وهاهي جيوشهم المنصورة على قلة عددهم وعددهم لكم بالمرصاد وأمام عيونكم متهيئين لقتالكم بقلوب تزول من ثباتها الجبال وتزلزل من هيبتها أفئدة الأبطال. وهاهم أناة الليل وأطراف النهار في انتظار ظهوركم من وراء الحصون والجدران فإن كنتم رجالاً أكفاء لقتالهم فهموا إلى النزال حتى ترى أيها الجنرال (إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار) (ويعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) وإن كنتم قادرين على حرب أبطال الجيوش العثمانية حسبما زعمت فهذه بحمد الله جنودها وجيوشها المظفرة وقد أحاطت بقارة أوروبا إحاطة السوار بالمعصم ومنها دولتكم الضئيلة الكئيبة ومن لم يستطع مكافحة شرذمة من جنودها وهي على مقربة ساعة منه كيف يتجارى على حروب الملايين من تلك الأسود الضارية التي شهدت بنجدتها الآفاق وملأت شهرتها السبع الطباق وإن كنتم عالمين بعجزكم وعدم قدرتكم فارجعوا بخفي حنين واقنعوا من الغنيمة بالإياب وصفوة القول أننا نعلم أن لكم بلاداً واسعة وشعوباً جائعة وكلاهما في حاجة إلى التهذيب والإصلاح وسد الرمق بالشرور والسفاح فالواجب عليكم أن تصرفوا همتكم في إصلاح قومكم واستثمار أراضيكم وافتحوا لهم أبواب خزائن الذهب الذي توعدوننا بفتحها من البحران ذلك أولى بكم من تعديكم على حقوق الغير وإن كنتم لم تصلحوا قومكم وهم من جنسكم ودينكم فكيف يتأتى لكم إصلاح قوم لا تجمعكم بهم صفة من الصفات ولا جامعة من الجامعات وهب أن الطلياني خلق من الذهب ونحن خلقنا من التراب وأنه يمشي على رأسه في السماء ونحن نمشي على أرجلنا في الأرض فماذا يريد منا إذا رفضنا معاملته وقمنا بطرده كما نطرد الهوام ولم لم يصرف مواهبه في بلاده ويجعل براكينها تقذف ذهباً وأرضها تنبت تبراً وسماءها تمطر درّاً بدلاً من أن يجوب القفار ويجوس خلال الديار الأبلغ ملك إيطاليا بأن الزوايا السنوسية هي أكبر معضد للدولة العلية لارتباطها بمقام الخلافة الإسلامية وأن مشايخها هم قادة الجيوش وهم القائمون بنصرة الدين وجمع أفئدة المجاهدين وأنهم ليسوا في حاجة إلى معاونتكم وما العشائر والقبائل إلا مهتدية بهديهم ومستنيرة بنورهم ومرتبطة بهم فالزوايا هي مهبط التجليات الإلهية ومحط رحال وفود الأمة الإسلامية ومدارس مكارم الأخلاق الدينية والآداب الفطرية ومجمع الشعوب البدوية فهم يغشونها بالعشي والبكور كما تغشى ملائكة الله البيت المعمور فليخسأ علم الطليان المثلث الألوان الذي هو علامة الشرك(21/32)
والكفر والطغيان ولتسقط إيطاليا دولة اللصوص والقرصان ولتحي الدولة العلية مدى الزمان دولة آل عثمان.
تحريراً في يوم الجمعة 12 ربيع الأول سنة 1330 هجرية الموافق 12 مارت سنة 1912 إفرنكيه.
عموم عربان إفريقية الإسلامية
سكان البوادي والبلدان(21/33)
الخطب الجلل
(إنا لله وإنا إليه راجعون)
فاجئتنا الحوادث في هذه الآونة بخطب أليم وبلاء عظيم، وبلية سالت منها الدموع، وخفقت لها القلوب. فاجئتنا بموت إمام العلماء، ورأس الأتقياء رجل العلم والعمل، والأدب والفضل، والورع والزاهد والنبل، الأستاذ الجليل الشيخ محمد المبارك الحسني الجزائري كما فاجئتنا لموت سليل العلم والفضل من اشتهر شرف نسبه اشتهار الشمس في رابعة النهار وسار فضل عشيرته مسير الأمثال، حتى وافتهم الوفود للأخذ عنهم من كل أوب وصوب الشيخ سليم أفندي الكزبري تغمدهما الله تعالى برحمته وعمهما بفضله وأحسن عزاء لهما؛ وعوض المسلمين عنهما خيراً.
اعتذار
لدينا كتب وجرائد ومجلات أرسل بها أربابها إلينا فتأخر الكلام عليها فمعذرة من أصحابها وسلفاً نقدم لهم الشكر وموعدنا بإيفائها حقها من تقريظ أو انتقاد في الأعداد الآتية إن شاء الله تعالى.
جمعية التعاون الخيري
بلغنا أن ستصدر هذه الجمعية برنامج سنتها الثانية موضحة فيه جميع ما قامت به من الأعمال الجليلة من خدمة الفقراء وتسفير الغرباء وتعيين رواتب للعجزة والمقعدين وإحياء العلم بوضع أولادٍ محاويج في المدارس على نفقتها مع بيان أسماء جماعة من أهل الغيرة والحمية ممن عرفوا بالشهامة والإحسان عملوا معها في هذا الخير ومقدار أسهمهم الشهرية فنستدر أيدي أهل البر والحنان لمؤازرتها ونشكر حضرة أعضائها المحترمين وكلّ من طابت نفسه فعمل على صد هجمات الشقاء عن أولئك المساكين الفقراء.(21/34)
العدد 22 - بتاريخ: 17 - 5 - 1912(/)
الدين الإسلامي والتوحيد
16
معجزات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري بسنده إلى يزيد بن عبيد الله قال رأَيت أثر ضربة بساق سلمة قلت يا أبا مسلم ما هذه الضربة قال هذه ضربة أصابتها يوم خيبر فقال الناس أصيب سلمة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيه ثلاث نفثات فما اشتكيتها حتى الساعة.
ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم ما رواه الإمام أحمد بإسناد جيد والحاكم والترمذي وصححاه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال عدا الذئب على شاة فأخذها فطلبه الراعي فانتزعها منه فأقعى الذئب على ذنبه وقال ألا تتقي الله تنزع مني رزقاً ساقه الله إلي فقال الراعي (ياعجباً ذئب مقع على ذنبه يكلمني بكلام الأنس) فقال الذئب (ألا أخبرك بأعجب من ذلك (محمد) بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق) قال فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة فزواها إلى زاوية من زواياها ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فأمر عليه الصلاة والسلام فنودي بالصلاة جامعة ثم خرج فقال للأعرابي أخبرهم فأخبرهم ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم تكثير الطعام القليل والماء ببركته ودعائه صلى الله عليه وسلم) فمن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث جابر الأنصاري رضي الله عنه في غزوة الخندق قال انكفأت إلى امرأتي فقلت هل عندك شيء فإني رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خمصاً (جوعاً) شديداً فأخرجت جراباً فيه صاع من شعير ولنا بهيمة داجن (سمينة) فذبحتها وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة (القِدْر) ثم جئت النبي عليه الصلاة والسلام فساررته فقلت يارسول الله ذبحنا بهيمة لنا وطنا صاعاً من شعير فتعال أنت ونفر معك فصاح عليه الصلاة والسلام يا أهل الخندق إن جابراً صنع سؤراً (طعاماً) فحيهلا بكم (هلموا مسرعين) فقال عليه الصلاة والسلام لا تُنزلن برمتكم ولا يخبزن عجينكم حتى أجيء ثم جاء صلى الله عليه وسلم فأخرجت له عجيناً فبصق فيه وبارك ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك ثم قال (أي لامرأة جابر) ادعي خابزة فلتخبز معك واقدحي (اغرفي) من برمتكم ولا تنزلوها وهم ألف فأقسم جابر رضي(22/1)
الله عنه لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن برمتنا لتِغطّ (تغلي) وإن عجيننا ليخبز.
وأخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنهُ قال لما كان غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله ادعهم بفضل أزوادهم ثم أدعو الله تعالى لهم عليها بالبركة فقال نعم فدعا بنطع (بساط) فبسط ثم دعا بفضل أزوادهم فجعل الرجل يجيءُ بكف ذرة ويجيءُ الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع شيءٌ يسير فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة ثم قال خذوا خذوا في أوعيتكم فأخذوا غي أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤه قال فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة فقال صلى الله عليه وسلم أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاكٍ فيحجز عن الجنة.
ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم ما أخرجه البخاري في غزوة الحديبة من حديث المسور بن مخرمة أنهم نزلوا بأقصى الحديبية على ثمد (الماء القليل يتبرضه الناس تبرضاً أي يأخذونه قليلاً قليلاً) فلم يلبثه الناس حتى نزحوه وشكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم العطش فانتزع سهماً من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه فوالله مازال يجيش (يفور ماؤه ويرتفع) لهم بالري حتى صدروا عنه.
وأخرج البهقي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قيل لعمر بن الخطاب حدثنا عن ساعة العسرة قال عمر رضي الله عنه خرجنا إلى تبوك في قيظ (حر شديد) فنزلنا منزلاً أصابنا عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الرجل فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع حتى إن كل رجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله إن الله تعالى قد دعوك في الدعاء خيراً فادع الله لنا قال أتحبون ذلك قال نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماءُ (أي أقبلت السحاب) فانسكبت فلمؤا ما معهم من آنية ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها تجاوز العسكر.
ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم انقياد الحيوانات المستعصية إليه فقد أخرج الإمام أحمد والنسائي بإسناد جيد ورجاله ثقات كما قال المنذري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يسنون عليه أي (يسقون عليه) وأنه اُستصعب عليهم(22/2)
فمنعهم ظهره وأن الأنصار جاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا أنهُ كان لنا جمل نسني عليهِ وأنهُ استصعب علينا ومنعنا ظهره وقد عطش النخل فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه قوموا فقاموا ودخل الحائط (البستان) والجمل في ناحية فمشى صلى الله عليه وسلم نحوه فقالت الأنصار يا رسول الله قد صار مثل الكلب الَلِب وإنا نخاف عليك صولته فقال عليه الصلاة والسلام ليس علي منهُ بأس فلما نزر الجمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل نحوه حتى خر ساجداً بين يديه فأخذ عليه الصلاة والسلام بناصيته أذل ماكان قط حتى أدخله في العمل فقال له أصحابه يارسول الله هذه بهيمة لا تعقل تسجد لك ونحن نعقل فنحن أحق أن نسجد لك فقال صلى الله عليه وسلم لا يصلح بشر أن يسجد لبشر لو صلح بشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها.
وروى الدرامي عن ابن عباس رضي الله عنهما والإمام أحمد والبيهقي كما في شرح الشفاء للخفاجي أن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن ابني به جنون وإنه ليأخذه عن غدائنا وعشائنا فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره فثع ثعة وخرج من جوفه مثل الجرو الأسود يسعى وكذلك روى مسلم عن إياس بن سلمة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أين علي ابن أبي طالب فقالوا إنه يا رسول الله يشتكي عينيه قال فأرسلني النبي فجئت به أقوده أرمد فبصق في عينيه فبرأَ وعند الطبراني عن علي رضي الله عنه ف فما اشتكيتها حتى الساعة قال ودعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم أذهب عنه الحر والقر قال فما اشتكيتهما حتى يومي إلى غير ذلك مما أظهره سبحانهُ وتعالى على يده صلى الله عليه وسلم من المعجزات الباهرات والآيات البينات الدالة على صدق نبوته وتحقيق رسالته مما لو بالغ الإنسان في إحصائه لعجز عن استقصائه أو أجهد نفسهُ في حصره لفني المدى في ذكره ومن تصفح الأخبار وتتبع الآثار وجد من ذلك العجب العجاب ويرحم الله البوصيري حيث قال:
وكل آي أتى الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم
فإنهُ شمس فضل هم كواكبها ... يظهرن أنوارها للناس في الظلم
والمعنى أن كل معجزة أتى بها كل واحد من الرسل عليهم الصلاة والسلام فإنما اتصلت بهِ من نور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إذ هو إمام المرسلين وسيد الخلق أجمعين(22/3)
والرحمة العظمى للعالمين صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين.
يتبع(22/4)
باب المراسلة
ننشر في هذا الباب ما يرد إلينا من أفاضل العلماء والكتاب من الأبحاث العلمية والأدبية مما يتفق مع مبدأ المجلة تاركين العهدة فيه على أصحابه وربما انتقدناه بعد نشره كما أنا نقبل الانتقاد عليه لغيرنا.
الحجاب الشرعي
سأل بعض علماء بيروت حضرة الأستاذ العالم العلامة مفتي الديار البيروتية عن الحجاب الشرعي في الإسلام وصفته بسؤال هذا نصه:
السؤال. ما هو الحجاب الشرعي وصفته أفتونا مأجورين.
الجواب. الحمد لله وحده
الحجاب الشرعي ستر الوجه والبدن كله وملازمة المرأة خدرها إلا لضرورة توجب الخروج وصفة هذا الحجاب أن تغطي الرأس والوجه بجزء من الجلباب مع إرخاء الباقي على بقية البدن قال الله تعالى يا آيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن وقال تعالى يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية قال البيضاوي (يدنين عليهن من جلابيهن) يغطين وجوههن وأبدانهن بملاحفهن إذا برزن لحاجة. ومن للتبعيض فإن المرأة ترخي بعض جلبابها على وجهها وتلتحف ببعض وقال الخازن قال ابن عباس أمر نساءَ المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجهوهن بالجلاليب ليعلم أنهن حرائر والجلباب مل ما تستر به المرأة من ملاءة وكساء وغيره والخطاب في قوله تعالى وقرن في بيوتكن لأمهات المؤمنين ونساء الأمة تابعات لهن فيه. وقال الألوسي في تفسيره روح المعاني والمراد أمرهن رضي الله عنهن بملازمة البيوت وهو أمر مطلوب من سائر النساء والتبرج هو إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال والتبختر في المشي والمعنى ولا تبرجن تبرجاً مثل تبرج النساء في الجاهلية وهن نساء المشركين قبل الإسلام أي إذا خرجتن من بيوتكن لا تمشين مشية هؤلاء المبتذلات ولا تفعلن فعلهن والحاصل أن حقيقة الحجاب الشرعي أن تلتحف المرأة برداء يسترها من رأسها إلى قدميها بدون أن يصف شيئاً من أعضائها وأما الحجاب المستعمل الآن فمنهُ ما(22/5)
هو موافق للشرع الشريف ومنه ما هو مخالف له فالموافق هو التستر بالجلابيب الواسعة ولم لم يشبه الحجاب الذي كان في صدر الإسلام من كل وجه لأن مقصد الشارع ستر الوجه والجسم لدرء المفاسد لا تعيين رداء مخصوص أو هيئة معلومة. وأجدرها بالاعتبار الجلالبيب السود لأن فيها تشبهاً بنساء الأنصار الكرام فقد أخرج عبد الرزاق وجماعة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت لما نزلت هذه الآية يدنين عليهن من جلابيبهن خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود. والمخالف للشرع ما كان منها ضيقاً يصف الجسم ويمثل حجم الأعضاء وكذا المناديل الرقيقة التي توضع على الوجه ومنها الفيشة القصيرة التي لا تستر العنق ولا تغطي جميع الوجه وكل ذلك من التبرج الذي عظمت مفسدتُه وتحققت مضرته ولذا نهى الله عنه حتى نهى المرأة أن تضرب الأرض برجلها ليعلم الرجال ما تخفي من زينتها فقال جل جلاله ليعلم ما يخفين من زينتهن وكانت المرأة في الجاهلية تفعل ذلك إذا مشت ليسمع صوت خلخالها أو يتبين للرجال الأجانب.
ومثل ذلك ما لو تحركت بحركة لتظهر لهم الأساور التي بيدها كما يقع في هذا الزمان من ربات البلورينات الضيقة أو لبست بلوريناً قصير الأكمام لتبدي يديها أي ذراعيها فإنه داخل تحت هذا النهي أيضاً وهو لا يليق بالحرة العاقلة العفيفة. وبالجملة فإن المرأة لا يجوز لها أن تظهر ما خفي من زينتها كالسوار في المعصم والقرط في الأذن والقلادة في العنق والصدر ولا يجوز النظر إلى هذه المواضع ونحوها إلا للمحارم لقوله تعالى ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن الآية وقد قال العلامة الألوسي ثم أعلم أن عندي مما يلحق بالزينة المنهي عن إبدائها ما يلبسه أكثر مترفات النساء في زماننا فوق ثيابهن ويتسترن بهِ إذا خرجن من بيوتهن وهو غطاء أي كساء منسوج من حرير ذي عدة ألوان وفيه من النقوش الذهبية والفضية ما يبهر العقول. وأرى أن تمكين أزواجهن لهن من الخروج بذلك ومشيهن بين الأجانب من قلة الغيرة وقد عمت البلوى بذلك. وفي كتاب الزواجر لابن حجر قال الذهبي ومن الأفعال التي تلعن المرأة عليها إظهار زينته كذهب أو لؤلؤ من تحت نقابها وتطيبها بطيب كمسك أو عطر إذا خرجت وكذا لبسها عند خروجها كل ما يؤدي إلى التبرج الذي يمقت الله تعالى عليه فاعله في الدنيا والآخرة. أهـ ولقد أحسن(22/6)
مولانا شيخ الإسلام زاد الله في إحسانه بنشر بلاغِه الكريم الذي حض بهِ النساء على رعاية الحجاب وعلمهن آداب الدين ومكارم الأخلاق فعليهن أن يحفظن وصاياه الشريفة ويحافظن على ما يرضي الله تعالى ليفزن بسعادة الدارين وعلى أزواجهن وأوليائهن أن يعظوهن ويعتنوا بنصحهن ولا يوافقوهن على ما نهى الله عنهُ لأنهم مسؤولون عنهن بحكم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته وأهل المرء من جملة رعيتهِ فهو مسؤول عنهم لأن الله تعالى أمره أن يحرص على وقايتهم من النار بقولهِ تعالى قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وهو سبحانه الموافق فنسألهُ التوفيق والهداية إلى طريق الصواب في ظل الدولة العلية أيدها اللهُ بنصره آمين.
مصطفى نجا
مفتي بيروت(22/7)
تحقيق الكلام في وجوب القيام
وجاءنا من العلامة الأوحد الأستاذ صاحب الإمضاء هذه
الرسالة ننشرها بحروفها لما فيها من
الفائدة قال حفظه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وتابعيه ومن أحبه وبعد فيقول أضعف الخلق على الإطلاق محمد ابن العلامة المرحوم الشيخ قاسم الحلاق الدمشقي الشهير بالقاسمي قد التمس مني بعض الأحبة، الصادق في المحبة، أن أحرر رسالة صغيرة الحجم؛ قريبة إلى الفهم، أكشف فيها اللثام، عما توهمه عبارة العلامة ابن حجر من بدعة القيام عند ذكر ولادته عليه الصلاة والسلام فأجبته لمطلوبه، وحررتها طبق مرغوبه مع قلة البضاعة، وعدم كوني من فرسان هذه الصناعة، وسميتها تحقيق الكلام في وجوب القيام أثناء تلاوة قصة مولده حين وضعه عليه الصلاة والسلام (ثم إني) اطلعت في هذه الأيام على مقالة في الجزء السادس من المجلد الثاني من مجلة (الحقائق) الغراء عنوانها (استحباب القيام عند ذكر ولادته عليه الصلاة والسلام) لصديقنا الفاضل ووطنينا العالم الكامل الشيخ محمود العطار فألفيته قد أجاد بكتابه وأفاد، وحصل بها غاية المراد بيد أنه قد شطح قلمه فحكم على عبارة العلامة ابن حجر بأنها هفوة منه ولم يدقق النظر في مرماها وقد قالوا أن لعبارات العلماء في كتبهم غوامض لا يكشفها إلا التلقي من أفواه الشيوخ أو إمعان النظر في مسلكها فإن من سننهم ذكر لفظ مطلقاً في محل ومقيّداً في آخر ومجملاً في محل ومبيناً في آخر تأسيّاً بالكتاب العزيز واعتماداً على القيود المخصصة فربما يسهو القارئ عن تلك فيأخذ الحكم من المطلق غافلاً عن قيده وكذلك المجمل فيأخذه بإجماله ساهياً عن بيانه وهناك الخطأ ومنه يؤتى. ولذا ورد عن بعض السلف (الفهم الفهم فيما أدلى إليك الخ فقصدت أن أزيد شيئاً نزراً في المقام وأحذف بعضاً بقدر الإمكان ليتبين الحال والشأن وبحوله تعالى وقوته المستعان وعليه التكلان آمين (أقول) حاصل ما ذكره العلامة في فتاواه الحديثية أنه سئل فيها عما صورته (روي في التفسير أنه لما نزل أتى أمر الله وثب النبي صلى الله عليه وسلم فهل لنا إذا قرأناه أن نقوم أولاً الخ (فأجاب) بما(22/8)
حاصله أنه صلى الله عليه وسلم لم يثب إلا فزعاً من سماع قول أتى أمر الله وأنه لم يثب تشريعاً لأمته ليفعلوا مثل ما فعله وإن ذلك السبب زال بنزول فلا تستعجلوه وإن الوقوف بعد قراءَتها غير سنة إلى أن قال ففعل ذلك الآن بدعة لا ينبغي فعلها أو ارتكابها لإيهام العامة ندبها ونظير ذلك فعل كثير عند ذكر ولادته ومولده صلى الله عليه وسلم ووضع أمه له من القيام وهو أيضاً بدعة لم يرد فيها شيء على أن الناس إنما يفعلون ذلك تعظيماً له صلى الله عليه وسلم فالعوام معذورون لذلك بخلاف الخواص والله تعالى أعلم بالصواب) أهـ المراد منه.
والكلام في ذلك في فصول الفصل الأول في بيان البدعة وبيان المراد منها هنا على سبيل الاختصار ليزيل الوهم والإبهام حيث أنه قد ظهر قوم ممن لا خلاق لهم يكرهون القيام عند ذكر الوضع المتقدم ويتمسكون بظاهر ما ذكره العلامة المذكور من بدعة القيام فقلت لا يغتر بذلك الظاهر لأن لفظ البدعة لفظ مجمل وهو لغة المبهم واصطلاحاً له حدود منها قولهم ما دل دلالة لا يتعين المراد منها إلا بمعين ومنها قولهم ما ازدحمت فيه المعاني واشتبه المراد اشتباهاً لا يدرك بنفس العبارة بل بالرجوع إلى الاستفسار الخ ومنها قولهم مالم تتضح دلالته وكلها لا تخلو عن إيراد عليها وأولاها أولها وحكم التوقف فيه فلا يعمل به ولا يستفاد منه حكم مالم يأت البيان وهو لغة الإيضاح ورفع الاشتباه واصطلاحاً إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي وقد رفع الاشتباه رحمه الله ببيانه وإن تأخر لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة أو إلى وقت الفعل جائز واقع عند الجمهور كما في الجوامع فلا لوم على العلامة المذكور في ذكر الإجمال هنا لنقله إياه أي البيان بعد ورقات من فتاواه المذكورة عن العز ابن عبد السلام رحمهما الله تعالى قال هناك ما حاصله بدعة فعل مالم يعهد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتنقسم إلى خمسة أحكام يعني الوجوب والندب الخ أي والحرام والمكروه والمباح قال وطريق معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشرع الشريف فأي حكم دخلت فيه فهي منه فمن البدع الواجبة تعلم النحو الذي يفهم به القرآن والسنة وذكر هناك بقية الأمثلة فليراجعها من أراد إلى أن قال وفي الحديث كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وهو محمول على المحرمة لا غير أهـ وفي شرح القاموس تحت مادة بدع مالفظه وقال ابن السكيت البدعة كل محدثة وفي حديث قيام(22/9)
رمضان نعمت البدعة هذه وقال ابن الأثير البدعة بدعتان بدعة هدى وبدعة ضلال فما كان في خلاف ما أمر الله بهِ ورسوله فهو في حيز الذم والإنكار وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه أو رسوله فهو في حيز المدح وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهو من الأمثال المحمودة ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل له في ذلك ثواباً فقال من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها وقال في ضده ومن سن سنة سيئة كان عليهِ وزرها ووزر من عمل بها وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله قال ومن هذا النوع قول عمر رضي الله عنه نعمت البدعة هذه ولما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح سماها بدعة ومدحها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنها لهم وإنما صلاها ليالي ثم تركها ولم يحافظ عليها ولا جمع الناس لها ولا كانت في زمن أبي بكر رضي الله عنه وإنما عمر جمع الناس عليها وندبهم إليها فبهذا سماها بدعة وهي على الحقيقة سنة لقوله صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وقوله صلى الله عليه وسلم اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر وعلي هذا التأويل يحمل الحديث الآخر كل محدثة بدعة إنما يريد ما خالف أصل الشريعة ولم يوافق السنة وأكثر ما يستعمل المبتدع عرفاً في الذم أهـ فتبين من الحديث المذكور أن لفظ سنة حسنة فيه عام يتناول الواجب والمستحب كما أن لفظ سنة سيئة كذلك يتناول الحرام والمكروه كل ذلك ما لم تقم قرينة على التخصيص كما هو معلوم إذا عرف هذا فالبدعة المبحوث عنها لا تخلو إما أن تكون حسنة أو سيئة أما الثانية فلا سبيل إليها هنا بل لا تكاد تخطر في مخيلة أحد ممن قلبه مثقال حبة من خردل من محبته صلى الله عليه وسلم وأما الأولى فهي وإن كان لفظها عاماً كما تقدم فقد قامت قرينة معينة دالة على الوجوب وهي العلة التي هي التعظيم الذي هو مناط الحكم فيتأمل. ولا يذهب عليك قولهم بدعة حسنة أو مستحسنة أو بدعة هدى أو نحو ذلك أنه خاص بالمستحب كما قد توهم بل يشمله والواجب أيضاً لأن كلاً منهما متصف بالاستحسان كما أن قولهم بدعة سيئة أو غير مستحسنة يشمل الحرام والمكروه لأن كلا منهما لا استحسان فيه البتة فلينتبه له. وبه تعلم أن الاستحسان الواقع في كلام الشيخ البرزنجي في مولده الشهير (هذا وقد استحسن القيام) الخ خاص بالوجوب لتعينه بالقرينة(22/10)
التي ذكرها فيه من التعظيم وهي العلة المتقدمة بعينها فليتأمل. وإذا ركب دليل مما تقدم من الشكل الأول ينتج المدعى ونظمه أن يقال إن القيام عند ذكر وضعه الشريف مشعر بتعظيمه ومحبته وحفظ الأدب معه وكل ما كان كذلك فهو واجب فالقيام حينئذ واجب وهو المطلوب لأنه يلزم من صحة الملزوم صحة اللازم هذا وقد وافقنا صديقنا المذكور في صغرى الشكل المتقدم وفي كبراه أي في أن القيام للتعظيم وأن التعظيم واجب بل قال أنه فرض في مواضع من مقالته منها عند قوله تعالى (لتؤمنن به الآية) فقال ما لفظه فقد فرض علينا تعظيمه الخ ومنها بعد كلمات ومن أراد بسط الكلام على وجوب تعظيمه) الخ وفي أواخرها مثل ذلك. ومنها أثناء كلام لهُ ما نصهُ (على أنا نجعلهُ أي القيام فرداً من أفراد التعظيم الذي كلفنا به عموماً فحينئذ يدخل تحت الأمر فيكون من باب دلالة (النص) الخ قلت أو يقال أن الأخذ بالعلة المنصوصة من الأخذ بالنص فليتأمل. فتبين من قوله كلفنا الخ أن التكليف لا يكون إلا بالواجبات ومن قوله من باب دلالة النص الخ أن العام يوجب الحكم فيما يتناوله قطعاً عند السادة الحنفية وظناً عند السادة الشافعية لاحتمال التخصيص فليتأمل وخالفنا في النتيجة حيث أثبت هناك استحباب القيام كما مر وأنت تعلم أن من جزم بأن القيام للتعظيم وأنه واجب لزمه القول بوجوب القيام من حيث لا يدري لأنهم أجمعوا على أنه متى سلمت الصغرى والكبرى عند الخصم سلمت النتيجة لزوماً شاء أو أبى وحينئذ ينتج الوجوب لا غير كما لا يخفى على من له أدنى تدرب في فني النظر والمناظرة.
(فصل في الإيرادات التي وردت على هذا الشكل من بعض أهل العلم حفظهم الله تعالى)
الأول ما لفظه فإن قيل لا نسلم الصغرى فإن القيم ليس من شعائر التعظيم في الشرع ولذا لم يثبت عن الصحابة أنهم كانوا يقومون لمجيئه صلى الله عليه وسلم ولو سلم أنه من شعائر التعظيم فلا نسلم أنه عند الوضع فقط بل عند ذكر اسمه الشريف وعند قراءَة حديثه وعند سيرته وهلم جرا فيلزم القيام في سائر هذه الأحوال واللازم باطل أهـ والجواب إن القيام في المولد بالقيود الآتية قد صار في هذه الأزمان من شعار التعظيم بكفر من لم يقم عند قيام الناس كما سيأتي وكذلك صديقنا نقل في مقالته عن الدر وغيره بأنه يجب إلحاق الاستهزاء والاستخفاف به (أي الشتم) أي في كون كل منهما يوجب الكفر والقتل حداً(22/11)
فلينظر. لا سيما وقد اعتاد الناس فيها أي في هذه الأزمان قيام بعضهم لبعض تعظيماً لهم واحتراماً لشأنهم فإذا تركوا القيام له صلى الله عليه وسلم حينئذ وهو أحق بالقيام حيث يجب من احترامه وتعظيمه ملا يجب لغيره فليتأمل. بخلاف القيام عند ذكر اسمه الشريف وعند ذكر حديثه وسيرته وهلم جرا فلا يجب ولا يستحب فعل ذلك لأنه لم يستحسن عند الناس ولا اعتادوه لا في هذه الأزمان ولا في الأزمان السابقة كما هو معلوم فلم يصر من شعار التعظيم إلى الآن ولو فرضنا أنه صار من الشعار المذكور كما في المولد الذي نحن بصدده لأوجبناه أيضاً حيث أن الحكم يدور مع علته كما لا يخفى على من له أدنى إحاطة من العلم في مدارك الأحكام المشروعة إذا تقرر هذا لديك علمت أن القيام في المولد مع كونه صار من شعار التعظيم كما سلف قد صار من الأفعال المشروعة المحمودة المستحسنة أيضاً بل هو من أحمدها وأحسنها وحينئذ فلا يجوز أن يكون خلاف ما ورد الشرع به وإن لم يثبت عن الصحابة بل وإن لم يوجد في القرون الفاضلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل له في ذلك ثواباً في الحديث المار حيث أنهُ من السنة الحسنة كما تقدم وبالجملة فمن تأمل هذا الخبر بلب صحيح ووجدان صادق وجده بعمومه وافياً بكل حادثة تحدث وقائماً ببيان كل نازلة تنزل إن حسنة فحسنة وإن سيئة فسيئة فهو أذن من جوامع الكلم التي أُوتيها صلى الله عليه وسلم أي الكلمات الجامعة للمعاني الكثيرة في المباني اليسيرة فلم يشذ عن شرعه الشريف ولفظه المنيف شيٌ مما كان وسيكون مصداقهُ قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) ولا معنى للإكمال كما في حصول المأمول إلا وفاء نصوص الكتاب بما يحتاج إليه الشرع أما بالنص على كل فرد فرد أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة من الكتاب والسنة يؤيد ذلك قوله تعالى (مافرطنا في الكتاب من شيء) وقله تعالى (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) عرفذلك من عرفه وجهله من جهله.
(فائدة)
الاستدلال بالعمومات جائز ومحتج بها عن الأكثر قبل التخصيص وبعده عن الأكثروني وفي جمع الجوامع وشرحه والعام المخصص قال الأكثر حجة مطلقاً لاستدلال الصحابة به من غير نكير أهـ.
وفي حصول المأمول ما لفظه ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة اللفظ إلى كل الأقسام على(22/12)
السوية وإخراج البعض منها بمخصص لا يقتضي إهمال دلالة اللفظ على ما بقي ولا يرفع التعبد به وقد ثبت عن سلف هذه الأمة ومن بعدهم الاستدلال بالعمومات المخصوصة وشاع ذلك وذاع وقد قيل أنه ما من عموم إلا وقد خص وأنه لايوجد عام غير مخصص فلو قلنا أنه غير حجة في مابقي للزم إبطال كل عموم ونحن نعلم أن غالب هذه الشريعة المطهرة إنما تثبت بعمومات أهـ ولنرجع إلى ما نحن بصدده فنقول ويمكن أن يستأنس له بحديث قوموا لسيدكم أو إلى سيدكم فإن فيه الأمر للمخاطبين بأن يقوموا إلى سيدهم فسيد الكل سيد ولد آدم ولا فخر أولى وأحق من هذا. فإن قيل لم استأنست به ولم تجعله دليلاً لمدعاك قلت أنه لم يصلح للاستدلال به بسبب ما طرقه من الاحتمال فلم ينهض حجة لذلك يعلم ذلك من له أدنى إلمام في هذا الشأن.
(الإيراد الثاني) ما مؤداه أن الكبرى غير مسلمة لأن القيام المذكور وإن سلم أنه فيها مشعر بالتعظيم كما تقدم لكن لا نسلم أن كل ما أشعر بالتعظيم يكون فعله واجباً لم لا يجوز أن يكون مستحباً (وجوابه) أن الوجوب هنا مبني على شيئين كما تقدم كونه مشعراً بالتعظيم وكون تركه الآن يعد تهاوناً واستخفافاً به لا بمجرد الإشعار بالتعظيم كما توهم فليتأمل ووجوب القيام هنا مقيد بما إذ تلي المولد على الوجه المعتاد في جميع القرى والبلاد واجتمع الخاص والعام وقاموا لقدومه صلى الله عليه وسلم بذكر ولادته وإظهاراً لتعظيمه فحينئذٍ يجب على كل من حضر القيام لا مطلقاً فلينتبه له وفهم من قوله بالوجوب لذلك أن من تخلف وقتئذٍ فهو آثم بل نقل في مواكب ربيع في مولد النبي الشفيع كفره قال هناك ما لفظه ولعمري إذا لم يقم لقدومه صلى الله عليه وسلم وله التخيل بذكر ولادته فلمن يقام فينبغي تأكده بل أفتى المولى أبو السعود العمادي الحنفي بكفر من يتركه حين يقوم الناس لأشعاره بضد ذلك أهـ أي ضد إظهار التعظيم والفرح به والسرور ثم قال بعد ورقات من كلامه جرت العادة بالعناية بأمر المولد ليلته أو يومه بحيث يقع الاجتماع وإظهار الفرح وإطعام الطعام والإحسان للفقراء وقراءة القرآن والذكر وإنشاد القصائد النبوية والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم وقراءة قصة المولد وما اشتمل عليه من كرامته ومعجزاته وذلك وإن لم يفعله أحد من السلف في القرون الثلاثة من أحسن ما ابتدع كما قاله الإمام أبو شامه والسيوطي والسخاوي وابنا حجر وكثيرون وأول من أحدثه الملك المظفر(22/13)
صاحب إربل (بكسر الهمزة والموحدة وسكون الراء بينهما) قلعة على مرحلتين من الموصل المتوفى سنة ثلاثين وستمائة فأقره عليه أفاضل العلماء وعامة الصلحاء وكان يطلق عليهم فيه العطايا والخلع السنية ويبالغ فيما يفعله فيه من الخيرات إلى أن قال وأما خبر إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة فالمراد بها فيه ما أحدث وخالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو أثراً لا ما أحدث من الخير ولم يخالف شيئاً من ذلك كما قاله الشافعي رضي الله عنه ولا مرية أن هذا من الخير الذي لم يخالف ذلك فإنه مع ما فيه من الإحسان للفقراء وتعاهد الجيران والأخوان وأنواع الذكر مشعر بمحبته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وشكر الله على ما من به من إيجاده رحمة للعالمين وقد سئل الإمام أبو زرعة عن فعل المولد أمستحب أو مكروه وهل ورد فيه شيء أو فعله من يقتدى به فقال إطعام الطعام مستحب في كل وقت فكيف إن انضم لذلك السرور بظهور نور النبوة في هذا الشهر الشريف ولا نعلم ذلك عن السلف ولا يلزم من كونه بدعة كونه مكروهاً فكم من بدعة مستحبة بل واجبة أهـ فتبين من قوله فأقره عليه الخ إلى أن ذلك إجماع منهم قال في حصول المأمول (الإجماع المعتبر في فنون العلم إنما هو إجماع أهل ذلك الفن العارفين به دون من عداهم فالمعتبر في الإجماع في المسائل الفقهية قول جميع الفقهاء وفي المسائل الأصولية قول جميع الأصوليين وفي المسائل النحوية قول جميع النحويين ونحو ذلك ومن عدا أهل ذلك الفن هو في حكم العوام فمن اعتبرهم في الإجماع اعتبر غير أهل الفن ومن لا فلا أهـ وتبين أيضاً أن فعل ذلك صار من اتباع سبيل المؤمنين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر المعصومين من اجتماعهم على ضلالة المفروض اتباعهم المحرم مخالفتهم. هذا ومقتضى الاعتبار هو دلالة السنة عليه كما (الإيراد الثالث) ما نصه أن استنباط الأحكام الشرعية من وجوب وغيره لا يصدر إلا عن مجتهد وقد علم مما ذكره المحققون أن الاجتهاد قد انقطع من أعصر لعدم توفر شروطه على أحد فمن أين هذا الوجوب (الجواب) إن المراد به الوجوب البدعي وإن كان شرعياً من طريق آخر كما ستراه لما تقدم أنها أي البدعة تعتريها الأحكام الخمسة فكما أن تعلم النحو وإن لم يرد واجب على كلام العز المتقدم لفهم الكتاب والسنة به كذلك القيام هنا واجب وإن لم يرد لإشعاره بما تقدم من التعظيم والمحبة له عليه الصلاة والسلام وكلاهما بدعة كما علمت(22/14)
وكونه بدعة لا ينافي كونه شرعياً لانفكاك الجهة فإنه من حيث كونه لم يعهد في عصره عليه الصلاة والسلام ولاعصر الصحابة رضي الله عنهم يسمى بدعة ومن حيث دخوله تحت الأمر كما تقدم عن صديقنا أو من حيث دلالة الخبر السابق عليه وتخصيصه بواسطة القرينة له المارة كما قاله هذا العاجز يقال له شرعي فاندفع الإيراد ببيان المراد وثبت المدعى.
(الفصل الثاني)
في توجيه عبارة العلامة المذكور وأخذ الحكم منها بحسب فحواها لأنها بظاهرها توهم أن القيام في المولد مثل القيام في الآية من جميع الوجوه والواقع بخلافه كما سيوافيك فقوله (ونظير ذلك) أي قيام المولد نظير قيام الآية في تسمية كل منهما بدعة فقط بدليل قوله وهو أيضاً بدعة الخ فالجامع بينهما مجرد التسمية المذكورة لا إنه نظيره من كل وجه كما ظن بدليل أنه رحمه الله تعالى منع القيام في الآية بتاتاً بقوله (ففعل ذلك الآن بدعة لا ينبغي) الخ وقال في قيام المولد بعد تسميته بدعة (على أن الناس) الخ فاستدرك بهذه العلاوة الدالة على إضراب وإبطال ماقد يتوهم مما سبق من تسمية هذا القيام بدعة أنه محظور أو مكروه فدفعه بها حذراً من ذلك فلينتبه له أي والتحقيق جار على أن فعلهم المذكور ليس إلا للتعظيم ولو لم يكن بين القيامين من الفرق إلا قوله تعظيماً لكفى وقد تقدم أنه واجب فيكون فعلهم واجباً كما علمت ولا أخال أحداً يأباه لأن الحكم في العلة أشد إسترابة إذ يثبت حيثما ثبتت ويوجد أينما وجدت فهي الوصف المؤثر في الحكم كما هو ظاهر فيجب تعليق الحكم به وإليك مثالاً يوضح جميع ما تقدم وذلك كالإسكار في الخمر فإن وجوده فيها علة دالة على تحريمها فإذا زالت بحيث صارت خلاً زال التحريم وحرم تناوله إجماعاً وكذلك ما نحن فيه من التعظيم فإنه علة دالة على وجوب القيام حينئذٍ فتبين بهذا أن العلامة المذكور قائل بالوجوب البتة كصديقنا لا سيما وقد أتى بإنما المفيدة لتقوية الحكم والحصر كما أفاد ذلك في شرحه على الأربعين النووية تحت حديث (إنما الأعمال الخ) فقال هناك ما نصه (إنما) هي لتقوية الحكم الذي في حيزها اتفاقاً ومن ثم وجب أن يكون معلوماً للمخاطب أو منزلاً منزلته ولإفادة الحصر وضعاً على الأصح فيها أهـ وفي حاشية المدابغي عليه ما لفظه (قوله لتقوية الحكم الذي في حيزها) أي لتأكيد الحكم الواقع بعدها وهو هنا حصر(22/15)
الأعمال الشرعية بالنيات وكمالها أهـ قلت والحكم فيما نحن فيه هنا وجوب الفعل وتأكيده تعظيماً كما مر غير مرة ولما كان هذا الواجب مما يخفى على العوام عذروا فيه لعدم علمهم به لاسيما وهم لم يتفقهوا في الدين أدنى تفقه بل هم يجهلون كثيراً من أصناف الواجبات كبعض شروط الصلاة وأركانها مع كونهم مواظبين على فعلها كثيراً وكذلك غيرها من الشرائع فجهلهم بما هو أخفى من ذلك وأدق أولى وأحرى بل قد خفي على بعض أهل الفضل فضلاً عن المذكورين فمن أين يكون معلوماً لأولئك بخلاف الخواص فلا يقبل عذرهم بعدم علمهم به لأن شأنه مما لا يخفى عليهم حيث يعلمون أن الحكم حاصل عند ثبوت العلة لأجلها إذا تبين هذا علمت أن قوله بل الخواص أحق بتعظيمه الخ غلط على ابن حجر فإن منطوق عبارته يدل على أن التعظيم قد حصل من الجميع بسبب قيامهم وذلك لأن لفظ الناس فيها عام بتناول العوام والخواص معافهم فيه سواء لا إنه حصل من العوام فقط حتى يقال بل الخواص أحق الخ فليتأمل (فائدة) الواجب إذا كان معلوماً بالضرورة أنه من الإسلام لا يقبل عذر العوام بجهله فضلاً عن الخواص إلا إذا كانوا قريبي عهد بالدين أو نشئوا بمحل بعيد عن أهله أما إذا عدم العلم بالشيء عدمه في نفس الأمر كالمدلول إذ لا يلزم من عدم الدليل عدمه للقطع بأن الله تعالى لو لم يخلق العالم الدال على وجوده لم ينتف وجوده وإنما ينتفي العلم به والألزم أن يكون كل ماهو مجهول لنا من الأمور الموجودة في الخارج معدوماً فيه وهو باطل والله تعالى أعلم هذا وقد أوجب الله علينا تعظيمه صلى الله عليه وسلم في غير ما آية قال تعالى (إن الله وملائكته يصلون على النبي) في البيضاوي ما لفظه يصلون على النبي يعتنون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه) (يا آيها الذين آمنوا صلوا عليه) اعتنوا أنتم أيضاً فإنكم أولى بذلك وقولوا اللهم صل على محمد أهـ وفي حاشية الخفاجي عليه ما نصه ومعنى الاعتناء بما ذكر أعلاه وإبقاء شريعته وإشاعة جلالته في الدنيا والآخرة وقال الفخر الرازي تحت هذه الآية أيضاً إثناء كلام له ما لفظه (المسألة الرابعة) إذا صلى الله وملائكته عليه فأي حاجة إلى صلاتنا (نقول) الصلاة عليه ليس لحاجته إليها وإلا فلا حاجة إلى صلاة الله عليه وإنما هو لإظهار تعظيمه منا شفقة علينا ليثيبنا على ذلك أهـ وهذه قطرة من بحر وإلا فلا سبيل لنا أن نستوعب الآيات الدالة على ذلك فليتصفح الشفاء ونحوه. ومما يستدل به على وجوب محبته صلى الله عليه(22/16)
وسلم ما أخرجاه في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله أو النبي صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) قال القاضي هنا إثناء كلام له ما لفظه ومثله القسطلاني ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إعلاء قدر النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته على كل والد وولد وعشيرة ومن لم يعتقد هذا واعتقد ما سواه فليس بمؤمن فلينتبه له.
(خاتمة نسئل الله أحسنها)
في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والأمر بها قال الله تعالى (إن الله وملائكته يصلون على النبي) الآية قال النووي في أذكاره والأحاديث في فضلها والأمر بها أكثر من أن تحصى ولكن نشير إلى أحرف من ذلك تنبيهاً على ما سواها وتبركاً بذكرها روينا في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من صلى عليَّ صلاة الله عليه بها عشراً وروينا في صحيح مسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من صلى عليَّ واحدة صلى الله عليه عشراً وروينا في كتاب الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة قال الترمذي حديث حسن قال وفي الباب عن عيد الرحمن بن عوف وعامر بنم ربيعة وعمار وأبي طلحة وأنس وأبي ابن كعب رضي الله عنهم ورورينا في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه بالأسانيد الصحيحة عن أوس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أم من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا عليَّ من الصلاة فإن صلاتكم معروضة علي فقالوا يارسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت قال يقول بليت قال إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء قلت أرمت بفتح الراء وإسكان الميم وفتح المثناة قال الخطابي أصله أرممت فحذفوا إحدى الميمين وهي لغة بعض العرب كما قالوا أظلت أفعل كذا أي أظللت في نظائره لذلك وقال غيره إنما هو أرمت بفتح الراء والميم المشددة وإسكان التاء أي أرمت العظام وقيل فيه أقوال أخر والله ألم وروينا في سنن أبي داود في آخر كتاب الحج في باب زيارة القبور بالإسناد الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجعلوا قبري عيداً وصلوا عليَّ فإن(22/17)
صلاتكم تبلغني حيث كنتم وروينا فيه أيضاً بإسناد صحيح عن أبي هريرة أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من أحد يسلم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام وروينا في كتاب الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليَّ قال الترمذي حديث حسن أهـ قلت وفي حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال لقيني كعب بن عجرة فقال ألا أهدي لك هدية خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك قال قولوا اللهم ثلِ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك وفي لفظ وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد رواه أهل الصحاح والسنن والمسانيد والإمام أحمد في مسنده وغيرهم وفي الصحيحين والسنن الثلاثة عن أبي حميد الساعدي إنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك قال قولوا اللهم صلِ على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد هذا هو اللفظ المشهور وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك فكيف الصلاة عليك قال قولوا اللهم صلِ على محمد عبدك ورسولك كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أراد أن يكتال بالمكيال إلا وفي إذا صلى علينا أهل البيت فليقل اللهم صلِ على محمد النبي وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد رواه الشافعي في مسنده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين آمين.
دمشق
محمد القاسمي(22/18)
درس من الشفاء
يا أيها الصب المحب لأحمد ... خير الخلائق صفوة الخلاق
كن حافظاً لصفاته مستحضراً ... لجنابه إن كنت ذا أشولق
وانظر شمائلهُ التي خصت به ... واذكر قديم العهد والميثاق
والزم طريقتهُ وتابع شرعه ... تغنم رضى المولى الكريم الباقي
هو سيد الرسل الكرام المصطفى ... من جاءنا بالدين والأخلاق
وبه لقد جمع الإله جميع ما ... منها تفرق ثم كان الراقي
ودنى دنّواً ليس يقدر قدره ... إلا الذي أسرى به ببراق
ورأى بعينيه العظيم جلاله ... من غير كيف فوق سبع طباق
وبهِ ملائكة السماء تشرفت ... أبداً وقد فازت بخير خلاق
فلنا إلهنا من أمة نلنا به ... شرفاً على التقييد والإطلاق
هو ذخرنا وعرى محبتنا لقد ... شدت بهِ أبداً بجل وثاق
وهو الذي أولى بنا منا وبا ... ب الهنا حاشاه من إغلاق
وهو الوحيد بفضله وبزهده ... وبعدله المنشود في الآفاق
وعلمه وبحلمه وبصبره ... وبشكره فرد وذو إنفاق
ما رد سائلهُ بلابل دائماً ... يغطي ولا يخشى مع الإملاق
فهو الجواد وذو الشجاعة والحيا ... والعفو والإحسان والإرفاق
ذو عفة ومروءة وتواضع ... بالبشر يبدا من يرى ويلاقي
ووقاره وجلالهُ وجمالهُ ... وكمالهً يدريه ذو الأذواق
من شاهدت عيناه أنواراً له ... وسقاه من يده فنعم الساقي
فله أحبوا دأبكم فنحبه ... ينجو بهِ يا أخوتي ورفاقي
وعليه صلوا ثم دوماً سلموا ... يلحظكم عند التفاف الساقي(22/19)
الانتصار للإمام ابن حجر
جاءنا من حضرة العلامة المدقق المحقق صاحب الإمضاء ما يأتي
في حاشية الفتاوى الحديثية المطبوعة للإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى في صحيفة 60 (مطلب في أن القيام في أثناء مولده الشريف بدعة لا ينبغي فعلها)
إن الإمام المذكور رحمه الله تعالى ذكر في الفتاوى المذكورة جواباً عن سؤال صورته (روي في التفسير أنه لما نزل (أتى أمر الله) وثب النبي صلى الله عليه وسلم وسمعنا من أفواه بعض الناس قام النبي صلى الله عليه وسلم فهل يسن لنا إذا قرأناه أن نقوم أو لا فإن قلتم نعم فهل يختص بالقارئ أو يشمل المستمع وإن قلتم لا فهل يمنع من ذلك أو لا فأجاب رحمه الله تعالى عن هذا السؤال جواباً أسهب فيه ثم قال في آخره (فدل على أن فعله صلى الله عليه وسلم وأفعالهم إنما كان لسبب وهو فزعه صلى الله عليه وسلم من حلول العذاب بقومه وقد زال السبب المذكور وحينئذ فعل ذلك الآن بدعة لا ينبغي ارتكابها لإيهام العامة ندبها أهـ ثم زيل هذا الجواب بقوله (ونظير ذلك فعل كثير عند ذكر مولده صلى الله عليه وسلم ووضع أمه له من القيام وهو أيضاً بدعة لم يرد فيه شيء على أن الناس إنما يفعلون ذلك تعظيماً له صلى الله عليه وسلم فالعوام معذورون لذلك بخلاف الخواص) أهـ فقوله رحمه الله تعالى على أن الناس استدراك وإضراب إبطالي عما يتوهم من قوله (وهو أيضاً بدعة لم يرد فيه شيء) لأن لفظ على هنا للاستدراك والإضراب الإبطالي ونظيره قولهم (فلا لا يدخل الجنة لسوء صنيعه على أنه لا ييأس من رحمة الله) ولمجيء على لهذا المعنى شواهد كثيرة لا نطيل بذكرها فمعنى كلام الإمام المذكور رحمه الله تعالى لكن الناس إنما يفعلون ذلك تعظيماً له صلى الله عليه وسلم وتعظيمه واحترامه وإجلاله ومحبته وإظهار الفرح والسرور به صلى الله عليه وسلم لا يشك ذو دين في طلبها والحث عليها وفعلها والقيام بها بأي طريق من طرقها وقوله رحمه الله تعالى (فالعوام معذورون لذلك) أي العوام معذورون في تركهم القيام من حيث أنه بدعة لم يرد فيه شيء بخصوصه وإن كان مطلوباً من جهة أخرى ولخلو أذهانهم عن طلب تعظيمه صلى الله عليه وسلم وعن كون نفس القيام فيه تعظيم له صلى الله عليه وسلم بمعنى أن تركهم القيام عند ذكر وضع أمه له صلى الله عليه وسلم يحمل على ذلك وقولهُ رحمهُ الله تعالى (بخلاف الخواص) أي الخواص غير معذورين في تركهم القيام إذ ذاك لعلمهم بطلب تعظميهِ صلى الله عليه وسلم(22/20)
طلباً مؤكداً وملاحظتهم التعظيم حال القيام المطلوب بأي طريق من طرقهِ هذا حل ومحمل كلام الإمام رحمهُ الله ومما يؤكد هذا أي كون الإمام ابن حجر قائل بندب القيام ما نقله صاحب السيرة الحلبية عنه في آخر باب تسميته صلى الله عليه وسلم محمداً وأحمد حيث قال ما نصهُ وقد قال ابن حجر الهيتمي والحاصل أن البدعة الحسنة متفق على ندبها وعمل المولد واجتماع الناس له كذلك أي بدعة حسنة أهـ ومن ثم قال الإمام أبو شامة شيخ النووي رحمهما الله تعالى ومن أحسن ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده صلى الله عليه وسلم من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء مشعر بمحبته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وجلالته في قلب فاعل ذلك وشكر الله تعالى ما من به من إيجاد رسوله الذي أرسله رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم هذا كلامه أهـ وعليه يلزم حمل كلامه في فتاواه الحديثية كما بيناه سابقاً فلا ينبغي أن يغتر بالفهرسة الموضوعة للفتاوى وهي قوله (مطلب في أن القيام في أثناء مولده الشريف بدعة لا ينبغي فعلها).
وذلك لأنهُ رحمهُ الله تعالى لم يفهرس فتاواه المذكورة ولا وضع على حاشيتها المطالب وإنما فهرسها ووضع المطالب على حاشيتها من سعى بطبعها وباشر تصحيحها فحينئذ يقال أن المفهرس واضع المطالب لم يمعن النظر في كلام الإمام المذكور فحمله على غير محمله وحله على غير مراده واغتر بعنوانهِ أيضاً من لم يتأمل ويمعن النظر في كلامهِ رحمهُ الله تعالى فنسب هذه الفرية إلى الإمام المذكور وجعلها دليلاً لرأيهِ الفاسد وفعله الزائغ الكاسد وتبعهُ من وجه الاعتراض على الإمام المذكور البريء من ذلك وأمثاله فعلى كل من اطلع على الفتاوى المذكورة المطبوعة أن لا يغتر بذلك العنوان وأن يمعن النظر في التوضيح والبيان نسألهُ تعالى أن يمن علينا بالتوفيق والإحسان آمين.
دمشق
أحمد الجوبري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الحكيم اللطيف السميع البصير يخلق ما يشاء وهو على كل شيءٍ قدير، والصلاة والسلام على حبيبه البشير النذير، الشافع المشفع السراج المنير، وعلى آله المبشرين(22/21)
بذهاب الرجس والتطهير وأصحابه العظام الكرام الفائزين بالفوز الكبير أما بعد فهذا فتح من الله الحميد المجيد في حكم خبر ما حدث من سلك الحديد أسأل الله تبارك وتعالى فيه القبول الحسن والتوفيق للصواب وأن يحفظني عن الخطأ والاضطراب بجاه حبيبه المصطفى وآله الكرام عليه وعليهم ألف ألف صلاة وسلام.
المبحوث في هذا المقام أن السلك المعلوم هل يفيد خبره علماً أو ظناً وهل يثبت ما يثبت بخبر العدلين أو عدل فهل يجوز الإفطار والصوم في رمضان بناء عليه وهل يجوز لامرأة أخبرت في هذا السلك بموت زوجها أو بطلاقه إياها أن تتزوج بعد مضي العدة * فقال العبد الفقير مستعيناً بالله العليم الخبير ومستفتحاً أبواب فضله وهو الفتاح القدير أن أسباب العلم والظن ثلاثة العقل والحس السليم والخبر الصادق فالأول يفيد إذا كانت مقدمات الدليل قطعية ويفيد الظن إذا كانت ظنية والثاني يفيد العلم إذا كان الإحساس تاماً كاملاً لا اشتباه فيه وإلا فيفيد الظن والثالث إن كان متواتراً فيفيد العلم وإلا فيفيد الظن على حسب مراتب أخبار الآحاد لأن الظن مشكك بتفاوت مراتبه ثم الخبر على قسمين نطقاً وكتابةً ولذا اشتهر أن القلم أحد اللسانين والخبر المتواتر لا يبحث فيه عن عدالة المخبرين وإسلامهم وغيره يقبل من العدول ويرد من غيره ولو كان مستوراً إلا في بعض الأمور كما سيجيء التنبيه عليه إن شاء الله تعالى وما روي عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في قبول خبر المستور مخصوص بزمانه لكونه من خير القرون وكون الغالب فيهم العدالة وانعكس الأمر بعده فهذا اختلاف عصر وزمان كذا أفاده صدر الشريعة في توضيحه * وقال في الهداية وقال أبو حنيفة رضي الله عنهُ يقتصر الحاكم على ظاهر العدالة ولا يسأل عن الشهود حتى يطعن الخصم إلا في الحدود والقصاص * وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا بد أن يسأل عنهم في السر والعلانية في سائر الحقوق وقيل هذا اختلاف عصر وزمان والفتوى على قولهما في هذا الزمان أهـ والخبر بالكتابة على أقسام فإن كانت الكتابة مستبينة مرسومة فهو بمنزلة النطق من الغائب والحاضر فإن كان من غائب فلا بد من العلم أو الظن بأن هذه الكتابة كتابتهُ وهذا لا يكون إلا بشهادة العدول لأن الخط يشبه الخط ذكره في الهداية في مواضع * وقال في باب كتاب القاضي إلى القاضي ولا يقبل الكتاب إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين لأن الكتاب بشبهُ الكتاب فلا يثبت إلا بحجة تامة لأنه(22/22)
ملزم أي كتاب القاضي ملزم وإن كان من غائب فاسق أو مستور الحال فلا يقبل ولو ثبت الكتاب كتابته فإذا تقرر هذا فينبغي أن ينظر أن السلك المذكور من أي قسم من هذه الأقسام فلا شك أنهُ من قبيل الخبر بالكتابة كأن محرك السلك من المبدأ يكتب بقلم طويل قد غابت يده وطرف الثاني من القلم عند المكتوب إليه ولا يعرفه أيضاً إلا بهذه الكتابة لأنه كتب فيها أنا فلان ابن فلان ولا يعبأ بهذه المعرفة من هذه الكتابة لأن صحة هذه الكتابة موقوفة على استنادها إلى الكاتب العدل وهو بمعرفته فلو توقفت معرفة الكاتب على صحة هذه الكتابة للزم الدور وبطلانه مشهور فيكون خبر السلك من الكتابة التي لا يعلم كاتبها وربما يكون على مبدأ السلك فاسقاً أو نصرانياً أو ملحداً لا يتدين بدين هذا إذا كان المخبر هو الآخذ بنفسه من منتهى السلك والمخبر هو المحرك بنفسه من المبدأ فهذه الكتابة المجهولة لا يثبت بها ما يثبت بخبر العدل أصلاً ومثلها ما كان في الأزمان السابقة من إرسال المكاتيب مربوطة على رجل الحمامة المعلمة لأن الخط يشبه الخط والطير يشبه الطير وأما إذا كان المخبر غير من حرك السلك من المبدأ والمخبر إليه غير من أخذ من المنتهى فزادت الوسائط فيكون إرسال الكتابة على يد مجهول وكاتبه مجهول * فإن قيل قد جربنا في هذا الخبر مطابقة الواقع وتطمئن نفوسنا إليه فلا ظن فوق هذا فيقال لهم قد جربتم المطابقة كثيراً منّا في إخبار الكفار نطقاً من النصارى وغيرهم واطمأنت نفوسكم سيما إذا كان من أهل الحكومة وهم يمتنعون عن الكذب إما لحرمة في دينهم أو لحفظ جاههم فلِمَ لا تجوزون القضاء بشهادتهم على المسلم والحال أن الطمأنينة الحاصلة من القرائن الخارجية لا تكفي لإثبات الحكم الشرعي بل الحكم الشرعي لا يثبت إلا من طريق شرعي عينها الشارع وهو خبر العدل نطقاً أو كتابة فإن قيل قبول خبر العدل نطقاً أو كتابة بعد ثبوت عدالته وكتابته ليس إلا لحصول الظن واطمئنان القلب فإذا كان هذا المعنى موجوداً في خبر السلك فلزم قبوله فالجواب أن هذا توهم من لم يميز بين العلة وحكمتها أو يعلل بالحكمة المحضة من غير وصف عليه مدار الحكم وحكمة العلة غير العلة ولا يجوز التعليل بمحض الحكمة عند المحققين من أهل الأصول فالحكم فيما نحن فيه قبول الخبر والعلة هي العدالة والحكمة التي بها صارت العلة علة هو حصول الظن والاطمئنان فلا يلزم وجود هذا الحكم عند وجود هذه الحكمة ألا ترى أن سيدنا الصديق رضي الله عنه لو شهد وحده في ألأمور التي(22/23)
تحتاج إلى شهادة عدلين فلا يجوز للقاضي أن يحكم على شهادته إلا أن يكون معهُ عدل آخر ولو شهد عنده عدلان من عوام العدول يجب عليه أن يحكم على شهادتهما والحال أن الظن الحاصل من شهادة الصديق رضي الله عنه يزيد على الظن الحاصل من شهادة جماعة من العدول كما لا يخفى ولو جاز التعليل بالحكمة لجاز هنا وهو خلاف الإجماع وخص من هذا الأمر على خلاف القياس سيدنا خزيمة بن ثابت رضي الله عنهُ لورود النص في حقه وهو قوله صلى الله عليه وسلم من شهد له خزيمة فهو حسبهُ رواه ابن حيان في صحيحه ذكره الشيخ المحلي في شرح جمع الجوامع * ومثال آخر في عدم جواز التعليل بمجرد الحكمة أن الأمة اجتمعت على سقوط الأضحية بأنثى المعز فالحكم سقوط الأضحية وعلته ذبح الأنثى من المعز مثلاً وحكمة هذه العلة كثرة اللحم فيه وغلاء الثمن ونفع الفقراء ليكون متقرباً إلى الله تعالى بأحسن أمواله فلو فرضنا وجود هذه الأوصاف في الجذعة من المعز من كونه أسمن كثير اللحم وأغلى من الأنثى لا تسقط به الأضحية بالإجماع فلو جاز التعليل بمجرد الحكمة لجاز في هذا المحل وقد استثني من هذا الحكم سيدنا بردة بن نيار رضي الله عنه على خلاف القياس لورود النص في حقه وهو ما رواه البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب رضي الله عنه خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى فصلى ركعتين ثم أقبل علينا بوجهه فقال أن أول نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد وافق سنتنا ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو شيءٌ عجله لأهله ليس من النسك في شيء فقام رجل هو أبو بردة بن نيار رضي الله عنه فقال يا رسول الله إني ذبحت قبل الصلاة وعندي جذعة خير من مسنة فقال اذبحها ولا تفيءُ عن أحد بعدك أهـ فقوله خير من مسنة كأنه إشارة إلى حكم العلة فما قبلها صلى الله عليه وسلم في حق كل واحد بل رخص له رخصة مخصوصة فهكذا في هذا الأمر وفيه أمثلة كثيرة وفي المذكور كفاية لمن تأمل. ثم الحقيقة أن هذه الطمأنينة إنما هي بسبب الغفلة والذهول عن الاحتمالات العقلية الصحيحة وسبب الذهول هو التعود على الأخذ بهذا الخبر وإلا فيحتمل أن رجلاً أجنبياً من أعداء زيد ابن عمرو يجيء على مبدأ السلك ويسلم الأجرة المعهودة ويقول أنا زيد ابن عمرو وطلقت زوجتي أو يقول أنا من رفقائه وقد مات زيد بن عمرو ليوحش أهله ويفزعهم فمن الذي يعلم هذا؟ ومن الذي يمنع هذا؟ أو هذا الذي على(22/24)
رأس السلك يكون كافراً من أعداء المسلمين فيقلب الخبر والذي على منتهى السلك يفعل كذلك ومثل هذه الاحتمالات المتعددة المتكثرة التي لا تندفع ولا تضمحل إلا بثبوت العدالة إذا تفكر فيها العاقل لا تبقي أثراً من الطمأنينة التي ذكرت أو لا سيما الذي رأى مثل هذا واقعاً في بعض المرات بعينه فالأمر الذي يحتاج إلى شهادة عدلين كحقوق العباد التي فيها إلزام محض أو شهادة عدل كالأخبار في الديانات كما إذا أخبر أن هذا الماء طاهراً أو هذا اللحم ميتة أو أخبر امرأة أن زوجها طلقها أو مات عنها ففي القسم الأول لا يعبأ بهذا الخبر أصلاً وفي القسم الثاني يجوز الأخذ به بعد التحري لو وافق التحري وإلاَّ فلا لأنه بمنزلة الخبر المستور كما مرَّ أولاً وإنما يعتبر التحري لو كان المحرك على مبدأ السلك والآخذ على منتهاه مسلماً يقيناً إلا أنه مستور العدالة وإلا فإن كان كافراً أو احتمل فلا تحري في إخباره قال صدر الشريعة في التنقيح وشرحه أن أخبر بالديانات الفاسق والمستور يتحرى فيه إما أخبار الصبي أو المعتوه أو الكافر فلا يقبل في الديانات أصلاً فلا يلتفت إلى قولهم ولا تحري فيه * وقال في الهداية لو أن امرأة أخبرها ثقة أن زوجها الغائب مات عنها أو طلقها ثلاثاً أو كان غير ثقة وأتاها من زوجها بكتاب بالطلاق ولا تدري أنهُ كتابه أم لا إلا أن أكبر رأيها أنهُ حق يعني بعد التحري فلا بأس بأن تعتد ثم تتزوج بزوج * وقال صاحب العناية في الحاشية في هذا المقام فإن كان المخبر ثقة لا يحتاج إلى غيره وإن لم يكن لا بد من انضمام التحري أهـ وأما إذا كان المخبر به مما فيه إلزام من وجه دون وده كقول الوكيل وحجر المأذون وفسخ الشركة فعند محمد وأبي يوسف رحمهما الله تعالى هو كما لا إلزام فيه أصلاً فيقبل فيه خبر كل مميز * وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إن كان المخبر رسولاً أو وكيلاً من الأصل فنقبل فيه خبر الواحد من غير العدول وإن كان فضولياً فلا بد من العدد أو العدالة على الأصح وقيل لا بد من العدالة ففي القسم الثاني لا يعبأ عند بخبر السلك إلا أن يكون من جهتين مختلفتين فيحصل التعدد فيحتمل القبول وفي القسم الأول وعندهما في القسمين وما لا إلزام فيه أصلاً اتفاقاً كالوكالات والمضاربات والرسالات في الهدية وما أشبه ذلك كالودائع فيحتمل القبول لأنه يعتبر فيه خبر كل مميز ولو كافراً أو صبياً مميزاً كذا في التلويح وإذا كان هذا في خبر السلك فالخبر الحاصل من مكاتيب البوسطة كذلك.(22/25)
(تنبيه)
الخبر العاجل من الساعة المعروفة للوقت ليس من قبيل الخبر الحاصل بالقرائن التي يمكن التبدل والتغير فيها عادة كما كان صلى الله عليه وسلم يقوم لصلاة التهجد إذا سمع الصارخ رواه البخاري وغيره فلا بد أن يضم مع الساعة التحري ويكون صوت الديك هو من آلات التحري ولا يجوز الاعتماد على مجردها لأنها تتبدل وتتغير كما لا يخفى وإذا كانت الساعة صحيحة مجربة وغلب الظن فقد حصل التحري فيعتمد فإن ظهر الخطأ بعده فيعاد الصوم والصلاة ولا إثم على التحري لأنه أتى بما في وسعه كما إذا تحروا في يوم الغيم بلا ساعة بقرائن أخرى فظهر الخطأ فكذلك الحكم وقد وقع مثل هذه في زمنه صلى الله عليه وسلم وزمن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما روى البخاري عن معمر عن هشام ابن عروة عن أبيه عن أسماء قالت أفطرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس قيل لهشام فأمروا بالقضاء قال لا بد من القضاء * وروى الإمام مالك رضي الله عنه في الموطأ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أفطر في يوم رمضان في يوم غيم ورأى أنه قد أمسى وغابت الشمس فجاءه رجل فقال يا أمير المؤمنين قد طلعت الشمس فقال الخطب يسير إشارة إلى لزوم القضاء بلا كفارة والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب، فهذا آخر ما تيسر في هذا المُطلب الشريف والحمد لله على الإتمام وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد سيد الأنام وعلى آله وصحبه البررة الكرام وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(22/26)
التاريخ
10
ننشر في هذا الباب سيرة كبار الرجال في الإسلام وشيئاً من فضائلهم وأخلاقهم وأعمالهم وسياستهم لما في لذلك من تحريك بواعث الهمم للاقتداء بهم في جلائل الأعمال وكرائم الخصال وليكون زاجراً لأولئك الذين يتغاضون عن مآثر رجال المسلمين ويفتخرون بحفظ تاريخ فلاسفة الغربيين.
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه
1
هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي (بن كعب بن لؤي) بن غالب بن فهر العدوي القرشي.
ولد رضي الله عنه بعد الفيل بثلاث عشرة سنة وهو من أشراف قريش وعظمائهم تربى على الشهامة والنجدة والحمية. وإليه كانت السفارة في الجاهلية فإذا وقعت قريش في حرب أو نافرهم أو فاخرهم أحد كان هو السفير في أمرهم والمنافر المفاخر عنهم. كنَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أسلم أبا حفص ولقبه بالفاروق لأن الله أعز به الإسلام وفرق بهِ بين الحق والباطل. يجتمع نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كعب بن لؤي وهو أفضل الصحابة بعد أبي بكر رضي الله عنهم. حضر المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. بويع له بالخلافة صبيحة ليلة وفاة أبي بكر بعهد منه كما تقدم في ترجمة أبي بكر رضي الله عنه وكان ذلك في يوم السابع من شهر رجب سنة ثلاث عشرة للهجرة. ولما تولى رضي الله عنه أمر المؤمنين نظر إلى هذه الكرة الأرضية نظرة رجل وهبه الله من الحكمة والتدبير ما زعزع أركان الجبابرة وهدم صروح الأكاسرة. وأرغم أنوف الطغاة المستبدين، وأباد الفراعنة المسيطرين، ونشر على وجه البسيطة علم الأمن، وأقام للبشر ميزان القسط والعدل، وحقق كلمته في إعلاء كلمة الله عز وجل ففتح الله على يده من البلاد ما فتح؛ وسرى صلاح نيتهِ في جميه رعيتهِ.
وقد حفظ له التاريخ من الفضائل وعظائم الأمور ما لم يحلم بهِ الزمان ومن المناقب والآثار ما يكاد يتعذر استقصاؤه، ويعز بيانه، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم(22/27)
خمسمائة حديث وتسعة وثلاثون حديثاً وروى عنه أجلاء الصحابة وكبراؤهم كعثمان بن عفان وعلي وطلحة وسعد وابن عباس وكثير غيرهم وهو أول من كتب التاريخ للمسلمين من الهجرة. وأول من حض على جمع القرآن. وأول من عسّ في عمله (أي كان يمشي ليلاً لحفظ الدين والناس ويتفقد شؤون رعيته بنفسهِ) وهو أول من وضع الخراج ومصر الأمصار. وأول من سمي بأمير المؤمنين. وأول من اتخذ بيت المال. وأول من دون الدواوين لحصر أسماء الغزاة. وأول من عاقب على الهجاء. وأول من مسح السواد. وأول من حمل الميرة من مصر إلى المدينة. وأول من استقضى في الأمصار. وأول من جمع الناس على قيام شهر رمضان. وأول من جمع الناس في صلاة الجنازة على أربع تكبيرات. وأول من ألقى الحصى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الناس إذا رفعوا رؤوسهم من السجود نفضوا أيديهم فأمر عمر بالحصى فجيء بهِ من العقيق فبسط في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. وأول من اتخذ دار المؤن ليعين منها المنقطع. وجعل فيها الدقيق والسويق والثمر والزبيب. ووضع فيما بين مكة والمدينة بالطريق ما يصلح من ذلك. وهو من السابقين إلى الإسلام والمهاجرين الأولين. وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الخلفاء الراشدين؛ وأحد أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهُ راضٍ. ودعاه صاحب رحا دارة العرب، يعيش حميداً؛ ويموت شهيداً.
إسلامهُ رضي الله عنهُ
أخرج أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الدلائل عن أسلم رضي الله عنه قال عمر أتحبون أن أعلمكم كيف كان بدء إسلامي قلنا نعم قال كنت من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أنا في يوم شديد الحر بالهاجرة في بعض الطريق إذ لقيني رجل من قريش فقال أين تذهب يا ابن الخطاب قلت أريد هذا الرجل قال عجباً لك يا ابن الخطاب إنك تزعم أنك كذلك وقد دخل عليك هذا الأمر في بيتك قلت وما ذاك قال أختك قد أسلمت فرجعت مغضباً حتى قرعت الباب وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أسلم الرجل والرجلان ممن لاشيء له ضمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرجل الذي فيه السعة فنالا من فضل طعامه وقد كان ضم إلى زوج أختي رجلين فلما قرعت الباب قيل من(22/28)
هذا قلت عمر وقد كانوا يقرأون كتاباً في أيديهم فلما سمعوا صوتي قاموا في مكان وتركوا الكتاب فلما فتحت لي أختي قلت يا عدوة نفسها صبوت؟ ورفعت شيئاً فأضرب به على رأسها فبكت المرأة وقالت لي يا ابن الخطاب اصغ ما كنت صانعاً فقد أسلمت فذهبت فجلست على السرير فإذا بصحيفة وسط البيت فقلت ما هذه الصحيفة فقالت لي دعها عنك يا ابن الخطاب فإنك لا تغتسل من الجنابة أو لا تطهر وهذا لا يمسه إلا المطهرون فما زلت بها حتى أعطتنيها فإذا فيها (بسم الله الرحمن الرحيم) فلما مررت باسم الله ذعرت منه فألقيت الصحيفة ثم رجعت إلى نفسي فتناولتها فإذا فيها (سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم) فقرأتها حتى بلغت (آمنوا بالله ورسوله) إلى آخر الآية فقلت أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله فخرج القوم مبادرين فكبروا واستبشروا بذلك وقالوا لي أبشر يا ابن الخطاب فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا يوم الاثنين فقال اللهم أعز الدين بأحب الرجلين إليك عمر بن الخطاب أو أبي جهل بن هشام وإنا نرجو أن تكون دعوة ؤسول الله صلى الله عليه وسلم لك فقلت دلوني على رسول الله صلى الله عليه وسلم أين هو فلما عرفوا الصدق دلوني عليه في المنزل الذي هو فيه فخرجت حتى الباب فقال من هذا قلت عمر ابن الخطاب وقد علموا شدتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعلموا بإسلامي فما اجترأ أحد منهم أن يفتح لي حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم افتحوا له فإن يرد الله به خيراً يهده ففتح لي الباب فأخذ رجلين بعضدي حتى دنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلوه فأرسلوني فجلست بين يديه فأخذ بمجامع قميصي ثم قال أسلم يا ابن الخطاب (اللهم اهده) فقلت أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله فكبر المسلمون تكبيرة سمعت من طريق مكة وقد كانوا سبعين قبل ذلك فكان الرجل إذا أسلم فعلم به الناس يضربونه ويضربهم فجئت إلى رجل فقرعت عليه الباب فقال من هذا قلت عمر ابن الخطاب فخرج إلي فقلت له أعلمت أني قد صبوت قال أو قد فعلت قلت نعم قال لا تفعل ودخل البيت وأجاف الباب دوني فقلت ما هذا بشيء فإذاً أنا لا أضرب ولا يقال لي شيء قال الرجل أتحب أن يعلم بإسلامك قلت نعم قال إذن اجلس في الحجر فأنت فلاناً فقل لهُ فيما بينك وبينهُ أشعرت أني قد صبوت فإنهُ قلما يكتم الشيء فجئت إليه وقد اجتمع الناس في الحجر فقلت له فيما بيني(22/29)
وبينه أشعرت أني قد صبوت قال أفعلت قلت نعم فنادى بأعلى صوتهِ ألا إن عمر قد صبا فثار إلي أولئك يضربوني وأضربهم حتى أتى خالي فقيل له أن عمر قد صبا فقام على الحجر فنادى بأعلى صوته ألا إني قد أجرت ابن أختي فلا يمسه أحد فانكشفوا عني فكنت لا أشاء أن أرى أحداً من المسلمين يضرب إلا رأيتهُ فقلت ما هذا بشيء أن الناس يضربون وأنا لا أضرب ولا يقال لي شيء فلما جلس الناس في الحجر جئت إلى خالي فقلت اسمع (جوارك ردعيك) قال لا تفعل فأبيت فما زلت أضرب وأضرب حتى أظهر الله الإسلام.
ثناء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليه
أخرج الترمذي وأحمد من حديث ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه. وقال صلى الله عليه وسلم إيه يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجّاً إلا سلك فجاً غير فجك وقال صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة وقال صلى الله عليه وسلم لما أسلم عمر أتاني جبريل فقال استبشر أهل السماء بإسلام عمر. وقال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه يا أخي أشركنا في صالح دعائك ولا تنسنا. وقال صلى الله عليه وسلم بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلع الثدي ومنها ما يبلغ أسفل من ذلك وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره قالوا فما أولته يا رسول الله قال الدين. وقال صلى الله عليه وسلم لو لم أبعث فيكم لبعث عمر أيد الله عز وجل عمر بملكين يوفقانه ويسددانه فإذا أخطأ صرفاه حتى يكون صواباً. وقال صلى الله عليه وسلم لا يزال باب الفتنة مغلقاً عن أمتي ما عاش لهم عمر بن الخطاب فإذا هلك عمر تتابعت عليهم الفتن.
وأخرج ابن عساكر من حديث سلمان قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عمر ويقول: بطل مؤمن، سخي تقي، حياطة الدين، وملك الإسلام، ونور الهدى، ومنار التقى، فطوبى لمن تبعك، والويل لمن خذلك، وأخرج أيضاً من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما أقرأكم عمر فاقرؤا وما أمركم فائتمروا.
وأخرج الحاكم في نوادر الأصول والطبراني والضياء عن ابن عباس أتاني جبريل فقال(22/30)
اقرأ عمر السلام وقل له أن رضاه حكم وأن غضبه عو، وعن موسى ابن عيسى قال أتى عمر بن الخطاب مشربة بني حارثة فوجد محمد بن مسلمة فقال عمر كيف تراني يا محمد قال أراك والله كما أحب وكما يحب من يحب لك الخير، أراك قوياً على جمع المال. عفيفاً عنه. عدلاًَ في قسمه. ولو ملت عدلناك كما يعدل السهم في الثقاب فقال عمر هاه وقال لو ملت عدلناك كما يعدل السهم في الثقاب الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا ملت عدلوني وأخرج ابن عساكر عن أبي بردة عن أبيه قال رأى عوف بن مالك أن الناس جمعوا في صعيد واحد فإذا رجل قد علا الناس بثلاثة أذرع قلت من هذا قالوا عمر بن الخطاب قلت بما يعلوهم قالوا إن فيه ثلاث خصال لا يخاف في الله لومة لائم. وإنه شهيد مستشهد وخليفة مستخلف فأتى عوف أبا بكر فحدثه فبعث إلى عمر فبشره فقال أبو بكر قص رؤياك فقصها فلما قال خليفة مستخلف انتهره عمر فلما وُلي قال لعوف اقصص رؤياك فقصها فقال أما لا أخاف في الله لومة لائم فأرجو أن يجعلني الله فيهم وأما خليفة مستخلف فأسأل الله أن يعينني على ما ولاني وأما شهيد مستشهد فأنى لي بالشهادة وأنا بين ظهراني جزيرة لست أغزو والناس حولي ثم قال ويلي ويلي يأتي الله بها إن شاء الله. وقال سلمان رضي الله عنه من حديث طويل أخرجه نعيم بن حماد في الفتن. سلمان يشهد بلحمه ودمه أنك خليفة ولست بملك فقال عمر رضي الله عنه إن تقل فقد كنت تدخل فتجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال سلمان وذلك أنك تعدل في الرعية. وتقسم بينهم بالسوية وتشفق عليهم شفقة الرجل على أهله وتقضي بكتاب الله تعالى الخ.
وأخرج ابن عساكر عن مخلد بن قيس العجلي عن أبيه قال لما قدم سيف كسرى ومنطقته وزبرجدته على عمر قال إن أقواماً أدوا هذا لذوو أمانة قال علي إنك عففت فعفت الرعية، وأخرج أيضاً عن ابن عباس قال أكثروا ذكر عمر فإن عمر إذا ذكر ذكر العدل وإذا ذكر العدل ذكر الله وأخرج أيضاً عن عائشة إذا ذكر عمر في المجلس حسن الحديث وعنها أيضاً أخرجه ابن عساكر قالت إذا ذكر الصالحون فحي هلا بعمر وأخرج البهقي أبو نعيم والبغوي وابن منيع وغيرهم عن علي رضي الله عنه قال كنا أصحاب محمد ولا نشك أن السكينة تنطق على لسان عمر وأخرج ابن جرير عن حذيفة رضي الله عنه قال أيسركم أن يكون فيكم خير من عمر قالوا نعم قال لو أن فيكم خيراً من عمر لذهبتم سفالاً وإن الناس لا(22/31)
يزالون ينمون صعداً ما كان عليهم خيارهم وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال إن إسلام عمر كان عزاً وإن هجرته كانت فتحاً ونصراً وإمارته كانت رحمة والله مااستطعنا أن نصلي حول البيت ظاهرين حتى أسلم عمر فلما أسلم عمر قاتلهم حتى صلينا وإني لأحسب الشيطان يفرقه وإذا ذكر الصالحون فحيهلاً بعمر. إلى غير ذلك من الآثار الدالة على فضله والأخبار الصريحة بعلو شأنه مع شدة تمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر ومتابعة لهما في القول والفعل قال سعيد بن المسيب أصيب بعير من المال من الفيء فنحره عمر وأرسل إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم منه وصنع ما بقي طعاماً فدعا عليه من المسلمين وفيهم يومئذ العباس فقال يا أمير المؤمنين لو صنعت لنا مثل هذا فأكلنا عندك وتحدثنا فقال عمر لا أعود لمثلها إنه مضى صاحبان لي يعني الني صلى الله عليه وسلم وأبا بكر عملا عملاً وسلكا طريقاً وإني إن عملت بغير عملهما أسلك في طريق غير طريقهما.
هذا فضلاً عن أخلاقه الطاهرة وشيمه الكريمة وشمائله العظيمة وإليك نبذة من أخلاقه رضي الله عنه ونفعنا به.
شجاعته رضي الله عنه
أخرج ابن عساكر عن علي كرم الله وجهه قال ما علمت أحداً هاجر إلا مختفياً إلا عمر بن الخطاب فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه وتنكب قومه، وانتضى في يده سهماً وأتى الكعبة وأشراف قريش بفنائها قطاف سبعاً ثم صلى ركعتين عند المقام ثم أتى حلقهم واحدة واحدة فقال شاهت الوجوه من أراد أن تثكله أمه، وييتم ولده وترمل زوجته، فليلقني وراء هذا الوادي، فهابوا بطشه ولم يتبعه منهم أحد.
وأخرج أبو نعيم من حديث أسلم قال رأيت عمر بن الخطاب أخذ بأذن الفرس ويأخذه بيده الأخرى أذنه ثم ينزو على متن الفرس. وأخرج ابن سعدة عن أبي وجرة عن أبيه قال كان عمر يحمي النقيع لحيل المسلمين ويحمي الرندة والشرف لا بل الصدفة، ويحمل على ثلاثين ألف بعير في سبيل الله كل سنة، وقد حضر المشاهد ملها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر إلى تبوك وكان لا يخشى بأس قريش ولا شدتهم وهو ممن ثبت النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.(22/32)
عدله وهيبة الناس له
أخرج البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال أستأذن عمر على النبي عليه الصلاة والسلام وعنده نسوة من قريش يسألنه ويستكثرنه عالية أصواتهنَّ على صوته فلما أذن له عليه الصلاة والسلام تبادرن الحجاب فدخلن ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فقال بأبي أنت وأمي يا رسول الله أضحك الله سنك ما يضحكك فقال عليه الصلاة والسلام عجبت من هؤُلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك تبادرن الحجاب فقال عمر يا رسول الله بأبي وأمي كنت أحق أن يهبنك ثم أقبل عليهم فقال أي عدوات أنفسهن تهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلن نعم أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام أيها يا ابن الخطاب فوالذي نفس محمد بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك. وعن أبي سعد مولى أبي أسيد قال كان عمر بن الخطاب يعس المسجد بعد العشاء فلا يرى فيه أحداً إلا أخرجه إلا رجلاً قائماً يصلي فمر بنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبي كعب فقال من هؤلاء فقال أبي نفر من أهلك يا أمير المؤمنين قال ما خلفكم بعد الصلاة قال جلسنا نذكر الله فجلس معهم ثم قال لأدناهم إليه خذ فدعا فاستقراهم رجلاً رجلاً يدعون حتى انتهى إلي وأنا إلى جنبه فقال هات فحصرت (أي ضيق علي فلم أقدر على الكلام) وأخذني من الرعدة حتى جعل يجد مس ذلك مني فقال ولو أن تقول اللهم اغفر لنا اللهم ارحمنا ثم أخذ عمر فما كان في القوم أكثر دمعة ولا أشد بكاء منه. وأخرج ابن عبد الحكم عن أنس أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم قال عذت معاذاً قال سابقت بن عمرو بن العاص فسبقته فجعل يضربني بالسوط ويقول أنا ابن الأكرمين فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم ويقدم بابنه معه فقد فقال عمر أين المصري خذ السوط فاضرب فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر اضرب ابن الألأمين قال أنس فضربه والله لقد ضربه ونحن نحب ضربه فما أقلع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه قال للمصري ضع على صلعة عمرو فقال يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد استقدت منه فقال عمر لعمرو مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً قال يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني.(22/33)
وأخرج ابن سعد وابن راهوية عن عطاء قال كان عمر بن الخطاب يأمر عماله أن يوافه بالموسم فإذا اجتمعوا قال يا أيها الناس إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم ولا من أعراضكم إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم وليقسموا فيئكم بينكم فمن فعل به غير ذلك فليقم أحد إلاَّ رجل قام فقال يا أمير المؤمنين إن عاملك فلاناً ضربني مائة سوط قال فيم ضربته قم فاقنص منه فقام عمرو بن العاص فقال يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك وتكون سنة يأخذ بها من بعدك قال أنا لا أقيد وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيد من نفسه قال دعنا لنرضيه قال دونكم فارضوه فافتدى منه عن كل سوط دينارين. وأخرج اللالكائي عن مجاهد قال جاء رجل من بني مخزوم إلى عمر ليستعديه على أبي سفيان قال يا أمير المؤمنين إن أبا سفيان ظلمني حدي بمكة فقال عمر أنا أعلم بذلك الحد ولربما لعبت أنا وأنت عليه ونحن غلمان فإذا قدمت مكة فأتني فلما قدم عمر أتاه المخزومي وجاء بأبي سفيان فانطلق عمر معه إلى ذلك الحد فقال غيرت يا أبا سفيان فخذ هذا الحجر من ههنا فضعه ههنا فقال والله لا أفعل فعلاه بالدررة قال خذه لا أم لك فأخذه أبو سفيان فوضعه في الموضع الذي أمره عمر فدخله فما صنع بأبي سفيان شيء فاستقبل البيت وقال اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على هواه وذللته بالإسلام فاستقبل أبو سفيان البيت وقال اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى أدخلت قلبي من الإسلام ما ذللتني لعمر. وأخرج البيهقي وابن أبي شيبة وغيرهما عن ابن عمر قال اشتريت إبلاً وارتجعتها إلى الحمى فلما سمنت قدمت بها فدخل عمر السوق فرأى إبلاً سماناً فقال لمن هذه الإبل فقيل لعبد الله بن عمر فجعل يقول يا عبد الله بن عمر بخ بخ ابن أمير المؤمنين فجئت أسعى فقلت مالك يا أمير المؤمنين قال ماهذه الإبل قلت إبل اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون فقال ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين. اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين. يا عبد الله أغد على رأس مالك واجعل الفضل في بيت مال المسلمين.
تواضعه رضي الله عنهُ
أخرج الدينوري عن الحسن قال خرج عمر بن الخطاب في يوم حار واضعاً رداءه على رأسه فمر به غلام على حمار فقال يا غلام احملني معك فوثب الغلام عن الحمار وقال(22/34)
اركب يا أمير المؤمنين قال لا أركب وأركب أنا خلفك تريد تحملني على المكان الوطيء وتركب أنت على الموضع الخشن فركب خلف الغلام فدخل المدينة وهو خلفه والناس ينظرون إليه وأخرج ابن سعد عن حزام بن هشام عن أبيه قال رأيت عمر بن الخطاب مر على امرأة وهي تعصد عصيدة لها فقال ليس هكذا يعصد ثم أخذ المسوط فقال هكذا فأراها.
ورعه رضي الله عنه
أخرج البيهقي عن زيد بن أسلم قال شرب عمر لبناً فأعجبه فسأل الذي سقاه من أين لك هذا اللبن فأخبره أنه ورد على ماء فإذا نَعم من نَعم الصدقة وهم يسقون فحلبوا لنا من ألبانها فجعلته في سقائي هذه فأدخل عمر إصبعه فاستقاءه. وأخرج ابن سعد عن عروة أن عمر ابن الخطاب قال لا يحل لي من هذا المال إلا ما آكل من صلب مالي. وأخرج ابني سعد وعساكر عن إبراهيم أن عمر بن الخطاب كان يتجر وهو خليفة وجهز عيراً إلى الشام فبعث إلى عبد الرحمن بن عوف يستقرضه أربعة آلاف درهم فقال للرسول قل له يأخذها من بيت المال ثم ليردها فلما جاءه الرسول فأخبره بما قال فلقيه عمر فقال أنت أنت القائل ليأخذها من بيت المال فإن مت قبل أن تجيء قلتم أخذها أمير المؤمنين دعوها له وأوخذ بها يوم القيامة لا ولكن أردت أن أخذها من رجل مريض مثلك فإن مت أخذها من ميراثي.
نصفته رضي الله عنه في أهله ومعاملته رعيته
أخرج الإمام أحمد عن الحسن قال جيء إلى عمر بمال فبلغ ذلك حفصة ابنة عمر فجاءت فقالت يا أمير المؤمنين حق أقربائك من هذا المال قد أوصى الله عز وجل بالأقربين فقال لها يا بنية حق أقربائي في مالي فأما هذا ففيء المسلمين غششت أبك قومي فقامت تجر ذيلها.
وأخرج ابن عساكر والدينوري وابن شاذان عن أسلم أن عمر بن الخطاب طاف ليلة فإذا هو بامرأة في جوف دار لها وحولها صبيان يبكون وإذا قِدر على النار قد ملأتها ماء فدنا عمر من الباب فقال يا أمه ما بكاء هؤلاء الصبيان قالت بكاؤهم من الجوع قال فما هذه القدر التي على النار قالت قد جعلت ماء هو ذا أعللهم به حتى يناموا وأوهمهم أن فيها شيئاً فبكى عمر ثم جاءَ إلى دار الصدقة وأخذ غرارة وجعل فيها شيئاً من دقيق وشحم وسمن(22/35)
وتمر وثياب ودراهم حتى ملأ الغرارة ثم قال يا أسلم احمل عليَّ فقلت يا أمير المؤمنين أنا أحمله عنك فقال لي لا أم لك يا أسلم أنا أحمله لأني أنا المسؤول عنهم في الآخرة فحمله حتى أتى به منزل المرأة فأخذ القدر فجعل فيها دقيقاً وشيئاً من شحم وتمر وجعل يحركه بيده وينفخ تحت القدر فرأيت الدخان يخرج من خلل لحيته حتى طبخ لهم ثم جعل يفرق بيده ويطعمهم حتى شبعوا ثم خرج وربض بحذائهم كأنه سبع وخفت أن أكلمه فلم يزل كذلك حتى لعب الصبيان وضحكوا ثم قام فقال يا أسلم تدري لم ربضت بحذائهم قلت لا قال رأيتهم يبكون فكرهت أن أذهب وأدعهم حتى أراهم يضحكون فلما ضحكوا طابت نفسي.
وأخرج ابن السني وأبو نعيم والبيهقي عن جراد بن طارق قال أقبلت مع عمر بن الخطاب من صلاة الغداة حتى إذا كان في السوق فسمع صوت صبي مولود يبكي حتى قام عليه فإذا عنده أمه فقال لها شأنك قالت جئت إلى هذا السوق لبعض الحاجة فعرض لي المخاض فولدت غلاماً وهي إلى جانب دار قوم في السوق قال هل شعر أحد بك من أهل هذه الدار أما إني لو علمت أنهم شعروا بك ثم لم ينفعوك فعلت بهم وفعلت بهم ثم دعا لها بشربة سويق ملتوتة بسمن فقال اشربي هذا فإن هذا يقطع الوجع ويقبض الحشا ويعصم الأمعاء ويدر العروق وفي لفظة فإن هذا يشد أحشاءك ويسهل عليك الدم وينزل لك اللبن ثم دخلنا المسجد.
موافقاته رضي الله عنه للقرآن العظيم
أخرج الطبراني وابن حاتم وابن مردويه عن عمر رضي الله عنه قال وافقت ربي في أربع. قلت يا رسول الله لو صلينا خلف المقام فأنزل الله (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) وقلت يا رسول الله لو ضربت على نسائك الحجاب فإنه يدخل عليهن البر والفاجر فأنزل الله (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب) ونزلت هذه الآية (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) إلى قوله (ثم أنشأناه خلقاً آخر) فلما نزلت قلت أنا فتبارك الله أحسن الخالقين فنزلت (فتبارك الله أحسن الخالقين) ودخلت على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلت لهن لتنتهين أو ليبدلنه الله أزواجاً خيراً منكن فنزلت هذه الآية (عسى ربه أن طلقكن إن يبدله أزواجاً خيراً منكن).
وفي الصحيح لما توفي عبد الله بن أبي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه(22/36)
فقام إليه عمر (قال عمر) فقمت حتى وقفت في صدره فقلت يا رسول الله أو على عدو الله ابن أبي القائل يوم كذا كذا فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً) الآية، وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهودياً لقي عمر فقال إن جبريل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا فقال له عمر من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين فنزلت على لسان عمر أهـ قال السيوطي وقد أوصلها بعضهم إلى أكثر من عشرين.
كراماته رضي الله عنه
أخرج ابن الأعرابي في كرامات الأوليات وأبو نعيم والبهيقي معافى الدلائل وغيرهم عن ابن عمر قال وجه عمر جيشاً وأمر عليهم رجلاً يدعى سارية فبينما عمر بن الخطاب يوماً جعل ينادي يا سارية الجبل ثلاثاً ثم قدم رسول الجيش فسأله عمر فقال يا أمير المؤمنين لقينا عدونا فهزمنا فبينا نحن كذلك إذا سمعنا صوتاً ينادي يا سارية الجبل ثلاثاً فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزمهم الله تعالى فقيل لعمر إنك كنت تصيح بذلك. وعن طارق بن شهاب قال إن كان الرجل ليحدث عمر بالحديث فيكذبه الكذبة فيقول احبس هذه ثم يحدثه بالحديث فيقول احبس هذه فيقول له كل ما حدثتك حق إلا ما أمرتني أن أحبسه. وعن الحسن قال إن كان أحد يعرف الكذب إذا حدث به إنه كذب فهو عمر بن الخطاب وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر وأبو الشيخ في العظمة وغيرهما عن قيس بن الحجاج عمن حدثه قال لما فتح عمرو بن العاصر مصر أتى أهلها إليه حين دخل (بؤنه) من أشهر العجم فقالوا له أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها فقال لهم وما ذاك قالوا إنه إذا كان لاثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر ببين أبويها وجعلنا عليها شيئاً من الحلي والثياب أفضل ما يكون ثم القيناها في النيل فقال لهم عمرو إن هذا لا يكون في الإسلام فإن الإسلام لا يهدم ما قبله. فقاموا بؤنة، وأبيب، ومسرى، لا يجري قليلاً ولا كثيراً حتى عموا بالجلاء (بالخروج من البلد) فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك فكتب إليه عمر - قد أصبت إن الإسلام يهدم ما قبله وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها في داخل النيل إذا أتاك كتابي فلما قدم الكتاب على عمرو فتح البطاقة فإذا فيها - من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر أما بعد فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر وإن كان(22/37)
الواحد القهار يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك فألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم وقد تهيأ أهل مصر للجلاء وللخروج منها لأنهم لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل فأصبحوا.
يوم الصليب وقد أجراه الله ستة عشر ذراعاً وقطع تلك السنة السوء عن أهل مصر. وعن عمرو بن يحيى بن سعيد الأموي عن جده أن سعيد بن العاصر أتى عمر يستزيده في داره التي (بالبلاط) وخطط أعمامه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر صل معي الغداة (الصبح) وغبش ثم اذكرني حاجتك قال ففعلت حتى إذا هو انصرف قلت يا أمير المؤمنين حاجتي التي أمرتني أن أذكرها لك فوثب معي ثم قال امض نحو دارك حتى انتهيت إليها فزادني وخط لي برجله فقلت يا أمير المؤمنين زدني فإنه ينبت لي نابتة من أهل وولد فقال حسبك واختبئ عندك أن سيلي الأمر بعدي من يصل رحمك ويقضي حاجتك قال فمكثت خلافة عمر بن الخطاب حتى استخلف عثمان فوصلني وأحسن وقضى حاجتي وأشركني في أمانته.
ولما بلغه أن أهل العراق حصبوا أميرهم: قال اللهم قد لبسوا علي فألبس عليهم وعجل بالغلام الثقفي يحكم فيهم حكم الجاهلية لا يقبل من محسنهم، ولا يتجاوز عن مسيئهم. (يعني الحجاج) والحجاج يومئذ لم يولد. وذكر صاحب كتاب علم الدين عن بعض المؤرخين أن عمرو بن العاص خطر بباله حفر برزخ السويس لاتصال البحر الأحمر بالبحر الأبيض فاستأذن عمر بن الخطاب فمنعه لئلا تعبر منه الإفرنج البحر فيكثرون بالمشرق وبلاد المغرب. وأخرج البيهقي عن سالم بن عبد الله أن كعب الأحبار قال لعمر بن الخطاب إنا لنجد (يعني في التوراة) ويل لملك الأرض من ملك السماء فقال عمر إلا من حاسب نفسه فقال كعب والذي نفسه بيده إنها في التوراة لتابعتها فكبر عمر ثم خر ساجداً.
خوفه رضي الله عنه
أخرج ابن عساكر من حديث أنس بن مالك قال سمعت عمر بن الخطاب يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعته يقول وبيني وبينه جدار وهو في جوف الحائط أمير المؤمنين والله لتتقين الله أو ليعذبنك الله. وأخرج ابن المبارك وابن سعد عن عامر بن ربيعة قال رأيت عمر بن الخطاب أخذ تبنة من الأرض فقال يا ليتني كنت هذه التبنة ليتني لم أخلق(22/38)
ليتني لم أكن شيئاً ليت أمي لم تلدني ليتني كنت نسياً منسياً. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عمر قال لو نادى منادٍ في السماء يا أيها الناس إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلاً واحداً لخفت أن أكون أنا هو ولو نادى منادٍ أيها الناس إنكم داخلون النار إلا رجلاً واحداً لرجوت أن أكون أنا هو. وعن زيد بن أسلم قال خرج عمر بن الخطاب ليلة يحرس فرأى مصباحاً في بيت فدنا فإذا عجوز تطرق شعراً لها لتغزله (أي تنقشه بقدح) وهي تقول -
عَلَى محمد صلاة الأبرار ... صلى عليك المصطفون الأخيار
قد كنت قواماً بكي الأسحار ... يا ليت شعري والمنايا أطوار
هل تجمعني وحبيبي الدار
تعني النبي صلى الله عليه وسلم. فجلس عمر يبكي فمازال يبكي حتى قرع الباب عليها فقالت من هذا قلت عمر بن الخطاب قالت وما لي ولعمرو ما يأتي بعمر هذه الساعة قال افتحي رحمك الله فلا بأس عليك ففتحت له فدخل فقال ردي علي الكلمات التي قلت آنفاً فردته عليه فلما بلغت آخره قال اسألك بالله أن تدخليني معكما قالت:
وعمر فاغفر له يا غفار
فرضي ورجع. وأخرج ابن عساكر عن أبي بكرة قال وقف أعرابي على عمر فقال:
يا عمر الخير جزيت الجنة ... جهز بنياتي واكسهنه
اقسم بالله لتفعلنه
قال عمر فإن لم أفعل يكون ماذا؟ قال
اقسم بالله لأمضينه
قال فإن مضيت يكون ماذا؟ قال
والله عن حالي لتسألنه ... يوم تكون المسلات ثمه
والواقف المسؤول بينهن ... إما إلى نار وإما جنه
قال فبكى عمر حتى اخضلت لحيته بدموعه وقال لغلامه أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره والله لا أملك غيره. وأخرج أبو عبيدة في فضائله عن عبد الله بن السائب قال آخر عمر بن الخطاب العشاء الآخرة فصليت ودخل وكان في ظهري فقرأت (والذريات) حتى أتيت على قوله تعالى {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} فرفع صوته حتى ملأ المسجد فقال(22/39)
وأنا أشهد. وأخرج أبو عبيد عن الحسن قال قرأ عمر بن الخطاب {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ، مَا لَهُ مِن دَافِعٍ} فربا منها ربوة عيد منها عشرين يوماً. وأخرج أيضاً من حديث عبيد بن عميرة قال صلى بنا عمر بن الخطاب صلاة الفجر فافتتح سورة يوسف فقرأها حتى إذا بلغ {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} بكى حتى انقطع فركع. وأخرج ابن عساكر عن ابن عمر أن عمر لقي أبا موسى الأشعري فقال له يا أبا موسى أيسرك أن عملك الذي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خلص لك وأنك خرجت من عملك كفافاً لا لك ولا عليك قال لا يا أمير المؤمنين والله قدمت البصر وأن الجفاء فيهم لفاش فعلمتهم القرآن والسنة وغزوت بهم في سبيل الله وإني لأرجو بذلك فضله قال عمر لكن وددت أني خرجت من عملي خيره بشره وشره بخيره كفافاً لا علي ولا لي وخلص لي عملي مع رسول الله صلى الله وسلم المخلص.
زهده رضي الله عنه
أخرج أحمد وعبد الرزاق والعسكري عن الحسن قال دخل عمر على ابنه عبد الله فقال ما هذا اللحم قال اشتهيه قال وكلما اشتهيت شيئاً أكلته كفى بالمرء سرفاً أن يأكل كلما اشتهاه. وأخرج ابن المبارك وسعد وهناك عن يسار بن نمير قال ما نخلت لعمر طعاماً قط إلا وأناله عاص. وأخرج ابن سعد عن الأحوص بن حكيم عن أبيه قال إني عمر بلحم فيه سمن فأبى أن يأكلها وقال كل واحد منهما أدام وأخرج عن أبي حازم قال دخل عمر بن الخطاب على حفصة ابنته فقدمت إليه مرقاً بارداً وخبزاً وصبت في المرق زيتاً فقل إدمان في إناء واحد لا أذوقه حتى ألقى الله.
وأخرج ابن المبارك عن ثابت أن عمر استسقى فأتي بإناء من عسل فوضعه على كفه فجعل يقول اشربها فتذهب حلاوتها وتبقى نقمتها لها ثلاثاً ثم دفعه إلى رجل من القوم فشربه.
وأخرج ابن المبارك عن عروة عن عامل لعمر كان على إذرعات فأقدم علينا عمر بن الخطاب وإذا عليه قميص من كرابيس فأعطانيه فقال اغسله وارقعه فغسلته ورقعته ثم قطعت عليه قميصاً قبطياً فأتيته بهما فقلت هذا قميصك وهذا قميص قطعته عليه لتلبسه فمسه فوجده ليناً فقال لا حاجة لنا فيه هذا أنشف للعرق منه. وأخرج أحمد عن الحسن قال(22/40)
خطب عمر بن الخطاب الناس وهو خليفة وعليه إزار فيه اثنا عشر رقعة. وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن ابن عمران عمر رأى في يد جابر بن عبد الله درهماً فقال ما هذا الدرهم قال أريد أن أشتري لأهلي به لحماً قرموا إليه فقال أكلما اشتهيتم شيئاً اشتريتموه؟ أين تذهب عنكم هذه الآية {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الرحمن عن أبي ليلى قال قدم على عمر ناس من العراق فرأى كأنهم يأكلون تقذيراً فقال يا أهل العراق لو شئت يدهمق لي كما يدهمق لكم لفعلت ولكنا نستبقي من دنيانا نجده في آخرتنا أما سمعتم الله يقول لقوم {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} الآية وأخرج ابن أبي الدنيا والدينوري عن سفيان ابن عيينة كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب وهو على الكوفة يستأذنه في بناء بيت سكنه فوقع في كتابه (ابن ما يسترك من الشمس ويكنك من الغيث فإن الدنيا دار بلغة) وأخرج أبو نعيم في الحلية من حديث أنس بن مالك قال تقرقر بطن عمر وكان يأكل الزيت عام الرمادة وكان حرم عليه السمن فنقر بطنه بإصبعه وقال تقرقر تقرقرك إنه ليس لك عندنا غيره حتى يحي الناس.
شيء من خطبه ورسائله رضي الله عنه
صعد المنبر لما ولي فقال. ما كان الله ليراني إن أرى نفسي أهلاً لمجلس أبي بكر فنزل مرقاة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: اقرأوا القرآن تعرفوا به واعملوا به تكونوا من أهله وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وترتبوا للعرض الأكبر يوم تعرضون على الله لا تخفى منكم خافية. إنه لم يبلغ حق ذي حق أن يطاع في معصية الله إلا وأني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم إن استغنيت عففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف.
وخطب خطبة فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه
يا أيها الناس إني قد وليت عليكم ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم وأقواكم عليكم وأشدكم استضلاعاً بما ينوب عن مهم أموركم ما توليت ذلك منكم ولكفى عمر مهماً محزناً موافقة الحساب بأخذ حقوقكم كيف آخذها ووضعها أين أضعها وبالسير فيكم كيف أسير فربي المستعان فإن عمر أصبح لا يثق بقوة ولا حيلة إن لم يتداركه الله عز وجل برحمته وعونه وتأييده.(22/41)
وخطب أيضاً فقال
إنما الدنيا أمل محترم وأجل منتقض وبلاغ إلى دار غيرها وسير إلى الموت ليس فيه تعريج فرحم الله امرأ فكر في أمره ونصح لنفسه وراقب ربه واستقال ذنبه بئس الجار الغني يأخذك بما لا يعطيك من نفسه فإن أبيت لم يغدرك إياكم والبطنة فأنها مكسلة عن الصلاة ومفسدة للجسم ومؤدية إلى السقم وعليكم بالقصد في قوتكم فهوا بعد من السرف وأصح للبدن وأقوى على العبادة وإن العبد لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.
وأرسل إلى ابنه ينصحه فقال
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد فإن من اتقى الله وقاه ومن توكل عليه كفاه ومن شكر له زاده ومن أقرضه جزاه فاجعل التقوى عماد قلبك وجلاء بصرك فأنه لا عمل لمن لا نية له ولا أجر لمن لا حسبة له ولا جديد لمن لا خلق له.
وله من رسالة لأبي موسى الأشعري
يوصيه
قد بلغ أمير المؤمنين أنه فشا لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها فإياك يا عبد الله أن تكون بمنزلة البهيمة التي مرت بواد خصب فلم يكن لها همة إلا السمن وإنما حتفها في السمن وأعلم أن للعامل مرداً إلى الله فإذا زاغ العامل زغت رعيته وإن أشقى الناس من شقيت به رعيته والسلام.
وأرسل إلى معاوية
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد فإني لم ألك في كتابي إليك ونفسي خيراً. إياك والاحتجاب وأذن للضعيف وأدنه حتى تبسط لسانه وتجرئ قلبه وتعهد القريب فإنه إذا طال حبسه وضاق أذنه ترك حقه وضعف قلبه وإنما ترك حقه من حبسه واحرص على الصلح بين الناس ما لم يستبن لك القضاء وإذا حضرك الخصمان بالبينة العادلة، والإيمان القاطعة، فامض الحكم. (لها بقية)(22/42)
الدين الإسلامي والتوحيد
كرامات الأولياء
لا نتخيل أن أحداً من أهل الحق وعصابة السنة ينكر أن لله تعالى من صفوة خلقه رجالاً يختارهم في كل زمان ومكان من عباده المخلصين يصعدهم إلى مقامات سامية من الكمال الروحاني، ويحبوهم بهبات جليلة ومنح جزيلة لا تخطر على بال من لا يكون على شاكلتهم؛ ويفيض عليهم من نفحات قدسه وسبحات تجليات رحمته ما يسمو بهم إلى الاستطلاع على أسرار الملكوت والاستشراف على معالم الجبروت ويحدث على أيديهم أموراً خارقة للعادة من قطع المسافة البعيدة في المدة القليلة؛ وظهور الطعام والشراب واللباس عند الحاجة، والطيران في الهواء، والمشي على الماء، وكلام أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي بحكم التبع لا بحكم الاستقلال كما سيتضح إن شاء الله تعالى.
وقبل أن نورد البراهين الدالة على إثبات وقوع كرامات الأولياء نأتي على بيان معنى الولي والكرامة تتميماً للفائدة وتوفية لحق الموضوع فنقول الولي في الاصطلاح هو الرجل الصالح الذي أدى أوامر الله واجتنب محارمه وتقرب إليه بالفرائض والنوافل حتى أشرقت عليه أنوار التجليات الإلهية وعبقت عنه فوحات الأخلاق الملكية وأصبح مثالاً يحتذي طريقته من أراد الكمال الصوري والمعنوي وقد ورد في الكتاب الكريم ما يشير إلى هذه المنزلة السامية قال تعالى {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}. وجاء في الكلام القديم ما يومي إلى أن من نال هذه المرتبة الرفيعة من القوة النظرية وهي الإيمان ومن القوة العملية وهي التقوى فإن الله يتولى شأنه ويسدده في أموره وينضر حجته قال تعالى {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ}، {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} فهذا كان يشعر بأن من تولى الله أي اتخذه ولياً تولاه الله وأفاض عليه من سبحات أنواره وإشراقات أنسه ما يجعله مثالاً للكمال بمعنييه ونموذجاً للفضيلة ينسج الناس عليه. وأما الكرامة فقد فسرها العلماء بأنها أمر خارق للعادة غير مقرون بالتحدي ودعوى النبوة يظهر على يد عبد ظاهر الصلاح ملتزم لمتابعة نبي كلف بشريعته مصحوب بصحيح(22/43)
الاعتقاد والعمل الصالح وبهذا يظهر لك الفرق بين المعجزة والكرامة فإن المعجزة مقرونة بالتحدي ودعوى الرسالة والتبليغ عن الله تعالى ولابد أن تكتنفها حوادث تميزها عما عداها بخلاف الكرامة فإنها لم تقترن بذلك فلا تكون قادحة في المعجزة التي هي دليل النبي كما يتوهم لأن الولي نفسه يؤمن بمعجزة ذلك النبي ويعترف له بوظيفته ويعتقد أن كرامته من ضمن معجزاته الدالة على صدق شرعه ولا يرد أن السحر أمر خارق للعادة أيضاً لأن السحر يظهر على يد الفساق والزنادقة والكفار الذين هم على غير شريعة ومتابعة فلا يسمى بالكرامة بل استدراجاً.
ولعلماء أهل السنة دلائل عقلية ونقلية على جواز وقوع الكرامات لأولياء الله الذين هم قائمون بأوامره راضخون لأحكامه مستغرقون الفكر في عظمته وجلاله منها أن ظهور الخارق للعادة أمر ممكن في ذاته وكل ما كان كذلك فهو صالح لشمول قدرة الله تعالى لإيجاده إذ لو لم نقل بجواز الوقوع للزم نسبة العجز لقدرة الله تعالى التي تتعلق بجميع الممكنات وللزم ترجيح بعض طرفي الممكن على بعض وكلاهما محال.
ودليل إمكان ذلك الأمر أنه لا يلزم من فرض وقوعه محال عقلاً فإنكار وقوعها مكابرة وعناد على أنه لم يثبت في شيء من كتب المذاهب الأربعة المتواترة أصولاً وفروعاً القول بانقطاع كرامات الأوليات ولو بالموت فلا يلتفت إلى ما يهذي به أرباب الرعونات النفسية والنزغات الشيطانية.
ولنسرد الأدلة النقلية من الكتاب والأخبار والآثار المؤيدة لوقوع الكرامات بالفعل فمن ذلك قصة مريم عليها السلام في قوله تعالى {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} وكلاك كلب أهل الكهف معهم وقصة آصف بن برخيا مع سليمان عليه السلام في عرش بلقيس وإتيانه به قبل أن يرتد الطرف وكل هؤلاء ليسوا بأنبياء وأما الأخبار فقد ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون (ملهمون) يلقى في روعهم الشيء قبل الإعلام به فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً في الحديث المخرج عند الحاكم عن أبي هريرة رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره.
وأما الآثار التي وردت عن السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الكرامات فكثيرة(22/44)
قد بلغت حد الاستفاضة فمنها ما روي عن عمر رضي الله عنه بعث جيشاً وأمر عليه رجلاً يدعى سارية بن الحصين فتورط مع المشركين وهم بالانهزام فبينما عمر رضي الله عنه يخطب جعل يصيح في خطبته وهو على المنبر: يا سارية الجبل الجبل. وكان بقربه جبل يتحيز إليه قال على كتبت تاريخ هذه الكلمة فلما قدم رسول ذلك الجيش فقال يا أمير المؤمنين عدونا يوم الجمعة في وقت الخطبة فهزمونا فإذا بإنسان يصيح يا سارية الجبل فأسندنا ظهرنا إلى الجبل فهزمت الكفار وظفرنا بالغنائم وكذلك روي إن نيل مصر كان يقف في كل سنة مرة واحدة فكان لا يجري حتى تلقى فيه جارية حسناء فلما جاء الإسلام كتب عمرو بن العاص إلى عم بن الخطاب رضي الله عنهما يعلمه بالقصة فكتب عمر على خرقة أيها النيل إن كنت تجري بأمر الله فاجر وإن كنت تجري بأمرك فلا حاجة لنا إليك فألقيت تلك الخرقة في النيل فجرى ولم يقف بعد ذلك وكذلك روي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل عليه أنس بن مالك فقال مالي أراكم تدخلون علي وآثار الزنا ظاهرة عليكم وكان أنس قد وقعت عينه على امرأة بينما كان سائراً في الطريق قال أنس فقلت أجاء الوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عثمان رضي الله عنه لا ولكن فراسة صادقة.
الذي يحتج المنكرون لكرامات الأولياء بكلامه
وقد ذكر الإمام بن تيمية الحنبلي وهو في كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ما نصه وكرمات الصحابة والتابعين بعدهم وسائر الصالحين كثيرة جداً مثل ما كان (أسيد بن حضير) يقرأ سورة الكهف فنزل من السماء مثل الظلة فيها أمثال السرج هي الملائكة نزلت لقراءته وكانت الملائكة تسلم على عمران بن حصين وكان (سلمان وأبو الدرداء) يأكلان في صحفة فسبحت الصحفة أو سبح ما فيها (وعياد بن بشر واسيد بن حضير) خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاء لهم نور مثل طرف السوط فلما افترقا افترق الضوء معهما رواه البخاري وغيره وقصة (الصديق) في الصحيحين لما ذهب بثلاثة أضياف إلى بيته وجعل لا يأكل لقمة من القصعة إلا ربا من أسفلها أكثر منها فشبعوا وصارت أكثر مما هي قبل ذلك إلخ (وخبيب بن عدي) كان أسيراً عند المشركين بمكة وكان يؤتى بعنب يأكله وليس بمكة عنب و (عامر بن فهيرة) قتل(22/45)
شهيداً فالتمسوا جسده فلم يقدروا عليه وكان لما قتل رفع فرآه عامر بن الطفيل وقد رفع وقال عروة فيرون الملائكة رفعته وحديث (أم أيمن) حين هاجرت وعطشت فرأت دلواً معلقاً في الهواء فشربت منه وما عطشت بقية عمرها و (سفينة) مولى رسول الله عليه الصلاة والسلام أخبر الأسد أنه رسول رسول الله فسار معه حتى أوصله إلى مقصده و (البرأ بن مالك) كان إذا أقسم على الله أبر قسمه و (خالد بن الوليد) حاصر حصناً فقالوا لا نسلم لك حتى تشرب السم فشربه فلم يضره و (سعد بن أبي وقاص) كان مجاب الدعوة وهو الذي هزم جنود كسرى وفتح العراق ولما عذبت (الزبيرة) في الإسلام وكف بصرها قال المشركون أصابها اللات والعزى فقالت كلا والله فرد الله بصرها و (العلاء بن الحضرمي) مشى مع الجيش على الماء فلم تبتل قدماه وقد حصل مثله لأبي مسلم الخولاني الذي ألقي في النار فلم تضره إلخ ما قال مما لو أتينا على جميعه لاحتجنا إلى التطويل.
ولنكتف الآن بما قدمنا ليعلم المنكرون لكرامات الأولياء المدعون أن أقل القرون الثلاثة لم يعملوا ولم يعلموا بها وإن الكتاب والسنة والتاريخ ليس فيها شيء من ذلك إن دعواهم لا تروج إلا على قليلي البضاعة وضعفاء العقول الذين لا قابلية لهم في أنوار التوحيد ولا استعداد عندهم للخير فوقع هؤلاء المنكرون في أولياء الله أهل الكرامات يأكلون لحومهم ويمزقون أديمهم جاهلين كون هذا الأمر مبنياً على صفاء العقيدة ونقاء السريرة واقتفاء الطريقة واصطفاء الحقيقة {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} ولنختم هذا الموضوع بحديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه مؤيداً لما خص الله أولياءه من المراتب العلية والمقامات السامية والكرامات الباهرة والمواهب الوافية تكريماً لهم وتشريفاً لهم قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عند ربه عز وجل من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه وما يزل عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطيته ولئن استعاذ بي لأعذته فقد دل هذا الحديث على أن للولي عند الله مرتبة عالية ومقاماً سامياً فهل يستبعد أن يكرمه الله بما لا يستحيل وقوعه على يده من خوارق العادات إن هذا لشيء عجاب.(22/46)
اللغة العربية
أمس واليوم
لقد أجمع فطاحل العلماء وفحول الأدباء، على أن اللغة العربية. أفصح اللغات السامية. وأحكمها استعمالاً. وأوسعها مجالا. ً وقد كرت الأجيال وتنكرت الأحوال. فانطمست آثار واندرست أخبار. وطاحت دول. وبادت ملل. فاستسرت آياتها. وعفت نعاتها. وتلك اللغة تدور مع الأحقاب. في غلائل الآداب. وغلواء الشباب. لا يرهقها هرم. ولا يخلقها قدم. تجول بها أسلات الألسنة وأطراف اليراع. في صدور المحافل وبطون الرقاع. فتنظم فرائدها. وتعقل شواردها. قلا تشذ نادرة. ولا تندر بادرة. فكأنها وهي ابنة القرون الخالية. والأمم الماضية. نشأت في اليوم الحاضر. أو أمس الدابر. فجاءت دفعة واحدة مستوفية أقسام جمالها وصحة أبنية أسمائها وأفعالها لا يذهب كر العشي بطلاوتها ولا يعبث مر الغداة بحلاوتها وكان أبناءها طبعوا على الفصاحة. وفطروا على البلاغة. فلا ترتهنهم لكنة. ولا تتحيفهم عجمة. ولا يعترضهم عي ولا تقف بهم حبسة فالبدوي الذي يحوم في الهضبات كالعقبان ويعسل في الفلوات كالسيدان. ويكمن في الوديان كالغزلان. كذلك الحضري الذي يتقلب بين أعطاف الحضارة والعمران. ويتفيأ ظلال العلوم والعرفان. جزل الحصاة. جم الأدب لا تغض خشونة برديه. من عذوبة أصغريه على أن السر كل السر في ذلك تذوق أمراء العرب طعم الأدب. وإقبال الأفراد عليه. وانضواؤهم إليه. فتعهدوه بدرايتهم وحاطوه بعنايتهم. فأحيوا قرائح ذويه. وأرهفوا أقلام بنيه. والناس على دين ملوكهم. هذا هرم بن سنان حلف إلا يمدحه زهير إلا وصله ولا يسلم عليه إلا أعطاه وليده أو فرساً أو عبداً حتى استحيا زهير وكان إذا رآه في ملأ قال: عموا صباحاً غير هرم وخيركم تركت. وكان النابغة يأكل في آنية الذهب والفضة من عطايا النعمان وجده لا يستعمل غير ذلك. ووفد الحارث على عمرو بن هند الملك أنشده معلقته المشهورة وكان بينه وبينه سبعة حجب فمازال يرفعها واحداً فواحداً لحسن ما يسمع من الشعر حتى لم يبق بينهما حجاب ثم أدناه وقربه. وكان بعض العرب يغتسلون لقصيدة المهلهل المعروفة بالداهية كلما أرادوا إنشادها. وقد كان هذا في زمن الفترة والناس همل فلما أشرق نور الإسلام ومد طاقه وضرب رواقه في مشارق الأرض ومغاربها أقبل الناس من كل صوب(22/48)
على الدأب. في خدمة الأدب فأجزلوا لأهله العطايا وغمروهم بالهبات وطار القوم زرافات ووحدنا يتلمسون الكتب من ثنايا المكامن وزوايا الخزائن ويتوفرون سواد الليل وبياض النهار على الترجمة والتأليف حتى اكتظت أرجاؤهم بالمكاتب وغصت ديارهم بالمدارس. قال أسامه بن معقل كان السفاح راغباً في الخطب والرسائل يصطنع أهلها ويثيبهم فحفظت ألف رسالة وألف خطبة طلباً للحظوة عنده وكان المنصور يرغب في الأسمار والأخبار فما تركت بيتاً نادراً ولا شعراً فاخراً ولا نسيباً سائراً إلا حفظته وأعانني على ذلك الطلب الهمة في علو الحال عنده ولم أر شيئاً ادعى إلى تعلم الآداب من رغبة الملوك في أهلها وصلاتهم عليها. وقد صدق في قوله وأصاب في رأيه فالفضل في نهضة أمراء البيان يعود إلى أرباب السلطان الذين يذكرهم التاريخ فيشكرهم كلما نبض للعلوم عرق وخفق للمعارف برق. وقد بلغ من شغف الدول الأعجمية وافتتانهم باللغة العربية لعلهم أنها واسطة عقد المسلمين وعروة أنصالهم إن اتخذوها لساناً لهم وطرحوا ما عداها مثل دولة المصامدة (البربر) في المغربين الأقصى والأدنى. ودولة الجراكسة في مصر والشام. ودولة آل سلجوق التركية في العراق والجزيرة ودولة بين بويه الفارسية ودولة آل أيوب الكردية في مصر والشام والحجاز واليمن وغيرها. وكانت البلاد بأسرها تموج بالمترجمين عن اللغات الأجنبية كالفارسية والبهلوية والسنسكريتية والسريانية واليونانية فوسعت اللغة العربية علوم المتقدمين والمتأخرين وكانت مبعث هذه الحضارة ومنبت هذه المدينة ولم تغفل الأمة عن ذلك الواجب بل شاركت أمراءها وملوكها فبذلوا قصاراهم في البذل والسخاء على العلماء والشعراء فأحضر بنو شاكر النقلة والتراجمة وأجروا عليهم الأرزاق وتحداهم في ذلك إبراهيم بن موسى فاستخرج علوم اليونان إلى اللغة العربية وفعل مثله محمد بن عبد الملك الزيات حتى كان عطاؤه للنساخ ألفي دينار. وأقام الفتح بن خاقان خزانة كتب لم يكن أعظم منها وجعل داره مثابة فصحاء الأعراب وعلماء البصرة والكوفة. وأنشأ الحاكم بأمر الله الفاطمي دار الحكمة في مصر وجمع إليها الشعراء والمنجمين وأصحاب النحو واللغة وأباح الدخول إليها لسائر الناس ليقرأوا وينسخوا ما شاءوا وجعل فيها المحابر والدفاتر والأقلام وكانت خزانة الكتب في قصر العزيز بالله في مصر تحتوي على مليون وستمائة ألف مجلد بله أدوات الهندسة والفلك وكانت مكتبة الناصر في قرطبة تشتمل على أربعمائة(22/49)
ألف مجلد وكان في بيت الحكمة في بغداد مجالس للنسخ والدرس والتأليف وأفاض القضاة من آل عمار على العلماء والأدباء سجال نداهم وبحور جداهم. وكانت دارهم تحتوي على ثلاثة ملايين مجلداً في فنون مختلفة يأوى إليها مائة ناسخ تجري عليهم الأرزاق. وأغرب من هذا أن الحثالة التي بقيت من كتب بغداد بعد الحريق والغريق كانت مكتبة حافلة وقفها هولاكو التتري على نصير الدين الطوسي في مراغة. وقيل أن أبا غالب اللغوي القرطبي لما وضع كتابه في اللغة بعث إليه أبو الجيش مجاهد العامري ملك دانية ألف دينار وركوبة وكساء على أن يزيد في آخر كتابه (هذا ما ألف أبو غالب لأبي الجيش مجاهد) فرد الدنانير وأبى ذلك فلم يكن من مجاهد إلا أن ضاعف له العطاء وقال هو في حل من أن يذكرني فيه.
وأكل معاوية الضرير طعاماً مع الرشيد فلما قام ليغسل يديه تناول الرشيد الإبريق وصب عليهما الماء وقال له أتعلم من يصب الماء علي يديك قال لا قال أنا قال أنت يا أمير المؤمنين قال نعم إجلالاً للعلم.
وقيل إن الفراء مؤدب ولدي المأمون نهض مرة لبعض حوائجه فابتدر الأميران إلى نعله ليقدماها له فتنازعا أيهما يقدمها أولاً ثم اصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما واحدة فلما بلغ ذلك المأمون استدعى الفراء وقال له من اعز الناس قال لا أعرف أحداً أعز من أمير المؤمنين فقال المأمون بل من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين حتى يرضى كل منهما أن يقدم فرداً.
اللهم غفرانك إن أمة يتفانى أمراؤها وأفرادها في إحياء العلوم وإجلال أهلها إلى هذا الحد لجديرة بأن تذل لها أعراق المجد وتعنو لها نواصي الرغائب وينبت فيها أدباء إذا أحس أحدهم من البيان بوجس دبيبه أو تهادى بين بعيده وقريبه أسمعك من ألفاظه نغمات الأوتار ونفحك من معانيه بنسمات الأسحار وصور لك على الطرس حقيقة النفس. فناجتك بأسرارها. وحدثتك بأخبارها فإذا الشوق تكاد تمسه يداك. وإذا الغيب تكاد تراه عيناك. هذا وشل من بحر وثمد من قطر كتبته تذكرة للعاقل. وتبصرة للغافل. لعلنا نرد على هذه اللغة نضرة شبابها ورونق آدابها وكم هتفت. ليت الشباب يعود.
المؤدي(22/50)
فؤاد الخطيب(22/51)
مطالب مسلمي الصين
إن إخواننا المسلمين بمملكة ابن السماء أو دولة الصين أضخم مملكة في العالم قد يعتبرون من أحسن مسلمي العالم مركزاً وحالاً فهم القابضون على زمام التجارة. ومنهم القواد العظام والإداريون الماهرون وحريتهم الدينية موفورة بفضل تسامح الشرقيين الذين مع عظيم رحمتهم وجميل أخلاقهم يعتبرهم الغربي وحوشاً أو حيوانات أحقر من جنس الإنسان ما خلقت إلا لخدمة ذلك الجبار الأوروبي ولقد أبت همة إخواننا المسلمين بتلك البلاد النائية إلا الاستفادة من نعمة الحرية التي أشرقت أنوارها من يوم تأسست الجمهورية التي جاهد المسلمون في سبيل الحصول عليها حتى صرح رئيس الجمهورية بأنهم هم الذين لهبوا الدور المهم في هذا السبيل المشكور نعم أبت همتهم إلا أن يدعموا نظامهم الاجتماعي على قواعد ثابتة ففضلاً عن المجهودات العظيمة التي يبذلونها في تعميم المعارف وتأسيس الشركات المختلفة الأغراض والأنواع مما ربما أتيح لنا أن نأتي على ذكره في حين آخر أخذوا يبحثون عن ترقية شؤونهم الدينية ولهذا قدموا عريضة إلى حكومة جمهورية الصين شخص بها وفد عظيم من الولايات الإسلامية المختلفة إلى بكين وقد أطلعنا على صورة المطالب في رصيفتنا وقت الغراء التي تصدر في أورنبورغ فأحببنا تعريبها للقراء وها هي:
المادة الأولى: يجب على حكومة الصين تأسيس مشيخة للإسلام بعاصمتها لتنظر في شؤون عموم مسلمي الصين الدينية والقيام بحاجاتهم الشرعية ومن الواجب إيجاد مجلس شرعي مخصوص وإدارة أوقاف إسلامية ومعلم للدروس الدينية وأمين فتوى تحت رئاسة شيخ الإسلام ويجب أن يكون تعيين وعزل جميع القضاة والمفتين ومشائخ المساجد والأساتذة ومديري الأوقاف في جميع الجهات الإسلامية بالصين من حقوق شيخ الإسلام الذي يجب أن ينتخب بواسطة الاقتراع العام بين مسلمي الصين ويجب أن يوجد حاكم شرعي في عاصمة كل ولاية إسلامية بالصين.
المادة الثانية: يجب أن تمنح الحرية الدينية بأوسع معانيها لجميع مسلمي الصين وأن يكون لهم حق التصرف المطلق في إدارة شؤونهم الدينية وما يتعلق بها.
المادة الثالثة: يجب معافاة جميع طلبة المعاهد الدينية وموظفي الإدارات الشرعية من الخدمة العسكرية.(22/52)
المادة الرابعة: يجب أن يمنح المسلمون الحق في تأسيس المدارس والمعاهد الدينية والمساجد ودور العجزة (التكايا) أينما شاءوا وحيثما استحسنوا.
المادة الخامسة: يجب على الحكومة أن تجيز المسلمين بجمع الإعانات في كل زمان ومكان لتأسيس المدارس والمعاهد الدينية والمساجد.
المادة السادسة: يجب على الحكومة ألا تعامل أوقاف المسلمين كأملاك الأفراد بل تعفيها من الضرائب أسوة بالأوقاف المخصصة لمعابد المجوس وأن تجعل استثمارها وإدارة شؤونها حسب نصوص الواقفين لتنفق حاصلاتها طبق ما خصصت له. كل ذلك بواسطة إدارة الأوقاف التي ستؤسس ببكين تحت إدارة شيخ الإسلام.
المادة السابعة: يجب على حكومة الصين أن تمنح علماء المسلمين جميع الامتيازات التي يتمتع بها رؤساء المجوس الروحانيون وأن تعاملهم بالتجلة والحقوق وكل ما تعامل به الرؤساء المذكورين.
وفي الوقت الذي تبدأ فيه حكومة الصين بفرض مرتبات شهرية لرؤساء الأديان المجوسية يجب عليها أن تفرض لعلماء الإسلام نفس المرتبات وكذلك لموظفي المحاكم الشرعية.
المادة الثامنة: يجب معافاة مسلمي الصين من العمل بالأوامر التي ستصدرها حكومة الصين بشأن تبديل الألبسة والزي القديم.
المادة التاسعة: يجب على الحكومة ألا تمنع المسلمين من السياحة بالممالك الأجنبية ويجب عليها أن تسهل السبل في وجه من يقصد منهم السفر لأداء فريضة الحج وأن توجد في كبريات المدن من الصين حتى الحجاز قناصل لها ليحافظوا على راحة أولئك الحجاج ويجب عليها أن تعقد اتفاقية مخصوصة مع الحكومة العثمانية لكي تخول إحداهما الأخرى بالتبادل حق تأسيس السفارات والقنصليات بمملكتيهما وأن تطيل مدة جواز السفر من ستة شهور إلى سنة.
المادة العاشرة: يجب على الحكومة أن تمنح المسلمين جميع الحقوق التي سيتمتع بها الصينيون في انتخاب المبعوثين والوزارة والوكلاء في البرلمان الصيني وجميع الدوائر الرسمية.
المادة الحادي عشرة: يجب المساواة بين المسلمين وبقية الصينيين في جميع الحقوق.(22/53)
المادة الثاني عشرة: يجب منح المسلمين الحرية التامة في تأسيس المطابع ودور الكتب ومحال القراءة العمومية ونشر الكتب والصحف والرسائل الدورية.
المادة الثالث عشرة: يجب أن يخول للمسلمين الحق في التوظف بمراكز الحكومة في الوظائف حسب ما يلائم كفاءتهم واستعدادهم.
المادة الرابع عشرة: يجب على حكومة الصين أن تعطي للمدارس الإسلامية الإعانات المالية مثل التي ستمنح للمدارس الصينية.
المادة الخامس عشرة: يجب قبول الطلبة المسلمين في المدارس الرسمية وإرسال الطلبة النوابغ منهم إلى أمريكا والغرب لإكمال معارفهم بمدارسها على حساب حكومة الصين.
المادة السادس عشرة: يجب على حكومة الصين أن تراعي شعائر المسلمين الذين ينخرطون في جيشها وتسهل لهم سبل القيام بالفرائض الدينية والعمل على طاعة المولى جل جلاله.
المادة السابع عشرة: يجب تأسيس مساجد في الثكنات العسكرية وأن يكون حق الضباط المسلمين في الرقي مثل ما للضباط الصينيين.
المادة الثامن عشرة: يجب على الحكومة أن تمنح الجنود الإسلامية إجازة بتمضية شهر رمضان في منازلهم وبين أهليهم.
قدمت العريضة الحاوية هذه المطالب باسم مسلمي الصين إلى حكومة الجمهورية وهي مطالب عادلة هينة ستجيبها حكومة الصين عن طيب خاطر لأنها من أساس روح دستورها وإن حبها للمسلمين جعلها تنشئ في بكين جريدة إسلامية شبيهة بالرسمية على حسابها الخاص.
إن عدد مسلمي الصين حسب الإحصائيات الرسمية 55 مليوناً من النفوس ولكن إخواننا هنالك يؤكدون أن هذه الإحصائيات أقل من الحقيقة بكثير وأن عددهم أقل ما يكون سبعون مليوناً منها 45 مليوناً من عنصر صيني بحت ولسانه اللغة الصينية والبقية من عنصر تركي يتكلمون اللغة التركية بيد أن الفريق الأول له من النفوذ والكلمة العالية بالحكومة الصينية القسط الوافر.
إن العلم الصيني الجديد مركب من خمسة ألوان أبيض وهو رمز إلى المسلمين وأحمر وهو(22/54)
رمز للعنصر الصيني الأصلي والأسود وهو إشارة إلى عنصر المانشو والأخضر وهو إشارة العنصر التيبتي والأصفر وهو رمز المنغوليين.
إن تعلق مسلمي الصين بدولة الخلافة المعظمة أكبر من أن يصوره قلم وكلهم يتمنون من صميم أفئدتهم أن تسرع الحكومة العثمانية بإيجاد سفارة لها وجملة قنصليات لأنها لو كانت لديها في دور هذا الانقلاب العظيم هذه السفارات للعبت دوراً مهماً وأفادت العالم الإسلامي خصوصاً والشرق عموماً وأوجدت لها مركزاً لا ينافسها فيه أحد وفق الله رجال حكومتنا إلى ما فيه خير البلاد والعباد بجاه سيد الأنام والسلام على من اتبع الهدى.
الهلال العثماني(22/55)
القرآن الكريم وغلط طبعه
من المعلوم لدى جماهير أهل العلم والفضل أن الدولة العلية أيدها الله كانت قررت طبع كتاب الله تعالى في عاصمتها تقريراً مبرماً بحيث لا يجوز للغير طبعه حرصاً على مكانة صوابه، واحترازاً من غلط مطبعي فيه، وقد ظلت الدولة تسير في هذا السير ولكن بعضه مشكوك فيه كما سيأتي. إلى أن أطلع هذا الداعي على نسخة من القرآن الكريم طبعت في مطبعة الشركة الخيرية الصحافية في الأستانة لمديرها الحاج حسين أفندي في 15 جمادى الآخرة سنة 1329 هـ.
وهذه النسخة مفقود منها سورتا الشعراء والنمل وموجود في سورة الفرقان أوراق من سورتي آل عمران والنساء وهاتان السورتان لم ينقص منهما شيء. فكأن تلك الأوراق زائدة أو هي بدل ما ذهب من سورة الفرقان.
وتقرير أن سير الدولة المومى إليه آنفاً مشكوك في بعضه. هو أن الدولة العلية لم أدر هل علم وكلاؤها الموكل إليهم أمر الاطلاع على المطبوعات والمصاحف القرآنية - بما طبع في الدور الغابر من مصاحف صغيرة الحجم مغلوطة من حيث بعض كلمات محذوفة أم لا؟ مع أن هذا الخطأ المطبعي لا يعد كالخطأ الأول بل هذه النسخ الصغيرة لم يذكر فيها اسم المطبعة ولا اسم صاحبها.
ثم أنني لم أذكر عن غلط النسخة الأولى هذا المقال إلا بعد أن بحثت عن نسخ مطبوعة بتلك المطبعة ومؤرخة ذلك التاريخ فوجدت الغلط بذاته ولما علمت أنه لابد أن يكون عند إخواني المسلمين نسخ منها وأنه يجوز أن يكون بعضهم غير عالم بذلك الغلط لأنه يضع القرآن وضع زينة كما هو عادة البعض وعلمت أن السكوت عن التنبيه لمثل ذلك الغلط مما لا يأمر به الدين الحق والعقل السليم والعلم الصحيح - بادرت إلى كتابة هذه المقالة ليكون كل من عنده من تلك النسخ متنبهاً لغلطها وهو مخير في كتابة أوراق من سورة الفران بدل الأوراق الذاهبة منها وكتابة سورتي الشعراء والنمل ومخير في الحرق.
وهنا ألفت نظر سماحة شيخ الإسلام خاصة إلى أن طبع كتاب الله تعالى يجب أن يكون معنياً به كل العناية بحيث لا يكون فيه خطأ مطبعي البتة كما هو مقتضى أمر الخلافة الإسلامية أيدها الله ووفق المسلمين لما يرضاه.
المفيد(22/56)
بيروت ر. ق(22/57)
من كتاب الأدب
لجعفر بن شمس الخلافة وهو من الكتب المخطوطة النادرة
2
وصاحب الذنب المكروه يصطبر
وتقرب الأحلام غير قريب
وربما صحت الأجسام بالعلل
ما فاز بالراحة إلا من رضي
ترجوا الغنى من إناء قط ما رشحا
هل يستطيع جواد غير تبريز
ومن يخزن الأموال ينفق من العرض
ولا يرد عليك الفايت الحزن
وتحت الرغوة اللبن الصريح
وبيت الغنى يهدى له ويزار
ويأتيك بالأخبار من لم يزود
كم من نقي الثوب ذي عرض دنس
ورب ذي أدب تلقاه في سمل
والنجم لا يجفل أن كلب عوى
عسى بعد بين أن يكون تلاقي
والشمس تكبر عن حلي وعن حلل
على قدر جرم الفيل تبني قوائمه
ومازالت الأشراف تهجا وتمدح
وبعض القول يذهب في الرياح
مثل النعامة لا طير ولا جمل
كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
والدهر ليس بمعتب من يجزع(22/58)
ولا يأمن الأيام إلا مضلل
ومن ذا الذي يعطي الكمال فيكمل
وكل نعيم لا محالة زائل
والدهر يبلى جدة الحديد
وقد يسود غير السيد المال
(لها بقية)(22/59)
إجابة طلب المؤيد
2
يا مصطفة قبل العوالم كلها ... يا شافعاً في الخلق يوم الدين
أنت الحبيب حقيقة والمجتبى ... والكون لم يبرز من التكوين
أيروم مخلوق مديحك بعدما ... للعالمين بعثت خير أمين
كيف الوصول إلى مديحك بعد أن ... أثنى عليك الله في التبيين
دمشق
هـ ر خ
يا مصطفى قبل العوالم كلها ... يا سيد الكونين والثقلين
أنت الذي قدماً تلألأ نوره ... والكون لم يبرز من التكوين
أيروم مخلوق مديحك بعد ما ... شافهت ربك دون كل مكين
أم كيف يدرك شاو مدحك بعد ما ... أثنى عليك الله في التبيين
ع. د
يا مصطفى قبل العوالم كلها ... لتكون منك بداية التكوين
بك قد حبانا الله أسنى رتبة ... والكون لم يبرز من التكوين
أيروم مخلوق مديحك بعد ما ... أوتيت من عظم ومن تمكين
لا شك في حصر المفوه بعد أن ... أثنى عليك الله في التبيين
م. ي(22/60)
رثاء الأستاذ الشيخ محمد المبارك الحسني الجزائري
فقيد دمشق
بقلم الشاعر البليغ الفاضل صاحب الإمضاء
أأرثي مقام الذكر في الشرق والغرب ... أمَ الوعظِ والإرشادِ في مشهد القرب
أأرثي التقى والفضل والعلم والهدى ... أم الزهد والإخلاص والصدق في القلب
أجل إنني أرثي الفضائل فيك بل ... أعزي بك الإسلام بل سائر الشعب
محمدُ قبل اليوم كنت مباركاً ... علينا ولكن ما لنا اليوم في كرب
فيا طول حزن العلم إذ غاب بدره ... ويا حسرة الإخوان والأهل والصحب
أعزي بمنعاك المعارف والعلا ... وأبكي على حزن المدارس والكتب
وما سائر الأرزاء إلا كذرة ... إزاء مصاب العلم في مهجة الصب
أحيي ضريحاً ضم أكرم جثة ... ثراها تراب الخلد من عالم الغيب
سقى الله من غيث المراحم روضة ... سرى واختفى أرخ بها الكوكب الغربي
سنة 1330
8 79 1243
دمشق
عبد الرحمن القصار
وقال أيضاً مودعاً أمام القبر
يعز علينا أن نراك مودعاً ... من القوم أو أنا نراك مودعا
لئن قنع الإخوان بالحزن حسرة ... فيا ليت هذا القبر لي كان مصرعا
ولكنني أقضي الحياة تحسراً ... عليك إلى أن أجتبي منك موضعا
وجاءنا من الأديب الفاضل صاحب الإمضاء ما يأتي
كلمة في رثاء الأستاذ الكبير الشيخ محمد أفندي المبارك الحسني الجزائري رحمه الله وأكرم مثواه
دعوا الشرق يبكي دائم الحسرات ... ويملأ عين الكون بالعبرات
على السيد الميمون مدره قومه ... على الواحد المبرور ذي البركات(22/61)
على المرشد الأواب أوحد عصره ... أمام المعالي طاهر النفثات
على العالم النحرير ذي الفضل والتقي ... على الطاهر المحمود ذي الحسنات
حليف الهدى والبر مبعث رأفة ... مثابة أخلاق ورب عظات
مفيض درايات مقسم حكمة ... على أنفس الله منقطعات
* * *
عليك سلام الله يا شخص من قضى ... وخلفنا بالويل والعثرات
نعاك لنا الناعي فطارت نفوسنا ... شعاعاً وبتنا في لظى جمرات
بكينا بعين مضها الحزن والأسى ... وقلب أسيف زائد الجزعات
فهب بنا الناعي إلى منزل به ... أقام رجال الفضل في لهفات
تراهم من الأشجان ما بين خاشع ... وباك وملتاع وذي زفرات
يسيلون دمع الوجد يبرزه الشجى ... وتدفعه الأحشاء مضطرمات
* * *
فلاحت لي الأملاك من نحو حجرة ... تطوف ولكن في اجل صفات
وشعشع فيها النور كالشمس في الضحى ... يروح ويغدو باهر اللمعات
دنوت لأرنو من شقوق جدارها ... وأنظر فيها آخر النظرات
فشمت بها شمس الزمان وبدره - أخا البر والأخلاق والصدقات
على لوحة التغسيل ملقى كأنه ... نبي كريم وافر النفحات
يفوح أريج المسك منه كأنما ... يغسل من طيب بماء حياة
* * *
وكنت أرى الأقوام عم ضجيجها ... وطاشت بها الآلام مشتجرات
تقول ألا بالله رفقاً بحالنا ... فأنا لهذا النعي في نكبات
دعونا نرى الأستاذ آخر رؤية ... لنحي كما يرضى بغير شتات
فقام له شبل خطيب مفوه ... وقال ودمع العين في قطرات
أناشدكم بالله أن ترفقوا بنا ... ولا تضجروا فالوقت وقت ثبات
فساد على الناس السكون كأنهم ... يناجون رب البيت في الخلوات(22/62)
* * *
لما انتهى تغسيله حنطوه في ... حنان وأعظام وفي شفقات
وقد زملوه بالفضائل والتقى ... وبالعلم والإخلاص والصلوات
وماطوا على الوجه المنير نقابه ... فبان لنا شمساً ولا ظلمات
فلا قوة بالإجلال والقلب شيق ... وحيوه باللمسات والقبلات
ينادون هذا النعش نعش محمد ... سراج الدياجي هادم الشبهات
عياذ ذوي خوف ملاذ أرامل ... غياث ذوي عدم جزيل هبات
* * *
مشى نعشه والناس كالطير حوله ... يوالون للأنفاس مستعرات
يطوفون حول النعش خالوه كعبة ... كأنهمو يمشون في عرفات
إلى أن توارى وهو كالبدر قد هوى ... من الملأ الأعلا إلى الفلوات
ضرعنا جميعاً نستغيث بربنا ... ونطلب منه وافر الرحمات
تصوب على هذا الضريح الذي حوى ... ملاذ ذوي عدم إمام هداة
عليه سلام الله مازلت منشداً ... دعو الشرق يبكي دائم الحسرات
دمشق
محمد سليم الحنفي(22/63)
خاتمة السنة الثانية
بحمد الله والثناء عليه نختم ما ابتدأناه من هذا العمل الجليل والخدمة النافعة وإليه جل شأنه نرفع أكف الامتنان إذ وفقنا لخدمة دينه والذب عن شريعته وجعلنا نجهر بالحق ونؤيده، ونقذف بالباطل وندمغه، لا نخشى ملام لائم ولا وقاحة معتد آثم، وقد كانت سنتنا هذه لا تقل عن سابقتها بتحقيق المسائل وإشباع المواضيع ونصر السنة الشريفة وإظهار بعض محاسنها وقمع البدع السيئة وبيان أضرارها وخدمة السلف بذكر شيء من عاداتهم وأخلاقهم وقد لاقينا من الصعوبات في هذا السبيل ما نفوض أمره إلى الله ونكله إليه عز اسمه راجين منه سبحانه التأييد والسداد والإخلاص وحسن النية والعفو عن الخطيئة والتوفيق لخدمة هذه الأمة البائسة خدمة حقيقية قياماً ببعض الواجب ومراعاة لما أخذنا به أنفسنا من التفاني في هذه الطريقة الشريفة على قدر الإمكان وفي الختام نشكر من آزرونا في هذا المشروع العظيم بأفكارهم وأقلامهم وأبحاثهم ونسأل الله تعالى لنا ولهم حسن الجزاء والختام.(22/64)
العدد 23 - بتاريخ: 10 - 12 - 1912(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
فاتحة السنة الثالثة
سبحانك اللهم لا نحصي ثناءً عليك. أنت كما أثنيت على نفسك وفقتنا لخدمة ديبنك فارزقنا الثبات. وهديتنا سبيل الخير فأخلص منا النيات. وألهتنما القيام بهذا العمل فخذ بيدنا إلى الصواب واجعلنا هاديين مهديين. غير ضالين ولا مضلين. وصل وسلم على سيدنا محمد سيد رسلك. وخيرتك من خلقك وعلى آله وصحبه وعترته وحزبه. وبعد فهذه مجلتنا الحقائق على رأس عامه الثالث وقد مر عليها حولان كاملان وهي قائمة برد الشبه عن الدين. ونشر الأخلاق الفاضلة بين المسلمين شعارها الصدق. ودثارها الحق. وهي للمسلمين عامة لا علاقة لها بالأحزاب السشياسية ولاغرض لها إلا نصرة الشريعة المحمدية وقد لاقت من المصاعب ما يلاقيه الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في هذا الزمن الذي اعتاد الناس فيه الفجور. وألفوا فيه الفسوق. وأصبح دين الرجل هواه فلا يرده عن غيه نصح الناصحين. ولا إرشاد المرشدين. وفشت فيه العلوم المادية. وتعلمها الناس على طريقة لا تلتئم مع تعاليم الدين. بل تدعو إلى الشبه والشكوك فيه. ولكن ولله الحمد لم تؤثر تلك المشاق على عزائمنا لأنا نرى هذا العمل من أهم الواجبات وأقدس الوظائف.
هذا وستقوم المجلة في سنتها الثالثة بما قامت به في السنتين قبلها مع زيادة الاعتناء بتجويد المواضيع وتهذيب المباحث وقد جعلنا ابتداء عامها الثالث شهر محرم رأس السنة الهجرية وسيكون صدورها منتظماً في أوقاته المعينة إن شار الله تعالى.
وفي الختام نكرر رجاءنا لأهل العلم والفضل أن يمدونا بأفكارهم وآثار أقلامهم والله نسأل أن يزيد بصحيفتنا النفع ويعظم بها الأجر إنه ولي التوفيق.(23/1)
الدين الإسلامي والتوحيد
18
التفاضل بين الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام
والملائكة والصحابة
قدمنا أن من تمام نعمة الله تعالى وكمال رحمته بهذا النوع الإنساني أن أرسل إليه رسلاً هادين مرشدين اصطفاهم من بين أفراده وميزهم بخصائص لا يشركهم فيها سواهم وأيدهم بالآيات والمعجزات تصديقاً لدعواهم وتحقيقاً لصدق نبوتهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وذكرنا معنى المعجزة والفرق بينها وبين ما يظهر من خوارق العادات على أيدي غيرهم وأثبتنا أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو أكثر الأنبياء معجزة وأبهرهم آية وأظهرهم برهاناً وأوضحهم محجة وتبياناً ثم سردنا شيئاً يسيراً من معجزاته إظهاراً لعظيم قدره وسمو مكانته وإيذاناً بما حباه الله تعالى من الآيات المثبتة لنبوته والمواهب الدالة على تحقيق رسالته وفي هذا المقام نريد أن نبين أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل خلق الله تعالى وأن الأنبياء والملائكة عليهم السلام متفاوتون في الرتبة وكذلك الصحابة رضي الله عنهم فنقول:
أجمعت الأمة الإسلامية على أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق علي الإطلاق من أنبياء وملائكة وغيرهم. قال تعالى (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات) قال المفسرون يعني محمداً عليه الصلاة والسلام رفعه سبحانه من ثلاثة أوجه بالذات في المعراج وبالسيادة على جميع البشر وبالمعجزات فإنه عليه الصلاة والسلام أوتي من المعجزات مالم يؤته نبي قبله.
فال الزمخشري وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره مالا يخفى لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه والمتميز الذي لا يلتبس وقد بينت هذه الآية وكذا قوله تعالى (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) إن مراتب الرسل والأنبياء عليهم السلام متفاوتة والتفضيل المراد لهم هان في الدنيا وكذلكة بثلاثة أحوال أن تكون آياته ومعجزاته أظهر وأشهر أن تكون أمته أزكى وأكثر أن يكون في ذاته أفضل وأطهر وفضله في ذاته راجع إلى ماخصه الله تعالى به من كرامته وتفضيله ببكلام أو خلة أو رؤية أو ماشاء الله من(23/2)
الطافة وتحف ولايته واختصاصه وغير ذلك.
ولامرية في أن آيات نبينا صلى الله عليه وسلم ومعجزاته أظهر وأبهر وأكثر وأبقى وأشهر ومنصبه أعلى ومقامه أعظم وأوفر وذاته أفضل وأطهر وخصوصياته على جميع الأنبياء أشهر من أن تذكر وقد ثبت أن انتفاع أهل الدنيا بدعوته أكمل من انتفاع الأمم بدعوة سائر المرسلين فوجب أن يكون أفضل النبيين وأن تكون درجته أرفع من درجاتهم ومرتبته أسمى من مراتبهم.
ومن تأمل حديث الشفاعة في المحشر وانتهاءها إليه وانفراده هناك بالسؤؤد يظهر لهما لهذا الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم من الاختصاص بالمقام الأعلى والمراتب العظمى.
أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي لله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من تنشق عنه الأرض للحشر وأول شافع وأول مشفع وفي الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم أنا أكرم ولد آدم يومئذٍ على ربي ولا فخر وفيه أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال الصلاة والسلام أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال عليه السلام أنا سيد الناس يوم القيامة.
قال الفخر الرازي رحمه الله أن الله سبحانه وتعالى وصف الأنبياء بالأوصاف الحميدة ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم (أولئك اللذين هذه الله فبهداهم أفئدة) وقد أتى بجميع ما أتوا به من الخصال الحميدة فقد اجتمع فيه ما كان مفرقاً فيكون أفضل منهم.
وأما ما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام (لا تفضلوني) على يونس بن متى ولا تفضلوا بين الأنبياء) ولا تخيروني على موسى كما في الشفاء للقاضي عياض فقد حمل العلماء النهي على التفضيل المؤدي إلى تنقيص بعضهم وانحطاط قدرهم أو أنه قال ذلك تواضعاً واحتراماً لمقامهم أو نهى عن ذلك قبل علمه بأنه سيد ولد آدم وأفضلهم وأشرفهم.
ويليه صلى الله عليه وسلم في الفضيلة سيدنا ابراهيم فموسى فعيسى فنوح عليهم الصلاة والسلام وهؤلاء هم أولو العزم المشار إليهم في القرآن العظيم بقوله تعالى (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) كما اتفقت عليه كلمة العلماء ويلي أولي العزم بقية الرسل ثم(23/3)
الأنبياء غير الرسل مع تفاوت مراتبهم عند الله تعالى لظاهر قوله تعالى (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) ويليهم في الفضيلة الملائكة عليهم السلام وهم متفاوتون في الفضيلة كما قدمنا وحقيقتهم أنهم أجسام نورانية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة شأنهم الطاعة ومسكنهم السماوات غالباً ومنهم من يسكن الأرض كما وتصفهم الله تعالى بقوله (عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) لا يوصفون بذكورة ولابأنوثة ولا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون وأفضلهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم السلام وهم رؤساء الملائكة وهذا باتفاق العلماء ثم بقية الملائكة بعضهم أفضل من بعض على حسب مراتبهم.
وأما الصحابة رضي الله عنهم فإنهم أفضل القرون المتأخرة والمتقدمة ماعدا الأنبياء والمرسلين لحديث أخرجه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدَّا أحدهم ولا نصيفه وفي الترمذي من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام الله الله في أصحابي لا تنخذونهم غرضاً من بعدي فمن أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم إلخ.
ولا يخفى ترجيح رتبة مكن لازمه صلى الله عليه وسلمة وقاتل معه وقتل تحت رايته على من لم يكن كذلك وأفضل الصحابة النفر الذي ولي الخلافة العمى وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وشأنهم في ترتيبهم في الفضل على حسب ترتيبهم في الخلافة ويدل على ذلك حديث بن عمر رضي الله عنه المخرج عند الطبراني كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي فلم ينكره صلى الله عليه وسلم.
قال السعد التفتازاني على هذا وجدنا السلف والخلف ثم يلي الخلفاء الأربع في الأفضلية الستة الباقية تمام العشرة المبشرين بالجنة وهم طلحة بن عبد الله والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وأبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنهم ولم يرد نص بتفاوت بعضهم على بعض في الأفضلية فلا نقول به لعدم التوقيف وتخصيص هؤلاء العشرة بالجنة لكونهم جمعوا في حديث مشهور أخرجه الترمذي وبن(23/4)
حيان ثم يلي رتبة الستة في الأفضلية أهل بدر لحديث أخرجه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم أن الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
ثم يلي رتبة أهل غزوة بدر الصحابة الذين غزوا أحد ثم يليهم أهل بيعة الرضوان ثم بقية الصحابة أهل القرن الأول ثم يليهم في الأفضلية أهل القرن الثاني ثم أهل القرن الثالث لحديث البخاري ومسلم عن عمر أن أبن حصين وبن مسعود رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. يتبع(23/5)
الخط العربي
لا يرتاب أحد في أن الكتابة من أرف الصنائع وأسماها قدراً وأعظمها منفعة وأتمها فائدة إذ بها جمعت العلوم ودونت الأحكام وقيدت الحكمة وضبطت أخبار الأولين ووقائعهم ولولا الكتابة ما انتظمت شؤون العلوم ولا اتسعت دائرة المعارف والفنون الكتابة حافظة على الإنسان حاجته ومقيدة لها عن النسيان ومبلغة ضمائر النفس إلى البعيد الغائب ومخلدة نتائج الأفكار والعلوم في الصحف ورافعة رتب الوجود للمعالي فهي القطب الذي يدور عليه نظام الاجتماع البشري والأس الذي ترتكز عليه دعائم مصالحه وكفى الكتابة شرفاً أن الله تعالى أقسم بالقلم وما سطر به وأمتن على الإنسان بتعليمه الكتابة فقال سبحانه (اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم) وقد تقرر لدى العمران أن الكتابة أشرف وأنفع من النطق لأن ما تثبته الأقلام باق مع بقايا الأيام وما ينطق به اللسان تدرسه السنون والأعوام مدعين أن قوام الذين والدنيا بسيئين السيف والقلم لكن رتبة السيف تحت رتبة القلم قال الشاعر:
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... إن السيوف لها مذ أرهفت خدم
كانت كتابات الأمم كما في ابن خلدون اثنتي عشر كتابة وهي الفارسية والحميرية والعربية واليونانية والسريانية والعبرانية والرومية والقبطية والبربرية والأندلسية والهندية والصينية وقد انقرض بعض هذه اللغات بانقراض من يتكلم بها.
أول من خط بالعربي مر أمر ابن مرة وكان يسكن الأنبار ومن الأنبار انتشرت الكتابة في العرب والذي نقل الكتابة من الأنبار إلى الحجاز حرب بن أمية جد الملوك الأموية إلا ن الخط العربي لأول الإسلام كان غير بالغ إلى الغاية من الأحكام والاتقان والإجادة ولا إلى التوسط لمكان العرب من البداوة وبعدهم عن الصنائع قال ابن خلدون واعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية والكمال في الصنايع إضافي وليس بكمال مطلق إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ولا في الخلال وإنما يعود على أسباب المعاش وبحسب العمران والتعاون عليه لأجل دلالته على مافي النفوس إلى أن قال ثم لما جاء الملك للعرب وفتحوا الأمصار وملوا الممالك ونزلوا البصرة والكوفة واحتاجت الدولة إلى الكتابة استعملوا الخط وطلبوا صناعته وتعلمه وتداولوه فترقت الإجادة فيه واستحكم وبلغ في الكوفة والبصرة رتبة من الإتقان.
وذكر المؤرخون أن تحسين الخط العربي في الإسلام كان في زمن بني أمية وكان أول(23/6)
خطاط في ذلك العهد رجل يدعى (قطبه) وكان أكتب الناس في عصره ثم جاء بعده الضحاك بن عجلان الكاتب في أول خلافة بني العباس فزاد على قطبه.
وكان حسن الخط في صدر الإسلام مختصاً بكتابة المصاحف وأول من كتب المصاحف في الصدر الأول مع حسن الحظ خالد بن أبي هياج كان يكتب المصاحف والشعر والأخبار للوليد ابن عبد الملك ثم مالك بن دينار وكان لخطوط المصاحف أنواع منها المكي والمدني والبصري والكوفي والمثلث والمدور والمحقق وهو العراقي والسجلي والأصفهاني ولم يزل الناس يكتبون بهذه الخطوط وبالخط العراقي إلى أيام المأمون فأخذ كتابه وأصحابه بتجويد خطوطهم فتفاخر الناس في ذلك وظهر رجل من صنائع البرامكة يعرف (بالأحول المحرر) عارف بمعاني الخط وأشكاله فتكلم على رسومه وقوانينه وجعله أنواعاً وكان يحرر النافذة من السلطان إلى ملوك الأطراف فرتب الأقلام وضم إليها أقلاماً أحدثها. منها قلم الأمانات والقلم المدمج والقلم المرصع والقلم النساخ ثم أتى بعده الفضل بن سهل فاخترع قلما هو أحسن الأقلام يعرف (بالرياسي) ثم ظهر بعده جملة من الخطاطين إلى أن انتهى حسن الخط للوزير أبي علي بن مقلة وزير المقتدر بالله العباسي وهو أول من نقل الخط الكوفي إلى خط النسخ وأبرزه في الصورة المعروفة اليوم ثم جاء بعده أبو الحسن بن هلال المعروف بابن البواب فهذب هذه الطريقة ونقحها وكساها طلاوة وبهجة كما ذكره ابن خلكان حتى قال في ترجمته لم يوجد في المتقدمين ولا المتأخرين من كثب مثله ولا قار به ثم انتقل حسن الخط بعده إلى جمال الدين ياقوت المستعصي مولى المستعصم العباسي وطار صيته في أنحاء البسيطة وكتب المصاحف الكثيرة. قيل بلغت ألفاً وواحداً وقد كتب لابن سينا نسخة من الشفاء في مجلد واحد وأهداه إلى الشاه (محمد طقلق) أحد ملوك الهند فأنعم عليه بألف مثقال من الذهب ويروى أن القطب الكبير سيدنا عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه كان يجل ياقوتاً ويثني عليه ويقول أن في يده سراً من أسرار الله.
ومازال الخط من ذلك العهد يزداد حسناً وجودة مع الاعتناء بشأنه وضبط قواعده وتنوع أساليبه إلى أن انتهى إلى جماعة من الخطاطين اشتهروا بالمهارة وكمال الاتقان وخلد لهم التاريخ ذكراً حسناً أشهرهم الحافظ عثمان رحمه الله تعالى وهو الذي فاق من تقدمه في حسن الخط وحاز قصبات البنى في مضمار هذه الصناعة بشهادة من كانوا معاصرين له(23/7)
من الأساتذة المشهود لهم بكمال المعرفة وكانت له مكانة سامية عند السلطان مصطفى خان الثاني العثماني حتى روي أنه كتب خمسة وعشرين مصحفاً ماعدا الأجزاء المتفرقة ثم خلفه كثير من الأساتذة فسبحان من علم الإنسان ما لم يعلم وميزه على كثير ممن خلق بما تفضل به عليه وتكرم.
وهنا يحمل بنا أن نذكر ما يؤيد وجود الكتابة في العرب ومعرفتهم بها نقلاً عن كتاب (بلوغ الأرب في أحوال العرب) باختصار فمن ذلك ما استلموه في لغتهم من الألفاظ الموضوعة لآلات الكتابة والكتَّاب إذ لو لم يعرفوها لم يضعوا تلك الألفاظ لمعانيها كقولهم (الدواة) وجمعها دوى ودويات (والليقة) اسم القطن أو الصوف الذي يلصق به المداد وهو من قولك لاق به الشيء يليق إذا ألصق به وسمي المداد (مداداً) لأنه يمد الكاتب. ومددت الدواة جعلت فيها المداد والمدة بالفتح غمس القلم في الدواة مرة للكتابة. وقد خثرت الدواة خثوراً إذا ثخن نقسها وهو المداد يقال له (نقس وانقاس) والقلم قبل أن تبريه يقال له أنبوبة فإذا بريته فهو قلم وما يسقط منه عند البري يسمى (بالبراية) وأنقت القلم حددت طرفه وشباته حدة. وقططته قطً والمقط مايقط عليه، والقط القطع عرضاً، والقدان يقطع الشيء طويلاً ويقولون قلم رشاش وذلك إذا حاف الشق على أحد جانبيه فدق وتعثر (أي كبا) بشظايا الكتاب (أي بأعصابه) ورشتش المداد، وتقول حقي القلم من كثرة الكتابة (أي رق) وتقول كتبت كتاباً وهو مصدر وإنما يطلق على المكتوب على السعة والكتابة صنعة الكاتب والطرس الكتاب الممحو الذي يستطاع أن تعاد فيه الكتابة أو الصحيفة التي محيت ثم كتبت والتطريس إعادة الكتابة على المكتوب وطرَّس الكتاب سوده والطلس باللام الصحيفة أو كتاب لم ينعم محوه فيصير طرساً وأنمجت نقطة من القلم ترششت ومجمج الكتاب ثيجه ولم يبين حروفه والتثبيج تعمية الخط وترك بيانه والصحف ما كان من جلود والقطا الصك وكتاب المحاسبة والمجلة صحيفة كانوا يكتبون فيها الحكمة قال النابغة:
مجلتهم ذات الآلة ودينهم ... قويم به يرجون خير العواقب
والعهدة كتاب الشراء وهي وثيقة المتابعين وكتب له منشوراً يشد ورجعة الكتاب ورجعانه جوابه ويقال أجابه في هامشة كتابه إذا كتب بين السطرين وهو من قولك تهامش القوم إذا دخل بعضهم في بعض وهمش الجراد إذا تحرك ليثور وتقول نقطت الكتاب وأعجمته(23/8)
وشكلته وقيدته وهذا كتاب غفل كقولك دابة غفل إذ لم يكن موسوماً والسجل كتاب العهد وتقول أمليت الكتاب وأمللته واستملة إذا سأل الإملاء والزبور والرقيم الكتاب وزبرت ورقمت كتبت وقرمطت قاربت بين الحروف مأخوذ من القرمطة وهي دقة الكتابة وسحيت الكتاب سحياً إذا قلعت منه سحاية وهي القشرة تأخذها عن القرطاس وخزمته ثقبته وحزمته شددته ويقال تربت الكتاب وأتربته وتربته وختمته ومنونته وأرخته تاريخاً وهذه إضبارة من كتب أي حزمة منها وإضمامة والكراسة ما تكرست أوراقه وتلبدت واحدة الكراس والكراريس وهي الجزء من الصحيفة والمصحف سمي مصحفاً لأنه أصحف أي جعل جامعاً للصحف المكتوبة بين الدفتين وهما اللوحان اللذان يكتنفانه وله الغلاف وفيه العروتان والمحبرة والحبرية التي فيها الحبر وهو الزاج والرشق صوت القلم وحصرم القلم براه والمرقم كمنبر هو القلم ومثل ذلك بكثير في كتب اللغة والأدب مما يرشدك إلى أم الكتابة كانت منتشرة في العرب بدليل استعمال ما تقدم من الألفاظ الموضوعة لآلات الكتابة وما يتعلق بهذه الصناعة ولم يكن للعرب القرطاس المعهود اليوم بل كان عندهم كل ما يمكن أن يكتب عليه كالرق وربما كانوا يكتبون على العُسب والجريد وماشاكل ذلك وإنما حدث الكاغد (القرطاس) في زمن الملوك العباسية بإشارة الفضل بن يحيى زوكتب فيه رسائل السلطان وصكوكه واتخذه الناس من بعده صحفاً لمكتوباتهم العلمية والسلطانية وبلغت الإجادةة في صناعته ما شاءت كما بسطه ابن خلدون في مقدمته والله أعلم.(23/9)
دليل نبوة سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم
من مقال للكاتب الشهير محمد قريد بك وجدي
قال كارلايل الفيلسوف الإنكليزي الشهير الذي يعد أكبر الإنكليز بعد شكسبير (توفي سنة 1881) م قال في إقامة الدليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه الأبطال وديانة الأبطال ما معناه:
(لو جاءك رجل فادعى لك أنه بناءً فماذا تطلب من الأدلة على زعمه ذلك أكثر من أن بيني ذلك بيتاً مشيد الدعائم ثابت الأركان. ثم ماذا كنت قائلاً لو بني ذلك البيت من السعة بحيث يسع نحو مائة وثلاثين مليوناً من الأنفس ويعيش جديداً متيناً نحو ثلاثة عشر قرناً) هذا المثل نضربه لمحمد النبي العربي الذي قال أنه نبي ثم قرن مقالته هذه بتأسيس دين متين دخل فيه الناس أفواجاً ومازالوا متمسكين به اليوم تمسكاً لا يوجد له نظير في الأمم الأخرى. فإن زعم زاعم بان ذلك دين باطل فنجيبه بأن الباطل مثله كمثل أوراق البنك الزائفة تمر من يد ويدين ولكنها لا تكاد تمر في اليد الثالثة حتى تضبط وتعرف أنها زائفة فلا يقع في أحبولتها أحد هكذا عهدنا حال الأباطيل في هذا النوع الإنساني. وهذا الإسلام قد مضى عليه كل هذا الزمان وتولته رجال من كبار العقول أحقابا بعد أحقاب ولم يزل موضع الإجلال والإعظام إلى اليوم. أليس في هذا ما يدل على أنه حق؟
هذا معنى قول (كارلايل) في الفصل الذي خصصه للنبي صلى الله عليه وسلم من كتابه ذلك وهو قول جدير بالروية لمن ألقى السمع وهو شهيد. كل الناس يعلمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم ظهر في أمة العرب وحده معلناً قومه بأنه أرسل إلى الناس كافة بدين الله الذي هو الإسلام دين الفطرة وكل الناس يعلمون أنه أوذي واضطهد هو ومن تبعه نحواً من ثلاثة عشرة سنة بمكة ثم هاجر إلى المدينة وهناك وجد أنصاراً قاتل بهم من قاتلهم حتى خضد شوكتهم وثلم حدهم وانتهى الأمر بجزيرة العرب كلها إلى الإسلام.
وكل الناس يعلمون أنه كان وهو صاحب الكلمة العليا ومالك ناصية الأمة بحذافيرها الزهد والعبودية والبعد عن حطام الدنيا كما كان أيام كانوا يرمونه بالحجارة ويستهزؤن به في النوادي. وكل الناس يعلمون أنه لما اشتد أذى الكافرين وثقلت وطأتهم على المؤمنين حتى(23/10)
كان الرجل لا يعبد الله وهو مطمئن. أنزل الله على رسوله قوله تعالى (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم آمناً يعبدونني لايشركون بي شيئاً) وكل الناس يعلمون أن هذا الوعد الإلهي تحقق وصار العرب خلفاء الأرض وبلغوا من الملك ما لم تبلغه أمة قبلهم. هذه حادثة اجتماعية تحتاج إلى تعليل مقبول تطمئن إليه النفس وليس أمامنا إلا أحد فرضين وهما إما التسليم بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله حقيقة أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وقد أنجز وعده ونصر عبده وأعز جنده وإما فرض أنه ليس برسول وأنه وصل إلى ما وصل إليه بالتدبير وحسن السياسة. إن مال مائل إلى الفرض الثاني ناقشناه المسألة وقلنا ينبني على أنه ليس برسول جملة أمور (أولاً) أنه مدعي النبوة كذباً (ثانياً) أنه تظاهر بما كان متصفاً به من الأخلاق والعبادة رياءً وانه استطاع أن يثبت على هذا الرياء طول حياته (ثالثاً) أنه استطاع أن يخفي حاله ذلك على كل أحد حتى أخص أصحابه وأخص نسائه (رابعاً) أن الله أيده ونصره وجعل كلمته العليا مع اتصافه بهذا الحال (خامساً) أنه مع اتصافه بهذا الحال أتى بعمل فاق كل المرسلين فإنه ليس في تاريخ الأنبياء انقلاب نشأ من بعثته رسول كالانقلاب الذي أحدثته البعثة المحمدية (سادساً) أن الأمة العربية من الغباوة بالمكان الأسفل (سابعاً) أنه مدع لكنه أتى بما أتى به المرسلون من الكمالات - لنفحص هذه الوجوه السبعة وجهاً وجهاً فنقول: أما فرض ادعائه النبوة كذباً فلا يثبت أمام النقد. لأن النبوة أمر خطير وشأن جليل لا يقدم على ادعائه زوراًَ وبهتاناً إلا رجل مطبوع القلب فاسد الفطرة سيء النية جريء على الله ومن كان كذلك كان حياته سلسلة جرائم وشبكة مآثم بعيدة عن الخير في كافة وجوهها مصروفة عن الفضيلة بسائر ضروبها فهل كان محمد صلى الله عليه وسلم في باكورة حياته من هذا الصنف من الناس أما شهد تاريخه بأنه كان من مكارم الأخلاق وطهارة الخلال قبل النبوة بحيث سماه معاصروه بالأمين لم تحفظ عليه جريمة ولم تعرف عنه خصلة ذميمة: ومن كانت حياته الأولى طهراً وصفاته غراً فكيف ينقلب بعد الأربعين إلى ضدها أو ترتكس طبيعته إلى نقيضها هل تبدلت سنة الخليقة، هل تحولت نواميس الطبيعة.(23/11)
أما فرض أنه كان متظاهراً بتلك الخلال الكريمة والصفات القويمة رياءً فأوهى أمام الامتحان من الفرض الأول. لأن الرياء صفة النفوس المنحطة وديدن أصحاب القلوب الخوارة وهي خصلة عالية وصبغة ظاهرية إن استترت حيناً انكشفت بعده لا محالة بطبيعتها لأن الرياء لما كان حبالة لصيد أو وسيلة لكيد فهو ثوب مستعار تنفعل له النفس انفعالاً ما دام فيها أمل للوصول إليه ويكون شأنه كشأن سائر الصفات العارية من التلاشي أمام العوارض الفجائية والزوال أمام المخاوف الطاءرة! فصاحب هذا الحال يكون دائماً مضطرباً مذبذباً يكاد يظن أن نفسه تنم عليه! ثم إن حوادث الحياة وطوارق الحدثان وماجريات الأحوال كاشفات للغش فاضحات للتدليس فلا تجد مرائياً بالزهد أو بالشجاعة أو بالكرم إلا وقد فضح أشنع فضيحة أمام الناس لا سيما إن كان متعرضاً للحوادث يعالجها أو متصدياً للخلائق يكافحها! ومن أبعد الفروض عن العقل أن يدعي مدع إمكان الثبات على مثل هذا الرياء حياة بأكملها لأن المراآة لا تكون إلا نيل غرض فإن حصل ذلك الغرض عاجلاً أو آجلاً ضعفت المراآة وشفت عما وراءها من التمويه لأن نفس المرائي لا تكون عادة إلا نفساً منحطة سافلة يستطيرها بارق الأمل ويزدهيبها ظاهر النجاح فتفتضح سنة الله في خلقه ليتميز الحق من الباطل.
أما الفرض الثالث وهو أنه استطاع أن يكتم رياءه على أخص أصحابه ونسائه. فهذا الفرض أضعف أمام التمحيص من سابقيه لأن تاريخه دلنا أن كل صاحب أصحابه مثله فمن كانوا من أصحاب التدليس يكون لهم أخصاء على شاكلتهم يعاونونهم على نيل بغيتهم ويشاطرونهم المغنم من فضلتهم وقد دل تاريخ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن أخص أصحابه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي كانوا على شاكلته من الزهد في الدنيا والبعد عن زخارفها وقد تولوا الخلافة بعده بانتخاب الأمة لهم فلم تفتنهم السلطة ولم تستخفهم أبهة الملك وما كانوا إلا خدماً لمن تولوا شأنهم يلبسون أقل مما يلبسون ويأكلون أدنى مما يأكلون، يبيتون ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً. وها هن أزواجه صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين كن أمثلة كمال وفضيلة وعلى غاية من الزهد والصلاح حتى لحقن به طاهرات تقيات فما هذا الرياء الذي يبلغ هذا المبلغ وما هي الفضيلة بعد ذلك؟.
أما فرض أن الله أيده ونصره مع اتصافه بهذه الصفات فهو أوهن من كل الوجوه التي(23/12)
مرت! ومتى عهد أن الله يؤيد المرائين المفترين ويمكنهم من التسلط على قلوب العالم عامتهم وخاصتهم لا سيما وهم منتحلون لقب النبوة وواسمون أنفسهم بسيماء الرسالة وهي أكبر حوادث الوجود الإنساني خطارة. إذا ساغ لإنسان أن يفرض هذا الفرض فقد اتهم عدالة الله تهمة يستوجب عليها التعزير الكبير وأساء النظر في النواميس الاجتماعية كل الإساءة ودل على مقدار غفلته عن نظام الكون ونظام التهيئات الاجتماعية وإذا ساغ لأحد أن يفرض هذا الفرض فقد شك في سائر الديانات لأن الخالق إن أيد الباطل لهذه الدرجة فلا يبعد أن تكون سائر الديانات السابقة باطلة ولكن المعروف من رحمة الله ومن أحوال الكون بما لا شبهة معه أن الله عدو المبطلين المفترين وأن ملائكته والوجود وما فيه أعداء ألداء لهم بل أن نظام الكون وما أودع الله فيه من علائق مرتبة بين العلل والمعلولات وبين الأسباب والمسببات يأبى أن ينجح المبطلون أو يفوز المفترون والمدلسون! ذلك لأن التدليس والافتراء وما شاكلهما صفات منحطة لا تناسب إلا النفوس الساقطة ولا يمكن أن تكون النفوس الساقطة طليعة للانقلابات المرقية بوجه من الوجوه!
وقد نقل المسيحيون فيما نقلوه من أقوال عيسى عليه السلام في الإنجيل أنه لما قال لهم سيظهر بعدي أنبياء كذبة فاحذروهم - أن بعضهم سأله بأي علامة نميزهم فقال علامتهم أن الله لا يؤيدهم فما قولك فيمن أيده الله ونصره وأعلا كلمته وأظهر دينه على الدين كله؟.
أما فرض أنه مع اتصافه بذلك يأتي بأعمال تفوق ما عمله المرسلون فعجيب جداً لأنه لو تجاسر إنسان وفرض أن الله ربما ساعد المفترين المدلسين فهل يعقل أن يساعدهم حتى يأتوا بما يفوقون به سائر الأنبياء والمرسلين. وهذا هو التاريخ أمامنا ناطق بأن ما أتاه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم في مدى ثلاث وعشرين سنة من أول رسالته إلى يوم وفاته من هدم الوثنية من جزيرة العرب بأسرها وتأسيس أمة حية ركينة الرابطة قامت بأجل عمل في العالم مما لم يتسن مثله لأي رسول سابق فهل يتصور أن الله يأخذ بيد المفترين حتى يعلو بهم على الأنبياء والمرسلين.
متى عهدنا أن الله تعالى يعلي شأن الرذيلة ويحط قدر الفضيلة بل متى عهدنا أن الله يرفع التدليس على النبوة.
أما فرض أن الأمة كانت من الغباوة بالمكان الأسفل حتى راج فيها كل هذا التدليس فمن(23/13)
الفروض الساذجة فإن التاريخ دلنا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث بين ظهراني مكة نحواً من ثلاث عشرة سنة وهو يدعوهم إلى الله فلم يقبل الدعوة منهم إلا نفل قليلون وكان الباقون من تسلط الشك عليه بحيث يقولون كما حكى الله عنهم (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا) إلى قوله عز اسمه (أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه) الآية، وقد كانوا من شدة الشكيمة والبعد عن العقيدة وتمكن الشك من قلوبهم بحيث قال الله عنهم (ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون).
أما الفرض السادس وهو أنه مدعٍ وجاء بما جاء به النبيون من الكمالات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة العبادات فمن الفروض التي لا تثبت أمام النقد فإنه قلب لسنة الكون. إذ كيف يفرض أنه مفتر ثم ينتظر منه الإتيان بشريعة تعد أعدل شريعة ظهرت في الوجود لاشتمالها على أصول العدالة واحتوائها على روح القسط. متى عهدنا القلوب السافلة والنفوس المنحطة مصدراً لأمثال الشرائع الكاملة والقوانين الفاضلة التي ترقي الأمم وتحفظ كيانها.
هذه فروض يقتضيها زعم من يتجاسر فيزعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس برسول وقد أريناك مكانها من العلم فلم يبق أمامنا إلا الفرض الأول وهو أنه رسول رب العالمين وإمام الأنبياء الصالحين وخاتم رسل الله المخلصين وأنه أرسل رحمة للعالمين، بكتاب من عند الله مبين سيكون كتاب الناس أجمعين ولتعلمن نبأه بعد حين.
(فريد وجدي)(23/14)
حكم أخلاقية
جاءنا من حضرة العالم الفاضل التقي الشيخ عارف أفندي المحملجي قصيدة أخلاقية غراء نقتطف منها ما يأتي، قال في مطلعها:
افتتح الظلم يا إلهي ... بما به كتبك افتتحت
فاجعلني من حامديك علّي ... أحمدك دوماً كما حمدت
وصل ربي عَلَى نبي ال ... هدى وسلم ما دمت أنت
إلى أن قال:
لا يدرك المجد بالأماني ... ولا الدعاوي كما زعمت
فاترك جميع الغرور واعمل ... يا صاح فيما له خلقت
واسلك سبيل التقى وانصف ... ولا تحم حول ما جهلت
واصحب أهيل النهى ولازم ... ودادهم إن بهم ظفرت
فهم أولوا الفضل ليس يشقى ... جليسهم يا من اعترفت
واضرع إلى الله وارفع ... أكف ذل إذا دعوت
واخضع وكن راضياً مطيعاً ... لأمره مثل ما أمرت
وانته عما نهاك عنه ... ومنها فاسمع إذا تلوت
ولا تمل للسوى وأكثر ... من خوفه كلما دنوت
وقف على بابه حزيناً ... تصر أميناً إذا دهلت
واشكره دوماً يزدك براً ... واذكره سراً وإن جهرت
وراقب الوقت والتجلي ... واصبر تر الخير إن صبرت
فالوقت سيف يقطعك عنه ... يا حبذاً إن له قطعت
وصل حبال الوداد حتى ... تفوز بالأنس إن وصلت
وعانق الصمت والتأني ... ورافق الجوع إن سهرت
ووافق القوم ما استقاموا ... ولا تنافق إذا صحبت
ومر بعرف لا تخش لوماً ... عن منكر فإنهَ إن رأيت
ولا تسكتن في الحالتين ... فيسخط الله إن سكت
يسر ولشر سدد وقارب ... وجانب الناس ما استطعت(23/15)
ألا لأخذ العلوم عمن ... يكون أهلاً فيما حسبت
وانهض لنيل العلى بحزم ... وجدد العزم إن سئمت
وخالف النفس في هواها ... وفر منها إذا قدرت
ولا تقاعد في المعالي ... ولا تباعد وإن حرمت
ولا تقف في السلوك أصلاً ... فينتهي السير إن وقفت
فكل فضل يعلوه فضل ... فاصعد إلى فوق ما ارتقيت
وإن توالت عليك نعما ... ءه استزده مما وهبت
فإن مولاك ذو نوال ... يجود فضلاً عليك حتى
يغنيك عما سواه فيما ... يمن يامن له عرفت
ودأبه الجود والعطايا ... وليس يرضاك إن بخلت
فثق به دائماً وانفق ... يهبك من خير ما رزقت
لا تشتغل بالعباد عنه ... وخف من الطرد إن شغلت
وكن حليماً سمحاً كريماً ... وكن رحيماً بمن وليت
وفه بخير مادمت حيا ... ولاحظ الشرع حيث كنت(23/16)
العمامة في الإسلام
ضمني وبعض الأصحاب مجلس تكلمنا فيه على العمامة وأنها سنة فقال بعض من حضر أنها ليست من السنة الشريفة فأحببت أن أنقل من السنة الشريفة ما يثبت سنيتها لعل الله ينفع به بعض الأخوان والله الهادي إلى سواء السبيل.
فأقول الحمد لله العليم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآلة وصحبه أجمعين أما بعد فإن العمامة سنة من سنن الإسلام. وقد جاء في التعمم أحاديث كثيرة منها ما أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب الجهاد قال حدثنا أبو موسى حدثنا عثمان بن عمر عن الزبير بن جوان عن رجل من الأنصار قال جاء رجل إلى ابن عمر فقال يا أبا عبد الرحمن آلعمامة سنة فقال نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف اذهب فأسدل عليك ثيابك والبس سلاحك ففعل ثم أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقبض ما سدل بنفسه ثم عممه فسدل.
وروى أبو نعيم في معرفة الصحابة من حديث عبد الأعلى ابن عدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يوم غدير (خم) فعممه وأرخى عذبة العمامة من خلفه ثم قال هكذا فاعتموا فإن العمائم سيماء الإسلام وهي الحاجز بين المسلمين ذكر هذين الحديثين الشريفين العيني في شرحه على البخاري في باب العمائم.
وفي الجامع الصغير العمامة على القلنسوة فصل ما بيننا وبين المشركين يعطى يوم القيامة بكل كورة يدورها على رأسه نوراً أخرجه البارودي عن ركانة ونقل القسطلاني في باب العمائم أيضاً عن أبي داوود والترمذي عن ركانة رفعه فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم وعن ابن عمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه رواه الترمذي وعند ابن أبي شيبة من حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمم عبد الرحمن بن عوف بعمامة سوداء من قطن وأفضل له من بين يديه مثل هذه.
وفي رواية نافع عن ابن عمر قال عمم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عوف بعمامة وأرخاها من خلفه قدر أربع أصابع وقال هكذا فاعتم وفي حديث الحسن بن علي عند أبي داود أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه وفي الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه. وهل ترخى من الجانب الأيسر أو الأيمن قال الحافظ الزين(23/17)
العراقي المشروع من الأيسر ولم أر ما يدل على تعيين الأيمن إلا في حديث أبي أمامة بسند قد ضعف أه منه وقال الباجوري رحمه الله تعالى في شرحه على الشمائل في باب عمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمامة سنة لاسيما للصلاة وبقصد التجمل لأخبار كثيرة فيها وتحصل السنة بكونها على الرأس أو على قلنسوة تحتها أه فمن تأمل في هذه الأحاديث الشريفة وعلم أحوال النبي عليه الصلاة والسلام ومحافظته على العمامة وكيف عمم غيره وأمره بالتعمم على أن التعمم من السنة بل ربما يشعر بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم (فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم) بالوجوب ويكون لفظ السنة الوارد في كلام ابن عمر بمعنى الطريقة والله اعلم.
وأما من شب على تقليد الأوروبيين في أزيائهم وأخلاقهم المنافية لآداب الدين الإسلامي فإنهم لا يبالون بكثير من السنة بل ولا بالفروض وإذا تربعوا في المجالس تكلموا بأشياء ليست من الدين ونسبوها إليه ويستدلون كثيراً بكتب التاريخ على بعض الأحكام الشرعية والحال أنه لا يستدل على الحكم الشرعي إلا بالكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس وما مقصدهم في هذا إلا التغرير بالعامة من الناس ولذلك تراهم يرمون علماء الإسلام بعدم التمدن تارة والتعصب تارة أخرى وما ذنبهم إلا اقتفاؤهم أثر الرسول عليه الصلاة والسلام والانتصار للحق. نعم إن تعصبهم للحق لما يمدحوا عليه.
وما ضر الأمة الإسلامية إلا عدم تمسكها بالآداب الدينية وعدم اتباع أوامر الله عز وجل قال الله تعالى في كتابة العزيز (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) ولكن ما العمل بمن يحب اتباع الأهواء والانقياد لأوامر نفسه ووساوس شيطانه رحم الله البوصيري حيث قال:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم
على أن المسئلة لو لم يكن فيها نص كان العقل يقضي علينا باتباع عادة قومنا وبلادنا والمحافظة على أزيائنا إذ لا يخفي ما في ذلك من تقوية الرابطة القومية. هؤلاء الغربيون يأتون بلادنا ويقيمون فيها محافظين على ملابسهم وأخلاقهم وعاداتهم وكنا نستبشع ملابسهم ولم يزل البعض منا يكره ذك منهم وهم لا يغيرون عادة بلادهم وقومهم وإن كانت مستقبحة في حد ذاتها وبالعكس بعض شبابنا أليس هذا شيء عجيب؟ وحيث ثبت أن العمامة سنة من سنن الإسلام فتركها مكروه ونسئل الله أن يلهمنا رشدنا وأن يوفقنا لاتباع أوامره(23/18)
والمحافظة على التمسك بحبل شريعته والحمد لله رب العالمين.
صلاح الدين الزعيم(23/19)
حالتنا وفساد الأخلاق
قلما ترى أحداً من العقلاء المفكرين غير شاكٍ مما آلت إليه حالة المسلمين اليوم من الضعف بعد القوة، والذلة بعد العزة، والضعة بعد الرفعة.
وكلهم مجمعون على أنه لم يحل بهم ما حل من ضروب الهوان إلا لما طرأ عليهم من فساد الأخلاق والتهاون بأمر الدين، معتقدون أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم حسبما نطق به الكتاب العزيز.
ولكن ماذا تجدي الشكوى وما يغني التذمر إذا كان ذلك لا يتجاوز أطراف اللسان ولا يظهر منه إلا الثرثرة والشقشقة والإغراق في بيان سوء الحالة التي وصلنا إليها والتكهن بالنتائج الفظيعة المهلكة.
إنما الواجب على عقلاء المسلمين وعلمائهم وخاصتهم ومفكريهم أن يشخصوا الداء ويلتمسوا له الدواء الناجع وينهضوا بهذه الأمة إلى مستوى الأخلاق الفاضلة الكمالات الراقية ولا يتركوا وسيلة للوصول إلى هذه النتيجة السامية إلا استعملوها سواء كان بنصح الحكام ودلالتهم بالمعروف إلى طريق الخير ليسلكوها ومزالق الشر ليتجنبوها وحملهم على إزالة المنكرات الشرعية ومجازاة مرتكبيها أو بتأليف الجمعيات للوعظ والإرشاد وبيان ما طرأ على الدين من البدع التي كادت تشوه محاسنه وتضر بسمعته والحض على الاتفاق والوفاق ونبذ الشقاق وتوحيد المقاصد نحو ما يعلي شأن المسلمين في دينهم ودنياهم وأخلاقهم إلى غير ذلك.
من ينكر أن المسلمين أضحوا في فقر وفاقة وتأخر في جميع مقومات الحياة عن جميع الأمم الناهضة.
كانوا فيما سلف مثال الفضيلة والكمال والأخلاق العالية حتى تمكنوا في زمن غير طويل من القبض على أزمة أكثر الأمم في العالم فاطمئنوا لذلك وغفلوا عن تعهد ما به كانت رفعتهم وارتقاءهم وأهملوا واجبات دينهم فأخذهم الله بذنوبهم.
فشا فيهم فساد الأخلاق فكثر الكذب وشاعت الخيانة وعم التحاقد والتباغض وتفرقت الكلمة وصارت منكرات الشرعغ القطعية من العادات المألوفة ولا رادع ولا زاجر.
أضحى المسلمون من الضعف على حالة تذوب لها القلوب أسفاً، تراهم فرقاً واشياعاً لا جامعة تضمهم ولا عصبية تؤلف بين قلوبهم جعلوا بأسهم بينهم والأمم من ورائهم تبتلعهم(23/20)
لقمة بعد أخرى وأمراؤهم وخاصتهم ركنوا إلى السكوت في كسر بيوتهم لا يتأمرون بمعروف ولا يتنافسون بفضيلة.
وعليهم للأمة فروض يستغرق أداؤها أعمارهم وهم لا يؤدون منها شيئاً.
وإذا أنفقوا أموالهم فعلى اللهو واللعب والشهوات البهيمية لا يدخل في حسابها شيء يعود بالمنفعة على الأمة والملة.
إذا تذكر الإنسان ما حاق بالمسلمين في هذه السنوات الأخيرة من الرزايا والمصائب ثم رأى أنهم لا يزالون أحزاباً وشيعاً يتنافسون على غاياتهم وشهواتهم ويضحون في سبيل ذلك مصلحة الوطن واستقلاله لا يكاد يصدق أن هذا العالم من نسل أجدادهم العظام الذين كانوا يضحون كل مرتخص وغال من مصالحهم وأموالهم وأرواحهم في سبيل حفظ الدين وسلامة الوطن وذود الأغيار عنه.
أعلنت دول البلقان الحرب على دولة الخلافة الإسلامية ظلماً وعدواناً وهي الدول التي بقيت زمناً طويلاً تحت رعاية الدولة العلية إلى أن نالت استقلالها التام تدريجياً وآخر ذلك كان عقيب إعلان الدستور منذ أربعة أعوام حيث رفعت بلغاريا سيادة الدولة العلية عنها.
كان بين هذه الدول الصغيرة من الاختلاف لشدة تنافسها وتحاسدها ولتغايرها في الجنس واللغة فما زال يتقرب بعضها من بعض بسعي كبارهم وزعمائهم إلى أن عقدت الاتفاق على إضرام نار هذه الحرب الضروس الذين يريدون بها التهام قسم عظيم من أملاكنا.
قلنا لما أعلن الحرب أن اتفاق هذه الدول مع ما قدمناه من وجوه الاختلاف بينهن سيكون أكبر باعث لنا على نبذ كل خلاف وتحزب ونسيان كل عداوة وشحناء والاجتماع يداً واحدة على قهر تلك الذئاب المفترسة.
أليس نحن أحق بالاتفاق منهم؟ أليس ديننا واحداً؟ أليس وطننا واحداً؟ أليس خليفتنا واحداً؟ ألا يقول كتابنا الكريم (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) ألم يمتن الله علينا في محكم كتابه بقوله: (واذكروا إذ كنتم أعداء فآلف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته أخوانا).
أعلن الحرب والأمة على مثل اليقين من أن هذه الحرب ستكون رافعة لشأننا مثبتة لعظمتنا لأن هذه الدويلات لا تجمع من الجنود مقدار ما تجمع دولتنا العلية فضلاً عن الصفات المعنوية التي امتاز بها الجندي العثماني في ميدان الكفاح فإنه ممتاز بالشجاعة والنجدة(23/21)
والشهامة.
فما زالت تعمل الغايات وتحوم حولها مصالح الأحزاب حتى دخل العدو أرضنا واستولى على كثير من مدننا. فاللهم ألهم خاصنتا وأمراءنا أن يعرفوا أنهم مدينون بحقوق عظيمة للأمة وأن يقتصدوا في حب الذات فلا يحتقروا في سبيل هذه المحبة كل ما تتنافس أصحاب العقول المستنيرة في الحصول عليه.
وعليهم أن يعلموا أن لهذا اليوم ما بعده فليس ثمة إلا الحياة أو الفناء فإن لم نتناس الأحقاد والضغائن ونستعين جميعاً بالله على حماية أوطانا وحفظ ذمارنا وصيانة استقلالنا حق علينا كلمة الفناء والعياذ بالله تعالى.
أيحسن بالمسلمين الذين جعلهم الله خير أمة أخرجت للناس وكانوا في جميع أدوار حياتهم آية في الشهامة والمروءة والشجاعة حتى كانوا ينصرون بالرعب يقذفه الله في قلوب أعدائهم فينهزمون بجيش الرهبة قبل أن يشيموا لمعان الأسنة وبريق السيوف.
أيليق بهم وتلك صفاتهم أن تلين قناتهم وتخضد شوكتهم وتصير أعداؤهم على أبواب عاصمة خلافتهم وهم على ما هم عليه من تفرق الكلمة وفساد الأخلاق والاشتغال بالخصوصيات.
أما آن لهم أن يتوبوا من ذنبهم ويرجعوا إلى ربهم ويتناسوا أحقادهم؟ ويجتمعوا على ما فيه مصلحتهم وحفظ دينهم ووطنهم واستقلالهم ليبرهنوا على أنهم نسل أولئك الأسلاف الذين تطأطيء لهم الرؤوس إجلالاً كلما ذكرت أعمالهم الجليلة وآثارهم الباقية.
اللهم خذ بيد هذه الأمة إلى ما فيه صلاحها واصرف عنها كيد الكافرين إنك بالمؤمنين لطيف رحيم.(23/22)
خواطر
قرأنا في مجلة العثماني الغراء القصيدة الفريدةو فاقتطفنا منها ما يأتي حباً بالنفع والفائدة.
قال:
بله الحكيم وفاهت العجماء ... وتناولت لمم الأسود ظباء
ونما الهشيم فعاد يرجى ظله ... وذوى النضير وزالت الأفياء
وبكت على الأحياء أموات وقد ... حسدت ثرى أمواتها الأحياء
وتبذخ الهين الصغير فدكدت ... من دونه الكبراء والعظماء
والشمس أمست بالأهلة تهتدي ... والسحب قد رسبت وقام الماء
وغدا الطبيب يزيد داء مريضه ... جهلاً ويحتقر الدواء الداء
ودعا الفراش إلى الشموع سمندراً ... وتنزلت للهدهد العنقاء
وغدا الجراد يروع قلب سمرمر ... والذئب يفزع إذ يطن ثغاء
ومنها
والضب أصبح هادياً في سيره ... وشدا الغراب وعيفت الورقاء
وتفنن الأعمى فصار منجماً ... وتقاصرت في الرؤية الزرقاء
وتخوف التنين من مس الطلا ... وتشاءمت بالدلدل الغبراء
ومنها
والأثمد المعروف أعماه الهوى ... فلأي عين بعد ذلك جلاء
والخل أضحى ليس يعرف خله ... إلا إذا ارتبطت الأهواء
والزور روّق كأسه فصفى الهوى ... للشاربين وحفت الندماء
ومنها
والغش راجت حيث راحت سوقه ... فالعرض بيع رابح وشراء
والفحش ظل يزيد كل مهذب ... وتحسنت بقبولها الشنعاء
ومنها
والعجب عمّ فكل فرد معجب ... بالنفس راقت عنده الأسواء
وعدا العفاء على الوفاء فلم يذر ... رسماً لحدّ حدّه القدماء
والنسك هان فعاد يحذر قربه ... فكأن تحذر النهى إغراء(23/23)
فالنقص فضل والسفاهة حكمة ... والكذب صدق والشقاء إخاء
فكأنما الأهواء دين منزل ... والغي فينا سنة غراءُ
دهر تساوى غثه وسمينه ... فالتبر فيه والتراب سواء
سفه الحليم كما رشيد قد غوى ... خان الأمين وخابت النصحاء
ألفت مقاصير النساء رجاله ... وعلت على همم الرجال نساءُ
وتنكست أعلامه فترفعت ... فوق الرؤوس الأخمص الدنياء
فكأنما تلك الحقائق بدّلت ... وتغيرت أرض لنا وسماء
خفض عليك أخا اليراع فإنما ... يشقى البليغ وتزدرى الحكماء
فاهن يراعك ما أطاعك عزه ... سيان فيها جهلة ودهاء
وليزه ذو جهل بما أملت له ... فاليوم حظ السافل العلياء
وليعترف خدن العلوم بجهله ... إن الجهالة ما حوى العلماء
فالناس بين تخلق وتملق ... عرجوا المعارج للحظوظ فباؤُا(23/24)
لا حياة لنا ما دمنا واثقين بأوروبا
علم الناس أجمع خبر ذلك الحادث المؤلم الذي بوغتت به دولتنا العلية ونعني به إعلان حكومات البلقان الحرب عليها، تلك الحكومات الصغيرة التي لا تبلغ نفوسها العشرة ملايين والتي كانت منذ نيف وثلاثين سنة من جملة ولايات الدولة العلية كما سبق بيانه فما زالت تسعى وتدأب وأوربا من ورائها ظهيرة حتى نالت استقلالها ثم قامت اليوم متفقة تجمع الجموع لمناوأتنا، وتحشد الجيوش لمحاربتنا.
قامت الحرب على ساق وقدم، واشتد لهيبها، وتطاير شررها، واهتزت لها الأرض ومادت، وأصبحت الأمة العثمانية بأسرها مضطربة لهذا الخطر المدلهم تود أن تبذل آخر نقطة من دمها في سبيل المحافظة على شرفها ومركز حكومتها - وكثير من رجالنا يطمعون الناس برحمة أوروبا، وينتظرون رأفتها وعدلها.
لا يخجل أحدهم يوم يتشدق أمام فئة من أترابه بقوله - أن أوروبا مرضعة الحكمة، محيية المدنية الأصلية، مهذبة طبائع البشر - ولا من قوله - لم يعرف إلى الآن ماذا تكون خطة الدول العظمى إزاء هذه الحركة ولا بد أن تنصفنا تلك الحكومات الكبيرة لما أن أفكار عقلائها استنارت بالعلم الصحيح فنشأت على حب الإنصاف والعدالة والرحمة بالإنسان أياًَ كان - بخ بخ ما أدهش هذه الأفكار هذه الأفكار السامية، والعقول الراجحة، وما أعجب هذا الصفاء القلبي وتلك الأفئدة الطاهرة التي حملتكم أيها الأقوام على حسن الظن برجال أوروبا والثقة والطمأنينة بأبنائها.
إن منشأ هذا الارتياح، ومصدر هذا الإخلاص هو غرامكم الشديد بحبهم، وخضوعكم لهم خضوع المرؤوس لرئيسه، والوليد لوليه، خضوعاً وغروراً سحراً قلوبكم وأبصاركم، وجعلاكم ترون كل ما يصدر عن أوروبا غاية في الحسن، ومحض خير لبني البشر.
ترون أن خطة الدول العظمى إزاء هذه الحركة ستكون مبنية على قاعدة الإنصاف والعدالة - ألم يبلغكم أن الدول العظمى أعلنت قبل نشوب الحرب أن هذه الحرب مهما كانت نتيجتها لا يمكن أن تحدث أقل تأثير في البلقان ولا أن تغير شيئاً من شكلها الحاضر. ولما أن ظهر شيء من نجاح البلقانيين أخذت تأول قرارها الأول وما زالت حتى سحقته بأقدامها وجعلته في خبر كان وقررت فيما بينها موافقة حكومات البلقان على جواز التبسط في الأراضي العثمانية بحجة أنه ليس لأحد أن يمنع ظافراً من ظفره ولا غانماً من غنيمته على(23/25)
شرط أن لا يخل ذلك بمصالحهن هناك. فإلى متى هذا الاغترار بأوروبا؟ ومتى ينتهي هذا الغرور برجالها؟ ألم يكفكم أيها الأقوام أنكم انسلختم عن عاداتكم، وهجرتم ما كان عليه أباؤكم، وتطرفتم إلى الآداب الدينية فحاربتموها، وإلى العوائد الإسلامية فقاومتموها، وزعمتم أن أوروبا ملقنة الخلق معنى الإخاء والحرية والمساواة ليعاشروا بالمعروف ويقوم نظام اجتماعهم على تبادل المنافع حتى لا يبقى تمييز في الحقوق والواجبات بين المختلفين في المواليد والديانات لم يكفكم ذلك كله لم يكفكم تربعكم في المناصب وتهافتكم على الوظائف وإسرافكم في الملذات، وتبذخكم في الشهوات، ومحاربتكم المنافع العامة في سبيل منافعكم الخاصة حتى صبغتم أنفسكم وأولادكم بصبغة أفرنجية ثم أتيتم إلى الناس تسقونهم من خمر تلك المدنية الغريبة، وتكرهونهم على أن يربوا أولادهم بتربيتهم، ويأخذونهم بعوائدهم، ويعلمونهم علومهم ولغاتهم حتى ينشئوا وقد تمكنت من قلوبهم وأخلاقهم وأميالهم وأضحوا يظاهرونهم لاتحادهم معهم لغة وعادات وأفكار. إلى متى أيها الأقوام تثقون بأوروبا وتحمدونها وتزعمون أن رجالها هم محبو السلم، وناشروا لوائه وهم أرباب الأخلاق والغيرة ومثال الصدق والعفة. غركم منهم أنهم يجهرون بحب الإنسانية وخدمتها. أنسيتم أساطيلهم؟ أجهلتم مدافعهم؟ أغفلتم عن إعدادهم المعدات الحربية والطيارات الجوية؟ أحسبتم أن ذلك كائن للحيوانات العجم؟ أم للأحجار الصم؟ كلا والله ثم كلا لم يكن ذلك إلا لقتل الإنسانية ونحرها وصب البلاء والويلات عليها. ويل لكم أتصدقون رجال أوروبا بأنهم نصراء الإنسانية المظلومة إذاً فلم تقتل الأطفال الرضّع والشيوخ الركع والنساء العجز في طرابلس الغرب وأوروبا واقفة لا تتحرك، أتصدقون بأن رجال أوروبا يرفقون بالبائسين والمساكين إذاً فلم تذبح المسلمون في مراكش ويهان الأشراف والعلماء في تونس وتسجن الأبرياء في مصر وأوروبا صامتة لا تتكلم. أتصدقون بأن رجال أوروبا يعطفون على الضعفاء والعاجزين ويأخذون بيد العاثرين إذاً فلماذا تقف دوارعهم في جزيرة كريد لتحرس أبناءها وتحفظ رجالها ومسيحيو الكريديين يذبحون المسلمين في عقر دورهم وفي وسط بيوتهم وفي رواجهم وغدوهم وهم ينظرون إليهم ويتغاضون عن أعمالهم أتصدقون بأن رجال أوروبا أهل وفاء وصدق إذاً لماذا نقضوا أكثر المعاهدات التي جرت بينهم وبين حكومتنا العلية. هذه معاهدة باريز التي عقدت في 30 مارس سنة 1856 بعد أن وقع عليها(23/26)
من طرف فرنسا وانكلترا وسردينيا وألمانيا والروسيا وأصبحت حبراً على ورق. فقد جاء في المادة الأولى منها ما نصه:
في يوم تاريخ الإمضاء بقبول هذه المعاهدة الحاضرة يكون صلح ومودة بين كل من إمبراطور الفرنسيس وملكة المملكة المتحدة في بريطانيا الكبرى وأرلاندا وملك سردينيا وسلطان الدولة العثمانية من جهة ومن إمبراطور جميع الروسيا من جهة أخرى وكذا بين ورثتهم وخلفائهم ودولهم ورعاياهم على الدوام.
وفي المادة الثالثة ما نصه:
قد تعهد إمبراطور جميع الروسيا بأن يرد لسلطان الدولة العثمانية مدينة قارص وقلعتها وكذا سائر المواضع التي استولت عليها عساكر الروسيا وهي من ملحقات بلاد الدولة العثمانية.
وفي المادة السابعة ما نصه:
قد صدر إعلان وتصريح من لدن إمبراطور الفرنسينس وإمبراطور أوستريا وملكة بريطانيا العظمة وأرلاندا وملك بروسيا وإمبراطور الروسيا وملك سردينيا بأن للباب العالي اشتراكاً في فوائد الحقوق الأوروباوية العامة وغي منافع اتفاق أوروبا وقد تعهدوا بأن يحترموا استقلال السلطنة التركية وإبقاها تامة وتكفلوا جميعاً بالمحافظة على هذا التعهد وكل أمر يفضي إلى الإخلال بذلك يعتبرونه من المسائل التي يبنى عليها مصلحة عامة.
وفي المادة الثامنة ما نصه:
إذا حدث بين الباب العالي وإحدى الدول المتعاهدة خلاف خيف منه على اختلال الفهم وقطع صلتهم فمن قبل أن يعمد الباب وتلك الدولة المنازعة له إلى أعمال القوة والجبر بقيمان الدول الأخرى الداخلة في المعاهدة وسطاء بينهما منعاً لما يتأتى على ذلك الخلاف من الضرر.
وفي المادة التاسعة ما نصه:
سلطان الدولة العثمانية بخير رعاياه جميعاً قد تفضل بإصدار منشور غايته إصلاح ذات بينهم وتحسين أحوالهم بقطع النظر عن اختلافهم في الأديان والجنس وأخذ من ذمته مقصده الخيري نحو النصارى القاطنين في بلاده وحيث كان من رغبته أن يبدي الآن شهادة جديدة(23/27)
على نيته في ذلك عزم على أن يطالع الدول المتعاهدة بذلك المنشور الصادر عن طيب نفس منه فتتلقى الدول المشار إليها هذه المطالعة بتأكيد مالها من النفع والفائدة ولكن المفهوم منها صريحاً أنها لا توجب حقاً لهذه الدول في أي حال كان على أن تتعرض كلاً أو بعضاً لما يتعلق بالسلطان ورعاياه أو بإدارة سلطنته الداخلية. فأين هذا مما نحن فيه؟ أين قولهم - ولكن المفهوم صريحاً أنها لا توجب حقاً لهذه الدول الخ في ادعائهم الحق الصريح الثابت في المداخلة عند سنوح كل فرصة؟ أين قولهم بأنهم يحترمون استقلال السلطنة وإبقاءها تامة وبأنهم تكفلوا جميعاً بالمحافظة على هذا التعهد الخ من اتفاقهم على الدولة وتغاضيهم بل مساعدتهم كل من يريد إيصال السوء إليها؟.
كل هذا يفعله رجال أوروبا خدمة للإنسانية، وطلباً لسلامة أملاك الدولة، فيطلبون كما قال أحد رصفائنا من الدولة أن تجري الإصلاحات في الداخلية لأجل سلامة أملاكها ويطلبون منها أن تمنح مقدونيا الاستقلال لأجل سلامة أملاكها. ويطلبون منها أن تعطي طرابلس الغرب لإيطاليا لأجل سلامة أملاكها. ويطلبون منها أن تجعل علىمقدونيا حاكماً مسيحياً لأجل سلامة أملاكها. ويطلبون منها أن ترضي حكومات البلقان لأجل سلامة أملاكها. ويطلبون منها أن تجعل مقدونيا تحت مراقبة أوروبية لأجل سلامة أملاكها، ويودن إخراجها من أوروبا لأجل سلامة أملاكها بل يتمنون زوالها بتاتاً لأجل سلامة أملاكها فبعد هذا أيها الأقوام تحبون أن نثق بأمانة أوروبا وصداقتها لدولتنا؟ أيسركم أن نعتقد أن أوروبا مهذبة العالم وما نحته المساواة يرضيكم أن نتربى بتربيتهم ونتزيا بأزيائهم ونتهافت على تعلم لغاتهم حتى نذوق طعم الحياة ونعرف معنى التمدنالويل كل الويل لنا إذاً.
إن ما عرف من أخلاقهم وغدرهم وختلهم لم يعرف قط في زمن من الأزمان لم يعرف ولا بأيام الجاهلية الجهلاء لم يعرف بقرن من القرون الماضية وهم مع كل هذا يرموننا بالتعصب والهمجية، بأنا أهل حرب لا نحب السلم بأنا نقتل الإنسانية ونفتك بأبنائها بأنا. . بأنا. . إلى آخر ما يزعمون ونهاية ما يدعون ولكن هو الطمع والجشع والهمجية والوحشية والتعصب الأعمى والأخلاق الذميمة. نقول التعصب الأعمى ولا نبالي لاعتقادنا بأن بعض ما تفعله أوروبا وتتغاضى عنه من إذلال المسلمين وإهانتهم وظلمهم واضطهادهم ليس مما يأمر به الدين المسيحي بل هو مناف للأديان السماوية تمام المنافاة لا يلتئم معها بحال. غلا(23/28)
فليعلم أولئك الزعانف أن خروجهم على الشرائع ومخالفتهم لما جاءت به الأديان، وجشعهم وطمعهم وظلمهم وجورهم وتعصبهم وحقدهم وقساوة قلوبهم وسفكهم لدماء الأبرياء - لمما يوجب عليهم السخط والمقت من الإله القادر الحكيم وهو مما ينزع هذه القوة من أيديهم ويديل دولتهم ويجعل الدائرة عليهم. وهو أيضاً مما يوجب فرح الدولة وعامة رعاياها لأن بعد العسر اليسر وعقب الشدة الفرج. ولا بد أن ينتبه المسلمون من غفلتهم وينزعوا حب أوروبا من قلوبهم ويبرؤا إلى الله من الثقة بها ويعلموا أنه لاينفعهم إلا عملهم ولا يرفع ذكرهم إلا اجتهادهم ويجعل آمرهم ومأمورهم وحاكمهم ومحكومهم وغنيهم وفقيرهم وصغيرهم وكبيرهم نصب عينيه قول الله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) فيلبوا داعي الحكومة كلما دعاهم إلى مساعدتها ويعملوا يداً واحدة على معاضدتهم ومؤازرتها.
وفي الختام نكرر ما ذكرناه ونجهر بما قدمناه وهو أنه لا حياة لنا ما دمنا واثقين بأوروبا. فيجب أن ننزع ثقتنا بهم ونمتثل قول الله تعالى بإعداد ما استطعنا لهم من قوة وننبذ التفرنج في اللباس والمتاع والكلام وسائر الأعمال كبيرنا وصغيرنا وآمرنا ومأمورنا في ذلك سواء وحينئذ ينقلب شكل هيئتنا من شكل أوروبي إلى شكل إسلامي فنفلح وننجح ونتقدم ونربح ونعيد لبلادنا مجدها السابق وعزها الغابر. والله الفعال لما يختار.(23/29)
كلمة قارصة
قال رئيس الوزارة البلغارية لبعض مكاتبي الجرائد. أن هذه الحرب التي نقوم بها في هذه الأيام إنما هي ضحية نقدمها من أجل مصلحة أخواننا مسيحيي الولايات الكدونية الذين أوقعهم من لا ذمة لهم ولا ضمير في فوضى هائلة أه.
يا للوقاحة! ويا للافتراء!! نحن العثمانيين نعامل رعايانا المسيحيين معاملة من لا ذمة له ولا ضمير فيتألبوا علينا بداعي إنقاذ المسيحيين من أذانا وهؤلاء أخواننا مسلمو طرابلس الغرب هجمت عليهم إيطاليا في عقر دارهم وهم آمنون ففعلت بهم الأفاعيل وأمطرتهم من همجيتها بحجارة من سجيل.
تتفق أوروبا علينا من أجل عشرات من الأشخاص قتلوا في مكدونيا بسبب انفجار قنابل ديناميت لم نلقها نحن وإنما ألقاها أولئك الذين أصبحت الأرض والسماء تعرفهم. - ثم بعد هذا ينكر علينا أن نتفق معشر المسلمين على الاستمساك بعرى جامعتنا والدفاع عن أخواننا الذين يذبحون جهرة من دون ما ذنب فعلوه ولا إثم ارتكبوه؟ بضعة عشر شخصاً من أشقياء الرومللي أجدر برحمة أوروبا وشفقتها من بعضة عشر ألفاً من أهالي طرابلس الغرب وبنغازي لم يقترفوا ذنباً.
تتداخل أوروبا في شؤوننا من أجل حماية اشخاص هم من رعايانا ولا يمكنونا من التداخل في شؤون أنفسنا من أجل الدفاع عن بلادنا واستقلالنا وأخواننا.
(ابعد هذا التناهي في تعصبهم ... يعزى التعصب للإسلام والتهم)
(كفى الخداع فما في الأرض ذو طمع ... يحمي الحقوق وترعى عنده الذمم)
(قالوا السلام فنمنا واثقين بهم ... أين السلام وأركان السلام دم)
(قالوا الحياد قلنا ليس ذا عجبا ... عن نصرة الحق كما حادوا وكم وجموا)
(إن عاهدوا نكثوا وأقسموا وحنثوا ... أو عاملوا عبثوا بالحق واهتضموا)
(يا بني الشرق لا تخمد عزائمكم ... إن المغبة للقوم الأولى عزموا)
(إذا اتحدتم أمنتم كل غائلة ... وإن تخاذلتم فالعار والندم)
(لا تشتكوا لسوى الصمصام مظلمة ... الفاصل الموت والصمصامة الحكم)
(البرهان)(23/30)
إجابة طلب المؤيد
وطئت وحقك أزمة في نعلها ... حراً أخا نفس يضن بذلها
وبك استغاث فجد عليه بحلها ... (يا مصطفى قبل العوالم كلها)
(والكون لم يبرز من التكوين)
ضاقت عليه فباب مدحك يمما ... لكن كبا فيه الجواد فأحجما
يا من على عرش المحامد قد سما ... (أيروم مخلوق مديحك بعدما)
(أثنى عليك الله في التبيين)
حماه
فارس النجار
خطب الزمان لمهجتي قد علها ... والنفس قد ألفت لذلك ذلها
ناديت خير الأنبيا وأجلها ... (يا مصطفى قبل العوالم كلها)
(والكون لم يبرز من التكوين)
كن لي الشفيع فبحر عصياني طما ... أرجو بك التوفيق إني في عما
فإن الذي صلى عليك وسلما ... (أيروم مخلوق مديحك بعدما)
(أثنى عليك الله في التبيين)
حماه
إحدى محبات النبي صلى الله عليه وسلم
حنيفة
(يا مصطفى قبل العوالم كلها) ... نوراً لانت المجتبى بيقين
ناداك ربك يا رسولا للملا ... (والكون لم يبرز من التكوين)
(أيروم مخلوق مديحك بعدما) ... خصصت بالحسنى وأكرم دين
من ذا يبقى بالمدح أو يثني كما ... (أثنى عليك الله في التبيين)
ع. ر(23/32)
العدد 24 - بتاريخ: 9 - 1 - 1913(/)
الزنا
لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم الزنا فإذا فشا فيهم الزنا فأوشك أن يعمهم الله بعذاب
لم تزل عقلاء الأمم قديماً وحديثاً تعتقد بتحريم هذه الرذيلة، وبأنها الوسيلة إلى نقض أسس العمران، والعامل الأكبر على خراب الممالك والبلدان وأنها مجلبة الشر، ومميتة الأخلاق، والضربة القاضية على الشرف والعفاف.
اتفقت كافة الشرائع على تحريم هذه الفاحشة (الزنا) تحريماً مؤكداً ووضعت العقوبات الشديدة لإماتتها، وقطع دابرها، حفظاً للتربية، وصيانة للأخلاق العامة، ولئلا تضيع الأنساب، ويقل النسل، وتفقد الثقة بالأصول، فمنها من حكم على الزاني والزانية بأن يوثقا ثم يطرحا في الماء ومنها من حكم عليهما بالإحراق، ومنها من حكم عليهما بالقتل، ومنها من حكم عليهما بصلم الأذنين، وجدع الأنف كما تقدم بيانه ص 430 من المجلد الأول. وفرقت الشريعة الإسلامية في العقوبة بين المحصن وغير المحصن فأوجبت أن يخرج الأولإذا ثبت لدى الإمام زناه إلى أرض فضاء ثم يرجم بالحجارة حتى يموت وحظرت قتله بغير صورة الرجم تعذيباً له وتأديباً لغيره، وحكمت على الثاني إن كان حراً بجلد مأة مع تغريب عام وإن كان عبداً بجلد خمسين مع تغريب نصف عام، وشددت النكير على المتهاون بإقامة هذا الحد. فقال جل ذكره (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مأة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين).
نهى الله تعالى عن استعمال الرأفة والرحمة بالزاني والزانية لعظم هذه الفاحشة التي هي من أكبر الكبائر ولذا قرنها تعالى بالشرك وقتل النفس فقال سبحانه (والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاماً يضاعف له العذاب يوم القيام ويخلد فيها مهاناً إلا من تاب) وسماها أيضاً فاحشة فقال عز اسمه (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا) وقال سبحانه (ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا).
قال العلماء رضي الله عنهم: الفاحشة أقبح المعاصي، والمقت بغض مقرون باستحقار فهو أخص من الفاحشة. وهو من الله عز وجل في حق العبد يدل على غاية الخزي والخسار. وللقبح ثلاث مراتب عقلي وشرعي وعادي. فقوله تعالى فاحشة إشارة للأول، ومقتاً إشارة(24/1)
للثاني وساء سبيلا إشارة للثالث. ومن اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح أهـ وقد جاء في السنة الشريفة تغليظ شديد لمرتكب هذه الكبيرة. أخرج البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله قال أن تجعل له ندا وهو خلقك قلت إن ذلك لعظيم قلت ثم أي قال له أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قلت ثم أي قال أن تزاني حليلة جارك. وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن. وأخرج الشيخان أبو داود والترمذي والنسائي. لا يحل دم ارمئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة. وأخرج أبو داود والنسائي. لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا في إحدى ثلاث زنا بعد إحصان فإنه يرجم، ورجل خرج محارباً بالله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض أو يقتل نفساً فيقتل بها. وأخرج أحمد والطبراني واللفظ له، تفتح أبواب السماء نصف الليل فينادي مناد هل من داع فيستجاب له، هل من سائل فيعطى، هل من مكروب فيفرج عنه. فلا يبقى مسلم يدعو دعوة إلا استجاب الله عز وجل له، إلا زانية تسعى بفرجها أو عشارا. وأخرج الطبراني عنه صلى الله عليه وسلم، أن الزناة تشتعل وجوههم نارا. واخرج البيهقي عنه عليه الصلاة والسلام. الزنا يورث الفقر. وأخرج البخاري من حديث طويل رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة إلى أن قال فانطلقنا إلى مثل التنور قال فاحسب أنه كان يقول فإذا فيه لغط وأصوات قال فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب ضو ضو الحديث وفي آخره وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني وأخرج أبو داود واللفظ له والترمذي والبيهقي. إذا زنى الرجل أخرج منه الإيمان وكان عليه كالظلة فإذا أقلع رجع إليه الإيمان. وأخرج البيهقي عنه صلى الله عليه وسلم. أن الإيمان سربال يسربله الله من يشاء فإذا زنى العبد نزع منه سربال الإيمان فإذا تاب رد عليه. وأخرج أبو يعلى عنه صلى الله عليه وسلم لا تزال أمتي بخير متماسك أمرها ما لم يظهر فيهم ولد الزنا وأخرج البزار أنه صلى(24/2)
الله عليه وسلم قال، إذا ظهر الزنا ظهر الفقر والمسكنة وأخرج أبو يعلى بسند حسن ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله. إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة المصرحة بقبح هذه الكبيرة، وعظم وزرها، وشدة عقابها، وما ينبعث عن فشوها من الأضرار العامة كظهور الفقر ونزول الذل والمسكنة بالأمة، وتلاشي الخير من بينها، وإحاطة الغضب والمقت الإلهي بها، والقضاء الأبدي على الأخلاق والفضيلة التي يبذل في صيانتها كل مرتخص وغال، ويستهان بالمحافظة عليها بالدماء والنفوس والأرواح هذا مع سريان الفساد في العائلات واختلاط الأنساب في القبائل وضياع الحقوق والمواريث وتولد الأمراض وتكاثرها خصوصاً منها المرض الزهري الشائع بين الزناة ذلك الداء الذي جعل يهدد الصحة العامة بالفتك والأجسام الصحيحة بالعلل (ولعذاب الآخرة أشد) وماذا نجيب عما بلغنا عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث المار ذكرها وهل تقليدنا لفسقة أوروبا أو رحمتنا لعدد لا يتجاوز العشرة من العاهرات يكون جواباً منجياً لنا من عذا الله تعالى؟ هذا ما نحب أن نسئل عنه أولئك الذين يتوهمون بأنهم بإعادة (المرقص) لدمشق يحسنون صنعاً ويفعلون خيراً، وأنه لا غاية لهم إلا حفظ الصحة العامة وصيانة الأعراض وأنهم في خدمتهم هذه أرادوا تخليص الوطن مما هو فيه. فهم يصرفون الأوقات ويكررون الجلسات ويديمون المذكرات في انتقاء محل مناسب لأولئك المومسات. وليت شعري هل تخليص الوطن يكون بمعصية الله وبما يوجب مقته وسخطه؟ هل تخليص الوطن يكون بما يوجب عليه الخزي الدائم والعار الأبدي؟ هل صيانة الأعراض تكون بإباحتها بالطريق الرسمي بحيث لا يخشى مرتكبها لوم لائم ولا سيطرة مسيطر؟ هل صيانة الأعراض تكون بتسهيل أسباب الفحش؟ هل صيانة الأعراض تكون بإعداد محل رسمي للمومسات؟ هل صيانة الأعراض تكون بما حرمته الشرائع الديانات؟ هل صيانة الأعراض تكون بعرضها للبيع كالسلع في الأسواق؟ هل صيانة الأعراض تكون بإباحتها للعبد والحر والجهول والسفيه؟ هل حفظ الصحة العامة يكون ببذر بذور الوباء (الداء الزهري) فيما بين الناس؟ هل حفظ الصحة العامة يكون بإباحة الزنا بمن لا يحترسن من التطهر من دم الحيض والأقذار؟ هل حفظ الصحة العامة يكون بإتيان فرج هو مورد لكل خبيث وشيطان؟ هل قطع الأوقات وتكرار الجلسات ودوام المذكرات لانتقاء محل لهن مع ما ينضم إلى ذلك من(24/3)
المعصية والإثم ومخالفة أمر الله أهون من تتبع عشرة من المومسات ونعهن من التجاهر ببيع الأعراض؟ تالله لو أنا نعني بهذا الأمر بعض العناية ونضرب على أيدي أولئك الفاجرات لما ظهر لهذه الفاحشة أثر ولما عرف لها خبر. شرطي واحد لو أحيل إليه أمر تتبع هؤلاء المومسات لما اقتدرن على أن يتجولن بالأسواق يستهوين بعض الجهلة ويستملن بعض الأغرار بل لو منح هذا الشرطي سلطة تمكنه من إلقاء القبض على كل من ظهرت عليها إمارة الفحش سواء في ذلك الرجل والمرأة وقبض على بعض أفراد قليلة لمات خبر هذه الموبقة ولارتاح الناس أجمعين من خطر هذه الفاحشة ولأصبحوا يشكرون من كان السبب في دفع هذا البلاء عنهم ورفع هذه الفاحشة من بينهم وحينئذ يحق لنا بأن ندعي خدمة الأمة، يحق لنا أن نرفع أصواتنا بأنا من المحافظين على صون الأعراض، من المحافظين على الصحة العامة، من نصراء الفضيلة، من محبي الشرف والأدب، ممن يكرهون الرذيلة وينأون عن الفساد، وعسى أن يكون ذلك بالقريب العاجل وما هو على همة أولي الأمر بعزيز.(24/4)
التاريخ
ننشر في هذا الباب سيرة كبار الرجال في الإسلام وشيئاً من فضائلهم وأخلاقهم وأعمالهم وسياستهم لما في ذلك من تحريك بواعث الهمم للاقتداء بهم في جلائل الأعمال وكرائم الخصال وليكون زاجراً لأولئك الذين يتغاضون عن مآثر رجال المسلمين ويفتخرون بحفظ تاريخ فلاسفة الغربيين.
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه
بعد أن ذكرنا شذرة من أحوال سيدنا عمر رضي الله عنه وما كان عليه من الورع والزهد والتقوى والسهر على مصالح الرعية وشدة التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الأخلاق والمناقب أحببنا أن نذكر شيئاً من فتوحاته ليعلم أخواننا من ناشئة العصر أن الجهاد لإعلاء كلمة الله عز وجل وتأييد دينه سبحانه هو حياة هذه الأمة الإسلامية وقوام أمرها وبه حفظ كيانها وصون مجدها وشرفها وإنقاذها من أنياب تلك الذئاب وخلاصها من عبث قوم لم يرقبوا في المؤمنين إلاًّ ولا ذمة.
فتح دمشق
لما تولى عمر رضي الله عنه الخلافة عزل خالداً عن إمارة الجيوش بالشام وجعل أبا عبيدة أميراً عليها وكتب إليه بذلك فوصل البريد إليهم وهم في وقعة اليرموك كما تقدم بيانه في آخر ترجمة أبي بكر رضي الله عنه، وكتم أبو عبيدة وفاة أبي بكر ولم يخبر الناس بأن عمر ولاه على إمارة الجيوش في الشام بدلاً من خالد رضي الله عنهم.
اجتمع المشركون بعد انهزامهم في وقعة اليرموك في فحل وكان هرقل وراء حمص فأرسل أبو عبيدة طائفة من المسلمين إلى فحل لمحاصرة من اجتمع فيها. وبعث ذا الكلاع في جند من المسلمين إلى جهة حمص ليمنعوا هرقل من مساعدة أهل دمشق فنزلوا بين حمص ودمشق. وسير جنداً آخر فكانوا بين دمشق وفلسطين. ثم سار هو وخالد بن الوليد فقدموا على دمشق ونزل أبو عبيدة على ناحية وخالد على ناحية وحصروا أهل دمشق سبعين ليلة وقيل ستة أشهر وأحاطوا بهم من كل جانب وجاءت خيول هرقل لإغاثة دمشق فمنعتها خيول المسلمين التي عند حمص. ثم اتخذ خالد حبالاً كهيئة السلاليم ونهض هو وبعض وجهاء جنده قاصدين أن يتسوروا سور البلدة وتآمروا مع الجند بأنهم إذا سمعوا تكبيراً على(24/5)
السور أن يرقوا إليهم ويقصدوا الباب. فلما وصل هو وأصحابه إلى السور رموا الحبال إلى أعلى السور فعلق فيه حبلان فصعد فيهما القعقاع ومذعور رضي الله عنهما وأثبتا بالشرف بقية الحبال التي جعلها خالد كهيئة السلاليم وكان ذلك المكان أحصن موضع بدمشق وأكثرها ماء.
فصعد المسلمون ثم انحدر خالد وأصحابه وترك بذلك المكان من يحميه وأمرهم بالتكبير فكبروا فأتاهم المسلمون إلى الباب وإلى الحبال وانتهى خالد إلى من يليه فقتلهم وقصد الباب فقتل البوابين وثار أهل المدينة لا يدرون ما الخبر وتشاغل أهل كل ناحية بمن يليهم وفتح خالد الباب وقتل كل من عنده من المشركين. هكذا كان قواد الجيوش الإسلامية يخاطرون بأنفسهم ويخوضون غمرات الموت أمام الجنود بكل جرأة وإقدام رغبة في الشهادة ومبادرة إلى جنان الخلود حتى كان شرب كأس المنون إذا تلظت الحرب أشهى إليهم من الماء العذب. وكيف لا تنبعث روح الشهامة والثبات في جيش تيقن أن الجنة تحت ظلال السيوف ورأى أمراءه وقواده إلى القتل يبادرون ولميدانه يتسابقون؟. . هنا تتساقط من عيون المؤمن درر المرجان وتكاد نفسه تذهب حسرة على ما وصل إليه المؤمنون بعد تلك الأيام النضرة والحياة الطيبة.
ولما رأى الروم ما صنع خالد بهم قصدوا أبا عبيدة وبذلوا له الصلح فقبل منهم وفتح له الباب وطلبوا منه أن يدخل ويمنعهم من جند خالد.
فدخل أهل كل باب بصلح مما يليهم ودخل خالد عنوة ولكن أبا عبيدة لم يعلم بذلك. فالتقى خالد والقواد في وسطها. هذا قتلاً ونهباً وهذا صلحاً وتسكيناً فاجروا ناحية خالد على الصلح مثلهم وأظهر أبو عبيدة إمارته وعزل خالد وكان صلحهم على المقاسمة وقسموا معهم للجنود التي تركوها لمحاصرة أهل فحل وللجنود التي أرسلوها لمنع هرقل من إعانة دمشق ولغيرهم ممن هو عون للمسلمين يومئذ. وكان ذلك في رجب سنة أربع عشرة. وأخبر أبو عبيدة عمر بالفتح. فكتب عمر إليه يأمره بإرسال جند العراق نحو العراق فأرسلهم وجعل هاشم بن عتبة أميراً عليهم. واستخلف في على دمشق يزيد بن أبي سفيان.
فتح فحل وتوابعها
ثم سار أبو عبيدة إلى فحل وبعث خالداً على المقدمة وجعل شرحبيل ابن حسنة على الناس(24/6)
وعلى الخيل ضرار بن الأزور وعلى الرجال عياض بن غنم وكان على جانبي الجيش أبو عبيدة وعمرو بن العاص وقصد أهل فحل من الروم بيان. وصادف وصول شرحبيل حينئذ فنزل بالناس على فحل وبينهم وبين الروم المياه والأوحال فكتبوا إلى عمر وأقاموا ينتظرون أمرهم ففاجأهم الروم وخرجوا إليه بغتة وعلى الروم سقلار بن مخراق ولكن المسلمين كانوا على غاية اتيقظ والحذر وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلى على تعبئة الجيش وتمام الأهبة وكان الروم يومئذ ثمانين ألفاً فغرتهم كثرتهم وهجموا على المسلمين وحصل قتال عظيم دام ليلتهم ونهارهم حتى غشيهم ظلام الليلة التالية. فحار الروم وولوا الأدبار وقد أصيب رئيسهم سقلار والذي يليه نسطوس ولم يتمكن الروم من الفرار فانتهت بهم الهزيمة إلى الوحل فأدركهم المسلمون وأوسعوهم وخزاً بالرماح وغنموا أموالهم. ثم ارسل أبو عبيدة شرحبيل ومن معه إلى بيسان وانصرف هو بخالد ومن معه إلى حمص.
ولما استخلف أبو عبيدة يزيد بن أبي سفيان على دمشق وسار إلى فحل كما تقدم بعث يزيد دحية الكلبي إلى تدمر وأبا الأزاهر القشيري إلى حوران فصالحوهما ووليا عليهما. ثم سار يزيد إلى مدينة صيدا وجبيل وبيروت وعلى مقدمته أخوه معاوية ففتحها هي وغيرها من سواحل دمشق.
وأما شرحبيل بن حسنة فأنه قتل من أهل بيسان خلقاً كثيراً ثم صالحه من بقي منهم على مثل صلح دمشق فقبل منهم. وكان أبو عبيدةو قد بعث الأعور إلى طبرية يحاصرها فصالحه أهلها على مثل صلح دمشق أيضاً وأن يشاطروا المسلمين المنازل فنزلها القواد وكتبوا بالفتح إلى عمر.
مسير المثنى بن حارثة وأبي عبيد بن مسعود إلى فارس
اهتم عمر رضي الله عنه بحث الناس إلى الخروج مع المثنى بن حارثة الشيباني إلى فارس مبادرة في إمضاء ما أوصاه به أبو بكر رضي الله عنه. فأول من انتدب أبو عبيد بن مسعود الثقفي وسعد بن عبيدة الأنصاري وسليط ابن قيس وهو ممن شهد بدراً ثم تتابع الناس على ذلك. وكان أهل فارس من أثقل الوجوه على المسلمين فتكلم المثنى بن حارثة وقال أيها الناس لا يعظمن عليكم هذا الوجه فإنا قد فتحنا ريف فارس وغلبناهم على خير شقي السواد وقتلنا منهم واجترأنا عليهم ولنا إن شاء الله ما بعدها. فاجتمع الناس ودعى(24/7)
عمر بأبي عبيد بن مسعود الثقفي وهو أول من انتدب للقتال فجعله أميراً وقال له اسمع من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشركهم في الأمر ثم قال له أني لم يمنعني أن أؤمر سليطاً إلا سرعته إلى الحرب وإن التسرع إلى الحرب ضياع الأعراب فإنه لا يصلح الحرب إلا الرجل المكيث وأوصاه بجنده. فساروا على بركة الله تعالى وكان بعث أبي عبيد أول جيش سيره عمر ولم يول عمر رضي الله عنه إمارة ذلك الجيش لأحد من السابقين المهاجرين ولا الأنصار مع توفر كل منهم يومئذ. بل عدل عنهم إلى أبي عبيد بن مسعود الثقفي لأنه كان له سعة نظر في الأمور وحسن دراية في تعبئة الجيش وتنظيم شؤونه.(24/8)
الطلبة والتعيش
من القضايا المسلمة التي لا تحتاج إلى مقدمات تبينها. ولا إلى دلائل تثبتها أن العلم حياة الأمم وأنه كلما ازدادت الأمة علماً ازدادت حياة ورقيا. وكلما انتشر الجهل بين أفرادها ازدادت اضمحلالاً وأصبحت على وشك السقوط بين يدي أعداءها. ومن ثم جعل أهل الخير وأصحاب العقول الكبيرة يشيدون المدارس ويعمرونها بالأوقاف لتصرف على إطعام طلبة العلوم وحاجاتهم. وأخذت الحكومات ترغب الناس في طلب العلم بتمييز طالب العلم عن غيره. وما ذلك إلا لجلب الناس إلى العلم. لأن النفوس في الغالب ميالة إلى الانتفاع بأعمالها دنيوياً. وقد سلكت هذا السبيل دولتنا العلية أيدها الله بروح منه فجعلت طالب العلم الديني معفواً من دخول الجندية التي هي من أشرف الوظائف ليتفرغ للعلم الذي هو ضالة الشعوب ونهاج السعادة. وشرطت عليه أن يؤدي الامتحان بعلوم الصرف والنحو والمنطق مدة ست سنوات بحضور هيئة من أهل العلم ورجال الحكومة. ولكنها لم تكتف بأداء الامتحان بل اشترطت ملازمة الطالب للمدرسة آناء الليل وأطراف النهار. مع أنها لو اكتفت بالشرط الأول وهو أداء الامتحان لأحسنت صنعاً. لأن الشرط الثاني وهو الملازمة للمدرسة وإن كان يعقل بالنسبة إلى وقت وضعه يوم كانت المدارس عامرة بالأوقاف التي تصرف على الطلبة ورواتبهم ولكن لا يعقل الآن لأن أوقاف المدارس قد درست واختلسها من لا أخلاق لهم ولا ذمة. فكان من الواجب إلغاء الشرط الثاني أو تعيين رواتب لهم تقوم بأود حياتهم وإلا أفضى الأمر بطالب العلم إلى أن يقعد في المدرسة يتسول الناس أو يترك طلب العلم بتاتاً وهذا مما يضعف العلم الذي يراد شيوعه وكثرته.
هل تتصور الحكومة أن طالب العلم من الملائكة فيكون طعامه وشرابه التسبيح. أم لا ترى عاراً أن يكون طلاب العلم ورجال الدين عالة على الناس فيما يحتاجون إليه من طعامهم ولباسهم وأداة دروسهم. أم ماذا؟
هنا يقف الإنسان مذهولاً خصوصاً حينما يسمع من بيده أمر الطلبة يضيق عليهم ويتشبث بأنه لا يجوز للطالب أن يحترف بصناعة أو تجارة أو كسب ما من أنواع الاكتساب المباح في الشرع. على أننا لو قطعنا النظر عن هذه الأمور كلها ورجعنا إلى السلف الصالح من العلماء الذين ملأوا طباق الأرض علوماً لوجدناهم كانوا يشتغلون بحرف متنوعة.
هذا أبو حنيفة رضي الله عنه كان خزازاً يبيع الخز ويتجر به. ولم يقطعه اكتسابه عن(24/9)
التزود بالعلم والتبسط فيه. ومن يضارع أبا حنيفة رضي الله عنه في علمه وهو من كبار أئمة المذاهب الذين هم قدوة المسلمين في أقطار الأرض فنلفت أنظار من بيدهم الأمر إلى تلافي هذا الخرق. فإن الأمة في احتياج إلى علماء ترشدهم وتهذبهم وتزيدهم تعلقاً بعرش الخلافة العظمى أيدها الله وإلا فمن ينوب عن العلماء في هذا الأمر. وهل من الحكمة أن يعامل طالبو العلوم العصرية بأنواع الامتيازات فيعفوا من الخدمة العسكرية كما يعفى طالبوا العلوم الدينية مع تعيين معلمين لهم وصرف المبالغ الطائلة عليهم ولهم غاية يطلبونها وهي الاستيلاء على وظائف الحكومة والتنعم بلذائذ الحكم وتقاضي الرواتب. هل من الإنصاف أن تخصص الملايين من الليرات لنظارة المعارف ويترك طالبو العلوم الدينية بهذه الحال التي يرثى لها كل عاقل. أفيدونا بماذا ينتفع طالب العلم الديني عن علمه دنيوياً؟ هل جعلوا له وظائف يتولاها حين انتهائه من الطلب كما يعامل طلاب العلوم العصرية المكتبية؟ أم له مرتبات من قبل الحكومة؟ أم يحترمه الشعب احتراماً زائداً عن غيره؟ كلا لم يكن شيء من ذلك. بلى قد وجد في هذه الفئة الباغية الذين يسمون أنفسهم مصلحين من جعل ديدنه سب أهل العلم وقذفهم على مرأى من الناس والحكومة ومسمع ولا من ينتصر لهم أو يهتم لأمورهم. إذاً علام نضيق عليهم؟ وإلى م نضطهدهم؟ ألزوم أن ننفرهم عن الطلب حتى تحرم هذه الأمة من علماء يرشدونها إلى ما فيه صلاحها وفلاحها؟ أيقصد ازدياد الأمة في الجهالة وقد أضحى أفرادها كالغنم في الليلة المستطيرة؟ رباه إنك شاهد على ما يصنعون؟ ماذا على طالب العلم لو اشتغل بصناعة أو تجارة ليسد خلته؟ ويعيل عيلته. ويقوم بحاجاتهم ويغنيهم عن الناس ثم هو مع ذلك يطلب العلم ويكب على التحصيل ويتعلم ويعلم في البكور والمساء. وهو مستعد كل لحظة أن يؤدي الامتحان بالعلوم التي تطلب منه. ربما يقال أن ما تقدم من ضرورة الاكتساب ثابتة للفقير دون الغني لأن الغني في غنى عن الاشتغال بحرفة أو تجارة بما لديه من الأموال قلنا لا يخلو إما أن يكون الطالب غنياً بغنى والده أو بنفسه فإن كان الأول وهو الأكثر فلا يليق بشرف طالب العلم أن يكون كلا على أحد ولو كان والده. على أن الحكومة لا تجبر الوالد على القيام بنفقة ولده إذا كان طالب علم. فلا ملام عليه إذا اكتسب لنفسه وإن كان الثاني فلم نمنعه إذا كان يريد أن يشتغل بما أحله الله له مع عدم التقصير فيما يطلب منه. فعلم مما قدمناه أن(24/10)
منع الطالب من الاكتساب لا يعود بالفائدة التي يطلبها محبو العلم. فإن قالوا أننا إذا وسعنا على الطالب وجوزنا له الاكتساب فمن يكفل لنا أن يداوم على الاشتغال بالعلم. قلنا يلزم بدلاً من أن نحقق أن الطالب موجود في المدرسة أم لا فلنحقق أهو مشتغل بالعلم أم منقطع فإن تبين لنا أنه منقطع عن الطلب طالبناه بتأدية الامتحان فإن قام بذلك دل على أنه مستمر على الطلب وإلا أُخذ جندياً غير مأسوف عليه لأنه لم ينفع الناس بعلمه فلأن ينفع الحكومة بعمله أو ماله أولى.
على أننا لو رجعنا إلى الحق الذي لا شائبة فيه نجد أن هذا الأمر خير من ملازمة المدرسة فإننا نرى كثيراً ممن يلازمون المدرسة ليل نهار لا يتعلمون العلم لعدم تأهلهم للعلم بما جبلوا عليه من بلادة الطبع وسقم الذهن. وهناك أمور أخرى جديرة بالاعتبار وهي أن يعدل قانون الامتحان فيزاد فيه علوم أخرى ضرورية لطالب العلم وهم يهملونها لعلمهم بأنهم لا يسألون عنها. وهي علم الفقه والأخلاق الذين هما مدار السعادتين. وبهما يصبح العالم مقبولاً عند العامة مسموع الكلمة نافذ الحكم فيتحقق النفع به لأن العلوم الموضوعة للامتحان هي وسائ \ ل ومبادئ لهذه العلوم. وهذا ما أردنا أن نذكر به أولياء الأمور حباً بنجاح العلم. وترقي المسلمين. وفق الله الحكومة لما فيه فلاح المسلمين.
صلاح الدين الزعيم(24/11)
الإسلام بين السيف والنار والمسلمون بين شقي
الرحى
لو أن ابن الأثير بعث من مرقده وطيف به في تلك المدائن التي أصبح الإسلام فيها غريباً وهي ديارة وواحش فيها وهي حرمه وذماره، وأخذ فيها بالسيف يمنة والنار يسرة ثم أريد على وصف ما رأى لآثر أن يقصف قلمه على أن يعيد نعي الإسلام للمسلمين.
ولو أنه جال في تلك المواطن التي أمست بعد نضرة النعيم رسماً محيلاً ووقف غبها يكلم أحجارها فتكلمه، ويسئل عن ملاعبها ماذا دهاها فتعلمه، وأبصر هناك بالعدو وهو يجعل آلافاً من المسلمين بين شقي الرحى ثم يديرها طاحنة ويغلف الآلاف منهم على ما في أيديهم ويجلي من طالت لشقوتهم آجالهم عن بلاد من تربتها نبتوا وفي ظلها رتعوا وبخيرها نعموا، وسئل بعدئذ أن يقضي حق التاريخ بكلمة لما زاد على أن ينعي المسلمين للإسلام.
ولو أنه علم ما يجترحه البلقانيون هنالك من المآثم وأبصر كيف يقتحمون خدور المسلمات بغياً، ويغتصبون عفافهن بغياً، ويرتعون في أعراضهن إزاء آبائهن وأزواجهن بغياً، وعلم كيف يبقرون بطون الأصبية الصغار في حجور آبائهم وكيف يعذبون أولئك ويمثلون بهم، وطلب منه أن يقول لاستحب البكم على البيان.
ولو اطلع على تلك المساجد التي عبث العدو بمحاريبها ومحاآليها وأتلف منابرها وحول قبلتها عن موضعها وهدم مآذنها وأحالها كنائس تغص بالقساوسة والرهابين ويسمع فيها الناقوس ولم يكن يسمع بها إلا التأذين، وخي بين يقول فيما شهدوا أن يذهب به وبين سمع الأرض وبصرها لآثر على الثانية الأولى.
من ذا الذي يطاوعه قلمه على وصف مشهد الآلاف من المسلمين والسيف يحصد رقابهم، ويفري إهابهم، والعدو يجوس خلال ديارهم عابثاً بأعراضهم ما أردا له حوله وطوله مذبحاً أطفالهم مستبيحاً عفاف بناتهم واطئاً بسنابك خيله مساجدهم محيلاً إياها على وجهتها؟
إنا لنجيل الفكر في أنباء تلك المآتم التي يرتكبها البلقانيون فنقرأ فيها خاتمة تاريخ الإسلام في الأندلس والتاريخ يعيد ذاته وما أشبه اليوم بالأمس فقد كان الكاستليون يرهقون المسلمين في بلادهم يذيقونهم النكال ضروباً مستعينين في ذلك بمحكمة التفتيش إذ كان كل مسيحي منهم قاضياً وكل مسلم مقضياً عليه بالموت إلا أن يهاجر ملته أو يهاجر بلاده إن(24/12)
استطاع إلى هجرها سبيلا.
كانوا يعذبون المسلمين ويستحلون فيهم المحرم، ويستبيحون من عروضهم وأداتهم ومتاعهم وبيوتهم ما أرادوا ولا معقب لحكمهم، ولا أمر إلا أمرهم، ولا يد فوق يدهم، وقد صمت الإسماع عن صوت المسلمين فلا يسمع لهم شكاة وربما من عليهم بأنه المحزون.
أرادوا أن يفنوا المسلمين حتى لا يكون ثمت إلا جلدهم وملتهم وحدهما فاعملوا السيف فيهم بكل سبيل غير متقين لائمة من التاريخ، ولا غضبة من الأرض، ولا لعنة من السماء.
وقام البلقانيون في هذا الزمن النكد يمثلون تلك المأساة بعينها، ويفعلون بالمسلمين في بلادهم ما فعله أخوانهم بأخوانهم وأوربا جاثمة ساهية الطرف لا تحرك ساكناً وكأنها تطرب لما يصيب أولئك الذين تعذب الإنسانية في ذواتهم، وتكاد تميد الأرض جزعاً لما أصابهم في دينهم ووطنهم وحياتهم وأن مصابهم لكبير.
فهل أتى المسلمين حديث أخوانهم الذين أسرف العدو في تعذيبهم ومثل بهم لا وحاربهم في الدين، وهم أهل سلم ضعاف، لا حيلة لهم ولا حول.
هل أتاهم حديث أوصال هناك تمزق، واسلاء تفرق، ودماء على الثرى تتدفق، وهل انتهى إليه نبأ ذلك المأتم الذي لا انفضاض له أبد الدهر.
هل أتاهم أن أفخم المساجد في سالونيك قد بدلت معالمها وحولت عن وجهتها، فأصبح (مسجد إسماعيل) وهو كنيسة سنت كاترين (والمسجد ذو المنارتين) وهو كنيسة سنت ميشسل (ومسجد السلطان مراد) وهو كنيسة سنت داود وهل علموا أنه لم يعد لمن بقي من المسلمين في كل بلد فتحه أولئك الفجرة الطغام جامع يقيمون فيه الصلاة.
إلا أن تلك المساجد التي مسخوها، لتذكر أن عهد الحنيفية في تلك البلاد عهد وفق وسماحة ولين، وأنه أكرم على الله وخير أثر من عهدها الجديد.
فهل يذكر المسلمون الذين عرفوا ما ابتلي بهم أخوانهم، وكفوا ما نزل بهم، وأمنوا أن يراعوا بمثل مصابهم، أنه لا عاصم لهم من مثل ذلك المصير ولن يكونوا منه بمأمن، إلا أن يغيروا ما بأنفسهم ويردوها إلى ما حثهم عليه قرآنهم المبين من الاعتبار بالسنن الكونية، والاستكثار من أسباب القوة، وطلب العلا والسمو إلى تلك المكانة التي بلغوها حين كانوا أمة واحدة مجتمعة على هوى واحد؟(24/13)
وهل لهم أن يحدبوا على أخوانهم الذين هاجروا بلادهم، وثكلوا أولادهم ويمدوهم بما يمسك عليهم الدماء ويسليهم عن خطبهم الجلل بعض السلوان؟
إنا لا ننعي على أوروبا أنها بإعراضها عن الانتصاف للإسلام ولو بكلمة حق تدل على شدة تعصبها عليه، وعلى أهليه فذلك ديدنها.
ولا نأخذها بأن صمتها عن انتهار أولئك المجرمين اللئام هو الذي مدهم في بغيهم، وزين لهم أن يمضوا في خيلائهم، ويسترسلوا في طغيانهم، فقد علمنا أنها لا ترفع عقيرتها إلا حيث تحلم أنه قد اعتدي على المسيحية أو مس أحد من المسيحيين بشيء من الأذى ولا نعتب ساستها فإن المجني عليهم اليوم مسلمون ولا نسألهم أن يقلعوا عن دعوى التنزه عن التعصب، إذ قد وضح أنهم هم المتعصبون.
ولكنا ندعو المسلمين إذا كانوا قد ألموا لدينهم وأخوانهم وكرامتهم أن يتدبروا أمرهم، ويأخذوا من حاضرهم لآتيهم، ويعتبروا بما نزل بطائفة منهم، ويعلموا أنهم لا نجاة لهم ولا بقيا عليهم إلا أن يأخذوا أخذ الأمم التي اعتزت بقوتها فإنهم بأن يملكوا تلك الحياة من طرفيها أحق، وبأن يجروا على ما أمرهم به كتابهم أولى، وإلا بقوا ما قدر لهم أن يبقوا وهم أهون على الناس منهم على أنفسهم وعاشوا غرضاً لسهام العوادي لا يعرفون من أي مأمن يؤتون. ولا من أي جهة يؤخذون وإن فيما نزل بهم اليوم من صنوف البلاء لألف عبرة لو كانوا يعتبرون.
(البلاغ)
مصر
محمد صادق عنبر(24/14)
دحض الفضول
في الرد على من حظر القيام عند ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم
بقلم العالم العلامة الأستاذ الشيخ محمد أفندي القاسمي الحلاق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على سيدنا محمد المصطفى وعلى آله وصحبه أولي الصدف والوفا وبعد فيقول أضعف الخلق على الإطلاق محمد ابن العلامة المرحوم الشيخ قاسم الحلاق الدمشقي الشهير بالقاسمي وقد ورد علي كتاب من المدينة المنورة على مشرفها أفضل الصلاة والسلام بإمضاء كل من صاحبي الغيرة والحمية على الدين وعلى أخوانهما المسلمين العالمين الفاضلين والأديبين الكاملين السيد أحمد علي القادري الرامفوري والشيخ محمد كريم الله الهندي عاملهما الله بلطفه الخفي آمين وملخصه أنهما اطلعا على رسالتي الموسومة بتحقيق الكلام في وجوب القيام عند قراءة مولد المصطفى ووضع أمه له عليه الصلاة والسلام المدرجة في مجلة الحقائق الغراء في الجزء الحادي عشر من السنة الثانية فتلقياها بالقبول والاستحسان أنعم الله علينا وعليهما بكل إحسان بيد أنها كما قالا عارية عن حكم المشبهين للقيام بفعل مجوس الهند عبدة الأصنام فاستحسن مني هذان الفاضلان أن أحرر رسالة تكون ذيلاً للرسالة الأولى تتضمن رد الجواب الآتي وبيان حكم المانعين لهذا القيام ظناً منهما أني أهل لذلك وممن سلك هاتيك المسالك وما دريا أنهما استسمنا ذا ورم ونفخا في غير ضرم ولكن لظنهما الحسن بهذا العاجز كما هو شأنهما امتثلت الأمر واقتحمت صعوبة هذا الخطر وقصدت ذلك مع الاعتراف بأني لست هنالك وسميتها دحض الفضول في الرد على من حظر القيام عند ولادة الرسول سائلاً منها تعالى الإعانة والتوفيق والهداية لأقوم طريق آمين (صورة السؤال) الذي ورد من الفاضلين المذكورين.
ما قول علماء المسلمين أيد الله بهم الدين وقواهم على إزاحة شبه الملحدين في قول رجل سئل عن القيام عند ذكر الولادة الشريفة النبوية (فأجاب) وهذا نص كلامه_وأما توجيه القيام بقدوم روحه الشريفة صلى الله عليه وسلم من عالم الأرواح إلى عالم الشهادة فيقومون تعظيماً له فهذا أيضاً من حماقاتهم لأن هذا الوجه يقتضي القيام عند تحقق نفس الولادة الشريفة ومتى تتكرر الولادة في هذه الأيام فهذه الإعادة للولادة الشريفة مماثلة بفعل مجوس(24/15)
الهند حيث أنهم يأتون بعين حكاية معبودهم (كنهيا) أو مماثلة للروافض الذين ينقلون شهادة أهل البيت رضي الله عنهم كل سنة (أي فعله وعمله) فمعاذ الله صار هذا حكاية للولادة المنيفة الحقيقية وهذه الحركة بلا شك وشبهة حرية باللوم والحرمة والفسق بل فعلهم هذا يزيد على فعل أولئك فإنهم يفعلونه في كل عام مرة واحدة وهؤلاء يفعلون هذه المزخرفات الفرضية متى شاؤا وليس لهذا نظير في الشرع بأن يفرض أمر ويعامل معاملة الحقيقة بل هو محرم شرعاً أهـ فهل هذا الجواب صحيح أم لا أفيدونا مأجورين أهـ.
وقد جاء بحاشية صحيفة السؤال ما نصه: أنه إذا جاء يوم ولادة معبودهم المذكور يأتون بامرأة حامل متم ثم هي تحاكي امرأة عند الوضع فتأن أنيناً وتلتوي حيناً فحيناً ثم يستخرجون من تحتها صورة ولد ويرقصون ويلعبون ويصفقون ويزمرون إلى غير ذلك من ملاعبهم الخبيثة أهـ.
هذا ملخص عبارة الكتاب المتقدم_قلت وهذا الجواب كما ترى إنما ورد بحسب أوضاع المبتدعة من الاختلاق على المسلمين لإلقاء الشبه على ضعفاء العقول فلينتبه له لأن جميع ما تخرص به من أول كلامه إلى آخره مزيف بكذبه الحس والعيان ولم ينزل الله به من سلطان وكان اللائق عدم الجواب عنه لبداهة بطلانه إلا أننا نخشى من ظنه وظن أمثاله أن المسلمين عاجزون عن رد كلماته ودحض شبهاته ولئلا ينخدع بها الجهلاء ونحوهم وهو مع ما فيه من المغالطات والمشاغبات تطويل من غير طائل بل هو كسراب بقيعة يحسبه ظمآن ماء ولنتكلم بحسب العجز على هذا الجواب بكلام يسلمه ذوو العقول والألباب فنقول_أما كون القيام للتعظيم وكون التعظيم واجباً فقد بسطنا الكلام على ذلك في رسالتنا المتقدمة فليراجعها من أراد (وأما قول هذا المفتري وإما توجيه القيام الخ) فكلام مختلق منه أو من بعض الجهلاء الذين لا يعقلون الحجج والبراهين ولا يميزون بين الغث والسمين حمله على ذلك سوء ظنه بالمسلمين وحسده لرسول رب العالمين والدليل على اختلاقه هذا من وجهين (الأول) أنه ليس لما ادعاه من قدوم روحه أصل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا من حجة عقل ولم يؤثر عن أحد من السلف الصالح ولا التابعين لهم بإحسان ولا عن أحد من الأئمة المجتهدين ولا غيرهم ولم ير له أثر في الصحاح ولا غيرها وما كان هكذا فهو في غاية السقوط والبعد عن الحق قال تعالى: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) وإذا(24/16)
لم يكن ذلك بسلطان بين من الله وهو ما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم كان صاحبه متبعاً لهواه بغير هدى من الله قال تعالى: (وإن كثيراًَ ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين).
قال بعض الأفاضل ما بعضه ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن هذه الأمة تتبع سنن من قبلها حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه وجب أن يكون فيهم من يغير معنى الكتاب والسنة فيما أخبر الله ورسوله ويتبع هواه بغير علم ويبتدع في الدين ما ليس منه كما وقع للأمم السالفة إذ هذا من بعض أسباب تغيير الملل الماضية بعد موت أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام لكن هذا الدين محفوظ بحفظ الله وقدرته وعنايته من انتحال كل مبطل وتأويل كل جاهل ولا يزال فيه طائفة قائمة ظاهرة على الحق فلم ينله ما نال غيره من الأديان من تحريف كتبها وتغيير شرائعها مطلقاً إذا تبين هذا علمت أن كل الدعاوي التي ادعاها حماقات ومكابرات بلا برهان بل البرهان الواضح على بطلانه الدافع لما خرص به قوله صلى الله عليه وسلم (ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي فأرد عليه السلام) رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال المناوي وإسناده صحيح أهـ.
فأفصح صلى الله عليه وسلم أن روحه الشريفة ترد إلى جسده الشريف عند سلام من يسلم عليه ليرد عليه السلام صلى الله عليه وسلم ومن لوازم هذا الرد رجوع الحس والحركة الإرادية كما هو معلوم فهذا دليل جلي على أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره الشريف وأن روحه الشريفة لا تفارق جسمه الشريف أبد الآبدين حيث لا يخلو الكون من مسلم عليه عليه الصلاة والسلام كلما ذكر فكلامه هذا صلى الله عليه وسلم هو القاضي على كل كلام فليتأمل قلت والأنبياء عليهم الصلاة والسلام كذلك أي أحياء في قبورهم كما هو ثابت أيضاً (الوجه الثاني) أن السائل لم يسأل إلا عن القيام عند ذكر الوضع فقط كما رأيت ولم يتعرض لذكر القدوم بتاتاً كما غالط به هذا المجيب الأفاك فتبين بذلك افتراؤه وكذبه على المسلمين قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أبو داود والترمذي وصححه واللفظ له عن ابن مسعود رضي الله عنه في شق حديث له ما لفظه وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند(24/17)
الله كذاباً والبخاري رأيت الليلة رجلين أتيانب فقالا لي رأيت يشق شدقيه فكذاب يكذب الكذبة تحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به ذلك يوم القيمة والشيخان آية المنافق إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وزاد مسلم في رواية وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم قال بعضهم:
لي حيلة فيمن ينم ... وليس في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة
فليتأمل (قوله وهذا الوجه يقتضي الخ) قلت هذا نظير ما قبله من الاختلاق حيث أننا لم نعلل القيام المذكور بقدوم روحه كما مر تزييفه ولا بنفس الولادة كما غالط به ههنا بل عللناه بأنه قد صار في هذه الأزمان من شعار التعظيم الذي يعد تركه تهاوناً بل استخفافاً به ورغبة عنه حتى صار التعظيم المذكور بهذه القيود واجباً فيكون القيام واجباً حينئذ لذلك كما أوضحناه سابقاً في الرسالة المتقدم ذكرها فاحفظه (قوله فهذه الإعادة للولادة الخ) قلت من وقف على هذه الكلمات المنتحلة أيضاً وجدها كلها حماقات ومكابرات بلا برهان كما مر بل هي خارجة عن دين الإسلام محرمة فيه يجب على كل مسلم قادر على إنكارها وإزالة شبهها بالقلم والبيان واليد واللسان ليكون من جملة المرادين بقوله صلى الله عليه وسلم يحمل هذا العلم من كل خلق عدو له ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وكما قال وذلك من أعظم ما أوجبه الله تعالى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة واضحة تدحض دعوى مثل هذا الأحمق الأخرق الذي لم ينسج ناسج على مثاله ولم يسلك سالك على منهاجه وهو كأمثاله ممن أعمى الله قلبه حتى رأى الظلمة نوراً والنور ظلمة قال الله تعالى: (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم الآية).
وقد شبه هذا الأحمق فعل الإسلام عند اجتماعهم لتلاوة قصة مولد نبيهم صلى الله عليه وسلم من الأعمال الصالحة بفعل المجوس يوم اجتماعهم لمثل ولادة آلهم من المكفرات كما سلف ولنذكر هنا على سبيل الاختصار كلاً من المولدين وما يفعل فيهما ليتبين للقارئ الفرق بين الفعلين ويظهر البون البعيد بين الاجتماعين أما فعل المجوس فكما تقدم من إتيانهم بامرأة حامل حيلة فتضع صورة ولد فيؤخذ من تحتها ويرقص له الخ هذا هو فعلهم(24/18)
لمثل ولادة إلههم بزعمهم وأنت تعلم أن هذا الفعل مشتمل على محظورات ومحرمات بل على مكفرات لا تخفى منها إثباتهم لإله باطل ومنها إتيانهم بامرأة حامل كذباً وبهتاناً تحاكي امرأة عند وضعها من أنين وغيره كما مر ومنها استخراج ولد من تحتها مماثل لإلههم ومعبودهم بزعمهم ومنها رقصهم ولعبهم الخ هذه هي أعمالهم كل سنة عند اجتماعهم للولادة المذكورة وأما ما يفعله المسلمون في مولد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فمبسوط في رسالتنا المار ذكرها فلتراجع ولننقل منها شيئاً نزر المناسبة المقابلة فنقول قال في مواكب ربيع في مولد الشفيع أثناء كلام له ما لفظه جرت العادة بالعناية بأمر المولد ليلته أو يومه بحيث يقع الاجتماع وإظهار الفرح وإطعام الطعام والإحسان للفقراء وقراءة القرآن والذكر وإنشاد القصائد النبوية والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وقراءة قصة المولد الشريف وما اشتمل عليه من كراماته ومعجزاته إلى أن قال وأول من أحدثه الملك المظفر صاحب أربل فأقره عليه أفاضل العلماء وعامة الصلحاء الخ فتبين من قوله فأقره الخ أن هذا الفعل مع كونه فعلاً مستحسناً وطاعة عظيمة صار مجمعاً عليه إلى الآن بل إلى ما شاء الله فليتأمل وقوله ليلة المولد أو يومه هو على المشهور اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول ولم تزل قراءته متولية متتابعة إلى آخر الشهر المذكور وبعده إلى آخر السنة إنما يقرأ عند حادث سرور أو نحوه من كل نعمة أنعم الله بها على هذه الأمة ويتكرر ذلك كما هو معلوم ولم تزل هذه أعمالهم كلما اجتمعوا لقراءة المولد الشريف ولا يزالون كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها هذا وفي أثناء قراءة القصة المذكورة يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم مراراً مع أناشيد متعددة مشتملة على مدحه وحسن سيرته الخ ثم عند ذكر الوضع والولادة له صلى الله عليه وسلم ويقوم الحضور جميعاً على أقدامهم بغاية الأدب والاحترام تعظيماً لمقامه الشريف ومحبة له صلى الله عليه وسلم مكررين الصلاة الإبراهيمية ثم يختم هذا المجلس بحمده تعالى والثناء عليه بما هو أهله وبالصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم وبالدعاء للحاضرين ولجميع المسلمين هذا هو عمل المسلمين وقت اجتماعهم في كل مجلس اجتمعوا فيه لتلاوة قصة المنيفة إذا تبين هذا علمت أن مثل هذا المجلس يعد ويحسب من جملة مجالس الذكر التي ندب الله ورسوله إليها وذلك لأن لفظ الذكر لفظ عام يتناول أفراد كثيرة من كل ما يطلق عليه لغة وشرعاً أنه طاعة وعمل صالح كقراءة القرآن(24/19)
والدعاء والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الأعمال المحبوبة للشارع كما هو معلوم ففي القاموس وشرحه ما لفظه الذكر والطاعة والشكر والدعاء والتسبيح وقراءة القرآن وتمجيد الله وتسبيحه وتهليله والثناء عليه بجميع محامده أهـ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أن لله ملائكة سياحين في الأرض فإذا مروا بقوم يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم وذكر الحديث وفيه وجدناهم يسبحونك ويحمدونك وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ما اجتمع قوم في مجلس فلم يذكروا الله فيه ولم يصلوا فيه علي إلا كان عليهم ترة يوم القيامة والترة النقص والحسرة فإذا كان مجلس من المجالس اشتمل على نوع واحد من أنواع الذكر يسمى مجلس ذكر فإن يسمى ما اجتمع فيه أنواع متعددة منه مجلس ذكر أولى وأحرى بل لو لم يكن فيه من الأعمال المتقدمة غلا الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام التي أوجبها كلما ذكر اسمه الشريف جمع من العلماء والتي هي من الآدميين تضرع ودعاء كما هي من الله رحمته المقرونة بالتعظيم ومن الملائكة استغفار لكفى حيث أنها من حيث ذاتها ذكر بل هي أهم الأذكار فليتأمل وبالجملة فالمجلس الذي اجتمع فيه المسلمون لقراءة مولد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم من أفضل القربات والعبادات لاشتماله على أنواع من الطاعات كما مر فما تمثيل هذا الجاهل الملحد فعل الإسلام بفعل المجوس إلا كتمثيل العلم بالجهل والحي بالميت والنور بالظلمة (قوله أو مماثلة للروافض الخ) هذا نظير ما قبله من الكذب والافتراء إذ لا يخفى على من اطلع على أحوال بعض الروافض لا سيما الغلاة من جهلائهم وشاهد أعمالهم يوم عاشوراء وما يفعلونه من تمثيل غلمان وغيرهم من البنات محاكاة لحالة بعض أهل البيت رضي الله عنهم بحالة تقشعر منها الجلود وتنفطر لها القلوب_أن فيها محرمات لا سيما التمثيل الذي هو محرم لكونه كذباً كما لا يخفى وقد بسطنا الكلام على ذلك في رسالتنا المدرجة في مجلة (الحقائق) الغراء في الجزء الثالث من السنة الثانية فارجع إليها إن شئت ويزاد على ذلك ما يفعلونه بأنفسهم من الإيذاء المحظور شرعاً وعقلاً كضرب الصدور ولطم الخدود والصياح وجرح الرؤوس والأبدان بآلات جارحة كما هو معلوم وأنت تعلم أن هذا من جنس النياحة المحرمة المجمع على تحريمها.
فتمثيل هذا الأخرق فعل المسلمين في قصة المولد النبوي بفعل غلاة الروافض كما مر(24/20)
بهتان عظيم على المسلمين (قوله وهذه الحركة حرية باللوم الخ) دعواه هذه فرية بلا مرية بل هي من باب زناه فحده وتقول عليه فرده شبههم بالمجوس ليرميهم بالحماقة والفسق وغير ذلك افتراء وبهتاناً عليه ما يستحق من الله تعالى (قوله متى شاؤوا) قد علمت أن قراءة قصة المولد الشريف صارت من مجالس الذكر كما تقدم آنفاً وهي كما مر الحديث ليس لها وقت معين ولا جعل لها الشارع وقتاً مخصوصاًَ ولا عملاً مخصوصاً بل هي مطلقة وظاهر الإطلاق يشعر بعموم الأوقات والمحلات والحالات كما هو ظاهر فكلما تكرر الذكر ازداد الثواب والأجر وبما تقدم علمت أن فعل المولد الشريف نفسه صار شرعياً مثاباً على فعله مستحسناً عند جميع المسلمين وأن القيام عند الوضع الشريف من حيث ذاته شرعي أيضاً لاندراجه في عموم الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم (من سن سنة حسنة الخ) فالمسلمون سنوه واستحسنوه تعظيماً له صلى الله عليه وسلم لا سيما وقد شهد الشارع بأنه ما رأوه حسناً (فهو عند الله حسن) فهو حينئذ فرد من أفراد السنة الحسنة كما لا يخفى على من هو على طرف من علم الأصول فكيف يقول هذا الأحمق لا نظير له في الشرع فلينتبه لهذه المغالطة (قوله بأن يفرض الخ) قدمنا لك مراراً تزييف مثل هذا الكلام وبطلانه فلذا نضرب صفحاً عن التطويل في رده وبيان عاطله وباطله غير أننا لا نتركه هملاً عن بيان ما فيه من التمويه_ظن هذا المبطل أنه إذا أتى بهذه الحماقة تروج على المسلمين ولم يدر بأنه صار عندهم من الضالين المكذبين وأنه من الذين جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق.
ولا يخفى أن من حلل حراماً مجمعاً عليه أو حرم حلالاً كذلك أو كفر مسلماً بمكفر كذلك أو سمى طاعة من الطاعات مزخرفات فرضية أو شبه فعلاً من عبادة أو طاعة بفعل مكفر من المكفرات بقصد تضليل فاعله أو أنكر فعلاً مشعراً بتعظيم نبي من الأنبياء لا سيما سيد الشفعاء عليه وعليهم الصلاة والسلام بما يؤدي إلى تحقيره أو تنقيصه أو الاستخفاف أو الاستهزاء به وازدرائه أو كان السياق يدل على أحد هذه المذكورات أو نحو ذلك من كل ما يغمص مقامه أو مقامهم عليه وعليهم الصلاة والسلام فإن كان جاهلاً فيعرف ويستتاب فإن تاب ولا فإن قامت عليه الحجة فعلى أولياء الأمور أيد الله بهم الدين أن يعاملوه بما يقضي عليه الشرع قضاء يردعه وأمثاله عن مثل ذلك لأنه ضال مضل والله تعالى أعلم.(24/21)
يا للأرامل والأيتام باكية
قصيدة غراء للشاعر الفاضل أحمد أفندي محرم أنشدت في احتفال البحيرة (مصر)
الله أكبر جل الخطب واحتكمت ... فينا العوادي وطاشت دونها الخيل
حرب تبيت لها الأفلاك ذاهلة ... حيرى يسايرها الإشفاق والوجل
قذافة للمنايا الحمر صارخة ... ملء الفجاج حثاثاً ما بها مهل
ترفض من حولها الآجال جافلة ... تكاد من صعقات الهول تختبل
يا للغزاة قياماً دون بيضتهم ... إذا هوى بطل منهم سما بطل
يا للشهيد بدار الحرب تكنفه ... فيها الملائكة الأبرار والرسل
يا للجريح صريعاً لا مهاد له ... إلا النجيع وإلا النار تشتعل
يا للأرامل والأيتام باكية ... تشكو الطوى وتقوم الليل تبتهل
يا للحمى فزع الأرجاء مضطرباً ... يخاف عادية القوم الأُلى جهلوا
بني البحيرة هذا يومكم فخذوا ... أعلى المواقف كيما يصدق الأمل
تدفقوا بالنوال الجم واستبقوا ... في المكرمات فأنتم غيثها الهطل
إنا لفي غمرة عمياء ليس لها ... فيما تقدمها شبه ولا مثل
نلهو وننعم والأرزاء محدقة ... بنا وحادي الردى في أثرنا عجل
حاشا لقومي أن ترجى معونتهم ... فيبخلوا ويعابوا بالذي بذلوا
إني أرى المال جماً في خزائنهم ... وما عهدت بهم بخلاً إذا سُئلوا
أيمنح البائس المسكين بردته ... ويمنع المال مثر عيشه خضل
يا قوم أن لكم مالكم بدلاً ... ومالكم أبداً من ملككم بدل
حيوا الأميرين حيا الله ركبهما ... أنى استقر وأنى سار ينتقل
قاما بمصر مقام النيربين فما ... تضل سبل الهدى إن رابت السبل
ركنا الخلافة إن عزت دعائمها ... هوج الخطوب وخيف الحادث الجلل
بمثل ما صنعا تنجو الشعوب إذا ... حم القضاء وتحمي خوضها الدول
نعم المقام يبين العاملون به ... وحبذا اليوم فيه يعرف الرجل(24/23)
المسلمون وأوروبا
لم يبق ريب بنيات دول أوروبا نحو دولة الخلافة بل نحو سائر الدول الإسلامية. فقد برح الخفاء وظهر الصبح لذي عينين. واتضح أن ما يتشدق به أعاظم رجال الحكومات الأوروبية من محبة العدل وكراهية الظلم والعطف على المظلوم والأخذ بيده ليس في الحقيقة إلا من الدعاوي التي لا يستطاع التصديق بها ما دمنا نرى كل يوم برهاناً جديداً ينقض هذه الدعاوي الباطلة. وإلا إذا كانوا على ما يزعمون من المبادئ الفاضلة. وحب الإنسانية لذاتها أو النفور من الجور والتعدي فلماذا تشب هذه الحروب وتضرم هذه النيران وتذهب أرواح بني الإنسان ضحية الطمع والهمجية وهم ساكنون.
تشب هذه الحرب الهائلة، وتذهب تلك الأنفس البريئة وفي إمكان أصحاب هذه المزاعم الموهومة منعها أو عدم حدوثها وهم لا يفعلون ثم لا يخجلون من ادعائهم أنهم رسل المدنية ومحبو الإنسانية ورافعوا أعلام العدل ومثال الأخلاق الفاضلة والكمال المجسم إلى آخر ما يتبجحون به ويوافقهم عليه زمرة من ضعاف الأحلام وعشاق الأوهام. فمن اكتفوا ببهرج المدنية الظاهرة عن الوصول إلى الحقائق الواضحة. والبينات الراجحة. وما عهد الحرب الطرابلسية ببعيد. فقد اتفقت كلمة العقلاء على استهجان احتلال الطليان لطرابلس بدون سبب ما يوجب ذلك إلا حب الاستعمار وتوسيع الممالك وقام بعض أرباب العقول المستنيرة من الغربيين يقبحون هذا العمل الممقوت ويحضون حكوماتهم على مساعدة العثمانيين فألبت تلك الحكومات أن تسمع نداء الحق حتى انتهت هذه الكارثة على ما لا يرضى به محبو العدل والإنسانية.
وإن أردت دليلاً ثانياً على بطلان ادعائهم حب العدل والإنسانية فها هي الحرب البلقانية التي شبت نارها. وحمي وطيسها. ولم تتحرك همة دولة من الدول العظمى لمنع حدوثها مع إمكان ذلك. وأعظم منه وأغرب أن دولتنا العلية العثمانية على أثر الانكسارات التي حصلت أثناء هذه الحرب المشئومة طلبت من الدول العظمى التداخل في الأمر وتوقيف الحرب فلم يرق في أعينهم حسم مادة البغي والظلم وحقن الدماء. فأجابوا بأن تكون المخابرة مع الدول المحاربة رأساً. ولو كان الأمر على العكس وكان هذا الطلب من دول البلقان المتحالفة على أثر انكسار أصابهم أو فشل لحق بهم لكان الجواب بالإيجاب ولحرمونا من ثمرات انتصارنا كما فعلوا في الحرب العثمانية اليونانية فإنه بعد انكسار(24/24)
اليونان واستيلائنا على كثير من أملاكها توسطت أوروبا بطلب اليونان وكانت النتيجة حرماننا من ثمرات انتصارنا وتركنا أملاكها التي أخذناها بدماء رجالنا.
كل هذا من الأمور المقررة التي لا يرتاب في صحتها كل من يريد أن يفهم الحقيقة. ومع ذلك يقال عن منتقد ذلك بأنه متعصب. ويقول مثيرو الحرب البلقانية أنها حرب دينية وأنهم يريدون أن يثأروا للصليب من الهلال ولا يقال عنهم متعصبون. ثم بعد كل هذا وبعد تصريح دول البلقان بأن هذه الحرب دينية يوجد فينا من ينصب نفسه حكماً بذلك فيرى أنها غير دينية.
سأل سائل أصحاب مجلة المقتطف الغراء: ما هي سياسة دول أوروبا الآن في المملكة العثمانية وإيران فأجاب بما نصه:
إن المحور الذي تدور عليه سياسة الدول الأوروبية هو مصالح شعوبها المالية لأن الذين يديرون دفة السياسة هم رجال المال ولو لم يكونوا متربعين في المناصب الحكومية، وتختلف أساليبهم في الوصول إلى هذا الغرض باختلاف بلدانهم ومستعمراتهم وقربهم وبعدهم فإنكلترا كثيرة المستعمرات فلا يهمها أن تزيد مستعمراتها اتساعاً ليهاجر من يريد من شعبها إليها ولذلك لا تطمع بامتلاك بلاد جديدة إلا إذا كانت صلة بين مستعمراتها ولكنها تهتم أشد الاهتمام بحماية البلدان التي تروج متاجرها فيها وتبذل جهدها في صد من يريد امتلاكها إذا خافت أن يمنع ربحها منها ولذلك كان شأنها الدفاع عن الممالك العثمانية ومملكة إيران وحاربت الروس من أجل ذلك. وأما الدول التي تطلب امتلاك المستعمرات لسكنى من يريد من شعبها كألمانيا أو التي تطلب أن يكون لها مواني بحرية لمتاجرها وبوارجها كروسيا وبلغاريا أو التي لرعاياها أموال كثيرة في بلاد وتخشى على أموالهم إذا اختل الأمن فيها فتهتم بامتلاك البلدان ترويجاً لمصالح شعبها وحفظاً لأموالهم وإذا تعذر عليها امتلاكها اهتمت بامتلاك مرفأ فيها وبمراقبة ماليتها. ولا يخفى أن تضارب مصالح الدول ينوع مطالبها ويقال بالإجمال أنها تطلب أكثر ما يكون من الربح بأقل ما يكون من الخسارة وقد زعم البعض أن الدول الأوروبية تريد بالدولة العلية ودولة إيران شراً لأنها مسيحية وهما إسلاميتان. ولا أبعد عن الحقيقة من هذا الزعم لأن محور حركات الدول الأوروبية الماليون وأكثرهم من الإسرائيليين لا من المسيحيين ولأن أكبر الدول الأوروبية(24/25)
المسيحية نصرت الدولة العلية على روسيا وقت حرب القرم بالمال والرجال كما لا يخفى. ووطأتها بعضها على بعض أشد من وطأتها على الدول الإسلامية فقد اجتاحت مملكة بولونيا المسيحية واقتسمتها وحاربت ألمانيا فرنسا حرباً لم يشهد التاريخ مثلها وامتلكت جانباً منها وحاربت النمسا قبل ذلك وهي صديقتها الآن وأثارت فرنسا الحرب على كل دول أوروبا المسيحية في عهد بونابرت ولو حالفته تركيا لاكتفى بمحالفتها. وأثارت إنكلترا الحرب على جمهورية الترنسافل المسيحية وامتلكتها وعضدت اليابان الوثنية في حربها مع روسيا المسيحية. وقد تدعي الدول أحياناً أن الدافع لها إلى الحرب أمر ديني كما ادعت روسيا وقت حرب القرم وكما ادعت دول البلقان الآن ولكن هذه الدعوة لا تثبت على نار الامتحان. فإذا اختلفت دول البلقان غداًُ على ثغر احتلته أخذ بعضها بخناق بعض وقد تحالف إحداها تركيا على محاربة حليفتها اليوم ومن المحتمل أن الدين اليوم كان من جملة الدوافع للحروب الصليبية الأولى ولكنه لم يكن الدافع الوحيد ولا الدافع الأقوى وإذا قلنا أن المصالح المادية هي المحور الوحيد الذي تدور عليه سياسات الدول لا تخطئ.
فأنت ترى أنه استبعد جداً أن تكون أوروبا متعصبة على المسلمين والتمس لهم عذراً فيما يصدر عنهم مما يدل على ذلك بأن إنكلترا كثيرة الأملاك لا تطمع في امتلاك بلاد جديدة إلا إذا كانت صلة بين مستعمراتها وأن بعضها يطلب أن تكون لها مواني بحرية لمتاجرها وبعض الدول يهتم بامتلاك البلاد التي تكون مديونة لرعاياها محافظة على أموالهم إلى غير ذلك من الأعذار فإذا كان يوجد فينا من يقيم لهم الأعذار على تعدياتهم ومظالمهم فليس ببعيد على من يريد اغتصاب بلاد غيره وأعد لذلك عدته من القوة أن يعتذر بمثل ذلك وإذا كان وجود أملاك دولة صلة بين أملاك دولة ثانية مبيحاً للثانية امتلاك الأولى سهل على كل دولة قوية أن تبتلع أملاك مجاوريها بهذه الحجة.
وأننا مع احترامنا لأصحاب المقتطف وتقديرنا معارفهم حقها نستغرب كيف يجعلون محاربة المسيحيين بعضهم بعضاً دليلاً على عدم التعصب على المسلمين لأنه ليس من يدعي أنه لا تقع حرب ما إلا ويكون منشؤها الاختلاف في الدين إنما المدعي أنه إذا نشبت الحرب بين دولتين مختلفتين في الدين يكون أقوى البواعث عن شبوبها اختلاف الدين واعتماد أحد الخصمين على دولة أو دول أخرى من أهل مذهبه يساعدونه وينصرونه(24/26)
سواء على الحق أو على الباطل وأن الدولة العثمانية ما منيت بحرب مع أخصامها إلا وكان منشؤه ما ذكر والتاريخ أعدل وأحكم.(24/27)
إجابة طلب المؤيد
حكمت عل نفسي الهموم بذلها ... فلذا بخير الأنبيا وأجلها
أرجو التوسل كي أفوز بحلها ... (يا مصطفى قبل العوالم كلها)
(والكون لم يبرز من التكوين)
كن لي ملاذاً طالما ... من فرط ذنبي قد عدا وتحكما
عودتني فيما اروم تكرما ... (ايروم مخلوق مديحك بعدما)
(أثنى عليك الله في التبيين)
(يا مصطفى قبل العوالم كلها) ... لنوال رتبة مرسل وأمين
سماك مولاك الكريم حبيبه ... (والكون لم يبرز من التكوين)
(أيروم مخلوق مديحك بعدما) ... فقت الخليقة كلها بيقين
هلا كفى المداح طراً ذكر ما ... (أثنى عليك الله في التبيين)
دمشق عبد القادر كيوان
إن المشاكل فاجأت بأجلها ... وقضى مثيروها لنا باذلها
تالله لا يرجى سواك لحلها ... (يا مصطفى قبل العوالم كلها)
(والكون لم يبز من التكوين)
أنت الذي حزت المقام الأعظما ... وحبيت فخراً حده لن يعلما
يا خير خلق الله من عهد العمى ... (ايروم مخلوق مديحك بعدما)
(اثنى عليك الله في التبيين)
دمشق
محمد نجيب الحلبي
(يا مصطفى قبل العوالم كلها) ... يا شافعاً للناس يوم الدين
كيف المديح وأنت أفضل مجتبى ... (والكون لم يبرز من التكوين)
(ايروم مخلوق مديحك بعدما) ... أصبحت أعظم مرسل وأمين
أم هل يجيد الناس إطراء وقد ... (اثنى عليك الله في التبيين)
دمشق(24/28)
أحمد عبيد(24/29)
حكم أخلاقية
شذرة من العالم الماجد المرحوم الشيخ محمد أفندي الطيبي المتوفي سنة 1317 هجرية أرسل بها إلينا حفيده الغيور الفاضل محمد عمر أفندي الطيبي مأمور أوراق لواء حوران
قال رحمه الله:
أرى غنماً عجماء ترعى لما تهوى ... وأسداً ضواري تطلب الما فما تروى
وسادة قوم لا ينالون قوتهم ... وأشرار قوم تأكل المن والسلوى
فلم ينلوا هذا بحد سيوفهم ... ولكن قضاة عالم السر والنجوى
وقال أيضاً:
بمكارم الأخلاق كن متخلقاً ... والطرف فاغضض والفضائل فاغتذي
واستعمل الإحسان مع كل امرء ... ليفوح مسك شذاك كالعطر الشذي
وانفع صديقك إذا اردت صداقة ... واحفظ لسانك واحذر اللسن البذي
واصفح عن السوء المسيء بأهله ... وادفع عدوك بالتي فاذا الذي
للعباس بن مرداس
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد مزير
ويعجبك الطرير ففتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير
فما عظم الرجال لهم بفخر ... ولكن فخرهم كرم وخير
بغاث الطير أكثرها فراخاً ... \ وأم الصقرات مقلات نزور
ضعاف الطير أطولها جسوماً ... ولم تطل البزاة ولا الصقور
لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير
يصرفه الصبي بكل وجه ... ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهراوى ... فلا غير لديه ولا نكير
فإن أك في شراركن قليلاً ... فإني في خياركم كثير(24/30)
تقريظ المجلة
بقلم العالم الفاضل صاحب الإمضاء
نحمدك اللهم إن وفقت للخير سادة، وبلغتهم على رغم عدوهم الحسنى وزيادة، حيث اخترتهم للذب عن شريعة سيد المرسلين، واصطفيتهم لنصر الحق والدين، وجعلتهم مظهراً لكشف الحقائق، ومصدراً لقهر من ناوأهم من كل منافق أو مارق، في زمان فشى فيه الباطل أي فشو، واستعلى فيه الجاهل أي علو، وعتى بفساده وغيه أشد عتو حتى كان الغالب على جل أهله التعطيل، والتمويه والتضليل، وزخرفة الأقاويل، وليس لهم إلى درك الحق من سبيل، ما دام سعيهم في هذه الأباطيل الناشئة عن مجرد الأهواء الشيطانية المصادمة لشريعة خير البرية وظنوا أنهم خلى لهم الوقت عن معارض فجالوا في ميادين ليسوا من أهلها ولا بفرض الفارض وعندما مدوا أيديهم للعب بمسائل الدين ولم يتفكروا في قول سيد الخلق أجمعين (إن الله عند كل بدعة كيد بها الإسلام ولياً من أوليائه يذب عن دينه) الهم الله تبارك وتعالى من لطفه ومزيد عطفه طائفة من أهل الحق ظاهرين على من خالفهم لا يضرهم من نازعهم أو عاندهم قاموا بخدمته حق القيام وألزموهم حدهم والحق يعلو ولا يعلى (وكلمة الله هي العليا) (وإن حزب الله هم الغالبون) (وأنهم لهم المنصورون) لا شك أن الله تعالى أسعدهم بما استعملهم ووجه إليه هممهم حتى حارت بحججهم عقول الخصوم وبهتوا عن الجواب ولم يقدروا على دحضها من سائر الأبواب بل إنما خالفوا ليعرفوا فيا ليتهم سلموا وأنصفوا (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم) حسداً ويبغون به شهرة وفخراً وسؤدداً والحسود لا يسود وعليه الوبال يعود كلا والله لا يمكنهم الله تعالى من إطفاء نوره وإنما يبكتهم ببدو الحق وظهوره قال تعالى وهو العليم بما يمكرون (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون) والعجب ممن يدافع الحقائق وينازع وهو غير ذائق والسكوت بمثله حري ولائق إذ لا قدم له في تلك الدقائق والرقائق وإنما هو مولع بنقل الغث والسمين من كل كذب ومين كما هو شأن الذين يدعون التمدن والعرفان ولم يتحققوا بحقيقة ما عليه أهل الإيمان وإنما هم أهل هذيان وبهتان لو عرفوا مقدارهم وما هم صائرون إليه ما تجاسروا على ما ليس من شأنهم التجاسر عليه ولكن يعدهم ويمنيهم الشيطان فيطلقون عنان اللسان لظنهم أنهم ظفروا بشيء(24/31)
من الفضائل وهم منها محرومون في العاجل والآجل ألم يعلموا أن المرء ابن دينه لا ابن هواه وأن شرفه وكرامته عند ربه بتقواه ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله.
يقضي على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
فإلى الله تعالى نضرع وإليه أكف الذل نرفع متوسلين بالحبيب المشفع صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه ذوي المقام الأرفع أن يعلي همة أهل هذه (المجلة) وأن يدفع بهم عن افسلام كان مضلة وأن يؤيدهم بتأييده ويسددهم بتسديده وأن يديم لهم الارتقاء لذرى المجد والعلياء وأن يوفقنا وإياهم والمسلمين لمتابعة سيد المرسلين والتمسك بحب الله المتين وما عليه من الأئمة المجتهدين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وأن يسلكنا وإياهم طريق أهل الله في الأحوال والأقوال والأفعال إنه هو الكريم ذو الأفضال وله الشكر والحمد على سائر نعمه من قبل ومن بعد
محمد عارف المحملجي(24/32)
العدد 25 - بتاريخ: 7 - 2 - 1913(/)
الدين الإسلامي والتوحيد
خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
ذكرنا في مقالاتنا السابقة ما وهب الله تعالى لنبيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من المقامات السامية والمراتب العالية الدالة على اصطفاء الله له من بين خلقه، وتفضيله على سائر أنبيائه وأثبتنا بالدلائل الواضحة والبراهين القاطعة ما لهذا الرسول من المعجزات الباهرات والآيات البينات الدالة على صدق نبوته وتحقيق رسالته ولكننا لم نوف الموضوع حقه بذكر الخصائص التي اختص فيها عليه الصلاة والسلام مما تثبت أنه نسيج وحده ووحيد عالمه وأنه الجامع لأشتات الفضائل والسجايا والجامع لمتفرقات المواهب والمزايا اعتماداً على أننا نفرد بالذكر موضوعاً خاصاً يتضمن بيان بعض الخصائص التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم تشريفاً وتكريماً وتفضلاً وتعظيماً فنقول معتمدين في النقل على ما ثبت عن العلماء الثقات الحائزين قصبات السبق في مضمار الضبط وصحة النقل.
الخصائص جمع خصوصية وهي ما خص الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم فانفرد به عن كل ما سواه أو انفرد به عن غيره من الأنبياء أو عن أمته والأولى خصائص مطلقة حقيقية وما عداها إضافية.
فمن خصائصه صلى الله عليه وسلم سبقه على الأنبياء خلقاً واتصافاً بوصف النبوة وتحققاً بها فهو أول الأنبياء بل والمخلوقات أيضاً خلقاً ونبوة كما يشهد لذلك الحديث المخرج عن أحمد والحاكم والبيهقي عن العرباض بن سارية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته.
وفي رواية للبخاري والطبراني عن ميسرة الضبي قال قلت يا رسول الله متى كنت نبياً قال وآدم بين الروح والجسد يعني أنه صلى الله عليه وسلم اختص بأنه روحه الشريفة وحقيقته الطاهرة الزكية اتصفت بالنبوة بالفعل قبل خلق جسده من دون أرواح سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنها قبل خلق أجسادهم لم تتصف بالنبوة وبهذا الاعتبار كان صلى الله عليه وسلم نبياً وآدم بين الروح والجسد.
ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام أخذ الميثاق على النبيين أن يؤمنوا به وينصروه والتبشير به في كتب الله المنزلة قال تعالى: (وإذ أخذنا لله ميثاق النبيين لما آتيتكم من(25/1)
كتاب وحمة الآية) وأخرج البخاري عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أجل إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن (يا آيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صحاب في الأسواق ولا يجزئ السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح ولا يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً) (قال تعالى الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والأنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم أصرهم والأغلال التي كانت عليهم)
فإن من تأمل حسن تدبيره للعرب الذين هم كالوحش الشارد مع الطبع المتنافر المتباعد وكيف ساسهم واحتمل جفاهم وصبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه واجتمعوا عليه وقاتلوا دونه أهليهم وآباءهم وابناءهم واختاروه على أنفسهم وهجروا في رضاه أوطانهم وأحباءهم من غير ممارسة سبقت له ولا مطالعة كتب يتعلم منها سير الماضيين تحقق أنه أعقل العالمين.
ومما اختص به صلى الله عليه وسلم وعد الله تعالى إياه بالعصمة ممن قصده بسوء من الناس قال تعالى: (والله يعصمك من الناس) ولا ينافي ذلك ما وقع له يوم أحد من الشبحة ولا ما وقع يوم خيبر من السم في الذراع فإن العصمة الموعود بها هي سلامة النفس من القتل وما عساه فهو من الابتلاء الذي يقع للكمل لرفع درجاتهم أخرج الترمذي والحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية (والله يعصمك من الناس) فأخرج رأسه من القبة فقال لهم يا آيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله تعالى.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم التي استأثر بها عن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الإسراء وما تضمنه من المعراج وهو من أشهر المعجزات وأعظم الآيات وأتم الدلالات الدالة على اختصاصه بما لم يصل إليه نبي مرسل ولا ملك مقرب وقصة المعراج ثابتة مشهورة.(25/2)
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم عموم الدعوة للناس كافة عربهم وعجمهم أسودهم وأحمرهم قال تعالى: (وما أرسلناك لا كافة للناس بشيراً أو نذيراً) أخرج البخاري عن جابر الأنصاري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه بعث رحمة للعالمين حتى للكفار بتأخير العذاب ولم يعاجلوا بالعقوبة كسائر الأمم المكذبة قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) قال ابن عباس رحمة للبر والفاجر لأن كل نبي إذا كذب أهلك الله من كذبه وأما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أُخر من كذبه إلى الموت والقيامة وأما من صدقه فله الرحمة في الدنيا والآخرة بدليل (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المخرج عند الدرامي والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه إنما أنا رحمة مهداة وفي الشفاء قال عليه الصلاة والسلام لجبريل هل أصابك من هذه الرحمة شيء فقال نعم كنت أخشى العاقبة أي سوء العاقبة فأمنت لثناء الله تعالى علي في كتابه بقوله (ذي قوة عند ذي العرش مكين (مطاع ثم أمين).
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أكثر الأنبياء تابعاً يوم القيامة لحديث مسلم عن أنس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم أنا أكثر الأنبياء تابعاً يوم القيام.
ومما خص به صلى الله عليه وسلم أنه أوتي جوامع الكلم أي جمعت له المعاني الكثيرة الجليلة تحت الألفاظ اليسيرة أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثت بجوامع الكلم.
وقد جمع الناس من جوامع كلمه الموجز البديع الذي لم يسبق نظيره من ذلك قوله صلة الله عليه وسلم لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين وقوله المرء مع من أحب وقوله صلى الله عليه وسلم المرء كثير بأخيه وقوله صلى الله عليه وسلم اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن وقوله صلى الله عليه وسلم البلاء موكل بالمنطق وقوله صلى الله عليه وسلم من غش فليس منا وفي رواية من غشنا فليس منا قوله المجالس(25/3)
بالأمانة وقوله صلى الله عليه وسلم اليد العليا خير من اليد السفلى وقوله صلى الله عليه وسلم الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة والتودد إلى الناس نصف العقل وحسن السؤال نصف العلم إلى غير ذلك مما تقف العقول دون منتهى معانيه.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أوتي علم كل شيء حتى المغيبات أخرج الإمام أحمد عن أبي ذر قال لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً وفي الحديث المخرج عند الطبراني بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت.)
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه كان أشجع الناس وأثبتهم في الهيجاء ومواقف الحروب قال في الشفاء وكان صلى الله عليه وسلم من الشجاعة والنجدة بالمكان الذي لا يجهل قد حضر المواقف الصعبة وفر الكماة والأبطال منه غير مرة وهو ثابت لا يبرح ومقبل لا يدبر ولا يتزحزح وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرة وحفظت له حولة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر حديثاً أخرجه البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه وقد سأله رجل أفررتم يوم حنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم لكن رسول الله لم يفر ثم قال لقد ريته على بغلته البيضاء وأبو سفيان آخذ بلجامها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول_أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب _.(25/4)
الشفقة على الحيوانات
يعتقد الأوروبيون ومن نحا نحوهم ممن تشبع بعلومهم وتأدب بآدابهم أن الشفقة على الحيوانات والعطف عليها من خصائص المدنية الحديثة ومأثرة من مآثرها مع أنها من بعض مزايا الدين الإسلامي ومن جملة ما جاء به من السنن والآداب. إن الدين الإسلامي كما جاء رحمة عامة لسائر البشر جاء نعمة شاملة لسائر الحيوانات فأمر بالرفق بهم والإحسان إليهم ونهى عن تعذيبهم وإيذائهم روى البخاري في باب فضل سقي الماء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب فشكر الله فغفر له قالوا يا رسول الله وأن لنا في البهائم أجراً قال في كل كبد رطبة أجر وفي البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف فقال دنت مني النار حتى قلت أي رب وأنا معهم فإذا امرأة حسبت أنه قال تخدشها هرة قال ما شأن هذه قالوا حبستها حتى ماتت جوعاً وروى أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً فدخلت فيها النار قال فقال والله أعلم لا أنت أطعمتيها ولا سقيتها حين حبستيها ولا أنت أرسلتيها فأكلت من خشاش الأرض وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) هذا طرف من حديث أخرجه البخاري في باب شرب الناس والدواب من الأنهار ونقل العيني في شرحه على البخاري روى سراقة بن مالك بن جعشم قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الضالة من الإبل تغشى حياضي قد لطتها لأبلي فهل لي من أجران سقيتها فقال نعم في كل ذات كبد حرى أجر أخرجه ابن ماجة ومن حديث أخرجه البخاري في باب عيادة الصبيان قال سعد للنبي ما هذا يا رسول الله قال هذه رحمة وضعها الله في قلوب من شاء من عباده ولا يرحم الله من عباده إلا الرحماء ففي هذه الأحاديث دلالة على إظهار الشفقة على الحيوانات وإن كانت مؤذية ولا ينافي ذلك جواز قتلها لأنه إن سقاها يكون عاملاً بالشفقة والرحمة وداخلاً في عموم قوله صلى الله عليه وسلم الراحمون يرحمهم الرحمن.(25/5)
وروى الإمام مسلم عن أبي يعلي شداد بن أوس أن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته وهذا الحديث من قواعد الدين العامة قال الشراح عند قوله عليه الصلاة والسلام إذا قتلتم فأحسنوا القتلة الخ وإحسان القتلة اختيار أسهل الطرق وأخفها إيلاماً وأسرعها إزهاقاً وأسهل وجوه قتل الآدمي ضربه بالسيف في العنق ولذا يمتنع قتل القمل والبق والبراغيث وسائر الحشرات بالنار لأنه من التعذيب وإحسان الذبح في البهائم الرفق بها فلا يصرعها بعنف، وتبيين محل ذبحها بأن يأخذ بيده اليسرى جلد حلقها من لحيها الأسفل بالصوف أو غيره حتى يظهر من البشرة موضع الشفرة وإضجاعها على شقها الأيسر لأنه أمكن للذابح إن كان من عادته أن يذبح باليمين وإلا فليضجعها على الأيمن ويكون ذلك من المقدم لا من القفا وإحداد الكسنة واجب في الكالة ومندوب في غيرها وينبغي مواراتها عنها في حال إحدادها فقد رواى الجلال والطبراني أنه صلى الله عليه وسلم مر برجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها قال أفلا قبل هذا؟ تريد أن تميتها موتتين هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها وعن مالك أن عمر رأى رجلاً يحد شفرته وقد أخذ شاة ليذبحها فضربه وقال أتعذب الروح ألا فعلت هذا قبل أن تأخذها؟
وإراحة الذبيحة سقيها عند الذبح وإضجاعها بمكان سهل غير وعر وتعجيل إمرار السكين عليها بقوة ليسرع الموت إليها وبالإمهال بسلخها حتى تبرد ولا يجرها من موضع لآخر فقد روى ابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل وهو يجر شاة بإذنها فقال دع أذنها وخذ بسالفتها وهو مقدم العنق ومن إحسان للبهيمة أن لا تحمل فوق طاقتها ولا تركب واقفة إلا لحاجة ولا يحلب منها ما يضر بولدها ولا يشوى السمك والجراد حتى يموت وكتب الفقهاء طافحة بالحث على الرفق بالحيوانات فقد ذكر الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في إحيائه في باب منكرات الشوارع ما نصه وكذلك تحميل الدواب من الأحمال ما لا تطيقه منكر يجب منع الملاك منه أه اللهم اهدنا هداية من عندك ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين والحمد لله رب العالمين.(25/6)
التاريخ
ننشر في هذا الباب سيرة كبار الرجال في الإسلام وشيئاً من فضائلهم وأخلاقهم وأعمالهم وسياستهم لما في ذلك من تحريك بواعث الهمم للاقتداء بهم في جلائل الأعمال وكرائم الخصال وليكون زاجراً لأولئك الذين يتغاضون عن مآثر رجال المسلمين ويفتخرون بحفظ تاريخ فلاسفة الغربيين
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه
إجلاء أهل نجران من جزيرة العرب
بعد أن سار أبو عبيدة بن مسعود بجيشه إلى العراق لمقاتلة أهل فارس كما تقدم، أرسل سيدنا عمر رضي الله عنه يعلى ابن أمية إلى اليمن بجيش من المسلمين وأمره بإجلاء أهل نجران لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بأن لا يترك دينان بأرض العرب ولأنهم نقضوا ما عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه من المتاجرة بالربا وكان مما قاله عمر رضي الله عنه ليعلى أيتهم ولا تفتنهم عن دينهم، ثم أجلهم من أقام منهم على دينه، وأقرر المسلم، وامسح أرض كل من تجلي منهم ثم خيرهم البلدان، واعلمهم أننا نجليهم بأمر الله ورسوله أن لا يترك بجزيرة العرب دينان، فليخرجوا من أقام على دينه منهم ثم نعطيهم أرضاً كأرضهم إقراراً لهم بالحق على أنفسنا ووفاء بذمتهم فيما أمر الله من ذلك، الخ ثم عوضهم رضي الله عنه أرضاً كأرضهم وفاءً بذمتهم.
وهنا ندعو من يتهم المسلمين بعدم الوفاء بالعهود لأهل الذمة ليرجعوا إلى الحق وينظروا ما كان عليه المؤمنون من المحافظة على حقوق أهل الذمة والرأفة بهم ومعاملتهم بالعدل والرحمة يوم كان نفوذ المؤمنين في الكرة الأرضية في مكانة من العز ضجت أمام بأسها فراعنة الدنيا. ورغمت بها أنوف جبابرة العالم ودان لها أهل الشرك قاطبة حتى دفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون. . في أيام تلك القوة الإسلامية المنيعة. عوض عمر رضي الله عنه أهل نجران أرضاً كأرضهم التي أخرجهم منها وتركهم آمنين على دمائهم وأعراضهم وأموالهم عملاً بالشريعة الإسلامية السمحة التي أمرت بحفظ حقوق أهل الذمة والوفاء بما عوهدوا عليه ولو أراد سيدنا عمر يومئذ أن يستأصلهم من الأرض لما وجدوا ولياً ولا نصيرا.(25/7)
لكن النفوس الإسلامية الكريمة التي أدبها القرآن بالكمال وحبب الإسلام إليها الصدق وكره إليها الغدر والخيانة قد حافظت على قوم ضعاف أذلاء وصدقت فيما عاهدتهم عليه.
ومن أمعن النظر علم أن هذه الكمالات كانت السبب في امتداد نفوذ المؤمنين في أنحاء الأرض وأنهم لو انحرفوا عن ذلك الخط السوي لما استقام لهم الأمر ولا وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الغايات الكمالية والقوة المادية والمعنوية ولذا يعتقد العاقل أن الأعداء الذين استولوا في هذه الأيام على كثير من بلاد الإسلام وفعلوا بأهلها ما فعلوا من ذبح الأطفال وهتك الأعراض وغير ذلك من الفظائع والمنكرات أن الدائرة تدور عليهم بحول الله وقوته فإنهم إذا طغوا وجاروا وظلموا وعاثوا في الأرض فساداً معتمدين على قوتهم فالله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وأعظم بطشاً ويأبى الله إلا أن ينصر المؤمنين مهما يكن فيهم من ضعف ولو كره الكافرون.
هزيمة جيوش فارس وأسر جابان وهو من أعظم قوادهم
اختلف أهل فارس فخافت بوران بنت كسرى وبعثت إلى رستم تستحثه للقدوم وهو على خراسان يومئذ فأقبل في الناس إلى المدائن. وأمرت بوران مرزابة فارس بالانقياد له فرضوا به وتوجوه عليهم واستعد هو وجيشه مع أهل فارس لقتال المسلمين.
ولما وصل المثنى الشيباني وأبو عبيد الثقفي ومن معهما إلى الحيرة كتب رستم إلى دهاقين السواد أن يثوروا بالمسلمين وبعث لذلك في كل قرية رجلاً فجعل جابان أميراً على جيش وسيره إلى فرات بادفلا وأرسل ترسى ابن خالة كسرى في جيش إلى أرض كسكر وبعث جنداً آخر لمصادمة المثنى وعلم المثنى بذلك فخرج من الحيرة حذراً منهم ونزل جابان بأرض النمارق ومعه جمع عظيم ثم سار إليه أبو عبيد بمن معه وجعل المثنى على الخيل فاقتتلوا بالنمارق قتالاً شديداً كانت نتيجته انهزام أهل فارس وأسر أميرهم جابان.
ثم لحق المنهزمون منهم بجيش نرسى ابن خالة كسرى واجتمع إليه سائر عسكر الفرس وبلغ بوران ورستم أسر جابان وانهزام جيشه فبعثا الجالينوس بمدد عظيم إلى نرسى فعاجلهم أبو عبيد وخرج إلى نرسى فاجتمع به عند كسكر بمكان يقال له السقاطية واشتد الأمر على المشركين فانهزموا وهرب أميرهم نرسى وغنم المؤمنون أرضهم وأموالهم وأسروا منهم كثيراً.(25/8)
ووصل بعد ذلك الجالينوس بجيش عظيم من فارس فسار إليهم أبو عبيد فهزمهم أيضاً وهرب الجالينوس واستولى أبو عبيد على تلك البلاد ثم ارتحل حتى رجع إلى الحيرة.
وقعة الجسر
لما انهزم الجالينوس بمن معه رجعوا إلى رستم وأخبروه فجهز جيشاً أعظم من الأول وجعل بهمن المعروف بذي الحاجب أميراً عليهم وأرسلهم إلى الحيرة فساروا ومعهم راية كسرى حتى نزلوا الجسر وأقبل أبو عبيد فنزل قريباً منهم ونصبوا جسراً على الفرات ليتمكن الفريقان من القتال وقال ذو الحاجب أمير فارس للمسلمين إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم فاختار أبو عبيد أن يعبر هو بجيشه إليهم وقال
لا يكونوا أجرأ على الموت منا
وعهد إلى الناس فقال إن قتلت فعلى الناس فلان فإن قتل فعليهم فلان وسمى سبعة اشخاص يتعاقبون على إمارة الجيش حتى قال فإن قتل فلان فالأمير هو المثنى ثم عبر على الجسر واستعرت بين الفريقين نار الوغى وكان أهل فارس يقاتلون على الفيلة وخيل المسلمين لم تألف ذلك فأحجمت ولم تقدم عليهم واشتد الأمر بالمسلمين فترجل أبو عبيد والناس وساروا مشاة حتى صافحوا المشركين بالسيوف وقطعوا بطان الفيلة فسقطت رحالها وقتلوا من كان عليها وعمد أبو عبيد إلى فيل أبيض فضربه بالسيف ثم خبطه الفيل بيده فوقع أبو عبيد على الأرض فتناول الراية رجل من السبعة الذين سماهم أبو عبيد للإمارة فقتله الفيل وتتابع بقية السبعة على أخذ الراية كل منهم يأخذ اللواء ويقاتل حتى يقتل ثم أخذ اللواء المثنى وانهزم البعض من المسلمين فلما رأى عبد الله الثقفي انهزام الناس سبقهم إلى الجسر فقطعه وقال يا أيها الناس موتوا أو تظفروا
فثبت المسلمون لقتال أعدائهم ثم أمر المثنى جنده بالانسحاب فعبروا كلهم على الجسر ورجع بعضهم إلى المدينة وبقي المثنى في قلة وكان قد جرح وأراد ذو الحاجب العبور خلف المسلمين فأتاه الخبر باختلاف الفرس فرجع إلى المدائن.
وقعة البويب
ولما بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه مقتل أبي عبيد بالجسر ندب الناس إلى المثنى(25/9)
وجهز جيشاً شديد البأس وأرسلهم إلى العراق مدداً للمثنى وبلغ الخبر رستم فبعث مهران أميراً على جند وأرسله إلى الحيرة.
فعلم المثنى بذلك وهو بين القادسية وخفان فقصد أرض البويب وكتب إلى الجند الذي أرسله سيدنا عمر مدداً له يخبرهم بذلك. وأمرهم أن يقصدوا أرض البويب أيضاً مما يلي الكوفة حيث يجتمعون فيه فوافوه جميعاً وقد وصل مهران إلى إزائه من وراء الفرات ثم أذن المثنى لمهران أن يعبر بجيشه إليهم على جسر الفرات وعبأ المثنى أصحابه وكان الوقت في رمضان فأمرهم بالإفطار ليقووا على عدوهم.
ثم أن المثنى رتب جنده وكبر ثلاثً وحمل في الرابعة على المشركين حملة أزالهم بها عن موقفهم وأصلاهم من سعير الحرب ما لم يطيقوه، فانهزموا وولوا الأدبار وقتل أميرهم مهران وكانت تلك الوقعة من أشد الوقعات على المشركين قتل فيها نحو مائة ألف وغنم المسلمون ذخائرهم وأموالهم وبلادهم وأسروا منهم كثيراً.
ومن اطلع على حقائق التاريخ وأحاط بما جرى على أيدي الأمة الإسلامية من الفتوحات العظيمة والاستيلاء على كثير من ممالك الأمم وقهر الجبابرة والكاسرة مع قلة عدد المسلمين يومئذ وعدم توفر الآلات الحربية لهم علم أن تمسكهم بالدين ومحافظتهم على إقامة شعائره قد جعل فيهم قوة معنوية أرغموا بها أنوف المشركين وبددوا ببأسها جموع الكافرين.
كان المؤمنون يقاتلون لإعلاء كلمة الله عز وجل وتأييد دينه باعوا أرواحهم وأموالهم في سبيل الله امتثالاً لأمره وتصديقاً بوعده.
وكيف يستطيع الكاتب وصف ثبات قوم اشتاقوا إلى منازلهم في الجنة وهم قد علموا أنها تحت ظلال السيوف.(25/10)
المسلمون وما يجب عليهم
قلنا ولا نزال نقول أن أوروبا لا تريد بالدولة العثمانية خيراً وبالأحرى لا تريد بالمسلمين خيراً فهي لا تفتأ تخلق لهم المشاكل وتضع أمام رقيها ورقيهم المصاعب وما زالت تعمل في السر والعلن على تفريق كلمتهم وتوهين علائقهم وتمزيق جامعتهم وتحول دون كل ما يدعو إلى جمع لكمتهم واتحاد أفكارهم وغاياتهم وقد اتخذت من الوسائل المقتضبة لتفرقهم مالا يحصى وفي مقدمتها تلك المدارس الأجنبية التي تنزعه من قلوب مريديها حب الدين وتعمل على بث روح التفرنج علماً منها بأن المسلمين بحكم دينهم مأمورون بالاجتماع والاتفاق وأنهم ماداموا متمسكين بدينهم عاملين بأوامره لا يسهل تذليلهم واستئصال ممالكهم لذلك كان من أقوى البواعث لزوال هيبة الدين من النفوس تلك المدارس التي أسست على مبادئ الإلحاد والتنفير من الأديان وقد ظهر من فساد تلك المدارس وإفسادها ما نراه في أخلاق كثير من ناشئتنا الجديدة من بغض العلم وأهله، والدين ورجاله، والنفور من كل من يدعو إلى عمل خير وير إن لم يوافق ما اعتادوا عليه من المبادئ السافلة والأفكار السقيمة حتى صار يعتقد كثير منهم أن الدين عقبة في سبيل رقينا وأنا ما دمنا متمسكين بمبادئه أو متعصبين له (كما يقولون) لم نزدد مع تمادي الأيام إلا انحطاطاً ومع كرور الأزمان إلا تأخراً شاعت تلك الفكرة وذاعت وكثر أنصارها والعامل الأكبر على ذلك تلك الفئة التي استقت معارفها من مناهل أوروبا واغتذت بلبان أفكارهم ومعتقدات وراق لديها ما يتظاهرون به من العدالة وخفي عنها ما يضمرون من العداء لكل من خالفهم وما يتحينون من الفرص لسحق ممالك الإسلام بجميع الطرق السلمية والحربية وانتزعت منهم بفضل ما بثت في تلك المدارس حب الدين حتى صاروا لا يغارون على حرمته أن تنتهك ولا على سمعته أن تشوه ولا على حامليه أن يذلوا ولا على أحكامه أن تبدل وهم في ذلك لا يرون سبة ما داموا يعتقدون أن الأديان عقبة في سبيل الرقي إذا لم يراع تغييرها وتبديلها على حسب الأزمنة والأحوال والسياسة على حسب ما لقنهم أساتذتهم المستعمرون ومن العوامل الكبيرة على شيوع تلك الفكرة السقيمة السابقة الجعل بأحكام الدين ودقائق أسراره فقد غفل المسلمون تعلم دينهم إغفالاً يعد قريباً من الإهمال بالكلية فلا تجد في أمهات المدن الإسلامية كدمشق مدارس لتعلم علوم الدين من تفسير وحديث وفقه وأصول وتوحيد كما لا تجد أساتذة يعلمون هذه العلوم بدروس خصوصية إلا قليلاً ولا تجد من الحكومة تشويقاً لتعلم تلك(25/11)
الفنون.
والفائدة العلمية التي حصلت من إعفاء طالب العلم من خدمة الجندية اقتصرت على تعلم فن النحو الصرف والمنطق مما يكون امتحانهم به ولا نغالي إذا قلنا أنه لا يوجد في كل مائة من المسلمين إثنان ممن يعرفون فرائض صلاتهم وسننها وأحوال مبايعاتهم وتطبيقها على أصول الشرع لتخلص من العقول الفاسدة والمراباة فضلاً عن دقائق علوم الدين في كل فرع من فروع احتياجاتنا الاجتماعية والأخلاقية والسياسية.
إذا قلنا أن الجهل بأحكام الدين وترك العمل به جرا علينا كل ما نشاهده من الرزايا وما يكتنفنا من البلايا وإننا إذا بقينا في هذا السبات العميق ولم ننهض نهضة علمية دينية ونحكم الدين في كل ما يعتورنا من النوائب وما ينتابنا من المصائب لا يعد أن تصبح الممالك الإسلامية أثرا بعد عين بسبب تعصب الأغيار علينا: إذا قلنا ذلك قامت قيامة هؤلاء المتفرنجين المفسدين قائلين إن الدين قاصر على الصلة بين العبد وربه ولا دخل له بالسياسة وأننا بعد ما وصلنا إلى هوة الانحطاط بسبب عدم الأخذ بالمذاهب السياسية الجديدة ينبغي لنا أن نترك الجمود الديني جانباً ونقلد الغرب في كل ما نريد مما فيه صلاحنا ونجاحنا ولو كانوا على شيء من علم الدين لعلموا أن أقوى البواعث على تقهقرنا أمام أوروبا وهو تفرقة كلمة المسلمين وتخاذلهم وعدم وجود صلة تامة بين ملوكهم وأمرائهم عدم الاستعداد للحرب وهما من جملة ما نهى عنه الدين.
بين الله تعالى في آيات كثيرة في كتابه الكريم فوائد الاجتماع والاتفاق وحض عليها وأمتن على المسلمين بأن جعلهم أخواناً بعد التفرقة وشرع من العبادات ما يقوي تلك الرابطة من صلاة الجماعة والجمعة وجعل صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبعين ضعفاً ترغيباً بذلك.
وشرع الحج وجعل من فوائده أن يجتمع بسببه المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها ويتذاكرون بما يجب عليهم من التعاون والتعاضد ورفع منار الدين وقمع أعدائه إلى غير ذلك من الفوائد الاجتماعية والأخلاقية وحض القرآن الكريم على الاستعداد فقال جل ذكره (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) ومن الاطلاع على سيرة الرسول الأعظم يرى القارئ أنه كان لم يترك شيئاً من الاستعداد(25/12)
بالنسبة لزمانه ومحاربيه وأنه كان يقتبس من الأغيار ما يراه نافعاً ومفيداً فقد كان حف الخندق في غزوة الأحزاب من جملة ما أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم عن الفرس وحصل بذلك من الفوائد في هذه الحرب ما هو معروف وبالإجمال إن الدين الإسلامي إذا أحسن المتدينون به استعماله ودققوا فيما حوى من بدائع الآيات وروائع الحكم وجعلوه العمدة فيما يأتون ويذرون والوجهة فيما يعملون ويتركون وطبقوا أعمالهم على مقتضى أوامره واجتنبوا ما نهى عنه سهل عليهم أن يكونوا أمة راقية مستقلة.
هذا الدين الذي نهض بمعتنقيه في سالف الأزمنة حتى جعلهم في برهة وجيزة سادة الأرض وقادة الأمم هو هو الذي يقول عنه الأغيار والجهلاء أنه عقبة في سبيل الرقي وأنه لا تنطبق أحكامه مع حالة العصر الحاضر وأنه يجب علينا أن ننبذه ونستبدله بقوانين وضعية تلائم الأحوال الحاضرة كذب الأغيار وخسئ الجاهلون إن هذا الدين كان ولا يزال كافياً لحاجة متبعيه وكافلاً لرقيهم ونجاحهم وتفوقهم على سائر الأمم إذا أحسنو استعمال مافيه من الأوامر كما أسلفنا وعسى أن تكون الحوادث علمت المسلمين أنه لا نجاح لهم إلا برجوعهم إلى دينهم فليلتفتوا إلى إحكام الرابطة الدينية بين جميع المسلمين حسب ما أمرهم الله بكتابه ويستعدون لأعدائهم بمثل ما يستعدون هم لهم. أما أحكام الجامعة الإسلامية فهو من ألزم الأمور وهي الأساس الذي ترتكز عليه باقي الواجبات فإن المسلمين الذين يبلغ عددهم ما ينوف عن ثلاثمائة مليون من النفوس يدينون جميعاً بدين واحد بكتاب واحد وتجب عليهم طاعة خليفة واحد قوة عظيمة تميد لهيبتها الرواسي إذا عرف المسلمون كيف يستفيدون منها وها هي المثلات والعبر ترى كل يوم وتنذرنا بسوء المصير ودخانه المنقلب إذا بقينا متفرقين متخاذلين لا يهمنا من أمر المسلمين إلا ما يقع تحت بصرنا وإلا ما يكون له علاقة بذاتنا بل الواجب أن يكون المسلمون كالجسم الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء فالعثماني يهتم لمصاب الهندي والأفغاني يتألم لشكوى الإيراني وهكذا والكل يد واحدة على من ناوأهم بظل جلالة الخليفة الأعظم أيده الله وليس هذا بالأمر الصعب على زعماء المسلمين وقادتهم بعد ما رأوا أن الأغيار تعمل على استئصال ممالكهم وسحق نفوذهم ثم بعد إحكام هذه الرابطة يجب على المسلمين معرفة حقائق دينهم القويم ليكونوا على بينة مما يدعوهم إليه ولئلا تروج عليهم خرافات المبطلين وتمويهات المخرقين وما(25/13)
ينسبونه إلى الدين مما هو براء منه.
ثم عليهم بعد كل ما ذكر أن يمتثلوا أوامره ويجتنبوا منهياته ويزنوا أعمالهم بميزانه ويرجعوا إليه في كل ما استعصى عليهم ويقفوا عند حدوده في مشكلات الحوادث وعظائم الأمور هنالك يتجلى لهم سر الامتثال للشرع وفائدة وزن الأعمال بميزان القانون الإلهي وإذا أراد الله بهذه الأمة خيراً وفق علماءها وزعماءها إلى الأخذ بيدها إلى مراقي الكمالات بالرجوع إلى دينهم القويم وأخلاقه العظيمة وهنالك السعادة الأبدية والعز السرمدي.(25/14)
مولد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم
في مثل هذا الشهر المبارك ولد حضرة النبي الأكرم سيدنا (محمد) صلى الله عليه وسلم أفضل المخلوقات أجمعين إفراداً وإجمالاً بمعنى ألأنه أفضل من كل فرد منهم على حدته، وأفضل من مجموعهم لو اجتمعوا بحيث لو اجتمعت جميع فضائلهم في كفة ميزان وفضائله صلى الله عليه وسلم في الكفة الأخرى لرجحت فضائله على فضائلهم. فهو صلى الله عليه وسلم بالإجمال على قدر من أرسله وفي قوله تعالى (وما قدروا الله حق قدره) إشارة كافية لمن تأمل ذلك وعقله. أخرج مسلم في صحيحه من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال قال صلى الله عليه وسلم أن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريش من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله اختار خلقه فاختار منهم بني آدم ثم اختار بني آدم فاختار منهم العرب ثم اختارني من العرب فلم أزل خياراً من خيار إلا من أحب العرب فبحبي أحبهم ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم. ولما كان عليه الصلاة والسلام هو الروح لهذا الوجود والسبب في كل موجود كان من أهم الواجبات علينا معشر المسلمين تعظيم أمر مولده الشريف، ومقابلته بالترحاب والتعظيم، والإجلال والتفخيم. وإن نظهر فيه المسرات، ونكثر فيه من فعل الخيرات، ونتوب من سائر المنكرات، ولم يزل المسلمون فيما مضى من الزمان ولن يزالوا إن شاء الله في كل عصر إلى انتهاء الدوران يحتفلون بمولده صلى الله عليه وسلم ويعملون الولائم ويتصدقون بأنواع الصدقات ويزيدون في المبرات ليبدل عسرهم باليسر وحزنهم بالفرح والبسر ويمن عليه الكريم من فيضه العظيم بالعتق من النار ببركة رسوله العظم صلى الله عليه وسلم فقد روي أن ثويبة عتيقة أبي لهب لما بشرته بولادته أعتقها وقد رؤي أبو لهب بعد موته في المنام فقيل له ما حالك فقال في النار إلا أنه خفف عني في كل ليلة اثنين وأمص من بين أصبعي هاتي ماء وأشار برأس إصبعيه وإن ذلك بإعتاقي لثويبة عندما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له.
قال ابن الجزري فإذا كان هذا أبو لهب الكافر الذي نزل في القرآن ذمه جوزي بفرحه ليلة مولده صلى الله عليه وسلم فما حال المسلم الموحد من أمته يسر بمولده ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله العميم جنات(25/15)
النعيم لا سيما إذا كثر من الصلاة والتسليم على البشير النذير فهي من أعظم الدلائل على محبته والاعتناء بجنابه العظيم وقد قال بوجوب الصلاة والسلام عليه عند ذكره أربعة من الأئمة الأعلام الحليمي من الشافعية والطحاوي من الحنفية واللخمي من المالكية وابن بطة من الحنابلة وقد ورد أن أولى الناس به يوم القيامة أكثرهم عليه صلاة. وفقنا الله لاتباعه وأدبنا بآدابه وجعلنا من حزبه وأحبابه ومن علينا بشفاعته وفرحنا بلذيذ خطابه.
دمشق
عارف المحملجي(25/16)
السلام في الإسلام
إن لمن أحسن المواضيع التي يخوض فيها الكتاب الحث على الآداب الإسلامية والأخلاق المحمدية لأن من تمسك بها نال الحظ الأوفر وفاز بالقدح المعلى كيف لا وقد قال تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) وقال عليه الصلاة والسلام فعليكم بسنني وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإن من سننه صلى الله عليه وسلم السلام وقد كانت تحية العرب قبل الإسلام عم صباحاً وتحية أهل الذمة بالأكف والأصابع والأكاسرة بالسجود للملك وتقبيل الأرض والفرس بطرح اليد على الأرض أمام الملك والحبشة بعقد اليدين على الصدر مع السكينة والروم بكشف الرأس وتنكيسها وحمير بالإيماء بالدعاء بالأصبع وتحية ملك اليمامة بوضع اليد على كتف المحيى فإن بالغ رفعها ووضعها مراراً فلما أشرقت شمس افسلام واستنارت كواكبه نسخ جميع التحيات وأمر بلفظ (السلام عليكم) معرفاً بأل أو سلامٌ عليكم منوناً وهو من القربات العظيمة لأنه أفضل التحيات إذ هو تحية الملائكة فيما بينهم وتحية أهل الجنة في الجنة قال الله تعالى (وتحيتهم فيها سلام) وإليك بعض ما ورد في الحث عليه قال تعالى (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم وروى الدارمي والترمذي وابن ماجة بإسناد حسن عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام.
وروى البخاري في صحيحه عن عمار رضي الله عنه ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان الإنصاف من نفسك وبذل السلام للعالم والإنفاق من الإقتار وروي هذا مرفوعاً في غير البخاري وهذا من جوامع الكلم وكيفية السلام أن يقول المسلم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بضمير الجمع وإن كان المسلم عليه واحداً ويقول المجيب وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ويأتي بواو العطف في قوله وعليكم فإن قال المبتدئ السلام عليكم حصل(25/17)
السلام وكذلك إن قال السلام عليك أو سلامٌ عليك وأما الجواب فأقله وعليك السلام أو وعليكم السلام فإن حذف الواو فقال عليكم السلام أجزأه ذلك ولو قال عليكم لم يكن جواباً اتفاقاً وينبغي للمسلم أن يرفع صوته بحيث يسمع المسلم عليه فإن لم يسمعه لم يكن آتياً بالسلام فلا يجب الرد وأقل ما يسقط عنه فرض الرد وإذا سلم على أيقاظ عندهم نيام فالسنة أن يخفض صوته بحيث يحصل سماع المستيقظين ولا يستيقظ النائم فقد روى مسلم في صحيحه من حديث المقداد رضي الله عنه قال كنا نرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه من اللبن فيجيء من الليل فيسلم تسليماً لا يوقظ النائم ويسمع اليقظان ويشترط أن ياون الجواب على الفور فإن أخره ثم رد لم يعد جواباً وكان آثماً بترك الرد. وتكره الإشارة باليد من غير لفظ السلام لما رواه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى الإشارة بالكف ولا ينافي هذا ما رواه الترمذي عن أسماء بنت يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في المسجد يوماً وعصبة من النساء قعود فأشار بيده بالتسليم لأنه محمول على الجمع بين اللفظ والإشارة كما تدل عليه رواية أبي داود وزاد في روايته فسلم علينا. وابتداء السلام سنة مستحبة ليس بواجب وهو سنة كفاية فإن كان المسلم جماعة كفى عنهم تسليم واحد منهم ولو سلموا كلهم كان أفضل وأما المسلم عليه فإن كان واحد تعين عليه الرد وإن كانوا جماعة كان رد السلام فرض كفاية عليهم وإن ردوه كلهم فهو نهاية في الكمال والفضيلة ولو رد غيرهم لم يسقط عنهم الرد بل يجب عليهم أن يردوا فإن اقتصروا على رد الأجنبي أثموا. روى أبو داود في سننه عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم وإذا نادى أحد أحداً من وراء ستر أو جدار فقال السلام عليك يا فلان أو كتب كتاباً فيه السلام عليك يا فلان أو السلام على فلان أو أرسل رسولاً وقال له سلم على فلان فبلغه الكتاب أو الرسول وجب عليه أن يرد السلام روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا جبريل يقرأ عليك السلام قالت قلت وعليه السلام ورحمة الله وبركاته وإرسال السلام إلى من غاب عنه مستحب وكذلك يستحب الرد على المبلغ أيضاً فيقول(25/18)
وعليك وعليه السلام روى أبو داود في سننه عن غالب القطان عن رجل قال حدثني أبي عن جدي قال بعثني أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ائته فأقرئه السلام فأتيته فقلت إن أبي يقرئك السلام فقال عليك وعلى أبيك السلام فهذا وإن كان رواية مجهول يتسامح به لأن أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم كلهم والرسول إن التزم التبليغ يجب عليه تذكره لأنه كالأمانة وإلا فهو كالوديعة.
وقيل أنه لابد في الاعتداد بسلام المرسل ووجوب الرد من صيغة من المرسل أو الرسول بأن يقول المرسل السلام على فلان فبلغه فيقول الرسول فلان يسلم عليك أو يقول الرسول السلام عليك من فلان وإن لم توجد هذه الصيغة من واحد بأن قال المرسل سلم على فلان فقال الرسول فلان يسلم عليك فلا يجب الرد.
وإذا سلم على أصم لا يجب عليه جواب ولكن يستحب له ولو سلم على الصبي على بالغ يجب الرد لعموم قوله تعالى (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) وإذا سلم على قوم فيهم صبي ورد الصبي يسقط الفرض بسلامه وقيل لا يسقط وإذا سلم عغليه إنسان ثم لقيه على قرب يسن له أن يسلم عليه ثانياً وثالثاً وأكثر روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث المسيء لصلاته أنه جاء فصلى ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فرد عليه السلام وقال له ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم حتى فعل ذلك ثلاث مرات وروى أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه وروى ابن السني عن أنس رضي الله عنه قال كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتماشون فإذا استقبلتهم شجرة أو أكمة وتفرقوا يميناً وشمالاًُ ثم التقوا من ورائها سلم بعضهم على بعض وإذا تلاقى رجلان فسلم كل واحد منهما على صحابه دفعة واحدة يجب على كل واحد منهما أن يرد على صاحبه وإن سلم أحدهما بعد الآخر كان جواباً وإذا لقي إنسان إنساناً وقال المبتدئ وعليكم السلام لا يكون ذلك سلاماً بخلاف عليكم السلام بلا واو فإنه سلام ويجب على المخاطب البرد وقيل لا يجب ولكن يكره فعل ذلك وإذا اجتمع الرجلان فخيرهما الذي يبدأ بالسلام روى أبو داود في سننه بإسناد جيد عن أبي إمامة رضي الله(25/19)
عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام وروى الترمذي من حديث أبي إمامة قيل يا رسول الله الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام قال أولاهما بالله تعالى والسنة أن يبدأ المسلم بالسلام قبل الكلام والأحاديث الصحيحة وعمل سلف الأمة وخلفها على ذلك وإذا كان المسلم عليه مصلياً أو مؤذناً في حال أذانه أو إقامته الصلاة أو نائماً أو ناعساً أو مشتغلاً بالبول أو كان يأكل واللقمة في فمه فإن سلم عليه في هذه الأحوال كلها أحد لم يستحق جواباً أما إذا كان على الأمل وليست اللقمة في فمه فلا بأس بالسلام ويجب الرد وكذلك في حال المبايعة وسائر المعاملات يسلم ويجب الجواب وأما السلام على من يقرأ القرآن فالأولى تركه لاشتغاله بالتلاوة ومثله المشتغل بالدعاء وأما الملبي في الإحرام فيكره أن يسلم عليه لأن يكره له قطع التلبية فإن سلم عليه رد السلام باللفظ وإذا كان المسلم غير مشهور بفسق ولا بدعة يسلم وسلم عليه فيسن له السلام ويجب الرد عليه وأما المبتدع ومن اقترف ذنباً عظيماً ولم يتب منه فينبغي أن لا يسلم عليهم ولا يرد عليهم كما جنح إليه كثير من العلماء واحتج له البخاري في صحيحه بما رواه في قصة كعب بن مالك رضي الله عنه حين تخلف عن غزوة تبوك هو ورفيقان له الخ القصة وقال البخاري وقال عبد الله بن عمرو لا تسلموا على شربة الخمر وقال النووي فإن اضطر إلى السلام على الظلمة بأن دخل عليهم وخاف ترتب مفسدة في دينه أو دنياه بعدم السلام سلم قال الإمام أبو بكر ابن العربي قال العلماء يسلم وينوي أن السلام اسم من أسماء الله تعالى والمعنى الله رقيب عليكم.
والمرأة مع المرأة كالرجل مع الرجل وأما المرأة مع الرجل فإن كانت زوجته أو جاريته أو محرماً له فهي معه كالرجل فيستحب لكل ابتداء الآخر بالسلام ويجب على الآخر الرد وإن كانت أجنبية فإن كانت جميلة يخاف الافتتان بها لم يسلم أحدهما على الآخر وإن سلم لا يجب رد ذلك ولا يجوز وإن كانت ممن لا يفتتن بها جاز أن تسلم على الرجل وعليه أن يرد عليها وإذا كانت النساء جمعاً فيسلم عليهن الرجل أو كان الرجال جمعاً كثيراً فسلموا على المرأة الواحدة جاز إذا لم يخف عليه ولا عليهم ولا عليها فتنة روى ابن داود وابن ماجة عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت مر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلم علينا وروى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال(25/20)
كانت فينا امرأة تأخذ من أصول السلق فتطرحه في القدر وتكركر (تطحن) حبات من شعير فإذا صلينا الجمعة انصرفنا نسلم عليها فتقدمه إلينا وأما أهل الذمة فيحرم ابتداؤهم بالسلام فإن سلموا هم على مسلم قال في الرد وعليكم ولا يزيد على هذا روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام عليك فقل وعليك وقال الإمام المتولي أنه لو أراد تحية ذمي فعلها بغير السلام بأن يقول هداك الله أو أنعم الله صباحك أو صبحت بالخير والسعادة أو بالعافية أو صبحك الله بالسرور أو ما أشبه ذلك قال النووي لا بأس به إذا احتاج إليه وأما إذا لم يحتج إليه فالاختيار أن لا يقول شيئاً من ذلك فإنه إيناس وبسط لهم ونحن أمرنا بعدم ودهم وإذا سلم على قوم بينهم كفرة يقصد المسلمين أو المسلم وإذا كتب كتاباً إلى مشرك وكتب فيه سلاماً أو نحوه فينبغي أن يكتب كما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل (من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى).
وأما الصبيان فالسنة أن يسلم عليهم روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله وروى أبو داود بإسناد الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على غلمان يلعبون فسلم عليهم وفي بعض الروايات فقال السلام عليكم يا صبيان وهذا تدريب لهم على آداب الشريعة وفيه سلوك التواضع ولين الجانب ويسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير والصغير على الكبير ولو خالفوا بأن سلم الكبير على الصغير والكثير على القليل لا يكره وما ذكر فيما إذا تلاقى الاثنان في طريق أما إذا ورد على قعود أو قاعد فالوارد يبدأ السلام على كل حال صغيراً كان أو كبيراً روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير وفي رواية للبخاري زيادة يسلم الصغير على الكبير الخ وإذا لقي رجل جماعة وخص أحدهم بالسلام كره ذلك منه لأن السلام شرع للأنس والألفة وبتخصيص البعض إيحاش الباقين وربما صار سبباً للعداوة وإذا مشى في السوق والشوارع المطروقة كثيراً مما يكثر فيه الملتاقون يكفي أن يسلم على بعض دون(25/21)
بعض لأنه لو سلم على كل واحد ممن لقيه لتشاغل به عن كل مهم وإذا سلم جمع على واحد فقال وعليكم السلام وقصد الرد على جميعهم سقط عنه الفرض وإن قصد واحداً منهم لم يسقط عنه الفرض ولو دخل إنسان على جماعة قليلة يعمهم سلام واحد واقتصر على سلام واحد على جميعهم وما زاد من تخصيص فهو أدب ويكفي أن يرد منهم واحد قمن زاد فهو أدب ولو كان جمعاً لا ينتشر فيهم السلام الواحد كالجامع والمجلس الكبير فسنة السلام أن يبتدئ به الداخل في أول دخوله إذا شاهد القوم ويكون مؤدباً سنة السلام في حق من سمعه ويدخل في فرض كفاية الرد كل من سمعه فإن أراد الجلوس بينهم سقط عنه سنة السلام فيمن لم يسمعه من الباقين ويستحب إذا دخل بيتاً أو مسجداً ولم يكن فيه أحد أن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وإن كان جالساً مع أحد وأراد الذهاب فالسنة أن يسلم عليه فقد روى أبو داود والترمذي بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم فإذا أراد أن يقوم فليسلم فليست الأولى بأحق من الآخرة قال الترمذي حديث حسن ويجب على القوم جوابه وإذا مر على أحد وظن أنه إذا سلم عليه لم يجبه إما لتكبر أو لعدم اعتنائه بالمار أو السلام فينبغي أن يسلم ولا يتركه لهذا الظن فإن السلام مأمور به المار ولم يؤمر بتحصيل الرد مع أنه قد يخطئ الظن فيه ويرد ولا عبرة بمن قال أن سلام المار سبب لحصول الإثم في حق الممرور عليه لأن ذلك جهالة بينة من حيث أن المأمورات الشرعية لا تسقط عن المأمور بها بمثل هذه الخيالات ولو نظرنا لمثل هذه الخيالات الفاسدة لتركنا إنكار المتنكر على من فعله جاهلاً بكونه منكراً وغلب على ظننا أنه لا ينزجر بنصحنا له فإن إنكارنا عليه وإرشادنا له يكون سبباً لإثمه إذا لم يقلع عنه ولا شك في أنه لا يجوز ترك الإنكار بمثل هذا ويستحب لمن سلم على إنسان ولم يرد عليه أن يحلله من ذلك بقوله أبرأته من حقي أو جعلته فغي حل منه ويلفظ بهذا فإنه يسقط حق الآدمي روى ابن السني في كتابه عن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجاب السلام فهو له ومن لم يجب فليس منا ويستحب لمن سلم على إنسان ولم يرد عليه أن يقول له بلطف ولن رد السلام واجب فينبغي لك رده كي يسقط عنك الفرض.(25/22)
العصريون والدين
يقال أن بعض الناس يطلبون من أهل العلم الغيورين على الدين تأليف جمعية تضم شتات الشبان العصريين وتؤلف بينهم وبين المتدينين وتزيل سوء التفاهم الحاصل بينهم وتدحض ما علق بقلوبهم من الشبه. وما انتابهم من الشكوك والأوهام وتفهمهم أن الدين الإسلامي والعلم الصحيح أخوان توأمان وفرقدان متلازمان وأن الدين يحرض على العلم ويدعو إلى النظر في عالم السموات والأرض ويطلق للعقل عنان الفكر ليذلل لخدمته الكائنات. ويزيد إيماناً بخالق هذه المخلوقات. وأن العلم يثبت أن الدين الإسلامي خير دين يدين به البشر وكلما زاد العلم تقدماً زاد رونق الدين الإسلامي ووضحت تكاليفه وظهر أنه خليل العقل وصديقه وحجتهم في لزوم هذه الجمعية أنهم يرون أكثر الشبان الذين يتعلمون هذه العلوم الطبيعية يمرقون من دينهم أو يشكون من عقائدهم غير مستمسكين بالدين ولا متخلقين بأخلاق المسلمين.
بلغنا هذا الاقتراح فاستحسناه ولكن وجدنا من الصعب تحقيقه لذلك أحببنا أن نشرح أحوال هؤلاء الشبان ونبين لمن يرغب منهم في التعلم والاهتداء بهدي الدين أن إزالة شبههم لا تتوقف على تأليف هذه الجمعية لوجود ما يغني عنها فنقول.
العصريون المطلوب إصلاحهم هم من تعلموا العلوم العصرية مع عدم تعلمهم أو إتقانهم على الدين وهؤلاء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام القسم الأول وهو أكثرهم وأشدهم ضلالاً من وقف عند المادة وأنكر ما وراءها فهو لا يعبأ بالدين وما هو عنده إلا خرافات وأوهام ونزغات شيطان فهذا لا تنفع فيه المواعظ ولا تؤثر فيه النصائح والقسم الثاني من ضرب العلوم الدينية بسهم ضئيل فهو حيران لا يدري أي شيء يغلب عليه. الدين أم الإلحاد فهو بين بين تتنازعه عواطف الزندقة وصبا التدين فهذا يطمع في هدايته وإن كان بعيداً ويرجى برؤه وإن كان عنيداً والقسم الثالث من يغلب عليه حب الدين والتدين ولكن لا تفتأ نزغة الإلحاد توحشه وتقلقه. وتبعده وتقربه فهو يتفانى في حب الدين ويزداد شغفاً وشوقاً إلى ترقي المسلمين.
ويريد أن يزيل ما علق بقلبه من الشبه ولكن لا يدري أي طريق يسلك. لا أي باب يطرق فالواجب على أفراد هذين القسمين أن يتعهدوا مجالس العلم ويطرقوا أبواب الأساتذة يسئلونهم عما طرأ عليهم من الشبه ليزيلوا شكوكهم ويحلوا مشكلاتهم يقولون لو أتينا هؤلاء(25/23)
العلماء وسألناهم عما يدور في خلدنا من الشبه لأسكتونا وحكموا علينا بالكفر والإلحاد والفسق والضلال فماذا نصنع؟ قلنا لا نصيب لما تقولون من الصحة فإن العلماء مستعدون لإزالة شبه كل يسألهم وهل وظيفتهم غير ذلك ولكن ربما تدخلون عليهم بصورة المتعنتين لا المتعلمين فيلاحظون ذلك منكم فينبذونكم.
هذه أقسام العصريين وأحوالهم وسبب زيغهم وإلحادهم معروف لا يكاد يختلف فيه وهو عدم تمكنهم من العلوم الدينية وتضلعهم بها. حكى بعضهم قال اجتمعت بأحد العصريين فدارت بيننا المباحثة بمسألة الاجتهاد والتقليد وهذه صورة ما دار بينهما:
العصري: أليس الواجب على العلماء أن يعيروا هذه المسألة جانباً من الالتفات والنظر فيخرجو الناس من هذه القيود التي أضرت بالمسلمين وأوصلتهم إلى هذه الحال التي تذيب القلوب وتدمي المقل؟
المتدين: سبحان الله وهل مسألة الاجتهاد والتقليد هي التي أوصلت المسلمين إلى ما ترى؟
العصري: نعم وما على المسلمين لو تركوا هذه الأقاويل ورجعوا إلى الكتاب والسنة وأخذوا منهما أحكام الحلال والحرام.
المتدين: وهل أخذ الأئمة الكرام من غير الكتاب والسنة؟
العصري: وهل تعتقد أن كل مسائل الفقه مأخوذة من الكتاب والسنة؟
المتدين: وهل يشك في ذلك؟
العصري: لقد أخطأ فهمك وطاش سهمك هناك ألوف المسائل لم يعثر لها على دليل.
المتدين: كأنك لم تقرأ ما كتبته مجلة (الحقائق) في الجزء الأول من سنتها الأولى فإنها أخذت على عهدتها أنا تجيب على مسائل الفقه التي يظن أنها ليس لها دليل وتبين دليلها بما يقنع أولي الألباب فإن كنت في شك من بعض المسائل الفقهية فالمجلة مستعدة للجواب عما يرد عليها من الأسئلة قل لي بربك ماذا قرأت من وسائل العلوم الدينية ومقاصدها كالنحو والصرف والمنطق والأصول والفقه والحديث؟
العصري: لم أقرأ من ذلك إلا النذر القليل.
المتدين: وهل من اللائق أن يخوض بمسائل الاجتهاد والتقليد من لا يحسن الوضوء ولا الصلاة ولا يجيد قراءة لفظ الحديث الذي يعرض نفسهم لفهم منطوقه ومدلوله وصريحه(25/24)
وإشارته وظاهره وخفيه ومشكله ومفسره إن هذا لشيء عجاب. عليكم معشر العصريين بتعلم العلوم الدينية فإنها هي الحاجزة بينكم وبين النار. وإياكم أن يخدعكم أبالسة المبتدعة بما يلقونه في عقولكم من تحقير الفقه والفقهاء وتنفيركم من علماء الدين وأهل السنة أه.
فقد وضح من جملة ما قدمناه أن الداء هو جهلهم بالعلوم الدينية وعدم تضلعهم بها. وإن الدواء الناجع هو رجوعهم إلى تعلم علوم الدين ومسائلها ومقاصدها فإن من علامات محبة الدين أن يطلب المرء ما يثبت تلك المحبة في قلبيه بأن يكون على يقين من أمره لا يشككه زيغ الزائغين ولا إلحاد الملحدين وأن أبواب الأساتذة مفتوحة للتعليم. وإن كل درس يقرأ عندهم هو الجمعية التي يطلبونها وما سوى ذلك فشهوات يمنيهم بها الشيطان ليحول بينهم وبين ما ينفعهم ويصدهم عن سبيل الله ولله في خلقه شؤون.(25/25)
يا حكماء الإصلاح
أدركوا المريض بعلاج ناجع وفيه من الحياة بعض رمق
أرسل بها إلينا الشاعر المجيد الشيخ عبد الرحمن أفندي القصار
أرى الدسائس بأن اليوم خافيها ... وقد أحاطت بنا طراً دواهيها
تيقظوا إننا والله في خطر ... إن لم تحوطوا الربى فالسيل يبليها
إني أنبهكم كونوا على حذر ... منك فكم أمة منها أعاديها
بربكم أدركوا الأوطان حيث غدت ... على شفا جرف هار مبانيها
إذا انتهى الجار من حلق قبل فقد ... وافاك حلاقه فاحذره تنبيها
فالوحش إن صادفت في دار مضيعة ... فريسة أنشبت أظفارها فيها
يا أمة رتعت في لهوها زمنا ... منذ ادعى حبها الأغيار تمويها
أما كفاك اغترار فاتعظت بما ... قضى على حسنك الوضاح تشويها
هبي لندرأ عنا ما أحاط بنا ... من الحوادث ما جرت عواديها
هبي لنشرع في إصلاح ما فسدت ... منه الإدارة وانحطت معاليها
واحسرتاه لبلدان برمتها ... قضت ولا من مجيب صوت ناعيها
هل من مجيب لإصلاح البقية كي ... لا يلحقن بماضي تلك باقيها
فسددوا نحو من يبغي التهامكمو ... سهام إصلاح بقيانا لنحميها
كم يرسل الغرب من جيش الكلام لنا ... وفداً يهددنا بالحرب تنويها
ونحن لم ننتبه إلا وأدركنا ... جيش الحسام فنرغو منه تدليها
أبعد ما ذهبت منا البلاد سدى ... وصاح في إبل التسيار حاديها
يطيب عيش وإغفاء لأمتنا ... ما لم يعد من ترقي العلم ماضيها
وهذه الدولة العظمى على ملاء ... يدعو لأنجح إصلاح مناديها
لبوا نداء إلى الإصلاح واتفقوا ... على علاج من الأدواء يشفيها
أين الفتى الحر بين القوم يدرأ ما ... يزري بدولته العليا ويفديها
يا أيها الغافلون الزاهدون بما ... يجدي بلادكمو نفعاً ويحييها
قد اشتكى الوطن الواني تقاعسكم ... عنه وأطفالكم شابت نواصيها
أبعد ذا اليوم نغضي الطرف عن وطن ... أيامه بالشقا ساوت لياليها(25/26)
وارحمتها لأوطان تئن أسى ... منكم ولم تلق فيكم من يلبيها
فإن تداركتموها بالحياة من ال ... إصلاح أو فدعوني اليوم أرثيها(25/27)
إجابة طلب المؤيد
صن أمة لعب العدو بعقلها ... وأنالها ألماً على آلامها
إن لم تدركها فمن يرجى لها ... (يا مصطفى قبل العوالم كلها)
(والكون لم يبرز من التكوين)
أنت الذي لولاك ما انفك العمى ... عن ذا الوجود وشأنه ما نظما
فالفضل منك مؤخراً ومقدماً ... (أيروم مخلوق مديحك بعدما)
(أثنى عليك الله في التبيين)
دمشق
ع
(يا مصطفى قبل العوالم كلها) ... يا مصدر الأشياء حبك ديني
يا منتهى الغايات أنت المجتبى ... (والكون لم يبرز من التكوين)
(أيروم مخلوق مديحك بعدما) ... شهد الكتاب بنعتك الميمون
أنت المرجى في الشدائد حيث قد ... (أثنى عليك الله في التبيين)
دمشق
عبد المجيد قصاب
(يا مصطفى قبل العوالم كلها) ... يا خير مبعوث وخير أمين
أنت المشفع في الخلائق كلها ... (والكون لم يبرز من التكوين)
(أيروم مخلوق مديحك بعدما) ... فقت العوالم كلها بيقين
هل يحسن الشعراء مدحك بعد أن ... (أثنى عليك الله في التبيين)
دمشق
ص ز(25/28)
الحكمة
شربنا هواها مذ الست وقد صفا ... ولذّ كأن الله خص به الشفا
ومذ رابنا أنا لديها على شفا ... (دخلنا عليها نستجير من الجفا)
(على غفلة الواشي من الجن والأنس)
وقفنا وكل للحتوف تعرضا ... وعن غيرها بالقول والفعل اعترضا
وقلنا لها الصبر الجميل قد انقضى ... (فقالت فما تبغون قلنا لها الرضا)
(فقالت رضائي بالخروج عن النفس)
(دخلنا عليها نستجير من الجفا) ... لئلا يغوص القلب في لجة اليأس
ويا حبذا لو كان يبدو خيالها ... (على غفلة الواشي من الجن والإنس)
(فقالت فما تبغون قلنا لها الرضا) ... لندرك فيه الوصل من حضرة القدس
ونفنى فناءً فيه تحيى نفوسنا ... (فقالت رضائي بالخروج عن النفس)
ابن المدرسة
سعدنا بكشف الضر والوقت قد صفا ... بأنظار من نهوى إذا الدهر أنصفا
ولما رأيناها تبدت من الخفا ... (دخلنا عليها نستجير من الجفا)
(على غفلة الواشي من الجن والأنس)
رجونا وصالاً للحبيب فأعرضا ... وما ثم إلا ما به حكم القضا
فقلنا لها بالله صفحاً لما مضى ... (فقالت وما تبغون قلنا لها الرضا)
(فقالت رضائي بالخروج عن النفس)
(دخلنا عليها نستجير من الجفا) ... ومن ظلمة الأغيار والريب واللبس
لجأنا إليها نستعيذ من النوى ... (على غفلة الواشي من الجن والأنس)
(فقالت وما تبغون قلنا لها الرضا) ... وإن تكلئي صباً من الزيغ والطمس
وإن ترحمي كلاً حناناً ورأفةً ... (فقالت رضائي بالخروج عن النفس)
عبد المجيد القصاب(25/29)
من كتاب الأدب
لجعفر بن شمس الخلافة وهو من الكتب المخطوطة النادرة
ولم أر مثل المال أرفع للنذل
عش عمر نوح الياً ستعزل
حسن في كل عين من تود
الإرب إحسان عليك ثقيل
رب عيش أخف منه الحمام
ليس المجرب مثل من لم يعلم
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا
لعل غداً يبدي لمنتظر أمراً
وما كل من أوليته نعمة شكر
كفاية الله خير من توقينا
ما غبن المغبون مثل عقله
وليس لشيء بعد ما فات مطلب
وما خلا الدهر من صاب ومن عسل
وقد يبتلي الحر الكريم فيصبر
وعلى المريب شواهد لا تدفع
وليس لعظم هاضه الله جابر
إذا لم تجد بالمال جاد به الدهر
إن البخيل فقير غير مأجور
والكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل
وكل قريب لا ينال بعيد
لا خير في لذة من بعد سقر
إن الصبابة بعد الشيب تضليل(25/30)
ويعرف فضل الشمس عند مغيبها
دية الذنب عندنا الاعتذار
وما عاقل في بلدة بغريب
ذهب القضاء بحيلة الأقوام
ونعمة الله مقرون بها الحسد
ولا يكشف الفتيان مثل التجارب
وأعيى مصاب الموت كل طبيب(25/31)
العدد 26 - بتاريخ: 9 - 3 - 1913(/)
الدين الإسلامي والتوحيد
خصائص الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه سيد الأنبياء والمرسلين وسيد البشر من الأولين والآخرين وأنه اشرف المكونات وأفضل أهل الأرض والسموات. أخرج الترمذي وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم إسلام قرينه من الجن. أخرج البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلات على الأنبياء بخصلتين كان شيطاني كافراً فأعانني الله عليه حتى أسلم وقال الراوي ونسيت الأخرى.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الميت يسأل في قبره عنه عليه الصلاة والسلام. أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه حتى أنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فأقعداه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعداً من الجنة فيراهما جميعاً وأما الكافر أو المنافق فيقول لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيقال لا دريت ولا تليت ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أول من تنشق عنه الأرض أخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى حلة من حلل الجنة ثم أقوم على يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم المقام المحمود (وهو الشفاعة العظمى في فصل الفضاء) الذي يحمده فيه الأولون والآخرون أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنا سيد الناس يوم القيامة هل تدرون مم ذلك يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول بعض الناس لبعض ألا ترون ما(26/1)
أنتم فيه أما قد بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناس لبعض أبوكم آدم فيأتون آدم فيتنصل فيأتون نوح فيتنصل فيأتون إلى إبراهيم كذلك فيتنصل ثم موسى ثم عيسى عليهم الصلاة والسلام إلى أن ينتهي الأمر إلى سيد الرسول فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم النبيين فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه قال عليه الصلاة والسلام فأقوم فآتي تحت العرش فأقع ساجداًَ لربي يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي فيقال يا محمد ارفع رأسك وسل تعط وأشفع تشفع فأقول يا رب أمتي أمتي الخ الحديث.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أول من يجيز بأمته على الصراط لحديث أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً يضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيزه.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أول من يقرع باب الجنة روى مسلم عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً على النبي صلى الله عليه وسلم آتي باب الجنة فاستفتح فيقول الخازن من أنت فأقول محمد فيقول بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك مما اختص به صلى الله عليه وسلم الكوثر قالا تعالى (إنا أعطيناك الكوثر) وأخرج الترمذي وأحمد مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت تربته أطيب ريحاً من المسك وماؤه أحلى من العسل وأشد بياضاً من الثلج.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم الوسيلة العظمى وفسرها العلماء بأنها أعلى درجة في الجنة وأفضل منازلها أخرج مسلم عن ابن عمرو رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ثم صلوا علي ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تبتغى إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أن كل سبب ونسب منقطع يوم القيام إلا سببه ونسبه أخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي أه وقد ذكر الشيخ عبد الغني النابلسي معنى لطيفاً في تقرير هذا الحديث قال أن نبينا أبو الأنبياء والمؤمنين في الدين وآدم عليه(26/2)
السلام أبو البشر في الطين والنسب الطيني غير نافع بدليل أن الأب قد يكون مؤمناً بل نبياً ويكون ابنه كافراً فلم ينتفع الابن بالنسب الطيني حيث فارق أباه في النسب الديني فيوم القيامة تضمحل الأنساب الطينية وتنقطع قال تعالى (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه) ولا يبقى إلا النسب الديني وهو صلى الله عليه وسلم الأب الكامل فيه فكل من أدلى إليه بهذا النسب فهو ناج وإلا كان من الهالكين أه.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه كان يرى من خلفه كما يرى أمامه ويرى في الليل والظلمة كما يرى في النهار والضوء أخرج البيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى في الظلمة كما يرى في الضوء وأخرج الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هل ترون قبلتي ها هنا فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا سجودكم إني أراكم وراء ظهري.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم طيب رائحة عرقه الشريف روى البخاري عن عائشة قالت كنت قاعدة أغزل والنبي صلى الله عليه وسلم يخصف نعله فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتولد نوراً فبهت فقال مالك بهت قلت جعل جبينك يعرق وجعل عرقك يتولد نوراً ولو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره حيث يقول:
ومبرإ من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت بربوق العارض المتهلل
فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان بيده وقام إلي فقبل ما بين عيني وقال جزاك الله يا عائشة خيراً فما أذكر أني سررت كسروري بكلامك وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني زوجت ابنتي وأحب أن تعينني بشيء قال ما عندي شيء ولكن أتني بقارورة واسعة الرأس وعود شجرة فأتاه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسلت العرق عن ذراعيه حتى امتلأت القارورة قال فخذها وأمر بنتك أن تغمس هذا العود في القارورة وتطيب به فكانت إذا تطيبت يشم أهل المدينة رائحة ذلك الطيب فسموا بيت المطيبين.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا مشى مع الطويل طاله وإذا جلس يكون كتفه أعلى من جميع الجالسين وكان لا يرى له ظل في الشمس ولا في القمر وأنه لم يقع(26/3)
ظله على الأرض أخرج البيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت لم يكن رسول الله بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد وكان ينسب إلى الربعة إذا مشى وحده ولم يكن على حال يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله وربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما فإذا فارقهما نسب إلى الربعة وأخرج الترمذي عن ذكوان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له ظل في شمس ولا قمر أه وقد علل عدم ظهور ظله في الشمس والقمر بأن قلبه الشريف نور وجسمه لطيف شفاف يشف عن ذلك النور فيمحي به ظله.(26/4)
سنن متروكة
لقد فشى بين الأمة الإسلامية التخلق بأخلاق الغربيين والتمسك بعاداتهم حتى كادت الأخلاق الإسلامية أن تكون نسياً منسياً وأثراً بعد عين لذا رأينا أن نذكر طرفاً من سنن نبينا صلى الله عليه وسلم وأخلاقه الكريمة كي يظهر للأمة ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وصحبه رضي الله عنهم فمن ذلك الاستئذان.
قال تعالى: (يا آيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا_أي تستأذنوا_وتسلموا على أهلها) وقال تعالى (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم) وروى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي موسى الشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل الاستئذان من أجل البصر والسنة أن يسلم ثم يستأذن روى أبو داود والترمذي عن كلدة بن الجنبل رضي الله عنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه ولم أسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ارجع فقل السلام عليكم أأدخل وهو حديث حسن وبيان ذلك أن المستأذن يقف عند الباب لا ينظر إلى من في داخله ويقول السلام عليكم أأدخل فإن لم يجبه أحد قال ذلك ثانياً ثالثاً فإن لم يجبه أحد انصرف وينبغي أن ينتظر بين السلام الأول والثاني مقدار أربع ركعات أو مقدار الوضوء أو قضاء الحاجة لعل رب المنزل مشغول عن الجواب فقد نقل العلامة الشهير ابن عابدين في كتاب الحظر والإباحة في حاشيته عن قول الشارح وإذا أتى دار إنسان الخ وفي فصول العلامي وإذا دخل على أهله يسلم أولاً ثم يتكلم وإن أتى دار غيره يستأذن للدخول ثلاثاً يقول في كل مرة السلام عليكم يا أهل البيت أيدخل فلان ويمكث بعد كل مرة مقدار ما يفرغ الآكل أو المتوضئ أو المصلي بأربع ركعات فإن أذن له دخل وغلا رجع سالماً ن الحقد والحسد والعداوة أه وقال أبو موسى الأشعري وحذيفة يستأذن على ذوات المحارم يدل عليه ما روي عن عطاء بن يسار أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أأستأذن على أمي قال نعم فقال الرجل إني معها في البيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن عليها أتحب أن تراها عريانة قال لا قال فاستأذن عليها أخرجه مالك في الموطأ مرسلاً.
وإذ دق الباب على أحد أو استأذن بالسلام فقبل له من أنت يطلب أن يقول فلان ابن فلان المعروف بكذا أو ما أشبه ذلك بحيث يحصل التعريف التام به ويكره أن تقتصر على قوله(26/5)
أنا أو الخادم أو بعض المحبين أو نحو ذلك روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن جابر رضي الله عنه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فدققت الباب فقال من ذا فقلت أنا فقال أنا أنا كأنه كرهها ولا بأس بأن يصف نفسه بما يعرف به وإن كان فيه نوع تبجيل أو تعظيم كأن يقول أنا المفتي فلان أو القاضي فلان أو الشيخ فلان أو ما أشبه ذلك روى البخاري ومسلم عن أبي ذر رضي الله عنه واسمه جندب وقيل برير بضم الباء تصغير بر قال خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده فجعلت أمشي في ظل القمر فالتفت فرآني فقال من هذا فقلت أبو ذر.
يستحب للرجل تقبيل يد غيره إذا كان ذلك لزهده أو صلاحه أو علمه أو شرفه أو نحو ذلك من الأمور الدينية وإن كان ذلك لغناه أو دنياه أو شوكته فهو مكروه شديد الكراهة وقال بعض العلماء حرام روى أبو داود في سننه عن زارع رضي الله عنه وكان في وفد عبد القيس قال فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم ورجله.
تقبيل الرجل خد ولده الصغير أو أخيه أو صديقه وقبلة غير خده من أطرافه على وجه الشفقة والرحمة واللطف سنة مشهورة ذكراً كان أو أنثى أما التقبيل بشهروة فحرام سواء ذلك في الولد وغيره روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال قبل النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما وعنده الأقرع بن حابس التميمي فقال الأقرع أن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال من لا يرحم لا يرحم.
وأما تقبيل وجه الميت الصالح للتبرك لا بأس به روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها في الحديث الطويل في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت دخل أبو بكر رضي الله عنه فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أكب عليه فقبله ثم بكى.
لا بأس بتقبيل الرجل وجه صاحبه إذا قدم من سفر. روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فأتاه فقرع الباب فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم يجر ثوبه فاعتنقه وقبله قال الترمذي حديث حسن وأما المعانقة وتقبيل الوجه لغير الطفل ولغير القادم من سفر ونحوه فمكروهان ويدل(26/6)
على الكراهة ما رواه الترمذي وابن ماجة عن أنس رضي الله عنه قال قال رجل يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له قال لا قال فيأخذ بيده ويصافحه قال نعم قال الترمذي حديث حسن.
وكون المعانقة والتقبيل مكروهين هو في غير الأمرد الحسن الوجه أما هو فحرام بكل حال تقبيله مطلقاً قدم من سفر أو لا ومعانقته كذلك ولا فرق بين أن يكون المقبل والمقبل صالحين أو فاسقين وأحدهما صالحاً فالجميع سواء.
ومن سننه عليه الصلاة والسلام المصافحة فهي سنة مجمع عليها عند التلاقي روى البخاري عن قتادة رضي الله عنه قال قلت لأنس رضي الله عنه أكانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم وروى البخاري ومسلم في حديث كعب ابن مالك رضي الله عنه في قصة توبته قال فقام إلي طلحة بن عبد الله رضي الله عنه يهرول حتى صافحني وهناني وأما تخصيص المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر فلا أصل له شرعاً على هذا الوجه لكن لا بأس به لأنه من أفراد السنة وينبغي أن يحترز من مصافحة الأمرد الحسن الوجه وكل من حرم النظر إليه حرم مسه بل المس أشد فإنه يحل النظر إلى الأجنبية إذا أراد أن يتزوجها وفي حال البيع والشراء والأخذ والعطاء ولا يجوز مسها في شيء من ذلك ويستحب مع المصافحة البشاشة بالوجه والدعاء بالمغفرة ونحوها. روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق وروى ابن السني في كتابه عن أنس رضي الله عنه قال ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد رجل ففارقه حتى قال اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ونقل العلائي في الدر المختار عنه عليه الصلاة والسلام من صافح أخاه المسلم وحرك يده تناثرت ذنوبه ونقل العلامة ابن عابدين في حاشيته عند هذا البحث وكذا في شرح الهداية للعيني قال النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه وأخذه بيده فصافحه تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشجر رواه الطبراني والبيهقي ويكره حني الظهر في كل حال لكل أحد ويدل على ما قدمناه من حديث أنس رضي الله عنه وهو قوله أينحني له قال لا قال الإمام النووي ولا يغتر بكثرة من يفعله ممن ينسب إلى علم أو صلاح وغيرهما من(26/7)
خصال الفضل فإن الاقتداء إنما يكون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقال تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) وقد قال الفضل بن عياض رضي الله عنه اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين ويستحب إكرام الداخل بالقيام لمن كان فيه فضيلة ظاهرة من علم أو صلاح أو شرف أو ولاية مصحوبة بصيانة ونحو ذلك ويكون هذا القيام للبر والإكرام لا للرياء وعلى جواز القيام عمل السلف والخلف ويستحب زيارة الصالحين والأخوان والجيران والأصدقاء والأقارب وبرهم وصلتهم وينبغي زيارتهم على وجه لا يكرهونه. روى الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عاد مريضاً أو زار أخاً في الله تعالى ناداه مناد بأن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً.(26/8)
صدى حجاب المرأة شهادة مسيحي بمضار التبذل
الاجتماعية
لما أظلتنا أوروبا بمدنيتها الحديثة وبمعارفها وعلومها ومستحدثاتها ومخترعاتها اغتر بزخرف تلك المدنية الساحرة فريق من عشاق المظاهر وعبدة الأوهام ظنوا أن كل ما تأتي به أوروبا حسن لذاته ومفيد للهيئة الاجتماعية وواجب على جميع الأمم والشعوب أن تقفوا أثرهم به لتصل إلى أوج السعادة والكمال.
تمكن منهم هذا الغرور تمكناً ملك عليهم مشاعرهم حتى صار الأمر المحمود في الشرع الذي يدينون به مذموماً في عرفهم واعتقادهم لأن أوروبا رأت أنه غير نافع لها في مدنيتها الحديثة.
من ذلك حجاب المرأة. ولا يمتري ذو مسكة من العقل بما لحجاب المرأة من الفوائد التي من أهمها حفظ الأنساب وقد جاءت مشروعيته في كتاب الله وسنة رسوله على أبلغ وجه ومضت الأيام والسنون والاتفاق على استحسانه سائد ومطابقة العقل للنقل فيه محكمة وثيقة لذلك لا نعلم أن أحداً من علماء الإسلام وأئمتهم على مدة ثلاثة عشر قرناً ارتأى أن الحجاب الشرعي مضر بالنساء وأن ابتذال المرأة وخروجها من صيانة الحجاب نافع لها ومرق لأخلاقها إلى أن داهمتنا تلك المدنية التي زحزحت كثيراً ممن لم تتمكن عقائد الدين من نفوسهم عن جادة الحق والشرع فكان من جملة ما منينا به من نوائب هذه الشرذمة الجاهلة أن قام من يقول بضرر الحجاب بل وعدم مشروعيته وبوجوب تقليد أوروبا بهذه المسألة الخطيرة وتحرير المرأة من قيودها الثقيلة ومزاحمتها للرجل في ميادين الأعمال.
لا حجة لهم في استحسان ما ذكر والاعتقاد بوجوبه سوى أن أوروبا عالمة به وهي مترقية والغريب في ذلك أن بعضاً من متطرفة المغرورين يرى أن كل رقي نالته أوروبا كان بسبب ابتذال المرأة وأن رقينا موقوف على ذلك لا محالة.
وقد كنا كتبنا في السنة الأولى من الحقائق رداً ضافياً على الزهاوي في هذه المسألة وملحقاتها وأثرنا عن حضرة العالم الاجتماعي الكبير محمد فريد بك وجدي ما يتوقعه فلاسفة العمران في أوروبا من انهدام عظمة أوروبا بيد المرأة إن لم يمكن إيقافها عند حدها ونقلنا ما ذكره حفظه الله من كلام المسيو (جان فينول) مدير مجلة المجلات وغيره بهذا(26/9)
الصدد ولا بأس أن نعيد نقل بعضه ها هنا إتماماً للفائدة قال جان فينول (نقول بغاية الأسف أن المرأة التي بواسطتها تهذيب أوروبا ستكون هي نفسها هادمة تلك المدنية الزاهرة بيديها بإزاء هذه النزعات فإن عقلاء القوم لا يدرون كيف يوقفون سير هذا التيار الشديد الاندفاع الذي ابتدأ يجرف أمامه كل الكمالات الأخلاقية التي بنيت على أساسها عظمة العالم المتمدن أه.
فعلماء أوروبا وفلاسفتها تسعى لتلافي أضرار التبذل ومساواة والمرأة للرجل في كل شؤونه وجهلاؤنا المغرورون يريدون تقليدها فيما أدرك عقلاؤها ضرره وسوء مغبته وقد قرأنا في مجلة (الهلال) الغراء فصلاً من رحلة صاحبها جرجي زيدان لبلاد أوروبا وصف لبلاد أوروبا وصف به حال المرأة الفرنساوية وما جناه عليها وعلى المجتمع الفرنسوي تبذلها وتبرجها وحريتها المتطرفة فأردنا نقل محل الشاهد من كلامه هنا قال:
كنا نشكو من جهل الفتاة الشرقية وحجابها ونحسد الفتاة الافرنجية على تعلمها وحريتها فلما رأينا حالها في باريس انقلبت شكوانا وكدنا نرضى بالحجاب والجهل. أنهم أساؤوا إلى ذلك المخلوق اللطيف بتلك الحرية المتطرفة أرسلوا المرأة إلى الأسواق تخالط الشبان وتبايعهم وتساومهم وتعاشرهم وهي ضعيفة حساسة فتعرضت لمفاسد كثيرة وأغراها الشبان بالمال فخدعوها فلما خرجت من صف الحرائر خدعتهم ثم آل أمرها إلى ضياع العمر في الشوارع والأزقة لا تجد رزقاً إلا باستهواء الشبان وفي القاهرة مثال صغير من تلك الطبقة يعرفن ببنات الرصيف أما هناك فإنهن ألوف ولا تكاد تخلو منهن حديقة أو متنزه أو شارع لاسيما أثناء الليل ولا حرج عليهن بحجة الحرية الشخصية والحكومة الفرنساوية تبيح الفحشاء على شروط وضعتها وقوانين سنتها فأباحت للمتجرين بالأعراض أن يبتوا المنازل والقصور ويحشدون فيها الغواني أصنافاً وألواناً يعرضونهن عرض السلع والأثاث بلا عيب ولا حياء ولهم سماسرة في أيديهم شهادات من الحكومة تخول لهم معاطاة تلك المهنة ولهذه الطبقة من المتهتكين مجالس وأندية وجرائد وكتب لترويج تلك البضاعة وليس ذلك جائزاً في إنكلترا ولكن مصر اقتدت فيه بالفرنساويين كما اقتدت بسواه من أسباب تمدنهم وما كان أجدرنا أن نأخذ الحسن النافع من أسبابه ونعرض عن القبيح الضار.
ومن قبيح هذه الحرية في باريس أن من تلك الشباك الجهنيمة كثيراً في حي يعرف بالحي(26/10)
اللاتيني فيه أكثر المدارس العالية التي ترسل مصر شبانها ليتلقوا فيها الحقوق والطب أو غيرهما ولا مندوحة لهم عن الإقامة هناك والتعرض لتلك الأخطار في المراقص والملاعب حيث يختلط الشبان بالشابات فلا ينجو من ذلك الخطر إلا قوي الإرادة ثابت العزيمة ولكن الإنسان ضعيف ولاسيما الشاب القادم من بلاد لا يرى فيها المرأة إلا محتجبة وهو في بلده بين أهله ومعارفه يمنعه الخجل من مخالطة غير المحتجبات أما في باريس وكل شيء فيها مباح فإنه يرى الشبان والشابات في الطرق أزواجاً (غير مطهرة) ذكراً وأنثى بلا حرج ولا خجل يتداعبون ويتغازلون ويجد من رفاقه من يغريه على الرذيلة ويحببها إليه باسم الحرية فإذا أحجم عيره بالضعف فهل يلام أولئك الشبان على السقوط وإنما على اللوم على الذين يرسلونهم إلى تلك المدارس وإذا كان لا بد للحكومة المصرية أو الآباء من إرسال أبنائهم إلى مدارس فرنسا فمن الخطأ إرسالهم إلى باريس وتعريضهم لتلك الأخطار على أن الطبقة من النساء ليست كلها من أهل تلك العاصمة فإن فيهن كثيرات من أهل الأرياف الفرنساوية أو من خارج فرنسا وبعضهن من روسيا وألمانيا وغيرهما ويندر بينهن القادمة إلى باريس بقصد العهارة.
وإنما يفد أكثرهن إليها للارتزاق ببعض المهن فيتعرضن للوقوع في تلك الفخاخ ويعينهن الفقر على الوقوع فيها لأن البائعة في مخزن وأجرتها فرنكان أو ثلاثة في اليوم تنفقها على الطعام واللباس والمنام يقع نظرها كل يوم على عشرات من شبيهاتها في الخلقة أو أقل منها جمالاً وكل منهن قد تأبط زندها شاب كساها أحسن الأقمشة وزينها بأجمل الحلي فإذا قويت هذه البائعة المسكينة على محاربة الحسد فإنها لا تقوى على مدافعة من يتعرض لها من أولئك الشبان الذين يغرونها بالمواعيد العريضة ويتحببون إليها بإطراء جمالها وشكوى الغرام وغير ذلك فتقع في الشراك ولا يعاشرها ذلك المغرم إلا مدة ثم ينتقل إلى سواها.
فتصبح غير قادرة على العمل في مهنتها الأولى ويهون عليها الارتزاق من أمثال ذلك الشاب واعتبر كيف تكون حالها متى ذهب شبابها وذوي جمالها فالعلة الأصلية في شيوع التهتك بباريس إنما هو إطلاق سراح الفتاة ومساواتها للرجل وتكليفها الإرتزاق مثله وإباحة الحكومة للفحشاء رسمياً وزد على ذلك أن الفتور الديني شائع في فرنسا حتى أصبح شبانها يعدون العهارة ضرباً من التجارة ولا فرق عندهم بين الفحشاء والتمتع بسائر ملاذ الحياة(26/11)
كالطعام والشراب والسماع ونحوها فيغرون المرأة على ذلك فتطيعهم وليس أقبح من فتور المرأة في الدين لأنها أقرب إلى التقوى من الرجل وأكثر تعففها من طريق الدين خوف العقاب وهي دقيقة الإحساس سريعة التأثر فإذا لم يشتغل قلبها بالتقوى والرهبة من العقاب خيف عليها السقوط إذ ليس لها ما للرجل من قوة الإرادة ومع ذلك فإنه أكثر سقوطاً منها لكن الناس لا يعيبون سقوطه كما يعيبون سقوطها وذلك من جملة مظالم نظام الاجتماع.
في شوارع باريس ألوف من الفتيات لولا هذه الأسباب لكن أمهات وربات عائلات يربين أبناءهن رجال المستقبل على الفضيلة بدلاً من ضياع شبابهن في الرذيلة ويضيع معهن ألوف من الشباب بلا عقب. لأن هذه الإباحة من أكبر أسباب العقم في فرنسا إذ يمسك الشبان عن الزواج تخلصاً من متاعبه وهمومه واكتفاء بملاذه الوقتية بثمن قليل لا مسئولية بعدها ولا تعب فلا نبالغ إذا قلنا أن فرنسا بين يدي خطر اجتماعي يهددها ولا تخرج منه إلا بعد انقلاب عظيم.
بلغ عدد اللقطاء في باريس للعام الماضي ثمانية عشر ألفاً لا يعرف آباؤهم فهم من نتاج هذه الرذيلة من نتاج الإفراط في الحرية والفتور في الدين. إن الجهل والحجاب يضران بالمرأة ويؤخران الهيئة الاجتماعية عن أسباب المدنية لكن الحرية الزائدة مع العلم أو بدونه تفسد المجتمع الإنساني وتضر بالعائلة وحال فرنسا الاجتماعي أكبر شاهد على ذلك لأن إحصاءها يكاد يكون الآن كما كان منذ أربعين سنة ولم تبق أمة إلا تضاعف إحصاؤها في أثناء هذه المدة.
خلقت المرأة أماً تدبر العائلة وتربي الأولاد وتعليمها ضروري للقيام بمهمتها الطبيعية في الشؤون العائلية وأما تكليفها بأعمال الرجال فإنه خارج عما خلقت له إلا إذا اضطرت إليه لأسباب قهرية ولكننا نرى بعض كبار العلماء يجيزون لها كل عمل يعمله الرجل وأن تتعاطى كل صناعة أو مهنة لأنها مساوية لها. وبعضهم ألف كتباًَ في هذا الموضوع خلاصتها أن المرأة يجب أن تعمل كل أعمال الرجال من صناعة أو علم أو تجارة أو زراعة بحجة تضاعف الثروة بتكاثر الأيدي في العمل وهو رأي نظري لا ينطبق على حاجة المجتمع الإنساني إذا نزل الرجل والمرأة إلى السوق من يربي الأطفال ويدربهم ويعنى بأحوالهم؟ فإن قيل أن المراضع والخدم يفعلون ذلك قلنا أن الطفل لا تربيه إلا أمه(26/12)
وإذا فرضنا قيام الخدم مقامها فالنفقات التي يستلزمها استخدامهم تستغرق ما تكتسبه المرأة بالعمل خارج بيتها ومهما بلغ ارتقاء الجنس البشري في الاكتشاف والاختراع فإنه لا يقوى على قلب نظام الاجتماع وهذا النظام يقضي على الأم أن تربي طفلها بحيث لا يخرج من دائرة عنايتها وأن يكون هو أهم مشاغلها مع تدبير بيتها وليس ذلك بالشيء اليسير إن القيام بشؤون العائلة لا يقل أهمية عن أعظم عمل من أعمال الرجال في التجارة أو السياسة أو الصناعة أو غيرها.
هذه شهادة رجل مسيحي لا يرى الحجاب ديناً ولا يقول أنه مأمور به في الشرائع السماوية ولكن يقول به لما رأى من مفاسد رفعه من هتك الأعراض واختلاط الأنساب وكثرة اللقطاء وقلة النسل مما شاهده بنفسه وسمعه بأذنه من غير تأثر بعقيدة سالفة أو دين التزم أحكامه وهي شهادة ينبغي أن تكون مجناً أمام أولئك الحمقى الذين يدعون أن حرية المرأة وتبرجها هو هو مفتاح الرقي ومنهاج السعادة إلى آخر ما يهزؤن به.
بصرنا الله بأسرار دينه وعصمنا من نزعات المفسدين وكيد المتفرنجين إنه سميع الدعاء جزيل العطاء.(26/13)
العلم
قلما يجد الإنسان صحيفة سياسية أو مجلة أدبية أو كتاباً لأديب أو مقالة لا ريب إلا ويرى أنه يدعو إلى العلم ويحض عليه ويحث على التعليم وينادي إليه ولقد تفنن الكتاب وحملة الأقلام في سبيل الدعوة إلى العلم تفنناً غريباً وتأنقوا تأنقاً عجيباً فمنهم من جعل سبيل الدعوة إليه ذم الجهل وبيان مضاره ومنهم من جعلها في بيان ثمرة العلم وما ينشأ عنه من الفوائد وماله من المزايا وما يترتب على تحصيله من النتائج ومنهم من أبدع في تصوير الجاهل لينفر عن جهله ويحذر الناس من عاقبة أمرة.
كم أنشئت جمعيات للدعوة إلى العلم؟ زكم أقيمت حفلات للحض عليه وكم ألف مؤلفات لإحيائه وليت شعري بعد ذلك التعب والنصب والألفاظ الفخمة والجمل الضخمة التي يسردها الكاتبون ليدلوا بها على اقتدارهم ومتانة بيانهم هل علمنا ما هو هذا الرمز الذي يشيرون إليه والأمر الذي يريدوننا عليه؟ كلا لعمر الحق لم نفقه من العلم إلا حروف_ع. م. ل_ولم نستفد من هذه الضجة القائمة سوى أننا رمينا بأولادنا إلى تلك المدارس المختلفة التي يسعى كل منها إلى غاية مخصوصة يجد في تحصيلها ويجتهد في سبيل الموصول إليها ليس مرادنا الآن الانتقاد على المدارس وبيان خطأها في سيرها وإن كل واحدة منها تدعي سلامة منهجها وجودة طريقتها وإنما مرادنا أن نبين أنا بعد كل ما تقدم أمتنا العلم وسرنا في طريق غير طريقه وهذا ما قضى علينا بأن نحرم من الرجال الأكفاء الصادقين الذين يحبون الفضيلة لذاتها ويكرهون الرذيلة لنفسها.
قسم العلماء رضي الله عنهم العلم إلى ثلاثة أقسام مأمور به، ومنهي عنه ومندوب إليه والأول إلى قسمين فرض عين وفرض كفاية.
ففرض العين هو ما لو علمه البعض لا يسقط الحرج عن الباقين وهو علم الحال ونعني به الأمر الذي يتقلب فيه المكلف ليلاً نهاراً من القوال والأعمال والاعتقادات فهل علمنا ما يجب علينا من هذا العلم وهل سرنا في طريقه واجتهدنا في تفهمه وتفهيمه؟
إن الله تعالى افترض الفرائض وأوجب الواجبات على كل بالغ عاقل من بني آدم ولم يميز في ذلك بين الحاكم والمحكوم والغني والفقير والتاجر والزارع والذكر والأنثى ففرض على الجميع معرفة ما يجب له سبحانه وما يستحيل وما يجوز ومثل ذلك للرسل عليهم الصلاة والسلام وفرض تصديق كل ما جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهل جميع أغنيائنا(26/14)
وأمرائنا وتجارنا وقرائنا أدوا ما عليهم من هذا الفرض وهل برأت ذمتهم من فرضية تعلمه؟ وما نظن أن أحد يرتاب في الجواب السلبي الذي ينشأ عنه ثبوت المعصية والإثم لا محالة.
إن معرفة ما يقع للإنسان في صلاته بقدر ما يؤدي به فرض الصلاة من الطهارة وأحكامها والمياه وسائر شروط الصلاة وأركانها فرض عين على كل مسلم ومسلمة ولا عذر في ذلك لأحد فهل قمنا بأداء هذا الواجب وهل كل من قام وقعد وفعل أفعال المصلين تصح صلاته ويكون مؤدياً فريضة ربه؟
كلا بل لا بد للعمل من العلم فمن من مصل ليس له من صلاته إلا التعب؟ وكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع؟ وكم من ملب يقول لبيك لبيك والملك لا يقول له لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك وما ذلك إلا لبطلان هذا العمل وعدم موافقته للشريعة الغراء. ألهي الأغنياء أموالهم والموظفين وظائفهم والمحترفين حرفهم والمنهمكين بالدنيا دنياهم عن تعلم ما جاء به شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل يصلون ويصومون بحسب العادة لا علم ولا تعليم ولا فهم لشيء من أسرار الدين.
كل منا يعامل الناي بالبيع والابتياع بل لا يمكن أن ينفك الإنسان عن أن يستأجر أو يستأجر أو يودع أو يودع عنده أو يعير أو يستعير أو يحيل أو يحال عليه أو يزوج أو يزوج أو يوكل أو يكل أو يقرض أو يستقرض أو يطلق أو يشارك أو يشهد أو غير ذلك وفي كل هذا يفترض عليه العلم للتحرز عن تناول الحرام في كل ما يأتي به ويعمله حتى لا يعقد عقداً فاسداً ولا يقدم على أمر غير مشروع افترى أن التاجر عرف البيع الفاسد والصحيح وعرف الربا وأنواعه التي لا يكاد يسلم منها أثناء بيعه وشرائه أم ترى أن الزارع عرف شروط المزارعة والمساقاة والمحيل عرف شريط الحوالة وأرباب الشركات أسسوا شركاتهم على منهاج سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ اللهم أكثر ذلك لم يكن إذا فما هذا العلم الذي يدعون إليه.
قد يقولون إنما ندعوكم إلى العلم الذي يرقي أوطانكم ويحسن صناعتكم ويعلي شأن تجارتكم ألا وهو العلم العصري المفيد كالجغرافيا والطبيعية والكيمياء والفلك وسائر الفنون المستحدثة التي فاق بها الغربيون وتقدموا بسببها أشواطاً عديدة فعلت كلمتهم وتقدمت(26/15)
تجارتهم وصال لهم المحل الأرفع في التقدم والارتقاء التام في كل علاء قلنا إن كان الذي تدعون إليه هو هذه الفنون الحديثة مجردة عما قدمناه من العلم الديني فلا خير في ذلك ولا نتيجة مفيدة له بل ذلك مضر بالوطن موجب له الخزي والفشل أي خير يتأمل من رجل أتى على هذه الفنون بتمامها ثم لا يبالي بفرائض الله تعالى ولا يقف عند حدوده التي حدها؟ أي فائدة ترجى ممن صلاته وزكاته وحجة وصيامه ويبعه وشراؤه وسائر أعماله على خلاف ما جاء به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع شرع هواه، ويقبل على ما تسوله إليه نفسه نحن لا نقول بحرمة تتعلم جميع العلوم العصرية ولا بمنع الناس من دراستها باعتبار ذاتها لأن العلم من حيث هو علم لا يذم منه إلا ما كان مخالفاً للدين مضاداً لساسه وهذه العلوم التي تدرس اليوم لولا ما انتابها واختلف عليها من أوهام أولئك الطبيعيين وضلالاتهم لقلنا بالتضلع منها لبعض الناس وبتعلم مبادئها للناشئة منهم.
كم أسست معاهد للعلم العصري في بلادنا؟ وكم شيدت مدارس لإحيائه؟ وكم أنفق من الأموال ابتغاء تقويته؟ فماذا نتج عن كل ذلك؟ وما هي الفائدة التي حصلت للوطن بعد تجشم هذه الصعاب وتحمل هذه المشاق.
إن تقويتنا للعلم لا يقصد منها إحياء العلم ولا رفع شأنه بل يقصد منها تقليد أوروبا ومن شأن الضعيف أن يستميت في تقليد القوي ليصل إلى ما وصل إليه. إن الدعوة إلى العلوم العصرية مضرة إذا لم تقترن بالدعوة إلى علوم الدين بل في رأينا أن أكثر هذه العلوم الجديدة فضلاً عن أن بعضها لا يخلو من مخالفة للدين ومبادئه مستغنى عنه غير محتاج إليه لعدم فائدة حقيقة منه للوطن بين ظهرانينا ألوف من الشبان بأيديهم شهادات عالية تؤذن بدراستهم هذه العلوم وتمكنهم منها لم نر منهم ما يفيد الوطن أو يرفع مقامه أو يغنيه بشيء قليل عن أوروبا ولو ضموا إلى علومهم دراسة الآداب الإسلامية، وتحققوا بالأخلاق المحمدية لظهر منهم خير كثير ولو ظلوا على سذاجتهم الأولى من الأخلاق والعادات لنمى ضررهم ولكانوا بالنسبة للوطن لا له ولا عليه إن علماء الإسلام لم يحرموا تعلم النافع من العلوم الحديثة بل قالوا بلزوم تعلم كل ما لا يستغنى عنه في قوام الدنيا وعدوا ترك ذلك من الذنوب والجناية على الدين لأن التساهل في ذلك أقل ما ينشأ عنه عدم إعدادنا القوة لأعدائنا فتنحط بذلك كلمتنا ويخفض شأننا وتذهب بلادنا ونحن في نص الكتاب المجيد(26/16)
مأمورون بإعداد القوة لهم ما استطعنا فتعلم ما يؤول بنا إلى إعداد القوة بل كل مال غنية لنا عنه في قوام أمر دنيانا فرض كفاية لا محالة وإليك ما قاله الإمام الغزالي تأييداً لهذا. قال: اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم والعلوم بالإضافة إلى الفرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية وأعني بالشرعية ما أستفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامة ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب ولا التجربة مثل الطب ولا السماع مثل اللغة فالعلوم التي ليست شرعية تنقسم إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم وإلى ما هو مباح فالمحمود ما ترتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة وأما فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان وكالحساب فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين فلا يتعجب من قولنا أن الطب والحساب من فروض الكفايات فإن أصول الصناعات أيضاً من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة بل والحجامة والخياطة فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك فإن الذي أنزل الداء نزل الدواء , ارشد إلى استعماله وأعد الأسباب لتعاطيه فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله الخ ما كتبه الإمام رحمه الله تعالى.
أبعدها يصح قول من يقول أن تعلم المفيد من العلوم العصرية ممنوع عند علماء المسلمين؟ فلم يبق في المسألة إلا أن الدعوة إلى العلم إذا أريد بها العلوم العصرية فقط لا تصح بل نكون فيها كمن يبحث عن حتفه بظلفه، ويجدع مارن أنفه بكفه فمن الواجب علينا العناية التامة بتعلم ما يجب علينا من العلم الديني لننتفع به في ديننا وتصحيح عباداتنا ومعاملاتنا وتعلم ما يفيدنا ويؤول بنا إلى إعداد القوة لعدونا والاشتغال بما يرفع شأن البلاد.
حببت إلينا الدنيا وزينت إلينا شهواتها وأصبحت هي الغاية والمقصود، والمبتغى والمأمول فأقبلنا على كل ما ظننا أنه يوصلنا إليها، وسارعنا إلى ما توهمنا أنه يقربنا منها، ورغبنا عن المقصود الأعظم والمطلوب الأول وهو متابعته صلى الله عليه وسلم والوقوف عند حدوده التي حدها، والسعي وراء ما يعود علينا بالمصلحة العامة.(26/17)
كل إنسان سواء في ذلك الرجل والمرأة يفترض عليه علم أحوال القلب وما يعتوره من الأخلاق حسنها وسيئها وذلك كالجود والبخل والجبن والجرأة والتكبر والتواضع والعفة والشح والإسراف والتقتير والسماحة والحرص والمحبة والبغض ونحوها فإن ذلك مما يجب على كل مسلم معرفته إذ الكبر والبخل والجبن والإسراف حرام بالاتفاق ولا يمكن التحرز عنها إلا بمعرفتها ومعرفة ما يضادها فهل علمنا بشيء من هذا؟ وهل أحكمنا الاتصاف بجميع ما تقدم من الصفات الحسنة؟ أفنحن بغنية عن الصدق والشكر والحلم والتوبة وحسن الأخلاق ومحبة الدين والتواضع والصبر وحفظ آداب الصحبة والتقوى والخوف والرجاء وغض الطرف والقناعة بالحلال من المال والقرض وإنظار المعسر والاهتمام بأمر المسلمين وصلة الأرحام وخدمة الأمة ونصيحتها ونصيحة حكامها وغير ذلك من محاسن الأخلاق؟ هل جاهد أميرنا وحقيرنا وغنينا وفقيرنا وكل واحد منا نفسه على الابتعاد عن مساوي الأخلاق؟ هل برئنا من الكبائر؟ هل تركنا الكلام فيما لا يعنينا؟ والله لو تركنا ذلك لما تشغل الكبير والصغير والعالم والسياسي والصانع والتاجر بالغيبة المحرمة وأكل لحوم البرياء من الناس هل انتهينا عن الفحش والسب وبذاءة اللسان؟ والله لو انتهينا عنه لما قام للجرائد السافلة قائمة ولما تمكن البذيء من هتك عرض المستور هل بعدنا عن التكلف في الكلام؟ والله لو بعدنا منه لما احتجنا إلى التصنع لدى كبرائنا والخضوع بين يدي حكامنا بالحق وغير الحق. هل تركنا عن خلف الوعد؟ والله لو تركناه لأنجزنا الوعود، ووفينا العهود هل اجتنبنا الكذب؟ والله لو اجتنبناه لما احتجنا إلى هذه القوانين وتلك المحاكم لما احتجنا إلى تأخير الدعاوي لما احتجنا إلى تكرر الجلسات لما احتجنا إلى إثبات الوكالات لعمت الراحة الحاكم والمحكوم هل تباعدنا عن حب المال والشهرة والميل إلى الرتب؟ والله لو تباعدنا عنه لما تفرقت الأمة فرقاً وأحزاباً لما قتلنا أنفسنا بأيدينا وأيدي أعدائنا لما ذهبت بلادنا لما ضاعت حقوقنا هل أعرضنا عن الحسد؟ والله لو أعرضنا عنه لما حصل العداء بيننا ولاتفقت كلمة علمائنا وأمرائنا وتجارنا وسوقتنا على ما فيه نفعنا. هل تجردنا عن الكبر؟ والله لو تجردنا عنه لخدمنا فقراءنا وعملنا على مساعدة ضعفائنا ورحم كبيرنا صغيرنا ودامت علين نعم ربنا. هل تنزهنا عن الزنا؟ والله لو تنزهنا عنه لقطع دابر هذه الكبيرة من بلادنا ولارتفع الذل عنا وحفظ أمر العفاف(26/18)
والشرف فينا. هل برئنا؟ هل برئنا؟ إلى آخر ما هناك من المعائب والرذائل التي لو تخلينا عنها لكنا أول الأمم وفي مقدمة العالم.
فما بالنا إذاً نعرض عن جميع هذا ولا نتعلم ما يجب علينا تعلمه منها، أفيصح شيء من العلم لمن يقرأ الجبر والهندسة ويدرس بعض اللغات الأجنبية عارياً عن محاسن الأخلاق ومقصراً في تعلم ما تصح به صلاته وصيامه وسائر أعماله؟ ايلام بعد هذا إن كانت في يده شهادة (بكالوريا) إن مالت نفسه إلى الزنا أو شرب المسكرات؟ أيلام إذا حببت إليه الوظيفة فوشى بفلان وكتب بشأن فلان؟ أيلام إذا طمحت نفسه إلى المال وجمعه فباع في سبيل الحصول عليه بلاده بل وطنه وأمته؟ أيلام إذا غدر؟ أيلام إذا فجر؟ الخ الخ نحن بأشد الحاجة إلى درس علم الأخلاق والاختبار فيه علمياً وعملياً حتى نأمن شرور نفوسنا ولا نقع في سيئات أعمالنا إلى علم الدين والأخلاق فليدعوا الداعون وإلى ما يهذب النفوس فينزع منها شهواتها فلينادي المنادون وإلى تعلم ما يدفع عنا الذل والإهانة وكيد الأعداء فليستصرخ المستصرخون وعسى أن تقع كلمتنا هذه موقع القبول، وتحل محل الإجابة ولله في عباده شؤون.(26/19)
التاريخ
ننشر في هذا الباب سيرة كبار الرجال في الإسلام وشيئاً من فضائلهم وأخلاقهم وأعمالهم وسياستهم لما في ذلك من تحريك بواعث الهمم للاقتداء بهم في جلائل الأعمال وكرائم الخصال وليكون زاجراً لأولئك الذين يتغاضون عن مآثر رجال المسلمين ويفتخرون بحفظ تاريخ فلاسفة الغربيين
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه
فتح بغداد
بعد أن غنم المثنى من الكفرة ما غنم وفتح تلك الأمكنة الحصينة استخلف بشير بن الخصاصية على الحيرة وسار يقصد بغداد فأغار أولاً على سوق الخنافس وكان بها تجار مدائن كسرة وغيرهم فاستولى على الجميع وأخذهم أخذة لم تكن بحسبانهم ثم توجه إلى بغداد تحت جنح الليل وصبح أهلها في أسواقهم فما شعروا إلا وسيوف المسلمين قد شربت من دمائهم ونالت من رقابهم وأمر المثنى أصحابه أن يحملوا من تلك السوق الذهب والفضة والجيد والنفيس من كل شيء ثم رجع بأصحابه حتى نزل بنهر السالحين بالأنبار ورأى أصحابه يخافون لحوق العدو بهم فخطبهم وقال: أحمد الله وسله العافية وتناجوا بالبر والتقوى ولا تتناجوا بالإثم والعدوان ولو أن القوم علموا بمكانكم لحال الرعب بينهم وبين طلبكم ولو أدركوكم لقاتلتهم ملتمساً للأجر وراجياً من الله النصر فثقوا بالله وأحسنوا الظن به فقد نصركم في مواطن كثيرة.
خطبة ألقاها هذا القائد على جنده وكانوا نفراً قليلاً من المؤمنين فثبتت قلوبهم وقوي بأسهم واشتد عزمهم ولم يبالوا بتلك الجيوش التي اجتمعت من الكفرة ولا فزعوا من قوتهم بل وقفوا بحزم وعزم متوكلين على من بيده مقاليد السماوات والأرض وهذه حالة قواد الإسلام في كل عصر يثبتون أمام العدو بكل حماسة ولا يفزعون من كثرة عدد أو قوة عدد ويزحفون للحرب بقلوب ثباتها باليقين واتحادها بالدين وعمادها التوكل على الله وحده وقانون انتظامهم قول الله جل وعلا (ن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص).
ولم يزل المثنى وأصحابه يشنون الغارة في كل ناحية على أهل تلك البلاد ويغنمون منهم(26/20)
في أكثر الأوقات حتى تحير أهل فارس مما فعل المسلمون بسواد العراق وخافوا من اضمحلال ملكهم وتلاشي أمرهم فطلبوا من ملكهم رستم أن يولي زمام الملك إلى يزدجرد كسرى فأجاب طلبهم. ودعي بابن كسرى فتوجوه وجعلوه ملكاً عليهم فانقادت له أهل فارس ونظم الجيوش وبعث بهم إلى كل ناحية وهيأ لقتال المسلمين وبلغ ذلك المثنى فكتب إلى عمر بن الخطاب يخبره بالأمر.
أخبار القادسية
فلما وصل كتاب المثنى إلى سيدنا عمر رضي الله عنه قال والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب ثم جمع وجوه الناس وأشرافهم وكتب إلى المثنى ومن معه يأمرهم بالخروج من بين العجم وأن يتفرقوا في المياه التي تليهم وينتظروا وصول المدد إليهم من المسلمين.
وخرج عمر بالناس إلى الحج وأرسل عماله على العرب أن يأمروا فرسان العرب وشجعانهم بالزحف على المشركين فبادرت العرب إلى إجابته ولحق بالمثنى من كان أقرب إلى العراق من المدينة وأما من كانت المدينة أقرب إليه من العراق أو على السواء قصدوا المدينة فوافوا عمر رضي الله عنه بها وقد عاد من الحج.
هكذا رجال الإسلام في كل زمن إذا دعاهم أمير المؤمنين إلى الجهاد في سبيل الله عز وجل وافوه من جميع جوانب الأرض وأتوا مسرعين بأموالهم وأنفسهم وظهروا بقوة معنوية دينية تأتي على الأعداء فلا تبقي ولا تذر وتمر بهم مرور السيل الجارف فإذا هم هالكون وكم مرة في التاريخ حصل هذا الانفجار الإسلامي فبدد جموع الكفرة وأذل فراعنة الجبابرة وأدهش فلاسفة العالم فاحتارت الحكماء من حكمته وماجت الأرض من سطوته تأييداً لشريعة لم تزال ثابتة الدعائم مرعية معظمة ظاهرة على جميع أديان الأرض حتى تقوم الساعة ولو كره المشركون ومهما قاسى المسلمون من الضعف والهوان فلا بد من حفظ مقامهم وانتظار أمورهم وانتشار نفوذهم ويا ويل الأعداء إذا ثارت هذه العاطفة حولهم وأحاطت بهم من كل جانب فصيرتهم سكارى وما هم بسكارى ولكن أمة إسلامية اشتد الضغط عليها فنهضت بصوت ملأ أنحاء الأرض وفضاء الجو تنادي لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
توليه سعد بن مالك إمارة جيش العراق(26/21)
لما جتمع الناس إلى سيدنا عمر رضي الله عنه خرج بهم من المدينة حتى نزل على ماء يقال له ضرار فعسكر به والناس لا يعلمون ماذا يريد فأحضر الناس وأعلمهم بالخبر وعزم على أن يسير بهم إلى الأعداء فشاور وجوه الصحابة رضي الله عنهم فأشاروا عليه أن يبعث رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فدعى بسعد بن مالك وجعله أميراً على حرب العراق وأوصاه بالصبر والرفق وقال له لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه فالناس في ذات الله سواء الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويذكرون ما عنده بالطاعة فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزمه فالزمه.
كلمات ألقاها أمير المؤمنين سينا عمر رضي الله عنه على ذلك القائد أعلمه فيها أن النصر والظفر لا يحصل للمؤمنين إلا بالمحافظة على آداب الشريعة الطاهرة التي لا يضل عنها إلا خاسر أو هالك.
ثم أوصى عمر رضي الله عنه من أرسلهم مع سعد بالسمع والطاعة ووعظهم وأمر سعداً بالمسير فخرج معه أربعة آلاف من المسلمين ثم أمده عمر رضي الله عنه بألفين من أهل اليمن وألفين من أهل نجد والمثنى لم يزل يومئذ مقيماً في أرض العراق وقد اجتمع عنده ثمانية آلاف ينتظرون وصول سعد ومن معه من أخوانهم المسلمين فمات المثنى قبل قدوم سعد من جراحة انتفضت عليه واستخلف على الناس بشير بن الخصاصية وسعد يومئذ بزرود وقد اجتمع مع ثمانية آلاف أيضاً ولحقهم بنو أسد في ثلاثة آلاف وكذا غيرهم من العرب بأمر سيدنا عمر ووصل سعد إلى شراف فأقام بها ودعى من كان بالعراق من عسكر المثنى فاجتمعوا إليه فكان جميع من شهد القادسية بضعة وثلاثين ألفاً.(26/22)
من أحب الموت في سبيل الله كان حقاً على الله أن
ينصره
رغب الدين الإسلامي في الجهاد لإعلاء كلمة الله بصورة خفقت لها قلوب الكافرين هلعاً وطارت نفوسهم منها خوفاً وجزعاً قال الله تعالى في كتابه العزيز (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسيهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) وقال صلى الله عليه وسلم الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها أخرجه البخاري في صحيحه وقال صلى الله عليه وسلم ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى رواه البخاري وروى البخاري أيضاً من حديث والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا قم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل.
فكان ذلك الترغيب من الله ورسوله في الجهاد هو الذي دفع الصحابة الكرام رضي الله عنهم إلى الاستماتة في سبيل نيل الشهادة فكانوا أرغب في الموت من الحياة يغبطون الذي يقتل في سبيل الله في صفوف الجهاد ويرونه فائزاً في الآخرة معتقدين حياته البرزخية التي هي أكمل من الحياة الدنيا حتى كان ضرار بن الأزور رضي الله عنه ينزل إلى ساحة القتال بقميصه غير مدرع رغبة في أن يقتل في سبيل الله وروى عن أبي ذر ما معناه إذا خرجتم إلى الجهاد ووجدتموني غير قادر على القتال فاحملوني واجعلوني بين الصفوف لأموت تحت سنابك الخيل فأكون قدمت في سبيل الله فتجد من خلال ما تقدم أنا قاعدة حب الموت والاستماتة في سبيل الدفاع عن دين الله هي التي كانت السبب في انتصارات المسلمين في القرن الأول حتى أدهشت جميع أمم الأرض. ولولا أن كتب التاريخ متفقة على ان المسلمين اكتسحوا في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما هذه البلاد العظيمة وقضوا على مملكتي فارس والروم في هذه البرهة اليسيرة لكانت هذه الحوادث لا يكاد يصدقها العقل ولا تنطبق عليها عادات الفاتحين. ذكرنا هذه القاعدة (حب الموت في سبيل الله) قائد الدارعة (حميدية) وما قام به من الأفعال التي سطرت له على صفحات الدهر(26/23)
شكر الأمة العثمانية عموماً والإسلامية خصوصا.
خرج هذا الشهم من الدردنيل بسائق الحمية مستميتاً في سبيل الدفاع عن دينه ووطنه فنصره الله نصراً مؤزراً قصد أثينا عاصمة اليونان فألقى عليها من قنابله وابلاً وعطل معمل الكهرباء فيها وبقيت البلدة في ظلام طول الليل ثم تجول في البحر الأبيض غير هياب ولا وجل مع ما يحيق به من الأخطار فصادف في طريقه الطرادين اليونانيين اللذين ذكرت خبرهما الجرائد فأغرق أحدهما وعطل الآخر فخافه الأسطول اليوناين وأطفأ أنواره ثم التجأ إلى ميناء مالطة فأصلح من أمره وتمكن بدهائه من الوصول إلى ما يحتاج إليه من الفحم وعلمنا من مآثره أن أرسى في ميناء غزة وجمع له الأهالي من الغنم والحبوب كمية وافرة فبين لهم عدم احتياجه إليها ثم غضاف إلى ما جمعوه أربعين مجيدياً من جيبه واقترح عليهم أن يجعلوا الجميع صدقة على فقراء غزة فداء عن المدرعة راجياً الله أن ينصره ويحفظه من كيد الأعداء عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم الصدقة تدفع البلاء.
وأعظم فائدة حصلت من شجاعة هذا القائد العظيم انقسام الأسطول اليوناني أقساماً قسم يحافظ على السواحل اليونانية وقسم يتعقب المدرعة وقسم يقوم الأعمال الحربية فضعفت بسبب ذلك قوته لأنه لولا وجود هذه المدرعة خارج الدردنيل لما احتاج إلى هذا الانقسام بل كان يقوم مجتمعاً بالأعمال الحربية ضد العثمانيين فحيا الله هذا القائد الكبير والفدائي العظيم وسدد سهمه وعصمه من أعدائه وأكثر في قوادنا من أمثاله فقد أحب الموت وباع نفسه في سبيل الله فنصره الله وحبذا اليوم الذي نحب فيه الموت في سبيل الله ونفضله على الحياة فذلك هو اليوم الذي نفوز فيه بنصر الله.(26/24)
إجابة طلب المؤيد
ارحم فؤاداً في مدحك ولها ... وارفق بروحي وافدها من ذلها
هل ثم غيرك موئلاً يرجى لها ... (يا مصطفى قبل العوالم كلها)
(والكون لم يبرز من التكوين)
أنت الذي لولاك ما خلقت سما ... يا من على كل العوالم قد سما
وعليك صلى ذو الجلال وسلما ... (ايروم مخلوق مديحك بعدما)
(أثنى الله عليك في التبيين)
(يا مصطفى قبل العوالم كلها) ... يا خير متبوع وخير معين
يا نقطة الأسرار أنت المجتبى ... (والكون لم يبرز من التكوين)
(أيروم مخلوق مديحك بعدما) ... نزلت بمدحك آية التبيين
ابن المدرسة
(يا مصطفى قبل العوالم كلها) ... أنت المراد بنقطة التعيين
أنت النبي المنتقى والمجتبى ... (والكون لم يبرز من التكوين)
(أيروم مخلوق مديحك بعدما) ... حزت العلا من عهدكن بيقين
من ذا الذي يوفي بمدحك بعد أن ... (أثنى عليك الله في التبيين)
عبد الحميد مراد
(يا مصطفى قبل العوالم كلها) ... من قبل خلقة آدم من طين
يا من حباه الله كل فضيلة ... (والكون لم يبرز من التكوين)
(أيروم مخلوق مديحك بعدما) ... قفت البرايا كلها بيقين
كيف الوصول إلى مديحك بعد أن ... (أثنى عليك الله في التبيين)
عبد الرزاق الغلاييني
قلبي بحبك يا محمد ولها ... وعن السوى قسماً بذاتك قد لهى
روحي الفداء لمن يقول أنا لها ... (يا مصطفى قبل العوالم كلها)
(والكون لم يبرز من التكوين)
أنت الذي لولاك ما كانت سما ... وعلى البرية كلها قدراً سما. .(26/25)
يا من على الرسل الكرام تقدما ... (أيروم مخلقو مديحك بعدما)
(أثنى عليك الله في التبيين)
دمشق
عبد المجيد قصاب
(يا مصطفى قبل العوالم كلها) ... أرجوك من بلواي أن تشفيني
فلقد عرفتك يا محمد ملجأ ... (والكون لم يبرز من التكوين)
(أيروم مخلوق مديحك بعدما) ... فقت العوالم كلها بيقين
حاشا وكلا أن يرام لأنه ... (أثنى عليك الله في التبيين)(26/26)
الإفراط والتقريظ
قرأت في الجزء الثاني من المجلد الثالث من مجلتكم الغراء مقالة تحت عنوان الطلبة والتعيش لصاحب الإمضاء الشيخ صلاح الدين أفندي الزعيم فحمدت غيرته وشكرت سعيه وعن لي أن أكتب في هذا الموضوع ما دار في خلدي وسنح ببالي وطالما كنت أترقب كتابة ترتاح إليها النفوس وتنشرح لها الصدور تشرح ما آل إليه أمر طلبة العلم الشريف من الذل والهوان وما يعاملون به من الخسف والضيم حتى أنهم أصبحوا كالقذى في أعين جهال هذه الأمة لاسيما في أعين شرذمة رعناء طبع الله على قلوبها وأصم آذانها عن اتباع الحق فخاضت غمار الجهل وجالت في ميادين التهور حتى ضلت وأضلت، تنصلت من الدين ومرقت من الأخلاق مروق السهم من الرمية تجردت من المدنية الحقة، تمادت في غيها، وفقدت الشعور والعلم والأخلاق نعم درست مبادئ الفنون فحفظت جملة خالية من الحقائق وألفاظاً عارية من المعاني اكتفت بالقشور عن اللباب وقامت تموه على أمتها بمقالات تنشرها على صفحات الجرائد تلك شرذمة طرأ على مسامعها ذكر أوروبا فلم تلبث حتى تعشقتها ولهجت باسمها ونهجت مناهجها القولية السافلة ودأبت على تقليدها بالبذخ والإسراف واقتفت أثرها باستباحة الأعراض ودناءة الأخلاق والتجاهر بما يغضب الخالق ويسيء المخلوق وتعمدت اقتراف الرذائل باسم الحرية والحرية الحقة بريئة مما تنسبه لها يفكرون بسياسة خرقاء لا جدوى بها ولا فائدة منها سوى الشقاق والنفار وإلقاء بذور التباغض والتدابر والتحزب والتفرق بما توحيه إليهم شياطينهم شياطين الفساد. جنوا على الملة والوطن جنايات لا تغتفر لأنهم لقنوا الناشئة محبة أوروبا ولقحوا أذهانها من أفكارهم الخبيثة فأصبحت بعد ذلك لا ترى أعظم وأجل من أوروبا وأخذت تنظر إلى الدولة والوطن نظر العدو لعدوه لا يهدأ لها بال ولا يقر لها قرار حتى تيمم بلاد أوروبا من صباهم فشبوا عليها وشابوا بهواها ولأجلها تبرؤا من أمتهم ومقتوا أوطانهم وبغضوا أهلهم حتى أن أحدهم يسب والده الذي ألقى نطفته في الشرق ولم يجعلها في الغرب. نظروا إلى علمائهم نظر الخصم الألد فجعلوا يصمونهم تارة بالحشوية وحيناً بالجامدين وطوراً بالخاملين وإلى غير ذلك فهم لم يعملوا بما تعمل به أوروبا ليعدوا من ابنائها ولم ينهجوا مناهج أبناء وطنهم لينتظموا في سلكهم فأمسوا مذبذين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
هم المفرطون بمساعيهم والمتغالون بمذاهبهم ومشاربهم فلو أنهم اتخذوا العدل مذهباً(26/27)
والإنصاف مركباً لسلموا إلى علماء دينهم وانخرطوا بسلك آبائهم وأجدادهم وأصبحوا متلفين متحالفين يستعينون ببعضهم على من سواهم كما كانت أسلافهم العاقلون المفكرون أهل الحزم والعزم والدراية.
وأنا لا أنحي باللوم عليهم وحدهم بل أوجه اللوم أيضاً على علماء ديننا الذين هم روح الشعب وحياة الأمة والقطب الذي تدور عليه أمور الخلافة الإسلامية والأس الذي ترتكز عليه قواعد الدولة العثمانية نظن لجهلنا أن وظائف العلماء الإسلاميين في هذا الكون جزئية والحق أنها لأعظم وأجل وأهم وأكبر من سائر الوظائف.
فهم المفرطون بطلب مالهم من الحقوق وأداء ما عليهم من الواجبات أما حقوقهم فهي تكفل الدولة لهم بتأمين مستقبلهم وتعيين رواتب لهم وللطلبة في مقابلة انقطاعهم لخدمة الملة والوطن أما من الأوقاف وإما من الخزينة ومساعدتهم على نشر العلم وبث المعارف وتشييد المدارس العلمية والمعاهد الدينية ووضع برنامج يتضمن التدريس بجميع الفنون من النحو والصرف والفقه والحديث والتفسير والمعاني والبيان البديع والمنطق والجغرافيا والحساب والتاريخ والهندسة والعلوم المدنية والفنية وغير ذلك وتتشكل لجنة مخصوصة من أرباب الفكر والاقتدار تعين كتباً مخصوصة تقرأ رسماً في جميع المدارس وتضرب مدة محدودة من السنين لدراسة الكتب التي تعينها وتخصص لكل سنة كتباً معينة وتجعل الامتحان في السنة مرتين وكل من يتمم المدة المحدودة ويؤدي الامتحان ويحوز الشهادة بأهليته يعين له راتب مخصوص ويرسل إلى بلده أو على بلد آخر يرشد أهله ويعلمهم مما علمه الله فإذا دخلت هذه الفنون في المدارس العلمية حاز طلابها الفضيلتين وامتزجوا باجتماعاتهم مع أبناء المكاتب بخلاف ما هم عليه الآن فإن بينهم تنافراً ووحشة لما بين علومهم من المباينة والمخالفة ولهم حقوق على الشعب منها النظر إليها بعين الاعتبار والتعظيم ومساعدتهم في حاجياتهم لأن ما من أمة حقرت علماء دينها إلا ابتليت بالمصائب وسلط الله عليها عدوها لينتقم منها وهذه حالتنا اليوم.
قال تعالى: (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) كفى العلماء شرفاً أنهم ورثة الأنبياء ولا يرضى بتحقير العلماء إلا كل أحمق جاهل سفيه طائش العقل.
وأما الواجبات التي يفرض على العلماء القيام بها فهي هدي الأمة وإرشادها إلى النهج(26/28)
القويم والصراط المستقيم وبث روح الدعوة الدينية في جسم ميتها لتتحرك النفوس الهامدة وتحيي الأرواح الخامدة كما كانت أسلافهم الكرام كان يقطعون مسافة الشهر والشهرين لسماع حديث واحد من أمور دينهم ودنياهم في سبيل نفع الأمة كانوا يستميتون في بذل النصائح ويتفانون في نفع العباد وعمران البلاد ولذلك كان الشعب في حوزتهم وقبضة يدهم يتودد إليهم ويتوسل لإرضائهم كانوا هم الحكام في الحقيقة وكانت الأمة لهم أطوع من ظلهم كانت طواياهم سليمة ونياتهم صافية يعملون بما يعلمون بسري وعظهم وإرشادهم في العقول والأفكار سريان الماء في العود والروح في الجسد والدليل على ذلك كثرة وجود المعاهد العلمية والمعابد الدينية الناطقة بفضلهم وإخلاصهم للوطن العزيز
هذه آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار
بم يهبهم الله الفضائل الجليلة والمزايا الشريفة لمجرد وضع العمامة على الرأس وارتداء الجبب الثمينة وتقبيل الأيدي والمجاورة في المساجد والمعاهد ليقال هؤلاء الذين يجب على الأمة تبجيلهم وتعظيمهم حاشا ثم حاشا إنما خلقهم الله ليعملوا بما علموا وليس العمل هو الصوم والصلاة ودراسة الكتب فذلك ممكن من كل فرد بل العمل اللازم اللازب الذي لا ينفك عنهم ويجب عليهم القيام به هو مبارحة الأوطان ومفارقة الخلان في سبيل الوعظ والإرشاد ونصح الأمة لم يجعل الله صدورهم قبوراً للعلم فلا يبعث منها حتى يبعث من في القبور، هم ورثة الأنبياء فالأنبياء كانت تدعو إلى الحق وتحث على التعاون والتعاضد والتناصر والتخلق بمكارم الأخلاق وجمع الكلمة وتأليف القلوب وتوحيد الآراء.
فالسلطان الأعظم في الحقيقة هو خليفة النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي يطلب منه القيام بهذه الأمور وحيث أن السلطان حالت بينه وبين القيام بتلك المذكورات مهام السياسة فقد ألقى مقاليدها إلى علماء الأمة وإلى هذا أشرت بقولي يجب على الحكومة مساعدة العلماء بنشر الدين لأنهم هم الواسطة بين الحكومة والشعب في استجلاب القلوب واستمالة النفوس وتقوية الرابطة واستدرار الخير بما يعود نفعه على الوطن أجمع.
كما سمعناه عن أسلافنا وقرأناه في التواريخ المسجلة التي هي أصدق شاهد مخبر.
وكما تفعله اليوم ملوك أوروبا من إرسالهم الوفود من علماء دينهم إلى بلادنا وفتحهم المدارس بأوطاننا نشاهد القسس والرهبان بأعيننا يجوبون الأقطار ويركبون البحار(26/29)
ويقتحمون الأخطار والمخاوف باسم المبشرين حتى أنهم ليتفانون في تجديد مدرسة أو تعليق ناقوس، فما بال علمائنا لا يجيبون داعي الله وينتشرون في الأرض ينقذون أبناء القرى والأمصار من داء الجهل القتال.
صدرت الأوامر بامتحان طلبة العلم الشريف فهرعوا إلى دراسة الفنون التي هجروها أيام فترة الامتحان وعينت لهم الحكومة مميزين من أبناء سلكهم فما زال أولئك المميزون عفا الله عنهم وسامحهم يدققون في الأسئلة ويضيقون عليهم كأنهم يريدون من الطالب أن يؤدي وظيفة العلماء.
وكان من الواجب يومئد أن يجتمع علماء كل ولاية في مجلس مخصوص تحت رئاسة النائب والمفتي يتذاكرون بشؤون هذا الأمر الخطير ويطلبون من الحكومة أولاً إمهال الطلبة سنة كاملة لدراسة كتب الامتحان وثانياً تعيين معاشات لهم يستعينون بها على الطلب والتحصيل وثالثاً إلغاء التفتيش والمراقبة من طرف ضباط الرديف ولو فعلوا لنجحوا وكان حسناً.
وخلاصة القول أنه يجب على علماء الإسلام أن ينهضوا من رقدتهم وينقذوا أبناء أمتهم ويجمعوا كلمتهم ويوحدوا آرائهم ويخرجوا الوهن من قلوبهم ويؤلفوا جمعية عمومية بإحدى الولايات يجعلون أعضاءها من سائر الممالك لها فروع وشعب في سائر أمصار الإسلام تدعو العالم الإسلامي بأجمعه إلى تعاون الدولة العثمانية بما عز وهان ومفاداتها بكل مرتخص وغال تفكر بالأسباب التي تفيض المال وتنور عقول الرجال بإحداث معامل وصنائع وشركات يعود نفعها على أبناء الوطن وأن يفتشوا المكاتب الرسمية والخصوصية ويسألوا عن معلميها فإذا سبر غورهم ووجدوهم غير متدينين بالدين وعاملين بأحكام الشريعة الغراء كما نسمع عن آحادهم أنهم لا يحضرون الدروس إلا بعد كرع الكؤوس واقتراف الكبائر من اللواط والزنا وغيرها فيحتجون على الحكومة ويطالبونها باسم الشعب بإزالة أولئك المعلمين الأشرار ويتذرعون بجميع الوسائل والأسباب لإزالة سوء التفاهم بينهم وبين العصريين حتى يكون الجميع ممن يؤلفون ويؤلفون وما ذلك على لا تأخذهم في الله لومة لائم بعزيز
أحمد الباشا(26/30)
العدد 27 - بتاريخ: 7 - 4 - 1913(/)
الدين الإسلامي والتوحيد
الإيمان بالملائكة الكرام
الإيمان بالملائكة عليهم السلام أصل من أصول العقائد الإسلامية وركن من أركانها فيجب على المكلف أن يصدق بوجودهم ويعتقد اعتقاداً جازماً لا يشوبه شك بأنهم عباد مكرمون خلقهم المهيمن جلت قدرته لطاعته وشغلهم بعبادته يسبحون الليل والنهار لا يفترون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون يخافون ربهم من فوقهم وهم من خشيته مشفقون لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة ولا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون عصمهم من الكدورات البشرية والرعونات النفسانية والشهوات البهيمية وأقدرهم على أشياء يعجز الإتيان بها البشر كقطع المسافة البعيدة في أسرع من لمح البصر وحمل الأشياء الثقيلة كالجبال والبلاد من غير أن يمسهم تعب أو يحل بهم اضطراب أو كسل فهم جنود الله تعالى لا يحصى عددهم غيره ولا مرية في أن الإيمان بهم يبعث الإنسان على الإذعان لقيوم السموات والأرض والاعتراف بقدرته الباهرة التي أقامت هذا الوجود على دعائم الحكمة وكمال الانتظام.
الملائكة عليهم السلام ذوات موجودة قائمة بأنفسها واختلف في حقيقتهم والمذهب الحق الذي عليه جمهور المسلمين أنهم أجسام لطيفة نورانية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة شأنهم الطاعة ومسكنهم السموات ومنهم من يسكن الأرض أخرج الترمذي وابن ماجة من حديث أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وعليه ملك ساجد. وفي الطبراني من حديث جابر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في السموات السبع موضع قدم أو شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد.
وقد أقامهم الله تعالى على وظائف مخصوصة منهم من شأنه الاستغراق في معرفة الله والتنزه عن الشغل بغيره ومنهم رسل بين الله وأنبيائه ورسله كجبريل عليه السلام ومنهم من هو موكل بقبض الأرواح كعزرائيل عليه السلام قال تعالى: (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) ومنهم حفظة على العباد قال تعالى: (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) ومنهم من يكتب أعمال العباد قال تعالى: (وإن عليكم لحافظين كراماً(27/1)
كاتبين) وقال تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) ومنهم موكلون بالجنة ونعيمها قال تعالى: (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب) ومنهم موكلون بالنار وعذابها قال تعالى: (عليها تسعة عشر) ومنهم حملة العرش قال تعالى: (الذين يحملون العرش) الآية ومنهم قائمون بمصالح العباد ومنافعهم وتصوير الأجنة في الأرحام كما وردت بذلك الأخبار ودلت عليه الآثار وكله دليل على عظيم قدرة الله عز وجل وسعة ملكه وأحاطة علمه فسبحان من خلق كل شيء فقدره تقديراً.
وإنما حجبت البشر عن رؤية الملائكة لأن النفوس البشرية لا تطيق النظر إليهم بأعيانهم وصفاتهم في صورهم الأصلية ولا تستطيع أخذ الكلام عنهم لاختلاف الجنس بل ربما صعقوا من هيبتهم وماتوا كما قال تعالى: (ولو نزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون) أي لماتوا وليس بعجيب عدم رؤية البشر لهم إذا كانوا على صورهم الأصلية لأنهم أجسام لطيفة ألا ترى إلى الهواء مع كونه جسماً مالئاً للفضاء فإنه لا يرى لكونه جسماً لطيفاً.
وأما رؤية الأنبياء لهم على صورتهم الأصلية فهي خصوصية خصوا بها لتلقي المسائل الدينية والأحكام الشرعية وفي مقدمة ابن خلدون جعل الله للأنبياء الانسلاخ من الحالة البشرية إلى الحالة الملكية في حالة الوحي فطرة فطرهم الله عليها وجبلة صورهم فيها ونزههم عن موانع البدن وعوائقه ما داموا ملابسين لها بما ركب من غرائزهم من العصمة والاستقامة فإذا انسلخوا عن بشريتهم وتلقوا في ذلك ما يتلقونه عاجوا على المدارك البشرية لحكمة التبليغ للعباد أه.
والدليل على تشكل الملائكة بأشكال مختلفة تمثل الملك لمريم بشراً سوياً ودخول بعضهم على بعض الأنبياء بصورة مجهولة وتمثل جبريل للرسول عليه السلام بصورة آدمي أخرج البخاري عن الحارث بن هشام أنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي فقال أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول، وتمثل الملك رجلاً ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلاً بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيساً لمن يخاطبه وتارة كان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي وأتاه مرة في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر حينما سأله عن الإسلام.(27/2)
الإيمان بكتب الله تعالى
الإيمان بكتب الله المنزلة من أركان العقيدة الإسلامية أيضاً فيجب على المكلف أن يعتقد بثبوتها وأن يجزم بأن الله تعالى أنزلها على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام وبين فيها أمره ونهيه ووعده ووعيده وهي كلام الله تعالى حقيقة بدت منه بلا كيفية قولاً وأنزلها وحياً إما مكتوبة في الألواح أو مسموعة من وراء حجاب أو من ملك مشاهد.
من تلك الكتب التوراة والإنجيل والزبور والقرآن أما التوراة فهو كتاب الله المنزل على موسى الكليم عليه السلام لبيان الأحكام الشرعية والعقائد الصحيحة المرضية والتبشير بظهور نبي من ذرية إسماعيل عليه السلام وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والإشارة إلى انه يأتي بشرع جديد ينسخ جميع الشرائع ويهدي به إلى سبيل الرشد وطريق السعادة والنجاة فيجب تعظيم التوراة التي أنزلت على موسى ولم تعبث بها أنامل التحريف والتبديل واحترامها والإيمان بها أما التوراة الموجودة الآن فليست هي عين المنزلة بل هي محرفة ومبدلة ومغيرة ومما يدل على ذلك أنه ليس فيها ذكر الجنة والنار وحال البعث والجزاء مع أن ذلك أهم ما يذكر في الكتب الإلهية وأيضاً مما يؤكد كونها محرفة ذكر وفاة سيدنا موسى عليه السلام في الباب الأخير منها والحال أنه هو الذي أنزلت عليه وعاش بعدها مدة.
أما الزبور فكتاب أيضاً من كتب الله أنزله على نبيه داود عليه السلام وهوعبارة عن أدعية وأذكار ومواعظ وحكم وليس فيه أحكام شرعية لأن داود عليه السلام كان مأموراً باتباع شريعة موسى عليه السلام فيتحتم الإيمان به وتعظيمه واحترامه إلا أننا لا ندري له نسخة صحيحة والدلائل قائمة على تحريف أهل الكتاب له بحسب المقاصد والأغراض ولذا توجد فيه إطلاقات غير لائقة في حق من تنزه عن الاتصاف بالجواهر والأعراض جل شأنه وعز سلطانه وتعالى عما يقول الكافرين علواً كبيراً.
وأما الإنجيل فهو كتاب الله أنزله الله على رسوله عيسى عليه السلام لبيان الحقائق ودعوة الخلق لتوحيد الخالق وتنزيهه عن الوالد والأولاد ونفي الشركاء عنه والأنداد ونسخ بعض أحكام التوراة الفرعية والتبشير بظهور خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم فيحب التصديق به وتعظيمه واحترامه أما الإنجيل الموجود الآن فليس هو الكتاب المنزل على عيسى عليه السلام بل هو كتاب ألف بعد رفعه إلى السماء وله عندهم أربع نسخ ألفها أربعة أشخاص(27/3)
بعضهم لم ير المسيح أصلاً وهم متى ومرقص ولوقا ويوحنا وإنجيل كل من هؤلاء مناقض للآخر في كثير من المطالب وقد كان للنصارى أناجيل كثيرة غير هذه الأربعة تخلصاً من كثرة التناقض وتخلصاُ من وفرة التضاد والتعارض وقد ثبت بالأدلة الواضحة حتى عند الكثير من أهل الكتاب أن التوراة والإنجيل كانت نسختهما الأصلية مفقودة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بإعصار وأما الموجودان في عصره وفي هذا العصر فهما عبارة عن كتابين جامعين لما صح وما لم يصح من الأخبار ومع ذلك فلم تزل أيدي التحريف تعبث فيهما حتى في هذا العصر كما هو مشاهد فلا يمر زمن إلا وتظهر نسخة تخالف ما قبلها في بعض المسائل تأييداً لبعض المذاهب مع ادعاء كل طائفة أن المحرف نسخة غيرها.
وأما القرآن العظيم فهو أشرف كتب الله المنزلة على أشرف رسله (محمد) صلى الله عليه وسلم وهو آخر الكتب السماوية نزولاً وأجمعها أحكاماً وأدلها برهاناً وأقواها محجة وتبياناً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولا يلحقه تغيير ولا تبديل ولا تحريف (إنا نحن أنزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ناسخ جميع الكتب قبله وحكمه باق إلى يوم القيامة مكتوب في السطور محفوظ في الصدور.(27/4)
سنن متروكة
إن ما يصنعه الناس في هذه العصور من رفع الصوت وراء الجنازة والجهر بالذكر وجوه أثناء المشي معها مغاير لما كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام والسلف الصالح رضي الله عنهم واعتقاد أن بعض أهل العلم من الشافعية جوز ذلك لا أصل له كما ستعرفه ومن الغريب المحزن أن يعد كثير من الناس ترك هذه العواء إزراء بالميت وأهله وهذا ما دعانا لأن ننقل شيئاً مما كان عليه صلى الله عليه وسلم من كيفية سيره مع الجنائز وطرفاً من كلام الأئمة رضي الله عنهم في ذلك مع تقديم بيان صلاة الجنازة التي يجهلها أكثر الناس وما يتبع ذلك من التعزية لأهل الميت لعل الله يهدي بذلك أخواننا المسلمين فيرجعون عن هذه البدعة ويقتفون أر الرسول عليه الصلاة والسلام.
الصلاة على الميت
الصلاة على الميت فرض كفاية وكذلك غسله وتكفينه ودفنه إجماعاً إذا قام به واحد سقط التكليف عن الباقين وكيفية الصلاة عليه أن يكبر المصلي أربع تكبيرات يقرأ بعد التكبيرة الأولى فاتحة الكتاب وبعد التكبيرة الثانية يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم والأفضل أن يأتي بالصلاة الإبراهيمية وهي اللهم صل علي سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم الخ وبعد التكبيرة الثالثة يدعو للميت بما يسمى دعاء والأحب أن يدعو بما ورد في السنة ومنه ما رواه أبو داود والترمذي والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على جنازة فقال اللهم اغفر لحينا وميتنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا وشاهدنا وغائبنا اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده، ولا يجب بعد الرابعة شيء بل يستحب عند الشافعية أن يقول اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده ثم يسلم تسليمتين كسائر الصلوات ثم يسير معها بلا رفع صوت ولا لغط ويستحب أن يكون مشتغلاً بذكر الله تعالى والتفكر فيما يلقاه الميت وما يكون مصيره وحاصل ما كان فيه وأن هذا آخر الدنيا ومصير أهلها وليحذر كل الحذر من الحديث بما لا فائدة فيه لأن هذا وقت فكر وذكر يقبح فيه الغفلة واللهو والاشتغال بالحديث الفارغ قال العلماء رضي اللهم عنهم الصواب المختار ما كان عليه السلف رضي الله عنهم من(27/5)
السكوت في حال السير مع الجنازة فلا يرفع صوت بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك والحكمة فيه أن هذه الحالة أسكن لخاطره وأجمع لفكره فيما يتعلق بالجنازة وهو المطلوب في هذا الحال ولا تغتر بكثرة من يخالفه قال صلى الله عليه وسلم إن الله يحب الصمت عند ثلاث تلاوة القرآن وعند الزحف وعند الجنازة وإليك بعض ما قاله الأئمة رضي الله عنهم في لزوم الصمت وراء الجنازة والاتعاظ والتدبر، قال في الدر المختار للسادة الحنفية وكره في الجنازة رفع الصوت بذكر أو قراءة أهـ قال محشية العلامة ابن عابدين رحمه الله قوله وكره الخ قيل تحريماً وقيل تنزيهاً كما في البحر عن الغاية وفيه عنها وينبغي لمن تبع الجنازة أن يطيل الصمت وفيه عن الظهيرية فإن أراد أن يذكر الله تعالى يذكره في نفسه وعن إبراهيم أنه كان يكره أن يقول الرجل وهو يمشي معها استغفروا له غفر اله لكم أه قلت وإذا كان هذا في الدعاء والذكر فما ظنك بالغناء الحادث في هذا الزمان أه كلام العلامة ابن عابدين وقال العلامة ابن الحاج المالكي في كتابه المدخل ما ملخصه وليحذر من هذه البدعة التي يفعلها أكثر الناس ثم العجب من أهل الميت كيف يأتون بالفقراء للذكر على الجنازة للتبرك بهم وهم عنه بمعزل لأنهم يبدلون لفظ الذكر بكونهم يجعلون موضع الهمزة ياء وبعضهم ينقطع نفسه عند آخر قوله لا إله ثم يجد أصحابه قد سبقوه بالإيجاب فيعيد النفي معهم في المرة الثانية وذلك ليس بذكر يؤدب فاعله ويزجر لقبح ما أتى به من التغيير للذكر الشرعي وإذا كان كذاك فأين البركة التي حصلت بحضورهم على أنهم لو أتوا بالذكر على وجهه لمنع فعله للحدث في الدين لأأنه لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين إلى أن قال وهذا ما شاكله ضد ما كانت عليه جنائز السلف رضي الله عنهم لأن جنائزهم كانت على التزام الأدب والسكون والخضوع والخشوع والتضرع حتى أن صاحب المصيبة لا يعرف من بينهم لكثرة حزن الجميع وما أخذهم من القلق والانزعاج بسبب الفكرة فيما هم إليه صائرون وعليه قادمون حتى لقد كان بعضهم يريد أن يلقى صاحبه لضرورات تقع عنده فيلقاه في الجنازة فلا يزيد على السلام الشرعي شيئاً لشغل كل منهما بما تقدم ذكره وبعضهم لا يقدر أن يأخذ الغذاء تلك الليلة لشدة ما أصابه من الجزع كما قال الحسن البصري رضي الله عنه ميت غد يشيع ميت اليوم وانظر رحمنا الله تعالى وإياك إلى قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لمن(27/6)
قال في الجنازة استغفروا لأخيكم فقال لا غفر الله لك فإذا كان هذا حالهم في تحفظهم في رفع الصوت بمثل هذا اللفظ فما بالك بما يفعلونه مما تقدم ذكره فأين الحال من الحال فإنا لله وإنا إليه راجعون فالسعيد في نبذ هذه العوائد المبتدعة وشد يده على اتباع السلف فهم القوم لا يشقى من اتبعهم ولا من أحبهم (إن المحب لمن يحب مطيع) أ. هـ كلام صاحب المدخل وكذلك الحكم عند السادة الحنابلة قال في الدليل وشرحه (ويكره القيام لها ورفع الصوت) والصيحة (معها ولو بالذكر والقرآن) بل يسن الذكر والقرآن سراً ويسن لمتبعها أن يكون متخشعاً متفكراً في مآله متعظاً بالموت وبما يصير إليه الميت وقول القائل مع الجنازة استغفروا له ونحوه بدعة عند أحمد وكرهه. وحرمه أبو حفص أ. هـ وكذلك الحكم عند السادة الشافعية وإليك ما نقل عن الرملي وغيره من أكابر السادة الشافعية في حواشي المنهج ونصها. المختار والصواب ما كان عليه السلف من السكوت في حال السير مع الجنازة فلا يرفع صوت بقراءة أو ولا ذكر ولا غيرهما بلب يشتغل بالتفكر في الموت وما بعده وفناء الدنيا وأن هذا آخرها ومن أراد الاشتغال بالقراءة والذكر فليكن سراً وما يفعله جهلة القراء من القراءة بالتمطيط وإخراج الكلام عن موضوعه فحرام يجب إنكاره والمنع منه ومن تمكن من منعه ولم يمنعه فسق أ. هـ وأما من قال بأن عدم الاتيان بما يفعله الناس اليوم يعد إزراء بالميت وأهله فلا وجه له بعد ما سمعت من النصوص وهل يجنح عاقل إلى ترك السنة ومخالفة الصحب الكرام نظراً لهذه العادة السيئة ومتى كانت تقدم البدع على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف وقد عد شيخ الإسلام العلائي في قواعده ترك السنة من الكبائر كما نقله عنه القدوة ابن حجر في الزواجر.
وتستحب التعزية وهي تصبير صاحب الميت بذكر ما يسليه ويحفف حزنه ويهون عليه مصيبته ورد عنه عليه الصلاة والسلام ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة ومدتها من موته إلى ثلاثة أيام وتكره بعد مضي ثلاثة أيام إلا إذا كان صاحب المصيبة غائباً واتفق رجوعه بعد الثلاثة وهي مستحبة قبل الدفن وبعده ولكن بعده أفضل لشغلهم قبله بتجهيزه ويستحب أن يعم بالتعزية جميع أهل الميت وأقاربه الكبار والصغار والرجال والنساء إلا أن تكون امرأة شابة فلا يعزيها إلا محارمها ويكره تنزيهاً الجلوس للتعزية بأن يجتمع أهل الميت في بيت ليقصدهم من أراد التعزية بل(27/7)
ينصرفوا في حوائجهم ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهية الجلوس للتعزية وكون الكراهة للتنزيه إذا لم يكن معها محدث آخر فإن انضم إلى ذلك أمر آخر من البدع المحرمة كان ذلك من قبائح المحرمات ولا حجر في لفظ التعزية ويستحب أن يقول المسلم في تعزية المسلم أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وفي الكافر بالمسلم أحسن الله عزاءك وغفر لميتك وفي الكافر بالكافر أخلف الله عليك ومما عزى به الإمام الشافعي رضي الله عنه بعض أحبابه وقد جزع على فقد ولده بقوله: يا أخي، عز نفسك بما تعزي به غيرك، واستقبح من فعلك ما تستقبحه من فعل غيرك، واعلم أن أضر المصائب فقد سرور وحرمان أجر، فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر، فتناول حظك يا أخي إذا قرب منك قبل أن تطلبه، وقد نأى عنك ألهمك الله عند المصائب صبراً، وأحرز لنا ولك بالصبر أجراً، وكتب رضي الله عنه:
إني لمعزيك لا أني على ثقة ... من الخلود ولكن سنة الدين
فما المعزى بباق بعد ميته ... ولا المعزي ولو عاشا إلى حين
هذا ونسأله تعالى أن يوفقنا لاتباع السنة السنية والانتصار للحق والحمد لله رب العالمين.(27/8)
لن يتلاشى الإسلام أبداً
إنا نحن نزلنا الذكر ونحن له لحافظون
أثبتنا في مقالتينا السابقتين أن التدين غريزة غرزها الله في الفطر البشرية مثل سائر غرائزها الأخرى فما دام الإنسان إنساناً يحس ويتفكر ويلهم ويتدبر ولم يهبط به القصور إلى مداحض الحيوانية ومزالق الحياة البهيمية فلا يزال يرى التدين لازماً من لوازمه وضرورة من ضروراته وبرهنا على أن رقية في مدارج العلوم العلية وتسنمه سنام المعقولات السامية وضربه في ميادين المدنية الزاهية فضلاً عن كونه لن يعدو على تلك الغريزة فيقتلع أصولها ويجتث جذورها سيزيدها على ممر الأيام رسوخاً ويهبها على طول الزمان قوة وتمكيناً واستشهدنا على أقوالنا هذه بأقوال من فطاحل الكتاب العصريين وبحجج من تحقيقات العلماء الحسيين مما لا يترك مجالاً لجائل ولا جدالاً لمجادل وأردفنا كل ذلك بقولنا (إن الإسلام هو النقطة التي تتطلع إليها أنظار الباحثين والغرض الذي تشرأب إليه أعناق العلماء العمرانيين) ولكن جاءت هذه الجملة في عبارات مجملة لا تقف بذوي الطماح دون أن تطلب التفصيل ولا ترد من جماح العقول على تلمس التعليم لهذا أحببنا أن نعود اليوم إلى بسط ما أجملناه ونشر ما طويناه لنكون قد وفينا المقام بعض حقه فنقول:
إنما ينتثر عقد القاعدة من القواعد وينتكث فتل القانون من القوانين لا لتطاول الزمن عليه ولا لبعد عهد الواضع له فكم من حقيقة فلسفية اثرت عن سقراط وبداهة شرعية نقلت عن سولون وقاعدة طبية رويت عن بقراط وفضيلة أخلاقية حملت عن كهنة المعابد المصرية القديمة وبعضها فضلاً عن عدم تأثير الزمن عليها بالزوال صار لها اليوم من الإعجاب والإقبال والاحترام والإجلال ما لا يتطرق إلى المحض فيها الشك بأنها ستبقى حية أبد الآبدين ومعمولاً بها لدى الناس أجمعين ذلك لأنها لائمت سنة الطبيعة ووافقت نظام الخليقة وتعالت عن مصادمة خصيصة من خصائص الإنسان وسمت عن أن تحتك في قانون من قوانين العمران وحقيقة هذا شأنها لجديرة بحكم الضرورة بالبقاء وبعيدة ولا شك عن الفناء (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) ولكن تنهدم القواعد وتتلاشى وتتقوض أبنية النظامات وتتداعى لمعاكستها لرقي البشرية في معارج المدنية ومصادمتها لارتقاء الإنسانية(27/9)
في مدارج الكمالات العقلية على أن من تلك النظامات ما كان مفيداً لمن وضعت في زمانهم وملائمة لمقتضيات عمرانهم لافتقار مناسباتهم الاجتماعية إليها ولكن لما كانت المناسبات الزمانية والمكانية لا تكاد يحصيها الإنسان لتغيرها كل آن وتحولها في كل خطوة يخطوها البشر فلا تصادف تلك النظامات أمة من الأمم لتنطبق عليها ولو وجدتها لا تلبث أن تعاكسها في شأن من شؤونها تحت تأثير ناموس الرقي فتلفظها لفظ النواة وتهجرها غير آسفة عليها.
هذا هو السبب الرئيسي لدوام التحول والتبدل في نظامات البشر وهذا أيضاً هو سبب تلاشي الأديان الباطلة التي أطلق قادتها لشياطينهم عنان الإفساد فأدخلوا إلى عقائدهم ما يتعالى الله عن تكليف الناس به لمصادمته للعلم ومعاكسته لبدائية العقل وعدم ملائمته لسنن الطبيعة فينساق أصحاب هذه العقائد في مبدأ الأمر للعمل بها طاعة لداعي ضمائرهم المتشعبة بيقينهم الوراثي ولكنهم لا يكادون يجرون شوطاً في خيالاتهم هذه حتى تصيح في أوجههم نواميس الطبيعة صيحة تردهم بها على أعقابهم مدبرين وتقرعهم بقوارع من الفتن المزعجة تجبرهم برغم أنفهم إلى درس أسباب تقهقرهم ومناشيء نكوصهم ليتخلصوا مما وقصوا فيه من المضانك الاجتماعية فيؤديهم درسهم إلى جراثيم تلك العلل فيميلون بما في مكنتهم إلى قتل مكاريبها وكشط أدرانها سواء كانت في نظاماتهم الاجتماعية أو في تعاليمهم الدينية.
ولا عجب فإن العقيدة إذا زاحمت الطبيعة سادت الثانية على الأولى وأجلتها ولو بعد حين. وقد أشار الله تعالى إلى ذلك (ولو إنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم) وما دامت الطبيعة والعقيدة من الله فلا يعقل أنه تعالى يكلف الإنسان بما يشق عليه ولا يستطيع أن يقوم به (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها).
قلنا هذا هو السبب الرئيسي في تلاشي الأديان واحتمال تلاشي أكثر ما بقي منها وقد أشار إلى هذا السبب العلامة بنجامين كوتستان في كتابه المسمى الدين وينبوعه واشكاله وترقيه فقال: إن كل قاعدة مهما كانت نافعة في الحال فلا بد أن تكون محتوية على جرثومة تعارض الرقي في الاستقبال لأن تلك القاعدة تأخذ بطول المكث شكلاً عديم الحراك يأبى على العقل اتباعه في مكتشفاته التي ترقيه كل يوم وتظهره إذا حصل ذلك ينفصل في(27/10)
الحال الإحساس الديني عن تلك القاعدة المتحجرة ويطلب سواها من القواعد التي لا تحرجه ولا تجرحه ولا يزال يضطرب حتى يصادفها ثم علل هذا المؤلف احتمال تلاشي الأديان بعدم احتوائها على سائر الحريات الضرورية للإنسان وارتأى أنه لو كانت تلك الحريات موجودة فيها لبقيت بقاء الإنسان ولكنه عاد فيئس من ذلك فقال وكلنا نخال أن ذلك يتحقق مطلقاً لاعتقادنا أنها لن تترك شيئاً من أسسها. وحيث أن هذه الأسس تناقض العلم وتعارضه فيكون من المقرر الثابت إمحاء الديانات وزوالها.
إذا تقرر لديك كل ما مر نطرح هذا السؤال وهو: هل في الإسلام قاعدة تعارض ناموس الترقي في سيره أو فيه أس يأخذ لطول الزمن شكلاً حجرياً عديم الحراك يأبى على العقل اتباعه في مكتشفاته أو يتغاضى عليه في سعيه وراء سعادته؟ قبل أن نجيب على هذا السؤال يجب علينا أن نلم بماهية الميادين التي تتسابق فيها محاولات إنسان وتتراكض في مناحيها جياد أمياله ومراميه فتقول: ليس أمام سائر مجهودات الإنسان غير ميدانين عظيمين وهما ميدان سعادته الروحية ومن قال بوجود ميدان ثالث حاكمناه إلى محاكم الطبيعة وألزمناه الحجة بنص قوانينها المحسوسة.
الإنسان مسوق بحكم الفطرة إلى تأييد مركزه في هذا الوجود الأرضي وتثبيت قدمه في هذا الوسط الطيني وله مما ركب في جثمانه من المطالب وما تقتضيه واجباته الحيوية المتجددة من الرغائب أكبر دافع له إلى الابتكار وأعظم سائق له إلى الاستثمار هرباً من فناء يتهدده وزوال لا يفتأ يتوعده وفي درس أقوال الشعوب في سائر أدوارها ما يغني القارئ عن كثير من الأمثال كما أنه بحكم تركيبه المعنوي إلى تلمس راحة روحه التي لا يقنعها معقول فتقف عنده لا يرضيها مقام فتلتزم حده.
لا يكاد الإنسان يأنس بملذة روحانية ويفرح بلطيفة نورانية حتى يجد من نفسه الرغب في الزيادة والتوق إلى دوام الاستفادة ولو عاندها الإنسان في مطالبها ووقف بها دون رغائبها قلبت له ظهر المجن وسقته من صاب المحن ما يجعل حياته المدنية أمر من العلقم وسعادته الجسمية أشد عليه من لدغ الأرقم. لأن السعادة الجسمية وحدها لا تغني عن الإنسان شيئاً ما دامت الحيرة تقيم فؤاده وتعقده والشكوك تميته كل يوم وتنشره ومهما غالط الإنسان إحساساته الداخلية فعالجها بالأشربة الروحية والمناظر الخيالية فهي لا تزال تريشه بسهام(27/11)
معنوية حتى يقضي عليها فيموت جباناً أو يلتفت إلى مطالبها فيعيش إنساناً! ونحن لو أجلنا نظرنا في مناحي هذين الميدانين الحسي والمعنوي لما تمكنا أن نحددهما بحد ولا أن نقف لهما على تخم مما يدلنا دلالة واضحة إلى ما سيناله الإنسان المستقبل من الرقي في هذين المضمارين لا يقارن بما لدينا إلا كما تقارن الشمس بالمصباح الضئيل. إذا تحققت هذه البداءة فقل لنا كيف لا تموت قاعدة تعقل العقل عن متابعة مجراه في سبيل الاكتشاف وكيف لا ينتقض قانون يصد الفكر عن رحلاته في هذه اللا نهاية البعيدة الأكناف؟ إذا كان الخالق سبحانه قضى (لا معقب لحكمه) أن يترقى الإنسان من الوسائل وسلط عليه من الفواعل ما يجعل وقوفه في مركزه مستحيلاً فأي دين يعطل من مسير هذا القضاء وأي زهادة ترد الإنسان عن تسنم هذا العلاء؟ إذا كان خالق الطبيعة ومدبرها هو نفسه واهب الدين فهل يعقل أنهما يتناقضان أو يتعارضنا فيتصاولان؟ كلا.
قلنا أن أمام الإنسان ميدانين كلاهما غير محدود بحد ولا محصور بتخم وأن الإنسان مدفوع إلى رفع كل عقبة تقف أمامه فيهما ومسوق إلى بلوغ نهاياتهما وأن الدين الصحيح هو الذي ينشطه في قطع مفاوزهما ولا يضع أمامه العواثير دون غاياتهما فهل الإسلام حاصل على هذه المزية حتى يجدر بنا أن نسميه روح المدنية وأنشودة الإنسانية وباقياً بقاء الحياة الدنيوية؟ اللهم نعم. أما من حيثية حالنا في المعقولات فإن الإسلام يرينا أننا لم نزل في دور الطفولية منها وأن كل ما حصلناه إلى الآن لا يساوي قطرة مما سيصل أخلافنا إليه قال تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) ويرينا بعد ذلك أن باب العلم مفتوح لكل طالب ميسور لكل راغب فهو ليس مقصوراً على طائفة دون أخرى بل فرضه الله على كل رجل وكل امرأة من الهيئة الاجتماعية سواء في ذلك ألو الشرف والثراء أو أولو الضعة والضراء فقال تعالى: (وقل رب زدني علماً) وقال سيد الوجود صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) وأرانا بعد ذلك كله بنص لا يحتمل التأويل أن العلم لا غاية له فقال له عليه الصلاة والسلام (من ظن أن للعمل غاية فقد بخصه حقه الحديث وليس بعد هذا تشويق إلى طلب المعارف الحقة من مطابها وأما من جهة حالنا في السعادة المادية فإن الله يصرح لنا في كلامه القديم بأنه قد خلقنا واستخلفنا في الأرض وأسبغ علينا نعماً ظاهرة وباطنة وجعلنا خلاصة إبداعه وسخر لنا ما في السموات وما في الأرض(27/12)
نكتشف معانيها ونستخدم قواها فقال تعالى: (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه) ولم يحرم علينا بد ذلك إلا كل إفراط وتفريط سواء فقي الحاجيات البدنية أو الروحية حتى أنه ليعاقب المؤذي نفسه بالعبادة كما يعاقب مؤذيها في سواها قال سيد الوجود صلى الله عليه وسلم (من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الذنب مثل جبال عرفة) (ذلك أن الله لا يحب المعتدين) حتى في الدين. فقل لنا بعيشك دين هذا شأنه من الإطلاق وعدم التقييد من أين يتطرق التلاشي إليه وبأي سبب يحكم بالزوال عليه؟ دين لم يمت فيك عاطفة من العواطف ولم يحجر على عقلك وفكرك سلطانهما بل جعلهما عماد بقائك وسبب عليائك ولم يحرم عليك من الملاذ البدنية إلا الأشياء المؤذية بإجماع العلوم الطبية فكيف لا تسميه دين المدنية الحقيقية وأنشودة الإنسانية؟ وإن تعجب من هبوط المسلمين عن سواهم مادياً ومعنوياً مع وجود هذا الدين بين ظهرانيهم فأنا أكثر منك عجباً من تكاسل متنوريهم عن إشهاره بكل الوسائل لأنه ليس بين المسلمين وبين الرقي لا على مقاوم العظمة الاجتماعية إلا فهم ما لديهم من هذا النور الذي أنزل من سماء الحكمة إليهم؟ فهل يأتي على المسلمين زمان يلتفتون فيه إلى دينهم حق الالتفات ويستمدون من روحه مثل ما استمد منه آباؤهم من قبل فيدهشون العالم بفخامة مدنيتهم وجلالة فضائلهم؟ نهم ولتعلمن نبأه بعد حين.
فريد وجدي(27/13)
كيف يصلح أمر العثمانيين
تفنن زعماء الإصلاح ومريدوه فيما يصلح شأن العثمانيين، ويرقى بهم إلى أوج العزة والسعادة. فمن قائل أن صلاحهم لا يكون إلا باقتفائهم أثر الأوروبيين، وتقليدهم إياهم في جميع أسباب تقدمهم، والعمل بأنظمتهم وقوانينهم ومجاراتهم بالعلوم الطبيعية والرياضية ومنافستهم بآلات الحرب والضرب ومضاهاتهم بالتجارة والزراعة والصناعة.
ومن قائل أن هذه الأمة لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، فهي لا يعوزها إلا التمسك بدينها والاهتداء بهديه، والزهد في الدنيا، والرغبة فيما عند الله سبحانه. فإذا قدر لها ذلك فقد استغنت عن النظام السياسي والإداري فلديها من سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وسيرة خلفائه الراشدين رضوان الله تعالى عليهم ما إن تمسكت به دانت لها رقاب الأمم وذلك لعزتها الجبابرة والأكاسرة، واستغنت عن المدرعات والطرادات فعندها من القوى المعنوية ما يعدل تلك القوى الحسية ويفوقها، واكتفت بجزء يقوم بأودها من التجارة والزراعة والصناعة كما اكتفى به سلفها فهي لا رغبة لها في الملاذ الجسمية والشهوات الحيوانية بل غرضها من هذه الحياة عبادة ربها سبحانه والشغف بحضرته.
ومن قائل لا يصلح العثمانيين ذا ولا ذاك وصلاحهم بأمر غيرهما مستدلاً يؤيد مدعاه ويدعمه في زعمه.
وقد حضرنا مناظرة دارت بين فاضلين من رجال الإصلاح أحدهما يرى الرأي الأول والآخر يرى الراي الثاني فأحببنا أن نثبت ما دار بينهما بتصرف ثم نبين رأينا في الإصلاح خدمة للأمة، وقياماً بواجبها الخطير فنقول:
قال الذي يرى الرأي الأول: لا أرى خلاصاً لدولة الخلافة مما حاق بها من البلايا واكتنفها من الرزايا بالجري على سنن الأوروبيين، واقتفاء أثرهم فطريقهم أسلك الطرق، ومنهجهم أعدل المناهج فهاهم قد بلغوا مستوى العز والمجد وصارت لهم السيادة والسلطة على كافة سكان البسيطة.
قال الذي يرى الرأي الثاني: وكيف يكون ذلك؟
قال الأول: يكون أولاً بتنظيم قوانين سياسية وإدارية طبق قوانينهم. وثانياً بإنشاء مدارس للعلوم الطبيعية والرياضية على نحو مدارسهم وثالثاً بإعداد معدات للحرب تشاكل معداتهم من مدرعات وطرادات، وحصون وقلاع ومدافع وبنادق وطيارات ونظارات وغير ذلك من(27/14)
آلات الحروب الحديثة رابعاً بالاعتناء بالتجارة في الوارد إلى البلاد والصادر منها. بحفظ الحقوق، وتعديل الجمارك، ومن السكك التجارية والكهربائية، وتنظيم الشوارع والأزقة وخامساً بالالتفات إلى الزراعة بإيجاد الأمن في البوادي وجر المياه إلى الأراضي القاحلة وتجفيف المستنقعات وتسهيل الطرق لجلب ما استحدث من آلات الزراعة من أوروبا بإعفائها من الرسوم وإدانة المعوز من الزراع ثمنها إلى أجل يمكنه من الاستفادة منها وسادساً بالاهتمام بالصنائع بوضع المرغبات المادية والمعنوية لمن يقوم بها وإعفاء آلاتها من الرسوم، والضرب على أيدي من يريد العبث بمتانتها، وحفظ حقوق أصحابها بهذا يرتفع شأن العثمانية، وتكون في مقدمة الدول العظمى ولا أحتاج لإيراد الدلائل والشواهد على صحة ما قلت بعد أن تحقق أن السبب الوحيد
في رقي أوروبا وتقدمها هو ما ذكر.
قال الذي يرى الرأي الثاني: قد أطلت على غير طائل وأكثرت من غير ما جدوى وما أراك إلا شغوفاً بأوروبا ومظاهرها الفتانة، معرضاً عن النظر في حقيقة أمرها وما هي عليه من الخبث والدناءة، ولو كشف لك عما تكنه صدورها وتخفيه سرائرها لما راقتك زخارفها، وأخذت منك مبتكراتها ومخترعاتها، ولما دعوت أمتك إلى تقليدها وأنت من رجالها المصلحين.
لو كان لي من الإفصاح والبيان ما أقدر به على سرد الفظائع التي جرتها أوروبا بمدنيتها الحديثة على الإنسانية لفعلت، وبالحري لو كنا في هذا الصدد لرأيتني على ضعف بياني أتكلف لإزالة الستر عن بعض تلك الفظائع المؤلمة بحيث تكون ظاهرة للعيان.
نحن الآن بصدد النظر فيما يصلح شأن أمتنا، ويرقى بها في معارج العز والفلاح، ولا أرى ذلك حاصلاً لها إلا بالاعتصام بحبل دينها المتين، والسير على صراطه المستقيم بامتثال أوامره واجتناب مناهيه، وترك التخاذل والتدابر ونبذ النزاع والشقاق وتوثيق عرى الاتحاد والائتلاف وتجديد أواصر التراحم والواد وبذل المهج والأموال لتكون كلمة الله العليا وكلمة الذين كفروا السفلى فإذا تم لنا ذلك فلسنا بحاجة إلى قوانين أوروبا التي لا تلائم طباعنا، ولا تتفق مع مصالحنا فلدينا القانون الإلهي وضعه أحكم الحاكمين وسنه أعدل العادلين بمصالح عبادة، ومن لا تخفى عليه خافية من أمرهم. ذلك الذي لا يعتريه تغيير ولا تبديل(27/15)
ولا يقبل الزيادة ولا النقصان ذلك القانون الذي يلائم المستقيم من الطباع ولا تمجه الأذواق السليمة ذلك القانون الذي يأمر بالعدل والإحسان وينهي عن الفحشاء والمنكر ذلك القانون الذي بني على المساواة الحقيقية بين أفراد معتنقيه لا يفرق بين عنصر وعنصر ولا يميز جنساً على آخر ذلك القانون الذي يحث على التعليم ويوجبه على كافة من التزم أحكامه ذلك القانون الذي ما تمسكت به أمة إلا وأصبحت عزيزة الجانب رفيعة المكانة.
ولسنا بحاجة إذا تم ذلك (الاعتصام بحبل ديننا المتين) إلى العلوم الطبيعية والرياضية التي ضل بها الأكثرون وكثر من جراء تعلمها الزنادقة والملحدون واقتصرت نتائجها على إطغاء بني البشر وسحقه بما أعدت لهم من المدمرات وسهلت لهم من الشهوات.
نعهم لسنا بحاجة إلى هذه العلوم المادية المحضة التي تسبب عنها إنكار الصانع جل وعلا، والتكذيب بكتبه ورسله وملائكته، وجحود البعث والحشر والنعيم والجحيم، وغير ذلك مما لا مجال لإنكاره ولا تتسع دائرة الوهم للتشكيل فيه بعد ما جاءت الأدلة القاطعة بإثباته، وشهدت العقول السليمة بصحته، ومضت الأجيال والقرون وعامة من يفقهه من البشر يذعنون له ويدينون به.
ولسنا بحاجة أيضاً إلى المدرعات والطرادات وغيرها من آلات الحروب الحديثة لما توفر لدينا من قوة الاتحاد والتضام، ولما غرز فينا من الشجاعة والبسالة التي فقنا بها جميع الأمم.
نهم لا أنكر أنه لو يكون لنا معدات مثل الأوروبيين نزداد قوة على قوة، وتعظم سطوتنا في نظر أعدائنا ولكنا نحتاج في تحصيلها إلى أن نسلك طريقاً غير طريقنا طريقاً مملوءاً بالمخاوف محفوفاً بالأخطار فأولى لنا أن نسلك طريق أسلافنا وننهج منهجهم فقد كانت هممهم مصروفة إلى إعداد المعدات المعنوية مقصورة على تنظيمها وكانت لهم بذلك الغلبة على أعدائهم في جميع ما يحاولون.
وبعد ذلك كله يكفينا جزء يسير من التجارة والزراعة والصناعة يقوم بأودنا، ونسد به خلتنا، لنقوى به على عبادة الله تعالى التي ما خلقنا إلا لها ونتبلغ به للحصول على مرضاته التي هي أعلى المقاصد، وأسمى المطالب فنتنعم بالنظر إلى وجهه الكريم، وجلاله المنزه في جنات تجري من تحتها الأنهار فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين.(27/16)
(لها بقية)(27/17)
الأسئلة والأجوبة
سؤال: أصحاب مجلة الحقائق الغراء. .
بينما كنت أسرح طرفي في صفحات الجزء الثالث من المجلد الثالث من مجلتكم الزاهرة إذ وجدت في بحث الخصائص حديث (البلاء موكل بالمنطق) وبينتم أن البخاري خرجه عن ابن مسعود رضي الله عنه وقد كنت وجدت في موضوعات الصاغاني أن هذا الحديث موضوع فأشكل الأمر علي فألتمس منكم كشف النقاب عن حقيقة هذا الحديث وكذلك وجدت في مقالة المولد النبوي الشريف حديث أن ابن عمر رضي الله عنهما عنه عليه الصلاة والسلام (إن الله اختار خلقه فاختار منهم بني آدم ثم اختار بني آدم فاختار منهم العرب. . الخ) فأشكل علي لفظ الحديث نظراً لتكرار قوله ثم اختار بني آدم في الظاهر فالأمل من غيرتكم أن ترفعوا النقاب وتوضحوا الصواب ولكم من الله جزيل الثواب
دمشق
(ص)
الجواب: كنا ذكرنا حديث (البلاء موكل بالمنطق) معزياً للبخاري نقلاً عن خصائص المنيني رحمه الله وكان الواجب أن لا نطلق لفظ البخاري بل نبين أن البخاري أخرجه في كتابه المسمى بالأدب كما نقل ذلك العلامة العزيزي في شرحه على الجامع الصغير وعد الصاغاني الحديث في موضوعاته غير مسلم فقد صحح السيوطي في اللالئ المصنوعة عدم وضعه وقال أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي الدرداء مرفوعاً وأخرجه العسكري في الأمثال والخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن مسعود بلفظ أن البلاء مولع بالكلام وأخرجه ابن لال في مكارم الأخلاق عن ابن عباس بلفظ ما من طامة إلا وفوقها طامة والبلال والبلاء موكل بالمنطق وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف بلفظ البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أكون كلباً الخ ما ذكره في اللالئ المصنوعة في كتاب الأدب والزهد وأما الحديث الثاني فإنه كما ظهر لكم في تكرار وإليكم بيان مجرداً عن التكرار نقلاً عن المواهب قال أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال عليه الصلاة والسلام إن الله اختار خلقه فاختار منهم بني آدم ثم اختار من بني آدم العرب ثم اختارني من العرب فلم أزل خياراً من خيار إلا من أحب العرب فبحبي أحبهم ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم أ. هـ ونحن نشكر لك أيها السائل تنبيهك لنا ونسأله(27/18)
تعالى أن يوفقنا وإياك لاتباع طريقة والحمد لله رب العالمين.(27/19)
كتاب طاهر بن الحسين
أما بعد فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له وخشيته ومراقبته عز وجل ومزايلة سخطه واحفظ رعيتك في الليل والنهار والزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك وما أنت صائر إليه وموقوف عليه ومسؤول عنه والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله عز وجل وينجيك يوم القيامة من عقابه وأليم عذابه.
فإن الله سبحانه قد أحسن إليك وأوجب الرأفة عليك بمن استرعاك أمرهم من عباده وألزمك العدل فيهم والقيام بحقه وحدوده عليهم والذب عنهم والدفع عن حريمهم ومنصبهم والحقن لدمائهم والأمن لسربهم وإدخال الراحة عليهم ومؤاخذك بما فرض عليك وموقفك عليه وسائلك عنه ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت ففرغ لذلك فهمك وعقلك وبصرك ولا يشغلك عنه شاغل وإنه رأس أمرك وملاك شأنك.
وأول ما يوفقك الله عليه وليكن أول ما تلزم به نفسك، وتنسب إليه فعلك، المواظبة على ما فرض الله عز وجل عليك من الصلوات الخمس والجماعة عليها بالناس قبلك وتوابعها على سننها من إسباغ الوضوء لها وافتتاح ذكر الله عز وجل فيها ورتل في قراءتك وتمكن من ركوعك وسجودك وتشهدك ولتصرف فيه رأيك ونيتك واحضض عليه جماعة من معك وتحت يدك وادأب عليهات فإنها كما قال الله عز وجل تنهى عن الفحشاء والمنكر.
ثم اتبع ذلك بالأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمثابرة على خلائقه واقتفاء أثر السلف الصالح من بعده.
وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله عز وجل وتقواه وبلزوم ما أنزل الله عز وجل في كتابه من أمره ونهيه وحلاله وحرامه وإتمام ما جاءت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قم فيه بالحق لله عز وجل ولا تميلن عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو لبعيد.
وآثر الفقه وأهله والدين وحملته وكتاب الله عز وجل والعاملين به فإن أفضل ما يتزين به المرء الفقه في الدين والطلب له والحث عليه والمعرفة بما يتقرب به إلى الله عز وجل فإنه الدليل على الخير كله والقائد إليه والآمر به والناهي عن المعاصي والموبقات كلها ومع توفيق الله عز وجل يزداد المرء معرفة وإجلالاً ودركاً للدرجات العلى في المعاد مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك والهيبة لسلطانك والأنسة بك والثقة بعد ذلك.(27/20)
وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها فليس شيء أبين نفعاً ولا أخص أمناً ولا أجمع فضلاً منه والقصد داعية إلى الرشد والرشد دليل على التوفيق والتوفيق قائد إلى السعادة وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد وكذا في دنياك كلها.
ولا تقصر في طلب الآخرة والأجر والأعمال الصالحة والسنن المعروفة ومعالم الرشد والإعانة والاستكثار من البر والسعي له إذا كان يطلب به وجه الله تعالى ومرضاته ومرافقه أولياء الله في دار كرامته. أما تعلم أن الصدق في شأن الدنيا يورث العز ويمحص من الذنوب وأنك لن تحوط نفسك من قائل ولا تنصلح أمورك بأفضل منه فآته واهتد به تتم أمورك وتزد مقدرتك ويصلح عامتك وخاصتك وأحسن ظنك بالله عز وجل تستقم لك رعيتك والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم به النعمة عليك.
ولا تتهمن أحداً من الناس فيما تواليه من عملك قبل أن تكشف أمره فإن إيقاع التهم بالبراء والظنون السيئة بهم آثم آثم. فاجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك واطرد عنك سوء الظن بهم وارفضه فيهم يعنك ذلك على استطاعتهم ورياضتهم ولا تتخذن عدو الله الشيطان في أمرك معمداً فإنه إنما يكتفي بالقليل من وهنك ويدخل عليك من الغم بسوء الظن بهم ما ينقص لذاذة عيشك واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة وتكتفي به ما أحببت كفاية من أمورك وتدعو به الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك والمباشرة لأمور الأولياء وحياطة الرعية والنظر في حوائجهم وحمل مؤناتهم أيسر عندك مما سوى ذلك فإنه أقوم للدين وأحيا للسنة.
واخلص نيتك في جميع هذا وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسؤول عما صنع ومجزي بما أحسن ومؤاخذ بما أساء فإن الله عز وجل جعل الدنيا الدنيا حرزاً وعزاً ورفع من اتبعه وعززه.
واسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقه الأهدى وأتم حدود الله تعالى في أصحاب لجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه ولا تعطل ذلك ولا تتهاون به ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة فإن في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك واعتزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة وجانب البدع والشبهات يسلم لك دينك وتتم لك مروءتك وإذا عاهدت عهداً(27/21)
فأوف به وإذا وعدت الخير فأنجزه واقبل الحسنة وادفع بها وأغمض عن عينك كل ذي عيب من رعيتك واشدد لسانك عن قول الكذب والزور وأبغض أهل النميمة فإن أول فساد أمورك في عاجلها وآجلها تقريب الكذوب والجرأة على الكذب لأن الكذب رأس المآثم والزور والنميمة خاتمتها لأن النميمة لا يسلم صاحبها وقائلها لا يسلم له صاحب ولا يستقم له أمر.
وأجب أهل الصلاح والصدق وأعن الأشراف بالحق وأعن الضعفاء وصل الرحم وابتغ بذلك رجه الله تعالى وإعزاز أمره والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة.
واجتنب سوء الأهواء والجور واصرف عنهما رأيك وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك وانعم بالعدل سياستهم وقم بالحق فيهم وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى.
واملك نفسك عند الغضب وآثر الحلم والوقار وإياك والحدة والطيش والغرور فيما أنت بسبيله.
وإياك أن تقول أنا مسلم أفعل ما أشاء فإن ذلك سريع إلى نقص الرأي وقلة اليقين لله عز وجل واخلص لله وحده النية فيه واليقين.
واعلم أن الملك سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى جهلة النعمة من أصحاب السلطان والمبسوط لهم في الدولة إذا كفروا نعم الله وإحسانه واستطالوا بما أعطاهم الله عز وجل من فضله.
ودع عنك شره نفسك ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدخر وتكنز البر والتقوى واستصلح الرعية وعمارة بلادهم والتفقد لأمورهم والحفظ لدمائهم والإغاثة لملهوفهم. واعلم أن الأموال إذا اكتنزت وادخرت في الخزائن لا تنمو وإذا كانت في صلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف الأذية عنهم نمت وزكت وصلحت به العامة وترتبت به الولاية وطاب به الزمان واعتقد فيه العز والمنفعة وليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله ووفر منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقوقهم وأوف من ذلك حصصهم وتعهد ما يصلح أمورهم ومعاشهم فإنك إذا فعلت قرت النعمة لك واستوجبت المزيد من الله تعالى وكنت بذلك على جباية أموال رعيتك وإخراجك أقدر وكان الجمع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسباباً لطاعتك.(27/22)
وطب نفساً بكل ما أردت واجهد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب وليعظم حقك فيه وإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل الله وفي سبيل حقه واعرف للشاكرين حقهم وأثبهم عليه وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحق عليك فإن التهاون يورث التفريط والتفريط يورث الهوار.
وليكن عملك لله عز وجل وفيه وارج الثواب فإن الله سبحانه قد أسبغ عليك فضله. واعتصم بالشكر وعليه فاعتمد يزدك الله خيراً وإحساناً فإن الله عز وجل يكتب بقدر الشاكرين وإحسان المحسنين ولا تحقرن ذنباً ولا تمالئن حاسداً ولا ترحمن فاجراً ولا تصلن كفوراً ولا تداهنن عدواً ولا تصدقن نماماً ولا تأمنن عدواً ولا توالين فاسقاً ولا تبغن غاوياً ولا تحمدن مرائياً ولا تحقرن إنساناً ولا تردن سائلاً فقيراً ولا تحسن باطلاً ولا تلاحظن مضحكاً ولا تخلفن وعداً ولا تذهبن فخراً ولا تظهرن غضباً ولا تباينن رجاء ولا تمشين مرحاً ولا تزكين سفيهاً ولا تفرطن في طلب الآخرة ولا ترفع للنمام عيناً ولا تغمض عن ظالم رهبة منه أو محاباة ولا تطلب ثواب الآخرة في الدنيا.
وأكثر مشاورة الفقهاء واستعمل نفسك بالحلم وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأي والحكمة ولا تدخلن في مشورتك أهل الرفه والبخل ولا تسمعن لهم قولاً ضررهم أكثر من نفعهم.
وليس شيء أسرع فساداً لما استقبلت فيه أمر رعيتك من الشح واعلم أنطك إذا كنت حريصاً كنت كثير الأخذ قليل العطية وإذا كنت كذلك لم يستقم أمرك إلا قليلاً فإن رعيتك إنما تعتقد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك الجور عليهم.
ووال من صفا لك من أوليائك بالاتصال إليهم وحسن العطية لهم واجتنب الشح واعلم أنه أول ما عصى به الإنسان ربه وأن العاصي بمنزلة الحري وهو قول الله عز وجل (ومن يوق شح نفسه فآولئك هم المفلحون) فسهل طريق الجود بالحق واجعل للمسلمين كلهم في بيتك حظاً ونصيباً وأيقن أن الجود أفضل أعمال العباد فأعده لنفسك خلقاً وارض به عملاً ومذهباً وتفقد الجند في دواوينهم ومكاتيبهم وادر عليهم أرزاقهم ووسع عليهم في معاشهم يذهب الله عز وجل بذلك فاقتهم فيقوى لك أمرهم وتزد قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصاً وانشراحاً.(27/23)
وحسب ذي السلطان أن السعادة أن يكون على جنده ورعيته رحمة من عدله وعطيته وإنصافه وعنايته وشفقت وبره وتوسعته فذلك مكروه أحد البابين باستشعار فضله الباب الآخر ولزوم العمل به تلق إن شاء الله تعالى به نجاحاً وصلاحاً وفلاحاً. واعلم أن القضاء من الله تعالى بالمكان الذي ليس لديه شيء من الأمور لأنه ميزان الله الذي يعدل عليه أحوال الناس في الأرض وبإقامة العدل والعمل في القضاء تصلح أحوال الرعية وتأمن السبل وينتصف المظلوم وتأخذ الناس حقوقهم وتحسن المعيشة ويؤدي حق الطاعة وترزق من الله العافية والسلام يقيم الدين وتجري السنن والشرائع في مجاريها.
واشتد في أمر الله عز وجل وتورع عن النطق وامض لإقامة الحدود وأقلل العجلة وأبعد عن الضجر والقلق وانع بالقسم وانتفع بتجربتك وانتبه في صحتك واسدد في منطقك وأنصف الخصم وقف عند الشبهة وابلغ في الحجة ولا ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا مجاملة ولا لومة لائم وتثبت وتأن وراقب وانظر وتفكر وتدبر واعتبر وتواضع لربك وارفق بجميع الرعية وسلط الحق على نفسك ولا تسرعن إلى سفك الدماء فإن الدماء من الله عز وجل بمكان عظيم انتهاكاً لها بغير حقها.
وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية وجعله الله للإسلام عزاً ورفعة ولأهله توسعة ومنعة ولعدوه كيتاً وغيظاً ولأهل الكفر من معاديهم ذلاً وصغاراً فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم ولا تدفعن شيئاً منه عن شريف لشرفه ولا عن غني لغناه ولا عن كاتب لك ولا لأحد من خاصتك ولا من حاشيتك ولا تأخذن منه فوق الاحتمال له ولا تكلف أمراً فيه شطط واحمل الناس كلهم على أمر الحق فإن ذلك أجمع لألفتهم والزم إرضاء العامة.
واعلم أنك جعلت بولايتك خازناً وحافظاً وراعياً وإنما سمى أهل عملك رعيتك لأنك راعيهم وقيمهم فخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ونفذه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم واستعمل عليهم أولي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعلم والعدل بالسياسة والعفاف ووسع عليه في الرزق فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلبت وأسند إليك فلا يشغلك عنه شاغل ولا يصرفك عنه صارف فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك وحسن الأحدوثة في عملك واستجررت به المحبة من رعيتك(27/24)
وأعنت على الصلاح فدرت الخيرات ببلدك وفشت العمارة بناحيتك وظهر الخصب في كورك وكثر خراجك وتوفرت أموالك وقويت بذلك على ارتباط جندك وإرضاء العامة بإفاضة العطاء لهم من نفسك وكنت محمود السياسة مرضي العدل في ذلك عند عدوك وكنت في أمورك كلها ذا عدل وآلة وقوة وعدة فتنافس فيها ولا تقدم عليها شيئاً تحمد عاقبة أمرك إن شاء الله تعالى.
واجعل في كل كورة من عملك أميناً يخبرك خبر عمالك ويكتب إليك بسيرهم وأعمالهم حتى كأنك مع كل عامل في عمله معايناً لأموره كلها وإذا أردت أن تأمرهم بأمر فانزظر عواقب ما أردت من ذلك فإن رأيت السلامة فيه والعافية ورجوت فيه حسن الدفاع والصنع فامضه وإلا فتوقف عنه وراجع أهل البصر والعلم به ثم خذ فيه عدته فإنه ربما نظر الرجل في أمره وقد أتاه على ما يهوى فأغواه ذلك وأعجبه فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه ونقض عليه أمره فاستعمل الحزم في كل ما أردت وباشره بعد عون الله عز وجل بالقوة وأكثر من استخارة ربك في جميع أمورك وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره وأكثر مباشرة بنفسك فإن لغد أموراً وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت.
واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه فإذا أخرت عمله اجتمع عليك عمل يومين فيشغلك ذلك حتى ترضى منه وإذا أمضيت لكل يوم علمه أرحت بدنك ونفسك وتستيقن أمر سلطانك وانظر أحرار الناس وذوي الفضل منهم ممن بلوت صفاء طويتهم وشهدت مودتهم لك ومظاهرتهم بالنصح والمحافظة على أمرك فاستخلصهم وأحسن إليهم وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة واحتمل مؤنتعم وأصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم مسافراًُ وافرد نفسك بالنظر في أمور الفقراء والمساكين ومن لا يقدر على رفع مظلمته إليك والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه فسل عنه أخفى مسألة وكل بأمثاله أهل الصلاح في رعيتك ومرهم برفع حوائجهم وخلالهم لتنظر في ما يصلح الله به أمرهم وتعاهد ذوي البأساء ويتاماهم وأراملهم واجعل لهم أرزاقاً من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزه الله تعالى في العطف عليهم والصلة لهم ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة. وأجر للأمراء من بيت المال وقدم حملة القرآن منهم والحافظين لا كثره في الجرائد على غيرهم وانصب لمرضى المسلمين دوراً تأويهم وقواماً يرتقون بهم وأطباء يعالجون أسقامهم(27/25)
وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤدي ذلك إلى سرف في بيت المال. واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وفضل أمانتهم لم تبرمهم وربما تبرم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه ويشغل ذكره وفكره منهما ما ينال به مؤونة ومشقة وليس من يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل كالذي يستقري ما يقربه إلى الله تعالى ويلتمس رحمته. وأكثر الأذن للناس عليك وأرهم وجهك وسكن حراسك واخفض لهم جناحك وأظهر لهم بشرك ولن لهم في المسألة والنطق واعطف عليهم بجودك وفضلك وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس والتماس للضيقة والأجر من غير تكدير ولا امتنان فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله تعالى.
واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ومن مضى من قبلك من أهل السلطان والرياسة في القرون الخالية والأمم البائدة ثم اعتصم في أحوالك كلها بالله سبحانه وتعالى والوقوف عند محبته والعمل بشريعته وسنته وبإقامة دينه وكتابه واجتنب ما فارق ذلك وخالفه ودعا إلى سخط الله عز وحل واعرف ما تجمع عمالك من أموال وما ينفقون منها ولا تجمع حراماً ولا تنفق إسرافاً وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها وإيثار مكارم الأخلاق ومقلتها وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيباً لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في ستر وإعلامك بما فيه من النقص فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك لك وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتا يدخل فيه بكتبه ومؤامرته وما عنده من حوائج عمالك وأمور الدولة ورعيتك ثم فرغ لما يورد عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك وكرر النظر فيه والتدبير له فما كان موافقاً للحق والحزم فأمضه واستخر الله عز وجل فيه وما كان مخالفاً لذلك فاصرفه إلى المسألة عنه والتثبت ولا تمتن على رعيتم ولا غيرهم بمعروف تؤتيه إليهم ولا تقبل من أحد إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور المسلمين ولا تضعن المعروف إلا على ذلك وتفهم كتابي إليك وأمعن النظر والعمل به واستعن بالله على جميع أمورك واستخره فإن الله عز وجل مع الصلاح وأهله وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان لله عز وجل رضا ولدينه نظاماً ولأهله عزاً وتمكيناً وللملة والذمة عدلاً وصلاحاً. وأنا أسأل الله عز وجل أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك والسلام.(27/26)
صلاح الأمم بالدين
مهما أطلنا التصور وأجهدنا الفكر لا نرى كالدين جامعاً للأمم على تفرقها كافلاً لسعادتها وارتقائها ذلك أن الدين يستدعي أن يعتقد المتدين أن له رباً حكيماً قادراً مطلعاً على هواجس ضميره وما يكنه صدره معاقباً له على ما يقترفه من المعاصي العقاب الشديد مثيبه على أعماله الصالحة الثواب الجزيل فلا يستبيح أن يعصيه في سره ولا في علانيته كما لا ينفك أن يطيعه في كل ما دعاه إليه ولو كلفه ذلك أن يجود بنفسه وماله. هذه مزية من مزايا التدين وخصيصة من خصائصه وهي السبب الوحيد لتقدم الأمم والعامل الأقوى على نهوضها إذا كان ما تتمسك به من العقائد والآداب صحيحاً ولو في الجملة.
لسنا نقول باستقامة غير الدين الإسلامي ولا بجواز التدين بذلك الغير فذا مما لا نحلم به ولا نجوز أن يحلم به مسلم ولكنا نريد أن نجهر بحقيقة واضحة وهي أن المتمسكين بالأديان التي تأمر بالفضيلة وتنهى عن الرذيلة ولو كان ذلك في الجملة خير من الذين جعلوا دينهم هواهم ومعبودهم شهواتهم.
مثال ذلك أن من يتولى وظائف الحكم من اللادينيين إذا أمكنته الفرص لا يبالي إذا ظلم أو خان أو ارتشى أو فعل ما تأباه المرؤة والأمانة لأنه لا يعتقد أن عليه رقيباً لا يغفل عند غفلة الرقباء ولا يوقن بأنه إذا أمن عذاب الدنيا فلا يأمن عقاب الآخرة ولا يردعه عن عمله القبيح العقاب الذي رتبه عليه قانون حكومته أو ميله لمراعاة حقوق الوطنية والإنسانية فللقوانين الموضوعة من قبل البشر منافذ عدة يخرج منها المجرم بريئاً والظالم عادلاً وللشهوة الإنسانية حكم نافذ وسلطان غالب على حب الوطنية والإنسانية ولا كذلك المتدين الصادق إذا نيطت به الوظائف فهو يعتقد أنه مدين بإيفائها حقها معاقب على التفريط لواجباتها في أخراه وإن سلم من العقاب على ذلك في دنياه وقس على الموظف التاجر والزارع والمحترف وغيرهم فاللاديني من هؤلاء يغش ويكذب ويأكل أموال الناس بالباطل ويشهد الزور ولا يدع شيئاً دعته شهوته إليه مما يفسد نظام الهيئة الاجتماعية إلا ارتكبه بعكس المتدين الصادق كما سبق.
هذه بعض مزايا الدين بالنظر إلى الأفراد وإذا أردت التحقق ببعض مزاياه بالنظر إلى رابطته التي تؤلف بين مئات الملايين من النفوس فتجعلهم كالنفس الواحدة وتمكنهم إذا أحسنوا التمسك بها من السلطة والسيادة على سكان البسيطة.(27/28)
جاء الإسلام والناس في جاهلية جهلاء وغواية عمياء متفرقين المذاهب مختلفين بالآراء فهداهم إلى الطريق الأقوم وسلك بهم المنهج الأعدل جمعهم بعد التفرق وضمهم بعد الشتات حتى تكونت لهم رابطة كسلسلة أحد طرفيها في المشرق والآخر في المغرب فأصبحوا وهم سادة أهل الأرض وفي قبضتهم وتحت حكمهم أكثر من نصفها وما بلغوا هذا المنصب ولا ارتقوا هذا المرتقى إلا بتمسكهم بدينهم وعلمهم بالانتفاع من رابطته ولولا أن خلفهم من سلك غير مسلكهم وتنهج خلاف منهجهم لرأيتهم اليوم وفي يدهم الكرة الأرضية كما ترى مثالها بيد الجغرافيين.
فالواجب على المسلمين وقد كاد أن يدركهم التلاشي ويحل بهم الاضمحلال أن يتمسكوا بدينهم حق التمسك ويرتبطوا برابطته تمام الارتباط فإذا فعلوا ذلك بقي للمستقلين منهم كالعثمانيين استقلالهم وكانوا العقبة الكؤود في امتداد نفوذ أوروبا وربما يأتي يوم يستردون فيه سلطتهم ويعود إليهم مجدهم ولا يعوزهم إلا نشر العلوم الدينية فيما بينهم وتسهيل الطرق لتعارفهم مع بعضهم فهم على كثرتهم وعدم خلو قطر أو مدينة من طائفة كبيرة منهم يقدرون على كل شيء ولا يذلون لشيء أخذ الله بأيدينا إلى ما فيه صلاحنا وفلاحنا ورد عنا كيد الأعداء ومكرهم بمنه وكرمه.(27/29)
مختارات أخلاقية
الكرم الحقيقي
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلاً فإني لست آكله وحدي
أخا طارقاً أو جار بيت فإنني ... أخاف مذمات الأحاديث من بعدي
وإني لعبد الضيف ما دام ثاوياً ... وما فيّ إلا تلك من شيمة العبد
الأخوة الحقة
إني وإن كان ابن عمي غائباً ... لمقاذف من خلفه وورائه
ومفيده نصري وإن كان آمرأ ... متزحزحاً غي أرضه وسمائه
ومتى أجئه في الشدائد مرملاً ... ألق الذي في مزودي لوعائه
وإذا تتبعت الجلائف مالنا ... خلطت صحيحتنا إلى جربائه
وإذا أتى من وجهة بطريفة ... لم أطلع مما وراء خبائه
وإذا اكتسى ثوباً جميلاً لم أقل ... ياليت أن علي حسن ردائه
المروءة
المال يغشى رجالاً لا طباخ بهم ... كالسيل يغشى أصول الدندن البالي
أصون عرضي بمالي لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال
أحتال للمال إن أودى فأجمعه ... ولست للعرض إن أودى بمحتال
الفقر يرزي بأقوام ذوي حسب ... ويقتدي بلئام الأصل أنذال
الصبر
ماذا يكلفك الروحات والدلجا ... البر طوراً وطوراً تركب اللججا
كم من فتى قصرت في الرزق خطوته ... الفتية بسهام الرزق قد فلجا
إن الأمور إذا انسدت مسالكها ... فالصبر يفتق منها كل ما أرتجا
لا تيأسن وإن طالت مطالبة ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
قدر لرجلك قبل الخطو موضعها ... فمن علا زلقا عن غرة زلجا(27/30)
ولا يغرنك صفو أنت شاربه ... فربما كان بالتكدير ممتزجا
لأبي فراس
غيري يغيره الفعال الجافي ... ويحول عن شتم الكرام الوافي
لا أرتضي وداً إذا هو لم يدم ... عند الجفاء وقلة الإنصاف
نفس الحريص وقل ما يأتي به ... عوضاً عن الإلحاد والإلحاف
إن الغني هو الغني بنفسه ... ولو أنه عاري المناكب حاف
ما كل ما فوق البسيطة كافياً ... فإذا قنعت فكل شيء كاف
ويعاف لي طبع الحريص أبوتي ... ومرؤتي وقناعتي وعفافي
ما كثرة الخيل الجياد بزائدي ... شرفاً ولا عدو السوام الضافي
ومكارمي عدد النجوم ومنزلي ... بيت الكرام ومنزل الأضياف
لا أقتني لصروف الدهر عدة ... حتى كأن صروفه أحلافي
خيلي وإن قلت كثير نفعها ... بين الصوارم والقنا الرعاف
شيم عرفا بهن مذ أنا يافع ... ولقد عرفت بمثلها أسلافي
لسوادة اليربوعي
ألا أنكر ميٌ عليّ تلومني ... نقول ألا أهلكت من أنت عائله
ذريني فإن البخل لا يخلد الفتى ... ولا يهلك المعروف من هو فاعله(27/31)
العدد 28 - بتاريخ: 7 - 5 - 1913(/)
أغلاط لسان العرب
قرأنا في الجزء الثامن من السنة الثانية لمجلة الآثار تحت هذا العنوان مقالة بإمضاء الكاتب المحقق المجيد أحمد بك تيمور بين فيها بعض ما عثر عليه من الأغلاط في كتاب لسان العرب الطائر الصيت المعروف عند أهل العلم الذي تم طبعه في مصر بمطبعة بولاق الأميرية سنة 1308 هجرية مما سها فيه مصححو الكتاب الأفاضل مع ما بذلوه من العناية وأفرغوه من الجهد في ضبطه وتصحيحه وقد قدم بين يدي المقالة مقدمة مدح فيها الكتاب وذكر أن أول من أقدم على طبعه رجل مقدام اسمه حسين أفندي الديك ولكنه لم يأت على بعض أجزائه حتى أتت على ثروته فتولت إتمامه الحكومة الخديوية بعد أن جمعت له مختلف النسخ والمواد ما رأته وافياً بإبرازه في أتم ما يكون من وجوه الصحة والضبط.
وأنه نشر عن هذه الأغلاط فصلاً في مجلة الضياء ثم اتبعه بآخر في المؤيد ثم رأى أن يعززهما بثالث في الآثار وخدمة للكتاب وحباً بالفائدة أحببنا أن ننقل هذه المقالة في مجلتنا (الحقائق) معلقين عليها بعض تعليقات قد لا تخلو من الفائدة. والله حسبنا وهو نعم المعين.
قال الكاتب: فمن ذلك ما وري في مادة (أج أصفحة 15 سطر 8) لأبي النجم:
قد حيرته جن سلمى واجا
وجاء بعده أراد اجا فخفف تخفيفاً قياسياً الخ) وروى (أجا) الثاني بالألف آخره مخففاً غير مهموز والصواب همزة على أصله لأن المراد أنه كان كذلك فخففه الشاعر بحذف همزته وإلا فأي معنى لتخفيف المخفف.
(وفي مادة ب ر أصفحة 24 سطر 15) عند الكلام على جمع بريء وبرئ وبراء مثل ما جاء من الجموع على فعال نحو تؤام ورباء في جمع توأم ورُبَّى ورسم (رباء) بالهمز في آخره أي في موضع اللام من فعال لا يكون هذا جمعاً لرُبَّى لأن لامها باء فالصواب أن يقال في جمعها رُباب بالباء في آخره وهو الذي ذكره المصنف وصاحب القاموس وغيرهما في مادة (ر ب ب) وقال سيبويه في كتابه باب تكسير ما عدة حروفه أربعة أحرف للجمع وقالوا ربى ورباب حذفوا الألف وبنوه على هذا البناء كما ألقوا الهاء في جفرة فقالوا جفار إلا أنهم قد ضموا أول ذاكما قالوا ظئر وظوار ورخل ورخال انتهى
(تتمة) هذا الجمع من الجموع العزيزة النادرة لأن فعالاً بضم الأول وتخفيف العين ليس من أبنية جموع التكسير المعروفة وإنما سمع في ألفاظ قليلة كثني وثناء وعرق وعراق وفرير(28/1)
وفرار ورذل ورذال ولهذا ذهب بعضهم إلى أنه اسم جمع وقال آخرون بل هو جمع ولكن الأصل فيه الكسر والضم بدل منه. وقد كنت تتبعت ما ورد منه فاجتمع لي اثنا عشر لفظاً ثم رأيت العلامة شهاب الدين الخفاجي زاد عليها كثيراً في شرحه لدرة الغواص فمن شاء الوقوف عليها وعلى اختلاف أقوالهم فيها فليراجع (صفحة 141 من الشرح المذكور المطبوع في الجوائب).
وفي مادة (ح س ب صفحة 306 س 20) والمحسبة الوسادة من الأدم وحسبه أجلسه على الحسبانة أو المحسبة وضبطت (المحسبة) في الموضعين بفتح الميم وكذلك جاءت مضبوطة بالقلم بالفتح في هذه المادة مت القاموس ولم ينص الشارح على ضبط فيها. ولكنها ضبطت بكسر الميم في مادة (زن ن_من اللسان صفحة 61 سطر24) وفي (ج4 صفحة74) من المخصص وهو الصواب على ما يظهر لي لأني رأيتهم نصوا على كسر الأول فيما جاء في معناها من وزنها كمرفقة ومصدغة ومخدة كأنهم عدوها من أسماء الآلات. حيث أننا لم نقف على نص صريح في هذه الكلمة ورأينا المصححين تراوحوا في ضبطها بين الكسر والفتح بغير دليل كان حملها على ما جاء من نوعها أولى.
(وفي هذه الصفحة س 22) هذا ما اشترى طلحة من فلان فتاة بخمسمائة درهم بالحسب والطيب) وضبط درهم بفتح أوله والصواب كسره ولم يحك أحد من اللغويين في الدال ضبطاً آخر وإنما نصوا على جواز الفتح والكسر على الهاء وعلى كونه أيضاً زنة محراب.
(وفي مادة د ب ب ص 358 س 21) وقال ابن الأعرابي الدبادب والجباجب الكثير الصياح والجلبة وأنشد:
إياك أن تستبدلي قرد القفا ... حزابية وهيباناً جباجبا
الف كان الغازلات منحنه ... من الصوف نكثاً أو لئيماً دبادبا
وكتب المصحح بالحاشية ما نصه: قوله والجباجب هكذا في الأصل والتهذيب بالجيمين وحرر. قلنا لم يظهر لنا وجه توقف المصحح في هذه الكلمة مع ورودها في مادة (ج ب ب) واستشهاد المصنف عليها بهذين البيتين منسوبين هناك لعبد الله بن حجاج التغلبي.
وفي مادة (ط ي ب ص51 س 17) قوله عز وجل طبتم فادخلوها خالدين معناه كنتم(28/2)
طيبين في الدنيا فادخلوها وجاء (كتتم) هكذا بتاءين وصوابه بنون فتاء وهو ظاهر.
(وفي مادة ع ت ب ص 56 س23) والتعتب التجني تعتب عليه وتجني عليه بمعنى واحد وروي (التعتب) بالجر والصواب رفعه على أنه مبتدأ خبره التجني.
(وفي مادة ك ل ب ص 220 س12) أرض كلبة أي غليظة قف لا يكون فيها شجر ولا كلأ ولا نكون جبلاً. وروي (نكون) بالنون أوله وصوابه بالمثناة الفوقية لأن الضمير فيه يعود إلى الأرض.
(وفي مادة ف ت ت ص 369) روي لزهير
كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب القنى لم يحطم
ولا معنى هنا للقنى بالقاف وإنما هو الفنا بالفاء وهو عنب الثعلب أو شجر ذو حب أحمر وبه روي البيت في مادة (ف ن ي ص 25) ولم يذكر شراح المعلقات غير هذه الرواية فيه.
(وفي مادة ح ي ث ص 545 س 11) حيث ظرف مبهم من الأمكنة الخ بتنوين (حيث) والصواب بناؤها لأن كلام المصنف عنها صريح أنه يريد المبنية لا ملعربة في لغة بني فقعس التي تكلم عليها بعد ذلك.
(وفي مادة ح ر ج ص 59) روي لعنترة يصف ظليماً وقلصه:
يتبعن قلة رأسه وكأنه ... حرج على نعش لهن مخيم
وروي (مخيم) بالرفع على أنه تعت لحرج والصواب جره على أنه نعت النعش وبه ضبط في مادة (ن ع ش ص 247) ومعناه المجعول عليه خيمة كما في شرح ابن النحاس على المعلقات. وللحرج معان أوفقها لما هنا أنه خشب يشد بعضه إلى بعض ويجعل فوق نعش الميت. ولا يخفى أن قوافي القصيدة كلها مجرورة فلا داعي لتوهم أقواء لم ينص عليه أحد.
(وفي مادة ع ر ج ص 145) روي لأبي المكعب الأسدي:
أفكان أول ما أثبت تهارشت ... أبناء عرج عليك عند وجار
وجاء بعده يعني أبناء الضباع وترك صرف عرج لأنه جعل اسماً للقبيلة أما ابن الأعرابي فقال لم يجر عرج وهو جمع لأنه أراد التوحيد والعرجة الخ وضبط (لم يجر) بفتح فضم(28/3)
مع تشديد الراء أي يجعله مضارعاً لجر والكلام هنا في منع الصرف فكان الصواب أن يضبط بضم فسكون مع تخفيف الراء من أجراه يجريه بمعنى صرفه وهو اصطلاح قديم لهم يعبر به سيبويه في الكتاب وصاحب القاموس في بعض المواضع والمعنى عليه ظاهر في سياق العبارة إذا لا خلاف في أن لفظ (عرج) في البيت مجرور للإضافة وإن كان جره بالفتحة. اللهم إلا إذا حملناه على تساهل بعض القدماء في التعبير عن ألقاب الأعراب فيكون المراد بالجر هنا الكسر غير أننا نرى ضبطه على ما ذكرناه أولى منعاً للالتباس.
(وفي مادة ع ن ج ص 154 س3) والعنج أن يجذب راكب البعير خطامه قبل رأسه حتى ربما لزم دفراه بقادمة الرحل وروي دفراه بالدال المهملة والصواب بالمعجمة وهي العظم الشاخص خلف أذن البعير والمراد حتى تحاذي أذن البعير قادمة الرحل من شدة الجذب.
(وفي مادة غ م ل ج ص 161) روي أبي نخيلة في وصف ناقة تعدو في خرق واسع
تغرقه طوراً بشد تدرجه ... وتاره يغرقها غملجه
هكذا بضبط (غملجه) بفتح الجيم وضم الهاء والصواب ضم الجيم لرفعه على الفاعلية ليغرق وإشكان هاء الوصل.
(وفي مادة ف ر ج صفحة 166) روي للبيد:
قعدت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها وأمامها
وروي (قعدت) بالقاف من القعود وهو شيء لم يروه أحد وإنما الصواب (فغدت) بالفاء والغين المعجمة من غدا يغدو أو بالمهملة من عدا يعدو وهما الروايتان المنصوص عليهما في شروح المعلقات وبالأولى ورد البيت في مادة (ول ي ص 291) إلا أنه روي بنصب خلفها وأمامها مع أن القصيدة مرفوعة الروي فالصواب رفعمها على أن الأول بدل من مولى والثاني معطوف عليه أو يكون مولى مرفوعاً بالابتداء وخلفها خبره والجملة خبران كما ذكر الإمام التبريزي في شرحه.
(لها بقية)(28/4)
رؤيا الشيخ أحمد خادم الحرم الشريف
اتفق العلماء رضي الله عنهم على أن الكذب من أعظم الذنوب وأقبح المعاصي وأن من أفظعه الكذب على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نقل الإمام العمدة ابن حجر الهيتمي عن الشيخ أبي محمد الجويني أن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم كفر وقال ما نصه:
(وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الكذب على الله ورسوله كفر يخرج عن الملة قال ولا ريب أن تعمد الكذب على الله ورسوله في تحليل حرام أو تحريم حلال كفر محض وإنما الكلام في الكذب عليهما فيما سوى ذلك وقال الجلال البلقيني جاء الوعيد في أحاديث كثيرة بأن من كذب عليه صلى الله عليه وسلم متعمداً فليتبوأ مقعده من النار وقال العلماء أنها بلغت حد التواتر وقال البزار رواه مرفوعاً نحو من أربعين صحابياً وقال ابن الصلاح أنه حديث بلغ حد التواتر رواه الجم الكثير من الصحابة قيل أنهم يبلغون ثمانون نفساً وجمع الحافظ طرقه في جزء ضخم إلى أن قال: وبلغ بهم الطبراني وابن مندة سبعة وثمانين منهم العشرة) أ. هـ كلام الإمام ابن حجر والحديث الذي أشار إليه نقلاً عن الجلال والبزار وابن الصلاح هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار أي: فليتخذ منزله منها: وأخرج مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أن كذباً عليَّ ليس ككذب على أحد فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. وأخرج أيضاً مسلم عنه صلى الله عليه وسلم من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين وعند ابن ماجة من حديث علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكذبوا علي فإن الكذب علي يولج في النار وعنده أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه من تقول عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده في النار وعنده من حديث أبي قتادة رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر إياكم وكثرة الحديث عني فمن قال علي فليقل حقاً أو صدقاً ومن تقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار هذا وإن من أعظم الكذب وأقبحه على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم النشرة المنسوبة إلى (الشيخ أحمد خادم الحرم الشريف) تلك النشرة التي لم نزل نراها في كل عام بأيدي بعض الجهلة الأغرار يهتم بعضهم بطبعها وبعضهم بنشرها بين الناس وبعضهم بوضعها على الجدران في الأسواق والمجتمعات العامة رغبة بما وعدهم به(28/5)
صاحب الرؤيا من الوعود التي لا تنطبق على الدين ولا يرضاها مسلم ولو أن هؤلاء العامة أصغوا لأوامر الدين الصحيحة واهتموا بها هذا الاهتمام لخرجوا من ظلمة الجهل إلى نور الهدى والعلم وقد اشتملت هذه النشرة على ثلاث مراء إليك نص الأولى منها مع ما مست الحاجة إلى رده من الأخريين مبيناً في أسفل الصحائف مواضع النقد في ذلك بالأدلة الناصعة قياماً بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحرصاً على عقائد العامة من أن تعبث بها أيدي الدجالين والمخرفين.
رؤيا الشيخ أحمد خادم الحرم الشريف التي رأى بها النبي
صلى الله عليه وسلم في المنام
روي عنه قال أنني كنت ليلة الجمعة في اليوم الثاني والعشرين من شهر صفر الخير سنة 1327 هجرية بينما كنت مضطجعاً على وضوء كامل وبعد قراءة القرآن الكريم تفكرت في أحوال هذه الدنيا الدنية وما احتوت عليه من المهالك الفظيعة المخالفة للشريعة إذ غفلت قليلاً فأتاني سيد البشر خير كل أنثى وذكر خاتم المرسلين وأفضل النبيين سيدنا (محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين) فقال لي يا أحمد أخبر أمتي فقد أخذتني عليهم الرأفة والشفقة وقد أودعت عندك هذه الوصية المباركة فاحفظها وبلغها تنل بها الثواب الجزيل عند ربك الجليل (وقد قال صلى الله عليه وسلم) من حفظ على أمتي حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة ووجهه كالبدر ليلة تمامه كيف لا وقد أوصاني بهذه الوصية مشافهة وهي من أهم شيء فقمت من النوم مستبشراً بهذه الرؤيا الحسنة لعلمي بقوله (صلى الله عليه وسلم) من رآني فقد رآني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل بي فحفظت ما ألقاه علي (صلى الله عليه وسلم) وهو هذا يا أحمد أفهم أمتي أنهم قد أكثروا المعاصي والذنوب فأخاف عليهم أن يموتوا على غير الإيمان وقد استحييت من الله عز وجل وهو يقول لي يا محمد لأبدلن وجوههم وأعذبهم عذاباً شديداً فقلت يا رب أمهمهم حتى أنذرهم وأبلغهم وأحذرهم من عذابك وعقابك (نعوذ بالله من عذابه وعقابه فإن لم يتوبوا فافعل ما شئت يا رب إنك على ما تشاء قدير يا أحمد إنهم قد سلب إيمانهم من كثرة الزنا وشرب الخمر وأكل الربا والرشوة ولعب القمار واتباع الشهوات وعدم وفاء الكيل والميزان والغيبة والنميمة ومنع الزكاة وشهادة الزور وبغض الفقراء والمساكين وترك الصلاة والتسبيح(28/6)
والعبادات وقد اشتغلوا بحب الدنيا وجمع الذهب والفضة وتبديل الآخرة بالدنيا يا أحمد إن تارك الصلاة ملعون لا تسلموا عليه وإن مات لا تزوروه ولا تمشوا بجنازته يا أحمد قيام الساعة قريب وهذا محقق لا ريب فيه ولا تكذيب فتغلق أبواب التوبة وتطلع الشمس من مغربها وقد تزايدت الناس في الطغيان والعصيان والكذب والزور والعدوان فأوصل وصيتي إليهم وبلغهم رسالتي قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون ومن أوصل وصيتي هذه من بلد إلى بلد كان رفيقي في الجنة وكنت له شفيعاً في المحشر ومن اطلع عليها ولم يخبر بها الناس كان وجهه مسوداً يوم القيامة وكنت له خصيماً في يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)
ما مست الحاجة إلي رده من بقية كلامه
(قال: ومن كذب ولم يصدق بها يعني الوصية فهو ملعون ثم ملعون ثم معلون وقال: من بعد ألف وثلاثمائة وأربعين سنة يخرجن النساء من بيوتهن إلى الأسواق من غير إذن أزواجهن) وقال وبعد ألف وثلاثمائة وخمسين ينزل من السماء مطر كبيض الدجاج. وقال: وبعد ألف وثلاثمائة وسبعين تغيب الشمس ثلاثة أيام. وقال: وبعد ألف وأربعمائة يظهر المسيح والدجال. وقال: فما كان والله والله والله وآيات الله وأمانة أنها مكتوبة بقلم القدرة. وقال: ومن كان عنده ثلاثة دراهم واستأجر بهم وكتب هذه الوصية وكان مذنباً وعليه فرض صيام غفرت ذنوبه ببركة هذه الوصية.(28/7)
التاريخ
ننشر في هذا الباب سيرة كبار الرجال في الإسلام وشيئاً من فضائلهم وأخلاقهم وأعمالهم وسياستهم لما في ذلك من تحريك بواعث الهمم للاقتداء بهم في جلائل الأعمال وكرائم الخصال وليكون زاجراً لأولئك الذين يتغاضون عن مآثر رجال المسلمين ويفتخرون بحفظ تاريخ فلاسفة الغربيين.
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه
مسير سعد بن مالك رضي الله عنه إلى القادسية
اجتمع بسيراف بضعة وثلاثون ألفاً من المؤمنين وقائدهم العام سعد ابن مالك فأمر الأمراء وجعل على كل عشرة عريفاًً وعلى الرايات رجالاً من أهل السابقة وولى الحروب رجالاً على ساقتها ومقدمتها وطلائعها ومجنباتها وكل ذلك بأمر سيدنا عمر ورأيه وعبى سعد جيشه تعبئة تشهد بالخبرة والانتظام وتستلفت أنظار دهاقين السياسة والقواد المنظمة في هذا العصر. وتعلم الناس أن المسلمين كانوا على غاية الاستعداد ونهاية الانتظام. وهو ما يتحتم على المسلمين القيام به والسعي وراء تحصيله إذا أرادوا الخلاص مما يتهددهم من المطامع الأوروبية والقيام بنهضة إسلامية تمزق تلك الوحوش الضارية وتعمم انتشار العجل على وجه البسيطة مرة أخرى. فيتسابق الناس إلى الدخول في دين الله أفواجاً كما جرى من قبل ويخلص بنو الإنسان من همجية أمم تزعم أنها متمدنة راقية همجية لو دامت لقضت على العالم البشري بالهلاك والتلاشي ومهما يكن من المؤمنين من ضعف وفي أعدائهم من قوة فلا بد أن يرجع الإسلام إلى عزه ويحفظ كيان أمته بحول الله تعالى وقوته.
ثم أن سعداً بعد أن عبى جيشه بعث في المقدمة زهرة بن عبد الله التميمي فانتهى إلى العذيب وجعل على الميمنة عبد الله بن المعتمر وعلى الميسرة شرحبيل بن السمط وخالد بن عرفطة خليفة له وسواد بن مالك التميمي على الطلائع وسلمان بن ربيعة الباهلي على المجردة ثم سار سعد على التعبية وكان الفرس قد بعثوا قابوس بن قابوس بن المنذر إلى القادسية يستنفر العرب فسار إليه المهنى بن حارثة الشيباني بجيشه وذلك بعد وفاة أخيه المثنى فبيته واستولى على قابوس ومن معه ثم رجع المهنى إلى ذي قار وجاء إلى سعد بالخبر فوافاه بسياف فأعلمه بوصية أخيه المثنى إليه أن لا يدخلوا بلاد فارس بل يقابلونهم(28/8)
على حدود أرضهم وقدم على سعد كتاب من سيدنا عمر بمثل رأي المثنى.
فأقام سعد بالقادسية شهراً يشن الغارات على تلك البلاد فأرسل يزدجرد ملك الفرس إلى رستم وأمره أن يسير إلى قتال المسلمين فخرج رستم بجيشه وكتب سعد بذلك إلى سيدنا عمر فكتب عمر إليه لا يكربنك ما يأتيك عنهم واستعن بالله وتوكل عليه وابعث رجالاً من أهل الرأي والمناظرة يدعونه فإن الله جاعل ذلك وهناً لهم فأرسل سعد إليه نفراً من المؤمنين فتركوا رستم وقدموا على يزدجرد فاجتمعوا عنده والناس ينظرون إليهم وإلى خيولهم فقال يزدجرد لترجمانه سلهم ما جاء بكم وما دعاكم إلى غزونا والولع ببلادنا أمن أجل أنا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا. فقال النعمان بن مقرن لأصحابه إن شئتم تكلمت عنكم ومن شاء آثرته. فقالوا بل تكلم فالتف إلى يزدجرد وقال له إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يأمرنا بالخير وينهانا عن الشر ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة فأجابه منا قوم وتباعد قوم ثم أمرنا أن نجاهد من خالفه من العرب فدخلوا معه حتى اجتمعنا وعرفنا جميعاً فضل ما جاء به ثم أمرنا بجهاد من يلينا من الأمم ودعائهم إلى الإنصاف والإسلام فإن أبيتم فادفعوا لنا الجزية فإن أبيتم فالمناجزة فقال يزدجر لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى وأقل عدداً وأسوء ذات بين منكم وقد كان أهل الضواحي يكفوننا أمركم فلا تطمعوا أن تقوموا للفرس وإن كان بكم جهد أعطيناكم قوتاً وكسوناكم وجعلنا عليكم ملكاً يرفق بكم فقام ابن زرارة فقال أيها الملك أما ما ذكرت من سوء الحال فقد كانت على ما وصفت وأشد ثم ذكر ما كان عليه العرب من سوء العيش حتى رحمهم الله بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم ففازوا باتباعه وسعدوا به. وأما أنت أيها الملك فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر أو اسلم لتنجو من ذلك وإلا فالسيف بأيدينا فغضب يزدجرد من كلامه وقال ارجعوا إلى صاحبكم وأخبروه إني مرسل إليه رستم حتى يدفنه ويدفنكم معه في خندق القادسية فلم يعبئوا لكلامه ورجعوا إلى سعد فقال يزدجرد لرستم ما كنت أرى أن في العرب مثل هؤلاء.
وخرج رستم من عند الملك كئيباً حزيناً وبعث بجلاً في أثرهم ليرجعوا إليه وقال إن أدركتهم تلافينا أرضنا وإلا فقد سلبكم الله أرضكم فسار ذلك الرجل في أثرهم حتى وصل إلى الحيرة فلم يدركهم ورجع إلى رستم فقال له لقد ذهب القوم بأرضكم.(28/9)
وبعد مسيرالوفد على يزدجرد كما تقدم أغار سواد بن مالك التميمي على تلك الناحية فاستاق ثلاثمائة دابة وحمل عليها السمك فصبح بها العسكر فقسم سعد بينهم وسموا ذلك اليوم يوم الحيتان وواصلوا السرايا والبعوث وسار رستم إلى ساباط في ستين ألفاً وأرسل أمامه الجالينوس في أربعين ألفاً أخرى وجعله مقدمة له وساقته عشرون ألفاً وجعل في ميمنة الجيش الهرمزان وفي الميسرة مهران بن بهران وحمل ثلاثة وثلاثون ألفاً. ولما فصل رسام عن ساباط كتب إى أخيه البنذوان أما بعد فأصلحوا حصونكم وأعدوا ما استطعتم فكأنك بالعرب قد قارعوكم عن أرضكم وأبنائكم وقد كان من رأي مدافعتهم ومطاولتهم لأني لا أراهم إلا سيظهرون علينا ويستولون على ما بأيدينا.
ثم سار رستم حتى نزل كوثى فأتى برجل من العرب فقال له رستم ما جاء بكم وما تطلبون فقال نطلب وعد الله بأرضكم وأبنائكم إن لم يسلموا قال رستم فإن قتلتم دون ذلك قال من قتل دخل الجنة ومن بقي أنجزه الله وعده قال رستم فنحن إذاً وضعنا في أيديكم فقال أعمالكم وضعتكم واسلمكم الله بها فلا يغرنك من ترى حولك فلست تحاول الناس إنما تحاول القضاء والقدر فغضب رستم وأمر به فضربت عنقه.
إن قول هذا العربي لرستم (أعمالكم وضعتكم وأسلمكم الله بها الخ) جدير بأن يعتبر به المؤمنون في هذا العصر حيث فشت بينهم المنكرات وعمت الموبقات وشرب الخمر وظهر الربا وانتشرت أنواع المحرمات انتشاراً أودى بالمؤمنين إلى هذه الرزايا والبلايا وألقى بهم في هذه الأخطار التي أحاطت بهم كإحاطة السوار بالمعصم قال تعالى: (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصابتكم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم).
ثم بعد أن قتل رستم ذلك الرجل العربي سار فنزل البرس وفشا في عسكره المنكر وغصبوا الرعايا أموالهم وأبناءهم حتى نادى رستم منهم بالويل وقال صدق والله العربي.
ثم سار رستم حتى نزل الحيرة ودعا أهلها فغررهم وهم بهم فقال له ابن بقيلة إذا كنت عاجزاً عن نصرتنا فلا تجمع علينا وتلومنا على الدفع عن أنفسنا.
وأرسل سعد رضي الله عنه السرايا إلى السواد وسمع بهم رستم فبعث الفرس لاعتراضهم وبلغ ذلك سعداً فأمد السرايا بعاصم بن عمر فجاءهم وخيل فارس قد أحاطت بهم فلما رأى الفرس عاصماً هربوا منهزمين. وجاء عاصم بالغنائم ثم أرسل سعد رضي الله عنه عمرو(28/10)
بن معديكرب وطليحة الأسدي طليعة فلما ساروا أكثر من فرسخ رأوا عاصماً قد وافى بالغنائم فرجع عمرو ومضى طليحة حتى وصل عسكر رستم فبيتهم ليلاً واقتاد بعض الخيل وخرج يعدو به فرسه فركب الفرس في طلبه إلى أن أصبح وهم في أثره فرجع عليهم فقتل اثنين وأسر الثالث وشارف عسكر المسلمين فخاف الفرس ورجعوا عنه ثم سار رستم فنزل القادسية وذلك بعد خروجه من المدائن بستة اشهر وكان يطاول ويحاول خوفاً منهم ويزدجرد يستحثه في الخروج عليهم.
يتبع(28/11)
قصيدة أخلاقية
أتحفنا حضرة العالم الأديب السيد عبد القادر المبارك الجزائري بهذه القصيدة الفريدة الأخلاقية من نظم شيخ أدباء عصره أبي عبد الله محمد بن أحمد الحنفي الأربلي المخزومي من شعراء القرن السادس شارحاً ألفاظها اللغوية ومعنوناً لعناوينها فنشكره على تحفته هذه
أمد الحياة قصير
كل حي إلى الممات مآبه ... ومدى عمره سريع ذهابه
معه سائق له وشهيد ... وعلى الحرص ويحه أكبابه
يخرب الدار وهي دار بقاءٍ ... وهو يبني ما عن قريب خرابه
خلقك من تراب
عجباً وهو في التراب عريق ... كيف يلهيه طيبه وملابه
كل يوم يزداد نقصاً وإن ... حلت أوصاله أوصابه
والورى في مراحل الدهر ركب ... دائم السير ليس يرجى إيابه
إن خير الزاد التقوى
فتزود إن التقى خير زادٍ ... ونصيب اللبيب منه لبابه
وأخو العقل من تقضي بصدق ... شيبه في صلاحه وشبابه
وأخو الجهل يستلذ هو النف ... س فيغدو لديه كالشهد صابه
من انقاد للشهوة والهوى ضل
كم أضلت منى عقولاً وكم أو ... جب نقصاً لفاضل إعجابه
وأحال الهوى حقائق حتى ... صار عذاباً لذي الغرام عذابه
نحن في دار العبر
أجل الفكر في الزمكان اختباراً ... واعتباراً فالكون جم عجابه
سر القضاء والقدر بحر لا ساحل له
وتحام الأقدار نطقاً وفكراً ... فهي في شاهق تشق عقابه
وإذا ما الجهول أغرق فيها ... أغرقته بالسيل منها شعابه
الرأي بعد التروي(28/12)
رب أمر يريب ذا العقل صعب ... بالتروي فيه يزول ارتيابه
لا تكن حاكماً بأول رأي ... فكثير بين الأمور التشابه
رب كأس من الجمال كا يؤ ... ثر عار من الجميل أهابه
وعزيز ممنع ضيم حتى ... أصبحت كالوهاد ذلاً هضابه
ودنيء علا به الجد حتى ... أوطئت هامة الثريا ركابه
رب ساع لقاعد وكم من أمر خالف مقتضى العقل القاصر وجرى على وفق
القضاء والقدر
وسعيد يحظى بكسب سواه ... وشقي لغيره إكسابه
وغني صلاحه في غناه ... وفقير إعطاؤه إعطابه
وجواد بماله نال ذكراً ... كان ذاك الذكر الجميل ثوابه
وكريم مقتر الرزق من ك ... ف لئيم أمواله أربابه
وعدو يفيدك القرب منه ... وصديق عين الصواب اجتنابه
وملول لحاضر متمنٍ ... لخيال من غائب ينتابه
لا يغرنك قرب خل ولا يؤ ... نسك من خلة العدو جنابه
فلكم مصحب عراه حران ... وحرون أنى له أصحابه
وجهول مع الرضى وحليم ... ليس يثني إغضاءه إغضابه
ومقيم في السوق غير حريص ... وإمام سوق له محرابه
ومحل ثوى به غير باني ... هـ وعلم أضاعه أربابه
وعريق في الجهل مستحسن الح ... ن وحبر مستهجن إعرابه
موجز القول من أخي الفقر مملو ... ل وذو الجد موثر إسهابه
لا تحجب بالثوب عن لابسه
لا تضع قدر ذي النباهة إن قد ... ر إعساره ورثت ثيابه
وتأمل فالبدر لا نقص يعرو ... هـ إذا كان بالسحاب احتجابه
زين ذي الفضل فضله وهو عار ... وأخو النقص زينه أثوابه
لا يعادي الكريم إلا اللئيم(28/13)
ومعاداة كل حر كريم ... ديدن الأخرق اللئيم ودابه
شبه الشيء منجذب إليه
وإذا صادف الوضيع وضيعاً ... ليس يلقى إلا إليه انصبابه
ليس بدعا فوز الأراذل بالما ... ل وفوت الغني الكريم نصابه
وبعيد من التوسع في الرز ... ق أديب من رزقه آدابه
كن قنوعاً بما تيسر فالطا ... مع عبد ما تنقضي آرابه
وغنياً مهما غدوت فقيراً ... بإله طاعاته أبوابه
وإذا كان خوفه لك دأبا ... لم تجد في الوجود شيئاتها به
إن رزقاً جميعه لك مكتو ... ب من الحمق بالسفاه طلابه
ولقد يرزق المقيم ويكدى ... من سعى دهره وطال اغترابه
ولكم قارف الدنيئة مثرٍ ... ووقى عرض مملق إجدابه
إن أمراً لم يمضه القدر الما ... ضي لتغدو عوائقاً أسبابه
طول الحياة يتم آخر
إن طول الحياة داء ما نف ... ع حياة لمن قضت أترابه
وإذا المرء طال عمراً أذاقت ... هـ المنايا بموتها أصحابه
وانتهى نقصه وعشش بازي الشي ... ب في رأسه وطار غرابه
وقصاراه أن يكون سليباً ... لذويه مقسومة أسلابه
وإذا كان آخر الأمر هذا ... فلماذا على الحياة اكتئابه
أيها السائر المقيم على حر ... ص مقيم لا تستقل ركابه
إن حبل الآمال والحرص كالأع ... مار طولاً فبالفناء انقضابه
يا لغاوٍ قد أوبق النفس لم يك ... ثر عليها عويله وانتحابه
آمناً موقف الحساب ولا أح ... سابه جنة ولا أنسابه
ومليك أمد في العمر والرز ... ق ومدت من ملكه أطنابه
يوسع الخطو في الخطايا وإن ضا ... ق عليه ضاقت عليه رحابه(28/14)
بشرى للعثمانيين
اعتناء الحكومة باللغة العربية
اللغة العربية الشريفة يجب على كل مسلم مهما كان جنسه ومذهبه ولغته ومشربه أن يعطيها حقها من الاعتناء وقسطها من الاعتبار. لأنها لغة القرآن الكريم الذي هو أساس الشريعة الإسلامية الغراء. ومنبع الفضائل السامية والأخلاق الكاملة كيف يكون حال المسلم الذي يجهل لغة القانون الإلهي الذي أنوله الله للمسلمين ليتعبدوا بتلاوته وأحكامه ولغة الأحاديث النبوية التي توضح ما أشكل من معاني الكتاب وتبين ما أبهم من إشاراته وتفصل ما أجمل من أوامره وتحث على مكارم الأخلاق ومحاسن الخصال.
هذه اللغة الكريمة أقدم اللغات الحية الغنية بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها لغة القرآن لغة الدين الإسلامي لغة العلم أصبحت اليوم والعارفون بها أقل من القليل ولذلك ترى المسلمين متناكرين غير متعارفين متخاذلين غير متعاضدين لأن للإسلام جامعتين عظيمتين عليهما ترتكز قواعده ومنهما يستمد رواءه وقوته جامعة الخلافة وجامعة اللغة العربية وبالثانية يكون التعارف والتآلف للانضمام إلى لواء الأولى أدام الله تأييده.
المسلمون في حاجة تامة لتعميم اللغة العربية فيما بينهم لأن بتعميمها تعميم مبادئ الدين القويمة التي تحض على الاتفاق والائتلاف وتحث على التعاضد والتعاون وتجعل المسلمين جميعاً من ترك وعرب وكرد وغير ذلك يداً واحدة على من ناوأهم ملتفين حول عرش الخلافة العظمى والإمامة الكبرى.
إذا تعممت اللغة العربية بين المسلمين تجلت لهم تلك المدنية الزاهرة التي بلغت بالمسلمين في أبان مجدهم منزلة تحسدهم عليها الأفلاك وتطأطأ لها جباه الجبابرة.
لا يتسنى للمسلمين أن يجعلوا وجهتهم الجامعة الدينية العظيمة إلا باتباعهم أوامر الدين الذي يحض على الاتحاد والوفاق وعدم الالتفات إلى الاختلاف بالجنس واللغة ولا تمكن معرفة هذه الأوامر إلا بشيوع اللغة العربية بين جميع المسلمين ولا شك أن ملوك الإسلام مطالبون بالاعتناء بهذه اللغة الكريمة وحث رعاياهم على تعلمها وتعليمها للأسباب المار ذكرها. والدولة العلية العثمانية مكلفة بهذا الواجب أكثر من غيرها لأنها دولة الخلافة الإسلامية التي يتعلق بأهدابها مسلمو العالم في جميع الأقطار وهم يدينون بالقرآن الكريم(28/15)
المنزل بلسان عربي مبين.
وهذا الوجه وحده كاف لأن يكون لهذه اللغة عند الحكومة العثمانية المنزلة السامية على أنه لو لم تكن هذه الدولة دولة الخلافة الإسلامية لكانت السياسة تقضي عليها بالاعتناء بالعربية لأنها لغة أكثر رعاياها المخلصين في عثمانيتهم وقد مضى على الدولة العلية العثمانية أمد ليس بقليل كانت فيه تغضي عن إنالة هذه اللغة قسطها من الحظوة لديها وتلهوا عن إجابة نداء أبناء الأمة العربية الذين يودون أن يكون للغتهم شأن عند الحكومة يليق بما انطوت عليه من اشتات الفضائل وقد دأب أبناء العرب على مطالبة الحكومة بجعل اللغة العربي رسمية للحكومة وشاءت السياسة عدم إجابة هذا الطلب بما يستحقه من السرعة ومن حجج المانعين أن القانون الأساسي يقضي بأن تكون اللغة الرسمية للحكومة هي التركية مع أنه حور كثير من مواد القانون لمسيس الحاجة لتحويره وهو ليس بذي أهمية بالنظر لمسألتنا الحاضرة وماذا يمنع من أن يكون للحكومة لغتان رسميتان ترجح حكومات الولايات استعمال إحداهما بحسب حالة الأهالي واستعدادهم وكم جر عدم إجابة هذا الطلب على الحكومة والشعب من المصائب والرزايا واتسعت بينهما مسافة الخلف وسوء التفاهم فترى الشعب العربي وعقلاء الأتراك ومفكريهم ناقمين على الحكومة عدم إصغائها لهذا الأمر الديني الاجتماعي الذي يتوقف عليه نجاح هذه الدولة والتآلف بين شعبيها الكريمين اللذين يمثلان أكثريتها المطلقة الترك والعرب.
ومن جهة أخرى كان بعض رجال الحكومة وذوي الشأن فيها يرمون الشعب العربي بقوارص الكلام كالمروق من الوطنية وعدم محبة العثمانية وإرادة الخروج عليها (معاذ الله) إلى غير ذلك وحجتهم في ذلك ما يشاهد من بعض متطرفي الكتاب من استعمال اللهجة العنصرية الشديدة في هذا الطلب والتهور في التنديد بالحكومة مما ينشأ عنه تفريق الأمة وجعلها شيعاً وأحزاباً والخروج عن جادة الآداب المرعية في المخاطبة بين الحاكم والمحكوم.
خشي كثير من عقلاء الطرفين مغبة سوء التفاهم وكاد يفضي الأمر إلى ما لا تحمد عقباه لولا أن ألهم الله رجال الحكومة الحاضرة أن تقدم مصلحة الحكومة والأمة على العنصرية فصدرت البشرى بصدور الإرادة السنية بجعل اللغة العربية رسمية للحكومة ولغة التدريس(28/16)
والقضاء في البلاد العربية.
سر بهذا النبأ كل غيور على مصلحة هذه الأمة العثمانية محب لرقيها عالم بما جر على الأمة والبلاد من الأجن والمحن إثارة الخلاف باسم العنصرية. وجهل الحكام بلغة المحكومين وما تسبب عن الثاني من فقد الأنفس وضياع الأموال وهذه من الخطوات السريعة الخطيرة في تقدم هذه المملكة وتدرجها في مدارج الحضارة والعمران إن شاء الله.
لم يمض على صدور هذه الإرادة بضعة أيام حتى شوهد استعمال العربية في دوائر العدلية وبات الناس يتوقعون خيراً كثيراً وأمن المتخاصمون من التلاعب بإفاداتهم وتقاريرهم وكثيراً ما ضاعت حقوق بسبب جهل الحكام بلغة المحكومين وجهل المترجمين أو تعمدهم التحريف.
فنشكر للحكومة تلبية نداء العرب المخلصين لعرش الخلافة ونرجو أن تكون هذه البشرى مقدمة لأعمال كثيرة من نوعها يحصل بها الائتلاف التام بين الشعب والحكومة حتى يكف المشاغبون عن غلوائهم وسوء ظنهم بالحكومة ورغبتها بالإصلاح فإن اطمئنان الشعب من حسن نية الحكومة وتعلق قلوب الأمة بها خير ما يساعدها على نهوضها من كبوتها وسيرها في مضمار الترقي والفلاح.(28/17)
الزنا وأنصاره
سبق لنا أن قدمنا للحكومة النصائح المتعددة وبينا الفوئد التي نجمت عن إبطال محل المومسات (المرقص) وطلبنا إليها أن تحسم هذا الأمر حسماً باتاً باستابتهن أو نفيهن ولكن كل هذه النصائح لم تؤثر التأثير المطلوبة فإنا لا وزال نسمع أن الحكومة تفكر في إيجاد محل لهن وذلك بإيعاز بعض المفسدين المتفرنجين الذي يصدق عليهم قول الله سبحانه (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة) وشبهتهم في ذلك أن إبطال المرقص قد أضر بالحرائر من وجهين الأول اختلاط المومسات بينهن وما ينشأ عنهن من إفساد أخلاقهن والثاني تحرش الزناة بالحرائر فإنهم لما لم يجدوا محلاً يذهبون إليه يأتوا إلى الحرائر فيراودوهن عن أنفسهن وقلنا أن كلا الوجهين خطأ ظاهر وليس إلا من الوهم ووساوس الشيطان.
أما اختلاطهن بالحرائر فليس له محل إلا الأسواق ومن كان يمنع المومسات عن النزول إلى الأسواق والاختلاط بالحرائر من قبل؟ بل كان الاختلاط أكثر لأن المومسات كن أضعاف ما عليه الآن لأن أكثرهن قد سافرن لعدم رواج فحشهن بسبب عدم وجود المحل فكن ينزلن إلى الأسواق ويغازلن الرجال وإذا سنحت لهن الفرصة بالاجتماع بالحرائر سهلن لهن سبيل الخروج على ازواجهن وتواعدن على الاجتماع في محلهن المرقص. أما الآن فليس محل يتواعدن للقاء فيه. أما تحرش الزناة بالحرائر فإن الزاني إذا كان له محل خاص يقدر أن يؤوي فيه الزانية فلا يؤثر فيه وجود المرقص أو عدمه فهو يتعرض لمن يقدر على استمالتها إليه فهذا يجب علينا أن نطالب الحكومة بتعقيبه لأن القانون يمنع مثل هذا العمل. وإن كان الزاني لا محل له فلا يراود امرأة عن نفسها سواء أكانت حرة أو زانية لأن عدم المحل له تأثير كبير في تقليل الزنا فترى الرجل الفاجر يضيق ذرعاً ويتمزق غيظاً حينما يشاهد الزانية تطاوعه على قضاء شهوته ولا يجدان محلاً يلجآن إليه فلا هو يقدر أن يدخلها بيته لأن عائلته وجيرانه يقيمون النكير عليه وليس لها بيت تأخذه إليه للسبب نفسه فلا يلبثان أن يتفارقا وقد كاد أن ينقطع أملهما من العودة إلى مثل هذا العمل فظهر مما تقدم أن هذه الشبه لا يصح التمسك بها بل هي حجة عليهم لا لهم.
بقي الذين تربوا على الزنا وفشت فيهم هذه الفاحشة وقد منعوا منها بسبب إبطال المرقص فيظهر أن هؤلاء هم الذين يعجزون الحكومة ويطالبونها بإرجاعه ويصورون لها ضرر(28/18)
إبطاله بما توحيه إليهم شياطينهم فالواجب على الحكومة أن تبعدهم وتقصيهم وأن تسمع لأهل الدين والعرض وتعمل بآرائهم في مثل هذه المسائل. الم يكفنا ما حل بنا من البلايا وما انتابنا من الرزايا؟ ألم يردعنا ما نشاهده من انكسارنا واستيلاء العدو على بلادنا؟ أم يأن لنا أن تخشع قلوبنا ونرجع إلى ديننا؟ أما حان للحكومة أن تنبذ هؤلاء المتفرنجين فإنهم سبب الضعف وجرثومة الفساد وهم يقومون بمثل هذه المسائل لينفروا الرعية من الحكومة ويجعلونها حانقة عليه أما آن لها أن تعلم نواياهم وأميالهم فإنهم والله ينصبون لها المكائد ويتربصون بها الدوائر ألم تعلم أنه لا نصير لها إلا أهل الدين وأنه لا اعتماد لها في المستقبل إلا عليهم. فإنهم هم الذين يقدرون الخلافة الإسلامية حق قدرها وهم الذين ينصرونها ويشدون إزرها. أليست الخلافة إسلامية؟ أليس الدين الإسلامي هو دين الحكومة الرسمي؟ فبأي حجة يطلب هؤلاء المتفرنجون فتح محلات للزنا في هذه البلاد الإسلامية أما يجب على الحكومة أن تلاحظ عواطف أهل الدين والعرض وأميالهم وهم القوم الأكثر في دمشق؟ إذا كان لم يبق (لا قدر الله) للدين سلطة على القلوب فلينظروا إلى الإنكليز فإنهم ليس عندهم محال عمومية للمومسات كما ذكرنا ذلك في المجلد الأول ص 432 من هذه المجلة فليراجع.
هذا وقد بلغنا أن أطباء العسكرية قدموا تقريراً لمجلس الإدارة بلزوم إرجاع المرقص قائلين أن الجند (العسكر) يتضررون من عدم قضاء شهواتهم إلى غير ذلك من الأوهام التي يتمسك بها الأطباء ويعدونها حججاً.
فنقول لهؤلاء إذا كان الجند يتضررون على زعمكم من عدم قضاء شهواتهم فلم لا تحملون معكم إلى ساحة الحرب الزانيات وكيف يعيش الجيش الإنكليزي الذي لا محل للمومسات عنده من غير أن يلحقه هذا الضرر الذي تتخرصون به. نعم سمعنا من بعض أطباء الخستخانة في دمشق أن الداء الإفرنجي الذي كان فاشياً بين الجنود قد قل قلة تذكر بسبب إبطال المرقص.
فنلفت أنظار مجلس الإدارة إلى هذا الأمر فإن رجاله هم وحدهم المسؤولون عنه فهل تقبل ذمتهم ودينهم أن يتحملوا تبعة هذا الأمر فإن الله معاقبهم على كل زنية تفعل في هذا المحل الذي يراد إنشاؤه كأنهم هم الفاعلون قال صلى الله عليه وسلم من حديث أخرجه مسلم من(28/19)
سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
هذا ما أردنا بيانه قياماً بواجب التذكير والخير أردنا ولكل امريء ما اكتسب وسيعلم الذين ظلموا أين منقلب ينقلبون.(28/20)
سلسلة حكم الخلفاء
الخلفاء الراشدون رضي الله تعالى عنه
(أبو بكر رضي الله عنه) إنكم في مهل رائه أجل فبادروا في مهل آجالكم قبل أن تقطع آمالكم فتردكم إلى سوء أعمالكم صنائع المعروف تقي مصارع السوء الموت أهون مما بعده وأشد مما قبله ليست مع العزاء مصيبة ولا مع الجزع فائدة ثلاث من كن فيه كن عليه البغي والنكث والمكر. إن الله قرن وعده بوعيده ليكون العبد راغباً وراهباً إن أكيس الكيس التقى وأحمق الحمق الفجور. وخطب رضي الله فقال إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك فرفع الناس رؤوسهم فقال ما لكم يا معشر الناس إنكم لطائعون عجلون إن الملك إذا زهده الله تعالى فيما بين يديه ورغبه فيما في يد غيره وانتقصه شطر أجله وأشرب قلبه الإشفاق فهو يحسد على القليل ويتسخط الكثير ويسأم الرجاء وتنقطع عنه لذة البهاء ولا يستعمل العبرة ولا يسكن إلى الثقة وهو كالدرهم القسي والسراب الخادع جذل الظاهر حزين الباطن فإذا وجبت نفسه ونضب عمره وضحى ظله حاسبه الله فأشد حسابه وأقل عفوه.
(عمر رضي الله عنه) كتب لمعاوية إياك والاحتجاب دون الناس واذن للضعيف حتى ينبسط لسانه ويجرئ قلبه وتعهد الغريب فإنه إذا طال حبسه وضاق أدنه ترك حقه وضعف قلبه إذا فاتك خير فأدركه وإذا فاتك شر فاسبقه: إن عليك من الله عيوناً تراك احرص على الموت توهب لك الحياة أطوع الناس لله اشدهم بغضاً لمعصيته كثير القول ينسى بعضه بعضاً وإنما لك ما وعي عنك. حق لميزان يوضع الحق فيه أن يكون ثقيلاً وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفاً. أصلح نفسك يلصح لك الناس.
وكان يقول ليت شعري متى أشفى من غيظي أحين أقدر فيقال لو عفوت أحين أعجل فيقال لو صبرت. اقرأوا القرآن تعرفوا به واعملوا به تكونوا من أهله. ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يغلبك منه. لا تظن بكلمة تخرج من مسلم شراً إذا أنت تجد لها في الخير محلا. من كتم سره كانت الخيرة بيده. من عرض نفسه للتهم فلا يلومن من أساء به الظن. لا تتهاونوا بالحلف فيلهككم الله. استشر في أمرك الذين يخشون الله واحذر صديقك الأمين ولا أمين إلا من خشي الله. تفقهوا قبل أن تسودوا. كل عمل كرهت من أجله الموت(28/21)
فاتركه ثم لا يضرك متى مت. وكتب لابنه عبد الله أما بعد فإنه من اتقى الله وقاه ومن توكل عليه كفاه ومن أقرضه جزاء فاجعل التقوى عماد قلبك وجلاء بصرك فإنه لا عمل لمن لا نية له ولا أجر لمن لاحسنة له ولا جديد لمن لا خلق له، من أظهر للناس خشوعاً فوق ما في ققلبه فإنه أظهر نفاقاً. لو كان الصبر والشكر بعيرين ما باليت على أيهما ركبت. وخطب بعد أن استفتح فقال أيها الناس إنه والله ما فيكم أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه. وخطب فقال أيها الناس ما الجزع مما لا بد منه وما الطمع فيما لا يرجى وما الحيلة فيما سيزول وإنما الشيء من أصله وقد مضت قبل الأصول ونحن فروعها فما بقاء الفرع بعد أصله إنما الناس في هذه الدنيا تنتقل المنايا فيهم وهم نصب المصائب في كل جرعة شرق وفي كل أكلة غصة لا تنالون نعمة إلا بفراق أخرى ولا يستقبل معمر من عمره يوماً غلا بهدم آخر من أجله فإنهم أعوان الحتوف على أنفسهم فأين المهرب مما هو كائن وإنما يتقلب الهارب من قدرة الطالب فما أصغر المصيبة اليوم مع عظم الفائدة غداً وأكثر خيبة الخائب جعلنا وإياكم من المتقين تعلموا النسب ولا تكونوا كنبط السواد إذا س ل أحدكم عن أصله قال من قرية كذا. ثلاث يثني لك الود في صدر أخيك أن تبدأه بالسلام وتوسع له في المجلس وتدعوه بأحب الأسماء إليه. كفى بالمرء غياً ن تكون فيه خلة من ثلاث أن يعيب شيئاً ثم يأتي مثله أو يبدو له من أخيه ما يخفى عليه من نفسه أو يؤذي جليسه فيما لا يعنيه. وخطب الناس فقال: والذي بعث محمداً بالحق لو أن جملاً هلك ضياعاً بشط الفرات خشيت أن يسأل عنه آل الخطاب. وكتب إلى أبي موسى أنه لم يزل للناس وجوه يرفعون حوائجهم فأكرم من قبلك من وجوه الناس وبحسب المسلم الضعيف من العدل أن ينصف في الحكم وفي القسم.
وكان إذا استعمل العمال خرج معهم يشيعهم فيقول إني لم أستعملكم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أشعارهم ولا على أبشارهم وإنما استعملتكم عليهم لتقيموا بهم الصلاة وتقضوا بينهم بالحق وتقسموا بينهم بالعدل.
أشقى الولاة من شقيت به رعيته: أعقل الناس أعذرهم للناس: لا تؤخر عمل يومك لغدك. أكثروا من العيال فإنكم لا تدرون بما ترزقون: من لم يعرف الشر كان جديراً أن يقع فيه:(28/22)
احتفظ من النعم احتفاظك من المعصية فوالله لهي أخوفهما عندي عليك أن تستدرجك وتخدعك: ليس لأحد عذر في تعمد ضلالة حسبها هدى ولا ترك حق حسبه ضلالة: الدنيا أجل محتوم وأمل منتقص وبلاغ إلى دار غيرها وسير إلى الموت فرحم الله امرء فكر في أمره ونصح نفسه وراقب ربه واستقال ذنبه من يأس في شيء استغنى عنه.
(عثمان رضي الله عنه) خطب يوم بويع له بالخلافة فقال: أيها الناس اتقوا الله فإن الدنيا كما أخبر الله عنها لهو ولعب وزينة وتفاخر الآية فخير العباد فيها نمن عصم واعتصم بكتاب الله وقد وكلت من أموركم عظيماً لا أرجو العون عليه إلا من الله ولا يوفق للخير إلا هو وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب وقال في خطبة: ألا وإن الدنيا خضرة قد شهيت إلى الناس ومال إليها كثير منهم فلا تركنوا إلى الدنيا ولا تثقوا بها فإنها ليست بثقة واعلموا أنها غير تاركة غلا من تركها. وخطب وهي آخر خطبة فقال: إن الله عز وجل إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة ولم يعططموها لتركنوا إليها إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى فلا تبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية فآثروا ما يبقى على ما يفنى فإن الدنيا منقطعة وإن المصير إلى الله اتقوا الله جل وعز فإن تقواه جنة من بأسه ووسيلة عنده واحذروا من الله الغير والزموا جماعتكم ولا تصيروا أحزاباً (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته أخوانا).
إن لكل شيء آفة ولكل نعمة عاهة وإن آفة هذا الدين وعاهة هذه النعمة عيابون طعانون يرونكم ما تحبون ويسرون ما تكرهون طعام مثل النعام يتبعون أول ناعق: يكفيك من الحاسد أن يغتم وقت سرورك ونظر إلى قبر فبكى وقال هو أول منازل الآخرة وآخر نازل الدنيا فمن شدد عليه فما بعد أشد ومن هون عليه فما بعده أهون.
لها بقية
إبراهيم خليل مردم بك(28/23)
العدد 29 - بتاريخ: 5 - 6 - 1913(/)
الدين الإسلامي والتوحيد
السمعيات
هذا هو القسم الثالث من مباحث علم التوحيد ونعني به المسائل التي لا يهتدى إلى معرفتها إلا من طريق السمع ولا يعتمد في اعتقادها إلا على الأدلة النقلية وإن كانت على وجه يستلزم محالاً في العقل كأحوال البرزخ وما يقع في اليوم الآخر من بعث وحشر ونعيم وعذاب وجنة ونار إلى غير ذلك مما نأتي على ذكر تفاصيله وشرح بيانه إن شاء الله تعالى.
من المقرر أنه ليس في وسع العقل الإنساني وحده أن يستقل في معرفة كثير من الأمور مثل المعاد الجسماني وأكثر أحوال الآخرة وبعض صفات الله تعالى ووظائف العبادات كما يرى في أعداد الركعات وبعض الأعمال في الحج وتقرر الجزاء لكل نوع من الأعمال في الدار الآخرة إلى غير ذلك مما لا يمكن للعقل البشري أن يستقل بمعرفة وجه فائدته ولا يخفى أن درجات العقول متفاوتة يعلو بعضها بعضاً لا سيما إذا لاحظنا أن لكل قوم مشهورات مخصوصة بهم مسلمة عندهم بل تكون لديهم بمنزلة البديهيات والحال أن غيرهم لا يسلمونها بل يردونها وكذا إذا لاحظنا أن النفس مسخرة للوهم وله استيلاء عظيم عليها حتى أننا نرى أن أكثر الناس يكونون منهمكين في أوهام باطلة مدة عمرهم فتشتبه على العقل المشهورات والوهميات بالأوليات وكذا نرى بعض الناس يستحسنون استعمال المسكرات لاجتلابها للسرور ويشتبه عليهم وما يلحقها من المفاسد والشرور من زوال الصحة الجسمانية وجلب الفقر والعار المهين بين الناس فالتفويض في كل الأمور إلى العقل مظنة التنازع والتقاتل واختلاف النظام وتقويض دعائم العمران.
لهذا كان العقل الإنساني محتاجاًُ إلى نبي يهديه إلى معرفة ما ينبغي أن يعرف من أحوال الآخرة ويرشده إلى ما لا يستقل بمعرفته من تحديد أحكام الأعمال ويكشف له عن وجوه الشياء التي لا يدرك حسنها وقبحها ويكون بذلك مبرهناً على أنه يتكلم عن ربه عز وجل والذي يعلم مصالح العباد على ما هي عليه والحياة الآخرة وما أعد فيها مما هو مناط سعادتهم وشقائهم.
نعم لا بد من نبي يحدث عن الله تعالى بما خفي على العقول ويبين للناس ما لا بد لهم من(29/1)
علمه من أحوال البرزخ والمعاد الجسماني معبراً عن ذلك بما تحتمله عقولهم ولا يبعد عن متناول إفهامهم وقد اشبعنا الكلام في مقالاتنا السابقة وبينا شدة حاجة البشر إلى الرسل بما لا يدع حاجة في النفس إلى المزيد.
إذا تمهد هذا فنقول ثبتت نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالدلائل القاطعة والبرهين الناصعة وأنه صادق فيما يخبر عنه عن ربه فلا مرية في أنه يجب تصديق خبره والإيمان بما جاء به عليه الصلاة والسلام فمما أخبر به صلى الله عليه وسلم سؤال القبر وعذابه ونعيمه وقد وردت الأحاديث ناطقة بذلك ومصرحة بوقوعه وتعددت طرقها تعداداً أفاد به مجموعها التواتر المعنوي.
أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا دفن الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله فيقولان قد كنا نعلم أنك تقول هذا ثم يفسح له قبره سبعون زراعاً في سبعين ثم ينور له فيه ثم يقال له نم فيقول أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقولان نم نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك وإن كان منافقاً قال سمعت الناس يقولون فقلت مثله لا أدري فيقولان قد كنا نعلم أنك تقول ذلك فيقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه فتختلف أضلاعه فلا يوزال فيها معذباً حتى يبعثه الله تعالى من مضجعه ذلك وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وأنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه الخ الحديث وقد ورد في ذلك جملة من الأخبار التي صحت أخرجها أصحاب السنن والمسانيد ما بين مطول ومختصثر في رواية غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم.
ثم أن سؤال القبر عام لكل مؤمن وكافر كما عليه جمهور العلماء وهو أمر ممكن من مجوزات العقل وكل ما جوزه العقل يستدعي عادة الحياة إلى البدن لفهم الخطاب ورد الجواب وإدراك اللذة والألم وهو منتف بالمشاهدة لأنا نقول أن ذلك لا يستدعي إعادة الحياة إلى جزء من الأجزاء الذي به فهم الخطاب ورد الجواب ولا يدفع ذلك ما يشاهد من سكون أجزاء الميت وعدم سماعنا للسؤال له فإن هذا مجرد استبعاد خلاف المعتاد وهو لا ينافي(29/2)
الإمكان فإن النائم ساكن بظاهره وهو مع ذلك يدرك بباطنه من الآلام واللذات ما يحس بتأثيره عند التنبه كألم ضرب رآه بعد استيقاظه وخروج مني من جماع رآه في منامه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع كلام جبريل ويشاهده والصحابة حوله والحال لا يسمعون كلاماً ولا يرون شخصاً فالإدراك والإسماع بخلق الله تعالى وإرادته قال عز وجل (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) أما عذاب القبر ونعيمه فقد ورد الشرع به قرآناً وسنة وأجمع عليه علماء الأمة قبل ظهور البدع واختلاف الأهواء قال تعالى في حق آل فرعون: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) وقال جل وعلا: (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون).
وأخرج البخاري من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال أنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ثم قال بلى أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله وأخرج مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن هذه الأمة تبتلي في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله تعالى أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه ثم أقبل بوجهه علينا فقال تعوذوا بالله من عذاب القبر.
وكذلك ورد في نعيم القبر جملة تؤيد ثبوته وتؤكد وقوعه منها ما أخرجه الإمام أحمد عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن يفسح له في قبره ويرى مقعده في الجنة وأخرج الترمذي عن ابي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال عليه الصلاة والسلام إنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار إلى غير ذلك من الأحاديث الوافرة والأخبار الصحيحة.
وكل ما ورد من عذاب القبر ونعيمه فهو محمول عند علماء الدين على الحقيقة لأنه أمر ممكن كما تقدم فيجب التصديق لبه ولا يمنع من التصديق به تفرق أجزاء الميت في بطون السباع وأجواف السمك وحواصل الطيور وأقاصي التخوم فإن المدرك لألم العذاب أجزاء مخصوصة فالقادر المنفرد بالإيجاد والإعدام لا يعسر عليه إعادة الإدراك إليها بعد تفرقها ومن سلم اختصاص الرسول صلى الله عليه وسلم برؤية الملك دون أصحابه الموجودين بحضرته وتعاقب الملائكة فينا وآمن بقوله تعالى في الشيطان (إنه يراكم هو وقبيله من(29/3)
حيث لا ترونهم) وجب عليه التصديق بذلك كيف والإنسان النائم يدرك أحوالاً من السرور والنعيم من نفسه في حالة نومه حتى يعرق جبينه ونحن لا نشاهد ذلك منه مع وجودنا حوله والحاصل أن العبد بعد الموت لا يخلو في قبره من عذاب أليم أو نعيم مقيم وهذا الذي نعتقده وندين الله تعالى به ومن ارتاب ذلك فلضيق حوصلته وظلمة قلبه وجهله باتساع قدرة الله تعالى وتصرفه في خلقه على حسب ما يشاء سبحانه.(29/4)
ذنوب المسلمين سبب انحطاطهم
ماذا دهى المسلمين فأوقعهم في المهالك وأذاقهم آلام الهوان؟ ماذا فاجأهم ففرق جمعهم، ومزق شملهم، وحل رباطهم وخالف بين كلمتهم؟ ماذا حل بهم فزلزل أركان عقائد كثير منهم وأدخل عليهم فيها الشكوك والأوهام؟ ماذا نزل بهم فبدل عظيم أخلاقهم بسيء الأخلاق وسلبهم جميل الأدب؟ ماذا طرأ عليهم فسلبهم أكثر بلادهم وهددهم بفقدهم الاستقلال؟ ماذا باكرهم فصرفهم عن العلوم التي شيد لها أسلافهم صروحاً عالية فأصبحت من بعدهم قاعاً صفصفاً ويباباً خالياً؟ مصاب عظيم لسنا ندري لمن نعزوه، وخطب جسيم لا نعرف بمن نلصقه أنلصقه بأولياء الأمور ومن بيدهم الحل والعقد لتركهم الجهاد والاستعداد الذين أوجبهما الدين وتهاونهم بنشر العلوم بين عامة المسلمين؟ أم بالأمة التي سلمت زمام أمرها لمن يعبث بمصالحها ولا يحسن القيام بشؤونها؟ أم بالطائفتين معاً بتركهم أوامر الدين وانغماسهم في محضوراته فكانت العاقبة أن انتقم الله جلت قدرته من الأمة حاكمها ومحكومها فهي أسباب خرابها ودمارها؟ ليس ببعيد أن يكون الأمر الأخير سبب هذا الانحطاط وزداعية هذا الهوان إذ من المقرر أن الأمة لا يحفظ كيانها وتستقيم شؤونها حتى يتولى قيادتها المصلحون ولا يتسنى لها ذلك حتى تكون بنفسها بعيدة عن الرذائل متحلية بكرائم الصفات سالكة منهج التقدم آخذة بأسباب الرقي (كما تكونوا يولى عليكم) حديث شريف أخرجه الديلمي في مسند الفردوس يا ويح المسلمين انغمس أكثرهم في الآثام واقترفوا كبائر الذنوب ونبذوا أوامر الله سبحانة وأحلوا شعائره واسترسلوا في التخاذل والتدابر والتحاسد والتشاحن وأسرفوا في العسف والظلم والجور والاستهانة بحقوق الأمثال وارتكبوا الموبقات من الزنا واللواطة وشرب الخمر وقذف المحصنات واستهانوا بالغيبة والنميمة والكذب والافتراء ولبسوا ثياب الكبر والعجب واستلانوا موطئهما ومالوا إلى السرف والبذخ واللهو والخلاعة وركنوا إلى الدنيا فانغمروا في شهواتها وراقتهم زخارفها وقعدوا عن أداء ملاا افترضه عليهم من الصلاة والزكاة والصيام والحج وتركوا جهاد العدو والاستعداد له والرباط على حدوده وأغفلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح بين المسلمين وأهملوا تعلم العلوم الدينية والدنيوية وتعليمها وقصروا في بر الوالدين وصلة الرحم ومارعوا حق الجيران والأخوان وصرفوا النظر عن الدقة والمواساة والحلم والصفح وأغضوا عن العفة والاستقامة والزهد والورع فسلط عليهم من عبث بمصالحهم ولم يرع(29/5)
حقوق الله سبحانه فيهم فسلبت منهم العلوم التي نشرت أعلامها في زمن اسلافهم على الخافقين ووهنت قواهم الحسية والمعنوية التي ذلك لها في الأعصر السالفة الملوك الجبابرة وحرموا العدل الذي هو روح التقدم والرقي وحيل بينهم وبين موارد الثروة التي لا بقاء للأمم إلا ببقائها وهي التجارة والزراعة والصناعة وخلى بينهم وبين أعدائهم يسومونهم الذل والخسف ويوسعونهم المهانة والعسف فأفسدوا عليهم دينهم وانتزعوا منهم أخلاقهم وآدابهم وقبضوا زمامهم ليقودهم إلى مجامع الفسق ومواطن الفجور وتداخلوا في عامة شؤونهم فسلبوهم أكثر بلادهم وكادوا يفقدونهم عزيز استقلالهم كل ذلك جره والله الاجتراء على حدود الله وانتهاك محارمه ومخالفة أوامر الله سبحانه وهتك شعائره قال تعالى في كتابه العزيز (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) وقال جل ذكر (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أني هذا قل هو من عند أنفسكم) وقال عز من قائل: (إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون) وقال عليه الصلاة والسلام من حديث رواه البيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (ولا نقضوا) أي ولا نقض قوم من الأقوام كما يدل عليه أول الحديث عهد الله وعهد رسوله صلى الله عليه وسلم إلا سلط عليهم عدو من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم فالتمسك التمسك بالدين قبل أن يتلاشى أمر المسلمين والتدارك التدارك قبل أن تعظم المصيبة ويستفحل الخطب تالله لئن لم ندع الكبائر التي اقترفناها ونؤد الواجبات التي أهملناها ليرميننا الله بخطوب يعود الحليم منها حيران أو ليعمنا بعقاب من عنده فالواجب على كل منا أن يحاسب نفسه فيدع المنكر ويوقوم بالواجب والواجب علينا جميعاً أن نسعى بتمام الجهد وغاية الوسع لإزالة المنكرات العامة فإن عجزنا عن إزالتها فلنرفع الأمر إلى أولياء الأمر ولنلح عليهم في ذلك ففي وسعهم إزالتها وما قامت إلا بتغاضيهم عنها.
فإذا أحسنا القيام بهذا فلنستبشر بمستقبل زاهر ينير لنا ظلم المشاكل السياسية التي لا زلنا نخبط في دياجيها ويحفظ لنا كياننا وقد أوشكنا أن نفقده ويعيد لنا قوتنا التي علا كعبنا بها على جميع الأمم ويشرق في ربوعنا شمس المدنية الإسلامية بعلومها وفنونها ورونقها ونضارتها ومن الله التوفيق.(29/6)
إلى متى هذه الثقة
عقدت هدنة بيننا وبين البلغار لعشرة أيام فأصبحنا لا نترقب حصول شيء من المصادمات قبل انقضائها.
ثم قبلنا تفويض الأمر للدول العظمى في شرائط الصلح بلا قيد ولا تعليق. ولا نكتم القراء أن الرأي العام قد يجوز أن يكون دهش من قبولنا التفويض على هذه الصورة لكن آفتنا القلبية هي الثقة بما يقوله سفراء الدول الأجنبية وما تعدنا به شفوياً.
ولقد يظهر أن بعض السفراء قد أعرب عن حسن نية الوسطاء وزين لرجالنا أن عدم التشدد وإظهار التسامح قد يمكن الدول من الضغط على حكومات البلقان وأن الدول المتوسطة لا تحيد قيد شعرة عما قررته في بدء الأمر من أنها لا تقر بإلزامنا بشيء من الغرامات الحربية ولا تقبل من حكومات البلقان كلاماً في شأنها. وبذلك اطمأنت نفوس رجالنا وأقدموا على تقرير قبول التفويض للدول دون شرط ولا قيد ولكن ماذا عملت الدول بعد ذلك؟ لقد رأيناها تخوض ثانية في أمر الغرامة الحربية وبعد التردد بين الإقدام والإحجام أعلن مجلس سفرائها أن البحث في مسألة الغرامة الحربية سيكون من مباحث المؤتمر المالي الذي سيعقد في باريس.
ولقد أثارت هذه الحيلة غضب الكتاب هنا وأضرمت نيران غيظهم حتى لقد اعتبرت الجرائد الاتحادية تلك الحيلة نقضاً للعهد الذي أعطته إيانا الدول وخرقاً للاتفاق الشفوي والقرار الذي أصدره أول الأمر مجلس السفراء. ولكن هل المسؤول عن نتائج ذلك العمل المستحق اللوم هو الدول الأوروبية التي لا ترضى عنا ما دمنا مسلمين؟ لو أن هذا الحادث كان أول ما أتوه من ضروب الحيل ونقض الوعود لهونا على أنفسنا الأمر وقلنا لعله درس يفيدنا تذكره في المستقبل ولكنه حلقة من سلسلة حوادث لا يعلم إلا الله متى تكون آخر حلقة منها.
إن غفلتنا عن تحصين طرابلس وحمايتها من الغارات الخارجية كانت نتيجة ثقتنا بما قاله أحد السفراء من أنه لا خوف على طرابلس من إيطاليا. وصرف جيوشنا عن أرباض ومعاقل ألبانيا ومقدونيا كان نتيجة تأكيد بعض السفراء في الأستانة وتأمينه إيانا أن لا خوف من أحد على تلك البقاع. وإسرافنا في التباطؤ عن مقاومة الأعداء وأخذ العدة الكافية للصدمة الأولى كانت نتيجة تلغرافات الدول الأوروبية للحكومات البلقانية الناطقة بأن(29/7)
الحرب مهما كانت نتائجها فإنها لاتغير من الحالة التي عليها مقدونيا وألبانيا إذ ذاك (استاتوكو) حتى إذا استعد الأعداء وأهملنا وزحفوا وقعدنا واكتسحوا وانهزمنا رأينا كيف تنكر لنا أولئك الأصدقاء وسمعنا ذلك الصوت الذي كان ينادي بالأمس بوجوب الاحتفاظ بالشكل القائم في مقدونيا والبانيا قد تبدل فصار يصيح ليس من العدل حرمان الفاتح من ثمرات فتحه ولا من الحكمة بقاء مسيحي تحت حكم دولة إسلامية ولا من الرأي استمرار أمة آسيوية في أرض أوروبا.
هذه عدة حلقات من سلسلة آفتنا (الثقة) التي أخسرتنا أكثر أملاكنا والتي ستودي بحياتنا فمتى نعتبر بالحوادث ونتعظ بالعظات؟؟ هذا ما لا يمكننا الإجابة عنه والأمر لله من قبل ومن بعد.
(الحق يعلو)(29/8)
شهيد الطوى وقتيل الكظة
رحمة بالإنسانية
ما بال عينك لا تذوق رقادا ... ولمن عيون ما عرفن سهادا
نام الخلي وبات همك ساهراً ... قلقاً يذود النوم عنك ذيادا
أذكى ضلوعاً واستشف حشاشة ... وأسال عينا واستطار فؤادا
تمسي فتفترش الأذى لك مضجعا ... وتنص سارية الهموم وسادا
جالدت نازلة النهار مهولة ... وحملت داهية الظلام نآدا
عبأت لك الأيام بأس مناجز ... يردي الكماة ويصرع الأنجادا
عرمت عليك فروعتك خطوبها ... زحفاً وهدت جانبيك جلادا
ويح النفوس المستهان بوجدها ... أيخالها القوم الجمود جمادا
ينأى بها الجد العثور وتدني ... فتزيد عنهم الدنو بعادا
ضاقت بها سبل الحياة فما ترى ... للعيش منتجعاً ولا مرتادا
تبكي وما علم الغني ولو رأى ... عبرات عينك لا نثني يتهادى
ألوى الأسى بمعين دمعك فاستعر ... دمعاً يكون لمقلتيك عتادا
هيهات نلفى من يعيرك ذخر ... للنائبات إذا طرقن شدادا
قد كان لي دمع يعين على الأسى ... فاغتاله طول البكا أو كادا
أفنيته في الصالحات فكان لي ... كدم الذي أفنى الحياة جهادا
يبكي الحزين فيستهل ويشتكي ... فيغيثه متدفقاً جوادا
لو كان قلبي في جوانح أوطف ... أربى جواه إذن عليه وزادا
ولو أن أحزاني عصفن بشامخ ... لانهار من رجفاتهن ومادا
تشكو الطوى وتبيت ليلك طاوياً ... غرثان تطلب عند جارك زادا
ربيت مثلك شاكياًَ من كظة ... ما يستلين لها الحرير مهادا
قلقت مضاجعه فبات كأنما ... يلقى بهن أسنة وصعادا
ودنا الطبيب فجس من نبضاته ... وأجال فيه لحاظه وأعادا
فلوت يديه يد المنية وانثنى ... يلقى النعاة ولا يرى العوادا(29/9)
أكل الطوى كبد الفقير فهده ... ومن الطوى ما يأكل الأكبادا
ومن الحياة مضرة ومن الردى ... ما ينفع الأرواح والأجسادا
الموت أروح للنفوس عوانيا ... حسرى يطاردها الشقاء طرادا
طاف الحمام به فطاح ببائس ... صحب النحوس وحالف الأنكادا
حملا على نعشيهما فتزاحما ... فانسل ذا وارتد ذا يتفادى
سبق الغني تموج حول سريره ... زمر تهول الحاسبين عدادا
لفوه في الأكفان من استبرق ... غال وعالوا فوق الأبرادا
وبكوا عليه مرجعين وسيروا ... من حوله الحكام والأجنادا
قالوا فقدناه وكان ذخيرة ... وهوى الحمام به وكان عمادا
كذبوا فما كشف الأذى يوماًُ ولا ... نفع العشيرة مرة وأفادا
ملأ الحياة مآثماً حتى إذا ... لقي الردى ملأ الربوع حدادا
فمتى أرى الزمان كياسة ... ومتى أرى غي النفوس رشادا
ومتى تريع إلى المحجة أمة ... تضع الكرام وترفع الأوغادا
ساروا بأعواد (الشهيد) فبوركوا ... من سائرين وبوركت أعوادا
ساورا به لم يفزعوا بنعيه ... أحداً ولا ضربوا له ميعادا
طابت بموكبه المعظم نفسه ... وزكا الثرى إذ حل فيه وجادا
وتفتحت خضر الجنان بقبره ... فأصاب منها ما اشتهى وارادا
قذف الغني إلى الجحيم فأبرقت ... لما رأته وأرعدت غرعادا
ماجت فأشبهت البحار طواميا ... وعلت فراحت تشبه الأطوادا
تتلاطم الأهوال في حافاتها ... وتتابع الأرغاء والإزبادا
فترى عيون الظالمين شواخصاً ... وترى قلوب الجاحدين بدادا
مكروهة الألوان تسطع حمرةً ... آناً وأونة تموج سوادا
جاءت ملائكة العذاب فأنشبت ... في جسمه الأغلال والأصفادا
يلقى العذاب قريته أنى ثوى ... ويعالج الإعدام والإيجادا
عكفت عليه فذاق من أنكالها ... ما شق محمله عليه وآدا(29/10)
ما بين أغوال تدافع فوقه ... أو جنة من حولة تتعادى
المرء أجهل كائن وأشده ... ظلماً وأكثره أذى وفسادا
نظر اليقين فما أراد تيقناً ... ورأى السبيل فزاغ عنه وحادا
لم يدر قيمة نفسه فأهانها ... بذنوبه وأذلها استعبادا
شمخ الغني تصلفاً وغلاظة ... وطغى القوي تجبراً وعنادا
قست القلوب فما يرى ذو فاقة ... عطفاً ولا يجد الضعيف مصادا
قوم يعدون الرشاد عماية ... والدين كفراً والتقى إلحادا
جنبوا النفوس إلى الهوى واسترسلوا ... فيه فطال هويها وتمادى
صم إذا بلغ الطوى من مقتر ... فدعا يناجي الراحمين ونادى
أخذوا الحياة عداوة وقطيعة ... وأرى الحياة محبة وودادا
يشكون بادرة الحقود وما دورا ... أن الإساءة تنبت الأحقادا
قسموا الحياة فأرهقوه ببؤسها ... واستأثروا بنعيمها استبدادا
تستن في سبل الشقاء نفوسنا ... وسبيلها أن تنشد الإسعادا
تبقى السعادة ما بقينا أخوة ... وتزول إن زال الإخاء وبادا
ما بالنا تلوي الوجوه إذا دعا ... داعي الإخاء وم لنا نتعادى
أودى التناكر بالشعوب وإنما ... خلق الجميع لآدم أولادا
الخير أطيب ما صنعت مغبة ... والشر أخبث ما زرعت حصادا
أسدد بفضل المال خلة معوز ... يرجو لها بندى يديك سدادا
المال ينفذ والثواب لذى تقى ... باقٍ فما يخشى عليه نفادا
والبر أنفع ما تعد وتقتني ... نفس تراوح بالردى وتغادى
طوبى لمن نظر المحجة فاقتفى ... ورأى السبيل معبداً فانقادا
النفس تصدأ والفضائل صيقل ... يأوي القلوب ويسكن الأخلادا
يأتي وقد صدئت وغاض فرندها ... فيعيدها بيض المتون حدادا
إني أرى هذي النفوس قواضباً ... جعلت لها أجسادنا أغمادا
من مبلغ القوم الجفاة وصية ... أخذ اللبيب بها فغر وسادا(29/11)
أوفوا بعهد الله في أموالكم ... إن جاءكم بعياله قصادا
أدوا مطالبهم ديوناً تقتضي ... لا أنعماً تسدى ولا إرفادا
لولا الأناة ورحمة من ربكم ... لم يمض جاهلكم على ما اعتادا
ولما استبد بمالكم شح ولا ... كنتم له من دونه عبادا
داووا كلوم البائسين بمالكم ... وكفى بمنزور العطاء ضمادا
من لي بمن أن يدعه داعي الهدى ... لبى وإن سئل المعونة جادا
ومتى أهز لبذل عارفة فتى ... سمحاً لألوية الندى عقادا
أزجى العظات لعلها تجلو العمى ... وتقوم المعوم المنآدا
وأجيل في وصف الشقاء ونعته ... قلما بني صرح البيان وشادا
فترى قلوب البائسين صحيفة ... وترى دموع المعوزين مدادا
صوت يهز الخافقين دويه ... ويزحزح الأحقاب والآبادا
مصر
(أحمد محرم)(29/12)
كلمة في أشراط الساعة التي أخبر النبي صلى الله
عليه وسلم
أخرج الإمام البخاري رضي الله عنه عنه صلى الله عليه وسلم: إن بين يدي الساعة فشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها وقطع الأرحام وفشو القلم وظهور الشهادة بالزور وكتمان شهادة الحق.
من أشراط الساعة أن تتخذ الأمانة مغنماً والزكاة مغرماً ويتعلم لغير دين. رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه.
إذا اقترب الزمان لأن يربي الرجل جرواً خير له من أن يربي ولداً له لا يوقر الكبير ولا يرحم الصغير ويكثر أولاد الزنا حتى أن الرجل ليغشى المرأة على قارعة الطريق يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب أمثلهم في ذلك الزمان المداهن رواه الحاكم وغيره عن أبي ذر.
إذا رأيت الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان فانتظر الساعة رواة البخاري ومسلم إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة رواه البخاري. من اشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر، رواه الطبراني. لا تقوم الساعة حتى يعمد الرجل إلى النبطية فيتزوجها على معيشة ويترك بنت عمه لا ينظر إليها رواه الطبراني.
إن من أمارات الساعة أن تقطع الأرحام ويؤخذ المال بغير حقه وتسفك الدماء ويشتكي ذو القرابة قرابته لا يعود عليه شيء ويطوف السائل لا يوضع في يده شيء رواه أبي الشيبة عن ابن مسعود. لا تقوم الساعة حتى يجعل كتاب الله عاراً ويكون الإسلام غريباً وحتى تبدو الشحناء بين الناس وحتى يقبض العلم ويهرم الزمان وينقص عمر البشر وينقص السنون والثمرات ويؤتمن التهماء ويتهم الأمناء ويصدق الكاذب ويكذب الصادق ويكثر الهرج وهو القتل وحتى تبنى الغرف أي القصور فتطاول وحتى تحزن ذوات الأولاد أي لعقوق أولادهن وتفرح العواقر ويظهر البغي والحسد والشح ويهلك الناس ويكثر الكذب ويقل الصدف وحتى تختلف الأمور بين الناس ويتبع الهوى ويقضى بالظن ويكثر المطر ويقل الثمر ويغيض العلم غيضاً ويفيض الجهل فيضاً ويكون الولد غيظاً والشتاء قيظاً ويقوم الخطباء بالكذب فيجعلون حقي لشرار أمتي فمن صدقهم بذلك ورضي به لم يرح(29/13)
رائحة الجنة رواه الطبراني عن أبي موسى وسنده جيد. لا تقوم الساعة حتى يعز الله فيه ثلاثاً درهماً من حلال وعلماً مستفاداً وأخاً في الله عز وجل رواه الديلمي عن حذيفة رضي الله عنه.
إذا اجتمع عشرون رجلاً أو أكثر أو اقل فلم يكن فيهم من يهاب في الله فقد حضر الأمر وراه البيهقي وابن عساكر. من أشراط الساعة أن يمر الرجل بالمسجد فلا يركع ركعتين رواه أبو داود. يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر من شاهق على شاهق أو من جحر إلى جحر كالثعلب يفر بأشباله وذلك في آخر الزمان إذا لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله. فإذا كان ذلك حلت العزبة يكون في ذلك الزمان هلاك الرجل على يدي أبويه إذا كان له أبوان وإلا فعلى يدي زوجته وولده وإلا فعلى يدي الأقارب والجيران يعيرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق حتى يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها رواه أبو نعيم وغيره عن ابن مسعود.
يأتي على الناس زمان يكون حديثهم في مساجدهم في أمر دنياهم فلا تجالسوهم فليس لله فيهم حاجة رواه البيهقي عن الحسن. يأتي على الناس زمان يستخفي المؤمن فيهم كما يستخفي المنافق فيكم رواه ابن السني عن جابر.
يأتي على الناس زمان لا يتبع فيه العليم ولا يستحيي فيه من الحليم ولا يوقر فيه الكبير ولا يرحم فيه الصغير يقتل بعضهم بعضا على الدنيا، قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً يمسي الصالح فيهم مستخفياً أولئك شرار خلق الله لا ينظر الله إليهم يوم القيامة رواه الديلمي عن علي رضي الله عنه. من اقتراب الساعة أن يصلي خمسون نفساً لا تقبل لأحدهم صلاة رواه أبو الشيخ عن ابن مسعود رضي الله عنه.
صنفان من أمتي من أهل النار لم أرها بعد قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها. وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا. رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
قال حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ثم أخذ بحلقة باب الكعبة فقال يا أيها الناس(29/14)
ألا أخبركم بأشراط الساعة فقام إليه سلمان. فقال أخبرنا فداك أمي وأبي يا رسول الله قال من أشراط الساعة إضاعة الصلاة والميل مع الهوى وتعظيم رب المال فقال سليمان ويكون ذلك يا رسول الله قال نهم والذي نفس محمد بيده فعند ذلك يا سلمان تكون الزكاة مغرماًُ والفيء مغنماً ويصدق الكاذب ويكذب الصادق ويؤتمن الخائن ويخون الأمين ويتكلم الرويبضة قالوا وما الرويبضة قال يتكلن في الناس من لم يكن يتكلم وينكر الحق تسعة أعشارهم ويذهب الإسلام فلا يبقى إلا اسمه ويذهب القرآن فلا يبقى إلا رسمه وتحلى المصاحف بالذهب ويتسمن زكور أمتي وتكون المشورة للإماء ويخطب على المنابر الصبيان وتكون المخاطبة للنساء فعند ذلك تزخرف المساجد كما تزخرف الكنائس والبيع وتطول المنابر وتكثر الصفوف مع قلوب متباغضة وألسن مختلفة وأهواء جمة قال سلمان ويكون ذلك يا رسول الله قال نعم يذوب قلبه في جوفه كما يذوب الملح في الماء مما يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيره ويكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء ويغار على الغلمان كما يغار على الجارية البكر فعند ذلك يا سلمان تكون أمراء فسقه ووزارء فجره وأمناء خونه يضيعون الصلوات ويتبعون الشهوات فإن أدركتموهم فصلوا صلاتكم لوقتها عند ذلك يا سليمان يجيئ سبي من المشرق وسبي من المغرب جثاؤهم أي أجسامهم جثاء الناس وقلوبهم قلوب الشياطين لا يرحمون صغيراً ولا يوقرون كبيراً عند ذلك يا سليمان يحج الناس إلى هذا البيت الحرام تحج ملوكهم لهواً وتنزهاً وأغنياؤهم تجارة ومساكنيهم للمسألة وقراؤهم رياء وسمعة قال ويكون ذلك يا رسول الله قال نعم والذي نفس محمد بيده عند ذلك يا سليمان يفشو الكذب ويظهر الكوكب له الذنب وتشارك المرأة زوجها في التجارة وتتقارب السواق قال وما تقاربها قال كسادها وقلة أرباحها عند ذلك أي سليمان يبعث الله ريحاً فيها حبات صفر فتلقط رؤوس العلماء لما رأوا المنكر فلم يغيروه قال ويكون ذلك يا رسول الله قال نعم والذي بعث محمداً بالحق رواه ابن مردويه. من اقتراب الساعة إذا رأيتم الناس أضاعوا الصلاة وأضاعوا الأمانة واستحلوا الكبائر وأكلوا الربا وأكلوا الرشاء وشيدوا البناء واتبعوا الهوى وباعوا الدين بالدنيا واتخذوا القرآن مزامير واتخذوا جلود السباع صفافاً والمساجد طرقاً والحرير لباساً وأكثروا الجواري وفشا الزنا وتهاونوا بالطلاق وأتمن الخائن وخون الأمين وصار المطر قيظاً والولد غيظاً وأمراء فجره(29/15)
ووزراء كذبه وأمناء خونه وعرفاء ظلمه وقلت العلماء وكثر القراء وقلت لافقهاء وحليت المصاحف وزخرفت المساجد وطولت المنابر وفسدت القلوب واتخذت القينات واستحلت المعازف وشربت الخمور وعطلت الحدود ونقصت الشهور ونقضت المواثيق وشاركت المرأة زوجها في التجارة وركب الناس البراذين وتشبهت النساء بالرجال والرجال بالنساء ويحلف بغير الله ويشهد الرجل من غير أن يستشهد وكانت الزكاة مغرماً والأمانة مغنماً وأطاع الرجل امرأته وعق أمه وقرب صديقه وأقصى اباه وصارت الإمارات مواريث وسب آخر هذه الأمة أولها وأكرم الرجل اتقاء شه وكثرت الشرط وصعدت الجهال المنابر ولبس الرجال التيجان وضيقت الطرقات وشيد البناء واستغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء.
وكثرت خطباء منابركم وركن علماؤكم إلى ولاتكم فأحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال. وأفتوهم بما يشتهون وتعلم علماؤكم العلم ليجلبوا به دنانيركم ودراهمكم واتخذتم القرآن تجارة وضيعتم حق الله في أموالكم وصارت أموالكم عند شراركم وقطعتم أرحامكم وشربتم الخمور في ناديكم ولعبتم بالميسر وضربتم بالكبر والمعزفة والمزامير ومنعتم محاويجكم زكاتكم ورأيتموها مغرماً وقتل البريء ليغيظ العامة واختلفت أهواؤكم وصار العطاء في العبيد والسقاط وطففت المكايل والموازين ووليتم أمورطكم سفهائكم كما رواه أبو الشيخ والديلمي عن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه.
فهذه جملة من اشراط الساعة وأكثرها موجود وهي في التزايد يوماً فيوماً فنسأل الله أن يجنبنا الفتن ويعصمنا من المحن ويميتنا على السنن ويغفر لنا ما جنيناه في السر والعلن بمنه وكرمه إنه سميع الدعاء.
(لها بقية)
دمشق
عبد المجيد القصاب(29/16)
نحن وأوروبا
من مقالة نشرت في جريدة (الحق يعلو) بإمضاء الكاتب الشهير عبد العزيز الجاويش
قال: تعصبت علينا أوروبا المسيحية قرناً كاملاً أفقدتنا فيه بفرط تعصبها نحو نصف ملكنا.
أفسحت صدور حواضرها للجمعيات والعصابات ولانضم كبار رجالها في لندن وباريس إلى هؤلاء الأشقياء ثم جعلوا يمدونهم بالمال ويزودونهم بالسلاح ويؤيدونهم بالقول والكتابة.
انتظمت العصابات البلقانية وكان لها من أساطين المسيحية وأركان السياسية في أوروبا أكبر معوان وأشد ساعد.
كانت تلك العصابات الأثيمة تدبر المذابح في البلقان وتلقي القنابل على المسلمين استفزازاً لغضبهم وإثارة لمطمئن نفوسهم. فكانوا بما يلقون عليهم من تلك القنابل يصيبون المسلمين في ذراريهم ونسائهم وسائر ضعفائهم كما كانوا يدمرون مساجدهم وبيت أشرافهم حتى يندفع هؤلاء بدوافع الحنق والغيظ إلى شيء من الانتقام والثأر فماذا كانت تفعل إذ ذاك أوروبا المتمدنة الراقية؟.
لا يكاد يقتل أولئك المصابون في أنفسهم وأموالهم واحداً من أولئك الأشرار حتى تقوم القيامة وتصيح الصحف ويخطب الخطباء في البرلمانات ويصور السلمون في المحلات سفاكين للدماء ذباحين للأبرياء سلابين نهابين للأموال والأسباب ثم تللو ذلك أصوات الاستصراخ إلى محاسبة الحكومة العثمانية وتحرير الأمم البلقانية.
كذكل كان يفعل سياسيو أروبا وكتابها من كل الطبقات وهم المدبرون لتلك المكايد العالمون بما تفعل العصابات البلقانية الطماحون إلى تحقيق أمنيتهم العظمى وغايتهم الأخيرة وإن هي إلا محاربة الإسلام ومحو معالمه عن الأرض.
ولقد اقتطفت أيدي الصليبيين اليوم ثمرات ما كادوا ودبروا منذ جيلين تقريباً فانسلخت عنا ألبانيا ومقدونيا فخرجنا بذلك عن قارة أوروبا خاسرين ثلث ما بقي من ملكنا.
ولم يكد يستقر الصلح حتى قامت صحف أوروبا تستأنف حملاتها التي تعودناها في سبيل البلقان منذ أزمان فهي اليوم تخوض في أمر أرمينيا ونقص من مفتريات أحاديثها ما تريد من ورائه إتمام حل المسألة الشرقية قبل أن يمضي صك المصالحة وتقفل جنودنا عن ميادين القتال في شتالجة وغليبولي.
قام منذ أيام خطيب من أعضاء الجمعية المقدونية في البرلمان الإنكليزي فجعل يحض(29/17)
حكومته باسم الصليب والعدل والإنسانية (كما يقول) على التداخل في تأمين سكان ما حول شتالجه من الصليبيين على أموالهم وأنفسهم ومصالحهم وراحتهم وقد جاء فيما اقترحه من الطرق الواقية لتلك الشرذمة القليلة الباقية تحت حكمنا أن تقيم أوروبا عليها حاكماً مسيحياً يختم بقيامه تاريخ وجودنا السياسي بل والحيوي في تلك القارة المسيحية ولكن لم يكن ذلك هو البادرة الفريدة والمقدمة الوحيدة التي بوغتنا بها اليوم فإن المتصفح لجرائد أوروبا الكبرى يجدها فتحت للفتنة أبواباً أخرى. فمن هذا ما نشرته جريدة التيمس في عددها الصادر في 12 أبريل الجاري إذ أخذت تخوض في أمر الأرمن وتسرد حوادث قبضت فيها الحكومة المحلية هناك على عدة أفراد في سبيل تحقيق القنلبلة التي انفجرت في تبليس.
إن حادثة تبليس ليست فيما نعتقد من الحوادث العرضية البسيطة ولكنها إحدى مقدمات دبرت لإقامة ثورة في تلك البقاع ترمي إلى تمكين روسيا من احتلالها. على أن من شأن أمثال هذه الحادثة أن يتهم فيها أفراد قد يكون بينهم المجرم كما يكون منهم البريء فالذي يميز المجرم عن غيره إنما هو التحقيق القضائي والبحث الإداري فهل من الآثام والجرائم أن تلقي الحكومة المحلية القبض على من مسهم الاشتباه وحامت حولهم الشكوك؟.
لم تستطع التيمس المسيحية المتعصبة أن تخفي أن رجال الإدارة في تبليس قد سرحوا كثيراً ممن قبضوا عليهم لظهور براءتهم ثم م تستطع أن تكتم ما عومل به أولئك المقبوض عليهم من اللين والرحمة ولكنها لم تستطع مع ذلك أن تستر نيران حقدها على الإسلام وتحجب ما تضمره هي والعالم المسيحي لنا من المكايد والأذى فقد ختمت كلامها في هذا الموضع بقولها وعلى كل حال لا ينتظر أن يكون الحكم التركي المستقبل خيراً من الحكم العتيق الاستبدادي في شيء.
كذلك تقول التيمس في أحدث أعداها متناسية (أن القنبلة قد تحقق انفجارها وعرفت آثار ضررها) ومستقلة ما أتى به رجال الإدارة العثمانيون من اللين والإحسان في تحقيق قضيتها ومعاملة من اشتبه في أمرهم من أهل تلك الجهة.
وتؤكد التيمس منذ الآن أن الحكم هناك لا يرجى تغييره ومغايرته لطراز الحكم الحميدي وهي تعلم أن قانون الولايات قد صدر الأمر بتطبيقه وأن الأمر في سائر الولايات العثمانية(29/18)
سيكون كله قريباً بيد أهاليها فأرمينيا والكردستان وبلاد العرب والأناضول كل تلك البقاع ستسقل بتدبير سياستها الداخلية تدبيراً قطعياً غائياً لا يتوقف على الحكومة المركزية في شيء.
فإذا بديء بالانتخابات وتألفت المجالس المحلية التي نص عليها القانون انتقلت السياسة الداخلية من الحكومة المركزية إلى أهالي الولايات فإذا لم تنتظم إذ ذاك شؤون الولايات وأمرها بيدها فما هي إذاً جريرة الحكومة العثمانية وهل يجوز أن يقال بعد أن تقرر قانون الولايات أنه لا فرق بين الحكم في المستقبل والحكم في الماضي؟ اللهم إن الأمر واضح جلي ولكن التعصب المسيحي المرذول قد أعمى بصر التيمس التي ستجر من ورائها قطاراً من مقلديها السياسييين لا منتهى لامتداده.
ومن غريب أمر التيمس أنها خاضت في أمر مظهر بك والي كوسوفو قبل الثورة الألبانية سنة 1910 وهو اليوم الوالي الجديد لتبليس ثم وعدت أن تعيينه لا يغني فتيلاً مع أن الرجل معروف بالذكاء مشهود له بالكفاءة الإدارية والقدرة السياسية ولا عجب فإن التيمس تعلم علم اليقين ما يدبر هناك من المكايد وما صممن عليه الجمعية الأرمنية في أنجلترا وأمريقا من المفاسد والشرور. تعلم ذلك جريدة التيمس جد العلم فهي فيما قررت من توقع فشل التدبير والنظام اللذين يراد تطبيقهما في أرمينيا لم تكن هارفة بما لا تعرف أو منبئة بما لا تعلم ولكنها تذكر لنا نتيجة هي أعلم بمقدماتها الموضوعة وخططها المرسومة.(29/19)
قصيدة أخلاقية
أنلهو والمصير هائل
هل لبيب لاه على ظهر الأرض ... وطويل في بطنها البابه
وعسى أن يجر يوماً إليك السر ... مع من طال للعناد انتصابه
شدة القرب حجاب
ولقد يحسن المجاور صنعاً ... وهو يؤذي من زاد منه اقترابه
أو ما النصل كافل لك بالنص ... ر شقي بالحد منه قرابه
خلق الشر في الطباع ولولا ... غبه عز في الورى أغبابه
الإنسان المتوحش أضر من الوحوش
ومن الناس عاذ بالشم والشم ... خ حزماً نسر الملا وعقابه
ومن الناس فر يرضى باوشا ... ل مياه من القطا أسرابه.
ومن الناس مشبه الوحش لا ير ... ضيه إلا عدوانه واغتصابه
ما أشد التفاوت بين بني آدم
ومن الناس عاقر الضيف كالكل ... ب ومنهم من لا تهر كلابه
(لها تتمة)(29/20)
الختان في الإسلام
إن مما عمت به البلوى فعل المنكرات عند إجراء الختان وكذلك في الأعراس وعند عقد النكاح فترى المرأة تكلف زوجها لجلب المغنيات وشراء الملبوسات وتحمله من المصاريف الباهظة ما لا يطيقه وإذا راجعها الزوج بذلك تقول له إن ذلك لا يليق بنا تركه لأن الناس يعيبون علينا وينسبوننا إلى البخل إلى غير ذلك من الأقاويل التي لا تنطبق على شرع ولا عقل والناس بل أكثر العلماء عن إنكار هذه المنكرات ساكتون لا ينبثون ببنت شفة وربما ذهب بعضهم لتلك المجتمعات وجلس بها ساكتاً كأنه لم يعلم حرمة ذلك ولم يكلفه الشارع بإنكار منكر فتعساً لمن كانت حالته ذلك اللهم أصلح فساد قلوبنا وخذ بيدنا إلى الخير فإن دعي وكان ثمة آلة لهو كعود ودربوكة وما شاكلهما أو تصاوير أو شرب مسكر أو وجود نساء مغنيات فلا تجب الإجابة ولا تسن إن علم بذاك قبل ذهابه بل تحرم وإن ذهب ووجد ذلك ولم يعلم به من قبل وجب عليه الخروج ووجب عليه الإنكار إن كان ممن يقتدى به ولقد أخذني العجب من رجل فقير لا يملك قوته الضروري وهو في غالب أوقاته في هم وكرب عظيم من قلة ذات يده وكثرة عياله أراد أن يختن أولاده فأحضر بعضاً من القينات لدار جاره لسعتها وضيق محله وحصل اللهو والطرب وأديرت الأقداح وصاحب الدار ممن يقتدى بهم ولم ينكر ما حصل في داره بل كان من أكبر المساعدين على ذلك فهل هذا من السنن التي جاء بها الشارع صلى الله عليه وسلم وحث عليها ومضى عليها السلف الصالح كلا ثم كلا ولو كان هذا زمنه صلى الله عليه وسلم لأدبه بما يكون عبرة لغيره ومثالاً لإضرابه الفجار وأختم مقالتي هذه ببيان حكم الختان فأقول أخرج البخاري في كتاب اللباس في باب قص الشارب من حديث أبو هريرة رضي الله عنه الفطرة خمس أو خمس من الفطرة الختان والاستحداد ونتف الإبط وتقليم الأظافر وقص الشارب وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول الفطرة خمس الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الآباط وكتب القسطلاني في كتابه الاستئذان في باب الختان بعد الكبر الختان بكسر الخاء المعجمة قطع القلفة التي تغطي الحشفة في فرج الرجل وقطع بعض الجلدة التي في أعلى فرج المرأى ويسمى ختان الرجل إعذاراً وختان المرأة خفضاً وهو واجب عند الشافعية في حق الرجال والنساء وقيل سنة في حق النساء ويفترض بعد البلوغ ويسن قبله في سابع يوم الولادة للاتباع فإن أخر(29/21)
عنه ففي الأربعين وإلا ففي السنة السابعة لأنها وقت أمره بالصلاة.
ومن مات بغير ختان لم يختن في الأصح ويسن إظهار ختان الذكر وإخفاء ختان الأنثى ومؤونة الختان في مال المختون ثم على من تلزمه نفقته ويسمى طعام الختان عذيرة وتسن الإجابة إليها كسائر الدعوات وهو سنة عند السادة الحنفية للرجال ومكرمة للنساء ففي حاشية العلامة ابن عابدين الختان سنة للرجال من جملة الفطرة لا يمكن تركها وهي مكرمة في حق النساء أيضاً كما في الكفاية وأول من اختتن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد ولد مختوناً وذلك من خصائصه عليه الصلاة والسلام ولا بأس أن يدعو الإنسان بهذا الدعاء أو نحوه وهو اللهم هذه سنتك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم واتباع منا لك ولدينك بمشيئتك وبإرادتك لأأمر أردته وقضاء حتمته وأمر نفذته وأدقتنا به حر الحديد لأمر أنت أعرف به منا اللهم طهرنا من الذنوب وأصلح أولانا وادفع الآفات عن أبداننا وأجسامنا وأغننا بفضلك ولا تحوجنا لأحد غيرك إنك تعلم ولا نعلم يا أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.
(دمشق)
(م. ز)(29/22)
وداعاً أيها القطر الروملي
نودعك اطضراراً يا رمللي ... وداعاً يستحيل به التسلي
تخلى الدهر عنك كما تخلى ... فتى عن روحه بئس التخلي
ترى هل نلتقي واليأس منا ... ليدعونا عليك أن نصلي
ترى هل ينقه الوطن المفدى ... وأضحى منك كالعضو الأشل
ترى هل بعد هذاك التدني ... نُرى بالجد في أرقى محل
أجل إن زال من في الكون طرا ... وأبدل وانجلى هذا التجلي
وفيمن نهتدي ولقد بلينا ... بكل مخادع خب مضل
لجأنا للتجمل واكتفينا ... وكم خدع التجمل والتحلي
لهونا بالتعلل والأماني ... وذلك منتهى جهد المقل
فحسب الغر منا ما ابتلينا ... به من كل تغرير مخل
وهل تبقى البقية بعد هذا ... ونربأ بالحياة على الأقل
رفاقي من لنا برجال حزم ... نعيش بعهدهم في خير ظل
رفاقي هل لهذا الملك شعب ... يرقيه إلى المجد الأجل
رفاقي كاد فرط الغيظ يقضي ... علينا من أسى فقد الرملي
رفاقي هل عواطفنا تلاشت ... أم ائتلفت خطى النهج الأذل
أما والله إن الموت أشهى ... لنا من أن نعيش بحال ذل
عيوني أكثري تسكاب دمعي ... على ما انتاب قومي أو اقلي
فما يجدي البكا من وقع رزءٍ ... تناول كل جزءيّ وكلي
وهبني قلت للوطن المفدى ... فداك أبي وأمي بل وخلي
أيجديه المقال بلا اجتهاد ... يهب به الخطر المذل
أيا وطني لعلي زغت فاصفح ... وهل يجديك من قولي لعلي
وهل شعرت ولاة الأمر فيما ... ألمّ بنا من الخطب الأجل
وهل اهتز هذا الكون غيظاً ... بما قد تم من عقد وحل
أنسعى في خراب الملك جهلا ... على أمل التصدر والتعلي
فروق هل اهتديت بما دهانا ... أعيذك بعد ذا من أن تضلي(29/23)
فحسبك ما ألم بك اتعاظا ... فروق من التدني والتدلي
أعرش الملك لا تجزع لحرب ... توالى في وقائعها التولي
وهل ننسى توغلك انتصاراً ... بأوروبا وكنت بها تصلي
وكم جمعوا بها لك من خراج ... سل التاريخ عن ذاك التجلي
فإن الحرب يا هذا سجال ... فلا تركن إلى اليأس الممل
وإن الذهر دولاب سيقطي ... لمجدك بالتمتع والتملي
(دمشق)
عبد الرحمن قصار(29/24)
سلسلة حكم الخلفاء
(علي رضي الله عنه) تعطروا بالاستغفار ولا تفضحكم روائح الذنوب. الشفيع جناح الطالب، من كتم علماً فكأنه جهله. المسؤول حر حتى يعد. لا يرضى عنك الحاسد حتى تموت. السامع للغيبة أحد المغتابين. كفى بالظفر شفيعاً للمذنب. لا ترج إلا ربك ولا تخش إلا ذنبك. إن الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء فما جاع فقير إلا بما منع غني.
النكبات لها غايات لا بد أن تنتهي فيجب على العاقل أن ينام لها إلى وقت إدبارها فالمكابرة لها بالحيلة زيادة فيها. لا خير في صحبة من إذا حدثك كذبك وإذا حدثته كذبك وإذا ائتمنته خانك وإذا ائتمنك اتهمك وإذا أنعمت عليه كفر وإذا أنعم عليك منَّ عليك. البشاشة فخ المودة. الهيبة مقرونة بالخيبة والحياء مقرون بالحرمان والفرصة تمرمر السحاب. الفقيه كل الفقيه من لم يرخص في معصية الله ولم يؤيس من رحمته. من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب. إذا قدرت على العدو فاجعل العفو شكر قدرتك. شفيع المذنب إقراره، وتوبته اعتذاره. أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس. تنقاد الأمور للمقادير حتى يكون الحيف في التدبير. خسر مروءته من ضيع نفسه وأزرى بنفسه من استشعر الطمع ورضي بالذل. ذمتي رهينة بما أقول وأنا به زعيم أنه من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات حجزته التقوى عن تقحم الشبهات. أكبر البغي أن تعيب بما فيك وأن تؤذي جليسك بما هو فيه عبثاً به. اتقوا من تبغضه قلوبكم. إذا كنتم في إدبار والموت في إقبال فما أسرع الملتقي. قلب الأحمق في لسانه ولسان العاقل في قلبه. كفى بالأجل حارساً. اطرح عليك واردات الهموم بعزائم الصبر. كن بما في يد الله أوثق منك بما في يد الناس. لا يكون الرجل سيد قومه حتى لا يبالي أي ثوبه لبس. من لم يحسن ظنه بالظفر لم يجد في الطلب. أخيب الناس سعياً وأخسرهم صفقة رجل أتعب بدنه في آماله وشغل بها عن معاده فلم تساعده المقادير على إرادته وخرج من الدنيا بحسرته وقدم بغير زاد على آخرته. ونظر إلى رجل يغتاب آخر وعنده ابنه الحسين رضي الله عنه فقال يا بني نزه سمعك عنه فإنه نظر إلى أخبث ما في وعائه فأفرغه في وعائك. ولا تؤاخ الفاجر فإنه يزين لك فعله ويحب لو أنك مثله ويحسن إليك أسوء حاله ومخرجه من عندك ومدخله عليك عار وشين ولا الأحمق فإنه يجهد كد نفسه فلا ينفعك وربما أراد أن ينفعك فيضرك فسكوته خير من نطقه وبعده خير من قربه وموته خير من حياته ولا الكذاب فإنه لا ينفعك(29/25)
معه عيش ينقل حديثك وينقل الحديث إليك حتى إذا أراد أن يحدث بالصدق فلا يصدق. ثلاثة لا تعرف إلا في ثلاثة الشجاع في الحرب والحليمعند الغضب والصديق عند الحاجة. العجب لمن يهلك والنجاة معه فقيل ما هي قال الاستغفار، قصم ظهري رجلان جاهل متنسك وعالم متهتك، يجد البليغ في ألم السكوت ما يجده العيي مكن ألم الكلام. لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ صديقه في غيبته وعند نكبته وبعد وفاته في تركته.
أعجب ما في الإنسان قلبه وله مواد من الحكمة وأضداد منم خلافها فإذا سنح له الرجاء أذله الطمع وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص وإن ملكه اليأس قتله الأسف وإن هاج به الغضب اشتد به الغيظ وإن أسعده الرضاء نسي التحفظ وإن ألظبه الخوف شغله الحزن وإن اتسع له إلا من استلبته العزة وإن عادت له النعمة أخذته العزة وإن امتحن بمصيبه فضحه الجزع وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى وإن عضته فاقة أضرعه البلاء وإن جهده الجوع أفقده الضعف وإن أفرط في الشبع كظته البطنة فكل تقتير به مضر وكل إفراط له مفسد.
لا تكن ممن يرجو الجنة من غي رعمل ويؤخر التوبة أطول الأمل يقول في الدنيا قول الزاهدين ويعمل فيها بقول الراغبين إن أعطي منها لم يشبع وإن منع لم يقنع يقول لا أعمل فأتعنى بل أجلسي فأتمنى فهو يتمنى المغفرة ويدأب للمعصية وقد عمر ما يتذكر فيه من تذكر وجاءه النذير. لا يكبر عليك ظلم من ظلمك فإنما يسعى لمضرته ومنفعتك وليس جزاء من سرك أن تسوءه. إذا منعك اللئيم البر مع إعظامه حقك كان أحسن من بذل السخي لك إياه مع الاستخفاف بك. الكمال في خمس أن لا يعيب الرجل أحداً يعيب فيه مثله حتى يصلح العيب من نفسه فإنه لا يفرغ من إصلاح عيب من عيوبه حتى يهجم عليه آخر فتشغله عيوبه عن عيوب الناس. وأن لا يطلق لسانه أو يده حتى يعلم أفي طاعة ذلك أم في معصية. وأن لا يلتمس من الناس إلا ما يعطيهم من نفسه مثله. وأن يسلم من الناس باستشعار مداراتهم وتوفيتهم حقوقهم. وأن ينفق الفضل من ماله ويمسك الفضل من قوله. استنزلوا الرزق بالصدقة. من أيقن بالخلف جاد بالعطية. تنزل المعونة على قدر المؤونة ما على أمرؤ اقتصد. التودد نصف العقل والهم نصف الهرم.
وخطب فقال أيها الناس اتقوا خمساً قبل أن تحل بكم خمس ما نكث قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم ولا بخس قوم الكيل والميزان إلا أخذهم بالسنين ونقص من الأموال والأنفس(29/26)
والثمرات وما منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم قطر السماء وما ظهرت الفاحشة قط في قوم إلا سلط الله عليهم الطاعون.
(الحسن رضي الله عنه) إن خير ما بذلك من مالك ما وفيت به عرضك. التبرع بالمعروف والعطاء قبل السؤال من أكبر السؤدد. وسئل عن الصمت فقال فيه ستر للعي، وزين للعرض وفاعله في راحة وجليسه في أمن لا أدب لمن لا عقل له، ولا شدة لمن لا همة له، ولا حياء لمن لا دين له، هلاك الناس في ثلاث الكبر والحرص والحسد.
(لها بقية)
إبراهيم خليل مردم بك(29/27)
العدد 30 - بتاريخ: 5 - 7 - 1913(/)
الدين الإسلامي والتوحيد
البعث والحشر23
البعث هو عبارة عن إحياء الله الموتى وإخراجهم من قبورهم بعد جمع الأجزاء الأصلية التي هي الذرات المخرجة من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام المشار إليها بقوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) والحشر هو عبارة عن سوق المخلوقات جميعاً إلى الموقف وهو الموضع الذي يقفون فيه لفصل القضاء بينهم ولا فرق في ذلك بين من يحاسب كالمكلف وبين غيره.
البعث والحشر من الأمور التي يجب اعتقادها لثبوتهما بالبراهين النقلية والعقلية التي تذعن لها العقول الصحيحة وتطمئن لذكراها البصائر النافذة فمن الأدلة النقلية قوله تعالى: (قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) وقوله تعالى: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وقوله عز شأنه: (أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه) وقد أخرج البخاري ومسلم عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال إنكم محشورون إلى الله إلى غير ذلك مما ورد في الشرع الأنور وأما الأدلة العقلية فسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
البعث والحشر أصلبان من أصول الديانة افسلامية بل التصديق بهما أساس كل دين وأقوم وسيلة لإحقاق الحق والوقوف عن الحد. مسألة المصير بعد الموت طالما كانت الشغل الشاغل لأساطين العلماء وكبار الفلاسفة والظاهر أن حب الحياة جعلهم يطلبونها بعد ذهابها حتى أضحى أول خاطر يخطر للمتفكر البصير الموقف بأنه إنما ورد هذه الحياة الدنيا ليتزود كمالاً يؤهله للعروج إلى عالم أرقى وأنفع وأوسع من هذا العالم الدنيوي والانتقال من دار ضيقة الساحات كثيرة الآفات خليقة بأن تسمى بيت الأكدار وقرارة الأحزان والآلام إلى دار وسيعة الساحات فسيحة الباحات لا فيها غول ولا تأثيم.
لذلك ترى أهل الملل كافة وجمهور المحققين من الفلاسفة متفقين على حقيقة المعاد وإن اختلفوا في كيفيته على ما سيتضح للقارئ إلا شرذمة من الطبيعيين الذين أعماهم الضلال وأرهقتهم الغواية واستزلهم شيطان الوهم فهوى بهم إلى أخس منزلة من منازل السخافة وزعموا أن لا حياة للإنسان بعد هذه الحياة وأنه لا يختلف عن النباتات الأرضية التي(30/1)
تتفرق أجزاؤها فتدخل في تركيب آخر وهكذا يبقى بين التحليل والتركيب فتارة يكون جزءاً من إنسان وتارة ناباً من ثعبان وآونة ورقة من أغصان وغيرها ذنباً في حيوان وهلم جرا وذهبوا إلى أن العبد يستوفي في هذه الحياة حظوظه من الشهوات البهيمية وبهذا الزعم الفاسد والمذهب الباطل أطلقوا النفوس من قيد التأثم ودفعوها إلى أنواع العدوان وسهلوا لها الغدر والخيانة وحملوها على فعل كل خبيثة واقتراف كل رذيلة وأعرضوا بالعقول عن كسب الكمال البشري وأعدموها الرغبة في كشف الحقائق وتعرف أسرار الكائنات.
هذه الشرذمة الطاغية أنكرت الروح والملأ الأعلى والخلود والبعث والحشر والعقاب والثواب جهلاً وعناداً زاعمين أن ذلك كله من خيالات الأفكار القديمة وبقية من توهمات السالفين وليس في الوجود شيء غير المادة وقوتها الذاتية وأخذت تتبجح بطلب الأدلة الحسية لا العقلية حتى أنك لو أتيتهم بأعظم البراهين العقلية والدلائل القطعية والإقناعية لقالوا أن هو إلا تصوير خيالي أو فكر وهمي فبينما يموجون في دياجير الحيرة ويضطربون في غياهب الغواشي الوهمية إذا هم بآية عظمى ظلت أعناقهم لهم خاضعة وقارعة كبرى أضحت عقولهم أمامها حائرة وهي التنويم المغناطيسي ثم تلاه فن استحضار الأرواح وتجسدها المشهور (بالأسبيرنيزم) فكانت النتيجة انهزام تلك الشرذمة العائثة في الأرض فساداً انهزاماً لا يقوم لها بعده علم ولا يرفع لها صوت. قال فريد بك وجدي في كتابه كنز العلوم عند الكلام على مادة (آخرة) هي الحياة الآخرة التي وعد الله عباده بها والناس بإزاء العقيدة بها في أربع مراتب (أولها) رتبة أهل الله وخاصته وهؤلاء قد انكشف لهم الحال فرأوا بأعينهم ما لا يدركه غيرهم بعقولهم فاعتقدوا بالآخرة عقيدة عيانية حسية وهؤلاء هم الأنبياء والصديقون (ثانيها) رتبة أهل البصائر النافذة وأولئك يكفيهم مجرد النظر في ملك الله وملكوته وما أودع فيهما من أعلام بينة وأدلة ناطقة (ثالثها) رتبة الحسيين الذين لا يرضيهم من العقائد إلا ما يؤثر على حسهم ويدهش مشاعرهم.
أما الرتبتان الأوليان فقد هداهما الله بنوره ودلهم على الطريق بتوفيقه وهل بعد قوله تعالى: (من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها من أنشأها أول مرة) مطمع لمستزيد. أما الرتبة الثالثة فنحيلها إلى ما كتبناه تحت عنوان (أنبوتزم ومانيتيزم وإسبرتزم) فإن هذه المباحث من الأدلة المحسوسة على وجود الروح ما جدع أنف الإلحاد الأوروبي وبلغ مقتله وهناك(30/2)
رتبة رابعة وهي التي لا يقنعها بل ولا تريد أن تقنع فهي الرتبة السفلى التي ظهرت في كل جيل وكل قرن وكانت جائحة على الفضيلة والإنسانية إلا أنها ما نجمت حتى اجتثت وما طارت حتى قصت. ولقد كانت في أوائل هذا القرن والذي قبله أشسد مما كانت عليه في أي جيل من الأجيال أدرعت بالعلوم الطبيعية واستلامت بالتجارب الفنية وقامة قومة أطاشت بها الأحلام وزعزعت بها أطواد الأفئدة تصيح على وجوه الناس الحس الحس التجربة التجربة إياكم والوهم احذروا الخيال. فلم يلبثوا على غلوائهم ردحاً من الزمن حتى قرعهم الله بقارعة (الإسبرتزم) مذهب استحضار الأرواح فإذا هم حيارى لا يدرون ما يفعلون فقاوموه وشنعوا عليه وعلى أشياعه ثم جالوا فيه جولة حسية وإذا بأماثلهم يقولون كما يقول الأستاذ الطائر الصيت أحد أركان العلوم الفزيولوجية العصرية (روسل ولاس) الإنجليزي مكتشف ناموس (الانتخاب الطبيعي) قال في كتابه (معجزات العصر الحاضر) لقد كنت دهرياً صرفاً مقتنعاً بمذهبي تمام الاقتناع ولم يكن في ذهني أدنى محل للتصديق بحياة روحية ولا بوجود عامل في هذا الكون كله غير المادة وقوتها ولكني رأيت أن المشاهدات الحسية لن تغالب فإنها قهرتني وأجبرتني على اعتبارها أشياء مثبتة قبل أن أعتقد نسبتها إلى الأرواح بمدة طويلة ثم أخذت هذه المشاهدات مكاناً في عقلي شيئاً فشيئاً ولم يكن ذلك بطريقة نظرية تصورية ولكن بتأثير المشاهدات التي كان يتلو بعضها لبعضاً بطريقة لا يمكن التخلص منها بوسيلة أخرى (أي بغير نسبتها إلى الأرواح) أ. هـ.
يقول روسل ولاس هذا ومن هو روسل ولاس ويردد قوله أخوانه اللوف من علماء الأرض كما تراه في كلمة (إسبرتزم) ولكن يوجد من الناس هنا من يدعي أن هؤلاء هاذون. وإذا كان هؤلاء هاذين فمن هم المدققون الحسيون بخ بخ ولماذا هم هاذون؟ ألأنهم قاموا يثبتون عالم ما وراء الطبيعة ويقولون أن الإنسان روحاً خالدة بعد الموت؟
هذه مقالة جاء بها رسول ومال الناس إليها قديماً وحديثاً فهل يصح أن يوصم بالجنون من قام يثبت مذهب الأنبياء والصديقين؟
نحن نقول كما يقول علماء أوروبا أن تلك الخوارق منسوبة للأرواح ولكن نقول أن تلك المدهشات كافية في إثبات عالم ما وراء الطبيعة وأنها برهنت بالحس على أن وراء المادة حياة روحية عالية جداً وهذا كاف لتهدئ النفوس على مستقبلها وتعزية المصابين في(30/3)
كروبها وشدائدها وفي المستقبل العجب العجاب فواها لمن تاب وأناب وآها لمن أصر واستكبر واستأسد وتنمرد (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز).
وقال أيضاً في كتابه (الإسلام في عصر العلم) سيرى النوع الإنساني وراء هذه المسألة (استحضار الرواح) إن شاء الله العجب العجاب في قصم ظهور الملحدين وفصم عرى خزعبلات الماديين والله غالب على أمره ولا معقب لحكمه.
أما لدينا معشر المسلمين فمسألة ظهور الأرواح للأحياء من الأمور الشائعة للصالحين والمقربين ونظن أنه لا يوجد واحد من المسلمين ولم يقرأ في كتاب أو لم يسمع من قارئ أن روح فلان الصالح ظهرت لفلان التقي وحصل بينهما كيت وكيت من المحادثات والمحاضرات بل كثيراً ما تروي العامة أموراً تدل على معرفتها بمسألة ظهور الأرواح للناس مثل روايتهم عن بعضهم أن فلاناً تاه في الصحراء وألمت به الحيرة من كل جانب ولما أوشك أن يقع في اليأس إذا برجل مرتد بثياب بيضاء وعليه جمال وبهاء جاء إليه فدله على الطريق وأزال عنه بوائق التعويق ثم يعقب قوله بأن ذلك الشخص لا شك في أنه روح التقي فلان الخ من أمثال هذه الأخبار التي لا يليق بنا إنكارها على عجل وإن كانت تعوز النظر وللعلماء المحققين أدلة عقلية على بطلان ما جنح إليه الطبيعيون ودحض مذهبهم الذي ليس له ظل في الحقيقة ولا وجه من الصحة.(30/4)
أغلاط لسان العرب
(وفي مادة ك ج ج صفحة 175 سطر 19) الكجة بالضم والتشديد لعبة للصبيان قال ابن الأعرابي هو أن يأخذ الصبي خزفة فيدورها ويجعلها كأنها كرة ثم يتقامرون بها وضبط (كرة) بتشديد الراء والصواب تخفيفها على وزن ثبة بنص القاموس.
(وفي مادة ذ ب ح صفحة 264 سطر 6) وتذابح القوم أي بح بعضهم بعضاً يقال التمادح التدابح والصواب البتذابح بالذال المعجمة لأن الكلام في مادة الذبح لا معنى هنا للتدابح بالمهملة.
(وفي مادة أر خ صفحة 482 سطر4) في تفسير بيتين قال الغفر لو ... د الوعل والأرخ
ولد البقرة ويخرمس أي يسكت أو لا طوم الضمام بين شفتيه والصواب (والأطوم) بتقديم واو العطف على الألف وهو ظاهر.
(وفي مادة ج ع د سطر 95) روي قول الراجز
قد يتمنى طفلة أملود ... بفاحم زينة التجعيد
وضبط صفة بكسر الطاء والصواب فتحها لأن المراد الرخصة لا التي في سن الطفولة.
(وفي مادة ج ود ص 111) روي للفرزدق:
قوم أبوهم أبو العاصي أجادهمك ... قرم نجيب لجدات مناجيب
وضبط (لجدات) بفتح التاء كأنهم توهموه ممنوع من الصرف والصواب كسرها مع التنوين.
(وفي مادة س ن د ص 205 سطر 18) والسند مثقل سنود القوم في الجبل. وفي حديث أحد رأيت التساء يسندن في الجبل أي يصعدون ويروي بالشين المعجمة وسنذكره والمراد بالمثقل المشدد كما لا يخفى وليس في لفظ (السند) حرف مشددة إلا السين وهي لا تكون إلا مشددة متى سبقتها أداة التعريف لأنها من الحروف الشمسية وحكمها معلوم ولا نرى أحداً يعنى بالنص على مصلها بل أحر بأن تكون النص هنا مدعاة للاضطراب في ضبط الكلمة إذ قد يتبادر أن التشديد في غير هذا الحرف فيقع الإشكال. ومثل هذا وإن كان خارجاً عما نتعرض له وليس مقصوداً بالذات من ذكره هنا إلا أنه شيء عرض فقلنا فيه بما ظهر لنا. ولا ندري عمن نقل المصنف هذه الجملة.
أما الحديث وما بعده فمنقول من نهاية ابن الأثير. والمتبادر من قوله ويروى بالشين(30/5)
المعجمة وسنذكره أنه مذكور في (ش ن د) مع أن هذه المادة لا وجود لها في الكتابين ولا في كتب اللغة التي بأيدينا ولكن الذي ذكره الإمام السيوطي في مختصر النهاية عن الكلام على (سند) أن الرواية الأخرى في الحديث (يشتددن) أي من الشد بمعنى افسراع في المشي. وبمراجعة باب الشين من النهاية وجدنا فيه ما نصه.
وفي حديث أحد حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل أي يعدون هكذا جاءت اللفظة في كتاب الحميدي. والذي جاء في كتاب البخاري يشتدن هكذا جاء بدال واحدة والذي جاء بغيرهما يسندن بالسين المهملة والنون أي يصعدن فيه فإن صحت الكلمة على ما في البخاري وكثيراً ما يجيء أمثالها في كتب الحديث وهو قبيح في العربية لأن الإدغام إنما جاز في الحرف المضعف لما سكن الأول وتحرك الثاني فأما مع جماعة النساء فإن التضعيف يظهر أن ما قبل نون النسوة لا يبكون إلا ساكناً فيلتقي ساكنان فيحرك الأول وينفك الإدغام فتقول يشتددن فيمكن تخريجه على لغة بعض العرب من بكر بن وائل يقولون ردتُ وردتَ وردن يريدون رددت ورددت ورددن قال الخليل كأنهم قدروا الإدغام قبل دخول التاء والنون فيكون لفظ الحديث يشتدن أ. هـ
وقد نقل صاحب اللسان هذه العبارة بنصها في مادة (ش د د صفحة 220) إلا أن ضبط بعض الكلمات وقع مخالفاً لما فيها فضبطوا (يشتدن) في الموضعين هكذاب بإسكان الدال المخففة كما ضبطوا (ردت) وما بعده بالإسكان والتخفيف أيضاً والكلام في ذلك هو المقصود من كل ما تقدم فنقول:
المفهوم من عبارة ابن الأثير أن الدال في كل ذلك مشددة مفتوحة بدليل تصريحه بقبحه في العربية لاجتماع الإدغام مع ضمير الرفع المتحرك إلى آخر ما ذكر ولو كانت الدال ساكنة مخففة كما ضبطت في اللسان لكان الفعل على بابه مع الضمير ولم هناك وجه للاستقباح. وكأن المصحح اغتر بقوله (يشتدن هكذا بدال واحدة) فظنه نصاً على حذف إحدى الدالين ولم يفطن لما جاء بعده في العبارة فوقع في هذا الضبط.
ويعضد ما ذكرنا قول الإمام ابن مالك في التسهل: والإدغام قبل الضمير لغة وقول أبي حيان في شرحه قوله لغة هي لغة ناس من بكر بن وائل يقولون ردن ومرن وردت وهذه لغة ضعيفة كأنهم قدروا الإدغام قبل دخول النون والتاء فأبقوا اللفظ على حاله عندما دخلتا(30/6)
وحكى بعض الكوفيين في هذا ردن يزيد نوناً ساكنة قبل نون الإناث ويدغمها فيها أن نون الإناث لا يكون ما قبلها إلا ساكناً وكأنه حافظ على بقاء الإدغام فزاد هذه النون أ. هـ وقال الدماميني: (وبعضهم يزيد ألفاً فيقول ردات وهو في غاية الشذوذ) أ. هـ أي بزيادة الألف قبل تاء الضمير كما في شرح التسهيل لعلي باشا. وقد تكلم سيبويه عن هذه اللغة في باب اختلاف العرب في تحريك الآخر الخ من الكتبا (ج2 ص 160) من النسخة المطبوعة ببولاق.
(وفي مادة ص ي د صفحة 249 سطر8) (وقد يقع الصيد على المصيد نفسه تسمية بالمصدر كقوله تعالى لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) وضبط (الصيد) بكسر الصاد والثواب فتحها لأن مصدر صاد مفتوح الأول قياساً وحسبك استشهاده بالآية الكريمة وهو فيها مفتوح كما لا يخفى.
(وفي مادة ع ق د أول صفحة 290) روي لجرير:
تبول على قتاد بنات تيم ... مع العقد النوابح في الديار
وضبط (تيم) بكسر أوله والصواب فتحه لأنه إما أن يكون مسمى بالصفة المشبهة أي بالتيم بمعنى العبد أو بمصدر تامه الحب تيماً وكلاهما مفتوح الأول.
(وفي مادة ف س د صفحة 333 سطر1) وفسد الشيء إذا اباره
قال ابن جندب:
وقلت لهم قد أدركتكم كتيبة ... مفسدة الأدبار ما لم تخفر
ثم قال المصنف في تفسيره: (أي إذا شدت على قوم قطعت أدبارهم ما لم تخفر الأدبار أي تمنع) وضبط (مفسدة) بفتح الميم والسين وهو ضبط عجيب والذي يقتضيه ما قبل البيت وما بعده أن يكون بضم الأول وكسر السين لأنه اسم فاعد من فسد كما لا يخفى.
(وفي مادة ق ي د ص 374) روي لأمرئ القيس:
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد فيدٍ الأوابد هيكلٍ
وضبط (قيد) بالتنوين والصواب حذفه للأضافة وإقامة الوزن.
(وفي هذه المادة ص 375 سطر 20) ضبط (اللثات) بفتح الأول والصواب كسره وهو جمع لثة بالكسر لمغرز الأسنان وقد اشتهر على الألسنة فتح أولها وهو خطأ ينبغي التنبه(30/7)
له.
(وفي مادة ل هـ د ص 399) روي لطرفة:
بطيء عن الجلى سريع إلى الخنا ... ذليلٌ بأجماع الرجال ملهد
برفع هذه الصفات كلها والصواب جرها لأنها صفات لمجرور ذكر في بيت قبله وهو قوله:
ولا تجعليني كأمرئٍ ليس همخ ... كهمي ولا يغني عنائي ومشهدي
ولا معنى للرفع على القطع لأنه يؤدي إلى رفع القافية وقوافي القصيدة مجرورة إلا إذا اتبعنا النعت الأخير بعد قطع ما تقدمه ولا يخفى عدم جوازه على الصحيح على أن مثل هذا الاختلاف لو كان مروياً في البيت ما سكت عنه رواة المعلقات وشراحها وهم يتناولون بالنص ما هو أقرب منه.
وأوضح ألا تراهم كيف قالوا برفع يوم ونصبه وجره في قول امرئ القيس (ولا سيما يوم بدارة جلجل) على أنها روايات فيه ولم يقتصروا على ما تجوزه أحكام (سيما) أن أحكام العربية إنما بنيت في الأصل على ما نطق به العرب.
فإن قيل لو جرينا على ما ذكرتم في كل بيت يروى فذا لاحتجنا فيه إلى معرفة الرواية أو الوقوف على ما قبله أو بعده وهو ما يكاد مستحيلاً علينا في أغلب شواهد اللسان وغيرها قلنا نما نقول بذلك فيما عرف وجهه أما ما لم يعرف فلا حرج فيه متى احتملته قواعد العربية. وإنك لو تتبعت مواد اللسان لرأيت من تدقيقهم في مثل ما مر ما يقضي بالعجب ويحكم لك بصحة ما ذهبنا إليه فمنه ما روي لأبي ذئيب في مادة (ك ور ص 471).
ولا مشبًّ من الثيران أفرده ... عن كوره كثرة الإغراء والطرد
فإنه يصح فيه جر الطرد عطفاً على الإغراء ورفعه عطفاً على كثرة ولكن المصنف نقل عن ابن بري أنه خطأ من رواه بالجر لأن أول القصيدة:
تالله يبقى على الأيام مبتقل ... جون السراة رباع سنه غرد
وهو عين ما فعلناه في بيت طرفة ومنه ما روي في مادة (ش م خ)
ولثةٌ قد تثنت مشخمة
برفع لثة وقول المصنف نقلاً عن ابن أبي بري أيضاً أن صواب إنشاده ولثةٌ بالنصب لأن(30/8)
قبله:
لما رأت أنيابه مسلمة
ومثله في التدقيق ما روي في مادة (غ وق ص169) و (م ض ح) و (ق ب ل ص 58) مما لا سبيل إلى استيعابه هنا. بل قد رأيناهم لا يسكتون عما في أوله الفاء أو الواو إذا وقعت أحدهما موضع الأخرى كما روي في مادة (ض هـ ل) للأسود بن يعفر:
وقبلي مات الخالدان كلاهما ... عميد بن جحوان وابن المضلل
فقد نقل المصنف عن ابن بري أن صواب إنشاده بالفاء لأن قبله:
فإن يك يومي قد دنا وإخاله ... كواردةٍ يوماً إلى ظمء منهل.
يتبع(30/9)
تعطيل الأشغال في يوم الجمعة
شاع أن بعض المسلمين يرغبون في تعطيل الأشغال في يوم من الأسبوع طلباً للراحة. واختاروا يوم الجمعة ليتفرغوا للطاعة ويبادورا إلى أداء الصلاة مستدلين بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع).
كما أن كثيراُ منهم يعتقدون أن ذلك بدعة منكرة ولا خير فيها لما يترتب عليها من زيادة انتشار الفساد. ولأن فيها تشبهاً بأهل الكتاب وقد أمرنا بمخالفتهم. ويقولون أن الآية المذكورة تدل على وجوب المبادرة إلى الصلاة وقت النداء فقط.
فأحببنا أن نبين الحق والصواب في ذلك. قياماً بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فنقول:
أما التشاغل بالبيع أو غيره يوم المجمعة بعد النداء للصلاة أي الآذان فهو حرام. وقد ورد الوعيد الشديد في ذلك.
وأما الإجبار من آحاد الناس على تعطيل الأشغال فنه لا يجوز باتفاق المسلمين لا في يوم الجمعة ولا غيره. سواء حصل الإجبار بالإكراه أو الحياء أو الإلزام بصرف مال في إعانة خيرية أو نحوه. وسواء صار تحصيل المال الذي ألزم المغرم به خوفاً من الإهانة أو بطريق الحياء أو بغير ذلك من الوجوه المحرمة. لأن هذا تسلط على الناس بغير وجه شرعي وهو حرام قطعاً.
وأما التفرغ يوم الجمعة للطاعة والمبادرة إلى المساجد من أول النهار فهو أمر حسن مندوب إليه كما نص على ذلك العلامة ابن حجر في الفتاوى الكبرى وكتب الفقه طافحة فيه وقد جاء كثير من الأحاديث المرغبة في ذلك.
وأما الاستراحة فلا بأس بها لمن أحب وقد سن لنا نبينا صلى الله عليه وسلم القيلولة كل يوم وقت الظهر لنرتاح ونقوم للعبادة بنشاط ولكن الذي ليس له رغبة في الاستراحة لا يجوز إجباره عليها. لا وقت القيلولة ولا في يوم من الأيام. لأن دين الإسلام جاء بالتيسير والتسهيل حتى أنه أباح الاشتغال في أيام العيد لمن أراد فلا سبيل إلى منع الناس من الأشغال لا في يوم الجمعة ولا غيره. ومن أحب أن يستريح في يوم أو يومين أو أكثر فلا حرج عليه.
فإن قال قائل إذا تركت الأشغال وحدي في يوم الجمعة أو غيره يظن الناس أن ذلك لخلل(30/10)
في تجارتي فيحصل لي الضرر.
قلنا ربما يتوهم بعض الناس ذلك ولكن في مرة أو مرتين فقط ثم يعلمون أن من عادتك ترك الأشغال في يوم الجمعة مثلاً أو غيره من الأيام فترتفع الشبهة ويزول هذا التوهم.
فإن قال إن نفسي لا تسنح أن أترك تجارتي إلا أذ ترك أمثالي تجارتهم أيضاً.
قلنا إن كنت أنت لا ترضى بذلك فإنه يوجد أناس لا يرضون بترك أشغالعم إما لضرورة أو غيرها. فكيف يسوغ منعهم من شيء أحله الله لهم.
وأيضاً الاتفاق على التعطيل في يوم الأسبوع يكو سبباً لزيادة انتشار الفساد وفيه تشبه بأهل الكتاب. وقد أمرنا بمخالفتهم فإن قال أن من أراد الفساد لا يكون الشغل مانعاً له منه. والراغبين في تعطيل يوم لا يقصدون التشبه بأهل الكتاب.
قلنا أن التعطيل يكون سبباً لسهولة الفساد لمن أراده ولمزيد انتشاره بين الناس والاتفاق على تعطيل يوم في الأسبوع فيه تشبه بأهل الكتاب ولو كان غير مقصود.
وأما قوله تعالى: (يا آيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) فإنه يقتضي تحريم التشاغل والتأخر بعد النداء للصلاة أي الآذان لها. ولا يتعدى هذا إلى ما قبل النداء. بل الاشتغال بالتجارة ونحوها قبل النداء باقٍ على أصله وهو الإباحة وكذلك بعد أداء الصلاة كما قال تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) أي إذا أديتم الصلاة فإنها يباح لكم أن تشتغلوا بالتجارة كما قاله كثير من المفسرين كالشهاب الخفاجي والعلامة الفخر الرازي والمحققين النسفي والخازن وغيرهم. ونقله أيضاً العيني في شرحه على البخاري بل استقرب العلامة المحقق الشهاب الخفاجي في حاشيته على البيضاوي أن الاشتغال يوم الجمعة مندوب إليه لما فيه من عدم التشبه بأهل الكتاب في تعطيل يومي السبت والأحد وهذا اليوم لنا بمنزلتهما. بل قال أن العلامة السرخسي نقل أنه واجب وذهب جمع من المفسرين إلى أن الابتغاء من فضل الله يكون بالتجارة أو صلة الرحام أو طلب العلم أو نحوه. وذهب قوم إلى غير ذلك وعلى كل حال فالأصح أن الاشتغال بالتجارة في يوم الجمعة قبل الآذان وبعد أداء الصلاة إن لم يكن مندوباً فهو مباح.
وأما اتفاق بعض المسلمين على تعطيل يوم في الأسبوع فهو بدعة منكرة لما يترتب عليه(30/11)
من المفاسد.
أولاً: زيادة انتشار الفساد وتسهيله لمن أراده ويكفينا دليلاً على هذا ما يشاهده أو يسمع به كل من الخاصة والعامة في أيام العيد من زيادة الفحش وفشوه بين الناس بسبب سهولة الاختلاط وإنكار هذا الأمر في زمان فسدت فيه تربية قسم عظيم ما هو إلا مكابرة وقد أخبرنا من نثق بدينه وأمانته أن بعض الراغبين في تعطيل يوم الجمعة بحجة التفرغ للطاعة يتعمدون ترك صلاة الجمعة في كثير من الأيام وأخبرنا أيضاً من نتحقق فيه العدالة أن قوماً تركوا أشغالهم في اليوم المذكور وذهبوا إلى بعض البساتين للتنزه وتركوا صلاة الجمعة مع أن الخروج بعد الفجر إلى محل لا تدرك فيه الجمعة محرم على اختلاف فيه. ونقل إلينا من نعتقد صدقه أن قوماً بسبب تعطيل الأشغال يوم الاثنين ذهبوا إلى بعض النواحي وأحضروا آلات اللهو وشربوا الخمر فنهاهم رجل منهم وبين لهم أن هذا محرم وجزاؤه غضب الله عز وجل وعقابه فأجابوه بأنا قد تركنا الأشغال لنرتاح ونأخذ حظنا من البسط وداموا على ما هم عليه.
ثانياً: إن تعطيل يوم في الأسبوع فيه تشبه بأهل الكتاب ولو كان غير مقصود كما تقدم وقد أمرنا بمخالفتهم.
ثالثاً: إن التعطيل يكون سبباً للإسراف بصرف الأموال لأن البطالة من أكبر الدواعي إليه مع أن أهل الحرف وهم أكثر الناس تشتهي عيالهم الأدم وأكثرهم بحالة من الضيق والفقر تبكي لها القلوب القاسية شفقة وحناناً.
رابعاً: إذا تم هذا الأمر لا سمح الله فأطفالنا إذا نشؤا عليه يعتقدون أنه من الشعائر الدينية.
خامساً: إذا تم هذا الأمر لا قدر الله تتألف شركات لفتح مقامر ومحال للتياترو ونحو ذلك في اليوم المذكور زيادة على ما يوجد الآن وهذا يكون سبباً لمزيد من انحطاطنا في الأخلاق والثروة.
فاتفاق بعض المسلمين على تعطيل يوم في الأسبوع ولو كان اختيارياً من غير إكراه ولا إجبار هو أمر محرم إذا ترتبت عليه هذه المفاسد والمحرمات.
لأن كل ما أدى إلى الحرام يكون حراماً. ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح كما هو مقرر. فليتيقظ الناس قبل تفاقم الأمر فإن نتيجة هذا العمل تعود عليهم بمزيد من الانحطاط(30/12)
وليعلموا أن كل من سعى في هذه البدعة فعليه وزرها ووزر من عمل بها يوم القيامة.
وحيث أن كثيراً من الراغبين في التعطيل لهم نية صالحة وأكثرهم يعلم أننا لا غاية لنا إلا المحافظة على الآداب الإسلامية وتنبيه المسلمين إلى ما يخالف دينهم ويعود عليهم بالانحطاط والضرر كما تشهد بذلك أبحاث مجلتنا فنحن على ثقة بأنهم متى اطلعوا على ما كتبناه وتبين لهم أنه الحق رجعوا إليه.
وفي الختام نسأل الله تعالى أن يجمع قولبنا على التقوى. وكلمتنا على ما فيه مصلحتنا وأن يجعلنا من الذين يستمعون الحق فيتبعون أحسنه.(30/13)
يا عالم الإسلام
ننقل هنا عن جريدة (الحق يعلو) القصيدة الآتية للشاعر المجيد السيد محمد الهاشمي يناجي العالم الإسلامي. . قال حفظه الله:
تبين لك الأيام أم تتجمجم ... حديث الأماني لو علمت مرجم
وتستعظم الأيام في كل حادث ... وجهلك بالأيام أدهى وأعظم
أطلت التمادي بالضلال وأنه ... سبيل إلى الحرمان لو كنت تعلم
وكنت قد استضعفت للدهر حقة ... ولا الخرق مرتوق ولا الجبل مبرم
هو العيش إمام أن تعيش فتنثني ... عزيزاً وإما أن تذل فتحرم
وإني أرى في الموت حالاً تسرني ... إذا لم يكن لي في الحياة التقدم
إذا لم أفز في هذه الحال بالمنى ... فلا الموت يلويني ولا السقم يؤلم
وإن وطأتني الظالمون بأخمص ... فموتي شهد والسلامة علقم
دع العيش واستنجع ظبى الموت إن تجد ... على العيس ذلاً أسه فيه محكم
فإن لم تمت ترجع سيداً وإن تمت ... تمت حيث لا تشقى ولا تتندم
ولا مأتم مثل المذلة إنها ... هي المأتم المردى إذا قام مأتم
دعيني أمت حتف السيوف فإنني ... أخاف إذا ما مت أني أشتم
إذا أنا لم أحفظ عهود حقيقتي ... فلا بسمت لي يوم حادثة فم
إلى العز نفسي تشرئب ومالها ... إليه سوى الموت المفجع سلم
وإني لأوطاني وديني وسؤددي ... فداء إذا ما حادث بات يحدم
ألا ليت شعري هل يباح لي الكرى ... وفي وطني هوج الوقائع تقصم
أتى جارف الأعداء يغشى بلادنا ... لا مواجه حول الوطن هيقم
تألبت الأعداء طراً ليهدموا ... دعائم للإسلام لا تتهشم
فيا غيرة الإسلام هذا احتياجنا ... إليك وهذا المأزق المتجهم
غلى عالم الإسلام أهدي تحية ... بها الحزن يطوى والمدامع تسجم
لماذا اختلفتم والأعادي تظاهرت ... عليكم ونمتم والعدى تتغمغم
دعوا الخلف إن السيل قد بلغ الزبى ... فما الخلف إلا مرتع متوخم
أرى العرب والأتراك في الدين أخوة ... وما الترك إلا في بني العرب تعصم(30/14)
ولا الترك مرجوح ولا العرب راجح ... ولكنهم للدين كف معصم
وما الفرق بين العرب والترك بالذي ... تشدد ما أيدي الحوادث تفصم
فيا أيها العرب الكرام تظاهروا ... مع الترك أن الحق بالحق يدعم
وإلا فأنتم للخطوب دريئة ... تروح أمور الذل فيكم وتعتم
فلا الدين دين الله يبقى ولا الهدى ... تؤيد دعواه ولا الملك يسلم
ولا تحسبن الشر فيهم وأنكم ... من الشر قوم ما لكم فيه مقسم
لكم ما لهم من أمركم وعليكم ... من الذل ما ألقى الرجال عليهم
فكونوا بناء في المصائب واحداً ... إذا الدهر يبغي وإذا الشر يهجم
أليس من الخسران أن بلادنا ... تصاب وأنا في التباغض نوم
أترضون أن نمسي عبيداً جميعنا ... لمن ليس يهدينا ومن ليس يرحم
فلا تجدعوا آنافكم بأكفكم ... ولا تصبحوا الذكرى لمن يتوسم
تعصب بعض القوم في الدين واقتفى ... سبيل العمى وهو السبيل المذمم
أفي الدين أم في الحق كان تعصب ... بقومية أم ذا من السوء ينجم
لقد موهوا في الدين ما لم يكن له ... من الحق ظل أو من الدين معلم
وليس رسول الله فرق بيننا ... بقومية للمسلمين تقسم
وما رجح الإسلام ممن تمسكوا ... به أحداً أو قال هذا مقدم
ولكنه ساوى فكان كما ترى ... سواء به عرب وترك وديلم
وما زال هذا الدين في كل موضع ... يسب الذي يبغي الخلاف ويشتم
سنوء كل طمر قصعة بعد قصعة ... إذا نحن في هذا التعصب نحزم
أتغزى بلاد المسلمين وعندنا ... قلوب ويجري في مفاصلنا دم
لنا كل يوم وقعة بعد وقعة ... تدق بها الآناف منا وترغم
وتغصب منا بلدة بعد بلدة ... أناس لهم في جهلهم متعوم
وتخصمنا الأعداء في كل معرك ... بكل خضوع للجيوش فتقضم
فإن دام هذا الحال فالظلم دائم ... على عالم الإسلام والذل أدوم
سطت أمم البلقان بالملك سطوة ... تمور سماء من لظاها وأنجم(30/15)
(أدرنة) تبكي والجحافل حولها ... تزعزع من بنيانها وتقصم
(سلانيك) تشكو اليأس واليأس واقع ... عليها وتشكو الظلم والظلم يؤلم
وفي (الروملي) قد أنزل الخطب رحله ... وأصبح فيها الظلم وهو مخيم
تضايق رحب (الروملي) وهو واسع ... بأشلاء جيش (الترك) فالرحب مفعم
وهناك ذل المسلمون ودمرت ... بلادهم يا من من الذل يعصم
وكم قد غدى منهم خميس عرمرم ... إلى الحرب يتلوه خميس عرمرم
فجاهد حتى شتت الموت شمله ... وزاحم بحر الموت وهو غطمطم
تولت بلاد المسلمين زعانف ... تهدم من أركانها ما تهدم
لقد ملئت بالغدر منهم صدورهم ... وآراؤهم يوم المشاكل تسقم
أولئك خانوا قومهم وبلادهم ... فذكرهم بالسب واللعن يختم
وقد دنسوا أعراضهم وثيابهم ... بعار لهم في صفحة الدهر يرقم
وقد خسروا الدنيا فلا العرض منهم ... مصون ولا ما يكسبون مكرم
وقد خسروا الأخرى فليس لهم بها ... رجاء إذ يرجو من العفو مجرم
ألا أيها الشرق ما الذي طال نومه ... أأنت ضعيف الكف أم أنت أعسم
ألا يا رجال الشرق ما بال حزمكم ... يغب وما بال العزائم تحجم
ويا عسكر الإسلام إن خلافكم ... مشوم ولكن التباغض أسأم
سلام على الإسلام يوم تفرقوا ... فخارت قواهم في الورى وتهضموا
خبت نارهم من بعد ما كان نورها ... به يستنير الكون والكون مظلم
وكانت مساعيهم وكانت سيوفهم ... بها الجرح يؤسى أو بها الداء يحسم
فيا غيرة الإسلام إن بلادنا ... بها الناس تصلي والمنازل تضرم
ويا غيرة الإسلام إن بلادنا ... بها الدم يجري إذا أبيح بها الدم
ويا غيرة الإسلام إن بلادنا ... تصاب ووجه العدل أربد أقتم
ويا غيرة الإسلام إن بلادنا ... تجور بها الأعداء جوراً وتظلم
ويا غيرة الإسلام إن بلادنا ... بها الحق يخبو والمساجد تهدم
وتسبى نساء المسلمين وتستبى ... أيامى وأطفال هنا تيتم(30/16)
حرائر لم تطرق عليهن ريبة ... ولم يخترق في سبلهن محرم
وقد أوقدت بعض البيوت بأهلها ... كما أوقدت بالمجرمين جهنم
فيا وحدة الدين أنجدينا فإننا ... بنا حل ليل الظلم والليل مظلم
بغداد
(محمد الهاشمي)(30/17)
سنن متروكة
من السنن المتروكة عدم تسوية الصفوف في الصلاة وترك فرج فيها وعدم إتمامها وقد اتفقت عامة الفقهاء على أن من السنة تسوية الصفوف وإتمامها وسد فرجها والتراص فيها وعدم الشروع في صف قبل إتمام ما قبله.
قال في الهندية وينبغي للقوم إذا قاموا إلى الصلاة أن يتراصوا ويسدوا الخلل ويسووا بين مناكبهم في الصفوف.
ولا بأس أن يأمرهم الإمام بذلك كذا في البحر الرائق شرح كنز الدقائق والقيام في الصف الأول أفضل من الثاني وفي الثاني أفضل من الثالث وإن وجد في الصف الأول فرجة دون الصف الثاني يخرق الصف الثاني كذا في القنية.
وأفضل مكان المأموم حيث يكون أقرب إلى الإمام. أ. هـ وفي الدر المختار (ولو صلى على رفوف المسجد إن وجد في صحنه مكاناً كره كقيامه في صف خلف صف فيه فرجة) قال محشية العلامة الظحطاوي (قوله كقيامه من صف خلف صف) فإنه مكروه وهل الكراهة تنزيهية أو تحريمية يحرر والذي يرشد إليه قوله عليه الصلاة والسلام ومن قطعه قطعه الله الثاني أه. وقد نقل عبارته العلامة ابن عابدين وأقرها ثم قال بقي ما إذا رأى الفرجة بعدما أحرم هل يمشي إليها لم أره صريحاً وظاهر الإطلاق نعم ثم رأيت من مفسدات الصلاة من الحلية عن الذخيرة إن كان في الصف الثاني فرأى فرجة في الأول فمشى إليها لم تفسد صلاته لأنه مأمور بالمراصة قال عليه الصلاة والسلام تراصوا في الصفوف ولو كان في الصف الثالث تفسد أه أي لأنه عمل كثير وظاهر التعليل بالأمر أنه يطلب منه المشي إليها تأمل وكتب على قول الدر (ولو وجد فرجة في الأول لا الثاني له خرق الثاني لتقصيرهم) يفيد أن الكلام فيما إذا شرعوا وفي القنية قام في آخر صف وبينه وبين الصفوف مواضع خالية فللداخل أن يمر بين يديه ليصل الصفوف لأنه أسقط حرمته بنفسه فلا يأثم المار بين يديه دل عليه ما في الفردوس عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم من نظر إلى فرجة في صف فليسدها بنفسه فإن لم يفعل فمر مار فليتخط على رقبته فإنه لا حرمة له أي فليتخط المار على رقبة من لم يسد الفرج أه هذا الحكم عند السادة الحنفية وأما عند السادة المالكية فقد قال في المدونة وقال مالك رضي الله عنه إذا فرغ المؤذن من الإقامة ينتظر الإمام قليلاً قدر ما تستوي الصفوف ثم يكبر ثم قال وقد كان عمر وعثمان يوكلان رجالاًَ(30/18)
بتسوية الصفوف فإذا أخبروهما أن قد استوت كبرا.
وأما الحكم عند السادة الشافعية فقد قال في فتح المعين وندب وقوف في صف أول وهو ما يلي الإمام وإن تخلله منبر أو عمود ثم ما يلي وهكذا أفضل كل صف يمينه ولو ترادف يمين الإمام والصف الأول قدم فيما يظهر ويمينه أولى من القرب إليه في يساره وإدراك الصف الأول أولى من إدراك الركوع غير الركعة الأخيرة أما هي فإن فوتها قصد الصف الأول فإدراكها أولى من الصف الأول وكره لمأموم انفراد عن الصف وشروع في الصف قبل إتمام ما قبله وكل هذه تفوت فضيلة الجماعة كما صرحوا به ويسن أن لا يزيد ما بين كل صفين وما بين الأول والإمام على ثلاثة أزرع قال محشية العلامة السيد علوي السقاف عند قوله يمينه ويستحب لكل واحد تسوية الصفوف والأمر بذلك والمراد تعديلها والتراص فيها ووصلها وسد فرجها وتقاربها وتحاذي القائمين بحيث لا يتقدم صدر واحد ولا شيء منه على من بجنبه ولا يشرع في الصف الثاني حتى يتم الصف الذي قبله فإن خالف في شيء من ذلك كره ولا يضر طول الفصل بين الإقامة والصلاة لتعديلها الصفوف كما في التحفة في باب الآذان وعد في الزواجر قطع الصف وعدم تسويته من الكبائر وهو ظاهر خبر من قطع صفاً قطعه الله أه. إذ هو بمعنى لعنه الله واللعن من علامة الكبائر لكن لم أر من عده كبيرة بل هو عندنا مكروه أه وأما الحكم عند السادة الحنابلة فقد قال شيخ الإسلام الشيخ منصور بن يونس البهوتي في شرح المنتهى عند قول المصنف (ثم يسوي إمام الصفوف بمنكب وكعب) استحباباً فيلتفت عن يمينه فيقول استووا رحمكم الله وعن يساره كذلك لحديث محمد بن مسلم قال صليت إلى جنب أنس بن مالك يوماً فقال هل تدري لم صنع هذا العود فقلت لا والله فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة أخذه بيمينه فقال اعتدلوا وسووا صفوفكم ثم أخده بيساره وقال اعتدلوا وسووا صفوفكم رواه أبو داود ثم كتب عند قول الصنف (وسن تكميل) صفوف (أول فأول) حتى ينتهي إلى الآخر فلو ترك الأول فالأول كره لحديث لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا على ذلك لاستهموا عليه وظاهره حتى بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت الصلاة في محراب زيادة عثمان قال في (الفروع) وظاهر كلامهم يحافظ على الصف الأول وإن فاتته ركعة ويتوجه من نصه يسرع إلى الأولى(30/19)
للمحافظة عليها والمراد من كلامهم إذا لم تفته الجماعة بالكلية مطلقاً وإلا حافظ عليها فيسرع إليها وقد ورد في السنة الوعيد الشديد لمن ترك تسوية الصفوف وإتمامها وسد فرجها قال صلى الله عليه وسلم لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم وعن أنس قال أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الغرق والمبطون والمطعون والهدم وقال لو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً ولو يعلمون ما في الصف المقدم لاستهموا وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة وفي البخاري. .
باب أثم من لم يتم الصفوف
عن أنس رضي الله عنه أنه قدم المدينة فقيل له ما أنكرت منا منذ يوم عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنس ما أنكرت شيئاً إلا أنكم لا تقيمون الصفوف وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أقيموا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه كناية عن المبالغة في تعديل الصف وسد خلله وروى أبو داود من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولا تذروا فرجات للشيطان ومن وصل صفاً وصله الله ومن قطع صفاً قطعه الله عز وجل وقد صححه ابن خزيمة والحاكم وهنا نلفت أنظار حملة العلم إلى إحياء هذه السنن التي اعتاد كثير من الناس تركها ولا زاتجر لاسيما وكثير من الخاصة وأهل العلم يصلون تحت الدكة (السدة) مع وجود صفوف كثيرة غير تامة ووجود مسافة طويلة بينهم وبين آخر صف ووجود فرج في بعض الصفوف والعامة يقتدون بأهل العلم في أعمالهم وخصوصاً ما كان منها عبادة وفي المساجد وعليه ينبغي لأهل العلم إرشاد الناس بأقوالهم وأفعالهم إلى إحياء هذه السنن المتروكة ليكون لهم أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة والله الموفق والهادي.(30/20)
الأسئلة والأجوبة
أصحاب مجلة الحقائق الغراء. . .
بينما كنت أطالع حاشية العلامة الشيخ إبراهيم الباجوري على الجوهرة في التوحيد عند قول المصنف (ومعجزاته كثيرة غرر) إذ وجدته ذكر حديث الغزالة وقال أنه موضوع لا أصل له ونص عبارته_وأما حديث الظبية فألحق أنه موضوع لا أصل له ولفظه كان النبي صلى الله عليه وسلم في صحراء فنادته ظبية يا رسول الله فقال ما حاجتك؟ قالت: صادني هذا الأعرابي ولي خشفان (بكسرالخاء وتسكين الشين) أي ولدان في ذلك الجبل فأطلقني حتى أذهب أرضعهما وأرجع فقال وتفعلين قالت نعم عذبني الله عذاب العشار إن لم أفعل فأطلقها فخرجت تعدو في الصحراء وتقول أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله لكن الحديث موضوع كما علمت أه فأشكل الأمر علي نظراً لأن كثير من أهل العلم ضمن هذا الحديث في مدائحه النبوية وحصل عندي ريب من هذه القضية فألتمس من فضلكم أن تكشفوا لي النقاب عن وجه الحقيقة لا زلتم منبع العرفان والله الهادي وعليه التكلان وصلى الله على سيدنا محمد وآله وحزبه وسلم.
الجواب:
إن حديث الظبية قد اختلفت فيه أقاويل العلماء فمنهم من قال أنه موضوع ومنهم من قال أنه ضعيف ومنهم من فصل وقال هما حديثان أحدهما تسليم الغزالة وهو موضوع والثاني مناداتها النبي صلى الله عليه وسلم وطلبها الذهاب إلى أولادها وهذا ضعيف وله طرق متعددة يقوي بعضها بعضاً ففي المواهب اللدنية وشرحها في بيان معجزاته صلى الله عليه وسلم ما نصه:
(روى حديثها أي الغزالة البيهقي من طرق) من حديث أبي سعيد (وضعفه جماعة من الأئمة لكن له طرق يقوي بعضها بعضاً) لأن الطرق إذا تعددت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن للحديث أصلاً فيكون حسناً لغيره لا لذاته (وذكره القاضي عياض في الشفاء) بلا سند عن أم سلمة بدون تمريض فيدل على قوته (ورواه أبو نعيم في الدلائل بإسناد فيه مجاهيل عن حبيب بن محصن عن أم سلمة رضي الله عنها قالت بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحراء من الأرض إذا هاتف يهتف يا رسول الله ثلاث مرات فالتفت فإذا ظبية مشدودة في وثاق وأعربي منجدل في شملته نائم في الشمس فقال ما حاجتك(30/21)
فقالت صادني هذا الإعرابي ولي خشفان في ذلك الجبل فأطلقني حتى أذهب فأرضعهما وأرجع قال وتفعلين قالت عذبني الله عذاب العشار إن لم أعد فأطلقها فذهبت ورجعت فأوثقها النبي صلى الله عليه وسلم فانتبه الإعرابي وقال يا رسول الله ألك حاجة قال تطلق هذه الظبية فأطلقها فخرجت تعدو في الصحراء فرحاً وهي تضرب برجليها الأرض وتقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن رسول الله وكذا رواه الطبراني بنحوه وساق الحافظ المنذري حديثه في الترغيب والترهيب من باب الزكاة وأخرجه أبو نعيم من حديث أنس والبيهقي من حديث أبي سعيد وفي شرح مختصر ابن الحاجب للعلامة ابن الفسبكي وتسبيح الحصي رواه الطبراني وابن أبي عاصم من حديث أبي ذر وتسليم الغزالة رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني وكذا الطبراني عن أم سلمة (والبيهقي) قال الحافظ والذي أقوله أنها كلها مشتهرة عند الناس وأما من حيث الرواية فليست على حد سواء انتهت عبارة المواهب وشرحها فمن تملها علم أن حديث السلام لم يثبت من حيث الرواية وأما حديث مناداتها للنبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبتت روايته إلا أنه ضعيف لكن طرقه متعددة أكسبته قوه كما تقدم ذلك واعتقاد ذلك ليس منفياً للعقل لأن العقل يجوز ما هو أبلغ من ذلك كتسبيح الحصى وانشقاق القمر وقد تقدم بيانهما وفي هذا كفاية والحمد لله وحده.(30/22)
قصيدة أخلاقية
الناس بخير ما تباينوا فإذا تساووا هلكوا
حكم قدّر التباين عدلاًَ ... عم معروفه وجل جنابه
إن الغواة من أخوان الشياطين
فاستعذ بالإله من شر غاوٍ ... في حبال الشيطان طال احتطابه
لم يزعه الإرهاب شرعاً ولا أل ... بسه ثوب طاعة إرغابه
الجهل غربة والعلم وطن
توحش الجاهل الإقامة في الأه ... ل ولا يوحش اللبيب اغترابه
الحر تكفيه الإشارة
والحكيم الرشيد يخجله العت ... ب ولا يخجل اللئيم سبابه
الحظ يجعل العدو صديقاً
وبجد الفتى تعود ولاءً ... ووداداً من العدو ضبابه
ليس للمشؤوم صديق
وإذا ولت السعادة خانت ... هـ وصارت أعداءه أحبابه
إذا حاق القضاء ضاق الفضاء
وإذا ما القضاء عاند عبداً ... حاربته سيوفه وحرابه
وغدا شمله شتيتاً وأحزا ... باً عليه لضده أحزابه
من خاف من شيء سلط عليه
يجعل المتقي ويبقى ملياً ... من توالي طعانه وضرابه
رب حسن لا يتجاوز الظاهر
لا تغرنك الوجوه فما ك ... ل سحاب يروق ترجى ذهابه
عتب الملول عبث
وتجنب عتب الملول فما يج ... لب أعتابه إليك عتابه
الدين النصيحة
وأحب نصحاً من استشار فما أن ... كر في شرع ملة إيجابه
وإذا قابل النصيحة بالغ ... ش فدعه فما عليك حسابه(30/23)
اللسان سلاح العاجز
وإذا اغتابك اللئيم فشكراً ... حيث أضحى جهد اللئيم اغتيابه
وما أجيب السفيه بمثل الإعراض
وإذا ساءك السفيه بما شا ... ء فترك الجواب عنه جوابه
لكل شيء نهاية
وإذا الخطب ناب فاصبر فقد تف ... رج غماؤه ويكمم نابه
القدرة على الإحسان من فرض الزمان
وافعل الخير ما استطعت فقد تع ... جز عن فعله ويغلق بابه
كل نفس بما كسبت رهينة
واخشين كاتب الشمال فيا خس ... ر امريء في الشمال منه كتابه
الظهور يقصم الظهور
واغتنم لذة الخمول اختياراً ... فهنيء طعامه وشرابه
اليأس إحدى الراحتين
واجعل اليأس للمطامع شرباً ... فكفيل بريهن سرابه
السلامة في العزلة
عش وحيداً ولو دعاك إلى صح ... بته مخلص الدعاء مجابه
وانظر الجمر وهو يطفأ بالما ... ء تجده به يزيد التهابه
كن عبد الله فقط
وانتسب طائعاً إلى باب مولا ... ك فما خاب من إليه انتسابه
الناس ذئاب في ثياب
كيف ترجو الوفاء من أهل دهر ... قد تساوت أبناؤه وذئابه
طال فيه العدول عن سنن القص ... د وطالت رؤوسه أذنابه
أفاضل الناس أغراض لذي الزمن
كم قرت نائباته الهم قلباً ... وفرت هام أهله أنيابه
وأباحت ملكاً منيعاً حماه ... وأذلت ملكاً عزيزاً جنابه(30/24)
وأعارت حسن الثناء أخا قب ... ح ملاءً من العيوب عيابه
وأعادت سعوده لاثم التر ... ب مهيباً ملثومة أعتابه
الدهر بالناس قلب
هذه سنة الزمان قديماً ... وعلى مثلها مضت أحقابه
لا كبيرة مع الاستغفار
يا أسير الذنوب تب عائداً من ... ها بغفارها المخوف عقابه
فقرين التوفيق من دأبه في ... كل ما ساء صبره واحتسابه
وخليق بعاجل الفوز من كا ... ن إلى الخالق الكريم متابه(30/25)
الخوف
كتب العلامة الاجتماعي فريد بك وجدي تحت هذا العنوان ما يأتي:
الخوف عند الصوفية كما قال القشيري في رسالته: والخوف من الله تعالى هو أن يخاف أن يعاقبه الله تعالى إما في الدنيا وإما في الآخرة وقد فرض الله سبحانه وتعالى على عباده أن يخافوه فقال تعالى: (وخافون إن كنتم مؤمنين) وقال تعالى (وإياي فارهبون) ومدح المؤمنين بالخوف فقال تعالى: (يخافون ربهم من فوقهم).
نقول نحن تشدق بعض علماء العصر في أوروبا على مسألة الخوف وزعموا أن الإنسان لا يجب أن يساس به وإنما يساس بما يناسب مكانته في العلم والعواطف ولو تأمل هؤلاء الفلاسفة في حقيقة العوامل التي تقود الإنسان نحو الترقي بجميع أشكاله لرأوها كلها باعثها الخوف وإلا ما الذي يقيم الحكومات ويقعدها وفي مقدمتها الفلاسفة والعلماء عند
هموم الأمراض المعدية ويبعثهم جميعاً لتفتيش بيوت العامة وإخراج أقذارها أليس الخوف من الموت؟ ما الذي يجعل العلماء يصلون الليل بالنهار في اختراع العلاجات واكتشاف أسباب الأمراض أليس الخوف من الموت؟ ما الذي يجعل الناس أجمعين يتكلبون على جمع المال حتى أن أكثرهم جنواً به جنوناً. أليس الخوف من ألم الفاقة والإملاق؟
إذا كان هذا كله صحيحاً فأي هضيمة على الإنسان أن يعلم أنه لو لم يعمل في دنياه صالحاً عوقب على ذلك في حياته المستقبلة بحرمانه من مقتضيات تلك الأعمال ولوازمها وعذب بما يناسب عصيانه واستكباره في الدار الدنيا أليس هذا بمنزلة مواد القوانين الوضعية التي تفرض على الرعايا حفظ النظام والقيام على سنة العدل وإلا فالغرامة المالية والحبس أو الأشغال الشاقة والإعدام؟ ما الذي يردع الناس عن أكل بعضهم البعض غير الخوف من سطوة القوانين؟ وإذا كان الخوف من العقاب هذا أثره في عالم الدنيا وفي مقدمة من يخاف القوانين العلماء أفلا يكون الأجدر بهذه السلطة رب الأرباب وخالق الأسباب وعالم الخفيات.(30/26)
العدد 31 - بتاريخ: 3 - 8 - 1913(/)
الدين الإسلامي والتوحيد
النشر والحشر
قدمنا أن أرباب الملل والشرائع كافة وجمهور المحققين من الفلاسفة متفقون على حقيقة المعاد وإن اختلفوا في كيفيته إلا شرذمة الطبيعيين الذين تولاهم الغرور وغشيهم الضلال وزعموا أن لا بعث ولا حشر وأن الإنسان مثل نبات الأرض ينبت ثم يزول لا إلى رجعة وليس له حظ في وجوده إلا لذاته الحيوانية التي ينالها مدة حياته وهو قول باطل لا يعتد به من وجوه أنه قد ثبت بالبراهين القاطعة وجود إله العالم واتصافه بالصفات الكاملة وسمو حكمته وعدله في خلقه ورحمته لهم ولا مرية في أن كل معتقد لذلك يظهر له أنه من حكمته تعالى وعدله بعد أن خلق الخلق ومنحهم عقولاً يميزون بها بين الحسن والقبيح وقدراً بها يقدرون على الخير والشر أن يربط عمل الخير بالثواب وعمل الشر بالعقاب وكل من الثواب والعقاب غير حاصل في دار الدنيا فلا بد من دار أخرى يحصل فيها ذلك (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) ولا يكفي في ذينك الردع والترغيب ما أودع الله من العقل من تحسين المحسنات وتقبيح المنكرات لما عرفت أن العقل لا يستقل في معرفة كثير من الأمور ولأن العقل وإن كان داعياً للإنسان في فعل الخير وترك الشر إلا أن الهوى والنفس يدعوانه إلى الانهماك في الشهوات واللذات فإذا حصل التعارض فلا بد من مرجح قوي آخر وما ذاك إلا ترتيب الوعد والوعيد والثواب والعقاب على الفعل والترك.
إن صريح العقل يقضي أن من حكمة الحكيم أن يفرق بين المحسن والمسيء وحصول هذه التفرقة ليس في هذه الدار لأنا نرى كثيراً من أهل الإساءة في أعظم الراحة وكثيراً من أهل الإحسان بالضد من ذلك فلا بد أن يكون بعد هذه الدار دار أخرى تحصل فيها تلك الفرقة.
إن السلطان إذا كان قادراً حكيماً مشفقاً على الرعية والخدام وجب عليه أن ينتصف للمظلوم الضعيف من الظالم القوي وإن ترك ذلك كان راضياً بالظلم والرضا بالظلم لا يليق بمثل هذا السلطان ولا شك أن الله تعالى كامل في صفة القدرة والرحمة والشفقة منزه عن الظلم والعبث فلزم أن ينتصف لعباده المظلومين من الظالمين وهذا الانتصاف لا يحصل غالباً في هذه الدار لأن الظالم يبقى في غاية العزة والقدرة والمظلوم في مزيد من الإهانة والمذلة(31/1)
فلا بد من دار أخرى يظهر فيها العدل والانتصاف.
إن الفطرة الإنسانية قاضية على بطلان ما ذهب إليه الماديون بدليل أنك ترى جميع فرق الدنيا من الهند والروم والعرب والعجم وجميع أرباب الملل والنحل يتصدقون عن موتاهم ويدعون لهم بالخير فلو كان الإنسان يفنى بالكلية بعد موته كما يزعم الماديون لكان التصدق عنه والدعاء له عبثاً فاتفاق طوائف العالم يدل على أن فطرتهم شاهدة بأن رأي الماديين باطل فإذ ثبت ذلك وجب الإيمان باليوم الآخر والاعتقاد بالحشر والنشر.
ثم إن الذي يحشر إنما هو الأرواح والأجسام معاً وبيان ذلك أن النفس جوهر باق بعد فساد البدن فإذا أراد الله حشر الخلائق يتعلق بالبدن مرة ثانية ويتصرف كما كان في الدنيا وقد دل العقلب على أن سعادة الرواح بمعرفة الله سبحانه وتعالى ومحبته وأن سعادة الأجسام في إدراك المحسوسات والجمع بين هاتين السعادتين لا يمكن في هذه الحياة لأن الإنسان إذا استغرق في تجلي أنوار عالم الغيب لا يمكن أن يلتفت إلى اللذات الروحانية وإنما تعذر الجمع لكون الأرواح البشرية ضعيفة في هذا العالم فإذا فارقت بالموت واستمدت من عالم القدس قويت وكملت فإذا أعيدت إلى الأبدان مرة ثانية كانت قادرة قوية على الجمع بين الأمرين ولا شك أن هذه الحالة أقصى مراتب السعادة وأنكرت الفلاسفة الحشر الجسماني وزعمت أنه لا تحشر إلا الأرواح وهو زعم باطل لوجوه:
أولاً: إن من تدبر في هذا العالم تدبراً صحيحاً وجد أموراً كثيرة تشبه الحشر وتدل على إمكانه أولها المني فإنه فضلة الهضم الرابع ومادته إنما تولدت من الأغذية المأكولة وهذه الأغذية تولدت من الأجزاء العنصرية وهذه الأجزاء كانت متفرقة في أطراف العالم ثم جمعها الله تعالى فتولد منها حيوان أو نبات فأكله الإنسان فتولد منه دم فتوزع ذلك الدم على أعضائه فتولد منها أجزاء لطيفة فكانت هذه الأجزاء متفرقة في أطراف الأعضاء كالظل المنبث ولهذا تشترك الأعضاء كلها في الالتذاذ بالوقاع ويحصل الضعف والفتور في جميع البدن عند انفصالها ثم سلط الله تعالى قوة الشهوة حتى جمعت مقداراً معيناً من تلك الأجزاء الطلية في أوعية المني ثم أخرجها ماء دفقاً إلى قرار الرحم فتولد منه إنسان فالأجزاء التي تولد منها بدن الإنسان كانت أولاً متفرقة في البحار والجبال وأوج الهواء ثم اجتمعت بالطريق المذكور فتولد منها هذا البدن فإذا مات تتفرق على مثال التفرق الأول فالقادر(31/2)
العالم الذي لا يعجز عن شيء ممكن لا يغيب عن علمه مثقال ذرة كما جمع تلك الأجزاء المتفرقة أولاً ثم جعلها منياً ثم كون الشخص الذي تختلف صور أعضائه مع كون المني متشابه الأجزاء وأودع فيه القوة الناطقة والفاهمة اللتين لا يقتضيهما المني يقدر أن يجمعها مرة ثانية إذا افترقت بالموت ويكون منها شخصاً ويعيد النطق والفهم إلى محل كانا فيه فالأول عند المنكرين ليس مستبعداً فلا يكون الثاني مستبعد أيضاً.
الثاني الحب فإنه مع اختلاف أقسامه وأشكاله إذا وقع في الأرض الندية واستولى عليه الماء والتراب فالنظر العقلي يقتضي أن يتعفن ويفسد لأن أحدهما يكفي في حصول العفونة أو الفساد ثم إذا ازدادت الرطوبة ينفلق فلقتين فيخرج منهما ورقتان أما النوى فإنه يظهر في أعلاه شق وغي أسفله شف مع ما فيه من الصلابة العظيمة فيخرج من الأعلى الجزء الصاعد ومن الأسفل الجزء الهابط الذي يغوص في أعماق الأرض مع اتحاد العنصر واتحاد طبع النواة والماء والأرض فالقادر الذي يفعل هذه الأمور كيف يعجز عن جمع الأجزاء بعد افتراقها بالموت وعن تركيب الأعضاء.
ومن الأدلة المحسوسة ما يجده الإنسان منا في نفسه من الزيادة والنمو وقت السمن ومن النقصان والذبول وقت الهزال ثم أنه قد يعود إلى حالته الأولى بالسمن وإذا جاز تكون بعض البدن جاز تكون كله فظهر أن الإعادة ليست بممتنعة.
رابعاً حصول اليقظة بعد النوم فإن النوم صنو الموت واليقظة شبيهة الحياة بعد الموت ومن أراد زيادة الاستطلاع على الأدلة فليراجع المطولات فإن فيها مزيد من الإيضاح.
إذا تقرر هذا فاعلم أن مدار القول بإثبات الحشر على أصول ثلاثة أحدها أنه تعالى قادر على كل ممكن وثانيا أنه تعالى عالم بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات وثالثها أن ما يمكن حصوله في بعض الأوقات فهو ممكن الحصول في سائر الأوقات وقد ثبت بالبراهين القطعية حقيقة هذه الأصول الثلاثة فإمكان الحشر يكون ممكناً لأن الله تعالى يمكنه تمييز أجزاء بدن كل واحد من المكلفين عن أجزاء بدن غيره وإعادة التركيب والحياة إليه كما كانا أولاً (والله على كل شيء قدير) لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون).(31/3)
أغلاط لسان العرب
(وزفي مادة هـ د د ص 443) روي لأبي ذؤيب:
يقولوا قد رأينا خير طرف ... بزقيه لا يهدُّ ولا يخيب
وروى (بزقيه) هكذا بالهاء وبغير ضبط وكتب المصحح بالحاشية (قوله بزقيه هكذا بالأصل وهو غير مستقيم فحرر). قلت أعاد المصنف هذا البيت في ماتدة (ز ق و) شاهداً على أن زقيه اسم موضع ولم ينص على ضبط فيها بل ضبطت بالقلم فقط بفتح فسكون وهو موافق لما نص عليه البكري في معجم ما استعجم إلا أنه قال في الكلام على (رنية) اختلف الرواة في بيت أبي ذؤيب:
إذا نزلت سراة بني عدي ... فسلهم كيف ما معهم حبيب
يقولوا قد وجدنا خير طرف ... برقية لا يهد ولا يخيب
فرواه أبو علي برقية بالقاف ورواه السكوني برنبة بالنون ورواه البجيرمي بزقية بالزاي والقاف ورواه ثعلب برقبة بالراء المهملة والقاف والباء المعجمة بواحدة (انتهى كلامه) وذكره لا يخلو من فائدة وإن خرج عما نحن فيه.
(وفي مادة ب ص ر ص 132) روي لتوبة:
وأشرف بالغور اليفاع لعلني ... أرى نار ليلى أو يراني بصيرها
وروي (بالغور) بفتح العين المعجمة وهو خطأ لأن معناه المنخفض من الأرض ومعنى اليفاع المرتفع منها والشيء لا يكون منخفضاً ومرتفعاً في آن كما أن الإشراف لا يكون إلا في المكان المرتفع فالصواب (بالقور) بضم القاف جمع قارة للجبل الصغير وبه روي البيت في موضعين من آمالي القالي (ج1 ص88 وص 131) في النسخة المطبوعة ببولاق.
(وفي مادة ب ك ر ص 145) روي لأبي ذؤيب الهزلي:
وإن حديثاً منك لو تبذلينه ... جنى النحل فغي البان عود مطافل
مطافيل أبكار حديث نتاجها ... تشاب بماء مثل ماء المفاصل
وروي (عود) بالدال المهملة والصوال بالذال المعجمة جمع عائذ للناقة الحديثة النتاج وهو فاعل بمعنى المفعول لأن ولدها يعوذ بها. وضبط (مطافيل) في البيت الثاني مجروراً بالكسرة والصواب جره بالفتحة لأنه غير مصروف لصيغة منتهى الجموع وإنما كسر(31/4)
(مطافل) في البيت الأول للضرورة وليس (مطافيل) مضافاً لأبكار فيصرف للإضافة بل هو بدل من عوذ وما بعده صفتان له وضبط (بماء) غير منون والصواب تنوينه وهو ظاهر.
ومعنى البيتين أن حديثك كأنه عسل ممزوجاً بألبان الإبل الحديثة النتاج وهذه الألبان مشوبة بماء في غاية الصفاء. وإنما اختار البان العوذ لأنها أطيب وكلما عتق لبنها تغير. وفي تفسير ماء المفاصل قولان أحدهما أنه أراد بالمفاصل ما بين الجبلين وماؤها ينحدر عن الجبال فلا يمر بطين ولا تراب فيكون صافياً والثاني أن ماء المفاصل هنا شيء يسيل من المفصلين إذا قطع أحدهما من الآخر شبيه بالماء الصافي.
(وفي مادة ث ور ص 179 س20) وقالوا ثورة رجال كثروة رجال قال ابن مقبل:
وثورة من رجال لو رأيتهم ... لقلت إحدى حراج الجر من أقر
ويروي كثروة وضبط آخرها بالفتح والصواب ضبطه بتنوين الجر لأنه إذا وقع في البيت مكان ثورة كان مجروراً بواو رب وليس هو ممنوع من الصرف فيجر بالفتحة.
(وفي مادة خ ر ر ص317) روي للبيد
بآخرة الثلبوت يربأ فوقها ... قفر المراقب خوفها آرامها
وكتب المصحح حاشية (البيت بالأصل هكذا بالضبط) ونقول ليس في البيت إلا رواية (قفر) بالرفع والصواب نصبه على المفعولية ليربأ وبه روي في المادة (خ ز ز) والفاعل ضمير يعود على حمار الوحش المذكور في الأبيات قبله.
(وفي المادة خ ز ر ص319) روي لعروة بن الورد:
والناشئات الماشيات الخوزري ... كعنق الآرام أوفى أو صرى
وضبط (عنق) بسكون النون والصواب بضمتين على اللغة الحجازية إقامة للوزن لأنه غير مستقيم على الأول ويكون على الثاني بخبل مستفعلن ليصير متعلن فينتقل إلى فعلتن.
(وفي مادة د ور ص387 س14) ودير النصارى أصله الواو والجمع أديار والدايراني صاحب الدير وروى (الدايراني) بالألف بعد الدال وإسكان الياء التي بعدها وهذا لا يكون لأن الألف ساكنة أيضاً ولا يجوز اجتماع الساكنين على أننا لم نقف على نص في تحريك الياء فنحمله على الشذوذ في النسب فلم يبق إلا أن تكون هذه الألف زيادة سبق بها قلم(31/5)
الناسخ. ويؤيد ذلك كون المؤلف أعاد هذه العبارة بنصها بعد سطرين في مادة (د ي ر) وروي فيها (الديراني) بغير ألف بعد الدال وكذلك جاء في القاموس.
(وفي مادة ض م د ص164) روي لعنترة:
إني امرؤٌ من خير عبس منصباً ... شطري وأحمي سائري بالمنصل
وضبط (منصباً) بصيغة اسم الفاعل من أنصب ولا معنى له هنا وإنما مراد الشاعر (المنصب) بفتح الأول أي الأصل والمرجع. قال العلامة الأعلم الشمنتري في شرحه للديوان المنصب الأصل والحسب والمنصل السيف يقول شطري شريف من قبل أبي فإذا حاربت حميت شطري الآخر من قبل أمي حتى يصير له من الشرف مثل ما صار للشطر الأول.
(وفي مادة ع ر ر ص232) روي لابن أحمر:
ترعى القطاة الخمس قفورها ... ثم تعر الماء فيمن تعر
وضبط (يعر) بفتح الراء ولا وجه لنصب الفعل فضلاً عن أنه مخل بالوزن فالصواب إسكانها مع التشديد ليكون من الضرب الأول من السريع وهو المطوي الموقوف وأصله مفعولات فلما طوي بحذف رابعه الساكن ووقف بتسكين سابعه المتحرك صار مفعلات فنقل إلى فاعلان ويقابله في البيت (من يعر) باجتماع الساكنين وهو جائز في الوقف. هذا عند من لا يرى لزوم الردف في هذا الضرب.
أو إسكان الراء مع التخفيف وبه ضبط في مادة (ق ف ر ص424) ليكون من الضرب الثاني المطوي المكشوف أي المحذوف رابعه الساكن وسابعة المتحرك فيصير مفعولات بذلك مفعلاً فينقل إلى فاعلن. واعلم أن مثل هذا التخفيف جائز للشاعر في القوافي الموقوفة على ما هو مقرر في العروض ومفصل في كتاب (ما يجوز للشاعر في الضرورة) لأبي عبد الله محمد ابن جعفر التميمي (وموارد البصائر فيما يجوز من الضرورات للشاعر) للشيخ محمد سليم. إلا أنه لا يتأتى ترجيح أحد الوجهين على الآخر إلا بعد الوقوف على القطعة التي منها البيت فإذا كان فيها ما هو من الضرب الثاني وجب التخفيف في كل ما آخره مشدد لتكون الأبيات من ضرب واحد ألا تراهم كيف حكموا بتخفيف راء (أفر) في قول امريء القيس.(31/6)
لا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر
لأن في القصيدة ما هو من الضرب الثالث من المتقارب ولو شددت الراء لكان البيت من الضرب الثاني ولا يجوز الجمع بينهما في قصيدة واحدة.
قال العلامة البغدادي نقلاً عن كتاب (الضرائر لابن عصفور) عند الكلام على هذا البيت ما نصه وقد خفف عدة قواف من هذه القصيدة وإنما خفف ليستوي له بذلك الوزن وتطابق أبيات القصيدة ألا ترى أنه لو شدد (أفر) لكان آخر أجوزائه على (فعول) من الضرب الثاني من المتقارب وهو يقول بعد هذا:
تميم ابن مر وأشياعها ... وكندة حولي جميعاً صبر
وآخر جزء في هذا البيت (فعل) وهو من الضرب الثالث من المتقارب وليس بالجائز له أن يأتي في قصيدة واحدة بأبيات من ضربين فخفف لتكون الأبيات كلها من ضرب واحد سواء في ذلك الصحيح والمعتل أه.
(وفي مادة ع ف ر ص260) روي قول الشاعر:
إذا ما مات ميت من تميم ... فسرك أن تعيش فجيء بزاد
وروي (تعيش) بالمثناة الفوقية أوله والصواب بالمثناة التحتية لأنه للغاب لا للمخاطب وقد وقع مثله في مادة (ل ف ف ص231) نبه عليه الأستاذ اليازجي في الضياء.
وفي هذه المادة ص 264) روي لجرير:
لقومي أحمى للحقيقة منكم ... وأضرب للجبار والنقع ساطع
وأوثق عند المرادفات عشية ... لحاقاً إذا ما جرد السيف لامع
وضبط (جرد) بضم آخره والصواب فتحه كحكم أمثاله من الأفعال الماضية وهو ظاهر غير أن بنائه للمجهول ما لا يخلو من نظر لأنه يقتضي نصب (لامع) حالاً من السيف فيقع الإقواء. والذي عندي أن الصواب (إذا ما جرد السيف لامع) بنصب السيف على المفعولية ورفع لامع على الفاعلية وهو من قولهم لمع فلان بثوبه وبسيفه لمعاً إذا أشار وقد وجدته كذلك بضبط القلم على نسخة قديمة تغلب عليها الصحة من سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي.
(وفي مادة ف ط ر ص362 س16) والتفاطير أول نبات الوسمي ونظيره التعاسيب(31/7)
والتعاجيب وتباشير الصبح ولا أحد لشيء من هذه الأربعة وروي (التعاسيب) بالسين المهملة وليس في مادة (ع ش ب) التعاشيب العشب النبذ المتفرق لا واحد له وكذلك ورد في القاموس وشرحه في (ج1 ص35) من المخصص.
(وفي مادة هـ ب ر ص 170) روي لعدي:
فترى محانيه التي تسق الثرى ... والهبر يورق نبتها روادها
وورد (يورق) هكذا بالراء ولا معنى له هنا وروى (نبتها) بالنصب (وروادها) بالرفع وكل ذلك مفسد لمعنى البيت. والصواب (يونق) بالنون أي يعجب روادها على أن رواية يونق ليست مني تحكماً في تصحيح معنى البيت بل هي المذكورة من أمهات كتب الأدب والقصيدة كلها منصوبة الروي.
(تتمة) هذا البيت من قصيدة لعدي بن الرقاع عدة أبياتها ثمانية وثلاثون بيتاً مدح بها الوليد بن عبد الملك وأنشدها بين يديه فلما بلغ إلى قوله فيها
تزحي أغن كان إبرة روقه
قطع الإنشاد لتشاغل الوليد عنه فقال جرير أو الفرزدق وكانا حاضرين أنه سيقول
قلم أصاب من الدواة مدادها
فلما عاد عدي إلى الإنشاد نطق بالعجز كما قالا فعد ذلك من النوادر في توافق الخواطر وهذه القصيدة مع شهرتها وولوع أهل الأدب بها لا تكاد تجد منها إلا أبياتاً متفرقة بين كتب اللغة والأدب وقد ظفرت بها تامة في مجموع قديم بأوردتها برمتها في رسالة جمعتها في (أخبار أبي العلا المعري) لمناسبة اقتضت ذكرها.
(وفي مادة ت ر م ز ص179س 4) الترامز من الإبل الذي إذا مضغ رأيت دماغه يرتفع ويسفل وضبط (يرتفع) بفتح آخره والصواب ضمه إذ لا وجه لنصب الفعل وهو ظاهر.
لها بقية(31/8)
الوظائف الدينية والجهلاء
كل من يدير الفكر ويدقق النظر وينقب عن محيطنا وما تطرق إلى جميع أبوابه من الخلل والفساد يأخذه الأسف الشديد على هذه الحالة وينفطر قلبه كمداً.
سقطت الهمم وخربت الذمم وطمست معالم الحق وحرفت الشرائع وبدلت القوانين ولم يبق إلا هوى يتحكم وشهوات تقضى وخشونة تنفذ تلك سنة الكون والله لا يهدي كيد الخائنين.
ذهب ذوو السلطة وأعمدة الشر بكل شيء مخالف لنواميس الطبيعة ولحكمة التشريع السماوي وفعلوا ما ينبو عنه العقل القويم وينفر الجميع نفرة السليم من الأجرب.
موهوا أفعالهم بمياه السفسطة وغشوها بأغشية من معادة القوة ليذروا الرماد في عيون نقدة أفعالهم الدنيئة من أرباب الغيرة وأنصار الدين والملة.
كل ذلك ليجعلوا الباطل حقاً والجاهل الغر زعماً منهم بأن الحق إذا وضع اسم الباطل صار باطلاً والجاهل الغر إذا لقب بالعالم صار عالماً تلك لعمري مسألة بديهية البطلان ظاهرة الفساد تدل على خسافة عقول أنصارها وضعف ملكات مروجيها.
والحقيقة متى وجدت سبيلاً تسيلك فيه نسفت التل المركوم وانقضت كالصاعقة على البرج الموهوم فلا غرو أن تدكدك شاهق التمويه ولا تبقي له أثراً فعند ذلك يماط عن الحقائق لحجاب فتبدو بصورتها وهيولاها ذكرنا ذلك لنلج إلى موضوع سبب فشو الجهل والجهلاء ونبوض العلم والعلماء بعد انتظام عقدهم وتلألأ شموسهم إلا فلتعلم الأمة أجمع أن جرثومة هذا الفساد والعقبة الكؤد في طريق العلماء (إسناد الوظائف الدينية لمن لم تتحقق فيه الأهلية) تلك قضية لا خلاف فيها ولا مرية بعدما أصبحت شاهدة ولا دليل بعدها.
إسناد الوظائف لغير أهلها جر علينا الويلات الطامة والبلايا العامة والعار والشنار فمنها تزعزع العلوم والمعارف بعدما كانت متينة الوثاق قوية الركان لا تزيلها العواصف الثائرة ولا الأصوات الناعقة. . ومنها اختلاط الحابل بالنابل والحق بالباطل حتى كاد لا يفرق بين المدلسين المموهين الداء العلم وأعداء الإنسانية وبين العلماء الحقيقيين الذين يستهدى بهديهم ويفرغ من مدلهمات الخطوب وكوارث المسائل إليهم.
ومنها نفرة القلوب عن طلب العلوم والسعي وراء تحصيلها لأن العالم الحقيقي الذي أفنى عمره في طلب العلوم وسهر دياجر الليالي لاقتناء المعارف يكون مضطهداً والجاهل المغتر الذي لا يفهم من العلم وتحصيله سوى الثرثرة والسمسرة إلى أولياء نعمته والتفاني في(31/9)
خدمة مبادئهم السافلة معظماً مكرماً يتوسد الوظائف الدينية ورتب الوعظ لإرشاد الناس ومن يكون عن إرشاد نفسه وردها عن غيها وكبح جماحها عاجزاً فهو عن إرشاد غيره أعجز كيف وقد وجد لذلك أعواناً من حلفاء الدناءة وأعداء الحق فاسدي الأخلاق لا يهمهم خراب الدين وعمرانه إن لم نقل هم معاول تخريبه. . ورضوا لأنفسهم أنهم بفعلهم هذا سجل لهم التاريخ صحيفة سوداء لا يبلي جدتها كر الأيام والليالي.
روى الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين إلا فليرعوا السعاة سعاة الجهل والجهلاء وليعلموا أن (ليس للإنسان إلا ما سعى) وروى الحاكم أيضاً قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولي من أمر المسلمين شيئاً فأمر عليهم أحداً محاباة (بلا استحقاق) فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم.
ومنها تأنيب الأجانب لنا كتب أحد علماء الفرنجة وكتابهم يلزم على أوروبا جمعاء احترام دين الإسلام لأنه أفاد العالم كله ولكن ما العمل وقد ضيعه أهله وأي تضييع للدين الإسلامي والعلم والعلماء أعظم من أن يتولى رآسته الجهلاء ويدخل في عداده هيان بن بيان.
والسادة الفقهاء نددت بذلك العمل وبينت فيه القول الحق وكتبهم التي هي دستور العمل في مثل هذا الخطب طافحة بذلك وهاك بعضها.
قال في الأشباه والنظائر إذا ولى الحاكم مدرساً ليس بأهل للتدريس لم تصح ولايته لما تقرر من أن التولية مقيدة بالمصلحة ولا مصلحة في تولية غير الأهل قال ابن الكمال وعليه الفتوى.
قال في البزازية إذا أعطي غير المستحق فقد وجد ظلم مرتين مرة بمنع المستحق ومرة بإعطاء غيره.
وفي فتاوى قاضيخان أن التولية إذا لم توافق شرط الشارع لا تنفذ ومعلوم أن شرط الواقف كنص الشارع.
وقال التاج السبكي المدرس إذا لم يكن صالحاً للتدريس لا يحل له تناول المعلوم ثم قال وهذا كله مع قطع النظر عن شرط الواقف في التدريس أما إذا علم شرطه ولم يكن المقرر(31/10)
متصفاً به لم يصح تقريره وإن كان أهلاً للتدريس في الجملة لوجوب اتباع شرطه ثم قال والأهلية للتدريس لا تخفى على من له بصيرة منها المعرفة بمنطوق الكلام ومفهومه عارفاً بالمفاهيم أجمعها متبحراً في علوم الشريعة من تفسير وأصوله وفقه وأصوله وأن يكون بحراً غواصاً في استخراج المسائل من الكتب والنصوص له اليد العليا في سائر العلوم العربية والعلامة ابن عابدين بين مسألة توارث الوظائف عن الأجداد والآباء وذكر فيها القول الحق الذي لا محيد عنه فقال بعد نقول كثيرة ما معناه:
يحرم إعطاء الوظائف الدينية لغير الأهل لما فيه من أخذ وظائف العلماء وتركهم بلا شيء يستعينون به من العلم كما هو واقع في زماننا فإن عامة أوقاف المدارس بأيدي جهلة أكثرهم لا يعلمون شيئاً عن فرائض دينهم بسبب تمسكهم بأن خبز الأب لابنه فيتوارثون الوظائف اياً عن جد كلهم جهلة كالأنعام ويكبرون بذلك فراهم وعمائمهم ويتصدرون في البلدةن حتى أدى ذلك إلى اندراس العلم والعلماء (وذكر حادثة وقعت في زمانه تشبه بعض حوادث زمننا نضرب عنها صفحاً) ثم قال ففي توجيه هذه الوظائف لأبناء هؤلاء الجهلة ضياع العلم والدين وإعانتهم على إضرار المسلمين.
فيجب على ولاة الأمور نزعها من أيدي المختلسين واللصوص المتغلبة وتوجيهها على أهلها لينتظم الأمر وإلا فليبشر البقية الباقية من العلماء بأن العاقبة وخيمة ونعوذ بالله من ذلك أه.
أما إذا كان الواقف شرط لتولية التدريس أعلم عالم مثلاً فهذا يحرم توجيه هذا التدريس على غيره بل لا ينعقد ولو كان عالماً معتبراً إذ شرط الواقف يحرم مخالفته كنص الشارع كما تقدم فكيف إذا لم يكن من العلماء أصلاً هذا لا يكون أبداً. .
وجاء في نظام المدارس والتدريس الذي عرب في العام الماضي لأجل العمل به في مادة إذا كان شرط الواقف بحق توجيه التدريس معلوماً ومعمولاً به أو كان غير معلوم ولكن التعامل القديم فيه معروف يجب اتباعه قطعاً والعمل بموجبه ولذا يعتبر التوجيه الواقع بخلاف شرط الواقف على غير الأهل بل ينزع من عهدته ولو كان موجهاً عليه ببراءة ثم يوجه على مستحقه بمقتضى شرط الواقف. انتهى.
ومن أعظم الأضرارالعظيمة التي سببها هذا الاحتكار والتغلب سقوط هذا السلك الشريف(31/11)
من بين الطبقات حتى عد هزوءاً وسخرية بعدما كان يقام له ويقعد ولأهله في التاريخ مجد أثيل وعز فخيم.
دخل الخليفة الأموي على عطاء بن أبي رباح وكان مولى من الموالي فلم يعبأ به ولم يأبه لجلالة قدره ورفعة منصبه حتى أنه لم يلتفت إليه ثم قال الملك لابنه وكان معه انظر ذلنا بين يدي هذا العبد وما هو إلا العلم يرفع العبيد على الملوك والصعلوك على العظام.
ودخل الخليفة العباسي هارون الرشيد على الفضيل بن عياض فوعظه الفضيل حتى أبكاه وجرت دموع الخليفة على لحيته ثم قال لهم أنتم الملوك حقاً.
دعي هذا الخليفة العظيم معاوية الضرير لأجل أن يأكل معه على مائدة واحدة فلما فرغا من الطعام قام معاوية يريد أن يغسل يديه فصب عليه هارون الرشيد ولم يدر معاوية ذلك ثم قال له الخليفة أتدري من يصب على يديك؟ قال له لا قال أنا قال أنت يا أمير المؤمنين قال له نعم إجلالاً للعلم ومن سير تاريخ الرشيد وعظمتهخ وفضله علم أنه كان للعلم وأهله في زمنه شأن يذرك.
أي جهابذة العلم صناديد الوغى معدن الفضل الحقيقي مالي أراكم سكوتاً لا تتكلمون ولا تنبثون ببنت شفة كأنكم راضون بهذه الفترة وراضخون لهذا التيار أما علمتم أن الوظائف الدينية والعوائد الخيرية إنما زينت ليرتفع منار العلم والدين لا لعكس القضية أو ما علمتم بأن سكوتكم هذا هو الذي جر علينا الويلات الطامة والعامة وعدم الانتظام: أخرج البخاري في صحيحه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال الأعرابي كيف إضاعتها يا رسول الله قال إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة. . أرى أن الخطب يتفاقم والأمر يتعاظم وأنتم سكوت أتظنون أن القعود في أحلاس بيوتكم والانزواء في حجراتكم من باب العبادة والزهادة ما ظننتم إلا باطلاً فلقد بلغ السيل الزبى وتفرق العلم أيدي سبا فهبوا من سباتكم العميق هبوب الأسد من عرينه وطالبوا بحقوقكم المغصوبة ووظائفكم المنهوبة ولكن بالطرق المشروعة واضربوا بترهات المبطلين عرض الحائط (أن الباطل كان زهوقاً) وانصتوا لصدى شاعر النيل حيث يقول
عليكم حقوق للبلاد أجلها ... تعهد روض العلم فالروض مقفر
وقد أعذر من أنذر(31/12)
(البقية تأتي)
أبو الضيا(31/13)
إلى علماء العالم الإسلامي ورؤسائه
{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}
(قرآن كريم)
لما كان من الحقائق المؤيدة بالشواهد والقضايا المسلمة لدى ذوي الفكر الثاقب والنظر الدقيق أن من ترأس قوماً وتولى إدارة شؤونهم وزمام سياستهم وهو لا ينفك عن مخالطتهم ومعاشرتهم يوماً من الأيام يجب عليه أن يتوخى الأسباب التامة لاستجلاب قلوبهم ويستعمل الوسائل اللازمة لاستمالة نفوسهم وينهج المناهج التي ينهجونها ويرد المشارب التي ينهلونها ويميلون إليها بحيث لا يمس بذلك شرفه ودينه ليكون محبوباً مصاناً مكرماً عند الجميع ومعززاً مهاباً عند الرفيع والوضيع.
كان من اللازم اللازب على من بيدهم زمام الحل والعقد من حكامنا كرؤساء الدوائر وقواد الجيوش ومن لهم الإمرة عليهم وعلى أرباب الصحافة الذين هم لسان حال الأمة أن يكونوا عنوان العدل ونبراس الهدى وعلم السعادة ونموذج الفضيلة يهجرون الخمرة التي يتجاذبون أقداحها باسم المدنية كما هجرتها عقلاء أوروبا ويكفون عن الزنا واللواط والجلوس في نوادي السفاهة والسفالة والتردد إلى المواخير ومراسح اللهو والعار والشنار باسم الحرية ويرجعون إلى دينهم فيتخلقون بأخلاقه الشريفة وآدابه المنيفة وينبذون الأخلاق البذيئة الساقطة ويعتاضون عن تلك المراسح بالمساجد ويتعشقون الصلوات الخمس ويدأبون على الطاعات (سياسة وديناً).
أما سياسة فلحوزهم على إرضاء الأمة واستجلاب قلوبها وأما ديناً فلنيلهم رضاء الله تعالى ومن البديهيات أن الأمة متى رأت مأموراً محافظاً على دينه متمسكاً بالشرع الشريف متظاهراً بمكارم الأخلاق فإنها تحبه وتتودد إليه وتمدحه وتثني عليه حتى أنها تنخدع له وتضع ثقتها به وإن كان مرائياً مداهناً.
بل تخضع له وتنقاد لجميع ما يأمر به وينهى عنه ولو كان مؤدياً لهلاكها وخراب ديارها والعكس بالعكس فإنها تنفر من المارق من الدين والمتنصل من الأخلاق الشريفة وتمقته وتنظر إليه بعين التحقير والازدراء وتسلقه بالسنة حداد فتمزق عرضه وتلوث شرفه حتى أنه ليكون كالقذى في أعينها.(31/14)
ولاسيما ببلادنا التي أغلب سكانها من المسلمين فوسيلة الدين هي الوحدة الوحيدة التي تؤلف بين الشعب والحكومة وهي المشار إليها بقوله تعالى خطاباً لنبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. وهي التي تؤلف بين أفراد الأمة فتجعلها كالجسم الواحد تشترك في السراء والضراء وفي السعي وراء جلب المنافع ودرء المفاسد وفي المدافعة والمناضلة عن أوطانها عند طروء طارئ يتهددها أو حدوث نائب ينتابها هذه هي الجامعة الدينية والرابطة الحقيقية التي تمتاز عن سواها من الجامعات كالجنسية والوطنية واللغة.
لأن الدين أقوى أساس تشاد عليه دعائم الروابط الاجتماعية بين أفراد النوع البشري مهما تباينت مشاربهم وتناءت أقطارهم وشطت ديارهم واختلفت أغراضهم وتبادلت أهواؤهم وتعددت لغاتهم فرابطة الدين عندهم أعظم مؤثر في النفوس لأنها أحرزت شرفين عظيمين وفضلين جليلين أحدهما - اتصال حبلها بحبل فاطر السماء والأرض والثاني دوامها إلى نهاية الأجل وأما الرابطة الجنسية وإن دامت فهي أضعف من الأولى لأن الإنسان قد يقطع أقاربه ويلحق بالأباعد بواسطة الدين وهذا معلوم واضح كالشمس في رابعة النهار لدى من له أدنى إلمام بعلم تواريخ الأمم وكم في الحوادث من شواهد؟
وأما رابطة الوطن واللغة فهما أضعف من الرابطة الجنسية لأنهما تابعان لها وكثيراً ما نرى من الناس من يبارح أوطانه مهاجراً إلى غير بلاده فيحل ربوعاً لم يعرفها ويشاهد سكاناً لم يألفها ويقيم بها إلى أن يدركه الأجل المحتوم كما نشاهده من الذين يهاجرون إلى بلاد أمريكا فإنهم ذهبوا عشرات من الألوف وما رجع منهم إلى وطنه إلا القليل.
فرابطة الدين متى غرست في القلوب وأينعت ثمارها الجنية على أغصان أدواحها كانت الكهف الذي يؤوى إليه والملاذ الذي يعول عليه والحصن الحصين الذي يلجأ إليه الخائفون عند الدفاع عن أوطانهم والذب عن حياضهم والذود عن أعراضهم وأموالهم هي الوطن هي الحرية هي الإخاء هي المساواة.
وبها أرهب سيدنا معاوية رضي الله عنه قيصر الروم لما كتب إليه يهدده بالحرب أو دفع الجزية حين تشاجره مع سيدنا علي رضي الله عنه فكتب له الجواب إن لم تكف عن طلبك(31/15)
وترجع عن بغيك سلمت الأمر لصاحبي وكنت أول سهم من سهامه يرمي به إليك وحينما وصله الجواب أرعبه وأرهبه وأدرك الحقيقة وفهم السر الذي بين الملمين وتبين له الرشد من الغي.
كيف ينكر فضل الرابطة الدينية وقد كانت السبب الوحيد في الفتوحات الإسلامية وانتشارها في سائر الأنحاء والأرجاء ومن المقرر المسلم أن دين الإسلام لم يدع أصلاً من الفضائل إلا أتى عليه ولا قادة من قواعد النظام الشريف إلا قررها ولا مزية من مكارم الأخلاق إلا دعا لها وحث عليها وأباح لكل أحد أن يتناول من الطيبات ما شاء أكلاً وشرباً ولباساً إلا ما كان ضاراً بنفسه أو بمن يدخل في ولايته أو ما تعدى ضرره إلى غيره.
الإسلام هو الذي جعل الإنسان حراً في أفكاره متى بلغ رشده وأدرك هداه خول للإنسان استقلال العقل في الأمور النظرية وما به صلاح السجايا واستقامة الطبع وإنهاض العزائم هو الذي حمل على المتنفذين حملة الأسد الهصور فبدد فيالقه المتغلبين على النفوس ونسف ما كان لهم من دعائم وأركان في عقائد الأمم وصاح بالعقل صيحة أزعجته من سباته وأفهم الإنسان بأنه لم يخلق ليقاد بالزمام لكنه فطر على أن يهتدي بالعلم فيتخلص من ظلمات ليل الجهل الدامس الحالك ولما كان مفتاح هذه الوسيلة ومصباح هذه الطريقة هو علماء الأمة كان من الواجب المحتم على علماء الإسلام الأطباء النطساء الذين يشخصون الداء والدواء أن يبارحوا أوطانهم وينتشروا في الأرض لبث الدعوة الدينية بين أفراد الأمة ونفخ روح الشريعة في الأجسام الخالية لإحياء الأرواح الخامدة وتحريك النفوس الهامدة يؤلفون بين القلوب ويحذرون من التحزب والتفرق لأنهما في الحقيقة معاول الخراب وينذرون الأمة بسوء عاقبة اختلاف الكلمة وشق عصا الاجتماع ووخامة النتيجة ويبشرون بالفوز والنجاح عند التعاون والتعاضد واتفاق الآراء ويشقون إلى التمسك بعرش الخلافة الإسلامية وحفظ كيان دولة الإسلام والمسلمين ويحرضون الناس على شد أزرها بالمال والرجال ومفاداتها بما عز وهان ويبذل النفس والنفيس في سبيل ترقيها ونجاحها يغادرون أوطانهم ويفارقون أولادهم وخلانهم لنيل هذا المطلب الأسمى الذي جعله الله وظيفة الأنبياء والرسل الذين هم أشرف مخلوقاته وأورثه لعلماء الأمة فمن الواجب على الوارث أن يحفظ ما ورث ويعمل به خوف الضياع ومقت الله تعالى ولو لاقى الشدائد والمصاعب لأن له قدوة بمورثه قال(31/16)
جل شأنه {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. ومن اللازب اللازم على الحكومة أن تؤمنهم وعيالهم على معيشتهم وتكفل لهم بما يقوم بأودهم وتمد لهم ساعد المعاضدة على إدراك هذه الضالة المنشودة والغاية المفقودة لاسيما في هذه الأوقات الحرجة والظروف المشؤومة.
فإذا فعلوا ذلك كان سعيهم هو قطب دائرة الحياة الدنيا ومدارج مرقاة العلا إلى المراتب السامية به تدرك الغايات وتملك النهايات وبالجملة علو الهمة من الإيمان ولما كانت القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد جعل الله من عظيم فضله وجليل كرمه الوعظ والإرشاد جلاء لصدأها ولهذه الغاية فرض على المسلمين صلاة الجمعة في كل أسبوع مرة وقيدها بالجماعة فلا تصح من الفرد وفرض الحج على المستطيع ليجتمع المسلمون كل عام.
تراهم يأتون من سائر الأقطار والممالك ييممون البيت الحرام من كل فج عميق بقلوب ملؤها البشر والفرح لا يبالون بما يتحملونه من الآلام والمشاق يقف فيه الحقير والجليل والرفيع والوضيع ويقومون في صعيد واحد لا امتياز لابن أعاظم العظماء عن ابن أفقر الفقراء فيا لله ما أحلى هذه المساواة وما أبهاها وما هي الفائدة يا ترى من اجتماع المسلمين في اليوم خمس مرات وفي كل أسبوع وعام؟
فائدة اجتماعهم في اليوم والأسبوع والعام استماع المواعظ والإرشادات العمومية التي تلقيها الخطباء والوعاظ حسبما يقتضيه الحال والزمان بالتوصية بالمحافظة على الخلافة الإسلامية وبوجوب الانقياد لخليفة الوقت والتحابب والتعاون والتناصر والتعاضد والاعتصام بحبل الله جميعاً والسعي وراء المنافع العامة والنهي عن الانشقاق وتفرقة القلوب والحث على طلب العلوم الدينية والفنية وإحداث الفبارك والصنائع لتجاري أمتهم الأمم الحية في مضمار الرقي والتقدم ومعترك الحياة.
فباجتماعاتهم العمومية السالفة الذكر ينظر الغني إلى الفقير فيحنو عليه ويشكر الله على ما أولاه من جلائل النعم والظالم يرى المظلوم فيرق ويرجمه والقوي يشاهد الضعيف فيعينه على ضعفه شفقة ورحمة ويقفون على أحوال بعضهم فيتأثرون متى سمعوا بمصيبة حلت ببلاد قوم دون آخرين ويهرعون لمؤازرتهم وإنقاذهم من مخالب الأعداء.
كيف لا وهم كالجسم الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى:(31/17)
ناشدتكم الله والوجدان والشرف أية سياسة أعظم من هذه السياسة أم أي قائد أعظم من قائد الدين، ألا فليتق الله المفكرون والمدبرون وليرجعوا إلى ما كان عليه أسلافهم أرباب الحزم والعزم والدراية أولئك قوم كانت ترتعد فرائص الجبابرة عند ذكر اسمهم من التألف والتحابب والتعاون والتعاضد والتضافر وجمع الكلمة والسير على المنهج القويم والصراط المستقيم.
ويا للأسف أصبحنا في زمان لا يحضر فيه المواعظ سوى المريض والشيخ الهرم الفاني والفقير المعدم هؤلاء العجزة الذين لا يقدرون على ردع فاسق ولا على إصلاح فاسد ولا على تقويم أود والذين يجب عليهم استماع المواعظ والخطب وبيدهم زمام الحل والعقد غافلون ومتغافلون صفتهم اليوم كصفة من أخبرنا الله عنهم بقوله:
{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ، فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ، بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً}. والعجب منهم ومن أعوانهم يتساءلون في هذه الأيام عن عدم النصر في هذه الحرب الحاضرة ويقولون إن الله وعد المؤمنين بالنصر فلم لم ينصرنا؟
ويتجاهلون عن أنهم ليسوا من الذين وعدهم الله بالنصر لأن الله وعد المؤمنين بالنصر ووصفهم لنا بقوله: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}. فهؤلاء الذين وعدهم بالنصر فقال: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}.
ونحن نقول لهم كما قال الله تعالى لأمثالهم {فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً}، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. ونقول مهما حاول السياسيون والمفكرون في نهوض الأمة ورقي الوطن إن لم يعضدوا سياستهم بالشرع الشريف فلا تقدم ولا رقي ولا حياة ولا نجاح.
يبرود
أحمد الباشا(31/18)
وعشنا على بؤس
ليالي أبلي من همومي وجددي ... لك الأمر لا تقوى على رده يدي
فما أرتجي والأربعون تصرمت ... ولا عيش إلا ينتهي حيث يبتدي
سكت سكوتاً لا يريك امتداده ... فلا خاطري باقٍ ولا الشعر مسعدي
ولا فيَّ من روح الشباب بقية ... ولست بمشتاق ولست بموجد
حزنت على الماضي ضلالاً ومن يعش ... كما عشت لم يحزن ولم يتجلد
ومالي منه خاطر غير أنني ... عدلت فلم أفتك ولم أتبعد
* * *
سقى الله دارات القرافة ديمة ... ترف على قوم هنالك هجد
تعود كل بؤسها ونعيمها ... وعشنا على بؤس ولم نتعود
أحن إلى تلك المراقد في الثرى ... ولو أستطيع اليوم لاخترت مرقدي
فأنزلت جسمي منزلاً لا يمله ... يكون بعيداً عن أعاد وحسد
وما يتمنى الحر في ظل عيشه ... تمر لأحرار وتعلو لأعبد
كأن بها وقراً على كل كاهل ... فمن يتكبد حمله يتكبد
لقد أتعبني، والمتاعب جمة، ... مسيرة يومي بين أمسي والغد
ألما يئن إن يستريح مجاهد؟ ألما يئن إن يبلغ المنهل الصدي؟
تزهدت في وصل المعالي جميعها ... ومن يطلبها كاطلابي يزهد
وبت تساوت في فؤاد مناهج ... تؤدي لخفض أو تؤدي لسؤدد
وإني في بيت صغير مهدم ... كأني في صر كبير مشيد
عفا الله عن قوم أتاني غدرهم ... فرب مسيء لم يسيء عن تعمد
وكم من نفوس يستطيل ضلالها ... ولكن متى ما تبصر النور تهتد
فزعت من الآمال باليأس عائداً ... إن تدنني منها اللبانات أبعد
فلا ترتعي مني بقلب معذب ... ولا تنجلي مني لطرف مسهد
فيا ريح إن يعصف بي الشجو سكني ... ويا غيث إن يضرمني الوجد أخمد
ويا ساكنات الطير في دولة الدجى ... أرى إن دعاك الصبح أن لا تغردي
لدي شكايات وأنت شجية ... فإن تستطيبيها لشجوك أنشد(31/19)
ولا تحسبي التقليد يذهب حسنها ... فكم حسنات قد أتت من مقلد
* * *
تركت الغنى لا عاجزاً عن طلابه ... وأنزلت نفسي من منازل محتدي
وهذي بحمد الله مني براءة ... فيا أفق سجلها ويا أنجم أشهدي
القاهرة
ولي الدين يكن(31/20)
الدروس الدينية في شهر رمضان
أصدر ديوان عموم الأوقاف المصرية المنشور الآتي ووزعه على حضرات المدرسين بالمساجد قال فيه:
غير خاف على حضراتكم أن ما بين المغرب والعشاء الذي هو الوقت المقرر لإلقاء الدروس الدينية لا يتيسر الاستمرار عليه في شهر رمضان ولذلك رأينا استبداله بما بعد صلاة العصر من كل يوم إلى قبيل الغروب وأملنا ملاحظة التنبيهات الآتية:
أولاً: أن يبتدئ في الدرس عقب صلاة العصر على الفور قبل تفرق المصلين من المسجد.
ثانياً: بذل الجهد في إيقاف الناس على الحكم الشرعية المقصودة من تشريع العبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج وتفهيمهم أن لي الغرض من الصلاة هو مجرد الحركات التي تصدر من المصلي ولا من الصوم مجرد إجاعة الصائم طول اليوم ولا من الزكاة مجرد إنفاق المال ولا من الحج مجرد السفر في الأودية والقفار بل إن هذه العبادات لها أسرار يقصدها الشارع الحكيم كلها ترجع لصلاح الإنسان في حالتي الانفراد والاجتماع ولسعادته في الدارين دار الدنيا ودار الآخرة وهي لا تؤدي إلى هذا الغرض المطلوب إلا إذا كان عمل الجوارح فيها مقترناً بشعور القلب بها وكان هذا الشعور هو السبب في انبعاث الجوارح لأدائها وهكذا يتوسع في هذا البيان بقر ما تقبله عقول الناس وبقدر ما تدعو إليه الحاجة في وقوفهم على هذه المعاني وإدراكهم لها.
ثالثاً: التعرض لبيان ما يكثر وقوعه من أحوال الصوم وأحكامه وما يفطر به الصائم وما لا يفطر وما ورد في السنة مما يتعلق بأدب الصوم والإفطار ولا بأس من ذكر شيء من أخبار الصالحين الصحيحة في آداب صومهم وإفطارهم مع شرح الحكم المعقولة التي تترتب على هذه الآداب.
رابعاً الإفاضة في أن أعظم فائدة للصوم هي ذل النفس وانكسارها وخشوعها لله بتركها ما فطرت على تشهيه والتمتع به وكان فيه قوامها وحياتها امتثالاً لأمر الله وخشية من عقابه فإن ذلك مدعاة لشعورها بعظمة الله تعالى وجلاله كلما أحست بألم الجوع وشعرت بأنها ممنوعة من الأكل الذي يدفعه عنها هذا الألم امتثالاً لأمر الله وإذا شعرت النفوس بعظمة الله شعوراً صحيحاً هان عليها ترك جميع شهواتها التي تمقتها مرضاة له جل شأنه ويترتب على ذلك من مكارم الأخلاق مثل العفة والصبر والشجاعة والأمانة والحياء والرحمة(31/21)
بالمساكين والضعفاء ونحو ذلك وطهارة النفس وصحة البدن ما ينال به الإنسان سعادة الدارين وإن هذا الغرض المقصود للشارع من هذه الفريضة (الصوم) يزول بمطاوعة النفس والهوى في أي شيء من المحظورات كالقتل والسرقة والزنا والسكر وجميع ما فيه إضرار الناس كالنصب والاحتيال وشهادة الزور ونحو ذلك فلا يليق للصائم في هذا الشهر أن يرتكب أي شيء مما ذكر وإلا كان صومه مردوداً عليه ويكون قد عجل لنفسه العذاب في الدنيا بألم الجوع وأمامه في الآخرة العذاب الشديد.
خامساً يلاحظ بقدر الإمكان أن لا يكون التدريس في كتاب بل يا حبذا لو أمكن للمدرس أن يحضر الموضوعات من كتب الأخلاق والفقه والتفسير والحديث والسيروان أو في الكتب لشرح ما نرمي إليه من هذه المواضيع كتاب إحياء العلوم للإمام الغزالي وعوارف المعارف للإمام السهروردي ونحوهما ويلخصهما تلخيصاً حسناً ثم يلقيهما على الناس بعبارة مألوفة تقبلها عقولهم.
وأما من لا يمكنهم التدريس إلا بالقراءة في الكتاب فيجب عليهم (أولاً) اختيار الكتب الموثوق بصحتها الخالية من الاصطلاحات الفنية. (ثانياً) تفسير كل مسألة يقرؤونها ببيان شافٍ وعبارات تناسب فهم العامة.
ولما كان هذا الشهر المبارك شهر تقشف وقناعة وحلمٍ وتواضع ورحمة ولين يستدعي جهاداً عظيماً بإخلاص تام من الوعاظ والمرشدين فعساكم تعملون لذلك في هذا الشهر بما ينفع الناس في دينهم ودنياهم خصوصاً وإن كثيراً من الناس ينكب على العبادات ويتوجه بقلبه إلى الله تعالى في هذا الشهر ويتولد عنده بسبب ذلك وبسبب الصوم إحساس قوي في الدين يجعله مستعداً للتأثر بالمواعظ الدينية والتمسك بما يتعظ به فلو أنكم تتعهدونهم بالموعظة الحسنة والحكم الدينية النافعة وتتدرجون بهم في ترقية هذا الأساس الديني حتى يبلغ درجة كماله لكان في ذلك الخير العظيم والفوز العميم.
(الحقائق) نسأل الله تعالى أن يوفق علماءنا وأهل الحل والعقد منا إلى العناية بتعليم العامة، وإرشادهم لمعالم دينهم المبين، وشرعهم المستبين.(31/22)
التاريخ
15
ننشر في هذا الباب سيرة كبار الرجال في الإسلام وشيئاً من فضائلهم وأخلاقهم وأعمالهم وسياستهم لما في ذلك من تحريك بواعث الهم للاقتداء بهم في جلائل الأعمال وكرائم الخصال وليكون زاجراً لأولئك الذين يتغاضون عن مآثر رجال المسلمين ويفتخرون بحفظ تاريخ فلاسفة الغربيين.
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه
6
أخبار القادسية
وصل رستم إلى القادسية بجيش ملأ تلك النواحي وكان معه ثلاثة وثلاثون فيلاً فنزل على العتيق بجانب عسكر المسلمين وركب رستم صبيحة تلك الليلة ونظر عسكر المسلمين حتى انتهى إلى آخرهم. فوقع الرعب في قلبه واستولى عليه الفزع فوقف على القنطرة ثم أرسل إلى زهرة وهو في مقدمة جيش المسلمين فأتى إليه فعرض رستم له بالصلح وقال له كنتم جيراننا وكنا نحسن إليكم ونحفظكم وجعل يذكر جميل صنيعهم مع العرب. فقال له زهرة إنا لم نأتكم لطلب الدنيا إنما رغبتنا في الآخرة. وقد كنا كما ذكرت إلى أن بعث الله فينا رسولاً فدعانا إلى ربه فأجبناه ثم أمرنا أن ندعو الناس إلى دينه الحق. فقال رستم وما هو دين الحق؟ قال: الشهادتان وإخراج الناس من عبادة الخلق إلى عبادة الله عز وجل والكل إخوان في ذلك. فقال رستم إن أجبنا إلى هذا هل ترجعون؟ فقال زهرة: أي والله. فانصرف عنه رستم ودعا رجال فارس وذكر لهم ذلك فما قبلوا فأرسل إلى سعد أن أبعث إلينا رجلاً نكلمه فبعث إليهم ربعي بن عامر فجاء على فرسه وسيفه في خرقة ورمحه مشدود بعصب فانتهى إلى رستم وهو على سرير من ذهب وبين يديه النمارق والوسائد المنسوجة. فقال الترجمان لربعي ما جاء بكم فقال إن الله أمرنا أن نخرج عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام وأرسلنا بدينه إلى خلته فمن انقاد له تركناه وأرضه ومن أبى قاتلناه حتى نفوز بالجنة أو الظفر. فقال رستم هل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه. فقال نعم ولكن مما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نمكن الأعداء(31/23)
أكثر من ثلاث فانظر في الأمر ثم اختر إما الإسلام وندعك وأرضك. أو الجزية فنقبل ونكف عنك ونحميك إن اعتدى أحد عليك. أو القتال في اليوم الرابع. وأنا كفيل بهذا عن أصحابي فخلا رستم برؤساء قومه وقال هل رأيتم كلاماً قط مثل كلام هذا فأروه الاستخفاف بشأنه وثيابه فقال ويحكم إنما انظر إلى الرأي والكلام
(والعرب تستخف باللباس وتصون الأحساب)
ثم أرسل رستم في اليوم الثاني إلى سعد ليبعث إليه ربعي بن عامر مرة ثانية فبعث إليهم حذيفة بن محصن فأجاب بما أجاب به ربعي بن عامر ثم قال له رستم ولماذا لم يأتنا الأول فقال حذيفة (أميرنا يعدل بيننا في الشدة والرخاء وهذه نوبتي).
فقال رستم والمواعدة إلى متى فقال إلى ثلاث من أمس وانصرف. فخاض رستم بأصحابه يعجبهم من شأن القوم وطلب في اليوم الثالث رجلاً آخر فجاءه المغيرة بن شعبة فتكلم رستم وعظم أمر فارس وقوتهم وصغر أمر العرب وقال للمغيرة ما حملكم على هذا إلا ما بكم من الجهد فانصرفوا ونحن نعطي أميركم كسوة وبغلاً وألف درهم وكل رجل منكم حمل تمر فقال المغيرة أما الذي وصفتنا به من سوء الحال والضيق فنعرفه ولا ننكره - والدنيا دول - والشدة بعدها الرخاء - وإن الله بعث فينا رسولاً أنقذنا من ذلك ثم ذكر مثل ما تقدم من التخيير بين الإسلام أو الجزية أو القتال فقال رستم إذاً تموتون دونها فقال المغيرة: من قتل منا دخل الجنة ومن بقي ظفر بكم.
فاستشاط رستم غضباً وحلف أن لا يقع الصلح أبداً وانصرف المغيرة. فخلا رستم بأهل فارس وعرض عليه مصالحة القوم وحذرهم عاقبة حربهم فما قبلوا كلامه.
ثم أرسل سعد بن مالك رضي الله عنه إلى رستم ثلاثة من ذوي الرأي فلما انتهوا إليه قالوا له إن أميرنا يدعوك إلى ما هو خير لنا ولك فاتق الله ولا يكونن هلاك قومك على يدك فقال لهم رستم إن الأمثال أوضح من كثير من الكلام. إنكم كنتم أهل جهد وفقر وكنا نحسن إليكم فلما أكلتم طعامنا أتيتمونا وإنما مثلكم ومثلنا كمثل رجل له كرم فرأى فيه ثعلباً فأغضى عنه وقال وماذا يأخذ ثعلب فانطلق الثعلب فدعا الثعالب إلى ذلك الكرم فلما اجتمعوا إليه سد صاحب الكرم النقب الذي دخلن منه ثم قتلهن. وإني أعلم أن الحرص والجهد قد حملاكم على ما صنعتم وإنا لا اشتهي قتلكم فارجعوا ونحن نميركم. فقال له القوم(31/24)
قد كنا على ما وصفت من الضيق وسوء الحال فأرسل الله إلينا رسولاً نظم شملنا وهذبنا بآداب دينه. وأما ما ضربت من المثل فليس كذلك. ولكن إنما مثلكم كمثل رجل غرس أرضاً واختار لها الشجر وأجرى إليها الأنهار وزينها بالقصور وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها ويقومون على جناتها فخلا الفلاحون في القصور على ما لا يحب. فأطال إمهالهم فلم يستحيوا. فدعا إليها غيرهم وأخرجهم منها. فقال رستم أتعبرون إلينا أم نعبر إليكم فقالوا بل اعبروا إلينا ورجعوا من عنده عشياً. وأرسل سعد إلى أصحابه أن يقفوا مواقفهم. وأرسل إلى رستم أن يعبروا إليه. فأراد رستم العبور على القنطرة فمنعهم سعد وقال أما شيء غلبناكم عليه فلن نرده عليكم. فباتوا يسكرون (العتيق) بالتراب والقصب والبرادع حتى جعلوا جسراً. فعبر رستم ونصب له سريره فجلس عليه. وجعل الفيلة في قلب جيشه ومجنبتيه وجعل الجالينوس بينه وبينه الميمنة والفيرزان بينه وبين الميسرة.
ورتب يزدجرد الرجال بين المدائن والقادسية وهو ملك الفرس يومئذ فجعل أول الرجال على باب إيوانه وآخرهم مع رستم فكلما فعل رستم شيئاً قال الذي معه للذي يليه قد حصل كذا وكذا ثم يقول الثاني ذلك للذي يليه وهكذا إلى أن ينتهي إلى يزدجرد في أسرع وقت. وأخذ المسلمون مصافهم. وكان أميرهم سعد رضي الله عنه قد أصابته دماميل منعته من النزول إلى الحرب بنفسه فاستخلف خالد بن عرفطة على الناس وحثهم على الجهاد وكان ذلك في المحرم سنة أربع عشرة من الهجرة وأرسل جماعة من أهل الرأي لتحريض الناس على القتال ففعلوا. ثم أمر بقراءة سورة الأنفال فهشت قلوب المؤمنين وعيونهم عند سماعها وازدادوا بقراءتها سكينة ويقيناً. وكان مع الفرس يومئذ ثلاثون ألف مسلسل.
ثم قال سعد لأصحابه الزموا مواقفكم فإذا صليتم الظهر فإني مكبر تكبيرة فكبروا واستعدوا. فإذا سمعتم الثانية فكبروا وأتموا عدتكم. فإذا سمعتم الثالثة فكبروا ونشطوا الناس. فإذا سمعتم الرابعة فازحفوا حتى تخالطوا عدوكم وقولوا لا حول ولا قوة إلا بالله.
فلما كبر الثالثة برز أهل النجدات فأشبوا القتال وخرج أمثالهم من الفرس اعتوروا الطعن والضرب وارتجزوا الشعر وأدول من أسر في ذلك اليوم هرمز وكان من ملوك الباب وهو متوج يومئذ. أسره غالب بن عبد الله الأسدي فدفعه إلى سعد ورجع إلى الحرب ثم خرج فارسي وطلب البراز فبرز إليه عمرو بن معدي كرب فأخذه وجلد به الأرض فذبحه وأخذ(31/25)
سواريه ومنطقته ثم حمل الفرس بالفيلة على المسلمين حملة واحدة. وكبر الرابعة فزحف المسلمون ودارت رحى الحرب ونفرت خيول المسلمين من الفيلة. فخرج الرماة يرشقون الفيلة بالنبل. واشتد لردها آخرون وحمل المسلمون على الفيلة ومن معها من الفرس حملة زلزلت أركانهم. فاشتد عواء الفيلة ووقت الصناديق فهلك أصحابها ثم اقتتلوا إلى الليل وكان هذا اليوم يوم الرماة.
ولما أصبحوا إذا هم بخيل طالعة من الشام كان عمر رضي الله عنه أرسلها مدداً لهم بعد أن فتح دمشق. فإنه عزل خالد بن الوليد عن جند العراق وأمر أبا عبيدة أن يؤمر عليهم هاشم بن عتبة يردهم إلى العراق. فخرج بهم هاشم وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو فتعجل القعقاع فقدم على الناس صبيحة ذلك اليوم وهو يوم أغواث. وقد عهد إلى أصحابه أن يلحقوا به ألفاً ألفاً كما بلغ ألف منهم مد البصر تبعه ألف آخر. فسلم القعقاع على الناس وبشرهم بالجنود ثم تقدم للقتال وطلب البراز. فخرج إليه ذر الحاجب فقتله القعقاع وسر المسلمون بذلك ووهنت الأعاجم. ثم طلب البراز أيضاً فخرج إليه الفيرزان والبندوان فقتل الأول ثم نادى يا معشر المسلمين باشروهم بالسيوف فحمل المسلمون على الفرس وأكثروا القتل فيهم ودام القتال أياماً متتابعة حتى هربت الفيلة وانتهوا إلى رستم وهو القائد لجيش الفرس فقتلوه ثم انهزم المشركون وتبعهم المسلمون فوصلوا إلى الجالينوس وهو يجمع المنهزمين فقتلوه أيضاً وجمعوا من الأسلاب والأموال ما لم يجمع مثله قبله ولا بعده. وأخذ ضرار بن الخطاب راية الفرس العظيمة وكانت قيمتها ألف ألف ومائة ألف ألف واستولى المسلمون على تلك البلاد. وكتب سعد إلى سيدنا عمر رضي الله عنه بالفتح وأقام بالقادسية ينتظر كتاب عمر فوصل الكتاب يأمره أن يقيم بالقادسية.
(يتبع)(31/26)
سلسلة
حكم الخلفاء
3
(معاوية رضي الله عنه) المروءة احتمال الجريرة وإصلاح أمر العشيرة والنبل الحلم عند الغضب والعفو عن المقدرة. ما رأيت تبذيراً قط إلا وفي جنبه حق مضيع. أنقص الناس عقلاً من ظلم من هو دونه. أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة. إصلاح ما في يدك أسلم من طلب ما في أيدي الناس. غضبي على من أملك وما غضبي على من لا أملك وقال رضي الله عنه لعبيد الله بن زياد يا ابن أخي احفظ عني لا يكن معك في عسكرك أمير غيرك ولا تقولن على منبرك قولاً يخالفه فعلك ومهما غلبت فلا تغلبن على موتة كريمة. ومن سفه بالحلم أقمعه إني لا أحمل السيف على من لا سيف معه وإن لم تكن إلا كلمة يشتفي بها مشتف جعلتها تحت قدمي ودبر أذني المقذع إن الله سبحانه يقي من اتقاه. لا واقي لمن لا يتقي الله. وقال لعبد الرحمن بن الحكم يا ابن أخي إن قد لهجت بالشعر فإياك والنسيب بالمساء فتعير الشريفة والهجاء فتعير كريماً وتستثير لئيماً والمدح فإنه طعمة الوقاح ولكن افخر بمفاخر قومك وقل من الأمثال ما تزين به نفسك وتؤدب به غيرك. إني لأرفع نفسي من أن يكون ذنب أعظم من عفوي وجهل أكبر من حلمي وعورة لا أواريها بستري وإساءة أكثر من إحساني. قيل له أي الناس أحب إليك قال أشدهم لي تحبباً إلى الناس. العقل والحلم والعلم أفضل ما أعطي العباد، إن الكريم طروب.
خطب يوماً من أيامه بدمشق فقال أيا أيها الناس سافروا بأبصاركم في كر الجديدين ثم ارجعوها كليلة عند بلوغ الأمد فإن الماضي عظمة للباقي ولا تجعلوا الغرور سبيل العجز عن الجد فتنقطع حجتكم في موقف الله سائلكم فيه ومحاسبكم فيما أسلفتم. أيها الناس أمس شاهد فاحذروه واليوم مؤدب فاعرفوه وغداً رسول فأكرموه وكونوا على حذر من هجوم القدر فإن أعمالكم مطيات أبدانكم والعمر ميدان يكثر فيه الثأر والسالم ناجٍ والعاثر في النار.
(معاوية بن يزيد رحمه الله) ما أنا بالراغب في الائتمار. الساخط علي أكثر من الراضي ويلي أن لم يرحمني ربي.
(مروان بن الحكم) قال لابنه آثر الحق وحصن مملكتك بالعدل فإنه سورها المنيع لا يغرقه(31/27)
ماء ولا تحرقه نار ولا يهدمه منجنيق. وقال لابن عبد العزيز لما انصرف من مصر إلى الشام واستعمله على مصر أرسل حكيماً ولا توصه انظر أي بني إلى أعمالك فإن كان لهم عندك حق غدوة فلا تؤخرهم إلى عشية وإن كان لهم عشية فلا تؤخرهم إلى غدوة وأعطهم حقوقهم عند محلها تستوجب بذلك الطاعة منهم وإياك أن يظهر لرعيتك منك كذب فلا يصدقونك في الحق، واستشر جلساءك وأهل العلم فإن لم يستبن لك فاكتب إلي يأتك رأيي فيه إن شاء الله تعالى وإن كان بك غضب على أحد من رعيتك فلا تؤاخذه به عند سورة الغضب واحبس عنه عقوبتك حتى يسكن غضبك ثم يكون منك ما يكون وأنت ساكن الغضب مطفأ الجمرة فإن أول من جعل السجن كان حليماً ذا أناة ثم انظر إلى ذي الحسب والدين والمروءة فليكونوا أصحابك وجلساءك ثم اعرف منازلهم منك على غيرهم على غير استرسال ولا انقباض أقول هذا واستخلف الله عليك.
(عبد الله بن الزبير رضي الله عنه) لم يذل والله من كان الحق معه وإن كان مفرداً ضعيفاً ولم يعز من كان الباطل معه وإن كان في العدة والعدد والكثرة، إن لفراق الحميم لذعة يجدها حميمه عند المصيبة ثم يرعوى من بعد ذو الرأي والدين إلى جميل الصبر، إنما الدنيا عارية من الملك القهار الذي لا يزول سلطانه ويبيد ملكه فإن تقبل الدنيا علي لا آخذها أخذ الأشر البطر وإن تدبر عني لا أبك عليها بكاء الخرف المهين، لا أعلم امرئ كسر سيفه واستبقى نفسه فإن الرجل إذا ذهب سلاحه فهو كالمرأة أعزل.
إبراهيم خليل مردم بك
(لها بقية)(31/28)
العدد 32 - بتاريخ: 2 - 9 - 1913(/)
الدين الإسلامي والتوحيد
25
أحوال يوم القيامة
ذكرنا أن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان. ولا يصح إيمان عبد حتى يصدق به من صميم قلبه تصديقاً لا يشوبه شك ولا ترديد ومعنى الإيمان به التصديق بالأحوال التي تقع فيه فمن ذلك البعث والحشر وقد تقدم الكلام عليهما مستوفى ومن ذلك ما ينال الناس في ذلك اليوم من الشدة والهول والخوف والفزع وإلى ذلك الإشارة بقوله عز اسمه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} وقول سبحانه {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء}
ومنه إلجام الناس بالعرق على قد أعمالهم ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون على كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً وأشار عليه الصلاة والسلام إلى فيه.
ومنه أنه تعالى يكرم بعض عباده فينجيهم من حر الشمس ويظلهم تحت ظل عرشه فقد أخر البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل وشاب نشأ في عبادة ربه ورجل قلبه معلق في المساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل طلبته ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.
ومنه أن الناس إذا خرجوا من قبورهم خرجوا عطاشاً فيرد المتقون من حوض النبي صلى الله عليه وسلم للشرب منه وهو أي حوضه صلى الله عليه وسلم ثابت بإجماع أهل السنة والأحاديث الصحيحة المستفضية شاهدة به وقد ذكرنا في الخصائص وصف الحوض وأن ماءه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل. وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو(32/1)
بن العاص رضي الله عنهما. حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء ماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه أكثر من نجوم السماء من شرب منه فلا يظمأ أبداً. قال العلماء رضي الله عنهم ولا يطرد عن الحوض إلا أقوام ظلموا أنفسهم بأن غيروا وبدلوا عهدهم الذي أخذه الله عليهم فالمرتد من المطرودين ومن أحدث في الدين ما لا يرضاه الله تعالى ومن خالف جماعة المسلمين كالخوارج والروافض والظلمة الجائرون والمعلن بالكبائر المستخف بالمعاصي وأهل الزيغ والبدع لكن المبدل بالارتداد مخلد في النار والمبدل بالمعاصي تحت المشيئة الإلهية.
أخذ العباد الصحف
ومن أحوال الآخرة أخد العباد الصحف والمراد من الصحف الكتب التي كتبت فيها الملائكة ما فعله العباد في الدنيا قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَاماً كَاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}. وقال تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً، اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}. وبعد أن يتعلق كل كتاب بعنق صاحبه تناديهم الملائكة فتأخذها من أعناقهم وتعطيها لهم في أيديهم فالمؤمن يأخذ كتابه بيمينه والكافر يأخذه بشماله من وراء ظهره قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ، إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ، يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}. وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً، وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ، فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً، وَيَصْلَى سَعِيراً}.
الحساب
ومن أحوال الآخرة الحساب وهو توقيف الله عباده قبل الانصراف من المحشر على أعمالهم خيراً كانت أو شراً قولاً أو فعلاً وهو من مجوزات العقل التي ورد الشرع فيها فيجب اعتقاده لثبوته بالكتاب والسنة والإجماع قال تعالى: {وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} وروى أصحاب السنن الأربعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته وفي الصحيحين من حديث عائشة قال عليه الصلاة والسلام من نوقش الحساب عذب وروى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال(32/2)
صلى الله عليه وسلم عرضت علي الأمم فقيل هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب جاء في رواية أحمد بن حنبل من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال عمر هلا استزدت ربك فقال صلى الله عليه وسلم استزدته فأعطاني مع كل رجل سبعين ألفاً قال عمر فلا استزدته فقال صلى الله عليه وسلم قد استزدته فأعطاني هكذا وفرج بين يديه.
ثم إن الناس متفاوتون في الحساب فمنهم المناقش فيه ومنهم المسامح فيه بكيفية مختلفة فمنه اليسير والعسير والسر والجهر والتوبيخ والفضل والعدل ومن الناس من يدخل الجنة بغير حساب وهم المقرون كما مر.
الميزان
ومن أحوال الآخرة الميزان وقد عرفوه بقولهم ما يعرف به مقادير الأعمال خيراً أو شراً وهو أيضاً حق ثابت بالدلائل السمعية والبراهين النقلية ولا يحيله العقل لأنه من الأمور الممكنة فوجب التصديق به وينبغي الإمساك عن تعيين حقيقته قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}. وقال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم}.
والموزون إنما هو صحائف الأعمال كما روى الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال صلى الله عليه وسلم يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل منها مد البصر ثم يقول أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول لا يا رب فيقول ألك عذر؟ فيقول لا يا رب فيقول ألك حسنة؟ فيقول لا يا رب فيقول تعالى بلى إن لك عندنا لحسنة وأنه لا ظلم عليك فتخرج له بطاقة كالأنملة فيها - أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله - فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقال إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء.
والحكمة في وزن الأعمال ظهور العدل في العذاب والفضل في العفو وتضعيف الثواب وقال بعض المتأخرين لا يبعد أن يكون من الحكمة في ذلك ظهور مراتب أرباب الكمال وفضائح أرباب النقصان على رؤوس الإشهاد زيادة في سرور أولئك وخزي هؤلاء.(32/3)
الصراط
ومن أحوال الآخرة الصراط وهو جسر ممدود على متن النار يرده كل الخلائق وهو ورود النار لكل أحد المذكور في قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} وهو مما يجب على كل مكلف اعتقاده لثبوته بالكتاب والسنة قال تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}. وأخرج البخاري ومسلم من حديث طويل عن أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجوز. ولا ينبغي الخوض في أنه كما في رواية أدق من الشعر واحد من السيف فقد نازع في ذلك العز بن عبد السلام والشيخ القرافي وغيرهما كالبدر الزركشي قالوا وعلى فرض صحة ذلك فهو محمول على غير ظاهره بأن يؤول بأنه كناية عن شدة المشقة وعلى كل فالقدرة صالحة لكل شيء.
والقادر على أن يسير الطير في الهواء لا شك في أنه قادر على أن يسير الإنسان على صراط أدق من الشعر وقد روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة فقال له عليه الصلاة والسلام أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة.
ثم إن الناس متفاوتون في المرور عليه فمنهم من يمر كالبرق الخاطف ومنهم كطرف العين ومنهم كالريح ومنهم كالجواد وآخرون يسقطون في النار ويؤيد ذلك ما في البخاري ومسلم من حديث حذيفة قال عليه الصلاة والسلام ثم يضرب الجسر على جهنم قيل يا رسول الله وما الجسر قال دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالطير وكأجاويد الخيل وكالركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكردس ومكردس في نار جهنم.
الشفاعة
ومن أحوال الآخرة شفاعة الرسل والأخيار كالملائكة والصحابة والشهداء والعلماء العاملين والأولياء لأهل الكبائر وغيرهم كما جاءت الأحاديث الصحيحة دالة على ذلك وأجمع عليه أهل السنة وعلماء النقل. فعند ابن ماجة من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن من أمتي من يشفع للقوم ومنهم(32/4)
من يشفع للقيلة ومنهم من يشفع للعصة ومنهم من يشفع لرجل حتى يدخلوا الجنة.
وقد ذكر العلماء بأن لنبينا صلى الله عليه وسلم خمس شفاعات إحداها وهي أعظمها وأعمها شفاعته صلى الله عليه وسلم في فصل القضاء حينما يشتد الأمر ويعظم الهول ويتمنى الناس الانصراف ولو إلى النار فيشفع صلى الله عليه وسلم في فصل القضاء وهي مختصة به ثانيتها في إدخال قوم الجنة بغير حساب وهي من خصائصه أيضاً صلى الله عليه وسلم ثالثتها في قوم من عصاة الأمة استوجبوا النار فيشفع فيهم نبينا صلى الله عليه وسلم وهذه كما قال بعض العلماء إنها ليست من خصائصه بل تكون لغيره أيضاً رابعتها فيمن دخل النار من المؤمنين المذنبين وهذه الشفاعة وقع إطباق العلماء على عدم اختصاصها به صلى الله عليه وسلم حيث كان لهم عمل خير زائد على الإيمان إذ الشفاعة في إخراج من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ليخرج من النار ليست خاصة به صلى الله عليه وسلم بل تكون لغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام خامستها الشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة وزاد بعض العلماء شفاعة سادسة وهي الشفاعة في تخفيف العذاب عمن استحق الخلود في النار كما في حق أبي طالب للحديث المتقدم في الخصائص قال عليه الصلاة والسلام أنا أول شافع وأول مشفع وروي أنه ذكر عنده عمه أبو طالب فقال لعله تنفعه شفاعتي فيجعل في ضحضاح من نار كذا ذكره سيدي عبد الغني النابلسي في شرح الطريقة المحمدية جعلنا الله من الفائزين بشفاعته صلى الله عليه وسلم العاملين بسنته الحائزين شرف خدمته بمنه وكرمه.(32/5)
سنن متروكة
4
من السنن المتروكة عند كثير من الناس غسل اليدين قبل الطعام وبعده فيسن للأكل أن يغسل اليدين والفم قبل الأكل وبعده ويبدأ في أوله بصاحب المنزل ثم بالصبيان ثم بالشبان ثم بالشيوخ وبعد انتهاء الطعام يبدأ بالشيوخ ثم الشبان ثم الصبيان ثم صاحب المنزل ويصب المضيف على يد الضيف.
ومن السنن المتروكة أن يجلس الآكل جاثياً على ركبتيه وظهور قدميه أو ينصب رجله اليمنى ويجلس على اليسرى ويكره الأكل متكئاً ومن السنن المتروكة الدعاء إذا قرب إليه طعام نقل الإمام النووي عن كتاب ابن السني عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه يندب إذا وضع الطعام أمامه أن يقول اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وقنا عذاب النار ثم يسم الله والتسمية سنة روى البخاري ومسلم عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سم الله وكل بيمينك وروى أبو داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل أحدكم فيذكر اسم الله تعالى في أوله فإن نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله فليقل بسم الله أوله وآخره وروى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لإخوانه لا مبيت لكم ولا عشاء وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء ومن نسي أن يذكر اسم الله تعالى على طعامه فليقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إذا فرغ والتسمية في شرب الماء واللبن والعسل والمرق وسائر المشروبات وليقتدي به في ذلك والأفضل في التسمية بسم الله الرحمن الرحيم فإن قال بسم الله كفاه وحصلت السنة وسواء في ذلك المحدث حدثاً أكبر وغيره ولو سمى واحد عن الجماعة أجزأهم والأفضل أن يسمي كل واحد منهم ومن السنن المتروكة عدم التعييب على طعام روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط إن اشتهاه أكله وإن كرهه تركه ويجوز أن يقول لا أشتهي هذا الطعام أو ما اعتدت أكله روى البخاري ومسلم عن خالد بن الوليد(32/6)
رضي الله عنه لما قدموا الضب مشوياً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إليه فقالوا هو الضب يا رسول الله فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال خالد أحرام الضب يا رسول الله قال لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه والسنة إذا كان المدعو صائماً متنفلاً ولو مندوباً أن يفطر ولو كان بعد العصر فإن لم يأكل دعا له بالبركة روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائماً فيلصل وإن كان مفطراً فليطعم ومعنى فليصل فليدع وروى البخاري من حديث أبي العميس عن عون ابن أبي جحيفة عن أبيه قال آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء مبذلة فقال لها ما شانك قالت أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً فقال كل قال فإني صائم قال ما أنا بآكل حتى تأكل قال فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال نم فنام ثم ذهب يقوم فقال نم فلما كان من آخر الليل قال سلمان قم الآن فصليا فقال له سلمان إن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حقٍ حقا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدق لسلمان ولا بأس بالأكل على المائدة إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأكل إلا على السفرة وينبغي البداءة بالملح والختم به ويكره الأكل مضطجعاً أو متكئاً في غير ما يتنقل به من الحبوب ولا يكره الأكل قائماً لكن القعود أفضل ومن السنن المتروكة الأكل من أسفل القصعة ومما يليه ويكره مما يلي غيره ولا يكره قطع اللحم بالسكين ويندب التأني في الأكل إلا لشغل ويكره الشره ومن السنن المتروكة تصغير اللقمة وإجادة مضغها وترك مد يده لأخرى قبل بلعها ولا يجمع فاكهة ونواها في طبق بل يلق النوى ومن السنن المتروكة لعق أصابعه قبل مسحها بمنديل بل وتسن الجماعة على الطعام والكلام المباح ومؤاكلة عبيده وصغاره وإن لا يتميز عن مؤاكليه بجنس بلا عذر بل يؤثرهم بأطيب طعامه ولا يترك الأكل وغيره يأكل ولا يتبسط في الأطعمة إلا لضيافة أو توسعة على عياله ويسن الحلو وينبغي تقديم أكل الفاكهة ثم اللحم ثم الحلاوة وتقديم أكل لقمة أو لقمتين من الخبز على اللحم كي لا يدخل اللحم بين أسنانه ويكره للآكل تقريب فمه من الطعام بحيث يقع منه شي فيه ويكره أن يبصق أو يتمخط حال أكلهم بلا ضرورة وأن(32/7)
يذكر أو يفعل ما يتقذرونه ولا ينفض يده في القصعة وإذا أخرج شيئاً من فمه صرف وجهه عن الطعام وأخرجه بيساره ولا يغمس لقمة دسمة في خل ولا عكسه ولا لقمة قطعها بفيه في مرقة ونحوها ومن السنن المتروكة التخلل ورمي ما أخرجه الخلال وبلغ الخارج من بين أسنانه بلسانه ويكره قرن نحو تمرتين من طعام غيره بلا إذن أو قرينة وإذا أكل مع صاحب عاهة يقول بسم الله ثقة بالله وتوكلاً عليه روى أبو داود والترمذي وابن ماجة عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فوضعها معه في القصعة فقال كل بسم الله ثقة وتوكلاً عليه فإذا فرغ الآكل من الطعام حمد الله وأفضل صيغه الحمد لله كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفى ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا ويكفي الحمد لله ومن السنن المتروكة ترك الضيف الدعاء لأهل الطعام بما ورد فيما أخرجه أبو داود عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه فجاء بخبز وزيت فأكل ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم أفطر عندكم الصائمون واكل طعامكم أبراركم وصلت عليكم الملائكة ويكره الشرب متكئاً أو مضطجعاً والشرب قائماً خلاف الأولى إلا لضرورة ومن السنن المتروكة الشرب من الكوز بلا نظر إليه قبل الشرب ومنها مص الماء ويكره التجشؤ في الإنهاء بل ينحيه عن فمه ومن السنن المتروكة التنفس عند الشرب ثلاث مرات يسمي الله أول كل مرة ويحمده آخرها يقول في الأولى الحمد لله ويزيد في الثانية رب العالمين وفي الثالثة الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ويندب أن لا يشرب في أثناء الأكل بلا حاجة وأن لا يشرب من ثلمة الإناء ويكره من فم القربة والتنفس والنفخ في الإناء ومن السنن المتروكة إدارة المشروب عن يمين المبتدئ وإن كان من على يساره أفضل.
(يتبع)(32/8)
موت شريف
أو حياة سعيدة
كنا نعلل النفس وندفع الأحلام المخيفة ونتصور أن أمم القرن العشرين ناشرة المدنية والحضارة. . .
ترجع إلى الحق وتكف عن التحامل على المسلمين وترحم الإنسانية التي وصل أنينها إلى السماء فسمع صداها وأراد الحق أن ينتقم للمظلوم من الظالم وهكذا قضت الإرادة الإلهية أن تمحق أمم التوحش من عالم الوجود رأفة بالعبادة ورحمة للخلق وبينما كنا نتصور بأن دول الغرب التي تسعى وراء الوئام والسلام هي التي تنتقم للإنسانية من تلك الأمم المتوحشة التي أحرقت الأخضر واليابس ومثلت ببني البشر بلا استثناء تلك الفظائع التي لم يسمع بأن الحيوانات المفترسة والوحوش الضارية تقدم على مثلها وما الفرق بين وحوش أفريقيا وبين الأمة البلغارية التي عزم محالفوها أن يمحوها من سفر الوجود بالنظر لما بدا لهم من توحشها وخطر وجودها على المجتمع الإنسان ولكن عداوة الدين التي لا يرجى لها مودة هي التي تضطر دول الغرب بأن يغمضوا العين ويتعاموا عن تلك الفظائع كي يحولوا دون ثأر الأمة الإسلامية لنفسها ولم أعلم ما الذي يخول هذه الدول بان يرجعوا العثمانيين إلى ما وراء خط ميديه بعد أن تمرد البلغار ولم يخل المواقع التي اتفق عليها مع أن العثمانيين الذين كان ينتظر بان يدفعهم حب الانتقام لأن يعتدوا بمثل ما اعتدى عليهم مشوا بكل وتؤدة وسكينة مما برهن للعالم بأن الأمة الإسلامية هي أحق بالمدنية والحضارة التي تزعمها دول الغرب وإني لأخال في أن زحزحة الأرض أو خر الجبال أهون من إخلاء أدرنة من العثمانيين بعد أن استرجعوها بحق صريح ولا أظن بأن دول أوروبا يغرب عليها إن أصرت على العناد في أن صرخة واحدة في الهند وصيحة بإفريقيا تكفي لأن تثير عواطف المسلمين الذين سئموا حياة الذل وعيشة العار
لا تسقني ماء الحياة بذلة ... بل فاسقني في العز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم ... وجهنم بالعز أفخر منزل
وعندئذ تزلزل الأرض زلزالها وتخرج الأرض أثقالها ويستريح الكون من مظالم البشر ولكن لا لمثل هذا خلق الله الكون ولا لأجل التدمير والتخريب منّ الله على الإنسان بالعقل(32/9)
والحكمة بل ليستخرج الآلات ويستخرج كنوز الأرض ويعيش من كده وتعبه لا أن يأكل القوي الضعيف ويطمع الغني في الزيادة حتى إذا بلغ حد الكمال وتناهى في كل شيء دارت الدائرة عليه وانعكست القضية لديه ويهيأ الله له من يكون أقوى منه ويسلبه ما امتلكه بالقوة سنة الله في خلقه وهكذا من أمعن النظر في تواريخ الأمم تنجلي له الحقائق ويعلم بأنه ما من دولة كانت فتوحاتها كبيرة إلا وتوالى عليها الضعف إلى أن تتلاشى رويداً رويداً وكما أن الشرق كان قد ابتلع الغرب فالغرب يريد أن يبتلع الشرق وإذا قوي العرق الأصفر فيعود لابتلاع الشرق والغرب والأرض أرض والسماء سماء لم ينقص منهما شيء ولم تتبدل من الأرض حاجة غير أن تلك النفوس تذهب ضحية مطامع المسلوك حتى قيام الساعة فلو أن دول الغرب الذين كفة السلم بيدهم يسعون وراء نبذ المطامع ويكتفون بما في أيديهم أما كان خيراً لهم من أن يكونوا مهددين للخطر ومعرضين لنزول الصواعق.
يعرى ويغرن من أمسى على طمع ... من المكارم وهو الطاعم الكاسي
إن المطامع ذل للرقاب ولو ... أمسى أخوها مكان السيد الراسي
اللهم أنزل الرحمة في قلوب عبادك وألهمهم سبيل الرشد وطرق الهدى.
أمير زاده محمد سعيد
(الحقائق) هذا ما كتبه حضرة الأمير المشار إليه وهو غاية في الشهامة والحمية، وآية واضحة في علو الهمة وصدق الوطنية ولا غرو فالأمير حفظه الله قد ورث هذه المحامد كابراً عن كابر فلم ينس الناس مسارعة والده إلى الحرب الطليانية ومغادرته وطنه إلى البلاد الطرابلسية كما أنهم لم يذهلوا عن جهاد جده المقدس ووقوفه السنين الطويلة أمام دولة عظيمة من دلو الغرب ونعني بها دولة فرسنا ولقد عجبنا كما عجب كل عاقل من انتقاد بعض أصحاب الأغراض لهذه المقالة الممتلئة حماساً وغيرة ورمي كاتبها بسوء النية بدعوى أن الأوروبيين أصبحوا أقوى وأعرف وأغنى منا فعلينا أن نحترم مشيئتهم وأن وأن إلخ إلخ.
ولو أدى ذلك إلى خروجنا من أدرنه - وقلنا أن هذا الاستسلام والخضوع لأوروبا هو الذي أوصلنا إلى هذه الحالة التعيسة واستغربنا كيف يصدر أمثال هذه السخافات من وطني مسلم وكيف رضي له إسلامه ووطنيته باختيار ما تشاء أوروبا ولو أدى إلى تسلمي أردنه في(32/10)
حين أن بعض الأوروبيين نفسهم يصرح بأن لنا الحق في الاستيلاء على أدرنة وعدم الخروج منها وإليك تعريب ما جاء في جريدة لومانيتي الفرنسية بقلم مدير سياستها المسيو جوريس:
(لا يوجد في العالم من ينازع الجيش العثماني في دخوله مدينة كمدينة أدرنة يسود فيها العنصر العثماني أو بعبارة أخرى العنصر الإسلامي.
نعم إن دخول هذا الجيش في هذه المدينة لم يكون منتظراً إلا أنه طبيعي ولا ينبغي لنا أن ندهش منه وإلا فكيف يسوغ لنا أن نجرد العثمانيين من مدينة بهذا الوصف ونعطيها للبلغاريين الذين ثبت لدينا أنهم ارتكبوا أكبر المنكرات واقترفوا أعظم الفظائع.
إننا نتمنى أن لا يجني العثمانيون ما جناه البلغاريون وأن يقدروا ما منحهم به حسن الحظ وأن لا يدنسوا دخولهم عاصمة تراقية القديمة بمعاملة البلغاريين بمثل ما عاملوهم به انتقاماً منهم وأن لا يتقدموا إلى أوروبا التي غضبت بسبب ما بلغها من أنباء الفظائع التي روت البلقان بالدماء وأن يظهروا الضمانات الكافية على تسامحهم وحسن نيتهم فإنهم كلما أظهروا أنهم لا يميلون إلى الانتقام ثبتت أقدامهم في هذه المدينة التي احتلوها ثانية أنهم إذا عرفوا كيف يكونون معتدلين ومحببين للإنسانية فمن قلة الأدب نزع مدينة هي لهم من حيث الجنسية والدين لتسليمها من جديد إلى أمة البلغار التي أثبتت الصرب واليونان والرومان أنها سفاكة للدماء اهـ).
فليقابل القراء بين ما رآه هذا الأجنبي وما يراه ذلك الوطني وليقرأ قوله تعالى فإنه لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.(32/11)
الوظائف الدينية والجهلاء
2
إن الشارع صلى الله عليه وسلم يعتبر في سائر مصالح الأمة سواء كانت دينية أو إدارية. الكفؤ لها والأصلح لإدارة شؤونها. ليقوم بأودها حق القيام ويمثل واجباتها أحسن تمثيل ومن هنا أخذ الفقهاء حكم سائر المصالح وأطبقوا على أن الأصلح يقدم على الصالح لا محالة.
وهذا أمر مقرر قد فرغ منه لا يحتاج إلى تبيان وزيادة إيضاج. . . إلا أنه لما انعكس الأمر وتبدلت الحقائق وضيعت حكم التشريع فأصبح الباطل حقاً والحق باطلاً والسنة بدعة ممقوتة والبدعة سنة معروفة يتبادل العلم بها جمهور الناس بل تسربت إلى بعض الخواص. وأضحى المنكر معروفاً وبالعكس وعاد الدين غريباً كما بدا. وضاعت محاسن الشريعة السمحة ودكت معالمها وقوضت أركان السنة الشريفة وعفت آثارها وطمس الله على القلوب فصارت كالحجر الصلد لا ترعوي لكلمة الحق بل لا تفقه لما يقال لها. صار من اللازم اللازب على أهل العلم الصحيح الذين استرعاهم الله الأمانة أن يبينوا حكم الله في هذه النوازل ومغزى الدين الإسلامي في هاتيك المسائل لئلا يشوه وجه الحقيقة الناصعة بمثل هذه اللبيسات ويتخرص المتخرصون بأن من شريعتنا الإسلامية السمحة ما نحن عاكفون عليه اليوم.
ولئلا يكونوا مؤاخذين أمام الله تعالى الذي أمر من أوتوا العلم أن يظهروه عند اصطدام الخطوب وجعل الشعوب وبما أخذ عليهم من العهود الوثيقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الأمر الذي هو من أعظم دعائم الدين الإسلامي إن لم نقل كله.
قال تعالى في الكتاب العزيز {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}. وقال حاكياً عن القوم الذين تركوا الأمر بالمعروف وموبخاً لهم {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}.
وأخرج ابن أبي الدنيا من حديث أبي إمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال كيف انتم إذا لم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر. قالوا وكائن ذلك يا رسول الله. قال نعم وأشد منه سيكون. قالوا وما أشد منه قال كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر(32/12)
معروفاً قالوا وكائن ذلك يا رسول الله. قال نعم وأشد منه سيكون. قالوا وما أشد منه قال كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف إلخ. . .
هذا وإن من أعظم المنكرات الشائعة والبليات الذائعة. . . تولية الجهلاء الأغرار الوظائف الدينية واحتكارهم عوائدها الخيرية حتى أصبحت من الموروثات يرثونها عن آبائهم وأجداهم كما يورث الدرهم والدينار وسقط المتاع. كأنها من جملة التركة يخلفها الميت لبنيه عوناً لهم على صدمات الدهر وطوارق الحدثان بحيث لا نغالي إذا قلنا إن جل هذه الوظائف (إن لم يكن كلها) مغتسلة بأيدي هؤلاء الجهلة بطريق التغلب من دون أهلية ولا استحقاق. . . فهم يلتهمون أوقافها وريعها بسائق هذا الادعاء الباطل ولا منازع في الأمر ولا رادع.
وبالواقع ونفس الأمر لم تشرع هذه الوظائف وتؤسس تلك العوائد إلا لأناس مستحقين ذوي جدارة ولياقة من أهل العلم الصحيح ليس إلا.
وقد سبب هذا لاحتكار أضراراً عظيمة وجنايات على الدين وأهله لا يرضى بها من له حمية دينية ونزعة وطنية. . فقد أصاب الفقر المدقع معظم من قضوا حياتهم بين جدران المدارس الدينية والمعاهد العلمية. ممن تاقت نفوسهم للاستضاءة بنور العلم. واشرأبت أعناقهم لارتشاف كؤوس آداب. . . فخرجوا من المدارس وبارحوا معاهدها صفر اليدين مما أسسه لهم أصحاب الخيرات العظيمة وواقفي العوائد الجسيمة - حتى ألجأهم سائق الاضطرار للاحتراف بالحرف الضئيلة ليسدوا رمقهم ويدفعوا عوزهم. . . وهم آسفون أشد الأسف على ترك العلم ومبارحة معاهده. يحنون إليها كلما ترقرق لهم ذكراها.
ولو وجدوا ما يسدون به رمق اليوم وعوز المستقبل لما بارحوها وفيهم عرق ينبض ومنهم شيوخ أجلاء أناخ عليهم الدهر بكلكله. ثبتوا على صدمات الدهر ومقارعة الأيام بقوا بين خرابات (المدارس) وأطلالها البالية يقاسون من العذاب ألواناً. حرصاً منهم (أبقاهم الله) على إفادة مستفيد وإرشاد مسترشد ونشر العلم ولو بين الموتى ولكن ويا للأسف بارت هذه التجارة وكسد سوقها. . .
في حين أن هؤلاء الفرقة الجاهلة تستبد بالزيغ وتستهلك عين الوقف بالبيع خوفاً من مصادرتهم ولو بعد حين.(32/13)
وهكذا ذهب العلم ونضب ماؤه واندثر الفضل ودكت أركانه وزلزلت أبنيته المشيدة واضمحلت معالمه الرفيعة فلا حول ولا قوة إلا بالله.
من مثل هذه الطوارئ كان يخاف على أمته عليه الصلاة والسلام فقد أخرج الستة خلا أبا داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه أن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.
ونحن نرى أن من أعظم الأسباب لانقراض العلم وأهله هو توارث وظائف الدين عن الآباء والأجداد تلك التي أيدها قانون التوجيهات وجهل حكام الشرع وتهورهم في توسيدها إلى غير الأكفاء وهرولتهم لإعطاء الإعلامات الشرعية - كذا - مؤذنة بأن حاملها من أعظم العلماء وأوحد العصر وفرد الأوان وهكذا من الألفاظ التي يندى لها جبين الدهر خجلاً فقد ظنوا (وبعض الظن إثم) أصلحهم الله أن العلم هين المنال سهل المراس يكفي فيه الألقاب الضخمة والصفات الفخمة وينقضي الأمر بتحكيم القبة فوق الجبة ويكون المنعوت هو فلان بن فلان. . . فقد طاش ورب الكعبة سهمهم وخاب فالهم تخرصوا على الله وخاضوا في الجاهلية الأولى وهاموا في تيه الضلالة ونازلوا جنوداً لا قبل لهم بها.
فكيف يدأب طالب العلم على طلبه ويسعى جهده لتحصيله ويعلم أنه لو طلبه من المهد إلى اللحد لما وجد شيئاً يعتاش به ويرتاش.
وقد نقبت طويلاً في كتب الفقه على اختلاف نزعاتها وتباين مشاربها لأعثر على أصل يرجع إليه أو قول يركن إليه يبرر هذا الاحتكار المضر فلم أظفر بعد عناء البحث بشيء من ذلك.
بل وجدت أن كلمة الفقهاء ممن أدركوا حدوث هذه البدعة السيئة. متفقة على إنكارها وردها والقيام بوجه تيارها الجارف.
وما يقال من أن شيخ الإسلام التقي السبكي هو المجيز لها المفتي بها تخرص بحت على هذا الشيخ الجليل. فقد نفى هذه التهمة عنه ولده التاج في طبقاته الكبرى ودحض هذه الحجة بقوة بيانه المشهورة ومما قاله رحمه الله أن الوالد كان يشدد النكير على هذه الكارثة ولا يجيزها البتة وبين الأضرار الجمة الناشئة عنها خلافاً لما يشيعه أعداؤه ولا بأس بأن(32/14)
نورد شيئاً من نصوص السادة الفقهاء في حكم هذه المسألة قال في التتارخانية في أدب القاضي يعزل القاضي إذا ولى مدرساً للدين ليس بأهل له ولا تنفذ توليته لأنه مؤتمن على الدين وقد ثبتت خيانته بذلك أهو في الولوالجية والذخيرة نحو من هذا.
قال الجلال السيوطي في أشباهه الفقهية يحرم على من بيدهم مقاليد الأمور إعطاء وظائف الدين من تدريس وإفتاء وحسبة وإمامة وغير ذلك إلى غير الكفؤ لها لأنه بذلك يكثر سواد الجهل ويضعف العلم وأهله ثم قال وهذا هو السبب في اعتزالي عن الناس خارج القاهرة فراراً من مشاهدة هذه البدع الحادثة وقال البدر الزركشي في قواعد (قاعدة الضرر يزال) اتفاقية بين المذهبين لمصالح الديانة مع وجود الكفؤ لها - والنصوص في هذا الباب كثيرة جداً يجد المتتبع لها طرفاً صالحاً يؤيد ما نقول. .
وهنا نذكر شيئاً (والشيء بالشيء يذكر) أنه وقع في مدة قضاء شيخ الإسلام السبكي على دمشق الشام تدريس شاغر فتعرض له شمس الدين الذهبي ذلك المحدث الشهير حامل لواء السنة في عصره ولدى اجتماع علماء العصر عند قاضي القضاة للمداولة فيمن يصلح له ذكر الذهبي فيمن ذكر من الطلاب فمانعوا أشد الممانعة في إعطائه للذهبي وقالوا إن من شرط من يتولى هذا التدريس أن يكون أشعري العقيدة والذهبي ليس بذلك وبعد أخذ ورد أزمعوا أمرهم على أن يلزموا السبكي بقبوله لتوفر جملة الشروط فيه وقد فعلوا.
وأول من قر عيناً بصنيعهم هذا الذهبي نفسه ولم يتغير خاطره قد وقعد أمام السبكي فأدى الوظيفة. . . أبت النفوس الأبية والأرواح العالية إلا أن ترضخ لكلمة الحق مهما اختلفت المشارب وتعددت المآرب ولله في خلقه شؤون.
هكذا كانت تقل الغبراء وتظل الخضراء من مثل هذه الطبقة العالية والفرقة العالمة ممن شيدوا دعائم الدين الإسلامي ووطدوا أركانه ومهدوا سبل العلم وشيدوا بنيانه بل حموا ذمارهم عن الدخلاء وحفظوا مجداً طالما تعب بتأسيسه أسلافنا الصالحون ومن ذب عن حوضه ودافع شرفه ومجده لا عتب عليه ولا ملام.
شمروا عن ساعد الجد والعمل بثبات جأش وقوة عزيمة وهمة شماء لا تعرف الكلل والملل ودكوا ما بناه العابثون في الحقوق وقوضوا صروح ما أسس على الغصب والاحتيال وسائق التدليس والتمويه فما أبقوا له أثراً - ونكسوا أعلام جيش الباطل وهزموه شر(32/15)
هزيمة وولوه الأدبار.
وما كان يثبط همتهم ويخور عزيمتهم محاباة هؤلاء المغتسلين (ولا محاباة في الدين) ولا مداهنة الجاهلية ولا مجاراة أهواء الحكام الغاشمين بل كانوا يتآزرون ويتعاونون على إظهار الحق بين الملأ ويقفون سداً منيعاً في وجه من يجتري على سدة العلم ليهتك سترها.
ويصدون هجمات المعتدين على حقوق الغير. ويضربون بعصا من حديد على كل يد تمتد إلى غير حلها كانت (فيحائنا) معهداً عظيماً للعلوم والمعارف ومنتدى للفضل وأهله ومحطاً لرحال نخبة العالم وأجلاء بني آدم كانت كعبة يؤمها ألوف من طلاب العلوم ومحبي المعارف بل كانت من أعمر الربع المسكون بالعلم والعرفان ومن أغنى بلاد الله بوفرة العلماء فيها وتهافتهم من أقصى أنحاء المسكونة على موائدها حين ما كانت تحتوي على أعلى طبقة راقية من أجلاء علماء الإسلام وتقل جهابذة الفضل وقادة الأفكار أيام خصبها ونضارتها من مثل ابن عساكر وأبي شامة وابن الصلاح والنووي وابن عبد السلام والتقي السبكي وأولاده وأفضلهم (التاج) وابن تيمية والمزي والذهبي والزملكاني وفخر الدين المصري والجار بردي والحافظ العلائي وأضرابهم ممن لا يحصون عدداً.
وأقرب منهم عهداً. البدر الغزي وعماد الدين الحنفي وأبو الصفا الحلبي والقاضي محب الأدب الحموي والكوراني والعجلوني وعبد الرحمن العمادي المفتي وكمال الدين الحمزاوي (الممدوح من قبل العلامة الأديب عبد القادر البغدادي تلميذ الخفاجي في أوائل حاشيته العظيمة على شرح بانت سعاد ونجم الدين الغزي صاحب حسن التنبه في التشبه وهو كتاب لا نظير له في بابه) مما يطول تعداد أسمائهم ويفنى المداد دون إحصائهم وكان البدر الغزي هو المدرس في جامع بني أمية وهو أعلم علماء جلق يومئذ.
وكان يجري بين (البدر) وبين علماء عصره حين ما يلقي الدروس من الأبحاث الرائقة والتحقيقات الفائقة ما يأخذ بمجامع القلوب طرباً. . .
فقد ذكر تقي الدين في طبقاته أن المولى الفاضل علي جلبي المعروف بابن الخيالي القاضي بدمشق الشام حضر درس العلامة الشيخ بدر الدين الغزي لما ختم الشيخ في الجامع الأموي التفسير الذي صنفه وجرى بينهما من مطارحة العلوم والسباق في ميدان الأبحاث ما يدهش الألباب ويبعث على الإعجاب. ثم اختلفا في مسألة عويصة وعي اعتراضات السمين في(32/16)
كتابه إعراب القرآن على البحر المحيط لشيخه أبي حيان. . كان الحكم فيها علماء الفيحاء.
لمثل هؤلاء الأعلام كانت توسد وظائف الدين ورتب الوعظ والإرشاد وبهم كانت دمشق آهلة بالفضلاء مفعمة بالأدباء والنبلاء عامرة بالصلحاء والأتقياء تتيه دلالاً وإعجاباً وتفاخر غيرها من البلاد والأمصار بما منحها الله من مزية عالية طالما حسدها عليها سائر البلدان ولكن أبى الله إلا أن يقلب لها ظهر المجن ويبدل صفاءها بالأكدار (وأي صفاء لا يكدره الدهر):
(وبعد) فإني وأيم الحق واجس خيفة على الملأ الصالح من البقية الباقية من شيوخ العلم الذي أمهلنا بهم الدهر وأخاف كما يخاف غيري أن يسلب الله منا هذه النعمة نعمة وجودهم بين ظهرانينا (لا سمح الله) ولو فعل لا نجد من يحل لنا إشكالاً في علم ولا معضلة في فن ونبقى كالقطيع الشارد لا راعي ولا مأوى. . . بل أخاف ما هو أعظم من ذلك بكثير.
فيا أهل العلم الصحيح أفلا تتلافون هذا الخطر المداهم والتيار الجارف فتجتمعون (ويد الله مع الجماعة) وتطالبون الحكومة بأن تضع حداً لمثل هذه الفوضى في وظائف الدين فتميز الجاهل عن العالم وتفرق بين الحق والباطل وذلك بالامتحان الذي هو الحكم الفصل في قضيتنا هذه فإن لبت نداءكم وأنصتت لصداكم قضي الأمر وحل على أيديكم ما استعجم على يد غيركم وخدمتم العلم بل أنفسكم خدمة يسطرها لكم التاريخ إلى الأبد وإن لم تجب طلبكم سقط وزر هذه الضلالة عن عاتقكم وما أراكم فاعلون إن شاء الله تعالى.
(أبو الضيا)
(البقية تأتي)(32/17)
خلاصة الرحلة الشرقية
أهدانا صديقنا الشيخ السيد المكي هذه الرحلة لأخيه الأستاذ الشيخ السيد محمد الخضر بن الحسين أحد المدرسين بجامع الزيتونة بحاضرة تونس قال حفظه الله تعالى:
اقترح علي جماعة من الفضلاء أن أحرار خالصة من آثارنا رحلتنا الشرقية فعطفت عنان القلم لمساعفة اقتراحهم بعد أن رسمت له الوجهة العلمية والأدبية سبيلاً لا يحيد عن السير في مناكبها ولئن لم يلتقط الناظر منها درة علمية فائقة فإنها لا تخلو من أن تنبسط له بملحة أدبية رائقة وغليك التحرير.
بعث لي باعث على الرحلة إلى بلاد الشام وهو زيارة الأهل وفاء بحق صلة الرحم فامتطيت الباخرة يوم الخميس الرابع من شعبان سنة 1330 وعند ما أقلعت من مرساها وأخذت المباني التونسية تتوارى عن أبصارنا أخذ الحنو إلى الوطن يتزايد وحر الأسف لمفارقة الأصحاب يتصاعد حتى أصغيت إلى نفسي وهي تخاطب رائد السفينة بقولها:
حادي سفينتنا اطرح من حمولتها ... زاد الوقود فما في طرحه خطر
وخذ إذا خمدت أنفاس مرجلها ... من لوعة البين مقباساً فتستعر
وإني لأدرك في مثل هذا الموطن دقة نظر أمام الحرمين حين قيل له لم كان السفر قطعة من العذاب؟ فأجاب على الفور بقوله لأن فيه فراق الأحبة.
رست الباخرة على جزيرة مالطة عند مغرب يوم الجمعة ولم نر فائدة في نزولنا والليل قد ضرب أطنابه فقضينا ليلتنا على متن البحر وانحدرنا صباحاً إلى المدينة التي هي مقر حكومتها وتسمى (قاليتا) فتجولنا في مناهجها المتناسقة وشهدنا من خطاباتهم كيف تنحط العربية وتندرس أطلال فصاحتها بين الأمة التي تجهل مكانتها وتزهد في تعاليمها إلى أن تلتحم بأخلاط من لغة أخرى فإن لغة أهل هذه الجزيرة عربية محرفة وأكثر ما يتخللها قطع من اللغة الطليانية وإنما انساقت إليها العربية حين استولى عليها أبو الغرانيق محمد ابن الأغلب سنة 255.
ويشعرك بانتشار العربية وآدابها بينهم لذلك العهد ما صه المؤرخون من أن ملك مالطة صنع له بعض مهندسي بلده تمثال جارية يتعرف بها أوقات الصلاة وكانت ترمي ببنادق على الصنج (قصاع الأبنوس) فقال أبو القاسم بن رمضان المالطي أحد شعرائها لعبد الله بن السمنطي المالطي وكانت له براعة في صناعة الشعر أجز هذا المصراع(32/18)
جارية ترمي الصنج
فقال له: بها القلوب تبتهج
كأن من أحكمها ... إلى السماء قد عرج
وطالع الأفلاك عن ... سر البروج والدرج
ثم عدنا إلى الباخرة حيث أزف رحيلها وجعلت أنظر إلى زوارقها المزخرفة وهي تحوم حولنا واردة وصادرة فوقع بصري على زورق يطوف به على جوانب السفينة سائل مقعد فأراني إحدى رجليه نحيفة ملتوية فقذفت له مسكوكاً فالتقطه وهو يقول بالسلامة السلامة وحيث لم يتعرض لي قبل هذا سائل في زورق قلت:
عهدت الذي يسعى على متن زورق ... إلى الرزق يدلي نحوه شرك الصيد
وذا قانص في اليم إلى العلا ... حبالة أقوال فتظفر بالقصد
بارحنا مالطة عند الزوال يوم السبت واسترسلت السفينة على بحر صامت ما عدا نسمات لينة تخطر علينا غسق الليل وأطراف النهار حتى قدمت على مرسى الإسكندرية ضحوة يوم الأربعاء فنزلنا منزلاً ألقينا في رحلنا وبعد أن طفئت حرارة الهاجرة خرجت صحبة رفيق يعرف شعاب المدينة إلى أن وافينا باب مسجد فجزته لأداء صلاة الظهر وأثر ما قضيت الصلاة جلس أمام المسجد مستنداً إلى أسطوانة ودنا له طائفة من الناس فقرأ لهم نبذة من كتاب الشفا لعياض مع بعض بيانات تدل على أنه ذو حظ من علوم الدين ثم حان وقت العصر وبعد أن انصرف من صلاتها ألقى علي السلام متعرفاً لأثري وعرض علي المبيت بمنزله في طرف البلد فاعتذرت له بقصر مدة الإقامة وقصد الاستطلاع على مناظر البلد ومعاهدها العلمية.
امتطيت عربة أتت بنا على مكتبتها القائمة بإزاء إدارة البلدية فطالعت صحائف متفرقة من نموذج كتبها ولم يقع بصري فيما طالعته على كتاب نادر يستحق أن نذكره ثم اجتزنا إلى متحف يقال له (عمود السواري) يحتوي على تماثيل عتيقة وعلى عمود قائم ذكر لنا الدليل المكلف باستطلاع الغرباء على المتحف أن ارتفاعه يبلغ ستاً واربعين ذراعاً وذكر المقريزي في الخطط أن ارتفاعه سبعون ذراعاً وقال المقريزي أيضاً ويذكر أن هذا العمود من جملة أعمدة كانت تحمل رواق أرسطاطاليس الذي كان يدرس به الحكمة.(32/19)
وقصدنا لزيارة مقام الشيخ الأبوصيري ثم مقام أستاذه أبي العباس المرسي ويتجمع حول هذين المقامين عدد وافر من الطائفة الظاهرة في زي المجاذيب.
التقينا بالسيد حسين بن عباد من أهالي جزيرة جربة القاطنين بتلك المدينة وذهب بنا إلى ناد حافل يقال له (المنشية) فقضينا بها جانباً من الليل في أسمار مونسة واستطلاع على مجامع متنوعة وهيأت من الملابس مختلفة فإن هذا النادي يأوي إليه السائحون من بلاد الشرق ولا تتجافى عنه الطبقة العالية من الأهالي ومما يذود عن جفنك الكرى هنا أن باعة الجرائد يخترقون الصفوف والمجامع وهم يصرخون بأسمائها وأيدي القوم تتلقفها واحدة عقب واحدة.
وأبث الأسف هنا حيث لم يتمهد لنا التعارف بفضيلة العالم الأستاذ الشيخ السيد عبد الفتاح المكاوي أحد العلماء بمشيخة الاسكندرية قبل مقدمي هذا حتى أحظى بسعادة لقائه فإنه بعث لي رسالة بعد وأنا حينئذ بدمشق خاطبني فيها على أن أوجه له بنسخة من رسالتنا (الدعوة إلى الإصلاح) فما لبثت أن قدمتها لفضيلته بواسطة البريد فطالعها بعين الكرم وتفضل حفظه الله بالكتاب الذي قصرت اليراعة أن تبسط باعها بما يستوجبه من الشكر ونصه بعد الديباجة:
فقد تلقيت خطابك السامي ورسالتك الداعية إلى الإصلاح والخير والفلاح وبمطالعتها علمت أن الإسلام لم يعدم أنصاراً ولم يزال للإرشاد دعامة هي خير الدعامات قلت فبرهت، ودعوت فسددت، وأحييت سنة الخلفاء والمصلحين فربطت بهذا آخر العالم الإسلامي بأوله ولا يسعني إلا تهنئة الحاضرة التونسية بك بل الأقطار الإفريقية بل الممالك الشرقية وإني وأيم الله لقد امتلأ قلبي سروراً وأفعم فرحاً من تعاليم جامع الزيتونة حيث انتخبت مفكراً وعالماً دينياً بصيراً مثلك ولقد ضاقت علي سبل الشكران أشكرك على ما قدمته للإسلام والمسلمين من براهينك الساطعة وحججك الدامغة أم أشكرك على ما أهديته للحركة الفكرية العصرية مما تلقته البصائر بالإجلال والإعظام أو على عنايتك الكبرى بتبديد الخرافات التي علقت بأفئدة كثير من المسلمين أو على شجاعتك المتناهية في إزالة سحب الجهالات التي أخرتنا إلى الوراء أميالاً ليست بقليلة أو أشكرك على إهدائك لي ما أعده ذكراً حسناً وأثراً خالداً باكرنا يوم الخميس إلى القطار المصري فانطلق يهرع ما بين أشجار وأنهار(32/20)
ومزارع وقرى منها دمنهور وطنطا وبنها العسل. وأسماء الأماكن التي يقف عندها القطار مرسومة بالقلم العربي وباعة الصحف والمتكففون يلجون عربات الرتل ويتجولون فيها المسافة البعيدة مجاناً.
وصلنا إلى مصر وتبوأت بيتاً في قصر يمسى (الكلوب المصري) ثم هويت من المنزل يرافقني السيد محمد القديدي القيرواني ودرجنا إلى مسجد سيدنا الحسين رضي الله عنه وفيه منفذ للمكان الذي اشتهر أنه مشهد رأسه الشريف ورأيت زوار هذا المسجد وزائراته كيف يزدحمون على بابه ما بين وارد وصادر وللعلماء بالروايات مقال في هذا المشهد الحافل فإن منهم من يقول أن مدفن رأسي الحسين رضي الله عنه بعسقلان ولعلنا نقص أثر هذا المطلب في مقام آخر.
ثم توجهت إلى زيارة المعهد العلمي الشهير بالأزهر ولما وافيته نهض لي زمرة من التلامذة تونسيون وجزائريون وكان بعضهم ممن تقدم له الحضور بالدروس التي نلقيها بالمعهد الزيتوني فطافوا بنا في زوايا الجامع وحواشيه ثم جلينا برواق المغاربة مدة وجيزة وأزمعت على افياب تخلصاً من متاعب السفر فالتمسوا مني العود لزيارتهم مساء وجنح بنا السبيل إلى منزل صديقنا السيد الشريف بن حمودة فلما وقع بصره على رؤيتنا انطلق لسانه بعبارات الترحاب والإعجاب فلبثنا لديه ساعة أنس خففت عنا معظم ما مسنا من التعب ثم آويت على محل الإقامة.
اكتفيت بحظ من الراحة يسير وانصرفت لإنجاز الموعد الذي أخذه مني التلامذة فقضينا أمداً في محاورة علمية بحسب ما تجذب إليه المناسبة ثم ذهبنا نتجول في المناهج والأسواق ومن رفقائنا الشيخ محمد الصالح الشواشي والسيد محمود بن رشيد التونسي حتى برزنا إلى جسر ممدود على وادي النيل وعبرناه إلى حديقة ناضرة فذكرت قول صلاح الدين الصفدي:
رأيت في أرض مصر مذ حللت بها ... عجائباً ما رآها الناس في جيل
تسود في عيني الدنيا فلم أرها ... تبيض إلا إذا ما كنت في النيل
وقلت:
عبرت على جسر أرى النيل تحته ... إلى روضة فاشتقت منهل زغوان(32/21)
صراط وفردوس وسلسال كوثر ... وما قيظ أشواقي سوى وهج نيراني
شهدت صلاة الجمعة بالجامع الأزهر والخطيب من ابناء الشيخ السقا صاحب الخطبةالمشهورة فكان موضوع الخطبة فضل ليلة النصف من شعبان ولكنه ألقاها بصوت جهير في هيأة مرتجل دون أن يمسك في يده ورقة وحينما شرع في دعاء الخطبة الثانية أخذ ينزل من موقفه الأعلى فانتهى الدعاء عند الدرجة السفلى من المنبر.
أجبنا دعوة الشيخ محمد عبان القيرواني وناولنا كؤوساً من الشاهي وهو يلتمس العذر كأنه يعد نفسه مقصراً في الضيافة فأنشدته قول الصاحب ابن عباد:
نسائلكم هل من قرى لنزيلكم ... بملء جفون لا بملء جفان
التقينا مساء هذا اليوم بأساتذة أزهريين أحدهم الشيخ الزنتاني من طرابلس الغرب وأتى في المذكرة الحديث عن الشيخ ابن عرفة فقال ذلك الأستاذ أن الفخر به لأهل طرابلس لأن قبيلة الشيخ لذلك العهد كانت من ملحقات طرابلس فقلت له إنما يعود فخره إلى التونسيين لأن نشأته الأدبية وحياته العلمية إنما كانت في تونس.
وجرى في المحادثة لفظة (صلاعة) على معنى الاستراحة من التعليم فقلنا هي كلمة أصلها عربية قال في القاموس (صلاع الشمس ككتاب حرها) وأيام الاستراحة هي أوقات الحر غالباً والكلمة الشائعة في معنى الاستراحة من التعليم عند كثير من أهل الجزائر لاسيما المتخرجين من المدارس هي لفظ (فكالس) وهي حرف فرنسوي.
دعانا الشيخ إبراهيم صمادح أحد المجاورين بالأزهر للسمر عند ليلة يوم السبت فقضينا نصف هذه الليلة في أسمار علمية ومحاورات أدبية ممن جاذبنا أطرافها الشيخ أحمد أمين الشنقيطي أحد العلماء الذين تجولوا في بلاد الشام والحجاز والشيخ عبد المعطي السقا أحد المدرسين بالأزهر وفيما طرح من المباحث بمناسبة خطبة ذلك اليوم تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) حيث ساق بعض الخطباء الآية في فضائل ليلة النصف من شعبان كما ينقله بعض المفسرين عن عكرمة وأوردنا في هذه الليلة المذاكرة إنكار أبي بكر ابن العربي لهذا التفسير وتحقيقه أن المراد من الليلة المباركة ليلة القدر وهي التي يفرق فيها أمر حكيم.
واتصل الكلام بالبحث في البدعة وسقنا تحرير أبي سحاق الشاطبي في ضابطها وهو أن(32/22)
يكون السبب الذي استند إليه العامل قائماً زمن رع الأحكام ويسكت عنه الشرع ولا يقرر له حكماً. ويصح أن يضرب المثل لهذا بصلاة الرغائب فقد ألف الشيخ عز الدين بن عبد السلام رسالة وضح فيها أنها بدعة وهذا مما لا تدخله الريبة فإنه إذا ثبت أن الحديث الذي يروي في شأنها موضوع كما حقق ذلك أبو الفرج بن الجوزي انطبق عليها أنها عمل لم يحدث له موجب ولا ورد فيه أثر عن صاحب الشريعة وهذا بخلاف ما يكون السبب الموجب له طارئاً بعد زمن الوحي كتدوين علم الغريبة وجمع القرآن في المصاحف.
سايرني بعد أن انتثر عقد المجلس بعض التلامذة واقترحوا علي إقراء درس في التفسير وحكوا أن لغيرهم من أهل العلم حرصاً أكيداً على هذا الاقتراح فبسطت إليهم بمعذرة أني قد ربطت العزم على الرحيل صبيحة يوم الأحد فقالوا يمكن أن نعين لميقات الدرس عشية غد ونكتفي بالمقدار الذي يتيسر جمعه وبيانه والغرض إنما هو المحافظة على سنة الكثير من أهل العلم يمرون بالأزهر فما وسعني إلا أن ساعدت مرغوبهم فأحضروا تفسير القاضي البيضاوي ووقع الاختيار على أن يكون موضوع الدرس قوله تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) الخ الآية.
افتكرت في المنهج الذي نتبعه في تحرير الدرس فسبق لي استحسان إبرازه في الأسلوب المتعارف في جامع الزيتونة فلا أسل يدي من تقرير ما يناسب من مباحث عربية أو أصولية أو أحكام فرعية ن المقترحين للدرس أزهريون.
أتينا صباح يوم السبت على المسجد الذي ابتدعه عبد الرحمن ابن الشيخ عليش رحمه الله وشاهدنا بأم العين ما رسمه في أعلى مفتحه بالقلمين الإفرنجي والعربي وأنكره عليه علماء الإسلام. ثم مضينا للوفاء بموعد الشيخ عبد المعطي السقا فجاز بنا إلى داخل منزله وأهداني كتاباً حافلاً ألفه فضيلة جده المنعم في فضل عمارة المساجد وللشيخ عبد المعطي عناية كبرى بالفحص عن التآليف النادرة والسعي الحثيث في تحصيل ما نشرته المطابع في البلاد القاصية وقد تفضل علي برد الزيارة فاتفق أن كنت خارج المنزل فكتب بطاقة يشعرني فيها بزيارته ويتأسف لعدم الملاقاة وأودعها لدى ناظر الكلوب.
ذهبت إلى الجامع الأزهر لأذان العصر وانتبذت للتحية مكاناً بين مجمعين لتعليم القرآن فانشق صدري أسفاً لأحد المعلمين إذ كان لا يضع العصا من يده ولا يفتر أن يقرع بها(32/23)
جنوب الأطفال وظهورهم بما ملكت يده من القوة وربما قفز الصبي آبقاً من وجع الضرب الذي لا يستطيع له صبراً فيثب في أثره بخطوات سريعة ويجلده بالمقرعة جلداً قاسياً حتى قلت لأزهري كان بجنبي (من جلس إزاء هذه المزعجات فقد ظلم نفسه) وذكرت أني كنت ألقيت خطبة في أدب تعليم الصبيان ببلد بنزرت حالما كنت قاضياً بها وأدرجت فيها ما قرره صاحب المدخل من الرفق بالصبي وعدم زيادة المعلم إن اضطر إلى ضربه على ثلاثة أسواط وتحذيره من اتخاذ آلة للضرب مثل عصا اللوز اليابس والفلقة. ولما خطبت في هذه الآداب أرسل لي بعض المعلمين كتاباً على طريق البريد يعترض فيه على نشر هذه الآداب ويقول أن هذا مما ينبه قلوب التلامذة للجسارة علينا.
وكان أمامي في هذه الجلسة تلميذان يتفاهمان كتاباً في العربية يطالعانه بمقربة منهم تلميذ ثالث حتى أتيا على قول الشاعر (على أن فاها كالسلافة أو أحلى) فقال أحد التلميذين السلافة الخمر فقال له ذلك التلميذ الذي هو بمعزل عنهما السلافة حيوان فأعاد عليه الأول القول بأنها الخمر وكرر الآخر القول بأنها حيوان فقال له صاحبه منبهاً له على وجه خطأه (أو أحلى أو أحلى) فرجع وقال السلافة شيء ضيق قال هذا ليلائم تشبيه الفم بها وأظنه اشتبه عليه أولاً لفظ السلافة بالسلحفاة سبق في ظني أن مقترحي الدرس قصدوا أن يكون قراؤه برواق المغاربة فانصرفت بعد صلاة العصر متوجهاً لذلك الرواق فأنبأوني بأنهم اختاروا أن يكون بوسط الجامع وعرضوا علي منصة بعض الأساتذة فلم يسعني إلا أجلس حيث عزموا.
أقبلت قبل الشروع في تقرير الدرس على تلميذ أعرفه بحفظ القرآن وصرف الهمة في تجويده واقترحت عليه أن يجهر بتلاوة الآية ليسمعها الحاضرون فقنعه الحياء وتقدم تلميذ آخر فرفع بها قراءته ورتلها ترتيلاً.
ونودع في هذه الخلاصة جملة من المباحث التي أوردناها في تفسير الآية عسى أن تكون أنظار بعض القارئين قد طمحت إلى الإلمام بمقاصدها.
قررنا فاتحة الدرس قول الشيخ ابن عرفة (من الناس من ينظر في وجه المناسبة بين الآية وما قبلها كابن الخطيب ومنهم من لا يلتزمه في كل آية كالزمخشري وابن عطية ومنهم من يمنع النظر في ذلك ويحرمه لئلا يعتقد أن المناسبة من إعجاز القرآن فإذا لم تظهر المناسبة(32/24)
للناظر وهم في دينه ووقع له خلل في معتقده) وعلقنا عليه أن هذا الاختلاف إنما يقع لهم في الآيات التي لم تقترن بنحو حرف عطف إذ يمكن الاكتفاء في بعضها بأن اتصال الآية بما قبلها معتبر فيه الترتيب بينهما في النزول الوارد على حسب الوقائع والحاجات أما إذا اتصل بها حرف الوصل كهذه الآية فتطلب المناسبة متعين لأن رعايتها حينئذ داخلة في حقيقة البلاغة التي هي الركن الأعظم في الإعجاز. ثم أتينا على عقد المناسبة بين هذه الآية وما قبلها.
ثم انتقلنا إلى بيان قول القاضي في تفسير الآية (لا يستقيم للمؤمنين أن ينفروا جميعاً لنحو غزو أو طلب علم كما لا يستقيم لهم أن يتثبطوا جميعاً فإن يخل بأمر المعاش) والبيان أما خطر انصراف الناس قاطبة إلى اجتناء ثمر العلوم وإخلاله بمطالب حياتهم فلأن الإنسان يفتقر في تحصيل معاشه ووسائل بقائه إلى مساعدة أبناء جنسه ولا يستطيع أحد أن يقوم بها وحده وإن بلغ أشده في استقامة البنية وسعة الفكر فإذا نفر الشعب بحذافيرهم وولوا وجوههم شطر الارتواء من العلم ضاعت واجبات اجتماعهم وانتقضت عليهم قواعد العمران من زراعة وصناعة وتجارة.
وأما تخلفهم جميعاً وقعودهم عن الرحلة في طلب العلم فإنه يخل بنظام العيش من جهة إن جهل القبلة بما أرشدت إليه الشريعة من العقائد والأخلاق وخلوها عما فصلته من قوانين الاجتماع وضروب السياسات يفضي إلى انتشار المفاسد واشتعال نار الفتن مثلما كانت عليه حال العرب في جاهليتهم ولا تخالجنا الريبة في هذه الحقيقة متى شاهدنا انتظام شؤون العمران وتوفر أسباب الراحة لدى بعض الأمم العارية عن الصيغة الدينية فإنها ما وصلت إلى تلك التراتيب التي ضربت بها أطناب الأمن والسكينة إلا بعد أن فتحت أعينها في نظامات الشرائع السماوية واقتدت على أثر الأمم المتدينة.
وفضائل العبادات أيضاً لها مدخل في انتظام العيش بمعنى قرار النفس ورضاها عما سخر الله لها من العيش وهذا ما يعتبره الإنسان من نفسه متى نظر إلى حالته وهو ملتفت بقلبه إلى زخارف الدنيا وقاسها بحالته إذا أقبل بسريرتها على ما يقر به إلى فاطر السماوات والأرض فإنه يجد في هذه الحالة من لذة اليقين وراحة الخاطر ما يكشف له عن كدر كان يمازج قلبه وحزازة هي أثر القساوة والإعراض بجانبه عن الطاعة فيرى أن العيش(32/25)
المنتظم على الحقيقة إنما هو عيش الفائزين بهداية الدين علماً وعملاً.
وعبر في الآية بالمؤمنين دون الناس لأن الآية مسوقة للحث على القيام بعمل والأعمال إنما يرجى الامتثال فيها من المؤمنين ولو كان الأمر هنا بواجب من العقائد لناسبه التعبير بنحو الناس وقد قرر بعض المفسرين فيما أعهد أن من عادة القرآن التعبير بمثل (يا أيها الناس) إذا كان المخاطب به مما يرجع إلى أصل من أصول الدين فإذا كان المأمور به فرعاً من الفروع صدر الخطاب بنحو (يا أيها الذين آمنوا).
أو يقال أن ذكر المكلفين هنا بوصف الإيمان لتقوية داعيتهم وإغرائها على العمل بأسلوب لطيف فإن من تسميتهم بالمؤمنين تلويحاً إلى صفة الإيمان بالله من شأنه أن تبعث على حسن الطاعة والمسارعة إلى امتثال أوامره وتعرضنا عقب هذا إلى البحث في لفظة (كافة) فقررنا أن ابن هشام ذهب في مغني اللبيب إلى أنها من الأسماء التي لا تخرج عن النصب على الحال وخطأ الزمخشري في قوله بخطبة المفصل (محيطاً بكافة الأبواب) وقد صحح الشهاب في شرحه درة الغواص أنها لا تلزم النصب على الحالية ومما استشهدنا به القائلون بانفصالها عن الحالية قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد جعلت لآل بني كاهلة على كافة بيت مال المسلمين لكل عام مائتي مثقال دهباً إبرايزاً قال الدماميني إن صح هذا سقط القول بملازمتها للنصب على الحالية.
(لها بقية)(32/26)
سلسلة حكم الخلفاء
(عبد الملك بن مروان الأموي رحمه الله): خطب يوماً فقال أيها الناس اعملوا لله رغبة ورهبة فإنك نبات نعمته وحصيد نقمته ولا تغرس عليكم الآمال إلا ما تجتنيه الآجال وأقلوا الرغبة فيملا يورث العطب، فكل ما تزرعه العاجلة تقلعه الآجلة، واحذروا الجديدين فهما يكران عليكم إن عقبى من بقي لحوق بمن مضى وعلى أثر من سلف يمضي من خلف فتزودوا فإن خير الزاد التقوى كفانا الله وإياكم سطوة القدر وأعاننا بطاعته على الحذر من شر الزمن، ومضلات الفتن وقال أربعة لا يستحي من خدمتهم السلطان والوالد والضيف والدابة.
أفضل الرجال من تواضع عن رفعة، وزهد عن قدرة، وانصف عن قوة، وطال اطلبوا معيشة لا يقدر السلطان على غصبها فقيل له ما هي فقال الأدب، حقد السلطان عجز، من صغر مقتولاً فقد أزرى صاحبه.
وقال له رجل أريد أن أسر لك شيئاً فقال عبد الملك لأصحابه انهضوا فلما أراد الرجل الكلام قال له عبد الملك قف لا تمدحني فإني أعلم بنفسي منك ولا تكذبني فإنه لا رأي لكذوب ولا تعب عندي أحداً فقال إذاً تأذن لي بالانصراف قال إذا شئت. . وأوصى بنيه فقال: أوصيكم بتقوى الله فإنها أزين حلية وأحصن كهف، ليعطف الكبير منك على الصغير، وليعرف الصغير حق الكبير وانظروا (مسلمة) فأصدروا عن رأيه فإنه نابكم الذي عنه تفترون ومجنكم الذي عنه ترمون وكونوا بني أم بررة لا تدب بينكم العقارب وكونوا على الحرب أحراراً فإن القتال لا يقرب ميتة وكونوا للمعروف مناراً فإن المعروف يبقي أجره وذكره، وضعوا معروفكم عند ذوي الإحسان فإنهم أصون له وأشكر لما يؤتي إليهم منه، وتعهدوا ذنوب أهل الذنوب فإن استقالوا فأقيلوا وإن عادوا فانتقموا. وددت أني كنت أكتسب يوماً بيوم ما يقوتني وأشتغل بطاعة الله. وددت أني عبد لرجل من تهامة أرعى غنماً في جبالها وأني لم أك شيئاً. يا دنيا ما أطيبك إن طويلك قصير وإن كبيرك لحقير وإن كنا منك لفي غرور. إن من يمن السائس أن يأتلف به المختلفون، ومن شؤمه أن يختلف به المؤتلفون. قال الوليد لأبيه عبد الملك يا أبت ما السياسة قال هيبة الخاصة مع صدق مودتها واقتياد قلوب العامة بالإنصاف لها واحتمالها.
وقال لابنه الوليد وكان ولي عهده يا بني اعلم أنه ليس بين السلطان وبين أن يملك الرعية(32/27)
أو تملكه إلا حرفان حزم وتوان.
(الوليد بن عبد الملك رحمه الله): لا مقدم لما أخر الله، ولا مؤخر لما قدم الله وقد كان من قضاء الله وسابق علمه ما كتب على أنبيائه وحملة عرشه الموت، إن الشيطان مع الفرد، أيها الناس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، من سكت مات بدائه، لأجمعن المال جمع من يعيش أبدا ولأفرقنه تفريق من يموت غدا.
(سليمان بن عبد الملك رحمه الله): الكلام فيما ينفعك خير من السكوت فيما يضرك. قال ليزيد بن المهلب ثلاث اتركهن فخك أبيض مثل ثوبك ولا يكون خف الرجل مثل ثوبه وطيبك ظاهر وطيب الرجل يشم ولا يرى أثره وتكثر من مس لحيتك.
(عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه): إن قوماً لزموا سلطانهم بغير حق فأكلوا بخلاقهم وعاشوا ألسنتهم وخلفوا الأمة بالمكر والخديعة والخيانة كل ذلك في النار إلا فلا يصحبنا من أولئك أحد فمن صحبنا بخمس خصال فأبلغنا حاجة من لا يستطيع، ودلنا على ما نهتدي إليه من العدل، وأعاننا على الخير، وسكت عما لا يعنيه، وأدى الأمانة التي حملها منا ومن عامة المسلمين فحيهلا به. ومن كان غير ذلك ففي حل من صحبتنا أو الدخول علينا وعزل بعض قضاته فقال لم عزلتني. قال بلغني أن كلامك أكثر من كلام الخصيمين إذا تحاكما إليك.
التقى ملجم. وخطب فقال أيها الناس لا تستكثروا شيئاً من الخير أو تيتموه، ولا تستقلوا شيئاً منه أن تفعلوه، ولا تستصغروا الذنوب، والتمسوا تمحيص ما قد سلف منها بالتوبة والعمل الصالح، فإن الحسنات يذهبن السيئات وقد ذكر الله عز وجل أقواماً فقال: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) فإياكم والإصرار على الذنوب فإن الله تعالى ذكر قوماً بذنوبهم فقال عز وجل: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون، ثم أنهم لصالوا الجحيم. ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون) نار لا تطفى ونفس لا تموت فهي كما قال تعالى: (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها. كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً ليذوقوا العذاب) فهل لأحد بهذا طاقة؟. . فمن استطاع منكم أن لا يحجبه الله تعالى فليفعل. ثلاث من كن فيه فقد كمل، من لم يخرجه غضبه عن طاعة الله، ولم يستزله رضاه إلى معصية(32/28)
الله وإذا قدر عفا وكف، وكتب رضي الله عنه لى عماله لما ولي الخلافة إذا دعتكم قدرتكم على الناس إلى ظلمهم فاذكروا قدرة الله عليكم ونفاد ما تأتون إليه وبقاء ما يأتي إليكم من العذاب بسببهم.
(لها بقية)
إبراهيم خليل مردم بك(32/29)
العدد 33 - بتاريخ: 1 - 10 - 1913(/)
تهتك الحرائر
يعلم كل عاقل ما لهذه المصيبة من الأضرار وما لها من التأثير على الأخلاق وكيف أنها بفضل تساهلنا تزداد يوماً فيوماً انتشاراً وتفشو من حين إلى حين حتى عمت جميع الطبقات وأصبحت الداء العضال لهذه المرأة بل الضربة القاضية على شرفها وكامل أخلاقها. مع مات في ذلك من مخالفة صريح الدين ومصادمة نصوص الكتاب المجيد والسنة الصحية دع عنك ما نشأ عنها وما ينشأ عنها من إتلاف الثروة وتبديدها على غير جدوى وبلا فائدة غير استحقاق السخط والمقت الإلهي ورمي الطبقة الوسطى فضلاً عمن تحتها بالضائقة المالية والعسر المستمر. . نعم إنك لتجد من تحسب أنه من الأغنياء في اضطراب زائد وكدر عظيم لا يدري ما يصنع أمام هذه الكارثة العظيمة والتيار الجارف.
مهما جد الفقير واجتهد في الكسب والتكسب لا يكاد يرضي امرأته ولا يستميل قلب ابنته فهما في سخط دائم عليه، وكره لحالته فلا يزال عيشه في كذر وليله في سهر يحالف الهم ويرافق الغم يكتسب حتى الحرام فيغش ويخدع ويضرب في كل سهم ابتغاء رضوان أهله ونسائه وما هم عنه براضين ما دام زي أمس يبطله زي اليوم وزي اليوم يبيده زي غد وما دام القصد من اللباس إنما هو التقليد لا الكتساء والتهتك لا التستر.
إن فضلى النساء لا تكاد تتزين لزوجها زينتها إلى السوق وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية وكل عين زانية.
وقال صلى الله عليه وسلم كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية وأخرج ابن حجر في زواجره من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من خثعم أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله أخبرني ما حق الزوج على الزوجة فإني امرأة أيم فإن استطعت وإلا جلست أيماً قال فإن حق الزوج على زوجته إن سألها عن نفسها وهي على ظهر قتب أن لا تمنعه نفسها ومن حق الزوج على الزوجة أن لا تصوم تطوعاً إلا بإذنه فإن فعلت جاعت وعطشت ولا يقبل منها ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه فإن فعلت لعنتها ملائكة السماء وملائكة الأرض وملائكة الرحمة وملائكة العذاب حتى ترجع.
وأخرج أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها(33/1)
النساء وذلك بسبب قلة طاعتهن لله ولرسوله ولأزواجهن وكثرة تبرجهن، ومن هنا يعلم عظم وزر هذه الخطيئة (التبهرج) وأن المرأة المتبرجة لغير زوجها زانية والتي تخرج من دارها بغير إذن زوجها تلعنها ملائكة السماء والأرض حتى ترجع. والرجل الراضي بأن تتبرج امرأته لغيره وأن تخرج من غير أذنه شريك لها في وزرها مستحق للمقت معها بل هو الديوث الذي لا يشم ريح الجنة ولا يدخلها والخلاصة أن هذه السيئة من المنكرات التي يجب التناهي عنها والتعاضد لصد تيارها حتى لا يتسع الخرق فتعتقد المرأة أن خروجها متبهرجة حق من حقوقها الطبيعية لا دخل للزوج في وضعه ولا رفعه. وهذا ما دعانا لأن نستحث همة كل خطيب وكاتب ومدرس وواعظ ومرشد وناصح ليبذل كل جهده في إزالة هذه العادة السيئة والبدعة القبيحة وأن نشكر همة من قاموا ببلدتنا (دمشق) بتأسيس جمعية لهذه الغاية ولقد علمنا أن هذه الجمعية حيا الله رجالها توالي الجلسات وتعقد الاجتماعات وتجتهد كل الاجتهاد للتوصل إلى إبطال هذه الرذيلة بالطرق المشروعة المقبولة فجزى الله أعضاءها وكل مساعد لهم جزاء المحسنين وكان لهم خير معين.
وهنا يحسن لبنا أن نورد للقراء مقالة نشرتها مجلة مكارم الأخلاق بقلم الكاتب المفكر عبد المجيد أفندي رئيس قسيم الإدارة بمديرية الشرقية في هذا الصدد لما فيها من الفائدة وفصاحة البيان قال أكثر الله من أمثاله:
بسم الله الرحمن الرحيم وبحمد والصلاة والسلام على رسوله أستفتح مقالتي التي جعلت عنوانها تهتك الحرائر وتالله ما كتبتها تحت هذا العنوان استلفاتاً للنظر ولا مبالغة في الوصف وإنما هو الواقع كما أنكم تنتظرون كيف لا وكل يرى المرأة لاهية عن بيتها عن الزينة دقها وجلها ثم لا يلبث أن يراها وقد أرادت الخروج قد أخذت كل زخرفها وازينت وبرزت من خدرها عروساً ولكنها لا خباء أو فجوراً ولا مبالغة ولا مراء كيف لا نسمي ذلك تهتكاً والحرة والفاجرة فيه سواء ها هي الطرقات والأسواق غاصة بالنساء وهن في غاية التبرج والخلاعة كما ترون فلا حاجة لوصف أزيائهن التي عند تصورها يضيق الصدر ويعتقل اللسان ماذا سترت المسلمة من زينتها التي أمرت بشترها إذا كانت هكذا في الطريق ظاهر ردفها وخصرها ونحرها وكفها والمعصم كذاك شعر رأسها وكل ما في وجهها كأنفها ثم الفم.(33/2)
أم ماذا تركت الحرة للفاجرة من ضروب التبرج وماذا أبقت لنفسها من ضروب الاحتشام أنها لم تترك من ذاك ولم تبق من هذا شيئاً.
وماذا ينتظر الرجال إلا آخرة هذا الحال وبئست الآخرة هي هتك عرض وذهاب مال.
أيها المسلمون لا بأس عليكم ماذا جرى لعقولكم حتى رضيتم أن تفجر أمامكم نساؤكم.
أيها المسلمون أولى لكم من الاشتغال بالسياسة العمومية أن تسوسوا بيوتكم.
أيها المسلمون نساؤكم من نعم الله عليكم فأمسكوها أن تزول وكفى ما فرطتم.
أيها المسلمون أعراضكم كأرواحكم وقد فرطتم فيها كثيراً أفلا تتقون.
أيها المسلمون الله ولاكم أمر نسائكم لتصلحوا الولاية فأسأتم بتفريطك فهل أنتم منتهون.
أيها المسلمون ما بلغ النساء هذا الحد إلا من تساهلكم وضعف رأيكم في سياستهن وخور عزيمتكم في حجبهن كأنه لا غيرة في قلوبكم على أعراضكم قبح الله من لا يغار.
أيها المسلمون ما كلم واحد منكم الآخر في حال النساء إلا وأظهر التحسر والتأسف ولا شك في إجماعكم على قبح هذا الحال وسوء مآله.
فإذا كان الحال كذلك سيئاً في نفوسكم فلماذا عدم تغييره والله جاعل دواءه بيدكم أصبح التواكل غريزة فيكم حتى في خصوصياتكم أينتظر الواحد منكم أن يأتي غيره ليصون له حليلته أم تنتظرون أن تقلب الحكومة نظامها وتدخل في أموركم الخصوصية وهي تباعد عنها احتراماً لحريتكم الشخصية وكيف تتداخل هي وأنتم ساكتون وسكوتكم دليل على الرضا بما أنتم له كارهون والله ما شاعت هذه البدعة الفاحشة في المسلمات غلا بتفريطكم في الحجر عليهن فاحذروا يا رجال عاقبة هذا الحال فالعقل لا يسلم بصيانة المرأة تمشي كل وقت بهذا التهتك الفاضح تزاحم الرجال في الأسواق عين ترمقها وقدم يتبعها وقبيحة تسمعها وكف تلمسها ويد تصافحها ورب ساعد يضمها وفم يقبلها ومن يشك في بعض ما قلت فليسر في أسواق المدينة ويتفقد خاناتها (مخازنها) ويتأمل كيف تستقبل من فيها النساء وكيف يعاملوهن وهكذا تفسد الأخلاق وتهتك الأعراض ولا تنسوا أنه كلما كثر خروج المرأة ومخالطتها لغيرها زاد طلبها للملابس والحلي أما تشبهاً بغيرها وإن كن أعلىمنها أو أكثر ثروة وإما تشبهاً لما هو معروض في الأسواق استلفاتاً لأنظارهن وترغيباً لهن ألم تر أن التجار لم يقتصروا على هذه الوسيلة بل تجاوزوها إلى بيع سلعهن للنساء سلفاً وهم(33/3)
آمنون على أرباحهم بما يرون من تغلبهن على الرجال.
وهذا الأزار الجديد والبدع التي تظهر فيه كل يوم اختراع تجاري ساعد على انتشاره ورواجه تسلط النساء على الرجال مع ضرره المالي (إذا لم نقل الأدبي) فمن ذا الذي ينكر أن أنواع هذا الجديد أغلى ثمناً وأكثر كلفة وأقصر عمراً من القديم كيف لا ومادة الحبر الجديد لا تبلغ جودة الحبر القديم وأنواع الملاآت الجديدة لا تبلغ متانة الملاآت البلدية القديمة وقد كانت الحبرة الأولى تكفي صاحبتها خمس سنين أو أكثر وهي لا تبلغ ثمناً وكلفة أكثر من دينارين وقس على هذه النسبة الملاآت البلدية أما الحبرة الجديدة فقل أن تكفي سنة أو اثنتين إن كانت جديدة وكانت صاحبتها أكثر من غيرها لزوماً لبيتها والاختراع التجاري وتفنن الخياطات في الأزياء ضامنان لزوم حبرتين أو أكثر في السنة الواحدة وثمن وكلفة هذه لا ينقص عن ثلاثة دنانير وقد يزيد إلى سبعة للمتوسطات ولا ندري كيم تتكلف حبرة العاليات وعلى هذه النسبة تقاس الملاآت ولا تسل عما يجتهدن في إحرازه من نفائس الحلل واستنكاف الواحدة منهن الخروج بالحلة الواحدة مرتين وقد تهجر البدلة الثمينة بعد قليل لتغير زياه أو تترك في زوايا الصناديق حتى تنقرض والزوج أسال عرق جبينه في أداء ثمنها لا تجود عليه بالتحلي مرة بين يديه بثوب نظيف بهذه الوسائل الشيطانية والتصرفات النسوانية لتذهب الأموال ويسوء المآل.
وهل علمتم ما هي غاية النساء من هذا التبرج نعم تعلمون أنها غاية سافلة فإنما تريد المرأة من خروجها بهذه الهيئة أنها تسلتفت إليها الرجال أثناء سيرها قي الطريق وتريد أن تكون هي المرموقة بين السائرات معها بعين الاستحسان وإن تمحلت بعض الأسباب الواهية مثل كونها تريد مناظرة أمثالها ومباهتهن بنفسها فدعواها باطلة وإلا لأبقت الإزار على عهده السابق بسيرها في الطريق حتى تدخل محل المناظرة والمباهاة فتبدي زينتها على أمثالها وتباهي بها من تشاء منهن وربما نقول أن الرجال وإن رأوها في الطريق فليس يعرفون من هي حتى يكون في ذلك سيئة لزوجها فإذا سلمنا لها بذلك وضربنا صفحاً عن سفيه يراقب دخولها وخروجها من بيتها ولا يلبث أن يعرفها من هي فما فائدة ظهور زينتها لمن لا يعرفها أليس هذا نهاية الطيش والجهالة.
تأمل أيها القارئ لهذه الغاية السافلة كيف تكون في نفس تلك الخارجة متى خرجت وتذكر(33/4)
أن هيئتها وهي عنوان الخلاعة تطمع من يراها في بلوغ إربه منها وتحرك همته للسعي إلى ما توسوس له به نفسه مع أنها لو ألزمت بستر زينتها لسارت في حمى هيبة الاحتشام ولما وجد سفيه من نفسه مطمعاً يؤديه لمداعبتها وانظر ما في هذا البلد من أشرار برعوا في الوقاحة والتحكك بالنساء واستهواء عقولهن وما فيها من أماكن الفجور التي يسمونها سرية وما يوجد بين أكنافها من القوادات المتسترات ببعض الحرف النسائية ألا تكون نهاية ذلك فساد العرض ولو بعد حين خصوصاً مع مواظبة النساء على الخروج وكثرة الأسباب التي يتذرعن لبها إليه فإما شراء شيء من السوق (لا لنفسها فقط أو لها ولأولادها بل لزوجها أيضاً) أو لزيارة أهل أو ضريح أو جبانة أو لنزهة أو حمام أو لحفلة فرح أو موكب جامع كموكب المحمل أو وفاء النيل أو وفود ملك أو أمير أو غير ذلك مما يتجاوز العد ولا يحيط به الحد.
ومع تعرض الأعراض بالخروج لحظ تلك الآلات يسمح الرجال لهن به وتجد المرأة من هذه الأسباب ما يكفي لخروجها من بيتها كل يوم أكثر من مرة وهي مقدمة عندها على واجباتها المنزلية وقد واظب أكثر النساء عليها كل المواظبة ورأي من تفريط رجالهن أكبر مسهل لهن حيث ترك الرجال (غلا قليلاً منهم) أمر الخروج للنساء إن شئن قعدن وإن شئن خرجن ومن منهن تشأ أن لا تخرج.
عرفنا من تمادي النساء على هذا الحال والتزام الرجال الصمت والسكون في هذا المقام رغماً عن تحقيقهم ضرره أدباً ومالاً أن سبب هذا الصمت والسكون مع الحاجة للكلام والحركة السريعة هو وهم ساد على عقول الجنسين في فهم معنى الحرية الشخصية التي أطلقتها الحكومة للرعايا فظنوها حكماً مطلقاً لا قيد فيه ومعنى ذلك أن يمشي كل على هواه في ظل الحرية لا أن تخرج المرأة عن طاعة زوجها وتجري في الحجاب على مشيئتها وقد آنست من الرجل التساهل في حقه فكادت تنكره واسترسلت مع هواها وتوسعت في مطالبها حتى وصلت إلى ما نراها فيه الآن لاهي على الزي الإفرنجي الذي يقتضي الاحتشام من الزينة حيث لا حجاب يسترها ولا هي على الزي البلدي متخذة حجاباً يستر زينتها التي كانت تطمئن في اتخاذها في الأيام الخالية على الحجاب اللائق فأصبحت مثال التبرج ولكن لا تبرج الجاهلية الأولى بل تبرج المدينة الأخرى معنى الحرية أن لا ظلم(33/5)
اليوم فالقوي والضعيف سواء يحكم بينهما بالعدل فيدار القضاء فليتمتع كل ذي حق بحقه لا سواه وليلتزم كل حده لا يتعداه.
للمرأة حقوق ولها حدود فلا نهضمها الحق ولا نرضى تخطيها الحد فلها مما نحن بصدده الخروج لزيارة والديها مرة كل أسبوع ولزيارة محارمها (أي أقاربها المحرمة عليهم) في كل سنة مرة. (انظر المادة 215 من كتاب الأحوال الشخصية).
وعليها أن تكون مطيعة لزوجها فيما يأمرها به من حقوق الزوجية ويكون مباحاً شرعاً (أي لا تلزمها طاعته في أمر يحرمه الشرع) وأن تتقيد بملازمة بيته ولا تخرج عنه إلا بإذنه (انظر المادة 212 من الأحوال الشخصية).
وللزوج أن يمنعها من الخروج من بيته بلا إ1ذنه إلا في الأحوال التي يباح لها الخروج فيها شرعاً كزيارة والديها ومحارمها كما تقدم وله منعها من زيارة الأجنبيات وعيادتهن ومن الخروج إلى الولائم ولو كانت عند المحارم (انظر المادة 217 الأحوال الشخصية).
ولكي تظهر لكم حكمة مبالغة الشرع في كراهة خروج النساء إلى الولائم حتى أنه أعطى الرجال حق منعهن من الخروج إليها ولو كانت عند المحارم أصف لكم هيئة فرح وكيف كانت حالة النساء فيها وإن كان ذلك غير خاف عليكم.
زرت القاهرة منذ شهرين في ليلة جمعة ومررت صدفة بفرح في بيت عظيم مطل على شارع مهم وكانت الحفلة في الشارع أمام هذا البيت فرأيت النساء مشرفات على الرجال ن الشبابيك المفتحة عن آخرها بلا ستر ولا غطاء ولا خوف ولا حياء كأنهن نساء رجل واحد نافست الواحدة منهن ضرتها في اجتذاب قلبه إليها بزينتها وبهرجتها وكلكم يعلم ما يفعل النساء بأنفسهن عن الخروج للأفراح وكان الرجال المجتمعون في هذا المهرجان في نظرهن ذاك الرجل الواحد لا يرون في الظهور عليه عاراً بل يرونه أمراً حلالاً وصادف أن فرغ المغنون من أغنية كانوا يغنونها وسكتوا للاستراحة فانفتح باب التنكيت ورمت السنة السفهاء من قبيح القول ما أضحك الغافلين والنساء يسمعن وينظرن ولا يستحين كل هذا جرى وكل من الرجال الحاضرين يسمع ويرى وما منهم من قبح منكراً أو هزته حمية لدفع هذا العار المهين مع أن المكان لا يخلو طبعاً من كثير من أزواج أولئك النساء مدعوين مثلهن إلى المهرجان وكانوا بأعينهم يرونهن ويرضون كل ذلك منهن فما استطعت(33/6)
صبراً على هذا المنكر وكاد الفؤاد يتصدع والكبد تنفطر فنبهت صاحب الدار لما فيها فأسرع لوقته إلى داخل الحرم وأرسل من أغلق الشبابيك فحجبهن عن الأنظار وما حرمن من مشاهدة الحفلة وراء الحجاب.
هذه حفلة من كثير مثلها تقام في هذه المدينة الواسعة وطبعاً يجري في الكل ما جرى في هذه ويحدث من اجتماع النساء وأمنهن الرقيب والزاجر تلك المنكرات الكبائر فالحكمة البالغة في ذلك الحكم في منه هذا الفجور باجتناب أسبابه.
وللزوج على زوجته الولاية التأديبية (انظر المادة 206 الأحوال الشخصية) وعليها الحجاب وستر الزينة بنص الكتاب إذ قال الله تعالى: وليضربن بخمرتهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن) وقال (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) وقد اتفق أغلب المفسرين على أن المراد ستر المرأة رأسها ووجها وجميع بدنها بحيث لا يظهر منها إلا عين واحدة وقيل عيناها وأن لا تظهر شيئاً غير ذلك مطلقاً إلا لضرورة تستوجب الإباحة شرعاً ككشف المخطوبة وجهها وكفيها لمن يخطبها.
وقد اجتنبت الحكومة التعرض لهذه الحقوق بل لم تتعرض للرجال في حق إجراء التعزير المباح لهم شرعاً إيقاعه على النساء عند تجاوزهن حداً من تلك الحدود مثل ما في المادة (209) الأحوال الشخصية هو يباح للزوج تأديب المرأة تأديباً خفيفاً على كل معصية لم يرد في شأنها حد مقرر ولا يجوز له أن يضربها ضباً فاحشاً ولو بحق وقد صرحت الحكومة بحيادها هذا في المادة الأولى من قانون عقوباتها وهذا نصها من خصائص الحكومة أن تعاقب على الجرائم التي تقع على أفراد الناس بسبب ما يترتب عليها من تكدير الراحة العمومية وكذلك على الجرائم التي تحصل ضد الحكومة مباشرة بناء على ذلك قد يعينت في هذا القانون درجات العقوبة التي لأولياء الأمر شرعاً تقريرها وهذا بدون إخلال في أي حال من الأحوال بالحقوق المقررة لكل شخص بمقتضى الشريعة الغراء.
ولم تلتزم الحكومة الحياد فقط بل نظامها متكفل بمعاونة الرجل على حجب امرأته ولو أدى ذلك إلى استعمال القوة فإذا فرضنا أن رجلاً عجز عن حجب امرأته في بيتها وعن منعها من الخروج لغير ضرورة شرعية وفي حجاب شرعي فله رفع الأمر للقاضي فيحكم له بما(33/7)
جاء به الكتاب والسنة وتنفذ الحكومة هذا الحكم كما نطق به لا تغيير ول تبديل وتستعمل القوة وتدخل البيوت كرهاً إذا استدعى الحال ذلك (انظر المواد 16و17و 93 من دكريتو 19 مايوسنة97 الشامل للائحة المحاكم الشرعية الجديدة).
أيها الرجال قد عرفناكم ما لكم على النساء من الحقوق المقدسة فما عليكم إلا أن تعضوا عليها بالنواجذ وتنهضوا نهضة الرجل الغيور لردعهن وردهن إلى الرشد واعلموا أنكم مسؤولون بين يدي ربكم عن كل هذه الآثام ولا عذر لكم في تفريطكم في حق يؤدي التفريط به إلى ما حرم الله ورسوله وما جعل الله أمر نسائكم بأيديكم إلا لأنه يعلم ما فيهن من ضعف العقل وخور العزيمة عند مغالبة هوى النفس فكنتم بذلك قوامين عليهن فاتق الله أيها الرجل واعتبر بما تنظر ولا تتجاهل حال امرأتك فهي متبرجة في خروجها كغيرها ولا نكلفك بأن ترجعها مرة واحدة إلى الحجاب الشرعي بل نريد أن يرجع الإزار إلى ما كان عليه قبل ظهور هذه البدعة فإن كنت غيوراً على حرمك وكارهاً أن يرى الناس وجه امرأتك تحت بشكمها الرقيق وكانت فيك بقية من حميتك الإسلامية فمزق اليوم ذاك البشمك كل ممزق واستبدله ببرقع من الحرير الأبيض الممتلى كحرير الكوفيات المحلاوي أو مثله مما ينسج في الأنوال البلدية عند الحمصاني أو اللباني ونحوهما أو اجعله من طبقتين من الحرير الهندي خالياً من شغل الإبرة ولتكن الثقوب التي تعمل فيه للزينة أو للنفس ضيقة بحيث لا ترى الشفتين من خلالها وإن كنت تريد أن يرى الناس خصر امرأتك نحيلاً فوق ردف ثقيل بارزاً على الوراء وأن يرو يديها البيضاوين أو المبيضتين بالمساحيق (البودرة) مكشوفتين إلى المرفقين أو نحو نصف الساعدين بعبارة أخرى إن كنت راضياً بخروجها (على البلهى) بلا إزار كما هي حقيقة الحال الآن فابق على فستانها (الحبرة والملاية الموضة) على حاله وإلا فإن كنت تعرف أن تلك اللذات لك وحدك وأبت نفسك أن تعرضها لغيرك فعجل بقلب هذا الفستان ثوباً لأنه لا ينقص إلا القبة والأزرار ولا تؤجل إعدام البرقع حتى تحضر غيره فإن تأخير المرأة عن الخروج ريثما يحضر البرقع الجديد لا ضرر فيه كتأخير إنفاد هذا العزم حتى تبرد الحمية وتنطفي نار الغيرة التي يحركها هذا التذكير وعلى الفرض إذا احتمل وجود ضرورة للخروج قبل تجهيز البرقع الجديد فيسد هذا الباب باستعمال البرقع البلدي السود (الذي لا عيب فيه على الدوام) لقضاء تلك(33/8)
الضرورة وكذلك لا تنتظر هلاك الحبرة أو الملاية الموجودة بل عجل بتحويلها كما ذكرنا حرصاً على فائدة هياج غيرة الحر على حرمه وأقلل ما استطعت السماح لأمرأتك بالخروج وليكن خروجها في عربة ما دمت قادراً على أجرتها أو مالكاً لها لأن مشي المرأة في الطريق على كل حال غير مأمون العواقب لكونها معرضة أن تصدمها عربة أو ترامواي أو يعتدي عليها مجنون أو سكران أو يصيبها أذى من حيوان وإذا مس الشرف عارض من هذه العوارض فلا يستطاع محو عاره ولا تبالي بمعارضتها مهما بلغت شدتها وادفعها تارة بالملاطفة والوعظ الحسن وتارة بالزجر والهجر في المضج وتسديد الجواب بالبرهان كأن تقول لك أن التضييق من الرجل على المرأة لا يحررها فيجيبها نعم لا يحرر الفاجرة ولكنه يحفظ المصونة الطاهرة وتقص عليها من الأحاديث الشريفة ما يحبب إليها الحجاب الشرعي كقوله صلى الله عليه وسلم أن لكل دين خلقاً وخلق هذا الدين الحياء. وكقول السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها أصلح شيء للمرأة أن لا ترى رجلاًُ ولا يراها رجل. وتبرهن لها على حسن ظنك بها بسماحك لها بالزينة ما دام إزارها ساتراً لها عن أعين الرجال واعلم أن انقياد المرأة للرجل متى ثبت على عزمه أمر قريب جداً إذا المرأة المسلمة في الحقيقة أرق قلباً وأسهل انقياداً للشرع من الرجل وما حصل الذي حصل إلا من تقصير الرجل في إرشادها وتعليمها ونصحها وتذكيرها وتساهله معها في أمر الحجاب كما مر فاعمل واثبت على عزمك وتحمل صدها وإن طال فإنها لا تلبث أن ترجع عن غيها وتثوب إلى الحق بعد الضلال وإياك والسكوت على هذا الحال وتذكر أنك جان على شرفك بيدك جناية وقعت أو كادت تقع بتعرضك لأسبابها وتعريض أمانتك المصونة للوقوع في أشراك أهل الضلال.
هذه يا قوم حالة النساء اليوم وهذا دواؤها ومن لا زوج لها فأمرها بيد وليها الشرعي من ذوي قرباها وهو أقرب الرجال إليها نسباً بحسب ترتيب الولاة شرعاً كما يستفاد من نص فتوى نقلناها عن صفحة 65 من الجزء الأول لتنقيح الفتاوي الحامدية لابن عابدين وهي سئل في بكر حديثة السن بلغت مبلغ النساء وهي لا أم لها ولا أب ولا جد ولها عم عصبة أمين غير مفسد يريد ضمها إليه خوف العار ويتخوف عليها فهل له ذلك الجواب نعم ومتى كانت الجارية بكراً حديثة السن يضمها إلى نفسه ولو لم يخف عليها الفساد أما إذا دخلت(33/9)
في السن واجتمع لها رأي وعقلت فليس للأولياء حق الضم ولها أن تنزل حيث أحبت حيث لا يتخوف عليها وزمننا هذا لا أمن فيه على أنثى وحيث وجد الخوف فللولي حق الضم وقد استفتيت بعض السادات العلماء في صحة استنتاجي هذا فأفتوني وحيث أن هذا حق شرعي لكل ذي ولاية على أنثى فيجب عليه أن يتمسك به وإذا اشتبه على رجل أمر ولايته على امرأة له بها صلة قرابة وارتاب في كون الولاية عليها له أولا فليعرض الأمر على أي عالم فلا يبخل عليه بالجواب.
ها أنا قد ذكرتكم بحقوقكم ونبهتكم للخطر المحدق بأعراضكم وأموالكم فأطيعوني وإلا يؤاخذكم الله بذنوبكم تنبهوا يا قوم تنبهوا فما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.(33/10)
الإسلام والإيمان
الإسلام هو الاستسلام إلى الله والانقياد لأحكامه بمعنى أن تبرأ من حولك وقوتك وعلمك وما قلت وما عملت وما تخيلت وما أملت مسلماً وجهك إليه مجرداً روحك له متوجهاً بقلب خاشع وضمير صاف ونفس نقية إلى قيوم السموات والأرض فاراً من الأغيار ملتجئاً إلى جنابه من دعوى الأنانية والاستقلال معتصماً بحضرته من الرعونات النفسية والكدورات البشرية راغباً غليه أن يوفقك لتعلم ويهديك فيما لا تعلم حتى تستوجب رضاه وتستحق كرامته في دنياك وأخراك.
هذا هو معنى الإسلام الذي اختاره الله على سائر الأديان وبعث به رسله عليهم الصلاة والسلام وتمت الدعوة إليه بخاتمهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم وقام به الصحابة والسلف رضي الله عنهم ففتحوا لابلاد ودوخوا الملوك والأكاسر وأبادوا عروش القياصرة وسادوا على الأمم جميعاً.
(ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه) وأما الإيمان فمعناه التصديق بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما علم من الدين بالضرورة وأركانه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقضاء خيره وشره من الله تعالى.
وقد قدمنا معنى الإيمان بهذه الأصول الستة بما لا يعوزنا إلى زيادة الإيضاح. وإذا عرفت ذلك تأيد لديك أن الدين الإسلامي هو الدين العام الذي جعله الله دين رسله وأصفيائه ومقدمة لإفاضة أنوار علمه عليهم والأصل الذي يرجع إليه العالم كله. ولو أدرك الناس كافة معنى الإسلام وفقهوا كنه ما يرمي إليه لما وجد على الأرض من يدين لله بدين آخر.
وهنا يحسن بنا أن نورد شيئاً مما كتبه العالم الاجتماعي الكبير فريد بك وجدي في معنى الإسلام ليتضح للقراء ما تضمنه من السماحة والمحاسن الأدبية والأخلاقية والاجتماعية مما يؤدي إلى الاعتراف بأنه اشرف الأديان وأكملها. .
قال حفظه الله: (الإسلام) هو الدين الذي جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمة للأديان ولأجل بيان حقيقة هذا الدين المبين يحسن بي نقل ترجمة ما كتبته لمؤتمر الأديان باليابان في هذه السنة.
لم أجعل غرضي من مقالي هذا إلا أمراً واحداً إذا فهم حق الفهم كان أشد في جذب الناس إلى هذا الدين من كل البراهين المعجمة والحجج الملزمة ذلك الأمر هو أن الإسلام ليس(33/11)
بدين جديد جاء أمة معينة إنما هو الدين الذي أوحاه الله إلى جميع رسله فحرفه أتباعهم ثم أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم أخيراً لإحداث إصلاح ديني عام لسائر الملل شرقيها وغربيها. بعث الله به رسوله حين تعارف الأمم واتصالها ليكون دينها العام الذي عليه يتم اتحادها ويصفو لديه تعارفها. ولذلك جعل قاعدته الإيمان بسائر رسل الله من نعرف أسماءهم ومن لا نعرف أسماءهم وبجميع كتب الله بأي لغة كانت كما سيمر معك تفصيلاً. فهم هذا الأمر الخطير يفيد المسلم وغير المسلم. فيفيد المسلم لأنه يريه أنه تابع لدين من ضمن الأديان المنعزلة المتعادية ولكن للدين الأصلي الجامع لسائر الأديان. فهو بهذا الاعتبار يجد في نفسه قيمة لم يحس فيها من قبل لأنه يرى نفسه رجلاً عاماً لا خاصاً متبعاً ديناً هو في نفسه دين وجامع أرواح الكل في أكمل شكل وأجمل حال. فمن كان كذلك فلا يتحامل على الأديان لأنه أمر بأن يؤمن بها كلها وأن يكون منها بالمركز الوسط مكتفياً بما في كتابه من خلاصاتها ومن أدرك من الناس مقامه في هذا المركز الأوسط العام وشعر أنه في مجمع أميال الأمم وفي نقطة تلاقي مرامها واتحاد أفئدتها في يوم من الأيام فلا يهون على نفسه أن يميل عنه إلى نقطة متطرفة ولو سيق إليها بقوة قاهرة.
أما فائدة غير المسلم في فهم هذا الأمر الجلل فهو لأنه يسهل عليه المخرج من ورطته والخلاص من شكوكه وشبهه. فإنه ما من عاقل من عقلاء الأمم الأخرى إلا وشعر بأن أيدي الخرافات قد امتدت إلى أصول عقائده فيجد نفسه مضطراً للتأفف منها راجياً إصلاحها على أي حال كان. فلو علم أن الإسلام إنما جاء بالإصلاح العام لسائر الأديان البشرية لا أنه دين منعزل مثل سائرها لكان التفاته إليه يشبه الأمر الاضطراري لأنه كلما آلمه أمر مما يكرهه في دينه وظنه محرفاً عن أصله نزع إلى ذلك الدين الإصلاحي مضطراً لا مختاراً ولا يزال يدفع ويندفع حتى يقع في دائرته.
لهذا جعلنا غرضنا من هذه الرسالة تجلية هذا الأمر الخطير في أظهر أشكاله تاركين الدلالة على فضائل الإسلام لغيرنا ممن في المؤتمر خوفاً من أن لا يلتفت لهذه النقطة واحد منهم.
هذه النقطة التي حاولت تجليتها في هذه الرسالة هي أظهر ما في القرآن من خصائص الإسلام وهي السبب الأكبر في تهالك الأمم على هذا الدين في كل جيل لأن الأمم وإن لم تدرك هذا السر علماً إلا أنها تحس به وتلمسه في الإسلام فترة فيه صورة عقائدها مصححة(33/12)
منقحة خالصة مما يثير الشكوك والشبه فتميل إليها بأرواحها وتنقلب أشد تعصباًُ لها من أهلها. ولا توجد هذه الخصيصة في أي دين من الأديان لأن هذا المركز الوسط ليس لواحد منها ولم يشرع منها لأن يكون ديناً عاماً أصلاً فتراها كلها بما طرأ عليها من التحريف على أطراف متناقضة لا محل للتوفيق بينها بوجه من الوجوه مثال ذلك: البوذي لا يهون عليك أن يكون نصرانياً (ولا حكم للنادر) لأنه لا محل للصلح بين البوذية والنصرانية بوجه ما. فالنصراني يقول أن عيسى كلمة الله وهو الأقنوم الثاني بعد الأب تجسد وعاش بين الناس وصلب ليفتدي العالم كله من خطيئة كان ارتكبها آدم في أول الخليقة ويعتقد البوذي أن الإله (فيشنو) هو أد أركان التثليت الهندي قد تجسد مراراً لتخليص العالم من الشرور وقد تجسد أخيراً في بوذا للمرة التاسعة فكيف يمكن التوفيق بين صاحبي هاتين العقيدتين وبأي مرجح يقبل أحدهما عقيدة الآخر ويترك عقيدته التي جمد عليها طول عمره.
ثم لا يمكن أن يكون البوذي يهودياً لأن التوراة موجهة الخطاب إلى بني إسرائيل ورافعة إياهم على سائر الأمم وليس في نصوصها ما يسمح بوضع بوذا الذي يجله مئات الملايين من الآسيويين منذ أكثر من ألفي سنة في موضع إجلال واحترام فيعز على البوذي أن يركب في تسفيه رأي أسلافه كلهم هذا المركب ثم لا يستطيع النصراني أن يكون بوذياً ولا يهودياً لعدم وجود محل للصلح في واحد من هذين الدينين بالنسبة له ولكن جميعهم يستطيعون أن يسلموا بلا حرج لأن قاعدة دين الإسلام هي الإيمان بسائر الأنبياء ومؤسسي الأديان ممن نعلمهم ومن لا نعلمهم قال تعالى عن الأنبياء (وإن من أمه إلا خلا فيها نذير) وقال تعالى منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك فيرى البوذي أن الإسلام لا ينكر عليه فضل بوذا بصفته مؤسس ديانة كبيرة وفي نصوصه ما يسمح بحسبانه من الرسل العظام ويرى النصراني أن الإسلام يذكر عيسى بالتبجيل والاحترام ويضعه في مصاف الرسل الكرام وكذلك يرى اليهودي فيما يختص بموسى عليه الصلاة والسلام. فيسهل على الجميع الاجتماع على هذا الدين بلا بكير حرج ولا سيما إن أدركوا أنه جمع العقائد كلها بعد تنقيحا وجعلها كلها ديناً واحداً لأنها كانت كذلك في مبدئها (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاء العلم بغياً بينهم) لهذا السبب تهالكت الأمم على الإسلام(33/13)
لرؤيتها فيه صورة عقائدها منقحة مصححة.
ومن هنا رأينا أن تجليتنا هذه النقطة الخطيرة علمياً نظرياً يفيد المسلمين والباحثين في الإسلام أكثر مما لو كتبنا في فضائله سفراً كثيراً.
قلت في تلك المقالة ما ترجمته بتصرف قليل.
لتعذر شخوصي إلى بلاد اليابان للتشرف بالانضمام إلى أعضاء هذا المؤتمر المبجل ولحبي الشديد في معاضدة حضرات أعضائه بصدده رأيت أن ابعث بمقالي هذا إلى حضرة رئيس المؤتمر ليتفضل علي بترجمته إلى اللغة اليابانية وبقرائته على حضرات الأعضاء وجعله موضوعاً من المواضيع التي يتناقش فيها المؤتمر فأقول.
إن هناك أمراً خطيراً يضع الدين الإسلامي في مستوى يعلو به على سائر الأديان ويستلفت غليه الأنظار استلفاتاً خاصاً ويجعله ديناً عاماً يمثل إليه النفوس لا بقوة البرهان ومضاء الحجة وسلامة أصوله من الخلل فقط ولكن بقوة النواميس الاجتماعية القائدة للإنسانية إلى كمالها وتباشير الحركة الفكرية العامة التي تسوقها إلى باحات النور والمدنية.
هذا الأمر الخطير الذي يستلفت الأنظار وينبه الغافلين إلى هذا الدين هو أن الإسلام كما نص عليه القرآن ليس بدين جديد ولكنه الدين الأولي الذي أوحاه الله إلى المرسلين الأولين رحمة للعالمين.
قال تعالى: (شرع لكم من الدين ما أوصى به نوحاً والذي أوحينا غليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أوروثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير).
نص الله كما ترى بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرسل ليؤسس ديناً جديداً في أمة معينة ولكن ليصلح سائر الأديان التي طرأ عليها التحريف بهداية الأمم للدين الأصلي الذي أرسل الله به سائر المرسلين (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا(33/14)
نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون).
بناء على ما تقدم فقاعدة الديانة الإسلامية هي قوله تعالى: (وقالوا كونوا هوداً ونصارى تهتدوا: قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وغسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون: فأن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون قل اتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون. هذه هي القاعدة التي بني عليها دين الإسلام وهي إن الإسلام ليس بدين جديد ولكنه الدين الذي أرسل الله به كل رسول ثم حرفه المحرفون من بعدهم. وإن الديانة الحقة هي أن يؤمن الإنسان بجميع رسل الله من أولهم إلى آخرهم لا فرق بين من أرسل لأمته ومن ارسل لغيرها، ون من يؤمن بسائر كتب الله إجمالاً مما أوحاه الله إلى رسله بأي لغة كانت وفي أي زمان أوحى.
هذه الديانة فضلاً عن أنها لا تثير في أية أمة من الأمم حب الذات ولا الحقد ستكون في يوم من اليام الديانة العامة اضطراراً لا اختياراً لأنه لماذا يكون الإنسان يهودياً ولا يكون بوذياً؟ ولماذا يكون مسيحيا ولا يكون برهيمياً؟ وبأي مرجح يعتقد الإنسان أن موسى كان رسول من الله إلى بني إسرائيل وقد جاء بكتاب مبين ونور عميم إلى أمته ولا يعتقد مثل هذه العقيدة في بوذا وزرادشت وبراهما ومحمد وكل المرسلين الذي تقدموا هؤلاء وجاؤوا إلى أممهم بكتب هادية إلى الخيرات ونهجوا لهم سبلاً موصلة إلى الكمالات؟ هل يعقل أن الله يرسل موسى إماماًَ ورحمة إلى بضعة أنفس من الآلاف من بني إسرائيل ويترك مئات الملايين من الصينيين واليابانيين وسائر الآسيويين والإفريقييين والأوستراليين وغيرهم بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير، يهيمون في الظلمات ويعمهون في الضلالات بلا مرشد ولا رسول كريم؟ هل يتصور أن الله وهو الخالق العادل المنزه عن المحاباة والمصانعة يوحي حقائق الدين إلى بضعة آلاف من الناس ويترك ربوات الملايين في الظلام البهيم والفساد العميم؟ كلا بل قال الله: (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) وقال تعالى: (منهم من قصصنا(33/15)
عليك ومنهم من لم نقصص عليك).
البقية تأتي(33/16)
أحييك والآماق
زار المدينة المنورة حضرة العلامة الفاضل السيد محمد الخضر بن الحسين التونسي وبمناسبة زيارته نظم هذه القصيدة الغراء وأرسل بها إلينا لتنشر قال حفظه الله تعالى:
أحييك والآماق ترسل مدمعاً ... كأني أحدو بالسلام مودعا
وما أدمع البشرى تموج بوجنة ... سوى ثغر صب بالوصال تمتعا
وقفت بمغنى كان يا أشرف الورى ... لطلعتك الحسنى مصيفاً ومربعا
وما استيقنت نفسي لفرط ابتهاجها ... بإحراز جثماني تجاهك موضعا
يخيل أن العين لم تنفض الكرى ... وأني ما غادرت بالشام مضجعا
فذا موقف لامست فيه بأخمصي ... أجل من الدر النضيد وأرفعا
وكم بت قبل اليوم أرجو بلاغه ... ولكن يد الإقبال تبدي تمنعا
ابث به ما كنت أطويه في الحشا ... ولم تطرق الشكوى به قط مسمعا
وهب نسيم من معالم هديكم ... يجيء بريا المسك حيث تضوعا
فذلك مرقى كنت تصدع فوقه ... بما حاز في أقصى البلاغة موقعا
وذاك مصلى طالما قمت قانتاً ... لديه وقام الصحب خلفك خشعا
وذي حجرة كان الأمين يؤمها ... بوحي فكانت للشريعة منبعا
بسطت رجائي في رباها ومن يضع ... بمزرعها غرس الأماني اطلعا
وهل تذهب الدعوى جفاء بهالة ... أضاء الهوى من نحوها وتفرعا
إليك رسول الله نشكو الأذى الذي ... ألم بنا حتى ارتوى وتشبعا
وأعظم ما شق الفؤاد بجسرة ... وهاج به الأشجان حتى تقطعا
تخاذل حال المسلمين وما أتى ... من الخطب في أرجائهم وتجمعا
فما شأننا إلا كعقد تناثرت ... جواهره في سطح أحدب أفزعا
فهذا يحاذي في قضاياه نزعة ... تخط وراء الحق للناس مرتعا
وهذا يصوغ القول في قالب يرى ... بجانبه قول الشريعة أوسعا
وذا ناشر بند الضلالة ماسحاً ... بصبغة دين كي يغر ويخدعا
لقد ضربت أيدي الغرور على الحجى ... بستر فأضحى بالجمود مقنعا
ونمنا على الآذان نومة جاه ... بما يضع المستيقظون لنصرعا(33/17)
ولم نستفق للقوم حتى تحفزا ... وأوجس كل في نواياه مطمعا
ولم نستفق للقوم إذ كل انتضى ... ليظفر باستعبادنا السيف مقرعا
ولم نستفق للقارعات تصب في ... حواشي القرى نهراً من الخسف مترعا
ولم نستفق للقارعات وقد دنت ... إلى مهجة الإسلام حتى تصدعا
وفي الناس من حاك الإياس بصدره ... فجرد أفراس السباق وأقلعا
وندب درى صرف الليالي وأنها ... تزل بأعلام وتونس بلقعا
فقام على جد ينادي بشعبه ... ليرفأ رتقاً أو يشيد مصنعاً
ألا أننا لم نتق الفتنة التي ... تصيب أخا العدوان والمتدرعا
يقول أناس إنما الدين عثرة ... بسابلة العمران يهوي بمن سعى
رمى بهم التقليد في أثر ملحد ... فلم يكشفوا عن مبسم الحق برقعا
ألم ينظروا في نشأة الدين برهة ... وكيف تعالى من تحروه مرجعا
تجليت في شعب جرة في عروقه ... دم الكبر واعتاد التقاليد منزعا
تجليت والبغضاء ترمي صدورهم ... بنار فاصلتها قلوبا وأضلعا
أخذت تزكيهم وترفع شأوهم ... إلى أن سمو فوق السماكين مطلعا
وأبلغتنا شرعاً وحقك أنه ... لا قوم آدابا وأحكم مهيعا
تلقاه منك الراشدون بمدرك ... سليم وذوق لا يطيق التصنعا
وشدوا به ظهر السياسة فاستوى ... وكم هجروا جنحاً من الليل ركعا
نكثتنا من الأيدي عرا وثقوا بها ... وهل يرتجى شعب تخاذل مفزعا
وها أنا ذا أنزلت رحلي (بطيبة) ... ووافيت في ثوب الحياء مروعا
فلو أنني سابقت في حلبة التقى ... تقدمني أدنى الخليقة أذرعا
وجاركم يحظى وإن ظعنت به ... رواحل أمسى بالكرامة متبعا
وذي رحلة أدنت قطوف سعادة ... ومن يغش أعتاب (الرسول) ترفعا
وروض الأماني عند أول نظرة ... كحلت بها عين البصيرة أمرعا
عليك سلام الله ما انسجم الحيا ... وحيا صباح بالضيا وودعا(33/18)
الوظائف الدينية والجهلاء
هل أتى على دمشق حين من الدهر كانت مهداً للعلوم والمعارف ومنبعاً للفنون واللطائف يتجلى فيها الدين الإسلامي على أكمل صورة وأبدع نظام، هل أتى عليها ردح من الزمن كان يحوي محيطها فقط قريباً من خمسمائة معهد علمي من أرقى ما يتصوره بنو البشر ملأى من نبهاء الطلاب وأذكيائهم يدرسون فيها أنواع العلوم الدينية وأشتات الفنون الأدبية كل على حسب قصده ومبتغاه فكان لا يمضي القليل من الزمن حتى يخرجوا منها رجالاً عظماء ينفعون البلاد والعباد ويضيء بعلمهم الربع المسكون.
وكان جامعها الأعظم يضاهي بعلومه وإتقان دروسه وتحقيقها الجامع الأزهر في مصر والزيتونة في تونس دهمها كما دهم الشرق نكبة شديدة وداهية عظيمة زحزحتها عن مكانها المكين ومجدها المتين فأصبحت في مؤخر بلاد الله بعدما كانت من أرقاها.
دهمتها داهية دهماء تنوء عن حملها الأرض والسماء اكتسحت مابقي فيها من آثار العلم بعد ما كانت القطب الأعظم للحركة العلمية في القرن السابع إلى الثاني عشر. . ومن ذاك الوقت فاجئتها هذه الدويهية (التساهل في توسيد الوظائف الدينية لغير الكفؤ) على حين غفلة وسرت فيها سريان السل في الأجسام فصدع نظامها ووهنت عظامها وتشتت شملها وتفرق أمرها وأضحت كأنها في جاهلية جهلاء.
التساهل في توسيد الوظائف الدينية والدروس العلمية لمن لم تثبت له الأهلية من أهل الجهالة والبطالة داء دفين ومرض عضال منذ طرأ على دمشق ما قامت فيها قائمة للعلم وأهله حتى يومنا هذا. . والذي سهل اجتيازه إلى ربوعنا ومهد له فيها مهداً وثيراً وجعله الحاكم الأعظم على مملكة العلم يتحكم فيها كيف شاء هواه الصمت الطويل والسبات العميق من رؤساء الدين وعلمائه.
نعم تغاضى علماء الدين عن هذا الداء الوبيل جر علينا أموراً لا يعلم بسوء مغبتها ووخامة عاقبتها إلا الله تعالى. . والمرض متى طال زمنه وأهمل معالجته طبيبه استحكم في الجسم وكمن فيه كمون الوميض تحت الرماد واللص تحت أديم الليلة الليلاء وأصبح من الصعب تلافي خطره وملافاة شره وشروره حتى نطس الأطباء ودهاة الرجال. . قال سفيان الثوري رحمه الله العلماء أطباء هذه الأمة فإذا مرضوا خيف عليها من الهلاك. . هذا إذا مرضوا فكيف إذا استحكم المرض فيهم؟ أفلا يجب على أهل الدين وعلماء المسلمين أن يدركوا(33/19)
الأمة الإسلامية قبل أن يودي بحياتها هذا الداء الوخيم (توسيد الوظائف لغير الأهل) الذي لا يرجى منه شفاء. . أما يجب عليهم أن يخلصوا الأمة من شر هؤلاء القوم الذين يدعون العلم وما هم بعالمين ويستأصلوا شأفتهم لترتاح من ضلالهم وجهلهم البلاد والعباد قال أفلاطون الحكيم إذا تسامحت في العلماء والأطباء دولة فقد قرب انحلالها. وقال عبيد الله ابن أبي جعفر العلماء منار البلاد منهم يقتبس النور الذي يهتدى به فإذا طفئ هذا النور وقعت البلاد في الظلماء وصب عليها البلاء صباً. .
فلذلك وجب وجوباً أكيداًُ على من آتاه الله أمانة العلم أن يؤديها حق الأداء وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف أمام تيار البدع الحادثة التي تخالف هدي الشارع صلى الله عليه وسلم وهدى أصحابه ولا التهاون في شأنها.
استفحل أمر هذه البدعة السيئة والكارثة المشؤومة والبدعة المشهورة (نصب الجاهلين الغاشمين) في مناصب الدين لإرشاد المسلمين. . خصوصاً في هذه الأيام واستطار شررها إلى الآفاق وعظم رزء الإسلام بمصيبتها حتى كاد أن يدرج العلم بأكفانه ولا يلبث عشية وضحاها حتى يدلى بحفرته ويسوى عليه التراب. . (ونحن في غفلة عما يراد بنا) مستسلمون للقضاء راضون بهذا البلاء لا نبدي حراكاً ولا تدبيراً.
سئلت مرة عن السبب الأعظم في رواج العلم وأهله في مصر القاهرة والإقبال من كل فج عميق على جامعها الأزهر وتموجه بألوف الطلاب المجدين ووفرته بالمدرسين المحققين حتى صار الكلية العظمى للعلوم الإسلامية وكذلك الحال في في جامع الزيتونة في تونس قبل الاحتلال المشؤون وسبب اضمحلاله في دمشق بعكس الحالة التي كانت عليه في الزمن الغابر. .
فأجبت ودمع السف يترقرق من عيني أن الأزهر المعمور ظل مستحفظاً بالامتحان الصحيح والقانون العادل فلا أثر في شؤونه جميعها لهذا المصاب العظيم الذي أصيبت به معاهد دمشق ومدارسها من إعطاء وظائف الآباء للأبناء الجهلاء. . فلا يترقى هناك الطالب من درجة إلى غيرها حتى تثبت أهليته وكفاءته أمام هيئة عادلة من علماء الأزهر النزيهين.
ولا يزال يترقى بأهلية واستحقاق إلى أعظم تدريس وأكبر وظيفة حتى يصير المشار إليه(33/20)
ولا فرق عندهم بين القروي والمدني وابن العظيم والصعلوك بل يتجلى ثم العدل بأجلى مظاهره ولذلك نرى بأم العين أغلب مشيخة الأزهر وعلمائه من الأرياف والقرى لا من البيوت الكبيرة المعروفة بمصر.
الطالب بالأزهر الشريف يعلم أنه مستقبلاً على قدر جده واجتهاده فيجتهد ما شاء الله أن يجتهد بعكس الطالب عندنا ولا يمكن أن يتساهل معه في الامتحان مراعاة لآبائه أو شوقاً لدراهمه حتى لقد جاء أحد طلاب الأزهر إلى أحد أعضاء لجنة الامتحان وأراد أن يهديه هدية يتوصل بسببها لمهاودته في الامتحان ففاجأه الشيخ قائلاً أما تخجل من الله وأنت طالب علم في الأزهر تدرس كتب الدين وأحكامه تجيئني بالرشوة لأهتك حرمة العلم ورفع الشيخ عصاه يريد أن يهشم رأس الراشي فقال ارحمني يرحمك الله إن لي عيالاً وأولاداً فقال لا رحمك الله أتأكل أنت وأولادك الحرام بسبب تماهلك وكسلك فرجع هذا الطالب يجر ثوب الفشل ثم قال الشيخ لأحد أصدقائه ما مرت على عمري ساعة وقد نيفت عن الخمسين أشد من هذه الساعة لأنه لا يزال أناس يعتقدون في الخيانة ويتأملوا أن أدخلهم في وظيفة ليسو بمستحقيها. .
وكانت الحالة في دمشق مثل ما هي عليه في الأزهر عيناً فكان يجري التدريس على قاعدة مخصوصة وحال معلومة لا يتعداها أحد كان يراعى في الوظائف العلمية جانب الأهلية والاستحقاق تماماً فكان المدرس في جامع دمشق بعد البدر الغزي والنجم الشيخ إسماعيل العجلوني من قرية عجلون المشهورة والعلاء الحصكفي المفتي وعلي الداغستاني ويونس المصري نزيل دمشق والشيخ مصطفى الحلبي والمهنداري والحايك وغيرهم ولم يكن الشفيع لهم في أخذ هذه الوظائف العالية غير كفاءتهم وأهليتهم لها لا كونهم من بيوت العلم وسلالة الشرف ولم يزل الحال كذلك حتى انفرط العقد في أواخر القرن الثاني عشر وبقينا إلى اليوم نريد أن شمله فلا نوفق.
ولو جرى الحال في مصر كما جرى عندنا أخيراً لبدلت مصر سماء غير سمائها وأرضاً غير أرضها ولتساقطت جدران الأزهر حجراً بعد حجر.
فقال السائل كأنك تريد أن ارض الشام أقفرت من العلم وأجدبت من أهله. . فقلت لا لا يقذفن في روعك أني أحاول بكلامي سلب فضل الفاضلين وعلم العالمين أو أني أنكر وجود(33/21)
بعض العلم عندنا وأجحده أهله فما هذا أردت ولا إليه ذهبت وإنما أقول أن قليلاً من العلماء ومثلهم من الفقهاء وأقل منهم من المحدثين لقليل في بلد كدمشق كان يقال عنها أنها مهد العلم ومرعاه الخصيب.
ثم أخاف أيضاًُ أن نفجع بهم ولا مناص من ذلك فيدرج علمهم معهم وهكذا يذهب العلم بذهاب أوعيته قال سيدنا أبو الدرداء رضي الله عنه مالي أرى علماءكم يموتون وجهالكم لا يتعلمون لقد خشيت أن يذهب الأول ولا يتعلم الآخر مالي اراكم شباعاً من الطعام جياعاً من العلم تعلموا قبل أن يرفع العلم فإن رفعه موت العلماء وقال ابن عباس رحمه الله لما مات زيد بن ثابت من سره أن ينظر كيف ذهاب العلم فهكذا ذهابه.
فيا بقية علماء دمشق بل يا علماء جزيرة العرب بل يا علماء المسلمين كافة أيسركم هذا المنظر الأخير في العالم الإسلامي وطروء هذا الاضمحلال والسقوط عليه؟ أيروق لكم أن يعبث بكم وبهذا الين الخالص قوم جعلوا اسم الدين قنطرة يجوزون عليها إلى ما يشتهون؟ أيروق لكم أن يمثل زعاماتكم أناس حشو إهابهم الجهل غايتهم الوحيدة إسقاطكم حتى يخلو لهم الجو فيصفرون وينقرون.
أيروق لكم أن تطلى هذه الجوهرة الغالية بهذا الظلام الحالك والسواد القاتم حتى يحتجب بقية ضوئها ويسدل عليه سجف الظلام الكثيف بعدما أضاءت منها المسكونة مائة قرن أو أكثر؟
أما يغضبكم ويأجج نار حميتكم تصدر أهل الجهالة والغواية يعيثون في الأرض ضلالاً وتضليلاً حتى استضعف جانب الإسلام العدو الممازق وصار يجوس خلال ديارنا بإرسال الوفود تلو الوفود من المبشرين ودعاة النصرانية وتزيدهم وإياهم بالتعاليم المسحية وبذلهم الغالي والثمين في سيبل نشر دينهم حتى دخلوا المدن والقرى وناجزونا في مقر دورنا وبين مساكننا يلقون الشبهة تلو الشبهة على الدين الإسلامية (والمتصدرون الرسميون) لاهون ساهون أسكرتهم خمرة مجد البيوت وسؤدد شرفها على أن يفقهوا حديثاً وسرت في عروقهم نشوة الخيلاء والادعاء الباطل فلا يأبهون لذلك كله يعتقدون في أنفسهم الكمال والتكميل ولو طرحت عليهم شبهة من هذه الشبه أو سؤالاً تدرسه الصبية في كتاتيبهم لوجموا مذعورين ولجالوا جولة الحمر بجللها.(33/22)
هذا بعد ما كان علماؤنا يقرؤن النصارى واليهود حقائق دينهم ويرشدونهم إلى سواء السبيل فقد ذكر العلامة التاج السبكي في طبقاته الكبرة في ترجمة العلامة كمال الدين بن يونس الذي قال عنه المحدث ابن الصلاح أن الكمال أعظم من أن يترجم وناهيك بهذا التقريظ الغالي من هذا الجناب العالي أنه كان يدرس عليه رهبان النصارى وعلماؤهم وأحبار اليهود والإنجيل والتوراة، ويحل لهم مشكلات الكتابين أحسن حل.
ويعترفون بأنهم لا يجدون مثله في ذلك عدا عن إقرائه الزيج والإسطرلاب والمخروطات ومعضلات الهندسة والفلك وحقائق الهيئة وسائر العلوم الطبيعية.
يا لله كيف حالنا اليوم مع حالنا بالأمس؟ أجل يصدق علينا قول ربيعة حيث قال الإمام مالك رضي الله عنه دخل رجل على ربيعة بن عبد الرحمن فوجده يبكي فقال ما يبكيك وارتاع لبكائه المصيبة نزلت بك؟ فقال لا، لكن أستفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم ولبعض من يدعي العلم أحق بالسجن من السراق.
يا حماة الدين ويا شيوخ المسلمين أنتم أعلم مني بما قال سفيان الثوري رحمه الله (ويحكم احفظوا العلم فإني أخاف أن يخرج العلم من عندكم فتذلون). .
وحفظه بلا شك تنحية من لا علم عنده ولا فضيلة عن أرائكه ومنصاته وإلا فالغد شر من اليوم كما كان اليوم شراً من الأمس والمصير إلى الهلكة لا محالة.
بعد لقد سرني وأثلج صدري وأثار كوامن أملي ظهور الفائدة المطلوبة والضالة المنشودة بكتابنا في مجلة الحقائق الغراء عن هذه المسألة فقد ظهرت حركة مباركة مع بعض أهل العلم الغيورين ودبت روح جديدة في فريق من العلماء المجدين. . فقاموا (ايدهم الله بتوفيقه) وألفوا جمعية دينية ليطالبوا الحكومة الحكومة المحلية لتأخذ بناصر العلوم الدينية وتحيي ما مات من أوقافها بسائق اغتلاس من لا عهد لهم ولا ذمة وما اندرس من المدارس الدينية ودور العلم ولإنجاز ما وعدت به حكومة الأستانة من تأسيس مدرسة دينية عالية في دمشق تكون كالأزهر والزيتونة. . . وقد بلغني أنهم مزمعون على إرسال طائفة منهم إلى ملاذ والي ولايتنا العالي ليعرضوا على دولته هذا المشروع الديني.
ونحن نزف البشرى لهم بنجاح مسعاهم إن شاء الله تعالى ونقول أن والي الولاية حفظه الله ممن يلتهب غيرة على الدين وأهله وهو لا يألوا جهداً في مد يد المساعدة لهذا المشروع(33/23)
ولكل مشروع خيري مفيد وقد أثبت ذلك تفانيه الشديد في مؤازرة العلوم والمعارف وبذله كل مرتخص وغال في سبيل الأمور الخيرية.
وأنا أقترح على القائمين بهذا المشروع بأن يحصروا طلبهم بطلب تنفيذ قانون المدارس والتدريس الذي هو فيما أعتقد الدواء الناجع لما أصابنا من العلل والأمراض والكافل الوحيد لإرجاع مجد العلم وأهله إلى ما كان عليه من السؤدد والرفعة. . وإرجاع ما اغتلس من الأوقاف إلى ما وقفت لأجله وهذا لا يحتاج إلى عناء شديد وزمن طويل لأن هذا القانون موجود منقح كانت حكومة دمشق صدقت على العمل بموجبه وكاد يخرج العمل به إلى حيز الوجود لولا قيام أرباب الأغراض وإقامتهم العقبات في سيره فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أما الآن فالحكومة تجيب هذا الطلب العادل وتنفذ هذا القانون على وجه السرعة لأنها قد علمت أخيراً أن لا سبيل لجمع كلمة الأمة وتوحيدها والتفافها نحو دولة الخلافة إلا بالرابطة الدينية ولن تستحكم حلقاتها إلا بترقية علومها وبث تعاليمها بين جميع الطبقات ونعم ما فعلت فقد أصابت كبد الحقيقة إذ أنه لا يمكن لها أن تجذب القلوب نحوها إلا بالتفات نحو الدين والانضواء تحت لوائه المتين.
كما أنني أوصي القائمين بالصبر والثبات في الطلب وأحضهم على طلب المعونة من الحق جل وعلا فإنه لا يخيب من يلتجئ إليه. . ولا يهولنهم قيام أرباب الأغراض في وجوههم ليصدوهم عن مشروعهم فإن العاقبة للمتقين.
أبو الضيا
البقية تأتي
(الحقائق) حسن عند كثير من الناس ما نشرناه في الجزئين 9 و10 تحت عنوان (الوظائف الدينية والجهلاء) وأثنوا جميل الثناء على همة كاتبها الفاضل حتى أن بعض الغيورين في طرابلس الشام نشر ما كتب في الجزء العاشر بنشرة خاصة لتوزع مجاناً على نفقته خدمة للعلم وحضاً للحكومة على تدارك هذه البلية العظيمة وهذا نص ما كتب إلينا على ظهر النشرة المطبوعة.
قال: حضرات محرري مجلة الحقائق الغراء: قد اطلعنا على المقالة المذيلة بإمضاء أبي الضياء تحت عنوان الوظائف الدينية والجهلاء فصادفت من قلوب ذوي العلم والدين(33/24)
ارتياحاً وتحسيناً وحبذت الكتابة بهذا الصدد فجزاكم الله خير الجزاء عن العلم والدين وبالنظر لعموم هذه البلوى واحتياجنا للقيام بصد هذا التيار تصدينا لنشرها على انفراد توزع بالمجان عسى أن يلهج بها القوم وتجعل الحكومة وذوو الأمر حداً لهذا التساهل، ورجاؤنا أن يتابع الكاتب كتاباته بهذا الصدد، والله يجزيكم عن الإسلام والمسلمين خيراً والسلام.(33/25)
خلاصة الرحلة الشرقية
وتعليق الدماميني مفارقة (كافة) للحاليبة على صحة الأثر مما جرى فيه على سنن التحقيق فإن المحرر في الأصول العالية لعلم العربية أن الكلمة إذا وردت في محل ولم يسمع استعمالها في غيره فإنما تطرد في الموضع الذي سمعت فيه ولا يقاس عليه غيره من المواضع ومن هذا تخصيصهم فل ولو مان ونومان بالنداء ونحو قط وعرض تختصان بالظرفية وبنى على هذا الشيخ ابن الحاجب أن لفظة كل إذا أضيفت إلى الضمير لم تستعمل في كلامهم إلا توكيداً أو مبتدأ فيمتنع جعلها مفعولاً به أو فاعلاً.
ثم قلنا ويندرج في التفقه في الدين تعلم ما يرجع إليه من أحكام وعقائد وأخلاق وإما إطلاق الفقه على معرفة الفروع خاصة فعرف حادث بعد نزول القرآن فلا يصح تفسير الآية به فإن القرآن أنزل بلسان عربي ليتمكن العرب من فهمه فينتفعوا بالعلم به في أنفسهم ويبلغوه إلى غيرهم من الأمم لعلهم يتذكرون وهذه الحكمة تستدعي أن يكون الكتاب جارياً في سائر استعمالاته على المعاني المألوفة لهم في موضوعات لسانهم وأساليب كلامهم وإذا ألقي إليهم قولاً مجملاً أو كلمة لم يسبق لهم علم بمدلولها لم يتمادوا على الجهل بها وتعلموا بيانها عن رسوله صلى الله عليه وسلم فإذا لم تكن الكلمة معهودة الاستعمال في معنى وقت الوحي ولم يعينه صاحب الشريعة في بيانها امتنع حملها عليه وبهذا يظهر عدم صحة ما قاله بعض البيانيين في قوله تعالى: (لو كان فيهما آله الخ الآية) من أن استعمال لو في الاستدلال بامتناع الفساد على امتناع تعدد الآلهة وارد على قاعدة أهل المعقول والصحيح ما قاله الشيخ ابن الحاجب من أنه استعمال عربي فصيح كما لا يستقيم قول بعض الكاتبين على قوله تعالى: (وما علمناه الشعر) أن المراد الشعر الذي هو ا؛ د أقسام القياس وقد أنكر الشيخ ابن تيمية على من فهم التأويل في قوله تعالى: (وما يعلم تأويله) على معنى صرف اللفظ عن المعنى الراجح لدليل يقترن به لأنه معنى اصطلح عليه طوائف من المتأخرين ولم يكن معروفاً للسلف بهذا الوضع بل مسمى التأويل في لغة القرآن هو نفس المراد بالكلام من الأمور الموجودة في الخارج.
ثم قررنا تفاوت العلوم في الشرف واستطردنا أن الإقبال على العلم أفضل من الاشتغال بالعبادة لوجهين أن مصلحة العبادة خاصة ومصلحة التعليم عامة وما له مصلحة عامة أشرف مما له مصلحة خاصة ثانيهما أن في التعليم درء مفسدة وفي العبادة جلب مصلحة(33/26)
ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ولاسيما ما يدرء الخلل في الدين قال ابن جماعة في كشف المعاني عند قوله تعالى: (قل أعوذ برب الناس) المستعاذ به غي هذه ثلاث صفات والمستعاذ منه شيء واحد وهو الوسوسة والمستعاذ به في السورة قبلها صفة واحدة والمستعاذ منه أربعة أشياء لأن المطلوب في سورة الناس سلامة الدين من الوسوسة القادحة فيه والمطلوب في سورة الفلق سلامة النفس والبدن والمال وسلامة الدين أعظم واهم ومضرته أعظم من مضرة الدنيا فموقع الدين من النفوس شديد ولهذا كان تأثيرها للاستخفاف بشأنه أو تحريف بعض حقائقه فوق كل تأثير وانظروا إلى فرعون لما أراد صرف وجوه القوم عن اتباع موسى عليه السلام كيف قدم لهم التخوف منه على تبديل دينهم فقال (إني أخاف أن يبدل دينكم) هذا في دين يفتضح صاحبه لأول كلمة ترمي لإبطاله فما بالكم بدين كشف عن صفاء فطرته كتاب حكيم وخضع لسطوته كل فكر مستقيم.
ثم أوردنا بعد تقرير ما أمرت به الآية من تعلم أحكام الدين قول العضد في خطبة المواقف ناقلاً عن بعض الأئمة (أن المراد من الاختلاف في حديث (اختلاف امتي رحمة) اختلاف هممهم في العلوم فهمة واحد في الفقه وهمة آخر في الكلام كما اختلفت همم أصحاب الحرف ليقوم كل واحد بحرفة فيتم النظام. وعلقنا عليه أن الذي يحمل الحديث على هذا المعنى يقصد التباعد من فهم الأثر على معنى اختلاف الأمة في آرائها ولا يرضيه أن تدخل الرحمة من ناحية اختلاف الآراء ولو في الفروع لأن نصوص الشريعة طافحة بالنهي عن الاختلاف بإطلاق وذوو الاجتهاد مأمورون ببذل الوسع في إزالته والتلاقي في مذهب واحد كما قال الله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء) الخ الآية لكنهم إذا فرغوا جهدهم في البحث عن الأدلة وأمعنوا النظر فيها بقصد الوصول إلى ما هو حق ثم أدركهم العجز عن الاتفاق فالعذر قائم وباب العفو مفتوح والعفو عن هذا الاختلاف وعدم مؤاخذتهم عليه لا يقتضي أن في الخلاف رحمة وأنه أصلح من الوفاق وأسعد من تضافر الآراء على مذهب.
تقلت قول القاضي أن في الآية الكريمة إيماء إلى أنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم من العلم أن يستقيم ويقيم غيره وتخلصنا منه إلى أن أعظم درجات إنسان وأشرفها أن يكون(33/27)
كاملاً في نفسه ومنبعاً يتدفق منه الصلاح والكمال إلى غيره. ووصلنا هذا بنكتة لطيفة أعهدها لبعض المفسرين عند قوله تعالى (وسراجاً منيراً) وهي أنه وقع تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم بالسراج دون أن يمثله بنحو القمر الذي هو أغزر نوراً لأن القمر يضيء في نفسه ولا يمكن أن يستمد ضوئه عدة أجرام تكون مضيئة في نفسها بخلاف السراج فإنه يضيء في ذاته ويمكن أن يقتبس منه سرج لا يشملها الإحصاء فالتمثيل به أوفى بالمراد وأقرب مطابقة لحاله عليه الصلاة والسلام.
أتينا هنا على ان المنذر يتعين عليه أن يتحرى في إنذاره بحيث لا يستند فيه إلا على علم صحيح من آية أحديث ثابت أو نص من يقتدى به من الأئمة. وخرجنا منه إلى جريمة الحكم بغير ما أنزل الله وقررنا ما نعهده للرازي في آية (ومن لم يحكم) وفيما نقلناه من الأجوبة عن آية (فآولئك هم الكافرون) أن المشار إليهم بالكفر هنا من حكموا بغير ما أنزل الله معتقدين أن ما قضوا به أوفق بالسداد وأحفظ للمصالح. وأدرجنا هنا دقيقة للشيخ ابن عرفة وهي أن أسلوب الآية أبلغ من أن لو قيل (ومن حكم بغير ما أنزل الله) فإن هذه العبارة لا تتناول من تقدم إليه الخصمان بقضية فأهملها وهو يستطيع فصلها بخلاف الآية فإنها تتناول من حكم في القضية بالباطل ومن أبى الحكم فيها بما أنزل الله وسكت وهو منتصب في مقام الفصل بين الناس.
انتقلنا إلى أن للإنذار بالقرآن تأثيراً بالغاً على النفوس بحيث لا يقوم كلام البشر مقامه وإن ارتقى من البلاغة ذروة سامية. واستطردنا مقالة نفيسة لصاحب المنهاج وهي أن الله تعالى خص القرآن بأنه دعوة وحجة ولم يكن مثل هذا النبي قط إنما كان لكل واحد منهم دعوة ثم يكون له حجة غيرها وقد جمعها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن فهو دعوة بمعانيه حجة بألفاظه وقلنا عقب هذا أن القرآن حجة أيضاً فإن استقامة سائر ما احتوى عليه من القضايا وانطباقها بجملتها وتفاصيلها على مناهج الحكمة ورسم السياسة العادلة يدل دلالة مثل فلق الصبح على أنه وحي سماوي وأنه بريء من أن تبتدعه أفكار البشر وبهذا يمكن للعجم الذين لا يحسنون العربية أن يدر كواوجها من إعجازه متى نقلت لهم معانية الأولية بترجمة محررة.
(يتبع)(33/28)
سلسلة حكم الخلفاء
حكم عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه
قال رضي الله عنه في خطبة لما ولي الخلافة: أوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله خلف كل شيء وليس من تقوى الله خلف واعملوا لآخرتكم فإنه من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه وآخرته وأصلحوا سرائركم يصلح الله علانيتكم وأكثروا ذكر الموت وأحسنوا له الاستعداد قبل أن ينزل بكم فإنه هادم اللذات وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً ولا أمنع أحد حقاً يا أيها الناس من أطاع الله وجبت طاعته.
وكتب رضي الله عنه إلى عبد الرحمن بن نعيم: إن العمل والعلم قرينان فكن عالماً بالله عاملاً له فإن أقواماً علموا ولم يعملوا فكان علمهم عليهم وبالاً.
وكتب ليه: أما بعد فاعمل عمل رجل يعلم أن الله لا يصلح عمل المفسدين. إن للسلطان أركاناً لا يثبت إلا بها فالوالي ركن والقاضي ركن وصاحب بيت المال ركن والركن الرابع أنا. إن قوام الدين العدل والإحسان. لا يكونن شيء أهم إليك من نفسك فإنه لا قليل من الإثم. وكتب لأهل الشام. . سلام عليكم ورحمة الله أما بعد فإنه من أكثر ذكر الموت قل كلامه ومن علم أن الموت حق رضي اليسير والسلام وخطب الناس بخناصره فقال: أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثاً ولن تتركوا سدى وإن لكن ميعاداً ينزل الله فيه للحكم فيكم والفصل بينكم وقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء وحرم الجنة التي عرضها السموات والأرض ألا واعلموا أنما الأمان غدا لمن حذر الله وخافه وباع نافذاً بباق وقليلاً بكثير وخوفاً بأمان ألا تون في أسلاب الهالكين وسيخلفها بعدكم الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين وفي كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله قد قضى نحبه وانقضى أجله فتغيبونه في صدع من الأرض ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد قد فارق الأحبة وخلع الأسباب فسكن التراب وواجه الحساب فهو مرتهن بعمله فقير إلى ما قدم غني عما ترك فاتقوا الله قبل نزول الموت وانقضاء مواقعه.
وقال من وصل أخاه بنصيحة له في دينه ونظر له في صلاح دنياه فقد أحسن صلته وأدى واجب حقه فاتقوا الله فإنها نصيحة لكم في دينكم فاقبلوها وموعظة منجية في العواقب فالزموها الرزق مقسوم فلن يغادر المؤمن ما قسم له فأجملوا في الطلب فإن في القناعة سعة(33/30)
وبلغة وكفافاً. إن أجل الدنيا في أعناقكم وجهنم أمامكم وما ترون ذاهب وما مضى فكأن لم يكن، وكل أموات عن قريب وقد رأيتم حالات الميت وهو يساق وبعد فراغه وقد ذاق الموت والقوم حوله يقولون قد فرغ رحمة الله وعانيتم تعجيل إخراجه وقسمة تراثه ووجهه مفقود وذكره منسي وبابه مهجور كأن لم يخالط أخوان الحفاظ ولم يعمر الديار فاتقوا هول يوم لا نحقر فيه مثقال ذرة في الموازين من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح ومن لم يعد كلامه من عمله كثرت ذنوبه والرضا قليل ومعول المؤمن الصبر وما أنعم الله على عبد نعمة ثم انتزعها منه فأعاضه مما انتزع منه الصبر إلا وكان ما أعاضه خيراً مما انتزع منه (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) إذا كان في القاضي خمس خصال فقد كمل علم بما كان قبله، ونزاهة عن الطمع، وحلم عن الخصم، واقتداء ومشاورة أهل العلم والرأي وكتب لعدي بن أرطأة أما بعد فقد أمكنتك القدرة على المخلوق فاذكر قدرة الخالق عليك واعلم أن مالك عند الله مثل ما للرعية عندك.
وكتب رضي الله عنه إلى الجراح أنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيشاً أو سرية قال اغزوا بسم الله وفي سبيل الله تقاتلون من كفر ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا امرأة ولا وليداً فإذا بعثت جيشاً أو سرية فمرهم بذلك. وكتب عدي ابن أرطأة له رضي الله عنه إني بأرض كثرت فيها النعم وقد خفت على من قبلي من المسلمين قلة الشكر والضعف عنه فكتب إليه عمر رضي الله عنه أن الله تعالى لم ينعم على قوم نعمة فحمدوه عليها إلا كان ما أعطوه أكثر مما أخذوا منه واعتبر بقول الله تعالى: (ولقد آتينا دواد وسليمان علماً وقالا الحمد لله) فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان.
إبراهيم خليل مردم بك(33/31)
العدد 34 - بتاريخ: 1 - 11 - 1913(/)
طلبة العلوم الدينية
لا يخفى على كل ذي عقل سليم وطبع مستقيم أن تحصيل العلم لا يتيسر إلا بالمال وطول الزمان مع وجود الفطنة والأستاذ النصوح ورحم الله من قال:
أخي لن تنال العلم إلا بستة ... سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة ... وصحبة أستاذ وطول زمان
ولذلك قام عقلاء الأمة من أسلافنا الكرام أصحاب الحمية والمرؤءة المحبين لتقوية دينهم وترفية بلادهم فصرفوا جل أموالهم على اكتساب العلوم والفنون وأسسوا المدارس ووقفوا لها أوقافاً كلية تقوم بنفقة مدرسيها والقاطنين بها ووضعوا لها نظامات ليسير المعلمون والطلبة عليها ولو اطلعت على تاريخ الواقفين لرأيت أحدهم وقف نصف أمواله على تحصيل علم الحديث والآخر على تحصيل علم الفقه وغيره على تحصيل التفسير والقراآت ومنهم من وقف ماله على تحصيل العلوم العربية وآدابها والعلوم الرياضية كالهندسة والحساب والمساحة والجبر وبذلك تيسر لهم تحصيل غالب الفنون والعلوم وبرعوا فيها وألفوا الكتب العديدة النافعة والعالم فيهم والمدرس معزز مكرم مكفي المؤونة مطاع في أهله وقومه وأما الآن ويا للأسف فقد خلف من بعدهم خلف تولوا إدارة شؤون المدارس فأضاعوا الأوقاف وخربوها وجعلوها ملكاً لهم أو كالملك وغصبوا كثيراً من وظائفها لأنفسهم ثم لأولادهم من بعدهم على سبيل الإرث وإن كانوا هم وأبناؤهم جهالاً لا يميزون بين الكوع والبوع والمنصوب والمرفوع وأعانهم على ذلك حكام باعوا دينهم بدنياهم فلذلك أصبح طالب العلم يعد شروعه في طلب العلم متحيراً في أمره محجماً عن الإقدام على إكمال تحصيله لما يراه من سوء العاقبة في الأمور الدنيوية مع شدة الفاقة وقلة العيش وامتهان الناس له وازدرائهم به خصوصاً عند بعض الأمراء الذين يناط بهم شيء من أمور الطلبة وقد جرأهم على ذلك ما يرون من انخراط بعض الجهلة في سلك طلاب العلم وسكوت الشيوخ وعدم قيامهم بما وسد غليهم من الوظائف ولو اطلع الإنسان على ما يقاسيه بعض أهل العلم في المدارس الدينية لفاضت عيونه دماً واشتعل رأسه شيباً واحترق قلبه حسرة وإني في هذه السنة خرجت من دمشق بعد نصف رمضان وكنت نزيلاً عند العالم الفاضل الشيخ إسحاق الداغستاني في مدرسة جامع الكبير وهي محتوية على سبع عشرة غرفة وحجرة كبيرة للتدريس وفيها مكتبة قد خيم العنكبوت عليها وعما قريب(34/1)
تقرضها الدود عمرها أمير أطنة خليل بك ابن الأمير رمضان ووقف لها أوقافاً كلية وشرط لها شروطاً منها أن يتخصص عشرة من أذكياء ونبلاء طلابها وتعطى لهم زيادة معاش وملبس كي يجدوا على تحصيل العلوم الدينية خصوصاُ ويسابروا عليها وينشروا ذلك في القرى والأمصار ولكن يا للأسف قد طمست معالم العلم في هذه المدرسة وفي غيرها وعفت آثاره وصار للمدارس حظ من اسمها فأصبحت خاوية على عروشها يأوي إليها الفقراء والعجزة وبعض المتخلقين بالأخلاق الذميمة.
ولنطلع القراء على بعض ما رأيته من الغرائب ليطلعوا على سوء إدارة بعض عمال نظارة الأوقاف في الولايات العثمانية عدم إنكار العلماء والمفتين ذلك مما أودى بنا إلى الذل والهوان وسوء المنقلب.
إن العلماء قديماً كانوا يخرجون في أثناء تعطيل الدروس إلى القرى والبوادي لنشر العلم والدين وإرشاد الناس إلى ما فيه صلاحهم وكان يحصل لهم إكرام عظيم بسبب صلاحهم وحسن نيتهم فخلفهم قوم لم يراعوا طريق سلفهم فإذا جلسوا للوعظ يضيعون الأوقات بالحكايات والأقاصيص وبعضهم دخلاء على العلم وأهله وهم أضر على الدين من أعدائه لأن العوام يأخذون قولهم بالقبول ولو أردت نصحهم تقوم وقتئذ الطامة الكبرى حتى أن يعضهم قد قرر في درسه أن البول قائماً حرام ومن فعل ذلك فهو كالزاني بأمه وهادم الكعبة فلما بلغني ذلك ممن كان حاضراً في درسه من الثقات وقد تواتر ذلك أخبرتهم بأن ذلك مكروه عند بعض الأئمة والنبي صلى الله عليه وسلم بال قائماً واختلف العلماء بالكراهة وعدمها كما هو مذكور في كتب الفقه والحديث ولم يقل أحد بالحرمة ثم أن الفاضل الشيخ إسحاق أخذته الحمية والغيرة وبين للناس في درسه العام حكم المسألة فتأمل وقل ما تشاء في حق العلماء الذين يساعدون أمثال هؤلاء الجهلة ويصدقون على أنهم مدرسون وأن هذه وظيفة ورثها فلان عن أبيه فيلزم أن لا نحرمه خبز أبيه ولم يراعوا دين الله وخالفوا نصوص الفقهاء وقوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل).
فصدق عليهم مفهوم قوله تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) ومنطوق قوله عز اسمه: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى إلى خرابها) وقل(34/2)
في حق من كان على شاكلتهم من أمراء الأوقاف ما تشاء. .
فهم مهما رفعت إليهم الشكايات يحاولونها ولو كان ذلك اندراس الدين وخراب المساجد والمعابد كما هو مشاهد بالعيان وبالعكس من جاورنا من أهل الذمة يعمرون معابدهم ويشيدون المكاتب والمستشفيات ويحضون الناس على اتباع دينهم ولهم جمعيات مخصوصة لهذه الغاية وأغنياؤهم لا تزال تنفق الأموال الطائلة في سبيل ترقي معارفهم وتقوية دولهم حتى أن بعضهم يقف جميع أمواله على تحصيل العلم وغيره على تقوية الجيوش البرية والبحرية ومن أنكر ذلك فهو كمنكر الشمس في رابعة النهار اللهم أصلح الرعاة والرعية وخذ بيدنا إلى الخير إنك على ما تشاء قدير.
صلاح الدين الزعيم(34/3)
اللغة والأدب
زلات الأقلام
مما يزل فيه بعض أرباب الأقلام استعمال لفظة (استبدل) على غير الوجه بل لا يكاد يجيد وضع هذا الحرف في موضعه إلا القليل. فمن أمثلة الزلل فيه قول أحدهم يصف عاشقاً جد به الهوى فنفر ن عينيه الكرى استبدال النوم بالسهر أراد أنه اتخذ السهر من البوم بدلاً ولكنه قلب الوضع فجاء مقلوباً والوجه أن يقال استبدل السهر بالنوم ليستقيم الوضع والمعنى معاً.
ومن الزلل في استعمال هذا الحرف أيضاً قول الآخر يصف محتالاً بدل الجنيه (أي الليرة) درهماً زائفاً وقول غيره في هذا المعنى بدل الماس حجراً يريد كلاهما أن المحتال قد يعلم الدرهم الزائف بدلاً من الجنيه وقطعة من حجر بدلاً من الماس ولكن الوضع لا يدل على هذا المعنى والوجه أن يقال أبدل الجنيه بدرهم زائف والماس بحجر لأن التبديل تحويل صورة إلى صورة أخرى والمراد في هذين الموضوعين التنحية أي جعل شيء مكان شيء آخر وهو الإبدال.
وعلى ذكر هذا الحرف نذكر ما سمع في فعل وفعل وهو أربعة أحرف بدل وبدل ومثل ومثل وشبه وشبه ونكل ونكل ولم يزد عليها أحد.
ومن زلل قول بعضهم مفتش (أول) اللغة العربية يريدون مفتش اللغة العربية الأول فيفصلون بين المضاف والمضاف إليه بنعت الأول.
ومنه قول خليني أفهمك يريد دعني أفهمك فيستعمل التخلية خطأ وقد شاع استعمال هذا الحرف على نحو ما رأيت قال شاعر الشرق:
فخذ سبلاً على العلياء شتى ... وخل دليلك الدين القويم
وإنما الخلية الترك وذلك غير ما يقتضيه المقام كما هو ظاهر.
ومنه قوله هذا الكتاب ترجم بمعرفة فلان يريد أن فلاناً هو الذي ترجمه فيأتي بهذا الوضع وهو لا يدل على المعنى المراد. وإنما يقع مثل هذا الكاتب في ذلك الوهم لالتزامه التعريب الحرفي وظاهر أن الجملة المتقدمة تفيد أن فلاناً يعرف أن الكتاب ترجم لا أنه هو الذي ترجمه فإذا أريد الشطر الثاني قيل ألف هذا الكتاب فلان وهذا الضرب من الخطأ كثير(34/4)
الشيوع.
ومنه قوله الأمل (لغو) هذا القرار يريد أ، يبطل فيأتي بهذا اللغو واللغو واللغا السقط وما لا يعتد به من كلام وغيره ويقال شاة لغو ولغاً أي لا يعتد بها في المعاملة وقال ذو الرمة يهجو هشام بن قيس المرئي أحد بني امرئ القيس:
ويهلك وسطها المرئي لغواً ... كما ألغيت في الدية الخوارا
واللغو في الأيمان ما لا يعقد عليه القلب. ومعنى اللغو الإثم فأنت ترى أن المراد الإلغاء لا ذلك اللغو السخيف.
ومنه قوله من فتح مدرسة (قفل) سجناً يريد أقفل فيستعمل المجرد خطأ قال في لسان العرب أقفل الباب وأقفل عليه فانقفل واقتفل والنون أعلى والباب مقفل ولا يقال مقفول وعن الجوهري أقفلت الباب وقفل الأبواب مقل أغلق وغلق. وفي حديث عمر رضي الله عنه أنه قال أربع مقفلات النذر والطلاق والعتاق والنكاح أي لا مخرج منهن لقائلهن كأن عليهن أقفالاً فمتى جرى بهن اللسان وجب بهن الحكم.
ومنه قوله لا يعيقني عن ذلك شيء يريد لا يصرفني عنه صارف فيعدل عن المجرد إلى بعض مزايداته خطأ والصواب عاق من الأجوف الواوي قال في اللسان عاقه عن الشيء يعوقه عوقاً صرفه وحبسه ومنه التعويق والاعتياق وذلك إذا أراد أمراً فصرفه عنه صارف. . قال ويجوز عاقني وعقاني بمعنى واحد. . وعوائق الدهر الشواغل من أحداثه.
ومنه قوله: أخذ فلان يمطل لدائنه يريد أنه أخذ يعلله بالعدة أو يسوف وهذا الحرف متعد بنفسه قال في أساس البلاغة مطلني حقي وماطلني به مطلاً ومطالاً فالاستعمال الأول غير صحيح كما ترى ومنه قوله: اتهم فلان بالنصب وقد كثر هذا الاستعمال وهو في كتابة الصحف أكثر بل لا يكاد يخلو باب الحوادث فيها من ذكر هذه الجملة مراراً في كل سنة. والصواب اتهم بالاحتيال قال الزمخشري وأهل النصب الذين ينصبون؟ لعلي رضي الله عنه ونصبت له رأياً إذا أشرت عليه برأي لا يعدل عنه.
ومما كثر شيوعه في طائفة من التآليف والرسائل المحبرة والقصائد المحررة قولهم لك الهناء ول يرد الهناء في اللغة العربية قال ابن منظور هنئ الطعان وهنوء يهناء صار هنيئاً مثل فقه وفقه وهنئت الطعام أي تهنأت به وهنأ في الطعام وهنأ لي يهنيئني ويهنأني(34/5)
هناء وهناء ولا نظير له في مهموز.
ويقال هنأه بالأمر والولاية هنأ هنأه تهنئة وتهنيئاً إذا قيل له ليهنئك والعرب تقول ليهنئك الغارس بجزم الهمزة وليهنيك الغارس بياء ساكنة ولا يجوز ليهنك كما تقول العامة ومن زلات الأقلم قول بعضهم بات فلان يشكو من فداحة الخطب يريد من ثقله وقد بحثت في عدة معجمات فما وجدت للفداحة فيها أثر ولا رأيت عنها خبر والمعروف في أمهات اللغة (الفدح) يقال فدح الأمر أو الحمل أو الدين زيداً من حد منع (فدحاً) أي أثقله وهاله وبهظه.
ومنه قول الآخر يصف أحد القصور في نهاية القصور فيه رياش نفيسة يؤنس الرياش بالوصف خطأ وهي مثل الأثاث قال في الأساس وفلان له رياش أي لباس وحسن حال وشارة واشترى علي رضي الله عنه قميصاً بثلاثة دراهم فقال الحمد لله الذي هذا من رياشه ومن غريب الزلل الذي يقع فيه بعض من يعربون تعريباً حرفياً قولهم (هو كريم) بكل معنى الكلمة) فهل رأى الناس كريماً بنصف معنى الكلمة وآخر بربع معناها وثالثاً بثمنها ومتى كانت المعاني العرفية العامة محدودة بمثل هذه المقادير؟ ألا ليعفوا المتفرنجون أسماعنا من مثل هذا الاستعمال الساقط وليستعملوا عوضاً عنه ما أرادوا من التراكيب.
ومنه قولهم (فلان هجاص) ويريد أن موصوفه يكثر من الأخبار التي لها أصل والصواب هجاس قال صاحب اللسان هجس الأمر في نفسي يهجس هجساً وقع في خاطري فالهجاس كثير الهجس أي الذي يقول كل ما يهجس في نفسه كما ترى.
ومن مزال الأقلام قول بعضهم (فلان لابس ثوباً (فاتحاً)) ومنهم من يقول (زاهياً) وكلا الاستعمالين غير مراد. والوجه أن يقال (ناصع اللون) والناصع الخالص الصافي من كل شيء.
ومن الزلل قول بعضهم (يجب أن يعين منا مديريون) مراده مديرون جمع مدير. وزيادة الياء ها هنا لا مسوغ لها كما أنه لا مسوغ لهذا الإيجاب ولكن الجهل يعني صاحبه.
ومنه قوله (يتعهد المدين بدفع الدين) يريد أنه آلى وأعطى موثقاً بالدفع وإنما التعهد التحفظ بالشيء وتجديد العهد به وتفقده والاحتفاظ بالعهد أيضاً ومن الأخير قول أبي العطاء السندي من فصحاء العرب يرثي ابن هبيرة.
وإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود(34/6)
فإنك لم تبعد على متعهد ... بلى كل من تحت التراب بعيد
وليس شيء من هذه المعاني بمراد لنفسه في هذا المقام.
ومنه قول الآخر (فلان موظف ظهورات) يريد أنه موظف إلى حين ومن كان كذلك فوظيفته المساعدة والوجه فيه (موظف ظِهرة) أو ظُهرة قال تميم الهفي:
على عز العزيز وظهرة ... وظل شباب كنت فيه فأدبرا
وفي اللسان (الظهرة الأعوان والظهرة كالظهر وهم ظهرة واحدة وجاءنا في ظهرته وظِهرته وظاهرته أي في عشيرته وقومه وناهضته الذين يعينونه وفلان ظِهرتي على فلان أي عوني.(34/7)
الإسلام والإيمان
من هنا يتضح أن الله أرسل لكل أمة رسولاً وكتاباً وجمعهم على دينه قروناً وأحقاباً وها نحن في زمان أخذت فيه الأمم تتعارف لتتبادل الأفكار والعلوم والمرافق الحيوية وأخذت نواميس الحياة تسوقها سوقاً إلى وحدة العقائد كما وحدتها في المدركات العلمية والعملية من هنا حدث شعور عام بضرورة وجود دين عام وكيف يمكن أن يكون للإنسانية دين عام وجميع الأديان التي أمامنا تكلف الأمم بالانخلاع من شخصيتها التي اكتسبتها في عشرات من القرون والتقمص بشخصية جديدة تعادي معها دينها السابق وتكفر بسائر أنبيائها وتعدهم كذابين مزورين وتحتقر جميع مقدسيها وأقدميها لا جرم أن أمثال هذه الأديان المحرفة لا يستطيع أحدها أن يكون ديناً عاماً مطلقاً ما دام لم ينظر لمجموع الإنسانية كلها بنظر الملم بأحوالها المراعي الحكمة في تكليفها. على أن في محاولة هذه الأديان خلع من يتمسك بها من كل ما كان يعتقده قبلاً ودفعه للكفر بجميع ما كان فيه يعد جوراً وميلاً عن الحق الظاهر لأنه (ما الذي يرجح للإنسان أن يعتقد بعيسى ويكفر ببوذى مع العلم بأن الاثنين أسسا ديناً وجاءنا بإصلاح كبير واتبعهما خلق كثير وكان سواء في الصلاح والتقوى وحب الإنسانية؟ وما الذي يرجح له أن يحترم الأناجيل والقديسين النصارى ويحتقر كلما له علاقة بديانة بوذا مثلاً.
لا شك أن لا مرجح يحمل الإنسان لأن يعتقد برسول دون رسول وبكتاب سماوي دون كتاب آخر كون أمة وأحياها إلا الجور في الحكم والميل مع الوراثة والتقليد فالعدل كل العدل أن يعتقد الإنسان بكل رسول أرسله الله للأمم مستدلاً على رسالته بآثاره وأعماله وتاريخ حياته فيؤمن بجميع رسل الله إجمالاً وبجميع كتبه جملة تاركاً التعصب الذميم والانتصار لأحد المرسلين دون الآخرين جاعلاً دينه قوله تعالى: (آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمين) هذا هو الدين الحق العادل الصالح لأنه يجمع كافة الشعوب والأمم ويؤاخي بينهم ويرضيهم جميعاً وينزع من قلوبهم العداوة والبغضاء والسخائم القديمة الموروثة بسبب كفر بعضهم بأنبياء بعضهم واحتقار بعضهم بكتب بعض.
هنا تنجم مشكلة تعوذ حلاً مقبولاً وهي أن جميع الكتب الدينية التي بأيدي الأمم محرفة(34/8)
مبدلة وقد تولاها رجال بالشروح والتأويلات حتى خرجت بها الأديان عن أصولها وصارت كلها متناقضة تسمح للملحد أن يقول إذا كانت الأديان كلها وحياً من الله فلماذا نجدها متناقضة متعاكسة فإما أنكم حرفتموها عن أصولها وإما أنكم كذبتم على الله بنسبتها إليه لأنه لا يقال أن الله ينزل على قوم ديناً يعلمهم فيه أنه واحد في ذاته وصفاته وأفعاله منزه عن الجسم والجسمانيات لا تحيط به الأفكار ولا الظنون ثم يوحي إلى آخرين ديناً يقرر لهم فيه أن له ثلاثة أقانيم وأنه أرسل ولده ليفتدي العالمين ثم يوحي إلى أمة أخرى بأنه تجسد في جسد فلان وحل في جسم فلان الخ مما لا يمكن التوفيق بينه بأي وجه من الوجوه هذه معضلة لا يحلها إلا أحد أمرين: إما الاعتقاد بأن هذه الأديان محرفة أو بأنها ليست وحياً من الله ولكنها من أفكار من وضعها من الأقدمين. أما القول بأنها من موضوعات الأقدمين فلا ينهض به دليل لأن أولئك الرجال الفضلاء الكاملين الذين دلت حياتهم على فضل وتقوى وزهد وعبادة، الذين قالوا نحن رسل الله جئنا بدين الله يبعد أن يكونوا من الكاذبين المزورين لأن التزوير لا يولد فضيلة ولا ينتج كمالاً ولا تقوى (انظر ما قلناه عن محمد صلى الله عليه وسلم) إذن لم يبق أمامنا إلا الفرض الثاني وهو أن هذه الأديان حرفت عن أصولها وأن أصلها كلها واحد.
إن وصلنا إلى هذا الحد قلنا: ها هو رسول كريم أرسله الله رحمة للعالمين دلنا بتاريخ حياته من أولها إلى آخرها في زهده وعبادته وتواضعه وبعده عن زخارف الدنيا على أنه واحد من اولئك المرسلين جائنا يقول عن الله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً فأما الذين آمنوا واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً).
جاء هذا الرسول يقول عن ربع (شرع لكم من الدين ما وحى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين لوا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي غليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى آجل مسمى لقضي بينهم وأن الذين أوروثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب) فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا(34/9)
ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير).
هذا الرسول الكريم أمرنا بالإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين وبكتب الله أجمعين وجعل ذلك قاعدة ديننا وعمدة إيماننا ثم أمرنا بالخير كله ونهانا عن الشر كله وعرفنا سبل الكمال وأمات فينا نزعة الحق والتعصب الممقوت وشرع لنا ناموس الأخلاق ونهج لنا في هذا العصر الذي كثرت فيه الشكوك على الأديان وأصبح فيه علم اللاهوت عدواً لتلك المقالات التي يوردها أصحاب الملل في الله جهلاً وتقليداً لأفكار السابقين.(34/10)
نفثة مصدور
إلام الميل عن طرق الرشاد ... وفيم العدل عن نهج السداد
على دين النبي تفيض عيني ... وتبذل للدموع بكل نادي
وقلبي من توالي الذل أضحى ... يقطعه زوال الاتحاد
هجرنا ديننا هجراً طويلاً ... فأصبح عزنا بادي النفاد
وبدد شملنا عرض تبدي ... يمزق في النواحي والنوادي
فأي فتى له عقل ولب ... يشاهد دينه مرمى الأعادي
ويرضى أن يعيش بعيش ذل ... ويرغب في حياة باضطهاد
فلو أنا نصرنا الدين سدنا ... ولكنا طرحناه بوادي
فليس لطالب العليا مجيب ... وينجح من إلى فسق ينادي
ينادينا الهوى فنجيب جمعاً ... ولا نصغي إلى داعي الرشاد
تنبهنا النوائب كل يوم ... ولم تزل المعاصي في ازدياد
ويخطبنا الخطيب وليس فينا ... مجيب دعوة البطل المنادي
أروني الوعظ صادف أي قلب ... فكف عن التشبب في الغوادي
فلا وحياتكم إن دام هذا ... فهيهات الوصول إلى المراد
فمهلاً يا أخا الرشاد مهلاً ... فإن القوم طراً في رقاد
(لقد أسمعت لفو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي)
وكيف الوعظ يجدي في أناس ... تراهم للمذلة في انقياد
فلولا السكر والفحشاء فينا ... لما قبضت أزمتنا الأعادي
ولا رضيت بذل النفس هذا ... كرام الحي أصحاب السداد
ولا باع الأكابر دين طه ... بنقد بل بسوء اعتماد
ولا سل العدو سهام كيد ... وأغمدها بأعناق العباد
ولا خرجت نساء الحي تسعى ... إلى الأسواق في حلل الفساد
ومن عجب ترى الأزواج طراً ... على هذا الخروج على اتحاد
فلو في الدين كان لنا اتحاد ... كهذا صار مرفوع العماد
ولكن الورى شيخاً وطفلاً على حب التفرق والعناد(34/11)
كفى يا قوم إنكم بواد ... ودين المصطفى عنكم بوادي
أفيقوا وانظروا ما نحن فيه ... أصاب جميعنا شرك المعادي
وشدوا إزركم بالدين تمحى ... خطوب قدرها فوق العداد
فإن الضيم لا يرضاه حر ... وإن يك دونه خرط القتاد
وغفلتكم عن الإرشاد عار ... وعار حبكم طول الرقاد
فجدوا وانشروا ديناً قويماً ... هجرناه فأصبح في كساد
(مكارم الأخلاق)
مصطفى أحمد القاياتي(34/12)
طريق النجاح
لا مراء ولا جدال في أنه لا بد لكل دولة من دين تتدين به ودولتنا العلية حرسها الله دولة إسلامية دينها دين الإسلام. والمسلمون الموجودون اليوم على وجه الكرة الرضية ثلاثمائة مليون يجمعهم دين الإسلام وكلمة التوحيد وهم وإن اختلفت مذاهبهم ومشاربهم وتناءت أقطارهم وبلادهم وتباينت لغادتهم وعاداتهم في الحقيقة أغصان دوحة واحدة ألا وهي (الدين) وبذلك نطق أجلًّ كتاب وأصدق قائل.
(إنما المؤمنون أخوة) وهم مرتبطون بإمام ينقادون له ويخضعون لأوامره كما يحكم عليهم بذلك كتابهم ودينهم وذلك الإمام يقوم بتنفيذ أحكامهم وإقامة حدودهم وسد ثغورهم وتجهيز جيوشهم وأخذ صدقاتهم وقهر المتغلبة وإقامة الجمع والأعياد وإصلاح ذات البين وغير ذلك مما يتعلق بالإمام الأعظم الذي هو خليفتهم إذاً فما بلهم متقهقرين وبطريق الفشل سائرين وعن سبل التقدم والرقي ناكبين؟ ما بالهم مع وفرة عددهم وكثرة عددهم بالنسبة لما كان عليه أسلافهم لا يتفقون وعلى ما فيه صلاحهم لا يجتمعون؟ لم لم يكونوا كما كان أسلافهم في صدر الإسلام فقد دوخوا الممالك وذللوا ملوكها وأسودها ومصروا الأمصار وقد سجلته لهم ذلك كتب التاريخ وسطرته أقلام العز والشرف على صفحات المجد والفخر.
حتى أن الرجل الواحد منهم كان يحارب المائة والمائتين ممن سواهم فيضعضع أركانهم ويزلزل أقدامهم ويهاجمهم مهاجمة الأس الغضنفر بصلابة دينه ورسوخ عقيدته الإيمانية يفعل ذلك لثقته أنه بين أمرين لا محالة إما أن يعيش سعيداً وإما أن يموت شهيداً. ومن غرائب حربهم ما وقع لهم مع جيش الفرس وجيش هرقل بالقادسية واليرموك وكان المسلمون وقتئذ بضعاً وثلاثين ألفاً في كل معسكر وجموع فارس مائة وعشرون ألفاً وجموع هرقل أربعمائة ألف فقاتلوهم بنيات صادقة وعزائم ماضية وصبروا على قتالهم صبر الكرام حتى هزموهم شر هزيمة وأورثهم الله أرضهم وديارهم وهي قصة مشهورة كادت تبلغ درجة التواتر وعاشوا يومئذ بالترفه والنعم وأصبحت دولة الإسلام أغنى دول الأرض وأرقاها وأنجحها وأعلمها وأعظمها وذكر بعض المؤرخين أن الأموال التي كانت تجبى في كل سنة إلى بيت مال المسلمين في أيام الرشيد سبعة آلاف قنطار وخمسمائة قنطار من الدنانير وذكر الثقات من مؤرخي الأندلس أن عبد الرحمن الناصر أحد ملوك الأندلس خلف في بيوت أمواله خمسة وأربعين ألف ألف دينار ووزنها خمسمائة ألف قنطار(34/13)
وهذه دولة من دول إسلام ذلك العصر وغيرها كان يأتيها من المال أضعاف أضعافها كل ذلك كان لاتفاق المسلمين واجتماعهم على الحق واجتهادهم بتوسيع نطاق ممالك الإسلام وتفانيهم بإعلاء شأن كلمة الملة والدين، أولئك السلاف العظام يستهان بأخلاقهم اليوم أمة شأن سلفها العز والمجد أيعجز خلفها أن ينهض نهضة آبائه وأجداده ألا ليت شعري ما هو الدواء النافع الناجع لبرء هذا الداء العضال.
الدواء الوحيد هو بث الدعوة الدينية في هذه الأمة العظيمة ونفخ روح الحياة بالعلم في جسم ميتها ليحيى وينهض من حضيض الذل والهوان إلى أوج المعالي وهذا الدواء أعظم وأكبر وأجل سبب شريف لاسترداد مجد الإسلام السالف بهذا الدواء يعز الشعب بعد الذل والصغار ويصحو من خمرة سهوه ولعبه. وليكن بث هذه الدعوة بإرسال مرشدين عارفين بلغات البلاد من طرف الدولة العلية إلى العالم الإسلامي في سائر الجهات والأقطار يدعونه إلى التعاون والتعاضد والتناصر بشرط أن يكونوا عالمين عاملين بما يرشدون به مقتدرين على استمالة الأفكار واستجلاب القلوب يأتون البيوت من أبوابها لا خاملين يدعون الأمة إلى البطالة ويقعدونها عن السعي وراء الرقي والكمال ويثبطون همتها عن الجد بالعمل حتى يلجأ إلى التهاون والتواني وتألف الخمول والكسل. لا متفرنجين مارقين من الدين والأخلاق مروق السهم من الرمية أليفهم الكاس وحليفهم الشيطان على الاجتماع مع المرد واستباحة الأعراض.
أولئك قوم أبغضوا المساجد وتلاوة القرآن وتعشقوا مسارح اللهو والخذلان بل ينبغي أن يكونوا صفوة الناس وخلاصتهم لا مفرطين ولا مفرطين متجردين من الغايات الذاتية والمآرب الشخصية يقومون بوظائف الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام التي هي أشرف مطلب وأسمى منصب بل هي من أهم الواجبات على علماء الدين الإسلامي بالدعوة يحصل الإرشاد والنصيحة بتأليف القلوب وإصلاح ذات البين ويكون هذا بجمع السواد الأعظم في المساجد لاسيما أيام الجمع والأعياد وفي نواديهم التي يتحدثون بها ويأوون إليها وذلك بالخطب الرائقة والمواعظ الشائقة والدروس الجليلة المنبهة على حسب ما تقتضيه أحوال العصر الحالي يبينون لهم ما ينبغي التذرع به والالتجاء إليه تخلصاً مما هم فيه ويحثونهم على مؤازرة دولة الخلافة بالتداعي إليها والترامي نحوها من جميع النواحي(34/14)
بالمال والرجال وبتأليف الجمعيات الخيرية وتجديد المعاهد العلمية وتشييد المدارس الفنية ويحضونهم على تأليف جمعية مخصوصة ترمي بسعيها إلى هذا الغرض ذاته يجعلون لها فروعاً وشعباً في سائر الأنحاء والأرجاء وتأليف جمعية أخرى باسم إحداث معامل صناعية في بلاد الدولة العثمانية تشترك فيها الأغنياء وأصحاب الثروات من المسلمين يمدونها بأموالهم وينتفعون بريعها مساهمة كما هو شأن الشركات الأجنبية التي ببلادنا يعينون لها رؤساء نصوحين صادقين يديرون أمورها ويدبرون شؤونها ونظاراً عليهم يتتبعون أحوالها ويراقبون عمالها حتى تستغني بلادنا عن بلد الأجانب وبهذا ينمو المال وتحيي الرجال وتتألف الأفئدة والقلوب.
وربما يعترض على هذا الاقتراح مارق من الدين ليبقى مقيماً على شهواته أو من خارت عزيمة فكره ورويته أو بعثته عصبيته أو جنسيته أو أهاجته غاياته ومآربه أو من ثبط همته بالجبن وأعقده الكسل فيقول أن هذا الاقتراح أمر شديد المراس صعب المزاولة ولا يمكن تصوره لا يتأتى العمل به فنقول له أن الأمر سهل متى لهجت به سائر جرائد الإسلام إن الأمر سهل متى سرت هذه الروح في جسم شعبنا الذي استسلم لليأس والقنوط، وقام ينادي بلسان واحد للأمام للأمام للتقدم للتقدم، إن الأمر سهل متى سرى دم الحياة بشرايين جسم أبناء هذه الدولة العثمانية ففدوها بالنفس والنفيس وبذلوا لصيانتها كل مرتخص وغال وصالوا صولتهم المعهودة وسطوا سطوتهم المعروفة ولا شك أن هذه الروح متى بدأ سريانها اجتمعت لها كلمة الأمة الإسلامية في سائر أقطار المسكونة إلا فما الذي دعى أخواننا المصريين إلى إعانتنا في هذه الأزمة الشديدة بمليون من الليرات؟ وما الذي حمل المتطوعين على مبارحتهم أوطانهم ومفارقتهم أولادهم وعياله؟ ما الذي أثار عواطف مسلمي الهند حتى أرسلوا الإعانات تترى من كل فج عميق؟ ما الذي أهاج عرب طرابلس الغرب حتى وقفوا في وجه الطليان وقوف الأسود الكواسر لتناضل عن أعراضها وتدافع عن أوطانها؟ أليس الباعث للجميع هو الرابطة الدينية والحمية الإيمانية وصون الخلافة الإسلامية من تمزيق جامعها وانحلال رابطتها حيث علموا كلهم أنه لم يبق على وجه الكرة الأرضية دولة تقوم بِأمر الخلافة العظمى سوى دولتنا حرسها الله وأيدها بقدرته وسلطانه فلذا هرعوا جميعاًُ لمساعدتها من تلقاء أنفسهم (ألا فليعتبر المتفكرون).(34/15)
والله لو أن في بلاد الإسلام مرشدين كما ذكرنا لجندوا في هذه الحرب الماضية جيشاً عرمرماً من المتطوعين يسير متزيناً بالتهليل والتكبير لا يهدأ له بال ولا يقر له قرار حتى يطحن جيوش الأعداء ويدوسهم تحت سنابك الخيل ويرفع الرايات الإسلامية والأعلام المحمدية فوق عواصم ملكهم كما فعلت أسلافه غير مرة أولئك:
قوم لقوم فيهم أود العلا ... والدين أصبح أيد الأركان
قد حالفوا سهر العيون وخالفوا ... أمر الهوى في طاعة الرحمن
أقران حرب كلما اقترنوا لدى اله ... يجاء تحسبهم ليوث قران
لبسوا سوابغهم لأجل سلامة ... الأعراض لا لسلامة الأبدان
وتحملوا طعن الرماح لأنهم ... لا يحملون مطاعن الشنأن
أهل الحمية لا تزال بدورهم ... تحمي الشموس بأنجم الخرصان
وهنا ربما اعترض علينا أيضاً بعض من بغض الدين وهجر مكارم الأخلاق وكان من الأفاكين المرجفين الذين يعتقدون بأن الدين هو العقبة الكؤود في سبيل الرق. وقال أن ما تقدم يشتم منه رائحة التفرقة بين العناصر ونحن اليوم أحوج إلى الوئام فنقول له أن عصرنا عصر الحرية والإخاء والمساواة أما الحرية فهي استقلال العقل والفكر والإرادة وانطلاق اللسان وهي أقسام تحتاج إلى مقالات طويلة إضافية الذيل نرجئها إلى عدد آخر ونكتفي هنا بذكر قسمين: الأول: حرية عمومية وهي تكافؤ الأمة بالحق وتكافلها على قيام الشرائع والقوانين.
والثاني: حرية شخصية وهي أمن الإنسان على نفسه وعرضه وماله وتمتعه بسائر حقوقه الشخصية التي تخولها له طبيعة الاجتماع والحرية حق يقابله واجب وهو المسؤولية.
لا كما يزعم خراصوا هذا العصر من أن الحرية غ \ هي تعاطي الإنسان جميع ما تسوله له النفس الأمارة بالسوء من زنا ولواط وشرب خمر واهتضام حقوق المغدورين والمظلومين وترك الدين واستباحة الأعراض وغير ذلك مما يسأل فاعله شرعاً وقانوناً. وأما الإخاء فهو قسمان. إخاء ديني لا دخل لأبناء مذهب فيه مع أبناء مذهب آخر. وإخاء وطني تشترك فيه سائر الأفراد لأن المنفعة والمضرة واحدة.
وأما المساواة فهي كلمة عامة تجمع تحتها كافة العناصر العثمانية على اختلاف مذاهبهم(34/16)
ومشاربهم وهي أيضاً شرعية لأن اليهودي والنصراني والمسلم في الحقوق بنظر الشرع الشريف كشخص واحد لا يمتاز أحد مهم عن الآخر قال سيد الوجود صلى الله عليه وسلم في أهل الذمة (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) وقال أيضاً أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته أن الله تعالى لم يحرم شيئاً إلا ما في هذا القرآن ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها كمثل القرآن (وإن الله تعالى لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم) فاتفاق المسلمين وقيامهم يداً واحدة وبث روح الشريعة الغراء في العالم الأرضي ترتاح إليه جميع العناصر وتشكر عليه مسعانا لأن الدين الإسلامي يحجر على أهله التعدي على من سواهم ويأمرهم بالتمسك بآدابه الشريفة وأخلاقه الطاهرة السامية وهو لهم كالشكيمة للفرس تمنعها من التهور والطيش وإلقاء صاحبها في المهالك والمهاوي.
ولا شك أن الأمر سهل على من همهم حفظ الوطن والملة وصيانة حقوق الدولة، وحفظ كيانها ونهوضها إلى أوج الحضارة والسعادة لتجاري من سواها من الدول الغربية. . ولله عاقبة الأمور
يبرود
أحمد الباشا(34/17)
الفونغراف
رأينا في مجلة مكارم الأخلاق التي كانت تصدر بمصر جواباً على سؤال ورد للمجلة المذكورة من مكة المشرفة ملخصه:
ما قولكم فيما وقع كثيراً الآن من حبس صوت قراءة أيات من القرآن الكريم مع غيره من أصوات الغناء في الآلة الإفرنجية المعروفة بالفونغراف فهل يحرم على صاحب الصوت إلقاء صوت قراءته للقرآن فيها فإن قلتم بالحرمة فهل يحرم أيضاً استماعه صوت قراءة القرآن نمنها من بين أدوار الغناء مثلاً وما حكم لأأخذ الدراهم على ذلك وإذا سمع آية سجدة فهل يسن السجود لها أفتونا مأجورين_ولما تضمنه من الفائدة والنصيحة أحببنا نشره ليطلع عليه قراء مجلتنا الكرام.
(الجواب عن حبس صوت قراءة القرآن الكريم في الفونغراف)
الحمد لولي الحمد والصلاة والسلام على الموفي بالعهد وعلى آله وأصحابه سور الشريعة ودور المجد أما بعد فإن صاحب الصوت بإلقائه صوت قراءته للقرآن في هذه الآلة واضع كلام رب العالمين موضعاً لا يليق بجلالته وتسامي منزلاته إذ حبسه فيها ينقله من إنزاله للتدبر في آياته والخوف من وعيده والاعتبار بقصده والاستبصار بمصباح هدايته والتفهم لمعانيه والإذعان لمعجزه إلى ضحك الضاحكين من جماد يتكلم وذي عجمة يترنم بل إلى منزلة الزامر يحيط به الرعاع وينساب إليه أهل البطالة وعشاق الملاهي بل بعد إن كان قرئ لدى الصحابة تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم صارت منزلته والحالة هذه منزلة آلة مطربة يطاف بها في الأسواق وتتخذ في البيوت ملهاة للشبان ومدعاة للشيطان بل الشأن في هذا أنه أفظع وأشنع مما قالوه من أنه إذا فأفرط القارئ في المد وفي إشباع الحركات حتى يتولد من الفتحة ألف ومن الضمة واو ومن الكسرة ياء أو يدغم في غير موضعه كان حراماً يفسق به القارئ ويأثم المستمع لأنه عدل به عن منهجه القويم إذ القراءة على هذا الوجه خارجة إلى اللهو والطرب خارجة عن عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين إلى شيء جديد غير محمود ونمط مستحدث مردود وقد قال صلى الله عليه وسلم (كل مستحدث بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) بل هذا نفسه بعض من إشارات ما في حديث أنه صلى الله عليه وسلم عد من أشراط الساعة أن يتخذ القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم به غناء(34/18)
بل ماذا يكون الخطب الشديد والكرب المزيد فيمن رضي لنفسه أن يضع كلام الله هذا الموضع وقد قال صلى الله عليه وسلم فيمن إثمه أقل وحمله أخف اقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل العشق ولحون أهل الكتابين وسيجيء بعدي قوم يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم بل الحالة في هذه الآلة أشد حرمة من قراءة القرآن على ضرب الدفوف وقرع الطبول وتحريك الأوتار والنقر بالأنامل والنفخ بالأبواق بل إذا كانت العلة في تحريم مس المصحف على المحدث ولو بصدره ولسانه وشعره وظفره أنه إخلال بجلالته وخروج عن تعظيمه وتهجم عل مقامه فكيف لا تكون القراءة في هذه الآلة من أشد أنواع التحقير والإهانة بل إذا كان مس ورقه وجلده ولو منفصلاً حراماً على المحدث فماذا تكون جريمة من ينزل به إلى هذه المنزلة بل إذا كان تعليمه للكافر المعاند وغير المعاند إن لم يرج إسلامه ممنوعاً كما منع السفر به إلى بلاد الكفر إن خيف وقوعه في أيديهم فكيف لا يمنع القارئ من قذفه في هذه الآلة فماً لفم الكافر يحمله والساخر يسمعه إذ أنه إنما دخل فيها الفاظاً ذات مقاطع ومقالع تحملها الأنفاس وتحفظها الآلة وهذا عينه هو القرآن الممنوع قراءته على الجنب إلا بقصد الذكر بل حديث من أحدث في أمرنا ما ليس منه رد كاف في البيان بل نفس هذه الآلة من شعار الفجار والكفار والتشبه بهم حرام وقد قال السند الأعظم صلى الله عليه وسلم (من تشبه بقوم فهو منهم) بل إذا فرضت أنه لا تشبه فيها بهؤلاء ولا هؤلاء فافرض أنها من الشبهات والشبهات حرام عند أكثر العلماء روى البخاري والنسائي (الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان والمعاصي حمى الله ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه وبعد هذا كله فاعلم أنه يجب على كل مكلف تمكن من إنكاره بيده أو لسانه أو قلبه أو استعانة بسواه وهنا ننصح القراء أن لا يصلوا بالقرآن إلى هذا الحد فالدنيا زائلة والذنوب حاضرة والحجة قائمة وإنما يقبل النصيحة من وفق.
(الجواب عن سماع القرآن الكريم من الفونغراف)
ما تقدم كله إجمالاً وتفصيلاً ينبئك بشدة الخطر وعظيم الذنب وجراءة القلب وانتهاك(34/19)
الحرمة بحبس القرآن في هذه الآلة كما ينبئك أنها آلة لهو أولاً وإخلال بتعظيم القرآن ثانياً وتمكين للكافر من آياته ثالثاً وتشبهاً بالكفار رابعاً وضياع للمال فيها خامساً وإعانة لفاعلها بشرائها سادساً وإحداث لما لم يكن من الدين سابعاً فهي على كل وجه وكل حال من المنكر الذي يأثم الساكت عنه والراضي به والحاضر فيه فالوجه الشرعي أن الجلوس مع شارب الخمرة ونحوه من أهل الفسوق والملاهي المحرمة مع القدرة على الإنكار أو المفارقة عند العجز كبيرة من الكبائر ونفس استماع صوت قراءة القرآن منها رضا بالحالة وإعانة عليها وقد أسلفنا أن الإفراط في القراءة إلى الحد الذي يخرجها إلى اللهو والطرب يفسق به القارئ ويأثم المستمع واستماع القراءة من هذه الآلة أشد من استماعها على الوجه المار بكثير وحسبك أنها منكر سماعه إعانة عليه فاعتبر بهذه الحالة ولا تسمع تلك الآلة واعمل بقوله تعالى: (وتعانوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)
(الجواب عن أخذ الدراهم عليها)
لا أظن بعد أن سمعت في هذه الآلة ما سمعت وعرفت من حقارتها ما عرفت إلا أن تلحق صاحبها في صنف المبتدعين وتعد المعين عليها من أعوان الشياطين وترى كسب الكاسب بها إقراء وإسماعاً من شر وجوه المكاسب وأقبح أنواع الباطل فسواء الكسب بالقراءة فيها والكسب بسقاية الخمر وجلب الحسان للفجور والقيان للأغاني وعمل النائحة وإيكال الربا والسعي إليه والإعانة عليه إلى أمثال هذه الأحوال التي هي في نفسها شنيعة وذريعة إلى المفاسد وللوسائل حكم المقاصد بل هذا المعدود وغيره من مكاسب نحو الخائن والسارق والمقامر والساحر والمنجم والزانية كله داخل في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينك بالباطل) فإن الباطل يعم هذه الأشياء كلها وما في معناها من كل شيء أخذ بغير وجه شرعي وانظر إلى ما أخرجه مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً) وقال (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به مع قول العلماء السحت (بضم فسكون) الحرام أو الخبيث من المكاسب ويكفيك أن العلماء على علمهم بحاجة الأمة والدين إلى تعلم القرآن اختلفوا في أخذ الأجرة على تعليمه(34/20)
وإن كان الأكثرون على الجواز وإذا كان ذلك كذلك فكيف لا يكون أخذها على وضعه في هذه الة حراماً في حرام وسحتاً في سحت اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبطاعتك هن معصيتك وبفضلك عمن سواك آمين.
(الجواب عن السجود عند سماع آية السجدة في الفونغراف)
اعلم أرشدني الله وإياك أن السجود في ذاته ومعناه خضوع لرب الأرباب بلصق الجبهة والأنف بالأرض وبسط اليدين والركبتين وأطراف الأصابع يهيج هذا الخضوع شيء في القلب يتولد من ملامحة عظمة ذي الجلال وطموح البصيرة إلى علو كبريائه عند قراءة أو استماع أية سجدة وأنت تدري أن السامع من هذه الآلة مغلوب على عقله مصروف بكليته عن معالي الجلال والأدب إلى معالي اللهو الطرب يصرف الاستغراب عما يجب لآيات الكتاب على أن سجود التلاوة شرط سنيته حل القراءة وقصدها ولهذا قالوا لا يجود لقراءة جنب لحرمتها كذلك قالوا لا سجود لقراءة الدرة والنائم لعدم القصد فيهما وهذه الآلة قراءتها غير مشروعة فلا سجود وغير مقصودة فلا سجود أيضاً على أنه بحث في الإيعاب عدم السجود لسماع قراءة الجماد مطلقاً على أن مشروعية القراءة لا بد منها في القراءة والسماع وهي هنا غير مشروعة قراءة وسماعاً كما هي كذلك في الجنب وإياك أن تقول حق القياس أن يسجد لسماع القراءة من هذه الآلة مع حرمتها كما يسجد لسماع القراءة في السوق والحمام مع كراهتها فإنه قياس فاسد إذ القراءة هنا محرمة لذاتها وفي السوق لأمر خارج فطهر قلبك ولا تكن من الغاوين وخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين.
(فرع)
شاع بعد تصريحي بحرمة قراءة القرآن في هذه الآلة وسماعه منها أن بعض الناس يبيح السماع بقصد الاتعاظ وهي إشاعة لم تثبت فإن المبيح على فرض وجوده إذا قصد إباحة السمع بقصد الاتعاظ قياساً على إباحة القراءة للجنب بقصد الذكر فقد فاته أن القصد إنما يعتبر إذا كان من جانب القارئ وكان وسيلة لمقصد شرعي كما هو الشأن في الجنب إذ صرف القراءة من القرآنية إلى الذكر تحصيلاً لثواب الذكر ويدل على اعتبار قصده دون السامع أنهم قالوا أن قصد الجنب قراءة القرآن فلا سجود لحرمتها وإن قصد الذكر فلا سجود أيضاً لأنه حينئذ ذكر لا قرآن كذلك قالوا أن كاتب التميمة إن قصد أنها قرآن حرم(34/21)
على المحدث مسها وحملها وغلا فلا ومن هنا تعلم أن العمدة على قصد القارئ والكاتب كما علمت بل لو قصد القارئ في هذه الآلة الوعظ أو الذكر لم يقبل منه لأنه قصد لأثر له يترتب عليه ثوابه ولم يخرج سامعه عن الحرمة لفساد القصد وأنه حيلة لا تنطلي ولأن الآلة جعلت اللهو كما هو جلي هذا ما عن لي فحرر وادع وفي هذه الآلة كلام طويل ربما ألمعنا إليه في فرصة أخرى ولكننا هنا نحذر المسلمين من رضاهم بإهانة القرآن إلى هذا الحد ومن رضي بهذا فحسبه جهنم وساءت مصيرا.(34/22)
دعوة العرب إلى العلم
بني يعرب ادعوكم النهضة العظمى ... لترقى بكم نحو السموات أو أسمى
إلى عرش مجد لم يطأه سوى امرئ ... بهمته العلياء ينتعل النجما
إلى مجد قحطان أبي العرب من عنت ... لقدرته الدنيا بأجمعها رغما
بنى جدنا صرحاً إلى المجد شامخاً ... وصير من أركانه العزم والحزما
ولكن هدمناه بمعول جهلنا ... فما أبطأ المبنى وما أسرع الهدما
فهل بين قومي من يؤسس ركن ما ... هدمناه حتى نغادر له رسما
وهل من يجاري عهد معاهد ال ... علوم عسى نقضي على جهلنا الأعمى
ألم يخجل الأحفاد من ذكر جدهم ... وقد قصروا عن نيل غايته العظمى
أنحن بنو قحطان والانحطاط لم ... يغادر لنا معنى بلى ترك الاسما
هلموا هداة العالمين بأسرهم ... لنثبت أنا ليوم أبناؤه حتما
وذلك فيما ندرك الشمس رفعة ... به وبماضي عزمنا ندرأ الخصما
نتيه افتخاراً في سراة جدودنا ... ويا ليتنا سرنا على نهجهم يوما
لئن خلدوا ما يمدحون عليه هل ... أتينا سوى ما نستحق به اللوما
من الخرق أن نحدو ابتهاجا بذكرهم ... ولم نقتف الآثار مجداً ولا علما
أنقنع في تمويه أوهامنا عن ال ... حقائق فاعتضنا عن العسل السّما
إلى م التمادي في الخمول وخصمنا ... يناهضنا ظلماً ويسلبنا هضما
أفق أيها الشعب الكريم ولا تنم ... فقد أنفذ الغرب الغريب بك السهما
وقد كنت قبل اليوم للغرب سيداً ... فصرت بحكم الجهل عبداً له تسمى
أعد من ضروب المجد ما قد فقدته ... برأي سديد منك لم يخطء المرمى
أليس من العار المشين احتياجنا ... لرأي وصي كالذي يرتدي اليتما
متى يبلغ الشرق المراهق رشده ... على أنني شاهدات أقوامه هرمى
أجل شمتهم هرمى التخاذل والجفا ... وحسبهمو بلوى تخاذلهم جرما
أيا أمة كانت أنوار مجدها ... تسير مسير الشمس إذ نورها عما
فما هذه الظلماء والفجر منبطئ ... أجل إن ليل الجهل للشعب قد أعمى
أقومي تلافوا أمركم حسبنا الذي ... فقدناه من ملك لأحشائنا أدمى(34/23)
وشدوا لحفظ الملك إزر مليككم ... خليفتنا سلطان دولتنا العظمى
ولموا بتأليف الضمائر شعثكم ... فإن الجفا قد يصدع الملك إن أصمى
فأعرابنا والترك صنوان في الورى ... وأقرب في الهيجاء يوم الوغى رحما
ألم تجمع الأقوام وحدة دينهم ... ودولتهم أضحت لمجموعهم أما
ومن ذا الذي لم يحم بالروح أمه ... إذا آنست من بعض أعدائها ظلما
عبد الرحمن القصار(34/24)
خلاصة الرحلة الشرقية
ثم قررنا عند قوله (قومهم) أن إضافة القوم هنا للعموم ومعلوم أن الجمع المضاف من صيغ العموم فتفيد الآية أنهم ينذرون بما تعلمون من الفقه كل فرد من أفراد قومهم فيبطل ما يزعمه بعضهم من أن لأهل التصوف أحكاماً خاصة يتلقونها بطريق الباطن قال أبو إسحاق الشاطبي لم يشرع الله تعالى إلا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وتلقاه منه الصحابة ثم العلماء.
والتصريح بإبطال أن يكون للعارفين بالله أحكام تخصهم في سد لباب الخروج عن تقاليد الشريعة زيادة عن كشفه عن الحقيقة فإن فتح هذا الباب يفضي إلى أن ينبذ كثير من الناس الجادة بدعوى أنهم بلغوا درجة الولاية وأنهم متعبدون بأحكام باطنة وأهل التصوف الخالص أنفسهم يصرحون بهذا قال الإمام الجنيد حسبما نقله الزركشي في شرح جمع الجوامع من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لن يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة.
ذكرنا استدلالهم على أن خبر الآحاد حجة. ثم قلنا اشتهر بين الأصوليين أن خبر الآحاد حجة في العمليات وأما المسائل العلمية فلا يتمسك فيها إلا بقاطع قال الإمام في المحصول إن ورد خبر الآحاد في مسألة علمية وليس في الأدلة القاطعة ما يعضده رد وإلا قبل. واختار الشيخ ابن عرفة أن المسائل العلمية التي لا ترجع إلى العقائد يكتفى فيها بالأدلة الظنية كخبر الآحاد إنما يشترط القطع في العمليات الراجعة إلى العقائد الإيمانية.
واستطردنا هنا مسألة اعتراض خبر الآحاد لقاعدة كلية وأوردنا في مساقها ما ذكره أبو بكر بن العربي في تفصيل مذاهب الأئمة الثلاثة وهو قوله إذا جاء خبر الآحاد معارضاً لقاعدة من قواعد الشرع هل يجوز العمل به أو لا فقال أبو حنيفة لا يجوز العمل به وقال الشافعي يجوز وتردد مالك في المسألة ومشهور قوله والذي عليه المعول أن الحديث إن عضدته قاعدة أخرى قال به وإن كان وحده تركه كحديث العرايا فإنه صادمته قاعدة الرب وعاضدته قاعدة المعروف.
وأتى بنا سؤال من أحد الحاضرين إلى معنى القاعدة ومأخذها فقلنا هي قضية تنتزع من دلائل متفرقة في الشريعة حتى تكون قطعية في نفس من استقراها من المجتهدين كقاعدة ارتكاب أخف الضررين فمن مأخذها قوله تعالى: (فأردت أن أعيبها) فإن إعابة السفينة(34/25)
ضرر ولكنه أخف من أخذ الملك لها بسلطة غاصبة ومن منازعها حديث الأعرابي الذي جعل يبول فغي المسجد وزجره بعض الصحابة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تزرموه فإن بوله في المسجد ضرر إلا أنه أخف من الضرر الذي ينشأ من إمساكه عن البول قبل فراغه.
وجئنا في تفسير (لعلهم يحذرون على اختلافهم في حرف الترجي الواقع في كلام الله تعالى فإن منهم من يخرجه على معنى التعليل كما ذكره ابن هشام في مغني اللبيب ومنهم من يصرفه إلى المخاطبين كما نقله صاحب الإتقان عن سيبويه حيث قال في معنى قوله تعالى (لعله يتذكر) اذهبا على رجائكما وطمعكما ويجري على هذا كل ما فيه حرف ترج نحو قوله تعالى (لعلكم تفلحون) وكان بعض التلامذة حين شرعت في إقراء الدرس قائمين على أقدامهم من ورائي يريدون أسئلة ويطلبون إعادة بعض التقارير وما لبثوا أن انقلبوا إلى السكينة والأصغياء وكانوا يلهجون عند الاستحسان بكلمة (كويس) تصغير كيس.
رافقني بعد انفصالنا عن الدرس طائفة من التلامذة فمررنا بمنزل كان أحد الجلساء به الأستاذ الشيخ الزنتاني فوقف موقف التحية وحدثه أحد الرفقاء بما كنا بصدده من قراءة التفسير فتوجه لي وقال قد أحييت سنة الشيخ ابن عرفة فذكر له الرفيق أن الدرس أيضاً يحتوي على مباحث متعددة منقولة عن الشيخ ابن عرفة.
تفضل علي بالزيارة في هذا المساء السيد شرف أحد الأعيان في عائلة أشراف مكة المحترمة فمقل لنا بعلو همته وسلاسة أخلاقه كيف تكون همم بني هاشم وآدابهم ثم أخذ بيدي حتى امتطينا عربة سارت بنا لإجابة دعوة السيد الشريف بن حمودة ولما انقضت المسافة ضرب كل منا بيده إلى كيسه ليتولى خلاص أجر الركوب عن سائر الجماعة فكانت يد الشريف أسرع في فتح الكيس ومناولة الدراهم لسائق العربة وأكد علينا أن نرد إلى الأكياس بضائعها فقال له الشيخ محمد صالح الشواش على وجه الدعابة لا تقسم علينا أيها الشريف متطاولاً فنحن أشرف أيضاً فتبسم منبسطاً لهذه الجسارة المشعرة بسلامة الضمير وحريته وقد تذكرت بهذه المداعبة ما كتبه الشريف الرضي إلى الإمام القادر بالله وهو:
عطفاً أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا نتفرق(34/26)
ما بيننا يوم الفخار تفاوت ... أبداً كلانا في المعالي معرق
إلا الخلافة قلدتك فإنني ... أنا عاطل عنها وأنت مطوق
مضى لنا مع الشرف والشريف مجلس أنس يحاكي نسيم الأسحار إذا جاءت متضمخة بنفحات الأزهار ولكننا مررنا عند إيابنا بامرأة جالسة بقارعة الطريق والناس ملتفة حولها وهي تتلو القرآن بصوت رخيم.
أخذ مني الأسف مأخذه لما قدمت على المعهد الأزهري حين طويت منه محاضر الدروس وبرز أساتذته العظام لقضاء أمد الراحة الصيفية في أماكن الرياضة ومهاب النسيم ولم يتفق لي أن أشاهد محضرة درس بهذا الجامع العظيم وأنبأني التلامذة بأن سائر دروس الجامع معطلة ولا يقرأ به في هذه الأيام ولو درساً واحداً.
سافرت صباح يوم الأحد إلى برت سعيد ومررنا على جانب من فتحة السويس التي وصلت البحر الأحمر بالبحر الأبيض وحق لي عنهدما بلغت إلى مجمع هذين البحرين أن أذكر بيتين كان العلامة البليغ صاحبنا الشيخ السيد محمد الطاهر بن عاشور قد أرسلهما إلي في بطاقة يدعوني بها إلى زيارته حيث حل بحضرته إثنان من أولي العلم والأدب وهما:
تألقت الآداب كالبدر في السحر ... وقد لفظ البحران من موجها لدرر
فما لي أرى منطيقها الآن غائباً ... وفي مجمع البحرين لا يفقد الخضر
شأن القرآن في سرد القصص وضربها أمثلة الاكتفاء لماله مدخل في الموعظة والاعتبار فتجده في الغالب لا يصرح بأسماء الأماكن التي تجري فيها الوقائع كقصة ملاقاة موسى للخضر عليهما السلام فإنه لم يعين المراد بمجمع البحرين حيث لا ينبني على التعيين فائدة في الإرشاد لأن الحكمة من مساق هذه القصة التذكير بما اشتملت عليه من المحامد والآداب كسفر العالم للازدياد من العلم وتكبده المشاق في السير له ولو بعدت المسافة سنين فإن موسى عليه السلام يقول (أو أمضي حقباً) والإيماء إلى أن التوكل اعتماد القلب على الله لا في نكث اليد من الأسباب فإنه عليه السلام حمل معه الزاد ودل على هذا بقوله (آتنا غدائنا) إلى غير هذا من الفوائد ولكن بعض المفسرين كثيراً ما يسردون أقوالاً في أسماء ما جاء مبهماً في القرآن كاختلافهم هنا في المراد من البحرين فقيل هو بحر فارس والروم وقيل بحر القلزم وبحر الأردن ومجمع البحرين عند طنجة أو بأفريقيا وقيل هو بحر الأندلس(34/27)
والبحر المحيط والتعيين في مثل هذا لا يعول عليه إلا إذا جاء به حديث صحيح ومن العجائب قول بعضهم كما نقله الأبي في التفسير أنه يقع في نفسي أن مجمع البحرين هو مجتمع المالح ووادي مجردة عند الدرسة وهو الذي يقال له حرق الجسرين والصخرة صخرة أبي ربيعة والجدار في ا (المحمدية).
امتطينا الباخرة الخديوية مساء هذا اليوم وتعارفنا فيها بالشيخ عبد القادر بن شيخ زادة أحد علماء طرسوس فأرانا السكينة في أحسن تقويم وما برحنا نروح الخاطر بمحادثته إلى أن رست الباخرة أمام بلد (يافا) فغرب عنا بدر فضله بعد أن أعطانا ملء صدورنا أنساً.
(لها تابع)(34/28)
سلسلة حكم الخلفاء
حكم عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه
قال أبو منصور الثعالبي في كتابه الإعجاز والإيجاز لم أسمع أحسن وأوجز من قول عمر بن عبد العزيز أن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما وكتب إلى عامل حمص يقول أنها تحتاج إلى حصن فقال: حصنها بالعدل والسلام.
وأوصى رضي الله عنه يزيد بن عبد الملك ولي عهده عند احتضاره بكتاب قائلاً أما بعد فاتق الله يا يزيد الصرعة بعد الغفلة، حين لا تقال العثرة، ولا تقدر على الرجعة، إنك تترك ما تترك لمن لا يحمدك، وتصير إلى من لا يعذرك والسلام. ووقع في كتاب أرسله لبعض عماله يستأذنه في مرمة مدينته ابنها بالعدل ونق طرفها من الظلم وفي مثل ذلك. حصنها ونفسك بالتقوى. وغلى صاحب العرق لما أخره عن سوء طاعة أهلها. ارض لهم ما ترضى لنفسك وخذ بجرائمهم بعد ذلك. ووقع في قصة متظلم العدل أمامك وفي رقعة محبوس تب تطلق وفي رقعة متنصح لو ذكرت الموت شغلك عن نصيحتك. وفي رقعة رجل شكى أهل بيته أنتما في الحق سيان. وفي رقعة ارمأة حبس زوجها. . العدل حبسه وفي رقعة رجل تظلم من ابنه إن لم أنصفك منها فأنا ظلمتك. وقال رضي الله عنه ما كذبت منذ علمت أن الكذب يضر بأهله وقال كن من الموت على حذر.
يزيد بن عبد الملك
ما الطمع فيما لا يرجى وما الخوف مما لا بد منه وكان يقول لو دام الملك لم يصل إليك ولا تترك حسن رأي فإنما تفسده عثرة. ووقع في قصة متظلم شكى آل بيته ما كان عليك لو صفحت عنه واستوصلتني وكتب إليه عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس يستأذنه في غلام يهديه إليه فكتب إليه يزيد إن كنت فاعلاً فليكن جميلاً ظريفاً لبيباً كاتباً فقيها حلواً عاقلاً أميناً سرياً يقول فيحسن ويحضر فيزين ويغيب فيؤمن فكتب إليه قد التمست صفة أمير المؤمنين فلم أجدها إلا في القاسم بن محمد وقد أبى أهله.
هشام بن عبد الملك رحمه الله
إنا لا نتخذ جلسائنا خولاً ليس لك أن تغلظ لأمامك. وقال له بعض آل مروان أتطمع في الخلافة وأنت جبان بخيل فقال كيف لا أطمع وأنا حليم عفيف وكتب إلى مسلمة بن عبد(34/29)
الملك: طهر عسكرك من أهل الفساد فإن الله لا يصلح عمل المفسدين. ووقع في قصة مظلوم: أتاك الغوث إن كنت صادقاً وحل بك النكال إن كنت كاذباً فتقدم أو تأخر. ووقع لعامله في العراق في أمر الخوارج: ضع سيفك في كلاب النار وتقرب إلى الله بقتل الكفار وقال احذر ليالي البيات. إن النعمة إذا طالت بالعبد ممتدة أبطرته فأساء حمل الكراتمة واستقل العافية ونسب ما في يديه إلى حيلته وحسبه وبيته ورهطه وعشيرته فإذا نزلت به الغير وانكشطت عنه عماية الغي ذل منقاداً وندم حسيراً وتمكن منه عدوه قادراً عليه قاهراً له.
الوليد بن عبد الملك
لله فينا علم غبب نحن صائرون له وقال لهشام يوم توفي مسلمة بن عبد الملك يا أمير المؤمنين إن عقبى من بقي لحوق من مضى وقد أقعر بعد مسلمة الصيد لمت رمى واختل الثغر فدهي وعلى أثر من سلف يمضي من خلف فتزودوا فإن خير الزاد التقوى وقال يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد الشهوة ويهدم المروءة وينوب عن الخمر ويفعل فعل السكر فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء رقية الزنا أقول ذلك فيه على أنه أحب إلي من كل لذة وأشهى إلي من الماء إلى ذي غلة ولكن الحق أحق أن يقال. وكان يقول يعجبني نشاط على غب ومن كلامه لا تؤخر لذة اليوم إلى غد فإنه غير مأمون.
يزيد بن الوليد بن عبد الملك رحمهم الله
خطب لما قتل الوليد بن يزيد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيه الناس والله ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا حرصاً على الدنيا ولا رغبة في الملك وما بي إطراء نفس وإني لظلوم لها إن لم يرحمني ربي ولكن خرجت غضباً لله تعالى ولدينه وداعياً إلى الله تعالى وإلى سنة نبيه لما هدمت معالم الهدى وأطفي نور أهل التقى وظهر الجبار العنيد المستحل لكل حرمة الراكب لكل بدعة مع أنه والله ما كان يؤمن بيوم الحساب وإنه لابن عمي في النسب وكفي في الحسب فلما رأيت ذلك استخرت الله تعالى في أمره وسألته أن لا يكلني إلى نفسي ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهل ولايتي حتى أراح الله منه العباد وطهرت منه البلاد بحول الله وقوته وإن لكم علي أن لا أضع حجراًُ على حجر ولا لبنة على لبنة ولا أكنز مالاً ولا أعطيه زوجة ولا ولداً ولا أنقل مالاً من بلد إلى بلد حتى أسد فقره وخصاصة أهله(34/30)
بما يغنيهم فإن فضل نقلته إلى البلد الذي يليه مما هو أحوج إليه منه ولا أغلق بابي دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم ولا أحمل على أهل حرفتكم ما أجليتهم به عن بلادكم فأقطع به نسلهم ولكن عندي أعطياتكم في كل سنة وأرزاقكم في كل شهر حتى تستدر المعيشة بين المسلمين فيكون أقصاهم كأدناهم فإن أنا وفيت لكم فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة والمكافأة وإن لم أف لكم فعليكم أن تخلعوني إلا أن استتبتموني فإن تبت قبلتم مني وإن عرفتم أحد يقوم مقامي ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيتكم وأردتم أن تبايعوه فأنا أول من بايعه ودخل في طاعته أيها الناي أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وكان يقول أخاف على نفسي عين الكمال وعودة الشرفة وآفة السؤدد. ووقع إلى صاحب خراسان نجم أمر أنت عنه نائم وما أراك منه أو مني بسالم.
(لها بقية)
دمشق
إبراهيم خليل مردم بك(34/31)
خاتمة السنة الثالثة
بمعونة الله تعالى وتوفيقه تمت السنة الثالثة لمجلة (الحقائق) والحمد لله أولاً وأخيراً وله الشكر تعالى أن وفقنا لهذه الخدمة الجليلة خدمة نصر السنة السنية، والدفاع عن الآداب الشرعية، وقمع أولئك المعتدين، والتنديد ببدع المتفرنجين، وهو سبحانه المسؤول لقبول هذا العمل والمرجو لغفران ما صدر من الزلل إنه قريب مجيب وسائله لا يخيب هذا والأمل من مشتركينا الكرام أهل الحمية والغيرة أن يسددوا ما عليهم من بدل اشتراك هذه السنة والسنتين قبلها سواء من كانوا في دمشق أو غيرها من الجهات ويكون ذلك باسم وكيل أعمال المجلة العام الأديب الغيور محمد سليم أفندي اللحام والأمل وصيد في أن كلمتنا هذه للمشتركين تفيد الفائدة المطلوبة وما ذلك على همتهم بعزيز.(34/32)