. فوزارة المعارف تريد على ما روت إحدى الصحف أن تستعين بما وضعته معارف العراق من الأناشيد، في تقرير هذا النظام الجديد. وتنشر الصحف أن لجنة ألفت في وزارة المعارف العراقية (لتغيير) الأناشيد المدرسية! فتقدم إليها على الفور جمعية الرابطة الأدبية في بغداد ثلاثين نشيداً منها: تحية العلم، الحرية، تربية الطفل، المطر، تدبير المنزل، تحية الملك: نشيد النهضة، نشيد الوحدة، نشيد الحماسة، نشيد الفتاة، النشيد الوطني، الرياضة، الكشافة،(8/1)
العلم والعرفان: ويقرأ هذا الخبر شعراؤنا الفحول فيسألون الله السلامة، ويتضاءل في نفوسهم الرفيعة معنى الزعامة! وتضرى الخصومة السياسية عندنا فتمزق العلائق والأعراض فيضرب الكتاب المثل الأعلى بالخصومة النبيلة التي تقع بين ساسة العراق فلا تتعدى أندية الأحزاب ولا دواوين الحكم. وتحس الصحافة المصرية حز القيود فتغبط الصحافة العراقية بحريتها الجديدة، وتشكر لحكومتها السعي في تقرير نقابتها العتيدة.
والحق إن في الشعب العراقي أفضل ما في الشعوب الناهضة من حيوية وطموح ومرونة ورجولة، فإذا أضفت إلى هذه الخلال انه جذ من ورائه تقاليد النظام القديم، وإن معاهدته الجديدة قد قللت من الاستشارة الأجنبية المعرقلة، وإن حكومته بسيطة الآلة ضيقة الدائرة، حتى لتسنح الفكرة للمدير العام (وكيل الوزارة) في مجلس من المجالس أو تقترح عليه فتصبح قانونا أو لائحة، أدركت سر القوة الحافزة في نهضة العراق. أما الحكومة الملتوية المعقدة ذات الزوايا والحنايا فأن المقترح أو المشروع يضل فيها بين توزع المسؤولية وتقسم الرأي فيخرج من مكتب إلى مكتب حتى يدركه الإعياء فيرقد في درج أو سلة!!
الأدب المصري الحديث أدب ثرثرة: هكذا قالت (العاصفة) في بيروت، ثم تفضلت على الصديق طه فنصبته زعيما على هذا الأدب! وقالت: (إن الأدب الحديث الناشئ في مصر أدب لا يزال بحاجة إلى صقل وتهذيب فهو أشبه بالحجارة غير
المنحوتة) ثم قالت في موضع آخر (وأصدق قول ينطبق على القسم الأعظم من هذا الأدب الذي يتحفنا به أدباء مصر انه أدب ثرثار ورجاله حائرون بين الابتكار والتقليد فيشوقهم أن يكونوا من المبتكرين وأن يسيروا في التيار الغربي فإذا القديم يغلب عليهم. . . . . . ومقال العاصفة على (ثرثرته) إندفاعة نفس شابة لاتزن الكلام ولا تبالي التبعة، وهي لا تملك والله الحمد ميزان القضاء ولا أهلية الحكم. فالدفاع أمامها دفع بعدم الاختصاص. على أن من الخير لنا ولها أن تقف قليلا عند قولها: (ولم تشعر مصر بروح الأدب العالي تجول فيها إلا يوم أرتادها أدباء لبنان وسورية. . . فالأدب الذي حمله إلى مصر تقلا ونمر وصروف وإسحاق واليازجي وحداد وزيدان والرافعي والمطران وسواهم هو الأساس في نهضة مصر الأدبية الحديثة ولولاه لم يكن حافظ ولا شوقي ولا العقاد ولا المازني ولا طه حسين ولا ولا الخ. نعم نقف قليلا عند هذه الجملة الطائشة لنقول للكاتب وأمثاله: إن(8/2)
الزمان لم يدع في أيديكم وأيدينا من المجد المشترك إلا هذه اللغة وهذا الأدب، فلم تأبون إلا أن تقسموهما على البلدان وتوهنوا أسبابهما بهذا الهذيان! تلك نعرة بدوية ونغمة مملولة. والعاصفة التي أثارت هذا الموضوع الجاهلي تتشدق بالتجديد! فهل علمت ما يشبه ذلك بين الأدباء في فرنسا وسويسرا وبلجيكا، أو بين الأدباء في إنجلترا وأمريكا؟ وماذا يضيرها إن تركتنا متآخين متحابين على هذا المنهل الباقي ننعم جميعا بريه ومائه، ونحرص جميعا على فيضه وصفائه؟؟
شاعر وشاعر:
هو الحظ غير البيد ساف بأنفه ... خزامى وأنف العود بالذل يخذم!
في اليوم الذي تحتفل فيه لبنان بذكرى (لامرتين) في الشرق تجيء أخبار الموصل بأن بلديتها هدمت قبر أبي تمام! فأما تكريم لبنان لذكرى الشاعر الفرنسي فلم يخرج عن سنن العرب في تمجيد الأدب وأهله، والاعتراف بإحسان المحسن وفضله. وأما تكريم الموصل للشاعر العربي بهدم ضريحه وطمس أثره فذلك ما لم نفهمه لا من طبيعة الشيء ولا من سياق الخبر ولا من احتجاج العرب ولا من روح العراق. فهل يكون السبب أن مدينة (الخالدين) عدنانية وأبا تمام من قحطان، أم السبب إنها عراقية والطائي من قرى غسان؟!
قرية الأدباء: من أنباء موسكو أن الحكومة الروسية قررت بناء قرية للأدباء بالقرب من لينغراد وصدرت لها من مالها ما يساوي مائة ألف جنيه ذهبا وستحظر على غير الأدباء دخولها الا بإذن رسمي خاص. وغايتها من ذلك بالطبع استخدام الأدب في تأييد الحكم السوفيتي ونشر المذهب الشيوعي. والذي يعنينا من هذا الخبر انه تنفيذ سخي لقلم الشعراء الذي يقترحه على وزارة المعارف صديقنا الهراوي، وتحقيق لفكرة (المدينة الفاضلة) التي خططها في الخيال أستإذنا الفارابي!!
أحمد حسن الزيات(8/3)
من غير عنوان
للأستإذ أحمد أمين
أكلت أكلة ساء هضمها، فانقبضت نفسي، وغاضت بشاشتي؛ وتقطب ما بين عيني. . .، وسئمت كل شيء حولي، وبرمت بمخالطة الناس كما برمت بالعزلة عنهم، وكرهت السكوت كما كرهت الكلام.
ونظرت إلى العالم فتجهمته، رأيته ثقيل الروح، فاسد المنطق، يمج السمع نغماته، ويعاف الطبع منظره، وتأخذ بخناقي ألاعيبه وأحداثه.
أي شيءفيه يسر؟ إن هو إلا جيفة تنبحها الكلاب، وميتة يتساقط عليها الذباب، عدو كل ألفة، ومصدع كل شمل، يبلي الجديد ولا يجدّ البالي. ليست لذته إلا ألماً مفضضاً، ولا مسرته إلا حزنا مبهرجا!
ودعوت ربي بالسلامة جاهدا ... ليصحني فإذا السلامة داء
ما حال من آفته بقاؤه ... نغص عيشي كله فناؤه
أليس عجيباً ألا تكون لذة حتى يحدها ألمان، ولا راحة حتى يكتنفها عناءان؟!
سعيد وشقي، وفقير وغني، وذكي وغبي، ليست إلا ألفاظا اصطلح عليها، فإن أنت تأملتها لم تجد كبير فرق بين مدلولاتها:
ما الظارون بعزها ويسارها ... إلا قريبو الحال من خيابها
أكبر الناس قيمة، وأضاعها الموت وتفاوتوا في الجاه والثراء وسوى بينهم القبر!
ومن ضمه جدث لم يبل ... على ما أفاد ولا على ما اقتنى
يصير ترابا سوا علي ... هـ مس الحرير وطعن القنا!
ليست الدنيا إلا قطرة من شهد في بحار من علقم، وذرة من سعادة في جبال من شقاء يلح الدهر ببؤسه وعنته حتى إذا استيأست النفوس وبلغت الروح التراقي سخا بقبس من نعيم أطفأه برياح عاتية من عذاب!
قد فاضت الدنيا بأدناسها ... على براياها وأجناسها
وكل حي فوقها ظالم ... وما بها أظلم من ناسا
نظام كله فوضى! وحياة كلها فساد. رذيلة تسعد وفضيلة تشقى!(8/4)
والناس شتى فيعطي المقت صادقهم ... عن الأمور ويعطي الكإذب الملق
بحار تشكو الري. وصحراء تشكو الظمأ، وماء ولا شارب. وشارب ولا ماء!
تباركت أنهار البلاد غزيرة ... بعذب وخصت بالملوحة زمزم
غنى عقيم، وفقير عائل:
سبحان من قسم الحظو ... ظ فلا عتاب ولا ملامة!
أعمى وأعشى ثم ذو ... بصر وزرقاء اليمامة!
عيش كله هذيان، أعاليل بأباطيل، والدنيا تلعب بنا لعب الكرة!
ترينا الدجى في هيئة النور خدعة ... وتطعمنا صاباً فنحسبه شهدا
كذب المؤرخون فسموا زمنا سلما وزمنا حربا، وما السلم الا حرب صامتة شر من الحرب الناطقة! كل شيءفي العالم مفترس، أسد يفترس ذئبا، وذئب يفترس حملا. إنسان يفترس كل شيء حتى نفسه!
قوم سوء فالشبل منهم يخول الليث ... والليث راح أكل شبله!
كان العالم عالم سوء فتوج الإنسان شروره
كلما أنبت الزمان قناة ... ركب المرء في القناة سنانا
عالم كله أحاجي وألغاز، وعقل قاصر عنيد، منذ خلقه الله يحاول أن يفهم، يحوم حول العالم يريد أن يعرف الغرض منه فلا هو يصل ولا هو يعدل
نفارق العيش لم نظفر بمعرفة ... أي المعاني بأهل الأرض مقصود؟
الله صورني ولست بعالم ... لم ذاك، سبحان القدير الواحد!
حياة حار فيها الحكيم وضل فيها الفيلسوف، مبادئ تتضارب، وصور تتنازع، وكلام مزخرف. ظاهره جميل وباطنه مزيف كلما ظنوا أن حلوا مشكلة نجمت مشاكل - وقديما قضى الفلاسفة حياتهم في الجوهر والعرض والكمية والكيفية وأيس وليس، ثم عادوا آخر المطاف يعترفون بالفشلويقرون بالعجز ويقولون مع القائل:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا إذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا(8/5)
زاد تلبك معدتي، فزادت من الحياة نقمتي!
فيا موت زر أن الحياة ذميمة ... ويا نفس جدي أن دهرك هازل
تناولت دواء هاضما فأخذت أهش للحياة وأبش، وبدأت أنظر إلى العالم بوجه منطلق، ومحبباً منبسط - هاهو ذا قد تألقت صفحته. وأسفرت غمته، وانقشعت غمامته.
الحق أن العالم جميل، فهذا نسيم يعطر الجو بعرفه، ويحيي النفوس يرقته ولطفه، وهذا الربيع نزهة العين ومنطق الطير. وهذه حديقة عقد منظوم. ووشي مرقوم.
أصبحت الدنيا تروق من نظر ... بمنظر فيه جلاء للبصر
والأرض في روض كأفواف الحبر ... تبرجت بعد حياء وخفر
كل شيءحولي يضحك! ليس في الأمكان أبدع مما كان.
قلبي وثاب إلى ذا وذا ... ليس يرى شيئاً فيأباه
يهيم بالحسن كما ينبغي ... ويرحم القبح فيهواه
إن الحياة غنية باللذائذ، وليست الآلام فيها إلا توابل تهيؤ لاستمرار اللذة.
والشوك في شجرات الورد محتمل
ما لدنيا إلا قيثارة يوقع عليها شجى الألحان! أو مائدة شهية صففت عليها صنوف الألوان!
وقد تخمد الشمس الصباح بضوئها ... تفاوتت الأنوار والكل رائق
إن كان في الدنيا سخف وهذيان، فكن الفيلسوف الضاحك، وليس الفيلسوف الباكي!
وإن كانت الدنيا ألغاز وأحاجي، فكم نجح العقل في حلها واستجلاءغامضها. وكل يوم تتسع دائرة المعلوم، وتضيق دائرة المجهول. والعقل يلذه البحث ولو لم يصل. ويشعر بالغبطة ولو لم ينل. وفي نجاحه فيما أدرك، عدة له فيما لم يدرك.
رحماك اللهم! إن كان درهم من دواء هاضم يغير وجه العالم ويحيل السواد بياضاً، والشقاء سعادة، والقبح جمالا، والظلام نوراً، والحزن سروراً، فأين الحق!(8/6)
التجديد في الأدب
حول مقال الأستاذ أحمد أمين
للدكتور عبد الوهاب عزام
قرأت في (الرسالة) مقالا للأستاذ الفاضل أحمد أمين عنوانه (التجديد في الأدب) فرأيت آراء بينة استحسنتها، وألفيت رأيا آخر لم أقبله، وقد هممت أن أكتب مجاملا الأستاذ ثم بدى لي أن أرجئ الكتابة إلى حتى يتم مقالاته، فلما قرأت المقال الثاني زاد الخلاف بيني وبينه. ثم عرفت أنه سيتلبث قليلا فلا يكتب عن هذا الموضوع في العدد الآتي فسارعت إلى الكتابة وأنا اشعر أن الذي يحبب إلى مجادلة الأستاذ حبي واعظامي وتلمسي محادثته كلما وجدت إليها سبيلا في المجالس أو في صفحات المجلات.
قابلت الأستاذ بعد أن قرأت المقال الأول فقلت: سأنتقد مقالك أو اشرحه. فقال مازحا: قبل أن تقرأه؟ فقلت نعم. ذلك أنني أنشأت أنا وصديقي الأستاذ العبادي في بعض الأسفار أبياتا وسميناها (القصيدة المكتمة) وكتمناها الأستاذفقال: لا أبالي هذا الكتمان، وسأشرحها دون أن أراها. وأذكر أني قابلته مرة فقلت: (سؤال) فقال قبل أن يستمع إلى سؤالي: (جواب) أتريد أن أجيب قبل السؤال أو بعده؟ ولكن ليطمئن أستاذنا وليعلم أني قرأت مقاله قبل أن أكتب عنه، وهو أمامي الآن أقرأه وأكتب ما يبدو لي فيه.
أعجبني قول الأستاذ عنالمجددين: (فإذا سألت المجددين ماذا يريدون بالتجديد، وما ضروبه وما مناحيه وماذا يقترحون أن يدخلوه على الأدب العربي؟ جمجموا في القول وأتوا بكلمات غير محدودة المعنى ولا واضحة الدلالة) وأنا أزيد علىهذا أن التغيير ليس فضيلة ينبغي الحرص عليها والتنافس فيها والتفاخر بها، وإنما يستحسن التغيير أو التجديد حين تدعو الحاجة إليه. والكاتب النابغ إذا أحس الحاجة إلى التجديد بدّل وغيّر وابتدع في غير صخب ولا سخرية ولا مباهات، ثم عرض على الناس نتاج رأيه، وثمرة ابتكاره فيرضونها، أو يجادلون في أمر وضحت معالمه واستبانت حدوده. الكاتب المجدد حقاً هو الذي يمضي في سبيله قدما، مبيناً عن آرائه ومشاعره على الأسلوب الذي يفي بهذا البيان. والخطة التي يؤثرها ويفصلها لا يتكلف الإغراب والشذوذ ليقال انه مجدد. والشاعر المطبوع هو الذي يسير على فطرته مخلصاً لنفسه مبيناً عنها لا يبالي أن يكون قد لزم الجادة المطروقة أو(8/7)
حاد عنها، ثم يعرض على الناس شعره فيما اختار من موضوع وأسلوب في الوزن والقافية. فإذا ثار الناس عليه جادل عن نفسه وأوضح حجته. والأدب فيما أحسب يؤثر فيه الاستطراف، فقد يغير الشاعر أسلوبا طال عليه العهد ومله الناس، وقد يرجع الناس إلى الأسلوب المهجور بعد حين فيستطرفونه. فالتغيير في الأدب واسع المجال ولكن ينبغي أن تحسن الحاجة إليه وتستبين سبله.
الأدب العربي تقلب في أطوار مختلفة. وابتدعت فيه بدع كثيرة ولكن لم نسمع إن المبتدعين مهدوا لابتداعهم بمعركة كلامية في القديم والجديد، نظم ابن المعتز موشحه، وافتن المغاربة في الموشحات افتنانا خرج بها عن الأوزان والقوافي المألوفة، ومضى الناس على هذا ولم يمهد لهذا الابتداع بثرثرة في التجديد، ولم يكن للمجددين من حجة إلا أن ألقوا إلى الناس موشحاتهم تحتج لنفسها. وكذلك نظمت قصص كليلة ودمنة وغيرها في القافية المزدوجة، ولم يكن هذا معروفا من قبل، وكتب بديع الزمان الهمذاني مقاماته وهي طريقة جديدة، وما عرفناه أن تقدم هذا وذاك جدال أجوف ذو دوي كالذي نسمعه في هذا العهد والمتنبي ذهب في الشعر المذهب الذي ارتضاه ثم قال:
أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر القوم جراها ويختصم
المعري ملأ شعره بالفلسفة وأمور لم يألفها الشعر من قبل وكتب رسالة الغفران على غير مثال فما دعا إلى طريقته ولا جادل فيها أحدا. وما أحسب لامرتين الشاعر الفرنسي حين نشر (التأملات) قد أجهد نفسه في الدفاع عن نفسه، والهجوم على مخالفيه. هذه هي الطريقة المثلى التي تجنبنا المعارك الضالة والكلام المتهاتر، والحجج المبهمة، حين يدور الجدل علىأمر مشهود بين يمد الكلام، ويقصر النزاع، ثم يكون المثال الجديد حجة لنفسه تسد السبل على المعاندين والمغالطين. هذه هي الطريقة المثلى. وأما الجعجعة بغير طحن، أو جعجعة في طحن الكلام، وإثارة الخصام جناية على القارئين، ومضلة للباحثين.
إنما يكثر تحدث الإنسان عن صحته حين يعتل، وأما الصحيح القوي فهو عامل جاهد، ماض في سبيله لا يقيس كل خطوة بنصح الأطباء، ولا يزن كل أكلة بما أعطي من الدواء. وكذلك أعجز الناس عن الابتكار والإتقان أكثرهم ضوضاء وسخرية وافتراء وادعاء. أعود إلى مقال الأستاذ احمد امين، بعد أن ند القلم في الكلام عن التجديد(8/8)
والمجددين، وأترك للأستاذ المقدمةالتي ذكر فيها (العناصر الثابتة) في الأدب و (العناصر المتغيرة) وأتصدى لكلامه في تجديد الألفاظ. هو يرى أن التجديد فيها على ضربين: الأول (اختيار الألفاظ التي تناسب العصر، ويرضاها ذوق الجيل الحاضر) وضرب الأستاذ مثلا كلمة هبيخ وبعاق وكنهور. وأنا لا أريد أن أناقش الأستاذ في الأمثلة فقد قرأنا في كتبنا القديمة أن (المناقشة في المثال ليست من دأب المحصلين) ولكني أخالفه فيما سماه ذوق العصر وأعرض نفسي لحكمه حين يقول: (وهذا بديهي لا يحتاج إلى إطالة. وكل من جهل هذه الحقيقة لا يفلح أن يكون أديبا) أخالفه في أن يجعل الذوق حكما ولا سيما ذوق الجيل الحاضر على قصوره في اللغة والأدب. وأخشى أن يقتصر هذا الذوق على ما ألف من الكلمات فيعد كل كلمة غير مألوفة نابية عن الذوق ثقيلة على السمع، فإذا أراد كاتب أن يدل على الهواء بين السماء والأرض فقال (السكاك) أو (السمهى) ضحك منه أهل الذوق. وإذا أراد أن يدل على الهواء بين جبلين فقال (النفنف) سخروا منه، وإذا قال صفقت الباب وأجفته بمعنى أتممت إغلاقه أو تركت فيه فرجة (رجلته) اشمأز الذين لم يسمعوا بهذه الكلمات، على إن البيان في حاجة إليها. إن الذوق يسقم ويصح. والأديب النابغة يستملي فطرته فيلائم الذوق العام أو يسيره حيث يشاء ولا يقف نفسه أسيرا تتصرف به الأذواق. إن أمر الألفاظ أجل وأخطر من أن يحكم فيه الذوق وحده. إن الحاجة خلاقة الألفاظ ومبقيتها، والحاجة لا تباليبالأذواق. فعلى كل أمة وكل جيل أن يأخذ من لغته الألفاظ التي يحتاج إليها ويخلق الألفاظ التي لا يجدها، غير مبال بالغرابة أو الثقل الذي يبدو أول الأمر، فان الاستعمال جدير باستئناس الكلمة الملاءمة بينها وبين أذواق الناس. وكم من كلمة أجنبية ثقيلة استعملها الناس فألفوها، ولميجادلوا فيها. فبعض كتابنا يقول البروباجندا والديموقراطية والأرستقراطية والميتافيزيقية على بعدها عن طبيعة لغتنا وأوزإنها، أنا أعرف أن القدماء من أدبائنا غلوا في الظرف وأخذوا على المتنبي وغيره كلمات سموها نابية أو حوشية. وقد تجلى هذا الظرف في كتاب المثل السائر وغيره ولكن هذه الرقةلا يقام لها وزن عند الحاجة الملحة. بعض ألفاظ اللغة محاكاة الأصوات، وبعضها فيما أظن، تخيل المعاني في الأصوات: حاكت اللغة صوت الريح والرعد والطير وأنواع الحيوان ونحوها ومثلت المعاني الأخرى في ألفاظ تلائمها، فليس لنا أن ننفر من الألفاظ الشديدة(8/9)
ونتجنبها إن أردنا أن ندل على المعاني الشديدة. فالعقنقل والحقف والكثيب والجلمودوأشباهها ملائمة لمعانيها. ولا بد من استعمالها لندل على هذه المعاني. ولكن الذوق الحاضر يؤثر الألفاظ اللينة الحفيفة الجرس المألوفة، ويترك مثل هذه الألفاظ على شدة الحاجة إليها.
ينبغي أن تؤثر الألفاظ القوية الشديدة لمعانيها، والألفاظ الخفيفة لمعانيها، دون إنصات إلى حكم الأذواق، بل ينبغي أن يعمل الأديب لإحياء الألفاظ الطبيعية الشديدة كلما نزعت بالأمة رخاوة الحضارة إلى نسيإنها، وينبغي أن تعالج اللغات بالألفاظ القوية التي تبدو ثقيلة غير مألوفة، كما يعالج ترف الحضارة بضروب السياحات والرياضات الشاقة. والاستعمال جدير بتذليل كل صعب، وأستأنس كل وحشي. يجب أن يحكم موضوع الكلام لا ذوق المترفين. فالشاعر في القاهرة أو باريس إذا وصف الجبال أو الحروب، وهي بعيدة من إلفه، ساغ له أن يأتي بالألفاظ التي تثير الروعة والهيبة. إن اللغات العامية في البلاد العربية نتيجة الأذواق المختلفة، ولغة الأدب الموحدة في هذه البلاد نتيجة مقاومة هذه الأذواق بالتعليم، ورفعها إلى مستوى أرفع وأقوم.
أضرب للأستاذ الفاضل قول مسلم بن الوليد في وصف الصحراء
ومجهل كاطراد السيف محتجز ... عن الإدلاء مسجور الصياخيد
تمشي الرياح به حسرى مولهة ... حيرى تلوذ بأكناف الجلاميد
ما رأيه في (مسجور الصياخيد) و (أكناف الجلاميد)؟ أهي ملائمة لذوق الجيل الحاضر؟ وهل يرى غيرها أجدر بمكانها في هذا الشعر؟ إنها لا ريب حسنة في موقعها، بالغة ما أريد بها من وصف الصحراء حين تشتعل فيها الهواجر. فإن كان علم الجيل الحاضر باللغة ينفر به عن أمثال هذه الكلمة فليس على الكاتب أن يتحرز عنها، ولكن على الناس أن يألفوها. ثم ماذا يرى الأستاذ في قول ابن هانئ الأندلسي:
فحياضهم من كل مهجة خالع ... وخيامهم من كل لبدة قسور
من كل أهرت كالح ذي لبدة ... أو كل أبيض واضح ذي مغفر
طردوا الأوابد في الفدافد طردهم ... للأعوجية في مجال العثير
ماذا يرى إن كان جهل جيلنا الحاضر باللغة ينفر بذوقه من قسور وأهرت والأوابد والفدافد(8/10)
والأعوجية. وهل ينبغي أن يهجر قول الشريف الرضي:
من القوم حلوا بالربى وأمدهم ... قديم المساعي والعلاء القدامس
تحلهم دار العدو شفارهم ... وترعيهم الأرض القنى المداعس
بها ليل أزوال، بكل قبيلة ... ملاذع من نيرانهم ومقابس
أو ينبغي أن يهجر ذوقالجيل الحاضر ان نفر من مثل هذا الشعر؟
أرى أن حاجة الكتاب إلى الإبانةوالإعراب والإبداعتسوغ لهم أن يتخيروا من اللغة ما يشاءون، ويطبعوا ذوقالأمة كما يبتغون، وأرى أن الذوق ربما يكون وليد الجهل وفساد الطبع، والاستكانة إلى كل هين يسير، والركون إلى كل سفساس مبتذل.
للذوق الحكم حين يتسع العلم باللغة والأدب، وتعرض ألفاظ عدة لمعنى واحد فيختار الذوق واحداً منها. وللاختيار أسباب كثيرة، فقد يختار (هبيخ وبعاق وكنهور) وقد يختار غيرها. وإنما الفظاظة والثقل أن يعمد الكاتب إلى كلمات غير مألوفة فيؤثرها على المألوف إغرابا وتعمقا وشذوذاً ومخالفة للذوق دون جدوى.
ثم يقول الأستاذ: (لذلك أصبحت في معاجم لغتنا ألفاظ كثيرة ليس لها قيمة الا إنها أثرية تحفظ فيها كما تحفظ التحف في دار الآثار) وأنا أقول بعد الذي قدمت: ما أشد حاجتنا إلى كثير من هذه الألفاظ المهجورة، فإنها مجدية على من يعرفها ويستعملها. وعسى أن تصير ملائمة لذوق الجيل الحاضر حين يعرفها فيقضي بها حاجته من الإبانة عما يريد.
ربما يقول الأستاذ بعد قراءة هذه الكلمة. إن الذوق في رأيي هو الذوق الذي تخلقه الحاجة والمعرفة والتمكن من اللغة والأدب، وبلوغ الغاية مما نريد لا الذوق الذي يكون على العلات في كل حين. فان يكن هذا الذي أراده أستاذنا فقد شرحته وبينته وبررت بوعدي حين لقيته فقلت: (سأنقد مقالك أو أشرحه) وأما الأستاذ الثاني وهو أجدر بالمجادلة فموعدنا بنقده (الرسالة الآتية)(8/11)
روح الإسلام
للدكتور محمد عوض محمد
منذ سنوات كنت اطلب العلم في جامعة لفربول. . . . . .
وفي ذلك الزمن كنت قد عاهدت نفسي وعصبة من الرفقاء، منذ نزلنا بلاد الإنكليز على ألا نألوا جهدا في إفهام القوم أمر بلادنا، واطلاعهم على مالنا من تاريخ مجيد وثقافة جليلة. فكنا نرحب بكل من جاء يستطلع منا خبرا، أو يستفتينا في أمر يمت إلى الشرق بسبب.
وفي يوم من أيام الشتاء، بعد انصرافي من إحدى المحاضرات، ابتدرتني طالبة من الطالبات بالسؤال الآتي: هل تستطيع أن تخبرني في كلمة واحدة أو في كلمات قلائل ما روح الإسلام؟ أدهشني السؤاللأول وهلة، ونظرت إلى السائلة نظرة الحائر المستفسر. فأدركت أن في السؤال شيئا من الغموض. فقالت: (اننا، مثلاً، نرى أن روح المسيحية يتمثل في لفظ واحد وهو الحب. فهذا هو لب لباب ديننا، والأساس الذي شيدت عليه صروح المسيحية كلها. فما من عقيدة ولا شعائر ولا تعاليم إلا والحب محورها الذي تدور حوله. ولا تكترث لما قد تراه مخالفا لذلك فما هو من المسيحية في شيء.) فقلت: (إنك إذن تريدين مني كلمة واحدة أو كلمات قلائل، تكون من الإسلام بمثابة كلمة الحب من المسيحية؟.) فقالت: (أجل فقد يكون روح الإسلام مثلا العدل أو القوة. .)
فأطرقت قليلا، وأنا أمعن في التفكير، لعلي أهتدي إلى جواب ترضاه وأرضاه. وخطر لي أن أشرح لها أن للإسلام أركانا خمسة. . لكني ذكرت إن في المسيحية أيضا صلاة وصياما. وخشيت أن تقول لي إن هذا من الدين بمثابة الجسم وإنها تبحث عن الروح.
قلت لها في صراحة: (إنني ما خطر لي يوما أن أبحث عن كلمة واحدة تؤدي كل ذلك المعنى الجليل الخطير. . وأنتم معشر الإنكليز قوم تحبون تبسيط كل مسألة. . ومع هذا أمهليني أتدبر الأمر، أو أسأل أهل الذكر. فلا خير في جواب عاجل لا ينطوي على الصواب.)
في مساء ذلك اليوم جلست في حجرتي مطرقا، مسندا رأسي على يدي، محدقا في مصطلى تشتعل فيه النار. كأنما كنت ألتمس الإلهام من لهيبها المندلع وقبسها المضطرم. وأطفأت المصابيح كي لا يلهيني عن التفكير ما بالحجرة من أثاث أو صور. . . . . .(8/12)
لم أكن (علم الله) من الملمين بعلم الدين. وكنت أحس من نفسي عجزا وقصورا، عن معالجة تلك المسألة، ولكني رغم هذا رأيت أن أحاول معالجتها ما استطعت إلى ذلك سبيلا. . وجعلت أجهد فكري أيما إجهاد. وخيل لي أني أرى أمامي سبلا كثيرة فجعلت أسلك كلا منها، ولا أزال أتبعه إلى نهايته، ثم أعود فأسلك طريقا آخر فأجتازه إلى غايته: وكانت كل خطوة تدفعني إلى خطوة أخرى حتى أبلغ نهاية المرحلة. . .
وهكذا سلكت في تفكيري وبحثي طرقا شتى. وعجبت إذ ألفيتني أصل في كل مرة إلى غاية واحدة، ويسلمني البحث إلى شيء واحد. . فقد كان ينتهي بي التفكير دائما إلى التوحيد. . . . . .
لعل روح الإسلام إذن هو التوحيد. . وهل أراني بلغت الغاية حين رست بي سفينة الفكر على ذلك الساحل الأمين؟ أليس التوحيد أن يقصد الناس بجسدهم وبروحهم وجه الإله، ولا ينصرفوا عنه إلى سواه؟ وألا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله؟. . وأن نرتفع بأنفسنا عن عبادة المال والتكالب على جمعه. . وعبادة الشهوات التي تسترقنا وتذلنا. . أليس التوحيد إذن هو الذي يعلو بأنفسنا عن كل دنيء مهين، ويرقى بنا إلى سماء كلها طهر وصفاء؟
فيم التردد إذن؟ إن روح الإسلام هو التوحيد.
جالت بنفسي هذه الخواطر، وجعلت أرددها في صدري مرارا فلا تزداد إلا ثباتا ورسوخا. وخيل إلي إني اهتديت إلى إجابة صريحة (لا لبس فيها ولا إبهام) على السؤال الذي سألته صباح ذلك اليوم.
وكنت أخشى ألا ألتقي بصاحبة السؤال إلا بعد أيام، فأردت أن أرسل إليها الجواب في طي كتاب فتناولت قلما وورقا، وأوقدت المصابيح، وجعلت أسطر ما جال بخاطري في شيء من الإسهاب والتفصيل، كي لا يبقى في صدر القارئة ذرة من الشك في صحة ما استقر عليه رأيي.
وأعدت تلاوة الكتاب مرارا، واطمأننت إلى إنه يؤدي كل ما جال بنفسي أحسن الأداء. وكنت بهذا فرحا طروبا. ثم طويت الكتاب، ونهضت لأحمله إلى دار البريد.
في تلك الساعة كان المطر ينهمر مدرارا. فجلست إلى جانب النافذةانتظر عله يكف أو(8/13)
يسكن قليلا. . وجعلتانظر إلى خارج الدار. أتأمل الغيث إذ يتساقط على أحجار الشارع الملساء، والضباب الخفيف وقد انتشر في سائر الأرجاء. والمصابيح وهي تبدو ضئيلة فاترةخلال الضباب والغيث. وكأنها أشباح اليقين وسط دياجير الشك.
لم يطل تأملي لذلك المنظر حتى عاد بي الخاطر إلى موضوع الكتاب الذي بيدي. . وانتقل بي التفكير من الإسلام إلى البلاد التي تدين بالإسلام. وجعلت أنظر بعين الوهم إلى تلك الأفكار، التي يفصل بيني وبينهاآلاف الأميال. وأخذت ترتسم أمامي صورتها شيئا فشيئا. .
ليت شعري ماذا في بلاد الإسلام من روح الإسلام؟ وماذا في بلاد التوحيد من التوحيد؟
غشيني شيء من الذهول. ورسم الوهم أمامعيني صورة مروعة مفظعة هائلة، لتلك الأقطار القاصية. .
رأيت البلاد. قد حلق فوقها عقاب البغي، باسطا عليها جناحيه، ومنشبا فيها أظفاره، وقد خضعت لسلطانه الرقاب، وعنت لخشيته الوجوه! وهلعت الأفئدة. وذلت الأعناق، ورغمت الأنوف! وانطلقت الأفواه تسبح بحمده، وتمجده، وهو لا يزداد إلا بغياً وعتواً، والأعناق لا تزداد إلا خشوعا وذلا.
وتبدلت الرؤيا بعد ذلك. . فأبصرت هيكلا عظيم البناء، لا يبلغ الطرف مداه. ورأيت الناس منطلقين إلى أبوابه الكبيرة، ليقيموا الشعائر. . زمر تسعى إثر زمر. . جموع تتجاذب وتتدافع، ويموج بعضها في بعض. . ولا تكاد الأبواب تحتويهم على سعتها. . . . . .
ثم انكشف الغطاء وأبصرت ما بداخل الهيكل. . فإذا أوثان هائلة، قد نصبت في أرجاء الهيكل. ومن دون كل صنم مذبح عظيم تقدم إليه القرابين، ويحرق عنده البخور. والناس من حولها بين قائم وقاعد وركع وساجد. .
نظرت ذات اليمين فإذا صنم جبار أصفر اللون، براق لامع، ما شككت في إنه (مامون) إله النضار. إن لم تنم عنه صورته فقد نم عنه رواده وقصاده. جنود مجندة وكتائب محتشدة. قد أقبلت على عبادته بأيد ممدودة، ووجوه تفيض شرهاً وجشعا.
وقد حمل كل عابد قربانه: هذا يقرب الشرف، وذاك يذبح الدين، والآخر يقدم الوفاء والميثاق، وذلك يقرب وطنه الذي نماه وغذاه، وصاحبه يقدم الأهل الذين أنجبوه. . . . . .(8/14)
وها هنا شخص يحرق ضميره ومبدأه بخورا.،. وهناك آخر يضحي بما لديه من عفاف وكبرياء. . . . . .
وكأن ليس في العالم شيء أعز وأكبر من أن يكون قربانا لذلك الصنم الهائل الدميم. الذي كان يقبل القربان حيناً، ويزور عن عباده أحيانا. فلا يزيدهم نفوره وازوراره إلا تهالكا عليه، وغلواً في عبادته، وإكثاراً من الضحايا والقرابين. . . ثم نظرت إلى أطراف الهيكل، فأبصرت جموعاً أخرى عاكفة على أوثان أخر: ها هنا إله الشهوات وقد احتشدت عبيده من حوله. وهنالك وثن المناصب والجاه والناس من حوله ركع سجود. . . وفي هذه الناحية وتلك شكول وضروب من أصنام يكاد يخطئها العد، ويعجز عنها الوصف.
وألفيت نفسي بعد قليل أتنفس الصعداء، وقد إنجابت عن عيني تلك الرؤيا، ولم يبق أمام ناظري سوى الغيث المنهمر، والضباب المنتشر، وضوء المصابيح الضئيلة.
ولبثت برهة واجماً ساكنا: وقد امتلأت نفسي خزنا وغما. . . . . .
ثم نهضت ببطء شديد، وأغلقت النافذة وأسدلت الستر. وعدت إلى مجلسي بجانب الموقد. . . . . .
وأمسكت بيد مرتجفة ذلك الكتاب الذي تعبت في تسطيره وتحبيره. . . . . .
وبيد مرتجفة ألقيت به في النار. . . وجعلت أحدق فيه إذ يحور لهيبا ودخانا. . .
وأحسست بقطرات تنحدر على خدي. . فتناولت منديلي ومسحتها. . . . . . ولعلها من قطرات ذلك الغيث أصابت وجهي وأنا جالس لدى النافذة!
ألفيت الفتاة بعد أيام فأعادت السؤال فقلت لها إن كان روح النصرانية الحب، فأن روح الإسلام التوحيد.(8/15)
الشعر والحياة الحديثة
لشاعر الهند رابندرانات تاغور
يعيش العالم الآن في عصر ثورة. فاعتقاده القديم وميله حتى نفوره في تغير وتبدل. ولم يشهد التاريخ تطوراً أصابه من التقلبات السريعة المفاجئة ما أصاب هذا التطور البادي في عقلية الجماعة والفرد. فالأخلاق تختلف، والآراء تتغاير، والاعتقادات تتباين. والجيل الجديد قد دفعته الرغبة الملحة إلى تجربة كل شيء في الحياة حتى نسي فن الحياة، فلا يملك الوقت للتفكير والتأمل، ولا يجد الفراغ للسرور الهادئ الذي يمتع به نفسه، ولا فرصة للقراءة يغذي بها روحه، وشدة الزمان وعنف الجهاد لا يسمحان لامرئ أن يفاكه شيئا لا رادة فيه ولا ثمرة، لذلك كان فن الشعرأبعد ما يكون عن الازدهار والانتشار. فالشعراء قليلون. وروائع الشعر نادرة، لأن طبيعة العصر تقتضي ذلك.
أنا لا أزعم إني أفهم ميول العصر، ولكني أسجل ما عليه الشعر العصري من حاضر سيئ وحال أليمة. ليكن السبب في ذلك متصلا بأي صورة من الصور بالحرب وأثرها في نفوس الشعوب التي صليت بنارها (وذلك ما لا أجرؤ على تأييده) فإن الأمر الواقع أن ازدهار الشعر في هذه الساعة من أصعب الأمور.
ومما لاشك فيه أن الناس لا يجدون لثقافة الشعر فراغا تركه السينما الناطق وموسيقى الجاز وذلك الحرص على أن يزدردوا في أربع وعشرين ساعة مقدارا من التجارب والاختراعات والاحساسات كان يغذي آباءنا الأولين شهوراً عدة.
على أن هذا الحال من الظواهر الطارئة التي لا تلبث أن تزول، فأن في الإنسان جزءاً جوهريا يقتضي الشعر ويتطلبه. أما وقت زوالها فذلك ما أجهله، ولكنه على أي حال لا يكون اليوم، لأن الناس أصبحوا غير أهل لتقدير العمل الفني، وإذا استطاع المسافر في قطار سريع أن يحسن التقدير لمنظر من المناظر، استطاع الرجل الذي يحيا هذه الحياة المحمومة أن يزن الحكم على قصيدة من القصائد. أن للحياة نسقا موزونا إذا أعجلته في حركته عرض الوجود كله للخطر. وقد نسى رجال اليوم ذلك فأصبحوا يركمون الإحساس فوق الإحساس دون استمتاع ولا تذوق، كالأكول الشره يبتلع اللقمة دون استمراء ولا مضغ ففاتهم بذلك خير ما في الحياة! تلك هي الحال الغالبة على كل شيء.(8/16)
ويريبني الشك في أن مثل هذه الحال توفى بالإنسانية إلى السعادة حتى ولو حققت لها النجاح المادي، لأن هذا النجاح لا يعدو أن يصبح كل إنسان قادرا على اكتساب ثروة تضمن له ترف العيش، وتنوع له صور الحياة، ولكن الواقع أن عبادة السرعة التي احتلت المشاعر وغلبت على الأذهان تستفرغ جهد المرء في تبريزه على جاره وأخذه المهلة على منافسه، والسرعة وإن بلغت بالناس بعض النجاح لا تستطيع على ما أظن أن تجدي عليهم جمال الحياة ورخاء الصدر. فالجيل الناشئ قد جنى معرفة واسعة بالأشياء وخبرة عظيمة بالأمور، ولكنه على وشك أن يفقد حساسيته، ويوشك هذا الميل إلى الإفراط أن يطغي على العالم بأسره، لأن انتقال الأفكار من قطر إلى قطر لم يكن في زمن من الأزمان أسرع منه الآن، وقد راعني سريان هذا الداء إلى شرق الهند بسرعة غريبة. فمنذ قليل كان في البنغال جمهور عظيم قد سلم شعوره من شر الأخلاق، فكان عباد الجمال من شعراء الشياب موضع إجلالهم وتقديرهم، ودواوين شعرهم مصدرا لغبطتهم وسرورهم، ولكن الهنود اليوم قد أخذوا بأسباب الحياة الحديثة وهي كما قلت شر عل الشعر وحائل دون ازدهاره.
يزعم فريق من الناس أن تأخر الشعر نتيجة لتقدم العلوم في الثلاثين أو أربعين سنة الأخيرة وزعمهم هذا باطل، فإن نفاق العلم لا يستلزم حتماً كساد الشعر.
وإنما الخطر الحقيقي الوحيد هو أن الناس في هذه الرجات الاجتماعية الحديثة يصبحون عاجزين عن ترجمة الخواطر بالشعر، قاصرين عن إدراك الجمال في القصيد، وذلك لا ريب عرض من أعراض الهرم. ومثل هذا العرض لا يظهر في الشعوب الشابة لأن حاسة الشعر خصيصة من خصائص الشباب. على أن هذه الحاسة يفقدها المرء بسهولة إذا لم يساعدها بالثقافة والمران، ومتى فقدها فقد معها نضرة العيش وجمال الحياة.(8/17)
فلسفة التاريخ
مقدمة
الفلسفة هي محاولة إيجاد قانون واحد شامل ينتظم الكون بأسره وتخضع له جميع الحوادث. فالعلوم تبحث عن الجزيئات والفيلسوف يستخرج من جزيئات العلم كليات الفلسفة.
وقد حاول الكثيرون أن يبحثوا في التاريخ من ناحيته الفلسفية وكدوا أذهانهم في البحث عن سبب واحد يعللون به جميع حوادث التاريخ وتطوراته من يوم ولد إلى يوم يموت فوصلوا إلى نتائج مختلفة وأسباب متشعبة.
التفسير الاقتصادي للتاريخ
كان من بين النظريات التي اهتدى إليها البحث نظرية (التفسير الاقتصادي للتاريخ) ومن أكبر دعاتها الفيلسوف الاشتراكي كارل ماركس. وخلاصة هذه النظرية أن العوامل المادية كانت دائما الدافع الأول والمباشر لكل حوادث التاريخ فالإنسان الأول لم يلجأ إلى تكوينالجماعات إلا ليسهل على نفسه سبل العيش، والجماعات لم تنقسم إلى دول وشعوب إلا لاختلاف مصالحها الاقتصادية ونشوء الدول وتطورها وسقوطها يرجع إلى أسباب اقتصادية بحتة والحروب والغزوات والهجرات لم تقم إلا على أسباب مادية خالصة.
ولأصحاب هذه النظرية شواهد تاريخية كثيرة تسند رأيهم وتعزز قولهم فالانقلاب الصناعي الذي حدث في أوروبا في القرن الثامن عشر كان له أكبر الأثر في تطور الشعور الديني عند مختلف الطبقات، وقد انتهى بضعف النزعة الدينية وتقوية شوكة الإلحاد. والحرب الأوربية الكبرى عام 1914 أقرب مثال لتأثير التطور الاقتصادي في تيار السياسة ومجراها. خرج الرجال إلى ميادين القتال فبرز النساء إلى ميادين العمل يملأن المصانع بأيديهن العاملة ويقمن بالحركة التجارية على أكمل وجه وقد قل بذلك اعتماد المرأة على الرجل، وتغير موقفها الاقتصادي نحوه فطالبت بحق التصويت. وسرعان ما احتلت مقعداً بين النواب بل وارتقت إلى كرسي الوزارة. وقد كان لهذا الانقلاب الذي طرأ على مركز المرأة الاجتماعي أثر كبير في تغيير القوانين والآداب والفنون وجميع المرافق الأخرى التي قد تبدو عديمة الاتصال بالحالة الاقتصادية. وهكذا تم تحرير المرأة عندما قل اعتمادها(8/18)
الاقتصادي على الرجل ولم تكن لتحصل على هذه الحرية بتأثير كتابات أفلاطون وجون ستيوارت مل وغيرهما ممن ذاد عن حرية المرأة ودافع عن كرامتها. وكانت الطهارة والعفاف من فضائل المرأة الكبرى التي فرضها عليها الرجل حينما كانت تعتمد عليه، وكان تفريطها في عرضها جريمة كبرى في نظر الرجل لا تقاس بها جرائمه التي يرتكبها في هذا الاتجاه مهما كانت جليلة خطيرة، فلما تحررت المرأة قلت مسئوليتها عن عفافها وكادت تساوي مسئولية الرجل.
والواقع أن كثيرا من آدابنا العامة وفلسفتنا الخاصة يخضع لتأثير العوامل الاقتصادية كل الخضوع فالقناعة والرضا بالأمر الواقع والتواضع والخنوع فضائل إرتآها الأغنياء للفقراء وفرضوها عليهم فرضا فاتخذوها هؤلاء على مر الزمن مبادئ ثابتة لهم تحت تأثير سلطة الأغنياء وبدافع ما يسميه ماكدوجل (الشعور بالذات السلبي) - وهو شعور عكسي يدفع المرء لا إلى التغلب على غيره بل إلى الاستكانة والخضوع.
التفسير المادي للتاريخ
ومن الباحثين من كان تحت تأثير الفلسفة المادية فأرجع التاريخ إلى أسباب مادية، وإن تكن غير اقتصادية (والمادية في الفلسفة معناها أن جميع ظواهر العقل والفكر إما طبيعية أو ترجع إلى أسباب طبيعية) ومن هؤلاء بكل الذي يقرر أن المناخ هو العامل الأكبر في تقلبات الحوادث فالحضارات القديمة إنما نشأت في الجهات الحارة مثل مصر والهند وآشور وغيرها لسرعة نمو النباتات في تلك البلاد وسهولة العيش تبعا لذلك وكلما ارتقى الإنسان في سلم التطور انتقلت مراكز حضارته إلى البلاد الباردة. ويعزز لك سير المدينة شمالا من مصر إلى بلاد اليونان والرومان إلى أواسط أوربا وإنجلترا والسويد والنرويج حيث هي اليوم. ومن هؤلاء أيضا فرويد الذي يرى إن العلاقات الجنسية هي أساس كل ما يصدر عن الإنسان من حركات وأعمال. فنحن إذن نستطيع أن ننظر إلى التاريخ من عدة نواح مادية (أي طبيعية) ولكنها ليست اقتصادية ولا تتفق مع تفسير ماركس للتاريخ. ونظرية التفسير المادي للتاريخ تختلف إذن كل الاختلاف عن المادية في الفلسفة ولابد من فصل الواحدة عن الأخرى.
العواطف وأثرها في التاريخ(8/19)
رغما عما للعوامل الاقتصادية والأسباب المادية التي ذكرناها من الأهمية العظمى في تكييف السياسة وتحديد معتقدات شعب من الشعوب فإننا لا يمكن أن نتجاهل بعض العوامل الأخرى التي كان لها أكبر الأثر في تاريخ الإنسان وحياته العامة.
(أ) وأشد هذه العوامل وضوحا وأكثرها إهمالا من جانب الاشتراكيين اتباع كارل ماركس عامل القومية، فكثيرا ما تعارضت القومية مع المصلحة الاقتصادية وتغلبت عليها فتريستا مثلا كانت تعد نفسها قبل الحرب العظمى إيطالية مع أن مصلحتها الاقتصادية كميناء تتوقف على تبعيتها للنمسا، ولكن نظراً لأن أكثر سكانها من الإيطاليين فقد كانت تضحي بفائدتها المادية في سبيل إشباع شعورها القومي. كما أن انفصال دول البلقان عن بعضها أدى إلى ضعفها الاقتصادي ومع ذلك فقد تم الانفصال تحت تأثير عوامل عاطفية قومية بحتة.
وقد كان العمال أثناء الحرب العظمى يسيرون مندفعين وراء شعورهم القومي متناسين رأيهم الاشتراكي الذي كانوا ينادون به (يجب أن يتحد العمال في جميع أنحاء العالم) تجاهل العمال هذا المبدأ حيناً، ووقفوا في ميدان القتال وجها لوجه للمحافظة على حدود الوطن وتلبية لداعي القومية. وقد يعترض أصحاب فكرة التفسير الاقتصادي على ذلك فيقولون، إن العمال كانوا يستمعون في هذا القتال لنداء أصحاب رؤوس الأموال الذين رأوا في الحرب فرصة للصيد في الماء العكر، وتكديس الأرباح والمكاسب ولكننا لا نقيم لهذا الاعتراض وزنا إذا عرفنا أن كثيراً من الرأسماليين هووا إلى الإفلاس أثناء الحرب.
(ب) ومن العواملذات الأثر البين في التاريخ المنافسة وحب السيطرة. فالمنافسة التجارية بين إنجلترا وألمانيا كانت سبباً هاماً في نشوب الحرب الكبرى، والمنافسة كما نعلم غريزة من غرائز الإنسان المتعددة تظهر بأشكال مختلفة وقد كان هذا الوجه الاقتصادي الذي ظهرت به قبيل الحرب أحد هذه الأشكال فلا يمكننا إذن أن نعد هذا السبب من أسباب الحرب من بين العوامل الاقتصادية فقد كان بوسع أصحاب الأموال من إنجليز وألمان أن يتحدوا ويتعاونوا فيجنوا من وراء ذلك الأرباح الطائلة، ولكن غريزة المنافسة غلبت عليهم فتجاهلوا مصلحتهم الاقتصادية واندفعوا وراء غرائزهم الوحشية.
هذا وقد دفعت غريزة السيطرة وحب القوة الإسكندر وقيصر ونابليون وغيرهم إلى تملك(8/20)
ناصية العالم، ولم يكن هؤلاء الرجال يرمون إلى زيادة ثروتهم وممتلكاتهم، وإنما كانوا يشبعون غرائزهم ويبذلون أرواحهم في سبيل منافسة خصومهم والتغلب عليهم، أن الدنيا لو خلت من خصم لهم لتلمسوا المعاذير وخلقوا أسباب الخصومة خلقاً، جريا وراء النصر وحب التغلب!
وكيف يمكننا أن نتجاهل العاطفة الدينية وما كان لها من أثر في حروب دموية طويلة عند ظهور الإسلام وبين المسلمين والصليبيين. وكثيراً ما اتحدت الجماعات المختلفة بتأثير العامل الديني رغم ما كان بينها من فوارق اقتصادية وإنا لنجد العامل الكاثوليكي في أوربا يصوت لرأسمالي كاثوليكي ولا يصوت لاشتراكي ملحد رغم اتفاقه وإياه في آرائه الاقتصادية فطبقة العمال تنظر إلى رفع عماد الدين قبل أن تنظر إلى تحسين حالتها المعيشية.
الفلسفة وأثارها في التاريخ
وكثيراً ما كانت لآراء الفلاسفة نتائج عملية في توجيه السياسة. وليس أدل على ذلك مما كان لتعاليم روسو من أثر قوي في مجرى السياسة العالمية، مما أدى إلى قيام الثورة الفرنسية وما استتبعها من تطورات كما أدى إلى مناداة الولايات المتحدة بحريتها ومطالبتها باستقلالها.
علم النفس وضرورته لتفسير التاريخ
وأخيراً فأن التاريخ يحتاج كما تحتاج جميع مظاهر الحياة إلى معونة علم النفس لتفسيره وتحليل أسبابه وقد أظهرت المباحث الحديثة في هذا العلم أن الأعمال التي ترتكز على أساس من العقل والفكر ليست إلا قطرة حقيرة في خضم الأعمال التي تنبعث عن الشعور متأثرة بأسباب غير معقولة وكثيراً ما تغير وجه التاريخ لأسباب مجهولة نبعت عن دوافع لا شعورية عند بعض الزعماء وعظام الرجال، ولكن ماركس كان متأثراً بآراء علماء النفس في القرن الثامن عشر حينما كان يبحث عن أسباب معقولة يفسر بها حوادث التاريخ فهداه البحث إلى العامل الاقتصادي وعليه بنى نظريته في الاشتراكية زعماً منه أن المساواة الاقتصادية تدعو إلى إيقاف التطاحن والحرب بين البشر.(8/21)
محمود محمود محمد. ليسانسيه في التربية والتاريخ(8/22)
نشأة المدنية
الأستاذ زكي نجيب محمود
كان راسخا في الأذهان إلى عهد قريب أن دراسة التاريخ بعيدة كل البعد عن دقة العلوم الطبيعية، ذات القوانين الثابتة المطردة، من حيث طريقة البحث، وانتزاع الأحكام الكلية من الأمثلة الجزئية، لأنه رواية لأعمال الإنسان وسلوكه فرداً ومجتمعاً، وعلى ذلك فهو لا يخضع لقانون دقيق، كما تخضع العلوم الرياضية مثلا، ما دامت أعمال الإنسان نفسها لا تطرد ولا تستقيم مع قانون خاص، وبناء على تلك العقيدة الراسخة، لم يحاول مؤرخ في العصور الماضية (فيما نعلم) أن يستنبط من شتيت الأخبار التي يرويها التاريخ قانونا عاما ينتظم الجماعة الإنسانية، كما أستنبط الرياضيون من مختلف المظاهر الكونية مجموعة القوانين اليقينية التي لا يجد الشك إليها سبيلا.
ولكن دراسة التاريخ أخذت تخطو في العصر الحديث خطوات نحو الدقة العلمية واستخلاص القوانين العامة من الجزئيات التي تزخر بها بطون المجلدات. ومن أدق ما قرأنا في هذا الموضوع، ما كتبه توماس بكل، المؤرخ المعروف، الذي حاول في كتابه (تاريخالمدنية في إنكلترا) أن يخضع النشاط الانساني، الذي يبدو في أحداث التاريخ المختلفة، إلى نواميس ثابتة دقيقة، كالعلوم الطبيعية سواء بسواء، وكأني به قد وضع المجموعة البشرية في مخبار وأخذ يضيف إليها من المواد ألواناً مختلفة، حتى انتهى به البحث إلى تلك النتائج القيمة التي دونها في كتابه المذكور،
وسنحاول في هذا البحث أن نحلل العوامل الأساسية، والقوانين العامة، التي أنتجت المدنية الإنسانية من أحضان الهمجية الاولى، لإنها لم تنشأ حيث نشأت اعتباطا وعن طريق الصدفة العمياء، ولكنها نتائج محتومة لمقدمات طبيعية.
ولكن ما هي هذه المدنية التي نحاول أن نتتبعأسباب نشأتها؟ أليس جديراً بنا أن نلم إلمامة سريعة بمعناها أولاً، حتى يقوم البحثعلى دعامة قوية وأساس متين؟ نعم، ولكن دون ذلك البحوث المستفيضة وليس هذا المقال القصير مجالا لهذا البحث المتشعب الأطراف، والذيلا أحسب موضوعا بلغ فيه الخلاف بين الباحثين من الشدة والاتساع ما بلغه في هذا الموضوع، وأذكر أني قرأت ملاحظة طريفة أوردها الكاتب (الإنكليزي هافلوك اليس) في(8/23)
مقال كتبه عن المدنية، حيث يقول عن هذه الكلمة إنها لم ترد في دائرة المعارف التي وضعها جماعة الانسيكلوبيديين لكثرة ما يقوم حول تعريفها من خلاف.
ولكنمهما يكن من أمر ذلك الخلاف في مدلول المدنية، الذي منشؤه تباين وجهات النظرللحياة، فأن أحداً لا ينكر إنها تعتمد في تقدمها بوجه عام على تقدم العلوم والمعارف أكثر من أي شيء آخر، وأكاد أقول في شيء من اليقين إنها عبارة عن كمية المعارف التيوصل إليها الانسان، لا أكثر ولا أقل، على الرغم من تلكالدعوى التي لا يؤيدها منطق ولا تاريخ والتي يأخذ بها بعض المفكرين في كثير من النعرة الواهية، وهي أن المدنية رهينة بتقدم الأخلاق وحدها، ويكفي أن تلقي نظرة عجلى إلى تاريخ الإنسانية منذ فجرها حتى الآن، لتعلم أن الأخلاق في العصور الأولى هي هي الأخلاق في العصر الحاضر، لم تتقدم إلا بمقدار ضئيل جداً لا يكاد يذكر، فلا يزال الصدق محموداً والكذب مرذولاً، ولا تزال الأمانة خيراً والخيانة شراً. . . أما العلوم فهي تسير كل يوم، إن لم يكن كل ساعة سيراً حثيثاً إلى الأمام.
يتضح من هذا أن المدنية في جوهرها عبارة عن المعارف الإنسانية، فإذا ما أردنا أننبحث عن الأسباب التي أدت إلى نشأة المدنية، فلنبحث عن نشأة العلوم، ماداما صنوين متلازمين، أو بعبارة أدق لأنهما شيء واحد.
حاول أن تصور لنفسك الجماعة الإنسانية في فجر التاريخ، فترى إنسانا لا يملك من الأدوات التي يستعين بها في عمله الشاق شيئا، ترى إنسانا يعمل بيده كل شيء، لا يكاد يستيقظمن نومه حتى يمشي في مناكب الأرض سعياً وراء قوته من نبات وحيوان، ويظل هذا السعي حتى يغشاه الليل بظلمته، فيركن إلى كهف يأوي إليه مهدود الجسد، فيستغرق في النعاس حتى تشرق عليه الشمس كرة أخرى، فينهض من مخدعه ليعيد في يومه سعي أمسه.
فهذا الذي يستنفد نهاره في الحصول على قوته وسائر ما تقتضيه الحياة من شئون، ويقضي ليله في جوف الكهف نائما، لا يكون لديه من الفراغما يمكنه من التفكير في خلقالسماوات والأرض، والتفكير أولى مراحل العلم، وإذن فالعلوم كامنة في ثنايا العدم، ولا يكتب لها الظهور إلى ضوء الوجود إلا إذا تبدلت الحياة غير الحياة والإنسان، فتتوفر لجماعة إنسانية(8/24)
بيئة تساعدها على إنتاجمحصول يزيد على طعام يومها، حتى يتكون فيض إنتاجي لا يلبث أن يتجمع عند أفراد قليلين، هم الأقوياءعادة، وبذلك يستطيع ذلك النفر القوي أن يتخلص من المجهود الذي كان يبذله لتحصيل ضرورات الحياة، وإذن فقد تمتع بالفراغ الذي لابد أن يستتبع التفكير في مظاهر الكون، وهذا التفكير هو النواة الأولى للعلوم والمعارف المختلفة.
يتضح مما سبق أن الشرط الأول لنشأة العلوم - وبالتالي المدنية - هو خصوبة التربة. الذي يؤدي إلى وفرة الإنتاج بما يزيد على حاجة الاستهلاك، وأمثلة ذلك كثيرة في التاريخ، فالمدنية المصرية القديمة لم تنبت في وادي النيل إلا لخصوبة تربته، كذلك الأمة العربية كانت قبل إسلامها أقرب إلى الهمجية منها إلا أي شيء آخر، فلما جاء الإسلام، ثم تبعه انتقال الأعراب إلى الوديان الخصبة كوادي النيل ووادي دجلة والفرات، حيث الخصب والنماء والثروة أنقلب هؤلاء الأجلاف شعباً متحضراً بلغت مدنيته حداً قل أن شهد مثله التاريخ.
ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أن المدنية الأوربية تختلف في أسباب نشأتها عن المدنيات القديمة، فبينا هذه تنشأ من خصوبة التربة، نرى الأولى نتيجة لاعتدال المناخ. ولم كانت المدنيات القديمة قد تأثرت بالعوامل الطبيعية وحدها، أعني إنها نتيجة لتفاعل المناخ والتربة من غير أن يتدخل الإنسان تقريبا، وخصب التربة محدود الغلة مهما أجيد استغلاله في حين أن الحضارة الأوربية لا يقف في سبيلها شيء لأنها أثر لتفاعل المناخ وذكاء الإنسان الذي لا يمكن أن نتصور له حدوداً يقف عندها، لهذا فالمدنية الأوربية أقوى أساساً وأعمق جذوراً وأبعد مدى من المدنيات القديمة جميعاً.
ولكن إذا كانت المدنية في أول أمرها (كما بينا) تابعة لخصب التربة، حتى يتوفر من المحصول الزائد ما يتجمع فيكفي فئة من الناس مؤونة العمل، وبذلك تبدأ الطبقة العلمية في الظهور، فلماذا اقتصرت المدنيات على المنطقة المدارية، حيث ظهرت في مصر والشرق الأدنى والهند وبيرو ومكسيكو، وكل هذه تكاد تكون على خط عرض واحد، نقول لماذا لم تنشأ المدنية في المنطقة الاستوائية، مع إنها وفيرة الإنتاج النباتي الذي يحقق شرط الفراغ الضروري للتفكير، فالعلم، فالمدنية؟ الجواب على ذلك سهل ميسور، وهو أن الجهات(8/25)
الحارة لا تساعد الإنسان على التفكير والنشاط، بل من شأنها أن تقعده وتعجزه عن ضروب النشاط جميعاً، ومن جهة أخرى، فأن الوفرة النباتية الطبيعية، التي ليست ثمرة العمل الإنساني، تؤدي إلى التواكل وتعمل على خمود الذهن، لأن الحاجة أم الاختراع. وليس هناك حاجة تشحذ القوى العقلية لاكتشاف أي اختراع. إذن فأنسب مكان تظهر فيه المدنية أول عهدها، هو ذلك الذي يضطر الإنسان إلى العمل لتحصيل القوت، والذي يكون من خصبه ما يستطيع به أن يمد الإنسان بغلة تربى على حاجة الاستهلاك. ولكن قد يعود القارئ فيعترض بقوله إن هذا المناخ المعتدل الذي يبعث الإنسان على النشاط الذهني، وتلك الخصوبة التي توفر للإنسان محصولا زائداً، قد يتوفران في كثير من بقاع أوروبا مثلا، فلماذا لم تظهر المدنية في تلك الربوع في بادئ أمرها؟ هنا يتقدم (بكل) في كتابه الذي ذكرناه في أول هذا المقال، بتعليل دقيق يدعو إلى الإعجاب وإطالة النظر فهو يرى إنه لابد للمدنية في مهدها من كثرة عدد السكان بحيث يكون التفاوت عظيما بين الطبقات، حتى تستطيع الطبقة الحاكمة أن تتمتع بكامل السلطان المطلق على أفراد الشعب، فلا ينازعونها في الاستيلاء على ثمرة مجهود غيرها، وزيادة السكان بما فيها من تفاوت الطبقات، ميسورة في الجهات الدافئة دون الشمالية الباردة وإليك البيان:
لا ريب في أن الإنسان يدور مع الطعام وجوداً وعدماً فبينما تراه يتكاتف ويزدحم في البقاع الخصيبة، ترى الصحراوات خراباً لا يكاد يعمرها أحد، وهكذا يتوقف عدد السكان كثرة وقلة، على درجة خصوبة الأرض، ذلك لأنه كلما كثر الطعام كان الحصول عليه ميسوراً لكل إنسان، ومادامت غائلة الجوع مأمونة الجانب، فزيادة النسل تطرد إطراداً لا يحول دونه شيء، والعكس صحيح. أي كلما قل الطعام وعز مناله على الفقراء، تناقص السكان حتى يتكافأ عددهم مع ما تنتجه الأرض من محصول.
ولسنا بحاجة إلى ذكر ضرورة الطعام للكائن الحي لأدائه وظيفتين هامتين لا مندوحة عنهما لحفظ الحياة: فهو الذي يحفظ حرارة الجسم كما أنه يعوض ما يفنى من الأنسجة أثر القيام بالعمل، ولكنا نريد أن نرتب على ذلك نتيجة لها خطرها في موضوع بحثنا، فمن الحقائق المعروفة أن حرارة الجسم تتولد من اتحاد أكسجين الهواء الذي نتنفسه مع كربون الطعام الذي نأكله، فيولد هذا الاتحاد الحرارة اللازمة لحفظ كيان الإنسان، فلكي يحتفظ الجسم(8/26)
بحرارته، يجب أن يناسب بين أكسجين الهواء وكربون الطعام، أي يجب أن يحصل من الطعام على مقدار يكون ما فيه من كربون متناسباً مع الأكسجين الذي يصل إليه عن طريق التنفس. ولما كان الإنسان في الجهات الباردة يتنفس أكسجيناً أكثر من زميله فيالجهات الدافئة: أولاً، لأن الهواء أكثف في الجهات الباردة فيكون مقدار الأكسجين في الشهقة الواحدة أكبر مما لو كان الهواء مخلخلا خفيفاً. وثانياً، لأن الإنسان يتنفس في الجهات الباردة مرات أكثر عدداً في كل فترة زمانية. فهذا التنفس السريع من الهواء يضاعف كمية الأكسجين التي تصل إلى الجسم في الجهات الباردة. والنتيجة اللازمة لذلك أن الإنسان في هذه الجهات يجب أن يمد جسمه بمقدار من الكربون في طعامه أكبر جداً مما يتطلبه زميله ساكن الجهات الحارة. إذن فأهل الشمال بحاجة إلى لحوم الحيوانات المختلفة لما تحتوي عليه من الكربون الذي يتطلبونه في طعامهم، مع أن أهل الجنوب يكادون يقتصرون على النباتات وحدها. ومن الحقائق العجيبة التي تلفت النظر، أن كمية الحيوان أقل جداً من كمية النبات: ومعنى هذا أن أهل الشمال لا بد أن يبذلوا أضعاف المجهود الذي يبذله أهل الجهات الدافئة للحصول على طعامهم، ولا مندوحة إلى التعرض في سبيل ذلك إلى أشق الأخطار وأعنف الصعاب، حتى أن بعض الكتاب يعلل بذلك روح المخاطرة التي تميز الأخلاق الأوربية. وإذن فالنتيجة الطبيعية لقلة الطعام في الجهات الباردة دون الجهات الحارة، زيادة السكان في الثانية أعظم من الأولى. وزيادة السكان معناها كثرة الأيدي العاملة، وكلما كثرت هذه الأيدي قلت أجورها تبعا لقانون العرض والطلب. وقلة أجور الطبقة العاملة معناها أن تتجمع الثروة في أيد قليلة (هي الفئة القوية لأن توزيع الثروة توزيع للقوة) وهكذا تزداد هذه الطائفة ثراء على حساب أجور العمال. ثم يتسع هذا الفرق ويزيد حتى يتكون في الأمة طبقتان اجتماعيتان، بينهما فارق شاسع فسيح: طبقة الملوك والأشراف، والطبقة الفقيرة العاملة. وبديهي أن هذا الفرق الاجتماعي يكون في الجهات الدافئة أكثر منه في الجهات الباردة حيث السكان قليلون بسبب قلة الطعام، فتزداد أجورهم نوعاً، وبذلك تقل الثروة التي تتجمع في أيدي الفئة القوية، وتضيق مسافة الخلف بين الطبقتين، ولعل هذا هو السبب في تمكن النزعة الاستبدادية في بلاد الشرق، ونماء الديمقراطية في ربوع الغرب. ويظهر مما سبق أن العاملين اللذين أشترطهما (بكل)(8/27)
لقيام المدنية يتوفران في الجهات الدافئة قبل الباردة.
يحسن أن ألخص هذا التفصيل في سلسلة منطقية يسهل استيعابها حتى لا تتشعب أطراف الموضوع، فيفقد القارئ الرابطة التي تصل بعضها ببعض: زيادة السكان تتبع كثرة الطعام ولما كان الطعام الضروري للحياة أكثر في الجهات الحارة منه في الجهات الباردة فقد أزداد عدد السكان في الجهات الحارة بنسبة أكبر من الجهات الباردة ولكن ازدياد السكان يؤدي إلى قلة الأجور.
ثم يؤدي هذا بدوره إلى ازدياد الثروة عند الطبقة القوية. إذن فالطبقة غير المنتجة تظهر في الجهات الحارة قبل ظهورها في الجهات الباردة. ولما كانت نشأة العلوم (أي المدنية) رهينة بوجود هذه الطبقة غير المنتجة التي تستطيع أن تتفرغ للتفكيرفالنتيجة المنطقية لكل هذه المقدمات هي أن المدنية تشأ في الجهات الدافئة قبل نشأتها في الجهات الباردة، ولكنها إذا ما نشأت في هذه الجهات الأخيرة، كانت أقوى أساساً لما ذكرناه من إنها في تلك الجهات نتيجة لتأثير المناخ في الإنسان، في حين إنها في الجهات الدافئة نتيجة لتأثير المناخ في التربة، ولذلك نراها تسير نحو الجهات الباردة كلما ارتقت وازدادت قدمها رسوخاً، ولو أنا تصفحنا التاريخ على عجل للاحظنا لأول وهلة إنها نشأت في مصر (وهي منطقة دافئة) ثم أخذت تسير نحو الجهات الباردة شيئاً فشيئاً، فقد انتقلت إلى الشرق الأدنى، ثم إلى اليونان، ثم إلى إيطاليا، ثم إلى أواسط أوروبا، وهي الآن رابضة في شمال غربي أوروبا، ويتنبأ بعض الكتاب بأنها ربما استقرت في اسكندناوه في مستقبل أيامها، وهناك من الدلائل ما يؤيد ذلك.
لقد شرحنا فيما سبق القواعد العامة التي تتحكم في قيام المدنيات، ورأينا إنها نتيجة منطقية لمقدمات طبيعية، وإنها لا تخبط خبط عشواء في سيرها. ويجمل بنا الآن أن نطبق تلك القواعد الشاملة على نشأة المدنية المصرية زيادة في الإيضاح. ذكرنا أن بواعث المدنية هي:
(1) اعتدال الحرارة لأن الحرارة الشديدة تشل قوة التفكير
(2) خصب التربة
وهذان الشرطان متوفران في وادي النيل، فهو في المنطقة المعتدلة الدافئة، وتربته غنية(8/28)
بما يحمله هذا النهر المقدس من طينة كأنها النضار.
(3) ولكنا اشترطنا أن تجود الأرض بأكثر من حاجة الاستهلاك، وهذا متوفر في مصر. فقد كان البلح والذرة هما النبات الرئيسي الذي تجود به أرض مصر جود الكريم، وبذلك يصبح تحصيل القوت ميسورا، وإذن فزيادة السكان نتيجة محتومة، إلى آخر ما يتبع ذلك من نتائج. وبعبارة واضحة، لعلها لا تدهش القارئ بعد التحليل الذي بسطناه، إن نبات الذرة في مصر هو السبب الأساسي الذي دفع المدنية المصرية إلى الظهور. ومما يؤيد هذه النتيجة أن المدنية المصرية نشأت أولاً في الوجه القبلي لأنه اصلح لإنبات الذرة، حتى يقال أن زراعته انتقلت منه إلى الوجه البحري في وقت متأخر، ولا يزال صعيد مصر يزخر بآثار تلك المدنية العظيمة التي تنهض دليلا على ذلك.
ومما يؤيد زيادة السكان، التي نتجت عن وفرة الطعام، ما ذكره هيرودت من أنه وجد في مصر عند زيارته لها عشرين ألف مدينة عامرة. وقد أدت زيادة السكان طبعاً إلى نقص الأجور وتفاوت الطبقات تفاوتا عظيماً، بلغ حد التأليه للملوك، ونزل بطبقة العمال إلى هاوية التسخير غير المأجور، كما يتضح من بناء الأهرام وما إليها.
ليست أحداث التاريخ فوضى لا ضابط لها كما يتبادر إلى الأذهان التي تقف عند النظر السطحي، ولكنها تبدو للذي يستبطن دخائلها، خاضعة لقانون محكم لا يشذ، ومنطق سليم لا عوج فيه ولا التواء.
زكي نجيب محمود(8/29)
في الأدب العربي
القصة المصرية
للأستاذ جيب. أستاذ الأدب العربي في مدرسة اللغات الشرقية بلندن
ولقد كتب الدكتور زكي مبارك معارضة من هذا القبيل يوافق فيها على أن القصة لا يمكن أن تنشأ في مصر إلا إذا حصلت المرأة على مركز اجتماعي لائق، ويصف كتاب القصة في الأدب العربي بأنهم ينتمون إلى الطبقة الوضيعة من طبقات الأدباء، وينعى عليهم قلة خبرتهم بفنون الكتابة وعدم استقلالهم في الرأي وسطوهم على الآداب الأوروبية، وأدهى من ذلك أنهم يغرون الشباب باحتقار فنون الكتابة الأخرى، على حين إن الأدب الحقيقي الذي يتجلى فيه الصدق والدقة الفنية قد يوجد في ضروب أخرى من ضروب الكتابة كالرسالة والقصيدة. وليس من الجائز أن نحكم على الأدب العربي بما نشاهده في الأدب الفرنسي والإنجليزي، بل يجب أن نحكم عليه حسب ميول أبنائه، وحسب درجة نجاحه في التعبير عن أفكارهم وأخيلتهم وأغراضهم. ويشير الكاتب إلى أن آداب الصحافة في مصر توضح الآن كثيراً من المشاكل العلمية والروحية ومشاكل العاطفة التي تواجه المصريين، وإلى أن مراقبة الحكومة ووقوف الرجعيين بالمرصاد يحولان دون الإفاضة في توضيح تلك المشاكل. ويقول الكاتب أن هناك نقطة أخرى جديرة بالانتباه وهي أنه يجب علينا ونحن وارثو الماضي أن نستحضر ذلك الماضي ونحن نفكر في الحاضر، وأن ننظر بعين الاعتبار إلى الأساليب والطرق القديمة في الكتابة حينما نتجه نحو التجديد، فأن ذلك أجدى علينا من هذا البهرج الكاذب الذي يزيف به الأدب الحديث.
ولكن الأدب العصريفي مصر قد أثبت الآن حيويته وسار فعلا في طريق الاستقلال، وليس من الممكن أن يجدالقارئ المتوسط بغيته الآن في الأدب القديم، فإنك إذا وجهت اهتمامه مثلا إلى العقد الفريد أو إلى غيره من آثار (العصر الذهبي) فكأنك بذلك تعطيه حجراً بدل الرغيف الذي يطلبه ويصر على الحصول عليه. وإذا وقف الكتاب دون إمداده بما يطلب فأنه يتجه إلى استيراده من الخارج مهماثبت له عدم ملائمة ذلك الذي يستورده لطبيعته وحالته الاجتماعية. وقل أن يجد القارئ في المقالة أو في الموضوع الذي يعرف بالرسالة في القصيدة العادية ما يغير خياله، إذ ينقصها عنصر الخيال واللذة الحية، اللهم إلا في(8/30)
القصيدة الشعرية المتينة فقد يكون فيها ما يدخل في دائرة الميراث الخيالي للناس.
وهكذا نرى أن المسألة في جوهرها ليست مسألة تقليد ومحاكاة لأهل الغرب، فلقد أدى أتساع التعليم إلى اتجاه ميول القراء إلى نواح أخرى. ولما نشأت تلك الحالة في أوربا عمد الكتاب إلى القصة ليقابلوا بها ميول القراء، ونستطيع أن نقول إنه ما لم يتسن للكتاب المصريين إيجاد القصة فسيستمر اتجاه القراء في مصر إلى الأدب الأوربي، فإن المقالة أو الموضوع الأدبي أقل من أن يفي بالغرض الذي يسعى إليه القراء.
أما القول بأن إدخال فن من فنون الكتابة لم يكن موجوداً من قبل قد يكون فيه مساس بكرامة الشعب الأدبية فرأي مبني على التطرف والمبالغة، وهل أدى إدخال القصة في الأدب التركي أو الهندي إلى الحط من كرامتها؟ كلا. ومن أجل ذلك نرى القصة المصرية تنشب جذورها في تربة الأدب المصري في ثبات مهما صادفت من صعاب ونكران للجميل.
ولكن القصة لا تصل إلى تمام نموها، إلا إذا وافقت بيئة البلاد الاجتماعية، ومن هنا تنشأ المشكلة الرئيسية.
إذا وضعنا جانباً تلك العوامل الاجتماعية التي تكلمنا عنها فإن كتاب القصة في مصر قد وجهوا بمشكلة أخرى أشرنا إليها في مبدأ هذا البحث وهي خلق (فن اصطلاحي حديث) للقصة. ونستطيع أن نتبين في كتابات المنفلوطي وجورجي زيدان بعض المحاولات في هذا السبيل ولكن من حيث الأسلوب فقط، الأول بطريقته والثاني بسهولة عبارته، ولكن كلاهما لم يتعرض للنقطة الأساسية، وهي الوصول إلى تمثيل الحياة الاجتماعية الراهنة تمثيلا صحيحاً في الألفاظ وطريقة التعبير عما في النفس وعلى الأخص في الحوار.
على أن هذه المهمة قد وجدت من أشتغل بها من كتاب القصص القصيرة وأقدمهم في ذلك هو محمد تيمور (1829 - 1921) ويمنعنا ضيق المجال هنا من أن ندرس بالتفصيل آثار تلك الطائفة، ولذلك نكتفي بأن نشير نقطة من أهم النقط التي تعرضوا لها وهي الطريقة التي جروا عليها في أسلوب الحوار.
وهنا ينبغي أن نذكر أن مشكلة الأسلوب الواجب إتباعه في الحوار لم تكن مقصورة على الأدب العربي ولكنها ظهرت في كثير من آداب الممالك الأوربية وبخاصة في تلك الممالك(8/31)
التي ذهبت فيها لغة التخاطب العادية تحت تأثير الكتابات الأدبية، وتنحصر تلك المشكلة في السؤال الآتي: هل نجعل اللغة الفصحى لغة الحوار وبذلك نجعله حواراً مصطنعاً غير طبيعي؟ أم نقتصر على اللغة الفصحى في القصص والوصف، ونستعمل العامية في الحوار، وبذلك نعرض القصة للتفكك والتنافر؟
وقد سار الكتاب في القصص التي ظهرت فيما قبل على الطريقة الأولى أعني استخدام اللغة الفصحى في الحوار لا في الترجمة فحسب (وهنا تكون المسألة طبيعية) ولكن فيما ألفه كتاب القصص من السوريين أيضاً، وذلك بذكر القارئ الأوربي ما كانت عليه القصص الأوربية أثناء نشأتها من تكلف وضعف. وتعتبر زينب في نظري أول قصة استعملت إليها اللغة العامية في الحوار، ولقد ترك ذلك أثراً في القصص القصيرة الأخرى، ونخص بالذكر منها مجموعة محمود تيمور المسماة (بالشيخ جمعة) ولقد قامت بجانب ذلك فكرة أخرى وهي أن يكون الحوار بحسب درجة تعلم المتكلم، وبذلك يراوح الكاتب أن يرواح بين اللغة الفصحى واللغة العامية هبوطاً أو صعوداً، وإذا استعمل الفصحى على لسان شخص متعلم الأدبية العالية ينبغي أن يتحاشى العبارات، لكي يتمشى ذلك مع السهولة المطلوبة والمعتادة في الحوار (ويلاحظ أن الحوار في الطبعة الثانية للشيخ جمعة قد عدل بما يتفق مع هذا المبدأ) وبهذه الطريقة يتسنى للكتاب أن يحرصوا على المظهر الطبيعي للقصة مع تضحية قليلة في الصدق والإصابة بحيث لا يصعب على القارئ أثناء مطالعة القصة أن يحول في ذهنه عبارات الحوار المكتوبة إلى ما يعرفه من عبارات الحديث المألوفة. ونحن من جهتنا نتوقع أن نشاهد تحقيق هذه النظرية في القريب، وعلى الخصوص مع أتساع التعليم الابتدائي وبفضل مجهود الأدباء.
ويبقى علينا في هذا الصدد أن نتساءل إلى أي حد قد استطاع القصصيون الحديثون في مصر أن يعبروا عن مشاكل شعبهم وحاجته وأطماعه. يمكننا أن نستنتج من البحث المتقدم أن عدد القصص التي يظهر فيها ذلك قليل جداإذا اقتصرنا على الآثار التي لها قيمة أدبية حقيقية. '
يعتبر نقولا حداد، صاحب جريدة السيدات والرجال التي نشرت فيه معظم مباحثه، أوفر القصصيين العصريين إنتاجا وهو في نظر محمود تيمور أبعدهم شهرة أيضا. وعلى الرغم(8/32)
من أن الرجل سوري الأصل فإن لبحثهوأسلوبه صبغة مصرية اكثر مما لسواه من الكتاب السوريين، ونستطيع أن نحكم من روايته التاريخية (فرعونة العرب) أن لديه مقدرة على اجتذاب القراء إليه بما يتخلل قصته من الحركة السريعة والمواقف الرائعة. على أن خطة القصة فيها شيء من التفكك، والأشخاص تعوزهم قوة التصوير، حتى أننا نشك فيما إذا كان المؤلف قد أضاف شيئاً إلى نمو القصة المصرية من حيث الشكل أو من حيث الموضوع. وهناك قصة تاريخية أخرى تحوي الكثير من اللذة الأدبية، وتعتبر أول عمل من نوعه في الأدب المصري، تلك هي قصة (ابنة المملوك) لمؤلفها الأستاذ محمد فريد أبو حديد، وهذه القصة لا تمت بأية صلة إلى ذلك النوع من القصص التاريخية التي أخرجها زيدان، وهي من جهة أخرى تفوقها من وجوه عدة. ففي قصة ابنة المملوك قد حلت الحقيقة محل الخيال الجامح الذي تمتاز به قصص زيدان، وفضلا عن ذلك فإن تلك القصة لم تستغرقها كثرة الحوادث التاريخية، وإنما وضعت بطريقة تاريخية واضحة، وكان العصر الذي اختير لها هو فترة النزاع بين محمد علي والمماليك سنة 1805 - 1808 ولقد أتستطاع المؤلف أن يعرض الحوادث التاريخية في ثنايا القصة بحيث لا يجتذب التفات القارئ إليها قسراً. وحتى أهم الحوادث التاريخية في تلك الفترة وهي الحملة الإنجليزية التي وجهت إلى الإسكندرية وهزيمتها في رشيد عام 1807، لم يشر إليها المؤلف إلا إشارة وجيزة في سطرين أو ثلاثة مع أن بطل القصة وهو فتى عربي فار من وجه الوهابيين قد صوره المؤلف على أنه قام بنصيب في تلك الحرب، ومع أن القصة لم تنجح تماماً في تجنب الجفاء الذي تمتاز به القصص التاريخية نجد على الرغم من ذلك حياة وحركة في تصوير الأشخاص. وهي فضلا عن ذلك تسترعي انتباه القارئ من فاتحتها حتى خاتمتها التي جاءت في شكل مأساة.
تأتي بعد ذلك تلك القصة التي نشرت حديثاً، وتعتبر من جميع الوجوه أهم قصة صدرت بعد زينب. وهي القصة التي طال انتظارنا إياها من المازني. وقد نشرت عام 1930 تحت عنوان إبراهيم الكاتب. ويقول المؤلف في مقدمة القصة إن جزءاً منها كتب في عام 1925 وإنها تمت في عام 1926 ثم تركت بعد ذلك جانباً، وإن جزءاً من نصفها الأخير قد كتب بسرعة أثناء الطبع نظراً لفقد بعض الأصول وقد يساعدنا ذلك على تفسير الاضطراب(8/33)
الذي سنشير إليه أثناء الكلام عنها. وقد جاء في المقدمة أيضاً بحث شيق للمشاكلالتي تكلمنا عنها. أما فيما يختص بأسلوب الحوار فإن المازني يرفض الكلام العامي لخلوه من دقة التعبير وعدم ثباته، في حين إن العبارات الفصيحة آخذةً في التقدم والتهذيب يوماً بعد يوم. ويعارض المازني أيضاً في مقدمته هيكل بيك فيما يراه من أن العوامل الاجتماعية في مصر تحول دون خلق القصة المصرية. فإن القائلين بهذا الرأي يفترضون خطأ أن القصة الغربية هي النموذج الوحيد للفن القصصي. ولكن لم لا يكون هناك قصة مصرية قائمة بذاتها تميزها مميزات خاصة؟ ويرى المازني أن الحياة الاجتماعية في مصر لا تقوم عقبة في وجه أي كاتب بارع الخيال. ويقول إننا إذا سلمنا بأن وجهة المصريين وأفكارهم فيما يتعلق بالحب، تختلف عن وجه الأوربيين في ذلك، فلا يتحتم أن يكون ذلك عقبة كأداء في سبيل القصة المصرية. ولم تكون عاطفة الحب ذاتها هي المحور الأصلي الذي تدور حوله القصة؟ ويضيف المازني أن ما يتخيله الكتاب من ضيق مجال القصة المصري، إنما هو (نوع من الهستيريا) لا أقل ولا أكثر.
على أن القصة نفسها لا تحقق ما ينتظره منها المرء بعد هذه المقدمة. وليس ذلك لأنها أخفقت في الخطة أو في تفصيل المواقف وتصوير الأشخاص أو غير ذلك من المسائل الفنية. كلا فإنها من هذه الوجوه أحسن قصة في الأدب العربي على ما أعلم، ويتجلى في هذه القصة تلك الروح التي ينفرد بها المازني من جميع معاصريه أعني تلك الرقة هاتيك الروح الفكاهية التهكمية التي تظهر في كتاباته. ويسير القصص فيها سيراً حثيثا وفي سهولة كما أن الحوار سهل طبيعي وقد جاءت الانتقادات الاجتماعية والتحليلات النفسية (التي قصد إليها المؤلف بطريقة مضمرة في ثنايا الكلام) أكثر منها صريحة واضحة. ولكنها على الرغم من ذلك (فيما عدا أشخاصها وأوضاعها) ليست قصة مصرية بالمعنى الذي يفترضه المازني نفسه، وأكبر دليل على ذلك إن بطل القصة عبارة عن شخصية غريبة لا تكاد تنطبق إلا على القليلين من المصريين، وربما كان الناشر مصيباً في أن اتفاق الاسم بين المؤلف وبطل القصة لم يكن أمراً خيالياً محضاً. والقصة ذاتها غربية في المشاعر والمثل كما هي كذلك في المسحة الأدبية وفي الموضوع الذي تدور حوله. ودراسة عاطفة الحب قائمة على أساس غربي لا شرقي وحتى المظاهر الخارجية ذاتها من حيث(8/34)
الشكل والأسلوب تنطق بهذا الطابع الغربي، ومن أمثلة ذلك كثرة استعمال المجازاتوالجمل الغربية. وأغرب من ذلك كله جرى المؤلف على طريقة اقتباس فقرات من الإنجيل في رأس كل فصل من فصوله. ويوجد فرق محسوس في اللهجة والموضوع بين نصف القصة الأول ونصفها الثاني. أما الأول فأنه يسير في دائرة الحياة الاجتماعية المصرية ولا يمكن أن يصور ما فيه من فكاهة وعطف إلا قلم كاتب مصري. أما النصف الثاني فيستبين فيه جو آخر وتتغير فيه اللهجة الأولى تدريجياً كما لو كان أسلوب المؤلف قد تأثر بما انتاب بطل القصة في هذا النصف.
ونحن دون أن ننكر على المؤلف إصابته في الخيال، نقرر أن (إبراهيم الكاتب) (كزينب) واضحة الصلة بالرواية الغربية، ولكن ما حوته زينب من العواطف لا يروق في عين المازني الذي تتجه ميوله إلى جهة أقوى، والذي يهتم بتمثيل الحقيقة. وفي هذه الحالة نقول إن تداعي الأفكار الأدبية التي يمتاز بها فكر المازني قد صرف ذهنه إلى رواية (سانين) فأوجد صلة بين رواية المازني أو على الأقل بين جزء منها في تصوراتها وبين هذه الرواية الروسية التي ترجمها المازني تحت عنوان (ابن الطبيعة). نعم إن رواية إبراهيم الكاتب تختلف كل الاختلاف في الخطة وفي طريقة الاتساع عن قصة (سانين) ولكن شخصية إبراهيم قد استعادت بعض الشيء من شخصية سانين. وفي رواية المازني منظر يعتبرترجمة حرفية لخاتمة القصة الروسية.
ومما تقدم نرى أنالقصة المصرية كما يتجلى في كتابة كاتبين من أكبر كتابها، لا تزال دون المثل الذي رسمه لها الكتاب. ولا تصل القصة المصرية إلى كمالها، إلا بالجمع بين المقدرة الفنية التي يمتاز بها كتاب الغرب وبين الإلهام المصري. وإلى أن يصل الكتاب إلى ذلك سيظل معظم القراء المصريين مقبلين على آداب غيرهم، ولن يقف تيار الأدب الأوروبي إلا إذا تسنى للمصريين أن يخلقوا فناً جديداً من فنون الكتابة بواسطته تظهر القصة المصرية في معناها الحقيقي.
ترجمها عن الإنجليزية للرسالة: محمود الخفيف(8/35)
ابن خلدون في مصر
للأستاذ محمد عبد الله عنان
وتحدث الفاتح طويلاً إلى المؤرخ وسأله عن أحواله وأخباره وسبب مقدمه إلى مصر وما وقع له بها، ثم سأله عن المغرب ومدنه وأحواله وسلاطينه، وطلب إليه أن يكتب له رسالة في وصف المغرب، وحدثه المؤرخ بأنه كان يسمع به ويتمنى لقاءه منذ أربعين سنة أعني منذ تألق نجمه وبزغ مجده، وشرح له طرفاً من آرائه ونظرياته الاجتماعية في العصبية والملك. ولا ريب أن مفاوضة في شأن المدينة وقعت أيضاً بين المؤرخ والفاتح واستطاع المؤرخ أن يقنع الرؤساء والفقهاء بالتسليم، فقد فتحت دمشق أبوابها للفاتح على أثر ذلك، وجاء القضاة والرؤساء وعلى رأسهم المؤرخ إلى معسكر تيمورلنك يقدمون له الخضوع والطاعة. ويقول لنا ابن خلدون إن تيمورلنك صرفهم واستبقاه حيناً، ثم أنصرف واشتغل أياما بكتابة رسالة في وصف بلاد المغرب حتى أتمها وبلغت على قوله أثنى عشرة كراسة صغيرة ثم قدمها إلى تيمورلنك فأمر بترجمتها إلى اللغة المغولية.
وكان المفهوم أن دمشق قد نجت بالتسليم من بطش الفاتح ولكن التتار احتجوا باستمرار القلعة في المقاومة فشددوا عليها الحصار حتى سلمت، ثم اقتحموا المدينة وصادروا أهلها وأوقعوا فيها السفك والعبث والنهب وأضرموا النار في معظم أحيائها وتكررت المناظر المروعة التي وقعت في حلب، على أن ابن خلدون لم يقطع صلته بالفاتح بل لبث متصلا به يتردد لزيارته خلال المحنة. وحدثه تيمورلنك ضمن ما حدث بأمر شخص تقدم إليه مدعيا بالخلافة وأنه سليل بني العباس وجرت مناقشات فقهية طويلة في شأنه أشترك فيها المؤرخ وأدلى فيها بآرائه ونظرياته في الخلافة. وقدم ابن خلدون أيضاً إلى الفاتح هدية هي (مصحف رائق وسجادة أنيقة ونسخة من البردة وأربع علب من حلاوة مصر الفاخرة) ولما قدمها إليه وضع تيمورلنك المصحف فوق رأسه بعد أن عرف أنه القرآن الكريم، ثم سأله عن البردة وذاق الحلوى ووزع منها على الحاضرين في مجلسه.
والتمس المؤرخ منه في هذا المجلس أماناً للقضاة والرؤساء والعمال فأجابه إلى طلبه وأصدر الأمان.
يصف لنا ابن خلدون هذه المحادثات والمقابلات التي وقعت له مع الفاتح التتري، وقد كان(8/36)
فيها يؤدي دور المفاوض والسياسي القديم. ولكن مؤرخاً مصرياً هو ابن أياس يقدم إلينا فيذلك رواية أخرى، فيقول لنا إن الذي قام بمفاوضة تيمورلنك في تسليم دمشق هو القاضي تقي الدين بن مفلح الحنبلي، وإنه هو الذي أدلي من السور وأختاره الزعماء لتلك المهمة، لأنه كان يعرف التركية ولأنه هو الذي سعى في تسليم المدينة وأقتاد وفد القضاة إلى الفاتح وأستصدر منه الأمان وتولى تنفيذ جميع رغائبهفي جمع المال والأسلاب. ولكن ابن خلدون صريح في روايته في إنه هو المفاوض والوسيط في عقد المهادنة بين الفاتح وأهل دمشق كما قدمنا وأنه كان ممثل الرؤساء والقضاة لدى تيمورلنك ولا شك في روايته. وهي من جهة أخرى رواية ابن عربشاه الدمشقي مؤرخ تيمورلنك الذي كتب تاريخه قريباً من هذه الحوادث فهو يصف لقاء ابن خلدون للفاتح تحت أسوار دمشق على رأس العلماء والقضاة ويصور لنا قي عبارة شعرية ساحرة منظر هذا اللقاء وما تخلله من أحاديث ومناقشات. على إن صحة هذه الرواية لا تمنع من جهة أخرى أن يكون آب مفلح قد أشترك في المفاوضة وتولى تنفيذ شروط التسليم.
ولعل ابن خلدون كان يعلق على صلته بالفاتح آمالاً أخرى غير ما وفق إليه في شأن دمشق وشأن زملائه العلماء والقضاة، ولعله كان يرجو الانتظام في بطانة الفاتح والحظوة لديه والتقلب في ظل رعايته ونعمائه. على أنه لم يوفق بلا ريب إلى تحقيق مثل هذه الأمنية فلم تمضِ أسابيع قلائل حتى سأم البقاء في دمشق وذهب إلى تيمورلنك يستأذنه في العود إلى مصر. فإذن له وطلب إليه في تلك المقابلة أن يقدم إليه بغلة إذا استطاع فأهداه المؤرخ إياها وبعث إليه تيمور ثمنها فيما بعد عقب وصوله إلى مصر. وغادر المؤرخ دمشق في شهر رجب (سنة 803) لنحو شهرين فقط من مقدمه إليها ودهمه اللصوص أثناء الطريق فسلبوه ماله ومتاعه ولكنه وصل سالماً إلى القاهرة في أوائل شعبان سنة ثلاث وثمانمائة.
وهنا يهتف المؤرخ مغتبطاً بنجاته (وحمدت الله على الخلاص) ويقول لنا أنه كتب إلى سلطان المغرب مولاه السابق يصف هذه الحوادث وما دار بينه وبين تيمورلنك ويصف له الفاتح وعظم بأسه وشاسع ملكه وروعة سلطانه.
(3)
وما كاد ابن خلدون يستقر في القاهرة حتى أخذ يسعى للعود إلى منصب القضاء. وقد رأينا(8/37)
إنه كان يحتفظ دائماً بكرسي التدريس في مدرسة أو اثنتين. ولكن القضاء من مناصب السلطة والنفوذ، وكان ابن خلدون يشعر وهو في ذلك الجو المشوب بكدر الخصومة والمنافسة إنه بحاجة إلى ذلك النفوذ الذي أعتاد أن يتمتع به في جميع علائقه السلطانية، وكانت المعركة التي تضطرم حول ذلك الكرسي، والتي شهدنا مظاهرها في تكرار تعيينه وعزله، تذكي بلا ريب في نفسه شهوة الظفر بذلك الكرسي، فيكون ذلك آية نصره على خصومه ومنافسيه. وكان المؤرخ قد بلغ الرابعة والسبعين يومئذ، ولكن نفسه الوثابة كانت تتطلع أبداً إلى مسند النفوذ والجاه، ويصور لنا هذه النفسية مؤرخ مصري نزيه ثقة في إشارة موجزة إذ يقول لنا في خاتمة ترجمته للمؤرخ (رحمه الله، ما كان أحبه في المنصب) وكان ثمة شيء آخر إلى جانب هذا الشغف بالمنصب، فقد كان بين ابن خلدون وبين خصومه نضال، وكان منصب القضاء كما سنرى محور هذه المعركة، يرتفع ابن خلدون إليه كلما استطاع أن يسترد مكانته في القصر وأن يتغلب على كيد خصومه، ويفقده كلما نجحت سعاية خصومه في حقه.
عزل ابن خلدون من منصب القضاء للمرة الثانية في المحرم سنة ثلاث كما قدمنا، وذهب معزولاً في ركب السلطان إلى الشام، فاتخذ خصومه بعده عن القاهرة فرصة للدس في حقه، وزعم بعضهم إنه هلك في حوادث دمشق. ويريد المؤرخ هنا أن نفهم أن المنصب كان محفوظاً له أو أنه وعد على الأقل برده إليه من أولي الأمر، فيقول لنا أنه على أثر هذا الإرجاف في حقه عين مكانه في قضاء المالكية، جمال الدين الأقفهسي (جمادى الثانية سنة ثلاث) فلما عاد إلى مصر عدل عن ذلك، وعزل الأقفهسي، وولي ابن خلدون للمرة الثالثة في أواخر شعبان أو أوائل رمضان فلبث في منصبه زهاء عام يعمل في جو يفيض بالأحقاد والخصومة، ولكنه يقول لنا أنه لم يحفل كعادته بمصانعة الأكابر وأنه أستمر كما كان (من القيام بالحق والإعراض عن الأغراض). فاضطرمت من حوله الدسائس القديمة، واشتدت في حقه المطاعن والمثالب، وأسفرت المعركة عن النتيجة المعتادة، وعزل المؤرخ كرة أخرى في 14 رجب سنة أربع (804)، وولى مكانه جمال الدين البساطي في أواخر رجب، وهو ممن شغلوا المنصب من قبل. والظاهر أن المعركة كانت هذه المرة أكثر وضوحاً وصراحةً، وإن ابن خلدون عانى من حملات خصومه ما لم يعان من قبل حتى أنه(8/38)
طلب بعد العزل أمام الحاجب الكبير، ووجه إليه كثير من التهم، ويقول لنا ابن حجر والسخاوي في هذا الموطن: (وادعوا عليه (أي على ابن خلدون) أموراً كثيرة أكثرها لا حقيقة له، وحصل له من الإهانة مالا مزيد عليه). وهنا اشتدت المعركة بين المؤرخ وخصومه، واستحالت إلى نضال عنيف سريع الأثر، وبقي مظهرها التداول على المنصب، ولكنه أنحصر حينا بين ابن خلدون والبساطي، مما يدل على إن البساطي كان ممثل الحزب الذي يناوئ المؤرخ في هذا الدور من المعركة. والظاهر أن ابن خلدون كان يعتمد في مقاومة خصومه على عوامل وقوى ليست أقل أثراً مما يعتمدون عليه، فإنه لم يمض على ولاية البساطي نحو ثلاثة أشهر حتى عزل في أوائل ذي الحجة، وعين ابن خلدون للمرة الرابعة في 16 ذي الحجة، واستمر في المنصب عاماً وشهرين، ثم رجحت كفة خصومه فعزل في السابع من ربيع الأول سنة ست (806)، وأعيد البساطي في الشهر نفسه، ثم عزل في شهر رجب سنة سبع، وأعيد ابن خلدون للمرة الخامسة في شعبانسنة سبع، ثم عزل بعد ثلاثة أشهر في 26 ذي القعدة من نفس العام، وأعيد خصمه القديم جمال الدين الأقفهسي فلبث ثلاثة أشهر، ثم عزل وخلفه جمال الدين التنسي لمدة يومين فقط، ثم أعيد البساطي في ربيع الأول سنة ثمان (808) وعزل في شعبان من العام ذاته، ثم أعيد ابن خلدون للمرة السادسة فلبث في منصبه بضعة أسابيع فقط وفي السادس والعشرين من رمضان سنة ثمان وثمانمائة (16 مارس سنة 1406م) توفي المؤرخ والمفكر الكبير، قاضيا للمالكية وقد بلغ الثامنة والسبعين من حياة باهرة حافلة بجليل الحوادث وروائع التفكير والابتكار، ودفن في مقبرة الصوفية خارج باب النصر وهي يومئذ من مقابر العظماء والعلماء.
ويصل ابن خلدون تدوين أخبار هذا النضال العجيب حتى عزله للمرة الخامسة في ذي القعدة سنة سبع أعنى إلى ما قبل وفاته بعدة اشهر فقط.(8/39)
من طرائف الشعر
المنجم
للدكتور محمد عوض محمد
جلست إلى جانب المنجم ... أحدق في جوفه الأقتم
ظلام رهيب (. . . وغور بعيد) ... وليس إلى القاع من سلم!
فيا عجبا! أي كنز ثمي ... ن تكدس في قاعه المظلم. . .؟
وأي نعيم لمن يستط ... ع وصولا إلى جوفه المفعم!
وأي انتصار لمن قد يغو ... ص فيخرج ما فيه من أنعم!
ومالي أحجم عما أرو ... م ولا فوز في الدهر للمحجم. .
أيا نفس قد آن أن تقحمي ... رهيب الخطوب وأن تقدمي!
فيا صاح هات الرشاء المتي ... ن لأدليه من فم المنجم
وأنزل وسط الظلام المخي ... ف نزول العقاب أو القشعم
عفاء على بؤس عيش مضى ... لقد آن يا نفس أن تنعمي!
فما زلت أهبط في جندس ... به الكف لا تهتدي للفم
إلى أن تحجب ضوء النها ... ر وأمسيت في حالك أدهم،
أحاول جهدي التماس السبي ... ل بسمع أصم وطرف عمي!
وحولي هواء رطيب كري ... هـ كأني في بؤرة من دم
وكم من بخار غريب مريب ... ومن نفس مدنف مسقم!
فهل مثل هذا الطريق الكري ... هـ يؤدي إلى المقصد الأعظم؟
على أن صوت الرجاء المَل ... ح يهيب بنفسي: لا تحجمي!
فكم نقمة طيها نعمة ... وحلو تولد من علقم!
فما زلت منحدرا. . . نازلا ... بصبر الجليد وعزم الكمى
ينير فؤادي ضياء الرجا ... ء فلم أتراجع، ولم أهزم
وكم شدة إثرها شدة ... تحملتها غير مستسلم!
وبعد عناء وسير طوي ... ل إلى غاية المنجم المقتم!(8/40)
وصلت إلى قاعة مجهدا=وقد أخذ الوهن من أعظمي!
ورحت أفتش أرجاءه ... بقلب مشوق وصدر ظمي
أطوف به باحثا فاحصاً، ... فأعدو هنا، وهنا أرتمي
فلم ألق كنزاً ولا شبهه، ... فيا حسرة البائس المعدم!
وما كل شيء عزيز الطلا ... ب بذخر ثمين ولا مغنم!
وما كل ممتنع في الخدور ... حقيق بعشق الفتى المغرم!
وكم يخدع النفس بعد المنا ... ل وتغتر بالغامض المبهم. .(8/41)
الضحية
سلوت ولكن لا يزال بمهجتي ... حنين إلى الماضي البعيد بعيد
وكم حاولت نفسي السلو فلم تجد ... لها مذهباً الا إليك يقود
أنا الحر لكن في هواك مقيد ... وفي الحب دنيا رحبة وقيود
أحن إلى عهد الدموع ولم يزل ... أخو الحب يسلو تارة ويعود
ليالي. . كالأطلال ينعب بومها ... لها كلما جن المساء نشيد
ترومين قربانا ينجيك من لظى ... فروحي قربان وموتي عيد
حلب - عمر أبو قوس(8/42)
الذكرى
أيتها الذكرى جزيت من دمي ... أنت وإن نكأت جرحي بلسمي
ما أنت؟ هل أنت كتاب دارس ... يهمس بين دفتيه هامس؟
أم طائف يهزج قيد مسمعي ... إذا خلوت بالبكا كان معي
أم واعظ بالزفرات ينطق ... أم شبح بناظري معلق
أم أنت في ليل الضمير ناعبه ... أم ثاكل بين الضلوع نادبه
أغريت بي طيف الحبيب، مرحباً ... بمن أباح مهجتي وعذباً
يزورني مع الكرى وفي السهد ... يا زائراً بالقلب والجفن انعقد
أحببته لغرة مثل الضحى ... وطلعة لو شامها الصبح امحى
ومقلة أهابها بين المقل ... ومبسم من مشرع الخلد نهل
كأنه الوردة في ريعانها ... أو نعمة البائس في أبانها
يشفي غليل المستهام إن ألم ... وربما داوى الشقي بالألم
أحببته حباً على النفس غلب ... وما على الصب المشوق لو أحب؟
إن الشباب نهم مذوق ... نشوان من كل حلال يسرق
يلص ما يحلو له بلا وجل ... ويشحذ النظرة تمضي كالأجل
ولا يبالي أحرقته ناره ... وزلزلت فوق الصعيد داره
أم عانق اللذة في غلائل ... وجاده صوب النعيم العاجل
أيتها الذكرى أعيدي ما غبر ... ورددي ما طاب من عيشي ومر
لله أيام الصبا ما اجملا! ... ودورة العمر بنا ما اعجلا!
أين لأترابي أمس ملعب ... ومستراد نازح ومذهب؟
وأين عهد بالحمى لا يخلق ... وكيف وهو للحياة مشرق
تغير الصحب وقوض الحمى ... كأنما عشنا به توهما!
وغالت الأحلام غولة القدر ... فودع السكر وجاءت الفكر
أكلما لج الأسى بخاطري ... محوت بالماضي شقاء الحاضر؟
سينضب العمر فبثي سره ... والحب خطى في الهواء قبره
وأسمعيني في الممات لحنه ... وصوري لناظري حسنه(8/43)
سورية. حمص. رفيق فاخوري(8/44)
في الأدب الشرقي
في الأدب الصيني
القصة الحديثة في الأدب الصيني
مترجمة عن مجلة الشهر الفرنسية
ليست القصة الصينية بنت الأمس، وإنما يرجع مولدهاإلى عهد أسرة تشيو وكانت تسمى يومئذ (سياوشوو) أي المناسبات الضئيلة، وكتابها الأولون هم لي يوكيو، وتشو، ووانغ تسو، وتشنغ شي تسو.
فالأول كان من رجال القرن الرابع قبل الميلاد، والآخران قد نبغا بعده بقرن وقصصهم كانت تستمد موضوعاتها من الأساطير والخرافات والأمثال، ولبثت القصة في هذا الطور الابتدائي أمداً طويلاً حتى ولي الحكم أسرة (طنغ) (618 - 907) فدبت فيها الروح وسارت في طريق الكمال.
كان العمل الروائي في الأقاصيص والحكايات يتقدم شيئاً فشيئاً خلال القرون الخالية حتى أصبح قبيل العهد (الطونغي) مسلاةأدبية. وكان القصص على شدة قصرهلا يجري على خطة مقررة فأقره كتاب العصر الطونغي في نصابه من العناية والفن فحددوا الغاية، ورسموا الطريقة وبسطوا العمل، ودققوا التفاصيل، وجودوا الأداء، حتى أصبح أجمل المظاهر في الأدب الصيني بعد أن كان موضع الزراية والاحتقار عند أشياع كونفشيوس.
كانت الأساطير وحياة النابهين في الشرف أو النابهات في الحسن موضوعالأقصوصة من أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع فكتب (ونغ تسو) (حياة مرآة قديمة) وهي أقصوصة بطلتها مرآة سحرية مغامرة صرعت ثعلبة مسحورة تحولت إلى امرأة، ثم قهرت أفعواناً ضخماً كان قد أتخذ وكره في أصل شجرة، ثم قتلت قرداً وسلحفاة فاستحالا إلى إنسانين أخذا يحاضران في العلم والسحر الخ وكل مغامرة من هذه المغامرات يحكيها القصصي بثقة، ويصدقها القارئ ببساطة. وفي النصف الأخير من القرن الثامن ظهرت أقصوصة أخرى شهيرة، وهي أقصوصة المقام في مخدة تأليف (شن كي تسي) وموضوعها أن (لو) الخالد أعطى أحد الشبان مخدة سحرية فدخل فيها ورأى رؤيا عجيبة يقصها(8/45)
فتستغرق أعاجيبها كل الحكاية. ثم ظهرت على أثر ذلك أقاصيص الأبطال فغلبت على أذهان القصاص والقراء حتى اليوم، فالبطل ذو السيف لا يعجزه شيء ولا تنقصه موهبة فهو يطير، وله سيف يدرك ويشعر فهو في السلم يقصر ويختفي في أنف البطل أوفمه وفي الحرب يخرج ويقتل العدو على أي مسافة يريدها صاحبه، وللصينيين ولوع بهذا الضرب من القصص حتى في نهضتهم الحديثة، وبجانب أقاصيص الخوارق والأعاجيب تجد سير العظماء والأمراء محكية على نمط تاريخي أوروائي أوهجائي كسيرة (لي كوي) وسيرة (ينغ - ينغ) ولكن في النادر أن تجد في الأدب الصيني حكاية أوسيرة تقوم على الواقع وحده، فالكتاب على الجملة يميلون إلى تزيين الحقيقة بالمبالغة والتزييد فيجرهم ذلك إلى فقد الوحدة أو عدم التوازن أوخطأ المغزى.
أما القصة الطويلة ذات الفصول فلم تظهر إلا في عهد آل سونغ من 960 - 1279م وهم يسمونها (بنغ هويا) منشؤها في الصين كمنشئها في سائر بلاد الشرق: رجل يسمونه (المحدث) يقص على الناس في مجلس عام حكاية من الحكايات بالأجر، فمن فائدته إذن أن يطيل الحكاية ما استطاع لينتفع من ورائها في جلسات كثيرة، والجزء الذي يحكيه في جلسة من هذه الجلسات يؤلف فصلا من فصول السيرة. وظلت (الينغ هويا) على هذا النمط الأولي حتى جاء (لوبن) 1330 - 1400 في عهد آل يوان فجعلها فناً، كان يقتبس موضوعاته من التاريخ ولكنه يضيف إليها وقائع وأشخاصاً من عمل الخيال. وكان يصور أبطاله على نحو ما يفعل القصصيون الأوربيون ولكن أفضلها وأجملها قصته المسماة (على شاطئ البحيرة) تقع في مائة فصل وتدور على مخاطرات بطل يدعى (سونغ كيانغ) مع رفاقه المائة والسبعة (وهو شخص تاريخي ورفاقه كانوا ستة وثلاثين ليس غير) وكانوا يحتلون (اليانغ شان) ثم ثاروا على أسرة سونغ الحاكمة فهاجموا مدنها وقاتلوا جيشها ونهبوا مقاطعاتها وأصبحوا حكاماً في هذه الأرض. وهؤلاء العصاة الفتاك كانوا من خيار الناس فألجأهم إلى هذا الموقف عسف الإمبراطور ومن هاواه من الخونة.
ولم يكن هم (لوبن) أن يخلق أشخاصاً ويصف أخلاقاً وإنما كان همه فوق ذلك أن يرمي إلى غرض أخلاقي، وتلك هي الصفة الغالبة على الآداب الصينية، فالكتابة عند كتاب الصين وسيلة إلى الخلق، والشعر عند شعرائها طريق من طرق التربية. والأخلاق عند(8/46)
(لوبن) قائمة على الديمقراطية، فهو يؤلب الأخيار المضطهدين على الأسرة الحاكمة، ويحارب الفروق الاجتماعية بين طبقات الشعب، فلا يعترف إلا بنصفين من الناس: الشجعان والأذكياء، وهؤلاء وأولئك ملزمون أن يعملوا لخير الأمة، ولا بأس أن يعيشوا عيش اللصوص وقطاع الطرق ما داموا يذودون بذلك عن المظلومين والمحرومين.
ثم ظهرت بعد ذلك طائفة كبيرة من القصص على عهد آل (منغ) من سنة 1368 - 1662م ولكن قصتين اثنتين من بينها تلفتان النظر وتسترعيان الخاطر وهما (حكاية رحلة إلى بلاد المغرب)، و (زهور الشر في أصيص من الذهب) فالأولى قصة وهمية كثيرة المخاطر الخارقة والأوهام العجيبة. والثانية قصة نفسية (بسيكولوجية) لمؤلف مجهول تدور على ما وقع من المخاطر الغرامية لغني من الأغنياء أسمه (سي من كنغ) وهو متبطل شهوان محصن ولكن له أخداناً كثيرات، والقصة تعرض بالتفصيل حياة هؤلاء الخليلات الخاصة، وتشتمل على فصول من الفحش والرجس والدنس ولكنها غاية في التحليل النفسي للمرأة، والدقة في وصف المشاهد، والتنويع في مساق الحوادث. وفي عهد آل (تسنغ) ظهرت أنواع كثيرة من القصة كالقصة العلمية ويمثلها قصة عنوانها (ثرثرة شيخ قروي يتشمس) للقصصي (هياكنغ كيو) من كتاب القرن السابع عشر، وقصة أخرى عنوانها (حظ الأزهار المنعكسة على الثلج) للكاتب (لي فوتشن) من رجال القرن الثامن عشر، فالأولى تخوض في أحاديث شتى عن الفلسفة والكتب القديمة وأمانة الوزراء وتقوى الأبناء والمكائد والفنون والطب والأخلاق وغير ذلك مما جعلها دائرة معارف هي إلى الدعوى والافتراء اقرب منها إلى العلم الصحيح. وأما الثانية فهي بحث علامة جليل عالج فيها كثيرا من المسائل النسائية وعلى الأخص مساواة الجنسين، وهذا في الأدب الصيني شيء جديد.
والقصة الأخلاقية ظهرت في هذا الحين، وهي تقص حكايات الممثلين والممثلات، وتصف أخلاق البغايا والمومسات، ثم ظهرت في القرن التاسع عشر القصة الهجائية فهجم بها الكتاب على الأسرة الحاكمة التي طواها الموت، ورشقوا بسهام النقد طبقة العلماء والموظفين على أن الأنواع القديمة كالأقاصيص الخرافية والقصص التحليلية وسير الأبطال استمرت تؤتي أكلها في عهد آل (تسنغ).
تلك كانت حال القصة الصينية حينما ظهرت بواكير الثورة الأدبية في القرن التاسع عشر(8/47)
فتفتحت اليوم عن أدب حديث يشعر على حداثته بحقيقته ومصيره.
كانت الثورة الصينية ثورة سياسية واجتماعية وثقافية في وقت معاً. ففي السياسة أدت إلى سقوط الملكية وقيام الجمهورية، وفي الاجتماع أفضت إلى اقتباس الأخلاق الغربية. وفي الثقافة هدت إلى اكتشاف العلوم والأفكار الأوربية. والفضل في هذا الاكتشاف للأديبين (ين فو) (1853 - 1921) و (لن شو) (1852 - 1924) فإن الأول نقل إلى الصين فلسفة (هكسلي) و (ستيوارت مل) و (سبنسر) و (سميث) و (جنكس) و (جفونس) و (ستراب) و (منتسكيو) ونقل الثاني قصص (ستيفنس) و (ديكنز) و (ولترسكوت) و (كونان دويل) و (واشنطون أرفنج) و (فكتور هوجو) و (دوماس) و (بلزاك) و (سرفنتيس) و (تولستوي) فكان لما ترجماه أثر بالغ في الفكر الصيني الحديث.
فمنذ الساعة الأولى فكر رسل الثورة الاجتماعية في اتخاذ القصة وسيلة للدعاية، وقد قال (ليانغ كي تشاو) وهو صحفي من المدرسة الحديثة: (يجب أن نبدأ اليوم بثورة في القصة، فإنا لا نستطيع أن نخلق شعباً جديداً إلا بقصة جديدة).
ولكن الصعوبة الوحيدة هي اللغة. فإن لغة الكتابة تختلف عن لغة التخاطب، ولغة التخاطب نفسها تختلف في إقليم عنها في إقليم بل في مدينة عنها في مدينة. فالمدرسة الحديثة حاولت أن تقرب بين لغة الكتابة ولغة الخطاب. ولكن أي لغة من لغات التخاطب تجعلها نموذجاً ومثلاً؟ وهل تضطلع حروف الهجاء الصينية (وهي لحسن الحظ واحدة في جميع المدن والأقاليم) بهذا الإصلاح؟ إن توحيد التعليم العام يقتضي لغة كتابية يقبلها كل الناس. واللغة المندرينية لا يمكن أن تكون على حالتها هي تلك اللغة.
ففي سنة 1911م أسست الجمهورية الناشئة مجمعاً عاماً أصلح هذه اللغة وجعلها لغة وطنية، ثم وضع لها تسعاً وثلاثين علامة صوتية، تساعدها على الانتشار بين طبقات الشعب، ومنذ ذلك الحين أصبح في إمكان الكاتب أن يؤلف القطع الأدبية، ويكتبها بالحروف الصينية. فتتفق مع اللغة الوطنية، وهذه اللغة المكتوبة الجديدة التي يفهمها الصينيون على السواء قد أطلقوا عليها أسم (بوهويا) أي اللغة الواضحة. والأدب الصيني في هذه اللغة العامة لا يرجع تاريخه إلى أكثر من اثنتي عشرة سنة.
وليس هذا كل الاختلاف بين الأدب الحديث والأدب القديم. فإن الفكر الصيني قد تغير(8/48)